ارشاد العقول الی مباحث الاصول المجلد 2

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة/ تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی؛ تالیف محمد حسین الحاج العالمی

مشخصات نشر:بیروت : دارالاضواآ ، 2000م. = 1420ق. = 1379.

مشخصات ظاهری:4ج

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 - -- معلومات اصول فقه

شناسه افزوده:حاج عاملی، محمد حسین

رده بندی کنگره:BP159/8/س2الف4 1379

شماره کتابشناسی ملی:م 81-35421

ص :1

اشارة

ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة

تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی

تالیف محمد حسین الحاج العالمی

ص:2

ص:3

المدخل

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة: 122

ص:4

كلمة الأُستاذ المحاضر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه الذي تواترت نعماؤه، و استفاضت آلاؤه، و الصلاة و السلام على سيّد أنبيائه و خاتم رسله أبي القاسم محمّد و آله الذين هم معجزة نبوته و آية رسالته صلاة دائمة لا نهاية لها.

أمّا بعد، فقد سبرت هذا الجزء من كتاب» إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول «الذي قام بتحريره و ترصيفه ولدنا الأعزّ العلاّمة الحجّة الثبت الشيخ محمد حسين الحاج العاملي حفظه اللّه و قد أودع فيه ما ألقيته على فضلاء الحوزة العلمية في قم المقدسة، فوجدته كأجزائه السابقة وافياً للمراد، بعيداً عن الإيجاز المخلّ، و الإطناب المملّ.

و جاءت هذه الأجزاء الأربعة على منوال واحد في حسن التعبير و روعة البيان، و قد قام المؤلّف بهذا المجهود العظيم.

بعزمة دونها العيّوق منزلة و ساعد ليس تُثنيه الملمّات

ص:5

فقد شمّر عن ساعد الجدّ، و بذل غاية الجهد و الكدّ، و أسهر الناظر، و أتعب الخاطر، فجاء بصحيفة كاملة لدورة أُصولية، بلغة واضحة، تناسب لغة علم الأُصول، فصار قدوة لأمثاله، و أُسوة لأقرانه.

فجزاه اللّه أحسن الجزاء بما أسدى للمكتبة الإسلامية من خدمة كبيرة.

و أسأله سبحانه أن يرزقه خير الدنيا و الآخرة، و يوفقه لمزيد من العلم و العمل. و جعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه.

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق) عليه السلام ( 12 محرم الحرام من شهور عام 1424 ه

ص:6

كلمة المؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على سيّد المرسلين محمّد) صلى الله عليه و آله و سلم (و آله الطيّبين الطاهرين الذين هم أساس الدين و عماد اليقين صلاة دائمة زاكية غير منقطعة.

أمّا بعد، فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا» إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول «أُقدمه للقراء الكرام عسى أن ينال الرضا منهم و قد اقتطفته من بحوث شيخنا الجليل و الأُستاذ الكبير الذي كرّس نفسه للتدريس و التأليف و تربية جيل كبير من رواد العلم، أعني: به شيخنا و أُستاذنا آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني) مدّ اللّه في عمره الشريف (.

و هذا الجزء يحتوي على لبّ ما أفاده و ألقاه في حوزة درسه على فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة و به تتم دورة كاملة أُصولية، و قد أشرف على ما كتبتُه و نسّقته فحظى بالرضا و القبول.

ص:7

و حقيقة الأمر أنّي لم أكن أحلم يوم حضرتُ مجلس درس شيخنا الأُستاذ مدّ ظله الوارف بهذه النعمة العظمى التي لا تُنال إلاّ بهمة قعساء، و جهود مضنية، لكن سوابغ نعمه سبحانه، و عميم فضله شملتني حتّى وفقتُ لتقديم موسوعة أُصولية تحتوي على أقوال المتقدّمين، و أنظار المتأخرين للجيل الحاضر.

أشكره سبحانه على هذه النعمة الكبرى، التي حباني بها، و أسأله سبحانه أن يتقبله بقبول حسن، و يرزقني حسن العاقبة.

محمد حسين الحاج العاملي قم الحوزة العلمية

ص:8

تتمة المقصد الأول في الأوامر

الفصل الخامس اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه؟

و قبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

1. المسألة أُصولية

البحث عن أحكام الضد مسألة أُصولية لوقوع نتيجتها في طريق الاستنباط، لأنّه إذا ثبت اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه، كالإزالة الواجبة بالنسبة إلى الصلاة، تكون الصلاة منهيّة و النهي يوجب فسادَ متعلّقِه على القول بأنّ مثل هذا النهي يوجب الفساد فتُصبح الصلاة فاسدة، كما أنّه على القول بعدم الاقتضاء يحكم بصحتها.

2. المسألة عقلية أو لفظية

لو قلنا بأنّ المراد من الاقتضاء في عنوان البحث) الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه (هو الملازمة بين إرادة الوجوب و إرادة النهي عن ضدّه، تُصبح المسألة مسألة عقلية، و أمّا لو قلنا بأنّ المراد من الاقتضاء هو دلالة الأمر سواء أ كانت مطابقية أو تضمنية أو التزامية، تكون المسألة لفظية أُصولية.

ص:9

و من هنا يعلم أنّ الجمع بين كون المسألة عقلية و تفسير الاقتضاء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية جمع غير صحيح، فمن جعل المسألة عقلية ليس له إلاّ البحث عن وجود الملازمة و عدمه، و من جعل المسألة لفظية فعليه البحث عن كيفية الدلالة في مقام الإثبات.

3. الضدّ العام و الخاص

يُفسّر الضدُّ المطلق بالمعاند، و هو إمّا ترك الشيء كترك الإزالة أو الشيء المزاحم للواجب كالصلاة بالنسبة إليها; و يسمى الأوّل بالضدّ العام، و الثاني بالضد الخاص، و كلّما أطلق الضد بلا قرينة ينصرف إلى الضد الخاصّ.

4. محاور البحث
اشارة

يتلخص البحث في هذا الفصل في محاور ثلاثة:

أ. حكم الضدّ العام.

ب. حكم الضدّ الخاص.

ج. الثمرات الفقهية للمسألة.

و إنّما قدمنا البحث عن الضدّ العام على الخاص، لأنّ إقامة البرهان على اقتضاء الأمر النهيَ عن الضدّ الخاص مبني على اقتضائه النهيَ عن الضدّ العام.

ص:10

المحور الأوّل: الضد العام
هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العام أو لا؟

قد عرفت أنّ الاقتضاء إمّا بدلالة اللفظ، أو بحكم العقل بالملازمة. فلنقدّم الكلام في دلالة اللفظ على البحث في حكم العقل بالملازمة، فنقول:

إنّ دلالة الأمر على النهي عن الضدّ العام إمّا بالدلالة المطابقية، أو بالتضمنية، أو بالالتزامية.

أمّا الأُولى: فقد قالوا في بيانها ما يلي:

إذا أمر المولى بإزالة النجس عن المسجد فضده العام هو ترك الإزالة هذا من جانب.

و من جانب آخر انّ النهي مطلقاً عبارة عن طلب الترك.

فعندئذ لو تعلّق النهي بترك الإزالة يكون مفادُه، طلبَ تركِ تركِ الإزالة، و هو نفس الأمر بالإزالة.

ص:11

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّه افترض أُموراً، نحن أيضاً نفترض انّها صحيحة.

أ. انّ ضدّ الإزالة هو: ترك الإزالة.

ب: انّ مفاد النهي عن الشيء في عامة الموارد هو طلب الترك.

ج. انّ طلب ترك ترك الإزالة عبارة عن نفس الأمر بالإزالة.

نفترض انّ هذه الأُمور الثلاثة لا نزاع فيها و إنّما الكلام هل الأمر بالشيء يقتضي النهي الكذائي حتّى يكون النهي عين الأمر أو لا يقتضي؟ و المستدلّ لم يقم برهاناً على الاقتضاء، و من المعلوم أنّ الكلام ليس في عينية، الأمر بالشيء مع النهي عن ترك الترك، و إنّما الكلام في اقتضاء الأمر و انّه يتولّد منه ذلك النهي الكذائي.

و ثانياً: لو افترضنا وجود النهي الكذائي فهو ليس عين الأمر بالإزالة مفهوماً، نعم عينه مصداقاً و وجوداً، و محل النزاع هو الأوّل لا الثاني.

و ثالثاً: أنّ الاستدلال مبني على أنّ مفاد هيئة النهي في عامة الموارد هو) طلب الترك (، فإذا أُضيف إلى الضدّ العام) ترك الإزالة (يكون حاصل المجموع طلب ترك ترك الإزالة لكن مفهوم النهي هو الزجر عن الطبيعة، لأنّ النهي مشتمل على هيئة و مادة، فالهيئة تدلّ على الزجر، و المادة تدلّ على الطبيعة فأين الدال على طلب الترك؟ هذا كلّه حول الدلالة المطابقية.

و أمّا القول بالاقتضاء بالدلالة التضمنية فهو يَكْمُنُ في تحليل قولنا:» أزل النجاسة «حيث إنّ الأمر عند القائل» طلب الشيء مع المنع عن تركه «بحيث يكون المنع عن الترك جزء مفاد الأمر.

يلاحظ عليه: بأنّ الأمر مشتمل على الهيئة و المادة; و الهيئة تدلّ على إنشاء البعث، و المادة على الطبيعة، فما هو الدالّ على المنع عن الترك؟ هذا كلّه حول الدلالة التضمنية.

و أمّا الدلالة الالتزامية فهي إمّا بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص بأن يكون

ص:12

نفس تصور الوجوب كافياً في تصور المنع عن الترك، و إمّا بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم بأن يكون تصور الطرفين و النسبة كافياً في التصديق بالاقتضاء و الدلالة.

أمّا الأوّل فواضح الانتفاء، إذ كيف يمكن ادّعاء الدلالة الالتزامية بهذا النحو مع أنّ الإنسان كثيراً ما يأمر بالشيء و هو غافل عن تركه، فضلاً عن النهي عن تركه.

و أمّا الثاني فلو افترضنا وجود ذلك النهي بعد تصور الأُمور الثلاثة، فهو إمّا لغو، أو غير باعث على النحو الذي ذكرنا في وجوب المقدّمة، إذ لو كان مطيعاً فلا حاجة إلى النهي عن الترك، و إن كان عاصياً فلا يكون النهي عن الترك داعياً و باعثاً.

أضف إلى ذلك: انّ ملاك الأمر وجود المصلحة في الفعل و عدمها في الترك، كما أنّ معنى النهي عن الشيء وجود المفسدة في الفعل و عدمها في الترك، فلو تواجد الأمر و النهي في مورد واحد فمعنى ذلك وجود المصلحة في الفعل و المفسدة في الترك و هو أمر نادر.

هذا كلّه إذا قلنا بالدلالة اللفظية، و أمّا القول بالدلالة العقلية فبيانه هو ادّعاء الملازمة بين الإرادتين، فلو أمر بشيء فلا محيص من ظهور إرادتين في نفسه و هو إرادة فعل الشيء و إرادة ترك تركها، و إثباتها دونه خرط القتاد، بل ليس في لوح النفس الإرادة واحدة فتارة تنسب إلى فعل الشيء، و أُخرى إلى ترك الترك.

إلى هنا تبيّن انّه لا وجه لادّعاء الاستلزام لا لفظياً و لا عقلياً، فلنعطف عنان القلم إلى بيان حكم الضدّ الخاص الذي هو بيت القصيد في هذا الفصل.

ص:13

المحور الثاني حكم الضدّ الخاص

و الكلام في المقام هو نفس الكلام في المقام السابق، غير أنّ البحث فيه كان في الضدّ العام و في المقام في الضدّ الخاص، و انّ الأمر بالشيء كالإزالة هل يدل على النهي عن الضدّ الخاص كالصلاة؟ فلو قال المولى: أزل النجاسة عن المسجد أو أدِّ الدين العاجل، فهل يلازم النهي عن الصلاة و أمثالها ممّا يمنع عن القيام بالواجب المضيّق أو لا.

و قد استدلّ القوم على الدلالة بوجهين:

الأوّل: انّ ترك الضد مقدمة لفعل الضدّ الأهم، و هذا ما نسمّيه بمسلك المقدمية.

الثاني: وجود الملازمة العقلية بين الأمر بالأهم و النهي عن المهم، و هذا ما نسمّيه بمسلك الملازمة.

و لنقدم البحث في الوجه الأوّل على الثاني، فنقول:

إنّ مسلك المقدمية مبنيّ على أُمور ثلاثة:

1. انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر الأهم.

2. انّ مقدّمة الواجب واجبة، فيكون ترك الصلاة واجباً بهذا الملاك.

ص:14

3. انّ الأمر بالشيء أي الأمر بترك الصلاة بحكم انّه مقدمة يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيض الترك و هو فعل الصلاة.

فلو ثبتت هذه المقدمات تكون النتيجة هي النهي عن الصلاة التي هي ضدّ عام لتركها و ضدّ خاص للإزالة.

و بما انّ المهم من هذه الأُمور الثلاثة هو الأمر الأول نقدّم الكلام فيه.

ص:15

مسلك المقدّمية

استدلّ القائل بالمقدّمية بالنحو التالي:

إنّ توقّف الشيء على ترك ضدّه ليس إلاّ من جهة المضادة و المعاندة بين الوجودين و قضيتهما الممانعة بينهما، و من الواضح انّ عدم المانع من المقدمات.

و حاصل الاستدلال: انّ الصلاة مانعة عن الإزالة، و عدم المانع من أجزاء العلة، و جزء العلة ككلّ العلّة مقدّمة.

و قد ناقش صاحب الكفاية هذه المقدّمة بوجوه:

المناقشة الأُولى: بينهما كمال الملاءمة لا المقدمية

إنّ المعاندة و المنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم اجتماعهما في التحقّق بحيث لا منافاة أصلاً بين إحدى العينين و ما هو نقيض الآخر) كالإزالة و عدم الصلاة (، بل كان بينهما كمال الملاءمة، فإنّ إحدى العينين مع نقيض الآخر في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر.(1)

و حاصل المناقشة: انّ المعاندة بين العينين و كمال الملاءمة بين إحدى العينين و نقيض الآخر يقتضي انّ الجميع في رتبة واحدة، و ما يكون في رتبة واحدة

ص:16


1- الكفاية: 1/206.

لا يمكن أن يعد إحداهما مقدّمة للآخر.(1)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني نقد هذه المقدمة، و قال:

إنّ المانع هو ما يوجب المنع عن رشح المقتضي، بحيث لولاه لأثر المقتضي أثره من إفاضة الوجود إلى المعلول فيكون الموجب لعدم الرشح و الإفاضة هو وجود المانع، و هذا المعنى من المانع لا يتحقّق إلاّ بعد فرض وجود المقتضي بما له من الشرائط فانّه عند ذلك تصل النوبة إلى المانع و يكون عدم الشيء مستنداً إلى وجود المانع، و أمّا قبل ذلك فليس رتبة المانع، لوضوح أنّه لا يكون الشيء مانعاً عند عدم المقتضي أو شرطه، فلا يقال للبلّة الموجودة في الثوب أنّها مانعة عن احتراق الثوب إلاّ بعد وجود النار و تحقّق المجاورة و المماسة بينها و بين الثوب، و حينئذٍ يستند عدم احتراق الثوب إلى البلّة الموجودة فيه.

و يترتب على ذلك عدم إمكان مانعية أحد الضدّين.

و ذلك لأنّه لا يتصوّر المانعية للصلاة إلاّ بعد تحقّق أمرين متضادين:

1. وجود العلّة التامة الشاملة للمقتضي لتحقّق الصلاة في الخارج.

2. وجود المقتضي و الشرط للإزالة حتّى تكون الصلاة مانعة.

و ذلك يستلزم وجود المقتضيين للضدّين، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الضدّين، كذلك لا يمكن اجتماع مقتضي الضدّين لتضاد مقتضيهما أيضاً، و بعد عدم إمكان اجتماع مقتضي الضدّين لا يمكن كون أحدهما مانعاً عن الآخر.(2)

ص:17


1- ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني ناقش جواب المحقّق الخراساني كما ناقش السيد الإمام الخميني كلام المحقّق الاصفهاني، و قد نقلهما شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة كما نقل نظره في كلام الإمام السيد الخميني، و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب » المحصول «لزميلنا السيد الجلالي المازندراني حفظه اللّه.
2- فوائد الأُصول: 3081/307.

ثمّ إنّ أساس الإشكالين السابقين من المحقّق الخراساني و المحقّق النائيني كان مبنياً على تسليم كون عدم المانع مقدمة و لكن نوقش في خصوص كون عدم الضدّ مقدّمة لترك الضدّ.

و بعبارة أُخرى: كانت المناقشة في الصغرى مع قبول الكبرى و لكن الحقّ المناقشة في الكبرى و انّ عدم المانع على وجه الإطلاق من غير فرق بين المقام و غيره كعدم الرطوبة بالنسبة إلى الاحتراق ليس مقدّمة.

و ذلك لأنّ الأصل في الخارج هو الوجود، و العدم ليس له أيّ أصالة فيه و إنّما هو مفهوم ذهني يصنعه الذهن بتعمل، مثلاً انّ الإنسان إذا دخل القاعة أملاً برؤية زيد و لم يره فيها، فهو في الواقع لم ير شيئاً و لم يجد فيها شيئاً لا انّه يرى عدمه فيها، لكن الذهن بالتعمل يصنع من هذا مفهوماً ذهنياً باسم العدم مع خلو صفحة الوجود عنه.

و على ضوء ذلك فلا معنى لجعل عدم المانع من أجزاء العلة، إذ ليس له شأن التأثير أو التأثر و لا الموقوف و لا الموقوف عليه.

نعم لما كان وجود الضد مزاحماً لوجود الضد الآخر عُبِّر عن هذا التزاحم بأنّ عدم الضدّ شرط لوجود الضد الآخر، و كم فرق بين القول بأنّ الضدّ مزاحم، و القول بأنّ عدمه شرط.

و بعبارة أُخرى: انّ رطوبة الحطب أو القطن مانعة من تأثير المقتضي أي النار فيهما لا أنّ عدم الرطوبة شرط. فالأحكام كلّها للوجودات) الرطوبة مانعة (و ينسب إلى الاعدام) عدم الرطوبة شرط بالعرض و المجاز (، و إلى ذلك يشير المحقّق السبزواري في منظومته و شرحه ما هذا لفظه:

ص:18

لا ميز في الاعدام من حيث العدم و هو، لها إذاً بوهم ترتسم

كذاك في الأعدام لا عليّة و إن بها فاهوا فتقريبية

فلو قالوا: عدم العلّة علّة لعدم المعلول، فهو على سبيل التقريب، فانّ الحكم بالعلّية عليه، بتشابه الملكات، فإذا قيل: عدم الغيم علّة لعدم المطر، فهو باعتبار انّ الغيم علّة للمطر، فبالحقيقة قيل: لم تتحقّق العلّية التي كانت بين الوجودين، و هذا كما تجري أحكام الموجبات على السوالب في القضايا، فيقال: سالبة، حملية، أو شرطية، متصلة أو منفصلة أو غيرها كلّ ذلك بمتشابه الموجبات.(1)

و على ضوء هذا يظهر ضعف ما أفاده المحقّق الاصفهاني حيث رأى أنّ لاعدام الملكات واقعية لكونها أمراً منتزعاً من الخارج فقال:

الاستعدادات و القابليات و أعدام الملكات كلّها، لا مطابَق لها في الخارج، بل شئون و حيثيات انتزاعية لأُمور موجودة، فعدم البياض في الموضوع الذي هو من أعدام الملكات كقابلية الموضوع من الحيثيات الانتزاعية منه» فكون الموضوع بحيث لا بياض له «هو بحيث يكون قابلاً لعروض السواد فمتمم القابلية كنفس القابلية حيثية انتزاعية.(2)

وجه الضعف: انّ ما ذكره صحيح في الاستعداد و القابلية و حتى الإضافة فانّ القابلية في النواة و النطفة أمر تكويني موجود فيها دون الحجر، و هكذا الإضافة كالأُبوّة و البنوّة، فانّهما ينتزعان من حيثية وجودية من تخلّق الابن من ماء الأب،

ص:19


1- شرح المنظومة، قسم الحكمة، ص 47، نشر دار العلم.
2- نهاية الدراية: 1/220.

فلكلّ واقعية بواقعية مبدأ انتزاعهما، و أمّا الاعدام فليس لها واقعية سوى واقعية ملكاتها، فالواقعية في عدم البياض هي لنفس البياض دون عدمه و في عدم البصر لنفس البصر لا للعدم.

و ما أفاده من أنّ متمّم القابلية كنفس القابلية مشيراً إلى أنّ» عدم المانع «متمم للقابلية ضعيف جداً، فانّ قابلية الجسم لقبول البياض تامة لا نقص فيها، و أمّا عدم قبوله له مع وجود السواد، فليس لأجل نقص في القابلية، بل لوجود التزاحم بين الوجودين، فعُبِّر عن التمانع بأنّ عدم المانع شرط.

و على ما ذكرنا فالأولى رفض الكبرى على وجه الإطلاق لا قبولها و المناقشة في الصغرى.

و بذلك يظهر النظر فيما أفاده السيد العلاّمة الطباطبائي) قدس سره (حيث قال: ربما يضاف العدم إلى الوجود، فيحصل له حظ من الوجود، و يتبعه نوع من التمايز كعدم البصر الذي هو العمى المتميز من عدم السمع الذي هو الصمم، و كعدم زيد و عدم عمر المتميز أحدهما عن الآخر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ التميّز الذهني، غير كون العدم ذا حظ من الوجود في الخارج، فكلّ ما ذكره صحيح في الذهن لا في الخارج، و الكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل، و التميز نوع ارتباط ذهني بين الأمرين الوجوديين فانّ العدم في عدم البصر، عدم بالحمل الأوّلي، لكنّه موجود بالحمل الشائع الصناعي.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني مناقشتين أُخريين حول المقدّمة الأُولى، و إليك دراستهما.

ص:20


1- نهاية الحكمة: 19.
المناقشة الثانية: قياس الضدّين بالنقيضين

إنّ المنافاة بين النقيضين كما لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين.(1)

هذه، هي المناقشة الثانية التي وجّهها المحقّق الخراساني إلى المقدّمة الأُولى، أعني: كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضد، و توضيحها كالتالي:

إنّ ارتفاع أحد النقيضين كرفع اللابياض ليس مقدمة لتحقّق النقيض الآخر) البياض (مع كمال المنافرة بين النقيضين) البياض و اللابياض (، بل رفع أحد النقيضين ملائم لثبوت النقيض الآخر.

فإذا كان هذا حال النقيضين فليكن حال الضدين أيضاً كذلك لوحدة الملاك و هو المنافرة بين العينين و الملاءمة بين أحدهما و رفع الآخر، فلا يكون رفع البياض مقدمة لثبوت الضدّ الآخر.

و ربما تقرّر المناقشة بوجه آخر و هو التمسّك بقانون المساواة، بيانه:

إنّ النقيضين كالبياض و اللابياض في رتبة واحدة هذا من جانب، و من جانب آخر انّ الضدّين كالبياض و السواد في رتبة واحدة، فينتج انّ اللابياض في رتبة الضدّ الآخر أي السواد.

و ذلك لأنّه لو كان اللابياض في رتبة البياض، و كان البياض في رتبة السواد، تكون النتيجة انّ اللابياض في رتبة السواد لقاعدة التساوي، فانّ مساوي المساوي للشيء، مساو لذلك الشيء.(2)

ص:21


1- كفاية الأُصول: 1/207.
2- المراد من المساوي الأوّل هو اللابياض و من الثاني البياض، و المراد من الشيء هو السواد.

يلاحظ عليه: أنّ قانون المساواة إنّما يجري في المسائل الهندسية فيقال: انّ زاوية» أ «مساوية لزاوية » ب «، و زاوية» ب «مساوية لزاوية» ج «، فينتج انّ زاوية» أ «مساوية لزاوية» ج «، و أمّا التقدّم و التأخّر و التقارن من حيث الرتبة فلا تعمّها القاعدة، بل ثبوت كلّ تابع لوجود الملاك فيه و قد يوجد الملاك في أحد المساويين دون الآخر، و لذلك قالوا: إنّ ملازم العلّة ليس متقدماً على المعلول رتبة مع أنّ العلّة متقدمة عليه كذلك و ما هو إلاّ لأنّ ملاك التقدّم و هو نشوء المعلول عن العلّة موجود في العلة لا في ملازمها.

و على ذلك فلو كان البياض متحداً مع السواد رتبة لا يكون دليلاً على أنّ المتحد مع البياض) اللابياض (متّحد مع السواد في الرتبة، و ذلك لفقد الملاك، لأنّ اتحاد النقيضين في الرتبة لأجل انّه لو لا الاتحاد يلزم ارتفاعهما و هو محال مثلاً إذا لم يصدق أحد النقيضين كالبياض فلو قلنا بأنّ النقيضين في رتبة واحدة فلا بدّ أن يصدق اللابياض، و لو نقل، لا يلزم أن يصدق اللابياض و عند ذاك يلزم ارتفاع النقيضين، فظهر انّه لا محيص من القول بوحدة رتبة النقيضين و إلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

و هذا بخلاف اللابياض و السواد فلا يلزم من القول بعدم الوحدة في الرتبة، سوى ارتفاعهما و عدم صدقهما و لا محذور فيه.

المناقشة الثالثة: استلزامه الدور

هذه هي المناقشة الثالثة التي وجهها المحقّق الخراساني إلى كون الضدّ مقدمة للضدّ الآخر، و بيّنها بالعبارة التالية:

لو اقتضى التضاد توقّفَ وجود الشيء على عدم ضدّه، توقّفَ الشيء على

ص:22

عدم مانعه، لاقتضى توقّفَ عدمِ الضدّ على وجود الشيء، توقّفَ عدم الشيء على مانعه، بداهة ثبوت المانعية في الطرفين و كون المطاردة من الجانبين، و هو دور واضح.(1)

و ربما يردّ الدور بما في الكفاية من أنّ توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر فعلي، و لكن توقّف عدم الآخر على وجود واحد من الضدّين شأني، مثلاً: انّ وجود السواد في محل متوقف فعلاً على عدم تحقّق البياض فيه، و أمّا توقّف عدم الضدّ) البياض (على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي فلا دور.

أمّا كون التوقّف في جانب الوجود فعلي، فلوضوح انّ توقّف وجود المعلول على جميع أجزاء علته و منها عدم المانع فعلي، لأنّ للجميع دخلاً فعلاً في تحقّقه و وجوده في الخارج، و أمّا عدم الضدّ فلا يتوقّف على وجود الضدّ الآخر، لأنّ عدمه يستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقّق المقتضي مع بقية الشرائط ليكون توقّفه عليه فعليّاً.

و قد أجاب عن الإشكال المحقّق الخراساني(2) بأنّ الدور و إن ارتفع فعلاً لكن لم يرتفع شأناً، لأنّ عدم الضدّ و إن كان موقوفاً عليه بالفعل، لوجود الضدّ

ص:23


1- كفاية الأُصول: 1/207.
2- لا يخفى انّ عبارة الكفاية في هذا المقام لا تخلو من إغلاق و غموض، و ذلك لأجل أمرين: الأوّل: انّه فصل بين المبتدأ أعني قوله:» و ما قيل في التفصي «و الخبر أعني قوله:» غير سديد «بفاصل طويل يبلغ مقدار صفحة، و مثل هذا يخل بالبلاغة. الثاني: انّه أقحم بين الإشكال على الدور و الإجابة عنه سؤالاً و جواباً تحت عنوان» إن قلت، قلت «، و زاد هذا تعقيداً على تعقيد. و ذكر شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه انّ السؤال قد طرحه تلميذه الشيخ عبد اللّه الكلبايكاني في درسه الشريف، و أجاب عنه بما في الكفاية، فمدّ اللّه عمر شيخنا الأُستاذ فقد أوضح ما في الكفاية بما لا مزيد عليه كما ترى.

الآخر، و لكنّه أيضاً موقوف على وجود الضدّ الآخر شأناً، بحيث لو وجد المقتضي للإيجاد يكون عدمه مستنداً إلى وجود الضدّ و هو أيضاً محال، ضرورة استلزامه كون شيء مع كونه في مرتبة متقدمة فعلاً، في مرتبة متأخرة شأناً.

تحليل المقدّمة الثانية من الاستدلال

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاص استدلّ بدليل ذات مقدّمات ثلاث:

الأُولى: انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، و هذا هو الذي تقدّم الحديث عنه.

الثانية: انّ مقدّمة الواجب واجب، و قد مرّ الكلام فيه.

الثالثة: إذا كان ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم المقدّمة الأُولى، و كان ترك الصلاة واجباً بحكم المقدّمة الثانية، تصل النوبة إلى المقدّمة الثالثة و هي انّ الأمر بالشيء و هو في المقام أمر مقدّمي، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيضه و هو هنا الصلاة، فتكون الصلاة منهياً عنها.

و ببركة هذه المقدّمات الثلاث يثبت انّ المولى إذا أمر بالإزالة فلا محيص له عن النهي عن الصلاة بحكم هذه المقدّمات.

أقول: إنّ المقدّمتين التاليتين كالمقدّمة الأُولى باطلتان.

أمّا الثانية فقد قلنا: إنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة مطلقاً من غير فرق بين المقام و غيره، لأنّ الهدف من إيجاب المقدّمة هو إيجاد البعث و الداعي في ذهن المخاطب; و عندئذ فلو كان المخاطب قاصداً للإتيان بذيها، فهو يأتي بالمقدّمة

ص:24

بحكم العقل من دون حاجة إلى إيجابها; و إن كان صارفاً عن إتيانه، فلا يبعثه الأمر بالمقدّمة إلى امتثال ذيها لعدم ترتّب العقاب على تركها.

و منه يظهر بطلان المقدّمة الثالثة و هو انّه إذا أمر المولى بترك الصلاة بحكم انّه مقدّمة فعليه أن ينهى عن ضدّه العام أعني: ترك ترك الصلاة الذي هو مساو للصلاة فانّ هذا النهي مثل الأمر بالمقدّمة إمّا لغو و إمّا غير باعث، لأنّه لو كان ناوياً للإزالة فلا حاجة للنهي عن الصلاة، و إن كان صارفاً عنها فلا يكون النهي عن الصلاة داعياً له إلى امتثال الإزالة.

و بذلك تمّ الكلام في المسلك الأوّل الذي أسميناه بمسلك المقدّميّة حيث إنّ المستدلّ يتطرق إلى مقصود عن هذا الطريق، و بدوري أرفع آية الاعتذار إلى القرّاء الأعزاء من الإطناب في هذا البحث، فانّ طبيعة البحث ألجأتني إليه.

ص:25

المسلك الثاني: مسلك الملازمة

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام استدلّ بوجهين:

أحدهما: مسلك المقدمية و قد مضى الكلام فيه.

الثاني: مسلك الملازمة و الاستدلال عن هذا الطريق مبني على أُمور ثلاثة:

أ: انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن ضدّه العام و هو ترك الإزالة.

ب: انّ الاشتغال بكلّ فعل وجودي) الضدّ الخاص (كالصلاة و الأكل ملازم للضدّ العام، كترك الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.

ج: المتلازمان متساويان في الحكم، فإذا كان تركُ الإزالة منهياً عنه حسب المقدّمة الأُولى فالضدّ الملازم لها كالصلاة يكون مثلَه. فينتج انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن الضدّ الخاص.

يلاحظ على الأمر الأوّل بما مرّ من المنع عن اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه العام، و انّ مثل هذا النهي المولوي لا يترتّب عليه أي أثر.

كما يلاحظ على الأمر الثاني بأنّه لا دليل على تساوي المتلازمين في الحكم، إذ يمكن أن يكون الملاك موجوداً في أحدهما دون الآخر. بأن يكون ترك الإزالة حراماً و لا يكون ملازمة الصلاة حراماً لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.

نعم يجب أن لا يكون المساوي محكوماً بحكم مضاد لحكم المساوي، فإذا

ص:26

وجب الاستقبال إلى الكعبة لا يجوز أن يحرم الاستدبار إلى الجدي. نعم لا يجب أن يكون الاستدبار واجباً.

قد فرغنا عن الدليلين اللّذين أُقيما على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص، و لما كانت المقدّمة الأُولى للدليل الأوّل، هو مقدمية ترك الضدّ، لفعل الضدّ الآخر، و قد عرفت بطلانه و كان للمحقّق الخوانساري تفصيلاً في المقام، أحببت التعرّض له فأقول:

عود إلى مسلك المقدمية ثانياً

ذهب المحقّق الخوانساري إلى التفصيل بين الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم، فذهب إلى توقّف الضدّ على ارتفاع الضد الموجود و لا يمكن، فلو كان المحل أسود توقف عروض: البياض على ارتفاع السواد دون ما إذا لم يكن أسود.

و أيّده المحقّق النائيني بقوله: إنّ المحل إذا كان مشغولاً بأحد الضدّين، فلا يكون قابلاً لعروض الضدّ الآخر إلاّ بعد انعدامه، و يكون وجوده موقوفاً على عدم الضدّ الموجود، و هذا بخلاف ما إذا لم يكن شيء منهما موجوداً و كان المحل خالياً عن كلّ منهما، فانّ قابليته لعروض كلّ منهما فعلية، فإذا وجد المقتضي لأحدهما، فلا محالة يكون موجوداً من دون أن يكون لعدم الآخر دخل في وجوده.(1)

يلاحظ على أصل الاستدلال بأنّ العدم أنزل من أن يكون موقوفاً عليه أو موقوفاً و حقيقة الأمر انّه يرجع إلى التزاحم بين الوجودين، فعبّروا عن رفع التزاحم بأنّ ورود أحدهما يتوقّف على عدم الآخر، ففيما كانت الفاكهة على الشجر سوداء، و إن كان يمتنع عروض البياض عليها، لكن لا لأجل كون عدم السواد مقدمة

ص:27


1- أجود التقريرات: 1/259.

لعروض البياض، بل لأجل التزاحم بين الوجودين فعبروا عن التزاحم بكون عدم السواد مقدمة لعروض البياض.

و يلاحظ على التأييد بأنّه أيضاً كأصل الاستدلال، إذ لا نقص في قابلية الجسم، بل هي كاملة سواء أ كان الضدّ موجوداً أم لا، و انّ عروض الضدّ لا يبطل القابلية للجسم، و عدم قبوله لا للنقص في القابلية بل لأجل وجود التمانع بين الوجودين.

بحث استطرادي: إنكار المباح أو شبهة الكعبي

نقل الأُصوليون عن عبد اللّه بن أحمد الكعبي انتفاء المباح و انّ الأحكام تنحصر في الواجب و الحرام قائلاً بأنّ ترك الحرام يتوقّف على فعل واحد من أفراد المباح فيجب بوجوبه بحكم كونه مقدّمة.

و ما ذكره من الاستدلال مبنيّ على أُمور ثلاثة:

الأوّل: انّ النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العام، فلو كان فعل الشيء حراماً كالكذب كان تركه واجباً، و هذا نظير ما لو كان فعله واجباً كالإزالة كان تركه حراماً.

و بالجملة كما يتولد من الأمر بالشيء، النهي عن الضدّ العام، فهكذا يتولّد من النهي عنه، الأمر بالضد العام.

الثاني: انّ الترك الواجب) ترك الكذب (يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية لاستحالة خلو المكلّف عن فعل من الأفعال الاختيارية.

الثالث: انّ مقدمة الواجب و هي الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الترك الواجب واجبة فينتفي المباح.

ص:28

يلاحظ على الأمر الأوّل: أنّه لا دليل إذا كان فعل الشيء حراماً أن يكون تركه واجباً لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام، إذ هو لا يترتّب عليه أيّ أثر.

و يلاحظ على الأمر الثاني: أنّ الترك الواجب) ترك الحرام (لا يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية كالمباح، و ذلك لأنّ ترك الحرام مستند إمّا إلى فقد المقتضي الذي يعبر عنه بالصارف، أو وجود المقتضي للضد الآخر. مثلاً: انّ ترك الكذب إمّا لأجل الصارف عنه خوفاً من اللّه سبحانه، أو إلى وجود المقتضي للأضداد الأُخر كالأكل و الشرب.

و على كلّ تقدير فالمقدّمة لترك الحرام) أو للترك الواجب (أحد الأمرين:

1. الصارف عن الحرام.

2. وجود المقتضي لارتكاب الأكل و الشرب و بالتالي لا يكون المباح مقدّمة.

ص:29

المحور الثالث في الثمرة الفقهية

قد عرفت أنّ الكلام في هذا الفصل يدور على محاور ثلاثة، و قد مضى الحديث عن المحورين الأوّلين فلا نعود إليهما، و لنركِّز على المحور الثالث و هو ثمرة البحث، فنقول:

إنّ ثمرة البحث هي بطلان الصلاة و صحّتها على القول بالاقتضاء و عدمه، فلو كان الأمر بالمضيَّق كالإزالة مقتضياً للنهي عن الموسَّع كالصلاة، فالصلاة تكون محكومة بالبطلان، و لو نُفِي الاقتضاء فلا تكون منهياً عنها و تكون صحيحة طبعاً.

نعم مجرّد ثبوت تعلّق النهي بالصلاة لا يكفي في استنتاج المسألة الفقهية بل يجب أن تُضم إليها مسألة أُصولية أُخرى، و هي انّ النهي في العبادات موجب للفساد.

و على ضوء ذلك فاستنتاج البطلان موقوف على مقدّمتين: صغرى و كبرى.

فالصغرى أي تعلّق النهي يثبت في المقام.

و أمّا الكبرى فترجع إلى المقصد الثاني و هو انّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد.

و بذلك يعلم أنّ المسألة الأُصولية تارة تكون علّة تامّة لاستنتاج المسألة

ص:30

الفقهية كما هو الحال في حجّية خبر الواحد، و أُخرى تكون جزء العلّة كما في المقام حيث إنّ الصغرى على ذمّة هذا البحث و الكبرى على ذمّة المقصد الثاني، فبضم الأمرين يُستنتج الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ جماعة أنكروا الثمرة لوجهين:

الأوّل: انّ النهي على فرض ثبوته نهي غيري، و هو لا يكشف عن وجوب المفسدة في المتعلّق فلا يكون ملازماً للفساد، و إنّما يدلّ النهي على الفساد إذا كان كاشفاً عن وجود المفسدة في المتعلّق على نحو يكون مبغوضاً للمولى و هو من خصائص النهي النفسي لا الغيري كما في المقام.(1)

هذا من غير فرق بين كون النهي مستفاداً من مسلك المقدمية أو مسلك الملازمة.

أمّا الأوّل فهو واضح، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة فيكون واجباً و يتعلّق به الأمر، لكن الأمر بترك الإزالة أمر مقدّمي يتولّد منه نهي غيري آخر، و هو النهي عن الصلاة بذريعة انّ الأمر بالشيء ) ترك الصلاة (يقتضي النهي عن ضدّه العام أي النقيض و هو الصلاة.

و أمّا الثاني فقد عرفت أنّ استنباط النهي متوقّف على أنّ الأمر بالإزالة مقتض للنهي عن الضد العام، أعني: ترك الإزالة، و هذا النهي غيري يتولّد منه نهي آخر عن الصلاة لكونها ملازمة لترك الإزالة، و المتلازمان متحدان حكماً.

و لعلّنا نرجع إلى الإجابة عن هذا الإشكال.

الثاني: ما ذكره بهاء الدين العاملي من أنّ التكليف لإثبات النهي عن

ص:31


1- تهذيب الأُصول: 1/300.

الصلاة أمر لا طائل تحته، إذ لا نحتاج في الحكم بفساد الصلاة إلى النهي، بل يكفي عدم الأمر بالصلاة، و هو أمر متفق عليه لظهور سقوط الأمر بالصلاة بعد الأمر بالإزالة، فكون الصلاة غير مأمور بها يكفي في فسادها.

ثمّ إنّ القوم حاولوا الإجابة عن هذا الإشكال بوجوه ثلاث:

الأوّل: كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة و لا يلزم قصد الأمر، و هذا ما أجاب به المحقّق الخراساني.

الثاني: كفاية قصد الأمر المتعلق بالطبيعة و إن كان الفرد المزاحَم فاقداً للأمر، و هو المستفاد من كلمات المحقّق الثاني.

الثالث: تصحيح الأمر بالصلاة عن طريق الترتب.

و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر:

الأوّل: كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الصحّة ليست رهن تعلّق الأمر بالعبادة فقط، بل الصحّة أعمّ من الأمر، و يكفي فيها أيضاً وجود الملاك و الرجحان الذاتي في العبادة، إذ الفرد المزاحم من العبادة و غير المزاحم سيّان في الملاك و المحبوبية الذاتية، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره و أمّا سقوط ملاكه و رجحانه الذاتي و كونه معراج المؤمن و قربان كلّ تقي فهو بعد باق عليه.

فإن قلت: إنّ العلم بوجود الملاك فرع تعلّق الأمر بالصلاة و المفروض سقوطه، و معه كيف يعلم الملاك و انّها صالحة للتقرب. و بعبارة أُخرى كما أنّ النهي يكشف عن عدم الملاك، فكذلك الأمر يكشف عن وجوده، و مع فقد الأمر فمن أين نستكشف وجود الملاك؟

ص:32

قلت: إنّ المقام من قبيل المتزاحمين لا المتعارضين، و الملاك في كلّ من المتزاحمين موجود على نحو لو لا التزاحم لكان الفرد الموسَّع مأموراً به، و هذا معنى اشتماله على الملاك و إن لم يكن مأموراً به بالفعل، حتّى أنّ المحقّق النائيني جعل قصد الملاك أقوى في حصول التقرب من قصد الأمر، فقال: لم يدل دليل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة، و أمّا تطبيقه على قصد الأمر فإنّما هو بحكم العقل، و قصد الملاك لو لم يكن أقوى في حصول التقرب بنظر العقل من قصد الأمر فلا أقلّ من كونه مثله.(1)

الثاني: كفاية قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة

و هذا الجواب مستنبط من كلام المحقّق الكركي و إن لم يكن هو بصدد الإجابة على إشكال بهاء الدين العاملي لتقدّم عصره عليه.

و حاصل ما يستنبط من كلامه انّ البحث عديم الثمرة في المضيقين دون المضيّق و الموسّع.

أمّا الأوّل كإنقاذ الغريقين اللّذين أحدهما أهمّ من الآخر، فإنّ الأمر بالأهم يوجب سقوط الأمر بالمهم مطلقاً عن الفرد و الطبيعة، إذ ليس لها إلاّ فرد واحد مزاحم بالأهم.

و أمّا الثاني فتظهر فيه الثمرة، فأمّا إذا بنينا على عدم تعلّق النهي بالضد كما هو مفروض الإشكال فغايته انّه يوجب سقوط الأمر بالطبيعة المتحقّقة في الفرد المزاحم لعدم القدرة على الإتيان به شرعاً، و هو في حكم عدم القدرة عقلاً، لا سقوط الأمر عن الطبيعة بوجودها السعيّ، بل الأمر بها باق لعدم اختصاص

ص:33


1- أجود التقريرات: 1/265; المحاضرات: 733/71.

تحقّق الطبيعة بالفرد المزاحم.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ الفرد المزاحم و إن لم يكن من مصاديق الطبيعة المأمور بها و لكنّه من مصاديق مطلق الطبيعة، و ملاك الامتثال إنّما هو انطباق عنوان الطبيعة على الفرد الخارجي لا كون الفرد الخارجي بشخصه مأموراً به، فهو مصداق الطبيعة و إن لم يكن مصداق الطبيعة المأمور بها.

و بعبارة أُخرى: انّ الثابت هو سقوط الأمر عن هذا الفرد فواضح، لا سقوطه عن الطبيعة، و ذلك لأنّ الواجب الموسّع له أفراد غير مزاحمة و إنّما المزاحمة بين المضيق و الفرد المزاحم من الموسع، فيأتي الفرد بنية الأمر بالطبيعة باعتبار انّ لها مصاديق غير مزاحمة.

هذا هو المستفاد من كلام المحقّق الكركي في» جامع المقاصد «في كتاب الدين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة يتصوّر على أقسام:

1. أن يكون وجوبها إنشائياً ما دام الأهم غير مأتي به.

2. أن يكون وجوبها فعلياً و الواجب استقبالياً، و المراد من الاستقبالي تعيّن الإتيان بالمهم بعد الإتيان بالأهم.

3. أن يكون الوجوب و الواجب فعليّين.

ص:34


1- قال فيه: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: أوجبت عليك كلاً من الأمرين لكن أحدهما مضيق و الآخر موسّع، فإنّ قدّمت المضيّق فقد امتثلت و سلمت من الإثم، و إن قدّمت الموسّع فقد امتثلت و أثمت بالمخالفة في التقديم.) جامع المقاصد: 5/12). و لم نجد فيه عبارة تصلح سنداً لما ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في المتن، و هو أعرف بمواقع كلمات الفقهاء.

لكن الأمر الإنشائي لا يمكن التقرّب به، لأنّ المفروض عدم بلوغ إرادة المولى حدّ الطلب الجدّي.

و على الثاني لا يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم، لأنّ المفروض انّ الطبيعة مقيدة بالزمان المتأخّر عن الإتيان بالأهم.

و أمّا الثالث و هو يستلزم أن يكون كلّ من الوجوب و الواجب فعليين، فهو يستلزم الأمر بالضدين.

فالإتيان بالمهم في الأمر المتعلّق بالطبيعة لا ينجع، لأنّه بين كون الأمر إنشائياً أو الواجب استقبالياً و بين استلزامه طلب الضدين.

أضف إلى ذلك هو انّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود أو نفس الطبيعة باعثاً و داعياً بالنسبة إلى هذا الفرد أو لا; فعلى الأوّل يلزم التكليف بالضدّين، و على الثاني لا يصحّ الإتيان بهذا الفرد بنية الأمر المتعلّق بالطبيعة لافتراض عدم باعثيته له.

هذا فإذا كان الجواب الأوّل أي إتيان الصلاة بملاكها أو إتيانها بلحاظ الأمر المتعلّق بالطبيعة ناجعاً في إضفاء الصحة على الصلاة فهو، و إلاّ فلا بدّ من سلوك طريق آخر، و هو تصوير تعلّق الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان أمر الأهم و هذا هو البحث المعروف بالترتب، لترتب الأمر المتعلق بالمهم على عصيان الأمر الأهم.

ص:35

الأمر بالضدين على نحو الترتّب

اشارة

إنّ الترتّب من المسائل الشائكة التي تضاربت فيه الأقوال و الآراء، و بما انّها من أُمّهات المسائل الأُصولية التي يستنبط بها مسائل مختلفة كما سنشير إليها،

نقدم أُموراً قبل الخوض في صلب الموضوع.
الأوّل: الفرق بين التعارض و التزاحم

يستعمل لفظ التزاحم في هذا الباب و مبحث اجتماع الأمر و النهي، فلا بدّ من توضيح المراد في المقام فقط، فنقول:

لا شكّ انّ التعارض و التزاحم يجمعهما وجود التنافي بين الدليلين و إنّما الاختلاف في مصبِّه، فنقول:

إنّ التعارض عبارة عن تنافي الدليلين في الجعل و الإنشاء بأن يستحيل من المقنن الحكيم، صدور حكمين أو جعلين حقيقيين لغاية الامتثال فهو التعارض و يعرف بالتنافي بين مدلولي الدليلين في مقام الجعل و الإنشاء.

مثلاً يستحيل على الحكيم أن يحرّم بيع العذرة و في الوقت نفسه أن يبيحها فيقول: ثمن العذرة سحت ثمّ يقول: و لا بأس ببيع العذرة، إذ لا تنقدح الإرادتان المتضادتان في نفس المقنن على وجه الجد، فيُعلم كذب أحد الدليلين و عدم صدور واحد منهما في مقام التشريع.

ثمّ إنّ التكاذب بين الدليلين تارة يكون بالذات كما في المثال المذكور،

ص:36

و أُخرى بالعرض، كما إذا ورد الدليل على وجوب صلاة الظهر و صلاة الجمعة في يومها، فانّ الدليلين خاليان من التنافي في مقام الجعل، إذ لا مانع من إيجاب صلاتين في وقت واحد يسع كلاً منهما لكن بعد ما علمنا أنّ الشارع لم يكتب يوم الجمعة على المكلّف إلاّ فريضة واحدة، عرضهما التكاذب بالعرض.

نعم لا يشترط في التعارض التنافي في مقام الامتثال، بل يمكن أن يكون المتعارضان ممكني الامتثال، كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب الشيء و الآخر على استحبابه أو إباحته; كما يمكن أن يكون ممتنعي الامتثال، كما إذا دلّ أحدهما على الوجوب و الآخر على الحرمة و الجامع بين عامة الأقسام وجود التكاذب في مقام الجعل و الإنشاء.

و أمّا التزاحم فهو عبارة عن وجود التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال بمعنى عدم المنافاة في مقام الجعل و التشريع، بل الحكمان في ذلك المقام متلائمان غير أنّ عجز المكلّف و قصور قدرته صار سبباً لحدوث التنافي بين الدليلين، كما في قولك» انقذ أخاك «و» انقذ عمّك «فجعل الحكمين و الأمر بإنقاذ كلا الشخصين ليس فيه أي تناف في مقام الإنشاء، و لذلك لو ابتلى المكلّف بهما متعاقباً لا مجتمعاً تمكّن من الامتثال، و إنّما التنافي في مقام الامتثال عند ما ابتلي بهما جمعاً.

و مثله المقام فإذا قال المولى أزل النجاسة عن المسجد و قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1)فليس هناك أيّ تناف بين الدليلين لا في مقام الجعل كما هو واضح لاختلاف الموضوعين، بل و لا في مقام الامتثال، كما إذا ابتلى بأحدهما بعد الآخر، و إنّما التنافي فيما إذا ابتلى بهما معاً حيث يعجز عن القيام بالأمرين معاً.

ص:37


1- الإسراء: 78.

و هذا هو المسمّى بالتزاحم بمعنى انّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن الصرف في الآخر.

ثمّ اعلم أنّ تفسير التعارض و التزاحم على هذا النحو هو خيرة المحقّق النائيني و تلاميذ مدرسته، و قد خالف في تفسيره المحقّق الخراساني و سيوافيك تفسيره في باب اجتماع الأمر و النهي عند الكلام في الأمر الثامن و التاسع من مقدّمات البحث.

الثاني: مرجحات التعارض غير مرجحات التزاحم

إذا كان التعارض يختلف بجوهره عن التزاحم فمرجّحات الأوّل غير مرجّحات الثاني، أمّا الأوّل فبما انّ التعارض هناك يرجع إلى مقام الجعل و التشريع فتمييز الصادق عن الكاذب رهن المرجحات التي يذكرها الشارع لتلك الغاية و ليس للعقل إليها سبيل، و ستوافيك تلك المرجحات في المقصد الثامن عند البحث عن التعادل و الترجيح، و أمّا مرجحات باب التزاحم فبما انّ التنافي خارج عن مصب التشريع و لا صلة له بالشارع و إنّما يرجع إلى قصور قدرة المكلّف عن الامتثال، فللعقل سبيل إلى تعيين المرجّحات و هو تقديم الأهم بالذات أو بالعرض على غيره.

و عناوين تلك المرجّحات عبارة عن الأُمور التالية:

1. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

2. تقديم المضيق على الموسع.

3. تقديم الأهم بالذات على المهم.

4. سبق أحد الحكمين زماناً.

ص:38

5. تقديم الواجب المطلق على المشروط.

و بما انّا قد استوفينا الكلام فيها تبعاً لشيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في باب التعادل و التراجيح نطوي الكلام فيها و إن شئت فراجع» إرشاد العقول «.(1)

الثالث: في تعريف الترتّب

إنّ الترتّب عبارة عن تعلّق أمر فعلي بواجب أهم على وجه الإطلاق بلا تقييد بشيء و تعلّق أمر فعلي آخر بضدّه المهم مشروطاً بعصيان ذلك الأمر المتعلّق بالأهم على نحو الشرط المتأخر أو بالعزم على عصيانه، و تظهر حقيقة الترتّب في المثالين الأخيرين.

أ. إذا كان الواجبان مضيّقين، كما إذا قال المولى: انقذ ولدي فإن عصيت فأنقذ الأجنبي.

ب. إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً و الآخر موسّعاً كما إذا قال: أزل النجاسة فإن عصيت فصلِّ.

فعلى كلا التقديرين يكون أحد الأمرين مطلقاً و الآخر مشروطاً بالعصيان.

الرابع: صحّة الترتّب و عدمها عقلي

البحث عن صحّة الترتّب و عدمها بحث عقلي لا دخالة للّفظ فيه و ذكره في أبواب مباحث الألفاظ كذكر أحكام الملازمات في باب الأوامر مع أنّ البحث فيها عن الملازمة العقلية.

ص:39


1- إرشاد العقول: 3142/310، من المباحث العقلية.
الخامس: الترتّب يكفي في وقوعه إمكانه

إنّ مسألة الترتّب من المسائل التي يكفي في وقوعها إمكانها، و ذلك لأنّه إذا ابتلى المكلّف في أوّل الظهر مثلاً بواجبين أحدهما مضيق و الآخر موسّع، فيدور الأمر لأجل رفع التنافي بين أحد الأمرين:

أ. إمّا رفع اليد عن نفس الأمر بالمهم مطلقاً و القول بسقوطه كما عليه شيخنا بهاء الدين العاملي حيث زعم انّ الأمر بالإزالة موجب لسقوط الأمر بالصلاة مطلقاً.

ب. رفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم بأن يُقيّد بعصيان أمر الأهم، فلو كان تقييد الأمر بالمهم كافياً لرفع التنافي فلا وجه لرفع اليد عن أصل الأمر، لأنّ الضروريات تتقدر بقدرها، فمن صحّح الترتّب أخذ به، و من لم يصحّحه رفع اليد عن الأمر بالمهم أساساً.

السادس: الأمر بالمهم فعليّ كالأهم

إنّ واقع الترتّب يقوم على أساس توجه أمرين فعليين إلى المكلّف أحد الأمرين مطلق و الآخر مشروط.

و بعبارة أُخرى ففي الوقت الذي يكون الأمر بالمهم) الصلاة (فعلياً يكون الأمر بالإزالة أيضاً فعلياً لم يَسقط بعدُ لا بالامتثال و لا بالعصيان، فلأجل تصحيح الجمع بين الأمرين الفعليين يبقى الأمر بالأهم على إطلاقه، و يُقيّد الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو يكون الأمر معه فعليّاً أيضاً. و لذلك لا بدّ من الدقة في الشرط الذي يخرج الأمر بالمهم عن إطلاقه و يصيره مشروطاً مع كونه فعلياً أيضاً.

ص:40

فالجمع بين هذه الأُمور:

أ: كون الأمر بالمهم مشروطاً.

ب: كون الأمر بالمهم فعلياً.

ج: كون الأمر بالأهم غير ساقط بعد.

أمر دقيق يحتاج إلى مزيد من النظر.

فالذي يمكن أن يجمع بين هذه الأُمور هو عبارة عن جعل الشرط) العصيان (بالنحو التالي:

جعل العصيان شرطاً للأمر بالمهم لكن على نحو الشرط المتأخر لا المتقدم.

و المراد من الشرط المتأخر للتكاليف هو ما يكون الشرط متقدماً لحاظاً و متأخراً وجوداً، و في المقام انّ المولى يتصور عصيان العبد بالنسبة إلى الأمر بالأهم في المستقبل، ففي ذاك الظرف الذي يكون العصيان متقدماً لحاظاً و متأخراً وجوداً يأمر بالمهم و يقول: و إن عصيت فصلِّ.

فالشرائط الثلاثة الآنفة الذكر محقّقة:

1. انّ الأمر بالمهم مشروط بالعصيان بنحو الشرط المتأخر.

2. كون الأمر بالمهم فعلياً لوجود شرطه و هو العصيان لكن بنحو الشرط المتأخر بمعنى تحقّقه لحاظاً لا خارجاً، و إلاّ فلو تحقق خارجاً لسقط الأمر بالإزالة و لا يوجد في ظرف التكليف إلاّ الأمر بالمهم.

3. و الأمر بالأهم غير ساقط، لأنّه إنّما يسقط بالطاعة أو بالعصيان الخارجي المتقدّم على الأمر بالصلاة و المفروض انتفاؤهما.

أمّا الامتثال فظاهر، و أمّا العصيان فالمفروض انّه لم يتحقّق بعدُ كما هو

ص:41

مقتضى أخذ العصيان على نحو الشرط المتأخر وجوده، و بذلك يعلم سرّ أخذ الشرط على نحو الشرط المتأخر لا المتقدّم بوجوده و لا المقارن، لأنّ العصيان المتقدم بوجوده يوجب سقوط الأمر بالإزالة و انحصار التكليف بامتثال الأمر المهم.

و أمّا العصيان المقارن فلأنّ الكلام في الأُمور التدريجية و لا يتصوّر فيها العصيان التدريجي، بل في الأُمور الدفعية كعصيان الأمر بإنقاذ الولد شرطاً مقارنها للأمر بإنقاذ الأجنبي.

فكما يمكن أن يكون العصيان الخارجي شرطاً للأمر بالمهم لكن بنحو الشرط المتأخر يمكن أن يكون الشرط المأخوذ في المهم هو عزم المكلّف بالعصيان، و الفرق بين الأمرين واضح.

ففي الأوّل يكون الشرط هو العصيان الخارجي بوجوده المتأخر و مرجعه إلى لحاظ المولى العصيان شرطاً.

و أمّا الثاني فالشرط هو نية المكلّف و عزمه على العصيان، و من المعلوم أنّ التكليف بالأهم لا يسقط بالعزم و النية فيكون الأمران فعليين متجانسين.

و بذلك تختلف مسألة عزم العصيان مع العصيان المتقدم حيث إنّ الأوّل لا يوجب سقوط التكليف بالأهم بخلاف الثاني.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى تقرير الترتّب. و قد ذكر له تقريبات مختلفة نأتي بها واحد بعد الآخر.

ص:42

التقريب الأوّل للترتّب
اشارة

قد قرر صاحب الكفاية دليل جواز الترتّب بالنحو التالي:

إنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك أي بأن يكون الأمر بالأهم مطلقاً و الأمر بغيره معلقاً على عصيان ذلك الأمر) على نحو الشرط المتأخر (أو البناء و العزم عليه بل هو واقع كثيراً عرفاً.(1)

نقد المحقّق الخراساني دليل القائل بالترتّب

إنّ المحقّق الخراساني نقد الدليل المذكور بما هذا بيانه:

إنّ ملاك الامتناع في الأمرين المطلقين متوفر في الأمرين اللّذين أحدهما مطلق و الآخر مشروط، فانّ ملاك امتناع الأمرين العرضيين عبارة عن استلزامهما طلب الضدين، فإذا قال: أزل النجاسة و في الوقت نفسه صلِّ، فمعنى ذلك طلب الضدّين مع عدم تمكين المكلّف من صرف القدرة إلاّ في امتثال أحد الأمرين.

فإذا كان هذا) طلب الضدين (هو الملاك في امتناع الأمرين العرضيين المطلقين، فهو أيضاً موجود في الأمرين اللّذين أحدهما مطلق و الآخر مشروط، و ذلك لأنّ الأمر بالمهم و إن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود

ص:43


1- الكفاية: 1/213.

في رتبة الأمر بالمهم، فانّ المفروض انّ الأمر بالأهم لم يسقط بعدُ لا بالامتثال و لا بالعصيان فيكون في رتبة الأمر بالمهم، فيجتمع أمران فعليان في رتبة الأمر بالمهمّ و إن لم يكونا كذلك في رتبة الأمر بالأهمّ.

و بعبارة أُخرى: في المرتبة التي للأمر بالأهم دعوة إلى نفسه ليس للأمر بالمهم دعوة إلى امتثال نفسه و لكن في المرتبة التي للأمر بالمهم دعوة إلى متعلّقه فللأمر بالأهم أيضاً دعوة و طلب، لافتراض انّه بعدُ لم يسقط، لأنّ الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر.

هذا هو الإشكال الذي اعتمد عليه المحقّق الخراساني في نفي الترتّب، و الذي عاقه عن تصويبه هو اجتماع الأمرين في مرتبة الأمر بالمهم و إن لم يكن اجتماع في مرتبة الأمر بالأهم.

تحليل نظرية المحقّق الخراساني

إنّ الملاك في استحالة توجه أمرين مطلقين إلى المكلّف ليس هو طلب الضدّين، بل طلب الجمع بين الضدّين، فانّ طلب الضدّين إذا لم يكن هناك طلبُ جمع بينهما فلا مانع منه كما في الأمر بالسكون في ظرف و الأمر بالحركة في ظرف آخر، و إنّما الملاك في الاستحالة هو أن تكون نتيجة الأمرين هو طلب الجمع بينهما في زمان واحد، و هذا الملاك موجود في الأمرين المطلقين دون المطلق و المشروط، فهاهنا دعويان:

الأُولى: انّ نتيجة الأمرين المطلقين هي طلب الجمع بين الضدّين حيث يقول: أزل النجاسة و في الوقت نفسه صلِّ صلاة الظهر، فهو يطلب في زمان واحد صدور أمرين متضادين و هما بمعنى الجمع بين الضدين، لأنّه جعَل ظرف امتثال

ص:44

الأمر الأوّل، نفس ظرف امتثال الأمر الثاني بشهادة انّه قال: و في الوقت نفسه صلِّ.

الثانية: انّ نتيجة الأمرين اللّذين أحدهما مطلق و الآخر مشروط هو طلب الضدين لا طلب الجمع بين الضدين، و ذلك لأنّه يطلب الإزالة بلا قيد و شرط كما هو مقتضى الإطلاق.

و لكن يطلب الصلاة في ظرف انصراف المكلّف عن امتثال الأمر بالإزالة، فتكون النتيجة طلب الضدين لا طلب الجمع بينهما، و إنّما يلزم طلب الجمع بين الضدّين لو طلب الأمر بالمهم حتّى في ظرف إرادته لامتثال الأمر بالأهم و المفروض خلافه.

و بعبارة أُخرى: انّ المولى يلاحظ انّ للمكلّف حالتين:

تارة يريد صرف قدرته في الأمر بالأهمّ، و هذا هو الذي يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله.

و أُخرى لا يريد صرف قدرته فيه فلا يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله لبعض الملابسات و لكن يوجد في نفسه داع إلى امتثال الأمر بالمهم، و لأجل رعاية كلتا الحالتين يأمر بالأهم و في ظرف العصيان على نحو الشرط المتأخر يأمر بالمهم.

و بذلك يظهر انّ شيئاً من الأُمور التالية ليس مانعاً من توجيه أمرين إلى المكلّف على نحو الترتب.

1. اجتماع أمرين فعليين.

2. كون الأمر بالأهم في رتبة الأمر بالمهم.

3. استلزام اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم طلب الضدين.

ص:45

فليس شيء من هذه الأُمور مانعة عن إنشاء أمرين أحدهما مطلق و الآخر مشروط ما لم يكن هناك طلب الجمع بين الضدين، و إنّما المانع هو الأمر الرابع أعني:

4. استلزام توجه الأمرين طلب الجمع بين الضدين، و هذا موجود في الأمرين العرضيين لا في الأمرين الطوليين.

و نزيد بياناً انّ مفتاح الترتّب كلمة واحدة، و هي استلزام اجتماع الأمرين الفعليين هل هو طلب الضدين أو طلب الجمع بين الضدّين؟ فمن أحال فاعتمد على الأوّل مع أنّه ليس بمحال، و من جوزه فقد اعتمد على الثاني و انّ الترتب لا ينتهي إلى طلب الجمع بين الضدّين.

بذلك تقف انّ أكثر ما تداولته الألسن و الرسائل و الكتب حول الترتّب بحوث جانبية لا صلة لها بما هو مفتاح المسألة وحل معضلتها.

اعتراضات و أجوبتها

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما تبنَّى امتناعَ الترتّب و زعم أنّ لازمه طلب الضدّين، أثار أسئلة أربعة و أجاب عنها على النحو الرائج في الكتب العلمية، و نحن نذكر الأسئلة و الأجوبة مع القضاء بين المعترض و المجيب.

الاعتراض الأوّل لا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار حيث يعصي فيما بعدُ بالاختيار

فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلاّ الطلب بالأهمّ و لا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار.

ص:46

إجابة المحقّق الخراساني

أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ استحالة طلب الضدّين إنّما هي لأجل كون صدور نفس التكليف بهذا النحو من الحكيم الملتفت إلى امتناعه، محالاً، بمعنى أنّه لا تنقدح في نفس الحكيم إرادتان متضادتان متعلّقتان بأمرين لا يتمكن المكلّف من جمعهما، و ما هذا شأنه لا يفرَّق فيه بين سوء الاختيار أو حسن الاختيار، فلا فرق بين قولنا: أزل النجاسة و إن عصيت فصلّ، و قولنا: أزل النجاسة و إن سلمت على زيد فصلِّ، و قد حقّق في محله انّ مرجع التكليف بالمحال إلى كون نفس التكليف محالاً، فلا ينقدح في ذهن المولى إرادة جديّة متعلّقة بطيران زيد إذا كان فاقداً لأسبابه.

تحليل السؤال و الجواب

إنّ المعترض يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال غير أنّ المكلّف لما كان مقصّراً في المقام، و سبباً لهذا النوع من التكليف فلا مانع من تكليفه أخذاً بقولهم: الامتناع بالاختيار، لا ينافي الاختيار.

كما أنّ المجيب يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال و لكن يردّ على تجويز التكليف بغير المقدور حتّى و لو كان السبب هو المكلّف.

و نحن نقول: الحقّ مع المجيب فإنّ التكليف بغير المقدور تكليف محال، و هو غير جائز في منطق العقل، سواء أ كان المكلّف مقصّراً أم لا، غير أنّ الكلام في مقام آخر و هو فقدان الموضوع) المحال (في مبحث الترتب، إذ غاية ما يترتب عليه هو طلب الضدّين و هو ليس بمحال و ما هو محال أي طلب الجمع بين الضدّين فليس بلازم في المقام.

ص:47

فالسائل و المجيب يبحثان عن أمر لا وجود له في المقام كما عرفت.

الاعتراض الثاني إنّ قياس المقام بالأمرين العرضيين قياس مع الفارق،

فانّ كلاً من الأمرين العرضيين يطارد الآخر، فإذا قال: أزل النجاسة و في الوقت نفسه صلِّ، فكلّ يدعو إلى بذل القدرة في متعلّقه، و عندئذ تظهر المطاردة لوحدة القدرة و كثرة المقدور، بخلاف الأمرين الطوليين، أي إذا كان الأمر الثاني مقيداً بعصيان الأمر الأوّل، فانّ الأمر المتعلّق بالمهم لا يطرد الأمر المتعلق بالأهم، و ذلك لأنّ دعوة الأمر المتعلّق بالمهم إلى امتثاله في ظرف عدم الإتيان بالأهم، فلا يكاد يريد غير الأهم على تقدير إتيانه و إطاعة أمره.

و بعبارة أُخرى لو كانت دعوة الآمر المتعلق بالمهم شاملة لصورة إطاعة الأمر بالأهم يلزم المطاردة، و أمّا لو اختصت دعوته بصورة عدم امتثاله فلا يكون هناك مطاردة.

إجابة المحقّق الخراساني

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ طرد الأمر المتعلّق بالمهم لا يختصّ بصورة إتيان الأمر بالأهم حتّى يقال: لا مطاردة عندئذ بين الأمرين، بل يعمّ حتّى صورة عدم إتيانه.

الثاني: انّ المطاردة من جانب واحد و هو طرد الأمر المتعلّق بالأهمّ كاف في إبطال الترتّب.

أمّا الأوّل فانّ الأمر المتعلّق بالمهم يطارد الأمر الآخر حتّى في صورة عصيان

ص:48

الأمر بالأهم و عدم الإتيان به، و ذلك لأنّ المطاردة لازم فعلية الأمر بالمهم، و كلّ أمر فعلي يدعو إلى متعلّقه و لو في ظرف عدم الإتيان بالأهم و المفروض انّ الأمر المتعلّق بالأهم لم يسقط بعدُ، و هو أيضاً فعلي فيلزم اجتماع أمرين فعليين كل يدعو إلى متعلّقه، و هو نفس مطاردة الأمر بالمهم، الأمرَ بالأهم.

و الحاصل: انّ المعترض يركِّز في إنكار المطاردة على صورة إطاعة الأمر المتعلّق بالأهم، و من المعلوم أنّه ليس في هذه الصورة أيّة مطاردة، و لكن المجيب يركز في إثبات المطاردة على صورة أُخرى، و هي صورة عصيان الأمر المتعلّق بالأهم و وجه المطاردة فعلية كلّ من الحكمين لحصول شرط الفعلية و داعوية كلّ إلى متعلّقه.

أقول: هذا، هو الإشكال المهم في الترتّب و هنا تُكْمنُ روح الترتب أو إنكاره، و لا بدّ من علاجه على وجه يقلع الشبهة عن الأذهان، فنقول:

إنّ للأمر المتعلّق بالمهم في الصورة التي أشار إليها المحقّق الخراساني) صورة عدم الإتيان بالأهم ( مفهومين:

الأوّل: بما انّه أمر فعلي يدعو إلى إيجاد متعلّقه لحصول شرط الفعلية، و عندئذ يتبادر إلى الذهن وجود المطاردة بينه و بين الأمر بالأهم غير الساقط بعدُ، و بما انّ الأمر بالأهم غير ساقط بعد يُستظهر منه وجود المطاردة، و هذا هو الذي جرّ المحقّق الخراساني إلى القول بوجود المطاردة حتّى من جانب الأمر بالمهم، و لكنّه غفل عن المفهوم الثاني للأمر بالمهم و هو:

الثاني: انّ الأمر بالمهم مع كونه فعلياً لا يأبى عن ترك امتثاله و الاشتغال بالأهم حتّى في نفس هذه الحالة، و هذا هو الذي يزيل المطاردة المتوهمة، فالمحقّق الخراساني أخذ بالمفهوم الأوّل و غفل عن المفهوم الثاني.

ص:49

و بعبارة أُخرى: انّ الأمر بالمهم و إن كان يدعو إلى إنجاز متعلّقه و لكنّه في حدّ نفسه يرخِّص ترك امتثاله و الاشتغال بالأهم و بذلك تنثلم المطاردة المتوهمة.

هذا كلّه حول الجواب الأوّل.

و أمّا الجواب الثاني فهو انّ المحقّق الخراساني اكتفى في إبطال الترتّب بوجود الطرد من جانب واحد و هو الأمر بالأهم، و أساسه ما مرّ من أنّ الأمر بالمهم و إن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود في مرتبة الأمر بالمهم فيجتمع أمران فعليان كما مرّ.

يلاحظ عليه بما مرّ من أنّ اجتماع أمرين فعليين كلّ يدعو إلى إنجاز متعلّقه إنّما يستلزم الامتناع بما إذا لم يكن لواحد من الأمرين مرونة و ليونة و أمّا المقام فانّ الأمر بالأهم و إن لم يكن فيه مرونة و ليونة لكنّ اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم، لا يضرّ ما دام الأمر الثاني يحتضن المرونة حيث إنّه في كلّ زمان ينسحب عن الساحة إذا أراد المكلّف امتثال الأمر المتعلّق بالأهم.

و نزيد إيضاحاً و نقول: إنّ مركز المطاردة الذي يعتمد عليه المحقّق الخراساني أحد المواضع الثلاثة:

أ. مقام الجعل و التشريع.

ب. مقام الفعلية.

ج. مقام الامتثال.

أمّا الأوّل فقد عرفت أنّ المورد من قبيل المتزاحمين، و المتزاحمان متلائمان في مقام الجعل و لا تكاذب بينهما في تلك المرتبة، فلا إشكال في جعل الإيجاب على إزالة النجاسة و الصلاة و غيرهما من عشرات الموضوعات.

ص:50

و أمّا الثاني: أي المطاردة في مرحلة الفعلية فلا شكّ انّ كلاً من الحكمين فعلي يدعو إلى إنجاز متعلّقه، لأنّ الأوّل مطلق و الثاني مشروط قد تحقّق شرطه.

لكن كلّ أمر يدعو إلى متعلّقه و لا ينظر إلى الأمر الآخر حتّى تكون النتيجة طلب الجمع، و على فرض تسليمه في سائر الموارد ليس للأمر بالمهم إطلاق بالنسبة إلى صورة امتثال الأمر بالأهم.

و أمّا الثالث أي الامتثال، و من حسن الحظ عدم المطاردة فيه، و ذلك انّه لم يكن هناك صارف فالتأثير للأمر الأوّل، و إن كان صارف فالتأثير للأمر الثاني.

فتبيّن انّه لا مطاردة في البين في أية مرحلة من المراحل الثلاث:

الاعتراض الثالث كيف تنكرون الترتب مع أنّه واقع في العرف كثيراً؟
إجابة المحقّق الخراساني

يمكن الجواب عمّا يتراءى انّه من باب الترتّب بوجهين:

أ. أن يكون الأمر بالمهم بعد التجاوز عن الأمر بالأهم.

ب. أن يكون الأمر بالمهم إرشاداً إلى محبوبيته و بقائه على ما هو عليه من المصلحة و الغرض.

يلاحظ على الجواب الأوّل أعني التجاوز عن الأمر بالأهم: أنّه ما ذا يريد من التجاوز؟ فهل يريد كونه منسوخاً و المفروض خلافه، و لأجل ذلك كلّما رجع إلى امتثال الأمر بالأهم لكان مطيعاً.

ص:51

أو يريد انّه عند الخيبة عن تأثير الأمر الأوّل دون سقوطه، يأمر بالمهم، فهو نفس الترتّب.

إلى هنا تمّت الاعتراضات التي طرحها المحقّق الخراساني و أجاب عنها، و قد عرفت مدى صحّة الأجوبة.

الاستدلال على بطلان الترتّب بطريق الإن

و قد استدلّ المحقّق الخراساني على بطلان الترتّب من طريق الإنّ و قال: لو صحّ الترتّب للزم تعدّد التكليف، و لو تعدد التكليف و عصى المكلّف كلا الأمرين يلزم أن يعاقب بعقابين، و لكن التالي باطل لامتناع تعدّد العقوبة مع وحدة القدرة، فكذا المقدم أي تعدد التكليف.

يلاحظ عليه: أنّ في تعدّد العقاب و وحدته قولين:

1. انّ تعدّد العقاب و وحدته تابع لتعدّد القدرة و وحدتها، لا وحدة التكليف و تعدّده، فلو كانت القدرة واحدة و التكليف متعدداً، كما إذا تعدد الغريق و هو ترك نجاة الجميع لما كان عليه إلاّ عقاب واحد، لاستقلال العقل بقبح تعدّده مع عدم تعدّد القدرة.

و لذلك أفتوا بتعدّد العقاب في التكاليف العرضية كالصلاة و الصوم، فلو تركهما، يعاقب عقابين لتعدّد القدرة المستلزمة كون المخالفة لا عن عذر.

و هذا بخلاف التكاليف الطولية فلا يوجب تعدد التكليف فيها تعدد العقاب مع وحدة القدرة.

و على ضوء ذلك فالتكليف في الترتب متعدد و بما انّ القدرة واحدة فليس هنا إلاّ عقاب واحد.

ص:52

2. انّ تعدد العقاب و وحدته تابع لتعدد التكليف و وحدته عند المعصية، فلو كان هناك غريقان و ترك نجاة الكلّ، يعاقب بعقابين و إن لم يكن له إلاّ قدرة واحدة، و لا ينافي ذلك عدله سبحانه، لأنّه كان في وسع العبد مع تعدد التكليف و وحدة القدرة الاجتناب عن مخالفة التكليفين عن عذر، و ذلك ببذل قدرته في إنقاذ واحد، و الاعتذار عن ترك الأمر الآخر بالعجز، و مع أنّ هذا الباب كان مفتوحاً أمامه، فقد ترك إنقاذ الغريقين بلا عذر، فللمولى أن يؤاخذه و يقول:

لِمَ تركت إنقاذ زيد بلا عذر؟ لم تركت إنقاذ أخيه كذلك؟ فصار العبد التارك لكلا الأمرين مصدراً لمخالفة أمرين بلا عذر، فيستحقّ عقابين.

و بعبارة أُخرى: انّه يجب على العبد إمّا الامتثال و إمّا الاعتذار، فلو بذل قدرته في واحد يصحّ له الاعتذار عن عدم امتثال الآخر، و أمّا إذا ترك الجميع فليس له ما يصرف عنه العقاب، إذ لا امتثال و لا اعتذار.

إلى هنا تمّ التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني للترتّب كما تمّت مناقشاته و تحليلاته.

و هناك وجوه أُخرى لتقريب الترتب نذكرها تباعاً.

بيان للمحقّق الحائري في امتناع الترتّب

إنّ لشيخ مشايخنا المحقّق الحائري) قدس سره (تقريباً للقول بامتناع الترتّب و نقداً عليه، و نحن نذكر إجمال التقريب ثمّ نذكر نظرنا فيه.

إنّ هنا مقدّمتين:

ص:53

1. انّ الضدّين ممّا لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلاً، و هذه المقدّمة تعود إلى المكلَّف.

2. لا يصحّ للمكلِّف أن يطلب الضدّين في زمان واحد على وجه الإطلاق، و هذه المقدمة راجعة للآمر.

و على ضوء ذلك فإمّا أن يكون الأمران المتعلّقان بإيجاد الضدّين مطلقين، أو يكون أحدهما مطلقاً و الآخر مشروطاً.

و الأوّل لا يلتزم به كلّ من أحال التكليف بما لا يطاق.

و أمّا الثاني أي كون التكليف الثاني مشروطاً فالشرط إمّا هو الترك الخارجي للأهم، و بتعبير آخر العصيان الخارجي المتقدّم أو تصور المولى عصيان العبد، بمعنى انّه يترك في علم اللّه.

و الأوّل أي كون الشرط هو العصيان الخارجي خارج عن الترتّب، لأنّ الأمر الأوّل يسقط بالعصيان الخارجي كما لو غرق الأهم دون المهمّ فلا يكون هناك أمران و لو طوليان، فبقي كون الشرط هو العزم على العصيان أو العصيان على نحو الشرط المتأخر، فعندئذ يسأل هل الشرط متحقّق أو لا؟ فعلى الثاني لا يكون الأمر بالمشروط فعلياً، و على الأوّل ينقلب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق فتقع هذه الصورة في عداد الصورة الأُولى، أي الأمرين العرضيين المطلقين.

يلاحظ عليه: نحن نختار الشقّ الأخير، و انّ الشرط هو تصوّر العصيان من جانب المولى أو علمه سبحانه بعصيان العبد، أو قول المولى:» إن كنت معرضاً عن امتثال الأمر الأوّل «، أو:» كان في نفسك صارف عنه «. و على كلّ تقدير فالشرط

ص:54

متحقق، و انّ القضية الشرطية بعد حصول شرطها تنقلب إلى قضية مطلقة، و مع ذلك كلّه فالأمر بالمهم على نحو لو انصرف من صرف القدرة في المهم و حاول أن يمتثل الأمر بالأهم لما منعه الأمر بالمهم، فهذا النوع من التكليف و إن كان مطلقاً لكن لا يزاحم الأمر بالإزالة على وجه الإطلاق.

و قد تقدّم منّا انّ السبب لكون المطاردة من طرف واحد لا من طرفين، هو اشتمال الأمر الثاني على شرط يوجد فيه مرونة بالنسبة إلى امتثال الأمر بالأهم.

على أنّ انقلاب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق، ممنوع جدّاً كما بيّن في محله.

ص:55

التقريب الثاني لتصحيح الترتّب

(1)

نقل المحقّق الاصفهاني تقريباً عن بعض الأُصوليين ما هذا حاصله:

إنّ اقتضاء كلّ أمر لإطاعة نفسه، في رتبة سابقة على إطاعته، كيف لا و هي مرتبة تأثيره و أثره، و من البديهي أنّ كلّ علّة منعزلة في مرتبة أثرها عن التأثير و إنّما اقتضاؤها، في مرتبة ذاتها المقدّمة على تأثيرها و أثرها، و لازم ذلك كون عصيان المكلّف و هو نقيض طاعته أيضاً في مرتبة متأخّرة عن الأمر و اقتضائه.

وعليه فإذا أُنيط أمر بعصيان مثل هذا الأمر، فلا شبهة انّ هذه الإناطة تُخرج الأمرين عن المزاحمة في التأثير، إذ في رتبة الأمر بالأهم، لا وجود للأمر بالمهم، و في رتبة وجود الأمر بالمهم لا يكون اقتضاء للأمر الأهم. فلا مطاردة بين الأمرين، بل كلّ يؤثر في رتبة نفسه على وجه لا يوجب تحيّر المكلّف في امتثال كلّ منها و لا يقتضي كلّ من الأمرين إلقاء المكلّف فيما لا يطاق، بل كلّ يقتضي موضوعاً لا يقتضي غيره.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ التأخر الرتبي يحتاج إلى وجود الملاك في نفس الشيء و إلاّ فبمجرّد كونه مقارناً لما هو متأخر رتبة عن شيء لا يوجب اتّصافه بالتأخّر الرتبي و المقام من هذا القبيل، لأنّ تأخّر الطاعة عن الأمر لا يوجب تأخّر العصيان عن الأمر، إذ ملاك التأخّر موجود في الطاعة دون العصيان، لأنّ الطاعة

ص:56


1- مرّ التقريب الأوّل في كلام المحقّق الخراساني.
2- نهاية الدراية: 1/233.

أثر الأمر و معلوله، و المعلول متأخّر رتبة عن العلّة، بخلاف العصيان، فإنّه ليس أثرَ الأمر لأنّ أثر الأمر هو البعث و التحريك.

و قد سبق منّا انّ قانون المساواة إنّما يحتجّ به في المسائل الهندسية، كمساواة الزوايا مثلاً و في الزمانيات، فلو كان زيد متأخراً عن عمرو تأخراً زمانياً، و كان زيد و بكر من حيث الزمان متقارنين، فيكون بكر أيضاً متأخراً عن عمرو.

و أمّا التأخّر العقلي الذي يعبر عنه بالتأخّر الرتبي فلا يكفي فيه المقارنة، بل يجب أن يكون في المتأخر ملاك التأخر الرتبي، و لذلك لا يكون ملازم المعلول متأخراً عن العلة تأخّراً رتبياً مع أنّ ملازم المعلول متّحد معه رتبة.

و ثانياً: أنّ التزاحم و التضاد ليس في المعية العقلية حتّى يرتفعا بالتأخر الرتبي للأمر بالمهم، بل موردهما هو المعية الزمانية، إذ الزمان الذي يكون الأمر بالأهم فيه فعلياً يكون الأمر بالمهم فيه أيضاً فعلياً باعثاً، فاللازم رفع التضاد في ذلك الظرف لا رفعه باختلاف الرتب.

و الحاصل: انّ مجرّد تأخّر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بحسب الرتبة العقلية مع المعية في الاقتضاء بحسب الزمان لا يدفع المطاردة، إذ مناط الاستحالة هي المعية الكونية في المتزاحمات و المتضادات لا في الرتب العقلية من المراتب الوجودية.

و هذا الإشكال يرد على أكثر من يحاول تصحيح الترتّب من طريق الاختلاف في الرتبة العقلية مع أنّه لا ينجع في رفع التضاد في زمان الامتثال.

ص:57

التقريب الثالث لتصحيح الترتّب

ما نقله المحقّق الاصفهاني أيضاً و حاصله: انّ مرجع إطلاق الأمر بالأهم إلى سدّ باب عدمه من جميع الجهات حتّى العدم الآتي من قبل الأمر بالمهم فهو بإطلاقه يدعو إلى حفظه مطلقاً.

و أمّا الأمر بالمهم فلما كان مترتّباً على عدم الأهم و تركه، فإطلاقه يقتضي سدّ باب عدمه من كل الجهات إلاّ في ناحية الإتيان بالأهم.

و إن شئت قلت: إنّ الأمر بالمهم يقتضي سدّ باب عدمه في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق و لا منافاة بين قيام المولى بسدّ باب عدم الأهم مطلقاً، و سدّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق، فالأمر بالمهم و إن كان فعليّاً لكنّه حيث تعلّق بسدِّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق، فلا محالة لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم المهم إلاّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق.(1)

توضيحه: انّ لكلّ شيء اعداماً من جانب فقد المقتضي و فقد الشرط و وجود المانع و هو الضدّ هنا، و الأمر بالأهم يقتضي سدّ كلّ عدم يتطرق إليه من أية جهة كان حتّى من جانب وجود المانع.

و أمّا الأمر بالمهم فهو يقتضي سدّ باب عدمه من جانب المقتضي، و من

ص:58


1- نهاية الدراية: 1/235.

جانب الشرط، و أمّا من ناحية المانع أعني: الأهم فانّه يقتضي سدّ باب عدم المهم، إلاّ فيما إذا كان سبب عدمه هو وجود الأهم فلا يقتضي عند ذلك سدّ عدمه، فحينئذ لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم نفسه، إلاّ إذا تطرق العدم إلى الأهم من باب الصدفة.

يلاحظ عليه: أنّ التزاحم بعد باق فنحن نفترض انّه تطرق العدم على الأهم من باب الاتفاق، و عندئذ فهل الأمر بالأهم عندئذ ساقط أو لا؟ و الأوّل خلاف المفروض و الثاني يستلزم المطاردة حيث إنّ الأمر بالأهم يطلب قلب عدمه إلى الوجود مع التحفظ على عدم المهم لكون وجوده مانعاً مع أنّ الأمر بالمهم في هذه الحالة أي عند تطرق العدم إلى الأهم فعلي يطلب طرد عدمه إلى الوجود فتقع المطاردة بين الاقتضاءين.

و لعمري الحقّ انّ الترتّب أمر عرفي لا يتوقف على هذه الدقائق العقلية، فالمهم ألاّ يكون نتيجته طلب الجمع بين الضدّين و إن كان نتيجته طلب الضدّين.

ص:59

التقريب الرابع لتصحيح الترتّب

و هناك تقريب رابع ذكره المحقّق البروجردي، و قد ركز على خلاف التقريبين السابقين على عدم التزاحم في المواضع الثلاثة: مقام الجعل و التشريع، و مقام الفعلية، و مقام الامتثال. و قد قرره تارة في هذا المبحث و أُخرى في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي، و إليك إجمال ما أفاد:

إنّه لا إشكال في أنّ التكليف بالمحال، بنفسه محال، فإنّ التكليف الحقيقي إنّما يصدر من المولى بداعي انبعاث المكلّف و تحرّكه نحو العمل، فإذا كان نفس المكلّف به محالاً، كالجمع بين السواد و البياض، أو الصعود إلى السماء بلا وسيلة، فلا محالة لا تنقدح الإرادة في نفسه جدّاً، و إن تكلّم به فإنّما يتكلّم به لدواع أُخر.

و مثله إذا كان هناك تكليف و كان كلّ واحد منهما أمراً ممكناً، و الزمان لا يتّسع إلاّ لواحد منهما. فهذا أيضاً لا يصدر من المولى، لا لأنّ المكلّف به أمر محال، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد منهما أمر ممكن، و ليس الجمع هو المأمور به حتّى يكون الامتناع لأجل طلب الجمع، بل من جهة تزاحمهما في مقام التأثير و إيجاد الداعي، فإنّ كلّ واحد من الضدّين، و إن كان بحياله أمراً ممكناً، لكن لمّا كان قيامه بهذا الواجب و ذاك الواجب في زمان لا يسع إلاّ واحداً منهما، أمراً غير ممكن، كان صدور الطلب من المولى بهذا النحو، أمراً محالاً بعد التفاته إلى الحال.

ص:60

و أمّا إذا فرض البعثان غير متزاحمين في مقام التأثير، بل كان تأثير أحدهما عند عدم تأثير الآخر و خلوّ الظرف من المزاحم، فلا محالة ينقدح في نفس المولى طلب آخر يتعلّق بالضدّ، إذ الفعل مقدور للمكلّف، و الأمر الأوّل غير باعث و لا داع، و الزمان خال عن الفعل بحيث لو لم يشغله المهمّ، لكان الزمان فارغاً عن الفعل مطلقاً، فأيّ مانع من طلب المهم عند عدم تأثير الأهم و عدم باعثيته؟ و هذا التقريب جميل في بابه حقيق بالتصديق، و قد أجال فكره في مجال التطبيق من دون أن يركز على الدقائق العقلية فيرفع التزاحم بجعل الأمرين في رتبتين، و بالتالي لم تأخذه هيبة الأمر بالمهم و فعليته في ظرف فعلية الأمر بالأهم الذي صار سبباً لذهاب جمع من الأعاظم إلى امتناع الترتب، منهم المحقّق الخراساني و منهم سيدنا العلاّمة الحجّة الكوهكمري، فقد شغلت بالهم فعلية الأمر بالمهم و قالوا بأنّ نتيجة فعلية الأمرين هي طلب الضدّين.

و نزيد بياناً انّ التلاؤم و التضاد يعني الأمرين أمر عرضي، و مصبهما هو متعلّقات الأوامر، و قد عرفت أنّ بين المتعلّقين كمال التلاؤم في المجالات الثلاثة، و المهم هو مقام الامتثال فانّ تقييد أحد الأمرين بالعصيان يوجب التلاؤم بين الامتثالين.

ص:61

التقريب الخامس لتصحيح الترتّب
اشارة

و هناك تقريب خامس قام بتفصيله و تهذيبه و تشييد معالمه المحقّق النائيني آخذاً أصله من المحقّق المجدد الشيرازي (13121230 ه (ثمّ من تلميذه السيد محمد الفشاركي) المتوفّى 1315 ه () قدس اللّه أسرارهم (و قد أطال الكلام في المقام و رتّب لإثبات الترتّب مقدّمات خمس، و نحن نذكر من كلّ مقدمة ملخّصها.

المقدّمة الأُولى: هل الموجب للجمع إطلاق الخطابين أو نفسهما؟

لا إشكال في أنّ الذي يوجب وقوع المكلّف في مضيقة المحال و استلزام التكليف بما لا يطاق إنّما هو إيجاب الجمع بين الضدّين، و على ذلك لا إشكال في سقوط ما هو منشأ إيجاب الجمع ليس إلاّ، و لا يمكن سقوط ما لا يوجب ذلك، و هذان الأمران ممّا لا كلام فيهما، بل الكلام كلّه في أنّ الموجب لإيجاب الجمع بين الضدّين هل هو نفس الخطابين و اجتماعهما و فعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما لمكان تحقّق شرطهما؟ أو انّ الموجب لإيجاب الجمع هو إطلاق كلّ من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر و عدمه.

فلو قلنا بأنّ الموجب لإيجاب الجمع هو إطلاق الخطابين يسقط الإطلاق و يبقى أصل الخطاب و يصحّ الترتب و لو قلنا بأنّ الموجب هو نفس الخطابين و اجتماعهما و فعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما يسقط الخطابان من رأس وعليه

ص:62

يبتني بطلانه.

ثمّ قال: و من الغريب ما صدر من الشيخ حيث إنّه أنكر الترتّب في الضدين اللّذين يكون أحدهما أهم، و لكنّه في مبحث التعادل و الترجيح التزم بالترتب من الجانبين عند التساوي و فقد المرجّح حيث قال في ذيل قوله:» إنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّية أحدهما «ما لفظه:

» لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكلّ منهما كسائر التكاليف الشرعية و العرفية مشروطاً بالقدرة، و المفروض انّ كلاً منهما مقدور في حال ترك الآخر و غير مقدور مع إيجاد الآخر، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعيّن فعله، و مع إيجاد الآخر يجوز تركه و لا يعاقب عليه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال و العمل بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة، و هذا ممّا تحكم به بديهية العقل كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف و لا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلاّ تعيين الآخر عليه كذلك «.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في تبيين محل النزاع لا غبار عليه، إنّما الكلام في عزو الترتب من الجانبين إلى الشيخ الأعظم) قدس سره (مع أنّ ما ذكره الشيخ لا صلة له بالترتّب المصطلح في المقام و ذلك بالبيان التالي:

ذهب الشيخ إلى أنّ القول بحجّية الأخبار من باب الطريقية يستلزم السقوط و طرح كليهما، و أمّا على القول بحجّيتها من باب السببية و اشتمال العمل بكلّ واحد منهما على مصلحة، فاللازم هو التخيير بين الخبرين، و هذا الخطاب التخييري يستفاد من نفس الأمر بالعمل بخبر العادل، أعني قوله:» صدق العادل « حيث إنّ العمل به في كلّ، مع الأخذ بالآخر غير ممكن، فيُقتصر في تقييد

ص:63


1- فوائد الأُصول: 3381/337.

الدليل بتركه حين الأخذ بالآخر، فالحكم في الدرجة الأُولى هو الأخذ بهما، و لمّا كان الأخذ بهما محالاً يقتصر في الأخذ بكلّ عند ترك الآخر.

و عندئذ يظهر الفرق بين المقامين، بوجهين:

الأوّل: انّ التزاحم في مورد الترتّب و إن كان في مرحلة الامتثال لكن لا يعالج التزاحم فيها إلاّ بالتصرّف في مقام التشريع بتقييد خطاب المهم بعصيان الأهم، و سيوافيك انّ الترتّب من المسائل التي يلازم إمكانُها وقوعَها، فالدليلان بإطلاقهما يستلزمان التزاحم في مقام الامتثال، و لا يعالج إلاّ بتقييد المهم بعصيان الأهم فيرتفع التزاحم في مقام الامتثال.

و أمّا التعارض في كلام الشيخ فلا يمكن علاجه بالتصرّف في مقام التشريع للعلم بكذب أحدهما و لكن لمّا كان كلّ واحد مشتملاً على المصلحة مع كذب واحد منهما يقتصر في ترك المصلحة، بالأخذ بالآخر فيختصّ مورد العلاج بمقام الامتثال.

الثاني: انّ الأمر بالمهم في المقام في طول الأمر بالأهم كما سيوافيك تفصيله و هذا بخلاف الترتّب في كلام الشيخ فانّ كلاً من الدليلين في عرض الآخر غير انّه يتخير في العمل بواحد مع ترك الآخر، فكيف يقاس هذا الترتب بذلك؟

الثانية: الواجب المشروط) بعد حصول شرطه (لا ينقلب إلى الواجب المطلق

إنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه لا ينقلب إلى الواجب المطلق، فالحجّ واجب مشروط في حقّ الفقير و الغني، و المستطيع و غيره حتّى بعد حصول شرطه، و بنى ذلك على أمرين:

أ. انّ الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية، و هي الحكم على

ص:64

عنوان له مصاديق محقّقة و مقدرة و ليست من قبيل القضايا الشخصية، بل هي أحكام كلية.

ب. انّ كلّ شرط موضوع) و ربما يبالغ و يقول: و كل موضوع شرط (و انّ الاستطاعة إن كانت بظاهرها شرطاً للوجوب لكنّها موضوعة للوجوب و كأنّه سبحانه يقول: الإنسان العاقل البالغ المستطيع يجب عليه الحجّ.

و الحكم المجعول على موضوعه، لا ينقلب عمّا هو عليه، و لا يخرج الموضوع عن كونه موضوعاً، و لا الحكم عن كونه مجعولاً على موضوعه و وجود الشرط عبارة عن تحقّق موضوعه خارجاً، و بتحقّق الموضوع خارجاً لا ينقلب الواجب المجعول من الكيفية التي جعل عليها و لا يوصف بالإطلاق بعد ما كان مشروطاً، لأنّ انقلابه إلى الإطلاق يستلزم خروج ما فرض كونه موضوعاً عن كونه موضوعاً.

نعم لو كانت الأحكام الشرعية أحكاماً شخصية لصحّ ما ذكر.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ إرجاع عامّة الشروط إلى الموضوع مخالف لواقع الشروط فانّها حسب الواقع تنقسم إلى أقسام و نكتفي بذكر أقسام ثلاثة:

1. ما يكون قيداً للوجوب و مفاد الهيئة و الحكم المنشأ، المعبِّر عن الإرادة، كما إذا كان الشخص غير محب للضيف و لكن لو فاجأه الضيف لم يكن له بدّ من التكريم فيقول لعبده: إذا نزل بك الضيف فأكرمه، فالوجوب معلّق على نزوله، و لولاه فلا إرادة و لا وجوب بل ربما تتعلّق به الكراهة.

2. ما يكون قيداً لمتعلّق الحكم، كما إذا تعلّقت إرادة المولى على الصلاة في المسجد فيقول: صلّ صلاة الظهر في المسجد فالقيد ظرف للصلاة يجب تحصيله كتحصيلها.

ص:65


1- فوائد الأُصول: 3401/339.

3. ما يكون قيداً للموضوع، ككونه إنساناً عاقلاً بالغاً.

فإذا كانت القيود على أقسام ثلاثة فكيف نجعلها قسماً واحداً؟ و ثانياً: أنّ ما ذكره من بقاء القضايا الكلية المشروطة على وصفها السابق مبني على القول بعدم انحلالها إلى أحكام جزئية و شخصية لهذا الفرد و ذاك الفرد، و إلاّ فلو ثبت الانحلال يكون الخطاب الشخصي إلى الفقير مشروطاً بالاستطاعة دون خطابه إلى الغني مطلقاً، إذ يقبح أن يخاطب الغني السالم بأنّك إذا استطعت فحج، مع علمنا و علمه بأنّ المقتضي تام و المانع مفقود.

و ثالثاً: أنّ رحى الترتّب لا تدور على بقاء الواجب المشروط بعد حصول شرطه على ما كان عليه، بل تدور على أن يكون الشرط المأخوذ في موضوع الأمر بالمهم على وجه لا يقتضي طلب الجمع بين الضدّين و إن اقتضى طلب الضدّين. و على ذلك فلا بدّ من التركيز على أنّ العصيان هل يقتضي طلب الجمع بين الضدين أو يقتضي طلب الضدّين؟ فعلى الأوّل يمتنع الترتّب، و على الثاني يصحّ، مثلاً لو كان الشرط هو امتثال الأمر الأهم على نحو الشرط المتأخر أي تصوّر الامتثال أو كان الشرط هو التسليم على زيد و افترضنا انّه سلم، ففي هذا القسم لا ينجع الشرط في صحّة الترتّب، سواء قلنا بأنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه باق على مشروطيته، أو ينقلب إلى الواجب المطلق، كما أنّه إذا كان الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر فهو نافع في رفع طلب الجمع، من غير فرق بين بقاء الواجب المشروط بعد حصول شرطه على الشرطية أو لا، فالواجب التركيز على دراسة واقعية الشرط و انّه هل يمنع عن طلب الجمع أو لا يمنع؟ لا على انقلاب الواجب المشروط إلى المطلق و عدمه.

فالمحقّق النائيني مكان التركيز على هذا الأمر المهم الذي تدور عليه رحى

ص:66

الترتّب ركّز على قضية لا ينتفع بها في الترتب إلاّ على وجه بعيد كما سيوافيك.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني بحث في مقدّمة مستقلة ثالثة عن تقسيم الواجب المضيق إلى قسمين، و أفاد انّ هذه المقدّمة ليست بمهمة في إثبات الترتّب، و لأجل ذلك تركناها و نعرّج إلى المقدمة الرابعة في كلامه التي هي مقدّمة ثالثة في كلامنا و قد وصفها بأنّ رحى الترتّب تدور مدارها.

المقدّمة الثالثة: في أنّ الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم

إنّ السبب لوجود الخطاب في صورة خاصة أو في عامّة الصور هو التقييد أو الإطلاق، فالتقييد آية وجود الخطاب في ظرف خاص، و الإطلاق آية وجود الخطاب في عامة الأحوال.

ثمّ إنّه) قدس سره (قسم الإطلاق إلى أقسام ثلاثة:

الأوّل: الإطلاق و التقييد اللحاظيان.

الثاني: نتيجة الإطلاق و التقييد.

الثالث: الإطلاق الذاتي.

و ذكر انّ مصب الأوّل هو الانقسامات الطارئة على المتعلّق قبل تعلّق الحكم، كتقييد الصلاة بالوضوء أو إطلاقها بالنسبة إلى جميع الأمكنة.

كما أنّ مصبّ الثاني هو الانقسامات اللاحقة بعد تعلّق الحكم كاختصاص وجوب الجهر أو القصر بالعالم دون الجاهل، أو كاشتراك أحكام اللّه بين العالم و الجاهل فانّ التقييد و الإطلاق نتيجة دليل ثانوي يفيد الاختصاص أو التعميم و لا يكون الدليل الأوّل متكفلاً لا للاختصاص و لا للتعميم، لأنّ المفروض انّهما من الأحوال الطارئة بعد تعلّق الحكم.

ص:67

و إنّما المهم في المقام هو الإطلاق الذاتي، و المراد وجود الخطاب في حالتي الفعل و الترك بنفسه و باقتضاء هويته الذاتية، فالخطاب في قوله» أزل النجاسة «عام يشمل صورة الإزالة و عدمها، نظير قولك:

الإنسان موجود، فالموضوع ذات الإنسان لا بوصف الوجود، و إلاّ لانقلبت النسبة إلى الضرورة; و لا بوصف العدم، و إلاّ لانقلبت إلى الامتناع بل الماهية المعراة من كلّ قيد و منه الوجود و العدم.

و في المقام يتعلّق الوجوب بذات الإزالة لا بقيد الوجود الذي نعبر عنه بالامتثال، و لا بقيد العدم الذي نعبر عنه بقيد العصيان، فينتج انّ خطاب أزل النجاسة محفوظ في حالتي الوجود و العدم و الامتثال و العصيان.

هذا كلّه حول الأمر بالأهم، و أمّا الأمر بالمهم فنلفت نظرك إلى أمرين:

1. ما مرّ في المقدّمة الثانية من أنّ الشرط أي العصيان موضوع في الأمر بالمهم فمرجع قولك:

» و إن عصيت فصلّ «إلى قولك:» أيها العاصي صلّ «، و من الواضح انّ الحكم لا يتكفّل حال موضوعه من وضع أو رفع، بل هو حكم على تقدير وجوده و مشروط به.

و بعبارة أُخرى: قولك:» أيّها العاصي صلّ «بمعنى انّه إن وجد العصيان صدفة فصلّ و ليس الأمر بالصلاة داعياً إلى إيجاد العصيان، لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه.

إذا عرفت معنى الإطلاق في الأهم أي كونه محفوظاً في حالتي العصيان و الامتثال، و عرفت أنّ العصيان مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم من دون أن يكون للأمر دعوة إلى إيجاد موضوعه أي العصيان، يظهر لك انّ الأمر بالصلاة في طول الأمر بالإزالة و ذلك ببيانين:

ص:68

1. انّ مقتضى الإطلاق الذاتي في الأمر بالأهم كونه محفوظاً في حالتي الامتثال و العصيان و داعياً إلى إيجاد متعلّقه في حالة العصيان أيضاً فيكون طارداً للعصيان و رافضاً له من أن يدخل في حوزة الأمر بالأهم.

و أمّا الأمر بالمهم فلا يدعو إلى حفظ العصيان و إثباته و إيجاده، بل يدعو إلى الأمر بالصلاة لو تحقّق العصيان صدفة و على عفو الخاطر و ما يشبه ذلك، فيكون الأمر بالمهم غير مزاحم للأمر بالأهم.

2. انّ خطاب الأهم في رتبة متقدمة على موضوع خطاب المهم و هو العصيان، لما عرفت من أنّ العصيان كالطاعة متأخران عن الحكم، و المفروض انّ العصيان موضوع في الأمر بالمهم فهو مقدّم على حكمه تقدّم الموضوع على حكمه، فينتج تقدّم خطاب الأهم على خطاب المهم برتبتين.

و إن أردت تصويره فلاحظ العناوين التالية:

الأمر بالأهم علة فهو في رتبة متقدّمة.

العصيان في رتبة الإطاعة التي هي متأخرة عن الأمر.

العصيان موضوع في الأمر المهم و هو متقدّم على حكمه.

فيكون الأمر بالمهم متأخّراً عن الأمر بالأهم برتبتين.(1)

يلاحظ على هذه المقدّمة بطولها التي لخصناها في هذه السطور بوجهين:

الأوّل: انّ الطاعة و إن كانت متأخّرة عن الأمر بالأهم، لأنّها أثرها، و الأثر كالمعلول يكون متأخّراً عن العلة رتبة، إلاّ انّه لا دليل على تأخر العصيان رتبة عن الحكم، لعدم وجود ملاك المعلولية في العصيان.

ص:69


1- فوائد الأُصول: 3611/357.

نعم الطاعة و العصيان متأخران زماناً عن الأمر بالأهم و لكن الكلام في التأخّر الرتبي.

الثاني: انّ التأخّر الرتبي لا ينفع ما لم يرفع فساد طلب الجمع بين الفعلين بشهادة انّه لو جعل الشرط في الأمر الثاني امتثال الأمر الأوّل على نحو الشرط المتأخر بأن يقول:» أزل النجاسة إن امتثلت فصلِّ «فلا يرتفع الفساد، بل يلزم طلب الجمع بين الفعلين مع أنّ الأمر الثاني متأخّر عن الأمر الأوّل برتبتين.

و الحاصل انّ التأخّر الرتبي مهما بذلت الجهود على إثباته لا ينجح، فانّ التزاحم في مقام الامتثال، و الامتثال أمر زماني و لا يرتفع طلب الجمع إلاّ أن يكون زمان تأثير الأوّل مغايراً لتأثير زمان الثاني على النحو الذي عرفت في تقريب السيد المحقّق البروجردي.

المقدّمة الرابعة: في أنّ الخطاب الترتّبي لا يقتضي الجمع

هذه المقدّمة كما قلنا سابقاً و يفصح عنوانُها سيقت لإثبات أنّ الخطابَ الترتبيّ لا يقتضي إيجابَ الجمع، و هي تحمل روح الترتّب و لها أهمية خاصة، و قد فصّل المستدل الكلام في بيان مقصوده، و نحن نقتصر على ما هو اللازم المؤثر في إثبات المدّعى.

إذا كان أحد الدليلين متعرّضاً لحال الدليل الآخر، فإمّا أن يكون نفس الخطاب رافعاً أو دافعاً لموضوع الآخر، و إمّا أن يكون امتثاله.

فإن كان الأوّل فهذا ممّا يوجب عدم اجتماع الخطابين في الفعلية، و لا يعقل أن يكون كلّ من الخطابين فعليّاً، لأنّ وجود أحد الخطابين رافع لموضوع الآخر فلا يبقى مجال لفعلية الآخر حتى تقع المزاحمة، و هذا كما إذا ربح الرجل و كان عليه

ص:70

دين من عام الربح، فخطاب» أدّ دينك «، رافع لموضوع خطاب الخمس الوارد في الآية المباركة، و ذلك لأنّ الخمس بعد المئونة و أداء الدين(1) من المئونة.

فإن كان الثاني، أي كان أحد الخطابين بامتثاله رافعاً لموضوع الآخر، فهذا هو محلّ البحث في الخطاب الترتّبي حيث يتحقّق اجتماع كلّ من الخطابين في الفعلية، لأنّه ما لم يمتثل خطاب الأهمّ لا يرتفع خطاب الآخر لعدم ارتفاع موضوعه بعدُ، فيجتمع الخطابان في الزمان و في الفعلية بتحقّق موضوعهما، فيقع الكلام في أنّ اجتماع مثل هذين الخطابين يوجب إيجاب الجمع أو لا، و الحقّ أنّه لا يوجب لوجوه ثلاثة:

1. لو لزم إيجاب الجمع يلزم المحال في جانب المطلوب، لأنّ مطلوبية المهمّ و وقوعه على هذه الصفة إنّما يكون في ظرف عصيان الأهم و خلوّ الزمان عنه، بداهة أنّ ما يكون قيداً للطلب) فإن عصيت فصلّ (يكون قيداً للمطلوب، فيكون الواجب» الصلاة بعد العصيان «، كالحجّ بعد الاستطاعة، فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في حال وجود الأهم و امتثاله، يلزم الجمع بين النقيضين، إذ يلزم أن يكون مطلوباً مقيداً بكونه بعد العصيان و في الوقت نفسه مطلوباً و لو حال عدمه.

2. لو لزم إيجاب الجمع لزم المحال في ظرف الوجوب، لأنّ خطاب الأهمّ يكون من علل عدم خطاب المهم لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمع خطاب الأهم و المهم و صار المهمّ في عرض خطاب الأهمّ كما هو لازم إيجاب الجمع لكان من قبيل اجتماع الشيء مع علّة عدمه.

3. البرهان المنطقي أيضاً يقتضي عدم إيجاب الجمع فانّ الخطاب الترتبي بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع، بين النسبة الطلبيّة في جانب المهمّ و النسبة

ص:71


1- الوسائل: الجزء 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

الفاعليّة في جانب الأهم، فصورة القضية هكذا: إمّا أن يكون الشخص فاعلاً للأهم، و إمّا أن يجب عليه المهم و معه كيف يعقل إيجاب الجمع.(1)

يلاحظ على الوجه الأوّل، منع كون العصيان قيداً للطلب و المطلوب، و إنّما هو قيد للطلب دون المطلوب بشهادة أنّه لو تمكّن عن طريق الإعجاز الجمع بين الأهم و المهمّ لوقع المهمّ على وصف المطلوبية فما يظهر منه) قدس سره (من عدم كون المهم مطلوباً في غير صورة العصيان كما ترى.

و على الثاني، أنّ ما ذكره من أنّ خطاب الأهم من علل عدم خطاب المهمّ لاقتضائه رفع موضوعه.

لا يوافق جعل المقام من القسم الثاني، أي كون أحد الخطابين بامتثاله رافعاً لموضوع الآخر، فكيف يصحّ أن يقول إنّ خطاب الأهم من علل عدم خطاب المهم لاقتضائه رفع موضوعه.

و الحقّ أن يقال: إنّ المحقّق النائيني أتعب نفسه الشريفة في ترتيب هذه المقدّمات لتصحيح الترتّب، لكن تصحيحه و استنباطه، لا يتوقّف على هذه المقدّمات المفصّلة، و كان في وسعه أن يرد من أقصر الطرق و أسهلها كما عرفت منّا. شكر اللّه مساعي علمائنا.

ص:72


1- فوائد الأُصول: 3611/357.
ثمرات بحث الترتّب:
الفروع الفقهية المترتّبة على صحّة الترتّب

إنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، و نحن إذا راجعنا الفقه نرى أنّ هناك أحكاماً شرعية أفتى بها العلماء، و لا يصحّ الإفتاء بها إلاّ على القول بصحّة الترتّب، و إليك بعض ما عثرنا عليه أو ذكره غيرنا:

1. المسألة المعروفة، أعني: ما إذا رأى المكلّف نجاسة في المسجد و قد دخل وقت الصلاة، فلا شكّ أنّه تجب المبادرة إلى إزالتها قبل أن يصلي مع سعة الوقت، و مع الضيق يقدّم الصلاة، و لكن لو ترك الإزالة مع سعة الوقت و اشتغل بالصلاة عصى، لأنّه ترك الأهمّ، و إنّما الكلام في صحّة صلاته، فتحكم بالصحّة على الترتّب.(1)

2. إذا كان بدن المكلّف أو ثوبه نجساً، و من جانب آخر كان محدثاً و ليس عنده من الماء إلاّ بقدر أحد الأمرين: رفع الحدث أو الخبث. فبما أنّ لرفع الحدث بدلاً و هو التيمّم، يجب استعمال الماء في رفع الخبث، فصار رفع الخبث أهمّ، و رفع الحدث هو المهم. فلو عصى و استعمل الماء في رفع الحدث بالتوضّؤ أو الاغتسال، فصحّتهما مبنيّة على القول بالترتّب، أي توجّه الأمر إلى رفع الحدث

ص:73


1- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الطهارة، فصل» يشترط في صحّة الصلاة... «المسألة الرابعة.

عند العزم على عصيان الأمر بالأهم.(1)

3. إذا كانت وظيفة المكلّف التيمّم لضيق الوقت عن استعمال الماء، و مع ذلك خالف فتوضّأ أو اغتسل، فصحّة الوضوء أو الغسل مبنية على صحّة الترتّب أو الاكتفاء بالملاك.(2)

4. إذا كان وضوء الزوجة مفوِّتاً لحقّ الزوج، مع سعة الوقت فتوضأت، فصحّة وضوئها مبنيّة على صحّة الترتّب، أو القول بكفاية الملاك، كما هو الحال في عامة المسائل.(3)

5. لو انحصر ماء الوضوء بما يوجد في الآنية المغصوبة، فإن اغترف منها مرّة واحدة لأجل التوضّؤ ما يكفيه للوضوء، فيجب عليه الوضوء، و إن عصى في الاغتراف، و لا صلة للصحّة هنا بالترتّب، لسقوط النهي عن الاغتراف بالعصيان، و أمّا إذا كان بناؤه على الاغتراف تدريجياً، فاغترف مرّة ما يكفيه لغسل الوجه، فصحّة وضوئه بهذا الشكل بأن يغترف مرّة أُخرى بعد غسل الوجه، لغَسْل اليمنى ثمّ اليسرى مبنية على صحّة الترتّب، فانّ القدرة على كلّ غسلة من غسلات الوضوء حاصلة عند كلّ غسلة بالعصيان بالتصرّف في الآنية المغصوبة.(4)

و نظيره الاغتراف من آنية الذهب أو الفضّة، و ليست القدرة الفعلية على

ص:74


1- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الطهارة، فصل في التيمم و مسوغاته، في ذيل المسألة 22.
2- المصدر السابق، المسألة 29.
3- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الطهارة، شرائط الوضوء، المسألة 36.
4- لاحظ فوائد الأُصول: 1/378.

مجموع العمل قبل الشروع فيه شرطاً، بل تكفي القدرة عند كلّ جزء من أجزائه.

6. إذا توقّف حفظ نفس محترمة على ترك الصلاة أو قطعها، فلو عصى و اشتغل بالصلاة، مبتدأ بها أو مستمرّاً فيها، فالصحّة مبنية على صحّة الترتّب أو القول بكفاية الملاك.(1)

7. إذا كان المكلّف في حال الصلاة فسلّم عليه شخص، وجب عليه ردّ السلام، و لو عصى و استمرّ في الصلاة، صحّت لمكان الأمر الترتبي.(2)

8. لو شرع في اليومية مع سعة وقتها، ثمّ ظهر له ضيق وقت صلاة الآية، يجب عليه قطعها و الاشتغال بصلاة الآية، فلو لم يقطعها و استمرّ في الصلاة، فالصحّة مبنية على القول بالترتّب أو كفاية الملاك.(3)

و مثله كلّ صلاة موسّعة عارضت صلاة مضيّقة، كالنافلة في وقت الفريضة مع ضيق وقتها.

9. إذا وجب السفر في شهر رمضان بإيجاب أهم من صومه، كسفر الحجّ، فلو عصى و لم يسافر توجّه إليه الأمر بالصوم بحيث لو أفطر وجبت عليه الكفّارة، كما يجب عليه الإتمام و لا يصحّ منه القصر، فكأنّ المولى يقول:» سافر، و أفطر، و قصّر، و لو عصيت فصم و أتمم «.(4)

ص:75


1- لاحظ العروة الوثقى، فصل لا يجوز قطع صلاة الفريضة اختياراً، المسألة 4.
2- لاحظ العروة الوثقى، فصل في مبطلات الصلاة، المسألة 16.
3- العروة الوثقى، فصل في صلاة الآيات، المسألة 12.
4- لاحظ فوائد الأُصول: 1/357، و أجود التقريرات: 1/302.

10. إذا زاحم الصوم، حفظ نفس الغير أو عرضه أو زاحمه حفظ مال أهمّ في نظر الشارع من الصوم، و مع ذلك صام، فالصحّة مبنية على أحد الأمرين الترتّب أو القول بكفاية الملاك.(1)

11. إذا كان اعتكاف الزوجة منافياً لحقّ الزوج، أو اعتكاف المستأجر منافياً لحقّ الأجير، فلو خالف و صام و اعتكف، فتصحيح العبادة بأحد الأمرين كما مرّ.(2)

12. إذا كان عليه خمس من عام الربح الماضي، و كان عليه دين حال، فيقدّم الدين على الخمس، فلو خالف و لم يؤدّ الدين يمكن القول بوجوب الخمس مترتّباً على العصيان.(3)

13. لو صلّى العصر قبل الظهر في الوقت المشترك نسياناً فلا مانع من الإتيان بالظهر في الوقت المختصّ بالعصر.

فلو ترك الإتيان بالظهر في هذا الوقت و اشتغل بصلاة أُخرى قضاءً فيمكن أن يقال إنّ اشتغال الذمّة بالواجب الفوريّ. أعني: صلاة الظهر لا ينافي صحّة عبادة أُخرى مضادّة له بناء على تعلّق الأمر بالموسّع أعني: صلاة القضاء فعلاً أيضاً على الترتّب.(4)

14. لو فرضت حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزوال، فلو

ص:76


1- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الصوم، فصل في شرائط صحّة الصوم، في ذيل قوله:» الشرط السادس «.
2- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الاعتكاف، فصل: يشترط في صحّته أُمور: السابع.
3- لاحظ فوائد الأُصول: 1/358.
4- كتاب الصلاة للحائري اليزدي: 16.

فرض أنّه عصى هذا الخطاب و أقام، فلا إشكال في أنّه يجب عليه الصوم و يكون مخاطباً به، فيكون في الآن الأوّل الحقيقي من الفجر قد توجّه إليه كلّ من حرمة الإقامة و وجوب الصوم و لكن مترتّباً، فيكون وجوب الصوم أو وجوب التمام مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة. و كأنّه يقول: تحرم لك الإقامة، و إن عصيت بنيّة الإقامة، فصُم و اتمم.

15. لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال، فلو عصى و لم ينو الإقامة وجب عليه القصر و إفطار الصوم، و كأنّه يقول: أقم و إن عصيت فقصّر و أفطر.(1)

ص:77


1- فوائد الأُصول: 3581/357.

خاتمة المطاف نظرية الأمر بالأهم و المهم عرضاً لا بنحو الترتّب

اشارة

إنّ سيّدنا الأُستاذ الإمام الخميني) قدس سره (لمّا لم يرتض بالترتّب على النحو الذي أقام دعائمه المحقّق النائيني، سلك مسلكاً آخر في تصحيح الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم.

و حاصل النظرية: عبارة عن حفظ الأمر على الموضوعين بلا تقييد المهم بالعصيان، و ذلك بترتيب مقدّمات مفصّلة، نذكر ملخّصاً منها:

الأُولى: الأحكام تتعلّق بالطبائع

إنّ الأحكام الشرعية تتعلّق بنفس العناوين الكلّية، لا بها مع سائر الخصوصيات، فانّ الطبيعي في الخارج لا ينفك عن الزمان و المكان و سائر الملابسات، لكن المأمور به نفس الصلاة لا ضمائمها الكلّية، و هكذا النواهي، و ذلك لأنّ المحصِّل للغرض هو نفس وجود الطبيعة دون الضمائم و إن كانت الطبيعة لا تنفك عنها.

و بذلك يُعلم أنّ مراد القائل بتعلّق الأحكام بالأفراد ليس هو المصاديق

ص:78

الخارجية، بل الضمائم و المشخّصات الكلّية، فالوجوب في الصلاة يتعلّق بنفس الطبيعة لا بملازماتها، كالصلاة في المساجد و البيوت و الشوارع; و قس على ذلك، النواهي.

الثانية: الإطلاق: كون الطبيعة تمام موضوع الحكم

إنّ الإطلاق عبارة عن كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم، ففي قولنا: اعتق رقبة» الرقبة «مطلق و مرسل عن القيد باسم المؤمنة، فهي تمام الموضوع، بخلاف المقيّد، فالمطلق فيها جزء الموضوع.

و أمّا تفسير الإطلاق بلحاظ سريان الطبيعة في أفرادها و أصنافها بأن يلاحظ المولى الرقبة في ضمن المؤمنة و الكافرة و العادلة و الفاسقة و هكذا فليس بتام، فما ربّما يفسر الإطلاق بكون الرقبة واجبة سواء أ كانت مؤمنة أم كافرة و هكذا، فهو إطلاق لحاظي غير ثابت و لا دليل عليه، إذ يكفي بالاحتجاج بالمطلق جعله تمام الموضوع من دون لحاظ سيلانه أو سريانه في أصنافه و مصاديقه.

الثالثة: انّ الدليل غير ناظر لحال التزاحم

إذا تعلّق الحكم بنفس الإزالة فالمقنن في حال التقنين لا يلاحظ زمان تزاحمه بالصلاة و غيرها، و ذلك لأنّ الحكم المتعلّق بالصلاة متأخّر عن الحكم بوجوب الإزالة بمرحلتين، و ما يتأخّر عن الشيء بمرحلتين، لا يصحّ أن يكون الحكم ناظراً إليه، و ذلك لأنّ الحكم بالإزالة متقدّم على تطبيق الحكم على الصعيد العملي، أعني: مقام الامتثال، كما هو متقدّم على حدوث التزاحم بينه و بين سائر الواجبات، فيكون الحكم بالإزالة متقدّماً على التزاحم برتبتين، فكيف يكون ناظراً لحال ما يتأخّر عنه برتبتين؟

ص:79

أضف إلى ذلك انّ الأمر بالإزالة مشتمل على الهيئة و المادة، و الهيئة تدلّ على الوجوب و المادة على الطبيعة فليس هناك دالّ على صورة التزاحم.

الرابعة: ليس للحكم إلاّ مرحلتان

المعروف أنّ للحكم الشرعي مراتب أربعة:

الف: مرحلة الاقتضاء، و هي مرحلة المصالح و المفاسد المقتضية لإنشاء الحكم.

ب: مرحلة الإنشاء، و هي إنشاء الحكم على وفق المصالح و المفاسد بالإيجاب في الأُولى و النهي في الثانية.

ج: مرحلة الفعلية: و هي مرحلة بيان الحكم على المناهج المعروفة سابقاً و لاحقاً.

د: مرحلة التنجّز: و هي قيام الحجّة عند المكلّف على حكم المولى.

لكنّه) قدس سره (أنكر كون الأُولى و الرابعة من مراحل الحكم، قائلاً: بأنّ مرحلة الاقتضاء من مقدّمات الحكم لا نفسه، كما أنّ مرحلة التنجّز مرحلة متأخّرة عن الحكم، و هو حكم العقل بتنجّز الحكم على المكلّف و أثره استحقاق الثواب و العقاب و لا صلة للتنجّز بالحكم.

الخامسة: الخطاب الشرعي خطاب قانوني واحد

إنّ الخطابات الشرعية بل الأحكام مطلقاً سواء أ كان هناك خطاب أم لا خطاب أو حكم واحد، و هو بوحدته حجّة على عامّة المكلّفين، فالحكم أو الخطاب واحد، و المتعلّق كثير، مثلاً، قوله سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ

ص:80

اَلْبَيْتِ ) (1)حكم واحد لا كثرة فيه و إن كان المتعلّق) الناس (فيه الكثرة لكن الحكم بوحدته بما انّه متعلّق بالناس حجّة على الجميع، فكلّ فرد وقف على ذلك الحكم، تتمّ الحجّة عليه لكونه من مصاديق الناس، و لا حاجة لتكثير الحكم و الخطاب حسب تعدد المكلّفين بأن يكون لكلّ فرد من أفراد المكلّفين حكم خاص أو خطاب كذلك.

و يشهد على ذلك الأُمور التالية:

1. قضاء الوجدان، فانّ من يخاطب الجمع الكثير لإنجاز عمل فإنّما يدعوهم إليه بخطاب واحد و لا يدعو كلّ فرد بخطاب خاص لكفاية وحدة الخطاب مع تعدد المتعلّق مع كون كلّ مكلّف مصداقاً للمتعلّق و مخاطباً به بنفس الخطاب الواحد.

2. لو صحّ انحلال الخطاب الواحد إلى خطابات في الجمل الإنشائية لصحّ في الجمل الإخبارية، فإذا أخبر بأنّ القوم جاءوا، و الحال انّه لم يجئ منهم أحد، فلو قلنا بالانحلال يلزم أن يحكم عليه بأنّه كذب حسب تعدد الأفراد مع أنّه لم يكذب إلاّ كذبة واحدة.

3. لو قلنا بانحلال الخطاب يلزم خروج الكفّار و العصاة عن مصبِّ الخطابات، و ذلك لأنّ خطاب العاصي و الكافر أمر قبيح لا يصدر من الحكيم، فانّ من نعلم أنّه يعصي على وجه القطع و الجزم لا نطلب منه شيئاً على وجه الجد، مع أنّ العصاة و الكفّار محكومون بالفروع، كما أنّهم محكومون بالأُصول، و هذا بخلاف ما إذا قلنا إنّ الخطاب واحد و هو حجّة على الكلّ سواء أطاع أم خالف، و لا يشترط في الخطاب القانوني إلاّ وجود جماعة ينبعثون من بعث المولى أو ينتهون

ص:81


1- آل عمران: 97.

من نهيه، و لا يشترط انبعاث الكلّ أو انزجارهم.

و قد اشتهرت هذه المقدّمة عن سيّدنا الأُستاذ بأنّه يفرّق بين الخطابات الشخصية و الخطابات القانونية، و انّه لا حاجة في الخطاب القانوني إلى الانحلال في الخطاب و الحكم. و على هذه المقدّمة تدور رحى النظريّة:

اجتماع خطابين عرضيين في وقت واحد.

السادسة: انّ الأحكام غير مقيّدة بالقدرة

المعروف أنّ الأحكام الشرعية مقيّدة عقلاً بالقدرة، و ذلك لأنّ خطاب العاجز أمر قبيح، بل أمر محال، إذ لا تنقدح الإرادة في ذهن المولى الذي يعلم بعجز المخاطب.

هذا هو المعروف، غير أنّ سيدنا الأُستاذ أنكر هذه المقدّمة و ذهب إلى أنّه ليس للعقل التصرّف في حكم الغير و الشرع غير العقل فلا تكون الأحكام مقيّدة بالقدرة.

فإن قلت: إنّ خطاب العاجز قبيح بل محال فكيف للشارع الأمر به أو الحكم عليه؟ قلت: فرق بين الخطاب القانوني و الخطاب الشخصي، فما ذكرته صحيح في الخطاب الشخصي، إذ لا يصحّ خطاب العاجز مع العلم بعجزه، بخلاف الخطابات القانونية فانّ الحكم فيها واحد و الكثرة في المتعلّق، و ليس لكلّ فرد حكم و خطاب حتّى يطلب لنفسه التقيّد بالقدرة، بل خطاب واحد متعلّق بالعنوان و هو حجّة على الجميع.

نعم يشترط في الخطاب القانوني وجود جماعة مستعدّة لامتثال أمر المولى

ص:82

و الانتهاء بنهيه حتّى لا يكون جعل الحكم لغواً.

فإن قلت: هذا يدلّ على أنّ الحكم الشرعي غير مقيّد بالقدرة عقلاً و لكن لا مانع من القول بتقيّد الأحكام بالقدرة الشرعية.

قلت: إنّ لازم هذه النظرية هو إجراء البراءة عند الشكّ في القدرة، لأنّ مرجع الشكّ إلى الشكّ في وجود شرط التكليف، و الأصل عدم وجوده، مع أنّهم لا يلتزمون بها عند الشكّ في القدرة، بل الكلّ صائرون إلى القول بالاحتياط مع الشكّ فيها، و لذلك لو شكّ في الاستطاعة أو بلوغ النتاج، النصاب وجب الفحص، و لا تجري البراءة.

السابعة: كلّ من الضدين أمر مقدور

إنّ المأمور به هو كلّ من الضدّين بما هو هو و ذلك أمر مقدور، و أمّا غير المقدور فهو الجمع بين الضدّين و هو ليس بمأمور به، مثلاً: إذا زالت الشمس و قامت حجّة على إزالة النجاسة عن المسجد و قامت حجّة أُخرى على صلاة الظهر، فهناك حجّتان تامتان قامتا على العبد كلّ يطلب نفسه و لا يطلب الجمع، فقيامهما في هذه الحالة كقيام الحجّتين عند طلوع الفجر في شهر رمضان فكلّ حجّة في مفاده سواء أ كانتا غير متزاحمتين كما في الصوم و الصلاة أو متزاحمتين كما في الإزالة و الصلاة.

هذا هو حال الشرع، و أمّا العقل فإن رأى التكليفين متساويين في الأهمية حكم بالتخيير بين الأمرين، فيكون في ترك الأمر الآخر معذوراً

ص:83

من دون أن يقيد أحد الأمرين بترك الآخر، و أمّا لو كان أحدهما أهم من الآخر فيحكم العقل بتقديم الأهم على المهم على نحو لو اشتغل بالأهم يكون في ترك الآخر معذوراً و لو اشتغل بالمهم فقد امتثل أحد التكليفين لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهم، كما أنّه لو ترك اشتغاله بالأهمّ و المهمّ معاً فلا يكون معذوراً في ترك الأمرين.

إذا عرفت هذه المقدّمات السبع، فقد استنتج) قدس سره (من هذه المقدّمات بقاء الحكمين أو الخطابين على الموضوعين من دون تقييد الأمر بالمهم بالعصيان، و ذلك لما مرّ في المقدّمة الخامسة من أنّ الخطابات الشخصية تختلف عن الخطابات القانونية، فالخطاب الشخصي ناظر إلى صورة الابتلاء فلا محيص من تقييد الخطاب بالمهم بترك الأهم و عصيانه، و أمّا الخطابات القانونية فبما انّ الخطاب واحد و هو غير ناظر إلى حالة التزاحم بحكم المقدّمة الرابعة فلا داعي لتقييد امتثال الأمر بالمهم بعصيان الأوّل.

فخرج بهذه النتيجة بقاء الحكمين و الخطابين بحالهما عند الابتلاء بالتزاحم غاية الأمر للمكلّف تحصيل العذر في ترك أحدهما، فلو امتثل الأمر بالأهم فقد حصّل العذر، و إن امتثل الأمر بالمهم لم يحصّل العذر في ترك الأهم، و إن عصى كلا الأمرين فلم يحصّل عذراً أبداً.

و بهذا تبين انّ الأهم و المهم نظير المتساويين في أنّ كلّ واحد مأمور به في عرض الآخر، و هذان الأمران العرضيان فعليّان متعلّقان بعنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم و عجز المكلّف، إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الآخرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً و لا عقلاً، بل تلك المطاردة لا توجب عقلاً إلاّ المعذورية العقلية في ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر في المتساويين و في ترك المهم حال اشتغاله بالأهم.(1)

ص:84


1- تهذيب الأُصول: 3121/302.

نظرنا في المقدّمات و النتيجة

هذا ما أفاده سيدنا الأُستاذ) قدس سره (شكر اللّه مساعيه و لكنّ لنا في بعض المقدّمات و النتيجة نظراً نطرحه على صعيد البحث؟ 1. انّ ما استدلّ على نفي الانحلال بأنّه لو صحّ الانحلال في الإنشاء لصحّ في الإخبار، و لو صحّ في الإخبار يلزم أن يُحكم على القائل بأنّ النار باردة انّه كذب بعدد وجود النار في العالم ماضية و حاضرة، غير تام، و ذلك إذ لا ملازمة بين الانحلال و تعدّد الكذب، لأنّ الثاني من صفات الكلام المتفوَّه به، فإذا كان ما تفوَّه به كلاماً واحداً و إن كان الموضوع وسيعاً فلا يلزم إلاّ كذباً واحداً، فلو جاء القوم و لم يجئ واحد منهم لم يكذب إلاّ كذباً واحداً، إذ لم يصدر منه إلاّ كلام واحد مع وحدة المجلس.

2. انّ ما أفاده في المقدّمة السادسة بأنّ الأحكام الشرعية غير متقيّدة بالقدرة عقلاً و إلاّ يلزم تصرّف العقل في حكم الغير، و لا شرعاً و إلاّ يلزم إجراء البراءة عند الشكّ في التكليف، غير تام، لأنّ موقف العقل في المقام موقف الكشف لا التصرّف، فإذا وقف العقل على صفات الشارع يستكشف بما انّه حكيم انّه لا يوجه الحكم إلاّ إلى القادر لا الأعم منه و العاجز، فالأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة الشرعية دلّ على ذلك العقل دون أن يتصرّف في حكم الشرع.

و مع الاعتراف بأنّ الأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة فمع الشكّ في القدرة يجب الاحتياط و لا يجوز إجراء البراءة، لما قلنا في محلّه من أنّ كلّ شرط لا يعلم وجوده و عدمه إلاّ بالفحص يجب الفحص عنه، و لذلك يجب التفحّص عن

ص:85

الاستطاعة في الحج، و النصاب في الزكاة و القدرة في كلّ الأحكام، و إلاّ يلزم تعطيل قسم كبير من الأحكام.

هذا كلّه حول بعض ما أفاده في المقدّمات.

و أمّا النتيجة التي استنتجها من هذه المقدّمات فهي مبنيّة على مقدّمتين:

المقدمة الأُولى: الإطلاق هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع من دون سريان حكمه إلى حالات الموضوع المختلفة.

المقدمة الثانية: انّ الدليل غير ناظر إلى صورة التزاحم.

فنقول: إنّ ما ذكره صحيح في عالم الإثبات دون الثبوت، و الدليل و إن كان غير ناظر إلى حالات المكلّف من الابتلاء و التزاحم إلاّ انّ المولى يمكنه التفطّن إلى صورة الابتلاء، و عندئذ نسأل هل يرى المولى نوع المكلّف محكوماً بالحجّتين و ملزماً بالعمل بهما أو لا؟ فعلى الأوّل يلزم التكليف بغير المقدور، و على الثاني يلزم رفع اليد عن إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً.

و إن شئت قلت: إنّ الأحكام الشرعية متقيّدة بالقدرة بالمعنى الذي عرفت، و على ضوء ذلك فلو سئل المولى عن انبساط طلبه و شموله لصورة التزاحم في حقّ نوع المكلّف، لا شخصه حتّى يقال انّ الخطاب قانوني لا شخصي فامّا أن يجيب بالإثبات لزم الأمر بغير المقدور، و إن أجاب بالسلب فمعنى هذا انّه رفع يده عن إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً، و هذا ما يجرّنا إلى القول بعدم التحفّظ بالأمرين معاً.

و الحاصل: انّه قد وقع الخلط بين مقام الإثبات و مقام الثبوت، فما ذكره صحيح في مقام الإثبات، فالدليل غير ناظر لصورة التزاحم و الخطاب واحد

ص:86

و ليس هناك خطابات، إلاّ انّ الكلام في مقام الثبوت و توجّه المولى إلى أنّه ربّما يبتلي نوع المكلّف بالأمرين، و من المعلوم أنّ هذا الموقف لا يقبل الإهمال، فإمّا أن يكون هناك إرادتان و حجّتان على المكلّف من دون رفع اليد عن أحدهما تخييراً أو تعييناً فيلزم الأمر بغير المقدور أو لا يكون إلاّ إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً فهو على جانب النقيض ممّا اختاره.

ص:87

الفصل السادس في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

اشارة

هل يجوز أمر الآمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه، أو لا؟ ظاهر العنوان يعرب عن أنّه من فروع مسألة» التكليف بما لا يطاق «فالأشاعرة على الجواز و العدلية على المنع، و على كلّ تقدير ففي مرجع الضمير في قوله» بانتفاء شرطه «وجوه.

الأوّل: انّ الضمير يرجع إلى نفس الأمر، و المراد من شرط الآمر هو علل وجوده، فانّ الأمر ظاهرة كونيّة و لكلّ ظاهرة علّة و من أجزاء العلّة هو الشرط. فيقع الكلام في جواز الأمر مع انتفاء شرط من شرائط علّة وجود الأمر. و أمّا علّة وجود الأمر فهو عبارة عن تصور الشيء، و التصديق بفائدته، و الشوق المؤكّد إليه، و دفع موانعه و....

وعليه يكون المراد من الجواز هو الإمكان الوقوعي، و أنّه هل يصدر الأمر من الآمر في هذا الظرف أو لا يصدر؟ و الجواب هو عدم الجواز، لأنّ صدور المعلول مع عدم العلّة التامّة أشبه بصدور المعلول بلا علّة، و هو محال وقوعاً و إن كان بالذات ممكناً و هذا شأن

ص:88

كلّ معلول ممكن بالذات، ممتنع بعدم وجود علّته، فيكون ممكناً بالذات ممتنعاً بالغير، و هذا هو الذي يعبر عنه بالامتناع الوقوعي.

الثاني: انّ الضمير يرجع إلى الأمر مثل الاحتمال الأوّل، لكن يراد من المرجع نفس الأمر و من الضمير الراجع إليه بعض مراتبه على نحو الاستخدام، بأن يقال: هل يجوز أمر الآمر مع علم الآمر بانتفاء شرط الفعلية أو شرط التنجز؟ و هذا هو الذي اختاره المحقّق الخراساني و قال: إنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث و التحريك حقيقة و قد يكون صورياً و ربما يكون غير ذلك.

و يؤيد ذلك انّ القائلين بالجواز يستدلّون بأمره تعالى إبراهيمَ الخليلَ بذبح ولده إسماعيل مع علمه تعالى بفقدان شرط فعلية الأمر أو تنجّزه، و الشرط هو عدم النسخ، و قد كان منتفياً و الأمر منسوخاً، و إلى هذا الاحتمال يرجع ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في تعليقته على الكفاية من رجوع الضمير إلى الامتثال. أي هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الامتثال؟ و هذا التعبير أفضل و أوضح من تعبير المحقّق الخراساني.

و قد سبق منّا القول بأنّ شرط فعلية الأمر هو بيان المولى و المفروض انّه سبحانه بيّن أمره للخليل، و إنّما المنتفي هو شرط التنجز و هو عدم النسخ فهو شرط تنجز الأمر لا فعليته.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر انّ هذا الاحتمال يرفع النزاع من البين و يقع التصالح بين الجانبين فالقائل بالجواز يريد من الأمر بالشيء هو الإنشاء الصوري مع عدم بلوغ الأمر إلى مرحلة الفعلية و التنجّز، كما أنّ القائل بالامتناع يريد من الأمر بالشيء هو الأمر به بعامّة مراتبه حتّى التنجز، فعندئذ لا نزاع بين النافي و المثبت.

ص:89

الثالث: ما اختاره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (و هو انّ المراد الأمر بالشيء مع انتفاء شرائط المأمور به، كما إذا أمر بالصلاة مع الطهارة و هو يعلم عدم تمكّن المكلّف منها، ثمّ إنّه) قدس سره (قال بجوازه و ذلك مستنداً بما اختاره في البحث السابق من وجود الفرق بين الخطاب الشخصي و الخطاب القانوني حيث لا يصحّ توجيه الخطاب الشخصي إلى الفاقد بأن يقول لفاقد الماء و التراب، صل مع الطهارة.

و أمّا الخطاب القانوني فيصحّ، و ذلك لأنّه ليس خطاباً شخصياً، بل خطاباً لعامّة المكلّفين، و هم بين واجد للشرط و فاقد له، فيصحّ خطاب الجميع بالأمر و إن كان بعضهم فاقداً للشرط، إذ عند الفقدان تصل النوبة إلى العقل فيعد العاجز معذوراً و الواجد غير معذور.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره لا ينطبق على المثال الذي طرحه كلّ من النافي و المثبت، و هو أمر الخليل بذبح إسماعيل مع عدم شرطه، إذ لم يكن الخطاب في هذا المورد إلاّ خطاباً شخصياً لا قانونياً.

أضف إلى ذلك ما ذكرناه سابقاً من أنّ الخطابات القانونية و إن كانت غير ناظرة إلى صورة التزاحم أو إلى صورة فقد المكلّف شرط المأمور به، لكن عدم النظارة يختص بعالم الإثبات فالدليل في مقام الدلالة غير ناظر إلى صورة التزاحم و فقد الشرط.

لكن المولى سبحانه واقف باختلاف المكلّفين من حيث الشروط و أنّهم بين واجد لشرط المكلّف به و فاقد له و عندئذ فهل يبقى خطابه عند التوجه إلى اختلاف المكلّفين في الشرط أو لا؟ فعلى الأوّل عاد محذور التكليف بالمحال و على الثاني لا يكون للخطاب القانوني دور في المقام، لأنّ الخطاب الشخصي أيضاً مثله.

ص:90

ثمرة البحث

تظهر الثمرة في لزوم الكفّارة على من أفطر يوم شهر رمضان مع فقد شرط المأمور به في الواقع، دون أن يكون المكلّف عالماً به، كما إذا أفطر ثمّ بدا له السفر قبل الظهر أو مات أو مرض كذلك، فعلى القول بصحّة التكليف تجب عليه الكفارة بخلاف القول بعدم صحّته، لفقدان الشرط.

يلاحظ على الثمرة: أنّ الظاهر لزوم الكفّارة مطلقاً، إذ ليست الكفّارة دائرة مدار وجوب الصوم و عدمه واقعاً حتّى يقال بأنّ المكلّف لم يكن مكلّفاً بالصوم لفقدان الشرط في الواقع به، بل تدور على الإفطار بلا عذر و المفروض انّه أفطر بلا عذر ثمّ طرأ عليه العذر.

ص:91

الفصل السابع هل الأوامر و النواهي تتعلّق بالطبائع أو الافراد؟

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: ليس النزاع في الدلالة اللفظية

إنّ النزاع لا يختصّ بالأمر و النهي باللفظ بل يعمّ الأمر بالجملة الخبرية أو النهي بمثلها، كما يعمّ الأمر و النهي بالإشارة فيقع الكلام في الجميع فيما هو المتعلّق للأمر و النهي.

و الذي يعرب عن عمومية محلّ النزاع ما نقل عن السكاكي من اتّفاق علماء العربيّة على أنّ المصدر المجرّد عن اللام و التنوين لا يدلّ إلاّ على نفس الماهية، فلو كان النزاع في الدلالة اللفظية لكان اللازم عدم النزاع، لأنّ المادة في الأمر و النهي هي المصدر المجرّد من اللام و التنوين فلا يدلّ إلاّ على نفس الماهية، و هي المتعلّق للأمر، فيجب على الأُصوليّين الاتّفاق على كون المتعلّق هو الطبيعة، لكن وجود النزاع يُعرب عن كون محلّه أعمّ من اللفظ و الفعل. و من اللفظ أعم من الإنشاء و الإخبار.

ص:92

الثاني: ليس النزاع مبنيّاً على المسائل الفلسفية

إنّ في الفلسفة مسألتين هامّتين لهما تأثيران في سائر المسائل الفلسفية.

1. هل الأصل في الخارج، و المنشأ للأثر هو الوجود أو حدّ الوجود و هو الماهية؟ و بعبارة أُخرى: هل المحصّل للغرض هو الوجود و تحقّق الشيء أو المحصّل هو الشيء لكن عند التلبّس بالتحقق؟ فربّما يقال بتعلّق الأمر بالفرد على القول الأوّل و بالطبيعة على القول الثاني.

2. هل الموجود في الخارج هو طبيعي الشيء أو فرده؟ فعلى الأوّل يكون المتعلّق هو الطبيعة، و على الثاني هو الفرد.

يلاحظ على كلا الأمرين: بأنّ المسائل الأُصولية مسائل عرفية، و بتعبير آخر عقلائية لا صلة لها بالمسائل الفلسفية الدقيقة، فانّ الحاكم في المسائل الفلسفية هو العقل الدقيق، و لكن الحاكم في المسائل الأُصولية هو العرف الدقيق.

و عند ذلك لا وجه لابتناء البحوث الأُصولية على البحوث الفلسفية.

و بذلك يعلم أنّ ما أطنب به المحقّق الاصفهاني) قدّس اللّه نفسه الزكية (من أنّ النزاع مبني على أنّ الطبيعي بنفسه موجود أو هو موجود بوجود أفراده تبعيد للمسافة و خروج عن طور البحث في المسائل الأُصولية.

الثالث: ما هو المراد من الطبيعة؟

قد تطلق الطبيعة و يراد بها الماهية الحقيقية التي لو وجدت في الخارج لكانت من إحدى الحقائق الكونيّة و تكون داخلة تحت مقولة واحدة كالإنسان

ص:93

الذي هو داخل تحت مقولة الجوهر.

و قد تطلق على العنوان المنتزع من حقائق متعددة داخلة تحت مقولات مختلفة، كالصلاة التي هي ليست داخلة تحت مقولة من المقولات، بل هي عنوان منتزع من حقائق متباينة كالقراءة التي هي من مقولة الفعل، و الجهر و المخافتة اللّتين هما من مقولة الكيف، و الركوع و السجود اللّذين هما من مقولة الوضع، و لأجل ذلك توصف الصلاة، بالماهية المخترعة و هي في الحقيقة عنوان منتزع من ماهيات و حقائق متباينة.

الرابع: ما هو المراد من الافراد في عنوان البحث؟

هذا هو بيت القصيد في المقام و هناك احتمالات:

1. المراد من الافراد هو المصاديق الخارجية من أفراد الطبيعة بحيث يتعلّق الأمر أوّلاً و بالذات بنفس الفرد لا على العنوان حتّى يكون مرآة لها.

يلاحظ على ذلك: أنّ الغرض من الأمر هو تحصيل ما ليس بموجود، و لو تعلّق الأمر بالفرد الخارجي، يلزم تحصيل الحاصل، إذ بعد وجود الفرد الذي هو متعلّق الأمر لا معنى للبعث إليه، فانّ ظرف الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الأمر لا تعلّقه.

2. أن يراد من الفرد، المشخّصات الكلّية و الضمائم التي لا تنفك الطبيعة عنها فالمتعلّق و الضمائم عناوين كلّية يتعلّق بهما الأمر أيضاً، فبما انّ الطبيعة و المشخّصات عناوين كلّية و المفروض تعلّق الأمر بكليهما، فيُصبح الفرد الخارجي مصداقاً للواجب بكلتا الحيثيتين: فيكون مصداقاً للطبيعة كما أنّه يكون مصداقاً للضمائم و المشخّصات و الأعراض التي لا ينفك عنها.

ص:94

و على ضوء هذا فالنزاع في أنّ المأمور به هو الطبيعي بما هو هو أو هو مع المشخّصات و الأعراض الكلية.

فمن قال بالأوّل فقد جعل الواجب هو الحيثية الطبيعية و من قال بالثاني جعل الواجب الحيثيتين الطبيعية و الضمائم المقترنة بها.

فإذا فرضنا انّه توضأ بماء حار في البرد القارص، فهل متعلّق الأمر هو نفس التوضؤ بالماء، أو أنّ متعلّقه هو الضميمة المقترنة بها كحرارة الماء؟ فلو افترضنا انّه قصد القربة في أصل الوضوء دون الوضوء بالماء الحارّ، فعلى القول بأنّ متعلّقه هو الطبيعة يصحّ وضوؤه دون القول الثاني لأنّه لم يقصد القربة في الضمائم.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تفسير الفرد بهذا المعنى فقال ما هذا لفظه:

إنّ تشخّص الطبيعي بنفس وجوده، و تشخّص الوجود بذاته، و أمّا الأُمور الملازمة للوجود الجوهري خارجاًً التي لا تنفك عنه، كأعراضه من الكم و الكيف و الأين و الوضع و غيرها، فهي موجودات أُخرى في قبال ذلك الموجود و مباينة له ذاتاً و حقيقة، و متشخّصات بنفس ذواتها، و افراد لطبائع شتّى، لكلّ منها وجود و ماهية فلا يعقل أن تكون الأعراض مشخّصات لذلك الوجود لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخّص، فلا يعقل أن يكون تشخّصه بكمه و كيفه و أينه و وضعه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه خلط بين المصطلحين: مصطلح الفلاسفة و ما اصطلح عليه الأُصوليون.

توضيح ذلك: قد كان الرأي السائد قبل الفارابي) المتوفّى 339 ه (على أنّ

ص:95


1- المحاضرات: 4/19.

التشخّص بالاعراض و انّ الجواهر تتشخّص بالكم و الكيف و سائر الاعراض، فالإنسان الطبيعي بالبياض و السواد يتميّز عن الآخر، كما أنّه بطول قامته و قصرها يتميّز عن الآخر و هكذا.

و لكن انقلب الرأي السائد في عصر الفارابي إلى يومنا هذا بأنّ تشخّص الإنسان بوجوده، و مع قطع النظر عن الوجود فالإنسان كلّي، و ضم كلي) العرض (إلى كلي آخر لا يفيد التشخّص، فإذاً التشخّص الخارجي، يتحقق بنفس وجود الجوهر فله طبيعة و وجود، كما أنّ للعرض طبيعة و وجوداً، فالوجود هو الذي يضفي التشخّص على الجوهر و على العرض، فتعيّن الجوهر بوجوده كما أنّ تعيّن العرض به و لا يتشخّص الجوهر لا بطبيعة العرض و لا بوجوده.

هذا هو مصطلح الفلاسفة المتأخرين عن الفارابي و لكنّ للتشخّص اصطلاحاً آخر عند الأُصوليين و هو مبنيّ على الفهم العرفي، حيث إنّ تميّز فرد عن فرد آخر عند العرف بعوارضه و اعراضه ككون زيد أبيض و أطول من عمرو الذي هو أسود و أقصر، أو كون زيد ابن فلان و عمرو ابن فلان آخر، فهذه الاعراض تميّز الجواهر بعضها عن بعض. و كلّ من المصطلحين صحيح في موطنه، ففي الدقّة العقلية التشخّص مطلقاً بالوجود لا بالاعراض و لكن التشخّص بين الناس إنّما هو بالاعراض و لكل قوم مصطلحهم و مشربهم.

الثالث: ما اختاره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (و هو انّ المراد من الافراد هو المصاديق المتصوّرة بنحو الإجمال كما هو الحال في الوضع العام و الموضوع له الخاص فيكون معنى» صلّ «أوجد فرد الصلاة و مصداقها، لا بمعنى انّ الواجب هو الفرد الخارجي أو الذهني بما هو كذلك، بل ذات الفرد المتصوّر إجمالاً، فانّ الافراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها كما انّ الطبيعة قابلة للتصوّر كذلك.(1)

ص:96


1- تهذيب الأُصول: 1/343.

دليل القول المختار

إذا عرفت هذه الأُمور فالظاهر انّ المراد من الفرد هو المعنى الثاني، و على ذلك فالأمر يتعلّق بنفس الطبيعة لا بالمشخّصات التي نعبّر عنها بالضمائم أو الجهات الفردية، و دليله واضح و هو انّ البعث لا يتعلّق إلاّ بما هو دخيل في غرض المولى و لا يتعلّق بما ليس له دخل فيه، و من المعلوم أنّ المؤمِّن لغرض المولى هو نفس الطبيعة مع قطع النظر عن الضمائم و المشخّصات الفردية بحيث لو أمكن أن توجد الطبيعة مجرّدة عن الضمائم و المشخّصات لكان صالحاً للامتثال، غير أنّ الطبيعة لا تتحقّق في الخارج بلا ضمائم.

أدلّة القول بتعلّقه بالافراد

استدلّ القائل بتعلّق الأوامر بالافراد بأُمور فلسفية غير مفيدة في المقام، و إليك بيانها ضمن أُمور:

1. انّ الطبيعة ليست موجودة في الخارج و إنّما الموجود هو الفرد، فكيف يكون ما ليس موجوداً في الخارج متعلقاً بالأمر؟ يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بما ذكر غفلة عن تفسير قولهم:» الحقّ انّ الطبيعي موجود بوجود أفراده « و ذلك لأنّ تحقق الفرد عين تحقّق الطبيعة و هي تتحقّق في ضمن كلّ فرد مع تكثّر الأفراد. فإذا كان في مجلس عشرة أشخاص فهناك طبائع كثيرة حسب تكثّر الأفراد، فزيد إنسان تام كما أنّ عمرو إنسان تام آخر و هكذا، و التفصيل في محلّه.

2. قد اشتهر بين الفلاسفة أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلاّ هي، فهي لا موجودة و لا معدومة، و لا مطلوبة و لا مبغوضة، فإذا كان هذا مقام الطبيعة و شأنها

ص:97

فكيف تكون متعلّقة للأمر و موضوعاً للبعث؟ يلاحظ عليه: بأنّ الاستدلال بهذه الكلمة المأثورة من الفلاسفة نابع من تفسير خاطئ لها فانّ المراد من سلب الوجود و العدم أو المطلوبية و المبغوضية عن الماهيّة هو عدم كون هذه الأُمور في مرتبة الماهية، إذ لو كان الوجود أو العدم مأخوذين في مرتبتها لأصبحت واجبة الوجود أو ممتنعة فلا محيص عن توصيف الماهية بالإمكان بمعنى سلب الوجود و العدم عن حدّها و كونهما غير مأخوذين في تلك المرحلة، و هكذا المطلوبية و المبغوضية فليستا في حد الماهية، إذ لو كانت الأُولى مأخوذة لما صحّ السلب عنه في ظرف من الظروف، و هكذا العكس.

و مع هذا الاعتراف تكون الماهية في مرتبة دون حدها موجودة معدومة مطلوبة و مبغوضة.

و إن شئت قلت: إنّ الماهية بالحمل الأوّلي ليست واجدة لهذه الأُمور بشهادة انّ مفهوم الإنسان غير مفاهيم هؤلاء، و أمّا بالحمل الشائع الصناعي فلا شك انّ الإنسان موجود و العنقاء معدوم و الصلاة مطلوبة و شرب الخمر مبغوض.

3. انّ الطبيعي الصرف لا يقضي حاجة الإنسان و إنّما القاضي لها هو وجوده الخارجي و معه كيف يكون الطبيعي الصرف متعلقاً للبعث و الزجر؟ يلاحظ عليه: بأنّ المستدل خلط بين متعلّق البعث و ما هو غاية البعث المفهومة من القرينة، فالبعث يتعلّق بالطبيعي الصرف من كلّ قيد و لكن الغاية من البعث إليه هو إيجادها، فإذا قال: اسقني، فقد بعثه إلى السقي من دون تجاوز الطلب عن السقي إلى شيء آخر لكن الغاية هو إيجادها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما وقف على الاستدلال حاول أن يجيب عنه بالتفريق بين متعلّق الأمر و متعلّق الطلب، فقال: إنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة و أمّا

ص:98

الطلب فهو يتعلق بوجودها و إليك نصّه، يقول:

إنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الافراد هو انّ الطبائع بوجودها السعي بما هو وجودها) قبالاً لخصوص الوجود (متعلّقة للطلب لا أنّها بما هي هي، كانت متعلّقة لها كما ربما يتوهّم فانّها كذلك ليست إلاّ هي، نعم هي كذلك تكون متعلّقة للأمر فانّه طلب الوجود.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ كلامه مبني على أنّ الهيئة تدلّ على أخذ الوجود في متعلّق الطلب، فإذا قال: اسقني، فمعنى ذلك: اطلب منك وجود السقي، لكنّه كلام غير تام، لأنّ الهيئة وضعت للبعث أو الطلب المجرّدين عن الوجود.

فالأولى في الإجابة ما قلنا من أنّ البعث إلى الطبيعة لغاية الإيجاد، فبما انّ المؤمِّن للغرض هو الوجود فهذا يشكِّل قرينة على أنّ البعث لتلك الغاية.

و ربما يجاب عن الإشكال بأنّ الطبيعة تؤخذ مرآة للخارج شأن كلّ المفاهيم فإذا قال: اسقني، فقد جعل السقي مرآة إلى الحيثية الوجودية و الجهة العينية من الطبيعي فيطلب الطبيعي بما هو حاك عن الخارج و مرآة له.

يلاحظ عليه: بما سبق في مبحث الوضع من أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة إلى الافراد، لأنّ اللفظ لا يحكي إلاّ عن معناه، و المفروض انّ الخصوصيات الفردية خارجة عن الموضوع له، فكيف تدلّ عليها الطبيعة؟ و مجرّد اتحاد الطبيعة مع المشخّصات الفردية لا يكون سبباً لحكاية الطبيعة عن الملازمات فلا بدّ من إرادة المشخّص من لفظ و دالّ آخر، و المفروض عدمه.

4. انّ المتلازمين يجب أن يكونا متّحدين في الحكم، فإذا تعلّق البعث بالطبيعة، يجب أن يتعلّق بلوازمها و ضمائمها.

ص:99


1- كفاية الأُصول: 2231/222.

يلاحظ عليه: ما مرّ في مبحث وجوب المقدمة من أنّ المتلازمين يجب أن يكونا غير متضادين في الحكم كأن يكون أحدهما واجباً و الآخر محرّماً، أمّا اتحادهما في الحكم فلا.

ثمرة البحث

تظهر ثمرة البحث في موارد نشير إلى موردين:

الأوّل: إذا توضأ في الصيف بماء بارد و قصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع يكفي وجود القربة في أصل التوضّؤ بالماء، و أمّا لو قلنا بتعلّقها مضافاً إلى الطبائع بالافراد أي اللوازم و المقارنات يبطل الوضوء لعدم القربة فيها، بل الغاية منها هو التبرّد.

الثاني: فيما إذا صلّى في دار مغصوبة فعلى القول بأنّ متعلّق الأمر و النهي هو نفس الطبيعة لا المشخّصات الفردية يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي، لأنّ الصلاة تتشخّص تارة بالمباح و أُخرى بالمغصوب و الكلّ من الملازمات المتّحدة معها في الوجود فلا يتجاوز الأمر عن متعلّقه إلى ملازماته و متشخّصاته، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الأمر بالأفراد حيث تكون الملازمات المتّحدة متعلقة للأمر فيلزم أن يتعلّق الأمر بنفس ما تعلّق به النهي و هو غير جائز.

و أورد عليه المحقّق الخوئي بما هذا حاصله: بأنّ الأمر على كلا القولين تعلّق بالصلاة أو بفرد ما منها، و لم يتعلق بفرد ما من هذه الطبيعة و فرد ما من الطبائع الأُخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي، و على ذلك فالقائل بتعلّق الأمر بالطبائع يدّعي تعلّقه بطبيعة الصلاة مع عدم ملاحظة أيّة خصوصية من الخصوصيات، و القائل بتعلّقه بالافراد يدّعي انّه تعلّق

ص:100

بفرد ما من أفرادها، و لا يدّعي انّه تعلّق بفرد ما من أفرادها و فرد ما من الطبائع الأُخرى كالغصب أو نحوه، فالخصوصيات من الاعراض خارجة عن مصب الأمر.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على تفسير الفرد بالمعنى الأوّل و انّ مدار القولين هو تعلّق الأمر بالطبيعي أو فرد ما من ذلك الطبيعي، فعندئذ يصحّ ما يقول من أنّ المقصود من تعلّق الأمر بالفرد، هو الفرد من طبيعي واحد لا الفرد من طبيعة أُخرى أيضاً كالغصب.

و لكنّك عرفت أنّ هذا التفسير تفسير خاطئ، لأنّ الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الوجوب لا ظرف ثبوته و تعلّقه، بل المراد من الفرد هو الضمائم و اللوازم التي لا تنفك عن الطبيعة مطلقاً أو تقارنها أحياناً، و عندئذ يقع البحث في أنّ متعلّق الأمر هو ذلك الطبيعي أو الطبيعي مع ضمائمه الكلية و لوازمه غير المنفكة عند التحقّق، فعلى القول الأوّل، يجوز اجتماع الأمر و النهي، لأنّ متعلّق الأمر الحيثية الصلاتية و متعلّق النهي هو الحيثية الغصبية و كلّ ثابت على متعلّقه، و هذا بخلاف القول بتعلّق الأمر بالفرد، أي اللوازم و الضمائم الكلّية، فبما انّ الصلاة تارة تقام في مكان مباح و أُخرى في مكان مغصوب فالأمر يتعلّق بالصلاة في المكان المباح أو بالصلاة في مكان مغصوب، فعندئذ تكون الحيثية الغصبيّة متعلّقة بالأمر كما تكون نفس الصلاة كذلك، فيلزم من القول باجتماع الأمر و النهي اجتماعهما في عنوان واحد.

إلى هنا ظهر انّ الأمر كالنهي يتعلّقان بالطبائع دون الخصوصيات الفردية.

ص:101


1- المحاضرات: 4/20.

تكميل للطبيعة أفراد لا حصص

إنّ الدائر في ألسن كثير من المحقّقين كالشيخ النائيني و ضياء الدين العراقي و السيد الخوئي وجود الحصص للطبيعة، و الحقّ انّ للطبيعة أفراداً لا حصصاً، و إليك التفصيل:

إنّ الكلّي ينقسم إلى كلي منطقي و طبيعي و عقلي.

أمّا الأوّل: فهو مفهوم الكلي في مقابل مفهوم الجزئي، فالأوّل ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين، و الثاني ما يمتنع فرض صدقه كذلك.

و أمّا الثاني: فهو عبارة عن معروض الكلي أي المفهوم الذي يصدق عليه انّه كلي كالإنسان و الحيوان و الشجر، فالطبيعي عبارة عن المفهوم الذي ينطبق عليه عنوان الكلي.

و أمّا الثالث: فهو عبارة عن لحاظ العارض و المعروض معاً، أي الإنسان بما انّه كلي فعندئذ يطلق عليه انّه كليّ عقلي، و ليس للأوّل و لا للثالث موطن إلاّ العقل، إنّما الكلام في الثاني أي ذات الطبيعي، و الحقّ انّه موجود في الخارج متكثّر بتكثّر الأفراد.

و ذلك لأنّ مفهوم الإنسان لما كان معرًّى عن كلّ قيد حتّى قيد كونه في الذهن يتكثّر في الخارج بتكثّر الأفراد فلو كان على أديم الأرض إنسان واحد فهناك طبيعة واحدة، و إذا كان عليه أفراد كثيرة فهناك طبائع كثيرة محققة في

ص:102

الخارج.

و الذي يوقع الإنسان غالباً في الاشتباه هو الخلط بين ذات الطبيعي و الطبيعي بقيد الكلية، فالثاني غير موجود لأنّ ظرف الكلية هو الذهن دون الخارج، بخلاف ذات الطبيعي فانّه معرّى عن كلّ قيد فيوجد في الذهن كما يوجد في الخارج، فلو وجد في الذهن يوصف بالكلية، و لو وجد في الخارج يتكثر بتكثر أفراده، و لذلك اشتهر عن الشيخ الرئيس انّه قال: إنسانية زيد غير إنسانية عمرو و إنسانيته غير إنسانية بكر، و كلّ واحد إنسان، تام الإنسانية، لأنّها تقبل الكثرة في الخارج.

و على ضوء ذلك فمثل الطبيعي إلى أفراده كمثل الآباء إلى الأبناء لا كمثل أب واحد إلى الأبناء، و هذا ما يقال انّ الطبيعي واحد نوعي و الفرد واحد شخصي، فلو وجد فرد في الخارج فقد وجد الطبيعي بعامّة حقيقته و هو لا يمنع أن يوجد في ضمن فرد آخر بعامّة حقيقته، و ذلك لأنّه واحد نوعي فلا تمنع الوحدة النوعية عن الكثرة العددية.

و من هنا يعلم أنّ كلّ فرد من أفراد الإنسان تمام الإنسان لا حصة منه، كما أنّ كلّ فرد من أفراد الصلاة نفس الصلاة لا حصة منها، فإذا كان الإنسان يقبل التكثّر حسب تكثّر الأفراد فلا معنى لكون الفرد حصة من الإنسان، بل الفرد كلّ الإنسان، لا جزء منه.

و أمّا من قال بأنّ الطبيعي واحد بالشخص و انّه موجود خاص جزئي، فالأفراد تكون حصصاً بالنسبة إليه، و بالتالي يكون كلّ إنسان ناقصاً في إنسانيته، بل جميع الأفراد تشكل إنساناً تاماً، و هذه هي نظرية الشيخ الهمداني الذي رآه الشيخ الرئيس في مدينة همدان و كان يقول: إنّ الطبيعي واحد بالشخص، فألّف

ص:103

رسالة مستقلة في ردّه و كان في التعبير بالحصة شيئاً من التأثر بتلك النظرية المردودة.

و قد اعتذر شيخنا الأُستاذ) مد ظله (عن الورود في هذه المسألة التي ليس لها مسيس بالمسائل الأُصولية و إنّما ألجأته إليه كثرة استعمال الحصة و الحصص في كلمات المتأخرين من الأُصوليين.

ص:104

الفصل الثامن بقاء الجواز عند نسخ الوجوب

اشارة

إذا استعقب وجوبَ الشيء نسخُه فهل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب أو لا؟ مثلاً إنّه سبحانه أمر المؤمنين إذا أرادوا النجوى مع رسول اللّه أن يُقدِّموا صدقة قبل نجواهم حتّى يُصان بذلك وقتُ النبي الثمين، حيث كان الأكثر راغبين في النجوى و المسارّة مع النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (في أُمور تافهة غير ناجعة، فلأجل الحيلولة دون فوات وقت النبي أمرهم بإعطاء دينار، و قد حكاه سبحانه في الذكر الحكيم بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(1)

و لمّا نُهوا عن المناجاة إلاّ بالصدقة ضنّ كثير من الناس بماله فلم يناجه أحد إلاّ علي بن أبي طالب) عليه السلام (حيث تصدّق بدينار و ناجى، و بذلك امتحن المؤمنون امتحاناً في ذلك المجال. و لمّا حصلت الغاية المتوخّاة من فرض الصدقة و علم أنّ الدينار عند الأكثر أثمن من وقت النبي فاجأهم النسخ بقوله سبحانه: (أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ).(2)

ص:105


1- المجادلة: 12.
2- المجادلة: 13.

فعندئذ يقع الكلام في أنّه هل يبقى الجواز بعد النسخ على نحو يصحّ لمن يناجي النبي أن يدفع الصدقة قبل النجوى بنيّة العمل بالآية لا بنيّة مطلق الصدقة؟ إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موضعين:

الأوّل: إمكان بقاء الجواز بعد النسخ و عدمه.

الثاني: الدليل على بقائه إذ ليس كلّ ممكن واقعاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استسهل البحث في المقام الأوّل و سلم إمكانه بعد نسخ الوجوب و قال:

ضرورة انّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممكن.(1)

إذا عرفت هذا فلنبحث في الموضعين واحداً تلو الآخر.

الموضع الأوّل: إمكان بقاء الجواز

إنّ إمكان بقاء الجواز رهن ثبوت أمرين:

الأوّل: انّ الوجوب مجعول شرعي و مفاد للأمر، و ليس أمراً انتزاعياً من أمر المولى مع سكوته عن جواز تركه.

الثاني: انّ الوجوب مركب من أُمور ثلاثة: الجواز، الرجحان، اللزوم.

و على ضوء ذينك الأمرين فإذا نسخ الوجوب فيمكن أن يتعلق النسخ بالفصل الأخير أي اللزوم و يبقى الجواز و الرجحان ضمن فصل آخر أي جواز الترك.

فإن قلت: إنّ بقاء الجنس مع ذهاب الفصل أمر غير ممكن فانّ الفصل

ص:106


1- كفاية الأُصول: 1/224.

علّة تحقق الجنس فالجنس حقيقة مغمورة و مبهمة لا تخرج من الإبهام إلاّ بفضل الفصل فالفصل و الجنس متّحدان زماناً اتحاد المتقوم مع المقوّم، و عندئذ كيف يمكن أن يبقى الثاني مع ذهاب الأوّل؟ قلت: ما ذكرته صحيح في عالم التكوين دون الاعتبار فلا مانع من قيام الجنس بفصلين متتاليين كالخيمة التي تقوم بدعامة بعد زوال دعامة.

و لكنّ الأمرين غير ثابتين.

أمّا الأوّل: فلأنّ الوجوب أمر بسيط ربما ينحل إلى المفاهيم الثلاثة، فالجواز و الرجحان و الالزام يفهم من الوجوب عند التحليل، فهذه المفاهيم الثلاثة تنضوي تحت لواء الوجوب انضواء الكثرات في الواحد البسيط.

و أمّا الثاني: فلأنّ الوجوب ليس مفاد الأمر فانّ مفاده هو البعث، و أمّا الوجوب و الاستحباب فإنّما يستفاد من القرائن أو من حكم العقل، فإذا أمر و سكت يحكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى، لأنّه لا يترك أمر المولى بلا جواب.

كما أنّه إذا أمر و رخّص يستفاد منه الاستحباب، فالوجوب و الاستحباب مفاهيم انتزاعية من الأمر بالشيء حسب ظروف مختلفة.

فاتضح بذلك انّ إمكان البقاء رهن أمرين و كلاهما منتفيان، لأنّ الوجوب بسيط، و ليس بمركب، كما أنّ الوجوب و الاستحباب ليسا من المجعولات الشرعية بل من المفاهيم الانتزاعية.

ثمّ إنّ للمحقّق الخوئي كلاماً في تفسير الوجوب و الحرمة و هو انّ المجعول في الواجبات و المحرّمات ليس إلاّ اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته.

ص:107

و رتب على ذلك أنّ الوجوب و الحرمة ليسا مجعولين شرعاً، بل منتزعان من اعتبار الشارع شيئاً في الذمة فينتزع منه الوجوب، و من اعتبار محرومية المكلف من الفعل فينتزع منه الحرمة، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار) اعتبار الشيء في ذمة الإنسان أو محروميته عن الشيء (لا الوجوب و الحرمة إلى أن قال:

و على ذلك لا يعقل القول بأنّ المرفوع هو نسخ الوجوب دون جنسه ضرورة انّ الوجوب ليس مجعولاً شرعيّاً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ ما أفاده من أنّ الوجوب من الأُمور المنتزعة و إن كان صحيحاً لكن تفسير الوجوب بجعل الفعل في ذمة المكلّف و الحرمة بحرمان المكلف عن الفعل تفسير غير تام و ذلك لتغاير الاعتبار في المثالين التاليين:

أ. له عليه دين كذا أو له على زيد عمل يوم.

ب. أدِّ دينك أو اعمل في هذا اليوم.

فانّ الاعتبار في المورد الأوّل هو جعل الفعل في ذمّة المكلّف بخلاف الاعتبار في الثاني ففيه البعث إلى أداء الدين، و العمل في اليوم، فإرجاع أحد الاعتبارين إلى الآخر أمر غير تام.

و ثانياً: أنّ الالتزام بكون الحرمة غير مجعولة و انّه ينتزع من حرمان المكلّف عن الفعل أمر لا يساعده الكتاب العزيز فانّ الظاهر منه إنشاء نفس الحرمة بالمصطلح الدارج فلاحظ الآيات التالية:

قوله تعالى: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ ).(2)

و قوله تعالى: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ).(3)

ص:108


1- المحاضرات: 4/23.
2- البقرة: 173.
3- البقرة: 275.

و قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ).(1)

و ثالثاً: لو صحّ ما ذكر فإنّما يصحّ في الأحكام الأربعة دون الإباحة، إذ ليس فيه أيُّ واحد من الاعتبارين: اعتبار جعل الفعل في ذمة المكلّف أو حرمانه منه، بل مفاده فسح المجال للمكلّف و كونه مخيّراً بين الفعل و الترك إلاّ أن يكون كلامه في غير الإباحة.

إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل، و قد عرفت عدم إمكان بقاء الجواز لفقد الشرطين، فليس الوجوب أمراً مركباً و لا مجعولاً شرعياً.

و إليك البحث في الموضع الثاني و هو بحث افتراضي أي لو فرضنا إمكان بقاء الجواز نبحث في الدلالة عليه.

الموضع الثاني: فيما يدلّ على بقاء الجواز

لو افترضنا إمكان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب، فيقع الكلام في فعلية الجواز و انّه هل هنا دليل على بقائه أو لا؟ ثمّ الدليل إمّا داخلي أو خارجي، و المراد من الداخلي هو دلالة كلّ من الناسخ و المنسوخ على البقاء، كما أنّ المراد من الخارجي هو الاستصحاب.

أمّا الأوّل فيستدلّ عليه بأمرين:

1. انّ القدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام، و أمّا ما عداه فيؤخذ من دليل المنسوخ.

2. انّ المقام نظير ما لو دلّ دليل على وجوب شيء، و دلّ دليل آخر على عدم وجوبه، كما إذا ورد أكرم زيداً و ورد» لا بأس بترك إكرامه «، فيحكم

ص:109


1- الأعراف: 33.

بأظهرية الدليل الثاني ببقاء الجواز و الرجحان.

يلاحظ على الأوّل: أنّه ليس للأمر إلاّ ظهور واحد و هو البعث نحو المأمور به، فإذا دلّ الناسخ على أنّ المولى رفع اليد عن بعثه فلا معنى للالتزام ببقاء الجواز و الرجحان، إذ ليس له إلاّ ظهور واحد لا ظهورات متعددة حتّى يؤخذ بالباقي.

و أمّا الثاني: فانّ قياس المقام بالدليلين المتعارضين قياس مع الفارق، لأنّ استكشاف الجواز هنا إنّما هو لاتفاق الدليلين عليه، و ذلك لأجل تحكيم الأظهر) لا بأس بترك إكرامه (على الظاهر) أكرم زيداً (، و أمّا المقام فليس من هذا القبيل بل هو من قبيل نفي الدليل الأوّل بالدليل الثاني.

و بكلمة مختصرة ليس هنا أيُّ دليل على بقاء الجواز، أمّا المنسوخ فالمفروض ارتفاعه، و أمّا الناسخ فالمفروض انّ مفاده منحصر في رفع البعث أو الوجوب) على القول بكونه مدلولاً لفظياً لا إثبات أمر آخر (.

هذا كلّه حول القرينة الداخلية، و أمّا القرينة الخارجية فليس هناك دليل إلاّ الاستصحاب بأن يقال كان التصدّق قبل النجوى جائزاً و الأصل بقاؤه حتّى بعد النسخ.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، و لكن الجواز ليس حكماً شرعياً، لأنّ المراد من الجواز في المقام هو الجواز الجامع بين الأحكام الأربعة و من المعلوم أنّه أمر عقلي ينتزعه العقل من البعث إلى المأمور به الكاشف عن الإرادة الحتمية، الكاشفة عن جوازه عند المولى فلا يكون عندئذ حكماً شرعياً قابلاً للاستصحاب.

و ثانياً: انّ الاستصحاب في المقام أشبه بالقسم الثالث من أقسام

ص:110

استصحاب الكلي، لأنّ المتيقن هو الجواز في ضمن الوجوب، و المفروض انتفاؤه، فلو بقي الجواز فانّما يبقى ضمن إقامة فرض آخر كالاستحباب مكانه، و من المعلوم أنّ استصحاب الكلي بهذه الصورة غير جار لعدم اتحاد القضيتين.

فإن قلت: إنّ نسبة الوجوب إلى الاستحباب نسبة الشديد إلى الضعيف فيرجع الشك إلى انتفاء البعث الشديد من رأس أو تبدّله إلى فرد ضعيف كالاستحباب و قد استثناه بعضهم من هذا القسم.

قلت: ما ذكرته و إن كان صحيحاً عند العقل لكنّهما عند العرف متباينان.

ص:111

الفصل التاسع الواجب التخييري

اشارة

عُرِّف الواجبُ التعييني بما لا بدل له و لا يسقط بإتيان شيء آخر، إذ لا بدل له، بخلاف التخييري فللواجب بدل و يسقط بإتيان بدله، و قد وقع في الشرع كخصال كفّارة الصوم ودية قتل العمد و غيرهما.

إنّما الكلام في بيان ما هو واقع الواجب التخييري حيث اختلفوا في المأمور به إلى أقوال:

1. ذهب أصحابنا و جمهور المعتزلة إلى أنّ كلّ واحد واجب على البدل، و أيّاً منها أتى فقد أتى بالواجب لا البدل.

2. ذهب الأشاعرة إلى أنّ أحد الأبدال واجب لا بعينه.

3. انّ الواجب هو الجميع و يسقط بفعل البعض.

4. انّ الواجب معيّن عند اللّه و لكن يسقط به و بالآخر و قد نُسِبَ هذان القولان إلى المعتزلة.

5. ما يفعله المكلّف و يختاره هو الواجب عند اللّه فيختلف باختلاف المكلّفين.(1)

ص:112


1- لاحظ القوانين: 1/116.

شبهات مثارة حول تصوير الواجب التخييري

اشارة

قد عرفت أنّ الأصحاب ذهبوا إلى أنّ الواجب كلّ واحد منها على البدل، فقد طرأت هناك عدّة إشكالات نطرحها على طاولة البحث.

1. الإرادة و البعث لا تتعلّقان بالأمر المردّد

و حاصل هذا الإشكال: انّ الإرادة الفاعلية إنّما تتعلّق بالأمر المعيّن لا بالأمر المردد، و هو أمر واضح و مثله الإرادة الآمرية فلا تتعلّق إلاّ بأمر معيّن، و وجه ذلك انّ تشخّص الإرادة في كلا المقامين بالمراد. فإذا كان المراد مردداً لا تتعلّق به الإرادة، و ظاهر كون كلّ واحد واجباً على البدل، تعلّق الإرادة بالأمر المردد، و نظيره البعث، إذ لا معنى للبعث إلى المردد.

2. كيف يكون واجباً و يجوز تركه؟

و هذا هو الإشكال الثاني، فانّ كلّ واحد من أطراف الواجب التخييري واجب و لكن يجوز تركه إلى بدل و هذا ينافي كون الشيء واجباً.

3. وحدة العقاب مع كثرة الواجب

و هذا هو الإشكال الثالث حيث إنّه إذا ترك الكلّ يعاقب بعقاب واحد، مع كون الواجب متعدداً.

هذه الأُمور هي التي دعت المتأخرين إلى البحث عن ماهية الواجب التخييري و واقعه حتّى يتيسر لهم الذب عن هذه الإشكالات.

و سنتناولها بالتفصيل واحداً تلو الآخر.

ص:113

أمّا تعلّق الإرادة بالأمر المردد و هو المهم بين الإشكالات فقد أجيب عنه بوجوه.

1. نظرية المحقّق الخراساني

و حاصل هذه النظرية: انّ الواجب التخييري على قسمين:

فقسم منه يكون التخيير فيه تخييراً عقلياً، و القسم الآخر يكون التخيير تخييراً شرعياً.

أمّا الأوّل: ففيما إذا كان الغرض واحداً يقوم به كلّ من الطرفين، كما إذا كان الغرض هو إنارة الغرفة و هي تتحقّق بإسراج المصباح أو إيقاد النار في الموقد فيأمر المولى و يقول: اسرج المصباح أو أوقد النار.

فهاهنا غرض واحد يحصل بكلا الأمرين، و بما انّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد فلا بدّ من القول بأنّ إنارة الغرفة معلولة للجامع بين الفعلين، لامتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون الواجب هو الجامع، فجعلهما متعلّقين للخطاب الشرعي كما عرفت تبيان انّ الواجب هو الجامع بين الاثنين. فعلى المكلّف إيجاده في الخارج لتحصيل الغرض الواحد، و في هذا القسم تتعلّق الإرادة بأمر معين و هو الجامع بين الفعلين.

و أمّا الثاني: أعني ما إذا كان التخيير شرعياً، فهناك أغراض متعددة للمكلّف لكن بينها تزاحم في مقام الإتيان بأن تكون الأغراض غير قابلة للتحصيل و الجمع فلا يمكن للمولى الأمر بتحصيلها.

فعندئذ يكون كلّ واحد واجباً لكن بنحو من الوجوب تَكشف عنه تبعاتُه و آثارُه، أعني:

ص:114

أ. عدم جواز ترك كلّ واحد إلاّ إلى الآخر.

ب. ترتّب الثواب على فعل الواحد منهما.

ج. العقاب على تركهما لا على ترك واحد منهما.

ففي هذه الصورة يكون الواجب كلّ واحد لكن بنحو من الوجوب يتفاوت سنخه مع وجوب الواجب التعييني.

فالصلاة و الصوم في شهر رمضان واجبان تعيينيان و الحمد أو التسبيحات واجبان تخييريان في الركعتين الأخيرتين.

لكن سنخ الوجوب في الأوّل غير سنخه في الثاني، مع اشتراك الجميع في تعلّق إرادة مستقلة بكلّ واحد كتعلّق البعث المستقل بكلّ واحد.

إلى هنا تمّ تقرير نظرية المحقّق الخراساني.(1)

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استطاع أن يذب عن الإشكالات الثلاثة بما اختاره في حقيقة الواجب التخييري.

أمّا التخيير العقلي فلأنّ الواجب هو الجهة الجامعة التي تؤمّن غرض المولى فالواجب واحد و الإرادة واحدة.

و أمّا التخيير الشرعي فلما كانت الأغراض متعددة، و بتبعها تتعدد الإرادة، و كلّ إرادة متعلّقة بموضوع خاص و هو محصّل لغرض خاص.

و مثلها البعث فليس هنا بعث متعلّق بالمردد، بل لكلّ بعث خاص دون أن يكون هناك تردد في المتعلّق.

هذا كلّه حول الإشكال الأوّل الذي هو المهم.

ص:115


1- لاحظ كفاية الأُصول: 1/226.

و أمّا الثاني: أعني كون الشيء واجباً مع جواز تركه و الإتيان بالآخر.

فقد أجاب عنه انّ هذا خصيصة نحو هذا الوجوب، فانّ الوجوب على قسمين: تارة يكون الإتيان بأحد الفعلين لا يجزي عن الفعل الآخر كالصلاة و الصوم في شهر رمضان، و أُخرى يكون الوجوب على نحو لو أتى بواحد ممّا تعلّق به الوجوب يغني عن إتيان الآخر و ذلك نتيجة تزاحم الأغراض و عدم اجتماعها.

و إلى ذلك يشير المحقّق الخراساني بقوله:

كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب يُستكشف عنه تبعاتُه من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر.(1)

هذا كلّه حول الإشكال الثاني.

و أمّا الإشكال الثالث: و هو أنّ تعدد الواجب يقتضي تعدد العقاب عند ترك عامّة الأطراف مع أنّهم اتفقوا على وحدة العقاب.

و الإجابة عنه واضحة، و ذلك لأنّ تعدد العقاب إمّا لأجل تفويت المصلحتين الملزمتين أو لأجل مخالفة التكليفين الفعليين.

أمّا الأوّل: فلأنّ المفروض عدم إمكان الجمع بين الغرضين و تنافيهما في مقام التأثير في الغرض، فإذا كان كذلك فليس عليه إلاّ تحصيل غرض واحد و بفوته يستحقّ عقاباً واحداً.

و أمّا الثاني: فلأنّ الحكمين و إن كانا فعليين و لكن مخالفة التكليفين الفعليين إنّما توجب كثرة العقاب إذا لم يكتف المولى في مقام الامتثال بواحد منهما. و مع هذا التصريح لا ملاك لتعدد العقاب.

ص:116


1- كفاية الأُصول: 1/226.

و الحاصل: انّ الكبرى أي مخالفة كلّ حكم فعلي توجب العقاب ممنوعة، و إنّما توجبه إذا لم يصرح المولى بأنّه يكفي إتيان واحد منهما، ففي مثله لا يتعدد العقاب.

فاتّضح بما ذكرنا انّ نظرية المحقّق الخراساني خصوصاً في التخيير الشرعي نظرية صالحة لدفع الإشكالات الثلاثة، و المؤثر في دفعها هو تعدد الغرض الموجب لتعدد الإرادة و التزاحم بين الأغراض في مقام الامتثال.

نعم يرد على هذه النظرية إشكالان يرجع أحدهما إلى التخيير العقلي و الثاني إلى التخيير الشرعي.

أمّا الأوّل: أي التخيير العقلي، فقد أسس نظريته على قاعدة:» لا يصدر الواحد إلاّ من واحد «و بما انّ الغرض واحد فلا يصدر إلاّ من واحد و هو الجهة الجامعة بين إيقاد النار و إسراج المصباح و لا يصدر من كلّ واحد منهما لاستلزامه صدور الواحد عن الكثير.

و لكن القاعدة صحيحة إلاّ أنّ تطبيقها على المورد تطبيق خاطئ.

أمّا صحّة القاعدة فتظهر بملاحظة أمرين:

الأوّل: انّ صدور شيء عن شيء رهن وجود صلة بينهما، و إلاّ يلزم أن يكون كلّ شيء علّة لكلّ شيء، و هذا ما يعبّر عنه في الفلسفة بقانون السنخية.

مثلاً انّ شرب الماء يزيل العطش دون أكل الخبز، و هذا يدلّ على وجود صلة بين الأوّلين و عدمها في الآخر.

نعم السنخية المعتبرة هي سنخية ظلية لا سنخية توليدية) انتاجية (كالسنخية الموجودة بين المطر و الندى.

الثاني: انّ مصب القاعدة هو المعلول البسيط من كلّ الجهات كالعقل

ص:117

الأوّل فانّه عند الفلاسفة إنّي الوجود فلا يصدر إلاّ من سبب واحد، فلو صدر من كثير يلزم أن يكون مشتملاً على أكثر من جهة حتّى تكون كلّ جهة سبباً لصدوره عن السبب المحتمل عليها أخذاً بما تقدّم من اشتراط السنخية بين العلة و المعلول، و عندئذ) تعدد السنخية و الرابطة (يلزم أن يكون الواحد كثيراً لكثرة الجهات و هذا خلف.

هذا إجمال ما عليه الفلاسفة في مفاد القاعدة و هو كما ترى يجري في المعلول البسيط من جميع الجهات، و أين هذا من النور الصادر من إيقاد الموقد و إسراج المصباح؟ فهناك نوران مختلفان و إن كانا يتحدان في الاسم أي النور، فإعمال القاعدة في المتكثّر بالذات إعمال لها في غير محلّه.

و قد استند المحقّق الخراساني إلى هذه القاعدة في محل آخر حيث قال: بوجود الجامع بين أفراد الصلاة الصحيحة و نستكشف وجود الجامع من وحدة الأثر، فانّ اشتراك جميع الصلوات الصحيحة في الأثر كاشف عن وجود جامع بين الصلوات يؤثر الكلّ فيه بذاك الجامع، مثلاً: النهي عن الفحشاء أثر واحد مشترك بين الجميع فيحكم بوحدة الأثر على وجود الجامع الذي هو المؤثر في ذلك الأثر و إلاّ يلزم صدور الكثير عن الواحد.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الأثر واحد بالنوع و لكنّه متعدد في الخارج و مصب القاعدة هو الواحد الشخصي لا الواحد النوعي، فكلّ من أقام صلاة صحيحة يترتب عليه النهي عن الفحشاء و هو في كلّ مورد يغاير الفرد الآخر في مورد آخر.

أضف إلى ذلك انّ أثر الصلاة متعدد لا واحد، فأين قربان كلّ تقي، من الناهية عن الفحشاء و المنكر؟ و أين كلاهما من عمود الدين؟ إلى غير ذلك.

ص:118


1- كفاية الأُصول: 1/36.

هذا كلّه حول التخيير العقلي و أمّا التخيير الشرعي فقد بنى نظريته على أنّ الأغراض متنافية غير قابلة للجمع، فعندئذ يتوجّه إليه السؤال الثاني و هو: انّ مصب التزاحم إمّا مقام الامتثال و إمّا ملاكات الأحكام:

أمّا الأوّل فلا تزاحم فيه، إذ لا مانع من أن يقوم المفطر بعتق رقبة و إطعام ستين مسكيناً وصوم ستين يوماً.

و أمّا الثاني أي التزاحم في مقام الملاكات، أعني: التزاحم في المرتبة المتقدمة على الخطاب فهو أيضاً منتف بشهادة انّه لو أفطر بالمحرّم وجب عليه الخصال جميعاً من دون أن يكون أيّ تزاحم بين الملاكات، و الظاهر انّ ملاك التخيير هو التسهيل على العباد و رفع الحرج عنهم لا التزاحم بين الملاكات كما يدور عليه كلام المحقّق الخراساني.

إلى هنا تمت نظرية المحقّق الخراساني نقلاً و تحليلاً.

2. نظرية المحقّق النائيني

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواجب هو العنوان المردّد، أعني: أحد الفعلين أو أحد الأفعال قائلاً: بأنّ الخصوصيات المعتبرة في الإرادة على قسمين، فتارة تعتبر فيها لا لخصوصية كونها تكوينية، بل لكونها إرادة، فهذا النوع من الخصوصية معتبرة في التشريعية أيضاً، و أُخرى يكون اعتبارها فيها لأجل كونها تكوينية فلا يعم التشريعية قطعاً.

و على ضوء هذا لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعية بالأمر الكلي بين الفردين بخلاف الإرادة التكوينية) الفاعلية (فانّها لكونها علّة لإيجاد المراد لا

ص:119

تتعلّق إلاّ بالشخص لامتناع ايجاد الكلّي في الخارج إلاّ في ضمن فرده.

ثمّ قال: إنّ امتناع تعلّق الإرادة التكوينية بالمردّد و ما له بدل من لوازمها خاصة و لا يعم التشريعية فانّ الغرض المترتب على كلّ من الفعلين، إذا كان أمراً واحداً، كما هو ظاهر العطف بكلمة» أو «سواء كان عطف جملة على جملة كما هو الغالب أو عطف مفرد على مفرد انّه حسب مقام الإثبات الموافق لمقام الثبوت يدل على أنّ هناك غرضاً واحداً يترتّب على واحد من الفعلين على البدل، فلا بدّ و أن يكون طلب المولى بأحدهما على البدل أيضاً لعدم الترجيح بينهما.

و الحاصل: انّ امتناع تعلّق الإرادة بالمبهم و المردد من خصائص الإرادة التكوينية لكونها علّة للمراد و لا معنى لتعلّق العلّة بالكلي بخلاف الإرادة التشريعية.(1)

ثمّ إنّ هذه النظرية هي خيرة تلميذه المحقّق الخوئي في تعليقته على أجود التقريرات و في محاضراته التي دوّنها بعض تلاميذه.

قال ما هذا حاصله:

الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة تحفظاً على ظواهر الأدلّة هو انّ الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه، و تطبيقه على كلّ منها في الخارج بيد المكلّف، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية غاية الأمر انّ متعلّق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصّلة و الجامع الحقيقي، و في الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة و الجامع العنواني، فهذا هو الفارق بينها و تخيّل انّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي و هو عنوان أحدهما في المقام، ضرورة انّه ليس

ص:120


1- أجود التقريرات: 1/183، و لاحظ فوائد الأُصول: 1/235 فالتقريران يهدفان إلى أمر واحد في هذه الدورة و قال: و الاختلاف بين التقريرين طفيف.

له واقع موضوعي غير تحقّقه في عالم الانتزاع و النفس فلا يمكن أن يتعدّى عن أفق النفس إلى ما في الخارج، و من الواضح انّ مثله لا يصلح أن يتعلّق به الأمر، خيال خاطئ جداً، بداهة انّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً بل تتعلّق به الصفات الحقيقية كالعلم و الإرادة و ما شاكلهما فما ظنك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض.(1)

إنّ الأُستاذ و التلميذ قد نجحا لو قلنا بصحّة المعنى في الذب عن الإشكالات الآنفة الذكر، أمّا تعلّق الإرادة بالفرد المردد مفهوماً فلأجل الفرق بين الإرادة الفاعلية و الإرادة الآمرية. و الامتناع من خصائص الإرادة الفاعلية دون الآمرية، و أمّا ترك أحد الأطراف عند الإتيان بالآخر فذلك لازم كون الواجب أحد الأفعال لا جميعها.

و به يُعلم دفع الإشكال الثالث، لأنّ وحدة العقاب لأجل وحدة الواجب المتحقّق بإنجاز واحد من الأطراف.

نعم يرد على تلك النظرية انّها لم تتحفظ على ظواهر النصوص فانّ ظاهرها على أنّ الواجب هو نفس تلك العناوين لا العنوان المنتزع عنها باسم أحدهما، فانّ العنوان المنتزع أمر عقلي ينتزعه من تعلّق الحكم بالعناوين الأصلية على وجه التخيير و إن كنت في شكّ فلاحظ الآيتين التاليتين.

قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ).(2)

ص:121


1- المحاضرات: 4/42 و 44.
2- المائدة: 89.

فانّ المتبادر من الآية أنّ الواجب هو نفس العناوين لا عنوان أحدها، و مثلها الآيات التالية:

(فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ).(1)

فانّ المتبادر من الآيات انّ الواجب، هو كلاً من الفك و الإطعام في يوم ذي مسغبة لا عنوان أحدهما، و هو) قدس سره (أبدع تلك النظرية ليتحفظ بها على ظواهر الأدلة، و لكن كانت النتيجة هي العكس.

3. نظرية المحقّق الأصفهاني

و للمحقّق الأصفهاني نظرية أُخرى، حاصلها: أن يكون كلّ واحد منها واجباً تعيينياً و يكون الإتيان بواحد منهما في الخارج موجباً لسقوط الآخر أيضاً بحكم المولى إرفاقاً و تسهيلاً على المكلّفين.

هذا ما لخّصه تلميذه المحقّق الخوئي(2) و إليك نصّ عبارة صاحب النظرية قال: يمكن أن يفرض غرضان، لكلّ منهما اقتضاء إيجاب محصَّله، إلاّ أنّ مصلحة الإرفاق و التسهيل تقتضي الترخيص في ترك أحدهما، فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه، و يرخِّص في ترك كلّ منهما إلى بدل، فيكون الإيجاب التخييري، شرعيّاً، محضاً من دون لزوم الإرجاع إلى الجامع.(3)

إنّ هذه النظرية قريبة من نظرية المحقّق الخراساني و ليست عينها غير أنّ الأُستاذ علل عدم وجوب الإتيان بسائر الابدال لأجل التزاحم في الملاك و لكن

ص:122


1- البلد: 1611.
2- تعاليق الأجود: 1/182.
3- نهاية الدراية: 1/254.

التلميذ علله بالتسهيل و الإرفاق.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تلك النظرية في تعاليق الأجود و في المحاضرات بإشكالين:

الأوّل: انّه يستلزم تعدد العقاب عند عصيان الوجوب التخييري و عدم الإتيان بشيء من الفعلين ضرورة انّ الجائز هو ترك كلّ منهما إلى بدل لا مطلقاً.

الثاني: انّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في كلّ من الطرفين إلاّ بالأمر، و حيث إنّ الأمر فيما نحن فيه تعلّق بأحد الطرفين أو الأطراف فلا محال لا نستكشف إلاّ قيام الغرض به.(1)

يلاحظ على الإشكال الأوّل: أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين:

1. تفويت المصلحتين الملزمتين.

2. عصيان الخطابين العقليين المطلقين.

أمّا الأوّل: فهو خلاف الفرض، لأنّ المفروض انّ المولى رخص في ترك أحد الغرضين لأجل التسهيل.

ص:123


1- أجود التقريرات: 1/182; المحاضرات: 4/28.

و أمّا الثاني: انّ عصيان الخطابين الفعليين المطلقين إنّما يُصحح تعدّد العقاب إذا لم يصرّح المولى بأنّه يجوز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر، فانّ معنى ذلك انّ المطلوب الجدّي المصحح للعقاب هو واحد لا كثير، و معه كيف يوجب تعدد العقاب؟ و إن شئت قلت: إنّ دائرة التكليف لا تكون أوسع من الملاك اللازم تحصيلُه، و المفروض انّ اللازم تحصيله هو أحد الملاكين لا كلاهما.

و أمّا الإشكال الثاني: فظاهره انّه لا ملاك في كلّ واحد من أحد الأطراف، بل الملاك في واحد منها غير معيّن، و هذا خلاف فرض المحقّق الاصفهاني حيث قال: فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه قطعاً، إذ لو لم يكن كلّ واحد منها مشتملاً على الملاك، لما صحّ الأمر بأحدها.

نعم تعدّد الأمر لا يلازم تعدّد الغرض، بل يجتمع مع وحدة الغرض، المتحقّق بكلّ من الأطراف.

4. نظرية بعض القدماء

إنّ الواجب هو الواحد المعيّن الذي يعلم اللّه انّ العبد يختاره.

يلاحظ عليه: أوّلاً: بأنّ لازم ذلك عدم الاشتراك في التكليف و انّ تكليف من يختار العتق هو العتق و تكليف من يختار الصوم هو الصوم، و هذا ممّا اتّفق العلماء على بطلانه.

و ثانياً: أنّ لازم ذلك عدم العقاب على من ترك التكليف رأساً، لأنّ الواجب هو ما يختاره العبد في علم اللّه، فإذا لم يختر واحداً منهما كشف عن عدم موضوع للتكليف في علم اللّه و مع فقد الموضوع لا عقاب.

5. ما هو المختار في تفسير الوجوب التخييري؟

هذا ما ذكره القوم في المقام و هناك نظرية خامسة هي أقرب إلى الواقع و ما هو الدارج بين الموالي و العبيد في الواجبات التخييرية.

و حاصله: انّه إذا كان للمولى غرض واحد يتحقّق بأُمور متعددة و ليس بينهما جامع أصيل كما في المثالين التاليين:

ص:124

أ. إذا تخلّف السائق عن مراعاة قوانين المرور، فيمكن للحاكم تأديبه بأحد أمرين:

1. الحكم عليه بتأدية غرامة نقدية.

2. الحكم عليه بزجّه في السجن.

ب: من أفطر في شهر رمضان متعمداً فللمولى أن يوبخ المكلّف بأحد الأُمور الثلاثة المعروفة بخصال الكفارة.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

فبما انّ إيجاب واحد معيّن خال عن الوجه، و كلّ منهما محصّل للغرض فعندئذ يخاطب المكلّف بإيجاب الجميع لكن على وجه التخيير لأجل وحدة الغرض، و هذه النظرية تشارك نظرية المحقّق الخراساني من جهة، و تفارقها من جهة أُخرى. أمّا المشاركة فهي إيجاب الجميع لكن على وجه التخيير. و انّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب.

و أمّا المفارقة فتفارقها بوحدة الغرض على هذه النظرية و كثرتها على نظرية المحقّق الخراساني.

و كلتا النظريتين تستمدان من أنّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب كالتعييني و لكن يفارق التخييريُّ، التعيينيَ باكتفاء المولى بالإتيان بأحد الأطراف في الواجب التخييري دون الواجبات التعيينية، و يعود وجهه إلى وحدة الغرض في الأوّل و تعدّده في الثاني حسب ما بيّناه.

و أمّا على مختار المحقّق الخراساني فالاكتفاء في الأوّل بأحد الأطراف لأجل امتناع الجمع بين الغرضين في التخييري، و إمكانه في الواجبات التعيينيّة.

و بذلك تقدر على الذبّ عن الإشكالات الثلاثة.

ص:125

أمّا الإرادة فلم تتعلّق بالمراد، بل تعلّقت بالمعيّن، حيث إنّ المراد متعدد كالإرادة و المبعوث إليه متعدد كالمراد.

و أمّا الإشكال الثاني أي جواز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر فانّه مقتضى وحدة الغرض.

و أمّا وحدة العقاب عند ترك الجميع فلما عرفت من أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين و كلاهما منتفيان.

1. كون الغرض متعدداً و المفروض في المقام خلافه.

2. مخالفة الخطابين الفعليين المطلقين، و قد عرفت عدم كلّية هذه الضابطة في تعدد العقاب و إنّما هو إذا لم يكن هناك تصريح أو تلويح من المولى بكفاية أحد الأطراف دون الآخرين.

إلى هنا تمّ الكلام في الواجب التخييري.

ص:126

التخيير بين الأقل و الأكثر

اشارة

لا شكّ في التخيير بين المتباينين أو الأُمور المتباينة كما في خصال الكفّارة، إنّما الكلام في جوازه بين الأقلّ و الأكثر كتخيير المصلّي بين تسبيحة أو ثلاث تسبيحات.

وجه الإشكال هو انّ المكلّف إذا أتى بالأقلّ يحصل الامتثال و يسقط الأمر و لا تصل النوبة إلى امتثال الأمر بالأكثر و بذلك يكون الأمر بالأكثر لغواً، و لذلك حمل القائلون بكفاية التسبيحة الواحدة على أنّ الزائد أمر مستحبّ.

تصحيح التخيير بين الأقل و الأكثر

ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل، و انّ التخيير غير جائز في صورة و جائز في صورة أُخرى.

فلو كان الغرض مترتباً على ذات الأقل و لو في ضمن الأكثر لامتنع التخيير بين الأقل و الأكثر، لأنّ الأقلّ حاصل مطلقاً قبل حصول الأكثر و كان الزائد على الأقل زائداً على الواجب.

و أمّا إذا ترتّب الغرض لا على مطلق الأقل و لو في ضمن الأكثر، بل على خصوص الأقل الذي لم يكن معه الأكثر، فعندئذ يحصل الامتثال بكلا الطرفين.

أمّا الأقلّ الذي لم يكن معه الأكثر فهو أحد الواجبين، و أمّا الأكثر الذي في ضمنه الأقل فالغرض قائم بالأكثر لا بالأقل الذي في ضمنه، لما عرفت من أنّ الأقل إنّما يحصِّل الغرض إذا انقطع عن الأكثر و صار فرداً مستقلاً، و أمّا إذا انضمّ

ص:127

إليه شيء فلا يكون مصداقاً للواجب.

و يمكن تصويره بالمثال التالي:

إذا أمر المولى برسم خط طولي إمّا متراً أو مترين، فلو كان الغرض حاصلاً بمطلق الأقل سواء كان الأقل منفكّاً عن الأكثر أو في ضمن الأكثر ففي مثله لا يصحّ التخيير، لأنّه إذا أتى بالأكثر فبالأقل الموجود في ضمنه يحصل الامتثال و يكون الزائد أمراً زائداً على الواجب.

و أمّا إذا ترتّب الغرض على الأقل التام المنفصل عن الأكثر، أو نفس الأكثر دون الأقل الذي في ضمنه، فعندئذ يصحّ الأمر بترسيم أحد الخطين، فالمكلّف إمّا يأتي بالواجب الأقل أو يأتي بالواجب الأكثر و ليس في ضمن الأكثر إلاّ ذات الأقلّ لا الأقلّ الواجب.

يلاحظ عليه: أمّا ما ذكره من المحاولة يخرج المورد من التخيير بين الأقل و الأكثر فانّ البحث دائر على إمكان التخيير بين الأقل و الأكثر لا بين المتباينين، و ما فرضه من جواز التخيير بين الأقل و الأكثر فإنّما هو من قبيل المتباينين و إن كان في نظر العرف الساذج تخييراً بين الأقل و الأكثر. إذ على ما فرضه يكون الموضوع أحد الأمرين:

أ. الأقل بشرط لا، أي الخط الذي بلغ طوله متراً بشرط أن لا يَضمّ إليه الأكثر.

ب. الأكثر بشرط شيء، أي ذات الأقل الذي يضاف إليه متر آخر، ففي مثله يكون التخيير بين الأقل بشرط لا و الأكثر بشرط شيء و هو خارج عن الموضوع.

نعم يصدق عليه عرفاً التخيير بين الأقل و الأكثر.

ص:128

ثمّ إنّه) قدس سره (استشكل على نفسه و قال:

إنّ ما ذكرته من المحاولة إنّما يصحّ إذا كان الأقل مندكّاً في الأكثر و لم يكن للأقل في ضمنه وجود مستقل.

و أمّا الأقلّ الذي يكون له وجود مستقل مطلقاً سواء زيد عليه أم لا غير مندك في ضمن الأكثر كالتخيير بين تسبيحة أو ضمن ثلاث تسبيحات أو التخيير بين نزح 30 دلواً و 40 دلواً، ففي مثله يسقط الأمر بالواجب بالأقل مطلقاً و لا تصل النوبة إلى الامتثال بالأكثر.

و هذا نظير ما إذا خيره بين ترسيم خط طوله متر أو مترين بشرط تخلل العدم بعد رسمه متراً، فعندئذ يحصل الامتثال بالأقل مطلقاً و لا تصل النوبة إلى الأكثر.

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن الإشكال بأنّ التخيير في مثل هذه الموارد إنّما يتحقّق إذا أخذ الأقل بشرط لا أي عدم انضمام شيء إليه و الأكثر بشرط شيء أي بشرط الانضمام فعندئذ لو أتى بالأقل و لم ينضم إليه شيء يسقط الأمر بالأقل، و أمّا إذا أضاف إلى التسبيحة الواحدة تسبيحتين أُخريين، ففي مثله لا يسقط الأمر بالأقل، لأنّ الأقل يفقد شرطه، و إنّما يحصل بالأكثر.

يلاحظ عليه: بمثل ما ذكرناه في البحث السابق فانّ أخذ التسبيحة الواحدة بشرط لا، و الأكثر بشرط شيء، يخرج المورد عن الأقل و الأكثر و يدخله في التخيير بين المتباينين، و مثله التخيير بين ثلاثين دلواً أو أربعين، فإذا أخذ الثلاثين بشرط لا، و العِدْل الآخر بشرط شيء، فلا يكون فيه الأقل موجوداً في ضمن الأكثر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني عاد في آخر البحث إلى ذكر النتيجة، فقال: إذا كان الغرض الواحد مترتّباً على الأقل و الأكثر فالواجب هو الجامع بين الفردين، لما عرفت من امتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون التخيير عقلياً.

ص:129

و أمّا إذا كان هناك غرضان مختلفان متزاحمان فيكون التخيير تخييراً شرعياً.

نعم لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ مطلقاً سواء أ كان له وجود مستقلّ أو في ضمن الأكثر فالواجب يسقط بالأقل و الزائد عليه مستحب لحصول الأقل مطلقاً قبل الأكثر.(1)

و قد عرفت عدم تمامية نظره، فلاحظ.

ص:130


1- الكفاية: 1/228.

الفصل العاشر الواجب الكفائي

اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

1. لا شكّ في وجود الواجبات الكفائية بين العقلاء و الشريعة الإسلامية المقدسة حيث إنّ الوالد يأمر أولاده بتنظيف البيت، و شراء اللحم و الخبز إلى غير ذلك من الأُمور، فلو قام واحد منهم بهذا الواجب لسقط عن الجميع، و لو عصوا يُعاقب الكلّ; و نظيره ما في الشريعة من الأمر بإجراء الحدود و الأمر بالمعروف و إقامة النظام فانّها واجبات كفائية. فلو قام واحد من المكلّفين بهذه الأُمور لسقط عن الجميع، و لو عَصوا لعوقبوا.

2. تقسيم الواجب إلى العيني و الكفائي، تقسيم للوجوب باعتبار إضافته إلى المكلَّف، كما أنّ تقسيمه إلى التعييني و التخييري تقسيم له بالإضافة إلى المكلَّف به، و ذلك لأنّ التكليف من الأُمور ذات الإضافة، فله إضافة إلى المكلِّف و في الوقت نفسه إضافة إلى متعلّق التكليف الذي يطلق عليه المكلّف به، كما أنّ له إضافة إلى المكلَّف الذي ربما يطلق عليه الموضوع في مصطلح المحقّق النائيني) قدس سره (.

فباعتبار كون المكلَّف به واحداً أو متعدداً على وجه التخيير ينقسم الواجب إلى التعييني و التخييري، كما أنّ باعتبار كون امتثال بعض مسقطاً عن الآخرين أو

ص:131

غير مسقط، ينقسم الواجب إلى العيني و الكفائي.

و إن شئت قلت: إمّا أن يكون لصدور الفعل من مكلّف مشخص مدخلية في حصول الغرض أو لا، بل الغرض يحصل بصدور الفعل من مكلّف ما، فالأوّل هو الواجب العيني، و الثاني هو الواجب الكفائي. و لبّ الفرق بينهما يرجع إلى أنّ المكلّف في العيني آحاد المكلّفين مستغرقاً، و في الكفائي صرف المكلّف، فالفرق بين العيني و الكفائي يرجع إلى جانب المكلَّف، خلافاً للمحقّق البروجردي حيث أرجع الفرق بينهما إلى جانب المكلّف به فقال: إنّ متعلّق الكفائي هو نفس الطبيعة، كما أنّ متعلّق العيني هو الطبيعة بقيد مباشرة كلّ مكلف بالخصوص.

يلاحظ عليه: أنّ جعل متعلّق التكليف في الكفائي نفس الطبيعة و في العيني الطبيعة بقيده صدورها من كلّ مكلف بالخصوص، عبارة أُخرى عن لحاظ المكلف في العيني بصورة العام الاستغراقي و في الكفائي بصورة العام البدلي.

3. على ضوء ما ذكرنا عرف الواجب الكفائي بأنّه: عبارة عن الواجب الذي لو أتى به فرد من المكلّفين لسقط عن الباقي، و إن تركه الجميع لعوقبوا، فعندئذ يجري الإشكال المذكور في الواجب التخييري في المقام أيضاً حيث إنّ كلاً من الواجب التخييري و الكفائي واضحان مفهوماً و لكن مبهمان كنهاً حيث إنّ مشكلة كيفية تعلّق الإرادة بالأمر المردد قائمة في كلا الواجبين، و قد عرفت كيفية دفع الإشكال في الواجب التخييري.

و أمّا المقام فيقرر الإشكال بالنحو التالي:

ص:132

إنّ المكلّف إن كان هو الفرد المردد يلزم تعلّق الإرادة و الوجوب بالفرد المردد، و الإرادة لا تتعلّق بالمردد، سواء أ كانت فاعلية أم آمرية.

و إن كان هو جميع الأفراد فلما ذا يسقط بفعل واحد منهم؟ و قد أجاب الأُصوليون عن الإشكال بنظريات:

النظرية الأُولى: تعلّق التكليف بعموم المكلّفين

اشارة

إنّ الواجب الكفائي سنخ من الوجوب و له تعلّق بكلّ واحد، بحيث لو أخلّ الكلّ بامتثاله لعوقبوا على مخالفته جميعاً، و إن أتى به بعضهم لسقط عنهم، و ذلك لأنّه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد يحصل بفعل واحد صادر عن الكلّ أو البعض.(1)

و حاصل هذه النظرية: انّ الوجوب يتعلّق بعامّة المكلّفين فلا يكون متعلّق الإرادة و الوجوب أمراً مردداً، غير أنّ تعلّقه بالجميع على قسمين:

تارة يكون الغرض متعدداً و يتوقّف حصوله على قيام كلّ واحد من المكلّفين بالواجب كالصلوات اليومية، فلا يسقط تكليف مكلّف، بفعل مكلّف آخر، و أُخرى يكون الغرض واحداً يحصل بقيام واحد منهم، و مقتضى هذا، سقوط الواجب بفعل أحد المكلّفين، و معاقبة الجميع حين تركهم.

هذا هو ما يركّز عليه صاحب الكفاية، و كان الأولى أن يضيف إليه شيئاً آخر و يقول: الفرق بين الواجب العيني و الكفائي أمران:

الأوّل: ما صرح به صاحب الكفاية من تعدد الغرض في العيني و وحدته في الكفائي.

ص:133


1- كفاية الأُصول: 1/229.

الثاني: مدخلية قيام مكلّف خاص بالمأمور به في تحصيل غرض المولى في العيني دون الكفائي، بل يكفي صدور الفعل عن أيّ واحد من المكلّفين، كالصلاة على الميت.

فإن قلت: إذا كان الغرض واحداً حاصلاً بإنجاز فرد من المكلّفين فلما ذا وجّه التكليف إلى عامّة المكلّفين؟ و بعبارة أُخرى: لو كان الغرض حاصلاً بفعل الواحد فلما ذا وجّه التكليف إلى عامّتهم؟ و إن لم يكن حاصلاً إلاّ بفعل الجميع فكيف يسقط بفعل الواحد؟ قلت: نختار الشق الأوّل، و هو انّ الغرض واحد يحصل بفعل واحد من المكلّفين، لكن عدم تخصيصه بمكلف خاص لأجل رعاية أمرين:

أ. ما تقدّم من عدم مدخلية صدور الفعل عن مكلَّف خاص، فلذلك لم يوجهه إلى واحد معيّن، بل إلى الجميع.

ب. انّ توجيه التكليف إلى الجميع بهذا النحو يؤمِّن غرض المولى في الإتيان به، إذ لو وجّهه إلى فئة خاصّة ربما يتساهلون في القيام بواجبهم لعذر أو لغير عذر، بخلاف ما لو جعل التكليف في ذمة الجميع و حذّرهم من مخالفته فعندئذ لقام الأمثل فالأمثل بامتثال التكليف قطعاً.

سؤال و إجابة

فإن قلت: إذا كان الخطاب في الواجب الكفائي متوجّهاً إلى عامة المكلّفين فلما ذا جعل سبحانه فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر التي هي من الواجبات الكفائية على عاتق طائفة من الأُمّة، لا على نفسها، قال سبحانه:

ص:134

(وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )؟(1)قلت: أوّلاً: يحتمل أن تكون لفظة» من «نشأوية لا تبعيضيّة، مثل قول القائل:» و ليكن لي منك صديق «: أي كن صديقاً، و المراد كونوا أُمّة يدعون إلى الخير.

و ثانياً: نفترض انّ» من «تبعيضيّة، لكن الآية ناظرة إلى حال الامتثال و تجسيد التشريع المتوجّه إلى الكل و انّه يكفي في تحقيقه قيام أُمّة من المسلمين بهذه الفريضة الحيويّة، بشهادة انّ الأمر بالمعروف فُرض في بعض الآيات على قاطبة المؤمنين، لا إلى لفيف منهم يقول سبحانه: (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).(2)

ثالثاً: انّ للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، مراتب:

مرتبة يشمل وجوبها عامّة المؤمنين و ذلك كالإنكار بالقلب و اللسان و إظهار الاشمئزاز بالوجه، قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» أمرنا رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة «.(3)

و مرتبة منها تختص بأصحاب القدرة، كقطع يد السارق، و حدّ الزاني، روى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سمعته يقول: و سئل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أ واجب على الأُمّة جميعاً؟ فقال:» لا «فقيل له: لم؟ قال:» إنّما هو على القوي المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيّ من أيّ، يقول في الحقّ إلى الباطل، و الدليل على ذلك

ص:135


1- آل عمران: 104.
2- التوبة: 71.
3- الوسائل: 11، الباب 6 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 1.

كتاب اللّه عزّ و جلّ قوله (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) فهذا خاص غير عام «.(1)

و على ضوء هذا الحديث: انّ إجراء الحدود، و الأحكام التأديبية، واجبة على عامّة القضاة و الحكام لا على صنف منهم لكن على نحو لو قام واحد منهم بإجراء الحكم أو تصدّى أحد القضاة للقضاء في موضوع، سقط عن الآخرين.

نقد النظرية و الإجابة عنه

إنّ السيد الأُستاذ) قدس سره (تناول تلك النظرية بالنقد و قال: ما هذا حاصله:

كيف يتعلق الوجوب بعامّة المكلفين مع أنّ الواجب الكفائي على أقسام:

1. ما لا يقبل التعدد و ما لا يمكن امتثاله إلاّ مرّة واحدة كقتل ساب النبي.

2. ما يقبل التكثّر، و لكن الفرد الثاني مبغوض ممنوع كمواراة الميت.

3. ما يقبل التكثّر و ليس الفرد الثاني مبغوضاً، و لكنّه ليس مطلوباً أيضاً كتكفين الميّت ثانياً.

4. ما يقبل التكثر و يكون مطلوباً كالصلاة على الميت.

أمّا الشقّ الأوّل، فيمتنع بعث عامّة المكلّفين إليه، لأنّه فرع إمكان التكثّر، و أمّا الثاني و الثالث اللّذان يقبلان التكثر لكن الفرد الثاني إمّا مبغوض أو غير مطلوب، فبعث عامة المكلّفين إليه الملازم للتكثر إمّا نقض للغرض أو بعث إلى ما ليس بمطلوب.

ص:136


1- الوسائل: 11، الباب 2 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 1.

و أمّا الرابع فإمكان بعث الجميع إليه و إن كان لا يُنكَر، إلاّ انّ لازمه هو لزوم اجتماعهم في إيجاد صرف الوجود، على نحو لو لم يحضر، عُدّ المتخلف عاصياً لترك الأمر المطلق.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ دعوة عامة المكلّفين إلى إيجاد الطبيعة في الواجب الكفائي ليس مثل دعوتهم إلى إيجادها في الواجب العيني، بأن يقوم كلّ مكلّف في زمان واحد بإيجادها حتّى يقال بأنّ الطبيعة ربّما لا يكون قابلاً للتكرار أو يكون قابلاً له و لكن يكون مبغوضاً، أو غير مطلوب، بل دعوة الجميع إلى إيجاد الطبيعة على نحو البدلية مثلها في الواجب التخييري الذي قد مرّ انّ الكلّ واجب على البدل، فإذا قام أحد الأفراد بامتثال التكليف سقط الواجب و لا تصل النوبة إلى التكرار بأنواعه الثلاثة.

و قد عرفت أنّ النكتة لتوجيه الخطاب إلى عامّة المكلّفين مع أنّه يكفي في حصول الغرض قيام فرد منهم بالواجب، هو أمران:

1. عدم قيام الغرض بقيام مكلّف خاص.

2. التحفّظ عليه، إذ احتمال التسامح و ترك الامتثال أمر محتمل في فرد منهم، لا في جميعهم.

و أمّا الصورة الرابعة التي يكون الفعل قابلاً للتكرار و مطلوباً، لا يلازم كون المتخلّف عاصياً، لأنّ الأمر و إن كان في الظاهر مطلقاً غير مقيد، لكنّه بشهادة القرائن مقيّد بالبدلية، و معه لا يعد تركه عصياناً، كأخذها في جانب المكلف به في الواجب التخييري.

ص:137


1- تهذيب الأُصول: 3671/366.

النظرية الثانية: التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين

هذه هي النظرية الثانية التي تؤكد على أنّ التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين لا بعينه نظير الواجب التخييري، غير أنّ الواحد لا بعينه في الواجب التخييري في ناحية متعلّق التكليف، و في الكفائي في جانب موضوعه، و هذا واقع في العرف كما إذا أمر الوالد أولاده، بقوله: فليقم واحد منكم بالعمل الفلاني.(1)

و اختاره السيد الأُستاذ لكن بتفصيل خاص، و هو انّ المكلّف أحد المكلّفين بشرط لا في الثلاثة الأُولى، أعني: ما لا يقبل التكثّر، أو يقبل لكن يكون مبغوضاً أو غير مطلوب، أو أحد المكلّفين لا بشرط في الصورة الرابعة، أعني: ما يقبل التكثر و يكون مطلوباً.(2)

أقول: هذه النظرية لبعض القدماء من الأُصوليين.(3) و لذلك تناولها السيد البروجردي بالنقد، و قال: هل المراد من توجه التكليف إلى أحد المكلفين، هو أحدهم المردد مفهوماً، أو أحدهم المردد مصداقاً و خارجاً؟ أمّا الأوّل فهو غير قابل لتوجه التكليف إليه كما هو معلوم و أمّا الثاني فليس له مصداق في الخارج، لأنّ كلّ فرد من آحاد المكلّفين فرد معين، و الوجود يلازم التشخّص و التعيّن، فكيف يكون الفرد موجوداً و مع ذلك مردداً؟(4)يلاحظ عليه: بأنّا نختار الشقّ الثاني، و انّ المراد من قولهم بأنّ التكليف يتوجه إلى الفرد المردد، هو ذات الفرد الخارجي، و لكن ليس التردد قيداً له، حتّى

ص:138


1- تعليقة العلاّمة الطباطبائي على الكفاية: 137، و المحاضرات: 4/53.
2- تهذيب الأُصول: 1/367.
3- انظر للوقوف على الأقوال: المعالم و تعليقة المشكيني على المقام.
4- نهاية الأُصول: 228.

يمنع تشخصه، بل المردد عنوان مشير إلى أحد المكلّفين و انّه لا خصوصية لمكلف دون مكلف.

و لك أن تقول مكان الفرد المردد، أحد المكلّفين، و كلّهم مصاديق لهذا العنوان على نحو البدلية.

نعم يرد على تلك النظرية أنّه مخالف لظاهر الأدلّة في الواجب الكفائي فلاحظ.

النظرية الثالثة: تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين

إن هناك تكليفاً واحداً يتعلّق بمجموع المكلّفين من حيث المجموع، فالمكلّف هو مجموع الأشخاص على نحو العام المجموعي، غاية الأمر انّه يتحقّق فعل المجموع بفعل الواحد منهم و تركه بترك المجموع، نسبه في حاشية القوانين إلى قطب الدين الشيرازي.

و أورد على هذه النظرية بأنّ المجموع أمر اعتباري لا وجود له في الخارج و إنّما الموجود ذوات الأفراد فلا معنى لتكليف المجموع.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره صحيح على الأُصول العقلية الفلسفية، إذ لا وجود للهيئة الاجتماعية، بل الوجود للأفراد، و أمّا النظر إلى الموضوع من منظار العرف فللهيئة واقعية تصحّح تعلّق التكليف بها، و لذلك نرى أنّ الأُمّة وقعت موضوعاً لأوصاف أو أحكام في القرآن و السنّة كما سيوافيك بيانه.

نعم يرد على تلك النظرية التي جعل المكلّف عنوان مجموع المكلّفين انّ لازمه لزوم اشتراك الجميع في التكليف لا سقوط التكليف بفعل واحد منهم، لأنّ

ص:139


1- نهاية الأُصول: 228.

المفروض هو توجّه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع لا إلى البعض، و عندئذ كيف يسقط عن المجموع بفعل الواحد أوّلاً و عدم إمكان اشتراك المجموع في كثير من الواجبات الكفائية كغسل الميت و مواراته ثانياً؟ نعم يمكن إصلاح تلك النظرية ببيان آخر بأن يقال: انّ الفرق بين الواجبات العينية و الكفائية هو انّ الأوّل يتعلّق بذوات الأفراد فكلّ فرد محكوم بحكم خاص غير حكم الفرد الآخر، و أمّا الواجبات الكفائية فهي عبارة عن الأحكام التي تتعلّق بالأُمة و بالمجتمع، فالمولى يطلب من المجتمع إقامة النظام و جهاد العدو، و تجهيز الميّت و القضاء بين الناس و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإذا كان المسئول هو المجتمع فيجب عليهم تنظيم الأُمور من خلال تقسيم الوظائف فيما بينهم.

و هذه النظرية قريبة من النظرية الأُولى، فانّ الأُولى تركّز على تعلّق الأحكام بذوات الأفراد، و أمّا هذه النظرية فهي تركِّز على تعلّق الأحكام بذات المجتمع و الأُمّة، و من الواضح انّ واقع الأُمّة بواقعية أفرادها، نعم في مقام تعلّق الأمر يظهر التغاير بين الموضوعين.

و مما يدلّ على إتقان تلك النظرية أنّ القرآن يخاطب الأُمّة مكان مخاطبة الأفراد و يقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).(1)

و في آية أُخرى تعدّ إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من وظائف الأُمّة المتمكنة لا الفرد المتمكن، و يقول: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ

ص:140


1- آل عمران: 110.

اَلْأُمُورِ ).(1)

فجعل إقامة الصلاة و ما تلاه في ذمّة الأُمّة المتمكّنة و هو روح الواجبات الكفائية.

هذا و قد بسط الكلام شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في تبيين هذه النظرية في موسوعته المسمّاة ب» مفاهيم القرآن «.(2)

النظرية الرابعة: تعلّق الوجوب بواحد معيّن

و حاصل هذه النظرية انّ التكليف منصبٌّ على واحد معيّن عند اللّه سبحانه، فإن قام هو بالفريضة و إلاّ يسقط عنه بفعل غيره، لأنّ المفروض انّ الغرض واحد، فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

يلاحظ عليه: أوّلاً: ما هو السبب لتعلّق التكليف بشخص معين عند اللّه دون إعلامه.

و ثانياً: انّه خلاف ظواهر الأدلّة فانّ التكليف إمّا متوجّه إلى عامّة المكلّفين استغراقاً، أو إلى الفرد غير المعيّن أو مجموع المكلّفين.

إكمال فيه أمران:

1. ربّما يظهر من المحقّق الخراساني عند البحث فيما إذا دار أمر الواجب بين العينية و الكفائية، كون الواجب الكفائي من قبيل الواجب المشروط،

حيث قال في وجه الحمل على كون الواجب واجباً عينياً بأنّ الحكمة تقتضي كونه مطلقاً

ص:141


1- الحج: 41.
2- مفاهيم القرآن: 2032/198.

سواء أتى به آخر أو لا.(1)

و مفاد ذلك انّ الواجب الكفائي مشروط بعدم إتيان الآخر به، بخلاف العيني، و هو كما ترى، لأنّ الترك إمّا شرط للوجوب أو شرط للواجب. فعلى الأوّل يلزم على الجميع وجوب القيام بالفعل، دفعة واحدة لحصول الشرط. و على الثاني يلزم عدم حصول الامتثال إذا أتى به الجميع لعدم الإتيان بالواجب مع شرطه.

و بما انّ هذه النظرية مستوحاة من عبارة الكفاية و لا نص عليها، فلم نردفها بسائر النظريات.

2. إذا قلنا بأنّ الواجب الكفائي ما له بدل فإذا قام أحد يسقط الحكم عن الأبدال الأُخر، فالمقصود البدل الذي يكون مثل الأبدال الأُخر في توجّه الوجوب إليه،

فخرج وجوب أداء الدين عن التعريف فانّه و إن كان يسقط بأداء البريء، لكنّه ليس بدلاً بهذا المعنى، إذ ليس الأداء عليه واجباً و إنّما هو متبرّع له أن يؤدي و له أن لا يؤدي.(2)

ثمرات البحث

ثمّ إنّه يقع الكلام في ثمرات الاختلاف في واقع الواجب الكفائي فنقول:

إنّ هناك ثمرات فقهية و كلامية على تلك النظريات، و إليك الفقهية ثم الكلامية.

1. لو نذر أحد أن يعطي عشرة رجال لكلّ درهماً إذا أتى كلّ واحد منهم بواجب، فلو قام الكلّ بالصلاة على الميّت و دفع الشخص لكلّ واحد درهماً، فهل

ص:142


1- الكفاية: 1/116
2- الفصول: 107.

برَّ نذره أو لا؟ يختلف حسب اختلاف الأنظار.

أمّا على الأوّل فقد امتثل نذره، لأنّ المفروض انّ الوجوب يتعلّق بآحاد المكلّفين فكلّ واحد من هذه العشرة كان مخاطباً بتجهيز الميّت و الصلاة عليه غاية الأمر لو سبق أحد منهم إلى الواجب لسقط عن الآخر، و أمّا إذا شارك الكلّ دفعة واحدة، أو كان التكثّر و التعدد مطلوباً فقد أتى كلّ بواجبه، فيكون إعطاء الدرهم إعطاءً لمن أتى بواجبه.

و يمكن أن يقال بصدق الطاعة و الامتثال على النظرية الثانية أيضاً لما عرفت من أنّ متعلّق التكليف هو الفرد الخارجي أو الفرد الذي يصدق عليه عنوان المكلّف، و المفروض انّ كلّ واحد من المصلّين مصداق للفرد، و ينطبق عليه عنوان المكلّف.

نعم على القول بأنّ المتعلّق هو المجموع فالوجوب تعلّق به لا بكلّ واحد من آحاد المكلّفين فليس هناك إلاّ امتثال واحد لا امتثالات.

و مثلها النظرية الرابعة فانّ التكليف تعلّق بفرد مشخّص عند اللّه فليس هناك إلاّ تكليف واحد و مكلّف معيّن و الباقي من العشرة غير مكلّفين.

و حصيلة البحث: انّه إذا دفع لكلّ واحد من المصلّين درهماً فقد أبرّ نذره على النظريتين الأُوليين دون الأُخريين.

2. جواز قصد الأمر لكلّ واحد من المكلّفين إذا كان المتعلّق قابلاً للتكرار و مطلوباً غير مبغوض كتحصيل علم الدين مع قيام عدّة معه بالتحصيل، فعلى النظريتين الأُوليين يصحّ لكلّ واحد قصد الأمر لما عرفت من أنّ النظرية الثانية تتحد نتيجة مع الأُولى و إن كانت تختلف عنها في كيفية التحليل.

و أمّا الثالثة فالأمر متوجّه إلى المجموع و ليس الفرد نفس المجموع، فكيف

ص:143

يتقرب بالأمر غير المتوجّه إليه؟ و مثلها النظرية الرابعة حيث إنّ المكلّف فرد معيّن عند اللّه، لا كلّ من بلغ و عقل.

3. إذا كان رجلان متيمّمين فوجدا ماءً لا يفي إلاّ بوضوء واحد منهما فهل يبطل تيمم كلّ منهما أو لا يبطل واحد منهما، أو يبطل واحد منهما على البدل؟ فاختار المحقّق النائيني) قدس سره (الوجه الأوّل، و ذلك لأنّ بطلان التيمّم مترتّب على وجدان الماء، المحقّق في ظرف القدرة على الحيازة، فيبطل التيمّمان معاً، و ليس بطلانه مترتباً على الأمر بالوضوء حتّى يقال بوجود التزاحم في تلك الناحية حيث إنّ الأمر بواحد منهما بالتوضّؤ يزاحم الأمر بالآخر.

و فصّل تلميذه الجليل في التعليقة بين صورة سبق أحدهما إلى الحيازة و عدمه، ففي الأُولى يبطل تيمم السابق فقط و يستكشف به عدم قدرة الآخر على الوضوء و بقائه على ما كان عليه من عدم وجدانه الماء، و أمّا الصورة الثانية فيبطل كلّ من التيمّمين لتحقّق ما ترتّب عليه بطلانه و هو وجدان الماء، فإذا تحقّق يترتّب عليه كلّ من الأمرين.(1)

و قال السيد الطباطبائي: إذا وجد جماعة متيمّمون ماءً مباحاً لا يكفي إلاّ لأحدهم بطل تيمّمهم أجمع إذا كان في سعة الوقت و إن كان في ضيقه بقى تيمّم الجميع.(2)

أقول: إنّ المتبادر من قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (3)هو الوجدان العرفي الملازم مع التمكّن من استعماله بلا نزاع، و على ذلك يختلف

ص:144


1- أجود التقريرات: 1/189.
2- العروة الوثقى: أحكام التيمم، المسألة 22.
3- المائدة: 6.

حكم الصور.

1. إذا تسابقوا عليه فسبق واحد منهم لحيازته بطل تيمّمه خاصّة، لأنّه وجد الماء عرفاً متمكّناً من استعماله بالانتزاع دون الآخرين فانّهم و إن وجدوا ماءً و لكن غير متمكّنين من استعماله.

2. تلك الصورة و لكن كان المسبوق قادراً على التغلّب فتسامح، ففي تعليقة السيد الحكيم بطل تيممه أيضاً، و الحقّ صحته لما عرفت من أنّ المراد هو التمكّن العرفي بلا مغالبة و مصارعة، و المفروض هنا عدمه.

3. إذا وجدا ماءً مع الانصراف عن الحيازة فهل يبطل تيمم الكلّ لتحقّق شرط البطلان في كلّ واحد لصدق وجدان الماء و التمكّن منه بلا نزاع، لأنّ المفروض انصرافهما عن حيازته؟

ص:145

الفصل الحادي عشر تقسيم الواجب إلى المطلق و المؤقّت و تقسيم المؤقت إلى الموسّع و المضيّق

اشارة

قُسِّم الواجب إلى المطلق و المؤقّت، و المطلق إلى فوري و غير فوري، و المؤقّت إلى موسّع و مضيّق، و إليك بيان كلا التقسيمين.

لا شكّ انّ الفعل لا ينفك عن زمان فالإنسان المادّي بما هو يعيش في عالم المادة لا يفارق فعلُه الزمانَ بل فعلُه يولِّد الزمان، و مع ذلك كلّه فنسبة الفعل إلى الزمان على قسمين:

أ. تارة لا يكون للزمان تأثير في وصف الفعل بالمصلحة أو المفسدة و إنّما يكون الزمان ظرفاً للفعل، و أُخرى يكون للزمان دور وراء كونه ظرفاً للفعل في وصف الفعل بالملاك، و يكون له مدخلية في تحقّق الغرض، و عندئذ ينقسم الواجب إلى مطلق مرسل من مدخلية الزمان فيه و موقّت قُيّد الفعل بالوقت و الزمان.

ثمّ إنّ المطلق أي الواجب الذي لا دور للزمان فيه، تارة يكون واجباً فوريّاً

ص:146

لا يجوز تأخيره كصلاة الآيات، و أُخرى يكون غير فوري كقضاء الفوائت الذي يجوز تأخيره.

كما أنّ المؤقت و هو الواجب الذي للزمان فيه دور، تارة يكون مضيّقاً كصوم رمضان و أُخرى موسّعاً كالصلوات اليومية بالنسبة إلى أوقاتها.

فعلى ذلك فالمؤقت على قسمين: تارة يكون الوقت بمقدار الفعل لا أوسع و لا أضيق كصوم رمضان، و أُخرى يكون الزمان أوسع من الفعل كالصلوات اليومية، و أمّا عكس الثاني فغير صحيح أي كون الفعل أكثر من الزمان، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق.

إذا عرفت تقسيم الواجب إلى المطلق و المؤقّت، و الأوّل إلى فوري و غير فوري، و الثاني إلى الموسّع و المضيّق، فلنذكر أُموراً لها صلة بالمقام:

1. إذا وجبت الصلاة بين الزوال و المغرب فللطبيعة أفراد عرضية كالصلاة في المسجد أو البيت، كما أنّ لها أفراداً طولية كالصلاة في الساعة الأُولى و الثانية و هكذا، فالتخيير بين تلك الأفراد تخيير عقلي لا شرعي فالعقل يخيّر بين هذه الأفراد في مقام الامتثال. نعم لو قال الشارع: صلِّ في المسجد أو في البيت أو في الوقت الأوّل أو في الوقت الثاني، يكون التخيير شرعيّاً كخصال الكفّارة، و المفروض انّه فرض الصلاة بين الحدين فقط.

2. إذا أخر المكلّفُ الواجبَ الموسّع حتّى ضاق الوقت فلا يخرج الواجب عن كونه موسّعاً و لا يدخل في المضيّق، نعم يكون مضيقاً بالعرض، و عدم تأخيره لكونه مفوِّتاً للواجب لا لكونه مضيَّقاً بالذات.

3. أشكل على الواجب الموسّع بأنّه ما يجوز تركه في بعض الأوقات، فكيف يكون واجباً و يجوز تركه؟

ص:147

يلاحظ عليه: بأنّ الواجب عبارة عمّا لا يجوز تركه بتاتاً، و الموسّع كذلك، و لا ينافيه تركه في بعض الأوقات.

4. عُرِّف الواجبُ المضيّق بأنّه عبارة عمّا يكون وقت الوجوب و الواجب) المكلّف به (واحداً مع أنّ مقتضى القاعدة أن يكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب و لو بلحظة، لأنّ الإتيان بالواجب انبعاث و هو معلول البعث و الوجوب فيجب أن يكون الوجوب متقدّماً على الانبعاث تقدّمَ العلّة على المعلول فيكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب الذي يعبّر عنه بوقت الانبعاث.

يلاحظ عليه: بأنّ تقدّم العلّة على المعلول ترتبيّ لا زماني كتقدّم حركة اليد على حركة المفتاح، و أقصى ما يمكن أن يقال انّه يجب تقدّم بيان الوجوب على زمان الواجب حتّى يتمكّن المكلّف من امتثاله، و أمّا تقدّم زمان الوجوب على الواجب فليس بلازم.

هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد؟

هذه مسألة أُصولية يعبّر عنها تارة بما ذكر، و أُخرى بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد.

و حاصله: انّه إذا مضى وقت الفعل هل الأمر الأوّل كاف في وجوب قضائه خارج الوقت أو يتوقّف على وجود أمر جديد و إلاّ فالأمر الأوّل قد سقط؟ قولان:

فمنهم من يقول بكفاية الأمر الأوّل في إيجاب القضاء، و منهم من يقول بلزوم أمر جديد متعلّق بالفعل خارج الوقت أيضاً.

و تحقيق المقام يتوقّف على البحث في مقامين:

الأوّل: في مقام الثبوت.

الثاني: في مقام الإثبات.

ص:148

أمّا الأوّل: فحاصله انّه لو قلنا بتعدّد المطلوب و أنّ إيجاد الفعل مطلوب و إيجاده في وقته مطلوب آخر فالقضاء بالأمر الأوّل، و أمّا لو قلنا بوحدة المطلوب و انّ هنا مطلوباً واحداً و هو إيجاد الفعل في وقته، فإيجاده خارج الوقت رهن أمر جديد.

و أمّا الثاني: أي البحث إثباتاً فهو فرع استظهار التعدد أو الوحدة من لسان الدليل، فالحقّ انّ الدليل قاصر عن إفادة تعدد المطلوب، فإذا أمر بالوقوف في عرفات من الزوال إلى الغروب فلو فات الموقف من المكلّف فإيجاب القضاء عليه بوقوفه فيها في خارج الوقت الذي يعبّر عنه بالوقوف الاضطراري يحتاج إلى الدليل، و ذلك لأنّ الأمر متعلّق بالمقيّد بالوقت، فالواجب هو الفعل المحدد بالوقت فلا دلالة للأمر على إيجاب الفعل المجرّد عن الوقت.

نعم استثنى المحقّق الخراساني ممّا ذكرنا مورداً خاصّاً بالشروط الثلاثة:

1. أن يكون لدليل الواجب إطلاق بالنسبة إلى خارج الوقت.

2. أن يكون التقييد منفصلاً لا متّصلاً.

3. أن لا يكون في الدليل المقيّد إطلاق حاك عن كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة) الركن (و انّ المولى يطلبه مطلقاً متمكناً كان أو عاجزاً غاية الأمر إذا عجز المكلّف منه سقط وجوب الباقي، فعندئذ يجب قضاء الفعل بنفس الأمر الأوّل، قال:

نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل و لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت و كان لدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت و كون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.(1)

ص:149


1- كفاية الأُصول: 1/230.

مثلاً إذا قال المولى: اغتسل من دون تحديد، ثمّ قال في دليل آخر: اغتسل يوم الجمعة، فلو افترضنا وجود الإطلاق في دليل الواجب و الإهمال في دليل القيد بالنسبة إلى خارج الوقت، فعندئذ يكون إطلاق دليل الواجب محكّماً خارج الوقت، فعليه الغسل بعد غروب الجمعة.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره خارج عن محل النزاع، فإنّ البحث فيما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي بالنسبة إلى تعدد المطلوب أو وحدته، و إلاّ فالمتبع هو الدليل الاجتهادي، و لو افترضنا كون البحث في نطاق وسيع، فعليه أن يطرح الصور الأربع في المقام:

أ. أن يكون لكلّ من دليلي الواجب و التوقيت إطلاق و المراد من وجود الإطلاق في دليل الواجب كونه بذاته مطلوباً، سواء أُتي به في الوقت أو خارجه، كما أنّ المراد من الإطلاق لدليل التوقيت كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة و انّه مطلوب في حالتي التمكن و عدمه.

ب. أن يكون كل من الدليلين مهملاً من هذه الناحية فلا يدلّ دليل الواجب على كون الفعل بذاته مطلوباً مع قطع النظر عن القيد كما لا يدلّ دليل التوقيت على مدخلية الوقت في أصل المصلحة و كونه مطلوباً في حالي التمكّن و عدمه.

ج. أن يكون لدليل الواجب إطلاق دون دليل التوقيت.

د. عكس الثالث.

أمّا الأوّل: فيؤخذ بإطلاق دليل التقييد لأظهريته من إطلاق دليل الواجب، و يكون المراد انّ الوقت دخيل في أصل المصلحة لا في كمالها.

كما أنّ المرجع في الثاني هو الأُصول العملية لفقدان الدليل الاجتهادي،

ص:150

و سيوافيك ما هو المرجع من الأُصول، و على الثالث يؤخذ بإطلاق دليل الواجب و يثبت تعدد المطلوب و يجب القضاء بنفس الأمر الأوّل.

و على الرابع يكون الأمر على العكس، إذ إطلاق القيد يثبت كون الوقت دخيلاً في تمام مراتب مصلحة الواجب لا في بعضها.

و بعبارة أُخرى يكون إطلاق المقيَّد بياناً للمطلق، فيؤخذ به لا بالمطلق فلا تتم مقدّمات الحكمة في جانب دليل الواجب.

و الظاهر انّ محط النزاع هو الثاني لا الأوّل و لا الأخيران.

الأصل العملي في المسألة

إذا كان دليل الواجب أو دليل التوقيت مهملاً بالنسبة إلى خارج الوقت فما هو المرجع عند الشكّ؟ فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المرجع هو أصالة البراءة و عدم وجوبها في خارج الوقت لا استصحاب وجوب المؤقت بعد انقضاء الوقت، و ذلك لعدم جريان الاستصحاب في المقام لعدم اتحاد القضيتين، و ذلك لأنّ الوقت إمّا قيد للموضوع) الغُسْل (أو للمحمول الوجوب، و على كلا الفرضين فإبقاء الحكم بعد خروج الوقت قضية أُخرى غير القضية المتيقنة.

نعم يستظهر من الروايات الواردة في المستحبّات المقيّدة انّ القيد ليس ركناً بل يأتي بالمستحب خارج الوقت أيضاً كما إذا ورد بزيارة الحسين تحت السماء إذا لم يتمكّن منه لعذر أو لغير عذر فيجوز له الزيارة في البيت و غيره.

ثمرات القولين:

تظهر الثمرة في موارد نذكر منها ما يلي:

ص:151

1. إذا ترك الواجب في وقته قطعاً، فهل يجب عليه القضاء أو لا؟ يجب على القول الثاني دون الأوّل، كما إذا لم يخرج الفطرة في وقتها المحدد، أو تساهل في صلاة الخسوف و الكسوف حتّى انجلى النيران، فهل يجب القضاء أو لا؟ 2. إذا أتى بالواجب و لكن شكّ في صحّة العمل لأجل الشكّ في الشرائط و عدمها على النحو التالي:

أ. إذا توضّأ في الظلمة بمائع مردد بين كونه ماء مطلقاً أو مضافاً فشكّ في صحّة العمل بعد خروج الوقت.

ب. إذا صلّى على جهة ثمّ شكّ بعد خروج الوقت انّها كانت إلى القبلة أو لا.

ج. إذا توضّأ أو اغتسل و الخاتم على اصبعه مع العلم بعدم تحريكه وقت العمل، فشكّ بعد خروج الوقت في جريان الماء تحته و عدمه.

توضيحه: انّه لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل كاف في إيجاب القضاء، فالعلم بالقضاء و إن لم يكن موجوداً في الصور الثلاثة، لكن على القول بهذا الأصل ينقلب الشكّ في المقام، إلى الشكّ في أصل الامتثال الذي يعبّر عنه بالشكّ في السقوط حيث بعد خروج الوقت يشكّ في أنّه هل امتثل ما علم اشتغال ذمته به، يقيناً أو لا، و بما انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، يحكم العقل بلزوم الاشتغال في حالة الشكّ.

و أمّا لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل غير كاف في إيجاب القضاء فلا يجب شيء خارج الوقت، لأنّه لو علم قطعاً بعدم الامتثال في الوقت فلا يجب القضاء عليه خارج الوقت، فكيف إذا شكّ في الامتثال؟ فعدم وجوب شيء بطريق أولى.

فإن قلت: المشهور عدم العبرة بالشكّ بعد خروج الوقت، فلما ذا لا يكون

ص:152

هو المرجع بعد خروجه في هذه الصور الثلاث؟ قلت: إنّ القاعدة المزبورة راجعة إلى الشكّ في أصل الإتيان، فلا يعتد به خارج الوقت، و أمّا المقام فالشكّ إنّما هو في صحّة العمل المأتي به لا في إتيانه.

فإن قلت: إنّ مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة العمل، و عليها، فالوضوء في الصورة الأُولى و الثالثة محكوم بالصحة، مثل الصلاة في الصورة الثانية.

قلت: سيوافيك في محلّه انّ القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة حتى لا يكون حال العمل و حال الشكّ سيّان من حيث التذكر و عدمه، و أمّا المقام فالحالتان متساويتان من حيث التذكر بشهادة انّه لو نبّهه إنسان حال العمل، و سأله عن إطلاق الماء و عدمه، أو جريان الماء تحت خاتمه و عدمه أو كون الجهة قبلة أو لا، لأجاب بالشك و عدم الترجيح بواحد من الطرفين، و مثله لا يكون مجرى للقاعدة، لأنّ المتيقّن منها ما يكون حال العمل أذكر من حال الشكّ كما في روايات الباب، فلاحظ.

ص:153

الفصل الثاني عشر الأمر بالأمر بفعل هل هو أمر بنفس الفعل؟

اشارة

إذا أمر المولى فرداً، ليأمر فرداً آخر بإنجاز فعل، فهل الأمر الصادر من المولى أمر بذلك الفعل أيضاً أو لا؟ و إليك بعض الأمثلة:

1. إذا أمر سبحانه نبيّه أن يأمر الأُمّة بغضِّ الأبصار عن النساء الأجنبيات و قال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )(1)، هل ينحصر أمره سبحانه في الأمر بالنبي فقط، أو يسري أمره إلى نفس الفعل، أعني: غضّ البصر؟ 2. إذا أُمر أولياءُ الصبيان بأمرهم بالصلاة، فهل يتلخص أمر الشارع في الأمر بالأولياء أو يسري إلى نفس الفعل أي الصلاة أيضاً، فعندئذ تصبح صلاتهم، شرعية؟ 3. إذا أمر الوالدُ، الولدَ الأكبر بأمر الولد الأصغر ببيع الدار، فهل يكون

ص:154


1- النور: 30

الأصغر مأموراً من جانب الوالد أيضاً، أو لا؟ فلو باع الدار قبل أمر الولد الأكبر يكون بيعه صحيحاً لازماً أو لا؟ و الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في مقام الثبوت

إنّ للمسألة صوراً ثلاث في عالم التصوّر:

الف: إذا تعلّق غرض المولى بإنجاز الفعل و كان أمر المأمور الأوّل طريقاً للوصول إليه، على نحو لو كان المأمور الثاني حاضراً لدى المولى، لأمره بالفعل مباشرة.

ب: إذا كانت المصلحة قائمة بمجرّد أمر المأمور الأوّل للثاني منهما من دون أن يكون إنجاز الفعل مورداً للغرض، مثلاً إذا كان المأمور الثاني معروفاً بالتمرّد عن طاعة المولى، فيأمر المولى أحد ملازميه بالأمر لغرض أن يقوم بفعل كذا، فيكون تمام المصلحة قائماً بالإنشاء. و أمر المأمور الأوّل الثاني.

ج. إذا تعلّق الغرض بنفس الفعل لكن بعد أمر المأمور الأوّل فيكون كلا الشيئين متعلّقين للغرض.

فعلى الأوّل، يكون الأمر بالأمر، أمراً بنفس الفعل، دون الصورتين الأخيرتين، و ذلك لأنّ الأمر الثاني إمّا تمام الموضوع كما في الصورة الثانية، أو جزءه كما في الصورة الثالثة، فلا يصحّ القيام بالفعل قبل ثبوت الموضوع كلّه أو جزؤه.

ثمرات المسألة

الثمرة الأُولى: إذا أمر الولي الصبي بالصلاة، فهل تكون الصلاة مأموراً بها للآمر الأوّل، أو ينحصر مفاد أمره بنفس الأمر بالثاني؟
اشارة

مثلاً ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه قال:» إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين،

ص:155

فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين «فالحديث يدلّ على أنّه سبحانه أمر الأولياء بأمر الصبيان بالصلاة في سنين خاصّة، فلو قلنا بأنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بنفس ذلك الشيء تقع صلاة الصبي متعلقاً بأمره سبحانه فتصبح صلاته و صومه، شرعية يُكتفى بصلاتهم و صيامهم عند النيابة عن الغير كما يجوز الاقتداء بهم، إلى غير ذلك من آثار الصحة، و هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّه ليس أمراً بالفعل، بل أمر بالأمر فقط، فلا يترتّب عليها آثار الصلاة الشرعية.

و الظاهر هو الأوّل فانّ المتبادر عرفاً في هذه المواضع انّ أمر المولى طريق إلى قيام الصبي بالصلاة، فلو قام بها من دون أمر الآمر الثاني لكان مثل ما إذا قام بعد أمره، و هذا يكشف عن عدم مدخلية أمره، فيكون أمره بالأمر أمراً بذلك الشيء.

كما أنّ أمر الإمام أولاده بالصلاة، طريقي لا موضوعي، فأولاد الإمام في خمس سنين، و أولاد غيره في سبع سنين مأمورون شرعاً، بأمر غير إلزامي لإتيان الصلاة.

و ربّما تردّ الثمرة بأنّه لا حاجة في إثبات شرعية عبادات الصبي، إلى هذه القاعدة المتمثلة في هذه الرواية لوجود روايات كثيرة في هذا المورد حيث حكم عليهم بالأمر بالعبادات المحمول على الاستحباب في سنين خاصة.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من إثبات المطلب من طريقين، أحدهما ما أُشير إليه في الروايات، و ثانيهما هذه القاعدة.

ص:156


1- الوسائل: 6، الباب 29 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 141.
إثبات شرعية عبادات الصبي بالعمومات

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على شرعيّة عبادات الصبي بالعمومات الواردة في الكتاب و السنة الشاملة للبالغ و الصبي، غاية الأمر انّ حديث الرفع) رفع القلم عن ثلاثة،... الصبي حتّى يحتلم (رفع الإلزام لا أصل الحكم و لا أصل المحبوبية، لانّه حديث امتنان و لا امتنان في رفع الحكم غير الإلزامي، فتكون عباداته شرعية.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

1. انّ القول بشمول الخطاب و العمومات لكلّ مميّز، سواء أ كان بالغاً شرعياً أم لا، خرق للسنّة السائدة بين الأُمم و العقلاء، فانّ مصبّ القوانين بين العقلاء في عامّة الحضارات هم البالغون لا غيرهم و إن كانوا مختلفين في حدّ البلوغ و لم يثبت انّ للشارع طريقة خاصّة تخالف طريقتهم.

و بعبارة أُخرى: انّ تعيين نصاب خاص لشمول القانون في المجتمعات الإنسانية بلا فرق بين الدينية و غيرها لقرينة على أنّ التشريع الإسلامي كسائر التشريعات، رهن الوصول إلى ذلك النصاب غير أنّ الشارع قد حدّد النصاب و لم يفوضه إلى العرف و العقلاء و لكنّه لا يكون مانعاً، عن انصراف العمومات و الخطابات إلى البالغ ذلك النصاب.

فإن قلت: إذا كان غير البالغ غير مشمول للحكم، فما معنى» رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم «، فانّ الرفع فرع الثبوت.

قلت: إنّ استعمال الرفع و إن لم يكن الحكم ثابتاً لأجل قابلية المميّز

ص:157


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/424، المسألة 2; حقائق الأُصول: 1/342.

للحكم عليه بشيء من الأحكام، نظير رفع الحكم عن النائم بل في المجنون أيضاً بإلزام الولي بمراقبته، فوجود المقتضي للإيجاب، صار مصحّحاً للاستعمال.

2. انّ المنشأ هو البعث نحو المطلوب و هو أمر بسيط دائر أمره بين الوجود و العدم و ليس أمراً مركباً من أصل الحكم و الإلزام حتى يرفع الثاني و يبقى الأول.

الثمرة الثانية الثمرة الثانية ما مرّ في صدر البحث

من أنّه لو أمر الوالد ولده الأكبر، بأمر الولد الأصغر، ببيع الدار، فاطّلع الولد الأصغر قبل أمر الأكبر فباعه، فلو قلنا بأنّ مثل هذا الأمر، أمر بنفس الفعل يكون البيع صحيحاً لازماً دون ما لم نقل فيكون بيعاً فضوليّاً.

ص:158

الفصل الثالث عشر الأمر بعد الأمر تأكيد أو تأسيس

إذا أمر المولى بشيء، ثمّ أمر به ثانياً، فهل هو تأكيد للأمر الأوّل، أو إيجاب ثان غير الإيجاب الأوّل و يعبّر عنه بالتأسيس؟ هنا صور:

1. إذا قيّد الأمر الثاني بشيء يدلّ على التعدد، كما إذا قال: صلّ، ثمّ قال: صلّ صلاة أُخرى.

2. إذا كان السبب للأوّل، غيره للثاني، كما إذا قال: إن ظاهرت فاعتق، و إن أفطرت عمداً فاعتق.

3. إذا كان أحد الأمرين خالياً عن ذكر السبب و الآخر محفوفاً بذكر السبب فقط كما إذا قال: توضّأ، ثمّ قال: إذا بُلت فتوضّأ.

4. إذا كان كلّ من الأمرين خالياً من ذكره.

لا إشكال انّ الأمر الثاني في الصورة الأُولى يحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب، و تعدد الواجب، لمكان قيد» أُخرى «، و أمّا الصورة الثانية فيحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب، و أمّا تعدد الواجب أي العتق و عدمه فهو مبني على ما سيأتي في باب المفاهيم من التداخل في المسببات أو لا، و انّه هل يمكن

ص:159

امتثال وجوبين، بفعل واحد أو لا؟ و أمّا الصورتان الباقيتان، فإطلاق المادة و عدم تقييدها بقيد» أُخرى «يقتضي الحمل على التأكيد، لامتناع تعلّق الوجوبين الكاشف عن الإرادتين، بشيء واحد، لأنّ تشخّص الإرادة في لوح النفس بالمراد فلا يعقل التعدد فيها مع وحدة المشخِّص، هذا حول المادة، و أمّا الهيئة فربما يقال بأنّها ظاهرة في التأسيس أي تعدد الوجوبين.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر بعد الأمر ظاهر في تعدد الطلب، و أمّا إنّه طلبُ تأسيس أو طلبُ تأكيد فلا ظهور له في واحد منهما، فيؤخذ بإطلاق المادة و انّ الموضوع هو نفس الوضوء الآبي عن تعلّق إرادتين به و تكون النتيجة هي التأكيد.

تمّ الكلام في المقصد الأوّل) الأوامر ( و حان البحث في المقصد الثاني) النواهي (

ص:160

المقصد الثاني في النواهي و فيه فصول:

اشارة

الفصل الأوّل: في مادة النهي و صيغته الفصل الثاني: في اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين الفصل الثالث: في كشف النهي عن الفساد و عدمه و فيه مقامان:

الأوّل: كشف النهي في باب العبادات، عن الفساد الثاني: كشف النهي في باب المعاملات عن الفساد

ص:161

ص:162

الفصل الأوّل في مادّة النهي و صيغته

اشارة

أسقط المحقق الخراساني البحث في مادّة النهي مع أنّها مثل مادة» الأمر «قابلة للبحث فيها من جهات شتّى على ضوء ما مرّ في مادة الأمر و خصَّ البحث بصيغة النهي التي تمثّلها لفظة» لا تفعل «مكان » افعل «في جانب الأمر، كما أسقط كثيراً من المباحث التي خاض فيها في صيغة الأمر نظير: دلالتها على الحرمة و عدمها، و اشتراط العلو أو الاستعلاء و عدمهما، و ظهورها في النفسي العيني التعييني و عدمه، و دلالتها على الفور و التراخي و عدمه، إلى غير ذلك من المباحث، و إنّما ركّز في المقام على الأُمور التالية:

1. انّ مفاد هيئة النهي هو الطلب.

2. انّ متعلّق الطلب، هو الترك لا الكف عن الفعل.

3. انّ النهي لا يدل على الدوام، غير أنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام جميع أفرادها.

4. إذا خالف النهي فهل يدلّ على إرادة ترك المتعلّق ثانياً أو لا؟ و إليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.

ص:163

الف: مفاد الهيئة

ادّعى المحقّق الخراساني بأنّ مفاد الهيئة في كلا الموردين هو الطلب، غير أنّه يتعلّق في الأمر بالوجود و في النهي بالعدم.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ادّعاء محض و المتبادر منهما غير الطلب، بل الهيئة في الأمر و النهي تدل على البعث أو الزجر، حيث إنّ الصيغة تقوم مكان البعث أو الزجر بالفعل، فانّ الإنسان يبعث غلامه بحركة الرأس و يزجره بالإشارة باليد، فقام الأمر بالصيغة، مكان البعث بالرأس، و النهي بالصيغة مكان الزجر باليد.

ب: متعلّق الطلب

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المتعلّق في الأوّل هو الوجود و في الثاني هو العدم.

لكنّه خلاف التحقيق، لأنّ الصيغة مركّبة من هيئة و مادة، و المادة لا تدلّ إلاّ على نفس الطبيعة، فأين الدال على الوجود و العدم؟ نعم البعث أو الزجر، لغاية الإيجاد، أو الاستمرار على الترك و كون شيء غاية شيء، غيرُ كونه مأخوذاً فيه و بذلك يسقط البحث عن كون المتعلّق هو الترك أو كف النفس، و ما حولهما من النقض و الإبرام.

ج: عدم دلالتها على الدوام

ذكر المحقّق الخراساني بأنّ الصيغة لا تدلّ على الدوام و التكرار، غير أنّ إيجاد الطبيعة يتحقّق بوجود فرد واحد، و عدمها لا يكون إلاّ بعدم الافراد.

ما ذكره) قدس سره (و نسبه إلى أنّه مقتضى العقل، منظور فيه، بل مقتضى العقل انّ

ص:164

الإيجاد و الإعدام على نسق واحد، لما حُقِّق في محلّه من أنّ الطبيعة تتكثّر حسب تكثّر الأفراد فزيد إنسان تام، و بكر إنسان آخر، و كلّ حائز تمام الإنسانية، و نسبة الطبيعة إلى الافراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا الأب الواحد بالنسبة إليهم، فإذا كانت الطبيعة متعددة الوجود حسب تعدد الأفراد، تكون متعددة العدم كذلك.

نعم ما ذكره صحيح عرفاً، فلا تكون الطبيعة معدومة عنده إلاّ بانعدام جميع الأفراد، فلو نهى عن السرقة و شرب الخمر و الغيبة، فلا يصدق ترك الطبيعة إلاّ بترك جميع أفرادها و ذلك لمناسبات مغروسة في ذهن المكلّف من أنّ النهي عن الشيء لغاية المفسدة الملزمة في كلّ فرد، فلا يتحقّق الغرض الغائي الاجتناب عن المفسدة إلاّ بترك جميع الأفراد.

د. إذا خالف النهي

إذا خالف النهي، فهل يدل على لزوم تركه ثانياً أو لا؟ و الظاهر عدم الدلالة لسقوط النهي بالعصيان، و لزوم امتثاله ثانياً يتوقف على الدليل، بل إطلاق المتعلّق يدل على العدم، و إلاّ لكان على المولى أن يقيّد و يقول: و إن عصيت فلا تفعل أيضاً.

ص:165

الفصل الثاني في اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد باعتبار عنوانين

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: الفرق بين الاجتماع الآمري و الاجتماع المأموري

إنّ الأمر و النهي من المفاهيم ذات الإضافة، فللأمر إضافة إلى الآمر، و إضافة إلى المأمور به، و إضافة إلى المأمور، كما أنّ النهي له إضافة إلى الناهي أوّلاً، و إلى المنهيّ عنه ثانياً و إلى المنهيّ ثالثاً، فعندئذ فهنا صور ثلاث:

1. لو اتّحد الآمر و المأمور، و الناهي و المنهي في زمان واحد، و كان بين المأمور به و المنهي عنه، من النسب التساوي كأن يقول: أخرج من البيت في ساعة خاصّة و لا تخرج منه في نفس الساعة، يسمّى الاجتماع آمريّاً، فإنّ الآمر هو السبب لاجتماع الأمر و النهي في شيء واحد في زمان واحد، و يكون من قبيل التكليف المحال، إذ لا ينقدح في ذهن الإنسان، في زمان واحد إرادتان متضادتان طلبُ الخروج و عدمُه فهذا النوع من الطلب تكليف محال من شخص واحد في زمان واحد بدل كونه تكليفاً بالمحال حيث إنّ عدم إمكان امتثاله يرجع إلى عدم

ص:166

القابلية في ناحية المكلّف به قبل أن يرجع إلى قصور قدرة المكلّف، حيث لا يمكن الجمع بين الوجود و العدم.

نعم لو رجع عدم إمكان الامتثال إلى قصور قدرة المكلّف، مع كون المكلّف به في نفسه أمراً ممكناً كما إذا قال: انقذ الغريقين مع عدم قدرته إلاّ على إنقاذ أحدهما، يكون من قبيل التكليف بالمحال، و إن كان مرجع ذلك عند الدقّة أيضاً إلى التكليف المحال، لانّ المكلِّف إذا وقف على قصور قدرة المكلَّف كيف ينقدح في ذهنه إرادة إنقاذ الغريقين؟ لكن القضية شكلاً و صورة من قبيل التكليف بالمحال، و حقيقة و مآلاً من قبيل التكليف المحال.

2. تلك الصورة و لكن كانت النسبة بين المأمور به و المنهي عنه، هي التباين كما إذا أمر بالصلاة و نهى عن النظر إلى الأجنبية، فهذا من الإمكان بمكان و لا يعدّ من باب الاجتماع حتّى لو نظر إليها حين الصلاة، لا توصف الصلاة به، لأنّ النظر قائم بالعين و الصلاة قائمة بسائر الجوارح.

3. نفس الصورة الأُولى و لكن كانت النسبة بين المأمور به و المنهي عنه، عموماً و خصوصاً من وجه، كما إذا أمر بالصلاة و نهى عن الغصب، فيقع الكلام في أنّه هل يصحّ للمولى أن يأمر بالأُولى على الإطلاق و ينهى عن الغصب كذلك أو لا يصح؟ اختلف الأُصوليون على قولين:

1. يجوز، لانّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فيخرج عن كونه تكليفاً محالاً، كما هو واضح، أو تكليفاً بالمحال، لأنّ له المندوحة في إقامة الصلاة في غير المغصوب.

2. لا يجوز، لأنّ مفاد الإطلاق في الدليلين عبارة: صل و لو في الدار المغصوبة، و لا تغصب و لو في حال الصلاة، و لو أخذنا بكلا الإطلاقين يكون

ص:167

الشيء الواحد الصلاة في الدار المغصوبة متعلّقاً للأمر و النهي و يكون من قبيل الاجتماع الأمري.

فقد ظهر ممّا ذكر انّ محل النزاع هو الصورة الثالثة، و انّ أساس النزاع بين المجوّز و المانع هو كفاية اختلاف المتعلّقين في توجّه الأمر و النهي، و عدم كفايته، لأنّ مرجع الأخذ بالإطلاقين إلى الاجتماع الأمري و كون الشيء الواحد في مورد الاجتماع متعلّقاً للأمر و النهي فلاحظ.

الثاني: هل النزاع صغروي أو كبرويّ؟

هل النزاع في المسألة صغروي كما ذهب إليه صاحب الكفاية أو كبرويّ كما هو اللائح من الكتب الأُصولية حيث يبحثون عن جواز الاجتماع و عدمه و لكلّ من القولين، وجه.

أمّا كونه صغروياً فمن اعتمد كالمحقّق الخراساني في إقامة الدليل على الجواز و عدمه، على أنّ تعدد العنوان كالصلاة و الغصب يوجب تعدد المعنون كالحركة في الدار المغصوبة أو لا يوجب، جعل النزاع صغروياً و انّه هل هنا اجتماع أو لا؟ و ذلك لأنّه لو قلنا بأنّ تعدّد العنوان، لا يحدث تعدّداً في المعنون، يلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، و لو قلنا: إنّ تعدّده يحدث تعدّداً في المعنون، و انّ كلاً من الصلاة و الغصب موجود بوجود خاص لا يلزم اجتماعهما في شيء واحد.

و يقرب من ذلك نظرية المحقّق النائيني حيث إنّه بنى الجواز و عدمه في المسألة على أنّ تركيب المادة و الصورة، أو تركيب المقولات بعضها مع بعض، تركيب انضمامي أو اتّحادي، فعلى الأوّل يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فلا

ص:168

يلزم الاجتماع، و على الثاني تلزم وحدة متعلّقهما فيلزم الاجتماع.

و بالجملة من بنى الجواز و عدمه على قضية» تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، أو لا «أو انّ تركيب المقولات بعضها مع بعض تركيب انضمامي أو اتّحادي، فقد جعل النزاع صغروياً، فالمجوز ينفي الاجتماع، و المانع يثبته.

لكن جعل النزاع صغروياً، يلازم القول بأنّ الأوامر و النواهي تتعلّق بالأفراد الخارجية، مع أنّ المعروف بينهم حتّى المحقّق الخراساني انّها تتعلّق بالطبائع دون الافراد إذا فسّرت الأفراد، بالمصاديق الخارجية، و ذلك لأنّ الخارج ظرف لسقوط الأمر لا ثبوته، و لا محيص عن القول بكون النزاع كبرويّاً و انّ مصب النزاع عبارة عن الأمر التالي:

هل يجوز الأمر بشيء، و النهي عن شيء آخر، مع تصادقهما على مورد واحد، أو لا؟ فالقائل بالجواز يقول: إنّ متعلّق الأمر هو حيثية الصلاتية، و متعلّق النهي هو الحيثية الغصبية، فالمتعلّقان مختلفان، و تصادقهما على مورد لا يكون مانعاً عن حفظ الأمر و النهي المتعلّقين بشيئين مختلفين فيجوز اجتماع الأمر و النهي في المقام.

و القائل بالامتناع يقول: إنّ متعلّق الأمر و النهي و إن كان مختلفاً حقيقة، لكن حفظ إطلاق الدليلين، يستلزم وحدة متعلّق الأمر و النهي في النهاية، و ذلك لأنّ مقتضى إطلاق» اقم الصلاة «هو وجوب إقامة الصلاة في عامّة الأماكن حتّى المكان المغصوب، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله:» لا تغصب «هو تحريمه مطلقاً حتّى في الحالة الصلاتية، فلو صلّى في مكان مغصوب يلزم أن يكون العنوان الكلي) الصلاة في الدار المغصوبة (متعلّقاً للأمر و النهي بحكم حفظ الإطلاقين، فيرجع الاجتماع المأموري إلى الاجتماع الأمري لاتّحاد الآمر و الناهي، و المأمور و المنهي، و المأمور به و المنهي عنه فلا يجوز هذا النوع من الأمر و النهي.

ص:169

الثالث: ما هو المراد من الواحد في العنوان؟

العنوان المعروف للمسألة هو قوله: هل يجوز اجتماع الأمر و النهي في واحد أو لا؟ فقد وقع الكلام في تعيين المراد من» الواحد «في التعريف.

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المراد هو الأعم من الواحد الشخصي و النوعي و الجنسي و قال: المراد منه مطلق ما كان ذا وجهين و مندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر، و بالآخر مورداً للنهي فيعم الواحد الشخصي الذي له عنوانان كالصلاة في الدار المغصوبة، و الواحد النوعي مثل عنوان» الصلاة في المغصوب «و الواحد الجنسي كالحركة المعنونة بالصلاتية و الغصبية و أضاف فخرج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر و النهي و لكن لم يجتمعا وجوداً و لو اجتمعا مفهوماً كالسجود للّه و السجود للصنم.

يلاحظ عليه: أنّ لازم ذلك إرادة معنيين من لفظ الواحد، فتارة أُريد به مطلق الواحد، ليشمل الواحد الشخصي و النوعي و الجنسي، و أُخرى أُريد به الواحد الشخصي فقط ليخرج السجود للّه و السجود للصنم، حيث لا يجتمعان وجوداً في مصداق واحد.

و الأولى أن يقال: انّ المراد من الواحد هو الواحد الشخصي فقط، و يرجع النزاع إلى أنّ اجتماع العنوانين في واحد شخصي و تصادقهما عليه، هل يمنع من الأخذ بالإطلاقين في الأمر و النهي معاً فيكون الحقّ مع الامتناعي، فعندئذ لا محيص من الأخذ بأحد الإطلاقين، إمّا الأمر بالصلاة، أو النهي عن الغصب ففي مورد الصلاة في الدار المغصوبة، إمّا أمر و لا نهي، أو نهي و لا أمر أو لا يمنع فيكون الحقّ مع الاجتماعي.

ص:170

الرابع: ما هو الفرق بين المسألتين؟
اشارة

اختلفت كلمتهم في بيان الفرق بين هذه المسألة، و ما سيوافيك من البحث في دلالة النهي عن العبادات و المعاملات، على الفساد و عدمها، ففي بيان ما هو الفارق أقوال:

1. التمييز بالغرض

انّ الجهة المبحوث عنها في المسألتين هي التي تميّز إحدى المسألتين عن الأُخرى، فانّ الجهة المبحوث عنها في المقام عبارة عن كون تعدد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا، فعلى القول بالتعدّد ترتفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد، لاستقرار كلّ حكم على موضوعه من دون سراية أحد الحكمين إلى موضوع الحكم الآخر، و على القول بعدم التعدّد، يتحد متعلّق كلّ من الأمر و النهي، فيسري كلّ حكم إلى متعلّق الحكم الآخر، فيعود البحث إلى السراية و عدمها تلو القول بأنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ هذه من الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة، بخلاف الجهة المبحوث عنها في الأُخرى فانّها بعد تسليم توجّه النهي إلى العبادة يقع الكلام في كون النهي موجباً للفساد أو لا، فجهة البحث في الأُولى غيرها في الثانية.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تعدد الغرض يحكي عن وجود اختلاف جوهري بين المسألتين، إذ لا معنى لترتّب أثرين مختلفين على المسألتين مع عدم اختلافهما في الذات و الجوهر، و على ذلك فيحصل التمايز الجوهري قبل الغرض و الأثر.

و ثانياً: أنّ ما ذكره مبني على كون البحث في المسألة صغروياً و إنّ تعدّد

ص:171

العنوان هل يوجب تعدّد المعنون، حتّى يكون متعلّق الأمر غيره في النهي أو لا؟ فيكون مرجع البحث إلى أنّه هل هنا اجتماع أو لا؟ و لكنّك عرفت أنّ البحث في المقام كبروي و انّ البحث إنّما هو في جواز الأمر بشيء و النهي عن شيء آخر، متصادقين على مصداق واحد و عدمه، و مرجع البحث إلى جواز الاجتماع و عدمه بعد تسليم أصل الاجتماع في مصداق واحد لا أصل الاجتماع و عدمه.

2. التمييز بالموضوع

ذهب صاحب الفصول إلى أنّ المسألتين تتميّزان بالموضوع ذكره عند البحث عن دلالة النهي المتعلّق بالعبادة، على الفساد أو لا و حاصل ما ذكره هو انّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو فيما إذا تعلّق الأمر و النهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة، سواء أ كان بينهما عموم و خصوص من وجه كما إذا قال:

صلّ و لا تغصب، أو عموم و خصوص مطلق كما إذا قال: أكرم الناطق، و لا تكرم الشاعر، و على كلّ تقدير، فالموضوعان متغايران مفهوماً، و أمّا النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد و عدمه، ففيما إذا كان الموضوعان متّحدين حقيقة مختلفين بالإطلاق و التقييد، كما إذا قال: صلّ، و لا تصلّ في الحمام.

يلاحظ عليه: بأنّه لو انحصر وجه التمايز بين المسألتين بالتمايز في الموضوع لتوجّه إليه، ما أورده المحقّق الخراساني عليه، و حاصله: انّه لو كانت الجهة المبحوث عنها متعددة فلا بدّ من عقد مسألتين و إن كان موضوعهما واحداً، و إن كانت الجهة المبحوث عنها واحدة فلا بدّ من عقد مسألة واحدة و إن كان الموضوع متعدّداً، فلا دور لوحدة الموضوع و تعدّده.

ص:172

3. التمييز بالموضوع و المحمول

إنّ المسألتين تتميّزان موضوعاً و محمولاً، أمّا الأوّل فقد عرفته في كلام صاحب الفصول، و أما الثاني فلأنّ المحمول في المقام جواز الاجتماع و عدمه، و في مسألة النهي عن العبادة، هو دلالة النهي على الفساد و عدمه، و مع الاختلاف الجوهري بين المسألتين في جانب الموضوع و المحمول، لا وجه اشتراك بينهما حتّى يُسأل عن جهة افتراقهما.

نعم لو قلنا في المقام بالامتناع و انّه لا بدّ من حفظ أحد الحكمين فقدّمنا النهي على الأمر، يكون المورد من صغريات المسألة الآتية في دلالة النهي على الفساد وضعاً أو لا.

4. التمييز بكون البحث عقلياً

الفرق بين المسألتين هو انّ ملاك البحث في المقام عقلي حيث يبحث في جواز الاجتماع و عدمه عقلاً، و في المسألة الآتية لفظي حيث يبحث في دلالة النهي على الفساد لفظاً.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ البحث هناك لا يختصّ باللفظ، بل يعمّ ما إذا كان الدالّ عليه، هو الدليل اللّبي كالعقل و الإجماع، انّ مثل هذا الاختلاف لا يصير سبباً لتعدّدها، لأنّ اختلاف طريق إثباتها لا يجعل المسألة الواحدة، مسألتين.

الأمر الخامس: المسألة أُصولية
اشارة

اختلفت كلمة علماء الأُصول في حقيقة هذه المسألة إلى أقوال:

ص:173

1. مسألة أُصولية، 2. مسألة كلامية، 3. من مبادئ الأحكام، 4. مسألة فقهية، 5. من المبادئ التصديقية.

و إليك تبيين هذه الأقوال مع نقدها.

1. المسألة أُصولية

المشهور انّ هذه المسألة مسألة أُصولية لوجود ملاكها فيها و هو صحّة وقوع نتيجتها كبرى للاستنباط، فانّها على القول بجواز الاجتماع يُستنبط منها صحّة الصلاة، كما أنّها كذلك على القول بالامتناع مع تقديم جانب الأمر، و أمّا على القول بالامتناع و تقديم جانب النهي فيترتّب عليه الفساد.

هذا و لو قلنا بأنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه، فالمسألة أُصولية أيضاً لما عرفت من أنّ البحث عن العوارض التحليلية بحث عن عوارض الموضوع، و المراد من العوارض التحليلية هو تعيّنات الموضوع و تشخّصاته.

فانّ الفقيه عالم بوجود الحجّة بينه و بين ربّه و لكن لا يعلمها على وجه التحديد، فالبحث في علم الأُصول بحث عن تعيّن الحجّة بخبر الواحد و نظائره، و مثله المقام فالكلام في تشخيص ما هو الحجّة عند اجتماع الأمر و النهي فهل هناك حجّتان أو حجّة واحدة؟ و على الثاني فهل هي الأمر بالصلاة أو النهي عن الغصب؟

الإشكال على كون المسألة أُصولية

و قد أورد المحقّق النائيني على كون المسألة أُصولية بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على مجرّد القول بالامتناع، بل القول بالامتناع يوجب دخول دليلي الوجوب

ص:174

و الحرمة في باب التعارض و إجراء أحكام التعارض عليهما. و يستنبط من ذلك حكم فرعي.(1)

توضيحه: انّ القول بالامتناع لا يكفي في إثبات فساد العبادة، بل يتوقّف على أمر آخر و هو إعمال المرجّحات بتقديم جانب النهي على الأمر، فعند ذلك تفسد العبادة أخذاً بأحد الدليلين و رفض الآخر، فظهر انّ فساد العبادة ليس نتيجة مباشرة للقول بالامتناع، بل لا بدّ بعد القول به من إعمال قواعد التعارض و تقديم جانب النهي على جانب الأمر.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ كون المسألة أُصولية ليس رهن ترتّب الأثر على كلتا الصورتين: الإثبات و النفي، بشهادة انّ حجّية خبر الواحد مسألة أُصولية يترتّب الأثر على واحد من طرفي القضية و هو كونه حجّة دون عدمها. و على ذلك فيكفي في عدّ المسألة أُصولية ترتّب أثر الصحة على القول بالاجتماع و إن لم يكن على القول بالامتناع أثر شرعي حسب افتراضه.

و ثانياً: لا يشترط في كون المسألة أُصولية أن تكون المسألة سبباً تامّاً لاستنباط الحكم الشرعي، بل ربّما يتوقّف استنباط الحكم الشرعي على ضم مسألة أُخرى إلى المسألة الأُولى حتّى يستنبط منها الحكم الشرعي و ذلك كحجّية خبر الواحد التي لا يستنبط منها الحكم الشرعي ما لم تنضم إليها مسألة أُخرى باسم حجّية الظواهر.

و على ذلك فلا مانع من جعل المسألة أُصولية و ان توقّف ترتّب الأثر على القول بالامتناع على إعمال قواعد التعارض.

و ثالثاً: أنّ المتبادر من كلام المحقّق النائيني انّ المسألة من باب التزاحم على

ص:175


1- أجود التقريرات: 1/334; فوائد الأُصول: 1/399.

القول بالاجتماع، و من باب التعارض على القول بالامتناع، و لكنّه رأي شاذ فإنّ الظاهر من الأُصوليين انّه على القول بالاجتماع لا تزاحم و لا تعارض، و أمّا على القول بالامتناع فهناك تزاحم لا تعارض، و لأجل ذلك يجب أن يلجأ الامتناعي إلى إعمال مرجّحات باب التزاحم لا التعارض، و سيوافيك شرحه عند البحث عن الأمر الثامن للمحقّق الخراساني.

2. مسألة كلامية

إنّ المسألة كلامية، لأنّ الأمر و النهي من الأُمور الواقعية، فالبحث هو عن جواز اجتماعهما و امتناعه.

و أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ علم الكلام هو العلم المتكفّل لبيان حقائق الأشياء من واجباتها و ممكناتها و ممتنعاتها، و ليس البحث في المقام عن جواز الاجتماع و امتناعه، بل البحث عن وجود الاجتماع و عدمه.(1)

و لا يخفى ضعف الاستدلال و الإشكال.

أمّا الأوّل: فلأنّ علم الكلام، هو العلم الباحث عن ذاته سبحانه، و صفاته و أفعاله، حتّى أنّ البحث عن النبوّات العامّة و الخاصّة و الإمامة و المعاد، بحث عن أفعاله سبحانه، و انّه هل يجب عليه بعث الأنبياء، أو نصب الإمام أو احياء المكلّفين للجزاء أو لا؟ و أمّا البحث عن الجواز و الامتناع كما في كلام المستدل، أو البحث عن حقائق الأشياء من واجباتها و ممكناتها و ممتنعاتها كما في كلام المستشكل فلا صلة لهما بعلم الكلام.

و لو أردنا جعلها في عداد المسائل الكلامية لوجب تغيير عنوان المسألة بأن

ص:176


1- فوائد الأُصول: 1/399.

نقول: هل يجوز على اللّه أن يأمر بعنوان و ينهى عن عنوان آخر، متصادقين في أمر واحد أو لا؟ و لكن الملاك في عدّ المسألة من مسائل علم ما، هو العنوان الموجود في الكتب لا المحرّف منه.

3. من مبادئ الأحكام

و ربّما يظهر من بعض الأُصوليين انّها من مبادئ الأحكام حيث يبحث فيها عن أحوال الأحكام الخمسة و أوصافها، فيبحث عن إمكان اجتماع الوجوب و الحرمة في شيء واحد أو لا، و انّه هل هناك مطاردة بين الوجوب و الحرمة أو لا؟ و أورد عليه المحقّق الخوئي: بأنّ مبادئ الأحكام راجعة إلى المبادئ التصوّرية أو المبادئ التصديقية، و ذلك لأنّه إن أُريد تصوّر نفس الأحكام كالوجوب و الحرمة و نحوهما فهو من المبادئ التصورية) لعلم الفقه (، لأنّه لا يعني من المبادئ التصورية إلاّ تصوّر الموضوع و المحمول) و هنا الأخير (.

و إن أُريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه، و علم الأُصول كلّه مبادئ تصديقية لعلم الفقه، و بفضل هذه المسألة نجزم بحكم الصلاة في الدار المغصوبة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ مبادئ الأحكام من مصطلحات القدماء في خصوص علم الفقه، و المراد منها لا هذا و لا ذاك، بل شيء ثالث و هو البحث عن ماهية الأحكام الخمسة و ملازماتها كالبحث في أنّ الوجوب و الاستحباب بسيطان أو مركبان، و البحث عن اقتضاء وجوب شيء وجوبَ مقدمته، أو حرمته حرمتَها، و في المقام يعود البحث إلى استلزام وجوب الشيء عدمَ حرمته أو بالعكس فيما إذا

ص:177


1- المحاضرات: 1794/178.

تصادق العنوانان في مورد واحد، فالبحث كلّه يرجع إلى الأحكام الخمسة بصور مختلفة، فلو كان علم الفقه باحثاً عن عوارض فعل المكلّف التي هي الأحكام الخمسة فالمبادئ الأحكامية تبحث عن حالات تلك العوارض التي تعرض فعل المكلّف.

نعم يلاحظ على صاحب النظرية انّ الملاك في جعل المسألة من باب هو عنوانها المعروف في الكتب، و ليس هو إلاّ جواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، دون مطاردة الوجوب الحرمة أو بالعكس، فانّ البحث على هذا العنوان يوجب تغيير عنوان المسألة المعروفة من الكتب.

4. مسألة فقهية

و جعل بعضهم مسألة جواز الاجتماع أو الامتناع من المسائل الفقهية قائلاً بأنّ البحث يرجع إلى صحّة الصلاة و فسادها عند الإتيان بها في المكان المغصوب.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره نتيجة المسألة و ليس أصلها، و المحمول في المسألة جواز الاجتماع و عدمه لا صحّة الصلاة و فسادها.

على أنّ نتيجة البحث لا تختص بباب الصلاة، بل تعم الحجّ و الاعتكاف و غيرها.

5. من المبادئ التصديقية

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المسألة من المبادئ التصديقية، و قد ذهب إليه عند ما ردّ على أُصولية المسألة قائلاً: بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على القول

ص:178

بالامتناع مباشرة، بل يجب أن ينضم إلى القول بالامتناع شيء آخر و هو فرض المورد من باب التعارض و إجراء أحكامه على العبادة، و يستنبط من الجميع حكم فرعي. و المسألة الأُصولية عبارة عمّا يستنبط بها حكم فرعي من دون حاجة إلى ضم نتيجتها إلى قاعدة أُخرى.

فإذن ليس للمسألة دور، إلاّ أنّ القول بالامتناع يحقّق موضوعاً للتعارض، كما أنّ القول بالاجتماع يحقق موضوعاً للتزاحم، و من المعلوم أنّ البحث عن أحكام التعارض و التزاحم مسألة أُصولية، لكن البحث عن وجود التعارض أو التزاحم بحث عن المبادئ التصديقية.(1)

فالإنصاف انّ البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية لرجوع البحث فيه إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض و التزاحم.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ تسمية هذه المسألة بالمبادئ التصديقية تسمية خاطئة، فانّها عبارة عن المقدّمات التي يتوقّف عليها الجزم بالنسب الموجودة في مسائل العلم، كشعر امرئ القيس في علم النحو حيث يثبت به القواعد النحوية، أو البراهين التي يتوقّف عليها إثبات النسبة في المسألة الهندسية ككون زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين.

فإذا كان هذا هو المراد من المبادئ التصديقية فليست هذه المسألة سبباً للإذعان بالنسب في المسائل الأُصولية، بل هي من المبادئ التصوّرية لإثبات وجود موضوع المسائل و هو انّ المقام على الاجتماع حسب فرضه من باب

ص:179


1- أجود التقريرات: 3341/333.
2- فوائد الأُصول: 1/400.

التزاحم، فعلى الفقيه أن يجري فيه قواعد التزاحم، و على الامتناع من باب التعارض فعليه أن يجري مرجّحات التعارض.

و بالجملة: فالتزاحم و التعارض من موضوعات المسائل الأُصولية حيث إنّ كل واحد منها موضوع لأحكام خاصّة فللتزاحم حكم و للتعارض حكم آخر.

فنتيجة البحث في المقام تنتهي إلى إثبات التزاحم أو التعارض في المقام و هما من موضوعات المسائل الأُصولية التي لهما من الأحكام و المرجّحات، و إثبات موضوع المسائل، يعد من المبادئ التصوّرية للعلم لا التصديقية.

و ثانياً: الظاهر أنّ القول بالاجتماع يخرج المسألة عن إطار التزاحم و التّعارض، و أمّا القول بالامتناع في المقام فيدخل المسألة في باب التزاحم لا التعارض، لأنّ المتزاحمين عبارة عمّا إذا كان مورد كلّ دليل مشتملاً على مصلحة ملزمة و المقام كذلك حيث نعلم بوجود المصلحة الملزمة في جانب الفعل أي الصلاة و وجود المفسدة الملزمة للترك لأجل الغصب، غير أنّ المكلّف بسوء الاختيار صار عاجزاً عن الجمع بين المصلحتين فأشبه بما إذا لم يتمكّن من إنقاذ الغريقين.

السادس: في عموم النزاع لأقسام الأمر و النهي

هل النزاع يختص بالايجاب و التحريم النفسيّين، العينيّين، التعيينيّين، أو يعم الغيريّين و الكفائيّين و التخييريّين؟ ذهب صاحب الفصول إلى الأوّل، و المحقّق الخراساني إلى الثاني.

لا شكّ انّ كلاً من مادّة الأمر و النهي، إذا أطلقت تنصرف إلى ما هو الشائع، أي النفسي العيني و التعييني، كما أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة في صيغة الأمر هو كذلك، لأنّ غيرها في مقام الإثبات يحتاج إلى بيان زائد، بخلافها، و قد مرّ

ص:180

توضيح ذلك في المقصد الأوّل عند البحث في دوران الصيغة بين هذه الاحتمالات.

إنّما الكلام في أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر و النهي، هل يختصّ بما إذا كان الإيجاب و التحريم نفسيين أو عينيين أو تعيينيين، أو يعمّها و مقابلاتها؟ الظاهر هو العموم، لوجود ملاك البحث في عامّة الأقسام، فالقائل بالامتناع يستدلّ بتضاد الوجوب و الحرمة تارة، و تضاد مبادئهما من الإرادة و الكراهة ثانياً، و إنّ تعدد العنوان، لا يوجب تعدد المعنون ثالثاً، و هذا النوع من الاستدلال جار في عامّة أقسام الأمر و النهي، كما أنّ القائل بالاجتماع يستدلّ بأنّ متعلّق الأمر و النهي متغايران و التصادق في مورد لا يضر بتعدّد المتعلّق في مقام الإنشاء، و الفعلية، من غير فرق بين أقسام الأمر و النهي، و لإيضاح الحال نأتي بمثالين:

1. إذا أمر المولى بالصلاة و الصوم تخييراً، و نهى عن التصرّف في الدار و مجالسة الأشرار كذلك، فالامتثال في جانب الأمر يحصل بإتيان واحدة منهما لكن المخالفة في جانب النهي تتوقف على مخالفتهما معاً، و على ذلك لو صلّى في نفس الدار مع مجالسة الأشرار، يقع الكلام في صحّة الصلاة و الحال هذه و عدمها.

نعم لو صلّى فيها مع عدم مجالستهم، أو صلّى في غيرها مع مجالستهم، أو صام فيها بلا مجالسة، أو صام مع المجالسة لكن في غيرها، فقد أتى بالواجب دون الحرام، لما عرفت من أنّ الحرام هو الجمع لا الواحد منهما.

2. إذا أمر بالوضوء أو الغسل أو التيمم للصلاة و نهى عن التصرّف في دار معيّنة، فتوضأ أو اغتسل أو تيمّم فيها يقع الكلام فيه كما في غيرها و الأمر بها غيري و لكن النهي نفسي.

ص:181

السابع: في لزوم أخذ عنوان المندوحة في النزاع و عدمه

هل يلزم أخذ عنوان المندوحة في عنوان النزاع أو لا يلزم؟ فيه أقوال:

1. عدم اعتباره في صحّة النزاع.

2. اعتباره فيه كما عليه صاحب الفصول.(1)

3. التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يعتبر، و كبروياً فيعتبر.

4. التفصيل بين كون الابتلاء بسوء الاختيار فلا يعتبر، و ما إذا حصل بدونه فيعتبر، وعليه المحقّق القمي في قوانينه.(2)

و الحقّ هو الأوّل: على القول بكون النزاع صغروياً، إذ لا دور لوجود المندوحة في أساس القولين، و هو انّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أو لا؟ كما في تعبير المحقّق الخراساني، أو تركيب المقولات تركيب اتحادي أو انضمامي، كما في تعبير المحقّق النائيني.

و بعبارة أُخرى: هل الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية لأجل انّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لأجل تركيب المقولات، انضمامياً لا اتحادياً، أو لا؟ بناء على أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، أو تركيب المقولات، تركيب اتحاديّ، و الجزم بأحد الطرفين لا يتوقف على وجود المندوحة و عدمه في المورد، فسواء أ كان المكان منحصراً بالمغصوب أو متعدداً، فالعقل إمّا يحكم بالوحدة أو التعدد.

نعم فعلية النهي تتوقّف على وجود المندوحة حتى لا يلزم الأمر بالمحال، سواء أ كان هناك أمر أو لا، إذ لا يصلح النهي جداً عن المغصوب حتى يتمكّن

ص:182


1- الفصول: 126.
2- قوانين الأُصول: 541/53.

الإنسان من تركه فالمحبوس في مكان مغصوب، مأمور بالصلاة، و ليس منهيّاً عن الغصب فعلاً و إن كان منهيّاً عنه إنشاء.

و بعبارة أُخرى: انّ صاحب الفصول خلط بين مقام التكليف المحال، و التكليف بالمحال، فلو كان متعلّق الأمر نفس متعلّق النهي، يكون التكليف محالاً سواء أ كان هناك مندوحة أم لا، لاستحالة انقداح الإرادة و الكراهة في النفس مع وحدة المتعلّق.

و لو تجاوزنا عن ذلك المحذور و قلنا بتعدّد المتعلّق و كان التكليف ممكناً، يأتي الكلام في كون المكلّف به ممكناً، و عندئذ يشترط وجود المندوحة، و إلاّ فالتكليف و إن كان ممكناً، لكن المكلّف به يكون أمراً محالاً، لافتراض انحصار المكان بالمغصوب، و بذلك يظهر صحّة قول المحقّق الخراساني و ضعف قول صاحب الفصول.

و أمّا الثالث: أي التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يشترط وجود المندوحة، و ذلك لما في كلام المحقّق الخراساني من أنّ ملاك النزاع، و صحته لا يتوقّف على وجود المندوحة، لأنّ البحث يرجع إلى أمر تكويني و بحث فلسفي فانحصار المكان في المغصوب و عدمه، لا يؤثر فيه.

و هذا بخلاف ما إذا كان البحث كبرويّاً فانّ تجويز اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد، باعتبار انطباق عنوانين عليه فرع وجود المندوحة و التمكّن من إقامة الصلاة في غير المكان المغصوب، و إلاّ فلو كان مضطرّاً فلا محيص من سقوط أحد الحكمين، إمّا وجوب الصلاة أو حرمة الغصب، فالتحفّظ على فعلية الحكمين يستدعي وجود المندوحة و السعة.

يلاحظ عليه: أنّ لزوم وجود المندوحة ليس من آثار اجتماع الحكمين

ص:183

الفعليين في مورد واحد، بل من آثار نفس النهي، سواء أ كان هناك اجتماع أم لا، إذ التكليف مطلقاً مجرّداً أو مقروناً بآخر يطلب لنفسه الاستطاعة و القدرة كسائر الشرائط العامّة، و مع عدمها، يصبح التكليف تكليفاً بالمحال.

و أمّا القول الرابع: الذي هو قول المحقّق القمي فسيوافيك الكلام فيه في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة.

الثامن: صحّة النزاع على كلا الرأيين في متعلّق الأحكام
اشارة

قد مرّ في المقصد الأوّل أنّ في متعلّق الأوامر و النواهي قولين:

1. تعلّقها بالطبائع و المفاهيم المجردة عن كلّ قيد.

2. تعلّقها بالافراد.

و عندئذ يطرح السؤال التالي: النزاع في جواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، هل يطرح على كلا القولين أو لا؟ و الجواب: هنا آراء و أقوال:

1. النزاع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و أمّا على القول بتعلّقها بالأفراد فلا مجال للبحث بل يتعيّن الامتناع.

2. انّ القول بالجواز مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع، و القول بالامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

3. جريان النزاع على كلا الرأيين، و هذا مذهب المحقّق الخراساني، فلا القول بتعلّقها بالطبائع يلازم القول بالجواز، و لا القول بتعلّقها بالأفراد يلازم القول بالامتناع.

أمّا الأوّل: فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فالامتناع هو

ص:184

المتعيّن حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و ذلك لأنّ الطبيعتين و إن كانتا متغايرتين مفهوماً لكنّهما متحدتان وجوداً و خارجاً، فيلزم أن يكون الشيء الواحد متعلقاً بحكمين متضادين.

و أمّا الثاني: فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، فالجواز لا غبار عليه، حتى على القول بتعلّقها بالأفراد، و ذلك لأنّ الحكمين و إن تعلّقا بالفرد الخارجي لكنّه لمّا كان معنوناً بعنوانين يكون فرداً لكلّ من الطبيعتين، و مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد، و يكون بما انّه فرد لهذا العنوان متعلّقاً للوجوب، و بما انّه مصداق لعنوان آخر متعلّقاً للنهي، فهو على وحدته وجوداً يكون اثنين لكونه مصداقاً للطبيعتين.(1)

يلاحظ على القولين الأوّلين: أنّهما مبنيّان على تفسير الفرد في متعلّق الأحكام، بالفرد المنطقي و هو الجزئي الخارجي، و عندئذ يصحّ القولان بأنّ النزاع في الجواز و الامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع، و أمّا على القول بتعلّقها بالفرد، فالقول بالامتناع متعيّن، أو انّ الجواز مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و الامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

و لكنّك خبير أنّ الفرد بهذا المعنى، لا يعقل أن يكون متعلّقاً للحكم، لأنّه قبل الوجود لا يوصف بالفرديّة، و بعده فهو ظرف سقوط الحكم بالطاعة أو بالمعصية، بل المراد من الفرد في متعلّق الأحكام هو الفرد الأُصولي، و المراد، هو الطبيعة مع ملازماتها و مقارناتها، و المراد من الملازمات هو ما لا يفارقها كالتأيّن بأين، و التحيّن بالزّمان و غير ذلك، كما أنّ المراد من المقارنات ما يصاحبها تارة و يفارقها أُخرى، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة، و يعبّر عن ملازمات الطبيعة

ص:185


1- الكفاية: 2411/240.

و مقارناتها، بالمشخّصات الفرديّة، فلو قلنا بتعلّق الأحكام بها، فبما انّها كلي كالطبائع فالواجب الأين الكلّي و الزمان الكلّي، و هكذا فيتأتى النزاع على كلا الرأيين، لأنّ الفرد بهذا المعنى كالطبيعة في الكلية و الشمول و صحّة تعلّق الأمر به.

بيان للمحقّق النائيني حول التفصيل

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قام بأمرين:

الف: فسّر الفرد، على النحو الذي فسّرناه، و فرّق بين الفرد في مصطلح المنطقيين، و الفرد في مصطلح الأُصوليين.

ب: قبل التفصيل الثاني و انّ جواز الاجتماع مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و الامتناع على القول بالافراد.

أمّا الأوّل: فقال: إنّ النزاع في أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة، هل يتعلّق بمشخّصاتها الخارجية أو انّها من لوازم الوجود و خارجة عن حيّز الأمر؟ أمّا الثاني: فقال: فإذا بنينا على تعلّق الأمر بالمشخّصات سواء أ كان الأمر بها استقلالياً أم تبعياً، و كانت نسبة كلّ من المأمور به، و المنهي عنه إلى الآخر نسبة المشخّصات، فلا محالة يكون كلّ منهما محكوماً بحكم الآخر، فيلزم منه اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد، و أمّا إذا بنينا على خروج المشخّصات عن حيّز الطلب فلا يسري الأمر إلى متعلّق النهي، و لا النهي إلى متعلّق الأمر، فيكون القول بالجواز و الامتناع مبنيّاً على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد بالضرورة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يتمّ لو أُريد من المشخّصات الفرديّة ما يعمّ

ص:186


1- أجود التقريرات: 3451/344.

الملازمات و المقارنات الاتفاقية كالغصبية بالنسبة إلى الصلاة، و أمّا لو خصصناه، بخصوص الملازمات، أي ما لا ينفك وجود الطبيعة عنها، كالزمان و المكان، لا ما يصاحبه تارة و يفارقه أُخرى، فلا تلزم وحدة المتعلّق، لأنّ النهي تعلّق بالغصب، لا الغصب المصاحَب بالصلاة اتفاقاً، و هكذا الأمر تعلق بالصلاة، لا الصلاة المقارنة بالغصب.

و الذي يسهل الخطب هو أنّ المشخّصات الفردية غير داخلة في متعلّق الأوامر، لأنّ المولى الحكيم لا يأخذ من متعلّق الحكم إلاّ ما هو دخيل في غرضه، و الدخيل فيه، هو نفس الطبيعة، لا ملازماتها و لا مقارناتها على نحو لو أمكن إيجادها مجرّداً عنها، يعد ممتثلاً.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ ذكر لتعلّق الحكم بالفرد صوراً صحح النزاع في بعضها دون بعض، و بما أنّ المبنى غير تام، فلا يهمّنا بيان الصور المختلفة له.

التاسع: الفرق بين التعارض و التزاحم
اشارة

إنّ كلمتي التزاحم و التعارض من الكلمات الدائرة على ألسنة الأُصوليين، حيث يستعملون التزاحم في هذا المقام) باب اجتماع الأمر و النهي (و التعارض في باب» التعادل و الترجيح «، فإذاً يقع الكلام فيما هو الفرق بينهما.

و الذي يزيد غموضاً في المقام هو أنّ الأُصوليّين فيما إذا كان بين الدليلين عموم و خصوص من وجه تارة يطرحونه في هذا المقام نظير صلّ و لا تغصب، و أُخرى يعقدون له مبحثاً في باب التعادل و الترجيح نظير: أكرم العالم و لا تكرم الفاسق. حيث يتعارض الدليلان في العالم الفاسق، و عندئذ يقع الكلام فيما هو الفرق بين المقامين و كيف تكون مسألة واحدة من مسائل هذا الباب و الباب الآخر

ص:187

الذي بينهما من البعد بعد المشرقين؟ فنقول:

إنّ المحقّق الخراساني بصدد الإجابة عن هذين السؤالين:

1. ما الفرق بين التزاحم و التعارض؟ 2. ما الفرق بين المثالين؟ و حاصل ما ذكره: انّه لو كان في كلّ من موردي الدليلين مناط الحكم و ملاكه فهو من باب التزاحم، و أمّا إذا كان المناط موجوداً في و احد منهما، أو احتملنا انّ كلاً منهما فاقد للملاك، فهو من باب التعارض، هذا هو الذي تبنّاه و عقد لبيانه فصلين باسم التاسع و العاشر، و كأنّ الأوّل بصدد بيان الموضوع و أقسامه، و الثاني في بيان ما يحرر به وجود المناطين و عدمه.

و إليك توضيح ما ذكره في الأمر الثامن برُمّته كي يتّضح للقارئ ما رامه صاحب الكفاية، و أمّا التاسع فنضرب عنه صفحاً لما سيوافيك وجهه، فنقول:

جعل المحقّق الخراساني الكلام في مقامين:

الأوّل: مقام الثبوت، و المراد منه ملاحظة الموضوع مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به.

الثاني: مقام الإثبات، و المراد منه ملاحظة الموضوع بعد تعلّق الحكم به.

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر فيه صوراً ثلاثاً:

الأُولى: إذا كان الملاك موجوداً في مورد التّصادق منهما، و قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي، يكون المورد محكوماً بحكمين فعليّين، فالصلاة في الدار المغصوبة و الغصب بما انّهما واجدان للملاك فالاجتماعي يقول إنّه يكون محكوماً بحكمين بلا تريّث.

ص:188

الثانية: تلك الصورة أي يكون مورد التصادق واجداً للملاكين و لكن لا نقول بجواز الاجتماع بل امتناعه، فعندئذ يكون مورد التّصادق من باب التزاحم(1) و يؤخذ بمرجّحات بابه فيكون مورد التّصادق محكوماً بأقوى المناطين، و لو لم يكن هناك مناط أقوى يرجع إلى حكم آخر غير الحكمين.

الثالثة: ما إذا لم يكن في مورد التّصادق ملاك، فيخرج من هذا الباب و يدخل في باب التّعارض الذي يبحث عنه في المقصد الثامن من المقاصد الثمانية، فعندئذ يؤخذ بالحكم الذي له مناط دون ما ليس له مناط.

و أمّا ما هو طريق كشف وجود المناط في حكم دون حكم؟ فهو ما سيوافيك في مقام الإثبات، و حاصله: انّ مرجّحات باب التّعادل و التراجيح طريق إلى وجود الإحراز في المرجّح دون المرجح عليه.

كما أنّه يحتمل أن يكون المورد فاقداً للملاك مطلقاً، و عندئذ يطرحان و يرجعان إلى حكم آخر، و لا تأثير في هذا المقام للقول بالجواز و الامتناع لما عرفت من أنّ القولين من فروع القول بوجود الملاك في مورد التصادق و المفروض عدم اشتمال مورده على المناط.

هذا كلّه بيان الأحكام حسب الثبوت، و إليك أحكامها حسب الإثبات.

ما هو المختار حسب الإثبات؟

قد عرفت أنّ صور البحث في مقام الثبوت ثلاثة، و عندئذ يقع الكلام في بيان ما هو المختار على الإثبات أي بعد تعلّق الحكم بالموضوعين؟ فنقول:

ص:189


1- و العجب انّ الشيخ الأنصاري، جعل هذه الصورة من صغريات التعارض. لاحظ مطارح الأنظار: 124.

إنّ المحقّق الخراساني قدَّم حكم الصورة الثالثة أوّلاً، و حذف بيان حكم الصورة الأُولى، و اقتصر على بيان حكم الصورة الثانية، و نحن نشرح الجميع لكن على ضوء الكفاية بتقديم ما قدّمه فنقول:

الصورة الثالثة: عبارة عمّا إذا كان مورد الدليلين خالياً من الملاكين، فيرجع إلى دليل آخر، و أمّا إذا كان واحد منها خالياً عنه، فعندئذ يؤخذ بما فيه المناط، و طريق التعرّف عليه هو الرجوع إلى المرجّحات الواردة في باب التعادل و الترجيح، فيؤخذ بما هو المشهور أوّلاً، ثمّ الموافق للكتاب ثانياً، و مخالف العامّة ثالثاً، و هذا النوع من البحث يرجع إلى باب التّعادل و الترجيح.

و أمّا الصورة الأُولى: التي أحجم المحقّق الخراساني عن بيانها فنقول: إذا كان مورد التصادق واجداً لكلا الملاكين و قلنا بجواز الاجتماع و انّ كلّ حكم ثابت على متعلّقه من غير تجاوز عن موضوعه إلى موضوع آخر فلا كلام فيه، و هذا هو الذي يتبنّاه الاجتماعي و يرى الساحة خالية عن التزاحم فضلاً عن التعارض، و بما انّ المحقّق الخراساني لم يقل بجواز الاجتماع أسقط بيان حكم هذه الصورة.

الصورة الثانية: ما إذا كان مورد التصادق واجداً للملاكين و لكن قلنا بامتناع الاجتماع، فالقائل لا محيص له إلاّ الأخذ بأقوى المناطين فانّه إذا كان هناك تزاحم بين المقتضيين يؤخذ بالأقوى مناطاً من غير فرق بين هذا الباب و سائر الأبواب حتّى إذا كان أقوى المناط مروياً بسند غير قوي يقدم على ما هو أضعف مناطاً و إن روي بسند قوي، فلو ورد إنقاذ النبي بخبر الواحد و إنقاذ الولي بخبر أقوى منه، فبما انّ إنقاذ النبي أقوى مناطاً يؤخذ به و إن كان السند غير قوي.

هذا ما أفاده في الكفاية، ثمّ إنّه) قدس سره (أشار بالجملة التالية إلى صورة رابعة تعد من شقوق مقام الإثبات و من فروع القول بعدم جواز الاجتماع حيث قال:

ص:190

نعم لو كان كلّ منها متكفلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض فلا بد من ملاحظة مرجّحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة.(1)

توضيحه: انّه إذا كان في مورد التصادق كلا المناطين يؤخذ بأقواهما و لكن فيما إذا لم يدل دليل خارجي على فعلية كلا الحكمين، بل كان المورد قابلاً لحمل أحدهما على الفعلي و الآخر على الاقتضائي، و أمّا لو دلت القرينة على فعلية كلا الحكمين مع القول بامتناع الاجتماع فلا محالة يكون المقام مزيجاً من التزاحم و التعارض.

أمّا التزاحم فلما عرفت من وجود الملاكين، و أمّا التعارض فلما عرفت من شهادة القرائن على فعلية الحكمين فعندئذ لا مناص في هذه المرحلة من إعمال مرجحات باب التعارض.

هذا إيضاح ما أفاده في الثامن.

يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بأُمور:

الأوّل: انّ ما ذكره في أوّل الفصل من أنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلاّ إذا كان في كلّ واحد من متعلّق الإيجاب و التحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق و الاجتماع شيء لا مدخلية له في حقيقة البحث و إن كان له مدخلية في ترتب الأثر فانّ البحث في المقام يدور على أنّ تعدد العنوان موجب لتعدّد المعنون أو لا، و هذا لا يتوقف على وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التصادق و عدمه.

نعم ترتّب الثمرة و القول بصحّة الصلاة على الاجتماع رهن وجود المناط في

ص:191


1- الكفاية: 1/242.

الموردين، كما أنّ الحكم بصحّتها على القول بالامتناع و تقديم الأمر على النهي رهن وجود الملاك فيها، و هذا هو الذي أشار إليه السيد المحقّق البروجردي، فقال: إنّ صاحب الكفاية خلط بين الإمكان و الامتناع كبروياً و بين ثمرة النزاع في الفقه فالقائل بالجواز يقول: إنّ اجتماع الأمر و النهي في واحد ذي جهتين ممكن و القائل بالامتناع ينكره.

نعم تظهر الثمرة في الشرعيات في مورد يكون ملاك الحكم متحقّقاً في صور الاجتماع و هو أمر آخر وراء محل النزاع.(1)

الثاني: انّ الفرق بين التزاحم و التعارض ليس وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التزاحم و عدمه لهما في مورد التعارض، بل الملاك هو ما سبق ذكره في مبحث الترتّب، و هو انّه إذا كان التكاذب بين الدليلين في مقام الجعل و التشريع فهو من باب التعارض كما إذا قال: ثمن العذرة سحت، لا بأس ببيع العذرة، فلا يمكن جعل حكمين متضادين لموضوع واحد و هو ثمن العذرة.

و أمّا إذا كان بين الدليلين في مقام التشريع كمال الملاءمة و لكن طرأ التزاحم في مقام الامتثال و هذا كقول القائل: انقذ النبي و أنقذ الإمام، فلا نرى أي تكاذب بين الدليلين، و لو كان هناك شيء من التدافع فإنّما هو لضيق قدرة المكلّف و بُعْد الغريقين مكاناً، و إلاّ فلو كان الغريقان متقاربين أو كانت قدرة المكلّف أوسع فلا تزاحم.

الثالث: و هو ان عدّ قولنا: صلّ و لا تغصب من هذا الباب و قول القائل: أكرم العالم و لا تكرم الفاسق من قبيل المتعارضين ليس لأجل وجود الملاك فيما يسمى بالتزاحم، و عدمه فيما يسمّى بالتعارض، و إنّما يعد العرف المورد الثاني من

ص:192


1- لمحات الأُصول: 217.

التعارض دون الأوّل، و ذلك لأنّ كلاً من الدليلين في الأوّل غير ناظر إلى صورة الاجتماع، بل الأمر تعلّق بطبيعة الصلاة و النهي تعلّق بطبيعة الغصب، فلا يعد الدليلان عند العرف متعارضين، لعدم الإشارة فيها إلى صورة التصادق و لو إجمالاً بخلاف الدليلين الآخرين، أي أكرم كل فاسق و أكرم كلّ عالم، أو قوله: أكرم العالم و أكرم الفاسق، فإنّ في كلّ من لفظتي:» كل «و» اللام «إشارة إلى المصاديق الخارجية التي منها اجتماع الفسق و العلم في مورد واحد.

و إلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده سيدنا الأُستاذ في درسه الشريف حيث يقول: إنّ الميز بين البابين لبس بما ذكر، إذ الميزان في عد الدليلين متعارضين هو كونهما كذلك في نظر العرف، و لذا لو كان بينهما جمع عرفي خرج من موضوعه فالجمع و التعارض كلاهما عرفيان، و هذا بخلاف المقام فانّ التعارض فيه إنّما هو من جهة العقل، إذ العرف مهما أدق النظر و بالغ في ذلك لا يرى بين قولنا: صلّ و لا تغصب تعارضاً، لأنّ الحكم على عنوانين غير مرتبط أحدهما بالآخر، كما أنّ الجمع أيضاً عقلي مثل تعارضه، وعليه فكلّ ما عدّه العرف متعارضاً مع آخر و إن أحرزنا المناط فيهما فهو داخل في باب التعارض و لا بدّ فيه من إعمال قواعده من الجمع و الترجيح و الترك، كما أنّ ما لم يعده متعارضاً مع آخر و آنس بينهما توفيقاً و إن عدهما العقل متعارضين فهو من باب الاجتماع و إن لم يحرز المناط فيها.(1)

ثمّ إنّ الشيخ المحقّق المظفر أتى بهذه المقالة التي ذكرها السيد الأُستاذ ببيان مشروح، و إليك ما ذكره، فإنّه) قدس سره (عد ما جعل الملاك بين التزاحم و التعارض هو ما ذكرناه من وجود التكاذب في مقام التشريع في الثاني دون الأوّل، قال:

إنّ العنوان المأخوذ في الحكم على قسمين:

ص:193


1- تهذيب الأُصول: 1/383.

الأوّل: إذا أخذ العنوان في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميزات، يكون في حكم المتعرض لحكم كلّ فرد من أفراده فيكون نافياً بالدلالة الالتزامية لحكم مناف لحكمه.

الثاني: أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد، أي لم تلحظ فيه الكثرات و المميزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة و لا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأُخرى، فيكون المطلوب في الأمر و النهي عنه صرف وجود الطبيعة.

فإن كان العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل، فإنّ موضع الالتقاء يكون العام حجّة فيه كسائر الأفراد الأُخرى بمعنى أن يكون متعرضاً بالدلالة الالتزامية لنفي أي حكم آخر مناف لحكم العام بالنسبة إلى الأفراد و خصوصيات المصاديق.

و في هذه الصورة لا بدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر و النهي في مقام الجعل و التشريع، لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزامية في كلّ منها على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.

و إن كان العنوان مأخوذاً على النحو الثاني فهو مورد التزاحم أو مسألة الاجتماع و لا يقع تعارض بين الدليلين حينئذ ذلك مثل» صلّ «و قوله:» لا تغصب «باعتبار انّه لم يلحظ في كلّ من خطاب الأمر و النهي الكثرات و المميزات على وجه يسع العنوان و جميع الأفراد، و إن كان نفس العنوان في حدّ ذاته و إطلاقه شاملاً لجميع الأفراد، فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة للصلاة و امتثاله يكون بفعل أي فرد من الأفراد فلم يكن ظاهراً في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم

ص:194

آخر في هذا المورد ليكون نافياً لحرمة الغصب في المورد.

و كذلك النهي يكون متعلّقاً بصدق طبيعة الغصب فلم يكن ظاهراً في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافياً لوجوب الصلاة.(1)

و في الختام نقول: إنّ المحقّق النائيني جعل الفرقَ بين البابين، هو انّ اجتماع المتعلّقين في باب الاجتماع صلّ و لا تغصب يكون على وجه الانضمام، و في باب التعارض أكرم العالم و لا تكرم الفاسق يكون على وجه الاتحاد، و قد عرفت أنّ مسألة اجتماع الأمر و النهي لا تندرج في صغرى التعارض لكون التركيب فيها انضمامياً.(2)

يلاحظ عليه: أنّه إن رجع ما ذكره إلى ما ذكرناه فنعم الوفاق و إلاّ فالتفريق بما ذكره ليس أمراً واضحاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سوف يرجع إلى المسألة في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة بعد الفراغ عن مسألة امتناع الاجتماع فلاحظ.(3) و كان عليه أن يقتصر بما أفاده في المقام.

العاشر: في ثمرات القولين

ذكر المحقّق الخراساني في المقام صوراً خمساً حسب القولين، و إليك الإشارة إلى عناوينها:

1. إذا قلنا بجواز الاجتماع.

ص:195


1- أُصول الفقه، الطبعة المنقحة: 329 330.
2- فوائد الأُصول: 1/428.
3- كفاية الأُصول: 1/273.

2. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر.

3. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي و الالتفات إلى الحرمة.

4. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي، مع الجهل بالحرمة تقصيراً و نسيانها كذلك.

5. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي مع الجهل بالحرمة جهلاً عن قصور.

فنذكر هذه الصور و بيان أحكامها من حيث صحّة العمل و بطلانه عبادياً كان أو توصلياً.

الصورة الأُولى: إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي فلا شكّ في صحّة العمل التوصلي، و هكذا العمل العبادي، لأنّه يأتي بالمجمع بداعي الأمر و إن كان عمله معصية أيضاً، لأنّ الاعتبار إنّما هو بالأمر غير الساقط، و إلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله:» لا إشكال في سقوط الأمر و حصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز قطعاً و لو في العبادات و إن كان معصية للنهي أيضاً «.

و هذه الثمرة هي الثمرة المعروفة للمسألة اعتمد عليها الأُصوليون من سالف الأيام و كانت النتيجة صحة العبادة على القول بالاجتماع و بطلانها على القول بالامتناع.

غير أنّ كلاً من العلمين: المحقّق البروجردي، و المحقّق النائيني قدّس اللّه سرّهما أشكلا على صحّة الصلاة، بل مطلق العبادة على القول بجواز الاجتماع، لكن كل ببيان خاص.

أمّا الأوّل فقال بأنّ العمل غير قابل للتقرب، و متعلّق كلّ من الأمر و النهي و إن كان متغايراً لكنّهما موجودين بوجود واحد، فهو موجود غير محبوب، بل

ص:196

مبغوض فكيف يتقرب إلى المولى بأمر مبغوض؟! و بعبارة أُخرى: انّ المكلّف بعمله هذا متمرد على المولى و خارج عن رسم العبودية و زيّ الرقيّة، فكيف يتقرب إلى ساحته سبحانه، بما يعدُّ مبعِّداً و لا يكون مقرِّباً؟! يلاحظ عليه: أنّه إذا كان القرب و البعد، أمراً عقلائياً، و كان العمل مزيجاً بالمحبوب و المبغوض، فلا مانع من أن يتقرّب بحيثية دون الأُخرى، نظير ما إذا أطعم اليتيم بمال حلال في دار مغصوبة، فيعدّ لأجل الترحم عليه متقرباً، و إن كان لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذن عاصياً، غير متقرّب.

و الذي يرشدك إلى وجود الفرق بين العملين: انّه لو غصب دار المولى، و أكرم فيها ابنه، و ما لو غصبها و ضرب فيها ابنه، فلا شكّ انّ بين العملين بعد المشرقين، و هذا آية إمكان التقرب، بعمل متحد مع العمل المبغوض.

و أمّا الثاني فحاصل ما أفاده انّ الصلاة في الدار المغصوبة ليس مصداقاً للمكلّف به، كما أنّه ليس واجداً للملاك.

أمّا الأوّل فلأنّ منشأ اعتبار القدرة نفس التكليف لا حكم العقل، لأنّ الأمر هو جعل داع للمكلّف نحو المكلف به و لا يصح جعله داعياً إلاّ إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف، فيكون متعلّق التكليف هو الحصة المقدورة عقلاً، غير الممنوعة شرعاً، فتخرج الحصة المحرمة تحت الأمر، و على ضوء ذلك فالصلاة لما كانت ملازمة للمحرم فلا تكون مصداقاً للأمر و لا تكون مأموراً بها، و لا يمكن الحكم بالصحة لأجل الأمر.

و أمّا عدم تصحيحها بالملاك، فلأنّه إنّما يصحّ التقرب به إذا لم يكن ملازماً بالقبح الفاعلي و إلاّ فلا يكون صالحاً للتقرب، و الصلاة و الغصب و إن كانا غير

ص:197

متحدين إلاّ انّهما موجودان بإيجاد واحد، فلا محالة يكون موجِدهما مرتكباً للقبيح بنفس الإيجاد و يستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقرّباً.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ المعروف بين المتكلّمين هو انّ الحاكم باشتراط التكليف بالأُمور العامّة من العقل و القدرة و العلم، هو العقل دون ذات التكليف، و ما ذكره من» أنّ منشأ اعتباره القدرة نفس التكليف، و ذلك لأنّ الأمر جعل داع للمكلّف نحو العمل، و لا يصحّ جعله داعياً إلاّ إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف «، عبارة أُخرى عن حكم العقل بذلك، و إلاّ فلو غضّ النظر عن حاكمية العقل، فأيّ دليل يمنع عن كون الأمر داعياً إلى الأعم ممّا هو واقع في إطار قدرة المكلّف و ما هو خارج عنه؟ و بذلك يعلم أنّ متعلّق الأمر هو مطلق الطبيعة، لا الطبيعة المقدورة، غير الممنوعة، فيكون الفرد المحظور مصداقاً لها، غير خارج عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لازم ذلك هو الخروج عن محلّ البحث، فانّ المفروض اجتماع الأمر و النهي، و تصادقهما على المصداق الخارجي، و تخصيص المورد بالنهي فقط خلف الفرض.

و ثانياً: انّ ما ذكره من كون المجمع فاقداً للملاك بحجّة أنّ موجد الصلاة و الغصب مرتكب للقبح بنفس هذا الإيجاد،» و يستحيل أن يكون العمل الصادر منه مقرِّباً «مبنيّ على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل، و هو بعدُ غير ثابت، لأنّ الصلاة في الدار المغصوبة نفسها في البيت، و كون الفاعل مرتكباً للقبيح مقارناً للصلاة كما هو المفروض لا يجعل الصلاة فعلاً قبيحاً.

إلى هنا تمّ الكلام في الصورة الأُولى و إليك الكلام في الصورة الثانية.

ص:198


1- المحاضرات: 4/216، 217، 219.

الصورة الثانية: القول بالامتناع و تقديم جانب الأمر و إلى هذه الصورة أشار بقوله:» و كذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر إلاّ أنّه لا معصية عليه، و الفرق بين الصورتين هو وجود المعصية في الأُولى دون الثانية، لكون النهي حكماً اقتضائيّاً لا فعليّاً «و ذلك لأنّ القائل بالامتناع يحمل أحد الحكمين على الاقتضائي و الآخر على الفعلي، و ظاهر العبارة صحّة العمل عبادياً كان أم توصلياً.

لكن الموافقة معه مطلقاً مشكلة، لأنّ الأخذ بالأمر لأجل كونه أقوى ملاكاً عن الحرام مختص بالصورتين التاليتين:

1. إذا لم يتمكن من الصلاة إلاّ في المكان المغصوب.

2. إذا تمكن من الصلاة في المكان المباح لكن دار الأمر بين فوت الواجب لأجل ضيق الوقت و ارتكاب الحرام فيقدم الأمر.

و أمّا إذا كان الوقت وسيعاً، و كان هناك مندوحة، فيؤخذ بالنهي دون الأمر لإمكان الجمع بين الامتثالين.

الصورة الثالثة: إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي لكونه أقوى ملاكاً مع الالتفات و العلم بالحرمة و إلى هذه الصورة أشار في الكفاية بقوله:» و أمّا عليه) الامتناع (و ترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر به مطلقاً في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له، و أمّا فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة «و ما ذكره هو المتعيّن و وجهه واضح.

الصورة الرابعة: إذا قلنا بالامتناع مع تقديم جانب النهي لكن المكلّف غير ملتفت إلى الحرمة تقصيراً أو نسياناً، و إلى هذه الصورة أشار في» الكفاية «بقوله: أو بدونه) الالتفات (تقصيراً فانّه و إن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد

ص:199

القربة و قد قصدها إلاّ أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به أصلاً، فلا يقع مقرباً و بدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عادة.

و حاصله: انّه يتمكن من قصد القربة، لكن العمل غير صالح لأن يتقرب به، و نزيد بياناً بأنّ الصحة رهن أحد أمرين: الأمر و المفروض كونه اقتضائياً، و الملاك و هو بعد غير معلوم، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر و المفروض كونه إنشائياً، و لأجل ذلك قال الفقهاء بأنّ المقصر و الناسي خارجان عن قاعدة» لا تعاد «كما هما خارجان أيضاً عن حديث الرفع.

الصورة الخامسة: تلك الصورة مع الجهل بالحرمة قصوراً.

إذا قلنا بالامتناع و قدمنا النهي و لكن كان المصلي جاهلاً بالحرمة حكماً أو موضوعاً عن قصور، فقد نسب إلى المشهور صحّة الصلاة في الدار المغصوبة إذا كان الجهل عن قصور، و الظاهر انّ قولهم لها لأجل قولهم بجواز الاجتماع و سيوافيك انّ القول المشهور بين الإمامية من عصر الفضل بن شاذان) المتوفّى 260 ه (إلى الأعصار المتأخرة كالمحقّق الأردبيلي و تلميذيه هو القول بجواز الاجتماع، غير أنّ المحقّق الخراساني لما قال بالامتناع حاول أن يصحح فتوى المشهور بالصحة على مختاره و حاصل ما أفاده من الفرق بين الجهل عن تقصير و الجهل عن قصور يتلخص في النقاط التالية:

1. انّ صحّة العبادة رهن أمرين:

الف: قصد القربة.

ب: كون المأتي به صالحاً لأن يتقرّب به.

و الأوّل مشترك بين الجاهلين فيقصدان القربة، لكن الثاني كون المأتي به صالحاً للتقرب غير متحقّق في المقصّر، لأنّ الجاهل لما كان كالعامد، يعد عمله

ص:200

تمرّداً و عصياناً للمولى و المفروض انّ الحكم بالحرمة فعلي، لا اقتضائي، و لكنّه متحقّق في القاصر، لعدم فعلية النهي و كونه اقتضائياً، فلا يكون المأتي به مبغوضاً فيصلح لأن يتقرب به، و إلى ما ذكرنا أشار بقوله: و أمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً و قد قصد القربة فالأمر يسقط لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً.

2. انّ سقوط الأمر لأجل حصول الغرض من الأمر، و ليس لأجل الامتثال، لافتراض تقديم النهي على الأمر، و ذلك) تقديم النهي (لأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواقعية في المصالح و المفاسد، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً و المفروض انّ مصلحة النهي و إن لم يكن واصلاً هو الأقوى فيكون العمل محكوماً بالحرمة لا بالوجوب، و لأجل ذلك قلنا إنّه لا يصدق الامتثال نعم يسقط الأمر لأجل حصول الغرض. و إلى ما ذكرنا أشار بقوله: فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعاً و إن لم يكن امتثالاً بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح و المفاسد.

3. لو قلنا بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواصلة، و انّه لا أثر للملاك الواقعي، بل التأثير في التقديم و التأخير هو الملاك الواصل و هو ما كان ملتفتاً إليه ينقلب حكم الواقعة من النهي إلى الوجوب فيكون المورد، امتثالاً للأمر المقدم، دون النهي، لكن الفرض غير ثابت عند الإمامية لاستلزامه نوعاً من التصويب و أن يكون حكم اللّه تابعاً لعلم المكلف.

و إلى ما ذكرنا أشير بقوله: لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقّق في محله.

4. يمكن أن يقال بحصول الامتثال في المقام حتّى بناءً على تبعية الأحكام

ص:201

للملاكات الواقعية من المصالح و المفاسد، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً، و ذلك لأنّ العقل لا يرى فرقاً بين هذا الفرد و الفرد الآخر في الوفاء بالغرض من الأمر بالطبيعة، و إلى ذلك أشار في» الكفاية «بقوله: مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك كون المؤثر هو الجهات الواقعية لا الواصلة بأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه و بين سائر الأفراد في الوفاء بفرض الطبيعة المأمور بها و إن لم يعمه بما هي مأمور بها، لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضي، فيكون المورد أشبه بما مرّ في الواجب الموسع المبتلى بواجب مضيق فيأتي بالموسع دونه، فإنّ الفرد الموسع و إن كان فاقداً للأمر، لكنّه لا لفقد المقتضي، بل لأجل وجود المانع، فيأتي به بنيّة الأمر المتعلّق بالطبيعة بما هي هي لا بما هي مأمور بها.

5. ثمّ رتّب على ما ذكر بأنّه لو كان دليلا الحرمة و الوجوب من قبيل المتعارضين و قُدّم دليل الحرمة، فلا يكون مجال للصحة، لفقدان الملاك حتى في الجهل عن قصور بخلاف ما إذا كانا من باب الاجتماع و قيل بالامتناع و تقديم جانب الحرمة، فيمكن الحكم بالصحة في موارد الجهل و النسيان عن قصور لوجود الملاك و حصول الغرض كما في الفروض الثلاثة الأُولى و إمكان إتيانه بالأمر المتعلّق بالطبيعة كما في الفرض الرابع.

هذا إيضاح ما في» الكفاية «.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ، أورد على صاحب الكفاية بأنّ الجمع بين القول بالامتناع، و اشتمال الصلاة في الدار المغصوبة على الملاكين، جمع بين المتضادين.

توضيحه: انّه لا شكّ في وجود التضاد بين ملاكي الغصب و الصلاة، فإن أمكن رفع التضاد بين الملاكين باختلاف الحيثيتين، أمكن رفعه في الحكمين مع أنّ

ص:202

القائل بالامتناع لا يلتزم به، و لو قلنا بأنّ اختلاف الحيثيتين، لا يرفع تضاد الحكمين لكونهما موجودين بوجود واحد فلا يرفع تضاد الملاكين.(1)

لكن لقائل أن يقول: إنّ اختلاف العنوانين لا يكون مصحِّحاً لتعلّق الوجوب و الحرمة بالشيء الواحد وجوداً، و إن جاز أن يكون مصحِّحاً لاجتماع الملاكين فيه، و ذلك لأنّ العنوانين و إن كانا مختلفين مفهوماً، لكنّهما متّحدان وجوداً. و لازم اجتماع الحكمين المتضادّين، طلب إيجاد شيء واحد و تركه، و هو بمنزلة الأمر بالمحال. و هذا بخلاف الملاكين المختلفين في المصلحة و المفسدة، فانّهما ليسا قائمين بالمكلّف به حتّى لا يصحّ توصيفه بالصلاح و الفساد، لأنّهما من الأُمور الخارجية الراجعة إلى نفس المكلَّف تارة، و مجتمعه أُخرى.

فالصلاة في الدار المغصوبة ذات صلاح و فلاح و هي التي تدفع الإنسان إلى ذكر ربّه، الذي هو مفتاح كلّ خير. كما أنّها مبدأ فساد و شر، لاستلزامها التعدّي على حقوق الغير الذي هو قبيح عقلاً، و مستلزمة لرواج الفوضى في المجتمع و اختلال النظام. و لا مانع من اجتماعهما لاختلاف محلّهما. و هو دام ظلّه صرّح بذلك في موضع آخر(2)، و بذلك صحّح كون الشيء الواحد مقرّباً و مبعداً، حسناً و قبيحاً.

إذا عرفت هذه المقدمات يقع الكلام في أدلّة القائل بالامتناع، و قد هذّبه المحقّق الخراساني في ضمن أُمور:

ص:203


1- تهذيب الأُصول: 1/288.
2- لاحظ تهذيب الأُصول: 1/316.

دليل القائلين بامتناع اجتماع الأمر و النهي

اشارة

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها و أوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات أربع، و إليك الإشارة إلى رءوسها:

1. الأحكام الخمسة تضاد بعضاً بعض، و المتضادان لا يجتمعان.

2. الأحكام تتعلّق بالمصاديق و الأفعال الخارجية لا العناوين الكلية.

3. انّ تعدد العنوان كالغصب و الصلاة لا يوجب تعدداً في المعنون.

4. ليس للوجود الواحد إلاّ ماهية واحدة.

ثمّ إنّه) قدس سره (شرع ببيان هذه المقدّمات الأربع و خرج بالنتيجة التالية، و هي امتناع اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين.

و الحجر الأساس لاستنباط الامتناع هو الأوّليان من المقدّمات الأربع دون الثالثة و الرابعة، فانّ الثالثة أي إيجاب تعدّد العنوان تعددَ المعنون على القول به إنّما يختصّ بالعناوين الأصلية كالجنس و الفصل دون الاعتبارية كالصلاة و الانتزاعية كالغصب، فانّ الصلاة كما سيوافيك أمر اعتباري يطلق على موجود متشكل من أجناس مختلفة كالكيف في القراءة و الوضع في الركوع و السجود، كما أنّ الغصب عنوان انتزاعي ينتزع من استيلاء الأجنبي على ملك الغير سواء كان بالكون فيه كالسكنى في بيت الغير، أو بالحيلولة بينه و بين المالك و إن لم يتصرف فيه، و على أيّ حال فالبحث في أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا، مختص بالأُمور التكوينية و لا يعم الاعتبارية و الانتزاعية.

ص:204

كما أنّ المقدمة الرابعة خارجة عن محط البحث، لأنّ البحث في أنّ للوجود الواحد ماهية واحدة لا غير يختص بالماهيات المتأصلة، و أين هذا من الماهيات الاعتبارية و الانتزاعية؟ فالمهم في المقام هو المقدّمة الأُولى و الثانية، و إليك تحليلهما.

تحليل المقدّمة الأُولى

قال المحقّق الخراساني في إثبات تلك المقدمة: إنّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها و بلوغها إلى مرتبة البعث و الزجر، ضرورة ثبوت المنافاة و المعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان، و الزجر عنه في ذاك الزمان فاستحالة اجتماع الأمر و النهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة انّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً.(1)

أقول: القول بأنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة، رهن انطباق تعريف التضاد عليها مع أنّه غير منطبق عليها، و قد عُرّف الضدّان بأنّهما أمران وجوديان لا يستلزم تعقّل أحدهما تعقّل الآخر يتعاقبان على موضوع واحد داخلان تحت جنس قريب، بينهما غاية الخلاف.

و التعريف مشتمل على قيود خمسة و كلّ قيد يحترز به عمّا ليس واجداً للقيد.

1. أمران وجوديان، خرج المتناقضان و العدم و الملكة.

2. لا يستلزم تصوّر أحدهما تصوّر الآخر، خرج المتضائفان، كالأُبوة و البنوة.

ص:205


1- كفاية الأُصول: 1/249.

3. يتعاقبان على موضوع واحد، خرج ما يجتمع من الأعراض كالحلاوة و الحُمْرة.

4. داخلان تحت جنس قريب، خرج المتماثلان لأنّهما داخلان تحت نوع واحد و إن كانا لا يجتمعان.

5. بينهما غاية الخلاف، خرج القتمة و الحمرة.

إذا وقفت على تعريف التضاد فهلمّ معي ندرس انطباقَ تعريف التضاد على مطلق الأحكام أو خصوص الوجوب و الحرمة و عدمه؟ فنقول: المراد من الوجوب و الحرمة في اصطلاح الأُصوليّين هو البعث و الزجر الإنشائيّان بلفظ:

» افعل «أو» لا تفعل «و البعث و الزجر من الأُمور الاعتبارية بقرينة إنشائهما باللفظ، فإنّ الإنشاء يتعلّق بالأمر الاعتباري دون الأمر التكويني، و الإنشاء نوع مضاهاة لعالم التكوين مثلاً انّ الإنسان قبل الحضارة كان يبعث غلامه أو يزجره بيده و لما جلس على منصّة التشريع و التقنين أخذ ينشأ بلفظتي» افعل «و» لا تفعل « ما يضاهي البعث أو الزجر التكوينيين، فالمنشأ بعث إنشائي قائم مكان البعث باليد، و الأُمور الاعتبارية خارجة موضوعاً عن تعريف التضاد.

فإن قلت: إنّ الوجوب و الحرمة و إن كانا أمرين اعتباريين لكن منشأهما هو الإرادة، و من المعلوم انّ إرادة البعث تضادّ إرادة الزجر، فلعلّ إطلاق التضاد على الأحكام باعتبار مباديها و هي الإرادة.

قلت: إنّ الإرادتين و إن كانتا غير مجتمعتين لكن عدم الاجتماع ليس لأجل التضاد لما قلنا من أنّ الضدّين عبارة عن الأمرين اللّذين يكونان من نوعين داخلين تحت جنس قريب كالسواد و البياض، إذ هما داخلان تحت الكيف المبصر

ص:206

و لكن الإرادتين في الأمر و النهي ليستا من نوعين، بل من نوع واحد، غاية الأمر يختلفان باعتبار المراد.

فإن قلت: إنّ القول باجتماع الأمر و النهي يستلزم ما لا يمكن اجتماعهما، سواء أ كانا من الأُمور المتضادة أم من غيرها، و ذلك في مواضع ثلاثة:

1. في مقام الجعل حيث لا يمكن البعث إلى شيء في وقت، و الزجر عنه في نفس الوقت.

2. في المبادئ حيث إنّ الأمر كاشف عن المحبوبية و المصلحة، و النهي كاشف عن خلافها.

3. في مقام الامتثال حيث إنّ بينهما مطاردة من حيث الامتثال و الإطاعة، فامتثال الأمر يكون بالإتيان بالمتعلق، و امتثال النهي بتركه و ليس بإمكان المكلّف الجمع بين الفعل و الترك.

قلت: إنّ البحث منصبّ على مسألة وجود التضاد بين الأحكام و عدمه و أمّا البحث عن إمكان اجتماع البعث و النهي و عدم إمكانهما، أو عن اختلاف المبادي و عدم إمكان اجتماعها، أو المطاردة في مقام الامتثال فموكول إلى المستقبل و سيوافيك دفع هذه المحاذير.

تحليل المقدّمة الثانية

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف و ما هو في الخارج يصدر عنه و هو فاعله و جاعله، لا ما هو اسمه و هو واضح، و لا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه، و إنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها و الإشارة إليها بمقدار الغرض منها و الحاجة إليها، لا بما هو هو و بنفسه و على

ص:207

استقلاله و حياله.(1)

ثمّ استنتج ممّا ذكره ما هذا لفظه: انّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً و ذاتاً كان تعلّق الأمر و النهي به محالاً، و لو كان تعلّقهما به بعنوانين و ذلك لما عرفت من كون فعل المكلّف بحقيقته و واقعيته الصادرة عنه، متعلّقاً للأحكام، لا بعناوينه الطارئة عليه.(2)

أقول: إنّ في متعلّق الأحكام احتمالات نذكرها تباعاً:

1. الأحكام متعلّقة بالمفاهيم الذهنية المقيدة بكونها في الذهن.

2. الأحكام متعلّقة بالأفعال الخارجية و الموجودات العينية، و هذا ما يعبَّر عنه بالوجود بمعنى اسم المصدر.

3. الأحكام متعلّقة بإيجاد الطبائع في الخارج، و الذي يقال له الوجود بالمعنى المصدري.

4. الأحكام متعلّقة بالطبائع المعراة من كلّ عارض و لاحق، المنسلخة عن كلّ شيء لكن لغاية الإيجاد، فالإيجاد غاية للبعث و ليس متعلّقاً له.

5. الأحكام متعلّقة بالعناوين بما هي مرآة للخارج و طريق إليه، و ليس مراد القائل بتعلق الأحكام بالخارج، بتعلّقها به من دون توسيط عنوان مشير إليه.

هذه هي مجموع الاحتمالات التي تتصوّر في المقام.

أمّا الأوّل فهو غير صحيح بالمرة، لأنّ المفاهيم بقيد كونها في الذهن غير قابلة للامتثال أوّلاً، و لا تغني و لا تسمن من جوع ثانياً.

و أمّا الثاني فهو الذي بنى عليه المحقّق الخراساني نظرية الامتناع، فهو أيضاً

ص:208


1- كفاية الأُصول: 1/249.
2- كفاية الأُصول: 2521/251.

غير تام، و ذلك لأنّه إن أُريد من تعلّق الحكم بالخارج، الفرد الخارجي من الصلاة بعد وجودها فهو طلب للحاصل، و إن أُريد الفرد الخارجي قبل وجودها فليس له أيّة واقعية حتّى يتعلّق به الطلب، و ما له الواقعية هي العناوين الكلية التي لا يرضى القائل في المقام بتعلّق الأحكام بها.

و أمّا الثالث فهو الذي أوعز إليه المحقّق الخراساني عند البحث عن متعلّقات الأوامر في خاتمة كلامه.

فيرد عليه أمران:

أ. انّ دلالته على إيجاد الطبيعة فرع وجود دال عليه، و الدال منحصر في الهيئة و المادة، و الأولى وضعت للبعث نحو الطبيعة، و الثانية وضعت لنفس الطبيعة فأين الدال على إيجاد الطبيعة.

ب. لو افترضنا صحّة النظرية لكانت النتيجة هي جواز اجتماع الأمر و النهي، لأنّ القول بتعلّق الأحكام بإيجاد الطبيعة عبارة أُخرى عن تعلّقها بالعناوين الكلية من دون فرق بين أن يكون العنوان هو الصلاة أو الغصب أو يكون العنوان إيجاد الصلاة و إيجاد الغصب فيكون متعلّق كلّ غير الآخر.

و أمّا الرابع فهو الحقّ الذي لا غبار عليه، فانّ القوة المقننة تنظر إلى واقع الحياة عن طريق العناوين و المفاهيم الكلية و تبعث إليها لغاية الإيجاد أو الترك فيكون متعلّق كلّ من الأمر و النهي مفهوماً فاقداً لكلّ شيء إلاّ نفسه، فعندئذ ترتفع المطاردة في مقام التشريع، لأنّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي.

كما ترتفع المطاردة في مقام الامتثال، لأنّه بوجوده الواحد مصداق للامتثال و العصيان لكن كلاً بحيثية خاصة.

و أمّا الخامس فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع، فإن أُريد من المرآتية، المرآتية

ص:209

بالفعل، فالمفاهيم الذهنية لا تكون مرآة للخارج بالفعل لعدم وجود المرئي; و إن أُريد المرآتية الشأنية، فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع، و هو انّ المأمور به هو الطبيعة المنسلخة عن كلّ تعين و عارض سوى نفسها لكن الأمر بها لغاية الإيجاد أو لغاية الترك.

إلى هنا تمّ تحليل ما أرساه المحقّق الخراساني من الاستدلال على الامتناع، و قد عرفت عدم تماميته، فحان البحث في بيان أدلّة القائلين بالجواز.

ص:210

أدلة القائلين بجواز الاجتماع

اشارة

استدلّ القائل بالجواز بوجوه سبعة نذكرها واحداً تلو الآخر، و لكن قبل الخوض في بيان هذه الوجوه نلفت نظر القارئ إلى نكتة، و هي:

إنّ القائلين بالجواز على طائفتين:

فمنهم من يقول بأنّ الأحكام تتعلّق بالمصاديق الخارجية و الأُمور العينية، و على الرغم من ذلك فهو يقول بجواز الاجتماع لأجل انّ التركيب بين الصلاة و الغصب انضمامي لا اتحادي و هذا يقرب ممّا ذكره الآخرون من أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون فالقول بالجواز لأجل انّ متعلق الأمر غير متعلق النهي في الخارج.

و هذا كالمحقق النائيني الذي تطرق إلى تثبيت الجواز عن طريق انّ التركيب بين المادة و الصورة انضمامي لا اتحادي، فخرج بالنتيجة التالية: انّ تركيب الغصب و الصلاة تركيب انضمامي فالحيثية الصلاتية غير الحيثية الغصبية.

و منهم من يقول بأنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع بما هي هي، و عندئذ يسهل له القول بالجواز، لأنّ متعلّق الأمر في عالم الجعل و الإنشاء غير متعلّق النهي، و قد ذهب إلى هذا القول السيد المحقّق البروجردي و السيد الأُستاذ) قدس سرهما (.

فعلى القارئ الكريم الالتفات إلى هذه النكتة في دراسة أدلّة القائلين بالجواز.

إذا عرفت ذلك فلنذكر تلك الوجوه:

ص:211

الأول: دليل قدماء الأُصوليّين

إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب و نهاه عن الكون في مكان خاص، فخاطه العبد في ذلك المكان عدّ مطيعاً لأمر الخياطة، و لذا لا يأمره بتجديد الخياطة، و عدّ عاصياً للكون في ذاك المكان الخاص.

يلاحظ عليه: أنّ المثال خارج عن محط البحث فلأنّ الخياطة لا تختلط بالغصب، لأنّ الأولى عبارة عن إدخال الإبرة في الثوب، كما أنّ الثاني عبارة عن الكون في المكان الخاص فلا يعد إدخال الإبرة في الثوب غصباً، إذ ليس فيه تصرف في المغصوب، و ليس التصرّف في الهواء تصرّفاً في المغصوب، لأنّه ليس ملكاً لصاحب المكان.

الثاني: دليل المحقّق القمّي

استدل المحقّق القمي بوجه مفصل نذكره ضمن مقاطع.

قال: إنّ متعلّق الأمر طبيعة الصلاة، و متعلّق النهي طبيعة الغصب، و قد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شيء واحد و لا يرد في ذلك قبح على الآمر، لتغاير متعلق المتضادين فلا يلزم التكليف بالمتضادين.

فإن قلت: الكلي لا وجود له إلاّ بالأفراد، فالمراد بالتكليف بالكلي هو إيجاد الفرد و إن كان على الظاهر متعلّقاً بالكلّي.

قلت: إنّ الفرد مقدّمة لتحقّق الكلّي في الخارج، فلا غائلة في التكليف به مع التمكّن من سائر المقدمات.

فإن قلت: إنّ الأمر بالمقدّمة اللازم من الأمر بالكلّي يكفينا، فإنّ الأمر بالصلاة أمر بالكون الكلي، و الأمر به أمر بالكون الخاص مقدّمة، فهذا الكون

ص:212

بعينه منهي عنه أيضاً بالنهي المقدّمي.

قلت: نمنع وجوب مقدّمة الواجب، و على فرض الوجوب، فالواجب هو فرد ما من الكون، لا الكون الخاص الجزئي، و إنّما اختار المكلّف مطلقاً الكون في ضمن هذا الفرد المحرّم.

نعم لو كانت المقدّمة منحصرة في الحرام، كما إذا لم يتمكن إلاّ من الصلاة في الدار المغصوبة، فنحن نقول بامتناع الاجتماع، فلا بدّ إمّا من الوجوب أو الحرمة.(1)

هذا ملخّص كلامه، و حاصله:

1. لا مانع من اجتماع الحكمين لاختلاف المتعلّقين، و اجتماع الحكمين المتضادين في الفرد لا يضر، لأنّ الفرد مقدمة لهما.

2. لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب و حرمة مقدّمة الحرام، فالكون حرام لا انّه واجب لاختصاص الوجوب بالمباح، و يسقط وجوب المقدّمة بالمحرّم، لكون وجوبها توصلياً.

3. لو فرض انحصار المقدّمة بالحرام، فلا بدّ من القول بامتناع الاجتماع، فلا بدّ من تقديم الوجوب أو التحريم.

و ربما ينسب إليه التفصيل بين كون الانحصار بسوء الاختيار و عدمه، و انّه لا مانع من فعلية وجوب ذيها لكونه بسوء الاختيار، دون ما لم يكن كذلك و لكنّه ليس في كلامه إشارة إليه، و لعلّه ذكره في غير هذا المقام، كما قال المحقّق المشكيني في تعليقته على الكفاية، و ستوافيك النسبة في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة

ص:213


1- القوانين: 1421/141.

فانتظر.

يلاحظ عليه أوّلاً: بما في الكفاية من أنّ الفرد الخارجي نفس الطبيعي في عالم العين و إن كان غيره في عالم التصوّر، و مع العينية كيف تتصوّر المقدّمية المستلزمة للاثنينية. و هي منتفية قطعاً.

و ثانياً: انّ ما نسب إليه من فعلية وجوب ذيها مع تسليم حرمة المقدّمة غير تام، لأنّه يستلزم التكليف بالمحال و هو غير جائز، سواء أ كان بسوء الاختيار أو لا.

و أمّا القاعدة المعروفة من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فليس بمعنى صحّة الخطاب بل بمعنى وجود الملاك.

و بعبارة أُخرى: لا ينافي ملاكاً و عقاباً لا خطاباً و حكماً، فلو ألقى نفسه من شاهق فحال السقوط حرام ملاكاً لا خطاباً لامتناع الامتثال عندئذ.

الثالث: دليل المحقّق النائيني

إنّ المحقّق النائيني من القائلين بالجواز مع القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية، غير أنّه يسعى ليثبت انّ متعلّق الأمر في الخارج غير متعلّق الأمر فيه، و دليله مبني على مسألة فلسفية حول تركيب المادة و الصورة، فالحكماء على طائفتين، فمنهم من يقول بأنّ التركيب اتحادي و ليست هنا كثرة.

مثلاً الحيوان إذا وقع في مدارج الكمال يصير نفس الإنسان لا شيئاً منضماً إلى النفس الناطقة و نظيره: تركب الجسم من حيوان و صورة، فانّ الهيولى في الماء نفس الصورة المائية كما أنّ الهيولى في النار نفس الصورة الخارجية.

و منهم من يذهب إلى أنّ التركيب انضمامي و إنّ هنا كثرة باسم المادة و الصورة كالحيوان بالنسبة إلى الناطق، أو باسم الهيولى و الصورة كما في الماء و النار

ص:214

على القول بتركب الكل من الهيولى و الصورة. و إلى كلا القولين يشير المحقّق السبزواري بقوله:

ان بقول السيد السناد تركيب عينية اتحاد

لكن قول الحكماء العظام من قبله التركيب الانضمام

ثمّ إنّ المحقّق النائيني) قدس سره (برهن على مختاره ببيان مفصل نأتي بموجزه تحت أرقام رياضية حتى يسهل فهم مرامه.

1. انّ الصلاة الموجودة في المجمع لا تنقص عن حقيقة الصلاة بشيء، إذا أتى بها في مكان مباح كما أنّ الغصب الموجود في المجمع لا تنقص من حقيقة الغصب بشيء كما إذا كان الغصب مجرداً عن الصلاة.

2. انّ الصلاة من مقولة الوضع و عُرّف الوضع بأنّه نسبة حاصلة للشيء من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض و المجموع إلى الخارج) أي الخارج عن ذلك الشيء (كالقيام و القعود، و الاستلقاء و الانبطاح و غيرها، فالقيام مثلاً عبارة عن الهيئة الحاصلة من نسبة بعض أعضاء البدن إلى بعض كالرأس إلى أعلى و الأقدام إلى أسفل، و المجموع إلى الخارج ككونه مستقبلاً للقبلة و مستدبراً الجدي.

فعلى هذا فالصلاة مؤلفة من قيام و ركوع و سجود، و جلوس في التشهد كلّها حتّى مقولة الوضع، و أمّا الهويّ إلى الركوع و السجود فإن قلنا بخروجها عن ماهية الصلاة فهو، و إلاّ فما هو جزء للصلاة عبارة عن الأوضاع المتلاحقة و المتلاصقة، فانّ الهويّ لا ينفك عن الأوضاع المتبادلة، فإذا شرع في الانحناء للركوع أو السجود إلى الأرض يتبدّل الوضع السابق إلى وضع لاحق و يستمر التبدّل إلى أن يصل إلى حدّ الركوع أو السجود.

كما أنّ الغصب من مقولة الأين، و عرف الأين بأنّه هيئة حاصلة من كون

ص:215

الشيء في المكان و ليس مجرد نسبة الشيء إلى المكان، بل الهيئة الحاصلة من كون المكين فيه، فالصلاة في الدار المغصوبة لا تنفك عن كون الإنسان فيها، فتحصل هيئة خاصة باسم الغصب.

إلى هنا تبيّن انّ الصلاة لا تجتمع مع الغصب في حال من الأحوال، لأنّ الأولى من مقولة الوضع و الثاني من مقولة الأين، و الوضع و الأين من الأجناس العالية التي لا جنس فوقها و هي متباينات بالذات غير مجتمعات كذلك.

3. هذا هو لبّ البرهان غير أنّ المستدل التفت إلى وجود الإشكال في الحركة في حال الهوي إلى الركوع و السجود، فإنّ الحركة يجتمع فيها عنوان الغصب و الصلاة مع كونها أمراً واحداً، فهذا هو الأمر الثالث الذي حاول أن يثبت فيه انّ هنا حركتين، لأنّ وحدة الحركة في المقام يتصور على وجهين و كلاهما باطلان.

أ. أن تكون الحركة جنساً و عنوانا الصلاة و الغصب فصلاً.

ب. أن تكون الحركة عرضاً و الصلاة و الغصب عارضين لها.

أمّا الأوّل فغير صحيح بالمرة لاستلزامه أن يكون الشيء الواحد يقع تحت فصلين.

و أمّا الثاني فيستلزم قيام العرض بالعرض كما يستلزم تركب الأعراض مع انّها بسائط، فلا محيص إلاّ عن الالتزام بأمر آخر و هو تعدّد الحركة الذي بيّنه في المقطع الرابع بقوله:

4. قد حقّق في محله انّ الحركة لا تدخل تحت مقولة، و المقولات و إن كانت عشرة و لكن الحركة لا تدخل تحت واحدة من هذه المقولات، و هذا لا يعني انّ الحركة مقولة وراء المقولات العشرة تضاف إليها حتّى ينتهي عدد المقولات إلى إحدى عشرة مقولة بل الحركة في كل مقولة نفسها، مثلاً:

ص:216

إنّ التفاحة على الشجرة يطرأ عليها حالات مختلفة، فتنقلب من البياض إلى الصفرة و الحمرة، و من صغر الحجم إلى كبره.

فهناك حركتان حركة في الكيف و حركة في الكم و الحركة في كلّ مقولة نفس تلك المقولة لا شيئاً وراء ذلك.

و على ضوء ذلك فالحركة في الدار المغصوبة ينطبق عليها الوضع و الأين، فهي مع الوضع وضع و مع الأين أين، و بما انّهما من الأجناس المتباينة لا محيص إلاّ أن يقال انّ الصلاة مغايرة بالحقيقة و الهوية للغصب، و بالتالي الحركة الصلاتية مغايرة للحركة الغصبية، بعين مغايرة الصلاة و الغصب، و يكون في المجمع حركتان: حركة صلائيّة، و حركة غصبيّة، و ليس المراد من الحركة رفع اليد و وضع اليد و حركة الرأس و الرّجل و وضعهما، فإنّ ذلك لا دخل له في المقام حتّى يبحث عن أنّها واحدة أو متعددة، بل المراد من الحركة: الحركة الصلاتيّة، و الحركة الغصبيّة، و هما متعددتان لا محالة.

و إلى الأمر الثالث و الرابع يشير المحقّق الخوئي في تقريراته عن أُستاذه، فيقول:

فإن قلت: أ ليست الحركة الواحدة الخارجية يصدق عليها انّها صلاة كما يصدق عليها انّها غصب وعليه، فلا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً و يكون كلّ منهما بالإضافة إلى الآخر لا بشرط.

قلت: ليس الأمر كذلك فانّ الصلاة من مقولة و الغصب من مقولة أُخرى منضمة إليها، أعني بها مقولة الأين، و من الواضح انّ المقولات كلّها متباينة يمتنع اتحاد اثنتين منها في الوجود و كون التركيب بينهما اتحادياً و ما ذكر من صدقها على حركة شخصية واحدة يستلزم تفصّل الجنس الواحد، أعني به: الحركة بفصلين في

ص:217

عرض واحد و هو غير معقول.

هذه عصارة البرهان التي استللناها من كلا التقريرين:)» فوائد الأُصول «للكاظمي و» أجود التقريرات «للخوئي (.

يلاحظ على الاستدلال بأُمور:

الأوّل: فلأنّ التأكيد على أنّ تركيب العنوانين تركيب انضمامي لا اتحادي يعرب عن اتّفاقه مع المحقّق الخراساني على أنّ الأحكام تتعلّق بالأفعال الخارجية، و لما كانت نتيجة ذلك هو الامتناع لا جواز الاجتماع فانبرى إلى تصحيح الاجتماع بأن تركيب المقولتين انضمامي و كلّ مقولة بمعزل عن المقولة الأُخرى، فتكون إحداهما متعلّقة بالأمر و الأُخرى متعلّقة بالنهي.

و لكنّك عرفت أنّ الأحكام لا تتعلّق بالأفعال الخارجية لأنّها بعد الوجود ظرف السقوط، و قبل الوجود ليس لها تحقّق في الخارج حتّى يتعلّق بها الحكم.

الثاني: انّ حديث التركيب الانضمامي و الاتحادي من خصائص الوجودات الخارجية كالمادة و الصورة أو الهيولى و الصورة، فمن قائل بأنّ المادة في مدارج حركتها تصير نفس الصورة من دون أن يكون بينهما اثنينية، و التركيب بينهما اتحادي إلى آخر بأنّ المادة في مدارج حركتها تتشخص بالصورة و بينهما اثنينية و التركيب بينهما انضمامي.

و على كلّ حال فهذا البحث الفلسفي مختص بالموجودات الخارجية دون العناوين الاعتبارية كالصلاة أو الانتزاعية كالغصب.

أمّا الصلاة فهي عنوان اعتباري يعبر بها عن عدة مقولات متنوعة و مجتمعة فالصلاة تشتمل على الأذكار، و هي بما انّها مشتملة على الجهر و الإخفات من مقولة الكيف، و على القيام و الركوع و السجود فهي من مقولة الوضع، و على الهوي فإن

ص:218

قلنا بأنّ الواجب هي الهيئة الركوعية و السجودية و انّ الهوي مقدمة فهي من مقولة الوضع، و إن قلنا:

إنّ الواجب هو الفعل الصادر من المكلّف، فيكون الهُويّ حركة في الوضع إلى أن تنتهي بترك الأوضاع المتلاحقة إلى حدّ الركوع و السجود.

و على ضوء ذلك تكون الصلاة أمراً اعتبارياً باعتبار إطلاقها على ما يشتمل على أزيد من مقولة و أمّا الغصب فهو أمر انتزاعي بشهادة انّه ينتزع من أمرين مختلفين في الماهية.

1. قد ينتزع من التصرف في مال الغير، كلبس ثوب الغير.

2. قد ينتزع من الاستيلاء على مال الغير بلا تصرف فيه، كما إذا منع المالك من التصرف في ماله فيكون الغصب عنواناً انتزاعياً، تارة ينتزع من التصرف في مال الغير، و أُخرى من الاستيلاء على مال الغير و إن لم يتصرف فيه، فمثل ذلك لا يكون داخلاً تحت مقولة و إنّما يكون أمراً انتزاعياً، فحديث التركيب الاتحادي و الانضمامي في المقام أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، و على ذلك فالغصب ليس من الماهيات المتأصلة ليستحيل اتحاده مع الصلاة خارجاً و انّه من المفاهيم الانتزاعية القابلة للانطباق على ماهيات متعددة، وعليه فلا مانع من انطباقه على الصلاة.

الثالث: انّ القول بتعدّد الحركة و انّ الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية يخالف الحس و الوجدان، إذ لا يصدر عن المصلي إلاّ حركة واحدة و على فرض صدور حركتين فالحركة الثانية أيضاً بما انّها تصرف في مال الغير توصف بالغصب أيضاً.

على أنّ استنتاج الحكم الشرعي من هذه المقدّمات الفلسفية المبتنية على مقدّمات غير واضحة لا يمكن الاعتماد عليه.

ص:219

الوجه الرابع ما ذكره بعضهم من أنّ الاجتماع لو كان آمريّاً و من قبل المولى، لكان ذلك مستحيلاً،

لكنّه ليس في المقام كذلك بداهة أنّه مأموري و من قبل نفس المكلّف بسوء اختياره، فلا يكون هناك مانع عن الاجتماع.

يلاحظ عليه بوجهين:

1. انّ القائل بالامتناع يقول بأنّ الحكم بصحّة الاجتماع يؤول إلى الاجتماع الآمري، لأنّ المفروض أنّ كلا من الخطابين لإطلاق متعلّقه يعمّ ما لو وجد كل في ضمن الآخر فيعود المحذور، إذ لو كان لمقولة:

» صلّ «إطلاق، يعمّ ما إذا كانت متحدة مع الغصب، للزم أن يكون المجمع واجباً و حراماً و هذا لا يمكن الالتزام به.

2. لو افترضنا انّ الاجتماع مأموريّ، فالإشكال غير مندفع أيضاً، لأنّ التكليف بالمحال أمر قبيح من غير فرق بين سوء الاختيار و عدمه، هذا و سيوافيك في الوجه الخامس دفع الإشكالين فانتظر.

الوجه الخامس للمحقّق البروجردي
اشارة

و هذا الوجه ذكره المحقّق البروجردي) قدس سره (و أوضحه السيّد الإمام الخميني) قدس سره (و شيّد أركانه، و دفع المحاذير المتوهمة شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه، و حاصل الوجه هو:

إنّ الأحكام لا تتعلّق إلاّ بالطبائع دون المصاديق الخارجية، و عندئذ لا مانع من تعلّق الأمر بحيثيته، و النهي بحيثية أُخرى و عند ما تصادفت الحيثيتان على شيء واحد، لا مانع من أن يكون ذاك الشيء مصداقاً للمأمور به بحيثيته

ص:220

و مصداقاً للمنهي عنه بحيثية أُخرى، فالتضاد بين الأحكام على فرض صحته، يرتفع باختلاف المتعلّقات، و هذا هو حاصل النظرية و إجمالها، و أمّا التفصيل فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه.

الثاني: دفع المحاذير المتوهمة على القول بالاجتماع في المراحل الثلاث: مرحلة التشريع، مرحلة المبادئ، مرحلة الامتثال، و إليك الكلام في الأوّل.

المقام الأوّل: في إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه

إنّ النظرية تبتني على مقدّمات:

الأُولى: انّ أساس التشريع هو تعلّقه بالعناوين و الطبائع دون المصاديق، فالمشرِّع ينظر إلى واقع الحياة عن طريق متعلّقات الأحكام التي ليست إلاّ عنواناً كلياً، قابلاً للانطباق على مصاديق كثيرة، فيأمر بها، لغاية الإيجاد، كما يزجر عنها لغاية الانتهاء و الترك، و بما انّ هذه المقدّمة قد سبق ذكرها فلا نطيل الكلام فيها.

الثانية: إنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بما هو دخيل في الغرض، ثبوتاً و تتبعها دلالة الأمر إثباتاً.

أمّا الثبوت، فلأنّ تعلّق الإرادة بما لا مدخلية له في غرضه، أمر جزاف لا يحوم حوله الحكيم، فلو كان لما هو الدخيل في الغرض، لوازم وجودية، أو أُمور مقارنة معه أحياناً فلا تتعلق بهما الإرادة، و على ضوء ذلك، فالأمر يتعلّق بالحيثية الصلاتيّة دون الغصبية و إن قارنت معها أحياناً، إذ لا مدخلية للثانية في حصول غرض المولى، كما أنّه لو كان المحصِّل لغرضه شيء له أجزاء أربعة، فلا تتعلق إرادته إلاّ بذات الأربعة بما هي هي و إن كانت تلازم الزوجية فاللوازم و المقارنات

ص:221

خارجتان عن مصب الإرادة في الإرادة الفاعلية التكوينية، و مثلها الإرادة الأمرية التشريعية حرفاً بحرف.

و أمّا الإثبات فلأنّ المفروض انّ المادة موضوعة لنفس الطبيعة بما هي هي، فلا تدل إلاّ عليها، و أمّا اللوازم و المقارنات، فخارجتان عن حريم دلالة المادة اللفظية و إن كانت ربما تدلّ عليها بالدلالة الالتزامية التي هي دلالة عقلية فلا يتعلق بهما الأمر اللّهمّ إلاّ بدال آخر و المفروض عدمه، و لذلك قلنا في محله انّ العام لا يكون مرآة للخاص، لأنّه موضوع للجامع بين الأفراد، لا له مع الخصوصيات، و لذلك اخترنا عدم صحة الوضع العام و الموضوع الخاص، إلاّ على وجه قد أوضحناه في محله.

الثالثة: انّ الإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود، و بعبارة أُخرى الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب، تمام الموضوع للحكم لا بعضه و جزئه، فيكون الحكم، حاضراً بحضور موضوعه، و هذا ما نسمّيه بالإطلاق الذاتي.

و أمّا الإطلاق اللحاظي، أعني: تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع، بلحاظ الحالات واحدة بعد الأُخرى حين الأمر حتّى يكون معنى قوله:» إن ظاهرت أعتق رقبة «هو عتقها سواء أ كانت مؤمنة أم كافرة، عادلة أو فاسقة، عالمة أو جاهلة، فممّا لا أساس له، لما عرفت أنّ الإطلاق هو تسريح الموضوع عن القيد، لا أخذه مع جميع القيود و بعبارة أُخرى هو: رفض القيود و تركها و عدم العناية بها، لا جمعها و ذكرها في الموضوع و لو بصورة القضية المنفصلة، لعدم مدخلية القيود في الحكم حتّى تلاحظ و تؤخذ في الموضوع و على ضوء ذلك، فمعنى الأمر بالصلاة على وجه الإطلاق هو كون الحيثية الصلاتية تمام الموضوع للحكم، و ليس معناه هو

ص:222

الأمر بها سواء أ كانت مع الغصب أو لا، بحيث يعد الغصب، مأخوذاً في موضوع الأمر و لو على نحو القضية المنفصلة.

إذا عرفت هذه المقدمات: ظهر لك جواز الاجتماع، لأنّ تمام المتعلّق للأمر، هو الصلاة، و تمامه للنهي هو الغصب، و هما مختلفان مفهوماً و ماهية، و ليس معنى الأمر بها هو الأمر باللوازم الوجودية أو الأُمور المقارنة لعدم مدخليتهما في الغرض المطلوب، بالإرادة ثبوتاً، و بالأمر إثباتاً، فمعنى كون الصلاة مطلوبة مطلقاً، ليس كونها مطلوبة مع الغصب، حتّى يكون الثاني، جزء المتعلّق، بل المراد عدم أخذ أية خصوصية في المتعلّق، و تصادقهما على مورد واحد لا يضر، إذ لا إشكال في إمكان الشيء الواحد مصداقاً لعنوانين لكن بحيثيتين مختلفتين.

نعم غاية ما يمكن أن يقال: انّه يمتنع أن يكون اللازم محكوماً بحكم مضاد مع حكم الملزوم، فإذا وجب إيجاد الأربعة، لا يجوز تحريم إيجاد الزوجية، و أمّا المقارن المنفك عنه أحياناً، فلا يمتنع أن يكون محكوماً بحكم مضاد، إذ في وسع المكلّف التفكيك بينهما كما هو الحال في المقام حيث إنّ الصلاة واجبة و الغصب المقارن معها أحياناً حرام.

هذا هو حاصل النظرية بقي الكلام في المقام الثاني، و هو دفع المحاذير في المراحل الثلاث على القول بجواز الاجتماع، و إليك البيان:

المقام الثاني: دفع المحاذير

إنّ المحاذير المقصودة في المقام تدور على محاور ثلاثة:

1. في الجعل و التشريع.

2. في مبادئ الأحكام و مقدّماتها.

ص:223

3. في مقام الامتثال و الطاعة.

فلندرس الجميع واحداً تلو الآخر.

1. عدم المحذور في مقام الجعل

أمّا عدم المحذور في مقام الجعل و التشريع فلعدم التكاذب بين الحكمين، إذ لا مزاحمة بين إيجاب الصلاة و تحريم الغصب لاختلاف المتعلّقين بالذات، و تصادقهما في مورد، لا يضرّ بصحّة التشريع و حفظ الإطلاقين في مورده، لأنّ الواجب هو الحيثية الصلاتية، و المحرم هو الحيثية الغصبية، و لا مانع من أن يكون شيء واحد مصداقاً للواجب و الحرام بحيثيتين مختلفتين و بما انّا بسطنا الكلام فيه فلا نطيل.

2. عدم المحذور في مبادئ الأحكام

إنّ الحبّ و البغض من مبادئ الأحكام فيأمر بإتيان المحبوب و ينهى عن ممارسة المبغوض، كما أنّ المصلحة و المفسدة من مباديها، فيطلب ذات المصلحة، و ينهى عن ذات المفسدة و لو قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد و لو بعنوانين، ربّما يتوهم أنّه يلزم أن يكون الشيء محبوباً و مبغوضاً، و ذات مصلحة و مفسدة، و هي عين القول باجتماع الضدين.

يلاحظ عليه: بأنّ الإشكال مبني على كون الحبّ و البغض أو المصلحة و المفسدة من الكيفيات الجسمانية القائمة بالشيء الخارجي كالسواد و البياض، فيمتنع وصف الشيء بهما و لو بعنوانين، لكن الأمر ليس كذلك.

أمّا الحبّ و البغض، و يقرب منهما الإرادة و الكراهة فالجميع من الكيفيات

ص:224

النفسانية ذات الإضافة، فلها إضافة إلى النفس لقيامها بها، و إضافة بالذات إلى الصورة العلمية من المحبوب و المبغوض، و المراد و المكروه، و إضافة بالعرض إلى مصاديقها و أعيانها الخارجية، و على ضوء ذلك فلا مانع من اجتماع الجميع في شيء واحد، لأنّه إذا اجتمعت حيثيتان في شيء واحد، تشتاق النفس إليه لحيثية و تزجر عنه لأجل حيثية أُخرى، فتكريم اليتيم في الدار المغصوبة محبوب من جهة، إذ فيه ترويح لحال اليتيم; و مبغوض لكونه تصرفاً في مال الغير، و نقضاً للقانون، و يقرب منهما، كون الشيء الواحد مراداً و مكروهاً لجهتين.

و أمّا المصلحة و المفسدة فليستا من الأُمور القائمة بذات الشيء، بل المصالح و المفاسد الفردية، يرجع إلى حياة الشخص الفردية، فلا غرو في أن يكون الشيء في حياة الإنسان ذا مصلحة باعتبار، و ذا مفسدة باعتبار آخر، إذ ربما يكون الدواء الخاص مفيداً و مضرّاً باعتبارين، و منه يظهر حال المصالح و المفاسد الاجتماعية، و الإشكال نابع من تنزيل المصلحة و المفسدة، منزلة الكيفيات الجسمانية القائمة بذات الشيء، و قد عرفت أنّهما من الأُمور الإضافية و النسبية و لا مانع من كون الشيء ذا مصلحة و مفسدة باعتبارات مختلفة.

3. عدم المحذور في مقام الامتثال

هذه المرحلة من المراحل الثلاث، هي بيت القصيد للامتناعي، و هو يعتمد في إبطال الاجتماع على هذا المحذور، أكثر من المحاذير الأُخر، و حاصله انّه لو قلنا بجواز الاجتماع يلزم أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه و منهياً عنه، أمّا على القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية فواضح، إذ يلزم من تصحيح الاجتماع أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه و منهياً عنه، و كون متعلّق الأمر غير متعلّق

ص:225

النهي لا ينفع في المقام بعد تحقّق العنوانين في شيء واحد، فعندئذ تكون نتيجة تجويز الاجتماع هو التكليف بالمحال، حيث يكلف بالإتيان و الترك في آن واحد و إن كان لأجل عنوانين، لأنّ تعدّد العنوان، لا يجعل الشيء الواحد، شيئين.

و أمّا على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، فكذلك لأنّ المولى و إن لم يلاحظ عند الأمر بالصلاة، اقترانها مع الغصب الذي أسميناه بالإطلاق اللحاظي، لكن حضور الحكم عند حضور الموضوع في كلّ الأمكنة و الأزمنة أمر لا يُنكر، و هذا هو المسمّى بالإطلاق الذاتي للدليل، فعندئذ يسأل القائل بالاجتماع، إذا حاول المكلف إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة فهل الحضور يختص بأحد الحكمين و هو نفس القول بالامتناع، أو يعمّ الحضور لكلا الحكمين؟ و نتيجة حضور الحكمين و حفظ الإطلاقين في المورد هو اجتماع البعث و الزجر بالنسبة إلى شيء واحد، و ليس هذا إلاّ التكليف بالمحال فالمكلّف بحكم إطلاق الأمر بالصلاة مبعوث إلى الفعل، و بحكم إطلاق النهي عن الغصب مزجور عنه، فهل هذا إلاّ الأمر بالمحال.

قلت: هذا الإشكال كما قلنا هو بيت القصيد في المقام، فلو أتيح للاجتماعي حلُّه فقد حاز القِدْح المُعلّى فنقول:

لو كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به من قبيل اللوازم غير المنفكة كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، كان لما توهّم وجه حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع إذ لا يعقل أن يكون اللازم محكوماً بحكم يضاد حكم الملزوم بأن يجب إيجاد الأربعة و يحرم إيجاد الزوجية، و أمّا إذا كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به قبيل المقارن الذي في وسع المكلّف تفكيكه من المأمور به فلا يلزم من إيجاب الشيء، و تحريم المقارن، التكليف بالمحال، لأنّ الحركة في الدار المغصوبة و إن

ص:226

كانت واجبة من حيث كونها مصداقاً للصلاة، و محرمة من حيث كونها مصداقاً للغصب و المولى في وقت واحد بحكم حفظ كلا الإطلاقين يأمر بها و ينهى عنها، إلاّ أنّ إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة ليس واجباً تعيينياً، بل هي إحدى المصاديق الواجبة التي يتخيّر المكلّف بينها عقلاً و لما كان هذا المصداق مقروناً بالمحذور، فعلى المكلّف العدول إلى الفرد الخالي عنه، و بهذا ينحل إشكال التكليف بالمحال، من دون حاجة إلى تقييد أحد الإطلاقين بالآخر.

و الحاصل: انّ المولى لو أمر بالصلاة في الدار المغصوبة على وجه التعيين يكون التأكيد على حفظ الإطلاقين موجباً للتكليف بالمحال، و لكنّه لمّا أمر بها على النحو الكلي مخيّراً المكلّفة بين مصاديقه، و كانت المصاديق بين مجرّد عن المحذور، و مقرون به، فعلى العبد، أن يختار الأوّل دون الثاني.

1. فإن قلت: ما فائدة حفظ الإطلاقين في صورة التقارن بالمانع؟ قلت: أقل ما يترتّب عليه انّه لو صلّى فيها، كان مطيعاً من جهة و عاصياً من جهة أُخرى.

2. فإن قلت: قد سبق في بعض المقدّمات أنّه لا يعتبر قيد المندوحة فيما هو المهم في المقام أعني: أنّ تعدّد العنوان، هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ قلت: نعم لا تأثير لقيد المندوحة في المسألة الفلسفية، أعني: كون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا.

و بعبارة أُخرى: قيد المندوحة غير مؤثر في مسألة» كون التركيب اتحاديّاً أو انضمامياً «، و أمّا في رفع غائلة التكليف بالمحال فقيد المندوحة معتبر قطعاً، و قد مرّ الكلام فيه تفصيلاً و صرّح به المحقّق الخراساني في الأمر السادس فلاحظ.

3. فإن قلت: قد سبق انّ سوء الاختيار لا يكون مجوّزاً للتكليف بالمحال،

ص:227

و إنّ من ألقى نفسه من شاهق، و هو في أثناء السقوط، لا يكون مكلفاً بصيانة النفس، لعدم التمكّن منه و إن كان بسوء الاختيار، و قد مرّ انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، عقاباً و ملاكاً، لا خطاباً و حكماً.

قلت: ما ذكرته صحيح لكنّ المقام ليس من صغريات تلك القاعدة حتّى لا يصح خطابه، بل هو في كلّ آن من الآنات قادر على ترك الغصب، و الإتيان بها في مكان مباح، فهو أشبه بمن ألقى نفسه من شاهق، لكنّه مزوّد بجهاز صناعي لو أعمله لهبط إلى الأرض بهدوء، فعندئذ لا يسقط النهي لا ملاكاً و لا عتاباً، و لا خطاباً و لا حكما.(1)

4. فإن قلت: قد سبق في باب الترتّب أنّه لا يجوز خطاب المكلّف بأمرين متزاحمين من دون تقييد أحدهما بترك الآخر، كأن يقول: انقذ هذا الغريق، و انقذ ذاك الغريق، مع عدم استطاعته إلاّ بإنقاذ أحد الغريقين، و ما ذاك إلاّ لكونه تكليفاً بالمحال، و إن كان في وسع المكلّف تعذير نفسه بالاشتغال بإنقاذ أحدهما، و إن ترتّب عليه غرق الآخر، فمجرّد التعذير، لا يسوِّغ التكليف بالمحال، و المقام أشبه بذلك حيث إنّه مخاطب بخطابين غير قابلين للامتثال معاً، لكن باب التعذير واسع، بأن يصلي في مكان مباح، فكما أنّ فتح باب العذر غير مسوِّغ لخطابين مطلقين، فهكذا المقام.

قلت: الفرق بين المقامين واضح فلا يصحّ قياس أحدهما بالآخر، و ذلك لأنّ التكليف هناك متقدّم على التعذير، فلا ينقدح في ذهن المولى إيجاب إنقاذ غريقين مع علمه بعدم قدرة المكلّف إلاّ بإنقاذ أحدهما، و إن كان للعبد تعجيز

ص:228


1- و قد اختلف تقرير شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة، مع ما أفاده في هذه الدورة و ما أثبتناه هو الموافق لتقريره أخيراً.

نفسه و تعذيرها بخلاف المقام فانّ المسوغ مقارن مع التكليف حيث إنّ الأمر بالصلاة في الدار المغصوبة ليس على النحو التعييني من أوّل الأمر.

5. إن قلت: إنّ وزان الإرادة التشريعية كوزان الإرادة التكوينية، أو إنّ وزان الإرادة الأمرية كوزان الإرادة الفاعليّة. فكما لا ينقدح في ذهن الفاعل، إرادتان متضادّتان، بأن يريد إيجاد الشيء في وقت، و تركه و عدمه في نفس ذلك الوقت، فهكذا لا ينقدح في ذهن الآمر إرادتان متضادّتان فيطلب الشيء) الصلاة التوأمة مع الغصب (في وقت، و تركه في نفس ذلك الوقت.

قلت: إنّ قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية قياس مع الفارق، فانّ الإرادة الفاعلية علّة تامّة لتحقّق المراد فلا يمكن اجتماع علّتين تامّتين فضلاً عن كونهما متضادّتين على شيء واحد، و هذا بخلاف التشريعية فانّها ليست علّة تامّة لتحقّق المراد، سواء أقلنا بأنّها تتعلّق بفعل الغير كما هو المعروف، أو تتعلّق بالبعث و الطلب كما هو المختار. و على كلّ تقدير فبما انّها ليست علّة تامّة لتحقق المراد، بل أشبه بالداعي، فلا إشكال في تعلّق إرادتين تشريعيتين بمراد واحد بعنوانين و لا يلزم من جعل الداعيين، التكليفُ بما لا يطاق، بل فائدة تعلّقهما انّه لو جمع بين المأمور به و المنهي عنه، يكون مطيعاً من جهة و عاصياً من جهة أُخرى.

***

الوجه السادس: استكشاف جواز الاجتماع من عدم ورود النص على عدم جواز الصلاة في المكان و اللباس المغصوبين،

مع عموم الابتلاء به في زمان الدولتين: الأموية و العباسية، خصوصاً على القول بحرمة الغنائم التي كانوا يغنمونها عن طريق جهاد العدو ابتداءً الذي هو حق طلق للإمام العادل أو المعصوم.

ص:229

و الذي يوضح ذلك أنّ الشيخ الكليني نقل عن الفضل بن شاذان الذي هو من أصحاب العسكريين مؤلّف كتاب الإيضاح و قد توفّي عام 260 ه انّه قال: و إنّما قياس الخروج و الإخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله الدار و صلاته جائزة.(1) و هذا يعرب عن كون المشهور لدى أصحاب الأئمّة هو الجواز، و إلاّ لصدر النصّ عنهم) عليهم السلام (على المنع.

هذه هي الوجوه الستة التي استدل بها القائل بالاجتماع، بقي في المقام وجه سابع و هو وجود العبادات المكروهة في الشريعة الإسلامية التي تلازم اجتماع الأمر و النهي في الشيء الواحد كصوم يوم عاشوراء، و الصلاة في الحمام، فقد اجتمع الاستحباب و الكراهة في الأوّل، و الوجوب و الكراهة في الثاني، و إليك بيان هذا الوجه.

الوجه السابع: الاستدلال بالعبادات المكروهة
اشارة

أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، و قد تعلّق النهي في الشريعة الإسلامية بالعبادات، فلو كان التّضاد بين الأحكام مانعاً عن الاجتماع لما تعلّق النهي بصوم يوم عاشوراء، أو بالنوافل المبتدئة في أوقات خاصّة فكلّ واحد منها بنفسه مأمور به و في الوقت نفسه منهي عنه.

و قد أجاب المحقّق الخراساني عن الاستدلال بهذه الموارد إجمالاً بوجوه ثلاثة:

1. انّ الظهور لا يصادم البرهان فلو قام البرهان على الامتناع فلا بدّ من تأويل ما يدلّ على الجواز.

ص:230


1- الكافي: 6/94.

2. انّ الاجتماعي و الامتناعي أمام بعض الأقسام كالقسم الأوّل أو جميعها سواء، حيث إنّ الأمر و النهي تعلّقا بعنوان واحد و هو صوم يوم عاشوراء، و من المعلوم أنّه غير جائز حتّى عند الاجتماعي.

3. انّ الاجتماعي إنّما يقول به إذا كان هناك مندوحة و المورد المذكور خال عن هذا الشرط، لأنّ صوم يوم الحادي عشر، موضوع مستقل، و ليس بدلاً عن صوم يوم عاشوراء.

تقسيم العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة

ثمّ إنّه بعد ما فرغ عن الأجوبة الثلاثة حاول أن يجيب عن الاستدلال على نحو التفصيل، فقال: إنّ العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة:

أحدها: ما تعلّق به النهي بعنوانه و ذاته، و لا بدل له كصوم يوم عاشوراء أو النوافل المبتدئة في بعض الأوقات.

ثانيها: ما تعلّق به النهي كذلك و يكون له بدل كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها: ما تعلّق به النهي لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له(1)، خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة بناء على أنّ النهي عنها لأجل اتّحادها مع الكون في مواضعها.

القسم الأوّل: النهي عن عبادة ليس لها بدل

ثمّ إنّه شرع بالإجابة التفصيلية فأجاب عن العبادة التي تعلّق بها النهي

ص:231


1- الترديد لأجل احتمال جزئية الكون للصلاة كاحتمال خروجه عنها.

و ليس لها بدل بأجوبة ثلاثة فقال:

الأوّل: انّ حقيقة النهي عن الصوم يرجع إلى طلب تركه لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك ذا مصلحة، كالفعل، فحينئذ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين، و الأصل فيهما هو التخيير لو كانا متساويين، و إلاّ فيتعيّن الأهم و إن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً و موافقاً للغرض كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمة، بل الواجبات، و أرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة و منقصة فيه أصلاً كما يوجبها ما إذا كان مفسدته غالبة على مصلحته، و لذا لا يقع صحيحاً على الامتناع فانّ الحزازة و المنقصة فيه مانعة عن صلاحية المتقرَّب به بخلاف المقام فانّه على ما هو عليه من الرجحان و موافقة الغرض كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.(1)

و حاصل ما أفاده يعتمد على أُمور:

1. انّ الكراهة في المقام ليست كراهة مصطلحة و هي التي تنشأ من مفسدة في الفعل و حزازة فيه غالبة على مصلحته، إذ لو كان كذلك لامتنعت الصحة، مع انّها أمر اتفاقي، بل هو بمعنى رجحان تركه مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة و المحبوبية. و بعبارة أُخرى النهي ناش من مصلحة في الترك، لا من مفسدة في الفعل.

2. انّ رجحان الترك و كونه محبوباً لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه كمخالفة بني أُمية و لأجل انطباقها عليه صار الترك ذا مصلحة كالفعل.

3. انّ النهي عن الصوم، يؤوّل إلى تعلّق الطلب بالترك، فيخرج المورد عن صلاحية الاستدلال، لعدم تعلّق النهي بالصوم أبداً، بل تعلّق به الأمر فقط، و في

ص:232


1- الكفاية: 2561/255.

الحقيقة هنا طلبان، يتعلّق أحدهما بالفعل و الآخر بالترك فيكون من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لو لا الأهمية، و إلاّ فيقدم الأهم و إن كان المهم أيضاً يقع صحيحاً لرجحانه و موافقته للغرض، و أرجحية الترك لا توجب منقصة في الفعل بل الفعل يكون ذا مصلحة خالصة و إن كان الترك لأجل انطباق عنوان عليه مثله.

الثاني: نفس ذلك الجواب غير أنّ العنوان الراجح ليس منطبقاً على الترك، بل ملازماً معه كملازمة ترك الصوم مع التمكّن من إقامة العزاء على الحسين) عليه السلام (.

فإذا فرض أنّ الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل لا محالة يكون الترك أرجح منه، و لا فرق بين العنوان المنطبق و الملازم إلاّ أنّ الطلب في الأوّل يتعلّق بالترك حقيقة، لاتّحاد العنوان مع الترك، بخلاف الثاني فانّ الطلب يتعلّق بالعنوان الراجح الملازم حقيقة، و بالترك بالعرض و المجاز، إذ الملازم خارج عن حقيقة الترك، فلا يتجاوز الطلب عن العنوان إلى الملازم.

الثالث: حمل النهي على الإرشاد إلى أنّ الترك أرجح من الفعل أو ملازم لما هو أرجح و أكثر ثواباً، فيكون النهي متعلّقاً بالصوم حقيقة، لا بالعرض و المجاز كما في الوجه الثاني، و الكراهة في المقام ليس بمعنى المنقصة في الفعل، بل بمعنى كونه أقلّ ثواباً.

ففي الكراهة اصطلاحان، أحدهما وجود المنقصة، و الثاني كون العبادة، أقلّ ثواباً، و هذا هو المراد من قولهم: عبادة مكروهة.

هذا إيضاح ما في الكفاية.

يلاحظ على الجواب الأوّل: أوّلاً بأنّه إذا كان الفعل و الترك متساويين في المصلحة فيصبح الفعل مباحاً لا انّه يكون كلّ منهما مستحبّاً، و يشهد على ذلك

ص:233

انّه لم يقل أحد من الفقهاء بأنّ النوافل المبتدئة في أوقات خاصّة مستحبّة فعلاً و تركاً، أو الإفطار في يوم عاشوراء مستحب فعلاً و تركاً.

و ثانياً: انّ تأويل قوله:» لا تصم يوم عاشوراء «، الذي هو بمعنى الزجر عن الفعل، إلى طلب الترك، بحيث يصبح الترك كالفعل، أمراً مستحبّاً، أمر غير صحيح، فأين الزجر عن الفعل الذي هو مفاد النهي من طلب الترك المقصود منه استحباب الترك.

و يلاحظ على الجواب الثاني: بأنّ إرجاع لا تصم يوم عاشوراء إلى طلب الترك و جعل الثاني كناية عن الدعوة إلى إقامة العزاء للحسين، تأويل في تأويل، مضافاً إلى أنّه يشترط في صحّة الكناية وجود الملازمة العقلية أو العرفية بين ذكر الملزوم و إرادة اللازم، و هي مفقودة في المقام، إذ ربّما صائم يقيم العزاء، و ربّما مفطر لا يقيمه، فكيف يكون النهي عن الصوم المتأوّل إلى طلب الترك، كناية عن إقامة العزاء؟! نعم لا بأس بالجواب الثالث، و هو كون النهي إرشاداً إلى أنّ الفعل أقلّ ثواباً من الترك المنطبق عليه عنوان المخالفة لأعداء الدين الملازم لما هو أرجح من الفعل على فرض صحته.

إلى هنا تمّ تحليل ما أفاده المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة، و قد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخرى ربّما تصل مع الأجوبة لصاحب الكفاية إلى وجوه ستّة، فنقول على غرار ما سبق.

الرابع: انّ السابر في الروايات التي جمعها الحرّ العاملي في الباب 21 من أبواب الصوم المندوب، انّ يوم عاشوراء يوم حزن و مصيبة لأهل البيت و شيعتهم، و يوم فرح و سرور لأعدائهم، و قد صام ذلك اليوم آل زياد و آل مروان شكراً و فرحاً

ص:234

و تبركاً، فمن صامه يقع في زمرة من يصومه شكراً للمصيبة الواردة على أهل البيت و شكراً على سلامة أعدائهم.

فعند ما سأل الراوي عن صوم يوم عاشوراء، قال ذلك يوم قتل فيه الحسين، فإن كنت شامتاً فصم ثمّ قال: إنّ آل أُمية نذروا نذراً إنْ قتل الحسين أن يتخذوا ذلك اليوم عيداً لهم، يصومون فيه شكراً و يُفرِّحون أولادَهم، فصارت في آل أبي سفيان سنّة إلى اليوم، فلذلك يصومونه و يدخلون على أهاليهم و عيالاتهم الفرح ذلك اليوم، ثمّ قال: الصوم لا يكون للمصيبة و لا يكون إلاّ شكراً للسلامة، و انّ الحسين) عليه السلام (أُصيب يوم عاشوراء فإن كنت فيمن أُصيب به فلا تصم، و إن كنت شامتاً ممّن سرّه سلامة بني أُمية فصم شكراً للّه تعالى.(1)

فعلى ضوء هذه الروايات فالمبغوض هو التشبّه ببني أُمية و الانسلاك في عدادهم و لو في الظاهر، فقد كانوا متبرّكين بهذا اليوم كما في الزيارة:» اللّهمّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أُمية و ابن آكلة الأكباد «، و كان صوم ذلك اليوم من مظاهر التشبّه على نحو لولاه لما توجّه إليه نهي، و عندئذ يصبح الصوم مأموراً به، لا منهياً عنه، و إنّما المنهيّ عنه هو التشبّه و الانسلاك في عدادهم في الظاهر، فأين اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد؟ فإن قلت: النهي عن الصوم، كناية عن النهي عن التشبّه يتوقّف على وجود الملازمة بين النهيين كما مرّ في الجواب الثاني للمحقّق الخراساني.

قلت: الملازمة هنا واضحة، بعد شيوع عمل الأمويين و المروانيين في هذا اليوم و انّهم كانوا يصومون ذلك اليوم للتبرّك و الفرح.

الخامس: ما أفاده المحقّق البروجردي من كون الصوم منهيّاً عنه، و ليس

ص:235


1- الوسائل: 7، الباب 21 من أبواب الصوم المندوب، الحديث 7.

بمأمور به، و لو صام و إن كان صحيحاً لكن الصحة لا تكشف عن الأمر، لاحتمال كونها لأجل الملاك.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحكم بالصحة جازماً فرع وجود الأمر و لولاه لما كان هنا كاشف عن الملاك قطعاً.

السادس: انّ متعلّقي الأمر بالصوم و النهي عنه مختلفان فالأمر تعلّق بنفس الصوم، و النهي تعلّق بالصوم بداعي أمره الاستحبابي فلا يكون متعلّقه متحداً مع متعلّقه ليلزم اجتماع الضدين في شيء واحد، و النهي ليس ناشئاً عن وجود مفسدة في ذات الصوم أو وجود مصلحة في تركه كما عليه المحقّق الخراساني بل هو ناش عن مفسدة في التعبد بهذه العبارة) بقصد أمرها (لما فيه من المشابهة و الموافقة لأعداء الدين فالنهي مولوي حقيقي ناش عن المفسدة في التعبدي.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: نحن نفترض امتناع أخذ قصد الأمر في متعلّقه و إن كان الحقّ خلافه لكن متعلّق الأمر لباً و حسب حكم العقل، هو إيقاع الصوم بقصد أمره و إلاّ يصبح الصوم واجباً توصلياً و هو خلف الفرض.

فإذا كان متعلّق الأمر هو الصوم بقصد العبادة، و كان هو أيضاً متعلّقاً للنهي يلزم اتحاد متعلق الأمرين.

و ثانياً: أنّ ما ذكره افتراض لا دليل عليه، و لو انّه) قدس سره (اكتفى بما في آخر كلامه من أنّ النهي لأجل المشابهة و الموافقة لأعداء الدين، يكون أفضل و يرجع محصل مرامه إلى ما ذكرنا في الوجه الرابع.

ص:236


1- نهاية الأُصول: 243، و الموجود في اللمعات التي هي تقرير لدرس السيد البروجردي غير ذلك، و يقرب مما ذكرناه في الوجه الرابع فلاحظ.
2- المحاضرات: 4/317 بتلخيص.
القسم الثاني: النهي عن عبادة لها بدل

استدلّ المجوز بورود النهي عن العبادات التي لها بدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام مع تعلّق الأمر بالصلاة مطلقاً، و لما كان المحقّق الخراساني قائلاً بالامتناع حاول أن يصحح النهي على وجه لا يصادم مختاره.

توضيحه: انّه لو قلنا بأنّ جواز الاجتماع يختص بما إذا كان بين المتعلّقين عموم و خصوص من وجه كالصلاة و الغصب دون ما إذا كان بينهما عموم و خصوص مطلق، كالمقام، يكون الاجتماعي و الامتناعي أمام هذا القسم سواء، فيجب على كلتا الطائفتين الإجابة عن الاستدلال، و أمّا لو قلنا بجواز الاجتماع مطلقاً حتّى فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم مطلق، فالاجتماعي في فسحة من الجواب، بل له أن يتّخذ ذلك دليلاً على مدعاه.

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى الجواز مطلقاً من غير فرق بين العموم من وجه أو العموم المطلق، و لذلك قال في المقام: نحن في فسحة من القسمين الأخيرين) القسم الثاني و الثالث (، لأنّا اخترنا الجواز كما تقدّم.(1)

و قال أيضاً: و هل يجري النزاع في الأخص المطلق، كالأخص من وجه حسب المورد؟ الظاهر جريانه فيه، و يلتزم الاجتماعي بالجواز في كلا الموردين، فلو فرض أنّ خياطة الثوب تكون ذات مصلحة تامّة ملزمة و كانت تمام الموضوع لتلك المصلحة بلا مدخلية شيء وجودي أو عدمي فيها بأن يتعلّق الأمر بها بنفس ذاتها على الإطلاق أي بلا دخالة قيد فيها لا بمعنى السراية إلى الافراد.

و لو فرض انّ في خياطته في دار زيد مفسدة تامّة بحيث تكون الخياطة فيها

ص:237


1- لمحات الأُصول: 336.

تمام الموضوع للمفسدة، فلا بدّ أن يتعلّق النهي بها، فلو خاط المكلّف الثوب في دار زيد أتى بمورد الأمر بلا إشكال لتحقق الخياطة التي هي تمام الموضوع بلا مدخلية أمر وجودي أو عدمي، و أتى بمورد النهي الذي هو الخياطة في دار زيد و تكون تمام الموضوع للمفسدة و النهي، فأصل الخياطة مأمور بها، و هي مع التقييد الكذائي منهي عنها، فهما مفهومان، قد تعلّق النهي بأحدهما، و الأمر بالآخر، و أخذ أحدهما في الآخر لا يوجب اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بجهة واحدة، و اجتماعهما في الوجود بسوء اختيار المكلّف لا يوجب امتناعاً في ناحية التكليف.(1) و أشار السيد الأُستاذ إلى المسألة و ذكر لكلّ من جريان النزاع فيها و عدمه وجهاً و لم يختر شيئاً و قال: و المسألة محل إشكال.

و الكلام(2) الحاسم في المقام: هو انّ النهي في المقام على أقسام:

1. أن يكون النهي إرشاداً إلى مانعية هذه الأُمور عن الصلاة و تقييدها بعدمها كما في النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل و النجس و الميتة، فيكون النهي مقيِّداً لإطلاق ما دلّ على صحّة العبادة، دالاًّ على الفساد في العبادات و المعاملات، فهذا القسم خارج عن محط البحث.

2. أن يكون النهي لبيان حكم تحريمي كالنهي عن الوضوء و الغسل من الماء المغصوب، فالنهي يدلّ على مبغوضية متعلّقه) الوضوء بماء مغصوب (، و معه يقيّد إطلاق الأمر بالوضوء، إذ مقتضى النهي، عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج و عدم جواز تطبيق الطبيعة المأمور بها، عليه، و هذا أيضاً خارج عن محط البحث، إذ التقييد في هذين القسمين ممّا لا بدّ منه.

ص:238


1- لمحات الأُصول: 230.
2- تهذيب الأُصول: 3901/389.

3. أن يكون النهي تنزيهياً ملازماً للترخيص في متعلّقه، ففي مثل هذا لا وجه لتقييد إطلاق متعلّق الواجب، لأنّه غير مانع عن إيجاد الطبيعة في مثل هذا الفرد، غير أنّه يرى أنّ الأفضل هو غير هذا الفرد من أفراد الطبيعة.

و على ذلك لا مانع من اجتماع الأمر و النهي، و قد عرفت أنّ الميزان في صدق التزاحم عدم التكاذب في مقام الجعل و التشريع، و المفروض انّه كذلك، إذ لا مانع من الأمر بالطبيعة على وجه الإطلاق، ثمّ النهي التنزيهي عن قسم خاص منها، و يكون النهي مولوياً تنزيهياً.

إجابة المحقّق الخراساني عن القسم الثاني

ثمّ إنّ المحقّق، لما اختار امتناع الاجتماع، حاول تأويل الاستدلال بهذا النوع من الاجتماع بحمل النهي على الإرشاد إلى انطباق عنوان قبيح على الفعل، فقال: إنّ النهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل، كما يمكن أن يكون لأجل وجه رابع. و الفرق بين هذا الجواب و ما سبق من الأجوبة الثلاثة انّ بناء الأجوبة الثلاثة على انطباق عنوان راجح على الترك أو ملازمته معه، و أمّا هذا الجواب فالعنوان القبيح ) مكان الراجح في الثلاثة (منطبق على الفعل، و ذلك لأنّ الطبيعة تارة تتشخّص بمشخّص غير ملائم لها كالصلاة في الحمام فانّه مركز الخبث و الوسخ فلا يصلح أن يكون وعاء للمعراج، و أُخرى تتشخّص بمشخّص شديد الملاءمة معها كالصلاة في المسجد، و ثالثة تتشخّص بما لا يكون معه شديد الملاءمة و لا عدمها كالصلاة في الدار، و يكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيّتها فيه، إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد و يكون أكثر ثواباً.

و هذا مراد مَن يفسر الكراهة في العبادة بكونها أقلّ ثواباً، المدار في القلة

ص:239

و الكثرة هو نفس الطبيعة إذا تشخصت الطبيعة بما لا تكون معه شدّة الملاءمة) كالصلاة في البيت ( و لا عدم الملاءمة، فإن زاد ثواب الفرد على الثواب المرتب على الطبيعة الكذائية يكون مستحبّاً و إن نقص كان مكروهاً.

و لا يرد على هذا، بأنّ لازمه وصف عامّة افراد الطبيعة بالكراهة إلاّ الفرد الأعلى، لما عرفت من أنّ الميزان في التفضيل و التنقيص هو الطبيعة المتوسطة فالراجح عليها، مستحبّ و المرجوح بالنسبة إليها، مكروه.

القسم الثالث: تعلّق النهي بشيء خارج عن العبادة

إنّ للقسم الثالث ظاهراً و واقعاً، فالنهي حسب الظاهر تعلّق بالعبادة و قال: صلّ، و لا تصلّ في مواضع التهمة، فصار كالقسم الثاني من حيث إنّ النسبة بين المتعلّقين، هو العموم و الخصوص المطلق، و أمّا حسب الواقع فالنهي تعلّق بالكون في مواضع التهمة، لأجل الصلاة أو غيرها، فالكون إمّا من خصوصيات المأمور به أو من لوازمه، و النسبة بين المتعلّقين هو العموم و الخصوص من وجه كالصلاة و الغصب، و على هذا فالاجتماعي في فسحة من الإجابة، بل يعدّ ذلك من دلائل رأيه.

و بما انّ المستدل، استدلّ بظاهر الكلام و انّ العبادة في مكان خاص صارت متعلّقة للنهي دون خصوص الكون في المكان، لزمت على الاجتماعي أيضاً، الإجابة عن الإشكال.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر عن جانب الاجتماعي جوابين:

أحدهما: مبني على التصرف في متعلّق النهي.

ثانيهما: مبني على التصرف في مفهوم الحكم و معناه.

ص:240

أمّا الأوّل فبأن يقال انّ الأمر تعلّق بالعبادة، و النهي لم يتعلق بها أبداً، بل تعلّق بالكون فيها و لو نسب إلى العبادة فإنّما هو بالعرض و المجاز، فالنهي المولوي تعلّق بالكون حقيقة و بالعبادة مجازاً.

و إلى هذا الوجه أشار في» الكفاية «بقوله:» فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة، المتحدة مع ذلك العنوان أو الملازمة له، بالعرض و المجاز و كان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان «.

أمّا الثاني، فبحمل الأمر على الإرشاد، إلى ما ليس فيه هذا النقص و لا مانع من اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، إذا كان النهي إرشادياً.

و إلى هذا الوجه أشار في» الكفاية «بقوله:» و يمكن أن يكون النهي على الحقيقة إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد ممّا لا يكون متحداً معه أو ملازماً له، إذ المفروض التمكّن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلاً «.(1)

و أمّا الإجابة عنه على القول بالامتناع فالعنوان الموجب للنقصان لا يخلو إمّا أن يكون ملازماً للصلاة، أو عنواناً منطبقاً.

أمّا الأوّل فيمكن أن يقال بنفس الجواب المذكور على القول بالاجتماع، غاية الأمر انّ الاجتماعي يقول به مطلقاً في العنوان المتحد و الملازم، و الامتناعي يقول به حسب أُصوله في خصوص الملازم، بأن يقول: انّ الأمر تعلّق بالعبادة و النهي تعلّق بالعنوان الملازم، و لو نسب إلى العبادة، فإنّما هو بالعرض و المجاز و لا مانع من اختلاف المتلازمين في الحكم إذا لم يكونا متساويين كالصلاة، و الكون في مواضع التهمة الملازم لعنوان قبيح.

ص:241


1- كفاية الأُصول: 1/259.

و إنّما قلنا: إنّ هذا النوع في الجواب من الامتناعي يجري في العنوان الملازم دون العنوان المنطبق، لأنّه لو تعلّق النهي بالعنوان المنطبق، المتحد مع الصلاة يلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد و لو بعنوانين، و هو خلاف المختار عند الامتناعي، و لذا اقتصر بهذا الجواب في خصوص الملازم بخلاف الاجتماعي فانّه لقوله بالجواز، لم يفرق بين الملازم و المنطبق.

أمّا الثاني، فيحمل النهي على الإرشاد إلى أفضل الأفراد، و التحرز، عن الفرد الفاقد للفضيلة، و لا مانع من الجمع بين الأمر و النهي الإرشادي و إن تعلّق بشيء واحد لكن بعنوانين.

و على كلّ تقدير فالصلاة على القولين صحيحة، لأنّ النهي التنزيهي لا يوجب تقييد إطلاق دليل العبادة، إذ معنى التنزيه هو الدعوة إلى العدول إلى الأفراد الأُخرى، مع تجويز إيجاد الطبيعة بالفرد المنهيّ.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى أُمور، أوضحها شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في الدورة السابقة و طوى الكلام فيها في هذه الدورة فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد محمود الجلالي.(1)

ص:242


1- المحصول: 2502/247.

تنبيهات

اشارة

1

التنبيه الأول في حكم الاضطرار إلى الحرام
اشارة

إنّ لارتكاب الحرام صوراً أشار المحقّق الخراساني في كفايته إلى ثلاث منها:

الأُولى: إذا كان المكلّف متمكّناً من امتثال الواجب في غير المكان المغصوب و لكنّه أتى به فيه عن اختيار، و هذه هي التي مضى الكلام فيها تحت جواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين.

الثانية: إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن لا بسوء الاختيار كما إذا كان محبوساً في الدار المغصوبة فيقع الكلام في دخوله، و بقائه، و خروجه و حكم العبادة في هذه الحالات.

الثالثة: إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن بسوء اختياره، كما إذا دخل أرض الغير للتنزّه و أراد الخروج فهو مضطر إلى التصرف في أرض الغير عند الخروج، لكن الاضطرار طارئ عليه بسوء اختيار، إذ لم يكن هناك أيُّ إلزام على الدخول، ليضطرّ في ترك الغصب إلى الخروج الذي هو تصرّف فيه أيضاً، فيقع الكلام في حكم الخروج تكليفاً أوّلاً، و حكم الصلاة الواقعة حال الخروج وضعاً ثانياً، و هذا هو المقصود من عقد هذا التنبيه، و إليك دراسة القسمين واحداً تلو الآخر.

ص:243

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام من غير اختيار

إذا حبسه الظالم في مكان مغصوب، فالاضطرار لا عن اختيار رافع للحرمة التكليفية دخولاً و بقاءً و خروجاً أخذاً بالأدلّة.

1. قال سبحانه: (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ). (1)فالآية دالة على أنّ الأحكام محدّدة بالقدرة و الوسع، فإذا كانت فوقها، فليس هناك أي حكم للشرع.

2. حديث الرفع، روى الصدوق في خصاله عن شيخه أحمد بن محمد بن يحيى) رضي الله عنه (عن يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما أُكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه... «.(2) و الرواية صحيحة و رواتها كلّهم ثقات، و أحمد بن محمد بن يحيى العطار من مشايخ الصدوق ثقة بلا إشكال، و عدم ورود التوثيق في حقّه في الكتب الرجالية لأجل انّ المشايخ فوق التوثيق أوّلاً، و القرائن تشهد على وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى ثانياً، لأنّ الشيخ الصدوق يروي عنه و يترضّى عليه و يقول) رضي الله عنه (، و إكثار الثقات النقل عنه ثالثاً، فإنّ الثقة و إن كان يروي عن غير الثقة أحياناً و لكن كثرة النقل عن الضعيف كان من أسباب الجرح عند القدماء، و لذلك أخرج الرئيس أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري محدّثين عظيمين من قم أعني بهما: أحمد بن محمد بن خالد و سهل بن زياد الآدمي و ما هذا إلاّ لكثرة نقلهما عن الضعاف من دون أي غمز فيهما.

ص:244


1- البقرة: 286.
2- الخصال: 2، باب التسعة، الحديث 8.
في عبادة المحبوس المضطر

هذا كلّه حول الحكم التكليفي إنّما الكلام في الحكم الوضعي، أي صحّة عبادته في الحالات الثلاث دخولاً و بقاءً و خروجاً.

فلو قلنا بجواز الاجتماع فالحكم بالصحة موافق للقواعد بشرط تمشي قصد القربة، كما أنّه لو قلنا بالامتناع و قدّمنا الأمر على النهي فكذلك إنّما الكلام في القول بالعكس، أي قلنا بالامتناع و قدّمنا النهي على الأمر، فالتحقيق صحّة عبادة ذلك المضطر بغير سوء الاختيار.

لأنّ الاضطرار يرفع الحرمة التكليفية و العقوبة، و لكن ملاك الوجوب لو كان يكون مؤثراً، و ذلك لأنّه لو كان الاضطرار بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة فانّ سقوط الخطاب لا يلازم الصحة، لأنّه يصدر عنه مبغوضاً عليه و عصياناً لذلك الخطاب و مستحقاً عليه العقاب، و لكن المفروض انّ الاضطرار لم يكن بسوء الاختيار، بل فُرِض عليه ارتكابُ المحرّم من جانب القويّ القاهر و عندئذ فالحرمة مع تقدّمها على الأمر عند الامتناعي شأنية و ملاك الوجوب باق مؤثر فيكون صحيحاً.

يقول المحقّق الخراساني: إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام إن كان يوجب ارتفاع حرمته و العقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه لو كان مؤثراً له كما إذا لم يكن بحرام.(1)

فإن قلت: إنّ المانع عن تحقّق الوجوب ليس هو الحرمة الفعلية، حتّى يصير

ص:245


1- قوله:» لو كان مؤثراً له «لفظة» كان «تامة فاعلها ضمير الملاك، و قوله» مؤثراً «حال من ملاكه و معنى العبارة: بعد سقوط التحريم يبقى ملاك الوجوب لو كان مؤثراً في الوجوب و مقتضياً له لسقوط ملاك التحريم من صلاحية المزاحمة له فيترتب على بقاء الملاك أثره فعلاً.

ارتفاعها سبباً لتحقّقه، بل المانع عن تحقّقه و تأثير ملاكه فيه، هو أقوائية ملاك الحرمة) أعني: المفسدة الداعية إلى جعلها (من ملاك الوجوب) أعني المصلحة الباعثة نحو الإيجاب (فما دامت المفسدة باقية على قوتها لا مجال لتأثير ملاك الوجوب و إن كان هنا مانع عن فعلية الحرمة أيضاً.(1)

قلت: هذا ما ذكره السيّد المحقّق البروجردي لكن وجود المفسدة الأقوى من مصلحة الواجب) كالصلاة ( عند الاضطرار أوّل الكلام، لأنّ العلم بالملاك رهن وجود الحكم و فعليته، و مع عدم الفعلية كما هو المفروض كيف نستكشف وجود المفسدة الأقوى من مصلحة الواجب.

مثلاً انّ التصرف في مال الغير أمر قبيح عقلاً، لأنّه يعدّ من شقوق الظلم و التعدي على حقوقه و أمواله، و من المعلوم أنّ استقلال العقل بقبح التصرف بمال الغير محدّد بصورة الاختيار، و المفروض انّه مضطر غير مختار، بل فُرِض عليه التصرف في مال الغير فيكون عمله فاقداً للمفسدة و لو كان هناك ذمّ أو عقاب فإنّما لحامله على الحرام.

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي قاس المقام بالخمر الذي اضطرّ إلى شربه فكما أنّ ارتفاع حرمته لا يصير شربه راجحاً أو واجباً، فهكذا المقام.

فقال: مثلاً انّ الخمر مع كونه ذا مصلحة و منفعة، لكن لما كانت مفسدته راجحة، و إثمه أكبر من نفعه، صار حراماً لغلبة الملاك فلو فرضنا الاضطرار إلى شربه لمرض أو شبهه و ارتفع الخطاب لأجله، فلا يصير راجحاً أو واجباً بمجرده.

نعم لو حدثت في ظرف الاضطرار مصلحة أُخرى ملزمة أو راجحة على المفسدة صار الفعل لا محالة واجباً لكن هذا غير ما أفاده) قدس سره (.(2)

ص:246


1- نهاية الأُصول: 244، الطبعة الأُولى.
2- لمحات الأُصول: 239.

أقول: البحث في كلام المحقّق الخراساني مركّز على ما إذا كان هناك ملاكان ملزمان للوجوب و الحرمة كالصلاة و الغصب، غير أنّ ملاك الغصب غلب على ملاك الصلاة فقدم النهي على الأمر، فإذا زال النهي لأجل الاضطرار يكون ملاك الوجوب مؤثراً، لأنّ انقلاب الحرمة الفعلية إلى الشأنيّة يكون كاشفاً عن ضعف الملاك في هذه الحالة.

و بذلك تظهر الحال في المثال الذي ذكره، إذ ليس في شرب الخمر، ملاك ملزم لا قبل الشرب و لا بعده، حتّى يؤثر في الوجوب، و لذلك لا يوصف به، نعم لو طرأ ملاك ملزم كما أشار إليه في آخر كلامه كما إذا توقفت حياة الإنسان عليه، يوصف العمل بالوجوب و يكون ملاكاً مؤثراً.

ثمّ إنّه) قدس سره (بين أقسام الاضطرار و علاجه فمن أراد فليرجع إليه.

فإن قلت: لو كان النهي عن التصرف في المغصوب موجباً لتقيد الصلاة بقيد وجودي كلزوم كون الصلاة في مكان مباح أو بقيد عدمي كاشتراطها بعدم كونها في مكان مغصوب الذي مرجعه إلى مانعية الغصب لصحتها، فعندئذ يكون المأمور به مقيداً بقيد وجودي) إذا كانت الإباحة شرطاً (أو عدمي) إذا كان الغصب مانعاً (و مع عدم إمكان تحصيله يسقط الأمر بالمركب لعدم إمكان تحصيله، لا أنّ الواجب ينحصر في الباقي و يصحّ الإتيان به.

قلت: إنّ الأحكام الوضعية من الشرطية أو المانعية أُمور منتزعة من الأحكام التكليفية، فلو كان الحكم التكليفي مرفوعاً بفضل القرآن و السنّة فلا يبقى لاحتمال الشرطية و المانعية في هذه الحالة مجال. فسعة الحكم الوضعي و ضيقه تابع لسعة الحكم التكليفي و ضيقه فبارتفاعه يرتفع الوضعي.

فالظاهر صحّة عامة عباداته إلاّ ما كان له بدل مباح، فإذا دار الأمر بين

ص:247

الوضوء بماء مغصوب أو التيمم بالتراب فالثاني مقدّم على الأوّل.

فإن قلت: على هذا يجب على المحبوس الاقتصار على الإيماء و الإشارة بدلاً عن الركوع و السجود باعتبار انّهما تصرف زائد على مقدار الضرورة.(1)

قلت: ذهب جماعة إلى أنّه لا بدّ في جواز التصرف في أرض الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار، و إليه ذهب الشيخ المحقّق النائيني قائلاً بأنّ الركوع و السجود تصرف زائد عند العرف فيجب الاقتصار على الإيماء.

و لكن الصحيح ما اختاره تلميذه أعني: المحقّق الخوئي و حاصله: عدم الفرق بين كون المكلّف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة أو كونه على هيئات متعدّدة، و ذلك لأنّ كلّ جسم له حجم خاص و مقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه، و من الطبيعي أنّ مقدار أخذه المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه و أشكاله الهندسية من المثلث و المربع و ما شاكلهما بداهة انّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته و أوضاعه، و لا تختلف تلك النسبة زيادة و نقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه، مثلاً إذا اضطر الإنسان إلى البقاء في المكان المغصوب لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه و ان يكون راكعاً أو ساجداً، فكما أنّ الركوع و السجود تصرف فيه فكذلك القيام و القعود، فلا فرق بينها من هذه الناحية أصلاً.

حكم الاضطرار بسوء الاختيار

هذا هو الموضع الثاني الذي عقد لبيانه هذا التنبيه، و يقع الكلام في موارد:

ص:248


1- المحاضرات: 4/355. و لاحظ جواهر الكلام: 8/300.

1. حكم الدخول.

2. حكم الخروج تكليفاً.

3. حكم العبادة حين الخروج وضعاً.

أمّا الأوّل أي حكم الدخول فلا شكّ انّه أمر محرم،

لأنّه تصرّف في مال الغير بلا عذر فيكون محرماً، إنّما الكلام في الأمر الثاني، و هذا ما سندرسه.

الثاني: حكم الخروج تكليفاً

إذا توسط أرضاً مغصوبة بسوء الاختيار كأن دخل حديقة الغير للتنزّه و غيره، ثمّ حاول أن يخرج و يترك الغصب، فما هو حكم الخروج من حيث الحكم التكليفي؟ هناك أقوال:

1. انّ الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي و ليس بواجب شرعاً، و هو خيرة السيد البروجردي و السيد الأُستاذ قدس سرهما.

2. انّه مأمور به شرعاً و ليس وراء الأمر أي حكم شرعي، و هو خيرة المحقّق الأنصاري و النائيني.

3. انّه مأمور به شرعاً لكن مع جريان حكم المعصية عليه حيث إنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار، اختاره صاحب الفصول.

4. انّه واجب و حرام بالفعل، و هو خيرة أبي هاشم الجبائي المعتزلي) المتوفّى عام 321 ه (و اختاره المحقّق القمي.

5. انّه واجب عقلاً لدفع أشد المحذورين بارتكاب أخف القبيحين و ليس محكوماً بحكم شرعي بالفعل.

نعم هو منهي عنه بالنهي السابق الساقط

ص:249

بالاضطرار، و هذا خيرة المحقّق الخراساني و هو الأقوى.

6. انّه مأمور به و منهي عنه لكن بالترتّب فكأنّه قال: لا تغصب، و هو يشمل الدخول و البقاء و الخروج، ثمّ قال: فإن عصيت فاخرج.

هذه هي الأقوال الستة فلندرس قول المحقّق الخراساني أوّلاً، ثمّ بقية الأقوال ثانياً.

فقوله مركّب من أُمور:

1. واجب بالوجوب العقلي.

2. ليس واجباً بالوجوب الشرعي.

3. منهي عنه بالنهي السابق الساقط.

4. انّ أثر النهي و هو العقاب باق.

و إليك دراسة الأُمور الأربعة:

أمّا الأوّل، فلاستقلال العقل بوجوب الخروج و التخلّص، لأنّه الطريق الوحيد للتخلّص من أشدِّ المحذورين بارتكاب أقلّهما، فلو دار الأمر بين قليل العصيان و كثيره فالعقل يستقل بتقديم الأقل.

و أمّا الثاني، أي ليس محكوماً بحكم شرعي من الوجوب، و ذلك لأنّه لو كان واجباً فإمّا أن يكون وجوبه نفسيّاً أو مقدّمياً.

أمّا النفسي فلم يرد في الشرع ما يدلّ على وجوب الخروج من المغصوب و إنّما ورد المنع عن التصرّف في المغصوب.

و أمّا الغيري فهو فرع القول بأنّ حرمة الشيء تلازم وجوب ضدّه العام، أعني: تركه، كحرمة الغصب الملازم لوجوب تركه، فإذا وجب الترك تجب مقدّمته، أعني: الخروج حيث إنّه مقدمة لترك الغصب، أو يقال كما يأتي عن

ص:250

الشيخ بأنّ حرمة البقاء الذي هو من مصاديق الغصب، يستلزم وجوب تركه و الخروج مقدّمة له.

و من المعلوم أنّ المقدّمات ممنوعة لعدم دلالة حرمة الشيء على وجوب تركه حتّى تجب مقدّمته.

و أمّا الثالث، أي كون النهي السابق ساقطاً فلأجل عدم إمكان امتثاله بعد التوسط، فقوله: لا تغصب، و إن كان قبل الدخول يعمّ الدخول و البقاء و الخروج، لأنّ الجميع من مصاديق الغصب، لكنّه بعد الدخول و لو بسوء الاختيار لا يتمكن المكلّف من امتثال قوله لا تغصب المتمثّل في البقاء و الخروج.

نعم ذهب العلاّمة الطباطبائي إلى تصحيح وجوب الخطاب) لا تغصب (و لو بعد ما توسط الأرض المغصوبة قائلاً: بأنّه يكفي في صحّة الخطاب ترتّب الأثر عليه و إن كان الأثر نفس العقاب، و يكفي في القدرة، القدرة على الامتثال في ظرف من الظروف، و الشرطان حاصلان و المكلّف كان قادراً على ترك التصرّف الخروجي قبل الدخول، و هو يكفي في بقاء الخطاب حتى في صورة العجز عن الامتثال كما إذا توسّطها، و فائدة الخطاب مع عجزه هي صحّة عقابه و مؤاخذته.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين الخطاب النابع عن الإرادة الجدّية في حال الاضطرار و بين قيام الحجة على المضطر في هذا الظرف، و الأوّل منتف، لامتناع تعلّق الإرادة بفعل العاجز، و الثاني ثابت بلا كلام، لأنّ القدرة قبل الدخول أتمّت الحجّة على العبد في جميع أحواله من الدخول و البقاء و الخروج، و القدرة في ظرف خاص إنّما تكفي في إتمام الحجّة حين المخالفة لا في توجّه الخطاب.

و أمّا الرابع، فهو جريان حكم المعصية عليه و كونه معاقباً فقد علم ممّا ذكرنا

ص:251


1- التعليقة على الكفاية: 143.

حيث إنّ القدرة في ظرف من الظروف أعني: قبل الدخول تصحح العقوبة على التصرّف الخروجي و إن لم يكن في ظرف العمل قادراً، و قد عرفت فيما سبق أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكاً و عقوبة.

نعم ينافي الاختيار حكماً و خطاباً و لذاك قلنا بسقوط الخطاب السابق و بقاء الملاك، أعني: العقاب و هو الرابع.

و بذلك يظهر الحال فيما أفاده السيد المحقّق البروجردي حيث قال: إذا سقط النهي فلا معنى للعصيان و المخالفة و مجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار لا يوجب المخالفة و العصيان، مع عدم النهي الفعلي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ صدق العصيان، ليس رهن النهي الفعلي، بل يكفي في ذلك تمامية الحجّة عليه و لو قبل العمل، فالساقط من شاهق عاص بسقوطه و إن لم يكن النهي فعلياً، لتمامية الحجّة عليه، فمن علم بنجاسة أحد الإناءين تمّت الحجّة عليه و لزمه الاجتناب مطلقاً، و لو اضطرّ إلى أحد الأطراف لا يحل له الطرف الآخر و إن لم يكن العلم الإجمالي موجوداً لتماميّة الحجّة عليه قبل الاضطرار، و هو كاف في إيجاب الاجتناب عن الإناء غير المضطر إليه.

فخرجنا بالنتيجة التالية: نظرية المحقّق الخراساني هي أقوى النظريات في المقام، فلندرس سائر

الأقوال على الترتيب المذكور في صدر البحث.
الأوّل: الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي فقط

ذهب السيد المحقّق البروجردي إلى أنّ الخروج حرام و ليس بواجب، أمّا أنّه حرام فلأنّ التصرّف في مال الغير، بغير إذنه أو مع نهيه، حرام و خروج عن طاعة

ص:252


1- لمحات: 242.

المولى، من دون فرق بين التصرّف الدخولي و الخروجي في نظر العقل فإنّه يرى جميع التصرفات في كونها معصية و خروجاً عن رسم العبودية متساوية.

و أمّا أنّه ليس بواجب، فلأنّ وجوبه إمّا بالخصوص فلا دليل عليه، و إمّا لكونه مقدّمة لترك الغصب الواجب، فهو أيضاً مثله، إذ لم يرد دليل على وجوب ترك الغصب و ما ورد من أنّ الغصب مردود، فإنّما تأكيد لحرمة الغصب.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ حرمة الخروج إمّا لأجل تعلّق النهي به بالخصوص، أو لأجل انّه تصرّف في مال الغير; أمّا الأوّل فهو دفع الفاسد بالأفسد، لأنّ النهي عن الخروج بما هو هو يستلزم البقاء في المغصوب إلى آخر العمر و هو أشدّ محذوراً، و أمّا الثاني فهو يستلزم التكليف بالمحال، لعدم قدرته على امتثال ذلك النهي إلاّ أن يلتجئ إلى البقاء، و هو أيضاً حرام.

فإن قلت: إنّ الامتناع بالاختيار، لا ينافي الاختيار.

قلت: قد سبق انّ القاعدة صحيحة، و لكن المراد أنّه لا ينافي ملاكاً و عقاباً، لا خطاباً و حكماً، فهو معاقب إذ كان في وسعه امتثال هذا النهي الشامل للخروج أيضاً بترك الدخول، لأنّه عصى و دخل فيعاقب على الخروج للنهي السابق الساقط لا أنّه مخاطب بالفعل بالنهي عن الخروج.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ) قدس سره (اختار نظرية السيد البروجردي و استدلّ عليه لكن بطريق آخر، و هو ما اختاره من أنّ خطابات الشرع، خطابات قانونية و ليست خطابات شخصية، و يكفي في صحّة الخطاب القانوني، اجتماعُ الشرائط العامّة في كثير من المكلّفين لا في كلّ واحد، بخلاف الخطاب الشخصي فانّه يشترط اجتماع الشرائط العامة في كلّ مخاطب بالخصوص.

ص:253


1- لمحات: 244.

توضيح ذلك: انّ الخطاب تارة يتعلّق بالعنوان الكلّي كالناس و المؤمنين، و أُخرى بفرد معيّن، و معنى الخطاب في الأوّل جعل الحكم على العنوان الكلّي من دون لحاظ كلّ واحد واحد من الأفراد التي ينطبق عليها العنوان، و يكفي في صحّة الخطاب و عدم لغويته، اجتماع الشرائط في كثير من مصاديق العنوان، لا في كلّ واحد، بخلاف الخطاب الشخصي، فانّ الصحّة فيه رهن اجتماع الشرائط في نفس المخاطب.

فإن قلت: إنّ العقل يتصرّف في الخطابات القانونية، و يقيّدها بالقدرة، فعندئذ يكون الخطاب القانوني، كالخطاب الشخصي في اعتبار القدرة في كليهما.

قلت: ليس من شأن العقل، التصرّفُ في إرادة الغير و خطابه، غاية ما في الباب أنّ للعقل، التعذير، فإذا كان بعض المكلّفين فاقداً للشرط أو الشرائط يعدّه معذوراً في مخالفة التكليف من دون أن يتصرّف في إرادة المولى، أو خطابه.

و على ضوء ذلك يكون الخروج محرّماً و مصداقاً للحكم الكلّي، أعني: حرمة التصرّف في مال الغير المطلق الشامل للقادر و العاجز، و أمّا التعذير فإنّما يصحّ إذا كان بغير سوء الاختيار، دون ما إذا كان معه كما في المقام.

فخرجنا بالنتيجة التالية: من كون التصرّف» الخروج «حراماً لكونه مصداقاً لحرمة التصرّف في مال، و انّ الخطاب أو الحكم شامل، و إن كان عاجزاً، إذ لا يشترط القدرة في كلّ واحد من الأفراد، و أمّا التعذير فهو منتف لأجل سوء الاختيار.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بالنقض بالخطاب الشخصي فإنّه مقيّد بالقدرة، مع كون الخطاب أو الحكم مطلقاً، فهل المقيّد هو المولى أو العقل؟ و الأوّل منتف لإطلاق

ص:254


1- تهذيب الأُصول: 1/404.

خطابه و كلامه، و الثاني يستلزم تصرّف العقل في إرادة المولى.

و ثانياً: أنّ العقل لا يتصرّف في إرادة المولى و إنّما يكشف عن ضيق إرادته و عدم تعلّقها إلاّ بالقادر، فكم فرق بين التصرّف في إرادة المولى و حمله على ما يحكم به العقل، و بين كشف العقل عما في ضمير الجاعل و صميم ذهنه، و هو انّ الطلب من العاجز و إن كان بسوء الاختيار غير صحيح، لأنّه تكليف بالمحال.

و ثالثاً: بما تقدّم في باب الترتب من أنّ الإجمال في مقام الثبوت غير ممكن، فلو سئل المولى عن عموم حكمه للعاجز، لأجاب بالنفي، لأنّه تكليف بالمحال.

الثاني: الخروج واجب شرعاً

ذهب الشيخ الأنصاري و المحقّق النائيني إلى أنّ الخروج واجب شرعاً و ليس وراء الوجوب حكم سواه، و استدلّ عليه بوجوه ثلاثة نقلها المحقّق الخراساني بصورة السؤال و الجواب.

الأوّل: أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الواجب الأهم، و مقدّمة الواجب، واجبة، فلا يكون منهياً عنه لامتناع الاجتماع.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

أوّلاً: أنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة إذا كانت مباحة لا محرمة، و كون الواجب أهمّ من المقدّمة المحرّمة و إن كان يوجب وجوبها إلاّ أنّه فيما إذا لم يكن بسوء الاختيار، و معه لا يتغير عمّا هو عليه من الحرمة و المبغوضية.

توضيحه: انّ المقدّمة المحرّمة على أقسام ثلاثة:

1. أن لا تكون المقدّمة منحصرة بالحرام، بل كان معها مقدّمة مباحة، و عندئذ لا توصف المقدّمة المحرمة بالوجوب لعدم الانحصار، و بالتالي عدم

ص:255

التوقف عليه.

2. أن تكون المقدمة منحصرة به، و لكن لم يكن الابتلاء بها عن سوء الاختيار، فلو كان الواجب أهمّ من حرمة المقدّمة ليطرأ عليها الوجوب، كالمحبوس في مكان مغصوب إذا أُطلق سراحه فيكون الخروج واجباً على فرض وجوب ترك البقاء.

3. تلك الصورة و لكن كان الابتلاء بسوء الاختيار كما في المقام، فلا توصف المقدّمة بالخروج شرعاً و إن كان الواجب أهمّ من المقدمة، غير أنّ العقل يحكم بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين.

و ثانياً: لو قلنا بوجوب المقدمة) الخروج (في هذه الحالة يلزم أن تكون حرمة الخروج و وجوبها، معلّقة على إرادة المكلّف، فلو لم يدخل، يبقى الخروج على حرمته، لكونه من مصاديق الغصب; و إن دخل، صار واجباً بحكم كونه مقدّمة للواجب.(1)

و الأولى أن يجاب بأنّ أصل الدليل باطل، لأنّه مبني على وجوب» ترك البقاء «الذي مقدّمته الخروج، مع أنّ الحكم الشرعي في المقام هو حرمة الغصب، لا وجوب ترك البقاء، اللّهم إلاّ إذا قلنا بأنّه إذا حرم الشيء) البقاء بما أنّه من مصاديق الغصب (، وجب تركه أخذاً بالقاعدة المعروفة من أنّ حرمة الشيء تستلزم وجوب ضدّه العام أي الترك و قد عرفت في مبحث الضدّ عدم صحته.

*** الثاني: انّ التصرّف في أرض الغير حرام دخولاً و بقاءً، و أمّا التصرّف الخروجي فليس بحرام، أمّا قبل الدخول فلعدم التمكّن منه، و أمّا بعده فلكونه

ص:256


1- كفاية الأُصول: 2651/264.

مضطرّاً إليه لانّه سبب للتخلص، فحاله حال من يشرب الخمر للتخلص عن الوقوع في التهلكة.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. بالنقض بالبقاء فانّه غير مقدور قبل الدخول، مع أنّه حرام، و بالنقض بالأفعال التوليدية كالإحراق المترتّبة على الأفعال المباشرية كالإلقاء فإنّ تركها بتركها و إيجادها بإيجادها.

2. بالحل فانّ التصرّف الخروجي مقدور، غاية الأمر انّه مقدور بالواسطة، فتركه بترك الدخول، و المقدور بالواسطة مقدور أيضاً، و كون ترك الخروج بترك الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع لا يضرّ في صدق المقدورية.

و إلى هذا الوجه أشار بقوله:» ضرورة تمكّنه من) ترك الخروج (قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره، و بالجملة كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً غاية الأمر يتمكّن من الدخول بلا واسطة، و من الخروج بالواسطة، و مجرّد عدم التمكّن منه إلاّ بالواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً.

3. انّ قياس الخروج بشرب الخمر لأجل التخلّص من الهلكة قياس مع الفارق، لأنّ اضطراره إلى شرب الخمر لم يكن بسوء الاختيار، كما إذا لسعه العقرب فاضطرّ إلى شرب الخمر بتجويز الطبيب، بخلاف المقام.

و إلى هذا الوجه أشار بقوله:» و من هنا ظهر حال شرب الخمر... «.

و نشير في المقام إلى نكتتين:

الأُولى: انّ الاستدلال و الإجابة مبنيّان على أنّ كلا من الدخول و البقاء، و الخروج متعلّقات للحرمة بعناوينها، فعندئذ يُوجَّه استدلال الشيخ بأنّه كيف يكون الخروج حراماً، مع أنّه غير مقدور؟ كما يوجّه إجابة المحقق الخراساني بأنّه

ص:257

مقدور بالواسطة.

و لكن الحقّ أنّ هنا حكماً واحداً متعلّقاً بموضوع واحد، و هو حرمة التصرف في مال الغير إذا كان بسوء الاختيار، فكلّ من الدخول و البقاء و الخروج، حرام لأجل انّها من مصاديق التقلّب في مال الغير و التصرّف فيه، لا بما أنّه دخول، أو بقاء، أو خروج، فوصف التصرّف بهذه العناوين إنّما هو من جانب المكلّف لا من جانب الشارع، و عندئذ يسقط البرهان، و مع سقوطه لا يبقى مجال للإجابة.

الثانية: انّ الشيخ شبّه المقام بمن يضطرّ إلى شرب الخمر للنجاة من الهلكة و لكنّه في غير موقعه، إذ في مورد الخمر حكمان شرعيان.

أ. وجوب حفظ النفس من الهلكة.

ب. حرمة شرب الخمر.

فإذا كان الأوّل أهمّ في نظر الشارع يقدّم حكمه على حرمة المقدّمة) الخمر (. بخلاف المقام، إذ ليس فيه إلاّ تكليف واحد و هو حرمة التصرّف في مال الغير، و أمّا وجوب التخلّص من الغير، أو ردّه إليه، أو الخروج من المغصوب فكلّها أحكام عقلية مشتقة من حكم الشارع بحرمة الغصب، فليس في المقام حكمان شرعيان يكون أحدهما أهمّ من الآخر.

*** الثالث: كيف يكون مثل الخروج ممنوعاً عنه شرعاً و معاقباً عليه عقلاً، مع بقاء ما يتوقّف عليه) ترك البقاء أو التخلّص من الغصب (على وجوبه، لوضوح سقوط وجوب ذي المقدّمة مع امتناع المقدّمة المنحصرة و لو كان بسوء الاختيار، و العقل قد استقل فانّ الممنوع شرعاً كالممنوع عادة أو عقلاً؟ أقول: هذا هو الوجه الثالث الذي استدلّ به الشيخ على وجوب الخروج، و أساسه هو تسليم وجوب » ترك البقاء «أو» التخلّص من الغصب «و مع فرض

ص:258

وجوب ذيها، لا تعقل حرمة المقدّمة، تنزيلاً للممنوع الشرعي منزلة الامتناع العقلي.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. إنّما يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً إذا لم يكن هناك إرشاد من العقل إلى لزوم الأخذ بأقل المحذورين و الخروج ليتخلّص عن أشدّهما، و مع حكم العقل بالخروج، لا يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً.

يلاحظ على هذا الجواب: هو وجود التناقض بين ايجاب ذي المقدّمة شرعاً) وجوب التخلّص (و تحريم مقدّمتها، فانّ إيجاب ذيها، يلازم إيجاب مقدّمتها، أو لا أقل من عدم تحريم المقدّمة، فإيجاب ذيها مع تحريم مقدّمته ممّا لا يجتمعان.

2. انّ الخروج عن هذا المأزق لا يصحّ إيجاب الشيء مع تحريم مقدّمته، و انّ ارشاد العقل إلى الخروج غير كاف كما يتحقّق بتحليل المقدّمة) الخروج (، يتحقّق بنحو آخر أيضاً و هو سقوط وجوب ذيها، أعني:» وجوب ترك البقاء «أو» التخلّص من الغصب «، و بكلمة جامعة سقوط» حرمة الغصب «بعد الدخول للعصيان فانّه أحد أسباب سقوط التكليف و يتبعه عدم وجوب المقدّمة، مع بقاء حكم العقل بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين كما حقّقناه.

إلى هنا تمّت دراسة القول الثاني، و إليك دراسة القول الثالث و هو قول صاحب الفصول.

القول الثالث: مأمور به، و منهي بالنهي الساقط

ذهب المحقّق صاحب الفصول إلى قول ثالث مركّب من جزءين:

ص:259

1. الخروج مأمور به و واجب شرعاً.

2. انّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط.

فقد وافقه الشيخ الأنصاري في الجزء الأوّل، كما وافقه المحقّق الخراساني في الجزء الثاني، فلو كان هنا ردّ عليه من المحقّق الخراساني، فلا بدّ أن يتوجّه إلى الجزء الأوّل دون الثاني و لذلك ردّ على الأوّل بأُمور:

أ: ما قد مرّ في دراسة نظرية الأنصاري أنّه لا وجه لوجوب الخروج شرعاً.

ب: انّه يستلزم اتصاف فعل واحد) الخروج (بعنوان واحد بالوجوب و الحرمة.

فإن قلت: إنّه لا مانع من اجتماع حكمين مختلفين، لاختلاف زمان تعلّقهما، لأنّ زمان تعلّق الحرمة هو قبل الدخول، و زمان تعلّق الوجوب بعد الدخول و التصرف في الأرض.

قلت: لا ينفع اختلاف زمان التعلّق، مع اتّحاد زمان الفعل المتعلّق به، و إنّما المفيد، اختلاف زمان الفعل و لو مع اتحاد زمانهما، فلو نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة، و أمر يوم الخميس بصوم ذلك اليوم، لزم التكليف بالمحال، و إن كان زمان التعلّق مختلفاً، بخلاف ما لو أمر و نهى و لو في آن واحد بصوم يوم الخميس و نهى عن صوم يوم الجمعة، و المقام من قبيل القسم الأوّل، لأنّ الدخول منهي عنه بالنهي السابق على الدخول و مأمور به بالأمر اللاحق بعد الدخول فزمان التعلّق و إن كان مختلفاً، لكن زمان الفعل و الامتثال واحد.

فإن قلت: إنّ النهي مطلق يعم الحالات الثلاث: الدخول و البقاء و الخروج، و الأمر بالخروج مشروط بالدخول، فلا منافاة بينهما.

ص:260

قلت: كيف لا منافاة بينهما، مع أنّ المأمور به، قسم من المنهي عنه، و شمول إطلاق المنهيّ عنه لخصوص الخروج بعد الدخول، ينافي كونه واجباً بالخصوص.

هذا توضيح مقالة المحقّق الخراساني، حول نقد القول الثالث لصاحب الفصول.

أقول: ما أفاده من أنّه لا دليل على وجوب الخروج حق لا غبار عليه، إنّما الكلام فيما ذكره من امتناع كون الخروج محرّماً بالنهي السابق الساقط و واجباً بعد الدخول لاستلزامه طلب المحال. ذلك لأنّه إنّما يلزم طلب المحال لو كان النهي باقياً في ظرف امتثال الأمر بالخروج، و أمّا إذا كان ساقطاً في نفس ذلك الظرف فلا يلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد.

و ما ذكره من أنّ الميزان في الصحة و الامتناع اختلاف زمان الفعل و الامتثال و وحدتهما و إن كان صحيحاً، لكن وحدة المتعلّق إنّما تكون سبباً للامتناع إذا كان كلا الحكمين باقياً إلى زمان الامتثال، دون ما إذا كان أحدهما ساقطاً بالعصيان كما في المقام أو بالنسخ كما في غيره.

و المقام نظير ما لو أمر يوم الأربعاء بصوم يوم الجمعة، و نهى عنه يوم الخميس، و مع ذلك نَسخ أحد الحكمين قُبيل ظرف الامتثال.

و جريان حكم المعصية، ليس بمعنى بقاء الخطاب و الحكم، بل بمعنى انّه كان قبل الدخول قادراً على امتثال» لا تغصب «بأقسامه الثلاثة، و لما عصى باختياره، يعاقب على الخروج لأجل أنّه بالدخول، أعجز نفسه عن امتثال الخطاب في مورد هذا المصداق، و هذا غير بقاء الخطاب و الحكم في حال الخروج.

ص:261

فإن قلت: انّ الخروج إن كان مشتملاً على المفسدة امتنع تعلّق الأمر به، و إن كان مشتملاً على المصلحة امتنع تعلّق النهي به.

قلت: قد مرّ أنّ المصالح و المفاسد، ليست من الأعراض القائمة بالفعل حتّى يمتنع اجتماعهما في الموضوع كالبياض و السواد، و إنّما هي جهات خارجية راجعة إلى حياة الفرد و المجتمع، و لا مانع من أن يكون الشيء ذا مصلحة من جهة و مفسدة من جهة أُخرى.

إلى هنا تبيّن حال القول الثالث، فلندرس القول الرابع و هو قول أبي هاشم الجبائي و المحقّق القمي.

القول الرابع: انّه مأمور به و منهيّ عنه

ذهب أبو هاشم الجبائي) المتوفّى 321 ه (و المحقّق القمي) المتوفّى 1231 ه (إلى أنّ الخروج مأمور به و منهي عنه و كلاهما فعليان.

و قد استدلّ لهذا القول كما نقله المحقّق الخراساني في آخر كلامه حول هذا القول بأنّ الأمر بالتخلّص، و النهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما، و لا موجب للتقييد عقلاً، لعدم استحالة كون الخروج واجباً و حراماً باعتبارين مختلفين) التخلّص و الغصب (.

إذ منشأ الاستحالة:

إمّا لزوم اجتماع الضدين، و هو غير لازم مع تعدّد الجهة.

و إمّا لزوم التكليف بما لا يطاق، و هو ليس بمحال إذا كان مسبباً عن سوء الاختيار.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه:

ص:262

أوّلاً: من لزوم التقييد و تقديم أحدهما على الآخر، فيما إذا تعدّد العنوان، و الجهة حقيقة، كما إذا تعلّق الأمر بعنوان الصلاة، و النهي بعنوان الغصب، و إلاّ يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد و هو الفعل الخارجي لتعلّق الأحكام بالمصاديق دون العنوانين.

ثانياً: لو قلنا بالجواز هناك فلا نقول بالجواز في المقام لعدم تعدد الجهة، و ذلك لأنّ عنوان التخلّص ليس عنواناً تقييدياً حتّى يتعلّق الأمر به و النهي بالغصب و إنّما هو عنوان انتزاعي، ينتزع من خروج الغاصب عن أرض الغير، و هو علّة غائية و ليس بموضوع للحكم، كأنّ الشارع يقول أخرج لأجل التخلّص من الغصب فيلزم اجتماع الأمر و النهي في موضوع واحد و هو الخروج.

و ثالثاً: انّ التكليف بالمحال محال حتى و إن كان بسوء الاختيار، و ما ربّما قيل من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فالمراد به انّه لا ينافي عقاباً و ملاكاً، لا انّه لا ينافي خطاباً و حكماً، لوضوح قبح خطاب العاجز و إن كان السبب للعجز هو نفسه.

و رابعاً: انّ القاعدة لا صلة لها بالمقام، و قد وردت في ردّ الأشاعرة حيث أنكروا القاعدة الفلسفية، أعني:» الشيء ما لم يجب لم يوجد «، بأنّه يستلزم الجبر، لأنّ تحقّق المعلول لو كان رهن وصوله إلى حالة الوجوب، يخرج عن اختيار الفاعل و يستلزم الجبر.

فأُجيب بأنّ إيجاب المعلول و وصوله إلى حدّ اللزوم و الوجوب لما كان باختيار الفاعل فلا يكون هذا النوع من الإيجاب و الامتناع أمراً غير اختياري، لأنّ الفاعل هو الذي أضفى على الممكن عند إيجاده أو إعدامه وصفَ الوجوب و الامتناع باختياره فالفاعل، فاعل موجِب) بالكسر (لا موجَب) بالفتح (.

ص:263

القول الخامس: ليس محكوماً بحكم فعلاً مع جريان المعصية

و هذا القول هو مختار المحقّق الخراساني و خيرة شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه و قد مرّ تفصيلاً فلا نعيده.

القول السادس: انّه منهي عنه و مأمور به بالترتّب

نقل السيد المحقّق البروجردي هذا الوجه في درسه الشريف، و هو انّه منهي عنه و مأمور به بالترتّب، فكأنّه قال: لا تغصب و هو يشمل الأقسام الثلاثة، ثمّ قال: فإن عصيت بالدخول فأخرج.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين الترتّب و المقام، و ذلك: انّ في الترتّب أمرين يتعلّق أحدهما بالأهم و الآخر بالمهم مقيّداً بعصيان الأوّل و لو تركهما يعاقب على كلا العصيانين.

و أمّا المقام فليس هنا إلاّ تكليف واحد و هو النهي عن التصرّف في ملك الغير، بدون إذنه، و أمّا الأمر بالخروج فهو حكم العقل، ليدفع أشد المحذورين بأخفّهما، دون أن يكون هنا حكم من الشرع متعلّق به.

تمّ الكلام في مسألة من توسط أرض الغير بلا إذن، أو مع النهي، في الموردين:

1. حكم الدخول، 2. حكم الخروج.

بقي الكلام في المورد الثالث و هو حكم العبادة حين الخروج، و إليك دراسته:

ص:264

المورد الثالث: حكم العبادة حين الخروج

إذا صلّى حال الخروج جامعة لسائر الشرائط فالمشهور هو القول بالصحّة عند ضيق الوقت و البطلان عند سعته.

و لكنّه لا ينطبق على القواعد، لأنّه لو قلنا بجواز الاجتماع أو بالامتناع لكن قدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة هو الصحة مطلقاً، و لو قدّمنا النهي فاللازم هو البطلان من دون فرق بين سعة الوقت و ضيقه، و عندئذ لا محيص من ذكر الصور المتصوّرة مع بيان مقتضى القاعدة فيها.

1. إذا قلنا بجواز الاجتماع و إمكان تمشّي القربة فالصلاة في الأرض المتوسطة مطلقاً دخولاً و بقاء و خروجاً صحيحة، سواء كان بسوء الاختيار أو لا، و إلى هذه الصورة أشار في الكفاية:» لا إشكال في صحة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع «.

2. إذا كان الوقوع فيها لا بسوء الاختيار فالصلاة فيها صحيحة، سواء أقلنا بجواز الاجتماع أم لا، أمّا على الأوّل فواضح، و أمّا على الثاني فلأجل سقوط النهي لأجل الاضطرار.

و إلى هذه الصورة أشار بقوله:» و أمّا على القول بالامتناع فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا لسوء الاختيار «.

3. إذا قلنا بالامتناع و كان الاضطرار بسوء الاختيار، و قلنا بمقالة الشيخ من أنّ الخروج واجب، و ليس بحرام، و لا يجري عليه حكم المعصية، فالصلاة صحيحة لوجود الأمر و عدم النهي.

و إلى هذه الصورة أشار بقوله و معه) أي مع القول بالامتناع (و لكنّها وقعت

ص:265

في حال الخروج على القول بكونه مأموراً، بدون إجراء حكم المعصية.

4. إذا قلنا بالامتناع و قدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة الصحة، و إلى هذه الصورة أشار بقوله:» أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي... مع ضيق الوقت و أمّا السعة ففيها وجهان «.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المحقّق الخراساني حاول أن يطبِّق فتوى المشهور على التفصيل بين ضيق الوقت وسعته على هذه الصورة قائلاً:

بإمكان امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المباحة في سعة الوقت، دون ضيقه بل ينحصر امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المغصوبة.

توضيحه: انّ مصلحة الصلاة في الأرض المغصوبة على فرض تقديم الأمر على النهي و إن كانت غالبة على ما فيها من المفسدة، لكن الصلاة في غير تلك الدار خالية عن المفسدة، فيكون أهمّ من الواجد لها، و بما انّهما ضدّان يتوجّه الأمر الفعلي إلى الفاقد للمفسدة، و يكون الواجد لها منهيّاً عنه، بحجّة انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فتكون الصلاة في الأرض المغصوبة منهياً عنها، و محكومة بالبطلان لوجود النهي.

و هذا بخلاف الصلاة فيها مع ضيق الوقت فانّ انحصار الامتثال بالصلاة في الدار المغصوبة ينفي توجّه الأمر إلى الضدّ الأهم الفاقد للمفسدة، فلا يكون هناك أمر بالضد الفاقد لها حتى يتولّد منه النهي عن الضد المهم.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من تقديم الأهم على المهم في باب التزاحم، هو تقديم الأقوى ملاكاً، على الأضعف ملاكاً، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي و الرعية، فالعقل حكم بتقديم الأوّل، و أمّا المقام فالمفروض أنّ الفردين في سعة الوقت متساويان في الملاك، غير أنّ أحدهما يشتمل على المفسدة دون الآخر،

ص:266

و الخلو عن المفسدة، غير كون الخالي أهم من المشتمل عليها.

بل يمكن أن يقال: انّ المفروض هو تقديم ملاك الأمر على ملاك النهي و كون مصلحة الأوّل غالبة على مفسدة الآخر، و لأجله لا تؤثر المفسدة لوجود المصلحة الغالبة، و عندئذ تكون الصلاة في الدار المغصوبة، مثل الصلاة في غيرها فلا مفسدة مؤثرة، حتّى يجعل الفرد المشتمل عليها، أضعف و الخالي عن المفسدة أقوى.

5. و يمكن أن يقال انّ تفصيل المشهور راجع إلى صورة خامسة لم يذكرها المحقّق الخراساني، و هي إذا قلنا بالامتناع و كون الخروج منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط، أو الحاضر و قلنا بتقديم ملاك النهي، فالصلاة باطلة في سعة الوقت و ضيقه، لتقديم النهي على الأمر. و هذه الصورة لم يذكرها في الكفاية، فإذا قدّم النهي تكون المفسدة غالبة على المصلحة و من المعلوم انّها في سعة الوقت و أمّا في ضيقه، فيقدّم الأمر، لأجل قوله:» لا تسقط الصلاة بحال «فيقدّم على حرمة التصرّف في مال الغير لقوّة لسان دليل الأمر و هذا بخلاف سعة الوقت، إذ لا دليل ثالث حتّى يكون مؤثراً في تقديم الأمر على النهي فتكون التصرّفات المتّحدة مع الصلاة أمراً مبغوضاً و منهيّاً عنه فلا أمر كما هو المفروض من القول بالامتناع و تقديم النهي.

حكم الخروج إذا تاب بعد الدخول

لو تاب العبد بعد الدخول و حاول أن يخرج من أقرب الطرق للتخلّص عن المعصية لا للتنزّه كالدخول، فقد ذهب السيد البروجردي إلى عدم كونه منهياً عنه و صادراً عن معصية، و ذلك لأنّه إذا تاب عن تصرّفاته السابقة تكون تصرفاته

ص:267

اللاحقة الاضطرارية بعد التوبة، تصرفات غير مسبوقة بالمعصية المؤثرة، فيصير حاله بالنسبة إلى التصرّفات الخروجية لأجل التخلّص كمن اضطرّ إلى الدخول، فاختار الخروج بعد رفع الاضطرار للتخلّص من البقاء المحرم.

و الحاصل: أنّ الخروج بما انّه من توابع الدخول فلو عدّ الدخول عصياناً و ظلماً و تمرّداً على المولى تكون توابعه محكومة بحكمه، و أمّا إذا تقلّب حكمه بحكم انّ التائب من ذنبه كمن لا ذنب له فتكون توابعه أيضاً محكومة بحكمه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتصوّر فيما إذا عصى اللّه في حقوقه، دون ما إذا عصاه في حقوق الناس، و أمّا إذا عصاهم و تجاوز على حقوقهم، فلا تكفي التوبة و الندامة ما لم يُحصِّل رضاهم، و مع تحصيله لا يبقى موضوع للبحث.

ص:268


1- لمحات الأُصول: 246; نهاية الأُصول: 249.
التنبيه الثاني قد ذكر المحقّق الخراساني في هذا التنبيه أُموراً ثلاثة:
اشارة

1. لا تعارض و لا تزاحم بين خطابي: صلّ و لا تغصب على القول بجواز الاجتماع، و أمّا على القول بالامتناع فهما من قبيل المتزاحمين يقدّم منهما الأقوى ملاكاً، و ليسا من قبيل المتعارضين كي يقدّم الأقوى دلالة) الجمع الدلالي (أو الأقوى سنداً، و قد أفاض المحقّق الخراساني الكلام في ذلك في الأمر التاسع فلا وجه للتكرار هنا، و قد أشبعنا الكلام فيه كما قلنا: إنّ التزاحم في مصطلح المحقّق النائيني الذي اخترناه غير المصطلح في لسان المحقّق الخراساني.

2. لو قلنا بالامتناع، و قدّمنا النهي فلا يلازم بطلانَ الصلاة في موارد الأعذار، كما إذا صلّى في المغصوب جاهلاً به، و قد أفاض الكلام فيه في الأمر العاشر، و قد أوضحنا حاله.

و حاصل ما قلنا هناك: إنّه فرق بين أن يقول من أوّل الأمر» لا تصلّ في الدار المغصوبة «فيخرج الصلاة فيها عن إطلاق قوله:» أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل «، فلا تصحّ الصلاة عند طروء الأعذار كالنسيان، لأنّ التقييد أو التخصيص آية عدم وجود الملاك في مورد فقد القيد أو في الخارج عن العام; و بين أن يقول:» صلّ «و» لا تغصب «فالصلاة على الإطلاق و في كلّ مكان، مشتملة على الملاك، مثل الغصب في كلّ مكان، و عند ذاك يطرأ التزاحم على المقتضيين المؤثّرين عند الامتثال فيقدم الأقوى منهما ملاكاً، لو كان الخطإ

ص:269

بان متكفّلين لحكم فعلي و إلاّ فلا بدّ من الأخذ بالفعلي منهما.

و يترتّب عليه أنّه لو لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثراً لها، لاضطرار أو جهل، أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثّراً لها فعلا.

نظير المقام:

1. إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى.

2. أو لم يكن واحد من الدليلين دالاً على الفعلية.

و بالجملة: وزان المقام تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب وزان التخصيص العقلي الناشئ من تقديم أحد المقتضيين و تأثيره فعلاً، و التقديم مختص بما إذا لم يمنع مانع عن تأثير المقتضي للنهي عنه كما في مورد الاضطرار، أو مانع عن فعلية التأثير كما في صورة الجهل و النسيان، فعندئذ تصح الصلاة مع الأمر و أُخرى بملاكه.

3. إذا قلنا بالامتناع و دار الأمر بين تقديم أحد الحكمين، فهل يقدّم النهي أو الأمر؟ و قد ذكروا لتقديم النهي وجوهاً ثلاثة ذكرها المحقّق الخراساني، و هذا هو اللازم بالبحث في المقام، و إليك تلك الوجوه:

الأوّل: النهي أقوى دلالة من الأمر

إنّ هذا المرجّح أقوائيّة الدلالة مرجّح في مقام الإثبات و الدلالة، كما أنّ المرجح الثاني أي دفع المفسدة المترتبة على النهي أولى من جلب المنفعة المترتبة على الأمر مرجِّح في عالم الثبوت و الملاك، و كان على المحقّق الخراساني تقديم الثاني على الأوّل حفظاً للترتيب الطبيعي للبحث و لكنّه قدّم الأوّل، أي عالم الإثبات على عالم الثبوت، و نحن نتبع أثره حفظاً لنظام البحث.

ص:270

و تقرر قوّة الدلالة بالنحو التالي:

إنّ دليل النهي أقوى دلالة من دليل الأمر، لأنّ مفاد النهي شمولي بخلاف مفاد الأمر فانّه بدلي.

أمّا كون الأوّل شمولياً فلانحلال النهي بانحلال موضوعه إلى أحكام فيكون كلّ تصرّف عصياناً مستقلاً لا صلة له بالتصرّف الآخر، و هذا بخلاف الأمر فانّه بعث إلى الطبيعة و يكفي في وجودها وجود فرد واحد.

و على ضوء ذلك يتعيّن التصرف في جانب الأمر بإخراج الصلاة في الدار المغصوبة من تحته و إبقاء الصلاة في غيرها تحته من دون تصرّف في جانب النهي.

و أورد على الاستدلال بأنّه لا فرق بين الدلالة الشمولية و الدلالة البدلية إذا كان الدال عليهما هو الإطلاق الذي هو نتيجة جريان مقدّمات الحكمة فلا وجه لترجيح إحداهما على الأُخرى، فكما يصلح النهي للتصرّف في الأمر و يكون الشمول قرينة على تقييد الأمر و إخراج ذلك الفرد من تحته، فهكذا الأمر يصلح للتصرّف في النهي و يكون طلب فرد ما، قرينة على إخراج فرد ما من الصلاة، من تحت النهي.

و ردّ الإشكال بأنّ الدلالة البدلية هو مفاد الإطلاق حيث إنّ المولى أمر بالطبيعة دون أن يعيّن الخصوصية فيكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد ما، و أمّا الدلالة الشمولية فليست مستندة إلى الإطلاق، و ذلك لأنّه لو كانت مستندة إلى الإطلاق لكان استعمال» لا تغصب «في بعض أفراد الغصب حقيقة، لعدم جريان مقدّمات الحكمة لأجل القرينة، فلا يكون هناك دالّ على الشمول، و بالتالي لا يكون استعماله في بعض الأفراد استعمالاً له في غير ما وضع له. مع أنّ كون استعماله فيه حقيقة واضح الفساد.

ص:271

بل الشمول مستند إلى دلالة العقل، و هي انّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام جميع أفرادها، فعندئذ تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية لقوّة الدلالة العقلية على الدلالة الإطلاقية.

ثمّ إنّ المحقق الخراساني نصر المستشكل الأوّل و ردّ الإشكال عليه بما هذا توضيحه: إنّ دلالة النفي أو النهي على العموم و الاستيعاب أمر لا ينكر إلاّ أنّ سعة العموم و الشمول تابع لما يراد من مدخولهما و متعلّقهما، و عندئذ تختلف سعة الشمول حسب اختلاف المتعلّق.

فلو أُريد من المتعلّق الطبيعة المطلقة فيدل النفي و النهي على سعة دائرة الشمول، و أمّا إذا أُريد من المدخول الطبيعة المقيّدة فيتوجه النفي و النهي على الطبيعة المقيّدة، فالسعة و الضيق في جانب النفي و النهي رهن سعة المتعلّق و ضيقه و هما فرع جريان مقدّمات الحكمة فيه.

و يتّضح الأمران في المثالين التاليين:

1. لا رجل في الدار.

2. لا رجل عادل في الدار.

فتجد أنّ النفي في الأوّل أوسع دائرة من النفي في الثاني، و يعود ذلك إلى سعة المتعلّق و ضيقه، فإذا اتّضح ذلك، نقول: إنّه لا فرق بين الدلالة البدلية و الشمولية في الأقوائية، لأنّ البدل كما هو نتيجة الإطلاق فهكذا الشمول هو نتيجة إجراء مقدّمات الحكمة، حيث أخذ المولى الطبيعة المطلقة متعلّقة بالنهي من دون قيد و لو كان المراد هو الطبيعة المقيّدة لكان عليه الإتيان بالقيد.

هذا ما أفاده في الكفاية.

ص:272

ثمّ إنّه) قدس سره (احتمل احتمالاً ضعيفاً أشار إلى ضعف الاحتمال بقوله:» اللّهم «.(1)

و حاصل الاحتمال: أنّ المخاطب في استفادة الشمول لفي غنى عن إجراء مقدّمات الحكمة، و ذلك لأنّ مكانة النهي و النفي في لغة العرب كلفظة كلّ في كلّ رجل، فكما أنّ استفادة الشمول في الثاني غير موقوف على إجراء مقدّمات الحكمة في متعلّقه) رجل (بل السامع ينتقل إلى السريان و الشمول لأجل لفظة كلّ، فهكذا المقام، حيث إنّ دلالة النفي و النهي على الشمول و الاستيعاب تُغني المخاطب عن اجراء مقدمات الحكمة، و هذا هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ في دلالتهما على الاستيعاب كفاية و دلالة على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق كما ربّما يدعى ذلك في مثل» كلّ رجل «و انّ مثل لفظة» كل «يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله و قرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة.(2)

و مع أنّ المحقّق الخراساني حسب ما أفاده أخيراً قوّى) الأمر الثالث (أي الإشكال، على الإشكال، لكنّه لم يقبل دليله من أنّه لو كان الشمول مستفاداً من الإطلاق لكان استعمال مثل» لا تغصب في بعض الأفراد حقيقة... «بل اعترف بكونه حقيقة على جميع المباني، سواء قلنا بأنّ الشمول مستند إلى مقدّمات الحكمة فواضح، لعدم جريانها مع وجود القرينة و لا على القول بأنّ دلالته على الشمول بالالتزام أو بالوضع، لأجل تعدّد الدال و المدلول بمعنى انّ الخصوصية مستفادة من القرينة لا من استعمال قوله:» لا تغصب «في بعض الأفراد كما

ص:273


1- و قد أيّده المحقّق البروجردي في درسه الشريف، لاحظ لمحات الأُصول: 307.
2- كفاية الأُصول: 1/276.

سيوافيك توضيحه في فصل» انّ العام بعد التخصص حقيقة و ليس بمجاز «.

و أنت خبير بضعف ما احتمله، إذ لا فرق بين النفي و النهي و لفظة» كلّ «في أنّ استفادة السعة و الضيق تابع لسعة المتعلّق و ضيقه، هذا من جانب.

و من جانب آخر: انّه كان في وسع المكلّف تقييد المتعلّق في جانب النفي و النهي، و مع التقييد تضيق دائرة الشمول، و الدالّ على عدم القيد هو الإطلاق بإجراء مقدّمات الحكمة، فالاشكال على الاستدلال متوجّه.

نعم يرد على الاستدلال بأنّه انّما تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية إذا كانت الأُولى وضعية و الثانية إطلاقية، فإذا قال المولى: لا تكرم الفسّاق، و قال: أكرم عالماً، فبما أنّ دلالة الأوّل على الشمول بالدلالة اللفظية، أعني: الجمع المحلّى باللام، و دلالة الثاني على كفاية فرد من أفراد الطبيعة، بالدلالة العقلية، فلا مناص من تقديم الدلالة الوضعية على الدلالة العقلية عند التّعارض في العالم الفاسق، لأقوائية الوضعية و عدم توقّف تمامية دلالتها على شيء، بخلاف الدلالة العقلية، فانّها فرع عدم ما يصلح للقرينيّة، و الوضعية صالحة لها، و أمّا الشمولي و البدلي الإطلاقيان كما في المقام، فكلّ منهما يصلح للتصرّف في الآخر، فلا مرجّح للتقديم.

الثاني: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة

و حاصل هذا الدليل أنّ في امتثال الأمر جلب المصلحة و في مخالفة النهي وجود المفسدة، فإذا دار الأمر بين كون شيء واجباً أو حراماً فقد دار الأمر بين حيازة المصلحة و دفع المفسدة، فترك الفعل لأجل دفع المفسدة المحتملة أولى من امتثاله لجلب المصلحة المحتملة.

ص:274

أقول: الدليل مؤلّف من صغرى و كبرى.

أمّا الصغرى: فهي عبارة عن اشتمال الأمر على المصلحة دون أن يكون في تركه مفسدة، و اشتمال النهي على المفسدة.

و أمّا الكبرى: و هي أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة كذلك، و لكن كلاً من الصغرى و الكبرى ليسا بتامّين.

المناقشة في الصغرى

و قد ناقش المحقّق القمّي في الصغرى بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الواجب و لو كان معيّناً ليس إلاّ لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما انّ الحرام ليس إلاّ لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.(1)

و حاصل الإيراد: انّ الواجب يشتمل على المصلحة من دون أن يكون في تركه مفسدة و الحرام على العكس.

يلاحظ على كلام المحقّق الخراساني بأنّ المراد من المصالح و المفاسد هو الأعم من الفردية و الاجتماعية، و على ذلك فربّما يكون في ترك الواجب مفسدة عظمى كما في ترك الجهاد فانّه يوجب الذُّلّ و الهوان و سيطرة العدو على النفوس و الأموال، و أيّ مفسدة أعظم من ذلك؟! قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» فو اللّه ما غُزِي قوم في عُقر دارهم قط إلاّ و قد ذلّوا «.(2)، و مثله ترك الزكاة فانّ في تركها إيجاد الفوضى و اتّساع دائرة الفتنة و فقدان

ص:275


1- كفاية الأُصول: 1/277.
2- نهج البلاغة: الخطبة 27.

الأمن المالي.

قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» ما جاع فقير إلاّ بما متِّع به غني «.(1)

إلى هنا تبيّن أنّ الصغرى ليست بتامّة، و انّ المفسدة موجودة في كلا الطرفين: فعل الحرام و ترك الواجب، و الحقّ مع المحقّق القمي) قدس سره (.

المناقشة في الكبرى

و حاصل الكبرى: انّ دفع المفسدة المتيقّنة و المحتملة أولى من جلب المنفعة المتيقنة و المحتملة، و قد ناقشها المحقّق الخراساني بوجوه ستة نذكرها بتوضيح:

1. انّ الواجبات و المحرّمات ليست على وزان واحد فربّ واجب يكون في تركه أشد المجازات كالفرار من الزحف، و ربّ حرام لا يكون مثل ذلك كالنظر إلى الأجنبية، فلو دار الأمر بين الفرار من الزحف، و النظر إلى الأجنبية فلا يصحّ أن يقال: انّ ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة، فليس في المقام ضابطة كلية.

2. انّ القاعدة أجنبية عن المقام، فانّه فيما إذا دار الأمر بين الواجب و الحرام [الحتميّين] كما إذا دار الأمر بين ركوب الطائرة المغصوبة، و الحجّ، ففي مثله يرجع إلى القاعدة، لا في المقام الذي ليس هنا إلاّ أحد الحكمين إمّا الوجوب أو الحرمة، فلا موضوع للقاعدة. هذا حسب ما في الكفاية، و لكنّه أوضحه في الهامش بقوله: إنّ الترجيح بهذه القاعدة إنّما يناسب ترجيح المكلّف و اختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه لا المقام و هو مقام جعل الأحكام فانّ المرجع هناك ليست إلاّ حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة الأغراض و مخالفتها.

توضيح كلامه: أنّ ملاكات الأحكام على قسمين:

ص:276


1- نهج البلاغة، قصار الحكم، برقم 328.

أ. ملاك التشريع و مناط جعل الحكم فهو ينحصر بالحسن و القبح فيحكم بوجوب الأوّل و حرمة الثاني.

ب. المصالح و المفاسد التي ترجع إلى المكلفين. و لكلّ من الملاكين مقام خاص، فلو كان الشك راجعاً إلى نفس الحكم الشرعي و ما هو المجعول كما هو الحال في المقام حيث إنّ الشكّ مركز على أنّ المجعول في الصلاة في الدار المغصوبة هو الوجوب أو الحرمة ففي مثله لا يرجع إلى القاعدة) دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (.

نعم لو كان الحكم الشرعي معلوماً و دار الأمر بين ترك الواجب و فعل الحرام ففي مثل ذلك يتمسّك بالقاعدة كما إذا دار الأمر بين الحجّ و ركوب الطائرة المغصوبة، فعندئذ يقال:» ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة «.

إلى هنا تمّت المناقشة الثانية، و إليك سائر المناقشات التي أوردها في» الكفاية «.

3. و لو سلّم فإنّما يجدي لو حصل القطع.

أي انّ مورد القاعدة فيما إذا قطع بالأولوية لا ما إذا ظن، و ليس في المقام أيُّ قطع بالأولوية، لما عرفت من أنّه ربما يكون جلب المنفعة المحتملة أولى من دفع المفسدة كذلك.

4. و لو سلّم انّه يجدي و لو لم يحصل اليقين فإنّما تجري فيما يكون العلم الواقعي فعلياً على كلّ تقدير و لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة التعينيين لا فيما يجري كما في المقام لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته.

توضيحه: انّ مصب القاعدة هو ما إذا كان الحكم الواقعي المردد بين

ص:277

الوجوب و الحرمة فعلياً على كلّ تقدير، بحيث نعلم أنّ المولى يطلب امتثاله، ففي مثله لا موضوع للبراءة للعلم القطعي بوجود الحكم الفعلي على كلّ تقدير كما في المرأة المرددة بين كونها زوجة على رأس أربعة أشهر أو أجنبية، فتصل النوبة إلى القاعدة فيؤخذ بما فيه دفع المفسدة و يترك ما فيه جلب المنفعة.

و أمّا المقام فتجري البراءة في أحد الطرفين، أعني: الحرمة دون الوجوب محال، أمّا عدم جريانها في جانب الوجوب للعلم القطعي بعدم سقوط وجوب الصلاة، و لو في ضمن المكان المباح، و أمّا جريانها في جانب الحرمة فبما انّه تُحتمل مساواة الملاكين، فلا يكون هنا علم بالحرمة الفعلية، لأنّ احتمال تساوي الملاكين يلازم احتمال عدم فعليتها فيصلح لأن تقع مجرى لها.

5. و لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشكّ في الأجزاء و الشرائط فلا يلزم القول بالاشتغال في المقام فانّه لا مانع عقلاً إلاّ فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً و نقلاً.

توضيحه: انّه لو قيل إنّ الأصل عند الشكّ في الأجزاء و الشرائط ككون السورة جزءاً من الصلاة أو لا هو الاشتغال و بطلان الصلاة بدونها، لما كان دليلاً على القول بالاشتغال و بطلان الصلاة في المقام، و ذلك لوجود المقتضي للصحة في المقام و هو الأمر و ليس المانع إلاّ الحرمة المرفوعة بأصل البراءة، بخلاف الشكّ في كمّية الأجزاء و الشرائط فلا علم بالصحة لاحتمال وجوب الشيء المشكوكة جزئيته.

و حاصل الفرق بين المقام: هو وجود العلم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء و الشرائط في المقام و إنّما الشكّ في مانعية الغصب، و هي مرفوعة بالأصل، فالمقتضي موجود، و المانع مرفوع.

ص:278

و هذا بخلاف الشكّ في الجزئية و الشرطية فليس هناك علم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء و الشرائط، بل يحتمل كون السورة جزءاً، فيكون المأتي به ناقصاً من حيث كونه جامعاً للأجزاء و الشرائط، و توهم أنّ أصل البراءة رافع للجزئية على فرض ثبوتها مدفوع بأنّ الرفع الظاهري لا ينافي الجزئية الواقعية على فرض ثبوتها في الواقع فتكون الصلاة ناقصة. فتأمّل.

فإن قلت: إنّ الشكّ في المانعية و الجزئية من باب واحد، فأصل البراءة رافع للمانعية و الجزئية في الظاهر دون الواقع، فلو كان المشكوك مانعاً واقعاً، يكون المأتي به ناقصاً من حيث اقترانه بالمانع.

قلت: المفروض انّ المانع هو المبغوضية المحرزة لا المبغوضية الواقعية، كما أشار إليه بقوله:» فانّه لا مانع عقلاً إلاّ فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عقلاً أو نقلاً «، فإذا لم تكن محرزة يكون عدم المبغوضية قطعياً، بخلاف جزئية الجزء أو شرطية الشرط، فالجزء بما هو جزء و الشرط بما هو شرط مأخوذان في المتعلّق، فأصالة البراءة لا تؤثر في انقلاب الواقع على فرض وجوده.

6. نعم لو قلنا بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية و لو لم تكن الغلبة محرزة فأصالة البراءة غير مجدية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكّمة حتّى لو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء و الشرائط، لعدم تأتي قصد القربة مع الشكّ في المبغوضية.

حاصله: انّ التفكيك بين المقام و الشك في الجزئية و الشرطية، مبنيّ كما تقدم على أنّ المفسدة الغالبة المحرزة مانعة من الصلاة، فعدم إحرازها يكفي في الحكم بصحّة الصلاة، و عدم اقترانها بالمانع واقعاً، و أمّا إذا قلنا بأنّ المفسدة بوجودها الواقعية الغالبة مانعة و إن لم يعلم بها المكلّف، فعندئذ، تكون النتيجة

ص:279

معكوسة، فلا يجدي الأصل في المقام و إن قلنا به في الشك في الجزئية و الشرطية.

و ذلك لأنّها لو كانت المفسدة الواقعية مطلقاً مانعة فبما أنّها محتملة في المقام، فلا يتمشّى قصد القربة، إذ كيف يمكن التقرّب القطعي بشيء يحتمل أن يكون مبغوضاً للمولى؟! فتكون أصالة الاشتغال محكّمة.

هذه هي الوجوه الستة التي أوردها صاحب الكفاية على القاعدة أوردناها بإيضاح لقصور عبارة الكفاية في المقام في إفادة المقصود.

المرجّح الثالث: الاستقراء

استدلّ القائل بتقديم جانب الحرمة بأنّ الاستقراء يشهد على أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب فيما إذا دار الأمر بين المحذورين و أشار إلى موردين:

1. أيّام الاستظهار بعد تمام العادة و قبل العشرة حيث أمر الشارع بترك العبادة مع أنّ الأمر يدور بين الوجوب و الحرمة.

2. إذا كان الإنسان محدثاً، و ابتلى بإناءين مشتبهين فقد أُمِر بإهراقهما و العدول إلى التيمم، مع دوران الأمر بين وجوب الوضوء مقدّمة للصلاة و حرمة التوضّؤ بالماء النجس.

يلاحظ على الاستدلال:

إنّ الاستقراء كما يستفاد من تعريفه، تصفح الجزئيات حتّى ينتقل الباحث منه إلى الحكم الكلّي و إفادته الظن أو القطع تابع لمقدار التتبع و كثرته، و أمّا تتبع مورد أو موردين فلا يفيد الظن، فكيف القطع؟! مضافاً إلى أنّ ترجيح جانب الحرمة في هذين الموردين، لوجود دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي ذلك الجانب.

ص:280

أمّا الأوّل: فلأنّ الاستظهار أيّ ترجيح جانب الحرمة لأجل الدليل الحاكم على أنّ الدم المشكوك، دم حيض، و الدليل إمّا الاستصحاب، أو قاعدة الإمكان و انّ كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض.

هذا كلّه حول المورد الأوّل، و أمّا المورد الثاني أي عدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين فقد

أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:
1. تقديم النهي فيه تعبّدي يختصّ بمورده

إنّ فرض المورد من قبيل دوران الأمر بين المحذورين إنّما يتم إذا قصد بالتوضّؤ بالماء الذي لم تحرز طهارته امتثالَ الأمر الواقعي فيوصف التوضّؤ بالحرمة التشريعية، فيدور أمر الوضوء بين الحرمة لأجل التشريع، و الوجوب لكونه مقدّمة للصلاة.

و أمّا إذا توضأ بكلّ من الماءين رجاء و من باب الاحتياط فلا يحرم، و بالتالي يخرج المورد عن باب دوران الأمر بين المحذورين، فتقديم النهي في هذه الصورة لأجل النصّ تعبدىٌّ يختص بمورده.

2. تقديم النهي لأجل عدم الابتلاء بالنجاسة

و حاصل الجواب انّه لو توضّأ بالماءين المشتبهين ربّما تحصل له الطهارة من الحدث، في بعض الصور(1)، لكنّه يبتلي بالنجاسة الخبثية القطعية، و المقرر في محلّه انّه إذا دار الأمر بين الطهارة الحدثية و النجاسة في البدن أو الثوب، تُقدّم الطهارةُ من الخبث على الطهارة من الحدث، مثلاً إذا كان محدثاً و كان بدنه أو ثوبه الساتر

ص:281


1- كما في الصورة الثانية في الصورة الآتية، عن قريب.

أيضاً نجساً و كان الماء الموجود لا يكفي إلاّ لواحد منهما، يُقدّم تطهير البدن و الثوب على الوضوء و الغسل، و ما هذا إلاّ لأنّ للطهارة من الحدث بدلاً و هو التيمم دون الأُخرى أي الطهارة من الخبث، و قد قُرِّر في باب التزاحم أنّه إذا دار الأمر بين أمرين لأحدهما بدل دون الآخر يقدّم الثاني على الأوّل.

و مثله المقام فانّ الوضوء بماءين مشتبهين و إن كان ربّما يحصّل الطهارة من الحدث و لكنه يورث نجاسة البدن للقطع بنجاسة الأعضاء عند صبّ الماء الثاني إمّا بالماء الأوّل أو بالثاني كما سيوافيك تفصيله فعند الدوران تقدّم الطهارة من الخبث، على الطهارة من الحدث، فيترك الوضوء و يتيمّم، فتقديم جانب النهي لأجل هذا الدليل المقرّر في محلّه لا من باب أنّه إذا دار الأمر بين الأمر و النهي يقدّم النهي مطلقاً مع غض النظر عن الدليل كما هو المدّعى.

هذا هو الجواب الواقعي، و قد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:» من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً... «.

دراسة أقسام التوضّؤ بماءين مشتبهين

ثمّ إنّ للتوضّؤ بالماءين المشتبهين صوراً ثلاثاً أشار إليها في» الكفاية «، و إليك إيضاحها على ضوء ما في الكفاية.

الأُولى: ما أشار إليه بقوله:» أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضّأ من الإناء الثاني، إمّا بملاقاته، أو بملاقاة الأُولى و عدم استعمال مطهر بعده «.

توضيحها: إذا توضّأ بكلا الماءين من دون أن يتخلّل بين الوضوءين تطهير الأعضاء بالماء الثاني، فعند صب الماء الثاني على الوجه يقطع بنجاسة الوجه واقعاً

ص:282

تفصيلاً إمّا لأجل استعمال الماء الأوّل و عدم استعمال مطهر بعده، أو باستعمال الماء الثاني.

نعم يحصل القطع بالنجاسة بصب الماء الثاني، قبل انفصال الغسالة، و قبل حصول تعدد الغسل فيما يحتاج إليه، ثمّ يزيل القطع بها إلى الشك فيها بعد الانفصال و حصول التعدد لاحتمال كون الماء الثاني طاهراً فيحكم على العضو بفضل الاستصحاب بكونه نجساً ظاهراً فلا منافاة بين العلم بالنجاسة الواقعية، ثم الظاهرية، لتعدد زمان العلم و الشك.

الثانية: ما أشار إليه بقوله:» و لو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى «.

توضيحها: انّ قوله» لو «في كلامه وصلية لا شرطية حاصله اشتراك الصورتين في العلم بالنجاسة الواقعية، ثمّ الشكّ في بقائها، و الفرق بينهما هو انّه في الصورة الأُولى لا يطهر الأعضاء بخلاف هذه الصورة فانّه يطهرها، و بالتالي يحصل العلم بالطهارة من الحدث في خصوص هذه الصورة كما أشرنا، و ذلك كما إذا توضّأ أوّلاً بأحدهما ثمّ غسل مواضع الوضوء بالماء الثاني، ثمّ توضّأ بالماء الباقي في الإناء، فعندئذ يحصل العلم بالنجاسة الظاهرية بحكم الاستصحاب، و ذلك لأنّه عند تطهير الأعضاء بالماء الثاني وصب الماء عليها قبل انفصال الغسالة الذي هو شرط التطهير بالماء القليل، يحصل له العلم التفصيلي بالنجاسة، إمّا لأجل استعمال الماء الثاني، أو الأوّل، و استعمال الماء الثاني و إن كان مطهراً لكن المفروض عدم حصول شرط التطهير، أعني: انفصال الغسالة أو التعدد، و بعد الانفصال يطرأ الشك في بقاء النجاسة، لأنّه كما يحتمل أن يكون النجس هو الماء الثاني، يحتمل أن يكون النجس هو الأوّل الذي ترتفع نجاسته باستعمال الماء الثاني و انفصال الغسالة، و حيث إنّ الحالة غير معلومة يحكم ببقاء

ص:283

ما علم عند الصب و قبل انفصال الغسالة، فيكون العضو محكوماً بالنجاسة الظاهرية لأجل الاستصحاب. نعم يحصل العلم بالطهارة من الحدث، مقرونة بالنجاسة الظاهرية.

الثالثة: ما أشار إليه بقوله: نعم لو طَهُرتْ على تقدير نجاستها بمجرّد الملاقاة بلا حاجة إلى التعدد، و انفصال الغسالة، كما لو كان كلّ منهما كرّاً و لكن كان أحدهما نجساً، فلا يعلم تفصيلاً بنجاستها في وقت معين و إن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثانية إجمالاً و لا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكّمة.

توضيحها: انّه إذا كان الماء الثاني قليلاً يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين صب الماء الثاني و إن كان يطرأ الشكّ في ثباتها بعد انفصال الغسالة، و أمّا إذا كان الماءان كرّين و لا يتوقف التطهير بهما على التعدّد أو انفصال الغسالة، فلا يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين الملاقاة بالماء الثاني، بل يعلم إجمالاً بأنّه صار نجساً إمّا بالملاقاة الأُولى أو بالثانية فلا مجال لاستصحابها.

و ظاهر العبارة أنّ عدم جريان الاستصحاب لأجل عدم العلم تفصيلاً بنجاسة العضو في وقت معيّن، بخلاف الصورة الأُولى و الثانية، حيث يعلم عند الصب و قبل انفصال الغسالة، بنجاسة العضو، فلو كان الاستصحاب غير جار في المقام تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة، لأنّه مشكوك الطهارة و النجاسة، فلو كان النجس هو الماء الثاني فهو نجس قطعاً، و لو كان الماء الأوّل فهو طاهر كذلك، و عند الجهل بحال الماءين، يكون الملاقى مشكوك الطهارة و النجاسة فيحكم عليه بالطهارة حسب القاعدة.

يلاحظ عليه: بأنّ الظاهر انّه يحكم في الجميع بضد الحالة السابقة قبل توارد

ص:284

الماءين عليه و بالتالي يحكم في المقام بنجاسة الأعضاء في عامّة الصور، و ذلك لأنّه يشترط في تأثير العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، بأن يكون الماء الطاهر، مطهراً سواء تقدّم استعماله أو تأخّر، و الماء النجس منجِّساً كذلك، و عندئذ يؤثر العلم الإجمالي، لكن هذا الشرط موجود في استعمال الماء النجس دون استعمال الماء الطاهر واقعاً، أمّا الأوّل فواضح فهو ينجس العضو سواء استعمله قبل الماء الطاهر أو بعده، بخلاف الماء الطاهر فلو استعمله قبل الماء النجس، لا يؤثر في العضو، لأنّ المفروض طهارة العضو، و لو استعمل بعد الماء النجس فهو و إن كان يؤثر في طهارة العضو لكن يكون محدثاً للتكليف على فرض دون فرض لا على جميع الفروض، فالعلم بطروء الطهارة على العضو دائر بين كونه مؤثّراً و غير مؤثر، محدثاً للطهارة، و غير محدث، فليس هنا علم بالطهارة المؤثرة المزيلة للنجاسة، لاحتمال كون الطاهر هو الماء الأوّل، بخلاف النجاسة فهناك علم تفصيلي بطروء النجاسة المؤثرة المزيلة للطهارة، المشكوك بقاؤها فتستصحب.

و لذلك قلنا: إنّه يؤخذ بضد الحالة السابقة، و منه يعلم حال عكس المسألة، أعني: إذا كان العضو نجساً و استعمل الماءان، فيحكم بطهارة العضو بنفس البيان في المقام السابق، فانّ الماء النجس غير مؤثر في كلتا الصورتين بل يؤثر استعماله إذا كان بعد استعمال الماء الطاهر، و أمّا لو كان قبله فلا يؤثر في نجاسة العضو، لأنّ المفروض كونه نجساً، بخلاف الماء الطاهر فهو رافع للنجاسة و مؤثر في رفع النجاسة، سواء استعمله قبل الماء النجس، أو بعده.

ص:285

التنبيه الثالث هل تعدّد الإضافات كالإكرام المضاف إلى العالم و الفاسق بالأمر بالأوّل و النهي عن الثاني كتعدّد العناوين و الجهات أو لا؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل، لأنّه لو كان اختلاف العناوين مجدياً مع وحدة المعنون كان تعدّد الإضافات مجدياً لأنّ المصالح و المفاسد تختلف حسب الإضافات و الجهات و ما يتراءى من العلماء معاملة التعارض مع العموم من وجه، لأجل البناء على الامتناع أو إحراز عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

و يظهر ذلك من الشيخ أيضاً قائلاً بأنّ العالم و الفاسق طبيعتان متغايرتان فيلزم على المجوّز في مورد الصلاة و الغصب، التجويز فيهما.

ص:286

الفصل الثالث في كشف النهي عن الفساد

اشارة

(1)

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: قد اختلفت كلماتهم في عنوان الفصل

فتارة يعبّرون عنه بقولهم:

هل النهي عن الشيء يقتضي فساده أو لا؟ و أُخرى:

هل النهي يدلّ على الفساد أو لا؟ و الأوّل غير وجيه، إذ ليس النهي مؤثراً في الفساد، و إنّما هو دالّ عليه أو كاشف عنه، و الثاني منصرف إلى الدلالة اللفظية، و لا يشمل استكشاف الفساد، من الملازمة العقلية، و الأولى أن يعبّر بما صدّرنا به البحث من كشف النهي عن الفساد.

الثاني: يتبادر من عبارة «الكفاية» انّ المسألتين (هذه المسألة و المسألة السابقة) متّحدتان جوهراً و مختلفتان في الجهة المبحوث عنها،

فانّ جهة البحث في المقام هو دلالة النهي على الفساد، و هي في المسألة السابقة، هو انّ تعدد العنوان هل يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر و النهي في مورد الاجتماع أو لا؟

ص:287


1- فيه مقامان: النهي عن العبادات، و النهي عن المعاملات.

يلاحظ عليه: بأنّ المسألتين متميّزتان جوهراً قبل تميّزهما بالاغراض و جهات البحث، فأين قولنا:

هل يجوز تعلّق الأمر و النهي بشيئين مختلفين في مقام التعلق، و متحدين في مقام الوجود، أو لا؟ من قولنا:

هل النهي يكشف عن الفساد أو لا؟ و قد مرّ أنّ لفظ الكشف جامع للدلالة اللفظية، و الملازمة العقلية.

هذا إذا قلنا بأنّ النزاع في المسألة السابقة كبروي كما هو المختار و أمّا إذا قلنا بأنّ النزاع فيها صغروي كما هو مختار المحقّق الخراساني بأن يقال: بعد تسليم امتناع الكبرى هل تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون أو لا؟ فهذا النوع من البحث غير ما هو المبحوث عنه في المقام.

و الذي يعرب عن تمايز المسألتين بجوهرهما هو لزوم وجود الأمر في المسألة السابقة، دون هذه المسألة، بل يكفي وجود النهي سواء أ كان معه أمر كما في العبادات أو لا كما في المعاملات.

نعم لو قلنا في المسألة السابقة بالامتناع، و قدّمنا النهي على الأمر، تكون نتيجة البحث في المسألة السابقة، صغرى لهذه المسألة، و أمّا لو قلنا بجوازهما، أو قلنا بالامتناع لكن بتقديم الأمر على النهي، فلا صلة بين المسألتين أبداً.

الثالث: انّ البحث في المسألة السابقة عقلي محض،

كما يعلم من براهين المجوّزين و المانعين، و أمّا المقام، فذهب المحقّق النائيني(1) تبعاً للشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار(2) إلى أنّ البحث في المقام أيضاً عقلي، كما أنّ المتبادر من المحقّق الخراساني أنّ البحث لفظي، قال: لا يخفى انّ عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ إنّما هو لأجل انّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه و بين الحرمة.(3)

ص:288


1- فوائد الأُصول: 1/455.
2- مطارح الأنظار: 161.
3- كفاية الأُصول: 1/283.

و الأولى أن يقال: إنّ وصف البحث بأحد العنوانين، تابع لكيفية البرهنة و الاستدلال عليه.

فإن قلنا بدلالة لفظ النهي على الفساد، فيكون البحث لفظياً، و إن قلنا بوجود الملازمة العقلية بين الحرمة و الفساد، يكون البحث عقلياً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما استظهر كون النزاع لفظياً، أورد إشكالاً ثمّ أجاب عنه و لما كان الإيراد و الجواب مبهمين نأتي بتوضيحهما.

أمّا الإشكال فحاصله: انّ الملازمة بين الحرمة و الفساد إما ثابتة أو لا، فعلى الوجه الأوّل يكون النزاع عقلياً، و على الوجه الثاني تكون الملازمة منتفية، فلم يبق لكون النزاع لفظياً أو عقلياً ملاك.

و حاصل الجواب: انّ وجود الملازمة عبارة أُخرى عن دلالة النهي على الفساد عن طريق الدلالة الالتزامية و هي عند المنطقيين دلالة لفظية، و إن كانت عند علماء البيان دلالة عقلية فالنزاع على القول بالملازمة لفظيّ أيضاً.

يلاحظ عليه: بأنّه لم يدفع الإشكال بحذافيره و إنّما دفعه عند وجود النهي اللفظي فصار البحث لفظياً حتّى على القول بالملازمة بين الحرمة و الفساد، و لكن المورد أعمّ، إذ ربّما لا يكون لفظ في المقام و إنّما دلّ الإجماع على التحريم دون وجود أيِّ لفظ فالفساد ثابت و متحقّق دون أن تكون هنا دلالة لفظيّة.

الرابع: لا شكّ أنّ المسألة أُصولية،

لأنّ نتيجة البحث تقع كبرى للاستنباط، فلو قلنا بدلالة النهي على الفساد، أو قلنا بالملازمة بين الحرمة و الفساد أو بين النهي و الفساد تكون العبادات و المعاملات المنهية فاسدة لا يترتّب عليها الأثر المقصود، فإذا قال:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «أو قال:» لا تبع ما ليس عندك « و قلنا بدلالة النهي على الفساد، أو قلنا بالملازمة العقلية، تكون

ص:289

النتيجة فساد الصلاة و البيع، فلا تكون الصلاة مسقطة للقضاء و الإعادة كما لا يكون البيع سبباً لخروج المبيع عن ملك البائع و دخوله في ملك المشتري و الثمن على العكس.

فإن قلت: قد مرّ في المقدّمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول أنّ الفرق بين القاعدة الأُصولية و القاعدة الفقهية هو أنّ المحمول في الثانية حكم شرعي، نظير قوله:» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر «أو قوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ في خمس «و أمّا المسألة الأُصولية فالمحمول فيها هو الحجّية و عدمها كالبحث عن حجية الخبر الواحد و الإجماع و الشهرة، أو البحث عن الملازمات بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته.

و على كلّ تقدير فالمحمول إمّا حكم عقلائي كحجية الخبر الواحد أو عقلي كباب الملازمات.

و على ضوء ذلك فالمسألة في المقام قاعدة فقهية لأنّها تبحث عن فساد العبادة و المعاملة و عدمهما، و الفساد حكم شرعي كالصحة.

قلت: إنّ الفساد و الصحّة من الأُمور الانتزاعية من مطابقة المأتي به للمأمور به و عدمه، فهما حكمان وضعيّان منتزعان من قول الشارع» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «فيوصف عمل ناسي السورة بالصحّة، بحكم الرواية، كما يوصف بيع من باع من غير ملك بالفساد بفضل قوله:» لا تبع ما ليس عندك «.

و على ذلك فليس الفساد كالصحة من الأحكام الشرعية بل من الأحكام الوضعية المنتزعة.

نعم لو قلنا بأنّهما مجهولان فلا محيص عن كون المسألة فقهية.

الخامس: إنّ للنهي أقساماً و إنّ أيّ قسم من الأقسام مورد للنزاع،

و الأقسام كالتالي.

ص:290

تحريمي و تنزيهي.

نفسي و غيري.

أصلي و تبعي.

و قد اختلفت أنظار الأُصوليين في تعيين محط النزاع، فذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الجميع داخل في محطّ النزاع، فقولنا: هل النهي يدل أو يكشف عن الفساد؟ يعم جميع الأقسام، إمّا عنواناً أو ملاكاً، كما سيتضح.

و ذهب المحقّق النائيني إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي دون التنزيهي، و بالنفسي دون الغيري، و لم يذكر شيئاً حول الأصلي و التبعي.

و الحقّ مع المحقّق الخراساني، و إليك بيان كلامه:

إنّ النهي التحريمي داخل في محط النزاع و يشمله عنوان البحث، و امّا النهي التنزيهي كالعبادة عند مطلع الشمس و مغربها فغير داخل في عنوان البحث) هل النهي... (لانصراف النهي إلى التحريمي و لكنّه داخل فيه ملاكاً، إذ لقائل أن يقول: إنّه يكفي عدم المطلوبية في الفساد و هو أمر مشترك بين التحريمي و التنزيهي.

كما أنّ النهي النفسي داخل في مصب النزاع، و أمّا الغيري كالنهي عن الصلاة عند ابتلاء المصلي بوجوب إزالة النجاسة عن المسجد فهو على قسمين: غيري أصلي، و غيري تبعي.

فلو قلنا بأنّ الملاك في تقسيم الأمر إلى الأصلي و التبعي إنّما هو مقام الإثبات و الدلالة، بمعنى أنّه إذا كان الوجوب مفهوماً بخطاب مستقل و مدلولاً بالدلالة المطابقية، فالواجب أصلي، و إن كان مفهوماً بتبع خطاب آخر و مدلولاً بالدلالة الالتزامية فالواجب تبعي، فلو قلنا بهذا التفسير للأصلي و التبعي،

ص:291

فالغيري مطلقاً داخل في عنوان النزاع لشمول قوله: هل النهي يدلّ على الفساد للنهي المفهوم بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.

و أمّا لو قلنا بأنّ ملاك التقسيم إليها هو الثبوت لا الإثبات، فلو كان الشيء متعلّقاً للإرادة على وجه الاستقلال عند الالتفات إليه بما هو عليه فهو أصلي، و إن كان متعلّقاً بها تبعاً لإرادة غيره من دون التفات إليه فهو تبعي، فلو قلنا بهذا التفسير فالغيري التبعي بما انّه ليس مدلولاً للدلالة يكون داخلاً في محط البحث ملاكاً لا عنواناً.

هذا هو توضيح ما أفاده المحقّق الخراساني.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: أنّ القول بانصراف النهي إلى التحريمي و خروج التنزيهي عن مدلوله غير تامّ، لأنّ الانصراف إمّا لكثرة استعمال النهي في التحريمي، أو لكثرة وجوده، و كلاهما منتفيان، فانّ النهي استعمل في التنزيه كثيراً و له مصاديق متوفرة، فالتحريمي و التنزيهي أمام العنوان سواء.

الثاني: أنّه جعل الغيري التبعي تارة داخلاً في عنوان النزاع، و أُخرى داخلاً فيه بملاك النزاع لا بعنوانه، مع أنّ الأصلي أيضاً كذلك، فلو فسّر الأصلي بما تعلّق به الخطاب على وجه الاستقلال، فهو داخل في عنوان النزاع، و ان فسّر بما تعلّقت به الإرادة الاستقلالية و إن لم يتلفّظ به المولى، فهو داخل في البحث ملاكاً، اللّهمّ إلاّ أن يقال إذا كان الشيء متعلّقاً للإرادة الاستقلالية لا ينفك عن كونه متعلّقاً للنهي اللفظي مطلقاً، فكأنّ الأصلي بكلا التفسيرين داخل في عنوان النزاع.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أخرج النهي التنزيهي عن محل النزاع قائلاً: بأنّ

ص:292


1- كفاية الأُصول: 1/284.

النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاق الأمر، نعم لو تعلّق النهي التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه الفساد مجال من جهة انّ ما يكون مرجوحاً ذاتاً لا يصلح أن يتقرّب به، إلاّ أنّ النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلّقة بالعبادات لم تتعلّق بذات العبادة على وجه يتّحد متعلّق الأمر و النهي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من عدم اقتضاء النهي التنزيهي فساد العبادة و إن كان حقاً، لكنه لا يوجب خروجه عن محلّ النزاع، إذ يمكن أن يتوهم أنّ النهي كاشف عن عدم المطلوبية أو الحزازة، و هما لا يجتمعان مع التقرّب.

و الحاصل: انّ كون الفساد على خلاف التحقيق أمر، و كونه غير داخل في محط النزاع شيء آخر، و الكلام في الدخول و عدمه إنّما هو قبل التحقيق و بيان الحال لا بعده، و ما ذكره راجع إلى ما بعد التحقيق.

إلى هنا تمّ ما ذكره صاحب الكفاية و المحقّق النائيني، بقي هنا أقسام لم يشر إليها المحقّق الخراساني و هي:

1. النهي الإرشادي.

2. النهي التشريعي.

3. النهي التخييري في مقابل التعييني.

أمّا الأوّل: فتارة يكون إرشاداً للفساد، كقوله:» لا تبع ما لا يملك «; و أُخرى يكون إرشاداً إلى المانعية، كقوله:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «. من غير فرق بين أن تفسّر المانعية بأخذ قيد عدمي في المأمور به، أو بضدية الشيء المنهي عنه مع الصلاة و انّهما لا يجتمعان، و بما أنّ النهي الإرشادي بكلا قسميه سواء كان

ص:293


1- الفوائد الأُصولية: 4561/455.

إرشاداً إلى الفساد أو إلى المانعية واضح الحكم فلا يكون داخلاً في محلّ النزاع.

و أمّا الثاني: أي النهي التشريعي فمفاده النهي عن الاعتقاد بكون شيء مأموراً به بالخصوص، كما إذا صلّى في مكان خاص زاعماً بتعلّق أمر خاص به مع إطلاق الأمر فصار باعتقاده و عمله مشرّعاً، فهل هو داخل في محلّ النزاع أو لا؟ اختار المحقّق القوجاني(1) الثاني قائلاً بأنّ مفاد النهي التشريعي هو البطلان فلا يتصوّر فيه النزاع.

يلاحظ عليه: أنّ غاية ما يدلّ عليه النهي التشريعي هو حرمة الإتيان بالعمل الناشئ منه، أمّا الفساد فليس من المداليل الواضحة، فيقع البحث عن دلالته على الفساد أو ملازمته معه عقلاً أو عدمها.

و أمّا الثالث: أي النهي التعييني و التخييري كما إذا قال:» لا تصلّ في الدار المغصوبة أو لا تجالس الفسّاق «فصلى فيها مع مجالستهم، فالظاهر دخول القسمين في محلّ النزاع، لكن المحرّم في الأوّل نفس العمل و في الثاني الجمع بين العملين.

السادس: في تعريف العبادة و المعاملة

الغاية القصوى من عقد هذا الفصل، هو استكشاف حال العبادة و المعاملة إذا تعلّق بهما النهي من حيث الصحّة و الفساد، فيلزم التعرّف على مفهوم العبادة و المعاملة.

امّا العبادة: فقد عُرّفت بوجوه ثلاثة وراء ما عَرَّف به المحقّق الخراساني و هي:

أ. ما أمر لأجل التعبّد به.

ص:294


1- من تلاميذ المحقّق الخراساني (قدس سره) و مقرر بحثه و هو أُستاذ المحقّق المشكيني (قدس سره) توفّى سنة 1333 ه.

ب. ما تتوقف صحّتُه على نيّة القربة.

ج. ما لا يعلم انحصارُ المصلحة فيها في شيء.

و أورد عليها المحقّق الخراساني بأنّ الكلام في العبادة التي يتعلّق بها النهي، و العبادة بهذه المعاني لا يتعلق بها النهي.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره يصحّ في التعريف الأوّل، لأنّ ما أمر به يكون صحيحاً بالفعل، فكيف يتعلّق به النهي، بخلاف التعريفين الأخيرين، فلا مانع من تعلّق النهي بما تتوقّف صحّته على الأمر، و لكن لم يتعلّق به الأمر، و مثله الثالث، فلنرجع إلى ما ذكره المحقّق الخراساني من التعريف و قد عرفها بوجهين:

1. ما يكون بنفسه و بعنوانه عبادة له تعالى، موجباً بذاته للتقرّب من حضرته لو لا حرمته كالسجود و الخضوع له و تسبيحه و تقديسه.

2. ما لو تعلّق به كان أمره عباديّاً لا يكاد يسقط إلاّ إذا أتى به بنحو قربي، كسائر أمثاله نحو» صوم العيدين «، و الصلاة في أيّام العادة.(1)

يلاحظ على التعريف الأوّل: بأنّه لو كان السجود عبادة ذاتية، لما جاز أمر الملائكة بالسجود لآدم كما قال سبحانه: (وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) (2)فآدم كان مسجوداً له، لا قبلة، و لا مسجوداً عليه، كالتربة الحسينية إذ معنى ذلك انّه سبحانه أمر بعبادة غيره الذي هو يساوي الأمر بالشرك المنزّه عنه سبحانه، يقول: (وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (3)و الفحشاء القبيح، أو ما اشتد قبحه و المقصود به هنا هو الشرك.

ص:295


1- كفاية الأُصول: 1/286.
2- البقرة: 34.
3- الأعراف: 28.

فالأولى أن يعرف بما ذكره ثانياً أعني: ما لو تعلّق به الأمر لا يكاد يسقط إلاّ إذا أتى به بنحو قربي(1)، خرج التوصليّات فانّها لو تعلّق بها الأمر يسقط مطلقاً قصد به القربة أو لا. هذا كلّه حول العبادة.

و أمّا المعاملة، فقد أُريد منها في العنوان، كلّ ما يكون قابلاً لوصفه بالصحة و الفساد، فيعمّ العقود و الإيقاعات و غيرهما، كالرضاع و الاحياء من الموضوعات التي تارة يترتّب عليه الأثر المترتّب عنه، و أُخرى لا يترتب لاختلال بعض الشرائط المعتبرة.

فخرج الأمران التاليان:

1. ما لا يترتّب عليه الأثر شرعاً مطلقاً، كالغلبة في القمار.

2. ما لا ينفك أثره عنه كالإتلاف بلا إذن، لعدم طروء الفساد عليه.

السابع: في معنى الصحّة و الفساد

ذكر المحقّق الخراساني في المقام أُموراً نشير إليها:

1. انّ الصحّة و الفساد، وصفان إضافيّان يختلفان حسب الآثار و الأنظار، فربّ شيء يكون صحيحاً بحسب أثر، دون أثر كإفساد الصوم بما يوجب القضاء دون الكفّارة، فهو صحيح بالنسبة إلى الكفّارة و فاسد حسب القضاء، كما ربّما يكون صحيحاً في نظر فقيه دون فقيه آخر.

2. انّ الصحّة في العبادة و المعاملة، بمعنى واحد و هو التمامية، و أمّا الاختلاف فيهما فإنّما هو فيما هو المرغوب منهما من الآثار، حيث إنّ المطلوب في

ص:296


1- انّ شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه قد اختصر الكلام في تفسير العبادة، و له بحث ضاف حولها في مفاهيم القرآن، لاحظ الجزء الأوّل: 455 468.

العبادة حصول الامتثال أو سقوط التّضاد و الإعادة، و في المعاملة ترتّب الأثر المطلوب كالملكية في البيع، فتوصف الصلاة بالصحة لهاتين الغايتين، كما يوصف البيع بالصحة لتلك الغاية) ترتّب الأثر (و إلاّ فالصحة في الموردين بمعنى التمامية.

3. إنّ اختلاف الفقيه و المتكلّم في صحّة العبادة ليس اختلافاً مفهومياً أو اختلافاً جوهرياً، بل الصحّة عند الطائفتين بمعنى واحد و هو التمامية، لكن ملاك التمامية عند المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً، لاستحقاق المثوبة، و ملاكها عند الفقيه سقوط الإعادة و القضاء، فكلّ ينظر إلى التمامية من منظاره الخاص و مطلوبه، فالغاية عند المتكلّم هو تعيين موارد استحقاق المثوبة و العقوبة فيفسّر التمامية بموافقة الأمر، أو الشريعة الملازم للامتثال الموجب عقلاً للمثوبة بخلاف الغاية عند الفقيه، فهو بصدد تعيين موارد سقوط القضاء و الإعادة فيفسّر التمامية بهما.

4. انّ الأمر ينقسم إلى واقعي أوّلي و واقعي ثانوي و ظاهري، و قد اختلفت الأنظار في أنّ امتثال الأخيرين هل يجزيان عن امتثال الأمر الواقعي أو لا كالصلاة متيمّماً، أو الصلاة بالطهارة الظاهرية؟ فلو فسّر الأمر في قوله:» امتثال الأمر، يقتضي الإجزاء «بالأعم من الواقعي الثانوي و الظاهري، تكون النتيجة هو الإجزاء مطلقاً، و لو فسّر بخصوص امتثال الأمر الواقعي، تكون النتيجة عدم الإجزاء.

و ربّما يكون الملاك عند المتكلّم، موافقة مطلق الأمر، و عند الفقيه هو خصوص موافقة الأمر الواقعي، فيكون مجزئاً عند الأوّل دون الثاني، و ربّما يكون الملاك على العكس، فيكون مجزئاً عند الفقيه دون المتكلّم، و ربّما يتفقان في الملاك، فيخرجان بنتيجة واحدة.

ص:297

فظهر انّه لا اختلاف في مفهوم الصحّة في الموارد التالية:

1. لا في العبادات و لا في المعاملات.

2. و لا بين الفقيه و المتكلّم.

3. و لا في مجال امتثال الأمر الواقعي الثانوي.

هذا توضيح ما في الكفاية:

يلاحظ عليه أوّلاً: بما قدمناه في مبحث الصحيح و الأعم(1) أنّ تفسير الصحّة بالتمام ليس تفسيراً تاماً في عامة الموارد و ذلك لأنّ الصحّة تستعمل في موردين:

1. الصحّة في مقابل المرض، فيقال مصحّ لا مريض، قال ابن فارس: الصحّة أصل يدل على البراءة من المرض و العيب و على الاستواء من ذلك، و الصحة: ذهاب السقم. و عند ذلك فالصحة كيفية وجودية في الشيء ملائمة لنوعه، و المرض على خلافها. و بين المعنيين من التقابل تقابل التضاد.

2. الصحّة في مقابل العيب، فيقال صحيح لا معيب، و إليه أشار ابن فارس في كلامه أيضاً فقال:

البراءة من المرض و العيب، فإذا كان الوجود تاماً حسب الخلقة النوعية يقال صحيح و إن كان ناقصاً يقال انّه معيب.

و بذلك ظهر أنّ الصحّة بمعنى التمامية في خصوص المورد الثاني، أي إذا استعملت في مقابل المعيب، فيكون وزان الصحيح و المعيب، وزان التام و الناقص، و بين المعنيين تقابل العدم و الملكة. و أكثر استعمال الصحّة إنّما هو في المعنى المقابل للمرض.

هذا حال اللغة: و أمّا اصطلاحاً فتطلق الصحّة تارة على الجامع للصفة

ص:298


1- إرشاد العقول: 1/133.

المعتبرة في العبادة في مقابل الآخر إذا لم تكن كذلك. ككون القراءة صحيحة أو ملحونة، فيكون بينهما من التقابل، هو تقابل التضاد. و أُخرى على الجامع للأجزاء و الشرائط و غير الجامع لهما، فيكون بينهما من التقابل هو تقابل العدم و الملكة. فالأوّل يناسب كون الصحّة في مقابل المرض، و الآخر كون الصحّة في مقابل المعيب.

و ثانياً: إنّ وصف المركبات الانتزاعية بالصحة و الفساد إنّما هو بالإضافة إلى أنفسها عند تحقّقها في الخارج) و سيوافيك أنّ الصحّة و الفساد من عوارض الماهية الموجودة لا بما هي هي (فإن كانت جامعة لما يعتبر فيها فصحيحة و إلاّ ففاسدة لا بالإضافة إلى الآثار و الأنظار.

الثامن: هل الصحّة و الفساد مجعولان مطلقاً؟
اشارة

هل الصحّة و الفساد مجعولان مطلقاً أو ليس كذلك مطلقاً، أو مجعولان في المعاملات دون العبادات، أو الصحّة الظاهرية مجعولة دون الواقعية؟ وجوه و احتمالات، فتارة يقع الكلام في العبادات، و أُخرى في المعاملات.

نظرية المحقّق الخراساني حول الصحّة في العبادات يظهر من المحقّق الخراساني في مجعولية الصحّة في العبادات، التفصيل التالي:

أ. لو فسِّرت الصحّة و الفساد وِفقَ مسلك المتكلّمين) مطابقة المأتي به للشريعة (فالصحّة و الفساد وصفان اعتباريان ينتزعان من المطابقة و عدمها.

ب. و لو فُسِّرت الصحّة و الفساد وفق مسلك الفقهاء) ما كان مسقطاً للإعادة و القضاء (فالصحة و الفساد حكمان عقليان حيث يستقل العقل بسقوط

ص:299

الإعادة و القضاء جزماً أو يستقل بعدمها.

و على ضوء ذلك فليست من الأحكام المجعولة مستقلة و لا من المجعولة تبعاً كما ليست أمراً اعتبارياً و انتزاعياً.

هذا كلّه حول امتثال الأمر الواقعي، و أمّا امتثال الأمر الاضطراري(1) فقد ذكر هنا صورة واحدة و هي ما إذا لم يكن المأتي به وافياً لمصلحة الواقع و كانت المصلحة الفائتة لازمة الاستيفاء، فلو كان الاستيفاء حرجيّاً يكون السقوط) الصحّة (مجعولاً شرعاً تخفيفاً و منّة على العباد مع وجود المقتضي لثبوت الإعادة و القضاء، كما ربّما يكون وجوب الإعادة و القضاء) الفاسد (مجعولين كذلك.

هذا خلاصة ما أفاده في» الكفاية «و يرجع حاصله إلى أُمور ثلاثة:

أ. الصحة و الفساد في مسلك المتكلّمين اعتباريان انتزاعيان.

ب. و في مسلك الفقهاء من الأحكام العقلية.

ج. و في امتثال الأمر الاضطراري إذا كان الفائت لازم الاستيفاء و لكن حرجيّاً تكون الصحّة مجعولة شرعاً و إلاّ يكون الفساد مجعولاً.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الجمع بين الاعتباري و الانتزاعي في الشق الأوّل على خلاف الاصطلاح، فانّ الأمر الانتزاعي يُعدُّ من مراتب التكويني في بعض الموارد، كما إذا كان المنشأ متحيثاً بحيثية وجودية، كالفوقية المنتزعة من الطابق الثاني لكونه فوق الأوّل، و هو تحته، فلذلك قالوا إنّ الحقائق الخارجية إمّا جواهر،

ص:300


1- و قد أشار إليه بقوله: و في غيره فالسقوط ربّما يكون مجعولاً، و الضمير يرجع إلى امتثال الأمر الواقعي الأوّلي، فيكون المراد امتثال الأمر الواقعي الثانوي أي الاضطراري كالتيمّم.
2- كفاية الأُصول: 1/289.

أو أعراض أو انتزاعيات، بخلاف الأُمور الاعتبارية فانّ قوامها بإعطاء حدّ التكوين لشيء آخر، اعتباراً، كإعطاء حد الرأس الذي شأنه الإدارة للرئيس، فهو رأس اعتباراً، و الآخرون بمنزلة الأعضاء فأين الثاني من الأوّل؟! و للبحث حول الأُمور الانتزاعية و الاعتبارية مجال آخر و الغرض أنّ الجمع بينهما خلاف الاصطلاح.

و ثانياً: انّ الصحّة على مسلك المتكلّمين ليست من الأُمور الانتزاعية و لا الاعتبارية و إنّما هي من الأُمور الواقعية كسائر الواقعيات التي يدركها العقل، فانّ حصول الامتثال بتطابق المأتي به للشريعة، من الأُمور الواقعية كتطابق الخطين و تساويهما، فالصحة عندئذ ليست أمراً انتزاعياً و لا اعتبارياً و لا مجعولاً بنفسه و لا مجعولاً بتبع أمر آخر، و لا من الأحكام العقلية المستقلة كحسن الإحسان و قبح الظلم أو الملازمة بين الوجوبين، بل واقعية يدركها العقل.

نعم ما أفاده من أنّ الصحّة على مسلك الفقهاء، من الأحكام العقلية، إذ هو الحاكم بسقوط الإعادة و القضاء إذا أتى بالمأمور على ما هو عليه، و عدمه إذا لم يأت كذلك.

و ثالثاً: أنّه) قدس سره (حكم بأنّ الصحّة و الفساد مجعولين شرعاً فيما إذا كان المأتي به غير واف بمصلحة الواقع فيما كانت الإعادة أو القضاء حرجيّاً فيكون سقوطهما) الصحة (مجعولين و إلاّ كان ثبوتهما ) الفساد (مجعولين، مع أنّ الظاهر منه في مبحث الإجزاء، أنّ الإجزاء و عدمه في الصورتين أمر عقلي(1)، و مع ذلك يمكن تصحيح كونهما مجعولين لكن باعتبار منشأ انتزاعهما حيث إنّ العمل لا يوصف

ص:301


1- كفاية الأُصول: 1/129.

بالصحة، إلاّ برفع اليد عن جزئية الجزء و شرطية الشرط، كما لا يوصف بالفساد إلاّ بإثباتهما، فالمجعول رفع الشرط أو الجزء أو إثباتهما، فيتبعهما جعل الصحة و الفساد.

إكمال

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاد في آخر التنبيه الذي عقده في ذيل الأمر السادس بأنّ الصحّة و الفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين، بل إنّما هي تتصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ معنى ذلك أنّ الموصوف بالصحّة و الفساد هو العناوين الكلّية من الصلاة و البيع، و اتّصاف الفرد الخارجي منهما إنّما هو بانطباق المفهوم الكلّي عليه، و لكنّه كما ترى، لأنّ الصلاة الكلية لا توصف بالصحة و الفساد ما لم تتحقّق في الخارج، فانّ الأجزاء و الشرائط بما هي هي لا توصف بالصحّة و الفساد، و إنّما توصف بأحدهما إذا انطبق عليها عنوان الصلاة في الخارج، فإن كانت جامعة لهما فتوصف بالصحة، و إلاّ فتوصف بالفساد. و سيوافيك الكلام في البحث التالي.

الصحّة في المعاملات

قد وقفت على نظرية الخراساني حول الصحّة في العبادات و تفاصيلها، و أمّا الصحّة في المعاملات فأفاد في المقام كالتالي:

1. انّ الصحّة في المعاملات مجعولة، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما

ص:302


1- كفاية الأُصول: 1/290.

هو بجعل الشارع و ترتيبه عليها و لو إمضاءً، ضرورة انّه لو لا جعله لما كان يترتّب عليه لأصالة الفساد.

2. نعم صحّة كلّ معاملة شخصية و فسادها ليس إلاّ لأجل انطباقها على ما هو المجعول سبباً و عدمه كما هو الحال في التكليفية من الأحكام، فاتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة ليس إلاّ انطباق ما هو الواجب عليه.

يلاحظ عليه بأمرين:

1. انّه سبحانه جعل البيع حلالاً، فقال: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1)، و جعل الصلح بين المسلمين جائزاً و نافذاً فقال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الصلح جائز بين المسلمين «. فمتعلّق الجعل في الآية و الرواية، هو الحلّية و الجواز، لا الصحة، فلو قلنا بأنّه لا دور للشارع في مجال المعاملات، فالمراد انّه أمضى الحلّية و الجواز الرائجين بين العقلاء قبل الإسلام.

و أمّا الصحّة فإنّما يوصف بها العنوان إذا تحقّق في الخارج، و انطبق عليه ما أمضاه الشارع بالحلّية أو الجواز.

و الحاصل: انّ المحقّق الخراساني خلط بين متعلّق جعل الحلية و الجواز) و إن شئت قلت القانونية (و بين متعلّق الصحّة، فمتعلق الحلّية و الجواز هو العناوين الكلية و المجعول فيها هو الحلّية و الجواز، و متعلّق الصحّة هو المصداق الخارجي المنطبق عليه تلك العناوين.

و على ذلك فما هو المجعول شرعاً و لو إمضاء، هو الحلّية و الجواز، لا الصحّة، بل الصحّة و الفساد تنتزع من انطباق تلك العناوين الحامل للأحكام على المصداق الخارجي، و قد أشرنا إلى ذلك في الإكمال السابق.

ص:303


1- البقرة: 275.
التاسع: ما هو الأصل المعوّل عليه عند الشكّ؟
اشارة

إذا ثبت عند المجتهد دلالة النهي على الفساد أو عدم دلالته عليه فهو في غنى عن طرح هذا البحث، لعدم الحاجة إليه بعد وجود الدليل الاجتهادي على أحد الطرفين. و إنّما تصل النوبة إليه إذا قصرت اليدُ عن الدليل الاجتهادي و لم يثبت أحد الأمرين، فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العملي عند الشكّ.

فنقول: تارة يتعلّق الشكّ بالمسألة الأُصولية، و أُخرى بالمسألة الفرعية.

أمّا الأوّل: فلو كان مصب النزاع عقلياً، أي في وجود الملازمة بين النهي و الفساد عقلاً و عدمها، فلا أصل هنا يعوّل عليه، إذ ليست للملازمة و لا لعدمها حالة سابقة، و على فرض وجودها لا شكّ في الحالة اللاحقة، إذ لو ثبت الملازمة لكانت باقية قطعاً، و لو ثبت عدمها فكذلك.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّه إذا كان النزاع عقليّاً فليس هاهنا قضية متيقّنة أوّلاً، و على فرض وجودها فليس هاهنا قضية مشكوكة.

أضف إلى ذلك أنّ الملازمة و عدمها غير قابلة للاستصحاب، لأنّه يشترط فيه كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، و الملازمة تفتقد هذا الشرط.

هذا إذا كان مصبُّ النزاع في المسألة الأُصولية عقليّاً، و أمّا إذا كان لفظياً، أي في دلالة لفظ النهي على الفساد أو عدمه، فالأصل و إن كان موجوداً، أعني: أصالة عدم وضع النهي للفساد و لكنّها بالنسبة إلى إثبات أنّ النهي الموجود غير موضوع له مثبت، و قد ثبت في محلّه انّ استصحاب النفي التام لا يثبت النفي

ص:304

الناقص، كاستصحاب عدم قرشية هذه المرأة عند ما لم تكن موجودة و إثبات عدم قرشيتها بعد ما وجدت، لأنّ القضية المتيقّنة صادقة بانتفاء الموضوع، و القضية المشكوكة لا تصدق إلاّ بعد وجود الموضوع و انتفاء محموله، و مثله المقام حيث إنّ عدم دلالة النهي على الفساد لأجل عدم وجود الواضع و الوضع، فكان عدم دلالتها أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، و المقصود إثبات عدم الدلالة بعد وجود الواضع و ثبوت الوضع و صدور النهي من المولى، فالقضية المتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع، و القضية المشكوكة إن صدقت صادقة بعد وجود الموضوع و الاتصاف بعدم المحمول.

فثبت أنّه لا أصل مفيد إذا كان النزاع في المسألة الأُصولية، إمّا لا أصل كما إذا كان عقليّاً أو هنا أصل و لكنّه مثبت كما إذا كان النزاع لفظيّاً.

إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية

إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية في باب المعاملات بأن شك في صحّة البيع وقت النداء، أو صحة المضاربة مع شرط اللزوم، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل هو الفساد، لأنّ مقتضى صحّة البيع مثلاً انتقال المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري و الثمن على العكس، فالأصل عدم حصول النقل و الانتقال.

هذا في المعاملات، و أمّا في العبادات فقد أفاد المحقّق الخراساني بأنّ الأصل هو الفساد، لأنّ تعلّق النهي مانع عن تعلّق الأمر لامتناع اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، فصوم يوم الفطر إذا كان منهيّاً عنه يمتنع أن يتعلّق به الأمر.

ص:305

كلام للمحقّق الأصفهاني

و أورد عليه المحقّق الاصفهاني) قدس سره (بأنّه لا شكّ في المسألة الفرعية حتّى يؤسس الأصل في مقام الشكّ، لأنّ الصحّة لو كانت بمعنى موافقة الأمر فلا شكّ في الفساد لعدم تعلّق الأمر بالعبادة مع تعلّق النهي بها.

و إن كان بمعنى موافقة المأتي به للمأمور به من حيث الملاك فهو قطعي الثبوت، فالمنهي عنه مستجمع لجميع الأجزاء و الشرائط الدخيلة في الملاك، و الشكّ في أمر آخر و هو إمكان التقرّب مع المبغوضية و عدمه، و لا أصل يقتضي أحد الأمرين، فكيف يقال الأصل الفساد؟(1)و حاصله: انّه لو كان ملاك الصحّة، هو الأمر، فالعبادة باطلة قطعاً بلا شكّ لعدم الأمر; و لو كان ملاك الصحة هو وجود الملاك فهو صحيح قطعاً لكونه واجداً للملاك، و لو طرأ الشكّ في الصحة لأجل إمكان التقرّب مع المبغوضية و عدمه فلا أصل يعيّن أحد الطرفين.

يلاحظ عليه أوّلاً: نختار الشقّ الثاني و هو انّ الصحّة تدور حول وجود الملاك في الصلاة، و القول بأنّه قطعي الثبوت غير تام، إذ لو كان الشكّ في الصحّة لأجل ابتلاء العبادة بالمزاحم كابتلاء الصلاة بإزالة النجاسة عن المسجد، فالقول بوجود الملاك القطعي صحيح، و أمّا إذا كان الشكّ معلولاً لأجل النهي عن الجزء كقوله لا تقرأ العزائم في الصلاة، أو الوصف كالنهي عن الصلاة متكتفاً، فالقول بأنّ الملاك قطعي غير صحيح، لاحتمال أن تكون الصلاة مقيّدة بغير العزائم و التكتّف، و الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في كون الصلاة تامّة من حيث عدم

ص:306


1- نهاية الدراية: 1/310.

المانع أو لا، فعندئذ يكون الملاك أيضاً مشكوكاً.

و ثانياً: لو افترض أنّ الشك في إمكان التقرّب مع المبغوضية و عدمه، فقوله» لا أصل «غير صحيح، لوجود الأصل و هو انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، فليس للمكلّف الاكتفاء بالصلاة مع سور العزائم أو التكتّف لاحتمال مانعيتها، فيجب عليه الإعادة أخذاً بقاعدة الاشتغال.(1)

كلام للمحقّق النائيني

و قد فصّل المحقّق النائيني) قدس سره (بين ما إذا كان الشكّ في صحتها و فسادها لأجل شبهة موضوعية، كما إذا شكّ في أنّه ركع أو سجد في الركعة الأُولى أو لا؟ فمقتضى القاعدة الأُولى فسادها مع قطع النظر عن القاعدة الثانية) قاعدة الفراغ و التجاوز (.

و أمّا إذا كان لأجل شبهة حكمية، فالحكم بالصحّة و الفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة أو الاشتغال عند الشكّ في الجزئية أو الشرطية أو المانعية.

و إن شئت قلت: الشكّ في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشكّ في مانعية المنهي عنه عن العبادة و عدمها و يندرج في مسألة الأقل و الأكثر.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ كلاً من الشقين خارج عن محطّ البحث، أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية فلا نهي هناك حتّى يدخل في صلب الموضوع، فمن يشكّ في أنّه

ص:307


1- هذا و قد قرر شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه هذه المباحث على خلاف ما قرره في الدورة الثالثة، فلو كان هناك خلاف بيننا و بين ما أفاده في تلك الدورة فهو راجع إلى اختلاف التقرير من جانب شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه.
2- أجود التقريرات: 1/394.

ركع أو سجد لا نهي هنا قطعاً حتّى يبحث في دلالته، و أمّا إذا كانت الشبهة حكمية فالشكّ في الصحة و إن كان نابعاً من الشكّ في مانعية التكتّف أو لبس خاتم الذهب فبالتالي يدخل في مبحث الشكّ في المانعية الذي يبحث عنه في باب الاشتغال، و لكنّه خروج عن نمط البحث في المقام، فانّ البحث هنا مركّز على شيء واحد و هو دلالة النهي على الفساد و عدمها، و إرجاع البحث إلى الشكّ في المانعية و إدخاله في مبحث الأقل و الأكثر الارتباطيين خروج عن موضوع البحث.

كلام للمحقّق الحائري

قد فرّق شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (بين كون النزاع لفظياً و كونه عقلياً، إذ على الأوّل يرجع الشكّ إلى تقييد دليل العبادة بغير الخصوصية كالتختّم بالذهب و التكتّف، و معه إمّا تجري البراءة أو الاشتغال على الخلاف، بخلاف ما إذا كان عقلياً، و إنّما الشكّ في القرب المعتبر في العبادات هل يحصل بإيجاد العمل في ضمن فرد محرّم، أو لا و الأصل الاشتغال حتّى يحصل القطع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في الشق الثاني لا غبار عليه، و قد أوضحناه عند نقل كلام المحقّق الاصفهاني حيث زعم» انّه لو كان مناط الصحة هو الملاك فيرجع إلى مبغوضية المنهي عنه و عدمها و لا أصل في البين «و قد عرفت أنّ الأصل هو انّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

نعم يرد الإشكال على الشقّ الأوّل حيث أرجع البحث في المقام إلى الشكّ في تقييد العبادة بغير الخصوصية) التكتّف مثلاً (و قد عرفت أنّ هذا خروج عن

ص:308


1- درر الأُصول: 1/155.

موضوع البحث، بل البحث مركَّز على كون النهي مانعاً عن الصحّة أو لا، لا كون النهي سبباً للشكّ في تقييد المأمور به بعدم المنهي عنه.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ الأصل في العبادات المنهية هو الفساد، إذ الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في حصول البراءة اليقينية، و معه تجب الإعادة و القضاء.

العاشر: في أقسام تعلّق النهي بالعبادة
اشارة

إنّ النهي عن العبادة على أقسام:

1. إمّا يتعلّق بنفس العبادة.

2. أو جزئها.

3. أو شرطها الخارج عنها كالتستّر.

4. أو وصفها الملازم لها.

5. أو وصفها غير الملازم لها.

6. أو يتعلّق بها لا بالمباشرة، بل لأجل تعلّق النهي بأحد هذه الأُمور.

فقد قدّم المحقّق الخراساني البحث في تعلّق النهي بالجزء و الشرط و...، ثمّ انتقل إلى البحث عن تعلّق النهي بنفس العبادة، و بعد إنهائه استعرض مسألة تعلّق النهي بالمعاملات، و نحن نقتفيه أيضاً فنقول:

1. إذا تعلّق النهي بالجزء

إذا تعلّق النهي بالجزء كالنهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة، روى زرارة عن أحدهما) عليهما السلام (قال:» لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم، فانّ السجود

ص:309

زيادة في المكتوبة «(1)فقال المحقّق الخراساني: إنّ النهي يوجب بطلان الجزء لكن بطلانه لا يوجب بطلان العبادة إلاّ في صورتين:

1. إذا اقتصر على الجزء المنهي عنه لا مع الإتيان بغيره ممّا لم يتعلّق به النهي بأن يقرأ سورة أُخرى من العزائم.

2. إذا استلزم الإتيان بجزء آخر، محذوراً كالقران بين السورتين و قد نهي عنه، روى الصدوق عن أبي جعفر) عليه السلام (أنّه قال:» لا قرآن بين السورتين في ركعة «.(2)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أورد على نظرية المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة. و حاصل الوجوه: انّ النهي عن الجزء، مبطل للجزء و الكلّ، أي العبادة، و إليك الوجوه:

الأوّل: انّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء، و تكون نسبة العبادة إلى ذلك الجزء المنهي عنه» بشرط لا «لا محالة، و اعتبار العبادة» بشرط لا «بالنسبة إلى شيء، يقتضي فساد العبادة المشتملة على ذلك الشيء لعدم كون الواجد من أفراد المأمور به، بل المأمور به غيره، فالآتي بالمنهي عنه غير آت بالمأمور به.

الثاني: انّه يعد زيادة في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحتها، و لا يعتبر في تحقّق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من جنس إجزاء العمل، نعم يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان المأتي به من غير جنسه.

ص:310


1- الوسائل: 4، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.
2- الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 12.

الثالث: انّه تعمّه أدلّة مبطلية مطلق التكلّم من غير تقييد بكلام الآدمي، و القدر الخارج عن هذا الإطلاق هو التكلّم بالقرآن و الذكر الجائزين، و يبقى الذكر و القرآن المنهي عنهما داخلين تحت الإطلاق.(1)

و الوجوه الثلاثة تهدف إلى أنّ بطلان الجزء موجب لبطلان الكلّ أي نفس العبادة، فتارة من جهة فقدان وصف الصلاة، أي اللابشرط، و أُخرى من جهة الزيادة، و ثالثة من جهة كونه تكلّماً غير جائز.

يلاحظ على الأوّل: أنّ حرمة جزء العبادة ليست إلاّ بمعنى حرمته في نفسه، و حرمته كذلك تقتضي بطلانه و عدم حصول الامتثال به، و أمّا تقييد العبادة بعدمه، و كون نسبتها إليه، على نحو» لا بشرط «فهو ممّا لا تدلّ عليه حرمة الجزء.

و إن شئت قلت: قولنا:» جزء العبادة «تعبير مسامحي، فانّ الروايات الناهية عن قراءة سور العزائم في المكتوبة سلبت عنها وصف الجزئية، و صارت قراءتها فيها، كالنظر إلى الأجنبيّة في حال الصلاة، فكما أنّ الثاني، لا يبطل العبادة فهكذا قراءة العزائم، و كون السورة المنهيّة من جنس سائر الأجزاء دون النظر لا يكون فارقاً، بعد سلب عنوان الجزئية عنها بقوله» لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم «.

و بطلان الجزء [الشأني] في نفسه، يلازم بطلان العبادة إذا اقتصر به، و أمّا إذا قرأ سورة أُخرى، كانت الصلاة واجدة للجزء لو لا المحذور الآخر، أعني: قران بين السورتين المنهي عنه كما مرّ.

و يلاحظ على الثاني: المفروض انّ المصلّي عالم بالحكم، و انّ الشارع سلب عن العزائم عنوان الجزئية فيمتنع أن يقرأها بقصد الجزئية، و إنّما يقرأها بعنوان انّه

ص:311


1- أجود التقريرات: 1/397; فوائد الأُصول: 4661/465.

قرآن، فعندئذ كيف يكون سبباً للزيادة مع عدم قصد الجزئية؟ و التفريق بين ما كان من سنخ العبادة و غيرها باشتراط قصدها في الثاني دون الأوّل خال عن الوجه، و ذلك للفرق الواضح بين كون شيء جزءاً تكوينياً و كونه جزءاً اعتباريّاً، فلو زاد في المركب الخارجي شيئاً عن سهو، صدق انّه زاد فيه سواء قصد الجزئية أم لا، و بين كونه جزءاً اعتبارياً للمركب الاعتباري الذي هو في الحقيقة أُمور مختلفة، متفرقة، من مقولات متشتّة، يجمعها عنوان اعتباري آخر كالصلاة، ففي مثلها، تكون جزئية الشيء رهن القصد و الاعتبار فلا يصدق انّه زاد في صلاته إلاّ إذا أتى بالجزء بما انّه جزء منه، و المفروض خلافه. نعم لو أتى بالجزء بما انّه جزء للصلاة و انّه لا فرق بين العزائم و غيرها صدقت الزيادة.

فإن قلت: إنّ الإمام عدّ السجود لأجل قراءة العزائم زيادة في المكتوبة كما مرّ، مع أنّه لم يقصد كونه جزءاً من الصلاة، و هذا دالّ على التفصيل بين ما يكون من جنس المزيد عليه و ما ليس كذلك.

قلت: لعلّ المراد كون السجود ماحياً للهيئة الصلاتية المعتبرة فيها كالأفعال الكثيرة المبطلة، بما هي ماحية لها، و إلا فالاستعمال أعمّ من الحقيقة، و إطلاقها على السجود في مورد لا يكون دليلاً على صحّة إطلاقها على غيره إذا لم يقصد كونه من الصلاة.

و على الثالث، فانّ المحرّم هو التكلّم بكلام الآدمي لا مطلق التكلّم حتّى يخصص بالقرآن و الذكر الجائزين و يبقى القرآن و الذكر المحرّمين تحته، و يدلّ على ذلك لسان الروايات.

روى أبو بصير عن الصادق) عليه السلام (:» ان تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد الصلاة «.(1)

ص:312


1- الوسائل: 4، الباب 25 من أبواب القواطع، الحديث 1 و 2 و 4.

أضف إلى الجميع أنّ المسألة أُصولية، لا فقهية، فيجب تحليلها على غرار سائر المسائل الأُصولية بأن يركّز على البحث في الملازمة أو دلالة النهي على الفساد، و أمّا تحليله بفقدان الوصف أو الزيادة، أو بكونه تكلّماً فهو يناسب المسائل الفرعية.

2. إذا تعلّق النهي بالشرط إذا تعلّق النهي بالشرط كالتستر بالحرير فهل يوجب فساد العبادة أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين أن يكون الشرط عبادة، كالطهارات الثلاث فانّ فسادها يوجب فساد المشروط، و ما لا يكون عبادة كالتستر فانّ النهي يجتمع مع الصحة لعدم لزوم قصد القربة حتّى لا تجتمع مع الحرمة.

يلاحظ عليه: أنّ الشرط غير العبادي إذا كان متقدّماً على المشروط صح ما ذكره كغسل الثوب النجس بالماء المغصوب، و الصلاة فيه بعد جفافه و أمّا إذا كان الشرط مقارناً مع الصلاة كالتستر، فانّ النهي عنه كاشف عن مبغوضيته و عدم إمكان التقرّب بالصلاة المتّحدة مع الشرط المبغوض.

و بعبارة أُخرى: انّ هنا مشروطاً كالصلاة و قيداً كالثوب المنسوج من الحرير و تقيداً و هو الإضافة الحاصلة بين الستر و الصلاة، و ذات القيد أي نفس الثوب و إن كان خارجاً عن الصلاة، لكن التقيّد داخل فيها، فالأمر يتعلّق بالصلاة التي تكون العورة فيها مستورة، فإذا كان الشرط أي التستّر محرماً، يمتنع تعلّق الأمر الصلاتي به و لو بانبساط الأمر، و قد اشتهر قولهم:» تقيّد جزء و قيد خارجي «فالتستّر جزء من الصلاة داخل فيها و إن كان نفس الستر خارجاً فالأمر النفسي المتعلّق بالمشروط، يتعلّق بالشرط أيضاً و النهي مانع عن تعلّقه به.

ص:313

فإن قلت: إذا كان التقيّد أمراً ذهنياً، فلا يكون متعلّقاً للأمر النفسي و لو بانبساطه إلى الأجزاء و الشروط.

قلت: المراد من كونه أمراً ذهنياً أنّ وجوده ليس من سنخ الجواهر بأن يكون عيناً من الأعيان، و إلاّ يلزم أن تكون المعاني الحرفية كلّها أُموراً ذهنية فاقدة للواقعية، مع أنّها من مراتب التكوين، و لذلك يمكن أن يقال انّ التستّر، كالتعمم و التقمّص من مقولة الجدة و له واقعية كسائر الأعراض النسبية.

فإن قلت: ما الفرق بين الجزء و الشرط حيث إنّ بطلان الجزء بما هو هو لا يوجب بطلان الكل، بخلاف الشرط فانّ مبغوضية» الشرط «أي» التستّر «توجب بطلان العبادة؟ قلت: الفرق واضح فانّه ليس للجزء المنهي أيُّ دور في قوام الصلاة و انّما هو فعل زائد في الصلاة موصوف بالحرمة، بمعنى أنّه لا يسري بطلانه إلى الكلّ إذا استدركه بإتيان فرد منه غير ممنوع، بخلاف الشرط فانّ له دوراً في الصلاة، لأنّه من توابع الصلاة و مكمّلاً لها حيث لا تصحّ الصلاة بلا تستر.

3. إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم

إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم كالجهر بالقراءة في الصلوات النهارية، فهل يدلّ على فساد القراءة أو لا؟ و ربّما يفسّر الوصف اللازم بما لا ينفك عن الملزوم، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، لكن التفسير خاطئ من وجهين:

1. انّ الجهر ليس من اللوازم غير المنفكّة، لإمكان القراءة بالمخافتة.

2. لو كان الوصف ممّا لا ينفك، يمتنع تعلّق الوجوب بالملزوم و الحرمة

ص:314

باللازم لاستلزامه طلب الضدّين و لذلك قيل بأنّ اللاّزم و إن كان لا يجب أن يكون محكوماً بحكم الملزوم لكن يجب أن لا يكون محكوماً بحكم يضادّ حكم الملزوم كما في المقام.

بل المراد من اللازم ما لا يمكن سلبه مع بقاء موصوفه، و في المقام تنعدم القراءة الشخصية مع انعدام وصفها، نعم يمكن إيجاد قراءة أُخرى في ضمن صنف آخر.

و إن شئت قلت: أن لا يكون للموصوف وجود مغاير للوصف حيث إنّ الجهر من كيفيّات القراءة و خصوصياتها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ النهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن القراءة لامتناع كون القراءة التي يجهر بها مأموراً بها مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً.

و ما ذكر مبنيّ على مختاره في باب تعلّق الأحكام فانّ التحريم عنده يتعلّق بما هو مصداق الجهر خارجاً، و المفروض انّه متّحد وجوداً مع القراءة، و لو تعلّق بها الأمر، يلزم أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به النهي لحديث اتحادهما في الخارج و هو محال، و لازم ذلك خروج القراءة عن تحت الأمر فيكون ما أتى به غير مأمور به، و ما هو المأمور به، غير مأتي به، و هذا هو الوجه لفساد القراءة عند المحقّق لا ما ذكره بعض الشرّاح من» أنّه لا يمكن عند العقل أن يكون أحد المتلازمين واجباً و الآخر حراماً «لما عرفت من عدم صحّة تفسير اللازم في المقام بما ذكر.

و أمّا تفسير الفساد، بامتناع التقرّب بهذه القراءة المنهية، أو استلزام النهي كون القراءة فاقدة لوصفها الشرعي، أعني: المخافتة، كلّها خروج عن محط البحث، لأنّ البحث أُصولي، لا فقهي، و ما ذكر من الوجهين يناسب كون البحث

ص:315

فقهياً.

لكن الظاهر عدم اقتضاء النهي الفساد، لما عرفت من أنّ متعلّق الأحكام هو العناوين الفعلية، و المصاديق ليست متعلّقة للأحكام، و إنّما هي مصاديق لما هو الواجب، و القراءة و الجهر من المفاهيم المختلفة فلا يسري الحكم المتعلّق بالجهر إلى القراءة و هكذا بالعكس.

4. إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق

إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة حيث إنّ الصلاة عبارة عن الأذكار و الأفعال، و الغصب، هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً، و هما في الخارج حقيقتان مختلفتان، بل ربّما يحصل الاستيلاء بلا تصرّف في مال الغير، كما إذا منع المالك من التصرّف في ماله، و سلب سلطانه عنه من دون أن يتصرّف في الدار، فعندئذ عدم استلزام النهي، فساد الموصوف واضح لا يحتاج إلى البيان، و أمّا فسادها لأجل عدم حصول التقرب و غيره فهو خارج عن محط البحث.

5. إذا تعلّق النهي بالعبادة لأجل أحد هذه النواهي

إذا تعلّق النهي بالعبادة و كان النهي ناجماً من تعلّق النهي بالجزء، أو الشرط و غيرهما فهو على قسمين، فتارة يكون النهي عن الجزء و الشرط واسطة في العروض فيكون حكمه، حكم الواسطة، و أمّا إذا كان النهي عن أحد هذه الأُمور واسطة في الثبوت، يدخل في باب النهي المباشر عن العبادة الذي سوف يوافيك حكمه.

وجهه، انّه إذا كانت الواسطة، واسطة في العروض، كقولك جرى الميزاب،

ص:316

فإنّ جريان الماء واسطة لنسبته إلى الميزاب، فلا يكون ذو الواسطة) الميزاب (موصوفاً حقيقة بالجريان و إنّما ينسب إليه مجازاً و بالعرض، بإعطاء حكم الحالّ للمحلّ، فيكون النهي الناجم من هذه النواهي، المتعلّق بنفس العبادة، نهياً مجازيّاً لا حقيقياً، فلا يزيد حكمه على حكم الواسطة.

و إذا كانت الواسطة، واسطة في الثبوت كوساطة النار لعروض الحرارة على الماء، يكون ذو الواسطة) الماء (موصوفاً بالحرارة حقيقة، لا مجازاً، فيكون النهي المتولّد من هذه النواهي نهياً حقيقياً متعلّقاً بالمباشرة بالعبادة فيدخل في قسم النهي عن ذات العبادة الذي سيوافيك بيانه.

ثمّ إنّ هذه الأقسام الخمسة متصوّرة في النهي عن المعاملة، فتارة يتعلّق النهي بجزء المعاملة، و أُخرى بشرطها و هكذا...، و لكنّها فروض لا مصداق لها في الخارج و كلّها مبتنية على كون أسماء المعاملات، أسماء للأسباب المركّبة، لا للمسببات البسيطة كالملكية في البيع.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى ما هو المقصود من عقد هذا الفصل، أعني:

1. تعلّق النهي بنفس العبادة.

2. تعلّق النهي بنفس المعاملة.

فيقع الكلام في مقامين.

المقام الأوّل: تعلّق النهي بالعبادة
اشارة

إذا تعلّق النهي بالعبادة، فهو إمّا مولوي، و إمّا إرشادي. و المولوي إمّا ذاتي أو تشريعي، فتصير الأقسام ثلاثة، و إليك بيان أحكامها:

ص:317

1.

الأول النهي التحريمي المولوي الذاتي

إذا تعلّق النهي التحريمي المولوي الذاتي بذات العبادة كصلاة الحائض في قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» دع الصلاة أيّام أقرائك «.(1) وصوم يوم الفطر في قوله:» نهى رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (عن صيام ستة أيام يوم الفطر، و يوم النحر... «.(2)

أو بذات العبادة، و لكن بواسطة النهي عن وصفه كصوم الوصال في قوله:» لا وصال في الصوم «(3)فهل يدلّ النهي على الفساد أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الدلالة و استدلّ بالبيان التالي:

إنّ الصحّة إمّا بمعنى مطابقة الأمر للشريعة كما عليه المتكلّمون أو بمعنى سقوط الإعادة و القضاء.

فعلى الأوّل الصحة فرع الأمر، و مع النهي عن ذات الشيء لا يتعلّق به الأمر.

و على الثاني فسقوط القضاء و الإعادة فرع تمشّي قصد القربة، و مع الحرمة الذاتية كيف يتمشّى قصدها؟! ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على نفسه إشكالاً حاصله:

إنّ النهي في الموارد المذكورة ليس نهياً تحريمياً ذاتيّاً و إنّما هو نهي تحريمي تشريعي، و ذلك لأنّ متعلّق النهي الذاتي إمّا العبادة الشأنية، أو العبادة الفعلية.

و إن شئت قلت: إمّا ذات الفعل بلا قصد القربة، أو هو مع قصد القربة.

فالأوّل ليس عبادة فلا يوصف فعلها بالحرمة، كما إذا علّمت الحائض إقامة

ص:318


1- مسند أحمد: 6/42 و 262 و في المصدر» حيضك «.
2- الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب الصوم المحرم، الحديث 4.
3- الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الصوم المحرم، الحديث 1.

الصلاة من حضرها من النساء.

و على الثاني، أي ما يكون متعلّق النهي العبادة الفعلية و التي تعلّق به الأمر بالفعل فلا يخلو إمّا أن يقصد الأمر الواقعي أو الأمر التشريعي.

فالأوّل أمر غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بالمحرّم ذاتاً، و على الثاني تكون الحرمة تشريعية لا ذاتية، و معه يمتنع أن يتعلّق به نهي ذاتي لامتناع اجتماع المثلين.

و إلى هذه القضية المنفصلة أشار المحقّق الخراساني بقوله:» و عدم القدرة عليها مع قصد القربة) إذا قصد الأمر الواقعي (إلاّ تشريعاً) إذا قصد الأمر التشريعي (و بالنتيجة يصبح النهي تشريعيّاً لا ذاتياً «و الكلام في النهي الذاتي.

و لتوضيح الحال نذكر صلاة التراويح التي نهي عن إقامتها جماعة.

فإن أتى بها بلا قصد الأمر الواقعي فلا تكون محرّمة، و إن أتى بها بقصد الأمر الواقعي فهو غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بها مع النهي.

و إن أتى بها بالأمر التشريعي بأن ادّعى انّ الشارع أمر بصلاة التراويح جماعة فتصبح العبادة حراماً تشريعياً و يمتنع أن يتعلّق بها نهي ذاتي لامتناع اجتماعهما.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الإشكال بوجوه أربعة:

أوّلاً: نختار الشق الأوّل و انّ المراد من العبادة، العبادة الشأنية، أعني: الفعل الذي لو تعلّق به الأمر يكون عبادة و إن لم يتعلّق به الأمر الفعلي كصوم يوم العيدين فانّ فيه تلك القابلية، أعني: لو تعلّق به الأمر يكون عبادة فالإتيان به و الحال هذه حرام ذاتي، فسقط قول المعترض» من أنّه بدون قصد القربة ليس بحرام «.

و ثانياً: نختار الشق الثاني أي كون متعلّق النهي العبادة الفعلية و لكنّها

ص:319

ليست رهن أمر فعلي، بل ربّما تكون عبادة ذاتية كما في نهي الحائض عن السجود للّه فتكون عبادة محرّمة ذاتاً بلا حاجة إلى الأمر.

و ثالثاً: نمنع ما قاله من أنّه:» إذا قصد الأمر التشريعي يصير حراماً تشريعيّاً و يمتنع تعلّق النهي الذاتي به لاستلزامه اجتماع المثلين، و ذلك لاختلاف متعلّق الحرمتين، لأنّ النهي الذاتي تعلّق بذات الفعل و الحرمة التشريعية تتعلّق بعقد القلب بأنّه ممّا أمر به الشارع مع أنّه لم يأمر به.

و رابعاً: نفترض أنّ النهي ليس ذاتياً بل نهي تشريعي فيكون دالاً على الفساد و لا أقلّ يدلّ على أنّها ليست بمأمور بها و ان عمّها إطلاق دليل الأمر أو عمومه... فيخصص به) النهي (أو يقيد.(1)

يلاحظ على الأوّل بأنّ ما ذكره و إن كان صحيحاً في تعريف العبادة و قد قلنا بصحّة التعريف في أوائل البحث، لكن عنوان البحث، أعني قولهم:» هل النهي عن العبادة يدلّ على الفساد أو لا «ناظر إلى العبادة الفعلية لا الشأنية.

و يلاحظ على الثاني بأنّه مبنيٌّ على وجود العبادة الذاتية كالسجود للّه، و قد عرفت ضعفها، لأنّه يستلزم أن يكون أمر الملائكة بالسجود لآدم أمراً بالشرك، و هو فحشاء، و اللّه سبحانه لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على اللّه ما لا تعلمون.

و يلاحظ على الثالث بأنّ تصوير النهيين: الذاتي و التشريعي و القول باختلاف متعلّقها صحيح على القول بإمكان التشريع وراء البدعة، و أمّا على ما حقّقناه من امتناع التشريع بالمعنى الرائج عند العلماء و هو عقد القلب بوجوب شيء يعلم بعدم وجوبه شرعاً، فهو غير متصوّر. إذ كيف يتأتّى عقد القلب بما

ص:320


1- كفاية الأُصول: 2961/295. قوله» فيخصص به أو يقيّد «ناظر إلى قوله: إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه و لا صلة له بقوله:» نعم لو لم يكن النهي عنها إلاّ عرضاً «.

يعلم خلافه؟! نعم الذي يتصوّر هو البدعة، و هو القيام العملي بنشر البدع بين الناس و القول بأنّها من الشارع، و هو غير التشريع.

و أمّا الرابع فهو عدول عن القول بالحرمة الذاتية و تسليم للحرمة التشريعية.

هذا كلّه حول ما ذكره المحقّق الخراساني و ما يرد عليه.

و الذي نقول به: إنّ النهي في هذه الموارد و ما شابهها ليس نهياً ذاتيّاً كالنهي عن الخمر و القمار كما يدّعيه المحقّق الخراساني، و لا نهياً تشريعيّاً كما كان يدّعيه المستشكل، بل النهي في هذه الموارد إرشادي إلى فساد العبادة و عدم تحقّقها و الذي يدلّ على ذلك هو فهم العرف في امتثال الموارد.

مثلاً إذا كان العنوان موضوعاً لحكم و لم يكن العنوان مطلوباً بالذات و إنّما أمر به لأجل مصالح تترتّب عليه، غير أنّ المأمور جاهل بتركيب العنوان و أجزائه و شرائطه و موانعه، فعندئذ كلّما يصدر من الآمر أمر أو نهي فكلّها تحمل على الإرشاد إلى أجزاء الموضوع و شرائطه و موانعه، فإذا قيل:» دع الصلاة أيّام أقرائك «فهو إرشاد إلى أنّ الحيض مانع عن صحّة الصلاة فلا يحصل ما هو المطلوب.

و الحقّ انّ المحقّق الخراساني و من سار على نهجه أطنبوا الكلام في المقام مع انتفاء الموضوع و هو تعلّق الحرمة الذاتية بالعبادة.

بقي الكلام في القسمين الآخرين، و إليك الكلام فيهما.

الثاني: النهي المولوي التشريعي

إذا أوجب الإنسان على نفسه شيئاً لم يوجبه الشرع أو حرّم عليها ما لم يُحرّمه

ص:321

فأتى به أو تركه بنيّة أمره و نهيه، يكون الفعل و الترك حراماً تشريعياً لا ذاتياً، فالفعل و الترك ربّما لا يكون واجباً و لا حراماً بالذات، لكن ادّعاء تعلّق الأمر أو النهي به شرعاً، يصيِّره حراماً تشريعياً، ويحكم عليه بالفساد، سواء أقلنا بأنّ الصحة رهن الأمر، فالمفروض انّه لا أمر له و إلاّ لم يكن حراماً تشريعاً أو رهن الملاك و المفروض عدم العلم به، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر و المفروض عدمه. و على ذلك حمل النواهي المتعلّقة بصوم يوم العيدين، و صلاة الحائض و صومها، و قد مضى انّ الظاهر انّها من قبيل القسم الثالث الذي سيوافيك. و لعل منه، النهي عن إقامة صلاة النوافل في ليالي رمضان بالجماعة.

ثمّ أشار في» الكفاية «إلى قسم من النهي و أسماه بالعرضي، و هو النهي المتولّد من الأمر بالشيء المقتضي للنهي عن ضده) الصلاة (عرضاً، فهذا النهي بما انّه عرضي، لا يوجب الفساد، إذ ليس هنا إلاّ واجب واحد، و هو الإزالة، و نسبة النهي إلى ضده، أعني: الصلاة، نسبة مجازية.

الثالث: النهي الإرشادي

قد عرفت أنّه إذا أمر المولى بعنوان طريق لإحراز المصالح، فالأوامر و النواهي المبيّنة، لإجزائه و شرائطه و موانعه، نواهي إرشادية إلى بيان الأجزاء و الشرائط و الموانع، و ربما يكون المرشد إليه هو الكراهة كما في النهي عن الصلاة في الحمام، و في البيت و هو جار للمسجد، فانّ المتبادر بعد الإجماع على الصحة هو الإرشاد إلى الكراهة.

و ربّما يكون النهي المتعلّق بالعنوان، إرشاداً إلى كونه فاسداً كما في النهي عن صوم العيدين.

ص:322

المقام الثاني دلالة النهي على الفساد في المعاملات
اشارة

قد عرفت حكم النهي عن العبادة و لم يذكر له المحقّق الخراساني إلاّ قسماً واحداً و هو تعلّق النهي المولوي التحريمي بذات العبادة، و قد أضفنا إليه قسمين آخرين و هو تعلّق النهي التشريعي بالعبادة، أو النهي الإرشادي إلى الفساد، و قد أشرنا إلى أنّه ليس للقسم الأوّل مصداق في الفقه، و انّ دلالة النهي على الفساد في القسمين الأخيرين واضحة.

و أمّا المعاملات فقد ذكر له المحقّق الخراساني أقساماً خمسة أنكر دلالة النهي فيها على الفساد إلاّ في القسم الرابع و الخامس، و إليك الإشارة إلى أقسامها:

1. إذا تعلّق النهي بنفس المعاملة بما هو فعل مباشري كالعقد وقت النداء.

2. إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة بما هو فعل بالتسبيب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر فالمنهي عنه هو مالكيته المتحققة بالبيع.

3. إذا تعلّق النهي بالتسبيب بها إليه و إن لم يكن السبب و لا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام، و هذا كالتسبب إلى الطلاق بقوله: أنت خليّة، و مثل المحقّق البروجردي بالظهار، فانّ التلفّظ بلفظة) ظهرك كظهر أُمّي (ليس بحرام، كما أنّ مفارقة الزوجة مثله، فالمبغوض هو تحصيل المسبب بذلك السبب.

4. رابعها أن يتعلّق النهي بما لا يكاد يحرم مع صحّة المعاملة مثل النهي عن

ص:323

أكل الثمن و المثمن في بيع المنابذة، أو بيع شيء كالخمر.

5. ما يكون ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد و خص الدلالة على الفساد بالعقود و الإيقاعات لا مطلق المعاملات كالنهي عن غسل الثوب النجس بماء مضاف.

و هناك قسم سادس لم يتعرّض له المحقّق الخراساني و هو:

6. إذا ورد نهي و لم يعلم أنّه من مصاديق أيِّ قسم من الأقسام الخمسة.

و إليك دراسة الكل.

أمّا القسم الأوّل فإنّ تعلّق النهي بالفعل المباشري أي صدور العقد وقت النداء لكونه مانعاً من درك الفريضة لا بمضمونه، فهو لا يلازم الفساد.

يلاحظ عليه بوجهين:

1. لا معنى لتعلّق النهي بنفس التلفّظ بالعقد مع كونه غير مبغوض، بل النهي تعلّق في الواقع بالاشتغال بغير ذكر اللّه، و لما كان البيع من أغلب ما يوجب الاشتغال بغيره، خصّ بالذكر و قيل (وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ).

2. انّ النهي في المقام لما لم يكن ناشئاً عن مفسدة موجودة في المتعلّق لا في لفظه و لا في معناه، بل كان لأجل كونه مفوّتاً للمصلحة فيكون النهي في الواقع تأكيداً للأمر بإتيان الواجب لا شيئاً زائداً، و كان الأمر (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) في المقام و النهي (وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ) وجهين لعُملة واحدة فتارة يعبر عنه بالأمر به و أُخرى بالنهي عمّا يزاحمه.

و الأولى أن يمثّل بإجراء العقد مُحْرِماً، لنفسه أو غيره.

و أمّا القسم الثاني، أي تعلّق النهي بمضمون المعاملة) المسبّب (بما هو فعل تسبيبي لا مباشري. و قد ذهب الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني إلى عدم دلالته على الفساد، لأنّ غاية ما يدلّ عليه النهي هو كونه مبغوضاً، و أمّا كونه فاسداً فلا، بشرط أن لا يكون النهي إرشاداً إلى الفساد، و لم يكن لسانُه لسانَ تقييد العمومات

ص:324

و المطلقات.

و ذهب المحقّق النائيني إلى دلالته على الفساد بالبيان التالي:

يشترط في صحّة المعاملة أُمور:

1. أن يكون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكم المالك.

2. أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر لتكون له السلطنة الفعلية على التصرّف فيها.

3. أن لا يكون لإيجاد المعاملة سبب خاصّ.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا تعلّق النهي بالمسبب و بنفس الملكية المنشأة كالنهي عن بيع المصحف، كان النهي معجزاً مولوياً للمكلّف و رافعاً للسلطنة عليه، فلا يكون المكلّف مسلّطاً على المعاملة في حكم الشارع و يترتب على ذلك فسادها.

ثمّ إنّه) قدس سره (استشهد على ما رامه بأنّ الفقهاء حكموا بفساد البيع في الموارد التالية لأجل فقدان هذا الشرط أي ما يكون محجوراً عن التصرّف فيها.

1. الإجارة على إنجاز الواجبات المجّانية، لأنّ العمل لوجوبه عليه، خارجة عن سلطانه و مملوك للّه.

2. بيع منذور الصدقة فانّ النذر يجعل المكلّف محجوراً عن التصرّف المنافي.

3. شرط حجر المشتري عن بيع خاص كما إذا باع الدار، و شرط على المشتري عدم بيعه من زيد، فيبطل لو باعه، لحجر المكلّف حسب ما التزم في هذا النوع من التصرّف فيترتّب عليه الفساد.(1)

ص:325


1- أجود التقريرات: 4051/404.

يلاحظ عليه: أنّ الشرط الثاني لصحّة المعاملة عبارة عن عدم كون البائع محجوراً شرعاً كالسفيه، و عدم كون مورد المعاملة متعلّقاً لحقّ الغير كالعين المرهونة التي تعلّق بها حقّ المرتهن أو ورثة الميّت، و كأموال المفلّس التي تعلّق بها حقّ الديّان.

و أمّا ما ادّعاه من أنّ شرط صحّة المعاملة اشتراط كون التصرّف حلالاً و غير حرام، فلم يقم عليه دليل، فإذا كان التصرّف مبغوضاً، لا لأجل تعلّق حق الغير به، و لا لأجل كون المتصرّف محجوراً، بل لنهي الشارع عن التصرّف كالنهي عن بيع المصحف فلا دليل على كونه شرطاً في الصحّة، نعم هو حرام لكن ليس كلّ حرام باطلاً.

ثمّ إنّ الموارد التي استشهد بها على ما ادّعى من الشرط مورد نظر:

أمّا الأوّل، أعني: فساد الإجارة على الواجبات المجانية، فإنّما هو لأجل تعلّق غرض الشارع بتحقّقها في الخارج بالمجان لا لكون العمل مملوكاً للّه سبحانه أو كون الأجير محجوراً عن التصرّف، و ذلك فان أريد من كونه مملوكاً للّه تكويناً فالكون و ما فيه حتّى أفعال الإنسان مملوك للّه سبحانه مع أنّه يجوز عقد الإجارة على فعله.

و إن أريد كونه مملوكاً للّه تعالى اعتباراً و بالتقنين و التشريع، فاللّه سبحانه فوق هذا و في غنى عن كونه مالكاً قانوناً بعد كونه مالكاً حقيقة.

و أمّا قوله سبحانه: (فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى ) (1)فاللام للاختصاص لا للملكية، و على فرض كونها للملكية بعد كونه سبحانه مالكاً لأجل اقترانه بمالكية الرسول وذي القربى، فعبّر عن الأوّل بلفظ الأخيرين و هذا

ص:326


1- الأنفال: 41.

ما يوصف في علم البديع،» بالمشاكلة «، نظير (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ).(1)

و أمّا الثاني، أعني: بيع المنذور، فهو بين صحيح و فاسد فانّ تعلّق النذر بالفعل، أي الالتزام بأن ينذر للّه سبحانه، فلو لم يفعل فقد حنث نذره و لكن المنذور باق على ملكه له أن يبيع و يهب، و هذا ما يعبّر عنه بنذر الفعل. و ان تعلّق النذر بالنتيجة أي التزم أن يكون قطيع الغنم صدقة إذا قضيت حاجته، فبعد القضاء تكون العين خارجة عن ملك الناذر و لا يجوز له البيع لعدم كونه مالكاً و هذا ما يعبّر عنه بنذر النتيجة.

و الحاصل: انّه إذا كان النذر نذر فعل فالمعاملة صحيحة و ليس عليه إلاّ كفّارة الحنث، و إن كان نذر نتيجة فالبيع باطل لعدم كونه مالكاً للعين عند البيع لدخولها في ملك المنذور له.

و أمّا الثالث: أعني إذا شرط في البيع، عدم بيعها من زيد فالظاهر انّه لو باعه منه صحّ البيع و للبائع الأوّل خيار تخلّف الشرط.

فقد تحصّل من ذلك انّه لم يقم دليل على أنّ جواز التصرّف في المبيع من شروط الصحّة أوّلاً و إنّ ما رتّب عليه من المسائل الثلاث لا تصلح للاستشهاد كما عرفت ثانياً.

إكمال: الاستدلال بصحيحة زرارة

ربّما يستدلّ بصحيحة زرارة على الملازمة الشرعية بين النهي المولوي التحريمي و الفساد نظير الملازمة المستفادة من قوله) عليه السلام (:» إذا قصّرتَ أفطرتَ «(2)

ص:327


1- الأنفال: 30.
2- الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 19.

و إليك الرواية.

عن زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيّده، فقال:» ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه و إن شاء فرّق بينهما «قلت: أصلحك اللّه إنّ الحكم بن عتيبة و إبراهيم النخعي و أصحابَهما، يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد و لا تُحِلُّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لم يعص اللّه، و إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز «.(1)

وجه الاستدلال: انّ ظاهر قوله:» إنّه لم يعص اللّه... «أنّه لو كان هنا عصيان بالنسبة إليه تعالى كان فاسداً و المراد من العصيان هو العصيان التكليفي، و بما انّه لم يكن هناك عصيان بالنسبة إلى اللّه سبحانه لم يكن فاسداً.

فعلى ظاهر هذا الحديث كلّ ما تعلّق به النهي التحريمي فهو يدلّ على فساد متعلّقه إذا أتى به.

ثمّ إنّ هناك سؤالاً آخر و هو أنّه كيف فرّق الإمام بين عصيان اللّه و عصيان السيد، و قال:» إنّه لم يعص اللّه و إنّما عصى سيّده «مع أنّ عصيان السيّد يلازم عصيانه سبحانه، لانّه تعالى أمر العبد بإطاعة مولاه. و عدم التصرّف في شيء إلاّ بإذنه، فإذا خالف مولاه و سيده فهو في الحقيقة خالف أمر اللّه تعالى، فكيف فرَّق بينهما في الحديث؟ أقول: إنّ الجواب عن الاستدلال بالحديث أوّلاً، و الإجابة عن وجه التفريق بين العصيانين ثانياً يظهر بالبيان التالي:

فإنّ الاستدلال بالحديث على أنّ العصيان يلازم الفساد في النهي التحريمي، مبنيّ على تفسير العصيان في الرواية بالعصيان التكليفي، أي ما

ص:328


1- الوسائل: 14، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 1.

يستلزم العقوبةَ و المؤاخذةَ في الآخرة، و حينئذٍ يدلّ على أنّ كلّ مخالفة شرعية للحكم التحريمي في مورد المعاملات، يوجب الفساد و يثبت مقصود المستدل، كما يوجب طرح السؤال عن التفريق بين العصيانين.

و أمّا إذا قلنا بأنّ المراد من العصيان في المقام هو العصيان الوضعي، أي كون الشيء موافقاً للضوابط أو مخالفاً لها، فعندئذ يسقط الاستدلال أوّلاً، و لا يبقى مجال لطرح السؤال ثانياً.

توضيحه: انّ في مورد العصيان احتمالات:

1. أن يكون المراد منه في كلا المقامين، العصيانَ التكليفي المستتبع للعقاب.

2. أن يكون المراد منه في كلا الموردين، العصيانَ الوضعي المستتبع للفساد قطعاً.

3. أن يكون المراد من العصيان في الأوّل، العصيان الوضعي; و من الثاني العصيان التكليفي.

4. أن يكون عكس الثالث.

و بما انّ التفريق بين العصيانين خلاف الظاهر فيحمل على معنى واحد، و بذلك يبطل الاحتمالان الأخيران المبنيّان على التفريق بين العصيانين، و لكن الظاهر من الرواية و الرواية التالية هو العصيان الوضعي الذي يراد منه كون الشيء غير موافق للقانون و الضابطة الشرعيّة.

و الدليل على ذلك أنّ الإمام أبا جعفر) عليه السلام (فسّر العصيان في رواية أُخرى بالنكاح في عدّة و أشباهه الذي يكون نكاحها على خلاف الشريعة و قوانينها،

ص:329

و إليك الرواية:

روى زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن رجل تزوّج عبدُه امرأةً بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه، قال: ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما و إن شاء أجاز نكاحهما... «فقلت لأبي جعفر) عليه السلام (: فإن أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّما أتى شيئاً حلالاً و ليس بعاص للّه و إنّما عصى سيده و لم يعص اللّه إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه من نكاح في عدة و أشباهه «.(1)

ترى أنّ الإمام يفسّر العصيان المنفي في المقام بما حرّم اللّه عليه من النكاح في العدة، فتكون النتيجة أنّ الإمام ينفي العصيان الوضعي في المورد من غير تعرّض للعصيان التكليفي، و من المعلوم أنّ العصيان الوضعي يلازم الفساد، لأنّ كون العمل غير موافق للضابطة عبارة أُخرى عن عدم إمضاء الشارع له، و هو لا ينفك عن الفساد، بخلاف العصيان التكليفي الذي نحن بصدد بيان حكمه فلا يلازم الفساد.

و إن شئت قلت: إنّ صحّة نكاح العبد تعتمد على دعامتين:

الأُولى: كون المنكوحة محللة النكاح و لا يكون بينها و بين الزوج ما يحرمه عليه من النسب و الرضاع و المصاهرة.

و بعبارة أُخرى: أن لا يكون ممّا حرّم اللّه نكاحه في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ... ).(2)

و المفروض تحقّق هذا الشرط.

الثانية: صدور العقد من العبد عن رضا المولى، و المفروض انتفاء هذا

ص:330


1- الوسائل: 14، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 2.
2- النساء: 23.

الشرط، فنكاح العبد جامع للشرط الأوّل دون الشرط الثاني، فإذا حاز الشرطَ الثاني يكتمل الموضوع و يصحّ.

و بعبارة ثالثة: انّ نكاح العبد عقد فضولي صدر من أهله و وضع في محله، و لكنّه يفقد شرطاً من شروط الصحّة الوضعية، فإذا حاز شرطها يحكم عليه بالصحة.

و بذلك تحيط بالاجابة عن كلا الأمرين:

أمّا الاستدلال فقد عرفت أنّه مبنيّ على تفسير العصيان بالحرمة التكليفية التي هي محلّ البحث و النقاش، و لكن المراد من العصيان هو الوضعية، فالعصيان الوضعي يلازم الفساد، لا العصيان التكليفي الذي هو المدّعى.

و أمّا الثاني فانّ الملازمة بين عصيان السيّد و عصيانه سبحانه إنّما هو في مرحلة الحرمة التكليفية، و المفروض أنّها غير مطروحة.

و أمّا الحرمة الوضعية أي كون العقد مشروطاً برضا المولى فهو من خصائصه حيث أعطى له سبحانه تلك الخصيصة فله أن يجيز و له أن لا يجيز.

و ما ذكرنا من الجواب هو أوضح ما يمكن أن يقال:

و ربّما يظهر من تقريرات سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي ارتضاؤه لهذا الجواب.(1)

تذنيب: في ملازمة النهي للصحّة

قد عرفت أنّ الأُصوليين ركّزوا على البحث في دلالة النهي على الفساد و عدم دلالته، و لكن أبا حنيفة و تلميذيه أبا يوسف و محمد بن الحسن الشيباني،

ص:331


1- لاحظ لمحات الأُصول: 259.

و حُكي عن فخر المحقّقين أيضاً انّ النهي يدل على الصحّة مكان دلالته على الفساد، و هذا من غريب الدعاوي حيث يجتني الصحة من النهي مكان اجتناء المشهور الفساد منه.

ثمّ إنّ ما ذكره أبو حنيفة و تلميذاه من البيان غير موجود بأيدينا و لكن

المحقّق القمي نقل في المقام بيانين

... نذكر كلّ واحد على وجه الإيجاز.

الأوّل: المنهي عنه هو الصوم الشرعي لا اللغوي

ليس المراد دلالة النهي على الصحة بالدلالة المطابقية أو التضمنية، إذ ليست الصحة نفس مفاد النهي لا عيناً و لا جزءاً، بل المراد انّه يستلزم الصحة، فقول الشارع» لا تصم يوم النحر « و للحائض» لا تصل «يتضمن إطلاق الصوم على صومها و الصلاة على صلاتها، و الأصل في الإطلاق الحقيقة، فلو لم يكن مورد النهي صحيحاً لم يصدق تعلّق النهي على أمر شرعي فيكون المنهي عنه مثل الإمساك و الدعاء و نحو ذلك و هو باطل إذ نحن نجزم بأنّ المنهي عنه أمر شرعي.(1)

و حاصل هذا الاستدلال: انّ المنهي عنه إمّا الصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي أو بمفهومهما اللغوي، و الثاني غير منهيّ عنه، و الأوّل يلازم الصحة، فإذا تعلّق النهي بالصوم الشرعي فقد تعلّق بالصوم الصحيح، لأنّ كلّ صوم شرعي صحيح، و هذا ما قلنا من أنّ النهي يدلّ على الصحة.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر غير دائر بين شيئين، بل هناك أمر ثالث يعد قسماً من الشرعي، و هو انّ الأمر تعلّق بالصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي، لكنّه أعمّ من الصحة و الفساد، فالصلاة غير الصحيحة و الصوم الفاسد كلاهما من العبادات

ص:332


1- القوانين: 1/163.

الشرعية الفاسدة، فلو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ فهو واضح، لأنّ الفاسد أيضاً أمر شرعي فاسد، و أمّا لو قلنا بكونها موضوعة لخصوص الصحيح، فاستعمال هذه الألفاظ في القسم الفاسد يكون مجازاً و لا مانع منه بعد قيام القرينة على الفساد.

الثاني: الحرمة الذاتية لا تتعلّق بالفاسد

هذا هو البيان الثاني لإثبات أنّ النهي يلازم الصحّة يقول: إنّ النهي عن شيء كالأمر إنّما يصحّ بعد كون المتعلّق مقدوراً، و من المعلوم أنّ النهي لا يتعلّق بالعبادة الفاسدة، إذ لا حرمة لها فلا بدّ أن يكون متعلّق النهي هو الصحيح و لو بعد النهي فلو اقتضى النهي الفساد يلزم أن يتعلّق النهي بشيء غير مقدور.

و بعبارة أُخرى لو كان النهي سبباً للفساد لزم أن يكون النهي سالباً للقدرة، و التكليف الذي يجعل المكلّف عاجزاً عن الارتكاب يكون لغواً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الاستدلال في مجال العبادات أوّلاً و المعاملات ثانياً، أمّا في الأوّل فقد أجاب عنه بالبيان التالي:

» أمّا العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود و الركوع و الخشوع و الخضوع له تبارك و تعالى فمع النهي عنه يكون مقدوراً، كما إذا كان مأموراً به و ما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلاّ إذا قيل باجتماع الأمر و النهي في شيء و لو بعنوان واحد و هو محال، و قد عرفت أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهياً عن العبادة بمعنى انّه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلاّ بقصد القربة «.(1)

ص:333


1- الكفاية: 1/300.

و حاصل بيانه: انّ العبادة على قسمين امّا الذاتي فلا تتغيّر و لا تتبدّل أوصافها فهي عبادة بالذات قبل النهي و بعد النهي و لا يؤثر النهي في حالها.

و أمّا العبادات المجعولة التي قوام عباديتها بتعلّق الأمر بها، فهي تنقسم إلى عبادة فعلية و عبادة شأنية أو بالتالي إلى صحيحة فعلية و صحيحة شأنية.

و المراد من الأُولى ما يكون متعلّقاً للأمر بالفعل.

كما أنّ المراد من الثانية ما لو تعلّق به الأمر لكان أمره عبادية و لما سقط إلاّ بالقصد، فالقسم الأوّل لا يقع متعلّقاً للنهي، لأنّ العبادة و الصحّة الفعلية و الصحّة عبارة عمّا تعلّق به الأمر، و ما هو كذلك يمتنع أن يقع متعلّقاً للنهي و المفروض انّه تعلّق به النهي.

و القسم الثاني، أي العبادة الشأنية يقع متعلّقاً للنهي و يكشف عن صحّة المتعلّق لكن صحّة شأنية، و هو غير مطلوب المستدلّ فانّه يريد أن يستدلّ بتعلّق النهي على الصحّة الفعلية دون الشأنية، و لكن النهي لا يكشف إلاّ عن الصحّة الشأنية، أي ما لو تعلّق به الأمر يكون أمره عبادياً و فعله صحيحاً.

فما هو المطلوب أي الصحّة الفعلية لا يعطيه النهي و ما يعطيه النهي، أي العبادة الشأنية ليس هو المطلوب.

إجابة المحقّق الخراساني في مورد المعاملات

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال في مجال المعاملة بالنحو التالي قال: و التحقيق في المعاملات انّه كذلك إذا كان في السبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر و لا يكاد يقدر عليهما إلاّ فيما كانت

ص:334

المعاملة مؤثرة صحيحة، و أمّا إذا كان عن السبب فلا لكونه مقدوراً و إن لم يكن صحيحاً.(1)

و حاصله انّ النهي عن السبب لا يكشف عن الصحّة، لأنّ حرمة السبب عبارة عن حرمة التلفّظ به في حال النداء و الإحرام، و هو مقدور مطلقاً قبل النهي و بعده، نعم يكشف النهي عن الصحّة فيما إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة، أي تملّك الكافر المصحفَ و العبدَ أو تعلّق النهي بالتسبب، فانّ النهي كاشف عن كون المعاملة المنهية مؤثرة في حصول السبب و هو آية الصحة.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين العبادات و المعاملات فانّ الأُولى مخترعات شرعية بخلاف الثانية فانّها مخترعات عقلائية، و قد تحقّق الاختراع و التسمية بالبيع و الإجارة و غيرها قبل بزوغ شمس الرسالة و لم يتصرف الشارع فيها إلاّ بإضافة شرط أو جزء أو بيان مانع، فعلى ذلك فأسماء المعاملات اسم للصحيح عند العرف و العقلاء و نهي الشارع دليل على أنّ المعاملة مؤثرة في حصول هذا النوع من الصحّة، أي الصحّة العرفية، و من المعلوم أنّ الصحة العرفية لا تثبت مطلوب المستدل فانّه يريد أن يستدل بالنهي على الصحة الشرعية لا العرفية و بينها من النسب عموم و خصوص مطلق أو من وجه، فكلّ صحيح عند الشرع صحيح عند العقلاء دون العكس، فالبيع الربوي صحيح عند العقلاء و ليس كذلك عند الشرع.

و بعبارة أُخرى فأقصى ما يدل عليه النهي تأثير المعاملة في الصحة العرفية، و هي ليست بمطلوبة، و إنّما المطلوب دلالة النهي على الصحّة الشرعية.

ص:335


1- الكفاية: 3001/299.
فروع فقهية

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تعرض في تقريراته إلى بعض المسائل التي لها صلة بالموضوع و نحن نقتفيه:

1. إذا تعلّق النهي بالإيجاب دون القبول فهل تسري الحرمة إلى القبول أو لا؟ كما إذا كان الموجب محرماً دون القابل؟ الظاهر، لا لعدم الملاك إلاّ إذا لوحظت المسألة من باب الإعانة على الإثم، و هو خارج عن محط البحث، قال في» الجواهر «: ذهب جماعة إلى اختلاف حكم المتعاقدين في البيع وقت النداء إذا كان أحدهما مخاطباً بالجمعة دون الآخر، فخصّوا المنع بمن خوطب بالسعي و حكموا بجواز البيع من طرف الآخر، نعم رجّح جماعة آخرون عموم المنع من حيث الإعانة بالإثم.(1)

2. إذا كانت المعاملة باطلة من جانب واحد كما إذا كانت غررية من جانب الموجب دون القابل، فهل يسري الحكم الوضعي إلى الطرف الآخر، أو لا؟ الظاهر نعم، لأنّ مفاد المعاملة أمر بسيط لا يقبل التبعض، فالملكية المنشأة إمّا موجودة أو لا. فعلى الأوّل يلزم صحة المعاملة في كلا الجانبين، و هو خلاف الفرض، و الثاني هو المطلوب.

3. لو كان لنفس الإيجاب أثر مستقل و إن لم ينضم إليه القبول لترتب عليه، كما إذا كان الموجب أصلياً دون القابل، فما لم يردّ القابلُ الحقيقي لما كان له حق التصرف في المبيع، لأنّه أثر للايجاب الكامل، و هو محقّق و ليس أثراً لمالكيّة القابل حتّى يقال بأنّها غير متحقّقة بعده.(2)

ص:336


1- الجواهر: 29/241.
2- مطارح الأنظار: 171.

ثمّ إنّ الثمرات الفقهية لمسألة النهي عن العبادات و المعاملات متوفرة في الفقه، و قد ذكر شيخنا الأُستاذ مد ظلّه قسماً منها في الدورة السابقة و لم يتعرض لها في هذه الدورة) الرابعة (و أحال إلى كتاب المحصول الذي هو تقرير لدروس الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة الثالثة من دورات أُصوله بقلم زميلنا السيّد محمود الجلالي المازندراني حفظه اللّه فمن حاول الاطلاع فليرجع إليه.

ص:337

ص:338

المقصد الثالث المفاهيم 1. مفهوم الشرط 2. مفهوم الوصف 3. مفهوم الغاية 4. مفهوم الحصر 5. مفهوم اللّقب 6. مفهوم العدد

ص:339

ص:340

المقصد الثالث المفاهيم

و قبل الدخول في صلب المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: المنطوق و المفهوم من أوصاف المدلول

يوصف المدلول، بالمنطوق تارة و بالمفهوم أُخرى، يقال: مدلول منطوقي و مدلول مفهومي، كما توصف الدلالة بهما أيضاً و يقال دلالة منطوقية، و دلالة مفهومية، فيقع الكلام في أنّهما من أوصاف المدلول أو الدلالة، و الظاهر انّهما من أوصاف المدلول فانّ المعنى إذا دلّ عليه شيء، فإمّا أن يفهم من منطوق اللفظ و حاقِّه فهو مدلول منطوقي، أو يفهم لا من منطوقه و حاقه فهو مدلول مفهومي، فعندئذ ينقسم المعنى المدلول إلى منطوق و مفهوم.

و بما انّ المدلول هو المعنى الذي دلّ عليه اللفظ الدالّ فتنقسم الدلالة أيضاً باعتبار المدلول إلى منطوقية و مفهومية.

و إن شئت قلت: إنّ ما يدلّ عليه اللفظ ينقسم إلى ما يسمّى بالعرف بما يُنْطَق و إلى ما يُفْهم، و وصف الدلالة بهما ليست بنفسهما، بل بعناية انتزاعهما من المدلول ثمّ وصفها بهما. فإذا كان المدلول منطوقياً توصف الدلالة أيضاً بها، و إذا كان مفهومياً توصف بها أيضاً.

ص:341

نعم، ليس المنطوق و لا المفهوم من أوصاف المعنى بما هو هو، بل من أوصاف المعنى إذا وقع في إطار الدلالة حتى صار مدلولاً، و هذا بخلاف الكلية و الجزئية فانّها من صفات المعنى بما هو هو، و إن لم يقع في إطار الدلالة.

و من هنا يعلم أنّ أوصاف المفهوم على قسمين، قسم وصف له بما هو هو، كما مثّلنا بالكلية، و قسم وصف له بما انّه مدلول بإحدى الدلالات فلاحظ.

الثاني: تعريف المفهوم

اشارة

عرّف الحاجبي) المتوفّى 642 ه (المفهوم ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق و المنطوق ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق.

ثمّ إنّ العضدي) المتوفّى 757 ه (شارح مختصر الحاجبي قال بأنّ المراد من الموصول) ما (هو الحكم، فهو إن كان محمولاً على موضوع مذكور فهو منطوق، و إن كان محمولاً على موضوع غير مذكور فهو مفهوم. ثمّ قال: إنّ قوله:» في محلّ النطق «إشارة إلى المنطوق بما انّ الموضوع مذكور فيه، كما أنّ قوله:» لا في محل النطق «إشارة إلى المفهوم لعدم ذكر الموضوع في محله.(1)

يلاحظ على ذلك التفسير بأنّ الفارق بين المنطوق و المفهوم ليس هو ذكر الموضوع في الأوّل، و عدمه في الثاني، بل الموضوع مذكور في كلتا القضيتين، و إنّما الاختلاف في وجود القيد في المنطوق و عدمه في المفهوم و بالتالي اختلاف القضيتين في الكيف أي الإيجاب و السلب، فإذا قلنا: إن سلّم زيد أكرمه، فالموضوع هو زيد لكنّه في صورة التسليم يحكم عليه بالإكرام، و في صورة عدمه بعدمه.

ص:342


1- منتهى الوصول و الأمل المعروف بمختصر الحاجبي: 147، و نقل الشيخ الأعظم كلام العضدي في مطارح الأنظار: 172، الطبعة الحجرية

و لمّا كان هذا التفسير من العضدي غير صحيح عاد المحقّق البروجردي إلى تفسير كلام الحاجبي بنحو آخر و قال: ما هذا خلاصته: انّ ما يفهم من كلام المتكلّم قد يكون على نحو يمكن أن يقال انّه نطق به على نحو لو قيل للمتكلّم: أنت قلت هذا؟ لا يصحّ له إنكاره.

و قد يكون على نحو لا يصحّ أن ينسب إليه بأنّه نطق به و للمتكلّم إمكان الفرار منه و نفي صدوره عنه، فإذا قال:» إذا جاءك زيد أكرمه «فعدم ثبوت الإكرام عند عدم المجيء و إن كان مفهوماً منه لكن للمتكلم إمكان الفرار منه و إنكار انّه مراده، و المداليل المطابقية و التضمنية و الالتزامية للجمل ممّا لا يمكن للمتكلّم أن ينكر القول بها بعد إقراره بنطقه بالكلام، و لأجل ذلك جعلوها من المداليل المنطوقية.

و ببيان آخر: انّ المنطوق ما نطق به المتكلم بلا واسطة كما في المدلول المطابقي أو مع الواسطة كما في الأخيرين، و المفهوم عبارة عمّا لم ينطق به لا بلا واسطة و لا معها و لكن يفهم من كلامه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير أيضاً كالتفسير السابق، و ذلك لأنّه لم يبين ضابطة لما يُنطق به المتكلّم و لما لم يُنطق به، بل اكتفى بأنّ المداليل الثلاثة يعدّ ممّا ينطق بها و غيرها ممّا لا ينطق بها، و ذلك لأنّ الملاك في النطق و عدمه لو كان سرعة التبادر إلى الذهن فرب مفهوم أسرع تبادراً من المنطوق خصوصاً إذا كان المفهوم مفهوم الموافقة، كالنهي عن الشتم و الضرب المتبادر من النهي عن التأفيف و تبادره أسرع من تبادر جزء المعنى الذي ربما يكون مغفولاً عنه، و عندئذ يطرح السؤال: كيف يكون النطق بالكل) المدلول المطابقي ( نطقاً بالجزء) الدلالة التضمنية (و لا يكون النهي عن التأفيف نطقاً بالنهي عن الضرب و الشتم؟

ص:343


1- نهاية الأُصول: 1/263.

و لو كان الملاك كون المنطوق ممّا سيق لأجله الكلام دون المفاهيم فهو أيضاً كالشقّ السابق، إذ ربما يكون المفهوم ممّا سيق لأجله الكلام و يتعلّق الغرض من الكلام إفادة المفهوم.

أضف إلى ذلك، إذا كانت الدلالة التزامية من المداليل المنطوقية فلا يبقى للمدلول المفهومي شيء، سوى الدلالات السياقية الثلاثة كما سيوافيك.

و على كلّ حال فتعريف الحاجبي بكلا التفسيرين غير خال عن الإشكال.

تعريف المحقّق الخراساني للمفهوم

عرّف المحقّق الخراساني المفهوم بأنّه حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيةُ المعنى الذي أُريد من اللفظ بتلك الخصوصية، فالمفهوم حكم غير مذكور لا أنّه حكم لغير مذكور.(1)

إنّ ما أفاده في ذيل الكلام هو الذي أشرنا إليه في نقد كلام العضدي و قلنا: إنّ الموضوع مذكور، و الاختلاف في الحكم رهن الاختلاف في الشرط، فعند وجوده يترتّب عليه الجزاء، و عند عدمه يرتفع.

ثمّ إنّ مراد المحقّق الخراساني من المعنى في لفظ» خصوصية المعنى «هو العلية، و المراد من الخصوصية كونها منحصرة، و معنى العبارة: انّ المفهوم رهن كون القيد علّة منحصرة.

و لا يخفى انّ ظاهر العبارة انّ هنا شيئين:

1. المعنى و هو العلّية.

2. الخصوصية و هي الانحصار.

ص:344


1- كفاية الأُصول: 1/301.

و لا يخفى انّ الخصوصية جزء من المعنى لا زائد عليه، فمعنى قولنا: إن سلّم زيد أكرمه، هو انّ التسليم علّة منحصرة دلّ عليها الهيئة الشرطية، فإذا ارتفعت العلّة المنحصرة ارتفع المعلول.

و كان على المحقّق الخراساني أن يعرّفه بتعريف أسهل و هو: حكم إنشائي أو إخباري لازم للمعنى المراد من اللفظ.

الثالث: حصر المداليل في المنطوق و المفهوم

اشارة

إنّ ظاهر كلمات القوم حصر المداليل في المنطوق و المفهوم و لا ثالث له، و المراد من المنطوق ما نطق به المتكلّم باعتبار كون اللفظ مرآة للمعنى، و ينحصر في الدلالة المطابقية و التضمنية باعتبار انّ النطق بالكل، نطق بالجزء، كما أنّ المراد من المفهوم هو الدلالة الالتزامية، أي لازم المعنى، من غير فرق بين لازم المفرد، أو لازم الكلام.

نعم ظاهر كلام المنطقيين، انّ تقسيم الدلالة إلى مطابقية أو تضمنية أو التزامية من خصائص المفردات و الكلمات، لا الكلام و الجمل و لكنّ الأُصوليين عمّموها إلى الكلام أيضاً، فيجري فيه ما يجري في المفرد، مثلاً إذا قال: الشمس طالعة، فقد أخبر بالدلالة الالتزامية عن أنّ النهار موجود.

و الذي يعرب عن كون موضوع التقسيم عند أهل الميزان هو المفرد، تعبير التفتازاني في» التهذيب « و السبزواري في منظومته.

قال الأوّل: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له، مطابقة، و على جزئه تضمن و على الخارج التزام.

و قال الحكيم السبزواري:

ص:345

دلالة اللفظ بدت مطابقة حيث على تمام المعنى وافقه

و ما على الجزء تضمنا وُسِم و خارج المعنى التزام إن لزم

و نظير ذلك، تقسيم اللازم إلى البيّن و غير البيّن، و كلّ منهما إلى الأخص و الأعم فانّ المتبادر، هو تقسيم العرض) المفرد (إلى تلك الأقسام قال التفتازاني في» التهذيب «: و كلّ من العرض الخاص و العام إن امتنع انفكاكه عن الشيء فلازم بالنظر إلى الماهية و الوجود، بيّن يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم أو من تصوّرهما و النسبة بينهما بالجزم باللزوم و غير بيّن بخلافه.

توضيحه: انّهم قالوا:

1. اللازم البيّن بالمعنى الأخص هو ما يكون تصوّر الموضوع كافياً في تصوّر اللازم، كالأعمى بالنسبة إلى البصر. و اللازم غير البيّن بخلاف حيث لا يكفي تصوّر الموضوع، في تصوّر اللازم.

2. اللازم البيّن بالمعنى الأعم و هو ما يكون تصوّر الموضوع غير كاف في تصور اللازم، بل يحتاج إلى تصوّر الطرفين و لحاظ النسبة ثمّ الجزم باللزوم، و هذا كالزوجية بالنسبة إلى الأجداد القريبة، فانّ الإنسان لا ينتقل من مجرد تصوّر الموضوع إلى اللازم و الحكم بالملازمة.

3. اللازم غير البيّن بالمعنى الأعم، و هو ما يحتاج وراء تصوّر الأُمور الثلاثة إلى إقامة البرهان على الملازمة، و هذا كالحدوث بالنسبة إلى العالم الذي يحتاج بالجزم بالنسبة إلى برهان، نظير قولنا: العالم متغير، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث.

و لكنّ الأُصوليين، قالوا بجريان مثل ذلك في لوازم الكلام و الجمل، و انّه أيضاً ينقسم إلى أقسام ثلاثة، فلوازم المعنى مفرداً كان المعنى أو كلاماً، بيّناً كان

ص:346

اللازم أو غير بيّن من أقسام الدلالة الالتزامية.

فاتّضح بذلك انّ المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية و لا ثالث. لأنّ المداليل لا يخلو إمّا أن تكون مطابقية أو تضمنية أو التزامية و لا رابع. و الأوّلان يشكّلان المداليل المنطوقية، و الأخير بعرضها العريض كما عرفت يشكّل المدلول المفهومي.

فإن قلت: ما تقول في المداليل السياقية أ هي مداليل منطوقية، أو مفهومية، أو لا هذه و لا تلك بل هي أُمور برأسها، يجمع الكل انّها دلالات سياقية، فعندئذ تنثلم كلية القضية المذكورة، أعني: المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية؟ قلت: ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّها دلالات منطوقية بأنّ المنطوق منقسم إلى الصريح و غير الصريح، و الثاني ما دلّ عليه اللفظ بدلالة الاقتضاء و التنبيه و الإشارة، لأنّ ما يدلّ عليه إن كان غير مقصود للمتكلّم فهو المدلول عليه بدلالة الإشارة كدلالة الآيتين) البقرة: 233، الأحقاف: 15) على أقلّ الحمل.

و إن كان مقصوداً بأن كان صدق الكلام أو صحته يتوقّف عليه فهو المدلول بدلالة الاقتضاء، نحو رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ و النسيان و نحو: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1)فانّهما يدلاّن على مقدّر مصحّح الكلام.

و إن اقترن بالحكم ما فهم منه العلية فهو المدلول عليه بدلالة الإيماء و التنبيه، كما لو قال السائل:

واقعت في نهار رمضان، فأجيب» كفّر «، فإنّ اقتران الجواب بسؤال السائل يفهم منه، عليّة الوقاع للكفّارة.

ص:347


1- يوسف: 82.

و أقول: يمكن عدّها من الدلالات الالتزامية حيث إنّ الجميع من لوازم المعنى، سواء كان مقصوداً أو لا.

و قد خصّ المحقّق النائيني المفهوم باللازم البيّن بالمعنى الأخص، و جعل الدلالات الثلاث من اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ و أسماها دلالة سياقية، و ظاهره انّها ليست منطوقية و لا مفهومية.

وجود اصطلاحين في لفظ المفهوم

و مما يجب إلفات نظر القارئ إليه انّ في إطلاق لفظ» المفهوم «اصطلاحين مختلفين:

1. الاصطلاح العام: و هو يعمّ جميع المداليل الالتزامية للمفرد و الكلام، البيّن و غير البيّن حتّى الأقسام الثلاثة التي أسماها المحقّق النائيني بالسياقية.

2. الاصطلاح الخاص: و هو ما يبحث عنه هنا من ثبوت الحكم عند ثبوت القيد و ارتفاعه عند ارتفاعه، و المقصود في المقام هو الثاني، و لعلّ النسبة بين الاصطلاحين هي العموم و الخصوص المطلق.

الرابع: مسلك القدماء و المتأخّرين في استفادة المفهوم

ذهب السيّد البروجردي إلى أنّ مسلك القدماء في استفادة العموم من القضايا، يختلف مع مسلك المتأخرين، فإنّ دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها ليست دلالة لفظيّة، بل هي من باب بناء العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير، على كونه صادراً لغاية، و كون الغاية المنظورة منه، غايته النوعية العادية، و الغاية المنظورة عند العقلاء من

ص:348

نفس الكلام، حكايته لمعناه، و من خصوصياته، دخالتها في المطلوب، فإذا قال المولى: إن جاءك زيد فأكرمه، حَكَمَ العقلاءُ بمدخلية مجيء زيد في وجوب إكرامه قائلاً بأنّه لو لا دخله فيه لما ذكره المتكلّم، و كذا سائر القيود، و على ذلك فاستفادة المفهوم ليست مبنيّة على دلالة الجملة على الانتفاء عند الانتفاء، بل مبني على أنّ الأصل في فعل الإنسان أن لا يكون لاغياً، بل يكون كلّ فعل منه، و منه الإتيان بالقيد صادراً لغايته الطبيعية و هو دخله في الحكم.

و أمّا مسلك المتأخّرين فهو مبنيّ على دلالة الجملة وضعاً أو إطلاقاً على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم فيرتفع الحكم بارتفاعه، و على ذلك يكون البحث عند القدماء عقلياً، و عند المتأخّرين لفظيّاً.(1)

إنّ ما نسبه سيّدنا الأُستاذ إلى القدماء لم أقف عليه صريحاً في كتب القدماء إلاّ في الذريعة للشريف المرتضى، قال: استدلّ المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء.(2)

منها: انّ تعليق الحكم بالوصف لو لم يدل على انتفائه إذا انتفت الصفة لم يكن لتعليقه بالصوم معنى و كان عبثاً.

و مع ذلك فقد استدلّ بأُمور أُخرى غالبها يرجع إلى التبادر أو قياس الوصف بالاستثناء، أو قياس الوصف بالشرط، و لذلك استدلّ المخالف بالوجوه التالية أيضاً:

1. انّ تعليق الحكم بالسوم يجري مجرى الاستثناء من الغنم، و يقوم مقام قوله:» ليس في الغنم إلاّ السائمة، الزكاةُ «فكما أنّه لو قال ذلك لوجب أن تكون

ص:349


1- نهاية الأُصول: 265.
2- يريد بالمخالف، القائل بالمفهوم.

الجملة المستثنى منها بخلاف الاستثناء، فكذلك تعليق الحكم بصفة.

2. انّ تعليق الحكم بالشرط لمّا دلّ على انتفائه بانتفاء الشرط، فكذلك الصفة، و الجامع بينهما انّ كلّ واحد منهما كالآخر في التخصيص، لأنّه لا فرق بين أن يقول: في سائمة الغنم الزكاة، و بين أن يقول: فيها إذا كانت سائمة الزكاة.

3. ما روي عن عمر بن الخطاب: أنّ يعلى بن منبه سأله، فقال له: ما بالنا نقصر، و قد أُمنّا؟ فقال له: عجبتُ ممّا عجبتَ منه، فسألتُ عنه رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال:» صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته «فتعجبهما من ذلك يدلّ على أنّهما فهما من تعلّق القصر بالخوف أنّ حال الأمن بخلافه.(1)

هذا هو نصّ المرتضى من أعيان أئمّة الأُصوليين من الشيعة) المتوفّى عام 436 ه (و إليك نصاً آخر من أحد أئمّة الأُصوليين من السنّة ألا و هو أبو الحسين محمد بن علي بن طيب البصري المعتزلي، المتوفّى في نفس السنة التي توفي فيها المرتضى، فانّه ذكر ما ذكره المرتضى بصورة أُخرى، و استدلّ على وجود المفهوم بالقضايا الشرطية، قال: الدليل على أنّ الشرط يمنع من ثبوت الحكم مع عدمه على كلّ حال انّ قول القائل لغيره) أدخل الدار إن دخلها عمرو (معناه انّ الشرط في دخولك هو دخول عمرو، لأنّ لفظة إن موضوعة للشرط، و لو قال له:» شرط دخولك الدار دخول عمرو «علمنا أنّه لم يوجب عليه دخول الدار مع فقد دخول عمرو على كلّ حال، فكذلك في مسألتنا.(2)

ترى أنّه يستدلّ بالتبادر.

ثمّ قال: و يدلّ على أنّ المعقول من الشرط ما ذكرنا ما روي من أنّ يعلى بن

ص:350


1- الذريعة إلى أُصول الشريعة: 4031/402.
2- المعتمد: 1/142.

منبه سأل عمر بن الخطاب: ما بالنا نقصر و قد أُمنا؟ فقال: عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألت رسول اللّه ) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال: صدقة تصدق اللّه بها عليكم فأقبلوا صدقته، فلو لم يعقل من الشرط نفي الحكم عمّا عداها لم يكن لتعجبهما معنى.

كما أنّ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي) المتوفّى 476 ه (مؤلف » التبصرة في أُصول الفقه «استدلّ ببعض هذه الوجوه مثلاً، قال: روي أنّ ابن عباس خالف الصحابة في توريث الأُخت مع البنت و احتجّ بقوله تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ )، و هذا تعلّق بدليل الخطاب. و انّه لما ثبت ميراث الأُخت عند عدم الولد، دلّ على أنّها عند وجوده لا تستحقه.

و هو من فصحاء الصحابة و علمائهم، و لم ينكر أحد استدلاله، فدلّ على أنّ ذلك مقتضى اللغة.(1)

ترى أنّهم يستدلّون بالتبادر تارة، و بالمقايسة ثانياً، و ليس في كلامهم شيء من بناء العقلاء على أنّ للقيد دخلاً، كما ليس في كلامهم ما يدلّ على أنّ البحث منعقد على حجّية بناء العقلاء.

نعم كان لسيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (اطلاع واسع على كلمات الأُصوليين قدمائهم و متأخريهم، و لعلّه وقف على ما لم نقف عليه.

الخامس: النزاع صغروي لا كبروي

إنّ النزاع في باب المفاهيم على مسلك المتأخّرين صغروي و مرجعه إلى دلالة القضية الشرطية الوصفية بالوضع أو الإطلاق على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم، و عدم دلالتها، فلو ثبت الانحصار، و دلّ على المفهوم، يكون

ص:351


1- التبصرة في أُصول الفقه: 219.

حجّة بلا كلام، بخلاف ما إذا لم يثبت، فالنزاع في دلالة القضية على الانحصار، و بالتالي في وجود المفهوم للقضية و عدمه، الذي هو نزاع صغروي. و إلاّ فلو ثبت انّ للقضية مفهوماً فهو حجّة بلا كلام.

و أمّا على مسلك القدماء فقد استظهر السيّد البروجردي بناءً على أنّ النزاع كبروي، أنّ البحث في حجية بناء العقلاء، لأنّه قد استقر بناؤهم على حمل الخصوصيات الموجودة في الكلام على كونها صادرة عنه بداعي غايتها النوعية، و انّ الغاية النوعية هي دخلها في المطلوب، و هذا البناء من العقلاء موجود و الكلام في حجّيته.

يلاحظ عليه: أنّه يمكن أن يكون النزاع على مسلك القدماء لو ثبت أيضاً صغرويّاً و هو النزاع في تفسير مقدار المدخلية في الحكم، فهل على نحو لو ارتفع ارتفع، الحكم مطلقاً و لا ينوبه شيء آخر، حتّى يكون سنخ الحكم مرتفعاً أيضاً كشخص الحكم أو ليس كذلك.

فإذا قال الإمام:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء «فهل مدخلية الكرّية على نحو، يدور سنخ الحكم مدارها فيثبت بثبوتها و ينتفي بانتفائها؟ أو ليس كذلك و إنّما يرتفع شخص الحكم، دون سنخه لإمكان إقامة علّة قيد آخر مكانه ككونه جارياً، أو كون السماء ماطرة عليه عند ملاقاته بالنجاسة، فالنزاع في مقدار المدخلية، فلو ثبت مقدارها فبناء العقلاء حجّة لكونه بمرأى و مسمع من الشارع.

السادس: في مفهوم الموافقة

الفرق بين المفهوم المخالف و الموافق هو انّ الحكم في القضيتين لو كان

ص:352

مخالفاً بالنفي و الإثبات، فالمفهوم مخالف، و لو كان موافقاً فالمفهوم موافق، فإذا قال سبحانه: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) فهو يدلّ على حرمة الضرب و السب، فالحكم منطوقاً و مفهوماً هو الحرمة، و القضية سالبة بخلاف ما إذا قال: إن سلّم زيد أكرمه، فالمنطوق قضية موجبة، و المفهوم قضية سالبة.

السابع: في الشرط المحقّق للموضوع

النزاع في وجود المفهوم أو حجّيته فيما إذا شملت القضية على أُمور ثلاثة متغايرة:

1. فعل الشرط.

2. الموضوع، أو الفاعل 3. الجزاء.

فيحكم على الموضوع أو الفاعل بالجزاء عند وجود الشرط، و بعدمه عند عدم الشرط، و أمّا إذا كان فعل الشرط، محقّقاً للموضوع لا أمراً زائد عليه، كما إذا قال: إن رزقت ولداً فاختنه، فإنّ رزق الولد، ليس شيئاً زائد على وجود نفس الولد، ففي مثله، تكون القضية خالية عن المفهوم لعدم الموضوع، لا لوجود الموضوع و عدم الشرط.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في صلب الموضوع، و الكلام فيه ضمن فصول:

ص:353

الفصل الأوّل مفهوم الشرط

اشارة

هل الجملة الشرطية، تدلّ على الثبوت لدى الثبوت و الانتفاء عند الانتفاء، أو لا؟ و القائل بالدلالة، إمّا يدّعيها عن طريق الوضع و ان هيئة الجملة الشرطية وضعت لذلك، أو يدّعيها عن طريق الإطلاق و مقدّمات الحكمة، و انّ الاقتصار على بيان شرط واحد، مع كونه في مقام البيان، شاهد على أنّه السبب المنحصر، أو يدّعيها عن طريق الانصراف.

ثمّ إنّ القول بالدلالة على المفهوم فرع ثبوت أُمور ثلاثة:

1. وجود الملازمة بين وجود الشرط و الجزاء، و عدم كون القضية من قبيل القضايا الاتفاقية، مثل قولك: خرجت فإذا زيد بالباب، فانّ المفاجأة بوجود زيد، لدى الخروج قضية اتفاقية دون وجود أيّة ملازمة بين الخروج و المفاجأة لوجوده.(1)

2. انّ التلازم من باب الترتّب، أي كون الشرط علّة للجزاء، فخرج ما إذا كان هناك تلازم دون أن يكون ترتّب علّيّ كقولك: كلّما قصر النهار طال الليل، أو كلّما طال النهار قصر الليل، فانّ طول الليلة عند قصر النهار، معلولين لعلّة

ص:354


1- خرج قولهم:» إذا كان الإنسان ناطقاً، فالحمار ناهق «لوجود الملازمة الاتّفاقية و إن لم يكن بين الحكمين، رابطة علّية أو معلولية.

ثالثة دون أن يكون الأوّل علّة للثاني.

3. كون الترتّب بنحو العلّة المنحصرة، و عدم وجود علّة أُخرى تقوم مقام العلّة المنتفية، و لعلّ ظهور القضية في الأوّلين ممّا لا ريب فيه،

وجوه على كون ترتّب الجزاء على الشرط بنحو العلّة المنحصرة و النقاش فيها

اشارة

إنّما الكلام في ثبوت الأمر الثالث و قد استدل عليه المحقّق الخراساني بوجوه خمسة و ناقش في الجميع.

و نحن نذكر الجميع، مع بعض الملاحظات في كلام المحقّق الخراساني.

الأوّل: التبادر

المتبادر من الجملة الشرطية، كون اللزوم و الترتّب بين الشرط و الجزاء، بنحو العلّة المنحصرة.

و ناقش فيه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. انّ التبادر آية الوضع، أي وضع الجملة الشرطية على ما كون الشرط علّة منحصرة، و يترتّب على ذلك انّه لو استعملت في غير العلة المنحصرة صار مجازاً و هو كما ترى، إذ لا يرى في استعمالها في غير المنحصرة عناية و رعاية علاقة، بل إنّما تكون إرادته كإرادة الترتّب على العلة المنحصرة بلا عناية، فلا ترى أي عناية في قوله:» إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء «مع أنّ الكرّيّة ليست علّة منحصرة للعاصمية، بل ينوب عنها كون الماء جارياً، أو ورود المطر عليه عند ورود النجاسة على الماء.

2. عدم صحّة التمسك بمفهوم كلام المتهم في المحاكمات و المخاصمات و أنّ له أن يعتذر بخلو كلامه عن المفهوم، مع أنّه لو كان موضوعاً له، لم يصحّ الاعتذار.

ص:355

الثاني: الانصراف

و حاصل هذا الوجه: انّ المطلق ينصرف إلى أكمل أفراده، فإذا كان السبب دالاً على الترتّب العلّي فهو ينصرف إلى أكمل الأفراد، و هي العلّة المنحصرة.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين: أحدهما صغروي و الآخر كبروي.

أوّلاً: بمنع كون العلّة المنحصرة، أكمل في العلّية من غيرها إذ عدم قيام شيء آخر مقامه، أو قيامه، لا يؤثر في شئون العلية و واقعها.

و ثانياً: لو افترضنا انّ المنحصرة أكمل أفراد العلّة فلا وجه لانصراف المطلق إليه، لأنّ الانصراف معلول أحد أمرين:

كثرة الاستعمال، أو كثرة الوجود. و كلاهما منتفيان في العلّة المنحصرة.

الثالث: التمسّك بالإطلاق
اشارة

و قد قرره المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

الأوّل: الانحصار مقتضى إطلاق أداة الشرط

إنّ أداة الشرط أو هيئة الجملة الشرطية موضوعة لمطلق اللزوم الترتّبي إلاّ أنّ له فردين:

1. اللزوم الترتّبي بنحو الانحصار.

2. اللزوم الترتّبي لا بنحو الانحصار.

و من المعلوم أنّ المتكلّم بالقضية الشرطية لم يستعمل صرف الشرط أو هيئة الجملة الشرطية في الجامع، أعني: اللزوم الترتبي بما هو هو، بل أراد منه أحد

ص:356

الفردين، فمقتضى مقدمات الحكمة حملها على الفرد الذي لا يحتاج إلى بيان زائد، أعني: العلّة المنحصرة لا على الفرد الآخر، أي العلّة غير المنحصرة و لو أراد الثاني لقيّده.

ثمّ إنّ المستدل قاس المقام بما إذا دار الأمر بين الواجب النفسي و الغيري، فانّ الضابطة هي حمل الصيغة على الأمر النفسي دون الغيري، و ذلك لأنّ النفسي هو الواجب على الإطلاق بلا قيد و لكن الثاني هو الواجب لغيره، أو إذا وجب الغير فمقتضى مقدّمات الحكمة حمله على ما يكون المطلق وافياً ببيانه كالنفسي دون الفرد الآخر الذي يحتاج وراء المطلق إلى وجود قيد آخر.

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ الإطلاق و التقييد من شئون المعاني الاسمية التي تقع في أُفق النفس، فيلاحظها تارة مطلقة و أُخرى مقيدة.

و أمّا المعاني الحرفية كمعنى» إن الشرطية «أو هيئة الجملة الشرطية فكلّها معان حرفية آلية فلا توصف بالإطلاق و لا التقييد، إذ لا يمكن لحاظها على وجه الاستقلال حتّى توصف بأحدهما.

الثاني: وجود الفارق بين المقيس و المقيس عليه، و حاصله: انّ المطلق أو الجامع بين الفردين كاف في بيان الواجب النفسي، و ليس كذلك في بيان الواجب الغيري، و ذلك لأنّ النفسي هو الواجب على كلّ حال بخلاف الغيري فانّه واجب إذا وجب الغير، فإذا تمت مقدّمات الحكمة يحمل المطلق على النفسي لعدم حاجته إلى بيان زائد.

و هذا بخلاف اللزوم الترتّبي فانّ له فردين و كلّ فرد يتميّز عن الفرد الآخر بقيد زائد على اللزوم الترتّبي، أعني: الانحصار و عدم الانحصار.

ص:357

يلاحظ على نقد المحقّق الخراساني بوجوه:

أوّلاً: أنّ ما ذكره هنا في وصف المعاني الحرفية يغاير مختاره في مقدّمات الكتاب عند البحث عن المعاني الاسمية و الحرفية، فقد ذهب هناك إلى وحدة المعنى الاسمي و الحرفي جوهراً و ان الاستقلالية و الآلية من طوارئ الاستعمال و عوارضه، فعندئذ تصبح المعاني الحرفية كالاسمية مصباً للإطلاق، إذ ليس الآلية جزءاً، كما أنّ الاستقلالية ليست جزءاً بل ذات المعنى عارية عن الآلية و الاستقلالية.

ثانياً: سلمنا انّ الآلية جزء للمعنى الحرفي و لكن كون الشيء مفهوماً آلياً ليس بمعنى كونه مغفولاً عنه من رأس حتّى يمتنع التقييد، بل انّ كثيراً من القيود في الكلام يرجع إلى المعاني الحرفية، فقولك: ضربت زيداً في الدار، فالظرف قيد للنسبة، أي كونه في الدار.

ثالثاً: انّ التفريق بين المقيس و المقيس عليه غير تام إذا قصرنا النظر إلى مقام الثبوت، فكما أنّ العليّة التي هي المقسم ينقسم إلى قسمين منحصرة و غير منحصرة و كلّ من القسمين يتميز عن المقسم بقيد زائد و إلاّ عاد القسم مقسماً، فهكذا الواجب فانّه بما هو هو مقسم و النفسي و الغيري من أقسامه، و من واجب القسم أن يتميز عن المقسم بقيدين، و إلاّ عاد القسم مقسماً، فالواجب النفسي ما وجب لنفسه أو ما وجب على كلّ تقدير; و الواجب الغيري ما وجب لا على كلّ تقدير، بل إذا وجب الغير(1)، فأصبح كالعلّة المنقسمة إلى المنحصرة و غير المنحصرة.

و الأولى أن يُردّ الاستدلال بوجه حاسم، و هو انّ قوام الإطلاق كون المتكلّم

ص:358


1- نعم قد ذكرنا في أوائل مبحث الأوامر انّه إذا دارت صيغة الأمر بين النفسي و الغيري يحمل على الغيري بالبيان المذكور في محله.

في مقام البيان بالنسبة إلى نفي القيد الزائد، إلاّ أنّ احتمال دخالة القيد الزائد يتصوّر على وجهين:

1. دخله في الموضوع بنحو الجزئية و الشرطية، كما إذا قال: اعتق رقبة، فاحتمال دخالة الإيمان مدفوع بالإطلاق، و ذلك لأنّ المتكلّم إذا صار بصدد بيان الموضوع كلّه كان عليه أن يقيد الرقبة بالإيمان، فإذا خلا كلامه عن ذلك القيد يحكم عليه بعدم الدخالة.

2. دخله في الموضوع لا بصورة الجزئية، بل لكونه نائباً عن الموضوع و مؤثراً مثله، كما إذا احتملنا انّ لوجوب تكريم زيد سببين أحدهما تسليمه، و الآخر إحسانه، فإذا قال المولى: زيد إن سلّم أكرمه، فمقتضى الإطلاق كون التسليم تمام الموضوع كالرقبة في المثال السابق، و أمّا كونه سبباً منحصراً لا ينوب عنه شيء آخر فلا يثبته الإطلاق إلاّ أن يكون المتكلّم بصدد بيان هذه الجهة أيضاً و هو نادر.

فإذا قال الصادق: الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء، فمقتضى الإطلاق كون الكرّيّة تمام الموضوع للعاصمية و ليس لها شرط و لا جزء وراء الكرّيّة.

نعم و أمّا كون الكرّيّة سبباً منحصراً مضافاً إلى أنّه سبب تام فهو يحتاج إلى كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى هذه الجهة، أي وراء جهة كونه سبباً تامّاً و أنّى يمكن إحرازه، و هذا هو الإشكال المهم في المقام، و هو يرد على عامّة التقريرات الثلاثة للإطلاق، و لكن المحقّق الخراساني أشار إليه في التقرير الثاني من التقريرات الثلاثة للإطلاق.

الثاني: الانحصار مقتضى إطلاق فعل الشرط

هذا هو التقرير الثاني للإطلاق، و الفرق بين التقريرين واضح، فإنّ مصب

ص:359

الإطلاق في التقرير الأوّل هو مفاد» إن الشرطية «أو هيئة الجملة الشرطية، بخلاف هذا الوجه فانّ مصبه هو فعل الشرط، أعني قوله:» سلم «في قوله:» إن سلم زيد أكرمه «.

و حاصل هذا الوجه: انّه لو لم يكن منحصراً لزم تقييد تأثيره بما إذا لم يقارنه أو لم يسبقه شرط آخر ضرورة انّه لو قارنه أو سبقه شرط آخر لما أثّر وحدة كما في عاصمية الكر فانّه إنّما يؤثر إذا لم يكن ماء جارياً عن مبدأ و إلاّ فلا يكون مؤثراً مع أنّ قضية إطلاقه أنّه مؤثر مطلقاً، قارنه شيء أم لم يقارنه، سبقه شيء أم لم يسبقه.(1)

يلاحظ عليه: بما مرّ في نقد الوجه الأوّل من التقرير للإطلاق، و هو انّ الإطلاق رهن كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى القيد الذي يراد نفيه، فلو كان القيد مؤثراً في نفس الموضوع جزءاً أو شرطاً فينفى دخله بالموضوع في الإطلاق.

و أمّا إذا كان القيد المحتمل غير مؤثر في الموضوع، بل يحتمل أن يكون ذلك القيد سبباً مستقلاً للحكم وراء السبب الموجود في المنطوق بأن يكون للعاصمية سببان:

1. الكرّيّة.

2. جريان الماء متّصلاً بالنبع.

فنفي الشك الثاني النابع عن احتمال تعدّد السبب، و عدمه، فرع كون المتكلّم في مقام البيان من هذه الجهة أيضاً و أنّى لنا إثبات ذلك.

و بتعبير آخر: انّ نفي الشكّ في وحدة السبب و عدمها، رهن كون المتكلّم يكون في مقام بيان أمرين:

ص:360


1- كفاية الأُصول: 1/306.

1. بيان كمال السبب و عدم نقصه.

2. بيان وحدة السبب و عدم تعدّده.

و السائد على المتكلّمين في مقام الإطلاق هو الأوّل، و أمّا كونه واحداً لا متعدّداً فخارج عن مصب الإطلاق غالباً، إلاّ أن يحرز انّه أيضاً في مقام البيان لهذه الجهة.

إلى هنا تمّ بيان التمسّك بالإطلاق لإثبات الانحصار بوجهين.

بقي الكلام في الوجه الثالث للإطلاق، و هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:» و أمّا توهم انّه قضية إطلاق الشرط... «و إليك بيانه:

الوجه الثالث: التمسّك بإطلاق الشرط بتقريب انّ مقتضى إطلاقه، انحصارُه

كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر كون الوجوب تعيينياً لا تخييرياً.(1)

و هذا الوجه ليس شيئاً جديداً و إنّما أخذ من الأوّل شيئاً و من الثاني شيئاً آخر و لفّقهما و صار بصورة تقريب ثالث للإطلاق المفيد للانحصار، فقد أخذ من التقريب الثاني كون مصب الإطلاق هو الفعل لا مفاد هيئة الجملة الشرطية، كما أخذ من التقريب الثاني التشبيه غاية الأمر شبّه المقام بتردد صيغة الأمر بين التعييني و التخييري، و قد شبّه المقام في التقريب الأوّل بتردّد الصيغة بين النفسي و الغيري، و إليك توضيحه:

إذا كانت العلّة و المؤثر على قسمين: قسم منحصر يؤثر مطلقاً سواء أ كان هناك شيء آخر أو لا، و قسم غير منحصر و إنّما يؤثر إذا لم يكن هناك مؤثر آخر متقدّم عليه، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان و اقتصر على بيان مؤثر واحد، فمعناه انّه يؤثر مطلقاً حتّى و ان تقدّم عليه شيء، إذ لو لم يكن كذلك لزم المتكلّم تقييد

ص:361


1- الكفاية: 1/306.

تأثيره بما إذا لم يكن هناك شيء آخر، فسكوته دليل على أنّه من قبيل القسم الأوّل، نظير الواجب التعييني و التخييري حيث إنّ المتكلّم إذا اقتصر على بيان واجب واحد فمعناه انّه واجب مطلقاً أتى بشيء آخر أو لا، و إلاّ كان عليه تقييد وجوبه بما إذا لم يأت بشيء آخر، فإذا سكت فهو دليل على أنّه واجب تعييناً، إذ لو كان واجباً تخييرياً كان عليه بيان العِدْل.

فخرجنا بتلك النتيجة: انّ بيان الجامع بين المنحصرة و غير المنحصرة، و بين الواجب التعييني و التخييري كاف في بيان الشق الأوّل من الشقين أي العلّة المنحصرة و الواجب التعييني و ليس بواف لبيان الشقين الآخرين: غير المنحصر، و التخييري.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا البيان، ما هذا حاصله:

إنّ الفرق بين المقيس و المقيس عليه ظاهر فانّ التعيين و التخيير وصفان داخلان في ماهية الوجوبين، و كأنّهما بالنسبة إلى الوجوب فصلان منوِّعان فكلّ من التعييني و التخييري نوع من الوجوب.

حيث إنّ الوجوب التعييني وجوب على كلّ تقدير أتى بشيء أو لا، بخلاف الثاني فانّ التخييري وجوب على تقدير عدم الإتيان بشيء آخر.

و هذا بخلاف الانحصار و عدمه فانّهما غير داخلين في ماهية العلّة، فانّ تأثير العلّة المنحصرة مثل تأثير غير المنحصرة من دون تفاوت بينهما ثبوتاً في نحو التأثير، بل الانحصار و عدمه من المشخصات الصنفية حيث يكون الفرق بين العلّة المنحصرة و غيرها كالفرق بين الإنسان الأبيض و الأسود.

و يترتّب على ذلك الفرق هو انّ بيان الجامع كاف لبيان الفرد من الواجب التعييني، و ليس كذلك في مورد العلة المنحصرة، و وجهه هو انّ الاختلاف في القسم الأوّل يعود إلى مقام الثبوت، لما عرفت من أنّ نسبة الوجوب التعييني و

ص:362

التخييري كنسبة نوع إلى نوع كالإنسان بالنسبة إلى الفرس، فإذا أطلق و لم يذكر عدلاً يحمل على بيان خصوص الوجوب التعييني، و إلاّ يلزم أن لا يكون في مقام البيان، بل في مقام الإهمال و الإجمال و هذا خلاف المفروض.

و هذا بخلاف العلّة المنحصرة و غير المنحصرة، لأنّهما لمّا كانا في مقام الثبوت محددين جوهراً و إنّما الاختلاف في مقام الإثبات إذا أُطلق و لم يقيد بشيء يكون الكلام مجملاً لا محمولاً على الفرد المنحصر، و إلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله: و احتياج ما إذا كان الشرط متعدداً إلى ذلك إنّما يكون لبيان التعدّد لا لبيان نحو الشرطية فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف كان هناك شرط آخر أم لا، حيث كان مسوقاً لبيان شرطيته بلا إهمال و لا إجمال بخلاف إطلاق الأمر فانّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني فلا محالة يكون في مقام الإهمال و الإجمال.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هذا البيان مع طوله غير واف في التفريق، لأنّه إذا افترضنا انّ نسبة التعيين و التخيير إلى الوجوب نسبة الفصلين المنوعين إلى الجنس، و نسبة الانحصار و غير الانحصار إلى العلّة نسبة المصنّفات، و مع ذلك فكلّ من المشبه و المشبه به يشتركان بوجود الاختلاف في الثبوت و الإثبات و إلاّ لأصبح القسم مقسماً، و ذلك لأنّ الواجب التعييني ثبوتاً يختلف مع التخييري، فالأوّل هو الواجب مطلقاً سواء أتى بشيء أو لا، و الثاني واجب فيما إذا لم يأت بشيء، فكما أنّ هذه القيود معتبرة في مقام الثبوت ليجعلها نوعين من الوجوب، فهكذا معتبرة في مقام الإثبات، لأنّ الإثبات هو المعبر عن الثبوت بالتمام، فإذا كان القيد مأخوذاً في الثبوت يكون مأخوذاً في مقام الإثبات، و عندئذ لا معنى للقول بأنّ بيان الجامع

ص:363


1- الكفاية: 1/307.

كاف في إثبات أحد النوعين دون النوع الآخر، لما عرفت من أنّ النوعين يتميزان ثبوتاً و إثباتاً بقيدين، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد من النوعين لا ثبوتاً و لا إثباتاً، و كون المتكلّم في مقام البيان لا يُلزمنا بالأخذ بالوجوب التعييني، بل يمكن أن يكشف ذلك عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان، بل هو في مقام الإهمال و الإجمال، بحجة انّ المتكلّم لم يشر إلى أحد القيدين المتنوعين.

و منه يظهر حال العلّة المنحصرة و غير المنحصرة فهما متميزان في مقام الثبوت بقيدين كما أنّهما متميزان في مقام الإثبات بقيدين أيضاً، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد الفردين لا في مقام الثبوت و لا في مقام الإثبات.

فإن قلت: قد تقدّم في الجزء الأوّل في مبحث دوران أمر الصيغة بين النفسي و الغيري و التعييني و التخييري، و الكفائي و العيني انّه يحمل على النفسي و التعييني و العيني.

قلت: ما ذكرناه هناك مبني على بيان آخر مذكور في محله، لا على هذا الأصل الذي بنى عليه حمل الأمر على التعييني.(1)

إلى هنا تمّت الوجوه الخمسة التي ذكرها المحقّق الخراساني و هناك وجه آخر، و هو

الوجه السادس:

الذي سمعناه من السيد المحقّق البروجردي

في درسه الشريف عام 1367 ه و حاصله:

إنّ مقتضى الترتّب العلّي على المقدّم، أن يكون المقدّم بعنوانه الخاص علّة، و هو محفوظ عند ما كانت العلّة منحصرة و لو لم يكن كذلك لزم استناد الثاني إلى الجامع بينهما لامتناع استناد الواحد إلى الكثير، و هو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه.(2)

ص:364


1- إرشاد العقول: 3/341، طبعة بيروت.
2- نهاية الدراية: 322.

ثمّ إنّا وقفنا على ذلك التقريب في تعليقة المحقّق الاصفهاني، و لعلّ البيانين من قبيل توارد الخاطرين أو انّ المحقّق المحشّي أخذه من السيد المحقّق البروجردي، و ذلك لأنّ السيد البروجردي قال: عرضت ذلك التقريب على المحقّق الخراساني، فأجاب عنه بالنحو التالي:

إنّ المفهوم رهن الظهور العرفي، و الظهور العرفي لا يثبت بهذه المسائل الفلسفية البعيدة عن الأذهان العرفية، و أنّى للعرف دراسة هذا الموضوع» انّه لو كان للجزاء علل مختلفة يجب أن يستند إلى الجامع و حيث إنّه خلاف ظاهر القضية فهو مستند إلى شخص الشرط و تصير نتيجته انّه علة منحصرة «.

السابع: ما ذكره المحقّق النائيني على ما في تقريراته،

و حاصله:

إنّ الشرط المذكور في القضية الشرطية إمّا أن يكون في حدّ ذاته ممّا يتوقف عليه عقلاً، وجود ما هو متعلّق الحكم في الجزاء، و إمّا أن لا يكون كذلك، و على الأوّل لا يكون للقضية مفهوم لا محالة، كما في قولنا:

إن رزقت ولداً فاختنه، و بما انّ كلّ قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية يكون مقدّمها وجود الموضوع، و تاليها ثبوت المحمول له و يكون التعليق عقلياً لا يكون هناك مفهوم.

و أمّا القسم الآخر في أنّ الحكم الثابت في الجزاء ليس بمتوقّف على وجود الشرط عقلاً، فلا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً بالإضافة إلى وجود الشرط، أو يكون مقيّداً به، و بما انّه رتب في ظاهر القضية على وجود الشرط، يمتنع الإطلاق فيكون مقيّداً بوجود الشرط و بما انّ المتكلّم في مقام البيان قد أتى بقيد واحد و لم يقيده بشيء آخر، سواء أ كان التقييد بذكر عدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو ليكون قيد الحكم في الحقيقة مركباً من أمرين، كما في قولنا: إذا جاءك زيد و أكرمك فأكرمه، يستكشف من ذلك، انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية

ص:365

الشرطية، و بالجملة فكما أنّ إطلاق الشرط و عدم تقييده بمثل العطف بالواو، يدلّ على عدم كون الشرط مركباً، كذلك إطلاقه و عدم تقييده بشيء مثل العطف، يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية.(1)

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّه ليس تقريباً جديداً، بل هو نفس التقريب الثالث للمحقّق الخراساني للإطلاق وجود الفرق الواضح بين كون الشرط ذا جزء و بين كونه ذا عدل، فلو تعلق الشكّ بالأوّل لكان مقتضى الإطلاق هو كونه تاماً في السببية و الشرطية لا ناقصاً، و أمّا إذا تعلّق الشكّ بأنّ له عدلاً أو لا فلا يكفي الإطلاق، و قد عرفت فيما سبق انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع لا انّه لا موضوع له بغير ما ورد في متعلّق النص.

فلو شككنا في أنّ للكرّيّة شرطاً أو لا، يتمسّك بإطلاق الدليل، و امّا أنّ له عدلاً أو لا، كجريان الماء و إن لم يكن كرّاً فلا يدلّ على نفيه.

إلى هنا تمت أدلّة القائلين بالمفهوم، و قد عرفت أنّ الأدلّة غير وافية.

نظرية المحقّق البروجردي

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي فصل في القضايا المشروطة بين كون سوقها لأجل إفادة كون المشروط علّة للجزاء، و سوقها لأجل إفادة انّ الجزاء ثابت للمشروط بهذا الشرط، فالأوّل كقول الطبيب: إن شربت السقمونيا فيسهل الصفراء.

و الثاني: كقوله) عليه السلام (: إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء.

فإن سيقت لإفادة العلّية فلا مفهوم لها، لأنّ المتكلّم لم يأت في كلامه بقيد زائد، بل أفاد انّ السقمونيا مثلاً علّة لإسهال الصفراء.

ص:366


1- أجود التقريرات: 1/418.

و بالجملة كلّما كان إتيان الشرط لإفادة علّيته للجزاء، و لا يكون فيه قيد زائد لا يكون له مفهوم.

و إن سيقت على النحو الثاني، يكون له مفهوم إن تم ما ذكر من أنّ القيود الزائدة في الكلام تفيد دخالتها على نحو ينتفي الحكم عند انتفائها.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره) قدس سره (نقض لما أبرمه في السابق، و هو انّ غاية ما يدلّ عليه أخذ القيد في الكلام ان له دخلاً فإذا ارتفع ارتفع شخص الحكم، و أمّا أنّه لا ينوب هنا به شيء آخر فلا يدلّ عليه إلاّ أن يكون المتكلّم في مقام البيان لهذه الجهة. اللّهمّ إلاّ إذا كان التفصيل على مبنى القوم كما يعرب عنه قوله إن تمّ ما ذكر.

ما هو المختار في المقام؟

قد عرفت عدم كفاية التقريبات السبعة لإثبات كون الشرط سبباً منحصراً للجزاء و مع ذلك يمكن القول بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في موردين:

الأوّل: إذا كان الشرط من الأضداد التي لا ثالث لها، و بالتالي لا يكون للموضوع إلاّ حالتين لا غير، و إليك بعض الأمثلة:

1. السفر و الحضر فيها من الأوصاف التي تعرض الإنسان و لا ثالث لهما، إذ الإنسان الذي هو الموضوع إمّا حاضر أو مسافر، فإذا قال: إذا سافرت فقصِّر أو إذا سافرتَ فأفطر، يفهم منه انّ التقصير و الإفطار، من أحكام المسافر دون الحاضر، فهو يتم و يصوم. و المراد من الحاضر، هو المتواجد في الوطن بما هو هو مع قطع النظر عن العوارض ككونه مريضاً، أو شيخاً مطيقاً.

ص:367

2. انّ الاستطاعة و العجز من الأضداد التي لا ثالث لها، و الإنسان الذي هو الموضوع، إمّا مستطيع أو غير مستطيع، فإذا قال:» إن استطعت فحجّ «يدلّ بمفهومه على سلب الوجوب عن غيره. إذ لو كان الحكم ثابتاً عند وجود الشرط و عدمه، يكون التعليق لغواً، و لا يتصور فيه قيام سبب آخر مكان الشرط المنتفي، إذ المفروض انّهما من الأضداد التي لا ثالث لهما.

3. انّ الظلم و العدل من الأضداد التي لا ثالث لهما، فإذا قال:» ليس لعرق ظالم حق «(1)فالوصف يدلّ على أنّ عرق غير الظالم له حقّ، فلو كان الحكم عاماً، للظالم و العادل يلزم اللغوية، و لذلك فرّع الفقهاء على القول بالمفهوم في الحديث فروعاً:

1. ما لو زرع أو غرس المفلس في الأرض التي اشتراها و لم يدفع ثمنها، و أراد بائعها أخذها، فإنّه لا يقلع زرعه و غرسه مجاناً و لا بأرش، بل عليه إبقاؤه إلى أوان جذاذ الزرع، و في الغرس يباع و يكون للمفلس بنسبة غرسه من الثمن.

2. لو انقضت مدّة المزارعة، و الزرع باق. و لم يعلما تأخّره عن المدّة المشروطة وقت العقد، فإنّ الزرع حينئذ لا يقلع أيضاً، لأنّه ليس بظالم، نعم يجمع بين الحقّين بالأُجرة. و الفرق أنّ المشتري دخل على أن تكون المنفعة له مباحة بغير عوض، بخلاف العامل.

3. لو أخذ الشفيع الأرض بالشفعة بعد زرع المشتري. و نظائر ذلك كثيرة. و ادّعى بعضهم الإجماع أيضاً على العمل بمفهوم الحديث هنا، و إن منع من العمل بمفهوم الوصف.(2)

ص:368


1- صحيح البخاري: 3/140، كتاب المزارعة.
2- تمهيد القواعد: 112.

الثاني: إذا كان المتكلّم بصدد بيان حكم الموضوع بعامة صوره، كما إذا سئل السائل و قال: ما هو الماء الذي لا ينجس، حيث تعلّق السؤال بعاصمية مطلق الماء، سواء أ كان ماء غدير، أو بئر، أو جار، أو غير ذلك فإذا أُجيب بأنّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء، بقيد انّ السبب المنحصر للعاصمية، هو الكرية على نحو لو دلّ الدليل على عاصمية ماء المطر أو الجاري المتصل بالنبع، أو الماء الواقع تحت المطر عند إصابة النجاسة، لوقع التعارض بين المفهوم و الدليل الدالّ على عاصمية غير الكرّ بخلاف ما إذا سئل عن عاصمية ماء خاص، كما إذا سئل عن ماء الغدير الذي تلغ فيه الكلاب، فأجيب: الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء، فانّ السؤال و الجواب قرينة على أنّ السؤال تعلّق ببيان ما هو العاصم للماء الخاص و هو ماء الغدير، فيكون الجواب مشيراً إلى الموضوع الذي جاء في سؤال السائل، فعاصمية ماء الغدير و عدمها تدور مدار الكرّيّة و عدمها، من دون نظر إلى عاصمية مطلق الماء الذي يعم ماء البئر و الجاري و ما يقع عليه المطر.

هذه هي الضابطة و مع ذلك فاستنباط المفهوم و عدمه من القضية رهن قرائن أُخرى أيضاً ربما تؤيد اشتمالها عليه، هذا و انّ الإمام الصادق) عليه السلام (استدلّ على حرمة لحم الشاة التي ذبحت و لم تتحرك و أُريق منها دم عبيط بمفهوم كلام الإمام علي) عليه السلام (.

ففي صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الشاة تذبح فلا تتحرك و يهراق منها دم كثير عبيط فقال: لا تأكل انّ عليّاً) عليه السلام (كان يقول: إذا ركضت الرِّجْلُ أو طرفت العين فكُلْ.(1) فكلام علي) عليه السلام (إنّما يدلّ على الحرمة بمفهومه لا بمنطوقه و لو لا كون المفهوم حجّة، كيف استدلّ الإمام به على حرمة

ص:369


1- الوسائل: 16، الباب 12 من أبواب الصيد و الذباحة، الحديث 1.

أكله.

فعلى المستنبط أن يتحرى في القرائن الحافّة حتى يعرف موقف المتكلم من الكلام.

ثمّ إنّ نفاة المفهوم استدلوا بوجوه ذكرها في» الكفاية «و نحن في غنى عن دراستها، إذ لم نقل بدلالة القضايا الشرطيّة على المفهوم مطلقاً، حتّى ندرس أدلّة المخالف، بل ألمعنا إلى مواضع خاصّة لا أظن انّ المخالف ينفي وجود المفهوم فيها فلنرجع إلى البحث في تنبيهات الفصل التي عقدها المحقّق الخراساني.

ص:370

تنبيهات

التنبيه الأوّل المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه
اشارة

إنّ نزاع المثبت و النافي للمفهوم إنّما هو في انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط و عدم انتفائه، لا انتفاء شخصه ضرورة انتفائه بانتفاء موضوعه و لو ببعض قيوده، و النزاع في اشتمال القضية على المفهوم فرع ثبوت مرحلتين للحكم:

1. شخص الحكم الذي ينتفي قطعاً بانتفاء شرطه باتفاق من المثبت و النافي.

2. سنخ الحكم و نوعه الذي يحتمل الانتفاء و عدمه.

فلو كان للجزاء مرحلة واحدة من الحكم و هو شخص الحكم لما يبقى وجه للنزاع، لأنّه منتف على كلّ حال، سواء قلنا باشتمال القضية على المفهوم أو لا.

توضيح المقام رهن بيان أمرين:

1. ما هو الفرق بين سنخ الحكم و شخصه؟ 2. لما ذا لا يجري النزاع إذا لم يكن للجزاء إلاّ مرحلة واحدة و هو شخص الحكم؟ أمّا الأوّل فبيانه: انّه إذا قلنا: زيد إن سلّم أكرمه، فهناك حكمان:

ص:371

الف: الوجوب الجزئي المتعلّق بإكرام زيد بقيد تسليمه.

ب: الوجوب الكلّي المتعلّق بإكرام زيد، غير مقيّد بتسليمه، بل يعمّ تلك الحالات و سائر حالاته، كما إذا لم يسلم، و لكنّه أطعم اليتيم و غير ذلك.

و نظيره قوله) عليه السلام (:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء «، فهناك مثل السابق، حكمان:

1. إنشاء العاصمية للماء بقيد كونه كرّاً.

2. إنشاء العاصمية له غير مقيد بالكرية بل يعمّ تلك الحالة و سائر الحالات الطارئة له، ككونه جارياً، نابعاً من الأرض، أو ماء بئر فالحكم الجزئي المقيّد بالشرط ينتفي بانتفاء شرطه عقلاً، لأنّ المعلّق ينتفي بانتفاء المعلّق عليه، فلو لم يسلِّم أو لم يكن كرّاً، فالإنشاء المقيّد بهما، بكونه منتفياً بالاتّفاق، سواء قلنا بالمفهوم أو لا.

و الذي يصلح للنزاع هو البحث في انتفاء سنخ الحكم و نوعه، أي وجوب الإكرام غير المقيد بالتسليم، أو إنشاء العاصمية غير المحدد بالكرّيّة، فهل يحكم بانتفائه كانتفاء شخص الحكم كما عليه القائل بالمفهوم أو لا يحكم عليه بل يحتمله الانتفاء و عدمه؟ ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أنكر وجوب سنخ الحكم و نوعه، وراء شخص الحكم و انّه لا يعقل لسنخ الحكم وراء شخصه مفهوم معقول، فقال ما هذا حاصله: إنّا لا نتعقّل وجهاً معقولاً لسنخ الحكم لوضوح أنّ المعلّق في قولك: إن جاءك زيد فأكرمه هو الوجوب المحمول على إكرامه، و التعليق يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه فما فرضته سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق، موضوعاً و محمولاً فهو شخصه لا سنخه، إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد

ص:372

بما هو هو و إن كان مختلفاً معه في الموضوع كإكرام عمرو أو محمولاً كاستحباب إكرام زيد، فلا معنى للنزاع في أنّ قوله: إن جاءك زيد فأكرمه يدلُّ على انتفائه أو لا يدلّ.(1)

يلاحظ عليه: أنّ سنخ الحكم متّحد مع شخصه موضوعاً) زيد (و محمولاً) وجوب الإكرام (لكن يختلف في الشرط فهو شرط لشخص الحكم دون سنخه لكن اتحادهما ليس بمعنى كونهما متساويين كالإنسان، و الحيوان الناطق بل اتحادهما كاتحاد الكلي و مصداقه، و الطبيعي و فرده، فالوجوب المنشأ بقيد التسليم وجوب جزئي، و الوجوب المنتزع عنه غير المقيد بالشرط، كلي يعم الفرد المنشأ، و غيره.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

و أمّا الأمر الثاني و هو انّ مدار النزاع هو إمكان اشتمال القضية وراء شخص الحكم على سنخه، حتّى يحكم على السنخ أيضاً بالانتفاء كالشخص كما عليه القائل بالمفهوم أو لا يحكم عليه، بل يكون الانتفاء و البقاء احتمالين متساويين و أمّا لو اشتملت القضية على الحكم الجزئي، و لم يكن فيها صلاحية للحكم الكلي و سنخه، فارتفاع الحكم و عدم ثبوته، عند انتفاء القيد ليس من باب المفهوم، بل لأجل عدم القابلية في المحل، و ذلك فيما إذا وقف داره للفقراء أو أوصى بتمليك ماله لهم، أو نذر كونها لهم إذا قضيت حاجته الشرعية أو حلف بالتمليك لهم فانّ سلب الملكية عن الأولاد الأغنياء، ليس من باب المفهوم، بل من باب عدم وجود المرحلتين للملكيّة الشخصية و السنخيّة سنخ الحكم، و ذلك: لأنّ المال الخارجي إذا صار وقفاً أو نذراً أو وصية فقد صار ملكاً أو وقفاً لهؤلاء،

ص:373


1- نهاية الأُصول: 1/273.

و لا يتصور عندئذ ملكية كلية، للمال، حتّى يبحث عن ارتفاعها عند ارتفاع الفقر و عدمه، لأنّ المال الواحد، لا يصلح أن يكون وقفاً أو ملكاً إلاّ لواحد، و عندئذ يكون الارتفاع عن غير مورده عقلياً لا من باب المفهوم، ففرق بين إنشاء وجوب الإكرام و انشاء الملكية، إذ يصحّ إنشاء وجوبين طوليين أحدهما في ظرف التسليم و ثانيهما في ظرف آخر، و هذا بخلاف إنشاء الملكية للعين فلا يمكن نقلها مرّتين تارة للأولاد الفقراء، و أُخرى لأولاده الأغنياء.

و منه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني في تمهيد القواعد حيث زعم انّ انتفاء الحكم في هذه الموارد من باب المفهوم فقال: لا إشكال في دلالة الشرط و الرهن في مثل الوقف و الوصايا و النذور و الأيمان، كما إذا قال: وقفت هذا على أولادي الفقراء، أو إن كانوا فقراء، و نحو ذلك.(1)

إشكال و إجابة

أمّا الإشكال فقد حكاه الشيخ الأنصاري في تقريراته عن بعضهم، و قال: و قد يستشكل في المقام) مطلق القضايا الشرطيّة (نظراً إلى أنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الإنشاء الخاص، الحاصل بذلك الكلام دون غيره فأقصى ما تفيده الشرطية انتفاء ذلك و أين ذلك، من دلالته على نوع الوجوب؟!(2)و إلى هذا الإشكال يشير في» الكفاية «بقوله: إنّ المناط في المفهوم هو سنخ الحكم لا نفس شخص الحكم في القضية، و كان الشرط في الشرطية إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فغاية قضيتها انتفاء ذاك

ص:374


1- تمهيد القواعد، القاعدة 25، ص 110.
2- مطارح الأنظار: 177.

الحكم بانتفاء شرطه لا انتفاء سنخه.(1)

ثمّ إنّه أجاب بأنّ الخصوصية غير مأخوذة في المستعمل فيه و ذلك لوجهين:

1. الخصوصية الإنشائية كالخصوصية الاخبارية غير مأخوذة في المعنى، مثلاً كلمة بعت وقعت لنسبة البيع إلى المتكلم، و أمّا كونه موجداً للبيع أو حاكياً عنه في الخارج فهو يستفاد من القرائن و يعد من طوارئ الاستعمال.

2. انّ اللحاظ الآلي في الحروف و الاستقلالية في الأسماء ليس جزءاً للمعنى الموضوع له و المستعمل فيه، و إنّما تعرضه الآلية عند الاستعمال كما يعرضه الاستقلال عنده.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان الإشكال هو ما يتبادر من ظاهر» المطارح «و» الكفاية «من أنّ الجزاء مقيّد بالشرط حيث إنّ الظاهر انّ الشرط، شرط للحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فبانتفاء الشرط ينتفي شخص الحكم دون سنخه، فيصح الذب عنه بما اختاره المحقّق الخراساني من أنّ الخصوصيات غير مأخوذة لا في الإخبار و لا في الإنشاء، لا في الأسماء و لا في الحروف.

و أمّا لو قرر الإشكال حسب ما قرره السيد المحقّق البروجردي في درسه الشريف، و يستفاد من بعض مواضع المطارح أيضاً، و هو انّ شأن صيغة الأمر في جانب الجزاء هو إيجاد البعث و الوجوب، فإذاً المنشأ أمر جزئي، لا نوعي فليس هنا دال على سنخ الوجوب، فعندئذ لا يصلح ما في» الكفاية «ردّاً له.

توضيحه: انّ القول بالمفهوم فرع تصوّر وجود حكمين في جانب الجزاء.

أ. سنخ الحكم و نوعه.

ص:375


1- كفاية الأُصول: 1/310.

ب. شخص الحكم و جزئيّه.

و هذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان الجزاء جملة خبرية كما إذا قال: إن جاء زيد فيجب إكرامه، فقال: إن جاء زيد فإكرامه واجب، فالجزاء يمكن أن يكون حكاية عن حكم جزئي مقيّد بالمجيء و عن حكم غير مقيّد به.

و أمّا إذا كان الجزاء جملة إنشائية من شأنها إيجاد المعاني في عالم الاعتبار فليس هناك وراء شخص الحكم حكم آخر، لأنّ المفروض انّ شأن الجملة الإنشائية إيجاد المعنى لا حكايته عن الخارج و الإيجاد نفس الوجود و هو نفس التشخص، فيكون الجزاء غير مشتمل على وجوب وراء شخصه.

و بعبارة أُخرى: انّ الجمل على قسمين: حاك عن الخارج كما يقول: زيد قائم أو يقول: يجب إكرامه أو إكرامه واجب بشرط أن يكون جملة خبرية غير مستعملة في الإنشاء موجد للمعنى على نحو ليس وراء عالم الإنشاء شيء يحكي عنه اللفظ فالمعنى الذي هذا شأنه يكون جزئياً شخصياً لا غير و لا يتصوّر فيه نوع المعنى وراء الشخص.

هذا هو الإشكال و الأولى أن يجاب عن كلا التقريرين بجواب واحد، و هو:

إنّ الوجوب و إن كان مقيّداً بالشرط، أو انّ الشرط وقع شرطاً للحكم المذكور في الجزاء حسب تقرير العلمين أو انّ مفاد الجزاء معنى إيجادي و جزئي حقيقي حسب تقرير السيد البروجردي لكن تعلّق الوجوب بمادة الجزاء عند وجود الشرط تحكي عن مناسبة بين الشرط) التسليم (و الجزاء) الإكرام (فإذا تمت دلالة القضية على انحصار العلّة، دلّت على فقدان المقتضي للإكرام عند فقدان الشرط، و هو نفس القول بالمفهوم، لأنّ عدم المقتضي له، يلازم عدم كونه مطلوباً، لا بهذا الطلب المختص أو الجزئي و لا بطلب آخر.

ص:376

و لك أن تقول: إنّ الهيئة و إن كانت جزئية لكن تناسب الحكم و الموضوع يوجب إلغاء الخصوصية، و جعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب و طبيعيّه، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب.

جواب آخر:

و يمكن أن يقال: انّ الحكم الشخصي و إن كان جزئياً حسب أفراده، و لكنّه حسب حالاته أمر قابل للتقييد، مثلاً: إذا قلنا أكرم زيداً، فالبعث و إن كان جزئياً لكنّه حسب حالاته قابل للتقييد كأن يقول: أكرم زيداً إذا كان عادلاً لا فاسقاً، عالماً لا جاهلاً بإرجاع القيود إلى مفاد الهيئة و سوف يوافيك انّه لا يشترط في جريان مقدّمات الحكمة كون الموضوع كلياً ذا أفراد، بل يكفي كونه جزئياً ذا أحوال.

و على ضوء ذلك فالبعث الجزئي و إن كان متشخّصاً لكنّه قابل للتقييد بالتسليم كما يمكن أن يكون مطلقاً عنه.

فالبعث المقيد بالتسليم شخص الحكم فينتفي بانتفاء التسليم و لحاظه غير مقيد به هو سنخ الحكم، فعندئذ انتفاء الحكم الشخصي لا يكون دليلاً على انتفاء سنخ الحكم، بل يمكن أن يكون نفس الشخص باقياً ضمن شرط آخر.

نعم وصف البعث الجزئي باعتبار شخص الحكم، و باعتبار آخر سنخ الحكم لأجل تقريب المطلب إلى الذهن، و إلاّ فالأمر الجزئي، بهما معاً.

ص:377

التنبيه الثاني إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء
اشارة

إذا ورد: إذا خفي الأذان فقصّر، و ورد أيضاً إذا خفيت الجدران فقصّر، فلو قلنا بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم فلا تعارض بين الدليلين و يؤخذ بظهورهما في انّ كلّ واحد سبب تام، و ليس سبباً ناقصاً فيكفي خفاء واحد منهما في وجوب التقصير.

و لو قلنا بظهور الجملة الشرطية في المفهوم يقع التعارض بين مفهوم كلّ مع منطوق الآخر.

و ذلك لأنّ مفهوم قوله: إذا خفي الأذان فقصّر: انّه إذا لم يخف الأذان لا تقصّر الصلاة، سواء أخفيت الجدران أم لا، فهذا المفهوم يعارض منطوق القضية الثانية التي تحكم بوجوب القصر عند خفاء الجدران.

و مثل القضية الأُولى القضية الثانية فانّ مفهومها انّه إذا لم تخف الجدران فلا تقصّر، سواء أ خفي الأذان أم لا، فيعارض مفهومُها منطوق القضية الأُولى التي مفادها انّه إذا خفي الأذان، فقصّر، فلا بدّ من علاج التعارض بين القضيتين.

وجوه لرفع التعارض بين مفهوم إحدى القضيتين مع منطوق الأخرى

و قد ذكر المحقّق الخراساني في رفع التعارض وجوهاً خمسة، و المقبول منها هو الأوّل و الثالث و البعيد هو الثاني، و المردود هو الرابع و الخامس. فنحن نذكر

ص:378

المقبول أوّلاً، ثمّ نذكر البعيد، ثمّ المردود.

أمّا المقبول فوجهان:

1. تخصيص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر

و حاصل هذا الوجه: انّه يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر، فإذا كان مفهوم قوله:» إذا خفي الأذان فقصّر «انّه إذا لم يخف الأذان فلا تقصر، فيُخصّص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الأذان بقوله:» إذا خفي الجدران فقصّر «إذا لم تخف و مثلها، القضية الثانية فمفهوم قوله: إذا خفيت الجدران فقصّر، انّه إذا لم تخف الجدران لا تقصر، فيُخصص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الجدران بقوله:» إلاّ إذا خفي الأذان «، فتكون النتيجة كفاية خفاء واحد من الأمرين، فكأنّه قال: إذا خفي الجدران أو الأذان فقصر، فما في عبارة » الكفاية «من قوله:» عند انتفاء الشرطين «بمعنى كفاية انتفاء واحد من الشرطين و حاصل هذا الجمع، هو عطف الجملة الثانية على الأُولى بلفظة» أو «العاطفة.

2. تقييد منطوق كلّ بالآخر

و حاصل هذا الوجه: انّه يقيد إطلاق الشرط في كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر، فيكون الشرط عندئذ هو خفاء الأمرين معاً، فتكون النتيجة بعد التقييد هو انّه إذا خفيت الجدران و الأذان فقصّر، خلافاً للتصرف الأوّل فانّ النتيجة تكون» إذا خفي الأذان أو الجدران فقصّر «.

و إن شئت قلت: إنّ ظاهر القضية الشرطية على القول بالمفهوم انّ للشرط وصفين:

1. انّه سبب تام لا ناقص.

ص:379

2. انّه سبب منحصر ليس له بديل.

فالتصرف في مفهوم كلّ بمنطوق الآخر بمعنى سلب الانحصار عن كلّ مع حفظ سببية كلّ، للقصر، كما أنّ التصرف في منطوق كلّ هو التصرف في تمامية السبب، و انّ كلّ واحد ليس سبباً تاماً، بل سبب ناقص لا يتمّ إلاّ بضمّ جزء آخر إليه.

و هذان الوجهان معقولان، و أمّا انّ الترجيح بأي واحد منهما فهو رهن قرينة خارجية.

و ذهب المحقّق النائيني إلى عدم الترجيح و بالتالي صيرورة القضيتين مجملتين، فتصل النوبة إلى الأُصول العملية، قال:

إنّ كلا من القضيتين ظاهر في العلّة المنحصرة و لكن تعدّدها ينافي ذلك، فلا بدّ إمّا من رفع اليد عن كونه علّة تامة و جعله جزء العلة فيكون المجموع من الشرطين علة تامة منحصرة ينتفي الجزاء عند انتفائهما معاً، فتكون القضيتان قضية واحدة، مثلاً يكون قوله: إذا خفي الأذان فقصّر و إذا خفي الجدران فقصّر بمنزلة قوله: إذا خفي الأذان و الجدران فقصّر.

و إمّا من رفع اليد عن كونه علّة منحصرة مع بقائه على كونه علّة تامّة فيكون الشرط أحدهما تخييراً و تكون القضيتان بمنزلة قوله: إذا خفي الأذان أو خفي الجدران فقصّر، و يكفي حينئذ أحدهما في ترتب الجزاء، و حينئذٍ لا بدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين: إمّا ظهور الشرط في كونه علة تامة و إمّا ظهوره في كونه علّة منحصرة.

و حيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر و لا أحدهما حاكماً على الآخر لمكان انّ كلا من الظهورين إنّما يكون بالإطلاق و مقدّمات الحكمة كان

ص:380

اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الإجمالي من ورود التقييد على أحد الإطلاقين.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إذا كان أحد الظهورين أقوى من الظهور الثاني فيؤخذ بالأقوى و يتصرف في الأضعف.

هذه هي الضابطة و أمّا تطبيقها على المقام، فبيانه:

إنّ دلالة القضية الشرطية على السببية التامة أظهر من دلالتها على السببية المنحصرة، و الدلالة الأُولى مورد اتفاق إذا كان المتكلّم في مقام البيان، بخلاف الدلالة الثانية فقد عرفت إنكار جمع المحقّقين لها، و التصرف في مفهوم كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر تصرف في الدلالة الثانية) أي دلالتها على انحصار العلّية و السببية في واحد من الشرطين (.

بخلاف التصرف في منطوق كلّ بالآخر فانّه تصرف في سببية كلّ للجزاء و دلالة القضية الشرطية للسببية التامة أقوى و أظهر من دلالتها على الانحصار، و مع دوران الأمر بين أحد التقييدين يتصرف في الأضعف دون الأقوى.

أضف إلى ذلك انّا نعلم علماً وجدانياً بزوال الانحصار إمّا بزواله وحده أو في ضمن زوال الاستقلال، فعند ذلك ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي، و هو زوال الانحصار و شك بدوي و هو الشك في زوال الاستقلال.

و ربما يؤيّد ما ذكرنا من أنّ اللازم رفع اليد عن الانحصار دون السببيّة بأنّ مصب التعارض و إن كان هو المفهوم من جانب و المنطوق من جانب آخر إلاّ أنّه يستحيل التصرف في المفهوم نفسه، لأنّه مدلول تبعي و لازم عقلي للمنطوق، فلا بدّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض، و لا يكون ذلك إلاّ

ص:381


1- فوائد الأُصول للكاظمي: 4881/487.

بتقييد المنطوق و رفع اليد عن انحصاره، دون كونه علة تامة، لعدم الحاجة إلى التصرف في تمامية كل واحد من الشرطين بعد إلغاء الانحصار.(1)

يلاحظ عليه: كيف يقول باستحالة التصرف في المفهوم بحجّة انّه مدلول تبعي و لازم عقلي للمنطوق، لأنّه إذا صار حجة فيكون كالمنطوق في قابلية كلّ للتقييد.

نعم صار المنطوق واسطة في الثبوت في ظهور هذه الحجة، و عندئذ لا مانع بعد ظهورها أن يكون طرفاً للمعارضة بينه و بين المنطوق الآخر.

هذا كلّه حول الوجهين الأوّلين المقبولين، و قد عرفت أنّ الجمع الأوّل أظهر من الجمع الثاني.

و القول بأنّ كلّ واحد سبب مستقل أظهر من القول بأنّهما معاً سبب مستقل.

بقي الكلام في الوجوه الثلاثة.

الثالث: رفع اليد عن المفهوم منهما

و حاصل هذا الوجه هو سلب المفهوم عن القضيتين و انّهما لا تدلاّن وراء المنطوق على شيء آخر حتّى يخصص منطوق كلّ بمفهوم الآخر.

يلاحظ عليه: أنّ إنكار الموضوع ليس علاجاً للمشكلة فانّ المفروض في البحث اشتمال القضيتين على المفهوم و لو لا الاشتمال لما كان للبحث ملاك.

أضف إلى ذلك: انّ هذا ليس وجهاً مستقلاً، بل يتحد نتيجة مع الوجه الأوّل، غاية الأمر انّ القائل بالجمع الأول يقول بدلالته كلّ على المفهوم غاية الأمر

ص:382


1- أجود التقريرات: 4251/424، قسم التعليقة.

يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر.

و أمّا القائل بهذا الوجه فهو ينفي أساس التعارض، و هو الاشتمال على المفهوم و يأخذ بظهور كلّ قضية في استقلال سببها.

الرابع: جعل الشرط هو القدر المشترك

و حاصل هذا الوجه، هو جعل الشرط القدر الجامع المشترك بين الخفاءين، فليس الميزان خفاء الأذان بما هو هو و لا خفاء الجدران كذلك، بل الميزان في وجوب القصر، هو البعد عن الوطن أو محل الإقامة بمقدار خاص يلازمه خفاء الأذان و الجدران، فخفاؤهما أمارتان للموضوع أي الابتعاد بمقدار خاص و طريقان إليه، و ليس لهما موضوعيّة.

ثمّ استدلّ على ذلك بوجهين:

1. انّ وحدة المعلول أي وجوب القصر كاشف عن وحدة العلّة لامتناع صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير من دون جامع بينهما، فهذه القاعدة تجرّ الباحث إلى القول بأنّ هنا علّة واحدة و هي البعد عن الوطن أو محل الإقامة للمعلول الواحد أي وجوب القصر.

يلاحظ عليه: أنّ مصب القاعدة على فرض الصحة هو الأُمور التكوينية لا الاعتبارية و في التكوين، الواحد البسيط الذي لا كثرة فيه، كالعقل الأوّل بناء على كونه وجوداً بلا ماهية فهو لا يصدر إلاّ عن البحث البسيط و هو اللّه سبحانه، و أين هذه الضابطة من الوجوب الاعتباري النوعي) وجوب القصر (الذي يتكثر بتكثر أفراده؟! 2. انّ الشارع لمّا لم يجوز بالإفطار و التقصير في البلد حفظاً لكرامة الصيام

ص:383

بين الحاضرين، و كرامة الصلاة الرباعية بين الأهل و العيال و إنّما جوز إذا ابتعد المسافر عن البلد على قدر يلازمه خفاء الأذان و الجدران.

و هذا الوجه لا بأس به غير أنّه يثير إشكالاً، و هو كيف يكون خفاء الأذان و الجدران أمارة على البعد المعين مع أنّ الأذان يخفى بكثير قبل خفاء الجدران، فانّ خفاء الثاني يتوقّف على قطع طريق كثير.

و يمكن دفعه بأنّ الأمارة هي تواري المسافر عن البيوت لا تواريها عن المسافر كما في الحديث(1)، و لمّا كان تواري المسافر عن البيوت غير معلوم للمسافر جعل تواري البيوت عن المسافر طريقاً إلى الطريق ) تواري المسافر عن البيوت (و الأمارتان الواقعيتان) خفاء الجدران، و تواري المسافر عن أهل البيوت ( متقاربتان جداً.

الخامس: رفع اليد عن مفهوم إحدى القضيتين

و حاصل هذا الوجه: انّه يرفع اليد عن خصوص إحدى القضيتين و يؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى، و هذا هو المنقول عن ابن إدريس الحلي فزعم انّه يُلغى مفهوم قوله:» إذا خفي الأذان فقصّر «و يؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى، فعندئذ يرتفع التعارض.

يلاحظ عليه: مع أنّه ترجيح بلا مرجح، انّ التعارض باق على حاله أيضاً و لم يقلع من الأساس، و ذلك لأنّ القول بعدم اشتمال القضية الأُولى على المفهوم و إن كان يعالج التعارض في جانب مفهوم تلك القضية، و لكنّه باق على حاله في الجانب الآخر، فإذا كان مفهوم قوله:» إذا خفيت الجدران فقصّر «هو انّه إذا لم

ص:384


1- الوسائل: ج 5، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

تخف الجدران فلا تقصر، و عندئذ يقع التعارض بين هذا المفهوم و منطوق القضية الأُولى، فعلى المفهوم لا يجوز القصر، و على منطوق القضية الأُولى يجب القصر و بذلك ظهر انّ الطريق منحصر في الأوّلين، أي إمّا تقييد مفهوم كل بمنطوق الآخر، أو تقييد منطوق كلّ بالآخر، فمقتضى الصناعة هو الأوّل كما عرفت، غير أنّ الفتاوى على الثاني.

ص:385

التنبيه الثالث تداخل الأسباب و المسببات
اشارة

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: قد جعل المحقّق الخراساني عنوان البحث في التنبيهين: الثاني و الثالث أمراً واحداً، و هو قوله:» إذا تعدّد الشرط و اتحد الجزاء «و جعل وجه التمايز بينهما الغرض و الجهة المبحوثة عنها، فكأنّ الغاية من عقد التنبيه الثاني معالجة التعارض الواقع بين مفهوم كلّ قضية مع منطوق القضية الأُخرى، و لكن الغرض من عقد التنبيه الثالث البحث عن تداخل الأسباب في مقام التأثير و عدمه، و على فرض عدم التداخل، البحث عن تداخل المسببات في مقام الامتثال و عدمه، و على ذلك فالبحث في التنبيه الثاني لفظي و في الثالث عقلي حيث يقع البحث تارة في أنّ كلّ سبب هل يقتضي مسبباً مستقلاً أو لا؟ فإذا قال: إذا بلت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ، فهل يقتضي كلّ من البول و النوم مسبباً مستقلاً، أي إيجاباً متعدّداً أو لا؟ و على فرض اقتضائه وجوباً متعدداً، يقع الكلام في كفاية الوضوء الواحد لامتثال الوجوبين أو لا، فيعبر عن الأوّل) اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً و عدمه (بعدم التداخل في الأسباب و تداخله كما يعبر عن الثاني) كفاية وضوء واحد عن امتثال وجوبين أو لا (بالتداخل في المسببات و عدمه.

و الأولى تغيير العنوان، و لذلك جعلنا العنوان عند تعدّد الشرط تداخل

ص:386

الأسباب و المسببات لأنّ المسألتين متمايزتان جوهراً و ذاتاً، و مع هذا لا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض و المقاصد.

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا المراد من تداخل الأسباب و المسببات فمرجع التداخل في الأسباب و عدمه إلى اقتضاء السببين وجوباً واحداً أو اقتضائهما وجوبين مختلفين، فالأوّل هو التداخل في الأسباب و الثاني هو عدم التداخل فيها.

و مرجع التداخل في المسببات و عدمه بعد القول بعدم تداخل الأسباب و انّ كلّ سبب يقتضي إيجاباً مستقلاً إلى لزوم تعدّد الامتثال و عدمه و يعبر عن الأوّل بعدم تداخل المسببات و عن الثاني بتداخلها.

و إن شئت قلت: إنّ مرجع التداخل السببي و عدمه إلى دعوى عدم اشتغال الذمة إلاّ بوجوب واحد أو بوجوبين، كما أنّ مرجع التداخل المسببي و عدمه بعد القول بعدم التداخل في الأسباب إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكاليف و الاشتغالات و عدمه، فالتداخل في المسببات لا يعني تداخل الوجوبين، بل المراد تداخلهما في مقام الامتثال، و بذلك اتّضح انّ البحث في مورد الأسباب تداخلاً و عدمه يرجع إلى مقام الدلالة و ظهور القضية في تعدد الوجوب و عدمه، كما أنّ البحث في مورد المسببات تداخلاً و عدمه يرجع إلى مقام الامتثال و انّه هل يكفي الإتيان بفرد واحد في امتثال الوجوبين أو لا؟ الثالث: انّ النزاع في التداخل و عدمه فيما إذا كان الجزاء أمراً قابلاً للتكرار كالوضوء و الغسل، و أمّا لو كان غير قابل له كالقتل فيما إذا ارتد وزنى بالإحصان، فهو خارج عن محطّ البحث.

الرابع: انّ الشرط للجزاء وجوب الوضوء تارة يختلف نوعاً كالنوم و البول بالنسبة إلى وجوب الوضوء، و مسّ الميت و الجنابة بالنسبة إلى الاغتسال، و أُخرى

ص:387

يتحد نوعاً و يتعدد مصداقاً، كما إذا بال مرتين أو نام أو وطأ الحائض كذلك فيقع الكلام تارة في مقام الدلالة، و أُخرى في مقام الامتثال، فلو كان الكلام في الأُولى فيقال: هل ظاهر القضية الشرطية انّ كلّ شرط يطلب جزاء وجوباً خاصاً أو لا؟ و لو كان الكلام في مقام الامتثال فيقال على القول بعدم التداخل في الأسباب: هل يكفي الإتيان بمصداق واحد، في امتثال الوجوبين أو لا؟ الخامس: انّ النزاع كما يجري في القضايا الشرطية، يجري في القضايا الخبرية، كما إذا قال:

الحائض تغتسل، و الجنب يغتسل، نعم يمكن إرجاع القضايا الخبرية إلى الشرطية بأن يقال: إذا حاضت تغتسل كما يمكن العكس.

السادس: انّ الأقوال في المسألة ثلاثة:

1. عدم التداخل مطلقاً، و هو المشهور و إليه ذهب الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني، إلاّ ما خرج بالدليل.

2. التداخل مطلقاً، و هو خيرة المحقّق الخونساري و السيد البروجردي.

3. التفصيل بين اختلاف الشرطين ماهية أو اتحادهما كذلك و تعدّدهما مصداقاً، فالأوّل كما مرّ كالنوم و البول، و الجنابة و مس الميت و الزيادة و النقيصة في الصلاة فانّ زيادة الركوع، غير زيادة السجود، و كذلك نقيصتهما; و أمّا الثاني فمعلوم.

فذهب ابن إدريس إلى عدم التداخل في الأوّل، و التداخل في الثاني، و لذلك أفتى بعدم تكرر الكفّارة، لو تكرر وطء الحائض.

السابع: انّ المحقّق الخراساني قد خلط بين البحثين: التداخل و عدمه في الأسباب، و التداخل و عدمه في المسبّبات و لم يفصّل بينهما بالعنوان، و قد أوجب

ص:388

ذلك إغلاقا في فهم عبارات الكتاب.

إذا عرفت ذلك، فلندخل في صلب الموضوع. اعلم أنّ التنبيه الثالث يقع في موضعين:

الموضع الأوّل حكم الأسباب من حيث التداخل و عدمه

قد عرفت أنّ المقصود من تداخل الأسباب و عدمه، هو اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً، و عدمه.

و بعبارة أُخرى: تأثير كلّ شرط في حدوث وجوب خاص، غير تأثير الشرط الآخر فيه، و لا ملازمة بين عدم التداخل في الأسباب) و حدوث وجوبين مستقلين (، و بين عدم التداخل في المسببات، أي عدم كفاية مصداق واحد في امتثال الوجوبين، بل ربّما يمكن القول بعدم التداخل في الأسباب، و مع ذلك يكتفى في امتثال السببين، بالإتيان بمصداق واحد، فلو مسّ الميت أو أجنب، يكفي الاغتسال الواحد لامتثال وجوبين. نعم القول بعدم التداخل في المسببات فرع القول بعدم التداخل في الأسباب، أي فرع القول بتعدّد الوجوب.

إذا عرفت ذلك فلنذكر دليل القائل بعدم التداخل:

إطلاق الشرط يقتضي عدم التداخل

استدلّ القائل بعدم التداخل في الأسباب،) اقتضاء كلّ شرط وجوباً مستقلاً (بظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء) الوجوب (عند حدوث الشرط، سواء أقلنا إنّه هو السبب أو كاشف عن السبب الواقعي و لازم ذلك تعدّد

ص:389

الوجوبين.

و بعبارة أُخرى: انّ ظاهر كلّ قضية شرطية أنّه علّة تامة لحدوث الجزاء، سواء أوجد الشرط الآخر أم لا، و على فرض الوجود، سواء وجد معه أو قبله، أو بعده.

هذا هو دليل القائل بعدم التداخل فيها.

دليل القائل بالتداخل إطلاق الجزاء

فإذا كان ظهور كلّ من الشرطين في كلّ من القضيتين في الحدوث عند الحدوث دليل القائل بعدم التداخل، فإطلاق متعلّق الوجوب و هو» الوضوء «أو» الاغتسال «دليل القائل بالتداخل، لأنّ ظاهر إطلاق الجزاء، انّ الوضوء مثلاً هو الموضوع التام، و من المعلوم أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن تقع متعلّقاً، لوجوبين، لاستلزامه اجتماع المثلين، و هو محال كاجتماع الضدين.

فتلخّص انّ إطلاق الشرط و تأثيره في الحدوث عند الحدوث مطلقاً، دليل القائل بعدم التداخل، كما أنّ إطلاق الجزاء و انّ الموضوع لكلا الوجوبين، هو الوضوء لا غير دليل القائل بالتداخل و لا يمكن الأخذ بكلا الظهورين و لا بد من التصرف في أحدهما.

تخلّص القائل بالتداخل عن الإشكال

ثمّ إنّ القائل بالتداخل يتصرف في ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث، بأحد الوجهين:

1. منع دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث، بل على الثبوت

ص:390

عند الحدوث، أي ثبوت الوجوب، أعمّ من كونه نفس الوجوب السابق أو الوجوب الجديد.

و هذا تصرف في ناحية الشرط، و منع دلالته على الحدوث عند الحدوث.

2. أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط إلاّ أنّ الأثر وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأوّل، و تأكّده عند الآخر.

و هذا تصرف في ناحية الجزاء و انّ الهيئة الجزائية لا تدلّ على الوجوب التأسيسي، بل إذا سبقه شرط آخر، يدل على الوجوب التأكيدي.(1)

هذان الوجهان ممّا اعتمد عليه القائل بالتداخل و تخلّص عن التعارض اللازم من الأخذ بالإطلاقين، و إليك ما تخلّص به القائل بعدم التداخل في الأسباب.

تخلّص القائل بعدم التداخل عن الإشكال

و قد تخلّص القائل بعدم التداخل بوجهين آخرين:

1. الالتزام بأنّ متعلّق الجزاء و إن كان واحداً صورة، إلاّ أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشرط، كصلاة الفجر و نافلته فهما واحدتان صورة و مختلفتان حقيقة. و على ضوء ذلك نقول الوضوء لأجل النوم غير الوضوء لأجل البول.(2) و هذا تصرّف في الجزاء.

ص:391


1- هذا الوجه هو الذي ذكره المحقّق الخراساني بعنوان ثالث الوجوه، و كان الأولى أن يذكره بعد الأول كما فعلناه و أمّا ما ذكره بصورة الوجه الثاني، فهو دليل القائل بعدم التداخل، لا التداخل فقد أدخل في ضمن بيان دليل القائل بالتداخل، دليل القائل بعدمه.
2- و ما في الكفاية في ذيل هذا الاحتمال من إمكان الاجتزاء بمصداق واحد ممّا لا حاجة إليه في المقام و إنّما يناسب مسألة تداخل المسببات مع أنّ الكلام في تداخل الأسباب.

2. ما أشار إليه في ضمن النقض و الإبرام و قال:» قلت نعم إذا لم يكن المراد بالجملة فيما إذا تعدد الشرط كما في المثال هو وجوب الوضوء مثلاً لكلّ شرط غير ما وجب بالآخر «.

و حاصله: انّه يقيّد إطلاق الجزاء بقوله:» مرة أُخرى «و كأنّه يقول:» إذا نِمت فتوضّأ «و إذا بُلت فتوضّأ مرّة أُخرى، و يكون الموضوع للوجوب الأوّل هو الطبيعة و للوجوب الثاني، هو الفرد الثاني، و يرتفع محذور اجتماع المثلين، و هذا أيضاً تصرّف في الجزاء.

فظهر من ذلك، انّ كلاً من القائل بالتداخل و عدمه قد لمس الإشكال و صار بصدد دفعه، إمّا بالتصرف في جانب الشرط كما في الوجه الأوّل، أو في جانب الجزاء هيئة أو مادة كما في الوجوه الثلاثة المتأخّرة، إنّما الكلام في ترجيح أحد التأويلين بكلا شقيه على التأويل الآخر كذلك، فنقول:

ترجيح ظهور القضية الشرطية على إطلاق الجزاء
وجوه لترجيح ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث، الذي هو الأساس لعدم التداخل في الأسباب

ثمّ إنّ القائلين بعدم التداخل في الأسباب، ذكروا لترجيح ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث، الذي هو الأساس لعدم التداخل وجوهاً نذكرها تباعاً.

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني تبعاً للشيخ الأعظم

و قال:» لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء، و ظهور الإطلاق، ضرورة انّ ظهور الإطلاق، يكون معلّقاً على عدم البيان، و ظهورها) القضية الشرطية (صالح لأن يكون بياناً فلا ظهور للجزاء مع ظهورها فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل.(1)

ص:392


1- كفاية الأُصول: 1/318.

توضيحه: انّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث بالدلالة اللفظية الوضعية و دلالتها عليه، لا يتوقف على شيء آخر غير نفسها، بخلاف دلالة الجزاء) فتوضأ (على وحدة متعلّق الوجوبين فانّه بالإطلاق و سكوت المتكلّم عن القيد مع كونه في مقام البيان، فدلالته على وحدة الجزاء متعلّق على عدم البيان الدالّ على القيد، و ظهور القضية الشرطية، في الحدوث عند الحدوث كاف، لأن يكون بياناً و انّ متعلّق الوجوب في كلّ من القضيتين شيء غير الآخر، و انّ المحكوم في كلّ فرد غير الآخر، فعندئذ لا ينعقد الإطلاق في جانب الجزاء لوجود البيان فلا يُعدّ تقديم ظهور الشرط على الجزاء تصرّفاً فيه، لعدم انعقاد الإطلاق.

يلاحظ عليه: أنّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث و إن كانت لفظية لكن دلالتها على أنّ الشرط في عامة الأحوال كذلك، سواء سبقه الشرط الآخر أم قارنه أو تأخّر عنه، إنّما هو بالإطلاق و سكوت المتكلّم مع كونه في مقام البيان، فالمقام من قبيل تعارض الإطلاقين، لا من قبيل تعارض الدلالة اللفظية مع الدلالة الإطلاقية، فكما أنّ إطلاق الشرط يصلح لأن يكون قرينة على تقييد متعلّق الجزاء، أي الوجوب، و انّ المحكوم بالوجوب في الشرط الثاني غير الأوّل، كذلك إطلاق الجزاء يصلح لأن يكون قرينة على أنّ الحدوث عند الحدوث فيما إذا تفرّد الشرط، لا ما إذا سبقه الآخر أو قارنه، فعندئذ يكون الوجوب مؤكّداً لا مؤسّساً لحكم جديد.

و بعبارة أُخرى: انّ دلالة القضية الشرطيّة على أنّ كلّ سبب تامّ للجزاء و تعلّق الوجوب، و إن كان بالوضع، لكن كونه كذلك في عامة الحالات سواء كان قبله أو معه شيء أو لا، إنّما هو بالإطلاق ببيان انّه لو كان المؤثر هو الشرط، بشرط أن لا يسبقه شيء أو يقارنه شيء، لكان عليه البيان و رفع الجهل، و حيث لم يبين

ص:393

يؤخذ بالإطلاق و يقال: الشرط مؤثر في عامة الأحوال.

و هذا النوع من الإطلاق موجود في جانب الجزاء ببيان انّ الموضوع هو الطبيعة، فلو كان الموضوع الطبيعة الموجودة في ضمن فرد آخر، لكان عليه البيان و حيث لم يبين نستكشف انّ الموضوع هو الطبيعة، و يستحيل تعلّق إرادتين مستقلتين بها.

فكما أنّ إطلاق القضية الشرطية صالح للتصرّف في جانب الجزاء بإضافة قيد عليه مثل» فرد آخر « عليه، فهكذا إطلاق الجزاء صالح للتصرّف في جانب القضية الشرطية بأحد الوجهين الماضيين: الثبوت عند الحدوث، أو الوجوب المؤكّد.

الثاني ما أفاده المحقّق الاصفهاني:

انّ نسبة الصدر إلى الذيل نسبة ذات الاقتضاء إلى فاقد الاقتضاء حيث إنّ متعلّق الجزاء نفس الماهية المهملة، و الوحدة و التعدّد، خارجان عنها، بخلاف أداة الشرط فانّها ظاهرة في السببية المطلقة و لا تعارض بين المقتضي و الاقتضاء.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من خروج الوحدة و التعدّد من مدلول الجزاء و إن كان صحيحاً لكن دلالة القضية الشرطية على السببية المطلقة ليس إلاّ كونه سبباً لحدوث الجزاء عند حدوث الشرط و هذا المقدار من الدلالة لا يكفي، لأنّ كونه سبباً مطلقاً في جميع الأحوال ليس مدلول الدلالة اللفظية، بل مدلول الدلالة الإطلاقية حيث إنّ المتكلّم لم يخص السببية بحال دون حال و عند ذاك تصبح السببية في عامة الأحوال مدلول الإطلاق، فكيف يقدّم على إطلاق الجزاء؟

الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني

و حاصله:

ص:394


1- نهاية الدراية: 326.

» إنّ ظهور القضية الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين، و ذلك لأنّه لا شبهة في أنّ القضية الشرطية، كالقضية الحقيقية، فكما أنّ قوله:» المستطيع يحجّ «عامّ لمن استطاع في كلّ وقت، فكذلك قوله:» إذا استطعت فحجّ «عام لمن استطاع في وقت و لازم الانحلال ان يترتّب على كلّ شرط جزاء غير ما رتب على الآخر، فيكون هذا قرينة للجزاء و يصير بمنزلة أن يقال: إذا بُلت فتوضأ و إذا نِمْت ثانياً فتوضأ وضوءاً آخر.(1)

و قد وصفه تلميذه في محاضراته بأنّه في غاية الصحة و الجودة و انّه يتمّ ببيان أمرين:

أوّلهما: انّ القضية الشرطية ظاهرة في الانحلال و تعدد الطلب، لأنّها ترجع إلى القضية الحقيقية، و لا إشكال انّ الحكم في القضية الحقيقية ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة.

ثانيهما: انّ مقتضى تعدّد القضية الشرطية في نفسها، تعدّد الطلب أيضاً، فإذا فرض تعلّق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كلّ، إيجادَ تلك الماهية، فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها مرّتين فإذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلالية و تعدّد الطلب، كان ظهور القضية في تعدّد الحكم لكونه لفظياً مقدماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب لو سلمنا ظهوره فيها، و يكون مقتضى القاعدة عدم التداخل.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه لو أُريد من الانحلال، انحلالُ قضيّة واحدة إلى قضايا كثيرة حسب عدد الموضوعات، على نحو، لو افترضنا انّ عبر القرون ملايين من

ص:395


1- فوائد الأُصول: 1/494.
2- المحاضرات: 5/118.

المسلمين لهم القدرة و الاستطاعة لحجِّ البيت لتعلّق بكلّ إرادة و إنشاء و حكم مستقل، و بالتحليل، فلو أُريد من الانحلال هذا، فنحن نمنعه لشهادة الوجدان على أنّ المولى إذا أنشأ إلزاميّاً على عبيده، أو على من تحت يده فليس هنا إلاّ إرادة واحدة متعلّقة بالعنوان الكلي يتلقّاه كلّ منهم حجّة على نفسه دون أن يكون هنا انشاءات و إرادات.

و إن أُريد من الانحلال كون الحكم المتعلّق بالعنوان حجّة على كلّ منهم، أو حجّة على ثبوت الحكم، للموضوع كالقوم مهما وجد، فهو صحيح، لكن دلالته على ثبوت الحكم له، في عامة الأحوال، متقدماً، أو متأخراً أو لاحقاً إنّما هو بالإطلاق و سكوت المولى عن القيد، فعندئذ يكون ذلك الإطلاق نظير الإطلاق الموجود في الذيل.

الرابع: ما اعتمد عليه السيد الأُستاذ

إنّ العلل الشرعية في نظر العرف كالعلل التكوينية، فكما أنّ كلّ علّة تكوينية تُؤثّر في معلول مستقل، دون المعلول المشترك بينها و بين غيرها، فهكذا العلل الشرعية يؤثر كلّ منها في معلول خاص.

مثلاً انّ كلاً من النار و الشمس، تُولّد حرارة خاصة، لا حرارة مشتركة، سواء أ كانت النار متقدّمة على الشمس، أو متأخّرة و هذا هو المرتكز في أذهان العرف، فإذا سمع العرف الذي ارتكز في ذهنه ما لمسه و شاهده في العلل التكوينية، قوله: إذا بُلْت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ، ينتقل حسب الارتكاز السابق انّ لكلّ من البول و النوم معلولاً مستقلاً، و انّ وجوب الوضوء الناشئ من البول، غير الوجوب الناشئ من النوم، و ظهور الصدر في هذا المعنى ليس

ص:396

مستنداً إلى الإطلاق، بل إلى الارتكاز الحاصل من ممارسة الأُمور التكوينية، و يكون ظهوره أقوى من ظهور الجزاء في الإطلاق، بل يصير مثل ذاك سبباً للتصرف في ذيل الجزاء على نحو يلتحم مع تعدّد الوجوب.

نعم قد مرّ منّا انّ قياس التشريع بالتكوين، أو الاعتبار بالحقيقة ممنوع و انّ هذا سبب لأكثر المغالطات، و لكن ما ذكرناه لا ينافي ذلك، لأنّ كلامنا في المقام في فهم العرف، الذي لا يدرك هذه الأُمور الدقيقة، فارتكازه في الأُمور التكوينية و تلقّيه العلل الشرعية أسباباً و عللاً للأحكام كالتكوين، يصير سبباً لانعقاد ظهور أقوى في جانب القضية الشرطية على نحو يقدم على ظهور الجزاء في الوحدة.(1)

و لعلّه إلى ما ذكرنا يرجع قول المحقّق الأصفهاني في بيان وجه عدم التداخل» انّ العرف إذا أُلقي إليه القضيتان، فكأنّه يرى مقام الإثبات مقروناً بمقام الثبوت ويحكم بمقتضى تعدّد السبب بتعدّد الجزاء من غير التفات إلى أنّ مقتضى إطلاق المتعلّق خلافه، و هذا المقدار من الظهور كاف في المقام «.(2)

ترجيح إطلاق الجزاء على الشرط

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى ترجيح ظهور الجزاء في الوحدة على ظهور الشرط في تعدّد الوجوب قائلاً: إذا قال المولى: إذا بلت فتوضأ، و قال: إذا نمت فتوضأ، فإمّا أن يكون متعلّق الوجوب نفس الحيثية المطلقة، أعني: طبيعة الوضوء، أو شيء وراء ذلك. فعلى الأوّل لا يصحّ تعلّق وجوبين على أمر واحد،

ص:397


1- تهذيب الأُصول: 1/444.
2- نهاية الدراية: 326.

و على الثاني فلا بدّ أن يقال: إذا نمت فتوضّأ و إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر، و هذا لا يصحّ من وجهين:

1. ربما يكون البول متقدّماً، فعندئذ لا يصحّ أن يقال: إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.

2. انّ هذا النوع من التقييد إنّما يصحّ إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى الآخر، لا فيما إذا لم يكن كذلك كما في المقام.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ القيد لا ينحصر بلفظة» آخر «بل يمكن أن يُقيّد الطبيعة بقيد آخر، كأن يقال:

إذا بلت فتوضّأ لأجل البول، و إذا نمت فتوضّأ وضوءاً لأجل النوم.

يلاحظ على الثاني: بانّ المتفرقات في كلام إمام واحد بل الأئمة كحكم كلام واحد.

فتلخّص من هذا البحث الضافي، تقدّم ظهور القضية الشرطية الدالة على تعدّد الوجوب على ظهور الجزاء في وحدة المتعلّق، و تكون النتيجة هو عدم تداخل الأسباب و انّ لكلّ سبب تأثيراً.

بقيت هنا أُمور:
الأوّل: التفصيل بين كون الأسباب معرفات أو مؤثّرات

قد بنى فخر المحقّقين المسألة على أنّ الأسباب الشرعية هل هي معرفات و كواشف، أو مؤثرات؟ و على الأوّل الأصل التداخل بخلافه على الثاني، و حكاه الشيخ الأنصاريّ عن المحقّق النراقي في عوائده.(2)

ص:398


1- نهاية الأُصول: 278 279; لمحات الأُصول: 293.
2- مطارح الأنظار: 180.

قال العلاّمة في القواعد: لا تداخل في السهو و إن اتّفق السبب، على رأي.

و قال فخر المحقّقين في شرحه: ذهب الشيخ في» المبسوط «إلى التداخل مطلقاً... و ذهب ابن إدريس إلى التداخل في المتّفق لا المختلف، و التحقيق انّ هذا الخلاف يرجع إلى أنّ الأسباب الشرعية، هل هي مؤثرات أو علامات.(1)

و قال أيضاً في باب غسل الجنابة و الأسباب الشرعية علامات فلا يستحيل تعدّدها.(2)

إنّ الفرق بين تداخل الأسباب و تداخل المسببات غير منقّح في كلمات القدماء، بل عند بعض المتأخّرين كالمحقّق الخراساني فقد خلط بينهما في الكفاية. و أوّل من نقّحه ببيان رائق هو الشيخ الأنصاري(3) و الظاهر انّ كلام الفخر ناظر إلى التداخل في الأسباب و هذا هو الذي استظهره الشيخ أيضاً حيث قال:» و لا ينافي ذلك استدلالهم بأنّ العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع اجتماعها في شيء واحد «الظاهر في دعوى تداخل الأسباب.(4)

و حاصل كلام فخر المحقّقين انّه لو كان كلّ من البول و النوم موضوعاً للحكم، و علّة و سبباً له فيطلب كلّ، حكماً و معلولاً وجوباً غير ما يطلبه الآخر، لامتناع توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد.

و أمّا لو كان كلّ منها معرفاً لما هو الموضوع واقعاً، فلا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد، و ذلك كمبطلات الوضوء فانّ الظاهر انّ الجميع حتى الريح كاشفة عن ظلمة نفسية يُذهبها الوضوء.

ص:399


1- إيضاح الفوائد: 1/245.
2- إيضاح الفوائد: 1/48.
3- لاحظ المطارح: 180، في أوائل الهداية.
4- مطارح الأنظار: 180.

يلاحظ عليه أوّلاً: بعدم الملازمة بين كون الأسباب الشرعية معرّفات و بين كونها معرّفات لشيء واحد، إذ من المحتمل أن يكون كلّ كاشفاً عن سبب مستقل، فيكون حكم المعرِّف، حكم كونه موضوعاً و سبباً.

و ثانياً: أنّ تعدد الأسباب الشرعية كما أفاده المحقّق الخراساني، ليس إلاّ كالأسباب العرفية في كونها معرفات تارة، و مؤثرات أُخرى.

أمّا السبب الشرعي فتارة يكون علّة للحكم الشرعي و دخيلاً في ترتّب الحكم الشرعي، كما في قوله:

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً )(1)، و قوله: إذا شككت فابن على الأكثر; و أُخرى كاشفاً عن السبب، كعبور الحمرة إلى جانب المغرب، الكاشف عن استتار القرص كاملاً.

و مثلها، الأسباب العرفية فهي أيضاً على قسمين فتارة تكون علّة كما في قولك: إذا طلعت الشمس كان النهار موجوداً و أُخرى يكون أمارة على حدوث الموضوع و كاشفاً كما إذا قلنا: إذا كان النهار موجوداً كانت الشمس طالعة.

فليست الأسباب الشرعية، معرفات مطلقاً، و لا الأسباب العرفية عللاً مطلقاً بل ينقسمان إلى قسمين.(2)

الثاني: التفصيل بين وحدة الأسباب جنساً و عدمها

و هناك تفصيل آخر لابن إدريس و هو التفصيل بين ما كان السبب من جنس واحد كتكرر وطء الحائض، أو من أجناس متعددة كزيادة العمل و الذكر في الصلاة، فاختار في الأوّل التداخل دون الثاني.

ص:400


1- الإسراء: 78.
2- لاحظ الكفاية: 3191/318.

و قد ذكر ذلك التفصيل في ضمن مسألة» و من سها فلم يدر أربعاً صلّى أم خمساً و تساوت ظنونه في ذلك فعليه سجدتا السهو «و قال ما هذا لفظه:

فإن سها المصلّي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّات كثيرة، في صلاة واحدة، أ يجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو، أو سجدتا السهو عن الجميع؟ قلنا: إن كانت المرّات من جنس واحد، فمرّة واحدة تجب سجدتا السهو، مثلاً تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى، و كذلك في باقي الركعات، فانّه لا يجب عليه تكرار السجدات، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب; لأنّه لا دليل عليه، و قولهم) عليهم السلام (: من تكلّم في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو(1)، و ما قالوا دفعة واحدة أو دفعات.

فأمّا إذا اختلف الجنس، فالأولى عندي بل الواجب، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو; لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ; لأنّ هذا قد تكلّم مثلاً، و قام في حال قعود، و أخلّ بإحدى السجدتين، و شكّ بين الأربع و الخمس، و أخلّ بالتشهد الأوّل، و لم يذكره إلاّ بعد الركوع في الثالثة، و قالوا) عليهم السلام (: من فعل كذا، يجب عليه سجدتا السهو، و من فعل كذا في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو، و هذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر، و لا دليل على تداخلهما، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من محقّق.(2)

و حاصل كلامه: أنّه إذا كانت الأسباب الشرعية من نوع واحد يمكن التمسّك بإطلاق الجزاء و هو وجوب سجدتا السهو من دون تقييد بالمرّات، و أمّا

ص:401


1- الوسائل ج 5، الباب 4 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- السرائر: 1/258، باب أحكام السهو و الشكّ في الصلاة.

إذا كانت الأسباب الشرعية من جنسين فليس هناك ما يمكن التمسّك بإطلاقه، بل يجب امتثال كلّ على حدة، لأنّ الفرضين لا يتداخلان.

بل لقائل أن يقول انّ مقتضى الإطلاق في القسم الثاني هو عدم التداخل، لأنّ مقتضى إطلاق قوله: إن تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو، هو وجوبها، سواء وجبتا لأجل فعل أو لا، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله:» إن قمت مكان القعود فاسجد سجدتي السهو «، هو وجوبها مطلقاً، سواء وجبتا لأجل التكلّم أو لا، فصارت النتيجة هي اجتماع وجوبين.

و من هنا يعلم أنّ ما أورد عليه في» الكفاية «تبعاً لما في» مطارح الأنظار «لا صلة له بكلامه و قد نشأ من عدم الرجوع إلى نفس الكتاب، فالأولى أن يقال: كما سيوافيك في الموضع الثاني أنّ الضابطة فيما إذا كانت النسبة هو العموم و الخصوص من وجه هو التداخل إلاّ إذا قامت القرينة على عدمه، و من هذا الباب باب الديات و الحدود و الغرامات و الخسارات و التأديبات، لأنّ إيجاب سجدة السهو يعد تأديباً للمصلّي فمن كثر عليه الخطأ يكثر تأديبه، فلأجل ذلك لا فرق بين كون الفعلين من جنس واحد أو غير جنس.(1)

ص:402


1- و قد أورد شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة على التفصيل الذي عليه الحلّي ما هذا حاصله: ما ذا يريد الفخر من الوحدة، فهل يريد الوحدة النوعية كتكرر الوطء فهو و إن كان صحيحاً لكن المؤثّر هو الأفراد و المفروض انّها متعددة، و إن أراد انّ الوحدة الحقيقية فهي غير صحيحة حسب المفروض. هذا ما أفاده في الدورة السابقة و لكنّه مدّ ظلّه أفاد في هذه الدورة الرابعة بأنّ ما ذكرناه سابقاً و إن كان صحيحاً، لكن ليس له و لا لما في المطارح و الكفاية من الإشكال على الفخر، صلة بكلامه فانّ كلامه يدور حول وجود الإطلاق في المتحد دون المختلف، و مقتضى الإطلاق في الأوّل هو الاقتصار على المرّة بخلاف الثاني فترديد كلامه بين الوحدة النوعية أو الشخصية، أجنبي عن مرامه، فلاحظ.
الثالث: إذا شكّ في مقتضى الأدلّة الاجتهادية

إذا شكّ في مقتضى الأدلّة و انّ مقتضاها تداخل الأسباب) وحدة الوجوب (أو تعدّده، فالأصل هو البراءة عن الوجوب الواحد الزائد.

نعم مقتضى الأصل في الموضع الثاني،) اجزاء الامتثال الواحد عن وجوبين (أوّلاً، هو الاشتغال للشك في سقوط الوجوب بالامتثال الواحد.

الرابع: فيما إذا تكرر الجزاء من دون ذكر السبب إنّ محط البحث فيما إذا ذكر سببان لجزاء واحد كالنوم و البول للتوضّؤ، و أمّا إذا تكرّر حكم واحد من دون ذكر السبب كما إذا قال: صم، ثمّ قال بعد فترة: صم، فهو خارج عن حريم النزاع، و عندئذ يكون البحث مركّزاً على أنّ الأصل هو في الأمرين المتكررين هو التأسيس أو التأكيد، و قد تقدّم في أواخر الأوامر(1) فلاحظ.

ص:403


1- لاحظ هذا الجزء، ص 159.
الموضع الثاني في تداخل المسببات و عدمه

قد عرفت أنّ البحث في التنبيه الثالث يقع في موضعين:

الأوّل: في تداخل الأسباب و عدمه.

الثاني: في تداخل المسبّبات و عدمه.

و قد عرفت أنّ النزاع الأوّل يرجع إلى اقتضاء كلا الشرطين وجوباً واحداً، أو اقتضاء كلّ، وجوباً خاصاً له، فلو قلنا بأنّ مدلول القضية الشرطية هو الأعم من حدوث الجزاء، أو ثبوته، عند ثبوت الشرط، فلازمه القول بالتداخل في الأسباب، و أمّا لو قلنا بالحدوث لدى الحدوث، فلازمه القول بعدم التداخل فيها، و قد مرّ انّ الثاني هو المتعيّن عند العرف.

و أمّا النزاع الثاني) تداخل المسببات و عدمه (فيرجع إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكليف و الاشتغال، و عدم صدقه.

و بعبارة أُخرى: هل يكفي الإتيان بفرد واحد مع تعدّد التكليف فلازمه تداخل المسببات، أو لا يكفي فلازمه عدم تداخلها؟ و من هنا يظهر انّ البحث في تداخل المسببات و عدمه، فرع القول بعدم تداخل الأسباب، و تعدد الوجوب و التكليف، و إلاّ فعلى القول بتداخل الأسباب،

ص:404

و انّه ليس في المقام إلاّ وجوب واحد فلا موضوع للبحث عن تداخل المسببات و عدمه، لوضوح انّ التكليف الواحد، لا يقتضي إلاّ امتثالاً واحداً، و يكون الإتيان بفرد من أفراد الطبيعة، مسقطاً قطعاً، فالبحث في الموضع الثاني مبنيّ على ظهور القضية الشرطية في استقلال تأثير كلّ شرط، و انّ أثر كلّ غير أثر الآخر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقام الثبوت، أي إمكان تداخل المسببات و عدم إمكانه، و أُخرى في مقام الإثبات، و ما هو مقتضى الأدلّة.

1. إمكان التداخل ثبوتاً و عدمه

ذهب الشيخ الأعظم إلى امتناع التداخل و قال: قد قرّرنا فيما تقدّم انّ متعلّق التكاليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل و لا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة، بل و لا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير إلاّ أن يكون ناسخاً لحكم السببية.(1)

يلاحظ عليه: بما سبق في المقام الأوّل و هو انّ إيجاد التكثّر في جانب الجزاء، لتصحيح تعلّق وجوبين بطبيعة واحدة، رهن التصرّف في جانب الجزاء بأحد وجهين:

الأوّل: تقييد متعلّق الوجوب في إحدى القضيتين الشرطيتين بلفظة» آخر «فيكون وزانُ القضيتين وزانَ قولنا: إذا نمت فتوضأ و إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.

الثاني: تعلّق كلّ من الجزاء) وجوب الوضوء (بشرطه بأن يقال: إذا بلت فتوضّأ وضوءاً مسبباً من النوم، أو البول.

فما ذكره الشيخ إنّما يتمّ على الوجه الأوّل و تكون النسبة بين الموضوعين، هو

ص:405


1- مطارح الأنظار: 181.

التباين مثل ما إذا قال: أكرم الإنسان الأبيض، و أكرم الإنسان الأسود، فعندئذ يمتنع تداخل المسببين، بل لا بد من إكرام انسانين بلونين مختلفين.

و أمّا إذا قلنا بأنّ المصحّح لتعلّق الوجوبين، هو تقييد كلّ وجوب بسببه، فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم من وجه.

و من هنا يعلم أنّ النزاع في تداخل المسببات و عدمه يختصّ بما إذا كان بين متعلّقي الوجوبين، من النسب الأربع، هو العموم و الخصوص من وجه أو المطلق دون التباين لعدم إمكان التداخل، عندئذ و لا التساوي، إذ لا موضوع للتداخل حينئذ.

و لقد أحسن المحقّق الخراساني في المقام حيث استدلّ على إمكان التداخل بما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه و قال:

» الذمة و إن اشتغلت بتكاليف متعدّدة، حسب تعدّد الشرط) عدم التداخل في الأسباب (إلاّ أنّ الاجتزاء بواحد، لكونه مجمعاً لها كما في أكرم هاشمياً، و أضف عالماً، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ضرورة انّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق انّه امتثلهما و لا محالة يسقط بامتثاله و موافقته، و إن كان له امتثال كل منهما على حدة، كما إذا قال: أكرم الهاشمي بغير الضيافة، و أضاف العالم غير الهاشمي.

2. ما هو مقتضى الأدلة إثباتاً؟

إذا ثبت إمكان التداخل ثبوتاً، يقع الكلام فيما هو مقتضى الأدلّة الاجتهادية إثباتاً، فقد استدل القائل بعدم التداخل و لزوم تعدّد الامتثال بوجهين:

ص:406

حجّة القائل بعدم التداخل

الأوّل: ما استدلّ به العلاّمة في» المختلف «و نقله السيد الصدر في شرح الوافية عن العلاّمة على ما حكاه الشيخ الأعظم في» المطارح «و قال:

إذا تعاقب السببان أو اقترنا فإمّا أن يقتضيان مسبّبين، أو مسبّباً واحداً، أو لا يقتضيان شيئاً، أو يقتضي أحدهما شيئاً دون الآخر، و الثلاثة الأخيرة باطلة، فتعيّن الأوّل و هو المطلوب، أمّا الملازمة فلانحصار الصور في المذكورات، و أمّا بطلان التوالي:

أمّا الأوّل) من الثلاثة الأخيرة (فلما عرفت سابقاً من أنّ النزاع المذكور مبني على خلافه، [لأنّ المختار في الموضع الأوّل هو عدم التداخل].

و أمّا الثاني: فلأنّ ذلك خلاف ما فرضناه من سببيّة كلّ واحد منهما على ما يقتضيه الدليل.

و أمّا الثالث: فلأنّ استناده إلى واحد معيّن من السببين يوجب الترجيح بلا مرجّح مع أنّه خلاف المفروض من دليل السببيّة، و إلى غير المعيّن يوجب الخلف المذكور.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره بطوله، إنّما يناسب المقام الأوّل، أي عدم تداخل الأسباب، و انّ كلّ سبب يقتضي وجوباً مستقلاً، و لا صلة له بالمقام أي تداخل المسببات و عدمه، أي لزوم تعدّد الامتثال و عدمه.

اللّهمّ إلاّ إذا ضُمّ إليه أمر آخر، و هو إن تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل الثاني، و لذلك قام الشيخ بتهذيب الدليل و قال: و اعلم أنّ محصل هذا الوجه ينحل إلى مقدمات ثلاث:

ص:407

الأُولى: دعوى تأثير السبب الثاني.

الثانية: أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة: أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

فالقائل بالتداخل لا بدّ له من منع إحدى المقدّمات المفروضة على سبيل منع الخلو.(1)

هذا و للقائل بالتداخل أن يمنع كلّية المقدّمة الثالثة و يفصِّل بين كون النسبة بين المتعلّقين هي التباين أو العموم و الخصوص من وجه أو المطلق، فعلى الأوّل تعدّد الأثر يقتضي تعدّد الفعل كما مثلنا، بخلاف الثاني فيكفي في امتثال الأثرين، امتثال واحد على ما عرفت.

الثاني: ما استدلّ به المحقّق النائيني و هو انّ الأصل عدم سقوط الواجبات المتعدّدة بفعل واحد، و لو كان ذلك بقصد امتثال الجميع في غير ما دلّ الدليل على سقوطها به، كما هو الحال في سقوط أغسال متعدّدة بغسل الجنابة، أو بغسل واحد نوى به سقوط الجميع و كما في ارتفاع أفراد الحدث الأصغر بوضوء واحد.

و بالجملة الأصل العملي يقتضي عدم سقوط الواجبات المتعدّدة ما لم يدلّ على سقوطها دليل بالخصوص.

نعم يستثنى من ذلك مورد واحد، و هو ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً و خصوصاً من وجه كما في قضية أكرم عالماً و أكرم هاشمياً، فإنّ إكرام العالم الهاشمي يكون مسقطاً لكلا الخطابين، و لا يعتبر في تحقّق الامتثال إلاّ الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر.(2)

ص:408


1- مطارح الأنظار: 181، و لم نعثر على أصل الدليل في» المختلف «و لكن لاحظ: 1921/191 الطبعة الحجريّة.
2- أجود التقريرات: 1/432.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ البحث في المقام من التداخل و عدمه حول مقتضى الأدلّة الاجتهادية و ليس الكلام في مقتضى الأُصول العملية، فالاستدلال بالأصل مع إمكان الاستدلال بالدليل الاجتهادي، غير تام.

و ثانياً: أنّه لم يعلم الفرق بين المقام و مسألة العموم و الخصوص من وجه الذي استثناه من الضابطة، إذ لو كان المعتبر عند العقل في تحقّق الامتثال، الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر خارجاً، فيجب القول بالتداخل في المقام، لأنّه ينطبق على الوضوء الواحد عنوان التوضّؤ المأخوذ في كلا الجزاءين، إذ المفروض أنّ الجزاء عبارة عن قوله:» يجب عليك الوضوء الناشئ من جانب البول أو النوم «. فالتداخل عندئذ يكون مقتضى القاعدة من دون حاجة إلى دليل خارجيّ كما هو ظاهر كلامه.

حجّة القائل بالتداخل

احتجّ القائل بالتداخل بأنّه إذا كان ما به الامتثال مصداقاً لكلا العنوانين، كالإكرام و الضيافة، يتلقّاه العرف امتثالاً بكلا الأمرين، نظير ما إذا أمر الطبيب رجلاً سميناً بأكل الفاكهة مكان الطعام حتّى يخفّ وزنه ثمّ أمره بأكل فاكهة خاصة لتداوي مرض خاص فيه، فإذا أكل تلك الفاكهة بدل الطعام أيضاً، فقد امتثل كلا الأمرين الإرشاديين، و نظيره الأمران المولويان.

هذه هي الضابطة في المقام إلاّ إذا قامت قرينة على تعدّد الامتثال، كما في الأمثلة التالية:

1. إذا ورد النص على نزح سبع دلاء عند وقوع كلّ من الفأرة في البئر، و بول الصبي الذي لم يبلغ فوقع كلّ بعد الآخر، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة

ص:409

واحدة، بل يلزم نزح سبع دلاء أُخرى أيضاً، و ذلك لأنّ لوقوع كلّ منهما بعد الآخر تأثيراً خاصّاً في قذارة الماء، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة واحدة، بل يجب التكرار.

2. إذا ظاهر و أفطر في شهر رمضان، فلا يكفي تحرير رقبة واحدة في مقام التكفير، و ذلك لأنّ الغاية من إيجاب التكفير هو تأديب العاصي، و هو لا يحصل إلاّ بالتعدّد، و منه يعلم حكم سائر الكفّارات.

3. إذا أتلف ثوبين من صنف واحد، فلا يجوز الاقتصار على دفع ثوب واحد، لأنّ الغاية من الضمان هو جبر الخسارة الواردة على الطرف، و هو رهن دفع ثوبين، و منه يعلم حكم الغرامات و الخسارات و الديات عامة.

4. إذا نذر ذبح شاة لقضاء حاجة خاصة، ثمّ نذر شاة أيضاً لقضاء حاجة ثانية فقُضيت له الحاجتان، فلا يكفي ذبح شاة واحدة، لأنّ لقضاء كلّ من النذرين شكراً خاصّاً.

و بذلك يظهر حال الحدود و التعزيرات، فالأصل فيهما التعدد و إن كانت متماثلة.

بقي هنا أُمور:

بعض الفروع المترتّبة على مسألة التداخل و عدمه

نذكر في المقام بعض الفروع المترتبة على هذه المسألة و هي كالتالي:

1. إذا وجبت عليه الزكاة فهل يجوز دفعها إلى واجب النفقة إذا كان فقيراً من جهة الإنفاق؟ قال في » الجواهر «: لا يجوز لكونه ليس إيتاءً للزكاة، لأصالة عدم تداخل الأسباب.(1)

ص:410


1- الجواهر: 15/401.

2. إذا اجتمع للمستحق سببان أو ما زاد، يستحقّ بها الزكاة، كالفقر، و» الكتابة «و» الغزو «جاز أن يعطى بحسب كل سبب نصيباً، لاندراجه حينئذ في الصنفين مثلاً فيستحقّ بكلّ منها.(1)

3. إذا اجتمع سببان للخيار كالمجلس و العيب و خيار الحيوان، فلا يتداخل السببان و فائدته بقاء أحدهما مع سقوط الآخر.

4. لو تكرر منه وطء الحائض في وقت واحد كالثلث الأوّل، أو في وقتين، كما إذا كان الثاني في الثلث الثاني يقع الكلام في تكرر الكفّارة و عدمه.(2)

5. إذا وقعت نجاسات مختلفة في البئر لكلّ تقدير خاص، فهل يجب نزح كلّ ما قدر أو لا؟ مبنيّ على التداخل و عدمه.(3)

6. إذا تغير أحد أوصاف ماء البئر و مع ذلك وقع فيه من النجاسات ما له مقدّر، فهل يكفي نزح الجميع أو يجب معه نزح ما هو المقدّر؟ مبني على مسألة التداخل و عدمه.

7. إذا مات و هو جنب، فهل يكفي غسل واحد أو يجب الغسلان؟

ص:411


1- الجواهر: 15/447.
2- الجواهر: 3/236.
3- الجواهر: 1/260.
السالبة الكلية و مفهومها

قد عرفت أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط فيعتبر في مفهوم القضية الشرطية أمران:

1. اختلاف القضيتين في الإيجاب و السلب.

2. وحدة القضيتين موضوعاً و محمولاً و قيداً.

مثلاً إذا قال القائل:» إن جاء زيد يوم الجمعة راكباً فأكرمه «يصير مفهومه إن لم يجئ زيد يوم الجمعة راكباً فلا تكرمه. فتجد انّ القضيتين تشتركان في الموضوع و المحمول و عامة القيود، و تختلفان في السلب و الإيجاب.

هذه هي الضابطة في أخذ المفهوم.

و على ضوء ذلك ينبغي إمعان النظر في مفهوم السالبة الكلية، أعني قوله) عليه السلام (:» إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء «.(1)

فهل مفهومه هو الموجبة الجزئية بمعنى إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ فينجّسه شيء، أي بعض النجاسات على سبيل الإهمال، فلا يكون المفهوم عندئذ دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس.

و على ذلك جرى الشيخ محمد تقي) المتوفّى 1248 ه (صاحب الحاشية على

ص:412


1- الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب طهارة الماء، الحديث 1 و 2 و 6.

المعالم.(1)

أو أنّ مفهومه هو الموجبة الكلية بمعنى انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه كلّ شيء، أي عامّة النجاسات، فيكون المفهوم دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس، وعليه الشيخ الأنصاري على ما في تقريراته.(2)

استدلّ صاحب الحاشية بما اشتهر بين المنطقيّين بأنّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية، و ليس للمفهوم دور إلاّ أنّه نقيض المنطوق، فإذا كان المنطوق سالباً كلّياً يكون مفهومه، أي نقيضه موجباً جزئياً، و تبعه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي على ما في تقريراته(3) و سيدنا الأُستاذ الخميني.(4)

و التحقيق أن يقال: انّ لفظ» شيء «في المنطوق يحتمل أحد أمرين:

1. أن يكون المراد منه هو معناه العام المتوغل في الإبهام.

2. أن يكون المراد منه هو العناوين التي أُخذت في لسان الأدلّة موضوعة للحكم عليها بالنجاسة، نظير قولنا:» الدم نجس «و البول نجس.

فإنّ قلنا بالأوّل يكون مفهومه قضية موجبة جزئية، لوضوح انّ رفع السلب الكلي إنّما هو بالايجاب الجزئي، فإذا قلنا:» لم يكن هناك شيء «يكفي في رفعه وجود شيء ما في المحل، و أمّا لو قلنا بأنّ لفظة شيء أخذت مرآة إلى العناوين العشرة التي هي موضوعات للحكم عليها بالنجاسة، فقولنا:» لم ينجسه شيء «بمنزلة قولنا:» لم ينجسه الدم و لا البول و لا الكلب و لا الخنزير و لا الميتة و لا... «

ص:413


1- هداية المسترشدين: 291.
2- مطارح الأنظار: 174.
3- لمحات الأُصول: 296
4- تهذيب الأُصول: 1/450.

فعند ذلك يكون مفهومها موجبة كلية، أي إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه الدم و البول و الكلب و الخنزير و الميتة... الخ.

هذا هو مبنى القولين و من المعلوم أنّ الحقّ هو الأوّل، فانّ لفظة» شيء «مفهوم متوغّل في الإبهام، فنفيه كما في المنطوق رهن نفي كلّ ما يصدق عليه شيء و إيجابه كما هو الحال في المفهوم بوضع شيء من الأشياء.

ثمّ إنّ الذي دعا الشيخ الأعظم إلى اختيار القول الثاني مع أنّه مخالف لما عليه المنطقيّون في باب التناقض و مخالف لما هو المتفاهم العرفي في هذه المواضع هو ما سبق منّا من أنّه يجب الاحتفاظ بعامة القيود الواردة في المنطوق، و بما انّ الكليّة من إحدى القيود في المنطوق فيجب أن يحتفظ بها في المفهوم.

و على هذا المبنى تكون الكلية قيداً محفوظاً في جانبي المنطوق و المفهوم و يصبح المفهوم موجبة كلية.

و إلى ما ذكرنا يشير الشيخ بقوله:» و من هنا) لزوم حفظ القيود بتمامها في المنطوق و المفهوم (يعلم صحّة ما أفاده بعض الأساطين من قوله) عليه السلام (: إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء «فانّ مفهومه انّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجسه كلّ شيء من النجاسات، كما يعلم فساد ما قيل من أنّ لازم القضية المذكورة نجاسة الماء غير الكرّ بشيء من النجاسات، و هو مجمل لا يفيد و لا يلزم منه النجاسة، بكلّ شيء من النجاسات.

ثمّ رتّب الشيخ على مختاره و قال: إنّ ما دلّ على عدم نجاسة الماء المستعمل في الاستنجاء يعارض عموم المفهوم، مثل ما دلّ على نجاسته إذا كان غالباً.(1)

ص:414


1- مطارح الأنظار: 178.

يلاحظ عليه: بأنّ الضابط) أي الاحتفاظ بكلّ القيود الموجودة في المنطوق (مختص بالقيود المذكورة في الكلام، كالقيود المذكورة في المثال السابق يوم الجمعة راكباً، دون القيود المستفادة من سياق الكلام كالاستغراق المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، أعني:» لم ينجسه شيء «، ففي مثله لا يؤخذ القيد في جانب المفهوم، فإذا قال: إن جاءك زيد لا تكرم أحداً، يصير مفهومه إذا لم يجئ زيد فأكرم أحداً، لا أكرم كلّ أحد، و ذلك لأنّ العموم كان مستفاداً من سياق الكلام) وقوع النكرة في سياق النفي (و المفروض انقلابه إلى سياق آخر) إلى الإيجاب (فكيف يمكن التحفّظ بهذا القيد في جانب المفهوم؟ و بعبارة أُخرى: انّ القيود على قسمين:

قيد مذكور في الكلام فلا بدّ من أخذه في جانب المفهوم طابق النعل بالنعل.

و قيد مفهوم من سياق الكلام، أي وقوع النكرة في سياق النفي و النهي، فهذا النوع من القيد رهن حفظ السياق و المفروض انّ السياق يتغير في المفهوم، و معه كيف يمكن الاحتفاظ بهذا القيد؟! و إن شئت قلت: إنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان القيد، المفهوم منه العموم، مجموعياً كان أو استغراقياً قابلاً للانتقال إلى المفهوم حتّى يكون الاستغراق الموجود في المنطوق مأخوذاً في المفهوم، كما إذا قال: إن جاء زيد أكرم كلّ واحد ممّن معه، فيكون مفهومه استغراقياً أيضاً، و أمّا إذا كان العموم مستفاداً من سياق النفي، فيكون قائماً بالسياق فإذا تبدل سياق النفي إلى الإيجاب ينتفي ما يدلّ على العموم فلا يمكن أخذه في المفهوم حتّى يكون إيجاباً استغراقياً و يكون مفهومه موجبة كلية، بل يتعيّن أن يكون موجبة جزئية.

ص:415

ثمّ إنّ شيخنا الأُستاذ) مدّ ظله (اقتصر على هذا القدر في دورتنا الرابعة، و قد أفاض الكلام في ذلك في الدورات السابقة، و بما انّ ما أفاده فيها طويل الذيل طوينا الكلام عنه، فمن أراد فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد الجلالي.(1)

ص:416


1- المحصول: 3962/392.

الفصل الثاني مفهوم الوصف

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: في تعريف مفهوم الوصف

قد عُرِّف مفهوم الوصف بتعاريف نذكر منها ما يلي:

1. الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عام مقيّد بصفة خاصة، و هو خيرة الآمدي.

و أورد عليه الشيخ الأعظم بأنّه لا يشمل الوصف غيرَ المعتمد على موصوفه كقولنا:» أكرم عالماً «، إذ ليس فيه إلاّ شيء واحد لا اسم انضم إليه وصفه.

2. تعليق الحكم بالصفة حتّى يدلّ على انتفائه لدى انتفائها.

و أورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ التعليق يناسب مفهوم الشرط لا مفهوم الوصف.

قلت: و فيه تأمّل واضح، لأنّ التعليق من العلقة و هي الرابطة، فهي موجودة في القضايا الشرطية و الحملية في كلّ بنحو.

3. إثبات الحكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها يدلّ على انتفاء ذلك

ص:417

الحكم عند انتفاء الصفة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه يرد عليه ما أورده الشيخ على تعريف الآمدي من عدم شموله للوصف غير المعتمد على موصوفه، كما إذا قال:» أكرم عالماً «من غير فرق بين القول ببساطة المشتق و تركّبه.

أمّا على الأوّل فلا ذات مأخوذة مع بعض صفاتها، و أمّا على الثاني فالذات غير مذكورة و ظاهر التعريف كونها مذكورة.

اللّهمّ إلاّ أن يريد الشيخ من أخذ الذات، الأعم من الأخذ لفظاً أو تقديراً لدى التحليل.

و على كلّ تقدير فحصيلة التعاريف عبارة عن دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن موضوعه عند انتفائه.

الثاني: تحديد محلّ النزاع

خصّ المحقّق النائيني محلّ النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف، و استدلّ على ذلك بوجهين:

1. لو كان غيره داخلاً في محلّ النزاع لدخلت الجوامد فيه أيضاً بداهة انّه لا فرق بين الجامد و غير المعتمد من الوصف، إلاّ في أنّ المبدأ في الجامد جعلي و في غير المعتمد غير جعلي. و هذا لا يكون فارقاً بينهما في الدلالة على المفهوم و عدمها.(2)

2. انّ ذكر الموضوع بصورة الوصف غير المعتمد كالعالم لا يحتاج إلى نكتة غير إثبات الحكم له، لا إثباته له و انتفاؤه عن غيره.(3)

ص:418


1- مطارح الأنظار: 187; و لاحظ القوانين: 1/178.
2- أجود التقريرات: 1/433.
3- فوائد الأُصول: 1/501.

يلاحظ على الأوّل: بوجود الفرق بين قولنا: اسق شجرة، و قولنا: اسق عالماً، فانّ الأوّل لا ينحل إلى ذات و وصف، بخلاف الثاني فانّه ينحل إلى ذات و علم، فارتفاع الوصف و المبدأ الجعلي في الأوّل مساوق لارتفاع الذات، فانّ رفع الشجرية رفع لتمام الموضوع، و هذا بخلاف الثاني حيث تبقى الذات مع ارتفاع الوصف كالإنسان غير العالم. مضافاً إلى استدلال الفقهاء بآية النبأ على حجّية خبر الواحد تمسّكاً بمفهوم الوصف غير المعتمد على الموصوف، و بعضهم بفهم أبي عبيدة(1) من حديث:» ليّ الواجد بالدين يحل عرضه و عقوبته «(2)، انّ ليّ غير الواجد لا يبيح، و هو أيضاً من قبيل الوصف غير المعتمد.

و يلاحظ على الثاني بأنّ التعبير عن الموضوع بالوصف العنواني مع إمكان التعبير عنه بغيره يشعر بمدخلية الوصف في ثبوت الحكم عند ثبوته و ارتفاعه عند ارتفاعه، فإذا قال: إن جاءكم فاسق بنبإ مكان: إذا جاءكم إنسان بخبر يفيد، انّ للفسق مدخلية في عدم القبول، و عندئذ يكون الإنسان تمام الموضوع، و الفسق قيداً زائداً أتى به لنكتة.

و الحاصل: انّ المفهوم يدور حول وجود قيد زائد في الكلام، و القيد الزائد في المقام هو أخذ الفسق أو العلم في الموضوع مع إمكان أخذ الإنسان موضوعاً، لا الفاسق كما في الآية و لا العالم كما في المثال.

ص:419


1- هو معمر بن مثنى المعروف بأبي عبيدة (المتوفّى عام 207 ه) أُستاذ أبي عبيد سلام بن قاسم مؤلف كتاب الأموال (المتوفّى سنة 225 ه) و هو بصري لا كوفي، فما في القوانين انّه كوفي غير صحيح.
2- الوسائل: 13، كتاب الدين، الباب 8، الحديث 4.
الثالث: أقسام الوصف

إنّ النسبة بين الوصف و الموصوف لا تخلو عن وجوه أربعة:

1. أن تكون النسبة بينهما هو التساوي، كقولنا: الإنسان المتعجّب أكرمه.

2. أن يكون الوصف أعمّ مطلقاً من الموضوع، كالإنسان الماشي.

3. أن يكون الوصف أخصّ مطلقاً من الموضوع، كقولنا: الإنسان الكريم.

4. أن تكون النسبة بينهما أعمّ من وجه، كما في قولنا:» في الغنم السائمة زكاة «.

ثمّ إنّ القسمين الأوّلين خارجان عن محط البحث، لأنّ الميزان في حجّية مفهوم الوصف، هو بقاء الموضوع و ارتفاع الوصف، ففيما إذا كانت النسبة بينها هو التساوي أو كان الوصف هو الأعم، ينتفي الموضوع بانتفاء الوصف أمّا لأجل التساوي لأجل كون الوصف أعمّ و انتفاؤه يستلزم انتفاء الأخصّ، فلا يبقى بحث في انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف.

و لكن القسم الثالث داخل في محلّ النزاع قطعاً، فلو قال: أكرم إنساناً كريماً، فعلى القول بالمفهوم يكون مفهومه انّه لا تكرم إنساناً لئيماً.

و أمّا القسم الرابع فله صورتان:

أ. أن يكون الافتراق من جانب الوصف مع بقاء الموضوع، كما إذا قال: في سائمة الغنم زكاة، فيكون مفهومه في معلوفة الغنم ليست زكاة.

ب. أن يكون الافتراق من جانب الموضوع بأن يرتفع الغنم و يحلّ مكانه الإبل، و عندئذ يقع الكلام في أنّه هل يحتج بمفهوم قولنا:» في الغنم السائمة زكاة «على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة أو لا؟

ص:420

فقد نسب إلى بعض الشافعية صحّةُ الاحتجاج و هو كما ترى، لأنّه يشترط في صحّة الاحتجاج وحدة الموضوع في جانبي المنطوق و المفهوم، و الاختلاف في وجود الوصف و عدمه، و أمّا إذا كان الموضوع مرتفعاً كالإبل، فسائمتها و معلوفتها خارجتان عن موضوع الكلام.

قال في» القوانين «: إنّ دليل الخطاب نقيض المنطوق، فلمّا تناول المنطوق سائمة الغنم كان نقيضه مقتضياً لمعلوفة الغنم دون غيرها.(1)

نعم نقل عن بعض الشافعية انّه استدلّ بمفهوم قولنا: في الغنم السائمة زكاة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل، و لعلّ وجهه هو إحراز انّ السوم يجري مجرى العلة المنحصرة فيثبت الحكم بثبوتها و ينتفي بانتفائها، غير أنّ الكلام في فهم العلّية المنحصرة و لعلّها إحدى العلل.

الرابع: ما هو المراد من الوصف؟

المراد بالوصف مطلق القيد الوارد في الكلام الأعم من الوصف الأُصولي أي المشتق أو الوصف النحوي التابع لموصوفه، و لذلك يعمّ القيود الزمانية و المكانية.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في أدلّة القائلين في حجّية مفهوم الوصف.

ص:421


1- القوانين: 1/186.

أدلّة القائلين بحجّية مفهوم الوصف

اشارة

ذكر المحقّق الخراساني تبعاً للمحقّق القمي و غيره وجوهاً لإثبات حجّية مفهوم الوصف مع نقدها، فنحن نقتفي أثر صاحب الكفاية.

1. التبادر

يتبادر من الهيئة الوصفية، الانتفاءُ عند الانتفاء و هو آية الوضع.

يلاحظ عليه: أنّه يتبادر رفع الحكم الشخصي عند رفع الوصف، و أمّا انتفاء أصل الحكم و سنخه بأن لا يخلفه شيء آخر فهو ممنوع، و سيوافيك بأنّ القول بالمدخلية لا يلازم كونه دخيلاً منحصراً.

2. لزوم اللغوية

لو لم يكن للوصف مفهوم يلزم اللغو في كلام الحكيم فلو لم يفد انتفاء الحكم عند انتفائه لعرى الوصف عندئذ عن الفائدة و لعدّه العقلاء مستهجناً، مثل قولك: الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب مع أنّ مطلق الإنسان لا يعلمه.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يلزم لو لم يكن له دخل في الحكم أبداً، و أمّا إذا كان له دخل و لو بنحو العلّة التامّة و إن كان يخلفه وصف آخر أحياناً فلا تلزم اللغوية و تخصيص ذاك الوصف بالذكر دون غيره لكونه مورد السؤال أو الابتلاء للمخاطب أو التأكيد، نحو قولك:» إياك و ظلم الطفل اليتيم «مع أنّ الظلم قبيح

ص:422

على اليتيم و غيره، لكن لمّا كان المخاطب مبتلى به خاطبه بقوله: إياك و ظلم اليتيم.

و ربّما يكون الوجه هو دفع توهم عدم الحرمة في مورد الوصف، كقوله تعالى: (وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ) (1)مع أنّ قتل الأولاد حرام، سواء أ كان لغاية الإطلاق أو لا.

و أمّا ما مثّل به المستدلّ فوجه الاستهجان فيه، عدم مدخلية البياض في الحكم، لا بنحو العلّة الناقصة، و لا التامّة و لا المنحصرة، بخلاف سائر الأمثلة.

3. الأصل في القيد أن يكون احترازياً

احتجّ القائل بالمفهوم بما اشتهر في الألسن من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً، و لعلّ هذا الدليل من أتقن أدلّة القائل بالمفهوم، غير أنّه خلط بين القيد الاحترازي و القيد المفهومي، و القيد الاحترازي عبارة عن مدخلية القيد في الحكم في مقابل القيد الغالبي، و أمّا كونه دخيلاً على وجه الانحصار و لا يقوم مقامه شيء فهو ممّا لا يفهم من كون القيد احترازياً، و لأجل إيضاح حال القيود في الكلام نقول: إنّ القيود الواردة في الكلام على أقسام ستة:

1. القيد الزائد، كقولك: الإنسان الضاحك ناطق، فانّ الإنسان ناطق، سواء كان ضاحكاً أو لا. و مثله المثال السابق: الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب.

2. القيد التوضيحي و هو القيد الذي يدلّ عليه الكلام و إن لم يذكر، كقوله سبحانه: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(2)، فقوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) قيد توضيحي، إذ لا يصدق الإكراه إلاّ معه و يغني عن ذكره قولُه: (وَ لا

ص:423


1- الأنعام: 151.
2- النور: 33.

تُكْرِهُوا ) و مع ذلك جيء به لنكتة خاصة، كما هو الحال في كلّ قيد توضيحي في كلام البلغاء.

3. القيد الغالبي: و هو القيد الوارد مورد الغالب، و مع ذلك لا مدخلية له في الحكم، كقوله سبحانه:

(وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ )(1)، فكونهن في حجور الأزواج قيد غالبي، لأنّ المرأة التي توفّي عنها زوجها إذا تزوجت مرّة أُخرى تأتي مع أطفالها إلى بيت زوجها الثاني، فلذلك تكون الربائب غالباً في حجر الزوج الثاني، و لكن الربيبة محرمة سواء أ كانت في حجره أم لا.

4. القيد المحقّق للموضوع، مثل قولك: إن رزقت ولداً فاختنه.

5. القيد الاحترازي، و هو القيد الذي له مدخلية في الحكم و لا يحكم على الموضوع بحكم إلاّ معه كالدخول في الآية المتقدّمة فانّ الدخول بالأُمّ شرط لحرمة الربيبة فلو لم يدخل بها و طلقها يتوقّف في الحكم.

فلا يحكم عليه لا بجواز التزويج و لا بعدمه.

6. القيد المفهومي: أو القيد ذات المفهوم، و هو ما يدلّ على ثبوت الحكم عند وجوده و عدمه عند انتفائه، و هذا النوع من القيد يُثبت أكثر ممّا يثبته القيد الاحترازي، فانّ الثاني يثبت الحكم في مورد القيد و يسكت عن وجوده و عدمه في غير مورده، و لكن القيد المفهومي يثبت الحكم في مورده و ينفيه عن غيره.

إذا وقفت على أقسام القيد و آثاره المختلفة، فاعلم أنّ أقصى ما يدلّ عليه القيد هو كونه قيداً احترازياً بالمعنى الذي مرّ عليك، و أمّا الزائد عليه أي الانتفاء لدى الانتفاء فلا دليل عليه، و إلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله: إنّ

ص:424


1- النساء: 23.

الاحترازية لا توجب إلاّ تضييق دائرة الحكم في القضية مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد فلا فرق بين أن يقال جئني بإنسان أو بحيوان ناطق.

4. فهم أبي عبيدة و هو من أهل اللسان

إنّ أبا عبيدة البصري فهم من قول النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لي الواجد يحل عقوبته و عرضه «، انّ ليّ غير الواجد لا يحل عرضه، و فهم أهل اللسان حجّة.

يلاحظ عليه: أنّ القول بالمفهوم في الحديث لا يخلو من إشكال، لأنّ الليّ فرع الوجدان، فإذا لم يكن واجداً فلا يطلق عليه الليّ، مثل قولك: إن رزقت ولداً فاختنه، و مثله التعبير عن اللي بالمطل، ففي» مجمع البحرين «: المطل و الليّ و التسويف، التعلّل في أداء الحقّ و تأخيره من وقت إلى وقت، و على هذا فليس للحديث مفهوم حتّى يبحث عن حجّيته و عدمه.

5. لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد

لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد، إذ لا تنافي بينهما إلاّ من جهة دلالة القيد على سلب الحكم عن غيره.

يلاحظ عليه: بمثل ما فسرنا به كون القيد احترازياً، فانّ معنى حمل المطلق على المقيد في المورد الذي يجب الحمل، هو تخصيص الحكم بالموضوع المقيّد، و قصره عليه، فكأنّ الحكم ورد على المقيد من أوّل الأمر، و أمّا دلالته على ارتفاع الحكم عن مورد انتفاء القيد، فلا و هذا بخلاف القول بالمفهوم فانّ معناه دلالة الوصف على انتفاء سنخ الحكم عن غير مورد الوصف، و شتّان بين قصر الحكم على موضوع مقيد و السكوت عن انتفائه عن غير مورده، و بين دلالة الشيء على

ص:425

قصر الحكم على المقيد و دلالته على انتفائه عن غير مورده.

و منه يعلم حال التخصيص فانّه كالتقييد في لزوم حمل العام على الخاص، و دخالته في الحكم دون أن يدخل على أنّه يخلفه غيره.

6. ظهور الجملة في مدخلية الوصف بما هو هو لا بجامعه

قد استند المحقّق الأصفهاني إلى الدليل التالي: و هو انّ ظاهر القضية الوصفية يقتضي كون الحكم مستنداً إلى نفس العنوان الوصفي دون غيره، أعني: الجامع، فلو فرض كونه علّة منحصرة، لزم الأخذ بالظهور، و إلاّ لزم استناد الحكم إلى الجامع بين ذلك الوصف و الوصف الآخر، و هو خلاف الظاهر.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لزوم كون الحكم مستنداً إلى الجامع عند تعدد العلّة لقاعدة:» لا يصدر الواحد إلاّ عن واحد «أمر في غير محلّه، لأنّ موردها هو المعلول التكويني لا المعلول الاعتباري، أعني: الوجوب، بل لا مطلق التكوين، بل المعلول البحت البسيط الذي ليست فيه كثرة أبداً، و أين ذلك ممّا نحن فيه؟ و على هذا فظهور القضية محفوظ و إن كانت العلّة غير منحصرة، فالوجوب معلول لكلّ سبب بشخصه بلا حاجة إلى إرجاع السببين إلى الجامع، لأنّ الأُمور الاعتبارية لا تخضع للقانون الفلسفي أعني: لا يصدر الواحد عن الكثير بل هنا يصدر الواحد عن الكثير.

و ثانياً: أنّ البحث في المقام في الاستظهارات العرفية و هو غير مبنيّ على هذه التدقيقات الصناعية التي لا يلتفت إليها. و قد مرّ نظيره في مبحث المفهوم.

ص:426


1- نهاية الدراية: 1/330.

تفصيل المحقّق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل بين رجوع القيد إلى الحكم و رجوعه إلى متعلّقه و موضوعه، فاختار الدلالة على المفهوم في الصورة الأُولى دون الصورة الثانية، فقال: انّ التقييد إذا رجع إلى نفس الحكم كان لازم ذلك هو ارتفاعه بارتفاعه، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة، ففرض تقييد الحكم بشيء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه، و أمّا إذا كان القيد راجعاً إلى الموضوع فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد، و من الضروري انّ ثبوت شيء بشيء لا يستلزم نفيه عن غيره، و إلاّ لكان كلّ قضية مشتملة على ثبوت حكم على شيء دالاً على المفهوم، و ذلك واضح البطلان.(1)

و سوف يوافيك نفس هذا التفصيل من المحقّق الخراساني في» مفهوم الغاية «فانتظر.

إلى هنا تمّ ما عرفت من أدلّة القائل بالمفهوم و نقدها، بقي هنا دراسة أدلّة النافي.

دراسة أدلّة النافي للمفهوم

اشارة

استدلّ نفاة المفهوم للجملة الوصفية بوجهين:

الأوّل: ما نقله المحقّق القمي من قولهم: إنّه لو دل لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث و كلّها منتفية.

أمّا عدم الدلالة بالمطابقة أو التضمّن فظاهر و إلاّ لكان منطوقاً، و أمّا

ص:427


1- أجود التقريرات: 1/435.

الالتزام فلعدم اللزوم الذهني لا عقلاً و لا عرفاً.

و قد توقّف المحقّق القمي في المسألة و استظهر انّه لا يخلو من إشعار و ذلك لأنّ التعليق بالوصف مشعر بالعلّيّة.

أقول: إنّه لا يخلو عن إشكال، لأنّ المتبادر من قولهم:» مشعر بالعلّية «هو المدخلية، و أمّا الانحصار فلا، و قد أوضحه السيّد المرتضى في ذريعته بأنّ نيابة علّة مكان علّة أُخرى شائع في الشريعة الإسلامية حيث إنّ الشاهد الواحد و المرأتين يقومان مقام الشاهدين، كما أنّ الشاهد الواحد مع اليمين يقوم مقام الشاهدين و أمثاله يصدنا عن القول بالملازمة الذهنية.

الثاني: الاستدلال بقوله سبحانه: (وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ )

.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ القائلين بحجّية مفهوم الشرط و الوصف خصّوا وجود المفهوم بما إذا لم يكن القيد وارداً على طبق الغالب، ففي مثله يسقط الاستدلال بالآية و أمثالها.

و مثله قوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ).(2)

فالتقصير في الآية قيّد بالخوف من فتنة الكفّار، و قد كان الضرب في الأرض يوم نزول الآية مقروناً بالخوف غالباً، و لذلك كان القيد غالبياً.

و على كلّ تقدير فالضابطة هو عدم الاشتمال على المفهوم إلاّ إذا دلّت القرائن على كونه علّة منحصرة.

ص:428


1- النساء: 23.
2- النساء: 101.

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

اشارة

البحث في دلالة الغاية يقع في موردين:

المقام الأوّل: هل الغاية تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية بناء على دخول الغاية في المغيّى؟ أو عنها و عن ما بعدها بناء على خروجها؟

اشارة

فهذا النوع من البحث، بحث في وجود الدلالة المفهومية و عدمها.

مثلاً إذا أمر المولى عبده بقوله:» سر من البصرة إلى الكوفة «فهل يدلّ على ارتفاع وجوب السير عن الكوفة و ما بعدها بناء على خروج الغاية) الكوفة (عن حكم المغيّى) وجوب السير (أو عن ما بعد الكوفة فقط بناء على دخولها فيه؟ أو لا يدلّ فهذا النوع من البحث بحث في وجود المفهوم للقضية.

الثاني: هل الغاية محكومة بحكم المغيّى أو لا؟ بمعنى أنّ السير في نفس الكوفة أيضاً متعلّق للوجوب، أو خارج عنه، و هذا بحث في سعة الدلالة المنطوقية.

و إليك الكلام في مقامين:

الأوّل: هل للقضية المغيّاة دلالة على المفهوم و ارتفاع الحكم عن الغاية و ما بعدها، أو عن ما بعدها فقط، أو لا؟ هنا أقوال ثلاثة:

ص:429

1. ذهب المشهور إلى الدلالة و انّ دلالة القضية المغيّاة على المفهوم أوضح من دلالة القضية الشرطية عليه.

2. ذهب السيد المرتضى في الذريعة(1) و الشيخ في العدّة(2) إلى عدم الدلالة.

و فصّل المحقّق الخراساني بين كون الغاية قيداً للحكم و كونها قيداً للموضوع فتدل القضية على الارتفاع في الأوّل دون الثاني، و إليك توضيحه:

إذا ورد قوله:» كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام «أو ورد» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر « فالغاية) حتّى تعرف حتّى تعلم (حسب القواعد العربية قيد، للحكم، أي كونه حلالاً أو طاهراً، فيدلّ على ارتفاع الحكم عند حصول الغاية) العلم و العرفان (فلا حلّية و لا طهارة بعد انكشاف الواقع و» ليس وراء عبادان قرية «و ذلك لوجهين:

1. انسباق ذلك من القضية.

2. انّ مقتضى تقييد الحكم بالغاية، هو ذلك، أي ارتفاعه عند حصول الغاية و إلاّ لما كان ما جعل غاية له، بغاية.

هذا كلّه حال ما إذا كانت الغاية، غاية للحكم.

و أمّا إذا كانت الغاية غاية للموضوع و محدّدة له، كما إذا قال: سر من البصرة إلى الكوفة، حيث إنّ الابتداء و الانتهاء من خصوصيات السير، و كأنّه قال: السير المقيّد من البصرة إلى الكوفة واجب، و عندئذ حال الغاية حال الوصف في عدم الدلالة، حيث إنّ إثبات الحكم لموضوع محدد، لا يدلّ على انتفاء ذلك عن موضوع آخر.

ص:430


1- الذريعة: 1/407.
2- العدة: 2/24، ط الهند.

و بعبارة أُخرى: انّ السير المحدّد بالابتداء من البصرة، و الانتهاء إلى الكوفة تعلّق به الطلب و لا دلالة له إلاّ على ثبوت الحكم على المحدّد، و أمّا نفيه عن غيره فلا دلالة له بوجهين:

1. عدم ثبوت الوضع لذلك.

2. عدم قرينة ملازمة للقضية دلّت على اختصاص الحكم بالمغيّى و عدم ثبوته في غيره.

فإن قلت: لو كان الحكم ثابتاً لغير المغيّى، فما فائدة التقييد بالغاية؟ قلت: إنّ الفائدة غير منحصرة بدلالتها على ارتفاع الحكم، بل لها فوائد كسائر أنحاء التقييد على ما مرّ في مفهوم الوصف.

هذا و قد اختاره المحقّق النائيني(1) و المحقّق العراقي(2) و السيّد المحقّق الخوئي(3) كلّ بتعابير متقاربة.

هذا و إنّ تردد رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع أمر ذائع في الفقه، مثلاً كون السفر سائغاً لا حراماً، فهل هو قيد لوجوب القصر؟ فكأنّه قال: قطع المسافة الشرعية موجب للقصر إذا كان السفر سائغاً، أو قيد للموضوع، أعني: المسافة، فكأنّه قال: قطع المسافة الشرعية إذا كان سائغاً موجب للقصر؟ فالسيد الطباطبائي في عروته على الأوّل، و الشيخ الأنصاري على الثاني. و لكلّ أثر شرعي خاص مذكور في محلّه.

أقول: إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني و إن كان صحيحاً إلاّ أنّ الكلام في

ص:431


1- أجود التقريرات: 1/437.
2- نهاية الأفكار: 4981/497.
3- المحاضرات: 1405/137.

تمييز أحد الأمرين و ليس هنا ضابطة تعيّن أحد الأمرين.

و قد حاول المحقّق الخوئي) قدس سره (أن يضع ضابطة لتمييز ما يرجع إلى الحكم، عمّا يرجع إلى غيره، و حاصل ما أفاده في المقام و ما أوضحه في» المحاضرات «: هو انّ الحكم، أي الوجوب، لو كان مستفاداً من الهيئة فالغاية تارة ترجع إلى المتعلّق و أُخرى إلى الموضوع و لا ترجع إلى مفاد الهيئة أي الحكم.

أمّا الأوّل: فمثل قوله سبحانه: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1)فانّ المتبادر أنّ الصيام محدد بالليل، كأنّه يقول:» الصيام إلى اللّيل، يجب «.

و أمّا الثاني، فكقوله سبحانه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (2)ففيه أُمور ثلاثة:

1. الوجوب الذي هو مفاد الهيئة.

2. الغسل، و هو متعلّق الوجوب.

3. الموضوع و هو اليد، فالمتبادر من الآية كون الغاية قيداً للثالث، كأنّه يقول: اليد المحدّدة بالمرافق، يجب غسلها.

و نظير ذلك إذا قال:» اكنس المسجد من الباب إلى المحراب «، فانّ المتبادر من الكلام كون الغاية قيداً للموضوع) المسجد (، لا للوجوب، و لا للكنس الذي يعبّر عنه بالمتعلّق.

و مثله قوله سبحانه: (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فانّ المتبادر أنّ الغاية قيد للأرجل، لا للوجوب و لا للغسل.

ص:432


1- البقرة: 187.
2- المائدة: 6.

ففي هذه الموارد يكون حكمها حكم الوصف فانّ التقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف، و قد عرفت أنّ التقييد بالوصف ساكت عن وجود الحكم و عدمه.

و أمّا لو كان الوجوب مستفاداً من غير الهيئة كالجملة الفعلية فهي على قسمين: تارة يكون متعلّق الحرمة محذوفاً، كما في قولك:» يحرم الخمر إلى أن يضطرّ المكلف إليه «فانّ متعلّق الحرمة محذوف و هو شربه أو بيعه أو غير ذلك، فالغاية فيها باعتبار حذف المتعلّق، قيد للحكم، فالحكم مرفوع عند طروء الاضطرار.

و أُخرى يكون مذكوراً كما إذا قال:» يجب الصيام إلى الليل «ففيه وجهان فيحتمل أن تكون الغاية قيداً للوجوب، و كأنّه قال:» الصيام يجب إلى الليل «كما يحتمله أن تكون قيداً للصيام، فكأنّه قال:» الصيام إلى الليل يجب «فعلى الأوّل تشتمل القضية على المفهوم دون الآخر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ انتزاع ضابطة كلّية من مورد أو موردين، غير صحيح، و ذلك لوجود القرينة على رجوع الغاية إلى الموضوع في بعض الأمثلة، و إلى الحكم في البعض الآخر.

أمّا الأوّل: أعني قوله سبحانه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فلأنّ رجوع الغاية في الآية إلى الموضوع لأجل انّها بصدد بيان حد المغسول، لا حد الوجوب، و ذلك لأنّ اليد ربّما تطلق و يراد بها أُصول الأصابع، و أُخرى هي إلى الزند، و ثالثة إلى المرفق، و رابعة إلى المنكب، فصارت الآية بصدد بيان ما هو المغسول في الآية و قالت: إلى المرافق، أي المقصود بها هو العضو إلى نهاية المرافق.

ص:433


1- لاحظ أجود التقريرات: 1/437، قسم التعليقة; المحاضرات: 1395/137.

و مثله قوله سبحانه: (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )، و قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فانّ الغاية لحد الممسوح، و الزمان الذي يمسك فيه.

و أمّا الثاني: فلأنّ رجوع القيد إلى الحكم ليس لأجل حذف المتعلّق، بل لوجود قرينة خارجية على أنّ الأحكام الشرعية محددة بالضرر، و الحرج و الاضطرار، فكلّ ما اضطرّ إليه ابن آدم فهو مرفوع عنه أي مرفوع حكمه.

و أمّا المثال الثالث فالاحتمالان كما أفاد سواء.

و الحاصل: انّ التفريق بين رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع و المتعلّق، بارتفاع الحكم في الأوّل، دون الثاني كلام متين، لكن الإشكال في الضابطة التي يتميّز على ضوئها ما يرجع إلى الحكم عمّا يرجع إلى الموضوع.

و ربّما يتصوّر انّ مقتضى القاعدة رجوع الغاية إلى الحكم، لأنّ أداة الغاية أعني: إلى و حتّى من أدوات الجر و الجار و المجرور يتعلّقان بالفعل، و بهذا اللحاظ تكون الغاية قيداً للحكم بلا واسطة في جميع الموارد.

يلاحظ عليه: بأنّ تعلّق الجار و المجرور بالفعل لا يكون دليلاً على رجوع الغاية إلى الحكم الوارد في القضية، بل الفعل المتعلّق به الجار أعم من الحكم المستفاد من الهيئة، و ذلك لأنّ الظرف على قسمين مستقر و لغو، ففي الأوّل يتعلّق بالمعنى الحدثي المقدر مثل:» كائن «و» موجود «، و في الثاني يتعلّق بالفعل، لا مفاد الهيئة ففي سر من البصرة إلى الكوفة، فالظرف متعلّق بالسير، لا الوجوب، فلا ملازمة بين تعلّق الظرف بالفعل، و كونه قيداً للوجوب كما لا يخفى.

ص:434

نظريتنا في الموضوع

فلو خرج الباحث عن حيطة الاصطلاحات، و رجع إلى ما هو المتبادر من التقييد بالغاية لوقف على أنّ المتفاهم العرفي منه هو ارتفاع الحكم عند ارتفاع الغاية، على نحو لو صرّح بعد ذلك ببقاء الحكم بعدها لعد كلامه بداءً.

فإذا قال:» احفر إلى هذا الخط «ينتقل العرف إلى تحديد الوجوب بالحد الخاص، من غير فرق بين كون الغاية قيداً للوجوب المستفاد من الهيئة في» احفر «أو لمتعلّق الوجوب أي الحفر، و إن كان ظهور القضية في المفهوم في الصورة الأُولى أوضح.

و يدلّ على ما ذكر ملاحظة الآيات التالية:

(وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ).(1)

2. (كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ).(2)

3. (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ).(3)

فانّ لفظة» حتّى «في الآية جارة تحدد الوظيفة بأنّها بين هذا و هذا لا أزيد و لا أنقص.

ص:435


1- البقرة: 222.
2- البقرة: 187.
3- البقرة: 193.

المقام الثاني في دخول الغاية في حكم المغيّى و عدمه

قد عرفت أنّ البحث في أنّ الغاية داخلة في المغيّى أو لا، بحث منطوقي مثلاً إذا قال: اغسل يدك إلى المرفق، فهل المرفق الذي هو عبارة عن مكان رفق العظمين، داخل في حكم اليد فيجب غسله أو لا؟ أو إذا قال: سر من البصرة إلى الكوفة، فهل نفس الدخول في الكوفة و لو بجزء منها واجب حتّى يكون حكم الغاية نفس حكم المغيّى أو لا؟ اختلفت كلمة القوم على أقوال، و قبل أن نذكر الأقوال نركّز على أمر أدبي، و هو انّ بيان الغاية يتحقّق غالباً بأحد اللفظين:

لفظة» إلى «و لفظة» حتّى «و لما كانت اللفظة الثانية تستعمل في معان مختلفة يجب تعيين ما يستعمل في بيان الغاية عن غيره.

اعلم انّ كلمة حتّى تستعمل على ثلاثة أوجه:

1. حرف جر.

2. حرف عطف.

3. حرف ابتداء.

أمّا الجارّة فهي مثل قوله سبحانه: (سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).

ص:436

و أمّا العاطفة فهي بمنزلة الواو مثل قوله:» أكلتُ السمكة حتّى رأسها «.

و أمّا الابتدائية فهي حرف يبتدأ بها الجمل مثل قول الفرزدق:

فوا عجبا حتّى كليب يسبني كأنّ أباها نهشل أو مجاشع(1)

إذا علمت هذا فاعلم أنّ حتّى الغائية هي حتّى الجارّة لا العاطفة و لا الابتدائية.

و بذلك تعرف ضعف بعض الأقوال التي نشير إليها.

ثمّ إنّ البحث عن دخول الغاية في حكم المغيّى و عدمه، إنّما يتصوّر إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره داخلاً في حكم المغيّى تارة و في حكم ما بعد الغاية أُخرى كالمرفق، و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا موضوع للبحث، كما إذا قال: اضربه إلى خمس ضربات، فالضربة السادسة، من أفراد بعد الغاية، و الضربة الخامسة داخلة في أجزاء المغيّى حسب التبادر، فليس هنا شيء آخر يبحث عن دخوله في حكم المغيّى و عدمه.

و بعبارة أُخرى: انّ محلّ البحث ما إذا كانت الغاية ذات أجزاء، كسورة الإسراء في المثال، أو الكوفة في قولنا: سر من البصرة إلى الكوفة، دون ما لم يكن كذلك، كما في الضربة الخامسة في المثال المذكور، أو كقولك: اقرأ سورة يس إلى آخرها.

إذا عرفت ذلك فنسرد الأقوال:

1. الخروج مطلقاً، و هو خيرة المحقّق الخراساني و سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (.

2. الدخول مطلقاً.

ص:437


1- كليب رهط جرير الذي هجاه الفرزدق بشعره هذا. و» نهشل «و» مجاشع «أبناء دارم رهط الفرزدق. فالشاعر يفتخر بآبائه.

3. التفصيل بين ما إذا كان ما قبل الغاية و ما بعدها متّحدين بالجنس فتدخل و إلاّ فتخرج، نظير قوله سبحانه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(1)، بخلاف قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فتدخل في الأوّل دون الثاني.

4. التفصيل بين» حتّى «و» إلى «، فالدخول في الأوّل كما في قولك:» جاء الحجاج حتّى المشاة «، و » مات الناس حتّى الأنبياء «و عدم الدخول في الثاني.

5. عدم الدلالة على الدخول و الخروج و إنّما يُتبع في الحكم القرائن الدالة على واحد منهما.(2)

و إليك دراسة سائر الأقوال.

استدلّ نجم الأئمة على القول الأوّل بأنّ حدود الشيء خارجة عن الشيء و ما يتراءى من الدخول في بعض الموارد كالمرافق في الوضوء فلقرينة خارجية، و تبعه المحقّق الخراساني في البرهنة.

و استدلّ للقول الثاني بأنّ الغاية بمعنى النهاية و هي الأمر المنتزع من الجزء الأخير للشيء المفروض امتداده، كما أنّ الابتداء ينتزع من الجزء الأوّل للشيء، فإن كانت الغاية نهاية الشيء فتكون داخلة في الشيء و تشاركه في الحكم.

يلاحظ على الاستدلالين: بأنّ الظهور لا يثبت بالدليل العقلي، و المرجع في هذه المباحث هو التبادر، و أمّا القول بأنّ حدّ الشيء خارج عنه كما في الدليل الأوّل، أو انّ نهاية الشيء داخلة فيه كما في الدليل الثاني، إثبات للظهور بأمر عقلي فلا يعتد بهما.

ص:438


1- المائدة: 6.
2- لاحظ المغني، باب الحروف، حرف حتّى.

و أمّا الوجه الثالث: فقد نقله المحقّق القمي، و قال: إنْ كان المغيّى و الغاية من جنس واحد كقولك بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف فتدخل، و إلاّ فلا كقول القائل صوموا إلى الليل.

ثمّ ذكر انّ الظاهر انّ دليلهم في ذلك عدم التمايز فيجب إدخاله من باب المقدمة كما في إدخال المرفق في الغَسل، بخلاف ما لو اختلفا في الماهية و تميّزا في الخارج.

و أمّا التفصيل الرابع: فمبناه الخلط بين حتّى العاطفة و الخافضة، فانّ البحث في الثانية دون الأُولى، و ما مثله من قوله:» جاء الحجاج حتّى المشاة «فاللفظ فيه عاطفة لا جارة.

و أمّا الخامس: فلأنّ القائل لما وقف على كلا الاستعمالين و لم يرجّح أحدهما على الآخر توقّف في الحكم و قال بأنّه إنّما تتبع القرائن.

و أمّا التفصيل السادس: فذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري و هو التفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل كما في قولنا:» سر من البصرة إلى الكوفة «و بين كونها غاية للحكم مثل قولنا:» صم من الفجر إلى الليل « فيدخل في الأوّل، لأنّ الظاهر دخول جزء من السير المتخصص بالكوفة، كما أنّ الظاهر منه دخول السير المتخصص بالبصرة أيضاً في المطلوب، دون الثاني فانّ المفروض أنّها موجبة لرفع الحكم فلا يمكن بعثه إلى الفعل المتخصص بها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ البحث فيما إذا كان هناك أُمور ثلاثة:

1. الحكم.

2. المغيّى.

ص:439


1- درر الأُصول: 1/170.

3. الغاية.

و عندئذ يقع الكلام في كون الغاية جزءاً من المغيّى أو لا، فعلى الأوّل يشمله حكمه دون الثاني، و هذا يقتضي أن تكون الغاية قيداً للموضوع لا غاية للحكم، و إلاّ يكون الحكم و المغيّا أمراً واحداً كما في قولنا:

» كلّ شيء حلال، حتّى تعلم انّه حرام «فالتفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل أو للحكم خارج عن مصبّ البحث، بل البحث مركّز على ما إذا كانت الغاية قيداً للفعل.

و الظاهر عدم الدخول مطلقاً، إلاّ إذا دلّ الدليل على الدخول، أخذاً بالمتبادر:

1. إذا قال: سرت من البصرة إلى الكوفة، فهو صادق في إخباره إذا انتهى في سيره إلى باب الكوفة و سورها، و إن لم يدخل المدينة.

2. إذا قال: قرأت القرآن من أوّله إلى سورة الإسراء، فهو أيضاً صادق في إخباره إذا لم يقرأ شيئاً من سورة الإسراء.

و قس عليه نظائره، و الظاهر انّ حكم» حتّى «أيضاً حكم» إلى «بشرط أن تكون جارّة لا عاطفة، فإذا قلت: نمت البارحة حتى الصباح بالجر يصدق إذا نمت إلى مطلع الفجر نظير قوله تعالى: (سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).(1)

و من غرائب الكلام الإشكال على هذا النوع من الاستدلال بأنّه لا يثبت بذلك حكم العرف، و لعلّ الصدق لأجل جريان أصل البراءة عن الأكثر.

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يتوجّه لو كان مصب الاستدلال الأمر بالسير أو القراءة إلى الكوفة و الاسراء و شك الساري و القارئ في مقدار الواجب، كان عليه

ص:440


1- القدر: 5.

التمسّك بالبراءة، و لكن محلّه هو الجملة الإخبارية، و المتكلّم هو الذي يخبر بأنّه سار و قرأ كذلك و العرف يصدقه في كلامه، و لا يكون لهذا التصديق منشأ عندهم إلاّ عدم دلالتها على إدخال الغاية في حكم المغيّى.

ثمّ لو قلنا بأحد الأقوال في دخول الغاية في حكم المغيّى فهو، و إلاّ فيصير الكلام مجملاً فينتهي الأمر إلى الأُصول العملية، فهل المقام من مجاري الاستصحاب أو البراءة؟ فيه خلاف، فإذا غسل اليد دون المرفق فهل يمكن التمسّك باستصحاب بقاء الوجوب؟ الظاهر لا، لأنّ استصحاب الوجوب لا يثبت وجوب غسل المرفق إلاّ على القول بالأصل المثبت، لأنّ بقاء الوجوب مع غسل ما سوى المرفق من اليد يلازم عقلاً وجوب غسل المرفق، و إلاّ لما كان وجه لبقائه لعدم وجوب ما فوق المرفق إجماعاً.

بل المورد مجرى البراءة لكونه من قبيل الشكّ في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

ص:441

الفصل الرابع مفهوم الحصر

المشهور انّ الأُمور التالية تفيد الحصر:

اشارة

1. إلاّ الاستثنائية، 2. إنّما، 3. بل الاضرابية، 4. تقديم ما حقّه التأخر، 5. تعريف المسند إليه باللام.

و إليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.

1. الكلام في «إلاّ» الاستثنائية
اشارة

1. هل الاستثناء من النفي إثبات، و من الإثبات نفي، أو لا هذا و لا ذاك؟ 2. لو قلنا بالدلالة، فهل الجملة الاستثنائية أو خصوص لفظة» إلاّ «تدلّ على الحصر أو لا؟ و سيوافيك ما هو المراد من الحصر.

3. و هل دلالتها على الحصر، دلالة منطوقية أو مفهومية؟ و إليك دراسة تلك الأُمور:

أ. الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي

إنّ لفظة» إلاّ «تستعمل على وجوه:

ص:442

1. أن تكون للاستثناء نحو قوله: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً ).(1)

2. أن تكون صفة بمنزلة» غير «، فيوصف بها و بتاليها جمع منكَّر أو شبهه، نحو قوله: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ).(2)

3. أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك في اللفظ و المعنى، نحو قوله: (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً ).(3)

4. أن تكون زائدة تختص بالشعر.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ المفيد للحصر هو إلاّ» الاستثنائية «فنقول:

لا خلاف في أنّ الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي، و لم يخالف في ذلك إلاّ أبو حنيفة.

و قد أوضح الشيخ الأنصاري مقصود أبي حنيفة بقوله: إنّ غاية ما يُستفاد من الاستثناء انّ المستثنى غير داخل في الحكم الذي نطق به المتكلّم به، و أمّا حكمه واقعاً فيحتمل أن يكون محكوماً بحكم المستثنى منه أيضاً، أو يكون محكوماً بخلافه، و بالجملة انّ المتكلّم يريد بالاستثناء أن لا يخبر عنه بالحكم المذكور(4)، و عدم اخباره عنه بذاك الحكم لا يثبت عدم كونه محكوماً به بل يحتمل الأمرين.(5)

و احتجّ بمثل قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا صلاة إلاّ بطهور «فانّه لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً يلزم أن تكون الصلاة نفس الطهور و إن لم تكن سائر الشرائط

ص:443


1- البقرة: 249.
2- الأنبياء: 22.
3- النمل: 1110.
4- و بعبارة أُخرى: ليس محكوماً بشخص الحكم لكن من المحتمل أن يكون محكوماً بسنخه كما يحتمل أن لا يكون كذلك.
5- مطارح الأنظار: 187.

موجودة.

يلاحظ عليه: بأنّه خلاف المتبادر منها في عامة الموارد، و خلاف ما يتبادر ممّا يعادله في بعض اللغات كلفظة» مگر «في الفارسية فانّه يعادل» إلاّ «الاستثنائية، فلو وقع بعد النفي، يفيد الإثبات، كما لو وقع بعد الإثبات، يفيد النفي.

أقول: ما استدلّ به ضعيف فانّ الحصر ناظر إلى صورة اجتماع عامّة الأجزاء و الشرائط غير الطهارة، و عندئذ تدلّ على لزوم تحصيل الطهارة أو قراءة فاتحة الكتاب، لأنّه لا تحصل الصلاة إلاّ إذا كانت الأجزاء و الشرائط الفعليّة المفروضة وجودها مقرونة بالطهارة، أو بقراءة الفاتحة، و عندئذ يصحّ أن يقال: انّ الصلاة نفس الطهارة، أي التوأمة مع سائر الأجزاء و الشرائط.

و يؤيد ذلك، التعبير عن ذلك» بطهور «أو بفاتحة الكتاب، دون أن يقول إلاّ طهوراً أو فاتحة الكتاب، ليفيد معنى الاقتران، أيْ اقتران سائر الأجزاء و الشرائط بهما.

ب. دلالته على الحصر

هذا هو الموضع الثاني، أي دلالة» إلاّ «الاستثنائية على الحصر و هو مبنيّ على تسليم الأمر الأوّل أعني أنّ الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي.

و الظاهر من كلمات الأُصوليين انّ أداة الحصر هو لفظة» إلاّ «و لكن الظاهر من الخطيب القزويني هو» النفي و الاستثناء «قال: و من أداة الحصر: النفي و الاستثناء، كقولك في قصر الموصوف أفراداً:» ما زيد إلاّ شاعر «، أو قلبا:» ما زيد إلاّ قائم «و في قصرها أفراداً و قلبا:» ما شاعر إلاّ زيد «.(1)

ص:444


1- شرح المختصر: 82.

و على أيّ تقدير فالظاهر أنّ المراد من الحصر، حصر الخارج عن حكم المستثنى منه، في المستثنى و انّه لم يخرج عنه سواه، و قد عبّر عن الحصر في الكفاية بقوله لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم سلباً أو إيجاباً بالمستثنى منه و لا يعمّ المستثنى.(1)

و يدلّ على الحصر بالمعنى المختار أمران:

1. تبادر الحصر

يتبادر الحصر من موارد استعمالاته في الكتاب و السنّة.

أمّا الكتاب فقوله سبحانه: (وَ الْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا... ).(2)

إذ لو لم تدل على الحصر لما تمّ الاحتجاج على الطوائف الخارجة عن الطوائف الأربعة الواردة في نفس السورة، إذ هي بصدد التنديد بسائر الطوائف، فلو لم تدل على الحصر و احتمل خروج بعض الطوائف عن الحكم عليهم بالخسران، لما تمّ التنديد، لأنّ كلّ طائفة غير الأربع يتصوّر انّها الخارجة عن حكم الآية.

و أمّا السنّة فقوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ في خمسة: الطهور و الوقت و القبلة، و الركوع و السجود «(3)على نحو لو دل دليل على لزوم اعادتها بفوت القيام المتّصل بالركوع، لعدّ مخالفاً للمفهوم، و يلزم تخصيصه به، لأنّ المنطوق أخصّ من المفهوم.

ص:445


1- كفاية الأُصول: 1/326.
2- العصر: 31.
3- الوسائل: 4، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.
2. دلالة كلمة الإخلاص على الحصر

قبول رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (إسلامَ من قال: لا إله إلاّ اللّه، فلو لم يكن مفيداً في حصر الالوهية في اللّه، لما شهد القائل بالتوحيد، و تصوّر انّ دلالته على التوحيد لأجل القرينة كما في الكفاية لا دليل عليه، و عدّه الشيخ في المطارح كلاماً سخيفاً.

ثمّ إنّ في كلمة الإخلاص سؤالاً و جواباً سيوافيك الكلام فيه بعد إتمام دراسة المواضع الثلاثة التي أشرنا إليها في صدر البحث.

ج. هل الدلالة على الحصر دلالة مفهومية؟

إذا قلنا: أكرم العلماء إلاّ زيداً، فهنا أُمور ثلاثة:

1. حكم المستثنى منه: وجوب إكرام العلماء باستثناء زيد.

2. حكم المستثنى، عدم وجوب إكرام زيد.

3. حصر الخروج في المستثنى.

أمّا الأوّل: فلا شكّ انّ دلالة الجملة عليه منطوقية، إنّما الكلام في الأمر الثاني، أعني: استفادة حكم المستثنى، فهل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فقد فصّل المحقّق الخراساني بين كون حكم المستثنى لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه فالدلالة مفهومية و بين كونه مستفاداً من لفظة» إلاّ «فمنطوقية، قال في هذا الصدد:

ثمّ إنّ الظاهر انّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم و انّه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلّت عليها الجملة الاستثنائية. نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق كما

ص:446

هو ليس ببعيد.(1)

توضيحه: انّه لو قلنا بأنّ حكم المستثنى مستفاد من الخصوصية الموجودة في الجملة الاستثنائية و انّ حكمه لازم الخصوصية، فالدلالة تكون مفهومية، و المراد من تلك الخصوصية هو» حصر المجيء في قوم غير زيد «فيفهم منه عدم مجيء زيد، فعدم مجيئه ليس مصرحاً به في الكلام و إنّما المصرّح به هو مجيء القوم، نعم قيد القوم بغير زيد.

و أمّا لو قلنا: إنّ لفظة إلاّ بمعنى» استثني «فاللفظ قائم مقام ذلك الفعل، فتكون الدلالة منطوقية لاستفادة حكم زيد من لفظة» إلاّ «.

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر انّ الدلالة منطوقية، و ذلك لأنّ هيئة الجملة الاستثنائية موضوعة لإفادة معنيين:

1. ثبوت الحكم للمستثنى منه.

2. و نفيه عن المستثنى.

و قد سبق تمثيل الخطيب القزويني للحصر الافرادي بقوله:» ما زيد إلاّ شاعراً «و في الحصر القلبي بقوله:» ما زيد إلاّ قائماً «فاستفادة كلّ من الحكمين من المنطوق و دلالة الهيئة الاستثنائية على حكم كلّ من المستثنى منه و المستثنى دلالة لفظية تضمنية.

و بذلك يسقط الاحتمال الثاني، أعني: كون إلاّ بمعنى» استثنى «.

و أما الثالث، أعني: دلالة الجملة الاستثنائية على حصر الخروج في المستثنى فهو محتمل الأمرين، و بما انّه لا يترتب على تعيين ذلك ثمرة عملية فلا نخوض فيه.

ص:447


1- كفاية الأُصول: 1/328.

و ربما يتصوّر وجود الثمرة، و هي انّ الدلالة المنطوقية أقوى من المفهومية، فتعيين إحدى الدلالتين غير خالي عن الثمرة.

يلاحظ عليه: أنّ تقديم الدلالة المنطوقية على المفهومية ليس لأجل كونها أقوى من المفهومية دائماً، بل ربما يكون المفهوم أقوى من المنطوق، بل الحكم في كلّ مورد يتبع أقوى الدلالتين.

بحث حول كلمة الإخلاص
الإشكال في تقدير خبر لا

لا شكّ انّ» لا «النافية للجنس تعمل عمل» ان «كقولك:» لا رجل قائم «و يكثر حذف خبرها كقوله سبحانه: (قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ) (1)و قوله: (وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ). (2)و عندئذ يقع الكلام في تعيين الخبر، لقوله:» لا إله إلاّ اللّه «فان قدر» ممكن «كان اعترافاً بإمكان المستثنى، لا لوجوده، و إن قدر» موجود «كان اعترافاً بنفي وجود الآلهة، لا نفي إمكانه و كلا الأمرين خلاف المقصود، فانّ المطلوب من هذه الكلمة أمران:

1. الاعتراف بوجود المستثنى فعلاً هو رهن تقدير» موجود «لا» ممكن «.

2. إنكار إمكان الآلهة و امتناعها و هو رهن تقدير» ممكن «لا» موجود «فكلّ من الخبرين صالح من جهة و غير صالح لجهة أُخرى.

و قد أُجيب بوجوه:
1. انّ لفظ» لا «اسميّة غنية عن الخبر

إنّ لفظ» لا «النافية للجنس، اسمية غنية عن الخبر، فقولك:» لا رجل «و» لا

ص:448


1- الشعراء: 50.
2- سبأ: 51.

مال «، كلام تام غني عن الجواب، و هذا هو الذي نقله الشيخ الأنصاري عن بعضهم و حاصله: انّ العدم كالوجود، فكما أنّ الوجود منه رابط، مثل قوله:» زيد قائم «و منه محمول مثل:» زيد موجود «، فكذلك العدم، فمنه رابط مثل قولك:» زيد ليس قائماً «، و منه محمول مثل قولك:» زيد معدوم «. و الأوّل يحتاج إلى الطرفين لامتناع تحقّق الرابط بدونهما بخلاف الثاني، فالعدم المستفاد من كلمة» لا «على طريقة التميميّين عدم محمول و لا يحتاج إلى تقدير خبر، و المعنى نفي عنوان الالهية مطلقاً إلاّ في اللّه كأنّه يقول:» الإله معدوم إلاّ اللّه «كما في قولك: لا مال و لا أهل، و يراد منه نفي المال و الأهل.(1) و كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي يرتضيه في درسه الشريف في مبحث العام و الخاص كما سيوافيك.

فإن قلت: إنّ القضية لا بدّ لها من جهة و هي لا تخلو من الإمكان و الفعلية، و على كلّ تقدير يعود المحذور، فإن كانت الجهة هي الإمكان يكون الاستثناء اعترافاً بإمكان المستثنى، و إن كانت» الفعلية «التي هي مساوقة بالموجود، كان نفياً لوجود الآلهة لا لإمكانها.

قلت: إنّ الجهة لا هذا و لا ذاك، بل الجهة عبارة عن الضرورة فكأنّه يقول:» الإله معدوم إلاّ اللّه بالضرورة «و نفي الإله بالضرورة يساوق امتناعه، كما أنّ إثباته بالضرورة يلازم وجوب وجوده.

و صحّة الجواب مبنية على ثبوت» لا «الاسمية، و إلاّ يلزم تركيب الكلام من حرف و اسم، و نقل الشيخ في المطارح انّه لغة التميميّين لكن تفسير الجملة الذائعة بين العرب كلّهم بلغة طائفة خاصة ليس صحيحاً.

ص:449


1- مطارح الأنظار: 192.
2. الإله بمعنى واجب الوجود

المراد من» الإله «هو واجب الوجود، و نفي ثبوته و وجوده في الخارج و إثبات فرد منه و هو» اللّه « يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك و تعالى ضرورة انّه لو لم يكن ممتنعاً لوجد، لكونه من أفراد الواجب.(1)

و على هذا فالمقدر هو» موجود «فهو يدلّ بالدلالة المطابقية على فعلية وجوده سبحانه و لكن يدلّ بالملازمة على نفي إمكان غيره، إذ لو كان ممكناً بالإمكان العام لكان موجوداً بالضرورة لضرورة وجوده و وجوبه.

يلاحظ عليه: أنّ الإله إمّا بمعنى المعبود، كما هو المشهور أو يساوق مفهومه مفهوم لفظ الجلالة، غير أنّ الأوّل كلّي، و الآخر علم شخصي فما يتبادر من لفظ» اللّه «هو المتبادر من لفظ» الإله « بحذف التشخّص، و أمّا كونه بمعنى واجب الوجود فلم يثبت. نعم هو من لوازم وجود الإله الواقعي.

3. المقصود حصر العبادة في اللّه لا إثبات وجوده

إنّ العرب الجاهليّين كانوا موحّدين في المراتب الثلاثة التالية:

1. التوحيد الذاتي: واحد لا ثاني له.

2. التوحيد الخالقي: لا خالق سواه.

3. التوحيد الربوبي: لا مدبر في الكون سواه.

و إنّما كانوا مشركين في العبادة، و كانوا يعبدون الأصنام بذريعة انّهم عباد اللّه المكرمين حتّى يتقربوا بعبادتهم إلى اللّه زلفى، فجاء النبي لردّ هذه العقيدة و انّ

ص:450


1- كفاية الأُصول: 2281/227.

العبادة كسائر مراحل التوحيد مختصة باللّه سبحانه، و انّه لا معبود إلاّ اللّه، فالكلمة سيقت لحصر العبادة فيه لا لإثبات وجوده.

يلاحظ عليه: بأنّ الإشكال باق بحاله لكن بصورة أُخرى، و هو انّ الخبر امّا ممكن أو موجود، فعلى الأوّل لم يعترف بكونه معبوداً بالفعل، و على الثاني لم ينف إمكان معبودية غيره.

4. الكلمة مشتملة على عقد واحد و هو عقد النفي

إنّ الإشكال مبني على أنّ الكلمة الطيبة مشتملة على عقدين: عقد النفي و عقد الإثبات بمعنى نفي ألوهية غيره، و إثبات أُلوهيّته، و عندئذ يتوجه الإشكال، لأنّ الغرض في العقد الأوّل نفي الإمكان، و في الثاني إثبات وجوده فعلاً و الخبر الواحد، أعني:» ممكن «أو» موجود «لا يفي بكلا الأمرين.

و أمّا لو قلنا بأنّ الغرض الأقصى منها، هو العقد السلبي، أي سلب الأُلوهية عن كلّ ما يتصوّر سوى اللّه سبحانه، و امّا إثبات الأُلوهية للّه سبحانه، فليس بمقصود، لكونها كانت أمراً مسلّماً، فيسقط الإشكال، و يكون الخبر المقدر، هو الممكن.

و يكون مفاده نفي إمكان أُلوهيّة غيره و أمّا أُلوهيته سبحانه، إمكاناً أو فعلاً، فليس بمقصود، لكونها أمراً مسلماً إمكاناً و فعلية.(1)

5. الهدف نفي الفعلية و إثباتها

و هذا الوجه ذكره الشيخ الأنصاري، و حاصله: انّ الغاية من كلمة

ص:451


1- التعليقة على الكفاية: 159، للعلاّمة الطباطبائي.

الإخلاص في جانبي السلب و الإيجاب، هو نفي أُلوهية الآلهة الموجودة بين المشركين و حصر الأُلوهية في اللّه.

و بعبارة أُخرى نفي الفعلية عنها و إثباتها له، و أمّا نفي إمكان أُلوهيتها فليس بمطلوب في المقام و إنّما يطلب من الآيات الأُخرى نظير:

1. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ )(1)، و قوله: (وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ )(2).(3)

هذه هي أجوبة القوم في المقام، و الأظهر هو الجواب الرابع و الخامس، فلاحظ.

***

2. من أدوات الحصر لفظة «إنّما»
اشارة

من أدوات الحصر كلمة» إنّما «قال الخطيب في تلخيص المفتاح: و منها» إنّما «كقولك في قصره أفراداً» إنّما زيد كاتب «و قلنا:» إنّما زيد قائم «(4)فلو أُريد من الكلام قطع الشركة كما إذا زعم المخاطب انّ زيداً كاتب و شاعر معاً، فيكون القصر أفراداً، و إن أُريد قلب اعتقاد المتكلّم كما إذا اعتقد المخاطب انّ زيداً قاعد، يكون القصر قلباً.

و استدلّ علماء المعاني على إفادتها للحصر بوجوه:

1. انّ لفظة» إنّما «تتضمن معنى» ما «و» إلاّ «بشهادة قول المفسّرين (إِنَّما

ص:452


1- الأنبياء: 22.
2- المؤمنون: 91.
3- مطارح الأنظار: 192.
4- المختصر: 82.

حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ) (1)أي ما حرم ربّكم إلا الميتة و ما تلاها.

2. قول النحاة: إنّ لفظة» إنّما «لإثبات ما يذكر بعدها و نفي ما سواه.

3. صحّة انفصال الضمير معه، كقولك:» إنّما يقوم أنا «و لا وجه لظهور الضمير إلاّ إفادة الحصر.

أنا الذائد الحامي الذمار و إنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي(2)

و استدل المحقّق الخراساني على إفادته الحصر بوجهين تاليين:

4. تبادر الحصر منها في استعمالاتها.

5. تصريح أهل اللغة بذلك كالأزهري و غيره.(3)

و أورد على الأوّل من الأخيرين بأنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة و لا يعلم بالدقة، لعدم وجود ما يرادفها في عرفنا حتّى يستكشف منه بمراجعة الوجدان.

يلاحظ عليه: بأنّه يكفي التبادر عند أهل اللسان و إن لم يكن في عرفنا ما هو مرادف لها.

و على الثاني منها بأنّ قول اللغوي ليست بحجّة إلاّ من باب الظن المطلق.

يلاحظ عليه: بأنّه إذا تضافر النقل من اللغويين و النحويين و علماء المعاني على أنّه يفيد الحصر، أفاد ذلك وثوقاً و هو علم عرفي و حجّة شرعية.

ص:453


1- البقرة: 173.
2- الذمار كلّ ما يلزمك حمايته و حفظه و الدفع عنه.
3- مطارح الأنظار: 192; درر الأُصول: 197.
دليل النافي لإفادة الحصر

ذهب الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (1)إلى أنّ لفظة» إنّما «لا تفيد الحصر ليبطل بذلك دلالة الآية على ولاية الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (، و استدلّ على مختاره بالآية التالية:

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ).(2)

وجه الاستدلال: انّ حال الدنيا ليس منحصراً بما جاء في هذا المثل، بل يمكن بيان حال الدنيا بتمثيلات أُخرى.

1. (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ).(3)

2. (وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ ).(4)

إلى غير ذلك من الأمثال الواردة في الكتاب و السنّة و الأدب العربي بُغْية بيان حال الدنيا و هذا آية عدم الحصر.(5)

ص:454


1- المائدة: 55.
2- يونس: 24.
3- محمد: 36.
4- الحديد: 20.
5- مفاتيح الغيب: 12/30 بتصرف و إيضاح.

يلاحظ عليه: بأنّ الدنيا في التمثيلات المتقدّمة شبهت بأُمور متماثلة في الحقيقة و المعنى كما في تشبيهها بماء أنزل من السماء أو باللعب و اللهو أو ببيت عنكبوت، فالمشبه به و إن كان مختلفاً صورة، و لكنّه واحد معنى و هدفاً، فلو نظرنا إلى الدنيا من حيث سرعة الفناء و عدم الخلود فالدنيا أمر غير باق زائل، كزوال طراوة الورود و الأزهار و الأشجار الخضراء، أو زوال اللهو و اللعب بسرعة حيث يتمّ بعد ساعة أو ساعتين، و انخرام بيت العنكبوت بقطرة ماء أو شعلة نار أو بنسيم الصبا و أمثالها.

فلا يصحّ أن يقال: انّ واقع الدنيا لا ينحصر في الأوّل، إذ لا فرق بين الأوّل و الثاني و الثالث فالجميع إشارة إلى أمر واحد.

فإن قلت: ما معنى الحصر في قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(1)، و قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (2)حيث إنّه أوحى إلى النبي أشياء كثيرة وراء قوله: إله واحد فلو قلنا بالحصر يجب أن يكون الموحى إليه أمراً واحداً.

قلت: إنّ الحصر في الآية إضافي و ليس بحقيقي فليست الآية بصدد بيان انّه لم يوح إليه طول رسالته إلاّ أمر واحد، بل بصدد بيان أنّ الذي أُوحي إليه في مجال معرفة اللّه شيء واحد، و هو انّه إله واحد لا اثنان كما عليه الثنوية و لا ثلاثة كما عليه المسيحية، و لا أكثر كما عليه المشركون، ففي هذا المجال لم يوح إليه إلاّ شيء واحد.

ص:455


1- الأنبياء: 108.
2- الكهف: 110.

و أظن انّ الرازي و من لفّ لفّه كان عالماً بعدم صحّة ما تمسّك به لكن عقيدته المسبقة بتربيع الإمامة و انّ علياً رابع الخلفاء لا أوّلهم، جرته إلى هذه المناقشات غير التامة.

و على كلّ تقدير درس مورد الآيات المشتملة على كلمة» إنّما «يقف على أنّه يفيد الحصر، و إليك بعض هذه الآيات:

1. (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ).(1)

2. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ... ).(2)

3. (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ ).(3)

إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالحصر خصوصاً إذا كانت بعد السلب، كما إذا قيل: ليس زيد قائماً إنّما هو قاعد.

و على كلّ تقدير فلو دلت على الحصر فإنّما تدلّ بالمنطوق لا بالمفهوم و لا وجه لتسمية تلك الدلالة و ما تقدّمها مفهوماً.

3. بل الإضرابية

ذكر النحاة و الأُدباء في كتبهم القواعد التالية للفظة بل:

1. انّ لفظة بل وضعت للإضراب و الانتقال من معنى إلى معنى، أو من

ص:456


1- المائدة: 33.
2- البقرة: 173.
3- الممتحنة: 98.

غرض إلى غرض، و هذه الحقيقة لا تنفك عن لفظة بل، قال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ).(1)

2. لو تلاها جملة فهي حرف ابتداء كما في الآية المتقدمة و ليست بعاطفة، و إن تلاها مفرد فهي عاطفة كما سيوافيك أمثلته.

3. ثمّ إنّ لفظة» بل «تارة تنقل حكم المعرض عنه إلى المدخول بعينه، و أُخرى تنقل ضدّه، و هذا ممّا لا بدّ للفقيه من معرفة موارده.

فإن تقدّمها جملة خبرية إيجابية أو جملة إنشائية، فعندئذ تنقل حكم الأوّل إلى الثاني و مع السكوت عن حكم المضرب عنه فلا يحكم عليه بشيء من النفي و الإثبات كقولك: اضرب زيداً بل عمراً، و قام زيد بل عمر، و إلى تلك الضابطة يشير ابن مالك في منظومته و يقول:

و انقل بها للثاني حكم الأوّل في الخبر المثبت و الأمر الجلي

و إن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته مع جعل ضدّ ما سبق لما بعدها نحو قوله: ما قام زيد بل عمرو، أي: بل قام عمرو، و لا تضرب زيداً بل عمراً، أي: بل اضرب عمراً.(2)

هذه هي القواعد الكلية في تلك اللفظة و عند ذاك تصل النوبة إلى البحث عن إفادتها الحصر فقد اختلفت الأقوال كالتالي:

1. لا تفيد الحصر مطلقاً، و نسب إلى الحاجبي.

2. تفيد الحصر مطلقاً، و نسب إلى الزمخشري.

ص:457


1- الأعلى: 1614.
2- المغني، باب الحروف. (حرف بل)، ج 1، ص 151، ط 5; بيروت 1979 م.

3. انّ لفظة» بل «وضعت لنقل الحكم من المتبوع إلى التابع فقط مطلقاً كما عن بعضهم أو في الإثبات فقط كما عليه المشهور.

4. التفصيل بين مورد دون مورد، و هو خيرة المحقّق الخراساني. و حاصله: انّ الاضراب على أقسام ثلاثة:

1. ما كان لأجل انّ المضرب عنه إنّما أُوتي به غفلة أو سبقه به لسانه فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه، كأن يقول: جاءني زيد بل عمرو فيما إذا التفت إلى أنّ قوله:» زيد «غلط أُوتي به غفلة، ففي مثله لا دلالة لها على الحصر.

2. ما كان لأجل التأكيد فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة و التمهيد لذكر المضرب إليه فلا دلالة له على الحصر أيضاً كقوله سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ).(1)

و قوله تعالى: (وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ ).(2)

3. ما كان في مقام الردع و إبطال ما أثبت أوّلاً فيدلّ على الحصر، قال سبحانه: (وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ).(3)

و المعنى بل هم عباد و نحوه قوله سبحانه: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) (4)و هو يفيد الحصر.

و لا يخفى انّها لو أفادت الحصر فالحصر إضافي، أي انّه ليس شأن لملائكة

ص:458


1- الأعلى: 1614.
2- المؤمنون: 62 63.
3- الأنبياء: 26.
4- المؤمنون: 70.

اللّه في مقابلة اتهامهم بالولدية إلاّ أنّهم عباد مكرمون، و مع ذلك لا ينافي أن يكون لهم شأن في غير ذلك المجال، فانّهم كتبة الأعمال و قبضة الأرواح إلى غير ذلك من الشئون.

4. من أدوات الحصر تقديم ما حقّه التأخير

اتّفق النحاة على أنّ تقديم ما حقّه التأخير كالمفعول يفيد الحصر، كقوله سبحانه: (إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ).(1)

نعم لا يصحّ أن يقال انّه يفيد الحصر دائماً، إذ ربما يكون للتقديم علل مختلفة كالأهمية و غيرها.

5. اشتمال المسند إليه على اللام
اشارة

و قال المحقّق الخراساني ما هذا حاصله: إذا كان المسند إليه محلّى بلام الجنس و كان الحمل شائعاً لما أفاد الحصر، كما إذا قال: الضارب زيداً، فانّ غاية ما يفيده الحمل اتحادهما وجوداً و مصداقاً، و مثل ذلك لا يقتضي حصر المسند إليه في المسند.

نعم يفيد تعريف المسند إليه الحصر في موارد ثلاثة:

1. إذا كانت اللام للاستغراق.

2. إذا أُخذ مدخول اللام بنحو الإرسال و الإطلاق.

3. إذا كان الحمل حملاً أوّلياً ذاتياً.

فلنرجع إلى إيضاح ما أفاده فنقول: إنّ لام التعريف على أقسام:

ص:459


1- الحمد: 5.
1. لام الجنس فيما إذا كان الحمل شائعاً

يقع الكلام تارة فيما إذا كان الحمل شائعاً صناعياً و أُخرى حملاً أوّلياً.

أمّا الأوّل فله أقسام خمسة:

أ. إذا كانت النسبة بين المسند إليه و المسند التساوي نحو الإنسان ضاحك.

ب. إذا كان المسند إليه أخصَّ مطلق من المحمول، نحو: الإنسان ماش.

ج. إذا كان المسند إليه أعمّ مطلق من المسند نحو: الأمير زيد.

د. إذا كانت النسبة بينهما عموماً و خصوصاً من وجه كما في قول القائل: الحمامة بيضاء.

فالقسمان الأوّلان يفيدان الحصر لا لجهة اللام، بل لأجل كون النسبة هي التساوي أو كون المسند إليه أخصّ مطلق.

فلو استفيد الحصر فإنّما يستفاد من لحاظ النسبة، و أمّا وجود اللام فليس له دور في المقام، و أمّا الآخران فلا يدلاّن على الحصر لافتراض انّ المسند إليه أعمّ من المسند، أو كون النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه فلا يعقل للحصر مفهوم.

و حاصل الكلام: انّ الذي يؤثر في الحصر و عدمه هو لحاظ واقع المسند إليه مع المسند من حيث النسبة، و لذلك يفيد الحصر في الأوّلين دون الآخرين.

إذا أُريد من مدخول لام الجنس الإطلاق و الإرسال فهو يفيد الحصر، كما في قوله: (اَلْحَمْدُ لِلّهِ ) فانّ حصر جنس الحمد للّه، لأجل انّ كلّ ما يصدق عليه الحمد فهو للّه حتّى الحمد الموجه إلى غيره، لانّه سبحانه مبدأ المحامد و أصلها، فكلّ ما للغير من جمال و كمال فهو منه سبحانه.

ص:460

هذا كلّه إذا كان الحمل شائعاً صناعياً، و إليك الكلام في الثاني، أي فيما إذا كان الحمل أوّلياً.

2. لام الجنس إذا كان الحمل أوّلياً

إذا كانت النسبة بين المسند إليه المحلّى باللام و المسند هو التساوي في المفهوم لا الوجود. و بعبارة أُخرى: إذا كان الحمل أوّلياً فهو يفيد الحصر بلا إشكال، نظير قولك: الإنسان حيوان ناطق غير أنّ الحصر مدلول وحدة الموضوع و المحمول مفهوماً و ليس للام هاهنا أيّ دور.

هذا كلّه حول لام الجنس، و إليك الكلام في القسمين الآخرين للام.

3. لام العهد

إنّ لام العهد بمنزلة» هذا «و الغرض الإشارة إلى ما سبق ذكره، كما في قوله تعالى: (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) (1)و لا يدلّ على الحصر كما هو واضح.

4. لام الاستغراق

و المراد من لام الاستغراق ما يدلّ على شمول المدخول لكلّ ما يصدق عليه، نحو قوله: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (2)و هو يفيد الحصر قطعاً، أي حصر الإنسان في الخسر على نحو لا يشذّ عنه فرد من أفراد المدخول، إلاّ إذا قام الدليل على الخروج كما في قوله: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ).

ص:461


1- المزمل: 1615.
2- العصر: 2.

بعض أدوات الحصر

من أدوات الحصر توسط الضمير بين المسند إليه و المسند، كقولك: زيد هو القائم.

كما أنّ من أدواته أيضاً تعريف المسند نحو زيد الأمير.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه في المقام ضابطة غالبية و ليست ضابطة عامة، و لذلك يجب على المحقّق الإمعان في القرائن التي يكتنف بها الكلام.

ص:462

الفصل الخامس مفهوم اللقب

قسّم الأُدباء الاسم الذي يعيّن المسمّى إلى أقسام ثلاثة:

1. العلم، 2. الكنية، 3. اللقب.

يقول ابن مالك:

اسمٌ يُعَيِّنُ الْمُسَمّى مُطلقاً عَلَمُهُ كَجَعْفَر وَ خِرْنَقاً

وَ قَرَن وَ عَدَن وَ لاحِق وَ شَذْقَم وَ هَيْلَة وَ واشِق

وَ اسْماً أتى وَ كُنْيَةً وَ لَقباً وَ أَخِّرَنْ ذا إِنْ سِواهُ صَحِبا

فإذا قلنا: اللهمّ صلّ على سيّدنا أبي القاسم محمّد رسول اللّه، فقد جاء فيه الكنية و العلم و اللقب.

هذا هو مصطلح النحاة في لفظ اللقب، و أمّا مصطلح الأُصوليين في اللقب هو كلّ ما يعدّ من أركان الكلام أو أحد قيوده كالفاعل و المفعول و المبتدأ و الخبر و القيود الزمانية و المكانية كلّها ألقاب حسب ذلك الاصطلاح، و المعروف بين الأُصوليين إلاّ من خرج كالدقاق و الصيرفي و أصحاب أحمد بن حنبل عدم المفهوم للقيود الواردة في الكلام مستدلاً بأنّ قولنا:» المسيح رسول اللّه «لا يعدّ

ص:463

دليلاً على أنّ محمّداً ليس رسول اللّه، فإذا قال:» أكرم زيداً في الدار «فالتشريع محدد بالإكرام في الدار و لا يدلّ على عدم وجوبه في غير الدار، لأنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

و أمّا عدم إجزاء الإكرام في غير الدار عن الإكرام في الدار فليس لأجل كون القضية الأُولى ذات مفهوم، بل لأجل عدم امتثال المأمور به.

فهناك فرق بين الدلالة على العدم و بين عدم الإجزاء لأجل عدم الامتثال، فإذا قال: نذرت للفقراء أو وقفت عليهم أو أوصيت لهم ثمار هذا البستان، فلا يدلّ على نفي الحكم عن غير الفقراء، بل هو ساكت عنه.

نعم لو صرف ثماره على الأغنياء لا يجزي لا لأجل المفهوم، بل لأجل عدم الامتثال.

و على ضوء هذا ذهب الأُصوليون إلى أنّ للقيود الموجودة في الكلام لها مدخلية في الحكم على نحو لولاها لما أمكن الحكم بالموضوع، و مع ذلك لا يدلّ على سلب الحكم عنه عند عدمه، و ذلك لأنّ إثبات الشيء لا يدلّ على نفي ما عداه.

مع ذلك فهذه الضابطة ضابطة غالبية و ربما تدلّ القرائن على الأخذ بالمفهوم، و قد نقل رحمة اللّه الكرماني في تعليقته على الرسائل عند البحث عن مفهوم الوصف لآية النبأ، قصة مفيدة في المقام فلاحظ.

ص:464

الفصل السادس مفهوم العدد

إنّ العدد المأخوذ في الموضوع أو في جانب المحمول يتصوّر على أقسام أربعة:

1. أن يؤخذ العدد في جانبي الزيادة و النقيصة على نحو» لا بشرط «فلا تعد النقيصة مخلة و لا الزيادة كذلك. كقوله سبحانه مخاطباً النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (: (اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ).(1)

فانّ ذكر عدد سبعين لبيان المبالغة لا للتحديد، فلا تكون النقيصة و لا الزيادة موجبة للغفران، لأنّ الجميع لبيان عدم صلاحيتهم للمغفرة سواء أ زاد على السبعين أم نقص منه.

2. يؤخذ» بشرط لا «في كلا الجانبين كأعداد الفرائض.

3. يؤخذ» بشرط لا «في جانب النقيصة دون الزيادة، كما هو الحال في مسألة الكر فانّه عبارة عن ثلاثة أشبار و نصف، طولاً و عرضاً و عمقاً و لا يكفي الناقص كما لا يضر الزائد.

ص:465


1- التوبة: 80.

4. على عكس الصورة الثالثة بأن يؤخذ» بشرط لا «في جانب الزيادة دون النقيصة كما في أيام العادة فيحكم عليها بالحيض إلى العشر بشرط أن لا تتجاوز، و كما هو الحال في الفصل بين المصلين فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.

فإذا كان العدد حسب الثبوت على أقسام أربعة، فكيف يمكن لنا القول بالمفهوم فيه، أي انّه مأخوذ بشرط لا في كلا الجانبين، إذ ليس معنى المفهوم إلاّ هذا.

و الحاصل: انّه لو كان العدد دائماً لغاية التحديد في كلا الجانبين كان علينا الأخذ بالمفهوم أي بدلالة الدليل على عدم كفاية الأقل و إخلال الزائد، و أمّا إذا كان الواقع على الوجوه الأربعة فلا يمكن استظهار المفهوم.

هذا ما يرجع إلى مقام الثبوت و لكن ما ورد في القرآن الكريم من الأعداد في آيات الأحكام فهو بصدد التحديد من كلا الجانبين أو من جانب واحد، نحو قوله سبحانه:

1. (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ). (1)فظاهر الآية التحديد في كلا الجانبين.

2. قوله سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ )(2)، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا جانب الزيادة.

ص:466


1- النور: 2.
2- البقرة: 282.

3. (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً )(1)، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا الزيادة.

4. (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ )(2)، و الآية ظاهرة في تحديد جانب النقيصة، و يحتمل أن يكون كذلك جانب الزيادة أيضاً.

و الحاصل: انّ الأعداد الواردة في مقام التشريع ظاهرة في التحديد.

و الذي يهم الفقيه أن يدرس كلّ مورد و يأخذ بحكمه:

1. فربما يؤخذ بشرط لا في جانب الأقل، كما هو الحال في عدد الغسلات من البول و الخنزير و عدد منزوحات البئر و النصاب بالزكاة و الخمس، و عدد من تقوم به الجمعة و الجماعة.

2. و ربما يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة، ككون ما تراه المرأة من الدم حيضاً في عشرة أيّام بشرط أن لا يتجاوز.

إنّما الكلام فيما إذا لم يعلم أحد الأمرين فالظاهر كونه في مقام التحديد زيادة و نقيصة.

تطبيقات

اشارة

ثمّ إنّ تعلم القواعد و إن كان مهماً لكن الأهمّ هو تطبيقها على مصاديقها الواردة في الكتاب و السنّة، و ها نحن نذكر بعض التطبيقات في المقام:

فرعان مبنيان على إفادة إلاّ للحصر

1 لو حصل التغيير في ماء الكرّ أو الجاري في غير صفاته الثلاث كالحرارة و الرقّة و الخفّة، فهل ينجس أو لا؟ الظاهر هو الثاني للحصر المستفاد من

ص:467


1- النور: 4.
2- النور: 6.

الاستثناء بعد النفي، أعني قوله) عليه السلام (: خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونَه أو طعمه أو ريحه.(1)

2. لو ضمّ إلى نيّة التقرّب في الوضوء رياء، قال المرتضى بالصحّة مع عدم الثواب و المشهور هو البطلان، لقوله سبحانه: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(2)، و المراد من» الدين «هو الطاعة، و الحصر قاض بأنّ فاقدة الإخلاص لا أمر بها فلا تكون صحيحة.(3)

فرعان مبنيان على إفادة» إنّما «للحصر

1. يجب أن تُحنَّط مساجد الميّت السبعة بالحنوط، و هو الطيب المانع عن فساد البدن، و ظاهر الأدلّة حصر الحنوط بالكافور لقول الصادق) عليه السلام (:» إذا أردت أن تحنط الميت فاعمد إلى الكافور «.(4)

2. روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: إذا كنت إماماً» فإنّما التسليم «أن تسلّم على النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و تقول: السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين، فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة.(5)

فيدلّ الحصر على عدم الخروج إلاّ بالتسليم الثاني.

***

ص:468


1- الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 9; لاحظ الجواهر: 1/83.
2- البيّنة: 5.
3- لاحظ الجواهر: 972/96.
4- الوسائل: 2، الباب 14 من أبواب التكفين، الحديث 1; لاحظ الجواهر: 4/176.
5- الوسائل: 4، الباب 2 من أبواب التسليم، الحديث 2.

فروع مبنية على مفهوم العدد

1. لا يفسد الصوم ما يصل إلى الجوف بغير الحلق من منافذ البدن المعلومة عمداً غير الحقنة بالمائع، لصدق اسم الصوم معه شرعاً، و حصر الباقر) عليه السلام (:» لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام و الشراب، و النساء، و الارتماس في الماء «.(1)

2. هل يكفي الحجر الواحد إذا كان له أطراف ثلاثة؟ قيل لا، لورود النصّ على ثلاثة أحجار إلاّ أن يحمل على الغالب.(2)

3. هل تكره قراءة أزيد من سبع آيات على الجنب؟ قيل: نعم لمفهوم موثقة سماعة قال: سألته عن الجنب، هل يقرأ القرآن؟ قال:» ما بينه و بين سبع آيات «.(3)

4. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة و هي ثلاثة أيّام; قال بعض الأفاضل: بلياليها تحقيقاً، لأنّه الأصل في التحديد.(4)

5. يستحبّ أن يرغم الأنف في حال السجود و لا يجب، لمفهوم ما دلّ على أنّ السجود على سبعة أعظم أو أعضاء.(5)

6. لا تنعقد الجمعة بالأقلّ من خمسة لقوله) عليه السلام (:» لا تكون الخطبة و الجمعة و صلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط: الإمام و أربعة «(6)، فيكون مفهومه لو

ص:469


1- الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1; لاحظ الجواهر: 16/296.
2- الوسائل: 2، الباب 9 من أبواب الخلوة، الحديث 9; لاحظ الجواهر: 2/35.
3- الوسائل: 2، الباب 19 من أبواب الجنابة، الحديث 9; لاحظ الجواهر: 3/71.
4- لاحظ الجواهر: 23/30.
5- الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 8; لاحظ الجواهر: 10/174.
6- الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2; لاحظ الجواهر: 11/199.

قلنا بأنّ للعدد مفهوماً انعقادها بالخمسة.

فروع لها صلة بمفهوم اللقب

1. يستدل على حرمة عمل الصور المجسّمة لذوات الأرواح بصحيح زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» لا بأس بتماثيل الشجر «.(1)

2. يستدلّ على اختصاص خيار الحيوان بالمشتري بصحيح الحلبي عن الصادق) عليه السلام (:» في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام للمشتري، و هو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط «.(2) فيدلّ على نفيه عن البائع بمفهوم اللقب.

3. روي عن أمير المؤمنين) عليه السلام (أنّ رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (نهى أن يكفن الرجال في ثياب الحرير، فلو قلنا بالمفهوم لدلّ على جواز تكفين المرأة به.(3)

4. استدلّ على وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد بصحيح ابن سنان» يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها «، و مفهومه عدم جواز الاكتفاء بها لغيره.(4)

تمّ الكلام في المفاهيم

ص:470


1- الوسائل: 12، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2; لاحظ الجواهر: 22/42.
2- الوسائل: 12، الباب 3 من أبواب الخيار، الحديث 1.
3- المستدرك: 2، الباب 91 من أبواب الكفن، الحديث 2; لاحظ الجواهر: 4/170.
4- الوسائل: 4، الباب 2 من أبواب القراءة، الحديث 5; لاحظ الجواهر: 9/334.

المقصد الرابع في العام و الخاص و فيه فصول:

الفصل الأوّل: للعام صيغة تخصّه الفصل الثاني: تخصيص العام لا يوجب المجازية الفصل الثالث: العام المخصّص حجّة في الباقي الفصل الرابع: في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً الفصل الخامس: المخصص اللفظي المجمل مصداقاً الفصل السادس: إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي الفصل السابع: إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي الفصل الثامن: إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي الفصل التاسع: لزوم الفحص عن المخصّص الفصل العاشر: في الخطابات الشفاهية الفصل الحادي عشر: تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده الفصل الثاني عشر: تخصيص العام بالمفهوم الفصل الثالث عشر: الاستثناء المتعقّب للجمل الفصل الرابع عشر: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد الفصل الخامس عشر: في حالات العام و الخاص

ص:471

ص:472

المقصد الرابع العام و الخاص

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الاول: الأُمور الاعتبارية و التعريف الحقيقي

التعاريف الواردة في كلمات القوم في أمثال المقام هل هي تعاريف حقيقية أو تعاريف لفظية؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثانية، و علّلها بوجهين:

1. كون المعنى المركوز في الأذهان أوضح ممّا عُرِّف به مفهوماً و مصداقاً، و لذا يجعل صدق ذلك المعنى على فرد و عدم صدقه، مقياساً في الإشكال على التعاريف بعدم الاطراد أو الانعكاس. و التعريف لا بدّ أن يكون بالأجلى مع أنّ مصاديقه أجلى بكثير من التعريف.

2. عدم تعلّق غرض و ثمرة فقهية و حكم فرعي عليه.

يلاحظ على الوجه الأوّل بأنّ الظاهر أنّهم بصدد التعريف الحقيقي و آية ذلك، الإشكال بعدم الطرد و عدم العكس، و لو كانوا بصدد التعريف اللفظي لتركوا نقد التعاريف.

ص:473

و هذا لا ينافي أن تكون بعض المصاديق أوضح ممّا جاء في التعريف كما هو الحال في أكثر الموضوعات الواقعة في مجاله. و لو كان وضوح بعض المصاديق مانعاً عن التعريف الحقيقي لصار مانعاً في أكثر الموارد حتّى الأُمور التكوينية كالبياض و السواد و الماء و التراب مع انّ الجميع يقع في أُطرِ التعريف.

و الغرض من التعريف، هو التعرّف على المصاديق غير الواضحة، على نحو يكون التعريف مقياساً لتمييز المصداق عن غيره في عامة الموارد، سواء أ كان واضحاً أم لا.

و يلاحظ على الثاني بانّ عدم ترتّب الثمرة الفقهية لا يكون مانعاً عن التعريف فانّ أكثر ما يذكرونه في مقدمات علم الأُصول بل و في ضمن المقاصد ربما لا يترتّب عليها ثمرة فقهية كالبحث عن الوضع و المعاني الحرفية نعم فيها تشخيص للأذهان.

و مما يؤخذ على المحقّق الخراساني انّه جعل التعريف اللفظي مرادفاً للتعريف بشرح الاسم مع انّه غيره و قد أوضحنا حاله في مباحث الألفاظ عند البحث عن تقسيم الواجب إلى مطلق و مشروط.(1)

و ربما يقال انّ التعريف الحقيقي من خصائص المتأصلات و الأعيان الخارجية دون المفاهيم الاعتبارية لانّ مأخذ الجنس و الفصل هو الوجود الخارجي و ما لا وجود له خارجاً لا جنس له و لا فصل.

و لذلك يعبر في الأُمور الاعتبارية عمّا به الاشتراك بانّه كالجنس و عمّا به الامتياز بانّه كالفصل، مثلاً يقول الشهيد الثاني في كتاب الروضة عند قول الشهيد في تفسير الطهارة» بانّه استعمال طهور مشروط بالنية «: إنّ الاستعمال كالجنس و ما

ص:474


1- لاحظ إرشاد العقول: 4591/458.

هذا إلاّ لانّ الطهور أمر اعتباري.

و مع ذلك كلّه فانّ تعريف كلّ شيء بحسبه، فالتعريف الحقيقي للأُمور الاعتبارية لا يعدو عن مفاهيم اعتبارية يشكِّل أحدهما القدرَ المشترك، و الآخر وجه الامتياز.

الثاني: تعريف العام

اشارة

عرّف علماء الأُصول العامَ بوجوه نذكرها تباعاً:

1. شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ التعريف مبني على أنّ وصف اللفظ بالعموم إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم به، و سيوافيك عدم صحّته، فانّ للعموم في لغة العرب و بعض اللغات التي نعرفها ألفاظاً خاصة وضعت للعموم، سواء أتعلق به حكم أو لا.

و ثانياً: أنّ التعريف يشمل المطلق، فالحكم فيه أيضاً شامل لجميع أفراد مدخوله غاية الأمر على وجه البدل مثل قوله: اعتق رقبة.

2. شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه

يلاحظ عليه: أنّ فاعل قوله:» ينطبق عليه «هو لفظ العام كالعلماء في قوله:» أكرم العلماء «، و من المعلوم أنّ المقياس في العام شموله لكلّ ما ينطبق عليه مفرده، لا شموله لكلّ ما ينطبق عليه لفظ العام، فكم فرق بينهما؟ فانّ العام كالعلماء لا ينطبق إلاّ على ثلاثة، ثلاثة، و أمّا مفرده فينطبق على واحد واحد. و لذلك عدل المحقّق البروجردي إلى تعريف ثالث و هو:

ص:475

3. شمول مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد.

فلفظة العلماء عام لشمولها لجميع ما يصلح أن ينطبق مفرده عليه.(1)

الثالث: أقسام العام

اشارة

إنّ العام ينقسم إلى استغراقي و مجموعي و بدليّ، فإن لوحظ كلّ واحد من أفراد العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به بحياله و استقلاله، أي بوصف الكثرة فهو عام استغراقي، و إن لوحظ الأفراد لا بحياله بل بنعت الجمع فهو مجموعي، و إن لوحظ واحد من الأفراد لا بعينه على نحو الفرد المنتشر، فهو بدلي.

و على ما ذكرنا فالعام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به، ينقسم إلى تلك الأقسام، فالمتكلّم تارة يلاحظ كلّ فرد فرد على نحو الاستقلال بحيث لو تعلّق به حكم يكون لكلّ فرد إطاعة و عصيان.

و أُخرى يلاحظه بنحو المجموع على نحو لو تعلّق به الحكم يكون له إطاعة واحدة و عصيان واحد.

و في ذينك القسمين تكون الافراد ملحوظة في عرض واحد، غاية الأمر تارة بنعت الكثرة، و أُخرى بنعت الجميع.

و ثالثة: يلاحظ فرد ما على نحو لا يقف اللحاظ على ذلك الفرد بل ينتقل إلى فرد آخر فيكون المنظور إليه هذا أو ذاك أو ذلك فيكون العام بدلياً.

و على ضوء ما ذكرنا تبين انّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة لا يتوقّف على لحاظ الحكم المتعلّق به بل العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم يقع في إطار اللحاظ على الأنحاء الثلاثة.

ص:476


1- لمحات الأُصول: 302.

و مما يؤيّد ذلك انّ الواضع وضع لكلّ من الأقسام لفظاً خاصاً، فلفظة» كلّ «موضوعة للعام الاستغراقي، كما أنّ لفظة» مجموع «موضوعة للعام المجموعي و لفظة» أي «موضوعة للعام البدلي.

يقول سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ ).(1)

فلفظة كلّ في (كُلَّ واحِدٍ ) موضوعة للعام الاستغراقي.

يقول سبحانه: (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ).(2)

و قال سبحانه حاكياً عن سليمان: (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )(3).

فلفظة أيّ في الآيتين موضوعة للعام البدليّ.

نظرية المحقّق الخراساني انقسام العام إلى ثلاثة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنّما هو باختلاف كيفية تعلّق الأحكام به و إلاّ فالعموم في الجميع بمعنى واحد و هو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، غاية الأمر:

انّ تعلق الحكم به، تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدة للحكم و أُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في» أكرم مجموع الفقهاء «مثلاً، لما امتثل أصلاً بخلاف الصورة الأُولى فانّه أطاع و أصاب. و ثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل بحيث لو أكرم واحداً منهم لأطاع و امتثل.(4)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره غير تام من جهات ثلاثة: رتبة، و ملاكاً، و وضعاً:

ص:477


1- النور: 2.
2- الإسراء: 110.
3- النمل: 38.
4- كفاية الأُصول: 1/332.

أمّا الجهة الأُولى: أي رتبة فانّ الموضوع في رتبة سابقة على الحكم، و الحكم متأخر عنه رتبة و تصوراً، فكيف يكون الحكم المتأخّر سبباً لانقسام الموضوع إلى أقسام ثلاثة.

لا أقول: إنّ ذلك مستلزم للدور بتوهم» انّ الحكم متوقّف على الموضوع و الموضوع حسب انقسامه إلى أقسام ثلاثة متوقّف على الحكم «.

و ذلك لأنّ امتناع الدور يختص بالأُمور التكوينية لا الاعتبارية، و لكنّه على خلاف الضابطة في الأُمور الاعتبارية بأن يكون المتأخّر أي الحكم سبباً لانقسام المتقدّم رتبة.

و أمّا الجهة الثانية أي ملاكاً فانّ انقسام الحكم إلى أقسام ثلاثة رهن وجود مصالح مختلفة للموضوع، حيث إنّ المصلحة تارة تكون قائمة بكلّ فرد فرد من أفراد العام، فيأمر بإكرام كلّ واحد على سبيل الاستقلال.

و قد تكون المصلحة قائمة بإكرام المجموع بحيث لو تخلّف واحد منهم لما حصل الغرض الداعي.

و ثالثة تكون قائمة بإكرام فرد من أفراد الموضوع على سبيل البدل فيأمر بإكرامه كذلك، فملاك الانقسام إلى الأقسام الثلاثة حاصل قبل تعلّق الحكم، فلا بدّ أن يكون الانقسام باعتبار الموضوع الحامل للملاك، لا الحكم المتعلّق بحامل الملاك.

و أمّا الجهة الثالثة: أعني: وضعاً فانّ الوضع يتبع الغرض، فربما يتعلّق الغرض ببيان كون الموضوع كلّ فرد من الأفراد أو مجموعهم أو واحد منهم موضوعاً للحكم، فيجب أن يوضع لما يتعلّق به الغرض، لفظ خاص، و قد أشرنا إلى بعض الألفاظ الموضوعة للأقسام الثلاثة، فلاحظ.

و لنأت بمثال لأجل إيضاح أحكام الأقسام الثلاثة:

ص:478

لو نذر أن لا يدخّن فتارة يتعلّق نذره بترك كلّ ما يصدق عليه لفظ السيجارة في بيته، و أُخرى بترك مجموع ما في بيته منها، و ثالثة بترك واحد منها.

فالنذر في الأوّل بنحو العام الاستغراقي، و يكون لكلّ فرد إطاعة و عصياناً و بالتالي كفّارة متعدّدة، كما أنّه في الثاني بنحو العام المجموعي و تتحقّق الطاعة بترك الجميع و العصيان بفعل واحد منهم و يكون هناك كفّارة واحدة، و ذلك لحنث النذر بالفرد الأوّل، و لا يصدق الحنث على الفرد الثاني لافتراض انّ الموضوع ) المجموع (لم يبق بحاله حيث نقص منه فرد واحد، كما أنّه في الثالث بنحو العام البدلي فيجوز له التدخين إلى أن يبقى منها واحد.

الرابع: البدلي من أقسام العام

الظاهر من الأُصوليّين انّ العام ينقسم إلى أقسام ثلاثة حسب ما عرفت، غير أنّ المحقّق النائيني) قدس سره (قال: إنّ في عدّ العام البدلي من أقسام العموم مسامحة واضحة، بداهة أنّ البدلية تنافي العموم. فانّ متعلّق الحكم في العموم البدلي ليس إلاّ فرد واحد، أعني به: الفرد المنتشر، و هو ليس بعام. نعم البدلية عامة فالعموم إنّما هو في البدلية لا في الحكم المتعلّق بالفرد على البدل.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ البدلية ليست شيئاً وراء الموضوع، فالموضوع هو العام بقيد البدلية، و إطلاق العام عليه على المختار لأجل قابلية صدقه على كلّ فرد فرد، لكن لا في عرض واحد، بل على نحو التبادل، كقوله: أكرم أي رجل شئت.

و أمّا على مختار المحقّق الخراساني الذي هو خيرة المحقّق النائيني فلوجود ملاك العموم و هو سعة الحكم و شموله لكلّ فرد على نحو التبادل، حيث إنّ الحكم يعمّ و يسع كلّ فرد على وجه البدلية مقابل اختصاصه بفرد واحد.

ص:479


1- أجود التقريرات: 1/443.

الخامس: دوران الأمر بين أحد الأقسام الثلاثة

إذا دار أمر العام بين أحد هذه الأقسام، فهل هي أصل يعتمد عليه في تعيين أحد الأقسام؟ مثلاً: إذا حلف على ترك التدخين فشك انّه هل كان على نحو العموم الاستغراقي أو المجموعي، قال المحقّق النائيني:

إنّ الأصل اللفظي الإطلاقي يقتضي الاستغراقية، لأنّ العموم المجموعي يحتاج إلى غاية زائدة و هي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع و جعلها موضوعاً واحداً.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لا موضوع للأصل اللفظي في العام، و ذلك لما عرفت من أنّ في لغة العرب لكلّ من الأفراد لفظاً خاصاً، فأين لفظة» كلّ «من لفظة» أي «و هما من لفظة» المجموع «، فالأمر يدور بين المتباينين فلا أصل هنا يعيّن واحداً من هذه الألفاظ.

و الحاصل: انّ تعلّق العلم الإجمالي بصدور واحد من هذه الألفاظ المردد بين الاستغراقي و المجموعي و البدلي، يكون سبباً لدوران الموضوع بين الأُمور المتباينة كدوران الفائت بين الظهر و المغرب و الفجر، فكما لا موضوع للأصل اللفظي فيه فهكذا المقام.

نعم يتصوّر الدوران فيما إذا كان الدليل لبياً كالإجماع و السيرة على وجوب شيء كصيام ثلاثة أيّام فيقع الكلام في وجوبها متوالية حتّى يكون كالعام المجموعي أو أعمّ منه و من غير المتوالي ليكون كالعام الاستغراقي، فالمرجع حينئذ هو البراءة، و ذلك لأنّ الشكّ في كلفة زائدة و هو التوالي و الأصل عدمه.

ص:480


1- فوائد الأُصول: 1/515.

السادس: الفرق بين العام و المطلق

إنّ العام كما عرفت ينقسم إلى شموليّ و مجموعيّ و بدليّ، و المطلق أيضاً ينقسم إلى شمولي و بدلي، أمّا الشمولي فكقوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1)، فانّ اللام للجنس و مع ذلك تفيد العموم لجريان مقدّمات الحكمة حيث إنّ المتكلّم في مقام البيان و لم ينصب قرينة على فرد خاص فيفيد الشمولي.

و أمّا البدلي كقوله:» اعتق رقبة «بمعنى كفاية فرد ما، نظير قوله في العام» اعتق أيّ رقبة «و عندئذ يطرح السؤال التالي: ما الفرق بين العام و المطلق؟ و الجواب المعروف هو انّ دلالة العام بالوضع فكأنّ الشموليّة و البدلية داخلان في مفهوم العام و لكن دلالة المطلق عليهما بالعقل و بفضل مقدّمات الحكمة كما قررنا.

و مع أنّ هذا الجواب متين و لكن يمكن الإجابة بوجه آخر، و حاصله:

حقيقة الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم لا جزأه، سواء أ كان الموضوع أمراً طبيعياً أو فرداً شخصياً، مثلاً:

قولنا: اعتق رقبة نظير قولنا: أكرم زيداً في أنّ كلاً من اللفظين تمام الموضوع للحكم لا جزؤه، بخلاف ما إذا قلنا:» اعتق رقبة مؤمنة «أو قلنا:» أكرم زيداً قائماً «حيث يعود اللفظ فيهما جزء الموضوع، فإذا كان هذا) كون الشيء تمام الموضوع للحكم (حقيقة الإطلاق، فالشمول و البدلية، و الجزئية لا صلة لها بواقع الإطلاق.

نعم يختلف مفاد ما وقع تحت دائرة الطلب من حيث المضمون، فتارة تكون نتيجة الإطلاق الشمولية و أُخرى البدلية و ثالثة الجزئية، فهذه الأُمور الثلاثة نتائج الإطلاق لا نفس الإطلاق، و هذا بخلاف العام فانّ الشمولية و البدلية داخلان في جوهر الموضوع.

ص:481


1- البقرة: 275.

السابع: حكم العشرة و أمثالها

لمّا عرّف المحقّق الخراساني المفهوم العام بقوله: شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، خرج بالنتيجة التالية: انّ مثل شمول عشرة و غيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها.(1)

و بعبارة أُخرى: قوله في تعريف العام» انطباقه لكلّ ما يشمله «يُخرج العشرة لأنّها و إن كانت تشمل الآحاد و لكنّها لا تنطبق عليها، فليس الشمول كافياً في صدق العموم، بل يحتاج وراءه إلى الانطباق.

يلاحظ عليه: أنّ قيد الانطباق و إن أخرج العشرة عن تحت العموم و لكنّه يوجب خروج الجمع المحلّى باللام عن تعريف العام، فانّ» العلماء «شامل لكل فرد فرد لكنّه لا ينطبق على واحد منهم فلا يقال: زيد العلماء.

و الأولى إخراج العشرة عن تحت العام بقيد آخر، و هو انّ العام في مصطلح الأُصوليّين ما دلّ على الكثرة المبهمة من حيث الكمية و المقدار، كما هو الحال في الجمع المحلّى باللام و النكرة الواقعة في سياق النفي.

و أمّا العشرة فهي محدودة قلّة و كثرة.

نعم يمكن عدّها من ألفاظ العموم إذا أُريد منها مجموعات من العشرة كالعشرات بحيث يكون لكلّ عشرة مصداق و فرد فلاحظ.

إذا عرفت هذا فلندخل في صلب الموضوع، و يأتي الكلام فيه ضمن فصول:

ص:482


1- الكفاية: 1/332.

الفصل الأوّل للعام صيغة تخصّه

اشارة

اختلفت كلمتهم في الصيغ المعروفة بصيغة العام إلى أقوال ثلاثة:

1. انّها وضعت للعموم.

2. انّها وضعت للخصوص.

3. انّها مشتركة بين العموم و الخصوص.

و المعروف هو الأوّل، و استدلّ له بوجهين:

1. تبادر العموم من كلمة» كلّ «و» الجمع المحلّى باللام «و ما يعادلهما في سائر اللغات.

2. انّ الحاجة كما تمسُّ لبيان الخصوص، تمسُّ لبيان العموم أيضاً فلا بدّ للواضع من وضع لفظ أو ألفاظ لبيانها. نعم ربما يستعمل في الخصوص مجازاً و بالعناية يقال: جاء العلماء، أو حضر الصاغة، إذا جاء أعيانهم و أكابرهم و من يعتدّ بهم و ذلك لا يصير دليلاً على كونها موضوعة للخصوص، و مع ذلك فهناك ألفاظ وضعت للخصوص كما سيوافيك.

و استدلّ للقول الثاني أيضاً بوجهين:

1. انّ إرادة الخصوص في مقام الاستعمال أمر متعيّن إمّا بنفسه أو في

ص:483

ضمن العام، و جعل اللفظ حقيقة فيه أولى من جعله حقيقة في المشكوك.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأولوية في مقام الاستعمال لا يكون دليلاً على الأولوية في مقام الوضع، لأنّ لكلّ ملاكاً خاصاً، إذ الملاك في مقام الوضع، هو الحاجة لبيان العموم فلا بدّ من وضع لفظ أو ألفاظ لبيان هذا المقصد، و الملاك لتعيين المستعمل فيه هو كونه متيقناً، لا مشكوكاً، فلا يستدلّ بأحدهما على الآخر، مع كون مقام الوضع متقدّماً و الاستعمال متأخراً.

2. انّ الخاص أكثر من العام حتّى اشتهر: ما من عام إلاّ و قد خُصّ، فلو كانت حقيقة في الخصوص لزم تقليل المجاز بخلاف العكس.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه دليل على ضد المقصود، لأنّ تخصيص العام آية انّه موضوع له، لكن ورد عليه التخصيص، و لو لا ذلك، لما كان للتخصّص معنى محصل.

و ثانياً: أنّه مبني على أنّ التخصيص مستلزم كون العام مجازاً مستعملاً في غير ما وضع له، و سيوافيك انّ الحقّ خلافه، و انّ العام مطلقاً مستعمل في معناه، سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً و مراد بالإرادة الاستعمالية التي هي مناط الحقيقة و المجاز.

لكن ما تتعلّق به الإرادة الاستعمالية على صنفين:

1. يكون متعلّقاً للإرادة الجديدة أيضاً.

2. ما لا يكون كذلك.

ص:484


1- قوانين الأُصول: 1/193; الفصول: 161.
2- قوانين الأُصول: 1/196.

و المتكلّم يشير بالمخصص إلى القسم الثاني و انّ الفساق مما لم تتعلّق به الإرادة الجدية و إن تعلّقت به الإرادة الاستعمالية.

و أمّا ما هو الداعي لاستعمال اللفظ في معنى وسيع تعلّقت به الإرادة الاستعمالية دون الجدية فسيوافيك بيانه.

و أمّا القول بالاشتراك فلم نقف على دليل له، و لعلّه جعل الاستعمال في كلا المعنيين دليلاً على وضع الألفاظ لهما، لكن الاستعمال أعمّ من الوضع كما هو واضح.

ثمّ إنّ للخصوص أيضاً ألفاظاً، كلفظة» بعض «أو» قسم «أو» فئة «أو» طائفة «، أو ما يقوم مقام هذه الألفاظ.

ثمّ إنّهم ذكروا للعام صيغاً نشير إليها:

1. وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي.

2. لفظة» كل «و» الجميع «أو ما يعادلهما.

3. الجمع المحلّى باللام، كالعقود في قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).(1)

4. المفرد المحلّى باللام كقوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ).(2)

و لندرس الجميع واحداً بعد الآخر:

الأوّل: النكرة في سياق النفي أو النهي

اشارة

إنّ من أدوات العموم وقوع النكرة في حيز النفي و النهي، يقول ابن مالك في مورد» لا «النافية للجنس .

ص:485


1- المائدة: 1.
2- البقرة: 275.

عمل إنّ اجعل للا في النكرة مفردة جاءتك أو مكررة

فانصب بها مضافاً أو مضارعة و بعد ذاك الخبر اذكر رافعة

و لا النافية للجنس غير» ما «و» لا «و» لات «المشبهات بليس فانّها ترفع الاسم و تنصب الخبر و لا تفيد العموم.

و على كلّ تقدير فاتّفقوا على إفادته العموم، توضيحه:

إنّ رجلاً مع قطع النظر عن اللام و التنوين له وضع، فهو مع التنوين يدلّ على الوحدة، و مع اللام يدلّ تارة على الجنس و أُخرى على العهد، فإذا جُرّد اللفظ عن كليهما دلّ على الماهية لا بشرط شيء.

و قد نقل المحقّق القمي عن السكاكي انّه نقل إجماع أهل العربية على أنّ المصادر الخالية من اللام و التنوين موضوعة للماهية لا بشرط شيء.(1)

و لا يختصّ هذا بالمصادر، بل يعمّ الأسماء فالمجرّد من اللام و التنوين يدلّ على الطبيعة، فإذا وقعت تحت النفي أو النهي يدلّ على نفي الطبيعة و هو يتحقّق في ضمن نفي تمام الأفراد.

و يؤيد دلالته على العموم أنّه لا يجوز أن يقال: لا رجل في الدار بل رجلان، أو: و ما من رجل في الدار بل رجلان، بخلاف ليس و ما و لا و لات المشبهات بها حيث يصحّ: ليس في الدار رجل بل رجلان، و ما في الدار رجل بل رجلان، حيث إنّ التنوين إشارة إلى الوحدة العددية المعينة و يكون النفي راجعاً إلى الوحدة.

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: انّ القول بأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد ما و تنعدم بانعدام جميع

ص:486


1- القوانين: 1/202.

الأفراد غير تام على الأُصول الفلسفية، لأنّ الطبيعة لا واحدة و لا كثيرة، بل مع الواحد واحدة و مع الكثير كثيرة، فكما لها وجودات حسب الافراد، فهكذا لها اعدام بحسبها.

نعم تصحّ القاعدة في نظر العرف و ذلك لقرينة خارجية خصوصاً في النواهي، لأنّه إذا قال: لا تشرب الخمر، فالمفسدة قائمة بكلّ واحد واحد من أفراد الخمر، فترك فرد من أفرادها مع استعمال سائر الأفراد لا يؤمّن غرض المولى، فصار ذلك قرينة على أنّ المراد هو نفي الطبيعة بنفي جميع أفرادها.

الثاني: انّ العموم عبارة عمّا تدلّ على الكثرة و الافراد بالدلالة اللفظية لا بالدلالة العقلية، فانّ استفادة العموم في المورد مستند إلى الدلالة العقلية العرفية لا إلى الدلالة اللفظية، و مع ذلك كلّه فلا شكّ في أنّ هيئة لا رجل تدلّ على نفي عامة الأفراد و لو بقرينة عامة عرفية، و هي انّ نفي الطبيعة بنفي عامة أفرادها و التبادر أفضل دليل له.

هل استفادة العموم رهن مقدّمات الحكمة؟ ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ استفادة العموم رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة، قابلة للتقييد و إلاّ فسلبها لا يقتضي إلاّ استيعاب السلب لما أُريد منها يقيناً لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها، و هذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية، فانّها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها لا الافراد التي تصلح لانطباقها عليها.(1)

توضيحه: انّه يشترط في استفادة العموم أخذ الطبيعة مرسلة سارية في جميع

ص:487


1- كفاية الأُصول: 1/334.

أفرادها، و أخذ الطبيعة كذلك من مقدّمات الحكمة الذي يعبّر عنه بكون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال و الإبهام.

إذا عرفت ذلك فالذي يدلّ على لزوم إحراز هذا الشرط انّه لولاه لما أمكنت استفادة العموم، لأنّ لفظة » لا «وضعت لنفي المدخول، و أمّا كون المدخول عبارة عن كلّ ما يصلح انطباقه عليه فهو رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة و لا مجملة، و إلاّ فيمكن أن تكون لا لنفي ما أُريد من الطبيعة و إن كان المراد قسماً منها.

و بعبارة أُخرى: انّه لا دور للفظة» لا «إلاّ السلب و هو يحتمل أحد أمرين:

1. استيعاب السلب لكلّ ما تنطبق الطبيعة عليه، أو لكلّ ما يراد منها; و الأوّل يفيد العموم دون الثاني، و إحرازه فرع جريان مقدمات الحكمة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من احتمال استيعاب السلب لما أُريد منها لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها مبني على أنّ العام عند التخصيص يستعمل في غير معناه الحقيقي، و لذلك يدور الأمر بين الاحتمالين أي استيعاب السلب لما أُريد من الطبيعة يقيناً إذا كان مخصصاً أو استيعاب ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها.

و أمّا على القول بأنّ العام سواء خص أم لم يخصّ يستعمل في المعنى اللغوي العام، أي ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها(1)، فلا يكون هناك إلاّ احتمال واحد، و هو استيعاب كلّ ما يصلح انطباقها عليه، و على ضوء ذلك فلا حاجة إلى أخذ الطبيعة مرسلة في مقابل كونها مبهمة أو مجملة.

نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً آخر وراء الطبيعة فيمكن دفعه بجريان مقدّمات الحكمة.

ص:488


1- سيوافيك بيانه في الفصل القادم.

و حصيلة الكلام: انّ المحقّق الخراساني خلط بين استفادة العموم و دفع احتمال مدخلية قيد آخر في الموضوع; فالأوّل يكفي فيه نفي الطبيعة بمعناها اللغوي من دون حاجة إلى إرسال و غيره، و أمّا الثاني أي احتمال دخالة قيد في الموضوع فدفعه رهن مقدّمات الحكمة.

الثاني: لفظة كلّ أو ما يعادلها

المتبادر من لفظ كلّ أو ما يعادله هو الاستيعاب و العموم، غير أنّ سعة الدلالة تتبع سعة المدخول و ضيقه، فهو على كلّ تقدير بصدد إفادة العموم، سواء قال: أكرم كلّ عالم أو قال: أكرم كلّ عالم عادل.

فإطلاق الموضوع و تقييده لا يضرّ بدلالة كلّ الموضوع للشمول و الاستيعاب.

و بذلك يعلم أنّا لا نحتاج في استفادة الشمول و العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة، لأنّ لفظة كلّ موضوعة للشمول و معه لا حاجة لشيء آخر.

نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً سقط من كلام المتكلّم يصحّ نفيه بمقدّمات الحكمة، فالخلط السائد في القسم الأوّل جار في المقام، فنحن في استفادة العموم مستغنون عن إجراء مقدّمات الحكمة، و أمّا في نفي احتمال تقيد الموضوع بقيد آخر فيدفع بمقدّمات الحكمة.

الثالث: الجمع المحلّى باللام

و مما عدّ من أدوات العموم ما اتّفق الأُصوليون على إفادتها للعموم(1)، كقوله سبحانه: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(2)، و قوله سبحانه: (وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ

ص:489


1- القوانين: 1/197.
2- المائدة: 1.

كَافَّةً )(1)، و قوله: كافة تأكيد للعموم المستفاد من الجمع المحلّى، و قوله سبحانه: (وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ ).(2)

و الدليل على إفادته العموم، هو تبادر العموم كما هو الحال في تلك الآيات، و تؤيده كثرة استعماله في العموم في المحاورات، كقول القائل: إن كنت جاهلاً سل العلماء، و إن كنت مريضاً راجع الأطباء، و إن كنت غنياً واس الفقراء.

نعم تردد المحقّق الخراساني في إفادته العموم بذاته، و قال: إنّما يفيده إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أُخرى، و ذلك لأنّ الدالّ عليه أحد الأُمور الثلاثة:

1. اللام و لا دلالة لها بشهادة عدم دلالتها في المفرد المحلّى به.

2. الجمع المجرد، و لا دلالة له لصدقه على الاثنين و ما فوقه.

3. المركّب من اللام و الجمع، فلا دلالة له، لعدم الوضع.

و أجاب سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (عنه، بأنّ استفادة العموم لازم كون اللام لتعريف الجمع، و القابل للتعريف، هو أقصى المراتب، دون غيره، لأنّ له عرضاً عريضاً و مراتب متعددة، لا يمكن الإشارة إلى واحد منها.

فإن قلت: إنّ أقلّ الجمع، متعيّن كالثلاثة.

قلت: إن أُريد من التعيّن مفهومها فصحيح لكنّه لا يفيد في المقام، و إن أُريد تعيّنها مصداقاً، فغير تام، لتردّده بين مصاديق مختلفة، كهذه الثلاثة أو تلك الثلاثة، و لذلك لو قلت جاءني ثلاثة أشخاص، فللمخاطب أن يسأل عن مصاديقها، و يقول: أي ثلاثة هل هي زيد و عمرو و بكر، أو رعد

ص:490


1- التوبة: 36.
2- البقرة: 155.

و خالد و حيدر.(1)

يلاحظ عليه: أنّ طريق إثبات اللغة و تعيين مفاد الألفاظ و معانيها، هي التبادر و صحّة الحمل و الاطراد لا الدقائق العقلية التي لا يلتفت إليها إلاّ طبقة خاصة، و إلاّ فيجب أن يقول بالعموم في المفرد المحلّى باللام، لجريان نفس البيان فيه مع أنّه) قدس سره (لا يقول به فيه.

و الأولى التمسك بالتبادر الحاسم للنزاع.

و الكلام في استفادة العموم نفس الكلام في استفادة العموم من وقوع النكرة في سياق النفي أو لفظ » كلّ «طابق النعل بالنعل بمعنى انّه لا حاجة في فهم العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة. نعم دفع احتمال مدخلية قيد في الموضوع رهن جريانها.

الرابع: المفرد المحلّى باللام

و قد عدّ من ألفاظ العموم، المفرد المحلّى باللام و استدلّ له بوجوه قاصرة، كوصفه بالجمع في المثل الدارج: أهلك الناس الدينار الصفر و الدرهم البيض، و صحّة ورود الاستثناء عليه كقوله سبحانه: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا )(2)، و انّ اللام للتعريف و المعرّف هو أقصى المراتب.

و الظاهر انّ استفادة العموم في الموردين الأوّلين بالقرينة الخارجية، أمّا الأوّل فلأنّه لا فرق بين دينار و دينار و درهم و درهم في أنّه يغرّ الإنسان، و أمّا الثاني فبما انّ الإنسان طبيعة واحدة، فيكون تمام أفرادها في خسر، لأنّ أفراد الطبيعة فيما يجوز

ص:491


1- تهذيب الأُصول: 1/467.
2- العصر: 32.

و ما لا يجوز واحد.

و الوجه الثالث دليل عقلي لا يركن إليه في باب الدلالات كما مرّ في الجمع المحلّى باللام. و التبادر لا يساعد العموم في جميع الموارد.

نعم يمكن استفادة العموم من قوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1)بجريان مقدّمات الحكمة ببيان انّ المولى في مقام التشريع و التقنين، فإن أراد بيعاً خاصاً كان عليه البيان، و إلاّ فيكون مطلق البيع حلالاً و نافذاً، و على ذلك يخرج من باب العموم و يدخل في باب المطلق.

ص:492


1- البقرة: 275.

الفصل الثاني تخصيص العام لا يوجب المجازية

اشارة

عقد المحقّق الخراساني فصلاً في أنّ العام المخصَّص بالمتّصل أو المنفصل حجّة فيما بقي تحت العام، و لمّا كان القضاء الحاسم في هذا الموضوع مبنيّاً على مسألة أُخرى، و هي كون التخصيص، موجباً لمجازية العام، و استعماله في غير ما وضع له، و عدمه، عدلنا عن النظام الموجود في الكفاية و عقدنا فصلاً مستقلاً لهذه المسألة التي هي المبنى لحجّية العام فيما بقي، و بعد الفراغ منه، نعقد فصلاً جديداً للحجّية فيما بقي و عدمها.

فنقول: إنّ الأقوال في المسألة كثيرة ربما تناهز الثمانية(1): و المعروف منها ثلاثة:

1. حقيقة مطلقاً.

2. مجاز مطلقاً.

3. التفصيل بين المخصّص المتّصل و المنفصل فهو حقيقة في الأوّل و مجاز في الثاني.

و الحقّ هو الأوّل و هو الذي نصره المحقّق الخراساني ببيانين: أحدهما خاص بالمخصص المتصل، و الآخر بالمخصص المنفصل، و ربما تكون روح البيانين في الموردين واحداً و إن كان التعبير مختلفاً.

ص:493


1- الفصول: 198 199، الطبعة الحجرية.

1. المخصص المتّصل و تعدد الدال و المدلول

إنّ المجاز في اصطلاح المشهور عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، و لكن أدوات العموم ك» كل «مستعمل في معناه الحقيقي، الذي يعادله في اللغة الفارسية لفظة» هر «من غير فرق بين أن يكون مدخوله وسيعاً، مثل» أكرم كلّ رجل «، أو مضيقاً نحو:» أكرم كلّ رجل عادل «، فكون المدخول موسّعاً أو مضيّقاً لا يؤثر في استعمال أداة العام فهو مطلقاً مستعمل في معناه و إنّما تعلم السعة و الضيق، ممّا يأتي بعده من» رجل «أو» رجل عادل «لا انّ لفظة» كلّ «تستعمل في الأوّل في المعنى الوسيع للسعة، و في الثاني في المعنى المضيق، بل هو في كلا المقالين» كلّ رجل «،» كلّ رجل عالم «مستعمل في العموم و إن كانت افراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر قليلاً.

و إن شئت قلت: إنّ المورد من قبيل تعدّد الدالّ و المدلول، فكلّ لفظ مستعمل في معناه الحقيقي فلفظ » كل «مستعمل في الشمول، كما أنّ كلاً من الرجل و العالم مستعمل في معناه، و كلّ لفظ يحكي عن مدلوله، لا عن مدلول الآخر.

نظير ذلك في المطلق و المقيد، فإذا قال: أعتق رقبة مؤمنة، فالرقبة مستعمل في نفس معناها المجرد عن كلّ خصوصية، أعني: الإيمان، و إنّما دلّ على شرطية الإيمان و مدخليته في المكلّف به، هو لفظ» مؤمنة « فلكلّ لفظ رسالة خاصة يؤدّيها، دون أن يتدخل واحد منه في رسالة الآخر.

و يكفي في ثبوت ذلك، ملاحظة المحاورات الدارجة بيننا و القيود اللاحقة للعمومات و المطلقات في كلماتنا، فإذا قلنا: تجب الصلاة على كلّ إنسان بالغ، عاقل، نستعمل كلّ لفظ في مفهومه اللغوي، دون أن نستعمل الإنسان في الإنسان

ص:494

البالغ و هكذا.

و على ضوء ما ذكرنا فلا تخصيص واقعاً، إذ لم ينعقد للعام ظهور في العموم، حتّى يخصص، بل تولد العام من لدن صدوره مخصصاً و مضيقاً، و لو يوصف بالمخصص، فإنّما هو لأجل وجود نتيجة التخصيص فيه، لا نفسه، نظير قول القائل:» ضيّق فم الركيّة «.

2. المخصص المنفصل و الإرادة الاستعمالية

اشارة

ما ذكر من البيان يرجع إلى المخصص المتصل، و أمّا المخصص المنفصل كما إذا قال: أكرم العلماء، و قال بعد فترة: لا تكرم فسّاق العلماء، فهذا أيضاً لا يوجب مجازية العام، أي استعمال العلماء في المثال الأوّل في العلماء غير الفسّاق، بل العام فيه استعمل في نفس معناه اللغوي الوسيع، بالإرادة الاستعمالية، و إن كانت الإرادة الجدية متعلّقة بالعلماء غير الفساق، و ملاك الحقيقة و المجاز هي الإرادة الأُولى دون الثانية.

و إليك توضيحه:

إنّ للمتكلّم إرادتين:

1. إرادة استعمالية، و هي إطلاق اللفظ و إرادة معناه، سواء أ كان هازلاً، أو غير هازل، مختبراً بكلامه مدى استعداد المخاطب لامتثال أمره، أو غير مختبر، مجداً في طلب المأمور به أو غير مجد.

ففي مورد الهازل و المختبر، توجد الإرادة الاستعمالية دون الجدية، بخلاف المتكلّم لا عن هزل و لا عن اختبار، فالإرادة الاستعمالية ترافق الجدية.

كلّ هذا يدلّ على وجود الإرادتين، فتارة يتفارقان كما في الهازل و المختبر، و أُخرى يوافقان كما في الأوامر الجدية.

ص:495

بل ربما تتعلّق الإرادة الاستعمالية بشيء و الجدية بشيء آخر، فإذا قلت فلان كثير الرماد، فالاستعمالية تعلّقت بالمعنى اللغوي و هو كثرة الرماد و الجدية تعلّقت بكونه كريماً.

و على ضوء ذلك إذا قال المتكلّم: أكرم العلماء فقد تعلّقت إرادته الاستعمالية بإكرام كلّ العلماء بلا تخصيص، فلو كانت الإرادة الاستعمالية وفق الجدّية، لسكت عليه و لم يعقبه بشيء، و لو كانت الجدية مخالفة معها، لعقبه بكلام آخر يدلّ على ضيق نطاق الإرادة الجدية و يقول: لا تكرم فسّاق العلماء، فالكلام يحكي عن ضيق الإرادة الجدية، و لكنّها ليست ملاك الحقيقة و المجاز، بل ملاكهما هو الإرادة الاستعمالية المتعلّقة بكلّ العلماء.

فإن قلت: إذا كانت الإرادة الجدية مضيقة من حيث التعلّق، فلما ذا تتعلّق الاستعمالية بالأوسع منه، أو ليس الأولى أن تتعلّق هي أيضاً بنفس ما تعلّقت به الإرادة الجدية.

قلت: إنّ الغاية من التفريق بين متعلق الإرادتين هو ضرب القاعدة في الموارد المشكوكة، ليتمسك الشاك بها و يحتج على عدم خروج المشكوك عن تحت العام، باستعمال العام في معناه اللغوي.

توضيحه: انّه إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم فسّاق العلماء، و شككنا في خروج قسم آخر كالنحاة منهم عن تحت العام، فلو كان العام مستعملاً في غير معناه اللغوي لا يمكن التمسّك بالعام على عدم خروج هذا عن تحت العام لتعدّد المجازات حسب تعدد الخصوصيات، بخلاف ما إن كان مستعملاً في معناه اللغوي، فعند ذلك يأتي دور الأصل العقلائي، أعني: أصالة تطابق الإرادتين، إلاّ ما خرج بالدليل، ففي مورد الفسّاق قام الدليل على المخالفة

ص:496

و أمّا في غيره فأصالة التطابق هو المرجع.

و إلى ذلك المعنى أشار المحقّق الخراساني بقوله:» قاعدة «.

مخالف للظهور أو مخالف للحجّية

و بما ذكرنا ظهر انّ المخصص المتصل لاقترانه بالعام يمنع عن انعقاد ظهور الكلام في العموم، لأنّ الأخذ بالظهور إنّما يتمّ إذا فرغ المتكلّم عن كلامه، فما دام هو يتكلّم فله أن يُلحق بكلامه من القيود ما شاء، وعليه إذا قال: أكرم كلّ رجل فهو و إن كان ظاهراً في العموم نتيجة استعماله فيه بالإرادة الاستعمالية لكنّه ظهور بدوي غير مستقر، و لا يستقر إلاّ بفراغ المتكلّم عن كلامه و المفروض انّه أتى بالقيد في كلامه بلا فصل، و هذا ما يقال انّ المخصص المتصل يزاحم ظهور العام فيه و معه لا تصل النوبة إلى الحجّية، لأنّها فرع انعقاد الظهور و المفروض انّه لم ينعقد إلاّ في الخصوص، و في الحقيقة لا تخصيص فيه.

هذا بخلاف المخصّص المنفصل، فانّ المفروض انّ المتكلّم فرغ من كلامه و لم يأت بمخصّص فانعقد لكلامه الظهور في العموم، و ظهوره في العموم حجّة ما لم يدلّ دليل أقوى على خلافه، فإذا قال بعد يومين: لا تكرم فسّاق العلماء، يقدّم الثاني، على حجّية العام في العموم لكونه أظهر من الأوّل، و هذا ما يقال من أنّ المخصص المنفصل يزاحم حجّية العام في العموم، لا ظهوره فيه، و ذلك لانّ الفصل بين العام و المخصص صار سبباً لانعقاد الظهور للعام في العموم، و المخصص المنفصل لأقوائيته، يتصرف في حجّية ظهور العام فيه لا في أصل الظهور.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

ص:497

إنّ العام المخصّص بالمتصل ينعقد ظهوره من أوّل الأمر في الخصوص، أي العنوان المركّب » العلماء العدول «فلا تخصيص فيه حقيقة، و أمّا المنفصل، فلأجل انفصال المخصّص ينعقد ظهور الكلام في العموم، و مجيء المخصص المنفصل لا يهدم ظهوره في العموم، و إنّما يهدم حجّيته في مورد المخصص فترفع اليدُ عن حجّية الظهور في مورده.

ص:498

الفصل الثالث العام المخصص حجّة في الباقي

اشارة

هل العام المخصص حجّة في الباقي، سواء أ كان متّصلاً كما إذا قال: أكرم العلماء العدول، أم منفصلاً كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال بعد فترة قبل العمل بالعام: لا تكرم فسّاق العلماء، فإذا شكّ في خروج غير الفسّاق من العلماء، كخروج النحاة و الصرفيين و العروضيين العدول، فهل يكون العام حجّة في حقّهم فيجب إكرامهم إلى أن يعلم الخلاف؟ أو يتوقّف فيها و يكون المرجع، الأُصول العملية إذا لم يكن دليل اجتهادي غير العام؟ فيه خلاف و المشهور هو الحجية و ربما نسب إلى أهل السنّة عدم الحجّية و ربما يفصل بين المتصل و المنفصل بحجّيته في الأوّل دون الثاني.

ثمّ إنّ الفرد الذي يتمسّك فيه بالعام تارة تكون فيه الشبهة حكمية و أُخرى موضوعية، أمّا الأُولى فكما مثلنا فإذا احتملنا خروج النحوي العادل أيضاً عن تحت العام كالفاسق، فهل العام حجّة في حقّه أو لا؟ و هذا ما عبر عنه المحقّق الخراساني بقوله:

ص:499

» فيما علم عدم دخوله في المخصص «و أمّا الثانية فكما إذا علمنا أنّ زيداً عالم و لكن نشك في أنّه فاسق أو لا، فهل يجوز التمسّك فيه بالعام أو لا؟ و هذا ما يعبّر عنه بالشبهة المصداقية للمخصص، و سيوافيك الكلام فيه في الفصل القادم، لا في هذا الفصل، و إليه يشير المحقّق الخراساني بقوله:» و ما احتمل دخوله فيه أيضاً «.

و لا يخفى انّ الإشارة إلى هذا القسم في أوّل الفصل مع أنّه راجع إلى الفصل الآتي يوجب تشويش الذهن، و المعروف عدم حجّية العام في الشبهة المصداقية للمخصص مطلقاً، سواء أ كان المخصص متصلاً أو منفصلاً. و الأولى التركيز على القسم الأوّل و إرجاع البحث في الثانية إلى الفصل القادم.

دليل القائل بعدم حجّية العام في الباقي

استدلّ المخالف بعدم الحجّية بأنّ العام المخصص مستعمل في غير ما وضع له، و بما انّ للمعنى المجازي مراتب مختلفة حسب مراتب الخصوصيات، يكون تعيين الباقي) عامة الأفراد سوى المخصّص ( ترجيحاً بلا مرجّح.

و قد أُجيب عن الاستدلال بوجوه نأتي بها:

1. انّ الباقي أقرب المجازات، فإذا تعدّدت الحقيقة فأقرب المجازات أولى.

يلاحظ عليه: بأنّ المراد من الأقربية هي الأقربية من حيث أُنس الذهن به لا الأقربية من حيث العدد و الكثرة، فإذا قيل: رأيت أسداً في الحمام، و امتنعت الحقيقة و دار أمر اللفظ بين حمله على الرجل الشجاع أو الرجل الأبخر) الرجل الذي في فمه رائحة كريهة كما هو الحال كذلك في الأسد (، يحمل على الأوّل، لكثرة أُنس الذهن به في المحاورات دون الثاني، و لذلك يقول الشاعر:

أسد عليّ و في الحروب نعامة

2. ما ذكره الشيخ الأنصاري
اشارة

بعد تسليم مبنى المستدل، التخصيص يوجب المجازية و حاصله:

انّ دلالة العام في كلّ فرد من أفراده، غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده، و لو كانت دلالة مجازية، إذ هي بواسطة عدم

ص:500

شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود و المانع مفقود، لأنّ المانع في مثل العام إنّما هو يوجب صرف اللفظ عن مدلوله و المفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره فلو شكّ فالأصل عدمه.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:
أ. حمله على الباقي ترجيح بلا مرجّح

إذا كانت دلالة العام على كلّ فرد، ضمن دلالته على العموم و الشمول، فإذا لم يستعمل فيه و استعمل في غيره و كان الغير ذا مراتب مختلفة، و إرادة كلّ مرتبة أمراً ممكناً محتملاً، فحمله على مرتبة خاصة ) الباقي كلّه (يكون ترجيحاً بلا مرجّح.

ب. فقد المقتضي للحمل

إنّ ظهور العام المخصص في الباقي رهن أحد أمرين أمّا الوضع أو القرينة، و المفروض انتفاء الأوّل لافتراض انّه ليس بموضوع للباقي، كما أنّ الثانية أيضاً كذلك و دلالته على كلّ فرد على حدة في ضمن دلالته على العموم لا يوجب بقاء الدلالة مع انتفاء الثانية، فانّ الدلالة التبعية فرع بقاء الدلالة الأصلية، فإذا انتفت الثانية، انتفت الأُولى و على هذا فلا مقتضي للحمل على الباقي فقوله:» لو شكّ فالأصل عدمه «صحيح لكنّه إذا كان هنا مقتض للدلالة، و قد عرفت عدمه.

و قد قام المحقّق النائيني بالدفاع عن مقالة الشيخ حيث قال: إنّ هناك دلالات عرضية فإذا سقطت إحداها عن الحجّية بقيت غيرها من الدلالات على حجّيتها ضرورة أنّه إذا لم تكن دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد، دخيلة في دلالته

ص:501

على ثبوته لفرد آخر، لم يكن خروج فرد ما عن الحكم، منافياً لبقاء دلالته على حكم الفرد الآخر، فخروج بعض الأفراد إذا استلزم المجاز، لا يوجب ارتفاعَ دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمّها المخصِّص.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه ما ذا يريد من الدلالات العرضية؟ هل يريد منها، الدلالات العرضية المستلزمة للأوضاع المستقلّة كالمشترك اللفظي؟ فهو غير صحيح جدّاً و لا يلتزم به القائل، إذ ليس لفظ العام موضوعاً بأوضاع متعدّدة.

و إن أراد الدلالات العرضية الضمنية، في ضمن دلالة لفظ العام على الكل، ففيه انّه إذا سقطت الدلالة الثانية لأجل كون العام مستعملاً في غير معنى الكلّ حسب الفرض، تبطل الدلالات التبعية.

إلى هنا تبيّن انّ الجوابين عن استدلال الخصم، غير ناهضين لقلعه.

3. إجابة المحقّق الخراساني عن الاستدلال

انّ المحقّق الخراساني استعان في رد الدليل بما أسّسه في الفصل السابق، من إنكار المجازية في العام المخصص، لا في متصله و لا في منفصله.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من حديث تعدد الدالّ و المدلول و أنّ كلّ لفظ من ألفاظ» أكرم كلّ عالم عادل « في معناه لا أنّ لفظ» كل «استعمل في مجموع المعنى، و على ضوء هذا فالعام حجّة في الخصوص حسب تعبير الكفاية و المراد من الخصوص أي العنوان المركب فكلّ من صدق عليه عالم عادل و إن كان نحوياً أو عروضياً أو لغوياً يجب إكرامه بحجّة هذا الدليل. و لا يعتدّ بالشكّ في النحوي العادل بعد شمول عنوان العام له.

ص:502


1- أجود التقريرات: 1/452.

و أمّا المنفصل فلما عرفت من حديث تعدد الإرادتين و أنّ العام استعمل حسب الإرادة الاستعمالية أو التفهيمية في معناه العام ثمّ أخرج عنه بعد فترة ما لم تتعلّق به الإرادة الجدية و قيل لا تكرم العالم الفاسق، فالمخصص باعتبار انفصاله عن العام لا يزاحم ظهور العام، بل يبقى ظهوره بحاله و إنّما يزاحم حجيّة العام لكن في مورده الخاص و هو الفسّاق، و أمّا في غير هذا المورد فالظهور حجّة يجب الأخذ به في عامة الموارد غير الفسّاق. و ذلك ببركة الأصل العقلائي و هو تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها ظهور العام مع الإرادة الجدية إلاّ ما خرج بالدليل، فهذا الأصل السائد بين العقلاء يبعثنا على الأخذ بالظهور في كلّ مقام لم يكن قرينة على خلافه.

فإن قلت: إنّ الإرادة الاستعمالية إنّما تكون حجّة إذا لم ينكشف خلافها، و مع قيام الدليل الخاص، الكاشف عن عدم تطابقهما لا اعتبار بهذه الإرادة.

قلت: إنّ الأصل العقلائي بمعنى أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجديّة، جار في كلّ واحد واحد من أفراد العموم التي تعلّق بها الحكم، و ليس هنا أصل واحد حتى يكون الوقوف على عدم تطابقهما في مورد أو صنف، مانعاً عن جريانها فهناك حسب الأفراد و الآحاد أُصول يدل على تطابقهما و لأجل ذلك ترى العقلاء لا يشكّون في حجّية العام في الباقي و إن عُلم خروج فرد أو صنف.

و حاصل الكلام: انّ المخصّص المتّصل يُزاحم ظهورَ انعقاد الظهور في العموم، و لذلك قلنا بكونه حجّة في الخصوص أي العنوان المركّب، و أمّا المخصص المنفصل فلأجل انفصاله زماناً لا يبطل ظهور العام، بل هو باق في

ص:503

ظهوره لكنّه يبطل حجّية العام في مورد الخاص ترجيحاً للأظهر على الظاهر أو النصّ على الأظهر فإذا كان الظهور غير منثلم، الكاشف عن وجود الإرادة الاستعمالية فالأصل الثابت بين العقلاء تطابق الإرادتين إلاّ ما خرج بالدليل. و تكون نتيجته هو حجّية الظهور في كلّ موضوع شكّ في خروجه عن تحت العام.

ص:504

الفصل الرابع في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً

اشارة

إذا كان المخصّص مجملاً في مورد، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام في نفس ذلك المورد أيضاً أو لا؟ و بعبارة أُخرى إذا كان إجمال المخصص مانعاً عن التمسّك به في مورد، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام فيه أيضاً أو لا؟ و أمّا حجّية العام في غير ذلك المورد أو حجّية الخاص في مصداقه القطعي فلا كلام فيها، و ليست مطروحة في المقام.

مثلاً إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال بعد فترة: لا تكرم فسّاق العلماء، و تردد مفهوم الفسق بين خصوص مرتكب الكبيرة فقط، أو الأعمّ منها و من الصغيرة، فإجمال المخصص مانع عن كونه حجّة في مورد مرتكب الصغيرة، و هل إجماله يمنع عن حجّية العام في مورده، حتّى تصل النوبة إلى الأُصول العملية، أو لا يكون مانعاً عنه، فيحتجّ في مورد مرتكب الصغيرة بالعام ويحكم بوجوب إكرامه.

هذا هو محور البحث في المقام، و ما اخترناه في العنوان يناسب ما هو المقصود من عقد هذا الفصل.

و في كلمات القوم عنوانان آخران:

1. في سراية إجمال المخصص إلى العام و عدمها.

ص:505

2. التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية للمخصص.

و أمّا صور المسألة فلا تتجاوز عن أربع، لأنّ المخصص إمّا متّصل أو منفصل، و إجمال المخصص تارة يستند إلى دورانه بين الأقلّ و الأكثر، أو بين المتباينين، و إليك رءوس الصور على وجه التفصيل:

1. المخصص المتّصل و دوران الأمر بين الأقل و الأكثر.

2. المخصّص المنفصل و دوران الأمر بين الأقل و الأكثر.

3. المخصّص المتصل و دوران الأمر بين المتباينين.

4. المخصّص المنفصل و دوران الأمر بين المتباينين.

و ليعلم أنّ المخصص المجمل تارة يكون لفظياً و أُخرى لبيّاً، كما أنّ إجماله تارة يكون في المفهوم و أُخرى في المصداق، و البحث في المقام مركّز على المخصص اللفظي دون اللّبي و على المفهومي، دون المصداقي.

أمّا اللبي فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني.

إذا وقفت على رءوس الصور فلنذكر أحكامه:

1. المخصص اللفظي المتصل الدائر بين الأقلّ و الأكثر

إذا كان المخصص اللفظي متصلاً بالعام و دار أمره بين الأقل و الأكثر كما إذا قال:» أكرم العلماء غير الفسّاق «فيسري إجمال المخصِّص إلى العام، و لا يحتجّ به في مورد الشكّ) مرتكب الصغيرة (و استدلّ عليه المحقّق الخراساني بقوله:» فلعدم انعقاد الظهور للعام أصلاً، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقل و الأكثر «.(1)

ص:506


1- الكفاية: 1/329.

تفصيله هو ما مرّ في الفصل الماضي من أنّ المخصص المتّصل، يعارض ظهور العام، فلا ينعقد له ظهور في العموم، حتّى يتمسك به في مورد الشكّ) أعني: مرتكب الصغيرة (بل ينعقد ظهوره في الخصوص، أي العنوان المركب، أي:» العلماء غير الفسّاق «، فكما يجب في مقام الاحتجاج إحراز كونه عالماً، هكذا يجب إحراز كونه غير فاسق، و المفروض انّه غير محرز، لإجمال مفهوم الفاسق و تردده بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه و من مرتكب الصغيرة، فعلى الأوّل فهو من مصاديق غير الفسّاق، دون الثاني، و معه كيف يمكن أن يتمسّك بالدليل الذي لم يحرز موضوعه؟ فإن قلت: إنّما يصحّ هذا إذا كان المخصّص بلسان الوصف كالمثال الماضي، و أمّا إذا كان بلسان الاستثناء كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم، فالموضوع هو العالم، و المفروض انّه محرز بعامة أجزائه.

قلت: إنّ الموضوع و إن كان هو العلماء، لكن الاستثناء جعل العام حجّة في غير مورد الفسّاق، فالعام حسب الموضوع و إن كان محرزاً، لكنّه بما هو حجّة فيه غير محرز.

و بعبارة أُخرى: الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية و إن كان محرزاً، لكنّه حسب الإرادة الجدية غير محرز لتعلّقها بشهادة الاستثناء، بغير الفسّاق من العلماء، و إنّما يحتجّ بالإرادة الاستعمالية إذا أحرزت مطابقتها مع الإرادة الجدية، لكنّها بعدُ غير محرزة، إذ لو كان مرتكب الصغيرة غير معدود من الفسّاق فالتطابق في مورد مرتكب الصغيرة محقّق محرز، دون ما إذا كان معدوداً منهم.

2. المخصص اللفظي المنفصل الدائر بين الأقل و الأكثر

إذا كان المخصص اللفظي، منفصلاً عن العام، بحيث لا يزاحم لأجل

ص:507

انفصاله انعقادَ ظهوره في العموم، و إنّما يزاحم حجّيته فيه كما مرّ، و دار أمره بين الأقل و الأكثر، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال بعد فترة:» لا تكرم فسّاق العلماء «فهل يسري إجماله إلى العام أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني و تبعه السيّد الأُستاذ قدّس سرّهما إلى عدم سرايته إلى العام، و أنّ العام يكون حجّة في مورد الشكّ، كمرتكب الصغيرة، و الفرق بينه و بين المتّصل حيث قلنا بعدم حجّية العام فيه هو انعقاد ظهور اللفظ في العموم و بالتالي شموله لكلّ فرد حتّى مرتكب الصغيرة، هذا من جانب و من جانب آخر الأصل تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها الظهور في مورد مرتكب الصغيرة مع الإرادة الجدية فيكون العام حجّة في الفرد المشكوك، و أمّا المخصص اللفظي المنفصل فهو و إن كان حجّة قطعية في مورد الكبيرة، لكنّه في مورد الصغيرة مشكوك الحجيّة، فلا يجوز رفع اليد عن الحجّة القطعيّة بالحجّة المشكوكة.

و إلى هذا الدليل يشير المحقّق الخراساني بقوله:

» إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملاً بأن كان دائراً بين الأقل و الأكثر و كان منفصلاً فلا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة و لا حكماً، بل كان العام متبعاً فيما لا يُتبع فيه الخاص، لوضوح انّه حجّة فيه بلا مزاحم أصلاً ضرورة انّ الخاص إنّما يزاحمه فيما هو حجّة على خلافه تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر لا فيما لا يكون كذلك «.(1)

و قال السيد الأُستاذ) قدس سره (: و لا يقاس ذلك بالمتصل المردد بين الأقل و الأكثر، إذ لم ينعقد للعام هناك ظهور قط إلاّ في المعنون بالعنوان المجمل و مرتكب الصغيرة

ص:508


1- كفاية الأُصول: 1/339.

مشكوك الدخول في العام هناك من أوّل الأمر، بخلافه هنا فانّ ظهور العام يشمله قطعاً.

و الذي يدلّ على ذلك أنّه لو كان المخصّص المنفصل المجمل حكماً ابتدائياً من دون أن يسبقه العام لما كان حجّة إلاّ المقدار المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام.(1)

أقول: إنّ ما أسّسه المحقّق الخراساني) قدس سره (، من أنّ المخصّص المنفصل لا يهدم ظهور العام و لا يعارضه فهو حجّة إلى أن يثبت خلافه، صحيح فيما إذا شكّ في أصل التخصيص أو في التخصيص الزائد، كما إذا شكّ في تخصيصه وراء الفسّاق، بالنحاة أيضاً.

و أمّا إذا شكّ في سعة المخصّص القطعي و ضيقه، فالظهور المنعقد للعام لا يحتجّ به كما هو الحال كذلك في جانب المخصص المجمل الدائر بين الأقلّ و الأكثر.

توضيحه: انّ الاحتجاج بالعام في مورد الصغيرة يعتمد على أحد أمرين:

1. الظهور في العموم.

2. تطابق الإرادة الاستعمالية في موردها مع الإرادة الجدية.

و كلاهما لا يجتمعان.

أمّا الأوّل، فلأنّ الاحتجاج به لأجل كشفه عن الإرادة الجدّية، و إلاّ فالظهور بما هو ظهور، ليس بحجّة، و عندئذ فلو شكّ في أصل التخصيص، كما إذا شكّ في ورود تخصيص ثان على العام، كعدم إكرام النحاة، فيحتجّ بعموم العام و ظهوره في

ص:509


1- تهذيب الأُصول: 1/473.

الشمول كشفه عن وجود الإرادة الجدية في مورد النحاة.

و أمّا إذا كان التخصيص قطعياً و كان الشكّ في سعته و ضيقه كما في المقام حيث شكّ في شمول » الفسّاق «لمرتكب الصغيرة و عدمه، ففي مثله لا يحتجّ بالظهور المنعقد للعام في العموم، لأنّه إنّما يحتجّ به إذا كان كاشفاً عن الإرادة الجدية، و قد علم خلافه بعد ورود المخصص حيث إنّ المخصص كشف عن تعلّق الإرادة الجدية، بغير الفسّاق، و الظهور كشف عن تعلّقها بمطلق العلماء و مع هذه المخالفة لا يحتج بالظهور المنهار.

نعم لو شكّ في تخصيص زائد وراء الموجود يحتجّ به، لأنّ سقوط ظهوره في مورد) الفسّاق (لا يصير دليلاً على سقوطه في مورد آخر لا صلة بينهما، كما في مورد النحاة.

و أمّا الثاني، أعني: الاحتجاج بأصالة التطابق في الإرادتين، فهو أيضاً كالاحتجاج بالظهور، لأنّها ليست أصلاً تعبدياً، بل أصلاً عقلائياً كاشفاً عن وجود الإرادة الجدية، في كلّ مورد تعلّقت به الإرادة الاستعمالية و مع صدور المخصص المنفصل، و تطرق الشك في دخول الصغيرة تحت العام أو المخصص به فلا يصلح الأصل المزبور، للاحتجاج لزوال الوثوق بعموم العام خصوصاً عدم استلزام الخروج عن تحت العام، تخصيصاً آخر، بل هنا تخصّص واحد، كانت الصغيرة باقية تحته أو خارجة.

و بهذا البيان عدل شيخنا الأُستاذ) مد ظلّه (عمّا بنى عليه في الدورات السابقة حيث استقرّ نظره أخيراً على أنّ إجمال المخصص المنفصل يسري إلى العام حكماً.

و مما ذكرنا يظهر عدم تمامية ما أفاده السيّد الأُستاذ من أنّه لو كان

ص:510

المخصص المنفصل حكماً ابتدائياً من دون سبق العام لما كان حجّة إلاّ في القدر المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام؟ و ذلك لأنّه لا ملازمة بين عدم الحجّية و بين عدم المانعية عن الاحتجاج بالعام، فالأوّل مسلم إذ ليس المخصص حجّة في المشكوك و لكن الثاني غير معلوم، فانّ المنفصل المجمل يصير كالقرينة الحافة بالكلام التي توجب إجمال الكلام.

و ما ذكرنا هو الوجه في التوقّف في العمل بالعام، و قد أشار إلى بعض ما ذكرناه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري و إن عدل عنه في هامش كتابه، قال: إذا صارت عادة المتكلم جارية على ذكر المخصص منفصلاً عن كلامه، فحال المنفصل في كلامه، حال المتصل في كلام غيره، فيحتاج في العمل بالعام إلى أحد أمرين:

1. القطع ببقائه تحت العام.

2. الأصل.

أمّا الأوّل فغير موجود، و أمّا الثاني فجريانه مخصوص بمورد لم يوجد فيه ما يصلح لأن يكون مخصصاً.(1)

ثمّ إنّه) قدس سره (عدل عمّا ذكر في الهامش، و حاصله: انّه لو صحّ ما ذكر لما جاز تمسّك أصحاب الأئمّة بكلام إمام زمانهم، لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلم قبل مجيء ذيله، مع أنّ ديدنهم جرى على التمسّك.

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت انّهم كانوا يتمسّكون بعموم العام، مع احتمال

ص:511


1- درر الفوائد: 1/215، ط جماعة المدرسين.

مجيء مخصص في كلام الإمام اللاحق، فانّ أكثر الروايات المتضمنة للأحكام صدر عن الصادقين، و لم يثبت انّ نظائر زرارة و محمد بن مسلم و أضرابهما من أصحاب الإمامين كانوا يتمسّكون مع احتمال صدور مخصص في كلام الأئمّة الباقين، و لأجل ذلك كان الأصل حاكماً.

إلى هنا تمّ بيان أحكام القسمين في المخصّص المتصل و المنفصل من أقسام دوران المخصّص بين الأقل و الأكثر و بقي الكلام في أحكامهما من أقسام دوران الأمر بين المتباينين.

3. المخصص اللفظي المتصل الدائر أمره بين المتباينين

إذا دار أمر المخصص اللفظي المتصل بين المتباينين، كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ زيداً و تردد المستثنى بين شخصين أحدهما زيد بن عمر و الآخر زيد بن بكر، يسقط الاحتجاج بالعام في مورد كلّ من الشخصين، لما عرفت في المخصص المتّصل الدائر أمره بين الأقل و الأكثر من أنّ اتصال المخصّص يمنع عن انعقاد الظهور للعام في العموم، بل ينعقد ظهوره في الخصوص من أوّل الأمر، أي في العنوان المركب من العلماء و غير الفسّاق، فكما يجب إحراز كون المورد عالماً يجب إحراز كونه غير فاسق، و في المقام أيضاً كذلك فكون المورد عالماً و إن كان محرزاً لكن لم يحرز الجزء الآخر لأجل الجهل بالمفهوم.

4. المخصّص اللفظي المنفصل المجمل الدائر أمره بين المتباينين

إذا كان المخصص اللفظي المنفصل، مجملاً مفهوماً مردداً بين المتباينين، كما إذا قال: أكرم العلماء و لا تكرم زيداً العالم و دار أمره بين زيد بن عمرو و زيد

ص:512

بن بكر العالمين، فهل يسري أو لا؟ الحقّ أنّه يسري حكماً، بمعنى أنّه لا يكون العام حجّة في حقّ هذين الشخصين، للعلم التفصيلي بسقوط العام عن الحجّية في حقّ أحدهما، و معه كيف يمكن أن يكون العام حجّة في مورد أحدهما أو كليهما؟! و على ذلك يجب إعمال قواعد العلم الإجمالي، فلو كان لسان المخصص رفع الوجوب يجب إكرام كلا الرجلين حتّى تحصل البراءة، و إن كان لسانه تحريم الإكرام يدور الأمر بين المحذورين فيعمل بحكمه من التخيير أو القرعة.

إلى هنا تمّ الكلام في المخصص اللفظي المجمل مفهوماً و أمّا الكلام في المخصص اللبي المجمل مفهوماً فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني، و إنّما بحث فيه في الشبهة المصداقية لا في الشبهة المفهومية.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ إجمال المخصّص اللفظي يسري إلى الأقسام في عامة الصور متصلاً كان أو منفصلاً، دار أمر الإجمال بين الأقل و الأكثر أو بين المتباينين.

إذا علمت ذلك فلندخل في الإجمال المصداقي الذي يعبر عنه بالشبهة المصداقية للمخصّص، و لنعقد له فصلاً مستقلاً كما عقدناه للمجمل مفهوماً.

ص:513

الفصل الخامس المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً

اشارة

إذا كان المخصص مجملاً من حيث المصداق لا من حيث المفهوم، كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال:

لا تكرم فسّاق العلماء، و كان المخصص معلوماً مفهوماً و إنّما تعلّق الشكّ بالمصداق و انّ زيداً العالم مثلاً هل هو فاسق أو لا؟ و هذا هو المسمّى بالشبهة المصداقية للمخصص و موردها ما إذا كان عنوان العام محرزاً و عنوان الخاص مشكوكاً كما عرفت، و أمّا إذا كان نفس عنوان العام مشكوكاً و أنّ زيداً مثلاً عالم أو لا، فهذا ما يسمّى بالشبهة المصداقية للعام، و هذا خارج عن محط البحث، و من المعلوم أنّ العام ليس بحجّة فيه.

و كان اللازم على المحقّق الخراساني أن يقسّم المخصّص اللفظي في الشبهة المصداقية إلى مخصص متّصل، و مخصص منفصل، ثمّ إنّ الشبهة في كلّ من المتّصل و المنفصل تارة تدور بين الأقلّ و الأكثر، و أُخرى بين المتباينين فتصير الأقسام أربعة كالشبهة المفهومية، لكنّه) قدس سره (سلّم عدم جواز التمسّك في المتصل مطلقاً، و في المنفصل صورة دوران الأمر بين المتباينين خص البحث بصورة واحدة و هي صورة انفصال المخصص، و دوران الإجمال بين الأقل و الأكثر، و نحن أيضاً نقتفيه.

ثمّ إنّ المشهور بين القدماء هو جواز التمسّك كما سيوافيك كلامهم عند

ص:514

التطبيقات و وافقهم من المتأخرين المحقّق النهاوندي) المتوفّى 1317) في كتاب» تشريح الأُصول «و المعروف بين المتأخرين هو عدم الجواز، و لنذكر أدلة المجوزين، حيث استدلّوا بوجوه:

أدلة المجوزين

الأوّل: مزاحمة الحجّة بغير الحجّة

انّ الخاص إنّما يزاحم العام فيما كان فعلاً حجّة) ما علم أنّه مصداق له كمعلوم الفسق (، و لا يكون حجّة فيما اشتبه انّه من أفراده فخطاب:» لا تكرم فسّاق العلماء «لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل أكرم العلماء و لا يعارضه، فانّه من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة.(1)

حاصله: انّ الحجّة عبارة عن ضم الكبرى إلى صغرى محرزة فيقال هذا خمر، و كلّ خمر حرام، و أمّا المقام فالكبرى) لا تكرم فسّاق العلماء (و إن كانت محرزة لكن الصغرى) كون زيد فاسقاً (غير محرز، فلا يحتجّ بالخاص فيه، و هذا بخلاف جانب العام، فانّ الحجّة بكلا جزئيها محرزة حيث نعلم أنّه عالم، و كلّ عالم يجب إكرامه، فرفع اليد عن الثاني من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال بقوله:» إنّ الخاص و إن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً، إلاّ أنّه يوجب اختصاص حجّية العام في غير عنوانه) الخاص (من الأفراد، فيكون أكرم العلماء دليلاً و حجّة في العالم غير الفاسق، فالمصداق المشتبه و إن كان مصداقاً للعام بلا كلام، إلاّ أنّه لم يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة لاختصاص حجّيته بغير الفاسق.

و بالجملة: العام المخصّص بالمنفصل و إن كان ظهوره في العموم كما إذا لم

ص:515


1- الكفاية: 1/342، و لاحظ تشريح الأُصول للمحقّق النهاوندي: 261 262.

يكن مخصَّصاً، بخلاف المخصص المتصل، كما عرفت إلاّ أنّه في عدم الحجّية إلاّ في غير عنوان الخاص، مثله فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين فلا بد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين «.(1)

و حاصله: انّ الصغرى في كلا الدليلين غير محرزة، أمّا الخاص فلما عرفت، و أمّا العام فهناك ملاحظتان، فالصغرى حسب إحداهما محرزة دون الأُخرى فإن لوحظ العام، مع قطع النظر عن المخصص المنفصل، فالصغرى و الكبرى محرزتان، لأنّها في هذا اللحاظ ليست إلاّ نفس العالم، و أمّا إذا لوحظ العام بعد تخصيصه به، فالموضوع يتعنون بقيد عدمي، و يكون الموضوع هو العالم غير الفاسق، و الجزء الأوّل منها و إن كان محرزاً لكن الجزء الثاني، أعني: القيد العدمي بعد غير محرز.

و إن شئت قلت: إنّ الموضوع حسب ظهور العام و إن كان محرزاً، لكنّه بالنسبة إلى ما هو حجّة فيه غير محرز، لأنّه ليس حجّة في مطلق العلماء، بل العلماء غير الفسّاق.

و بعبارة ثالثة: انّ الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية محرز و لكنّه بالنسبة إلى الإرادة الجدية غير محرز.

فإن قلت: ما ذكرته خلط بين التقييد و التخصيص فبما انّ لسان التقييد، لسان بيان حدّ الموضوع و خصوصياته، يكون سبباً لتركب الموضوع و تعنونه بعنوان القيد، كما إذا قال:

إذا أفطرت اعتق رقبة، ثمّ قال: إذا أفطرت اعتق رقبة مؤمنة.

ص:516


1- كفاية الأُصول: 3431/342.

فعندئذ يكون متعلّق الإرادة الجدية هو المعنون المركب من شيئين.

و هذا بخلاف التخصيص فانّ شأنه إخراج ما ليس بموضوع عن تحت الموضوع، فلا يورث إخراج الفسّاق منهم، تركّب الموضوع من جزءين أحدهما إيجابي أعني: العلماء و الآخر سلبي و هو غير الفسّاق.

قلت: إنّ ما ذكرته من الفرق بين التقييد و التخصيص إنّما يصحّ إذا كان الإخراج أفرادياً، كأن يُخرج زيداً، و عمراً و هكذا على التفصيل، و أمّا إذا كان الإخراج بملاك و تحت عنوان كالفسّاق مثلاً، فلا محالة يكون العام في مقام الحجّية، معنوناً بغير عنوان الخاص، أي العلماء غير الفسّاق.

نعم يظهر من المحقّق العراقي، انّ التخصيص، لا يُضفي على العام أي عنوان، و انّ إخراج بعض الأفراد، بعنوان خاص كالفسّاق أشبه بإخراجهم عن تحته بالموت، حيث قال: إنّ شأن المخصّص إخراج الفرد مع إبقاء العام على تمام الموضوعية، و إنّما يُقلِّل افراد العام دون انقلاب فيه نظير موت بعض الأفراد.(1)

و أنت خبير بأنّه خلط بين التخصيص الإفرادي، و التخصيص العنواني الحاكي عن ملاك الإخراج، فعندئذ يكون العام حجّة في غير عنوان الخاص كما أوضحناه.

الثاني: التمسّك بالعموم الأحوالي

إنّ العام بعمومه الافرادي يدلّ على وجوب كلّ فرد من العلماء كما أنّه بعمومه الأحوالي يدلّ على سراية الحكم إلى كلّ حال من حالات الموضوع، و هي عبارة عن كونهم عدولاً أو فسّاقاً، أو مشكوكي العدالة، فقد خرج الثاني عن

ص:517


1- مقالات الأُصول: 4451/444.

تحت العموم بفضل المخصص، و بقي الثالث تحت العموم الأحوالي للدليل.

يلاحظ عليه أوّلاً: مضافاً إلى أنّ العموم الأحوالي هو نفس الإطلاق الأحوالي و التعبير عن الثاني بالأوّل خلاف الاصطلاح، انّه ليس الإطلاق هو تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع و أخذها فيه، بأن يقال: إنّ العالم واجب الإكرام، سواء كان معلوم الفسق، أو مشكوك، أو مقطوع العدم حتّى يرجع الإطلاق إلى ضم القيود، مع أنّه رفض القيود، بل الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع و هو في المقام هو لفظ» العالم «فقط لاجعل الفرد واجب الإكرام في الأحوال الثلاثة.

و ثانياً: أنّ العموم الأحوالي فرع العموم الافرادي، فلو علم بقاء فرد تحت العام يشمله الحكم في الأحوال الثلاثة، و أمّا إذا شكّ في بقائه أو خروجه، كما هو الحال في المقام، لأنّ المورد على فرض من مصاديق المخصص، نشك في وجود العموم الأحوالي حتّى يحتجّ به.

و ثالثاً: إنّما يصحّ التمسّك بالعموم الأحوالي، إذا كان الشكّ مأخوذاً في لسان الدليل، بأن يقال: انّ العالم واجب الإكرام حتّى و لو شكّ في كونه فاسقاً أو غير فاسق، مع أنّه ليس كذلك و إلاّ يلزم أن يكون مبيّناً لحكمين: واقعي و ظاهري، أمّا الأوّل فالحكم على العالم بما هو هو، و الحكم عليه، بما انّه مشكوك الفسق و العدالة، و هذا ممّا لا يحتمله قوله:» أكرم العلماء «.

الثالث: استصحاب حكم العام

هذا الوجه ذكره الشيخ من قبل المجوزين و قال: و يمكن أن يحتجّ للخصم بالاستصحاب فيما لو عمل بالعام في المشكوك بواسطة القطع باندراجه

ص:518

ثمّ طرأ الشكّ فيه.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الكلام في التمسك بالعام لا بالاستصحاب.

و ثانياً: أنّه لا يعمّ الشكوك البدوية و يختصّ بما إذا كان للحكم حالة سابقة.

و ثالثاً: انّ طروء الشكّ إلى اليقين يوجب زوال اليقين من أصله، فعندئذ يخرج المورد عن قاعدة الاستصحاب و يدخل في قاعدة اليقين، و هي ليست بحجّة و لا تشملها أخبار الاستصحاب، لأنّها ظاهرة في وجود اليقين الفعلي حين الشكّ و المفروض زواله من عند الشك.

الرابع: التمسّك بقاعدة المقتضي و المانع

و هذا الوجه أيضاً ذكره الشيخ في المطارح من قبل المجوزين، قال:

الظاهر عن عنوان العام و المخصص أن يكون الأوّل مقتضياً، و الثاني مانعاً عن الحكم ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشك في وجود المانع بعد إحراز المقتضي و الأصل عدمه فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي.(2)

يلاحظ عليه: أنّه لم يدلّ دليل على حجّية قاعدة» المقتضي و المانع «، نعم قال بحجّيتها العلاّمة الشيخ محمد هادي الطهراني) قدس سره (و بالغ في تشييدها، بتطبيق أخبار الاستصحاب عليها، و قد أوضحنا في محلّه ضعف التطبيق.

أضف إلى ذلك: انّه ربّما لا يكون لسان المخصّص، لسان المانع، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال:

و ليكن العلماء عدولاً، و الشكّ في عدالة واحد منهم، ليس شكّاً في المانع بعد إحراز المقتضي، بل هو شكّ في جزء المقتضي.

ص:519


1- مطارح الأنظار: 197.
2- مطارح الأنظار: 197.

المخصّص اللبّي و الشكّ في الشبهة المصداقية

المراد من المخصّص اللبيّ، ما إذا كان الدالّ على الحكم الشرعي، أمراً غير لفظي، كالإجماع، و سيرة المتشرّعة، و حكم العقل، مثلاً لو دلّ الدليل اللفظي على إكرام الجيران و حصل القطع للمكلّف على عدم وجوب إكرام الأعداء منهم، يسمّى مثل ذلك تخصيصاً لبيّاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني خصّ ذكر المخصّص اللبي بهذا الفصل، أعني: الشبهة المصداقية، و لم يذكره في فصل الشبهة المفهومية مع إمكان جريانه فيها و نحن أيضاً نقتفيه.

و نقول: إنّ المخصّص اللبيّ في الشبهة المصداقية تارة يكون متّصلاً بالحكم العام كحكم العقل و أُخرى منفصلاً، كالإجماع و السيرة، و على كلا الوجهين فتارة يكون الإجمال دائراً بين الأقل و الأكثر، و أُخرى بين المتباينين، و الأمثلة نفس الأمثلة.

و على ضوء ما ذكر يسري الإجمال إلى العام، في متصله و منفصله، في الدائر بين الأقل و الأكثر أو الدائر بين المتباينين، و وجهه انّ المخصص جعل العام حجّة في غير عنوان الخاص و العام بعنوانه و إن كان محرزاً، لكنّه بما هو حجّة فيه، أعني: الجار غير العدو، غير محرز.

لكن الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني أجازا التمسّك بالعام في صورة واحدة، و هي إذا دار إجمال المخصص المنفصل بين الأقل و الأكثر مصداقاً و أوضحه في» الكفاية «بما يلي:

و أمّا إذا كان لبيّاً بأن كان ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد

ص:520

البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلاّ في الخصوص، و إن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجّيته كظهوره فيه.

و السرّ فيه انّ الكلام الملقى من السيد حجةً، ليس إلاّ ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلا بد من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه، مثلاً إذا قال المولى: أكرم جيراني و قطع بأنّه لا يريد إكرام من كان عدواً له منهم و شكّ في عداء بعض الجيران كانت أصالة العموم باقية على الحجّية بالنسبة إلى من لم يُعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم(1) بعداوته لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك على خلافه بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظياً، فانّ قضية تقديمه عليه، هو كون الملقى إليه كان من رأس لا يعم الخاص، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلاً. و القطع بعدم إرادة إكرام العدو لا يوجب انقطاع حجّيته إلاّ فيما قطع انّه عدوه لا فيما شكّ فيه.

كما يظهر هذا من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته، و حسن عقوبته على مخالفته، و عدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة كما لا يخفى.

بل يمكن التمسّك بعموم العام و إثبات انّ المشكوك ليس فرداً لما علم خروجه، فلو شكّ في جواز لعن شخص من بني أُميّة لاحتمال كونه مؤمناً يتمسّك بعموم:» لعن اللّه بني أُميّة قاطبة «، فيحكم عليه بأنّه ليس بمؤمن.(2)

و حاصل كلامه يرجع إلى أُمور ثلاثة:

ص:521


1- متعلّق بقوله بخروجه.
2- كفاية الأُصول: 1/342.

1. وجود التفاوت بين المخصّص اللفظي بكلا قسميه و المخصّص اللبي، و هو انّ المولى ألقى حجّتين في الأوّل و صارت قضيةُ تحكيم الخاص على العام، انّ العام لم يشمل الخاص) الفاسق (من رأس، بخلاف المقام فانّ الحجّة الملقاة ليست إلاّ أمراً واحداً، و القطع بعدم إكرام العدو لا يوجب رفع اليد عن عموم الدليل إلاّ فيما قطع بخروجه.

2. وجود السيرة العقلائية على صحّة المؤاخذة لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته.

3. يمكن أن يتمسّك بعموم العام ويحكم للفرد المشكوك أنّه ليس من أقسام الفرد المقطوع خروجه، كما في مثال: لعن اللّه بني أُميّة قاطبة، و دلّ النقل على عدم جواز لعن المؤمن منهم، فلو شكّ في أي فرد من بني أُمية يمكن التمسك بعموم العام و إثبات انّه ليس مؤمناً.

و نتيجة البحث: انّ العام حجّة باق على ظهوره و حجّيته مطلقاً إلاّ ما علم خروجه.

يلاحظ على الأوّل: بأنّه إذا كان العقل أو السيرة أو الإجماع أحد الحجج الشرعية، يكون حكمها حكم الحجج اللفظية، فكما أنّ الثانية تجعل العام حجّة في غير عنوان الخاص، كذلك الأُولى فكما يجب إحراز كونه عالماً غير فاسق في اللفظي من المخصص كذلك إحراز انّ الجار ليس عدوّ المولى.

و ما اعتمد في الدليل من إلقاء الحجّتين هناك واقعاً و حجة واحدة في المقام غير واضح، بل هو ألقى حجتين في كلا المقامين غاية الأمر قام بالثاني، مباشرة في اللفظي و بغير مباشرة في اللبي.

يلاحظ على الثاني: بأنّ ما ادّعى من السيرة العقلائية غير محرزة خصوصاً

ص:522

إذا كان تكريم العدو محرّماً و أمراً مبغوضاً، فكيف يجزى العبد بإكرامه مع دوران الأمر بين المحذورين؟! يلاحظ على الثالث: بأنّ إحراز الموضوع، أعني: بعموم الدليل، أعني قوله:» لعن اللّه بني أُميّة قاطبة «، عدم كون الفرد المشكوك مؤمناً، بأنّه مبني على حجّية مثبتات الأُصول اللفظية حتى تثبت بأصالة العموم كون الفرد المشكوك كافراً غير مؤمن، و هو موضع تأمّل.

و على فرض الصحّة فما ذكر إنّما يتأتّى إذا كان التخصيص أفرادياً، فيكون إخراج الفرد المشكوك تخصيصاً آخر، فيتمسّك بالعموم لئلاّ يلزم التخصيص الزائد بخلاف ما إذا كان التخصص عنوانياً، فانّ خروجه و عدم خروجه لا يؤثر في كثرة التخصص و قلته، كما سيوافيك توضيحه في التفصيل الآتي.

تفاصيل ثلاثة في المسألة

اشارة

ثمّ إنّ في المسألة جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية تفاصيل ثلاث:

1. التفصيل الذي اختاره الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار.

2. التفصيل الذي أفاده المحقّق النائيني) قدس سره (.

3. التفصيل الذي اخترناه في سالف الزمان.

فلندرس تلك التفاصيل بعون اللّه تبارك و تعالى.

1. التفصيل بين مخصّص يوجب التنويع و ما لا يوجب

إنّ للشيخ الأنصاري تفصيلاً آخر في المسألة) حجّية العام في الشبهة

ص:523

المصداقية (و حاصله:

أنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين و تنويعهما كالعالم و الفاسق، و العالم غير الفاسق و أُخرى لا يوجب ذلك، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العام و إن علمنا بأنّه لو فرض بين أفراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه) لكن انطباق العنوان عليه ارتجالي و ليس بملاك للحكم (. فعلى الأوّل لا وجه لتحكيم العام و أغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظية، و على الثاني يجب تحكيم العام و أغلب ما يكون إنّما هو في التخصيصات اللبيّة.(1)

و ما ذكره الشيخ) قدس سره (نظرية علمية متقنة و لكن يجب أن نشير إلى وجه الإتقان و ظاهر كلام الشيخ انّ الفارق بين القسمين هو كون المخصص لفظياً، و كونه لبيّاً، و لكن الفارق الواقعي غيره و إن كان الغالب في المخصص اللفظي هو الأوّل و في اللّبي هو الثاني، و يظهر ما ذكرنا بالبيان التالي:

إذا كان التخصيص عنوانياً فلا يصحّ التمسّك بالعام لوجهين:

الأوّل: المخصّص العنواني يجعل العام حجّة في غير الخاص، ففي ظرف الشبهة المصداقية يكون أحد الجزءين محرزاً و الجزء الآخر غير محرز كما مرّ بيانه.

الثاني: انّ التوقف في العمل بالعام في مورد الشبهة المصداقية لا يستلزم تخصيصاً زائداً، فسواء أصح التمسّك بالعام أم لم يصحّ لا يتوجه إلى العام إلاّ تخصيص واحد و هو تحت عنوان» الفاسق «، سواء أكثرت أفراده أم قلّت، فالتوقف في إكرام زيد العالم مشكوك الفسق لا يكون سبباً لتخصيص زائد وراء ما خصّ به.

ص:524


1- مطارح الأنظار: 198.

و لأجل هذين الوجهين يتوقّف في العمل بالعام.

و هذا بخلاف ما إذا كان التخصيص أفرادياً بأن يخرج من تحت العام تسعة أشخاص كلّ باسمه و شخصه و شكّ في الفرد العاشر في أنّه هل خرج من العام أو لا؟ ففي ذلك المورد يتمسّك بالعام للوجهين التاليين:

1. انّ التخصيص الافرادي لا يُضفي على العام عنواناً زائداً على ما له من العنوان و إن علمنا دخول من خرج تحت عنوان خاص و هو الفاسق لكنّه في مقام الإثبات ليس بهذا العنوان العام، بل بلحاظ كلّ فرد منهم، و عندئذ فالموضوع هو العالم، سواء أخرج عن تحته أفراد خاصة أم لم يخرج و التخصيص لا يجعل الموضوع مركباً، و عند ذلك يتمسّك في المصداق المشتبه لانطباق الموضوع عليه غاية الأمر نشك في إخراجه و الأصل عدمه.

2. إنّ التوقّف بالعمل بالعام في التخصيص الأفرادي يوجب كثرة التخصيص، و ذلك لأنّ تخصيص كلّ فرد يعدّ تخصيصاً مستقلاً، فلو خرج تسعة أشخاص و شكّ في الشخص العاشر فقد خصّ تسع مرات و شكّ في المرة العاشرة، وعليه فالشكّ في الفرد العاشر شكّ في التخصيص الزائد.

نعم التخصيص في الشريعة الإسلامية إنّما هو على نحو الإخراج العنواني دون الإخراج الأفرادي.

و على ما ذكرنا فهذا التفصيل في أصل المسألة، لا تفصيلاً بين المخصص اللفظي و اللبي.

2. التفصيل بين القيد و الملاك

قد عرفت أنّ التفصيل السابق و إن كان بظاهره تفصيلاً بين أقسام

ص:525

المخصص اللبي لكنّه كان في الواقع تفصيلاً بين المخصّص اللفظي و المخصص اللبي.

و أمّا التفصيل الذي اختاره المحقّق النائيني فهو تفصيل بين المخصصات اللبيّة فهو يفرّق بين المخصص اللبيّ الذي يصلح أن يؤخذ قيداً و عنواناً في العام و بين المخصص اللبيّ الذي لا يصلح لذلك، بل يكون ملاكاً لحكم العام، فلا يجوِّز التمسّك بالعام في الأوّل بخلاف الثاني، و حاصل ما أفاده:

1. انّ المخصص اللبّي لو كان صالحاً لأخذه في عنوان العام و قيداً له كالعدالة في قوله:» فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا «حيث عُلم أنّ العام بعمومه غير مراد، و قام الإجماع على اعتبار العدالة في الراوي ففي مثله يكون المخصص اللبي كالمخصص اللفظي حيث يصبح موضوع العام مركّباً من قيدين، أعني:

رجلاً عادلاً، فكما يجب إحراز الجزء الأوّل يجب إحراز الجزء الثاني.

2. انّ المخصّص اللبي لو كان غير صالح للأخذ في الموضوع، بل كاشفاً عن ملاك الحكم و علّته كعنوان» غير المؤمن «و» غير الخيّر «، ففي مثله يجوز التمسّك بعموم العام و إن شكّ في وجود الملاك، و ذلك لبقاء موضوع العام على بساطته وسعته من دون تقييد، و أمّا عدم صلاحيته للأخذ في العنوان، هو انّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصلح للتقييد، فللحكم ضيق ذاتي بغير المؤمن فكيف يتصوّر فيه السعة ثمّ التقييد؟! بخلاف الفاسق فانّ حكم الإكرام بطبعه يصلح أن يكون عاماً للعادل و الفاسق ثمّ يخرج الفاسق، و هذا بخلاف اللعن فانّه من أوّل الأمر من خصائص غير المؤمن و غير الخير.

فإذا كان غير المؤمن ملاكاً لحكم العام غير مأخوذ فيه يؤخذ بحكم العام في مورد الشكّ لكون الموضوع بسيطاً) بني أُمية (و عدم أخذ قيد آخر فيه.

ص:526

هذا من جانب و من جانب آخر انّ إحراز الملاك من وظائف المولى، فإلغاء الحكم بصفة العام كاشف عن إحراز وجود الملاك في عامتهم، و عندئذ: فلو علمنا بإيمان أموي كخالد بن سعيد بن العاص و إخوته أبان بن سعيد و عمرو بن سعيد كان ذلك موجباً لخروجهم من تحت العام، و انّ المتكلّم أخّر بيانَ إخراجهم لمصلحة فيه.

فعلى ضوء ذلك فلو شككنا في إيمان أحد من بني أُميّة يتمسّك بعموم العام لإحراز الموضوع.

ثمّ إنّ هنا صورة ثالثة و هي انّه إن تردد أمره و لم يحرز كونه قيداً أو ملاكاً فلو كان من الأحكام العقلية الضرورية يمكن الاتّكال عليه فيكون قيداً، و إن كان نظرياً أو إجماعياً لا يصحّ الاتّكال عليه، فيلحق بالقسم الثاني فتمسك بالعموم لجواز أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه مع احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ وجود أمثال أبناء سعيد بن العاص أوضح دليل على أنّ حكم العام ليس ملازماً لوجود ملاك اللعن في كلّ فرد فرد.

و على ضوء ذلك فنحن نحتمل أنّ سكوت المولى عن الفرد الآخر لنفس العلّة التي لأجلها سكت عن ذكر الثلاثة، و هي وجود المصلحة في تأخير البيان، و عند ذلك لا عبرة بعموم العام عند العقلاء، إذ ليس كاشفاً عن وجود الملاك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية دليل على وجود الملاك في الجميع إلاّ ما قام الدليل على فقده.

و ثانياً: أنّ موضوع الحكم لا يمكن أن يكون أعمّ من الملاك، فإذا كان الملاك

ص:527


1- فوائد الأُصول: 5391/536.

أخصّ من مطلق بني أُمية يجب أن يكون الموضوع أيضاً كذلك، و ليس هذا إلاّ قيد» غير المؤمن « أو قيد» غير الخير «و نظائرهما، فعندئذ يلحق الحكم الثاني بالقسم الأوّل في تركّب الموضوع من جزءين:

1. كونه أُموياً، 2. كونه غير المؤمن أخذاً بوحدة الموضوع و الملاك في السعة و الضيق.

و أمّا ما ذكره من أنّ الملاك لا يمكن أخذه في الموضوع، و ذلك لأنّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصحّ تخصيصه بأحد هذين الوجهين، مدفوع بأنّه خلط بين سعة الحكم حسب الإرادة الاستعمالية وسعة الحكم بالإرادة الجديّة، فاللعن حسب الإرادة الجديّة و إن كان لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير و لكنّه حسب الإرادة الاستعمالية قابل لأن يعمّ عامة بني أُميّة حتّى المؤمن و الخيّر، و ذلك لوجود المقتضي في كلهم إلاّ من هداهم اللّه، فعلى ذلك فلا فرق بين كون غير المؤمن ملاكاً للحكم أو مأخوذاً في الموضوع.

و ثالثاً: أنّ ما ذكره من الصورة الثالثة، أعني: ما يتردد بين الملاك و قيد الموضوع مخدوش أيضاً، لأنّ حاصله أنّه يلحق بالقسم الثاني باحتمالين:

1. احتمال أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه.

2. احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك.

فهذان الاحتمالان من الظنون التي لم يقم على حجّيتها دليل، أ فيصحّ أن يتمسّك بالعام اعتماداً على هذين الاحتمالين؟!

3. التفصيل بين ما إذا كان الفساد هو الأصل و عدمه

و هاهنا تفسير ثالث و إن شئت فسمه رابع التفاصيل بضم ما أفاده المحقّق

ص:528

الخراساني من التفصيل إليه.

و حاصله: انّه إذا كان الحكم الطبيعي للموضوع هو الحرمة و الفساد و كانت الحلية و الصحّة أمراً طارئاً و على خلاف طبع الموضوع، ففي هذه الموارد لو شكّ في مورد انّه باق تحت حكم العام أو خارج عنه فالعام هو المحكّم حتّى يثبت الخلاف، و على ذلك جرت سيرة علمائنا و إن كان تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

و ها نحن نذكر عدّة أمثلة اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على العمل بالعام و إن كانت الشبهة مصداقية:

1. دلّ الذكر الحكيم على وجوب الغض على المؤمنين بالنسبة إلى الجنس غير المماثل، و إن شئت قلت حرمة النظر إليه، و قال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ).(1)

ثمّ إنّه سبحانه خصّص وجوب الغض أو حرمة النظر بالنسبة إلى غير المماثل في سورة النساء بالمحارم الواردة في قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ... ) (2)فإذا ضُمّت الآيتان يتشكل منهما، عام مخصَّص، كأنّه سبحانه قال: غضّوا أبصاركم عن المرأة غير المحارم...، فلو شكّ في جنس غير مماثل انّه من المحارم، أو لا، يكون مرجعه إلى الشكّ في مصداق المخصص فأحد الجزءين محرز و هو كونه مرأة أو جنساً غير مماثل و إنّما الشكّ في الجزء الآخر، أعني:

كونه غير المحارم، فالدليل الاجتهادي، أعني: العام، ساقط، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فالمرجع

ص:529


1- النور: 30.
2- النساء: 23.

هو حلية النظر و مع ذلك عدل المشهور عن الضابطة و أفتوا بالحرمة أخذاً بحكم العام، و ما ذلك إلاّ لأنّ الحكم الطبيعي في نظر الرجل إلى المرأة هو الحرمة، خرج عنه، موارد معدودة استثنائية فيؤخذ بالحكم الطبيعي للموضوع و هو حرمة النظر، إلى أن يثبت خلافه.

و لذلك يقول السيد الطباطبائي في العروة: إذا شكّ في كونه مماثلاً أو لا، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا، فالظاهر وجوب الاجتناب، لأنّ الظاهر أنّ وجوب الغض إلى جواز النظر مشروط بأمر وجودي و هو كونه مماثلاً أو من المحارم فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم.(1)

و ما علَّل به الحكم من الأخذ بقاعدة المقتضي و عدم المانع ليس بتام، فانّ عدم احراز عنوان المخصص لا يكون دليلاً على التمسك بالعام، إذ ليست المرأة بما هي هي موضوعة للحرمة بل المرأة بوصف كونها من غير المحارم فكما لا يجوز التمسّك بالمخصص لا يجوز التمسك بعموم العام، إلاّ أن يكون الدليل ما ذكرناه من جريان السيرة على العمل بعموم العام، لكون الأصل في المورد هو الحرمة، و الحلية أمر استثنائي.

2. يقول سبحانه: (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ... ) (2)فالأصل في إبداء الزينة لغير المماثل هو الحرمة، خرجت المحارم عن تحتها، أعني قوله: (إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ ) و ما عُطِفَ عليها في الآية، فلو شك في رجل في أنّه من المحارم الذين يجوز ابداء الزينة لهم، أو لا، فالسيرة على حرمة الإبداء، إلاّ إذا تبيّن كونه من المحارم، مع أنّ مقتضى الأصل العملي هو جواز

ص:530


1- العروة الوثقى، كتاب النكاح، المسألة 50.
2- النور: 31.

الإبداء و ما ذلك، إلا لأنّ الحكم الطبيعي أو الأصل الأوّلي في إبداء الزينة هو الحرمة و الحلية طارئة استثنائية فيؤخذ به حتّى يثبت خلافه.

3. انّ الوقف عبارة عن تحبيس العين و تسبيل المنفعة فلا يباع و لا يوهب و لا يرهن، و مع ذلك كلّه فقد أفتى الفقهاء تبعاً للنصوص و القواعد، بجواز بيعه في موارد عشرة تكفّل ببيانها الشيخ الأعظم في المتاجر، فلو قام رجل ببيع الوقف و احتملنا كون المورد من الموارد المرخصة فمقتضى القاعدة الأُصولية عدم جواز التمسّك بالعام:» لا يجوز بيع الوقف «لكون الشبهة مصداقية، لكن الفقهاء أفتوا بعدم جواز الشراء، حتّى يعلم المجوز، عملاً بالعام، و ما ذلك إلاّ لأجل أنّ الأصل الأوّلي في الوقف هو الحرمة تكليفاً و وضعاً، فالعام حجّة، و إن كانت الشبهة مصداقية.

4. انّ الأصل في مال اليتيم هو حرمة التصرف إلاّ إذا كان فيه غبطة اليتيم، قال سبحانه: (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1)فلو قام أحد ببيع مال اليتيم و احتملنا فيه غبطة اليتيم، لا يجوز الشراء حتّى يثبت المجوز، و لا يجري في المقام و لا في المورد السابق أصالة الصحّة حتّى أنّ الشيخ استثنى في فرائده(2) هذين الموردين من مجرى أصالة الصحة، فلاحظ.

و بذلك يعلم وجه التفريق في كلام الشيخ في فرائده و متاجره، بين الصلاة على الميّت، و بيع مال اليتيم و الوقف، حيث تجري أصالة الصحّة في الأُولى دون الثاني; فلو قام أحد بإقامة الصلاة على الميّت و شككنا في صحّة صلاته و فسادها، تحمل على الصحّة; و لو قام هو ببيع مال اليتيم، أو الوقف، لا يحمل على

ص:531


1- الأنعام: 152.
2- الفرائد: 419، طبعة رحمة اللّه.

الصحّة إذا كان هناك شك في وجود المسوّغ للبيع.

5. لو تلف مال الغير تحت يد الإنسان فالأصل فيه هو الضمان إلاّ إذا كانت اليد يد أمانة، فلو تلف مال و شكّ في كيفية اليد أنّها يد أمانة أو لا، فالأصل فيه الضمان، و لأجل ذلك حكم الفقهاء في مثل المورد بالضمان.(1)

و إن كان المورد، من قبيل الشبهة المصداقية، لقوله: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.(2)

6. الأصل في اللحوم البحرية هي الحرمة إلاّ السمك ذات الفلس، فلو شكّ في نوع سمك في أنّه من ذوات الفلس أو لا، فالأصل فيه الحرمة حتّى يثبت الخلاف، لنفس الوجه الذي أوضحنا حاله في الأمثلة السابقة.

ص:532


1- نقل شيخنا الأُستاذ مد ظلّه عن شيخه المحقّق البروجردي في درسه احتمال انّ المشهور اعتمدوا في الإفتاء بالضمان بالروايات الواردة في المقام، لاحظ الوسائل: 13، الباب 16 من أبواب الرهن، الحديث 2 و 3.
2- سنن البيهقي: 6/90، 95; مسند أحمد: 5/8 و 13.

الفصل السادس إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي

اشارة

(1)

قد عرفت أنّ العام إلاّ ما سبق ليس حجّة في الشبهة المصداقية للمخصّص. فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل، فلو كان للمصداق المشتبه حالة سابقة يؤخذ بها، فإذا قال: أكرم العلماء و لا تكرم فسّاق العلماء، و شكّ في عدالة زيد العالم و كان مسبوق العدالة أو مسبوق الفسق فيحكم عليه بأحدهما فعلى الأوّل يدخل تحت العام و على الثاني تحت المخصص.

إنّما الكلام إذا لم يكن له حالة سابقة، فهل هنا أصل موضوعي يُنقِّح حال المشتبه و يدخله تحت العام أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى وجود الأصل المحرز في صورتين:

1. إذا كان المخصّص منفصلاً.

2. إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء.

و أما في غيرهما كما إذا كان متّصلاً و كان وصفاً فلا يحرز الموضوع بالأصل.

توضيح كلامه: هو انّ المخصّص يتصوّر على صور أربع:

ص:533


1- و ما يأتي في هذا الفصل، و إن كان ذيلاً و متمّماً لمباحث الفصل السابق، لكن فصلناه عن السابق لتسهيل الأمر على القارئ، فإنّ الإطناب ربما يوجب الملَل.

1. أن يكون وصفاً متّصلاً، كما إذا قال: أكرم العلماء العدول.

2. أن يكون وصفاً متّصلاً لكن بصورة الموجبة المعدولة، كما إذا قال: أكرم العلماء غير الفسّاق.

3. أن يكون المخصّص متّصلاً على نحو الاستثناء كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق.

4. أن يكون المخصّص منفصلاً كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم فسّاق العلماء.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل المحرز ينقح حال الموضوع المشتبه في الصورتين الأخيرتين دون الأُوليين.

و ذلك لأنّ عنواني العدول أو غير الفسّاق من العناوين المنوعة التي تقسّم الموضوع إلى علماء عدول و غير عدول، أو علماء فسّاق و غير فسّاق، و استصحاب العدم الأزلي) عدم كونه فاسقاً (لا يثبت العنوان الوجودي للعام، لأنّ استصحاب الأمر العدمي) عدم كونه فاسقاً (و إثبات الأمر الوجودي) كونه عادلاً، أو غير فاسق (من الأُصول المثبتة التي ثبت في محلّها عدم حجّيتها.

و الحاصل: الفرق بين كون المخصّص منوّعاً للعام، و مقسّماً له إلى قسمين، و بين ما لا يكون كذلك، بل يُخرج طائفة عن تحت العام دون أن ينوّع العام و يجعل الموضوع مركّباً من جزءين.

أمّا الأوّل، فكما إذا كان المخصّص وصفاً للعام كالعدول، و غير الفسّاق، إذ عندئذ يكون العام مركّباً من جزءين، يحرز أحد الجزءين بالوجدان و أمّا الأمر فلا يحرز بالأصل، لما عرفت من أنّ استصحاب العدم الأزلي، لا يثبت عنواناً وجودياً و إن كانا متلازمين في الخارج.

ص:534

أمّا الثاني فكما إذا ورد المخصص بصورة الاستثناء أو ورد منفصلاً عن العام، إذ ليس لهما دور عند ذاك إلاّ الإخراج من دون تقييد للعام بقيد وجودي، فالاستثناء يخرج آحاد الفسّاق دون أن يقيد عنوان العام بقيد و مثله المخصص المنفصل، غاية الأمر يجب في كلا الموردين أن لا يصدق عليه عنوان المخصص، و يكفي في ذلك استصحاب العدم الأزلي للرجل المشكوك فسقه و عدالته.

و على ضوء هذا قال المحقّق الخراساني بجريان استصحاب عدم القرشية في المرأة المرددة بين القرشية و غير القرشية، قائلاً، بأنّ النصّ ورد على أنّ المرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلاّ القرشية، فالمخصّص متصل لكنّه بصورة الاستثناء فليس له دور إلاّ إخراج القرشية من دون تقييد موضوع العام بقيد، غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص، و يكفي في ذلك استصحاب عدم القرشية للمرأة المرددة، فيكون المورد من الموارد التي تثبت أحد الجزءين بالوجدان و الآخر بالأصل.

و مثله ما إذا كان المخصّص منفصلاً كما إذا قال: المرأة ترى الحمرة إلى خمسين عاماً ثمّ ذكر بعد فترة: القرشية ترى الدم إلى ستين.

و بذلك تبين انّ نظريته مبنيّة على أمرين:

الأوّل: انّ التخصيص المتصل بصورة الوصف أو بصورة القضية الموجبة المعدولة ينوِّع العام و يجعل الموضوع مركّباً من جزءين، و من المعلوم أنّه لا يمكن إثبات القيد الوجودي بالأمر العدمي.

الثاني: انّه إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء أو منفصلاً فلا يضفي للعام تنويعاً و لا يوجب تركّب الموضوع، بل العام باق على عمومه، غاية الأمر يجب أن لا يصدق عليه عنوان المخصّص، فعندئذ يكفي استصحاب عدم

ص:535

قرشية المرأة، بعدم تحقّق الانتساب بينها و بين قريش فيكون باقياً تحت العام محكوماً بحكمه.

و بذلك علم أنّ المحقّق الخراساني يركز في جريان الأصل الأزلي و عدمه على شيء واحد و هو تعنون العام بقيد وجودي كما في القسمين الأوّلين و عدم تقيّده به كما في القسمين الأخيرين، فبما انّ الوصف أو الموجبة المعدولة ينوِّع العام بقيد وجودي فلا يثبت بالأصل العدمي، و أمّا الاستثناء و المخصّص المنفصل لا ينوع الموضوع و لا يضفي عليه قيداً زائداً غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص فيجري و يثبت عدم تعنونه به.

هذا توضيح مفصّل لمرام صاحب الكفاية، و قد أجمل) قدس سره (في بيان مقصوده.

مناقشة نظرية المحقّق الخراساني

البحث في جريان استصحاب العدم الأزلي في المرأة المرددة بين القرشية و غيرها يقع في مقامين:

الأوّل: مقام الثبوت.

الثاني: مقام الإثبات.

أمّا الأوّل فالذي يمكن أن يبقى تحت العام بعد ملاحظة المخصص، أحد الأُمور الثلاثة:

1. الموجبة المعدولة نحو قولنا: المرأة غير القرشية ترى الدم إلى خمسين.

2. الموجبة، السالبة المحمول نحو قولنا: المرأة التي هي ليست قرشية ترى الدم إلى خمسين.

و المراد من الموجبة السالبة المحمول هو جعل القضية السالبة المحصلة خبراً لموضوع أو في حكم الخبر، كما في المقام بحيث يكون الربط قبل

ص:536

الخبر فتحمل السالبة على الموضوع و يوصف بها لبّاً و يقال: المرأة التي هي ليست بقرشية.

3. السالبة المحصلة نحو قولنا: إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين، و على كلّ تقدير فالباقي تحت العام أحد القضايا الثلاثة.

فلو كان الباقي تحت العام، هو الأوّلان، أعني: المرأة بوصف القرشية، أو المرأة التي هي ليست بقرشية، فلا يمكن إثبات هذا القيد بالأصل العدمي، و ذلك لوجهين:

الأوّل: انّ القيد المنوِّع أمر وجودي، و المستصحب أمر عدمي، و استصحاب الأمر العدمي و إثبات القيد الوجودي من الأُصول المثبتة. و هذا هو الذي ركّز المحقّق الخراساني عليه.

الثاني: انّ المتيقّن قضية سالبة محصلة حيث تقول: إذ لم تكن المرأة موجودة فلم تكن قرشية، و القضية المشكوكة قضية سالبة المحمول بمعنى نعلم وجودها و نشك في وصفها، فاستصحاب السالبة المحصلة الصادقة مع نفي الموضوع و إثبات القضية بصورة سالبة المحمول من الأُصول المثبتة.

و قد تكرر من الشيخ الأعظم و غيره أنّ مفاد كان التامة أو النفي التام لا يثبتان مفاد كان الناقصة و النفي الناقص، مثلاً:

إذا كان في البيت ماء كرّ فنقص منه شيء، فلو قيل كان في البيت ماء كرّ بصورة كان التامة فلا يثبت به كرّيّة هذا الماء المشكوك، و لا محيص من الاستصحاب بصورة كان الناقصة بأن يقال: انّ هذا الماء كان كرّاً و الأصل بقاؤه.

و منه المرأة المشتبهة المرددة بين القرشية و غير القرشية، فالمتيقّن عدم قرشية تلك المرأة عند عدم وجودها، أعني: النفي التام، و المشكوك هذه المرأة الموجودة، المشكوكة قرشيتها. و استصحاب التام لا يثبت النفي الناقص.

ص:537

إلى هنا تبيّن انّ الأصل لا يجري فيما إذا كان الواقع تحت العام إحدى القضيتين:

1. معدولة المحمول.

2. الموجبة سالبة المحمول.

نعم لو كان الواقع تحت العام على نحو السالبة المحصلة نحو قولنا: إذا لم تكن هذه المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين الصادقة حتّى مع عدم الموضوع، ففي هذه الصورة تثبت القضيةُ المشكوكة بالقضية المتيقّنة لعدم وجود المانعين المذكورين، فعندئذ يصحّ استصحاب عدم قرشيتها لإثبات انّ المرأة المرددة واقعة تحت العام لم تخرج منها.

الكلام في مقام الإثبات

إلى هنا تمّ كلامنا في مقام الثبوت، بقي الكلام في مقام الإثبات، أي تعيين أنّ الباقي تحت العام من أي قسم من الأقسام الثلاثة.

الظاهر أنّ الباقي تحت العام بعد التخصيص هو القسمان الأوّلان لا الثالث.

و ذلك لأنّ الحكم الوارد في القضية حكم إيجابي) ترى (و القضية الموجبة لا تصدق إلاّ بوجود الموضوع، قال التفتازاني في التهذيب: و لا بدّ في الموجبة من وجود الموضوع، إمّا محقّقاً و هي الخارجية، أو مقدّراً فالحقيقية، أو ذهناً فالذهنية.(1) و القضية في المقام حقيقية يجب وجود الموضوع في ظرف الصدق، و من المعلوم أنّ الرؤية إلى خمسين من خصائص المرأة الموجودة فيختص الباقي تحت العام

ص:538


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 58، ط مؤسسة النشر الإسلامي.

بالقضية المعدولة أو بالموجبة السالبة المحمول اللتين لا ينفكان عن صدق الموضوع و وجوده.

و أمّا القضية السالبة المحصّلة فيمتنع أن تقع موضوعاً للرؤية، فلو قيل إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين فقد جُمِعَ بين نقيضين، فالموضوع بما انّه قضية سالبة محصّلة يصدق مع عدم الموضوع، و لكن المحمول) ترى (بما انّه قضية موجبة لا تصدق إلاّ مع وجود الموضوع فلا يمكن أن يكون الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة.

فإن قلت: لا مانع من أن يكون الأصل فاقداً للأثر حدوثاً و واجداً له بقاءً، فعدم القرشية و إن كان فاقداً للأثر عند عدم الموضوع و لكنّه واجد له بعد وجود الموضوع و مثل هذا داخل تحت قوله: لا تنقض اليقين بالشك.

قلت: ما ذكرته صحيح فيما إذا عمّ الدليل كلتا الصورتين، مثلاً: إذا كان الماء كراً على وجه اليقين يشمله الدليل الاجتهادي بأنّه لا ينجّسه شيء، فإذا نقص منه شيء فشكّ في كونه كرّاً فالدليل الاجتهادي يكون قاصراً عن شموله لهذا المورد، و لكن لا قصور في دليل الاستصحاب فيستصحب بقاء الماء على الكرّية فيشمله الدليل الاجتهادي ثانياً.

غير أنّ هذا الشرط غير موجود في المقام، لأنّ موضوع الدليل الاجتهادي، أعني قوله:» المرأة غير القرشية «لم يكن شاملاً لها في فترة من الزمن، أي عند ما كانت معدومة الوجود و الصفة، فكيف يشملها بعد وجودها مع الشكّ في بقاء عدم وصفها؟ ففي مثل ذلك لا يشملها الدليل الاجتهادي و لا الاستصحاب.

إذا عرفت ذلك تقف على أنّه يتوجّه على المحقّق الخراساني إشكالات نأتي بها تالياً.

ص:539

1. إذا كان الباقي تحت العام حسب الدراسة السابقة هو القضية الموجبة، سواء أ كانت موجبة معدولة أو موجبة سالبة المحمول فهذا ممّا لا حالة سابقة له، إذ المرأة الموصوفة بغير القرشية لم يتعلّق بها اليقين في عصر من الأعصار، و أمّا السالبة المحصلة، أعني» إذا لم تكن المرأة قرشية فترى الدم إلى خمسين «فهي غير صالحة لأن تكون موضوعاً للرؤية، لأنّ الحكم الإيجابي يستلزم وجود الموضوع كما ذكره المنطقيون.

قال التفتازاني في التهذيب:

و لا بدّ في الموجبة من وجود موضوع... و السالبة المحصّلة التي تصدق مع عدم الموضوع لا تصلح لأن تقع موضوعاً للحكم الإيجابي.

2. نفترض انّ الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة و لكن القضية المتيقّنة تُغاير القضية المشكوكة، فانّ المتيقّنة منها هي السالبة الصادقة بانتفاء الموضوع، أي لم تكن موجودة فلم تكن قرشية، و المشكوكة هي القضية السالبة، الصادقة بانتفاء المحمول مع وجود الموضوع، و من المعلوم أنّ إسراء الحكم من القضية الأُولى إلى القضية الثانية إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

3. انّ استصحاب العدم الأزلي ليس مصداقاً عرفياً للاستصحاب، و ظواهر الكلام حجّة في المصاديق العرفية لا المصاديق العقلية الدقيقة كما في المقام.

4. انّ التفريق بين الوصف و الاستثناء قائلاً بأنّ الأوّل ينوِّع دون الثاني تفريق بلا وجه، لأنّ العرف لا يفرّق بين قولنا: أكرم العلماء غير الفسّاق، و قولنا: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق، و التفريق بينهما بكون المخصص وصفاً في الأوّل و منوِّعاً للموضوع إلى فاسق و غير فاسق دون الثاني فانّ دوره الإخراج لا التنويع، بعيد عن الأذهان العرفية.

ص:540

هذا كلّه حول أصل العدم الأزلي في نظر المحقّق الخراساني، و إليك دراسة ما أفاده المحقّق النائيني من التفصيل بين القيد المقسِّم و القيد المقارن.

التفصيل بين القيد المقسِّم و المقارن

اشارة

إنّ المحقّق النائيني لمّا لم يرتض ما أفاده المحقّق الخراساني حول استصحاب العدم الأزلي حاول إصلاح النظرية بالفصل بين القيد المقسِّم و القيد المقارن، فنفى حجّية الأصل الأزلي في الأوّل و أثبت حجّيته في الثاني، و بذلك صار مفصِّلاً في حجّية الأصل الأزلي لا مثبتاً مطلقاً كالمحقّق الخراساني و لا نافياً كغيره.

و إيضاح مقصوده رهن الكلام في موضعين:
الأوّل: ما هو المراد من القيد المقسِّم و المقارن؟

إذا كان القيد قائماً بالموضوع، مقسِّماً له بالذات أو حسب الوصف إلى قسمين، كتقسيم القرشية و النبطية، و المرأةَ إلى قسمين، فيقال: قرشية و غير قرشية، نبطية و غير نبطية، فهذا ما نسمّيه بالقيد المقسِّم، و يشترط فيه قيامه بالموضوع على نحو يجعل الموضوع قسمين.

و أمّا إذا كان القيد جوهراً قائماً بنفسه، كوجود زيد، أو عرضاً قائماً بموضوع آخر لا بموضوع العام فهذا ما نسمّيه بالقيد المقارن، و ذلك كما إذا قال: أكرم العالم عند وجود زيد، أو قال: أكرم العالم عند مجيء زيد، فوجود زيد جوهر قائم بنفسه لا بالعارض، كما أنّ مجيئه قائم بزيد لا بموضوع الحكم) العالم (، و لأجل ذلك يعدّ الكلّ من المقارنات الاتفاقية أو الدائمية.

ص:541

الثاني: ما هو الوجه في التفريق بين المقسِّم و المقارن؟

هذا هو المقام الثاني الذي يريد المحقّق النائيني بيان وجه التفريق بين نوعي القيدين، و حاصل ما أفاده هو انّه إذا كان القيد وصفاً للموضوع، قائماً به قياماً ذاتياً كالقرشية، أو عرضياً كالفسق، يكون الموضوع موصوفاً بالقيد، وجوداً و عدماً كقولنا المرأة غير القرشية ترى الدم إلى ستين، و المرأة غير القرشية ترى الدم إلى خمسين.

و من المعلوم أنّ الموصوف لم يتعلّق به اليقين، فانّ المرأة إمّا تتولد قرشية أو غير قرشية، فليس هنا قضية متيقّنة و قضية مشكوكة، بل هي مشكوكة من أوّل الأمر.

و استصحاب العدم المحمولي، أي عدم القرشية من دون مضاف إلى مرأة معيّنة، لا يثبت أنّ هذه المرأة غير قرشية.

و هذا بخلاف ما إذا كان القيد جوهراً مستقلاً قائماً بنفسه أو عرضاً لكن غير قائم بموضوع القضية، فانّ الجزء الثاني بحكم انّه جوهر أو قائم بغير موضوع القضية لا يقع وصفاً للموضوع، و ليس لها شأن سوى اجتماعهما في عمود الزمان، فمجرّد إحراز اجتماعهما في فترة من الزمان يكفي في ترتّب الأثر، سواء أ كان الإحراز بالوجدان أم بالأصل.

ثمّ فرّع على ما ذكره الفرع التالي و هو انّه إذا تلفت العين تحت يد إنسان غير مالك، و شكّ في أنّ يده هل كانت يد ضمان أو يد أمان، فقد ذهب المشهور إلى الضمان، و ما هذا إلاّ لأجل انّ» عدم إذن المالك «أُخذ جزءاً مقارناً للاستيلاء لا واصفاً له، فعندئذ إذا أحرز الاستيلاء بالوجدان و عدم الإذن بأصل العدم الأزلي، يثبت كون اليد عادية، و ذلك لأنّ إذن المالك ليس وصفاً للاستيلاء بل مجرّد

ص:542

اجتماعهما في عمود الزمان كاف في الحكم بالزمان.

يلاحظ عليه: انّ ما ذكره في القيود المقسمة أمر لا غبار عليه، إنّما الكلام في القيود المقارنة حيث زعم انّه يجوز أخذ شيئين مختلفين موضوعاً لحكم واحد و إن لم يكن بينهما رابط، و هذا شيء لا يساعده الدليل.

و ذلك لأنّ وحدة الحكم كاشفة عن وحدة الموضوع، و وحدة الموضوع رهن وجود رابط بين الجزءين حتّى يجعله موضوعاً واحداً و مركّباً بأن تصلح للوقوع موضوعاً لحكم واحد، و عندئذ يكون الجزء الثاني وصفاً للأوّل و يكون الموضوع للضمان هو الاستيلاء الموصوف بعدم إذن المالك، و إلاّ فالشيئان المختلفان الفاقدان للوحدة و الربط كيف يمكن أن يقعا موضوعاً لحكم واحد؟! و أمّا ما مثّله من ذهاب المشهور إلى الضمان فلا يدلّ على ما يتوخّاه لاحتمال انّ ذهابهم إليه رهن أحد أمرين:

1. وجود النصّ في المسألة، و قد كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي معتمداً عليه كما مرّ.(1)

2. ما ذكرناه سابقاً من أنّه إذا كان الحكم الأوّلي للموضوع هو الحرمة أو الفساد أو الضمان فيتمسّك به في الموارد المشكوكة إلاّ أن يدلّ عليه دليل.

و حاصل الكلام: انّ ما اختاره المحقّق النائيني من جريان الأصل في القيود المقارنة دون المقسّمة مبني على إنكار لزوم الوحدة في الموضوع و لو وحدة عرفية فعندئذ يمكن إحراز أحد الجزءين بالوجدان و الآخر بالأصل، و لكنّك عرفت أنّ الحكم و الإرادة الواحدة يطلبان لأنفسهما شيئاً واحداً و وحدة حرفية فانية في الموضوع.

ص:543


1- لاحظ صفحة 532 من هذا الكتاب.

إحياء نظرية المحقّق الخراساني

إنّ المحقّق الخوئي لمّا لم يرتض تفصيل أُستاذه بين القيد المقسِّم و القيد المقارن ذهب إلى حجّية استصحاب العدم الأزلي وفاقاً للمحقّق الخراساني لكن ببيان آخر.

و حاصل ما أفاده مبنيّ على أمرين:

الأوّل: انّ وجود العرض بذاته محتاج إلى وجود موضوعه، لأنّه من لوازم وجود العرض، و قد عُرِّف العرض بأنّه ذو ماهية تامّة قائمة في الخارج بموضوعه، و هذا ما يعبر عنه على وجه الإيجاز) العرض ماهية في نفسه لغيره (لكن عدم العرض ليس له هذا الشأن، فهو غير محتاج إلى وجود الموضوع، مثلاً: انّ العدالة لمّا كانت عرضاً يتوقّف وجودها على وجود الموصوف بها، و أمّا عدم العدالة فلا يحتاج إلى وجود الموضوع، و لذلك لو وجد زيد و صار غير عادل فنفس العدم الأزلي مستمر إلى ذلك الوقت.

و منه يعلم حال القرشية فهي عرض قائم بالمرأة فلا يعقل وجود القرشية بلا وجود موضوعها، و أمّا عدم القرشية فهي غنيّة عن الموضوع، فلو أُشير إلى ماهية المرأة و قيل انّها لم تكن قرشية قبل ان تتولد، فهذا العدم باق على حاله بعد ولادتها.

الثاني: إذا ورد أنّ المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية.

فهاهنا قضيتان:

إحداهما: الجملة الاستثنائية: إلاّ القرشية.

و الأُخرى: الجملة المستثنى منها، أعني: المرأة تحيض إلى خمسين.

فلا شكّ أنّ القرشية في الجملة الأُولى عرض لا يفارق الموضوع فلا تتحقّق القرشية في الخارج إلاّ بوجود المرأة، و لأجل ذلك لا يصحّ استصحاب القرشية، إذ

ص:544

لا حالة سابقة لها.

و أمّا الجملة الثانية فبما انّ المأخوذ فيها عدم القرشية فلا يستدعي أخذ عدم القرشية فيها على نحو مفاد ليس الناقصة، أي وصفاً للمرأة بأن يقال: كلّ مرأة لا تكون متّصفة بالقرشية تحيض إلى خمسين، بل يكفي أخذ عدم القرشية بنحو ليس التامة بأن يكون شيئاً مقارناً للمرأة بأن يقال: كلّ مرأة، لا تكون متّصفة بالقرشية تحيض إلى خمسين عاماً.

و الباقي تحت العام هو الثاني لا الأوّل، وجهه واضح أنّ العدم غني عن الموضوع فلا وجه لأخذ عدم القرشية وصفاً للمرأة، بل يكفي صدق عدم القرشية في ظرف تحقّق المرأة دون أن يكون وصفاً لها، فعندئذ إذا شكّ في قرشية المرأة و عدمها فالموضوع مركّب من جزءين:

1. المرأة 2. لا تكون بقرشية.

و الأوّل محرز بالوجدان و الآخر بالأصل.

هذا هو حاصل ما أفاده المحقّق في هامش أجود التقريرات.(1)

و لأجل أن نذكر شيئاً من عبارات المحقّق المذكور في الجزء الأوّل، نقول:

قال) قدس سره (: إنّ الحكم الثابت للموضوع المقيّد بما هو مفاد كان الناقصة) إلاّ القرشية (إنّما يكون ارتفاعه) في جانب المستثنى منه (بعدم اتصاف الذات بذلك القيد على نحو مفاد السالبة المحصلة من دون أن يتوقّف ذلك باتّصاف الذات بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة، فمفاد قضية» المرأة تحيض إلى

ص:545


1- أجود التقريرات: 4691/468; المحاضرات: 3365/332. و رسالة اللباس المشكوك لنفس المحقّق، و هذه الرسالة أسبق نشراً من الكتابين السابقين فقد أطال الكلام فيها في حجّية أصل العدم الأزلي.

خمسين إلاّ القرشية «و إن كان هو اعتبار وصف القرشية على وجه النعتية في موضوع الحكم بتحيض القرشية بعد الخمسين إلاّ أنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية، أعني به مفاد ليس الناقصة و إنّما يستدعي أخذ عدم القرشية في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصلة، و كلّ مرأة لا تكون متصفة بالقرشية باقية تحت العام و إنّما الخارج خصوص المتصفة بالقرشية لا انّ الباقي بعد التخصيص هو المرأة المتصفة بعدم القرشية، فإذا شكّ في كون المرأة قرشية لم يكن مانع من التمسّك باستصحاب عدم القرشية الثابت لها قبل ولادة تلك المرأة في الخارج.(1)

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: أنّ ما أفاده في جانب المستثنى في غاية المتانة، إنّما الكلام فيما أفاده في جانب المستثنى منه، فقد سبق منّا انّ الباقي تحت العام يتصوّر على أنحاء ثلاثة:

1. الموجبة المعدولة: المرأة غير القرشية تحيض إلى خمسين.

2. الموجبة السالبة المحمول: المرأة التي هي ليست بقرشية تحيض إلى خمسين.

3. السالبة المحصلة: إذا لم تكن المرأة قرشية تحيض إلى خمسين.

و الأوّلان رهن وجود الموضوع، إذ الوصف الوجودي) غير القرشية (أو) هي التي ليست بقرشية (لا ينفك عن وجود الموصوف بخلاف الثالث فانّه يصدق حتّى مع عدم الموضوع و لكن الكلام في تشخيص انّ الباقي تحت العام ما هو؟! فإن كان الموضوع من قبيل الأوّلين فلا يجري الاستصحاب لعدم الحالة

ص:546


1- تعاليق أجود التقريرات: 4691/468. و لاحظ المحاضرات: 3365/332.

السابقة، و إن كان من قبيل الثالث يجري الاستصحاب لوجودها إلاّ أنّ المحمول أعني قوله:) ترى أو تحيض (قرينة على أنّ الباقي تحت العام هو القسمان الأوّلان ضرورة انّ الحكم الإيجابي) ترى أو تحيض ( رهن وجود الموضوع، قال التفتازاني في منطق التهذيب: فلا بدّ في الموجبة من وجود الموضوع إمّا محقّقاً و هي الخارجية، أو مقدراً فهي الحقيقية، أو ذهنياً فهي الذهنية كما مرّ.

و بالجملة نحن نستكشف من الحكم على أنّ الموضوع هو القسم الأوّل و الثاني اللذان لا يصدقان إلاّ على المرأة الخارجية.

الثاني: يرد عليه ما أوردناه على أُستاذه، لأنّ مرجع ما ذكره هو تركّب الموضوع من أمر وجودي محرز بالوجدان و هو المرأة، و أمر عدمي يحرز بالأصل دون أن يكون بينهما صلة بجعل الثاني وصفاً للأوّل، و كأنّ الموضوع في لسان الشرع كالآتي في لساننا «1. المرأة 2. لم تكن قرشية تحيض إلى خمسين « و من المعلوم أنّ وحدة الحكم كاشفة عن وحدة الموضوع، فلا بدّ أن يكون في الموضوع وحدة آلية يجعل الشيئين الأجنبيين أمراً واحداً، و عندئذ ترجع السالبة المحصّلة إلى موجبة سالبة المحمول. فيكون الموضوع:

المرأة التي هي لم تكن قرشية تحيض إلى خمسين، و من الواضح انّها تفقد الحالة السابقة.

ما هو المرجع إذا لم يكن الأصل العدمي حجّة؟

قد عرفت أنّ العام لا يحتجّ به في الشبهة المصداقية للمخصص، لأنّ الموضوع مركّب من عنوان العام و عدم عنوان المخصص و الجزء الأوّل و إن كان محرزاً لكن الثاني ليس بمحرز.

كما أنّ أصل العدم الأزلي لا يحتجّ به على بقاء المشتبه تحت العام للوجوه

ص:547

التي عرفتها.

بقي الكلام في تعيين المرجع بعد قصور اليد عن العام و الأصل العدمي، فنقول:

إنّ المرجع هو الأُصول العملية: الاستصحاب و التخيير و الاشتغال و البراءة و هي تختلف حسب اختلاف الموارد، و إليك الأمثلة.

أمّا الأوّل أعني الاستصحاب: فلو أقام إنسان في بلد متردداً في الإقامة و شكّ في أنّ هذا اليوم يوم الثلاثين أو يوم التاسع و العشرين، فعلى الأوّل يتمّ بعد انقضاء ذلك اليوم و على الثاني يقصر يوم الشكّ و بعده ثمّ يتم، فالمرجع هو استصحاب وجوب القصر إلى أن يحصل اليقين بأنّه أقام في ذلك البلد ثلاثين يوماً.

و أمّا الثاني أعني التخيير: فكما إذا قال المولى: يجب إكرام العلماء ثمّ قال: يحرم إكرام فسّاق العلماء، فالفرد المشتبه بما انّه يحتمل بقاؤه تحت العام يجب إكرامه كما يحتمل خروجه عن تحته و دخوله تحت المخصص فيحرم، فيدور الأمر بين المحذورين فيتخير.

و أمّا الثالث أعني الاشتغال: كالمرأة المرددة بين القرشية و غيرها، فإذا رأت الدم بعد الخمسين فيتردد أمر الدم بين كونه دم استحاضة أو دم حيض فتجمع بين الوظيفتين.

أمّا الرابع أعني البراءة: فكما إذا قال: يجب إكرام العلماء ثمّ قال: لا يجب إكرام فسّاق العلماء، فالفرد المشتبه مردد بين وجوب الإكرام و عدمه فتجري البراءة.

إلى هنا تمّ الكلام في إحراز حال المشتبه في الشبهة المصداقية للمخصص.

ص:548

الفصل السابع إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي

اشارة

كان البحث في الفصل السابق مركّزاً على إحراز حال الفرد، الذي اشتبه حاله لأجل تخصيص العام فدار أمر الفرد بين كونه باقياً تحت العام أو خارجاً عنه، مثلاً: قال المولى: أكرم العلماء ثمّ قال: لا تكرم فساق العلماء، و اشتبه حال العالم من حيث الفسق و العدالة، فشكّ في بقائه تحت العام و عدمه فلا يُحرز حال الفرد لا بالعام و لا بالأصل الأزلي.

و أمّا هذا الفصل فقد استظهر المحقّق الخراساني بأنّ الاشتباه رهن غير التخصيص، بل لأجل وجود الإجمال في الدليل العام، فهل يمكن تنقيح حاله من حيث دخوله تحت الدليل بالعنوان الثانوي أو لا؟ مثلاً: قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).(1)

فلو قلنا بظهور الآية أو انصرافها إلى الغَسْل بالماء المطلق فلا شكّ في بطلان الوضوء بالماء المضاف، و أمّا لو قلنا بإجمال الآية و إمكان سعتها للماء

ص:549


1- المائدة: 6.

المطلق و المضاف، فيقع الكلام في إمكان تنقيح حال الفرد المشتبه، أي التوضّؤ بالماء المضاف بالعنوان الثانوي، و بالتالي استنتاج دخوله في الآية.

كما إذا نذر أحد أن يتوضأ بالماء المضاف إذا رزقه اللّه الولد، و قد رُزق الولد، فبما انّ العمل بالنذر واجب لقوله سبحانه: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ). (1)فيمكن استكشاف شمول آية الوضوء للتوضّؤ بالماء المضاف من وجوب الوفاء بالنذر) الوضوء بالماء المضاف (، بأن يقال: التوضّؤ بالماء المضاف واجب وفاءً للنذر، و كلّما وجب الوفاء به حسب النذر يكون صحيحاً، لأنّه لو لا الصحّة لما وجب الوفاء، فينتج انّ الإتيان بهذا الوضوء صحيح، و من الواضح انّ الشكّ نبع من إجمال الآية لا من تخصيص العام بمخصص شكّ في كون فرد من أفراد العام من أفراد المخصص أولا.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حاول نقد هذا الإحراز بتقسيم العناوين الثانوية إلى قسمين: قسم أخذ في متعلّقه حكم من الأحكام الخمسة المتعلّقة بالأفعال.

و قسم لم يؤخذ فيه أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال.

و مع أنّ القسم الثاني كان خارجاً عن غرضه طرحه على صعيد البحث بعد ما فرغ من القسم الأوّل، و نحن نقدّم البحث في الثاني على الأوّل، لأنّه بحث استطرادي إذا وقع في أثناء البحث يوجب التعقيد، فنقول:

إنّ الضرر و الحرج و الإكراه من العناوين الثانوية التي لم يؤخذ في متعلقه حكم من الأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّفين، فهو يفارق القسم الأوّل الذي أخذ في متعلّقه الرجحان أو الإباحة، و لأجل ذلك لو شكّ في جواز الصوم لأجل الضرر يقدّم على حكم العنوان الأوّلي بلا تردد، بخلاف القسم الأوّل فلا يقدّم إلاّ إذا

ص:550


1- الحج: 29.

أحرز فيه الرجحان و الإباحة.

و إلى ذلك أشار المحقّق الخراساني بقوله:» نعم لا بأس بالتمسّك به في جوازه بعد إحراز التمكّن منه و القدرة عليه(1). فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً) كالضرر و الحرج و الإكراه (، فإذا شكّ في جوازه ) الفرد كشرب الخمر عن إكراه و الإفطار لكون الصوم ضررياً (صحّ التمسّك بعموم دليل العناوين الثانوية في الحكم بجوازها «.(2)

و الحاصل فرق بين النذر و طاعة الوالد، و بين الحرج و الضرر و الإكراه، فلا يتمسّك بالقسم الأوّل إلاّ بعد إحراز الحكم المأخوذ في متعلّق النذر من الطاعة و الإباحة، بخلاف الحرج و الضرر و الإكراه فيتمسك بهما في جواز الفرد المشكوك بلا شرط.

نعم للتمسّك بالقسم الثاني من العناوين الثانوية شرط آخر، و قد أشار إليه المحقّق الخراساني في المقطع الثاني من كلامه، و هو:

إنّ التمسك بالحرج و الضرر و الإكراه لإثبات جواز الفرد المشكوك مشروط بكون الملاك فيها أقوى من ملاك الحكم الأوّلي، حيث إنّ الخمر و الصيام و الوضوء، محكومة بالعنوان الأوّلي بالحرمة أو الوجوب، و بالعنوان الثانوي بالجواز، فلا يقدّم العنوان الثانوي إلاّ إذا كان الملاك في جانب العنوان الثانوي أقوى، و إلاّ لم يؤثر أحد العنوانين فيرجع إلى الأُصول كالإباحة.

هذا و ما أفاده في المقام مغاير لما سيأتي منه في البحث عن قاعدة:» لا ضرر و لا ضرار «من تقدّم العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية مطلقاً من غير فرق

ص:551


1- لا وجه لأخذ القدرة، إذ الأحكام كلّها مقيّدة بالقدرة.
2- الكفاية: 1/351.

بين الأقسام و انّ التقديم مطلقاً مقتضى التوفيق العرفي بينهما.

و على كلّ تقدير فهذا القسم غير مقصود بالذات في هذا الفصل.

إنّما الكلام في العناوين الثانوية التي أخذت في متعلّقها حكم من الأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّفين بعناوينها الأوّلية. كاستحباب الفعل و وجوبه المأخوذين في متعلق وجوب الوفاء بالنذر، و كالاباحة المأخوذة في متعلق إطاعة أمر الوالد.

فصحّة النذر فرع وجود الرجحان في المتعلّق فيختص بالمستحب و الواجب، و لزوم طاعة الوالد فرع عدم كون المأمور به معصية للّه فيختص بغير الحرام.

و الذي يدلّ على انّ لزوم الرجحان في متعلّق النذر ما رواه أبو الصلاح الكناني عن أبي عبد اللّه ) عليه السلام (قال:

» و ليس شيء هو طاعة يجعله الرجل عليه إلاّ ينبغي له أن يفي به، و ليس من رجل جعل للّه عليه مشياً في معصية اللّه إلاّ أنّه ينبغي له أن يترك إلى طاعة اللّه «.(1)

و على ضوء ذلك فيجب الوفاء بالنذر الذي ثبت وجوب الرجحان في متعلّقه، كما أنّ وجوب طاعة الوالد مقيد بما إذا كان متعلّقه أمراً مباحاً.

إذا علمت ذلك فنقول:

إذا نذر أن يتوضّأ بماء مضاف فلا ينعقد النذر إلاّ إذا أحرز استحباب الوضوء أو وجوبه بالماء المضاف. و بعبارة أُخرى: رجحان الوضوء، و إلاّ فلا يجوز التمسّك بإطلاق قوله: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ )، لأنّه مخصّص بقوله:» للّه طاعة «فيكون التمسّك بقوله: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) في إثبات صحّة الوضوء بالماء المضاف

ص:552


1- الوسائل: 16، الباب 7 من أبواب النذر، الحديث 6.

من قبيل التمسّك بالعام: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) في الشبهة المصداقية للمخصص حيث يحتمل أن يكون الوضوء بالماء المضاف طاعة أو غير طاعة، و قد مرّ عدم جوازه.

ثمّ إنّ القائل أيّد كلامه بما ورد من صحّة الصيام في السفر و الإحرام قبل الميقات إذا نذر كذلك.

أمّا الأوّل فقد روى الشيخ عن علي بن مهزيار قال: كتب بندار مولى إدريس: يا سيدي نذرت أن أصوم كلّ يوم سبت... فكتب) عليه السلام (في الجواب:» و ليس عليك صومه في سفر و لا مرض إلاّ أن تكون نويت ذلك «.(1)

و أمّا الثاني: فقد روى الشيخ عن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن رجل جعل للّه عليه شكراً أن يحرم من الكوفة؟ قال» فليحرم من الكوفة و ليفِ للّه بما قال «.(2)

و روى أيضاً عن علي بن أبي حمزة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه) عليه السلام (عن رجل جعل للّه عليه أن يحرم من الكوفة؟ قال:» يحرم من الكوفة «.(3)

و روى أيضاً عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سمعته يقول:» لو انّ عبداً أنعم اللّه عليه نعمة أو ابتلاه ببليّة فعافاه من تلك البليّة، فجعل على نفسه أن يحرم بخراسان، كان عليه أن يتم «.(4)

يلاحظ عليه: وجود الفرق بين المقيس و المقيس عليه، بأنّ الصيام في السفر، و الإحرام قبل الميقات، محكومان بالحرمة و يصيران جائزين بالنذر، فبالنذر، ينقلب الحرام إلى الجائز، و أمّا المقام فالمدعى هو استكشاف كون الوضوء بالماء

ص:553


1- الوسائل: 7، الباب 10 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.
2- الوسائل: 8، الباب 13 من أبواب المواقيت، الحديث 1، 2، 3.
3- الوسائل: 8، الباب 13 من أبواب المواقيت، الحديث 1، 2، 3.
4- الوسائل: 8، الباب 13 من أبواب المواقيت، الحديث 1، 2، 3.

المضاف، جائزاً قبل النذر و داخلاً تحت العام، فللنذر عندئذ دور الكشف، و في المقيس عليه، دور التقليب، و أين أحدهما من الآخر؟ ثمّ إنّ في المقيس عليه إشكالين:

الأوّل: اشتراط الرجحان في متعلّق النذر

يشترط في متعلّق النذر، وجود الرجحان قبل تعلّقه، و المفروض أنّه حرام قبله، فكيف تعلّق به النذر؟ و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. انّ الروايات السابقة تكشف عن رجحان الصوم في السفر، و الميقات قبل الإحرام أمراً راجحاً بالذات، و إنّما لم يؤمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع يرتفع مع النذر.

و أورد عليه بانّه كيف يمكن القول بكونهما راجحين بالذات و قد منع مانع عن الأمر بهما، مع تشبيه الإحرام قبل الميقات، بالصلاة قبل الوقت.(1)

أقول: لم نجد نصّاً بهذا المضمون و إنّما الوارد غيره:

1. روى زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (في حديث:» و ليس لأحد أن يُحرم دون الوقت الذي وقّته رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم («.(2) و المراد من الوقت، هو الميقات، أُطلق و أُريد منه المكان.

2. روى ابن أُذينة قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (في حديث:» و من أحرم دون الوقت فلا إحرام له « .(3) نعم شُبّه في بعض الروايات، بمن صلّى أربعاً في

ص:554


1- كفاية الأُصول: 1/349.
2- الوسائل: 8، الباب 11 من أبواب المواقيت، الحديث 11.
3- الوسائل: 8، الباب 9 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

السفر و هو كالآتي:

رواية ميسرة قال: دخلت على أبي عبد اللّه) عليه السلام (و أنا متغيّر اللون فقال لي:» من أين أحرمت؟ « قلت: من موضع كذا و كذا، فقال:» رب طالب خير تزلّ قدمه ثمّ قال: يسرّك أن صلّيت أربعاً في السفر؟ «. قلت: لا، قال:» فهو و اللّه ذاك «.(1)

و على أيّ تقدير فهل تدلّ هذه الروايات على كونهما راجحين بالذات أولا؟ ظاهر رواية زرارة و ابن أُذينة عدم المصلحة بتاتاً في الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر، لكن ظاهر رواية ميسرة وجود المصلحة، غير أنّه رفع الوجوب رحمة للأُمّة كما يعلم من تشبيه الإحرام قبل الميقات بمن صلّى أربعاً مكان ركعتين، فإنّ الصلاة الرباعية واجدة للمصلحة كالثنائية، لكنّه سبحانه رحمة للأُمّة، رفع وجوبها.

هذا و قد ورد في الصوم في السفر:» ليس من البر الصيام في السفر «الظاهر من عدم الملاك.(2)

2. صيرورتهما راجحين عند تعلّق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك.

3. تخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلّق النذر بهذه الروايات، و هذا هو الظاهر من صاحب الجواهر.

يلاحظ عليه: أنّ اللسان آب عن التخصيص، فانظر إلى القول المعروف لا نذر إلاّ في طاعة، أو ما ورد في الروايات:» هو للّه طاعة «. و قد جاء هذا الجواب

ص:555


1- الوسائل: 8، الباب 12 من أبواب المواقيت، الحديث 6.
2- الوسائل: 7، الباب 12 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 7 و 8.

في كلام» الكفاية «عند الإجابة عن الإشكال الثاني مع أنّ محله هنا، و لذلك أوجد تعقيداً في العبارة.

مضافاً إلى أنّ كلاً من الصوم و الإحرام عبادة يتقرب بها العبد إلى اللّه سبحانه، فإذا كان خالياً عن أي رجحان فكيف يحصل التقرّب؟! إلى هنا تمّ الكلام حول الإشكال الأوّل، و إليك الإشكال الثاني.

الثاني: الأمر النذري كالأمر الإجاري توصّلي

هذا هو الإشكال الثاني و حاصله: أنّه لم يتعلّق بالصوم في السفر، و لا بالإحرام قبل الميقات أمر، بما هو هو كما هو المفروض حتّى يقصده و يتعبد به، فانحصر الأمر، بالأمر النذري و هو أمر توصّلي لا تعبديّ.

أقول: إنّ الإشكال الأوّل كان يركّز على شرطية رجحان المتعلّق في النذر و قد عرفت الإجابة عنه بوجوه ثلاثة، و هي بين مقبول و غير مقبول.

و أمّا الإشكال الثاني فهو يركز على أنّ الصيام في السفر، و الإحرام قبل الميقات عمل عبادي و صحّته فرع قصد أمره العبادي، فما هو الأمر العبادي في المقام؟ فهل هو الأوامر الواقعية المتعلّقة بالصيام في السفر و الإحرام قبل الميقات، أو غيره؟ و الأوّل منتف لافتراض كونهما محرمين قبل النذر فلا أمر حتّى يقصده; بقي الثاني و هو الأمر النذري، الذي هو أمر توصّلي لا تقرّبي، فقوله: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) مثل قوله: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).

و يمكن الجواب عنه بوجوه ثلاثة، و قد ذكر المحقّق الخراساني منها وجهين:

1. يكفي في صحّة العبادة وجود الرجحان قبل النذر كشف عنه دليل

ص:556

صحتها، فملاك العبادة وجود الملاك فيها، و قد عرفت ما يدلّ من الروايات على كونهما راجحين بالذات و إنّما لم يؤمرا بهما لوجود المانع، و لم يذكر المحقّق الخراساني هذا الجواب في المقام مع أنّه ذكره عند الذبّ عن الإشكال الأوّل، و كان عليه أن يشير إليه في المقام أيضاً الإشكال الثاني.

2. صيرورة الصوم في السفر و الإحرام قبل الميقات راجحين بتعلّق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك، كما ربما يدلّ عليه ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.(1) و إلى هذا أشار المحقّق الخراساني بقوله: لأجل كشف دليل صحّتها عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلّق النذر.

و مرجع هذا الجواب إلى أنّه يعرض للمتعلّق عنوان راجح يجعله ذا ملاك كاف في عبادية المتعلّق، نظير ما مرّ في صوم يوم عاشوراء من أنّه ينطبق عليه عنوان يجعله مكروهاً غير محبوب.

و أورد عليه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي بأنّ العنوان غير الملتفت إليه لا يكون مصحّحاً للعبادة حيث قال: إنّه لا معنى لصيرورتهما عباديين لأجل طروء عنوان مجهول يغفل عنه المكلّف و لا يكون مقصوداً له لا تفصيلاً و لا إجمالاً.(2)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره و إن كان صحيحاً لكنّه يكفي في وجود الرجحان وجود العنوان الراجح في الواقع و إن لم يتوجه المكلّف إليه فمصحح العبادية وجود الرجحان و قصد الشيء الراجح و إن لم يعلم وجه الرجحان لا قصد العنوان حتّى تكون الغفلة مانعة عن قصد العبادية.

ص:557


1- لم نقف على هذا النصّ و إنّما الموجود هو تشبيه الإحرام قبل الميقات بإتمام الصلاة في السفر كما مرّ.
2- لمحات الأُصول: 334.

على أنّه يمكن أن يقال: انّ العنوان العارض:» كون أفضل الأعمال أحمزها «و هو ليس شيئاً مغفولاً للمكلّف عند النذر.

3. يكفي في العبادية الرجحان الطارئ على المتعلّق بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً و متقرباً بهما منه تعالى.

و الفرق بين الثاني و الثالث واضح، فانّ الرجحان الطارئ في الجواب الثاني يرافق تعلّق النذر و ليس متأخراً عنه بخلاف هذا الجواب، فانّ الرجحان يكون طارئاً بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً و متقرباً بهما منه.

فإن قلت: كيف يتعلّق بهما النذر بإتيانهما عبادياً مع أنّهما ليسا حين النذر عبادة، بل يوصفان بها بعد تعلّق النذر كما هو المفروض، و عندئذ فهو عند النذر ليس متمكّناً من المتعلّق الموصوف بالعبادية.

قلت: يكفي التمكّن من المتعلّق بعد النذر و لا يعتبر في صحّة النذر إلاّ التمكّن من الوفاء و لو بسبب النذر.

هذه هي الأجوبة الثلاثة التي جاء الثاني و الثالث منهما في» الكفاية «دون الأوّل.

و على كلّ تقدير فالذب عن الإشكال الثاني بأحد الوجوه الثلاثة:

1. وجود الرجحان الذاتي في المتعلّقين قبل النذر.

2. طروء عنوان راجح يرافق النذر.

3. طروء رجحان به بعد النذر لأجل انّ المكلّف نذر بقيد انّ المتعلّق عبادي و موجب للتقرب.

و هذا هو السبب لطروء عنوان راجح بعد النذر.

ص:558

و لا يخفى انّ هذه الأجوبة فروض نظرية لا دليل عليها إلاّ الفرض الأوّل على بعض الروايات من تشبيه الإحرام قبل الميقات على إتمام الصلاة فيه، بناء على اشتماله على المصلحة و اقترانه بالمانع.

و الأولى أن يجاب بجواب رابع و هو انّ عبادية الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر ببركة نفس الأوامر المتعلّقة بالإحرام و الصوم غاية الأمر انّ الموضوع للوجوب هو الإحرام من الميقات و للاستحباب هو الصوم في الحضر، و لا يعمّان الإحرام قبله أو الصيام في السفر، و أمّا مع ملاحظة النذر فصار موضوع الوجوب أو الاستحباب أوسع ممّا في الدليل.

فالموضوع مع النذر أوسع من الإحرام من الميقات و الصوم في الحضر.

و بالجملة انّ ما دلّ على صحّة الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر مع النذر كشف عن كون الموضوع في حال النذر أوسع منه في غيره.

و على ذلك فالناذر يأتي بقصد نفس الأمر المتعلّق بحجة الإسلام أو الصوم الاستحبابي من دون حاجة إلى التمسّك بالأجوبة الثلاثة.

ص:559

الفصل الثامن إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي

اشارة

كانت البحوث السابقة تدور حول إحراز حال الفرد المشتبه بالطرق التالية:

1. إحرازه بالتمسّك بالعام المخصص.

2. إحرازه عن طريق الأصل العدمي الأزلي.

3. إحرازه عن طريق العناوين الثانوية.

هذه هي البحوث الماضية و لكن يدور البحث في هذا الفصل على إحراز الفرد لكن بالأصل اللفظي أي أصالة العموم و ربّما يعبر عن هذا البحث بأنّه إذا دار أمر الفرد بين التخصيص و التخصّص فهل يمكن إثبات الثاني بالتمسّك بأصالة العموم أو لا؟ و للمسألة صورتان:

الصورة الأُولى: إذا ورد قوله: أكرم العلماء، و علم من الخارج حرمة إكرام زيد،

و دار الأمر بين كونه جاهلاً فيكون الخروج تخصّصاً، أو عالماً فيكون الخروج تخصيصاً، فهل يصحّ التمسّك بأصالة العموم و إثبات انّ الخروج تخصّصي و انّ زيداً جاهل لا عالم، فلو وقع الجاهل في لسان الدليل موضوعاً للأثر الشرعي يترتب عليه ذلك الأثر بفضل أصالة العموم؟

ص:560

ذهب الشيخ الأعظم في تقريراته إلى جواز التمسك قائلاً بأنّ مقتضى العام: كلّ عالم يجب إكرامه، و ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم و هو المطلوب.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني باحتمال اختصاص حجّية أصالة العموم بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوماً بحكمه كما هو قضية عمومه، و المثبت من الأُصول اللفظية و إن كان حجّة، إلاّ أنّه لا بدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل و لا دليل هاهنا إلاّ السيرة و بناء العقلاء و لم يعلم استقرار بنائهم على ذلك.(2)

توضيحه: انّ القدر المتيقّن من الأصل الرائج بين العقلاء هو الاحتجاج بها عند الشكّ في المراد كما إذا ورد العام و شكّ في خروج فرد منه و عدمه، فتجري أصالة العموم و تثبت تعلّق الإرادة الجدية به بعد تعلّق الإرادة الاستعمالية به قطعاً.

و أمّا إذا علم المراد، و انّ زيداً على كلّ تقدير غير واجب الإكرام لكن شكّ في أمر آخر، و هو هل انّه جاهل فيكون خروجه تخصّصاً، أو عالم فيكون خروجه تخصيصيّاً؟ ففي مثله لا يحتجّ بأصالة العموم، و ذلك لانّها أصل اعتبر لاحتجاج المولى على العبد، و الصالح له، هو ما إذا كان الشكّ في المراد، لا في كيفية الإرادة من أنّها تخصيصية أو تخصّصية، إذ لا صلة لهذا بمقام الاحتجاج.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذكر لجريان أصالة العموم ثمرتين نشير إليهما:

ص:561


1- مطارح الأنظار: 200.
2- كفاية الأُصول: 1/352.

1. اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ ماء الاستنجاء غير منجّس، و اختلفوا في كونه طاهراً غير منجّس، أو نجساً غير منجس. فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين:

أ. ثبت في محله: انّ كلّ نجس منجس، و لذلك ذهبوا إلى انفعال الماء القليل، الملاقي للنجاسة.

ب. كما ثبت في محلّه على أنّ الملاقي لماء الاستنجاء ليس بنجس.(1)

و عندئذ نقول: لو كان ماء الاستنجاء طاهراً، لكان خروج طهارة ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل» كلّ نجس منجّس «من باب التخصّص، بخلاف ما لو كان ماء الاستنجاء نجساً، لكان خروج ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصاً، لافتراض انّ الماء نجس، و لكنّه ليس بمنجّس، و لازم القول بعدم ورود التخصيص على الدليل الأوّل كون الماء طاهراً.

2. اختلفت كلمتهم في أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح أو الأعم، فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين:

الأوّل: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) (2)كما في الآية المباركة.

الثاني: انّ الصلاة الفاسدة لا تنهى عنهما.

فلو كانت الصلاة موضوعة للصحيح، يكون خروج الفرد الفاسد عن تحت الدليل الأوّل من باب التخصّص، و لو قلنا بأنّها موضوعة للأعم يكون خروجه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصياً فمقتضى حفظ عموم الدليل الأوّل هو الثاني فتكون النتيجة هو كونه موضوعاً للصحيح.

ص:562


1- الوسائل: 1، الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحديث 5.
2- العنكبوت: 45.

الصورة الثانية للمسألة

إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم زيداً، و دار الأمر بين كون المراد، هو زيد العالم أو زيد الجاهل، فالظاهر صحّة التمسك بأصالة العموم و انّه لم يخصص، فيترتب عليه انّ الخارج هو زيد الجاهل، و أمّا زيد العالم فيجب إكرامه.

و ما ذلك إلاّ لأنّ الشكّ في هذه الصورة في المراد، فهل هو زيد العالم أو زيد الجاهل فهما شخصان؟ و الشيخ الأعظم ذهب إلى حجّية الأصل المذكور في كلّ من الصورتين مع وضوح الفرق بينهما، لأنّ الشكّ في الصورة الأُولى في كيفية الإرادة لا المراد، و أمّا الصورة الثانية فالشك و مركزه هو المراد و انّ أيّاً من الرجلين خرج عن تحت العام، إذ لو كان الخروج من باب التخصيص يحرم أو لا يجب إكرام زيد العالم، بخلاف ما لو كان الخروج تخصّصياً فيجب إكرامه.

تنبيه ما مرّ عليك من الصورتين غير ما تقدم عند البحث عن سراية إجمال المخصص الدائر إجماله بين المتباينين حيث قلنا بعدم جواز التمسّك بالعام لرفع إجماله.

و ذلك لأنّ الكلام فيما مرّ ما إذا كان التخصيص قطعياً و دار أمر زيد، بين كونه زيد بن عمرو العالم، أو زيد بن بكر العالم، ففي مثله يسري إجمال المخصص إلى العام فلا يكون حجّة في واحد من الموردين، و هذا بخلاف الصورتين الماضيتين فانّ التخصيص مشكوك من رأس.

ص:563

غاية الأمر يدور الأمر في الصورة الأُولى بين كون زيد، عالماً أو جاهلاً; كما يدور الأمر في الصورة الثانية، بين كون المراد، زيد العالم، أو زيد الجاهل، فالتخصيص في كلتا الصورتين مشكوك بخلاف الصورة الثالثة، فانّ التخصيص قطعي، غاية الأمر يدور الأمر بين زيدين عالمين أحدهما ابن عمرو و الآخر ابن بكر.

ص:564

الفصل التاسع لزوم الفحص عن المخصّص

اشارة

قد جرت سيرة الفقهاء على عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصّص و اليأس عن الظفر به، مثلاً: لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه: (وَ حَرَّمَ الرِّبا ) (1)إلاّ بعد الفحص عن مخصّصه، كجواز الربا بين الزوج و الزوجة و الوالد و الولد، أو لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ) (2)قبل الفحص عن مخصصه، كلزوم الإتمام لكثير السفر، أو لمن حرم سفره، أو أقام عشرة أيام في مكان، و غير ذلك.

و هكذا سائر العمومات، و هذا أمر اتّفق عليه الفقهاء.

و أوّل من طرح المسألة هو ابن سريج في أوائل القرن الرابع و خالفه تلميذه أبو بكر الصيرفي حيث استشكل على الأُستاذ بأنّه لو وجب الفحص عن المخصّص في التمسّك بالعام وجب الفحص عن قرينة المجاز عند الحمل على الحقيقة، و سيظهر جوابه فيما نتلوه عليك من الدليل على وجوب الفحص.

ص:565


1- البقرة: 275.
2- النساء: 101.

فإذا كان الفحص عن المخصص أمراً متفقاً عليه، يقع الكلام فيما هو الوجه لاتّفاق العلماء على هذا الأصل،

و قد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة لاتفاق العلماء على وجوب الفحص عن المخصص

اشارة

أوضحها أوّلها:

الأوّل: وقوع العام في مظان التخصيص

قد جرى ديدن العقلاء في المحاورات الشخصية على الإتيان بكلّ ما له دخل في مقاصدهم، و لأجل ذلك يتمسّك بظواهر كلماتهم من دون تربّص قيد، مثلاً: كما إذا طلب المولى من عبد أن يدعو مجموعة معينة من جيرانه لمأدبة طعام، فعندئذ يذكر كلّ ما له دخل في غرضه دون أن يميز بين الأصل و الفرع.

و أمّا المحاورات العامة التي تدور حول تقنين قوانين و تسنين سنن على صعيد عام أو صعيد خاص، فقد جرت سيرتهم على ذكر العام و المطلق في برهة و المخصص و المقيّد في برهة أُخرى.

ثمّ إنّ الداعي إلى التفريق بين العام و مخصّصه أو المطلق و مقيّده هو قصور علم المقنن عن الإحاطة بالمصالح و المفاسد، حيث يضع حكماً عاماً ثمّ يتبيّن عدم توفر الملاك في طائفة من أفراد العام.

و ربما يكون الداعي غير ذلك لكن الغالب هو الأوّل.

و أمّا التشريع الإسلامي في الذكر الحكيم فقد سار على هذا النحو، لا لقصور في الإحاطة بالمصالح و المفاسد، لأنّ المشرِّع هو اللّه سبحانه و هو محيط بكلّ شيء، بل لمصالح في نزول الأحكام نجوماً طيلة 23 سنة تقتضيه مصالحُ العباد، نرى أنّه سبحانه يتكلّم في أحكام الكلالة في أوائل سورة النساء و أواخرها، و ما هذا إلاّ لوجود المصلحة في تبيين الأحكام نجوماً.

و قد كان المشركون في صدر الإسلام يعترضون على نزول القرآن نجوماً، و قد

ص:566

جاء هذا الاعتراض و الجواب عنه في آية واحدة، أعني قوله سبحانه: (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ).(1)

إلى هنا تبيّن انّ السبب لنزول الأحكام و القرآن تدريجاً أمران:

1. اقتضاء مصلحة العباد ذلك.

2. انّ في النزول التدريجي تثبيتاً لفؤاد النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (.

و يمكن أن تكون هناك مصالح أُخرى.

هذا كلّه حول القرآن، و أمّا السنّة أعني: كلام المعصوم فقد وصلت إلينا في فترات تقرب من مائتي و خمسين سنة، فكانت الظروف مختلفة، فتارة كانت الظروف تقتضي بيان أصل الأحكام دون بيان مخصّصاتها و مقيّداتها، و ربما كانت الظروف سانحة لبيان تلك المخصّصات و المقيدات، و لذلك ربّما ترى وجود العام في كلام النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و المخصص في كلام الأئمّة) عليهم السلام (.

و على كلّ تقدير فالعام الذي هو في مظان التخصيص لا يحتجّ به إلاّ بعد الفحص عن مخصّصاته و مقيّداته.

نعم لا يجب الفحص عن المخصّص المتصل، لأنّ سقوطه عن الكلام عمداً ينافي وثاقة الراوي، و سهواً يخالف الأصل العقلائي المجمع عليه من أصالة عدم السهو في النقل.

و حصيلة الكلام: انّ الواجب على المولى هو بيان التكاليف على النحو الذي لو تفحص عنه العبد لوجده و لا يجب على المولى إيصال التكاليف إلى العبد مباشرة من دون حاجة إلى الفحص و البحث.

ص:567


1- الفرقان: 32.

هذا هو توضيح الوجه الذي بيّنه المحقّق الخراساني و تبعه سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (، و مع هذا الوجه لا حاجة إلى الوجهين التاليين:

الثاني: الظن الشخصي بالتكليف رهن الفحص

إنّ الظن الشخصي بالمراد الجدي لا يحصل قبل الفحص عن المخصّص، فلا بدّ من الفحص حتّى يحصل الظن الشخصي بالمراد، و يمتثل.

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في لزوم الفحص من دون حاجة إلى إثبات أنّ الظنّ الشخصي رهن الفحص، و من المعلوم أنّ الأوّل أقلّ مئونة من الثاني.

و ثانياً: أنّ مناط حجّية الظواهر ليس هو الظنّ الشخصي، بل مناطه عند المشهور الظن النوعي، كما عليه مشهور الأُصوليّين; أو اليقين بالمراد الاستعمالي، كما هو المختار. و على كلا التقديرين لا محيص من الفحص.

أمّا الأوّل فانّ حصول الظن النوعي رهن الفحص عن المخصص إذا كان ديدن المولى على فصل المخصص عن العام.

و أمّا الثاني فانّ اليقين بالإرادة الاستعمالية لا يحتج به إلاّ إذا أحرز تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية و إحراز التطابق رهن الفحص عن المخصص.

و ثالثاً: لو كان مناط الفحص هو عدم حصول الظن قبل الفحص يلزم الاقتصار في مقدار

ص:568

الفحص على الحدّ الذي يحصل به الظن الشخصي، و هو خلاف المدّعى، فإنّ ديدن العلماء هو الفحص عن مظان المخصّص، سواء حصل الظن الشخصي قبله أو لا.

و رابعاً: لو كان الملاك هو حصول الظن الشخصي يلزم الفوضى في مقدار الفحص فانّ طبائع الناس مختلفة، فربّ شخص يحصل له الظنّ بأدنى فحص، و ربّ شخص آخر لا يحصل له ذلك الظن إلاّ بعد إنهاء الفحص.

إلى هنا تبيّن انّ المناط في لزوم الفحص هو كون العام في مظان التخصيص لا توقف حصول الظن الشخصي بالبحث.

بقي الكلام في الوجه الثالث الذي قيل في لزوم الفحص، و هو الآتي.

الثالث: وجود العلم الإجمالي بالمخصّص

إنّ العلم الإجمالي بالمخصّص يمنع عن جريان الأصل اللفظي، كما أنّه يمنع عن جريان الأصل العملي، فكما لا تجري أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين فهكذا لا تجري أصالة العموم في عمومات الكتاب و السنّة، و الجامع وجود العلم الإجمالي بالتكليف المخالف لمقتضى الأصل.

يلاحظ عليه: بما ذكرناه في الوجه السابق من أنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في الحث على البحث من دون حاجة إلى التمسّك بالعلم الإجمالي، فالأوّل أقلّ مئونة دون الثاني.

نعم استشكل على هذا الوجه بوجوه غير تامة.

1. لو كان المناط هو وجود العلم الإجمالي بالمخصص لزم إيقاف الفحص إذا ظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، مثلاً نفترض أنّه لو علم بأنّ في الشريعة الإسلامية حوالي خمسين مخصصاً فأخذ بالفحص في أحاديث الكافي فظفر بهذا المقدار، تفصيلاً، فلازم ذلك الحال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجود مخصصات قطعية في كتاب الكافي و شك بدويّ في غيره و نتيجة الانحلال عدم وجوب الفحص عندئذ في كتابي: الفقيه و التهذيب، مع أنّ سيرة العلماء هو

ص:569

الفحص في الجميع.

و يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأنّه إذا ظفر بالمقدار المعلوم إجمالاً بمجرد مطالعة الكافي يُكشف له بطلان العلم الأوّل، أعني: كون المخصص حوالي خمسين رواية، بل يحصل له العلم بسعة دائرة العلم الإجمالي بوجود مخصّصات أُخرى في كتابي: الفقيه و التهذيب، فيكون الميزان هو وجود العلم الإجمالي أيضاً و انحلاله.

هذا هو الجواب الصحيح عن الإشكال، غير أنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر.

إنّ المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلاً غير معلّم بعلامة، و أُخرى معلّماً بعلامة و انحلال العلم الإجمالي بالعثور على المقدار المتيقّن إنّما يكون في القسم الأوّل، لأنّ منشأ العلم فيه هو ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقّنة، كما إذا علم بأنّه مديون لزيد و تردد الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة، و أمّا القسم الثاني فلا ينحلّ به، بل حاله حال دوران الأمر بين المتباينين، و لا انحلال في مثله لعدم الرجوع إلى العلم بالأقل، و الشكّ في الأكثر من أوّل الأمر، بل يتعلّق العلم بجميع الأطراف بحيث لو كان الأكثر واجباً لكان ممّا تعلّق به العلم و تنجز بسببه و ليس الأكثر مشكوكاً فيه من أوّل الأمر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لو كان العنوان المتعلّق بالعلم الذي يعبّر عنه المحقّق النائيني بالعلامة، ذا أثر شرعي لكان لما ذكره وجه، كما إذا تعلّق العلم الإجمالي بوجود خمسة شياه موطوءة في قطيع غنم، فقامت البيّنة على حرمة أكل خمسة شياه معينة، فهذا النحو من العلم التفصيلي لا ينحل به العلم الإجمالي، بل يجب

ص:570


1- فوائد الأُصول: 1/545.

الاجتناب عن الجميع أيضاً، و ذلك لأنّ المعلوم بالإجمال كان معنوناً بعنوان الموطوءة، و لكنّ البيّنة قامت على مجرّد حرمة أكلها، و هي أعمّ من كونها موطوءة.

و أمّا إذا كان العنوان فاقداً للأثر كما في المقام فلا يجب رعايته.

فلا فرق بين القضيتين إحداهما مرسلة و الأُخرى معنونة.

1. إذا علم بأنّه أتلف دنانير لزيد مردّدة بين الخمسة و العشرة، فبما انّ الخمسة معلومة تفصيلاً و الزائد عليها مشكوكة، ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي و شكّ بدوي.

2. أتلف الدنانير الموجودة في كيس زيد، و هي مردّدة بين الخمسة و العشرة، فإنّ المعلوم بالإجمال معنون بما في الكيس، لكن ذلك لا يمنع عن الانحلال، لعدم ترتّب الأثر على قوله في الكيس.

و نظيره تعلّق العلم الإجمالي في المقام بما في الكتب التي بأيدينا، إذ ليس للقيد بما في الكتب أثر شرعي، و إنّما الأثر الشرعي نفس المخصصات و الكتب ظرف لها.

و الأولى الإجابة عن الإشكال بما ذكرناه.

2. لو كان الفحص لأجل وجود العلم الإجمالي لزم عدم جواز التمسك بالعام حتّى بعد الفحص لعدم انحلال العلم الإجمالي حتّى بعد المراجعة إلى الكتب التي بأيدينا، سواء كانت معتبرة أم لا، لأنّ العلم بالمخصّصات لا ينحصر فيما بأيدينا من الكتب، بل يعمّ الكتب المؤلفة في عصور الأئمّة التي ضاعت و لم تصل إلينا، كجامع البزنطي المتوفّى عام 221، و نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى المتوفّى حوالي 290، و غيرهما و معه كيف ينحلّ؟!

ص:571

يلاحظ عليه: بما سيوافيك عند البحث في دليل الانسداد انّ ادّعاء العلم الإجمالي بوجود أخبار متضمّنة لأحكام عامّة أو خاصّة في الكتب التالفة مجرد احتمال لا يدعمه دليل، بل المحمدون الثلاثة نقلوا ما في الجوامع الأوّلية إلى كتبهم بنظم و نسق خاص.

3. انّ لازم ذلك الفحص عن كلّ الكتب الموجودة بأيدينا، سواء كانت من المعتبرة أو غير المعتبرة، و سواء كان الكتاب فقهاً أو حديثاً أو أخلاقاً، و من المعلوم أنّ وقت المجتهد لا يسع لهذا المقدار من الفحص.

يلاحظ عليه: بأنّ دائرة العلم الإجمالي ضيّقة من أوّل الأمر، إذ لا علم لنا بوجود روايات صحيحة متضمنة لأحكام عامة أو خاصة في غير الكتب المعتبرة، بل وجود الروايات فيها مشكوك من أوّل الأمر و ليس طرفاً للعلم الإجمالي.

و هناك جواب آخر و هو ترتيب علمين إجماليّين أحدهما كبير و الآخر صغير و انحلال الكبير بالصغير، فقد أوضحه شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة و لم يتعرض له في هذه الدورة، فمن أراد الوقوف فليرجع إلى كتاب» المحصول «لزميلنا السيد الجلالي حفظه اللّه.

هل الفحص عن المخصّص فحص عن المزاحم أو المتمم للحجّية؟

إنّ هنا بحثاً آخر و هو انّ البحث عن المخصص هل هو بحث عمّا يزاحم الحجية، بمعنى انّ العام حجّة تامة لا نقص فيها و انّما نبحث عمّا يزاحم حجّيتها، و من المعلوم أنّه يؤخذ في المتزاحمين بأقواهما و هو الخاص كالغريقين أحدهما ذمي و الآخر مؤمن، فيؤخذ بالأقوى ملاكاً.

أو هو فحص عن متمم الحجية بمعنى انّ العام الواقع في مظان

ص:572

التخصيص ليس بحجّة عند العقلاء حتّى يفحص عن مخصصه فيكون عدم المخصص مكمّلاً لحجّية العام. نظير الفحص عن الدليل الاجتهادي عند التمسك بالأُصول العملية فانّ موضوع البراءة هو قبح العقاب بلا بيان و لا يحرز عدم البيان إلاّ مع الفحص، كما أنّ موضوع التخيير هو عدم الترجيح و لا يحرز ذلك العدم إلاّ بالفحص.

كما أنّ موضوع الاحتياط هو احتمال العقاب الأُخروي في كلّ من طرفي العلم الإجمالي و لا يحرز إلاّ بفقد الدليل على أنّ الحرام في جانب معين.

ذهب المحقّق الخراساني إلى القول الثاني و انّ الفحص في المقام فحص عن المزاحم بخلافه في جريان الأُصول العملية.

و لكنّ الظاهر انّ الموردين من باب واحد، و ذلك لما أوضحناه سابقاً من أنّ أساس الاحتجاج أُمور ثلاثة:

1. وجود الدليل الظاهر في مفهومه.

2. عدم قيام قرينة على خلافه.

3. كون الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية.

و لا يُحرز الأخيران إلاّ بالفحص، إذ بالفحص يتبيّن وجود القرينة على الخلاف، كما أنّه بالفحص يتبيّن تطابق الإرادتين، إذ بوجود المخصّص يظهر عدم المطابقة و من عدمه يظهر تطابقهما، و الجميع رهن الفحص.

و إن شئت قلت: إنّ العام الذي هو في مظان التخصيص ليس بحجّة فعلية، بل حجّة شأنية، لما عرفت من جريان السيرة على عدم الاحتجاج بمثل هذا الكلام إلاّ بعد الفحص عمّا له مدخلية في تبيين الإرادة الجدية.

ص:573

مقدار الفحص

و أمّا مقدار الفحص فيختلف حسب الأدلّة التي أُقيمت على وجوب الفحص، أمّا إذا كان الدليل وقوع العام في مظان التخصيص فيجب الفحص حتّى يخرج العام عن ذلك المظان بالرجوع إلى الكتب الأربعة، أو الوسائل المتضمنة لها و لسبعين كتاباً آخر.

و هو أمر واضح لا حاجة إلى البيان.

و العجب انّه اعترض المحقّق الخوئي على هذا الأمر الواضح بأنّه لا يرجع إلى معنى محصل، لأنّه بالفحص لا يخرج عن المعرضية، لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من المعرضية احتمال وجود مخصص وارد عليه موجود في الكتب الروائية فإذا سبر و لم يجد المخصص ينتفي ذلك الاحتمال و بالتالي يخرج عن المعرضية.

ص:574


1- المحاضرات: 5/272.

الفصل العاشر في الخطابات الشفاهية

اشارة

هل الخطابات الشفاهية مثل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) (1)تختص بالحاضرين في محل التخاطب، أو تعمّ غيرهم من الغائبين و المعدومين؟ جعل المحقّق الخراساني محل النزاع أحد الأُمور التالية:

الأوّل: في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين كتعلّقه بالموجودين أو لا؟ الثاني: هل تصحّ مخاطبة المعدوم و الغائب في محل الخطاب بالألفاظ الموضوعة له أو بنفس توجيه الكلام إليهم أو لا؟ الثالث: هل الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب تعمّ المعدوم و الغائب أو لا؟ و البحث عن الأمرين الأوّلين عقلي و عن الثالث لغوي.(2)

و على كلّ تقدير

فلنبحث عن الجهات الثلاث.

اشارة

ص:575


1- البقرة: 183.
2- كفاية الأُصول: 1/354.
الجهة الأُولى: في صحّة تكليف المعدوم و عدمها
اشارة

فنقول: إنّ المحقّق الخراساني صوّرها بوجوه ثلاثة:

1. أن يتوجّه إليه البعث و الزجر الفعليان بأن يكون هناك بعث و زجر، و هذا ما لا يتمشى من الإنسان العاقل، و إلى هذا القسم ينظر كلامه حيث قال: لا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلاً بمعنى بعثه أو زجره فعلاً.(1)

نعم ذهب بعض الحنابلة إلى جواز تكليف المعدوم، و استدلّوا على جوازه بآيتين مباركتين تاليتين:

أ. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2)حيث إنّه يكلّف المعدوم بقبول الوجود و التكون.

ب. (وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (3)حيث إنّه سبحانه كلّفهم بالشهادة على ربوبيته فأجابوا بقولهم: بلى.

و الاستدلال واه جداً.

أمّا الآية الأُولى: فلأنّها بصدد بيان انّ إرادة اللّه سبحانه نافذة في كلّ شيء ممكن، و انّها إذا تعلّقت بتحقّق شيء و وجوده، يتحقّق فوراً بلا تريث و تربّص لا انّ هناك خطاباً لفظياً بلفظة» كن «و مخاطباً واقعياًً حتّى يكون دليلاً للحنابلة، هذا و قد فسّر الإمام علي) عليه السلام (الآية المباركة بقوله:» يقول لمن أراد كونه، كن، فيكون،

ص:576


1- كفاية الأُصول: 1/355.
2- يس: 82.
3- الأعراف: 172.

لا بصوت يُقْرع و لا بنداء يُسمع، و إنّما كلامه فعل منه أنشأه و مثّله و لم يكن من قبل ذلك كائناً «.(1)

و أمّا الآية الثانية: فليس الاستشهاد و الشهادة بلسان القال و إنّما هو بلسان الحال، و إنّ كلّ إنسان إذا صار بشراً سوياً يشهد بفطرته على توحيده، و بصنعه على حكمته سبحانه، و لذلك يقول شيخ المفسرين الإمام الطبرسي في تفسير الآية:

المراد بالآية انّ اللّه سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أُمّهاتهم ثمّ رقاهم درجة بعد درجة، و علقة ثمّ مضغة، ثمّ أنشأ كلاً منهم بشراً سوياً، ثمّ حياً مكلّفاً، و أراهم آثار صنعه، و مكّنهم في معرفة، دلائله حتّى كأنّه أشهدهم و قال لهم: (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم دلّهم بخلقه على توحيده.

و إنّما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولهم من الأدلّة الدالّة على وحدانيته و ركّب فيهم من عجائب خلقه و غرائب صنعته و في غيرهم، فكأنّه سبحانه بمنزلة المُشْهِد لهم على أنفسهم، فكانوا في مشاهدة ذلك و ظهوره فيهم على الوجه الذي أراده اللّه و تعذر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقر، و إن لم يكن هناك إشهاد صورة و حقيقة نظير ذلك قوله تعالى: (فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) و إن لم يكن منه سبحانه قول و لا منها جواب.(2)

إلى هنا تبين انّ تكليف المعدوم بالبعث و الزجر الفعليين ممّا لا يصدر من الإنسان المريد.

2. جعل التكليف الإنشائي للموجودين و الغائبين و المعدومين، و إلى هذا

ص:577


1- نهج البلاغة، الخطبة 179.
2- مجمع البيان: 2/498.

القسم ينظر قول المحقّق الخراساني: نعم هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث و لا زجر و لا استحالة فيه أصلاً، فانّ الإنشاء خفيف المئونة، فالحكيم تبارك و تعالى ينشأ على وفق الحكمة و المصلحة، و يطلب شيئاً قانوناً من الموجود و المعدوم حين الخطاب ليصير فعلياً بعد ما وجد الشرائط و فقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الإنشاء و إن كان خفيف المئونة لكن فيما إذا كان له معنى متصوّر، و المعدوم ليس من أفراد الناس حتّى يكون محكوماً بحكم إنشائي و إيقاعي، و إنّما يتصور الحكم الفعلي أو الإنشائي فيما إذا كان المكلّف موجوداً، فتارة يكون الحكم في حقّه فعلياً و أُخرى إنشائياً، و أمّا إذا لم يكن منه أي أثر و أي ميز فكيف يمكن أن يحكم على المعدوم و المجهول المطلق بحكم و قد اشتهر قولهم:» المجهول المطلق لا يمكن الإخبار عنه «، و ما استشهد في كلامه من الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة سوف يوافيك انّ كيفية الوقف بشكل آخر.

و ثانياً: أنّ الحكم الإنشائي الصادر لا لغرض البعث، بل لغاية التحسّر و التضجّر، لا يصير فعلياً عند تحقّق الموضوع و الصادر لغاية البعث لا يتعلّق بالمعدوم و يكون لغواً.

3. إنشاء الحكم مقيداً بوجود المكلّف و كونه جامعاً للشرائط، و إليه أشار المحقّق الخراساني بقوله:

و أمّا إذا أنشأ مقيداً بوجود المكلّف و وجدانه للشرائط فإمكانه بمكان من الإمكان.(2)

ص:578


1- كفاية الأُصول: 1/355.
2- كفاية الأُصول: 1/356.

و هذا الوجه هو المصحّح لشمول الخطابات الشفاهية للغائبين و المعدومين لكن بتقرير يتوقّف بيانه على توضيح أقسام القضايا من حيث الموضوع، فنقول:

تقسم القضايا من حيث الموضوع إلى ذهنية و خارجية و حقيقية.

أمّا الذهنية فهي عبارة عمّا إذا حكم على موضوع في الذهن، و هو على قسمين:

تارة يكون على وجه يمتنع عليه الوجود في الخارج، كقولنا: اجتماع النقيضين محال.

و أُخرى لا يمتنع، و إن كان غير موجود بالفعل، كقولنا: بحر من زيبق بارد أو جبل من الذهب لامع، فانّ الموضوع في القضيتين ليس له وجود إلاّ في الذهن و إن أمكن وجوده في الخارج.

فإن قلت: ما الفرق بين الذهنية و الطبيعية حيث إنّ للقضايا تقسيماً آخر باعتبار حالات الموضوع، فتنقسم إلى: شخصية كقولنا زيد قائم، و طبيعية كما إذا كان الحكم على الماهية بما هي هي، مثل قولنا: الإنسان نوع أو الإنسان كلّي.

قلت: الفرق بينهما انّ الموضوع في الطبيعية هي الماهية من دون نظر إلى الخارج، و لذلك قلنا: إنّ الموضوع الماهية بما هي هي، و هذا بخلاف الذهنية، فإنّ الحكم فيها على الموجود في الذهن بما انّه يحكي عن الخارج و لو بالامتناع أو عدم الوجود، كما في المثالين: اجتماع النقيضين محال أو بحر من زيبق بارد.

و أمّا الخارجية و الحقيقية فهما يشتركان في أنّ الحكم في كلتا القضيتين على العنوان لا على الافراد، غير أنّ العنوان في إحدى القضيتين على وجه لا ينطبق إلاّ على الافراد الموجودة حين التكلّم بخلاف الأُخرى، فإنّ العنوان فيها ذو قابلية

ص:579

يصلح أن ينطبق على الافراد الموجودة عبر الزمان من غير فرق بين موجود حال التكلّم أو موجود بعده.

و بعبارة أُخرى: يشتركان في أنّ الحكم على العنوان لا على الخارج. و يفترقان في أنّ العنوان في القضية الخارجية له ضيق ذاتي لا ينطبق إلاّ على الأفراد الموجودة في زمان التكلم، كما إذا قال: قُتِلَ مَنْ في العسكر و نُهِب ما في الدار، فانّ الإخبار عن القتل و النهب في الزمان الماضي لا ينطبق إلاّ على الموجود في ظرف التكلّم بخلاف العنوان في القضية الحقيقية، فإنّ له مرونة على وجه ينطبق على الافراد الموجودين عبر القرون فالحكم بما له بقاء في عالم الاعتبار محمول على العنوان الذي ينطبق على مصاديقه بالتدريج.

إذا عرفت ذلك فلا مانع من القول بشمول الحكم لعامّة مصاديق العنوان طول الزمان على وجه القضية الحقيقية، كما إذا قال سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) فالتكليف متعلّق بالعنوان و هو الناس، و لكنّه على وجه يتكثّر أفراده و مصاديقه طول الزمان، فللموضوع استمرار لوجود مصداق بعد مصداق و يتبعه الحكم في استمراره.

نعم كلّ ذلك كما قلنا رهن بقاء الحكم في وعاء من الأوعية و لو في عالم الاعتبار كما هو مفهوم الخاتمية، و معنى ذلك أنّ لأحكامه سبحانه وجوداً و بقاءً عبر الزمان متعلّق بالعناوين المتكثرة مصداقاً و وجوداً.

و بهذا يعلم حال الوقف للبطون اللاحقة، فإنّ الوقف على عنوان الأولاد و للعنوان قابلية للتكثّر من حيث الافراد طول الزمان و للحكم بقاء في عالم الاعتبار فكلّما توفرت الأفراد استتبعته الأحكام.

فتلخص ممّا ذكرنا:

ص:580

1. إنّه لا مانع من عمومية التكاليف الواردة في الخطابات للحاضر و الغائب و المعدوم، بشرط جعل التكليف على نحو القضايا الحقيقية، أي يكون للعنوان قابلية الانطباق على الافراد طول الزمان.

2. انّ الحكم في كلّ من القضيتين: الخارجية و الحقيقية، على العنوان ابتداءً،) لا على الأفراد الخارجية مباشرة و بلا توسيط عنوان (، غاية الأمر يختلف العنوانان في قابلية التطبيق ضيقاً وسعة.

المحقّق النائيني و تفسير القضيتين

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني تفسيراً خاصاً حول القضيتين نذكرهما بنصّ مقرر بحثه المحقق الكاظمي.

أمّا الخارجية فعرّفها بقوله:

إنّ الحكم في القضية الخارجية مترتّب ابتداءً على الخارج بلا توسط عنوان، سواء كانت القضية جزئية أو كلية، فإنّ الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضاً إنّما يكون مترتباً على الافراد الخارجية ابتداءً من دون أن يكون هناك بين الأفراد جامع اقتضى ترتّب الحكم عليها بذلك الجامع كما في القضية الحقيقية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلط بين القضية الشخصية و القضية الخارجية، فانّ الحكم في القسم الأوّل يتعلق بالخارج دون توسيط عنوان، فيقال: زيد قائم و خالد جالس، و بما انّ الجزئي لا يكون كاسباً و لا مكتسباً، صارت القضايا الشخصية غير معتبرة في العلوم.

و هذا بخلاف القضايا الخارجية فانّها من القضايا المعتبرة، و ما ذلك إلاّ لأنّ

ص:581


1- فوائد الأُصول: 1/512.

الحكم متعلّق بالعنوان القابل للتكثّر، و إلاّ فلو كان سبيل القضايا الخارجية سبيل الشخصية فلما ذا فرقوا بينهما بالاعتبار و عدم الاعتبار؟ ثمّ إنّه) قدس سره (عرف القضية الحقيقية بقوله: بأنّها ما كان الحكم فيها وارداً على العنوان و الطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع.(1)

هذا ما ذكره في أوائل مبحث العام و الخاص و أضاف في المقام قوله: و أمّا القضايا الحقيقية فحيث إنّها متكفّلة لفرض وجود الموضوع، و كان الخطاب خطاباً لما فرض وجوده من أفراد الطبيعة كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب، فتستوي الأفراد الموجودة في زمن الخطاب و غيره.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من تعلّق الحكم في القضايا الحقيقية بالعنوان بلحاظ مرآتيته و إن كان صحيحاً، لكن تقييد العنوان بفرض وجود الموضوع تكلّف لا يحتاج إليه، بشهادة انّه ليس من فرض وجود الموضوع في ذهن المتكلّم شيء، و قد عرفت أنّه يكفي تعلّق الحكم بنفس العنوان الحاكي عن الخارج حسب مرور الزمان و عبر الأجيال و القرون.

و بالجملة تكفي قابلية انطباق العنوان على الأفراد الموجودة تدريجاً في عمود الزمان.

الجهة الثانية: في إمكان خطاب المعدوم

قد كان البحث في الجهة السابقة منصبّاً على تكليف المعدوم و في هذه الجهة

ص:582


1- فوائد الأُصول: 1/512.
2- فوائد الأُصول: 1/550.

إلى إمكان توجيه خطاب إليه لغاية التفهيم و التفهم، و قد صرّح المحقّق الخراساني بامتناعه قائلاً: بأنّه لا ريب في عدم صحّة خطاب المعدوم، بل الغائب حقيقة و عدم إمكانه ضرورة عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة، إلاّ إذا كان موجوداً بحيث يتوجّه إلى الكلام و يلتفت إليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ امتناع تكليف المعدوم كامتناع خطابه من باب واحد، فلو أمكن تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية، يمكن توجيه الخطاب إليه عن هذا الطريق.

توضيحه: أنّه إن أُريد من امتناع خطاب المعدوم و الغائب، الخطاب الشفهي و الخطاب الحدوثي فهو أمر مسلم، فإنّ الخطاب الشفهي قائم بمخاطِب و مخاطَب و المفروض كون المخاطب معدوماً أو غائباً.

و أمّا لو أُريد من الخطاب هو وجوده الاستمراري) إذا كان له في نظر العقلاء استمرار و بقاء (فهو من الإمكان بمكان، و عندئذ فالمخاطب له بقاء بملاحظة بقاء خطابه و المخاطَب حاضر لا غائب و لا معدوم، و عندئذ تكتمل أركان الخطاب.

و الحاصل: انّ من قال بالامتناع نظر إلى الخطاب بوجوده الحدوثي الزائل و غضّ النظر عن أنّ للخطاب نوع بقاء عند العقلاء في الصدور و الألسن أوّلاً، و الرسائل و الكتب ثانياً، و الأشرطة و الأقراص المضغوطة ثالثاً، و لأجل ذلك نرى أنّ الرؤساء يوجهون خطابهم للأجيال الحاضرة و الغائبة، و لا يخطر على بالهم أنّ الخطاب الحقيقي لا يمكن توجيهه إلى الغائب و المعدوم، و ما ذلك إلاّ لأنّهم يرون أنّ لخطاباتهم بقاءً في القلوب و الصدور، و الألواح و الكتب و أخيراً

ص:583


1- كفاية الأُصول: 1/256.

في أجهزة تسجيل الصوت.

و على ذلك فلو كان العنوان المأخوذ في الخطابات من العناوين المنطبقة على الأفراد عبر الزمان و كان للخطاب بقاء و ثبات، فلا مانع من توجيه الخطاب الحقيقي إلى الغائب و المعدوم بهذا الطريق.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يخاطب قاطبة البشر في نسل بني آدم إلى من يأتي إلى يوم القيامة بالآيات التالية:

1. (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ).(1)

2. (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ).(2)

3. (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ).(3)

4. (يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ).(4)

و الحاصل: انّ الخطاب الحقيقي يدور على وجود الخطاب بنحو من الأنحاء و وصوله إلى المخاطب و كون المخاطب موجوداً، و الشرطان موجودان في عامة الخطابات الشفاهية.

فظهر ممّا ذكرنا إمكان خطاب المعدوم و الغائب كما ثبت صحّة تكليفهما، كلّ ذلك على نحو القضايا الحقيقية أوّلاً، و بقاء الخطاب ثانياً.

***

ص:584


1- الأعراف: 26.
2- الأعراف: 27.
3- الأعراف: 31.
4- الأعراف: 35.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ صحّح تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية و لكنّه لم يُصحّح خطاب الغائب و المعدوم عن تلك الطريقة، فقال في الفرق بين الموردين ما هذا حاصله:

إنّ الحكم في القضية الحقيقية على عنوان للافراد قابل للصدق على كلّ مصداق موجود فعلاً أو ما يوجد في القابل، و مثل ذلك لا يتصور في الخطاب، إذ لا يمكن أن يتعلّق الخطاب بعنوان أو أفراد له و لو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب و الخطاب نحو توجه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم، و مثل ذلك يتوقّف على حاضر ملتفت، و المعدوم و الغائب ليسا حاضرين و لا ملتفتين.

و بالجملة ما سلكناه من التمسك بالقضية الحقيقية، في غير الخطابات لا يجري فيها، إذ الخطاب الحقيقي يستلزم وجوداً للمخاطَب، و وجوداً واقعياً للمخاطِب، و القول بأنّ الخطاب متوجّه إلى العنوان كجعل الحكم عليه، مغالطة محضة، لأنّ تصوّر الخطاب بالحمل الشائع يأبى عن التفوه بذلك.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الظاهر عدم الفرق بين التكليف و الخطاب و انّ الممتنع، ممتنع في كلا المقامين و الممكن منها ممكن كذلك، و ذلك لأنّ الخطاب و إن كان لا ينفك عن المخاطب و لكن المفروض وجود المخاطَب في كلتا المرحلتين: الحدوث و البقاء.

و ليس المدعى شمول الخطاب بوجوده الحدوثي الغائبينَ و المعدومين، حتّى يتم ما ذكره، بل المراد شمول الخطاب لا بوجوده الحدوثي، بل بوجوده الاستمراري، فكما أنّ الموضوع ينطبق على مصاديقه حسب التدريج، فهكذا الخطاب يتحقّق شيئاً فشيئاً بوجوده الاستمراري على مصاديقه التدريجية عبر

ص:585


1- تهذيب الأُصول: 1/506.

الزمان أو غير الحاضرين في زمن الخطاب.

نعم الخطاب بوجوده الحدوثي تكويني، و بوجوده الاستمراري) في غير الأشرطة (اعتباريّ، و هذا يكفي في الشمول، و ترتّب الثمرة.

إلى هنا تمّ الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثالثة: عمومية ما وقع بعد أداة الخطاب

ثمّ إنّه يقع الكلام في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة النداء و الخطاب للغائبين و المعدومين و عدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة و قد فصّل المحقّق الخراساني في المقام و بناه على ما هو المختار في الجهة الثانية.

فلو قلنا بأنّ ما وضع للخطاب مثل أدوات النداء، موضوع للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله فيه، تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين.

و لو قلنا بأنّها موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي، يلازم ذلك عموم ما وقع تلو النداء، للغائب و المعدوم.

ثمّ إنّه) قدس سره (استقرب الوجه الثاني بأمرين:

1. جعل استعمال ما وقع تلو أداة النداء في العموم من الحاضرين و غيرهم، قرينة على استعمال حرف النداء في غير الخطاب الحقيقي.(1)

2. ادّعى انّ أدوات النداء موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي فربّما يخاطب بها، لا تفهيماً و لا تفهماً، بل لإبراز الحزن كما في قول القائل:

ص:586


1- حيث قال:» كما أنّ قضية إرادة العموم لغير الحاضرين ممّا وقع تلو أداة النداء، هو استعمال ما وضع للخطاب في غير الخطاب الحقيقي «. و كلامه (قدس سره) مشتمل على ضمائر أوجد التعقيد في كلامه فبدّلنا الضمائر بالمراجع.

يا كوكباً ما كان أقصر عمره و كذا تكون كواكب الأسحار

أو لغايات أُخرى، فلو كان موضوعاً للخطاب الإنشائي لا يلزم تخصيص ما وقع بعده بالحاضرين، إذ ليست الغاية من الخطاب، البعث و الزجر حتّى يختص بالحاضرين.

نعم لا يبعد انصرافها إلى الحقيقي لو لا وجود القرينة على خلاف الانصراف، و هو عدم اختصاص الحكم بالحاضرين بضرورة من الدين.

و الذي يشهد على انّها موضوعة للخطاب الإنشائي، انّه لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي يجب أن يكون استعمالها في الخطاب الإنشائي مجازاً صادراً عن المتكلّم بعناية بمعنى تنزيل ما ليس له شعور، مكان ما له شعور مجازاً مع عدم أي أثر من العناية و التنزيل في ذهن المتكلّم.

يلاحظ عليه بأُمور:

الأوّل: منع الملازمة بين كون أداة النداء موضوعة للخطاب الإنشائي، و عمومية ما وقع بعده لغير الحاضرين، ضرورة انّ لفظ» الناس «في قوله سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (1)و (وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) في كثير من الآيات لا يصدق إلاّ على الموجودين، فليس المعدوم ناساً و لا مستطيعاً، و لا مؤمناً و لا مصداقاً لأمر من الأُمور، فالسعي في جعل الخطاب إنشائياً، لغاية التعميم ليس ناجحاً.

الثاني: انّ جعل خطابات القرآن خطابات إنشائية جاءت لغايات غير التفهيم و التعلم، يحطّ من مكانة القرآن الذي يقول فيه سبحانه: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ )(2)، إلى غير ذلك من الآيات التي تعرّف الغاية من

ص:587


1- آل عمران: 97.
2- ص: 29.

خطاباته، و هذا النوع من الغاية لا ينفك عن كون خطاباته حقيقية.

و ربما تُتخذ نظرية كون الخطابات إنشائية ذريعة لتصحيح ما نقل عن بعض متكلّمي المسيحيّين من أنّ بعض ما ورد في القرآن من القصص و القضايا تمثيلات و أُمور رمزية ليست لها حقائق و واقعيات سوى تقريب المعارف، فإبليس و آدم و حواء و الجنة رموز لأهداف تربوية في لباس الحكاية.

الثالث: نفترض انّ أداة النداء وضعت للخطاب الحقيقي و لكنّه لا يكون سبباً لاختصاص ما وقع بعده من العنوان، للحاضرين، لما عرفت أنّ للخطاب الحقيقي بقاءً في نظر العرف بأحد الأسباب، و معه يعمّ الخطاب و ما وقع بعده للغائبين و المعدومين جميعاً.

نظرية السيد الأُستاذ

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ عطف الجهة الثالثة على الجهة الثانية و بحث عنهما معاً دون أن يفصل بينهما، و اختار شمول الخطابات القرآنية لعامّة الناس إلى يوم القيامة لكن ببيان آخر، و حاصله:

إنّ الخطابات القرآنية ليست خطابات شفاهية لفظية حتّى يقابِلُ فيها الشخصُ بالشخص، بل هي خطابات أشبه بالخطابات الواردة في الكتب و الرسائل العلمية، فإنّ المؤلف مع أنّه يخاطب، لا يخاطب شخصاً معيناً، بل يخاطب كلّ من قرأ كتابه، فهكذا القرآن لا يخاطب شخصاً خاصاً، بل يخاطب كلّ من سمعه، و لذلك يأمر نبيه أن يقول: (وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ).(1)

ص:588


1- الأنعام: 19.

و يقول سبحانه: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ ).(1)

و يقول سبحانه: (وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ).(2)

إلى غير ذلك من الآيات التي تصفُ القرآن بانّه منذر لكلّ من بلغ إليه و هداية للناس عامة، و ما هذا إلاّ لأنّ خطاباته ليست خطابات شفوية، بل أشبه بخطابات تحريرية لا يقصد سوى من ينطبق عليه العنوان التالي لأدوات النداء.

و يؤيد ذلك نزول الوحي و كان ينزل على قلب سيد المرسلين و لم يكن الخطاب مسموعاً لأحد من الأُمّة، بل يمكن أن يقال بعدم وصول خطاب لفظي إلى الرسول و إنّما يجده الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (في قلبه منقوشاً و موجوداً، لقوله سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ).(3)

فعلى ضوء ذلك فحساب الخطابات القرآنية غير حساب الخطابات الشفوية الشخصية التي تتبادل بين شخصين، و عند ذلك لا مانع من أن يعم الجميع و تشمل جميع الأشخاص إلى يوم القيامة.

و إن أردت مزيداً من التوضيح فلاحظ انّ الخطابات التي يوجهها رؤساء الدول إلى شعوبهم، خطابات حقيقية لغاية التفهيم و التفهم و لكن ليس من قبيل مخاطبة شخص لشخص، و لذلك يعمّ الحاضر و الغائب حتّى غير الموجودين.

و مع إمكان تفسير الخطابات عن هذا الطريق لا حاجة إلى التمسك بأنّ خطابات القرآن خطابات إيقاعية أو إنشائية أو من قبيل القضايا الحقيقية، أو أنّ

ص:589


1- البقرة: 185.
2- الكهف: 54.
3- الشعراء: 193 194.

خطاباته مختصة بالموجودين ثمّ تعميمه بدليل آخر، أعني قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» حكمي على الأولين، كحكمي على الآخرين «، فانّ كلّ ذلك تطرف في الكلام و التزام بما لا يلزم.

حصيلة البحث

إنّ تعميم خطاباته سبحانه إلى الغائبين و المعدومين، رهن صحّة أحد أُمور:

1. جعل خطاباته بل عامّة تكاليفه و إن لم يكن بصورة الخطاب من قبيل القضايا الحقيقية، و قد عرفت أنّ للخطاب بقاءً فيعمّ التكليف) سواء أ كانت بصورة الخطاب أو غيره (عامّة المكلّفين عبر القرون.

2. جعل خطاباته بل مطلق ما جاء في القرآن، من الكلام، من قبيل خطابات المؤلّفين و الواقفين و الموصين، فكلّها خطابات رسائلية، لا شفوية، يقصد به كلّ من وقف عليها، سواء أ كان موجوداً حين التكلّم، أو لا لكنّه سيوجد في طول الزمان.

3. جعل الخطابات القرآنية من قبيل الخطابات الإيقاعية و الإنشائية التي ربما يقصد بها غير التفهيم، بل الرثاء و إظهار الأسف، فمثل ذا، لا يتوقّف صحة خطابه على وجود المخاطب، و قد عرفت بطلان هذا الوجه فلا نعيد إليه.

4. هناك وجه آخر، نقل صاحب الفصول عن بعض الحنابلة أنّ القول بوضع أداة الخطاب للحقيقي لا يلازم اختصاص خطاباته بالمشافهين، و ذلك لإحاطته بالموجود في الحال و الاستقبال.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين علمه سبحانه بالأُمور و بين فعله المتنزل إلى إطار

ص:590


1- الفصول: 183.

الزمان فعلمه الذاتي بما انّه فوق المادّة و لا يتطرق إليه الزمان مطلقاً، يتعلّق بالأشياء دفعة واحدة، إذ ليس هناك تدريج و العالم كله حاضر لديه أخذاً بالقاعدة الثانية في الفلسفة الإلهية: المتدرجات في وعاء الزمان، مجتمعات في وعاء الدهر.

لكن الكلام ليس في علمه الذاتي، بل في فعله المتنزل إلى حد المادة المحدود بحدّ الزمان، فهو بما انّه محدّد بإطار الزمان، لا يشمل إلاّ الموجود حين الخطاب و صار مخاطباً.

ثمرة البحث

اشارة

ذكر المحقّق الخراساني للبحث ثمرتين:

الأُولى: حجّية خطابات الكتاب لغير المشافهين و عدمها

لو قلنا بأنّ خطابات القرآن تعمّ الطوائف الثلاث، فتكون خطاباته حجّة على الجميع، و أمّا لو قلنا بعدم التعميم فلا تكون حجّة إلاّ على المشافهين، و يتوقّف تعميم الأحكام إلى غيرهم بدليل كالإجماع على الاشتراك في التكليف.

يلاحظ عليه: أنّ الثمرة مبنية على صغرى و كبرى ممنوعة.

1. الملازمة بين اختصاص الخطاب بالحاضرين، و كونهم مقصودين بالخطاب، و هذه هي الصغرى.

2. اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه و لا يعمّ غيره و هذه الكبرى.

و إن أردت صوغ الاستدلال في قالب الشكل الأوّل تقول:

ص:591

1. الحاضرون حين الخطاب، هم المقصودون بالإفهام.

2. و المقصودون بالإفهام، هم الذين الظواهر حجّة عليهم، فينتج: فالحاضرون حين الخطاب، هم الذين الظواهر حجّة عليهم.

و لكنّ المقدّمتين باطلتان.

أمّا الأُولى، فلأنّه لا ملازمة بين كون اختصاص الخطاب بهم، و كونهم، مقصودين لا غيرهم، إذ ربما يكون المقصود بالإفهام أوسع من المخاطب، بشهادة انّ رئيس البلد ربّما يخاطب جماعة خاصة من الشعب و لكن المقصود بالإفهام كلّ من بلغ إليه خطابه، و لذلك يأمر سبحانه نبيّه بأن يقول: (وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ).(1)

و لعلّ المراد، انّ المخاطب بالوحي أنا أو مع الحاضرين وقت النزول، لكنّ الغاية هو إنذار كلّ من بلغ إليه القرآن.

و أمّا الثانية: نفترض انّ الحاضرين، هم المقصودون بالإفهام من الخطاب لكن لا ملازمة بين كون جماعة مقصودين بالإفهام، و اختصاص حجّية الخطاب بهم، و سيوافيك في مبحث الظواهر، انّها حجّة على المقصودين بالإفهام و غير المقصودين و الجميع أمام الخطابات سواء، و لذلك لو كتب شخص رسالة أخويّة إلى شخص، لا يريد إلاّ إفهام صديقه بما فيه، فالرسالة تكون حجّة على الغير أيضاً في عامة المحاكم، و لا يسمع قول الكاتب بأنّ ظواهر كلامه حجّة على من قصد إفهامه لا غير.

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بالإطلاقات على التعميم.
اشارة

لو قلنا بشمول الإطلاق لغير المشافهين، يصحّ لهم التمسّك بالإطلاقات

ص:592


1- الأنعام: 19.

القرآنية عند الشكّ في مدخلية قيد في الحكم،) كحضور الإمام المعصوم أو الحاكم الإسلامي مبسوط اليد في وجوب صلاة الجمعة (سواء كانوا متّحدين في الصنف أم لا كما في زمان الغيبة، و هذا بخلاف ما إذا لم نقل بالتعميم فلا تكون الخطابات متكفّلة لبيان أحكام غير المشافهين، فلا بدّ من تعميم الحكم و السراية إلى غير المشافهين في التمسّك بدليل الاشتراك) اشتراك غير المشافهين معهم في التكاليف (و هو الإجماع، الذي هو دليل لبي يقتصر فيه بالقدر المتيقن و هو كونهما متحدين في الصنف و المفروض اختلافهم.

فظهر انّ هنا صوراً ثلاثاً:

1. القول بالتعميم و فيه يكون الإطلاق حجّة على الكلّ بلا قيد و شرط.

2. القول بعدم التعميم مع الاتحاد في الصنف، فيكون الإجماع دليلاً على الاشتراك في التكليف فلا ثمرة بين القولين.

3. القول بعدم التعميم مع الاختلاف في الصنف كما إذا وجبت صلاة الجمعة و أُقيمت بحكم حاكم عادل مبسوط اليد كالنبي و الوصيّ، و شكّ في وجوبه في زمان الغيبة مع عدم وجود ذاك الحاكم، فلا يصحّ التمسك بالإجماع لإثبات الاشتراك في التكليف، لأنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على مقدار المتيقن، و المقدار المتيقن هو وحدة المشافه و غيره في الصنف و المفروض عدمها.

سقوط الثمرة في القيد المفارق

إنّ المحقّق الخراساني قد ردّ الثمرة في خصوص القيد المفارق و انّه يصحّ التمسّك بالإجماع و إن كان دليلاً لبّياً يقتصر فيه بالقدر المتيقّن و ذلك بالبيان التالي:

ص:593

إذا كان القيد المفقود في غير المشافهين، من القيود اللازمة للمشافهين ككونهم عرباً، ففي هذه الصورة لا يصحّ التمسّك في نفي القيد بالإطلاق في حقّ المشافهين و بالتالي في حقّ غير المشافهين بالإجماع، كما إذا شككنا في لزوم العربية في العقود، فبما انّ المشافهين كانوا عرباً فكانوا يعقدون بالعربية، ففي مثله، لا يصحّ التمسّك بإطلاق قوله سبحانه: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لنفي شرطية العربية في حقّ المشافه، و بالتالي بالإجماع لنفي الشرطية في حقّ غير المشافه، لأنّه سبحانه لو أراد من الآية، العقود العربية، لم يكن هناك نقض غرض، لحصول القيد شاءوا أو لم يشاءوا.

و أمّا إذا كان القيد، مفارقاً، كإقامة صلاة الجمعة مع حضور المعصوم و بسط يده، حيث إنّ الإسلام يوم ذاك لم يضرب بجرانه كلّ المعمورة فربما يسافر بعض المشافهين إلى بلاد، يحكم فيها الكفر، فلو شك المشافه في شرطية الحضور عند الخروج عن حيطة المسلمين يصحّ التمسك بإطلاق الآية، أعني قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ).(1)

فإذا صحّ للمشافه التمسك بإطلاق الآية، يجوز لغير المشافه التمسّك بالإجماع لإثبات اشتراك الحكم، لأنّ المفروض وحدة الصنف.

و بهذا ظهر سقوط الثمرة الثانية في القيود المفارقة، و انّه لا يختلف الحال بين المشافه و غيره، غاية الأمر انّ المشافه يتمسّك بإطلاق الآية و غيره يتمسّك بالإجماع و النتيجة واحدة، سواء أقلنا بالشمول لغير المشافهين أم لا.

ثمّ إنّه) قدس سره (ذكر انّ المراد بالاتحاد في الصنف لغاية جرّ التكليف من المشافه إلى غيره، هو القيود التي تعتبر قيداً في الأحكام كالبلوغ و الاستطاعة، و الخلو عن

ص:594


1- الجمعة: 9.

الحيض و النفاس، و السفر و الحضر ممّا يمكن أن يعتبر قيداً في الأحكام، لا الاتحاد فيما يكثر به الاختلاف بين الناس دون أن يكون مساس بالحكم، كالأبيض و الأسود و الشاب و الكهل و العراقي و الحجازي، و إلاّ لما ثبت بقاعدة الاشتراك حكم للغائبين فضلاً لغير الموجودين، إذ لا أقل من كون المشافهين واجدين لقيد من القيود لكونهم جالسين في المسجد آن إيجاب الحكم. و الغائب و غير الموجود ليس كذلك.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أعاد ما ذكره سابقاً من جريان الإطلاق في حقّ المشافهين في القيود المفارقة و ممكنة الزوال، و جاء في المقام بعبارة لا تخلو عن تعقيد، توضيحها كالتالي:

و دليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين من القيود الممكنة الزوال إذا فقدوها بعد الخطاب، فشك في شمولها لهم، فيتمسك بالإطلاق و يثبت عدم دخالة ذاك القيد في الحكم و معه يعم الحكم لغير المشافهين بدليل الإجماع لوحدة الصنف بعد زوال القيد في حقّ المشافه(1) أراد به القيود المفارقة و ممكنة الزوال و قوله:» لو لم يكونوا معنونين به «أراد به لو كانوا فاقدين له بعد الخطاب و بوضع العبارة الثانية مكان الأُولى، يظهر المراد من العبارة بسهولة.

ص:595


1- فقوله: فيما لم يكونوا مختصّين بخصوص عنوان.

الفصل الحادي عشر تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

اشارة

إذا كان هناك عام و له حكم خاص، يتعقّبه ضمير له حكم آخر يرجع إلى بعض أفراده، فهل يوجب ذلك تخصيص العام أو لا؟ مثاله قوله سبحانه: (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ).(1)

ففي الآية عام، أعني قوله: (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )، و هو بظاهره يشمل عامة المطلقات رجعية أو بائنة.

و في ذيل الآية جملة: (وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) تتضمن حكماً (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) و ضميراً (بُعُولَتُهُنَّ ) يرجع إلى بعض أقسام العام، فيقع الكلام في أنّ رجوع الضمير في الجملة الثانية إلى بعض أقسام العام هل يصلح قرينة على اختصاص الحكم الوارد في الجملة الأُولى بالرجعيات أيضاً أو لا؟ فيكون

ص:596


1- البقرة: 228.

التربّص، كالرجوع من خصائص الرجعية لا البائنة.

و بعبارة أُخرى: هل رجوع الضمير إلى بعض المرجع في الجملة الثانية يشكّل قرينة على أنّ المراد من المرجع أيضاً هو البعض، و بالتالي يختص الحكم بالبعض أو لا؟ ما ذكرناه هو المفهوم من كتب القوم، و ظاهر كلامهم انّ عود الضمير إلى بعض المرجع أمر مفروغ عنه مع أنّه ليس كذلك، بل المسلّم كون الحكم في مورد الضمير يختصّ ببعض الأفراد لا انّ الضمير يرجع إلى بعضها. و سيوافيك انّ الحقّ عود الضمير إلى العام بما هو هو، و إن كان الحكم مختصاً ببعض أفراده، فانتظر.

و الأولى أن يقال في عنوان البحث» انّ تخصيص الضمير بدليل منفصل هل يوجب تخصيص المرجع العام أو لا؟ «.

تحرير محلّ النزاع

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني جعل محلّ النزاع الصورة الثالثة من الصور التالية:

1. أن تقع الجملتان في كلامين مستقلين بينهما فاصل زماني.

2. أن يكون العام محكوماً بنفس حكم الضمير، كما إذا قيل في ذيل الآية: وَ المُطلّقات أَزواجهن أَحقّ بردّهن.

3. أن يكون العام محكوماً بحكم و الضمير محكوماً بحكم آخر و إن وقعا في كلام واحد.

و قال: إنّ محل النزاع هو الثالث.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ليس إلاّ توضيحاً للواضح، أمّا القسم الأوّل فلا يعقل فيه استخدام الضمير، لأنّ المفروض وقوع الجملتين في سياقين بينهما فاصل

ص:597

زماني، و عندئذ يستخدم في الجملة الثانية لفظ الظاهر لا الضمير، و الكلام إنّما هو في الضمير الراجع إلى بعض أفراد المرجع حسب تعبير القوم.

كما أنّ القسم الثاني أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، إذ ليس في البين إلاّ حكم واحد حتّى يعمّ أحد الحكمين جميع الأفراد و الحكم الآخر بعضه.

دوران الأمر بين المحاذير الثلاثة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قال: بأنّ الأمر يدور حول أحد المحاذير الثلاثة:

1. أن يكون رجوع الضمير إلى بعض أفراد المرجع قرينة على التصرف في المرجع باستعماله في الرجعية من المطلقات فيكون التربص أيضاً مختصاً بهذا القسم.

2. حفظ أصالة العموم في المرجع و ارتكاب الاستخدام في الضمير بإرجاعه إلى بعض مصاديق المرجع.

3. حفظ أصالة العموم في ناحيتي المرجع و الضمير و التصرف في الاسناد، بأن ينسب الحكم المختص بالبعض إلى الكلّ من باب المجازية.

ثمّ إنّه) قدس سره (رجح حفظ أصالة العموم في صدر الآية و التصرف في الجملة الثانية بأحد النحوين:

إمّا الاستخدام و إمّا الاسناد المجازي.

ثمّ إنّه) قدس سره (ذكر وجه ذلك بأنّ أصالة العموم إنّما تجري فيما إذا شكّ في المراد لا في كيفية الإرادة، و الشكّ في الجملة الأُولى إنّما هو في المراد حيث يشكّ في أنّ التربّص لعامّة المطلقات أو لخصوص الرجعيات، بخلاف الجملة الثانية فإنّ المراد هناك معلوم و انّ الرجوع يختصّ بالرجعيات دون البائنات، و إنّما الشكّ في كيفية الإرادة، فهل هو بنحو المجاز في الكلمة) الاستخدام (، أو المجاز في الاسناد؟

ص:598

) اسناد حكم المختصّ بالبعض إلى الكلّ من باب المجاز في الاسناد (.

و مع أنّه) قدس سره (قدّم أصالة العموم في الجملة الأُولى على أصالة العموم في الضمير أو أصالة الحقيقة في الاسناد، لكنّه أخيراً احتمل كون الكلام مجملاً و الآية خارجة عن نطاق الاستدلال بحجّة انّ الشكّ في المقام في قرينية الضمير على عدم إرادة العموم من المرجع و الكلام المحتف باحتمال القرينية يكون مجملاً لا يحتجّ به و يرجع إلى الأُصول العملية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ الشكّ في ناحية العموم شكّ في المراد؟ فيجري الأصل من دون منازع بخلاف الشكّ في ناحية الضمير، فالشكّ هناك في كيفية الإرادة لا في المراد فتقدّم أصالة العموم على أصالة العموم في الضمير، أو أصالة الحقيقة في الاسناد، صحيح لا غبار عليه.

إنّما الكلام في الأمرين اللذين احتملهما في ناحية الضمير حيث إنّ كلاً من التصرفين غير جائز، أمّا الأوّل و هو القول بالاستخدام و رجوع الضمير إلى بعض أفراد العام فهو غير صحيح، لأنّ الضمائر كما تقدّم الكلام فيه في مقدّمة علم الأُصول وضعت لنفس الإشارة الخارجية فلا بدّ لها من مشار إليه، و هو ليس إلاّ المرجع المذكور في الآية، فيجب تطابقهما فلا يمكن أن تكون الإشارة على وجه أخص و المشار إليه على وجه أعمّ.

و أمّا الثالث، أعني: احتمال المجاز في الاسناد، فهو أيضاً غير صحيح، لأنّ المجاز في الاسناد رهن مصحح كالمبالغة حيث ينسب الحكم الصادر من بعض إلى الكلّ مبالغة، كما في قول القائل: قتل بنو فلان زيداً، و إنّما قتله بعضهم، و مثله قوله سبحانه مخاطباً اليهود: (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي

ص:599


1- كفاية الأُصول: 3631/362.

قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (1)مع أنّ القتل لم يصدر إلاّ عن بعضهم فنسب إلى الكلّ مبالغة بملاك رضاهم بعملهم، و هذا بخلاف الآية إذ ليس فيها وجه للمبالغة.

الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين

إذن يجب علينا علاج المشكلة من طريق آخر، و هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني عند البحث في أنّ التخصيص موجب لمجازية العام أو لا، فقد حقّق فيه أنّ التخصيص لا يوجب المجازية لا في المتصل و لا في المنفصل.

أمّا المتصل فلأجل تعدد الدالّ و المدلول، كقولنا: أكرم العالم العادل، فكلّ من العالم و العادل مستعمل في معناهما، لأنّ العالم مستعمل في العالم العادل.

نعم الحكم تابع بمجموع الموضوع.

و أمّا المنفصل فلما حقّق من أنّ لكل متكلّم إرادتين: استعمالية و جدية، فالعالم يستعمل في معناه اللغوي بالإرادة الاستعمالية، فلو كانت الإرادة الجدية متعلّقة به أيضاً فيكون العام بعمومه موضوعاً و إن لم تكن الإرادة الجدية مطابقة للإرادة الاستعمالية أشار إلى عدم المطابقة بدليل خاص، فترفع اليد عن ظاهر الدليل بدليل أقوى دون أن تطرأ المجازية على العام و يستعمل في غير معناه.

و على ضوء هذا فكان على المحقّق الخراساني أن يطرق هذا الباب و يقول إنّه لا محذور في البين أبداً من الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين، إذ لا مانع من أن يكون العام مستعملاً في معناه و يكون الضمير أيضاً راجعاً إلى نفس

ص:600


1- آل عمران: 183.

العام لكن بالإرادة الاستعمالية. فإذا علم من الخارج عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الجدية في ناحية الضمير تُخصّص الإرادة الجدية في مورد الضمير من دون أي محذور. و لا يلزم من ذلك تخصيص المرجع أبداً، و ذلك لأنّه لو كان مستعملاً في الخاص لكان للتوهم المذكور مجال، و أمّا إذا كان مستعملاً في العموم كالمرجع بالإرادة الاستعمالية و لكن قام الدليل على عدم شمول الحكم لعامة أفراد المرجع، فمثل هذا لا يكون دليلاً على التصرف في العام، بل العام قائم على ظهوره حتّى يثبت الخصوص.

و الحاصل: انّه لو كان الضمير مستعملاً بالإرادة الاستعمالية في بعض المرجع لكان للتوهم المذكور مجال، و أمّا إذا استعمل في نفس المعنى الذي استعمل فيه لفظ العام و إن علم بدليل خارجي مخالفة الجد مع المراد استعمالاً فلا يصير سبباً لتخصص العام، لا استعمالاً و لا جداً.

و بذلك يعلم أنّ ما اختاره المحقّق الخراساني من طروء الإجمال على الكلام ليس بتام، إذ ليس شيئاً صالحاً للقرينية إلاّ استعمال الضمير في بعض مفاد المرجع و المفروض انتفاؤه.

ص:601

الفصل الثاني عشر في تخصيص العام بالمفهوم

اشارة

و قبل الدخول في الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: انّ الغاية من عقد هذا الفصل هو دفع توهم انّ دلالة العام منطوقية، و دلالة المفهوم غير منطوقية، و الأُولى أقوى من الثانية، فلا يخصص الأقوى بالأضعف، من غير فرق بين أن يكون المفهوم، مفهومَ موافقة أو مفهوم مخالفة.

فلدفع هذا التوهم عقد الأُصوليون هذا الفصل قائلين بأنّ كون الدلالة مفهومية لا يكون سبباً لضعفها، بل ربما تكون دلالة المفهوم أقوى من دلالة المنطوق.

الثاني: انّ النزاع في هذا الفصل كبروي لا صغروي بمعنى انّ هنا عاماً و مفهوماً قطعيين و لا شكّ في وجودهما إنّما الكلام في أنّه هل يقدّم العام على المفهوم لتكون النتيجةُ الغاءَ المفهوم رأساً أو يُقدّم المفهوم على العام حتّى ينتهي الأمر إلى تخصيصه.

هذا هو نطاق البحث و محوره.

الثالث: لمفهوم الموافقة إطلاقات نأتي بها:

ص:602

1. إلغاء الخصوصية و إسراء الحكم لفاقدها، كقول زرارة: أصاب ثوبي دم رعاف.(1)

و قول القائل: رجل شكّ بين الثلاث و الأربع. فالموضوع في نظر العرف في الأوّل هو الدم لا دم رعاف و لا دم زرارة، و في الثاني هو الشكّ لا شكّ الرجل.

2. المعنى الكنائي الذي سيق لأجله الكلام مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق، نظير قوله سبحانه: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) (2)بناء على عدم حرمة التأفيف و انّ الحرام هو مفهومه الموافق، أي الضرب و الشتم.

3. تلك الصورة و لكن المنطوق محكوم بحكم المفهوم أيضاً، كالآية المتقدّمة بناء على حرمة التأفيف.

4. الأولوية القطعية، فإذا قال: لا تأكل ذبيحة الكتابي فيدلّ بالأولوية القطعية على حرمة ذبيحة المشرك.

5. الحكم المستفاد من العلّة المنصوصة، كما إذا قال: الخمر حرام لأنّه مسكر، فيفهم منه حرمة كلّ مسكر.

و بما انّ المفهوم هو الحكم غير المذكور لموضوع مذكور الحكم في هذه الموارد غير مذكور و إنّما يفهم بإحدى الطرق الخمسة، أطلق المفهوم على الجميع، و بما انّ حكمه موافق مع الحكم الوارد في المنطوق وُصِفَ بالموافقة.

إذا عرفت هذه الأُمور فنقول:

يقع الكلام في مقامين:

اشارة

ص:603


1- الوسائل: 2، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1.
2- الإسراء: 23.
المقام الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق

إذا كان في مورد عام و مفهوم موافق، فهل يقدّم العام على المفهوم و يلغى الثاني، أو يقدّم المفهوم على العام و يخصص الثاني؟ مقتضى القواعد هو التخصيص لا الإلغاء، لأنّ كلاً منها دليل شرعي يجب إعماله حسب ما أمكن عرفاً; ففي الأوّل إلغاء للحجة الشرعية من رأس، و في الثاني إعمال لهما، و يقدّم الثاني على الأوّل.

و أيضاً لو كان مكان المفهوم دلالة منطوقية كانت مقدّمة على العام و مخصّصة له، فهكذا الدلالة المفهومية إذ لانتقص الثانية عن الأُولى و ليس إحداهما أقوى من الأُخرى، بل ربما يكون المفهوم أقوى و لا يُساق الكلام إلاّ لإفهامه.

نعم ربما يشترط كون المفهوم أخص مطلقاً لا عموماً من وجه و هو شرط زائد، لأنّه ليس من شرائط كون المفهوم مخصصاً، بل هو من شرائط كلّ مخصص، سواء أ كان لفظياً أو مفهومياً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ادّعى الاتّفاق في تخصيص العام بالمفهوم الموافق، و علّله السيد الحكيم) قدس سره (في تعليقته على الكفاية بأنّ إلغاء المفهوم الموافق ينتهي إلى إلغاء المنطوق أيضاً، و ذلك لاشتراكها في الحكم، بل ربما يكون ثبوت الحكم في المفهوم أقوى من ثبوته في المنطوق، فإذا ألغى الحكم في جانب المفهوم يصبح الإلغاء في جانب المنطوق أولى.

يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بعدم وجود الاتفاق، و هذا هو الشارح العضدي يظهر منه كون المسألة غير اتفاقية حيث قال: الأظهر هو التخصيص به.(1)

ص:604


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 275.

و أمّا ما ذكره السيد الحكيم في شرحه على الكفاية فلا يتمّ في عامة الصور لما عرفت من أنّ الأولوية القطعية أحد الموارد التي يستعمل فيها مفهوم الموافقة، و أمّا الموارد الباقية فربما لا يكون الحكم في المفهوم أولى من المنطوق، كما إذا قال: الخمر حرام لأنّه مسكر، فإسراء الحكم إلى النبيذ و الفقاع من باب مفهوم الموافقة مع أنّ الحكم فيه ليس بأولى من المنطوق، فلا يلزم من العمل بالعام في مقابل المفهوم، طرح المنطوق.

المقام الثاني: التخصيص بمفهوم المخالفة

إذا كان هناك عام و مفهوم مخالف، فهل يجوز تخصيص العام بمفهوم المخالفة أو لا؟ فيه أقوال:

1. جواز التخصيص مطلقاً.

2. عدم جوازه كذلك.

3. التفصيل بين استفادة المفهوم من لفظة» إنّما «، فيقدم على العام و بين غيره.

4. ما أفاده المحقّق الخراساني من التفصيل، و حاصله: انّ العام و ما له المفهوم على أقسام ثلاثة:

أ. ان يردان في كلام واحد.

ب. أو في كلامين و لكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر إمّا بتخصيص العام، أو بإلغاء المفهوم، كما هو الحال في آية النبأ، و سيوافيك بيانه.

ج. أو في كلامين ليس بينهما ذلك الارتباط و الاتّصال، كما إذا ورد في كلام

ص:605

إمامين) و لكن يصلح التصرّف في أحدهما بالآخر (كما هو الحال في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (: الماء إذا بلغ كرّاً لم ينجسه شيء، بالنسبة إلى رواية البزنطي عن الرضا) عليه السلام (، أو مرسلة السرائر كما سيوافيك.

و كل من هذه التقادير على أقسام ثلاثة:

1. أن يكون كلّ من العموم و المفهوم مستفادين من مقدّمات الحكمة.

2. أن يكون كلّ منهما مستفادين من الدلالة الوضعية.

3. أن يكونا مختلفين من غير فرق بين كون العام لفظياً وضعياً و المفهوم إطلاقياً أو بالعكس.

فعندئذ تصبح الأقسام تسعة باحتساب المختلفين قسماً واحداً.

ثمّ إنّه) قدس سره (قال بطروء الإجمال على كلّ من الدليلين فيما إذا كان كلّ من العموم و المفهوم إطلاقياً أو لفظياً وضعياً، غاية الأمر لا ينعقد الظهور إذا كانا مستندين إلى الإطلاق و ينعقد الظهور و لا يستقر إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية.

أمّا عدم انعقاده إذا كان كلّ إطلاقياً، فلأنّ عدم القرينة من مقدّمات الحكمة، و المفروض انّ كلّ واحد من العموم و المفهوم يصلح أن يكون قرينة على الآخر بأن يكون المفهوم قرينة على عدم العموم، و العموم قرينة على عدم المفهوم.

و أمّا عدم استقرار الظهور فيما إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية، فلأنّ دلالة الشيء على العموم أو المفهوم دلالة مطلقة و ليست معلّقة، غاية الأمر عند الاجتماع يكون كلّ مزاحماً للآخر و موجباً لعدم استقرار الظهور، كما

ص:606

هو الحال في كلّ حجّتين شرعيتين بينهما صلة.

نعم في القسم الثالث، أعني: إذا كان أحدهما وضعياً و الآخر إطلاقياً فالوضعي سواء كان عاماً أو مفهوماً أظهر من الآخر، فلو كان العام وضعياً يكون دليلاً على إلغاء المفهوم، بل عدم انعقاده، و لو كان المفهوم وضعياً و العموم إطلاقياً، فهو يكشف عن عدم تمامية مقدّمات الحكمة في جانب العموم.

هذا هو التفصيل الرابع و سيوافيك ضعفه.

الخامس: ما عن المحقّق النائيني من التفصيل بين كون النسبة بين العام و المفهوم هي العموم و خصوص المطلق فيخصص به العام، و ما إذا كانت النسبة هي العموم من وجه فلا يخصص به العام.

هذه هي الأقوال في المسألة، و الثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث، و ذلك لما عرفت في الأمر الثاني من الأُمور المذكورة في صدر الفصل انّ محور البحث و نطاقه هو كونه كبروياً لا صغروياً مع أنّه يصبح البحث على القول الثالث و الرابع صغروياً.

أمّا الثالث، فلأنّ تقديم المفهوم المستفاد من لفظة» إنّما «على العام دون سائر المفاهيم يدلّ على وجود الحجّة) المفهوم (في مورد» إنّما «دون القضية الشرطية و الوصفيّة، و قد مرّ انّ البحث كبروي بمعنى انّ الفقيه مذعن بوجود العام و المفهوم قطعاً و إنّما الشكّ في تقديم أيّهما على الآخر.

و أمّا الرابع أعني: تفصيل المحقّق الخراساني فهو أيضاً خارج عن نطاق البحث، و ذلك لأنّه قال:

إذا كان العموم و المفهوم مستفادين من الإطلاق فالظهور غير منعقد، و إذا كانا مستفادين من الظهور الوضعي فالظهور غير مستقر، و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم الإذعان بوجود العام أو المفهوم

ص:607

حيث إنّ مقدمات الحكمة في كلّ تنهار بالآخر و مع عدمها لا يكون هناك إذعان بالعام و بالمفهوم، و مثله إذا كان كلّ من العموم و المفهوم مستفاداً من الدلالة الوضعية، فالظهور و إن كان منعقداً لكنّه يكون غير مستقر، لأنّ كلاً قابل للتصرف في الآخر، و هذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على كون الشكّ في وجود الصغرى، و هو خارج عن نطاق النزاع، و يكون البحث مركّزاً على صورة واحدة و هو أقوائية أحدهما و أضعفية الآخر بأن يكون الأقوى وضعياً و الأضعف إطلاقياً.

و أمّا التفصيل الذي اختاره المحقّق النائيني من شرطية كون المفهوم أخصّ مطلق من العام، فهذا ليس شرطاً في مخصصية المفهوم، بل هو شرط في مخصصية الخاص سواء أ كان مفهوماً أو منطوقاً.

إلى هنا تبين انّ الأقوال الثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث، فالأولى أن يركز على شيء واحد و هو انّ كون الدلالة مفهومية هل يوجب الأضعفية و ان الدلالة المنطوقية توجب الأقوائية أو لا؟ و قد عرفت عدم الفرق بينهما، بل ربما يكون المفهوم أقوى من الآخر، و لذلك لا مانع من تخصيص العام بالمفهوم إذا حاز سائر الشرائط، فالقول الأوّل هو المختار.

نظرية المحقّق البروجردي في المقام

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي قال: يتقدّم المفهوم على العام لأجل انّ التعارض يرجع إلى اختلاف المطلق و المقيد، فإنّ قوله في العام:» خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه و طعمه أو رائحته «يعطي أنّ تمام الموضوع لعدم الانفعال هو الماء، و لكن قوله:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء « يعطي أنّ الماء بعض الموضوع و أمّا تمام الموضوع للاعتصام فهو الماء بقيد الكرية، فيقدّم

ص:608

ما له المفهوم على العام تقدّم المقيد على المطلق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره تغيير لعنوان البحث، إذ ليس البحث في تقديم المقيد على المطلق، بل في تقدّم المفهوم على العام بما هو هو من غير دخل لعنوان آخر.

و ربما لا يجري ما ذكره في بعض الموارد، أي لا يكون هناك حديث عن الإطلاق و التقييد. كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال: أكرم فسّاقهم إذا أحسنوا إليك، فعلى فرض عدم إحسانهم يكون المفهوم عدم وجوب إكرام فسّاقهم فيتعارضان في العالم الفاسق، فلو قدّم العام يجب إكرامه، و لو قدّم المفهوم لا يجب، و ليس هناك حديث عن الإطلاق و التقييد. نعم يمكن إرجاع البحث بنوع إلى الإطلاق و التقييد و لكن بتكلّف و تعسّف.

تطبيقات

اشارة

قد عرفت أنّ النزاع في المقام كبروي، و انّه هل يجوز تخصيص العام بالمفهوم، مع تسليم وجودهما، لا صغروي و انّه هل هنا، مفهوم أو لا؟ كما عرفت أنّ الضابطة تقديم المفهوم على العام بحجة انّ فيه الجمع العرفي بين الدليلين لا طرح المفهوم، و مع ذلك ربّما يكون قوة دلالة العام مانعاً عن التخصيص، و نأتي بأمثلة:

1. آية النبأ و التعارض بين المفهوم و التعليل

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا

ص:609


1- نهاية الأُصول: 324.

قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ).(1)

إنّ صدر الآية مشتمل على المفهوم و هو عدم لزوم التبيين إذا جاء العادل بالنبإ، سواء قلنا بأنّه مقتضى مفهوم الشرط أو الوصف، لكن الذيل مشتمل على تعليل يعم نبأ العادل و الفاسق، و هو قوله سبحانه: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ )، فلو كانت الجهالة بمعنى عدم العلم القطعي بالواقع فهو مشترك بين نبأ العادل و الفاسق، و قبح إصابة القوم بجهالة، لا يختص بقوم دون قوم.

و عند ذاك فقد اختلفت كلمات المتأخرين في تقديم واحد منهما على الآخر لا اختلافاً في الكبرى، بل اختلافاً في قوة دلالة العام.

فالشيخ الأعظم، على تقديم التعليل العام على المفهوم لقوة دلالته لعدم اختصاص قبح الإصابة بمورد دون مورد، و لكن المحقّق النائيني على العكس أي تقديم المفهوم على العام لأنّ خبر العدل بعد صيرورته حجّة، يخرج عن كونه إصابة قوم بجهالة، و تكون القضية المشتملة على المفهوم حاكمة على عموم التعليل.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه مبني على تفسير الجهالة في الآية بمعنى» عدم العلم «فيعمّم عندئذ كلا الخبرين، و أمّا إذا كان المراد بها، ضد الحكمة، فلا يعمّ خبر العادل، إذ لا يعد العمل بقول الثقة، أمراً على خلاف الحكمة، مثل قوله سبحانه: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(3)

كما يرد على المحقّق النائيني أنّ الحكومة أمر قائم بلسان الدليل على نحو

ص:610


1- الحجرات: 6.
2- فوائد الأُصول: 2/172.
3- الأنعام: 54.

يعدّ الدليل اللفظي مفسراً للدليل الآخر، و المفهوم ليس دليلاً لفظياً فيكون فاقداً للسان، و معه كيف يكون حاكماً على التعليل.

و مع ذلك كلّه فمن المحتمل إجمال الكلام، لورودهما في كلام واحد أو منزلته، و يصلح كلّ لرفع الآخر، فالمفهوم صالح لتخصيص العام، كما انّ العام المتصل الظاهر بصورة التعليل، صالح لإلغاء المفهوم و إخلاء القضية عنه.

2. حديث» قدر كرّ «و قوة العام في حديث ابن بزيع

روى محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (و سُئل عن الماء تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب؟ قال) عليه السلام (:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء «.(1) فذيل الحديث يشتمل على المفهوم و هو انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ، ينجسه شيء، و المراد من» شيء «هو عناوين النجاسات.

و روى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا) عليه السلام (قال:» ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلاّ أن يتغير ريحه، أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه لأنّ له مادة «.(2)

إنّ قوله:» ماء البئر واسع لا يفسده شيء «، عام يعمّ القليل من ماء البئر و كثيره، فهل يصحّ تخصيصه بالمفهوم المستفاد في صحيحة محمد بن مسلم أو لا؟ إنّ النسبة بين المفهوم و العام، هو العموم من وجه، لأنّ المفهوم أعمّ من حيث كون الموضوع مطلق الماء، لا ماء البئر، و أخص من حيث اختصاصه بالماء غير الكرّ، و حديث البزنطي عام لاشتماله الكرّ و غيره، و خاص لاختصاصه بماء

ص:611


1- الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.
2- الوسائل: 1، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6.

البئر و يجتمعان في ماء البئر القليل. و مقتضى القاعدة، هو رفضهما و الرجوع إلى دليل ثالث، و مع ذلك فالذوق الفقهي يأبى ذلك، و يرجح تقديم العام على المفهوم لقوّة دلالته بالتعليل الوارد في ذيله، أعني:» لأنّ له مادة «و إلاّ يلزم لغوية التعليل، لأنّه لو كان كثيراً لكان عدم الانفعال مستنداً إلى كرّيته لا إلى كونه له مادة، و لو كان قليلاً، فإن قلنا بعدم انفعاله، لنفس العلّة الواردة في الرواية فهو، و إلاّ تلزم لغوية التعليل.

2. حديث» قدر كرّ «و رواية السرائر

روى ابن إدريس في» السرائر «و المحقّق في» المعتبر «و الظاهر منهما انّ الرواية معتبرة انّه ) عليه السلام (قال:» خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه «.(1) و النسبة بينه و بين رواية محمّد بن مسلم، عموم و خصوص مطلق.

و في المقام يقدّم المفهوم المستفاد من صحيحة محمد بن مسلم على العام الوارد في هذه الرواية، لأنّه أخصّ من العام، و الخاص مقدّم على العام.

ص:612


1- الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 9.

الفصل الثالث عشر الاستثناء المتعقِّب للجمل

اشارة

إذا كان هناك جمل متعدّدة حقيقة أو حكماً و تعقّبها استثناء فهل يرجع الاستثناء إلى الجميع أو إلى الأخيرة، أولا ظهور له في أحدهما و إن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقناً؟ و لعلّ السبب لعقد هذا الفصل هو قوله سبحانه في حقّ القاذف، قال: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(1)

فوقع الكلام في أنّ الاستثناء في قوله سبحانه: (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) هل يرجع إلى الحكم الأخير أعني: (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أو يرجع إلى الجميع، يعني الأحكام الثلاثة: من الحكم بالجلد و عدم قبول الشهادة و الحكم بالفسق؟ ثمّ إنّ المراد من» المحصنات «في الآية العفائف، فانّ تلك اللفظة تطلق تارة و يراد بها إحصان العفة، فيعم كلّ مرأة عفيفة، سواء أ كانت مجردة أم متزوّجة،

ص:613


1- النور: 54.

و قد تطلق و يراد بها إحصان التزوّج حيث إنّ المتزوّجة تُحْصِن نفسها، و المراد كما عرفت هو الأوّل، و ذلك لأنّ الميزان في حرمة القذف هو كون المرأة متعفّفة لا متزوّجة، و إن كان مورد نزول الآية هو المتزوّجة.

نعم للإحصان في القرآن الكريم إطلاقات.

فتارة يطلق و يراد منه احصان التزوّج، كما في قوله: (وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1)أي حرّمت عليكم ذوات الأزواج إلاّ من سُبيت في الحرب منهم.

و أُخرى: إحصان الحرية، كقوله سبحانه (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ). (2)أي الحرائر المؤمنات.

و ثالثة: إحصان التعفّف كما في الآية المتقدّمة، كقوله سبحانه: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(3)، أي إذا أردن العفة و صيانة النفس عن الفجور.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين:

أحدهما في مقام الثبوت، و الآخر في مقام الإثبات. و يراد من الأوّل إمكان الرجوع إلى الجميع، و من الآخر استظهار ظهور الجملة في أيّ واحد منهما. و إليك الكلام فيهما.

المقام الأوّل: في مقام الثبوت و إمكان الرجوع إلى الجميع

هل رجوع الاستثناء إلى عامّة الجمل المتقدّمة أمر ممكن أو لا؟ يظهر من

ص:614


1- النساء: 24.
2- النساء: 25.
3- النور: 33.

المحقّق الخراساني أنّ إمكان الرجوع إلى الجميع أمر مسلّم، غير أنّ الاختلاف في مقام الإثبات، قال ما هذا حاصله:

إنّ كلمة الاستثناء وضعت للإخراج بالمعنى الحرفي من غير فرق بين تعدّد المستثنى منه و وحدته، أو تعدّد المستثنى و وحدته، فتعدّدهما و وحدتهما غير مؤثر في استعمال كلمة الاستثناء في معناه، و تعدّد المخرَج منه أو المخرَج لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً.(1)

و ذهب سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى امتناع الرجوع إلى الجميع قائلاً: بأنّ معاني الحروف معان فانية و مندكَّة في المستعمل فيه، فإذا رجع إلى الأخيرة فيندك فيها و معه كيف يرجع إلى غيرها قال:

إنّ الحروف آلة للحاظ المعاني الاسمية و فانية فيها، و لا يمكن فناء واحد في أُمور كثيرة، و لا يقاس ذلك بالاستثناء المتعدّد) جاء القوم إلاّ زيداً و عمراً و بكراً (، فانّ حروف العطف فيها رابطة فيُخرَجُ الأوّل ب» إلاّ «و يرتبط الثاني به بحرف العطف، بخلاف الاستثناء الواحد من الجمل الكثيرة) أكرم العلماء، و أهن الفساق، و سلّم على الطلاّب (فانّه من قبيل استعمال اللفظ الواحد في معاني متعددة.(2)

و إن شئت قلت: إنّ لحاظ المعنى الحرفي بلحاظ طرفيه، و حيث إنّ تعدّد الأطراف هنا بتعدّد المستثنى منه صار مرجع استعمال أداة واحدة في الإخراج في جميعها إلى لحاظ حقيقة واحدة ربطية بنحو الاندكاك و الفناء في هذا الطرف تارة، و ذاك الطرف أُخرى، و مقتضى ذلك كون حقيقة

ص:615


1- كفاية الأُصول: 1/365.
2- لمحات الأُصول: 314.

واحدة ربطية بنحو الاندكاك و الفناء في هذا الطرف تارة، و ذاك الطرف أُخرى، و مقتضى ذلك كون حقيقة واحدة ربطية في عين وحدتها، حقائق ربطية متكثرة و هذا مستحيل.(1)

يلاحظ عليه: بأنّها أشبه بالشبهة في مقابل البديهة، و الشاهد عليه ورود الرواية بأنّ القاذف إذا تاب تقبل شهادته، و معنى ذلك انّه يرجع إلى الجملة الثانية أيضاً.

روى قاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الرجل يقذف الرجل فيُجلَد حداً ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلاّ خير، أ تجوز شهادته؟ قال» نعم. ما يقال عندكم؟ «قلت: يقولون توبته فيما بينه و بين اللّه و لا تقبل شهادته أبداً. فقال:» بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب و لم يُعلم منه إلاّ خير جازت شهادته «.(2)

و سواء أصحت الرواية أم لا فهي حجّة من أهل اللسان على إمكان رجوع الاستثناء إلى الجمل المتوسطة، فلو كان أمراً محالاً لما قال به الإمام و لا أخبر به الراوي بما أنّه من أهل اللسان.

و أمّا حلّ الشبهة فبوجهين:

الأوّل: انّ دلالة الحروف دلالة تبعية، و عندئذ يكون في إفادة الوحدة و الكثرة تابعاً لمتعلّقه، فإن كان المتعلّق واحداً يتحد، و إن كان كثيراً يتكثّر. و المفروض انّ متعلّقه كثير، حيث المستثنى منه متعدّد، و المستثنى قابل للانطباق، على مصاديق كلّ الجمل المتقدّمة.

الثاني: انّ الاستثناء و إن كان مستعملاً في الاستثناء المندك لكن رجوعه إلى أكثر من واحد لا يستلزم كون المعنى الربطي الواحد حقائق ربطية متكثرة، إذ هو في المثال المعروف أكرم العلماء و الطلاب و التجار إلاّ الفساق استعملت في

ص:616


1- نهاية الأُصول: 326 327.
2- الوسائل: 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

الاستثناء المندك في الفسّاق، غير أنّ الذي يُصحّح رجوعه إلى أكثر من واحد ليس عروض الكثرة على المعنى الربطي الواحد، بل لأجل وجود كثرة وسعة في متعلّقه، أي نفس مفهوم الفسّاق حيث يشمل الفاسق من الطوائف الثلاث، فلو كان المستثنى قابلاً للانطباق على أكثر من واحد بالذات، لسرت الكثرة مجازاً و بالعرض إلى نفس الاستثناء.

و إن شئت قلت: فرق بين تعلّق المعنى الربطي الواحد، بكلّ من العلماء و الطلاب و التجار، و تعلّقه بمفهوم واحد قابل للانطباق على أكثر من واحد، و هو لا يوجب تصرفاً في معنى الاستثناء.

و بذلك تبين انّ إمكان الرجوع أمر لا سترة عليه. و إليك الكلام في المقام الثاني.

المقام الثاني: في بيان ما هو ظاهر فيه

اشارة

إذا أمكن رجوع الاستثناء إلى الأخير و الجميع، يقع الكلام في استظهار ما هو الظاهر من الأمرين؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الكلام يصير مجملاً لا يكون ظاهراً في أحد الأمرين.

فإن قلت: إنّ رجوعه إلى الأخير أمر متعيّن فلما ذا لا يتمسّك بأصالة العموم في غير الأخيرة حتى يكون قوله: (فَاجْلِدُوهُمْ ) و قوله: (وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) مصونان من التخصيص؟ قلت: أصالة العموم حجّة فيما إذا شكّ في أصل التخصيص و في وجود القرينة، و أمّا إذا شكّ في قرينية الأمر الموجود كما في المقام فلا يتمسّك بها. حيث إنّ الاستثناء صالح للرجوع إلى الجميع، و اكتناف الكلام بهذا النوع من القرينة التي

ص:617

لها الصلاحية للرجوع إلى الجميع يمنع من جريان أصالة العموم في المورد.

نعم لو قلنا بحجّية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور و الاطمئنان بها، يكون هو المرجع في غير الأخيرة لكن بشرط أن تكون استفادة العموم بالوضع لا بالإطلاق، لما عرفت أنّ من مقدّمات الحكمة هو عدم القرينة. و بما انّ الاستثناء صالح للقرينية لعدم العموم لا تجري مقدّمات الحكمة، فلا يحكم على الجمل بالظهور و العموم، بالذات حتّى يعرضه الإجمال.(1)

و اعترض عليه المحقّق النائيني بأنّ سقوط أصالة العموم في الجمل السابقة يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، و توهم كونه من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية غير صحيح، لأنّ المولى لو أراد تخصيص الجميع و مع ذلك اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد لكان مخلاً.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه تصوّر انّ غرض المولى ينحصر في أحد أمرين:

الأوّل: إرادة العموم.

الثاني: إرادة الخصوص.

فعلى الأوّل يثبت المطلوب في الجمل السابقة ويحكم عليها بأصالة العموم.

و على الثاني يلزم الإخلال بالغرض حيث لم ينصب قرينة على الخصوص فرجوع الاستثناء إلى الكلّ متعيّن.

بل هناك غرض آخر ربما يتعلّق به غرض المولى و هو الإجمال في الكلام، و الإهمال في البيان، و عندئذ لا يكون عدم ذكر المخصص مع كونه مراداً مخلاً بالمقصود.

نظرية المحقّق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصل في هذا المقام و جعل المحور للاستظهار تكرار عقد الوضع حيث إنّه يكون مانعاً من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة عليه، فذكر هنا صوراً ثلاثاً:

الأُولى: أن يتكرر عقد الوضع في الجملة الأخيرة أيضاً، كما في الآية المباركة حيث قال في صدرها:

(وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) و في ذيلها: (وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ).

الثانية: أن يقتصر على ذكر عقد الوضع في صدر الكلام و يحيل الباقي إليه، كما إذا قال: أكرم العلماء و أطعمهم و أحسن إليهم إلاّ فسّاقهم، فعقد الوضع، أعني: العلماء، ذكر مرة واحدة في صدر الجمل.

الثالثة: أن يتكرر عقد الوضع في وسط الجمل المتعدّدة، كما إذا قال: أكرم العلماء و سلم على الطلاب، و أضفهم إلاّ الفسّاق حيث ذكر الطلاب في الوسط.

ص:618


1- الكفاية: 1/365.
2- أجود التقريرات: 1/497.

ثمّ إنّه) قدس سره (حكم باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في الصورة الأُولى و برجوعه إلى الجميع في الصورة الثانية، و رجوعه إلى الجملة المشتملة على عقد الوضع، و الجملة المتأخرة عنها دون ما قبلها في الصورة الثالثة.

فالمدار عنده هو عقد الوضع حيث إنّ تكراره يمنع من عود الاستثناء إلى ما قبلها و ذكره وحده يوجب رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل المنتهية إليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجميع أو إليها حتّى تنتهي إلى عقد الوضع المذكور في وسط الجمل صحيح لا

ص:619


1- أجود التقريرات: 1/497، بتوضيح و تلخيص منّا.

غبار عليه، و لكن الميزان ليس تكرر عقد الوضع و عدمه، بل الملاك استقلال الجملة و عدمه، حيث إنّ استقلال الجملة يمنع من عود القيد إلى ما قبله بخلاف ما إذا كانت غير مستقلة، فالقيد يرجع إليها و إلى ما قبلها، فما ذكره من النتيجة صحيح لكن بالملاك الذي ذكرناه لا وحدة عقد الوضع و تعدّده.

و على ضوء ذلك فهناك صور ثلاث أُخرى نذكرها تباعاً على ضوء ما ذكرنا من القاعدة. و ربّما نختلف معه في النتيجة.

الرابعة: إذا كرر عقد الوضع في الجمل دون عقد الحمل، كما إذا قال: أكرم العلماء و الطلاب و التجار إلاّ الفساق منهم فبما أنّ جميع ما ذكر قبل الاستثناء بحكم جملة واحدة، و كأنّه قال: العلماء، الطلاب، التجار أكرمهم إلاّ الفساق، يرجع الاستثناء إلى الجميع.

الخامسة: ما إذا كرر عقد الوضع و الحمل في كلّ جملة: أكرم العلماء، أكرم الطلاب، أكرم التجار، فالظاهر رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، لأنّ تكرر عقد الحمل قرينة على انقطاع الجمل بعضها عن بعض، و عندئذ يأخذ الاستثناء محله في الكلام و هو الرجوع إلى الأخيرة.

السادسة: إذا كان عقد الحمل في الجملة الأخيرة مغايراً مع ما ذكر في الجملة الأُولى، كما إذا قال:

أكرم العلماء و الطلاب و جالس التجّار إلاّ الفساق منهم، فإنّ تغير عقد الحمل يكون قرينة على استقلال الجملة الأخيرة عمّا تقدّمها.

فما ذكرناه قاعدة عامة يركن إليها إذا لم يكن هناك قرينة على خلافه، و لذلك يجب على الفقيه التفتيش عن القرائن الأُخرى فربما تكون مؤيدة للظهور و أُخرى مزيلة له.

ص:620

الفصل الرابع عشر تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

اشارة

هل يجوز تخصيص الكتاب العزيز بالخبر الواحد أو لا؟ و قد اختلفت فيه كلمتهم كما سيوافيك بعد ما اتّفقت كلمتهم في الأُمور التالية:

1. تخصيص الكتاب بالكتاب.

2. تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة.

3. تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المحفوف بالقرينة المفيد للعلم.

4. تفسير مجملات الكتاب كالصلاة و الزكاة و الصوم بخبر الواحد، فإنّ أجزاء العبادات تتبيّن بالخبر الواحد.

و لم يخالف في ذلك أحد، إذ لا يعد التفسير للإجمال مخالفاً للقرآن و لا معارضاً له.

هذا ما اتّفقوا عليه، نعم اختلفوا في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد العاري من القرينة، نظير الأمثلة التالية:

1. (وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1)حيث تخصّص» حلية وراء ذلكم «بما ورد من أنّ المرأة لا تزوّج على عمتها و خالتها إلاّ بإذنهما.

ص:621


1- النساء: 24.

2. (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1)حيث خصّصت بأنّه لا ميراث للقاتل.(2)

3. (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) (3)حيث خصصت بما دلّ على جواز الربا بين الوالد و الولد، و الزوج و الزوجة.

هذا و المسألة لها جذور في تاريخ أُصول الفقه، و قد تضاربت أقوالهم في هذا الصدد.

فذهب إلى المنع الأقطاب الثلاثة من أصحابنا، أعني: السيد المرتضى و الشيخ الطوسي و المحقّق الحلي.

1. قال السيد المرتضى: و الذي نذهب إليه أنّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، و قد كان جائزاً أن يتعبّدنا اللّه تعالى بذلك فيكون واجباً غير أنّه ما تُعبدنا به.(4)

2. و قال الشيخ الطوسي: و الذي أذهب إليه انّه لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، سواء خصّ بدليل متّصل أو منفصل أو لم يخص.(5)

3. و قال المحقّق الحلي: يجوز تخصيص العموم المقطوع به بخبر الواحد، و أنكر ذلك الشيخ أبو جعفر، ثمّ ذكر دليل المجيز بأنّهما دليلان تعارضا فيجب العمل بالخاص منهما لبطلان ما عداه من الأقسام.

و أجاب عنه بأنّه لا نسلّم انّ

ص:622


1- النساء: 11.
2- الوسائل: 17، باب 7 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
3- البقرة: 275.
4- الذريعة إلى أُصول الشريعة: 1/280.
5- عدّة الأُصول: 1/135.

خبر الواحد دليل على الإطلاق، لأنّ الدلالة على العمل به الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة، فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به.(1)

و المشهور بين المتأخرين هو الجواز حتّى استدلّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (بوجود السيرة المستمرة في جميع الأعصار عليه، و انّه لولاه لما قام للمسلمين فقه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب.

و مع ذلك فالمسألة ذات أقوال:

1. المنع، كما عرفت من الأقطاب الثلاثة.

2. الجواز، كما عرفت من ادّعاء السيرة على التخصيص.

3. التفصيل بين عام خُصّص بدليل قطعي، فيخصص بالخبر الواحد أيضاً، و غيره.

4. التوقّف في المسألة.(2)

استدلّ المحقّق الخراساني للجواز بوجهين:

1. جرت سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد، في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة ) عليهم السلام (و احتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة، واضح البطلان.(3)

2. لو لا جواز التخصيص لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.

يلاحظ على الأوّل: أنّ ما ادّعاه من السيرة على تخصيص الكتاب بخبر

ص:623


1- المعارج: 46.
2- لاحظ للوقوف على الآراء كتاب الفصول: 214.
3- الكفاية: 1/366.

الواحد غير ثابت، لما عرفت من مخالفة الأقطاب الثلاثة، مضافاً إلى أنّ هناك من القدماء من يمنع حجّية الواحد مطلقاً، مخصّصاً كان للكتاب أو لا، و القدر المتيقن من السيرة، هو أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن، و قد كانت في العصور الأُولى محفوفة.

و لأجل توفّر القرائن في عصر القدماء، قسّموا الحديث إلى قسمين معتبر و غير معتبر، فما أيّدته القرائن الداخلية كوثاقة الراوي، أو الخارجية كوجوده في أصل معتبر ثابت انتسابه إلى جماعة كزرارة و محمد بن مسلم و الفضيل بن يسار، فهو صحيح أي معتبر يجوز الاستناد إليه، و الفاقد لكلتا المزيتين غير صحيح بمعنى انّه لا يمكن الركون إليه.

و إنّما آل التقسيم الثنائي إلى الرباعي لأجل ضياع القرائن بضياع الأُصول.(1)

يلاحظ على الثاني: بأنّ كثيراً من أخبار الآحاد يرجع إلى تفسير مبهمات القرآن و مجملاته، و قد عرفت أنّ حجّية خبر الواحد في هذا الباب خارج عن محط النزاع.

فإن قلت: إنّ ما ورد، حول النجاسات و المحرّمات ينافي قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ).(2)

قلت: لا منافاة بين مفاد الآية و بين ما دلّ على كون شيء نجساً أو محرّماً، و ذلك لأنّ المراد من الآية الانتفاع بنحو من الأنحاء، لا خصوص الأكل و الشرب، حتّى يكون دليلاً على المخالفة. هذا دليل المجوزين، و لندرس دليل المانعين.

ص:624


1- لاحظ: كليات في علم الرجال: 59.
2- البقرة: 29.

حجّة المانعين من التخصيص

احتجّ المانع بوجوه:

1. انّ الكتاب قطعي السند، و الخبر ظني السند، و الظنّي لا يعارض القطعي، و لا ترفع اليد عن القطعي به.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بما هذا توضيحه: بأنّ التعارض ليس بين السندين، حتّى يقال بأنّ الظني لا يعارض القطعي و إنّما الدوران بين دلالة الكتاب) أصالة العموم (و دليل حجّية الخبر، فأمّا أن تُرفع اليد عن دلالة الكتاب أو دليل حجّية خبر الواحد، كآية النبأ و غيرها، و المتعيّن هو الأوّل، لأنّ الخبر بدلالته و سنده صالح للتصرّف في دلالة الكتاب، حيث إنّ اعتبار الأصل المذكور موقوف على عدم قرينة على خلافه، و المفروض انّ الخبر يصلح لأن يكون قرينة، فترفع اليد عنها به.

و إنّما قلنا: انّ دلالة الكتاب موقوفة على عدم ورود قرينة على الخلاف لما عرفت من أنّ السنّة الإلهية جرت على بيان الأحكام تدريجاً، لا دفعيّاً، و على ضوئه لا مانع من ورود العموم و الإطلاق في الكتاب، و ورود مخصصه و مقيّده في السنّة.

و إلى هذا الجواب يشير المحقّق البروجردي و يقول: إنّ التصرف ليس في السند بل في العموم و أصالة العموم ظنية، فرفع اليد عن العموم به، رفع لليد عن الدليل الظني بالدليل الظني الأقوى، للسيرة العقلائية.

و مراده) قدس سره (من كون دلالة الكتاب ظنيّاً، هو كون عمومات الكتاب و إطلاقاته في مظنة التخصيص و التقييد لا كون كلّ الكتاب ظنّياً، و سيوافيك شرحه عند البحث في حجّية الظواهر.

ص:625

2. انّ دليل حجّية الخبر هو الإجماع و القدر المتيقن منه هو غير هذا المورد.

يلاحظ عليه: أنّ الدليل على حجّية الخبر الواحد، ليس هو الإجماع، بل الدليل هو السيرة العقلائية الجارية على الأخذ بالخبر الواحد، سواء أ كان في مقابله دليل قطعي أو لا، مضافاً إلى سيرة الأصحاب الجارية على تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.

3. لو جاز التخصيص بالخبر الواحد، لجاز نسخ الكتاب به لكونهما مشتركين في أصل التخصيص و يختلفان في أنّ النسخ تخصيص في الأزمان، و الآخر تخصيص في الأفراد.

يلاحظ عليه: بأنّ القياس مع الفارق، فانّ النسخ رفع الحكم من رأس بخلاف الآخر، فانّه بمعنى إخراج بعض الأفراد عن حكم الآية، و لذلك اتّفق المسلمون على عدم جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد، حفظاً لكرامة القرآن و صيانته عن تطرق الأهواء إليه، بخلاف التخصيص فانّه أمر ذائع شائع فكم فرق بين قولنا: لا ميراث للقائل المخصص لقوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1)فهو مخرج للقائل عن تحت العموم، و بين نسخ حلية المتعة، الواردة في قوله سبحانه: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (2)بخبر الواحد الذي يدّعيه أهل السنّة فهو بمنزلة رفع الحكم من رأس.

4. الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للقرآن، و الخبر المخصص مخالف له فينتج لزوم طرحه، لا الأخذ ثمّ تخصيص الكتاب به و إن شئت ان تصبّه في قالب الشكل الأوّل تقول: الخبر المخصّص للكتاب، مخالف للكتاب، و كلّ خبر مخالف للكتاب ليس بحجّة، ينتج: الخبر المخصّص للكتاب، ليس بحجّة.

ص:626


1- النساء: 11.
2- النساء: 24.

أقول: الروايات الواردة حول كون الحديث موافقاً للكتاب أو مخالفاً له، تُدرس في مقامين:

1. في باب جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، بحجّة انّ المخصص مخالف أو ليس بموافق.

2. في باب حجّية خبر الواحد، حيث يستدلّ المانع بهذه الروايات على عدم حجّية الخبر الواحد، مخصصاً كان أو لا.

و اعلم أنّ هذه الروايات ليست على صنف واحد، بل على أصناف أربعة، و المهم هو الصنف الثالث، أعني: ما يدلّ على عدم حجّية المخالف للكتاب بناء على أنّ المخصص مخالف، و إليك بيان الأصناف إجمالاً.

الأوّل: ما لا يعترف بحجّية الخبر الواحد، إلاّ إذا كان موافقاً للكتاب، أو كان له شاهد أو شاهدان منه، نظير ما رواه أيوب بن راشد عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف «.(1)

و هذا الصنف من الروايات، لا يمكن الأخذ بظاهرها، إذ معنى ذلك، إلغاء حجّية الخبر الواحد من رأس، و المفروض حجّيته و إنّما الكلام في سعتها و ضيقها، و هي محمولة على مورد العقائد حيث إنّ الغلاة يروون أحاديث في مقامات الأنبياء و الأولياء حسب أهوائهم، فلم يكن في علاجها محيص عن عرضها على الكتاب لتُعلم صحّة الرواية و فسادها.

و أمّا الروايات الواردة حول الأحكام فيؤخذ بها و إن لم تكن موافقة، غاية الأمر يجب أن لا تكون مخالفة له، و أمّا الوارد في العقائد و الأُصول خصوصاً فيما

ص:627


1- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12، و لاحظ الحديث 11، 14، 18، 37، 47 من هذا الباب.

يرجع إلى مقامات الأولياء، فالشرط هو الموافقة، لا عدم المخالفة حتّى يتميّز الصحيح عن غيره.

الثاني: ما ورد في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر، و انّه يطرح المخالف، نقتصر على رواية واحدة:

روى الكليني عن العالم) عليه السلام (يقول:» اعرضوهما على كتاب اللّه عزّ و جلّ فما وافق كتاب اللّه عزّ و جلّ، فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «.(1)

و هذا القسم من الأحاديث لا صلة له بالمقام، لأنّ الكلام في الخبر غير المعارض، فلو عدّ عدم المخالفة في الخبرين المتعارضين مرجّحاً فلا يكون دليلاً على اشتراطه في غيره.

الثالث: ما يُركّز على المخالف المجرّد عن التعارض.

روى الكليني بسنده عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:

» من خالف كتاب اللّه و سنّة محمد فقد كفر «.(2)

الرابع: ما يشترط الموافقة و عدم المخالفة معاً، و قد ورد بهذا العنوان روايات ربّما تناهز ثلاثاً، نقتصر على رواية واحدة:

روى السكوني عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّ على كلّ حق حقيقة، و على كل صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «.(3)

ص:628


1- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19. و لاحظ الحديث: 1، 10، 21، 29 و غيرهما.
2- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 16.
3- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10. و لاحظ أيضاً الحديث: 15، 35.

و لا يذهب عليك أنّ أحد الملاكين في الصنف الرابع خاص) كونه موافقاً للكتاب (و الآخر عام) عدم كونه مخالفاً (فالأوّل رهن وجود مضمون الحديث في الكتاب، و أمّا الثاني فيكفي عدم المخالفة، سواء أ كان موافقاً كما إذا كان المضمون موجوداً، أم لم يكن موافقاً و في الوقت نفسه لم يكن مخالفاً كما إذا لم يكن مضمونه وارداً في الكتاب، مثلاً ما دلّ على عدم جواز الصلاة في عرق الجنب عن حرام ليس موافقاً للكتاب و مع ذلك ليس مخالفاً أيضاً، و لعلّ العرف يأخذ بالملاك الأعم، لأنّ الأخص موجود في الأعم، فالميزان هو عدم المخالفة، فعندئذ يرجع الصنف الرابع إلى الصنف الثالث. و تكون النتيجة عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب و المفروض انّ المخصص مخالف للكتاب.

إلى هنا تمّ تقرير دليل الخصم.

يلاحظ عليه: بأنّ الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر المخالف يفسر بأحد وجهين:

الأوّل: أنّها محمولة على التباين الكلّي بأن يكون الحديث مخالفاً للكتاب تماماً، و ذلك لأنّ المخالفة على نحو العموم و الخصوص ليست مخالفة في دائرة التقنين و التشريع، بشهادة انّه يجوز تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة، و السنّة المحفوفة بالقرائن، فلو كانت المخالفة تعمّ هذا القسم يجب أن لا يخصّص الكتاب بالسنّة أبداً، لأنّ لسان هذه الروايات آب عن التخصيص.

فإن قلت: حمل هذه الروايات على الخبر المباين يوجب حملها على الفرد النادر، لعدم وجود الخبر المباين في الروايات، فيكون الكلام بعيداً عن البلاغة.

قلت: إنّ علماءنا الأبرار بذلوا جهوداً جبارة في تهذيب أحاديث الشيعة عن الموضوعات، فلا تجد المباين في الجوامع الحديثية إلاّ نادراً، و إلاّ فقبل دورة

ص:629

التهذيب كانت الروايات المتباينة غير عزيزة.

الثاني: حمل روايات المقام على صورة التعارض و يحتمل أن يكون المراد من ترك الخبر المخالف للكتاب هو صورة تعارضه مع الخبر الآخر و إن كان يؤخذ به عند عدم التعارض و يخصّص به القرآن.

و الذي يقودنا إلى هذا الحمل، هو انّ المخالف المطرود في الخبرين المتعارضين أعمّ من التباين و العموم و الخصوص المطلق، فلو حمل ما ورد على ترك المخالف في الصنف الثالث على المباين يلزم التفريق في لسان الروايات في البابين، و هذا ما يبعثنا بحمل روايات المقام على باب التعارض، و يكون المراد من المخالف هو الأعمّ من التباين و العموم و الخصوص لكن يختصّ عدم حجّية المخالف بصورة التعارض دون انفراده.

ص:630

الفصل الخامس عشر في حالات العام و الخاص

اشارة

الهدف من عقد هذا الفصل بيان حالات العام و الخاص من التخصيص و النسخ و انتهى كلام صاحب الكفاية فيه إلى البحث عن النسخ و البداء، فصارت مادة البحث في هذا الفصل ممزوجة من المسائل الأُصولية و القرآنية و الكلاميّة و نحن نقتفيه حسب تناسب المقام.

الأمر الأوّل: في دوران الأمر بين التخصيص و النسخ

اشارة

إنّ للخاص و العام حالات مختلفة، حسب تقدّم أحدهما على الآخر و وروده قبل حضور وقت العمل بالآخر أو بعده، و الصورة المتصوّرة لا تخرج عن ست صور:

الأُولى: ورود الخاص و العام متقارنين

إذا ورد الخاص و العام متقارنين، سواء كانا في كلام واحد على وجه لا ينعقد للكلام ظهور أصلاً، كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ زيداً، أو ينعقد الظهور، لكن ظهوراً غير مستقر، إذ جاء المخصّص في آخر كلامه بصورة مستقلة، و الحال انّه لم يفرغ بعدُ من كلامه و مقصده، فلا شكّ انّه يحمل على التخصيص بلا كلام.

ص:631

الثانية: ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام

إذا ورد الخاص بعد العام و قبل حضور وقت العمل به; كما إذا قال المولى يوم السبت: أكرم العلماء يوم الجمعة، و قال يوم الأربعاء: لا تكرم فسّاقهم يوم الجمعة، فيكون أيضاً مخصصاً، لا ناسخاً.

وجه ذلك: انّ النسخ عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر على وجه لولاه لكان ثابتاً، و هو فرع ثبوت الحكم للموضوع جداً، في برهة من الزمان ثمّ رفعه، و لذلك قالوا: إنّ النسخ تخصّص في الأزمان، بمعنى انّه مانع عن استمرار الحكم بعد ثبوته شرعاً، لا عن أصل ثبوته، كما أنّ هذا معنى قولهم:

النسخ عبارة عن حضور الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ.

و إن شئت قلت: إذا تعلّقت الإرادة الجدية بأصل التكليف و لو في برهة من الزمان، و كان الدليل ظاهراً في الاستمرار، فورد الناسخ بعد العمل بالتكليف في قسم من الزمان، يكون الدليل الثاني ناسخاً، لكونه مانعاً عن استمرار التكليف لا عن أصله.

و أمّا الخاص الوارد قبل حضور وقت العمل، يكون مانعاً عن أصل التكليف و كاشفاً عن عدم تعلّق الإرادة الجدية به من أوّل الأمر، فهو إخراج فرد، أو عنوان عن كونه محكوماً بحكم العام من أوّل الأمر، و لذلك يشترط وروده قبل وقت العمل بالعام لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

الثالثة: ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام
اشارة

إذا ورد الخاص متأخراً عن العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام، كما

ص:632

إذا ورد العام في الكتاب و السنّة و الخاص في لسان الأئمة، مثل قوله سبحانه: (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ ) (1)و ورد الخاص في لسان الإمام الصادق) عليه السلام (حيث قال:» لا ترث النساء عن عقار الدور شيئاً «(2)، فمقتضى القاعدة كون الخاص ناسخاً لا مخصصاً، لكنّه لا يخلو عن محذورين.

الأوّل: إجماع الأُمّة على أنّ النسخ مختص بعصر الرسول و إنّ ما لم ينسخ فهو باق مستمر إلى يوم القيامة.

الثاني: انّ الخاص في الروايات الصادرة عن أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (كثيرة، فجعل هذه الروايات من قبيل النسخ ما لا يلتزم به أحد.

و على هذين الوجهين لا يكون مثل هذا النوع من الخاص، ناسخاً، لكن عدّه مخصصاً أيضاً مشكل لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإذا كان الحكم في مورد الخاص كالعقار في إرث الزوجة غير متعلّق للإرادة الجدية و كانت النساء محرومة من الإرث فيه، لما ذا تأخر البيان في عصر الرسالة إلى أوائل القرن الثاني.

و الحاصل: انّ عدّه ناسخاً أو مخصّصاً مقرون بالإشكال.

نظرية الشيخ الأعظم في المقام

لو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فلا محيص عن كونه ناسخاً لا مخصّصاً لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا أُحرز كون العام وارداً لبيان الحكم الواقعي، و إلاّ لكان الخاص أيضاً مخصِّصاً له، كما هو الحال في

ص:633


1- النساء: 12.
2- الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 7.

غالب العمومات و الخصوصات في الآيات و الروايات.

وجهه: أنّه لو كان المولى بصدد بيان الحكم الواقعي، لم يجز له تأخير البيان عن وقت العمل، فإذا شاهدنا التأخّر فلا مناص عن جعله ناسخاً، أي من قبيل ارتفاع الحكم من زمان ورود الخاص و كان الحكم الواقعي إلى زمان ورود الخاص هو العام، فلم يكن هناك إلقاء في المفسدة و تفويت للمصلحة.

و أمّا إذا كان المولى بصدد بيان الحكم الظاهري دون بيان الحكم الواقعي، فيكون الناس مكلّفين بالحكم الظاهري دون الواقعي ما لم يصل إليهم الخاص، فإذا وصل ارتفع الحكم الظاهري بارتفاع موضوعه، و تصل النوبة إلى العمل بالحكم الواقعي و يكون الخاص مخصّصاً غير متأخّر عن وقت الحاجة.

نظريتنا في المسألة

و لكن الظاهر هو القول بالتخصيص مطلقاً من غير تفصيل، و ذلك لأنّ المصلحة أوجبت بيان الأحكام تدريجاً فالأحكام كلّها كانت مشرّعة في عصر الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (نازلة عليه، غير أنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (بيّن ما بيّن، و أودع ما لم يُبيّن إمّا لعدم استعداد في المجتمع أو لعدم وجود الفرصة للبيان، أو لوجود المصلحة في تأخيره عند أوصيائه الأئمة المعصومين) عليهم السلام (بعده، و ليس تأخير البيان أمراً قبيحاً بالذات حتى لا يُغيّر حكمه و إنّما هو بالنسبة إلى القبح كالمقتضي نظير الكذب، فلو كان هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً. هذا هو الحقّ الذي يدركه من سبر حال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و المجتمع الإسلامي.

فأقصى ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقّة، أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، و كلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبرى تأخير البيان.

ص:634

الرابعة: ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص

إذا ورد العام بعد الخاص و قبل حضور وقت العمل به، كما إذا قال: لا تكرم العالم الفاسق في شهر رمضان ثمّ أمر بإكرام العلماء قبل دخول الشهر، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصِّصاً للعام المتأخّر، و لا وجه للنسخ لما عرفت من عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل. أضف إلى ذلك ما سبق من أنّه يلزم لغوية حكم الخاص في المقام و هو لا يصدر من الحكيم العالم بعواقب الأُمور.

الخامسة: ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص

تلك الصورة و لكن ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، أي بعد حضور زمان يمكن العمل به، فهل الخاص المتقدّم مخصّص للعام المتأخّر، أو العام المتأخّر ناسخ للخاص المتقدّم؟ و ليست هذه الصورة كالمتقدّمة، إذ لا تلزم لغوية الخاص من القول بناسخية العام. و الثمرة بين القولين واضحة، فعلى الأوّل يعمل بالخاص في خصوص مورده، و على الثاني ينتهي أمد حكم الخاص و يجب العمل بالعام في الفاسق و العادل.

قال المحقّق الخراساني: الأظهر أن يكون الخاص مخصِّصاً لكثرة التخصيص حتى اشتهر ما من عام إلاّ و قد خصّ مع قلّة النسخ في الأحكام جدّاً، و بذلك يصير ظهور الخاص في الدوام و لو بإطلاقه أقوى من ظهور العام و لو كان بالوضع.(1)

ص:635


1- كفاية الأُصول: 1/371.

السادسة: إذا حصل تردّد بين ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، و قبل حضوره، قال المحقّق الخراساني: الوجه هو الرجوع إلى الأُصول العملية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا يترتّب على كلا القولين أثر في مقام العمل فإنّ الواجب في المقام هو العمل بالخاص في المستقبل، سواء أ كان ناسخاً للعام أم مخصّصاً، لافتراض أنّه لو كان ناسخاً فإنّما يكون ناسخاً في مورده الخاص لا في الأعمّ منه.

بخلاف الصورة الخامسة فإنّ الثمرة موجودة في كون الخاص مخصّصاً، أو العام ناسخاً. فعلى الأوّل يكون ملاك العمل في المستقبل هو الخاص بخلاف الثاني فإنّه يكون ملاك العمل عندئذ هو العام.

و هناك صورة سابعة و هو الجهل بأحوال الدليلين على وجه الإطلاق من كونهما متقارنين أو متأخرين و لم يعلم المتقدّم و لا المتأخّر، و لا كيفيتهما.

و بما أنّ المتعيّن في جميع الصور السابقة هو التخصيص، فيكون حكمه أيضاً هو التخصيص لعدم خروجها عنها. فلاحظ.

تمّ الكلام في الأمر الأوّل، و إليك الكلام في الأمرين الآخرين:

ص:636


1- كفاية الأُصول: 1/371.

الأمر الثاني النسخ

اشارة

قد عرفت أنّ في هذا الفصل أُموراً ثلاثة، و قد تمّ الكلام في الأمر الأوّل، فلنأخذ الأمر الثاني بالبحث و هو النسخ، و يقع الكلام في أُمور:

الأوّل: النسخ لغة و اصطلاحاً

النسخ لغة هو إبطال شيء و إقامة شيء آخر مقامه.

يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ أي أذهبتْه و حلّتْ محلَّه، و انتسخ الشيبُ الشبابَ، و التناسخ في الفرائض و المواريث أن تموت ورثة بعد ورثة و أصل الميراث قائم لم يُقسَّم، و كذلك تناسخ الأزمنة و القرون بعد القرون الماضية.

و ربما يقال: أصل النسخ: الإبدال من الشيء غيره، و لعلّه بهذا المعنى نسختُ الكتابَ أي استنسخته.

و على هذا يكون إمّا مشتركاً لفظيّاً بين الإبطال و الإبدال، أو مشتركاً معنوياً بتصوير جامع بينهما.

و أمّا اصطلاحاً فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان سائداً، و عرّفه الطبرسي بقوله:» كلّ دليل شرعي دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنص الأوّل، غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتاً بالنصّ الأوّل مع تراخيه عنه «.

و لا تخفى وجازة التعريف الأوّل.

ص:637

الثاني: في إمكان جواز النسخ عقلاً أو شرعاً

النسخ عندنا جائز عقلاً، واقع سمعاً، و أدلّ دليل على جوازه وقوعه في الشريعة الإسلامية فانّها نسخت شيئاً من الأحكام الواردة في الشرائع السابقة، كما أنّ كلّ شريعة سماوية نسخت شيئاً ممّا ورد في سابقتها، مثلاً: جاء في التوراة: إنّ اللّه تعالى قال لنوح) عليه السلام (عند خروجه من الفلك انّي جعلت كلّ دابة مأكلاً لك و لذريتك و أطلقت لذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه «(1)مع أنّه سبحانه حرّم على موسى و على بني إسرائيل كثيراً من اللحوم.

و يظهر إمكان النسخ من خلال اختلاف المقتضيات الزمانية و المكانية، فربما يكون حكماً صالحاً في ظروف معينة، فإذا تغيرت لم يصر ذلك الحكم صالحاً في تلك الظروف، بل لا بدّ من تغيّره أيضاً.

نعم الأحكام المتناغمة مع الفطرة الإنسانية لا تتغيّر ما دامت الفطرة الإنسانية.

و بالجملة إمكان النسخ و وقوعه أمر لا ريب فيه غير أنّ اليهود ذهبت إلى امتناعه إمّا عقلاً و شرعاً، أو شرعاً فقط.

و قد نقل الرازي في تفسيره استدلالهم بشكل مبسوط، و نحن نلخّص كلامه:

إنّ الدليل لا يخلو من حالات ثلاث: إمّا أن يدلّ على الدوام، أو يدلّ على خلافه، أو لا يدلّ على أحدهما.

أمّا الأوّل فيلزم من نسخه كذب الخبر الأوّل.

و أمّا الثاني فهذا لا يعدّ نسخاً، لأنّ المفروض انّ الأمر الأوّل كان موقتاً.

ص:638


1- سفر التكوين، الاصحاح التاسع، الآية 3.

و أمّا الثالث فبما انّ امتثال الأمر مرة واحدة مسقط، فليس هناك دليل على لزوم امتثاله في المرة الثانية حتّى يكون الدليل الثاني ناسخاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هناك قسماً رابعاً و هو ظهور الدليل في الدوام لا كونه نصاً فيه، فإذا جاء الناسخ فيكشف عن عدم صحّة ظهور الدليل الأوّل و انّ ما فهم من استمرار الحكم و دوامه كان فهماً خاطئاً و مصب النسخ هو هذا القسم، و إلاّ فما نص عليه بالدوام أو بالانقطاع أو يكون مهملاً من حيث الدوام و عدمه، إمّا يستحيل نسخه لاستلزامه الكذب كما في القسم الأوّل، أو يستغني عن النسخ كما في القسمين الأخيرين و ذلك إمّا ارتفاعه: بانتهاء غايته، أو عدم ظهوره في الاستمرار، حتّى يرتفع و إنّما النسخ فيما إذا كان الدليل حسب الظاهر ظاهراً في الاستمرار، قابلاً للدوام، فيكون الدليل الثاني ناسخاً له، رافعاً للحكم حسب الظاهر و إن كان في الواقع كاشفاً عن انتهاء أمد الحكم.

و لذلك يقول الأُصوليون النسخ رفع حسب الظاهر، و أمّا في الواقع فهو دفع و إعلام بانتهاء الحكم.

الثالث: الفرق بين النسخ و التخصيص

لا شكّ انّ النسخ و التخصيص يشتركان في تضييق دائرة الحكم لكن النسخ تخصيص في الأزمان، أي مانع من استمرار الحكم بعد النسخ لا عن ثبوته قبله، بخلاف الثاني فانّه تخصيص في الأفراد، أي مانع من شمول الحكم لبعض أفراد العام منذ أوّل الأمر.

و بذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ ورود الناسخ بعد حضور العمل

ص:639


1- تفسير مفاتيح الغيب: 2293/228 بتلخيص منّا.

بالمنسوخ بفترة قصيرة أو طويلة، و أمّا التخصيص فيشترط وروده قبل حضور وقت العمل بالحكم، و إلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و هو قبيح.

و بذلك يعلم أنّ أمره سبحانه تبارك و تعالى بذبح إسماعيل و المنع عنه قبل ذبحه ليس من مقولة النسخ، لما علمت من أنّ النسخ عبارة عن قطع استمرار الحكم، و هو رهن العمل به، و لو مدة قصيرة. يقول سبحانه:

(فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ ) (1)و بما انّ رؤية الأنبياء رؤيا صادقة، فقد أيقن إبراهيم) عليه السلام ( بأنّ اللّه سبحانه قد أمره بذبح ولده، و لمّا جاء به إلى منى و وضع السكين على حلقه و همّ بذبحه خوطب بقوله:

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ).(2)

فالآية تحكي انّه بإنجاز المقدّمات صدّق رؤياه، و هذا كاشف على أنّه كان مأموراً بالمقدّمات دون الذبح، و كان ذلك كافياً في رفع مستوى إخلاصه و تفانيه في جنب اللّه.

و بعبارة أُخرى: كان الأمر، اختباريّاً.

الرابع: وقوع النسخ في القرآن الكريم

دلّت غير واحدة من الآيات على وقوع النسخ في القرآن الكريم إجمالاً نحو:

1. قوله سبحانه: (وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ).(3)

ص:640


1- الصافات: 102.
2- الصافات: 105.
3- النحل: 101.

كان المشركون و اليهود يطعنون بالإسلام و يقولون: أ لا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه، و يقول اليوم قولاً و غداً يرجع عنه، فنزلت هذه الآية أو ما هو بمضمونها.

و الآية تدلّ على وقوع النسخ بشهادة قوله: (وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ). و الآية ظاهرة في الآية القرآنيّة، لا الآية الكونية كالمعجزة، و يشهد على ذلك قولهم: (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ).

2. قوله: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ). (1)و الآية تعمّ المحو التشريعي و المحو التكويني الذي نعبر عنه بالبداء.

و هناك آية ثالثة تدلّ على إمكان النسخ لا على وقوعه، و هو قوله سبحانه: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ).(2)

و بما انّ هذه الآية من الآيات المشكلة في القرآن الكريم نذكر شيئاً حولها:

1. انّ لفظة» ما «ليست نافية و لا موصولة، بل هي ما شرطية تجزم شرطها و جزاءها، و لذلك صار الشرط) نَنْسَخْ (مجزوماً و هكذا جزاؤها) نُنْسِها (، لأنّ أصلها ننسيها فحذف الياء الناقصة لأجل الجزم، فانّ علامة الجزم هو سكون آخر الفعل في الصحيح و حذف حرف العلّة في المعتل، و قوله:» ننسها «مأخوذ من أنسي فهو ناقص يائي.

يقول ابن هشام: إنّ» ما «الشرطية على نوعين:

غير زمانية نحو (وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (3)(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ )

ص:641


1- الرعد: 39.
2- البقرة: 106.
3- البقرة: 197.

و قد جوزت في: (وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) على أنّ الأصل و ما يكن، ثمّ حذف فعل الشرط.(1)

2. انّ في لفظة» ننسها «قراءتين:

فقراءة عاصم برواية حفص هو» نُنْسِها «، فيكون مشتقاً من أنسى ينسي و صيغة المتكلّم مع الغير هو » ننسي «، فإذا ورد عليه الجزم يحذف حرف العلة، أعني: الياء من آخرها، فإذا أُضيف إلى مفعوله الضمير يصير» ننسها «و هو إذهاب الشيء عن الخاطر.

و قراءة غيره» ننسئها «فهو من النسيء بمعنى التأخير، كقوله سبحانه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً ) (2)و المراد تأخير أشهر الحرم.

و» النسيئة «هو البيع المتأخر ثمنه عن وقت البيع.

3. ما هو المراد من» ننسها «على كلتا القراءتين؟ أمّا القراءة الأُولى فمعنى» ننسها «هو إذهاب الآية عن الأذهان و إنّما الكلام في تبيين المراد منه، ففسّره بعض السُّذّج من العامّة، بنسخ الحكم و التلاوة و قالوا: إنّ المراد منه إزالة الآية من ذاكرة النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (، حتّى أنّ السيوطي روى في أسباب النزول انّ الآية كانت تنزل على النبي ليلاً فينساها نهاراً، فحزن لذلك، فنزلت الآية!! و نحن لا نعلّق على هذه الرواية و لا على هذا التفسير شيئاً، و يكفي في ذلك قول صاحب المنار:

ص:642


1- المغني لابن هشام: 1/398.
2- التوبة: 37.

لا شكّ عندي في أنّ هذه الرواية مكذوبة، و أنّ مثل هذا النسيان محال على الأنبياء) عليهم السلام (، لأنّهم معصومون في التبليغ، و الآيات الكريمة ناطقة بذلك، كقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ )(1)، و قوله: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ )(2).(3)

أقول: إنّ هذه الآية مدنية، و قد أخبر سبحانه في سورة مكية بأنّ النبي لا ينسى، و قال: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى ).(4)

و قوله: (إِلاّ ما شاءَ اللّهُ ) لا يدلّ على وقوع المشيئة، بل هذا الاستثناء نظير الاستثناء عن خلود أهل الجنة و النار فيهما، قال سبحانه: (وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ).(5)

و الغاية من ورود الاستثناء في هذه الآية و نظائرها هو بيان انّ الحكم بخلودهما فيهما لا يعني خروج الأمر من يده سبحانه، بل الأمر بعدُ بيده، و هو قادر على إنجاز خلاف ما وعد أو أوعد.

و على ضوء ذلك نقول: إنّ لفظ» ننسها «و إن كان بمعنى الإذهاب عن الذهن، لكنّه كناية عن ترك الآية و عدم نسخها، إذ كثيراً ما يطلق النسيان و يراد به الترك لا الذهول، أي تركها على ما هي عليه بلا تغيير و تبديل حيث يصحّ أن تقول: نسيت الشيء و أنت تريد تركه على حاله، أو تقول: نسيت الفعل الفلاني أي تركته، فتدلّ الآية على أنّ نسخها و عدم نسخها كلاهما يتبعان المصلحة، فلو

ص:643


1- القيامة: 17.
2- الحجر: 9.
3- تفسير المنار: 1/415.
4- الأعلى: 76.
5- هود: 108.

اقتضت المصلحة نسخ الآية، تُنْسخ; و لو اقتضت إبقاءها، تترك بلا تبديل و تغيير.

قال الرازي: إنّ إطلاق النسيان على الترك مجاز، لأنّ المنسي يكون متروكاً، فلمّا كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم.(1)

و يدلّ على ما ذكرنا من أنّ النسيان يطلق و يراد به لازمه، لفيف من الآيات نحو:

قوله سبحانه: (فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ )(2)، أي تركوا ما أمروا به من عدم الصيد يوم السبت.

و قال سبحانه: (وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ).(3)

و قال سبحانه: (فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ).(4)

و قال سبحانه: (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ).(5)

و أوضح دليل على أنّ المراد من قوله:» ننسها «هو الترك، وجود التقابل بينه و بين» ما ننسخ «، فلو كان الأوّل بمعنى الإزالة، فالفعل الثاني بمعنى الإبقاء.

و أمّا القراءة الثانية، فهي قراءة من قرأ بالهمز أي ننسئها، فهي قراءة غير معروفة، فيكون المراد هو التأخير في النزول أو النسخ، و يؤوّل معنى الآية إلى قوله: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) أو ننسئها، أي نؤخّر نزولها أو نسخها، فالكلّ من التقديم و التأخير تابع لمصلحة.

فهذه الآيات تدلّ على إمكان النسخ، بل وقوعه في القرآن.

ص:644


1- مفاتيح الغيب: 3/227.
2- الأعراف: 165.
3- الجاثية: 34.
4- طه: 115.
5- طه: 88.
الخامس: أقسام النسخ

قسّم أهل السنّة النسخ إلى وجوه ثلاثة:

الأوّل: ان تُنسخ الآية تلاوة و حكماً بحيث يرتفع لفظها و حكمها.

الثاني: أن تنسخ تلاوة لا حكماً، أي يرتفع لفظها، و يبقى حكمها.

الثالث: أن تنسخ حكماً لا تلاوة، أي تثبت، و لكن لا يؤخذ بظاهرها بعد النسخ.

أمّا القسم الأوّل، فلا وجود له في الخارج، لأنّ المفروض انّ الآية رفعت بلفظها و حكمها فلم تبق بين الأُمة.

و قال الرازي: و أمّا الذي يكون منسوخ الحكم و التلاوة فهو ما روت عائشة أنّ القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثمّ نسخن بخمس معلومات; فالعشر مرفوع التلاوة و الحكم، و الخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم.(1)

و أمّا الثاني، ففسروه بمنسوخ التلاوة، و هو ما رفعت تلاوته و بقي معناه، و مثّلوا لذلك ما روي عن عمر أنّه قال: كنّا نقرأ آية الرجم:» الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللّه و اللّه عزيز حكيم «.

و روى:» لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً و لا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب و يتوب اللّه على من تاب «.

و لفظ الآيتين المزعومتين يحكي عن أنّهما ليستا من القرآن الكريم، لأنّهما عاريتان عن البلاغة و الفصاحة.

على أنّ الآية الأُولى نسجت على منوال قوله سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي

ص:645


1- مفاتيح الغيب: 3/230.

فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ ).(1)

و الظاهر أنّ من جوّز نسخ التلاوة حاول بذلك تبرير ما ورد في الصحاح و السنن و المسانيد ممّا يدلّ على التحريف، فجعلوه من قبيل منسوخ التلاوة.

و هناك سؤال و هو انّ المفروض في منسوخ التلاوة انّ المعنى ثابت و هو رجم الشيخ و الشيخة، دون اللفظ، و اللفظ القرآني يجب أن يكون على حد يمتنع على الآخرين مقابلته حتّى يكون على القمة من الجزالة و الحلاوة، و عندئذ يُسأل لما ذا نسخت تلاوة الآية، و ما هو السبب في نسخها؟ أ فهل كان العيب في المعنى و المفروض انّه ثابت، أم في اللفظ و المفروض انّه على درجة سائر الآيات في البلاغة؟

السادس: الآيات المنسوخة في القرآن الكريم
اشارة

اختلف المسلمون في وجود النسخ في القرآن، و المشهور وجوده، و لكنّهم بين مقلّ و مكثر.

فالنحاس في كتابه» الناسخ و المنسوخ «من المكثرين، فقد أدرج كثيراً من الآيات في عداد الناسخ و المنسوخ و ليس منها شيء.

و السيد المحقّق الخوئي من المقلّين لو لم نقل من المنكرين إلاّ في مورد واحد، و هو مورد الصدقة عند النجوى في كتابه» البيان في تفسير القرآن «.

و ها نحن نذكر الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرّق النسخ إليها.

ص:646


1- النور: 2.
1. عدّة الوفاة

كانت عدّة الوفاة بين العرب قبل الإسلام حولاً و قد أمضاها سبحانه بالآية التالية: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).(1)

فإنّ تعريف الحول للأُمّ إشارة إلى الحول الرائج بين العرب قبل الإسلام و هو حول العدّة.

قال المحقّق القمي: الآية دالّة على وجوب الإنفاق عليها في حول و هو عدّتها ما لم تخرج، فإن خرجت تنقضي عدّتها و لا شيء لها.(2)

و لكن نسخت الآية بقوله: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً ).(3)

و ربّما يتصوّر انّ الآية الأُولى تدلّ على حكم تكليفي للزوج في حقّ الزوجة، و هو انّه يجب على الزوج أن يوصي لزوجته بسكنى الدار إلى حول، و انّه لا يحق للورثة إخراجها من بيتها إلاّ باختيارها.

و على ضوء هذا، فلا منافاة بينها و بين آية العدة التي تحدّدها بأربعة أشهر و عشراً.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان المقصود مجرّد بيان الحكم التكليفي و انّ المرأة لها حقّ السكنى في دار الزوج إلى حول كان اللازم تنكير الحول مع أنّه ذكره معرّفاً

ص:647


1- البقرة: 240.
2- القوانين: 2/94.
3- البقرة: 234.

باللام مشيراً إلى حول خاص معروف بين العرب، و ما ذلك الحول إلاّ حول العدة.

و يدلّ على ذلك ما نقله العياشي عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: لمّا نزلت هذه الآية: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً ) جئن النساء يخاصمن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (و قلن: لا نصبر، فقال لهن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم ( : كان إحداكنّ إذا مات زوجها، أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في حذرها، ثمّ قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول، أخذتها ففتتها، ثمّ اكتحلت بها، ثمّ تزوجت، فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر.(1)

2. الصدقة قبل النجوى

أمر اللّه سبحانه المؤمنين بتقديم الصدقة قبل نجوى الرسول، و قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(2)

و لما امتنع المسلمون من تقديم الصدقة تفرقت الصحابة من حول الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (، فنسخت الآية بقوله سبحانه: (أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ... ).(3)

و كانت الغاية من تشريع إيجاب الصدقة هي تمييز من يؤثر نجوى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (على دنياه عمّن لا يؤثر.

فقد روي أنّ علياً تصدّق بدرهم و ناجى الرسول.(4)

ص:648


1- بحارالأنوار: 104/188; تفسير العياشي: 1/237، الحديث 489.
2- المجادلة: 12.
3- المجادلة: 13.
4- تفسير مفاتيح الغيب: 3/230.

روى ابن جرير باسناده عن مجاهد قال:

قال علي) عليه السلام (: آية من كتاب اللّه لم يعمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرّفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (تصدّقت بدرهم، فنسخت، فلم يعمل بها أحد قبلي (إِذا ناجَيْتُمُ ).(1)

قال الشوكاني: و أخرج عبد الرزاق، و عبد بن حميد، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه عنه ) علي بن أبي طالب) عليه السلام ((قال: ما عمل بها أحد غيري حتّى نسخت، و ما كانت إلاّ ساعة، يعني: آية النجوى.(2)

دلّت الآية المباركة على أنّ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (خير، و تطهير للنفوس، و الأمر به أمر بما فيه مصلحة العباد. و دلّت على أنّ هذا الحكم إنّما يتوجّه على من يجد ما يتصدّق به، أمّا من لا يجد شيئاً فانّ اللّه غفور رحيم.

قال المحقّق الخوئي: و لا ريب في أنّ ذلك ممّا يستقلّ العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحّته، فإنّ في الحكم المذكور نفعاً للفقراء، لأنّهم المستحقّون للصدقات، و فيه تخفيف عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (فانّه يوجب قلّة مناجاته من الناس، و انّه لا يقدم على مناجاته بعد هذا الحكم إلاّ من كان حبّه لمناجاة الرسول أكثر من حبّه للمال.

و لا ريب أيضاً في أنّ حسن ذلك لا يختصّ بوقت دون وقت، و دلّت الآية الثانية على أنّ عامّة المسلمين غير علي بن أبي طالب أعرضوا عن مناجاة الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (اشفاقاً من الصدقة و حرصاً على المال.(3)

ص:649


1- تفسير الطبري: 28/15.
2- فتح القدير: 5/186.
3- تفسير البيان: 376.
3. الإمساك في البيوت بدل الحد

كان حد الزانية هو حبسها في البيت، قال سبحانه: (وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ).(1)

فنسخت بجلد الزانية مائة جلدة قال سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ).(2)

ثمّ إنّ السيد المحقّق الخوئي أنكر وجود النسخ في الآية قائلاً: بأنّ المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه و تفاحش، و ذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة، و قد يكون بين ذكرين فيكون لواطاً، و قد يكون بين ذكر و أُنثى فيكون زنا، و لا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعاً و لا انصرافاً.

ثمّ إنّ الالتزام بالنسخ في الآية يتوقّف:

أوّلاً: على أنّ الإمساك في البيوت حدّ لارتكاب الفاحشة.

ثانياً: أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم و الجلد.

و كلا هذين الأمرين لا يمكن إثباتهما.

إذ الظاهر من الآية المباركة انّ إمساك المرأة في البيت إنّما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية.

كما أنّ الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب، فهل يكون الجلد أو الرجم سبيلاً لها؟!

ص:650


1- النساء: 15.
2- النور: 2.

ثمّ خرج بالنتيجة التالية: أنّ المراد من الفاحشة خصوص المساحقة أو الأعمّ منها و من الزنا.

يلاحظ على الوجه الأوّل: بأنّ الفاحشة أُطلقت في القرآن و أُريد بها الزنا، نعم ربّما أُطلقت و أُريد بها غيرها أيضاً.

قال سبحانه: (وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً ).(1)

و قال في سورة يوسف: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ).(2)

و أمّا الثاني أي كيف يكون الجلد و الرجم سبيلاً لصالحهنّ، فيلاحظ عليه: أنّ المراد من الإمساك في البيوت هو الحبس الدائم، و المراد من السبيل خصوص الجلد و هو أهون من الحبس الدائم، و ليس الرجم داخلاً في السبيل بشهادة انّ الآية منسوخة بآية الجلد كما ذكرنا.

روى العياشي في تفسيره عن جابر، عن أبي جعفر) عليه السلام (في قول اللّه سبحانه: (وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى سَبِيلاً ) قال: منسوخة، و السبيل هو الحدود.(3)

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سألته عن هذه الآية (وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى سَبِيلاً )، قال:» هذه منسوخة «.(4)

هذه هي الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرق النسخ إلى الآيات

ص:651


1- الإسراء: 32.
2- يوسف: 24.
3- تفسير العياشي: 1/377 برقم 902.
4- تفسير العياشي: 1/377 برقم 903.

القرآنية، و لعلّ هناك موارد أُخرى لم نشر إليها.

و اعلم أنّ البحث في المقام هو نسخ الحكم الشرعي الوارد في القرآن بالقرآن، و هناك قسم آخر، و هو ما يكون الناسخ آية قرآنية و المنسوخ سنّة نبوية، و هذا كنسخ وجوب الصلاة إلى بيت المقدس بالتوجّه إلى الكعبة.

أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس، و صلّى النبي و المسلمون إليها حوالي سبعة عشر شهراً، ثمّ نسخ الحكم الشرعي بآية قرآنية، يقول سبحانه: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ).(1)

هذا بعض الكلام في النسخ، و لنعطف عنان القلم إلى بحث آخر و هو البداء.

ص:652


1- البقرة: 144.

الأمر الثالث البداء

اشارة

البداء مسألة كلامية لا صلة له بعلم الأُصول، و الفرق بين النسخ و البداء أنّ الأوّل نسخ في التشريع و الثاني نسخ في التكوين، و لأجل ذلك ناسب أن نردف البحث في النسخ، بالبحث في البداء.

البداء من المسائل الشائكة لمن لم يتدبّر فيها، و من المطالب الواضحة لمن تدبّر، و سيظهر أنّ النزاع فيها لفظي لا معنوي كما سيوافيك، و تحقيق البحث ضمن أُمور:

1. البداء في اللغة

البداء في اللغة هو ظهور ما خفي، و قد اتّفق عليه أصحاب معاجم اللغة، و يدلّ عليه قوله سبحانه في حقّ المشركين يوم القيامة: (وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ).(1)

أي ظهر لهم آثار ما عملوا من السيِّئات بعد ما خفيت عليهم، و أحاط بهم ما كانوا به يستهزءون.

و قال عزّ من قائل: (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى

ص:653


1- الجاثية: 33.

حِينٍ ). (1)أي ظهر لهم بعد ما رأوا الآيات الدالّة على براءة يوسف أن يسجنوه إلى حين ينقطع فيه كلام الناس.

فالبداء بهذا المعنى من خصائص من كان جاهلاً بعواقب الأُمور ثمّ يبدو له ما خفي عليه، و لأجل ذلك لم يُنسَب البداءُ في القرآن إلى اللّه سبحانه، بل إلى غيره، لأنّه استعمل في الكتاب العزيز بالمعنى الحقيقي، و يستحيل أن يوصف به العالم بعواقب الأُمور.

2. إحاطة علمه سبحانه بعامّة الأشياء

اتّفق الإلهيون إلاّ الشاذّ منهم على أنّه سبحانه عالم بما وقع و ما يقع قبل وقوعه، و هو بقيوميته و إحاطته بالأشياء لا يتصوّر في حقّه الجهل أو الظهور بعد الخفاء، و أظهر آية تدلّ على ذلك قوله سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ).(2)

ثمّ إنّ البحث في البداء يقع في مقامين:

مقام الثبوت، و مقام الإثبات. و إليك الكلام في المقام الأوّل:

3. البداء في مقام الثبوت

اتّفق الإلهيون على أنّ للإنسان أن يغيّر ما قُدِّر له، و لم يخالف في ذلك إلاّ اليهود حيث ذهبوا إلى استحالة تعلّق مشيئة اللّه بغير ما جرى به قلم القضاء و القدر، و قد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم» يَدُ اللّه مَغْلُولة «قال سبحانه حاكياً

ص:654


1- يوسف: 35.
2- الحديد: 22.

عنهم: (وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً )(1)، إنّ كثيراً من المفسّرين و إن خصصوا مضمون الآية بالعطاء و السعة في الرزق، و لكنّ أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (فسّروا قولهم» يَدُ اللّه مَغْلُولة « بالفراغ عن الأمر.

روى هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في تفسير الآية أنّه قال:» كانوا يقولون قد فرغ من الأمر «(2)فالمعروف عن اليهود انّهم يقولون: انّه سبحانه قد فرغ من الأمر لا يبدل و لا يغير ما قُدِّر فلا يزاد في العمر و لا ينقص.

فاستنتجوا من هذا الأصل امتناع نسخ الأحكام أوّلاً، و نسخ التكوين ثانياً.

أمّا نسخ الأحكام فقد مرّ جوازه و وقوعه.

و أمّا نسخ التكوين فاللّه سبحانه يرد على هذه العقيدة من أنّ التقدير الأوّل لا يغيّر و لا يبدّل في ضمن آيات، و يقول سبحانه:

(اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ... يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ).(3)

(وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ).(4)

فاللّه سبحانه كما هو المقدّر للمصير الأوّل، هو المقدّر للمصير الثاني أيضاً

ص:655


1- المائدة: 64.
2- تفسير البرهان: 1/486، الحديث 3.
3- فاطر: 1.
4- فاطر: 11.

فهو في كلّ يوم في شأن، و انّه جلّ و علا يبدأ و يعيد، يزيد في الرزق و العمر و ينقص، كلّ ذلك حسب مشيئته الحكمية و المصالح الكامنة، فكما هو عالم بالتقدير الأوّل عالم في نفس الوقت بأنّه سوف يزول و يخلفه تقدير آخر لكن لا بمعنى وجود الفوضى في التقدير، بل بتبعية كلّ تقدير لملاكه و سببه.

ثمّ إنّ الآيات الدالّة على أنّ التقدير يغيّر بصالح الأعمال و صالحها على قسمين:

تارة يؤكد على الضابطة، و أُخرى يعيّن الموضوع الذي به يتغيّر ما هو المقدّر.

أمّا القسم الأوّل كقوله سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ).(1)

و قوله: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ).(2)

و قوله سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ).(3)

و قوله سبحانه: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ).(4)

إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة على انّ العمل يغيّر ما قُدِّر، سواء أ كان صالحاً أم طالحاً.

و أمّا القسم الثاني ما يؤكّد على أنّ عملاً خاصاً مثلاً يغيّر المصير، و هذا كالاستغفار و التسبيح و الكفران بنعمة اللّه.

ص:656


1- الأنفال: 53.
2- الرعد: 11.
3- الأعراف: 56.
4- الرعد: 39.

أمّا الاستغفار، فكقوله سبحانه: (اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ).(1)

و أمّا التسبيح، فكقوله سبحانه: (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ).(2)

و أمّا الكفران، فقال سبحانه: (وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ).(3)

هذا كلّه في القرآن الكريم، و أمّا الروايات فقد روى الفريقان أثر الدعاء و الصدقة في تغيير المصير، و رفع البلاء.

أخرج الحاكم عن ابن عباس) رض (قال: لا ينفع الحذر من القدر و لكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.(4)

روى الكليني عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سمعته يقول:» إنّ الدعاء يرد القضاء، ينقضه كما ينقض السلك و قد أبرم إبراماً «.(5)

و أمّا الصدقة فقد روى السيوطي في» الدر المنثور «عن علي، عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (عن هذه الآية (يَمْحُوا اللّهُ ) فقال:» لأقرّنّ عينيك بتفسيرها، و لأقرّنّ عين

ص:657


1- نوح: 1210.
2- الصافات: 143 146.
3- النحل: 112.
4- الدر المنثور: 4/661.
5- الكافي: 2/169، باب الدعاء يرد البلاء و القضاء، الحديث 1.

أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها و برّ الوالدين و اصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة، و يزيد في العمر، و يقي مصارع السوء «.(1)

و قد كان الصحابة يدعون اللّه سبحانه بتغيير مصيرهم، هذا هو الطبري ينقل في تفسير الآية بأنّ عمر بن الخطاب يقول و هو يطوف بالكعبة: اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، و إن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني و أثبتني في أهل السعادة، فإنّك تمحو ما تشاء و تثبت و عندك أُمّ الكتاب.

و روى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود و ابن عباس و شقيق و أبي وائل.(2)

هاتان الآيتان تدلاّن بوضوح على أنّ الأمر لم يُفرغ عنه، و انّ اللّه سبحانه يمحو ما يشاء ممّا قدّر، كلّ ذلك معلوم له سبحانه من أوّل الأمر.

4. البداء في الإثبات
اشارة

البداء في الإثبات عبارة عن إخبار النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أو الولي) عليه السلام (بوقوع شيء لأجل الاطّلاع على المقتضى له، و لكنّه لا يقع لأجل وجود المانع من تأثير المقتضي.

و بعبارة أُخرى: انّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (يطّلع على وقوع الشيء و لكن لا يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم أمر هو واقع، فلذلك يخبر عن الشيء و لا يتحقّق فيقال: بدا للّه في هذه الواقعة.

فيقع الكلام في أُمور:

الأوّل: هل يمكن أن يخبر النبيّ أو الإمام عن وقوع الشيء أو عدم وقوعه

ص:658


1- الدر المنثور: 4/661.
2- تفسير الطبري: 11413/112.

و تكون النتيجة على العكس، و مع ذلك لا يلزم كذب النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (؟ الثاني: هل ورد في الذكر الحكيم أو السنّة الشريفة نماذج من هذا النوع من الإخبار؟ الثالث: كيف يمكن نسبة البداء إلى اللّه سبحانه، و قد تقدّم من أنّ مورد استعماله هو الجهل بعواقب الأُمور؟ أمّا الأمر الأوّل: فإمكانه بمكان من الوضوح، مثلاً إذا اطّلع النبي على المقتضي دون شرطه أو مانعه، فيخبر عن وقوعه نظراً إلى المقتضي، و لا يتحقّق نظراً إلى عدم وجود شرطه أو وجود مانعه.

قال المحقّق الخراساني:

و أمّا البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى فهو ممّا دلّ عليه الروايات المتواترات كما لا يخفى، و مجمله انّ اللّه تبارك و تعالى إذا تعلّقت مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره لهم، أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به مع علمه بأنّه يمحوه أو مع عدم علمه به لما أُشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه و إنّما يخبر به لأنّه حال الوحي و الإلهام لارتقاء نفسه الزكية و اتصاله بعالم لوح المحو و الإثبات اطّلع على ثبوته و لم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم الموانع، قال اللّه تبارك و تعالى: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ ) الآية.(1)

هذا كلّه إذا اتّصل النبي بصحيفة المحو و الإثبات; و أمّا إذا اتّصل بصحيفة اللوح المحفوظ الذي يتكشف فيه الواقعيات على ما هي عليها، فيقف

ص:659


1- كفاية الأُصول: 2741/273.

على المقتضي و شرطه و مانعه، و يميّز ما هو الواقع عن غيره.

و أمّا الثاني: فنذكر فيه بعض ما ورد في الذكر الحكيم:

1. أخبر يونس قومه بنزول العذاب، ثمّ ترك القوم، و كان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضى العذاب الذي اطّلع عليه، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع، أعني: التوبة و التضرع، قال سبحانه: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ).(1)

أخرج عبد الرزاق، عن طاووس في قوله: (وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ).(2)

قال: قيل ليونس) عليه السلام (: إنّ قومك يأتيهم العذاب يوم كذا و كذا... فلمّا كان يومئذ خرج يونس) عليه السلام (ففقده قومه، فخرجوا بالصغير و الكبير و الدواب و كلّ شيء، ثمّ عزلوا الوالدة عن ولدها، و الشاة عن ولدها، و الناقة و البقرة عن ولدها، فسمعت لهم عجيجاً، فأتاهم العذاب حتى نظروا إليه ثمّ صرف عنهم، فلمّا لم يصبهم العذاب ذهب يونس) عليه السلام (مغاضباً، فركب في العير في سفينة مع أناس... الخ.(3)

2. ذكر المفسّرون انّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة، فصامها موسى) عليه السلام (و طواها، فلمّا تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره اللّه تعالى أن يكمل بعشر، يقول سبحانه:

(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

ص:660


1- يونس: 98.
2- الصافات: 139 140.
3- الدر المنثور: 7/121.

وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ).(1)

إنّه سبحانه لمّا واعد موسى ثلاثين ليلة، كلّم بما وعده اللّه سبحانه قومه الذين صحبوه إلى الميقات، فلمّا طوى موسى) عليه السلام (ثلاثين ليلة أُمر بإكمال أربعين ليلة.

أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية: أنّ موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه و أخلف هارون فيكم، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه.(2)

فكان هناك إخباران:

الأوّل: بانّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة، ثمّ نسخه خبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة، و كان موسى صادقاً في كلا الإخبارين، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات يقتضي إقامة ثلاثين ليلة، لو لا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.

هذه جملة الحوادث التي تنبّأ أنبياء اللّه بوقوعها في الذكر الحكيم إلاّ أنّها لم تقع، و هذا ممّا يعبر عنه بانّه بدا للّه فيها.

و بذلك يعلم أنّ عدم وقوع ما أخبر بوقوعه لا يكون دليلاً على كذب المخبر، لأنّ القرائن دلّت على صدق ما أخبر به و انّه كان مقدراً كما هو الحال في حادثة يونس، حيث إنّ العذاب أقبل و لكنّهم استقبلوه بالالتجاء إلى اللّه و الدعاء و التضرع و البكاء بحالة يرثى لهم، فصرف عنهم العذاب.

ص:661


1- الأعراف: 142.
2- الدر المنثور: 3/335.
البداء في الأحاديث

و يؤيد ما ذكرنا ما ورد في أحاديث كثيرة نذكر منها حديثين:

1. مرّ يهوديّ بالنبي) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال: السام عليك، فقال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم ( له:» و عليك «، فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت، فقال: الموت عليك؟ فقال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم ( :» و كذلك رددت «، ثمّ قال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لأصحابه:» إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله «. قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (» ضعه «، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» يا يهوديّ ما عملت اليوم؟ «قال: ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا حملته فجئت به، و كان معي كعكتان فأكلت واحدة و تصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» بها دفع اللّه عنه «، و قال:» إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان «.(1)

2. انّ المسيح مرّ بقوم مجلبين، فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه، فقال: يُجلَبُون اليوم و يَبكون غداً، فقال قائل منهم: و لم يا رسول اللّه؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه، فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شيء، فقالوا: يا روح اللّه إنّ التي اخبرتَنا أمس انّها ميتة لم تمت، فدخل المسيح دارها فقال: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: لم أصنع شيئاً إلاّ و كنت أصنعه فيما مضى، انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح: تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة،

ص:662


1- بحار الأنوار: 4/121.

عاضّ على ذنبه، فقال) عليه السلام (: بما صنعت، صرف عنك هذا.(1)

و أمّا الأمر الثالث، فقد تقدّم انّ البداء هو ظهور ما خفي، و على ضوء ذلك كيف يصحّ نسبة البداء إلى اللّه سبحانه، مع أنّ القائلين بالبداء يتكرر على ألسنتهم بدا للّه؟! و الإجابة على هذا السؤال واضحة، و هي انّ وصْفَه سبحانه بهذا الوصف من باب المشاكلة، و هو باب واسع في كلام العرب، فانّه سبحانه في مجالات خاصة يعبّر عن فعل نفسه بما يعبر به الناس عن فعل أنفسهم، و ما ذلك إلاّ لأجل المشاكلة الظاهرية، و قد صرّح بها القرآن الكريم في مواطن عديدة نذكر منها:

يقول سبحانه: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ).(2)

و يقول تعالى: (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ).(3)

و قال عزّ من قائل: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ).(4)

و يقول تعالى: (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ).(5)

إذ لا شكّ انّه سبحانه لا يَخدع و لا يَمْكر و لا ينسى، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف، و لكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة، و الجميع كناية عن إبطال خدعهم و مكرهم و حرمانهم من مغفرة اللّه سبحانه و بالتالي عن جنته و نعيمها.

ص:663


1- بحار الأنوار: 4/94.
2- النساء: 142.
3- آل عمران: 54.
4- الأنفال: 30.
5- الأعراف: 51.
ورود» بدا للّه «في كلام النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (

كما نرى أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (يستعمل كلمة البداء و ينسبها إلى اللّه سبحانه، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة:

إنّه سمع من رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص و أقرع و أعمى » بدا للّه «أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، و جلد حسن، قد قذّرني الناس، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً و جلداً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر هو شك في ذلك أنّ الأبرص و الأقرع، قال أحدهما: الإبل، و قال الآخر: البقر فأُعطي ناقة عُشراء، فقال: يبارك اللّه لك فيها.

و أتى الأقرع، فقال: أي شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن و يذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال:

فمسحه، فذهب، و أُعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملاً، و قال:

يبارك لك فيها.

و أتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد اللّه إليّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان و ولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، و لهذا واد من بقر، و لهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته و هيئته، فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري، فلابلاغ اليوم إلاّ باللّه ثمّ بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن و الجلد الحسن و المال، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري; فقال له: إنّ

ص:664

الحقوق كثيرة. فقال له: كأنّي أعرفك أ لم تكن يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك اللّه؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

و أتى الأقرع في صورته و هيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فردّ عليه مثلما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

و أتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين و ابن سبيل و تقطّعت بي الحبال في سفري، فلابلاغ اليوم إلاّ باللّه، ثمّ بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاة أتبلّغ بها في سفري; فقال: قد كنت أعمى فرد اللّه بصري، و فقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فو اللّه لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه، فقال: أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك و سخط على صاحبيك.(1)

*** هذا هو كلام الرسول الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (و قد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه، و من الطبيعي انّ النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه و العياذ باللّه الجهل على اللّه سبحانه، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه و بين المعنى اللغوي.

و على ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبر عن فعله بما نعبر به عن أفعالنا، إذا كان التعبير مقروناً بالقرينة الدالة على المراد، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء، فبما انّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة، و إلاّ فهو في الحقيقة بداء من اللّه للناس، و لكنّه يتوسع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ، و يقال بدا للّه تمشياً مع ما في حسبان الناس و أذهانهم و قياس أمره سبحانه بأمرهم، و لا

ص:665


1- البخاري: الصحيح 4/172، كتاب الأنبياء، باب حديث أبرص و أعمى و أقرع في بني إسرائيل.

غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز و المشاكلة.

و بذلك يعلم أنّ النزاع في البداء أمر لفظي لا معنوي، و أنّ الفريقين متّفقان على البداء ثبوتاً و إثباتاً، و الذي صار سبباً لإنكار البداء و طعن الشيعة به هو تصور انّ المراد منه هو الظهور بعد الخفاء، و قد عرفت أنّ المراد هو الإظهار بعد الإخفاء و انّ إطلاق البداء في المقام من باب المشاكلة.

تمّ الكلام في مبحث العام و الخاص و النسخ و البداء و يليه البحث في المطلق و المقيد و المجمل و المبين

ص:666

المقصد الخامس في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في ألفاظ المطلق الفصل الثاني: في تقييد المطلق لا يستلزم المجازية الفصل الثالث: في بيان مقدمات الحكمة الفصل الرابع: في حمل المطلق على المقيّد الفصل الخامس: في المجمل و المتشابه و تأويله

ص:667

ص:668

المقصد الخامس في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن

اشارة

عرّف المطلق بتعاريف مختلفة نذكر منها ما يلي:

1. المطلق ما دلّ على شائع في جنسه، و المقيّد بخلافه.(1)

2. المطلق ما دلّ على حصّة محتملة الصدق مندرجة تحت جنس تلك الحصة، و هو المفهوم الكلّي الذي يصدق على هذه الحصة و غيرها من الحصص.(2)

3. المطلق هو اللفظ الدالّ على الماهية من حيث هي لا بقيد وحدة و لا تعدد، و المقيّد بخلافه.(3)

و لنقتصر على هذه التعاريف الثلاثة، و لنأخذ كلّ واحد بالنقض و الإبرام.

أمّا التعريف الأوّل فالمقصود من الموصول في قوله:» ما دلّ «هو اللفظ، كما أنّ المقصود من قوله:

» على شائع «هو الفرد الشائع، و على هذا ينطبق المطلق على النكرة، فإذا قلت: اعتق رقبة، يدلّ على لزوم عتق فرد من أفراد الرقبة التي لها أفراد

ص:669


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 284.
2- القوانين للقمي: 1/321.
3- تمهيد القواعد لزين الدين العاملي: 1/222.

متعددة، فعدم تعيّن الفرد من بين الأفراد هو المقصود من قوله شائع في جنسه.

و قد تبعه المحقّق القمي في تعريفه الثاني فانّه نفس التعريف الأوّل غير أنّه عبّر عن الفرد الشائع، بالحصة، محتملة الصدق على حصص كثيرة.

و التعبير ب» الحصص «مكان» الأفراد «يناسب نظرية الرجل الهمداني في تفسير الكلّي الطبيعي، فانّه كان يعتقد أنّ الإنسان الطبيعي واحد شخصي و الأفراد الموجودة حصص منه، فكأنّ لكلّ فرد جزءاً من الإنسانية لا كلّه.

و قد تبيّن بطلان تلك العقيدة، و أنّ الطبيعي واحد بالنوع، و أنّ المصاديق هي الأفراد لا الحصص، فكلّ فرد نفس الإنسان لا جزءه، و كلّ مصداق إنسان كامل ليس بإنسان ناقص.

و لما كان التعريف الأوّل غير جامع، لخروج اسم الجنس عن تحته لما سيتبين انّ أسماء الأجناس عند القوم وضعت للماهية من حيث هي هي غير المقيّدة بشيء حتّى الشمول و الشيوع، عدل الشهيد الثاني إلى التعريف الثالث حتّى يدخل أسماء الأجناس في تعريف المطلق مثل قوله: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) حيث إنّ البيع وضع للماهية المعراة عن كلّ قيد.

و إن شئت قلت: الماهية من حيث هي هي، فليس هناك ما يدلّ على الفرد حتّى تستتبعه الدلالة على الشيوع.

يلاحظ عليه: أنّه بتعريفه هذا و إن أدخل اسم الجنس في تعريف المطلق لكنّه أخرج النكرة عن تحت المطلق مع أنّها من مصاديقه، كما إذا قال: أكرم رجلاً أو طالباً إلى غير ذلك، فانّ المفهوم من النكرة غير المفهوم من اسم الجنس فالتنوين آية الوحدة.

ص:670

جولة حول التعاريف

اشارة

1. انّ هذه التعاريف تعرب عن أنّ الإطلاق و التقييد من أوصاف الألفاظ، سواء أتعلق بها حكم مولوي أم لا؟ فهاهنا لفظ مطلق و ها هنا لفظ مقيّد نظير البحث في العموم و الخصوص، فهناك لفظ دالّ على العموم و لفظ دالّ على الخصوص.

و لكن هذا النمط من البحث يناسب الأبحاث الأدبية و اللغوية التي لا همّ لأصحابها إلاّ التعرف على معاني الألفاظ.

و أمّا الباحث الأُصولي فالتعرف على معاني الألفاظ أمر خارج عن غرضه و لو بحث فيها فإنّما هو لغاية كونها مقدّمة لاستنباط الحكم الشرعي.

فإذا كانت الغاية من هذه البحوث هو استنباط الحكم الشرعي، فيجب أن يفسر المطلق و المقيد بنحو يناسب الغاية المتوخاة لا على النحو الذي مرّ فانّه يناسب غرض الأديب و اللغوي لا غرض الأُصولي الذي هو بصدد تمهيد مقدّمات للفقه، و سيوافيك التعريف الصحيح.

2. انّ التعريف الأوّل الذي اعتمد عليه القدماء يركز على وجود الشيوع في المطلق، فعندئذ نسأل عن كيفية دلالة المطلق على الشيوع.

فإن قيل: بأنّ المطلق يدلّ على الشيوع بالدلالة المطابقية أو التضمنية فيرد عليه خروج أسماء الأجناس لما عرفت من أنّها عند القوم موضوعة للماهية المعراة من كلّ شيء، غير الملحوظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ) عدم لحاظ شيء (.

كما تخرج الأعلام إذ ليس فيها الشيوع مع أنّها قد تقع مصب الإطلاق كما في

ص:671

قوله سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ )(1)، فإذا شكّ في أنّ الموضوع للطواف هل هو البيت بما هو هو، أو بشرط أن يكون مكشوفاً أو مستوراً، فيتمسّك بإطلاق الآية و يدفع باحتمال قيدية غيره.

اللّهم إلاّ أن يقال: انّ الشيوع في الاعلام أحوالي و ليس بأفرادي، و لكنّه خلاف المتبادر من التعريف.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اعتذر عن الإشكالات الواردة على هذه التعاريف بأنّها من قبيل شرح الاسم و هو ممّا يجوز أن لا يكون بمطرد و لا بمنعكس، و لكنّه كلام عار عن التحقيق فانّ نفس النقض و الإبرام دليل واضح على أنّ المعرف أو المعرفين كانوا بصدد التعريف الحقيقي.

المختار في تعريف المطلق

قد علمت أنّ الغاية من الخوض في هذه المباحث هو تمهيد مقدّمات لاستنباط الحكم الشرعي و ليس التعرف على مفاد لفظ بما هو هو غاية للأُصول.

فإذا كانت هذه هي الغاية فالأولى أن يقال:

لو كان اللفظ في مقام الموضوعية للحكم مرسلاً عن القيد فهو مطلق و إن كان مزدوجاً مع شيء آخر فهو مقيد.

و بعبارة أُخرى: إذا كان ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع فهو مطلق أي مرسل عن القيد، و أمّا إذا كان جزء الموضوع و كان معه جزء آخر فهو مقيد بالقيد.

و بذلك يعلم أنّ المطلق و المقيد أطلقا بنفس المعنى اللغوي حيث إنّ

ص:672


1- الحج: 29.

المطلق بمعنى المرسل، يقال: أطلق سراح فلان كما يقال قُيّد رِجْل فلان بقيد.

و على هذا التعريف تترتّب نتائج باهرة في علم الأُصول.

الأُولى: انّ المقوم للإطلاق هو كون الشيء تمام الموضوع من غير فرق بين كونه اسم جنس أو نكرة أو علماً، فالشيوع و عدم الشيوع بالنسبة إلى الإطلاق كالحجر في جنب الإنسان، بل يكفي كون الشيء قابلاً للتقييد، فالقابل للتقييد إذا جرد عن القيد فهو مطلق.

الثانية: انّ الإطلاق خلافاً للتعاريف السابقة ليس من المداليل اللفظية كما هو الحال في التعاريف السابقة، بل هو من المداليل العقلية حيث إنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان الموضوع و كان حكيماً غير ناقض لغرضه فأخذ لفظاً موضوعاً لحكمه و جرده عن القيد فالعقل يحكم بأنّه تمام الموضوع، و إلاّ لما ترك المتكلّم الحكيم القيد اللازم في كلامه.

و أمّا جعل مبحث الإطلاق و التقييد من المباحث اللفظية فلأجل انّ مصب الإطلاق هو اللفظ و إلاّ فاستنباط الإطلاق بمعنى كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع إنّما هو بالعقل.

الثالثة: انّ مصب الإطلاق أعمّ من أن يكون اسم جنس أو نكرة أو معرّفاً باللام حيث ينعقد الإطلاق في الأعلام الشخصية، كما إذا قال: أكرم زيداً، و احتملنا كون الموضوع هو زيد متقيداً بالتعمّم فيتمسك بالإطلاق و يدفع كون التعمّم مؤثراً في الموضوع، كما عرفت نظيره في قوله سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ).

الرابعة: انّ التقابل بين الإطلاق و التقييد، شبيه تقابل العدم

ص:673

و الملكة حيث إنّ المطلق فاقد لما يكون المقيد واجداً له و إنّما قلنا شبه التقابل، لأنّ تقابل العدم و الملكة يطلق على المورد الذي من شأنه أن يكون فيه الملكة كالعمى بالنسبة إلى البصر و ليس كلّ مطلق من شأنه أن يكون مقيداً، بل يكفي كونه قابلاً للتقييد.

الخامسة: انّ الإطلاق و التقييد أمران إضافيان، فالدليل الواحد يمكن أن يكون مطلقاً من جهة و مقيداً من جهة أُخرى. كما إذا قال: أكرم إنساناً في المسجد فهو مطلق من حيث الموضوع و مقيد من حيث ظرف الإكرام.

السادسة: انّ القوم لمّا فسّروا المطلق بما دلّ على شائع في جنسه بحثوا في ألفاظ يترقب فيها الدلالة على الشيوع كاسم الجنس و علمه و الفرد المحلى باللام.

و أمّا على المختار بأنّ هذا النمط من البحث شأن الأديب و ليس من شأن الأُصولي، فالبحث في معاني هذه الأصناف من الألفاظ ساقط لما عرفت أنّ مقوم الإطلاق تمامية الشيء للموضوع و عدمها، سواء أ كان اسم جنس أو علم جنس أو محلّى باللام، فاشتراط المطلق بكونه اسم جنس أو نظيريه كالحجر في جنب الإنسان و ليس لها أي دخل في تكوين الإطلاق.

فنحن بالنسبة إلى هذه البحوث التي شغلت بال الأُصوليين في المقام لفي فسحة، غير أنّا نتبع القوم في هذه البحوث استطراداً بل استجراراً. و تمام الكلام في ضمن فصول:

ص:674

الفصل الأوّل في ألفاظ المطلق

1. اسم الجنس

اشارة

قد عدّ من ألفاظ المطلق اسم الجنس.

قال المحقّق الخراساني: إنّ أسماء الأجناس من جواهرها و أعراضها و عرضياتها(1) موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة بلا شرط ملحوظ معها أصلاً حتّى لحاظ انّها كذلك.

و حاصل كلام المحقّق الخراساني: أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة المبهمة من كلّ جهة تفقد كلّ شيء إلاّ ذاتها و ذاتياتها و لا يلاحظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ، أي عدم لحاظ شيء معه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاض الكلام في البرهنة على ذلك، و قال ما هذا حاصله:

إنّ الموضوع له في أسماء الأجناس هو نفس الماهية بما هي هي.

لا بشرط الإرسال و العموم البدلي حتّى يكون بشرط شيء.

ص:675


1- يطلق العرض على مثل البياض و العرضي على مثل الأبيض، غير أنّ المحقّق الخراساني أطلق الأعراض و أراد به الأعراض المتأصلة و أطلق العرضيات و أراد به الأُمور الاعتبارية حسب ما فسّره المحقّق المحشي.

و لا بشرط» لحاظ عدم لحاظ شيء معه «حتّى يكون اللابشرط القسمي.

و ذلك لأنّه لو كان من قبيل القسم الأوّل أي مأخوذاً فيه الشمول لما صحّ حمله على فرد خارجي كقولنا زيد إنسان.

و لو كان من قبيل القسم الثاني أي مأخوذاً فيها لحاظ» عدم لحاظ شيء معه «فلا يحمل أيضاً على الخارج، لأنّ جزء المعنى) لحاظ عدم اللحاظ (أمر ذهني لا ينطبق على الثاني.

فتلخّص من كلامه الإشارة إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: الماهية اللابشرط المقسمي و هي التي وضع اللفظ بازائها.

الثاني: الماهية بشرط شيء و هي الماهية بشرط الشمول و الشيوع.

الثالث: الماهية اللابشرط القسمي و هي الماهية الملحوظة بعدم اللحاظ.

و لا يخفى إجمال ما ذكره، إذ كان عليه أوّلاً ان يشرح تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة، أعني: اللابشرط و بشرط لا و بشرط شيء، ثمّ يحكم على أسماء الأجناس بأنّها موضوعة لمقسم هذه الأقسام لا لواحد منها، و لأجل إيقاف القارئ على حقيقة التقسيم و إن كانت خارجة عن علم الأُصول نذكر تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة و نبيّن الفرق بين اللابشرط المقسمي و اللابشرط القسمي.

فنقول: قسّم أهل المعقول الماهية إلى أقسام ثلاثة:

أ. مطلقة و هي اللابشرط.

ب. مخلوطة و هي البشرط شيء.

ج. مجردة و هي البشرطلا.

ص:676

قال الحكيم السبزواري:(1)

مطلقة، مخلوطة، مجردة عند اعتبارات عليها موردة فالحكيم السبزواري بقوله:» عند اعتبارات «يشير إلى أنّ التقسيم ليس للماهية بما هي هي بل للماهية الملحوظة، و ذلك لأنّ الماهية ما لم تقع في أُفق اللحاظ و لم تر نوراً بالوجود الخارجي أو الذهني يساوق العدم فهي كالمعدوم المطلق لا يخبر عنها فلذلك قال الشيخ الرئيس: ما لا وجود له لا ماهية له، فأي حكم على الماهية فرع تنوّرها بنور الوجود و لو وجوداً ذهنياً غاية الأمر يكون الوجود الذهني مغفولاً عنه، و الإنسان يحكم عليها بواسطة تنوّرها بالوجود.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا مقسماً باسم اللابشرط المقسمي و أقساماً ثلاثة و إليك بيانها.

اللابشرط المقسمي
اشارة

و هي عبارة عن لحاظ الماهية بذاتها و ذاتياتها مع قطع النظر عن كلّ شيء معها حتّى الوجود الذهني الذي به ظهرت، و الماهية بهذا المعنى ليست إلاّ هي لا موجودة و لا معدومة بمعنى لا انّ الوجود جزؤها و لا العدم. و الماهية بهذا المعنى مقسم للأقسام الثلاثة الآتية:

1. الماهية البشرط شيء

فإذا لوحظت تلك الماهية بهذا المعنى السابق مقيسة إلى الخارج مقترنة بشيء من عوارضها كالإنسان بقيد الوجود، و الرقبة بقيد الإيمان، و العبد بشرط الكتابة، فهذا هو المسمّى بالماهية بشرط شيء.

ص:677


1- شرح المنظومة: 90.
2. الماهية البشرطلا

فإذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج مشروطة بعدم مقارن خاص كالإنسان بقيد عدم الوجود و الرقبة بقيد عدم الإيمان و العبد بقيد عدم الكتابة فالماهية بشرط لا.

3. الماهية اللابشرط القسمي

و أمّا إذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج بلحاظ عدم شيء معها على نحو يكون ذلك اللحاظ) عدم لحاظ شيء (قيداً له فهذه هي الماهية على نحو اللابشرط القسمي. حسب ما اختاره المحقّق الخراساني، و نحن نمشي في تفسير هذه المصطلحات الثلاثة في المقام على ضوء» الكفاية «.

فتلخص انّ هناك» لا بشرطاً مقسمياً «و له أقسام ثلاثة:

بشرط شيء، بشرط لا، و لا بشرط القسمي.

و الفرق بين اللابشرط المقسمي و القسمي واضح، فانّ الأوّل عار عن كلّ قيد حتّى لحاظها في الذهن و ليست إلاّ هي هي، و لكن القسمي هي الماهية بلحاظ عدم قيد معه فيصير لحاظ عدم القيد قيداً.

و إن أردت التشبيه فقس الفرق بينهما بالفرق بين مطلق المفعول و المفعول المطلق، فالإطلاق في القسم الأوّل ليس بقيد بل رمز عدم القيد، و لذلك يشمل الأقسام الخمسة للمفعول، بخلاف الثاني فانّ الإطلاق هناك قيد، أي تعرّيه عن كلّ قيد، قيد كقولك ضربت ضرباً، فقوله ضرباً مفعول مطلق ملحوظ بلحاظ عدم كونه مقترناً بالباء أو بمع أو بفي أو باللام أو غير ذلك.

فإن قلت: إذا كان اللابشرط القسمي هو الماهية المشروطة بلحاظ عدم

ص:678

لحاظ شيء، فهو يكون من أقسام الماهية بشرط شيء و الشرط هو لحاظ عدم اللحاظ.

قلت: إنّ هذا التقسيم الثلاثي لما كان باعتبار إضافة الماهية إلى خارجها كالوجود و الإيمان و الكتابة و غير ذلك، يكون المراد من الشيء هو الأمر الخارجي، و لا يعمّ القيد الذهني كاعتبار» عدم لحاظ شيء معها «قيداً، فالماهية اللاّبشرط عارية عن القيود الخارجية و إن كانت تحمل قيداً ذهنياً، كالإطلاق، و لحاظ » عدم لحاظ شيء معه «.

فإن قلت: إذا كان معنى الماهية البشرطلا، هو أخذ» بشرط لا «، قيداً يكون هذا القسم أيضاً داخلاً في الماهية البشرط شيء، إذ الشيء أعمّ من القيد الذهني.

قلت: الجواب عن هذا الاعتراض نفس الجواب عن الاعتراض السابق، لأنّ المراد من القيود هو القيود الخارجية بشهادة انّ هذا التقسيم بلحاظ إضافة الماهية إلى خارجها التكويني، فالشيء في هذا القسم هو القيد الطارئ الخارجي فلا يعمّ القيد الذهني» كونها بشرط لا «.

و بالجملة لحاظ عدم اللحاظ أو لحاظ عدم الشيء غير داخلين في لفظ الشيء الوارد في» الماهية بشرط شيء «.

تفسير السيّد الأُستاذ لتقسيم الماهية
اشارة

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (فسّر تقسيم الماهيات الملحوظة إلى الأقسام الثلاثة بوجه آخر، و أفاد أنّ التقسيم ليس بحسب الماهية في مقام ذاتها، بل التقسيم باعتبار مرتبة وجودها.

ص:679

و إن شئت قلت: الماهية الموجودة إذا قيست إلى أيّ شيء فإمّا أن يكون الشيء لازم الالتحاق بها كالتحيّز بالنسبة إلى الجسمية، و الزوجية بالنسبة إلى الأربعة; و إمّا أن يكون ممتنع الالتحاق، كالتجرّد عن المكان بالنسبة إليها; أو يكون ممكن الالتحاق، كالبياض بالنسبة إلى الجسم. فالأوّل هي الماهية بشرط شيء، و الثاني هي الماهية بشرط لا، و الثالثة هي الماهية لا بشرط.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره راجع إلى تقسيم عوارض الوجود و أنّها لا تخلو عن حالات ثلاث، من ممكن الالتحاق، إلى ممتنعه و لازمه، و البحث في تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة.

و ثانياً: أنّ البحث في تقسيم نفس الماهية أو الملحوظة لا في الماهية الموجودة.

ثمّ إنّ هذا التقسيم ليس تلاعباً بالألفاظ كما حسبه، بل هذا التقسيم لأجل إيجاد الفرق بين النوع و الجنس و الفصل و المادة و الصورة و إلاّ يلزم أن يكون جميع المباحث الدارجة في باب الماهيات تلاعباً بها.

فانّ الحيوان على فرض اللابشرط جنس، و على فرض بشرط لا مادة، و على فرض بشرط شيء نوع و المفهوم منه في كلّ موطن، يغاير المفهوم منه في موطن آخر، كما أنّ الناطق على فرض» اللابشرط « فصل، و على فرض» بشرط لا «صورة، و أمّا ما هو المراد من» اللابشرط «في الجنس و الفصل، و من » البشرطلا «في المادة و الصورة فموكول بيانه إلى محله.(1)

إذا عرفت ذلك ينبغي الكلام في موضعين:

ص:680


1- لاحظ ما حرّرناه من محاضرات شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في هذا المضمار في مبحث المشتق في الجزء الأوّل، ص 248 252.
الأوّل: ما هو الموضوع له لأسماء الأجناس؟

ذهب المشهور إلى أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المطلقة على وجه يكون الإطلاق قيداً للمعنى و رتّبوا على ذلك أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية، فإذا قلت: أعتق رقبة مؤمنة فالقيد أعني» مؤمنة «تضيق دائرة المطلق و يخصّه بالمقيّد، و على هذا فالمطلق موضوع للا بشرط القسمي.

هذا هو المعروف قبل السيد سلطان العلماء) المتوفّى سنة 1064 ه (.

و لكنّه) قدس سره (أوّل من ردّ هذه النظرية و قال: بأنّ اسم الجنس موضوع للماهية من حيث هي هي دون أن يكون الإطلاق قيداً للمعنى فالمطلق عنده موضوع للا بشرط المقسمي، و قد أشار إلى ذلك في حاشيته على المعالم و نقله الشيخ في مطارحه بما هذا لفظه:

إنّه يمكن العمل بالمطلق و المقيد من دون إخراج عن حقيقته بأن يعمل بالمقيد و يبقى المطلق على إطلاقه، فلا يجب ارتكاب مجاز حتّى يجعل ذلك وظيفة المطلق، فانّ مدلول المطلق» ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان «حتّى ينافي مدلول المقيد، بل هو أعمّ منه و مما يصلح للتقييد، بل المقيد في الواقع. أ لا ترى أنّه معروض للقيد كقولنا: رقبة مؤمنة، و إلاّ لزم حصول المقيد بدون المطلق مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت فظهر انّ مقتضى المطلق ليس ذلك و إلاّ لم يتخلّف فيه.(1)

و رتّب على ذلك أمرين:

1. تقييد المطلق لا يوجب المجازيّة.

ص:681


1- لاحظ مطارح الأنظار: 221; و لاحظ معالم الدين: 155، قسم التعليق طبعة عبد الرحيم.

2. انعقاد الإطلاق فرع تمامية مقدّمات الحكمة.

و قد أخذه المتأخرون بعد السلطان فقالوا بأنّ المطلق موضوع للاّبشرط المقسمي أي موضوع للماهية بما هي هي من دون أن يكون فيه قيد كالإطلاق، و ممن اختار هذا النظر المحقّق الخراساني فذهب إلى أنّ الوضع في أسماء الأجناس عام و الموضوع له عام و انّ الواضع لاحظ الماهية من حيث هي هي. و وضع اللفظ لها و قال ما هذا توضيحه: التي تفقد كلّ شيء إلاّ ذاته و ذاتياته فوضع اللفظ عليها و هي المعبر عنها باللابشرط المقسمي.

فإن قلت: إذا كان الموضوع هو الماهية الملحوظة بما هي هي التي ليست إلاّ هي، فيكون اللحاظ جزء المعنى و هو أمر ذهني، فيلزم عدم صحّة حمل الإنسان على أفراده.

قلت: إنّ اللحاظ ليس جزء المعنى الموضوع، بل هو عبارة عن نفس الماهية لكنّها بما انّها لا تقع في أُفق الذهن، ما لم يتنوّر بنور الوجود، فالواضع يتوسل باللحاظ، لأجل تصورها و إدخالها من أُفق التصوّر، ثمّ يضع اللفظ لنفس الملحوظ، لا بقيد اللحاظ.

و إن أردت التنزيل و التشبيه فلاحظ لازم الماهية، أعني: الزوجية بالنسبة إلى الأربعة، فانّ وجود الماهية في الخارج أو الذهن شرط لظهور الملازمة، لا لثبوتها فالزوجية أمر لا ينفك عن الأربعة في أي موطن من المواطن، لكن وجه اللزوم ليس دخيلاً في أصل الملازمة، بل دخيل في ظهورها و لو افترض انفكاك الأربعة عن الوجود مطلقاً، لكانت الزوجية معها.

و بذلك أبطلوا القول بأنّ الزوجية من قبيل لازم الوجودين لا من قبيل لازم الماهية، ببيان أنّها من قبيل لازم الماهية، غاية الأمر انّ ظهور الملازمة رهن تنوّر

ص:682

الماهية بالوجود لا بثبوتها.

و مثل المقام، فالموضوع هو ذات الماهية، لكن الطريق إلى تصورها عارية عن كلّ قيد، رهن لحاظها في الذهن على نحو يكون اللحاظ أمراً مغفولاً عنه، و غير المغفول، هو ذاتها من حيث هي هي.

الثاني: ما هو المراد من الكلّي الطبيعي؟

إنّ علماء المنطق قسّموا الكلّي إلى أقسام ثلاثة:

1. كلّي منطقي، و هو مفهوم لفظ» الكلّي «أي ما يصدق على كثيرين.

2. كلّي طبيعي، و هو مصداق الكلّي المنطقي كالإنسان.

3. كلّي عقلي و هو المجموع من الكلّي المنطقي و الطبيعي.

فعندئذ يقع السؤال في أنّ الكلّي الطبيعي هل هو نفس اللابشرط المقسمي، أو نفس اللابشرط القسمي؟ الظاهر من الحكيم السبزواري هو الأوّل، يقول:

و هو بكلّ طبيعي وُصف و كونه من كون قسميه كُشف أي نحن نستكشف من وجود القسمين: الماهية بشرط شيء و الماهية اللابشرط دليل واضح على وجود المقسم و هو اللابشرط المقسمي.

و على ذلك فالكلّي الطبيعي هو الماهية الملحوظة في الذهن بما هي هي، أي بذاتها و ذاتياتها دون لحاظ أي شيء معها حتّى هذا اللحاظ.

و ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المراد منه هو اللابشرط القسمي، و لا يمكن جعله من اللابشرط المقسمي، و ذلك لأنّ الكلّي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو و الجامع بين جميع المتّفقة الحقيقة من الأفراد الخارجيّة

ص:683

الفعليّة و ما يفرض وجودها. و الماهيّة بشرط لا عبارة عن الماهيّة المجرّدة عن كلّ خصوصيّة حتّى خصوصيّة وجوده الذّهني، و ليست الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة.

فلو كان الكلّي الطّبيعي هو اللاّبشرط المقسمي يلزم أن تكون الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة، لما عرفت من أنّ الكلّي الطّبيعيّ عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأفراد. و ليس الإنسان بشرط لا، مثلاً من أفراد حقيقة الإنسان حتّى يقال: انّ المقسم هي الحقيقة الجامعة، و أفرادها: الماهيّة بشرط لا، و بشرط شيء، و لا بشرط، فلا بدّ أن يكون الكلّي الطّبيعي هو اللاّبشرط القسمي الّذي يكون تمام حقيقة الأفراد الخارجيّة. و على كلّ حال: فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.

يلاحظ عليه: الذي يمنع عن صدق الكلّي الطبيعي على الأفراد الخارجية هو القيد المأخوذ فيه، أعني:

كونه مجرّداً عن الوجود، و الماهية بهذا القيد يمتنع صدقها على الأفراد، و هذا لا يمنع أن تكون بنفسها و مجرّدة عن ذاك، صادقة عليها.

و الحاصل: أنّ القيد المأخوذ في بعض الأقسام يمنع المقسم عن الانطباق على الخارج، و هذا لا يمنع عن كون المقسم قابلاً له في حدّ ذاته، هذا واضح لا سترة عليه.

ثمّ إنّ المراد من الجامع ليس هو الجامع الخارجي، بداهة أنّ الشيء الخارجي بوصف الوجود يمتنع أن يكون جامعاً إذ الوجود، ملاك التشخّص و الوحدة، و الجامع على الطرف النقيض منهما. و المراد من اشتراك زيد و عمرو في الإنسانية هو الاشتراك في مفهوم الإنسان الصادق على كلّ واحد، لا الاشتراك في الإنسانية المشخَّصة.

ص:684

نظرنا في أسماء الأجناس

إنّ مختار المشهور) أسماء الأجناس موضوعة للماهية بما هي هي مجرّدة عن الوجود و العدم و عن عامة العوارض (لا يخلو عن إشكال، و يعلم ذلك مَن وقف على نشوء اللغات في المجتمع البشري.

إنّ وضع اللفظ للماهية بالنحو المذكور عمل الحكيم و الفيلسوف الذي يستطيع أن يتصوّر الموضوع له عارياً عن كلّ قيد ثمّ يضع اللفظ بازائها، و الظاهر انّ الواضع في أكثر اللغات لم يكن إنساناً حكيماً عارفاً بتجريد الماهية عن الوجود و تصوّرها عن كلّ قيد، بل الظاهر أنّ أسماء الأجناس من يومها الأوّل وضع لفرد خارجي ثمّ إذا قابل الواضع بفرد هو نظيره، يطلقُ عليه ذلك اللفظ لما بينهما من المشابهة.

و هكذا يستمر الأمر حتّى يحصل له وضع ثانوي حسب كثرة الاستعمالات فينقل اللفظ من المعنى الأوّل إلى الجامع بين هذه المصاديق.

و إن كنت في شكّ من ذلك فلاحظ ألفاظ أرباب الاختراع كالسيارة و المذياع و التلفاز إلى غير ذلك، فانّ المخترع ينتخب لفظاً لما اخترعه فيكون الوضع خاصاً لكون الملحوظ خاصاً و يضع اللفظ لما اخترعه و يكون الموضوع له خاصاً أيضاً، لكن حسب تكرر الاستعمال في أشباه ما وضع له، يحصل الوضع التعيني للجامع بين الأفراد.

و بذلك تعرف انّ الموضوع له كالوضع كان خاصاً و لكن مرور الزمان و كثرة الاستعمال صار سبباً لنقله القهري من الموضوع له الخاص إلى الموضوع له العام.

و هناك احتمال آخر و هو أن يكون الوضع خاصاً و الموضوع له عاماً من أوّل

ص:685

الأمر، و قد أثبتنا إمكانه في محلّه بمعنى أن يكون الملحوظ شيئاً معيّناً و لكن الموضوع له أمراً عاماً، مثلاً: يتصوّر المخترعُ المذياع الماثل أمامه و يضع تلك اللفظة لكلّ ما يماثله في الهيئة و الأثر، فيكون استعماله في غير الماثل أمامَه حقيقياً أيضاً.

اسم الجنس موضوع للماهية الموجودة

و هذه هي النظرية الثالثة في تصوير اسم الجنس و هي انّ الإنسان و الشجر و الغنم موضوع للماهية الموجودة من هذا النوع، لأنّ الغاية من الوضع هو إلفات ذهن المخاطب إلى ما يرفع حاجته و يسدّ خُلّته، و الماهية المجردة لا تسمن و لا تغني من جوع، فالذي يسدّ خُلَّة المخاطب هو الفرد الموجود من الماء و النار و غيرهما لا المفهوم منهما.

و الحاصل: أنّ الغاية من الوضع تُحدِّد الموضوعَ له و الغاية من الوضع في قسم من المحاورات هو احضار الأشياء التي ترفع الحاجة، فإذا قال: اسقني، فهو يطلب الماء الذي يرفع عطشه و ليس إلاّ الماء الموجود بوجوده السّعِيّ.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لو كان الوجود جزء الموضوع له يلزم انقلاب القضايا الممكنة إلى الضرورية، فإذا قلنا: الإنسان موجود، يكون معناه الإنسان الموجود موجود و يكون من قبيل الضرورة بشرط المحمول فمثله ليس موجوداً بالإمكان، بل موجود بالضرورة مع أنّا نرى أنّ جهة الحمل في هذه القضايا هي الإمكان لا غير.

فإن قلت: لا مناص في هذه القضايا من تجريد المبتدأ عن الوجود عند حمل الموجود عليه.

قلت: إنّ التجريد خلاف الوجدان أوّلاً و يلزم المجازية في ناحية الموضوع له، لأنّ اللفظ الموضوع للكلّ استعمل في الجزء و ذلك خلاف الوجدان.

ص:686

و ثانياً: أنّ ما ذكره من الغاية و إن كان صحيحاً و لكنّه لا يكون دليلاً على أخذ الوجود في الموضوع له، بل يكفي أن يكون الإيجاد غاية للأمر، فإذا قال: اسقني فهو قرينة على أنّ طلب السقي أو البعث إلى السقي لغاية تحصيله. فالبعث يتعلّق بالماهية المعرّاة عن الوجود لكن لغاية إيجاده، و قد مرّ الكلام فيه، في مبحث تعلّق الأحكام بالطبائع.

***

2. علم الجنس

اشارة

إنّ في لغة العرب أسماءً ترادف أسماء الأجناس مفهوماً و لكن يعامل معها معاملة المعرفة فتقع مبتدأ، و ذا حال و من المعلوم اشتراط التعريف فيهما.

فهذا كالثعلب و الثعالة، و الأسد و أُسامة، و العقرب و أُم عريط حيث إنّ الثاني يقع مبتدأ و يجيء منه الحال بخلاف الأوّل، و هذا ما دعاهم إلى تسمية هذا النوع من الألفاظ بعلم الجنس، و في الوقت نفسه عدّها من ألفاظ المطلق كاسم الجنس يقول ابن مالك في ألفيته:

و وضعوا لبعض الأجناس علم كاعلم الأشخاص لفظاً و هو عمّ

من ذاك أُم عريط للعقرب و هكذا ثعالة للثعلب

و مثله بَرّة للمبرّة كذا فجارُ علم للفجْرة(1)

و قد وقع الكلام في سبب عد علم الجنس معرفة و ما هو الفارق بين اسم الجنس و علمه حتّى يوصف الثاني بالمعرفة دون الأوّل، فهناك أقوال:

الأوّل: التعريف لفظي،

و هو خيرة الرضي في شرحه على الكافية، قال: إنّ

ص:687


1- شرح ابن عقيل: 1/111.

كون علم الجنس معرفة مثل كون الشمس مؤنثاً، فكما أنّ التأنيث ينقسم إلى حقيقي و مجازي، كذلك التعريف ينقسم إلى: حقيقي كالأعلام الشخصية، و مجازي كعلم الجنس، أي يعاملون معه معاملة المعرفة من صحّة وقوعه مبتدأ و ذا حال.(1)

توضيحه: أنّ لعلم الشخص حكمين: أحدهما معنوي، و الآخر لفظي، و الأوّل و هو انّه يطلق و يراد به واحد بعينه كزيد و أحمد، و الثاني صحّة مجيء الحال متأخرة عنه كما يقال جاءني زيد ضاحكاً.

و علم الجنس له الحكم الثاني فقط فهو نكرة و لكن يجيء منه الحال و يقال: هذا أُسامة مقبلاً، و لا تدخل عليه الألف و اللام فلا تقول هذه الأُسامة، و يقع مبتدأ يقال: أُسامة مقبل و ثعالة هارب، كما نقول: علي حاضر و خالد مسافر.

فكما أنّ التأنيث على قسمين فهكذا التعريف على قسمين، و هذا هو المفهوم من كتب الأدب.(2)

و لو اقتصر الأُصوليون في مقام التفريق بين اسم الجنس و علم الجنس على ما ذكره الأُدباء لكان أحسن غير أنّهم ذكروا في وجه تعريفه وجوهاً أُخرى نأتي بها تباعاً.

الثاني: أنّه موضوع للطبيعة المتعيّنة في الذهن

ربما يقال انّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعيّنة بالتعيّن الذهني، و لذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف، و العجب انّ المحقّق

ص:688


1- شرح الكافية للاسترآبادي.
2- لاحظ شرح ابن عقيل الحمداني المصري (698 769 ه).

الخراساني نسب هذا إلى أهل العربية مع أنّ المختار عندهم هو الوجه السابق كما عرفت.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الموضوع له في اسم الجنس و علم الجنس أمر واحد و القول بأنّ الثاني موضوع للماهية المتعيّنة يستلزم عدم صدقه على الخارج، فلا يصحّ أن يقال هذا أُسامة، لأنّ المفروض انّ التعيّن جزء الموضوع و هو قائم بالذهن، فلا محيص في الحمل إلاّ عن التجريد، و هو أمر على خلاف الوجدان.

أضف إلى ذلك: أي فائدة في الوضع على الماهية المتعيّنة ثمّ تجريده عن التعيّن في عامة الاستعمالات، و معنى ذلك كون الوضع للمعنى المتعيّن أمراً لغواً.

الثالث: علم الجنس موضوع للطبيعة في حال التعيّن

إنّ الموضوع له هو الماهية في حال خاص و هو كون المعنى متصوّراً في الذهن لا على نحو المشروطة حتّى يرجع إلى كونه قيداً للمعنى، و لا على نحو المطلقة حتّى يكون الموضوع له عارياً عن كلّ قيد، بل الموضوع هو ذات الطبيعة لكن مقارناً بهذا الحال.

و إلى ذلك ينظر كلام صاحب المحاضرات و هو أنّ الإشكال إنّما يلزم إذا أخذ التعيين الذهني جزءاً أو شرطاً لا ما إذا أخذ على نحو المرآتية و المعرّفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية و لا بنحو الشرطية.(1)

و الفرق بين هذين الوجهين جوهري، حيث إنّ الوجه الثاني مبنيّ على أساس قبول كون التعيّن جزءاً أو شرطاً لكن أخذ مرآة، بخلاف الوجه الثالث فإنّه

ص:689


1- المحاضرات: 5/355.

مبني على إلغاء أخذ القيد في الموضوع له، و انّه من حالاته شبيه القضية الحينية.

يلاحظ عليه: أنّ تلك الحالة إمّا أن تكون دخيلة في الموضوع له أو لا; فعلى الأوّل يعود الإشكال فلا ينطبق على الخارج، و على الثاني يتحد علم الجنس مع اسم الجنس معنى و ذاتاً.

و بالجملة الأمر دائر بين الدخل و عدمه، فعلى الأوّل يلزم عدم الانطباق، و على الثاني يعود عدم التفاوت.

الرابع: الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها

ذهب سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (إلى أنّ الماهية في حدّ ذاتها و في وعائها و تقررها الماهوي عارية عن كلّ شيء سوى ذاتها و ذاتياتها حتّى كونها نكرة فضلاً عن كونها معرفة و بالجملة الماهية في مرتبة ذاتها ليست إلاّ هي ليس فيها شيء من التعريف و التنكير و إلاّ يمتنع أن تتصف بخلافه فاسم الجنس موضوع لهذا المعنى بما هو هو.

و بما انّ الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها و متميزة عن سائر المعاني بجوهرها، و بعبارة أُخرى:

يعرضها التعيّن في مقابل اللاتعيّن و يعرضها التميز من عند نفسها بين المفاهيم فيوضع عليه اسم الجنس.

و لا يرد عليه ما أُورد على الوجه الثاني و الثالث، لأنّ التعيّن فيهما عرضيّ، بخلافه في هذا الوجه، لأنّ التعيّن نابع عن ذات الشيء، لاحظه أحد أو لا.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح و لكن أنّى للواضع هذا الإدراك المخصوص بالحكيم.

***

ص:690


1- تهذيب الأُصول: 1/530.

3. المعرف باللام

اشارة

ينقسم اللفظ إلى معرب و مبنيّ، و المعرب ما يختلف آخره باختلاف العوامل و لا يستعمل إلاّ بالتنوين أو اللام أو الإضافة.

ثمّ اللام ينقسم إلى: لام الجنس، و لام الاستغراق، و لام العهد.

و لام الاستغراق ينقسم إلى: استغراق الأفراد، و استغراق خصائصها.

و لام العهد ينقسم إلى: عهد ذهني، أو ذكري، أو حضوري; فتكون الأقسام ستة:

1. المُحلّى بلام الجنس: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (1)و قولهم: التمرة خير من جرادة.

2. المُحلّى بلام استغراق الأفراد، مثل قولهم: جمع الأمير الصاغة.

3. المُحلّى بلام استغراق خصائص الأفراد، مثل قولهم: زيد الشجاع.

4. المُحلى بلام العهد الذهني: كقولهم:

لقد أمرّ على اللئيم يسبّني فمررتُ ثمة قلت لا يعنيني

و المعروف أنّه بمنزلة النكرة، و الفرق بينهما انّ القصد في الأوّل إلى نفس الطبيعة من حيث هي هي، و في الثاني إلى الطبيعة من حيث وجودها في فرد، كقوله سبحانه: (وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ).(2)

5. المحلى بالعهد الذكري كقوله سبحانه: (إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ).(3)

ص:691


1- العصر: 2.
2- يس: 20.
3- المزمل: 1615.

6. المحلّى بلام العهد الحضوري، مثل قول الصادق) عليه السلام (:» عليك بهذا الجالس «، مشيراً إلى زرارة بن أعين.(1)

و على القول بأنّ اللام للتعريف، فما هو الدالّ على هذه الخصوصيات؟ فهناك احتمالات:

1. الدالّ عليها هو اللام.

2. الدالّ عليها هو المدخول.

3. الدالّ عليها هو المجموع منهما.

4. الدالّ عليها هو القرائن.

و الأخير هو المتعيّن، يظهر ذلك بملاحظة الأمثلة المتقدّمة مثلاً استفادة العهد الذكري لأجل تقدّم قوله: (رَسُولاً ) كما أنّ استفادة العهد الحضوري لأجل قوله (عَلَيْكُمْ )، كما أنّ استفادة استغراق الأفراد في قوله:» جمع الأمير الصاغة «لأجل كون الجامع هو الأمير و هو لا يكتفي بصائغ دون صائغ في ضرب الدرهم و الدينار.

إنّما المهم في بيان ما وضع له «اللام»
اشارة

في هذه الموارد فهناك أقوال:

1. اللام وضع لتعريف المدخول.

2. اللام للزينة كما في الحسن و الحسين.

3. التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي.

4. اللام للإشارة إلى الموضوع و هو المختار.

ص:692


1- الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19.
أ. اللام للتعريف

المعروف أنّ اللام وضعت لتعريف المدخول قال ابن مالك:

ال حرف تعريف أم اللام فقط فنمط عرّفتَ قل فيه النمط

و أورد عليه المحقّق الخراساني بالبيان التالي:

1. لا تعيّن في تعريف الجنس إلاّ الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً و لازمه أن لا يصحّ حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد لامتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلاّ الذهن إلاّ بالتجريد. و مع التجريد لا فائدة في التقييد مع أنّ التأويل و التصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف.

هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه، بل لا بدّ من التجريد عنه و إلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه، كان لغواً.

و حاصل كلامه يرجع إلى أمرين:

الأوّل: انّ كون اللام للتعريف يستلزم كون اللحاظ في الذهن جزء الموضوع أو المحمول و معه لا ينطبق على الخارج.

الثاني: انّ التخلص من الإشكال بالتجريد حين العمل ينتهي إلى لغوية الوضع للتعريف، لأنّ الغاية من الوضع هو استعمال اللفظ في الموضوع له و المفروض انّه لا يستعمل فيه إلاّ بالتجريد.

يلاحظ عليه: بأنّ المراد من التعريف هو الإشارة إلى المدخول كما هو القول الرابع، و سيوافيك انّ القول بدلالة اللام إلى الإشارة خال عن الإشكالين المذكورين، فانتظر.

ص:693

ب. اللام للتزيين

ذهب المحقّق الخراساني بعد إبطال كون اللام للتعريف إلى أنّه للتزيين مطلقاً، كما في لفظي الحسن و الحسين و استفادة الخصوصيات إنّما تكون بالقرائن التي لا بدّ منها لتعيّنها على كلّ حال.

يلاحظ عليه: أنّ لام التزيين يختص بالأعلام المنقولة من الوصف إلى العلمية، و الهدف من اللام الإشارة إلى كونه منقولاً كلفظي الحسن و الحسين لا مطلقاً.

يقول ابن مالك:

و بعض الأعلام عليه دخلا للمح ما قد كان عنه نُقلا

ج. التعريف لفظي

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّ التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي، فكما أنّ المؤنث حقيقي و مجازي فهكذا المعرف حقيقي كزيد و مجازي كمدخول اللام.

يلاحظ عليه: أنّه ادّعاء بلا دليل، بل مع قيام الدليل على خلافه، فإنّ اللام في العهد الذكري أو الحضوري للتعريف قطعاً، فكيف يقول التعريف لفظي لا حقيقي؟!

د. اللام للإشارة

أظن انّ مرادهم من التعريف و التعيين باللام هو كون اللام إشارة إلى المعنى المراد من المدخول، فإن كان جنساً فهي إشارة إلى ذات الطبيعة، مثل: الرجل خير من المرأة، فإن كان جمعاً فهو إشارة إلى مدلوله الجمعي، مثل قوله:

ص:694

» أكرم العلماء «، و إن كان فرداً فهو إشارة إلى ذاك الفرد، مثل (إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ).(1)

و هذا خيرة صاحب القوانين حيث قال: اللام للإشارة إلى شيء يتّصف بمدخولها، و اختاره أيضاً صاحب الفصول عند بيان الفرق بين علم الجنس و المحلّى باللام كالأسد بأنّ الثاني يتضمن الإشارة إلى الماهية.

فإن قلت: إذا كان اللام موضوعاً للإشارة يرد عليهما ما ذكره المحقّق الخراساني، و هو إذا كان اللام موضوعاً للإشارة إلى المعنى فمع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة لو لم تكن مخلة، و قد عرفت إخلالها.(2)

و حاصل ما ذكره يرجع إلى أمرين:

1. إذا كانت الخصوصيات مفهومة من القرائن فلا حاجة للإشارة إليها باللام ثانياً.

2. لو كانت الإشارة مأخوذة في الموضوع له لم ينطبق على الخارج.

يلاحظ على الأوّل: أنّه إنّما يلزم التكرار إذا كان اللام إشارة إلى عامة الخصوصيات، بل هو إشارة إلى معنى المدخول، و أمّا سائر الخصوصيات من الجنسية و العهدية فإنّما تستفاد من القرائن.

و يلاحظ على الثاني: بأنّ كون اللام للإشارة بمعنى أنّه وضع لواقع الإشارة لا لمفهوم الإشارة، و واقع الإشارة أمر خارجي و هو ليس أمراً ذهنياً نظير لفظة» هذا «في» هذا إنسان «.

ص:695


1- المزمل: 1615.
2- الكفاية: 1/381.

و الحاصل: انّ اللام إشارة إلى واقع المدلول و حقيقته التي لها واقعية خارجية.

فظهر أنّ المراد من قولهم: اللام للتعريف، أي الإشارة إلى المدلول بما هو مدلول.

الجمع المحلّى باللام

لا شكّ أنّ الجمع المحلّى باللام يفيد العموم و عدّه من ألفاظ الإطلاق خلط بين العموم و المطلق.

ثمّ ربّما يستدلّ على أنّ اللام موضوعة للدلالة على التعيّن، باستفادة العموم من الجمع المحلّى باللام.

وجه الدلالة: أنّ المرتبة المستغرقة للمراتب متعيّنة من بين جميع المراتب، فلو كانت اللام موضوعة للإشارة، و هي تلازم تعيّن المشار إليه، تصحّ استفادة العموم منه، و إلاّ فليس هنا دالّ على العموم مع عدم دلالة المدخول عليه.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا دلالة فيها على أنّ استفادة العموم لأجل دلالة اللام على التعيّن، و ذلك لتعيّن المرتبة الأُخرى و هي أقلّ مراتب الجمع. فلا بدّ أن تكون دلالته على الاستغراق مستندة إلى وضع المجموع) الجمع مع اللام (للاستغراق لا إلى دلالة اللام على الإشارة إلى المعين.

ص:696

يلاحظ عليه: بأنّ المتعيّن هو المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد، و أمّا أقلّ المراتب فهو و إن كان معيّناً مفهوماً لكنّه غير معيّن مصداقاً، لتردّده بين هذا الأقل، و ذاك الأقل، و ذلك الأقل، فالمتعيّن هو الاستغراق و اللام إشارة إلى هذا المعيّن.

***

4. النكرة

إنّ مقوم النكرة هو التنوين الواقع في آخره، سواء أخبر عنه كما في قوله: (وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى )، أو وقع تحت دائرة الانشاء كما إذا قال: جئني برجل، فقد اختلف في مفهوم النكرة على أقوال:

1. انّه موضوع للفرد المردد بين عدّة أفراد.

2. انّه موضوع للفرد المنتشر.

3. انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة.

أمّا الأوّل، فغير صحيح، لأنّ الفرد المردّد غير قابل للامتثال، إذ الامتثال يتحقّق بالفرد المشخّص لا بالفرد المردد.

و أمّا الثاني، أعني: الفرد المنتشر فليس له مفهوم صحيح إلاّ أن يرجع إلى القول الثالث و هو انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة و هو قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.

و الحاصل: انّ المدخول بدون اللام يدلّ على الطبيعة، و مع التنوين يدلّ على الوحدة.

ثمّ الظاهر أنّ النكرة لا يخرج عن الكلية حتّى فيما إذا وقع تحت الإخبار، مثل قوله سبحانه: (وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ).

فإن قلت: كيف لا يخرج عن الكلية و هو متعيّن في الواقع؟ قلت: إنّ الجواب بوجهين:

1. انّ التعيّن مستفاد من نسبة الفعل إليه لا من نفس الكلمة، فالكلمة مستعملة في الفرد غير المعيّن.

ص:697

2. إن أُريد من التعيّن هو التعيّن في عالم الثبوت فلا نزاع فيه، لكنّه ليس محوراً للوصف بالكلية و الجزئية.

و إن أراد عالم الإثبات و مقام الدلالة فهو كلّي قابل للانطباق.

مثلاً قولنا: مررت برجل قد سلم عليّ أمس قبل كلّ أحد، فهو حسب الواقع متعيّن، و لكنّه حسب الإثبات أمر كلّي قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.

ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (ذهب إلى أنّه جزئي في كلا الموردين.

قال: إنّ النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد و انّه في كليهما جزئي حقيقي.

بيانه: انّه لا إشكال في أنّ الجزئية و الكلية من صفات المعقول في الذهن و هو ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي و إلاّ فكليّ، و جزئية المعنى في الذهن لا تتوقّف على تصوّره بتمام تشخصاته الواقعية، و لذا لو رأى الإنسان شبحاً من بعيد و تردد في أنّه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردد عن الجزئية و كون أحد الأشياء ثابتاً في الواقع لا دخل له بالصورة المنتقشة في الذهن فإذا كانت هذه الصورة جزئيّة كما في القضية الأُولى فكذلك الصورة المتصورة في القضية الثانية إذ لا فرق بينهما إلاّ انّ التعيين في الأوّل واقعي و في الثانية بيد المكلّف.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين كون الصورة الذهنية بما انّها موجودة في الذهن و الوجود عين التشخّص، و بين كونه مفهوماً قابلاً للانطباق على كثيرين، و الجزئية

ص:698


1- درر الفوائد: 1/200.

بالمعنى الأوّل، لا ينافي الكلّية بالمعنى الثاني و إلاّ فلا يوجد مصداق للكلّي، لأنّه بما هو موجود ذهني متشخص جزئي.

و امّا الشبح المردّد بين آحاد في الخارج فهو جزئي حقيقي و كونه كلّياً أمر وهمي، لا واقعي بخلاف الصورة الذهنية في» رجل «.

إكمال لو قلنا بأنّ المطلق هو الشائع في جنسه و الساري في أفراده أو المفيد بالإطلاق على نحو لا بشرط القسمي، فتخرج الألفاظ التالية عن تعريف المطلق.

1. اسم الجنس الموضوع للماهية بما هي هي.

2. علم الجنس الموضوع للماهية بما هي متعيّنة.

3. النكرة الدالّة على الطبيعة بقيد الوحدة.

فلم يبق ما يعد من ألفاظ المطلق إلاّ المحلّى بلام الاستغراق.

و لأجل ذلك تردّد المحقّق الخراساني في صدق النسبة أي أنّ المطلق عند المشهور هو ما قيّد بالإرسال و الشمول البدلي، لاستلزامه خروج ما أُريد منه الجنس أو الحصّة) النكرة (و علم الجنس، و لكن لا وجه للشكّ في صحّة النسبة، و قد عرفت ما هو المعروف عند مشهور الأُصوليّين.

ص:699

الفصل الثاني تقييد المطلق لا يستلزم المجازية

قد عرفت أنّ المطلق عند المشهور هو ما دلّ على الشياع و السريان و الإطلاق على نحو اللابشرط القسمي، و كأنّ المطلق عندهم من أقسام اللابشرط القسمي.

و قد أثار هذا التفسير رد فعل في الأوساط العلمية، و ممن قام بوجه هذا التفسير هو المحقّق سلطان العلماء حيث رد دلالة المطلق على السريان و الشيوع، و قال في كلمته التي تقدّمت:» ليست صحة العمل بكلّ فرد مدلولاً لفظياً للمطلق، بل مدلول المطلق أعمّ من ذلك «، و إلاّ فلو قلنا بدلالته على السريان يترتّب عليه أُمور ثلاثة:

الأوّل: يلزم كون تقييد المطلق مجازاً، لأنّ القيد ينافي مدلول المطلق.

الثاني: يلزم أن لا يكون اسم الجنس و علم الجنس و النكرة من مصاديق المطلق.

الثالث: يلزم الخلط بين المطلق و العام، إذ لو كان الشيوع مدلولاً لفظياً للمطلق لم يبق فرق بين المطلق و العام.

ثمّ إنّ بعض هذه المضاعفات دفع سلطان العلماء إلى القول بأنّ المطلق موضوع للماهية المبهمة التي لا تجد إلاّ نفسها و ذاتها و ذاتياتها و ليس في مدلولها أي

ص:700

شيوع و سريان، و عندئذ ترتفع المضاعفات الثلاث.

1. لا تلزم المجازية من تقييد المطلق.

2. و لا يلزم خروج اسم الجنس و علم الجنس و النكرة من مصاديق المطلق.

3. لا يلزم عدم الفرق بين المطلق و العام، فإنّ الشمول مدلول لفظي للعام بخلاف المطلق فانّ الشيوع فيه مستفاد من العقل ببركة مقدّمات الحكمة.

و ليعلم أنّ سلطان العلماء و إن أوجد ثورة عارمة في باب المطلق حيث نفى دلالة المطلق على السريان و الشيوع بالدلالة اللفظية، لكنّه التزم به عقلاً و زعم أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هو سريان الحكم إلى كلّ واحد واحد من أفراده، فالدلالة على إجزاء كلّ فرد دلالة لفظية عند القدماء و عقلية عند سلطان العلماء.

هذا هو المستفاد من كلمات القوم لا سيّما سلطان العلماء.

أقول: نلفت نظر القارئ إلى أمرين:

1. إنّ تقييد المطلق لا يستلزم المجازية حتّى على القول بدلالة المطلق على الشيوع دلالة لفظية، و ذلك لأنّ المطلق بهذا المعنى يكون من أقسام العام، و قد تقدّم أنّ العام بعد التخصيص حقيقة لا مجاز، و أوضحنا هناك ما هذا خلاصته:

انّ المتكلّم يستعمل العام في المعنى الموضوع له بالدلالة الاستعمالية فإن كانت الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية سكت عن التخصيص و التقييد، و إن كانت مخالفة لها يُخرج ما لم تتعلّق به الإرادة الجديّة بالتخصيص و التقييد فيقول: أكرم العلماء العدول، أو اعتق رقبة مؤمنة، فالتخصيص و التقييد لا يوجبان استعمالهما في غير ما وضع له و لا يوجدان ضيقاً في المعنى المستعمل فيه و إنّما يحدثان ضيقاً في متعلّق الإرادة الجديّة، و مناط الحقيقة و المجاز هو الإرادة الاستعمالية و المفروض انّ اللفظ حسب تلك الإرادة مستعمل في المعنى

ص:701

الشائع.

هذا من غير فرق بين العام، كما إذا قال: أكرم العلماء العدول; أو المطلق أعتق رقبة مؤمنة، فلا يلزم من القول بكون المطلق موضوعاً للسريان و الشيوع كون التقييد مجازاً.

نعم لو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشيوع يبقى الإشكالان الآخران على حالهما و هما خروج اسم الجنس و علم الجنس و النكرة عن تعريف المطلق أوّلاً، و الخلط بين العام و المطلق ثانياً.

و ما ذهب إليه سلطان العلماء من عدم دلالة المطلق على السريان و إن كان حقاً لكن ما توهم من استلزام نقيضه مجازية المطلق ليس في محله.

2. انّ سلطان العلماء و إن أتى بقول بديع في باب المطلق و لكنّه شارك القوم في استفادة الشيوع و السريان من المطلق بالدلالة العقلية، و انّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي الشيوع و السريان، و لكنّه غير صحيح; إذ غاية ما تثبته مقدّمات الحكمة كون ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع، سواء أمكن فيه الشيوع كما في قول: اعتق رقبة، أو لم يمكن كما إذا قال: أكرم زيداً.

فكان على سلطان العلماء أن ينكر السريان و الشيوع في الدلالة الإطلاقية مطلقاً، سواء أ كان مستفاداً من اللفظ أم العقل، و أمّا على المختار فالحديث عن الشيوع و السريان باطل من رأسه، و أمّا لزوم جريان مقدّمات الحكمة فهو و إن كان صحيحاً لكنّه لا لغاية إثبات الشيوع، بل لغاية كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع كما سيوافيك في الفصل التالي.

ص:702

الفصل الثالث مقدّمات الحكمة

اشارة

قد عرفت أنّ التمسّك بالإطلاق فرع جريان مقدّمات الحكمة، إمّا لغاية إثبات الشيوع و السريان في الموضوع، أو لغاية إثبات أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع فلا محيص عنه.

إنّما الكلام في تبيين ما هي مقدّمات الحكمة.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّها مؤلّفة من مقدّمات ثلاث:

1. كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال.

2. انتفاء ما يوجب التعيين) القرينة (.

3. انتفاء القدر المخاطب في مقام التخاطب.

و ربما يُزاد عليها عدم وجود الانصراف إلى صنف و هو ليس بمقدّمة رابعة، لأنّه داخل في المقدّمة الثانية، أي انتفاء ما يوجب التعيين.

و اقتصر المحقّق النائيني على الأوليين.

ثمّ إنّ بعض المقدّمات مقوّم للإطلاق على نحو لولاه لما انعقد الإطلاق و بعضها الآخر شرط للتمسّك به.

فمن القسم الأوّل» تمكّن المولى من البيان «، فخرج القيد الذي لا يتمكن

ص:703

المولى من بيانه كقصد الأمر على القول بامتناع أخذه في المتعلق كما عليه الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني على ما مرّ في مبحث التوصلي و التعبدي و إن كان المختار عندنا خلافه.

و مثله عدم القرينة فإنّ وجود القرينة يمنع من انعقاد الإطلاق، و أمّا القسم الثاني، أي كونه شرطاً للتمسّك ككونه في مقام البيان أو عدم القدر المتيقّن على القول بشرطيته، فعلى الباحث أن يميز المقوّم عمّا هو شرط للتمسّك، فلنرجع إلى توضيح المقدّمات الثلاث:

المقدّمة الأُولى: إحراز كون المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو دخيل في متعلّق حكمه بحيث يكون الإخلال ببيان الأجزاء و الشرائط منافياً للحكمة لافتراض انّه في مقام بيان تمام ما هو الموضوع للحكم.

اشارة

توضيحه: انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان أصل المقصود لا في مقام بيان خصوصياته، فلنفرض طبيباً رأى صديقه في الشارع فانتقل من صفرة وجهه إلى انّه مريض و بحاجة إلى تناول الدواء، فيقول له:

لا بدّ لك من تعاطي الدواء، ففي هذا المقام لا يصحّ للمريض التمسّك بإطلاق كلام الطبيب و يتناول كلّ دواء وقع بين يديه، و قد يكون في مقام بيان خصوصيات المقصود، كما إذا دخل المريض المذكور إلى عيادة الطبيب، فأجرى الطبيب عليه الفحوصات اللازمة و بعد ذلك كتب له و صفة، ففي هذا المقام يصحّ التمسّك بإطلاق ما كتب.

نعم انّ كثيراً من المشايخ يتمسّكون في نفي بعض الاجزاء و الشرائط للبيع بقوله سبحانه: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) (1)و لكن التأمل في سياق الآية يثبت انّها ليست في مقام بيان شرائط أجزاء البيع و شرائطه، بل هو في مقام بيان

ص:704


1- البقرة: 275.

ردّ التسوية التي كان المشركون يتبنونها. و كانوا يقولون: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) و يسوّون بين البيع و الربا، بل كانوا يجعلون الربا أصلاً و البيع فرعاً، و لذلك شبهوا البيع بالربا، فردّ اللّه سبحانه هذه التسوية و قال: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) فالتسوية غير صحيحة، فالآية عند الإمعان ليست في مقام بيان أجزاء البيع و شرائطه، فلو شككنا في شرطية العربية للصيغة لا يصحّ لنا التمسّك بإطلاقها، بل الآية في مقام نفي التسوية و أمّا انّ للبيع شرائط أو لا فالآية ساكتة عنه.

ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري أنكر هذه المقدّمة، و قال:

إنّ المهملة مردّدة بين المطلق و المقيّد و لا ثالث، و لا إشكال أنّه لو كان المراد هو المقيّد تكون الإرادة متعلّقة بالمقيّد أصالة و إنّما تُنسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد، مع أنّ ظاهر قولنا:» جئني برجل «انّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة، لا انّ المراد هو المقيّد و إنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد، و مع تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد و هذا معنى الإطلاق.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إذا كان المتكلّم في مقام بيان ما هو دخيل في موضوع الحكم يصحّ لنا الأخذ بهذا الظهور دون ما إذا كان في مقام الإهمال و الإجمال فلا يصحّ أن يؤخذ بهذا الظهور، مثلاً إذا قال: الغنم حلال، و الكلب حرام، فهل يمكن لنا الأخذ بإطلاق القضية الأُولى و الحكم بأنّ الغنم الموطوء أو الجلاّل حلال كلا و لا. و ما ذلك إلاّ لأنّ الظهور عندئذ بدوي يزول بالتأمل إذا أحرزنا انّ المتكلّم في مقام الإجمال و الاهمال.

و الحاصل: أنّ قوله:» انّ ظاهر قولنا: جئني برجل، إنّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة لا انّ المراد هو المقيّد و إنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان

ص:705


1- درر الأُصول: 1/102.

الاتحاد «ظهور بدوي غير مستقر إذا أحرز انّ المتكلّم في مقام الاهمال، إذ يكون الإهمال في البيان مبرراً لنسبة الحكم إلى المطلق مع كونه للمقيد، كما إذا قال: الغنم حلال مع أنّ الحلال هو الغنم غير الموطوء و غير الجلال. و بالجملة لا محيص عن الأخذ بهذه المقدّمة.

كون المتكلّم في مقام البيان لجهة دون جهة

قد يكون المتكلّم في مقام بيان جهة دون جهة، فلا يصحّ الإطلاق إلاّ في الجهة التي صار بصدد بيانها.

فإذا قال سبحانه: (فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ )(1)، تكون الآية ظاهرة في بيان انّ ما أمسكه الكلب بحكم المذكى إذا ذكر اسم اللّه عليه و ليس بميتة، فهي في المقام بيان حلية أكْلِ ما يصيد الصيود مطلقاً و إن مات قبل دركه، لأنّ إمساكه تذكية للصيد، و لكن لا يصحّ التمسّك بإطلاقها من جهة ريق فم الكلب حتّى يحكم بطهارته من خلال جواز أكله، فما نقل عن شيخ الطائفة في طهارة موضع العض أخذاً بإطلاق الآية موضع تأمّل.

ما هو الأصل في كلام المتكلّم؟

إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال و الإجمال، فالأصل العقلائي المعتمد عليه بين العقلاء كونه في مقام البيان لا الإجمال و الإهمال، و ذلك لأنّ الأصل حمل كلّ فعل صادر من الإنسان على غايته الطبيعية. و التكلّم بما انّه من فعل الإنسان يحمل على غايته الطبيعية و هي الإفادة و بيان المقصود لا

ص:706


1- المائدة: 4.

الإجمال و الإهمال.

و بالجملة: هنا أُمور ثلاثة يطلب كلّ غايته الطبيعية:

1. التكلّم بما هو فعل صادر من الفاعل العاقل يطلب غاية عقلائية.

2. التكلّم بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار يطلب غاية اختيارية.

3. التكلّم بما أنّه فعل خاص يطلب غاية مناسبة لسنخ الفعل.

و الغاية المتناسبة لفعل التكلّم بما هو هو، إفهام المراد الجدي في مقام التخاطب لا إفهام بعضه دون بعض فيحمل على أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

و على ضوء ذلك فلو عثرنا على المقيد يعد معارضاً للمطلق كما هو الحال في المحاورات الشخصية.

نعم في المحاورات التي تدور حول التقنين و التشريع يؤخذ بكلا الدليلين لجريان السيرة على فصل الخاص عن العام و المقيد عن المطلق.

العثور على القيد لا يبطل الإطلاق

العثور على القيد على قسمين:

تارة يعثر الإنسان على القيد في المحاورات العرفية فيستدلّ به على حصول البداء له، فأعرض عن المطلق إلى جانب المقيد.

و أُخرى في كلام المقنّن و المشرّع من غير فرق بين العرفي و الإلهي، فالعثور على القيد يكشف عن كون الإطلاق حكماً قانونياً لأجل ضرب القاعدة، و لذلك يجب على المكلّف أن لا يحكم بكون المطلق تمام المراد إلاّ بعد الفحص عن القيد و اليأس منه، و أمّا بعده فيحكم به من غير فرق بين مقنن و مقنن، لوجود الأصل العقلائي و هو تطابق الإرادتين في جميع الموارد إلاّ ما قام الدليل على خلافه.

ص:707

المقدّمة الثانية: انتفاء القرينة

هذه هي المقدّمة الثانية، و ربّما يعبّر عنها بانتفاء ما يوجب التعيين. و على أيّ تقدير فالقرينة المتّصلة تمنع عن انعقاد الإطلاق، و المنفصلة تمنع عن حجّيته، بعد انعقاده، و هذا نظير المخصِّص المتّصل و المنفصل للعام، فالأوّل منهما يمنع عن انعقاد العموم، و الثاني يمنع عن حجّيته كما مرّ تفصيله في مبحث العام و الخاص.

و أمّا عدم الانصراف إلى فرد أو صنف فهو داخل تحت هذه المقدّمة، و ذلك لأنّ الانصراف ينقسم إلى بَدئيّ، و غير بَدئيّ.

أمّا الأوّل: فهو الذي يزول بالتأمّل كالقول بأنّ الأكل و الشرب من المفطِّرات فهو ينصرف في بدء الأمر إلى ما هو المأكول و المشروب عادة، و لكنّه بَدئيّ يزول بالتأمّل، بل المبطل مطلق الأكل و الشرب و إن كان غير متعارف كأكل ورق الشجر و شرب بول ما يؤكل لحمه، فهو لا يمنع عن حجّية الإطلاق، فضلاً عن انعقاده، إذ لا يصحّ أن يُعتمد على مثل ذلك الانصراف البدئي المتزلزل غير المستقرّ.

و أمّا الثاني: أي غير البدئيّ فهو على قسمين:

تارة يكون الانصراف على حدّ يوجب مهجورية المعنى الأوّل) المطلق (و متروكيته، و أُخرى لا يكون على هذا الحدّ.

أمّا الأوّل، فيمنع عن انعقاد الإطلاق كما هو الحال في ألفاظ الصلاة و الزكاة و الحجّ في عصر الصادقين عليهما السَّلام.

و أمّا الثاني، فيكون من قبيل القرينة المنفصلة فهو يمنع عن حجّية الإطلاق لا عن انعقاده، و هذا كلفظ » حرام الأكل «فانّه و إن كان يشمل الإنسان لغة،

ص:708

لكنّه منصرف إلى خصوص الحيوان، فإذا قيل الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره، و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسد.(1) فهو ينصرف إلى الحيوان المصطلح لا إلى الحيوان اللغوي الذي يشمل الإنسان أيضاً.

المقدّمة الثالثة: انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب

و قد عدّ انتفاء القدر المتيقّن من مقدمات الحكمة، و استدلّ المحقّق الخراساني على لزوم انتفائه بأنّه لو كان المتيقّن تمام مراده فان الفرض انّه بصدد بيان تمامه و قد بيّنه لا بصدد بيان انّه تمامه كي أخلّ ببيانه.

توضيحه: أنّه لو كان الفرد المتيقّن تمامَ مراده، لم يلزم إخلال بالغرض، لأنّه بيّنه بواسطة كونه متيقناً، و لو كان مراده الأعم منه و من الفرد المشكوك فقد أخلّ بغرضه حيث لا بيان له، و إنّما البيان للفرد المتيقّن.

و بعبارة أُخرى: أنّه قد بيّن تمام المراد بالحمل الشائع، و إن لم يبيّنه بوصف انّه تمام المراد و إنّما يتعلّق الغرض بالأوّل و قد بيّنه و لا يتعلّق بالثاني فلا يضرّ عدم بيان وصفه بأنّه تمام المراد.

يلاحظ عليه: أوّلاً: ما ذا يراد من القدر المتيقّن الذي يُعد وجوده مانعاً عن التمسّك بالإطلاق، فإن أُريد به انصراف المطلق إليه عند الإطلاق في ذهن المخاطب فلا كلام في أنّه مانع عن التمسّك به، إذ هو يُصبح كالقرينة المنفصلة المانعة من حجيّة الإطلاق، الوارد في الكلام.

و إن أُريد به غير صورة الانصراف، فلا يضرّ بالإطلاق لا انعقاداً و لا تمسّكاً، لأنّ المانع هو بيان تمام المقصود مع التفات المكلّف إلى أنّه بيّن تمام المراد،

ص:709


1- الوسائل: الجزء 4، الباب 2 من أبواب لباس المصلي.

إذ عندئذ يصدق بأنّه لم يخل بغرضه، و أمّا بيان تمام المراد من دون وقوف المخاطب على أنّ المتكلّم بيّن تمام المراد، بل احتمل أنّ تمامه هو الجامع بين المورد المتيقّن و المشكوك، ففي مثله يصدق أنّه أخلّ ببيان تمام المراد عند المخاطب، لأنّ المدار في صدق عدم الإخلال و الإخلال، هو التفات المخاطب بأنّه بيّن تمام المراد، و عدم التفاته، لا بيانه واقعاً و إن لم يلتفت إليه المخاطب، فلو اعتمد في مقام بيان المراد، على وجود القدر المتيقّن في ذهن المخاطب حين الخطاب، مع وجود الشكّ في ذهن المخاطب في أنّه تمامه أو بعضه، فقد أخلّ بالغرض، إذ لم يصدر منه بيان، يوقف المخاطب على أنّه تمام المراد فقط، بل صار متحيّراً في أنّه تمام المقصود أو بعضه، فلا يصحّ في منطق العقل الاكتفاء بهذا البيان الذي لم يلتفت إليه المخاطب.

و لذلك ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري إلى عدم اعتبار هذه المقدّمة و قال: إنّ اللازم أن يكون اللفظ الملقى إلى المخاطب كاشفاً عن تمام مراده، و هذا ملازم لصحّة حكم المخاطب أنّ هذا تمام مراده، و المفروض عدم صحّة حكم المخاطب بكون القدر المتيقّن تمام مراده، فيقال: لو كان مراده مقصوراً على المتيقّن لبيّنه لكونه في مقام البيان.(1)

و ثانياً: إذا كان القدر المتيقّن في زمان التخاطب مانعاً عن انعقاد الإطلاق بحجّة أنّ المولى بيّن اعتماداً عليه تمام المراد و إن لم يصرّح بأنّه تمامه. فليكن كذلك إذا كان هناك قدر متيقّن و لو بعد التأمّل خارج التخاطب فإنّه أيضاً ممّا يمكن أن يقال إنّ المولى بيّن المراد اعتماداً على تلك القرينة المنفصلة و إن لم يصرّح بأنّه تمام المراد، فإذا قال: أكرم العلماء فالقدر المتيقّن هو العالم الهاشمي

ص:710


1- درر الأُصول: 2031/202.

التقي، بعد التأمّل خارج الخطاب كما أنّ المتيقّن في قوله: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )، هو البيع المنشأ بالصيغة العربية الماضية التي يتقدّم الإيجاب فيها على القبول بلا تعليق، مع أنّ مانعية ذلك القدر المتيقّن بمعزل من الكلام، و إلاّ لما صحّ التمسّك في مورد بإطلاق الكتاب و السنّة، إذ ما من إطلاق إلاّ و له قدر متيقّن، إذا تأمّل فيه المخاطب خارج مجلس التخاطب.

و لذا اشتهر بأنّ المورد غير مخصّص لا في الآيات و لا في الروايات.

ص:711

الفصل الرابع في حمل المطلق على المقيّد

اشارة

إنّ هذا الفصل هو بيت القصيد في المقصد الخامس و يعدّ كالنتيجة لما سبق من المباحث، و لنقدّم أُموراً:

الأوّل: إنّ محطّ الكلام في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا كان القيد منفصلاً عن المطلق، و أمّا إذا كان متّصلاً به فهو خارج عن محلّ البحث، لما عرفت من أنّ وجود القيد المتصل يلازم عدم انعقاد الإطلاق فلا يكون هنا إطلاق حتّى يحمل على المقيّد، بخلاف القيد المنفصل، إذ الإطلاق ينعقد عند وجود مقدّمات الحكمة و يكون المقيّد مزاحماً لحجيّة الإطلاق لكون ظهوره في مدخلية القيد في المطلوب أقوى من ظهور المطلق.

الثاني: انّ تقدّم ظهور القرينة على ظهور ذيها أشبه بالورود، لما عرفت من أنّ الإطلاق ليس من المداليل اللفظية، بل من المداليل العقليّة، يُعتمد فيها على كون المتكلّم حكيماً غير مناقض لمراده، فلو أمر بالمطلق، كشف عن كونه تمام الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية، هذا من جانب، و من جانب آخر، الأصل تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية، و من المعلوم أنّ هذا الأصل حجّة إذا لم يكن دليل على المخالفة، فإذا ورد المقيّد كشف عن عدم التطابق في هذا المورد الخاص

ص:712

فيرتفع موضوع الأصل، و إن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان كما مرّ، و هذا أشبه بتقدّم الدليل الاجتهاديّ على الدليل الفقاهي، نظير تقدّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي كالبراءة.

نعم يظهر من المحقّق النائيني أنّ التقديم من باب الحكومة كتقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي، ببيان أنّ الشكّ في إرادة ما يكون ذو القرينة ظاهراً فيه و عدمها) كالأسد (، يكون مسبّباً عن الشكّ في إرادة ما تكون القرينة ظاهرة فيه و عدمها، بداهة أنّ الأخذ بظاهر القرينة يوجب رفع الشكّ فيما أُريد بذي القرينة و لزوم حمله على غير ما يكون ظاهراً فيه لو لا القرينة.(1)

أقول: الظاهر وجود الفرق بين المقيس) المقام (و المقيس عليه) الأصل السببي و المسببي (لأنّ موضوع الأصلين أي الشكّ محفوظ، لكن يقدّم أحد الأصلين على الآخر، بحجّة انّ التعبّد بمضمون الأصل السببي، يلازم رفع اليد عن التعبّد بمضمون الأصل المسببيّ بخلاف المقام فإنّ موضوع أصالة التطابق الذي هو عدم ورود البيان على خلافها، يرتفع بالمقيّد، و معه لا يبقى للأصل موضوع.

و بعبارة أُخرى: قوام الإطلاق بأمرين:

1. كونه في مقام البيان حسب الإرادة الاستعمالية.

2. الأصل الحاكم على تطابق الإرادتين.

و العثور على القرينة و إن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان، لكنّه يكشف عن عدم الموضوع لأصالة التطابق.

الثالث: يظهر من المحقّق الخراساني أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة تختلف حسب اختلاف المقامات، قال: إنّ نتيجتها تارة يكون حملها على العموم البدلي،

ص:713


1- أجود التقريرات: 1/535.

و أُخرى على العموم الاستيعابي، و ثالثة على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام و اختلاف الآثار و الأحكام كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام، فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان و لا معنى لإرادة الشياع فيه فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان، كما أنّها قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا )، إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان، و إرادة العموم البدلي لا تناسب المقام و لا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف أيّ بيع كان مع أنّها تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق، و لا يصحّ قياسه على ما إذا أخذ في متعلّق الأمر) جئني برجل (، فإنّ العموم الاستيعابي لا يمكن إرادته، فيحمل على العموم البدلي.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ظاهر عبارته أنّ هذه النتائج، من ثمرات مقدّمات الحكمة و لكنّ الحقّ انّه ليس لمقدّمات الحكمة إلاّ ثمرة واحدة، و هي كون ما وقع تحت دائرة التشريع تمام الموضوع للحكم فقط، و أمّا غير ذلك من كون الأمر تعيينيّاً، لا تخييرياً، شموليّاً لا بدليّاً أو بالعكس فإنّما هي من مقتضيات اختلاف طبيعة الأحكام.

مثلاً إذا وقعت الطبيعة تحت دائرة الطلب تكون النتيجة هي البدلية لسقوط الأمر بالامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمن فرد.

و أمّا إذا وقعت الطبيعة في مقام التشريع تحت دائرة الامضاء، كقوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) تكون النتيجة هي الشمول، إذ لا معنى لإمضاء بيع

ص:714


1- كفاية الأُصول: 3971/395.

خاص مجملاً أو مهملاً.

و إذا وقعت الطبيعة مورداً للطلب دون أن يذكر له العدل تكون النتيجة هي التعيين، لأنّ التخيير يحتاج إلى البيان دون التعيين، و الحاصل أنّ النتائج المختلفة وليدة اختلاف المقامات لا مقدّمات الحكمة.

و منه يظهر أنّ تقسيم الإطلاق إلى بدليّ و شمولي و مجموعي ليس صحيحاً، إذ ليس للإطلاق إلاّ قسم واحد و هو كون ما وقع تحت دائرة الحكم تمام الموضوع، و أمّا الخصوصيات فإنّما تستفاد من القرائن و حسب اقتضاء الحكم.

الرابع: إنّ البحث في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا اتّحد الحكم و اختلف الموضوع بالإطلاق و التقييد مثل قولنا: أعتق رقبة و أعتق رقبة مؤمنة، و أمّا إذا اختلفا حكماً و موضوعاً فهو أجنبي عن الإطلاق و التقييد، كما إذا قال: أعتق رقبة مؤمنة و سلّم على رجل.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الحكمين إمّا يكونان مثبتين أو نافيين أو مختلفين، و على كلّ تقدير فإمّا أن يكون السبب غير مذكور أو يكون مذكوراً، فتكون الأقسام حسب الظاهر ستّة، و إن كانت عند الدّقة أكثر فلنذكر القسم الأوّل بشقوقه الثلاثة:

القسم الأوّل: فيما إذا لم يذكر السبب

اشارة

و فيه صور ثلاث:

الصورة الأُولى: إذا كانا مثبتين
اشارة

إذا قال: أعتق رقبة ثمّ قال: أعتق رقبة مؤمنة، فهل يحمل المطلق على المقيّد

ص:715

أو لا؟ لقد تكلّم فيه المحقّق الخراساني بنحو مفصّل نأتي بخلاصته، و هي: انّه يمكن الجمع بين المطلق و المقيّد بأحد الوجهين:

1. حمل المطلق على المقيّد، لأنّ فيه جمعاً بين الدليلين.

2. حمل المطلق على أفضل الأفراد، و فيه أيضاً جمعاً بين الدليلين.

و يؤيَّد الوجهُ الأوّل بأنّ حمل المطلق على المقيد لا يحدث تصرّفاً في المطلق لكشف المقيّد عن عدم وجود الإطلاق و أنّه كان تخيّليّاً بخلاف حمل المقيّد على الاستحباب فإنّه تصرّف في دلالة الأمر.

و قد ردّ هذا التأييد بما يلي:

إنّ حمل المطلق على المقيّد أيضاً تصرّف، و ذلك لما عرفت من أنّ العثور على المقيّد و إن كان لا يكشف عن عدم كون المطلق وارداً في مقام البيان كما هو ظاهر كلام المؤيّد، لكن يكون كاشفاً عن عدم كون الإطلاق بمراد جدّاً و انّ الإرادتين ليستا بمتطابقتين، و هذا أيضاً نوع تصرّف.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد نقل هذه الوجوه رجّح الوجه الأوّل، أعني: حمل المطلق على المقيّد بوجه آخر، و حاصله: انّ إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق، و ذلك لأنّ الأمر دائر بين الأخذ بالمطلق و رفع اليد عن الوجوب التعييني في مورد المقيّد، و بين أن يكون المكلّف مخيّراً بين عتق المؤمنة و الكافرة و الأخذ بالظهور التعييني في جانب المقيّد، و تكون النتيجة لزوم الإتيان بالقيد، و لكن الظهور الثاني أقوى من الظهور الأوّل فيتصرّف فيه ببركة الظهور الثاني.

يلاحظ عليه: بأنّه لم يظهر وجه الأقوائيّة.

و ذلك لأنّ هنا أمرين:

ص:716

1. الظهور التعييني في جانب المقيّد و لزوم الإتيان بالقيد.

2. تساوي الأفراد في مقام الامتثال لإطلاق الدليل.

و كلا الأمرين من نتائج الإطلاق فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر بعد كون الجميع من نتائج شيء واحد.

*** إذا علمت ذلك: فاعلم أنّه يجب أن تحلّ العقدة من طريق آخر، و هو أنّه إذا كانا مثبتين، و مجرّدين عن ذكر السبب، تكون هنا صورتان:

الأُولى: إذا أحرزت وحدة الحكم و أنّ هنا وجوباً واحداً لا وجوبين.

الثانية: إذا لم تحرز وحدة الحكم و احتملنا تعدّده و تعدّد الامتثال.

أمّا الأُولى فما ذكر من أنّ هنا وجهين للجمع بين الدليلين، و إن كان صحيحاً لكن الجمع الأوّل) حمل المطلق على المقيّد (أظهر من الجمع الثاني، أي حمل المقيد على أفضل الأفراد، و ذلك لجريان السيرة المستمرّة في مجالس التقنين على فصل المخصّص عن العام و المقيّد عن المطلق، و الداعي إليه في التقنين البشري هو عدم إحاطة علم أصحاب التشريع بالمفاسد و المصالح فيشرّعون حكماً مطلقاً ثمّ يعثرون على أنّ المصلحة في المقيد.

و أمّا التشريع السماوي فالوجه فيه هو وجود المصلحة الملزمة في تدريجية التشريع يقول سبحانه:

(وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ).(1)

فهذه السيرة كالقرينة على تعيّن الجمع الأوّل.

ص:717


1- الفرقان: 32.

و أمّا الثانية: أعني إذا لم تحرز وحدة التكليف، و الامتثال، فضلاً عمّا إذا أحرز تعدّدهما كما إذا قال:

اسقني بالماء، ثمّ قال بعد زمن: جيء بالماء و احتملنا أنّ هناك غرضين: أحدهما رفع العطش و الثاني غسل الثياب، غير أنّ الأوّل يشترط فيه كون الماء خالياً عن الأملاح، قابلاً للشرب بخلاف الثاني فإنّه يكفي فيه كون الماء مطلقاً، سواء أ كان قابلاً للشرب أم لا، فالجمع بين الدليلين يتحقّق بأُمور ثلاثة:

1. حمل المطلق على المقيّد و لزوم امتثالهما بعتق الرقبة المؤمنة.

2. حمل المقيّد على أفضل الأفراد و التخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة و الكافرة و إن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

3. التحفّظ على الوجوبين و القول بأنّ هنا تكليفين إلزاميين، و مقتضى ذلك لزوم القيام بعتق رقبتين يكفي في أحدهما عتق مطلق الرقبة مؤمنة كانت أم كافرة بخلاف الثاني و لا موجب للعدول عن الثالث إلى الوجهين الأوّلين، و بما أنّ الشكّ في المقام بعد عتق المؤمنة يرجع إلى الشكّ في سقوط التكليف المعلوم، و حصول الامتثال بالعمل بالمقيّد وحده، يتعيّن العمل بالوجه الثالث.

فإن قلت: إنّ المقام أشبه بالأقل و الأكثر الاستقلاليّين، حيث إنّ الأمر يدور بين التكليف الواحد و الأكثر، و الأوّل متيقّن و الزائد مشكوك، كدوران الدين بين الأقل و الأكثر فالحكم في الجميع واحد.

قلت: الفرق بين المقامين واضح، فإنّ الوجوب في مورد الدين واحد فهو مخاطب بقوله:» أدّ دينك «، نعم المتعلّق) الدين (مردّد بين الأقل و الأكثر، و هذا بخلاف المقام، فإنّ الخطاب متعدّد قطعاً، حيث قال:» أعتق رقبة «ثمّ قال:» أعتق رقبة مؤمنة «، فإذا أعتق رقبة مؤمنة، يشك حصول الامتثال بعتق الرقبة

ص:718

المؤمنة، و ذلك إذ لو كان الغرض واحداً لحصل الامتثال و لو كان الغرض متعدداً لما حصل، فيكون مرجع الشكّ إلى سقوط التكليف، و حصول الامتثال و المرجع في الجميع هو الاشتغال.

فاتّضح من ذلك أنّ مفتاح الحلّ هو إحراز وحدة الحكم و عدمه، ففي الصورة الأُولى يحمل المطلق على المقيّد، و في الصورة الثانية يعمل بالاحتياط، فيكون أحد التكليفين مقيّداً بالإيمان و التكليف الثاني غير مقيّد به و يحصل الغرض بعتق أيّ رقبة من المؤمنة و الكافرة.

تقريب للمحقّق النائيني لإحراز وحدة الحكم

لمّا وقف المحقّق النائيني على أنّ مفتاح الحل في المقام هو إحراز وحدة الحكم صار بصدد تقريبه في موارد الشكّ بالبيان التالي، و حاصله: امتناع تكليفين مستقلّين ناشئين من ملاكين إلزاميّين، و ذلك لأنّ لهذا الغرض صورتين:

1. أن يكون الإتيان بالمقيّد وافياً بكلا الملاكين.

2. أن يكون وافياً بخصوص أحدهما دون الآخر، أي وافياً بملاك القيد وحده أو المطلق كذلك.

لا سبيل إلى الثاني، لأنّه خلاف ظاهر الأمر المتعلّق بصرف الوجود) الأمر بالمطلق (المنطبق على المقيّد أيضاً. فلا وجه لوفائه بملاك المقيّد دون المطلق.

و لا سبيل إلى الأوّل، لأنّه يستلزم كون الأمر المتعلّق بكلّ من المطلق و المقيّد تخييرياً من باب التخيير بين الأقل و الأكثر بأن يُخيّر المكلّف بين الإتيان بالمقيّد أوّلاً فيكون مجزياً عن كلا التكليفين، و بين الإتيان بغير المقيّد من أفراد

ص:719

المطلق أوّلاً، ثمّ الإتيان بالمقيّد بعده ثانياً، إذ بعد فرض لزوم الإتيان بالمقيّد بعينه و وفائه بكلا الملاكين لا يبقى موجب للأمر بالمطلق إلاّ بعد تقييده بالإتيان به أوّلاً في غير ضمن المقيّد مع الترخيص في تركه بالإتيان بالمقيّد ابتداء، و من الواضح أنّ هذا تكلّف زائد لا سبيل إلى الالتزام به مع عدم القرينة عليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّا نختار الشق الثاني و لكن لا بمعنى وفاقه بملاك المقيّد دون ملاك المطلق حتّى يقال بأنّه غير معقول، لأنّ المطلق موجود في ضمن المقيّد فكيف يكون وافياً بملاك المقيد دون المطلق؟! بل بمعنى أنّ الإتيان بالمقيّد يلازم حصول أحد الغرضين لا بعينه، دون الغرضين معاً، مثلاً لو قال:

اسقني، ثمّ قال: جئني بالماء، فأحضر الماء القابل للشرب، فقد حصل أحد الغرضين و هو التمكن من الشرب و الغسل، و لكنّه لا يفي إلاّ بأحدهما إمّا الشرب أو الغسل و يبقى الغرض الآخر بحاله، و لا يتحقق إلاّ بإحضار ماء ثان غير مشروط بكونه قابلاً للشرب، و إن أحضره يكون أيضاً وافياً به. و احتمال أن يكون المورد من هذا القبيل كاف في الحكم بالاشتغال و لزوم عتق رقبتين.

أضف إلى ذلك: أنّ إثبات وحدة التكليف بهذه الاعتبارات العقلية بعيد عن الأذهان الساذجة التي هي المرجع في تشخيص وحدة التكليف عن تعدّده.

فاتّضح بذلك أنّ الطريق لإحراز وحدة التكليف الملازم لوجود المنافاة بين الكلامين، الباعث إلى التصرّف بأحد الوجهين من حمل المطلق على المقيّد أو حمل المقيّد على أفضل الأفراد هو دلالة القرائن على أنّ القضيتين ناظرتان إلى حكم واحد، لا هذا الوجه البعيد عن الأذهان. و المفروض في المقام عدمها فلا وجه

ص:720


1- أجود التقريرات: 1/535.

للتصرّف في أحدهما بأحد الوجهين، بل المتعيّن هو الوجه الثالث من إبقائهما على كونهما تكليفين إلزاميين يطلب كلّ واحد امتثالاً مستقلاً.

الصورة الثانية: إذا كانا نافيين

إذا كان الدليلان نافيين، كما إذا قال: لا تشرب الخمر الذي هو بمنزلة» لا تشرب المسكر المأخوذ من العنب «، ثمّ قال: لا تشرب المسكر، فلا وجه لحمل المطلق على المقيّد، لعدم التنافي بين الدليلين، غاية الأمر يحمل النهي عن شرب الخمر على الحرمة المؤكّدة.

الصورة الثالثة: أن يكون أحدهما مثبتاً و الآخر نافياً

و لها شقّان:

الأوّل: أن يكون المطلق نافياً و المقيّد مثبتاً، كما إذا قال: لا تعتق رقبة و أعتق رقبة مؤمنة، فالتنافي بين الدليلين واضح، إذ لا يمكن تحريم عتق مطلق الرقبة مع إيجاب عتق الرقبة المؤمنة، كما لا يمكن كراهة عتق مطلق الرقبة و رجحان عتق الرقبة المؤمنة، فلا محيص في رفع التنافي من حمل المطلق على المقيّد من غير فرق بين حمل الأمر على الإيجاب أو الاستحباب أو حمل النهي على التحريم أو الكراهة.

الثاني: ما إذا كان المطلق مثبتاً و النافي مقيّداً، كما إذا قال: أعتق رقبة و لا تعتق رقبة كافرة، فهنا شقوق:

أ. إذا أحرز أنّ النهي تحريمي.

ب. إذا أحرز أنّ النهي تنزيهيّ.

ص:721

ج: إذا تردّد بين الاحتمالين.

أمّا الأوّل فالتنافي محرز، إذ لا يصحّ إيجاب عتق مطلق الرقبة الذي يشمل الكافر مع تحريم عتق خصوص الرقبة الكافرة، لأنّ الخاص الحرام قسم من العام الواجب، فلا يرتفع التنافي إلاّ بحمل المطلق على المقيّد.

و أمّا الثاني، أعني: إذا كان النهي تنزيهياً، كما إذا قال: صلّ و لا تصلّ في الحمّام، فلا مجال للحمل، إذ لا تنافي بين إيجاب الصلاة في مطلق الأمكنة و النهي عن الصلاة في الحمّام إذا كان النهي إرشاداً إلى أقليّة الثواب، كما هو معنى الكراهة في العبادات. نعم لو كان النهي بمعنى المرجوحية الذاتية يعود التنافي بين الأمر بالصلاة في كلّ مكان الذي هو بمعنى رجحان الصلاة في كلّ مكان و الزجر عن الصلاة في الحمام بمعنى خصاصة الصلاة فيه.

و أمّا الثالث، أعني: إذا لم يحرز أنّ النهي تحريمي أو تنزيهي كالنهي عن الصلاة في مواضع التهمة، إذ على الأوّل لا بدّ من الحمل و على الثاني لا وجه له، و الحقّ أنّ هنا ظهورين متعارضين:

الأوّل: ظهور الإطلاق في جواز الصلاة في تمام الأمكنة حتّى مواضع التهم.

الثاني: ظهور النهي عن الصلاة في موضع التهمة، في التحريم، فكلّ من الظهورين يصلح للتصرف في الآخر، فإطلاق الدليل الأوّل يقتضي حمل النهي على الكراهة بمعنى أقلّية الثواب لا مرجوحية الفعل، كما أنّ ظهور النهي في الحرمة يقتضي تقييد إطلاق المطلق، و بما أنّ الرائج فصل المقيّد عن المطلق و هذا يقتضي رفع التنافي بهذا الطريق.

و ينبغي التنبيه على أمرين:
اشارة

ص:722

الأوّل: حكم الأحكام الوضعية

لا فرق بين الأحكام التكليفية و الوضعية في أنّ مدار الحمل هو وجود التنافي بين حكمي المطلق و المقيّد، أي التنافي الذي هو لازم وحدة الحكم، فلو كان هذا الشرط موجوداً في الأحكام الوضعية، يحمل الوضعي المطلق على الوضعيّ المقيّد، كما إذا قال:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «ثمّ قال:» صلّ في جلد السنجاب «.

نعم لو انتفى التنافي يبقى الحكمان على حالهما، كما إذا قال: لا تصلّ في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، ثمّ قال في دليل آخر:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «، إذ لا مانع من أن تكون الصلاة في مطلق ما لا يؤكل لحمه فاسدة، و في خصوص وبره أيضاً كذلك، و إنّما خصّ الوبر لسبب خاص.

الثاني: في حكم المستحبّات

قد اشتهر على الألسن أنّ القيود في المستحبّات ليست مقوّمة للعمل فلا يجب حمل المطلق على المقيّد، فلو قال: زر الإمام الطاهر سيد الشهداء) عليه السلام (تحت السماء، ثمّ قال في دليل آخر: زر الإمام الطاهر سيد الشهداء) عليه السلام (، فلا يحمل المطلق على المقيّد، بل يحمل المقيّد على كونه أفضل الأفراد.

هذا هو المشهور بين الأصحاب، و إنّما الكلام في وجه هذا الحكم، فقد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة:

1.» الغالب في باب المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبية «(1)، فتكون تلك الغلبة قرينة على إرادة الأفضلية من القيد الوارد في

ص:723


1- كفاية الأُصول: 1/393.

المستحبّات، و انّ العمل معه من أفضل الأفراد.

يلاحظ عليه: ما ذا يراد من الغلبة؟ و هل المراد، هو الغلبة في الوجود و أنّ القيود في المستحبّات حسب التتبّع قيود لمراتب الفضيلة و تأكّد الاستحباب، فيكون ذلك دليلاً على حمل الأمر بالمقيّد على مورد الغلبة، و من المعلوم أنّ كثرة الوجود لا يوجب الانصراف؟ أو المراد كثرة استعمال المقيّد في المستحبّات في أفضل الأفراد لكن الكلام في إحراز هذه الكثرة بمعنى أنّ الفقيه تتبع موارد الاستعمالات فوقف على أنّ المتكلّم استعمل الأمر بالمقيّد في المستحبات في ذات المرتبة العليا؟ و أنّى لنا إثبات ذلك.

2. إنّه مقتضى أدلّة التسامح في أدلّة المستحبات، و قد روى صفوان عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (أنّه قال:» من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (لم يقله «.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان القيد متصلاً بالمطلق فالحكم على إطلاقه لم يصل فلا يكون مورداً للرواية، و إن كان القيد منفصلاً، فالحكم على إطلاقه و إن وصل لكنّ أدلّة التسامح في السنن مختصّة بجبر السند لا جبر الدلالة، و المشكلة في المقام ليست في السند، و إنّما هي في الدلالة، بشهادة قوله في رواية صفوان:» و إن كان رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (لم يقله «.

3. ما أفاده المحقّق النائيني بقوله: إنّه إذا لم يكن الأمر إلزامياً فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد منهما، و الوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحكم المتعلّق بالمقيد غير إلزامي جازت مخالفته، فلا تكون منافاة حينئذ بينه و بين

ص:724


1- وسائل الشيعة: 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 1.

إطلاق متعلّق الحكم الآخر، المستلزم لجواز تطبيقه على كلّ فرد أراد المكلّف تطبيقه عليه في الخارج، و من الواضح أنّه مع عدم المنافاة بينهما لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد، ضرورة أنّ المنافاة إنّما ترتفع بعدم الإلزام و بالترخيص في ترك امتثال الحكم المتعلّق به فلا يكون هناك مانع من التمسّك بإطلاق متعلّق الحكم الآخر، سواء كان إلزامياً أم كان غير إلزامي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ مجرّد كون الأمر بالمقيد غير إلزامي لا يكون سبباً للأخذ بالمطلق و إلغاء القيد بحجّة أنّ العمل بالمقيّد غير واجب، بل الحقّ هو التفصيل بين كون القيد إرشاداً إلى الشرطيّة أو الجزئية أو المانعيّة و غيره، ففي الصورة الأُولى لا محيص عن حمل المطلق على المقيّد إذ في هذه الصورة يكون القيد مقوّماً للعبادة.

و لأجل ذلك لا تصحّ صلاة الليل بلا طهور و لا قبلة، و ما ذلك إلاّ لأنّ أصل الصلاة و إن كان غير واجب لكن حقيقة الصلاة الليلية تنتفي بانتفاء أحدهما.

ثمّ إذا تردّد القيد بين كونه إرشاداً إلى الشرطية أو الجزئية أو المانعيّة أو كونه ناظراً لبيان الدرجة العليا من المستحب، فيتوقّف عن العمل فلا يصحّ الاكتفاء بالمطلق بإلغاء القيد.

تمّ الكلام في القسم الأوّل، أعني: ما إذا لم يذكر السبب في كلّ من المطلق و المقيّد و لنشرع لبيان أحكام القسم الثاني.

القسم الثاني: ما إذا كان السبب مذكوراً

إذا كان السبب مذكوراً فله صور:

ص:725


1- أجود التقريرات: 1/539.

الأُولى: أن يكون السبب في أحدهما غيره في الآخر نوعاً، كما إذا قال: إذا أفطرت أعتق رقبة، ثمّ قال: إذا ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة، فلا وجه للحمل، لعدم التنافي بين الحكمين، و بالتالي عدم وحدة الحكم.

الثانية: إذا كان السبب مذكوراً فيهما، و يكونان متّحدين نوعاً، كما إذا قال: إذا أفطرت أعتق رقبة، و إذا أفطرت أعتق رقبة مؤمنة، فالجمع بين الدليلين و إن كان يمكن بحمل المقيّد على أفضل الأفراد، لكن الرائج في طرف التشريع هو حمل المقيّد على المطلق.

الثالثة: إذا كان السبب مذكوراً في واحد منهما إذا كان السبب مذكوراً في أحدهما، كما إذا قال: أعتق رقبة، و قال: إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة، فلو كان السبب مذكوراً في كليهما نستكشف من وحدة السبب وحدة الحكم، و أمّا إذا كان السبب مذكوراً في واحد دون الآخر، فبما أنّ وحدة الحكم ليست بمحرزة فنحتمل أن يكون هنا غرضان تامّان، أحدهما يتحقّق بعتق مطلق الرقبة، و الآخر بعتق الرقبة المؤمنة، فلا وجه للجمع كما لا وجه للاقتصار على خصوص عتق الرقبة المؤمنة، لما عرفت من أنّ مرجع الشكّ في حصول الامتثال و سقوط التكليف.

ص:726

الفصل الخامس في المجمل و المبيّن و المحكم و المتشابه

اشارة

قد أردف الأُصوليّون البحثَ في المطلق و المقيّد بالبحث في المجمل و المبيّن، و كان الأنسبُ عطفَ المحكم و المتشابه عليهما ليبحث عن الجميع في مقام واحد، و لعلّ تركهم البحث عن الأخيرين لأجل أنّ آيات الأحكام كلّها محكمة و ليس فيها آية متشابهة بخلاف المجمل و المبيّن، و على كلّ تقدير فنحن نطرح الجميع لما بينها من الصلة،

و يقع الكلام في أُمور:

1. المجمل و المبيّن لغة و اصطلاحاً

الإجمال في اللغة هو الجمع بلا تفصيل، يقال أجملتُ الشيء إجمالاً: جمعتَه من غير تفصيل.(1)

قال سبحانه: (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً )(2)،

ص:727


1- الفيومي: المصباح المنير، مادة» جمل «.
2- الفرقان: 32.

أي دفعة واحدة بلا فاصل زماني كنزول التوراة على الكليم في الميقات. و يقابله المبيّن فمادته تحكي عن الوضوح. يقال: بأن الأمر يبين، فهو بيّن، و أبان و استبان: كلّها للوضوح و الانكشاف.(1)

و أمّا اصطلاحاً، فكلّ كلام يكون قالباً للمعنى فهو مبيّن، و خلافه مجمل، فكأنّ المبيّن فيه تفصيل، بخلاف المجمل فيه جمع.

2. الإجمال و البيان وصفان نفسيان

إنّ الإجمال و البيان وصفان نفسيّان للكلام، يجمعهما كون اللفظ قالباً للمعنى و عدمه، و هذا شيء يوصف به الكلام بما هو هو من دون إضافة إلى شخص.

لكن الظاهر من المحقّق الخراساني» أنّهما وصفان إضافيّان ربما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حَفَّ به لديه، و مبيّناً لدى الآخر لمعرفته و عدم التصادم بنظره «.

يلاحظ عليه: إذا كان الملاك كونَ اللفظ على قَدَر المعنى و خلافه، يكون الإجمال و البيان وصفان نفسيّان للكلام سواء أ كان هناك مخاطب أو لا، أو كان المخاطب عالماً باللغة أو لا.

أضف إلى ذلك انّه لو كان ملاك الإجمال جهل المخاطب باللغة، يلزم أن يكون القرآن كلّه مجملاً عند من لا يعرف لغته، و مبيّناً عند من يعرف، و من المقطوع عدم إرادة هذا منهما.

نعم يمكن وصف الإجمال و البيان بالنسبيّة لكن لا بهذا المعنى بل بمعنى آخر هو أن يكون الكلام مبيّناً من جهة و مجملاً من جهة أُخرى، فقوله سبحانه:

ص:728


1- المصباح المنير، مادة بين.

(وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (1)مبين من حيث الفعل) القطع (، مجمل من حيث المتعلّق، فإنّ اليد يطلق على أُصول الأصابع و الزند و المرفق و المنكب.

3. ما هو منشأ الإجمال؟

إنّ منشأ الإجمال غالباً أحد الأمرين التاليين:

أ. إجمال المفردات.

ب. إجمال الهيئة التركيبية.

فالأوّل كاليد في آية السرقة كما مرّت، و آية التيمم، أعني قوله: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ).(2)

و أمّا الثاني كقوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «أو» لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد «لتردّد الهيئة بين نفي الحقيقة أو نفي الصحة أو نفي الكمال.

4. ذكر نماذج من المجملات

أ. قال سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ).(3)

فإنّ الإجمال في قوله: (اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) حيث إنّه مردّد بين كون المراد منه وليّ الزوجة أو نفس الزوج، فلو أُريد الأوّل فمعنى ذلك أنّ الزوجة المطلّقة و وليّها يعفوان نصفَ المهر الواجب بالطلاق قبل المسّ، فيُفرضُ الكلام فيما إذا لم يدفع المهر لا كلاً و لا جزءاً.

ص:729


1- المائدة: 38.
2- المائدة: 6.
3- البقرة: 237.

و لو أُريد الثاني يكون المعنى أنّ الزوج لا يطلب النصف الباقي، فيفرض الكلام فيما إذا دفع جميع المهر و طلّق قبل المس فيعفو عن النصف الباقي و لا يأخذ شيئاً.

ب: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ ).(1)

ج: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ ).(2)

د. (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).(3)

و إنّما عدّت هذه الآيات من المجمل لأجل أنّ التحريم فيها أسند إلى الأعيان مع أنّه من عوارض فعل المكلّف لا المتعلّق و لذلك طرأ الإجمال عليها.

لكن الأظهر بمناسبة مقتضى الحكم و الموضوع هو أنّ المحرّم في هذه الآيات هو الأثر البارز المقصود من الشيء، و هو الأكل في المأكولات، و الشرب في المشروبات، و اللعب في آلات القمار، و العبادة في مظاهر الأُلوهية، و النكاح في النساء، و عند ذلك يرتفع الإجمال.

نعم يبقى الكلام في قوله سبحانه: (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ).(4)

فهل المراد من الصيد هو فعل المكلّف فيكون هو حراماً لا الأكل من المصيد أو المراد نفس المصيد فيكون أكله أيضاً حراماً و إن صاده المحلّ فالمحرِم لا يأكل صيد البرّ مطلقاً. صاده المحرم أو المحلّ.(5)

ص:730


1- المائدة: 3.
2- النساء: 23.
3- المائدة: 90.
4- المائدة: 96.
5- مجمع البيان: 2/246.

المحكم و المتشابه

اشارة

الأصل في تقسيم الآيات إلى قسمين: محكم و متشابه هو قوله سبحانه في سورة آل عمران: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ ).(1)

و استقصاء الكلام في الآية يقتضي البحث في أُمور:
اشارة

1. ما هو المراد من المحكم و المتشابه.

2. ما هو المراد من التأويل؟ 3. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة؟ 4. هل الراسخون في العلم يعلمون التأويل أو لا؟ و إليك الكلام في الجميع واحداً بعد الآخر:

1. المحكم و المتشابه لغة و قرآناً

1. المحكم من الحُكْم و هو بمعنى المنع و منها الحِكْمة لأنّها تمنع صاحبها من فضول الكلام و رذائل الأخلاق، و يطلق على اللجام» الحكيمة «لأنّها تمنع

ص:731


1- آل عمران: 7.

الدابّة من الجموح و الحركة، و لو وصف البناء أو المصنوع بالاستحكام لأنّه يمنع عن تسرّب الخراب إليه.

2. المتشابه هو الشيء غير الواضح يشتبه بشيء آخر يقول سبحانه: (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ).(1)

و المعنى إنّ أهل الجنّة كلّما رزقوا من رزق، يقولون: (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ )(2)، و لكنّه ليس منه و إنّما أوقعهم في هذا، التشابه بين الثمرتين في اللون و الحجم مع الاختلاف في الطعم و الجودة.

يقول سبحانه: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ). (3)أي لم يتميز ما هو الواجب لغاية الذبح، عن غيره.

و يقال للشبهة شبهة لأنّها تُشبه الحقّ.

إنّه سبحانه يصف الأعناب و الزيتون و الرمان بالمشتبه و غير المتشابه، و يقول:

(وَ جَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ ).(4)

و في آية أُخرى يصف خصوص الزيتون و الرّمّان متشابهاً و يقول:

(وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ).(5)

فالمراد إمّا تشابه أحدهما بالآخر من حيث الظاهر و اختلافهما من حيث الطعم أو تشابه أصناف كلّ نوع بصنف آخر و الاختلاف في أمر آخر.

ص:732


1- البقرة: 25.
2- البقرة: 25.
3- البقرة: 70.
4- الأنعام: 99.
5- الأنعام: 141.

و ينتزع من المجموع أنّ التشابه هو كون الشيء على نحو يشتبه لغيره و لا يتميز عنه بسهولة.

إلى هنا تمّ الكلام في معنى المحكم و المتشابه لغة، و أمّا قرآناً فالميزان في وصف الآية بالإحكام و التشابه هو الدلالة، فإذا كان الكلام واضح الدلالة، فهو في الإتقان و الرصانة بمكان تمنع عن الاحتمال الآخر، و هذا بخلاف المتشابه، فبما أنّ دلالتها ليست على حدّ تمنع عن تشابه المقصود بغيره، ففي بادئ النظر يرد إلى الذهن وجوه و احتمالات يحتملها لفظ الآية في بادئ النظر. أحدها هو المقصود و الباقي ليس بمقصود.

فإن قلت: إنّه سبحانه قسّم في الآية السابقة، الآيات القرآنية إلى قسم محكم و قسم متشابه مع أنّ بعض الآيات يصف الجميع بالإحكام كما أنّ البعض الآخر يصف الجميع بالمتشابه.

أمّا الأوّل فهو قوله سبحانه: (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ).(1)

و أمّا الثاني فهو قوله سبحانه: (اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ).(2)

قلت: إنّ تقسيم الآيات إلى محكم و متشابه بملاك و وصف جميع الآيات بالاستحكام بملاك آخر.

فالملاك في تقسيم الآية إلى المحكم و المتشابه دلالة الآية، فالآية إذا كانت

ص:733


1- هود: 1.
2- الزمر: 23.

محكمة الدلالة و مبيّن المراد يوصف بالمحكم، و إذا كانت غير واضحة الدلالة و متزلزلها توصف بالمتشابه.

و أمّا وصف جميع الآيات بالإحكام فبملاك آخر إمّا المضمون و هو أنّ مضامين القرآن مضامين متقنة لا يتطرق إليه الباطل، فلا يبلى و لا يخلق بل يكون طريّاً في كلّ عصر أو النظم حيث نظمت نظماً رصيناً لا يقع فيه نقص و لا خلل كالبناء المحكم المرصف.(1)

و يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها و تشتّت مقاصدها و أغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، و غرض فارد أصلي لا تكثّر فيه و لا تشتّت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصداً من المقاصد و لا ترمي إلى هدف إلاّ و الغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه و الحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتّت آياته و تفرّق أبعاضه إلاّ غرض واحد متوحّد إذا فصّل كان في مورد أصلاً دينياً و في آخر أمراً خلقياً و في ثالث حكماً شرعياً، و هكذا كلّما تنزّل من الأُصول إلى فروعها و من الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، و لا يخطي غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كلّ واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد و الأخلاق و الأعمال، و هي بتحليلها و إرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.(2)

هذا كلّه حول الأحكام، و أمّا التشابه فقد علمت أنّ التقسيم بملاك

ص:734


1- الكشاف: 2/89.
2- الميزان: 13711/136.

الدلالة، و أمّا وصف الكلّ بالمتشابه، فالمراد التشابه و التماثل من حيث المضمون حيث إنّ مضمون بعضه يشابه الآخر و يؤكّده، و يدلّ على ذلك أنّه سبحانه يقول: (مَثانِيَ ) أي متكرّراً يشبه بعضه بعضاً، فكم تكرّرت قصة آدم و موسى في القرآن الكريم، و كم تكررت الآيات المندّدة بالشرك و عبادة الأصنام، و غير ذلك.

ما هو المراد من الآية المتشابهة؟

اختلفت أنظار المفسّرين في مصاديق المتشابه في الآية الكريمة إلى أقوال ربما يناهض ستة عشر قولاً(1)، و نحن نذكر منها ما هو المهمّ:

1. المتشابه هو الخارج عن اطار العقل و الحسّ

المتشابه عبارة عن الموضوعات الواردة في القرآن الكريم الخارجة عن اطار الحس و العقل و الّتي لا يقدر الإنسان على درك حقيقته و كنهه كذاته سبحانه و حقيقة صفاته و العوالم الغيبية كالملك و الجنّ و الروح و البرزخ و الميزان و غير ذلك من الأُمور التي لا يمكن للإنسان الدنيوي درك حقائقها، بل يُطلب منه الإيمان بها، لقوله سبحانه: (اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ).(2)

يلاحظ عليه: أنّ النظرية لا تنسجم مع الخصوصيات المذكورة للمتشابه في الآية الكريمة و ذلك:

أوّلاً: إنّ المتشابه عبارة عن شيء يشبه الشيء الآخر، و يصعب للإنسان تمييزهما كالتوأمين و الثمار المتشابهة، و هذا غير كون الشيء مجهول الحقيقة مبهم الماهية لا يدخل في إطار أدوات المعرفة كما مثّل، فما ذكر من العوالم الغيبيّة

ص:735


1- مفاتيح الغيب: 2/417; المنار: 1653/163; الميزان: 393/32.
2- تفسير المنار: 2/167; و لاحظ الإتقان: 3/1، و هذه النظرية خيرة ابن تيمية و من تبعه.

مبهمات لا متشابهات، مجهولات لا متماثلات.

و ثانياً: إنّ وصف المحكمات بكونها أُمّ الكتاب لبيان أنّ رفع التشابه من الآيات المتشابهة يتحقّق بإرجاعها إلى المحكمات، و أمّا العوالم الغيبية فهي حقائق مغمورة لا توضح بالرجوع إلى أيّ آية من الآيات.

و ثالثاً: إنّ الآية تصرّح بأنّ أصحاب الأهواء يتبعون الآيات المتشابهة مكان الاتباع للمحكمات، و هذا فرع أن يكون للآية المتشابهة ظهور ما، و أمّا العوالم الغيبية فليس هناك أيّ ظهور لها حتّى يتّبع.

و رابعاً: إنّ المتشابه، آية متشابهة من أوّلها إلى آخرها يشتبه المراد منها بغيره، و أمّا العوالم الغيبية فهي مفردات لا آيات، فقوله سبحانه: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (1)آية محكمة واضحة الدلالة، مبيّنة المقصد، و إجمال حقيقة الجن لا يوجد في الآية أي تشابه.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار هذا الرأي هو أنّ ابن تيميّة ممّن يحمل الصفات الخبرية كالاستواء على العرش، و البناء بالأيدي و غيرهما على معانيها اللغويّة فهي عندها من المحكمات و إن استلزمت التشبيه و التجسيم و الجهة للّه سبحانه مع أنّها عند المشهور، متشابهات تُفسر في ضوء المحكمات و لأجل ذلك اضطرّ إلى تفسير المتشابه بالعوالم الغيبيّة الّتي هي مجهولات مبهمات لا متشابهات.

و خامساً: انّ الآية تحكي عن أنّ أصحاب الأهواء يثيرون الفتنة بالآيات المتشابهة، و لم تكن العوالم الغيبية كالروح و الجنّ و الملك سبباً لإثارة الفتنة، بخلاف ما نذكره من الصفات الخبرية، فإنّها لم تزل و ما زالت سبباً لإثارة الفتنة و قد فرّقت كلمة الأُمّة و جعلتها طائفتين أو طوائف.

ص:736


1- الذاريات: 56.

إنّك ترى أنّ الوهّابية التابعة لمنهج ابن تيمية لم تزل تنشر رسائل حول الصفات الخبرية و تصرّ على أنّها محمولة على اللّه بنفس معانيها اللغوية، غاية الأمر يردفها أسيادهم بقولهم» بلا كيف «و يقولون له سبحانه أيد لا كأيدينا و عرش لا كعرشنا، إلى غير ذلك.

2. المتشابه و الحروف المتقطّعة

هذه هي النظرية الثانية، ذكرها الطبري في ضمن رواية حاصلها أنّ ياسر بن أخطب مرّ برسول اللّه ) صلى الله عليه و آله و سلم (و هو يتلو فاتحة سورة البقرة: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) فاخبر به أخاه » حُيَيّ بن أخطب «فتمشى هو مع رجال من اليهود إلى رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقالوا يا محمّد أ لم تذكر أنّك تتلو فيما أنزل عليك: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ ) فقال نعم فقال: حيي: الألف واحدة و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، فهذه إحدى و سبعون و هذا مدّة نبوّتك ثمّ أقبل على رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال: يا محمّد هل مع هذا غيره؟ فقال) صلى الله عليه و آله و سلم (: نعم. قال: ما ذا؟ قال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» المص «فقال: هذه أثقل و أطول، الألف واحدة، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فهذه مائة و إحدى و ستون سنة. و لم يزل يسأل النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و هو يقرأ الحروف المقطّعة و يحاسب على حساب الحروف الهجائية فلمّا وصلوا إلى سبعمائة سنة و أربع و ثلاثون فقالوا لقد تشابه علينا أمره فنزل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ) الخ.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحديث ضعيف سنداً لأنّه مرويّ عن سلمة بن فضل الذي جرحه علماء الرجال، حيث قال أبو حاتم الرازي في كتابه الجرح و التعديل:» في حديثه إنكار، ليس بقويّ، لا يمكن أن أطلق لساني فيه بأكثر من هذا «.(2)

ص:737


1- الطبري: التفسير: 1/71 و ج 3/118.
2- الجرح و التعديل: 169، ط الهند.

كما انّه مطرود دلالة، و ذلك لأنّ ظاهر الرواية أنّ حُييّ اليهودي كان يتلاعب بالحروف المقطعة و يحدّد مدّة نبوّة النبي و هو) صلى الله عليه و آله و سلم (ساكت في مقابل تلاعبه بها، و هذا لا يناسب شأن النبي الأعظم في حقّ اللاعبين بآيات اللّه.

أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الآية أنّ أصحاب الفتنة يؤمنون بمجموع القرآن و لكن يتبعون خصوص المتشابه، و هذا لا ينطبق على شأن النزول، فإنّ اليهود كانوا يرفضون القرآن كله.

بل الظاهر من الرواية أنّهم لم يتبعوا المتشابه، بل قاموا قائلين: لقد تشابه علينا أمره.

3. النظرية المعروفة

إنّ الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: محكم واضح الدلالة، مبيّن المقاصد، و متشابه يشتبه مدلوله الواقعي بغير الواقعي، و يرتفع التشابه إذا لوحظت مع سائر الآيات.

و إنّما يعرض التشابه للآية لا لقصور في اللفظ أو في الهيئة التركيبية، بل لأجل أنّ المعارف الإلهيّة إذا نزلت إلى سطوح الأفهام العادية، و أُريد بيانها بالألفاظ الدارجة التي وضعت لبيان المعاني الحسّية الملموسة، عرض لها التشابه في المقاصد، فإنّ الألفاظ الدارجة إنّما وضعت للاستعانة بها في إلقاء المقاصد العرفية الحسّيّة، فإلقاء المعارف العقلية العليا بهذه الوسيلة، لا تنفك عن عروض التشابه لها.

و هناك سبب آخر للتشابه و هو استخدام المجاز و الاستعارة و الكناية في حلبة البلاغة فتصير الآية متشابهة المراد، لا بحسب المعنى المستعمل فيه، بل

ص:738

حسب المعنى الجدّي فيؤخذ بالمستعمل فيه، و يترك المقصد الجدّي الذي سيق لأجله الكلام لابتغاء الفتنة، كما قال سبحانه.

و ها نحن نذكر فهرساً إجمالياً من الآيات الظاهرة في التجسيم و التشبيه و الجبر و الحركة و الجهة للّه سبحانه، و من المعلوم أنّ ظواهر هذه الآيات المتزلزلة الدلالة، لا تنسجم مع المحكمات، و ما ذلك إلاّ لأنّ ظهورها ظهور بدوي لا استقراري، أفرادي لا جملي، تصوّري لا تصديقي، و لا قيمة لهذه الظهورات ما لم تنتهِ إلى الظهور الاستقراري، الجملي، التصديقي.

1. العين، كقوله سبحانه: (وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ).(1)

2. اليمين، كقوله سبحانه: (وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ ).(2)

3. الاستواء، كقوله سبحانه: (اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ).(3)

4. النفس، كقوله سبحانه: (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ).(4)

5. الوجه، كقوله سبحانه: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ).(5)

6. الساق، كقوله سبحانه: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ).(6)

7. الجنب، كقوله سبحانه: (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ).(7)

8. القرب، كقوله سبحانه: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ ).(8)

9. المجيء، كقوله سبحانه: (وَ جاءَ رَبُّكَ ).(9)

ص:739


1- طه: 39.
2- الزمر: 67.
3- طه: 5.
4- المائدة: 116.
5- البقرة: 115.
6- القلم: 42.
7- الزمر: 56.
8- البقرة: 186.
9- الفجر: 22.

10. الإتيان، كما قال سبحانه: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ).(1)

11. الغضب، كما في قوله: (وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ).(2)

12. الرضا، كما في قوله: (رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ).(3)

و نظير ذلك الآيات الدالّة على الجبر نحو قوله: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ).

نعم إنّ كلتا الطائفتين يؤوّلون المتشابهات، فأصحاب الزيغ يأخذون بالظاهر المتزلزل ذريعة لنشر البدع و الضلالات، و أمّا الآخرون فيؤوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هنّ أُمّ الكتاب.

2. ما هو المراد من التأويل؟

إلى هنا تعرّفنا على الآيات المتشابهة، و حان حين البحث عن تأويلها، سواء أ كان من أصحاب الزيغ أو من غيرهم، فنقول: إنّ التأويل في مصطلح العلماء صرف الظاهر المستقرّ عن ظاهره، و هذا التفسير للتأويل مصطلح للعلماء و لا صلة له بالتأويل في القرآن الكريم، و أمّا تأويل المتشابه، فهو تحقيق ظهوره، و السعي وراء مراده و إرجاع ظهوره البدوي، إلى الظهور الاستقراريّ، و إليك بيانه:

التأويل مأخوذ من» آل يؤول «بمعنى رجع، قال الراغب الاصفهاني: التأويل من الأول، أي الرجوع إلى الأصل، و منه الموئِل للموضع الذي يرجع إليه، و ذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً.(4)

ص:740


1- الأنعام: 158.
2- الفتح: 6.
3- المائدة: 119.
4- المفردات، مادّة أول.

و على ذلك فالتأويل عبارة عن إرجاع الفعل أو الكلام المبهمين من خلال القرائن الموجودة، إلى واقعه. و قد استعمل في القرآن المجيد في موارد ثلاثة:

أ. تأويل الفعل

يصف القرآن الكريم ردّ المنازعات إلى اللّه و الرسول بقوله: (أَحْسَنُ تَأْوِيلاً )، و يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ).(1)

أي أحسن مآلاً، لأنّ في الرجوع إلى اللّه و الرسول إحقاقاً للحق و إبطالاً للباطل، على خلاف الرجوع إلى الجبت و الطاغوت.

و من هذا القبيل وصف الكيل بالعدل و الإنصاف بقوله: (أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) يقول سبحانه: (وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) فالمراد أحسن مآلاً لما يترتّب على إجراء العدل في عمليّة الوزن من المصالح و الغايات الصحيحة.

فالتأويل في هذه الآيات بمعنى المآل و المرجع بما يترتب عليه من المصالح.

ب. تأويل النوم

قد شاع إضافة التأويل إلى الرؤيا في القرآن الكريم في غير واحد من الآيات نظير:

1. رؤية يوسف سجود أحد عشر كوكباً مع الشمس و القمر له.

ص:741


1- النساء: 59.

2. رؤية أحد مصاحبيه في السجن أنّه يعصر خمراً.

3. رؤية مصاحبه الآخر أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل منه الطير.

4. رؤية الملك سبع بقرات سمان و سبع عجاف.

فالتأويل في هذه الموارد عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى حقيقتها، فإنّ الإنسان في الرؤيا الصادقة يرى الواقع نفسه و لكن القوة المتخيّلة إلى حين الانتباه تتصرّف في ما رآه و تتغيّر كيفية الرؤيا و شكلها، فالتأويل عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى أُصولها و جذورها التي كانت عليها.

ج. تأويل المتشابه قد تعرّفت على أنّ التأويل ربما يوصف به الفعل و أُخرى به الرؤيا و ثالثة الكلام، و ليس المراد منه في القرآن الكريم هو صرف الظاهر عن وضعه الأصلي، و إن ذكره ابن منظور في لسانه،(1) فقال المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.

فلو صحّ ما ذكره فإنّما هو مصطلح جديد لا صلة له بالقرآن الكريم فإنّ ظاهر القرآن المستقرّ يستحيل منه العدول إلى معنى آخر، إذ معنى ذلك أنّ القرآن يشتمل على ما لا يوافق العقل و العلم، فيُعدل عن الظاهر لرفع التناقض، سبحان من لا يناقض كلامُه حكمَ العقل الحصيف، و العلم الصحيح، بل الوحي و العقل و العلم يسيرون جنباً إلى جنب، و للتأويل في القرآن عند ما يقع وصفاً للكلام معنى آخر و هو الذي نذكره:

التأويل عبارة عن إرجاع الكلام الذي له ظهور بدويّ غير مستقرّ، إلى

ص:742


1- لسان العرب، ج 11، مادّة أول.

الظهور النهائي الاستقراري بالإمعان في القرائن المكتنفة بالآية.

و ها نحن نذكر نماذج من هذا التأويل الذي هو بمعنى تحقيق ظهور الآية و إنهاء الظهور البدوي إلى الظهور النهائي.

1. إنّه سبحانه يحيط بالظالمين في الدنيا و الآخرة إحاطة قيّوميّة، فيحيط بالإنسان بشراشر وجوده و خصوصياته، يقول سبحانه: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ).(1)

و يقول سبحانه: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ).(2)

فهاتان الآيتان من الآيات المحكمة تبيّن لنا إحاطة وجوده سبحانه بعامة الممكنات إحاطة قيّوميّة.

و لكنّه سبحانه و تعالى يبيّن تلك الإحاطة القيّومية في مورد الظالم بتشبيه خاص بغية تقريب المراد و يقول: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ).(3)

و ما ذلك إلاّ لأجل تشبيه الإحاطة القيومية بالأمر الحسّي و عند ذلك يعرض التشابه، و ما ذلك إلاّ لأنّ السلطة الحقيقية عند الناس هي سلطة الصياد بصيده إذا جلس في المرصاد و أخفى نفسه عنه و هو يراه و لا يراه هو، فالآية لأجل تقريب سلطته الإحاطية إلى الأذهان يستخدم كلمة المرصاد، و عندئذ يعرض التشابه للآية، لكن أين سلطته سبحانه على الناس، من سلطة الصياد على الصيد.

و على ضوء ذلك فالآية متشابهة من حيث الظهور البدوي، و لكن بالإمعان

ص:743


1- الحديد: 4.
2- المجادلة: 7.
3- الفجر: 14.

في نفس الآية و مقارنتها بالآيات الأُخرى يتبيّن أنّ الغرض تشبيه الإحاطة العقلية بالإحاطة الحسّية تقريباً للأذهان و معاذ اللّه أن تكون إحاطته بالإنسان كإحاطة الصيّاد بصيد.

2. إنّه سبحانه يريد أن يبيّن عظمته يوم القيامة، فبيّنها بقوله: (كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى ).(1)

و هو بظاهره يفيد، نسبة المجيء إليه سبحانه و بالتالي جسميته و الذي أوقع التشابه فيه، أي تشابه المراد هو نزول المعارف العقلية العليا إلى موقع الحس و اللمس. فإنّ ظهور عظمته و قهره يوم القيامة باندكاك الجبال و ظهور جهنّم يعد مجيئاً له.

3. يقول سبحانه: (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ )(2).

فأصحاب الأهواء يثبتون له سبحانه يدين جسمانيتين، أو يقولون لا نعلم كيفيتهما، و لكنّه لو أُمعن النظر يعلم أنّ التصريح بأنّه سبحانه خلق آدم بيديه كناية عن الاهتمام بخلقة آدم حيث خلقه و نفخ فيه من روحه و علّمه الأسماء حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم و أنّه ترك السجود لما قام بخلقته مباشرة و إنّما أتى » باليدين «لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد، يقول: هذا البناء بنيته بيدي، مع أنّه استعان في عمله هذا بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء، و كأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممتُ بخلقه و صنعه.

4. قوله سبحانه: (اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (3)في اللغة هو السرير،

ص:744


1- الفجر: 21 23.
2- ص: 75.
3- طه: 5.

و الاستواء عليه هو الجلوس، غير أنّ هذا حكم مفرداتها، و أمّا مع الجملة فيتفرع الاستظهار منها، على القرائن الحافّة بها، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو و الاستيلاء، و حملها على غير ذلك يعد تصرفاً في الظاهر، و تأويلاً لها، فإذا سمع العرب قول القائل:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق

أو سمع قول الشاعر:

و لما علونا و استوينا عليهم تركناهم مرعى لنسر و كاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو و السيطرة و السلطة لا العلو المكاني الذي يعد كمالاً للجسم، و أين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات؟! و قد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات(1) مقترناً بذكر فعل من أفعاله، و هو رفع السماوات بغير عمد، أو خلق السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيّام، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني، بل الاستيلاء و السيطرة على العالم كلّه، فكما لا شريك له في الخلق و الإيجاد لا شريك له أيضاً في التدبير و السلطة، و لأجل ذلك يقول في ذيل بعض هذه الآيات: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ).(2)

و لو لم يفسّر الاستواء بما ذكرناه، يكون ذكر جلوسه على السرير في ثنايا ذكر أفعاله، بلا مناسبة، إذ أي نكتة في الإخبار عن جلوسه على سريره، لو لم يكن كناية عن استيلائه على عالم الخلق و الكون.

ص:745


1- الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، طه: 5، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4.
2- الأعراف: 54.
3. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة؟

إنّ أصحاب القلوب الزائغة لا يريدون الاهتداء بهدى القرآن الكريم، و إنّما يتبنّون عقيدة أو فكرة أو سلوكاً خاصّاً فيرجعون إلى القرآن بغية الاستدلال عليها، و لأجل ذلك يأخذون من الآيات المتشابهة ما تؤيد ظهورها المتزلزلة مقاصدَهم، و إليك نموذجاً:

إنّ روّاد الجبر الذين يتظاهرون به بغية الانحلال الأخلاقي و الحرّية في السلوك، يتمسّكون بقوله سبحانه: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (1)و يبثّون فكرة الجبر الذي هو بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في مجال الهداية و الضلالة و الإيمان و الكفر و الطاعة و العصيان فكأنّ الإنسان ريشة في مهبّ الريح.

غير أنّ الراسخين في العلم يؤوّلون الآية و يرجعونها إلى واقعها المراد، و هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ الفيوض المعنوية و المادّية كلّها بيد اللّه سبحانه و لا يملك الإنسان شيئاً من ذلك، و لكن لا بمعنى وجود الفوضى في هداية الإنسان و إضلاله و إنّما يتّبعان الأرضية الصالحة التي يكتسبها العبد باختياره و يستحق الهداية أو الضلالة.

و قد صرّح سبحانه في آيات أُخرى بذلك، يقول سبحانه: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ )(2)، و يقول: (إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ )(3). و يقول: (إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ).(4)

فهذه الآيات تفسّر لنا إضلال اللّه سبحانه و أنّه جزاء من اللّه سبحانه لمن

ص:746


1- النحل: 93.
2- البقرة: 26.
3- الأنعام: 144.
4- الرعد: 27.

خرج عن طاعته) الفاسقون (و عدّ من الظالمين كما أنّ الهداية جزاء منه سبحانه لمن هو أناب إلى اللّه سبحانه، فلا يصحّ تفسير هذه الآيات إلاّ بردّ المتشابه إلى المحكم.

4. الراسخون في العلم و التأويل

إنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه بشهادة أنّهم راسخون في العلم، و لو كانوا غير عالمين به لكان الصحيح أن يقول و أمّا الراسخون في الإيمان، و قد تضافرت الروايات على أنّ أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (هم الراسخون العالمون بتأويل المتشابه. نعم أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (هم المصداق الأوسط لهذا و إلاّ فالراسخون في العلم هم العلماء المتحلّون بالإيمان، الذين لا يؤوّلون المتشابه برأي مسبق و إنّما يعوّلون على الآيات المحكمات في تفسير المتشابهات.

إلى هنا تمّ الكلام في المواضع الأربعة ممّا يرجع إلى المحكم و المتشابه.

إكمال:
اشارة

التأويل في مقابل التنزيل

قد عرفت أنّ تأويل المتشابه إنّما هو إرجاع ظهوره المتزلزل إلى ظهوره المستقرّ على ضوء القرائن الموجودة في الآية و ما في الكتاب العزيز من الآيات المحكمات، و هناك مصطلح آخر للتأويل و هو: التأويل في مقابل التنزيل فللآية تنزيل، كما أنّ لها تأويل، فالمصداق الموجود في عصر الوحي تنزيله، و المصاديق المتحقّقة في الأجيال الآتية تأويله، و هذا من دلائل سعة آفاق القرآن، فالقرآن كما يصفه الإمام يجري مجرى الشمس و القمر، فينتفع منه كلّ جيل في عصره كما ينتفع بالشمس

ص:747

و القمر عامّة الناس في عامّة الأجيال، و لذلك يقول الإمام الصادق) عليه السلام (:» إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل، ماتت الآية مات الكتاب!، و لكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى «.(1)

نموذجان من التأويل في مقابل التنزيل

1. يقول سبحانه: (وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ).(2)

نصّ القرآن الكريم بأنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بشخصه منذر كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد، و قد قام النبيّ بتعيين مصداق الهادي في حديثه، و قال:» أنا المنذر و عليّ الهادي إلى أمري «.(3)

و لكن المصداق لا ينحصر بعلي) عليه السلام (، بل الهداة الذين ظهروا عبر الزمان هم المصاديق الجديدة للآية المباركة، و لذلك نرى الإمام الباقر) عليه السلام (يقول:» رسول اللّه المنذر، و علي الهادي، و كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيه «.(4)

فالمتحلّون بحلية الإيمان و العلم، كلّهم هداة عبر الزمان فالمصاديق المتجددة، تأويل للقرآن مقابل تنزيله.

2. يقول سبحانه: (وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).(5)

فتنزيل الآية هو مشركوا قريش و تأويلها هو الناكثون في عهد الإمام

ص:748


1- نور الثقلين: 2/483، ح 22.
2- الرعد: 7.
3- نور الثقلين: 2/482.
4- نور الثقلين: 2/485.
5- التوبة: 12.

علي) عليه السلام (، و لذلك يقول في حقّهم:» و الذي فلق الجنة و برأ النسمة و اصطفى محمّداً بالنبوّة إنّهم لأصحاب هذه الآية، و ما قوتلوا منذ نزلت «.(1)

و من العجب أنّ النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (هو الذي سمّى هذا النوع من القتال حسب ما ورد في الرواية تأويلاً في مقابل التنزيل، فقال مخاطباً عليّاً) عليه السلام (:» تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتَ معي على تنزيله، ثمّ تُقْتَل شهيداً تخضب لحيتُك من دم رأسك «.(2)

فهذا هو عمّار قاتل في صفّين مرتجزاً بقوله:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله(3)

فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.

الجري و التطبيق هو التأويل في مقابل التنزيل

إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً طائفياً، بل هو كتاب عالمي نزل لهداية الناس عبر القرون، و مع ذلك نرى أنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية فسّرت بأئمّة أهل البيت) عليهم السلام (حتّى أنّ قوله سبحانه: (اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) في سورة الفاتحة فسر بصراط النبيّ و الأئمّة القائمين مقامه.

و هناك من يجهل أهداف هذه الروايات و كيفية تفسيرها للآيات فينسب الشيعة إلى الطائفية.(4)

ص:749


1- نور الثقلين: 2/189; البرهان في تفسير القرآن: 2/106.
2- بحارالأنوار: 40/1، الباب 91.
3- الاستيعاب: 2/472، المطبوع في حاشية الإصابة; مجمع البيان: 1/28.
4- انظر نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنا عشرية: 504.

غير أنّ هذه التفاسير تأويل للقرآن بمعنى بيان مصاديقها الواضحة و معالمها الوسطى و لا تعني اختصاص الآية بهم، و هذا ما يسمّيه سيد المحقّقين العلاّمة الطباطبائي بالجري و التطبيق.

و هذا هو المراد من أنّ للقرآن بطناً أو بطوناً يقول الإمام الصادق) عليه السلام (:» ظهره تنزيله و بطنه تأويله، و منه ما مضى و منه ما لم يجئ بعد، يجري كما تجري الشمس و القمر «.(1)

نحمده سبحانه و نشكره على توفيقه لهذا العبد لتحرير هذه المحاضرات التي ألقاها شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في مباحث الألفاظ و قد لاح بدر تمام هذا الجزء في الثامن من شهر ذي القعدة الحرام من شهور عام 1417 ه و أرجو من اللّه سبحانه أن يجعل جهدي ذخراً لآخرتي و سعيي سبباً لنيل رضاه، فإنّ ما في الكون يفنى سوى ما كان للّه، يقول الشاعر:

تأمل في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنيّة كالخيال

و من فيها جميعاً سوف يُفنى و يبقى وجه ربّك ذو الجلال(2)

أنا الراجي محمد حسين الحاج العاملي عامله اللّه بلطفه الخفي

ص:750


1- مرآة الأنوار: 4.
2- البيتان لمحمد بن أحمد بن عبد اللّه (المتوفّى 988 ه) كما في نفح الطيب: 1/120.

فهرس محتويات الكتاب

كلمة الأُستاذ المحاضر 5 كلمة المؤلّف 7 الفصل الخامس: اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه؟ 9 المسألة أُصولية، و هل هي عقلية أو لفظية؟ 9 الفرق بين الضدّ العام و الخاص و المحاور الثلاثة في هذا الفصل 10 المحور الأوّل: الضد العام 11 هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العام أو لا؟ 11 المحور الثاني: اقتضاء الأمر، النهي عن الضدّ الخاص 14 إنكار المقدمية لوجوه ثلاث 16

ص:751

الاستدلال بمسلك الملازمة و انّ المتلازمين متساويان في الحكم 26 المحور الثالث: في الثمرة الفقهية 30 الأوّل: كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة 32 الثاني: كفاية قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة 33 الأمر بالضدين على نحو الترتّب 36 الثالث: في تعريف الترتّب 39 الرابع: صحّة الترتّب و عدمها عقلي 39 الخامس: الترتّب يكفي في وقوعه إمكانه 40 السادس: الأمر بالمهم فعليّ كالأهم 40 تقريبات لتصحيح الترتّب التقريب الأوّل للترتّب 43 نقد المحقّق الخراساني دليل القائل بالترتّب 43 الاستدلال على بطلان الترتّب بطريق الإنّ 52 التقريب الثاني لتصحيح الترتّب 56 التقريب الثالث لتصحيح الترتّب 58 التقريب الرابع لتصحيح الترتّب 60 التقريب الخامس لتصحيح الترتّب 62 الفروع الفقهية المترتّبة على صحّة الترتّب 73 خاتمة المطاف: نظرية الأمر بالأهم و المهم عرضاً لا بنحو الترتّب 78

ص:752

الفصل السادس: في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه 89 ما هو المراد من العنوان و حكم الأوامر الامتحانية؟ 89 ما ذكره السيد الأُستاذ في تفسير العنوان 90 الفصل السابع: هل الأوامر و النواهي تتعلّق بالطبائع أو الافراد؟ 92 الأوّل: ليس النزاع في الدلالة اللفظية 92 الثاني: ليس النزاع مبنيّاً على المسائل الفلسفية 93 الثالث: ما هو المراد من الطبيعة؟ 93 الرابع: ما هو المراد من الافراد في عنوان البحث؟ 94 دليل القول المختار 97 أدلّة القول بتعلّقه بالافراد 97 ثمرة البحث 100 تكميل للطبيعة أفراد لا حصص 102 الفصل الثامن: بقاء الجواز عند نسخ الوجوب 106 الموضع الأوّل: إمكان بقاء الجواز 106 الموضع الثاني: فيما يدلّ على بقاء الجواز 109

ص:753

الفصل التاسع: الواجب التخييري 113 شبهات مثارة حول تصوير الواجب التخييري 113 1. نظرية المحقّق الخراساني 114 2. نظرية المحقّق النائيني 119 3. نظرية المحقّق الأصفهاني 122 4. نظرية بعض القدماء 124 5. ما هو المختار في تفسير الوجوب التخييري؟ 124 تصحيح التخيير بين الأقل و الأكثر 127 الفصل العاشر: الواجب الكفائي 133 النظرية الأُولى: تعلّق التكليف بعموم المكلّفين 133 النظرية الثانية: التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين 138 النظرية الثالثة: تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين 139 النظرية الرابعة: تعلّق الوجوب بواحد معيّن 141 ثمرات البحث 142 الفصل الحادي عشر: تقسيم الواجب إلى المطلق و المؤقّت 146 و تقسيم المؤقت إلى الموسّع و المضيّق 146

ص:754

هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد؟ 148 الأصل العملي في المسألة 151 الفصل الثاني عشر: الأمر بالأمر بفعل 154 هل هو أمر بنفس الفعل؟ 154 ثمرات المسألة 155 إثبات شرعية عبادات الصبي بالعمومات 157 الفصل الثالث عشر 159 الأمر بعد الأمر هل الأمر بعد الأمر تأكيد أو تأسيس 159 المقصد الثاني: في النواهي الفصل الأوّل في مادّة النهي و صيغته 163 مفاد الهيئة 164

ص:755

عدم دلالتها على الدوام 164 الفصل الثاني 166 في اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد 166 الأوّل: الفرق بين الاجتماع الآمري و الاجتماع المأموري 166 الثاني: هل النزاع صغروي أو كبرويّ؟ 168 الثالث: ما هو المراد من الواحد في العنوان؟ 170 الرابع: ما هو الفرق بين المسألتين؟ 171 الأمر الخامس: المسألة أُصولية 173 الإشكال على كون المسألة أُصولية 174 السادس: في عموم النزاع لأقسام الأمر و النهي 180 السابع: في لزوم أخذ عنوان المندوحة في النزاع و عدمه 182 الثامن: صحّة النزاع على كلا الرأيين في متعلّق الأحكام 184 بيان للمحقّق النائيني حول التفصيل 186 التاسع: الفرق بين التعارض و التزاحم 187 العاشر: في ثمرات القولين 195 دليل القائلين بامتناع اجتماع الأمر و النهي 204 أدلة القائلين بجواز الاجتماع 211 المقام الأوّل: في إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه 221 المقام الثاني: دفع المحاذير 223 الاستدلال بالعبادات المكروهة 230 تنبيهات 243 1. في حكم الاضطرار إلى الحرام 243 الاضطرار إلى ارتكاب الحرام من غير اختيار 244 في عبادة المحبوس المضطر 245 حكم الاضطرار بسوء الاختيار 248

ص:756

التنبيه الثاني 269 الأوّل: النهي أقوى دلالة من الأمر 270 الثاني: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة 274 دراسة أقسام التوضّؤ بماءين مشتبهين 282 التنبيه الثالث: تعدد الإضافات كتعدّد العناوين أو لا؟ 286 الفصل الثالث 287 في كشف النهي عن الفساد 287 فيه مقامان 287 الفرق بين هذه المسألة 287 المسألة أُصوليّة لا فقهيّة 289 انقسام النهي إلى تحريمي و تنزيهي 291

ص:757

حكم النهي الإرشادي 293 تعريف العبادة و المعاملة 294 معنى الصحّة و الفساد 296 هل الصحّة و الفساد مجعولان مطلقاً؟ 299 ما هو الأصل المعوّل عليه عند الشكّ؟ 304 في أقسام تعلّق النهي بالعبادة 309 المقام الثاني: دلالة النهي على الفساد في المعاملات 323 إكمال: الاستدلال بصحيحة زرارة 327 تذنيب: في ملازمة النهي للصحّة 331 فروع فقهية 336 المقصد الثالث: في المفاهيم، و فيه فصول 341 الأوّل: المنطوق و المفهوم من أوصاف المدلول 341 الثاني: تعريف المفهوم 342 الثالث: حصر المداليل في المنطوق و المفهوم 345

ص:758

وجود اصطلاحين في لفظ المفهوم 348 الرابع: مسلك القدماء و المتأخّرين في استفادة المفهوم 348 الخامس: النزاع صغروي لا كبروي 351 السادس: في مفهوم الموافقة 352 السابع: في الشرط المحقّق للموضوع 353 الفصل الأوّل 354 مفهوم الشرط 354 الأوّل: التبادر 355 الثاني: الانصراف 356 الثالث: التمسّك بالإطلاق 356 الأوّل: الانحصار مقتضى إطلاق أداة الشرط 356 الثاني: الانحصار مقتضى إطلاق فعل الشرط 359 نظرية المحقّق البروجردي 366 ما هو المختار في المقام؟ 367 تنبيهات 371 التنبيه الأوّل: المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه 371 التنبيه الثاني: إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء 378 التنبيه الثالث: تداخل الأسباب و المسببات 386 إطلاق الشرط يقتضي عدم التداخل 389

ص:759

التفصيل بين كون الأسباب معرفات أو مؤثّرات 398 التفصيل بين وحدة الأسباب جنساً و عدمها 400 إذا شكّ في مقتضى الأدلّة الاجتهادية 403 في تداخل المسببات و عدمه 404 إمكان التداخل ثبوتاً و عدمه 405 حجّة القائل بعدم التداخل 407 حجّة القائل بالتداخل 409 بعض الفروع المترتّبة على مسألة التداخل و عدمه 410 السالبة الكلية و مفهومها 412 الفصل الثاني 417 مفهوم الوصف 417 في تعريف مفهوم الوصف 417 أقسام الوصف 420 دراسة أدلّة النافي للمفهوم 427

ص:760

الفصل الثالث 429 في مفهوم الغاية 429 هل للقضية المغيّاة دلالة على ارتفاع الحكم عن الغاية و ما بعدها أو لا؟ 429 الأقوال في المسألة و بيان المختار 430 في دخول الغاية في حكم المغيّى و عدمه 436 سرد الأقوال و بيان ما هو المختار 437 الفصل الرابع 442 مفهوم الحصر 442 الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي 442 أدلّة القائلين بدلالة الاستثناء على الحصر 444 من أدوات الحصر لفظة» إنّما «452 الكلام في بل الاضرابيّة و تقديم ما حقّه التأخير 457

ص:761

الفصل الخامس مفهوم اللقب 463 انقسام الاسم إلى العلم و الكنية و اللقب 463 الفصل السادس 465 مفهوم العدد 465 أقسام العدد المأخوذة في الموضوع 465 تطبيقات 467 المقصد الرابع 473 العام و الخاص، و فيه فصول: 473 الفصل الأوّل: للعام صيغة تخصّه 483 الفصل الثاني: تخصيص العام لا يوجب المجازية 493 الفصل الثالث: العام المخصص حجّة في الباقي 499 الفصل الرابع: في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً 505 الفصل الخامس: المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً 514 الفصل السادس: إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي 533 الفصل السابع: إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي 549

ص:762

الفصل الثامن: إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي 560 الفصل التاسع: لزوم الفحص عن المخصّص 565 الفصل العاشر: في الخطابات الشفاهية 575 الفصل الحادي عشر: تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده 596 الفصل الثاني عشر: في تخصيص العام بالمفهوم 602 الفصل الثالث عشر: الاستثناء المتعقِّب للجمل 613 الفصل الرابع عشر: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد 621 الفصل الخامس عشر: في حالات العام و الخاص 631 المقصد الخامس 669 في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن، و فيه فصول: 669 الفصل الأوّل: في ألفاظ المطلق 675 الفصل الثاني: تقييد المطلق لا يستلزم المجازية 700 الفصل الثالث: مقدّمات الحكمة 703 الفصل الرابع: في حمل المطلق على المقيّد 712 الفصل الخامس: في المجمل و المبيّن و المحكم و المتشابه 727

ص:763

بيان الأقوال في المتشابه 735 التأويل في القرآن الكريم 740 فهرس محتويات الكتاب 751

ص:764

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.