المباحث الاصولیه (محمد اسحاق فیاض کابلی) المجلد 5

اشارة

سرشناسه:فیاض، محمداسحاق، 1934 - م

عنوان و نام پدیدآور: المباحث الاصولیه/ تالیف محمداسحاق الفیاض.

مشخصات نشر:قم: دفتر آیه الله العظمی الشیخ محمداسحق الفیاض(دام ظله)

مشخصات ظاهری:15 ج.

شابک:دوره 964-06-9191-7 : ؛ ج.1 964-06-9188-7 : ؛ ج. 2 964-06-9189-5 : ؛ ج. 3 964-06-9190-9 : ؛ ج. 12 978-600-90462-1-8 : ؛ ج.14 978-964-8238-59-4 : ؛ ج.15 978-964-8238-93-8 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم: 1382.

یادداشت:ج. 1- 3 ( چاپ دوم: 1385) .

یادداشت:ج. 12 (چاپ اول: 1389).

یادداشت:ج.15 (چاپ اول: 1395).

یادداشت:جلد دوازدهم کتاب حاضر توسط انتشارات عزیزی منتشر خواهد شد.

یادداشت:جلد چهاردهم و پانزدهم کتاب توسط انتشارات صاحب الامر (عج) منتشر شده است.

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج.15. التعارض و الترجیح

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:دفتر آیت الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

رده بندی کنگره:BP159/8/ف 9م 2 1300 ی

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 82-18593

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

المباحث الاصولیه

تالیف محمداسحاق الفیاض

ص :4

تتمة المقصد الاول

الترتب

هنا جهات من البحث:

الجهة الأولی ان القول بإمکان الترتب عنصر أساسی لإخراج باب التزاحم عن باب التعارض

الجهة الاُولی: ان القول بامکان الترتب عنصر أساسی لاخراج باب التزاحم عن باب التعارض، لا أن الترتب متوقف علی ثبوت التزاحم بین الخطابین المتعلقین بالضدّین فی المرتبة السابقة، لما تقدم من أن ثبوت التزاحم بین الدلیلین منوط بتوفّر عنصرین فیهما:

الأوّل: التقیید اللبی العام بینهما، بمعنی أن کل خطاب شرعی مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بضده الواجب لایقل عنه فی الأهمیّة.

الثانی: إمکان القول بالترتب وإلاّ فهما داخلان فی باب التعارض، ولابد حینئذٍ من الرجوع إلی مرجحات بابه، و قد سبق الکلام من هذه الناحیة، وسیأتی موسعاً فی باب التعادل و التراجح إن شاء اللَّه تعالی.

الجهة الثانیة: ثمرتان لمسألة الترتب
اشارة

الجهة الثانیة: قد ذکر لمسألة الترتب ثمرتان:

الاُولی: ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره(1) من أن نتیجة هذه المسألة صحة العبادة المزاحمة للواجب الأهم طالما لایمکن تصحیحها لا بالأمر ولا بالملاک فی المسألة السابقة و هی مسألة الملازمة بین الأمر بشیء و النهی عن ضده، إذ لو امکن

ص:5


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 91.

تصحیحها فی تلک المسألة بأحدهما لم تترتب علی هذه المسألة ثمرة فقهیّة اصلاً، وحیث قد عرفت أنه لایمکن تصحیحها فی المسألة المذکورة لا بالأمر ولابالملاک، أما الأول فلأن الأمر بشیء و إن لم یقتض النهی عن ضده، إلا أنه یقتضی عدم الأمر به وإلا لزم الأمر بالضدین فی عرض واحد و هو مستحیل.

و أما الثانی فلأنه لا طریق إلیه بعد سقوط الأمر، فلابد إذن من اللجوء إلی هذه المسألة لا ثبات صحتها، وغیر خفی أن هذه الثمرة و إن کانت ثمرة لمسألة الترتب، إلا أن لازم ذلک کون هذه المسألة اصولیة دون المسألة السابقة، لماذکرناه من أن المیزان فی اصولیة المسألة هو ترتب ثمرة فقهیة علیها مباشرة، وحیث إنها فی المقام مترتبة علیها کذلک دون المسألة السابقة فهی اصولیة دونها مع أن السید الاُستاذ قدس سره بنی علی اصولیة المسألة السابقة لا هذه المسألة(1).

الثانیة: ما ذکره بعض المحققین قدس سره(2) من أن ما ینبغی جعله ثمرة لمسألة القول بإمکان الترتب هو عدم دخول باب التزاحم فی باب التعارض، إذ لولم نقل بإمکان الترتب لدخل باب التزاحم فی باب التعارض هذا.

الفرق بین الثمرتین

و قد تسأل هل فرق بین الثمرتین؟

والجواب: أنه لا فرق بینهما إلاّ فی الصّیاغة، فإن صیاغة الثمرة الاُولی تحکی مباشرة عن صحة العبادة المزاحمة للواجب الأهمّ أو المزاحمة للواجب المضیّق و هی متفرّعة علی الأمر بها بالترتب، باعتبار أن معنی عدم دخول باب التزاحم فی باب التعارض علی القول بإمکان الترتب، هو ثبوت الأمر بالواجب المزاحم للأهم أو المزاحم للواجب المضیّق.

ص:6


1- (1) - المصدر المتقدم.
2- (2) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 329.

والخلاصة، أن الصیغة الاُولی تعبر عن النتیجة التی هی مترتبة علی القول بإمکان الترتب و هی صحة العبادة المزاحمة للأهم أو المضیّق، والصیغة الثانیة تعبر عما هو منشأ هذه النتیجة ومترتب علی القول بالترتب مباشرة و هو الأمربها، ومن هنا لا فرق بین الصیغتین لباً فکلتاهما تعبران عن النتیجة الفقهیّة المترتبة علی هذه المسألة، غایة الأمر احداهما بالمطابقة والاُخری بالالتزام، فالاُولی و هی صحة العبادة المزاحمة متفرعة علی الثانیة و هو الأمر بها ومعلولة له هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری قد أشرنا فی مستهل بحث الاُصول أن مسألة الضدّ علی کلا القولین فیها لیست من المسائل الاُصولیة، لما ذکرناه هناک من أن الضابط العام لاُصولیة المسألة هو ترتب ثمرة فقهیّة علیها مباشرة، وحیث إنها لا تترتب علی هذه المسألة کذلک فلا یتوفر فیها ضابط الاُصولیة فلا تکون منها، لأن الثمرة الفقهیّة فی المقام مترتبة علی مسألة اخری مباشرة و هی مسألة الترتب، فتکون هذه المسألة اصولیة دون مسألة الضدّ فإنها من المقدمات و المبادی لها.

الجهة الثالثة: مورد الترتب

الجهة الثالثة: إن مورد الترتب ومحله إنما هو الخطابات المتعلقان بالضدّین بالعرض کخطاب الصلاة وخطاب الإزالة مثلاً، فإنه لا مضادة بین الصلاة والازالة ذاتاً، ولکن قد تتفق المضادة بینهما بسبب عامل خارجی و هو عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال إذا کانت له قدرة علی إحداهما فحسب دون الاُخری، فحینئذٍ إن صرفها فی الصلاة عجز عن الازالة وان عکس فبالعکس، و أما إذا کانت بینهما مضادة ذاتاً فتقع المعارضة بین الخطابین المتعلقین بهما، و إن کان لهما ثالث کالسواد و البیاض ولایمکن جعلهما معاً، لماذکرناه فی محله من أن الخطابات الشرعیة جمیعاً مجعولة علی المکلف القادر فی

ص:7

ظرف الامتثال لباً وبحکم العقل، نعم لا یلزم أن یکون المکلف حین الجعل قادراً، فإن کان حین الجعل عاجزاً ثم فی ظرف الامتثال قادراً کفی فی صحة الجعل، ولا مبرر لأن یکون حین الجعل أیضاً قادراً، و أما إذا کان فی ظرف الامتثال عاجزاً، فلا یعقل الجعل، لأنه لغو وجزاف و إن کان حین الجعل قادراً، وعلی هذا فلا یمکن جعل الخطابین المذکورین معاً لعجز المکلف عن امتثال کلیهماکذلک، فإذن لا محالة تقع المعارضة بینهما لا المزاحمة.

الجهة الرابعة: معنی الترتب

الجهة الرابعة: إن معنی الترتب هو أن الأمر بالمهم مترتب علی عصیان الأمر بالأهمّ وترک امتثاله، ونتیجة ذلک أن الرافع للأمر بالمهم إنما هو امتثال الأمر بالأهم، فإنه حینئذٍ ینتفی بانتفاء شرطه و هو ترک امتثاله، و أما إذا کان الأمر بالأهم رافعاً للأمر بالمهم بجعله أو بفعلیة مجعوله أو بوصوله أو تنجزه، ففی جمیع هذه الحالات لایعقل الترتب، لأن معنی الترتب هو أن الأمر بالمهم و الأمر بالأهم کلیهما فعلی وواصل ومنجز فی زمن واحد و هو زمن ترک امتثال الأمر بالأهم، أمّا الأول فمن جهة تحقق شرطه و هو عدم امتثال الأمر بالأهم، واما الثانی فلأنه لایسقط بمجرد العصیان طالما یکون المکلف قادراً علی امتثاله ومع ذلک لایلزم محذور طلب الجمع بین الضدّین، علی أساس أن الأمر بالمهم فی طول الأمر بالأهم، و أما لوقلنا باستحالة الترتب وان الأمر بالضدّین فی زمن واحدمستحیل و إن کان بنحو الترتّت، فیدخل باب التزاحم فی باب التعارض ولایمکن أن یعامل معهما معاملة المتزاحمین، بل لابد حینئذٍ من التعامل معهماتعامل المتعارضین، علی أساس سرایة التنافی بینهما وقتئذٍ من مرحلة الامتثال إلی مرحلة الجعل، فلایمکن جعل کلا الخطابین معاً.

و قد تسأل هل یمکن رفع التنافی بینهما فی مقام الامتثال علی القول باستحالة

ص:8

الترتب بدون أن یرجع باب التزاحم إلی باب التعارض أو لا؟

والجواب: إنه و إن کان ممکناً ثبوتاً إلا أنه لا دلیل علیه فی مقام الاثبات، فان الثابت فی هذا المقام إنما هو تقیید الأمر بالمهم بعدم الاشتغال بالأهم وامتثال أمره کما تقدم، ومع ذلک لو قلنا باستحالة الترتب، فلا یسعنا دفع هذه الاستحالة بتقیید الأمر بالأهم زائداً علی التقیید المذکور بعدم وصول الأمر

بالأهم أو عدم تنجّزه لعدم الدلیل علی هذا التقیید لا من العقل ولا من الشرع فلایمکن جزافاً، نعم قد ثبت تقیید الاحکام الظاهریة لعدم وصول الاحکام الواقعیّة أو عدم تنجّزها بأدلتها، و أما فی المقام فعلی القول باستحالة الترتب، فلا دلیل علی هذا التقیید، فإذن لا محالة یدخل باب التزاحم فی باب التعارض، فلایمکن جعل کلا الحکمین معاً.

امکان الترتب واستحالته

اشارة

وبعد ذلک یقع الکلام بین الاُصولیین فی امکان الترتّب واستحالته، فذهب جماعة منهم إلی استحالة الترتب منهم شیخنا الأنصاری قدس سره(1) ، والمحقق الخراسانی قدس سره(2) ، وفی مقابل ذلک ذهب جماعة اخری إلی امکانه منهم السید الکبیر الشیرازی قدس سره(3) ، والمحقق النائینی قدس سره(4) ، وتبعه فیه جماعة من تلامذته، فهنا قولان فی المسألة:

أدلة القول بالاستحالة
اشارة

القول الأول: أن الترتب مستحیل، والقول الثانی: ممکن.

ص:9


1- (1) - مطارح الأنظار ص 56 و 119 فوائد الاصول ص 309.
2- (2) - کفایة الاصول ص 134.
3- (3) - مقالات الاصول ج 1 ص 341.
4- (4) - أجود التقریرات ج 2 ص 55.

أما القول الأول: فقد استدل علیه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره

(1)

وتوضیحه هو أن الترتب مبنی علی فعلیة کلا الأمرین معاً هما الأمر بالأهم و الأمر بالمهم، أما الأول فمن جهة أنه مطلق وغیر مشروط بشیء، و أما الثانی فمن جهة تحقق شرطه و هو ترک الأهم وعصیانه، وعلی هذا فإذا ترک المکلف امتثال الأمر بالأهم، ففی هذه الحالة یکون کلا الأمرین فعلیاً، أما فعلیة الأمر بالمهم فلتحقق شرطها، و أما فعلیة الأمر بالأهم فلانه لاموجب لسقوطه بمجرد عصیانه طالما یکون المکلف متمکناًمن امتثاله، ومن الواضح أنه لا معنی لفعلیة الأمر إلا کونه محرکاً للمکلف نحوالاتیان بمتعلقه، فإذن بطبیعة الحال یکون مقتضی فعلیة کلا الأمرین المذکورین طلب الضدّین و هو مستحیل، مثلاً إذا ترک المکلف امتثال الأمر بالازالة، کان الأمر بالصلاة فعلیاً من جهة فعلیة شرطه مع فعلیة الأمر بالازالة فی هذه الحالة أیضاً علی الفرض، فإذن الأمر بالصلاة تقتضی تحریک المکلف نحو الاتیان بها، والأمر بالازالة یقتضی تحریکه نحو الاتیان بالازالة، و هذا معنی أن مقتضی فعلیة کلا الأمرین طلب الضدّین فی زمن واحد، وعلیه فاستحالة الترتب تکون من الواضحات.

والخلاصة، أن اجتماع فعلیة الأمر بالمهم مع فعلیة الأمر بالأهم فی فترة موحدة یقتضی طلبهما فیها، لأن نسبة الأمر إلی متعلقه نسبة المقتضی إلی مقتضاه فی الخارج، وعلی هذا فکما أن الأمر بالأهم کالازالة مثلاً یقتضی إیجاد متعلقه فی الفترة المذکورة فکذلک الأمر بالمهم کالصلاة یقتضی إیجاده فیها، لفرض أنه فعلی ولا معنی لفعلیة الأمر فی زمان إلا اقتضاؤه إیجاد متعلقه فیه خارجاً ودعوته إلیه

ص:10


1- (1) - کفایة الاصول ص 134.

فعلاً، وعلی هذا فلا محالة یلزم من اجتماعهما فی زمان واحد المطاردة بینهما فی ذلک الزمان من جهة مضادة متعلقهما فی الوجود فیه، مع ان الأمر بالمهم لولم یقتضی طرد الأهم فلا شبهة فی أن الأمر بالأهم یقتضی طرد الأمر بالمهم، ومن الواضح أن هذا المقدار یکفی فی استحالته هذا.

رد السید الأستاذ قدّس سرّه علی الوجه الأول

و قد علق علی ذلک السید الاُستاذ قدس سره(1) بأن صدور هذا الکلام منه قدس سره غریب، والسبب فیه هو أنه لا یعقل أن یکون الأمر بالمهم طارداً للأمر بالأهم، ضرورة أن طرده له یبتنی علی أحد تقدیرین لا ثالث لهما.

الأول: أن یکون الأمر بالمهم مطلقاً وفی عرض الأمر بالأهم، فعند ئذٍ لا محالة تقع المطاردة بینهما من ناحیة مضادة متعلقیهما فی الخارج وعدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما.

الثانی: أن یکون الأمر به علی تقدیر تقییده بعصیان الأمر بالأهم مقتضیاً لعصیانه وترکه فی الخارج، وحینئذٍ فتقع المطاردة و المزاحمة بین الأمرین، باعتبارأن الأمر بالمهم یقتضی عصیان الأمر بالأهم وترک متعلقه فی الخارج و الأمر بالأهم یقتضی هدم عصیانه ورفعه فیه.

ولکن کلا التقدیرین خلاف مفروض الکلام فی المقام.

أما التقدیر الأول: فواضح لما مرّ من أن الأمر بالمهم مشروط بعصیان الأمر بالأهم وترک امتثاله فی الخارج ولایکون مطلقاً.

و أما التقدیر الثانی: فأیضاً کذلک، لأن الحکم یستحیل أن یقتضی وجود موضوعه فی الخارج وناظراً إلیه رفعاً ووضعاً.

ص:11


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 139.

وعلی ذلک فالأمر بالمهم حیث إنه لایکون مطلقاً ولا متعرضاً لحال موضوعه و هو عصیان الأمر بالأهم وترک امتثاله لا وجوداً ولا عدماً بل هو ثابت علی تقدیر تحققه ووجوده، فیستحیل أن یکون طارداً للأمر بالأهم، فإنه لا اقتضاءبالاضافة إلی حالتی وجود موضوعه وعدمه، ومن الواضح أن مالا اقتضاء فیه لایصلح أن یزاحم ما فیه الاقتضاء.

و إن شئت قلت: إن الأمر بالمهم إنما یقتضی الاتیان بمتعلقه علی تقدیر ترک الأهم وعصیان أمره لا مطلقاً، ومن الواضح أن اقتضائه علی هذا التقدیر لاینافی ا قتضاء الأمر بالأهم الاتیان به و المنع عن عصیانه وترکه، لفرض أنه لا یتطلب عصیانه وإنما یتطلب الاتیان بمتعلقه علی تقدیر عصیانه، واما إن هذا التقدیرمتحقق أو غیر متحقق فهو غیر ناظر إلیه لا نفیاً ولا اثباتاً، فإذن لایکون الأمربالمهم مزاحماً للأمر بالأهم فی الاقتضاء، غایة الأمر أن المکلف إذا عصی الأمر بالأهم من جهة سوء سریرته وترک امتثاله تحقق الأمر بالمهم من جهة تحقق شرطه لا أنه یتطلب عصیانه، فإنه مستحیل إذ لا وجود له قبل تحقق عصیانه حتی یقتضی تحققه. وعلیه فلایعقل أن یکون الأمر بالمهم طارداً للأمر بالأهم، فإذن المطاردة من الجانبین غیر متحققة، واما الطرد من جانب الأمر بالأهم فأیضاً لایکون، والوجه فیه أن الأمر بالأهم إنما یطارد الأمر بالمهم فیما إذا فرض کون الأهم ناظراً إلی متعلق المهم ومستدعیاً لهدمه، فحینئذٍ لا محالة یکون طارداً له، باعتبار أنه یقتضی إیجاد متعلقه فی الخارج وذاک یقتضی هدمه فیه، وبما أنه أهم منه فیطارده، ولکن الفرض أنه غیر ناظر إلیه، وإنما هو ناظر إلی موضوعه ویتطلب رفعه.

وعلی هذا فلا تنافی بینهما أصلاً لیکون الأمر بالأهم طارداً للأمر بالمهم، إذ

ص:12

المفروض أن الأمر بالمهم لایقتضی وجود موضوعه فی الخارج وغیر متعرض لحاله أصلاً لا وجوداً ولا عدماً، ومعه کیف یکون الأمر بالأهم طارداً له، بداهة أن الطرد لایتصور إلا فی مورد المزاحمة ولا مزاحمة بین مالا اقتضاء فیه بالاضافة إلی شیء وما فیه الاقتضاء بالاضافة إلیه هذا.

المناقشة فی الرد

للمناقشة فی هذا التعلیق مجال، لأن هذا التعلیق یتضمن کون الأمر بالمهم لایصلح أن یکون مانعاً وطارداً للأمر بالأهم، فإن معنی کون الأمر بالمهم مانعاً وطارداً انما هو منعه عن تأثیر مقتضی الأمر بالأهم، لأن هذا هو معنی المانع، وحیث إن المقتضی للأمر بالأهم یکون قدرة المکلف علی الاتیان به وامتثال أمره، فمن الواضح أن الأمر بالمهم لایصلح أن یمنع عن تأثیر قدرة المکلف وصرفها فی امتثال الأمر بالأهم، لفرض أن صرفها فیه لایکون مشروطاً بعدم صرفها فی امتثال الأمر بالمهم، باعتبار أنه یقتضی صرفها فی امتثاله بدون تعلیق وتقیید، بینما یقتضی الأمر بالمهم صرفها فی امتثاله مشروطاً بعدم صرفها فی الأهم، فلذلک لایصلح الأمر بالمهم أن یمنع عن تأثیر مقتضی الأمر بالأهم و هوصرف القدرة فیه.

ولکن هذا المقدار لایکفی فی دفع المطاردة و الممانعة بین الأمرین الفعلیین نهائیاً، فإنه إنما کان یدفع المطاردة و الممانعة من الجانبین فقط و أما من جانب الأمر بالأهم فلا.

بیان ذلک أن ما ذکره قدس سره من أن الأمر بالأهم کالأمر بالازالة مثلاً لایکون ناظراً إلی متعلق الأمر بالمهم کالصلاة، وإنما یکون ناظراً إلی موضوعه أی موضوع الأمر بالمهم الذی هو متعلق الأمر بالأهم، والفرض أن الأمر بالمهم لایقتضی إیجاد موضوعه غیر تام، وذلک لأن مانعیة الأمر بالأهم کالأزالة عن

ص:13

الأمر بالمهم کالصلاة لیس بمعنی انه ناظر إلی متعلق الأمر بالمهم ویقتضی ترکه حتی یکون طارداً له، ضرورة أن کل أمر ناظراً إلی متعلقه فحسب ویقتضی الاتیان به کذلک ولا یکون ناظراً إلی متعلق الأمر الآخر بأن یقتضی ترکه، فالأمر بالازالة یقتضی الاتیان بها ولا یقتضی ترک الاتیان بالصلاة وکذلک الأمر بالصلاة، بل معنی مانعیة الأمر بالأهم هو أنه مانع عن تأثیر المقتضی للأمر بالمهم ویمنع عن إیجاده، و قد تقدم أن هذا هو معنی المانع الذی یکون عدمه من اجزاءالعلة التامة، وحیث إن عدم الاشتغال بالأهم وترک امتثاله هو مقتضی الأمر بالمهم فی المقام، فیکون الأمر بالأهم بلحاظ اقتضائه الاتیان بمتعلقه والاشتغال به یمنع عن عدم الاتیان به وترک الاشتغال.

و هذا هو معنی کون الأمر بالأهم مانعاً عن وجود مقتضی الأمر بالمهم وتحقق موضوعه فی الخارج الذی نسبته إلیه نسبة المقتضی إلی مقتضاه، وما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من التعلیق لایتضمن نفی مانعیّة الأمر بالأهم عما یقتضی الأمر بالمهم، فإذن ظل محذور المطاردة من جانب الأمر بالأهم علی حاله.

وعلیه فلایمکن فعلیة کلا الأمرین فی زمن واحد، إذ مع منع الأمر بالأهم عن مقتضی الأمر بالمهم فلا یعقل وجوده مع فرض وجود الأمر بالأهم، لاستحالة اجتماع المانع و الممنوع فی عالم الوجود فی زمن واحد لاتکویناً ولاتشریعاً.

الوجه الثانی للمحقق الخراسانی قدّس سرّه

الوجه الثانی: ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره(1) أیضاً بتقریب:

إن الأمر بالمهم و إن قلنا بأنه لایصلح أن یکون مانعاً عن الأمر بالأهم باعتبار أنه مشروط بعدم الاتیان به، إلا أن الأمر بالأهم یکون مانعاً عن الأمر بالمهم

ص:14


1- (1) - کفایة الاصول ص 135.

ومعه لایمکن فعلیة کلا الأمرین معاً لاستحالة اجتماعهما فی زمن واحد، بداهة أنه مع المنع عن وجود مقتضی الأمر بالمهمّ لایعقل وجوده مع وجود مانعه و هوالأمر بالأهم هذا.

مناقشة السید الأستاذ قدّس سرّه لهذا الوجه و الرد علیه

و قد أجاب عن ذلک السید الاُستاذ قدس سره(1) بعین ما عرفت فی تعلیقه علی الوجه الأول، من أن الأمر بالأهم أیضاً لایکون مانعاً عن الأمر بالمهم، باعتبار أنه لایکون ناظراً إلی متعلقه لکی یکون مانعاً وطارداً له.

ولکن قد مرّ الآن أن هذا الجواب لایدفع محذور مانعیة الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم باعتبار أنه لایتضمن نفی مانعیّته عنه.

الوجه الثالث: للمحقق الخراسانی قدّس سرّه أیضا

الوجه الثالث: ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره أیضاً وإلیک نصّه(2):

«ثم إنه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق فی صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین، ضرورة قبح العقاب علی مالایقدر علیه العبد، ولذا کان سیدنا الاُستاذ قدس سره لایلتزم به علی ما هو ببالی وکنا نورد به علی الترتب وکان بصدد تصحیحه».

وأراد قدس سره بهذا الوجه اثبات استحالة القول بالترتب علی أساس استحالة الالتزام بلازمه و هو تعدد العقاب علی ترک کلا الواجبین معاً، وحیث إنه لایمکن الالتزام بهذا اللازم علی أساس أنه من العقاب علی أمر خارج عن الاختیار، باعتبار أن المکلف غیر قادر علی امتثال کلا الواجبین معاً حتی یستحق عقوبتین علی ترک کلیهما کذلک.

ص:15


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 140.
2- (2) - کفایة الاصول ص 135.
جواب السید الأستاذ عن ذلک

و قد أجاب عن ذلک السید الاُستاذ قدس سره(1) بأن هذا الوجه مبنی علی الخلط بین أن یکون العقاب علی ترک الجمع بین الواجبین هما الواجب الأهم و الواجب المهم وبین أن یکون العقاب علی الجمع فی الترک، بمعنی أنه یعاقب علی ترک کل منهما فی حال ترک الآخر و المستحیل إنما هو العقاب علی الأول، حیث إن الجمع بینهما غیر ممکن وخارج عن قدرة المکلف واختیاره، فالعقاب علی ترکه یکون عقاباً علی أمر غیر مقدور و هو محال، إلا أن القائل بالترتب لا یقول باستحقاق العقاب علی ترک الجمع بینهما، لیقال أنه محال بل یقول باستحقاق العقاب علی الجمع فی الترک و هو الجمع بین ترک الأهم و المهمّ معاً خارجاً، والمفروض أنه مقدور للمکلف ولا یکون العقاب علیه عقاباً علی غیر مقدور.

والوجه فی ذلک هو أن الأمر فی المقام لم یتعلق بالجمع بینهما لکی یقال باستحالة العقاب علی ترکه من جهة استحالة طلب الجمع بینهما، بل الأمر تعلق بذات کل واحد منهما مع قطع النظر عن الآخر ولایرتبط أحدهما بالآخر فی مقام الجعل و التعلق، غایة الأمر قد وقعت المزاحمة بینهما فی مقام الامتثال و الفعلیة، وحیث إن المکلف لایقدر علی الجمع بینهما فی ظرف الامتثال فتقید فعلیة الأمر بالمهم بعصیان الأمر بالأهم وترک متعلقه، ونتیجة ذلک أن الأهم مطلوب علی نحو الاطلاق و المهم مطلوب فی حال ترک الأهم وعصیانه، و قد تقدم أن ذلک فی طرف النقیض مع طلب الجمع بینهما.

وعلی هذا فکل منهما مقدور للمکلف بنحو الترتب، فإنه عند اعمال قدرته فی فعل الأهم وامتثاله لا أمر بالمهم، والمفروض أنه فی هذه الحال قادر علی فعل الأهم تکویناً وتشریعاً، وعند ئذٍ لایکون العقاب علی ترکه وعصیان أمره عقاباً

ص:16


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 142.

علی مالا یقدر، و أما مع عدم اعمالها فیه فلا مانع من اعمالها فی فعل المهم، وحینئذٍ لو ترکه وعصی أمره فلا مانع من العقاب علیه أیضاً لفرض أنه مقدور فی هذا الحال.

فالنتیجة، إنه إذا جمع بین الترکین کذلک استحق عقوبتین ولا یکون ذلک من استحقاق العقاب علی مالا یقدر، فإذن لا مانع من الالتزام بالترتب من هذه الناحیة هذا.

وغیر خفی، أن ما ذکره قدس سره من الجواب مبنی علی أن ملاک استحقاق العقوبة تمکن المکلف من التخلص عن مخالفة التکلیف سواءً أکان بالامتثال أم برفع موضوعه، فإذا أتی المکلف بالواجب الأهم فقد تخلص عن مخالفة التکلیف بالأهم بالامتثال وعن مخالفة التکلیف بالمهمّ برفع موضوعه، واما بناء علی أن یکون ملاک استحقاق العقوبة تفویت الملاک الملزم فلایتم هذا الجواب، وکذلک بناءً علی أن یکون ملاک استحقاقها التمکن من الامتثال، وسوف نشیر بالتفصیل الی تلک الملاکات وبیان ما هو الصحیح منها.

هذه هی أهم الوجوه التی استدل بها علی استحالة الترتب، إلی هنا قد تبیّن أنه لایتم شیء من هذه الوجوه.

أدلة القول بإمکان الترتب
دلیل المحقق النائینی قدّس سرّه لاثبات الإمکان

و أما القول الثانی: و هو القول بإمکان الترتب، فقد حاول المحقق النائینی قدس سره لاثبات امکان هذا القول ببیان عدة مقدمات، عمدتها مقدمتان:

المقدمة الأولی أنه یستحیل وقوع الأهم و المهم کلاهما علی صفة المطلوبیة

الاُولی: إن الأمر بالمهم بما أنه مشروط بعصیان الأمر بالأهم وترک الاتیان به، فلایمکن أن یقع علی صفة المطلوبیّة فی فرض إیجاد الأهم فی الخارج، و هذا

ص:17

یعنی أنه یستحیل وقوع الأهم و المهم کلاهما علی صفة المطلوبیة علی فرض وقوع المحال فی الخارج، بداهة أن وقوع المهم علی صفة المطلوبیّة مقیّد ومشروط بعدم وقوع الأهم فی الخارج، ومع وقوعه فیه یستحیل وقوع المهم علی تلک الصفة، وإلا لزم خلف فرض کونها مقیدة ومشروطة بعدم وقوع الأهم فیه.

ونتیجة ذلک أن فعلیة کلا الأمرین معاً هما الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فی ظرف عصیان الأمر بالأهم وعدم الاتیان به فی الخارج لاتستلزم طلب الجمع بین الضدین، بل هو فی طرف النقیض معه، لأن ذلک إنما یلزم إذا کان الأمر بالمهم کالأمر بالأهم مطلقاً، و أما إذا کان مشروطاً بعدم الاتیان به وامتثال أمره فیکون فی طوله، فیستحیل أن یستلزم طلب الجمع بینهما فی الخارج، ومن الواضح أن استحالة فعلیة الأمر بالضدّین إنما هی من جهة استلزامها طلب الجمع بینهما، و أما إذا لم تستلزم ذلک کما هو المفروض فی المقام، فلا مانع منها هذا.

الجواب عن المقدمة الأولی

والجواب: أن هذه المقدمة لا تدفع الاشکال عن الترتب، لأن الاشکال لیس فی أن فعلیة الأمر بالأهم وفعلیة الأمر بالمهم معاً فی زمن واحد و هو زمان عصیان المکلف للأمر بالأهم تستلزم طلب الجمع بین الضدّین، حتی یجیب بأن ذلک إنما یلزم إذا کان الأمر بالمهم کالأمر بالأهم مطلقاً وغیر مشروط، و أما إذاکان مشروطاً بعدم الاتیان بالأهم فلا یلزم هذا المحذور و هو طلب الجمع بینهما، ومن هنا لو أمکن للمکلف فرضاً الاتیان بکلیهما معاً فی الخارج لم یقع علی صفة المطلوبیة إلا احدهما دون الآخر بل الاشکال أعمق من ذلک، و هو أن الأمر بالمهم فی هذا الحال و إن لم یکن مانعاً عن الأمر بالأهم إلا أن الأمر بالأهم یکون مانعاً عنه، لما مرّ من أنه یمنع عن تأثیر مقتضی الأمر بالمهم ووجوده فی الخارج ومع منعه عنه لایعقل فعلیّته، ومن المعلوم أن هذه المقدمة لاتدفع هذه المشکلة.

ص:18

و إن شئت قلت: إنه قد تقدم سابقاً أن تقیید الأمر بالمهم لباً بعدم الاشتغال بالأهم وحده لایکفی فی خروج باب التزاحم عن باب التعارض، بل یتوقف علی ضمّ أمر آخر إلیه و هو امکان القول بالترتب، لأن التقیید اللبّی إنما یدفع محذور طلب الجمع بین الضدّین فقط، علی أساس أنه إنما یمنع مانعیة الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم ولایدفع مانعیة الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم.

المقدمة الثانیة أن الأمر بالأهم و الأمر بالمهم و إن کانا فعلیین فی زمن واحد إلا أنهما فی مرتبتین طولیین و الجواب عنها

المقدمة الثانیة: أن الأمر بالأهم و الأمر بالمهم و إن کانا فعلیین فی زمن واحد و هو زمن عدم الاشتغال بالأهم إلا أنهما فی مرتبتین طولیین، فإن الأمر بالأهم یقتضی هدم موضوع الأمر بالمهم و هو ترکه، باعتبار أنه یقتضی إیجاده، و أما الأمر بالمهم فهو لایقتضی وجود موضوعه فی الخارج، لأنه إنما یقتضی وجود متعلقه فیه علی تقدیر وجود موضوعه، فلهذا لیس فی عرض الأمر بالأهم لتقع المزاحمة بینهما.

الجواب: أولاً: إن مجرد أن الأمر بالمهم فی طول الأمر بالأهم ومتأخر عنه رتبة لایکفی فی رفع التزاحم بینهما و التمانع، فإن رفعه منوط بعدم التمانع بینهما أصلاً، هو موجود من طرف الأمر بالأهم لأنه مانع عن الأمر بالمهم، وعلیه فبطبیعة الحال یکون متقدماً علیه رتبة قضاءً لحق العلیة، فالطولیة بینهما إنما هی من جهة مانعیة الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم، فکیف یعقل أن تکون مانعة عن وقوع المزاحمة و الممانعة بینهما. وبکلمة أن هذه المقدمة إنما تنفی مانعیة الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم أنه لایصلح أن یکون مانعاً عنه، ولاتنفی مانعیة الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم بل هی تؤکّد مانعیته عنه، علی أساس أنه یقتضی هدم موضوع الأمر بالمهم ومقتضیه، ومع کون الأمر بالأهم مانعاً عن الأمر بالمهم لایعقل ثبوته، لاستحالة ثبوت المانع و الممنوع معاً، فإذن کیف یمکن القول بالترتب

ص:19

وفعلیة کلا الأمرین فی زمن واحد، فإن معنی ذلک أنه لامطاردة ولا ممانعة بینهما أصلاً حتی من جانب الأمر بالأهم، مع أن الواقع لیس کذلک، لأن الأمر بالأهم تکون طارداً ومانعاً عن الأمر بالمهم.

وثانیاً: أن ملاک استحالة اجتماع الضدّین إنما هو المعیّة الزمانیة لا الرتبیّة، إذلا واقع لها إلا فی عالم الذهن بتحلیل من العقل وافتراضه، ومن الواضح أن المضادة و المعاندة بین الأشیاء إنما تکمن فی وجوداتها الزمانیة الخارجیة، فلایمکن اجتماع الضدّین فی زمن واحد و إن کانا مختلفین رتبة، ضرورة أنه لا وجود لهما فی عالم الرتب لکی ترتفع عائلة استحالة اجتماع الضدّین باختلاف الرتبة کما ترتفع باختلاف الزمان.

والخلاصة، أن نتیجة هاتین المقدمتین لیست امکان القول بالترتب وإنما هی دفع المطاردة و الممانعة من جانب الأمر بالمهم فقط دون الأمر بالأهم هذا من ناحیة.

استدلال السید الأستاذ علی إمکان الترتب:

و من ناحیة أخری أن السید الاُستاذ قدس سره قد استدل علی امکان الترتب بوجوه:

الوجه الأول (1): إن الوجدان أصدق شاهداً علی إمکان الأمر بالضدّین بنحو الترتب، ومن الطبیعی أن الترتب لو کان محالاً کاجتماع النقیضین أو الضدّین استحال أن یحکم الوجدان بامکانه.

والجواب: إن مسألة الترتب من المسائل النظریّة المعقّدة العویصة ولیست من المسائل الوجدانیة حتی یکون الوجدان هو المرجع فیها ولا من المسائل

ص:20


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 102.

البدیهیّة، والاّ لم تقع مورد الخلاف وتضارب الآراء بین الاُصولیین نفیاً واثباتاً، فإذن لامبرر لهذا الوجه.

الوجه الثانی (1): إنه لا شبهة فی وقوع الترتب فی الأوامر العرفیّة و الشرعیة و هو أدل دلیل علی امکانه.

أما فی الأوامر العرفیّة الشخصیة، فکما إذا أمر الأب مثلاً ابنه بالذهاب إلی المدرسة ویقول له إن خالفت وترکت الذهاب إلیها اجلس فی البیت وتقرء وتکتب فیه، فإن هنا أمرین فعلیین متعلقین بالضدّین بنحو الترتب، فلو کان الترتب مستحیلاً استحال ذلک أیضاً، ومثله ما إذا أمر المولی عبده بخیاطة ثوبه مثلاً ویقول له فإن لم تفعل فعلیک الذهاب إلی البلد الفلانی للعمل فیه، فإن هنا أمرین فعلیین متعلقین بالضدّین بنحو الترتب وهکذا.

والجواب: أن الأخذ بظواهر هذه الأمثلة وما شاکلها منوط بامکان القول بالترتب فی المرتبة السابقة وعدم استحالته فیها، إذ مع ثبوت استحالة الترتب فی الواقع فلا یمکن الأخذ بظواهرها ولابد من التصرف فیها، وبکلمة إنه إذا أمکن القول بالترتب ثبوتاً فیمکن الاستدلال بتلک الظواهر علی وقوعه فی مقام الاثبات، فإذن لابد أولاً من اثبات امکانه فی الواقع ومقام الثبوت ثم حمل هذه الأمثلة علی الترتب و الأخذ بظواهرها، ومن هنا لاتلزم هذه الأمثلة القائلین باستحالة الترتب ثبوتاً بالالتزام بامکانه بل هم یقومون بتأویلها و التصرف فی ظواهرها وحملها علی خلافها.

و أما الأوامر الشرعیة فمنها ما إذا وجب علی المسافر قصد الاقامة فی بلد معیّن

ص:21


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 102.

بنذر أو نحوه، وحینئذٍ فإذا وصل إلی ذلک البلد قبل الزوال وما افطر فی الطریق، فحینئذٍ إن قصد الاقامة فیه، وجب علیه أن ینوی الصیام، و أما إذا خالف الأمربقصد الاقامة فیه فتکون وظیفته الافطار، ومن المعلوم أن الأمر به مترتب علی عصیان الأمر بقصد الاقامة وعدم الاتیان بمتعلقه و هذا هو معنی الترتب، إذ لانعنی به إلا أن یکون هناک خطابان فعلیان متعلقان بالضدّین بنحو الترتب، بأن یکون احدهما مطلقاً و الآخر مشروطاً بعصیانه وما نحن فیه کذلک، فإن وجوب الافطار وحرمة الصوم مترتب علی عصیان الأمر بقصد الاقامة ولایمکن لأحدأن یلتزم فی هذا الفرض بعدم جواز الافطار ووجوب الصوم علیه، فإن ذلک انکار ضروری من ضروریات الفقه.

ومنها، ترتب وجوب تقصیر الصلاة علی عصیان الأمر بقصد الاقامة وترکه فی الخارج، ولا یفرق فی ترتب وجوبه علیه بین أن یکون ترک قصد الاقامة قبل الزوال أوبعده، وبذلک تمتاز الصلاة عن الصوم.

ومنها، ما إذا حرمت الاقامة علی المسافر فی مکان خاص، فعندئذٍ کما أنه مکلف بترک الاقامة فی هذا المکان وهدم موضوع وجوب الصوم، کذلک هومکلف بالصوم علی تقدیر قصد الاقامة وعصیان الخطاب التحریمی، حیث إن تعلّقه بقصد الاقامة مطلق وغیر مشروط بشیء، و أما الوجوب المتعلق بالصوم فهو مشروط بعصیان ذلک الخطاب، وعلی هذا فإذا عصی المکلف ذلک الخطاب وقصد الاقامة فیه، فلا مناص من وجوب الصوم علیه، ومن الواضح أن وجوبه لایمکن إلا علی القول بامکان الترتب، ضرورة أنه لایمکن أن لا نلتزم بوجوب الصوم وترتبه علی عصیان الخطاب بترک الاقامة، لأن ذلک خلاف الضرورة الفقهیة.

ص:22

ومنها ما إذا وجب علی المکلف السفر بنذر أو نحوه، ففی مثل ذلک إذا ترک السفر عصیاناً، فلا شبهة فی أن وظیفته الصلاة تماماً ولایمکن القول بسقوط الصلاة عنه فی هذه الحالة أو وجوب الصلاة علیه قصراً، لأن کلا الفرضین خلاف الضرورة، فإذن یتعین علیه وجوب الصلاة تماماً و هو مترتب علی عصیان الأمر بالسفر وترک امتثاله، و هذا لایمکن إلا علی القول بامکان الترتب.

فالنتیجة، إن وجوب الافطار فی الفرع الأول مترتب علی عصیان الأمربالاقامة، ووجوب التقصیر فی الفرع الثانی مترتب علی ترک الاقامة وعصیان أمرها، ووجوب الصوم فی الفرع الثالث مترتب علی عصیان النهی عن الاقامة، و وجوب التمام فی الفرع الرابع مترتب علی عصیان الأمر بالسفر.

وغیر خفی أن ترتب هذه الفروعات أو ماشاکلها علی عصیان المکلف ما هو واجب علیه أمر ضروری فقهیاً، إلا أنها هل تدل علی أن ذلک بملاک إمکان الترتب ثبوتاً أو لا؟

والجواب: نعم أنها تدل علی ذلک بوضوح، لأن المکلف إذا امتثل الأمربالاقامة فهو رافع لموضوع وجوب الافطار ووجوب التقصیر فی الصلاة، کما أنه إذا ترک الاقامة المحرمة علیه فی بلد، کان ذلک رافعاً لموضوع وجوب التمام فی الصلاة ووجوب الصوم و هذا هو معنی الترتب، لأن معناه إن امتثال الأمر بالأهم رافع لموضوع الأمر بالمهم، وعلی هذا فهذه الفروعات الفقهیة الضروریة برهان علی امکان القول بالترتب، بملاک ان أدل دلیل علی امکان شیء وقوعه فی الخارج، ولکنها إنما تکون برهاناً للقائلین بامکانه ثبوتاً، فإن لهم اللجوء إلیها و الزام الخصم بها، و أما الخصم فعلیه أن یقوم بتوجیه هذه الفروعات وحذفهاعن مسارها وتأویلها بنحو لاتتضمن فعلیة الأمر بالضدّین بنحو الترتب.

ص:23

و قد ذکر لها تأویلان:

الأول (1): إن هناک أمرین عرضیین: أحدهما بالاقامة خاصة و الآخربالجامع بینها وبین الصلاة قصراً فی السفر أو الجامع بینها وبین وجوب الافطارفیه، أو ان احدهما بالسفر خاصة و الآخر بالجامع بینه وبین الصلاة تماماً وهکذا.

ونتیجة ذلک، أنه إذا ترک الاقامة و الصلاة قصراً استحق عقوبتین لترکه واجبین کانا مقدورین له، و أما لو أتی بالاقامة، فهل یستحق ثوابین باعتبار أنه امتثل أمرین:

أحدهما الأمر بالفرد و هو الاقامة.

والآخر: الأمر بالجامع بینها وبین الصلاة قصراً، لأن الجامع منطبق علی الفرد المأتی به فی الخارج و هو الاقامة باعتبار إنها أحد فردیه.

والجواب: إنه لایستحق إلاّ ثواباً واحداً، وذلک لأن استحقاق الثواب إنما هوعلی امتثال روح الأمر وحقیقته و هی الغرض و الملاک، والمفروض أنه لایقدر إلا علی تحصیل غرض واحد، فالنتیجة إن هذا التأویل بهذه الصیغة التی یکون الأمر فیها متعدداً إنما هو للتفصّی و الفرار عن محذور استحالة طلب الضدّین.

والجواب: إن هذا التأویل و إن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنه لایمکن حمل تلک الفروعات الفقهیة علی ذلک، بداهة أن افتراض الأمرین فی الفروعات المذکورة بالصیغ المتقدمة مجرد افتراض لا واقع موضوعی له لأنه خلاف نصوص الکتاب و السنة، لأن تلک النصوص ناصّة فی أن الأمر متعلق بخصوص الصلاة قصراً و الصلاة تماماً دون الجامع بین قصد الاقامة و الصلاة قصراً بنحو التخییر أو

ص:24


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 337.

الجامع بین السفر و الصلاة تماماً کذلک، ضرورة أن الأمر تعلق بالصلاة قصراً مشروطاً بالسفر وعدم قصد الاقامة وبالصلاة تماماً مشروطاً بالحضر أو الاقامة.

والخلاصة: إنه لا اشعار فی النصوص علی أن الأمر متعلق بالجامع.

الثانی (1): أن یقال بتحریم الجمع بین الترکین ترک الاقامة وترک الصلاة قصراً وترک السفر وترک الصلاة تماماً، وحینئذٍ فیکفی فی صحة الاتیان بالصلاة أن یأتی بها بقصد التخلص من الحرام، لأنه قصد قربی، وعلی هذا فالأمر بالصلاة قصراً لایکون مترتباً علی عصیان الأمر بالاقامة، وبالصلاة تماماً علی عصیان الأمر بالسفر بل هو من جهة التخلص من الحرام، فإذا أتی بها بقصد التخلّص منه، فقد أتی بها بقصد القربة لأنه من العناوین القریبة.

والجواب: إن هذه الفرضیة و إن کانت ممکنة ثبوتاً، إلاّ أنه لایمکن الالتزام بهافی مقام الاثبات، لأنها خلاف الضرورة من الشرع ولایمکن حمل تلک الفروعات الفقهیة علیها، ضرورة أن الصلاة تماماً أو قصراً واجبة لا أن ترکهامحرم، وکذلک الاقامة واجبة لا أن ترکها محرم وهکذا.

فالنتیجة، إن هذا التأویل بهذه الصیغة مجرد فرض لا واقع له.

الوجه الثالث: ما ذکره قدس سره فی ضمن مقدّمات(2):

المقدمة الاُولی: إنه علی القول بامکان الترتب یکون کلا الأمرین المتعلقین بالضدّین فعلیاً فی زمن واحد بنحو الترتب، وعلی القول باستحالته، فلایمکن

ص:25


1- (1) - المصدر السابق ص 338.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 105.

فعلیة کلا الأمرین المتعلقین بهما معاً فی زمن واحد ولو بنحو الترتب، وعلی هذا الأساس فإذا کان الأمر بالأهم آنیاً وغیر قابل للبقاء و الدوام وذلک کانقاذ الغریق أو الحریق أو ما شاکل ذلک، ففی مثله لایتوقف تعلق التکلیف بالمهم علی القول بامکان الترتب، لوضوح أن الأمر بالأهم یسقط بعصیان المکلف فی الآن الأول الذی کان بامکانه إیجاده فیه وسقوط أمره فی الآن الثانی بسقوط موضوعه، وحینئذٍ فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم، لأن المانع منه هو فعلیة الأمر بالأهم وبعد سقوطه لا مانع منه.

فالنتیجة، إن هذا الفرض خارج عن محل الکلام، لأن محل الکلام إنما هو فی تعلق الأمر بالمهم مع فعلیة الأمر بالأهم ووجوده.

وغیر خفی، أن ما أفاده قدس سره من الکبری تام، ولکن قد یناقش فی تطبیق هذه الکبری علی ما ذکره قدس سره من المثال، و هو ما إذا وقعت المزاحمة بین صلاة العصر فی آخر الوقت بحیث لایبقی من الوقت إلا بمقدار أربع رکعات وبین انقاذ الغریق أو الحریق، لأن هذا المثال لیس من مصادیق هذه الکبری، حیث إنه لا مانع من الالتزام بالترتب فیه، لأن الأمر بالأهم لایسقط فی الآن الأول بترک الانقاذ وعصیان أمره فیه طالما یکون المکلف متمکناً من انقاذ حیاته فی الآن الثانی، لوضوح أن الأمر بانقاذ الغریق أو الحریق لیس آنیاً بحیث یسقط فی الآن الأول بسقوط موضوعه لکی لایتصور فیه الترتب، ولکن هذه من المناقشة فی المثال ولا قیمة لها.

المقدمة الثانیة: إن الترتب إذا کان بین الواجبین التدریجیین کالصلاة والازالة مثلاً، فلا محالة یکون الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم حدوثاً وبقاءً، بداهة أنه لوکان مشروطاً به حدوثاً فقط لا بقاءً، بأن یکون فی بقائه مطلقاً

ص:26

ومتحرراً، فحینئذٍ لو عصی الأمر بالأهم فی الآن الأول تحقق الأمر بالمهم من جهة تحقق شرطه، وعلیه فإذا ندم فی الآن الثانی وعدل عن العصیان إلی امتثال الأمر بالأهم لزم طلب الجمع بین الضدّین فی هذا الآن، لفرض أن الأمر بالمهمّ مطلق فیه وغیر مشروط کالأمر بالأهم، فیقتضی کل منهما الاتیان بمتعلقه فی عرض اقتضاء الآخر هذا.

ولکن قد یتوهم أن الترتب لایجری بین الواجبین التدریجیین، بدعوی أن الأمر بالمهم مشروط بعصیان الأمر بالأهم و هو یتحقق فی الآن الأول بالعصیان فیه، وبعد تحققه یبقی و إن زال العصیان فی الآن الثانی وتبدّل بالطاعة، وعندئذٍ یلزم طلب الجمع بین الضدّین علی أساس أن کلاً من الأمرین یقتضی الاتیان بمتعلقه فی عرض الآخر لا فی طوله، ولکن لا أساس لهذا التوهم لأنه مبنی علی عدم تصور معنی تقیید الأمر بالمهم لعدم الاشتغال بالأهم، و قد تقدم أن هذا التقیید لبّی ومبنی علی نکتة عامة و هی أنه لایمکن أن یکون الأمر بالضدّ مطلقاً مع الاشتغال بضد واجب لایقل عنه فی الأهمیة، لأن الغرض من هذا الاطلاق إن کان التوصل إلی الجمع بین الضدّین فهو مستحیل، و إن کان هو صرف المکلف عن ذاک المزاحم فهو خلف فرض أنه لایقل عنه فی الأهمیة عند المولی، فهذه نکتة عامة لتقیید کل خطاب شرعی بعدم الاشتغال بضدّه الواجب لایقل عنه فی الأهمیة، فإذن کیف یعقل أن یکون الأمر بالمهم مشروطاً بعدم الاشتغال بالأهم حدوثاً فقط، و أما بقاءً فهو مطلق ومتحرر، ضرورة أنه مجعول من الأول فی الشریعة المقدسة کذلک، علی أساس أن جمیع الخطابات الشرعیة مجعولة للقادرفی ظرف الامتثال لباً أعم من أن یکون قادراً بالقدرة التکوینیة أو التشریعیة، ونتیجة ذلک لا محالة تقیید کل خطاب شرعی فی ظرف الامتثال و الفعلیة لباًبعدم الاشتغال بضد واجب لایقل عنه فی الأهمیة، هذا من ناحیة.

ص:27

ومن ناحیة اخری ذکر السید الاُستاذ قدس سره(1) أن جریان الترتب بین الواجبین التدریجیین علی القول بامکان الشرط المتأخر واضح، لأن الأمر بالمهم کالأمر بالازالة مثلاً مشروط بعصیان الأمر بالصلاة فی آخر الوقت حدوثاً وبقاءً، أماحدوثاً فیکون بنحو الشرط المقارن، و أما بقاءً فیکون بنحو الشرط المتأخر، وعلی هذا فإذا رجع المکلف عن عصیانه فی الآن الثانی إلی الطاعة و الشروع فی الصلاة فیه، کشف ذلک عن عدم حدوث الأمر بالازالة من الأول، و هذا معنی أن حدوثه بها مشروط ببقاء العصیان إلی زمان لایتمکن المکلف من الاتیان بالصلاة فی الوقت، و أما القول بعدم امکان الشرط المتأخر فیشکل جریانه بینهما، ومن هنا جعل المحقق النائینی قدس سره الشرط عصیان الأمر بالأهم المتعقب بعصیانه فی الآن الثانی و الثالث وهکذا إلی آخر أزمنة امکان الاتیان بالمهم، وعلیه فحیث إن الشرط هو عنوان العصیان المتعقب لا العصیان الواقعی فیکون مقارناً لا متأخراً هذا.

الصحیح فی المقام

والصحیح فی المقام أن یقال أن الأمر بالمهم کالازالة مثلاً مشروط بعصیان الأمر بالأهم وعدم الاشتغال به واقعاً، و هذا یعنی أن الشرط هو العصیان الواقعی لا المفهوم المنتزع من العصیان المتأخر، ومع ذلک لایکون من الشرط المتأخر، والنکتة فیه ان الأمر بالمهم أمر واحد فی عالم الاعتبار و الجعل، و أما فی عالم الفعلیة و التحقق، فالموجود إنما هو فاعلیته ومحرکیته نحو الاتیان بمتعلقه و هی ممتدة بامتداد متعلقه ومشروطة بعصیان الأمر بالأهم فی هذا العالم و هوالعصیان الممتد إلی آخر أزمنة امکان الاتیان بالمهم، وحیث إن فاعلیة الأمربالمهم فاعلیة واحدة نحو الاتیان به، باعتبار أن فاعلیته بالنسبة إلی کل جزء منه

ص:28


1- (1) - نفس المصدر ص 107.

إنما هی بفاعلیة الکل لا مستقلاً وإلا لزم الخلف، وفاعلیة الکل مشروطة بعصیان الکل وعدم الاشتغال به بنحو الشرط المقارن، غایة الأمر أن فاعلیته ممتدة من بدایة الاتیان بالمهم إلی نهایته بامتداد العصیان، باعتبار أن الفاعلیة الممتدة فاعلیة واحدة کما أن العصیان الممتد عصیان واحد، ومن هنا إذا عصی المکلف الأمر بالأهم فی الآن الأول ثم عدل عنه إلی طاعته واشتغل بامتثاله فی الآن الثانی، فإنه کما یکشف عن عدم حدوث الأمر بالمهم کذلک یکشف عن عدم حدوث شرطه، لأن العصیان الحادث فی الآن الأول لیس شرطاً، فإن الشرط هو العصیان الممتد للمشروط کذلک ولیس الجزء الأول من فاعلیة الأمربالمهم مشروطاً بالجزء الأخیر من العصیان، مثلاً فاعلیة وجوب الازالة فی الآن الأول لیست مشروطه بالجزء الأخیر من عصیان وجوب الصلاة بل هی مشروطة بالجزء المقارن من العصیان، علی أساس أن مشروطیتها به انما هی بمشروطیة الکل بکل العصیان لا مستقلة.

ومن هنا قلنا أن اشتراط وجوب الصلاة بالقدرة علی التکبیرة إلی التسلیمة یکون بنحو الشرط المقارن لا المتأخر، وذلک لأن الوجوب بمعنی الاعتبارلایعقل أن یکون وجوده تدریجیاً، ضرورة أنه أمر اعتباری یوجد فی آن الاعتبار بوجود اعتباری ولا یتصور فیه التدرج فی الوجود، هذا بلحاظ عالم الاعتبار، و أما بلحاظ عالم الفعلیة و هو عالم الخارج فهو غیر موجود، والموجودفیه إنما هو فاعلیته و هی ممتدة بامتداد أجزاء الصلاة، وفاعلیته لکل جزء منها انما هی بفاعلیته للکل و هی مشروطة بالقدرة علی الکل بنحو الشرط المقارن، ففاعلیة وجوب الصلاة للتکبیره إنما هی بفاعلیته لکل الصلاة لا مستقلة وإلا فهو خلف، والمفروض أن فاعلیته لکل الصلاة مشروطة بالقدرة علی الکل و المقام من صغریات ذلک، فإن اشتراط الأمر بالمهم بعدم الاشتغال بالأهم

ص:29

وعصیانه من باب اشتراط التکلیف بالقدرة شرعاً.

إلی هنا قد تبین أمران: الأول: أن ما ذکره الاُستاذ قدس سره من أن الواجبین إذا کاناتدریجیین، کان وجوب المهم مشروطاً بعصیان وجوب الأهم بنحو الشرط المتأخر غیر تام، بل هو مشروط بعصیانه بنحو الشرط المقارن کما عرفت.

الثانی: إن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن الشرط هو العصیان المتعقب، وحیث إنه عنوان حاصل بالفعل فیکون من الشرط المقارن غیر سدید أیضاً لماعرفت من أن الشرط هو واقع العصیان، و أما جعله العنوان الانتزاعی و هوعنوان المتعقب، فبحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه.

المقدمة الثالثة: قد یتوهم أن القول بامکان الترتب یتوقف علی القول بامکان الشرط المتأخر،

بأن یکون الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم بنحو الشرط المتأخر حتی یجتمع الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم فی زمن واحد و هوفترة قبل عصیان الأهم، بدعوی أنه لوکان مشروطاً به بنحو الشرط المقارن لم یجتمع الأمران فی زمن واحد، لأن الأمر بالأهم قد سقط بالعصیان فیکون ثبوت الأمر بالمهم مقارناً مع سقوط الأمر بالأهم زماناً و هذا خارج عن محل الکلام.

ولکن لا أساس لهذا التوهم أصلاً، لأنه مبنی علی أن الأمر یسقط بالعصیان و هذا لا واقع له، لأن المسقط للأمر أحد أمرین:

الأول: امتثاله الموجب لسقوطه من جهة حصول الغرض منه الداعی للمولی إلی جعله.

الثانی: سقوط موضوعه، لأنه ینتفی بانتفائه ولا یعقل بقائه بعد سقوط موضوعه وانتفائه، و أما العصیان فلا موجب لکونه مسقطاً له بعد فرض عدم

ص:30

حصول الغرض منه الذی هو روح الأمر وحقیقته وکون المکلف قادراً علیه، نعم قد یکون عصیانه منشأً لعجز المکلف عن امتثاله، فعندئذٍ یسقط بسقوط موضوعه وانتفائه، ولا موضوعیة للعصیان بما هو عصیان، فإذا وقعت المزاحمة بین الأمر بالازالة و الأمر بالصلاة مثلاً فی أول الوقت، کان الأمر بالصلاة مشروطاً بعصیان الأمر بالازالة وعدم الاشتغال بها، وحینئذٍ فإذا عصی المکلف ولم یشتغل بالازالة فی أول أزمنة امکانها لم یسقط الأمر بها بالعصیان فیه طالما لم یکن هناک موجب للسقوط کانتفاء الموضوع ونحوه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه قد یتوهم أن القول بالترتب یتوقف علی عدم إمکان القول بالشرط المتأخر، واما علی القول به فیلزم اجتماع الأمر بالضدّین فی زمن واحد و هو محال، مثلاً إذا کان عصیان الأمر بالازالة شرطاً متأخراً للأمربالصلاة، فمعناه أن الأمر بالصلاة موجود قبل عصیان الأمر بالازالة، شریطة أن یتحقق عصیانه فی ظرفه، والمفروض أن الأمر بالازالة موجود أیضاً، فإذن یلزم اجتماع الأمر بالضدّین فی زمن واحد هذا.

ولکن لا أساس لهذا التوهم أیضاً، إذ لا مانع من اجتماع الأمر بالضدین بنحو الترتب علی القول بامکانه، لأن المحال إنما هو طلب الجمع بین الضدّین لا مجردالأمر بهما بنحو الترتب، فإن مقتضاه لیس طلب الجمع بینهما بل هو فی ظرف النقیض معه، ومن هنا لو فرض محالاً وقوعهما معاً فی الخارج لم یقع علی صفة المطلوب إلا أحدهما، فإذن لا مانع من اجتماع الأمر بالضدّین بنحو الترتب فی زمن واحد سواءً کان اجتماع الأمر بهما قبل تحقق العصیان أو بعده أو مقارناً له.

المقدمة الرابعة: ان الأمر مطلق بالاضافة إلی حالتی وجود متعلقه و عدمه،

و قد أفاد قدس سره فی وجه ذلک إنه بناءً علی ما قویناه من أن التقابل بین الاطلاق

ص:31

والتقیید من تقابل التضاد، فاطلاق الأمر بالنسبة إلی کلتا الحالتین ضروری علی أساس أن استحالة تقییده بوجود متعلقه فی الخارج أو عدمه فیه تستلزم ضرورة اطلاقه، لأن استحالة وجود أحد الضدّین تستلزم ضرورة وجود الآخر، وکذلک إذا کان التقابل بینهما من تقابل الایجاب و السلب، و أما بناء علی ما اختاره المحقق النائینی قدس سره من أن التقابل بینهما من تقابل العدم و الملکة، فعندئذٍ یستحیل اطلاق الأمر بالاضافة إلی کلتا الحالتین معاً، لأن تقییده بوجود متعلقه فی الخارج مستحیل فإنه من طلب الحاصل، وتقییده بعدم وجوده فیه خلف الفرض، ضرورة أن الأمر لوکان مقیداً ومشروطاً بعدم متعلقه فی الخارج فهو بماأنه لایقتضی هدم شرطه، فمعناه أنه لا یجب الاتیان بمتعلقه، بل الاتیان به یوجب انتفاء الأمر بانتفاء شرطه، باعتبار أنه مشروط بعدم وجوده فیه و هذا کماتری، فإذن کما لایمکن أن یکون الأمر بالصلاة مطلقاً بالنسبة إلی حالتی وجود متعلقه وعدمه ولا مقیداً بأحدهما بالاطلاق و التقیید اللحاظیین کذلک لایمکن بنتیجة الاطلاق و التقیید، ونقصد بالاطلاق و التقیید اللحاظیین الاطلاق و التقیید الثابتین بالدلیل الأول، کما إذا أمر المولی باکرام العلماء، وحینئذٍ فإن کان فی مقام البیان ولم ینصب قرنیة علی التقیید فهو مطلق باللحاظ الأول، و إن نصب قرینة علیه فهو مقید کذلک، ونقصد نتیجة الاطلاق و التقیید الاطلاق و التقیید الثابتین بالدلیل الثانی بعدما لایمکن اثباتهما بالدلیل الأول کتقیید الصلاة بقصد الأمر، فإنه بناء علی استحالة هذا التقیید، فالصلاة باللحاظ الأول لا مطلقة ولا مقیدة علی القول بأن التقابل بینهما من تقابل العدم و الملکة، ولکن ثبت تقییدها أو اطلاقها بالدلیل الثانی، ویسمی هذا بنتیجة الاطلاق أو التقیید.

و أما فی المقام فکما لایمکن التقیید والاطلاق باللحاظ الأول، فکذلک لایمکن بنتیجة الاطلاق و التقیید، لوضوح أنه لایمکن تقیید الأمر بوجود متعلقه أو

ص:32

بعدمه لا بالدلیل الأول ولا بالدلیل الثانی، باعتبار أن المورد فی نفسه غیر قابل لذلک لا من جهة قصور الدلیل الأول مع قابلیة المورد فی نفسه لذلک حتی یمکن الاطلاق أو التقیید بالدلیل الثانی هذا.

الرد علیها

وغیر خفی أن هذه المقدمة لاترتبط بمسألة الترتب أصلاً، سواءً فیه القول بأن التقابل بین الاطلاق و التقیید من تقابل التضاد أو الایجاب و السلب أو العدم و الملکة، فإن الأمر بالأهم سواءً أکان له اطلاق بالنسبة إلی وجود متعلقه وعدم وجوده أم لا فلا صلة له بهذه المسألة و هی مسألة الترتب، فإنها تتوقف علی اطلاق الأمر بالأهم بالنسبة إلی حالتی اشتغال المکلف بالواجب المهم وعدم اشتغاله به، ولا شبهة فی أن الأمر بالأهم مطلق بالاضافة إلی کلتا الحالتین حتی علی مسلک المحقق النائینی قدس سره.

فالنتیجة، أن هذه المقدمة لاترتبط بمسألة الترتب، فإن المرتبط بها إنما هو اطلاق الأمر بالأهم بالاضافة إلی حالتی اشتغال المکلف بالمهم وعدم اشتغاله به لا بالاضافة إلی وجود متعلقه فی الخارج وعدم وجوده فیه.

المقدمة الخامسة: إن الخطابات الشرعیة حیث إنها مجعولة علی نحو القضایا الحقیقیة للموضوع المقدّر وجوده فی الخارج فهی لا تتعرض لحال موضوعها فیه لا نفیاً و لا إثباتاً

، لأنها ترجع فی الحقیقة إلی القضایا الشرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت المحمول له ومفادها ثبوت الحکم علی تقدیر وجودموضوعه فی الخارج، حیث إن التالی لایقتضی وجود الشرط وإنما یقتضی وجود متعلقه علی تقدیر وجود الشرط.

ونتیجة هذه المقدمة، أن الأمر بالمهم لایقتضی وجود موضوعه فی الخارج و هو ترک الأهم، وإنما یقتضی وجود متعلقه فیه علی تقدیر وجود موضوعه،

ص:33

و أما أن هذا التقدیر ثابت أو لا فهو ساکت عن ذلک، ومن هنا یکون الأمر بالمهم فی طول الأمر بالأهم.

وبکلمة، حیث إن ترک الأهم وعصیان أمره قد أخذ فی موضوع الأمر بالمهم، فلا یکون الأمر به متعرّضاً لحال موضوعه خارجاً لا وضعاً ولا رفعاً، لأن الحکم حیث إنه مجعول علی نحو القضیة الحقیقیة، فیستحیل أن یکون ناظراً إلی موضوعه فی الخارج لا نفیاً ولا اثباتاً، وإنما هو ناظر إلی متعلقه ویستدعی وجوده فی الخارج علی تقدیر وجود موضوعه فیه، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الأمر بالأهم محفوظ فی ظرف عصیانه ویقتضی هدم موضوع الأمر بالمهم ورفعه و هو ترک الأهم وعصیانه، والمفروض أن الأمربالمهم لایقتضی إیجاد موضوعه فی الخارج لکی یکون بین الأمرین تمانعاً، فإذن لا تمانع بینهما أبداً، ولکن هذه المقدمة کسابقتها لاتنفی مانعیة الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم وإنما تنفی مانعیة الأمر بالمهم فحسب.

لحدّ الآن قد تبین أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من المقدمات لاتنتج نفی مانعیة الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم، وإنما تنتج أن فعلیة الأمر بالضدّین بنحو الترتب لاتستلزم طلب الجمع بین الضدّین، ولکن مجرد ذلک لایکفی فی القول بامکان الترتب بل لابد من اثبات أن الأمر بالأهم أیضاً لایکون مانعاً عن الأمر بالمهم، وإلاّ فلایمکن القول بالترتب، ضرورة استحالة الجمع بین المانع و الممنوع معاً فی زمن واحد وجعلهما کذلک.

وجوه أخری للقول بإمکان الترتب:

وهنا وجوه اخری للقول بامکان الترتب:

ص:34

الوجه الأول: ما ذکره المحقق الأصبهانی(1) قدس سره وحاصله، إن الأمر بالمهم فی مرتبة متأخرة عن الأمر بالأهم، وعلیه فبطبیعة الحال یکون اقتضائه الاتیان بالمهم فی مرتبة متأخرة عن مرتبة اقتضاء الأمر بالأهم الأتیان بمتعلقه، وذلک لأن الأمر بالمهم مترتب علی ترک الأهم وعدم الاشتغال به و هو فی مرتبة فعل الأهم، علی أساس أن النقیضین فی رتبة واحدة، والمفروض أن فعل الأهم فی الخارج متأخر عن الأمر بالأهم واقتضائه باعتبار أنه معلول له، فیکون الأمربالمهم واقتضائه لفعل المهم متأخراً عن الأمر بالأهم واقتضائه فإذن لا محذور.

والجواب، أولاً: إن تأخر الأمر بالمهم عن ترک الأهم وعدم الاشتغال به رتبة لایلازم تأخره عن فعل الأهم الذی هو فی مرتبة ترکه، باعتبار أن النقیضین فی رتبة واحدة لکی یکون متأخراً عن الأمر بالأهم أیضاً، باعتبار أنه متقدم رتبة علی فعل الأهم الذی هو معلول له، وذلک لما ذکرناه غیر مرة من أن تقدم شیء علی شیء آخر رتبة بعد ما کان مقارناً معه زمناً بحاجة إلی ملاک، ولایمکن أن یکون جزافاً، مثلاً العلة متقدمة علی المعلول رتبة مع أنهما متعاصران زماناً فإنما هو بملاک العلیّة وقضاء لحقها، والمعلول متأخر عنها کذلک قضاء لحق المعلولیة، و أما عدم المعلول فهو فی مرتبة وجوده ومع ذلک لایکون متأخراً عن العلة رتبة لعدم الملاک المبرّر لتقدّمها علیه، وعلی هذا فالأمر بالمهم متأخر عن ترک الأهم وعدم الاشتغال به بملاک تأخر الحکم عن موضوعه، ولکن لا مبررلتأخّره عن فعل الأهم الذی هو فی رتبة ترکه لعدم الملاک المبرّر لتأخره عنه، ومن هنا یظهر أنه لامبرّر لتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم لعدم الملاک له بعدما کان مقارناً معه زماناً.

ص:35


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2 ص 218.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الأمر بالمهمّ متأخر عن الأمر بالأهم رتبة، إلاّ ان المضادة و المعاندة بین الضدّین تکمن فی اجتماعهما فی زمن واحد لا فی رتبة واحدة، إذ لا وجود لهما فی عالم الرتب، علی أساس أنه لا واقع موضوعی لهذا العالم ماعدا إدراک العقل، لوضوح أن المضادة و المماثلة بین الأشیاء انما هی من صفات وشؤون وجوداتهما فی عالم الزمان و هو عالم الخارج، ولهذا لاترتفع عائلة استحالة اجتماع الضدّین باختلافهما فی الرتبة إذا کان فی زمن واحد فلایمکن الأمر بالضدّین فی زمن واحد و إن أحدهما فی طول الآخر، ضرورة أن ملاک الاستحالة المعیة فی الزمان سواءً کانت المعیة بینهما فی الرتبة أم لا.

وثالثاً: إن التضاد و التنافی بین الأمرین إنما هو من جهة التضاد و التنافی بین متعلقیهما فی الخارج کالصلاة والازالة و الصلاة وإنقاذ الغریق، وعلی هذا فتعدد الرتبة بین نفی الأمرین إن کان یدفع مشکلة الأمر بالضدّین فرضاً فهو، وإلاّ فلابد من دفع مشکلة التنافی و التضاد بین متعلقیهما، ولایمکن دفعها بتعدد الرتبة لعدم تعددها بینهما.

وبکلمة، إن التنافی و التضاد بین الأمرین عرضی ناشیء من التنافی و التضادبین متعلقیهما فإنه ذاتی، وعلی هذا فلابد من علاج التنافی و التضاد بین المتعلقین، فإذا عولج التنافی و التضاد بینهما فقد عولج بین الأمرین أیضاً، باعتبار أنه بالعرض ویدور مداره ولایمکن علاجه بتعدد الرتبة، فإنه مبنی علی أن فعل المهم متأخر رتبة عن فعل الأهم ولایمکن اثبات ذلک إلاّ بقیاس المساوات، بتقریب أن فعل المهم متأخر عن الأمر به و هو متأخر عن ترک الأهم الذی هو فی مرتبة فعل الأهم علی أثر أن النقیضین فی رتبة واحدة.

فالنتیجة، أن فعل المهم متأخر عن فعل الأهم رتبة فلا یلزم اجتماع الضدّین

ص:36

فی رتبة واحدة، ولکن قد تقدم أن نتیجة قیاس المساوات فی عالم الرتب عقیمة وانما تصحّ فی عالم الأزمان، فإن ما هو مع المتقدم علی شیء زماناً متقدم علیه کذلک وما هو مع المتأخر عن شیء زماناً متأخر عنه کذلک، وما هو مع المقارن لشیء زماناً مقارن معه کذلک بینما الأمر لیس کذلک فی عالم الرتب، فإن ما هو مع المتقدم علی شیء رتبة لیس متقدماً علیه کذلک، لأن عدم العلة فی رتبة العلة ومع ذلک لایکون متقدماً علی المعلول رتبة، وما هو مع المتأخر عن شیء رتبة لایکون متأخراً عنه کذلک کعدم المعلول، فإنه مع کونه فی رتبته لایکون متأخراًعن العلة رتبة وهکذا، وعلی هذا فلو قلنا بأن تعدد الرتبة یکفی فی رفع غائلة استحالة اجتماع الضدّین إلاّ انه فی المقام غیر موجود، لأن فعل المهم لایکون متأخراً عن فعل الأهم رتبة فیکونا فی رتبة واحدة فلایمکن اجتماعهما فیها هذا، اضافة إلی ما عرفت من أن تعدّد الرتبة لایکفی لرفع غائلة استحالة اجتماع الضدّین، فإن اجتماعهما محال فی زمن واحد و إن لم یکن فی رتبة واحدة، لأن ملاک استحالة اجتماع الضدّین و النقیضین إنما هو المعیّة بینهما فی الزمان لا فی الرتبة، لأن الاضداد و المتناقضات بین الأشیاء الخارجیة إنما هی فی عالم الزمان لا فی عالم الرتب لأنها من أوصافها وشؤونها فی هذا العالم دون عالم الرتب، إذ لا وجود لهافیه حتی تعرض علیها تلک الصفات. فالنتیجة، إن اجتماع الضدّین و النقیضین فی زمن واحد مستحیل و إن کانا طولیین رتبة.

الوجه الثانی(1): ما قیل من أن إمکان القول بالترتب مبنی علی أن لایکون الأمر بالأهم فی رتبة الأمر بالمهم کی یقتضی الامتثال فی مرتبته ویقع التنافی بینهما، بتقریب أن الأمر بالمهم معلول لعصیان الأمر بالأهم ومترتب علیه

ص:37


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 340.

وسقوط الأمر بالأهم معلول لعصیانه وعدم امتثاله ولو بنحو الشرط المتأخر، فإن العصیان کالامتثال سبب للسقوط، وعلیه فالأمر بالمهم مع سقوط الأمر بالأهم فی رتبة واحدة، علی أساس أنهما معلولان لعلة واحدة و هی العصیان، ونتیجة ذلک أن فی مرتبة الأمر بالمهم لا أمر بالأهم لأنها بالنسبة إلی المهم مرتبة ثبوته وبالنسبة إلی الأهم مرتبة سقوطه، و هذا معنی أنهما لایجتمعان فی مرتبة واحدة حتی یقع التنافی بینهما.

والجواب: أولاً: ما تقدم من أن العصیان لایکون سبباً لسقوط الأمر، لأن سقوطه إمّا أن یکون بالامتثال وحصول الغرض أو بانتفاء موضوعه لابالعصیان، إذ لا مبرّر لسقوطه به طالما یکون المکلف قادراً علی امتثاله، ونقصدبالسقوط هنا سقوط فاعلیة التکلیف ومحرّکیته لا سقوطه جعلاً.

وثانیاً: ما عرفت من أن تعدد المرتبة لایدفع محذور غائلة اجتماع الضدّین طالما یکون اجتماعهما فی زمان واحد فإنه مستحیل و إن اختلفا فی الرتبة، فإذن علاج مشکلة استحالة الاجتماع منوط بتعدد الزمان وعدم المعیّة فیه، هذا، اضافة إلی أن هذا الدلیل إنما یثبت تعدد الرتبة بین الأمرین هما الأمر بالمهم و الأمر بالأهم لابین المتعلقین، والمفروض أن التضاد بین الأمرین إنما هو من جهة التضاد بین المتعلقین فی الخارج، و هذا الدلیل لایعالج مشکلة التضاد بینهما فیه حتی یدفع غائلة التمانع و التضاد بین الأمرین.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی أن جمیع المقدمات و الأدلة التی استدل بها للقول بامکان الترتب لیست علی مستوی واحد فی دفع مشکلة الترتب و إن کانت جمیعها مشترکة فی نقطة واحدة و هی أنها لاتدفع المشکلة نهائیاً.

ص:38

التحقیق فی المقام
شروط عدم استحالة إمکان القول بالترتب
اشارة

والتحقیق فی المقام أن یقال إن إمکان القول بالترتب وعدم استحالته من کل الجهات منوط بتوفّر امور:

الأول: إنه لاتنافی بین ذات الأمر بالمهم وذات الأمر بالأهم بما هما اعتباران، إذ التنافی و التضاد لایتصور بین الأمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها ماعدا اعتبار المعتبر فی عالم الاعتبار و الذهن، والتنافی إنما هو بین اقتضاء کل منهما مع اقتضاء الآخر فی مرحلة الفعلیة.

الثانی: إن الأمر بالمهم لایصلح أن یکون مانعاً عن الأمر بالأهم وطارداً له، باعتبار أنه مشروط بعدم الاشتغال بالأهم وترک امتثال أمره علی أساس نکتة عامة، و هی أن کل خطاب شرعی مقیّد لباً بعدم الاشتغال بضدّ واجب لایقل عنه فی الأهمیة، وعلی هذا فالأمر بالمهم إنما یقتضی الاتیان بمتعلقه علی تقدیروجود موضوعه فی الخارج و هو ترک امتثال الأمر بالأهم وعصیانه، و أما أن هذا التقدیر ثابت أولاً فهو ساکت عنه وغیر ناظر إلیه، بینما الأمر بالأهم یقتضی هدم موضوع الأمر بالمهم وعلیه فهو مانع عنه، لأن معنی کون شیء مانعاً عن آخرهو منعه عن تأثیر مقتضیه فیه الذی هو شرطه وموضوعه، أو فقل: إن الأمر بالمهم یستحیل أن یکون مانعاً عن الأمر بالأهم لأنه متفرّع علی ترک الأهم بعد وجوده، فکیف یعقل أن یکون مانعاً عن تأثیر مقتضیه فیه وإلاّ لزم أن یکون عدم الأمر بالأهم مستنداً إلی الأمر بالمهم و هو کما تری.

الثالث: إن الأمر بالأهم أیضاً لایصلح أن یکون مانعاً عن الأمر بالمهم وطارداً له، لأن الأمر بالأهم یقتضی الاتیان بمتعلقه فی الخارج کما هو شأن کل أمر، ولازم ذلک أنه یقتضی المنع عن عصیانه بمفاد کان التامة وترک امتثاله الذی هو موضوع الأمر بالمهم و الشرط له، ولکن إذا فرض تحقق الترک فی الخارج

ص:39

بمفاد لیس التامة عصیاناً، ترتب علیه الأمر بالمهم قهراً علی أساس أنه موضوعه، وترتب الحکم علی موضوعه أمر قهری کترتب المعلول علی العلة التامة وإلاّ لزم خلف فرض کونه موضوعاً له، ومن الواضح أن الأمر بالأهم لایقتضی المنع عن ذلک، فإنه إنما یقتضی المنع عن ترک متعلقه فی الخارج بمفاد لیس التامة، و أما إذا تحقق هذا الترک فی الخارج کذلک فهو لایمنع عن تأثیره فی حکمه وترتبه علیه بمفاد کان الناقصة، کیف فإن تأثیره فیه وترتبه علیه کتأثیرالعلة فی المعلول وترتبه علیها غیر قابل للمنع شرعاً، وعلیه فلم یعقل أن یکون الأمر بالأهم مانعاً عنه لأنه خارج عن مدلوله ودائرة اقتضائه، فإنه إنما یقتضی الاتیان بمتعلقه فی الخارج ولازم ذلک اقتضائه المنع عن ترکه، و أما إذا ترک فیه فهو لایمنع عن ترتب أثره علیه و هو الأمر بالمهم من باب ترتب الأثر علی المؤثروالحکم علی موضوعه لأنه أمر قهری وغیر قابل للمنع، و هذا معنی أن الأمربالأهم لایکون مانعاً عن الأمر بالمهم، فإن المعنی المانع الذی یکون عدمه جزء العلة التامة هو منعه عن تأثیر المقتضی، والمفروض أن الأمر بالأهم یمنع عن إیجاد مقتضی الأمر بالمهم لا عن تأثیره وترتب أثره علیه بعد تحققه ووجوده، مثلاً الأمر بالصلاة فی آخر الوقت یقتضی إیجادها فی الخارج، ولازم ذلک هومنعه عن ترکها وعدم الاشتغال بها الذی هو موضوع الأمر بالازالة وشرطه بمقتضی التقیید اللبّی العام، ومعنی ذلک أن الأمر بالصلاة یقتضی هدم موضوع الأمر بالازالة، والمفروض أن الأمر بالازالة لایقتضی إیجاده حتی یکون منافیاً للأمر بالصلاة، و أما إذا ترک المکلف الصلاة عصیاناً فیترتب علیه الأمر بالازالة من باب ترتب الحکم علی موضوعه، وإلاّ فما فرض أنه موضوع له لیس بموضوع له و هذا خلف، ومن الطبیعی أن الأمر بالصلاة لایمنع عن تأثیره فیه وترتبه علیه بعد تحققه، لأن مردّ هذا المنع إلی المنع عن ترتب الأمر بالمهم علیه،

ص:40

ومعنی هذا أنه لیس موضوعاً له و هو خلف.

وبکلمة، أن الأمر بالأهم لوکان مانعاً عن الأمر بالمهم فلایخلو من أن یکون مانعاً عن تأثیر مقتضیه فیه فی حال عدم وجود الأمر بالمهم أو فی حال وجوده وکلا الفرضین لایمکن.

أما الفرض الأول فهو غیر معقول، لأن المانع عن تأثیر المقتضی لابد أن یفترض عند ثبوت ذلک المقتضی فی ظرفه وإلاّ فلا یعقل أن یتصف المانع بالمانعیة، فإنه إنما یتصف بها عند ثبوت المقتضی، بحیث لولا المانع لأثر أثره، وعلی هذا فالأمر بالأهم إنما یکون مانعاً عن الأمر بالمهم عند ثبوت مقتضیه و هوترک الأهم، ومن المعلوم أنه یتحقق عند ثبوته، ومعه کیف یعقل أن یکون الأمربالأهم مانعاً عنه، إذ لایتصور کونه مانعاً عنه فی حال وجوده وثبوته.

و أما الفرض الثانی فهو أیضاً غیر معقول، لأن فرض وجود الأمر بالمهم معناه تحقق ترک الأهم الذی هو الموضوع للأمر بالمهم، ومن الواضح أن معنی هذا الفرض هو أن الأمر بالأهم فی هذا الظرف أی ظرف ترکه لایؤثر فی إیجاد متعلقه بل یستحیل تأثیره فیه، لأن إتصاف الأمر بالأهم فی ظرف ترکه بالمانعیّة مستحیل، فإن الأمر بالمهم فی هذا الظرف موجود علی أساس وجود موضوعه فیه، ومع وجوده بوجود موضوعه لایعقل أن یکون الأمر بالأهم مانعاً عن تأثیره فیه، ضرورة أن معنی کونه مانعاً عنه أنه لا وجود له، ومعنی وجوده بوجود موضوعه أنه یستحیل أن یکون مانعاً عنه.

والخلاصة، ان الأمر بالأهم و إن کان فی نفسه یقتضی إیجاد متعلقه فی الخارج بمفاد کان التامة و المنع عن ترکه، إلا أنه لایقتضی المنع عن تأثیر الترک فی الأمربالمهم وترتبه علیه بمفاد کان الناقصه، لأنه خلف وفرض کونه موضوعاً له،

ص:41

وهکذا یتبرهن أنه لا تمانع بین الأمرین لا من الطرفین ولا من طرف واحد، هذاکله فیما إذا کان الترتب من جانب واحد، و أما إذا کان من الجانبین کما إذا کان الواجبان المتزاحمان متساویین فی الأهمیة، فقد ظهر مما تقدم أنه لا فرق فی إمکان القول بالترتب بین أن یکون من جانب واحداً أو من جانبین، لأن ما ذکرناه من البرهان علی عدم التمانع بین الأمرین لا من الطرفین ولا من طرف واحد فی الباب الأول بعینه یجری فی الباب الثانی، فإذا فرضنا أن الصلاة مع الازالة فی مستوی واحد، فإذا وقعت المزاحمة بینهما، کان الأمر المتعلق بکل منهما مقیّداً لباً بعدم الاشتغال بالاُخری، علی أساس ما عرفت من أن کل خطاب شرعی مقیداً لباً بعدم الاشتغال بضد واجب لایقل عنه فی الأهمیة، وعلی هذا فالأمر بالصلاة مشروط بعدم الاشتغال بالازالة وترک امتثال أمرها، والأمر بالازالة مشروط بترک الصلاة وعدم الاشتغال بها، وکل من الأمرین یقتضی إیجاد متعلقه فی الخارج بمفاد کان التامة، ولازم هذا اقتضاء کل منهما هدم موضوع الاُخری و هوالترک، ولکن کل منهما لایصلح أن یکون مانعاً عن الاُخری، فإن معنی المانع هو المنع عن تأثیر المقتضی، مثلاً الأمر بالصلاة إنما یقتضی إیجادها فی الخارج و المنع عن ترکها ولایقتضی المنع عن تأثیر مقتضی الاُخری و هو ترکها وعدم الاشتغال بها، وإنما یقتضی المنع عن الترک بمفاد لیس التامة، و أما إذا تحقق ترک الصلاة فی الخارج فهو مؤثر فی الأمر بالازالة وترتبه علیه بملاک ترتب الحکم علی موضوعه، ولایمکن أن یکون الأمر بالصلاة مانعاً عن ترتب الأمر بالازالة علی ترکها بمفاد کان الناقصة وبالعکس لأنه خلف فرض کونه موضوعاً له.

و إن شئت قلت: إن کلاً من الأمر بالصلاة و الأمر بالازالة یقتضی إیجاد متعلقه فی الخارج مباشرة، ولازمه اقتضاء کل منهما المنع عن ترکه وعدم الاشتغال به، و أما إذا ترک المکلف الصلاة فی الخارج عصیاناً فیترتب علیه أثره و هو الأمر

ص:42

بالازالة ترتب الحکم علی موضوعه، ولا یکون الأمر بالصلاة فی هذا الظرف مانعاً عن ترتب هذا الأثر وإلاّ لزم الخلف.

والخلاصة، إن الأمر بالصلاة و إن اقتضی المنع من الترک حدوثاً وبقاءً إلاّ أنه لایقتضی المنع عن ترتب أثره علیه عند تحققه، لأنه من ترتب المشروط علی شرطه و الحکم علی موضوعه، ولا یعقل أن یکون الأمر بالصلاة فی ظرف ترکها مانعاً عن تأثیر مقتضی الأمر بالازالة، لأن الأمر بالازالة فی هذا الظرف موجود بوجود مقتضیه وموضوعه و هو ترکها، ومعه یستحیل أن یکون الأمر بالصلاة مانعاً عن تأثیره فیه بمفاد کان الناقصة، وإلاّ لزم خلف فرض کونه موجوداًبوجود مقتضیه، لأن فرض المانع عنه فرض عدم وجوده وفرض وجوده فرض عدم المانع، فکیف یعقل الجمع بینهما، وکذلک الحال فی الأمر بالازالة، فالنتیجة أنه لامانع من الالتزام بالترتب من الجانبین ولایلزم من فعلیة الأمرین بنحوالترتب من الطرفین محذور طلب الجمع بین الضدّین ولا التمانع بین الأمرین فی هذا الظرف.

إلی هنا قد تبیّن أنه لا فرق فی إمکان القول بالترتب بین أن یکون من جانب واحد أو من جانبین، لأن الجهة الرئیسیة لامکان هذا القول وعدم استحالته واحدة فی کلا البابین بلا فرق بینهما، ولکن مع هذا قد یقال کما قیل باستحالة التربت من الجانبین و إن قلنا بامکانه من جانب واحد، و قد قرب ذلک بأحد بیانین:

کلام المحقق العراقی قدّس سرّه فی استحالة الترتب من الجانبین
البیان الأول و الرد علیه

الأول: ما ذکره المحقق العراقی قدس سره(1) بتقریب إن الترتب من الجانبین وجعل الأمر فی کل من الخطابین مشروطاً بعصیان الآخر یستلزم الدور، وذلک لأن

ص:43


1- (1) - مقالات الاصول ج 1 ص 342.

الأمر بالصلاة متوقف علی عصیان الازالة و هو متوقف علی الأمر بها فعلاً وإلاّ لم یتحقق عصیان، فالنتیجة أن الأمر بالصلاة یتوقف علی الأمر بالازالة وکذلک الحال فی طرف الازالة، فإن الأمر بها یتوقف علی عصیان الصلاة و هو یتوقف علی الأمر بها فعلاً وإلاّ لم یتحقق عصیان، فالنتیجة أن الأمر بالازالة یتوقف علی الأمر بالصلاة، و هذا هو الدور.

والجواب: إن تخیل الدور فی المقام مبنی علی الخلط بین ما هو شرط واقعاً ولباً لکل من الأمرین وما هو منتزع منه کعنوان العصیان، فإن الشرط فی الحقیقة للأمر بالصلاة هو ترک الازالة وعدم الاشتغال بها کما أن الشرط للأمر بالازالة هو ترک الصلاة حقیقة وعدم الاشتغال بها و هو لایتوقف علی الأمر بها حتی یلزم الدور.

وعلی الجملة فالأمر المتعلق بکل من الصلاة والازالة مقیّد واقعاً ولباً بعدم الاشتغال بالاُخری، علی أساس نکتة عامة و هی أن کل خطاب شرعی مقیّد لباًبعدم الاشتغال بضد واجب لایقل عنه فی الأهمیة.

فالنتیجة، إن العصیان لیس بشرط و التعبیر عنه بالشرط إنما هو بنکتة أنه منتزع منه، و أما ما قیل من أن الشرط هو العصیان التقدیری بمعنی أن الأمربالصلاة مشروط بعصیان الأمر بالازالة اللولائی أی لوکان هناک أمر بالازالة کان المکلف عاصیاً وکذلک الأمر بالعکس، والفرض أن العصیان التقدیری لایتوقف علی الأمر الفعلی فهو مجرد افتراض للتفصّی عن اشکال الدور وإلا فلا واقع له، ضرورة أنه لوکان الشرط العصیان فهو العصیان الفعلی لا التقدیری.

ص:44

البیان الثانی و الرد علیه

الثانی (1): أن الترتب من الجانبین یستلزم الدور بتقریب آخر، و هو أن فعل الصلاة یتوقف علی وجود الداعی إلیه و هو یتوقف علی فعلیة الأمر بها و هی تتوقف علی ترک الازالة الموقوف علی عدم الداعی إلی الازالة و هو یتوقف علی عدم فعلیّة الأمر بها الموقوف علی فعل الصلاة.

فالنتیجة، إن فعل الصلاة یتوقف علی فعل الصلاة وکذلک الحال فی طرف الازالة و هذا هو الدور اللازم علی القول بالترتب من الجانبین.

والجواب: إن ترک الازالة لایتوقف علی عدم وجود الداعی إلیها بل یکفی فی ترکها وجود الداعی إلی الصلاة، علی أساس أن الموجود فی نفس المکلف هناداع واحد نحو الجامع بین الفعلین هما الصلاة والازالة، ولایمکن أن یکون فی نفسه داعیان فی عرض واحد. أحدهما: الداعی إلی إیجاد الصلاة و الآخر: الداعی إلی إیجاد الازالة بعد مالایمکن الجمع بینهما، فإذن بطبیعة الحال یکون الداعی واحداً و هو الداعی إلی الجامع، فإذا تحقق فی نفس المکلف الداعی إلی وجود الصلاة فترک الازالة لایحتاج إلی داع آخر بل یکفی فی ترکها وجود الداعی إلی الصلاة، وعلیه فلا دور فی البین.

والخلاصة، إن توهم الدور فی المقام مبنی علی أن یکون هناک داعیان فی نفس المکلف فعلاً، أحدهما: نحو إیجاد الصلاة. والآخر: نحو إیجاد الازالة فعندئذٍ یلزم الدور، لأن إیجاد الصلاة یتوقف علی وجود الداعی إلیها و هو یتوقف علی تعلق الأمر بها فعلاً و هو یتوقف علی ترک الازالة و هو یتوقف علی عدم الداعی إلیها و هو یتوقف علی إیجاد الصلاة وکذلک الحال فی طرف الازالة، و أما إذا کان هناک داع واحد نحو الجامع بینهما کما هو کذلک فی المقام فلا یلزم الدور، لأن تطبیق

ص:45


1- (1) -) بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 365.

ذلک الداعی علی أیّ من الفعلین بید المکلف، علی أساس أنه کان یعلم بأن له قدرة واحدة، فإن صرفها فی أحدهما عجز عن الآخر وبالعکس، فلهذا یکون مخیراً فی مرحلة الامتثال و التطبیق بینهما.

فالنتیجة، إن کلا الاشکالین فی غیر مورده، فإذن لافرق بین الترتب من جانب واحد و الترتب من الجانبین هذا.

القول بالترتب من الجانبین إن قلنا باستحالته من جانب واحد

ولکن قد یقال(1) بإمکان القول بالترتب من الجانبین و إن قلنا باستحالته من جانب واحد، بتقریب أن إمکان القول بالترتب من جانب واحد متوقف علی أمرین:

الأول: عدم مانعیة الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم.

الثانی: عدم مانعیة الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم، و أما القول بإمکان الترتب من کلا الجانبین، فیکفی فیه ثبوت الأمر الأول فقط و هو عدم مانعیة

الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم و إن أنکرنا الأمر الثانی.

الرد علیه

وفیه، أن هذا التقریب غیر صحیح، فإن الأمر بالمهم لایکون مانعاً عن الأمر بالأهم جزماً، و أما أنه غیر مانع عن الأمر بالمهم المساوی له أیضاً، فهو أول الکلام بل حاله فی المانعیّة عنه حال الأمر بالأهم بالنسبة إلیه.

والخلاصة، إن کلاً من الأمرین المتساویین یصلح أن یکون مانعاً عن الآخرکالأمر بالأهم، فإذن لا فرق بین أن یکون الترتب من جانب واحد أو من جانبین، فإنه متوقف علی تمامیة الأمرین:

أحدهما: عدم مانعیة الأمر بالصلاة مثلاً عن الأمر بالازالة.

ص:46


1- (1) - المصدر المتقدم ص 367.

والآخر: عدم مانعیة الأمر بالازالة عن الأمر بالصلاة، بلا فرق فی ذلک بین أن یکونا متساویین أو أحدهما أهمّ من الآخر.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی أنه لا مانع من تعلق الأمرین بالضدّین کالصلاة والازالة بنحو الترتب ولا یلزم منه طلب الجمع بین الضدین لأنه فی الطرف النقیض معه، ومن هنا لو فرض وقوع کلیهما معاً فی الخارج فرضاً لم یقع علی صفة المطلوبیّة إلاّ احدهما، ولا التنافی و التمانع بینهما لا من جانب واحد ولا من الجانبین فی مرحلة الاقتضاء بمعنی، کما أن الأمر بالمهم لایکون مانعاً عن الأمر بالأهم، کذلک الأمر بالأهم لایکون مانعاً عن الأمر بالمهم، ولاکل منهما مانعاً عن الآخر بمستوی واحد إذا کانا متساویین، فلهذا لا مناص من الالتزام بإمکان القول بالترتب بلا فرق بین أن یکون من جانب واحد أو من الجانبین.

نتائج البحث

نتائج البحث عدة نقاط:

الاُولی: إن القول بإمکان الترتب عنصر أساسی لاخراج باب التزاحم عن باب التعارض.

الثانیة: قد ذکر لمسألة الترتب ثمرتان:

1 - ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن ثمرة هذه المسألة صحّة العبادة المزاحمة، وفیه أن هذه الثمرة و إن کانت ثمرة لها إلاّ أن لازم ذلک کونها مسألة اصولیة دون مسألة الضدّ.

2 - ما ذکره بعض المحققین قدس سره من أن ما یترتب علی هذه المسألة من الثمرة هوخروج باب التزاحم عن باب التعارض، وفیه أنه لا فرق بین الثمرتین، لأنّ

ص:47

مرجعهما لباً وروحاً واحد و إن کان فرق بینهما فی صیغة البحث علی تفصیل تقدم.

الثالثة: إن البحث عن الترتب إمکاناً واستحالة إنما هو بین الخطابین المتعلقین بالضدّین العرضیین کالصلاة والازالة المتزاحمین فی مرحلة الامتثال، و أما إذاکانا متعلقین بالضدّین الدائمیین فهما داخلان فی باب التعارض وخارجان عن باب التزاحم و إن کان بینهما ثالث.

الرابعة: إن معنی الترتب هو أن الأمر بالمهم مترتب علی ترک الأهم ومشروط به، وعلی هذا فالرافع للأمر بالمهم هو الاتیان بالأهم وعدم امتثال أمره لا جعله ولا وصوله ولا تنجّزه ولا فعلیته وإلاّ فلایتصور الترتب بینهما و هوفعلیة کلا الأمرین معاً فی زمن واحد مترتباً.

الخامسة: إن هناک قولین فی المسألة:

الأول: إن الترتب مستحیل.

الثانی: إنه ممکن وغیر مستحیل.

السادسة: إن القائل بالاستحالة قد استدل علیها بوجوه:

الأول: إن معنی الترتب هو فعلیة کلا الأمرین المتعلقین بالضدّین هما الأمر المترتب و الأمر المترتب علیه، ولا معنی لفعلیة الأمر إلاّ کونه محرکاً نحو الاتیان بمتعلقه، ومن الواضح أن محرکیة کلا الأمرین نحو الاتیان بمتعلقیهما من طلب الضدّین و هو محال، و قد اجیب عن ذلک بأن المحال هو طلب الجمع بین الضدّین، وفعلیة الأمرین بالضدّین بنحو الترتب لاتستلزم ذلک، لأن اقتضاء الأمر بالمهم الاتیان بمتعلقه إنما هو فی فرض عدم الاتیان بالأهم لا مطلقاً لکی یلزم طلب

ص:48

الجمع بین الضدّین بل هو فی طرف النقیض معه، و هذا الجواب و إن کان یدفع محذور طلب الجمع بین الضدّین إلا أنه لایدفع محذور الممانعة بین الأمرین مطلقاً.

الثانی: إن الأمر بالمهم و إن لم یکن مانعاً عن الأمر بالأهم ولکن الأمر بالأهم مانع عنه، و هذا یکفی فی استحالة الترتب، واُجیب عن ذلک بنفس الجواب المتقدم.

الثالث: إن القائل بالترتب لایمکن أن یلتزم بلازمه و هو تعدد العقاب لأنه من العقاب علی مالایقدر، و قد اجیب عن ذلک بأن العقاب إنما هو علی الترک، وکلا الترکین مقدور هما ترک الأهم ثم ترک المهمّ، و هذا الجواب مبنی علی أن ملاک استحقاق العقاب تمکن المکلف من التخلص عن مخالفة التکلیف، ولکن الصحیح أن ملاک استحقاق تفویت الملاک الذی هو حقیقة الحکم کما تقدم.

السابعة: إن المحقق النائینی قدس سره قد حاول لاثبات إمکان القول بالترتب بتقدیم عدة مقدمات عمدتها مقدمتان:

الاُولی: إن الأمر بالمهم بما أنه مشروط بعدم الاتیان بالأهم، فلایمکن وقوع الأهم و المهم معاً علی صفة المطلوبیة فی الخارج علی فرض وقوعهما فیه بفرض المحال، فلهذا لایلزم من فعلیة الأمرین بهما بنحو الترتب معاً فی زمن واحد طلب الجمع بینهما.

وفیه إن هذه المقدمة و إن کانت تدفع مانعیة الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم، إلاّ أنها لاتتضمن دفع صلاحیة مانعیة الأمر بالأهم من الأمر بالمهم.

الثانیة: إن الأمر بالمهم فی طول الأمر بالأهم لا فی عرضه لتقع المزاحمة بینهما.

وفیه، إن مجرد کون الأمر بالمهم فی طول الأمر بالأهم لایکفی لدفع محذور

ص:49

المزاحمة و الممانعة بینهما، لأن الأمر بالمهم و إن لم یکن مانعاً عن الأمر بالأهم، باعتبار أنه فی طوله رتبة إلا أن الأمر بالأهم یصلح أن یکون مانعاً عنه و هو یکفی لاستحالة القول بالترتب، هذا اضافة إلی أن ملاک استحالة اجتماع الضدّین إنما هو المعیّة الزمانیة لا الرتبیّة.

الثامنة: إن السید الاُستاذ قدس سره قد استدل علی امکان القول بالترتب بوجوه:

الأول: بالوجدان وأنه أصدق شاهد علی إمکانه، وفیه إن مسألة الترتب من المسائل النظریة المعقّدة ولیست من المسائل الوجدانیّة.

الثانی: وقوع الترتب فی الأوامر العرفیة و الشرعیة، وفیه إن تلک الأوامر و إن کانت واضحة الدلالة علی وقوع الترتب إلا أنها إنما تکون دلیلاً وبرهاناً للقائلین بامکانه، فإن لهم الزام الخصم بها، و أما الخصم و هو القائل بالاستحالة فلابد أن یقوم بتوجیه تلک الأوامر ورفع الید عن ظواهرها، فإنها مهما کانت لاتقاوم برهان استحالة طلب الضدّین.

الثالث: إنه قدس سره قد ذکر عدة مقدمات:

الاُولی: إن الترتب إنما یمکن بین أمرین متعلقین بالضدّین إذا لم یکن أحدهما أو کلاهما آنیاً وإلا فلایعقل.

الثانیة: إن الترتب إذا کان بین الواجبین التدریجیین کالصلاة والازالة، کان وجوب المهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم حدوثاً وبقاءً بنحو الشرط المتأخر، ولکن هذه المقدمة غیر صحیحة، لا من جهة أن الأمر بالمهم مشروط بعصیان الأمر بالأهم حدوثاً وبقاءً، بل من جهة ان اشتراطه بعصیانه بقاء لیس بنحو الشرط المتأخر علی تفصیل تقدم، وما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن

ص:50

الشرط إنما هو العصیان المتعقّب، بحاجة إلی دلیل بل الشرط واقع العصیان أی ترک الأهم لامفهومه المنتزع، ومع هذا یکون بنحو الشرط المقارن.

التاسعة: إن ما یتوهم من أن الترتب مبنی علی القول بإمکان الشرط المتأخرلا أصل له کما تقدم.

العاشرة: إن إطلاق الأمر بالنسبة إلی حالتی وجود متعلقه وعدم وجوده ضروری، بناءً علی أن التقابل بین الاطلاق و التقیید من تقابل التضادّ أو الإیجاب و السّلب، فإن استحالة أحد الطرفین تستلزم ضرورة الطرف الآخر، و أما بناءًعلی أن التقابل بینهما من تقابل العدم و الملکة، فاستحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، ولایمکن الاطلاق و التقیید علی هذا القول لا بالدلیل الأول ولا بنتیجة الاطلاق و التقیید باعتبار أن المحل غیر قابل لذلک.

الحادیة عشر: إن الأمر بالمهم حیث إنه قد أخذ فی موضوعه عصیان الأمر بالأهم، فلایکون ناظراً إلیه لا وجوداً ولا عدماً کما هو الحال فی کل قضیّة حقیقیة، وعلی هذا فالأمر بالمهم یدل علی وجوب الاتیان، بمتعلقه علی تقدیرعصیان الأمر بالأهم وترکه فی الخارج ولا یقتضی ترکه حتی ینافی الأمر بالأهم، وفیه ما تقدم من أن هذا الوجه کسابقه، فلا یدفع محذور صلاحیة مانعیة الأمربالأهم عن الأمر بالمهم.

الثانیة عشر: إن الأمر بالمهم متأخر عن ترک الأهم رتبة، وحیث إنه فی مرتبة فعله فهو متأخر عنه کذلک، وعلیه فاقتضائه لفعل المهم متأخر عن اقتضائه لفعل الأهم رتبة، فإذن لا مزاحمة ولاممانعة بینهما فی الاقتضاء.

وفیه، أولاً: إنه لاملاک لتأخر الأهم بالمهمّ عن فعل الأهم رتبة بعدما کان معاصراً له زماناً، وکذلک لاملاک لتأخر اقتضائه فعل المهم عن اقتضائه فعل

ص:51

الأهم بعدما کانا معاصرین زماناً، لأن اقتضائه لایکون معلقاً علی عدم اقتضائه حتی یکون متأخراً عنه رتبة.

وثانیاً: إنه لا أثر للطولیة الرتبیة، فإن ملاک استحالة اجتماع الضدّین إنما هو المعیّة الزمانیة لا الرتبیة.

وثالثاً: إن التضاد و التنافی بین الأمرین بما هما اعتبار یکون بالعرض ومنشأه التضادّ و التنافی بین متعلقیهما و هو لایمکن علاجه بتعدد الرتبة.

الثالثة عشر: قد یقال کما قیل إن التربت مبنی علی أن الأمر بالأهم لایکون فی رتبة الأمر بالمهم، باعتبار أن عصیان الأمر بالأهم کما أنه علّة لوجود الأمر بالمهم کذلک علة لسقوط الأمر بالأهم، فإذن یکون الأمر بالمهم فی مرتبة لا أمر بالأهم فیها، وفیه، أولاً: إن العصیان لایوجب سقوط الأمر، وثانیاً: إن تعدد المرتبة لایدفع محذور غائلة اجتماع الضدّین طالما یکونا فی زمن واحد.

الرابعة عشر: إن أساس إمکان القول بالترتب مبنی علی عدم المضادّة و الممانعة بین الأمر بالمهمّ و الأمر بالأهم من کلا الجانبین، فکما إن الأمر بالمهم لایکون مانعاً عن الأمر بالأهم فکذلک الأمر بالأهم لایکون مانعاً عنه، أما الأول فظاهر و أما الثانی فلأنه و إن کان یقتضی المنع عن وجود موضوع الأمربالمهم وما یقتضیه علی أساس اقتضاء کل أمر الاتیان بمتعلقه و المنع عن ترکه إلاّ أنه لایمنع عن ترتب الأمر بالمهم علی ترکه إذا تحقق فی الخارج، لأنه من ترتب الحکم علی موضوعه و هو کترتب المعلول علی العلة التامّة فلایعقل المنع عنه لأنه خلف، ولهذا یستحیل إتصاف الأمر بالأهم بالمانعیّة، لأن المانع هو ما یمنع عن تأثیر المقتضی وفعلیّة فاعلیته، فإذا کانت فاعلیته فعلیّة وأثره موجوداً، فمعناه إنه لا مانع فی البین، ففرض وجود المانع فرض عدم فعلیة فاعلیته

ص:52

وعدم وجود أثره و هذا خلف.

الخامسة عشر: إنه لافرق فی القول بإمکان الترتب بین أن یکون من جانب واحد أو من الجانبین کما إذا کان التزاحم بین الخطابین المتساویین، لأن ما ذکرناه من استحالة إتصاف کل من الأمر بالأهم و الأمر بالمهمّ بالمانعیة عن الآخر ینطبق تماماً علی الأمرین المتزاحمین المتساویین هذا.

و أما ما قیل من إستحالة الترتب من الجانبین و إن قلنا بإمکانه من جانب واحد لاستلزامه الدور، فقد مرّ انه لا أساس له کما أن ما قیل من إمکانه من الجانبین و إن قلنا باستحالته من جانب واحد لا أصل له.

مسألة العقاب علی القول بالترتب

مسألة العقاب علی القول بالترتب

مسألة العقاب علی القول بالترتب

اشارة

فی المسألة ثلاث نظریات:

النظریة الأولی الاُولی: إن ملاک استحقاق العقاب تمکن المکلّف من الامتثال والاتیان بالواجب، وفی هذه الحالة إذا خالف وترک الامتثال والاتیان بالواجب عامداً ملتفتاً استحق العقاب، وعلی ضوء هذه النظریة لایستحق المکلف فی موارد وقوع التزاحم بین الواجبین إذا خالف وترک الاتیان بکلا الواجبین معاً إلاّ عقاباً واحداً، علی أساس إنه لایتمکن إلا من الاتیان بأحدهما دون الآخر، فإذن لایکون فی هذه الموارد إلاّ تکلیف واحد، ومن هنا استشکل علی القول بالترتب بأنه یستلزم العقاب علی أمر خارج عن القدرة، فإن القائل بالترتب إن التزم بتعدّد العقاب عند ترک الأهم و المهم معاً طولاً لزم العقاب علی أمر غیر اختیاری و هو قبیح، و إن التزم بوحدة العقاب لزم عدم استحقاق العقاب علی ترک واجب فعلی منجز متعمّداً، فهذا الاشکال علی أساس هذه النظریة وارد.

النظریة الثانیة الثانیة: إن ملاک استحقاق العقاب تمکن المکلف من التخلّص عن مخالفة

ص:53

التکلیف، سواءً کان بالامتثال أم کان برفع موضوعه، مثلاً إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الصلاة فی آخر الوقت ووجوب الازالة، فإن قام المکلّف بالاتیان بالصلاة، فقد تخلص نفسه عن مخالفة وجوبها بالامتثال وعن مخالفة وجوب الازالة برفع موضوعه، علی أساس أن وجوبه مشروط بعدم الاتیان بالصلاة، فإذا أتی بها انتفی وجوبها بانتفاء شرطه، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون أحدهما أهم من الآخر أو مساویاً له، و أما إذا لم یقم بامتثال شیء منهما بان ترک کلا الواجبین معاً باختیاره عامداً ملتفتاً، فقد استحق عقابین علی أساس أن بامکانه التخلص من مخالفة کلا الواجبین کذلک بالاتیان بالأهم إن کان وإلاّ فبأحدهما ولکنه لم یفعل باختیاره، و قد اختار هذه النظریة السید الاُستاذ قدس سره(1).

النظریة الثالثة و تقدیمها علی النظریتین الأولیین الثالثة: إن ملاک استحقاق العقاب أن یکون التخلص من تفویت الملاک الملزم مقدوراً للمکلف، وعلی هذا فإذا لم یفعل وفات، استحق العقاب علی تفویته، و هذه النظریة تختلف عن النظریة الاُولی بالعموم المطلق وکذلک عن النظریة الثانیة، وسوف نشیر إلی نقاط الاختلاف.

وبعد ذلک نقول إن الظاهر من هذه النظریات، النظریة الثالثة وذلک لوجهین:

الأول: إن المکلف إذا أحرز فی مورد وجود ملاک ملزم فی فعل من غیر طریق الخطاب الشرعی لم یجز له تفویته، و إذا فوت استحق العقاب علیه علی أساس أنه حقیقة التکلیف وروحه و الداعی إلی جعله واعتباره وإلاّ فلا قیمة للاعتبار بما هو.

الثانی: إن الحکم المجعول لشیء من دون وجود ملاک ملزم فیه کالوجوب

ص:54


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 142-145.

الغیری أو الحرمة الغیریّة فلا أثر له، ولهذا لا تکون مخالفته سبباً للعقاب ولاموافقته سبباً للثواب لأنه بلا روح، وعلی هذا فالواجبان المتزاحمان إن کانا مشروطین بالقدرة العقلیة التی هی غیر دخیلة فی الملاک، کان فوت أحد الملاکین من المکلف قهریاً ولا یکون باختیاره، بداهة أنه لا یقدر علی استیفاء کلا الملاکین معاً وإنما یقدر علی استیفاء أحدهما فقط، وعلیه فإذا ترک المکلف کلا الواجبین معاً لم یستحق إلاّ عقاباً واحداً، لأنه لم یفوت إلاّ ملاکاً واحداً، و أما الملاک الآخر فهو فائت علیه قهراً ولایکون مستنداً إلی اختیاره.

وبکملة، إن کان هناک خطاب واحد متعلقاً بالجامع بینهما ویکون المکلف مخیراً فی تطبیقه علی هذا أو ذاک، فلا اشکال فی أنه لایستحق عند ترکه إلا عقاباً واحداً باعتبار أنه لیس هنا إلا ملاکاً واحداً قائماً بالجامع، ولکن هذا الفرض خارج عن محل الکلام، فإن محل الکلام إنما هو فی الخطابین المتعلّقین بالضدّین کالصلاة والازالة المشروطین بالقدرة عقلاً، فلهذا یکون اطلاق خطاب کل منهمامقیّداً لباً بعدم الاشتغال بالآخر إذا کانا متساویین وإلاّ فخصوص خطاب المهم دون الأهم، و أما ملاکهما فهو مطلق سواءً کانا متساویین أم کان أحدهما أهم من الآخر.

ونتیجة ذلک، إن الاشتغال بأحدهما یکون رافعاً للخطاب بالآخر لا ملاکه کما إنّ الاشتغال بالأهم یکون رافعاً للخطاب بالمهم لا ملاکه، وعلی هذا فإذا اشتغل المکلف بالأهم فهو بالنسبة إلیه یکون امتثالاً وبالنسبة إلی المهمّ یکون رافعاً لوجوبه بارتفاع موضوعه دون ملاکه، لفرض إنه مطلق وغیر مقید بعدم الاشتغال بالأهم، نعم هو فات عنه قهراً وبغیر اختیاره، مثلاً إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الصلاة فی آخر الوقت ووجوب الازالة، وحیث إن وجوب الصلاة

ص:55

أهم من وجوب الازالة، فیکون وجوب الازالة مقیداً لباً بعدم الاشتغال بالصلاة دون ملاکها فإنه مطلق، وحینئذٍ فإن صلّی المکلف فقد امتثل أمرهاواستوفی ملاکها، و أما ملاک الازالة فهو فائت عنه قهراً وبغیر اختیاره، و أما وجوبها فقد ارتفع بارتفاع موضوعه لا أنه فات عنه، و أما إذا ترک الصلاة وأتی بالازالة فهو و إن امتثل أمرها واستوفی ملاکها إلا أنه استحق العقاب علی تفویت ملاک الصلاة الأهمّ، باعتبار أنه کان موظفاً بالاتیان بالصلاة تعییناً لمکان أنها الأهم، فإذا خالف وترک الاتیان بها فقد استحق العقاب علی تفویت ملاکهاسواءً أکان آتیاً بالازالة أم لا، غایة الأمر إن کان آتیاً بها کان مستوفیاً لملاکها وممتثلاً لأمرها وإلاّ فلا.

و أما إذا ترک المکلف الاتیان بکلتیهما معاً.

فعلی ضوء النظریة الثانیة یتعدد العقاب بتعدد ترک الواجب باختیاره، حیث إن بإمکانه التخلص من مخالفة التکلیف فی المقام نهائیاً بالإتیان بالأهم، ولکن بماأنه لم یقم بذلک وترک کلا الواجبین الطولیین معاً باختیاره عامداً ملتفتاً استحق عقابین، واما علی ضوء النظریة الثالثة، فحیث إن منشأ استحقاق العقاب تمکن المکلف من التخلص عن تفویت الملاک وعدم کفایة مجرد مخالفة التکلیف بدون أن تستلزم تفویت الملاک، فلا یستحق عند ترکه کلا الواجبین معاً إلاّ عقاباً واحداً، لأنه لم یفوّت باختیاره إلاّ ملاکاً واحداً، و أما الملاک الآخر فقد فات عنه قهراً وبغیر اختیاره، حیث إنه لیس بإمکانه التخلص من تفویت کلا الملاکین معاً، بینما کان بإمکانه التخلص من مخالفة کلا الوجوبین کذلک، و هذا نتیجة اختلافهما فی الاطلاق والاشتراط.

والخلاصة: إن فی هذا الفرض یکون الترتب بین الوجوبین فحسب، فإن

ص:56

وجوب المهم مقیّد بعدم الاشتغال بالأهم ووجوب کل منهما مقید بعدم الاشتغال بالآخر إذا کانا متساویین، و أما ملاک کل منهما فهو مطلق حتی ملاک المهم، فإنه لا یکون مقیداً بعدم الاشتغال بالأهم، فإذن لاترتب بین ملاک الأهم وملاک المهم بل هما فی عرض واحد وکلاهما مطلق وفعلی، وعلی هذا فعلی ضوء النظریة الثانیة یستحق علی ترک کلا الواجبین معاً عقابین، عقاباً علی ترک الأهم وعقاباً علی ترک المهم باعتبار أن کلا الترکین یکون باختیاره، حیث إن بإمکانه التخلص من مخالفة کلیهما معاً ولکنه لم یفعل، وعلی ضوء النظریة الثالثة لایستحق علی ترکهما إلاّ عقاباً واحداً، لأنه لم یفوت إلاّ ملاکاً واحداً، و أما الملاک الآخر فهو فائت علیه قهراً، حیث إنه لیس بإمکانه التخلص من تفویت کلا الملاکین معاً وإنما کان بإمکانه التخلص من تفویت ملاک واحد، فإذا لم یفعل عوقب علیه، هذا هو نقطة الفرق بین النظریة الثانیة و النظریة الثالثة، وعلی هذافلا فرق بین النظریة الاُولی و النظریة الثالثة فی النتیجة، و أما إذا کان الواجب المهم مشروطاً بعدم الاشتغال بالأهم حکماً وملاکاً، فنتیجة ذلک إن هناک وجوباً مطلقاً إعتباراً وملاکاً و هو وجوب الأهم ووجوباً مشروطاً کذلک و هووجوب المهم، و إذا کان الواجبان المتزاحمان متساویین، کان هناک وجوبان مشروطان اعتباراً وملاکاً.

وعلی هذا فبإمکان المکلف التخلص من تفویت کلا الملاکین المشروطین بالاتیان باحدهما إذا کانا متساویین وبالأهم إذا لم یکونا کذلک، لأنه إذا أتی باحدهما فی الفرض الأول فقد استوفی ملاکه بالاتیان به، و أما ملاک الآخر فقد انتفی بانتفاء موضوعه لا بالتفویت القهری، و إذا أتی بالأهم فی الفرض الثانی فقد استوفی ملاکه بالاتیان به، و أما ملاک المهم فقد انتفی بانتفاء موضوعه لابالتفویت قهراً، وعلیه فإذا ترک الأهم عامداً ملتفتاً فقد فوت ملاکه باختیاره،

ص:57

وحینئذٍ یتحقق وجوب المهم اعتباراً وملاکاً بتحقق موضوعه وبإمکانه استیفاء ملاکه بالاتیان به، ومع هذا إذا ترکه عامداً عالماً فقد فوت ملاکه أیضاًباختیاره، فإذن یکون فوت کلا الملاکین مستنداً إلی اختیاره، حیث إن بإمکانه التخلص من تفویت کلا الملاکین معاً وبذلک یستحق عقابین، وفی هذا الفرض لافرق فی النتیجة بین النظریة الثانیة و النظریة الثالثة فی مسألة العقاب، نعم فرق بینهما وبین النظریة الاُولی فی المسألة، و إن شئت قلت: إن ملاک الواجب المهم إذاکان مطلقاً وغیر مشروط بعدم الاشتغال بالأهم، فلیس بإمکان المکلف التخلص من تفویت کلا الملاکین المطلقین معاً، فلهذا لایستحق عند ترک کلا الواجبین إلا عقاباً واحداً لأنه لم یفوت باختیاره إلا ملاکاً واحداً، و أما الملاک الآخر فهو فائت علیه قهراً وبغیر اختیاره، بینما إذا کان مشروطاً به، یستحق عقابین عند ترکها باعتبار أن بإمکانه التخلص من تفویت کلا الملاکین بالاتیان بأحدهما.

فروع

فروع
الفرع الأول: ما إذا وقع التزاحم بین وجوب الحج و وجوب الوفاء بالنذر

الفرع الأول: ما إذا وقع التزاحم بین وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر، کما إذا نذر شخص زیارة الإمام الحسین علیه السلام یوم عرفة ثم استطاع للحج، فهل یجب تقدیم وجوب الوفاء بالنذر علی وجوب الحج أو بالعکس؟ فیه قولان:

تقدیم وجوب الوفاء و الرد علیه

فذهب جماعة إلی القول الأول منهم السید صاحب العروة قدس سره(1) بدعوی أن وجوب الحج مشروط بالقدرة الشرعیة بینما وجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة العقلیة و هو یتقدم فی مقام المزاحمة علی المشروط بالقدرة الشرعیة، ولکن هذه الدعوی مدفوعة، فإن وجوب الحج و إن کان مشروطاً بالقدرة

ص:58


1- (1) - العروة الوثقی ج 2 ص 442 مسألة 32 من مسائل الشرط الثالث فی وجوب الحج» الاستطاعة».

الشرعیة بمقتضی الآیة الشریفة و الروایات، إلاّ أن المراد منها القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الاضطراری، ولیس المراد منها عدم المانع الأعم من التکوینی و التشریعی، هذا إضافة إلی أن وجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی لا بمعنی القدرة التکوینیة، وسوف نشیر إلیه هذا. والصحیح هو القول الثانی لوجوه:

القول الثانی و الاستدلال علیه،

الوجه الأول: إنه لا شبهة فی أن وجوب الحج أهمّ ملاکاً من وجوب الوفاء بالنذر، وتدل علی ذلک ما ورد من التأکید والاهتمام بوجوب الحج(1) وإنه من أحد أرکان الدین(2) ، ومن هنا قد وصف تارکه فی الکتاب العزیز بالکفر(3) وفی الروایات بأنه إما أن یموت یهودیاً أو نصرانیاً(4) ، ومن مجموع هذه الروایات باختلاف ألسنتها یستکشف أهمیة وجوب الحج فی الشریعة المقدسة، وعندئذٍ فلابد من تقدیم وجوب الحج علی وجوب الوفاء بالنذر لمکان أهمیة ملاکه حتی و إن قلنا فرضاً أن وجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة العقلیة التی هی غیردخیلة فی الملاک، وذلک لأن وجوب الحج و إن کان مشروطاً بالاستطاعة بمقتضی الآیة الشریفة و الروایات، إلا أن الظاهر منها عرفاً القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الاضطراری، وعلی هذا فهی محفوظة فی حال وجوب الوفاء بالنذر وأنه لایکون رافعاً لها، فإذن وجوب الج خطاباً وملاکاً محفوظ فی هذه الحالة، و أما بلحاظ الروایات فقد فسرت الاستطاعة فیها بالزاد و الراحلة

ص:59


1- (1) - الوسائل ج 11 ص 7 ب 1-8 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
2- (2) - الوسائل ج 1 ص 13 ب 1 من أبواب مقدمة العبادات.
3- (3) - سورة آل عمران آیة 97.
4- (4) - الوسائل ج 11 ص 30 ب 7 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 1 و 3 و 5.

وأمن الطریق(1) ، وعلی هذا فوجود الزاد و الراحلة وأمن الطریق دخیل فی وجوب الحج خطاباً وملاکاً، وعندئذٍ فإذا وقع التزاحم بینه وبین وجوب الوفاء بالنذر کان ملاک کلا الوجوبین فعلیاً علی هذا الفرض، والمکلف لایتمکن من استیفاء کلا الملاکین معاً، لأنه إن قام باستیفاء أحدهما عجز عن استیفاء الآخر، ولکن حیث إن ملاک وجوب الحج أهمّ من ملاک وجوب الوفاء بالنذر، فلابد من تقدیمه علیه تطبیقاً لقاعدة تقدیم الأهمّ علی المهم فی باب التزاحم، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إنه علی أساس نکتة عامة و هی أن کل خطاب شرعی مقیّد لباً بعدم الاشتغال بضد واجب لایقل عنه فی الأهمیة، فیکون کل من خطاب الحج وخطاب الوفاء بالنذر مقید لباً بعدم الاشتغال بضد واجب لایقل عنه فی الأهمیة، ولکن حیث إن خطاب الحج أهم من خطاب الوفاء بالنذر ملاکاً فهو لایکون مقیداً بعدم الاشتغال به، باعتبار أنه أقل منه فی الأهمیة، و أما خطاب الوفاء بالنذر فهو مقید بعدم الاشتغال بالحج ومع الاشتغال به ینتفی بانتفاء موضوعه، نعم لو فرضنا أن وجوب الحج مشروط بالقدرة الشرعیة المساوقة لعدم المانع التکوینی و التشریعی، فعندئذٍ یتقدم علیه وجوب الوفاء بالنذر بل کل واجب یکون مشروطاً بالقدرة العقلیة أو الشرعیة فی مقابل العجزالتکوینی، ولکنه مجرد فرض لا واقع له.

الوجه الثانی: إن مجموعة من أدلة الوفاء بالشرط کقوله علیه السلام: «شرط اللَّه

ص:60


1- (1) - الوسائل ج 11 ص 33 ب 8 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.

قبل شرطکم»(1) ، «المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً خالف کتاب اللَّه» ونحوهما(2) ، تنص علی أن وجوب الوفاء بالشروط کالنذر و العهد و الشرط ونحوها مقیّد بأن لایکون مخالفاً لشرط اللَّه فی المرتبة السابقة، ومن الواضح أن المراد من شرط اللَّه هو أحکامه تعالی المجعولة فی الشریعة المقدّسة بالکتاب و السنة و هی الأحکام الأولیة التی لاترتبط بشروط الناس وعهودهم، وعلی هذا فنفس ثبوت هذه الأحکام فی الشریعة المقدسة کافیة فی رفع وجوب الوفاء بالشروط کالنذور ونحوها برفع موضوعها، باعتبار أن وجوب الوفاء بها مقید بأن لایکون شرط اللَّه قبلها ولاتکون مخالفة له، وعلی ضوء ذلک فثبوت وجوب الحج بثبوت الاستطاعة حیث إنه من شرط اللَّه فهو رافع لوجوب الوفاء بالنذربارتفاع موضوعه، باعتبار أنه مجعول مقیداً بأن لایکون مخالفاً لحکم شرعی مولوی فی المرتبة السابقة، والمفروض أن وجوب الحج ثابت فی المرتبة السابقة، فإذن یکون شرط اللَّه قبل شرطکم، وعلی هذا فلایمکن اثبات وجوب الوفاء بالنذر بالترتب أیضاً، لفرض أنه یرتفع بصرف ثبوت وجوب الحج فی الشریعة المقدسة تطبیقاً لقوله علیه السلام: «شرط اللَّه قبل شرطکم». بمعنی أنه غیر مجعول فی هذا الفرض حق یعقل ثبوته بالترتب. ومن هنا یظهر أنا لو سلمنا أن وجوب الحج مشروط بالقدرة الشرعیة المساوقة لعدم المانع التکوینی و التشریعی، فمع هذا لایمکن جعل وجوب الوفاء بالنذر علی خلافه، باعتبار أن جعله منوط بأن لایکون وجوب الحج مجعولاً فی الشریعة المقدسة فی المرتبة السابقة، فإذا کان مجعولاً فی الکتاب و السنة کذلک، فلایمکن جعل وجوب الوفاء بالنذر علی

ص:61


1- (1) - الوسائل ج 21 ص 277 ب 20 من أبواب المهور ح 6 وص 297 ب 38 من هذه الأبواب ح 2 و ج 22 ص 36 ب 13 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح 2.
2- (2) - الوسائل ج 18 ص 16 ب 6 من أبواب الخیار, و ج 19 ص 218 ب 2 من کتاب السکنی و الحبس ح 1, و ج 68 ص 21 ب 32 من أبواب المتعة ح 9 و ص 276 ب 20 من أبواب المهور ح 4, و ج 23 ص 140 ب 4 من أبواب المکاتبة وغیرها.

خلافه، ولافرق فی ذلک بین أن یکون وجوب الحج مشروطاً بالقدرة الشرعیة المساوقة لعدم العجز التکوینی الاضطراری أو مشروطاً بها بمعنی عدم المانع المولوی، فالمیزان إنما هو بثبوته فی الشریعة المقدسة، فإذا کان ثابتاً فیها بقطع النظر عن وجوب الوفاء بالشروط فهو مانع عن جعله، علی أثر ما عرفت من أن جعله منوط بعدم ثبوته، وعلی هذا فثبوت وجوب الحج فعلی ومطلق وثبوت وجوب الوفاء بالشرط لولائی ومعلق علی عدم ثبوته، ومن الواضح أن الثبوت اللولائی المعلّق لایعقل أن یکون مزاحماً للثبوت الفعلی المطلق، وإلاّ لزم خلف فرض کونه لولائیاً ومعلقاً، و هذا معنی أن شرط اللَّه قبل شرطکم و هو المیزان فی عدم وجوب الوفاء بالشرط إذا کان مخالفاً لشرط اللَّه وکتابه تعالی.

والخلاصة، إن وجوب الوفاء بالنذر أو العهد أو الشرط الذی هو حکم ثانوی منوط بأن لایکون مخالفاً لحکم إلهی ثابت فی المرتبة السابقة وإلاّ فلاثبوت له، وعلی هذا فلایمکن جعله فی مورد یکون وجوب الحج ثابتاً فیه بقطع النظر عنه، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون النذر مقدماً علی وجوب الحج أومقارناً معه أو متأخراً فإن المناط إنما هو بزمان الوفاء، فإنه فی هذا الزمان إذا کان مزاحماً لوجوب الحج فیستکشف إنه غیر مجعول من الأول.

الوجه الثالث: إن وجوب الوفاء بالنذر فی یوم عرفة لو قدم علی وجوب الحج، کان بإمکان کل فرد التخلّص من وجوب الحج علیه بذلک، و هذا خلاف الضرورة الفقهیة ولایمکن الالتزام به.

الفرع الثانی: إذا وقع التزاحم بین وجوب الوضوء و واجب آخر أهم منه

الفرع الثانی: إذا وقع التزاحم بین وجوب الوضوء ووجوب واجب آخرأهم منه، کما إذا کان عند المکلف ماء ودار أمره بین صرفه فی انقاذ نفس محترمة وصرفه فی الوضوء، علی أساس أنه لایکفی إلاّ لأحدهما، ففی مثل ذلک ذکر

ص:62

المحقق النائینی قدس سره(1) إن وظیفته التیمّم وتعین صرف الماء فی إنقاذ نفس محترمة وعدم صحة الوضوء به حتی علی القول بإمکان الترتب، و قد أفاد فی وجه ذلک أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیّة، فلایصلح أن یزاحم واجب آخرلأنه یرتفع به بارتفاع موضوعه، فلهذا لایتصور ثبوته عند عدم الاشتغال بالواجب الآخر، وغیر خفی أن ما أفاده قدس سره فی المقام مورد للمناقشة من جهات:

الاُولی: إنه یمکن تصحیح الوضوء فی المقام بالترتب بلحاظ أمره النفسی الاستحبابی باعتبار أنه غیر مشروط بالقدرة الشرعیّة، وإنما المشروط بها هوالأمر الغیری، وعلی هذا فلا مانع من إثبات الأمر الاستحبابی بالوضوء علی القول بالترتب عند عصیان المکلّف وعدم صرف الماء فی واجب آخر و هو انقاذ نفس محترمة.

والحاصل، إن الأمر الاستحبابی المتعلق به مطلق وحیث إنه مشروط بالقدرة العقلیّة، فلا یرتفع عند المزاحمة مع واجب آخر الأهم بارتفاع موضوعه، غایة الأمر أنه مقید بعدم الاشتغال به لباً، فإذا اشتغل به ارتفع بارتفاع موضوعه.

الثانیة: إن کون وجوب الوضوء مشروطاً بالقدرة الشرعیة بحاجة إلی دلیل.

ویمکن تقریب ذلک الدلیل بأحد وجهین:

الأول: إن نفس جعل التیمم بدلاً عن الوضوء دلیل علی أنه مشروط بالقدرة الشرعیة، وذلک لأن کل واجب فی الشریعة المقدسة إذا کان له بدل فقد أخذ فی لسان دلیل وجوب البدل عدم القدرة علی المبدل، فإن المکلف طالما یکون قادراً علی المبدل لایصل الدور إلی البدل، و إذا عجز عنه انتقلت وظیفته إلی البدل، لأن

ص:63


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 90.

فرض بدلیّة شیء لآخر فرض تقیید وجوبه بعدم القدرة علی الآخر (المبدل) و هو مساوق لتقیید وجوب المبدل بالقدرة، علی أساس أن مقتضی البدلیة بین شیئین هو أن وجوب البدل إذا کان مشروطاً بعدم القدرة علی المبدل فلا محالة یکون وجوب المبدل مشروطاً بالقدرة علیه، إذ لو کان مطلقاً فمعناه أن وجوب البدل لیس مشروطاً بعدم القدرة علی المبدل و هذا خلف، مثلاً وجوب التیمم مشروط بعدم التمکن من الوضوء، وعلیه فبطبیعة الحال یکون وجوب الوضوءمشروطاً بنقیضه و هو التمکن وإلاّ لزم خلف فرض کونه بدلاً له.

و إن شئت قلت: إن قضیة البدلیة هی أن وجوب البدل إذا کان مشروطاً بشیء تحکم بأن وجوب المبدل مشروط بنقیض ما هو وجوب البدل مشروطبه، وحیث إن وجوب البدل فی المقام مشروط بعدم القدرة علی المبدل فلا محالة یکون وجوب المبدل مشروطاً بالقدرة، فإذا کان مشروطاً بها، کانت القدرة ظاهرة فی التأسیس، ودخلها فی الملاک وحملها علی التأکید لحکم العقل وأنها قید للخطاب فقط خلاف الظاهر، فإن حالها حال سائر القیود المأخوذة فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل، فکما أنها ظاهرة فی أنها قید للحکم و الملاک معاً، فکذلک القدرة فی المقام، و هذا هو معنی أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة فی مقابل القدرة العقلیة.

و للمناقشة فی هذا التقریب مجال، وذلک لأن القدرة إذا کانت مأخوذة فی لسان الدلیل مباشرة، کانت ظاهرة فی التأسیس ودخلها فی الملاک، لأن حالها حینئذٍ حال سائر القیود المأخوذة فی لسان الدلیل مباشرة، و أما إذا لم تکن مأخوذة فیه کذلک ولکن استظهرنا أخذها فی موضوع الحکم بقرینة خارجیة، فلاتکون ظاهرة فیه، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن عدم القدرة علی المبدل

ص:64

قد اخذ فی لسان دلیل وجوب البدل مباشرة، و أمّا القدرة فهی غیر مأخوذة فی لسان دلیل وجوب المبدل کذلک، وإنما استظهرنا أخذها فی موضوع وجوبه من القرینة الخارجیة و هی أنه لایمکن اجتماع وجوب البدل و المبدل معاً علی المکلف فی عرض واحد، لأنه خلف فرض البدلیة و الطولیة بینهما، وعلی هذا فحیث إن تقیید وجوب المبدل بالقدرة لیس بالدلالة المطابقیة للدلیل اللفظی، بل من جهة القرینة الخارجیة وبمثابة التقیید اللبّی، فلاظهور لأدلة البدلیة فی أن القدرة المأخوذة فی موضوع وجوب المبدل دخیلة فی الملاک، لأن النکتة التی توجب هذا الظهور غیر متوفرة فیها و هی کونها مأخوذة فی لسان الدلیل مباشرة.

وبکلمة، إن المولی إذا أخذ القدرة فی لسان الدلیل مباشرة، فهی تدل علی أن تصدی المولی لذلک مع ضرورة حکم العقل بقبح تکلیف العاجز الذی هو بمثابة القرینة المتّصلة بالخطاب إنما هو بنکتة زائدة علی ما هو المنکشف فی نفسه بحکم العقل و هی دخلها فی الملاک، و أما إذا لم تکن مأخوذة فی لسان الدلیل مباشرة وإنما استظهر اعتبارها فی وجوب المبدل بقرینة خارجیة فلا ظهور لها فی التأسیس، فإذن لاتکشف أکثر مما هو منکشف بحکم العقل فتکون تأکیداً لاتأسیساً.

وعلی هذا الأساس فلا مانع من القول بأن عدم القدرة علی المبدل المأخوذ فی لسان دلیل وجوب البدل مباشرة دخیل فی ملاکه علی أساس ظهوره فیه، و أما القدرة المأخوذة فی موضوع وجوب المبدل فلاتکون دخیلة فی ملاکه وإنما هی دخیلة فی وجوبه فقط، فیکون ملاک وجوب المبدل مطلقاً دون ملاک وجوب البدل، فإنه مقید بعدم القدرة علی المبدل ولا مانع من الالتزام بذلک.

الوجه الثانی: قوله تعالی:«فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً».

ص:65

وتقریب الاستدلال بالآیة الشریفة یتوقف علی تمامیة أمرین:

الأول: إن الآیة الشریفة تدل علی التفصیل بین الوضوء و التیمّم بتقیید وجوب التیمم بعدم وجدان الماء، ویفهم من ذلک بقرینة کون التفصیل بینهما قاطعاً للشرکة أن موضوع وجوب الوضوء وجدان الماء.

الثانی: إن المراد من الوجدان لیس هو الوجود الخارجی للماء بل المراد منه الأعمّ منه ومن التمکن عن استعماله فی الوضوء و الغسل، ویؤکد ذلک ذکر المریض فی الآیة المبارکة، فإن الغالب وجود الماء عنده ولکنه لایتمکن من استعماله خوفاً من ضرره.

والجواب: عن ذلک قد ظهر مما تقدّم بتقریب، إن المأخوذ فی لسان دلیل وجوب البدل عدم وجدان الماء مباشرة فی الآیة الشریفة، و أما وجدان الماء فهوغیر مأخوذ فی لسان دلیل وجوب المبدل کذلک فی الآیة، وإنما استظهرنا ذلک من التفصیل بینهما القاطع للشرکة، وعلیه فیکون تقیید موضوع وجوب الوضوء بوجدان الماء إنما هو بسبب قرینة خارجیة لا بدلالة مطابقیة، فإذن لاظهورللآیة الشریفة فی أن قید الوجدان قید تأسیسی ودخیل فی الملاک، لأن إناطة الحکم صریحاً بالقدرة فی لسان الدلیل مباشرة فی مرحلة الجعل کما فی آیة الحج ونحوها، توجب ظهور القدرة فی أنها قید تأسیسی ودخیل فی اتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادی کما هو الحال فی سائر القیود المأخوذة فی لسان الدلیل کذلک فی هذه المرحلة، لا فی مثل المقام الذی ورد فی الآیة الشریفة قید عدم الوجدان فی لسانها فی مقام الجعل مباشرة لتأسیس حکم البدل، ولکن بقرینة أن التفصیل قاطع للشرکة، فالوجدان الذی هو نقیضه مأخوذ فی موضوع حکم المبدل، ولذلک لایکون ظاهراً فی التأسیس ودخله فی الملاک، ولایلزم من عدم

ص:66

دخل الوجدان فی ملاک الحکم أن یکون دلیل البدل تأکیداً، ضرورة أنه لاملازمة بین الأمرین، إذ لامانع ثبوتاً من کون عدم الوجدان المأخوذ فی لسان دلیل البدل مباشرة دخیلاً فی ملاکه، والوجدان غیر دخیل فی ملاک المبدل وظاهر الآیة الشریفة ذلک فی مقام الاثبات.

وبکلمة واضحة، إنه لاشبهة فی أن متعلق التکلیف مقیّد بالمقدور سواءً أکان الکاشف عن ذلک التقیید العقل من باب قبح تکلیف العاجز أم کان باقتضاء نفس الخطاب، غایة الأمر إن قید القدرة غیر مأخوذ فی لسان الدلیل مباشرة فی مرحلة الجعل بمعنی عدم اناطة الحکم بها صراحة فی هذه المرحلة، ومن هنایکون التقیید لبیاً لا لفظیاً، ومع هذا إذا أخذ المولی القدرة فی لسان الدلیل مباشرة وأناط الحکم بها صراحة فی مقام الجعل، فهو یدل علی أن هناک عنایة زائدة علی ما هو منکشف بالعقل أو بالخطاب، وإلا لکانت هذه الاناطة لغواً وجزافاً و هو لایمکن، و هذه العنایة الزائدة هی دخل القدرة فی الملاک فی مرحلة المبادیء، بینما إذا کان التقیید لبیاً لا لفظیاً کما فی آیة الوضوء، فلا یدل علی هذه العنایة الزائدة، لأن الدلالة علیها کما عرفت منوطة بتصدی المولی بنفسه لأخذ القدرة فی لسان الدلیل مباشرة لا مطلقاً.

ودعوی، إن الوجدان المأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء معنویاً بقرینة خارجیة إن کان مساوقاً للقدرة العقلیة فالأمر کذلک، و إن کان غیر مساوق لهاکما هو کذلک، لأنه أعم منها ومن القدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی، وعلی هذا فلایمکن حمله علی التأکید لحکم العقل، لأن العقل لایحکم بتقیید التکلیف به وإنما یحکم بتقییده بالقدرة العقلیة فقط لا بالأعم منها ومن القدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی، فإذن لابد من حمله علی التأسیس.

ص:67

مدفوعة، أولاً: إن المراد من الوجدان لیس الأعم من القدرة العقلیة و القدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی، وإلاّ فلازمه ارتفاع وجوب الوضوء بمجرّدثبوت وجوب واجب آخر بارتفاع موضوعه، باعتبار أن ثبوته علی هذا مقیّد بعدم ثبوته، ولا یعقل فیه الترتب حینئذٍ، لأن معنی الترتب فعلیة کلا الأمرین فی زمن واحد مترتباً، والفرض إن وجوب الوضوء عندئذٍ معلق علی عدم ثبوت الأمر بالخلاف ومع ثبوته ینتفی بانتفاء موضوعه، بل المراد منه القدرة التکوینیة الأعم من العقلیة و العرفیة، ولهذا لامانع من الالتزام بالترتب فیه فی موارد مزاحمته مع واجب آخر الأهمّ أو المساوی وتمام الکلام فی محلّه.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن المراد منه أعمّ من القدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی، ولکن حینئذٍ و إن کان لایمکن حمله علی التأکید والارشاد إلی حکم العقل، إلا أن ذلک لایلازم کونه تأسیساً، لأن کونه کذلک بحاجة إلی نکتة و هی غیر متوفرة فیه و هو ظهور القید فی التأسیس ودخله فی الملاک ولا موجب لهذا الظهور فی المقام، لأن الموجب له عنایة المولی فی أخذه فی لسان الدلیل مباشرة، و هذه العنایة غیر متوفرة فیه، فالنتیجة أن الآیة الشریفة تدل علی أن قید عدم الوجدان دخیل فی وجوب البدل حکماً وملاکاً، ولا تدل علی أن الوجدان دخیل فی ملاک وجوب الوضوء، ولا مانع من هذا التفصیل فی الآیة الشریفة، وقرینیة التفصیل و المقابلة بینهما لاتدل علی أکثر من أن الوجدان قید لوجوب الوضوء، و أما أنه قید لاتّصافه بالملاک فی مرحلة المبادی بحیث ینتفی الاتصاف بانتفائه فلا تدل علیه.

الثالثة: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة إلا أنها علی أقسام:

ص:68

الأول: القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الطاریء بلا اختیار.

الثانی: القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی و إن کان بالاختیار.

الثالث: القدرة المساوقة لعدم المانع الأعمّ من التکوینی و التشریعی.

ومن الواضح أن وجوب الوضوء لیس مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثالث کما عرفت، وإلاّ فلا یعقل فیه الأمر الترتّبی، و أما اشتراطه بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول أو الثانی لایمنع من الالتزام بالأمر الترتّبی فیه، أما علی الأول فواضح، و أما علی الثانی فلان المکلف إن اشتغل بالواجب الأهمّ انتفی وجوب الوضوء اعتباراً وملاکاً، و أما إذا لم یشتغل به فلا مانع من الالتزام بوجوبه و الحکم بصحّته علی القول بالترتب، إلی هنا قد تبین إن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من بطلان الوضوء فیما إذا کان مزاحماً مع واجب أهمّ معللاً بأنه مشروط بالقدرة الشرعیة لایتم.

الفرع الثالث: ما إذا توقف الوضوء علی مقدمة لحرمة

الفرع الثالث: ما إذا توقف الوضوء علی مقدمة محرمة، کما إذا کان الماء فی الاناء المغصوب وتوقّف الوضوء علی أخذ الماء منه، فعندئذٍ یقع التزاحم بین وجوب الوضوء وحرمة التصرّف فیه، وعلیه فإن توضأ به ارتماساً فلا شبهة فی بطلان الوضوء، ولایمکن تصحیحه بالترتب أیضاً باعتبار أن الوضوء فی نفسه حرام ومصداق للتصرف فی مال الغیر، ومن الطبیعی أن الحرام لایمکن أن یقع مصداقاً للواجب، و أما إذا توضّأ به ترتیباً، فإن کان بعد تفریغ الماء من الاناء المغصوب إلی إناء آخر مباح وتوضأ منه فلا شبهة فی صحة الوضوء، فإنه بعد عملیة التفریغ قد سقطت الحرمة بسقوط موضوعها، وحینئذٍ فیکون المکلف واجداً للماء ومتمکناً من استعماله عقلاً وشرعاً فتکون وظیفته الوضوء، ولکن هذه الصورة خارجة عن محل الکلام، فإذن محل الکلام فی المقام هو أن یتوضأ

ص:69

من الاناء المغصوب باغتراف الماء منه شیئاً فشیئاً وغرفة غرفة بأن یأخذ من الاناء کفاً من الماء فیغسل به وجهه ثم کفا ثانیاً فیغسل به یده الیمنی ثم کفا ثالثاً فیغسل به یده الیسری ثم یمسح رأسه ورجلیه هذا، وهل یمکن الحکم بصحة هذا الوضوء علی القول بالترتب؟ فیه قولان:

التزام النائینی قدّس سرّه بالقول الثانی

فذهب المحقق النائینی قدس سره إلی القول الثانی(1) بتقریب، إن وجوب الوضوء لماکان مشروطاً بالقدرة الشرعیة، فلا یصلح أن یزاحم أی حکم آخر من وجوب أو حرمة، لأن ثبوته معلق علی عدم ثبوت المانع المولوی ومع ثبوته ینتفی بانتفاء موضوعه فلایعقل الأمر الترتبی فیه، هذا کله فی صورة انحصار الماء فی الاناء المغصوب، و أما فی صورة عدم الانحصار کما إذا کانت هناک مندوحة، فلا مانع من الحکم بصحة الوضوء منه، باعتبار أن الأمر به فعلی فی هذه الصورة فیصح الاتیان به بداعی أمره الفعلی و إن ارتکب محرماً فی تصرفه فی الاناء المغصوب هذا.

ترجیح القول الأول و الاستدلال علیه

الصحیح هو القول الأول، أمّا أولاً: فلانه یکفی فی اثبات الأمر الترتبی بالوضوء اطلاق الأمر الاستحبابی فی مقام المزاحمة، ولا تتوقف صحّته علی اثبات الأمر الوجوبی به ترتباً.

وثانیاً: ما تقدم من أنه لا دلیل علی أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة، لأن أدلة البدلیة بینه وبین التیمّم لاتقتضی ذلک ولا الآیة الشریفة کمامرّ.

وثالثاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة

ص:70


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 90 و 101.

الشرعیة، ولکن من الواضح أنه لیس مشروطاً بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی، وذلک لأن المأخوذ فی لسان الدلیل، إن کان عنوان القدرة والاستطاعة، کان المتفاهم العرفی منه القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الاضطراری، و إن کان الوارد فی لسان الدلیل عنوان عدم الاشتغال بواجب آخر، کان المتبادر منه القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الأعمّ من الاضطراری والاختیاری، حیث إن معنی ذلک أن عدم الاشتغال بواجب آخراختیاراً دخیل فیه حکماً وملاکاً ومع الاشتغال به ینتفی بانتفاء موضوعه، و إن کان الوارد فی لسان الدلیل عدم المانع المولوی علی الخلاف، کان المتفاهم منه عرفاً ان وجوبه خطاباً وملاکاً مقید بعدم وجود المانع المولوی ومع وجوده فلا وجوب له لا خطاباً ولا ملاکاً.

ومن الواضح أن وجوب الوضوء لیس مشروطاً بالقدرة بالمعنی الثالث، لماتقدّم من أنه خلاف الضرورة الفقهیة، واما اشتراط وجوبه بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول أو الثانی فهو لایمنع من الالتزام بصحة الوضوء علی القول بالترتب کما مرّ تفصیله، ومن هنا تبیّن أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من الحکم ببطلان الوضوء فی صورة الانحصار فی المقام مبنی علی أن وجوبه مشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثالث و هو کماتری هذا.

مختار السید الأستاذ قدّس سرّه فی المقام

و أما السید الاُستاذ قدس سره(1) فقد ذکر أن هذه النظریة و هی بطلان الوضوء فی صورة الانحصار نظریة خاطئة ولا مجال لها، بناء علی ما حققناه من إمکان الشرط المتأخر وأنه لا مناص من الالتزام به فی الواجبات المرکبة من الاجزاء الطولیة من ناحیة، وإمکان القول بالترتب من ناحیة اخری، وکون القدرة التی

ص:71


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 194 187.

هی شرط للتکلیف هی القدرة فی طرف العمل والامتثال من ناحیة ثالثة، ومن الواضح أن نتیجة هذه المبانی صحة الوضوء فی المقام، بتقریب أن القدرة تتجدد عند الاتیان بکل جزء من أجزائه بالعصیان وارتکاب المحرم و هو أخذ الماء من الأوانی المغصوبة غرفة غرفة شیئاً فشیئاً إلی أن یفرغ من الوضوء، فوجوب غسل الوجه الضمنی مترتب علی أخذ الماء منها بمقداره عصیاناً ومشروط بوجوب الجزء الأخیر الضمنی بنحو الشرط المتأخر، کما أن القدرة علی الجزء الأول و هو غسل الوجه مشروط بالقدرة علی الجزء الأخیر کذلک، وحیث ان المکلف یعلم بعصیانه ثانیاً وثالثاً إلی أن یتمّ الوضوء فیعلم بأنه قادر علیه، لأن قدرته تتجدد بتجدد العصیان عند کل جزء، وعندئذٍ فلا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتباً علی عصیانه کذلک، بناءً علی ما هو الصحیح من إمکان الترتب وأن وجود القدرة فی ظرف الاتیان بالأجزاء اللاحقة شرط لوجوب الأجزاء السابقة بنحو الشرط المتأخر.

وعلی الجملة فالوجوب المتعلق بالوضوء المرکب من الأجزاء الطولیة وجوب ارتباطی، لأن تعلقه بکل جزء من أجزائه مربوط بتعلقه بسائر الأجزاء، و هذا الوجوب مشروط بالقدرة علیه من البدایة إلی النهایة، فالقدرة علی الجزء الأخیر شرط لوجوب الجزء الأول وهکذا بنحو الشرط المتأخر، ولایلزم أن تکون القدرة فعلیة من الأول، بل یکفی حدوثها فی ظرف الاتیان بکل جزء، و قد ذکر قدس سره للمسألة نظیرین:

الأول: إذا کان عند المکلف ماء قلیل لایکفی إلا لغسل الوجه فحسب، ولکنه یعلم بسبب من الأسباب أنه إذا صرفه فی غسل وجهه تمکن من غسل یدیه إما بنزول المطر أو بخروج الماء من الأرض شیئاً فشیئاً، ففی مثل ذلک لا شبهة فی

ص:72

وجوب الوضوء علیه باعتبار أنه قادر علیه عقلاً وشرعاً، و قد مرّ کفایة تجدّد القدرة عند کل جزء من أجزائه، ولایعتبر أن تکون القدرة فعلیة من الأول علی ضوء المبانی المتقدّمة.

الثانی: إذا کان عند المکلف ثلج یذوب شیئاً فشیئاً ولیس عنده إناء لکی یجمع ماؤه فیه، ففی مثل ذلک کان یتمکن من الوضوء بأخذ الماء منه غرفة غرفة إلی أن یتم وضوئه ولا یجوز له التیمّم، و قد تقدّم أنه لا فرق فی وجوب الوضوء بین تمکنه منه بکامل أجزائه فعلاً وبین تجدّده عند کل جزء.

التعلیق علی ما أفاده السید الأستاذ قدّس سرّه

ولنا تعلیق علی ما أفاده قدس سره من النقاط:

الاُولی: ما ذکره قدس سره من عدم الفرق بین المقام و هو الوضوء فی صورة الانحصار وبین المثالین المذکورین.

الثانیة: إنه قدس سره قد بنی صحة الوضوء فی هذه الصورة علی جواز الشرط المتأخّر.

الثالثة: إشتراط وجوب الوضوء بالقدرة الشرعیة.

الرابعة: کفایة حدوث القدرة فی ظرف الاتیان بکل جزء من اجزاء الواجب الطولیة کالوضوء و الصلاة ونحوهما.

أما التعلیق علی النقطة الاُولی، فلأن ما ذکره من عدم الفرق بین المقام وبین المثالین فهو فی غیر محله وذلک للفرق بینهما، بیان ذلک هو أن وجوب الوضوء فی المثالین بمعنی الاعتبار فعلی، و أما فعلیة فاعلیته فهی منوطة بفعلیة موضوعها و هو التمکن من الوضوء بکامل أجزائه عقلاً وشرعاً، والمفروض أن المکلف متمکن من الوضوء بتمام أجزائه أی من البدایة إلی النهایة بدون أیّ مانع عقلی

ص:73

ولا شرعی، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الماء الکافی للوضوء کاملاً موجوداً عنده وبین أن یوجد تدریجاً حسب تدریجیة اجزائه، ضرورة أن هذه الجهة غیردخیلة فی تمکن المکلف من الوضوء بجمیع أجزائه، لأن تمکنه منه لامحالة یکون طولیاً حسب أجزائه الطولیة ولیس بإمکانه الاتیان به دفعة واحدة، و قد تقدم أن فعلیة فاعلیة وجوبه من البدایة إلی النهایة مشروطة بتمکن المکلف و قدرته علیه کذلک، فهناک فاعلیة موحدة طولیة مشروطة بالقدرة الموحدة الطولیة بنحو الشرط المقارن، لا أن القدرة علی الجزء اللاحق شرط لوجوب الجزء السابق، لوضوح أن وجوب الأجزاء وجوب واحد وفاعلیته لکل جزء إنما هی بفاعلیته للکل وإلاّ لزم الخلف، کما أن تأثیر القدرة فی کل جزء إنما هی بتأثیر القدرة فی الکل، بمعنی أن شرطیتها لفاعلیته لکل جزء إنما هی بشرطیتها لفاعلیته للکل لا بالاستقلال وإلاّ لزم خلف فرض کونه جزءً، و إن شئت قلت: إن وجوب الوضوء بما هو إعتبار ثابت فی مرحلة الجعل لایمکن أن یکون تدریجیاً بل هو آنی، فإن التدرج إنما هو فی فعلیة فاعلیته حسب تدرّج قدرة المکلف علی الأجزاء التدریجیة للوضوء، وحیث إن للوجوب الذی له روح فاعلیة موحدة فی الخارج، علی أساس أن فاعلیته لکل جزء إنما هی بفاعلیته للکل وشرطیة القدرة لفاعلیته لکل جزء إنما هی بشرطیتها لفاعلیته للکل، فمعنی ذلک إن شرطیة القدرة لفاعلیته للکل تکون بنحو الشرط المقارن، والمفروض أن نسبة فاعلیته للکل إلی جمیع الأجزاء الطولیة نسبة واحدة. و هذا بخلاف المقام، فإن المکلف فیه لایتمکن من الوضوء بتمام أجزائه شرعاً و إن کان متمکناً منه کذلک عقلاً و هذا هو الفارق بینهما، ومن هنا تکون صحة الوضوء فی المقام مشروطة بأمرین:

الأول: القول بإمکان الترتب.

ص:74

الثانی: أن لا یکون وجوب الوضوء مشروطاً بعدم المنافی المولوی، وإلاّ فلایمکن الحکم بصحته کما عرفت، بینما تکون صحّته فی المثالین علی القاعدة.

و أما النقطة الثانیة فیرد علیها ما حققناه فی محلّه من استحالة الشرط المتأخربالنسبة إلی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادی الذی هو روح الحکم وحقیقته، بإعتبار إن هذا الاتصاف أمر تکوینی فیستحیل أن یؤثر المتأخر فیه تکویناً لاستلزامه أحد محذورین: أما تأخیر المتقدم أو تأثیر المعدوم وکلاهما محال.

و أما النقطة الثالثة، فیرد علیها أن الوضوء لیس مشروطاً بالقدرة الشرعیة بل هو مشروط بالقدرة الأعمّ من القدرة العقلیة و العرفیة، لما عرفت من أن الآیة الشریفة وروایات البدلیّة لا تدلا علی ذلک، ومع الاغماض عن هذا وتسلیم أن وجوبه مشروط بالقدرة الشرعیة فهو مشروط بالقدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی، وعندئذٍ فلا مانع من الحکم بصحة الوضوء بالأمر الترتبی، و قد تقدم تفصیل کل ذلک، و أما لوکان مشروطاً بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی کما یظهر ذلک من بعض کلمات السید الاُستاذ قدس سره، فقد تقدم أنه لایعقل إثبات الأمر الترتبی له، لأن ثبوت وجوبه منوط ومقید بعدم المانع المولوی، ومع وجوده ینتفی وجوبه بانتفاء موضوعه ولا یعقل ثبوته ولو ترتباً، لأن معنی الترتب فعلیة کلا الأمرین معاً عند عصیان الأهمّ و هی غیر معقولة فی المقام.

وبکملة، إن عدم المانع المولوی إذا کان مأخوذاً فی لسان دلیل وجوب الوضوء، کان ظاهراً فی أن ثبوته مانع عن ثبوت وجوب الوضوء، باعتبار أنه معلق علی عدم ثبوته ومع ثبوته ینتفی بانتفاء موضوعه.

ودعوی، إنه یکفی فی صحة الوضوء عدم المانع فی ظرف الاتیان به،

ص:75

والمفروض إنه لامانع فی ظرف الاتیان بکل جزء من أجزائه، فإن المانع إنما هو اغتراف الماء من الاناء المغصوب وبعد الاغتراف فلا مانع من غسل الوجه ولاغسل الیدین بعده وهکذا، و هذا هو مقتضی کفایة القدرة التدریجیة حسب تدریجیة أجزاء الوضوء وتجدّدها عند الاتیان بکل جزء.

مدفوعة، بأن المانع عن صحته إنما هو ثبوت المنافی حدوثاً. علی أساس إن وجوب الوضوء معلق علی عدم ثبوته ومع ثبوته فلا وجوب له حتی یمکن الحکم بصحته بالوجوب الترتبی، و أما عدم وجود المنافی الخاص عندالاتیان بکل جزء فهو لایکفی بعدما کانت أجزائه ارتباطیة ومحکومة بوجوب واحد ولاوجود لوجوب کل جزء إلا بوجود وجوب الکل ولا داعویّة له إلاّ بداعویّته وهکذا، فإذا کان لوجوب الکل مانع مولوی فهو غیر ثابت، وإلاّ لزم ثبوت وجوب الوضوء مع ثبوت مانعه و هذا خلف، ومع عدم الوجوب للکل کیف یعقل ثبوته للجزء، بداهة أنه لایتصور ثبوته للأجزاء إلاّ بثبوته للکل، حیث لاوجود له إلا بوجوده له وإلا لزم کون وجوب الجزء مستقلاً و هذا خلف.

والخلاصة، إن وجوب الوضوء فی المقام منوط بعدم ثبوت حرمة التصرّف فی الاناء المغصوب ومع ثبوتها فلا وجود له، وإلاّ لزم الجمع بین ثبوت المانع و الممنوع معاً و هو کما تری، والمفروض إن معنی الترتب هو فعلیة کلا الأمرین معاً فی زمن واحد، فإذن کیف یعقل فعلیة الأمر بالوضوء مع فعلیة حرمة التصرّف، فإن معنی ذلک أن الأمر به فعلی مع فعلیة مانعه، فإذا لم یکن أمربالوضوء فکیف نتصور الأوامر الضمنیة لاجزائه مع أنه لا وجود لها إلابوجوده.

و أما النقطة الرابعة، فهی تامة إذا کان وجوب الوضوء أو ما شاکله مشروطاً

ص:76

بالقدرة العقلیة أو بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول و الثانی، ولکنها غیر تامّة إذاکان مشروطاً بالقدرة الشرعیة، بمعنی عدم المنافی المولوی کما عرفت، و أماما ذکره قدس سره من أن القدرة معتبرة فی ظرف الامتثال بحکم العقل، فهو لیس بمعنی أن الحاکم باعتبارها العقل و إن التکلیف المجعول من قبل الشارع مطلق کما یظهرمن مطاوی بعض کلماته قدس سره، بل بمعنی أن القدرة قید للتکلیف لباً و الکاشف عنه العقل لا أن العقل جاعل، و هذا معناه أن العقل یکشف عن أن الشارع جعل التکلیف للمکلف القادر فی ظرف الامتثال فهی من شروط فعلیة فاعلیة التکلیف ودخیلة فیها، لأن العقل لایکشف أکثر من ذلک ولایکشف أنها دخیلة فی اتصاف الفعل بالملاک أیضاً فی مرحلة المبادی، وبذلک تفترق الشروط اللبّیة عن الشروط المأخوذة فی لسان الدلیل شرعاً.

نتائج البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتین النتیجتین:

الاُولی: إن عنوان القدرة والاستطاعة إن کان مأخوذاً فی لسان الدلیل مباشرة من قبل المولی فهو ظاهر فی التأسیس کالآیة الشریفة ونحوها، علی أساس أن تصدی المولی لابرازه بنحو المباشر مع أنه مبرز ومنکشف بحکم العقل بملاک قبح تکلیف العاجز أو باقتضاء نفس الخطاب، یدل علی نکتة زائدة علی ذلک، وتلک النکتة هی التی دعت المولی إلی هذا التصدی و العنایة و هی دخله فی الملاک فی مرحلة المبادی أیضاً، باعتبار أن العقل لایحکم بأکثر من تقیید التکلیف به دون الملاک وکذلک الخطاب، و أما إذا لم یکن هذا العنوان وارداً فی لسان الدلیل مباشرة من قبل المولی وإنما استظهر ذلک بقرینة خارجیة بدون تصدی المولی ذلک، فلایکون ظاهراً فی التأسیس ودخله فی الملاک، بل هوتأکید لحکم العقل فلایکون قیداً شرعیاً، لأن الکاشف عنه فی مقام الاثبات إن

ص:77

کان العقل فهو عقلی و إن کان الشرع فهو شرعی وإلا فالتقیید فی مقام الثبوت علی کل تقدیر فهو مولوی، فلا یعقل أن یکون التقیید فیه عقلیاً، لوضوح أن سعة الحکم الشرعی وضیقه بید الشارع ولیس للعقل طریق إلی دخل شیء فی الحکم الشرعی أو عدم دخله فیه، غایة الأمر إن الکاشف عنه فی مقام الاثبات قد یکون الشرع و قد یکون العقل.

الثانیة: إن التزاحم إن کان بین واجبین کالصلاة والازالة مثلاً، فإذا کان أحدهما أهمّ من الآخر کان وجوب المهم مشروطاً بترک الآخر، و إذا کانا متساویین کان وجوب کل منهما مشروطاً بترک الآخر، فعلی الأول إذا ترک الأهم کالصلاة مثلاً کان کلا الأمرین فعلیاً، وعلی الثانی إذا ترک کلیهما کان کلا الأمرین فعلیاً، فعلی القول بالترتب لاتنافی بینهما، و أما إذا کان التزاحم بین واجب وحرام وکان الحرام أهم من الواجب أو المساوی له، کان وجوبه مشروطاً بعصیان الحرام، فطالما یکون المکلف تارکاً للحرام فلا وجوب له لعدم تحقق شرطه، و أما إذا بدأ فی ارتکاب الحرام تحقق الوجوب، وحینئذٍ فإن کان الحرام آنیاً بأن یرتفع بارتفاع موضوعه بصرف ارتکابه فلا ترتب، لأن الوجوب ثابت فی زمان ارتفاع الحرمة بارتفاع موضوعها، و إن کان الحرام تدریجیاً کما فی المقام، فعندئذٍ إن کان وجوب الوضوء مشروطاً بعدم المنافی المولوی، فلایمکن تصحیح الوضوء بالأمر الترتّبی، لما عرفت من أنه لایمکن تحققه فعلاً مع وجود النهی عن التصرّف فی الأوانی المغصوبة، لفرض أنه مانع عنه، فلایعقل فعلیته مع فعلیّة النهی، و إن کان مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول أو الثانی، فلا مانع من الحکم بصحة الوضوء بالأمر الترتبی، والنکتة فی ذلک إن وجوب الوضوء فی هذین الفرضین مطلق فی مرحلة الجعل، و أما فی مرحلة الامتثال ففعلیة فاعلیته مقیّدة بالعصیان ومشروطة به بنحو الشرط

ص:78

المقارن، لا أنها فی الآن الأول مشروطة بالعصیان فی الآن اللاحق بنحو الشرط المتأخر، بل هی مستمرة باستمراره ومتدرّجة بتدرجه، فالشرط هو العصیان الموحد الطولی و المشروط هو فعلیة فاعلیته کذلک، باعتبار إن فاعلیته لکل جزء إنما هی بفاعلیته للکل لا مستقلة وإلاّ لزم الخلف، و هذا هو الفارق بین کون وجوب الوضوء مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول أو الثانی وبین کونه مشروطاً بها بالمعنی الثالث و هو عدم المنافی المولوی، ومن هنا یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من صحة الوضوء بالترتب لاینسجم مع ما هو ظاهر کلامه قدس سره فی المسألة من أن الأمر بالوضوء مشروط بعدم المنافی المولوی، وأن النهی عن التصرف فیه مانع عن الأمر به، ومعه لایمکن الحکم بصحة الوضوء بالترتب، نعم یمکن الحکم بصحّته بالترتب حینئذٍ بلحاظ الأمر الاستحبابی فحسب.

الفرع الرابع: صحة التمام فی موضع القصر للجاهل و الجهر فی موضع الاخفات

الفرع الرابع: صحة التمام فی موضع القصر مطلقاً للجاهل بالحکم و إن کان مقصراً وصحة القصر فی موضع التمام فی مورد واحد و هو المسافر الذی نوی إقامة عشرة أیام فی بلد وصلّی فیه قصراً جاهلاً بوجوب التمام علیه، وصحة الجهر فی موضع الاخفات وبالعکس للجاهل به أو الناسی، هذا من ناحیة.

استحقاق العقوبة علی ترک القصر إذا کان جهله عن تقصیر

ومن ناحیة اخری إن المعروف و المشهور بین الأصحاب هو أن الجاهل بالحکم فی هاتین المسألتین إذا کان عن تقصیر یستحق العقوبة علی ترک القصرأو الجهر، علی الرغم من أن ما أتی به من الصلاة تماماً أو اخفاتاً صحیح وواف بتمام ملاک الصلاة الفائتة فی الواقع، فإذن یقع الکلام فی الجمع بین هذین الأمرین هما الحکم بصحة التمام فی موضع القصر وعدم وجوب الاعادة و إن انکشف الحال فی الوقت، واستحقاق العقوبة علی ترک القصر إذا کان جهله عن تقصیر، فإنه کیف یمکن الجمع بینهما رغم أن التمام واف بتمام ملاک القصر وعدم تفویت

ص:79

شیء منه، أو فقل إن معنی صحة الصلاة تماماً فی موضع القصر وعدم وجوب إعادتها حتی فی الوقت إذا انکشف الخلاف فیه وارتفع الجهل أنها وافیة بتمام مصلحة القصر، ومعنی استحقاقه العقوبة علی ترک الصلاة قصراً إذا کان جاهلاً مقصراً، إنه قد فاتت مصلحتها عنه فلهذا یستحق العقوبة علی ترکها، لوضوح أنه لایعقل العقاب من الحکیم بلا موجب وجزافاً، ولهذا حاول الأصحاب لعلاج هذه المشکلة بعدة محاولات:

محاولات الجمع بین الأمرین
المحاولة الاولی: ما ذکره الشیخ کاشف الغطاء قدّس سرّه

الاُولی: ما ذکره الشیخ کاشف الغطاء الکبیر قدس سره(1) من الالتزام بالترتب، بتقریب إن الأمر بالصلاة تماماً فی موضع القصر مترتب علی عصیان الأمربالصلاة قصراً وعدم الاشتغال بها، کما أن الأمر بالصلاة جهراً فی موضع الاخفات مترتب علی الصلاة اخفاتاً وبالعکس، وعلی هذا فلا مانع من الجمع بین الأمرین، فإن صحة الصلاة تماماً أو جهراً إنما هی علی أساس الأمر الترتبی وموضوعه عصیان الأمر بالصلاة قصراً أو اخفاتاً، ولهذا یستحق العقوبة علی ترکها کما هو الحال فی تمام موارد الترتب بین الأهم و المهم، فإن الواجب المهم صحیح بالترتب، ولکن یستحق العقوبة علی ترک الأهم وعصیان أمره هذا.

إشکال الشیخ الأنصاری قدّس سرّه علیه

و قد أورد علیه شیخنا الأنصاری قدس سره(2) بأن الترتب فی المقام غیر معقول واکتفی بهذا القدر بدون أن یبین وجه عدم معقولیته.

تعلیق النائینی قدّس سرّه علیه

و قد علق علیه المحقق النائینی قدس سره(3) بأن کلامه هنا مناقض لکلامه فی مبحث التعادل و الترجیح، فإنه قدس سره قد صرّح هناک بالترتب علی القول بالسببیة فی

ص:80


1- (1) - کشف الغطاء ج 1 ص 171.
2- (2) - فرائد الاصول ص 309.
3- (3) - أجود التقریرات ج 2 ص 57.

حجیّة الامارات وتبعه فی هذا التعلیق السید الاُستاذ قدس سره(1) هذا.

الذب عن کلام الشیخ قدّس سرّه

ولکن الظاهر أنه لا مناقضة بین کلامه قدس سره هنا وکلامه هناک لأمرین:

الأول: إن انکاره قدس سره الترتب هنا إنما هو فی مرحلة الجعل، و أما التزامه قدس سره بالترتب هناک فإنما هو فی مرحلة الفعلیة والامتثال ولا ملازمة بین الأمرین، إذیمکن القول بالترتب فی مرحلة الامتثال ولایمکن القول به فی مرحلة الجعل.

الثانی: إن کلامه هناک لیس ناصاً فی التزامه بالترتب، لأنه قدس سره قد قال هناک إن التکلیف حیث کان مشروطاً بالقدرة فی ظرف الامتثال فلازمه التخییر بین الواجبین المتزاحمین، باعتبار إن کلاً منهما مشروط بالقدرة فی ظرف الامتثال ولایکون مشروطاً بعدم الاشتغال بالآخر، و هذا منه قدس سره دلیل علی أن ما ذکره هناک لیس مبنیاً علی الترتب، بل من جهة أن المکلف إذا لم یکن قادراً علی امتثال کلیهما معاً وقادراً علی امتثال أحدهما لا بعینه، استقل العقل بوجوب الاتیان به تخییراً و هذا لیس بملاک الترتب، باعتبار أنه لیس هناک إلا تکلیف واحد موجه إلیه و هو التکلیف بأحدهما، بینما القول بالترتب یستلزم ثبوت تکلیفین فعلیین مترتبین موجهین إلیه کذلک، ولهذا یکون مبنیاً علی تقییدخطاب المهم بعدم الاشتغال بالأهم لباً وتقیید خطاب کل منهما بعدم الاشتغال بالآخر إذا کانا متساویین، والمفروض إنه قدس سره قد نفی هذا التقیید الشرعی وإنما أقرّ بالتقیید بالقدرة عقلاً، وحیث إن للمکلف فی المقام قدرة واحدة، فبطبیعة الحال یکون الموجه إلیه تکلیف واحد، ولهذا لایکون من باب الترتب، هذا من ناحیة.

ما أورده المحقق النائینی قدّس سرّه علی کاشف الغطاء قدّس سرّه

ومن ناحیة اخری إن المحقق النائینی قدس سره(2) قد أورد علی ما ذکره کاشف

ص:81


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 162.
2- (2) - أجود التقریرات ج 2 ص 91.

الغطاءقدس سره من الترتب فی المقام بوجوه:

الوجه الاول إنه یعتبر فی الترتب أن یکون التضاد بین الفعلین المتزاحمین اتفاقیاً

الأول: إنه یعتبر فی الترتب أن یکون التضاد بین الفعلین المتزاحمین اتفاقیاً کالتضاد بین الصلاة والازالة وبین التصرف فی مال الغیر وانقاذ الغریق أو الحریق، و أما إذا کان التضاد بینهما دائمیاً، فلا یعقل فیه الترتب و إن کان لهماثالث، والمفروض إن التضاد بین القصر و التمام و الجهر والاخفات دائمی، فإذن لایمکن الالتزام بالترتب بینهما فی المقام، ولابد حینئذٍ من أن یعامل معهما معاملة المتعارضین.

إشکال السید الأستاذ قدّس سرّه علیه

و قد أورد علیه السید الاُستاذ قدس سره(1) بتقریب، إن اعتبار کون التضاد بین متعلقی الخطابین المتزاحمین إتفاقیاً إنما هو فی الترتب بینهما فی مرحلة الامتثال، فإنه لایعقل فی هذه المرحلة إلا أن یکون التضاد بینهما إتفاقیاً، و أما إذا کان الترتب بینهما فی مرحلة الجعل، فلا تعتبر الاتفاقیة فی التضاد بینهما، بل لا مانع منه و إن کان التضاد بینهما دائمیاً شریطة أن یکون لهما ثالث، وغرض الشیخ الکبیر کاشف الغطاء قدس سره من الترتب فی هذه المسألة إنما هو الترتب بین خطابی القصر و التمام و الجهر والاخفات فی مرحلة الجعل، وعلی هذا فما ذکره المحقق النائینی قدس سره من إعتبار کون التضاد بین الأمرین المتزاحمین إتفاقیاً إنما هو فی الترتب بینهما فی مرحلة الامتثال فیکون أجنبیاً عما ذکره کاشف الغطاء قدس سره، وکیف کان فلا مانع من الالتزام بالترتب فی مرحلة الجعل بین الضدّین الدائمیین شریطة أن یکون لهما ثالث کما فی المقام، وعلی هذا فلا مانع من جعل وجوب الصلاة تماماً مترتباً علی ترک القصر للمسافر الجاهل بوجوبه لا مطلقاً، وکذلک الحال فی مسألة الجهر والاخفات، ولایلزم من ذلک أی محذور کطلب الجمع بین

ص:82


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 163.

الضدّین أو التمانع بین الأمرین فی الاقتضاء، لأنه إنما یلزم إذا کان جعل الوجوب لکل منهما بنحو الاطلاق لا بنحو الترتب و التقیید بحال الجهل هذا.

توضیح کلامه قدّس سرّه

ثم إنه قدس سره قد ذکر إن الترتب بین الخطابین فی مرحلة الجعل یختلف عن الترتب فی مرحلة الامتثال بأمرین:

الأول: إن المأخوذ فی موضوع الخطاب المترتب فی مرحلة الجعل ترک متعلق الخطاب المترتب علیه فی حال الجهل المکلف به لا مطلقاً، بینما یکون موضوعه فی مرحلة الامتثال ترکه فی حال العلم به.

الثانی: إن الترتب فی مقام الجعل بحاجة إلی دلیل دون الترتب فی مرحلة الامتثال، فإن إمکانه مساوق لوقوعه فی الخارج، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إنه قدس سره قد ذکر إن ما ذکره الشیخ الکبیر کاشف الغطاء قدس سره صحیح ثبوتاً وإثباتاً، أما ثبوتاً فقد مر إنه لا مانع من أن یکون وجوب التمام مجعولاً علی المسافر الجاهل بوجوب القصر مترتب علی ترکه فی هذه الحالة، وکذلک وجوب الجهر مجعولاً علی الجاهل بوجوب الاخفات مترتباً علی ترکه کذلک وبالعکس، و أما إثباتاً فلأن النصوص الدالة علی صحة التمام موضع القصر وصحة الجهر موضع الاخفات وبالعکس دلیل علیه، فالنتیجة، إن ما أفاده الشیخ الکبیر فی المسألتین هو الصحیح هذا، وللنظر فیما أفاده السید الاُستاذ قدس سره مجال.

أما ما ذکره قدس سره من أن المعتبر فی الترتب بین الخطابین فی مرحلة الامتثال أن یکون التضاد بین متعلقیهما إتفاقیاً فهو صحیح، و أما ما ذکره قدس سره من أن مسألتی وجوب التمام موضع القصر ووجوب الاخفات موضع الجهر وبالعکس، مبنیّتان علی الترتب فهو غیر تام.

ص:83

توضیح ذلک یتطلّب بیان نقطتین:

الاُولی: إن وجوب التمام علی المسافر الجاهل بوجوب القصر فی الشبهات الحکمیة لیس من باب الترتب وکذلک وجوب الاخفات علی المکلف الجاهل بوجوب الجهر وبالعکس.

الثانیة: إن المعتبر فی التزاحم بین الخطابین أن یکون التضاد بین متعلقیهما إتفاقیاً، ولو کان دائمیاً کان بینهما تعارض فی مرحلة الجعل.

أما الکلام فی النقطة الاُولی، فیقع تارة بلحاظ مقام الثبوت واُخری بلحاظ مقام الاثبات، أما الکلام فی الأول فلا مانع من الالتزام بأن وجوب القصر علی المسافر مشروط بالعلم به، و أما إذا کان جاهلاً به فوظیفته التمام بمقتضی الأدلة الأولیة و الخارج عن اطلاقها المسافر العالم بوجوب القصر لا مطلقاً یعنی حصة خاصة من المسافر و هو المسافر الذی قرأت علیه آیة التقصیر(1) ، ولا محذور فی الالتزام بذلک ثبوتاً، لما ذکرناه فی غیر مورد من أنه لامانع من أخذ العلم بالحکم فی مرتبة فی موضوع نفسه فی مرتبة اخری، بأن یؤخذ العلم به فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول و هی مرتبة الفعلیة بدون أن یستلزم ذلک أی محذور کالدور أو نحوه، فإن المحذور إنما یلزم فیما إذا اخذ العلم بالحکم فی موضوع نفسه فی مرتبة واحدة، وعلی هذا ففی المقام لامانع من أن یؤخذ العلم بوجوب القصر فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول، بمعنی أن المسافر إذا علم بوجوب القصر علیه فی الشریعة المقدسة صار وجوبه فعلیاً فی حقّه أی فاعلیته ومحرکیته نحو الاتیان بالقصر، ولا مانع من الالتزام بذلک ثبوتاً ولامحذور فیه کما مرّ.

ص:84


1- (1) - سورة النساء آیة 101.

و أما فی مقام الاثبات، فأدلة الباب غیر قاصرة عن الدلالة علی ذلک کالآیة الشریفة و الروایات(1) ، فإن مقتضی الآیة الشریفة إن وجوب القصر علی المسافر یدور مدار قراءة آیة التقصیر علیه وعدم قراءتها، ومن الواضح أن قراءتها علیه کنایة عن العلم بوجوب القصر وعدم قراءتها کنایة عن الجهل به ولا یمکن حملها علی الترتب لأنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر منها إن وجوب القصر مشروط بالعلم به ووجوب التمام مشروط بالجهل بوجوب القصر لا أنه مشروط بترکه، فلهذا لایمکن حملها علی الترتب لأنه بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علیه لا فی نفس هذه الأدلة ولا من الخارج، ومن هنا یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره فی المقام من أن المأخوذ فی موضوع وجوب التمام علی المسافر ترک القصر فی حال جهله بوجوبه لامطلقاً وکذلک الحال فی الجهر والاخفات فلایمکن المساعدة علیه، وذلک لما عرفت من أن أدلة الباب من الآیة الشریفة و الروایات ظاهرة فی أن وجوب التمام لیس من باب الترتب بل من جهة أن وجوب القصر ثابت لحصة خاصة من المسافر و هی المسافر العالم بوجوب القصر وکذلک وجوب الجهر والاخفات فإنه ثابت للمکلف العالم به لا مطلقاً ولامانع من الالتزام بذلک ثبوتاً واثباتاً، وسوف یأتی تفصیله بأکثر من ذلک.

و أما الکلام فی النقطة الثانیة، فإذا کان التضاد بین متعلقی الخطابین دائمیاً و إن لم یکن بینهما ثالث، فلا شبهة فی أنهما داخلان فی باب التعارض، ضرورة استحالة جعل التکلیف لهما لا جمعاً لاستلزامه طلب الجمع بین الضدّین ولا أحدهما مشروطاً بعدم الآخر لأنه من تحصیل الحاصل، إذ أن وجود أحدهما علی تقدیر ترک الآخر ضروری، فیکون التکلیف بأحدهما أو کلیهما مشروطاً

ص:85


1- (1) - الوسائل ج 8 ص 505 ب 17 من أبواب صلاة المسافر.

بترک الآخر لغواً وجزافاً، و إن کان بینهما ثالث کما إذا ورد فی الدلیل صل رکعتین فی المسجد عند طلوع الشمس وورد فی دلیل آخر إقرأ سورة من القرآن فیه عند طلوعها، فهل هما داخلان فی باب التزاحم أو التعارض، فیه قولان، فذهبت مدرسة المحقق النائینی قدس سره إلی الثانی(1) ، وذهب بعض المحققین قدس سره(2) إلی التفصیل بین اطلاق الخطابین وبین أصلهما، فعلی الأول هما داخلان فی باب التعارض وعلی الثانی داخلان فی باب التزاحم، و قد أفاد فی وجه ذلک ما حاصله، أما عدم التعارض علی الثانی فلأنه لا مانع من ثبوت کل منهما مشروطاً بعدم الاشتغال بالآخر بعد البناء علی القول بإمکان الترتب، و أما وقوع التعارض علی الأول، فحیث إن المتفاهم العرفی هو ثبوت الاطلاق لکل منهما فی حال الاشتغال بالآخر، فیکون معارضاً مع إطلاق الآخر، والنکتة فی ذلک إن خصوصیة التضاد الدائمی بنفسها قرینة عرفاً علی أن المولی ألغی مانعیة الاشتغال بأحدهما عن الأمر بالآخر، وعلی هذا فلا محالة یقع التعارض بینهما، ولابد حینئذٍ من تطبیق قواعد باب التعارض بین إطلاق کل من الخطابین لحال الاشتغال بالآخر، فإن کان هناک مرجح لأحدهما دون الآخر، فذو المرجح مطلق و الآخر مشروط بعدم الاشتغال بالأول، وإلاّ فیسقطان معاً ویثبت بهماحکمان مشروطان بنحو الترتب، لما عرفت من عدم التعارض بین أصل الخطابین هذا.

ترجیح ما ذهبت إلیه مدرسة النائینی قدّس سرّه

الظاهر، إن ما ذهبت إلیه مدرسة المحقق النائینی قدس سره هو الصحیح، وذلک لأنه إذا ورد فی الدلیل تجب الصلاة عند طلوع الفجر وورد فی دلیل آخر یجب الذهاب

ص:86


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 52 و 91.
2- (2) - بحوث فی علم الاصول ج 7 ص 109.

إلی البلد الفلانی عند طلوع الفجر، یری العرف التعارض بینهما، لأن اطلاق کل منهما لایجتمع مع اطلاق الآخر، وحینئذٍ فلابد من الرجوع إلی مرجحات باب المعارضة، فإن کان للدلیل الأول مرجح لابد من الأخذ به وطرح الثانی، و إن کان العکس فبالعکس، ودعوی إن المعارضة إنما هی بین اطلاق کل من الخطابین مع اطلاق الخطاب الآخر لابین أصل الخطابین المشروطین کل منهمابعدم الاشتغال بالآخر، فإذن الساقط بالمعارضة إنما هو إطلاق کل من الخطابین لا أصلهما فإنه بلا موجب.

مدفوعة بأنها مبنیة علی أن تکون لکل من الخطابین دلالتان:

الاُولی: الدلالة علی القضیة المهملة و هی ثبوت کل منهما فی الجملة و القدر المتیقن منه هو الثبوت عند عدم الاشتغال بالآخر.

الثانیة: الدلالة علی القضیة المطلقة و هی ثبوت کل منهما حتی فی حال الاشتغال بالآخر، ولکن هذا المبنی غیر صحیح، لوضوح أنه لیست لکل منهما دلالتان مستقلتان غیر مندکة احداهما بالاُخری، بل دلالة واحدة و هی الدلالة علی القضیة المطلقة و القضیة المهملة مندکة فیها وفی ضمنها، وکل من الخطابین یدل علیها فی ضمن دلالته علی القضیة المطلقة لا مستقلة، وعلی هذا فإذا سقطت دلالته علی القضیة المطلقة بالمعارضة، سقطت دلالته الضمنیة أیضاً و هی دلالته علی القضیة المهملة، باعتبار أنها فی ضمن الدلالة المطلقة وتسقط بسقوطها، ولایعقل بقائها بعد سقوطها لأنه خلف فرض کونها فی ضمنها، فإذن ثبوت أصل الخطابین بنحو القضیة المهملة بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه، وعلی ضوء هذا فإن کان هناک مرجح لأحد الخطابین دون الآخر، فلابد من الأخذ به وطرح الآخر نهائیاً وإلاّ فیسقطان معاً و المرجع فی موردهما الأصل العملی، ولا مانع من

ص:87

التمسک بإصالة البراءة عن وجوب کلیهما لفرض أنه لا علم بوجوب أحدهما لاحتمال عدم وجوب شیء منهما.

والخلاصة، إن الصحیح هو ما ذهبت إلیه مدرسة المحقق النائینی قدس سره من أن التضاد بین متعلّقی الخطابین إذا کان دائمیاً فهما یدخلان فی باب التعارض دون التزاحم و إن کان بینهما ثالث.

لحد الآن قد تبیّن أن ما ذکره الشیخ الکبیر کاشف الغطاء قدس سره فی المسألة من الترتب لایمکن المساعدة علیه، فإنه إن ارید به الترتب فی مرحلة الامتثال فقدعرفت أنه إنما یتصور بین متعلّقی الخطابین إذا کان التضاد بینهما اتفاقیاً لادائمیاً، وحیث إنه فی المسألة دائمی فلایمکن القول بالترتب بینهما.

و إن ارید به الترتب فی مرحلة الجعل فهو و إن کان ممکناً إلاّ أنه بحاجة إلی دلیل فی مقام الاثبات، وأدلة الباب من الآیة الشریفة وغیرها لاتدل علی ذلک کما سوف نشیر إلیه موسعاً.

الوجه الثانی فی المسألة

الوجه الثانی: إنا لو سلمنا أنه لایعتبر فی الترتب أن یکون التضاد بین ا لواجبین المتزاحمین إتفاقیاً بل لا مانع منه و إن کان دائمیاً إذا کان بینهما ثالث حتی یتمکن المکلف من ترک کلا الواجبین معاً، ولکن لایعقل إذا لم یکن بینهما ثالث کالحرکة و السکون ونحوهما لاستحالة الأمر بهما ولو ترتباً، حیث إن وجود أحدهما عند عدم الآخر ضروری فلایعقل تعلق الأمر به و المقام من هذا القبیل، فإن القصر و التمام فی الصلاة من الضدین الذین لا ثالث لهما، لأنها إما مقصورة أوتامة وکذلک الجهر والاخفات، فلهذا لایعقل الترتب فی هاتین المسألتین.

والجواب: إن جعله قدس سره مرکز البحث عن إمکان الترتب وعدم إمکانه فی المسألة الاُولی القصر و التمام فی الصلاة وفی الثانیة الجهر والاخفات فیها فی غیر

ص:88

محله وبمعزل عن الواقع، ضرورة أن البحث عن إمکان الترتب وعدم إمکانه فی کلتا المسألتین إنما هو بین متعلقی الأمرین فیهما، ومن الواضح أن متعلقیهما فی المسألة الاُولی الصلاة القصریة و الصلاة التمامیة وفی الثانیة الصلاة الجهریة و الصلاة الاخفاتیة وهما من الضدّین الذین لهما ثالث، والتعبیر عنهما بالقصروالتمام فی الاُولی وبالجهر والاخفات فی الثانیة إنما هو لمجرد المعرفیة و المشیریة بهماإلیهما لأنهما لیسا من العناوین القصدیة المقومة بل هما من العناوین الانتزاعیة، ولهذا لایکونا دخیلین فیما هو مصب الوجوه ومرکزه، و أما ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره(1) من أن الضدّین فی المقام هما القراءة الجهریة و القراءة الاخفاتیة من الضدّین الذین لهما ثالث، وذلک بأن المصلی قد لا یقرأ فی الصلاة لا جهراً ولا اخفاتاً بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، و قد یقرء فیها ولایجهر أو لایخفت بنحو السالبة بانتفاء المحمول، و هذا معنی إنهما من الضدّین الذین لهما ثالث، وعلی هذا فلا مانع من الالتزام بالترتب بینهما فی مقام الجعل فهو غیر تام، وذلک لأنهما و إن کانتا من الضدّین الذین لهما ثالث إلاّ أنهما من الواجبین الضمنیین ولایعقل الترتب بینهما، فإن الترتب إنما یعقل بین الأمر بالصلاة الجهریة و الأمر بالصلاة الاخفاتیة لابین الأمر بالقراءة الجهریة و الأمر بالقراءة الاخفاتیة، وذلک لماذکرناه فی ضمن البحوث السالفة من أن الوجوب الضمنی لا وجود له إلاّ بوجود الوجوب المتعلّق بالکل ولا داعویة له إلاّ بداعویّة وجوب الکل، ولایعقل اشتراطه بشیء إلاّ باشتراط وجوب الکل به، وعلی هذا الأساس فإذا فرض أن وجوب القراءة الجهریة مشروط بعدم الاشتغال بالقراءة الاخفاتیة فی حال الجهل بوجوبها، فمعناه أن وجوب الصلاة الجهریّة مشروط بعدم الاشتغال

ص:89


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 167.

بالصلاة الاخفاتیة فی حال جهل المکلف بوجوبها، ضرورة أن اشتراط الوجوب الضمنی بشیء إنما هو باشتراط الوجوب الاستقلالی به وإلا لزم خلف فرض کونه ضمنیّاً، کما أن شرطیة عدم الاشتغال بالواجب الضمنی إنما هی بشرطیة عدم الاشتغال بالواجب الاستقلالی وإلاّ لزم الخلف، والخلاصة، أن الوجوب الضمنی لا واقع موضوعی له لا فی عالم الاعتبار و الجعل ولا فی عالم الفعلیة و إنّما هو ثابت بتحلیل فرضی من العقل، نعم الذی له واقع فی عالم الزمان هو فعلیة فاعلیة وجوب الکل المجعول فی الشریعة المقدسة، ولا یعقل أن تکون فاعلیته للقراءة الجهریة للمکلف الجاهل بوجوب القراءة الاخفاتیة مشروطة بترکها إلاّ باشتراط فاعلیته للصلاة مع القراءة الجهریة بترک الصلاة مع القراءة الاخفاتیة فی حال الجهل بوجوبها وإلا لزم الخلف کما عرفت، ولهذا لایعقل الترتب بین واجبین ضمنیین بدون أن یکون هناک ترتب بین واجبین مستقلین.

ومن هنا ذکر قدس سره فی غیر مورد إن التزاحم لایتصور بین الواجبات الضمنیّة(1) لأنها جمیعاً واجبة بوجوب واحد، وإنما یتصوّر التزاحم بین وجوبین مستقلین متعلقین بعملین کذلک کالصلاة والازالة ونحوهما، فإذا لم یتصور التزاحم بینهمامن جهة إنهما محکومان بوجوب واحد فکیف یعقل الترتب بینهما، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن الترتب إذا کان فی مرحلة الجعل فلا فرق فیه بین أن یکون التضاد بین متعلقی الخطابین المترتبین دائمیاً أو اتفاقیاً أو أنه لاتضاد بینهما أصلاً، بأن یکون الترتب فیها بملاک آخر لابملاک التضاد، و أما إذا کان الترتب فی مرحلة الامتثال، فإنه مشروط بکون التضاد بین متعلقی الخطابین المترتبین

ص:90


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 100 و 134.

اتفاقیاً ناشئاً من عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی هذه المرحلة، و أما إذاکان التضاد بینهما دائمیاً و إن کان بینهما ثالث، فیدخلان فی باب التعارض ولاموضوع فیه للترتب.

ومن ناحیة ثالثة إنه لامضادة فی الواقع بین الصلاة الجهریة و الصلاة الاخفاتیة لکی تقع المزاحمة بینهما وکذلک بین الصلاة قصراً و الصلاة تماماً، إذ بإمکان المکلف الاتیان بهما معاً فی وقتهما فی الخارج، لأن المسافر الجاهل بوجوب الصلاة قصراً متمکن فی الواقع من الاتیان بها فی وقتها و الصلاة تماماً وکذلک الجاهل بوجوب الصلاة الجهریة، فإنه متمکن فی الواقع من الاتیان بها و الصلاة الاخفاتیة معاً فی وقتهما بدون مزاحمة، وعلی هذا فلا موضوع للترتب فی مرحلة الامتثال فی المسألتین، لأن الترتب فی هذه المرحلة إنما یعقل بین الواجبین المتزاحمین الذین لایتمکن المکلف من الجمع بینهما، فإن أتی بأحدهما عجز عن الاتیان بالآخر، و أما الترتب فی مرحلة الجعل فلا مانع من الالتزام به فی کلتا المسألتین، لأنه کما مرّ غیر مشروط بالتزاحم بین الخطابین، لأنه فی هذه المرحلة قد یکون بملاک التضاد و التزاحم بینهما، و قد یکون بملاک آخر.

الوجه الثالث فی المسألة

الوجه الثالث: ما أفاده المحقق النائینی قدس سره(1) أیضاً بتقریب أن الترتب مشروط بشروط:

الأول: أن یکون الخطاب المترتب علیه واصلاً إلی المکلف ومنجزاً علیه.

الثانی: عصیان ذلک الخطاب المنجز باعتبار أنه مأخوذ فی موضوع الخطاب الترتّبی.

ص:91


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 93.

الثالث: أن یکون المکلف عالماً بعصیانه وعدم امتثاله وإلاّ لم یکن عالماً بالخطاب الترتّبی، فإذا توفّرت هذه الشروط الثلاثة بین الحکمین المتزاحمین فلابدّ من الالتزام بالترتب بینهما وإلا فلا، وحیث إن تلک الشروط غیر متوفّرة فی المسألتین المذکورتین فلایمکن القول بالترتب فیها.

أما فی مسألة القصر و التمام، فلأن المسافر الجاهل بوجوب الصلاة علیه قصراً لایخلو من أن یکون جهله به عن قصور أو عن تقصیر، فعلی الأول لایتوفر شیء من تلک الشروط، لأن وجوب القصر و إن کان فی الواقع موجوداً، حیث إن الجهل به لایکون رافعاً له، إلاّ أنه غیر واصل إلیه وغیر منجّزومعه لاعصیان فی مخالفته وعدم الاتیان بمتعلقه، لأن العصیان إنما هو فی مخالفة التکلیف المنجز الواصل إلی المکلف لامطلقاً، و إن لم یکن منجزاً فالشرط الثانی مترتب علی الشرط الأول ومتفرع علیه، کما إن الشرط الثالث متفرع علی الشرط الثانی، فبالنتیجة إذا کان الشرط الأول غیر متوفر لم یتوفر الشرط الثانی و الثالث أیضاً لأنهما متفرعان علیه، وعلی هذا فلایمکن إثبات وجوب التمام الترتبی، لأن موضوعه المسافر الجاهل بوجوب الصلاة قصراً و العاصی له، ومن الواضح إن وجوب التمام کذلک علی المسافر متوقف علی إحرازه ما هوشرطه وموضوعه و هو العصیان و هو لایمکن إلاّ مع علمه بوجوب القصر علیه، فطالما یکون جاهلاً به عن قصور، فلا عصیان فی ترکه فالسالبة بانتفا ءالموضوع.

والخلاصة، إنه لایمکن جعل وجوب التمام علی المسافر الجاهل بوجوب القصر مشروطاً بعصیانه إذا کان معذوراً، ضرورة أن جعل الحکم علی موضوع مقیّد بقید لایمکن تحقق ذلک القید فی الخارج لغو وجزاف، فلایعقل صدوره من

ص:92

المولی.

وعلی الثانی و هو ما إذا کان جهله بوجوب القصر عن تقصیر، فهو حینئذٍ و إن کان عاصیاً ومستحقاً للعقوبة علی ترک الصلاة قصراً، علی أساس أن جهله به حیث کان عن تقصیر، فلایکون مانعاً عن تنجّز ملاک وجوب القصر علیه، و قدتقدّم أن منشأ العصیان وصحة العقوبة إنما هو تفویت الملاک الملزم المنجز، باعتبار إنه حقیقة التکلیف وروحه، و أما التکلیف بما هو اعتبار فلا أثر له، وحیث إن المسافر فی المقام غیر عالم بعصیانه، باعتبار إنه متوقف علی علمه بوجوب القصر و المفروض إنه جاهل به، فبطبیعة الحال یکون جاهلاً بالخطاب الترتبی أیضاً، باعتبار إن الجهل بالموضوع یستلزم الجهل بالحکم، فطالما یکون المسافر جاهلاً بوجوب القصر، فلا محالة یکون جاهلاً بعصیانه الذی هوموضوع وجوب التمام، فإذا کان جاهلاً بموضوع وجوب التمام، کان جاهلاً بوجوبه علیه أیضاً، وإلاّ لزم خلف فرض کونه موضوعاً له، و أما إذا علم بوجوب القصر، فحینئذٍ و إن کان عاصیاً بترکه وعالماً به، إلا أن الموضوع حینئذٍ انقلب إلی موضوع آخر وارتفع وجوب التمام بارتفاعه.

فالنتیجة، إنه لایمکن جعل وجوب التمام علی المسافر الجاهل بوجوب القصرمشروطاً بعصیانه، و أما مسألة الجهر والاخفات فالحال فیها هو الحال فی المسألة المتقدّمة فلا فرق بینهما من هذه الناحیة أصلاً، فکما إنه لایمکن الالتزام بالترتب فی تلک المسألة فکذلک لایمکن الالتزام به فی هذه المسألة حرفاً بحرف هذا.

و قد علق علیه السید الاُستاذ قدس سره(1) بأن الموضوع لوجوب التمام لیس هو

ص:93


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 174.

عصیان وجوب القصر بل هو ترک الصلاة القصریة فی الواقع، ومن الواضح إنه لایلزم من التفات المسافر الجاهل بوجوب القصر إلی أنه تارک للصلاة القصریة محذور کانقلاب الموضوع أو نحوه، فإذن لامانع من کونه ملتفتاً إلی ترک الصلاة قصراً فی حال کونه جاهلاً بوجوبها ومعتقداً بوجوب التمام علیه، فموضوع التمام حینئذٍ قابل للاحراز، و أما وصول الخطاب المترتب علیه إلی المکلف غیر معتبرفی الترتب فی مقام الجعل وإنما هو معتبر فی الترتب فی مقام الامتثال، هذا.

و قد ناقش فیه بعض المحققین قدس سره(1) بتقریب إنه لایکفی لدفع المحذور إحرازذات موضوع الأمر الترتبی و هو ترک الصلاة القصریة بما هو، بل یتوقف علی إحراز أنه موضوع للأمر بالتمام و هو الأمر الترتبی، إذ العلم به یتوقف علی العلم بموضوعه، ضرورة إن وصول هذا الأمر یتوقف علی العلم بموضوعیة الترک له ولایکفی العلم بذات الترک، لأن المکلف المسافر الجاهل بوجوب القصر معتقد بوجوب التمام علیه بخطاب أولی ومعه لا یعقل أن یحرز کون ترکه موضوعاً لوجوب التمام بخطاب ثانوی ترتّبی، فإنه إن احرز بأن علمه بوجوب التمام قد أخذ موضوعاً لنفس ذلک الوجوب، ففیه محذور أخذ العلم بالحکم فی موضوع ذلک الحکم و هو لایمکن، و إن احرز بأن علمه بوجوب التمام قد أخذ موضوعاً لوجوب تمام آخر کان ذلک من اجتماع المثلین بنظره و هو لایمکن، وعلیه فالمکلف المسافر فی المقام دائماً یکون إتیانه بالصلاة تماماً بتحریک أمر تخیّلی بالتمام باعتقاد أنه خطاب أولی علی المکلفین جمیعاً فی الحضر و السفر، و أما وجوب التمام الترتّبی المخصوص بالمسافر الجاهل بوجوب القصر، فلایعقل وصوله إلیه ومحرکیته نحو التمام هذا، ولنا فی المقام تعلیقان:

ص:94


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 370.
تعلیقات فی المقام

أحدهما: علی ما ذکره بعض المحققین قدس سره من الاشکال.

والآخر: علی ما ذکره المحقق النائینی قدس سره.

أما التعلیق علی الأول، فلان ما ذکره قدس سره من الاشکال مبنی علی أن الخطاب بالتمام الموجّه إلی المسافر الجاهل بوجوب القصر التارک له خطاب ثانوی خاص به و هو الخطاب الترتّبی فی مقابل الخطاب الأولی و هو الخطاب بالتمام الموجّه إلی طبیعی المکلف، وعندئذٍ فلایمکن وصول هذا الخطاب، لأن وصوله منوط باحراز موضوعه و هو لایمکن، لأن المسافر المذکور یری نفسه موضوعاً لوجوب التمام بالخطاب الأولی، ومع هذا لایعقل أن یری نفسه موضوعاً لوجوب التمام بالخطاب الثانوی أیضاً وإلاّ انقلب الموضوع، ولکن هذا المبنی غیر صحیح، فإن الخطاب الآمر بالصلاة تماماً فی الکتاب و السنة خطاب واحد موجه إلی کافة الناس بتمام أصنافهم شریطة أن یکونوا واجدین للشروط العامة منهم المسافر الجاهل بوجوب القصر فی الشریعة المقدسة، فإن التمام واجب علیه لا بخطاب ثانوی خاص به بل بخطاب أولی عام، فإنه یشمل جمیع أصناف المکلفین و الخارج منه حصة خاصة من المسافر و هو المسافرین الذی یکون عالماً بوجوب القصر ولایکون سفره معصیة ولایکون السفر شغله ولا شغله فی السفر، فإن وجوب التمام علی هؤلاء الأصناف من المسافرین لیس بخطاب ثانوی خاص بهم بل هو بالخطاب العام الأولی، لأنهم باقون تحت عمومه و الخارج منه حصة خاصة منهم کما عرفت وسوف نشیر إلی تفصیل ذلک، وعلی هذا فوجوب التمام علی المسافر الجاهل بوجوب القصر یمکن أن یکون من باب الترتب، بأن یکون مجعولاً علیه مشروطاً بترک القصر، وحیث إنه بالخطاب العام الأولی فیمکن وصوله إلیه بدون التفاته إلی أنه جاهل بوجوب القصر

ص:95

وتارک له، لأن وصوله إلیه منوط بالعلم بالکبری واحراز الصغری، والمفروض إن المسافر الجاهل بوجوب القصر عالم بالکبری و هی وجوب التمام المجعول فی الشریعة المقدسة بالخطاب العام وأنه یری نفسه مصداقاً لها، فإذا علم بالکبری واحراز الصغری فقد علم بالحکم، والفرض أن هذه الرؤیة مطابقة للواقع لا أنها مجرد تخیل، غایة الأمر أنه غیر ملتفت إلی ترک القصر بوصف أنه موضوع لوجوب التمام و هو غیر لازم، ومن هنا یظهر أن ما ذکره قدس سره من أن المحرک للمسافر المذکور إلی الاتیان بالتمام هو أمر تخیّلی لا أمر واقعی مبنی علی ماذکر قدس سره من تعدّد الخطاب، و أما بناءً علی ما ذکرناه من وحدة الخطاب، فتحریکه إلی الاتیان به یکون بأمر واقعی لا خیالی، لأن القول بالترتب فی مرحلة الجعل لایستلزم تعدد الخطاب، لما عرفت من معنی الترتب فی هذه المرحلة، والحاصل إن المسافر الجاهل بوجوب القصر التارک له إذا کان مخاطباً بوجوب الصلاة تماماً فی ضمن الخطاب الموجّه إلی الجامع بینه وبین الحاضر، فلامانع من فعلیّته بفعلیة موضوعه فی الخارج، باعتبار أنه یری نفسه مصداقاً للکبری و هی وجوب الصلاة تماماً علی طبیعی المکلف الجامع، و أما لوکان مخاطباً بخطاب خاص ثانوی بوجوب التمام الترتبی، فلایمکن وصوله إلیه من جهة إنه یری نفسه موضوعاً لوجوب التمام بالخطاب الأولی ومعه لایعقل أن یری نفسه موضوعاً لوجوبه بالخطاب الثانوی الترتبی وإلاّ لزم اجتماع المثلین.

و إن شئت قلت: إن الخطاب الثانوی الترتبی إذا کان موجّهاً إلی حصة خاصّة من المکلف و هی المسافر الجاهل بوجوب القصر التارک له فوصوله منوط باحراز موضوعه، ومن الواضح إن المسافر طالما یکون جاهلاً بوجوب القصروغافلاً عنه وجازماً بوجوب التمام علیه لایری نفسه موضوعاً له، کیف فإنه یری نفسه موضوعاً لوجوب التمام بالخطاب الأولی، و أما إذا التفت إلی أنه

ص:96

جاهل بوجوب القصر علیه، فینقلب الموضوع فتکون وظیفته الصلاة قصراً، بینما إذا کان الخطاب الأولی موجهاً إلیه بعنوان إنه مصداق للجامع فلایلزم هذا المحذور، باعتبار إن المسافر المذکور یری نفسه موضوعاً لهذ الخطاب، والمفروض إنه فی الواقع موضوع له، غایة الأمر إنه غیر ملتفت إلی ما هو معتبرفی موضوعیّته فی الواقع کالجهل بوجوب القصر، ولکن هذا الالتفات غیردخیل فی فعلیة الخطاب علیه، إذ یکفی فی فعلیّته إعتقاده بأنه موضوع له، والفرض إن هذا الاعتقاد لیس مجرد خیال بل هو مطابق للواقع، لأن تمام خصوصیات الموضوع ومقوّماته موجودة فیه ولکنه غیر ملتفت إلیها تفصیلاً و هو غیر لازم وغیر مانع من انطباق الکبری علیه.

فالنتیجة، إن هذا الاشکال مبنی علی أن یکون الخطاب الموجّه إلی المسافرالمذکور خطاب ثانوی، فعندئذٍ لایمکن وصول هذ الخطاب وفعلیّته، ولکن قدعرفت اجمالاً إنه لیس فی المسألة خطابان:

أحدهما: خطاب أولی بالتمام.

والآخر: خطاب ثانوی به وخاص بالمسافر المذکور وسوف یأتی تفصیله، ومن هنا یظهر إن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن موضوع وجوب التمام الترتبی ترک القصر واقعاً لاعصیان أمره والالتفات إلی ترکه لایوجب انقلابه، فإذن لامانع من وصول وجوب التمام الترتبی إلیه لایرجع إلی معنی صحیح، وذلک لأن وجوب التمام الترتبی علیه إن کان بالخطاب الأولی الموجّه إلی طبیعی المکلف الجامع کفی فی وصوله إلیه العلم بالکبری واحراز الصغری، والمفروض إنه عالم بالکبری و هی جعل وجوب التمام علی طبیعی المکلف الجامع ومحرز للصغری و هی أنه مصداق لها، ولایتوقف علی احرازه ترک القصر لا بالذات ولا بوصفه

ص:97

العنوانی، حیث إنه غیر دخیل فی تطبیق الکبری علی الصغری الذی هو ملاک احراز الحکم ووصوله، و إن کان بالخطاب الثانوی الخاص بالمسافر الجاهل بوجوب القصر، لم یکف احراز ترک القصر بما هو فی وصوله، لأن وصول الحکم یتوقف علی احراز موضوعه بوصفه العنوانی ولایکفی إحراز ذاته وحده هو ترک امتثال الخطاب المترتب علیه فی الواقع لاعصیانه، هذا إضافة إلی أن الالتزام بالترتب فی هاتین المسألتین مبنی علی استحالة تخصیص وجوب القصر بالعالم به وکذلک وجوب الجهر والاخفات، فطالما یکون المکلف جاهلاً به فتکون وظیفته التمام فی المسألة الأولی و الجهر فی موضع الاخفات أو بالعکس فی المسألة الثانیة، وعندئذٍ یمکن الالتزام به لکن لابجعل الخطاب المترتب مشروطاً بعصیان الخطاب المترتب علیه بل بترک الاتیان بمتعلقه فی الواقع.

و أما إذا أمکن هذا التخصیص ثبوتاً کما سوف نشیر إلیه، فلا مانع من الالتزام به إثباتاً، لظهور الأدلة من الآیة الشریفة و الروایات فی کلتا المسألتین فی ذلک، فإذن لامناص من الأخذ بظهورها وعدم جواز رفع الید عنه.

فالنتیجة، إن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أنه لایمکن الالتزام بالترتب فی المسألتین، من جهة أنه لایعقل أن یکون الخطاب المترتب مشروطاً بعصیان الخطاب المترتب علیه غیر تام، لأن عدم إمکان الالتزام بالترتب فیهما لوکان من هذه الناحیة، فهو قابل للعلاج بجعل الشرط ترک امتثال الخطاب المترتب علیه بل من جهة إنه مخالف لظهور الأدلة فی المسألتین، و أما الثانی فلما تقدم فی ضمن البحوث السالفة من أن إمکان القول بالترتب منوط بتوفّر أمرین:

الأول: تقیید الأمر بالمهمّ بعدم الاشتغال بالأهمّ لباً علی أساس نکتة عامة و هی إن کل خطاب شرعی مقید لباً بعدم الاشتغال بضدّ واجب لایقل عنه فی

ص:98

الأهمیّة.

الثانی: إنه لایلزم من فعلیة کلا الأمرین المتعلقین بالضدّین بنحو الترتب محذور طلب الجمع بینهما ولا التمانع بین الأمرین فی الاقتضاء، فإذا توفر هذا الأمران ترتب علیه إمکان القول بالترتب، و إذا أمکن فهو واقع فلایحتاج وقوعه فی الخارج إلی دلیل، و قد تقدم الکلام فی الشرط الثانی وإنه لایلزم من فعلیة کلا الأمرین المتعلقین بالضدّین بنحو الترتب فی زمن واحد أیّ محذور، و أما الشرط الأول فقد مرّ إنه ثابت علی أساس التقیید اللبی العام، وعلی هذا فموضوع الأمربالمهم عدم الاشتغال بالأهمّ ولاتعتبر فیه خصوصیة زائدة کالعصیان ونحوه، فإن اعتبارها بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه، والدلیل العام لایتطلب أکثر من تقیید الأمر بالمهمّ بعدم الاشتغال بالأهم، وتقیید کل من الأمرین بعدم الاشتغال بالآخر إذا کانا متساویین ولا یتطلب أکثر من ذلک، نعم قد یعبر عنه بالعصیان من جهة إنه عنوان له غالباً هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری قد جاء فی تقریر بحث المحقق النائینی قدس سره(1) ، إن الترتب إنمایعقل فیما إذا کان الخطاب بالأهمّ واصلاً إلی المکلف ومتنجزاً علیه وإلا فلاموضوع له، و هذا معنی إن الأمر بالمهم مشروط بعصیان الأمر بالأهمّ، ولکن ذلک بحاجة إلی دلیل زائداً علی ما عرفت من الدلیل علی التقیید اللبّی العام ولادلیل علیه، وتظهر الثمرة بین القولین فی موارد الجهل بالأمر بالأهم کما إذا وقع التزاحم بین وجوب الصلاة ووجوب إنقاذ الغریق، ففی مثل ذلک إذا کان المکلف جاهلاً بوجود الغریق وشرع فی الصلاة، فعلی مسلک المحقق النائینی قدس سره تکون صلاته باطلة من جهة إنه لا أمر بها فی هذه الحالة لامطلقاً ولا ترتباً، أما الأول

ص:99


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 93.

فلان الأمر بالصلاة معارض بالأمر بانقاذ الغریق فیسقط من جهة المعارضة، و أما الثانی فلان المعتبر فی الترتب وصول الأمر بالأهم وتنجّزه، والمفروض إنه غیر واصل إلیه، فإذن لایمکن اثبات الأمر الترتبی بها لانتفائه بانتفاء شرطه وموضوعه، و أما بناءً علی ما ذکرناه فیحکم بصحة صلاته من جهة الأمر الترتبی، باعتبار إنه مشروط بترک الأهم واقعاً و هو انقاذ الغریق فی المثال، والمفروض إنه تارک له واقعاً و إن کان غیر ملتفت إلی ذلک، إلا أن هذا الالتفات غیر معتبر فی فعلیة الأمر بالمهم کالصلاة ووصوله إلیه، إذ یکفی فی علمه بوجوب الصلاة علیه ووصوله إلیه علمه بأن الخطاب المتعلق بها موجه إلی المکلف البالغ العاقل القادر الداخل علیه الوقت، ولا یعتبر فی علمه بوجوبها ووصوله إلیه علمه بتحقق شرطه و هو عدم الاشتغال بالأهم، لکفایة تحققه واقعاً وعلمه بأنه موضوع لوجوبها، نعم إذا علم المکلف بوجوب الأهم وعصی وترک الاتیان به وأتی بالمهم کالصلاة، صح علی کلا المسلکین فی المسألة.

فالنتیجة، إن التزاحم فی موارد الجهل بوجوب الأهمّ علی مسلک المحقق النائینی قدس سره یدخل فی باب التعارض، بینما لایدخل ذلک علی ما ذکرناه فی باب التعارض، ثم إنه علی القول باستحالة الترتب، هل یدخل باب التزاحم فی باب التعارض مطلقاً حتی فی فرض الجهل بأحد الخطابین أو لا؟

والجواب: إنه فی فرض العلم بالخطابین صغری وکبری فلا شبهة فی دخولهما فی باب التعارض، وهل الأمر کذلک فی فرض العلم بأحدهما و الجهل بالآخرأو لا؟

ففیه قولان:

الأول: إنهما یدخلان فی باب التعارض، ولافرق من هذه الناحیة بین العلم

ص:100

بکلا الخطابین معاً أو العلم بأحدهما و الجهل بالآخر، بتقریب إن ثبوت کلیهما معاً بنحو الاطلاق مستحیل، وحینئذٍ فلابد من سقوط أحدهما أو کلیهمابالمعارضة من دون فرق فی ذلک بین علم المکلف وجهله، باعتبار إن الجهل لایکون رافعاً للتکلیف فی الواقع، لأن التکلیف الواقعی مشترک بین العالم و الجاهل، ویکون المقام نظیر مسألة اجتماع الأمر و النهی علی القول بالامتناع و وحدة المجمع وتقدیم جانب الحرمة علی جانب الوجوب، فإنه علی هذا یحکم بفساد العبادة فی مورد الاجتماع بلا فرق بین العلم بالحرمة و الجهل بها، لأن المجمع محکوم بالحرمة فی الواقع و إن کان المکلف جاهلاً بها هذا.

ولکن الصحیح القول الثانی و هو عدم التعارض بینهما مع الجهل بأحدهما، والنکتة فی ذلک إن قیاس المقام بمسألة اجتماع الأمر و النهی علی القول بالامتناع قیاس مع الفارق، وذلک لأن الامتناع الموجب للتنافی بین الخطابین یختلف فی کل من المسألتین سنخاً وذاتاً عنه فی المسألة الأخری، لأن الامتناع فی مسألة الاجتماع علی أساس إن المجمع فیها واحد ذاتاً ووجوداً إنما یکون فی مرحلة سابقة علی الحکم و هی مرحلة المبادی کالمصلحة و المفسدة و الحب و البغض والارادة و الکراهة، فإن اجتماع هذه المبادی علی المجمع فی مسألة الاجتماع علی القول بالامتناع محال، ضرورة استحالة إجتماع المصلحة و المفسدة فی شیء واحد وکذا الحب و البغض والارادة و الکراهة، و هذه الاستحالة هی المنشأ لاستحالة جعل الحرمة و الوجوب فیه، باعتبار إن تلک المبادی هی حقیقة الحکم وروحه وإلاّ فلا قیمة للحکم بلا روح وملاک، ومن هنا تتبع مرحلة الجعل مرحلة المبادی وتدور مدارها ولایعقل الجعل بدونها وإلا کان جزافاً، فالنتیجة، إن المجمع فی مسألة الاجتماع علی القول بالامتناع حیث إنه واحد وجوداً وماهیة، فلا یعقل إجتماع مبادیء الوجوب و الحرمة فیه، و أما الامتناع فی المقام فلایکون

ص:101

فی مرحلة المبادی، علی أساس إن متعلق کل من الحکمین وجوداً وماهیة غیرمتعلق الحکم الآخر، فلهذا لامانع من اشتمال کل منهما علی الملاک فی المرحلة السابقة و هی مرحلة المبادی ولا مضادة بین المصلحة و المفسدة ولابین الحب و البغض ولابین الارادة و الکراهة فی هذه المرحلة فی المقام علی أساس تعدد متعلقی الحکمین فیه کما عرفت، لأن المستحیل إنما هو اجتماعهما فی شیء واحد، وبذلک یختلف المقام عن مسألة اجتماع الأمر و النهی علی القول بالامتناع، فإن ملاک الاستحالة فی تلک المسألة إنما هو فی مرحلة المبادی، و أما فی المقام فملاکها إنما هو فی مرحلة الجعل وما یستتبعه و هو تحریک المکلف نحو الامتثال، ومن الطبیعی إن تحریکه نحو امتثال الضدّین مستحیل، لأنه من تحریک العاجز و هوقبیح، و أما مع قطع النظر عن وعاء الحکم واقتضائه فلایلزم من اشتمال کل من متعلقی الحکمین علی الملاک محذور إجتماع ضدّین أو مثلین، وتمام المحذور فی هذه المسألة إنّما هو فی مرحلة جعل الحکم وما یستتبعه من تحریک المکلف ودعوته نحو الامتثال والاتیان بمتعلقه، فإن وجوب المهم یقتضی تحریکه نحو الاتیان بمتعلقه ودعوته إلیه، ووجوب الأهمّ یقتضی تحریکه نحو الاتیان بمتعلقه، ومن المعلوم إن هذا من التحریک نحو الضدّین و هو مستحیل، ولکن هل هذه الاستحالة تعمّ موارد الجهل بأحد الحکمین أو تختص بخصوص موارد العلم بهمامعاً، الظاهر هو الثانی، وذلک لأنه لاتنافی بینهما فی مرحلة المبادی کما إنه لاتنافی بینهما فی مرحلة الجعل بما هما اعتبار، وإنما التنافی بینهما فی مرحلة الامتثال، ومن الظاهر إن أحد الحکمین المتزاحمین إذا کان معلوماً و الآخر مجهولاً، کان المحرک والداعی هو الحکم المعلوم دون الحکم المجهول، لأن الحکم إذا کان واصلاً إلی المکلف ومنجزاً علیه فهو محرک له نحو الاتیان بمتعلقه ویدعوه إلیه، بینما إذا کان الحکم مجهولاً وغیر واصل إلیه، فلایکون محرکاً له نحو الاتیان بمتعلقه، وبکلمة،

ص:102

إن الغرض من جعل التکلیف هو إمکان إیجاد الداعویة و الباعثیة فی نفس المکلف وانبعاثه الاقتضائی لا الفعلی، وإلا لزم أن یکون جعله فی کثیر من الأحیان و الموارد کموارد الجهل و العصیان ونحوهما لغواً و هو کما تری، وعلی هذا فإمکان الانبعاث عن التکلیف المجهول وغیر الواصل و المنجز و إن کان موجوداً، ولکن الانبعاث الفعلی منه منوط بالوصول و العلم به هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن العقل الحاکم باشتراط التکلیف بالقدرة بملاک قبح تکلیف العاجز لایحکم إلا بامتناع تنجّز کلا التکلفین المتزاحمین معاً علی المکلف، لأن فیه إحراجاً له علی العصیان وتکلیفاً بغیر المقدور، و أما إذا کان أحدهما واصلاً إلیه ومنجّزاً کالتکلیف بالمهم و الآخر مجهولاً وغیر واصل إلیه کالتکلیف بالأهم، فلایحکم العقل بامتناع ذلک، إذ لاتنافی بینهما فی الاقتضاء، فإن التکلیف الواصل المنجّز یقتضی تحریک المکلف نحو الامتثال والاتیان بمتعلقه، بینما التکلیف غیر الواصل و المنجز لایقتضی تحریکه نحو امتثاله والاتیان بمتعلقه لکی لایمکن الجمع بینهما، وعلی ضوء هذا الضابط و هو اشتراط التکلیف بالقدرة، فالعقل إنما یحکم باستحالة تنجّز کلا التکلیفین المتزاحمین معاً علی المکلف، علی أساس إن کلاً منهما یدعوه إلی امتثاله والاتیان بمتعلقه فی الخارج، والمفروض إن المکلف غیر قادر علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال لأنه من الجمع بین الضدّین، و أما إذا کان أحدهما منجّزاً وواصلاً إلی المکلف کوجوب الصلاة مثلاً و الآخر مجهولاً وغیر واصل ومنجز کوجوب انقاذ الغریق، ففی مثل ذلک هل یحکم العقل بتقیید إطلاق وجوب الصلاة بعدم ثبوت وجوب إنقاذ الغریق أولایحکم بأکثر من تقییده بعدم وصوله وتنجّزه علیه.

والجواب: إنه لایحکم بأکثر من تقیید إطلاق وجوب الصلاة بعدم تنجّز

ص:103

وجوب الانقاذ ووصوله إلیه، والنکتة فی ذلک إن حکم العقل بذلک لایمکن أن یکون جزافاً فلا محالة یکون مبنیاً علی ضابط، و هو ما مرّ من استحالة تنجّز کلا التکلیفین المتزاحمین معاً، لأنه من التکلیف بغیر المقدور، علی أساس أن کلاًمنهما فی هذه الحالة یقتضی الاتیان بمتعلقه، و أما إذا کان أحدهما مجهولاً وغیرواصل ومنجّز کوجوب الانقاذ فلا یلزم هذا المحذور، فإنه طالما یکون مجهولاًوغیر واصل لایکون محرکاً وداعیاً نحو الاتیان بمتعلقه، فإذن لا مانع من أن یکون التکلیف الواصل المنجّز داعیاً ومحرکاً نحو امتثاله والاتیان بمتعلقه، ومن الواضح إن داعویته ومحرکیته فعلاً لاتتوقف علی عدم ثبوت التکلیف الآخر فی الواقع بل یکفی فی اتصافه بها عدم وصول التکلیف الآخر وتنجّزه، فلهذا لایحکم العقل بتقیید إطلاق داعویته ومحرکیته بعدم ثبوت التکلیف الآخر، فإنه تقیید زائد لا مبرر له ولا موجب، بل یحکم العقل بتقیید إطلاقها بعدم وصول التکلیف الآخر وتنجّزه، بلحاظ إنه بهذا التقیید یرتفع محذور الدعوة إلی الضدّین، علی أساس إن التکلیف المجهول وغیر الواصل لایدعو إلی الاتیان بمتعلقه، فإذن لامانع من دعوة التکلیف الواصل المنجّز واقتضائه.

نتیجة المحاولة الأولی

فالنتیجة، إن التکلیفین المتزاحمین إذا کان أحدهما معلوماً للمکلف وواصلاً إلیه ومنجزاً و الآخر مجهولاً له وغیر واصل ومنجز، فلا تنافی بینهما ولا تعارض لا فی مرحلة المبادی ولا فی مرحلة الاقتضاء، و هذا معنی إنه لاتعارض فی موارد التزاحم بین الحکمین مع الجهل بأحدهما، ومن هنا تختلف المسألة فی المقام عن مسألة إجتماع الأمر و النهی علی القول بالامتناع فی نقطة واحدة، و هی إن الغائلة فی مسألة الاجتماع لاترتفع إلا بتقیید أحد الحکمین بعدم ثبوت الحکم الآخرنهائیاً أی روحاً وحقیقة، باعتبار إن التضاد بینهما إنما کان فی مرحلة المبادی، بینماهی ترتفع فی هذه المسألة بتقیید أحد الحکمین بعدم وصول الحکم الآخر

ص:104

وتنجّزه، باعتبار إنه لاتضاد بینهما فی مرحلة المبادی، وإنما التضاد بینهما فی مرحلة الاقتضاء و هو یرتفع بهذا التقیید ولایتطلب أکثر من ذلک، إلی هنا قدتبیّن إن ما أورده المحقق النائینی قدس سره من الاشکالات علی الترتب فی المسألتین لایتم شیء منها فلا اشکال فیه من هذه الناحیة، نعم هنا إشکال آخر قد مرت الاشارة إلیه اجمالاً وسوف نشیر إلیه فی ضمن البحوث القادمة بعونه تعالی موسّعاً.

المحاولة الثانیة: للمحقق الخراسانی قدّس سرّه

المحاولة الثانیة: ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره(1) من أن الصلاة تماماً فی موضوع القصر مشتملة علی مصلحة ملزمة فی نفسها و إن کانت فی مرتبة دون مرتبة المصلحة القائمة بالصلاة القصریة، وحیث إنها ملزمة فی نفسها فلذلک أوجب الشارع علی المسافر الجاهل بوجوب القصر الاتیان بها تماماً بغرض استیفاء مصلحتها القائمة بها فی هذه الحالة، وبعد استیفائها لایبقی مجال لاستیفاء المصلحة الاُخری التی هی الأهمّ من المصلحة الاُولی، لوجود المضادة بین المصلحتین وعدم امکان الجمع بینهما فی الخارج، نعم فی صورة العلم بوجوب الصلاة قصراً لا مصلحة فی الصلاة تماماً ولا بعد فی ذلک، ضرورة إن الأشیاءتختلف من حیث اشتمالها علی المصلحة وعدم اشتمالها علیها باختلاف الحالات و الأزمان، فإذن لامانع من اشتمال الصلاة تماماً علی مصلحة ملزمة فی نفسهاحال جهل المکلف المسافر بوجوب القصر علیه وعدم اشتمالها علیها فی حال علمه به، ویتفرع علی ذلک عدم وجوب الاعادة ولو مع بقاء الوقت وتمکن المکلف منها لعدم مشروعیتها بعد استیفاء المصلحة المزبورة فی ضمن الصلاة تماماً، و أما استحقاق العقوبة علی ترک القصر رغم عدم وجوب إعادته لا فی الوقت ولا فی خارجه إذا کان جهله عن تقصیر، فهو إنما هو بملاک إن المصلحة

ص:105


1- (1) - کفایة الاصول ص 378 وحاشیة الفوائد ص 166.

الباقیة بما أنها ملزمة، فیستحق العقوبة علی تفویتها عن تقصیر بتفویت الصلاة القصریة، فإذن لاتنافی بین صحة الصلاة تماماً فی موضع القصر وعدم وجوب الاعادة حتی فی الوقت، وبین استحقاق العقوبة علی ترک الصلاة قصراً وکذلک الحال فی مسألة الجهر والاخفات حرفاً بحرف هذا.

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه

و قد عُلق علی هذه المحاولة بما یلی:

الأول: إن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره(1) من أن فرض التضاد بین المصلحتین مع عدم التضاد بین الفعلین هما الصلاة تماماً و الصلاة قصراً أمر یشبه الخیال، لأن التضاد إنما هو بین الأفعال الخارجیة کالحرکة و السکون و القیام و القعود و السواد و البیاض و الصلاة والازالة وصلاة الفریضة وصلاة الآیات وغیرهما فی زمن واحد، فإنه لایمکن الجمع بینهما خارجاً، و أما إذا لم یکن تضاد بین الأفعال الخارجیة فلایتصور التضاد بین ما یترتب علیها من الآثار کالمصالح ونحوها، والمفروض فی المقام إنه لامضادة بین الصلاة تماماً و الصلاة قصراً، فإن المسافر الجاهل بوجوب القصر إذا أتی بالتمام ثم ارتفع جهله فی أثناء الوقت وعلم بأن الواجب علیه کان هو الصلاة قصراً، فإنه متمکن من الاتیان بها فی الوقت، فمع تمکنه من الاتیان بکلتا الصلاتین معاً فی الوقت کیف یتصور التضاد بین ما یترتب علیهما من المصلحة.

التخریج القنّی لما أفاده السید الأستاذ قدّس سرّه

و هذا الذی أفاده السید الاُستاذ قدس سره متین جداً، والتخریج الفنّی له هو أن نسبة المصلحة إلی الفعل المأمور به کالصلاة ونحوها نسبة الأثر إلی المؤثر و المسبّب إلی السبب و المعلول إلی العلة، ومن الواضح إن القدرة لاتتعلق بالمسبّب مباشرة، لأن القدرة علیه إنما هی من جهة القدرة علی السبب کذلک، فإذا کان الشخص

ص:106


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 179 و مصباح الاصول ج 2 ص 507.

قادراً علی السبب کان قادراً علی المسبّب أیضاً ولا یعقل التفکیک بینهما بأن یکون قادراً علی السبب دون المسبب، لأنه خلف فرض السببیّة بینهما، وعلی هذا فإذا کان المکلف قادراً علی الصلاة تماماً فی ظرف کونه جاهلاً بوجوب القصر وأتی بها ثم بعد ذلک ارتفع جهله عنه وعلم بوجوبه فی آخر الوقت، کان قادراً علی الصلاة قصراً أیضاً فی الوقت ومع قدرته علی کلتا الصلاتین مباشرة، فإنه قادر علی تحصیل المصلحة المترتبة علیهما بالواسطة، ففرض عدم قدرته علی تحصیلها خلف فرض کونها مسببة عنهما، فإذن لایعقل فرض وجود المضادة بین المصلحتین القائمتین بهما مع عدم وجود المضادة بینهما خارجاً. فالنتیجة، إن ما ذکره قدس سره من المضادة بینهما فی الخارج مع عدم وجود المضادة بین سببیهما فیه وهما الصلاة القصریّة و الصلاة التمامیة فی نفسه غیر معقول.

إشکال بعض المحققین قدّس سرّه علیه

و قد علق علی هذا الأشکال بعض المحققین قدس سره(1) بتقریب إن وقوع التضاد بین المصالح و الآثار المترتبة علی الأفعال الخارجیة الاعتیادیة فی حیاتنا الیومیة أمرشایع مع عدم التضاد بین نفس الأفعال الخارجیّة، مثلاً إذا حصل الاشباع من الطعام غیر اللذیذ استحال حصوله من الطعام اللذیذ و إذا حصل الارتواء من الشراب غیر اللذیذ فات إمکان حصوله من الشراب اللذیذ وهکذا رغم عدم المضادة بین أسبابها، فلیکن الأمر فی المقام أیضاً کذلک هذا.

المناقشة فی الإشکال

ویمکن المناقشة فی هذا التعلیق بإبداء الفرق بین المصالح و الآثار المترتبة علی الأفعال الخارجیّة الاعتیادیة و المصالح و الآثار المترتبة علی العبادات الشرعیة، وذلک لأن علاقة الانسان بالأولی علاقة مادیة، فلذلک تتفق کثیراً المضادة بین استیفائها والاشباع منها، و أما علاقة الانسان بالثانیة علاقة روحیة معنویة،

ص:107


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 5 ص 421.

علی أساس أن العبادات الشرعیة علاقة معنویة بین العبد وربه ولا تتأثر بتأثر الحیاة العامة ولا بتطورها، لانها نظام ثابت أبدی بین الانسان وخالقه و العبدوربّه ولایعقل التغیّر و التطور فیه، ضرورة أن العبادات بنفس الصیغة التی جاءت فی الکتاب و السنة ثابتة فی جمیع القرون بلا فرق بین القرون الاُولی و القرون المتحضّرة کعصر الذرة و الفضاء، فالانسان الذی یحرک الأشیاء بقوة الید کما یصلّی ویصوم ویحج کذلک الانسان الذی یحرک الأشیاء بقوة الذرة یصلی ویصوم ویحجّ، وعلی ضوء هذا الأساس فالمصالح و الآثار المترتبة علیها بما أنها مصالح وآثار معنویة تقوی علاقة الانسان بربّه وخالقه وتؤدی إلی نموّها فلایعقل التضاد بینها، ومن هنا یکون قیاسها بالمصالح و الآثار المادیة المترتبة علی الأفعال الخارجیة الاعتیادیة فی حیاتنا قیاس مع الفارق وفی غیر محله، هذا اضافة إلی أنه لاطریق لنا إلی تلک المصالح و الآثار ولانعرف سنخها حتی نحکم بوجود المضادة بین استیتفائها، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن موضوع وجوب التمام علی القول بالترتب ترک الصلاة القصریة، وحینئذٍ تسأل هل إن موضوعه ترکها فی تمام الوقت أو یکفی ترکها فی أول الوقت؟

والجواب: إنه لایمکن الالتزام بشیء من الأمرین:

أما الأمر الأول: فلان لازمه وجوب إعادة الصلاة قصراً فی الوقت إذا انکشف الخلاف فیه وعلم بوجوب القصر علیه وعدم صحة ما أتی به من الصلاة تماماً فی أول الوقت، و هذا خلاف النص فی المسألة.

و أما الأمر الثانی: فلان لازمه تعدد الواجب علیه فی الوقت، فإن الواجب فی أول الوقت الصلاة تماماً وبعد انکشاف الخلاف و العلم بوجوب القصر

ص:108

فالواجب الصلاة قصراً، و هذا خلاف الضرورة، لوضوح أن الواجب فی کل یوم ولیلة بمقتضی الکتاب و السنة خمس صلوات فقط لا أکثر.

و قد علق علیه بعض المحققین قدس سره(1) بتقریب إن وجوب التمام علی المسافر الجاهل بوجوب القصر مشروط بفوات ملاک القصر بنحو الشرط المتأخر، وفوته قد یکون بترکه فی تمام الوقت و قد یکون بإتیان التمام فی أول الوقت، فإنه مع استیفاء الملاک من التمام لایمکن استیفائه من القصر لمکان المضادة بینهما هذا.

ویمکن المناقشة فیه أولاً: إنه مبنی علی إمکان الشرط المتأخر، و قد حققنا فی محله إنه مستحیل فی مرحلة المبادی.

وثانیاً: إن کون فوت ملاک القصر شرطاً لوجوب التمام، مبنی علی عدم إمکان استیفاء ملاک القصر بعد استیفاء ملاک التمام لمکان المضادة بینهما، و قد مرّإن هذا المبنی غیر صحیح.

التعلیق الثانی علی المحاولة الثانیة

الثانی (2): أیضاً أفاده قدس سره من أن المصلحتین المفروضتین لاتخلوان من أن تکونا ارتباطیتین أو استقلالیتین ولا ثالث لهما، فعلی الأول لایمکن تحصیل المصلحة القائمة بالصلاة تماماً، لفرض أنها مرتبطة بالمصلحة القائمة بالصلاة قصراً، ولایمکن حصول الاُولی بدون الثانیة، ونتیجة ذلک إن الصلاة تماماً باطلة بدون الاتیان بالصلاة قصراً، لأن صحّتها منوطة بترتب مصلحتها علیها، والفرض إنها لاتترتب بدون الاتیان بها أیضاً لمکان ارتباطیة مصلحتها بمصلحتها ثبوتاً وسقوطاً، ولازم ذلک أن الواجب مجموع الصلاتین فی هذه الحالة و هو کما تری.

ص:109


1- (1) - المصدر السابق ص 428.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 180 و مصباح الاصول ج 2 ص 507.

وعلی الثانی یلزم تعدّد الواجب فی الواقع، فإن الصلاة تماماً بلحاظ اشتمالها علی مصلحة ملزمة فی نفسها واجبة علی المسافر الجاهل بوجوب القصر، والصلاة قصراً بلحاظ اشتمالها علی مصلحة ملزمة فی نفسها واجبة علیه أیضاً فی هذه الحالة و هذا خلاف الضرورة، لأن الثابت بالکتاب و السنة هو أن الواجب علی کل مکلف فی کل یوم ولیلة خمس صلوات من طلوع الفجر إلی غسق اللیل، مع أن لازم ذلک هو أن الواجب علی المسافر الجاهل بوجوب القصر فی کل یوم ست صلوات و هو کما تری، وبذلک یظهر حال مسألة الجهر والاخفات أیضاً، فإن جمیع ما ذکرناه فی مسألة القصر و التمام یجری فی مسألة الجهر والاخفات بدون أدنی فرق بینهما هذا.

قد یناقش فیه، بأن الکتاب و السنة و إن کانا یدلان علی ذلک، إلاّ إن دلالتهما علیه إنما تکون بعنوان أولی، ولا مانع من تعدد الحکم بعنوان ثانوی، وحیث إن وجوب الصلاتین التمام و القصر علی المسافر فی وقت واحد إنما یکون بعنوان ثانوی و هو کونه جاهلاً بوجوب القصر فلایکون منافیاً لهما، وعلی هذا فیمکن دفع الاشکال بذلک.

وغیر خفی، إن هذه المناقشة مبنیة علی أن یکون وجوب التمام علی المسافر الجاهل بوجوب القصر فی الشریعة المقدسة بخطاب ثانوی خاص به فی مقابل الخطاب الأولی العام الذی یکون مفاده وجوب التمام واقعاً علی الحاضر فی مقابل المسافر، و هذا المبنی و إن کان یظهر اختیاره من کلمات جماعة إلاّ أنه غیرصحیح، و إن وجوب التمام علیه إنما هو بالخطاب الأولی العام لا بخطاب ثانوی خاص وسوف نشیر إلی تفصیل ذلک.

ص:110

التعلیق الثالث علیه للمحقق الأصبهانی

الثالث: ما أفاده المحقق الأصبهانی قدس سره(1) من أن هذه المحاولة لاتنسجم مع مابنی قدس سره علیه فی مبحث الأجزاء من جواز تبدیل الامتثال بالامتثال، معلّلاً بأن الامتثال لیس إلاّ مقدمة إعدادیة لترتب الملاک علیه لا أنه علة تامة له وإلا لم یبق مجال للامتثال الثانی، وعلی هذا فلا مانع من تطبیق هذه الکبری علی المقام بأن یقوم بإعادة الصلاة قصراً بعد التمام من باب تبدیل الامتثال بالامتثال الآخر، فالنتیجة إن مقتضی ما ذکره قدس سره هناک من صحة تبدیل الامتثال بالامتثال جواز إعادة الصلاة قصراً بعد الاتیان بالتمام، فما أفاده قدس سره من عدم جواز ذلک هنا منافی لما ذکره قدس سره هناک.

وفیه، إن المقام یختلف عن مسألة تبدیل الامتثال بالامتثال، إذ فی المقام قد فرض قدس سره وجود مصلحتین ملزمتین إحداهما قائمة بالجامع بین القصر و التمام والاُخری بخصوص القصر، و أما هناک فمصلحة واحدة، وحیث إن الامتثال مقدمة إعدادیة بالنسبة إلیها، فلا مانع من تبدیله امتثال آخر أفضل لیختار اللَّه احبّهما إلیه کتبدیل الصلاة فرادی بالصلاة جماعة، و أما فی المقام فلایمکن ذلک، لأنه إذا أتی بالتمام بطل دور القصر، ویستحیل حینئذٍ أن یکون مقدمة إعدادیة لترتب مصلحته ومقتضی له، لاستحالة ثبوت المقتضیین معاً للضدّین کذلک کاستحالة اجتماعهما علی أساس أن مقتضی المحال محال.

فالنتیجة، إن ماذکره المحقق الخراسانی قدس سره من المحاولة لایرجع إلی معنی معقول.

المحاولة الثالثة: ما ذکره السید الأستاذ قدّس سرّه

المحاولة الثالثة: ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره(2) وملخّصها:» إنه لامانع من الالتزام بالترتب فی مرحلة الجعل، بأن یکون وجوب التمام مجعولاً فی الشریعة

ص:111


1- (1) - نهایة الدرایة ج 4 ص 432.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 164.

المقدسة علی المسافر الجاهل بوجوب القصر مشروطاً بعدم الاشتغال به فی هذه الحالة وبالعکس فی مورد واحد، و هو ما إذا نوی المسافر إقامة عشرة أیام فی بلد وکان جاهلاً بأن الواجب علیه حینئذٍ الصلاة تماماً وکذلک الحال فی مسألة الجهروالاخفات، ثم قال قدس سره: إن الترتب فی المقام یمتاز عن الترتب فی مرحلة الامتثال بأمرین:

الأول: إن الترتب فی مرحلة الجعل بحاجة إلی دلیل دون الترتب فی مرحلة الامتثال، فإن إمکانه یکفی لوقوعه.

الثانی: إن اشتراط الخطاب المترتب فی مرحلة الجعل بعدم الاشتغال، بمتعلق الخطاب المترتب علیه إنما هو فی حال جهل المکلف به لا مطلقاً، بینما یکون اشتراط الخطاب المترتب فی مرحلة الامتثال بعدم الاشتغال بمتعلق الخطاب المترتب علیه مختص بحال علم المکلف به لا مطلقاً.

تعلیق علی هذه المحاولة بأمرین:

لنا تعلیق علی هذه المحاولة بأمرین:

الأمر الأول:

إن معنی الترتب فی مرحلة الجعل هو أن الشارع جعل حکماً فی هذه المرحلة مشروطاً بعدم الاتیان بمتعلق حکم آخر فی حال جهل المکلف به، ولازم ذلک هو أن الترتب فی مرحلة الجعل یکون بین حکمین لاتنافی ولاتعارض بینهما، وذلک لما أشرنا إلیه سابقاً من أن حکمین یکون أحدهما مجهولاً وغیر واصل إلی المکلف و الآخر معلوماً وواصلاً إلیه لاتنافی بینهما، لأن الحکم المجهول بوجوده الواقعی لایصلح أن یکون معارضاً للحکم المعلوم الواصل لابنفسه ولا باقتضائه، أما الأول فلأنه مجرّد اعتبار و هو بحدّه الاعتباری یشمل موارد العجز التی لایحکم العقل بوجوب الطاعة فیها، و أما الثانی فلأنه حیث کان مجهولاً فلایقتضی تحریک المکلف نحو الاتیان بمتعلقه حتی

ص:112

یکون مزاحماً للحکم الآخر الواصل المحرک له نحو الاتیان بمتعلقه.

فالنتیجة، إن الترتب فی مرحلة الجعل إنما هو بین حکمین لاتعارض ولا تنافی بینهما لا فی مرحلة المبادی ولا فی مرحلة الاقتضاء، بینما یکون الترتب فی مرحلة الامتثال بین حکمین متعلقین بالضدّین الواصلین إلی المکلف المتزاحمین فی هذه المرحلة، وبکلمة واضحة إن الترتب فی مقام الجعل یمتاز عن الترتب فی مقام الامتثال بعدة نقاط:

الاُولی: إن الترتب فی مقام الجعل کما عرفت إنما هو بین حکمین لا تنافی ولاتعارض بینهما، بینما یکون الترتب فی مقام الامتثال إنما هو بین حکمین متزاحمین فعلاً.

الثانیة: إنه یکفی فی وقوع الترتب فی مقام الجعل أن یکون إشتراط أحد الحکمین بعدم الاشتغال بمتعلق الحکم الآخر المجهول وارداً فی لسان الدلیل فلایحتاج إلی مؤنة زائدة، بینما لایکفی ذلک فی إمکان الترتب فی مقام الامتثال، لأنه زائداً علی هذا بحاجة إلی مؤنة اخری و هی اثبات أنه لایلزم من فعلیة کلا الأمرین فی زمن واحد محذور طلب الضدّین ولا التمانع بین الأمرین، ومن هنا قلنا إن الترتب فی هذا المقام یتوقف علی توفر أمرین:

الأول: التقیید اللبّی العام.

الثانی: إنه لایلزم من فعلیة الأمرین المتعلقین بالضدّین فی زمن واحد محذورطلبهما معاً ولا التمانع بینهما، فإذا توفر هذا الأمران فعندئذٍ لابد من الالتزام بالترتب.

الثالثة: إن مرد الترتب إمکاناً واستحالة فی مرحلة الامتثال إلی امکان توجه

ص:113

الخطابین الفعلیین المترتبین إلی المکلف فی زمن واحد وعدم إمکان ذلک، فعلی الأول امکن توجه الخطابین المذکورین إلیه، وعلی الثانی لایمکن ذلک، وعلی هذا فاطلاق خطاب المهم مقیّد لباً بعدم الاشتغال بالأهمّ إذا کان واصلاً ومنجزاً علی کلا القولین فی المسألة هما القول بإمکان الترتب و القول باستحالته، و أما إذا لم یکن خطاب الأهم واصلاً ومنجزاً بأن یکون مجهولاً، فلا موجب لتقیید اطلاق خطاب المهمّ بذلک بلا فرق فیه بین القول بإمکان الترتب و القول باستحالته، وعلی کلا القولین لاتنافی حینئذٍ بین الخطابین المهم و الأهمّ، غایة الأمر علی القول بإمکان الترتب لا مزاحمة بینهما، وعلی القول باستحالته لامعارضة بینهما و الجامع إنه لا تنافی بین الحکمین، لأن التنافی بینهما إما فی مرحلة المبادی أو فی مرحلة الاقتضاء والامتثال ولا تنافی بینهما فی المقام فی کلتا المرحلتین، أما فی الاُولی فلأن الحکمین مختلفین فی المتعلق ذاتاً ووجوداً، وعلیه فلا مانع من اشتمال کل من متعلقیهما فی مرحلة المبادی علی مصلحة ملزمة فی نفسها ولایلزم منه اجتماع المثلین، کما إنه لا مانع من تعلق الارادة و الحب بهما فی هذه المرحلة بل لا مانع من تعلق الارادة بأحدهما و الکراهة بالآخر و الحب بأحدهما و البغض بالآخر وهکذا، فإنه لایلزم من ذلک اجتماع الضدّین، و هذا معنی إنه لاتنافی بینهما فی مرحلة المبادی.

و أما فی الثانیة فقد مرّ أن الحکم المجعول حیث إنه غیر واصل إلی المکلف فلایکون محرکاً له نحو الاتیان بمتعلقه، فإذن لا مانع من اقتضاء الحکم الواصل و المنجّز للاتیان بمتعلقه، و إن شئت قلت: إن اعتبار القدرة فی صحة التکلیف سواءً أکان بحکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز أو باقتضاء نفس الخطاب، فلا یتطلب إلا تقیید

ص:114

إطلاق الأمر بالمهمّ بعدم الاشتغال بالأهمّ إذا کان کلاهما واصلین إلی المکلف، و أما إذا کان الأمر بالأهمّ غیر واصل إلیه، فلا یتطلب تقیید اطلاق الأمر بالمهم بعدم الاشتغال به، إذ لایلزم من بقاء إطلاقه طلب الجمع بین الضدّین، باعتبار أن الأمر بالأهمّ لمکان عدم وصوله لایقتضی الاتیان بمتعلقه حتی یلزم المحذور المذکور، فلهذا لا یکون هناک مانع من اطلاق خطاب المهمّ، و هذا معنی إنه لاتنافی بینهما فی مرحلة الاقتضاء أیضاً.

فالنتیجة، إن کل خطاب شرعی مقیّد لباً بعدم الاشتغال بضدّ واجب منجّزلایقل عنه فی الأهمیة ولایکون مقیداً لباً بعدم الاشتغال بضدّ واجب مطلقاً و إن لم یکن واصلاً ومنجزاً.

و أما الترتب فی مرحلة الجعل فهو منوط بأن یکون المأخوذ فی موضوع الحکم المترتب عدم الاشتغال بمتعلق الحکم المترتب علیه شریطة أن یکون المکلف جاهلاً به.

الرابعة: ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن وقوع الترتب فی مرحلة الجعل بحاجة إلی دلیل، و أما وقوعه فی مرحلة الامتثال فلایحتاج إلی دلیل إذ یکفی فی وقوعه إمکانه.

الخامسة: إن الترتب إذا کان فی مرحلة الامتثال فالمعتبر فیه أن یکون التضادبین الواجبین المتزاحمین اتفاقیاً ناشئاً من عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی هذه المرحلة، بینما لایعتبر ذلک فی الترتب فی مرحلة الجعل، فإنه ممکن بین الخطابین سواءً أکان بین متعلقیهما تضاد أم لا، وعلی الأول لا فرق بین أن یکون التضاد بینهما دائمیاً أو اتفاقیاً، و إذا کان دائمیاً فلابد أن یکون بینهما ثالث وإلاّ فلایعقل الترتب بینهما، ومن هنا یکون جعل الخطابین المترتبین فی الشرع قد یکون بملاک التضاد بین متعلقیهما و قد یکون بملاک آخر، لحد الآن قد تبین إن الفرق بین الترتب فی مرحلة الجعل و الترتب فی مرحلة الامتثال یکون من عدة نقاط لا من

ص:115

نقطتین کما ذکره السید الاُستاذ قدس سره، هذا کله بحسب مقام الثبوت و التصور بلافرق فی ذلک بین مسألة القصر و التمام ومسألة الجهر والاخفات.

الأمر الثانی:

إن أدلة المسألتین هل تدل علی أن وجوب التمام فی المسألة الاُولی ووجوب الجهر أو الاخفات فی المسألة الثانیة یکون من باب الترتب وأنه مشروط بترک الاتیان بالآخر لدی الجهل بوجوبه.

والجواب: إنها لا تدل علی ذلک، لأن الروایات الواردة فی المقام ناصّة فی أن التمام واجب علی المسافر الجاهل بوجوب القصر فی الشبهات الحکمیة أی من لم تقرأ علیه آیة التقصیر وکذلک الجهر، فإنه واجب علی الجاهل بوجوب الاخفات فی الصلوات الاخفاتیة وبالعکس، و أما کون هذا الوجوب مشروطاً بعدم الاتیان بصلاة القصر أو صلاة الاخفات فهذه الروایات لاتدل علیه، لأن الظاهر منها أن الجهل بوجوب القصر تمام الموضوع لوجوب التمام وکذلک الجهل بوجوب الاخفات وبالعکس، وعلی هذا فالتمام إما أنه واجب تعییناً أو تخییراً فکلاهما محتمل، فعلی الأول یکون الواجب التمام بحدّه وعنوانه، وعلی الثانی یکون الواجب الجامع بینه وبین القصر، و أما أن وجوبه وجوب ترتبی ومشروط فهو لایستفاد منها بل لایمکن الالتزام بالترتب فی کلتا المسألتین، وذلک لأن موضوع وجوب صلاة التمام علی هذا القول ترک صلاة القصر واقعاًو هو لایصلح أن یکون موضوعاً لوجوبها، وذلک لأنه إن کان ترکها فی تمام الوقت، فیلزم حینئذٍ وجوب إعادتها قصراً إذا انکشف الحال فی الوقت وعلم المسافر بوجوبها علیه و إن کان آتیاً بالصلاة تماماً فی أول الوقت، لفرض أن وجوبها مترتب علی ترکها قصراً فی تمام الوقت، و أما إذا لم یستمر إلی نهایة الوقت فیکشف عن عدم وجوبها من الأول فلهذا تقع فاسدة، و إن کان ترکها

ص:116

ولو فی جزء من الوقت، فیلزم حینئذٍ تعدّد الواجب فی وقت واحد، فإنه طالمایکون جاهلاً بوجوب القصر فوظیفته التمام واقعاً، و إذا انکشف له الحال فی الوقت وعلم بوجوب القصر علیه فوظیفته الصلاة قصراً، و هذا معنی تعدد الواجب علیه بین المبدء و المنتهی و هو القصر و التمام معاً، ومن الواضح إنه لایمکن الالتزام بذلک لأنه خلاف الضرورة من الشرع، لأن الواجب فی الشرع کل یوم بین المبدء و المنتهی صلاة واحدة إما التمام أو القصر، لحد الآن قد تبیّن إن روایات الباب لاتدل علی أن وجوب التمام علی المسافر الجاهل بوجوب القصر یکون من باب الترتب وکذلک الحال بالنسبة إلی وجوب الجهر والاخفات هذا.

التحقیق فی المقام

والتحقیق فی المقام أن یقال، إن الواجب علی المسافر الجاهل بوجوب القصرالصلاة تماماً إما تعییناً أو تخییراً، علی أساس إنه لا مانع من الالتزام بجعل هذه الروایات التی عمدتها صحیحة زرارة ومحمد بن مسلم(1) مخصصة لاطلاق أدلة وجوب القصر علی المسافر بالمسافر العالم بوجوبها، وذلک لأنه یتوقف علی تمامیة أمرین:

الأول: إمکان أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفسه.

الثانی: وجود الدلیل علی وقوع ذلک.

أما الأمر الأول فالمعروف و المشهور بین الأصحاب استحالة ذلک لاستلزامه الدور وتقدم الشیء علی نفسه، بتقریب إن العلم بالحکم یتوقف علی ثبوت الحکم فی المرتبة السابقة من باب توقف العلم علی المعلوم، فلوکان ذلک العلم مأخوذاً فی موضوعه لکان الحکم متوقفاً علی ثبوته من باب توقف الحکم علی

ص:117


1- (1) - (الوسائل ج 8 ص 506 ب 17 من أبواب صلاة المسافر ح 4.

ثبوت موضوعه، فیلزم حینئذٍ توقف الشیء علی نفسه.

والجواب: إن أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفسه تارة یکون بلحاظ مرتبة واحدة واُخری یکون بلحاظ مرتبتین.

و أما إذا کان بلحاظ مرتبة واحدة، فهو لایمکن لمحذور الدور کما تقدّم، و أما إذا کان بلحاظ مرتبتین فهو بمکان من الامکان ولایلزم منه محذور الدور کما إذا أخذ العلم بالحکم فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول و هی مرتبة الفعلیة، وذلک لأن ما یتوقف علی العلم غیر ما هو متوقف علی العلم، لأن العلم متوقف علی الحکم فی مرتبة الجعل من باب توقف العرض علی معروضه، والحکم فی مرتبة الفعلیة متوقف علی العلم من باب توقف الحکم علی موضوعه فی الخارج، وعلی هذا ففی کلتا المسألتین لا مانع ثبوتاً من أخذ العلم بالحکم فی مرتبة فی موضوع نفسه فی مرتبة اخری، أما فی مسألة القصر و التمام فلا مانع من أن یأخذ العلم بوجوب القصر فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول و هی مرتبة فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه یعنی مرتبة فعلیة فاعلیته، ومعنی ذلک إن العلم بوجوب القصر فی الشریعة المقدسة موضوع لفعلیة فاعلیته فی الخارج ولا مانع من ذلک ثبوتاً ولا یستلزم محذور الدور، لأن العلم بوجوب القصرمتوقف علی ثبوته فی مرتبة الجعل من باب توقف العرض علی معروضه و الحکم فی مرتبة الفعلیة الذی هو بمعنی فعلیة فاعلیته، متوقف علی العلم من باب توقف الحکم علی موضوعه فإذن لا دور.

ونتیجة ذلک اختصاص وجوب الصلاة القصریة بالمسافر العالم بوجوبها فی الشریعة المقدسة لامطلق المسافر، وحینئذٍ فإذا علم بوجوبها فیها وقرأت علیه آیة التقصیر کان فعلیاً فی حقه أی فاعلیته، و أما المسافر الجاهل بوجوب القصر

ص:118

فی الشریعة فهو باق تحت إطلاقات أدلة وجوب التمام.

ونظیر المقام ما ورد من الاستثناء لجماعة من المسافرین عن إطلاق دلیل وجوب القصر، منهم من یکون شغله السفر أو فی السفر ومنهم من یکون سفره معصیة أو کان للصید لهواً، فإن هؤلاء المسافرین الممیزین وظیفتهم الصلاة تماماً فی السفر هذا لا کلام فیه، وإنما الکلام فی أنهم باقون تحت إطلاق أدلة وجوب التمام و إن المستثنی منه حصة خاصة من المسافر و هی الذی لاینطبق علیه أحد هذه العناوین الخاصة الممیزة أو إن التمام واجب علیهم بوجوب جدید بعنوان ثانوی فیه وجهان:

الظاهر هو الوجه الأول، وذلک لأن لسان الروایات فی مقام الاثبات تقیید اطلاق أدلة وجوب القصر بغیر هؤلاء المسافرین الممیّزین، و هذا التقیید فی المقام یکشف عن التقیید فی مقام الثبوت و الواقع من بدایة التشریع وإلا کان لغواً وجزافاً، ولازم هذا التقیید فی مقام الثبوت هو خروج خصوص المسافر الذی لایکون معنوناً بأحد العناوین المذکورة عن اطلاق أدلة وجوب التمام، والوجه فی ذلک إن مقتضی إطلاق أدلة وجوب التمام هو وجوبه علی کل مکلف بتمام أنواعه وأشکاله کالمسافر و الحاضر ونحوهما، ولکن أدلة وجوب القصر تدل علی استثناء صنف خاص من المکلف عنه و هو المسافر فإن وظیفته القصر فی السفر، و هذا المسافر أیضاً لایبقی علی اطلاقه بل قید بالمسافر الذی لایکون مصداقاً لأحد العناوین المتقدمة الممیّزة، و أما المعنون به فهو داخل فی موضوع وجوب التمام ویکون من أفراده، باعتبار أن موضوعه طبیعی المکلف الجامع بین تمام أصنافه و المستثنی منه خصوص حصة خاصة من المسافر، و هذا الاستثناءلایوجب إلا تقییده بأن لایکون المکلف مسافراً بهذا السفر الخاص الذی

ص:119

لاینطبق علیه شیء من الممیزات المتقدمة، و أما سائر أصناف المسافر فهی داخلة فیه.

وبکلمة، إن هذه الروایات و إن کانت متأخرة زمناً عن أدلة وجوب القصرعلی المسافر، إلا أنها تکشف عن تقیید موضوع وجوب القصر بالمسافر الخاص من الأول، وتدل علی أن وجوب القصر مجعول فی الشریعة المقدسة من الابتداء علیه خاصة لا علی الجامع بینه وبین سائر أصنافه، وتدل علی أنه المستثنی من موضوع أدلة وجوب التمام فی الواقع لامطلق المسافر، غایة الأمر إن الکاشف عن ذلک یکون متأخراً کما هو الحال فی جمیع موارد العام و الخاص و المطلق و المقید و الحاکم و المحکوم وهکذا، مثلاً إذا ورد فی الدلیل أکرم العلماء ثم ورد لاتکرم الفساق منهم، وفی نفس الوقت ورد علی الدلیل الخاص تقییدات واستثناءات منها أن لایکون العالم الفاسق هاشمیاً وإلا وجب إکرامه، ومنها أن لایکون العالم الفاسق فقیهاً وهکذا.

ومن الواضح إن هذه الاستثناءات تدل علی أن الخارج من موضوع وجوب الاکرام حصة خاصة من العالم الفاسق و هی الذی لایکون معنوناً بأحد هذه العناوین الخاصة الممیّزة، ولا تدل علی أن العالم الفاسق إذا کان هاشمیاً أو فقیهاً محکوم بوجوب الاکرام من جدید وبخطاب خاص، ضرورة أنها فی مقام تحدید موضوع الخاص فی الواقع وبیان إنه الخارج عن موضوع العام واقعاً، و أما الحکم فلاشک فی ثبوته بعد ثبوت الموضوع فیه و المقام من هذا القبیل.

وعلی ضوء هذا البیان یظهر حال مسألة القصر و التمام و الجهر والاخفات، أمّا ثبوتاً فقد تقدم إنه لامانع من أخذ العلم بوجوب القصر فی مرتبة فی موضوع نفسه فی مرتبة اخری، وکذلک العلم بوجوب الصلاة الجهریة فی مرتبة فی

ص:120

موضوع نفسه فی مرتبة اخری وهکذا.

و أما اثباتاً فلأن أدلة کلتا المسألتین لاتکون قاصرة عن إثبات ذلک، اما نصوص المسألة الاُولی التی عمدتها صحیحة زرارة ومحمد بن مسلم فهی تصلح أن تکون مقیّدة لاطلاق أدلة وجوب القصر بالمسافر الذی لایکون جاهلاً بوجوبه فی الشریعة المقدسة، ومعنی ذلک أن وجوب القصر فعلی بفاعلیته ومحرکیته للمسافر الذی کان یعلم بوجوبه علیه فی الشریعة المقدسة، و أما المسافر الجاهل بوجوبه فیها فوظیفته التمام، بمعنی إنه باق تحت اطلاق أدلة وجوب التمام، لأن هذه الروایات فی مقام تحدید موضوع وجوب القصر فی الواقع ومقام الثبوت وبیان أنه خصوص المسافر العالم بوجوبه فی الشرع و الخارج من موضوع وجوب التمام دون المسافر الجاهل به، باعتبار أنها تکشف ثبوتاً عن أن الخارج عن إطلاق أدلة وجوب التمام من الأول کان خصوص المسافر العالم بوجوب القصر لامطلقاً، فالنتیجة إن تخصیص وجوب الصلاة قصراً بالمسافر الذی قرئت علیه آیة التقصیر وعلم بوجوبها فی الشریعة المقدسة ثبوتاً بمکان من الامکان ولا محذور فیه، و أما إثباتاً فالأدلة غیر قاصرة عن الدلالة علی ذلک، فإن قوله علیه السلام فی صحیحة زرارة ومحمد بن مسلم: «إن کان قرأت علیه آیة التقصیر وفسرت له فصلَّی أربعاً أعاد، و إن لم یکن قرأت علیه ولم یعلمها، فلا إعادة علیه» یدل بمقطعه الأول بوضوح علی أن وجوب التقصیر علی المسافر مشروط بأن قرأت علیه آیة التقصیر وفسرت له التی هی کنایة بلیغة عن علمه بوجوب القصر فی الشریعة المقدسة، وبمقطعه الثانی علی أن المسافر إذا کان جاهلاً بوجوب القصر فی الشرع وکان یعتقد بوجوب التمام علیه فوظیفته التمام، ویدل علی ذلک عدم وجوب الاعادة إذا علم بأن الواجب علیه القصر، لوضوح إنه لولم یکن التمام واجباً علیه واقعاً فی هذه الحال وکان

ص:121

الواجب علیه فی الواقع هو القصر، وجبت الاعادة عند انکشاف الخلاف، لفرض إنه لم یأت بالصلاة المأمور بها وما أتی به لیس مصداقاً لها، فإذن نفی الاعادة دلیل علی أن وظیفته الصلاة تماماً واقعاً فی حال الجهل بوجوب القصر، وحینئذٍ فإذا ارتفع الجهل عنه وعلم بوجوب القصر علیه انقلب الموضوع، فإذن یکون ذلک من باب الانقلاب لامن باب کشف الخلاف.

و أما نصوص المسألة الثانیة و هی مسألة الجهر والاخفات فهی أیضاً لاتقصّرعن الدلالة علی أن وجوب الصلاة الجهریة أو الاخفاتیة علی المکلف مشروط بالعلم بوجوبها فی الشریعة المقدسة ولا مانع من الالتزام بذلک ثبوتاً وإثباتاً بنفس ما تقدّم فی المسألة الاُولی، نعم تختلف هذه المسألة عن المسألة المتقدمة فی الناسی، فإنه کالجاهل فی هذه المسألة دون المسألة الاُولی، و إن شئت قلت: إن المتحصّل من الجمیع هو أن المکلف إذا سافر فطالما یکون جاهلاً بوجوب القصرفی الشریعة المقدسة، فوظیفته التمام واقعاً بمقتضی الاطلاقات الأولیة، و إذا علم بالحال وانکشف له أن الواجب هو القصر خرج عن موضوع العام ودخل فی موضوع الخاص و هو ما دلّ علی وجوب القصر علی المسافر العالم به، وعلی هذا فإذا أتی المسافر بالتمام فی أول الوقت ثم علم بوجوب القصر علیه، فلا یجب علیه الاتیان بالقصر لأنه أدّی وظیفته، نعم إذا لم یأت بالصلاة تماماً فی أول الوقت إلی أن علم بوجوب الصلاة قصراً وجب علیه الاتیان بها، هذا نظیر ما إذا کان المکلف حاضراً فی أول الوقت وصلّی تماماً ثم سافر، فلایجب علیه القصرباعتبار أنه أدّی وظیفته، نعم إذا لم یصل تماماً إلی أن سافر وجب علیه القصر، وعلی هذا فلا موضوع لتعدّد العقاب فی المسألة، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفسه لایمکن و إن کان بلحاظ مرتبتین، فعندئذٍهل یمکن الالتزام بالترتب فی مرحلة الجعل أو أنه لابد من الالتزام بأن المجعول

ص:122

فی هذه الحال وجوب واحد متعلق بالجامع بین القصر و التمام و الجهر والاخفات بنحو التخییر الشرعی.

والجواب: الظاهر هو الثانی دون الاحتمال الأول، فلنا دعویان:

الاُولی: إن الالتزام بالاحتمال الأول و هو الترتب لایمکن.

الثانیة: إنه لابد حینئذٍ من الالتزام بالاحتمال الثانی.

أما الدعوی الاُولی فلأن الترتب فی مرحلة الجعل و إن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنه لایمکن حمل روایات الباب علی ذلک، فإنها تنصّ علی کفایة الاتیان بالصلاة تماماً فی أول الوقت للمسافر الجاهل بوجوب القصر و إن علم فی أثناء الوقت بوجوبه ولا تجب علیه الاعادة، و قد تقدم إن هذا لاینسجم مع القول بالترتب فی مقام الجعل، فلذلک لایمکن حمل الروایات علیه، ومن هنا لابد من حملها علی أن الواجب هو الجامع بین صلاة القصر وصلاة التمام ولا مانع من الالتزام بذلک فی کلتا المسألتین، ثم إن للتخییر الشرعی تفسیرین:

تفسیرین للتخییر الشرعی و اختیار الأول منهما

أحدهما: إن حقیقة التخییر الشرعی متمثلة فی جعل وجوب واحد متعلّق بجامع انتزاعی و هو عنوان أحدهما أو أحدها علی نحو البدلیة.

الثانی: إن حقیقة التخییر الشرعی متمثلة فی جعل وجوبات مشروطة متعدّدة بعدد أفراد الجامع، فعلی الأول متعلق الوجوب الجامع وعلی الثانی متعلّقه الفرد بحده الفردی مشروطاً بعدم الاتیان بالفرد الآخر، ثم إن الظاهر من هذین التفسیرین هو التفسیر الأول بوجهین:

الأول: إن المتفاهم العرفی من الخطاب المتعلق بأحد شیئین أو أشیاء هو تعلّقه بالجامع لا بکل فرد بحدّه الفردی مشروطاً.

ص:123

الثانی: إن الوجوب إذا کان متعدّداً، فلا محالة یکون ملاکه الذی هو روحه أیضاً متعدداً وإلاّ فلا یعقل تعدّده بدون تعدّده، وعلیه فلازم التفسیر الثانی هو اشتمال کل من الخصال علی الملاک، و هو حینئذٍ لایخلو من أن یکون قائماً بکل منها مستقلاً أو مشروطاً أو مرتبطاً و الکل لایمکن أما الأول فهو خلف الفرض، و أما الثانی فلأن لازمه عدم إمکان الجمع بین الملاکات لمکان المضادّة بینها مع عدم المضادة بین أسبابها و هی الأفعال وإمکان الجمع بینها و هذا کما تری، و أما الثالث فلازمه أن یکون مجموع الخصال واجباً واحداً و هو خلف، وسوف یأتی تفصیل کل ذلک فی مبحث الواجب التخییری إن شاء اللَّه تعالی.

إلی هنا قد تبیّن ان الصحیح هو التفسیر الأول للتخییر الشرعی دون التفسیر الثانی، نعم إن هذا التفسیر کان معقولاً إذا کان الخطاب التخییری الشرعی متعلقاً بفعلین متضادین الذین لهما ثالث، شریطة أن یکون کل واحد منهما بحدّه الخاص مشتملة علی مصلحة ملزمة، ففی مثل ذلک لا محالة یرجع التخییرالشرعی إلی جعل وجوبین مشروطین کما تقدّم.

وعلی هذا فلا مانع من أن یکون الواجب علی المسافر الجاهل بوجوب القصر فی الشریعة المقدسة الجامع بین القصر و التمام فی هذه الحالة.

نتیجة البحث

ونتیجة ذلک إن المکلف المسافر إذا صلّی فی هذه الحالة قصراً وتمشی منه قصد القربة صحت، لأنها إحدی فردی الواجب التخییری.

ومن هنا یظهر الحال فی مسألة الجهر والاخفات أیضاً، لأن الکلام فیها نفس الکلام فی مسألة القصر و التمام حرفاً بحرف.

لحد الآن قد استطعنا أن نخرج بالاُمور التالیة:

ص:124

الأول: إن الصحیح فی کلتا المسألتین المتقدمتین ما حققناه فیهما من اختصاص وجوب الصلاة قصراً بالمسافر الذی کان یعلم بوجوبها فی الشریعة المقدسة، و أما المسافر الجاهل بوجوبها فیها، فوظیفته الصلاة تماماً واقعاً دون الصلاة قصراً، ومن هنا لو أتی بالصلاة قصراً فی هذه الحالة وتمشی منه قصد القربة فرضاً لم تصح لعدم الأمر بها، لأنه منوط بالعلم به، ولهذا لو أتی المسافر بالصلاة تماماً فی أول الوقت ثم علم بوجوب الصلاة قصراً لم تجب الإعادة، لأن ذلک من انقلاب الموضوع لا من انکشاف الخلاف، وکذلک الحال فی مسألة الجهر والاخفات.

الثانی: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم إنه لایمکن أن یکون وجوب الصلاة قصراً مختصاً بالمسافر العالم بوجوبها، إلاّ أنه لابدّ حینئذٍ من الالتزام بأن الواجب علی المسافر الجاهل بوجوب القصر الجامع بین صلاتی القصر و التمام و هو عنوان إحداهما، إذ لایمکن حمل روایات الباب إلاّ علی ذلک بعدما لایمکن حملها علی الترتب فی مرحلة الجعل کما مرّ، بدون احراز إنه موضوع له وموضوعه علی هذا المسافر المقیّد بقیدین:

أحدهما جهله بوجوب القصر. والآخر ترکه له. ومن الواضح إن الإلتفات إلیه بهذا الوصف یوجب الانقلاب وتبدل الجهل بالعلم، فینتفی وجوب التمام الترتّبی حینئذٍ بانتفاء موضوعه و هو الجهل.

فالنتیجة، إن وجوب التمام الترتبی إن کان بالخطاب الأولی فلایتوقف وصوله إلی المکلف، لاعلی احراز الترک بماهو ولاعلی احرازه بوصفه العنوانی، بل لافرق حینئذٍ بین أن یکون المأخوذ فی موضوعه ترک القصر أو العصیان، إذ علی کلا التقدیرین لایتوقف إحرازه ووصوله علی ذلک، و إن کان بالخطاب الثانوی

ص:125

الخاص به فهو یتوقف علیه، ولکن لیس بإمکانه إحرازه باحراز موضوعه لأمرین:

الأول: لزوم الانقلاب.

الثانی: إنه معتقد بوجوب التمام علیه بالخطاب الأولی ویری نفسه موضوعاًله، ومعه لایعقل أن یری نفسه موضوعاً للخطاب الثانوی أیضاً، وعلیه فیکون جعله لغواً.

و أما التعلیق علی الثانی فلأن ماذکره المحقق النائینی قدس سره من أن الشرط فی باب الترتّب هو عصیان الخطاب المترتب علیه غیر تام، لا فی الترتب فی مقام الجعل ولا فی مقام الامتثال، أما فی الأول فلأنّا لو قلنا بالترتب فیه، فنقول أن الشرط فی وصوله إلیه، إذ یکفی فیه العلم بالکبری وإحراز الصغری وتطبیقها علیها، نعم لو کان وجوب التمام علیه بخطاب ثانوی خاص به لکان وصوله متوقفاً علی إحراز موضوعه و هو ترک القصر بوصفه العنوانی، ولکن الأمر لیس کذلک بل هو بخطاب عام أولی فیکون تحریکه بوجوب التمام واقعاً لا تخیّلاً.

الثالث: إن الالتزام بالترتب فی مرحلة الجعل ثبوتاً و إن کان ممکناً فی کلا البابین، إلاّ أنّه لایمکن الالتزام به فی مقام الاثبات لعدم الدلیل علیه، هذا تمام الکلام فی المسألة الأولی.

نتائج البحث

استعراض نتائج البحث

نستعرض نتائج البحث فی عدّة نقاط:

الأولی: إن فی مسألة العقاب ثلاث نظریات:

1 - إن ملاک استحقاق العقاب تمکن المکلف من الامتثال والاتیان بالواجب.

2 - إن ملاک استحقاق العقاب تمکن المکلف من التخلص عن مخالفة التکلیف سواءً کان بالامتثال أم برفع الموضوع.

ص:126

3 - إن ملاک استحقاق العقاب التمکن من التخلص عن تفویت الملاک الملزم.

و قد اختار السید الاُستاذ قدس سره النظریة الثانیة، والصحیح منها النظریة الثالثة، و قد تقدم تفصیل هذه النظریات و النتائج المترتبة علیها.

الثانیة: إن وجوب الوفاء بالنذر لایصلح أن یزاحم وجوب الحج لوجوه:

الأول: إن الحج أهمّ منه روحاً وملاکاً.

الثانی: إن وجوب الوفاء بالنذر ونحوه مشروط بأن لایکون مخالفاً لشرط اللَّه فی المرتبة السابقة، وحینئذٍ فإذا وجب الحج علی المکلف من جهة توفّر شرطه فیه و هو الاستطاعة، انتفی وجوب الوفاء بالنذر بانتفاء موضوعه و هو عدم کونه مخالفاً لشرط اللَّه، والمفروض إنه مخالف له و هو وجوب الحج.

الثالث: إنه لو قلنا بتقدیم وجوب الوفاء بالنذر علی وجوب الحج فی مورد المزاحمة، لکان بالإمکان التخلص من وجوب الحج بذلک و هو کما تری.

الثالثة: إن التزاحم إذا وقع بین وجوب الوضوء ووجوب واجب آخر أهمّ منه، فقد ذکر المحقق النائینی قدس سره إن وظیفته التیمّم وعدم صحة الوضوء حتی علی القول بالترتب، معللاً بأن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة فلایصلح أن یزاحم واجباً آخر، لأنه یرتفع به بارتفاع موضوعه و هو القدرة الشرعیة هذا، ولکنه غیر تام:

أولاً: إنه یمکن تصحیح الوضوء فی المقام بالترتب بلحاظ أمره الاستحبابی النفسی لأنه غیر مشروط بالقدرة الشرعیة.

وثانیاً: إن وجوب الوضوء لیس مشروطاً بالقدرة الشرعیة لا من ناحیة دلیل البدلیة ولا من ناحیة قوله تعالی:«فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً

ص:127

طَیِّباً» (1) علی تفصیل تقدم.

وثالثاً: علی تقدیر تسلیم أنه مشروط بالقدرة الشرعیة، إلاّ أنه لیس مشروطاً بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المانع المولوی حتی لایمکن تصحیحه بالترتب أیضاً فی مقام المزاحمة، لأن حمل القدرة علیه خلاف الظاهر بل مشروط بها بمعنی القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی، وعلی هذا فلا مانع من الحکم بصحّته علی القول بالترتب.

الرابعة: إذا توقف الوضوء علی مقدّمة محرمة کما إذا کان الماء فی الأوانی المغصوبة، وحینئذٍ فیقع التزاحم بین وجوب الوضوء وحرمة التصرّف فی هذه الأوانی، فإن توضأ فیها ارتماساً فلاشبهة فی بطلانه، و إن توضأ منها بالاغتراف شیئاً فشیئاً، فقد ذکر المحقق النائینی قدس سره إنّه باطل معللاً بأنه مشروط بالقدرة الشرعیة، فلایصلح أن یزاحم أی حکم مولوی الزامی کحرمة التصرّف ونحوها، ولکن قد عرفت المناقشة فیه من وجوه.

الخامسة: إن السید الاُستاذ قدس سره قد بنی صحّة الوضوء فی صورة إنحصار الماء فی الأوانی المغصوبة بالاغتراف منها تدریجیاً علی تمامیة امور:

الأول: إمکان الشرط المتأخر فی الواجبات المرکبة من الأجزاء الطولیة کالوضوء ونحوه.

الثانی: إمکان القول بالترتب.

الثالث: إنّ القدرة معتبرة فی ظرف الامتثال، وذکر أن هذه الاُمور جمیعاً تامّة، وفیه إن صحة الوضوء فی المسألة لاتتوقف علی تمامیة هذه الاُمور الثلاثة

ص:128


1- (1) - سورة النساء آیة 43 وسورة المائدة آیة 6.

جمیعاً، أما أولاً فلأنا قد حققنا فی محله إستحالة الشرط المتأخر بالنسبة إلی ملاکات الأحکام الشرعیة ومبادیها، وثانیاً مع الاغماض عن ذلک إلاّ أن صحة الوضوء لاتتوقف علی إمکان الشرط المتأخّر.

السادسة: إنّ صحة الواجبات المرکّبة من الأجزاء الطولیّة کالصلاة و الوضوء ونحوهما مشروطه بالقدرة من البدایة إلی النهایة بنحو الشرط المقارن، لأن الوجوب المتعلّق بالکل وجوب واحد فی عالم الاعتبار و هو فاعل لکل جزء من أجزاء الواجب لا الوجوب الضمنی المتعلق بالجزء، فإنه لا وجود له إلا بوجودوجوب الکل ولا فاعلیة له إلاّ بفاعلیة وجوب الکل وهکذا، وفاعلیته فاعلیة موحّدة طولاً و هی مشروطة بالقدرة کذلک بنحو الشرط المقارن.

السابعة: إنّ وجوب الوضوء مشروط بالقدرة العقلیة لا بالقدرة الشرعیة، وعلی تقدیر کونه مشروطاً بالقدرة الشرعیة فإنما هو مشروط بها، بمعنی القدرة التکوینیة لا بمعنی عدم المانع المولوی.

الثامنة: إنّ المراد من القدرة الشرعیة هی التی اخذت فی لسان الدلیل قیداً للحکم فی مرحلة الجعل، والمراد من القدرة العقلیة هی التی اخذت قیداً للحکم لباً، والکاشف عن ذلک القید هو العقل من باب قبح تکلیف العاجز لا أنه الحاکم باعتبارها، لوضوح أن قیود التکلیف جمیعاً من قبل المولی، غایة الأمر إن الکاشف عنه فی مقام الاثبات قد یکون العقل و قد یکون الشرع، أما العقل فإنه یکشف بملاک قبح تکلیف العاجز عن أن الأحکام الشرعیة مجعولة من قبل الشارع علی المکلف القادر فالقدرة قید لها لباً، فإذا لم تؤخذ فی لسان الدلیل فی مقام الاثبات کان الکاشف عنها العقل، وحیث إنه لا طریق للعقل إلی ملاکات الأحکام الشرعیة، فلایکشف أکثر من کونها شرطاً للتکلیف دون الملاک.

ص:129

التاسعة: قد جمع الشیخ الکبیر کاشف الغطاء قدس سره بین صحة الصلاة تماماًموضع القصر للمسافر الجاهل بوجوبه وصحة الصلاة جهراً موضع الاخفات وبالعکس من ناحیة، واستحقاق العقوبة علی ترک القصر فی المسألة الاُولی وترک الصلاة جهراً أواخفاتاً فی المسألة الثانیة إذاکان جهله عن تقصیر من ناحیة اخری.

العاشرة: قد علّق المحقق النائینی قدس سره علی ذلک بأن الترتب إنما یعقل بین متعلقی الخطابین إذا کان التضاد بینهما اتفاقیاً لادائمیاً، وحیث إن التضاد بین الجهر والاخفات و القصر و التمام یکون دائمیاً لا إتفاقیاً، فلایعقل الترتب بینهما هذا.

وأورد علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن ذلک تام إذا کان الترتب فی مرحلة الامتثال، و أما إذا کان فی مرحلة الجعل کما هو کذلک فی هاتین المسألتین، فلایعتبر فیه أن یکون التضاد اتفاقیاً.

الحادیة عشر: إن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن الترتب فی مقام الامتثال لایتصور إلاّ إذا کان التضاد بین متعلقی الخطابین اتفاقیاً فهو صحیح، ولکن ماذکره قدس سره من أن هاتین المسألتین مبنیان علی الترتب فی مرحلة الجعل غیر تام، لأن الترتب فیهما فی هذه المرحلة ثبوتاً و إن کان ممکناً إلاّ أنه لایمکن الالتزام به إتفاقاً، لأن أدلتهما غیر قابلة للحمل علیه.

الثانیة عشر: إن التضاد بین متعلقی الخطابین إن کان دائمیاً، فإن لم یکن بینهماثالث فلا شبهة فی دخولهما فی باب التعارض، لاستحالة جعل کلا الخطابین مقالاًمطلقاً ولا مشروطاً و إن کان بینهما ثالث، فالظاهر دخولهما فی باب التعارض أیضاً، ودعوی إن التعارض إنما هو بین اطلاقی الخطابین المتعلقین بهما لا بین أصلیهما، مدفوعة بأنها مبنیة علی أن تکون لکل منهما دلالتان:

الاُولی: بنحو القضیة المهملة.

ص:130

الثانیة: بنحو القضیة المطلقة، ولکن تقدّم إن الأمر لیس کذلک.

الثالثة عشر: ذکر المحقق النائینی قدس سره إن القصر و التمام و الجهر والاخفات حیث کانا من الضدّین الذین لا ثالث لهما کالحرکة و السکون، فلایعقل تعلق أمرین بهمالا مطلقاً ولا مشروطاً.

وفیه، إنه مبنی علی لحاظ القصر و التمام و الجهر والاخفات بنحو الوجود النعتی فی الموضوع المفروض وجوده فی الخارج و هو الصلاة، ولکن لا وجه لذلک، فإن القصر و التمام عنوانان للصلاة القصریة و الصلاة التمامیة وهما من الضدّین الذین لهما ثالث وکذلک الجهر والاخفات.

الرابعة عشر: ذکر السید الاُستاذ قدس سره إن القراءة الجهریة و القراءة الاخفاتیة تکونا من الضدّین الذین لهما ثالث، إذ قد یقرء المکلف ولایجهر و قد لا یقرء لاجهراً ولا إخفاتاً من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإذن لا مانع من الالتزام بالترتب بینهما فی مقام الجعل.

وفیه، إن الترتب لایعقل بین الواجبات الضمنیّة لا فی مرحلة الامتثال ولا فی مرحلة الجعل.

الخامسة عشر: ذکر المحقق النائینی قدس سره إن الترتب مشروط بأمور:

الأول: أن یکون الخطاب بالأهم واصلاً إلی المکلف.

الثانی: عصیان الخطاب.

الثالث: أن یکون المکلف عالماً بعصیانه، و هذه الشروط غیر متوفّرة فی هاتین المسألتین هذا، وعلق علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن الشرط فی المقام هو ترک القصر لا العصیان.

ص:131

السادسة عشر: أشکل بعض المحققین قدس سره علی السید الاُستاذ قدس سره، بأنه لایکفی فی فعلیة الحکم الالتفات إلی ذات الموضوع اجمالاً بل تتوقف علی الالتفات إلی عنوان موضوعیته له ومعه انقلب الموضوع فی المقام، إذ لایمکن الالتفات إلیه إلاّبالعلم بوجوب القصر علی المسافر.

السابعة عشر: إن الاشکال فی نفسه و إن کان صحیحاً إلاّ أنه لایرد علی هاتین المسألتین، وذلک لأن المکلف المسافر الجاهل بوجوب القصر فی الشریعة المقدسة حیث کان یعلم بوجوب التمام علیه ویری نفسه موضوعاً له و هو کذلک فی الواقع، فلا تتوقف فعلیة فاعلیّة وجوب التمام علی التفاته بموضوعیة ترک الصلاة القصریة، بل یکفی فی المقام وجوده فی الواقع و إن لم یکن ملتفتاً إلی عنوان موضوعیّته، وکذلک الحال فی مسألة الجهر والاخفات، نعم ما ذکره قدس سره تام إذاکان الخطاب بالتمام الموجه إلی المسافر الجاهل خطاباً ثانویاً وکذلک خطاب الجهر فی موضع الاخفات وبالعکس، ولکن الأمر لیس کذلک.

الثامنة عشر: إن باب التزاحم یدخل فی باب التعارض علی القول باستحالة الترتب فیما إذا کان کلا الخطابین المتزاحمین واصلاً إلی المکلف، و أما إذا کان الخطاب بالأهمّ غیر واصل إلی المکلف و الواصل إنما هو الخطاب بالمهم فلاتعارض بینهما، ولایقاس ذلک بمسألة الاجتماع علی القول بالامتناع، لأن التنافی هناک إنما هو فی مرحلة المبادی بینما فی المقام لاتنافی فی مرحلة المبادی بین المتزاحمین وإنما التنافی بینهما فی مرحلة الاقتضاء فقط.

التاسعة عشر: ذکر المحقق الخراسانی قدس سره، إن الصلاة تماماً فی موضوع القصر مشتملة علی مصلحة ملزمة فی نفسها ومع استیفائها لایمکن استیفاء مصلحة القصر لمکان المضادة بینهما، و أما استحقاق العقوبة علی ترک القصر إذا کان جهله

ص:132

عن تقصیر فإنما هو علی تفویت مصلحته الملزمة، باعتبار انه مستند إلی تقصیره هذا، و قد علق علی هذه المحاولة السید الاُستاذ قدس سره بوجهین:

الأول: إنه لایمکن فرض التضاد بین مصلحتین بدون أن یکون هناک تضادبین فعلین.

الثانی: إن المصلحتین المفروضتین لاتخلوان من أن تکونا ارتباطیتین أو استقلالیتین وکلتاهما لایمکن.

العشرون: إن السید الاُستاذ قدس سره قد التزم بالترتب فی مرحلة الجعل فی کلتا المسألتین، فحکم بصحة الصلاة تماماً من المسافر الجاهل بوجوب القصر فی المسألة الاُولی وبصحة الصلاة جهراً وإخفاتاً من الجاهل فی المسألة الثانیة، وعلی هذا فلا مانع من استحقاقه العقوبة علی ترک القصر فی الاُولی وترک الجهرأو الاخفات فی الثانیة إذا کان مقصراً.

الحادی و العشرون: إن ترک القصرلوکان موضوعاً لوجوب التمام، فهل هوترکه فی تمام الوقت أو فی جزء منه، وکلا الأمرین لایمکن، اما الأول فلأن لازمه وجوب الاعادة إذا انکشف الخلاف فی الوقت، و هوخلاف النص و الفتوی الفقهیة. و أما الثانی فلأن لازمه تعدد الوجوب فی وقت واحد و هو خلاف الضرورة.

الثانیة و العشرون: إنه لایمکن حمل روایات الباب علی الترتب فی کلتا المسألتین.

الثالثة و العشرون: إن ظاهر أدلة المسألتین من الآیة الشریفة و الروایات هو أن وجوب القصر مختص بالمسافر العالم به فی الشریعة المقدسة وکذلک وجوب الجهر والاخفات، وحیث إن هذا التخصیص ممکن ثبوتاً فیتعین حینئذٍ الأخذ

ص:133

بهذا الظهور فی مقام الاثبات.

الرابعة و العشرون: إن مقتضی إطلاق الأدلة الأولیة وجوب التمام علی کل مکلف بتمام أصنافه، و قد وردت علی إطلاق هذه الأدلة مجموعة من الاستثناء:

منها: استثناء المسافر العالم بوجوب القصر، بأن قرأت علیه آیة التقصیروفسرت له.

ومنها: أن لایکون سفره معصیة ولایکون السفر شغله ولا شغله فی السفر، ونتیجة ذلک إن المستثنی من إطلاق تلک الأدلة حصة خاصة من المسافر و هی الذی کان یعلم وجوب القصر فی الشرع ولایکون سفره معصیة ولا شغلاً له ولاشغله فیه، والباقی کالمسافر الجاهل بوجوب القصر فیه، والذی یکون سفره معصیة أو شغلاً له أو شغله فیه داخل فی اطلاق الأدلة المذکورة ومحکوم بحکمهاو هو وجوب التمام.

الخامسة و العشرون: إنه إذا فرض عدم إمکان أخذ العلم بالحکم فی مرتبة فی موضوع نفسه فی مرتبة اخری، فلابد حینئذٍ من الالتزام بأن الواجب فی المسألة الجامع بین القصر و التمام و الجهر والاخفات، ولابدّ عندئذٍ من حمل نصوص الباب علی ذلک بعدما لایمکن حملها علی الترتب.

المسألة الثانیة: التزاحم بین الواجبات الضمنیة

اشارة

المسألة الثانیة: ما ذکره المحقق النائینی قدس سره(1) ، من أن التزاحم کما کان یقع بین الواجبات الاستقلالیة کذلک یقع بین الواجبات الضمنیة، و قد ذکر لوقوع التزاحم بینها مجموعة من الأمثلة:

منها: ما إذا وقع التزاحم بین تحصیل الطهور فی الصلاة وبین قید آخر من

ص:134


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 49.

قیودها الداخلیة أو الخارجیة، بأن لایتمکن المکلف من الجمع بینهما، فإن له قدرة واحدة فإن صرفها فی الطهور عجز عن قید آخر و إن عکس فبالعکس، ففی مثل ذلک ذکر قدس سره إنه لابدّ من تقدیم الطهور علی سائر واجباتها لأنه أهمّ منهاعلی أساس إنه واجب رکنی.

ومنها: ما إذا وقع التزاحم بین خصوص الطهارة المائیة وبین واجب آخرللصلاة، ففی مثل ذلک ذکر قدس سره إنه لابدّ من تقدیم الواجب الآخر علی الطهارة معللاً بتقدیم مالیس له البدل علی ما له البدل فی مقام المزاحمة.

ومنها: غیر ذلک، ومن هنا یظهر إنه لایتصور التزاحم بین أرکان الصلاة، لأن المکلف إذا لم یتمکن من رکن من أرکانها فهو لایتمکن من الصلاة، فإذن لاصلاة ولا وجوب لها حتی یتصور التزاحم بین أجزائها، ثم إنه لاحاجة لإطالة الکلام فی بیان صور التزاحم بین أجزاء الصلاة وشرائطها بعضها مع بعضها الآخر بل ولا فائدة فیها، فالمهم فی المقام إنما هو بیان إن التزاحم بین الواجبات الضمنیة کأجزاء الصلاة وشرائطها هل یتصور بحیث إنه لابد من الرجوع إلی مرجحاته لعلاج المزاحمة بینها، أو إنه لایتصور إلا بین الواجبات الاستقلالیة، فیه قولان:

مختار المحقق النائینی قدّس سرّه

1 - فذهب المحقق النائینی قدس سره إلی القول الأول، وقال إنه لا فرق فی ذلک بین الواجبات الضمنیّة والاستقلالیة، کما إنه إذا وقعت المزاحمة بین الواجبات الاستقلالیة فلابدّ من تطبیق قواعد باب التزاحم علیها فی ترجیح بعضها علی بعضها الآخر، وعلاج المزاحمة بینها کذلک، إذا وقعت المزاحمة بین الواجبات الضمنیّة، فإنه لابد من تطبیق قواعد باب التزاحم علیها فی ترجیح بعضها علی بعضها الآخر.

ص:135

فروع

رد السید الأستاذ قدّس سرّه علیه
اشارة

و قد أورد علیه السید الاُستاذ قدس سره(1) بأن التزاحم لایتصور بین الواجبات الضمنیّة، لأنها جمیعاً واجبة بوجوب واحد، فإن کان المکلف قادراً علیها فلاتزاحم، و إن لم یکن قادراً علیها ولو من جهة عدم قدرته علی بعضها فقط سقط وجوبها بالعجز عنها، فإذن لا وجوب حتی تتصوّر المزاحمة بینها.

وعلی هذا فإن لم یکن دلیل علی وجوب الباقی من جدید، فلا وجوب حینئذٍ لا للکل لمکان العجز ولا للباقی لعدم الدلیل حتی یکون هناک تزاحم أو تعارض، و إن کان دلیل علی وجوب الباقی بوجوب جدید کما هو الحال فی باب الصلاة، فعندئذٍ یقع التعارض بین دلیلی الجزئین المتزاحمین للعلم الإجمالی بجعل أحدهمافی ضمن جعل الباقی، وحینئذٍ فإن کان لدلیل أحدهما اطلاق دون الآخر فهو المرجع، و إن لم یکن لدلیل أیّ منهما اطلاق فالمرجع الأصل العملی، و إن کان لدلیل کلیهما اطلاق، یقع التعارض بینهما و المرجع فیه قواعد باب التعارض.

صحة ما أفاده السید الأستاذ قدّس سرّه و تقریبه بوجوه:

والصحیح ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره، ویمکن تقریب ذلک بعدة وجوه:

الوجه الأول:

إن الوجوب المتعلق بالصلاة مثلاً بما هو أمر اعتباری فلایعقل وجوده فی عالم الخارج، وإلاّ لکان أمراً خارجیاً لا اعتباریاً و هذا خلف، ومن هنا یکون وجوده وفعلیته إنما هو بالاعتبار و الجعل فحسب فی عالم الذهن والاعتبار، ولاتتصور له فعلیة اخری غیر هذه الفعلیّة و هی فعلیّته الاعتباریة فی عالمها، ومتعلقه فی هذا العالم هو مفهوم الصلاة الذهنی لا واقعها الخارجی، وإلاّ لکان خارجیاً لا اعتباریاً و هو کما تری، وعلی هذا فالصلاة بمفهومها الذهنی البسیط متعلق للوجوب بما هواعتبار وبوجودها الخارجی متعلق لفاعلیته ومحرکیته التی هی أمرتکوینی، وفعلیة فاعلیته فی الخارج إنماهی بفعلیة موضوعه فیه، فمتی تحقق

ص:136


1- (1) - (محاضرات فی اصول الفقه ج 3 ص 100.

تحققت فاعلیته للمکلف نحو الاتیان بمتعلقه فیه، لوضوح إن الوجوب المتعلق بالصلاة فی عالم الجعل والاعتبار إنما یکون فاعلاً ومحرکاً للمکلف نحو الاتیان بها إذا تحقق موضوعه فی الخارج کدخول الوقت وکونه بالغاً عاقلاً قادراً لامطلقاً.

وعلی هذا فما هو متعلق بالصلاة فی الخارج مباشرة هو فاعلیة وجوبها و هی تنحل بانحلال أجزائها فتکون فاعلیته لکل جزء إنما هی فی ضمن فاعلیته للکل لا بالاستقلال، فإذن یکون المراد من الوجوبات الضمنیة للأجزاء الفاعلیات و المحرکیات الضمنیة لها، وإلاّ فالوجوب بما هو اعتبار یستحیل أن یوجد فی الخارج، تحصل من ذلک إن انحلال الوجوب بانحلال متعلقه فی عالم الاعتبار و الذهن غیر متصور، و أما انحلاله بانحلال متعلقه فی عالم الخارج فإنما هو بانحلال فاعلیته فیه حقیقة لا نفسه، إذ لا وجود له فیه حتی ینحل، والموجودفیه إنما هو فاعلیته لأنّها تنحل بانحلال أجزاء الصلاة خارجاً، فیکون فاعلاً ومحرکاً للمکلف نحو الاتیان بکل جزء من أجزائها فی ضمن فاعلیته الاتیان بالکل، وعلی هذا الأساس فإذا سقطت فاعلیته عن جزء من الصلاة کفاتحة الکتاب مثلاً من جهة عجز المکلف عنها وعدم قدرته علیها، فبطبیعة الحال یکشف ذلک عن سقوط فاعلیته عن الصلاة، وإلاّ فلایعقل سقوطها عن الجزء بدون سقوطها عن الکل و هو الصلاة، علی أساس إن سقوطها عنه إنما هوبسقوطها عن الکل لا بالاستقلال، فإذا تعذّر الکل بتعذر الجزء فبطبیعة الحال تسقط فاعلیته عنه، وبسقوطها عنه تسقط عن الجزء بل هو نفس السقوط عن الجزء لا أن له سقوطاً آخر، وحینئذٍ فإذا وقعت المضادّة المزاحمة بین جزئین من أجزاء الصلاة، بمعنی إنّ المکلف لایکون قادراً علی الجمع بینهما فبطبیعة الحال سقطت فاعلیة وجوب الصلاة ومحرکیته للمکلف نحو الاتیان بها ککل لمکان عجزه عنهاکذلک، فإذا سقطت فاعلیته عن الصلاة کذلک، سقطت فاعلیته عن الجزئین

ص:137

المتضادّین منها أیضاً، علی أساس إن فاعلیته لکل جزء إنما هی بنفس فاعلیته للکل لا بالاستقلال، کما إنّ سقوطها عن الجزء إنما هو بنفس سقوطها عن الکل لابسقوط آخر. فإذن لامقتضی للتزاحم بینهما ولاموضوع له، فإنه إذاسقطت فاعلیته عن الصلاة التامة لمکان العجز عنها، سقطت فاعلیته عن کل جزء من أجزائها، فإذن کیف تتصوّرالمزاحمة بین فاعلیته لجزءوفاعلیته لجزءآخر إذاکانت بینهما مضادّة ولایمکن الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال، فإن معنی ذلک إن فاعلیته عن الکل و هوالصلاة التامة لم تسقط و هذا کماتری، لأنه من التکلیف بالمحال.

فالنتیجة، إنه إذا تعذّر أحد جزئین من أجزاء الصلاة سقطت فاعلیة وجوبها بمرتبتها التامة، و أما وجوبها بمرتبتها الناقصة بوجوب جدید فهو بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه إلا فی باب الصلاة فإنها لاتسقط بحال، ومقتضی ذلک تعلق الوجوب الجدید بسائر أجزاء الصلاة مع أحد الجزئین المتزاحمین لا بعینه أوتعلقه بها مع أحدهما المعیّن، فإذن تقع المعارضة بین دلیلی الجزئین إذا کان لکل من الدلیلین اطلاق، ویرجع حینئذٍ إلی قواعد باب التعارض دون التزاحم.

الوجه الثانی:

إن الجزئین المتزاحمین لایخلوان من أن یکون مجموعهما معاًمؤثراً فی ملاک الواجب المطلوب للمولی مطلقاً أو مخصوصاً بحال القدرة أو أحدهما المعیّن مؤثراً فیه مطلقاً دون الآخر أو الجامع بینهما ولا خامس فی البین، وعلی جمیع هذه التقاریر لایتصور التزاحم بین واجبین ضمنیین.

أما علی التقدیر الأول، فلأن التکلیف المتعلق بالصلاة بتمام أجزائها ساقط بملاک عجز المکلف عن تحصیل الملاک منها، علی أساس عجزه من الجمع بین الجزئین المتزاحمین الذین یکون مجموعهما معاً مؤثراً فیه لا کل واحد منهما مستقلاً.

و أما علی التقدیر الثانی، فیلزم ثبوت التکلیف بسائر الاجزاء فقط، باعتبار

ص:138

أن تأثیرهما معاً فی الملاک مخصوص بحال القدرة علی الجمع بینهما، و أما فی حال عجز المکلف عنه فلا تأثیر لهما فیه، فإذن یکون الملاک فی سائر الأجزاء تاماً و هو یقتضی تعلق التکلیف بها من جدید، و أما بالنسبة إلی هذین الجزئین المتزاحمین، فلاتکلیف لا بکلیهما معاً لعدم القدرة ولا بأحدهما المعیّن لعدم دخله فی الملاک کذلک ولا بأحدهما غیر المعیّن بنفس الملاک.

و أما علی التقدیر الثالث، فلأن التکلیف فیه متعلّق بسائر الأجزاء مع الجزء المؤثر فی الملاک دون الآخر لکی یقع التزاحم بینهما، لفرض عدم دخله فی الملاک فی هذا الحال.

و أما علی التقدیر الرابع، فلأن التکلیف فیه متعلق بسائر الأجزاء مع الجامع بین الجزئین لا بکل واحد منهما لتقع المزاحمة بینهما، فالنتیجة إنه لایتصور التزاحم بین الجزئین المتزاحمین علی جمیع هذه التقادیر و الفروض، ولکن هذه التقادیر و الفروض جمیعاً افتراضیته لا تتعدی عن مجرد الافتراض و التصور إلی الواقع الخارجی.

الوجه الثالث:

إن فرض وقوع التزاحم بین واجبین ضمنیین یتطلب أن یکون کل منهما مجعولاً فی الشریعة المقدسة علی الموضوع المفروض الوجود فی الخارج، و هو المکلف البالغ العاقل القادر علیه فی مرحلة الامتثال مشروطاً بترک الآخر علی أساس التقیید اللبّی العام، ولا مانع من جعل کلیهما کذلک علی القول بإمکان الترتب کما هو الحال فی الواجبین الاستقلالین هذا.

ولکن لایمکن الالتزام بأن الوجوب الضمنی المتعلق بکل من الجزئین مشروط بترک الآخر لباً أما من الطرفین أو من الطرف الواحد، وذلک لأن الوجوب الضمنی حیث إنه جزء تحلیلی للوجوب المتعلق بالکل ولا وجود له إلا

ص:139

بوجوده ولا داعویة له إلاّ بداعویته، فلا یعقل أن یکون مشروطاً بشیء دون الوجوب المتعلق بالکل، بأن یکون مطلقاً مع أنه لا وجود له إلاّ بوجوده ولاإطلاق له إلا بإطلاقه ولا إشتراط له إلا باشتراطه وإلاّ لزم خلف فرض کونه جزءً تحلیلیاً له، ضروره أنه لوکان مشروطاً بشیء دون الوجوب الاستقلالی، لزم أن یکون له وجود مستقل إعتباراً وجعلاً و هو خلف فرض کونه ضمنیاً، فإذن یستحیل فرض وقوع التزاحم بین واجبین ضمنیین، لأن فرض وقوعه بینهما یستلزم فرض المحال و هو أن یکون الوجوب الضمنی مشروطاً بشیء دون الوجوب الاستقلالی.

و إن شئت قلت: إن التزاحم بین جزئین یتطلب تقیید وجوب کل منهما بعدم الاشتغال بالآخر إذا کانا متساویین، وتقیید وجوب أحدهما فقط إذا کان الآخرأهم منه، وحیث إنه لا وجود للوجوب الضمنی إلاّ بوجود الوجوب الاستقلالی، فبطبیعة الحال اشتراطه بشیء إنما هو باشتراط الوجوب الاستقلالی به لا مستقلاً وإلاّ لزم الخلف کما عرفت، وعلیه فإذا فرض أن وجوب القیام فی الصلاة من جهة مزاحمته مع وجوب الرکوع مشروط بعدم الاشتغال بالرکوع، فإنه لایعقل إلاّ باشتراط وجوب الصلاة بعدم الاشتغال به، و هذا مردّه إلی أنّ وجوب الصلاة مشروط بترکها، باعتبار إن ترکها یتحقق بترک الرکوع و هو کما تری، فلذلک لایمکن فرض التزاحم بین واجبین ضمنیین.

الوجه الرابع:

إن فرض وقوع التزاحم بین واجبین ضمنیین یقتضی فعلیة وجوب کل منهما عند ترک الاشتغال بالآخر، کما کان الأمر کذلک فیما إذا کان التزاحم بین واجبین استقلالیین، وحیث إن الوجوب الضمنی جزء تحلیلی للوجوب الاستقلالی، فهل یمکن أن یکون الوجوب الاستقلالی أیضاً فعلیاً فی

ص:140

هذه الحالة أو لا؟

والجواب: إن کلا الفرضین لایمکن، أما الأول، فلأن الوجوب الاستقلالی لوکان فعلیاً لزم التکلیف بغیر المقدور و هو الاتیان بالصلاة بتمام أجزائها، و هوغیر مقدور من جهة عدم القدرة علی الجمع بین الجزئین المتزاحمین منها.

و أما الثانی، فلأن فعلیة الوجوب الضمنی إنما هی بفعلیة الوجوب الاستقلالی، ولایعقل أن یکون فعلیاً بدون فعلیة الوجوب الاستقلالی وإلاّ لزم خلف فرض کونه ضمنیاً، فإذا فرض وقوع التزاحم بین وجوب القیام فی الصلاة ووجوب الرکوع فیها بمعنی أن المصلی غیر قادر علی الجمع بینهما، فإذا صلی قائماً فلایقدر علی رکوع القائم عن قیام و إذا صلّی جالساً کان یقدر علی رکوع الجالس عن جلوس، فإذا دار الأمر بینهما، کان وجوب کل منهما مشروطاً بترک الاشتغال بالآخر، ومعه یکون وجوب کلیهما فعلیاً، ومن الواضح إن فعلیة وجوبهما معاً لایمکن إلاّ بفعلیة وجوب الکل لا بالاستقلال، والفرض إن فعلیة وجوب الکل مستحیلة لاستلزامها التکلیف بالمحال، ومعه کیف یعقل فرض وجود التزاحم بین وجوبین ضمنیین.

نتیجة البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، و هی إنه لایمکن تطبیق قواعد باب التزاحم علی الجزئین المتزاحمین من الصلاة ونحوها، بل لابد من تطبیق قواعد باب التعارض علی دلیلیهما إذا کان لکل منهما إطلاق، وإلاّ فإن کان لأحدهما إطلاق دون الآخر فهو المرجع، و إن لم یکن لشیء منها إطلاق، فالمرجع الأصل العملی کما تقدّم.

ما قیل فی عدم إمکان وقوع التزاحم بین جزئین من أجزاء الصلاة

قد یقال کما قیل: إن عدم إمکان وقوع التزاحم بین جزئین من أجزاء الصلاة مثلاً إنما هو فیما إذا کان الأمر متعلقاً بالصلاة بما لها من الأجزاء و الشرائط

ص:141

بعناوینها الأولیة، و أما إذا کان متعلقاً بها بما لها من الأجزاء و الشرائط المقدورة، فلا مانع من تطبیق قواعد باب التزاحم علی الجزئین المتزاحمین منها، علی أساس إن الواجب علی المکلف حینئذٍ هو الصلاة المرکبة من الأجزاء المقدورة و الأمر متعلق بها بهذا العنوان، وعلی هذا فإذا وقع التزاحم بین جزئین فترک کل منهما محقق للقدرة علی الآخر.

الرد علی الوجوه المتقدمة

ونتیجة هذا، إن کلاً منهما مقدور عند ترک الآخر فیکون متعلقاً للوجوب الضمنی، علی أساس إن الوجوب الاستقلالی تعلق بالأجزاء المقدورة خاصة، وعلی ذلک فلا یرد علیه شیء من الوجوه المتقدّمة.

أما الوجه الأول: فهو مبنی علی أن یکون الواجب کالصلاة مرکباً من الأجزاء بعناوینها الأولیة، فإنه حینئذٍ لا محالة یسقط الوجوب عن الصلاة التامة لمکان عجز المکلف عنها، و أما إذا کان الواجب هو الصلاة المرکبة من الأجزاء المقدورة، فلایسقط الأمر بالعجز عن بعض أجزائها وإنما یسقط عن ذلک البعض فقط بالتعذّر دون البقیّة.

و أما الوجه الثانی: فلأن المؤثر فی الملاک إنما هو الجزء المقدور لا کلا الجزئین المتزاحمین معاً، والمفروض إن کلاً منهما عند ترک الآخر مقدور، فیکون مأموراً به علی هذا التقدیر ومؤثراً فیه، و هذا هو معنی الترتب.

و أما الوجه الثالث: فلأن محذور الخلف أو کون الوجوب الاستقلالی مشروطاً بترک جزئه، إنما یلزم إذا کان الأمر متعلقاً بالصلاة المرکبة من الأجزاء بعناوینها الأولیة، و أما إذا کان متعلقاً بها بعنوان المقدور من أجزائها لا مطلقاً فلایلزم شیء من المحذورین، لأن کلا من الجزئین المتزاحمین علی تقدیر عدم الاشتغال بالآخر مقدور، فیکون مأموراً به بالأمر المتعلق بالکل ضمناً، مثلاً إذا

ص:142

فرض وقوع المزاحمة بین القیام فی الصلاة و الرکوع فیها، فبطبیعة الحال یکون الأمر الضمنی المتعلق بکل منهما مشروطاً بترک الآخر، باعتبار إنه مقدور فی هذه الحالة، وعلیه فلا محالة یکون الأمر المتعلق بالکل أی بالأجزاء المقدورة مع القیام مشروطاً بترک الرکوع وبالعکس فی مفروض المسألة، لأن الصلاة مع القیام بدون الرکوع وبالعکس مقدورة، ولا مانع حینئذٍ من تعلق الأمر بها مع القیام مشروطاً بترک الرکوع وبالعکس. و هذا معنی إن ما یکون شرطاً للأمر الضمنی فهو فی الحقیقة شرط للأمر الاستقلالی.

و أما الوجه الرابع: فلأن محذور الخلف أو طلب الجمع بین الضدّین إنما یلزم فیما إذا کان الأمر متعلقاً بالصلاة المرکبة من الأجزاء بعناوینها الأولیة، و أما إذاکان متعلقاً بها بعنوان المقدور بمعنی إنه یدور مداره سعةً وضیقاً فلایلزم شیء من هذین المحذورین، لأن الأمر إذا کان متعلقاً بالأجزاء المقدورة، فهی تنطبق علی سائر الأجزاء مع أحد الجزئین المتزاحمین لا أکثر، ومن المعلوم إن طلبها حینئذٍ لیس من طلب الجمع بین الضدّین، ولکن مع هذا لایتم هذا القیل:

عدم تمامیة هذا القیل

أما أولاً: فلأنه مجرد إفتراض لا واقع موضوعی له، لأن الأمر المتعلق بالواجبات المرکبة کالصلاة و الصیام و الحج ونحوها جمیعاً متعلق بها بعناوینها الأولیة من دون أخذ عنوان ثانوی فیها کعنوان المقدور، لوضوح إن الأمر فی باب الصلاة تعلق بها بعنوانها الخاص وباسمها المخصوص الممیّز و هی عبارة عن الأجزاء الخاصة المقیّدة بقیود کذلک بعناوینها الأولیة المخصوصة بدون أخذ عنوان المقدور فیها، وعلی هذا فلا یمکن فرض وقوع التزاحم بین جزئین أوجزء وشرط منها لما تقدم من المحاذیر، وکذلک الحال فی سائر الأبواب.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم إن الأمر المتعلق بالواجبات المرکبة

ص:143

تعلق بها بعنوان المقدور من الأجزاء و القیود لا مطلقاً، إلاّ أنه مع ذلک لاتنطبق قواعد باب التزاحم وأحکامه علی الجزئین المتزاحمین، لأن مورد هذه القواعد هوما إذا کان هناک أمران مجعولان فی الشریعة المقدسة ومتعلقان بفعلین یقع التزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال من جهة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی هذه المرحلة، فعندئذٍیکون تطبیق قواعد باب التزاحم علیهما منوط بتوفّرأمرین:

الأول: الالتزام بالتقیید اللبّی العام و هو تقیید کل خطاب شرعی بعدم الاشتغال بضدّ واجب لایقل عنه فی الأهمیّة.

الثانی: إمکان القول بالترتب، فإذا کان هذان الأمران متوفرین فیهما، جری علیهما أحکام التزاحم وقواعده لعلاج المزاحمة بینهما، و أما إذا لم یکونا متوفرین فیهما معاً و إن کان أحدهما متوفراً فیدخلان فی باب التعارض، وحینئذٍ لابد من الرجوع إلی قواعد بابه وتطبیقها علیهما لعلاجها.

و أما إذا کانت القدرة قیداً للواجب، بأن یکون الأمر متعلقاً بالمرکب من الأجزاء المقدور فحسب، وحینئذٍ فإذا وقع التزاحم بین جزئین من أجزائه، کان متعلق الأمر الضمنی التحلیلی هو الجامع بینهما، لأنه مقدور دون کل واحد منهما فی عرض الآخر فإنه غیر مقدور، ولایمکن جعل أمرین ضمنیین بهما فی عرض واحد بجعل الأمر بالکل بل المجعول أمر ضمنی واحد متعلق بالجامع بینهما و هوعنوان أحدهما باعتبار إنه مقدور، وحینئذٍ فلا موضوع للتزاحم، لأنه إنمایتصور بین أمرین مجعولین علی موضوعه المقدر وجوده فی الخارج، ولکن فی ظرف الامتثال قد یقع التزاحم بینهما من جهة عدم قدرة المکلف علی امتثال کلیهما معاً فیه، والمفروض إن المجعول فی المقام أمر ضمنی واحد بجعل الأمر بالکل و هو الأمر الضمنی المتعلق بأحد الجزئین المتزاحمین علی أساس إنه

ص:144

مقدور، ومن الطبیعی إن التزاحم لایتصور فی أمر واحد، هذا کله بالنسبة إلی الأمر الاستقلالی المتعلق بالکل المنحل إلی أوامر وفواعل ضمنیة.

و أما بالنسبة إلی أدلة الأجزاء و الشرایط فلایکون هناک تزاحم، لأن التزاحم بینهما إنما یتصور فیما إذا کان مفادها حکماً مولویاً مستقلاً، و أما إذا کان إرشادیاً کما هو کذلک فلا یجری بینها تزاحم، اذ لا مانع من أن یکون مفادها الارشاد إلی الجزئیة أو الشرطیة مطلقاً حتی فی حال العجز، غایة الأمر یسقط حینئذٍ التکلیف الاستقلالی المتعلق بالمجموع رأساً لکی لایلزم التکلیف بالمحال، و إذا علمنا من الخارج إن التکلیف لم یسقط کما فی الصلاة، وقع التعارض بین إطلاق دلیلی الجزئین المتزاحمین علی أساس العلم الإجمالی بانتفاء أحد الجزئین واستحالة جعل کلیهما معاً فی هذه الحال، هذا إضافة إلی أنّ مفادها لوکان حکماً تکلیفیاً فهو حکم ضمنی لااستقلالی، وإلاّ لزم أن تکون هناک واجبات متعددة مستقلة و هو کما تری، إلی هنا و قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی أنّ التزاحم بین أجزاء وشرائط واجب واحد کالصلاة مثلاً بعضها مع بعضها الآخر غیر معقول، لأن مقتضی القاعدة عند تعذّر أحد الجزئین أو الشرطین سقوط الوجوب عن الکل و وجوب الباقی من جدید بحاجة إلی دلیل علی تفصیل تقدّم.

هذا تمام کلامنا فی بحث الترتب وأرکانه إمکاناً واستحالةً وما ترتبط به من المسائل المهمة، و أما الکلام فی الفرق بین التعارض و التزاحم وبیان مرجحات کل من البابین بشکل موسع فیأتی فی باب التعادل و الترجیح، لأنه المورد المناسب له دون المقام، و أما الفروع الفقهیة التی تدور بین أجزاء واجب واحد کالصلاة مثلاً، فقد ظهر حالها مما تقدّم فلاحاجة إلی إطالة الکلام فیها بأکثر من ذلک.

ص:145

فصل الأمر بالشیء هل یمکن مع علم الآمر بانتفاء شرطه

أنواع الشروط

الشروط المتصوّرة فی المقام علی ثلاثة أنواع:

الأول: شروط الجعل الذی هو فعل اختیاری للمولی کسائر أفعاله الاختیاریة.

الثانی: شروط الحکم ونقصد بها ما هو دخیل فیه.

الثالث: شروط متعلق الحکم و هو المأمور به ونقصد بها قیوده الوجودیة و العدمیة.

أما النوع الأول، فهو متمثل فی مبادی الفعل الاختیاری من التصور و التصدیق وغیرهما مما هو دخیل فی وجوده، لأن کل فعل إختیاری یکون معلولاً لعلة سابقة و هی إرادة الفاعل وسلطنته وإعمال قدرته علی تفصیل تقدم فی محله.

و أما النوع الثانی، فهو متمثل فی قیود مأخوذة فی موضوع الدلیل فی مرحلة الجعل بنحو القضیة الحقیقیة کالاستطاعة المأخوذة فی موضوع دلیل وجوب الحج و الوقت و العقل و البلوغ ونحوها، فإن هذه القیود شروط للحکم فی مرحلة الجعل ومأخوذة قیداً له فی هذه المرحلة ولاتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادی، وتتوقف فعلیة فاعلیة الحکم علی تحقق هذه الشروط فی الخارج، کما ان فعلیة اتصاف الفعل بالملاک متوقفة علی تحققها فیه.

الأمر بالشیء هل یمکن مع علم الآمر بانتفاء شرطه

و أما النوع الثالث، فهو متمثل فی قیود المأمور به وشروطه الدخیلة فی

ص:146

ترتب الملاک علیه فی الخارج، وبذلک تفترق عن شروط الحکم فإنها دخیلة فی اتصاف الفعل المأمور به بالملاک لا فی ترتبه علیه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إن النوع الأول من الشرط خارج عن محل الکلام فی المسألة، ضرورة استحالة تحقق الفعل الاختیاری من الفاعل المختار بدون تحقق شرطه وعلته، وکذلک النوع الثالث فإنه أیضاً خارج عن محل الکلام، لأن محل الکلام فی المسألة إنما هو فی إمکان أمر الآمر بشیء مع علمه بانتفاء شرطه، ومن الواضح إن انتفاء شرط المأمور به لایمنع عن الأمر به، ضرورة إنه لا مانع من الأمر بالصلاة فی الشریعة المقدسة و إن علم الآمر بعدم توفر شروطها، غایة الأمر إذا لم تتوفر شروطها حین امتثالها والاتیان بها، سقطت فاعلیة الأمر المتعلق بها لمکان عجز المکلف عنها وعدم قدرته علیها فی ظرف الامتثال لا أصله جعلاً، فإذن یکون محل الکلام فی النوع الثانی و هو شروط الحکم.

ثم إن عدم إمکان صدور الأمر الحقیقی من المولی مع علمه بانتفاء شرطه یکون واضحاً، علی أساس إن الغرض الداعی للمولی إلی الأمر بشیء هو امکان داعویته للمکلف نحو الاتیان به وانبعاثه عنه علی تقدیر انقیاده ووصول التکلیف إلیه، ومن الطبیعی إنّه مع انتفاء شرطه، یستحیل أن یکون الأمر داعیاً فی نفس المکلف ومحرکاً له لاستحالة انبعاثه عنه.

استحالة صدور الأمر مع علم المولی بانتفاء شرطه

والخلاصة: إن صدور الأمر من المولی مع علمه بانتفاء شرط فعلیة فاعلیته فی الخارج لغو وجزاف، لأن الغرض من الأمر الصادر منه هو إیجاد الداعی فی نفس المکلف وانبعاثه، ومع انتفاء شرط فعلیته یستحیل انبعاثه عنه و إن کان منقاداً، لأن الأمر بوجوده الجعلی لایکون داعیاً ومحرکاً، وإنما یکون داعیاً ومحرکاً بفعلیة فاعلیته فی الخارج، فإذا استحالت فعلیتها فیه من جهة انتفاء شرطها وموضوعها استحالت داعویته ومحرکیته للمکلف وانبعاثه عنه و إن کان

ص:147

بکامل الانقیاد، فإذن لامحالة یکون لغواً وصدور اللغومن المولی الحکیم مستحیل.

تفصیلات فی المسألة

وهنا تفصیلان فی المسألة:

الأول: من المحقق الخراسانی قدس سره.

الثانی: من السید الاُستاذ قدس سره.

أما الأول، فهو متمثل فی التفصیل بین الأمر الحقیقی و الأمر الامتحانی(1) ، فلایجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فی الأول ویجوز فی الثانی.

و أما الثانی، فهو متمثل فی التفصیل بین ما إذا کان انتفاء الشرط مستنداً إلی نفس جعل الأمر وصدوره من المولی بعنوان المولویة، وما إذا کان انتفائه مستنداً إلی سبب آخر فی مرتبة سابقة علی الأمر، فعلی الأول یجوز دون الثانی(2).

أما التفصیل الأول فهو لیس قولاً بالتفصیل فی المسألة حقیقة، بل هو بیان إن أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه لایعقل فی الأمر الحقیقی، و أما فی الأمر الامتحانی فلا مانع منه، باعتبار إن الغرض منه یحصل بمجرد جعله وصدوره من المولی و هو الامتحان، ومن هنا فالأمر الامتحانی لیس بأمر حقیقة وروحاً ولایکون مشروطاً بشیء حتی یقال إنه یجوز أمر الآمر به مع علمه بانتفاء شرطه أو لایجوز.

و أما التفصیل الثانی فقد ذکر السید الاُستاذ قدس سره إنه لابد من الفرق بین ما إذاکان انتفاء الشرط مستنداً إلی نفس جعل الحکم وإنه السبب و الموجب له، وما

ص:148


1- (1) - کفایة الاصول ص 137.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 7.

اذا کان مستنداً إلی عدم قدرة المکلف أو إلی جهة اخری فی المرتبة السابقة.

فعلی الأول لا مانع من جعله أصلاً إذا کان الغرض منه عدم تحقق شرطه وموضوعه فی الخارج من دون فرق بین أن یکون جعله بنحو القضیة الحقیقیة أو الخارجیة، کما إذا قال المولی لعبده أو الأب لابنه إن کذبت فعلیک دینار مع علمه بأن جعل وجوب الدینار علیه علی تقدیر کذبه مانع عن صدور الکذب منه، لأن هذا هو الغرض من جعله، ومن هذا القبیل جعل الکفارات علی الافطار العمدی فی نهار شهر رمضان فإن الغرض منه سد باب الإفطار العمدی فیه، کما إن الغرض من جعل الحدود علی السرقة و الزنا و اللواط ونحوها هو سدّ باب هذه المحرمات فی الخارج، حیث إنه یکشف عن اهتمام الشارع بخلوّ المجتمع عن تلک المحرمات نهائیاً لأنها تفسد المجتمع خلقیاً، وکذلک الغرض من جعل الدیات و القصاص علی القاتل للنفس المحترمة، حیث إن فی القصاص حیاة کما فی الکتاب العزیز.

والخلاصة، إن الغرض من الأمر إن کان إیجاد الداعی فی نفس المکلف وتحریکه نحو الاتیان بالمأمور به فی الخارج، فلایعقل صدوره من المولی مع علمه بانتفاء شرطه لأنه لغو کما مرّ، و إن کان الغرض منه إیجاد الداعی علی نفی موضوعه وشرطه فی الخارج وإنه الغایة القصوی منه کما هو الحال فی الأوامر الثانویة التی تتضمن العقوبات الدنیویة بغایة تنفیذ الأحکام الأولیة وعدم مخالفتها فی الخارج فلا مانع منه هذا.

والصحیح فی المقام أن یقال: إنه لا فرق بین الأحکام الثانویة المجعولة بغایة منعها عن تحقق شرطها وموضوعها فی الخارج کأحکام القصاص و الدیات و الحدود و الکفارات، وبین الأحکام الأولیة المجعولة بغرض امکان إیجاد الداعی فی نفس المکلف نحو الفعل أو الترک، فکما إن فعل هذه الأحکام مستحیل إذا

ص:149

استحالت داعویتها ومحرکیتها للمکلف من جهة انتفاء شرط من شروطهاکالقدرة ونحوها، فکذلک جعل تلک الأحکام و هی الأحکام الثانویة الجزائیة إذا استحالت داعویّتها للمکلف نحو إعدام شروطها وموضوعاتها فی الخارج، کماإذا کان المکلف عاجزاً عن إیجادها وغیر قادر علیه، وحینئذٍ فیکون جعلها علیه لغواً، مثلاً إذا کان الشخص لایقدر علی السرقة بسبب أو آخر طول حیاته، فکما إنّ جعل حرمة السرقة علیه بنحو القضیة الشخصیة الخارجیة یکون لغواً، فکذا جعل حدّها علیه علی تقدیر السرقة، نعم إن فرض ذلک فی القضایا الحقیقیة لایمکن عادة لا فی الأحکام الأولیة ولا فی الأحکام الثانویة، ولو فرض فی مورد إن المولی کان یعلم بانتفاء شرط فعلیة تکلیف فیه إلی یوم القیامة، استحال علیه أن یجعله لأنه لغو.

و أما فی القضایا الشخصیة الخارجیة، فیتفق ذلک فی کلا النوعین من الأحکام، فکما إنّ جعل الحکم من النوع الأول مع علم الجاعل بانتفاء شرطه فی الخارج لایمکن، فکذلک جعل الحکم من النوع الثانی مع علم الجاعل بانتفاء شرطه فیه لایمکن بلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

و إن شئت قلت: إنّ هذه الأوامر الثانویة تکشف عن اهتمام المولی بعدم وقوع الأعمال الإجرامیة المحرّمة فی المجتمع الإسلامی کقتل النفس المحترمة و السرقة و الزنا وغیرها وقلع مادتها عن المجتمع لأنها تفسد المجتمع وتؤدّی إلی انهیاره وانحطاطه، فإذن الغایة من تلک الأوامر التشدید و الضغط علی الناس بعدم ارتکاب تلک الأعمال الإجرامیة المحرمة، و أما لو فرضنا إنّ الناس کانوا منقادین للابتعاد عن تلک الأعمال نهائیاً ولایحتمل صدورها منهم أو کانوا غیر قادرین علی ارتکابها واقتحامها وعاجزین عنه، فعندئذٍ وجود تلک الأوامر وعدمها بالنسبة إلیهم علی حدّ سواء فلا یؤثر فی أنفسهم أصلاً، فلا محالة یکون صدورها بالنسبة إلیهم لغواً وجزافاً، هذا نظیر ما إذا علم المولی بأن خادمه لایخالفه فی

ص:150

یوم الجمعة أصلاً، ومع هذا إذا قال له إن خالفتنی فی یوم الجمعة فعلیک کذا وکذاکان لغواً، إذ لا تأثیر له بالنسبة إلیه أصلاً فیکون بنظره مجرد لقلقة اللسان.

والخلاصة، إن المسألة باطلة برأسها ولیس لها معنی معقول ومحصل لا فی الخطابات الأولیة ولا فی الخطابات الثانویة.

و أما المحقق النائینی قدس سره، فقد ذکر إنّ المسألة باطلة(1) ولکن لا من جهة ماذکرناه، بل من جهة إن مرجع النزاع فیها إلی النزاع فی أن علم الآمر بانتفاء الشرط هل هو دخیل فی انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه أو غیر دخیل فیه، ومن الواضح إنه لامعنی لهذا النزاع، ضرورة إنّ الأحکام الشرعیة مجعولة بنحو القضایا الحقیقیة وتدور فعلیتها مدار فعلیة موضوعها فی الخارج بدون دخل لعلم الآمر فیه لا وجوداً ولا عدماً، وغیر خفی إن بطلان المسألة لیس من جهة ما ذکره قدس سره، لأنه مبنی علی إن علم الآمر بانتفاء الشرط المأخوذ فی عنوان المسألة قد لوحظ بنحو الموضوعیّة مع إن الأمر لیس کذلک، ضرورة إنه ملحوظ بنحو الطریقیة بل بطلانها من جهة ما ذکرناه، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، و هی إن مسألة إمکان أمر الآمر بشیء مع علمه بانتفاء شرطه وعدم امکانه لاترجع إلی معنی معقول، لما عرفت من استحالة أمر الآمر بشیء مع علمه بانتفاء شرطه بلا فرق فی ذلک بین الأحکام الأولیة و الأحکام الثانویة، ومن هنا یظهر أن ماذکره السید الاُستاذ قدس سره من التفصیل بینهما و البناء علی عدم الجواز فی الأحکام الأولیة و الجواز فی الأحکام الثانویة، لایمکن المساعدة علیه و قد تقدم تفصیله، کما إنه لا وجه للتفصیل بین الأوامر الحقیقیة و الأوامر الامتحانیة کما ذکره صاحب الکفایة قدس سره، هذا تمام کلامنا فی جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه.

ص:151


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 303.

فصل فی متعلق الأمر هل هو الطبیعی أو الفرد

اشارة

والجواب: إنه فیه مجموعة من النظریات:

النظریة الأولی و الرد علیه

الاُولی: ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره(1) من أن هذه المسألة إما مبنیّة علی مسألة إمکان وجود الطبیعی فی الخارج أو عدم امکان وجوده فیه، فعلی الأول یکون الأمر فی هذه المسألة متعلقاً بالطبیعة، وعلی الثانی بالفرد، أو أنها مبنیة علی مسألة إن الأصل فی الأشیاء الوجود أو الماهیّة، فعلی القول بأصالة الوجودیتعلق الأمر فی هذه المسألة بالفرد، وعلی القول بأصالة الماهیة بالطبیعة هذا.

والصحیح إن النزاع فی هذه المسألة لایرتبط بالنزاع فی المسألة الفلسفیة لا بالمسألة الاُولی ولا الثانیة.

أما فی المسألة الاُولی، فلأن النزاع فیها إنما هو فی أنّ الطبیعی هل هو موجود فی الخارج بالذات و الحقیقة أو أن الموجود فیه کذلک هو الفرد و الطبیعی موجودبوجوده بالعرض، و أما النزاع فی هذه المسألة فهو لایبتنی علی ذلک، بل لو قلنافی تلک المسألة بعدم وجود الطبیعی فی الخارج بالذات و الحقیقة فمع ذلک لا مانع من القول فی هذه المسألة بتعلق الأمر بالطبیعة، إذ یکفی فی صحة تعلقه بها وجودها بوجود فردها فی الخارج بالعرض، لوضوح إن الطبیعة و إن قلنا بعدم وجودها فیه بالذات إلاّ أنه لا شبهة فی وجودها بوجود فردها بالعرض بشهادة

ص:152


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2 ص 253.

صحة حملها علیه بالحمل الشایع کقولنا زید إنسان و هذه صلاة وهکذا، وصحة الحمل بالحمل الشایع لایمکن إلاّ إذا کان المحمول متحداً مع الموضوع فی الخارج، و إن شئت قلت: إنه لاشبهة فی صحة حمل الطبیعی علی فرده فی الخارج بالحمل الشایع، و إن قلنا: فی تلک المسألة بعدم وجوده فیه بالذات، فإنها تکشف عن أنه و إن لم یکن موجوداً بالذات فی الخارج إلاّ أنه موجود بوجود فرده فیه و هذا المقدار یکفی فی صحة تعلق الأمر به.

فالنتیجة، إن النزاع فی هذه المسألة لایرتبط بالنزاع فی تلک المسألة الفلسفیة، فإنه و إن قلنا بعدم وجود الطبیعی فی الخارج بالذات و الحقیقة، فمع ذلک لا مانع من القول فی هذه المسألة بتعلق الأمر به لا بالفرد بل لا مناص من الالتزام بذلک، لأنه إن ارید بتعلق الأمر بالفرد تعلقه بالفرد الخارجی مباشرة، فهو من أوضح انحاء طلب الجاهل، و إن ارید به تعلقه بمفهومه المشار به إلی الفرد المفروغ عنه وجوده فی الخارج، فأیضاً یلزم محذور طلب الحاصل، و إن ارید به تعلقه بمفهومه بما هو فانه فی الخارج ومرآة له أی مفهومه بالحمل الأولی لا بالحمل الشایع و هو الصورة الذهنیة الموجودة فی عالم الذهن التی هی معروضة بالذات و الخارج معروضة بالعرض، فهو و إن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنه لا دلیل علیه فی مقام الاثبات، وسوف نشیر إلی تفصیله بأکثر من ذلک.

و أما فی المسألة الثانیة، فلأن النزاع فیها إنما هو فی أنّ الموجود فی الخارج الماهیة و الوجود منتزع منها، لأن معنی جعل الماهیة تکویناً إفاضة نفسهاوصدورها وفیضانها من جاعلها وینتزع منها إنها موجودة، أو الوجود فإنه المجعول من الجاعل و الماهیة منتزعة منه بحدّه، وعلی هذا فالفرد علی القول بأصالة الماهیة فی المسألة متمثل بالماهیة الخارجیة، وعلی القول بأصالة الوجو

ص:153

د فیما متمثل بالوجود الخارجی، و أما الطبیعة الکلیة فی عالم الذهن، فهی علی کلا القولین فی المسألة مفهوم انتزاعی ذهنی ولایعقل أن یکون مجعولاً تکویناً، وعلی ضوء ذلک فلایرتبط النزاع فی هذه المسألة بالنزاع فی تلک المسألة الفلسفیة، ولایمکن أن یکون تعلق الأمر بالفرد فی هذه المسألة مبنیاً علی القول بأصالة الوجود فی تلک المسألة، وتعلّقه بالطبیعة مبنیاً علی القول بأصالة الماهیّة فیها، ضرورة إن الطبیعة مفهوم إنتزاعی ذهنی کما مرّ، فلایعقل أن یکون مجعولاً تکویناً، کیف فإن الجعل عین المجعول فی الخارج و هو نفس الفرد فیه.

متعلق الأمر هل هو الطبیعی أو الفرد

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی إنّ النزاع فی هذه المسألة لایرتبط بالنزاع فی مسألة إمکان وجود الطبیعی فی الخارج وعدم إمکانه فیه ولا بمسألة أصالة الوجود و الماهیّة.

النظریة الثانیة: ما ذکره المحقق النائینی قدس سره

اشارة

(1) من أن النزاع فی هذه المسألة مبنی علی مسألة فلسفیّة، و هی إنّ معروض الوجود و الإیجاد الخارجی هل هو الماهیة الشخصیة فی المرتبة السابقة أو ذات الماهیة و الطبیعیة ویکون تشخصها بالوجود نفسه، فعلی الأول یکون متعلق الأمر الفرد لا الطبیعة علی أساس إن الإرادة التکوینیّة علی هذا القول دائماً تتعلق بإیجاد الماهیة و الطبیعة الشخصیة، وعلیه فلابد أن تکون الارادة التشریعیة متعلّقة به، باعتبار إنها تتعلق بنفس ماتعلّقت به الإرادة التکوینیة ولا فرق بینهما من هذه الناحیة.

وعلی الثانی یکون متعلق الأمر الطبیعة وذات الماهیّة علی أساس أن الإرادة التکوینیّة علی هذا القول تتعلّق بها، فإذن لا محالة تکون الإرادة التشریعیة متعلقة بها.

ص:154


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 305.

والخلاصة، إنّ مسألتنا هذه لیست مسألة مستقلّة بل هی مربوطة بهذه المسألة الفلسفیّة وتدور مدارها، وعلی هذا فتظهر الثمرة فی المقام بین القول بتعلّق الأمر بالفرد و القول بتعلقه بالطبیعة فی مسألة اجتماع الأمر و النهی، فإنه علی القول بتعلق الأمر فی المسألة بالماهیة الشخصیّة المتمثلة بالفرد وکذلک النهی، فلایمکن اجتماع الأمر و النهی، لأن المجمع حینئذٍ یکون واحداً وجوداً وماهیة فی مورد الاجتماع و إن کان معنوناً بعنوانین متغایرین، إلاّ أنّ تغایرهما مفهوماً لایوجب تغایر المجمع وجوداً، باعتبار إنّ مشخصات متعلق کل منهما نفس مشخصات متعلق الآخر، و هذا بخلاف ما إذا کان متعلق کل منهما ذات الماهیة و الطبیعة فعندئذٍ لامانع من الاجتماع، لأن متعلق الأمر حینئذٍ طبیعة ومتعلق النهی طبیعة اخری وان تصادقا علی واحد.

نقاط هذه النظریة

هذه النظریة تتضمّن عدة نقاط:

الاُولی: إنّ هذه المسألة مربوطة بالمسألة الفلسفیة، و هی إن معروض الوجود والایجاد فی تلک المسألة إن کان الماهیة الشخصیّة، کان متعلق الأمر فی هذه المسألة الفرد، و إن کان ذات الماهیة، کان متعلق الأمر فیها الطبیعة، بنکتة إن الارادة التشریعیة تتبع الارادة التکوینیة، وحیث إنها علی الأول تتعلق بإیجاد الماهیة الشخصیة وعلی الثانی بإیجاد ذات الماهیة، فبطبیعة الحال تکون الارادة التشریعیة کذلک.

الثانیة: إن متعلق الأمر إیجاد الماهیة سواءً أکانت شخصیّة أم کلیّة بتبع أنه متعلق الارادة التکوینیّة.

الثالثة: ظهور الثمرة بین القولین فی مسألة اجتماع الأمر و النّهی.

ولنأخذ بالنظر فی هذه النقاط:

ص:155

الرد علی هذه النقاط

أما النقطة الاُولی: فلأن مسألتنا هذه لاترتبط بتلک المسألة و هی المسألة الفلسفیّة.

أما أولاً، فلأن المسألة الفلسفیّة بهذه الصّیغة لاترجع إلی معنی معقول، إذکیف یعقل أن تکون الماهیّة مشخّصة فی نفسها وفی المرتبة السابقة وقبل إیجادها، بداهة إن تشخص کل شیء إنما هو بالوجود و الإیجاد حتی علی القول بأصالة الماهیة، فإن تشخصها إنما هو بإفاضة نفسها من الجاعل لابنفسها وبقطع النظرعن الافاضة، لأنه بقطع النظر عنها فلا ماهیة حتی تکون مشخصة، فالسالبة تکون بانتفاء الموضوع.

وثانیاً، إن مسألتنا فی المقام لاترتبط بالمسألة الفلسفیة المشار إلیها، لأن معنی تعلق الأمر بالفرد، لیس تعلقه بالماهیة الشخصیّة فی الخارج، لأن تعلقه بهایستلزم طلب الحاصل، بل معناه تعلقة بمفهوم الفرد بالحمل الأولی الفانی فی الخارج و المرآة له کما هو شأن کل مفهوم وله معروضان:

أحدهما: عرضی و هو وجوده فی الخارج و الآخر ذاتی و هو وجوده فی الذهن، والأمر متعلق مباشرة بمفهومه الفانی فی إیجاده فی مرتبة متأخرة عنه ولامانع من ذلک، نعم لایمکن تعلقه بمفهومه المشار به إلی الفرد المفروغ عنه وجوده فی الخارج لأنه من طلب الحاصل، والفرق بین الصورتین واضح، هذا علی القول بتعلق الأمر بالفرد فی هذه المسألة، و أما علی القول بتعلقه بالطبیعة فیها، فمعناه إنه تعلق بالمفهوم الکلی بالحمل الأولی الفانی فی الخارج لا بالحمل الشایع، لأنه بهذا الحمل عبارة عن الصورة الذهنیّة القائمة بالذهن و الموجود فیه، ولاینطبق بهذا الحمل علی ما فی الخارج ولا مانع من تعلق الأمر بالمفهوم الکلی بالحمل الأولی الفانی فی الخارج مباشرة، ولا فرق فی ذلک بین القول فی المسألة الفلسفیة

ص:156

المتقدّمة بأن الوجود یعرض علی الماهیة الشخصیة أو علی ذات الماهیّة و الطبیعة، لأن القول بتعلق الأمر بالطبیعة فی هذه المسألة ینسجم مع کلا القولین فی تلک المسألة وکذلک القول بتعلّقه بالفرد، و هذا معنی إنه لاصلة ولا إرتباط بین المسألتین أصلاً، فما ذکره قدس سره من أن مسألتنا هذه لیست مسألة مستقلة بل هی مرتبطة بتلک المسألة الفلسفیة لایرجع إلی معنی صحیح.

و أما النقطة الثانیة: فیرد علیها أولاً: إنّ ماهو متعلق للارادة التکوینیة و هو إیجاد الطبیعة فی الخارج لایمکن أن یکون متعلقاً للارادة التشریعیة و هی أمر المولی، ضرورة أن أخذ الإیجاد فی متعلقها یستلزم طلب الحاصل، ودعوی إن هذا المحذور إنما یلزم إذا کان المأخوذ الوجود دون الإیجاد.

مدفوعة، بأنه لافرق بین الإیجاد و الوجود إلاّ بالاعتبار و الإضافة، فإنه إذا اضیف إلی الفاعل فهو إیجاد و إذا اضیف إلی نفسه فهو وجود، فإذن أخذ الإیجاد هو أخذ الوجود، فلا فرق بینهما إلاّ فی التعبیر.

والخلاصة: إنه لایمکن أن یکون الأمر متعلقاً بإیجاد الطبیعة لاستلزامه طلب الحاصل، باعتبار أن إیجادها فی الخارج سوف یکون فی مرتبة متأخرة عن مرتبة هذا الإیجاد المأخوذ فی متعلق الأمر، و هذا معنی إستلزام أخذه فی متعلقه طلب الحاصل.

وثانیاً: إنه لا شاهد علی أنّ الإرادة التشریعیة لابدّ أن تتعلق بما تعلّقت به الإرادة التکوینیة لا وجداناً ولا برهاناً، فإذن تعلق الإرادة التکوینیة بإیجاد الماهیّة الشخصیة لایستلزم تعلق الإرادة التشریعیة به، لأن المعتبر فی الإرادة التشریعیة للمولی أن یکون متعلقها مقدوراً للمکلف خارجاً حتی لایلزم التکلیف بالمحال، وعلی هذا فلا مانع من التفکیک بین الإرادة التکوینیّة و الإرادة

ص:157

التشریعیة، بأن تتعلق الاُولی بإیجاد الطبیعة الشخصیّة و الثانیة بالطبیعة الکلیة علی أساس إنها مقدورة. فالنتیجة، إنه لا دلیل علی أنّ الإرادة التشریعیة تتبع الإرادة التکوینیّة فی المتعلق، فما ذکره قدس سره من الملازمة بین الإرادتین لا وجه له.

و أما النقطة الثالثة: فیظهر نقدها مما تقدّم، لأنها مبنیّة علی أنّ الأمر فی هذه المسألة تعلق بالماهیّة الشخصیّة، علی القول بأنّ تشخصها إنما هو بنفسها لابالوجود العارض علیها وبالماهیة الکلیّة، علی القول بأن تشخصّها إنما هو بالوجود، وجه الظهور ما عرفت من أنّ هذه المسألة لاترتبط بتلک المسألة نهائیاً، ومن هنا لایکون القول بامتناع إجتماع الأمر و النهی مبنیاً علی القول بتعلق الأمر بالفرد فی هذه المسألة و القول بالجواز مبنیاً علی القول بتعلّقه بالطبیعة فیها، بل هما مبنیان علی وحدة المجمع ذاتاً ووجوداً فی مورد الاجتماع وتعدده کذلک علی تفصیل یأتی فی محله إنشاء اللَّه تعالی.

النظریة الثالثة أن النزاع فی هذه المسألة إنما هو لتعیین إنّ التخییر بین أفراد الواجبات الشرعیة عقلی أو شرعی

اشارة

(1): إن النزاع فی هذه المسألة عن أنّ متعلق الأمر الطبایع أو الأفراد إنما هو لتعیین إنّ التخییر بین أفراد الواجبات الشرعیة کالصلاة ونحوها عقلی أو شرعی، فإن کان الأمر متعلقاً بالطبیعة فالتخییر بینها عقلی، علی أساس إنّ الأمر المتعلق بها واحد و هو لایسری منها إلی أفرادها، فإذن یکون المکلف مخیّراً فی مقام الامتثال فی تطبیقها علی أی فرد منها شاء، إن کان متعلقاً بالأفراد فالتخییر بینها شرعی، علی أساس إنّ هناک أوامر متعدّدة بعدد الأفراد، ولکنها أوامر مشروطه بمعنی إن الأمر المتعلق بکل فرد منها مشروط بعدم الاتیان بالفرد الآخر.

و للمناقشة فی هذه النظریة مجال، و هی إنه لاشبهة فی أنّ التخییر بین أفراد

ص:158


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 305 بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 401.

الواجبات الشرعیة عقلی علی کلا القولین فی المسألة، وذلک لأن الأمر المتعلق بتلک الواجبات الموجه إلی کل فرد أمر واحد، وإنما الکلام فی أن متعلقه الطبیعی أو الفرد، فعلی الأول لا شبهة فی أنّ التخییر بین أفراده عقلی، و أما علی الثانی فلأن المراد من تعلق الأمر بالفرد لیس تعلقه بالفرد الموجود فی الخارج، لأنه من أوضح أنحاء طلب الحاصل، ولا بمفهوم الفرد المشار به إلی الفرد المفروغ عنه وجوده فیه لنفس المحذور، بل المراد منه تعلقه بمفهومه بما هو فانٍ فی الخارج فی مرتبة متأخرة عنه لا بما هو مشیر إلی واقع خارجی مفروغ عنه وجوده وفرق بین الصورتین، فإذا کان متعلق الأمر مفهوم الفرد فهو کلی، و إن کان معنوناً بعنوان الفرد کفرد الصلاة مثلاً، إلاّ أنّ هذا التخصیص و التضییق لا یخرجه عن الکلیة طالما لم یتحقق وجوده فی الخارج، فإذن لا محالة یکون التخییر بین أفراده عقلیاً، فالنتیجة، إنه لاأصل لهذه النظریة أیضاً.

الصحیح فی المقام

فالصحیح فی تفسیر هذین القولین فی المسألة أن یقال بما یلی:

أما القول بتعلق الأمر بالفرد فلایمکن أن یراد منه تعلقه بالفرد فی الخارج بتمام ضمائمه ومشخصاته فیه من الکم و الکیف و الأین و الوضع ومتی وهکذا، لأن التشخّص الحقیقی للفرد إنما هو بوجوده دون تلک الضمائم الخارجیة التی هی فی طول تشخّصه الحقیقی، نعم إنها تعد بنظر العرف من مشخصاته وممیزاته فی الخارج و إن کانت فی الواقع ضمائم ملازمة لوجوده فیه ومصادیق لماهیات اخری، وذلک لأن تعلّقه به کذلک فی الخارج من أوضح مصادیق طلب الحاصل و هو مستحیل، وکذلک لایمکن أن یراد منه تعلّقه بالفرد بحده الفردی فی الخارج، وکذا تعلّقه بمفهوم الفرد المشار به إلی الفرد المفروغ عنه وجوده فیه بنفس المحذورهذا، إضافة إلی أنّ هذه الاحتمالات بنفسها غیر محتملة، ضرورة إنّه من غیر

ص:159

المحتمل أن یکون الأمر المتعلق بالصلاة متعلقاً بفرد خاص ومعیّن فی الخارج وإلاّلزم التکلیف بالفرد المجهول و هو کما تری، کما لایمکن أن یراد من تعلقه بالفردتعلقه بمفهومه الذهنی بالحمل الشایع و هو المفهوم الموجود فی عالم الذهن، لأنه غیر قابل للانطباق علی ما فی الخارج، والخلاصة إنه یستحیل إرادة شیء من هذه الاحتمالات من تعلق الأمر بالفرد، بل المراد منه تعلقه بمفهوم الفرد بما هو وبالحمل الأولی الفانی فی الخارج فی مرتبة متأخرة منه، ومفهوم الفرد بهذا الحمل عرض ومعروضه بالذات الصورة الذهنیة القائمة بالذهن ومعروضه بالعرض الوجود الخارجی و هذا المفهوم کلی، لأن المفهوم مهما قید وخصص بمخصصات فهو کلی، غایة الأمر إن دائرته سعةً وضیقاً تختلف من مفهوم إلی مفهوم آخر، وعلی هذا فالقول بتعلق الأمر بالفرد یرجع فی الحقیقة إلی القول بتعلقه بالکلی، والاختلاف حینئذٍ بین القولین إنما یکون باللفظ وصیاغة المسألة فقط لا فی الواقع و المعنی، هذا کله بحسب مقام الثبوت و التصور، و أما فی مقام الاثبات فلا شبهة فی عدم تعلق الأمر بمفهوم الفرد فیه، لأن مادة الواجبات الشرعیة کلها معنونة بعنوان خاص ومسماة باسم مخصوص کالصلاة و الصیام و الحج وما شاکل ذلک، فالأمر المتعلق بها تعلق بعناوینها الخاصة وأسمائها المخصوصة لا بأفرادها، مثلاً الأمر المتعلق بالصلاة تعلق بها بعنوانها الخاص واسمها المخصوص لا بفردها، والمفروض ان هذا الإسم إسم للمادة التی هی موضوعة للماهیة بما هی لا للأعم منها ومن الفرد، فلهذا یکون المتعین فی مقام الاثبات هو تعلق الأمر بالطبیعی باسمه الخاص.

و أما معنی القول بتعلق الأمر بالطبیعة فهو تعلقه بالمفهوم الذهنی الکلی بالحمل الأولی لا بما هو موجود فی الذهن بالحمل الشایع ولا بما هو مرآة لما هوموجود فی الخارج، أما الأول فلأنه حاصل فی الذهن وغیر واف بغرض المولی

ص:160

لمکان عدم انطباقه علی ما فی الخارج.

و أما الثانی، فهو طلب الحاصل بل بما هو مفهوم أولی فانٍ فی الخارج کما هوشأن کل مفهوم أولی یدخل فی الذهن، وتعلق الأمر به بعنوان خاص واسم مخصوص إنما هو للدلالة علی أن المطلوب هو تطبیقه علی ما فی الخارج بإیجاده فیه، فیکون متعلق الطلب الطبیعة بما هی کمادة الصلاة ونحوها، فإنها موضوعة للماهیة بما هی، ودعوی إن الماهیة بما هی هی لیست إلاّ هی لا مطلوبة ولا غیرمطلوبة، فإذن کیف یمکن أن تکون ماهیة الصلاة بما هی مطلوبة.

مدفوعة، بأن الماهیة فی مرتبة ذاتها وذاتیاتها لیست إلاّ هی، و أما اتصافها بعوارضها فهو لیس فی مرتبة ذاتها وذاتیاتها بل فی مرتبة متأخرة عنها، وعلی هذا فإذا تعلق بها الطلب تتصف بالمطلوبیة و المحبوبیة فی هذه المرتبة لا فی مرتبة ذاتها وذاتیاتها. فالنتیجة، إن الطلب لا یتعلق بالوجود الخارجی لا بالذات ولابالواسطة، وإنما تعلق بما یکون الوجود الخارجی مصداقاً له.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره(1) بأن متعلق الطلب إیجاد الطبیعة لا وجودها لکی یلزم طلب الحاصل، لایمکن المساعدة علیه، إذ لا فرق بین الإیجاد و الوجود، فإنهما شیء واحد والاختلاف بینهما إنما هو بالاعتبار و الإضافة و هو لا یغیر الواقع، فإذن محذور ذلک طلب الحاصل و هو لازم، ضرورة إن الطلب لو کان متعلقاً بإیجاد الطبیعة فإنه سوف یکون متأخراً عن مرتبة هذا الإیجاد المأخوذ فی متعلقه، ولکن یمکن دفع هذا الاشکال بأن المأخوذ فی متعلقه إنما هو مفهوم الإیجاد بعنوان المعرّف و المشیر إلی واقعه الخارجی لاواقعه حتی یلزم محذور طلب الحاصل.

ص:161


1- (1) - کفایة الاصول ص 138.

قد یقال کما قیل(1): إن المراد من تعلق الأمر بالأفراد هو سرایته من الطبیعی إلیها إما بحسب الجعل أو بحسب التطبیق، ولکن ذلک بحسب التحلیل لایرجع إلی معنی معقول، فإن السرایة إن کانت بلحاظ مرحلة الجعل، فمعناه إنّ هناک أوامر متعدّدة بعدد الأفراد فی الخارج فی مقام الثبوت ومجعولة لها بواسطة الطبیعی المنطبق علیها، و هذا یعنی إن المولی أخذ عنوان الطبیعی بعنوان المعرف و المشیر إلی أفراده بدون أن تکون له موضوعیة، ثم إنّ هذه الأوامر المتعددة لایمکن أن تکون أوامر مطلقة وإلاّ لزم التکلیف بغیر المقدور، بل لابد أن تکون أوامر مشروطه، ومن الواضح إنّ کل ذلک مجرد فرض لا واقع موضوعی له.

و أما السرایة فی مرحلة التطبیق فلا ترجع إلی معنی محصل، لأن الحکم المجعول من الأول إن کان متعدداً بعدد أفراد الطبیعة، کانت السرایة إلیها من مرحلة الجعل، و إن کان واحداً فهو غیر قابل للسرایة أصلاً.

والخلاصة: إن القول بسرایة الحکم من الطبیعة إلی نفس أفرادها بقطع النظرعن ضمائمها الخارجیة ومشخصاتها العرفیة، لایرجع إلی معنی معقول فضلاً عن سرایته إلیها مع ضمائمها ومشخصاتها.

نتائج البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الاُولی: إن ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره من أن مسألة کون متعلق الأوامر الطبایع أو الأفراد مبنیة علی إحدی مسألتین فلسفیّتین:

الاُولی: مسألة إمکان وجود الطبیعی فی الخارج وعدم امکانه.

فعلی الأول متعلق الأوامر الطبایع وعلی الثانی الأفراد.

ص:162


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 404.

الثانیة: مسألة أصالة الوجود أو الماهیة، فعلی الأول متعلق الأوامر الأفراد وعلی الثانی الطبایع و الماهیات لایتم، و قد تقدم إنها لاتبتنی علی أی من هاتین المسألتین بل هی مسألة مستقلة.

الثانیة: إن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن هذه المسألة مربوطة بالمسألة الفلسفیة و هی أن معروض الوجود و الإیجاد هل هو الماهیة الشخصیة بقطع النظر عن عروض الوجود علیها أو ذات الماهیة و الطبیعة ویکون تشخصّهابنفس الوجود، فعلی الأول متعلق الأوامر الطبایع وعلی الثانی الأفراد، لایتم و إن مسألتنا هذه غیر مرتبطة بها.

الثالثة: إن متعلق الأوامر إن کان الطبایع فالتخییر بین أفرادها یکون عقلیاً، و إن کان الأفراد فالتخییر بینها یکون شرعیاً، ولکن قدتقدم بطلان هذه النظریة.

الرابعة: إن القول بتعلق الأمر بالفرد لایرجع إلی معنی معقول، إذ لا یمکن أن یراد منه تعلقه بالفرد الخارجی لاستحالة طلب الحاصل، ولا بمفهومه المشار به إلی الفرد المفروغ عنه فی الخارج لنفس المحذور، فإذن لابد من الالتزام بأن متعلقه مفهوم الفرد بما هو و هو کلی ولیس تعلقه به من تعلق الأمر بالفرد فی مقابل تعلقه بالکلیّ.

الخامسة: إن متعلق الأمر الطبیعة بما هی لا بما هی مرآة إلی الفرد المفروغ عنه فی الخارج وإلاّ لزم تحصیل الحاصل، فالوجود غیر مأخوذ فی متعلقه، وما ذکره صاحب الکفایة قدس سره من أن الإیجاد مأخوذ فی متعلق الطلب غیر تام کما تقدّم.

السادسة: الصحیح فی مرحلة الاثبات هو أن متعلق الأوامرالطبایع دون الأفراد.

ص:163

النّسخ

اشارة

ینبغی تقدیم عدة نقاط:

الاُولی: إن النسخ فی مقام الثبوت عبارة عن انتهاء الحکم المجعول فی الشریعة المقدسة بانتهاء عمره وأمده، فإن المولی الحکیم العالم بالواقع بملاکات الأحکام الشرعیة وحدودها سعةً وضیقاً، فبطبیعة الحال یختلف الحکم المجعول من قبله باختلاف تلک الملاکات التی هی روح الأحکام وحقیقتها، لأن إتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادی إن کان فی الواقع إلی یوم القیامة، کان الحکم المجعول له أیضاً کذلک، و إن کان فی فترة زمنیة معیّنة، کان الحکم المجعول له أیضاً فی تلک الفترة، و إذا انتهت الفترة انتهی الحکم بانتفاء أمده، و هذا هو معنی النسخ ثبوتاً وواقعاً.

الثانیة: إن الحکم الشرعی مجعول فی أفق الاعتبار و الذهن بتمام حصصه وأفراده الطولیة و العرضیة إلی یوم القیامة فی آن واحد وزمن فارد، علی أساس إنّ الجعل آنی التحقق و الحصول ولا یعقل فیه التدریح والاستمرار حتی یعقل له الوجود الثانی و الثالث وهکذا، مثلاً جعل المولی وجوب الحج علی المستطیع بقوله:«وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً» (1) ، بنحو القضیة الحقیقیّة أی للموضوع المقدّر وجوده فی الخارج فی آن واحد بجمیع حصصه وأفراده العرضیّة و الطولیة إلی یوم القیامة، ولهذا لا یتصوّر فی هذه المرحلة

ص:164


1- (1) - سورة آل عمران آیة 97.

حدوث وبقاء، لأن جمیع حصص الجعل وأفراده توجد فی آن واحد بلا تقدم وتأخّر حتی رتبة، والحدوث و البقاء إنّما یکونان فی الشیء الذی کان یوجدتدریجاً إمّا بنفسه أو بواسطة وجود موضوعه فی الخارج کما یتّفق ذلک فی موارد فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه، فإن المکلف قد یشک فی بقاء الحکم بعد الیقین بحدوثه فی الخارج بحدوث موضوعه فیه، کما إذا شک فی بقاء نجاسة الماء المتغیّربأحد أوصاف النجس بعد زوال تغیّره بنفسه وهکذا، و أما فی مرحلة الجعل فلایتصور فیها حدوث وبقاء، لأنهما إنما یتصوران فی الأشیاء التی توجد تدریجاً، لأن الوجود الأول منها حدوث و الوجود الثانی و الثالث وهکذا بقاء، والجعل بتمام حصصه وأفراده إلی یوم القیامة یوجد فی آن واحد ولیس له وجود ثان فی الآن الثانی حتی یکون بقاء له هذا.

وحیث قد عرفت إنّ جعل الحکم فی الشریعة المقدسة قد یکون محدوداً بفترة زمنیة خاصة فی الواقع و قد یکون غیر محدود بها کذلک وثابتاً إلی یوم القیامة، فیکون هذا منشأً للشک فی سعته وضیقه فی مرحلة الاثبات فی بعض الموارد، وعندئذٍ فهل یمکن التمسک باستصحاب بقاء الجعل أو إنّه معارض باستصحاب عدم الجعل الزائد، فیه کلام یأتی فی محلّه إنشاء اللَّه تعالی.

الثالثة: إن انتفاء الحکم المجعول فی الشریعة المقدسة تارةً یکون فی مرحلة الجعل واُخری فی مرحلة المجعول و هی مرحلة فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه، أما انتفاء الحکم فی المرحلة الأولی لایمکن إلا بالنسخ، باعتبار إنه لا یتصور الشک فی الحکم فی هذه المرحلة إلا من ناحیة الشک فی بقاء الجعل، حیث إنه لاوجود له إلاّ الوجود الجعلی، و هذا یعنی إنّ وجوده نفس وجود الجعل، لأن المجعول فی هذه المرحلة عین الجعل فلا فرق بینهما إلاّ بالاعتبار و الإضافة، فإن

ص:165

اضیف إلی الجاعل فهو جعل و إن اضیف إلی نفسه فهو مجعول کالإیجاد و الوجود فی الاُمور التکوینیة، و أما انتفاء الحکم فی المرحلة الثانیة فهو إنما یکون بانتفاء موضوعه فی الخارج، فطالما یکون موضوعه باقیاً فیه فهو باق و إذا انتفی انتفی بانتفائه.

النّسخ

الرابعة: إنّ النسخ یختلف عن التخصیص و التقیید، فإن الدلیل الناسخ یکشف عن انتهاء الحکم المنسوخ بانتهاء أمده وعمره، باعتبار إنه محدود بفترة زمنیة معیّنة ثبوتاً وبانتهائها ینتهی واقعاً، والدلیل الناسخ فی مقام الإثبات کاشف عن ذلک ویدل علی رفع هذا الحکم فی الشریعة المقدسة بلا نظر إلی وجود موضوعه فی الخارج، باعتبار إنّ ظرف الرفع فیه نفس الشریعة و المرفوع هو الحکم المجعول فیها للموضوع المقدر وجوده فی الخارج.

والخلاصة: إنّ النسخ فی مقام الثبوت انتهاء الحکم المجعول بانتهاء أمده وفی مقام الاثبات رفع الحکم فی مرحلة الجعل، ومعنی ذلک إنّ المرفوع هو الحکم الذی لاوجود له إلا بوجود الجعل فی مقابل ارتفاع الحکم بارتفاع موضوعه فی الخارج، و أما الدلیل المخصص فهو یکشف عن أنّ موضوع الحکم حصة خاصة من العام فی الواقع ومقام الثبوت و إنّ الحکم من الأول مجعول لها فی الشریعة المقدسة لا للأعم منها ومن غیرها، وفی مقام الاثبات یدل علی تخصیص الحکم بها، وبکلمة إن الدلیل الناسخ یختلف عن الدلیل المخصّص ثبوتاً واثباتاً، أماثبوتاً فلأن الدلیل الناسخ یکشف عن انتهاء الحکم بانتهاء أمده فی تمام مراحله أی من مرحلة المبادی إلی مرحلة الجعل والاعتبار، بینما الدلیل المخصص یکشف عن أنّ الحکم المجعول فی الشریعة المقدسة من الأول هو الحکم الخاص لا العام.

و أما إثباتاً، فلأن مفاد الدلیل الناسخ رفع الحکم المجعول فی الشریعة المقدّسة

ص:166

عن الموضوع المقدّر وجوده فی الخارج و هو الحکم الذی لا وجود له إلا الوجود الجعلی للموضوع المذکور، بینما یکون مفاد الدلیل المخصص تخصیص الحکم بتخصیص موضوعه فیه، نعم قد یکون لسان الدلیل الناسخ تخصیص موضوع الدلیل المنسوخ شکلاً وصورةً لا واقعاً، کما إذا فرضنا إنّ هناک مصلحة ملزمة تقتضی وجوب إکرام کل عالم و إن کان فاسقاً، ولکن هذه المصلحة محدودة بفترة زمنیة معینة، بمعنی إنّ مصلحة وجوب إکرام العالم الفاسق محدودة بتلک الفترة المعینة، و أما مصلحة وجوب اکرام العالم العادل فهی غیر محدودة بها، وعلی هذاففی مقام الاثبات إذا ورد فی الدلیل لاتکرم العالم الفاسق، فإنه و إن کان لسانه لسان التخصیص شکلاً وصورة، إلا أنه فی الواقع ناسخ ورافع لوجوب إکرام العالم الفاسق إثباتاً وکاشف عن انتهائه بانتهاء أمده وعمره.

وقوع الکلام فی مقامین

اشارة

وبعد ذلک نقول إن الکلام یقع فی مقامین:

الأول: فی إمکان إثبات الجواز بالمعنی الأعم بالدلیل الناسخ أو المنسوخ.

الثانی: فی إثبات ذلک بالأصل العملی.

المقام الأول: فی إمکان إثبات الجواز بالمعنی الأعم
اشارة

أما الکلام فی المقام الأول، فیقع فیما إذا ورد فی دلیل أمر من المولی بشیء بنحو القضیة الحقیقیة ولکنه کان فی الواقع ومقام الثبوت محدوداً بفترة زمنیة معینة، ثم ورد فی دلیل آخر ما یدل علی ارتفاع ذلک الأمر، وحینئذٍ فإن کان معنی الأمر وضعاً هو الوجوب کما قویناه فی محله، فالدلیل الآخر الذی هومتمثل فی الدلیل الناسخ یدل وقتئذٍ علی رفع مدلول الدلیل المنسوخ و هو الوجوب، وحینئذٍ فهل یمکن اثبات الجواز بعد رفع الوجوب أو لا؟

والجواب: إنّه لایمکن، لأن الدلیل الناسخ یدل علی رفع الوجوب الذی هومدلول الدلیل المنسوخ وساکت عن بقاء الجواز، ودعوی إن الدلیل المنسوخ

ص:167

یدل علی ذلک، علی أساس أنه یدل بالمطابقة علی الوجوب وبالالتزام علی نفی الحرمة، و أما الدلیل الناسخ فهو إنما یرفع المدلول المطابقی للدلیل المنسوخ و هوالوجوب، و أما مدلوله الالتزامی و هو نفی الحرمة فیبقی علی حاله، فإذن الساقطعن الحجیة إنما هو مدلوله المطابقی دون مدلوله الالتزامی و هو نفی الحرمة وبذلک یثبت الجواز بالمعنی الأخص، مدفوعة بأنه مبنیة علی أن لاتکون الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة فی الحجیّة وإنما هی تابعة لها فی الحدوث فقط، وعلیه فإذا سقطت الدلالة المطابقیة عن الحجیة لم تسقط الدلالة الالتزامیة عنها، ولکن هذا المبنی غیر صحیح، لما حققناه فی محله من أنّ الدلالة الالتزامیة تتبع الدلالة المطابقیة فی الحجیة أیضاً، بمعنی إنها تتبعها فی تمام مراحلها أی من مرحلة التصورإلی مرحلة التصدیق و الحجیة هذا، إضافة إلی أنّ الدلالة الإلتزامیة للدلیل المنسوخ لا تنحصر بالدلالة علی نفی الحرمة فقط، بل له أربع دلالات التزامیة.

منها: نفی الحرمة کما عرفت، ومنها: نفی الکراهة، ومنها: نفی الاستحباب. ومنها: نفی الاباحة بالمعنی الأخص، فإن الدلیل إذا دل علی وجوب شیء فبطبیعة الحال کان یدل بالالتزام علی نفی حرمته وکراهته واستحبابه وإباحته جمیعاً، وعلی هذا فإذا سقطت دلالته المطابقیة من جهة ورود الدلیل الناسخ علیه، تقع المعارضة بین الدلالات الالتزامیة للعلم الاجمالی بکذب إحداها للواقع دون البقیة، فإذن لایمکن صدقها جمیعاً، لأنه بعد ارتفاع الوجوب عنه إن کان مباحاً فی الواقع فدلالته الالتزامیة علی نفی الاباحة کاذبة دون سائر الدلالات الالتزامیة، و إن کان حراماً فی الواقع فدلالته الالتزامیة علی نفی الحرمة مخالفة للواقع دون غیرها وهکذا، وعلیه فلایمکن شمول دلیل الحجیة للجمیع ولا للبعض، أما الأول فلأن العلم الاجمالی بکذب بعضها یمنع عن شموله للجمیع، و أما الثانی فللزوم الترجیح بلا مرجح فلهذا تسقط بالمعارضة.

ص:168

والخلاصة: إنا لو سلمنا أنّ الدلالة الالتزامیة لاتکون تابعة للدلالة المطابقیة فی الحجیّة، إلاّ أنه مع ذلک لایمکن الأخذ بها فی المقام لأنها تسقط من جهة المعارضة، ویمکن تقریب بقاء الجواز بالمعنی الأعمّ بعد النسخ بما هو المشهور من أنّ الوجوب مرکب من طلب الفعل و المنع من الترک، والدلیل الناسخ إنما یرفع المنع من الترک و أماأصل الطلب فهوباقٍ بحاله، وحیث إنّ الدلیل المنسوخ یدل علی المجموع بالمطابقة وعلی أصل الطلب بالتضمن، فیکون الساقط بالدلیل الناسخ هوالدلالة المطابقیة دون الدلالة التضمنیّة وبها یثبت الجواز بالمعنی الأعم.

والجواب: أولاً، إنّ الوجوب أمر اعتباری بسیط فلایکون مرکباً من طلب الفعل مع المنع من الترک، ضرورة إنّ المنع من الترک من لوازم الوجوب وخارج عن حقیقته، وعلیه فلایکون هذا التفسیر تفسیراً للوجوب بما هو اعتبار بل هوبیان لما هو لازم له عقلاً، أو فقل إنّ النهی عن الضدّ العام الذی هو لازم عقلی للوجوب مأخوذ فی هذا التعریف، فلهذا لایکون هذا التعریف تعریفاً له هذا.

تعلیق بعض المحققین قدّس سرّه

و قد علق علیه بعض المحققین قدس سره(1) بتقریب، إنّ المشهور لایقولون بأن الوجوب بالحمل الشایع مرکب من جنس و هو طلب الفعل وفصل و هو المنع من الترک فی عالم الاعتبار و الذهن حتی یقال بأن الاعتبار من البسائط بل یقولون بأن الوجوب عبارة عن مجموع الاعتبارین من طلب الفعل و المنع من الترک المندکین فی اعتبار واحد کالجنس و الفصل المندکین فی نوع واحد، وعلی هذا فغایة ما یدل علیه الدلیل الناسخ هو إرتفاع المنع من الترک، وحینئذٍ فیمکن إثبات أصل الجواز بالدلیل المنسوخ هذا.

مناقشة هذا التعلیق

ویمکن المناقشة فی هذا التعلیق أولاً، بأنه لایمکن القول بأن الوجوب عبارة

ص:169


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 388.

عن مجموع الاعتبارین المندکین فی اعتبار واحد، أما أولاً فلأن لازم ذلک إن کل واجب یکون ترکه محرماً شرعاً علی أساس إن وجوبه عبارة عن الاعتبارین هما طلب الفعل و المنع من الترک، والأول متمثل فی الوجوب المتعلق بنفس الفعل، والثانی متمثل فی الحرمة المتعلقة بترکه، و هذا خلاف الضرورة الفقهیّة.

وثانیاً: إنّ الوجوب عبارة عن إعتبار واحد من المولی مباشرة فی عالم الجعل والاعتبار ثبوتاً واثباتاً، لا إنه عبارة عن إعتبارین منه کذلک فی هذا العالم لأنه خلاف الضرورة و الوجدان.

وثالثاً: لو فرضنا إنّ الوجوب عبارة عن اعتبارین من قبل المولی إلاّ أنه لایعقل إندکاک أحدهما فی الآخر وصیرورتهما اعتباراً واحداً، بداهة إنّ الاعتبارفعل للمعتبر مباشرة فلایعقل فیه الاندکاک بالتأثیر و التأثر و الفعل والانفعال وإلاّ لزم خلف فرض کونه فعلاً له مباشرة هذا، إضافة إلی أن التأثیر و التأثر و الفعل والانفعال إنما یتصوّران فی الاُمور الواقعیة و الموجودات التکوینیة الخارجیة ولایتصوران فی الاُمور الاعتباریة التی لیس لها واقع موضوعی ماعدا وجودها الاعتباری فی اُفق الاعتباروالذهن وإلاّلزم خلف فرض کونها اعتباریة.

ورابعاً: لو سلمنا إنّ الوجوب مرکب من أمرین اعتباریین طلب الفعل و المنع من الترک، إلاّ أنه لایمکن الالتزام بأن القدر المتیقّن من الدلیل الناسخ هو رفع المنع من الترک لارفع کلا الأمرین معاً لاثبوتاً ولا اثباتاً، فلأن طلب الفعل حیث إنه مندک فی ضمن المنع من الترک ومرتبط به کارتباط الجنس بالفصل واقعاً، فلایعقل بقائه بعد ارتفاع المنع من الترک، ولوکان هناک طلب فهو طلب جدید بسبب جدید، و أما الطلب فی ضمن المنع من الترک فهو یرتفع بارتفاعه ولایمکن بقائه وإلاّ لزم خلف فرض کونه مندکاً فیه، و أما إثباتاً فلأن ذلک مبنی علی عدم

ص:170

سقوط الدلالة التضمنیة بسقوط الدلالة المطابقیة، باعتبار إنّ الدلیل المنسوخ یدل علی مجموع الأمرین بالمطابقة وعلی طلب الفعل بالتضمّن، ولکن المبنی غیرصحیح، لأن الدلالة التضمنیة تتبع الدلالة المطابقیة ولا یعقل بقائها بعد سقوط الدلالة المطابقیة، علی أساس إنّ دلالة الدلیل علی الجزء إنما هی بدلالته علی الکل لا بالاستقلال، فمع سقوط دلالته علی الکل لایمکن بقاء دلالته علی الجزء وإلاّ لزم خلف فرض کونها تضمنیة، و أما ما عن المشهور من تفریع هذه المسأل ة علی مسألة الجنس و الفصل فهو فی غیر محله، لأن الوجوب و إن قلنا بأنه مرکب من طلب الفعل و المنع من الترک، إلاّ أن طلب الفعل لیس بمثابة الجنس حقیقة، والمنع من الترک بمثابة الفصل کذلک بل هما أمران اعتباریان، فإذا کانا کذلک فلامانع من التفکیک بینهما ثبوتاً واثباتاً، بینما یکون الجنس و الفصل من الأجزاء التحلیلیة العقلیة الواقعیّة ولا یعقل التفکیک بینهما باعتبار أن الفصل مقوم له ذاتاً وحقیقة، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی إنه بناء علی المختار من أن الأمر مادة وهیئة موضوع للدلالة علی الوجوب، فلایمکن إثبات الجواز لابالمعنی الأعمّ ولا بالمعنی الأخص لا بالدلیل الناسخ ولا بالدلیل المنسوخ.

قولان آخران فی تفسیر معنی الأمر

بقی هنا قولان آخران فی تفسیر معنی الأمر:

القول الأول: إنّ معنی الأمر وضعاً هو الطلب و الوجوب مستفاد من قرینة الحکمة.

القول الثانی: إنّ معنی الأمر الطلب، ولکن المولی إذا کان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی الترخیص فالعقل یحکم بالوجوب، فإذن الوجوب مدلول الاطلاق ومقدمات الحکمة علی القول الأول ومدلول للعقل علی القول الثانی، وعلی هذا فالدلیل المنسوخ علی القول الأول یدل بالوضع علی طلب الفعل

ص:171

وبالاطلاق علی الوجوب، وحینئذٍ فهل الدلیل الناسخ یدل علی رفع الطلب فقط الذی هو مدلول الدلیل المنسوخ وضعاً أو یدل علی رفع الوجوب الذی هومدلول دلیله اطلاقاً، فیه وجهان: فقد یقال کما قیل بالوجه الأول و إن المرفوع بالدلیل الناسخ هو مدلول الدلیل المنسوخ، والمفروض إن مدلوله الطلب دون الوجوب، ولکن الصحیح الثانی، لأن مدلول الدلیل المنسوخ وضعاً و إن کان هو الطلب إلاّ أنه الطلب بمفهومه التصوری دون التصدیقی، ومن الواضح إنّ المرفوع بالدلیل الناسخ إنما یکون مدلوله التصدیقی الجدی دون التصوری فقط، والمدلول التصدیقی له إنما یتحقق بالاطلاق وقرینة الحکمة المتمثل فی الوجوب، وحیث إن مدلوله التصوری مندک فیه، فلا محالة یکون هو المرفوع بالدلیل الناسخ، وعلی هذا فلا فرق بین أن یکون الوجوب مدلولاً للدلیل المنسوخ وضعاً أو مدلولاً لدلیله إطلاقاً، وعلی کلا التقدیرین فالمرفوع بالدلیل الناسخ هو الوجوب، فإذن لا فرق بین القول بأنّ الوجوب مدلول وضعی للدلیل المنسوخ، والقول بأنه مدلول اطلاقی له من هذه الناحیة.

و أما علی القول الثانی، فالمرفوع بالدلیل الناسخ هو طلب الفعل مباشرة، لأنه مجعول فی الشریعة المقدسة دون الوجوب، فإنه منتزع بحکم العقل من طلب الفعل وعدم قرینة علی الترخیص فی الترک، نعم یرتفع الوجوب بارتفاع منشأ انتزاعه، وعلی هذا فما عن المشهور من أنّ الدلالة التضمنیة للدلیل المنسوخ مبنیة علی إمکان بقاء الجنس ولو فی ضمن نوع آخر لو تم فإنما یتم فی القولین الأولین لا فی القول الثالث، لأن المرفوع فیه مباشرة الجنس و هو طلب الفعل، وعلیه فالجواز بالمعنی الأعمّ مرفوع برفع الطلب فلایعقل بقائه، و أما الجواز بالمعنی الأخص فلایمکن إثباته لأنه لیس جنساً للوجوب علی فرض کونه مرکباً من طلب الفعل و المنع من الترک.

ص:172

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی إنه لایمکن اثبات الجواز بالمعنی الأعمّ ولا بالمعنی الأخص بالدلیل الناسخ ولا بالدلیل المنسوخ علی جمیع المبانی فی تفسیر مدلول الأمر.

المقام الثانی: هل یمکن التمسک باستصحاب بقاء الجواز
اشارة

و أما الکلام فی المقام الثانی، فهل یمکن التمسک باستصحاب بقاء الجواز بعدارتفاع الوجوب بالدلیل الناسخ، فیه وجهان:

رأی السید الأستاذ قدّس سرّه فی المسألة

فذهب السید الاُستاذ قدس سره إلی الوجه الثانی واستدل علی ذلک بأمرین(1):

الأول: إنّ الجواز بالمعنی الأعم المتیقن ثبوته و هو الجواز فی ضمن الوجوب قد ارتفع جزماً، والجواز المحتمل بقائه فرد جدید فی ضمن نوع آخرکالاستحباب أو الکراهة أو الاباحة بالمعنی الأخصّ، فإذن ما هو متیقن قد ارتفع یقیناً وما هو مشکوک فعلاً لم یکن متیقناً سابقاً، فلاتکون أرکان الاستصحاب تامة ویکون من الاستصحاب فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی.

الثانی: إنّ هذا من الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة والاستصحاب فیها لایجری من جهة المعارضة، و قد ناقش بعض المحققین قدس سره(2) فی کلا الأمرین:

أما فی الأمر الأول، فبتقریب إنه لا مانع من استصحاب الجواز بالمعنی الأعم بمعنی عدم الحرمة بعد ارتفاع الوجوب بالدلیل الناسخ، لأن شخص عدم حرمة الفعل کان معلوماً سابقاً ویشک فی بقائه بعد ارتفاع الوجوب فیستصحب بقائه، و أما إنه سابقاً کان مقترناً مع الوجوب لایوجب تغییره وتبدیله بفرد آخر حتی

ص:173


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 25.
2- (2) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 389.

یمنع عن جربان الاستصحاب بل هو شخص ذلک العدم الأول، إذ الاعدام لاتتعدد باختلاف مقارناتها، وأثر هذا الاستصحاب التأمین من العقاب و هو إنمایترتب علی الجواز بمعنی عدم الحرمة لا بمعنی عدم الکراهة أو عدم الاستحباب.

المناقشة فیه

ویمکن المناقشة فیه بأن عدم الحرمة فی ضمن الوجوب عدم خاص متقوم بالوجوب فلا یعقل بقائه بعد ارتفاع الوجوب، ومن هنا جعل المشهور الجوازبالمعنی الأعمّ بمثابة الجنس، ولایعقل بقاء الجنس المتقوم بالفصل بعد ارتفاع الفصل، والمشکوک حینئذٍ إنما هو وجود حصة اخری فی ضمن فصل آخر، والمقام من هذا القبیل، فإن شخص عدم الحرمة الذی کان فی ضمن الوجوب ومتقوماً به لایعقل بقائه بعد ارتفاع الوجوب، والشک وقتئذٍ إنما هو فی حدوث فرد آخر من طبیعی عدم الحرمة فی ضمن الاستحباب أو الکراهة، فما هو متیقن قد ارتفع یقیناً وما هو مشکوک لم یکن متیقناً، وبکلمة إنّ المتیقن لیس طبیعی عدم الحرمة بل حصة خاصة منه و هی الحصة المتقوّمة بالوجوب وتلک الحصة تنتفی بانتفاء الوجوب، والشک إنما هو فی وجود حصة اخری المتقومة بغیره من الأحکام، وما ذکره قدس سره من أنّ الاعدام لاتتعدد باختلاف مقارنتها تام فی العدم المطلق لا فی العدم الخاص الذی هو ممیّز بخصوصیته الوجودیة عن العدم الخاص الآخر لمکان تقوّمه بالوجود لا إنه مجرد مقارن له.

إلی هنا قد تبیّن إنّ الصحیح عدم جریان استصحاب بقاء الجواز بالمعنی الأعم بعد ارتفاع الوجوب بالدلیل الناسخ، دعوی إنّه لا مانع من جریان هذا الاستصحاب فی نفسه، ولکنه یسقط من جهة المعارضة لأنه معارض باستصحاب عدم الکراهة أو الاستحباب أو الاباحة بالمعنی الأخصّ للعلم اجمالاً بأن أحد هذه الاعدام قد تبدل بالوجود، مدفوعة، بأن الاستصحابات

ص:174

المذکورة لاتجری فی نفسها، لأنه إن ارید بها إثبات الحرمة، ففیه إنها لا تثبت إلاعلی القول بالأصل المثبت، و إن ارید بها اثبات الأثر المنجز مباشرة، ففیه إنه لایترتب علی المستصحب منها أثر منجز کذلک.

الصحیح فی المقام

فالنتیجة، إنّ هذه الدعوی لا أساس لها، فالصحیح إنّ هذا الاستصحاب فی نفسه لایجری لامن جهة المعارضة، هذا کله فی استصحاب الجواز بالمعنی الأعم، و أما استصحاب أصل الطلب بعد ارتفاع الوجوب، فإن ارید به الطلب الانشائی الاعتباری، فعلی القول بأن مفاد الأمر الطلب الوجوبی، فحیث إن وجود أصل الطلب کان فی ضمن وجوده تحلیلاً فلایجری فیه الاستصحاب، لأن ما هو متیقن من الطلب فی ضمن الوجوب قد ارتفع بارتفاع الوجوب وما هو مشکوک لم یکن متیقناً، فلهذا یکون من الاستصحاب فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی، و أما علی القول بأن الوجوب یکون بحکم العقل و المجعول من قبل المولی إنما هو طلب الفعل الذی هو منشأ انتزاعه عقلاً إذا لم تکن هناک قرینة علی الترخیص فی الترک فلا مجال لجریان استصحاب الطلب، لأنه مرفوع بالدلیل الناسخ مباشرة و الوجوب أمر انتزاعی بحکم العقل، وارتفاع الأمر الانتزاعی إنما هو بارتفاع منشأ انتزاعه و إن ارید به الارادة و الحب فی مرتبة المبادی، فهل یجری استصحاب بقاء الارادة ولو بمرتبتها الضعیفة بعد ارتفاع مرتبتها الشدیدة بارتفاع الوجوب، قد یقال بالجریان، بدعوی إنّ العرف لا یری التباین بین الإرادة اللزومیة والارادة غیر اللزومیة فی مرحلة المبادی، وإنما یری التباین بین الوجوب والاستحباب و الحرمة و الکراهة، فإذن لا مانع من استصحاب بقاء الارادة فی الجملة بعد الیقین بها.

والجواب: أولاً، إنّ العرف کما یری التباین بین الوجوب والاستحباب یری

ص:175

التباین بین الارادة اللزومیة والارادة غیر اللزومیة أیضاً. فإنهما بنظره مرتبتان متباینتان من الارادة فی مرحلة المبادی.

وثانیاً، مع الاغماض عن ذلک إلاّ إنّ إرادة الوجوب لایعقل بقائها بعد ارتفاع نفس الوجوب وترتفع بارتفاعه هذا، إضافة إلی أن المرفوع بالدلیل الناسخ هو الوجوب بتمام مراحله أی من مرحلة المبادی إلی مرحلة الاعتبار الذی هوحقیقة الوجوب وروحه، و أما وجود إرادة اخری فلا علم بها من الأول، و أما المرتبة الضعیفة منها فهی مندکة فی المرتبة القویة وترتفع بارتفاعها.

فالنتیجة، إنّ هذا الاستصحاب لایجری لافی مرحلة الاعتبار ولافی مرحلة المبادی.

و أما فی الأمر الثانی فقد أورد علیه بإشکالین(1):

الأول: إنه لامانع من جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة ولایکون معارضاً باستصحاب عدم جعل الزائد هذا، وتحقیق هذه المسألة یأتی فی محلها إن شاء اللَّه تعالی.

الثانی: إنا لو بنینا علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة، إلاّ إنه لایمکن تطبیقه فی المقام علی مبناه قدس سره، فإنه قد بنی علی المعارضة بین الاستصحابین فی الشبهات الحکمیة إذا کان الحکم المشکوک بقائه الزامیاً، و أما إذا کان ترخیصیاً فلا معارضة بینهما ولا مانع من جریانه، وحیث إنّ الحکم المشکوک فی المقام ترخیصیاً فلا مانع من جریانه.

ص:176


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 390.

الواجب التخییری

اشارة

فیه أقوال ونظریات:

النظریة الأولی و نقدها

النظریة الاُولی: إنّ الواجب فی المسألة هو ما اختاره المکلف فی ظرف الامتثال من البدائل، فإذا اختار منها الصوم کان هو الواجب علیه تعییناً دون غیره، و إذا اختار الاطعام فکذلک وهکذا، ونسب هذه النظریة إلی کل من الأشاعرة و المعتزلة.

والجواب: إنّ هذه النظریة ساقطة جداً ولاترجع إلی معنی معقول، وذلک لأن عنوان ما یختاره المکلف لایخلو إما أن یکون مأخوذاً بنحو الموضوعیّة بمعنی إنه قید للواجب و الوجوب معاً أو قید للوجوب فقط أو مأخوذاً بنحو المعرفیة و المشیریة إلی واقع فعل فی الخارج الذی یختاره المکلف وکلاهما لایمکن.

أما الأول فیرد علیه، أولاً: إنّ تعلق الأمر بما یختاره المکلف فی الخارج ویفعله یکون من طلب الحاصل و هو محال، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون عنوان ما یختاره قیداً للواجب و الوجوب معاً أو قیداً للوجوب فقط، ودعوی إنّ متعلق الأمر لیس عنوان ما یختاره المکلف فی الخارج بالفعل بل ما یؤثره المکلف من البدائل ویرجحه لو شاء بنحو القضیة التعلیقیة، وحینئذٍ فلایلزم محذور طلب الحاصل، مدفوعة بأنّ هذه الدعوی خلاف مفروض هذه النظریة، لأن المفروض فیها إنّ الواجب هو ما یختاره المکلف بالفعل فی الخارج لا ما

ص:177

یؤثره ویرجحه من البدائل لو شاء، وثانیاً: إنّ احتمال کون اختیار المکلف الفعل فی الخارج دخیلاً فی الحکم فی مرحلة الجعل وفی اتصافه بالملاک فی مرحلة المبادی غیر محتمل بل هو خلاف الضرورة و الوجدان، بداهة إنّ اتصاف الفعل بالملاک فی الواقع تابع لعلله وشرائطه الواقعیة فی المرتبة السابقة سواءاً إختاره المکلف أم لا، ولا یعقل أن یکون اختیاره یوجب انقلابه عن حالة لیست فیها مصلحة ملزمة فیه إلی حالة فیها مصلحة کذلک و هی حالة الاختیار، وتکون هذه الحالة علة تامة لحدوثها و هو کما تری هذا، إضافة إلی أنّ لازم هذه النظریة إنه لایترتب علی ترک جمیع البدائل عصیان باعتبار أن وجوبها مشروط بالاختیار ومع عدم الاختیار فلا وجوب لها حتی یکون فی ترکها عصیان، ضرورة إنه لایعقل وجوب بدون أن یکون له عصیان.

الواجب التخییری

و أما الثانی و هو کون الواجب واقع ما یختاره المکلف فی الخارج بعنوانه الأولی، فلأن لازمه إفتراض أنّ کل فرد من البدائل واجب بعنوانه الواقعی حتی یقع اختیارکل مکلف فی ظرف الامتثال علی ما هو الواجب فی الواقع و هذا کماتری، فإنه فی ظرف النقیض مع ما هو المرتکز فی وجدان العرف و العقلاء من الواجب التخییری فی مقابل الواجب التعیینی، لأن المرتکز منه أنّ نسبة الخطاب التخییری إلی کل مکلف علی حد سواء کما إنّ نسبته إلی المکلف به کذلک، لا أن الموجّه إلی فرد وجوب صوم شهرین متتابعین وإلی آخر وجوب إطعام ستین مسکین وهکذا کل حسب اختیاره الذی هو معرف ومشیر إلی ما هو الواجب علیه فی الواقع، فإنّه خلاف الضرورة و الوجدان. هذا إضافة إلی أن الواجب لوکان واحد من البدائل فی الواقع بعنوانه الخاص، فما هو المبرر لسقوط الباقی عنداختیار أحدها، نعم یمکن تصحیح ذلک بأن المجعول فی الواقع وجوبات متعدّدة بعدد أفراد البدائل المشروطة، بمعنی إنّ وجوب کل فرد منها مشروط بعدم

ص:178

الاتیان بفرد آخر، وعلی هذا فإذا اختار المکلف صوم شهرین من البدائل فقد وقع اختیاره علی الواجب فی الواقع وکذلک إذا اختار الاطعام أو العتق، ولکن حینئذٍ ترجع هذه النظریة إلی النظریة الآتیة ولیست نظریة مستقلة فی مقابلها، وسوف یأتی الکلام فی تلک النظریة.

إلی هنا قد تبین إنّ هذه النظریة لاترجع بالتحلیل إلی معنی محصل ومعقول حتی ننظر إلیها فی مقام الاثبات ونبحث عن وجود دلیل علیها.

النظریة الثانیة: ما اختاره المحقق الخراسانی قدس سره

اشارة

(1) و هذه النظریة متمثلة فی فرضیتین:

الاُولی: أن یکون الغرض واحداً فی الواقع وقائماً بالجامع بین الدلائل.

الثانیة: أن یکون متعدداً فیه وقائماً بکل واحد منها بعنوانه الخاص.

أما الکلام فی الفرضیة الاُولی، فقد استدل علیها بقاعدة فلسفیّة و هی إن الواحد لایصدر إلاّ من واحد، وحیث إنّ الغرض فی المقام واحد فلایعقل أن یؤثر فیه إلاّ واحد، وعلی هذا فکل من البدائل بحدّه الخاص لایمکن أن یکون مؤثراً فیه وإلاّ لزم صدور الواحد من الکثیر و هو محال، فإذن لا محالة یکون المؤثر فیه الجامع ویکون کل من البدائل مؤثراً فیه من جهة وجود الجامع فیه بدون خصوصیة له، وذلک الجامع هو متعلق الأمر علی أساس إنه تعلق بما فیه الملاک، وعلی هذا فیکون الواجب الجامع بحده الجامعی تعییناً ویکون التخییر بین أفراده وبدائله عقلیاً، وحینئذٍ فلا فرق بین الواجب التعیینی و الواجب التخییری ثبوتاً هذا.

ص:179


1- (1) - کفایة الاصول ص 140.
إیراد السید الأستاذ و المحقق الأصبهانی قدّس سرّه علی هذه النظریة

و قد أورد علی هذه النظریة السید الاُستاذ قدس سره(1) والمحقق الأصبهانی قدس سره(2) بماحاصله: إن القاعدة الفلسفیة و هی إن الواحد لایصدر إلاّ من واحد إنما تتم فی الواحد الشخصی من جمیع الجهات ولا تتم فی الواحد النوعی، فإذا کان المعلول واحداً بالشخص فهو کاشف عن علة واحدة کذلک، و أما إذا کان واحداً بالنوع فلایمکن تطبیق هذه القاعدة علیه، و قد أصرّ علی ذلک المحقق الأصبهانی قدس سره واستشهد علیه بالحرارة، فإن وحدتها نوعیّة ولها أفراد متعددة فی الخارج وأسباب وعلل مختلفة فیه کالنار و الشمس و الآلة الکهربائیة و الحرکة وغیرها، ولا مانع من أن تؤثر فی کل فرد منها علة مستقلة، وعلی هذا فحیث إنّ وحدة الغرض فی المقام نوعیة فلاتکشف عن وجود جامع موحد حقیقی بین فعلین أو أفعال إذ لامانع من أن یؤثر کل من الفعلین أو الأفعال بحدّه الخاص فی فرد من الغرض.

المناقشة فی الایراد

وللمناقشة فیه مجال، أما أولاً: فلأن وحدة الغرض فی المقام وحدة شخصیّة و هی قائمة بأحد البدائل، ولهذا فإذا أتی المکلف به حصل الغرض، فلوکانت وحدته نوعیة وله أفراد فی الخارج فلا محالة یتعدد الوجوب بتعدده، لأنه حقیقة الوجوب وروحه مع أنه واحد، ومن الواضح أن وحدته تکشف عن وحدة الغرض.

وثانیاً: إن هذه القاعدة الفلسفیة ترتکز علی ثلاث رکائز:

الاُولی: مبدأ العلیة القائل بأن لکل شیء علة مباشرة حدوثاً وبقاءً.

الثانیة: مبدأ الحقیّة القائل بأن کل نتیجة طبیعیة تتولد من علة مباشرة

ص:180


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 33.
2- (2) - نهایة الدرایة ج 2 ص 266.

بصورة قهریّة واستحالة انفکاکها عنها.

الثالثة: مبدء التناسب القائل بأن لکل مجموعة من الأشیاء و المتّفقة فی الحقیقة و الذات علل کذلک، بداهة إن عللها لولم تکن متّفقة فی الحقیقة و الذات، استحال أن یکون مؤثرة فی تلک الأشیاء المتّفقة المتجانسة لاستحالة تأثیر المباین فی المباین، لأن معنی تأثیر العلة فی المعلول هو أنه یتولد منه، ولهذا یکون المعلول من مراتب وجود العلة النازلة ولیس شیئاً أجنبیاً عنها، و هذا هو معنی ضرورة مبدء التناسب و السنخیة بین العلة و المعلول، وعلی ضوء هذه الرکائز فإذا کانت الأشیاء متجانسة ومتفقة فی الآثار و النتائج التی تتولد منها فهی بطبیعة الحال تکشف عن تجانسها واتفاقها فی الحقیقة وإلاّ فلایمکن تولدها منها، و هذا معنی إن وحدة المعلول إذا کانت بالنوع تکشف عن وحدة علته کذلک لاستحالة صدور الأشیاء المتجانسة و المتفقة فی الحقیقة عن الأشیاء المتباینة فیها، فإذن لاتختص القاعدة بالواحد الشخصی، وعلیه فإذا کان الغرض فی المقام واحداً بالنوع فهو یکشف عن أن المؤثر فیه أیضاً واحد بالنوع و هو الجامع بین البدائل، وکل واحد منها مؤثر فیه بلحاظ وجود الجامع فیه لا بلحاظ حدّه الفردی، ضرورة إنّ الواحد بالشخص لایمکن أن یکون جامعاً بین فعلین أو أفعال وإلاّلزم خلف فرض کونه واحداً بالشخص.

رد آخر للسید الأستاذ قدّس سرّه علی النظریة الثانیة و المناقشة فیه

و قد أورد السید الاُستاذ قدس سره ثانیاً(1) علی هذه النظریة، بتقریب إن سنخ هذا الغرض غیر معلوم لنا لعدم وجود طریق إلیه، ولهذا لانعلم إنّ وحدته تکون بالذات و الحقیقة أو بالعنوان، فإن کانت بالذات فهی تکشف عن أن مؤثره أیضاًکذلک، و إن کانت بالعنوان فتکشف عن أن مؤثره أیضاً بالعنوان، وعلی هذا فلا

ص:181


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2 ص 36.

طریق لنا إلی کشف الجامع الذاتی بین البدائل هذا.

ویمکن المناقشة فیه، بأن الغرض الداعی للمولی إلی جعل الحکم إنما هوملاکه الواقعی، ولایمکن أن یکون مجرد مفهوم لاموطن له إلا الذهن، فإن الواحد بالعنوان مفهوم انتزاعی لا واقع موضوعی له إلاّ فی افق الذهن، ومن الواضح إن مثله لایصلح أن یکون داعیاً للمولی إلی جعل الحکم لتحریک المکلف نحو امتثاله طالما لم یکن أمراً واقعیاً، ومن هنا لا شبهة فی أن المصالح و المفاسد من الاُمور الواقعیة لا أنّهما مجرد مفهوم وتصور فی عالم الذهن هذا.

عدم تمامیة الفرضیة الثانیة

والتحقیق إن هذه الفرضیة غیر تامة ثبوتاً واثباتاً، أما ثبوتاً فلأنها مبنیة علی نقطة خاطئة و هی تخیّل إنّ الغرض حیث إنه أمر واقعی تکوینی فلا یقوم إلابالأمر الواقعی الحقیقی، ولایمکن أن یقوم بالعنوان الانتزاعی الذی لا موطن له إلا الذهن، علی أساس مبدء التناسب بین العلة و المعلول و الأثر و المؤثر، وحیث إنّ الأمر الانتزاعی لایمکن أن یؤثر فی الأمر الواقعی، فإذن لا محالة یکون المؤثرفیه الأمر الواقعی تطبیقاً لمبدء التناسب، وبما إنه واحد فلایمکن صدوره إلا من واحد تطبیقاً لقاعدة إن الواحد لایصدر إلاّ من واحد.

أما خطأ هذه النقطة، فلانها مبنیة علی الخلط بین عنوان الغرض الذی لاموطن له إلاّ الذهن وبین واقعه الخارجی الذی یکون موطنه الخارج، کما أنّ فیها خلطاً بین عنوان الفعل الذی لاموطن له إلاّ عالم الذهن وبین واقعه الخارجی، ونقصد بعالم الذهن مقابل عالم الخارج لا عالم التصور، و قد تقدم فی ضمن البحوث السالفة أن اتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادی یکون من شروط الحکم فی مرحلة الجعل والاعتبار، وترتب الملاک علی الفعل فی الخارج یکون من شروط المأمور به، وعلی هذا فالمراد من إتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة

ص:182

المبادی إنما هو اتصافه به فی عالم الذهن لا فی عالم الخارج، لوضوح إنّ المتصف بالملاک إنما هو مفهوم الفعل بمفهوم الملاک الفانی و المشیر إلی واقعه الخارجی، لأن الفعل طالما لم یوجد فی الخارج فهو مجرد عنوان ومفهوم وکذلک الملاک، ولا مانع من اتصاف الفعل بعنوانه الذهنی المشیر إلی واقعه الخارجی بالملاک کذلک، کما إنه لا مانع من قیام الملاک بعنوانه الذهنی علی الفعل کذلک، فإذن الملاک بوجوده الخارجی الواقعی مترتب علی الفعل بوجوده الخارجی، وبوجوده العنوانی الذهنی قائم علی الفعل بوجوده العنوانی، فلا یلزم حینئذٍ قیام الأمر الواقعی وترتبه علی الأمر الانتزاعی حتی یقال إنّ تأثیر الأمر الانتزاعی فی الأمر الواقعی مستحیل، لأن المؤثر فی ترتب الملاک الواقعی الفعل بوجوده الخارجی لا بوجوده العنوانی، فما ذکره قدس سره من أن الجامع العنوانی لایصلح أن یتصف بالملاک فی مرحلة المبادی ومؤثراً فیه، مبنی علی الخلط بین الملاک بوجوده الواقعی و الملاک بوجوده العنوانی المشیر إلی وجوده الواقعی، فإن الذی لایمکن قیامه بالعنوان الأنتزاعی هو الأول دون الثانی، والمفروض إن الأول قائم بوجودأحدها فی الخارج و الثانی قائم بوجوده العنوانی فی الذهن هذا، إضافة إلی أن اتصاف الفعل بالملاک وقیامه به بوجوده العنوانی لیس بنحو الموضوعیة حتی یقال إنه لایمکن بل بنحو المعرفیة و المشیریة إلی ما هو المؤثر فیه و هو وجوده الخارجی، وعلی هذا فقیام الملاک بعنوان أحد البدائل إنما هو لمجرد المعرفیة و المشیریة إلی واقعه المؤثر کما هو الحال فی سائر الموارد، وعلی هذا فلا إشکال فی المقام ولا فی سائر الموارد هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إن الجامع الحقیقی بین البدائل إنما یتصور فیما إذا کانت البدائل من أفراد حقیقة واحدة، و أما إذا کانت من أفراد حقائق مختلفة ومقولات متعدّدة فلا یتصور جامع حقیقی بینها.

ص:183

و أما إثباتاً فلأن المتفاهم العرفی من أدلة الوجوب التخییری الآمرة بکل واحد من البدائل بالعطف بکلمة أو مثل صم شهرین متتابعین أو أطعم ستین مسکیناً أو اعتق رقبة هو أن المجعول فیها وجوب واحد متعلّق بالجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدها، فالنتیجة إنه لایمکن الأخذ بهذه الفرضیة من النظریة.

و أما الکلام فی الفرضیة الثانیة، فلأن لازمها أن یکون المجعول وجوبات متعددة بعدد البدائل المشروطة، بمعنی إنّ وجوب کل واحد منها مشروط بعدم الاتیان بالآخر، هذا من جهة وجود المضادة بین الملاکات الالزامیة القائمة بها، فإنها تقتضی الاشتراط المذکور، وعلی هذا فالتخییر بینها یکون شرعیاً، هذا هو الفارق بین هذه الفرضیة و الفرضیة المتقدمة، فإن التخییر بین البدائل علی ضوء الفرضیة المتقدمة عقلی بینما یکون شرعیاً علی ضوء هذه الفرضیة.

و قد یورد علی هذه الفرضیة بأنها مخالفة لظواهر الأدلة التی جائت بهذا اللسان: صم شهرین متتابعین أو اطعم ستین مسکیناً أو اعتق رقبة مؤمنة، فإن المتفاهم العرفی منها هو أنّ الوجوب المجعول فی الشریعة المقدّسة وجوباً واحداً متعلقاً بالجامع العنوانی و هو عنوان أحدها لا وجوبات متعددة بعدد البدائل المشروطة، فالنتیجة، إنّ هذه الفرضیة و إن کانت ممکنة ثبوتاً إلاّ أنه لایمکن الأخذ بها إثباتاً هذا.

توجیه کلام لصاحب الکفایة قدّس سرّه و الرد علیه

قد یقال بأن ما ذکره صاحب الکفایة قدس سره من النظریة فرضیة بکلا شقیها، فإنه فرض إن الغرض إن کان واحداً فی الواقع ومقام الثبوت فالواجب أیضاً کذلک و هو الجامع بین البدائل لا کل واحد منها بحدّه وإلا لزم تأثیر الکثیر فی الواحد و هو محال، و إن کان متعدداً فالواجب متعدد بعدد أفراد البدائل، غایة الأمر إنّ

ص:184

وجوب کل واحد منها مشروط بعدم الاتیان بالآخرین من جهة التضاد بین ملاکاتها المقتضی لهذا الاشتراط، ولا معنی لرد هذه الفرضیة بأنها مخالفة لظاهرالدلیل فی مقام الاثبات، فإن صاحب الکفایة قدس سره لم یدع إنها موافقة للدلیل فی هذا المقام حتی یرد علیه بأنها مخالفة للدلیل فیه، وعلی هذا فهذه الفرضیة مادامت فی دائرة الافتراض فلا واقع للاشکال علیها إثباتاً، و أما إذا خرجت عن هذه الدائرة وثبت بالبرهان إن الغرض فی الواقع متعدد، فلا مناص من الأخذ بها و إن کانت مخالفة لظاهر الأدلة فی مقام الاثبات، إذ حینئذٍ لابد من التصرف فیها، وفیه إن غرض المستشکل لیس الاشکال علی هذه الفرضیة ثبوتاً بل غرضه أن اثباتها فی الخارج بالدلیل لایمکن، لأن الأدلة فی مقام الاثبات لا تدل علیها بوجه ومخالفة لها، سواءً أکان صاحب الکفایة قدس سره مدعیاً موافقتها للدلیل أم لا، و قد یناقش فی هذه الفرضیة بأن لازمها تعدد العقاب إذا ترک المکلف البدائل جمیعاً، إذ حینئذٍ یتحقق شرط وجوب کل منها و هو الترک فیستحق العقاب عندئذٍ علی ترک کل واحد منها إذا کان باختیاره لأنه من ترک الواجب عامداً ملتفتاً، و هذا خلاف ما هو المسلم فی الواجبات التخییریة من عدم استحقاق المکلف عند ترک الجمیع إلاّ عقاباً واحداً.

وغیر خفی أولاً: إنّ هذه الفرضیة لوثبتت فی الواقع فلا مانع من الأخذ بلازمها و هو تعدد العقاب، ولیس فی ذلک خلاف الکتاب و السنة ولا العقل، و أما عدم إلتزام الأصحاب به فهو إنما یکون من جهة عدم التزامهم بتعدد الواجب هذا، إضافة إلی أن عدم التزام الأصحاب بذلک لایمنع من الالتزام به لوتمت الفرضیة.

وثانیاً: إن تعدد العقاب علی هذه الفرضیة مبنی علی أن یکون ترک کل من

ص:185

العدلین شرطاً لاتصاف الآخر بالملاک فی مرحلة المبادی، فحینئذٍ إذا ترک المکلف کلیهما معاً باختیاره، فحیث إنه تحقق به شرط اتصاف کل منهما بالملاک فعلاً فقد فوت علی المولی کلا الملاکین الفعلیین، مع أن بإمکانه أن لا یفوت علیه شیء منهما، کما إذا أتی بأحدهما ترک الآخر، فإنه استوفی بذلک أحد الملاکین، و أما الملاک الآخر فقد فات منه بفوت موضوعه وشرطه لا بتفویته، و هذا بخلاف ما إذا ترک کلا العدلین معاً، فإنه بذلک حیث یتصف کل منهما بالملاک فعلاًمن جهة فعلیة شرطه، فیکون تفویت کل من الملاکین مستنداً إلیه فیستحق عقابین، و أما إذا کان ترک کل من العدلین شرط لترتب الملاک علی الآخر فی مرحلة الإمتثال، فعندئذٍ إذا ترک کلا العدلین معاً کان ترک أحد الملاکین مستنداً إلیه، و أما ترک الملاک الآخر فهو قهری وغیر مستند إلیه، فإذا أتی المکلف بالصوم مثلاً فقد استوفی ملاکه القائم به، و أما ترک الملاک القائم بالاطعام فهو أمرقهری وخارج عن اختیاره، لأنّه غیر قادر علی استیفائه و إن أتی به بعد الصوم لمکان المضادة بینهما، فإذا ترک الصوم والاطعام معاً، کان ترک أحد الملاکین مستنداً إلی اختیاره، و أما ترک الملاک الآخر فهو حاصل قهراً، فإذن لیس بإمکانه استیفاء کلا الملاکین معاً لوجود المضادة بینهما، وعلی هذا فإذا ترک کلا العدلین معاً لم یستحق إلا عقاباً واحداً.

والصحیح فی ردّ هذه الفرضیة أن یقال أولاً: إن افتراض التضاد بین الملاکات المترتبة علی الواجبات الشرعیّة من دون التضاد بینها فرض ملحق بأنیاب الأغوال کما ذکره السید الاُستاذ قدس سره، و قد تقدم ذلک فی ضمن البحوث السالفة، وقلنا هناک إنه لایصح قیاس الآثار و النتائج المترتبة علی الأفعال الاعتیادیة الخارجیة فی حیاتنا الیومیة بالآثار و النتائج المترتبة علی الواجبات الشرعیة، وذلک للفرق بینهما، لأن علاقة الإنسان بالاولی علاقة مادیة بینما تکون علاقته

ص:186

بالثانیة علاقة روحیة معنویّة، علی أساس إن الواجبات الشرعیة علاقة بین الإنسان وربّه و الآثار المترتبة علیها تقوی هذه العلاقة وتؤدی إلی نموّها، فلهذا لاتعقل المضادة بینها کما تعقل بین الآثار المادیة المترتبة علی الأفعال الخارجیة الاعتیادیة.

النظریة الثالثة: مختار المحقق الأصبهانی قدّس سرّه

اشارة

النظریة الثالثة: ما اختاره المحقق الأصبهانی قدس سره(1) وإلیک نصّه: «إن القائم بالصوم و العتق والاطعام أغراض متباینة لا أغراض متقابلة، وحیث إن کلها لزومیة فلذا أوجب الجمیع، وحیث إنّ مصلحة الارفاق و التسهیل تقتضی تجویزترک کل منها إلی بدل فلذا أجاز کذلک، فإذا ترک الکل کان معاقباً علی ما لایجوزترکه إلاّ إلی بدل ولیس هو إلا الواحد منها لا کلها، کما إنّه إذا فعل الکل دفعة واحدة کان ممتثلاً للجمیع، والشاهد علی ما ذکرنا إنه ربما لایکون تمام الارفاق کما فی کفارة الظهار و القتل الخطائی، فإنه أمر أولا بالعتق ومع عدم التمکن یجب الصوم، وربما لا إرفاق أصلاً کما فی کفارة الافطار بالحرام، فإنه یجب الجمع بین الخصال فیعلم منه إن الاغراض غیر متقابلة.

ویمکن فرض نظیره فیما إذا کان الغرض المترتب علی الخصال واحداً نوعیاً، بتقریب إنّ الغرض و إن کان واحداً سنخاً إلاّ أنّ اللزومی منه وجود واحد منه، فحیث إنّ نسبة الکل إلی ذلک الواحد اللزومی علی السویة فیجب الجمیع، لأن إیجاب أحدها المردد محال وإیجاب أحدها المعیّن تخصیص بلا مخصص، وحیث إنّ وجوداً واحداً منه لازم فیجوز ترک کل منها إلی بدل، وکما إنّ الایجاب التخییری علی الفرض الأول شرعی لانبعاثه وجوباً وجوازاً عن المصلحة فی نظر الشارع کذلک الایجاب التخییری فی هذا الفرض، لأن أصل الإیجاب عن

ص:187


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2 ص 270 (حاشیة منه قدس سره).

مصلحة وتجویز الترک عن وحدانیة اللازم منها، هذا ما أفاده قدس سره فی المقام من النظریة فی ضمن فرضیتین:

بیان فرضیتین لهذه النظریة
اشارة

الاُولی: إن کل واحد من البدائل مشتمل علی ملاک ملزم مباین لملاک الآخرلا أنّه متقابل ومضادّ له، ونتیجة ذلک وجوب کل منها تعییناً والاتیان بالجمیع، ولکن مصلحة الارفاق علی الاُمة تقتضی جواز ترک کل واحد منها إلی بدل، فإذن الملاک الملزم الواجب تحصیله متمثل فی واحد وبإمکان المکلف استیفائه بإتیان أی منها شاء علی البدل، ولهذا إذا ترک الکل فلا یستحق إلا عقاباً واحداً، کما إنه إذا أتی بالکل دفعة واحدة کان متمثلاً للجمیع، علی أساس إن نسبة الامتثال إلی بعض منها دون آخر ترجیح من غیر مرجح، وحیث إنّ وجوب الاتیان بأحدها وجواز ترک الباقی کلیهما ناشیء عن المصحلة فی نظر الشارع فیکون التخییر بینها شرعیاً.

الثانیة: إنّ الملاک المترتب علی البدائل واحد بالنوع، ولکن اللزومی منه وجود واحد ونسبة ذلک الواحد اللزومی إلی الکل نسبة واحدة، علی أساس إن إیجاب الفرد المردّد محال لاستحالة وجوده فی الخارج، وإیجاب الفرد المعیّن ترجیح من غیر مرجّح فیکون المکلف مخیراً بین أفراد البدائل، و هذا التخییرأیضاً شرعی، لأن وجوب الاتیان بالواحد ناشیء عن مصلحة لزومیة واحدة وجواز ترک الباقی ناشیء عن وحدانیّتها هذا، ولکن للنظر فی کلتا الفرضیتین مجالاً.

أما الفرضیة الاُولی، فإن أراد بها إن مصلحة التسهیل والارفاق تدل علی الترخیص فی ترک البدائل بعد إیجابها ماعدا واحد منها، فیرد علیه:

أولاً: إن الترخیص فی ترک الواجب الفعلی بنظر العرف و العقلاء تهافت، کیف

ص:188

فإن الترخیص فی ترک الواجب بما هو واجب ومشتمل علی الملاک الملزم تناقض بنظرهم، ولایمکن ذلک.

وثانیاً: إن المولی الحکیم یعلم بمصلحة التسهیل والارفاق فی المقام کما إنه یعلم بالمصالح القائمة بالبدائل وإنه بمقتضی مصلحة التسهیل قد رخص فی ترکها ماعدا واحد منها، فإذن ما هو المبرر لجعل الإیجاب لها جمیعاً، لأن مصالحها مزاحمة بمصلحة التسهیل التی هی أقوی منها ماعدا مصلحة واحدة فی واحد منها، ومن الواضح إن المصلحة المزاحمة لاتصلح أن تکون منشأ للتکلیف، فإذن ترخیص الشارع فی ترکها لایمکن أن یکون جزافاً وبلا مبرر، والمبرر له هو أن مصلحتها من جهة مزاحمتها مع مصلحة التسهیل لاتصلح أن تکون منشأ لایجابها، و إن أراد به أن مصلحة التسهیل تمنع عن تأثیر مصالحها فی إیجابها ماعدا مصلحة واحد منها، فهو صحیح و إن کان خلاف ظاهر کلامه قدس سره، وعلی هذا فلا فرق بین المسلک القائل بأن الوجوب لیس مفاد الأمر مباشرة بل هو طلب الفعل، ولکن العقل ینتزع الوجوب من طلب الفعل مع عدم الترخیص فی الترک، والمسلک القائل بأن الوجوب هو مدلول الأمر و المنشأ به مباشرة.

النظر فی الفرضیة الأولی

أما علی الأول فواضح فإنّ المولی قد یطلب شیئین مع عدم الترخیص فی الترک و هذا معناه وجوبان تعیینیان، واُخری یطلبهما مع الترخیص فی ترک کلیهمامعاً و هذا معناه استحباب کل منهما، وثالثة یطلبهما مع الترخیص فی ترک أحدهما ولو لمصلحة التسهیل و هذا هو الواجب التخییری.

إشکال بعض المحققین قدّس سرّه

و أما علی الثانی فقد استشکل علیه بعض المحققین قدس سره بالتهافت العقلائی بین الوجوبین التعیینین المطلقین فی کل من الطرفین مع الترخیص فی ترک أحدهما، لأنه نظیر إیجاب شیء و الترخیص فی ترکه، لوضوح إنّ الوجوب لایجتمع مع

ص:189

الترخیص.

الرد علی هذا الاشکال

وفیه: أن هذا الاشکال غیر وارد، وذلک لأنه مبنی علی أن المولی جعل الوجوب لکل واحد من البدائل بعنوانه الخاص وحدّه المخصوص تعییناً ثم رخّص فی ترک الجمیع إلاّ واحد منها علی البدل فإن فی ذلک تهافت، ولکن هذا المبنی غیرصحیح، لأن مصلحة التسهیل تمنع عن جعل الوجوب للکل من الأول إلاّ لواحد منها لا علی التعیین، وعلی هذا فلا تهافت فی البین.

والخلاصة: إن التهافت العقلائی علی هذا المسلک إنّما یلزم إذا جعل الشارع الوجوب لکل البدائل تعییناً ثم رخصه فی ترکها لمصلحة التسهیل، فإنه مستهجن عرفاً لأنه ترخیص فی ترک الواجب الفعلی، و أما إذا قلنا بأن مصلحة التسهیل والارفاق تمنع عن تأثیر مصالح الکل فی جعل الوجوب من الأول إلاّ لواحد منها وتکشف عن أن المجعول فی الشریعة المقدّسة وجوب واحد متعلق بأحد البدائل لا علی التعیین فلا تهافت فی البین، ولا فرق حینئذٍ بین المسلکین فی باب الأمر.

و إن شئت قلت: إن مصلحة التسهیل والارفاق فی المقام لو کانت فهی تزاحم المصالح الملزمة القائمة بالبدائل وتمنع عن تأثیرها وداعویتها إلی جعل الوجوب من الأول، لأن المصلحة المزاحمة لاتصلح أن تصبح منشأ لجعل الحکم، لا أنها تدل علی ترخیص المکلف فی ترکها ماعدا واحد منها بعد إیجابها لکی یلزم التهافت، ومن المحتمل أن یکون مراده قدس سره من إیجاب الجمیع إیجابه روحاً وملاکاًلا اعتباراً، بمعنی إن المقتضی للجعل موجود بل لایعقل هذا الجعل من المولی الحکیم العالم بالواقع، فإنه مع علمه بأنّ مصالح البدائل المترتبة علیها غیرمصلحة واحدة منها مزاحمة بمصلحة التسهیل والارفاق، لایمکن له أن یجعل

ص:190

الوجوب لها جمیعاً ماعدا واحد منها لأنه لغو وجزاف وبلا ملاک، فإذن لا محالة یکون الترخیص فی ترکها مستنداً إلی وجود المانع لا أنه ترخیص فی ترک الواجب الفعلی، وعلی هذا فلا فرق بین المسلکین فی معنی الأمر هذا من ناحیة.

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه علی هذه الفرضیة بوجوه

ومن ناحیة اخری إن السید الاُستاذ قدس سره قد علق علی هذه الفرضیة بعدّة وجوه(1):

الأول: إن ظاهر الدلیل فی مقام الاثبات هو إیجاب أحد البدائل لا إیجاب الجمیع، فما ذکره قدس سره من إیجاب الجمیع فلا دلیل علیه.

وغیر خفی، إن هذا التعلیق مبنی علی أن یکون مراد المحقق الأصبهانی قدس سره من إیجاب جمیع الابدال إیجابها کذلک روحاً واعتباراً معاً، ومصلحة التسهیل والارفاق تدل علی الترخیص فی ترکها بما هی واجبة ماعدا واحد منها علی البدل، ولکن قد تقدّم إنه لایبعد أن یکون مراده قدس سره من إیجابها روحاً فقط لاروحاً واعتباراً معاً، علی أساس ما أشرنا إلیه آنفاً من أن مصلحة التسهیل تمنع عن أصل جعل الوجوب لها من الأول.

الثانی: إنه لا طریق لنا إلی إحراز ملاکات الأحکام الواقعیّة من غیر طریق ثبوت نفس تلک الأحکام، وحیث إن الأمر فی المقام تعلق بأحد البدائل فلایکشف إلاّ عن وجود ملاک فیه، فإذن من أین نستکشف أن الملاک فی المقام متعدد بعدد البدائل فی الخارج.

و فیه: إن المحقق الأصبهانی قدس سره فی مقام بیان إمکان تصویر صورة للواجب التخییری فی مقام الثبوت، ولا یدعی أنّ هذه الصورة مطابقة لدلیل الواجب فی

ص:191


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 29.

مقام الاثبات حتی یقال إنها غیر مطابقة له، و أما ما ذکره بعض المحققین قدس سره(1) من أن التخییر الشرعی قد یستفاد فی المسألة من تعدد الأمر الکاشف من تعدد الفرض، فهو و إن کان صحیحاً فی الجملة إلاّ أنه لایمکن أن یجعل ذلک قرینة علی تعدد الأمر فی کل مورد من موارد التخییر الشرعی، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إنّ تعلق الأمر بأحد البدائل فی مقام الإثبات إنّما یکشف عن أن الغرض المؤثر متمثل فی واحد ولاینفی وجود أغراض اخری غیر مؤثرة لمانع، فإذن لا مانع من افتراض وجودها واقعاً وعدم تأثیرها إنما هو من جهة المزاحمة بما هو أقوی منها.

الثالث: إنه لا طریق لنا فی المقام إلی وجود مصلحة الارفاق و التسهیل حتی تقتضی جواز ترک البدائل بما لها من الملاکات الالزامیة ماعدا واحد منها، ضرورة إنه من أین یعلم أن جواز ترکها إلی بدل بمقتضی مصلحة الارفاق و التسهیل، إذ کما یحتمل ذلک یحتمل أن یکون جواز ترکها مستنداً إلی عدم الملاک فیها ماعدا فی واحد منها، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم تعدد الغرض فالمصلحة التسهیلیة تمنع عن أصل جعل الوجوب للجمیع، ضرورة أن مصلحة ماعدا واحد من البدائل مزاحمة بمصلحة التسهیل والارفاق، ومن الواضح إنّ المصلحة المزاحمة بمصلحة اخری أقوی منها لاتصلح أن تکون ملاکاً لجعل حکم شرعی، فإذن یکون إیجاب الجمیع بلا مقتضی.

والخلاصة: إن مصلحة التسهیل والارفاق لو کانت فهی تمنع عن أصل جعل الوجوب لجمیع الاطراف أو الطرفین من الأول لا أنها تقتضی الترخیص فی ترک الواجب، لوضوح إنّه لا أثر للمصلحة المزاحمة بمصلحة اخری ویکون وجودها

ص:192


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 2 ص 413.

وعدمها سیان، هذا.

الالتزام بالوجه الثالث و غیر خفی إن هذا الوجه فی غایة المتانة، ولایرد علی المقطع الأول من هذا الوجه ما ذکره بعض المحققین قدس سره(1) من أنه علی فرض استفادة تعدّد الوجوب، فلابد أن یکون هناک دلیل یدل علی وجود ترخیص فی ترک کل واحد من البدائل إلی بدل، لأن أصل الدلالة علی عدم لزوم الجمع بینها مفروغ عنه، وذلک لأنه لم یرد علی هذا المقطع، لأن السید الاُستاذ قدس سره لم یعترف فیه باستفادة تعدّد الوجوب من دلیل لکی یضطر إلی الالتزام بالمصلحة التسهیلیة فی المقام للدلالة علی الترخیص فی الترک لا مطلقاً بل إلی بدل، لأنه کما یحتمل ذلک یحتمل أن یکون الملاک فی المقام واحداً قائماً بواحد من البدائل، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن المجعول فی الشریعة المقدسة إیجاب الجمیع وعدم کون مصلحة التسهیل والارفاق مانعة منه فلا موجب لسقوط بعضها بفعل الآخر، لفرض إن کلاً منها واجب تعیینی، وسقوط وجوب الواجب إنما هو بأحد امور:

الأول: بالاتیان به وامتثال أمره خارجاً الموجب لحصول غرضه.

الثانی: العجز وعدم القدرة علی امتثاله.

الثالث: النّسخ، والمفروض إن الاتیان بالواجب لیس من هذه الاُمور، ودعوی إن وجوب کل منها مشروط بعدم الاتیان بالآخر، وحینئذٍ فیکون الاتیان به مسقطاً له، لأن المشروط ینتفی بانتفاء شرطه، مدفوعة بأن الأمر و إن کان کذلک علی فرض ثبوت تلک الدعوی إلاّ أنها غیر ثابتة، فإنه مضافاً إلی عدم الدلیل علیها أنها مخالفة لظواهر الأدلة فی المقام، حیث إن الظاهر منها

ص:193


1- (1) - المصدر المتقدم ص 413.

وجوب أحد الأطراف أو الطرفین لا وجوب الجمیع بنحو الاشتراط، ولکن هذا الاشکال غیر وارد علی المحقق الأصبهانی قدس سره، لما تقدم من أنه قدس سره فی مقام تصویرصورة للواجب التخییری فی مقام الثبوت ولم یدّع أنها موافقة للدلیل فی مقام الاثبات لکی یقال أنها مخالفة لظاهر الدلیل.

الرابع: إن لازم هذه النظریة تعدد العقاب إذا ترک المکلف جمیع البدائل، لأن جواز ترک کل واحد منها منوط بالاتیان بالآخر، فإن ذلک هو معنی إنه لایجوز الترک إلاّ إلی بدل، فإذا ترک الصوم لا إلی بدل وکذلک العتق والاطعام استحق العقاب علی الکل لا علی واحد منها دون الباقی، لأنه ترک الواجب فعلاً بلا بدل و هو غیر جائز وموجب لاستحقاق العقاب.

والجواب: إن هذا الوجه مبنی علی نظریته قدس سره فی مسألة العقاب و هی أن ملاک استحقاقه تمکن المکلف من التخلص عن مخالفة التکلیف سواءً أکان بالامتثال أم کان برفع موضوعه، وعلی هذا فإذا صام المکلف فقد تخلص نفسه عن مخالفة وجوبه بالامتثال وعن مخالفة وجوب العدلین الآخرین برفع موضوعه، لفرض أنّ وجوب کل منهما مقیّد بعدم الاتیان بالصوم، کما إنّ وجوبه مقیّد بعدم الاتیان بشیء منهما کما هو الحال فی الواجبین المتزاحمین، فإنه قدس سره قد التزم هناک بأن المکلف إذا ترک کلا الواجبین معاً استحق عقابین، ولکن تقدم أن هذه النظریة غیر صحیحة، فالصحیح هو النظریة القائلة بأن ملاک استحقاق العقاب تمکن المکلف من التخلص عن تفویت الملاک الملزم، ومع هذا إذا لم یقم بتخلیص نفسه عنه وفات استحق العقاب، وعلی ضوء هذه النظریة فلایستحق المکلف فی المقام إذا ترک الجمیع إلاّ عقاباً واحداً، باعتبار أن فوت أحد ملاکات البدائل مستندإلیه، و أما فوت الباقی فهو غیر مستند إلیه بل هو مستند إلی مصلحة التسهیل

ص:194

والارفاق فی المرتبة السابقة التی تدل علی الترخیص فی ترک الجمیع ماعدا واحد منها، ومقتضی هذه المصلحة التسهیلیة إنّ الملاک الملزم الواجب تحصیله علی المکلف واحد و هو مترتب علی أحدها لا علی التعیین دون الباقی، وعلی هذا فلیس بإمکان المکلف إلاّ التخلص من تفویت هذا الملاک الواحد، وعلیه فلا یستحق العقاب إلاّ علی تفویته، و أما تفویت الواجب بما هو اعتبار من قبل المولی من دون أن یستلزم تفویت الملاک الذی هو حقیقة الوجوب وروحه فلایوجب استحقاق العقاب، إذ لا قیمة له إذا لم تکن له روح وحقیقة، وفی المقام إذاترک المکلف جمیع البدائل فقد ترک واجباً روحاً وملاکاً وواجبین بلا روح، ولهذایوجب ترکهما استحقاق العقاب، لأنه إنّما یستحق العقاب علی تفویت الملاک الملزم لا علی تفویت الوجوب بما هو اعتبار.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی أن مراد المحقق الأصبهانی قدس سره من هذه الفرضیة إن کان وجوب کل من البدائل بوجوب تعیینی علی أساس ما فیه من الملاک الملزم، ولکن مصلحة التسهیل والارفاق تدل علی الترخیص فی ترک کل منها لا مطلقاً بل إلی بدل، فیرد علی ما أورده السید الاُستاذ قدس سره فی الاشکال الثالث من أن مصلحة التسهیل والارفاق لو کانت فی المقام، فهی تمنع عن أصل جعل الوجوب لجمیع البدائل ماعدا واحد منها، باعتبار أنها تزاحم مصلحة غیره من البدائل، والمصلحة المزاحمة لاتصلح أن تکون منشأ للجعل، و إن کان مراده قدس سره من إیجاب جمیع البدائل إیجابها روحاً وملاکاً فقط، بمعنی أنها مشتملة علی الملاکات الالزامیة، ولکن مصلحة التسهیل تمنع عن تأثیرها ماعدا واحدمنها، فلا یرد علیه شیء مما أورده السید الاُستاذ قدس سره من الاشکالات، فإنهاجمیعاً اشکالات اثباتیة، و أما ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره من الفرضیة فهی مجرد تصویر صورة للواجب التخییری فی مقام الثبوت، ولا یدعی هو أن هذه

ص:195

الصورة منه مطابقه لظواهر الأدلة فی مقام الاثبات حتی یرد علیه بعدم مطابقتها لها. نعم الذی یرد علیه إنه لیس بإمکانه إثبات هذه الفرضیة بدلیل، لأن أدلة الواجبات التخییریة الآمرة بالبدائل بنحو العطف بکلمة (أو) لا تدل علی هذه الفرضیة، لأنها ظاهرة فی أنّ الواجب واحد منها علی البدل لا الجمیع، و أما استفادة تعدّد الوجوب المشروط فی الواجب التخییری من الدلیلین المستقلین، إما من جهة سقوط إطلاقیهما بالتعارض وبقاء أصل الوجوب بنحو القضیة المهملة أولا اطلاق لهما من الأول، و إن دلالة کل منهما علی الوجوب تکون بنحو القضیة المهملة، فعلی تقدیر تمامیة هذه الاستفادة وصحتها إنها مستفادة من دلیل الوجوبین علی أثر اجمالهما ذاتاً أو عرضاً لا من مصلحة التسهیل والارفاق.

نتیجة النظریة الثانیة

و أما الفرضیة الثانیة و هی إن الملاک القائم بالجامع بین البدائل واحد نوعی، ولکن اللزومی منه وجود واحد، وحیث إنّ نسبة الکل إلی ذلک الوجود الواحد اللزومی نسبة واحدة فیجب الجمیع، لأن إیجاب أحدها المردّد محال وإیجاب أحدها المعیّن ترجیح من غیر مرجّح فإذن لا محالة یجب الکل، فیرد علیها إنّ الواجب حینئذٍ هو أحدها المفهوی لا أحدها المعیّن فی الخارج ولا المردد فیه و هوالعنوان الانتزاعی، ولا مانع من تعلق الوجوب به، فما ذکره قدس سره من أنّ تعلق الوجوب بأحدها المعیّن لایمکن للترجیح من غیر مرجح وبأحدها المردد محال، لاستحالة وجوده فی الخارج، فإذن یتعیّن تعلّقه بالجمیع غیر تام، لأن تعلقه بالجمیع أی بکل واحد من البدائل بعنوانه الخاص فهو بلا موجب ویکون لغواً، فإذن یتعین تعلقه بالجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدها ثبوتاً واثباتاً، أما الأول فلأنه لا مانع من تعلق الوجوب بأحدها العنوانی المفهومی، فإن المحال هوأحدها لا بعینه المصداقی دون المفهومی، و أما الثانی فلأنه موافق لظواهر أدلة الواجب التخییری.

ص:196

و أما اشکال السید الاُستاذ قدس سره(1) علی هذه الفرضیة بأن لازمها تعدّد العقاب إذا ترک المکلف جمیع البدائل کما هو الحال فی الفرضیة الاُولی، فهو تام علی ضوء نظریته فی مسألة العقاب، و هی أن المعیار فی استحقاق العقاب تمکن المکلف من التخلص عن مخالفة التکلیف سواءً أکان بالامتثال أم کان برفع موضوعه، و أمابناء علی ما قویناه من أنّ المعیار فی استحقاق العقاب إنما هو تمکن المکلف من التخلص عن تفویت الملاک الملزم فلایستحق فی المقام إلاّ عقاباً واحداً، إذ لیس بإمکانه التخلص إلا من تفویت ملاک واحد، بینما یکون بإمکانه التخلص من مخالفة المولی فی المقام باتیان أحد البدائل، فإنه إذا أتی به انتفی وجوب الباقی بانتفاء موضوعه، وحینئذٍ فإذا جمع بین التروک عامداً وملتفتاً، استحق عقوبة متعدّدة بعدد أفراد الواجب علی مسلکه قدس سره، بینما لایستحق علی مسلکنا إلاّعقاباً واحداً.

النظریة الرابعة و النظر فیها

النظریة الرابعة: إن الواجب التخییری عبارة عن إیجاب فرد مردّد بین فردین أو أفراد فی مقابل الواجب التعیینی الذی هو عبارة عن إیجاب شیء معیّن کالصلاة ونحوها.

وغیر خفی إنّ هذه النظریة إما مستحیلة أو ترجع إلی النظریة الخامسة، وذلک لأنه إن ارید بالفرد المردّد الفرد المردّد بالحمل الأولی أی مفهومه فی عالم الذهن الذی هو معین فیه لا مردد، ففیه إن هذه النظریة هی نفس النظریة الخامسة الآتیة ولیست نظریة مستقلة، و إن ارید به الفرد المردّد بالحمل الشایع أی المردد المصداقی فهو مستحیل، لاستحالة وجود الفرد المردد فی الخارج و الذهن، ضرورة إن الفرد المردّد إذا کان بین عنوانین، فإن حمل أحدهما علیه فهو معیّن لا

ص:197


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 30.

مردّد، و إنّ حمل کل من العنوانین علیه وسلبه عنه فهذا تناقض مستحیل، هذا ما أفاده المحقق الأصبهانی قدس سره(1) وملخّصه: «إنّ وجود کل شیء فی الخارج أو الذهن متعیّن ولایعقل أن یکون مردّداً بین وجود نفسه ووجود غیره فیه وإلاّلزم الجمع بین النقیضین هما الوجود و العدم فی شیء واحد».

النظریة الخامسة:

اشارة

(2)

إنّ التخییر الشرعی بین فردین أو أفراد منوطبوحدة الملاک فی مرحلة المبادی وإنه قائم بأحدهما المفهومی و هو الجامع بینها، وعلیه فلا محالة یکون المجعول فی مرحلة الجعل أیضاً وجوباً واحداً متعلقاً به بقانون التبعیة، هذا بحسب مقام الثبوت و التصور.

و أما فی مقام الاثبات، فإن نصوص التخییر الآمرة بالبدائل بنحو العطف بکلمة (أو) ظاهرة فی أن المجعول فی الشریعة المقدسة وجوب واحد متعلق بعنوان أحدها، فإذا ورد فی الدلیل صم شهرین متتابعین أو أطعم ستین مسکیناً أو إعتق رقبة، کان المتفاهم العرفی منه وجوباً واحداً متعلقاً بأحد هذه البدائل، ومن هنا یظهر أن تفسیر التخییر الشرعی بجعل وجوبین تعیینیین مشروطین للبدلین، بمعنی إن الوجوب المجعول لکل منهما یکون مشروطاً بعدم الاتیان بالآخر خاطیء جداً وغیر مطابق للواقع، وذلک لأن هذا التفسیر و إن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنه لایمکن إثباته بدلیل، لما مرّ من أنّ الأدلة ظاهرة فی أن المجعول فی الشریعة المقدسة وجوب واحد متعلق بالجامع بین الابدال و هو عنوان أحدها، و إن شئت قلت: إن مرد التخییر الشرعی إلی أن المجعول فی الشریعة المقدسة وجوب واحد متعلق بأحد البدائل لا وجوبات متعدّدة بعدد البدائل المشروطة وذلک لسببین:

ص:198


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2 ص 271.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 40.

الأول: إنه لا دلیل علیه فی مقام الاثبات بل الدلیل علی خلافها موجود فیه و هو الأدلة العامة للواجبات التخییریة، لأنها تدل بالمطابقة علی أن المجعول وجوب واحد متعلق بالجامع بینها، وبالالتزام علی نفی جعل الوجوبات المتعدّدة المشروطة.

الثانی: إن لازم کون المجعول وجوبات متعدّدة فی الشریعة المقدّسة إفتراض أن تکون هناک ملاکات متعدّدة الزامیّة فی مرحلة المبادیء من ناحیة وفرض التضاد بینها من ناحیة اخری، وإلا لکانت تلک الواجبات واجبات تعیینیة لا تخییریة و هذا خلف، ومن هنا یفترق التخییرالشرعی عن التخییر العقلی فی أمرین:

افتراق التمییز الشرعی عن التخییر العقلی فی أمرین

الأمر الأول: إنّ الأول مستند إلی النص فلهذا یکون شرعیاً، بینما الثانی لایستند إلی النص فلهذا یکون عقلیاً کما فی الواجبین المتزاحمین المتساویین.

الأمر الثانی: إن الوجوب فی الأول واحد متعلق بالجامع العنوانی بینما یکون فی الثانی وجوبان تعیینیان، وحیث إنّ بینهما مضادة ومزاحمة فیحکم العقل بالتخییر بینهما.

صحة هذه النظریة

إلی هنا قد تبین إن هذه النظریة هی النظریة الصحیحة فی المسألة دون سائر النظریات، و هی إنّ الواجب أحد البدائل لا علی التعیین لا کلها بنحو الواجبات المشروطة، ثم إنّ الثمرة لاتظهر بین القولین علی ما هو الصحیح من جریان أصالة البراءة فی کبری مسألة دوران الأمر بین التعیین و التخییر، أما علی القول بوجوب الجامع بین الابدال، فإنه إذا شک فی أن صوم شهرین متتابعین واجب تعیینی أو تخییری، فیدخل فی کبری دوران الأمر بین التعیین و التخییر و المرجع فیه أصالة البراءة عن التعیین عقلاً ونقلاً، و أما علی القول بالوجوبات المشروطة، فلأن المکلف إذا شک فی أن وجوب الصوم هل هو تعیینی

ص:199

أوتخییری، فیرجع إلی الشک فی أصل وجوبه بعد الاتیان بالاطعام أو العتق بنحوالشک البدوی و المرجع فیه أصالة البراءة.

نتائج البحث

نتائج البحث متمثلة فی نقاط:

الاُولی: إن فی الواجب التخییری نظریات وآراء متمثلة فی خمس:

الأول: إن الواجب هو ما اختاره المکلف فی ظرف الامتثال، و هذه النظریة ساقطة ثبوتاً ولهذا لا یصل الدور إلی البحث عن وجود الدلیل علیها فی مقام الاثبات.

الثانی: ما اختاره المحقق الخراسانی قدس سره و هو متمثل فی فرضیتین:

نتائج البحث

الاُولی: إنّ الغرض فی الواقع واحد قائم بالجامع بین الابدال.

الثانیة: إنه متعدد بعدد البدائل، و قد استدل علی الفرضیة الاُولی بقاعدة فلسفیة و هی إن الواحد لایصدر إلاّ من واحد.

و قد ناقش فی تطبیق هذه القاعدة علی المقام السید الاُستاذ قدس سره و المحقق الأصبهانی قدس سره، وعلقنا علی هذه المناقشة و قد تقدم تفصیله.

الثالث: إنّ هذه الفرضیة غیر تامّة ثبوتاً وإثباتاً، أما ثبوتاً فلأنها مبنیّة علی نقطة خاطئة و هی الخلط بین واقع الغرض الموجود فی الخارج وبین عنوانه الذی لا موطن له إلاّ الذهن علی تفصیل تقدم، و أما إثباتاً فلأن الظاهر من الأدلة هوأن متعلق الوجوب الجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدها لا الحقیقی.

الرابع: إنّ مقتضی الفرضیة الثانیة للمحقق الخراسانی قدس سره أن تکون هناک وجوبات متعدّدة بعدد البدائل المشروطة لمکان المضادّة بین ملاکاتها القائمة بها، و هذه الفرضیة غیر واقعیة، لأن إفتراض التضاد بین الملاکات القائمة بها واقعاً مع

ص:200

عدم التضاد بینها فرض لا أصل له علی ما تقدم هذا، إضافة إلی أنّ هذه الفرضیة مخالفة لظواهر الأدلة فی مقام الاثبات أیضاً، و أما الاشکال علی هذه الفرضیة بأن لازمها تعدد العقاب إذا ترک المکلف الکل فهو غیر وارد.

أما أولاً: فلأن هذه الفرضیة لو ثبتت فلا مانع من الأخذ بلازمها.

وثانیاً: إنّ تعدد العقاب مبنی علی أن یکون عدم الاتیان بالآخر شرطاً لاتّصاف الأول بالملاک فی مرحلة المبادی، و أما إذا کان شرطاً لترتب الملاک علیه، فلایتمکن المکلف من التخلص إلا عن تفویت ملاک واحد، لأن تفویت الآخر قهری سواءً أکان المکلف آتیاً بأحدهما وترک الآخر، أم کان آتیاً بهما معاً أو تارکاً لهما کذلک.

الخامس: ما اختاره المحقق الأصبهانی قدس سره و هو متمثل فی فرضیتین:

الاُولی: إفتراض إشتمال کل واحد من البدائل علی ملاک ملزم مباین لملاک الآخر ونتیجة ذلک وجوب الکل تعییناً، ولکن مصلحة التسهیل والارفاق تدل علی الترخیص فی ترک کل واحد منها إلی بدل لا مطلقاً.

الثانیة: إنّ الملاک قائم بالجامع ومترتب علیه و هو واحد بالنوع، ولکن اللزومی منه وجود واحد ونسبته إلی الکل نسبة واحدة، ولهذا یجب الجمیع لاالفرد المعیّن للترجیح بلا مرجح ولا الفرد المردّد لأنه محال.

الثانیة: إنّ للسید الاُستاذ قدس سره عدة تعلیقات علی الفرضیة الاُولی:

الأول: إنه لا طریق لنا إلی احراز ملاکات الاحکام الواقعیّة، وعلیه فمن أین یحرز أنّ هناک ملاکات الزامیة متعدّدة بعدد البدائل.

وفیه: إن نظر المحقق الأصبهانی قدس سره من هذه الفرضیة مجرد تصویر صورة

ص:201

للواجب التخییری ثبوتاً، ولایدعی إحرازها لکی یقال إنه لا طریق لنا إلیه.

الثانی: إنّ هذه الفرضیة مخالفة لظاهر الدلیل فی مقام الاثبات.

وفیه إن مخالفتها لظاهر الدلیل مبنیة علی تفسیرها بإیجاب الجمیع، و أما بناءً علی تفسیرها بإیجاب واحد من البدائل وعدم صلاحیة مصلحة الباقی لأن تکون منشأ للوجوب من جهة مزاحمتهامع مصلحة التسهیل، فلاتکون مخالفة لظاهر الدلیل.

و أما التعلیق الثالث من السید الاُستاذ قدس سره فهو وارد علی ظاهر کلامه قدس سره فی هذه الفرضیة.

و أما التعلیق الرابع و هو أنّ لازم هذه الفرضیة تعدّد العقاب إذا ترک المکلف الجمیع فهو تام علی مسلکه قدس سره فی مسألة العقاب وغیر تام علی المختار فی هذه المسألة علی ما تقدم تفصیله.

الثالثة: إنّ ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره فی الفرضیة الثانیة من أنّ الملاک القائم بالجامع بین الابدال واحد بالنوع، ولکن اللزومی منه وجود واحد نسبته إلی الجمیع علی حدٍ سواء فیجب الجمیع، لأن وجوب الفرد المردّد محال ووجوب الفرد المعین ترجیح بلا مرجّح، غیر تام أما أولاً: فإنّ وجوب الجمیع بلا مبرّر.

وثانیاً: إن الواجب هو الفرد لا بعینه مفهوماً لا مصداقاً.

الرابعة: إن الصحیح فی المسألة القول بأن مرد التخییر الشرعی إلی أن المجعول فی الشریعة المقدسة وجوب واحد متعلق بالجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدهما، والدلیل فی مقام الاثبات یدل علی ذلک ویکشف عن أن الملاک واحد قائم بالجامع دون القول بأن المجعول فیها وجوبات متعدّدة بعدد البدائل المشروطة.

الخامسة: إنّه لاتظهر الثمرة بین القولین.

ص:202

الواجب الکفائی

أرکان الحکم الشرعی

مقدّمة: و هی أنّ الحکم الشرعی متقوم برکنین:

الأول: متعلق الحکم.

الثانی: موضوعه، لأن الحکم کما لایمکن تحقّقه فی عالم الاعتبار و الجعل بدون المتعلق کذلک لایمکن تحقّقه فی هذا العالم بدون فرض وجود الموضوع له فی عالم الخارج، لأن جعل الحکم فی الشریعة المقدسة إنما هو بنحو القضیة الحقیقیة للموضوع المفروض وجوده فی الخارج و هی ترجع لباً إلی قضیة شرطیة مقدمهاوجود الموضوع وتالیها ثبوت الحکم له، ومن الواضح إنّ القضیة تتقوم بالموضوع و المحمول و المتعلّق، مثلاً المستطیع فی الآیة الشریفة موضوع و الوجوب محمول و الحج متعلّق، و قد یعبّر عن الموضوع بمتعلق المتعلق أیضاً، وعلی هذا فمحل الکلام فی المسألة المتقدمة و هی الواجب التخییری إنما هو فی تعیین متعلق الوجوب وإنه أحد البدائل لا علی التعیین أو جمیعها أو جامع ذاتی بینهما علی تفصیل تقدم، و أما محل الکلام فی هذه المسألة فإنما هو فی تعیین موضوع الوجوب وإنّه أحد المکلفین لا علی التعیین أو جمیعهم علی تفصیل یأتی، وبهذه النقطة یمتاز الوجوب الکفائی عن الوجوب التخییری، هذا من ناحیة.

خصائص الواجب الکفائی

ومن ناحیة اخری إنّ خصائص الواجب الکفائی وممیزاته ثلاثة:

الأول: إنّ الواجب الکفائی یسقط عن الجمیع بفعل البعض.

الثانی: إنّه إذا ترک من قبل جمیع المکلفین استحق الجمیع العقاب.

ص:203

الثالث: إنّه إذا وجد خارجاً دفعة واحدة أو تدریجاً من قبل المکلفین تماماً استحق الکل الثواب، وبعد ذلک نقول إنّ الواجب الکفائی قد فسّر فی کلمات الأصحاب بعدة تفسیرات:

الواجب الکفائی

کلمات الأصحاب فی تفسیر الواجب الکفائی

اشارة

الأول: أن یکون الوجوب فی الواجب الکفائی موجّهاً إلی جمیع المکلفین بمعنی إنّ هناک وجوبات عدیدة بعدد أفرادهم.

الثانی: أن یکون الوجوب فیه موجهاً إلی مجموع المکلفین بنحو العموم المجموعی، بمعنی إنّ هناک وجوباً واحداً مجعولاً علی المجموع من حیث المجموع بحیث یکون کل فرد منه جزء الموضوع لاتمامه.

الثالث: أن یکون الوجوب فیه موجّهاً إلی أحد المکلفین لا بعینه بمعنی أنّ هناک وجوباً واحداً مجعولاً علی عنوان أحدهم بنحو العموم البدلی.

بیان التفسیر الأول و المناقشة فیه

أما التفسیر الأول فلایمکن الأخذ بظاهره، وإلاّ فلا فرق حینئذٍ بین الواجب الکفائی و الواجب العینی إلاّ بتوجیه ذلک بأحد نحوین تالیین:

الأول: إنّ الوجوبات المتعددة بعدد آحاد المکلفین وجوبات مشروطة بمعنی إنّ وجوبه علی کل فرد مشروط بعدم اتیان فرد آخر به، وبه یمتاز الوجوب الکفائی عن الوجوب العینی.

الثانی: إنّ متعلق هذه الوجوبات المتعدّدة لیس خصوص الفعل الصادر من کل فرد من أفراد المکلف بل الجامع بینه وبین فعل غیره، فکل فرد مکلف بإیجاد هذا الجامع، فإذا أوجده فی الخارج سقط عن الجمیع، و أما إذا لم یقم هو بإیجاده فیه ولا غیره فیکون العقاب علی الکل، مثلاً الصلاة علی المیت واجبة کفائیة و الأمر بها موجه إلی کل مکلف بالغ عاقل قادر ولکن متعلقه صرف وجودها

ص:204

بفعل أی مکلف کان لا خصوص وجودها المستند إلیه، وعلی هذا فالفرق بین کون صلاة المیت واجبة کفائیة وکونها واجبة عینیة إنما هو فی متعلق الأمر لا فی المکلف، فعلی الأول یکون متعلقه الصلاة الجامعة بین فعل المکلف نفسه وفعل الغیر، و قد تقدم فی مبحث التعبدی و التوصلی إنّه لا مانع من الأمر بالجامع بینهما لأنه لیس من الأمر بغیر المقدور، باعتبار إنّ الجامع بین المقدور وغیر المقدورمقدور.

وعلی الثانی یکون متعلقه حصة خاصة من الصلاة و هی فعل المکلف نفسه، و أما فی توجیه الأمر إلی المکلف فلا فرق بینهما، فإنه موجه إلی کل مکلف بعینه سواءً أکان متعلقه واجباً عینیاً أم کفائیاً، و أما الخصائص و الممیزات للواجب الکفائی فهی متوفرة فی صلاة المیّت، إذ لو أتی بها الجمیع، استحق الجمیع الثواب ولو ترکها الکل، استحق الکل العقاب، و أما إذا أتی بها بعضهم فقد سقطت عن الباقی.

ولنا تعلیق علی کلا التوجیهین:

أما الأول، فلأن جعل الوجوبات المتعددة بعدد أفراد المکلف المشروطة لایمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة، والنکتة المبررة لذلک هی فرض وجود ملاکات متعددة بعدد أفراده، و أما أنّ هذه الوجوبات، وجوبات مشروطه لامطلقة فأیضاً لایمکن أن یکون بلا ملاک وجزافاً، ولکن قد یقال إنّ نکتة ذلک أحد أمرین:

الأول: افتراض وجود التضاد بین الملاکات بحیث لایمکن الجمع بین اثنین منها، فإذا حصل واحد منها بفعل أحدهم، فات امکان تحصیل الباقی بفعل الآخرین.

ص:205

الثانی: ثبوت الترخیص لهم من الخارج فی ترک الواجب إذا أتی به واحد منهم کمصلحة التسهیل والارفاق مثلاً هذا.

ولکن لایمکن الأخذ بکلا الافتراضین: أما الافتراض الأول، فقد تقدم إنّه لایعقل التضاد بین ملاکات الأحکام الشرعیة، لأنها امور معنویة لا مادیة حتی یتصور التضاد و التزاحم بینها، لأنها تزید فی قرب العباد إلی اللَّه تعالی وتخلق فیهم الصفات الکمالیة و الملاکات الفاضلة الانسانیة وتنمو الإیمان فی نفوسهم، ومن الواضح إنه لایتصور التضاد فیها، و قد سبق تفصیل ذلک.

و أما الافتراض الثانی، فعلی تقدیر تحققه فهو مانع عن أصل جعل وجوبات متعدّدة بعدد أفراد المکلف ماعدا جعل وجوب واحد لأحدهم لا بعینه، لأن مصلحة التسهیل والارفاق تمنع عن أصل الجعل، علی أساس إنها تدل علی أنّ کل مصلحة واقعیة إلزامیة بالنسبة إلی کل مکلف لاتصلح أن تکون منشأً للحکم وداعیة إلی جعله إلاّ مصلحة واحدة بالنسبة إلی واحد منهم، إذ لو کانت صالحة لذلک أی الجعل، فلا معنی حینئذٍ للترخیص فی ترکها مشروطاً، لأنه یکشف عن أنها غیر صالحة لأن تکون منشأً لجعل الوجوب مطلقاً من جهة مزاحمتها مع مصلحة التسهیل والارفاق، وإلاّ لزم الترخیص فی ترک الواجب بماهو واجب و هو قبیح، وذلک لأن مصلحة الواجب إن کانت صالحة لأن تکون منشأ لجعل الوجوب له رغم وجود مصلحة التسهیل فلایجوز الترخیص فی ترکه، و إن لم تکن صالحة لذلک فلا وجوب من الأول، أو فقل إن مصلحة التسهیل إن کانت مانعة عن أصل جعل الوجوب له من جهة أنها أقوی من مصلحة الواقع، فلا وجوب حینئذٍ، و إن لم تکن مانعة عنه، فکیف تدل علی الترخیص فی ترکه.

ص:206

والخلاصة: إنه لوکانت هناک مصالح الزامیة متعدّدة بعدد أفراد المکلفین وتدعوا المولی إلی جعل وجوبات عدیدة کذلک علی طبقها، فلا موجب لکون هذه الوجوبات وجوبات مشروطة ماعدا تخیل أحد الأمرین المتقدمین، و قدعرفت إن شیئاً منهما لایصلح أن یکون مبرراً لذلک، فإذن لایمکن تفسیر الواجب الکفائی بهذه الصیغة.

و أما الثانی، فلأن الغرض من الواجب الکفائی إذا کان صرف وجوده فی الخارج وتحققه فیه بفعل أی فرد کان، فهو لایقتضی أکثر من جعل وجوب واحد متعلق به، فلا مبرّر لجعل وجوبات متعددة بعدد أفراد المکلف، ضرورة أنه لاملاک لهذه الجعول، لأن الملاک فی المقام واحد و هو لایقتضی أکثر من جعل واحد هذا، إضافة إلی أنّ الالتزام بأن متعلق الوجوب الجامع بین فعل المکلف نفسه وفعل غیره بحاجة إلی عنایة زائدة و إن قلنا بإمکانه، لأن الظاهر من الأمر الموجه إلی کل فرد، أنّه متعلّق بفعل نفسه لا الجامع بینه وبین فعل غیره.

نعم، هناک توجیه ثالث و هو أنّ الملاک فی المقام واحد، و هذا الملاک الواحد قائم بطبیعی الفعل الجامع بین أفراده، وحیث إنّ نسبته إلی جمیع أفراد المکلف نسبة واحدة فهی تتطلب إیجاب الفعل علی الجمیع، لأن إیجابه علی بعض دون بعض آخر ترجیح من غیر مرجح، وإیجابه علی فرد غیر معین فی الخارج محال لاستحالة وجوده فیه، فإذن لا مناص من إیجابه علی الجمیع بإیجاب مشروط، ومرد هذه الایجابات المشروطة لباً إلی إیجاب واحد روحاً وملاکاً وأثراً، أما الأول فظاهر، و أما الثانی فلأنه یسقط عن الجمیع بفعل واحد منهم، وعلی هذا فلا یقال إنّ وحدة الملاک تتطلب وحدة الجعل، وحیث إنه فی المقام واحد فهویتطلب جعلاً واحداً ولا مبرر لجعول متعددة، وذلک لأن وحدة الملاک و إن کانت تتطلب وحدة الجعل إلاّ أنّ الالتزام بتعدد الجعل المشروط فی المقام إنما هو علی

ص:207

أساس أنّ نسبة ذلک الملاک الواحد إلی الکل علی حد سواء، فلهذا لایمکن إیجاب تحصیله علی بعض دون بعض لأنه ترجیح من غیر مرجح، فیجب حینئذٍ علی الجمیع لا محالة بإیجاب مشروط، ومن الواضح إنّ إیجابه مشروطاً علی الجمیع لایکون لغواً، فإنه بلحاظ أن بإمکان کل فرد إیجاده وتحصیله فی الخارج، فإذا أوجده فیه یسقط عن الباقی أیضاً.

والخلاصة: إن جعل الوجوب علی الکل بهذه الغایة المشروطة لایکون لغواً، فإذن لا مانع من الالتزام بهذا التوجیه ثبوتاً وإثباتاً، و أما ثبوتاً فلأنه لا محذور فی الالتزام بجعل إیجابات متعددة بعدد أفراد المکلف المشروطة رغم وحدة الملاک فی المقام وقیامه بطبیعی الفعل الجامع، لما عرفت من أنّ نسبة هذا الملاک الواحد إلی جمیع المکلفین، حیث إنها نسبة واحدة بنفسها تتطلب جعل الإیجاب للکل مشروطاً، و قد تقدم أنّ منشأ هذا الاشتراط لایمکن أن یکون فرض وجود التضاد بین الملاکات فی الواقع، لما مرّ من أنه مجرد إفتراض لا واقع موضوعی له، کما لایمکن أن یکون فرض وجود مصلحة التسهیل والارفاق، و أما إثباتاً فلأن خطابات الواجبات الکفائیة کصلاة المیت مثلاً التی هی مجعولة فی الشریعة المقدسة بنحو القضیة الحقیقیة موجهة إلی جمیع المکلفین مشروطة لامطلقة، بمعنی إنّ الخطاب بصلاة المیت موجه إلی کل فرد مشروطاً بعدم قیام الآخرین بها، فالنتیجة، إنه لا مانع من حمل روایات الباب علی ذلک.

بیان التفسیر الثانی و المناقشة فیه

و أما التفسیر الثانی و هو إنّ الوجوب الکفائی موجه إلی مجموع آحاد المکلفین بنحو العموم المجموعی، بحیث یکون کل فرد منهم جزء الموضوع لاتمامه، فلایمکن الالتزام به وذلک لوجوه:

الأول: إنّ لازم ذلک عدم حصول الغرض بفعل البعض وعدم سقوط

ص:208

التکلیف به لا عنه ولا عن الآخرین، لفرض أنّ المطلوب هو صدور الفعل من مجموع آحاد المکلفین من حیث المجموع بنحو الارتباط ولا یکفی صدوره عن بعضهم، فإنه کالإتیان بجزء من الصلاة مثلاً، فکما إنّه لایکفی لحصول الغرض المترتب علیها باعتبارأن ترتبه علیها یکون بنحوالارتباط لا الاستقلال، فکذلک اتیان أحد من المکلفین بالواجب، و هذا کماتری وخلاف الضرورة و الوجدان.

الثانی: إنّ بعض الواجبات الکفائیة غیر قابل لصدوره من مجموع آحاد المکلفین من حیث المجموع کالصلاة علی المیت ونحوها.

الثالث: إنّ المکلف بالواجبات الکفائیة و العینیّة هو البالغ العاقل القادر واقعاً الذی له ذمة بمعنی إنّ التکلیف ثابت فی ذمته وعهدته، وعلی هذا فإن ارید بمجموع المکلفین إنّ لکل واحد منهم ذمة وعهدة و إنّ التکلیف ثابت فیها، فمعنی هذا انحلال التکلیف بإنحلال أفرادهم وثبوته فی عهدة کل منهم مستقلاً و هوخلف، و إن ارید به أن کل واحد منهم جزء الموضوع، فالموضوع مجموعهم من حیث المجموع، فیرد علیه إن عنوان المجموع عنوان اعتباری فلا واقع موضوعی له حتی تکون له ذمة وعهدة، وعلی الجملة فإن ارید به واقع المجموع، ففیه إن واقعه آحاد المکلفین فی الخارج، وحینئذٍ فیتعدد التکلیف بتعددهم، و إن ارید به عنوان المجموع، ففیه أنه لا واقع له حتی یکون التکلیف موجّهاً إلیه وثابتاً فی عهدته.

فالنتیجة، إنّ هذا التفسیر للوجوب الکفائی لایرجع إلی معنی محصّل.

بیان التفسیر الثالث و المناقشة فیه
اشارة

و أما التفسیر الثالث، و هو إنّ الوجوب الکفائی وجوب واحد موجه إلی أحد من المکلفین لا إلی الجمیع.

ص:209

فقد اختاره السید الاُستاذ قدس سره(1) ، و قد أفاد فی وجه ذلک إنّ غرض المولی تارةً یتعلق بصرف وجود الطبیعیة واُخری بمطلق وجودها، فعلی الأول یکون المطلوب صرف وجودها فی الخارج، وعلی الثانی مطلق وجودها هذا بالنسبة إلی متعلق الوجوب، و أما بالنسبة إلی موضوعه، فتارة یتعلق الغرض بصدور الواجب عن جمیع المکلفین واُخری بصدوره عن صرف وجودهم، فعلی الأول یکون الواجب عینیاً وعلی الثانی کفائیاً، بمعنی إنّه واجب علی أحد المکلفین لابعینه المنطبق علی کل واحد منهم علی البدل ویسقط بفعل البعض عن الباقی، و هذا واضح عند العرف و الشرع ولا مانع منه أصلاً، وجمیع ممیزات الوجوب الکفائی موجودة فی هذا القول، لأنه إذا ترک من قبل کل المکلفین استحق الکل العقاب، و إذا وجد من قبل الکل استحق الکل الثواب، و إذا وجد من قبل البعض سقط عن الباقی أیضاً هذا.

ویمکن المناقشة فی هذا التفسیر، فإن موضوع التکلیف یختلف عن متعلقه فی نقطة و هی إنّ متعلق التکلیف غیر مأخوذ مفروض الوجود فی مقام الجعل والاعتبار وإلاّ لزم طلب الحاصل و هو محال، ومن هنا یکون متعلقه المفهوم الذهنی الذی هو مرآة للخارج وفان فیه، والغرض من تعلقه به تحریک المکلف وانبعاثه نحو الاتیان به وإیجاده فی الخارج، و أما إن المطلوب هو تطبیق المتعلق علی تمام أفراده فیه أو علی فرد منه علی البدل، فهو بحاجة إلی عنایة زائدة وقرینة خارجیة، و أما الأمر المتعلق به فهو لایدل علیه لامن ناحیة نفسه ومن ناحیة متعلقه، و هذا بخلاف موضوع الحکم فإنه مأخوذ مفروض الوجود فی الخارج فی مرحلة الجعل والاعتبار کعنوان المستطیع مثلاً الذی فرض المولی

ص:210


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 55.

وجوده فی الخارج وجعل وجوب الحج علیه بمقتضی الآیة الشریفة، وحیث إن عنوان الموضوع المأخوذ کذلک عنوان عام، فینحل الحکم بانحلال أفراده فیه ویثبت لک لفرد منها حکم مستقل، فیکون الانحلال علی القاعدة هذا من ناحیة.

بیان ما ذکره السید الأستاذ قدّس سرّه و المناقشة فیه

ومن ناحیة اخری، قد ذکر السید الاُستاذ قدس سره إن موضوع الوجوب الکفائی أحد أفراد المکلف لا علی التعیین و الخطاب موجه إلیه، ولکن لایمکن المساعدة علیه، وذلک لأنه إن ارید بالواحد لا بعینه الواحد المصداقی و هو الفرد المردد فی الخارج، ففیه إنه مستحیل، و إن ارید به الواحد المفهومی یعنی طبیعی أحد المکلفین بنحو لا بشرط، فیرد علیه إنّ أخذ أحد المکلفین کذلک مفروض الوجود فی الخارج بدون تقییده بقید خاص ولون مخصوص ماعدا قیوده وشروطه العامة، فمعناه إنحلال الوجوب الکفائی بانحلال أفراد موضوعه فی الخارج، لأن عنوان الأحد الملحوظ لا بشرط عنوان عام فیصدق علی کل فرد من أفراد المکلف فی الخارج، وعلیه فیثبت لکل فرد منه وجوب مستقل، و هذاخلف ما أفاده قدس سره من أن المجعول وجوب واحد لموضوع واحد علی البدل، و إن اُرید به الواحد المفهومی بقید الوحدة، بأن یکون موضوع التکلیف المأخوذ فی القضیة مفروض الوجود أحد المکلفین بقید الوحدة، وحینئذٍ فإن ارید بقید الوحدة مفهومه الذهنی، فیرد علیه أولاً: إنّ المفهوم الذهنی بوصف کونه فی الذهن لایصلح أن یکون موضوعاً للحکم، لأن موضوعه المفهوم المأخوذ مفروض الوجود فی الخارج.

وثانیاً: إنه لامعنی لتقیید مفهوم أحد المکلفین بالوحدة فی عالم الذهن، فإنه من تقیید مفهوم الواحد بالواحد و هو کماتری، فإذن لا محالة یکون المراد منه أخذ أحد المکلفین مفروض الوجود بقید الوحدة فی عالم الانطباق و الخارج و هو غیرمعقول، لأن الموضوع إذا کان مقیداً بقید الوحدة فی مرحلة الصدق والانطباق

ص:211

علی الخارج، فمعناه إنه مردّد فی صدقه علی هذا أو ذاک، ولایعقل التردد فی الصدق الخارجی هذا کله فی مقام الثبوت، و أما فی مقام الاثبات، فعلی تقدیر تسلیم إمکان ذلک فی مقام الثبوت، فهل روایات الباب تدل علی هذه الفرضیة أو لا؟

والجواب: إنه لیس هناک ما یدلّ علیها، إذ لم یؤخذ قید الوحدة فی لسان أدلة الواجبات الکفائیة مفروض الوجود فی مرحلة الجعل والاعتبار، مثلاً ما دل علی وجود غسل المیت و الصلاة علیه وکفنه ودفنه(1) وما شاکل ذلک من الخطاب غیر موجه إلی أحد المکلفین فضلاً عن تقییده بقید الوحدة فی مرحلة الصدق، بل هو موجه إلی طبیعی المکلف کالوجوب العینی، ولا فرق بینهما من هذه الناحیة. وإنما الفرق بینهما من ناحیة اخری، و هی إنّ الظاهر من أدلة الواجبات الکفائیة هو أنّ المطلوب منها صرف وجودها فی الخارج روحاً وملاکاً، و هذا الظهور قرینة علی أن وجوبها علی کل فرد مشروط بعدم قیام الآخرین بها، ومن هنا قلنا إن الصحیح فی المسألة و الموافق لظواهر الأدلة هو التفسیر الأول بالتوجیه الذی قدمناه فی حقه.

والخلاصة: إنّ الخطابات الکفائیة کالخطابات العینیة موجهة إلی طبیعی المکلف الجامع و هو المکلف البالغ العاقل القادر، ولا فرق بینهما من هذه الناحیة، وإنما الفرق بینهما من ناحیة اخری کما عرفت، ومن هنا یظهر إن أدلة الواجب الکفائی تختلف عن أدلة الواجب التخییری فی نقطة، و هی أنّ الثانیة تدل علی أنّ الواجب هو أحد البدائل بمقتضی العطف بکلمة (أو)، بینما الأولی لاتدل علی أنّ موضوع الوجوب الکفائی أحد أفراد المکلف بل تدل علی أنّ موضوعه طبیعی المکلف، وهناک تفسیر رابع للوجوب الکفائی و هو إنّ

ص:212


1- (1) - الوسائل ج 2 ص 475 ب 1 من أبواب غسل الجنابة و ج 3 ص 5 ب 1 من أبواب التکفین و ص 99 ب 15 من أبواب صلاة الجنازة ح 2 و 3.

الخطابات الکفائیة موجهة إلی واحد معین عند اللَّه وغیر معیّن عندنا، و هذا التفسیر لا یرجع إلی معنی معقول:

أما أولاً: فلأنه و إن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنّه لایمکن استفادته من أدلة الوجوبات الکفائیة، لأنّها موجّهة إلی طبیعی المکلف لا إلی واحد معین عند اللَّه.

وثانیاً: إنّ هذا التکلیف غیر قابل للوصول و التنجّز، لأن کل مکلف شاک فی أنه هو الفرد المعین عنده تعالی حتی یکون الخطاب الکفائی موجهاً إلیه أولا، و هذا یکون من الشک فی أصل ثبوت التکلیف، والمرجع فیه قاعدة البراءة، والعلم الإجمالی بأنه إما موجه إلیه أو إلی غیره لا أثر له، لأن المکلف إذا شک فی أن الخطاب بالصلاة علی المیت مثلاً هل هو موجه إلیه أو إلی غیره، فهو یرجع إلی الشک فی أصل وجوبها علیه بالشک البدوی و المرجع فیه الأصل المؤمن.

وثالثاً: إن سقوطه عنه بفعل غیره بحاجة إلی دلیل، لوضوح أنّ سقوط الواجب عن ذمة شخص بفعل آخر بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه، ودعوی إنّ الدلیل علیه فی المسألة موجود و هو أدلة الواجب الکفائی، فإنها تدل علی سقوطه عن ذمته بقیام الآخر بامتثاله، مدفوعة بأنّ مقتضی تلک الأدلة و إن کان ذلک إلاّ أنه من جهة أن مفادها هو أنّه واجب علی کل فرد بحسب الجعل، ولکن بقائه فی ذمته مشروط بعدم قیام الآخر بإتیانه، لا أنّ مفادها هو أنه واجب علی فرد معین عند اللَّه تعالی ولکنه یسقط عن ذمته بفعل الآخر.

فالنتیجة، إنّ هذه الأدلة لاتدل علی هذا القول من الأول حتی تدل علی السقوط بفعل الغیر، والدلیل الآخر غیر موجود.

نتائج البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الاُولی: إن الوجوب الکفائی یمتاز عن الوجوب التخییری فی نقطة، و هی إنّ

ص:213

البحث فی الوجوب التخییری إنما هو عن تعیین متعلقه بینما البحث فی الوجوب الکفائی عن تعیین موضوعه و هو المکلف.

الثانیة: إن ممیزات الواجب الکفائی ثلاثة:

1 - سقوطه عن الجمیع بفعل البعض.

2 - استحقاق الجمیع العقاب عند ترکه نهائیاً.

3 - استحقاق الجمیع الثواب إذا أتوابه جمیعاً دفعةً أو تدریجاً.

الثالثة: إن للوجوب الکفائی أربعة تفسیرات.

1 - أن یکون الخطاب الکفائی موجهاً إلی جمیع المکلفین بنحو العموم الاستغراقی.

2 - أن یکون موجهاً إلی مجموع المکلفین بنحو العموم المجموعی.

3 - أن یکون موجهاً إلی أحد المکلفین لا علی التعیین.

4 - أن یکون موجهاً إلی واحد معین عند اللَّه وغیر معیّن عندنا.

الرابعة: إن الصحیح من هذه التفسیرات هو التفسیر الأول، وحیث إنّه لایمکن الأخذ بظاهره و هو الوجوب العینی، و أما الوجوب الکفائی و هو الوجوب المشروط، فهو بحاجة إلی نکتة ثبوتیة مبررة له وتلک النکتة لایمکن أن تکون متمثلة فی التضاد بین الملاکات، لما تقدم من أنه لاتضاد بینها ولا فی المصلحة التسهیلیة الارفاقیة کما مرّ، بل هی متمثلة فی وحدة الملاک من ناحیة، ونسبته إلی جمیع المکلفین نسبة واحدة من ناحیة اخری.

و أما التفسیر الثانی فلایمکن الأخذ به لا ثبوتاً ولا اثباتاً وکذلک التفسیر الرابع و الثالث.

ص:214

الواجب الموقّت

اشارة

الموسع و المضیق:

لا إشکال فی وقوع کلا النوعین من الواجب فی الشریعة المقدسة.

والأول کالصلاة ونحوها.

والثانی کالصوم وما شاکله.

الاشکال فی إمکان الواجب الموسع و الرد علیه

و قد یشکل فی إمکان الواجب الموسع بدعوی إنّ معنی کون الشیء واجباً هوعدم جواز ترکه، وعلی هذا الأساس فالصلاة لا تخلو من أن تکون واجبة من أول وقتها إلی آخره أولاً ولا ثالث لهما ولایمکن الالتزام بالأول، لأن لازمه عدم جواز ترک الصلاة فی أول وقتها مع أن جواز ترکها فیه من الواضحات الأولیة فی الشریعة المقدسة، ولا بالثانی لأنه علی خلاف الکتاب و السنة فإنهما ینصّان علی وجوبها من المبدء إلی المنتهی، فلذلک لایمکن تصویر الواجب الموسّع.

والجواب: إنّ هذا الاشکال مبنی علی الخلط بین جواز ترک الواجب بما هوواجب وجواز ترک مالیس بواجب، فإن الواجب هو طبیعی الصلاة بین المبدء و المنتهی الجامعة بین الأفراد الطولیة و العرضیة ولایسری الوجوب منه إلی أفراده، فإنّها مصداق للواجب لا أنها واجبة، فإذن ترک الصلاة فی أول الوقت لیس ترکاً للواجب بل هو ترک لفرده الذی لیس بواجب وما هو واجب لم یترکه، لأن ترک الواجب لایتحقق إلاّ بترک الصلاة فی مجموع الوقت، فلو ترکهافی أول الوقت وأتی بها فی آخر الوقت لم یکن تارکاً للواجب.

ص:215

فالنتیجة، إن ما هو واجب و هو الجامع بین المبدء و المنتهی لایجوز ترکه، وماهو جائز ترکه و هو الفرد فلیس بواجب هذا.

الواجب الموقّت (الموسّع و المضیّق)

الاشکال فی الواجب المضیق و الرد علیه

و قد یشکل فی إمکان الواجب المضیق بدعوی إنّ انبعاث المکلف وتحریکه نحو الاتیان بالواجب لابد أن یکون متأخراً عن البعث و المحرک ولو آناً ما، وعلی هذا فلابد أن یکون زمان البعث أوسع من زمان الانبعاث فلایمکن أن یکون مساویاً له، ونتیجة ذلک هی إنّ الواجب المضیق غیر متصوّر هو أن یکون زمان الوجوب مساویاً لزمان الواجب.

والجواب: إنّ المراد من الواجب المضیّق هو ما یکون زمانه مساویاً لوقوعه فی الخارج، بمعنی أنّ أول جزء منه یقع فی أول آن من زمانه وآخر جزء منه یقع فی آخر آن من زمانه بحیث لا یزید علیه ولا ینقص، و أما کون زمان الوجوب مساویاً لزمان الواجب، فهو غیر لازم إلاّ علی القول باستحالة الواجب التعلیقی و الشرط المتأخر، و أما علی القول بإمکان الأول أو الثانی، فلا مانع من کون زمان الوجوب متقدماً علی زمان الواجب.

نعم، بناءً علی ماقویناه فی محله من استحالة الواجب المعلق و الشرط المتأخر، فلایمکن أن یکون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب، و أما تأخر الانبعاث عن البعث فهو رتبی لا زمانی کتأخر المعلول عن العلة التامة، باعتبار أنه معلول لفعلیة فاعلیة البعث بفعلیة موضوعه فی الخارج لا أنه معلول لانشائه وجعله فی مرحلة الاعتبار.

فالنتیجة، إنه لا إشکال فی إمکان الواجب الموسع و المضیق ووقوعهما فی الشریعة المقدسة بل هو من ضروریات الفقه هذا.

الکلام فی هذه المسألة فی عدة نقاط

اشارة

ثم إن الکلام فی هذه المسألة یقع فی نقاط:

ص:216

الاُولی: فی بیان ما هو نکتة تقدیم المقیّد علی المطلق و الخاص علی العام عرفاً.

الثانیة: فی مسألة تبعیّة القضاء للأداء.

الثالثة: فی تعیین موضوع وجوب القضاء إذا کان بأمر جدید.

الرابعة: فی مقتضی الأصل العملی فی المسألة.

النقطة الأولی: فی بیان نکتة تقدیم المقید علی المطلق و الخاص علی العام عرفا
اشارة

أما الکلام فی النقطة الاُولی فیقع فی مقامین:

الأول: فی نکتة تقدیم المقید علی المطلق.

الثانی: فی نکتة تقدیم الخاص علی العام.

المقام الأول: فی نکتة تقدیم المقید علی المطلق

أما الکلام فی المقام الأول، فإن کان المقیّد متصلاً بالمطلق سواءً أکان اتصاله به بصیغة الاستثاناء کقولنا: أکرم العلماء إلاّ الفساق منهم، أم بجملة مستقلة کقولنا:

أکرم السادات ولاتکرم الفساق منهم، فلا تنافی بینهما إلاّ فی المدلول التصوری، أما فی المثال الأول فهو واضح، لأن المستثنی منه والاستثناء بمثابة دلیل واحد ولهما ظهور واحد فلا موضوع للتعارض، و أما فی المثال الثانی، فلأن ظهور المطلق فی الاطلاق متوقف علی تمامیة مقدمات الحکمة ووجود قرینة متصلة به مانعة عن تمامیة المقدمات وبدون تمامیتها لاینعقد له ظهور فی الاطلاق حتی یکون معارضاً لدلیل المقید، لأن المعارض له اطلاق المطلق، والمفروض إنّه لاینعقد مع وجود الدلیل المقید المتصل علی خلافه ومع عدم انعقاده لا موضوع للتعارض و التنافی بینهما، فإذن لامناص من الأخذ بظهورالدلیل المقیّد، هذاواضح.

و أما إذا کان الدلیل المقیّد منفصلاً، کما إذا ورد فی دلیل أکرم الشعراء ثم ورد فی

ص:217

دلیل منفصل لاتکرم الفساق منهم، فقد یقال إن تقدیمه علی إطلاق دلیل المطلق بنفس ملاک تقدیم الدلیل المقیّد المتصل علیه و هو کونه مانعاً عن تمامیة مقدمات الحکمة، بدعوی أنّ مقدمات الحکمة التی هی منشأ للدلالة الاطلاقیة للمطلق تتوقف علی عدم الدلیل علی التقیید سواءً أکان متصلاً أم منفصلاً، فیکون الدلیل المقیّد المنفصل کالمتصل مانع عن تمامیة تلک المقدمات.

ولکن هذا القول غیر صحیح، وذلک لأن انعقاد ظهور المطلق فی الاطلاق لوکان متوقفاً علی عدم الدلیل علی التقیید مطلقاً و إن کان منفصلاً، لم یمکن اثبات الاطلاق فی مورد بمقدمات الحکمة لانسداد بابها حینئذٍ نهائیاً، لأن التقیید بالمنفصل لو کان من أجزائها، لم یکن بالامکان إحراز الاطلاق فی شیء من مطلقات الکتاب و السنة، لأن فی کل مطلق من هذه المطلقات نجد احتمال وجود دلیل علی تقییده فی الواقع، و هذا الاحتمال مانع عن احراز مقدمات الحکمة، وبدون احرازها لایمکن احراز الاطلاق للمطلق فیکون مجملاً و هذا خلاف الوجدان، ضرورة أن التمسک باطلاق الکتاب و السنة من لدن عصر التشریع إلی عصرنا هذا من الواضحات. و هذا کاشف عن أنّ عدم القرینة المنفصلة لیس جزءً لمقدمات الحکمة، وبکلمة إنّ السیرة القطعیة من العقلاء جاریة علی العمل بالظواهر منها ظواهر مطلقات الکتاب و السنة وعدم الاعتناءباحتمال وجود قرینة علی التقیید، ومن الواضح أن هذه السیرة القطعیة المرتکزة فی أذهان العرف و العقلاء الممضاة من قبل الشارع، تکشف عن أن عدم التقیید بالمنفصل لیس من أجزاء مقدمات الحکمة، و إنّ ما هو من أجزائها هو عدم التقیید بالمتصل، واطلاق المطلق لایتوقف إلاّ علیه لا علی عدم التقیید بالمنفصل أیضاً، فإذا صدر من المولی مطلق وکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی التقیید انعقد ظهوره فی الاطلاق ولا یتوقف علی عدم التقیید بالمنفصل وعندئذٍ

ص:218

فلا أثر لاحتماله فی الواقع.

فالنتیجة، إن إنعقاد إطلاق المطلق لایتوقف علی عدم وجود التقیید بالمنفصل وإنما یتوقف علی عدم وجود التقیید بالمتصل فحسب کما هو الحال فی الخطابات العرفیة و العقلائیة، لأن بنائهم علی التمسک باطلاق الخطاب بمجرد انتهاء المتکلم منه وعدم نصب قرینة علی الخلاف إذا کان فی مقام البیان وعدم الاعتناء باحتمال نصب قرینة منفصلة علی الخلاف فی الواقع هذا.

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه فی المقام

وللسید الاُستاذ قدس سره فی المقام کلام و هو أن ظهور المطلق فی الاطلاق وانعقاده فی کل زمان یتوقف علی تمامیة مقدمات الحکمة فیه، فإذا ورد خطاب مطلق من المولی ولم یرد منه قرینة علی التقیید رغم کونه فی مقام البیان إنعقد ظهوره فی الاطلاق، و هذا الظهور مستمر طالما لم تکن هناک قرینة علی التقیید، فإذا جائت قرینة، ارتفع ظهوره فی الاطلاق من حین وصول القرینة لا أن وصولها کاشف عن أنّ ظهوره فی الاطلاق لم ینعقد من الأول، ویمکن تقریب ذلک فنیاً بأن ظهورالمطلق فی الاطلاق معلول لتمامیة مقدمات الحکمة ویدور مدارها حدوثاً وبقاءً، فإذا انعقد ظهوره فی الاطلاق بمقدمات الحکمة فاستمراره مرتبط باستمرار المقدمات وعدم عروض الاخلال بها کاستمرار المعلول باستمرار العلة، فإذا اختلت المقدمات بوصول القرینة فی الزمن الثانی، ارتفع ظهوره فی الاطلاق فیه من الآن بارتفاع علته و هی المقدمات المذکورة.

تعلیق علی کلامه قدّس سرّه

ولنا تعلیق علی ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره وذلک، لأنه إن أراد بذلک إنّ عدم التقیید بالمنفصل بوجوده الواقعی جزء مقدمات الحکمة، فیرد علیه ما تقدم من أن لازم ذلک إجمال تمام مطلقات الکتاب و السنة وعدم إمکان التمسک بشیء منها و هو کما تری، و إن أراد به إنّه بوجوده العلمی جزء المقدمات بمعنی إنّ وصوله

ص:219

والعلم به مانع عنها کما هو ظاهر کلامه قدس سره، فیرد علیه إنّه لایمکن أن یکون ذلک مانعاً عنها، إذ لا تنافی بین وصول القرینة و العلم بها وبین اطلاق المطلق الذی هومعلول للمقدمات، فإن التنافی إنما هو بینه وبین حجیة اطلاق المطلق، حیث إنه مانع عن شمول دلیل الحجّیة له لا عن أصل ظهور المطلق فی الاطلاق.

و إن شئت قلت: إنّ عدم وصول القرینة المنفصلة غیر دخیل فی تکوین ظهور المطلق فی الاطلاق، فإن تکوینه منوط بتمامیة مقدمات الحکمة و هی تتم بعدم نصب المتکلم قرینة متصلة علی الخلاف مع کونه فی مقام بیان تمام مراده بشخص کلامه بمقتضی ظهور حاله، و قد تقدم إنّ علی ذلک بناء العرف و العقلاء فی باب الألفاظ فی مقام التفهیم و التفهم فی کافة محاوراتهم وإنهم تعهدوا بحمل کلام کل متکلم عرفی علی ذلک مالم یثبت خلافه بقرینة. هذا إضافة إلی أنّ عدم وصول القرینة لایمکن أن یکون جزء المقدمات، لا من جهة إن العدم بما هو عدم لایعقل أن یکون مؤثراً، بل من جهة أن وصولها و العلم بها لایمکن أن یکون مانعاً عنها، وذلک لعدم التنافی بین وصول القرینة المنفصلة و العلم بها وبین تأثیر مقدمات الحکمة فی انعقاد ظهور المطلق فی الاطلاق ولا مانع من الجمع بینهما أی ظهورالمطلق فی الاطلاق ووصول القرینة علی الخلاف، ومع عدم التنافی و التمانع بینهما فکیف یعقل أن یکون وصولها مانعاً عن ظهوره، لأن التنافی إنما هو بین وصولها وبین حجیة اطلاق المطلق، لوضوح أنّه لا یجتمع مع اطلاق دلیل الحجیة لا مع اطلاق المطلق، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی إنّ عدم القرینة المنفصلة بوجودها الواقعی لیس جزء المقدمات حتی یکون وجودها مانعاً عنها کما هولازم ما أفاده قدس سره فی المقام من أن اطلاق المطلق ینعقد بمجرد فراغ المتکلم عن کلامه وعدم نصبه قرینة متصلة علی الخلاف مع کونه فی مقام البیان، فإن معنی ذلک إنّ عدم القرینة المنفصلة لیس جزء المقدمات وغیر دخیل فیها وإلاّ لم ینعقد

ص:220

اطلاق للمطلق طالما لم یحرز عدمها فی الواقع واحتمل وجودها فیه، و أما بوجودها العلمی فلایعقل أن یکون مانعاً عن مقدمات الحکمة، لما عرفت من أنه لا تنافی بین اطلاق المطلق الذی هو مدلول للمقدمات وبین وصول القرینة و العلم بها علی الخلاف، فلذلک ما أفاد السید الاُستاذ قدس سره فی المقام لایرجع إلی معنی صحیح بل هو قدس سره أیضاً لایلتزم بذلک، حیث إنه قد ذکر فی غیر مورد أن وصول القرینة المنفصلة مانع عن حجیة إطلاق المطلق لا عن أصل الاطلاق ولایکون رافعاً له، ضرورة إنّ الاطلاق إذا انعقد بمقدمات الحکمة فلایمکن رفعه إلاّ برفع المقدمات، والمفروض إنّ عدم وصول القرینة المنفصلة لیس جزءً لهاحتی یکون وصولها رافعاً له برفع المقدمات، ولا فرق من هذه الناحیة بین الدلالة الاطلاقیة و الدلالة الوضعیة، فکما إن الدلالة الوضعیة الذاتیة لاترتفع بوصول القرینة المنفصلة علی خلافها وإنما یرتفع حجیّتها فحسب فکذلک الدلالة الإطلاقیة الحکمیة، فإنها لاترتفع بوصول القرینة علی خلافها وإنما ترتفع به حجیتها فقط هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن منشأ ظهور المطلق فی الاطلاق مباشرة إنما هو ظهورحال المتکلم العرفی نوعاً فی أنه أراد بیان تمام مراده الجدی بشخص کلامه إذاکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة متصلة علی الخلاف، وعلی هذا فالمدلول المباشر للمقدمات ظهور حال المتکلم العرفی فی ذلک، و أما اطلاق المطلق فهومعلول مباشر لظهور حاله فیه وبالواسطة لمقدمات الحکمة، ومنشأ هذا الظهور الحالی للمتکلم الغلبة الخارجیة، حیث إنّ الغالب خارجاً إذا صدر کلام من متکلم عرفی أنه أراد تفهیم معناه عن جد فی مقابل أن یکون صدوره منه بغرض آخر کالامتحان أو الهزل أو غیر ذلک، و هذه الغلبة هی السبب لتعهد العرف و العقلاء فی باب الألفاظ فی محاوراتهم علی حمل کلام کل متکلم عرفی علی أنه فی

ص:221

مقام بیان مراده عن جد إلا إذا کانت هناک قرینة علی الخلاف، و هذا التعهد منهم إنما هو بنکتة حفظ النظام المادیة و المعنویة فی المجتمع الإنسانی و الحفاظ علیه.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن ظهور المطلق فی الاطلاق فی کل زمان یتوقف علی عدم القرینة فی ذلک الزمان حدوثاً وبقاءً، لایرجع بالتحلیل إلی معنی صحیح.

التحقیق فی المقام و بیان مراتب ظهور اللفظ

والتحقیق فی المقام أن یقال إنّ تقدیم المقید المنفصل علی اطلاق المطلق لیس بملاک تقدیم المقید المتصل علیه ولا بملاک أنّ وصول المقیّد المنفصل رافع لظهور المطلق فی الاطلاق بل بملاک ثالث، و هو أن الدلیل المقیّد المنفصل لدی العرف العام قرینة نوعیة علی المطلق وبیان ومفسر للمرتبة النهایة من دلالته و هی دلالته التصدیقیة بلحاظ الارادة الجدیة، بیان ذلک أن لظهور اللفظ فی المعنی ثلاث مراتب:

المرتبة الاُولی: الظهور التصوری ونقصد به حضور معناه فی الذهن بمجرد سماعه و إن کان من لافظ بغیر شعور واختیار، و هذا الظهور مستند إلی الوضع فحسب لا غیره.

المرتبة الثانیة: الظهور التصدیقی بلحاظ الارادة الاستعمالیة أو التفهمیة، ومنشأ هذا الظهور لیس هو الوضع، لأن المدلول الوضعی تصوری لا تصدیقی بل منشأه ظهور حال المتکلم الشاعر فی أنه أراد استعمال ما صدر منه من اللفظ فی معناه زائداً علی ظهوره التصوری، فإذا صدر کلام من متکلم شاعرکان ظاهراً فی أنه أراد استعماله فی معناه فی مقابل ما إذا صدر من متکلم غیر شاعر وملتفت، فإنه لا ظهور له فی ذلک ماعدا ظهوره التصوری المستند إلی الوضع.

المرتبة الثالثة: الظهور التصدیقی بلحاظ الارادة الجدیة النهایة، و هذا

ص:222

الظهور هو الظهور النهائی للفظ ویستقر علیه و هو الموضوع للحجیّة.

وبکملة، إنّ الظهور التصدیقی بلحاظ الإرادة الجدیّة هو المرتبة النهایة لدلالة اللفظ، وطالما لم تصل دلالته إلی هذه المرتبة لم تستقر ولا تکون موضوعاً للحجّیة، و أما إذا وصلت إلی هذه المرتبة فتکون حجة، ومن هنا لاتعارض بین دلیلین متنافیین فی المدلول التصوری ولا فی المدلول التصدیقی بلحاظ الارادة الاستعمالیة أو التفهمیّة، وإنما التعارض بینهما فی المدلول التصدیقی بلحاظ الاراة الجدیة النهایة، باعتبار أنه موضوع للحجّیة فیسری التعارض حینئذٍ إلی دلیل الحجّیة، ومن هنا لایکون اللفظ مشمولاً لدلیل الحجّیة بلحاظ مدلوله التصوری لا مدلوله التصدیقی الابتدائی، ومنشأ هذا الظهور النهائی أیضاً ظهورحال المتکلم، فإنه إذا صدر منه کلام وکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینه علی الخلاف، فظاهر حاله إنه جاد فی إرادة معناه، وعلی ضوء هذا الأساس فالدلیل المقید المنفصل و إن کان معارضاً لاطلاق الدلیل المطلق، إلا أن الکلام هناإنما هو فی أن هذا التعارض و التنافی بینهما هل هو مستقرلکی یسری إلی دلیل الحجیة أو لا؟

والجواب: إنه غیر مستقر، بیان ذلک إنّ هذه المسألة لیست مسألة عقلیة لکی نحتاح فی إثباتها إلی إقامة برهان عقلی علیها، بل هی مسألة عرفیة عقلائیة ولابد فی إثباتها من الرجوع إلی العرف العام، فإنه المرجع الوحید فی تعیین مدالیل الألفاظ سعةً وضیقاً علی أساس المناسبات الارتکازیة العرفیة و القرائن الخارجیة من اللفظیة و الحالیة فی تمام مراتب دلالاتها من التصوریة البدائیة إلی الدلالة التصدیقیة النهائیة، و أما فی مسألتنا هذه فتری إنّ العرف العام لایعامل مع المطلق و المقید المنفصل معاملة المتعارضین کما یعامل مع دلیلین کانت النسبة بینهما عموماً من وجه أو التباین ویفرق بین البابین، و هذا التعامل من العرف

ص:223

قرینة علی أنّ التعارض بینهما غیر مستقر، بمعنی أنّه لایکون فی الدلالة النهائی ة بینهما، فإذن یقع الکلام فی أن العرف هل یعامل مع المقید المنفصل معاملة القرینة ومع المطلق معاملة ذی القرینة ویجعل المقید بیاناً وتفسیراً للمراد الجدی النهائی من المطلق أوأنه یجعل المطلق قرینة علی التصرف فی المقید وحمله علی أفضل الأفراد.

والجواب: إنّ الأول هو المتعین عندهم، وذلک لأن بناء العرف و العقلاء قائم فی باب الألفاظ علی جعل المقید المنفصل قرینة نوعیة علی المطلق وبیان المراد النهائی منه، فإذا صدر من متکلم عرفی مطلق ثم صدر منه مقید فی دلیل منفصل، کان بنائهم علی جعل المقید قرینة علی بیان مراده الجدی من المطلق، و إن شئت قلت: إن تقدیم المقید علی المطلق بنظر العرف و العقلاء منوط بتوفرعدة عناصر.

عناصر تقدیم المقید

العنصر الأول: أخصیة المقید من المطلق موضوعاً.

العنصر الثانی: صدور المطلق و المقید من متکلم واحد حقیقة أو حکماً کالأئمة الأطهار علیهم السلام مع النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، فإنهم بمثابة متکلم واحد عن الشریعة المقدسة، ولهذا إذا صدر مطلق من إمام ومقید من إمام آخر، عومل معهما معاملة صدورهما من متکلم واحد.

العنصر الثالث: أن یکون المتکلم ملتفتاً حین صدور المقید منه إنّ المطلق قدصدر منه فی هذا الموضوع بشکل عام أو سیصدر.

الرابع: أن یکون المتکلم جاداً فی کلامه وبیان مراده.

الخامس: أن یکون المتکلم عرفیاً اعتیادیاً، فإذا توفرت هذه العناصر فی المطلق و المقید، فالمقید بنظر العرف و العقلاء قرینة علی بیان المراد النهائی من

ص:224

المطلق، ومنشأ بناء العقلاء و العرف علی جعل المقید قرینة علی بیان مراد المتکلم النهائی من المطلق هوالغلبة الخارجیة، حیث إنّ الغالب فی المحاورات العرفیة و العقلائیة إنه إذا صدر من المتکلم مطلق ثم صدر منه مقید، فظاهره إنه جعله قرینة علی بیان مراده الجدی من المطلق علی أساس إنه إما غیر متمکن من بیان مراده الجدی فی هذاالوقت بالمقید أو أنّ المصلحة تقتضی صدور المطلق منه وابراز مراده به أو کان جاهلاً بأن المصلحة قائمة بالمقید لا بالمطلق، کما إذا کان المتکلم من الموالی العرفیة أو غیر ذلک، ثم إنّ قرینیة المقید لیست بملاک أظهریته بالنسبة إلی المطلق، بل بملاک توفر العناصر المذکورة فیه، فلهذا تکون قرینیته نوعیة لا شخصیة.

إلی هنا قد تبیّن إنّ تقدیم المقید المنفصل علی المطلق بملاک القرینیّة النوعیة بعدفرض انعقاد ظهور المطلق فی الاطلاق.

المقام الثانی: نکتة تقدیم الخاص علی العام

و أما الکلام فی المقام الثانی، و هو تقدیم الخاص علی العام فیقع فی مقامین:

الأول: فی المخصص المتصل.

الثانی: فی المخصص المنفصل.

أما الکلام فی المقام الأول، فإن کان إتصاله بالعام بنحو اتصال الصفة بالموصوف، بأن یکون الخاص جزءً من مدلول أداة العام ووصفاً له، کما إذا کان من قبیل أکرم کل عالم عادل فهو خارج عن محل الکلام، إذ لیس هنا مفهومان حتی فی مرحلة التصور، فإن المتبادر منه مفهوم واحد و هو عموم أفراد هذا العام الموصوف و المقید یعنی الحصة الخاصة.

و إن کان اتصاله بالعام بالاستثناء من قبیل أکرم کل العلماء إلاّ الفساق منهم،

ص:225

کان المتبادر التصوری منه ثلاثة مفاهیم:

الأول: عموم وجوب إکرام کل العلماء وتدل علیه أداة العموم.

الثانی: الاقتتاع والاستثناء وتدل علیه أداة الاستثناء.

الثالث: المفهوم المقید و هو وجوب إکرام کل العلماء باستثناء حصّة خاصة منهم و هی الفساق وتدل علیه سیاق الجملتین، و هذا المفهوم الثالث الذی هومدلول الجملة المتعقبة بالاستثناء هو المقصود النهائی، و أما المفهوم الأول و الثانی فهما مندمجان فیه ومقصودان بتبعه لا بالأصالة کما هو الحال فی جمیع مفردات الجملة، فإنها مندمجة فی مفهوم الجملة ومقصودة بتبعه لا بالأصالة والاستقلال، ولهذا لایوجد تعارض حقیقی إلاّ بین دلیلین فی المرحلة النهایة من الدلالة، ویسری التعارض من هذه المرحلة إلی دلیل حجیتهما ولایمکن شموله لکلیهما معاً، و أما إذا کان دور التنافی محصوراً فی المرحلة الاُولی و الثانیة فلا أثر له، لأن الدلیل فی هذه المرحلة من الدلالة لایکون مشمولاً لدلیل الحجیة علی أساس أنّ دلیلیته إنما تتم بدلالته النهایة، فطالما لم تتکون هذه الدلالة فیه فلا قیمة له ولایکون مشمولاً لدلیل الاعتبار، فإذا تکونت کان مشمولاً له وموضوعاً للحجیة، ولا أثر للتنافی بین الدلالات فی المرحلة الاُولی ولا فی المرحلة الثانیة، لأن الدلالة فی کلتا المرحلتین مندکة فی الدلالة فی المرحلة الثالثة التی هی مقصودة بالأصالة، وعلی هذا الأساس فحیث إنّ جملة المستثنی منه وجملة الاستثناء من مفردات الجملة المشتملة علیهما فلا أثر لدلالتهما، لأنها مندکة فی دلالة الجملة و المقصود النهائی إنما هو مدلولها دون مدلول مفرداتها، فالنتیجة، إنه لایوجد أی تعارض حقیقی بین العام و الخاص فی التخصیص بالاستثناء بإعتبار أن لهما مفهوماً واحداً تصوراً وتصدیقاً، و أما مفهوم کل منهما مستقلاً

ص:226

فهو مندمج ومندک فیه فی مرحلة التصدیق النهائی، ولهذا لا یری العرف العام أی تعارض بین الجملة المستثنی منه و الجملة المستثنی.

و إن کان التخصیص بجملة مستقلة تعقبت بالعام، کما إذا قال المولی لایجب إکرام أیّ عالم، ثم قال وأکرم کل فقیه، فلاشبهة فی وجود التنافی بینهما علی أساس أن کلاً منهما ظاهر فی إرادة معناه، فإذن ماهو العلاج فی رفع هذا التنافی؟

قد یقال کما قیل: إنّ هذا التنافی یمکن دفعه بالالتزام بدلالة ثالثة لهما، بتقریب إنّ الجملتین المتعاقبتین اللتین تکون نسبة موضوع أحدهما إلی موضوع الآخرنسبة الخاص إلی العام تعطیان تصوراً ثالثاً لهما و هو العام المخصص بالخاص، فیکون هذا المدلول هو المدلول التصوری النهائی لهما علی أساس أنّ المدلولین التصوّرین المتنافیین الأولین لهما مندمجان ومندکان فیه، و هذا المدلول الثالث هوالمراد الجدی للمولی، وحینئذٍ فحالهما حال التخصیص بالاستثناء فلا تنافی ولاتعارض بینهما، لأن دور التنافی بین المدلولین التصورین محصور فی المرحلة الاُولی فحسب.

والجواب: إن الجملتین المتعاقبتین لاتدلان علی مفهوم ثالث بالدلالة السیاقیة، لوضوح إن الجملة الاُولی تدل علی معناها و الثانیة علی معناها، ومجرد الترتیب بینهما لایدل علی مفهوم ثالث و هو المفهوم المقید أی عدم وجوب إکرام أی عالم غیر إکرام کل فقیه، لوضوح أن سیاقهما لایدل علی ذلک، فإن الدلالة بحاجة إلی منشأ ولایمکن أن تکون ذاتیة، والمنشأ لها إما الوضع أو الانس الذهنی، أما الوضع فلا شبهة فی أن الجملتین المتعاقبتین لم توضعا لمعنی ثالث، بحیث یکون معنی کل منهما مندمجاً فیه ومندکاً، لوضوح إنّ الجملة الاُولی موضوعة لمعناها وکذلک الثانیة، وتعقب الجملة الاُولی بالجملة الثانیة لم یوضع

ص:227

لمعنی ثالث، ولهذا لایکون المعنی الثالث متبادراً من تعاقبهما وإنما المتبادر منهماعند إطلاقهما هو معناهما دون أکثر، و هذا دلیل علی عدم الوضع، و أما الثانی و هو الانس الذهنی فهو مفقود فی المقام، لأن أصل المعنی الثالث المفروض لم یکن متبادراً منهما عند إطلاقهما متعاقباً فضلاً عن کونه مأنوساً، ولا یقاس هاتان الجملتان بقولنا: زید أسد یرمی، فإن المتبادر منه الرجل الشجاع بقرینة یرمی دون المعنی الأول للأسد و هو الحیوان المفترس، وذلک لأنه غریب عن الذهن فی هذه الجملة و المأنوس فیه منها الرجل الشجاع، فلهذا کان هو المتبادر منها عند اطلاقها و إن کان من لافظ بغیر شعور واختیار، و هذا التبادر مستند إلی الانس الذهنی الحاصل من إسناد الرمی إلی الأسد هذا.

و الصحیح فی المقام أن یقال: إنّ ملاک تقدیمه علیه هو أنه قرینة ومفسّر نوعی للمراد الجدّی النهائی من العام عند العرف و العقلاء لأنهم متعهّدون بحمل کلام کل متکلم عرفی إذا کان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی الخلاف علی الجد بمقتضی ظهور حاله فی ذلک، و هذا التعهّد منهم حیث إنه لایمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة مبرّرة له، والنکتة فیه العناصر التالیة:

الأول: أن یکون المتکلم عرفیاً لا خارجاً عن العرف العام.

الثانی: أن یکون العام و الخاص صادرین من متکلم واحد حقیقة أو حکماً کالأئمة الأطهار علیهم السلام مع الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله، فإنهم و إن کانوا متعددین إلاّ أنّهم بالنسبة إلی الشریعة المقدسة بمثابة متکلم واحد.

الثالث: أن یکون ملتفتاً حینما یصدر منه الخاص إلی صدور العام منه أو أنه سیصدر.

الرابع: عدم إمکان إرادة کلیهما معاً عن جد.

ص:228

الخامس: أن یکون المتکلم جاداً فی کلامه، فإذا توفرت هذه العناصر الخمسة فی متکلم، نتج منها ظهور حاله فی أنه جعل الخاص الصادر منه قرینة علی بیان مراده الجدی النهائی من العام، فإذن یکون تقدیمه علی العام بملاک القرینیة و الحکومیة، وحیث إنّ قرینیّته علی ضوء هذه العناصر أمر مرتکز فی أذهان العرف و العقلاء، فلا یبعد دعوی تکوین ظهور ثالث لهما معاً و هو فی المثال عدم وجوب إکرام العلماء وغیر الفقهاء واندماج ظهور کل منهما فیه، ومنشأ هذا الظهور ارتکازیة قرینیة الخاص للعام.

ومن هنا یظهر أن وجه تقدیم الخاص علی العام لیس بملاک الأظهریة وإلاّ لم یطرد تقدیمه علیه فی تمام الموارد، بل لابد حینئذٍ من ملاحظة الخاص فی کل مورد وأنه أظهر من العام أو لا، و هذا خلاف ما هو المرتکز فی الأذهان من قرینیّته علی العام و إن لم تکن أظهر منه فی الدلالة.

و من هنا یظهر وجه تقدیم الخاص المنفصل علی العام، فإنه بنفس ما مرّ من الملاک و هو القرینیة و الحکومیة عند توفر العناصر الخمسة، و قد عرفت إنّ قرینیته أمر مرتکز فی الأذهان، ولهذا لم تلحظ فی تقدیمه علی العام خصوصیة اخری کالأظهریة ونحوها، وتمام الکلام فی کل ذلک یأتی فی مبحث العام و الخاص إنشاء اللَّه تعالی.

النقطة الثانیة: فی أن القضاء هل هو تابع للأداء أو أنه یأمر جدید؟
اشارة

و أما الکلام فی النقطة الثانیة، فیقع فی أنّ القضاء هل هو تابع للأداء أو أنه بأمر جدید.

والجواب: إن منشأ هذا الاختلاف إنما هو الاختلاف فی أن الدلیل الدال علی تقیید إطلاق المطلق بالوقت هل یدل علی تقییده بلحاظ أصل المطلوب أو بلحاظ تمام المطلوب وکماله، فعلی الأول یکون القضاء بأمر جدید وعلی الثانی

ص:229

یکون تابعاً للأداء.

تفصیل الجواب فی بیان أمور

والجواب: إن تفصیل ذلک یتطلب بیان امور:

الأول: ما مرّ من أنّ تقدیم المقید علی المطلق و الخاص علی العام إنما هوبملاک القرینیّة و الحکومة.

الثانی: إنّ المطلق و المقیّد تارةً یکونا متنافیین بالإیجاب و السلب واُخری یکونا مثبتین، أما الأول کقوله: أکرم العلماء ولا تکرم الفساق منهم، فهل یعامل معهما معاملة المتعارضین المستقرین حتی یدخلان فی باب التعارض أو لا حتی یدخلان فی باب الجمع العرفی؟

والجواب: إنهما یدخلان فی باب الجمع العرفی، وأن ملاک تقدیم الخاص علی العام و المقید علی المطلق إنما هو القرینیة النوعیّة بلا فرق فی ذلک بین أنواعهما وأقسامهما جمیعاً.

و أما الثانی فهو علی قسمین:

الأول: أن یکون الحکم المجعول لکل من العام و الخاص و المطلق و المقیّد إنحلالیاً کما إذا قال المولی: أکرم العلماء وأکرم العلماء العدول.

الثانی: أن یکون الحکم المجعول لکل منهما حکماً واحداً وغیر منحل، کما إذا قال المولی: صلّ وصلّ قائماً أو مستقبل القبلة.

أما القسم الأول: فالمعروف و المشهور بین الأصحاب عدم حمل المطلق علی المقید بل یحمل المقیّد علی أفضل الأفراد، و قد استدلوا علی ذلک بأنّ الدلیل المقیدحیث إنّه لایدل علی نفی الحکم عن غیر مورده، فلاینافی المطلق إلاّ علی القول بمفهوم الوصف و القید و هو ضعیف، فمن أجل ذلک یحمل علی أفضل الأفراد

ص:230

ملاکاً وحکماً.

و أما القسم الثانی: فحیث إنّ الحکم فیه واحد ودار أمره بین أن یکون مطلقاً أو مقیداً فلابد من حمله علی المقید، بدعوی إنّ الحکم لوکان ثابتاً للطبیعی المطلق لکان القید لغواً محضاً و هو خلاف الظاهر، ضرورة أنّ کل قید مأخوذ فی لسان الدلیل ظاهر فی الاحتراز وحمله علی التأکید و التوضیح خلاف الظاهر وبحاجة إلی قرینة، فإذن لابد من حمل المطلق علی المقید. ونتیجة ذلک، هی ثبوت الحکم لحصة خاصة منه و هی المقیّد.

ولکن للمناقشة فی هذا التفصیل مجالاً:

وذلک لما عرفت من أنّ تقدیم المقید علی المطلق إنما هو علی أساس ظهورحال المتکلم العرفی فی أنّه جعل المقید قرینة علی بیان مراده الجدی من المطلق ومفسراً له، ومن هنا قلنا: إنّ تقدیمه علیه یکون من باب القرینیّة و الحکومیة، وعلی هذا فلا فرق بین کون الحکم المجعول لهما واحداً أو متعدداً، وذلک لأن المتکلم إذا جاء بالقید مع توفر العناصر المتقدّمة فیه، کان ظاهر حاله إنّه جعله قرینة ومفسرة لمراده الجدی النهائی من المطلق، ویدل فی المثال علی أنّ مراده فی الواقع هو وجوب إکرام العلماء العدول لا مطلقاً، نعم لوکان ملاک تقدیم المقید علی المطلق لزوم اللغویة إذا لم یقدمه علیه، لاختص ذلک بما إذا کان الحکم المجعول لهما واحداً، و أما إذا کان متعدداً فلا یلزم هذا المحذور، ولکن قد مرّ إنّ ملاکه لیس ذلک بل ما ذکرناه و هو القرینیة و الحکومیة.

الثالث: إنّه لا فرق فی تقدیم المقید علی المطلق بین أن یکون القید زماناً أو زمانیاً، والأول من قبیل صل، وصلّ فی الوقت الفلانی، والثانی من قبیل صل، وصلّ قائماً وهکذا، وذلک لأن خصوصیّة کون القید زماناً أو زمانیاً لا دخل لها

ص:231

فیما هو ملاک قرینیته ومفسریته للمراد النهائی من المطلق بنظر العرف و العقلاء.

تبعیة القضاء للأداء ثبوتا

وبعد ذلک یقع الکلام فی تبعیة القضاء للأداء تارة بحسب مقام الثبوت و التصور واُخری بحسب مقام الاثبات، أما الکلام فی الأول فیمکن تصویر ذلک بأحد طریقین:

الطریق الأول: أن یکون هناک دلیلان مستقلان أحدهما ما یدل علی وجوب الصلاة مطلقاً و الآخر ما یدل علی وجوبها فی الوقت بوجوب جدید مستقل، وعلی هذا فإذا فاتت الصلاة فی الوقت فقد سقط وجوبها المقید بسقوط الوقت، و أما الأمر بالصلاة مطلقاً فهو باق علی حاله، فلهذا یقتضی الاتیان بها خارج الوقت، لأن فوت الوقت إنما یقتضی فوت التکلیف الثانی دون الأول.

الطریق الثانی: إنّ مفاد الدلیل المقید إنما هو تقیید تمام المطلوب وکما له للدلیل المطلق بالوقت لا أصل المطلوب، وعلی هذا فالموقت هو تمام مطلوبیة الصلاة وکمالها لا أصل مطلوبیتها فإنه مطلق وغیر موقت، وعلیه فإذا فاتت الصلاة بسبب أو آخر فی الوقت فقد فاتت تمام مطلوبیتها، و أما أصل المطلوبیة فهو باق علی حاله و هو یقتضی وجوب الاتیان بها خارج الوقت.

و أما الکلام فی الثانی، فلا دلیل علی شیء من هذین التصوّرین:

أما التصور الأول، فهو خارج عن محل الکلام، لأن محل الکلام فی المسألة إنماهو فی دلالة الدلیل المقید علی تقیید الدلیل المطلق بالوقت، بمعنی إنّ الوقت قید للواجب علی حد سائر قیوده الثابتة بحمل المطلق علی المقید، و أما فرض دلالة الدلیل الموقت علی وجوب مستقل للواجب الموقت غیر الوجوب الثابت للواجب المطلق فهو خارج عن محل الکلام.

ص:232

والخلاصة: إنّه لافرق فی حمل المطلق علی المقید بین أن یکون القید وقتاً أوغیره، لأن الدلیل المقید بمقتضی قرینته عرفاً یکشف عن أنّ الواجب من الأول یکون مقیداً بالوقت، فما دل علی وجوب الصلاة فی الوقت الخاص کصلاتی الظهرین ونحوهما، دل علی أنها مقیّدة بالوقت من الأول علی أساس حمل المطلق علی المقید، و أما إذا فرض دلالة دلیل علی وجوبها فی الوقت بوجوب مستقل غیر وجوبها مطلقاً فهو خارج عن مفروض المسألة.

و أما التصور الثانی، ففیه إنّه لایمکن إثبات أنّ الدلیل الموقت یقید المطلق بلحاظ کمال المطلوبیة وتمامها لا أصلها، ضرورة إنّه لایختلف عن أدلة سائر القیود، وذلک لما مرّ من أنّ تقدیم المقید علی المطلق إنما هو بملاک القرینیّة و الحکومیة، ومن الواضح إنّه لا فرق فی هذا الملاک بین کون القید وقتاً أو غیره، فإنه یکشف عن أنّ المراد الجدی هو المقید من الأول، ولایمکن حمل ما دلّ علی تقیید الصلاة بوقت خاص علی تقییدها بلحاظ کمال المطلوب وتمامه لا أصله، إذ مضافاً إلی أن ذلک بحاجة إلی عنایة زائدة، وقرینة أنّ معنی هذا هدم قرینیة القیدبنظر العرف العام و العقلاء، لأن معنی قرینیته عرفاً إنّه مفسر للمراد الجدی النهائی من المطلق وحمله علی أنّه مقیّد لکمال المطلوب من المطلق دون أصله بحاجة إلی قرینة وإلاّ فهو مجرد تصور لا واقع له.

هذا إضافة إلی أن التقیید بلحاظ تمام المطلوب وکماله لا أصله، کما یتصور فی القید المتمثل فی الوقت کذلک یتصور فی سائر القیود، بأن یکون تقیید الصلاة بالقیام بلحاظ تمام المطلوب وکماله لا أصله وهکذا.

والخلاصة: إنّ هذا التصور طالما هو فی عالم التصور فقط لایختصّ بالوقت، و أما فی عالم الوقوع و التحقق فهو بحاجة إلی دلیل، ولا دلیل علیه لا فی الوقت

ص:233

ولا فی غیره.

فالنتیجة، إنّه لا أصل لمسألة تبعیّة القضاء للأداء.

قد یقال کما قیل: إنّ منشأ هذه المسألة إنّما هو الأمر بالقضاء خارج الوقت، بدعوی إنّه إرشاد إلی أن الأمر الأول باق علی حاله و الساقط إنما هو کمال مطلوبیّته لا أصله.

والجواب: إنّ ذلک مبنی علی حمل الأمر بالقضاء بعد خروج الوقت علی الارشاد إلی بقاء الأمر الأول، ومن الواضح إنّ هذا الحمل خلاف الظاهر جداً، فلایمکن بدون قرینه، لوضوح إنّ الأمر بالقضاء فی خارج الوقت أمر مولوی إلزامی، ومن هنا نلتزم بالقضاء فی کل مورد دل الدلیل علیه وإلاّ فلا نقول به.

تفصیل المحقق الخراسانی قدّس سرّه و الرد علیه

ثم إنّ للمحقق الخراسانی قدس سره(1) فی المقام کلاماً وحاصله إنّ التقیید بالوقت إن کان متصلاً فلا شبهة فی أنّه تقیید لأصل المطلوب، لفرض إنّه لا إطلاق له حینئذٍ لکی نبحث عن أن تقییده هل کان بلحاظ أصل المطلوب أو بلحاظ تمامه وکماله و إن کان منفصلاً، فإن کان له إطلاق، کان مقتضاه تقیید اطلاق المطلق بتمام مراتبه فإنه مقتضی اطلاق الدلیل المقیّد وتقدیمه علی إطلاق الدلیل المطلق، و إن کان مجملاً وکان للدلیل المطلق إطلاق، اقتصر عندئذٍ علی تقییده بالمقدار المتیقن منه وفی الزائد ترجع إلی اطلاق المطلق ومقتضاه ثبوت الأمر بعد خروج الوقت، لأن القدر المتیقن من التقیید هو تقییده بلحاط کمال المطلوب وتمامه و هو المرتبة الشدیدة من الوجوب الثابت بالدلیل المطلق لا أصل المطلوب، فإنه باق علی إطلاقه باعتبار أنّ التقیید بالوقت کما یمکن أن یکون بنحو وحدة المطلوب کذلک

ص:234


1- (1) - کفایة الاصول ص 144.

یمکن أن یکون بنحو تعدد المطلوب، و هذا یعنی إنّ المقید هو المرتبة الأکیدة من الوجوب دون أصل المرتبة هذا.

وللمناقشة فیه مجال، بیان ذلک إنّ إجمال الدلیل المقید بالوقت تارة یکون بالنسبة إلی حالتی الاختیار والاضطرار فلا یشمل کلتا الحالتین معاً، ولافرق فی ذلک بین أن یکون إجماله ذاتیاً کما إذا کان الدلیل لبیاً أو عرضیاً کما إذا کان لفظیاً، ولکن إجماله إما من جهة أن المتکلم لیس فی مقام البیان أو من جهة إقترانه بمایصلح للقرینیة و الجامع أنه مجمل، واُخری یکون مجملاً بالنسبة إلی مبدء الوقت ومنتهاه، وثالثة یکون مجملاً بالإضافة إلی مراتب الأمر، لأن مقتضی إطلاق المطلق ثبوت الأمر به مطلقاً فی الوقت وخارجه، و هذا الأمر یمکن أن یکون ذات مراتب متفاوتة شدّةً وضعفاً بتفاوت مراتب ملاکه فی طول الزمان، بأن یکون ملاکه فی الوقت أقوی من ملاکه خارج الوقت، ودلیل التوقیت کاشف عن ذلک ودال علیه، هذه هی الصور الثلاث لاجمال الدلیل التوقیت.

أما الصورة الاُولی لاجماله، فالقدر المتیقن منها تقیید إطلاق الواجب بحال الاختیار، و أما فی حال الاضطرار فبما أنه مجمل فیکون المرجع فیه إطلاق دلیل الواجب، ونتیجة ذلک هی أن شرطیة الوقت مختصة بحال الاختیار دون الاضطرار، وعلیه فالواجب علی المکلف المختار الصلاة فی الوقت وعلی المضطرخارج الوقت، ولکن لا صلة لذلک بما ذکره قدس سره من أنّ الدلیل علی التوقیت إذاکان مجملاً فالقدر المتیقن منه تقیید بعض مراتب المطلق دون تمام مراتبه وتکون النتیجة تعدد المطلوب لا وحدته، ثم إنّ ذلک لایختص بالتقیید بالوقت بل یشمل جمیع القیود المأخوذة فی الواجب، فإن ما دل علی اعتبار تلک القیود لا یخلو من أن یکون له إطلاق بالإضافة إلی حالتی الاختیار والاضطرار أولا، والأول

ص:235

کالطهارة ونحوها و الثانی کالطمأنینة، لأن الدلیل علی اعتبارها فی الصلاة لبّی، فالقدر المتیقّن منه اعتبارها فی حال الاختیار دون الاضطرار.

فالنتیجة، إن هذه الصورة لاترتبط بما ذکره قدس سره واجنبیّة عنه.

و أما الصورة الثانیة، و هی ما إذا کان دلیل التوقیت مجملاً بالنسبة إلی مبدء الوقت أو منتهاه، فالقدر المتیقن منها هو تقیید إطلاق دلیل الواجب بالمقدار المعلوم من الوقت، فإن إجمال الوقت قد یکون من ناحیة المبدء کما إذ ورد فی الدلیل صلّ رکعتین ثم ورد فی دلیل آخر صلّ رکعتین فی یوم الجمعة، فإذا فرضناإنّ مبدء یوم الجمعة مردّد بین طلوع الفجر وطلوع الشمس، فمعناه إنّ دلیل التوقیت مجمل و القدر المتیقن منه تقیید اطلاق دلیل الواجب من طلوع الشمس، و أما تقییده من طلوع الفجر فهو غیر ثابت لاجمال الدلیل، وعلیه فالواجب علی المکلف هوإیقاع رکعتین من الصلاة فی یوم الجمعة من طلوع الشمس ولایجوز له إیقاعهما من طلوع الفجر، و قد یکون إجماله من ناحیة المنتهی کما فی قوله تعالی:«أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ» (1) ، َ فإنه یدل علی تقییدإطلاق الأمر بالصلاة بإیقاعها فی هذا الوقت المحدّد من حیث المبدءوالمنتهی.

ونتیجة ذلک، هی أن الواجب الصلاة فیه ولاتکون واجبة فی خارجه، ولکن هذا الوقت مجمل من ناحیة المنتهی و هو الغسق، فإنه قد فسّر بنصف اللیل و هومردد بین ما کان متمثلاً فی النصف بین فترة غروب الشمس وفترة طلوع الفجر، وما کان متمثلاً فی النصف بین فترة غروبها وفترة طلوعها وهما مختلفان سعةً وضیقاً، ولاندری أنّ المراد من الغسق فی الآیة الشریفة هل هو الأول أو الثانی لأنه مجمل ولایدل علی شیء منهما، فإذن لابد من الأخذ بالمقدار المتیقن

ص:236


1- (1) - سورة الاسراء آیة 78.

و هو الأول، وعلیه فمقتضی الآیة الشریفة هو إیقاع الصلوات الأربع من فترة دلوک الشمس إلی نصف اللیل من طلوع الفجر.

فالنتیجة، إنّ هذه الصورة أیضاً خارجة عن مفروض کلامه قدس سره، لأن التقییدفیها لیس بلحاظ کمال المطلوب وتمامه بل بلحاظ أصله کما هو ظاهر.

و أما الصورة الثالثة، فهی و إن کانت ممکنة ثبوتاً، بتقریب أن التقیید بالوقت کما یمکن أن یکون بلحاظ کمال المطلوب وتمامه، یمکن أن یکون بلحاظ أصل المطلوب، لأن المصلحة المترتبة علی الصلاة إن کانت واحدة فالتقیید بلحاظ أصل المطلوب، و إن کانت متعددة بأن تکون هناک مصلحتان أحداهما قائمة بالصلاة الجامعة بین الوقت وخارجه والاُخری قائمة بحصة خاصة منها و هی الصلاة فی الوقت، فالتقیید بلحاظ تمام المطلوب وکماله، وعلی هذا الفرض یکون المترتب علی الصلاة فی الوقت مصلحتین مصلحة نفس هذه الحصة من الصلاة ومصلحة الصلاة الجامعة بینها وبین الحصة فی خارج الوقت، فلهذا تکون الصلاة فی الوقت تمام المطلوب وکماله، هذا بحسب مقام الثبوت، و أما فی مقام الاثبات، فلا دلیل علی أن یکون التقیید بلحاظ تمام المطلوب وکماله، ضرورة أنّ تقدیم الدلیل المقیّد علی الدلیل المطلق إنما هو بملاک القرینیة و الحکومة، فإنه علی ضوء هذا الملاک یکشف عن أن المراد الجدی النهائی للمتکلم من المطلق هوالمقید من الأول ولا مطلوب غیره أصلاً، ولایمکن حمله علی أنّ التقیید یکون بلحاظ تمام المطلوب وکماله، و أما أصل المطلوب فهو مطلق لا أنه مقیّد لأنه بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علی ذلک، فالنتیجة، إنّ ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره لایتم فی شیء من الصور الثلاث لاجمال دلیل التوقیت.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی أن ما ذکره قدس سره من أنّ دلیل التوقیت

ص:237

إذا کان مجملاً فلا مانع من التمسک بإطلاق دلیل الواجب لاثبات وجوبه بعدخروج الوقت، لأن القدر المتیقن من دلیل التوقیت هو تقیید اطلاقه بلحاظ تمام المطلوب وکماله لا أصله، فإنه باق علی حاله إلی ما بعد الوقت لایرجع إلی معنی محصل، لما عرفت من أنّ إجمال دلیل التوقیت إما أن یکون بالنسبة إلی حالتی الاختیار والاضطرار أو یکون بالنسبة إلی مبدء الوقت أو منتهاه ولا یتصورإجماله بالنسبة إلی أصل المطلوب وکماله، وذلک لأن مفاد دلیل التوقیت و هوتقیید مفاد دلیل المطلق ومفاده لیس إلاّ جعل وجوب واحد للواجب کالصلاة ونحوها ولا تتصور للوجوب مرتبة شدیدة وضعیفة، لأنه أمر اعتباری ولا واقع موضوعی له ماعدا اعتبار المعتبر فی موطنه و هو عالم الذّهن والاعتبار، فلایعقل حینئذٍ اتصافه فی هذا العالم بالشدة تارة وبالضعف اخری، نعم إنه یتصف بهذا الوصف عرضاً بلحاظ ملاکه الواقعی التکوینی، فإنه یتصف تارةً بالشدة واُخری بالضعف، ولکنه لایقتضی جعل وجوب شدید ذات مرتبتین هما الشدة و الضعف مع إمکان التفکیک بینهما فی مقام الاثبات، هذا لا من جهة القصور فیه بل من جهة إنّ الوجوب أمر اعتباری لا وجود له خارجاً حتی یتّصف بأحد هذین الوصفین، أو فقل إنّ شدة الوجوب إن کانت مجعولة فهی نفس الوجوب بما هو اعتبار، و إن لم تکن مجعولة استحال اتصاف الوجوب بها، ومن هنا لو قال المولی جعلت وجوباً شدیداً أو وجوباً ضعیفاً، فهو لغو إلاّ أن یکون غرضه من ذلک إنّ ملاکه شدید أو ضعیف، إلی هنا قد تبیّن إنّ الوجوب لایتصف بالشدة و الضعف، وعلی هذا فحیث إنّ مفاد دلیل المطلق جعل وجوب واحد للواجب کالصلاة مثلاً وعدم تصور وجود مراتب له من المرتبة الشدیدة و الضعیفة، فلایعقل أن یکون إطلاقه متکفّلاً لاثبات مرتبتین له بلحاظ الوقت وخارجه لکی یبقی إطلاقه بالنسبة إلی المرتبة الضعیفة إذا کان تقییده بالنسبة إلی المرتبة

ص:238

القویّة، ضرورة أنّ المقام من السالبة بانتفاء الموضوع حیث لاوجود لهما فی عالم الاعتبار حتی یتصف الوجوب بهما.

والخلاصة: إنّ مفاد الدلیل المطلق هو جعل وجوب واحد للصلاة مثلاً، ودلیل التوقیت إنما یدل علی تقیید هذا الوجوب بالوقت، فإذن لاوجوب فی خارج الوقت لکی یقتضی الاتیان بها فیه.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم تصویر مراتب للوجوب بلحاظ المجعول و المعتبر لا بلحاظ الجعل والاعتبار، إلاّ أن إطلاق دلیل المطلق لایکون متکفلاً لاثباتها، لوضوح إنّ مفاده إنما وجوب الصلاة فی الشریعة المقدسة لا وجوبها الشدید لأنه لا یدل علیه، والمفروض إنّ دلیل التوقیت یقید مدلوله و هو وجوب الصلاة بالوقت، فإذن لاوجوب فی خارج الوقت، ومع الاغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم إنّه یدل علی وجوب الصلاة بوجوب شدید، إلاّ أنّ دلیل التوقیت یقید هذا الوجوب الشدید بالوقت لأنه مدلول دلیل المطلق، ولایمکن القول بأنه یقیّد شدته بالوقت دون أصل الوجوب، إذ لایمکن التفکیک بینهما، لأن شدته بمثابة الفصل المقوّم له و هو مندک فیها، فإذا ارتفعت شدته ارتفع أصل الوجوب أیضاً، وعلی هذا فلایمکن القول بأن دلیل التوقیت بقید شدته بالوقت دون أصل الوجوب فإنه باق علی حاله إلی مابعد الوقت.

فالنتیجة، إن ما ذکره صاحب الکفایة قدس سره من أنّ دلیل التوقیت یقید تمام المطلوب وشدته بالوقت دون أصله لایرجع إلی معنی محصل.

لحدّ الآن قد تبیّن إنه لا أصل لمسألة تبعیّة القضاء للأداء، فالصحیح إنّ القضاءیکون بأمر جدید، هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخری قد اتّضح مما ذکرناه إنه لافرق فی ذلک بین أن یکون القید وقتاً أو غیره، لأن التقدیم إنما هو بملاک القرینة

ص:239

العرفیة، ولا فرق فی هذا الملاک بین قید وقید.

النقطة الثالثة: فی تعیین موضوع وجوب القضاء

و أما الکلام فی النقطة الثالثة، فیقع فی تعیین موضوع وجوب القضاء الذی هو بأمر جدید وموضوعه بحسب ما ورد فی لسان الروایات هو عنوان الفوت هذا مما لا کلام فیه، وإنما الکلام فی أنّه أمر وجودی أو عدمی فیه وجهان، الظاهر إنه أمر وجودی، لوضوح إنّ المتبادر عرفاً من کلمة الفوت لیس معنی مساوقاً لترک المأمور به وعدم الاتیان به فی الخارج، بل المتبادر منها معنی مساوقاً لذهاب شیء من کیس المکلف و هو فوت الملاک منه، وتمام الکلام فی ذلک فی الفقه.

و أما الکلام فی النقطة الرابعة، و هی ما إذا شک فی تحقق موضوع وجوب القضاء و هوالفوت، فهل یمکن إثباته باستصحاب عدم الاتیان بالمأموربه فی وقته؟

والجواب: إنّ الفوت إن کان أمراً وجودیاً کما هو الظاهر، فلایمکن إثباته إلاّعلی القول بالأصل المثبت، وعلیه فیکون المرجع فیه أصالة البراءة عن وجوب القضاء، و إن کان أمراً عدمیاً وعبارة عن عدم الاتیان بالمأمور به فی وقته، فیمکن احرازه بالاستصحاب، ثم إن عنوان الفوت کما یتحقق بفوت الصلاة الواجبة فی الوقت واقعاً عمداً أو سهواً أو جهلاً، کذلک یتحقق بفوت الصلاة الواجبة فی الوقت بقاعدة الاشتغال أو الاسصحاب، کما إذا صلّی إلی جهة معینة ثم شک فی أنها قبلة أو لا، ففی مثل ذلک لاتجری قاعدة الفراغ، لأن جریانها مشروط باحتمال کون المصلی فی حال الصلاة أذکر و هذا الاحتمال مفقود فی المقام، فإذن یکون المرجع فیه قاعدة الاشتغال أو استصحاب بقاء التکلیف، وحینئذٍ فإذا ترک الصلاة المذکورة وجب علیه قضائها فی خارج الوقت لصدق الفوت علیه، علی أساس أنّ وظیفته الفعلیة قد فاتت عنه فی الوقت، هذا تمام کلامنا فی

ص:240

الواجب الموقت الموسع و المضیق.

نتیجة البحث

نتیجة البحث عدة نقاط:

الاُولی: إن الکلام فی مسألة الواجب الموسع و المضیّق یقع فی عدّة امور:

1 - فی وجه تقدیم الدلیل المقیّد أو الخاص علی الدلیل المطلق أو العام.

2 - فی تبریر مسألة تبعیة القضاء للأداء.

3 - فی موضوع وجوب القضاء إذا کان بأمر جدید.

4 - فی مقتضی الأصل العملی.

الثانیة: إن الکلام تارةً یقع فی تقدیم المقیّد علی المطلق واُخری فی تقدیم الخاص علی العام، وعلی الأول فتارةً یقع فی تقدیم المقیّد المتصل علی المطلق واُخری فی المنفصل، أما علی الأول فلأن المقید المتصل إن کان اتصاله بالاستثناء، فمجموع المستثنی منه و المستثنی بمثابة دلیل واحد ولهما ظهور واحد، و إن کان اتصاله بجملة مستقلة فهی مانعة عن تمامیة مقدمات الحکمة.

و أما علی الثانی، فقد یقال إنّ المقید المنفصل کالمقید المتصل مانع عن تمامیة المقدمات، بدعوی إنّ عدم القرینة الذی هو جزء المقدمات أعمّ من عدم القرینة المتّصلة و المنفصلة، ولکن تقدم فساد هذا القول، لأن جزء المقدمات خصوص عدم القرینة المتصلة لا الأعمّ منها وعدم القرینة المنفصلة.

الثالثة: إن السید الاُستاذ قدس سره قد بنی علی أنّ ظهور المطلق فی الاطلاق فی کل زمان یتوقف علی تمامیة مقدمات الحکمة فیه، فإذا صدر من المولی مطلق وکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة متصلة علی التقیید، انعقد ظهوره فی الاطلاق، و هذا الظهور ثابت طالما لم تصل قرینة منفصلة علیه، فإذا وصلت وعلم المکلف

ص:241

بها، ارتفع ظهوره فی الاطلاق بارتفاع مقدمات الحکمة، ولکن تقدم إن هذا المبنی غیر صحیح، لأن وصول القرینة و العلم بها رافع لحجیة الظهور لا أصله، فإن الظهور إذا انعقد لم یرتفع وإنما ترتفع حجیته بوصول القرینة علی الخلاف، و قد تقدم تفصیل ذلک.

الرابعة: إن تقدیم المقید المنفصل علی المطلق لیس بملاک إنّ عدمه جزء المقدمات، لأن الجزء إنما هو عدم المقید المتصل، بل بملاک القرینیة و الحکومة بنظر العرف و العقلاء، فإنه بهذا الملاک یکشف عن المراد الجدی النهائی للمتکلم من المطلق، و هذا الکشف منوط بتوفر مجموعة من العناصر:

الأول: أن یکون المقید أخص من المطلق موضوعاً.

الثانی: أن یکون المطلق و المقیدکلاهما صادراًمن متکلم واحدحقیقةً أوحکماً.

الثالث: أن یکون المتکلم ملتفتاً إلی المطلق حین صدور المقیّد.

الرابع: أن یکون المتکلم جاداً فی ذلک.

الخامس: أن یکون المتکلم عرفیاً اعتیادیاً.

الخامسة: إن ملاک تقدیم المقید علی المطلق لیس بملاک الأظهریة ولا بملاک ظهوره فی الاحتراز بل هو بملاک القرینیة العرفیة، فلهذا یتقدم علیه و إن لم یکن أظهر منه.

السادسة: إن الخاص إن کان متصلاً بالعام بنحو اتصال الصفة بالموصوف فهوخارج عن محل الکلام، باعتبار إنّ هناک مفهوماً واحداً و هو مدلول أداة العام، والخاص جزء من هذا المدلول، و أما إذا کان متصلاً بالعام بالاستثناء، فهنا مفاهیم ثلاثة:

ص:242

1 - مفهوم العام.

2 - مفهوم الاقتناع.

3 - مفهوم المقید و هو المفهوم الثالث و الأولان مندکان فیه، ولهذا لاتنافی بین الخاص و العام هنا.

السابعة: إن التخصیص إن کان بجملة مستقلة، فلا اشکال فی التنافی بینهما، کما إذا ورد فی دلیل لایجب إکرام أیّ عالم وفی آخر أکرم کل فقیه، ودعوی، إن هنا مفهوماً ثالثاً یدل علیه سیاق الجملتین المتعاقبتین و هو المفهوم المقید النهائی و المفهومان الأولان مندکان فیه.

مدفوعة، فإن دلالة هذا السیاق إما بالوضع أو بالأنس وشیء منهما لایکون فی المقام، فإذن لایمکن رفع التنافی بینهما بذلک من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

الثامنة: إن ملاک تقدم الخاص المنفصل علی العام إنما هو علی أساس قرینیته لدی العرف و العقلاء، و هی منوطة بتوفر امور تقدمت الإشارة إلیها آنفاً، ولیس تقدیمه علیه بملاک الأظهریة، وإلاّ فلایمکن الحکم بالتقدیم فیما إذا لم یکن أظهر من العام مع أنه بنظر العرف قرینة علی بیان المراد الجدی النهائی منه مطلقاً و إن لم یکن أظهر منه.

التاسعة: إنه لا فرق فی تقدیم الخاص علی العام و المقیّد علی المطلق بین أن یکونا متنافیین فی الإیجاب و السلب أو لا یکونا متنافیین، وعلی الثانی لا فرق بین أن یکون الحکم المجعول لهما واحداً أو متعدداً، فإنه بناء علی ماهو الصحیح من أن التقدیم إنما هو بملاک القرینیة، ولا فرق بین هذه الأقسام، نعم لو کان التقدیم بملاک ظهور القید فی الاحتراز، فلابدّ من التفصیل حینئذٍ بین القسمین

ص:243

الأولیین و القسم الأخیر، وفی القسم الأخیر لایمکن الحکم بالتقدیم بهذا الملاک علی ما تقدّم.

العاشرة: إنه لا فرق فی التقدیم بملاک القرینیّة لدی العرف و العقلاء بین أن یکون القید وقتاً أو غیره أی زماناً أو زمانیاً.

الحادیة عشر: إن تبعیّة القضاء للأداء منوطة بتصوّرین:

الأول: أن یکون هناک أمران مستقلان:

أحدهما: مطلق وغیر مقید بالوقت، والآخر مقید به، فإذا فات الثانی بفوت الوقت بقی الأول علی حاله.

الثانی: أن یکون التقیید بلحاظ کمال المطلوب لا أصله، ولکن تقدم إنّ کلا التصوّرین و إن کان ممکناً ثبوتاً إلا أنه لا دلیل علیه فی المقام.

الثانیة عشر: إن ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره من أنّ دلیل التوقیت إذا کان مجملاً ودلیل الواجب مطلقاً، فلا مانع من التمسک بإطلاق دلیل الواجب لاثبات وجوبه بعد خروج الوقت، لأن دلیل التوقیت حیث إنه مجمل، فالقدر المتیقّن منه التقیید بلحاظ کمال المطلوب وتمامه لا أصله، لایرجع إلی معنی محصل علی تفصیل قد مرّ.

الثالثة عشر: إنّ وجوب القضاء ثابت بأمر جدید وموضوعه الفوت و هوأمر وجودی.

الرابعة عشر: إن الفوت حیث إنه أمر وجودی، فلایمکن إثباته بالاستصحاب عند الشک فیه إلاّ علی القول بالأصل المثبت، فإذن المرجع فیه أصالة البراءة.

ص:244

فصل الأمر بالأمر بالشیء هل هو أمر بذلک الشیء أو لا؟

اشارة

بیان ذلک إنّ الکلام فیه تارة یقع فی مقام الثبوت واُخری فی مقام الاثبات:

البحث فی مقام الثبوت

أما الکلام فی المقام الأول فیمکن تصویر ذلک بوجوه:

الأول: أن یکون غرض المولی قائماً بالفعل، و أما أمره للمأمور الأول فإنما هولمجرد إیصال أمره إلی المأمور الثانی وأنه واسطة فحسب من دون تعلق غرض بأمره، لأن المطلوب هو صدور الفعل منه و المجعول إنما هو طلبه حقیقة بالأمرالموجه إلی المأمور الأول بغرض إیصاله إلی الثانی الذی یکون المطلوب منه صدور الفعل فی الخارج.

الثانی: أن یکون الغرض قائماً بصدور الأمر من الواسطة إلی ذیها لا علی الفعل الصادر منه کما هو الحال فی الأوامر الامتحانیة، لأن الغرض مترتب علی صدور هذه الأوامر فحسب لا علی الفعل الخارجی.

الثالث: أن یکون الغرض قائماً بکلیهما معاً، ولازم ذلک إنّ العبد إذا اطلع علی أمر المولی من طریق آخر لا من طریق المأمور الأول لم یجب علیه إمتثاله، لأن الغرض مترتب علی المجموع لا علی کل واحد منهما مستقلاً، وعلی هذا فأمرالمأمور الأول إن کان من شروط تحقق ذلک الغرض بفعل المأمور الثانی، فهناک غرض واحد، وترتبه علی فعل المأمور الثانی مشروط بأن یکون مأموراً به بأمر المأمور الأول، بمعنی أنّ فعله لولم یکن مسبوقاً بأمره لم یترتب علیه ذلک

ص:245

الغرض، و إن کان من شروط إتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادی، فلابدّ من فرض تعدد الغرض حینئذٍ بأن یکون هناک غرض فی أمر المأمور الأول أیضاً وإلاّ لم یکن وجه لامره ویکون لغواً، ثم إنّ الظاهر من هذه الوجوه الثلاثة الوجه الأخیر کما سوف نشیر إلیه فی ضمن البحث عن المسألة فی مقام الاثبات.

الأمر بالأمر بالشیء هل هو أمر بذلک الشیء أو لا؟

البحث فی مقام الاثبات

اشارة

و أما الکلام فی المقام الثانی، و هو مقام الاثبات، فإن کان ذلک فی الأوامر الشخصیة الخارجیّة کالأوامر الاعتیادیة الیومیة الصادرة من الموالی العرفیة إلی عبیدهم کأمر المولی عبده بأن یأمر زیداً مثلاً بالفعل الفلانی، فإن المتفاهم العرفی من ذلک هو أنّ المأمور الأول مجرد وسیط لإیصال أمر المولی إلی المأمور الثانی ولا موضوعیة للأمر الأول الموجه إلیه، و هذا إمّا من جهة أنه لیس بإمکان المولی أن یوجه الأمر إلی المأمور الثانی مباشرة أو من جهة اخری. و إن کان ذلک فی الأوامر الشرعیّة، فیقع الکلام فیها فی مسألتین:

مسألة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر

الاُولی: فی مسألة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، حیث إنّ کل مسلم مأمورمن قبل اللَّه تعالی أن یأمر الآخرین بالمعروف وینهاهم عن المنکر بشروط (1).

الثانیة: فی مسألة إنّ علی الأولیاء أن یأمروا صبیانهم بالصلاة و الصیام فی سبع أو تسع(2).

أما فی المسألة الاُولی فلا شبهة فی أنّ غرض المولی قائم بالأمر الثانی الذی هوفعل اختیاری للمکلف کسائر أفعاله الاختیاریة، فکما إنّ اتصاف سائر أفعاله الاختیاریة بالملاک فی مرحلة المبادی وترتّبه علیها فی مرحلة الامتثال یدعو المولی إلی الأمر بها، فکذلک أمره الناس بالمعروف ونهیهم عن المنکر، فإن

ص:246


1- (1) - الوسائل ج 16 ص 117 ب 1-10 من أبواب الأمر و النهی وما یناسبهما.
2- (2) - الوسائل ج 4 ص 18 ب 3 و 4 من أبواب أعداد الفرائض.

اتصافهما بالملاک فی مرحلة المبادی وترتّبه علیها فی مرحلة الامتثال یدعو المولی إلی الأمر بهما وإیجابهما علیه، ثم إنّ المصلحة القائمة بالأمر بالمعروف و النّهی عن المنکر مصلحة نوعیّة و هی الحفاظ علی المصالح العامة الواقعیّة والاجتناب عن المفاسد کذلک، ویترتب علی هذا الأمن و الأمان فی المجتمع الاسلامی.

مسألة أمر الأولیاء بأن یأمروا صبیانهم

و أما فی المسألة الثانیة، فقد ورد فی مجموعة من الروایات أمر الأولیاء بأن یأمروا صبیانهم بالصلاة و الصیام فی سبع فی بعضها وتسع فی بعضها الآخر هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخری هل إنّ أمر الأولیاء صبیانهم بالصلاة و الصیام مجرد وسیلة لإیصال أمر المولی الحقیقی إلیهم أو أنّ لأمرهم إیاهم خصوصیة وموضوعیة فی المسألة؟

والجواب: الظاهر هو الثانی، وذلک لأنه و إن کان بإمکان المولی أن یأمرالصبیان فی سبع أو تسع بالصلاة و الصیام مباشرة کما هو الحال بالنسبة إلی البالغین، ومع هذا فجعل المولی أمر الأولیاء وسیطافی ذلک لایمکن أن یکون جزافاً وبدون نکتة مبررة له، والنکتة فی ذلک هی أنّ المولی لما جعل مسؤولیة تربیة الأطفال علی الصلاة و الصیام علی عاتق أولیائهم فهم لا محالة کانوا مهتمّین بأمرهم أکثر بکثیر مما إذا لم تکن مسؤولیة تربیتهم علی عاتقهم، ومن الواضح إن اهتمامهم بها یؤثر فی تعویدهم علی العبادة بحیث إذا بلغوا اهتمّوا بها حسب اعتیادهم المرتکز و المستأنس فی أعماق أنفسهم هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخری إنّ هذه الروایات ظاهرة فی مشروعیة عبادات الصبی، علی أساس إنّ المستفاد منها إنّ تربیة الصبیان علی العبادات وتعویدهم علیها أمر محبوب، فإذاکانت محبوبة تکشف عن محبوبیة عباداتهم، لأن محبوبیة تربیتهم علیها إنما هی بمحبوبیة عباداتهم لا بالذات.

ودعوی إنّ المستفاد من هذه الروایات و إن کان محبوبیة تربیة الصبیان علی

ص:247

العبادات إلاّ أنها غیریة لکی لا تفوت العبادات منهم بعد البلوغ، لا أن محبوبیتها من جهة محبوبیة عباداتها قبل البلوغ، فإذن تکون عباداتهم تمرینیة لا تشریعیة.

مدفوعة، بأنها و إن کانت ممکنة ثبوتاً إلاّ أنه لایمکن الالتزام بها فی مقام الاثبات، لأن الأمر الوارد فی الروایات المذکورة ظاهر فی المولویة، وحمله علی الارشاد بغرض تهیؤ الصبیان للإتیان بها بعد البلوغ بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علی ذلک لا من الداخل ولا من الخارج.

والخلاصة: إنّ الظاهر من روایات الباب هو أنّ غرض المولی من ذلک إیصال الأمر بالعبادات إلی الصبیان من طریق أمر أولیائهم بها، و قد أشرنا إلی أن اختیار هذا الطریق فی إیصال الأمر بالعبادات إلیهم لایمکن أن یکون جزافاً، فلامحالة یکون بنکتة أنّ هذا الطریق أنجح فی تربیة الأطفال من توجیه الأمر بالعبادات إلیهم مباشرة.

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه و الرد علیه

ومن هنا یظهر أنّ ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره(1) من أن الأمر بالأمر بالشیء فی نفسه لایدل علی أنه أمر بذلک الشیء بل هو بحاجة إلی قرینة غریب جداً، إذ لا شبهة فی أنّه یدل علی أنّ الأمر الوسط طریق لإیصال أمر المولی إلی المأمور الثانی سواءً أکانت له موضوعیة أیضاً أم لا، ضرورة أن حمله علی أن الغرض منه أمر المأمور الأول للمأمور الثانی لا إیصال أمر المولی إلیه لایمکن عرفاً وبحاجة إلی قرینة، ومن هذا الباب أمره تعالی رسله بتبلیغ الأحکام الشرعیة.

کلام بعض الأعاظم قدّس سرّه و الرد علیه

إلی هنا قد تبیّن إنّ الظاهر من الروایات مشروعیّة عبادات الصبی هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخری ذکر بعض الأعاظم قدس سره إنه لا حاجة فی إثبات مشروعیة عبادات الصّبی التمسک بروایات الباب، إذ یکفی فی إثباتها اطلاقات

ص:248


1- (1) - کفایة الاصول 144.

الکتاب و السنة، فإن مقتضی تلک الاطلاقات وجوب الصلاة و الصیام و الحج ونحوها علی الأعمّ من البالغ و الصبی، غایة الأمر إنّ حدیث رفع القلم إنما یکون رافعاً لوجوب تلک العبادات فحسب باعتبار إنّ الامتنان إنماهو فی رفعه فقط، و أما أصل مشروعیتها، فهوباق علی حاله فلاموجب لرفعها حیث لا امتنان فیه هذا.

والجواب: إنّ هذا البیان غیر صحیح علی جمیع الأقوال فی مدلول الأمر، أما علی القول بأن حقیقة الأمر عبارة عن اعتبار المولی الفعل علی ذمة المکلف وابرازه فی الخارج بمبرز ما من فعل أو قول، وحینئذٍ فإن کانت هناک قرینة علی الترخیص فی الترک، انتزع منه الاستحباب وإلاّ فالوجوب، وعلی هذا فمدلول العمومات من الکتاب و السنّة إنما هو إبراز الأمر الاعتباری النفسانی، ومدلول حدیث الرفع عندئذٍ إنما هو رفع ذلک الاعتبار الذی یدل علیه إطلاق الکتاب و السنة، ونتیجة ذلک هی أنّ الشارع لم یعتبر العبادات کالصلاة و الصیام ونحوهما علی ذمة الصبی، فإذن لاتکون مشروعة.

و أما علی القول بأن مدلول الأمر وضعاً هو طلب الفعل الجامع بین الوجوب و الندب فلا یدل علی الوجوب إلاّ بمقدمات الحکمة، وعلی هذا فالمرفوع بحدیث الرفع حصة خاصة من الطلب و هی الحصة المساوقة للوجوب، وحیث إن الکتاب و السنة یدلان علیها بالاطلاق ومقدمات الحکمة، فمع رفعها عن الصبی بحدیث الرفع انتفت دلالتهما بانتفاء مدلولهما عنه.

و أما بناءً علی ما اخترناه من أنّ المعنی الموضوع له للأمر مادة وهیئة الطلب المولوی المساوق للوجوب فالأمرظاهر، لأن المرفوع حینئذٍ بالحدیث مدلول الأمر و هو الوجوب، فإذا کان الوجوب مرفوعاً لم تبق دلالة للأمر، لغرض إنّ له دلالة واحدة و هی دلالته علی الوجوب وبانتفائه تنتفی دلالته علیه ولیست له دلالتان:

ص:249

إحداهما: دلالته علی أصل مشروعیة العبادات والاُخری علی وجوبها، فاذاً انتفت الدلالة.

الثانیة: تبقی الدلالة الاُولی لغرض أن الوجوب بسیط ولایعقل أن یکون مرکباً.

فالنتیجة، إنّ اطلاقات الکتاب و السنة لاتدل علی مشروعیة عبادة الصبی، فالعمدة فی ذلک هی روایات المسألة لأنهاتدل علی مشروعیتها، لحدّ الآن قدتبیّن أنّه لایمکن إثبات مشروعیة عبادات الصبی بإطلاق الکتاب و السنة وإنما ثبتت مشروعیتها بالروایات المتقدمة وبقطع النظر عنها أو المناقشة فلا دلیل علی مشروعیتها.

نتائج هذا البحث عدّة نقاط:

الأول: إن الأمر بالشیء یتصور فی مقام الثبوت علی وجوه ثلاثة کما تقدم بشکل موسّع.

الثانی: إن الظاهر من هذه الوجوه فی مقام الاثبات هو الوجه الثالث من الأوامر الشرعیة فی المسألة، و أما من الأوامر الاعتیادیة الشخصیة من الموالی العرفیة، فالظاهر الوجه الأول إلاّ إذا کانت هناک قرینة علی الخلاف.

الثالث: إن الکلام فی الأوامر الشرعیة یقع فی مسألتین:

الاُولی: فی مسألة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر ومثلها أمره تعالی أنبیائه ورسله وأولیائه بتبلیغ الأحکام للناس.

الثانیة: أمر الأولیاء بأن یأمروا صبیانهم بالصلاة و الصیام.

الرابع: إن الروایات الآمرة للأولیاء بأمر صبیانهم بالصلاة و الصیام تدل علی مشروعیة عباداتهم دون اطلاق الکتاب و السنة.

ص:250

الأمر بالشیء بعد الأمر به ظاهر فی التأکید أو التأسیس

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه

لا اشکال فی أنّ الأمر فی نفسه ظاهر فی التأسیس وإنما الاشکال فیما إذا کان الأمر به مسبوقاً بأمر آخر وکانا مطلقین ولم یذکر سبب لهما أو ذکر سبب واحد، فهل هو فی هذه الحالة ظاهر فی التأسیس أو التأکید أو لا هذا ولا ذاک فیه وجوه، فذهب المحقق صاحب الکفایة قدس سره(1) إلی وقوع التعارض بین ظهور الصیغة فی التأسیس وبین إطلاق المادة المقتضی لکون متعلق الأمرین واحد، لأن المطلوب من المادة هو صرف وجودها و هو لایتکرر، ثم حکم قدس سره بالتأکید بتقریب أن الهیئة باعتبار اقترانها بالتکرار الصالح للقرینیة علی التأکید مجملة، فلا ظهور لهافی التأسیس وثبوت وجوب آخر، لأن المراد من ظهور صیغة الأمر فی التأسیس فی المقام هو دلالتها علی إنشاء وجوب آخر غیر الوجوب المنشأ بالصیغة المسبوقة بها، ودعوی إنّ التأسیسیة و التأکیدیة خارجتان عن مدلول الصیغة وضعاً، فإن مدلولهما الوضعی الوجوب بمفاد کان التامة سواءً أکان مکشوفاً بکاشف أسبق أم لا، فإذن لا ظهور للصیغة فی التأسیس حتی یکون معارضاً لإطلاق المادة، مدفوعة، فإنه إن ارید بذلک أن مفهوم التأسیسیة أو التأکیدیة خارج عن مدلول الصیغة، فهو صحیح لأنها لا تدل علیه، و إن ارید به أنّ واقع التأسیسیة خارج عن مدلولها الوضعی، ففیه إن الأمر لیس کذلک، لأن مدلول الأمر مادة وهیئة الأمر الانشائی الاعتباری و هو إنشاء الطلب المولوی واعتباره، ومن الواضح إنّ إنشاء الطلب المولوی مساوق لواقع التأسیس، و أما

ص:251


1- (1) - کفایة الاصول ص 145.

إذا کان الوجوب منشأ سابقاً، فدلالة الصیغة علیه مساوقة لواقع التأکید و هی بحاجة إلی قرینة، لأن مدلولها إنشاء الوجوب بالحمل الشایع، وبمفاد کان التامة ودلالتها علی الوجوب المنشأ سابقاً لیست دلالة علی إنشاء الوجوب، فلهذاتکون بحاجة إلی قرینة.

الأمر بالشیء بعد الأمر به ظاهر فی التأکید أو التأسیس

والخلاصة: إن الأمر بشیء بعد الأمر به إذا کانا مطلقین ولم یذکر سبب لهما أو ذکر سبب واحد، ظاهر فی التأکید إلاّ إذا کانت هناک قرینة علی التأسیس، کما إذاجاء بالأمر الثانی معطوفاً علی الأمر الأول بالواو، فإن العطف بالواو فی نفسه قرینة علی التأسیس، باعتبار ظهوره فی أنّ المعطوف غیر المعطوف علیه أو کان بینهما فصل زمنی، إذ مع هذا الفصل لا مانع من أن یکون الأمر الثانی للتأسیس أیضاً، وکیف کان فالتکرار بدون ذکر السبب ظاهر فی التأکید طالما لم تکن هناک قرینة علی التأسیس کالعطف بالواو أو الفصل الزمنی بینهما أو تقیید الأمر الثانی بالمرة الاُخری، إلی هنا قد تبیّن إنّ الظاهر هو الوجه الثانی فیما هو محل الکلام و هو ما إذا کان الأمران مطلقین ولم یذکر سبب لهما أو ذکر سبب واحد دون الوجه الأول و هو التأسیس، إذ لا وجه له أصلاً، کما إنّه لا وجه للوجه الثالث و هوإجماله وعدم ظهوره لا فی التأکید ولا التأسیس، و أما إذا لم یکونا مطلقین بأن ذکر سببهما معاً کقولنا: إن افطرت فی نهار شهر رمضان فاعتق رقبة و إن ظاهرت فاعتق رقبة وهکذا، فهل الأمر الثانی ظاهر فی التأسیس أو التأکید، فیه کلام سوف یأتی بیانه فی مبحث مفهوم الشرط.

ص:252

المقصد الثانی:مبحث النّواهی

فیه جهات من البحث:

الجهة الأولی: فی بیان معنی النهی و مدلوله الوضعی

اشارة

الجهة الاُولی فی بیان معنی النهی ومدلوله الوضعی، فیه نظریات:

النظریة الاُولی: إنّ النهی مادةً وهیئةً موضوع لطلب ترک الطبیعة،
اشارة

و هذا القول هو المعروف و المشهور بین الاُصولیین، نعم قد یقال کما قیل: إنّ مدلول النهی لایمکن أن یکون طلب الترک، لأن الترک استمرار للعدم الأزلی و هوخارج عن مقدور المکلف فلایمکن تعلق النهی به، لأنه تکلیف بغیر المقدور، فإذن لابد أن یکون مدلوله طلب الکفّ الذی هو أمر وجودی هذا.

الرد علی هذه النظریة

ویرد علیه أولاً: إن مدلول النهی لولم یکن طلب الترک فلا یلزم أن یکون طلب الکف إذ لا ملازمة بینهما، وسوف نشیر إلی أنّ مدلوله شیء آخر لا هذا ولا ذاک.

وثانیاً: إن مدلول النهی لیس هو طلب الترک من الأزل بل هو طلب إبقائه و هو مقدور له.

فالنتیجة، إنّ هذا القول لا أساس له ولا مانع من تفسیر النهی بطلب الترک من هذه الناحیة هذا من جانب، ومن جانب آخر إنّه لا فرق فی ضوء هذه النظریة بین الأمر و النهی فی المعنی الموضوع له، لأن کلیهما یدل علی الطلب المولوی بالوضع فی مرحلة التصور، إذ کما أن الأمر یدل بالدلالة الوضعیة

ص:253

التصوریة علی الطلب المولوی، فکذلک النهی یدل بالدلالة الوضعیة التصوریة علیه، ولهذا إعتبروا فی دلالة النهی علی الطلب المولوی ما کانوا اعتبروه فی دلالة الأمر علیه من الشروط مثل کونه صادراً من المولی بعنوان المولویة الذی هوعبارة اخری عن اعتبار صدوره من العالی، لأنه إذا صدر من المساوی أو الدانی لم یصدق علیه عنوان الأمر، ویفترق النهی عن الأمر علی ضوء هذه النظریة فی المتعلق، فإن متعلق النهی ترک الطبیعة ومتعلق الأمر وجود الطبیعیة، فلهذا یدل الأول علی طلب الترک و الثانی علی طلب الفعل، وحیث إنّ متعلق مدلول النهی صرف ترک الطبیعة ومتعلق مدلول الأمر صرف وجودها فیکونا مختلفین فی مرحلة التطبیق أیضاً، لأن صرف ترک الطبیعة لایمکن إلا بترک تمام أفرادها فی الخارج، بینما یکفی فی صرف وجودها إیجاد فرد منها فیه.

مبحث النّواهی

إلی هنا قد ظهر إنّ النهی یشترک مع الأمر علی ضوء هذه النظریة فی نقطة ویمتاز عنه فی نقطتین، أما نقطة الاشتراک فهی متمثلة فی المعنی الموضوع له لأنهما مشترکان فیه و هو الطلب المولوی، و أما النقطتان المختلفتان بینهما فالاُولی منهما متمثلة فی المتعلّق و الثانیة منهمافی تطبیق المتعلق علی الخارج.

النظریة الثانیة: مختار السید الأستاذ قدّس سرّه

النظریة الثانیة: هی ما إختاره السید الاُستاذ قدس سره(1) من أن مدلول النهی وضعاً إعتبار الشارع المکلف محروماً عن الفعل المشتمل علی مفسدة ملزمة وابرازه فی الخارج بمبرز ما من قول کصیغة النهی أو فعل، وعلی هذا فالنهی مادة وهیئة موضوع للدلالة علی إرادة إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج، ومن هنا تکون دلالته الوضعیة دلالة تصدیقیة لا تصوریة، و أما تفسیر النهی بالحرمة، فلایکون من جهة إنّ النهی موضوع لها بل من جهة دلالته علی حرمان

ص:254


1- (1) - کفایة الاصول ص 145.

المکلف عن الفعل المنهی عنه فی الخارج، غایة الأمر إنّ الحرمة قد تکون تکوینیة بمعنی أنّها مستعملة فی الحرمة التکوینیة کقوله: إنّ الجنة محرمة علی الکفار و قدتکون تشریعیة.

النظریة الثالثة: إن مادة النهی موضوعة بإزاء الحرمة و الزّجر بالمعنی الإسمی، و صیغة النهی موضوعه بإزاء الحرمة و الزجر بالمعنی الحرفی
اشارة

و هو النسبة الزجریة بین المادة و المخاطب، و هذا المعنی هو المتبادر عرفاً من النهی مادة وهیئة، ویدل علیه بالدلالة الوضعیة التصوریة و إن کان صادراً من لافظ بلاشعور واختیار، هذه هی النظریات الثلاث فی المسألة، والصحیح من هذه النظریات، النظریة الثالثة، فلنا دعویان فی المقام:

إبطال الأولیین

الاُولی: بطلان النظریتین الأولیین.

الثانیة: صحة النظریة الثالثة.

الدعوی الاُولی: أما بطلان النظریة الاُولی فهو واضح ثبوتاً واثباتاً.

أما ثبوتاً فلأنه لایمکن الأخذ بها لا فی مرحلة المبادی ولا فی مرحلة الجعل، أما فی مرحلة المبادی فلأن النهی ناشیء عن قیام مفسدة ملزمة فی متعلقه و الأمرناشیء عن قیام مصلحة ملزمة فی متعلقه، و قد ذکرنا غیر مرة إن روح الحکم وحقیقته ملاکه الواقعی، وإلاّ فالحکم بما هو اعتبار بقطع النظر عن ملاکه لا قیمة له، وحیث إنّ ملاک النهی و هو المفسدة مضاد لملاک الأمر و هو المصلحة فی مرحلة المبادی، فلایعقل أن یکون مفاده عین مفاد الأمر فی مرحلة الجعل و هو الطلب المولوی المساوق للوجوب، إذ من الواضح إنّه لایعقل أن یکون الوجوب فی باب النهی ناشئاً عن مفسدة ملزمة وفی باب الأمر عن مصلحة ملزمة، ضرورة إنّ روح الوجوب وحقیقته حیث إنها المصلحة الواقعیة فلا یعقل أن

ص:255

تکون روحه وحقیقته المفسدة الواقعیة أیضاً لعدم التناسب بینهما، لأن المفسدة الملزمة إن کانت فی الفعل فهی تقتضی حرمته و الزجر عنه و البغض و الکراهة و إن کانت فی الترک فکذلک، و أما جعل الوجوب له فی هذه الحال، فلا محالة یکون بلا ملاک لاستحالة اجتماع المصلحة مع المفسدة فیه و المحبوبیة مع المبغوضیّة، ودعوی، إنّ ملاک النهی هو المصلحة المترتبة علی الترک لا المفسدة فی الفعل، مدفوعة، بأنها مخالفة للوجدان و الضرورة.

و أما فی مرحلة الجعل فلأن النهی یتبع مرحلة المبادی لأنها روحه وحقیقته، فإذا کان ملاک النهی فی مرحلة المبادی مضاداً لملاک الأمر، فکیف یعقل أن یکون مفاد النهی عین مفاد الأمر فی هذه المرحلة، فإن العینیة فیها تکشف عن العینیة فی مرحلة المبادی، کما أن المضادة بین الملاکات فی مرحلة المبادی تقتضی المضادة فی مرحلة الجعل أیضاً تبعاً وإلاّ لکان الجعل بلا ملاک و هو کما تری.

و أما اثباتاً فلا شبهة فی أن المتفاهم العرفی من النهی لیس هو الطلب المولوی المساوق للوجوب بل الزجر و المنع عن الفعل، وعلی الجملة فلا ریب فی أن المرتکز عند العرف و العقلاء من النهی هو المنع و الزجر وأنه المنساق إلی الذهن بمجرد سماعه و إن کان من لافظ بغیر شعور واختیار، و هذا دلیل علی أنه المعنی الموضوع له، لأن المدلول الوضعی مدلول تصوری لاتصدیقی، ومن هنا إذا ورد نهی من المولی بشیء موجهاً إلی شخص، فیقال إنه منعه عن ارتکاب ذلک الشیء وحرّمه علیه، ولا یقال: إنّ المولی طلب منه ترکه وأوجبه علیه.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی أنّ هذه النظریة لا أساس لها لا اثباتاً ولا ثبوتاً.

و أما النظریة الثانیة التی اختارها السید الاُستاذ قدس سره فهی مبنیة علی مسلکه فی

ص:256

باب الوضع من أنه عبارة عن التعهد و الإلتزام النفسانی، وعلی ضوء هذا المسلک فالدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة، والمدلول الوضعی مدلول تصدیقی لا تصوری باعتبار إنّ العلقة الوضعیة مختصّة بحالة إرادة المعنی من اللفظ، وعلی ضوء هذا المسلک التزم قدس سره بأن النهی مادة وهیئة موضوع للدلالة علی إرادة إبراز الأمرالاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز ما من قول أو فعل، فلهذا تکون دلالته الوضعیة دلالة تصدیقیة لا تصوریة.

ولکن قد تقدم فی مبحث الوضع نقد هذه النظریة بشکل موسع وعدم امکان الالتزام بها، ومن أجل ذلک قلنا هناک إنّ الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة لاتصدیقیة، لأن الدلالة التصدیقیة سواءً أکانت بلحاظ الإرادة الاستعمالیة أم کانت بلحاظ الإرادة التفهمیّة أو الجدیة مستندة إلی ظهور حال المتکلم ولاتکون مستندة إلی الوضع، وعلیه فلایمکن أن تکون دلالة النهی علی معناه دلالة تصدیقیة بل لا محالة تکون تصوریة، و إن شئت قلت: إنّ الوضع علی مسلک التعهّد علاقة بین حصة خاصة من اللفظ وحصة خاصة من المعنی و هی المعنی المراد تفهیمه، و أما علی سائر المبانی فهو علاقة بین طبیعی اللفظ وطبیعی المعنی، فلهذا تکون الدلالة الوضعیة علی ضوئها دلالة تصوّریة، وحیث إنّ مسلک التعهد باطل، فلا مناص حینئذٍ من الالتزام بأن الدلالة الوضعیة للنهی مادةً وهیئةً دلالة تصوریة، غایة الأمر إنّ مادته تدل علی الزّجر و المنع بالمعنی الإسمی، وهیئته تدل علیه بالمعنی الحرفی أی النسبة الزجریة و المنعیة کما هو الحال فی الأمر، فإن مادته تدل علی الطلب المولوی بالمعنی الإسمی وهیئته تدل علیه بالمعنی الحرفی أی النسبة الطلبیة، لحدّ الآن قد تبیّن بطلان النظریتین الأولیین وعدم إمکان الالتزام بشیء منهما.

ص:257

اختیار النظریة الثالثة

الدعوی الثانیة: أما صحة النظریة الثالثة، فلأنها تنسجم مع النّهی فی مرحلة المبادی ومرحلة الجعل معاً، أما إنسجامها مع مرحلة المبادی فلما تقدم من أن النهی ناشیء عن مفسدة ملزمة فی الفعل، ومن الطبیعی إنّ تلک المفسدة فیه تدعو المولی إلی جعل حکم له مناسب لها و هو حرمته علی المکلف وزجره عن ارتکابه، والجامع إنها تدعو المولی إلی تحریمه علیه، و أما الطلب المتعلق بالترک فهو لایمکن أن یکون ناشئاً منها، لأنه لوکان مجعولاً من قبل الشارع فلامحالة یکون الداعی إلی جعله ماهو فی متعلقه من المصلحة، فإنها تدعو إلی إیجابه وطلبه لا المفسدة فی الفعل، فإنها تدعو إلی حرمته وزجر المکلف عنه لا إلی طلب ترکه.

فالنتیجة، إنّ ملاک النهی فی مرحلة المبادی ینسجم مع هذه النظریة دون نظریة طلب الترک، و أما إنسجامها مع مرحلة الجعل، فقد ظهر إنّ المجعول فی باب النهی هو الحرمة و الزجر باعتبار أن روحها وحقیقتها المفسدة فی مرحلة المبادی و قد مرّ إنها تقتضی ذلک.

والخلاصة: إنّ هذه النظریة ولیدة ملاک النهی فی مرحلة المبادی، لوضوح إنّ اتصاف الفعل بالمفسدة یدعو إلی جعل الحرمة له وزجر المکلف عنه، کما إنّ اتصاف الفعل بالمصلحة یدعو إلی جعل الوجوب له و البعث نحوه، هذا فی مقام الثبوت.

و أما فی مقام الاثبات فحیث إن المتفاهم العرفی الارتکازی من النهی فیه هوالحرمة و الزجر لا غیرها فیکون مطابقاً لمقام الثبوت.

والخلاصة: إنه علی ضوء هذه النظریة یکون النهی مبایناً للأمر فی تمام مراحله أی من مرحلة المبادی إلی مرحلة الامتثال، أما فی مرحلة المبادی فلأن

ص:258

مبادی النهی المفاسد الواقعیّة الالزامیّة و البغض و الکراهة، ومبادی الأمر المصالح الواقعیة الالزامیة والارادة و الحب، و أما فی مرحلة الجعل فلأن المجعول فی باب النهی الحرمة و المجعول فی باب الأمر الوجوب، و أما فی مرحلة الامتثال فلأن إمتثال النهی إنما هو بالاجتناب عن الفعل المنهی عنه، وامتثال الأمر إنما هوباتیان الفعل المأمور به، نعم إنهما یشترکان فی المتعلق فحسب، لأن الفعل کمایکون متعلقاً للأمر یکون متعلقاً للنهی أیضاً.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی إنّ النهی لا یشترک مع الأمر لا فی الملاک ولا فی المجعول ولا فی کیفیة الامتثال.

الجهة الثانیة: فی متعلق الأمر و النهی

اشارة

الجهة الثانیة قد ذکر أصحاب النظریة الاُولی إنّ متعلق الأمر حیث إنه صرف وجود الطبیعة فهو یتحقق بتحقق أول وجودها فی الخارج، ومتعلق النهی حیث إنه صرف ترک الطبیعة فهو لایتحقق إلاّ بترک تمام أفرادها فیه من العرضیة و الطولیة، ولهذا یکون الحکم فی طرف النهی انحلالیاً دون الأمر، و قدتسأل هل یبتنی ذلک علی أساس صحیح أو لا؟

والجواب: إنه لایبتنی علی أساس صحیح، بیان ذلک إنّ صرف وجود الطبیعة کما یلحظ تارة بالنسبة إلی الأفراد العرضیة لها واُخری بالنسبة إلی الأفراد الطولیة ونقصد بها قطعات الزمان وآناته التدریجیة الطولیة کذلک صرف ترک الطبیعة، فإنه تارة یلحظ بالنسبة إلی التروک العرضیة واُخری بالنسبة إلی التروک الطولیة بحسب قطعات الزمان التدریجیة، أما علی الأول فنسبة صرف وجود الطبیعة إلی الأفراد العرضیة نسبة واحدة بمعنی أنّ نسبته إلی جمیع الأفراد التی توجد فی آن واحد علی حد سواء، فإن انطباقه علی بعضها المردد فی الخارج مستحیل، لاستحالة وجود الفرد المردد فیه وانطباقه علی بعضها المعین دون

ص:259

غیره ترجیح من غیر مرجح، فإذن لامحالة ینطبق علی الجمیع، و أما بالنسبة إلی الأفراد الطولیة، فهو ینطبق علی وجود أول فرد منها و هو وجوده فی الآن الأول ولایصدق علی وجود الفرد الثانی و هو وجودها فی الآن الثانی وهکذا.

و أما علی الثانی فنسبة صرف ترک الطبیعة إلی التروک العرضیة نسبة واحدة ولایمکن تطبیقه علی البعض المردد، لأنه محال ولا علی البعض المعیّن لأنه ترجیح من غیر مرجح، فإذن لا محالة ینطبق علی الجمیع، ولا فرق من هذه الناحیة بین صرف وجود الطبیعة وصرف ترکها، و أما بالنسبة إلی تروکها الطولیة، فهویصدق علی أول ترکها و هو الترک فی الآن الأول ولایصدق علی ترکها فی الآن الثانی وهکذا، ولافرق بین صرف الوجود وصرف الترک من هذه الناحیة، ومن هنا یظهر أن ماهو المشهور فی الألسنة و قد صرح به صاحب الکفایة قدس سره(1) من أن صرف وجود الطبیعة یتحقق بأول وجودها وصرف ترکها لایتحقق إلاّ بترک جمیع أفرادها من العرضیة و الطولیّة لا أصل له، ولافرق بینهما کما عرفت هذامن ناحیة.

ومن ناحیة اخری إنّ الوجود إذا اضیف إلی الفرد بحده الفردی فنقیضه العدم البدیل له، و إذا اضیف إلی الطبیعی، فإن کان المضاف إلیه الوجود الخارجی له فنقیضه عدمه البدیل له، بلا فرق حینئذٍ بین أن یکون الوجود مضافاً إلی الفرد أو إلی الطبیعی، ولایمکن أن یکون نقیضه عدم الطبیعی بنحو الاطلاق، بداهة أن عدمه فی ضمن فرد آخر لایمکن أن یکون نقیضاً وبدیلاً لفرده الأول، و إن کان المضاف إلیه وجوده السعی، فنقیضه عدمه السعی البدیل له، فما هو المشهور بین الأصحاب من أن الطبیعة توجد بوجود واحد ولاتنتفی إلاّ بانتفاء جمیع أفرادها

ص:260


1- (1) - کفایة الاصول ص 149.

خاطیء جداً، لأن النفی والاثبات لایردان علی طبیعة واحدة، فإن الطبیعة التی توجد بوجود واحد هی الطبیعة المهملة، والطبیعة التی لاتنتفی إلاّ بانتفاء جمیع أفرادها هی الطبیعة المطلقة الساریة إلی أفرادها، فلایکون التقابل بینهما من تقابل التناقض و الإیجاب و السلب، لأن نقیض وجود واحد عدم واحد و هوعدمه البدیل له لا اعدام متعدده، وعلی هذا فنقیض الطبیعة المهملة التی توجد بوجود واحد عدم واحد البدیل لوجودها، کما إنّ نقیض الطبیعة المطلقة الساریة إلی جمیع أفرادها الموجودة أعدام متعددة بعدد أفرادها فی الخارج، وعلی الجملة فلا فرق بین صرف الوجود وصرف الترک، فکما إن الأول یتحقق بأول وجود الطبیعة فی الخارج فی الآن الأول فکذلک الثانی و هو صرف الترک، فإنه یتحقق بأول ترکها فیه، فما هو المشهور من أنّ صرف الترک لایتحقق إلا بترک کافة أفراد الطبیعة العرضیة و الطولیة، مبنی علی نقطة خاطئة و هی تخیل أنّ التقابل بینه وبین صرف الوجود من تقابل التناقض فلایمکن الجمع بینهما مع أن الأمرلیس کذلک، لأن الطبیعة التی لاتنتفی إلا بانتفاء جمیع أفرادها هی الطبیعیة الملحوظة بنحو الانحلال و السریان إلی تمام أفرادها، ومن الطبیعی إنّ عدم مثل هذه الطبیعة الذی هو بدیلها ونقیضها لایمکن إلاّ بعدم تمام أفرادها فی الخارج، ولکن أین هذا من الطبیعة التی توجد فی الخارج بوجود فرد منها فی آن، فإن المقابل لهذه الطبیعة لیس إلاّ انعدامها بعدم ذلک الفرد فی هذا الآن، بداهة إن الوجود الواحد لایعقل أن یکون نقیضاً لعدم الطبیعة بتمام أفرادها بل له عدم واحد و هو نقیضه وبدیله، و أما المقابل للطبیعة التی یتوقف عدمها علی انعدام جمیع أفرادها العرضیة و الطولیة، هو الطبیعة الملحوظة بنحو الانحلال و السریان إلی تمام أفرادها کذلک، لا الطبیعة المهملة التی توجد فی ضمن فرد واحد، نعم هناک شیء و هو أن الطبیعة إذا وجدت فی ضمن أفرادها العرضیة مرة واحدة

ص:261

فی آن فارد، صدق صرف الوجود علی الجمیع، لأن صدقه علی الفرد المردد فی الخارج غیر معقول وصدقه علی الفرد المعین دون الآخر ترجیح من غیر مرجح، فإذن لامحالة یصدق علی الجمیع، وکذلک صرف الترک، فإنه یصدق علی جمیع تروک الطبیعة فی هذا الآن بنفس الملاک.

فالنتیجة، إنّ نقیض الواحد واحد ولایعقل أن یکون متعدداً، کیف فإن نقیض کل شیء عدمه البدیل له، و هذا واضح ولاحاجة إلی إطالة الکلام فیه بأکثر من ذلک.

ومن هنا یظهر إنّ نظریة المشهور من أن النهی موضوع للطلب المولوی ومتعلقه صرف الترک و هو لایتحقق إلاّ بترک تمام أفراد متعلقه من العرضیة و الطولیة خاطئة بتمام نقاطها:

الاُولی: ما مرّ من أنّ النهی لم یوضع للطلب المولوی بل موضوع للحرمة المولویة.

الثانیة: إنّ متعلقه الفعل لا الترک.

الثالثة: علی تقدیر تسلیم إنّ متعلقه صرف الترک إلاّ انّک عرفت أن صرف الترک یتحقق بترک الطبیعة فی أول أزمنة الامکان ولایتوقف علی ترکها بترک کافة أفرادها طولاً وعرضاً.

و قد تقدم إنّ صرف الترک کصرف الوجود فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، فإذن کون متعلق النهی صرف الترک لایتطلب انحلاله وسریانه إلی تمام أفراده فإنه بحاجة إلی مبرّر، هذا ولکن المحقق النائینی قدس سره(1) قد ذکر مبرراً آخر لانحلال

ص:262


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 122.

متعلق النهی علی ضوء هذه النظریة و هی نظریة المشهور، بتقریب إنّ ترک الطبیعة الذی هو متعلق النهی إن کان مأخوذاً فانیاً فی تروک أفرادها الخارجیة العرضیة فینحل إلی طلب ترک کل واحد منها فی عرض واحد، و إن کان مأخوذاً فانیاً فی أفرادها الطولیة فانحلاله منوط بأحد أمرین:

الأول: أن یکون الزمان مأخوذاً قیداً للمتعلق بأن یکون شرب الخمر فی کل زمان محکوماً بالحرمة.

الثانی: أن یؤخذ الزمان ظرفاً للحکم، بمعنی إنّ الطلب المتعلق بترک الطبیعة مستمر فی طول الأزمنة ولایکون ثابتاً فی فترة خاصة فقط، وحیث إنّ أخذه أی الزمان فی ناحیة المتعلق بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه، فإذن مقتضی الاطلاق ومقدمات الحکمة هو استمرار الحکم باستمرار الزمان.

والجواب: إنّ ما أفاده المحقق النائینی قدس سره مبنی علی نظریة المشهور القائلة بأن مفاد النهی هو الطلب المولوی ومتعلقه الترک، و قد تقدم إنّ هذه النظریة باطلة ولایمکن الالتزام بها لاثبوتاً ولا اثباتاً هذا، إضافة إلی أنّ ما ذکره قدس سره توجیه وتبریر لنظریة المشهور القائلة بأن صرف الترک یتوقف علی ترک الطبیعة بتمام أفرادها وإلاّ فنفس النظریة لاتقتضی ذلک.

فالنتیجة، إنّ النظریة الاُولی لاتتطلب ثبوتاً وبنفسها إنّ المجعول أحکاماً متعددة بعدد تروک أفراد الطبیعة.

و أما النظریة الثانیة: و هی نظریة السید الاُستاذ قدس سره، فهی أیضاً لاتقتضی ثبوتاً الانحلال و السریان إلی تمام أفردا الطبیعة، لأن مفاد النهی علی ضوء هذه النظریة عبارة عن الدلالة علی إبراز الأمر الاعتباری النفسانی و هو حرمان المکلف عن الطبیعة، ولایدل علی أن اعتبار الشارع حرمان المکلف عن صرف

ص:263

وجودها أو عن تمام وجودها من العرضیة و الطولیة مطلقاً أو فی بعض الأزمنة، وإنما یدل علی إبراز الأمر الاعتباری، و أما إنّ ذلک الأمر الاعتباری متعدد أوغیر متعدد فهو ساکت عن ذلک.

اختلاف الأمر و النهی بحسب المختار و هی النظریة الثالثة

و أما النظریة الثالثة: و هی المختار فی المسألة، فإن النهی علی ضوء هذه النظریة یختلف عن الأمر فی جمیع المراحل أی من مرحلة المبادی إلی مرحلة الامتثال ویشترک معه فی المتعلق فحسب هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إنه یدل علی الحرمة بالدلالة الوضعیّة ولایدل علی انحلالها إنحلال أفراد متعلقه فی الخارج.

فالنتیجة، إنّ النهی علی ضوء جمیع النظریات فی تفسیره لایدل علی الانحلال بالدلالة الوضعیة کما إنّ الأمر بتمام الأقوال فیه لایدل علی عدم الانحلال کذلک.

الجهة الثالثة: إنّ الحکم فی طرف النّهی إنحلالی بانحلال أفراد متعلقه بنحو العموم الاستغراقی

اشارة

إنّ المعروف و المشهور بین الأصحاب إنّ الحکم فی طرف النّهی إنحلالی بانحلال أفراد متعلقه بنحو العموم الاستغرافی، فإذا نهی المولی عن شرب الخمر، فهناک تحریمات عدیدة بعدد أفراد الشرب من الأفراد العرضیة و الطولیة، بینما یکون الحکم فی طرف الأمر واحد وغیر منحل بإنحلال أفراد متعلقه، و هذا القول هو الصحیح ولا مناص من الالتزام به، وإنما الکلام فی منشأ ذلک، ولایمکن أن یکون منشأ ذلک اختلافهما فی المبادی ولا اختلافهما فی المجعول وعلی هذا. فلنا دعویان:

الاُولی: إن اختلاف الأمر و النهی فی المبادی لایصلح أن یکون منشأً لانحلال النهی دون الأمر وکذلک اختلافهما فی المجعول.

الثانیة: إن هناک منشأً آخر کذلک وسوف نشیر إلیه.

ص:264

أما الدعوی الاُولی: فلأن قیام مفسدة ملزمة فی الفعل یتصور فی مقام الثبوت علی صور:

الاُولی: إنّها قائمة بصرف وجوده ولازم ذلک إنّ المحرم هو صرف الوجود، فلو عصی المکلف وأوجده فی ضمن فرد ما، فقد ارتکب محرماً واستحق العقوبة، و أما الوجود الثانی و الثالث وهکذا فلایکون محرماً.

الثانیة: إنّها قائمة بمطلق وجوده بنحو العموم الاستغراقی من الوجودات العرضیة و الطولیة.

الثالثة: إنها قائمة بمجموع أفراده بنحو العموم المجموعی فیکون المجموع محرماً بحرمة واحدة شخصیة، ولازم ذلک هو أن المبغوض ارتکاب المجموع بما هومجموع فلا أثر لارتکاب البعض.

الرابعة: إنها قائمة بعنوان بسیط و هو مسبب من وجود تلک الأفراد فی الخارج، وکذلک الحال فی المصلحة، فإن قیامها بالفعل أیضاً یتصور فی مقام الثبوت علی صور:

الاُولی: أن تکون قائمة بصرف وجود الفعل فی الخارج.

الثانیة: أن تکون قائمة بمطلق وجوده بنحو العموم الاستغراقی.

الثالثة: أن تکون قائمة بمجموع وجوداته بنحو العموم المجموعی.

الرابعة: أن تکون قائمة بعنوان بسیط متولد من الوجودات الخارجیة.

والخلاصة: إنّ اختلافهما ثبوتاً فی المبادی لایتطلب ذلک وکذلک اختلافهما فی المجعول، فإنه لایقتضی هذا الاختلاف بینهما، لأن المجعول الوجوب فی باب الأوامر و هو لایتطلب بنفسه أنّ متعلقه صرف الوجود، والمجعول الحرمة فی باب

ص:265

النواهی و هی لاتتطلب بنفسها أنّ متعلقها مطلق الوجود بنحو العموم الاستغراقی، فإذن لایکون منشأ هذا الاختلاف بینهما اختلافهما فی المبادی ولا اختلافهما فی المجعول هذا بحسب مقام الثبوت.

و أما الدعوی الثانیة، فقد ذکر السید الاُستاذ قدس سره(1) إنّ الفرق بین الأمر و النهی إنما هو فی مقام الاثبات و الدلالة، بمعنی إنّ إطلاق متعلق النهی شمولی فیکون المطلوب مطلق الوجود بینما اطلاق متعلق الأمر بدلی، فیکون المطلوب صرف الوجود، و قد أفاد فی وجه ذلک إنّ مقتضی الاطلاق ومقدمات الحکمة فی متعلق النهی الشمول وفی متعلق الأمر البدل، و هذا لا من جهة إنّ مدلول مقدمات الحکمة فی مورد الاطلاق الشمولی وفی مورد آخر الاطلاق البدلی، لأن مدلول المقدمات واحد و هو اثبات الاطلاق، و أما کون هذا الاطلاق شمولیاً أو بدلیاً فهو خارج عن مدلولها وبحاجة إلی قرینة لأنها لاتدل علیه.

ومن هنا ذکر قدس سره إن خصوصیة البدلیة فی متعلق الأمر إنما هی من جهة خصوصیة المورد، فإنها تقتضی أنّ اطلاقه بدلی ولایمکن أن یکون شمولیاً، وخصوصیة الشمولیة فی متعلق النهی إنما هی من جهة مقدمة خارجیة و هی تقتضی أن اطلاقه شمولی، بیان ذلک:

إنه إذا ورد أمر بالصلاة کما إذا قال المولی: (صلّ)، فلایمکن أن یکون إطلاق الأمر بها شمولیاً ومتعلقاً بتمام أفرادها بنحو العموم الاستغراقی لأنه من التکلیف بغیر المقدور و هو محال، و أما تعلقه بحصة خاصة منها و إن کان ممکناً ثبوتاً، إلاّ أنه مدفوع بالاطلاق ومقدمات الحکمة، وعلیه فاستحالة کون الاطلاق شمولیاً قرینة قطعیة علی أنّ المراد منه الاطلاق البدلی، لأن مقدمات الحکمة تعین إطلاق

ص:266


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 106.

الأمر بالصلاة فقط، و أما أنه شمولی أو بدلی فالمقدمات لاتدل علی شیء من ذلک، واستحالة کون هذا الاطلاق شمولیاً تعین إنه بدلی، ومن هنا یظهر أن وحدة الحکم فی باب الأوامر فیما إذا کانت متعلّقة بالطبایع الکلیة وعدم انحلاله مرتبط بعنصرین:

الأول: تمامیة مقدمات الحکمة.

الثانی: إستحالة کون الأمر المتعلق بها شمولیاً، والعنصر الأول یعین اطلاق الأمر بالطبیعة و الثانی یعین أنه بدلی وأن متعلق الأمر صرف الوجود لامطلق الوجود.

و هذا بخلاف النهی، فإنه إذا ورد نهی عن شیء کما إذا قال المولی: (لاتشرب الخمر) مثلاً، فلایمکن أن یکون إطلاق النهی عن شرب الخمر بدلیاً بأن یکون النهی متعلقاً بصرف شربها، بداهة أنّ لازم ذلک تحقق الامتثال بترک شرب الخمر مرة واحدة و هو یتحقق طبعاً وقهراً من کل مکلف، فإذن یکون النهی عن شرب الخمر لغواً محضاً وجزافاً علی أساس أنّ وجوده وعدمه علی حدّ سواء، و أما تعلقه بحصة خاصة من شرب الخمر أو بمجموع أفراده بنحو العموم المجموعی و إن کان ممکناً، إلاّ أنه مدفوع بالاطلاق ومقدمات الحکمة، فإذن تکون استحالة الاطلاق البدلی قرینة قطعیّة علی أن المراد منه الاطلاق الشمولی بنحو الاستغراق، وعلی هذا فالاطلاق الشمولی مدلول لاستحالة الاطلاق البدلی لا لمقدمات الحکمة، لما عرفت من أنها تثبت الاطلاق، و أما کونه شمولیاً أو بدلیاً، فالمقدمات ساکتة عن ذلک وإنما تثبت هذا بقرینة استحالة البدلیة وبالعکس.

ومن هذا القبیل إطلاقات أدلة الأحکام الوضعیة بالنسبة إلی متعلقاتها،

ص:267

کقوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» (1) ، و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (2) ، و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (3) وما شابه ذلک، والسبب فیه إنّ مقدمات الحکمة تثبت إطلاق البیع و التجارة و العقد و إنّ الحکم ثابت لها بنحو الاطلاق فی مقابل ثبوته لحصة خاصة منها، و أما إنّ هذا الاطلاق شمولی ویعمّ جمیع أفرادها بنحو العموم الاستغراقی أوبدلی، فلایشمل إلاّ فرداً واحداً منها علی البدل، فالمقدمات لاتدلّ علی شیء منهما، لأن خصوصیة الشمولیة و البدلیة خارجة عن مدلول المقدمات، وحیث إنّه لایمکن أن یکون إطلاقها بدلیّاً بأن تکون الحلیة مجعولة لفرد ما من البیع أو التجارة أو العقد.

بداهة إنّ جعل الحلیة له لغو، لأن فرد منها یتحقق فی الخارج طبعاً فلا محالة یکون شمولیاً، فإذن استحالة کون إطلاقها بدلیاً قرینة قطعیّة علی أنه شمولی یشمل جمیع أفرادها من العرضیة و الطولیة بعدما لم تکن قرینة علی التقیید بخصوصیة زائدة لا من الداخل ولا من الخارج، وعلی هذا فنفس الاطلاق مستندة إلی مقدمات الحکمة، وشمولیته لتمام أفراد الطبیعة بنحو العموم الاستغراقی مستندة إلی قرینة اخری و هی خصوصیة المورد.

ومن هذا القبیل أیضاً قوله تعالی:«وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» (4) وماشاکله، لأن مقدمات الحکمة الجاریة فیه تثبت إطلاق الماء وأن الطهور مجعولة له فی مقابل جعلها لحصة خاصة منه، لأن جعلها له بحاجة إلی قرینة، وحیث إنه لاقرینة علی التخصیص بحصة خاصة، فمقتضی المقدمات الاطلاق وعدم

ص:268


1- (1) - سورة البقرة آیة 275.
2- (2) - سورة النساء آیة 29.
3- (3) - سورة المائدة آیة 1.
4- (4) - سورة الفرقان آیة 48.

التخصیص بها، و أما أنّ هذا الاطلاق الذی هو مدلول المقدمات هل هو شمولی فیشمل جمیع أفراد الماء فی الخارج أو بدلی فیعمّ فرد ما علی البدل، فالمقدمات ساکتة عن ذلک ولا تدل علی شیء منهما، وحیث إنّ کون الاطلاق فی المقام بدلیاً لغو محض، بداهة إنّ معنی ذلک هو أنّ الظهور فی الآیة الشریفة مجعولة لفرد ما من الماء فی العالم، ومن الواضح أنّه لایترتب علی هذا الجعل أی أثر فلهذا یکون لغواً، وعلیه فاستحالة کون هذا الاطلاق بدلیاً فی الآیة الشریفة قرینة قطعیة علی أنّه شمولی بعد ما لم تکن قرینة علی التقیید بخصوصیة زائدة، فبضمّ هذه القرینة و هی خصوصیة المورد إلی المقدمات یثبت کون الاطلاق شمولیاً، و هذا بخلاف ما إذا قال المولی لعبده جئنی بماء أو ماشاکله، لأن الاطلاق الثابت بمقدمات الحکمة فیه وفی أمثاله لایمکن أن یکون شمولیاً، لاستحالة أن یأمره المولی بالاتیان بجمیع أفراد الماء لأنه غیر قادر علیه، و هذه الاستحالة قرینة قطعیة علی أنه بدلی بعدما لم ینصب المولی قرینة علی التقیید بحصة خاصة من الماء، مع أنّ کلمة الماء فی هذا المورد وفی الآیة الشریفة مستعملة فی معنی واحد، ولکن خصوصیة تعلق الحکم به فی هذا المورد تختلف عن خصوصیة تعلقه به فی مورد الآیة الشریفة، فاختلاف النتیجة نشأ من الاختلاف فی خصوصیة المورد و هی تقتضی کون الاطلاق الثابت بمقدمات الحکمة فی مورد الآیة شمولیاً وفی المقام بدلیاً، هذا ملخص ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره.

تعلیق بعض المحققین قدّس سرّه علی السید الأستاذ قدّس سرّه و الرد علیه
اشارة

و قد علق علیه بعض المحققین قدس سره بنقطتین(1):

الاُولی: إنّ استفادة الشمولیة فی کل مورد لیس بمیزان لغویة البدلیة فیه وبالعکس، بل فی کثیر من الموارد یکون کل من الاطلاق البدلی و الشمولی

ص:269


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 3 ص 16.

معقولاً فیها، ومع ذلک مناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة العرفیة تعیّن أحدهما، وذلک کما فی موضوعات الأوامر لا فی متعلقاتها، فإذا قال المولی أکرم العالم، فإنه لاشبهة فی أنّ مقتضی الاطلاق بالنسبة إلی الموضوع و هو العالم الشمولیة وثبوت وجوب الاکرام لکل فرد من أفراد طبیعی العالم مهما کان لونه، مع أنه لا استحالة ولا لغویة فی أن یکون الموضوع بدلیاً، بأن یکون الواجب هوإکرام عالم ما فقط ولا مانع من ذلک.

والخلاصة: إنّ إرادة کل من الشمولیة و البدلیة معقولة بالنسبة إلی الموضوع فی المثال وعلی حدّ سواء، و هذا دلیل علی أنّ وراء مسألة استحالة البدلیة فی مورد و الشمولیة فی آخر توجد نکتة اخری و هی التی تقتضی البدلیة أو الشمولیة فیه، ثم ذکر قدس سره إنّ النکتة التی تتوفّر فی موضوع الأمر وتقتضی انحلاله بانحلال أفراده وکون اطلاقه شمولیاً هی أنه مأخوذ مفروض الوجود فی الخارج فی مقام الجعل وبذلک یمتاز عن متعلق الأمر، لأنه لایمکن أن یؤخذ مفروض الوجود فیه وإلاّ کان طلبه من طلب الحاصل، فإذا کان الموضوع کطبیعی العالم فی المثال مأخوذاً مفروض الوجود فی المرتبة السابقة علی الحکم، فبطبیعة الحال یتعدد الحکم فیه بتعدد أفراده ومصادیقه، لأن الموضوع هو العالم الموجود فی الخارج و هو متعدد وبتعدده یتعدد الحکم لا محالة، وإلاّ لزم خلف فرضی کون الموضوع متعدداً، و هذا بخلاف متعلق الحکم، فإنه حیث لم یؤخذ مفروض الوجود فی الخارج فلایتعدد بتعدد وجوده فیه، وبکلمة واضحة إن الاحکام الشرعیة مجعولة بنحو القضایا الحقیقیة للموضوعات المقدّرة وجودها فی الخارج، و هذه القضایا الحقیقیة ترجع لباً إلی القضایا الشرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت الحکم له، والحکم حیث إنّه مرتبط بالشرط فلا محالة یتعدد بلحاظ تعددّه، و أما المتعلق فحیث إنّه لم یؤخذ مفروض الوجود فی مقام

ص:270

الجعل، فلایکون مرتبطاً به کارتباطه بالموضوع، فلهذا لایتعدد بلحاظ تعدّده، ومن هنا قال قدس سره إنّ الأصل فی الموضوعات هو الاطلاق الشمولی و الأصل فی المتعلقات هو الاطلاق البدلی، والمستثنی من الأصل الأول ما إذا کان الموضوع منوناً بالتنوین من قبیل أکرم عالماً، فیکون الاطلاق حینئذٍ بدلیاً من جهة أنّ تنوین التنکیز ظاهر فی أخذ قید الوحدة وصرف الوجود فیه و هذا لاینسجم مع الشمولیة، والمستثنی من الأصل الثانی متعلقات النواهی، فإنه یستفاد منها إنّ کل فرد من المتعلق موضوع مستقل للنّهی، و هذا هو معنی الشمولیة وانحلاله بانحلال متعلقه، والقرینة علی ذلک غلبة نشوء النّهی عن المفسدة وغلبة کون المفسدة انحلالیة هذا.

ویمکن المناقشة فیه أولاً: إنّ کلام السید الاُستاذ قدس سره لیس ناصاً فی حصرسبب شمولیة الاطلاق فی مورد باستحالة البدلیة فیه وبالعکس، فإن کلامه قدس سره ناصّ فی أنّ الشمولیة أو البدلیة لیست مدلولاً لمقدمات الحکمة و إن مدلولها ثبوت الاطلاق فقط وعدم التقیید بحصة خاصة، و أما کون الاطلاق شمولیاً أو بدلیاً فهو خارج عن مدلولها وناشیء عن خصوصیة المورد، ومن الواضح إن خصوصیة المورد تختلف بإختلاف الموارد، فقد تکون الخصوصیة استحالة البدلیة و قد تکون استحالة الشمولیة و قد تکون هناک خصوصیة اخری لا هذه ولا تلک، و إن کان ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من الأمثلة یتضمن الخصوصیة الاُولی و الثانیة فحسب، إلاّ أنّ ذلک من باب المثال فلا یدل علی الاختصاص.

وثانیاً: الظاهر إنّ محل کلام السید الاُستاذ قدس سره فی کون الاطلاق الثابت بمقدمات الحکمة هل هو شمولی أو بدلی، إنما هو فی متعلقات الأحکام التکلیفیة من الأوامر و النواهی أو الأحکام الوضعیة لا فی موضوعاتها، لأن حال

ص:271

الموضوع یختلف عن المتعلق فی نکتة الشمولیة أو البدلیة، فإن المتعلق حیث إنّه لم یؤخذ مفروض الوجود فی مقام الجعل، فلا تستند شمولیته أو بدلیته إلی ذلک، و أما الموضوع فحیث إنّه مأخوذ مفروض الوجود فی لسان الدلیل فی هذا المقام، فإن کان المأخوذ فیه الطبیعی الجامع فبطبیعة الحال یتعدد الحکم بتعدد انطباقه علی أفراده فی الخارج کما فی مثل قوله أکرم العالم، فإن المأخوذ فی لسان الدلیل مفروض الوجود، حیث إنه طبیعی العالم فلا محالة یتعدد وجوب الاکرام بتعدد انطباقه علی أفراده فیه، و هذا هو معنی شمولیة إطلاق الموضوع من جهة الحکمة وأخذه مفروض الوجود فی مرحلة الجعل بدون قید الوحدة، و إن کان المأخوذ مفروض الوجود فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل عنوان لاینطبق إلاّ علی وجود واحد فیه فإطلاقه بدلی، باعتبار إنّه لاینطبق إلاّ علی فرد واحد علی البدل فی الخارج، فالبدلیة مستفادة من أخذ ما یدل علی أن الموضوع المأخوذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل فرد واحد لا علی التعیین لا من مقدمات الحکمة، فإذن کون الاطلاق فی طرف الموضوع شمولیاً أو بدلیاً مرتبط بکیفیة أخذه مفروض الوجود فی مرحلة الجعل، فإن أخذ طبیعی الموضوع مفروض الوجود فیها، کان اطلاقه الثابت بمقدمات الحکمة شمولیاً علی أساس تعدد الحکم بتعدد انطباقه علی أفراده فی الخارج، و إن أخذ الموضوع مفروض الوجود فیها بقید الوحدة کقوله اکرم عالماً، کان اطلاقه الثابت بمقدمات الحکمة بدلیاً فالبدایة ناشئة من قید الوحدة المأخوذة فیه لا من مقدمات الحکمة، وبذلک یظهر أن ما ذکره قدس سره من أنّ الأصل فی الموضوعات هو الاطلاق الشمولی لایمکن المساعدة علیه، لأن الشمولیة أو البدلیة فیها مرتبطة بکیفیة أخذ الموضوع مفروض الوجود فی مرحلة الجعل، فإن کان المأخوذ مفروض الوجودطبیعی الموضوع فالاطلاق شمولی و إن کان المأخوذ مفروض الوجود مقیداً بقید

ص:272

الوحدة فالاطلاق بدلی، فلیس هنالک أصل یقتضی أنّه مأخوذ علی النحو الأول دون الثانی، إلاّ أن یکون مراده من ذلک أن التقیید خلاف الأصل، و أما فی المتعلقات فقد تقدم أنّ الأمر یدل بالدلالة الوضعیة علی جعل الوجوب للطبیعة من دون دلالته علی أنه بدلی، والنهی یدل کذلک علی جعل الحرمة للطبیعة من دون دلالته علی أنها شمولیة، و أما مقدمات الحکمة فهی إنما تثبت اطلاق المتعلق وإنه غیر مقیّد بحصة خاصة فی مقابل تقییده بها، و أما إن هذا الاطلاق شمولی أوبدلی، فالمقدمات لاتدل علی ذلک، وإنما تستفاد الشمولیة فی متعلقات النهی من جهة خصوصیة فیه، وتلک الخصوصیة تقتضی استحالة البدلیة فیها لأنها لغووتعیّن الشمولیة، و أما فی متعلقات الأمر فالمستفاد فیها البدلیة من جهة خصوصیة فیه و هی تقتضی استحالة الشمولیة فیها وتعیّن البدلیة، فإذن لیس هنالک أیضاً أصل أولی یقتضی البدلیة فی المتعلقات إلا ما خرج بالدلیل.

فالنتیجة، إن کون الاطلاق شمولیاً أو بدلیاً سواءً أکان فی جانب الموضوعات أم کان فی جانب المتعلقات إنما هو بدال آخر غیر مقدمات الحکمة، فإنها تثبت الاطلاق فقط، والدال الآخر یختلف باختلاف الموارد، فلیس لذلک ضابط کلی بل لابد فی کل مورد من ملاحظة الخصوصیة فیه وإنها تتطلب الاطلاق البدلی أو الشمولی.

وثالثاً: ما ذکره قدس سره من أن منشأ الشمولیة فی باب النواهی هو غلبة نشوء النهی عن المفسدة فی متعلقه وغلبة کون المفسدة إنحلالیة بعدد أفراده غیر تام، وذلک لأن منشأ انحلال الحرمة بانحلال أفراد متعلقها إنما هو استحالة جعل الحرمة لمتعلقها علی البدل، لأن جعلها کذلک لغو محض، فإذن لا محالة تکون الحرمة مجعولة لمتعلقها بنحو العموم الاستغراقی یعنی لکل فرد من أفراد متعلقها.

ص:273

وعلیه فدلالة النهی المتعلق بالطبیعة کالنهی عن الکذب أو الغیبة أو شرب الخمر أو ماشابه ذلک علی أن کل فرد من أفراد متعلقه موضوع مستقل للحرمة، إنما هی بنکته إستحالة أن یکون النهی المتعلق بها بنحو البدلیة، فإذن بطبیعة الحال یکون بنحو الشمولیة، فإذا کان النهی بنحو الشمول و العموم، فهو یکشف عن وجود مفسدة فی کل فرد من أفراد متعلقه، وإلاّ فلا طریق لنا إلی ذلک.

عناصر شمولیة النهی لجمیع أفراد متعلق

و إن شئت قلت: إن شمولیة النهی لجمیع أفراد متعلقه وسرایته منه إلیها منوطة بثلاثة عناصر:

الأول: إن مناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة القطعیّة عند العرف و العقلاءتقتضی عدم الفرق بین أفراد الحرام کأفراد الکذب مثلاً أو الغیبة أو شرب الخمرأو قتل النفس المحترمة أو غیرها، بداهة إنه لایمکن القول بأن الفرد الأول منهامحرم ومشتمل علی مفسدة ملزمة دون الفرد الثانی و الثالث وهکذا.

العنصر الثانی: إنّ جعل الحرمة لصرف وجود شرب الخمر أو الکذب لغومحض، ضرورة أنّ ترک الانسان شرب الخمر مثلاً مرة واحدة فی طول عمره وکذا سائر المحرمات أمر طبیعی ولا معنی لجعل الحرمة له.

العنصر الثالث: إطلاق دلیل النهی، فإن مقتضاه بمعونة مقدمات الحکمة إثبات اطلاق متعلقه، و أما کونه شمولیاً أو بدلیاً فالمقدمات لاتدل علی ذلک، ولکن بضمّ هذا العنصر إلی العنصرین الأولین فالمجموع ینتج الاطلاق الشمولی.

نتیجة البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی أنّ إطلاق متعلقات الأوامر الثابت بمقدمات الحکمة بدلی علی أساس مقدمة خارجیة و هی استحالة کونه شمولیاً، بینما اطلاق متعلقات النواهی الثابت بمقدمات الحکمة شمولی علی أساس خصوصیة خارجیة و هی استحالة کونه بدلیاً، ولیس منشأ شمولیته لتمام أفراد

ص:274

المتعلق غلبة نشوء النهی عن المفسدة وغلبة کون المفسدة انحلالیة، وذلک لأنه لاطریق لنا إلی اشتمال کل فرد منه علی المفسدة إلاّ من طریق اثبات اطلاقه الشمولی، وإلاّ فمن أین یعلم أنّ المفسدة الواقعیة غالباً تکون انحلالیة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إنّ الاطلاق فی جانب الموضوعات الثابت بمقدمات الحکمة شمولی إذا کان المأخوذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل طبیعی الموضوع القابل للانطباق علی کل مایصلح أن یکون مصداقاً له بدون تقییده بقید زائد، فحینئذٍ لا محالة یتعدد الحکم بتعدد الانطباق علی ما فی الخارج، وبدلی إذا کان المأخوذ مفروض الوجود المقید بقید الوحدة علی تفصیل تقدّم.

کلام السید استاذ قدّس سرّه و المناقشة فیه
اشارة

النقطة الثانیة: إنّ ما ذکر السید الاُستاذ قدس سره من أنّ ملاک البدلیة فی متعلقات الأوامر استحالة الشمولیة فیها غیر تام، إمّا بناءً علی مسلک السید الاُستاذ قدس سره من أنّ القدرة شرط فی ظرف الامتثال فحسب فالخطاب الشرعی مطلق، فیشمل کل فرد من أفراد المتعلق سواءً أکان مقدوراً أم لا، غایة الأمر إنّ الامتثال اللازم بحکم العقل یختص بالمقدور منها، فعندئذٍ لامانع من أن یکون اطلاق المتعلق شمولیاً، و أما إذا قلنا بأن القدرة شرط فی الخطاب، غایة الأمر إنّ الکاشف عنه العقل وإلاّ فلایعقل أن یکون العقل مشرعاً، غایة الأمر إنّ القدرة قد تکون مأخوذة فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل و قد یکون الحاکم باعتبارها العقل، وعلی الثانی تکون القدرة قیداً للخطاب لباً و هو کالمقیّد المتصل مانع عن انعقاد ظهور المطلق فی الاطلاق، ولا ینعقد له ظهور إلاّ فی خصوص الحصّة المقدورة، وعلی هذا فالاطلاق شمولی فی دائرة هذه الحصة ولا مانع منه ولایکون مستحیلاً، لأنه لیس من التکلیف بغیر المقدور بل هو من التکلیف

ص:275

بالمقدور هذا.

ویمکن المناقشة فیه، أولاً: إنّ معنی اعتبار القدرة بحکم العقل إنه کاشف عن أنها قید للخطاب لباً من باب قبح تکلیف العاجز، ولایحکم بأنها قید للملاک فی مرحلة المبادی لعدم الطریق له إلیه فی تلک المرحلة، وعلی هذا فالخطاب مقید دون الملاک، فإذا کان الملاک مطلقاً لزم محذور التکلیف بغیر المقدور، باعتبار أنّ الخطاب بما هو اعتبار لا قیمة له، وتمام القیمة إنما هو بالملاک الذی هو حقیقة التکلیف وروحه.

ولکن هذه المناقشة غیر تامة، وذلک لأن القدرة إذا کانت قیداً للخطاب لبّاً و إن لم تکن قیداً للملاک فی مرحلة المبادی إلاّ أنها تمنع عن انعقاده ظهوره فی الاطلاق، وعلی هذا فالفرد غیر المقدور و إن احتمل اشتماله علی الملاک باعتبارأنه غیر مشروط بالقدرة إلاّ أنه لا طریق لنا إلی ذلک، فإذن حال هذه الصورة حال صورة ما إذا کانت القدرة مأخوذة فی لسان الدلیل أو کان اعتبارها باقتضاء نفس الخطاب، فإن المأمور به علی جمیع هذه الأقوال هو الحصة المقدورة، ولامانع من أن یکون إطلاق الخطاب بالنسبة إلیها شمولیاً، ولایلزم من ذلک ماذکره قدس سره من المحذور و هو التکلیف بغیر المقدور.

وثانیاً: إن اطلاق الأمر بالنسبة إلی الحصة المقدورة الثابت بمقدمات الحکمة و إن کان لا مانع من أن یکون شمولیاً، حیث لایلزم منه التکلیف بالمحال، إلاّ أنّ هناک نکتة اخری تمنع عن کون إطلاق الأمر شمولیاً بالنسبة إلی الحصة المقدورة أیضاً و هی مناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة العرفیّة، فإنها تقتضی أنّ المطلوب من الأمر المتعلق بالطبیعة إیجادها فی الخارج، ومن الطبیعی إنّها توجد بإیجاد فرد منها، و أما إیجادها مرة ثانیة فی ضمن فرد آخر فهو بحاجة إلی دلیل

ص:276

یدلّ علیه، وإلاّ فالأمر المتعلق بها لا یقتضی أکثر من إیجادها فی الخارج و هویتحقق بإیجاد فرد منها، ومن هنا یختلف المتعلق عن الموضوع، فإن الموضوع حیث إنّه مأخوذ مفروض الوجود، فلذلک یتعدد الحکم بتعدد وجوده فی الخارج، و هذا بخلاف المتعلق، فإنه حیث لم یؤخذ مفروض الوجود فیه وإلاّ کان طلبه من طلب الحاصل، فیتعلق الأمر بمفهومه الذهنی الفانی فی الخارج، ویکون المطلوب إیجاده فیه و هو یتحقق بوجود واحد، و هذا معنی إنّ اطلاقه بدلی لاشمولی لا بالنسبة إلی أفراده مطلقاً ولا بالنسبة إلی أفراده المقدورة.

فالنتیجة، إنّ إطلاق المتعلق فی جانب الأمر الثابت بمقدمات الحکمة بدلی، إماعلی أساس استحالة الاطلاق الشمولی أو علی أساس مناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة.

بقی هنا امور:

الأول: إنه لافرق فیما ذکرناه من أن الاطلاق قد یکون بدلیاً و قد یکون شمولیاً بین أن یکون ذلک فی الجملة الانشائیة کما فی بابی الأوامر و النواهی علی تفصیل تقدم، أو الاخباریة کما فی مثل قولنا: جاء رجل ولا رجل فی الدار وما شاکل ذلک، فإن مقتضی الاطلاق ومقدمات الحکمة فی کلتا الجملتین الأخیرتین توسعه مدلوهما، ولکن التوسعة فی الجملة الاُولی بدلیة وفی الثانیة شمولیة، و هذالا من جهة أنّ مقدمات الحکمة تقتضی البدلیة فی الاُولی و الشمولیة فی الثانیة، فإنها لاتقتضی إلاّ بالتوسعة فی مدلول الجملة، و أما کونها بدلیة أو شمولیة، فهوخارج عن مدلولها بل من جهة خصوصیة اخری فی المرتبة السابقة، و هی فی الجملة الاُولی متمثلة فی نسبة المجیء إلی رجل، و هذه النسبة لایمکن أن تکون إلی طبیعی الرجل بما هو فلا محالة تکون إلی فرد منه، وحیث إنّ المتکلم لم ینصب

ص:277

قرینة علی إرادة فرد معین فیه، فالاطلاق بمعونة مقدمات الحکمة یقتضی توسعته إلی کل من ینطبق علیه طبیعی الرجل، ولکن خصوصیّة المورد تمنع عن کون هذه التوسعة شمولیة فلا محالة تکون بدلیة هذا، إضافة إلی أن تنوین التنکیرللرجل یدل علی مجیء رجل واحد علی البدل فی مرحلة التطبیق.

و أما فی الثانیة: فلأن النفی مستند إلی طبیعی الرجل، وحیث إنّ المتکلم لم ینصب قرینة علی أن المراد منه نفی حصة خاصة منه، فمقتضی الاطلاق بمعونة مقدمات الحکمة نفی تمام حصصه فی الدار بنحو العموم الاستغراقی، فالاستغراق و الشمول إنما یستفاد من خصوصیة المورد فی المرتبة السابقة و هی اسناد النفی إلی طبیعی الرجل، وعلیه فضمّ المقدمات إلی الخصوصیة المذکورة فی الجملة الاُولی ینتج العموم البدلی وفی الثانیة العموم الشمولی، مع إن کلمة (الرجل) فی کلتاالجملتین تدل علی معنی واحد و هو طبیعی الرجل الذی هو معناه الموضوع له.

فالنتیجة، إن لسان مقدمات الحکمة توسعة مدلول الدلیل فی مقابل تضییقه، و أما کون هذه التوسعة شمولیة أو بدلیّة فهو مستند إلی سبب آخر فی المرتبة السابقة، کان ضمّه إلی المقدمات فی مورد ینتج التوسعة الشمولیة وفی آخر ینتج التوسعة البدلیة.

الثانی: إنّ ملاک الأمر متمثل فی المصلحة وملاک النهی فی المفسدة، والمصلحة قد تکون مترتبة علی الفعل کما هو الغالب، و قد تکون مترتبة علی الترک، فعلی الأول یکون الواجب الفعل وعلی الثانی الترک وکذلک الحال فی المفسدة، فإنها إن کانت مترتبة علی الفعل فالحرام هو الفعل، و إن کانت مترتبة علی الترک فالحرام هو الترک، وتظهر الثمرة بین قیام المصلحة بالفعل وبین قیامها بالترک فیما یلی، هو أن المصلحة إن کانت قائمة بالفعل فالغالب به أنها قائمة

ص:278

بصرف وجوده، باعتبار أنّه لا طریق لنا إلی ذلک إلاّ من طریق الأمر المتعلق به، والمفروض إنّ المطلوب من ذلک الأمر هو صرف وجوده إذا لم یکن هناک دلیل علی الخلاف، ومن هنا قلنا إنّ اطلاق الأمر بالنسبة إلی أفراد متعلقه بدلی، و إن کانت قائمة بالترک فهی تدعو المولی إلی طلب ترکه، ولایمکن أن یکون متعلق هذا الطلب صرف الترک إلاّ لزم کون الأمر به لغواً، لأن صرف الترک یتحقق فی الآن الأول من الترک، فإذن لا محالة یکون متعلقه مطلق الترک، وحیث إنّ المولی لم ینصب قرینة علی تقییده بحصة خاصة منه، فیکون مقتضی الاطلاق بمقدمات الحکمة بضمیمة خصوصیة المورد وجوب کل فرد من أفراد الترک بنحو العام الشمولی، وبذلک یختلف وجوب الفعل عن وجوب الترک، ومثل لذلک السید الاُستاذ قدس سره بالصوم وبتروک الاحرام(1) ، بدعوی إنّ الواجب فی باب الصوم ترک المفطرات و المصلحة قائمة به وکذلک الحال فی تروک الاحرام، فإنها واجبة علی أساس أن المصلحة قائمة بها ومترتبة علیها لا أنّ فعلها محرم هذا.

ولکن للمناقشة فی کلا المثالین مجالاً، أما المثال الأول فلأن الظاهر من الآیة الشریفة(2) والروایات هو أن الصوم متمثل فی الامساک عن ممارسة المفطرات منها قوله علیه السلام فی صحیحة محمد بن مسلم» لا یضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام و الشراب و النساء...»(3) ، فإنه ظاهر فی أن حقیقة الصوم متقومة بالامساک عن هذه الخصال الثلاث والاجتناب عنها.

فالنتیجة، إنّ المأمور به فی باب الصوم هو الأمر الوجودی لا الأمر العدمی.

ص:279


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 118.
2- (2) - سورة البقرة آیة 187.
3- (3) - الوسائل ج 10 ص 31 ب 1 من أبواب مایمسک عنه الصائم و وقت الامساک ح 1.

و أما المثال الثانی، فلأن الظاهر من روایات تروک الاحرام الناهیة عن الارتماس و التظلیل و الصید و الجماع و النظر بشهوة إلی غیر ذلک هو حرمة هذه الأشیاء علی المحرم لا أن ترکها واجب علیه، والوجه فی ذلک هو أنّ هذه النواهی لاتخلو من أن تکون نواهی إرشادیة، فمفادها الارشاد إلی مانعیة الأشیاء المذکورة عن الاحرام وفی نهایة المطاف عن العمرة و الحج، أو نواهی مولویة تکلیفیة فیکون مفادها حرمة تلک الأشیاء علی المحرم، والأول غیر محتمل لأنه خلاف الضرورة الفقهیة، حیث لا شبهة فی عدم بطلان الحج و العمرة بإرتکابها و إن کان عامداً وملتفتاً إلی عدم جوازه إلا الجماع إذا کان قبل السعی فی العمرة وقبل الوقوف بالمزدلفة فی الحج، فإذن یتعین الاحتمال الثانی و هو کون هذه النواهی، نواهی مولویة تکلیفیة ومفادها حرمة الأشیاء المذکورة علی المحرم بدون إرتباطها بالحج و العمرة.

فالنتیجة، إنّ هذین المثالین لیسا من أمثلة کون الواجب هو الترک.

الثالث: إنه إذا فرض عدم تعدد النهی بتعدد أفراد متعلقه بأن یکون مفاد لاتشرب الخمر مثلاً حرمة واحدة کما هو الحال فی الأمر المتعلق بالطبیعة، لأن مفاده وجوب واحد، وعلی هذا فهل هناک فرق بین هذا النهی و الأمر أو لا؟

والجواب: إن هناک فرقاً بینهما فی کیفیة الامتثال، فإن امتثال الأمر ممکن بإتیان فرد واحد من أفراد الطبیعة، و أما عصیانه فلایمکن إلاّ بترک تمام أفراد الطبیعیة المأمور بها، و أما النهی المتعلق بالطبیعة فلایمکن إمتثاله إلا بترک هذه الطبیعة، ومن الواضح إنّ ترکها لایتحقق إلاّ بترک تمام أفرادها بنحو العموم الاستغراقی ولایکتفی اجتناب بعضها والاتیان ببعضها الآخر، لأنه فی هذه الحالة فقد عصی النهی ولم یمتثله، والنکتة فی ذلک هی أنّ مفاد النهی المتعلق بها الزجر

ص:280

والمنع عنها یعنی عن إیجادها، وامتثاله لایمکن إلاّ بعدم إیجادها فی الخارج و هولایتحقق إلاّ بعدم إیجاد تمام أفرادها، وإلاّ فقد أوجدها فی ضمن فرد ما، نعم لافرق بینهما من حیث السقوط بالعصیان، فکما إنّ الأمر یسقط بالعصیان الملازم لانتفاء موضوعه، فکذلک النهی یسقط بإیجاد الطبیعة المنهی عنها بإیجاد فردهافی الخارج.

الرابع: إنّ الأمر یشترک مع النهی فی المتعلق، لأن متعلق کلیهما الطبیعة ولکنه یختلف عنه فی عدة نقاط:

الاُولی: إنّ نشوء الأمر إنما هو عن المصلحة فی متعلقه بینما کان نشوء النهی عن المفسدة فی متعلقه.

الثانیة: إنّ إطلاق الأمر بالنسبة إلی أفراد متعلقه بدلی إما بملاک استحالة الاطلاق الشمولی أو بملاک مناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة العرفیة، بینماإطلاق النهی بالنسبة إلی أفراد متعلقه شمولی بملاک استحالة الاطلاق البدلی.

الثالثة: إنّ مناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة التی تقتضی کون المطلوب من الأمر صرف وجود الطبیعة قرینة علی أن المصلحة مترتبة علیه، بینما تکون هذه المناسبة الارتکازیة فی باب النهی قرینة علی أنّ المفسدة مترتبة علی مطلق وجود الطبیعة.

الرابعة: إن الأمر یسقط بالعصیان بإسقاط موضوعه علی أساس وحدته، بینما النهی لایسقط به علی أساس تعدّده، فإن المکلف إذا شرب خمراً لایسقط حرمة شربها مرة ثانیة وهکذا.

الخامسة: إنه یکفی فی امتثال الأمر الاتیان بفرد ما من الطبیعة المأمور بها، بینما

ص:281

لایکفی فی امتثال النهی إلاّ الاجتناب عن جمیع أفراد الطبیعة بنحو العموم الاستغراقی، هذا بناء علی انحلال النهی بانحلال أفراد متعلقه واضح، و أما إذا کان النهی واحداً متعلقاً بالطبیعة وغیر منحل کالأمر فأیضاً کذلک، لأن الاجتناب عن الطبیعة لایمکن إلاّ بالاجتناب عن جمیع أفرادها کما مرّ وإلا لم یجتنب عنها.

الکلام فی النواهی الواردة فی أبواب العبادات و المعاملات

بقی الکلام فی النواهی الواردة فی أبواب العبادات و المعاملات کالنهی عن الصلاة فی غیر المأکول و المیتة النجس و الحریر و الذهب وغیرها، فإن مفادها إرشاد إلی أنّ الشارع جعل هذه الاُمور مانعة عن الصلاة وظاهرة فی ذلک عرفاً، منشأ هذا الظهور العرفی لها علی الرغم من أنّ النهی فی نفسه ظاهر فی الحرمة المولویة هو أنّ هذه النواهی لم تتعلق بذات العبادة لکی تکشف عن وجود مفسدة فیها وتکون من النواهی المولویة، بل تعلقت بإیقاعها فی المیتة وغیرالمأکول و النجس وغیرها من الأشیاء، و هذا یوجب انقلاب ظهورها من المولویة إلی ظهورها فی الارشاد إلی مانعیتها وتقید الصلاة بعدمها علی أساس أنّ ملاک هذه النواهی إنما هو قائم بإیقاعها فی المیتة وغیر المأکول لا فی ذاتها.

و إن شئت قلت: إنّ النهی إذا کان من قبیل لاتشرب الخمر ولاتکذب وماشاکلهما، کان ظاهراً فی نشوئه عن وجود مفسدة فی متعلقه ویدل علی حرمته حرمة مولویة، و أما إذا کان من قبیل لاتصل فیما لا یؤکل لحمه أو فی المیتة أو ماشاکلها، فهو ظاهر فی مانعیة لیس ما لایؤکل فی الصلاة و المیتة وهکذا، ولایکون ظاهراً فی حرمة الصلاة فی المیتة وغیر المأکول تکلیفاً، ولایمکن حمل هذه النواهی علی ذلک، لوضوح إنها ظاهرة عرفاً فی أنّ تمام ملاک النهی عنها إنماهو فی إیقاعها فی هذه الأشیاء لا فی نفسها، فإذن لیس منشأه إلاّ مانعیتها، ومن هنا یظهر حال الأوامر الواردة فی أبواب العبادات و المعاملات، فإنها ظاهرة

ص:282

عرفاً فی الارشاد إلی الجزئیة و الشرطیة.

ثم إنّ مانعیة النجاسة عن الصلاة فی مقام الثبوت تتصور علی وجهین:

الأول: أن یکون المانع عن الصلاة صرف وجود النجاسة فی لباس المصلی أوبدنه المتمثل فی الوجود الأول.

الثانی: أن یکون المانع مطلق وجودها، فعلی الأول تکون الصلاة متقیدة بعدم وجودها فی ثوب المصلی أو بدنه بنحو صرف الوجود، ولازم ذلک إن تقید الصلاة بعدم وجودها فیه لایتعدد بتعدد وجوده، وعلی الثانی تکون الصلاة متقیّدة بعدم وجود کل فرد منها فی ثوبه أو بدنه.

ونتیجة ذلک، إنه لایجب علی المصلی تقلیل النجاسة عن ثوبه أو بدنه فی الفرض الأول إذا کان بإمکانه ذلک، ویجب التقلیل فی الفرض الثانی إذا کان ممکناً هذا بحسب مقام الثبوت.

و أما فی مقام الاثبات، فهل الظاهر من النهی عن الصلاة فی النجس الفرض الأول أو الثانی؟

والجواب: إنه الثانی باعتبار أنه إرشاد إلی جعل المانعیة لطبیعی النجس الساری إلی أفراده، وجعلها لصرف الوجود المتمثل فی أول الوجود بحاجة إلی مؤنة زائدة، ولکن قد یقال: إنّ المرتکز فی أذهان العرف العام من النهی عن الصلاة فی ثوب أو بدن نجس، هو أن المانع صرف وجوده فیه ولا أثر للنجاسة الزائدة، فإذا کان مواضع ثوبه أو بدنه نجساً لم یجب علیه تقلیل النجاسة، لأن المانع هو صرف الوجود، فطالما یکون صرف الوجود متحققاً فالمانع موجود، وعلی هذا فإذا تنجس مواضع متعددة من ثوب المصلی أو بدنه دفعة واحدة،

ص:283

فالجمیع مانع بعنوان صرف الوجود، لأن صدقه علی البعض المردّد لایمکن لاستحالة وجوده فی الخارج، وعلی البعض المعیّن دون الآخر ترجیح من غیرمرجح، فإذن لامحالة یصدق علی الجمیع، وحینئذٍ فلایجب علیه تقلیل النجاسة إذا لم یتمکن من إزالة الجمیع، لأن تقلیلها لیس تقلیلاً فی المانعیّة حتی یجب، و إذا تنجّس طرف من ثوبه ثم تنجس طرفه الآخر فلا أثر للثانی، فإذا فرضنا إنّه لایتمکن من إزالة النجاسة عن کلا الطرفین معاً ولکنه کان بإمکانه إزالتها عن أحدهما لم تجب، لأنها لیست من إزالة المانع أو تقلیله، لأن المانع بهذا المعنی غیرقابل للتقلیل هذا، والصحیح إنّ مانعیة النجاسة کمانعیّة غیرها من المیتة ونحوها إنحلالیة، وذلک لأن النهی عن الصلاة فی النجس أو غیر المأکول أو المیتة أو الحریر أو ما شاکل ذلک، ظاهر بحسب الصناعة و الفنّ فی جعل المانعیة للطبیعی الساری إلی أفراده فی الخارج و المنطبق علیها.

ونتیجة ذلک، إنّ کل فرد من أفراد هذه الأشیاء مانع مستقل عن الصلاة، و أما تقیید هذا الجعل بصرف وجودها المتثل فی الوجود الأول من وجوداتها بحاجة إلی دلیل، والإرتکاز العرفی المدعی فی أنّ المانع عن الصلاة هو صرف وجود تلک الأشیاء فی بدن المصلی أو ثوبه، هل هو مانع عن إطلاق أدلتها علی أساس أنه بمثابة القرنیة المتصلة أو لا؟

والجواب: إنه غیر مانع، لأن هذا الارتکاز لیس ارتکازاً عقلائیاً ناشئاً عن الفطرة و الجبلة، بل هو ارتکاز من المتشرعه ومنشأه جعل الشارع تلک الأشیاء مانعاً عن الصلاة، و هذا لیس بدرجة یصلح أن یکون مانعاً عن اطلاقها ویوجب تقییده لباً، وعلی هذا فیجب تقلیل النجاسة إذا لم یتمکن من إزالة الجمیع لأنه تقلیل فی المانعیة، فإذا کانت مواضع من ثوب المصلی متنجسة، فإن

ص:284

کان متمکّناً من تطهیر الجمیع فهو و إن لم یکن متمکناً من ذلک، فحینئذٍ إن کان متمکناً من تطهیر البعض دون الجمیع وجب، ومع هذا لو صلّی بدون تطهیره بطلت صلاته، وکذلک إذا کان فی بدن المصلی ثوبان نجسان، فإن کان قادراً علی نزع أحدهما ومع هذا لم ینزع، فصلاته باطلة.

والخلاصة: إنه یجب تقلیل المانع مهما أمکن سواءً أکان المانع النجاسة أو غیر المأکول أو المیتة أو غیر ذلک، و إذا لم یفعل وصلّی بطلت صلاته، هذا مما لا کلام فیه، وإنما الکلام فی وجوب تقلیل النجاسة کیفاً وهل هو واجب أو لا؟ فیه وجهان:

فذهب السید صاحب العروة قدس سره(1) إلی الوجه الأول، ومثل لذلک بما إذاتنجس ثوب المصلی بالبول، فإنه یجب غسله مرتین، فإذا لم یتمکن إلاّ من غسله مرة واحدة، وجب علیه ذلک تخفیفاً لنجاسته هذا.

والصحیح هو الوجه الثانی، أما أولاً: فلأن النجاسة حیث إنها حکم شرعی فلا واقع لها ماعدا اعتبار الشارع، ومن الواضح إن الاعتبار لا وجود له إلاّ فی عالم الاعتبار و الذهن حتی یتصف بالشدة و الضعف کما هو الحال فی جمیع الأحکام الشرعیة، فإنها امور اعتباریة لا واقع موضوعی لها ماعدا وجودها الاعتباری فی الذهن، ولهذا لایعقل أن یتصف الاعتبار بنفسه بالشدة أو الضعف، نعم إنّ هذه الاعتبارات من الشارع حیث إنه لایمکن أن تکون جزافاً، فلا محالة تکون مبنیة علی نکتة مبررة لجعلها واعتبارها، وتلک النکتة هی ملاکاتها الواقعیة فی مرحلة المبادی، و هذه الملاکات امور واقعیة تتصف بالقوة و الضعف، ولهذا یکون ملاک بعض الأحکام الشرعیّة أهمّ وأقوی من ملاک

ص:285


1- (1) - العروة الوثقی ج 1 ص 99 مسألة 9.

بعضها الآخر، فإذن اتصاف الأحکام الشرعیة بالأقوی و الأضعف و الأهمّ و المهمّ إنما هو بلحاظ حال ملاکاتها لا فی نفسها، ولکن إحراز ذلک بحاجة إلی دلیل فی مقام الاثبات بعدما کان الطریق إلیها منسداً، نعم یمکن إحراز أهمیة ملاک جملة من الأحکام الشرعیة بنحو الاجمال من طرق متعددة:

طرق احراز أهمیة ملاک الأحکام الشرعیة

الأول: الروایات التی تدل علی اهتمام المولی بها و هی الروایات التی تنصّ علی أنّ الاسلام بنی علی خمس(1).

الثانی: ما ورد فی الکتاب و السنة من التشدید و التهدید علی ترک الصلاة وحجة الاسلام و قد حکم فی بعض الروایات بکفر تارک الصلاة(2) ، وفی آخرأنها إذا قبلت قبل ماسواها و إن ردّت ردّ ماسواها(3) ، وفی ثالث انها عماد الدین ومعراج المؤمن(4) وهکذا، و قد ورد فی حق تارک الحج إنه مات إن شاء یهودیاً أو نصرانیاً(5) ، فإن المستفاد من مجموع ذلک اهتمام الشارع بهما.

الثالث: جعل القصاص و الحدود و الدیات علی ارتکاب جملة من المحرمات الشرعیة، فإن جعل تلک العقوبات الصارمة یدل علی إهتمام الشارع بعدم وقوعها فی الخارج من جهة ما فیها من المفاسد الإجتماعیة، وکیفما کان فالنجاسة کسائر الأحکام الشرعیة لاتتصف بالشدة و الضعف، و أما وجوب غسل الثوب المتنجس بالبول مرتین، فلایدل علی أنّ ملاک نجاسة البول أشدّ من ملاک نجاسة المنی أو الدم، بل لعله کان ذلک لخصوصیة اخری فلا طریق لنا إلیها، مثلاً

ص:286


1- (1) - الوسائل ج 1 ص 13 ب 1 من أبواب مقدمة العبادات.
2- (2) - الوسائل ج 1 ص 31 ب 2 من أبواب مقدمة العبادات ح 6 و 7.
3- (3) - الوسائل ج 4 ص 34 ب 8 من أبواب أعداد الفرائض ح 10 وغیره.
4- (4) - الوسائل ج 4 الباب المقتدم ح 16 و 13.
5- (5) - الوسائل ج 11 ص 32 ب 7 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 5 و 3.

إذا تنجس الاناء بملاقاة النجس لزم غسله ثلاث مرات، و أما إذا تنجس بها ظرف آخر لایصدق علیه عنوان الاناء، فلایجب غسله إلاّ مرة واحدة مع أن کلیهما ظرف وتنجس بنجاسة واحدة، فإذن حکم الشارع بغسل الاناء ثلاث مرات دونه، فلا محالة یکون مبنیاً علی نکتة ولایمکن أن یکون جزافاً، ولکن تلک النکتة مجهولة لنا.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم إن نجاسة البول أشد من نجاسة غیره إلاّ أنه لا دلیل علی أن شدة نجاسته مانعة عن الصلاة زائدة علی مانعیة أصل نجاسته، بمعنی أنّ نجاسة البول فی نفسها مانعة عن الصلاة وشدتها مانعة اخری عنها، وذلک لأن النهی عن الصلاة فی النجس لایدل إلاّ علی مانعیة النجاسة، و أما أنّ شدتها مانعة، فلا اشعار فیه فضلاً عن الدلالة، لأن مفاده تقیید الصلاة بعدم النجاسة و إن کانت شدیدة بقید واحد لا بقیدین هما تقید الصلاة بعدم أصل النجاسة وتقیّدها بعدم شدتها.

فالنتیجة، إن الواجب علی المصلّی تقلیل المانع، فإذا کان مضطراً إلی الصلاة فی بدن نجس وغیر مضطر إلیها فی ثوب نجس لتمکنه من تطهیره، ففی مثل ذلک وجب علیه تطهیر الثوب وإلاّ فصلاته فیه باطلة، لأنه غیر مضطر إلی الاتیان بهافیه وتمکنه منها فی ثوب طاهر.

هذا کله فیما إذا علم المصلی بنجاسة ثوبه أو بدنه أو علم أنه من أجزاء مالایؤکل أو المیتة أو ماشاکل ذلک، و أما إذا شک فی أنّ ثوبه نجس أو طاهر، فیدخل المقام حینئذٍ فی کبری مسألة الأقل و الأکثر الارتباطیین، و قد ذکرنا هناک إنّ المرجع فیها أصالة البراءة عقلاً وشرعاً، هذا فیما إذا لم یکن فی البین أصل موضوعی کاستصحاب الطهارة ونحوها وإلاّ فهو المرجع، وکذلک الحال فیما إذا

ص:287

شک فی أن ثوبه هذا هل هو متخذ من أجزاء مالایؤکل أو لا، فإن المرجع فیه أصالة البراءة، باعتبار أن المقام من صغریات کبری مسألة الأقل و الأکثر الارتباطیین، هذا فیما إذا لم یکن هناک أصل موضوعی یحرز به أنه لیس من أجزاء مالایؤکل کاستصحاب العدم الأزلی أو العدم النعتی وإلاّ فلا تصل النوبة إلی أصالة البراءة، لکن الکلام فی وجود الأصل الموضوعی فی المسألة وحدوده سعة وضیقاً محل آخر لا المقام.

نتائج البحث

نتائج البحث عدّة نقاط:

الاُولی: إنّ فی المدلول الوضعی للنهی مادةً وهیئةً نظریات ثلاث:

1 - النهی موضوع لطلب ترک الطبیعة و هذه النظریة هی المعروف و المشهوربین الأصحاب.

2 - النهی موضوع للدلالة علی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، و هذه النظریة هی مختار السید الاُستاذ قدس سره.

3 - النهی موضوع مادة وهیئة للدلالة علی الحرمة و الزجر بالدلالة التصوّریة، و هذه النظریة هی النظریة الصحیحة دون الاُولی و الثانیة.

الثانیة: إنّ الأمر علی ضوء النظریة الاُولی یشترک مع النهی فی نقطة و هی المدلول الوضعی، فإنه فی کلیهما الطلب المولوی، ویختلف عنه فی نقطة اخری و هی المتعلق، فإنه الفعل فی جانب الأمر و الترک فی جانب النهی، وعلی ضوء النظریة الثانیة یشترک الأمر مع النهی فی نقطتین:

نتائج البحث

الاُولی: فی المدلول الوضعی و هو إبراز الأمر الاعتباری النفسانی.

الثانیة: فی المتعلق، فإنه فی کلیهما الفعل، ویمتاز عنه فی نقطة اخری و هی سنخ

ص:288

الاعتبار، وعلی ضوء النظریة الثالثة یمتاز الأمر عن النهی فی نقطتین أساسیتین:

الاُولی: فی الملاک فی مرحلة المبادی، فإنه المصلحة فی الأمر و المفسدة فی النهی.

الثانیة: فی الحکم فی مرحلة الجعل، فإنه الوجوب فی الأمر و الحرمة فی النهی ویشترک معه فی نقطة اخری و هی المتعلق فإنه فی کلیهما الفعل.

الثالثة: إنّ المدلول الوضعی علی ضوء النظریة الثانیة تصدیقی لاتصوری، لأن تصوره غیر مستند إلی الوضع بل هو مستند إلی الانس الذهنی، و أما علی ضوء النظریة الاُولی و الثالثة، فالمدلول الوضعی تصوری لاتصدیقی، لأن التصدیق به مستند إلی ظهور حال المتکلم لا إلی الوضع.

الرابعة: إن ما هو المعروف فی الألسنة من أن صرف وجود الطبیعة یتحقق بأول وجودها وصرف ترک الطبیعة لایتحقق إلاّ بترک جمیع أفرادها، فإن أرادو بترک جمیع أفرادها الأعمّ من الطولیة و العرضیة، فلا أصل له ولایرجع إلی معنی محصّل، فإن الطبیعة إن لوحظت بنحو صرف الوجود فنقیضها البدیل لها ترک وجودها فی الآن الأول الذی هو مصداق صرف الوجود، و إن لوحظت بنحومطلق الوجود فنقیضها عدم مطلق وجودها، و إن أرادوا به الأفراد العرضیة فقط بمعنی أنّ بدیل صرف وجود الطبیعة فی الآن الأول ونقیضه ترکه، وترکه إنّما یتحقق بترک جمیع أفرادها فی هذا الآن فقط فهو صحیح، ومن هنا لافرق بین صرف وجود الطبیعة وصرف ترکها، فکما إنّ صرف وجودها یتحقق بأول وجودها فی الخارج فکذلک صرف ترکها، فإنه یصدق علی ترک ذلک الوجود فی الآن الأول و إن کان متعدداً، کما إذا فرضنا إنّ الطبیعة قد وجدت بوجودات متعددة فی عرض واحد وآن فارد، فإن صرف الوجود یصدق علی الجمیع، لأن

ص:289

صدقه علی أحدها المردد غیر معقول واحدها المعین ترجیح بغیر مرجح، فلامحالة یصدق علی الجمیع وکذلک صرف الترک، فإنه یصدق علی جمیع تروک تلک الوجودات فی هذا الآن بنفس ملاک صدق صرف الوجود علیها، و هذا معنی أنّ نقیض الواحد واحد ونقیض المتعدد متعدد، ولا یعقل أن یکون نقیض الواحد متعدداً، کیف فإن نقیض الشیء بدیله.

الخامسة: إنّ النهی لایدل علی انحلاله بانحلال متعلقه بالوضع کما هو الحال فی الأمر، بلا فرق فی ذلک بین نظریة ونظریة، فإنه لایدل علی ذلک علی ضوءجمیع النظریات فی تفسیره.

السادسة: إنّ تبعیة النهی للمفسدة فی متعلقه لاتتطلب إنحلاله بانحلال أفراد متعلقه، إذ لانعلم أنّ المفسدة قائمة بکل فرد من أفراده ولا طریق لنا إلیه بقطع النظر عن ثبوت النهی کذلک، کما إنّ تبعیة الأمر للمصلحة فی متعلقة لاتتطلب عدم الانحلال، فإنها تختلف باختلاف الموارد، نعم إنّ المفسدة إذا کانت قائمة بشیء، فالغالب إنها و إن کانت تنحل بانحلال أفراده إلاّ أن ذلک لیس منشأانحلال النهی کما تقدّم.

السابعة: إنّ انحلالیة الحرمة فی باب النهی بنحو العموم الشمولی وعدم انحلالیة الوجوب فی باب الأمر کذلک، تتوقف علی أمرین:

الأول: تمامیة مقدمات الحکمة، لأنها إذا تمّت فقد ثبت الاطلاق، ولکنها لاتدل علی أنه شمولی أو بدلی.

الثانی: خصوصیة المورد، فإنها تقتضی فی مورد أن الاطلاق الثابت بمقدمات الحکمة فیه شمولی وفی آخر أنه بدلیّ، فالخصوصیة الموجودة فی جانب النهی تتطلب إنّ الاطلاق فیه شمولی ولایمکن أن یکون بدلیاً وفی جانب الأمر إنه

ص:290

بدلی، أما من جهة أنه لایمکن أن یکون شمولیاً أو من جهة مناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة.

الثامنة: إن اطلاق الأمر بالنسبة إلی أفراد متعلقه بدلی، و أما بالنسبة إلی أفراد موضوعه شمولی، بنکتة أن الموضوع قد أخذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل، فإذن لا محالة یتعدد الحکم بتعدد وجوده فی الخارج و هذا بخلاف المتعلق، فإنه لم یؤخذ مفروض الوجود فیه وإلاّ کان طلبه من طلب الحاصل، هذا فیما إذا لم یقید الموضوع بقید الوحدة فی مقام الجعل، وإلاّ فالاطلاق الثابت له بمقدمات الحکمة بدلی لا شمولی.

التاسعة: إنّ اطلاق الخطابات الوضعیة کقوله تعالی: أحل اللَّه البیع وأوفوا بالعقود وماشاکل ذلک، الثابت بمقدمات الحکمة شمولی، بنکته أنّ کونه بدلیاً لغومحض.

العاشرة: إنّ مدلول مقدمات الحکمة إثبات الاطلاق، و أمّا إنه شمولی أو بدلی فالمقدمات لاتدل علی شیء منهما، فإذن إثبات أنه شمولی أو بدلی بحاجة إلی مقدمة اخری و هی تختلف من مورد إلی مورد آخر.

الحادیة عشر: إنّ تعلیق بعض المحققین قدس سره علی السید الاُستاذ قدس سره فی المقام غیر وارد علی تفصیل تقدم.

الثانیة عشر: إنّ الاطلاق الثابت بمقدمات الحکمة قد یکون فی الجملة الإنشائیة و قد یکون فی الجملة الخبریة، وفی کلتا الجملتین قد یکون الاطلاق شمولیاً و قد یکون بدلیاً، ولافرق بین الجملتین من هذه الناحیة.

ص:291

مسألة اجتماع الأمر و النّهی

اشارة

لا شبهة فی أنه لاتضاد بین الأمر و النهی بما هما اعتبار من المولی، حیث إنّه لاواقع لهما بهذا اللحاظ إلا واقع الاعتبار من المعتبر فی عالم الذهن، نعم یقع التضاد بینهما من ناحیتین:

الاُولی: من ناحیة الملاک فی مرحلة المبادی کالمصلحة و المفسدة والارادة و الکراهة و الحب و البغض، فلایمکن إجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء من ناحیة المبادی، فإن معنی ذلک اجتماع المصلحة و المفسدة فیه و الحب و البغض والارادة و الکراهة و هو محال.

الثانیة: من ناحیة الامتثال، فإن المکلف لایکون قادراً علی امتثال الوجوب و الحرمة معاً فی شیء واحد، فإذن یستحیل جعلها معاً، و إن شئت قلت: إنّ الغرض من جعل الوجوب لشیء هو إیجاد الداعی فی نفس المکلف وتحریکه نحو الاتیان به، والغرض من جعل الحرمة لشیء آخر هو جعل الداعویة و المحرکیة لها نحو الاجتناب عنه، ومن الواضح إنه لایمکن الجمع بین هذین الاقتضائین و الغرضین لأنه من الجمع بین المتضادین.

وبکلمة، إنّ الأمر و النهی حیث إنهما من الاُمور الاعتباریة فبطبیعة الحال یکون معروضهما بالأصالة و الذات هو عنوان الفعل فی عالم الذهن کعنوان صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء وعنوان الغصب ونحوه، لاستحالة تعلقهما بالفعل فی عالم الخارج حقیقة وإلاّ لکانا خارجیین و هو خلف هذا، إضافة إلی أنّ

ص:292

متعلق الأمر لوکان الفعل الخارجی لکان تعلق الأمر به من طلب الحاصل، و أماتعلقهما بالعناوین الذهنیة للأفعال الخارجیة فلیس بملاک الموضوعیة، ضرورة أنّه إنما هو بملاک فنائها فیها ومرآتیتها لها، باعتبار أنّ المولی یطلب تلک الأفعال من المکلفین أو ینهاهم عنها بواسطة تعلق الأمر بعناوینها الذهنیة الفانیة أو النهی عنها بعدما لایمکن تعلق الأمر و النهی بمعنواناتها و هی الأفعال الخارجیة مباشرة، وعلی هذا فإذا کان المعنون و المعروض بالعرض واحداً، کما إذا ورد (صلّ) و (لاتصلّ)، نشأ التنافی بینهما بالغرض من جهتین:

اجتماع الأمر و النهی

الاُولی: من جهة المبادی کالمصلحة و المفسدة والارادة و الکراهة و الحب و البغض.

الثانیة: من جهة الامتثال والاقتضاء، و أما بینهما بالذات فلاتنافی، ضرورة أنه لامانع من اعتبار کلیهما معاً بما هو اعتبار، ولکن المانع من ذلک إحدی الجهتین المذکورتین، فلهذا تقع المعارضة بین (صل) و (لاتصلّ) بنحو التباین، حیث لایمکن اجتماع المصلحة و المفسدة والارادة و الکراهة و الحب و البغض فی شیء واحد و هو الصلاة، بداهة أن المحبوب لاینطبق علی المبغوض و الواجب علی الحرام وهکذا، ولابد حینئذٍ من الرجوع إلی قواعد باب المعارضة، ولکن هذا الفرض خارج عن مسألة اجتماع الأمر و النهی، إذ لاشبهة فی استحالة الاجتماع فی هذا الفرض ولا کلام فیه، والکلام فی مسألة الاجتماع إنما هو فیما إذا تعلق الأمر بعنوان و النهی بعنوان آخر، والعنوانان متغایران بالذات فی عالم الذهن، مثلاً تعلق الأمر بعنوان الصلاة مرآة لواقعها الخارجی و النهی بعنوان الغصب کذلک، وحنیئذٍ فیقع الکلام فی أنّ تغایر معروضیهما فی عالم الذهن بالذات، هل یکفی فی رفع غائلة التضاد بین معروضیهما بالعرض فی عالم الخارج

ص:293

و إن کانا متحدین فیه أو لا، أو فقل إنّ تعدد العنوان هل یکفی فی رفع غائلة استحالة اجتماع الضدّین و إن کان المعنون لهما واحداً فی الخارج أو لایکفی، وإنه لابد من أن یکون المعنون فیه أیضاً متعدداً، وهناک محاولات عدیدة لاثبات أن الأمر و النهی فی المسألة غیر مجتمعین فی شیء واحد.

محاولات لاثبات ان الامر و النهی فی المسالة غیر مجتمعین فی شیء واحد

المحاولة الأولی لاثبات أن الأمر و النهی فی المسألة غیر مجتمعین فی نهی واحد
اشارة

المحاولة الاُولی: ما تقدم من أن متعلق الأمر صرف وجود الطبیعة ولایسری منه إلی أفرادها وحصصها فی الخارج، بینما یکون متعلق النهی مطلق وجود الطبیعة، ولهذا ینحل النهی بانحلال وجودها فیکون کل فرد منها متعلقاً للنهی، وعلی هذا، فالصلاة فی الأرض المغصوبة بما أنها حصة من الصلاة المأموربها وفرد منها، فلاتکون متعلقه للأمر باعتبار أن متعلقه بالصلاة الجامعة بینهاوبین غیرها، فإذن لایلزم من تعلق النهی بها اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إنّ متعلق الوجوب حیث إنه صرف وجود الطبیعة فهویکشف عن أن ملاکه الملزم قائم به لابمطلق وجودها، وعلیه فکما إنّ الوجوب لایسری إلی أفرادها فکذلک ملاکه، وحینئذٍ فلایکون فردها مشتملاً علی ملاک کالمصلحة ولا متعلقاً للحب و الإرادة لأنهما تتبعان الملاک، فإذن کما لایلزم اجتماع الوجوب و الحرمة فی الصلاة علی الأرض المغصوبة باعتبار أنها فرد من الصلاة المأمور بها کذلک لایلزم اجتماع الارادة و الکراهة فیها ولا المحبوبیة و المبغوضیة.

والخلاصة: إنّ الوجوب حیث إنه واحد متعلق بصرف الوجود، فبطبیعة الحال یکشف عن أنّ ملاکه أیضاً واحد علی أساس إنّ الملاک لوکان متعدداً لکان الوجوب متعدداً لا محالة، لأنه روح الوجوب وحقیقته، و أما الحرمة فحیث إنها متعددة، فتکشف عن أنّ ملاکها أیضاً متعدد فی المرتبة السابقة وإلاّ

ص:294

فلا یعقل تعددها. ونتیجة ذلک، هی عدم اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد لافی مرحلة المبادی ولا فی مرحلة الجعل، وفی هذه المحاولة عدة مناقشات:

المناقشة الأولی فی هذه المحاولة

الاُولی: إنّ الملازمة بین محبوبیة الجامع وأنحاء من المحبوبیة المشروطة بعدد حصص الجامع وأفراده ثابتة فی مرحلة المبادی وکذلک بین إرادته وأنحاء من الارادة المشروطة، و هذه الملازمة و إن لم تکن برهانیة حیث إنّه لایمکن إقامة برهان علیها إلاّ أنها مطابقة للوجدان، فإذا کانت ثابتة فی مرحلة المبادی، کانت تکشف عن ثبوتها فی مرحلة الجعل والاعتبار أیضاً علی أساس أنّ مرحلة الجعل تتبع مرحلة المبادی، بمعنی إنّ الشارع کما یجعل الوجوب للجامع یجعل وجوبات اخری مشروطة لحصصه وأفراده، باعتبار إنّ الملازمة القهریة بین وجوب الجامع وأنحاء وجوبات اخری مشروطة بعدد حصصه وأفراده غیر معقولة، لأن الوجوب أمر اعتباری صادر من الشارع مباشرة، ففرض تولده من وجوبات آخر خلف فرض کونه فعلاً اختیاریاً للمولی مباشرة، وعلی ذلک فهذه الملازمة فی مرحلة المبادی بین محبوبیة الجامع وأنحاء من محبوبیة اخری مشروطة وکذلک بین إرادته وأنحاء من إرادة اخری مشروطه ثابتة قهراً.

و أما فی مرحلة الجعل فهی ثابتة جعلاً، وعلی هذا الأساس فالحصة فی مورد الاجتماع کما أنها متعلقة للحرمة بمبادئها کذلک متعلقة للوجوب المشروط بمبادئه، ومن الواضح إنّ الوجوب المشروط کذلک لایجتمع مع الحرمة فی شیء واحد، ضرورة إنّه لایمکن أن یکون متعلق الحرمة محبوباً ولو مشروطاً.

والجواب: إنّ هذه الملازمة فی مرحلة الجعل والاعتبار منوطة بثبوتها فی مرحلة المبادی، و أما ثبوتها فی تلک المرحلة بالبرهان فهو لایمکن، إذ لیس بالإمکان إقامة برهان علی ثبوت هذه الملازمة فیها بل مقتضی البرهان أنّه لیس

ص:295

فی مرحلة المبادی إلاّ ملاک واحد، وذلک لأن الظاهر من الأمر المتعلق بالطبیعة أنه واحد ومتعلقه الجامع ولایسری منه إلی أفراده قهراً ولا جعلاً لا بنحو الأوامر الفعلیة ولا المشروطة، لأن السرایة القهریة غیر معقولة و السرایة الجعلیة بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیها، فإذا کان الأمر فی مقام الاثبات واحداً متعلقاً بالجامع، فهو یکشف عن ملاک واحد قائم به فی مقام الثبوت، إذ لا طریق لنا إلی احراز غیره ولایوجد هناک دلیل آخر یدل علی أنحاء من الملاکات المشروطة بعدد أفراد الجامع وحصصه، و أما الوجدان فهو لایحکم بالملازمة بین إرادة الجامع وأنحاء من الارادة المشروطة بعدد حصصه وأفراده وبین محبوبیة الجامع وأنحاء من المحبوبیة المشروطة کذلک، وإلاّ فلازمه أن تکون هناک وجوبات متعددة مشروطة بعدد أفراد الجامع وحصصه، بلحاظ أنّ الوجوب یتبع الملاک فی الوحدة و الکثرة علی أساس أن المبدء هو حقیقة الوجوب وروحه مع أن الوجوب واحد فی المقام ومتعلق بالجامع بنحو صرف الوجود بل الوجدان یشهد علی خلاف ذلک، لأن الارادة إذا تعلقت بالجامع بحده الجامعی فلاتسری إلی أفراده بنحو الارادات المشروطة، لأن الوجدان یشهد بأن الجامع بحده الجامعی مراد ومتعلق للارادة دون الفرد بحده الفردی، ووجود الجامع فی الخارج و إن کان عین وجود الفرد فیه إلاّ أنهما مختلفان فی الاضافة، فالارادة متعلقه بالوجود المضاف إلی الجامع لا المضاف إلی الفرد لامطلقه ولا مشروطه، فإذا تحقق الجامع حینئذٍ فی ضمن فرد، انتهت الارادة بانتهاء مفعولها وکذلک الحال فی الحب، فإنه إذا تعلق بالجامع بحده الجامعی فلایسری منه إلی أفراده لامطلقاً ولا مشروطاً، فالسرایة خلاف الوجدان لا أنها مطابقة للوجدان، مثلاً الصلاة الجامعة بین المبدء و المنتهی محبوبة لا کل فرد من أفرادها بحده الفردی، نعم إذا وجدت الصلاة فی ضمن فرد فالفرد محبوب من جهة وجود الجامع

ص:296

لابحده، ومن هنا قلنا فی مبحث الواجب التخییری إنّ مرجعه إلی جعل وجوب واحد متعلق بالجامع العنوانی و هو عنوان أحد البدائل لا إلی جعل وجوبات متعددة المشروطة بعدد أفراد الجامع، فإن هذا القول مبنی علی أحد الأمرین:

الأول: أن یکون کل واحد من أفراده مشتملاً علی ملاک ملزم.

الثانی: إنّ الملاک القائم بالجامع یسری منه إلی أفراده بنحو الملاکات المشروطة، وکلا الأمرین غیر صحیح.

أما الأمر الأول: فلما تقدم فی مبحث الواجب التخییری من أنه باطل ثبوتاً واثباتاً، أما الأول فلأن جعل الوجوب لکل من البدائل بنحو الوجوب المشروط منوط بغرض التضاد بین الملاکات القائمة بالبدائل وعدم امکان الجمع بینها فی مقام الاستیفاء، ولکن تقدم أنّ فرض التضاد بینها مع عدم التضاد بین البدائل فی نفسها فرض لاواقع له.

و أما الثانی: فلأن ظاهر الدلیل هو أن المجعول وجوب واحد متعلق بالجامع العنوانی دون وجوبات متعدّدة المشروطة.

و أما الأمر الثانی: فلما عرفت الآن من أنّ الملاک القائم بالجامع کالارادة و الحب لایسری منه إلی أفراده بنحو إرادات مشروطة بعدد أفراد الجامع، لأن ذلک خلاف الوجدان من جهة وبدون برهان من جهة اخری.

فالنتیجة، إن هذه الملازمة غیر ثابتة فی مرحلة المبادی حتی یمکن الاستدلال بها علی ثبوتها فی مرحلة الجعل باعتبار أنها تتبع مرحلة المبادی، فإذن هذه المناقشة غیر تامة.

المناقشة الثانیة فی هذه المحاولة

المناقشة الثانیة: ما أفاده المحقق النائینی قدس سره بتقریب أن الوجوب و إن لم

ص:297

یجتمع مع الحرمة فی مورد الاجتماع، علی أساس إنه تعلق بالجامع ولایسری منه إلی أفراده وحصصه، إلاّ أنّ متعلقه لما کان الجامع فمقتضی إطلاقه أن المولی قدرخّص المکلف فی تطبیقه علی أی حصة من حصصه شاء وأراد، ومنها الحصة المنهی عنها کالصلاة فی الأرض المغصوبة، ومن الواضح أن تطبیق الجامع المأمور به علی حصته المنهی عنها فی مورد الالتقاء یستلزم اجتماع الترخیص مع الحرمة فی شیء واحد و هو محال، ضرورة کما أن الوجوب لایجتمع مع الحرمة فی شیء واحد کذلک الترخیص الشرعی، نعم لوکانت الحصة منهیاً عنها بالنهی التنزیهی، فهو لایمنع من تطبیق الجامع علیها، لأن الترخیص لاینافی الکراهة، ومن هنا لامانع من تطبیق الصلاة المأمور بها علی الصلاة فی الحمام باعتبار أنّ النهی عنها نهی تنزیهی و هو لایمنع من الاتیان بمتعلقه وتطبیق الواجب علیه، غایة الأمر أنه مرجوح، ومن هنا تفترق هذه المناقشة عن المناقشة الاُولی، فإن الاُولی لو تمّت لکان مقتضاها عدم الفرق بین أن یکون النهی عن الحصة نهیاًتحریمیاً أو تنزیهیاً علی أساس أن الوجوب کما لایجتمع مع الحرمة فی شیء واحد، و إن کان الوجوب مشروطاً کذلک لایجتمع مع الکراهة، و هذا بخلاف المناقشة الثانیة، فإن المانع من التطبیق إنما هو حرمة الحصة لا کراهیتها، شریطة أن لاتکون الکراهة ناشئة عن مرجوحیة ذات الحصة وإلاّ فلایمکن التقرّب بها بأن تکون ناشئة عن الخصوصیات المقترفة بها کخصوصیة کون الصلاة فی الحمام أو نحوها، فعندئذٍ لا مانع من التقرب بها، ومن هنا فسّر المحقق النائینی قدس سره النهی عن الصلاة فی الحمام بالکراهة المصطلحة لابمعنی أقل ثواباً، فإن الداعی علی هذا التفسیر إنما هو توهم التنافی بین الکراهة و العبادة وإنهما لاتجتمعان فی شیء واحد، ولکن هذا التوهم فی غیر محله، لأن الصلاة فی الحمام حصّة من حصص العبادة لا أنها بنفسها عبادة، لأن العبادة هی الصلاة الجامعة بینها وبین غیرها

ص:298

و هی المتعلقة للوجوب، وحیث إنها مطلقة فلازم اطلاقها ترخیص الشارع فی تطبیقها علی أی حصة من حصصها شاء وأراد، وکراهة الصلاة فی الحمام لاتمنع عن جواز تطبیق الصلاة المأمور بها علیها، ولایعتبر فی جواز التطبیق أن یکون کل حصة من حصصها محبوبة ومشتملة علی الملاک ومتعلقة للإرادة، بل المعتبرفیه أن لایکون هناک مانع منه و المانع هو حرمة الحصة، و أما کراهتها فهی لاتمنع عن الانطباق، باعتبار أن کراهتها ناشئة عن تخصصها بخصوصیة الحصة لابلحاظ ذاتها بقطع النظر عن خصوصیتها، فإذن وجود الحصة بلحاظ إنّه وجود الطبیعة المأمور بها محبوب وبلحاظ أنه وجود الحصة مکروه، فالتطبیق إنما هو بلحاظ الأول دون الثانی.

والجواب أولاً: إن معنی الاطلاق لیس هو الترخیص من قبل الشارع فی تطبیق المأمور به و هو الجامع علی کل حصة من حصصه، لأن معنی الاطلاق کما ذکرناه فی محله عبارة عن عدم لحاظ القید مع الطبیعة حین ما یراد جعل الحکم علیها، ومن هنا قلنا إن التقابل بینهما من تقابل السلب الإیجاب، وعلی هذا فلایکون للأمر المتعلق بالطبیعة المطلقة مدلولان، أحدهما مطابقی و هو وجوب متعلقه، والآخر التزامی و هو الترخیص فی تطبیقه، بل له مدلول واحد و هووجوب متعلقه، غایة الأمر إن کان متعلقه مطلقاً بمعنی أن المولی لم یلاحظ قیداً معه حینما جعل الحکم علیه، فهو قابل للانطباق علی کل مایصلح أن یکون فرداً له، و هذه الصلاحیة ذاتیة له وغیر قابلة للجعل، و أما فعلیة الانطباق علی أفراده وحصصه جمیعاً فهی تتوقف علی أن لایکون هناک مانع عنها، والمانع عن هذا الانطباق هو حرمة الحصة ومبغوضیتها، فإنها تمنع عن انطباقه علیها فعلاً رغم أنه قابل للانطباق علیها ذاتاً.

ص:299

وبکلمة، إنّ تقیید متعلق الأمر بقید فی مقام الاثبات مانع عن قابلیة انطباقه علی الحصة الفاقدة للقید، و قد عرفت أنّ هذه القابلیة ذاتیة له، بینما حرمة الحصة لاتمنع عن هذه القابلیة وإنما تمنع عن فعلیة الانطباق، لأنها تتوقف علی عدم تلبس الحصة بها فعلاً، فإن التلبس بها کذلک مانع عنها رغم أنه قابل للانطباق علیها ذاتاً.

ومن هنا یفترق هذا المانع عن القید المأخوذ فیه، فإنه رافع لقابلیة انطباقه علی الفاقد للقید، و أما هذا المانع الموجود فی الفرد، فإنه لایمنع عن قابلیة الانطباق وإنما یمنع عن فعلیته.

فالنتیجة، إن اطلاق متعلق الأمر لایدل علی ترخیص الشارع المکلف فی تطبیقه علی أی فرد من أفراده وحصة من حصصه شاء، منها حصته المحرمة و هی الصلاة فی الأرض المغصوبة حتی یکون منافیاً للنهی، لأن اطلاقه الذاتی منوط بعدم القید واطلاقه الفعلی منوط بعدم تلبس الحصة بالمانع و هو الحرمة، فإذن لیس للأمر مدلول التزامی لکی یکون منافیاً لمدلول النهی.

المناقشة الثالثة فی هذه المحاولة

المناقشة الثالثة: إنّ هذه المحاولة فی المسألة و إن کانت تجدی لدفع محذور التنافی بین الوجوب و الحرمة فی مرحلة المبادی ومرحلة الجعل ولکنها لاتجدی لدفعه فی مرحلة الامتثال، لأن متعلق الوجوب إذا کان مطلقاً فالعقل یحکم بالتخییر فی تطبیقه علی أی فرد من أفراده وحصة من حصصه شاء وأراد منها الحصة المحرمة، فإذن لایمکن الجمع بین اطلاق متعلق الوجوب وحرمة هذه الحصة فی مرحلة الامتثال، ولابد حینئذٍ إما من تقیید إطلاق متعلق الوجوب بغیر هذه الحصة أو رفع الید عن حرمتها، ولایمکن الجمع بین اطلاق متعلقه وحرمة هذه الحصة، وفیه: إنّ هذه المناقشة غیر تامة، لأن حرمة الحصة

ص:300

ومبغوضیتها تمنع عن حکم العقل بالانطباق لا أنّ العقل یحکم به، بداهة أنّ العقل یحکم باستحالة انطباق الواجب علی الحرام ومعه کیف یعقل أن یحکم بالانطباق، فإذن هذه المحاولة لوکانت مجدیة لدفع التنافی بینهما فی مرحلة المبادی و الجعل، کانت مجدیة لدفعه فی مرحلة الامتثال أیضاً.

المحاولة الثانیة: إن الأحکام الشرعیة متعلقة بالعناوین و المفاهیم الذهنیّة مباشرة و بالذات

، ولایمکن أن تکون متعلقة بالأفعال الخارجیة وإلاّ لزم کونهاخارجیة، وعلی هذا فالوجوب متعلق بعنوان الصلاة ومفهومها الذهنی الفانی مباشرة وبالذات، والحرمة متعلقة بعنوان الکون فی الأرض المغصوبة ومفهومه الذهنی الفانی کذلک المنطبق علی الصلاة فیها خارجاً، و هذا العنوان المتعلق به الأمر مباشرة و إن کان ملحوظاً فانیاً فی معنونه فی الخارج ومأخوذاً بنحو المشیریة و المعرفیة، ولکن مع هذا لایسری الأمر منه إلی الخارج وإلاّ لزم کونه خارجیاً و هو خلف، فإذن ما هو متعلق الوجوب بالذات مباین لما هو متعلق الحرمة کذلک، و أما المعروض و المعنون بالعرض لهما فی الخارج، فهو و إن کان واحداً إلاّ أنه لیس متعلق الوجوب و الحرمة مباشرة، فتحصل إنّ الوجوب و الحرمة لایجتمعان فی شیء واحد لکی نبحث عن إمکان ذلک واستحالته، ولکن هذه المحاولة ساقطة، فإن الوجوب و الحرمة بما هما أمران اعتباریان و إن کان لاتنافی ولاتضاد بینهما بالذات ولا مانع من اجتماعهما فی شیء واحد کذلک، إلاّ أنه لایمکن الجمع بینهما فیه بلحاظ مرحلة الاقتضاء، لأن الوجوب یقتضی الاتیان بمتعلقه فی الخارج وإیجاده فیه، والحرمة تقتضی الاجتناب عنه وعدم إیجاده فیه، کما لایمکن اجتماعهما فی شیء واحد بلحاظ مبادئهما و هی المصلحة و المفسدة والارادة و الکراهة و الحب و البغض، وفی هذه المحاولة و إن کان متعلق الوجوب بالذات و هو العنوان الذهنی مبایناً لمتعلق الحرمة کذلک إلاّ أنّ

ص:301

المعروض و المعنون لها فی الخارج لما کان واحداً، فالوجوب یقتضی إیجاده فیه، بینما الحرمة تقتضی خلافه هذا، إضافة إلی أن ملاک الوجوب و الحرمة قائم بالمعنون لا بالعنوان الذهنی الذی هو مرآة له.

فالنتیجة، إنّ عدم إمکان اجتماع الأمر و النهی فی مورد الالتقاء والاجتماع، إنماهو بلحاظ عدم إمکان اجتماع المصلحة و المفسدة و الإرادة و الکراهة و الحب و البغض فی مرحلة المبادی من جهة، وفی مرحلة الاقتضاء وعالم الفعلیة من جهة اخری، و هذه المحاولة ناظرة إلی حال الأمر و النهی فی مرحلة الجعل فقط، ومن الواضح إنّه لاتنافی بینهما فی هذه المرحلة بقطع النظر عن مرحلتی المبادی والاقتضاء، لأن مبادی الحکم هی التی تقتضی الامتثال و الإطاعة بالاتیان بمتعلقه إذا کان أمراً والاجتناب عنه إذا کان نهیاً.

المحاولة الثالثة: إنّ تعدد العنوان یکفی فی جواز اجتماع الأمر و النهی
اشارة

سواءً أکان المعروض و المعنون لهما واحداً فی الخارج أم کان متعدداً، أما علی الثانی و هو ما إذا کان المعنون فیه متعدداً فالأمر ظاهر، لأن متعلق الأمر حینئذٍ مباین لمتعلق النهی ذاتاً وعرضاً، فلایلزم عندئذٍ أیّ محذور فی مرحلة المبادی، حیث لایلزم اجتماع المصلحة و المفسدة فی شیء واحد ولا الإرادة و الکراهة ولا الحب و البغض ولا فی مرحلة الاقتضاء، لأن الأمر یقتضی الاتیان بشیء و النهی یقتضی الاجتناب عن شیء آخر و هذا لا کلام فیه، وإنما الکلام فیما إذا کان المعنون فی الخارج واحداً، وحینئذٍ فهل یجدی تعدد العنوان وحده فی عالم الذهن فی رفع غائلة التضاد بین الأمر و النهی فی شیء واحد أو لا؟

والجواب: إنّ ذلک بحاجة إلی مزید تفصیل وتحقیق.

تفصیل و تحقیق فی المحاولة الثالثة

بیان ذلک، إن العنوانین المنطبقین علی معنون واحد فیمکن تقسیمهما إلی ثلاثة

ص:302

أقسام:

الأول: أن یکونا متأصلین وکل منهما یمثل حقیقة نوعیّة لشیء.

الثانی: أن یکون أحدهما متأصلاً ویمثل حقیقة نوعیة لشیء و الآخر أمراًإنتزاعیاً لایمثل حقیقة نوعیة.

الثالث: أن یکون کلاهما أمراً انتزاعیاً.

أما القسم الأول، فلا شبهة فی أنّ تعدّده یوجب تعدّد المعنون فی عالم العین و الخارج بل هو فیه علی أساس أنّه یمثل حقیقة نوعیة له، ومن الطبیعی إنّه لایمکن أن تکون لموجود واحد حقیقتان نوعیتان، فإن الإنسان یمثل حقیقة نوعیة للحیوان الناطق الموجود فی الخارج بوجود واحد بملاک أنّ الحقیقة النوعیة تمثل جزئین تحلیلین لدی العقل هما الجنس و الفصل وجزئین خارجیین هما المادة و الصورة، والصورة هی فعلیة الشیء فی عالم الخارج و الفصل بمثابة العلة التامة لوجود النوع فیه، فمن أجل ذلک یستحیل أن تکون حقیقتان نوعیتان لموجود واحد، وإلاّ لزم أن یکون موجوداً بوجودین متباینین یمثل کل منهما حقیقة نوعیة، ضرورة أن لکل نوع وجوداً مستقلاً فی الخارج ویستحیل إتحاده مع وجود نوع آخر، لأن کل صورة تأبی عن صورة اخری باعتبار إن فعلیة الشیء إنما هی بوجوده ولایقبل الوجود وجوداً آخر، کیف فإن کل وجودفی الخارج مباین لوجود آخر ولکل وجود فیه ماهیّة، ولایعقل أن تکون له ماهیتان متباینتان، بداهة أن لوجود واحد نوعی ماهیة نوعیة واحدة المرکبة من الجنس و الفصل، ولایعقل أن تکون له ماهیتان نوعیتان متباینتان وإلاّ لزم أن یکون له جنسان وفصلان و هو کما تری، فإذن بطبیعة الحال یستلزم تعدد العنوان المتأصل تعدد المعنون، ولایعقل أن یکون المعنون واحداً وجوداً وماهیةً

ص:303

والعنوان المتأصل له متعدداً، وإلاّ لزم أن یکون لموجود واحد ماهیتان متباینتان و هو محال، فإذا کان المعنون متعدداً فی مورد الالتقاء، فلا مانع من الاجتماع فیه فی مرحلة الجعل ولا فی مرحلة المبادی ولا فی مرحلة الاقتضاء، أما فی الأول، فلأنه لا مانع من اجتماع الوجوب و الحرمة بما هما أمران اعتباریان فی شیء واحد فضلاً عن شیئین، ولایلزم من اجتماعهما فیه اجتماع الضدّین حتی یکون محالاً.

و أما الثانیة، فلأن المصلحة و المفسدة لاتجتمعان فی شیء واحد حتی یلزم اجتماع الضدّین، فإذن کما لاتضاد بینهما فی مرحلة الاتصاف، فإن المتّصف بالمصلحة عنوان الصلاة فی عالم الذهن و المتصف بالمفسدة عنوان الغصب فیه، کذلک لاتضاد بینهما فی مرحلة الفعلیة و هی مرحلة وجود الصلاة فی الخارج ووجود الغصب فیه، فإن المصلحة مترتبة علی وجود الصلاة فیه و المفسدة مترتبة علی وجود الغصب وهما وجودان متباینان فیه وکذلک الإرادة و الکراهة و الحب و البغض، فإنهما لاتجتمعان فی شیء واحد لکی یلزم اجتماع الضدّین، فإذن لا مضادة بینهما لا فی مرحلة المراد بالذات ولا فی مرحلة المراد بالعرض.

و أما فی المرحلة الثالثة، فأیضاً لاتنافی بینهما فی الاقتضاء، لأن کلاً منهمایقتضی الاتیان بمتعلقه فی الخارج فی نفسه، نعم قد تقع المزاحمة بینهما فی مرحلة الامتثال، و هذا خارج عن باب الاجتماع علی القول بالامتناع، فإن المسألة علی هذا القول تدخل فی باب المعارضة، وعلی القول بالجواز تدخل فی باب المزاحمة.

و أما فی القسم الثانی، فلابد من النظر فیه، فإن کان المعروض للعنوان الانتزاعی نفس المعنون بالعنوان الذاتی بأن یکون ذلک العنوان الذاتی هو منشأ انتزاعه، فمعناه إنّ المعنون فی الواقع وعالم الخارج واحد، فإذا کان واحدا استحال اجتماع الأمر و النهی فیه بلحاظ عالم المبادی وعالم الاقتضاء، و أما

ص:304

بلحاظ عالم الاعتبار و الجعل فلا استحالة فیه، لما تقدم من أنّه لامانع من اجتماع الوجوب و الحرمة بماهما أمران اعتباریان فی شیء واحد، ولایلزم من اجتماعهما فیه بهذا اللحاظ اجتماع الضدّین علی أثر أنه لا واقع لهما إلاّ فی عالم الاعتباروالذهن، ولایتصور التضاد و التنافی فی هذا العالم، ومن هنا یکون متعلقهما فیه العنوان الذهنی المرآتی، و أما استحالته بلحاظ عالم المبادی، فلأن المصلحة بوجودها الذهنی العنوانی قائمة بالفعل بوجوده کذلک، و أما المصلحة بوجودها الخارجی الواقعی قائمة بالفعل بوجوده الخارجی الواقعی ومترتبة علیه وکذلک الحال فی المفسدة، وحیث إنّ ما فی الذهن ملحوظاً بنحو المعرفیة و المشیریة الصرفة إلی ما فی الخارج، فالمعیار إنما هو بالمصلحة و المفسدة فی عالم الخارج، والمفروض إنهما متضادتان فلایمکن اجتماعهما فی شیء واحد فیه، و أما الإرادة فهی من الصفات الحقیقیة ذات الاضافة کالعلم و الحب و البغض و الکراهة، والاضافة مقومة لحقیقتها ولایمکن افتراض خلوها عنها لأنه مساوق لافتراض عدم تحققها، وتسمی هذه الاضافة بالإضافة الاشراقیة فی الاصطلاح فی مقابل الإضافة المحمولیة التی هی خارجة عن ذات المضاف، ولامانع من فرض خلوها عنها لأنها لیست مقومة لها، فلذلک یکون لهذه الصفات النفسانیة معروض بالذات فی داخل النفس کالمعلوم بالذات و المراد بالذات و المحبوب بالذات وهکذا، وحیث إنّ الاضافة الاشراقیة فی مرتبة ذات تلک الصفات بل هی عینها خارجاً، فلازم ذلک إنّ مایضاف إلیه الصفات المذکورة فی داخل النفس یکون فی مرتبة ذاتها، و هذا معنی إنّ المعلوم بالذات عین العلم و المراد بالذات عین الارادة و المحبوب بالذات عین الحب وهکذا و الإختلاف بینهما إنما هو بالاعتبار، ولکن من الواضح جداً إنّه لایکفی فی رفع غائلة استحالة إجتماع الأمر و النهی تعدد المعروض و المعنون بالذات، بأن یکون المراد بالذات غیر المکروه بالذات

ص:305

والمحبوب بالذات غیر المبغوض بالذات، طالما یکون المعروض و المعنون بالعرض واحداً فی الخارج وجوداً وماهیة، بداهة أنّ المقصود الأصلی و المراد الحقیقی هو وجود الفعل فی الخارج و الأثر المطلوب من قبل المولی مترتب علیه، والارادة بما أنها من الصفات النفسانیة فلایعقل تعلقها بالفعل الخارجی، فلامحالة تتعلق بصورتها فی عالم الذهن بعنوان أنها مرآة لما فی الخارج وفانیة فیه ومشیرة إلیه لا بعنوان الأصالة و الموضوعیة، لأن الغرض لایترتب علی صورتهافی عالم الذهن، إذ لاقیمة لها غیر کونها مرآة لما فی لایترتب علی صورتها فی عالم الذهن، إذ لاقیمة لها غیر کونها مرآة لما فی الخارج، باعتبار إنّ الوجود الذهنی بالنظر التصوری أی بالحمل الأولی عین الأمر الخارجی، وبالنظر التصدیقی أی بالحمل الشایع یکون مبایناً له، فإذن تعلق الارادة بصورة الفعل فی الذهن إنما هو بالحمل الأولی و النظر التصوری الذی لایری بها إلا الخارج، وکذلک تعلّق الحب بصورة الشیء فی الذهن وتعلق العلم بصورة الأشیاء فی عالم الذهن، کل ذلک إنماهو بالحمل الأولی و النظر التصوری باعتبار أنه لایری بها إلاّ الواقع ولا یجب إلاما فی الخارج وهکذا، وبکلمة إنّ منشأ انتزاع العنوان العرضی إن کان متحداً مع العنوان الذاتی، فالمعنون فی مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهیةً، و إن کان مبایناً للعنوان الذاتی، فحینئذٍ إن کان جهة تقییدیة، فالمعنون فی مورد الاجتماع متعدد وان کان جهة تعلیلیة، فعندئذٍ قد یکون معنونه متحداً مع معنون العنوان الذاتی، کما إذا أمر المولی بالسفر إلی بلد معین ونهی عن الغصب، والسفر عنوان ذاتی وعبارة عن الحرکة الأینیة التی هی من مقولة الأین، وحیث إن الحرکة لیست مقولة مستقلة، لأنها فی ضمن أی مقولة کانت عین هذه المقولة حتی الحرکة الجوهریة، فإنها عین الجوهر و الحرکة الأینیة عین مقولة الأین و الحرکة الکمیّة عین مقولة الکم و الحرکة الکیفیة عین مقولة الکیف وهکذا، والغصب عنوان

ص:306

انتزاعی منطبق علی نفس الحرکة الأینیة، ومنشأ انتزاعه عدم رضاء المالک بها و هو جهة تعلیلیة، و قد یکون مبایناً له، کما إذا أمر المولی بالقیام أو التکلم ونهی عن الغصب، ففی مثل ذلک إذا دخل المکلف الأرض المغصوبة وتکلم فیها أوقام، فإن الواجب من مقولة الکیف المسموع أو الوضع و الحرام من مقولة الأین، فیکون الواجب مبایناً للحرام ذاتاً وخارجاً، و أما عنوان الغصب فهو عنوان انتزاعی منطبق علی مقولة الأین، ومنشأ انتزاعه جهة خارجیة و هی عدم رضاء المالک.

فالنتیجة، فی نهایة المطاف إن المعیار فی جواز الاجتماع فی المسألة وعدم جوازه فیها إنما هو بتعدد المعنون بالفرض فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً، ووحدته فیه کذلک لابتعدد العنوان ووحدته.

و أما القسم الثالث: و هو ما إذا کان العنوانان کلاهما انتزاعیاً ففیه تفصیل، لأن العنوانین المذکورین إن کان کل منهما منتزعاً عن خصوصیة ذاتیة ثابتة فی لوح الواقع وتکون نسبته إلیها نسبة الطبیعی إلی فرده ومصداقه بالذات، فتعددهما یوجب تعدد المعنون فی الخارج وجوداً وماهیةً لاستحالة انتزاع عنوانین متباینین ذاتاً کالفوقیة و التحتیة ونحوهما من خصوصیة ذاتیة واحدة، و إن کان منتزعاً خصوصیة تعلیلیة، بأن یکون منشأ انتزاع کل منهما غیرمعروضه ومعنونه فی الخارج، فتعددهما لایؤدی إلی تعدد المعنون بنحو ضابط کلی، بل لابد حینئذٍ من النظر إلی أن المعنون لهما فی مورد الالتقاء هل هو واحد ذاتاً وحقیقة فی الخارج، أو متعدد کذلک، فعلی الأول لامناص من القول بالامتناع، لما عرفتم من أنّ المیزان فی الجواز وعدم لزوم محذور اجتماع الضدین إنما هو تعدد المعنون فی الخارج وجوداً وماهیةً، کما إن المیزان فی استحالة

ص:307

الاجتماع إنما هو بوحدة المعنون کذلک و إن کان العنوان الذهنی متعدداً إذ لاقیمة لتعدده طالما یکون المعنون فی مورد الاجتماع واحداً وجوداً وذاتاً.

نتیجة البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی ان العنوان إذا کان ذاتیاً فتعدده یوجب تعدد المعنون لا محالة لاستحالة انطباق عنوانین ذاتیین علی معنون واحد وجوداً وماهیة، وعندئذٍ فلا اشکال فی جواز اجتماع الأمر و النهی، و إذا کان عرضیاً فلابد من النظر إلی المعروض و المعنون فی الخارج، فإنه إن کان واحداً وجوداً وماهیة فلا مناص من القول بالامتناع بلا فرق فی ذلک بین أن یکون العنوانان کلاهما عرضیاً أو أحدهما ذاتیاً و الآخر عرضیاً، لأن المیزان إنما هو بوحدة المعروض و المعنون فی الخارج، و أما إذا کان متعدداً فلا مناص من القول بالجواز بلافرق فی ذلک أیضاً بین أن یکونا عرضیین أو أحدهما عرضیاً و الآخر ذاتیاً هذا.

ثلاثة آراء فی المسألة:

اشارة

الرأی الأول: ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره من الضابط العام هو ان تعدد العنوان لایوجب تعدد المعنون ولاینثلم به وحدته(1).

الرأی الثانی: ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من الضابط العام و هو ان متعلق الوجوب و الحرمة إن کان من المبادی الاشتقاقیة، کان الترکیب بینهما انضمامیاً فی مورد الاجتماع و إن کان من المشتقات، کان الترکیب بینهما اتحادیاً فیه(2).

الرأی الثالث: ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من التفصیل فی المسألة ونقد اطلاق

ص:308


1- (1) - کفایة الاصول ص 159.
2- (2) - أجود التقریرات ج 1 ص 339.

کل من الرأیین الأولین(1).

ثلاثة آراء فی المسألة

أما الرأی الأول، فقد ذکر المحقق الخراسانی قدس سره فی وجه اثبات هذا الرأی مجموعة من المقدمات:

الاُولی: ان الأحکام الخمسة التکلیفیة متضادة فی مقام فعلیتها وبلوغها مرتبة البعث و الزجر، ضرورة ثبوت المنافاة و المعاندة التامة بین البعث نحوواحد فی زمان و الزجر عنه فی نفس ذاک الزمان و إن لم تکن بینها مضادة مالم تبلغ إلی تلک المرتبة، لعدم المنافاة و المعاندة بین وجوداتها الإنشائیة قبل البلوغ إلیهاکما لایخفی، فاستحالة اجتماع الأمر و النهی فی واحد لاتکون من باب التکلیف بالمحال بل من جهة أنه بنفسه محال، فلایجوز حتی من یجوز التکلیف بغیرالمقدور. ومقصوده قدس سره من هذه المقدمة هو أن المضادة و المعاندة بین الأحکام الخمسة إنما هی فی مرتبة فعلیتها وبلوغ تلک الأحکام حدّ البعث و الزجر الحقیقین، فلا مضادة بینها فی مرتبة الانشاء فضلاً عن مرتبة الاقتضاء، واستحالة الجمع بینها فی هذه المرتبة فی شیء واحد وزمن فارد انما هی من باب استحالة اجتماع الضدّین، فلهذا لاتختص بمذهب دون مذهب بل هو محال مطلقاًحتی عند الأشاعرة القائلة بجواز التکلیف بالمحال.

الثانیة ما ملخصه: ان الأحکام الشرعیة لم تتعلق بالأسماء و الألفاظ ولابالعناوین الإنتزاعیة التی لامطابق لها فی الخارج وإنما تتعلق بأفعال المکلفین الصادرة عنهم خارجاً، ضرورة ان الغرض سواءً أکان مصلحة أم مفسدة أم غیرهما، لا یترتب علی الأسماء و الألفاظ المجردة ولا علی العناوین الانتزاعیة التی لاواقع موضوعی لها ماعدا وجودها فی عالم الذهن، وإنما یترتب علی تلک

ص:309


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 240 و 272.

الأفعال الخارجیة الصادرة من المکلفین خارجاً.

الثالثة: ما مضمونه ومغزاه هو أن تعدد العنوان بشتّی أنواعه وأشکاله لایوجب تعدد المعنون فی الخارج، ضرورة انه لا مانع من انطباق عناوین متعدّدة علی معنون واحد فیه، ولایوجب تعدّده کانطباق عنوان الأب والابن و الأخ و الزوج و العالم و القادر وما شاکل ذلک علی شخص واحد کزید مثلاً، بل تنطبق علی ذات واحدة بسیطة من تمام الجهات کذاته تعالی وتقدس، فإن مفاهیم الصفات العلیا الذاتیة کالعالم و القادر ونحوهما و الصفات الفعلیة کالخالق و الرازق و المتکلم و المرید وما شابه ذلک، تنطبق جمیعاً علی ذاته الأحدیة مع أنهابسیطة فی غایة البساطة، وذلک لأن اختلاف هذه العناوین و المفاهیم انما هوبالاعتبار والاضافة لا بالذات و الحقیقة، مثلاً اللَّه تعالی عالم باعتبار انکشاف الأشیاء لدیه وقادر باعتبار قدرته علی التکوین والایجاد وخالق باعتبار خلقه الأشیاء ورازق باعتبار رزقه الناس وهکذا، فلا أثر لتعدد هذه العناوین ولایؤثر فی المعنون أصلاً(1).

ونتیجة هذه المقدمات هی ان المجمع فی مورد الاجتماع حیث إنه واحد وجوداً وماهیةً، فیستحیل اجتماع الأمر و النهی فیه لأنه من اجتماع الضدّین و هو محال ولایجدی تعدد العنوان.

و لنأخذ بالنظر إلی هذه المقدمات، أما المقدمة الاُولی فهی مبنیة علی نظریته قدس سره من أن للحکم مراتب متعددة منها مرتبة فعلیته بفعلیة موضوعه فی الخارج، ولکن قد ذکرنا فی محله انه لا أساس لهذه النظریة، وذلک لأن للحکم بماهو اعتبار مرتبة واحدة و هی مرتبة الجعل باعتبار انه یوجد به فی عالم الاعتبار

ص:310


1- (1) - کفایة الاصول ص 159-158.

والذهن وفعلی فی هذا العالم، ولایعقل أن یوجد فی الخارج بوجود موضوعه فیه وإلاّ لزم أن یکون أمراً خارجیاً و هو خلف. نعم، فعلیة فاعلیته ومحرکیته للمکلف فی الخارج تتوقف علی وجود موضوعه فیه و هی أمر تکوینی لا اعتباری.

والخلاصة: ان للحکم بما هو اعتبار مرتبة واحدة و هی مرتبة الجعل، فإن وجوده وفعلیته إنما هو بنفس الجعل والاعتبار من قبل المولی، ولایتصور أن یکون له وجود آخر و هو وجوده الخارجی، بداهة انه لایعقل أن یکون للحکم وجود خارجی وإلاّ لکان خارجیاً، فلهذا تکون فعلیته بنفس وجوده فی وعاء الاعتبار و الذهن. نعم، فعلیة فاعلیته ومحرکیته للمکلف لاتکون إلاّ بفعلیة موضوعه فی الخارج، مثلاً وجوب الحج الموجود فی عالم الاعتبار و الجعل لایکون فاعلاً ومحرکاً للمکلف نحو الاتیان بالحج وداعیاً له نحوه إلاّ بعد استطاعته فی الخارج فإذا استطاع کانت فاعلیة وجوب الحج فعلیة بالنسبة إلیه، ووجوب الصلاة مثلاً إنما یکون فاعلاً ومحرکاً للمکلف نحو الاتیان بها إذادخل الوقت مع توفر سائر شروطه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، ان متعلق الأمر و النهی فی مرحلة الجعل والاعتبار العنوان الذهنی ولاتنافی بینهما فی هذه المرحلة، لأن متعلق أحدهما فیها غیرمتعلق الآخر، ولکن تعدد متعلقیهما بالذات لایجدی فی الاجتماع طالما إذا کان متعلقاهما بالعرض فی الخارج واحداً وجوداً وماهیة، ضرورة انه مادام یکون کذلک یستحیل اجتماع الأمر و النهی فیه.

واما المقدمة الثانیة، و هی ان الأحکام الشرعیة لم تتعلق بالأسماء و الألفاظ ولا بالعناوین الانتزاعیة وإنما تتعلق بالأفعال الخارجیة الصادرة من المکلفین فی

ص:311

الخارج، ففیه انه ارید بعدم تعلقها بالعناوین الانتزاعیة عدم تعلقها بما هی اعتبارمن قبل الشارع کالوجوب و الحرمة، فیرد علیه ان تعلقها بما هی اعتبار بالأفعال الخارجیة مستحیل لأمرین:

الأول: انها لیست بخارجیة حتی تتعلق بها.

الثانی: انه یلزم من تعلقها بها طلب الحاصل إذا کانت متمثلة فی الوجوب و التکلیف بالمحال إذا کانت متمثلة فی الحرمة وکلاهما محال، و إن ارید به عدم تعلقها بها بما لها من المبادی یعنی المصلحة و المفسدة والارادة و الکراهة و الحب و البغض، فیرد علیه ان المصلحة و المفسدة بوجودهما الذهنی قائمتان بعنوان الفعل فی عالم الذهن، واما بوجودهما الخارجی فهما مترتبتان علی الفعل فی عالم الخارج، واما الارادة و الکراهة و الحب و البغض فقد تقدّم انها من الصفات النفسانیة الحقیقیة ذات الاضافة کالعلم ولها معروض بالذات فی عالم النفس و هوعینها، ولافرق بینهما إلاّ بالاعتبار ومعروض بالعرض و هو الفعل فی الخارج و المطلوب الأصلی، والمحصل لغرض المولی انما هو وجوده فیه، وحیث إن الأحکام الشرعیة لیست بخارجیة فلهذا یکون متعلقها العناوین و المفاهیم الذهنیة بنحو المعرفیة و المشیریة المحضة وبالحمل الأولی التصوری لا بنحوالاستقلالیة و الموضوعیة وبالحمل الشایع الصناعی التصدیقی، فإنها بهذا الحمل موجودة مستقل فی عالم الذهن فی مقابل وجودها فی عالم الخارج بینما تکون بالحمل الأولی التصوری مرآة للخارج ولایری غیره، ولهذا یقال انها بهذا الحمل عین الخارج باعتبار انه لایری به غیره.

والخلاصة: ان الأحکام الشرعیة متعلقة بالعناوین و المفاهیم الذهنیّة بنحو المرآتیة و الفنائیة الصرفة لابنحو الموضوعیة ولهذا لاتکون تلک المفاهیم

ص:312

والعناوین مطلوبة وانما هی قنطرة موصلة إلی المطلوب، و هذا لابمعنی انهاموصولة للحکم إلی الخارج وقنطرة لمروره وسرایته لما إلیه لما عرفت من استحالة تعلق الحکم بالخارج بل بمعنی انه تعلق بالعنوان و المفهوم الذهنی الذی یری به عین الخارج لا أنه عین الخارج وبینهما بون بعید، فما ذکره قدس سره من ان الأحکام الشرعیة لم تتعلق بها وانما تتعلق بالأفعال الخارجیة فلایتم، وعلی هذا فلابد من النظر إلی إن المعروض و المعنون فی مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهیة أو لا، فعلی الأول لا مناص من القول بالامتناع فی المسألة، وعلی الثانی من القول بالجواز.

و أما القسم الثالث، و هو ما إذا کان کلا العنوانین المتعلقین للأمر و النهی انتزاعیاً، فلابد فیه من النظر إلی ان المعروض و المعنون فی مورد الاجتماع هل هوواحد وجوداً وماهیةً أو متعدد کذلک؟

والجواب: انه لاشبهة فی أن لکل من العنوانین الانتزاعیین منشأ انتزاع إذ لایمکن انتزاعهما من منشأ واحد، بداهة استحالة أن یکون شیء واحد منشأً لانتزاع عنوانین متباینین، وعلی هذا فلابد من النظر إلی أن منشأ انتزاع کل منهماهل هو جهة تقییدیة للمعروض و المعنون فی الخارج أو جهة تعلیلیة له، فعلی الأول یکون المعروض و المعنون فی مورد الاجتماع متعدداً وجوداً وماهیة، وعلی الثانی یکون واحداً کذلک، ومن الواضح ان هذا یختلف باختلاف الموارد ولیس له ضابط کلی فی تمام الموارد، وعلیه فلابد من النظر إلی کل مورد بخصوصه بقطع النظر عن مورد آخر. فالنتیجة، ان هذه المقدمة أیضاً غیر تامة ولایمکن الأخذ بظاهرها.

أما المقدمة الثالثة، و هی ما ذکره قدس سره من أن تعدد العنوان بشتی ألوانه

ص:313

وأشکاله یوجب تعدد المعنون ولاینثلم به وحدته، فقد ظهر مما تقدم انها لاتتم مطلقاً، ضرورة ان العنوان اذا کان متأصلاً فی کلا طرفی مورد الاجتماع، فقد مرّأن تعدده یوجب تعدد المعنون فیه لا محالة، واما إذا لم یکن متأصلاً فی کلاطرفیهما، فعندئذٍ إن کان متأصلاً فی أحدهما دون الآخر فلابد من النظر إلی منشأ انتزاعه، فإن کان نفس الخصوصیة الذاتیة فی العنوان الذاتی کان المعنون لهما واحداً فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً، وعلیه فیستحیل اجتماع الأمر و النهی فیه لاستحالة اجتماع المصلحة و المفسدة والارادة و الکراهة و الحب و البغض فی شیء واحد، کما انه لایمکن الجمع بینهما فی مرحلة الاقتضاء و الفعلیة أیضاً، کیف فإن الوجوب یقتضی الاتیان به خارجاً و الحرمة تقتضی الاجتناب عنه کذلک، و إن کان منشأ انتزاعه شیئاً آخر مبایناً للعنوان الذاتی، کان المعنون لهما فی مورد الالتقاء متعدداً إذا کان منشأ انتزاعه جهة تقییدیة، واما إذا کان جهة تعلیلیة ففیه تفصیل کما تقدم، و إن کان کلاهما انتزاعیاً فحینئذٍ إن کان منشأ انتزاع کل منهماجهة تقییدیة فتعدده یوجب تعدد المعنون فیه، و إن کان جهة تعلیلیة فلایکشف تعددهما عن تعدد المعنون فیه کما مر تفصیله فالنتیجة، ان ما ذکره قدس سره بنحوضابط کلی لا أصل له.

و أما الرأی الثانی، و هو رأی المحقق النائینی قدس سره فقد ذکر ان العناوین الانتزاعیة علی نوعین:

النوع الأول: العناوین الاشتقاقیة کالعالم و القادر و المتحرک و الساکن ونحوها.

النوع الثانی: المبادی الاشتقاقیة کالعلم و القدرة و الحرکة وما شاکلها.

أما النوع الأول، فلأنه من العناوین الانتزاعیة و المفاهیم الاعتباریة التی

ص:314

تنتزع من الجهات التعلیلیة ولا واقع موضوعی لها فی الخارج، ولهذا تسمی تلک العناوین المحمولة علی الذات بلحاظ قیام المبدء بها بنحو من أنحاء القیام بخارج المحمول فی مقابل المحمول بالضمیمة، ومن الواضح ان قیام المبدء بها یکون من الحیثیات التعلیلیة، لأن الحمل انما هو علی الذات لا علیها وعلی المبدء القائم بهامعاً، وعلی هذا فالمعنون فی مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهیة، وعلیه فصدق کل من العالم و القادر و المتحرک علی زید انما هو علی ذاته الموحدة، وحیثیة قیام العلم به حیثیة تعلیلیة لاتقییدیة وکذلک حیثیة قیام القدرة به، أو فقل ان صدق کل واحد من هذه العناوین معلول لعلة خارجة عما ینطبق الکل علیه مثلاً صدق عنوان العالم علی زید معلول لقیام العلم به الذی هو جهة تعلیلیة وخارج عماینطبق العنوان علیه و هو زید وکذلک صدق عنوان القادر و العادل وما شاکلهما، ولهذا لایمکن أن یوجب تعدد هذه العناوین تعدد المعنون فی الخارج، و إن کانت النسبة بینهما عموماً من وجه کالمصلی و الغاصب و الأسود و الأبیض وماشاکلهما، فإن المجمع بینهما واحد وجوداً وماهیة.

و أما النوع الثانی من العناوین الانتزاعیة کعنوان العلم و القدرة و الحرکة و الشجاعة ونحوها، فحیث إنها تنتزع من نفس المبادی الواقعیّة التی هی عناوین ذاتیة وموجودة فی الخارج، فلایعقل أن یکون الترکیب بین العنوانین منها اتحادیاً، بداهة ان الترکیب الاتحادی انما یتصور بین جزئین یکون أحد هماقوة محضة و الآخر فعلیة کذلک کالمادة و الصورة، واما الترکیب الاتحادی بین أمرین فعلیین فهو غیر معقول، لأن کل فعلیة تالی عن فعلیة اخری، وعلی هذا فصدق عنوان العلم علی مصداقه انما هو من جهة انه علم وکذلک عنوان الحرکة، فان صدقه علی واقعها انما هو من جهة انه حرکة وهکذا، و هذا هو معنی ان انتزاع هذه العناوین انما هو من الیة التقییدیة الذاتیة.

ص:315

وعلی الجملة فعناوین المبادی الذاتیة ومفاهیمها الانتزاعیة الذهنیة منتزعة من الحیثیة الذاتیة لها، فلذلک یتطلب تعدّدها تعدد مصادیقها ومعنوناتها فی الخارج، مثلاً مفهوم العلم منتزع من الحیثیة الذاتیة للعلم وکذلک مفهوم القدرة و الحرکة ونحوها، ومن هذا القبیل مفهوم الصلاة فإنه منتزع من الحیثیة الصلاتیة التی تتقوم الصلاة بها، ومن الواضح ان هذه المفاهیم الذهنیة لایمکن أن تکون منتزعة من الحیثیات الخارجة عن ذواتها، وإلاّ فلازم ذلک أن لاتکون تلک المفاهیم المنتزعة مفهوم العلم و القدرة و الصلاة ونحوها و هو کما تری، و هذا هوالفرق بین العناوین الاشتقاقیة وعناوین مبادیها، وان تعدد الاُولی لایوجب تعدد المعنون بینما تعدد الثانیة یوجب تعدده، ولهذا قال قدس سره ان الترکیب فی مورد الاجتماع بلحاظ العناوین الاشتقاقیة اتحادی و أما الترکیب فیه بلحاظ عناوین المبادی الذاتیة فهو انضمامی.

وعلی هذا، فالترکیب بین الصلاة و الغصب فی مورد الاجتماع انضمامی، لأن حقیقة الصلاة متمثلة فی مقولة وحقیقة الغصب متمثلة فی مقولة اخری، والمقولات أجناس عالیات ومتباینات بالذات و الذاتیات، فیستحیل اندراج مقولتین أو أکثر تحت مقولة واحدة، وعلی هذا فلایمکن أن یکون الترکیب بین الصلاة و الغصب اتحادیاً فلامحالة یکون انضمامیاً، لاستحالة انتزاع مفهومین الذین تکون النسبة بینهما عموماً من وجه من موجود واحد بجهة واحدة وإلاّ لزم أن یکونا متساویین مترادفین، لاستحال انتزاع مفهومین متباینین من منشأ واحد، فإنه بمثابة صدور معلولین متباینین من علة واحدة، وملاک التساوی و الترادف هو أن یکون صدق کل منهما علی أفراده متحداً مع صدق الآخر علیهافی الملاک و الجهة، و هذا بخلاف مفهومین تکون النسبة بینهما عموماً من وجه، فإن جهة الصدق فی کل منهما مغایر لجهة الصدق فی الآخر.

ص:316

والخلاصة: ان مبادی المشتقات متباینات بالذات و الذاتیات، لأن کل مبدء مباین لمبدأ آخر وجوداً وماهیة سواءً أکان فی مورد الاجتماع أم الافتراق، ضرورة أن الصلاة الموجودة فی مورد الاجتماع مع الغصب هی نفس الصلاة الموجودة فی مورد الافتراق، لأن جهة الصدق فی کلا الموردین واحدة فلافرق بین صدق الصلاة فی مورد الاجتماع وصدقها فی مورد الافتراق فإن صدقها فی کلا الموردین علی حصّتها، ویترتب علی ذلک أن الترکیب بین الصلاة و الغصب لا محالة یکون انضمامیاً ولایعقل أن یکون حقیقیاً(1).

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی أن العنوان إن کان من العناوین الاشتقاقیة فتعدده لایوجب تعدد المعنون، إذ لامانع من قیام اعراض متعددة به، و إن کان من المبادی الذاتیة فتعدده لا محالة یکون بتعدد معنونه، وعلی هذا فالترکیب علی الأول فی مورد الاجتماع اتحادی وعلی الثانی انضمامی هذا.

تفصیل السید الأستاذ قدّس سرّه ما أفاده المحقق النائینی قدّس سرّه

أما السید الاُستاذ قدس سره فقد ذکر ان ما أفاده المحقق النائینی قدس سره بالنسبة إلی العناوین الاشتقاقیة تام، ولکنه علق علی ما أفاده قدس سره بالنسبة إلی المبادی الاشتقاقیة، اما تمامیة الأول فلما مرّ من أن جهة الصدق فی صدق العناوین الاشتقاقیة علی ذواتها لامحالة تکون تعلیلیة لاتقییدیة، ضرورة أنه لایمکن تعقل النسبة بالعموم من وجه بین عنوانین منها إلاّ إذا کانت الذات فی موردالاجتماع واجدة وجوداً وماهیة(2).

و قد تقدم أن العناوین الاشتقاقیة محمولة علی الذوات فحسب من جهة قیام

ص:317


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 338 341.
2- (2) - المحاضرات ج 4 ص 274.

مبادیها بها و هو حیثیة تعلیلیة لاتقییدیة. فالنتیجة، ان ما ذکره قدس سره بالنسبة إلی العناوین الاشتقاقیة تام ولا مناص من الالتزام به.

و أما التعلیق علی الثانی، فلابد فیه من التفصیل بین ما إذا کانت المبادی من الماهیات المتأصلة و المقولات الحقیقیة، وما إذا کانت من الماهیات الانتزاعیة و المقولات الاعتباریة، أما إذا کانت من الاُولی فیستحیل اتحاد اثنین منها فی الخارج وصدق أحدهما علی الآخر، بداهة استحالة اتحاد مقولتین خارجاً وصدق احداهما علی الاُخری من دون فرق فی ذلک بین أن تکونا عرضین أوجوهرین أو احداهما جوهراً والاُخری عرضاً، إذ کما یستحیل صدق الجوهرعلی العرض وبالعکس کذلک یستحیل صدق العرض علی العرض و الجوهرعلی الجوهر الآخر، وعلی هذا فبطبیعة الحال یکون الترکیب بین مبدئین متأصلین فی مورد الاجتماع انضمامیاً.

و إن شئت قلت: ان المبادی المتأصلة کالبیاض و السواد و العلم و القدرة و الشجاعة و الحلاوة و الکرم وماشاکل ذلک، حیث إنها ماهیات متأصلة وحقیقة مقولیة، فلا محالة یستلزم تعددها تعدد المعنون و المطابق فی الخارج علی أساس استحالة اتحاد ماهیة متأصلة مع ماهیة متأصلة اخری خارجاً، فلایمکن اتحاد البیاض مع السواد واتحاد العلم مع القدرة ومع الشجاعة وهکذا، وعلیه فالترکیب الحقیقی بین اثنین منها غیر معقول، لاستلزام ذلک الاتحاد بین ماهیتین متباینتین و هو محال، وعلیه فما أفاده المحقق النائینی قدس سره من أن الترکیب بین متعلقی الأمر و النهی فی مورد الاجتماع ترکیب انضمامی انما یتم فیما إذا کان متعلقاهما من المبادی المتأصلة و الماهیات المقولیة، لأن تعدد العنوان انما یقتضی تعدد المعنون إذا کان من العناوین المتأصلة، واما إذا کانت المبادی من العناوین الانتزاعیة بأن

ص:318

یکون کلا العنوانین فی مورد الاجتماع انتزاعیاً أو أحدهما انتزاعیاً و الآخر أصیلاً، فلایقتضی تعدده تعدد المعنون فی الخارج کما هو الحال فی العناوین الاشتقاقیة، وحینئذٍ فلابد من النظر إلی أن العنوانین الانتزاعین هل ینطبقان علی معنون واحد وجوداً وماهیة فی مورد الاجتماع أو علی معنونین منضمین فیه، فعلی الأول یکون منشأ انتزاع کل منها حیثیة تعلیلیة لاتقییدیة کما هو الحال فی العناوین الاشتقاقیة، وعلی الثانی یکون تقییدیة، وعلیه فالمعنون لکل منها غیرالمعنون للآخر فی مورد الاجتماع، بیان ذلک ان العنوانین المتصادقین علی موردالاجتماع لایخلوان من أن یکونا من العناوین المتأصلة و المقولات الحقیقیة أوأحدهما من العناوین الذاتیة و الآخر من العناوین الانتزاعیة أو یکون کلاهما من العناوین الانتزاعیة ولا رابع فی البین. فالنتیجة، أن صور المسألة فی المقام ثلاثة:

صور المسألة

أما الصورة الاُولی، و هی ما إذا کان کلا العنوانین من العناوین الذاتیة، فقدتقدم الکلام فیها موسعاً وقلنا ان تعدد العنوان الذاتی یوجب تعدد المعنون لامحالة ولایمکن وحدته مع تعدد هذا العنوان.

و أما الصورة الثانیة، و هی ما إذا کان أحد العنوانین ذاتیاً و الآخر انتزاعیاً، فقد تقدم أن تعددهما لایستدعی تعدد المعنون و المطابق فی الخارج، والنکتة فی ذلک أن العنوان الانتزاعی إن کان منتزعاً من خصوصیة فی مرتبة ذات العنوان المتأصل، فالمعنون و المطابق لهما واحد فی الخارج و إن کان منتزعاً من خصوصیة خارجة عن ذات العنوان الذاتی، فإن کانت حیثیة تعلیلیة لانطباقه علی المعنون للعنوان الذاتی فی مورد الاجتماع فهو واحد أیضاً، و إن کانت حیثیة تقییدیة فالمعنون فیه متعدد، مثال ذلک ما إذا توضّأ المکلف بماء غیره بدون طیب نفسه، فإن الوضوء عنوان ذاتی واسم للافعال الخاصة الخارجیة وینطبق علیها

ص:319

انطباق الطبیعی علی أفراده و الکلیّ علی مصادیقه، والغصب عنوان انتزاعی لأنه لیس من أحد المقولات التسع العرضیة بل هو عنوان عرضی للمقولة وینطبق علی واقع الوضوء، ومنشأ انتزاعه عدم رضاء المالک به و هو حیثیة تعلیلیة لاتقییدیة، فالمعنون حینئذٍ فی المثال واحد، ومن هذا القبیل ما إذا أمر المولی شخصاً بشرب الماء فإنه إذا شرب الماء المغصوب عامداً ملتفتاً انطبق علیه عنوانان:

أحدهما: متأصل و هو عنوان شرب الماء.

والآخر: عرضی انتزاعی و هوعنوان الغصب، باعتبار ان منشأ انتزاعه عدم رضاء المالک به و هو حیثیة تعلیلیة خارجة عن معنونه ومطابقه فی الخارج فیکون المعنون فی مورد الاجتماع واحداً وجوداً وماهیة، و أما إذا کان معنونه ومطابقه فیه غیر المعنون للعنوان الذاتی ومطابقه فیکون الترکیب بینهما عندئذٍ انضمامیاً، مثاله التکلم فی الدار المغصوبة إذا فرض انه مأمور به، فإنه لایکون متحداً مع الحرام باعتبار انه من مقولة الکیف المسموع و الحرام و هو الکون فی الدار المغصوبة من مقولة الأین و المقولات متباینات بتمام ذاتها وذاتیاتها، فلایمکن الاتحاد بینها واندراجها تحت مقولة واحدة، فإذن لاینطبق العنوان الانتزاعی و هو الغصب علی ماینطبق علیه العنوان الذاتی و هو التکلم، وعلیه فلامحالة یکون الترکیب بینهما انضمامیاً ومعه لامانع من القول بالجواز فی المسألة.

و أما الصورة الثالثة، و هی ما إذا کان کلا العنوانین انتزاعیاً، فلابد من النظرفی أن کلیهما منتزع من موجود واحد فی الخارج بحیثیة مختلفة، بمعنی أن ذلک الموجود الواحد منشأ لانتزاع أحدهما بحیثیة ولانتزاع الآخر بحیثیة اخری و إن کلاً منهما منتزع من موجود مستقل، فعلی الأول یکون الترکیب بینهما اتحادیاً فی

ص:320

مورد الاجتماع وعلی الثانی یکون انضمامیاً، مثال الأول الافطار فی نهار شهررمضان بمال الغیر فإنه مجمع لعنوانین (هما عنوانی الغصب والافطار) ومصداق لهما معاً، لأنه متمثل فی فعل واحد فی الخارج وجوداً وماهیة و هو الأکل، حیث إنه کما یکون منشأ لانتزاع عنوان الغصب من جهة تعلقه بمال الغیر بدون اذنه، یکون منشأ لانتزاع عنوان الافطار من جهة وقوعه فی نهار شهر رمضان فانتزاع کل من هذین العنوانین منه معلول لجهة خاصة، ومن الواضح ان انتزاعهما من شیء واحد بجهتین مختلفتین لاینافی کون المصداق الخارجی لهماواحداً وجوداً و ماهیة.

والنکتة فی ذلک، ان النسبة بالعموم من وجه لاتتصور إلاّ بین عنوانین انتزاعیین اللذین هما من قبیل خارج المحمول أو بین عنوان انتزاعی وعنوان مقولی، إذ لا مانع من صدق عنوانین انتزاعیین علی شیء واحد فی الخارج إذاکانت فیه حیثیتان أو أکثر کما هو الحال فی صدق العناوین الاشتقاقیة علی شیء واحد فی الخارج وجوداً وماهیة بلحاظ أنحاء قیام المبادی به، وکذلک لامانع من صدق العنوان الانتزاعی علی ما یصدق علیه العنوان الذاتی، ومن هنایستحیل تحقق النسبة بالعموم من وجه بین جوهرین وعرضیین وعرض وجوهر، وذلک لأن المقولات أجناس عالیات ومتباینات بالذات و الذاتیات، فلایمکن اتحاد مقولتین منها خارجاً واندراجهما تحت مقولة ثالثة، لأنه خلف فرض کون المقولات أجناس عالیات فلاجنس فوقها.

وعلیه فلایمکن أن یکون موجود واحد مصداقاً لمقولتین من الجواهر أو الاعراض أو جوهر وعرض، بل لایمکن اتحاد نوع من مقوله مع نوع آخر منها فإنهما و إن کانا مشترکین فی الجنس إلاّ انهما متمیزان بالفصل المقوّم، والمفروض

ص:321

ان نوعیة النوع انما هی بالفصل، فلو فرض اتحاد نوع مع نوع آخر لزم تفصل شیء واحد بفصلین فی عرض واحد و هو محال، بداهة ان فعلیة الشیء انما هی بفصله المقوم و المحصل له وفرض وجود فصلین مقومین له فرض وجودین فعلیین له، ومن الواضح انه لایعقل أن یکون لشیء واحد وجودان فعلیان فی عرض واحد فی الخارج.

فالنتیجة، ان النسبة بالعموم من وجه لاتتصور بین جوهرین ولا عرضین ولا جوهر وعرض وانما تتصور بین عنوانین انتزاعیین أو عنوانین یکون أحدهما ذاتیاً و الآخر انتزاعیاً، ومثال عنوانین انتزاعیین غیر منطبقین علی شیء واحد فی الخارج الافطار فی نهار شهر رمضان فی المکان المغصوب بمال مباح أو مملوک، فإن عنوان الافطار منتزع من شیء وعنوان الغصب منتزع من شیءآخر مباین له، لأن الأول منتزع من الأکل و المفروض انه لیس مصداقاً للتصرف فی مال الغیر. والثانی، منتزع من الکون فی هذا المکان لا من الأکل فیه، فإذن یکون المعنون و المطابق لکل منهما مبایناً للآخر فلایلزم اجتماع عنوانین علی معنون واحد فی مورد الاجتماع، لأن المأمور به فیه غیر المنهی عنه فی الوجود الخارجی و إن کان منضماً معه فیه وملازماً له فی الوجود ولکن الحکم لایسری من أحد المتلازمین إلی الملازم الآخر لا قهراً فإنه غیر معقول ولا جعلاً لعدم المبرر له وعلیه فلا مانع من القول بالجواز فی مثل هذا المثال، نعم عنوان الغاصب و المفطر منطبقان علی شخص واحد فی مورد الاجتماع إلاّ انهما أجنبیان عن محل الکلام، فإن محل الکلام انما هو فی عناوین المبادی کعنوان الغصب والافطار، والمفروض انهما لاینطبقان علی شیء واحد فیه فی المثال وأمثاله.

ص:322

إلی هنا قد تبین أنه لیس لنا ضابط کلی لکون المجمع فی مورد الاجتماع واحداً وجوداً وماهیةً أو متعدداً کذلک، بل لابد من ملاحظة العنوانین المتعلقین للأمروالنهی فی مورد الاجتماع، فإن کانا من المبادی المتأصلة و المقولات الحقیقیة فقد مرّ ان تعددها یستلزم تعدد المعنون فی مورد الاجتماع لا محالة، و إن کانا من المبادی الانتزاعیة و المفاهیم الاعتباریة أو کان أحدهما من المبادی الانتزاعیة و الآخر من المبادی المتأصلة، فقد عرفتم انهما قد ینطبقان علی شیء واحدوجوداً وماهیة فی مورد الاجتماع و قد ینطبقان علی شیئین متعددین فیه ولیس لذلک معیار عام، فما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن متعلق الأمر و النهی إذا کانامن المبادی فتعدده یوجب تعدد المعنون(1) غیر تام بنحو ضابط کلی.

خلاصة رأی السید الأستاذ قدّس سرّه

ومن هنا یظهر رأی السید الاُستاذ قدس سره فی المسألة وملخصه: «انه لاضابط کلی للقول بالجواز فی المسألة ولا للقول بالامتناع، فإن الأول مبنی علی أن یکون المجمع فی مورد الاجتماع متعدداً وجوداً وماهیة، والثانی مبنی علی أن یکون المجمع فیه واحداً کذلک ولیس لذلک میزان خاص، فإن متعلقی الأمر و النهی بالذات وفی افق النفس و إن کان متعدداً إلاّ أنه لا ملازمة بین تعددهما فی افق النفس وتعددهما فی افق الخارج الذی هو ملاک القول بالجواز إلاّ إذا کان کلاهما من المبادی المتأصلة و الماهیات المقولیة، و أما إذا کان کلاهما من العناوین الانتزاعیة أو أحدهما منها و الآخر من العناوین المتأصلة، فلایستلزم تعددهمافی افق الذهن تعددهما فی افق الخارج بل هو یختلف باختلاف الموارد، فلابدحینئذٍ من النظر فی کل مورد بخصوصه وانهما هل ینطبقان فی مورد الاجتماع علی

ص:323


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 355-354.

شیء واحد وجوداً وماهیةً أو علی شیئین کذلک هذا(1) ، و قد علّق بعض المحققین قدس سره علی ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن العنوان إذا کان من المبادی دون المشتقات فتعدده یوجب تعدد المعنون فی مورد الاجتماع لایتم بنحو ضابط کلی(2) ، وحاصل هذا التعلیق علیه هو ان هذا النزاع بینهما یرجع فی الحقیقة إلی النزاع فی الصغری لا الکبری، بمعنی أن مرد هذا النزاع روحاً إلی تشخیص أن الحمل المعقول فی العناوین الانتزاعیة هل هو حمل الاشتقاق فقط و هو حمل ذو هو فیقال السقف فوق أی ذو فوقیة کما یقال الانسان عالم أی ذو علم أو حمل المواطاة أی حمل هو هو الذی هو عبارة عن حمل الطبیعی علی فرده کما هو الحال فی حمل المبادی الذاتیة المتأصلة علی مصادیقها فی الخارج فیه قولان، فاختار المعلق قدس سره الثانی، بتقریب أن للعناوین الانتزاعیة مصادیق فی الخارج کالعناوین الذاتیة ومحمولة علیها بحمل المواطاة، مثلاً الفوقیّة منتزعة من الحیثیة الثابتة فی لوح الواقع الذی هو أعمّ من لوح الوجود فیشار إلیها ویحمل علیها عنوان الفوقیة علی حد حمل المبادی الذاتیة علی مصادیقها بحمل مواطاة وکذلک الحال فی التحتیة ونحوها(3).

وعلی الجملة فالنزاع بینهما ینتهی إلی هذه النقطة و هی أن العناوین الانتزاعیة هل لها مصداق بالذات فی الخارج کالعناوین الذاتیة المتأصلة أو لا، فإن کان لها مصداق بالذات فیه کانت محمولة علیه بحمل مواطاة لا محالة کحمل العناوین الذاتیة علی مصادیقها، وما ذکره المحقق النائینی قدس سره مبنی علی هذا القول، فإنه علی هذا لا محالة تکون نسبة هذه العناوین إلی مصداقها بالذات نسبة الماهیات

ص:324


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 280.
2- (2) - بحوث فی علم الاصول ج 3 ص 44.
3- (3) - المصدر المتقدم.

المتأصلة إلی مصداقها فی الخارج، فإذن لا محالة یکون تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون، أما إذا کان من العناوین المتأصلة فمن جهة استحالة أن یکون لعنوانین عرضیین متأصلین بالذات و الذاتیات وجود واحد فی الخارج، بداهة أن لکل ماهیة عرضیة متأصلة وجوداً واحداً، لأن کل ماهیة نوعیة منفصلة بفصل مقوم لها ولا یعقل اشتراک نوعین متأصلین فی فصل واحد فإنه خلف فرض التعدد، و أما إذا کان من العناوین الانتزاعیة فمن جهة استحالة أن یکون لجهة خارجیة واحدة عنوانان ذاتیان عرضیان، بداهة أنه لایمکن انتزاع عنوانین متباینین عرضیین من شیء واحد فی الخارج بأن یکون کلا العنوانین عنواناً ذاتیاً له وأنه مصداق لهما بالذات. و أما إذا لم یکن لها مصداق فی الخارج کما هو المعروف بین الفلاسفة، فالصحیح هو ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن تعدد العنوان إذا کان من العناوین الانتزاعیة لایستلزم تعدد المعنون فی الخارج بل یختلف ذلک باختلاف الموارد، ولابد فی کل مورد من ملاحظة ذلک المورد بخصوصه، ثم انه قدس سره قد اختار ما ذهب إلیه المحقق النائینی قدس سره فی المسألة دون ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره، هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخری، انه قدس سره قد ذکر ثلاثة ملاکات لجواز اجتماع الأمر و النهی فی المسألة:

ملاکات جواز اجتماع الأمر و النهی عند بعض المحققین قدّس سرّه

الملاک الأول: ان الأمر إذا کان متعلقاً بالطبیعة کالأمر بالصلاة مثلاً، کان المطلوب منها صرف وجودها فی الخارج وحینئذٍ، فإذا نهی المولی عن فرد من أفرادها فلا مضادة بینهما، إذ لا مانع من أن یرید المولی صرف وجود الطبیعی المأمور به الجامع بین أفراده وینهی عن فرد ما منه، لفرض أن الأمر لایسری من الجامع إلی أفراده ولا مبادیه.

الملاک الثانی: أن یکون متعلق الأمر غیر متعلق النهی عنواناً و إن انطبقا

ص:325

علی وجود واحد فی مورد الاجتماع خارجاً، ولکن تعدد العنوان یؤدی إلی تعددما هو معروض الأمر و النهی و الحب و البغض بالذات وفی عالم الذهن، و هذا یکفی للقول بالجواز.

الملاک الثالث: أن یکون الترکیب بین عنوانی المأمور به و المنهی عنه انضمامیاً لا اتحادیاً، بمعنی أن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً هذا، ثم أشکل علی الملاک الأول بأنه و إن کان صحیحاً بلحاظ نفس الأمر و النهی باعتبار ان الأمر بما هو اعتبار لایسری من الجامع إلی أحد أفراده علی البدل حتی ینافی النهی عن الفرد الخاص، لأن الوجوب لایجتمع مع الحرمة و إن کان تخییریاً، إلاّ أن الارادة أو الحب المتعلق بالجامع یسری إلی أحد أفراده علی البدل وبنحو التخییر الشرعی، ولازم ذلک تعلق الحب والارادة بالفرد المنهی عنه إذا ترک سائر الأفراد، فعندئذٍ یلزم التضاد بین الأمر بالجامع و النهی عن الفرد فی مرحلة المبادی و هی مرحلة الحب و البغض والارادة و الکراهة هذا، ولکن قد تقدم الاشکال فی هذه السرایة وأن الحب المتعلق بالجامع لایسری إلی أحد أفراده علی البدل بنحو التخییر الشرعی فحاله حال الوجوب المتعلق به، نعم إذا قام المکلف بتطبیق الطبیعی علی الفرد کان الفرد محبوباً ومراداً ولکن لا من جهة وجوده بحده الفردی، بل من جهة وجود الطبیعی فی ضمنه علی تفصیل قد مرّ(1).

المناقشة فی مبنی بعض المحققین قدّس سرّه

إلی هنا قد تبیّن أن ما ذکره بعض المحققین قدس سره یرجع إلی نقطتین:

الاُولی: ان المبادی الانتزاعیة کالمبادی الذاتیة المتأصلة فتعددها یوجب تعدد المعنون فی الخارج ومحمولة علی مصادیقها بالذات خارجاً بحمل مواطاة

ص:326


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 4 ص 45 46.

کالمبادی الذاتیة المتأصلة.

الثانیة: ان القول بالجواز فی المسألة مبنی علی أحد الملاکات الثلاثة المتقدمة هذا. ویمکن المناقشة فی کلتا النقطتین:

أما النقطة الاُولی: فإن کان العنوان من المبادی الذاتیة المتأصلة کالعلم و القدرة و الشجاعة و الضحک و القیام و الجلوس وهکذا، فلا شبهة فی أن حملهاعلی مصادیقها فی الخارج من حمل مواطاة و هو حمل الطبیعی علی أفراده ومصادیقه بالحمل الشایع، و إن کان من المبادی الانتزاعیة فهی علی قسمین:

القسم الأول: ما هو منتزع من خصوصیة هی من مصادیقه بالذات فی الخارج کالفوقیة و التحتیة ونحوهما، فإن الفوقیة منتزعة من خصوصیة متصفة بها ذات الفوق فی لوح الواقع و التحتیة منتزعة من خصوصیة متصفة بها ذات التحت فی الواقع وهکذا، ومن الواضح أن حمل الفوقیة علی هذه الخصوصیة التی هی مصداق لها بالذات من حمل مواطاة أی حمل الطبیعی علی مصداقه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، انه لایعقل انتزاع عنوانین متباینین عرضیین من خصوصیة واحدة بأن یکون لها عنوانان ذاتیان فی الخارج، بداهة أن قیام عنوانین عرضیین بخصوصیة واحدة مستحیل، لأنه کقیام معلولین عرضیین بعلة واحدة، کما أن قیام ماهیتین نوعیتین بوجود واحد فی الخارج مستحیل، لأن لازم ذلک أن یکون موجود واحد منفصلاً بفصلین و هو کماتری، و إذا کانت المبادی الانتزاعیة من هذا القسم، فعلی ضوء هاتین الناحیتین فتعددها یوجب تعدد المعنون فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیة کتعدد العناوین الذاتیة المتأصلة.

القسم الثانی: ما یکون معروضه فی الخارج غیر منشأ انتزاعه کالغصب

ص:327

ونحوه، فإنه إذا أخذ ماء الغیر بدون إذنه صدق علیه عنوان الغصب، ولکن منشأ انتزاعه عدم رضا المالک وطیب نفسه بالأخذ، مثلاً إذا أمر المولی بالسقی لزرع أوشجر أو حیوان أو انسان فسقی بالماء المغصوب، وفی مثل ذلک یکون العنوانان المتعلقان للأمر و النهی منطبقین علی شیء واحد فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً و هو السقی المتّصف بالغصبیة المنتزعة من عدم رضاء المالک وطیب نفسه به و هی جهة تعلیلیة لا تقییدیة، فإذن لایکون تعددهما موجباً لتعدد المعنون فی الخارج لکی یکون الترکیب فی مورد الاجتماع بین متعلقی الأمر و النهی انضمامیاً.

والخلاصة: ان الغصب و إن کان عنواناً للفعل المضاف إلی مال الغیر ولکن منشأ انطباق هذا العنوان علیه واتصافه بالغصبیة إنما هو عدم رضائه وطیب نفسه به وإلاّ فلایکون متصفاً بها ولا منطبقاً علیه عنوان الغصب، فإذن لاموضوعیة للاضافة ولاتکون دخیلة فی الحکم، لأن الحکم یدور مدار طیب نفسه وجوداً وعدماً، والمفروض إن هذا الفعل متعلق الأمر أیضاً بعنوان آخر، فإذن یجتمع العنوانان علی معنون واحد فی مورد الاجتماع، ولابد حینئذٍ من القول بالامتناع لاستحالة اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد بلحاظ عالم المبادی وعالم الاقتضاء.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره قدس سره من أن النزاع بین السید الاُستاذ قدس سره و المحقق النائینی قدس سره یرجع إلی نقطة اخری و هی أن حمل المبادی الانتزاعیة علی معنوناتها هل هو من حمل مواطاة أو من حمل اشتقاق، فاختار المحقق النائینی قدس سره الأول، والسید الاُستاذ قدس سره الثانی لایتم، لأنه لا شاهد علی هذا التفسیر للنزاع بینهما لا فی کلمات السید الاُستاذ قدس سره ولا فی کلمات المحقق النائینی قدس سره، لأن الموجود فی کلمات الأول ان العنوان إذا کان انتزاعیاً فتعدده لایستلزم تعدد المعنون فی مورد

ص:328

الاجتماع، بل لابد من ملاحظة ذلک فی کل مورد بخصوصه، ومن الواضح إن هذا لایدل علی أن حمل العناوین العرضیة الانتزاعیة علی معنوناتها من حمل اشتقاق أی حمل ذو هو، وعلی هذا فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن العنوانین إذا کان أحدهما انتزاعیاً و الآخر ذاتیاً أو کلاهما انتزاعیاً، فلابد من ملاحظة انهما فی مورد الاجتماع منطبقان علی شیء واحد وجوداً وماهیةً أو علی شیئین کذلک، یرجع إلی ما ذکرناه من أن العنوان الانتزاعی فی الفرض الأول قد ینطبق علی نفس ماینطبق علیه العنوان الذاتی باعتبار أن منشأ انتزاعه حیثیة تعلیلیة لاتقییدیة، ولهذا لایصلح أن یکون معنوناً له فی الخارج، و قد ینطبق علی جهة اُخری مباینة للعنوان الذاتی و هی مصداقه ذاتاً ومنشأ انتزاعه، وحینئذٍ فکما أن حمل العنوان الذاتی علی مصداقه فی الخارج من حمل مواطاة، فکذلک حمل العنوان الانتزاعی علی مصداقه فیه من حمل مواطاة و السید الاُستاذ قدس سره لاینکرذلک ولکنه قال انه لایمکن جعل ذلک تحت ضابط کلی، هذا کله فی الفرض الأول، واما فی الفرض الثانی فقد ینطبق عنوانان انتزاعیان علی معنون واحد فی الخارج فیما إذا کان منشأ انتزاع کل منهما حیثیة تعلیلیة لاتقییدیة، وعلی هذا فلایمکن أن یکون حملها علیه من حمل مواطاة، ضرورة انه لایمکن أن تکون جهة واحدة مصداقاً ذاتاً لعنوانین متباینین عرضیین بل أن حملها علیه یکون من حمل اشتقاق، و قد ینطبقان علی معنونین موجودین فی الخارج وهما و إن کانا من مناشیء انتزاعهما إلاّ انهما جهتان تقییدیتان وخصوصیتان ذاتیتان لهما، ولهذایکونا من مصادیقهما ذاتاً، وحینئذٍ فبطبیعة الحال یکون حملها علیهما من حمل مواطاة أی حمل الطبیعی علی فرده ومصداقه الذاتی، والسید الاُستاذ قدس سره لاینکرذلک ولکنه یقول ان ذلک یختلف باختلاف الموارد ولایمکن جعل ذلک تحت ضابط کلی هذا. و أما الموجود فی کلمات المحقق النائینی قدس سره ان تعدد العنوان إذا

ص:329

کان من المبادی یوجب تعدد المعنون فی الخارج فی مقابل ما إذا کان من المشتقات، و هذا لایدل علی أن مراده من ذلک هو أن العنوان إذا کان من المبادی، کان حمله علی معنونه فی الخارج من حمل مواطاة إذ کما یحتمل ذلک یحتمل أن یراد من ذلک العنوان الذاتی المتأصل لامطلق المبادی و إن کانت انتزاعیة.

إلی هنا قد ظهر الاشکال فی نقطتین:

الاُولی: ان ما أفاده قدس سره من أن حمل المبادی الانتزاعیة علی معنوناتها فی الخارج من حمل مواطاة کحمل المبادی الذاتیة المتأصلة علی مصادیقها لایتم بنحو الاطلاق.

الثانیة: ان حمل النزاع بین السید الاُستاذ قدس سره و المحقق النائینی قدس سره علی النزاع فی أن حمل المبادی الانتزاعیة علی معنوناتها فی الخارج هل هو من حمل مواطاة أومن حمل اشتقاق، مما لا شاهد علیه لا فی کلمات السید الاُستاذ قدس سره ولا فی کلمات المحقق النائینی قدس سره.

و أما النقطة الثانیة: فیقع الکلام فیما ذکره قدس سره من الملاکات للقول بالجواز أما الملاک الثالث(1) ، فهو تام وعلیه بنی المحققون من الاُصولیین جواز الاجتماع فی المسألة، و أما الملاک الأول فهو غیر تام لأن جواز الاجتماع علی ضوء هذا الملاک یکون من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا اجتماع فی هذا الفرض لأن الأمرتعلق بصرف وجود الطبیعة و النهی تعلق بفرد منها، والمفروض أن الأمرلایسری منه إلی أفراده علی البدل لا فی عالم الجعل والاعتبار ولا فی عالم المبادی

ص:330


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 3 ص 46.

والاقتضاء، غایة الأمر أن النهی المذکور المتعلق بفرد منها یقید اطلاقها بغیره علی أساس أن الحرام لایمکن أن یقع مصداقاً للواجب و المبغوض مصداقاً للمحبوب و المکروه مصداقاً للمراد، ولهذا لابد من تقیید اطلاق متعلق الأمربغیر هذا الفرد المنهی عنه.

و أما الملاک الثانی، فإن کان متعلق الأمر و النهی من المبادی الذاتیة المتأصلة فتعدده یوجب تعدد المعنون فی الخارج وجوداً وماهیة، فعندئذٍ فلا اشکال فی الجواز بمقتضی الملاک الثالث، وکذلک إذا کان متعلقاهما من المبادی الانتزاعیة التی هی منتزعة من خصوصیة ذاتیة ثابتة فی لوح الواقع، فإن تعددهما یوجب تعدد الخصوصیة الذاتیة لاستحالة انتزاعهما من خصوصیة ذاتیة واحدة کمامرّ، ولهذا یکون حملهما علیها من حمل الطبیعی علی أفراده، و أما إذا کانا من المبادی الانتزاعیة التی یکون منشأ انتزاعها غیر معروضها فی الخارج فلایتطلب تعدد العنوان تعدد المعنون فی الخارج، وحینئذٍ فإذا کان المعنون فی مورد الاجتماع واحداً وجوداً وماهیةً فیه فکیف یکفی تعدد العنوان فی رفع غائلة اجتماع الضدین، وما ذکره فی بیان هذا الملاک من أن تعدد العنوان یؤدی إلی تعدد ما هومعروض الأمر و النهی و الحب و البغض حقیقة وذاتاً، فإن أراد به أنه یوجب تعدد المعروض بالذات للأمر و النهی و الحب و البغض فهو و إن کان صحیحاً، حیث إنه نفس المعروض بالذات لا أنه غیره، باعتبار ان متعلقی الأمر و النهی ذاتاً وبنحو المباشر هو نفس العنوان فی افق الذهن المرآة لما هو المعروض بالعرض إلاّ انه لایجدی إذا کان المعروض بالعرض فی الخارج واحداً فی مورد الاجتماع، باعتبار أن المطلوب الأصلی للمولی هو المعروض بالعرض علی أساس أن غرضه قائم بوجوده لا بالمعروض بالذات، فإنه لاشأن له إلاّ کونه عنواناً ومرآةً له و إن أراد به أنه یوجب تعدد المعروض له بالعرض للأمر و النهی

ص:331

والحب و البغض فی الخارج، ففیه أنه صحیح فی المبادی الذاتیة المتأصلة ومایلحق بها من المبادی الانتزاعیة کالفوقیة و التحتیة ونحوهما لا مطلقاً کما عرفتم.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی أن ملاک القول بالجواز فی المسألة تعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً بأن یکون الترکیب بینهما انضمامیاً لا اتحادیاً، و أما إذا کان واحداً کذلک، فلا مناص من القول بالامتناع و إن کان عنوان متعلقی الأمر و النهی متعدداً، و قد تقدم أنه لایمکن جعل ذلک تحت ضابط کلی بل هو یختلف باختلاف الموارد، لما عرفت من أن العنوان المتعلق للأمروالنهی إن کان من العناوین الذاتیة المتأصلة فتعدده یؤدی إلی تعدد المعنون فی مورد الاجتماع، و إن کان من العناوین الانتزاعیة التی لها مصداق ذاتی فی الخارج فتعدده أیضاً یوجب تعدد المعنون فیه، و إن کان من العناوین الانتزاعیة التی یکون معروضها ومعنونها غیر منشأ انتزاعها فتعدده لایتطلب تعدد المعنون فیه، ولهذا لابد فی کل مورد من ملاحظة ذلک فیه.

نتائج البحث

نستخلص نتائج البحث فی عدة نقاط:

الاُولی: ان التنافی و التضاد بین الأحکام الشرعیة انما هو فی عالم المبادی والاقتضاء لا فی عالم الجعل والاعتبار، فإن الجمع بین المصلحة و المفسدة والارادة و الکراهة و الحبّ و البغض فی شیء واحد لایمکن، کما أنه لایمکن الجمع بین الأمر و النهی فی الاقتضاء، فإن الأول یقتضی الاتیان بمتعلقه و الثانی یقتضی الاجتناب عنه، و أما فی عالم الجعل فلا مضادة بینهما، لأنها بما هی اعتبارات من الشارع فلا واقع موضوعی لها حتی تتصور المضادة بینها.

الثانیة: قد حاول بعض بأن الأمر و النهی لایجتمعان فی شیء واحد، لأن متعلق الأمر صرف وجود الطبیعة ولایسری منه إلی أفرادها ومتعلق النهی

ص:332

مطلق وجودها ولهذا یسری إلی جمیع أفرادها، وعلی هذا فالصلاة فی الأرض المغصوبة بما أنها حصة خاصة من الصلاة المأمور بها فلایسری الأمر إلیها، فإذن لایجتمع الأمر و النهی فیها.

الثالثة: قد نوقش فی هذه المحاولة بعدة مناقشات، الأولی أن الأمر المتعلق بصرف وجود الطبیعة و إن لم یسری بما هو اعتبار إلی أحد أفرادها علی البدل، إلاّ أن ملاکه فی عالم المبادی یسری منه إلی أحد أفراده کذلک کالارادة المتعلقة بالجامع، فإنها تسری إلی أفراده بانحاء من الارادات المشروطة وکذلک المحبوبیة المتعلقة بالجامع، فإنها تسری إلی أفراده بأنحاء من المحبوبیة المشروطة، وعلی هذا فلایمکن أن یکون الفرد المنهی عنه محبوباً ومراداً ولو بنحو المشروط مع کونه مبغوضاً مطلقاً.

الرابعة: ان هذه المناقشة غیر صحیحة، حیث إنه لایمکن اقامة البرهان علیها، واما الوجدان فإنه لایحکم بالملازمة بین ارادة الجامع بنحو صرف الوجود وانحاء من الارادات المشروطة بعدد أفراده وکذلک بین محبوبیة الجامع وأنحاء من المحبوبیة المشروطة، نعم الذی یحکم به الوجدان هو محبوبیة الفرد بلحاظ وجود الجامع فی ضمنه لامطلقاً.

نتائج البحث

الخامسة: ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من المناقشة علی هذه المحاولة، بتقریب أن الأمر المتعلق بالطبیعة المطلقة یدل بالمطابقة علی وجوب صرف وجودها وبالإلتزام علی الترخیص فی تطبیقها علی أی فرد من أفرادها شاء منها الفرد المنهی عنه. ومن الواضح أن الترخیص فی تطبیق المأمور به علی الفرد المنهی لایجتمع مع النهی عنه، إذ کما أن الوجوب لایجتمع مع الحرمة فی شیء واحدکذلک الترخیص الشرعی، وعلی هذا فلاتجدی هذه المحاولة فی دفع غائلة

ص:333

التضاد فی مورد الاجتماع.

السادسة: ان هذه المناقشة أیضاً غیر تامة، لأن معنی الاطلاق لیس هوترخیص الشارع فی تطبیق المأمور به علی أفراده بل معناه عدم المانع عن التطبیق والانطباق، لأن قابلیة انطباق الطبیعة علی أفرادها ذاتیة و القید مانع عن فعلیة هذا الانطباق، ومع عدمه فلا مانع منه ولا یتوقف علی ترخیص من الشارع.

السابعة: ان هذه المحاولة و إن کانت تدفع محذور التنافی بین الوجوب و الحرمة فی مرحلة المبادی و الجعل إلا أنها لاتدفع محذوره فی مرحلة الامتثال، حیث لایمکن الجمع بین اطلاق المأمور به وحرمة الفرد فی هذه المرحلة، ولابد حینئذٍ من أحد أمرین اما رفع الید عن الاطلاق أو عن حرمة الفرد.

ولکن تقدم أن حرمة الفرد مانعة عن الانطباق، لاستحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب و المبغوض مصداقاً للمحبوب، فإذن لامحالة یقید اطلاق المأمور به بغیره تطبیقاً لقاعدة حمل المطلق علی المقید، فلایکون من باب لاجتماع.

الثامنة: قد یحاول لاثبات أن الأمر و النهی لایجتمعان علی شیء واحد فی مورد الاجتماع، بتقریب أن الأحکام الشرعیة متعلقة بعناوین الأفعال الذهنیة بالذات ومباشرة لا بالأفعال الخارجیة، وعلی هذا فمتعلق الوجوب فی مورد الاجتماع غیر متعلق الحرمة فیه، فان متعلق الأول عنوان الصلاة فی الذهن ومتعلق الثانیة عنوان الغصب فیه، واما الموجود الخارجی فهو لیس متعلقاً لهما وإلا لکانا خارجیین و هو کما تری، فإذن لایجتمع الأمر و النهی فی شیء واحد.

التاسعة: ان هذه المحاولة باطلة ولا واقع موضوعی لها، لوضوح أن المطلوب الأصلی الواقعی للمولی هو الفعل الخارجی، لأن غرض المولی مترتب علیه لا

ص:334

علی متعلق الأمر فی افق الذهن ولا علی المراد و المحبوب بالذات فیه لأنه مأخوذ بنحو المعرفیة و المشیریة المحضة و الفناء فی الخارج، و هذا لیس معناه أن الأمرتعلق بالفعل الخارجی بواسطة المفهوم الذهنی بل معناه أن الأمر تعلق بالمفهوم الذهنی لا بالحمل الشایع وبنحو الموضوعیة بل بالحمل الاُولی وبنحو الطریقیة بأن یری بمتعلقه الفعل الخارجی، فإذا کان الفعل الخارجی واحداً فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیة، فیستحیل الاجتماع فیه بلحاظ المبادی والاقتضاء.

العاشرة: ان متعلق الأمر و النهی قد یکون من العناوین الذاتیة المتأصلة و قدیکون أحدهما من العناوین الذاتیة المتأصلة و الآخر من العناوین الانتزاعیة و قدیکون کلاهما من العناوین الانتزاعیة، فعلی الأول یتطلب تعدد العنوان تعدد المعنون لا محالة، وعلی الثانی و الثالث لایتطلب بل لابد من ملاحظة ذلک فی کل مورد بخصوصه.

الحادیة عشر: ان المحقق الخراسانی قدس سره قد اختار فی المسألة ان تعدد العنوان لایستلزم تعدد المعنون ولاینثلم به وحدته، و قد حاول لاثبات ذلک بتقدیم عدة مقدمات، ولکن تقدم انه لاجدوی لهذه المقدمات و إن ما ذکره قدس سره من أن تعدد العنوان لایوجب تعدد المعنون بنحو ضابط کلی غیر تام ومخالف للوجدان و البرهان.

الثانیة عشر: ان المحقق النائینی قدس سره قد فصل بین العناوین الاشتقاقیة ومبادیها، فإن تعدد العنوان فی الاُولی لایوجب تعدد المعنون بینما تعدده فی الثانیة یوجب تعدّد المعنون.

الثالثة عشر: ان السید الاُستاذ قدس سره قد علق علی کل من الرأیین واختار أن متعلق الأمر و النهی إن کان من العناوین الذاتیة المتأصلة فتعدده یستلزم تعدد

ص:335

المعنون فی الخارج وجوداً وماهیةً، و إن کان أحدهما من العناوین الذاتیة و الآخرمن العناوین الانتزاعیة أو کان کلاهما من العناوین الانتزاعیة، فلایستلزم تعدد العنوان تعدد المعنون فی الخارج بل أن ذلک یختلف باختلاف الموارد.

الرابعة عشر: ذکر بعض المحققین قدس سره أن الخلاف بین السید الاُستاذ قدس سره و المحقق النائینی قدس سره فی المبادی الاشتقاقیة یرجع إلی الخلاف فی نقطة اخری، و هی أنه هل للمبادی الانتزاعیة کالفوقیة و التحتیة ونحوهما مصادیق بالذات فی لوح الواقع أو لا، فعلی الأول یکون حملها علی مصادیقها بالذات من حمل مواطاة، وعلی الثانی یکون حملها علی الذات من حمل اشتقاق أی ذو هو، وحمل کلام المحقق النائینی قدس سره علی الأول وکلام السید الاُستاذ قدس سره علی الثانی، و أما هو فقد اختارالأول وبنی علی أن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون و إن کان انتزاعیاً.

الخامسة عشر: قد تقدم المناقشة فی أصل رأیه قدس سره من ناحیة وفی ارجاع الخلاف بینهما إلی نقطة اخری من ناحیة اخری هذا من جانب، ومن جانب آخرقد تقدم أن ما ذکره قدس سره من الملاکات للقول بالجواز لایتم الملاک الأول و الثانی و أما الملاک الثالث فهوتام.

دعاوی ثلاث

اشارة

هاهنا ثلاث دعاوی:

الاُولی: ان النزاع فی هذه المسألة جوازاً ومنعاً مبنی علی النزاع فی المسألة المتقدمة و هی أن متعلق الأمر هل هو الطبیعة أو الفرد، فعلی الأول لامانع من القول بالجواز فی هذه المسألة باعتبار أن متعلق الأمر غیر متعلق النهی، لأن متعلق الأمر الطبیعة الجامعة بین الحصة فی مورد الاجتماع وسائر الحصص ومتعلق النهی خصوص الحصة فی مورد الاجتماع، والفرض أن الأمر لایسری من الطبیعة إلی حصصها، فإذن تکون هذه الحصة متعلقة للنهی دون الأمر،

ص:336

وعلی الثانی لامناص من القول بالامتناع، لأن هذه الحصة متعلقة للأمر أیضاً.

الجواب عنها

والجواب: ان النزاع فی هذه المسألة لایرتبط جوازاً ومنعاً بالنزاع فی المسألة المتقدمة، اما أولاً: فلما ذکرناه هناک من أن القول بتعلق الأمر بالفرد باطل ولایرجع إلی معنی محصل ثبوتاً واثباتاً.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم القول بأن الأمر فی تلک المسألة متعلق بالفرد فمع ذلک لایلزم من ذلک تعلق الأمر و النهی بشیء واحد فی هذه المسألة، لأن معنی تعلق الأمر بالفرد هناک لیس تعلقه بالفرد الخارجی لأنه مسقط للأمر، فکیف یعقل تعلّقه به مع أنه یلزم من تعلقه به طلب الحاصل و هومحال، بل معناه تعلقه بمفهوم الفرد وعنوانه الذهنی وکذلک الحال فی النهی ولایمکن تعلقهما بالفرد الخارجی، فإنه مضافاً إلی المحذور المتقدم ان لازم ذلک أن یکونا خارجیین و هذا، خلف وعلی هذا فمتعلق الأمر مباین لمتعلق النهی فی عالم الذهن، لأن الحصة الموجودة فی مورد الاجتماع متعلقة للأمر بعنوان الصلاة وللنهی بعنوان الغصب وهما عنوانان متباینان فی افق الذهن، فإذن لافرق بین تعلق الأمر بالطبیعة وتعلّقه بالفرد، فعلی کلا التقدیرین یکون متعلق الأمرمباشرة غیر متعلق النهی کذلک فی وعاء الذهن، والکلام فی هذه المسألة انما هوفی أن المعنون فی مورد الاجتماع و المطابق لمتعلّقی الأمر و النهی فیه واحد وجوداًوماهیةً أو متعدد کذلک، فعلی الأول لامناص من القول بالامتناع وعلی الثانی من القول بالجواز بلا فرق فی ذلک بین القول بتعلق الأمر فی تلک المسألة بالطبیعة أو بالفرد.

الثانیة: ان النزاع فی هذه المسألة جوازاً أو منعاً مبتن علی مسألة فلسفیّة و هی مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهیة، فعلی القول بأصالة الوجود فی تلک

ص:337

المسألة لابدّ من القول بالامتناع فی هذه المسألة باعتبار أن متعلقی الأمر و النهی موجودان بوجود واحد فی مورد الاجتماع، وعلی القول بأصالة الماهیة لا مناص من القول بالجواز، لأن ماهیة متعلق الأمر غیر ماهیة متعلق النهی.

والجواب: ان النزاع فی هذه المسألة جوازاً ومنعاً لایرتبط بتلک المسألة أصلاً، لأن المراد بأصالة الوجود هو أن ما فی الکون جمیعاً الوجود و الماهیة منتزعة من حدوده فلا واقع موضوعی لها، والمراد بأصالة الماهیة ان کل ما فی الکون الماهیة و الوجود منتزع من حدودها، و أما فی هذه المسألة فالقول بالامتناع فیها مبنی علی وحدة المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً بناء علی القول بأصالة الوجود و ماهیة بناء علی القول بأصالة الماهیة، والقول بالجواز فیها مبنی علی تعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً علی القول بأصالة الوجود وماهیة علی القول بأصالة الماهیة، فإذن لایرتبط النزاع فی هذه المسألة علی النزاع فی تلک المسألة الفلسفیة أصلاً.

الثالثة: ان النزاع فی هذه المسألة امکاناً وامتناعاً مبنی علی مسألة أن الجنس و الفصل هل هما متحدان فی الخارج وموجودان بوجود واحد أو متغایران فیه وموجودان بوجودین، بدعوی أن نسبة متعلق النهی إلی متعلق الأمر فی مورد الاجتماع نسبة الفصل إلی الجنس، وعلی هذا فعلی الأول لابدّ من القول بالامتناع وعلی الثانی علی الجواز هذا.

والجواب، أولاً: أنه لاشبهة فی أن الجنس و الفصل موجودان بوجود واحد حقیقة و هو وجود النوع حیث إن الترکیب بینهما حقیقی لا انضمامی، لأن الجنس و الفصل من الأجزاء التحلیلیة العقلیة لا الخارجیة لکی یکون الترکیب بینهما انضمامیاً.

ص:338

وثانیاً: ان متعلق الأمر و النهی لیس من قبیل الجنس و الفصل، لما تقدم من أن متعلقهما إن کان من المبادی الذاتیة المتأصلة، کان کل منهما یمثل حقیقة نوعیة مرکبة من جنس وفصل ولایعقل أن یکون متعلق الأمر جنساً ومتعلق النهی فصلاً، و إن کان متعلق احدهما ذاتیاً ومتعلق الآخر انتزاعیاً أو کان متعلق کلیهما انتزاعیاً، فلایعقل أن یکون احدهما جنساً و الآخر فصلاً، بداهة أن العنوان الانتزاعی لاواقع موضوعی له حتی یکون جنساً أو فصلاً، ومن هنا یظهر أن الغصب لایصلح أن یکون بمثابة الفصل للصلاة فی الأرض المغصوبة، باعتبار انه عنوان انتزاعی فلایعقل أن یکون فصلاً مقوماً للصلاة، نعم إذا تعلق الأمر فی مورد بالجنس و النهی بالفصل المقوم فلا مناص من القول بالامتناع.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی أن مسألة اجتماع الأمر و النهی لاترتکز علی شیء من المسائل المتقدمة لا علی القول بالامتناع ولا علی القول بالجواز، بل هی مسألة مستقلة علی کلا القولین فیها، لأن کلاً منهما مبنی علی نکتة اخری لاترتبط بالنزاع فی المسائل المتقدمة.

هذا تمام کلامنا فی کبری مسألة اجتماع الأمر و النهی نظریاً.

ص:339

البحث التطبیقی الصغروی

اشارة

الصغری المعروفة لهذه المسألة و المبحوث عنها فی کلمات الاُصولیین فی مرحلة التطبیق هی الصلاة فی الأرض المغصوبة. وهل انها متحدة مع الغصب فی مورد الاجتماع أو لا؟

رأی المحقق النائینی قدّس سرّه فی الصلاة فی الأرض المغصوبة
اشارة

فذهب المحقق النائینی قدس سره إلی أن الصلاة لایمکن أن تتحد مع الغصب، بتقریب أن الصلاة من مقولة و الغصب من مقولة اخری و المقولات متباینات بتمام ذاتها وذاتیاتها، فلایمکن اندراج مقولتین تحت مقولة واحدة لأنه خلف فرض کونها من الأجناس العالیات(1).

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه علیه

و قد علّق علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن الغصب لیس مقولة مستقلة فی مقابل الصلاة، و قد أفاد فی وجه ذلک أن الغصب عنوان انتزاعی ومعرف ومشیر إلی واقع التصرفات الخارجیة کالدخول فی أرض الغیر بدون إذنه و الکون فیهاوالقاء الثقل علیها وأکل ماله ولبسه وغیر ذلک من أنحاء التصرف، فإذن لیس الغصب مقولة بنفسه بل هو عنوان انتزاعی منطبق علی عدّة مقولات ومشیرإلیها کمقولة الأین و الجدة وغیرهما(2).

فما ذکره قدس سره من أن الغصب مقولة لایرجع إلی معنی صحیح، فإنه فی نفسه لیس مقولة ولا عنواناً خاصاً لمقولة واحدة.

ص:340


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 353.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 282.

و أما الصلاة فهی مرکبة من مقولات عدیدة:

منها، مقولة الکیف النفسانی کالنیّة بتمام عناصرها الثلاثة. ومنها، مقولة الکیف المسموع کتکبیرة الاحرام و القراءة و التسبیح و التهلیل و الأذکار. ومنها، الوضع کهیئة الراکع و الساجد و القائم و القاعد وغیر ذلک، وحیث إن المقولات ماهیات متباینات بذاتها وذاتیاتها، فلایعقل أن یکون الترکیب بینها حقیقیاً فلامحالة یکون انضمامیاً، وعلی هذا فالترکیب بین أجزاء الصلاة لا محالة انضمامی ولایمکن أن یکون واقعیاً.

البحث التطبیقی الصغروی

وبکلمة، أن الغصب لایمکن أن یکون من الماهیات المقولیة لاستحالة اتحاد مقولتین واندراجهما تحت مقولة واحدة، فإذن لامحالة یکون من المفاهیم الانتزاعیة وعنوان منطبق علی المقولات المتعددة فی مختلف الموارد ومعرف ومشیر إلیها، فإذن کما لایکون بنفسه من الماهیة المقولیة کذلک لایکون عنواناً لمقولة واحدة.

و أما الصلاة فهی لیست حقیقة مستقلة وماهیة مقولة برأسها فی قبال سائر المقولات بل هی مرکبة من مقولات عدیدة و هذه المقولات هی أجزاء الصلاة، ولهذا یکون الترکیب بینها انضمامیاً لاحقیقیاً، ضرورة استحالة أن یکون حقیقیاً وإلاّ لزم اندراج مقولات متعددة تحت مقولة واحدة و هو محال.

فالنتیجة، ان ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن الصلاة مقولة و الغصب مقولة اخری، فلایمکن المساعدة علیه هذا.

الصحیح فی المقام

والصحیح فی المقام أن یقال انه لا شبهة فی أن الغصب عنوان انتزاعی ولا واقع موضوعی له فی الخارج، ولهذا لایکون متعلقاً للنهی فی لسان الأدلة، لأن متعلقه فی لسانها عنوان المال کقوله علیه السلام: «لایحل مال امریء مسلم إلاّ بطیب

ص:341

نفسه»(1) ، وحیث إنه لایمکن تعلق النهی بالعین الخارجیة و هی المال، فإذن لابدمن التقدیر فی کل مورد مایناسب ذلک المورد و هو یختلف باختلاف الموارد، فإذاکان مال الغیر متمثلاً فی المکان کالأرض و الدار ونحوهما فالمقدر حینئذٍ هوالکون فیها و هو متعلق النهی، و إذا کان متمثلاً فی اللباس فالمقدر فیه لبسه، فالکون من مقولة الأین و اللبس من مقولة الجد ویشترکان فی الجامع الانتزاعی و هو عنوان الغصب و هو لیس متعلقاً للنهی، فإن متعلقه اما الکون فی الأرض المغصوبة أو اللبس أو الأکل و الشرب، وعلی هذا فإن أراد المحقق النائینی قدس سره من أن الغصب بنفسه مقولة لا أنه عنوان لها فقد تقدم انه غیر معقول، لوضوح أنه مفهوم انتزاعی ولا واقع موضوعی له فی الخارج وعنوان مشیر إلی عدة مقولات فی مختلف الموارد.

و إن أراد منه واقعه الموضوعی و هو الکون فی الأرض المغصوبة فی محل الکلام فهو صحیح، ولایبعد أن یکون مراده من أن الغصب مقولة واقعه الموضوعی و هو الکون فی الأرض المغصوبة الذی هو من مقولة الأین و هومتعلق الحرمة ومبغوض للمولی دون الغصب بما هو أمر انتزاعی، وعلی هذا فما أورده السید الاُستاذ قدس سره علی المحقق النائینی قدس سره إنما یرد إذا کان مراده من أن الغصب من المقولات نفس مفهوم الغصب، ولکن الظاهر أن مراده قدس سره بذلک واقع الغصب الذی هو من مقولة الأین فی مورد ومن الجدة فی مورد آخر وهکذا، و أما مفهوم الغصب فهو مفهوم انتزاعی ولا واقع موضوعی له فی الخارج حتی یکون من المقولة ومتعلقاً للنهی، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الحرمة فی لسان الدلیل متعلقة بالغصب إلاّ أنه لا شبهة فی أنه مأخوذ بنحو المعرفیة

ص:342


1- (1) - الوسائل ج 3 ص 424 ب 3 من أبواب مکان المصلی ح 1.

والمشیریة إلی واقعه الخارجی و هو الکون فی الأرض المغصوبة الذی هومبغوض ومکروه للمولی، وفیه مفسدة ملزمة فی المرتبة السابقة و هی تسبب تعلق البعض به فی عالم المبادی و النهی عنه فی عالم الجعل والاعتبار. و هذا بخلاف الوجوب، فإنه متعلق بالصلاة المرکبة من عدة مقولات باعتبار أن تلک المقولات بعنوان الصلاة محبوبة ومشتملة علی مصلحة ملزمة، ومن هنا تختلف الصلاة عن الغصب، فإن الأمر فی لسان الأدلة من الکتاب و السنة تعلق بتلک المقولات بعنوان الصلاة بینما النهی لم یتعلق بالماهیة المقولیة بعنوان الغصب هذامن ناحیة.

هل تتحد الصلاة بکامل أجزائها مع المعنون

اشارة

ومن ناحیة اخری هل تتحد الصلاة بکامل أجزائها ومقولاتها مع المعنون بالغصب فی الأرض المغصوبة و هو الکون فیها الذی هو من مقولة الأین أو لا؟

والجواب: ان ذلک بحاجة إلی النظر فی أجزاء الصلاة ومقولاتها وتفصیل تلک الأجزاء وملاحظة کل جزء من أجزائها بنفسه لنری أنه متحد مع الکون فیها بنحو من أنحاء الاتحاد أو لا؟

بیان ذلک أن الجزء الأول للصلاة النیة و هی متمثلة فی عناصر ثلاثة:

الأول: قصد القربة.

الثانی: قصد الخلوص.

الثالث: قصد العنوان کصلاة الظهر و العصر ونحوهما، و هی بتمام عناصرهامن مقولة الکیف النفسانی ولایکون متحداً مع الکون فیها الذی هو فعل خارجی باعتبار أنه من مقولة الأین و المقولات متباینات بتمام ذاتها وذاتیاتها، فلایمکن اندراج مقولتین تحت مقولة واحدة وإلاّ لزم خلف فرض کون المقولات

ص:343

أجناس عالیات.

الجزء الثانی: التکبیرة و هی من مقولة الکیف المسموع، فیستحیل إتحادهامع مقولة الأین ومثلها القراءة و التسبیح و التهلیل و الأذکار فانها جمیعاً من مقولة الکیف المسموع، قد یقال کما قیل أن التکبیرة و القراءة ونحوهما تستوجب تموج الهواء وتحریکه و هو نحو تصرف فی الفضاء المغصوب، فإذن یلزم اجتماع الأمروالنهی فی شیء واحد فی تلک الأجزاء. ونتیجة ذلک، عدم اماکن اجتماع الأمربالصلاة فی الأرض المغصوبة مع النهی عن الکون فیها هذا.

والجواب: أولاً: أن تموج الهواء وتحریکه من لوازم القراءة و التکبیرة ونحوهما لا انه متحد معها فی الخارج.

وثانیاً: انه لیس تصرفاً فی مال الغیر بنظر العرف و العقلاء حتی یکون مشمولاً لدلیل الحرمة.

وثالثاً: انه لیس تصرفاً فی الفضاء أیضاً حتی بنظر العقل بل هو تصرف فی الهواء، ولا دلیل علی حرمة التصرف فی هواء ملک الغیر، فإن الانسان یملک الأرض و الفضاء لا الهواء.

الجزء الثالث: الرکوع و السجود و القیام و القعود فإنها من مقولة الوضع، فیستحیل أن تتحد مع الکون فی الأرض المغصوبة الذی هو من مقولة الأین، و قد عرفت استحالة اندارج مقولتین تحت مقولة واحدة.

وبکلمة، ان أجزاء الصلاة انما هو نفس هیئة الرکوع و السجود و القیام و القعود دون مقدماتها کالهوی و النهوض.

ودعوی، ان هذه الهیئات من مقولة الفعل وعلیه فتکون مصداقاً للغصب

ص:344

والتصرّف فی مال الغیر، فیکون الواجب حینئذٍ متحداً مع الحرام، مدفوعة بأنها مبنیة علی الخلط بین ما یکون من قبیل الفعل الصادر بالارادة و الاختیار و ما یکون من مقولة الفعل التی هی من احدی المقولات التسع العرضیة و الهیئات المذکورة و إن کانت من الأفعال الاختیاریة الصادرة بالارادة والاختیار، إلاّ أنهامع ذلک لیست من مقولة الفعل ضرورة، أنه لا منافاة بین ما یکون الشیء من قبیل الفعل الصادر بالاختیار وفی نفس الوقت لیس من مقولته للفرق بین الأمرین و هو ان الملاک فی کون الفعل اختیاریاً هو صدوره من الانسان بالارادة والاختیار، والملاک فی کون الشیء من مقولته هو أن یکون حصوله بالتأثیربنحو التدریج کتسخین الماء مادام یسخن وماشاکل ذلک واحد الملاکین أجنبی عن الملاک الآخر، ولهذا لایعتبر فی کون الشیء من مقولة الفعل أن یکون من الأفعال الاختیاریة، لأن النسبة بینهما عموم من وجه، فإن الشیء قد یکون من مقولة الفعل ولایکون اختیاریاً کالتأثیر و التأثر الحاصل بین الأشیاء الخارجیة تکویناً، و قد یکون اختیاریاً لیس من مقولته بل من مقولة اخری کمقولة الوضع أو الکیف، و قد یجمع بینهما کما إذا کان التأثیر و التأثر حاصلین بالفعل الاختیاری.

فالنتیجة، ان شیئاً من أجزاء الصلاة لیس من مقولة الأین حتی تتحد مع الغصب. بقی هنا امور:

التنبیه علی أمور،

الأول: ان الهوی إلی الرکوع و السجود و النهوض إلی القیام و الجلوس تصرف فی مال الغیر فیکون مصداقاً للغصب، ضرورة أن الحرکة فی الدار المغصوبة من أنحاء التصرف فیها، وعلی هذا فیکون الهوی و النهوض متحدین مع الغصب خارجاً فلایجوز الاجتماع من هذه الناحیة.

ص:345

والجواب: انهما لوکانا من واجبات الصلاة کانت الصلاة متحدة بها مع الغصب فی مورد الاجتماع، فإذن لامناص من القول بالامتناع، ولکن الظاهر انهما لیسا من واجبات الصلاة ولامن واجبات أجزائها کالرکوع و السجود بل من المقدمات لها، فإذ ن لایجتمع الوجوب مع الحرمة فی شیء واحد، فإن الحرمة تعلقت بالمقدمات و الوجوب تعلق بذیها، وعلیه فلا مناص من القول بالجوازغایة الأمر قد تقع المزاحمة بینهما.

الثانی: ان الاستقرار من أفعال الصلاة وواجباتها و هو الکون فی المکان المغصوب، فعندئذٍ تتحد الصلاة مع الغصب فی مورد الاجتماع والانطباق فی هذا الجزء فلذلک لامناص من القول بالامتناع فی المسألة.

والجواب: ان الاستقرار و الطمأنینة المعتبرة فی الصلاة بمعنی عدم الاضطراریمنة ویسرة، ومن الواضح ان هذا غیر الکون فی المکان المغصوب، ومن هنا بإمکان المصلی الانتقال من مکان إلی مکان آخر من دون الاخلال بالاستقرار و الطمأنینة فی الصلاة.

الثالث: هل یعتبر فی مفهوم السجدة الاعتماد علی الأرض أو لا؟

والجواب: الظاهر انه معتبر فی مفهومها ولایصدق عرفاً إسم السجدة علی مجرد مماسة الجبهة للأرض بدون أدنی اعتماد علیها، بیان ذلک ان المعتبر فی الصلاة وضع الأعضاء السبعة علی الأرض وفیه عنصران:

الأول: الهیئة القائمة بالساجد الحاصلة من نسبة بعض أعضائه إلی بعضها الآخر ونسبة المجموع إلی الخارج، و هذه الهیئة معتبرة فی الصلاة ومن أجزائهاوتکون من مقولة الوضع.

ص:346

الثانی: الاعتماد علی الأرض، فالسجدة التی هی من الواجبات الرئیسیة للصلاة متقومة بهذین العنصرین، فکما لاتصدق السجدة بدون وضع الجبهة علی الأرض فکذلک لاتصدق علی مجرد مماستها لها بدون الاعتماد علیها. وحیث إن الاعتماد علی الأرض بنفسه تصرف فیها، فیکون الواجب متحداً مع الحرام لأن الاعتماد علیها مصداق للواجب و الغصب معاً، وعلی هذا فالصلاة متحدة مع الغصب فی مورد الاجتماع فی جزء منها و هو السجدة لا فی سائر أجزائها، ومن هنا لوکانت وظیفة المصلی الایماء بدلاً عن السجدة لم تبطل صلاته فیها، فإذن لامناص من القول بالامتناع فی مورد الاجتماع لأن المجمع فیه واحد وجوداً وماهیةً، فلایمکن اجتماع الأمر و النهی فیه لا فی عالم المبادی ولا فی عالم الاقتضاء.

والخلاصة: ان السجدة لیست عبارة عن مجرد التماس بین الجبهة و الأرض، لأن معنی السجدة عرفاً وضع الجبهة علی الأرض ومعنی الوضع الاعتماد علیها و القاء الثقل لا مجرد التماس بینهما بدون الاعتماد.

نتیجة البحث

نتیجة البحث

نتیجة البحث عدة امور:

الأول: ان المحقق النائینی قدس سره ذکر ان الصلاة لایمکن ان تتحد مع الغصب، لأن الصلاة من مقولة و الغصب من مقولة اخری و المقولات متباینات ولایمکن اندراج مقولتین تحت مقولة واحدة. و قد علّق علیه بأن الغصب لیس بنفسه مقولة ولا عنواناً لمقولة بل هو أمر انتزاعی لا واقع موضوعی له فی الخارج ومنطبق علی مقولات متعددة هذا، ولکن یمکن أن یکون مراده قدس سره من الغصب واقعه الموضوعی الذی هو من المقولات لا عنوانه الأنتزاعی الذی لا موطن له إلاّ الذهن.

ص:347

الثانی: ان الصلاة لیست حقیقة مستقلة وماهیة مقولیة برأسها بل هی مرکبة من مقولات متعددة کمقولة الکیف و الوضع ونحوهما.

الثالث: ان الصلاة لاتتحد مع مقولة الغصب فی مورد الاجتماع إلاّ فی السجدة باعتبار انها متقومة بعنصرین:

الأول: وضع الجبهة علی الأرض.

الثانی: الاعتماد علیها، فلایصدق عنوان السجدة علی مجرد المماسة بدون الاعتماد و القاء الثقل علیها.

ص:348

ملحقات مسألة الاجتماع

الملحق الأول: هل هذه المسألة اصولیة أو فقهیة...

الملحق الأول:

هل هذه المسألة اصولیة أو فقهیّة أو انها من المبادی التصدیقیة؟

والجواب: انها من المبادی التصدیقیة للمسألة الاُصولیة ولیست باُصولیة بنفسها ولا بفقهیة.

أما الثانیة: فواضح، و أما الاُولی فلما تقدم فی مستهل بحث الاُصول أن ملاک اصولیة المسألة ترتب أثر فقهی علیها مباشرة و هذا الملاک غیر متوفر فیها، لأن هذه المسألة علی القول بالامتناع تدخل فی کبری مسألة التعارض و المرجع فیهامرجحات بابها، وعلی القول بالجواز تدخل فی کبری مسألة التزاحم و المرجع فیها قواعد بابها، فإذن لاتترتب النتیجة الفقهیة علی هذه المسألة مباشرة علی القول بالامتناع بدون ضمّ مسألة اخری الاُصولیة و هی مرجحات باب المعارضة، فإنها تثبت الوجوب أو الحرمة فی مورد الاجتماع وعلی القول بالجوازبدون ضمّ قواعد باب المزاحمة أو مسألة الترتب، و قد تقدم تفصیل ذلک فی أوائل بحث الاُصول.

الملحق الثانی: الفرق بین هذه المسألة و مسألة اقتضاء النهی فساد العبادة
اشارة

الملحق الثانی:

ما هو الفرق بین هذه المسألة ومسألة اقتضاء النهی فساد العبادة، قد یقال بأنه لا فرق بینهما فی الجهة المبحوث عنها، فإن مرد البحث فی هذه المسألة عن أن

ص:349

النهی عن المجمع فی مورد الاجتماع هل یوجب زوال الأمر عنه وعدم کونه مصداقاً للمأمور به وفی المسألة الآتیة عن أن النهی المتعلق بالعبادة هل یوجب بطلانها وعدم کونها مصداقاً لها، وعلی هذا فلا فرق بینهما فی الجهة المبحوث عنها هذا.

ملحقات مسألة الاجتماع (الملحق الثانی)

محاولات التفریق بین المسألتین،

وهنا عدة محاولات للفرق بین المسألتین:

المحاولة الأولی و الرد علیها

المحاولة الاُولی: عن مدرسة المحقق النائینی قدس سره منهم السید الاُستاذ قدس سره وحاصل هذه المحاولة ان هذه المسألة تفترق عن المسألة الآتیة فی المرتبة، لأن المبحوث عنه فی هذه المسألة انما هو عن سرایة النهی إلی ما تعلق به الأمرکالصلاة ونحوها، فإذا ثبتت السرایة تحقق موضوع تلک المسألة فعندئذٍ یبحث عن اقتضاء النهی الفساد وعدم اقتضائه، و أما إذا لم یثبت فلا موضوع لها(1).

وبکلمة، ان البحث فی مسألة الاقتضاء کبروی، لأن المبحوث عنه فیها انماهو عن ثبوت الملازمة بین النهی عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغری و هو تعلق النهی بالعبادة.

و أما البحث فی هذه المسألة فإنه صغروی، لأن المبحوث عنه فیها انما هو عن سرایة النهی من متعلقه إلی متعلق الأمر وعدم سرایته، وعلی ضوء ذلک فالبحث فی هذه المسألة بحث عن اثبات الصغری للمسألة الآتیة، فإنه علی القول بالامتناع وسرایة النهی من متعلقه إلی ماینطبق علیه المأمور به تکون من احدی صغریاتها، فإذن جهة البحث فی هذه المسألة صغرویة وفی تلک المسألة کبرویة.

ص:350


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 178 179.

والجواب: ان هذه التفرقة غیر صحیحة، لأن المبحوث عنه فی هذه المسألة فی الحقیقة عن ان المجمع فی مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهیةً أو متعددکذلک، فعلی الأول لابدّ من القول بالامتناع وعلی الثانی بالجواز، لما تقدم من أن البحث فی هذه المسألة لیس عن الکبری و هی أن تعدد متعلّقی الأمر و النهی هل یستلزم تعدد المعنون فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً أو لا، لما عرفتم من أنه لیس لذلک ضابط کلی بل هو یختلف باختلاف الموارد و العناوین علی تفصیل قدمرّ ولهذا یکون المبحوث عنه فی المسألة حقیقة عن وحدة المجمع فی موردالاجتماع وجوداً وماهیةً وتعدده کذلک فی کل مورد بخصوصه، و قد تقدم انه لایمکن جعل البحث فی المسألة تحت ضابط کلی، وعلی هذا فإن کان المجمع فی مورد الاجتماع واحداً وجوداً وماهیةً تدخل المسألة فی کبری مسألة باب المعارضة و المرجع فیها مرجحات بابها، فإن کان ترجیح لدلیل الوجوب علی دلیل الحرمة فالمجمع واجب ولیس بحرام و إن کان العکس فبالعکس وإلاّ فیسقطان معاً و المرجع فیها حینئذٍ الأصل العملی، فإذن لیس هنا سرایة الحرمة إلی متعلق الوجوب حتی بناءً علی تقدیم دلیل الحرمة علی دلیل الوجوب فی مورد الاجتماع، إذ حینئذٍ یکون المجمع متعلقاً للحرمة فحسب دون الوجوب فإنه غیر مجعول من الأول.

فالنتیجة، ان البحث فی هذه المسألة لیس عن تحقیق الموضوع للمسألة الآتیة بل هو فی عرض البحث عن تلک المسألة ولا صلة لاحداهما بالأخری، فما ذکره مدرسة المحقق النائینی قدس سره منهم السید الاُستاذ قدس سره من أن البحث فی هذه المسألة انما هو عن تنقیح الصغری للمسألة الآتیة لایمکن المساعدة علیه.

المحاولة الثانیة و الرد علیها

المحاولة الثانیة: ما عن المحقق الخراسانی قدس سره وحاصل هذه المحاولة ان

ص:351

المیزان فی تغایر المسائل بعضها عن بعضها الآخر انما هو فی جهة البحث فی کل مسألة، وحیث إن جهة البحث فی هذه المسألة انما هی عن سرایة الحرمة فی مورد الاجتماع إلی متعلق الوجوب وعدم سرایتها، وجهة البحث فی المسألة الآتیة انما هی عن اقتضاء النهی للبطلان وعدمه، فلذلک تمتاز هذه المسألة عن تلک المسألة(1).

ولکن قد ظهر مما تقدّم عدم تمامیة هذه المحاولة أیضاً، لأن جهة البحث فی هذه المسألة لیست عن السرایة وعدمها وانما هی عن وحدة المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً وتعدده کذلک باعتبار انه لیس هناک ضابط کلی لذلک، فالقول باستحالة اجتماع الأمر و النهی مبنی علی الفرض الأول و القول بالجواز مبنی علی الفرض الثانی، وعلی الأول تدخل المسألة فی کبری مسألة التعارض وعلی الثانی تدخل فی کبری مسألة التزاحم کما عرفت، غایة الأمر فی الفرض الأول قد یتعیّن تقدیم دلیل الحرمة علی دلیل الوجوب فی مورد الاجتماع، وحینئذٍ حیث إن المجمع یکون متعلقاً للنهی فیدخل فی المسألة الآتیة، ولکن من الواضح ان هذا لیس جهة البحث فی هذه المسألة بل هو قد یترتّب علی البحث فیها.

المحاولة الثالثة: ما ذکره بعض المحققین

قدس سره وحاصل ما ذکره ان تعدد المسألة منوط بتوفر أمرین:

الأول: التغایر فی الموضوع أو المحمول.

الثانی: ان لاتکون جهة ثبوت المسألتین واحدة، فإذا کانت واحدة بحیث إذا ثبتت فی احداهما ثبتت فی الاُخری أیضاً فلا وجه لعقدهما مسألتین، مثلاً

ص:352


1- (1) - کفایة الاصول ص 152.

استلزام وجوب الصلاة لوجوب مقدمتها مسألة مغایرة لاستلزام وجوب الصوم لوجوب مقدمته، إلاّ ان نکتة ثبوت هذا الاستلزام واحدة فی کلتا المسألتین معاً، وحینئذٍ فلا مبرر لعقدهما مسألتین مستقلتین احداهما مسألة وجوب مقدمة الصوم والاُخری مسألة وجوب مقدمة الصلاة، وفی المقام کلا الأمرین متوفر:

أما الأول: فلأن المسألتین متغایرتان فی المحمول، فإن المحمول فی هذه المسألة عبارة عن أن النهی هل ینافی الأمر کحکم تکلیفی أم لا، والمحمول فی المسألة القادمة أن الحرمة هل تنافی الصحة کحکم وضعی أم لا واحدهما غیر الآخر.

و أما الثانی: فلأن نکتة المنافاة فی المسألة الاُولی یمکن أن تکون غیر نکتة المنافاة فی المسألة الثانیة، کما إذا قیل بامتناع الاجتماع مع القول بالصحة وضعاً من جهة وجود الملاک فی المجمع وکفایة قصده فی التقرب، أو قیل بالجواز علی أساس الملاک الأول للقول بالجواز مع القول بالفساد علی أساس عدم امکان التقرب بناء علی السرایة، و أما جهة البحث فیهما اثباتاً فهی أیضاً متعددة کما هوظاهر(1) هذا.

الرد علی المحاولة الثالثة

وغیر خفی، إن ما ذکره قدس سره من أن تعدد المسألة منوط بتوفر الأمرین المذکورین فهو صحیح کبرویاً، إلا أن الاشکال انما هو فی تطبیق تلک الکبری علی المقام، حیث قال قدس سره فی مقام التطبیق أن المسألتین مختلفتین فی المحمول و هوأن النهی هل ینافی الأمر کحکم تکلیفی أو لا فی هذه المسألة، وان الحرمة هل تنافی الصحة کحکم وضعی أو لا فی المسألة القادمة، ولکن فی هذا التطبیق اشکالاً لوضوح أن المحمول و المبحوث عنه فی هذه المسألة لیس ذلک، إذ لا معنی

ص:353


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 3 ص 52.

للبحث عن أن النهی هل ینافی الأمر فی مورد الاجتماع أو لا، ضرورة أن المجمع فی مورد الاجتماع إن کان واحداً وجوداً وماهیةً فلاشبهة فی التنافی بینهما فیه فی تمام المراحل أی من مرحلة المبادی إلی مرحلة الاقتضاء و إن کان متعدداً کذلک فلا شبهة فی الجواز، فإذن لا محالة یکون مرکز البحث فی المسألة موجهاً إلی أن المجمع فی مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهیةً أو متعدد کذلک، و أما المحمول فی المسألة القادمة و المبحوث عنه فیها فإنما هو عن اقتضاء النهی فساد العبادة الذی یکون مردّه إلی أن الملازمة بین النهی عن العبادة وفسادها هل هی ثابتة أو لا، ولیس المبحوث عنه فیها عن أن النهی هل ینافی الصحة أو لا، ومن هنا قلنا أن المبحوث عنه فی هذه المسألة انما هو عن الصغری و هی ان المجمع فی مورد الاجتماع إن کان واحداً وجوداً وماهیةً ترتب علیه القول بالامتناع و التنافی بین الأمر و النهی، و إن کان متعدداً کذلک ترتب علیه القول بالجوازوعدم التنافی بینهما، و أما نکتة المنافاة فی المسألة الاُولی فهی متمثلة فی وحدة المجمع فی مورد الاجتماع و هی توجب دخول المسألة فی کبری مسألة التعارض لافی کبری المسألة القادمة، و أما نکتة المنافاة فی المسألة الثانیة فإنما هی تنافی النهی مع قصد القربة المعتبر فی صحة العبادة هذا.

فالصحیح فی المقام أن یقال أن البحث فی هذه المسألة و إن کان لایختص بما إذاکانت النسبة بین العنوانین المتعلقین للأمر و النهی عموماً من وجه، کما أن البحث عن الاقتضاء فی المسألة القادمة لایختص بما إذا کان النهی متعلقاً بالعبادة من خلال عنوان أخص بل یشمل ما إذا تعلق بها من خلال عنوان أعم، شریطة أن یکون تعلقه بها من خلاله مفروغاً عنه بأن لاتکون هناک معارضة بین الدلیلین، ولکن مع ذلک تختلف هذه المسألة عن المسألة القادمة فی المحمول و هو الجهة المبحوث عنها، فإنها فی مسألتنا هذه وحدة المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً

ص:354

وماهیةً وتعدده فیه کذلک، وفی المسألة القادمة ثبوت الملازمة بین حرمة العبادة وفسادها وعدم ثبوتها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، ان جهة البحث فی هذه المسألة لایمکن أن تکون کبرویة بأن تکون منصبة علی أن تعدد العنوان هل یوجب تعدد المعنون أو لا، أو ان اجتماع الأمر و النهی هل یجوز فی شیء واحد أو لا؟

أما الأول: فلما تقدم من أن العنوان إذا کان ذاتیاً ومتأصلاً فتعدده یوجب تعدد المعنون لا محالة، و إن کان انتزاعیاً أو کان عنوان متعلق أحدهما ذاتیاً و الآخر انتزاعیاً فتعدده لایتطلب تعدد المعنون فی الخارج بل لابد حینئذٍ من ملاحظة کل مورد بخصوصه و إن المجمع فیه واحد وجوداً وماهیةً أو متعددکذلک، فلهذا یکون النزاع فیها فی الصغری و هی أن المعنون إن کان واحداً فی مورد الاجتماع تعیّن القول بالامتناع، وحینئذٍ تدخل المسألة فی کبری مسألة التعارض لا فی کبری المسألة القادمة، و إن کان متعدداً فیه تعیّن القول بالجواز، وحینئذٍ تدخل المسألة فی کبری مسألة التزاحم لا فی المسألة القادمة، و أما ملاک ثبوت هذه المسألة فإنه التنافی بین الأمر و النهی وعدم امکان اجتماعهما فی شیء واحد وجوداً وماهیة لا فی مرحلة المبادی ولا فی مرحلة الاقتضاء، و أما ملاک ثبوت المسألة القادمة، فإنه منافاة النهی مع العبادة و أما فی الأثر فیهما أیضاً مختلفتان، فإن أثر هذه المسألة قد یکون صحة العبادة، علی القول بالامتناع فی مورد الاجتماع حسب الصناعة إذا کان لدلیل الأمر ترجیح علی دلیل النهی، و قد یکون فسادها إذا کان الأمر بالعکس، و قد یکون صحتها أیضاً إذا تساقط الدلیلان فی مورد الاجتماع وامکن احراز الملاک فیه، و قد یکون أثرها فسادها علی القول بالجواز أیضاً بناء علی القول باستحالة الترتب، و أما

ص:355

أثر المسألة القادمة فهو فساد العبادة.

والخلاصة: ان هذه المسألة تمتاز عن المسألة الآتیة فی ملاک الثبوت وفی جهة البحث وفی الأثر و النتیجة.

الملحق الثالث: ثمرة القولین فی المسألة
اشارة

الملحق الثالث:

المشهور أن ثمرة القولین فی المسألة صحة الصلاة فی الأرض المغصوبة علی القول بالجواز مطلقاً حتی فیما إذا کان عالماً بحرمة ما هو ملازم لها خارجاً و هوالکون فیها فضلاً عن کونه ناسیاً أو جاهلاً بها، فان الصلاة طالما لم تکن متحدة مع الحرام فمجرد استلزامها ارتکاب الحرام لایوجب البطلان، وبطلانها علی القول بالامتناع مطلقاً حتی إذا کان المصلی جاهلاً بالحرمة، علی أساس أن الحرام فی الواقع لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب هذا.

ملحقات مسألة الاجتماع (الملحق الثالث)

التزام المحقق النائینی قدّس سرّه ببطلان الصلاة و وجه ذلک

وخالف فی ذلک المحقق النائینی قدس سره فإنه حکم ببطلان الصلاة فی مورد الاجتماع مطلقاً حتی علی القول بالجواز شریطة أن یکون المکلف ملتفتاً إلی الحرمة، و أماإذا کان جاهلاً بها أو ناسیاً لها فلایحکم ببطلانها، و قد أفاد فی وجه ذلک وجوهاً:

الأول: ان اشتراط التکلیف بالقدرة انما هو باقتضاء نفس الخطاب الشرعی لابحکم العقل، علی أساس أن الغرض من جعل التکلیف انما هو إیجاد الداعی فی نفس المکلف وانبعاثه به وتحریکه نحو الاتیان بمتعلقه، ومن الواضح ان هذا الغرض من التکلیف بنفسه یقتضی أن یکون متعلقه خصوص الحصة المقدورة، لأنه إذا تعلق بها کان داعیاً ومحرکاً للمکلف وموجباً لانبعاثه به وإلاّ فلایعقل أن یکون داعیاً ومحرکاً له، وعلی هذا فالصلاة فی الأرض المغصوبة و إن کانت مباینة للکون فیها وجوداً، إلاّ أنها لما کانت ملازمة له فلایمکن تعلق الوجوب بها أو بما ینطبق علیها، لغرض أن متعلقه خصوص الحصة المقدورة

ص:356

و هی لاتنطبق علی الصلاة فیها، لأنها غیر مقدورة شرعاً من جهة ملازمتها لإیجاد الحرام و الممنوع الشرعی کالممتنع العقلی.

الثانی: انه لایمکن تصحیح الصلاة فی مورد الاجتماع بالترتب، لأن معنی الترتّب هو أن یکون الأمر بالصلاة مشروطاً بعصیان النهی، وعصیانه لایخلو إمّا أن یتحقق بالاشتغال بفعل مضاد للصلاة کالأکل و الشرب وما شاکل ذلک، أویتحقق بفعل نفس الصلاة، وعلی کلا التقدیرین لایمکن الأمر بالصلاة ترتباً، أمّاعلی التقدیر الأول فیلزم أن یکون الأمر بها مشروطاً بوجود ضدها فی الخارج و هذا مستحیل، لأنه من طلب الجمع بین الضدّین فی آن واحد نظیران یأمر بالحرکة مشروطاً بالسکون أو بالعکس، و أما علی التقدیر الثانی فیلزم أن یکون الأمر بالصلاة مشروطاً بوجودها و هو مستحیل لأنه من طلب الحاصل.

الثالث: انه لایمکن تصحیح الصلاة فی مورد الاجتماع بالملاک و إن أمکن ذلک فی الفرد المزاحم، علی أساس أن المعتبر فی صحة العبادة امور:

1 - نیة القربة والاخلاص وقصد الاسم إذا کان لها اسم خاص ممیّز.

2 - محبوبیة الفعل وحسنه فی نفسه.

3 - الحسن الفاعلی بأن لایکون صدور العبادة من المکلف قبیحاً وإلاّ لبطلت، وفی مورد الاجتماع و إن کان الأمران الأولان متوفرین هما نیة القربة بتمام عناصرها و الحسن الفعلی، إلاّ أن الأمر الثالث غیر متوفر فیه و هو الحسن الفاعلی، باعتبار أن الصلاة من المصلی فی مورد الاجتماع بما أنها تستلزم الاقتحام فی الحرام، فیکون صدورها منه قبیحاً و هو مانع عن صحة الصلاة(1) هذا.

ص:357


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 358 360.

وللمناقشة فی جمیع هذه الوجوه مجال واسع.

المناقشة فی جمیع الوجوه

أما الوجه الأول: فلما تقدم فی مبحث الضدّ من أن اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف إنما هو بحکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز فی المرتبة السابقة علی التکلیف، ولولا حکم العقل بقبح ذلک وادراکه الاستحالة لم یکن التکلیف بنفسه مقتضیاً لکون متعلقه مقدوراً، لوضوح أن تکلیف العاجز لولم یکن قبیحاً بحکم العقل فی المرتبة السابقة ولغواً، لم یکن أی مانع من تعلقه بغیر المقدور وتوجیهه إلیه.

و إن شئت قلت، ان ملاک الحکم فی عالم المبادی ان کان مشروطاً بالقدرة فهوخاص للقادر دون الأعمّ منه ومن العاجز، وعلیه فالواجب هو حصة خاصة من الفعل لأنها متعلقة للارادة و الحب ومشتملة علی الملاک و هی الحصة المقدورة، و إن لم یکن مشروطاً بها وکان مطلقاً، فمعناه أن الفعل متعلق للارادة و الحب ومشتمل علی الملاک مطلقاً حتی بالنسبة إلی العاجز، وعلی هذا فالواجب هو الجامع بین الحصة المقدورة وغیرها هذا بحسب مقام الثبوت، و أما بحسب مقام الاثبات فإن کانت القدرة مأخوذة فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل، کانت ظاهرة فی أنّها شرط للحکم و الملاک معاً، و هذا معنی أن القدرة المعتبرة شرعیة و إن لم تکن مأخوذة فی لسان الدلیل فی هذه المرحلة وکان الحاکم باعتبارها العقل کانت شرطاً للحکم فحسب دون الملاک لعدم الطریق للعقل إلیه حتی یحکم بأنها معتبرة فیه أیضاً من قبل الشرع هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، ان الغرض من جعل الحکم قد یکون مجرد ابراز المبادی فی الواقع وانها ثابتة فیه مطلقاً حتی بالنسبة إلی العاجز، ولکن هذا فی الحقیقة اخبار من المولی عن ثبوت المبادی مطلقاً وحیث إنها حقیقة الحکم وروحه

ص:358

فبطبیعة الحال تکشف عن ثبوت الأحکام فی مواردها لباً تطبیقاً لقاعدة الملازمة بین ثبوتها وثبوت الأحکام علی طبقها، ولکن ذلک قلیل جداً فی الأحکام الشرعیة، و قد یکون بداعی البعث و التحریک المولوی کما هو الغالب بمعنی أن الغرض من جعل الحکم انما هو إیجاد الداعی فی نفس المکلف، ومن الواضح أن هذا بنفسه لایکون محرکاً للمکلف وإنما یکون داعیاً ومحرکاً بسبب حکم العقل فی المرتبة السابقة بالادانة و المسؤولیة علی مخالفة المولی علی أساس استقلاله بلزوم اطاعته، ولولا حکم العقل هذا فلایعقل کون التکلیف الصادر منه محرکاًوداعیاً، لأن قضیة حق الطاعة للمولی الذاتی من القضایا الأولیة، ومن الواضح أن حکم العقل بهذه القضیة یکون محرکاً للمکلف بتحریک المولی وإلاّ فلا، وحیث إنه لا إدانة ولا مسؤولیة للعاجز فلایعقل جعل الحکم علیه بداعی البعث، و إن شئت قلت: ان جعل التکلیف من المولی انما یکون بغرض إمکان إیجاد الداعی فی نفس المکلف إذا کان المکلف معتقداً بمولویته ووجوب اطاعته وحرمة مخالفته فی المرتبة السابقة وإلاّ فلا موضوع لایجاد الداعی المولوی فی نفسه، فإذن لا محالة یکون اعتبار القدرة بحکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز علی أساس أن الادانة و المسؤولیة انما هی علی القادر، فالتکلیف بنفسه لایقتضی ذلک بقطع النظر عن حکم العقل بالإدانة و المسؤولیة ولزوم الاطاعة. ثم انه لافرق فی ذلک بین أن یکون الانشاء بمعنی إیجاد المعنی باللفظ بأن یکون المنشأ بصیغة الأمر و هو الطلب و البعث المولوی أو انه عبارة عن ابراز الأمرالاعتباری النفسانی فی الخارج کما اختاره السید الاُستاذ قدس سره(1) ، فإن المنشأ فی عالم الانشاء لایقتضی کون متعلقه مقدوراً سواءً أکان الانشاء بمعنی إیجاد المعنی

ص:359


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2 ص 122 123.

باللفظ أم کان بمعنی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، وإنما الکلام فی التکلیف الحقیقی الذی له روح وملاک وموجه إلی الشخص حقیقة بمعنی أن فاعلیته ومحرکیته له فعلیة وانه فی هذه المرحلة هل یقتضی کون متعلقه خصوص الحصة المقدورة أو أن الحاکم باعتبار القدرة العقل علی أساس قضیة عقلیة ضروریة فی المرتبة السابقة و هی قبح توجیه التکلیف إلی العاجز وإدانته علی المخالفة وتحمیله المسؤولیة، فإن هذه القضایا الأولیة هی المنشأ لحکم العقل باعتبار القدرة فی متعلق التکلیف ولولاها لم یکن التکلیف بنفسه یقتضی ذلک، فإن اقتضائه انما هوعلی أساس أن الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلف، ومن المعلوم أنه إنمّا یوجد الداعی فی نفسه مولویاً علی ضوء حکم العقل بقبح مخالفة المولی و وجوب اطاعته ومسؤولیته أمامه وإلاّ فلایعقل أن یکون داعیاً ومحرکاً.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف انماهو باقتضاء نفس التکلیف، إلاّ أن من الواضح أنه لایقتضی أکثر من کون متعلقه مقدوراً لئلاً یکون طلبه طلباً للمحال ولایکون البعث نحوه بعثاً نحو الممتنع، والمفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور ولایکون التکلیف به تکلیفاً بالمحال و قد تقدم تفصیل ذلک.

وثالثاً: مع الاغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم أن التکلیف یقتضی کون متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم، فمع ذلک لایتم ما أفاده قدس سره من عدم انطباق الطبیعة المأمور بها علی الفرد فی مورد الاجتماع لأنه لا مانع من انطباقها علیه، لفرض أنه لایکون متحداً مع الحرام فیه ومعه لا مانع مع انطباق الطبیعی المأمور به علیه، مثلاً الصلاة فی الأرض المغصوبة حیث إنها لاتتحد مع الحرام فیها، فلا مانع من انطباق الصلاة المأمور بها علیها، لأن المانع من الانطباق انما

ص:360

هو حرمة الفرد و المفروض أنه لیس بحرام، ومجرّد ملازمته للحرام وجوداً لایمنع من الأنطباق، فإذن لایکون الانطباق ممنوعاً شرعاً لکی یقال أن الممنوع الشرعی کالممتنع العقلی.

المناقشة فی الوجه الثانی

و أما الوجه الثانی: فلا مانع من الالتزام بالترتب فی مورد الاجتماع علی أساس أن الکون فی الأرض المغصوبة محرم و هو ملازم لوجود الصلاة فیها لا أنه متحد معها، وعلیه فلا مانع من أن یکون الأمر بالصلاة مشروطاً بالکون فیها ولایلزم منه أی محذور، فما ذکره قدس سره من أن الکون فیها اما أن یتحقق فی ضمن فعل مضاد للصلاة کالنوم أو الأکل أو غیر ذلک أو یتحقق فی ضمن الصلاة، فعلی الأول یلزم أن یکون الأمر بالصلاة مشروطاً بوجود ضدّها، وعلی الثانی یلزم طلب الحاصل وکلاهما مستحیل لایرجع إلی معنی محصل، اما أولاً فبالنقض، لأن هذا المحذور الذی ذکره قدس سره موجود فی تمام موارد الترتب، مثلاً إذا دخل المکلف فی المسجد للصلاة ورأی فیه نجاسة کان الأمر بالصلاة مشروطاً بترک الازالة، و هو اما أن یتحقق فی ضمن فعل مضاد للصلاة أو فی ضمن فعل الصلاة وکلاهما لایمکن.

أما الأول: فلأنه یلزم أن یکون الأمر بأحد الضدین مشروطاً بوجود الضد الآخر و هو محال.

و أما الثانی: فلأن الأمر بالصلاة مشروطاً بوجودها من طلب الحاصل، وعلیه فلازم ما أفاده قدس سره هنا انکار الترتب نهائیاً مع أنه قدس سره من القائلین به بل من المؤسسین له، وثانیاً بالحل و هو أن الشرط فی المقام الکون فی الأرض المغصوبة لا ماهو ملازم له وجوداً فی الخارج المباین له حقیقة کالجلوس أو القیام أو النوم أو ما شاکل ذلک، فإن کل ذلک فعل مضاد للصلاة فی مورد الاجتماع ولا یجتمع

ص:361

معها ولکنه لیس مصداقاً للکون فیها وفرداً له بل هو مباین له وجوداً وماهیةً وملازم له فی مورد الاجتماع وجوداً، لأن الکون من مقولة الأین و الجلوس و القیام و النوم من مقولة الوضع، فالشرط و هو الکون فیها یکون من مقولة، الأین فما ذکره قدس سره مبنی علی الخلط بین کون فعل آخر الذی هو مضاد للصلاة فی مورد الاجتماع مصداقاً للکون فیه وکونه ملازماً له وجوداً وتخیل انه مصداق له وفرده وبه یتحقق الکون مع أن الأمر لیس کذلک، ومن هنا یظهر أن الصلاة فی الأرض المغصوبة مباینة للکون فیها وجوداً وماهیةً وملازمة له وجوداً، والمفروض أن الحرام انما هو الکون لا ماهو لازمه من الأفعال الخاصة، فإنّه لیس بحرام و الشرط فی المقام انما هو الاقتحام فی الحرام وارتکابه وعصیانه لا ارتکاب مالیس بحرام، وکذلک الحال فی سائر الموارد فإن الشرط انما هو ترک الازالة فی المثال المتقدّم لا ما هو لازمه من الأفعال الخاصة، فإنه لیس مصداقاً لترک الواجب بل هو لازمه.

المناقشة فی الوجه الثالث

أما الوجه الثالث: فلان المعتبر فی صحة العبادة أمران:

الأول: النیة بتمام عناصرها الثلاثة من قصد القربة و الخلوص وقصد الاسم الممیز لها.

الثانی: محبوبیة الفعل وحسنه فی نفسه، و أما الحسن الفاعلی زائداً علی اعتبارهما فلا دلیل علیه بل لایرجع إلی معنی محصل، لأن الفعل إذا کان محبوباً فی نفسه کان صدوره من فاعله حسناً لامحالة، و إن کان مبغوضاً کان صدوره منه قبیحاً، فالحسن الفاعلی لاینفک عن الحسن الفعلی فلا مبرر لاعتباره مع اعتبار الحسن الفعلی، و أما فی مورد الاجتماع فکما أن الحسن الفعلی موجود فکذلک الحسن الفاعلی بالنسبة إلی الواجب، باعتبار أن وجود الواجب فیه غیر وجود

ص:362

الحرام، والمفروض عدم سرایة المبغوضیة منه إلیه، وعلیه فکما أن الواجب فی نفسه محبوب وحسن فکذلک صدوره منه بما هو واجب حسن، فالقبیح انما هوصدور الحرام منه الملازم لوجود الواجب فیه، والنکتة فی ذلک أن تعدد الوجودیستلزم تعدد الإیجاد باعتبار أن الوجود عین الإیجاد فلا فرق بینهما إلاّ بالاعتبار و الإضافة، فإذا کان الوجود متعدداً فلا محالة یکون الإیجاد أیضاً کذلک، وحیث إن المأمور به مغایر للمنهی عنه وجوداً فبطبیعة الحال یکون مغایراً له إیجاداً، وعلیه فیکون إیجاد المأمور به بما هو محبوباً للمولی ولیس فیه أی قبح و القبیح انماهو إیجاد المنهی عنه فحسب و المفروض أن قبحه لایسری إلیه، فإذن لا مانع من انطباق المأمور به علیه و التقرب به اما من جهة اشتماله علی الملاک أو من جهة الأمر الترتّبی.

و إن شئت قلت: ان ما ذکره قدس سره من اعتبار الحسن الفاعلی فی صحة العبادة إضافة إلی الحسن الفعلی لایرجع إلی معنی معقول، ضرورة أن الحسن الفعلی إذاکان ثابتاً فالحسن الفاعلی أیضاً ثابت لأنه لاینفک عنه، فإذن لایعقل أن یکون الحسن الفاعلی شرطاً آخر فی صحة العبادة فی قبال الحسن الفعلی، لوضوح أنه لایتصور أن یکون الفعل حسناً فی نفسه ومع هذا یکون صدوره من الفاعل قبیحاً تحصل مما ذکرناه أن ما ذهب إلیه المحقق النائینی قدس سره من بطلان العبادة فی مورد الاجتماع مطلقاً حتی علی القول بالجواز غیر تام لعدم تمامیة شیء من الوجوه التی استدل بها علی البطلان، هذا کله فیما إذا کان المصلی فی الأرض المغصوبة عالماً بالحرمة، و أما إذاکان جاهلاً بالحرمة فهل تصح صلاته فیها أو لا؟

فذهب المحقق النائینی قدس سره إلی الوجه الأول و هو صحة صلاته فی مورد الاجتماع بدعوی، أن المانع منها عدم تمکن المکلف من الاتیان بها عقلاً وشرعاً

ص:363

کما إذا کان عالماً بالحرمة، فإنه حینئذٍ لایتمکن من الاتیان بها شرعاً و الممنوع الشرعی کالممتنع العقلی، و أما إذا کان جاهلاً بالحرمة فلا مانع من فعلیة الأمر بالصلاة لتمکنه منها عقلاً وشرعاً ومعه لامحالة یکون الاتیان بها صحیحاً وکذلک الحال فی فرض النسیان بل الحکم بالصحة فی هذا الفرض أوضح حیث إنه رافع للحرمة واقعاً، وعلی الجملة فلاتنافی بین الوجوب و الحرمة فی مورد الاجتماع علی القول بالجواز وتعدد المجمع وجوداً وماهیةً فی مرحلة الجعل، وانما التنافی بینهما فی مرحلة الفعلیة والامتثال، فإن للمکلف قدرة واحدة فإن صرفها فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر و المقام کذلک، فإنه لایتمکن من امتثال الوجوب و الحرمة معاً فی مورد الاجتماع، وفی مثل ذلک إذا فرض جهل المکلف بالحرمة، فلا مانع من فعلیة الوجوب بفعلیة موضوعه و هو القدرة هذا.

ومن هنا یظهر أن الصلاة فی الأرض المغصوبة علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً محکومة بالصحة بالأمر الترتبی و إن کان عالماً بالحرمة طالما لایکون الحرام متحداً مع الواجب اما من جهة الأمر الترتبی أو من جهة تطبیق قواعد باب التزاحم فی المسألة وترجیح جانب الوجوب علی جانب الحرمة(1).

فالنتیجة، ان صحة العبادة کالصلاة مثلاً علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع واضحة حتی فی صورة العلم بالحرمة فضلاً عن الجهل بها.

و أما علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً فتقع المعارضة بین اطلاق دلیلی الأمر و النهی حیث لایمکن جعل کلا الاطلاقین معاً فی مورد الاجتماع علی أساس التنافی و التضاد بینهما فی عالم المبادی، إذ یستحیل أن یکون

ص:364


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 358 359.

شیء واحد وجوداً متعلقاً للمصلحة و المفسدة معاً ومحبوباً ومبغوضاً فی آن واحد ومتعلقاً للارادة و الکراهة کذلک، وحینئذٍ فلا محالة تقع المعارضة بین اطلاق دلیل کل منهما فی مورد الاجتماع والالتقاء ولابد عندئذٍ من الرجوع إلی مرجحات باب المعارضة فإن کان فهو وإلاّ فالمرجع الأصل فی المسألة من أصل لفظی أو عملی حسب اختلاف الموارد، و أما فی المقام فالتعارض بین اطلاق دلیل وجوب الصلاة وبین اطلاق دلیل النهی عن الغصب وبعد سقوط اطلاق کل منهمامن جهة المعارضة فی مورد الاجتماع، فیکون المرجع العام الفوتی و هو أن الصلاة لاتدع بحال وسوف یأتی تفصیله.

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی عدة نقاط

ثم إن للمحقق الخراسانی قدس سره فی المسألة کلاماً فی ضمن المقدمة العاشرة وإلیک نصه: «إنه لا اشکال فی سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتیان المجمع بداعی الأمر علی الجواز مطلقاً ولو فی العبادات و إن کان معصیة للنهی أیضاً، وکذا الحال علی الامتناع مع ترجیح جانب الأمر إلاّ أنه لامعصیة علیه، واما علیه وترجیح جانب النهی فیسقط به الأمر مطلقاً فی غیر العبادات لحصول الغرض الموجب له واما فیها فلا مع الالتفات إلی الحرمة أو بدونه تقصیراً، فإنه و إن کان متمکناً مع عدم الالتفات من قصد القربة و قد قصدها إلاّ أنه مع التقصیر لاتصلح أن یتقرب به أصلاً فلا یقع مقرباً وبدونه لایکاد یحصل به الغرض الموجب للأمربه عبادة کما لایخفی، واما إذا لم یلتفت إلیها قصوراً و قد قصد القربة بإتیانه فالأمریسقط لقصد التقرّب بما یصلح أن یتقرب به لاشتماله علی المصلحة مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً فیحصل به الغرض من الأمر فیسقط قطعاً و إن لم یکن امتثالاً له بناءً علی تبعیة الأحکام لما هو الأقوی من جهات المصالح و المفاسد واقعاً لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقق فی محله. مع أنه یمکن أن یقال بحصول الامتثال مع ذلک، فإن

ص:365

العقل لایری تفاوتاً بینه وبین سائر الأفراد فی الوفاء بغرض الطبیعة المأمور بها و إن لم تعمّه بما هی مأمور بها لکنه لوجود المانع لا لعدم المقتضی.

ومن هنا انقدح انه یجزی ولو قیل باعتبار قصد الامتثال فی صحة العبادة وعدم کفایة الاتیان بمجرد المحبوبیة کما یکون کذلک فی ضدّ الواجب حیث لایکون هناک أمر یقصد أصلاً. وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أوحکماً یکون الاتیان بالمجمع امتثالاً وبداعی الأمر بالطبیعة لا محالة، غایة الأمرأنه لایکون مما یسعه بما هی مأمور بها لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للأحکام الواقعیة، و أما لو قیل بعدم التزاحم إلاّ فی مقام فعلیة الأحکام لکان ممایسعه وامتثالاً لأمرها بلا کلام.

و قد انقدح بذلک الفرق بین ما إذا کان دلیل الحرمة و الوجوب متعارضین و قدم دلیل الحرمة تخییراً أو ترجیحاً حیث لایکون معه مجال للصحة أصلاً، وبین ما إذا کانا من باب الاجتماع. وقیل بالامتناع وتقدیم جانب الحرمة حیث یقع صحیحاً فی غیر مورد من موارد الجهل و النسیان لموافقته للغرض بل للأمر، ومن هنا علم أن الثواب علیه من قبیل الثواب علی الطاعة لا الانقیاد ومجرد اعتقاد الموافقة. و قد ظهر بما ذکرناه وجه حکم الأصحاب بصحة الصلاة فی الدار المغصوبة مع النسیان أو الجهل بالموضوع بل الحکم إذا کان عن قصور مع أن الجل لولا الکل قائلون بالامتناع وتقدیم الحرمة ویحکمون بالبطلان فی غیرموارد العذر فلتکن من ذلک علی ذکر(1).

تلخیص کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی عدة نقاط

تتضمن هذه المقدمة عدة نقاط:

ص:366


1- (1) - کفایة الاصول ص 156 158.

الاُولی: أنه لاشبهة فی تحقق الامتثال وحصول الغرض بإتیان المجمع فی مورد الاجتماع بداعی الأمر المتعلق بالطبیعة علی القول بالجواز مطلقاً فی العبادات و التوصلیات، اما فی التوصلیات فهو واضح، و أما فی العبادات کالصلاة فی الدارالمغصوبة فالأمر فیها أیضاً کذلک، لأن الصلاة المأمور بها تنطبق علی الفرد المأتی به فی مورد الاجتماع و هو المجمع، غایة الأمر أن إتیانه یستلزم التصرف فی مال الغیر و هو محرم، ولکن حیث إنه لایکون متحداً معه علی الفرض فلایکون ارتکابه موجباً للفساد فیکون کالنظر إلی الأجنبیة بشهوة حال الصلاة.

الثانیة: ان مسألة الاجتماع علی القول بالامتناع ووحدة المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً لاتدخل فی کبری مسألة التعارض للفرق بین المسألتین و هو ان هذه المسألة منوطه بکون المجمع رغم کونه واحداً وجوداً وماهیةً مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین معاً، بینما تلک المسألة منوطة بکون مورد المعارضة مشتملاً علی ملاک أحد الحکمین المتعارضین.

الثالثة: إن الاتیان بالمجمع علی القول بالامتناع ووحدته وجوداً کالصلاة فی الدار المغصوبة، فبناء علی تقدیم جانب الوجوب علی جانب الحرمة صحیح ومصداق للمأمور به بدون أن تکون هناک معصیة، و أما بناء علی تقدیم جانب الحرمة علی جانب الوجوب، فقد حکم قدس سره بصحة الاتیان بالمجمع إذا کان المکلف جاهلاً بحرمته وکان جهله عن قصور.

الرابعة: اعتبار الحسن الفاعلی فی صحة العبادة إضافة إلی الحسن الفعلی وقصد القربة والاخلاص.

الخامسة: عدم انطباق الطبیعة المأمور بها بوصف کونها مأموراً بها علی الفرد فی مورد الاجتماع وانطباقها علی سائر الأفراد کذلک مع أنه لافرق بینه

ص:367

وبینها فی الوفاء بالملاک و الغرض.

السادسة: ما احتمله قدس سره من أن المؤثر فی الأحکام الشرعیة إذا کان الجهات الواصلة دون الأعمّ منها ومن الواقعیّة لکانت الطبیعة المأمور بها مما تسعه مورد الاجتماع، والاتیان به عندئذٍ کان امتثالاً لأمرها.

نقد هذه النقاط

ولنأخذ بالنقد علی هذه النقاط:

أما النقطة الاُولی، فلیس بإمکانه قدس سره الحکم بصحّة الصلاة فی الأرض المغصوبة علی القول بالجواز مطلقاً فی فرض علم المکلف بالحرمة وذلک لأن المسألة علی هذاتدخل فی کبری مسألة التزاحم باعتبار وقوع المزاحمة عندئذٍ بین وجوب الصلاة وحرمة الغصب، وحینئذٍ فإن کان وجوب الصلاة أهم من حرمة الغصب، فلا اشکال فی صحتها من جهة سقوط دلیل الحرمة فی مورد الاجتماع رأساً علی القول باستحالة الترتب کما هو مختاره قدس سره وسقوطه اطلاقاً علی القول بإمکانه، واما إن کان مساویاً للحرمة أو الحرمة أهم منه فلیس بإمکانه الحکم بالصحة علی ما یراه قدس سره من استحالة الترتب، اما فی فرض التساوی فیسقط کلا الاطلاقین معاً هما اطلاق دلیل وجوب الصلاة واطلاق دلیل الحرمة من جهة المعارضة وبعد السقوط یکون المرجع الأصل العملی فی المسألة ومقتضاه عدم المشروعیّة إلاّ ما ثبت بالدلیل کما فی باب الصلاة، فإنه بعدسقوط کلا الاطلاقین فی مورد الاجتماع یرجع إلی عموم ما دل علی أن الصلاة لاتسقط بحال، و أما فی فرض کون الحرمة أهم من الوجوب فلایمکن تصحیح الواجب فی مورد الاجتماع إلا بأحد أمرین:

الأول: بالترتب.

الثانی: بإحراز وجود الملاک فیه وکلا الأمرین لایمکن، اما الأول فلأنه قدس سره قد

ص:368

بنی علی استحالته فإذن لیس بإمکانه الحکم بصحة العبادة بالترتب، و أما الثانی فلاطریق إلیه فما ذکره قدس سره من الحکم بصحة العبادة فی مورد الاجتماع علی القول بالجواز مطلقاً غیر تام، هذا فیما إذا لم تکن هناک مندوحة فی البین، و أما إذا کانت فلا مانع من الحکم بصحة العبادة فی مورد الاجتماع بداعی أمرها، إذ حینئذٍلامزاحمة بین الواجب و الحرام لتمکن المکلف من امتثال کلیهما معاً و المزاحم له انما هو فرد الواجب ولا مانع من الاتیان بهذا الفرد بداعی الأمر المتعلق بالواجب ولکن هذا الفرض خارج عن محل الکلام.

و أما النقطة الثانیة، فقد تقدم إن مسألة الاجتماع علی القول بالجواز وتعدد المجمع وجوداً وماهیةً تدخل فی کبری مسألة التزاحم وحینئذٍ فلابد من الرجوع إلی قواعد باب المزاحمة، وعلی القول بالامتناع ووحدة المجمع فی مورد الاجتماع کذلک تدخل فی کبری مسألة التعارض فتقع المعارضة بین اطلاق دلیلی الوجوب و الحرمة فیه، لأن جعل کلیهما لشیء واحد غیر معقول علی أساس استحالة اجتماعهما فی شیء واحد فی عالم المبادی والاقتضاء، أما فی عالم المبادی فلاستحالة أن یکون شیء واحد محبوباً ومبغوضاً معاً للمولی ومتعلقاً للارادة و الکراهة کذلک ومشتملاً علی مصلحة ومفسدة ملزمتین، و أما فی عالم الاقتضاء فلأن الوجوب یقتضی الاتیان بمتعلقه فی الخارج ویدعو المکلف إلیه، والحرمة تقتضی الاجتناب منه وتدعو المکلف إلی الابتعاد عنه، فلایعقل الجمع بینهما فی شیء واحد، فلهذا تقع المعارضة بین دلیلیهما اما بالذات أو بالاطلاق کما فی المقام، لأن المعارضة بینهما فیه انما هی بالاطلاق، فإن مقتضی اطلاق دلیل الوجوب ثبوته حتی فی مورد الاجتماع وکذلک مقتضی اطلاق دلیل الحرمة، هذا من ناحیة.

ص:369

ومن ناحیة اخری، قد ذکرنا فی محله أن روایات الترجیح لاتختصّ بما إذا کان التعارض بین الدلیلین فی المدلول الوضعی فحسب، فإنها کما تشمل ذلک تشمل ما إذا کان التعارض بینهما فی المدلول الاطلاقی الثابت بمقدمات الحکمة خلافاً للسید الاُستاذ قدس سره، حیث إنه قد خصّها بالأول وتمام الکلام من هذه الناحیة یأتی فی محله، وعلی ضوء ما قویناه من العموم فإن کان لأحدهما مرجح دون الآخرنأخذ به ونطرح الآخر ویکون کاشفاً عن ثبوت الملاک فیه، و إن لم یکن مرجح فی البین سقط کلا الاطلاقین معاً وحینئذٍ فلاطریق لنا إلی ثبوت الملاک لأحدهمافی مورد المعارضة، إذ کما یحتمل أن یکون سقوطهما معاً من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضی لأحدهما فیه یحتمل أن یکون سقوطهما کذلک من جهة عدم ثبوت المقتضی فیه أصلاً فی هذه الحالة، فما ذکره قدس سره من أن مسألة التعارض منوطة بوجود الملاک لأحد الحکمین المتعارضین فی مورد المعارضة لا أساس له.

و أما النقطة الثالثة، و هی صحة العبادة فی مورد الاجتماع علی القول بالامتناع ووحدة المجمع، فبناء علی تقدیم جانب الوجوب علی جانب الحرمة فلا اشکال فی صحة العبادة فیه بلا فرق فی ذلک بین العالم و الجاهل، لأن المجمع علی هذا یکون مصداقاً للمأمور به فحسب ولایکون بمنهی عنه فی شیء، وانما الاشکال و الکلام فی عکس ذلک و هو تقدیم جانب الحرمة علی جانب الوجوب، وهل یمکن فی هذا الفرض الحکم بصحة فیما إذا کان المکلف جاهلاً بالحرمة فیه وجهان:

ذهاب المحقق الخراسانی قدّس سرّه إلی الصحة إذا کان جهله عن قصور

فذهب المحقق الخراسانی قدس سره إلی الوجه الأول شریطة أن یکون جهله بها عن قصور لا عن تقصیر(1) وغیر خفی أن ما أفاده قدس سره فی هذه النقطة لایمکن المساعدة

ص:370


1- (1) - کفایة الاصول ص 157.

علیه، وذلک لأن صحة العبادة ترتکز علی رکیزتین:

الرد علیه

الاُولی: کون الفعل محبوباً فی نفسه للمولی.

الثانیة: النیّة بتمام عناصرها الثلاثة، نیة القربة، نیة الخلوص، نیة الأسم، فإذا توفّرت هاتان الرکیزتان صحت العبادة ومع انتفائهما معاً أو احداهما بطلت، وعلی ضوء هذا الأساس فعلی القول بالامتناع فی المسألة ووحدة المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً تقع المعارضة بین اطلاق دلیل الوجوب واطلاق دلیل الحرمة فی مورد الاجتماع، وحینئذٍ فإذا فرض تقدیم اطلاق دلیل الحرمة علی اطلاق دلیل الوجوب فیه، فمعناه أن المجمع محرم ومبغوض ومتعلق للکراهة فحسب وخارج عن اطلاق دلیل الوجوب ولیست فیه شائبة المحبوبیة لاستحالة اجتماعهما مع المبغوضیّة التامّة فی شیء واحد، وعلی هذا فکیف یعقل الحکم بصحة العبادة کالصلاة مثلاً بالاتیان بالمجمع لاستحالة انطباقها علیه، بداهة أن المبغوض لایمکن أن یکون مصداقاً للمحبوب و الحرام مصداقاً للواجب، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون المکلف عالماً بحرمة المجمع أو جاهلاً بها کان جهله عن تقصیر أو قصور، ضرورة أن الجهل بها لایکون رافعاً لها لأنه محرم ومبغوض فی الواقع سواءً أکان المکلف عالماً أم جاهلاً بها، وعلیه فما أفاده قدس سره من الحکم بصحة العبادة فی هذا الفرض غریب جداً، وتقییده قدس سره الحکم بصحة العبادة فی المسألة للجاهل یکون جهله عن قصور یدل علی أنّه اعتبر فی صحة العبادة أموراً:

الأول: أن یکون الفعل حسناً فی نفسه.

الثانی: قصد القربة.

الثالث: أن یکون صدوره من الفاعل حسناً.

ص:371

ولهذا اعتبر أن یکون جهله بالحرمة عن قصور إذ لو کان عن تقصیر لم یکن صدوره من الفاعل حسناً کما إذا کان عالماً بها، و هذا یدل علی أن الشرطین الأولین مفروغ عنه عنده قدس سره وإنما کان کلامه منصباً علی الشرط الأخیر وانّه متوفر إذا کان جهله بالحرمة فی المسألة عن قصور، ولکن کیف یعقل توفر الشرطین الأولین، بداهة أنه لایعقل أن یکون الفعل الواحد وجوداً وماهیةً محبوباً ومبغوضاً معاً.

فالنتیجة، إن ما أفاده قدس سره من الحکم بصحة العبادة فی مورد الاجتماع علی القول بالامتناع وتقدیم جانب الحرمة علی جانب الوجوب للجاهل بها إذا کان عن قصور لایرجع الی معنی معقول، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم امکان کون المجمع رغم کونه واحداً مشتملاً علی ملاکی کلا الحکمین معاً فمع هذا لایمکن الحکم بصحة العبادة بالاتیان بالمجمع فی مورد الاجتماع، وذلک لأن المصلحة المزاحمة بالمفسدة فیه لاتصلح أن تکون مقربة علی أساس أنها مغلوبة للمفسدة بقرینة تقدیم الحرمة علی الوجوب بل لاتصلح إذا کانت مساویة لها فضلاً عن کونها مغلوبة، فإذا کانت العبادة مشتملة علی المصلحة و المفسدة المتساویتین لم تکن محبوبة ولا مبغوضة، ومع هذا لایمکن الحکم بصحتها لعدم صلاحیتها للتقرّب بها.

والخلاصة: إن المصلحة المساویة للمفسدة لاتصلح أن تکون منشأً للقربة فماظنک بالمصلحة المغلوبة بها کما هو مقتضی تقدیم جانب الحرمة علی جانب الوجوب، ومن الواضح انه لا فرق فی ذلک بین العالم بالحرمة و الجاهل بها کان جهله عن تقصیر أو قصور، لأن الجهل بالحرمة لایکون رافعاً لها ولایجعل المبغوض محبوباً هذا من ناحیة.

ص:372

ومن ناحیة اخری، ان ما ذکره قدس سره من أن الواجب إذا کان توصلیاً یحصل الغرض منه بمطلق وجوده ولو فی ضمن فرد محرم لایمکن تصدیقه مطلقاً، فإن الواجب التوصّلی قد لایترتب الغرض علی مطلق وجوده بل علی وجوده الخاص و هو ما إذا لم یکن فی ضمن فرد محرم أو صادراً من مجنون أو صبی وهکذا علی تفصیل ذکرناه فی بحث الواجب التعبدی و التوصلی.

الرد علی النقطة الرابعة و الخامسة

و أما النقطة الرابعة: و هی اعتبار الحسن الفاعلی فی صحة العبادة، فقد تقدم أنه لادلیل علی اعتباره زائداً علی الحسن الفعلی بل ذکرنا أنه لیس شرطاً آخرفی مقابل الحسن الفعلی فإن اعتباره یغنی عن اعتبار الحسن الفاعلی لأنه یلازمه ولایمکن انفکاکه عنه.

و أما النقطة الخامسة: و هی ما ذکره قدس سره من أن الطبیعة المأمور بها بوصف کونها مأموراً بها لاتنطبق علی الفرد فی مورد الاجتماع وتنطبق علی سائر الأفراد مع أنه لا فرق بینه وبینها فی الوفاء بالفرض، فهی مبنیة علی نقطة خاطئة و هی أن الأمر المتعلق بالطبیعی الجامع یسری منه إلی أحد أفراده علی البدل، وحیث إنه لایمکن أن یکون الفرد فی مورد الاجتماع متعلقاً للأمر لا تعییناً ولا تخییراً فلهذا لاتنطبق علیه الطبیعة المأمور بها بوصف کونها مأموراً بها مع أنه کسائر الأفراد فی اشتماله علی الملاک و الوفاء بالغرض نظیر ما ذکر بالنسبة إلی الفرد المزاحم للواجب الأهمّ من أن المأمور به بوصف کونه مأموراً به لاینطبق علیه مع أنه کسائر أفراده فی الوفاء بالغرض هذا.

ویمکن أن ما ذکره قدس سره فی هذه النقطة مبنی علی ما أفاده المحقق النائینی قدس سره(1) من ان اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف انما هو باقتضاء نفس التکلیف و هو

ص:373


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 360.

یقتضی کون متعلقه خصوص الحصة المقدورة، وحیث إن الفرد فی مورد الاجتماع غیر مقدور شرعاً من جهة حرمته فلایکون فرداً للواجب، و أما وجه خطأ هذه النقطة فلأن الأمر المتعلق بالطبیعی الجامع لایسری منه إلی أفراده لاتعییناً ولاتخییراً بنکتة أن المطلوب منه صرف وجود الطبیعی دون الوجودات الخاصة علی البدل، وعلیه فتعلق الأمر بالفرد علی البدل بحاجة إلی قرینة، ومن هنا قلنا أنه لا مانع من تعلق الأمر بالجامع بین المقدور وغیر المقدور، وعلی هذا فلا مانع من انطباق المأمور به بوصف کونه مأموراً به علی الفرد فی مورد الاجتماع إذا فرض کونه مشتملاً علی الملاک ووافیاً بالغرض کسائر أفراده، وکذلک لا مانع من انطباقه کذلک علی الفرد المزاحم باعتبار ان هذا الوصف وصف للمأمور به و هو الطبیعی الجامع ولایسری منه إلی أفراده رغم انه منطبق علیه، هذا نظیر النوع فإنه وصف لطبیعی الانسان ولایسری منه إلی أفراده مع أنه منطبق علیهافی الخارج وعینها فیه، و أما احتمال ان ما ذکره قدس سره مبنی علی مسلک المحقق النائینی قدس سره فهو غیر محتمل.

أولاً: انه خلاف مسلکه قدس سره.

وثانیاً: ان المبنی غیر صحیح کما تقدم.

وثالثاً: علی تقدیر تسلیم المبنی فمن الواضح ان التکلیف لایقتضی أکثر من کون متعلقه مقدوراً و المفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور.

و أما النقطة السادسة: و هی ما احتمله قدس سره من انه یمکن أن یکون المؤثر فی الأحکام الواقعیة الفعلیة الملاکات الواصلة المعلومة دون الملاکات الواقعیة بوجوداتها فی الواقع فهی غیر محتملة جزماً، لأنه إن ارید بذلک أن الملاکات الواصلة هی المؤثرة فی جعل الأحکام الشرعیة وأنها غیر مجعولة فی الواقع قبل

ص:374

وصولها، فیرد علیه أن ذلک یستلزم التصویب، لأن معناه ان الأحکام الشرعیة تابعة لعلم المکلف بالملاکات، لفرض أنه لاأثر للملاکات الواقعیة و المؤثر انما هو الملاکات الواصلة فوصولها بمثابة الجزء الأخیر من العلة التامة، فیرد علیه أن لازم ذلک بطلان الشرع ولغویة إرسال الرسل وإنزال الکتب باعتبار أن الأحکام الشرعیة تابعة للعلم بالملاکات الواقعیة و هو تمام المؤثر فیها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن لازم ذلک عدم الوصول إلی الأحکام الشرعیة من جهة عدم الوصول إلی ملاکاتها وسد الطریق إلیها، هذا إضافة إلی لزوم الدورلأن العلم بالملاکات یتوقف علی العلم بالأحکام الشرعیة، حیث إنه لاطریق إلیها إلاّ من طریق العلم بها، فلوکان العلم بها متوقفاً علی العلم بالملاکات لدار.

نتیجة البحث

فالنتیجة، ان هذا الاحتمال غیر محتمل بل هو خلاف الضرورة، و إن ارید بذلک ان الملاکات الواصلة مؤثرة فی فعلیة الأحکام الشرعیة المجعولة فی الواقع بمعنی أن الشارع جعل الأحکام الشرعیة علی أساس ملاکاتها الواقعیة ولکن فعلیة هذه الأحکام المجعولة منوطة بالعلم بملاکاتها ووصولها، فیرد علیه أن لازم ذلک اختصاص الأحکام الفعلیة بالعالم بها دون الأعم منه ومن الجاهل، و هذا و إن کان ممکناً ثبوتاً بناءً علی ما هو الصحیح من أنه لا مانع من أخذ العلم بالحکم فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول ولایلزم منه الدور إلاّ أنه لایمکن الأخذ به فی مقام الاثبات، لأن اختصاص الأحکام الشرعیة بالعالم بها خلاف الضرورة من الشرع وخلاف اطلاقات الکتاب و السنة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی أن هذه المقدمة بتمام نقاطها لاترجع إلی معنی محصل أصلاً.

ص:375

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی ضمن المقدمة الثامنة و التاسعة

ثم أن المحقق الخراسانی قدس سره ذکر فی ضمن المقدمة الثامنة و التاسعة ما یرجع إلی عدة نقاط:

الاُولی: إن المعتبر فی مسألة الاجتماع هو کون المجمع لمتعلقی الأمر و النهی فی مورد الاجتماع مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین معاً، فعلی القول بالجواز یکون المجمع محکوماً بحکمین فعلاً، وعلی القول بالامتناع یکون محکوماً بأقوی المناطین أو بحکم آخر غیر الحکمین فیما إذا لم یکن هناک أحدهما أقوی من الآخر، و أما إذا لم یکن المجمع مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین معاً، فلایکون من هذا الباب.

الثانیة: إذا کان هناک دلیل من اجماع أو غیره علی أن المجمع فی مورد الاجتماع مشتمل علی ملاک کلا الحکمین فهو و إن لم یکن إلاّ اطلاق دلیلی الحکمین، وحینئذٍ فإن کان اطلاقهما فی مقام بیان الحکم الاقتضائی، لکان دلیلاً علی ثبوت المقتضی فی مورد الاجتماع مطلق حتی علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداًوماهیةً فیکون من باب الاجتماع، و إن کان فی مقام بیان الحکم الفعلی کان کاشفاً عن ثبوت المقتضی فی مورد الاجتماع لکلا الحکمین علی القول بالجواز وتعدد المجمع إلاّ إذا علم اجمالاً بکذب أحد الدلیلین فیعامل معهما حینئذٍ معاملة المتعارضین، و أما علی القول بالامتناع فالاطلاقان متنافیان من غیر دلالة علی ثبوت المقتضی لکلا الحکمین فی مورد الاجتماع، فإن انتفاء أحد المتنافیین کمایمکن أن یکون من أجل المانع مع ثبوت المقتضی له یمکن أن یکون من أجل انتفائه.

الثالثة: انه یمکن حمل کلا الاطلاقین المتکفلین للحکم الفعلی علی الحکم الاقتضائی بالتوفیق و الجمع العرفی لولم یکن أحدهما أظهر وإلاّ فیحمل الظاهر

ص:376

علی الحکم الاقتضائی.

الرابعة: ان بین الدلیلین الذین کانا یدلان علی الوجوب و التحریم فی مورد الاجتماع فی مقام الاثبات معارضة إذا أحرز أن المجمع لایکون مشتملاً علی کلا الملاکین، و أما إذا کان مشتملاً علیهما معاً فیکون من باب التزاحم بین المقتضیین، فعلی الأول یرجع إلی مرجحات باب المعارضة وعلی الثانی إلی مرجحات باب المقتضیات المتزاحمان.

الخامسة: لو کان کل من اطلاقی الدلیلین متکفلاً للحکم الفعلی لوقع التعارض بینهما، فلابد حینئذٍ من ملاحظة مرجحات باب المعارضة هذا إذا لم یمکن التوفیق العرفی بینهما بحمل أحدهما علی الحکم الاقتضائی بملاحظة مرجحات باب المزاحمة.

مناقشة کلامه قدّس سرّه

وللمناقشة فی جمیع هذه النقاط مجال واسع.

أما النقطة الاُولی، فلما تقدّم من أن البحث فی هذه المسألة انما هو عن الصغری و هی أن المجمع فی مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهیةً أو متعددکذلک، فعلی الأول تدخل المسألة فی کبری مسألة التعارض لاستحالة جعل الوجوب و الحرمة معاً لشیء واحدٍ بحسب عالم المبادی والاقتضاء، ضرورة أن الشیء الواحد لایمکن أن یکون محبوباً ومبغوضاً معاً وواجباً وحراماً فی آن واحد ومتعلقاً للارادة و الکراهة ومشتملاً علی مفسدة ومصلحة، وعلی الثانی تدخل فی کبری مسألة التزاحم و هی وقوع التنافی بین الحکمین فی مرحلة الامتثال من جهة عدم قدرة المکلف علی امتثال کلا الحکمین معاً، فإذن یکون البحث فی هذه المسألة انما هو عن تنقیح الصغری لکبری مسألتی التعارض و التزاحم، فلاتکون هذه المسألة فی عرض هاتین المسألتین لکی نفحص عن

ص:377

نقطة الامتیاز بینها وبینهما هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، ان ما ذکره قدس سره من أن الضابط الکلی لهذه المسألة هو اشتمال المجمع فی مورد الاجتماع علی ملاک کلا الحکمین معاً حتی علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً غیر تام، لما تقدم من أن المجمع إذا کان واحداً کذلک استحال اجتماع ملاک الوجوب و الحرمة فیه کالحب و البغض والارادة و الکراهة و المصلحة و المفسدة، فما ذکره قدس سره من الضابط لایخرج عن مجرد افتراض وتصور ذهنی علی القول بالامتناع ووحدة المجمع، ومن ناحیة ثالثة انه یظهر منه قدس سره ان التنافی انما هو بین الوجوب و الحرمة لابین الملاکات فی عالم المبادی مع أن الأمر بالعکس تماماً، لأن الوجوب و الحرمة بما هما أمران اعتباریان فلا مضادة ولا منافاة بینهما ولا مانع من اجتماعهما فی شیء واحد، وإنما المانع عن ذلک هو التنافی و التضاد بینهما فی مرحلة المبادی والاقتضاء.

و أما النقطة الثانیة: فهی تتضمن احتمالین:

الأول: ان اطلاق کل من الدلیلین فی مورد الاجتماع یکون فی مقام بیان الحکم الاقتضائی.

الثانی: یکون فی مقام بیان الحکم الفعلی، أما الاحتمال الأول فلأن الغرض من جعل الحکم مرة مجرد ابراز الملاک و المقتضی فی الفعل ومرده فی الحقیقة إلی اخبار المولی بوجود مصلحة فی فعل ومفسدة فی آخر ولهذا لایحدّد ذلک مرکز حق الطاعة و المسؤولیة أمام اللَّه تعالی واُخری إیجاد الداعی فی نفس المکلف لتحریکه وانبعاثه نحو الطاعة کما هو الحال فی جمیع الأحکام الشرعیة الحقیقیة من الوجوبات و التحریمات، و هذا النحو من الحکم الشرعی یحدّد مرکز حق الطاعة ومسؤولیة المکلف أمام اللَّه تعالی وعلی هذا فإن أراد قدس سره من الحکم

ص:378

الاقتضائی الحکم الذی یکون الغرض من جعله ابراز المقتضی بدون أن یتضمن أمراً أو نهیاً. فیرد علیه: أولاً: أن محل الکلام فی المسألة انما هو فی الحکم الحقیقی المولوی المجعول بغرض تحریک المکلف وانبعاثه منه نحو الطاعة دون مثل هذا الحکم الذی هو فی الحقیقة اخبار وإرشاد إلی وجود المقتضی فی الفعل من دون أن یتضمن تحریک المکلف ودعوته إلیه فی الخارج.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الغرض من الأمر و النهی مجرد ابرازوجود مصلحة ملزمة ومفسدة ملزمة فی مورد الاجتماع، ولکن ذلک لو تمّ فإنمایتمّ علی القول بالجواز وتعدد المجمع وجوداً وماهیةً، و أما علی القول بالامتناع و وحدة المجمع کذلک فهو مستحیل، ضرورة استحالة اجتماع المصلحة و المفسدة الملزمتین فی شیء واحد و الحب و البغض و الإرادة و الکراهة، و إن أراد قدس سره من الحکم الاقتضائی وجوده فی مرتبة المبادی کوجود المقتضی بالفتح فی مرتبة المقتضی بالکسر و المعلول فی مرتبة العلة، فیرد علیه أولاً: إن ذلک انما یتمّ فی العلل الطبیعیة فإن المعلول ثابت فی مرتبة العلة بمعنی أن وجوده وجود العلة بنحو الأتم طالما یکون فی مرتبة وجودها و إذا تولد منها وانفصل، کان وجوده من مراتب وجود العلة النازلة، ولایتمّ فی الحکم الشرعی فإنه أمر اعتباری لاواقع موضوعی له ماعدا اعتبار المعتبر فی عالم الذهن مباشرة، فلایعقل أن یکون معلولاً لمبادیه ومتولداً منها وإلاّ لکان أمراً واقعیاً لا اعتباریاً و هذاخلف، أو فقل: إن الحکم الشرعی فعل اختیاری للشارع وصادر منه فی عالم الاعتبار مباشرة، ولا یعقل التأثیر و التأثر فیه، و أما المبادی فهی داعیة للجعل لا أنها علة تامة له. وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الحکم ثابت فی مرتبة المبادی بوجوده الاقتضائی روحاً وحقیقة لا اعتباراً إلا أنه قد مرّ عدم امکان اجتماع مبادی الوجوب مع مبادی الحرمة فی شیء واحد، وحیث إن

ص:379

المجمع علی القول بالامتناع واحد وجوداً وماهیةً فلایعقل اجتماع مبادی الوجوب و الحرمة فیه.

وثالثاً: إنه لایمکن حمل اطلاق کل من دلیلی الوجوب و الحرمة علی بیان الحکم الاقتضائی لأنه بحاجة إلی قرینة تدل علی ذلک، وإلاّ فهو ظاهر فی ثبوت الحکم فی مرتبة الجعل والانشاء بنحو القضیة الحقیقیة، لوضوح أن الحکم فی مرتبة الاقتضاء روحاً وملاکاً قبل جعله وانشائه لیس مدلولا دلیل فی مقام الاثبات، لأن مدلول الدلیل فی هذا المقام انما هو جعل الحکم وانشائه وحمله علی بیان المقتضی بحاجة إلی قرینة.

فالنتیجة، إنه لایمکن حمل اطلاق دلیلی الأمر و النهی فی مسألة الاجتماع علی أنه فی مقام بیان الحکم الاقتضائی یعنی ثبوته بثبوت مقتضیه.

و إن أراد قدس سره من الحکم الاقتضائی الحکم الثابت فی نفسه و هو الثبوت اللولائی أی بقطع النظر عن ثبوت غیره بمعنی أن دلیل الأمر یدل علی ثبوت الوجوب للجمع فی مورد الاجتماع لولا ثبوت الحرمة له وبالعکس، فیکون ثبوت کل منهما مشروطاً بعدم ثبوت الآخر.

فیرد علیه، أولاً: أن کل من الدلیلین یدل علی ثبوت مدلوله فی مورد الاجتماع مطلقاً لا علی الثبوت اللولائی، وحینئذٍ فإن کان مورد الاجتماع واحداً وجوداً وماهیةً تقع المعارضة بینهما، و إن کان متعدداً وجوداً وماهیةً تقع المزاحمة بینهما.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن کلاً من الدلیلین یدل علی ثبوت مدلوله مشروطاً بعدم ثبوت مدلول الآخر إلاّ أنهما علی هذا لایکشفان عن ثبوت المقتضی لکلیهما معاً فی مورد الاجتماع، لأن الحکم الثابت فیه هو أحدهما

ص:380

و هو لایکشف إلاّ عن ثبوت المقتضی له فحسب دون الآخر، فما ذکره قدس سره من أنهما دلیلان علی ثبوت المقتضی لکلا الحکمین فی مورد الاجتماع حتی علی القول بالامتناع ووحدة المجمع فیه، غیر تام.

و إن أراد قدس سره من الحکم الاقتضائی الحکم الانشائی بقرینة أنه جعله فی مقابل الحکم الفعلی، فیرد علیه ان اطلاق کل من دلیلی الوجوب و الحرمة و إن کان یدل علی ثبوت مدلوله الانشائی فی مقام الجعل حتی فی مورد الاجتماع، إلا أنه علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً تقع المعارضة بینهما علی أساس استحالة جعل کلا الحکمین فیه لمکان التنافی بینهما فی عالم المبادی والاقتضاء، فلذلک لابد من الرجوع إلی قواعد باب المعارضة، فإن کان هناک مرجح لأحدهما علی الآخر کموافقة الکتاب ومخالفة العامة فهو وإلاّ فیسقطان معاً فالمرجع عندئذٍ الأصل، فإن کان هناک أصل لفظی فوقی کما فی باب الصلاة فهو المرجع وإلاّ فالأصل العملی، وحیث إن المقام داخل فی مسألة دوران الأمربین المحذورین فی واقعة واحدة فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن تعیّن کل من الوجوب و الحرمة. فالنتیجة، هی التخییر عقلاً، واما علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً تقع المزاحمة بینهما علی أساس عدم تمکن المکلف من امتثال کلا الحکمین معاً، فإن صرف قدرته فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وبالعکس، فإذن یکون المرجع قواعد باب التزاحم، فإذن ما ذکره قدس سره من أنهما کاشفان عن ثبوت المقتضی لهما معاً فی مورد الاجتماع مطلقاً حتی علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً لایرجع إلی معنی معقول.

فالنتیجة، ان إرادة الحکم الاقتضائی من الوجوب و الحرمة فی مورد الاجتماع

ص:381

فی المسألة بتمام محتملاته لاتدفع اشکال التضاد و التنافی بینهما فی عالم المبادی علی القول بالامتناع ووحدة المجمع، هذا إضافة إلی أن إرادته بنفسها بحاجة إلی قرینة.

و أما الاحتمال الثانی، و هو أن یکون اطلاق کل من الدلیلین فی مقام بیان الحکم الفعلی، فإن أراد قدس سره به الحکم الفعلی فی مقابل الحکم الانشائی علی أساس أنه قدس سره یری أن للحکم أربع مراتب:

1 - مرتبة الاقتضاء.

2 - مرتبة الانشاء.

3 - مرتبة الفعلیة.

4 - مرتبة التنجّر.

فیرد علیه، أولاً: مضافاً إلی بطلان هذا المبنی، أن فعلیة الحکم معلولة لفعلیة موضوعه فی الخارج ولاصلة لها بدلالة الدلیل، ضرورة أن مدلول الدلیل انما هوثبوت الحکم فی الشریعة المقدسة بنحو القضیة الحقیقیة التی أخذ الموضوع فیهامفروض الوجود، ولهذا ترجع لباً إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت المحمول له، ومن الواضح أن القضیة الشرطیة لاتدل علی ثبوت الشرط وانما تدل علی ثبوت الملازمة بین الشرط و الجزاء، واما أن الشرط ثابت أو غیر ثابت فهو ساکت عن ذلک، وعلی هذا فالدلیل یدل علی ثبوت الحکم لموضوعه المقدر وجوده فی الخارج، واما أنه موجود فیه حقیقة أو لا فهو خارج عن مدلوه، لأنه ثبوت الحکم له علی تقدیر وجوده فیه بدون نظر إلی هذا التقدیرلا نفیاً ولا اثباتاً.

ص:382

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن مدلول اطلاق کل من الدلیلین فی مورد الاجتماع الحکم الفعلی، فحینئذٍ یقع التعارض بینهما فی المسألة حتی علی القول بالجواز علی مسلکه قدس سره القائل باستحالة الترتب لأن المجمع علی هذا القول و إن کان متعدداً وجوداً وماهیةً إلاّ أنه لایدفع التنافی بین الوجوب و الحرمة الفعلیین الناشیء من عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال حیث لایمکن رفع هذا التنافی إلا علی القول بإمکان الترتب، واما علی القول باستحالته کما هو مسلکه قدس سره فلا محالة یقع التعارض بین الاطلاقین فی المسألة لسرایة التنافی حینئذٍ من مرحلة الامتثال إلی مرحلة الجعل علی أساس أن جعل حکمین لایمکن امتثال کلیهما معاً لغو محض فلایمکن صدوره من المولی، لأن الغرض من الجعل هو کونه داعیاً ومحرکاً للمکلف نحو الامتثال وإلاّ فإنه لغو وجزاف.

و إن أراد قدس سره به الحکم الانشائی بقرینة أنه جعله فی مقابل الحکم الاقتضائی، فحینئذٍ وأن لم یرد علیه الاشکال المتقدم باعتبار أن مدلول اطلاق کل من الدلیلین هو ثبوت الحکم فی مرتبة الانشاء و الجعل بنحو القضیة الحقیقیة للموضوع المقدّر وجوده فی الخارج، إلاّ أن هنا اشکالاً آخر یرد علی ما ذکره قدس سره من الفرق بین القولین فی المسألة، فإنه علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً یری أنه لامعارضة بین اطلاقی الدلیلین، وعلی القول بالامتناع ووحدة المجمع کذلک یری أنه معارضة بینهما، ولکن هذا الفرق غیرصحیح علی مسلکه قدس سره القائل باستحالة الترتب، فإنه علی هذا المسلک یقع التعارض بینهما علی کلا القولین فی المسألة، اما علی القول بالامتناع ووحدة المجمع فهو واضح، و أما علی القول بالجواز وتعدد المجمع و إن لم یکن تنافی بینهمافی مرحلة الجعل ذاتاً ولکنه یکون التنافی بینهما فی مرحلة الامتثال، فإنه یقع التزاحم بینهما فی هذه المرحلة من جهة عدم قدرة المکلف علی امتثال کلیهما معاً

ص:383

و قد ذکرنا فی بحث الضدّ أن خروج باب التزاحم عن باب التعارض یرتکز علی رکیزتین:

الاُولی: الالتزام بالتقیید اللبّی العام و هو أن کل خطاب شرعی مقیّد لباً بعدم الاشتغال بضدّ واجب لایقل عنه فی الأهمیة.

الثانیة: الالتزام بالترتب، ومع تحقق هاتین الرکیزتین یخرج باب التزاحم عن باب التعارض فلاتنافی بینهما حینئذٍ لا فی مرحلة الجعل ولا فی مرحلة الامتثال، واما علی القول باستحالة الترتب وعدم امکانه فلایخرج باب التزاحم عن باب التعارض ولایمکن حینئذٍ دفع التنافی بینهما فی هذه المرحلة، فإذن لامحالة یسری التنافی بینهما إلی مرحلة الجعل علی أساس مقدمة خارجیة و هی أن المکلف إذا لم یتمکن من امتثال حکم بسبب أو آخر فلایمکن جعله لأنه لغو، وفی المقام حیث إن المکلف لایتمکن من امتثال کلا الحکمین معاً فی مورد الاجتماع من ناحیة ولایمکن دفع التنافی بینهما إلاّ علی القول بإمکان الترتب من ناحیة اخری، فقد ظل التنافی بینهما ثابتاً ویسری إلی مرحلة الجعل، فإذن تدخل المسألة علی کلا القولین فی کبری مسألة التعارض بناءً علی مسلکه قدس سره من استحالة القول بالترتب.

فالنتیجة، أن ما ذکره قدس سره من الفرق بین القولین فی المسألة لاینسجم مع مسلکه قدس سره فی باب الترتب، غایة الأمر أن التعارض بین اطلاقی الدلیلین علی القول بالامتناع یکون بالذات وعلی القول بالجواز یکون بالعرض.

و أما النقطة الثالثة: و هی أن متقضی الجمع العرفی بین اطلاقی الدلیلین هوحمل کلا الاطلاقین المتکفلین للحکم الفعلی علی الحکم الاقتضائی فی مورد الاجتماع شریطة أن لایکون أحدهما أظهر من الآخر وإلاّ فخصوص الظاهر،

ص:384

فإن أراد قدس سره بالحکم الاقتضائی الحکم المجعول بغرض ابراز المقتضی، فیرد علیه، أولاً: إن الحکم المجعول فی المقام حکم حقیقی مولوی مجعول بغرض إیجاد الداعی فی نفس المکلف، فلایمکن حمله علی الارشاد والاخبار عن وجود المقتضی فی الواقع فإنه بحاجة إلی قرینة تدل علی هذا الحمل وإلاّ فظاهر الدلیل هو جعل الحکم الحقیقی.

وثانیاً: إن هذا الحمل لایدفع التنافی بینهما علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً فی عالم المبادی والاقتضاء، ضرورة أن المجمع حینئذٍ لایمکن أن یکون مشتملاً علی المصلحة و المفسدة الملزمتین معاً ومتعلقاً للحب و البغض والارادة و الکراهة کذلک، و إن أراد قدس سره بالحکم الاقتضائی ثبوته فی مرتبة الاقتضاء و هی مرتبة الملاکات و المبادی کثبوت المقتضی بالفتح فی مرتبة المقتضی بالکسر و المعلول فی مرتبة العلة وهکذا.

فیرد علیه، أولاً ماتقدم من أن الحکم بما هو اعتبار فلایمکن ثبوته بثبوت الملاکات و المبادی وکونه معلولاً، لأنه فعل اختیاری للشارع فیصدر منه مباشرة فلایعقل تولده من شیء آخر. وثانیاً أنه لایمکن حمل الدلیل فی مقام الاثبات علی ذلک إلاّ إذا کانت هناک قرینة تدل علی أنه فی مقام الاخبار عن وجود المقتضی فی فعل وإلاّ فالدلیل ظاهر فی ثبوت الحکم للشیء فی مرتبة الجعل بنحو القضیة الحقیقیة، هذا إضافة إلی أن هذا الحمل لیس من موارد الجمع العرفی، فإن ملاک الجمع العرفی الأخصیة والانصیّة و الأظهریة و الحکومیة وشیء من هذه الملاکات غیر موجود فی حمل الدلیل الظاهر فی الحکم الفعلی علی الحکم الاقتضائی بقرینة أظهریة الآخر، فإنه إذا کان أحدهما أظهر من الآخرفالأظهریة قرینة بنظر العرف علی رفع الید عن ظهور الآخر وحمله علی خلاف

ص:385

ظاهره لا أنه قرینة علی حمله علی الحکم الاقتضائی، فلهذا لایکون ما ذکره قدس سره من موارد الجمع العرفی.

و إن أراد قدس سره بذلک أن کلاً من اطلاق دلیلی الوجوب و الحرمة یدل بالمطابقة علی ثبوت الحکم فی مورد الاجتماع وبالالتزام علی ثبوت الملاک فیه، وحیث إن المجمع علی القول بالامتناع واحد وجوداً وماهیةً فتقع المعارضة بینهما فی المدلول المطابقی فیسقطان معاً من جهة الدلالة المطابقیة وتبقی الدلالة الالتزامیة لهما و هی دلالتهما علی ثبوت الملاک فیه.

فیرد علیه، أولاً: ما ذکرناه فی بحث الضدّ موسّعاً من أن الدلالة الالتزامیة تتبع الدلالة المطابقیة ثبوتاً وسقوطاً ولایعقل بقائها بعد سقوط الدلالة المطابقیة.

وثانیاً: أن التعارض فی المقام کما هو موجود بینهما فی الدلالة المطابقیة کذلک هو موجود بینهما فی الدلالة الالتزامیة، بل التضاد و التنافی بینهما فی المدلول المطابقی انما هو من جهة التضاد و التنافی بینهما فی المدلول الالتزامی، لما تقدم من أن الوجوب و الحرمة بما هما اعتباران فلا مضادة بینهما ذاتاً وانّما المضادة بینهما فی عالم المبادی والاقتضاء، اما فی الأول فلاستحالة أن یکون شیء واحد وجوداً وماهیةً مشتملاً علی مصلحة ومفسدة ملزمتین ومتعلقاً للارادة و الکراهة والحب و البغض، و أما فی الثانی فلاستحالة أن یکون کل منهما فاعلاً ومحرکاً للمکلف فعلاً، فإن الوجوب محرک نحو الاتیان بالواجب و الحرمة محرکة نحو الاجتناب عن الحرام والابتعاد عنه، فإذا کان الحرام متحداً مع الواجب استحال فعلیة فاعلیة کل منهما فی عرض فعلیة فاعلیة الآخر.

و أما النقطة الرابعة: و هی ما ذکره قدس سره من أن الروایتین اللتین دلتا علی حکمین مختلفین وکانت النسبة بینهما عموماً من وجه، فإن احرز أن مورد

ص:386

الالتقاء بینهما مشتمل علی ملاک واحد کانتا متعارضتین، و إن أحرز انه مشتمل علی ملاک کلا الحکمین معاً کان بین الملاکین تزاحم، فإذن یقع الکلام فیها تارة فی الفرض الأول واُخری فی الفرض الثانی.

أما الکلام فی الفرض الأول: فقد تقدم فی ضمن البحوث السالفة أن ملاک التعارض بین الدلیلین هو التنافی بین مدلولیهما اما بالذات أو بالعرض، کما إذا علم اجمالاً بکذب أحد الدلیلین وعدم مطابقته للواقع مع عدم التنافی بینهمابالذات أو اللغویة و الجزاف، کما إذا أمر المولی بأحد الضدّین الذین لا ثالث لهماونهی عن الآخر بأن ورد فی دلیل الأمر بالحرکة وفی دلیل آخر النهی عن السکون، فإن بینهما معارضة لا محالة ولایمکن جعل کلیهما معاً لأنه لغو وجزاف باعتبار أن الاتیان بأحدهما یستلزم ضرورة وجود الآخر وبالعکس، ولا فرق فیما ذکرناه من التعارض بین نظریة الامامیة القائلة بأن الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح و المفاسد الواقعیتین وبین نظریة الأشاعرة القائلة بعدم التبعیة، وذلک لما أشرنا إلیه غیر مرّة من أن منشأ التعارض بین الأدلة أحد أمرین، إما التنافی فی عالم المبادی أو فی عالم الاقتضاء، غایة الأمر أن التعارض بین الأدلة علی ضوءنظریة الامامیة ناشیء من التنافی فی کلا العالمین بینما علی ضوء نظریة الأشاعرة ناشیء من التنافی فی عالم الاقتضاء فحسب، و أما فی منشأ التعارض العرضی فلافرق بین النظریتین هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أنه لا فرق فی وقوع التعارض بین احراز اشتمال مورد المعارضة علی ملاک أحد الدلیلین المتعارضین واحراز اشتماله علی ملاک کلیهمامعاً أو لا هذا ولا ذاک بمعنی عدم احراز اشتماله علی شیء من الملاکین، فما ذکره قدس سره من إناطة مسألة التعارض بأن لایکون مورد الاجتماع مشتملاً علی ملاک کلا

ص:387

الحکمین معاً غیر تام.

و أما الکلام فی الفرض الثانی: و هو أن مورد الاجتماع بین الدلیلین إذا کان مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین معاً کان بین الملاکین تزاحم ولابد حینئذٍ من الرجوع إلی مرجحات باب المزاحمة فیرد علیه ما ذکرناه فی مبحث الضدّ من أن التزاحم علی نوعین:

الأول: التزاحم بین الحکمین الحقیقیین فی مرحلة الامتثال ومنشأه عدم سعة قدرة المکلف علی امتثال کلیهما معاً.

الثانی: التزاحم بین الملاکین فی مرحلة المبادی، ویمتاز الأول عن الثانی فی نقطتین:

الاُولی: أن التنافی فی موارد التزاحم الحکمی إنما هو فی مرحلة الامتثال والاقتضاء لا فی مرحلة الجعل وعالم المبادی، فإنه لاتنافی بینهما فی هذا العالم لاحکماً ولا ملاکاً. والتنافی بینهما فی مرحلة الامتثال مدفوع بالالتزام بالتقیید اللبّی العام و الترتب، فإذن لاتنافی بینهما لا فی مرحلة الجعل و المبادی ولا فی مرحلة الامتثال. و أما التنافی فی موارد التزاحم الملاکی فیکون بین الحکمین فی مرحلة الجعل، ضرورة أنه لایمکن جعل کلیهما معاً فی هذه الموارد، وذلک لأن التزاحم الملاکی لایخلو من أن یکون فی شیء واحد وجوداً وماهیةً أو فی الضدین الذین لا ثالث لهما کالحرکة و السکون، ومن الواضح أن جعل الحکمین فی کلا هذین الموردین مستحیل، بداهة أنه لایمکن جعل الوجوب و الحرمة لشیء واحد أو للضدین المذکورین.

الثانیة: إن الترجیح فی موارد التزاحم الحکمی یکون بید المکلف کتقدیم الأهمّ أو محتمل الأهمیّة علی غیره، بینما یکون الترجیح فی موارد التزاحم الملاکی

ص:388

بید المولی إذ لا طریق للمکلف إلیه فللمولی أن یرجح ما هو الأقوی ویجعل الحکم علی طبقه، نعم إذا کانا متساویین فلایصلح شیء منهما أن یکون منشأً لجعل الحکم، فإذن ما ذکره قدس سره من أنه إذا وقع التزاحم بین الملاکین فی مورد الاجتماع فالمرجع هو مرجحات باب المزاحمة لایتم.

و أما النقطة الخامسة: و هی أن اطلاق الدلیلین إذا کانا متکفّلین للحکم الفعلی وقع التعارض بینهما فی مورد الاجتماع حتی علی القول بالجواز وتعدد المجمع وجوداً وماهیةً، فیرد علیها أنه إن أراد بالحکم الفعلی فی مقابل الحکم الانشائی، فقد تقدم أن الحکم الفعلی بهذا المعنی لایکون مدلولاً للدلیل لأن مدلوله الحکم الانشائی المجعول للموضوع المقدّر وجوده بنحو القضیة الحقیقیة، و أما أن موضوعه موجود فی الخارج أو غیر موجود فیه فهو غیر ناظر إلیه أصلاً لا نفیاً ولا اثباتاً، و قد أشرنا فی غیر مورد أن المراد من فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه هو فعلیة فاعلیته فی الخارج لا فعلیة نفسه، لوضوح أن الحکم بما هواعتبار لایعقل أن یوجد فی الخارج بوجود موضوعه فیه وإلاّ لکان خارجیاً و هوخلف.

و إن أراد قدس سره من الحکم الفعلی الحکم الانشائی فی مقابل الحکم الاقتضائی، فعندئذٍ و إن کان ما ذکره قدس سره من التعارض بین اطلاقی الدلیلین حتی علی القول بالجواز صحیحاً علی مسلکه القائل باستحالة الترتب إلاّ أنه لاینسجم مع ماذکره قدس سره من أن الدلیلین إذا کانا متکفلین للحکم الفعلی فلا معارضة بینهما علی القول بالجواز إلاّ إذا علم بکذب أحدهما کما مرت الإشارة إلیه.

و أما ما ذکره قدس سره فی هذه النقطة من أن هذا التعارض بین اطلاقی الدلیلین انما هو فیما إذا لم یمکن الجمع العرفی بینهما بحمل أحدهما علی الحکم الاقتضائی من

ص:389

جهة مرجحات باب المزاحمة فیرد علیه:

أولاً: أن موارد التعارض المستقر غیر موارد الجمع العرفی، فإذا کان التعارض بین الدلیلین مستقراً فالمرجع فیه مرجحات باب المعارضة ولایمکن الجمع العرفی الدلالی بینهما، ضرورة أنه فرع عدم التعارض بینهما سنداً.

وثانیاً: أن حمل أحدهما علی الحکم الاقتضائی فی مورد الاجتماع لیس من موارد التوفیق العرفی المتمثلة فی حمل العام علی الخاص و المطلق علی المقیّد و الظاهر علی الأظهر أو النصّ وهکذا، لأن المرجع فیها مرجحات باب الدلالة لامرجحات باب المزاحمة إلاّ أن یکون نظره قدس سره إلی أن أظهریة أحدهما قرینة علی أن ملاکه فی عالم المبادی أقوی من ملاک الآخر فیکون مؤثراً دونه ولکنه غیرصحیح، لأن أحدهما إذا کان أظهر من الآخر کان قرینة عرفاً علی رفع الید عن ظهور الآخر فی مدلوله فی مقام الاثبات، و أما أن ملاکه أقوی منه أولا فهولایکشف عن ذلک إلا إذا کانت هناک ملابسات أخری تدل علی ذلک ولکن لایمکن جعل ذلک تحت ضابط کلی. فالنتیجة، أن أظهریة الدلیل فی مقام الاثبات تکون من مرجحات باب الدلالة لا من مرجحات باب المزاحمة بین الملاکات فی مرحلة المبادی، فإن مرجحات ذلک الباب انما هی أهمیة ملاک أحد المتزاحمین علی ملاک الآخر أو احتمال أهمیّته.

وثالثاً: إن هذا الحمل لایدفع محذور التنافی و التضاد بینهما فی مورد الاجتماع علی القول بالامتناع ووحدة المجمع، فإن منشأ ذلک إنما هو التنافی و التضاد بین مبادیها، لأن المصلحة و المفسدة لاتجتمعان فی شیء واحد وکذلک الحب و البغض والارادة و الکراهة.

ص:390

نتیجة البحث

نتیجة البحث

نتیجة البحث عدّة نقاط:

الاُولی: الصحیح أن هذه المسألة لیست من المسائل الاُصولیة بل هی من المبادی التصدیقیة، باعتبار أن النتیجة الفقهیة مترتبة علی مسألة اخری کقواعدباب المعارضة أو المزاحمة أو مسألة الترتب.

الثانیة: إن هذه المسألة تمتاز عن المسألة القادمة فی الجهة المبحوث عنها، فإنها فی هذه المسألة انما هی عن وحدة المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً وتعدده فیه کذلک، وفی المسألة القادمة انما هی عن ثبوت الملازمة بین حرمة العبادة وفسادها وعدم ثبوتها، ومن هنا لاتکون هذه المسألة من صغریات المسألة الآتیة بل هی علی القول بالامتناع من صغریات باب المعارضة وعلی القول بالجواز من صغریات باب المزاحمة.

الثالثة: المشهور أن ثمرة القولین فی المسألة هی صحة الصلاة فی الأرض المغصوبة علی القول بالجواز وبطلانها علی القول بالامتناع، ولکن خالف فی ذلک المحقق النائینی قدس سره وحکم ببطلان الصلاة فی مورد الاجتماع مطلقاً حتی علی القول بالجواز إذا کان عالماً بالحرمة لا مطلقاً و قد ذکر فی وجه ذلک وجوهاً وناقشنا فی جمیعها.

الرابعة: إن صحة العبادة فی المسألة فی مورد الاجتماع علی القول بالجواز فیهاوتعدد المجمع إما مترتبة علی تطبیق قواعد باب التزاحم علیها أو علی مسألة الترتب أو علی احراز الملاک فیه لا علی نفس المسألة مباشرة، وعلی القول بالامتناع ووحدة المجمع مترتبة علی تقدیم اطلاق دلیل الوجوب علی اطلاق دلیل الحرمة، وفسادها مترتب علی تقدیم اطلاق دلیل الحرمة علی اطلاق دلیل الوجوب علی أساس تطبیق قواعد باب المعارضة علیها.

ص:391

الخامسة: إن للمحقق الخراسانی قدس سره رأیاً فی المسألة ذکره فی المقدمة العاشرة ضمن عدة نقاط، و قد علقنا علی هذه النقاط جمیعاً کما أن له کلاماً حول خصوصیات المسألة ذکره فی ضمن المقدمة الثامنة و التاسعة مایرجع إلی عدة نقاط، و قد ناقشنا فی جمیع هذه النقاط علی تفصیل تقدم فلاحظ.

الملحق الرابع: هل یشترط فی النزاع أن یکون المجمع لمتعلقی الأمر و النهی مشتملا علی ملاک کلا الحکمین أو لا؟
اشارة

الملحق الرابع:

تقدم أن النزاع فی هذه المسألة انما هو فی الصغری و هی أن المجمع لمتعلقی الأمروالنهی فی مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهیةً أو متعدّد کذلک، و أما الکبری، هی استحالة اجتماعهما فیه علی الأول فهی واضحة فی تمام مراحلهما أی من مرحلة المبادی إلی مرحلة الامتثال ولا مجال للبحث عن أن ذلک ممکن أومحال، بداهة أنه لایمکن أن یکون شیء واحد محبوباً ومبغوضاً معاً ومراداً ومکروهاً کذلک ومشتملاً علی مصلحة ملزمة ومفسدة کذلک کما أنه لا اشکال فی جواز اجتماعهما فیه علی الثانی فی نفسه باعتبار أن المحبوب فیه غیر المبغوض وما فیه المصلحة غیر ما فیه المفسدة وماهو متعلق الارادة غیر ما هو متعلق الکراهة. فالنتیجة، أن النزاع فی المقام انما هو فی الصغری و أما الکبری فهی مسلمة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، هل یشترط فی النزاع فی هذه المسألة أن یکون المجمع لمتعلقی الأمر و النهی مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین أو لا فیه وجهان:

رأی المحقق الخراسانی قدّس سرّه و المناقشة فیه

فذهب المحقق الخراسانی قدس سره إلی الوجه الأول بدعوی، أن النزاع فی هذه المسألة مختص بما إذا کان المجمع لمتعلقی الأمر و النهی فی مورد الاجتماع مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین معاً حتی یقع النزاع فی أن کلاً منهما مؤثر فی مقتضاه أولا، فعلی القول بالجواز یکون کل منهما مؤثراً فیه وعلی القول بالامتناع یقع

ص:392

التزاحم بین الملاکین و المقتضیین(1) هذا، ولکن قد تقدم بشکل موسع بطلان ما أفاده قدس سره، ضرورة أنه علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً لایعقل اجتماع المصلحة و المفسدة فیه و الحب و البغوض والارادة و الکراهة، واما علی القول بالجواز فبناء علی امکان الترتب فلا تنافی بینهما لا فی مرحلة المبادی ولافی مرحلة الجعل کما هو ظاهر ولا فی مرحلة الامتثال، لأن التنافی فی هذه المرحلة مدفوع بالالتزام بالترتب، نعم بناءً علی القول باستحالة الترتب یقع التعارض بین اطلاقی دلیلیهما فی مرحلة الجعل أیضاً لسرایة التنافی حینئذٍ من مرحلة الامتثال إلی مرحلة الجعل، فإذن یکون التعارض بین اطلاقیهما مستقراً فی تمام المراحل وتفصیل کل ذلک تقدم فی ضمن تعلیقنا علی المقدمات التی ذکرها قدس سره هذا بحسب مقام الثبوت.

ملحقات مسألة الاجتماع (الملحق الرابع)

و أما الکلام فی مقام الاثبات بعد تسلیم امکان کون المجمع فی مورد الاجتماع مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین معاً، فهل یمکن التمسک بإطلاق الدلیلین لاثبات ذلک، فیه قولان:

رأی المحقق النائینی و الأصبهانی قدّس سرّهما

فذهب المحقق النائینی و المحقق الأصبهانی الی القول الأول، أما المحقق النائینی قدس سره فقد أفاد فی وجه ذلک أن للمادة محمولین:

الأول: الحکم من الوجوب أو الحرمة و الآخر الملاک واطلاق المادة کمایقتضی ثبوت الحکم فی تمام حالاتها کذلک یقتضی ثبوت الملاک کذلک، ومالایمکن ثبوته فی مورد الاجتماع انما هو اطلاق المادة بلحاظ المحمول الأول و هوالحکم علی أساس استحالة اجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء واحد، و أما اطلاقها بلحاظ المحمول الثانی و هو الملاک فلا مانع منه ولا موجب لرفع الید عنه

ص:393


1- (1) - کفایة الاصول ص 153-152.

حیث لا برهان علی استحالة اجتماع الملاکین فی شیء واحد وإنما البرهان قائم علی استحالة اجتماع الوجوب و الحرمة فیه(1).

الرد علی المحقق النائینی قدّس سرّه

والجواب عنه، أولاً: ما تقدم من أنه لابرهان علی استحالة اجتماع الوجوب و الحرمة بما هما اعتباران فی شیء واحد بل لامانع من اجتماعهما فیه کذلک ولامحذور فیه، لوضوح أن استحالة اجتماعهما فی شیء واحد انما هی بلحاظ عالم المبادی وعالم الاقتضاء لا فی أنفسهما، اما بلحاظ عالم المبادی فلان اجتماع المصلحة و المفسدة فی شیء واحد وجوداً وماهیةً مستحیل وکذلک اجتماع الحب و البغض والارادة و الکراهة فیه، بداهة أنها من الصفات النفسانیة المتضادة فلایعقل اجتماعها فی شیء واحد، فإذن کیف لایکون برهان علی استحالة اجتماع الملاکین فیه، و أما بلحاظ عالم الاقتضاء فلاستحالة فعلیة فاعلیة کل من الوجوب و الحرمة بالنسبة إلی شیء واحد، فإن فعلیة فاعلیة الأول تقتضی الاتیان به فی الخارج و الدخول فیه وفعلیة فاعلیة الثانیة تقتضی الاجتناب منه والابتعاد عنه وعدم الدخول فیه، فلذلک لایعقل اجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء واحد بلحاط عالم الاقتضاء، وکلا العالمین عالم تکوینی فکما أن عالم المبادی عالم تکوینی فکذلک عالم الاقتضاء، لأن فعلیة فاعلیة الوجوب و الحرمة انما هی فی عالم الخارج و أما فی عالم الاعتبار فإنما هی نفس الوجوب و الحرمة بماهی اعتبار.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم امکان اجتماع الملاکین فی شیء واحد، ولکن لایمکن اثباته بما ذکره قدس سره من الطریق وذلک لأنه لیس للمادة محمولان فی عرض واحد بل لها محمول واحد و هو الحکم من الوجوب أو

ص:394


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 360.

الحرمة الذی هو مفاد الأمر أو النهی المتعلق بالمادة ویدل علی وجوبها أو حرمتها ولا یدل علی ثبوت شیء آخر لها فی عرض الوجوب أو الحرمة، و أما الملاک فهولیس محمولاً لها لأنه مستکشف من الدلالة الالتزامیة الفعلیة فی موارد ثبوت الوجوب لها بالمطابقة، مثلاً الأمر المتعلق بالصلاة یدل علی وجوبها بالمطابقة وعلی ثبوت الملاک فیها بالالتزام، فلایکون ثبوت الملاک فی عرض ثبوت الوجوب بل هو فی طوله باعتبار أن المدلول الالتزامی فی طول المدلول المطابقی.

فالنتیجة، أن المادة لیست موضوعاً لمحمولین فی عرض واحد بل موضوع لمحمولین طولیین، وعلی هذا فإطلاق المادة بالنسبة إلی المحمول الثانی و هو الملاک حیث إنه یتبع اطلاقها بالنسبة إلی المحمول الأول، فلا محالة یسقط بسقوطه و المفروض أن اطلاق المادة بالنسبة إلی کل من الوجوب أو الحرمة قد سقط من جهة استحالة اجتماعهما فیها فلا محالة یسقط اطلاقها بالنسبة إلی الملاک أیضاً، فإذن لایمکن الاستدلال بإطلاق المادة لاثبات اطلاق الملاک وثبوته للمادة فی تمام حالاتها.

استدلال المحقق الأصبهانی قدّس سرّه بطریقین:

و أما المحقق الأصبهانی قدس سره فقد استدل علی ذلک بطریقین:

الطریق الأول: أن الأمر المتعلق بالصلاة مثلاً یدل علی وجوبها بالمطابقة وعلی اتصافها بالملاک بالالتزام،

فإذن دلالة الدلیل علی ثبوت الملاک فی الواقع انما هی بالالتزام، والدلالة الالتزامیة و إن کانت تتبع الدلالة المطابقیة فی الحدوث إلا أنها لا تتبعها فی الحجیة بمعنی أن سقوط الدلالة المطابقیة عن الحجیة لایستلزم سقوط الدلالة الالتزامیة عنها لأنها موضوع مستقل للحجیة ومشمولة لدلیلها ولایکون شموله لها بتبع شموله للدلالة المطابقیة، وعلی هذا فالساقط فی المقام انما هو حجیة الأمر و النهی بالنسبة إلی مدلولهما المطابقی دون مدلولهما

ص:395

الالتزامی.

وبکلمة، إن الخطاب الأمری المتعلق بالصلاة یدل بالمطابقة علی وجوبها وبالالتزام علی ثبوت الملاک فیها وکذلک الحال فی الخطاب النهی المتعلق بمال الغیر، فإنه یدل علی حرمة التصرف فیه بالمطابقة وعلی ثبوت الملاک فیه بالالتزام، وفی المقام حیث إن اجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء واحد فی مورد الاجتماع لایمکن فلا محالة یسقط الدلالة المطابقیة للأمر و النهی عن الحجیة، و أما دلالتهما الالتزامیة فلا موجب لسقوطها عنها لعدم کونها تابعة لها فیها هذا(1).

الرد علی الطریق الأول

والجواب، أولاً: ما ذکرناه فی بحث الضدّ موسعاً من أن الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة فی الحدوث و الحجیة وإنها لازمة لها من مرحلة التصویرإلی مرحلة التصدیق وتمام الکلام هناک.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الدلالة الالتزامیة لاتتبع الدلالة المطابقیة فی الحجیة وانما تتبع لها فی الحدوث فقط، إلاّ أن ما ذکره قدس سره من أنه لابرهان علی استحالة اجتماع ملاک الوجوب و الحرمة فی شیء واحد وجوداً وماهیةً لایتم، وذلک لأن کل من خطاب صلّ وخطاب لاتغصب یدل بالدلالة الالتزامیة علی ثبوت الملاک له فی المجمع فی مورد الاجتماع، ویدلّ الأول بالدلالة المطابقیة علی وجوبه، والثانی علی حرمته، وحیث إن الوجوب و الحرمة متضادان ولایمکن اجتماعهما معاً فی المجمع فتسقط الدلالة المطابقیة لکل منهما دون الدلالة الالتزامیة، ومعنی ذلک أن المجمع فی مورد الاجتماع رغم أنه واحد وجوداً وماهیةً مشتمل علی ملاک الوجوب بدرجة یصلح أن یکون منشأً له لولا کونه مضاداً مع الحرمة فلاقصور فیه من ناحیة الملاک وکذلک مشتمل علی ملاک

ص:396


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2 ص 353.

الحرمة بنفس الدرجة، ومن الواضح أن اجتماع ملاکین لهما بهذه الدرجة فی المجمع رغم کونه واحداً غیر معقول، بداهة أن اجتماعهما فیه یستتبع اجتماع الحب و البغض والارادة و الکراهة فیه و هو محال وجداناً، لأن استحالة اجتماع الحب و البغض والارادة و الکراهة فی شیء واحد أمر وجدانی لانظری حتی یکون بحاجة إلی إقامة برهان ویقال أنه لا برهان علی استحالة اجتماعهما فی شیء واحد، نعم لامانع من اجتماعهما فیه إذا کان أحدهما أقوی و الآخر أضعف بحیث لایصلح أن یکون منشأً، للحکم ولامانع من اجتماعهما فی شیء واحد باعتبار أن الملاک المغلوب لایصلح أن یکون منشأً للحکم وعلی ضوء هذا الأساس فکمایقع التعارض بین الخطابین فی المدلول المطابقی فکذلک یقع التعارض بینهما فی المدلول الالتزامی، إذ کما أن کل من الدلالتین المطابقتین تنفی الدلالة المطابقیة الاُخری بالالتزام کذلک کل من الدلالتین الالتزامیتین تنفی الدلالة الالتزامیة الاُخری، مثلاً خطاب (صلّ) یدل علی وجوب المجمع فی مورد الاجتماع بالمطابقة وعلی نفی الحرمة عنه بالالتزام، وخطاب لاتغصب یدل علی حرمة المجمع فیه بالمطابقة وعلی نفی الوجوب عنه بالالتزام وأیضاً خطاب (صلّ) یدل علی ثبوت ملاک الوجوب فیه بالالتزام وعلی نفی ملاک الحرمة عنه کذلک وخطاب لاتغصب یدل علی ثبوت ملاک الحرمة فیه بالالتزام وعلی نفی ملاک الوجوب عنه کذلک، فإذن یقع التعارض بین جمیع أنواع الدلالات للخطابین، ومن هنا یظهر الجواب الجلّی للنقض علیه بسائر موارد التعارض کالتعارض بین الدلیلین بالتباین کما إذا دلّ أحدهما علی وجوب شیء بالمطابقة وعلی اشتماله علی المصلحة ومایستتبعها من الارادة و الحب بالالتزام ودل الآخر علی حرمته بالمطابقة وعلی اشتماله علی المفسدة وما یستتبعها من الکراهة و البغض بالالتزام، وعلیه فکما أن بینهما معارضة فی مرحلة الجعل و هی مرحلة المدلول

ص:397

المطابقی فکذلک بینهما معارضة فی مرحلة المبادی و هی مرحلة المدلول الالتزامی، لأن کل من الدلیلین فی مرحلة الجعل یدل بالالتزام علی نفی المدلول المطابقی للآخر، فالمعارضة بینهما فی هذه المرحلة إنما هی بین المدلول المطابقی لأحدهما و المدلول الالتزامی للآخر وفی مرحلة المبادی یدل بالالتزام علی نفی المدلول الالتزامی للآخر، فالمعارضة بینهما فی هذه المرحلة إنما هی بین المدلول الالتزامی الثانوی و المدلول الالتزامی الأولی و هو ثبوت الملاک.

فالنتیجة، أن لکل منهما أربع دلالات:

1 - دلالة خطاب (صلّ) علی وجوب الصلاة بالمطابقة.

2 - وعلی نفی غیر الوجوب عنها بالالتزام.

3 - وعلی وجود مصلحة ملزمة فیها بالالتزام.

4 - وعلی نفی ماینافی المصلحة فیها من المفسدة ونحوها عنها أیضاً بالالتزام وکذلک الحال فی خطاب لاتغصب حرفاً بحرف، وبین هذه الدلالات من الخطاب الأول و الدلالات من الخطاب الثانی معارضة کما عرفت، وعلی هذا فإن أجاب المحقق الأصبهانی قدس سره عن هذا النقض بأن التعارض بینهما کما یکون فی المدلول المطابقی لکل منهما مع المدلول الالتزامی للآخر فی مرحلة الجعل من جهة التضاد و التنافی بینهما کذلک یکون فی المدلول الالتزامی الثبوتی لکل منهما مع المدلول الالتزامی النافی للآخر فی مرحلة المبادی بنفس الملاک.

فیرد علیه، أن نفس هذا التضاد و التنافی موجود بینهما فی مرحلة المبادی فی مورد الاجتماع أیضاً، لوضوح أن التنافی و التضاد کما أنه موجود بین اطلاق کل من الدلیلین فی المدلول المطابقی فی مورد الاجتماع مع المدلول الالتزامی النافی

ص:398

للآخر کذلک انه موجود بین المدلول الالتزامی الثبوتی فی مرحلة المبادی مع المدلول الالتزامی النافی للآخر فی هذه المرحلة.

فالنتیجة، ان ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره من أنه لاتنافی بین الملاکین بالذات ولا مانع من اجتماعهما فی شیء واحد کالمجمع فی مورد الاجتماع، غایة الأمر یقع التزاحم بینهما فلابد حینئذٍ من الرجوع إلی مرجحات بابه، غیر تام هذا.

الطریق الثانی و المناقشة فیه

الطریق الثانی: انه لامانع من التمسک بإطلاق المادة بتقریب، إن المولی إذاکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی تقیید المادة بقید فلا مانع من التمسک بإطلاقها، مثلاً إذا قال المولی (صلّ) وکان فی مقام البیان ولم یقید الصلاة بقیدلفظاً حتی تقییدها بعدم اتحادها مع الغصب فی مورد الاجتماع فلا مانع من التمسک بإطلاقها واشتمالها علی الملاک حتی مع اتحادها فی مورد الاجتماع، و أما حکم العقل باستحالة ثبوت الوجوب فی حالة اتحاد الصلاة مغ الغصب فإنما هو من جهة ثبوت ضده و هو الحرمة علی أساس استحالة اجتماع الضدّین فی شیء واحد، ولایصلح أن یکون قرینة حافة بالمادة حتی یصحّ الاتکال علیه فی مقام تقییدها مولویاً، وذلک لأنه مقید لمفاد الهیئة ولایوجب تقیید المادة لأنها مطلقة حتی من ناحیة اتحادها مع الغصب فی مورد الاجتماع، باعتبار أن المولی لم یقیدها بذلک وحکم العقل باستحالة ثبوت الوجوب مع الاتحاد انما یقید مفاد الهیئة دون المادة، لأن الموانع العقلیة إنما تقید اطلاق الهیئة ومفادها لا اطلاق المادة، لأنه لامحذور فی اطلاقها عقلاً و المحذور انما هو فی اطلاق الهیئة.

فالنتیجة، أن حکم العقل بتقیید اطلاق الهیئة ومفادها و هو الوجوب بغیرحالة اتحاد المادة کالصلاة مع الحرام فی مورد الاجتماع انما هو بملاک المضادة بینهما، و هذا الملاک غیر موجود فی المادة فإذن لامانع من اطلاقها من هذه

ص:399

الناحیة، ومقتضی اطلاقها اتصافها بالمصلحة مطلقاً حتی فی حال اتحادها مع الحرام، و هذا معنی أن مورد الاجتماع مشتمل علی ملاک کلا الحکمین معاً ولکن للمناقشة فی هذا الطریق مجالاً واسعاً.

أما أولاً: فلأن العقل کما یحکم بإستحالة ثبوت الوجوب فی حالة اتحاد الصلاة مع الغصب فی مورد الاجتماع کذلک یحکم باستحالة اتحاد الواجب مع الحرام و المحبوب مع المبغوض و المراد مع المکروه.

وبکلمة واضحة، إن الکلام فی اطلاق المادة وتقییدها انما هو بلحاظ تعلق الحکم بها وأنه تعلّق بها مطلقة بمعنی عدم لحاظ قید معها أو تعلق بها مقیدة بقید، فإذا تعلق بها دون تقییدها بقید وجودی أو عدمی فهی مطلقة و إذا تعلق بها مع التقیید بقید وجودی أو عدمی فهی مقیدة بمعنی أن متعلقه حصة خاصة. لأن محل الکلام انما هو فی اطلاق الواجب وأنه مطلق أو مقیّد لاذات الواجب بقطع النظر عن صفة الوجوب وکذلک الحال فی الحرام، فإذن الکلام فی اطلاق المادة کالصلاة مثلاً وعدم اطلاقها انما هو فی اطلاقها وتقییدها بوصف کونهامتعلقة للوجوب، لوضوح أن معنی کون الصلاة مطلقة بالنسبة إلی القیام مثلاً أومقیدة به هو أن الأمر تعلق بها مطلقة أو مقیّدة به، فعلی الأول تکون الصلاة مطلقة وعلی الثانی مقیدة، وعلی ضوء هذا الأساس فکما أن العقل یحکم بتقیید اطلاق الوجوب بغیر مورد الاجتماع إذا کان واحداً فکذلک یحکم بتقیید اطلاق الواجب بعدم اتحاده مع الحرام، باعتبار أن الحرام لایعقل أن یکون مصداقاًللواجب و المبغوض متحداً مع المحبوب و المکروه مع المراد، فإذن کما أن القرینة العقلیّة تقید اطلاق الهیئة کذلک تقید اطلاق المادة و هی تغنی عن القرینة اللفظیة ویصحّ الاتکال علیها، إذ لافرق فی القرینة بین أن تکون لفظیّة أو لبیّة.

ص:400

وثانیاً: إن مردّ حکم العقل بتقیید الوجوب بعدم اتحاد الصلاة مع الغصب فی مورد الاجتماع إلی أن متعلقه حصة خاصة من الصلاة و هی الصلاة التی لاتکون متحدة مع الغصب لأن متعلق الوجوب فی مقام الثبوت و اللب لایخلو من أن یکون مطلقاً بالنسبة إلی اتحاده مع الحرام وانطباقه علیه فی مورد الاجتماع أو مقید بعدم اتحاده معه ولا ثالث لهما، فالأول مستحیل علی أساس استحالة اجتماع الضدّین، فإذن یتعیّن الثانی، ونتیجة هذا استحالة أن یکون متعلق الوجوب مطلقاً حتی یمکن التمسک بإطلاقه.

وثالثاً: قد تقدم فی مبحث الواجب المشروط أن تقیید مفاد الهیئة یستلزم هدم اطلاق المادة لباً، إذ لایعقل أن تکون دائرة المادة أوسع من دائرة الوجوب، مثلاً وجوب الحج مشروط بالاستطاعة دون الحج، ولکن تقیید الوجوب بهاو إن لم یستلزم تقیید الحج بها مباشرة إلاّ أنّه یستلزم هدم اطلاقه لباً، فلایمکن أن یکون الواجب و هو الحج مطلقاً ووجوبه مشروط وإلاّ فلایکون واجباً، ومن هنا لایمکن التمسک بإطلاق الحج قبل تحقق الاستطاعة، وحیث إن الوجوب فی المقام مقید بعدم انطباق متعلقه علی الحرام واتحاده معه فی الخارج فهو یؤدّی إلی هدم اطلاق الواجب لباً، إذ لایعقل أن یکون الواجب مطلقاً ومنطبقاً علی الفردالمتحد مع الحرام خارجاً و الوجوب مقید بعدم الاتحاد.

و إن شئت قلت: أن تقیید الهیئة إن کان بالقید المتصل فهو یوجب سقوط المادة عن قابلیة الاطلاق، فإن القید و إن کان قیداً لمفاد الهیئة مباشرة إلاّ أنه بالنتیجة قید للمادة أیضاً فتکون النتیجة نتیجة التقیید بالنسبة إلیها لابالمباشرة، و إن کان بالقید المنفصل فهو یهدم اطلاق المادة علی أساس أنه لایمکن أن تکون دائرة الواجب أوسع من دائرة الوجوب، ومن هنا لایعقل أن تکون

ص:401

الصلاة الواجبة هی الصلاة الجامعة بین قبل الوقت وبعده و الحج الواجب هو الحج الجامع بین قبل تحقق الاستطاعة وبعده.

ورابعاً: لوتنزلنا عن ذلک أیضاً وسلمنا أن تقیید اطلاق مفاد الهیئة لایستلزم تقیید اطلاق المادة بمعنی أن قیود الهیئة لاترجع إلی المادة ولا مانع من اطلاقها مع تقیید الهیئة، مثلاً وجوب الحج مقید بالاستطاعة و القدرة و أما الواجب و هوالحج فهو مطلق ولکن مع هذا نشک فی اتصاف الحج الواقع فی حال عدم الاستطاعة بالملاک باعتبار أن الاطلاق الکاشف عن الاتصاف بالملاک دائماً انماهو اطلاق الوجوب وفعلیّته لا اطلاق المادة بلحاظ أن مفاد اطلاقها نفی التقییدبقیود الوجود لا قیود الاتصاف، أو فقل: أن قیود الاتصاف هی قیود الوجوب لا الواجب، فإذن لایکون اطلاق الواجب ناظراً إلیها لانفیاً ولا اثباتاً، و أما اطلاق الوجوب فالمفروض أنه ساقط، فلذلک لایمکن احراز أن الحج فی حال عدم الاستطاعة مشتمل علی الملاک ولایکفی الاتیان به للشک فی سقوط الوجوب به بل مقتضی تقییده بالاستطاعة عدم سقوطه ولزوم الاتیان بمتعلقه و هو الحج بعد تحقق الاستطاعة سواءً أتی بغیره أم لا، ومع التنزل عن ذلک فهومقتضی قاعدة الاشتغال أیضاً.

وخامساً: أن ما ذکره قدس سره مبنی علی أن یسری الوجوب المتعلق بالطبیعی الجامع إلی أفراده لکی یحکم العقل بأن الوجوب المتعلق بکل فرد مشروط بعدم اتحاده مع الحرام فی الخارج وعدم انطباقه علی المجمع فی مورد الاجتماع إذا کان واحداً وجوداً وماهیةً، علی أساس استحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب و المبغوض مصداقاً للمحبوب. فالنتیجة، إن مصب حکم العقل بالتقیید مباشرة هو المادة دون مفاد الهیئة.

ص:402

وسادساً: أن المحذور فی المقام لایقتضی تقیید الوجوب کما هو الحال فی موارد العجز، فإنه یقتضی تقیید الوجوب علی أساس استحالة تکلیف العاجز، و أما المحذور فی المقام فهو یرجع إلی المادة مع بقاء الهیئة علی اطلاقها لأن المحال هنا اطلاق الواجب للفرد المحرم وانطباقه علیه.

ملحقات مسألة الاجتماع (الملحق الخامس)

الملحق الخامس: فی تقدیم أحد الدلیلین بناء علی القول بالامتناع و القول بالجواز
اشارة

الملحق الخامس:

قد أشرنا فیما تقدم أن مسألة الاجتماع علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً تدخل فی کبری مسألة التعارض، وعلی القول بالجواز وتعدد المجمع کذلک تدخل فی کبری مسألة التزاحم، فیقع الکلام فی مقامین:

الأول: فی القول بالامتناع.

الثانی: فی القول بالجواز.

الکلام فی تقدیم النهی فی مورد الاجتماع و الاستدلال علیه

أما الکلام فی المقام الأول، فهل یقدم دلیل النهی عن المجمع علی دلیل الأمر به فی مورد الاجتماع أو لا، فیه قولان، فذهب جماعة إلی القول الأول، ویمکن تقریب هذا القول بوجهین:

الأول: إن اطلاق دلیل النهی شمولی واطلاق دلیل الأمر بدلی، و إذا وقع التعارض بین الاطلاق الشمولی والاطلاق البدلی بنحو العموم من وجه قدم الأول علی الثانی فی مورد الاجتماع، و هذه الکبری تنطبق علی المسألة فی المقام أیضاً، لأن اطلاق الأمر بالصلاة بدلی حیث إن الواجب هو صرف وجودها المنطبق علی أحد وجوداتها علی البدل، و أما اطلاق النهی عن الغصب فهوشمولی فیسری إلی جمیع أفراد الغصب فی الخارج أو، فقل إن اطلاق المادة کالصلاة فی جانب الأمر بدلی بینما یکون اطلاقها فی جانب النهی شمولی، فإذا

ص:403

وقع التعارض بینهما بالعموم من وجه فلابدّ من تقدیم اطلاق النهی بملاک أنه شمولی علی اطلاق الأمر بملاک أنه بدلی هذا.

ویقع الکلام فی هذا التقریب تارة فی کبری تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی واُخری فی أن المقام هل هو من صغریات هذه الکبری أو لا، و أما الکبری فقد ذکرنا فی مبحث التعادل و الترجیح أن ثبوتها غیر بعیدة، لأن کلا الاطلاقین و إن کان مدلولاً لمقدمات الحکمة إلاّ أن شمولیة الحکم فی أحدهما لاتبعد أن تکون قرینة بنظر العرف بملاک الاقوائیة علی التصرف فی الآخر الذی یکون الحکم فیه بدلیاً، فإذن لاتعارض بینهما وتمام الکلام هناک. نعم، إذا کان التعارض بین العام الوضعی و العام الاطلاقی، فلا شبهة فی تقدیم الأول علی الثانی ولا اشکال فیه و إن کان العام الاطلاقی شمولیاً باعتبار أن دلالة الأول علی مدلوله الوضعی تنجیزیة فلا تتوقف علی أی مقدمة خارجیّة بینما دلالة المطلق علی الاطلاق تتوقف علی تمامیة مقدمات الحکمة، فلذلک یصلح الأول أن یکون قرینة مانعة عن تمامیة المقدمات فیه، و أما الصغری و هی أن المقام هل هو من صغریات هذه الکبری أو لا؟

والجواب: إنه لایبعد کونه من صغریاتها، وعلی هذا فلایبعد تقدیم اطلاق دلیل النهی فی مورد الاجتماع علی اطلاق دلیل الأمر فیه، ومع الاغماض عن ذلک فأیضاً لابد من التقدیم ولکن بنکتة اخری لاترتبط بتطبیق تلک الکبری علی الصغری، و هی أنه بناءً علی مسلک المحقق النائینی قدس سره من أن اعتبار القدرة فی متعلق الأمر انما هو باقتضاء نفس الخطاب(1) ، فالأمر واضح لأن متعلق الأمرخصوص الحصة المقدورة عقلاً وشرعاً، وعلی هذا فإطلاق النهی لمورد

ص:404


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 360.

الاجتماع یکون رافعاً للأمر بارتفاع موضوعه و هو القدرة ووارداً علی اطلاق دلیل الأمر دون العکس، فإن متعلق النهی و إن کان أیضاً خصوص الحصة المقدورة إلاّ أن اطلاق الأمر لما کان بدلیاً فشموله لمورد الاجتماع لایجعل امتثال النهی غیر مقدور لا عقلاً ولا شرعاً هذا إذا کانت هناک مندوحة، و أما إذا لم تکن مندوحة فی البین کما إذا کان محبوساً فی الأرض المغصوبة أو الوقت غیر متسع بحیث إذا خرج منها فاتت الصلاة عنه، ففی مثل ذلک لایکون اطلاق النهی وارداً علی اطلاق الأمر فی مورد الاجتماع ولا العکس علی أساس أن الأرض لولم تکن مغصوبة کان یتعیّن علی المکلف الاتیان بالصلاة کما أنه لولم تکن الصلاة واجبة علیه لکان الواجب علیه الخروج منها فوراً، فإذن الکون فیها بمقدار الصلاة مورد المعارضة بین الاطلاقین فیسقطان معاً فیکون المرجع أصالة البراءة عن حرمة المجمع فی مورد الاجتماع، ولا تعارض بأصالة البراءة عن وجوبه لفرض أنه غیر واجب وانما هو فرد ومصداق للواجب، ولا نشک فی ذلک ذاتاً وإنما الشک فی انطباق الواجب علیه فعلاً وهل تکفی أصالة البراءة عن الحرمة فی صحة الاتیان به وانطباق الواجب علیه، الظاهر أنها لاتکفی لأنها ترفع الحرمة الظاهریة عنه ولکن احتمال أنه محرم ومبغوض فی الواقع موجود، ومع هذالایمکن التقرب به حتی یحکم بالصحة، نعم فی خصوص باب الصلاة لابد من تقدیمها علی الحرام فی مورد الاجتماع علی أساس دلیل خارجی و هو أن الصلاة لاتسقط بحال هذا.

ولکن تقدم فی ضمن البحوث السالفة أن هذا المسلک غیر صحیح، و أما بناء علی ما هو الصحیح من أن اعتبار القدرة فی متعلق الأمر إنما هو بحکم العقل من باب حکمه بقبح تکلیف العاجز، فحینئذٍ لایکون بإطلاق دلیل النهی لمورد الاجتماع رافعاً للأمر بإرتفاع موضوعه باعتبار أن القدرة المعتبرة بحکم العقل

ص:405

قدرة عقلیة لا لأعمّ منها ومن الشرعیة، واطلاق دلیل النهی لایکون رافعاً لها وإنما یکون رافعاً للقدرة الشرعیة فحسب، ولکن هل یصلح اطلاقه عندئذٍ أن یکون مانعاً عن انطباق الصلاة الواجبة علیه بنکتة أن الحرام لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب و المبغوض مصداقاً للمحبوب أو لا؟

الظاهر أنه مانع عن الانطباق مع وجود المندوحة فی المقام بمقتضی الارتکاز العرفی و العقلائی، لوضوح أن المکلف طالما یکون متمکناً من الصلاة فی خارج الأرض المغصوبة فیری عدم جوازالاتیان بها فیها ارتکازاً قطعیاً علی أساس أنه یراها مبغوضة فیها ومتحدة مع الحرام، و أما مع عدم المندوحة فیقع التعارض بین اطلاق دلیل الأمر وإطلاق دلیل النهی، فإن مقتضی الأول تعیّن الاتیان بالمجمع فی مورد الاجتماع ومقتضی الثانی حرمته ولزوم الاجتناب عنه فیسقطان معاً فیکون المرجع أصالة البراءة عن حرمته کما مرّ الآن، هذا فی غیر باب الصلاة، و أما فیه فالمرجع هوالاطلاق الفوقی و هو مادلّ علی أن الصلاة لاتسقط بحال.

ما ذکره بعض المحققین قدّس سرّه و مناقشته

وذکر بعض المحققین قدس سره أن الصحیح انطباق الکبری حتی فی صورة الانحصاروعدم المندوحة، و قد أفاد فی وجه ذلک أن ارتفاع الأمر و الوجوب عن المجمع فی مورد الاجتماع لیس تقییداً زائداً فی دلیل الأمر، لأن کل أمر مشروط بالقدرة علی متعلّقه، فإذا قید متعلق الأمر الذی یکون اطلاقه بدلیاً بغیر الغصب فسوف لن یحدث بسبب ذلک تقیید لمدلول الهیئة زائداً علی ما هو مقیّد به من القدرة علی متعلقه، فالتعارض بحسب الحقیقة بین اطلاق المادة فی دلیل الأمر واطلاقها فی دلیل النهی دائماً(1).

وغیر خفی، أن ما ذکره قدس سره مبنی علی أن یکون الأمر مشروطاً بالأعمّ من

ص:406


1- (1) - بحوث فی علم الاصول ج 3 ص 53.

القدرة العقلیة و الشرعیة، فعندئذٍ لایکون تقیید اطلاق مدلول الهیئة بغیرالغصب تقییداً زائداً علی ما هو مقید به من القدرة علی متعلقه، و أما إذا قلنا بأن الأمر مشروط بالقدرة العقلیة فحسب لا بالأعم منها ومن القدرة الشرعیة کماهو الصحیح فبطبیعة الحال یکون تقیید اطلاق مدلول الهیئة بغیر الغصب تقییداً زائداً علی ماهو المقیّد به و هو القدرة العقلیة، لأن ذلک تقیید بالقدرة الشرعیة علی الفرض، فإذن یکون التعارض بین اطلاقی مفاد الهیئة فی کلا الدلیلین وتمام الکلام فی ذلک صغری وکبری موکول إلی مسألة التعادل و التراجیح.

نتیجة الملحق الرابع و الخامس

نتیجه الملحق الرابع و الخامس

نتیجة الملحق الرابع و الخامس عدة نقاط:

الاُولی: إن النزاع فی هذه المسألة إنما هو فی الصغری و هی أن المجمع فی مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهیةً أو متعدد کذلک، فعلی الأول یتعیّن القول بالامتنا وعلی الثانی القول بالجواز، و أما الکبری و هی جواز الاجتماع بناءً علی تعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً وامتناعه بناءً علی وحدته فیه کذلک فلا اشکال فیها ولا نزاع.

الثانیة: إنه لایعتبر فی النزاع فی هذه المسألة أن یکون المجمع فی مورد الاجتماع مشتملاً علی ملاک کلا الحکمین معاً خلافاً للمحقق الخراسانی قدس سره، حیث بنی النزاع فی المسألة علی ذلک وأنها تفترق عن مسألة التعارض به، و قد تقدم أن هذه المسألة علی القول بالامتناع من صغریات مسألة التعارض وعلی القول بالجواز من صغریات مسألة التزاحم.

الثالثة: إنه لایمکن التمسک بإطلاق دلیل الأمر و النهی فی المسألة لاثبات أن المجمع فی مورد الاجتماع مشتمل علی ملاک کلا الحکمین معاً خلافاً للمحقق النائینی قدس سره و المحقق الأصبهانی قدس سره فذهبا إلی أنه لا مانع من التمسک بإطلاقهما، أما

ص:407

المحقق النائینی قدس سره، فقد ذکر أن للمادة محمولین:

الأول: الحکم.

الثانی: الملاک.

ولایمکن التمسک بإطلاقها فی مورد الاجتماع بالنسبة إلی المحمول الأول، و أمابالنسبة إلی المحمول الثانی، فلا مانع منه و قد تقدم المناقشة فیه، أولاً: إن المحال انما هو اجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء واحد بلحاظ عالم المبادی وعالم الاقتضاء لا بلحاظ الجعل والاعتبار فحسب.

وثانیاً: إنه لیس للمادة محمولان فی عرض واحد بل لها محمول واحد و هوالحکم، و أما الملاک فهو مستکشف منه فی طول الحکم، و أما المحقق الأصبهانی قدس سره فقد ذکر لذلک طریقین:

الأول: إن الدلالة الالتزامیة لاتتبع الدلالة المطابقیة فی الحجیّة، وحیث إن کلاًمن الأمر و النهی یدل بالمطابقة علی ثبوت الحکم فی مورد الاجتماع وبالالتزام علی ثبوت الملاک فیه و الساقط انما هو الأول دون الثانی.

وفیه، إن الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً وبقاءً، هذا إضافة إلی أنه لایعقل بقاء الدلالة الالتزامیة علی الحجیة إذا کان المجمع فی مورد الاجتماع واحداً وجوداً وماهیةً، فإنه یستحیل اشتماله علی ملاک کلا الحکمین معاً و هوالمفسدة و المصلحة و المحبوبیة و المبغوضیة.

الثانی: التمسک بإطلاق المادة واشتمالها علی الملاک حتی فی مورد الاجتماع ولامقید لها، وحکم العقل باستحالة ثبوت الوجوب فی صورة اتحاد المأمور به مع النهی عنه فی مورد الاجتماع انما یوجب تقیید مفاد الهیئة دون المادة، وفیه وجوه

ص:408

من المناقشة قد تقدمت جمیعاً بشکل موسع.

الرابعة: إنه علی القول بالامتناع، قد تسأل هل یقدم النهی فی مورد الاجتماع علی الأمر فیه أو لا؟

والجواب: أن جماعة من الاُصولیین قالوا بتقدیم اطلاق دلیل النهی علی اطلاق دلیل الأمر تطبیقاً لکبری تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی وثبوت هذه الکبری غیر بعیدة، وتمام الکلام فیها فی مبحث التعادل و الترجیح و أما الصغری فی المقام و هی تقدیم اطلاق دلیل النهی علی اطلاق دلیل الأمر، فهی ثابتة علی کلا المسلکین فی اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف هما مسلک المحقق النائینی قدس سره و المشهور إذا کانت هناک مندوحة وإلا فلا.

الخامسة: إن بعض المحققین قدس سره قد ذکر أن الصحیح هو تطبیق الکبری علی المقام حتی فی صورة الانحصار وعدم المندوحة وتقدم المناقشة فیه.

ملحقات مسألة الاجتماع (الملحق السادس)

الملحق السادس: وفیه مجموعة من المسائل:
المسألة الأولی: إذا توضأ المکلف أو اغتسل فی الماء المغصوب عامدا

المسألة الاُولی: إذا توضأ المکلف أو اغتسل فی الماء المغصوب عامداً ملتفتاً إلی الحکم الشرعی، فحینئذٍ إن کان الوضوء أو الغسل عبارة عن نفس الأفعال الخارجة کان الواجب متحداً مع الحرام وجوداً، وعلی هذا فیقع التعارض بین اطلاق دلیل وجوب الوضوء أو الغسل واطلاق دلیل النهی عن الغصب، والتعارض بینهما من التعارض بین الاطلاق البدلی والاطلاق الشمولی، فإن الاطلاق الأول بدلی، والثانی شمولی، والشمولیة و البدلیة کما ذکرناه فی ضمن البحوث السالفة لیستا من شؤون الاطلاق ومقدمات الحکمة، لأن مقدمات الحکمة لاتقتضی إلاّ مطلباً واحداً فی جمیع الموارد و هو أن ما أخذ موضوعاً للحکم فی مقام الاثبات و هو الطبیعة تمام الموضوع له ثبوتاً، و أما الشمولیة فی

ص:409

مورد فهی مستفادة من دال آخر وبنکتة اخری من لفظیة أو عقلیة، وعلی هذا فالمعارضة بین الاطلاق البدلی والاطلاق الشمولی لیست بلحاظ الشمولیة و البدلیة بل بلحاظ نفس الاطلاقین، ومع هذا لایبعد تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی فی مورد الاجتماع إذا کانت هناک مندوحة، لوضوح أن المکلف إذا کان متمکنض من الوضوء أو الغسل بالماء المباح أو المملوک له لم یجزبالماء المغصوب فلو توضّأ به بطل، وهنا معنی تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی فی مورد الاجتماع، ومنشأ هذا التقدیم هو أن شمول الاطلاق للفرد فی مورد الاجتماع یکون قرینة بنظر العرف ومانعاً عن انطباق المطلق البدلی علی أساس ما هو المرتکز فی الأذهان من أن الحرام لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب و المبغوض مصداقاً للمحبوب.

و إن شئت قلت: إن المطلق الشمولی أقوی بنظر العرف من المطلق البدلی، لأن المرتکز فی أذهان العرف و العقلاء أن اهتمام المولی النوعی ببیان أصل الحکم برأسه أشدّ وأقوی من اهتمامه ببیان حدوده وتطبیقاته سعةً وضیقاً، فإذن یدخل فی المقام فی باب تقدیم أقوی الظهورین علی أضعفها تطبیقاً لقاعدة حمل الظاهرعلی الأظهر. والنکتة المرتکزة فی أذهان العرف و العقلاء التی تصلح أن تکون قرینة عرفیة فی المقام هی أن المعارضة فی الحقیقة و إن کانت بین الحکمین الالزامیین، وهما: الحکم الالزامی المتعلق بالمطلق بنحوالشمول و الحکم الالزامی المتعلق بالمطلق بنحو البدل، لوضوح أنه لا معنی للمعارضة بین الحکم الالزامی و الحکم الترخیصی الابتدائی، وعلیه فالشمول فی الأول بنحو اللزوم وفی الثانی بنحوالترخیص، وفی الأول مدلول مطابقی وفی الثانی مدلول التزامی عقلی.

وعلی هذا فالمعارض المباشر للحکم الالزامی فی مورد الاجتماع هو الحکم

ص:410

الترخیصی الذی یکون منشأه الحکم الالزامی، ورفع الید عنه لیس رفع الید عن الحکم الشرعی لأنه لیس بحکم شرعی بل هو عقلی، ورفع الید عنه انما هوبتقیید متعلق الحکم الالزامی وتضییق دائرة تطبیقه بغیر مورد الاجتماع بدون التصرف فی أصل الحکم سعةً أو ضیقاً، ومن الواضح أنه إذا دار الأمر بین الدلیلین فی مورد یکون رفع الید عن أحدهما بالآخر یؤدی إلی التصرف فی مدلوله الشرعی بینما العکس لایؤدی التصرّف فیه أصلاً وإنما یؤدی التصرف فی دائرة تطبیقاته، فحسب تعین الثانی دون الأول بنظر العرف، فإن عدم اهتمام المولی بحدود تطبیقات الحکم وسعة دائرتها واهتمامه بحدود أصل الحکم و الحفاظ علیه قرینة علی هذا الجمع عرفاً، فإذن لا معارضة بینهما فی مورد الاجتماع حقیقة، و أما فی صورة انحصار الماء بالماء المغصوب وعدم المندوحة فی البین فیقع التعارض بینهما فی مورد الاجتماع، باعتبار أن المعارض المباشر للحکم الالزامی فی مورد الاجتماع فی هذه الصورة لیس هو الحکم الترخیصی بل الحکم الالزامی، لأن المکلف بمقتضی إطلاق المطلق ملزم بتطبیقه علی مورد الاجتماع لاأنه مرخص فیه، ومنشأ هذا اللزوم هو الحکم الالزامی المتعلق بالمطلق من باب أن أحد فردی الواجب التخییری إذا تعذر تعین الفرد الآخر، فإذن یکون المرجع مرجحات باب المعارضة، فإن کان فهو وإلاّ فیسقط کلا الاطلاقین معاً و المرجع حینئذٍ أصالة البراءة عن حرمة التصرف فیه، وهل تکفی أصالة البراءة عن حرمته فی صحة الوضوء أوالغسل، الظاهرعدم الکفایة لاحتمال أن التصرف فیه مبغوض فی الواقع علی أساس أن أصالة البراءة لاترفع الحرمة و المبغوضیة الواقعیة.

حکم المسألة بناء علی القول بالجواز و تعدد المجمع

و أما علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً، کماإذ قلنا بأن الوضوء أو الغسل اسم لنفس الطهارة المسببة من الغسلتین و المسحتین أومن غسل الرأس و البدن، فتدخل المسألة فی باب التزاحم مع عدم وجودالمندوحة

ص:411

فی البین و المرجع فیها مرجحات باب المزاحمة، وهل هناک مرجح لتقدیم أحدهماعلی الآخر؟ فذهب جماعة إلی تقدیم حرمة التصرف فی مال الغیر علی وجوب الوضوء، بتقریب أن حرمة التصرّف مشروط بالقدرة العقلیة ووجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة، فإذا وقع التزاحم بینهما فلابد من تقدیم الأول علی الثانی لأنه من أحد مرجحات باب التزاحم. ونتیجة ذلک، بطلان الوضوءولایمکن تصحیحه بالترتب أیضاً کیف فإن الأمر به مشروط بعدمها.

الرد علی هذا القول

و هذا القول و إن کان مشهوراً بین الأصحاب إلاّ أنه غیر صحیح، أما أولاً: فلأن اثبات کون وجوب الوضوء مشروطاً بالقدرة الشرعیة فی غایة الاشکال بل المنع، لأن دلیلهم علی ذلک الآیة الشریفة بتقریب أن قوله تعالی:«فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً» (1) ، یدل علی أنه مشروط بالقدرة الشرعیّة باعتبار أنها المراد من الوجدان فیها، ولکن الآیة لاتدل علی ذلک لما ذکرناه فی مبحث الضدّ موسعاً من أن المأخوذ فی لسان الدلیل إذا کان عنوان الاستطاعة و القدرة مباشرة، کان ظاهراً فی التأسیس ودخله فی الحکم فی مرحلة الجعل وفی الملاک فی مرحلة المبادی وحاله حال سائر القیود المأخوذة فی لسان الأدلة مباشرة، فکما أنها ظاهرة عرفاً فی أنها شروط للحکم فی مرحلة الجعل ولاتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادی، فکذلک عنوان القدرة والاستطاعة ولهذا یکون قوله تعالی:«وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً» (2). ظاهر عرفاً فی أن الاستطاعة شرط لوجوب الحج فی مرحلة الجعل ولاتصافه بالملاک فی مرحلة المبادی، و هذا بخلاف الآیة الشریفة و هی آیة

ص:412


1- (1) - سورة المائدة آیة 6.
2- (2) - سورة آل عمران آیة 97.

الوضوء، فإن عنوان الوجدان غیر مأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء فی لسان الآیة مباشرة من قبل المولی، وإنما أخذ فی الآیة عنوان عدم الوجدان فی موضوع وجوب التیمم کذلک، وعلیه فاستفادة أخذ عنوان الوجدان فی موضوع وجوب الوضوء انما هی بسبب القرینة الخارجیة و هی أن التفصیل بین وجوب الوضوء ووجوب التیمم فیها قاطع للشرکة وعلی هذا، فإذا کان عدم الوجدان مأخوذاً فی موضوع وجوب التیمم فی الآیة الشریفة، فبطبیعة الحال کان نقیضه و هوالوجدان مأخوذاً فی موضوع وجوب الوضوء بعد عدم امکان الجمع بینهما بمقتضی الآیة الشریفة، وعلی ضوء هذا الأساس فلاتتوفر فی قید الوجدان ما هوملاک ظهوره فی التأسیس وکونه قیداً للحکم و الملاک معاً، لأن ظهوره فیه منوط بکونه مأخوذاً فی موضوع وجوب الوضوء فی الآیة مباشرة، والمفروض أنه غیر مأخوذ فیه کذلک، وإنما استفید تقیید موضوعه به من التفصیل بینه وبین وجوب التیمم فی الآیة الشریفة کما عرفت، فإذن حاله حال القیود اللبّیة فلایکون ظاهراً فی التأسیس. ونتیجة ذلک، أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة العقلیة ولم یثبت کونه مشروطاً بالقدرة الشرعیّة.

و إن شئت قلت: أن کل قید أخذه المولی فی لسان الدلیل مباشرة، کان ظاهراً فی أنه من شروط الحکم فی مرحلة الجعل وشروط الاتصاف فی مرحلة المبادی سواءً أکان ذلک القید متمثلاً فی القدرة والاستطاعة أم کان متمثلاً فی غیرها من القیود وإلاّ لکان أخذه لغواً وجزافاً، فإذا أخذ المولی عنوان الاستطاعة و القدرة فی لسان الدلیل مباشرة، کان ظاهراً فی أنّه دخیل فی ملاک الحکم فی مرحلة المبادی واتصاف الفعل به فی هذه المرحلة.

و قد تقدم أن معنی کون القدرة شرعیة أنها دخیلة فی الملاک أیضاً فی مقابل

ص:413

القدرة العقلیة التی هی دخیلة فی الحکم فقط دون الملاک، وحیث إن قید الوجدان غیر مأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء فی الآیة الشریفة مباشرة وإنما استفید ذلک بقرینة التفصیل فی الآیة بینه وبین وجوب التیمم، فلاظهور له فی التأسیس ودخله فی الملاک، لأن النکتة الموجبة لهذا الظهور غیر متوفرة فیه و هی أنه لولم یکن دخیلاً فی الملاک لکان لغواً وجزافاً، فإن هذا المحذور انما یلزم إذا کان مأخوذاً فیه من قبل المولی مباشرة لا ما إذا کان بسبب قرینة خارجیة، وعلی هذا فوجوب الوضوء مشروط بالوجدان بالمعنی الأعمّ من القدرة العقلیة و العرفیة دون الأعم من القدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی.

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه و الرد علیه

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة إلاّ أن المراد من القدرة الشرعیة فی الآیة المبارکة لیس بمعنی عدم المنافی المولوی کما یظهر ذلک من المحقق النائینی و السید الاُستاذ، و قد أفاد السید الاُستاذ قدس سره فی وجه ذلک أن المراد من الوجدان فی الآیة المبارکة التمکن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً بقرینة ذکر المریض فیها، باعتبار أن الماء غالباً موجود عنده ولکنه لایتمکن من استعماله شرعاً، والمفروض أن التمکن الشرعی یرتفع بوجود المنافی المولوی کحرمة التصرف فیه، فیکون ذلک قرینة علی أن وجوب الوضوء مشروط بعدم المنافی المولوی علی خلافه کوجوب شیء أو حرمة آخر، وعلی هذا فلایمکن تصحیح الوضوء فی المسألة حتی بالترتب باعتبار أن وجوبه مشروط بعدم وجود الحرمة علی خلافه ومع وجودها ینتفی وجوب الوضوء بانتفاء موضوعه، لأن حرمة التصرف فی الماء بصرف وجودها رافعة لوجوب الوضوء بارتفاع موضوعه وشرطه و هو عدم وجود المنافی المولوی علی خلافه، وحینئذٍ فلایعقل اجتماع وجوب الوضوء مع حرمة التصرف فی الماء فی آن واحد ولو ترتباً، کیف فإنه مشروط ومقید بعدمها

ص:414

فلایعقل ثبوته مع ثبوتها وإلاّ لزم الخلف هذا(1).

ولکن لایمکن المساعدة علی ذلک لأنه مبنی علی تفسیر الوجدان بالتمکن الأعمّ من العقلی و الشرعی و هذا التفسیر خاطیء، فلنا فی المقام دعویان:

الاُولی: أن هذا التفسیر خاطیء.

الثانیة: الصحیح تفسیره بالقدرة الأعم من العقلیة و العرفیة، أما الدعوی الاُولی فلأن کلمة الوجدان غیر ظاهرة فی نفسها فی الأعمّ من التمکن الشرعی، وذکر المریض فی الآیة لایصلح أن یکون قرینة علیه لأن المریض لایکون قادراً علی استعمال الماء عرفاً من جهة الضرر أو الحرج أو غیر ذلک لا أنه محرّم علیه شرعاً، لوضوح أن العمل الحرجی لایکون محرماً وکذلک العمل الضرری إلاّ إذا وصل الضرر إلی درجة الحرمة و هذا قلیل.

وبکلمة، إن المریض إن کان قادراً علی استعمال الماء بأن لایکون ضرریاً ولاحرجیاً فوظیفته الوضوء، و أما إذا کان ضرریاً أو حرجیاً فهو غیر قادر علی استعماله عرفاً سواءً أوصل الضرر أو الحرج حد الحرمة شرعاً أم لا، فإذن لامحالة یکون المراد من الوجدان أن القدرة الأعمّ من العرفیة، وعلی هذا فلایرتفع الوجدان بثبوت حکم آخر علی خلافه وإنما یرتفع بالاشتغال بمتعلق الآخر وامتثاله خارجاً، وعندئذٍ فلا مانع من الالتزام بالترتب و الحکم بصحة الوضوءبه و إن قلنا بأن حرمة التصرف فی مال الغیر بدون اذنه أهم من وجوبه.

وثالثاً: مع الاغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم أن المراد من الوجدان أعمّ من القدرة الشرعیّة بمعنی عدم المنافی المولوی، وحینئذٍ و إن کان الالتزام بالترتب

ص:415


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 295.

بالنسبة إلی أمره الوجوبی غیر ممکن إلاّ أنه لا مانع من الالتزام به بالنسبة إلی أمره الاستحبابی باعتبار أنه غیر مشروط بالقدرة الشرعیة بهذا المعنی، لأن الآیة الشریفة علی تقدیر دلالتها تدل علی أن أمره الوجوبی مشروط بالقدرة الشرعیة دون أمره الاستحبابی، هذا، وذهب بعض الأصحاب إلی تقدیم حرمة التصرف علی وجوب الوضوء فی مورد الاجتماع.

و إن قلنا: بأن وجوبه مشروط بالقدرة العقلیة وذلک بملاک تقدیم مالیس له البدل علی ماله البدل الذی هو من أحد مرجّحات باب المزاحمة هذا، ولکن ذکرنا فی محله موسعاً أن هذا المرجح بعنوانه لایصلح أن یکون مرجّحاً إلاّ إذا رجع إلی أن ملالک مالیس له البدل بضمیمة ملاک البدل أهمّ أو لا أقل محتمل الأهمیة عن ملاک ماله البدل وحده، فإذا ثبت ذلک فهو وإلاّ فلا موجب للترجیح وتمام الکلام فی ذلک فی محلّه.

نتیجة البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، و هی أن الوضوء إن کان اسماً للأفعال الخارجیّة و هی الغسلتان و المسحتان، کان الواجب فی المقام متحداً مع الحرام، ومع الانحصار وعدم المندوحة یقع التعارض بین اطلاقی الدلیلین فی موردالاجتماع، ومع المندوحة یقدم اطلاق دلیل النهی علی اطلاق دلیل الأمر فی مورد الاجتماع علی أساس القرینیة و الجمع العرفی فلایکون التعارض بینهما حینئذٍ مستقراً، و إن کان الوضوء اسماً للطهارة التی هی حالة معنویّة حاصلة للمکلف من الأفعال الخارجیة التی هی محصلة لها، کان الواجب فی مورد الاجتماع غیرالحرام فلایکون متحداً معه خارجاً، ولهذا یقع التزاحم بینهما و المرجع فیه مرجحات باب التزاحم، هذا کلّه فیما إذا توضّأ بالماء المغصوب عامداً عالماً.

حکم المسألة فیما إذا توضأ جاهلا بالحکم أو الموضوع

و أما إذا توضّأ به جاهلاً بالحکم أو الموضوع، فتارة یکون جهله بذلک بسیطاً

ص:416

واُخری یکون مرکباً، أما علی الأول، فإن کان معذوراً فیه کان مورداً للاُصول المؤمنة کالاستصحاب أو أصالة البراءة وعندئذٍ فیجوز تصرفه فیه ظاهراً، و أما وضوئه منه فهل یجوز أو لا؟

والجواب: أنه غیر جائز لأن الحرام الواقعی لایمکن أن یقع مصداقاً للواجب ولایمکن التقرّب به، وجواز تصرفه فیه ظاهراً لاینافی حرمته ومبغوضیته واقعاً غایة الأمر أنها غیر منجزة. ودعوی، أن الحرمة الواقعیة لاتکون مانعة عن صحة الوضوء طالما لم تکن منجزة.

مدفوعة، بأن المعتبر فی صحة العبادة محبوبیة الفعل حتی یمکن التقرّب به، فإذا فرض أنه حرام فی الواقع ومبغوض عند اللَّه و إن کان غیر واصل فلایمکن قصد التقرب به، فلهذا لایعقل أن یکون مصداقاً للواجب.

فالنتیجة، إنه لاشبهة فی بطلان الوضوء به، و أما إذا لم یکن معذوراً فیه فلایمکن الرجوع إلی الاُصول المؤمنة، وعندئذٍ فلایجوز تصرفه به ظاهراً أیضاً بل یجب علیه الاجتناب عنه.

و أما علی الثانی، و هو الجاهل المرکب فإن کان مقصراً فیه وغیر معذور، فالظاهر بطلان وضوئه، لأن حرمة التصرّف به و إن کانت مرفوعة واقعاً باعتبارأن الجاهل إذا کان مرکباً فهو غیر قابل لأن یوجه إلیه التکلیف، لأن الغرض من جعل التکلیف امکان داعویته ولایمکن داعویته بالنسبة إلیه لأنه کالناسی و الغافل، إلاّ أن مبغوضیّة التصرف فیه حیث إنها منتهیة بالآخرة إلی سوء اختیاره، فلامانع من الحکم باستحقاقه العقاب بملاک أن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً، و أما إذا کان قاصراً ومعذوراً فیصحّ وضوئه إذ کمالاحرمة فیه کذلک لا مبغوضیّة لأن الحرمة بمالها من المبادی، مرفوعة عنه و أما

ص:417

رفع الحرمة، فلأنها غیر قابلة لتوجیهها إلیه، و أما رفع المبغوضیة فلأن بقائها بعدرفع الحرمة بما هی اعتبار بحاجة إلی مبرّر ولا مبرّر لبقائها بل لایمکن، لأن بقائهایستلزم استحقاق العقوبة و الإثم و هو لایمکن مع کون جهله عن قصور وإنه معذور فیه، وإلاّ فلازمه أن لایکون معذوراً و هو خلف، وعلیه فیکون تصرفه فی الماء المغصوب جائزاً واقعاً ومعه یحکم بصحة وضوئه، ومن هنا یظهر أن ماهو المشهور بین الأصحاب من صحة وضوء الجاهل کالناسی فلابد من تقییده بالجاهل المرکب القاصر لامطلقاً، و أما الاستدلال علی الصحة تارةً باشتمال الوضوء علی الملاک فی هذه الحالة واُخری بالاجماع فلایرجع إلی معنی محصّل، أما الأول: فلأنه لاطریق لنا إلی اشتماله علی الملاک إلاّ بناء علی ما ذکرناه من أن الحرمة بما لها من المبادی مرفوعة واقعاً، فعندئذٍ یکون الوضوء بالماء المذکور مصداقاً للوضوء المأمور به، و أما بناءً علی المشهور من أن الجهل و إن کان مرکباً فلایکون رافعاً للحرمة واقعاً ومع بقاء الحرمة لایمکن الحکم بکونه مشتملاً علی الملاک. و أما الثانی: فلأن الشبهة حیث إنها موضوعة فلا معنی لدعوی الاجماع فیها إلاّ علی قاعدة تجری فیها و هو لیس تمسکاً بالاجماع بل بالقاعدة.

هذا مضافاً إلی ما حققناه فی محله من أنه لایمکن الاعتماد علی شیء من الاجماعات المنقولة، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة و هی أن وجه صحة الوضوء من الجاهل المرکب القاصر فی المقام انه غیر قابل لالقاء الخطاب التحریمی إلیه کالناسی، ومعه یکون وضوئه صحیحاً ومشمولاً لاطلاق الأدلة هذا کله فی الجاهل.

حکم الناسی للحکم أو الموضوع

و أما الکلام فی الناسی للحکم أو الموضوع فیقع فی مقامین:

الأول: فیما إذا کان نسیانه مستنداً إلی سوء اختیاره بأن یکون المکلف مقصراً

ص:418

فی ذلک.

الثانی: فیما إذا کان غیر مستند إلی اختیاره بأن یکون قاصراً ومعذوراً فیه.

و أما الکلام فی المقام الأول، فالظاهر بطلان عبادته وفسادها کصلاته ووضوئه ونحوهما، فإذا فرض أن المکلف غصب داراً ثم نسی وصلّی فیها أوغصب ماء ثم نسی وتوضأ به، ففی مثل هذه الحالة و إن لم یمکن توجیه التکلیف بالحرمة إلیه لاستحالة تکلیف الناسی حال نسیانه إلاّ أن ملاک الحرمة و هومبغوضیّة تصرفه فی الدار أو فی الماء باق باعتبار أنه منته إلی سوء اختیاره، وحینئذٍ فیستحق العقوبة علیه علی أساس قاعدة أن الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار، کما أن عباداته کالصلاة و الوضوء ونحوهما باطلة لعدم إمکان التقرّب بها، باعتبار أن هذا التصرف منه أی التصرّف الصلاتی أو الوضوئی مبغوض للمولی من جهة أنه بسوء الاختیار فلایمکن التقرّب به.

و أما الکلام فی المقام الثانی، فالظاهر أن عبادته صحیحة، وذلک لفرض أن النسیان رافع للحرمة وعلیه فلاتکون صلاته فی الدار المغصوبة محرمة ولامبغوضة واقعاً ولا الوضوء بالماء المغصوب، لفرض أنه کان عن قصور و هومعذور فیه ومعه لایعقل أن تکون مبغوضة وإلاّ لاستحق العقوبة علیه و هو فی طرف النقیض مع فرض أن نسیانه کان عن قصور وعذر، إذ معنی ذلک أنه لایستحق العقاب، وعلی هذا فتصحّ صلاة الناسی فی الأرض المغصوبة إذا کان نسیانه عن قصور وکذلک وضوئه بالماء المغصوب، إذ لا مانع حینئذٍ من انطباق المأمور به علی هذا الفرد، لأن المانع منه انما هو حرمته و المفروض أنها قدارتفعت بالنسیان واقعاً أو فقل: إن المعتبر فی صحة العبادة أمران:

الأول: أن یکون الفعل محبوباً فی نفسه.

ص:419

الثانی: أن یقصد به التقرب، وکلا الأمرین موجود فی المقام.

ومن هنا یظهر أن ما نسب إلی المشهور من صحة الوضوء بالماء المغصوب فی حال نسیان الحکم أو الموضوع إذا کان عن قصور متین جداً، هذا تمام الکلام فی المسألة الاُولی.

المسألة الثانیة: إذا توضأ المکلف من الاناء المغصوب

المسألة الثانیة: إذا توضأ المکلف من الاناء المغصوب، فتارةً یکون وضوئه منه ارتماسیاً واُخری یکون ترتیباً. أما علی الأول، فإن قلنا بأن الوضوء الارتماسی بنفسه مصداق للتصرّف فی الاناء المغصوب، فلاشبهة فی فساده إذاکانت هناک مندوحة، و أما إذا لم تکن مندوحة فی البین فالظاهر أیضاً باطل لا لماتقدم من أن التعارض بینهما إذا کان بین اطلاق دلیل الأمر البدلی واطلاق دلیل النهی الشمولی فی مورد الاجتماع، فالثانی مقدم علی الأول بملاک القرینیة العرفیة فإن ذلک غیر ثابت فی صورة عدم المندوحة، فإذن یقع التعارض بینهما وبعدالسقوط لایمکن احراز أنه محبوب، و قد مرّ تفصیل ذلک.

و أما إذا قلنا بأن الوضوء الارتماسی بنفسه لیس تصرفاً فیه بل هو یستلزم ذلک، لأن حقیقة الوضوء عبارة عن وصول الماء إلی البشرة وحیث إنه یستلزم رمس الید فی الاناء فهو تصرف فیه، فإذن یکون الحرام مقدمة للوضوءلانفسه، وعلیه فیقع التزاحم بین حرمة المقدمة ووجوب ذیها و هو الوضوء، وحینئذٍ فإن کانت هناک مندوحة بأن لایکون الماء منحصراً فی الاناء المغصوب، فالظاهر صحة الوضوء، أما بناءً علی مسلک المحقق النائینی قدس سره من أن الواجب حصة خاصة من الوضوء و هی الحصة المقیّدة بعدم الفرد المزاحم للحرام علی أساس ما بنی علیه قدس سره من أن اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف انما هو باقتضاء نفس الخطاب الشرعی و هو یقتضی کون متعلقه خصوص الحصّة المقدورة عقلاً

ص:420

وشرعاً، وحیث إن الفرد المزاحم غیر مقدور شرعاً فلامحالة یکون الواجب مقیداً بعدمه فیحکم بصحّته من جهة الترتّب(1).

و أما بناء علی ما ذکرناه من أن التزاحم إذا کان بین الواجب الموسّع و الواجب المضیّق، فتکون صحة الإتیان بالفرد المزاحم من باب انطباق الواجب الموسّع علی فرده لا من باب الترتب، فإذن الحکم بالصحة یکون علی القاعدة.

و أما إذا لم تکن هناک مندوحة، فلامانع من الحکم بصحة الوضوء بناءً علی القول بإمکان الترتّب خلافاً للمحقق النائینی قدس سره حیث إنه یری بطلان الوضوءفی هذه الصورة وعدم امکان تصحیحه بالترتب، ولکن تقدم أن ما ذکره قدس سره من عدم امکان الترتّب هنا مبنی علی أن یکون وجوب الوضوء مشروطاً بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی، فإنه علی هذا لایمکن فرض الأمر الترتّبی بالوضوء وسوف نشیر إلیه فی ذیل المسألة.

و أما علی الثانی، و هو أن یکون الوضوء منه ترتیباً بأن یأخذ الماء من الاناءتدریجاً حسب تدریجیة أجزاء الوضوء فیأخذ کفاً من الماء فیغسل به وجهه ثم یأخذ کفاً ثانیاً فیغسل به یده الیمنی ثم یأخذ کفاً ثالثاً فیغسل به یده الیسری ثم یمسح رأسه ورجلیه، وحینئذٍ فإن کانت هناک مندوحة فلا شبهة فی صحة هذا الوضوء اما من باب تطبیق الوضوء المأمور به علی فرده المزاحم للحرام أو من باب الترتب کما مرّ الآن، و أما إذا لم تکن مندوحة هناک، فعندئذٍ یقع التزاحم بین وجوب الوضوء وحرمة التصرّف فی الاناء و هو أخذ الماء منه فإنه نحو تصرف فیه، فعلی ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی فلایمکن الحکم بصحّته ولو بالترتب، لما مرّ

ص:421


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 263.

من أن وجوبه مشروط بعدم المنافی المولوی و المفروض أن حرمة المقدمة من المنافی المولوی، فإذن یکون وجوبه مشروطاً بعدم حرمة مقدمته ومع حرمتها لاوجوب له حتی ترتباً، إذ فرض وجوبه فی هذه الحالة خلف.

و أما بناء علی ما ذکرناه من أنه لا دلیل علی أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی، فلامانع من الحکم بصحة الوضوءبالترتب، بیان ذلک ما تقدم آنفاً من أن الآیة الشریفة لاتدل علی ذلک علی أساس أن قید الوجدان غیر مأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء مباشرة حتی یکون ظاهراً فی أنه شرط للحکم و الملاک معاً، وانما استفید ذلک من أخذ عدم الوجدان فی موضوع وجوب التیمم علی أساس أن التفصیل بینهما قاطع للشرکة، فإذن نکتة ظهور القید فی التأسیس و هی أخذه فی لسان الدلیل مباشرة من قبل المولی متوفرة فی قید عدم الوجدان المأخوذ فی موضوع وجوب التیمم وغیر متوفرة فی قید الوجدان المأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء بقرینة خارجیة لباً لا لفظاً. ونتیجة ذلک، أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الأعم من العرفیة، وحینئذٍ فلا مانع من الحکم بصحة الوضوء من باب الترتب.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه مشروط بالقدرة الشرعیة، فقد تقدم أنه مشروط بها بمعنی عدم الاشتغال بالمنافی خارجاً لابعدم وجوده، وعلیه فلا مانع من الالتزام بالترتب، ومع الاغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم أنه مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی، إلاّ أنه علی هذا لایمکن الالتزام بالترتب فیه بلحاظ أمره الوجوبی، و أما بلحاظ أمره الاستحبابی، فلا مانع منه لأنه غیرمشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، قد ذکر السید الاُستاذ قدس سره أن صحة الوضوء فی هذه

ص:422

الصورة مبنیة علی القول بالشرط المتأخر فی الواجبات المرکبة من الأجزاء الطولیة کالصلاة و الوضوء ونحوهما، لأن وجوب کل جزء سابق مشروط بالقدرة علی الجزء اللاحق فی ظرفه بنحو الشرط المتأخر، و قد تقدم هذا الکلام منه قدس سره موسعاً ضمن البحوث السالفة فی مستهل هذا الجزء مع ما ذکرناه من التعلیق علیه مبسطاً فلا حاجة إلی الإعادة(1).

ومن هنا یظهر حال الوضوء من آنیة الذهب و الفضة بناء علی ما هو المشهوربین الأصحاب من حرمة التصرف فیها مطلقاً، إذ حینئذٍ حال الوضوء منهما حال الوضوء من الاناء المغصوب، و أما بناء علی ما هو الصحیح من أنه لا دلیل علی حرمة التصرف فیهما مطلقاً و الدلیل علیها انما هو فی خصوص استعمالهما فی الأکل و الشرب فقط، فالوضوء منهما عندئذٍ خارج عن محل البحث فی المسألة، لأن استعمالهما فی الوضوء أو الغسل لایکون حراماً.

المسألة الثالثة: إذا توضأ المکلف فی المکان المغصوب

المسألة الثالثة: إذا توضأ المکلف فی المکان المغصوب فهل یمکن الحکم بصحة هذا الوضوء أو لا؟

والجواب: أنه إن کانت هناک مندوحة فلا اشکال فی صحة الوضوء، إما بناءعلی القول بالترتب کما سلکه المحقق النائینی قدس سره فی أمثال المقام(2) ، أو بناءً علی ماهو الصحیح عندنا من انطباق المأمور به علیه کانطباقه علی سائر أفراده علی أساس ما ذکرناه من أن الواجب هو الجامع بین المقدور وغیر المقدور ولا تتوقف صحته علی القول بالترتب.

و أما إذا لم تکن هناک مندوحة فبناء علی ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن

ص:423


1- (1) - المباحث الاصولیة ج 4 ص 17 18.
2- (2) - أجود التقریرات ج 1 ص 316 317.

وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی، لایمکن الحکم بصحة الوضوء ولو بالترتب کما مرّ، و أما بناءً علی ما ذکرناه من عدم ثبوت اشتراط وجوب الوضوء بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی، إذ لو ثبت اشتراطه بها فرضاً لکان بمعنی عدم الاشتغال بضدّه الواجب لا بمعنی عدم وجود المنافی المولوی، وعلیه فلا مانع من الحکم بصحة الوضوء بالترتب، ومع الاغماض عن ذلک. وتسلیم أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی، إلاّ أنه حینئذٍ لایمکن الالتزام بالترتب بلحاظ الأمر الوجوبی، ولکن لا مانع من الالتزام به بلحاظ الأمر الاستحبابی کما مرّ، هذا کله فیما إذا لم یکن الفضاء مغصوباً، و أما إذا کان الفضاء مغصوباً فهل یصح الوضوء أو الغسل فیه أولا؟

فقد یقال ببطلان الوضوء باعتبار أن حرکات الید فیه تصرف فی الفضاء، ولکن لا وجه لذلک لأن حرکات الید فیه و إن کانت تصرفاً فیه إلا أنها مقدمة للوضوء ولیست متحدة معه، فإن الوضوء عبارة عن وصول الماء إلی البشرة و هو لیس مصداقاً للتصرف فی مال الغیر وما هو مصداق له هو حرکات الید و المفروض أنها مقدمة له ومباینة معه وجوداً هذا.

تفصیل السید الأستاذ قدّس سرّه بین الوضوء و الغسل

و قد فصل السید الاُستاذ قدس سره بین الوضوء و الغسل، فحکم بصحة الثانی بالترتب دون الأول، و قد أفاد فی وجه ذلک أن الغسل لایکون متحداً مع الحرام بشیء من أجزائه، لأن الحرام هو الکون فی الفضاء المغصوب و الغسل هو وصول الماء إلی البشرة، ومن الواضح إنه لیس مصداقاً للکون فیه، فإذن لایکون الواجب متحداً مع الحرام فی شیء حتی لایمکن الحکم بالصحة، و أما الوضوء فهو کالغسل فی غسل الوجه و الیدین فحسب لأن المأمور به فیها وصول

ص:424

الماء إلی البشرة و هو لایکون متحداً مع الحرام و هو کون المکلف فی الفضاء المغصوب، و أما فی المسح فهو یختلف عن الغسل بلحاظ أن حقیقته متقوّمة بإمرار الید فی الفضاء المغصوب فیکون متحداً مع الحرام، لأن امرار الید الذی هونحو تصرف فی الفضاء مصداق للواجب هو المسح، فلهذا لایمکن الحکم بصحة ولو ترتباً، فمن أجل ذلک یکون الوضوء فی الفضاء المغصوب باطلاً دون الغسل فیه، ولا فرق فی ذلک بین صورة الانحصار وعدم المندوحة وصورة عدم الانحصار ووجود المندوحة. فالنتیجة، أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من الفرق بین الوضوء و الغسل تام، نتیجة الملحق السادس عدة امور:

نتیجة الملحق السادس

الأول: إن المکلف إذا توضأ بالماء المغصوب عامداً ملتفتاً، فإن کان الوضوء اسماً للفعل الخارجی کان الواجب متحداً مع الحرام وجوداً فی مورد الاجتماع، وحینئذٍ فیقع التعارض بین اطلاق دلیل الوجوب واطلاق دلیل الحرمة وحیث إن الثانی شمولی فیقدم علی الأول إذا کانت هناک مندوحة، و إن کان اسماً للطهارة المسبّبة عن الأفعال الخارجیة لم یکن الواجب متحداً مع الحرام، وحینئذٍ فیقع التزاحم بینهما و المرجع فیه مرجحاته.

الثانی: إن ما عن جماعة من أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی وحرمة الغصب مشروطة بالقدرة العقلیة لا أصل له.

لما تقدم من أن وجوب الوضوء لیس مشروطاً بالقدرة الشرعیة، وعلی تقدیر اشتراطه بها لیس بمعنی عدم المنافی المولوی حتی لایمکن تصحیحه بالترتب أیضاً بل بمعنی عدم الاشتغال بالمنافی المولوی.

الثالث: إذا توضأ بالماء المغصوب جاهلاً، فإن کان جهله بسیطاً وکان قاصراًجاز تصرفه فیه ظاهراً، و أما وضوئه منه فهو مشکل بل ممنوع لعدم احراز

ص:425

الانطباق واحتمال أنه حرام ومبغوض فی الواقع، و إن کان مقصراً لم یجز تصرّفه فیه ظاهراً أیضاً، و إن کان جهلاً مرکباً وغافلاً عن أنه جاهل، فإن کان مقصراً، فالظاهر بطلان وضوئه تطبیقاً لقاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار، فإن مقتضی هذه القاعدة أنه مبغوض ومعاقب علیه فلایمکن التقرب به، و إن کان قاصراً فلایبعد صحة وضوئه لأنه غیر قابل للتکلیف کالناسی و الغافل.

الرابع: إذاتوضأبالماء المغصوب ناسیاً، فإن کان مقصراً فالظاهربطلان وضوئه، و إن کان قاصراً فلا اشکال فی صحة وضوئه به لأن تصرفه فیه مباح واقعاً.

الخامس: إذا توضأ من الإناء المغصوب، فإن کان بنحو الارتماس وقلنا بأن الوضوء الارتماسی بنفسه مصداق للحرام، حکم ببطلانه حتی فی صورة الانحصار وعدم المندوحة، و إن قلنا بأنه غیر متحد مع الحرام، فعندئذٍ لا مانع من الحکم بصحته ولو بالترتب، وما عن المحقق النائینی قدس سره من أنه لایمکن الحکم بصحته بالأمر الترتبی لأنه مشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی عدم المنافی المولوی، فقد تقدم أنه غیر مطابق للواقع.

السادس: أن الوضوء أو الغسل من آنیة الذهب و الفضة کالوضوء أو الغسل من الاناء المغصوب علی المشهور من حرمة التصرف فیها مطلقاً، و أما بناء علی ما هو الصحیح من أن الحرام إنما هو الأکل و الشرب فیها لامطلق التصرف، فإذن لامانع من الوضوء أو الغسل منها.

السابع: إن الوضوء فی المکان المغصوب صحیح مطلقاً إذا کانت هناک مندوحة، و أما إذا لم تکن فقد ذکر المحقق النائینی قدس سره أنه لایمکن تصحیحه ولوبالترتب، ولکن قد مرّ أنه غیر تام.

ملحقات مسألة الاجتماع (الملحق السابع)

الثامن: إن الوضوء فی الفضاء المغصوب باطل من جهة اتحادالمسح مع الحرام.

ص:426

الملحق السابع: فی العبادات المکروهة
الاستدلال علی جواز اجتماع الأمر و النهی بوقوع العبادات المکروهة

قد یستدل بوقوع العبادات المکروهة فی الشریعة المقدسة علی جواز اجتماع الأمر و النهی باعتبار أن وقوعها فی الشرع أدل دلیل علی امکان الاجتماع وجوازه، ضرورة أنه لولم یکن اجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء واحد لم یمکن اجتماع الوجوب و الکراهة، والکراهة والاستحباب فیه أیضاً کما فی النوافل المبتدأة ونحوها، لأن الأحکام الخمسة بأسرها متضادة فلایمکن اجتماع اثنین منها فی شیء واحد لا من ناحیة المبدء ولا من ناحیة المنتهی.

جواب المحقق الخراسانی قدّس سرّه

و قد أجاب عن ذلک المحقق الخراسانی قدس سره بجوابین:

1 - الإجمالی.

2 - التفصیلی.

أما الأول، فلأنه لابد من التصرف و التأویل فیما وقع فی الشرع مما ظاهره الاجتماع فی شیء واحد کالعبادات المکروهة بقرینة قیام البرهان القطعی علی استحالة الاجتماع فیه، هذا إضافة إلی أنها ظاهرة فی أن الاجتماع فیها بعنوان واحد و هذا خارج عن محل الکلام، فإن محل الکلام انما هو فی امکان الاجتماع واستحالته إذا کان بعنوانین لا بعنوان واحد، وأیضاً محل الکلام انما هو فیما إذاکانت هناک مندوحة، و أما إذا لم تکن فیه مندوحة فهو خارج عن محل الکلام و العبادات المکروهة کذلک، فإنه لابدل لها، فإذن هی خارجة عن محل الکلام فی المسألة(1).

الرد علی الجواب الأول

وفیه: أنه ما ذکره قدس سره من أنه لابدّ من التصرف و التأویل فیما ظاهره

ص:427


1- (1) - کفایة الاصول ص 161.

الاجتماع علی أساس استحالة اجتماع حکمین متضادین فی شیء واحد وجوداً وماهیّة صحیح، لأن نفس استحالة ذلک قرینة قطعیّة علی التصرف و التأویل فیه ورفع الید عن الظهور فی الاجتماع، و أما ما ذکره قدس سره من أن الاجتماع إذا کان بعنوان واحد فهو خارج عن محل الکلام، فإنه و إن کان صحیحاً کبرویاً إلاّ أنه لاینطبق علی العبادات المکروهة، لأن الاجتماع فیها یکون بعنوانین غایة الأمر أن النسبة بینهما عموم وخصوص مطلق لا من وجه، و قد تقدم أنه لاوجه لتخصیص النزاع فی المسألة فیما إذا کانت النسبة بین العنوانین عموماً من وجه، و أما ما ذکره قدس سره من تخصیص النزاع فی المسألة بما إذا کانت هناک مندوحة ممالاوجه له بل لایرجع إلی معنی محصّل، ضرورة أنه لادخل لقید المندوحة فی امکان الاجتماع واستحالته، والمفروض أن محل النزاع فی المقام انما هو فی امکان اجتماع الأمر و النهی واستحالته سواءً أکانت هناک مندوحة أم لا هذا جوابه قدس سره اجمالاً وما فی هذا الجواب.

جواب المحقق الخراسانی قدّس سرّه التفصیلی

و أما الثانی، و هو جوابه التفصیلی، فقد أفاد قدس سره أن العبادات المکروهة علی أقسام:

أقسام العبادات المکروهة

الأول: العبادات المکروهة التی لا بدل لها کصوم یوم عاشوراء و النوافل المبتدأة.

الثانی: العبادات المکروهة التی لها بدل کالصلاة فی الحمام ومواضع التهمة ونحوهما.

الثالث: العبادات المکروهة التی تکون النسبة بین متعلقی الأمر و النهی فیها عموماً من وجه کالأمر بالصلاة مثلاً و النهی عن الکون فی الحمام أو مواضع

ص:428

التهمة(1).

أما القسم الأول، العبادات المکروهة التی لا بدل لها

فیظهر منه قدس سره أن المراد من النهی المتعلق بالعبادة فی هذا القسم لیس نهیاً حقیقیاً ناشئاً عن وجود مفسدة فی متعلقه، لأن النهی الحقیقی سواءً أکان تحریمیاً أم کان تنزیهیاً ناشیء عن مبغوضیة متعلقه واتصافه بالمفسدة، غایة الأمر إذا کان تنزیهیاً کانت مفسدته ناقصة، و إذا کان تحریمیاً کانت تامة، والنهی المتعلق بصوم یوم عاشوراء أو النوافل المبتدأة لم ینشأ عن وجود مفسدة فیه ومبغوضیته ولو ناقصة وإلاّ فلایمکن التقرّب به و الحکم بصحّته، لأن المعتبر فی صحة العبادة أمران:

الأول: أن یکون العمل محبوباً فی نفسه.

الثانی: أن یقصد به القربة إلی اللَّه تعالی، و أما إذا لم یکن الفعل محبوباً فی نفسه بأن یکون مکروهاً ومرجوحاً فلایمکن التقرب به، وعلی هذا فلوکان النهی عن صوم یوم العاشوراء نهیاً حقیقیاً ناشئاً عن وجود مفسدة ومبغوضیة فیه فی الجملة، فلایمکن التقرب به و الحکم بصحّته، بداهة أنه لایمکن التقرّب بالشیء المکروه و المبغوض و إن کان ناقصاً بل لابد أن یکون راجحاً ومحبوباً ولو فی الجملة، لأن رجحان الفعل شرط مقوم للعبادة و القرینة علی أن هذا النهی صوری لاحقیقی هی تسالم الأصحاب علی صحة صوم یوم عاشوراء و النوافل المبتدأة، فإن هذا التسالم قرینة علی أن المراد من النهی فیهما هوالأمر بترکهما حقیقة لما فیه من الرجحان فیکون الأمر فی قالب النهی، فإذن یکون النهی صوریاً وفی الحقیقة أمر بترکهما لأنه راجح وذو مصلحة فیطلب المولی الترک بلسان النهی، وعلی هذا فالصوم یظل باقیاً علی ما هو علیه من المصلحة و المحبوبیة ولایقل فی

ص:429


1- (1) - کفایة الاصول ص 162 163.

ذلک عن سائر أفراد الصوم المستحب وکذلک النوافل المبتدأة.

ثم إن هذا الرجحان إما أن یکون بملاک انطباق عنوان راجح علیه کعنوان مخالفة بنی أمیّة باعتبار أنهم کانوا ملتزمین بصوم یوم عاشوراء بعنوان الشکروالفرح و التبرک به، فمن أجل ذلک کان عنوان المخالفة لهم عنواناً راجحاً وذات مصلحة، فیکون الترک کالفعل محبوب ومشتمل علی مصلحة وموافق للغرض و إن کانت مصلحة الترک أقوی من مصلحة الفعل باعتبار أنه یترتب علیه عنوان المخالفة لهم و هو محبوب عند اللَّه تعالی وذو مصلحة أقوی من مصلحة الفعل و هوالصوم فی هذا الیوم، فإذن یکون الفعل و الترک من المستحبین المتزاحمین، وحیث إن المکلف لایتمکن من الجمع بینهما فی مقام الامتثال، فیکون مخیراً بینهما وهناک قرینة علی أن ترک هذه العبادات أهم وأرجح من الاتیان بها وتلک القرینة هی التزام الأئمة علیهم السلام بترکها، و هذا الالتزام منهم یکشف لامحالة عن رجحان الترک من الفعل حیث لایحتمل أن یکون هذا الالتزام منهم بلامبرر وجزافاً، فلامحالة یکون المبرر له أرجحیة الترک أو یکون هذا الرجحان بملاک أنه ملازم للعنوان المذکور و هو عنوان مخالفة بنی أمیة فی الخارج، وعلی هذا فیکون رجحان الترک بالعرض لا بالذات، لأن الراجح انما هو العنوان الملازم له دون نفسه و الأمر فی الحقیقة متعلق بذلک العنوان لا به، وحیث إن هذا العنوان الملازم مشتمل علی مصلحة أقوی من مصلحة الفعل، فلهذا یکون الترک أرجح منه.

والخلاصة: أن النهی المتعلق بالصوم فی یوم عاشوراء أو النوافل المبتدأة لایمکن أن یکون نهیاً حقیقیاً، لاستحالة اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد للمضادة بینهما بلحاظ عالم المبادی وعالم الاقتضاء، فلذلک لابد من التصرف فیه وحمله علی أنه فی الحقیقة أمر بصورة النهی، و هذا الأمر اما مولوی ناشیء

ص:430

من المصلحة فی الترک أو فی العنوان الملازم له أو إرشادی، فیکون ارشاداً إلی رجحان الترک بالذات أو بالعرض، فعلی الأول یقع التزاحم بین الأمرین الاستحبابین. أحدهما: متعلق بالعبادات. والآخر: بترکها، إما من جهة انطباق عنوان راجح علیه أو من جهة أنه ملازم لعنوان وجودی راجح فی الخارج، وعلی الثانی یقع التزاحم بین الملاکین فی مرحلة المبادی هذا(1).

إیراد المحقق النائینی قدّس سرّه علی المحقق الخراسانی قدّس سرّه

و قد أورد علیه المحقق النائینی قدس سره بأن التزاحم بین النقیضین هما الفعل و الترک غیر معقول، ضرورة أن الأمر بهما معاً تعییناً محال و الأمر بأحدهما تخییراً طلب الحاصل، و هو أیضاً محال، فإذن لایمکن فرض التزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال، لأنه إذا فرض اشتمال کل من الفعل و الترک علی مصلحة وعدم امکان الأمر بهما معاً ولا بأحدهما، فلا محالة یکون التزاحم بین الملاکین فی مرحلة المبادی ویکون المؤثر فی نظر الأمر احداهما علی فرض کونها أقوی وأرجح من الاُخری، وعلی تقدیر التساوی تسقط کلتاهما معاً عن التأثیر، فإذن بطبیعة الحال یقع التزاحم بین المصلحتین فی مقام تأثیرهمافی جعل الحکم لا التزاحم بین الحکمین فی مرحلة الامتثال، لاستحالة جعل حکمین متناقضین مطلقاً تعییناً وتخییراً.

و إن شئت قلت: أن الملاک القائم بکل من الفعل و الترک إن کان مساویاً مع الآخر استحال تأثیرهما، لأن تأثیر کلیهما معاً مستحیل لاستلزامه الأمر بالنقیضین وتأثیر أحدهما المعین دون الآخر ترجیح من غیر مرجح وتأثیر أحدهما بنحو التخییر طلب الحاصل، و إن کان أحدهما أهمّ من الآخر تعین تأثیره دون غیره(2).

ص:431


1- (1) - کفایة الاصول ص 163 165.
2- (2) - أجود التقریرات ج 1 ص 364 365.

و قد ذکرنا فی محله أن التزاحم إذا کان بین الملاکین فهو داخل فی باب التعارض باعتبار أن جعل کلا الحکمین غیر معقول، وعلیه فیکون الترجیح بید المولی الذی هو عالم بالواقع بکافة خصوصیاته وأشکاله ولایمکن تطبیق قواعد باب التزاحم علی التزاحم بین الملاکین. ومن هذا القبیل الضدّین الذین لا ثالث لهما، فإنه إذا فرض اشتمال کل منهما علی مصلحة فیما أنه یستحیل تعلق الأمر بکل منهما فی زمن واحد. فلا محالة یکون المؤثر بنظر المولی إحداهما إذا کانت أقوی وأهمّ من الاُخری، وعلی تقدیر التساوی تسقط کلتاهما عن التأثیر بداهة استحالة تعلق الأمر بأحد الضدّین المذکورین بنحو التخییر و البدلیة لأنه لغووجزاف. کما یستحیل تعلقه بکلیهما معاً، فلهذا یکون التزاحم فی المقام ملاکیاً لاحقیقیاً فی عالم الامتثال، ومن هذا القبیل أیضاً المتلازمان الدائمییان فی الخارج، فإنه لایمکن جعل حکمین مختلفین لهمابأن یجعل الوجوب لأحدهما و الحرمة للآخرلاتعییناً ولاتخییراً لاستلزام الأول التکلیف بالمحال، والثانی طلب الحاصل.

فالنتیجة، إن التزاحم لایمکن فی مرحلة الامتثال بین النقیضین ولا بین الضدّین الذین لیس لهما ثالث ولا بین المتلازمین فی الوجود الخارجی، و أما التزاحم بین الملاکین فی مرحلة المبادی و إن کان متصوراً فی الجمیع إلاّ أنه داخل فی باب التعارض و المرجع فیه قواعده لا قواعد باب المزاحمة، هذا من ناحیة.

جواب آخر للمحقق النائینی قدّس سرّه

ومن ناحیة اخری، قد أجاب عن ذلک المحقق النائینی قدس سره بجواب آخرمستهلاً ببیان مقدمة و هی أنه لا شبهة فی أن الأمر النذری المتعلق بعبادة کصلاة اللیل ونحوها، متعلق بعین ما تعلق به الأمر الاستحبابی باعتبار أن عنوان النذرحیثیة تعلیلیة لا تقییدیة، والأمر النذری متعلق بذات العبادة المنذورة المقیدة

ص:432

بعنوان الوفاء بالنذر(1). ونتیجة ذلک، لا محالة أنه کان الأمر الاستحبابی فی الوجوبی لاستحالة أن یکون کل من الأمرین محفوظاً بحده بعدما کان متعلق کلیهما واحداً وجوداً وماهیةً، ولازم الاندکاک والاتحاد هو صیرورتها أمراً واحداً وجوبیاً عبادیاً باعتبار أن کل واحد منهما یکتسب من الآخر ما هو فاقد له، ونکتة ذلک واضحة إذ لو لم یندک أحدهما بالآخر لزم اجتماع الضدّین فی شیء واحد و هو محال، هذا کله فی النذر وما شاکله کالعهد و الشرط.

و أما الأمر الایجاری، فهو یختلف عن الأمر النذری، فإنه تعلق بغیر ما هومتعلق الأمر العبادی، فإن متعلقه ذات العبادة ومتعلق الأمر الإیجاری العبادة المقیدة بقصد النیابة عن الغیر، فتکون جهة الایجارة جهة تقییدیة لا تعلیلیة ومن هنا لو صلی المستأجر ولم ینو أنه صلّی عن الغیر نیابة لم یف بالإجارة لأن ما أتی به من الصلاة لم یکن مورداً لها ومتعلقاً للأمر الإیجاری، وعلی هذا فلا اندکاک بین الأمرین لأن متعلق أحدهما غیر متعلق الأمر والاندکاک منوط بأن یکون متعلق کلا الأمرین واحداً.

والخلاصة: أن الأمر الطاریء علی أمر آخر، فإن کان متعلقاً بعین ما تعلّق به الأمر الأول کالأمر النذری ونحوه فلامناص من الالتزام بالاندکاک والاتحاد، و إن کان متعلقاً بغیر ماتعلق به الأمر الأول، فلا موضوع للاندکاک والاتحاد کما فی موارد الاجارة، فإن الأمر الایجاری تعلق بإتیان العبادة بداعی الأمر المتوجه إلی المنوب عنه وإلاّ فلاترجع فائدة الاجارة إلیه، فلو أتی بالصلاة بداعی الأمر المتعلق بذاتها لم تسقط عن ذمة المستأجر وانما تسقط إذا أتی بها عنوان النیابة عنه

ص:433


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 365.

وبداعی الأمر المتوجه إلیه من قبل الإیجارة، وبعد بیان هذه المقدمة قال قدس سره(1): إن الأشکال فی اتصاف العبادة بالکراهة فی هذا القسم انما نشأ من تخیل أن متعلق النهی فیه عین متعلق الأمر، فإذن لابد من التصرف و التأویل منه، ولکن الأمرلیس کذلک لأن متعلق الأمر فیه ذات العبادة ومتعلق النهی فیه لیس ذات العبادة، ضرورة أنه لامفسدة فی فعلها ولا مصلحة فی ترکها بل التعبّد بهذه العبادة، فإنه منهی عنه لما فیه من المشابهة و الموافقة لبنی أمیّة.

وعلی هذا، فلا تنافی بینهما، لأن متعلق النهی فی طول الأمر و هو التعبّد بها أی الاتیان بها بداعی أمرها الاستحبابی أو الوجوبی المتعلق بذاتها، فإنه منهی عنه لما فیه من مفسدة المشابهة و الموافقة لهم، فإذن یکون النهی فی هذا القسم من العبادات المکروهة علی ضوء نظریة المحقق النائینی قدس سره نهی مولوی حقیقی ناشیء عن وجود مفسدة فی متعلقه و هو التعبد بها، بینما یکون علی ضوء نظریة المحقق الخراسانی قدس سره نهی صوری لاحقیقی، فإنه فی الحقیقة إما أمر مولوی متعلق بالترک لما فیه من المصلحة و الرجحان أکثر مما فی الفعل أو أمر ارشادی هذا.

التعلیق علی نظریة المحقق الخراسانی و المحقق النائینی قدّس سرّه

ولنا تعلیق علی کلتا النظریتین فی المسألة، هما نظریة المحقق الخراسانی قدس سره ونظریة المحقق النائینی قدس سره، أما التعلیق علی النظریة الاُولی فیقع فی مرحلتین:

هل یختص التزاحم بالخطابات الوجوبیة؟

الاُولی: هل یختص التزاحم وأحکامه بالخطابات الوجوبیة وعدم جریانه فی الخطابات الاستحبابیة أو لا؟ فیه قولان:

فقد اختار السید الاُستاذ قدس سره القول الأول واختار کل من المحقق الخراسانی و المحقق النائینی القول الثانی.

ص:434


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 367.

و أما السید الاُستاذ قدس سره فقد قال فی وجه ذلک أنه لامقتضی للتزاحم بین اطلاقات الخطابات الاستحبابیة، إذ لا مانع من أن تظل اطلاقاتها بحالها بلاضرورة تتطلب تقییدها لباً حیث إنه لایلزم من بقائها علی اطلاقها محذور التکلیف بغیر المقدور باعتبار أنه یجوز ترک المستحب علی کل حال، ولهذا لاتنافی بین اطلاقاتها ولایلزم من بقائها أی محذور لکی یتطلب تقییدها بمقید لبی بأن یکون اطلاق کل منهما مقیداً لباً بعدم الاشتغال بضد مستحب لایقل عنه فی الأهمیة کما هو الحال فی الخطابات الوجوبیة، فإنه لایمکن بقاء تلک الخطابات علی اطلاقها للتنافی بینها، ومن هنا یکون اطلاق کل خطاب شرعی وجوبی مقیداً لباً بعدم الاشتغال بضد واجب لایقل عنه فی الأهمیّة، و هذه النکتة غیرمتوفرة فی الخطابات الاستحبابیة(1).

و إن شئت قلت: أن الخطابین المتعلقین بالضدین کالصلاة و الإزالة مثلاً فإن کانا وجوبیین فلایمکن الأخذ بإطلاق کلیهما معاً، لاستلزام ذلک محذور التکلیف بغیر المقدور کطلب الجمع بین الضدین، فلذلک تقع المزاحمة بین اطلاقیهما، وحینئذٍ فلابد من تقیید اطلاق کل منهما بعدم الاشتغال بالآخر لباً إذا کانا متساویین، وتقیید اطلاق المهم بعدم الاشتغال بالأهم إذا کانا مختلفین بأن یکون أحدهما أهم من الآخر. و إن کان الخطابان استحبابیین فلا مانع من الأخذ بإطلاق کلیهما معاً ولاموجب للتقیید، حیث لایلزم من بقاء اطلاق کل منهما علی حاله محذورالتکلیف بغیرالمقدور باعتبارأنه یجوز للمکلف ترک المستحب علی کل حال.

المناقشة فی کلام السید الأستاذ قدّس سرّه

وللمناقشة فی ذلک مجال وذلک لأن منشأ التزاحم بین الخطابین المتعلقین بالضدّین أحد امور:

ص:435


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 326 327.

الأول: أن منشأه عدم جواز ترک العمل بإطلاق کلا الخطابین معاً، فإنه و إن لم یقدر علی امتثال کلیهما إلاّ أنه قادر علی امتثال أحدهما فلایجوز له ترکه، فلوترکه کان عاصیاً، فمن أجل ذلک تقع المزاحمة بینهما وحینئذٍ فلابد من الرجوع إلی أحکامها کتقیید اطلاق کل منهما بعدم الاشتغال بالآخر لباً إذا کانا متساویین وتقیید اطلاق المهم بعدم الاشتغال بالأهم کذلک إذا کانا متفاضلین، وعلی ضوء هذا المنشأ فیختص باب التزاحم بالحکمین فی مرحلة الامتثال إذا کانا وجوبیین علی أساس أنه لایجوز له ترک کلیهما معاً، و أما إذا کانا مستحبین فلا مانع من ترک کلیهما معاً ولهذا لاموجب للتزاحم بینهما.

الثانی: إن منشأ التزاحم محذور طلب الجمع بین الضدین، ولا فرق فیه بین أن یکون الخطابان المتعلقان بالضدین وجوبیین أو استحبابیین، لوضوح أن طلب الجمع بین الضدین مستحیل سواءً أکانا واجبین أو مستحبین، لأنه لغووجزاف وعلی هذا فإذا تعلق أمرین بالضدین کالصلاة والازالة مثلاً فی وقت، واحد فمقتضی اطلاقهما طلب الجمع بینهما فی زمن واحد و هو مستحیل، ولا فرق فی استحالة ذلک بین أن یکون طلب الجمع بینهما بنحو اللزوم أو الاستحباب، غایة الأمرأن ملاک الاستحالة علی الأول لزوم التکلیف بغیر المقدور، وعلی الثانی اللغویة، وعلی هذا فبطبیعة الحال یقع التزاحم بینهما ولابد حینئذٍ من علاجه بتقیید اطلاق کل منهما بعدم الاشتغال بالآخر إذا کانا متساویین وإلاّ فتقیید اطلاق الأمر بالمهم بعدم الاشتغال بالأهم، فإذن لایختص التزاحم علی ضوء هذا الملاک بالخطابات الوجوبیة بل یعمّ الخطابات الاستحبابیة أیضاً.

الثالث: إن منشأ التزاحم بین الخطابات الشرعیة هو أن الغرض منها تحریک المکلف وانبعاثه نحو الاتیان بمتعلقها فی الخارج، وفی کل مورد لایمکن التحریک

ص:436

والانبعاث لایمکن صدور الخطاب من المولی لأنه لغو، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الخطاب وجوبیاً أو استحبابیاً، إذ کما أن الغرض من الخطاب المولوی الوجوبی ذلک، کذلک من الخطاب المولوی الاستحبابی، وعلی ضوء هذا الملاک فالتزاحم کما یقع بین خطابین وجوبیین کذلک یقع بین خطابین استحبابیین، وذلک لأن الخطابین إذا کانا وجوبیین فلایمکن اطلاق أحدهما حتی لحال الاشتغال بالآخر المساوی أو الأهم منه، لأن الغرض منه إن کان الاتیان بمتعلقه فی عرض الاتیان بالآخر جمعاً فهو مستحیل، و إن کان صرف المکلف عن الاشتغال بالآخر، فهو جزاف من المولی وترجیح من غیر مرجح أو ترجیح المرجوح علی الراجح لفرض أنه اما مساو له أو مرجوح، وکذلک الحال إذا کانا استحبابیین فإنه لایمکن اطلاق أحدهما حتی لحال الاشتغال بالآخر، لأن الغرض منه إن کان الاتیان بمتعلقه فی عرض الاتیان بالآخر جمعاً فهو مستحیل لأنه من الجمع بین الضدین ویستحیل أن یکون محرکاً نحوه کذلک ومع استحالة ذلک اشتمال اطلاقه و هذا معنی أنه مقید بعدم الاشتغال به لباً، و إن کان صرف المکلف عن الاشتغال بالآخر فهو ترجیح بلا مرجح أو ترجیح المرجوح علی الراجح کل ذلک من المولی الحکیم مستحیل.

عدم اختصاص التزاحم بالخطابات الوجوبیة

فالنتیجة، إن التزاحم علی ضوء هذا الملاک لایختص بالخطابات الوجوبیة بل یعمّ الخطابات الاستحبابیة أیضاً، وبعد ذلک نقول أن الصحیح من هذه الأسباب و المناشیء هو المنشأ الثالث، فلنا دعویان:

الاُولی: أن المنشأ الأول و الثانی غیر صحیح.

الثانیة: الصحیح هو المنشأ الثالث.

أما الدعوی الاُولی، فلأن التزاحم بین خطابین فی مرحلة الامتثال لایمکن أن

ص:437

یکون مستنداً إلی المنشأ الأول بل هو مستند إلی منشأً آخر لایرتبط به، و هو أن الغرض من اطلاق کل من الخطابین المتعلقین بالضدّین لحال الاشتغال بالآخر ان کان الجمع بینهما فی زمن واحد فهو محال، لأنه من طلب الجمع بین الضدین فیکون لغواً، و إن کان الغرض منه صرف المکلف عن الاشتغال بالآخر فهو خلف فرض أنه لایقل عنه فی الأهمیة، و هذا برهان علی تقیید اطلاق کل منهما بعدم الاشتغال بالآخر إذا کانا متساویین وتقیید اطلاق المهم بعدم الاشتغال بالأهم إذاکانا متفاضلین، و هذا البرهان مشترک بین أن یکون الخطابان المتعلقان بالضدّین وجوبیین أو استحبابیین، ضرورة أن هذا البرهان لایرتبط وجوداً وعدماً بجوازترک کلا الاطلاقین معاً وعدم جوازترک کلیهما کذلک هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن التزاحم لایمکن أن یکون مستنداً إلی المنشأ الثانی أیضاً بشکل مباشر و هو لزوم طلب الجمع بین الضدّین أو التکلیف بغیر المقدور فإنه لایصلح أن یکون سبباً مباشراً للتزاحم فحسب، فإنه کمایصلح أن یکون سبباً له یصلح أن یکون سبباً للتعارض بین الاطلاقین، فالسبب المباشر له هو البرهان المذکور، وذلک لأن جعل خطابین متعلقین بالضدّین اتفاقاً ممکن فی مرحلة الجعل ولا تضادّ بینهما ذاتاً، والتنافی إنّما هو بین اطلاقی الخطابین فی مرحلة الامتثال وخروج هذین الاطلاقین من باب التعارض إلی باب التزاحم منوط بأمرین:

الأول: التقیید اللبی العام و هو أن کل خطاب شرعی مقید لباً بعدم الاشتغال بضدّ واجب لایقل عنه فی الأهمیة، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الخطاب الشرعی وجوبیاً أو استحبابیاً.

الثانی: الترتب، فإذن کون اطلاقی الخطابین من باب التزاحم دون باب التعارض مبنی علی هذین الأمرین مباشرة لا علی السبب الأول ولا الثانی.

ص:438

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، و هی أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من اختصاص باب التزاحم بالخطابات اللزومیة دون الأعم منها من الأحکام الاستحبابیة غیر تام، ومن ذلک یظهر صحة الدعوی الثانیة، وعلی هذا فما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره و المحقق النائینی قدس سره من جریان أحکام التزاحم فی المستحبات أیضاً هو الصحیح علی ما بینّاه فی وجه ذلک.

و أما الکلام فی المرحلة الثانیة، فلأن ما ذکره قدس سره من أن النهی المتعلق بالعبادة المکروهة فی هذا القسم لیس نهیاً حقیقیاً بل هو اما بمعنی الأمر لباً و إن کان نهیاً صورة أو أنه ارشاد إلی رجحان الترک کالفعل، والقرینة علی ذلک هی تسالم الفقهاء علی صحة صوم یوم عاشوراء و النوافل المبتدءة، إذ لو کان النهی عنهانهیاً حقیقیاً وناشئاً عن مفسدة ومبغوضیة فی متعلقه لم یکن الحکم بصحتهما إذ لارجحان فیهما حینئذٍ المعتبر فی صحة العبادة فلایمکن المساعدة علیه، لأن التسالم المذکور لایصلح أن یکون قرینة علی ذلک وانما هو قرینة علی أن النهی فی هذا القسم لم ینشأ عن مفسدة فی ذات العبادات و أما أنه بمعنی الأمر أو ارشاد فلا، فإذن لا مبرر لهذا الحمل بل الظاهر أن النهی عنها نهی حقیقی ناشیء عن مفسدة فی متعلقه بعنوان ثانوی لا أولی و هو انطباق عنوان المشابهة و الموافقة لبنی أمیّة علیه و هذا العنوان مبغوض ومرجوح، وعلی هذا فالصوم بعنوان أولی راجح وبعنوان ثانوی مرجوح، وعلیه فلا منافات بین صحة صوم یوم عاشوراء وبین کون النهی عنه نهیاً حقیقیاً. ومن هنا یظهر أنه لاوجه لحمل هذا النهی علی الارشاد، لأنه بحاجة إلی قرینة وإلاّ فهو فی نفسه ظاهر فی المولویة کالأمر.

هذا إضافة إلی أنه لم تثبت کراهة الصوم یوم عاشوراء، وذلک لأن الروایات الناهیة عنه بأجمعها ضعیفة من ناحیة السند فلایمکن الاعتماد علیها، وبذلک یظهر

ص:439

حال النوافل المبتدأة أیضاً، فإن الروایات الناهیة عنها تماماً من الروایات الضعاف سنداً فلایمکن الاعتماد علی شیء منها.

حرمة صوم عاشوراء إذا کان بعنوان الفرح و الشکر

والخلاصة أنه لم تثبت کراهة صوم یوم عاشوراء، نعم إذا کان صومه بعنوان الفرح و الشکر کما صام بنی امیة بهذا العنوان فعندئذٍ لاشبهة فی حرمته لا أنه مکروه ومرجوح فقط، و أما إذا لم یکن بهذا العنوان بل بعنوان استحباب الصوم فی نفسه وفی کل یوم فلا کراهة فیه فضلاً عن الحرمة، وعلی هذا فلو تمّت الروایات الناهیة عنه من ناحیة السند، فلابد من أن یکون النهی عنه فیها الصوم المعهود بین بنی امیّة و هو الصوم فیه بعنوان الفرح و الشّکر و الصوم بهذا العنوان محرم ومبغوض لا أنه مکروه، کما أن الأظهر عدم ثبوت کراهة النوافل المبتدأة أیضاً، ودعوی أن روایات المسألة و إن کانت ضعیفة من ناسحة السند إلاّ أنه یمکن الحکم بالکراهة من جهة قاعدة التسامح فی أدلة السنن.

مدفوعة، أولاً: أن هذه القاعدة غیر ثابتة فی نفسها. وثانیاً: أنها لاتشمل الروایات الناهیة الضعیفة، هذا کله فی التعلیق علی نظریقة المحقق الخراسانی قدس سره.

التعلیق علی نظریة المحقق النائینی قدّس سرّه

و أما التعلیق علی النظریة الثانیة، و هی نظریة المحقق النائینی قدس سره، فتارة یقع فی الأمر النذری المتعلق بالعبادة المستحبة واُخری فی الأمر الإیجاری المتعلق بمطلق العبادة.

أما الکلام فی الأول، فلأن ما ذکره قدس سره من أن الأمر النذری حیث إنه تعلق بعین ما تعلق به الأمر الاستحبابی فیندک أحدهما فی الآخر فیصبحان أمراً واحداً وجوبیاً عبادیاً، لأن کلاً منهما یکتسب من الآخر ما هو فاقد له غیر تام وذلک لأن الاندکاک والاتحاد انما یتصور فی الاُمور الواقعیة الخارجیة کالبیاض و السواد و الحلاوة ونحوها، و أما الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها فی

ص:440

الخارج ماعدا اعتبار المعتبر مباشرة فی عالم الذهن والاعتبار فلایتصور الاندکاک بینها، بأن یندک اعتبار مع اعتبار آخر ویصبحان اعتباراً واحداً مغایراً لهما. ضرورة أن هذا غیر معقول فی نفسه فی الأمر الاعتباری مضافاً إلی أنه فعل مباشر للمعتبر فی عالم الاعتبار و الذهن، وفرض الاتحاد بین الاعتبارین وصیرورتهما اعتباراً ثالثاً خلف فرض کونه فعلاً اختیاریاً مباشراً.

وعلی هذا فإن أراد قدس سره من الاندکاک، الاندکاک فی مرحلة الفعلیة فیرد علیه، أنه لاموضوع له فی هذه المرحلة إذ لاوجود للحکم فیها لکی یندک مع الآخر، لأن الحکم أمر اعتباری وموطنه عالم الاعتبار و الذهن دون عالم الخارج وإلاّ لکان خارجیاً و هو کماتری، ولهذا قلنا: أن المراد من فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج فعلیة فاعلیته ومحرکیته فیه لا نفسه، ضرورة أنه لایعقل وجوده فی الخارج، نعم إذا اجتمع الوجوب والاستحباب فی شیء واحد تندک فاعلیة أحدهما فی فاعلیة الآخر فیصبحان فاعلاً واحداً ومحرکاً فارداً فی الخارج أقوی من فاعلیة کل واحد منهما بحده، ولکن ذلک یکون بحکم العقل فإنه یحکم بأن فاعلیة کلیهما معاً فی الخارج أقوی من فاعلیة کل واحد منهما بحده الخاص فیه، و هذا لیس من اندکاک حکم مع حکم آخر واکتساب کل منهما من الآخر ماهو فاقد له.

فالنتیجة، أنه لا موضوع للاندکاک فی مرحلة الفعلیّة، و إن أراد به الاندکاک فی مرحلة الجعل والاعتبار، ففیه أن الاندکاک فی هذه المرحلة غیر معقول لأن کل حکم فعل اختیاری للمولی مباشرة ولایعقل اندکاکه مع حکم آخروصیرورتهما حکماً ثالثاً لایکون معتبراً من قبل المولی، لأنه خلف کما عرفت، و إن أراد به الاندکاک فی مرحلة المبادی بأن تندک مصلحة النذر فی

ص:441

مصلحة الندب فی هذه المرحلة، کما إذا قامت مصلحة النذر بعین ما کانت مصلحة الندب قائمة به، فهو و إن کان أمراً معقولاً لأن مبادیء الأحکام کالمصالح و المفاسد من الاُمور التکوینیة ولا مانع من الالتزام بالاندکاک فیها إذااجتمع اثنان منهما فی شیء واحد، إلاّ أن فی المقام لاتجتمع مصلحة النذر مع مصلحة الندب فی شیء واحد حتی تندک احداهما فی الاُخری وتصبحان مصلحة واحدة أقوی ویجعل المولی حکماً واحداً تعبدیاً علی طبقها، وذلک لأن المصلحة النذریة قائمة بالفعل بعنوان ثانوی و هو عنوان المنذور، و قد تقدم أن عنوان النذر جهة تقییدیة للملاک فی مرحلة المبادی وتعلیلیة للحکم فی مرحلة الجعل والاعتبار بینما المصلحة الندبیة قائمة بالفعل بعنوان أوّلی، فإذن لاموجب لاندکاک احداهما فی الاُخری. فالنتیجة، أن ما ذکره قدس سره من اندکاک الأمر النذری بالأمر الندبی أو الوجوبی العبادی لایرجع إلی معنی محصّل.

و أما الکلام فی الثانی، و هوماذکره المحقق النائینی قدس سره من أن الأمر الایجاری تعلق بغیر ما تعلق به الأمر العبادی، فإن الأول تعلق بالعبادة معنونة بعنوان النیابة عن الغیر. والثانی، تعلق بذات العبادة فلا موجب لاندکاک أحدهما فی الآخر.

إیراد السید الأستاذ قدّس سرّه علی المحقق النائینی قدّس سرّه

فقد أورد علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن المحقق النائینی قدس سره قد غفل عن الأمر الاستحبابی النیابی المتعلق بالعبادة بعنوان النیابة و هو الأمر الاستحبابی الموجه إلی کل مکلف بالصلاة و الصیام و الحج نیابة عن غیره من أقربائه وأصدقائه وغیرهم من المؤمنین، ومتعلق هذا الأمر و الأمر الایجاری واحد لأن الأمر الایجاری الوجوبی المتوجه إلی النائب تعلّق بعین ما تعلق به هذا الأمر الاستحبابی العبادی، وعلیه فبطبیعة الحال یندک أحدهما فی الآخر ویصبحان أمراً واحداً وجوبیاً عبادیاً، لأن کلاً منهما یکتسب من الآخر ما هو فاقد له، فما

ص:442

تعلیق علی السید الأستاذ قدّس سرّه

ذکره المحقق النائینی قدس سره فی المقام مبنی علی الغفلة عن هذا الأمر الاستحبابی النیابی(1) ، وهنا تعلیق علی ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره، اما ما ذکره من أن الأمرالایجاری تعلّق بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابی النیابی الذی هو مفعول عنه فی کلام المحقق النائینی قدس سره فإنه صحیح.

و أما ما ذکره قدس سره من أن الأمر الاستحبابی النیابی تعبّدی، فهو غیر تام وذلک لأن تعبّدیة الحکم مرتبطة بأحد عنصرین:

الأول: أن یکون قصد القربة مأخوذاً فی متعلّقه کسائر أجزائه بناءً علی امکان ذلک کما هو الصحیح.

الثانی: إن قصد القربة و إن لم یکن مأخوذاً فیه إما من جهة عدم امکان أخذه فیه أومن جهة أنه لادلیل علیه ولکن اتصافه بالتعبّدی انما هو من ناحیة ملاکه، فإنه لایحصل فی الواجب التعبّدی إلاّ بالاتیان به بقصد القربة بینما هو یحصل فی الواجب التوصلی مطلقاً و إن لم یقصد به القربة وکلا العنصرین غیرمتوفر فیه.

أما العنصر الأول، فلأن المفروض ان قصد القربة غیر مأخوذ فی متعلق هذا الأمر الاستحبابی النیابی وإنما هو مأخوذ فی متعلق الأمر المتوجّه إلی المنوب عنه، و إن شئت قلت: ان ذات متعلق هذا الأمر الاستحبابی عبادة فی المرتبة السابقة ولا تتوقف عبادیتها علی کون هذا الأمر عبادیاً.

و أما العنصر الثانی، فلأن حصول الغرض من الاتیان بصلاة الغیر أو صیامه أو حجّه لایتوقف علی قصد امتثال هذا الأمر الاستحبابی بل یکفی الاتیان بهابقصد فراغ ذمّته و إن کان غافلاً عن هذا الأمر، فلذلک لایکون هذا الأمر أمراً

ص:443


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 319.

عبادیاً هذا، والصحیح أن هذا الأمر الاستحبابی النیابی تعبّدی کما ذکره السیدالاُستاذ قدس سره وذلک لأن مشروعیة العبادات عن الغیر ومحوبیتها انما هی مستفادة من هذا الأمر الاستحبابی، ومن الواضح أنه لایسقط إلاّ بالاتیان بها نیابة عن غیره بقصد القربة، و أما الأمر بها المتوجه إلی المنوب عنه فهو ساقط بسقوط موضوعه فلایصلح أن یکون مقرّباً و هذا ظاهر.

و أما ما ذکره قدس سره من اندکاک هذا الأمر بالأمر الإیجاری، فقد تقدّم أن الاندکاک فی مرحلة المبادی و إن کان أمراً معقولاً إلاّ أنه غیر واقع کما عرفت، و أما الاندکاک فی مرحلة الجعل والاعتبار فهو غیر معقول وکذلک الاندکاک فی مرحلة الفعلیّة، فإنه لا موضوع له إلاّ أن یکون المراد من الاندکاک فی هذه المرحلة الاندکاک فی الفاعلیة و المحرکیة لا فی الحکم نفسه.

و أما ما ذکره قدس سره من أنه بالاندکاک یکتسب کل منهما من الآخر جهة فاقدة له فیکتسب الأمر الوجوبی من الأمر الاستحبابی جهة التعبّد ویکتسب الأمر الاستحبابی من الأمر الوجوبی جهة اللزوم، فهو مبنی علی ما بنی علیه قدس سره من امکان الاندکاک ومعقولیته، ولکن قد مرّ أنه غیر معقول فی الأحکام الشرعیة بماهی امور اعتباریة.

إلی هنا قد تبیّن أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره فی المقام من الاندکاک غیر سدیدهذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن النهی فی هذا القسم من العبادات المکروهة تعلّق بالتعبّد بها لابذاتها فلایکون متعلقه متحداً مع متعلق الأمر فلایمکن المساعدة علیه، أما أولاً: فلأن الظاهر من الروایات الناهیة هوتعلق النهی بذات الصوم فی یوم عاشوراء لا بالتعبّدیة أی بقصد القربة.

ص:444

وثانیاً: إن ذلک مبنی علی أن قصد القربة غیر مأخوذ فی متعلق الأمر، و أما بناءً علی أنه مأخوذ فیه ولو بالأمر الثانی کما هو مسلکه قدس سره(1) ، فحینئذٍ یکون متعلق النهی متحداً مع متعلق الأمر.

وثالثاً: إنه لایمکن أن یکون متعلق النهی حیثیة التعبّد وداعویة الأمر، فإن معنی ذلک أن الأمر تعلق بالصوم و النهی تعلق بداعویّته و هذا تهافت کیف، فإن داعویة الأمر من مقتضیات نفسه، حیث إنه یدعو إلی الاتیان بمتعلقه، فلوکانت دعوته منهیاً عنها فلایمکن الامتثال من أجل المولی، أو فقل أن الغرض من جعل الأمر انما هو إیجاد الداعی و المحرّک فی نفس المکلف، فلوکانت دعوته منهیاً عنها لکان جعله لغواً، هذا إضافة إلی أن کراهة الصوم فی یوم عاشوراء لم تثبت لضعف الروایات الناهیة عنه، وعلی هذا فالصوم فی یوم عاشوراء إن کان بعنوان التبرّک به و الفرح کما هو دأب بنی أمیّة فهو محرم بهذا العنوان لا أنه مکروه وإلاّفهو مستحب، علی أساس استحباب الصوم فی کل یوم، هذا تمام الکلام فی القسم الأول من العبادات المکروهة.

القسم الثانی من العبادات المکروهة العبادات التی لها بدل

و أما القسم الثانی من العبادات المکروهة کالصلاة فی الحمام أو فی مواضع التهمة، فقد ذکر المحقق الخراسانی قدس سره وتبعه فیه السید الاُستاذ قدس سره أن النهی عنها روحاً بمعنی طلب ترکها علی أساس أنه أرجح من فعلها أو أنه ارشاد إلی ذلک، وأرجحیّته من الفعل اما بلحاظ انطباق عنوان أرجح علیه أو ملازمته له خارجاً هذا، ولکن قد تقدّم أنه لاوجه لحمل النهی علی الأمر معنیً وروحاً فإنه بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علیه، و أما حمله علی الارشاد فسوف نشیر إلیه.

فالصحیح فی المقام أن یقال أن النهی المتعلق بحصة خاصة من الصلاة کالنهی

ص:445


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 324.

عن الصلاة فیما لایؤکل أو المیتة أو الحریر أو الذهب أو ماشاکل ذلک، فلا شبهة فی ظهوره عرفاً فی مانعیّة هذه الاُمور عن الصلاة وبطلانها معها، هذا مما لاکلام فیه وانما الکلام فی النهی المتعلق بالصلاة فی الحمام أو مواضع التهمة أو نحو ذلک، فهل هو نهی مولوی تنزیهی أو أنه ارشادی فیه وجهان:

فذهب مدرسة المحقق النائینی قدس سره إلی الوجه الأول، و قد أفاد فی وجه ذلک ماملخّصه: أن النهی عن الحصة إن کان تحریمیاً فهو تقیّد اطلاق دلیل الواجب بغیرهذه الحصة علی أساس أن الحرام لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب و المبغوض مصداقاً للمحبوب، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الواجب تعبّدیاً أوتوصلیاً، لوضوح أن الحرام لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب و إن کان توصلیاًهذا واضح، و أما إذا کان النهی عن الحصة تنزیهیاً فهو لایوجب تقیید اطلاق الواجب بغیرها و إن کان عبادیاً، وذلک لأن النهی عن الحصة إذا کان تنزیهیاًکان لازمه الترخیص فی الاتیان بها وتطبیق الواجب علیها، فإذا کان النهی عن الصلاة فی الحمام تنزیهیاً، فمعنی ذلک أن الشارع رخّص فی تطبیق الصلاة المأموربها علیها وجوّز الاتیان بها، غایة الأمر أن تطبیق الصلاة المأمور بها علی هذه الحصة کان مرجوحاً بالنسبة إلی تطبیقها علی سائر الحصص، و أما فی الوفاء بالغرض فلافرق بینها وبین غیرها من الحصص.

ومن هنا إذا لم یتمکن المکلف من الاتیان بسائر الحصص لزمه الاتیان بهاجزماً و هذا یکشف عن اشتراکها معاً فی الملاک و الوفاء بالغرض هذا. ولکن لایبعد أن یکون هذا النهی نهیاً ارشادیاً لا مولویاً تنزیهیاً، وذلک لأن النهی المولوی التنزیهی و إن کان یدل بالدلالة الالتزامیة علی الترخیص فی الفعل إلاّ أن هذه الدلالة لاتصلح أن تکون فارقة بینه وبین النهی التحریمی فی المقام، وذلک

ص:446

لأن النهی عن الصلاة فی الحمام مثلاً إذا کان مولویاً، فإن کان ناشئاً عن مفسدة قائمة بالخصوصیة المقترنة بها الملازمة لها فی الوجود خارجاً، فهو لایوجب تقیید اطلاق الواجب بغیر هذه الحصة و إن کان تحریمیاً، وذلک لأن الحصة لاتتحد مع الحرام فی الخارج بل الحرام ملازم لها وجوداً، فإذن لاتکون الحصة محرمة حتی تمنع من الانطباق، ومجرد أنها ملازمة للحرام فی الخارج وجوداً لایمنع عن الانطباق، و إن کان ناشئاً عن وجود مفسدة فی نفس الحصة فهو یوجب تقییداطلاق الواجب بغیرها، لأن المبغوض و إن کان ناقصاً، لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب و المحبوب، وعلی هذا فلایمکن انطباق الصلاة المأمور بها علی حصة مبغوضة مشتملة علی مفسدة و إن کانت ناقصة فإنه لایمکن التقرّب بها.

و إن شئت قلت: أن النهی فی هذا القسم إذا فرض أنه مولوی، فإن کان ناشئاًعن وجود مفسدة فی الخصوصیة المقترنة بالحصة الملازمة لها خارجاً، فهولایوجب تقیید اطلاق الواجب بغیرها و إن کان تحریمیاً، و إن کان ناشئاً عن وجود مفسدة فی نفس الحصة ولو بواسطة عنوان منطبق علیها ومتحد معها فی الخارج فهو یوجب تقیید اطلاق دلیل الواجب بغیرها، و إن کان تنزیهیاً ودالاً علی الترخیص فی الترک، إلا أن هذه الدلالة لاتصح انطباق الواجب علیهاوکونها مصداقاً له، لأن المکروه لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب و المحبوب ومتحداً معه فی الخارج، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الواجب تعبدّیاً أوتوصلیاً، غایة الأمر أن الواجب إذا کان توصلیاً قد یحصل الغرض منه ولو بإیجاده فی ضمن فرد محرم فضلاً عن المکروه، ولکن هذا لیس من جهة اطلاق الواجب وتطبیقه علیه بل من جهة حصول الغرض به، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن من غیر المحتمل أن یکون هذا النهی ناشئاً عن وجود

ص:447

مفسدة فی نفس الصلاة بقطع النظر عن الجهات الخارجیة المقترنة بها لوضوح أنه لا فرق بین ذات الصلاة فی الحمام و الصلاة فی خارجه بقطع النظر عن خصوصیة المکان بل هو ناشیء عن وجود مفسدة فی الخصوصیة الخارجیة المقترنة بها الملازمة لها فی الخارج ومرجوحیة تلک الخصوصیة، وعلی هذا فمناسبة الحکم و الموضوع الارتکازیة العرفیة تقتضی أن یکون هذا النهی نهیاً ارشادیاً، فإنه یرشد المکلف إلی اختیار حصة اخری فی مقام الامتثال علی أساس أن اختیارهذه الحصة یستلزم اقترانها بالخصوصیة المرجوحة التی لاتناسب اقترآنها، ولافرق فی ذلک بین أن تکون تلک الخصوصیة مرجوحة فی نفسها کالکون فی مواضع التهمة أو مرجوحة بالإضافة إلی الصلاة کالکون فی الحمام، فإنه فی نفسه لیس مرجوحاً وانما یکون مرجوحاً بالاضافة إلی الصلاة، تحصل، الظاهر أن النهی فی هذا القسم من العبادات المکروهة ارشادی لا مولوی، وعلی تقدیرکونه مولویاً فهو ناشیء عن وجود مفسدة فی الخصوصیة الخارجة عن ذات الصلاة المقترنة بها ولهذا لایمنع من انطباق الصلاة المأمور بها علیها.

القسم الثالث من العبادات المکروهة العبادات التی تکون النسبة بین متعلقی الأمر و النهی عموما من وجه

و أما القسم الثالث من العبادات المکروهة و هو ما إذا کان بین متعلقی الأمروالنهی عموماً من وجه کالنهی عن الکون فی مواضع التهمة و الأمر بالصلاة، ومورد الاجتماع بینهما الصلاة فی مواضع التهمة، وحینئذٍ فإن کان المجمع فی مورد الاجتماع متعدداً وجوداً وماهیةً فلا اشکال فی صحة العبادة، واقترانها بالخصوصیة المرجوحة لایمنع عن صحتها.

و إن کان المجمع فیه واحداً کذلک تدخل المسألة فی باب التعارض بین اطلاق دلیل النهی واطلاق دلیل الأمر، وحیث إن هذا التعارض کان بین الاطلاق البدلی والاطلاق الشمولی، فالأظهر تقدیم الثانی علی الأول بملاک الجمع العرفی کما تقدّم تفصیله هذا مع وجود المندوحة، و أما مع عدم وجودها فالظاهر أن

ص:448

التعارض بینهما مستقر وحیث إنه لا مرجح لأحدهما علی الآخر فیسقط اطلاق کلیهما معاً، وحینئذٍ فیشک فی وجود النهی عن المجمع فی الواقع ولا مانع عندئذٍمن استصحاب عدم وجوده وبه یثبت أنه لیس بمنهی عنه ظاهراً، وهل یکفی ذلک فی الحکم بصحة الاتیان بالمجمع و هو الصلاة فی مورد الاجتماع.

والجواب: أنه لایکفی لاحتمال أن المجمع مشتمل علی المفسدة فی الواقع ومبغوض فیه، ومع هذا الاحتمال لایمکن التقرّب به واحراز انطباق الصلاة المأمور بها علیه، ولکن مع هذا یجب علیه الاتیان بالصلاة فیه فی صورة عدم المندوحة لأنها لاتسقط بحال هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن النهی مولوی تنزیهی ولایمکن حمله علی الارشاد إلابقرینة ولا قرینة علیه فی المقام، ولا یقاس النهی فیه بالنهی فی القسم الثانی لوجود مناسبة عرفیة فیه تقتضی کونه ارشادیاً و هی غیر موجودة فی هذا القسم، ومن ذلک کله یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره(1) من أن النهی فی المقام بما أنه تنزیهی فلا یمنع من الانطباق ولایوجب تقیید اطلاق دلیل الواجب بغیر الحصة المنهی عنها کما هو حال النهی فی القسم الثانی غیر تام بنحو الاطلاق کماتقدم، بقی هنا شیء و هو أن تفسیر الکراهة فی العبادات بأقل ثواباً لایرجع إلی معنی محصل، فإن النهی عنها سواءً أکان بمعنی الأمر روحاً وحقیقةً و هو طلب ترکها لرجحانه علی الفعل أم الارشاد إلیه أم بمعناه الحقیقی الناشیء من وجود مفسدة فی جهة خارجیة کعنوان المشابهة و الموافقة الملازمة لها فی الوجود الخارجی، فعلی جمیع التقادیر فهو لایوجب نقصاً فیها، اما علی الأول و الثانی، فإن العبادة بنفسها راجحة ومحبوبة و إن کان ترکها أرجح، مثلاً صوم یوم

ص:449


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 328.

عاشوراء کصوم سائر الأیام فی الاشتمال علی المصلحة و المحبوبیة و الوفاء بالغرض و الصلاة فی الحمام کغیرها من الصلوات، غایة الأمر أن المکلف إذا مارس هذه العبادات وأتی بها، فقد ارتکب أمراً مرجوحاً ومکروهاً بالنسبة إلی ترکها لا مطلقاً، ولهذا لانقص ولاحزازة فیها نفسها، فإذن لامبرر لکون الثواب علیها أقل من الثواب علی غیرها مع أنه لافرق بینهما فی الوفاء بالغرض والاشتمال علی المصلحة، و أما علی الثالث فإن کان النهی عنها نهیاً مولویاً وناشئاًعن وجود مفسدة فی عنوان منطبق علیها ومتحد معها خارجاً، فهو مانع من الانطباق ویوجب تقیید اطلاق دلیل الواجب بغیرها، فإذن لایمکن الحکم بصحتها حتی یقال أنها أقل ثواباً، و إن کان ناشئاً عن وجود مفسدة فی عنوان ثانوی ملازم لها فی الوجود الخارجی، فهو لایمنع من الانطباق ولایوجب تقیید اطلاق دلیل الواجب بغیرها، فإذن لا مبرر لقلة الثواب علیها.

ودعوی، أن منشأ هذا التفسیر هو مرجوحیة الخصوصیة الخارجیة المقترنة بها الملازمة لها خارجاً.

مدفوعة، أولاً: أن المرجوحیة لایسری من أحد المتلازمین إلی الملازم الآخر، لأن السرایة القهریة غیر معقولة فی الاُمور الاعتباریة و السرایة الجعلیّة بحاجة إلی دلیل ولادلیل علیها، ولهذا لامانع من کون أحدهما محبوباً و الآخرمبغوضاً.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم السرایة، فالعبادة حینئذٍ تصبح مرجوحة فإذا صارت مرجوحة فلایمکن التقرب بها، فإذن لابد من تقییداطلاق دلیل الواجب بغیرها.

نتائج العبادات المکروهة عدة نقاط:

الاُولی: إن العبادات المکروهة علی ثلاثة أقسام:

ص:450

القسم الأول: مالیس له بدل کصوم یوم عاشوراء.

القسم الثانی: ماله بدل کالصلاة فی الحمام.

القسم الثالث: ما تکون النسبة بینه وبین المنهیّ عنه عموماً من وجه.

نتائج العبادات المکروهة

الثانیة: ذکر صاحب الکفایة قدس سره أن النهی عن صوم یوم عاشوراء فی القسم الأول نهی صورة وأمر روحاً وحقیقةً، لأنه بمعنی طلب ترکه من جهة رجحانه علی الفعل أو أنه ارشاد إلیه، فیکون کل من الصوم فیه وترکه مستحباً(1) ، وعلیه فیقع التزاحم بینهما هذا، وأورد علیه المحقق النائینی قدس سره بأن التزاحم بین النقیضین غیر معقول وکذلک بین الضدّین الذین لا ثالث لهما و المتلازمین الدائمیین(2).

الثالثة: إن المحقق النائینی قدس سره فی مقام الجواب عن ذلک أتی أولاً بمقدمة و هی أن الأمر النذری المتعلق بعبادة کصلاة اللیل مثلاً تعلق بعین ما تعلق به الأمر الاستحبابی أو الوجوبی، فلهذا یندک أحدهما فی الآخر، و هذا بخلاف الأمر الإیجاری، فإنه لایتعلق بعین ما تعلق به الأمر العبادی، فلذا لایندک فیه، وبعد هذه المقدمة قال أن النهی عن الصوم یوم عاشوراء نهی مولوی تنزیهی متعلق بالتعبد به لابذات الصوم، فإذن متعلق النهی فی هذا القسم غیر متعلّق الأمر، فإن متعلق الأمر فیه ذات الصوم(3).

الرابعة: الظاهر عدم اختصاص التزاحم وأحکامه بالخطابات الالزامیّة وشموله للخطابات الاستحبابیة أیضاً خلافاً للسید الاُستاذ قدس سره حیث قد خصّه بالخطابات الالزامیة و قد تقدّم بحث ذلک موسّعاً.

ص:451


1- (1) - کفایة الاصول ص 162.
2- (2) - أجود التقریرات ج 1 ص 365.
3- (3) - أجود التقریرات ج 1 ص 364.

الخامسة: إن ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره من أن النهی عن صوم یوم عاشوراء أو النوافل المبتدأة أمر روحاً وملاکاً و إن کان نهیاً صورةً، لأنه بمعنی طلب الترک لاشتماله علی مصلحة راجحة علی مصلحة الفعل أو أنه ارشاد إلی ذلک غیر سدید، لأن هذا الحمل بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علیه، ومع عدم القرینة فلا مناص من الأخذ بظاهره و هو النهی الحقیقی الناشیء من وجود مفسدة فی العنوان المنطبق علی الصوم المذکور أو النوافل المبتدأة فیکون منهیاًعنه بعنوان ثانوی ومأموراً به بعنوان أولی ولا مانع من ذلک و قد تقدم تفصیله.

السادسة: أن کراهة الصوم فی یوم عاشوراء وکذلک کراهة النوافل المبتدأة لم تثبت شرعاً، لأن الروایات الناهیة عنهما جمیعاً ضعیفة سنداً، وعلی هذا فإن صام یوم عاشوراء بعنوان التبرک بهذا الیوم و الشکر کما هو دأب بنی أمیة (لعنهم اللَّه) فهو حرام، و إن صام بعنوان استحباب الصوم فی کل یوم فهو مستحب ولاکراهة فیه فضلاً عن الحرمة.

السابعة: إن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن الأمر النذری المتعلّق بالعبادة مندک فی الأمر العبادی لایرجع إلی معنی معقول، لأن الاندکاک بین الأمرین و صیروتهما أمراً واحداً أقوی منهما فی مرحلة الاعتبار و الجعل غیر متصور، لأنه انما یتصور فی الاُمور التکوینیة الخارجیّة لا فی الاُمور الاعتباریة التی لاواقع موضوعی لها ماعدا اعتبار المعتبر ولا فی مرحلة الفعلیّة حیث لا وجود لهمافی هذه المرحلة، نعم فیها تندک فعلیة فاعلیة کل منهما فی فعلیة فاعلیة الآخر، و أما فی مرحلة المبادی فلامانع من الالتزام بالاندکاک بینهما ولکن ذلک فیما إذا اجتمع اثنان منهما فی شیء واحد لا فی مثل المقام.

الثامنة: إن السید الاُستاذ قدس سره قال أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن الأمر

ص:452

الایجاری المتعلق بالعبادة لایکون متحداً مع الأمر العبادی المتعلق بذاتها، لأن متعلق أحدهما غیر متعلق الآخر فلا اندکاک بینهما و إن کان صحیحاً بالنسبة إلی الأمر العبادی، إلاّ أنه قدس سره قد غفل عن الأمر الاستحبابی النیابی المتوجّه إلی کل مکلف، والأمر الایجاری انما یندک مع هذا الأمر الاستحبابی النیابی لأنه تعلق بنفس ما تعلق به ذلک الأمر الاستحبابی هذا، ولکن قد مرّ عدم معقولیّة الاندکاک بین الأحکام الشرعیّة.

التاسعة: إن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أنّ النهی عن الصوم فی یوم عاشوراء متعلق بالتعبّد به لا بذاته، لایرجع إلی معنی محصل کما تقدّم.

العاشرة: الظاهر أن النهی فی القسم الثانی من العبادات المکروهة ارشادی لامولوی تنزیهی، و أما مدرسة المحقق النائینی قدس سره فقد ثبّتت علی أنه نهی مولوی، ولکن حیث إنه تنزیهی فلا یمنع من انطباق المأمور به علی الفرد المنهی عنه ولا یوجب تقیید اطلاق دلیل الواجب بغیر ما تعلق به النهی، ولکن تقدم الاشکال فی ذلک موسّعاً.

الحادیة عشر: أن متعلقی الأمر و النهی فی مورد الاجتماع فی القسم الثالث من العبادات المکروهة إن کان متعدّدین وجوداً وماهیةً فلا اشکال فی صحة العبادة، و إن کانا متحدّین کذلک تدخل المسألة فی باب المعارضة.

الثانیة عشر: إن تفسیرالکراهة فی العبادات باقلّ ثواباً لایرجع إلی معنی محصّل.

الملحق الثامن: فی الاضطرار
اشارة

ملحقات مسألة الاجتماع (الملحق الثامن)

یقع الکلام هنا فی مقامین:

الأول: فیما إذا لم یکن الاضطرار ناشئاً من سوء الاختیار واُخری فیما إذا کان

ص:453

ناشئاً من سوء الاختیار، وعلی الأول تارة یقع الکلام فی حکم الفعل المضطر إلیه تکلیفاً، واُخری فی حکم العبادات الواقعة من المکلف المضطر فی حال الاضطرار.

الاضطرار بغیر سوء الاختیار:

أما الکلام فی المقام الأول، فلا اشکال فی سقوط الحرمة وارتفاعها بالاضطرار عقلاً وشرعاً، مثال ذلک المحبوس فی الأرض المغصوبة قهراً وبغیراختیار، فإنه حیث لایتمکن من الاجتناب عن الحرام فلایعقل أن یکون مکلفاً به، لأنه من التکلیف بالمحال و هو قبیح، و هذا معنی سقوط الحرمة بالاضطرارعقلاً، و أما شرعاً فلحدیث الرفع، فالنتیجة أنه لا شبهة فی ذلک.

و أما الکلام فی المقام الثانی، فتارة یقع فیما إذا فرض أن الصلاة فی مورد الاجتماع لاتکون متحدة مع الحرام بل ملازمة له وجوداً فی الخارج واُخری یقع فیما إذا فرض أنها متحدة مع الحرام فیه وجوداً، أما فی الفرض الأول فلا شبهة فی صحة الصلاة ولاتتوقف صحتها علی القول بالترتب فیما إذا فرض أن الحرمة أهم من الوجوب أو محتمل الأهمیة، وذلک لأن الحرمة قد ارتفعت بالاضطرار واقعاً فلا حرمة حینئذٍ حتی تکون مانعة، ومن هنا لا مناص من الحکم بالصحّة و إن قلنا باستحالة الترتب.

و أما فی الفرض الثانی، فالمعروف و المشهور بین الأصحاب صحة العبادة فیه، لأن المانع منها انما هو حرمتها و المفروض أنها قد ارتفعت واقعاً بالاضطرار، فلا حرمة حینئذٍ لکی تکون مانعة عن صحتها، ومن هنا قد فرق الأصحاب فی ذلک بین ما إذا کان المانع عن صحة العبادة متمثلاً فی الحرمة التکلیفیة المستفادة من النهی المولوی وما إذا کان المانع متمثلاً فی الحرمة الوضعیّة المستفادة من النواهی الارشادیة کالنهی عن الصلاة فیما لایؤکل لحمه

ص:454

وفی المیتة و الحریر وماشاکلها، فإن مفاد هذه النواهی مانعیة هذه الأشیاء عن الصلاة، وعلی هذا فإن کان المانع متمثلاً فی الحرمة التکلیفیة فهو یدور مدارها وجوداً وعدماً، فلا تثبت المانعیة إلاّ فی فرض ثبوت الحرمة، فلهذا یکون الوضوء بالماء المغصوب باطلاً باعتبار أنه محرم وحرمته مانعة عن التقرّب به وکذلک الصلاة فی الأرض المغصوبة، فإنها فاسدة بنفس الملاک، و أما إذا سقطت الحرمة بالاضطرار أو نحوه فقد سقطت المانعیة حینئذٍ بسقوط منشأها وموضوعها و هو الحرمة، کما إذا اضطر المکلف إلی الوضوء بالماء المغصوب أو الصلاة فی الأرض المغصوبة، فإنه وقتئذٍ لامانع من الحکم بالصحة، لأن المانع هو الحرمة و المفروض أنها قد سقطت، وحیث إن هذا المانع مدلول للنهی المولوی، فلایعقل أن یکون مطلقاً وثابتاً حتی فی حال العجز والاضطرار وإلاّلزم التکلیف بغیر المقدور و هو محال، وعلی الثانی، فحیث إن مانعیة الأشیاء المذکورة مستفادة من النواهی الارشادیة التی لا تتضمن تکلیفاً مولویاً، فلامانع من ثبوت مانعیتها حتی فی حال العجز والاضطرار إذا کانت أدلتها مطلقة، إذ لایلزم محذور من اطلاقها کالتکلیف بالمحال أو نحوه. ونتیجة اطلاق مانعیتها سقوط الأمر بالصلاة فی غیر المأکول أو الحریر أو الذهب، و أما الأمر بالصلاة فیه فهو بحاجة إلی دلیل جدید و هو موجود فی باب الصلاة دون غیره.

وبکلمة واضحة، إن المانعیة المستفادة من النواهی الارشادیة فی أبواب العبادات و المعاملات کخطاب لا تصل فیما لایؤکل لحمه أو الحریر أو المیتیة أو الذهب أو نحو ذلک فمرّدها إلی أن عدم المانع قید وجزء لها بمعنی أن الواجب حصة خاصة من الصلاة و هی الصلاة المقیّدة بعدم لبس ما لایؤکل لحمه و الحریر و المیتة وغیر ذلک دون الجامع بینها وبین غیرها، فلو صلّی المکلف فیما لایؤکل أوالحریر لم تکن صلاته مأموراً بها ومصداقاً للصلاة الواجبة، وحینئذٍ فإن قصد

ص:455

الأمر بها لکان تشریعاً ومحرماً وإلاّ فهی لاغیة کما هو الحال فی الأوامر الارشادیة فی أبواب العبادات و المعاملات، فإنها یرشد إلی جعل الجزئیة لشیء أو الشرطیة لآخر کخطاب اقرأ السورة فی الصلاة وخطاب صلّ عن طهورونحوهما، فالأول ارشاد إلی جزئیة السورة للصلاة. والثانی ارشاد إلی شرطیة الطهور لها، فمرد الأول إلی أن المأمور به حصة خاصة من الصلاة و هی الصلاة المرکبة من السورة دون الجامع بینها وبین الفاقدة لها، ومرد الثانی إلی أن المأموربه حصة خاصة من الصلاة و هی المقیّدة بالطهور دون الجامع بینها وبین الفاقدة لها، ولا فرق بین الأوامر الارشادیة فی أبواب العبادات و النواهی الارشادیة فیها. من هذه الناحیة، و هی أن المأمور به حصة خاصة من الصلاة علی کلا التقدیرین و هی الصلاة المقیّدة بقیود وجودیة وعدمیة، فالأوامر المذکورة تدل بالالتزام علی تقییدها بقیود وجودیة، والنواهی المذکورة تدل کذلک علی تقییدها بقیود عدمیة، أو فقل أن الأوامر تدل بالمطابقة علی جعل الجزئیة و الشرطیة لها وبالالتزام علی تقیید الصلاة بوجودها و النواهی، تدل بالمطابقة علی جعل المانعیّة لها وبالالتزام علی تقییدها بعدمها، فالمانع الشرعی للصلاة هوما یکون عدمه قیداً لها، وعلی هذا الأساس فإن کان دلیل المانع دلیلاً لفظیاً وکان المولی فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی تقییده، فمقتضی اطلاقه أنه مانع فی تمام الحالات الطارئة علی المکلف کالاضطرار و النسیان ونحوهما، ونتیجة ذلک سقوط الأمر عن الصلاة المقیدة بعدمه، و أما ثبوت أمر آخر جدید متعلق بالصلاة مع وجود المانع، فهو بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه إلاّ فی باب الصلاة.

و أما مانعیة الحرمة التکلیفیة عن صحة العبادة، فهی مبنیة علی استحالة اجتماعها مع الوجوب فی شیء واحد، ومن هنا تکون مانعیتها عقلیة لا شرعیة ضرورة أن مدلول دلیل النهی المولوی انما هو الحرمة ولایدل علی مانعیتها لا

ص:456

بالمطابقة ولا بالالتزام ولا علی تقیید العبادة بعدم الحرام، فالحاکم بمانعیتها انما هوالعقل علی أساس أنه یری استحالة اجتماعها مع الوجوب فی شیء واحد، فإذاکان ذلک الشیء حراماً ومبغوضاً استحال انطباق الواجب و المحبوب علیه، و هذامعنی مانعیة الحرمة أی أنها مانعة عن انطباق الواجب علی الحرام، فإذا فرضنا أن الصلاة متحدة مع الحرام فی المکان المغصوب وجوداً وماهیة، استحال انطباق الصلاة الواجبة علیها لأنها محرمة ومبغوضة فلایمکن انطباق الواجب علی الحرام و المحبوب علی المبغوض، مثلاً الوضوء أو الغسل بالماء المغصوب محرم فلایعقل أن یکون مصداقاً للوضوء أو الغسل المأمور به لاستحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب.

الحکم بصحة الصلاة إذا ارتفعت الحرمة

ومن هنا تفترق المانعیة العقلیة عن المانعیة الشرعیة، فإن المانع إن کان شرعیاً کان عدمه قیداً للمأمور به بینما إذا کان عقلیاً لم یکن عدمه قیداً له، وأیضاً فالمانع إذا کان شرعیاً فهو مدلول لدلیل بینما إذا کان عقلیاً لم یکن مدلولاً لدلیل بل هو ناشیء من جهة خارجیة، وعلی هذا فإذا فرض أن المکلف اضطرّإلی الصلاة فی المکان المغصوب أو إلی الوضوء أو الغسل بالماء المغصوب، کان اضطراره رافعاً للحرمة روحاً وملاکاً، فإذا ارتفعت حرمة الصلاة فی المکان المذکور فلا مانع من الحکم بالصحة، لأن المانع منه إنما هو الحرمة لأنها تمنع من الانطباق، توجب تقیید اطلاق الواجب بغیر الفرد المحرم علی أساس استحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب فإذا ارتفعت فلا مانع، أو فقل ان ما دل علی حرمة المجمع فی مورد الاجتماع بالمطابقة یدل بالالتزام علی تقیید اطلاق الواجب بغیره عقلاً وأنه لایمکن أن یکون مصداقاً له، واما إذا ارتفعت الحرمة بالاضطراروسقطت الدلالة المطابقیة عن الحجیة، سقطت الدلالة الالتزامیة عنها أیضاً لماذکرناه فی بحث الضدّ من أنها تابعة لها مطلقاً، ولا یعقل بقاء الدلالة الالتزامیة مع

ص:457

سقوط الدلالة المطابقیة، فإذن لا مانع من الانطباق و الحکم بالصحة هذا هوالمشهور بین الفقهاء و هو الصحیح فی المسألة.

مخالفة النائینی قدّس سرّه للمشهور

ولکن خالف المشهور فیها جماعة منهم المحقق النائینی قدس سره بتقریب أن مانعیة الحرمة التکلیفیة أیضاً لاترتفع بالاضطرار کمانعیة الحرمة الوضعیة، والمرتفع به انما هو الحرمة فحسب دون مانعیتها، فإذن لایمکن الحکم بالصحة فی المقام أیضاً(1) و قد أفاد فی وجه ذلک ما یرجع إلی امور:

الأول: إن النهی المتعلق بالعبادة یکون ارشاداً إلی مانعیة شیء واعتبار عدمه فیها، وذلک کالنهی عن الصلاة فیما لایؤکل لحمه أو المیتة أو الحریر أو النجس أوما شاکل ذلک، فإنه یدل بالمطابقة علی مانعیة هذه الاُمور عن الصلاة وبالالتزام علی تقیّدها بعدمها.

الثانی: إن استفادة مانعیة الحرمة لیست من جهة الدلالة الالتزامیة بل من جهة مزاحمة الواجب مع الحرام فی مورد الاجتماع باعتبار أن المکلف لایتمکن من امتثال کلیهما معاً فیه، فلهذا تقع المزاحمة بینهما، وعلی هذا فبناء علی تقدیم جانب الحرمة علی جانب الوجوب فیه فلا محالة یقیّد اطلاق دلیل الواجب بغیرهذا الفرد فی مورد الاجتماع.

الثالث: إن النهی المتعلق بالعبادة لیس مفاده الارشاد إلی المانعیّة وتقیید الصلاة بالقید العدمی بل مفاده الحرمة التکلیفیة المتعلقة بإیقاعها فی المکان المغصوب مطابقة، وتقیید اطلاق الصلاة المأمور بها بغیر هذه الحصة المنهی عنهاوعدم وجوبها التزاماً وهما أی الحرمة وعدم الوجوب فی مرتبة واحدة

ص:458


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 371 372.

لا أن عدم الوجوب فی طول الحرمة حتی یسقط بسقوطها هذا.

أما القسم الأول، فقد ذکر قدس سره أنه لا شبهة فی دلالة النهی فیه علی فساد الصلاة فیما لایؤکل أو فی النجس أو المیتة أو غیر ذلک حتی فی حال الاضطرار إذا کان دلیل المانع مطلقاً، باعتبار أن وجود هذه الاُمور مانع وعدمها قید لها و هذا واضح و قد أشرنا إلیه الآن تفصیلاً.

و أما القسم الثانی: فقد ذکر قدس سره أن الاضطرار حیث إنه رافع للحرمة فلاموضوع للتزاحم حینئذٍ فی مورد الاجتماع حیث لا حرمة فیه واقعاً لکی تزاحم انطباق الواجب علیه ومانعة عنه، فإن الاضطرار رافع لها واقعاً، وعلی تقدیرتسلیم أن الحرمة لم تسقط فی الواقع بل هی باقیة ولکن حیث إنها غیر منجزة، فلایمنع من انطباق المأمور به علی هذا الفرد فی مورد الاجتماع الملازم وجوداً مع الحرام، لأن المانع منه انما هو الحرمة المنجزة لامطلق الحرمة و إن لم تکن منجزة.

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه علی القسم الثالث

و أما القسم الثالث: فقد علّق علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن ما ذکره قدس سره من أنه لاتقدم ولا تأخر بین عدم ضد ووجود ضد آخر وانهما فی مرتبة واحدة و إن کان صحیحاً بحسب مقام الثبوت و الواقع لأن تقدم شیء علی آخر رتبة بحاجة إلی ملاک بعد ما کانا مقارنین زماناً ولایمکن أن یکون جزافاً، وفی المقام بما أن الوجوب و الحرمة ضدّان فهما فی مرتبة واحدة، و قد ثبت فی محله استحالة أن یکون عدم أحد الضدّین مقدمة للضد الآخر بل کل منهما معلولان لعلة واحدة و هی مقتضی ذلک الضدّ وعلته، فلهذا لا ملاک للتقدم و التأخر الرتبتین بینهما إلاّ أنه غیر تام بحسب مقام الاثبات، وذلک لأن ما دل علی حرمة التصرف فی مال الغیر بالمطابقة لا یدل علی التقیید المذکور وعدم الوجوب إلاّ بالدلالة الالتزامیة، لوضوح أن مدلوله المطابقی هو حرمة التصرف فی المغصوب دون

ص:459

ذلک التقیید وعدم الوجوب، ولکن بما أن الحرمة تنافی الوجوب ولاتجتمع معه فی شیء واحد، فلامحالة ما کان یدل علی حرمته بالمطابقة یدل علی عدم وجوبه بالالتزام، والدلالة الالتزامیة متفرّعة علی الدلالة المطابقیة وفی طولها سواءً أکان بین ذاتی المدلولین هما ذات المدلول المطابقی وذات المدلول الالتزامی تقدم وتأخررتبة أم لا فی مقام الثبوت و الواقع، حیث إنه لاتنافی بین کون المدلولین فی رتبة واحدة فی الواقع ومقام الثبوت، وکون دلالة الدلیل علی أحدهما فی طول دلالته علی الآخر ومتفرعة علیه فی مقام الاثبات، والدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً وبقاءً وعلی هذا، فإذا سقطت الدلالة المطابقیة عن الحجیة سقطت الدلالة الالتزامیة عنها أیضاً، فإذن لادلیل علی التقیید وعدم الوجوب وعلیه فلامانع من الحکم بالصحة(1) هذا.

تعلیق علی ما ذکره النائینی و السید الأستاذ قدّس سرّهما

ولنا تعلیق علی کل مما ذکره المحقق النائینی قدس سره و السید الاُستاذ قدس سره فی المقام، أما التعلیق علی الأول، فلأن ما ذکره قدس سره من القسم الأول من المانع و إن کان صحیحاً إلاّ أنه خارج عن محل الکلام کما لایخفی.

و أما القسم الثانی، و هو ما ذکره قدس سره من استفادة مانعیة الحرمة من وقوع التزاحم بینها وبین الوجوب، فهو مبنی علی القول بالجواز فی مورد الاجتماع، ولکن سوف نشیر إلی أن التزاحم بین الوجوب و الحرمة فی مورد الاجتماع لایوجب مانعیة الحرمة بمعنی تقیید الواجب بقید عدمی، فإذن یقع الکلام تارةً علی القول بالامتناع واُخری علی القول بالجواز اما علی الأول، و هو ما إذا کان الواجب متحداً مع الحرام فی مورد الاجتماع، فلا شبهة فی أن حرمته مانعة عن انطباق الواجب علیه عقلاً وتوجب تقیید اطلاقه بغیر الفرد المحرم.

ص:460


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 348 349.

و أما علی الثانی، و هو ما إذا کان الواجب فی مورد الاجتماع ملازماً للحرام فیه وجوداً فلاتکون حرمته مانعة عن الانطباق، لأنه من انطباق الواجب علی فرده لا علی الحرام لکی تکون مانعة عنه، و أما التزاحم بینهما فهو انما یوجب تقیید اطلاق مفاد الهیئة بعدم الاشتغال بالآخر دون المادة، مثلاً إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الصلاة ووجوب الازالة، فعندئذٍ إن کانتا متساویتین، کان اطلاق وجوب کل منهما مقیداً لباً بعدم الاشتغال بالاُخری، و إن کانت إحداهما أهم من الاُخری، فإطلاق وجوب المهم مقید لباً بعدم الاشتغال بالأهم، فالمقیّد فی المقام انما هو وجوب الصلاة فی المکان المغصوب لباً بعدم الاجتناب عن الحرام وترک امتثاله أو أن الترخیص فی تطبیق الصلاة المأمور بها علی الفرد فی المکان المغصوب مشروط لباً بعدم الاجتناب عن الحرام فیه وعلی هذا، فمافی کلامه قدس سره من أن الناشی من التزاحم هو تقیید المأمور به بالقید العدمی غیر تام، فإن المقیّد هوأمره الذی هومفاد الهیئة دون المادة، وعلی هذا فالصلاة فی المکان المغصوب صحیحة و إن کان الحرام أهم من الواجب بناءً علی القول بإمکان الترتب کما هوالصحیح.

و أما القسم الثالث، فلأن ما ذکره قدس سره من أنه لا تقدم ولا تأخّر بین عدم ضدو وجود ضد آخر وإنهما فی مرتبة واحدة، مبنی علی فرض وجود الضدین فی مورد الاجتماع هما الوجوب و الحرمة، فإن دلیل النهی یدلّ علی أمرین:

أحدهما: حرمة المجمع فیه، والآخر عدم وجوبه وهما فی مرتبة واحدة ولکن هذا خاطیء فی المقام، لأن الوجوب لایسری من طبیعی الواجب إلی أفراده، لأن المجمع فی مورد الاجتماع الذی هوفرده لایکون معروضاً للوجوب ومتّصفاً به وانماهو معروض الحرمة ومتصف بها، فحسب وعلیه فعدم وجوبه یکون من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا من جهة دلالة النهی علیه بالالتزام، وعلی هذا فدلیل

ص:461

النهی یدل علی حرمة المجمع فی مورد الاجتماع بالمطابقة وعلی عدم انطباق الواجب علیه بالالتزام، فیکون المدلول الالتزامی فی المقام التقیید وعدم الانطباق و هو فی طول المدلول المطابقی ثبوتاً علی أساس أن المانع من الانطباق انما هو حرمة المجمع، والمانع یتقدم علی الممنوع رتبة فیکون التقیید وعدم الانطباق متفرعاًعلی الحرمة ومعلولاً لها، فإذا سقطت الحرمة سقط ما هومتفرع علیه.

ومن هنا یظهر أنه لایجدی القول بأن مراد المحقق النائینی قدس سره من عرضیة المدلوین وعدم کون أحدهما فی طول الآخر انما هو بحسب مقام الثبوت و الواقع لابحسب مقام الاثبات و الدلالة، وذلک لماعرفت من أن المدلولین لیسافی عرض واحد ومرتبة واحدة ثبوتاً أیضاً، لأن فرض کونهما فی عرض واحد مبنی علی نقطة خاطئة قد مرّت الاشارة إلیها آنفاً، فإذن یکون المدلول الالتزامی فی المقام فی طول المدلول المطابقی ومتأخرعنه رتبة ومتفرع علیه ثبوتاً واثباتاً، و علی ذلک فإن کان نظرالمحقق النائینی قدس سره فی عرضیة المدلولین إلی مقام الاثبات و الدلالة.

فیرد علیه، أنه لا شبهة فی أن المدلول الالتزامی فی هذا المقام فی طول المدلول المطابقی ومتفرع علیه و إن فرض أن ذاته ثبوتاً فی عرض ذات المدلول المطابقی کذلک، و إن کان نظره فی عرضیتهما إلی مقام الثبوت، فقد عرفت أنهما طولیان فی هذا المقام أیضاً، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، قد تقدم فی مبحث الضد موسعاً أن الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً وبقاءً، وعلی هذا فحیث إن الدلالة المطابقیة قدسقطت عن الحجیة فی المقام من جهة الاضطرار المانع عن الحرمة عقلاً وشرعاً، فبطبیعة الحال تسقط الدلالة الالتزامیة أیضاً عن الحجّیة، ودعوی، أن هذا الاشکال علی المحقق النائینی قدس سره مبنائی لأنه من القائلین بعدم تبعیة الدلالة

ص:462

الالتزامیة للدلالة المطابقیة فی الحجّیة وانما هی تابعة لها فی الحدوث فقط، و هذایعنی أن الدلالة الالتزامیة فی عرض الدلالة المطابقیة فی الحجیة لا فی طولها وإنمایکون حدوثها فی طولها.

مدفوعة، بأنه مضافاً إلی أن المبنی غیر صحیح، فالکبری و هی عدم تبعیّة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة فی الحجّیة لاتنطبق علی المقام لأنه لیس صغری لهذه الکبری فإنها انما هی صغری لها إذا کان للکلام ظهوران:

أحدهما: ظهوره فی المدلول المطابقی.

والآخر: ظهوره فی المدلول الالتزامی.

فالظهور الثانی، و إن کان تابعاً للأول فی الحدوث إلاّ أنه لیس تابعاً له فی الحجّیة لان نسبة دلیل الحجیة إلی کلا الظهورین نسبة واحدة ولیس شموله للظهور الثانی متفرعاً علی شموله للظهور الأول بل فی عرضه، فلاتکون حجیة ظهوره فی المدلول الالتزامی فی طول حجیة ظهوره فی المدلول المطابقی ومتفرعة علیها بل فی عرضها، فلا طولیة بینهما فی مرحلة الحجیة.

و أما فی المقام فلیس لدلیل النهی ظهوران:

أحدهما فی المدلول المطابقی، والآخر فی المدلول الالتزامی بل له ظهور واحد و هو ظهوره فی حرمة المجمع فی مورد الاجتماع، ولا ظهور له فی تقیید اطلاق دلیل الواجب بغیر هذا الفرد، لأن الحاکم به انما هو العقل بملاک استحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب و المبغوض للمحبوب.

وعلی الجملة فدلیل النهی انما یدل علی حرمة المجمع فحسب، ولکن إذا ثبتت حرمته فالعقل یحکم باستحالة انطباق الواجب علیه من جهة استحالة کون

ص:463

الحرام مصداقاً له و المبغوض مصداقاً للمحبوب، فإذن لیس المقام من صغریات الکبری القائلة بعدم تبعیة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة فی الحجیة، وعلی هذا فحیث إن ملاک حکم العقل بالتقیید وعدم الانطباق حرمة الفرد فی مورد الاجتماع، فإذا ارتفعت حرمته بالاضطرار، ارتفع حکم العقل بارتفاع موضوعه وملاکه، فإذن لا مانع من الانطباق، فإذا اضطر المکلف إلی الوضوء بالماء المغصوب، ارتفعت حرمته بالاضطرار ومع ارتفاعها فلا حکم للعقل بعدم الانطباق، وعلیه فلا مانع من الوضوء به و الحکم بالصحة، وکذلک إذا اضطرّ إلی الصلاة فی المکان المغصوب، فإن حرمتها ارتفعت بالاضطرار، فإذا ارتفعت فلامانع من انطباق الصلاة المأمور بها علیها عقلاً.

فالنتیجة، ان ما ذکره المحقق النائینی قدس سره فی المقام ممنوع صغری وکبری.

و أما التعلیق علی ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره فیتمثل فی أمرین:

الأول: أن نظر المحقق النائینی قدس سره من أن المدلولین فی مرتبة واحدة لو کان إلی مقام الثبوت، فإشکال السید الاُستاذ قدس سره بأنهما فی مرتبتین فی مقام الاثبات و الدلالة لایرد علیه، و إن کان إلی مقام الاثبات فهو وارد.

الثانی: أن المدلول الالتزامی فی المقام لیس هو عدم الوجوب فی مورد الاجتماع باعتبار أن الموجود فیه فرد الواجب و هو لیس معروضاً للوجوب، فیکون عدم وجوبه من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا من جهة دلالة النهی علیه بالالتزام، فإذن ما جعله السید الاُستاذ قدس سره مدلولاً التزامیاً لدلیل النهی و هوعدم الوجوب فی غیر محله، ومن هنا قلنا إنه لیس له مدلول التزامی بملاک ظهوره اللفظی فیه زائداً علی ظهوره فی المدلول المطابقی، نعم أن للمدلول المطابقی له لازماً عقلیاً بمعنی أن العقل یحکم به علی أساس تطبیق الکبری الکلیة العقلیة

ص:464

و هی استحالة کون الحرام مصداقاً للواجب و المبغوض للمحبوب. ونتیجة ذلک، التقیید وعدم انطباق الواجب علیه عقلاً کما مرّ، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن نظر المحقق النائینی قدس سره من عرضیة المدلولین هما الحرمة وعدم الوجوب وکونهما فی مرتبة واحدة إذا کان إلی مقام الثبوت و الواقع، فهو لا یجدی فی اثبات مقصوده و هو سقوط الحرمة وبقاء عدم الوجوب یعنی المانع إذ لا طریق لنا إلی ذلک، بداهة أنه لیس بإمکاننا احراز بقاءملاک عدم الوجوب فی مورد الاجتماع بعد سقوط الحرمة، فإذن لا مناص من اللجوء إلی مقام الاثبات و الدلالة و النظر إلی دلیل النهی الذی یدل علی حرمة المجمع فی مورد الاجتماع بالمطابقة وعلی عدم وجوبه بالالتزام، و قد بنی قدس سره أن الدلالة الالتزامیة لاتسقط عن الحجیة بسقوط الدلالة المطابقیة بدعوی، أنهالیست فی طولها ومتفرعة علیها فی هذه المرحلة أی مرحلة الحجیّة بل فی عرضها، ولهذا لاتسقط بسقوطها، ومن الواضح أن هذا یکفی لاثبات المانعیة بلاحاجة عندئذٍ إلی دعوی ثبوتیة و هی أن الملاک و المقتضی فی مرحلة المبادی یؤثرفی الحرمة وعدم الوجوب فی عرض واحد، لأن هذه الدعوی لا أثر لها بدون ضمّها إلی بقاء الدلالة الالتزامیة للخطاب بعد سقوط الدلالة المطابقیة، إذ مع قطع النظر عن بقائها فلا طریق لنا إلی احراز بقاء الملاک بعد سقوط الدلالة المطابقیة حتی یحرز مدلوله الثانی الالتزامی و هو عدم الوجوب، و أما مع بقائها وعدم سقوطها بسقوط الدلالة المطابقیة عن الحجیّة فلا حاجة إلی هذه الدعوی، هذا إضافة إلی أن هذه الدعوی فی نفسها غیر صحیحة، لما ذکرناه فی بحث الضدّ مفصلاً من أن عدم الضد عند وجود الضد الآخر کما لایکون مستنداً إلی وجود الضد الآخر کالسکون مثلاً لاستحالة أن یکون وجود الضد مانعاً عن وجود الضد الآخر ویکون عدمه من أجزاء العلة التامة له، لما تقدم هناک من أن

ص:465

عدم أحد الضدین یستحیل أن یکون مقدمة للضد الآخر کذلک لایکون مستنداً إلی مقتضی الآخر بل هو مستند إلی عدم تمامیة مقتضیه وعدم بلوغه درجة العلیة من جهة قوة مقتضی الآخر التی تمنع عن تأثیر مقتضیه، فإذن عدم الضدّعند وجود الضد الآخر اما مستند إلی عدم وجود المقتضی له أو إلی انتفاء شرطتأثیره مع ثبوت أصل المقتضی فی مرحلة الاقتضاء أو إلی وجود المانع عن تأثیره، وعلی جمیع التقادیر فلایکون عدمه مستنداً إلی ثبوت مقتضی الآخر کمافی کلام المحقق النائینی قدس سره(1) ولا إلی وجود الضد الآخر کما مرّ وتمام الکلام هناک.

اختیار رأی المشهور

إلی هنا قد تبیّن أن الصحیح فی المسألة ما هو المشهور بین الأصحاب من أن المکلف إذا اضطرّ بغیر اختیاره إلی الصلاة فی المکان المغصوب وصلی فیه، صحت صلاته و إن قلنا بأنها متحدة مع الحرام، لأن المانع من الصحة والانطباق انما هو حرمتها و المفروض أنها قد سقطت بالاضطرار، وکذلک إذا اضطر إلی الوضوء أو الغسل بالماء المغصوب، فإن حرمته قد سقطت بالاضطرار وعلیه فیکون وضوئه أو غسله به مباحاً واقعاً، فإذا کان مباحاً صح، بقی هنا أمران:

إشارة إلی أمرین
الأول: حکم المحبوس فی المکان المغصوب قهرا

الأمر الأول: أن المحبوس فی المکان المغصوب قهراً و هو الذی لایتمکن من التخلّص عن الغصب فی الوقت یجوز له التصرّف فیه واقعاً ولکن بالمقدار الذی اضطر إلیه دون أکثر منه، فلا یجوز له أن یحفر فیه بئراً أو غیر ذلک من التصرفات غیر اللازمة وغیر المضطرّ إلیها، لأن جواز تصرفه فیه یدور مدارمقدار اضطراره سعةً وضیقاً، فلایجوز له التصرف بما لایکون مضطراً إلیه. وعلی هذا فإذا صلّی فیه صلاة المختار و هی ذات الرکوع و السجود و القیام ونحوها، فهل هی تصرف زائد علی المقدار المضطر إلیه أو لا؟

ص:466


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 371.

فیه قولان: فذهب جماعة إلی القول الأول، بدعوی أن الرکوع و السجود منه تصرف زائد فیه و هو غیر مضطر إلیه.

وبکلمة واضحة، أنه لاشبهة فی عدم جواز التصرف فی المکان المغصوب زائداً علی ما یقتضیه الاضطرار ولا کلام فی ذلک کبرویاً، وانما الکلام فی تحقیق صغری لهذه الکبری وتعیینها وتطبیق الکبری علیها، لا اشکال فی أن حفر البئر فیه أو الزرع أو البناء أو ماشاکل ذلک تصرّف زائد غیر مضطر إلیه، فلو فعله کان آثماً، وانما الاشکال فی أن تحرکاته فیه بمختلف الحرکات سواءً أکانت أینیّة أو وضعیة کانتقاله من نقطة فیه إلی نقطة اخری وکرکوعه وسجوده فیه وقیامه و حرکات أیدیة و أرجله بالحرکات الریاضیة وغیر ذلک، فهل هی تصرف زائد أو لا؟

فذهب جماعة إلی أنها تصرف زائد ومال إلیه المحقق النائینی قدس سره وقال، بأن هذه الحرکات منها الرکوع و السجود تصرف زائد بنظر العرف العام ولکنها لیست کذلک بنظر العقل(1) فله دعویان:

الاُولی: إن تلک الحرکات فیه تصرف زائد بنظر العرف عما تقتضیه طبیعة الاضطرار.

الثانیة: انهالیست بتصرف زائد بنظر العقل، و قدأفاد فی وجه الدعوی الاُولی أن المحبوس فی المکان المغصوب غیرمضطر إلی تلک الحرکات، فلهذایعدّ صدورهامنه بنظر العرف من التصرف الزائد فیعاقب علیه لأن الضرورة تتقدربقدرها.

و أما الدعوی الثانیة، فلأن العقل یری أن کل جسم من الأجسام فی الخارج سواءً أکان جسم إنسان أم غیره فله حجم خاص محدد طولاً وعرضاً وعمقاً

ص:467


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 372.

ولایختلف حجمه سعةً وضیقاً باختلاف أوضاعه واشکاله و هو یشغل المکان بمقدار حجمه بأی وضع کان أی سواءً أکان راکعاً أم ساجداً قائماً أم جالساً متحرکاً بحرکات أینیة أم وضعیة، ضرورة أن تلک الحرکات لاتوجب سعة جسمه وحجمه، فإذن هو مضطر فی التصرف فیه بمقدار سعة حجمه وهنداسه بأی شکل ووضع کان، فإذا صلّی فیه راکعاً وساجداً لم تکن صلاته بنظر العقل تصرفاً زائداً، لأنه لایشغل المکان بأکثر من مقدار حجمه بأی وضع کان، هذا.

ولکن حیث إنها تصرف زائد بنظر العُرف فلایجوز، لأن المناط انما هو بنظره فی مثل المقام لا نظره، وعلی هذا فوظیفة المحبوس عدم جواز التحرک فیه من دون ضرورة، فإذا صلّی فوظیفته الایماء والاشارة فیها بدیلاً عن الرکوع والسجود و هذا.

والصحیح فی المقام أن یقال: إن کل جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص فی تمام حالاته المختلفة وأوضاعه المتعددة وأشکاله الهندسیة المتنوعة من الطول والعرض و العمق.

ومن الواضح، أنه لایشغل المکان فی کل الحالات أزید من مقدار حجمه طولاً وعرضاً وعمقاً سواءً أکان فی حال الحرکة الأینیة کانتقاله من نقطة إلی نقطة اخری أم الوضعیة ککونه علی هیئة قائم أو قاعد أو راکع أو ساجد أوغیرها من الاشکال الهندسیة التی تتشکل بالحرکات الریاضیة بمختلف أنواعها.

ولا فرق فی ذلک بین نظر العرف ونظر العقل بداهة أن العرف لایری أن حجم جسم الانسان یتغیر زیادة ونقیصة سعةً وضیقاً باختلاف حالاته وحرکاته من الأینیة و الوضعیة ونحوهما، ضرورة أن الانسان یشغل المکان بمقدار حجم جسمه طولاً وعرضاً وعمقاً، ومن الواضح أن نسبة الشغل انما هی بنسبة الحجم

ص:468

و هی لاتختلف سعةً وضیقاً باختلاف حالاته وأوضاعه الطارئة علیه، وعلی هذا فالمحبوس فی المکان المغصوب قهراً وظلماً متصرف فیه بمقدار حجم جسمه لا أکثر ولا أقل سواءً أکان قائماً أو قاعداً راکعاً أم ساجداً متحرکاً أو ساکناً وهکذا، فإن رکوعه أو سجوده فیه لیس تصرفاً زائداً علی قیامه أو قعوده فیه وکذلک حرکته، فإنها لیست تصرفاً زائداً علی سکونه فیه، بداهة أنه متصرف فیه بمقدار حجم جسمه فی تمام هذه الحالات المختلفة، ولیس تصرفه فی حال رکوعه أو سجوده أکثر من تصرفه فی حال قیامه رغم أن حجمه لایختلف باختلاف الحالتین، ولا یقدر علی أن یشغل المکان بأکثر من حجم جسمه أویشغل بأقل منه، ومن الطبیعی أنه لا فرق فی ذلک بین نظر العرف ونظر العقل، لوضوح أن العرف لایری أنه فی حال رکوعه أو سجوده تصرف فیه بأکثر من حجم جسمه، وعلی هذا فما مال إلیه المحقق النائینی قدس سره من أن مثل الرکوع و السجود ونحوهما تصرف زائد بنظر العرف و إن لم یکن کذلک بنظر العقل غریب منه قدس سره، إذ لایعقل أن یحکم العرف بأن حرکته فیه سواءً أکانت حرکة أینیة أم کانت وضعیة کالرکوع و السجود ونحوهما تصرف زائد، ضرورة أن زیادته منوط بأحد فرضین:

الأول: سعة حجم جسمه فی هذه الحالات بأکثر مما کان فی حالة السکون و الوقوف.

الثانی: إشغاله المکان بأکثر من حجم جسمه وکلاهما محال، وأیضاً لازم ماذکره قدس سره أن علی المحبوس فی المکان المغصوب قهراً الاقتصار علی حالة واحدة فیه و البقاء علیها إلا عند الضرورة إذ الحرکة بأی نحو وشکل سواءً أکانت انتقالیة أو رکوعیة أو سجودیة أو غیرها تصرف زائد، ولازم ذلک أنه ملزم

ص:469

شرعاً بالبقاء فیه علی حالة واحدة ولایجوز له الانتقال منها إلی حالة اخری سواءً أکان الانتقال أینیاً أم وضعیاً إلاّ فی حال الضرورة و هذا کما تری، ولایمکن لأحد أن یلتزم به حتی هو قدس سره، ولعل منشأ هذا التفصیل هو تخیل أن الانسان المضطر إلی البقاء فی المکان المغصوب إذا کان باقیاً علی حالة واحدة وهیئة فاردة، فهو تصرف واحد لدی العرف العام، و أما إذا انتقل من حالة إلی حالة اخری، ومن هیئة إلی هیئة ثانیة سواءً أکان الانتقال أینیاً أم وضعیاً فهو تصرف متعدد، وحیث إنه لایکون مضطراً إلیه فقد ارتکب أکثر من محرم واحد باعتبارأن کل انتقال منه من حالة إلی اخری محرم، فلذلک یجب علیه الاقتصار علی حالة واحدة وهیئة فاردة، لأن الضرورة تتقدّر بقدرها.

ولکن هذا محض خیال لا واقع موضوعی له، لأنه مبنی علی نقطة فی غایة السقوط و هی أن البقاء فی أرض الغیر لایکون تصرفاً فیها وانما التصرف فیها الوجود الأول، ضرورة أنه لا فرق بین الوجود الأول و الوجود الثانی و الثالث وهکذا المسمی بالبقاء، فإن البقاء هو الوجود ولا فرق بینه وبین الحدوث فیه لأن کلیهما وجود، غایة الأمر أن الحدوث وجود مسبوق بالعدم و البقاء وجودمسبوق بالوجود فلو غصب شخص أرض الغیر وقام فیها، فلازم ذلک أن المحرم حدوث قیامه فیها و هو الوجود الأول لابقائه و هو الوجود الثانی و الثالث وهکذا و هو کماتری، ومن الطبیعی أن هذا التفصیل لا أساس له لا عقلاً ولاعرفاً، إذ لازم ذلک أن من غصب ملک الغیر فإن بقی فیه فی نقطة واحدة بدون أن یتحرک لا بحرکات أینیة ولا وضعیة فقد تصرف فیه تصرفاً واحد، وعلیه اثم واحد و إن لم یبق فیه بنقطة واحدة بأن یتحرک بحرکات أینیة أو وضعیة فقدتصرف بتصرفات متعددة وارتکب معاصی عدیدة، ولایمکن الالتزام بهذا اللازم، ضرورة أن البقاء هو الحدوث، غایة الأمر أنه مسبوق بالوجود، فکما

ص:470

أن وجوده الأول فیه تصرف فکذلک وجوده الثانی وهکذا، و هو فی کل آن ارتکب معصیة لأن المعیار فی کثرة التصرف فی الأرض المغصوبة، وقلته إنما هی بطول مدة البقاء فیها وقصرها لدی العرف و العقلاء لا بالحرکة و السکون فیها.

والخلاصة، أن لازم هذا التفصیل هو أن المحبوس و المضطر إذا ادخل من قبل الظالم فی المکان المغصوب کان علیه أن یبقی علی الحالة التی ادخل فیه، فإن کان قائماً فقائم و إن کان جالساً فجالس وهکذا إلاّ عند الضرورة، و قد نقل ذلک صاحب الجواهر عن بعض متفقّهی العصر بل سمعته من بعض مشایخنا المعاصرین من أنه یجب علی المحبوس الصلاة علی الکیفیة التی کان علیها أول الدخول إلی المکان المحبوس فیه أن قائماً فقائم، و إن جالساً فجالس، بل لایجوزله الانتقال من حاله إلی حالة فی غیر الصلاة أیضاً لما فیه من الحرکة التی هی تصرف فی مال الغیر بغیر اذنه، هذا کما تری، ومن هنا یظهر أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن الواجب علی المحبوس فی المکان المغصوب الاقتصار فی صلاته علی الایماء والاشارة بدیلاً عن الرکوع و السجود معللاً بأنهما تصرف زائد بلاضرورة، فإن أراد به أن خصوص الرکوع و السجود فی الصلاة تصرّف زائد دون سائر حرکاته أعمّ من الوضعیة و الأینیة. فیرد علیه أنه لافرق بین الحرکات الرکوعیة و السجودیة وسائر الحرکات، و قد تقدم أنها جمیعاً لیست تصرفاً زائداً، لأن المضطر مضطر فی التصرّف فیه بمقدار حجم جسمه فی أی حال کان ولا یختلف ذلک باختلاف حالاته وأوضاعه الطارئة علیه ولا یقدر علی تقلیله، و إن أراد به أن البقاء علی حالة واحدة فیه تصرف واحد و إن طالت مدّته، فیرد علیه ماتقدم آنفاً من أن هذا التفصیل لایرجع إلی معنی محصّل.

فالنتیجة، أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن وظیفة المضطر فی الأرض

ص:471

المغصوبة الاقتصار فی الصلاة علی الایماء والاشارة بدلاً عن الرکوع و السجود لایرجع إلی معنی محصل.

هذا تمام الکلام فی الأمر الأول.

الثانی: إذا تمکن المحبوس من التخلص عن الغصب فی الوقت فی الجملة

الأمر الثانی: و هو ما إذا تمکن المحبوس من التخلص عن الغصب فی الوقت فی الجملة ویقع الکلام فیه فی موردین:

الأول: ما إذا تمکن من الصلاة خارج المکان المغصوب فی الوقت المتسع.

الثانی: ما اذا لم یتمکن من ذلک من جهة ضیق الوقت، أما فی الفرض الأول فلا شبهة فی وجوب الخروج منه عقلاً وشرعاً فی أول أزمنة الامکان بلا أی تسامح وتساهل فی البین ولایجوز له البقاء فیه ولو آناً ما لأنه تصرف فی مال الغیر بدون إذنه اختیاراً وبدون اضطرار وضرورة، ولهذا لایجوز له الاتیان بالصلاة فیه، ضرورة أنه مع تمکنه من الاتیان بها خارج المکان المغصوب لایجوز له الاتیان بها فیه لاستلزامه التصرّف الزائد بلا مبرّر، و أما إذا فرض أنه عصی وأتی بالصلاة فیه، فهل یحکم بصحتها أو لا؟ فقد ذکر السید الاُستاذ قدس سره أن الحکم بالصحة فی المسألة وعدمها مبنی علی النزاع فی مسألة الاجتماع، فعلی القول بالامتناع فی تلک المسألة ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً، فلا مناص من الحکم بالفساد علی أساس استحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب و المبغوض مصداقاً للمحبوب، وعلی القول بالجواز فیها وتعدد الجمع فی موردالاجتماع وجوداً وماهیةً، فلا مانع من الحکم بالصحة بناءً علی امکان الترتب(1) کما هو الصحیح هذا.

ص:472


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 359.
تعلیق علی کلام السید الأستاذ قدّس سرّه

ولنا تعلیق فیه أما ما أفاده قدس سره من الحکم ببطلان الصلاة فی مورد الاجتماع علی القول بالامتناع ووحدة المجمع فیه وجوباً وماهیةً، فیرد علیه أنه لایترتب علی هذا القول مباشرة بل لابد من الرجوع إلی قواعد باب المعارضة و هو قدیترتب علی أعمال تلک القواعد کما تقدم تفصیله، و أما أفاده قدس سره من الحکم بالصحة علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع بناء علی القول بالترتب لا مطلقاً فهو غیر صحیح، لأن صحتها لاتبتنی علی القول بالترتب بل هی صحیحة من باب انطباق الواجب علی فرده علی أساس ما ذکرناه من أنه لاتزاحم بین الواجب الموسّع و المضیق ولا بینه وبین الحرام، لأن منشأ التزاحم بین الحکمین انما هو عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی عالم الامتثال باعتبارأن له قدرة واحدة، فإن صرفها فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وبالعکس، ولهذا یقع التزاحم بینهما، و أما إذا کان أحد الواجبین موسعاً و الآخرمضیقاً کالصلاة فی أول الوقت والازالة فلا تزاحم بینهما لأن المکلف قادر علی امتثال کلیهما معاً بدون أی تزاحم فی البین، لوضوح أنه لامزاحمة بین وجوب الصلاة الجامعة بین أفرادها الطولیة من المبدء إلی المنتهی وبین وجوب الازالة فی أول الوقت، وانما المزاحمة بین فردها فی أول الوقت ووجوب الازالة فیه، والمفروض عدم سرایة الوجوب منها إلی فردها، ولهذا لاتتصف أفرادها بالوجوب وعلیه فلاتزاحم بین الواجبین، لأن ما هو واجب فلایکون مزاحماً له وما هو مزاحم له و هو الفرد فلیس بواجب وعلی هذا، فإذا أتی بحصة من الصلاة المزاحمة للازالة، فهو و إن کان عاصیاً علی ترک الازالة إلاّ أن ذلک لایمنع من انطباق الصلاة المأمور بها علیها، إذ لا فرق بینها وبین سائر حصصها وأفرادها من هذه الناحیة، ولا مانع من هذا الانطباق، لأن المانع منه إنما هو فیما إذا کانت الحصة منهیاً عنها علی أساس أن الحرام لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب،

ص:473

والفرض أنها لیست بمنهیّ عنها ولو بالنهی الغیری إلاّ علی القول بأن الأمر بشیءیقتضی النهی عن ضدّه و المقام من هذا القبیل، لأن الحرام لایکون مزاحماً للواجب وإنما هو مزاحم لفرده فی مورد الاجتماع و هذه المزاحمة لاتمنع من الانطباق، فإذن لا موضوع للترتب فی المسألة علی هذا القول، فإن موضوعه وجود التزاحم بین الحکمین و المفروض عدم وجوده، فاما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أن صحة العبادة فی المقام علی القول بالجواز وتعدد المجمع وجوداً وماهیةً تتوقف علی القول بإمکان الترتب، غیر سدید.

حکم ما إذا لم یتمکن من الصلاة خارج المکان المغصوب من جهة ضیقه

هذا کله فیما إذا تمکن المکلف من الصلاة خارج المکان المغصوب فی الوقت المتّسع، و أما فی الفرض الثانی و هو ما إذا لم یتمکن من الصلاة خارج المکان المغصوب فی الوقت من جهة ضیقه، فهل یجوز له أن یصلی فیه ثم یخرج منه فوراً أو إن وظیفته الخروج منه کذلک و الصلاة فی حال الخروج إیماءً بدیلاً عن الرکوع و السجود من جهة أن الصلاة لاتسقط بحال، فیه وجهان:

وظیفة المکلف الصلاة حال الخروج

الظاهر هو الثانی، والوجه فی ذلک أن المکلف إذا کان بإمکانه الصلاة حال الخروج من المکان المغصوب و التخلص منه، فلایجوز له الاتیان بها حال الاستقرار فیه لاستلزامه التصرف الزائد بلاموجب، و اعتبار الاستقرار و الطمأنینة فیها لایصلح أن یکون مبرراً له، فإنه مضافاً إلی أن حرمة التصرف فی مال الغیر أهم من وجوب الاستقرار و الطمأنینة فی الصلاة، أن الدلیل علی اعتباره الاجماع وثبوته فی مثل المقام غیر معلوم، و أما الصلاة فی حال الخروج فهل وظیفة المکلف الاتیان بها مع الرکوع و السجود أو الاقتصار علی الایماء بدیلاً عنهما، فیه وجهان:

و رأی السید الأستاذ قدّس سرّه فیه

فذهب جماعة منهم السید الاُستاذ قدس سره إلی الوجه الثانی، و قد أفاد فی وجه

ص:474

ذلک أن عدم جواز السجود فهو واضح، لا من جهة أنه یستلزم التصرّف الزائد فقط بل من جهة أنه متحد مع الحرام فی مورد الاجتماع و الحرام لایعقل أن یکون مصداقاً للواجب(1).

و أما الرکوع فهو و إن لم یکن بنفسه تصرفاً فی مال الغیر، لما تقدم من أن الرکوع الواجب فی الصلاة متمثل فی الهیئة الحاصلة للمصلی من نسبة بعض أعضائه إلی بعضها الآخر ونسبة المجموع إلی الخارج إلاّ أنه مستلزم للمکث فیه و هو تصرّف زائد، فإذن یقع التزاحم بین وجوب الصلاة مع الرکوع وحرمة التصرف الزائد فلابد عندئذٍ من الرجوع إلی مرجحات باب المزاحمة، وحیث إن وجوب الرکوع مشروط بالقدرة الشرعیة وحرمة التصرّف فی مال الغیرمشروطة بالقدرة العقلیة، فلابد من تقدیم ما هو مشروط بالقدرة العقلیة علی ماهو مشروط بالقدرة الشرعیة.

و إن شئت قلت: إن أرکان الصلاة بعرضها العریض و إن کانت مشروطة بالقدرة العقلیة إلاّ أن کل مرتبة من مراتبها مشروطة بالقدرة الشرعیة، وعلل ذلک بأن لکل مرتبة من مراتبها بدل وکلما کان له بدل فهو مشروطبالقدرة شرعاًهذا.

المناقشة فی رأی السید الأستاذ قدّس سرّه

وللمناقشة فیه مجال صغری وکبری، أما الکبری و هی أن المشروط بالقدرة العقلیة یتقدم علی المشروط بالقدرة الشرعیة و إن کانت مشهورة بین الأصحاب إلا أنها لاتتم بنحو الاطلاق، وذلک لما ذکرناه فی بحث الضدّ من أن المراد من القدرة العقلیة هو ما یکون دخیلاً فی الحکم فقط علی أساس حکم العقل بقبح تکلیف العاجز دون الملاک، والمراد من القدرة الشرعیة هو ما یکون دخیلاً فی الحکم و الملاک معاً ومع انتفاءالقدرة ینتفی الحکم و الملاک کذلک، وعلی هذا فالقدرة

ص:475


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 398.

المأخوذة فی لسان الدلیل شرعاً فهی علی معان متعددة بتعددالموارد و المقامات:

الأول: إنها بمعنی القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الاضطراری.

الثانی: إنها بمعنی القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الأعم من الاضطراری والاختیاری.

الثالث: إنها بمعنی عدم المانع الأعم من التکوینی و التشریعی، وعلی هذا فإذا وقع التزاحم بین المشروط بالقدرة العقلیة و المشروط بالقدرة الشرعیة بأحد المعنیین الأخیرین یتقدم الأول علی الثانی بل لایعقل التزاحم بین المشروط بالقدرة العقلیة و المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثالث، فإن الثانی ینتفی بانتفاء موضوعه بمجرد ثبوت الأول فکیف یعقل أن یزاحمه، وعلی هذا فاشتراط کل مرتبة من مراتب الصلاة بالقدرة شرعاً غیر ثابت، فإن المراد من المشروط بالقدرة الشرعیة ما کانت القدرة مأخوذة فی لسان دلیله نصاً کقوله تعالی:«وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً» (1).

و أما إذا کان اشتراطه بالقدرة مستفاداً من القرائن الخارجیة فلا دلیل علی أنها شرط للملاک فی عالم المبادی أیضاً وما نحن فیه کذلک، فإن اشتراط الرکوع بالقدرة انما هو مستفاد من اشتراط وجوب بدله بعدم القدرة علیه بقرینة أن الجمع بین البدل و المبدل لایمکن، لأنه خلف فرض البدلیّة بینهما کما هو الحال فی الوضوء، و قد تقدم تفصیل ذلک فی ضمن البحوث المتقدمة، ومع الاغماض عن ذلک، فلا دلیل علی أن کل مرتبة من مراتبها مشروطة بالقدرة بالمعنی الثالث ولابالمعنی الثانی لاحتمال أنها مشروطة بالقدرة بالمعنی الأول، فعندئذٍ لاوجه لتقدیم المشروط بالقدرة العقلیة علی المشروط بالقدرة الشرعیة بهذا المعنی، وعلی

ص:476


1- (1) - سورة آل عمران آیة 97.

أساس ذلک فإذا وقع التزاحم بین المشروط بالقدرة العقلیة و المشروط بالقدرة الشرعیّة فلایحکم بتقدیم الأول علی الثانی، إلا بعد احراز أن الثانی مشروط بالقدرة الشرعیة بأحد المعنیین الأخیرین، و أما إذا کان مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول فلا وجه للتقدیم.

الکلام فی صغری المسألة

فالنتیجة، إن الکبری غیر ثابتة، و أما الصغری و هی أن کل واجب له بدل فی الشرع فهو مشروط بالقدرة الشرعیة، و قد افید فی وجه ذلک أن ما لیس له بدل فی الشرع، فإن أخذت القدرة فی لسان دلیله فهو مشروط بالقدرة الشرعیة وإلاّفمشروط بالقدرة العقلیة، و أما ما له بدل فیه مشروط بالقدرة الشرعیة، لأن نفس بدلیة شیءعنه تدل علی أن وجوب البدل مشروط بعدم القدرة علی المبدل.

ونتیجة ذلک، أن وجوب المبدل مشروط بالقدرة علیه، مثلاً وجوب التیمم بمقتضی الآیة الشریفة و الروایات مشروط بعدم القدرة علی الضوء، ولازم ذلک أن وجوب الوضوء مشروط بالقدرة علیه، وإلاّ لزم اجتماع وجوب البدل و المبدل معاً علی المکلف فی آن واحد، أما وجوب البدل فلتحقق شرطه و هوعدم القدرة علی المبدل، و أما وجوب المبدل فلفرض أنه غیر مشروط بالقدرة، و هذا خلاف التفصیل فی الآیة الشریفة القاطع للشرکة وخلف فرض أن البدل فی طول المبدل هذا.

وللمناقشة فیه مجال، وذلک لما ذکرناه فی بحث الضدّ موسعاً من أن القدرة إذاکانت مأخوذة فی لسان الدلیل فی مقام الجعل کالآیة الشریفة ونحوها، ظاهرة فی التأسیس وإنها شرط للحکم فی مرحلة الجعل وللملاک فی مرحلة المبادی کما هوالحال فی سائر القیود المأخوذة فی لسان الدلیل فی هذا المقام، ولایمکن حمل القدرة المأخوذة فی لسان الدلیل علی التأکید لحکم العقل إلاّ إذا کانت هناک قرینة

ص:477

علی أن غرض المولی من أخذها فی لسان الدلیل الارشاد إلی حکم العقل وتأکیده وإلاّ فهی ظاهرة کسائر القیود فی التأسیس ودخلها فی الحکم و الملاک معاً، والسبب فی ذلک أن المولی إذا أخذ قیداً فی لسان الدلیل فلایمکن أن یکون هذا جزافاً ولغواً بأن یکون وجوده کعدمه، فلا محالة یکون مبنیاً علی نکتة تبررأخذه فیه وتلک النکتة هی أنه شرط للحکم و الملاک معاً، وکذلک الحال فی القدرة إذا أخذت فی لسان الدلیل، و أما إذا لم تکن القدرة مأخوذة فی لسان الدلیل نصاً وإنما استفید ذلک من القرینة الخارجیة کالملازمة بین اشتراط وجوب البدل بعدم القدرة علی المبدل وبین اشتراط وجوب المبدل بالقدرة علیه فلاظهور لها فی التأسیس، لأن ملاک ظهورهافیه غیرمتوفرو هو ظهورحال المتکلم فی أن أخذها فیه لایمکن أن یکون جزافاً وبلا فائدة، وحینئذٍ فلا مانع من حملها علی التأکید لحکم العقل ومانحن فیه من هذا القبیل، فإن عدم الوجدان المأخوذ فی لسان الآیة الشریفة و هی قوله تعالی:«فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» یوجب تضییق حکم المبدل وتخصیصه بحال القدرة، ومن الواضح أن ذلک لایقتضی کون القدرة شرعیة ودخیله فی الملاک وفی مرحلة المبادی لعدم توفرالنکتة الموجبة لظهورها فی التأسیس.

وبکلمة، قد ذکرنا فی محله أن المراد من الوجدان فی الآیة الشریفة القدرة بالمعنی الأعم من القدرة العرفیة وعدمه مأخوذ فی الآیة فی موضوع وجوب التیمم بالمطابقة من قبل المولی، و أما الوجدان فهو غیر مأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء و الغسل فیها کذلک، وإنما استفید أخذه فی موضوعهما من القرینة الخارجیة و هی أن التفصیل بین وجوب الوضوء و الغسل وبین وجوب التیمم فی الآیة قاطع للشرکة بینهما ومانع عن اجتماع حکمها علی المکلف فی زمن واحد، ومن الواضح أن القرینة الخارجیة لاتدل علی أکثر من تقیید وجوب الوضوء و الغسل بالوجدان و هو القدرة، و أما أنه دخیل فی الملاک أو أنه غیر

ص:478

دخیل فیه، فهی لاتدل علیه، لأن ملاک هذه الدلالة غیر متوفر فیها إذ ملاکها هوعنایة المولی فی أخذه فی موضوع وجوب المبدل و هذه العنایة غیر متوفرة فی القرینة المذکورة، فإذن لاتکشف القرینة إلاّ عن أن ما أخذ فی موضوع وجوب البدل فنقیضه مأخوذ فی موضوع وجوب المبدل، وفی الآیة الشریفة حیث إن عدم الوجدان مأخوذ فی موضوع وجوب التیمم، فنقیضه البدیل له و هوالوجدان مأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء و الغسل بدلالة تلک القرینة، و أماکونه دخیلاً فی الملاک فی المرتبة السابقة، فالقرینة ساکتة عنه، فإذن لاتکشف القرینة أکثر مما هو ثابت فی نفسه بحکم العقل و هو اعتبار القدرة علی أساس قبح تکلیف العاجز، لأنها تکشف عن تقیید حکم المبدل وتضییقه بالقدرة و لاتکشف عن تقییده فی المرتبة السابقة و هی مرتبة الملاک، وعلیه فلا تدل القرینة علی أن القدرة شرعیة ودخیله فی الملاک فی مرحلة المبادی، ومماذکرناه یظهرأمران:

الأول: إن قید عدم الوجدان مأخوذ فی موضوع وجوب التیمم فی الآیة الشریفة بالمطابقة، فلهذا یکون قیداً للحکم و الملاک، بینما قید الوجدان غیرمأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء و الغسل بالمطابقة وانما استفید ذلک من القرینة الخارجیة، فلهذا لایکون إلا تأکیداً لحکم العقل لا تأسیساً.

الثانی: إن قید القدرة یمتاز عن سائر القیود فی نقطة و هی أن سائر القیود غیرقابلة للحمل علی التأکید باعتبار أنها غیر مسبوقة بحکم العقل فی موردها بینماقید القدرة قابل للحمل علی التأکید لحکم العقل فی مورده.

فالنتیجة، إن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من الکبری الکلیة، و هی أن کلما کان له بدل شرعاً فهو مشروط بالقدرة الشرعیة فلایتمّ، فإذن لایمکن أن یکون تقدیم مالیس له بدل علی ماله البدل من باب تقدیم المشروط بالقدرة العقلیة علی

ص:479

المشروط بالقدرة الشرعیة هذا.

الصحیح فی المقام

فالصحیح فی المقام أن یقال: إن التزاحم إذا وقع بین مالیس له بدل وماله بدل، فإنّ علم من الخارج بسبب من الأسباب أن ملاک ماله بدل أهمّ من ملاک مالیس له بدل فلا کلام حینئذٍ فی تقدیمه علیه و إن لم یعلم بذلک واحتمل أهمیّة ملاک کل منهما علی الآخر کما احتمل التساوی بینهما، وفی مثل ذلک لابد من تقدیم مالیس له بدل علی ماله بدل، وذلک لأن المکلف إذا اشتغل بمالیس له بدل فقد عجز عن المبدل، فإذا عجز عنه تحقق موضوع وجوب البدل الذی یتدارک جزء مهم من ملاک المبدل بالاتیان به، وعلیه فیکون الفائت جزء منه لاتمامه، فإذن یکون التزاحم فی الحقیقة بین تمام ملاک مالیس له بدل وجزء من ملاک ماله بدل، ومن الطبیعی أن تمام ملاک مالیس له البدل أهمّ من جزء ملاک ماله البدل أو لا أقل من احتمال أهمیّته.

وبکلمة واضحة، أن التزاحم فی الحقیقة انما هو بین ملاک المبدل وحده وملاک مجموع مالیس له البدل و البدل معاً، ومن المعلوم أن الثانی أهمّ من الأول، والنکتة فی ذلک أنه یوجد بالنسبة إلی ملاک کل مالا بدل له وماله بدل احتمال الأهمیة فی نفسه و هذان الاحتمالان متقابلان ویوجد احتمال التساوی بینهما فی الملاک، و هذا الاحتمال فی صالح ترجیح مالیس له بدل علی ماله البدل باعتبار أنه إذا أضیف إلی ملاک مالیس له بدل جزء مهم من ملاک المبدل الذی یستوفی بالبدل، انقلب احتمال التساوی إلی احتمال الأهمّ علی أساس احتمال أهمیة ملاک المجموع عن ملاک المبدل وحده، حیث إن فی المجموع منشئین لاحتمال الأهمیّة.

أحدهما: احتمال أن ملاک مالیس له البدل أهمّ فی نفسه من ملاک ماله البدل کذلک.

الثانی: إن ملاکه إذا کان مساویاً مع ملاک المبدل فی نفسه، فبإضافة ملاک

ص:480

البدل إلیه أصبح أهم وأقوی من ملاک المبدل فمن أجل ذلک یکون احتمال أهمیة ملاکه أکبر وأقوی من احتمال أهمیّة ملاک المبدل باعتبار أن فیه احتمالاً واحداً للأهمیة، وفی ذاک احتمالین للأهمیة مثال ذلک، إذا کان عند المکلف ماءً لایکفی إلاّ للوضوء أو إزالة النجاسة عن المسجد، فیدور الأمر بین صرفه فی الوضوء أو الازالة، وحینئذٍ فإن علم بأهمیّة ملاک أحدهما المعین أو قام دلیل من الخارج علی تقدیمه علی غیره المزاحم له، فلا اشکال وإلاّ فیوجد هنا ثلاثة احتمالات:

الأول: احتمال أن یکون ملاک الازالة أهم فی نفسه من ملاک الوضوء کذلک.

الثانی: احتمال عکس ذلک. و هذا الاحتمالان متقابلان.

الثالث: احتمال تساوی الملاکین، و هذا الاحتمال فی صالح ترجیح مالیس له بدل علی ماله البدل کما مرّ، وعلی هذا الأساس فمقتضی التقیید اللبّی العام یکون وجوب الوضوء مقیداً لباً بعدم الاشتغال بالازالة باعتبار أنها لاتقل عنه فی الأهمیة، و أما وجوب الازالة فهو لایکون مقیداً لباً بعدم الاشتغال بالوضوءلاحتمال أن ملاک وجوب الوضوء وحده أقل من ملاک وجوب الازالة بإضافة ملاک البدل إلیه، فإذن ملاک هذا التقیید اللبّی بالنسبة إلی وجوب الازالة غیرموجود فلاوجه لتقییده لباً، لأن التزاحم فی الحقیقة بین ملاک الازالة و المقدارمن ملاک الوضوء بلحاظ أن المکلف یستوفی بالتیمم جزءً مهمّاً من ملاکه، فإذاکان التزاحم حقیقة بینهما فملاک التقیید اللبّی بالنسبة إلی وجوب الوضوء موجود و أما بالنسبة إلی وجوب الازالة غیر موجود، لاحتمال أن ملاکه أهم من ملاک الوضوء الفائت بالاشتغال بالازالة دون العکس ومعه لا مبرر لتقیید اللبّی، ومن هنا إذا اشتغل المکلف بالازالة وصرف الماء فیها عجز عن الوضوء و إذا عجز عنه تحقق موضوع وجوب التیمم، وحینئذٍ فلایفوت عنه إلاّ مقدارمن ملاک الوضوء

ص:481

دون العکس، فإنه إذا توضأ به فات عنه تمام ملاک الازالة باعتبار أن التزاحم فی الحقیقة انما هو بین ملاک الوضوء وحده وملاک مجموع من الازالة و التیمم، واحتمال أهمیة ملاک المجموع أقوی وأکبر من احتمال أهمیة ملاک الوضوء وحده.

وعلی ضوء هذا الأساس، ففی کل مورد إذا وقع التزاحم بین واجبین، فإذاکان لاحتمال أهمیّة ملاک أحدهما منشئان ولأهمیة ملاک الآخر منشأً واحد یتقدم الأول علی الثانی، لأن قیمة احتمال أهمیة الأول أکبر من قیمة احتمال أهمیة الثانی، فإذن لابد من التقدیم، کما إن احتمال أهمیة ملاک أحدها من الآخر موجب لتقدیمه علیه، وعلی هدی هذه الکبری لابد من تقدیم مالیس له بدل علی ماله البدل إذا وقع التزاحم بینهما، وعلیه فتکون وظیفة المکلف فی المسألة تقدیم الصلاة إیماء فی حال الخروج من المکان المغصوب علی الصلاة مع الرکوع تطبیقاً للکبری المذکورة علیها.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، و هی أن مالیس له بدل بعنوانه لیس من أحد مرجحات باب المزاحمة علی ماله بدل بل یرجع ترجیحه إلی أحدالمرجحات الاُخری، و هو الترجیح بالأهمیة أو بقوة الاحتمال، هذا تمام الکلام فی المقام الأول، و هو ما إذا کان الاضطرار بغیر سوء الاختیار.

نتیجة هذا البحث

نتیجة هذا البحث

نتیجة هذا البحث عدّة نقاط:

الاُولی: إن الاضطرار إذا کان بغیر سوء الاختیار کالمحبوس فی الأرض المغصوبة قهراً بدون اختیار، فلا اشکال فی سقوط الحرمة عنه بهذا الاضطرارلأنه مانع فیها عقلاً وشرعاً، و أما صلاته فیها، فعلی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیة فلاشبهة فی صحتها، و أما علی القول بالامتناع ووحدة المجمع کذلک، فالمعروف و المشهور هو صحتها أیضاً لأن المانع منها

ص:482

حرمتها و المفروض أنها ترتفع بالاضطرار حقیقة ومع ارتفاعها کذلک لا مانع من الصحة و هذا هو الصحیح.

الثانیة: إن مانعیة الحرمة التکلیفیة المستفادة من النهی المولوی تمتاز عن المانعیة المستفادة من النهی الارشادی فی نقطة واحدة و هی أن الحرمة التکلیفیة حیث إنها ترتفع بالاضطرار، فبارتفاعها ترتفع المانعیة وحینئذٍ فلا مانع من صحة الصلاة، بینما المانعیة المستفادة من النهی الارشادی لاترتفع بالاضطرار إذاکان دلیلها لفظیاً ومطلقاً، لأنها حینئذٍ ثابتة مطلقاً حتی فی حال الاضطرار و النسیان، غایة الأمر یسقط الأمر بالصلاة التامة فی هذه الحالة للعجز عنها و الأمر الجدید بالباقی بحاجة إلی دلیل و هو موجود فی باب الصلاة.

الثالثة: إن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن مانعیة الحرمة لاترتفع بالاضطرار و المرفوع به انما هو الحرمة فقط، و قد استدل علی ذلک بأن المانعیّة مدلول التزامی و الحرمة مدلول مطابقی ولایسقط المدلول الالتزامی بسقوط المدلول المطابقی عن الحجیّة، واُخری بأن المانعیة مستفادة من مزاحمة الواجب مع الحرام فی مورد الاجتماع علی تفصیل تقدّم، لایمکن المساعدة علیه بوجه.

الرابعة: إن المضطر فی التصرف فی المکان المغصوب کالمحبوس قهراً یجوز له التصرف فیه واقعاً بحدود الاضطرار لا أکثر، فلایجوز له التصرف الزائد کحفربئر أو زرع أو نحو ذلک، و إذا صلی فیه صلی مع الرکوع و السجود لأنهما لیساتصرفاً زائداً فیه خلافاً للمحقق النائینی قدس سره حیث قال: انهما تصرف زائد، ولکن تقدم أنه لاوجه له أصلاً و النکتة فیه، أن المضطرّ فی المکان المغصوب متصرف فیه بمقدار حجم جسمه طولاً وعرضاً، وعمقاً ومن الواضح أنه لایختلف سعةً وضیقاً باختلاف حالاته وأوضاعه الطارئة علیه.

ص:483

الخامسة: أن ما قیل من أن الواجب علی المحبوس فی المکان المغصوب أن یبقی علی الحالة التی أدخل فیه، لأن کل تحرک منه سواءً أکان أینیاً أو وضعیاًتصرف فیه فلا أصل له، لأنه مبنی علی نقطة خاطئة و هی أن بقائه فیه لیس تصرّفاً وإنما التصرف فیه حدوث و هو کما تری، ضرورة أنه لافرق بین الحدوث والبقاء من هذه الناحیة أصلاً لا عقلاً ولا عرفاً.

السادسة: إن المحبوس إذا کان قادراً علی التخلص من الغصب فی الوقت المتسع وجب علیه الخروج فوراً و الصلاة فی الخارج، و أمّا إذا تسامح ولم یخرج وصلّی فیه، فعلی القول بالامتناع ووحدة المجمع فی مورد الاجتماع فصلاته باطلة، و أما علی القول بالجواز وتعدد المجمع فیه، فهی صحیحة من باب الانطباق لا من باب الترتب کما ذکره السید الاُستاذ قدس سره.

السابعة: إن وظیفة المضطر إذا کان قادراً علی التخلّص من الغصب فی الوقت المضیّق الاتیان بالصلاة حال الخروج من المکان المغصوب مع الإیماء بدیلاً عن الرکوع و السجود، أما السجود فلأنه متحد مع الغصب، و أما الرکوع فهو یوجب المکث فی المکان المغصوب و هو تصرف زائد، وحینئذٍ تقع المزاحمة بین حرمة هذا التصرف ووجوب الصلاة مع الرکوع، ولابد من تقدیم الحرمة علی الوجوب لا من باب أن الأول مشروط بالقدرة العقلیة، والثانی مشروط بالقدرة الشرعیة، فإن کبری تقدیم الأول علی الثانی غیر ثابتة، ولا من باب تقدیم مالیس له بدل بعنوانه علی ماله بدل کذلک، إذ هذه الکبری أیضاً غیر ثابتة بل بملاک آخر هو أن احتمال أهمیة ملاکه أکبر وأقوی من احتمال أهمیة ملاک الثانی، فإذن یرجع هذا الترجیح إلی الترجیح بالأهمیّة.

ص:484

الاضطرار بسوء الاختیار

أما الکلام فی المقام الثانی و هو الاضطرار بسوء الاختیار، کما إذا دخل شخص مکاناً مغصوباً باختیاره عالماً ملتفتاً، فیقع فی مسائل:

الاُولی: فی حکم الفعل المضطر إلیه بهذا الاضطرار.

الثانیة: فی حکم الخروج من المکان المذکور.

الثالثة: فی حکم الصلاة حال الخروج.

أما المسألة الاُولی، فی حکم الفعل المضطر إلیه بهذا الاضطرار

فلا شبهة فی أن هذا الاضطرار لایرفع مسؤولیة عن المکلف واستحقاقه الادانة و العقوبة، لأن الساقط بالاضطرار انما هو حرمة الفعل بما هی اعتبار واما مبغوضیته فهی باقیة ولا موجب لسقوطها به بعد ماکان بسوء الاختیار، اما سقوط الحرمة، فمن جهة أن توجیه النهی عن التصرف فی مال الغیر إلی من لایتمکن من التخلص عنه، یکون لغواً، و أما مبغوضیة الفعل واشتماله علی المفسدة فلاموجوب لسقوطها، ومن هنا یستحق العقاب علیه ولایکون ذلک من العقاب علی مالیس بالاختیار، لأن الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار بل یؤکده. فالنتیجة، أنه لا شبهة فی استحقاق العقوبة علی التصرف فی المکان المغصوب لأنه و إن کان مضطراً إلیه إلاّ أنه لما کان مستنداً إلی سوء اختیاره، فلا مانع من العقاب علیه حیث إنه فی النهایة عقاب مع الاختیار.

المسألة الثانیة فی حکم الخروج من المکان المذکور و الأقوال فیه

و أما المسألة الثانیة، فهی متمثلة فی حکم الخروج من المکان المغصوب وفیه أقوال:

ص:485

القول الأول: أن الخروج محرّم فعلاً باعتبار أنه تصرّف فی مال الغیر، والاضطرار إلیه حیث إنه کان بسوء الاختیار فوجوده وعدمه علی حدّ سواء وعلیه فلایکون رافعاً للحکم و هو الحرمة.

الاضطرار بسوء الاختیار

القول الثانی: أنه واجب وحرام بالفعل معاً، أما أنه واجب فعلاً فمن جهة أنه لایخلو من أن یکون مقدمة للتخلص عن الحرام الذی هو واجب عقلاً وشرعاً علی أساس أن مقدمة الواجب واجبة بحکم العقل و الشرع أو یکون مصداقاً للتخلص الواجب علیه فعلاً، وعلی کلا التقدیرین فالخروج واجب فعلاً، غایة الأمر أنه علی الأول واجب بوجوب غیری، وعلی الثانی واجب بوجوب نفسی باعتبار انطباق عنوان التخلص علیه، اما أنه حرام من جهة أنه مصداق المتصرف فی مال الغیر بدون طیب نفسه، ونسب هذا القول إلی أبی هاشم المعتزلی ویظهر اختیاره من المحقق القمّی قدس سره(1).

وهذ القول یرتکز علی رکیزتین:

الاُولی: إن المقام داخل فی کبری قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختیار للاختیار عقاباً وخطاباً.

الثانیة: الالتزام بوجوب الخروج عنه أما بملاک أنه مقدمة للتخلّص عن الحرام ومقدمة الواجب واجبة، أو بملاک أنه فی نفسه واجب بعنوان التخلّص.

القول الثالث: إنه واجب فعلاً وحرام بالنهی السابق الساقط بالاضطرار، واختار هذا القول المحقق صاحب الفصول قدس سره(2).

ص:486


1- (1) - قوانین الاصول ص 153.
2- (2) - الفصول الغرویة ص 138.

القول الرابع: إن الخروج واجب بالفعل فحسب ولایکون محرماً بالنّهی الفعلی ولا بالسابق الساقط بالاضطرار، واختار هذا القول شیخنا الأنصاری قدس سره(1). وتبعه فیه المحقق النائینی قدس سره.

القول الخامس: إن الخروج لایکون محکوماً فعلاً بشیء من الأحکام الشرعیة. نعم، أنه منهیّ عنه بالنهی السابق بمعنی أن الخطاب التحریمی و إن سقط عنه بالاضطرار إلاّ أن روحه وملاکه موجود فیه، و قد أختار هذا القول المحقق الخراسانی قدس سره(2).

النظر فی الأقول

وبعد ذلک ننظر إلی هذه الأقوال:

أما القول الأول، فلا شبهة فی بطلانه، لأن اضطراره إلی التصرف فی مال الغیر و إن کان بسوء اختیاره إلاّ أنه مع هذا الاضطرار لایکون قادراً علی ترک التصرف فیه، ومعه لایمکن أن یوجّه النهی إلیه عنه فعلاً لأنه لغو وجزاف حیث إنه من التکلیف بغیر المقدور.

و أما القول الثانی، فهو أیضاً باطل بحسب الصغری و الکبری معاً، أما الکبری فلأن شیئاً واحداً لایمکن أن یکون واجباً وحراماً معاً ومحبوباً ومبغوضاً کذلک و إن کان أحدهما نفسیاً و الآخر غیریاً، فکما أن الحب و البغض النفسیین لایمکن اجتماعهما فی شیء واحد، فکذلک إذا کان أحدهما نفسیاً، والآخر غیریاً، أو کلاهما غیریاً، و أما الصغری فلأنه لا منشأ لوجوبه إلاّ تخیل أحد أمرین:

ص:487


1- (1) - مطارح الأنظار ص 155.
2- (2) - کفایة الاصول ص 173.

الأول: إن الخروج مقدّمة للتخلّص الواجب ومقدمة الواجب واجبة.

والجواب: أولاً: إن التخلص عن الحرام لیس من أحد الواجبات فی الشریعة المقدسة بل هو واجب بحکم العقل بملاک التخلص من العقاب الزائد.

وثانیاً: إن مقدمة الواجب لیست بواجبة إذ لاملازمة بین وجوب شیءو وجوب مقدمته لا قهراً ولا جعلاً کما تقدم فی مبحث المقدمة.

وثالثاً: إن المقدمة انما تکون واجبة إذا لم تکن محرمة ومبغوضة، والفرض أن الخروج مبغوض باعتبار أنه تصرف فی مال الغیر بسوء الاختیار فلایمکن أن یکون محبوباً ولو مقدمة.

الثانی: إن الخروج حیث إنه مصداق للتخلّص الواجب فیکون واجباً.

والجواب: أولاً، أن التخلص لیس بواجب شرعی کما عرفت.

وثانیاً: إن ذلک مبنی أن یکون المراد من التخلص الکون فی خارج الأرض المغصوبة فی مقابل الکون فیها، ومن الواضح أن الکلام لیس فی حکم ذلک وإنماهو فی حکم الخروج منها وأنه مصداق للتخلص أولاً.

وثالثاً: إن الکون فی خارج الأرض المغصوبة لیس بواجب شرعی وإنما هو واجب عقلاً هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخری، أنه لایمکن اتصافه بالحرمة فعلاً أیضاً لما تقدم من أنها لغو باعتبار أن هذا المقدار من التصرف و هو التصرف الخروجی ضروری و هو لایقدر علی ترکه، و أما قاعدة الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار، فلاتدل علی بقاء الخطاب التحریمی بما هو اعتبار کیف، فإن بقائه لغو وانما تدل علی بقاء روحه وحقیقته و هی المبغوضیة و المفسدة وأنه مسؤول ومعاقب باعتبار أن ارتکاب المبغوض مستند إلی اختیاره فی نهایة

ص:488

الشوط، فإذن هذه القاعدة تدل علی أنه معاقب بملاک أن الامتناع بالاختیاریؤکد الاختیار لا أنه ینافیه.

فالنتیجة، أن هذا القول لایرجع إلی معنی محصّل.

و أما القول الثالث، و هو أن الخروج واجب فعلاً ومنهی عنه بالنهی السابق الساقط بالاضطرار، فقد ظهر مما ذکرناه آنفاً أن الخروج لیس بواجب لابوجوب نفسی ولا غیری. ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه واجب فعلاً إلاّ أنه لایمکن اجتماعه مع النهی السابق فی شیء واحد، وذلک لأن زمن الوجوب و إن کان غیر زمن النهی السابق فلیسا بمعاصرین من حیث الزمان، لأن زمن النهی السابق انما هو قبل دخول الشخص فی المکان المغصوب و أما بعد دخوله فیه فهو ساقط بالاضطرار فلایمکن توجیهه إلیه لأنه لغو، بینما یکون زمان الوجوب بعد الدخول فیه والاضطرار إلی الخروج منه، إلا أن زمان المتعلق و هوالخروج واحد فی کلیهما لأنه متعلق للنهی السابق و الوجوب الحالی معاً، والنهی السابق عنه کاشف عن أنه مبغوض ومشتمل علی مفسدة ملزمة، والوجوب المتعلق به فعلاً کاشف عن أنه محبوب ومشتمل علی مصلحة ملزمة، و قد ذکرناغیر مرّة أن المضادة بین الوجوب و الحرمة وعدم امکان اجتماعهما فی شیء واحدانما هی باعتبار عالم المبادی وعالم الاقتضاء لا عالم الجعل بما هو اعتبار، اما فی عالم المبادی فلأن المصلحة مضادة مع المفسدة والارادة مع الکراهة و الحبّ مع البغض ویستحیل اجتماعهما فی شیء واحد لأنه من اجتماع الضدّین، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الحب و البغض نفسیین أو غیریین أو أحدهما نفسیاً و الآخرغیریاً وکذلک الارادة و الکراهة وعلی هذا، فالنهی عن الخروج و إن کان ساقطاً فعلاً بالاضطرار إلاّ أنه لما کان بسوء الاختیار کان ملاکه باقیاً ومعه لایمکن تعلق

ص:489

الوجوب به فعلاً، وإلاّ لزم اجتماع الضدّین فی عالم المبادی وکذلک فی عالم الاقتضاء، لأن وجوبه فیه یقتضی تحریک المکلف نحوه، و أما نهیه بروحه وحقیقته الباقیة یقتضی الاجتناب والابتعاد عنه ولایمکن الجمع بینهما لأنه من الجمع بین المتنافیین.

والخلاصة: إن المعیار فی الاستحالة و الإمکان انما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدّده، فإن کان واحداً استحال تعلق الوجوب و الحرمة به سواءً أکان زمانهما واحداً أم کان متعدداً، و إن کان متعدداً فلامانع من تعلق الوجوب به فی زمان و الحرمة فی زمان آخر، و إن کان زمان نفس الوجوب و الحرمة واحداً کما إذا فرضنا أن المولی أمر عبده بالجلوس فی المسجد یوم الجمعة ونهی عنه یوم السبت، فإنه لا مانع منه و إن کان زمان الأمر و النهی واحداً ولکن لایمکن أن یأمره بالجلوس فیه یوم الجمعة ونهی عنه فی نفس الیوم و إن کان أمره به فی زمان ونهیه عنه فی زمان آخر، هذا فی الأحکام التکلیفیّة واضح، وهل الأمرکذلک فی الأحکام الوضعیّة فیه قولان:

الکلام فی الأحکام الوضعیة

فذهب المحقق النائینی قدس سره إلی القول الأول، وقال: أن ملاک الاستحالة و الإمکان فی کلا البابین واحد، و قد علّق فی حاشیته علی المکاسب فی بحث الفضولی علی ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره فی هامشه علیه. وعلی هذا فینبغی لنا أولاً بیان ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره فی هامشه علی المکاسب ثم بیان ما علقه المحقق النائینی قدس سره علیه:

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی حاشیة المکاسب

أما الأول: فملخّصه أن القول بالکشف الحقیقی و هو ثبوت مضمون العقد من حینه حقیقة إذا تحققت الإجازة فیما بعد غیر معقول، و أما الکشف الحکمی الذی هو متمثل فی حکم الشارع بعد الإجازة بثبوت مضمون العقد من حینه بأن

ص:490

یکون الاعتبار من الآن و هو آن الاجازة و المعتبر من حین العقد فلا مانع منه، فلو باع شخص مال غیره فضولةً بثمن معین من آخر وبعد فترة زمنیة أجاز المالک البیع، فإذا أجازه اعتبر الشارع من زمن الاجازة ملکیّة المال للمشتری من حین صدور البیع وتحققه، فالمعتبر متقدم زمناً والاعتبار متأخّر کذلک، ولوأجار شخص دار غیره من آخر فضولةً بإجارة معیّنة إلی فترة محددة، فإذا أجاز المالک عقد الإیجار فی أثناء المدة أو حتی بعد انتهائها، تحقق منشأ انتزاع ملکیة المنفعة للمستأجر فی تمام فترة الاجارة کما أنه تحقق منشأ انتزاع ملکیة عوض المنفعة فی هذه الفترة للمالک، ومن هذا القبیل لو عقد علی أمرأة بعقد التمتّع من آخر فی مدّة معیّنة وبمهر محدّد فضولة، فإذا أجاز من له العقد اعتبر من آن الاجازة زوجیتها له من حین صدور العقد کما أن المهر من الآن أصبح ملکاً لهامن حین العقد فالمعیار انما هو بتعدّد زمان الاعتبار، فإذا کان زمان اعتبار ملکیة مال لشخص غیر زمان اعتبار ملکیته لآخر، فلا مانع من أن یکون زمان المعتبر واحداً، مثلاً فی الفترة الزمنیة المحددة بین العقد الفضولی والاجازة کان المال ملکاً للمالک الأول بالاعتبار السابق، فإذا أجاز المالک العقد أصبح المال من الآن ملکاً للمشتری أو المستأجر فی نفس هذه الفترة الزمنیة المحدّدة فیکون المال الواحد ملکاً لاثنین فی زمن واحد باعتبارین مختلفین زماناً ولا مانع من ذلک.

فالنتیجة، أنه لا محذور من أن یکون مال واحد فی زمن واحد موضوعاً لملکیة زید وملکیة عمرو معاً إذا کان زمان اعتبار إحداهما غیر زمان اعتبار الاُخری، ومن هنا تختلف الأحکام الوضعیّة عن الأحکام التکلیفیة، فإن المعیارفی الأحکام التکلیفیة انما هو بتعدد زمان المعتبر سواءً أکان زمان الاعتبار واحداً أم کان متعدداً بینما یکون المعیار فی الأحکام الوضعیة علی عکس ذلک تماماً کما

ص:491

عرفت(1) هذا.

تعلیق المحقق النائینی قدّس سرّه علیه

و أما تعلیق المحقق النائینی قدس سره علی ذلک فملخّصه: «أن اختلاف زمان اعتبارملکیة مال واحد لشخصین لایدفع إشکال اجتماع مالکین علی مملوک واحد فی زمن واحد، لأن اختلافهما کاختلاف زمانی الحکم بحکمین متضادین، لوضوح أن اعتبار المولی فی زمان ملکیة عین شخصیة لزید فی یوم الجمعة مثلاً، وفی زمان آخر لعمرو فی نفس هذا الیوم تناقض واضح، فإذن لافرق من هذه الناحیة بین الأحکام التکلیفیة و الأحکام الوضعیّة»(2) هذا.

إیراد السید الأستاذ قدّس سرّه علی المحقق النائینی قدّس سرّه

و قد أورد علیه السید الاسُتاذ قدس سره بتقریب أن الأحکام الوضعیّة تختلف عن الأحکام التکلیفیة ولا تشترک معها فی ملاک الاستحالة والامکان، وذلک لأن الأحکام التکلیفیة تابعة للملاکات و المبادی فی متعلقاتها ومترتبة علیها فی الخارج، فلذلک لایمکن أن یکون فعل واحد فی زمن واحد متعلقاً للوجوب و الحرمة معاً و إن کان زمان تعلق الوجوب به غیر زمان تعلق الحرمة به، لأن مناط الاستحالة انما هو بوحدة زمان المتعلق و إن کان زمان التعلق متعدداً، لأن لازم وحدة زمانة اجتماع الارادة و الکراهة فیه و الحب و البغض و المصلحة و المفسدة، ومن الواضح استحالة اجتماع کل ذلک فی شیء واحد، ولهذا لا أثرلتعدّد زمان الحکم والاعتبار إذا کان زمان المتعلق و المحکوم به واحداً، فإذن ملاک الامکان انما هو بتعدد زمان المتعلق و إن کان زمان الحکم والاعتبار واحداً وملاک الاستحالة انما هو بوحدته و إن کان زمان الحکم والاعتبار متعدداً.

و هذا بخلاف الأحکام الوضعیة، فإنها تابعة لجهات المصالح و المفاسد النوعیة

ص:492


1- (1) - حاشیة المکاسب للمحقق الخراسانی ص 58 62.
2- (2) - المکاسب و البیع تقریر أبحاث المحقق النائینی (قدس سره) للشیخ محمد تقی الآملی (قدس سره) ج 2 ص 84.

فی نفس جعلها واعتبارها لا فی متعلقاتها، وعلیه فتکون الأحکام الوضعیة فی ظرف النقیض مع الأحکام التکلیفیة، فإن ملاک الاستحالة فی الأول وحدة زمان المتعلق سواءً أکان زمان الحکم والاعتبار أیضاً واحداً أم متعدداً، وملاک الاستحالة فی الثانیة وحدة زمان الاعتبار سواءً أکان زمان المعتبر واحداً أیضاً أم لا، فلایمکن اعتبار حکمین وضعیین فی زمن واحد لموضوعین و إن کانا مختلفین زماناً، لوضوح أنه لا ملاک فیه إلا فی اعتبار أحدهما دون کلیهما معاً، فلهذا یستحیل اعتبار کلیهما معاً فیه لأنه بلا ملاک ومبرّر ومع عدم الملاک یکون لغواً فلایمکن صدوره من المولی الحکیم، ولکن لا مانع من أن تقتضی مصلحة فی وقت اعتبار ملکیة مال لزید فی زمان وتقتضی مصلحة اخری فی وقت آخرملکیته لعمرو فی نفس هذا الزمان، فیکون زمان الاعتبار متعدداً وزمان المعتبرواحداً ولا محذور فیه، لأن المصلحة تختلف باختلاف الازمنة و المفروض أن المصلحة فی نفس الاعتبار لا فی المعتبر.

فالنتیجة، أن ملاک الاستحالة فی الأحکام الوضعیة یختلف عن ملاک الاستحالة فی الأحکام التکلیفیة(1) هذا.

تعلیق علی کلام المحقق النائینی و السید الأستاذ قدّس سرّه

ولنا تعلیق علی کلام کل من المحقق النائینی و السید الاُستاذ 0:

أما التعلیق علی الأول، فلأن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن لازم وحدة زمان معتبرین لموضوعین هو کون شیء واحد مملوکاً لمالکین فی آن واحد و هومستحیل، مبنی علی الخلط بین کونه مملوکاً لهما فی عالم الاعتبار و الجعل وبین کونه مملوکاً لهما فی عالم الخارج وترتیب الآثار فیه، لأن المحال هو الثانی دون الأول، إذ لامانع من اعتبار شیء واحد ملکاً لفردین فی زمن واحد، أو فقل انه

ص:493


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 371 372.

لا مانع من اجتماع مالکین علی مملوک واحد فی زمن واحد فی عالم الاعتبارولایلزم منه اجتماع مثلین أو ضدّین أو نقیضین، لوضوح أن التماثل و التضاد و التناقض جمیعاً من الصفات الطارئة علی الاُمور التکوینیة الخارجیة ولوازمها، و أما الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها فی الخارج ماعدا اعتبار المعتبر، فلا یعقل فیها التماثل و التضاد و التناقض.

و أما التعلیق علی کلام السید الاُستاذ قدس سره، فلأن ما ذکره أیضاً مبنی علی الخلط بین فعلیة المعتبر بفعلیة الاعتبار وبین فعلیته بفعلیة موضوعه فی الخارج، فإن الذی هو متأخر عن الاعتبار زمنا الثانی دون الأول، بیان ذلک أن الأحکام الشرعیة المجعولة بنحو القضایا الحقیقیة التی ترجع إلی قضایا شرطیة لباً یکون مقدمها وجود الموضوع الفرضی وتالیها ثبوت الحکم له کذلک، مثلاً وجوب الحج مجعول فی الشریعة المقدسة بنحو القضیة الحقیقیة للموضوع المفروض وجوده فی الخارج، و هذا الجعل لایتوقف علی وجود الموضوع فیه و المجعول بهذا الجعل فعلی بفعلیته، لأن الجعل و المجعول شیء واحد ذاتاً ووجوداً والاختلاف بینهما فی الاضافة کالایجاد و الوجود فی الأمور التکوینیة، ولایعقل أن یکون الجعل فعلیاً دون المجعول والاعتبار فعلیاً دون المعتبر والانشاء فعلیاً دون المنشأ، فإن معنی ذلک أن الجعل لیس بفعلی، ولهذا لایعقل أن یقال أن الایجاد فعلی دون الوجود، و أما فعلیّة المجعول و المنشأ بفعلیة موضوعه فی الخارج فهی لیست بمعنی فعلیة الحکم المجعول، ضرورة أن الحکم المجعول لایعقل أن یوجد فی الخارج وإلاّ لکان خارجیاً لا اعتباریاً و هذا خلف، بل بمعنی أن فاعلیته فعلیة بفعلیة موضوعه فیه، لأن فعلیة الحکم إنما هی بفعلیة الجعل والانشاء فی عالم الاعتبارولا یعقل أن تکون له فعلیة اخری معلولة لفعلیة موضوعه فی الخارج، ومن هنا قلنا إن للحکم مرتبة واحدة و هی مرتبة الجعل والاعتبار علی أساس أن الحکم

ص:494

أمر اعتباری لاواقع موضوعی له إلاّ فی عالم الاعتبار، ویستحیل أن یوجد فی الخارج، نعم إذا تحقق موضوعه فی الخارج تحققت فاعلیته ومحرکیته فیه و هی أمر تکوینی، و أما الحکم الشرعی فهو فعلی فی عالمه و هو عالم الجعل و الاعتبار و لا یعقل وجوده فی عالم آخر.

ومن هنا یکون المجعول و المعتبر و المنشأ عین الجعل والاعتبار والانشاء فلافرق بینهما إلاّ بالاعتبار کالایجاد و الوجود فی التکوینیّات، ولهذا لایتصور الانفکاک بینهما، فإذا انشأ المولی وجوب الحج علی المستطیع المفروض وجوده فی الخارج، فقد تحقق وجوبه بالوجود الانشائی فی عالم الاعتبار و الذهن ولایعقل تأخره عنه کیف فإنه عینه وجوداً، والاختلاف بینهما یکون بالاعتبار، فإنه باعتبار إضافته إلی الجاعل انشاء وجعل وباعتبار اضافته إلی وعائه منشأ ومجعول وإلاّ فهو وجود اعتباری واحد تحقق بنفس الانشاء و الجعل وکذلک الحال فی الأحکام الوضعیّة، فإن المولی إذا اعتبر ملکیة شیء لشخص فقدتحققت الملکیة بوجودها الاعتباری، نعم أنها قد تکون مشروطة بشرط متأخّرکما فی الوصیة التملیکیة، فإن الشخص إذا اعتبر ملکیة مکتبته مثلاً لعالم خاص بعد موته، فلیس معناه أن الاعتبار فعلی و المعتبر و هو ملکیة المکتبة متأخّر إلی مابعد الموت، ضرورة أن اعتبار الملکیة إذا کان فعلیاً، فبطبیعة الحال تکون الملکیة بوجودها الاعتباری فعلیة، لأن وجودها الاعتباری عین وجود الاعتبار ولیس هنا وجودان:

أحدهما: وجود الاعتبار و الجعل.

والآخر: وجود المعتبر و المجعول بل وجود واحد وله اضافتان إلی الفاعل وإلی المفعول، ومعنی أنها مشروطة بالشرط المتأخّر ان ترتیب آثارها علیها فی

ص:495

الخارج منوط بتحقق هذا الشرط، فإذا مات الموصی صارت الملکیة المعتبرة و المنشأة فعلیة أی آثارها بفعلیة شرطها فی الخارج و هو الموت، لأن ماهو منشأبانشاء المولی ومعتبر باعتباره فلایعقل أن یکون متأخراً عن الانشاء أو متقدماًعلیه لأنه عین الانشاء کما عرفت، و أما ماهو متأخّر عن الانشاء والاعتبار و هوفعلیته بفعلیة موضوعه وشرطه فی الخارج فهو لیس بمنشأ ومعتبر من قبل المولی.

نتیجة البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة و هی أن ما هو منشأ بالانشاء و المعتبر بالاعتبار عین الانشاء والاعتبار و هذا یعنی أنه لا وجود له غیر الوجود الانشائی والاعتباری ولایعقل أن یکون المنشأ و المعتبر منفکاً عن الانشاء والاعتبار لأنه من انفکاک الشیء عن نفسه و هو مستحیل، و أما ما هو المشهوربین الاُصولیین، و قد تبنّت علیه مدرسة المحقق النائینی قدس سره من أن مرتبة المجعول غیر مرتبة الجعل و هی مرتبة فعلیّة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج مبنی علی التسامح وعدم الدقّة، لأن مرتبة المجعول بهذا المعنی لیست من مراتب الحکم، بداهة أن الحکم بما هو اعتبار لایعقل أن یوجد فی الخارج بوجودموضوعه فیه وإلاّ لکان خارجیاً لا اعتباریاً و هذا خلف.

ومن هنا قلنا: أن للحکم مرتبة واحدة و هی مرتبة الجعل والاعتبار، لأن هذه المرتبة مرتبة وجود الحکم وفعلیّته فی عالم الاعتبار و الذهن ولایتصور وجوده فی عالم آخر هذا من ناحیة.

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه فی الإجازة المتأخرة

ومن ناحیة اخری، ذکر السید الاُستاذ قدس سره ان الاجازة المتأخرة بما أنها تعلقت بالعقد السابق الصادر من الفضولی فیکون هو المجاز و المشمول للعمومات مثل:

ص:496

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1) و «وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» (2) ونحوهما، فإذن یکون الممضی بها العقد السابق علی أساس تعلق الاجازة به، فإذا کان العقد السابق فبطبیعة الحال کانت الملکیة المنشأة من حین تحققه و إن کان اعتبارها وإنشائها من حین الاجازة، فالکشف بهذا المعنی یکون علی القاعدة فلایحتاج إلی دلیل خاص، و قد سمّی السید الاُستاذ قدس سره ذلک بالکشف الانقلابی(3).

المناقشة فی کلام السید الأستاذ قدّس سرّه

ولکن للمناقشة فیه مجالاً، وذلک لأن الاجازة و إن کانت أمراً تعلقیّاً إلا أنّ تعلقها بالعقد السابق من حینها لا من السابق وأنه مشمول لاطلاق دلیل الامضاء من الآن، وعلیه فبطبیعة الحال یکون اعتبار ملکیة المبیع للمشتری من حین الاجازة، فلذلک یکون اتصافه بالمالکیة له من هذا الحین لا من السابق لوضوح أنه الآن صار مالکاً، ومن هنا قلنا إن مقتضی القاعدة النقل فی العقد الفضولی دون الکشف.

و إن شئت قلت: ان اتصاف العقد الفضولی بوصف المجاز و الممضی انما هو من حین الاجازة، فإنه من هذا الحین یکون متّصفاً بهذا الوصف ومشمولاً لدلیل الصحة لا من السابق فوصف المجاز للعقد السابق من الآن لا من الأول، إذ فرق بین أن یکون وصف المجاز من السابق وبین أن یکون للعقد السابق من الآن، کماأنه فرق بین أن یکون العقد مشمولاً لدلیل الامضاء من الآن أی حین الاجازة وبین أن یکون مشمولاً له من السابق، وفی کلام السید الاُستاذ قدس سره خلط بین الأمرین، ولهذا بنی علی الکشف الانقلابی، ولکن من جهة وضوح الفرق بین

ص:497


1- (1) - سورة المائدة آیة 1.
2- (2) - سورة البقرة آیة 275.
3- (3) - مصباح الفقاهة ج 4 ص 150.

الأمرین قد بینا فی باب العقد الفضولی أن مقتضی القاعدة فی الاجازة النقل لاالکشف وحصول النقل والانتقال من حینها لا من السابق.

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه فی الملاقی لأحد أطراف العلم الاجمالی

ونظیر ذلک ما ذکره قدس سره فی بحث الملاقی لأحد أطراف العلم الاجمالی، وحاصل ما أفاده قدس سره هناک أن المعیار فی انحلال العلم الاجمالی بعلم إجمالی آخر انما هوبتقدم المعلوم بالاجمال فیه علی المعلوم بالاجمال فی الأول لابتقدم العلم مثال ذلک إذا علم شخص بنجاسة أحد إنائین یوم الخمیس، وفرضنا أن أحدهما أسود و الآخر أبیض، وفی یوم الجمعة علم اجمالاً بوقوع نجس یوم الاربعاء فی الاناء الأسود أو الأحمر وحیث إن تنجیز العلم انما هو بملاک صفة کاشفیته وطریقیته إلی الواقع لا بملاک أنه صفة خاصة فی النفس فی مقابل سائر صفاتها، فإذا تعلق بنجاسة شیء فی الزمن السابق ولو اجمالاً أدّی إلی تنجّزه من زمانه السابق وترتیب آثاره علیه من ذلک الزمان وعلی هذا، فالعلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة اما بنجاسة الاناء الأسود أو الاحمر من یوم الأربعاء، فحیث إن معلومه الاجمالی متقدم علی المعلوم بالاجمال فی العلم الاجمالی الحادث یوم الخمیس فهویوجب تنجّزه من یوم الأربعاء، وعلی أثر ذلک ینحلّ العلم الاجمالی الحادث یوم الخمیس باعتبار أن أحد طرفیه و هو الاناء الأسود منجّز من یوم الأربعاء بمنجّزآخر، فإذن لا أثر له بالنسبة إلیه لأن من شروط تنجیز العلم الاجمالی أن لایکون بعض أطرافه منجزاً بمنجز آخر سابق(1).

الجواب عما ذکره قدّس سرّه

والجواب عما ذکره قدس سره: هو أن تنجیز العلم الاجمالی و إن کان من جهة صفة کاشفیته عن الواقع وطریقیته إلیه لا بما هو موجود فی النفس وصفة من صفاتها إلاّ أن أثره تنجز متعلقه و هو المعلوم بالاجمال من حین حدوثه لا من السابق

ص:498


1- (1) - التنقیح فی شرح العروة الوثقی ج 2 ص 418 419.

بمعنی أنه صار منجزاً من زمن حصول العلم لا من زمن تحقق المعلوم، فإذن یکون المتقدم زمناً ذات المعلوم بالاجمال لاوصف تنجّزه، فإنه من الآن علی أساس أنه أثر العلم الاجمالی و الأثر لایمکن أن ینفک عن المؤثر و المعلول عن العلة، فالعلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة المتعلق بنجاسة أحد الانائین المذکورین من یوم الأربعاء منجّز لها من یوم الجمعة، فظرف التنجز یوم الجمعة وظرف ذات المتنجز أی بقطع النظر عن وصف تنجّزه یوم الأربعاء، فیکون تنجزه من الآن وفرق بین أن یکون التنجز من السابق، وبین أن یکون للأمرالسابق من الآن و المقام من قبیل الثانی، لأن التنجز حیث إنه أثر العلم الاجمالی فبطبیعة الحال کان یحدث بحدوثه علی أساس مبدء التعاصر بین العلة و المعلول و الأثر المؤثر وعلی هذا، فالعلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة المتعلّق بنجاسة أحد الانائین من یوم الأربعاء منجّز لها من الآن أی من آن حدوثه، ولایعقل أن یکون منجزاً لها من یوم الأربعاء وإلاّ لزم انفکاک أثره عنه، لأن التنجّز من یوم الأربعاء لایمکن أن یکون مستنداً إلی العلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة.

و إن شئت قلت: إن العلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة و إن کان متعلقه نجاسة أحد الانائین من یوم الأربعاء إلاّ أن تنجّزه لها من یوم الجمعة، و هو آن حدوثه ولایعقل أن یکون من یوم الأربعاء، بداهة أنه لایمکن أن یکون أثره حادثاً من یوم الأربعاء ومؤثره و هو العلم الاجمالی حدث یوم الجمعة، لأن تأثیره فیه اما أن یرجع إلی تأثیر المعدوم فی الموجود، لفرض أن العلم الاجمالی کان معدوماًیوم الأربعاء أو إلی تأثیر المتأخّر فی المتقدم زماناً وکلاهما محال، لأن مبدء التعاصر بین الأثر و المؤثر و العلة و المعلول ضروری، نعم أنه تعلق بأمر سابق لا أنه سابق وفرق بین الأمرین، وعلی هذا فکان ینبغی للسید الاُستاذ قدس سره أن یقول: بأن العلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة منحلّ حکماً بالعلم الاجمالی الحادث یوم

ص:499

الخمیس علی أساس أن أحد طرفی العلم الاجمالی المتأخّر منجّز بمنجّز سابق، و هو العلم الاجمالی المتقدم الحادث یوم الخمیس، ولکن هذا غیر صحیح کمایظهر حاله من خلال البحوث الآتیة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، لو سلمنا أن العلم الاجمالی یوجب تنجّز المعلوم بالاجمال من زمانه و إن کان متقدماً علی زمان العلم، فإذا علم اجمالاً یوم الجمعة بنجاسة أحد الانائین من یوم الأربعاء کان منجزاً لها من یوم الأربعاء، فمع ذلک لایتم ما أفاده قدس سره من الانحلال بمعنی أنه لایوجب انحلال العلم الاجمالی الحادث یوم الخمیس، بنکتة أن المعلوم بالاجمال فیه متأخر عن المعلوم بالاجمال فی العلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة.

بیان ذلک أن التنجّز من أثر العلم ویدور مداره حدوثاً وبقاءً ولایعقل بقائه إذا زال العلم بقاءً وإلاّ کان لازمه بقاء المعلول بلا علة و هو محال، فحدوث التنجّز بحدوث العلم وبقائه ببقائه بمعنی أن وجوده الثانی فی الآن الثانی انما هو بوجود العلم فی هذا الآن، ولایمکن أن یکون تنجزّه فی الآن الثانی مستنداً إلی وجود العلم فی الآن الأول، لأن المعلول مقارن للعلة زماناً فلوکان تنجّزه فی الآن الثانی مستنداً إلی وجود العلم فی الآن الأول لزم أحد محذورین اما وجود المعلول فیه بلا علة أو استغناء الشیء فی بقائه عن العلة وکلا الأمرین محال.

أما الأول، فلأن من أولیات ما یدرکه البشر فی حیاته الاعتیادیة الیومیة مبدء العلیّة القائل بأن لکل شیء علة، لأن کل انسان یجد فی صمیم ذاته ما یبعثه ویحرکه إلی تعلیل ما یجد من حوادث ووقائع فی العالم وتبریر وقوعها من طریق استکشاف عللها وأسبابها، و هذا المحرّک و الباعث موجود فی طبیعة الانسان فطرةً وذاتاً بل هو موجود فی طبیعة الأطفال و المجانین بل فی الحیوانات، فإن

ص:500

الحیوان إذا سمع صوتاً یلتفت غریزیاً إلی مصدره، فالانسان یواجه دائماً السؤال لماذا عند وجود حادثة أو وقوع ظاهرة وهکذا.

و أما الثانی، فلأن مبدء التعاصر بین العلة و المعلول من المبادی العقلیة الضروریة، بداهة أن فرض استغناء المعلول فی بقائه عن العلة فرض غیر معقول ومستحیل، إذ کیف یعقل أن یکون المعلول الذی هو عین الربط بالعلة و التعلق بها ذاتاً ووجوداً مستغنیاً عنها بقاءً وإلاّ لزم انقلاب الممکن واجباً، وعلی ضوء هذا الأساس، فإذا علم اجمالاً بنجاسة أحد إنائین یوم السبت فإنه ینجّز النجاسة المعلومة بالإجمال فی یوم السبت ویستمر تنجّزها باستمرار العلم الاجمالی، وطالما یکون العلم الاجمالی بها موجوداً فتنجّزها موجود لأنه أثره ویدورمداره حدوثاً وبقاءً، فالتنجّز فی کل آن معلول للعلم فی ذلک الآن وعلیه فتنجّز النجاسة المذکورة فی کل وقت معلول لوجود العلم الاجمالی فیه، ولایمکن أن یکون تنجّزها فی یوم الأحد بقاءً معلولاً لوجود العلم الاجمالی بها یوم السبت وإلاّ لزم إما وجود المعلول فیه بلا علة و هو وجود التنجّز فی یوم الأحد بدون العلم فیه واستغناه عنها، وکلاهما محال کما عرفتم.

مناقشة مدرسة المحقق النائینی قدّس سرّه

وعلی ذلک، فإذا علم یوم الأحد بملاقاة الاناء الثالث لأحد الانائین المذکورین فیه، تولد منها علم اجمالی آخر فی یوم الملاقاة و هو العلم الاجمالی اما بنجاسة الاناء الملاقی بالکسر أو الطرف الآخر، فهل هذا العلم الاجمالی المتأخرمنجز أم لا فیه وجهان، فالمعروف و المشهور بین الاُصولیین أنه لایکون منجزاً ولا أثر له وتبنّت علی ذلک مدرسة المحقق النائینی قدس سره وعلّله بأن أحد طرفی العلم الاجمالی الثانی منجّز بمنجّز سابق و هو العلم الاجمالی الأول و المنجّز لایقبل

ص:501

التنجّز مرة اخری(1).

ولکن هذا البیان غیْر صحیح لأنه مبنی علی نقطة خاطئة و هی أن العلم الاجمالی الأول منجز للمعلوم بالاجمال بحدوثه حدوثاً وبقاءً أی فی تمام الآنات و الأزمنة الطولیة من یوم السبت إلی یوم الأحد وهکذا، وعلیه فیکون أحد طرفی العلم الاجمالی الثانی منجزاً بمنجز سابق فلا أثر له. و هذا معنی انحلاله حکماً بالعلم الاجمالی الأول، و أما خطأ هذه النقطة، فقد عرفتم أن التنجّزمعلول للعلم الاجمالی ویدور مداره حدوثاً وبقاءً، ولایعقل أن یستند تنجّز المعلوم بالاجمال فی الآن الثانی إلی العلم الاجمالی فی الآن الأول بل تنجّزه فی کل آن مستند إلی وجود العلم فی ذلک الآن، وعلی هذا ففی آن حدوث العلم الاجمالی الثانی و هو یوم الأحد فقد اجتمع علی الاناء المشترک منجّزان فی هذا الیوم أحدهما العلم الاجمالی الأول، والآخر العلم الاجمالی الثانی، وحینئذٍ فلایمکن أن یکون تنجزه مستنداً إلی العلم الاجمالی الأول فی هذا الآن، لأنه ترجیح من غیرمرجّح بعدما کانت نسبة کلا العلمین فی آن الاجتماع إلیه علی حدّ سواء، کمالایمکن أن یکون مستنداً إلی العلم الإجمالی الثانی بنفس الملاک فإذن لامحالة یکون تنجّزه فی آن الاجتماع مستنداً إلی کلیهما معاً، هذا نظیر اجتماع العلتین المستقلتین علی معلول واحد، فإنه لا محالة یکون مستنداً إلی کلتیهما معاً لا إلی احداهما، فمن أجل ذلک قد بیننا علی وجوب الاجتناب عن الملاقی لأحد أطراف العلم الاجمالی و إن کانت الملاقاة و العلم بها متأخرة عن العلم الاجمالی الأول، و هذه الکبری بعینها تنطبق علی المثال المتقدم و هو العلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة بنجاسة أحد الانائین من یوم الأربعاء، فإنه علی تقدیر

ص:502


1- (1) - أجود التقریرات ج 2 ص 60.

تسلیم ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أنه یوجب تنجزها من یوم الأربعاء، فمع ذلک لایوجب انحلال العلم الاجمالی الحادث یوم الخمیس بنجاسة أحد الانائین فیه، وذلک لأن نجاسة أحد الانائین المذکورین قد تنجزت من یوم الأربعاء فی تمام قطاعاتها الزمانیة الطولیة إلی یوم الجمعة وبعده طالما یکون العلم الاجمالی باقیاً، وفی یوم الخمیس قد اجتمع علی الاناء المشترک علمان اجمالیان هما العلم الاجمالی الحادث یوم الجمعة و العلم الاجمالی الحادث یوم الخمیس باعتبار أنه طرف لکلا العلمین معاً.

عدم تمامیة ما تبناه المشهور و مدرسة النائینی قدّس سرّه

و قد تقدم أن تنجّز المعلوم بالاجمال فی کل آن منوط بوجود العلم الاجمالی فی هذا الآن، وعلی هذا ففی آن اجتماع العلمین علیه فلایمکن أن یکون تنجّزه مستنداً إلی أحدهما المعیّن، لأنه ترجیح بلا مرجح بعدما کانت نسبة کلا العلمین إلیه نسبة واحدة، فإذن لا محالة یکون تنجّزه مستنداً إلی کلیهما معاً کما هو الحال فی کل مورد من موارد اجتماع علتین مستقلتین علی شیء واحد.

فالنتیجة، أن ما هو المشهور و قد تبنّت علیه مدرسة المحقق النائینی قدس سره غیرتام.

القول الرابع: مختار الشیخ الأنصاری قدّس سرّه

و أما القول الرابع: و هو ان الخروج واجب فعلاً ولیس بمنهی عنه لا فعلاً ولابالنهی السابق الساقط بالاضطرار، فقد اختار هذا القول شیخنا الأنصاری قدس سره وتبعه فیه المحقق النائینی قدس سره، و قد أفاد المحقق النائینی قدس سره فی وجه ذلک أن الخروج داخل فی کبری قاعدة التخلیة بین المال ومالکه الواجبة شرعاً ویکون من صغریات هذه القاعدة لا قاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار، فله فی المقام دعویان:

الاُولی: ان الخروج غیر داخل فی کبری قاعدة الامتناع.

ص:503

الثانیة: إنه داخل فی کبری قاعدة التخلیة.

أما الدعوی الاُولی، فقد استدل قدس سره علیها بوجوه:

الاستدلال الأول علی الدعوی الأولی
الوجه الأول:

ان الداخل فی هذه القاعدة هو ما إذا عرض علی المکلف الامتناع عن امتثال الواجب أو الحرام وکان ذلک باختیاره وإرادته، کمن ترک المسیر إلی الحج عامداً ملتفتاً فإنه یؤدی إلی امتناع الاتیان بالحج فی وقته، و هذا الضابط لاینطبق علی الخروج لأنه مقدور للمکلف قبل الدخول فی الأرض المغصوبة وبعد الدخول فیها، غایة الأمر إذا دخل فیها فهو حینئذٍ و إن کان مضطراً إلی الکون فیها الجامع بین البقاء و الخروج إلاّ أن ذلک أجنبی عن الاضطرار إلی خصوص الغصب بالخروج کما هو محل الکلام، ضرورة أن الاضطرار إلی الجامع لایستلزم الاضطرار إلی کل فرد من أفراده بحدّه، مثلاً لواضطر المکلف إلی التصرّف فی ماء جامع بین ماء مباح وماء مغصوب فهولایوجب جواز التصرّف فی المغصوب لعدم اضطراره إلیه، ولو تصرّف فیه کان آثماً ومستحقاً للعقاب وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن الاضطرار إلی مطلق الکون فی الأرض المغصوبة الجامع بین البقاء و الخروج لایستلزم الاضطرار إلی خصوص الخروج بل هو بید المکلف وتحت اختیاره وجوداً وعدماً بدون أن یعرض علیه ما یوجب امتناعه عنه، ولذلک لایکون الخروج داخلاً تحت قاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار(1).

الجواب عن هذا الوجه

والجواب: ان هذا الوجه مبنی علی نقطة خاطئة و هی أن المراد من الامتناع فی القاعدة خصوص الامتناع التکوینی لا الأعمّ منه ومن التشریعی. وعلی هذا فلایکون الخروج من مصادیق القاعدة وصغریاتها باعتبار أنه غیر ممتنع تکویناً

ص:504


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 379-378.

علی من دخل الأرض المغصوبة باختیاره ولایکون مضطراً إلیه، لأنه انما یکون مضطراً إلی الجامع بین البقاء و الخروج بعد الدخول فیها لا إلی خصوص الخروج، ولکن هذه النقطة خاطئة وغیر مطابقة للواقع وذلک لوضوح انه لافرق فی الدخول فی کبری قاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار بین أن یکون الامتناع الناشیء من الاضطرار بسوء الاختیار تکوینیاً کامتناع أعمال الحج لمن ترک المسیر إلیه أو ما شاکل ذلک أو تشریعیاً کالزام الشارع المکلف بفعل شیء أو بترک آخر، فإنه و إن کان قادراً علی ترک الأول وفعل الثانی تکویناً إلاّ أنه غیر قادر علی ذلک تشریعاً و الممنوع الشرعی کالممتنع العقلی، فإن المیزان فی جریان هذه القاعدة هو ما کان امتناع الامتثال مستنداً إلی سوء اختیار المکلف وإرادته، والنکتة فی ذلک أن هذه القاعدة بما أنها قاعدة عقلیة فیکون عمومها وخصوصها بید العقل، وحیث إن الامتناع من الامتثال الطاریء علی المکلف مانع من الخطاب و إن کان بسوء اختیاره وإرادته لأنه لغووغیر مانع من العقاب، لأنه لیس من العقاب علی أمر غیر اختیاری فهولایختصّ بالامتناع التکوینی، فإن العقل کما یحکم بأن الامتناع التکوینی مانع من الخطاب حیث إنه معه یکون لغواً کذلک یحکم بأن الامتناع التشریعی مانع منه بعین الملاک، ولافرق فی ذلک بین أن یکون الامتناع قهریاً أو بسوء الاختیار، وعلی هذا الأساس فالخروج فی المثال داخل فی القاعدة ومن مصادیقها، لأنه و إن کان غیر ممتنع تکویناً إلاّ انه ممتنع تشریعاً، فإن من دخل الأرض المغصوبة بسوء اختیاره فأمره یدور بین البقاء فیها و الخروج، وحیث إن البقاء فیها من أقوی القبیحین وأکثر المحذورین، فهو محرّم علیه فعلاً ومعه لایمکن أن یکون الخروج أیضاً محرّماً علیه لاستلزامه التکلیف بغیر المقدور، فإذن لا محالة یسقطا لخطاب التحریمی بالخروج لاضطراره إلیه وامتناع ترکه تشریعاً، والممنوع

ص:505

الشرعی کالممتنع العقلی وحیث إنه کان بسوء اختیاره فلاینافی العقاب علیه وإنه لیس من العقاب علی أمر غیر اختیاری بل هو عقاب مستند إلی اختیاره.

والخلاصة: أنه لا وجه لتخصیص الامتناع فی القاعدة بالامتناع التکوینی، فإن ضابط الامتناع فیها هو أن یکون مانعاً من الخطاب بأن یکون الخطاب معه لغوا، ومن الواضح إنه لا فرق فی ذلک بین الامتناع التکوینی والامتناع التشریعی فکما أن الأول مانع منه فکذلک الثانی.

الوجه الثانی:

أن مورد هذه القاعدة هو ما إذا کان ملاک الواجب تاماً فی ظرفه من دون دخل لمقدماته الاعدادیة فیه کملاک الحج فإنه تام فی ظرفه بعد تحقق الاستطاعة بمقتضی الآیة الشریفة وغیره ولا تتوقف تمامیة ملاکه علی الاتیان بمقدماته الاعدادیة، وعلی هذا فإن أتی بمقدماته المفوتة تمکن من الاتیان بالحج، و أما إذا ترک الاتیان بها بسوء اختیاره امتنع علیه الاتیان بالحج فی وقته وحیث إن هذا الامتناع کان بسوء اختیاره فلا مانع من العقاب علیه، لأن الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار، ومن هنا إذا ألقی شخص نفسه من شاهق أو فی بحر بسوء اختیاره فمات استحق العقاب علیه، هذا هو الملاک فی جریان هذه القاعدة، ومن الواضح أن هذا الملاک غیر موجود فی المقام، لأن الخروج قبل الدخول فی الأرض المغصوبة لم یکن مشتملاً علی الملاک، فإن الدخول فیها من المقدمات التی لها دخل فی تحقق القدرة علی الخروج واتصافه بالملاک، لوضوح أن الخطاب متوجه إلی الداخل فی الأرض المغصوبة بالخروج عنها، فلهذا لایکون الخروج داخلاً فی القاعدة.

و إن شئت قلت: ان المکلف إذا ترک الدخول فی الأرض فلایکون مکلفاً بالخروج ولا ملاک له حینئذٍ حتی یستحق العقاب علی ترکه، و أما إذا دخل فیها

ص:506

فیجب علیه الخروج منها عقلاً وشرعاً، فیکون الدخول فیها شرطاً فی اتصافه بالملاک فإذا کان أمر الخروج کذلک فلایکون داخلاً فی القاعدة.

والخلاصة: ان کل واجب یکون ملاکه تاماً فی ظرفه من دون دخل لمقدماته الاعدادیة فی اتّصافه بالملاک فهو داخل فی القاعدة علی أساس أن المکلف إذاترک الاتیان بمقدماته المذکورة وکان بسوء اختیاره وإرادته امتنع علیه امتثال الواجب فی ظرفه، وحیث إن ملاکه تام فیستحق العقاب علی تفویته باعتبار أنه بسوء اختیاره، وکل واجب تکون مقدمّته دخیلة فی اتصافه بالملاک وبدون الاتیان بها فلا ملاک له فهو غیر داخل فی القاعدة، لأنه إذا ترک مقدمته لم یفت منه شیء إذ لاوجوب له ولا ملاک قبل الاتیان بها، فإذن لایکون هناک واجب امتنع امتثاله بسوء اختیاره لکی یکون داخلاً فی القاعدة، فالسالبة بانتفاء الموضوع وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن الخروج قبل الدخول غیر واجب فی ظرفه ولا مشتمل علی الملاک حتی یمتنع امتثاله بترک مقدمته، ولهذا لایکون داخلاً فی قاعدة الامتناع هذا.

الجواب عن الوجه الثانی

والجواب: ان هذا الوجه مبنی علی ما بنی علیه قدس سره من وجوب الخروج شرعاً باعتبار أنه مصداق للتخلیة الواجبة من قبل الشرع ولیس بمنهی عنه، فإنه علی هذا المبنی لایکون الخروج داخلاً فی القاعدة باعتبار أن المکلف إذا ترک مقدمته و هی الدخول فی الأرض المغصوبة فلا ملاک للخروج ولا وجوب حتی یقال أنه ممتنع بترک مقدمته بسوء اختیاره، ولکن سوف یأتی أن الخروج لیس بواجب فإنه لایکون مصداقاً للتخلیة بل هو تصرّف فی مال الغیر ومحرّم بالحرمة السابقة ومشتمل علی المفسدة ومبغوض فالمکلف و إن کان مضطراً إلیه إلا أنه لما کان بسوء اختیاره، فیستحق العقاب علیه علی أساس أن الامتناع بالاختیار لاینافی

ص:507

الاختیار.

والخلاصة: إن الخروج لو قلنا بوجوبه شرعاً من باب أنه مصداق للتخلیة لم یکن من مصادیق القاعدة، لأنه قبل الدخول لا ملاک له ولا وجوب وبعد الدخول فیها فهو واجب شرعاً، ولکن هذا القول لا أساس له، واما بناء علی ماهو الصحیح من أنه محرم بالحرمة السابقة بعد الدخول فیها بسوء اختیاره، فهوداخل فی القاعدة ومن مصادیقها کما عرفت.

الوجه الثالث و الجواب عنه

الوجه الثالث: أن ملاک کون الشیء داخلاً تحت القاعدة ومن صغریاتها هوأن یکون الاتیان بمقدمته سبباً للقدرة علیه لیکون الآتی بها قابلاً لتوجیه التکلیف إلیه کالاتیان بمقدمات الحج المفوّته، فإن المکلف إذا أتی بها تمکن من الاتیان بالحج وقابلاً لتوجیه التکلیف إلیه فعلاً، و أما إذا ترک الاتیان بها عامداً ملتفتاً فهو یؤدی إلی امتناع الاتیان بالحج فی وقته وسقوط وجوبه لأنه لغو، وحیث إن هذا الامتناع منته إلی سوء اختیاره فلایسقط العقاب عنه، وهذ هو الضابط فی کون الشیء داخلاً فی القاعدة ومن مصادیقها و هذا الضابط لاینطبق علی المقام، فإن الانسان إذا دخل فی الأرض المغصوبة کان ذلک یؤدی إلی سقوط الخطاب عن الخروج لا أنه یوجب فعلیة الخطاب به، لأن المکلف مخاطب بالخطاب التحریمی قبل الدخول فی الأرض المغصوبة بقاءً وخروجاً، و أما إذا دخل فیها سقط الخطاب التحریمی عن الخروج لالزام المکلف به علی أساس أنه أخف المحذورین وأقلّ القبیحین، فلهذا لایکون من مصادیق القاعدة فما هو مصداق أن یکون علی عکس ذلک تماماً، لأن الخطاب به فعلی إذا أتی المکلف بمقدماته وساقط إذا لم یأت بها.

والجواب، أولاً: ما ذکرناه فی مبحث مقدمة الواجب من أن القدرة علی

ص:508

الاتیان بذی المقدمة تتوقف علی القدرة بالاتیان بمقدماته لا أن القدرة علیه تتوقف علی الاتیان بها، فإذا کان المکلف قادراً علی الاتیان بمقدمات الحج فهوقادر علیه أیضاً، لأن المقدور بالواسطة مقدور فما ذکره قدس سره من أن الاتیان بالمقدمات الوجودیة یوجب القدرة علی الاتیان بالواجب وفعلیة التکلیف به لایرجع إلی معنی صحیح.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن القدرة علی الواجب معلولة للاتیان بمقدماته الوجودیة إلاّ أن ذلک لایرتبط بما هو ملاک هذه القاعدة، فإن ملاکها هوما إذا اضطرّ المکلف نفسه إلی ترک واجب أو فعل حرام بسوء اختیاره وارادته، ومنشأ هذا الاضطرار هو ترک المقدمة فی الواجب وفعلها فی الحرام کالدخول فی الأرض المغصوبة، ولا فرق فی ذلک بین أن تکون فعلیة الخطاب بذی المقدمة معلولة للاتیان بمقدماته فی الخارج أو معلولة للقدرة علیه، فإنه علی کلا التقدیرین إذا اضطرّ المکلف نفسه بسوء اختیاره وإرادته إلی ترک الواجب أوفعل الحرام، فالتکلیف و إن سقط بالاضطرار، لأن بقائه لغواً الا أن ما هو روح التکلیف وحقیقته لم یسقط، فلهذا یعاقب علی تفویته تطبیقاً لقاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار.

وثالثاً: إن ملاک دخول شیء تحت هذه القاعدة هو اضطرار المکلف بسوء اختیاره إلی ترکه إن کان واجباً أو فعله إن کان محرّماً، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون هذا الاضطرار تکوینیاً أو تشریعیاً، کما أنه لا فرق بین أن یکون هذا الاضطرار ناشئاً من ترک المقدمات الوجودیة أو الوجوبیة، کما إذا فوّت الاستطاعة بسوء اختیاره وإرادته، فالضابط فی هذه القاعدة هو اضطرار المکلف إلی ترک الواجب أو فعل الحرام وکان ذلک بسوء اختیاره سواءً أکان منشأ هذا

ص:509

الاضطرار ترک المکلف المقدمات الوجودیة أو فعلها أم تفویت المقدمات الوجوبیة، وعلی هذا فالخروج داخل فی هذه القاعدة ومن مصادیقها، فإن الانسان إذا دخل الأرض المغصوبة اضطر إلی الخروج منها، لأن فی البقاءتصرف زائد، وحیث إن هذا الاضطرار کان بسوء الاختیار، فالخطاب و إن سقط عنه إلاّ أنه لاموجب لسقوط العقاب تطبیقاً للقاعدة.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره قدس سره من الملاک لدخول الشیء تحت القاعدة یختصّ بتطبیق هذه القاعدة علی موارد التکالیف الوجوبیة، ومن المعلوم أنه لا وجه لهذا التخصیص بل هو قدس سره أیضاً لایلتزم به، والنکتة فی ذلک واضحة و هی أن هذه القاعدة قاعدة عقلیة تتبع ملاکها وملاکها اضطرار المکلف إلی ترک الواجب أوفعل الحرام، وکان الاضطرار بسوء اختیاره وإرادته فإنه ینافی الخطاب ولا ینافی العقاب و هی لیست قاعدة تعبّدیة قابلة للتقیید و التخصیص، ولا فرق فی ذلک بین الواجب و الحرام، غایة الأمر إن کانت المقدمة، مقدمة الواجب فترکها یؤدی إلی امتناع امتثاله والاضطرار إلی ترکه، و إن کانت مقدمة الحرام ففعلها قدیوجب امتناع امتثاله والاضطرار إلی فعله تکویناً کما إذا کانت المقدمة علة تامة لفعله و قد یوجب ذلک تشریعاً کما فی مثل المقام، فإن الدخول فی الأرض المغصوبة و إن لم یؤد إلی امتناع ترک الخروج منها تکویناً إلاّ أنه یؤدی إلی امتناع ترکه تشریعاً بلحاظ أنه أقل المحذورین وأخف القبیحین، فما ذکره قدس سره فی وجه أن الخروج غیر داخل فی القاعدة من أن الدخول فیها یوجب سقوط الخطاب التحریمی عن الخروج من جهة الاضطرار إلیه وامتناع ترکه، فهو وجه لدخول الخروج فی القاعدة لا أنه وجه لخروجه عنها.

الوجه الرابع:

ان حکم العقل بلزوم الخروج من الأرض المغصوبة کاشف عن

ص:510

أنه مقدور للمکلف وقابل لتعلّق التکلیف به وإلاّ فیستحیل أن یحکم العقل به، فإذا کان مقدوراً کان قابلاً لتعلّق التکلیف ومعه لایکون داخلاً فی القاعدة ومن مصادیقها، لوضوح ان مورد القاعدة هو ما إذا کان الفعل ممتنعاً وغیر قابل لتعلق التکلیف به، و أما إذا فرض أنه قابل لتعلق الحکم ولو عقلاً فلا موجب لسقوط الخطاب الشرعی عنه لا نه مقدور، فإذا کان قابلاً لتعلق الخطاب الشرعی به فلایعقل أن یکون داخلاً فی القاعدة، لأن معنی کونه داخلاً فیها أنه غیر قابل لتعلق الخطاب الشرعی به فلهذا یکون الفرضان متهافتان.

الجواب عنه

والجواب، أولاً: أن هذا الوجه مبنی علی تمامیة الوجه الأول، و هو أن المراد من الامتناع فی القاعدة، الامتناع التکوینی لا الأعم منه ومن التشریعی، ولکن قد تقدم أنه لاوجه لهذا التخصیص، فإن القاعدة تشمل الامتناع التشریعی أیضاً فإنه کالامتناع التکوینی مانع من الخطاب دون العقاب إذا کان بسوء الاختیارو قد مرّ تفصیله.

وثانیاً: ان حکم العقل بوجوب الخروج لایکشف عن حکم الشرع بوجوبه، لأن ملاک حکم العقل به انما هو کونه أقل المحذورین وأخفّ القبیحین بالنسبة إلی البقاء، و أما حکم الشرع به فإن کان ملاکه هو ملاک حکم العقل فهوتأکید له وإرشاد إلیه، ولیس حکماً شرعیاً مولویاً مع أن مقصوده هو الحکم المولوی و إن کان بملاک آخر فلا ملاک له فی المقام، لفرض أن الخروج لیس محبوباً فی نفسه ومشتملاً علی مصلحة ملزمة، إذ لا شبهة فی أنه مبغوض فی نفسه ومشتملة علی مفسدة ملزمة، غایة الأمر أن مبغوضیته أخفّ من مبغوضیة البقاء ودونها وکذلک مفسدته، ومع هذا کیف یمکن للشارع أن یأمر به ویحکم بوجوبه رغم أنه لا ملاک له، ومن الواضح أنه لایمکن أن یأمر المولی بشیء

ص:511

جزافاً وبلا ملاک.

فالنتیجة، فی نهایة المطاف ان ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من الوجوه لکون الخروج غیر داخل فی قاعدة الامتناع لایتم شیء منها، فالصحیح هو أنه داخل فی هذه القاعدة.

الکلام فی الدعوی الثانیة و ما أفاده المحقق النائینی قدّس سرّه

و أما الکلام فی الدعوی الثانیة، و هی أن الخروج داخل فی کبری وجوب ردّمال الغیر إلی مالکه، فقد أفاد قدس سره انه بعد بطلان دخول الخروج فی کبری قاعدة الامتناع من ناحیة، وبطلان بقیة الأقوال فی المسألة من ناحیة اخری، لا مناص من الالتزام بکونه داخلاً فی کبری قاعدة التخلیة بین المال ومالکه.

و قد أفاد فی وجه ذلک(1) أنه لا اشکال فی وجوب تسلیم مال الغیر إلی مالکه، و هذا الوجوب وجوب نفسی ناشیء من مصلحة لزومیّة فی تسلیم مال الغیر إلیه وردّه، والخروج فی المقام و إن کان تصرّفاً فی مال الغیر إلاّ أنه من ناحیة اخری تخلیة بین المال وصاحبه وتسلیم له إلیه.

الرد علی ما أفاده المقحق النائینی قدّس سرّه

وفیه، أولاً: إن وجوب الخروج لایمکن أن یکون وجوباً نفسیاً ناشئاً من مصلحة لزومیة فی متعلقه ومصداقاً للتخلّص من مال الغیر وتسلیمه إلیه، وذلک لأن التخلص عبارة عن الکون فی خارج الأرض المغصوبة وینطبق علی أول خطوة خطاها الانسان فی خارجها، بینما الخروج عبارة عن الکون فی الأرض المغصوبة، فهما عنوانان متضادّان کالحرکة و السکون فلاینطبق أحدهما علی الآخر، لوضوح أن عدم کون الحرکات الخروجیّة مصداقاً للتخلّص أمروجدانی، فلایحتاج إلی برهان بداهة أن التخلص من الحرام غیر الابتلاء

ص:512


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 381 383.

والاشتغال به، فلایمکن انطباق أحدهما علی الآخر وکون شیء واحد مصداقاً لهما معاً.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الخروج مصداق للتخلص عن مال الغیر وتسلیمه إلیه إلاّ أن کبری التخلّص کبری عقلیّة ومن تبعات حکم العقل بحسن الطاعة والانقیاد وقبح الإدانة و المعصیة ولیس وجوبه وجوباً شرعیاً، لأن جعل الوجوب الشرعی له بحاجة إلی ملاک ولا ملاک له، فإن عنوان تسلیم مال الغیر وتخلیصه وردّه إلی صاحبه ونحو ذلک کلها من العناوین الانتزاعیة التی لا واقع موضوعی لها ماعدا منشأ انتزاعها و هو حرمة التصرّف فیه واستحقاق الإدانة و العقوبة علیه، و إنّ هذه العناوین جمیعاً معرفات لحکم العقل بوجوب الاجتناب عن التصرّف فیه ولیس وراء حرمة التصرّف فیه حکم نفسی آخر، فإذن لامقتضی لوجوب الخروج شرعاً، و قد ذکرنا فی ضمن البحوث السالفة ان الوجوب الحقیقی هو مرکز حق الطاعة و المعصیة و هو یتوقف علی وجود مصلحة ملزمة فی متعلقه علی أساس ما ذکرناه فی محله من أن الإدانة و العقوبة انما هی علی تفویت الملاک الملزم الذی هو حقیقة الوجوب وروحه، و أما الوجوب بما هو اعتبار فلاقیمة له بدونه. ومن هنا لایستتبع الوجوب الغیری الإدانة واستحقاق العقوبة علی مخالفته باعتبار أنه ناشیء من ملاک الوجوب النفسی ولا ملاک فی متعلقه.

وعلی الجملة فالحرام و هو التصرف فی مال الغیر بدون طیب نفسه مبغوض فی نفسه ومشتمل علی مفسدة ملزمة، و أما ترکه فهو واجب عقلاً من باب تطبیق کبری حکم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصیة، ویکون منشأً لانتزاع عنوان تسلیم المال إلی صاحبه وردّه إلیه وتخلیصه وغیر ذلک، فإن هذه العناوین

ص:513

جمیعاً معرفات للزوم ترک التصرف فیه والاجتناب عنه و إن العقل یحکم به بعناوین مختلفة بحسب اختلاف الموارد، ولایکون ترک الحرام مشتملاً علی مصلحة ملزمة وإلاّ لزم أن یکون ترکه واجباً نفسیاً ولایمکن القول به، هذاإضافة إلی أنه لا طریق لنا إلی اشتماله علی الملاک فی الواقع، و أما حکم العقل بلزوم الاجتناب و التسلیم و الردّ، فهو معلول لحکم الشرع بحرمة الغصب لأنه من فروع حکمه بلزوم الطاعة وقبح المعصیة، والمفروض أنه لا ملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع فی هذه المرتبة، وإنما الملازمة بینه وبین حکم الشرع فی مرتبة المبادی، فإذا ادرک العقل مصلحة ملزمة فی فعل بدون أی مزاحمة فرضاًفقد ادرک أن الشارع أوجبه، و هذه الکبری و إن کانت مسلمة نظریة إلاّ أنه لاواقع لها تطبیقیّة.

ودعوی، أن العقل یحکم بحسن التخلّص و التسلیم للمال إلی صاحبه وبقاعدة الملازمة بین حکم العقل بحسن شیء وحکم الشرع بوجوبه یثبت الوجوب إلیه.

مدفوعة، أولاً، أنه لا ملازمة بینهما وانما الملازمة بین وجود مصلحة ملزمة فی فعل وبین وجوبه، ومفسدة ملزمة فی آخر وبین حرمته، فإن الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح و المفاسد الواقعیتین دون الحسن و القبح العقلیین.

وثانیاً: ما مرّ من أن حکم العقل بحسن التسلیم للمال إلی صاحبه وردّه إلیه من باب حکمه بحسن الطاعة وقبح المعصیة ومن فروعه الذی هو معلول لحکم الشرع. فالنتیجة، فی نهایة الشوط أن التخلیة بین المال ومالکه وتسلیمه وردّه إلیه لیست بواجبه شرعاً ومشتملة علی مصلحة ملزمة.

و أما وجوبها الغیری فیمکن تقریبه بوجهین:
الأول: إن النهی عن شیء یستلزم الأمر بضدّه العام

کما ان الأمر بشیء

ص:514

یستلزم النهی عن ضده کذلک، وعلی هذا فالنهی عن التصرف فی مال الغیریستلزم الأمر بترکه و التخلّص منه.

والجواب: ما تقدم فی بحث الضدّ موسعاً من أن الأمر بشیء لا یدل علی النهی عن ضدّه لا الخاص ولا العام وکذلک الحال فی النهی عن شیء، فإنه لا یدل علی الأمر بضدّه لا الخاص ولا العام.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه یدل علی الأمر بضدّه العام إلاّ أن هذا الأمر لما کان غیریاً فلاقیمة له، لأن قیمته انما هی بقیمة النهی النفسی ولا عقوبة علی مخالفته وانما هی علی مخالفة النهی النفسی ولا مثوبة علی موافقته، فلهذایکون وجوده وعدمه علی حدٍّ سواء.

الثانی: کون الخروج واجب من باب أنه مقدمة لترک الحرام

الثانی: انه واجب من باب أنه مقدمة لترک الحرام.

مناقشة السید الأستاذ قدّس سرّه فی ذلک

و قد ناقش فیه السید الاُستاذ قدس سره بأنه مقدمة للکون فی خارج الأرض المغصوبة، و هذا العنوان لیس بواجب وانما هو ملازم للواجب و هو عبارة عن ترک الحرام الذی هو أمر عدمی، فلایمکن أن یکون عین الکون فی خارج الأرض الذی هو أمر وجودی. ولکن هذه المناقشة بظاهرها غیر تامّة، إذ لامانع من أن یکون الخروج مقدّمة لأمرین متلازمین معاً، فإنه کما یکون مقدمة للکون فی خارج الأرض کذلک یکون مقدمة للترک الملازم له. فالنتیجة، إن الخروج مقدّمة لترک الغصب ولا وجه للاشکال فی مقدمیّته.

عدم تمامیة هذه المناقشة

وإنما الاشکال فی وجوبه من باب المقدمة، و قد تقدم فی مبحث مقدمة الواجب موسعاً أنه لا ملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدمته، فإنه إن اریدبها ترتب وجوب المقدمة علی وجوب ذیها قهراً کترتّب المعلول علی العلة، فهوغیر معقول لأن الوجوب أمر اعتباری صادر من المولی بإرادته واختیاره

ص:515

مباشرة فلا یعقل فیه التسبیب، أو فقل أن السببیة و المسببیّة و العلّیة و المعلولیة لاتتصور فی الاُمور الاعتباریة التی لاواقع موضوعی لها ماعدا وجودها فی عالم الاعتبار و الذهن، وانما تتصور ذلک فی الاُمور التکوینیة التی لها واقع موضوعی فی عالم العین و الخارج، و إن ارید بها الملازمة بینهما جعلاً، فهی و إن کانت ممکنة إلاّ أن جعل الوجوب الغیری للمقدمة یتوقف علی وجود مبرر له وإلاّ فلایمکن جعله لأنه جزاف وبلا ملاک، والفرض أنه لا مبرر له فإن المبرر إن کان الحفاظعلی الملاک القائم بذی المقدمة وتحریک المکلف نحو تحصیله، کفی للحفاظ علیه وتحریک المکلف نحوه جعل الوجوب النفسی له، و إن کان المبرّر وجود الملاک فی متعلقه، فالمفروض انه لاملاک فیه وإلاّ لکان وجوبه نفسیاً، بقی هنا امور:

التنبیه علی أمور:
الأول: ما ذکره المحقق النائینی قدس سره

من ان الانسان إذا جعل نفسه مضطراً إلی شرب الخمر بإیجاد مقدمة سائغة فی نفسها، کما إذا علم أنه إذا شرب ماء کثیراًبعد الأکل یؤدی إلی مرضه لا دواء له إلاّ شرب الخمر، وحینئذٍ فإذا فعل ذلک ومرض واضطرّ إلی شرب الخمر لانقاذ حیاته، فوقتئذٍ و إن کان شربها جائزاً له ومطلوباً للشارع مقدمة للواجب الأهم و هو حفظ حیاته إلاّ أن التسبیب إلیه لماکان بسوء اختیاره فهو محرم وسبب لاستحقاق العقوبة علیه(1) هذا.

المناقشة فیما ذکره المحقق النائینی قدّس سرّه

وللمناقشة فیه مجال، أما أولاً: فلأن حرمة التسبیب إلی الحرام مبنیة علی ثبوت الملازمة بین حرمة شیء وحرمة مقدمته إذا کانت علة تامة لوجود الحرام فی الخارج کما بنی قدس سره علی حرمتها فی هذا الفرض لا مطلقاً، ولکن قد ذکرنا فی بحث المقدمة ان هذه الملازمة غیر ثابتة مطلقاً حتی فیما إذا کانت المقدمة علة تامة له، بل قد عرفت ان هذه الملازمة قهراً غیر معقولة، واما جعلاً فهی و إن کانت

ص:516


1- (1) - أجود التقریرات ج 1 ص 380.

ممکنة إلاّ أنه لا دلیل علیها، کما أنها غیر ثابتة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته بنفس الملاک.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم ثبوت الملازمة بینهما إلاّ ان هذه الحرمة حرمة غیریة و الحرمة الغیریة کالوجوب الغیری لیست مرکزاً لحق الطاعة و الإدانة و العقوبة، باعتبار أنها لیست حکماً حقیقیاً ناشئاً عن وجود مفسدة ملزمة فی متعلقها، ولهذا لا روح لها، ومن أجل ذلک لا تترتب عقوبة علی مخالفتها ومثوبة علی موافقتها، فإن العقوبة انما هی مترتبة علی مخالفة ذیها و هوشرب الخمر باعتبار انه منته إلی اختیاره وإرادته وکونه مقدمة للواجب الأهم لایوجب کونه محبوباً ومطلوباً للشارع بعدما کان بسوء الاختیار، فإنه من أظهرمصادیق قاعدة الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

وثالثاً: ان لازم ما ذکره قدس سره انه إذا أوجد المکلف مقدمة تؤدی إلی ارتکاب الحرام لا من جهة أنه مقدمة لواجب أهمّ بل من جهة أن إیجاده هذه المقدمة یؤدی إلی کونه مقهوراً فی إرادته واختیاره لارتکاب الحرام، کما إذا فرض أنه کان یعلم بأنه إذا دخل فی هذه الدار ارتکب محرّماً جزماً لا من جهة ان ارتکابه بغرض الحفاظ علی نفسه بل من جهة أنه مقهور فی إرادته واختیاره ولیس بإمکانه عقلاً التخلّص منه، ولازم ذلک أنه استحق عقوبتین:

الاُولی: علی حرمة التسبیب و هو إیجاد المقدمة المؤدیّة إلی الحرام.

الثانیة: علی ارتکاب الحرام تطبیقاً لقاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار.

الثانی: مقصود المحقق النائینی قدّس سرّه من کون الخروج مصداقا للتخلص

الأمر الثانی: قد یقال کما قیل إن مقصود المحقق النائینی قد قدس سره من کون الخروج مصداقاً للتخلص، أنه مصداق له بالنسبة إلی التصرف الزائد، فإن من دخل

ص:517

الأرض المغصوبة فهو مضطرّ إلی التصرّف فیها فترة زمنیة تساوی فترة الخروج منها، و أما بالنسبة إلی التصرف الزائد فهو غیر مضطرّ إلیه، وعلیه فالخروج و إن لم یکن مصداقاً للتخلص بالنسبة إلی المقدار المضطرّ إلیه من التصرف ولکنه مصداق للتخلص بالنسبة إلی التصرّف الزائد و هو واجب، و هذا معنی أن الخروج مصداق للواجب شرعاً ومحبوب للشارع هذا.

الجواب عنه و أن الخروج لیس مصداقا للتخلص

والجواب، أولاً: إن الخروج کما أنه لیس مصداقاً للتخلص عن أصل التصرف فی الأرض المغصوبة کذلک لیس مصداقاً له بالنسبة إلی التصرف الزائد وذلک، لأن الانسان إذا دخل الأرض المغصوبة فهو مضطرّ إلی التصرّف فیها فی فترة توازی فترة الخروج منها، وفرضنا أن تلک الفترة تساوی دقیقة واحدة من الوقت، وعلی هذا فطالما یکون الانسان فی هذه الدقیقة فلایکون مبتلاً بالتصرف الزائد بل لیس بمقدوره الابتلاء به طالما لم تنته الدقیقة بالکامل وحینئذٍ، فإن مکث فیها فقد ابتلی بالتصرّف الزائد بعد انتهاء الدقیقة من الوقت، و إذا شرع فی الخروج عنها فمادام مشغولاً بالخروج فلایصدق علیه انه ابتلی بالتصرف الزائد ولا التخلّص عنه.

و إن شئت قلت، إن معنی التخلّص عن شیء هو الخروج منه ولا یصدق التخلص عن شیء إلاّ بعد الدخول فیه، فلا یقال إنه تخلّص عن الغصب إلاّ بعد ابتلائه به، ولهذا لا واسطة بین تخلص شیء عن شیء ودخوله فیه، و هذا المعنی لاینطبق علی الخروج فإنه لیس تخلّصاً عن التصرف الزائد باعتبار أنه غیرداخل فیه حتی یصدق علیه عنوان التخلص منه، لأن الخروج فی مقابل البقاء بتقابل التضاد وکل منهما موجود مستقل ولاتکون له حالتان:

حالة الابتلاء وحالة التخلّص، نعم یصدق عنوان التخلّص عن أصل التصرّف

ص:518

علی أول خطوة خطاها الانسان فی خارج الأرض وبه ینتهی زمان الخروج.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه مصداق للتخلّص عن التصرّف الزائد إلاّ أنه لایمکن أن یکون محبوباً باعتبار انه کان بسوء الاختیار فلا محالة یکون مبغوضاً و المکلف معاقب علیه بمقتضی قاعدة أن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار، و أما سقوط النهی عنه فعلاً فهو انما یکون من جهة الاضطرارحیث إن بقائه معه یکون لغواً، و أما روحه فهی باقیة ولا موجب لسقوطها. فالنتیجة، إن الخروج لیس مصداقاً للتخلّص لا عن أصل التصرّف ولا عن التصرّف الزائد.

الثالث: إن الحرکات الخروجبة هل هی مقدمة للخروج؟ و کلام السید الأستاذ قدّس سرّه

الثالث: ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن الحرکات الخروجیة فی الأرض المغصوبة کما أنها لیست مصداقاً للتخلص کذلک لیست مقدمة له، و قد أفاد فی وجه ذلک أن تلک الحرکات مقدمة للکون فی خارج الأرض المغصوبة لاللتخلّص، لأن عنوان التخلص لایخلو من أن یکون عنواناً وجودیاً، وعبارة عن إیجاد الفراغ بین المال ومالکه کما هو الصحیح أو عنواناً عدمیاً، وعبارة عن ترک التصرّف فی مال الغیر، وعلی کلا التقدیرین فهو ملازم للکون فی خارج الأرض وجوداً.

أما علی الأول، فلأن عنوان التخلص عن الغصب لیس عین عنوان الکون فی خارج الأرض المغصوبة بل هما عنوانان متلازمان فی الخارج.

و أما علی الثانی، فالأمر واضح لأن ترک التصرّف لیس عین الکون فیه بل هوملازم له خارجاً، لأن الأمر العدمی لایمکن أن یکون عین الأمر الوجودی(1).

ص:519


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 390 391.
الجواب عن کلام السید الأستاذ قدّس سرّه

والجواب: إن ما ذکره قدس سره من التلازم بین العنوانین فی الوجود الخارجی لایتعدّی عن مجرد دعوی فی المسألة بدون أن یقیم برهاناً علیه، ولهذا فالصحیح فی المقام أن یقال انه لاشبهة فی أن مفهوم الکون فی خارج الأرض المغصوبة مباین لمفهوم التخلّص و هو الفراغ بین المال ومالکه أو ترک التصرّف فیه، علی أساس أن کل مفهوم ذهنی مباین لمفهوم ذهنی آخر فی عالم المفهومیّة و هو عالم الذهن ولاینطبق أحدهما علی الآخر، لأن الوجودات جمیعاً متباینات سواءً أکانت فی عالم الذهن أم کان فی عالم الخارج، فلایمکن حمل بعضها علی بعضها الآخر وانطباقه علیه، و أما فی عالم الخارج فلا مانع من انطباق مفهومین أو أکثرعلی موجود واحد فیه کانطباق مفهوم العالم و العادل و القائم وهکذا علی موجودواحد فی الخارج کزید مثلاً، مع أن هذه المفاهیم متیاینات فی عالم الذهن ویستحیل انطباق بعضها علی بعضها الآخر وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن عنوان الکون عنوان انتزاعی لاموطن له إلاّ الذهن وکذلک عنوان التخلّص، فإنهما مفهومان متباینان فی عالم الذّهن ولکنها ینطبقان علی موجود واحد فی عالم الخارج، و هذا الموجود الواحد مصداق لهما معاً ومنشأ لانتزاع کلیهما و هو متمثل فی الخطوة الاُولی التی خطاها الانسان خارج الأرض المغصوبة، فإنها مصداق للکون فی خارج الأرض کما أنها مصداق للفراغ بین المال ومالکه، فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أنهما موجودان متلازمان فی الخارج غیر تام، ضرورة أنه لیس فی الخارج وجودان: أحدهما، مصداق للکون فیه. والآخر، مصداق للتخلّص بل وجود واحد فیه و هو مصداق لهما معاً، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون التخلّص عبارة عن الفراغ بین المال ومالکه أو عبارة عن ترک الغصب، لأن کلا العنوانین یصدق علی الخطوة الاُولی فی خارج الأرض المغصوبة، فإنهاکما تکون مصداقاً لعنوان الفراغ کذلک تکون مصداقاً لترک الغصب.

ص:520

خلاصة ما علقناه علی المحق النائینی قدّس سرّه

إلی هنا قد تبیّن أن ما ذکرناه من التعلیق علی المحقق النائینی قدس سره فی المسألة یتمثل فی امور:

الأول: إن التخلّص من الغصب لیس واجباً شرعیاً لا من جهة الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع ولا من جهة الدلیل الشرعی، ومن هنا قلنا أن وجوبه عقلی ومن تبعات حکم العقل بوجوب الطاعة.

الثانی: إن لازم ما ذکره قدس سره من أن التخلص واجب شرعی تعدد العقاب، عقاب علی ترک التخلّص وعقاب علی ارتکاب الحرام و هو خلاف الضرورة الفقهیّة.

الثالث: علی تقدیر تسلیم أن التخلّص واجب شرعی ولکن الخروج لیس مصداقاً له بل هو مصداق للابتلاء به، نعم هو مقدمة له ولکن مقدمة الواجب لیست بواجبه.

الرابع: إنه علی تقدیر تسلیم أن الخروج مصداق للتخلّص إلاّ أنه لما کان مبغوضاً بملاک أنه تصرّف فی مال الغیر بسوء اختیاره وإرادته فلایعقل أن یکون واجباً ومحبوباً، لأن المبغوض لایمکن أن یکون مصداقاً للمحبوب، هذا تمام الکلام فی المسألة الثانیة.

الکلام فی المسألة الثالثة: الصلاة حال الخروج

و أما الکلام فی المسألة الثالثة، و هی الصلاة فی حال الخروج فیقع فی مقامین:

الأول: ما إذا فرض أن المکلف لایتمکن من الصلاة فی الوقت بعد الخروج.

الثانی: انه متمکن من الصلاة فیه خارج الأرض المغصوبة من جهة أن الوقت متّسع.

ص:521

أما الکلام فی المقام الأول

، فیقع تارةً علی القول بالامتناع، واُخری علی القول بالجواز. أما علی القول بالامتناع ووحدة المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً، فإن کانت وحدته فی تمام أکوان الصلاة فتقع المعارضة بین دلیل وجوب الصلاة ودلیل حرمة الغصب دخولاً ومکثاً وخروجاً، وحینئذٍ فإن کانت هناک مندوحة فیقدم اطلاق دلیل حرمة الغصب علی اطلاق دلیل وجوب الصلاة، علی أساس ما ذکرناه سابقاً من أن التعارض إذا کان بین الاطلاق البدلی والاطلاق الشمولی، فیقدم الثانی علی الأول فی مورد المعارضة تطبیقاً لقاعدة حمل الظاهر علی الأظهر بتقیید اطلاق دلیل وجوب الصلاة بغیر الفرد فی موردالاجتماع، و أما إذا لم تکن هناک مندوحة، فحینئذٍ ان کان الاضطرار بغیر سوءالاختیار. فلا شبهة فی صحة الصلاة، لأن الاضطرار المذکور رافع للحرمة روحاًواعتباراً، ولکن لابد من الاقتصار علی الایماء و الإشارة بدیلاً عن الرکوع و السجود، و قد تقدم الکلام فی ذلک موسعاً، و أما إن کان الاضطرار بسوء الاختیار کما هو محل الکلام فی المقام، فهل یمکن الحکم بصحة الصلاة المتحدة مع الغصب وجوداً وماهیةً فی حال الخروج رغم اضطراره وعدم تمکنّه منها فی الوقت إلاّ الاتیان بها حال الخروج، وعندئذٍ فلو کنا نحن ومقتضی القاعدة، فلایمکن الحکم بصحة الصلاة لأنها مبغوضة فلایمکن التقرّب بها ومعاقب علیهاتطبیقاً لقاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار، ولکن حیث إن الصلاة لاتسقط بحال عن المکلف بمقتضی نصّ خاص، فلابد من الاتیان بها هذا مما لاکلام فیه، وانما الکلام فی أن هذا الدلیل الخاص هل یدل بنفسه علی عدم مبغوضیة الحصة الخاصة من الحرکة الخروجیة التی هی معنونة بعنوان الحرکة الصلاتیة أو لایدل علیه، فیه وجهان:

عدم مبغوضیة الحصة الخاصة

فذهب جماعة من المحققین إلی الوجه الأول معللاً بأن الحرکة الصلاتیة

ص:522

الغصبیّة لوکانت مبغوضة فلایمکن التقرّب بها و الحکم بصحّتها ووقوعها عبادة، بداهة أنه لایعقل التقرب بالمبغوض، والنکتة فی ذلک أن الصلاة حیث إنها أهم من الغصب ملاکاً وروحاً بمقتضی هذا النصّ الخاص فلاتتصف فی مورد الاجتماع إلاّ بملاکها دون ملاک الغصب لاستحالة اتصافها بکلا الملاکین معاًفیه، أو فقل أن النصّ المذکور بما أنه یدل علی عدم سقوط الصلاة بحال، فبطبیعة الحال یکشف عن أن ملاکها تامّ فی تمام حالات المکلف، و هذا معنی أن ملاکهاأهم من ملاک الحرمة، وعلی هذا فالمجمع علی القول بالامتناع، حیث إنه واحدوجوداً وماهیةً، فلامحالة یکون مشتملاً علی أحد الملاکین وحیث أن ملاک الصلاة بمقتضی النصّ المذکور لایسقط حتی فی هذه الحالة فلامحالة یکون المجمع مشتملاً علی ملاکها فقط بلحاظ أنه أهمّ دون ملاک الحرمة هذا.

القول بالمبغوضیة و المناقشة فیه

وذهب بعض المحققین قدس سره إلی الوجه الثانی، و هو أن مبغوضیة الحرکة الخروجیّة بدون الصلاة أکثر من مبغوضیتها إذا کانت بعنوان الصلاة، فإذا کانت أقل من مبغوضیة البدیل لامانع من التقرّب بها إلی المولی، لأن معنی التقرّب ترجیح الحرکة الاُفقیة بعنوان الصلاة علی الحرکة الاُفقیة بعنوان الخروج فحسب من أجل المولی، باعتبار أن الاُولی أقلّ مبغوضاً من الثانیة وترجیحهاعلی الثانیة فی هذه الحالة من أجل المولی تقرّب، أو فقل أن الحرکة الخروجیة المتمحضّة فی الغصبیة مشتملة علی مفسدة فحسب دون مصلحة و هی أشدّمبغوضاً من الحرکة الخروجیة الغصبیة المتمثلة فی الصلاة لأنها واجدة للمصلحة أیضاً، وترجیح الثانیة علی الاُولی من أجل المولی تقرّب هذا.

ویمکن المناقشة فیه، بأن الصلاة حال الخروج إذا کانت متحدة مع الغصب خارجاً فی تمام أجزائها وألوانها ومبغوضة بلحاظ أن الغصب کان بسوء اختیاره

ص:523

فکیف یمکن التقرّب بها، وفرض أن التقرّب بها بلحاظ أن مبغوضیّتها أقلّ من مبغوضیة الخروج بدون تعنونه بعنوان الصلاة.

مدفوع، بأن فرض أنها أقل مبغوضاً من الخروج بدون تعنونه بعنوان الصلاة أمّا مبنی علی اشتمال المجمع فی مورد الاجتماع علی المحبوبیة إذا کان معنوناً بعنوان الصلاة أو أن تعنون المجمع بهذا العنوان یؤدی إلی تخفیف مبغوضیته عما إذا لم یکن معنوناً بهذا العنوان، وعلی کلا الفرضین لایمکن التقرّب بها، أما علی الفرض الأول فمضافاً إلی أنّه لایمکن أن تکون الصلاة مشتملة علی المبغوضیة و المحبوبیة معاً لاستحالة اجتماعهما فی شیء واحد وجوداً وماهیةً أنه لایمکن التقرّب بها، کیف فإنها مبغوضة ولو بدرجة الأقلّ ومحبوبیتها لاتؤثر إلاّ فی تخفیف مبغوضیتها ونقصها لا إزالتها نهائیاً.

و أما علی الفرض الثانی، فالأمر أوضح من ذلک، ضرورة أنها مبغوضة ولوبدرجة الأقلّ ومع مبغوضیتها لایمکن التقرّب بها و إن کانت مبغوضیتها بدرجة الکراهة، نعم أن هذا الترجیح من أجل المولی یوجب تخفیف العقوبة لا الصحة، وعلی هذا فالأمر بالصلاة فی هذه الحالة یکشف عن أنه لامبغوضیة فیها و إن کانت بسوء اختیاره، ولهذا یعاقب علی الدخول فی الأرض المغصوبة وعلی ترک صلاة المختار باعتبار أنه منته إلی سوء اختیاره، و أما ما ذکره قدس سره من انا نلتزم بعدم محبوبیة الصلاة لکی یقال باستحالة اجتماع المبغوضیة مع المحبوبیة فیها، لأن الدلیل علی وجوب الصلاة فی هذه الحالة الاجماع و هو دلیل لبّی ولایثبت به إلاّ الوجوب الناشیء فی المقام من قلة المبغوضیّة وترجیح أخفّ المحذورین، و أما قوله علیه السلام: «لا تدع الصلاة بحال»(1) ، فقد ذکر قدس سره إنه لایشمل ما إذا کان

ص:524


1- (1) - الوسائل ج 2 ص 605 ب 1 من الاستحاضة ح 5.

الاضطرار إلی ترک الصلاة التامّة و هی صلاة المختار بسوء الاختیار، فإذن یکون الدلیل علی وجوب الصلاة الناقصة و هی المرتبة الدانیة الاجماع فلایمکن المساعدة علیه، أما الاجماع فی المقام فهو لیس اجماعاً تعبدیاً کاشفاً عن وصوله إلینا من زمن المعصومین علیهم السلام یداً بید، فإن مدرک هذا الاجماع هو حدیث لاتدع الصلاة بحال، و أما الحدیث فلا مانع من شموله ما إذا کان الاضطرار إلی ترک الصلاة التامّة بسوء الاختیار، ودعوی انصراف الحدیث إلی الاضطرار بغیرسوء الاختیار.

مدفوعة، بأنّه بدوی وعند التأمل فیه وانّ ذلک انما هو من جهة اهتمام الشارع بالصلاة وعدم رضائه بترکها فی أی حال من الحالات یزول هذا الانصراف، فلایکون مستقراً وعلی هذا فوظیفته تنتقل إلی الصلاة الناقصة و إن کان معاقباًعلی ترک الصلاة التامّة فی المقام باعتبار أنه کان بسوء اختیاره.

فالنتیجة، أن الصحیح هو الوجه الأول الذی اختاره جماعة من المحققین، و إن حدیث لاتدع الصلاة یکشف عن أن الصلاة فی هذه الحالة لیست مبغوضة رغم انها بسوء الاختیار وإنما المبغوض هو الدخول فیها وترک الصلاة التامة، ولهذا یعاقب علیهما، فإن الأمر المتعلق بها بمقتضی هذا الحدیث یکشف عن أنها محبوبة وإلاّ فلایمکن التقرّب بها ومع عدم امکانه یکون الأمر بها لغواً هذا.

و إن کانت متحدة فی الرکوع و السجود فقط لا فی سائر الأجزاء و الأکوان، فعندئذٍ وظیفته الاتیان بالصلاة مع الایماء بدیلاً عن الرکوع و السجود حتی فیما إذالم یستلزما التصرف الزائد، کما إذا کان خروجه من الأرض المغصوبة بالمصعد الکهربائی، فإن الرکوع و السجود حینئذٍ لایستلزمان المکث الزائد، فمع ذلک تکون وظیفته الإیماء لحرمة الرکوع و السجود ومبغوضیتهما المانعة من الاتیان

ص:525

بهما بقصد القربة، فإذا لم یتمکن المکلف من الاتیان بالمبدل فوظیفته الاتیان بالبدل، ولایمکن تصحیح الصلاة مع الرکوع و السجود فی المقام بالترتّب لعدم امکان جریانه علی القول بالامتناع ووحدة المجمع، هذا کله علی القول بالامتناع واتحاد الصلاة مع الغصب، و أما علی القول بالجواز وتعدّد الصلاة مع الغصب وجوداً وماهیةً، فلا اشکال فی صحة الصلاة علی کل حال أی سواءً أتی المکلف بالصلاة الاختیاریة و هی الصلاة مع الرکوع و السجود أم اقتصر فیها علی الإیماء، ولکن لوفرض ان الصلاة الاختیاریة تستلزم التصرّف الزائد تعیّن علیه الاتیان بالصلاة الاضطراریة و هی الصلاة مع الإیماء بدیلاً عن الرکوع، ومع هذا فالصلاة الاختیاریة صحیحة إذا أتی بها بملاک الترتّب، و هذا هو الفرق بین هذا القول و القول بالامتناع.

وبکلمة اخری، انه یقع التزاحم علی هذا القول بین وجوب الرکوع و السجود وبین حرمة التصرّف الزائد، ولکن لابدّ من تقدیم حرمة التصرّف علی وجوب الرکوع و السجود، و هذا لا من جهة تقدیم مالیس له بدل علی ماله بدل بعنوانه بل من جهة أنه إذا لم یعلم من الخارج أن ملاک ماله البدل أهمّ وأقوی من ملاک مالیس له البدل مطلقاً ولم یقم دلیل خاصّ من الخارج علی ذلک ویحتمل أهمیّة ملاک کل واحد منهما فی نفسه علی الآخر ویحتمل التساوی، وعندئذٍ فلابدّ من تقدیم مالیس له بدل علی ماله البدل، لأن احتمال أهمیّة ملاک مالیس له البدل فی نفسه بضمیمة ملاک البدل کان أقوی وأکبر من احتمال أهمیّة ملاک المبدل فقط، لأن أحد طرفی المزاحمة مجموع ملاک البدل ومالیس له بدل و الآخر خصوص ملاک المبدل فحسب، و قد تقدم تفصیل ذلک فی المقام الأول.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن تقدیم مالیس له بدل علی

ص:526

ماله بدل انما هو بملاک أن الأول مشروط بالقدرة العقلیّة و الثانی بالقدرة الشرعیة وفی مقام المزاحمة بتقدّم المشروط بالقدرة العقلیّة علی المشروط بالقدرة الشرعیة(1) لایمکن المساعدة علیه صغری وکبری و قد سبق تفصیل ذلک موسّعاً فی ضمن البحوث السالفة، فلا حاجة إلی الإعادة.

محصل ما ذکرناه

فالنتیجة، ان وظیفته الصلاة الاضطراریة حال الخروج و هی الصلاة مع الإیماء بدیلاً عن الرکوع و السجود دون الصلاة الاختیاریة و هی الصلاة مع الرکوع و السجود، ومع هذا لو أتی بالصلاة الاختیاریة حکم بصحّتها بملاک الترتّب ولکنه أثم.

ومن هنا یظهر حال القول بعدم اتحاد الصلاة مع الغصب إلا فی السجدة فحسب، فإن وظیفته حینئذٍ الإیماء بدیلاً عن السجدة و إن لم تستلزم التصرّف الزائد، کما إذا کان خروجه بالعربة وصلّی فیها، لأنها بنفسها مبغوضة بلحاظاتحادها مع الغصب.

تحصّل مما ذکرنا امور:

الأول: أن الصلاة لوکانت متحدة مع الغصب فی تمام أجزائها وألوانها، فعلی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً فمقتضی القاعدة و إن کان سقوط الصلاة إلاّ أن هناک دلیلاً خاصاً علی عدم سقوطها حتی فی هذه الحالة، فإذن وظیفته الاتیان بالصلاة، غایة الأمر اقتصاراً علی الإیماء بدیلاً عن الرکوع و السجود إذا کانا مستلزمین للمکث الزائد لامطلقاً.

الثانی: إن الصلاة إذا لم تکن متحدة مع الغصب بأن یکون المجمع فی مورد

ص:527


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 400 401.

الاجتماع متعدداً وجوداً وماهیةً، فمقتضی القاعدة صحة الصلاة اقتصاراً علی الإیماء بدیلاً عن الرکوع و السجود إذا کانا مستلزمین للمکث الزائد، و أما إذا خالف وأتی بهما فالصلاة صحیحة أیضاً بملاک الترتب، فإذن مقتضی القاعدة صحة الصلاة مطلقاً.

الثالث: ان الصلاة إذا کانت متحدة مع الغصب فی الرکوع و السجود أو السجود فقط، فعندئذٍ تکون وظیفته الإیماء بدیلاً عن الرکوع و السجود أو بدیلاً عن السجود فقط.

المقام الثانی: إذا تمکن المکلف من الصلاة خارج الأرض المغصوبة فی الوقت

و أما الکلام فی المقام الثانی، و هو ما إذا تمکّن المکلف من الصلاة خارج الأرض المغصوبة فی الوقت فتارةً، یکون متمکّناً من الصلاة الاختیاریة فیه واُخری لایکون متمکناً إلاّ من الصلاة الاضطراریة و هی الصلاة مع الإیماء و الإشارة بدلاً عن الرکوع و السجود.

أما علی الأول، فعلی القول بالامتناع ووحدة المجمع فی مورد الاجتماع فلاشبهة فی أن وظیفته تأخیر الصلاة إلی خارج الأرض المغصوبة، فإن صلاته فی الطریق حیث إنها متحدة مع الغصب فلایمکن أن تکون مصداقاً للصلاة المأموربها، لاستحالة انطباق الواجب علی الحرم و المحبوب علی المبغوض، وکذلک الحال علی القول بعدم اتحادها مع الغصب إلاّ فی السجدة فقط، فإن المکلف طالمایکون متمکناً من الصلاة الاختیاریة فلایجوز له الاقتصار علی الصلاة الاضطراریة، و أما علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی مورد الاجتماع، فأیضاً وظیفته تأخیر الصلاة إلی خارج الأرض المغصوبة، لأن الصلاة الاختیاریة فی الطریق تستلزم التصرف الزائد بلحاظ الرکوع و السجود، و أما الصلاة الاضطراریة و هی الصلاة مع الإیماء فلا تجوز مع التمکن من الصلاة الاختیاریة فی

ص:528

خارج الأرض، لأن المکلف طالما یکون متمکناً من الصلاة الاختیاریة فلاتصل النوبة إلی الصلاة الاضطراریة، مثلاً من کان متمکناً من الصلاة مع الطهارة المائیة فی الوقت فلا یجوز له الاکتفاء بالصلاة مع الطهارة الترابیة فیه، ولو فرضنا أن الصلاة الاختیاریة فی الطریق و هی الصلاة المشتملة علی الرکوع و السجود لاتستلزم المکث الزائد کما إذا کانت صلاته فی العربة مثلاً، فمع هذا لایجوز له الاکتفاء بها باعتبار أنها فاقدة لشرط الاستقرار و الطمأنینة فیها عامداً ملتفتاً و هو متمکن من الاتیان بها واجدة لهذا الشرط.

إذا لم یتمکن من الصلاة الاختیاریة فی خارج الأرض المغصوبة

و أما علی الثانی، و هو أنه لایتمکن من الصلاة الاختیاریة فی خارج الأرض المغصوبة و إن وظیفته هناک الصلاة الاضطراریة و هی الصلاة مع الإیماء، وحینئذٍ فهل یجوز له الاکتفاء بالصلاة الاضطراریة فی الطریق، فیه وجهان:

رأی السید الأستاذ قدّس سرّه

فذهب السید الاُستاذ قدس سره إلی الوجه الأول باعتبار أن صلاته فی الخارج لیست أحسن وأکمل من صلاته فی الطریق، ولکن الظاهر تعیّن الوجه الثانی، لأن صلاته فی الطریق فاقدة لشرط الاستقرار و الطمأنینة دون صلاته فی الخارج، ولایجوز الاخلال بهذا الشرط عامداً ملتفتاً(1) ، فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من التخییر لا وجه له، و أما إذا فرضنا أنّ صلاته فی الطریق صلاة اختیاریة أی مع الرکوع و السجود، کما إذا کان خروجه من الأرض المذکورة بالعربة أو المصعد الکهربائی، و أما صلاته فی الخارج فهی مع الإیماء بدلاً عن الرکوع و السجود، فعندئذٍ هل علیه الاتیان بالصلاة فی الطریق مع الرکوع و السجود ولکن بدون الطمأنینة والاستقرار أو یجوز له الاتیان بالصلاة مع الإیماء خارج الأرض ولکن مع الطمأنینة والاستقرار.

ص:529


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 4 ص 402.
الجواب عنه قدّس سرّه

والجواب: الظاهر هو الأول لامن جهة وقوع التزاحم بین وجوب الرکوع و السجود وبین وجوب الطمأنینة والاستقرار، وترجیح الأول علی الثانی لماتقدّم من عدم تصور التزاحم بین أجزاء واجب واحد بل من جهة أنه لا دلیل علی وجوب الاستقرار و الطمأنینة فی الصلاة إلاّ الاجماع و القدر المتیقّن منه غیرالمقام، وکذلک الحال علی القول باتحاد الصلاة مع الغصب فی السجدة فقط، فإنه یقدم الصلاة مع الرکوع و الإیماء بدیلاً عن السجود فی الطریق علی الصلاة مع الإیماء بدیلاً عن الرکوع و السجود معاً فی خارج الأرض المغصوبة.

الحاق صاحب الکفایة قدّس سرّه تعدد الإضافات بتعدد العناوین و الجهات

بقی هنا شیء و هو أن المحقق صاحب الکفایة قدس سره قد ألحق تعدد الاضافات بتعدد العناوین و الجهات، بدعوی أن البحث عن جواز اجتماع الأمر و النهی وامتناعه لایختصّ بما إذا تعلق الأمر بعنوان کالصلاة مثلاً و النهی تعلّق بعنوان آخر کالغصب و قد اجتمعا فی مورد واحد، بل یشمل ما إذا تعلّق الأمر باکرام زید من جهة علمه و النهی تعلق به من جهة فسقه، فإن تعدد الاضافة کتعدد العنوان، فلو کان تعدد العنوان مجدیاً فی جواز اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد، کان تعدّد الاضافة أیضاً مجدیاً فی جوازه(1).

الجواب عنه قدّس سرّه

والجواب: أنه لا وجه لالحاق تعدد الاضافة بتعدد العنوان، وذلک لما تقدّم فی ضمن البحوث السالفة من أن العنوان إذا کان من العناوین المتأصلة الذاتیة فتعدّده یوجب تعدّد المعنون فی مورد الاجتماع ذاتاً ووجوداً، فعندئذٍ لا اشکال فی جواز الاجتماع، و أما إذا کان من العناوین الانتزاعیة، فلایکون تعدّده کاشفاً عن تعدّد المعنون بل هو یختلف باختلاف الموارد ولابدّ فی کل مورد من ملاحظة المجمع فی مورد الاجتماع بنفسه وانّه واحد وجوداً وماهیةً أو متعدد کذلک، و هذا

ص:530


1- (1) - کفایة الاصول ص 159.

بخلاف الاضافة فإن تعددها لایوجب تعدد المضاف إلیه الذی هو المتعلق والمصبّ للأمر و النهی معاً، کإکرام زید مثلاً، فإن کلاً من الأمر و النهی تعلق به بعنوان واحد ولکن جهة الاضافة مختلفة، فتعلق الأمر به بلحاظ اضافته إلی العلم وتعلّق النهی به بلحاظ اضافته إلی الفسق، فإذا کان متعلق الأمر و النهی معنوناً بعنوان واحد و التعدّد إنما کان فی الاضافة التی هی جهة تعلیلیة فهو خارج عن محل الکلام فی المسألة، لأن محل الکلام فیها ما إذا تعلّق الأمر بعنوان کالصلاة مثلاً و النهی بعنوان آخر کالغصب واجتمعا فی مورد واحد، فعندئذٍ یقع الکلام فی أن الترکیب بینهما اتحادی أو انضمامی، و أما إذا کان متعلّق الأمر و النهی معنوناً بعنوان واحد وجوداً وماهیةً فی مورد الاجتماع، فلا أثر لتعدد الاضافة التی هی جهة تعلیلیة ولا یوجب تعدد المتعلق، ومن الواضح أن هذا خارج عن محل الکلام ولا شبهة فی استحالة ذلک، ولا فرق فی هذا بین أن یکون متعلق الأمر بالطبیعة بنحو مطلق الوجود أو بنحو صرف الوجود، أما خروج الأول عن محل الکلام فواضح، و أما خروج الثانی عنه فأیضاً کذلک، فإذا قال المولی أکرم عالماً ولا تکرم فاسقاً، فلا محالة یقع التعارض بین الدلیلین فی مورد الاجتماع و هو إکرام العالم الفاسق، فإن حرمته لاتجتمع مع کونه مصداقاً للواجب، بداهة استحالة کون الحرام مصداقاً له و المبغوض مصداقاً للمحبوب، فإذن لامحالة یقع التعارض بین اطلاقی الدلیلین فی مورد الالتقاء بینهما، ولایمکن القول بجواز اجتماع الأمر و النهی فیه، فإن ملاک القول بالجواز هو تعدد المجمع فی مورد الاجتماع وجوداً وماهیةً.

نتیجة البحث الاضطرار بسوء الاختیار

نتیجة البحث عن الاضطرار بسوء الاختیار متمثلة فی عدّة نقاط:

الاُولی: أن الاضطرار إذا کان بسوء الاختیار لایرفع المسؤولیة و العقوبة عن

ص:531

المکلف علی ارتکاب الحرام وإنما یرفع حرمته بما هی اعتبار لا مبغوضیته التی هی حقیقة الحرمة وروحها ومنشأ العقوبة و المسؤولیة.

الثانیة: أن الخروج من الأرض المغصوبة لایمکن أن یکون حراماً فعلاً، لأن الاضطرار إلیه و إن کان بسوء اختیاره إلاّ أنه معه غیر قادر شرعاً علی ترکه، کما أنه لایمکن أن یکون واجباً وحراماً معاً، إذ مضافاً إلی أنه لا منشأ لوجوبه فلایعقل اجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء واحد.

الثالثة: أن القول بأن الخروج واجب بالفعل وحرام بالنهی السابق الساقط بالاضطرار فعلاً باطل، وذلک لأن زمان تعلق الوجوب به و إن کان غیر زمان تعلق الحرمة إلاّ أنّ زمان المتعلق لکلیهما واحد و هو زمان الخروج، فإنه فی هذا الزمان متعلّق للوجوب و الحرمة معاً، غایة الأمر تعلق الوجوب به من الآن و الحرمة من السابق، ومن الواضح أن ذلک لایمکن لأن الحرمة السابقة تکشف عن أنه مبغوض فی ظرفه و الوجوب الفعلی یکشف عن أنه محبوب فیه وملاک الاستحالة و الإمکان انما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدّده لابوحدة زمان الوجوب و الحرمة وتعدّده.

الرابعة: الحق المحقق النائینی قدس سره الأحکام الوضعیة بالأحکام التکلیفیة من هذه الناحیة و إن المناط فی الاستحالة فیها أیضاً تکون بوحدة زمان المعتبر دون الاعتبار، وأشکل علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن الأحکام الوضعیّة تختلف عن الأحکام التکلیفیة، فإن الاُولی تابعة للمصالح و المفاسد فی متعلقاتها. والثانیة تابعة للمصالح و المفاسد فی نفس جعلها واعتبارها، فإذن مناط الاستحالة فیها انما هو بوحدة زمان الاعتبار و الجعل دون المعتبر و المجعول کما فی الأحکام التکلیفیة، ولنا تعلیق علی کلام کلّ من المحقق النائینی قدس سره و السید الاُستاذ قدس سره علی

ص:532

تفصیل تقدّم فلاحظ.

الخامسة: أن المنشأ بالإنشاء و المعتبر بالاعتبار عین الانشاء و الاعتبار کالإیجاد و الوجود فی التکوینیّات، ضرورة أنه لایتصور للمنشأ وجود غیرالوجود الانشائی الاعتباری وللمجعول وجود غیر الوجود الجعلی فی عالم الجعل والاعتبار، ولایعقل أن یکون له وجود فی الخارج وإلاّ لکان خارجیاً لا اعتباریاً، و هذا خلف، و أما ما هو المشهور بین الاُصولیین و قد تبنّت علیه مدرسة المحقق النائینی قدس سره من أن للحکم مرتبتین:

مرتبة الجعل ومرتبة المجعول، و هی فعلیّة الحکم بفعلیّة موضوعه فی الخارج فهو مبنی علی التسامح وعدم الدّقة، لوضوح أن للحکم مرتبة واحدة و هی مرتبة الجعل، ولایعقل وجود الحکم فی الخارج بوجود موضوعه فیه وإلاّ لکان خارجیاً و هو خلف، والمراد من فعلیّة الحکم بفعلیّة موضوعه فیه، فعلیّة فاعلیته ومحرکیته للمکلف لا فعلیة نفسه.

السادسة: أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن الاجازة المتأخرة فی باب العقد الفضولی حیث إنها متعلقة بالعقد السابق فیکون ذلک العقد من زمانه مشمولاً لأدلة الامضاء من الآن، فزمان الشمول من الآن و المشمول هو العقد السابق، وعلی هذا فالملکیة المعتبرة من حین العقد واعتبارها من حین الاجازة غیرتامّ، لأنه مبنی علی الخلط بین أن یکون امضاء العقد السابق من الآن وبین أن یکون من السابق و المفروض أن الامضاء من الآن، فإذن بطبیعة الحال یکون اتّصاف العقد السابق بالامضاء أیضاً من الآن ولایعقل أن یکون من السابق، فالسابق هو ذات العقد، و أما اتصافه بالوصف العنوانی فهو من الآن أی من حین الاجازة، ومن هنا قلنا، أن مقتضی القاعدة النقل فی باب الفضولی.

ص:533

السابعة: أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره فی بحث الملاقی لأحد أطراف العلم الاجمالی من أن المعیار فی انحلال العلم الاجمالی بعلم إجمالی آخر انما هو بتقدم المعلوم بالاجمال فیه علی المعلوم بالاجمال فی الأول غیر تام، فإنه لاینحل به بمجرد اشتراکه معه فی أحد طرفیه بل المؤثر فیه کلا العلمین الاجمالیین معاً بلافرق بین تقدم أحدهما علی الآخر وعدمه علی تفصیل تقدّم.

الثامنة: أن الخروج غیر داخل فی کبری قاعدة التخلیة بین المال ومالکه وداخل فی کبری قاعدة الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار خلافاً للمحقق النائینی قدس سره حیث قال بعکس ذلک تماماً واستدل بوجود ولایتم شیء منها.

التاسعة: أن قاعدة التخلیة بین المال ومالکه، قاعدة عقلیّة و الحاکم بها العقل من باب حکمه بوجوب الطاعة وقبح المعصیة ولیست قاعدة شرعیّة، إذ لا دلیل علی وجوبها لا بوجوب نفسی ولا غیری.

العاشرة: أن حرمة التسبیب بإیجاد مقدمة مؤدیة إلی الحرام مبنیّة علی ثبوت الملازمة بین حرمة شیء وحرمة مقدمته إذا کانت علّة تامة له، ولکن هذه الملازمة غیر ثابتة لأن ثبوتها قهراً غیر معقول وجعلاً بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه بل الدلیل علی العدم موجود و هو اللغویة، هذا إضافة إلی أن هذه الحرمة، حرمة غیریة و الحرمة الغیّریة کالوجوب الغیری لیست مرکزاً لحق الطاعة وقبح المعصیة.

الحادیة عشر: أن الخروج کما أنه لیس مصداقاً للتخلّص عن أصل التصرف کذلک لیس مصداقاً للتخلّص عن التصرف الزائد، لأن التخلص عن شیء متقوّم بالابتلاء به وإلاّ فلایصدق علیه هذا العنوان.

الثانیة عشر: ذکر السید الاُستاذ قدس سره أن الخروج لیس مقدمة للتخلص عن الغصب

ص:534

بل مقدمة للکون فی خارج الأرض المغصوبة، والتخلّص اما عبارة عن الفراغ بین المال ومالکه أو عبارة عن ترک التصرف، وعلی کلا التقدیرین فهولازم للکون فی الخارج لا أنه عینه، وفیه، أولاً إنه لامانع من کون الخروج مقدمة لکلا الأمرین معاً هما الکون فی خارج الأرض المغصوبة وترک التصرف فیها. وثانیاً إن الکون فی الخارج لیس ملازماً للفراغ بین المال ومالکه فی الوجود الخارجی بل هما مفهومان ذهنیان منطبقان علی شیء واحد فی الخارج و هو أول خطوة خطاها الانسان خارج الأرض المغصوبة.

الثالثة عشر: أن الصلاة حال الخروج من جهة ضیق الوقت وعدم التمکن منها فی خارج الأرض علی القول بالامتناع واتحادها مع الغصب فی تمام أجزائها وأکوانها واجبة بمقتضی النصّ الخاص وإلاّ فمقتضی القاعدة عدم صحتهاوسقوط الأمر عنها بالتعارض فی مادة الاجتماع.

الرابعة عشر: أن الصلاة إذا کانت متحدة مع الغصب فی السجود فحسب فعندئذٍ کانت الوظیفة الصلاة مع الإیماء بدیلاً عن السجود.

الخامسة عشر: الصلاة حال الخروج علی القول بالجواز وعدم اتحادها مع الغصب صحیحة حتی إذا أتی بالصلاة الاختیاریة و هی صلاة مع الرکوع و السجود علی القول بالترتب، ولکن الواجب علیه الصلاة مع الإیماء بدیلاً عن الرکوع و السجود إذا کان مستلزمین للمکث الزائد.

السادسة عشر: الصلاة حال الخروج فی الوقت المتسع باطلة علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً، لأن وظیفته فی هذه الحالة هی الإتیان بالصلاة خارج الأرض المغصوبة و إن کانت مع الإیماء.

السابعة عشر: إن المکلف علی القول بالجواز إذا کان متمکناً من الصلاة

ص:535

الاختیاریة حال الخروج، کما إذا کان خروجه بالعربة مثلاً وصلی فیها مع الرکوع و السجود وغیر متمکن من الصلاة الاختیاریة فی خارج الأرض، فوظیفته الصلاة حال الخروج، و أما إذا لم یکن متمکناً حال الخروج إلاّ من الصلاة الاضطراریة و هی الصلاة مع الإیماء باعتبار أن الرکوع و السجود مستلزمان للتصرف الزائد وفی الخارج أیضاً لایتمکن إلاّ منها، فالأظهر هوالإتیان بالصلاة مع الإیماء فی الخارج، لأنها واجدة للاستقرار و الطمأنینة دون الصلاة حال الخروج.

هذا آخر ما أوردناه فی الجزء الخامس من المباحث الاُصولیة، والحمد للَّه أولاً وآخراً، وصلّی اللَّه علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

ص:536

الفهرس

الترتب

الجهة الأولی 5

الجهة الثانیة: ثمرتان لمسألة الترتب 5

الفرق بین الثمرتین 6

الجهة الثالثة: مورد الترتب 7

الجهة الرابعة: معنی الترتب 8

إمکان الترتب و استحالته 9

أدلة القول بالاستحالة 9

الوجه الأول 10

رد السید الأستاذ قدّس سرّه علی الوجه الأول 11

المناقشة فی الرد 13

الوجه الثانی للمحقق الخراسانی قدّس سرّه 14

مناقشة السید الأستاذ قدّس سرّه لهذا الوجه و الرد علیه 15

الوجه الثالث: للمحقق الخراسانی قدّس سرّه أیضا 15

جواب السید الأستاذ عن ذلک 16

أدلة القول بإمکان الترتب 17

دلیل المحقق النائینی قدّس سرّه لاثبات الإمکان 17

المقدمة الأولی 17

الجواب عن المقدمة الأولی 18

المقدمة الثانیة و الجواب عنها 19

استدلال السید الأستاذ علی إمکان الترتب: الوجه الأول و الجواب عنه 20

الوجه الثانی و الجواب عنه 21

ص:537

تأویل الوجه الثانی 24

الجواب عنه 24

الوجه الثالث 25

المقدمة الأولی 25

المقدمة الثانیة 26

الصحیح فی المقام 28

المقدمة الثالثة 30

المقدمة الرابعة 31

الرد علیها 33

المقدمة الخامسة 33

وجوه أخری للقول بإمکان الترتب: الوجه الأول 35

الجواب عنه 35

الوجه الثانی 37

الجواب عنه 38

التحقیق فی المقام 39

شروط عدم استحالة إمکان القول بالترتب 39

کلام المحقق العراقی قدّس سرّه فی استحالة الترتب من الجانبین 43

البیان الأول و الرد علیه 43

البیان الثانی و الرد علیه 45

القول بالترتب من الجانبین إن قلنا باستحالته من جانب واحد 46

الرد علیه 46

نتائج البحث 47

مسألة العقاب علی القول بالترتب و فیها ثلاث نظریات 53

النظریة الأولی 53

النظریة الثانیة 53

النظریة الثالثة و تقدیمها علی النظریتین الأولیین 54

فروع

الفرع الأول: ما إذا وقع التراحم بین وجوب الحج و وجوب الوفاء بالنذر 58

تقدیم وجوب الوفاء و الرد علیه 58

ص:538

القول الثانی و الاستدلال علیه، الوجه الأولی 59

الوجه الثانی 60

الوجه الثالث 62

الفرع الثانی: إذا وقع التزاحم بین وجوب الوضوء و واجب آخر أهم منه 62

کلام المحقق النائینی قدّس سرّه 63

مناقشة المحقق النائینی قدّس سرّه 63

اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعیة یحتاج إلی دلیل، الدلیل الأول 63

الرد علیه 64

الوجه الثانی 65

الرد علیه 66

أقسام القدرة الشرعیة 68

الفرع الثالث: ما إذا توقف الوضوء علی مقدمة لحرمة، و فیه قولان 69

التزام النائینی قدّس سرّه بالقول الثانی 70

ترجیح القول الأول و الاستدلال علیه 70

مختار السید الأستاذ قدّس سرّه فی المقام 71

التعلیق علی ما أفاده السید الأستاذ قدّس سرّه 73

نتائج البحث 77

الفرع الرابع: صحة التمام فی موضع القصر للجاهل و الجهر فی موضع الاخفات 79

استحقاق العقوبة علی ترک القصر إذا کان جهله عن تقصیر 79

محاولات الجمع بین الأمرین 80

ما ذکره الشیخ کاشف الغطاء قدّس سرّه 80

إشکال الشیخ الأنصاری قدّس سرّه علیه 80

تعلیق النائینی قدّس سرّه علیه 80

الذب عن کلام الشیخ قدّس سرّه 80

ما أورده المحقق النائینی قدّس سرّه علی کاشف الغطاء قدّس سرّه 81

إشکال السید الأستاذ قدّس سرّه علیه 82

توضیح کلامه قدّس سرّه 83

ترجیح ما ذهبت إلیه مدرسة النائینی قدّس سرّه 86

الوجه الثانی فی المسألة 88

ص:539

الوجه الثالث فی المسألة 91

تعلیقات فی المقام 94

نتیجة المحاولة الأولی 104

المحاولة الثانیة: للمحقق الخراسانی قدّس سرّه 105

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه 106

التخریج القنّی لما أفاده السید الأستاذ قدّس سرّه 106

إشکال بعض المحققین قدّس سرّه علیه 107

المناقشة فی الإشکال 107

التعلیق الثانی علی المحاولة الثانیة 109

التعلیق الثالث علیه للمحقق الأصبهانی 111

المحاولة الثالثة: ما ذکره السید الأستاذ قدّس سرّه 111

تعلیق علی هذه المحاولة بأمرین: الأول 112

الأمر الثانی 116

التحقیق فی المقام 117

تفسیرین للتخییر الشرعی و اختیار الأول منهما 123

نتیجة البحث 124

استعراض نتائج البحث 126

المسألة الثانیة: التزاحم بین الواجبات الضمنیة 134

مختار المحقق النائینی قدّس سرّه 135

رد السید الأستاذ قدّس سرّه علیه 136

صحة ما أفاده السید الأستاذ قدّس سرّه و تقریبه بوجوه: الأول 136

الوجه الثانی 138

الوجه الثالث 139

الوجه الرابع 140

نتیجة البحث 141

ما قیل فی عدم إمکان وقوع التزاحم بین جزئین من أجزاء الصلاة 141

الرد علی الوجوه المتقدمة 142

عدم تمامیة هذا القیل 143

فصل: هل یمکن الأمر بالشیء مع علم الآمر بانتفاء شرطه 146

ص:540

أنواع الشروط 146

استحالة صدور الأمر مع علم المولی بانتفاء شرطه 147

تفصیلات فی المسألة 148

فصل: فی متعلق الأمر هل هو الطبیعی أو الفرد 152

النظریة الأولی و الرد علیه 152

النظریة الثانیة 154

نقاط هذه النظریة 155

الرد علی هذه النقاط 156

النظریة الثالثة 158

المناقشة فیها 158

الصحیح فی المقام 159

نتائج البحث 162

النسخ 164

وقوع الکلام فی مقامین 167

المقام الأول: فی إمکان إثبات الجواز بالمعنی الأعم 167

تعلیق بعض المحققین قدّس سرّه 169

مناقشة هذا التعلیق 169

قولان آخران فی تفسیر معنی الأمر 171

المقام الثانی: هل یمکن التمسک باستصحاب بقاء الجواز 173

رأی السید الأستاذ قدّس سرّه فی المسألة 173

المناقشة فیه 174

الصحیح فی المقام 175

الواجب التخییری و فیه أقوال 177

النظریة الأولی و نقدها 177

النظریة الثانیة 179

إیراد السید الأستاذ و المحقق الأصبهانی قدّس سرّه علی هذه النظریة 179

المناقشة فی الایراد 180

المناقشة فی رد السید الأستاذ و المحقق الأصبهانی قدّس سرّه علی النظریة الثانیة 180

رد آخر للسید الأستاذ قدّس سرّه علی النظریة الثانیة و المناقشة فیه 181

ص:541

عدم تمامیة الفرضیة الثانیة 182

توجیه کلام لصاحب الکفایة قدّس سرّه و الرد علیه 185

النظریة الثالثة: مختار المحقق الأصبهانی قدّس سرّه 187

بیان فرضیتین لهذه النظریة 188

النظر فی الفرضیة الثانیة 189

النظر فی الفرضیة الأولی 189

إشکال بعض المحققین قدّس سرّه 189

الرد علی هذا الاشکال 189

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه علی هذه الفرضیة بوجوه 190

الرد علی الوجه الأول و الثانی 191

الالتزام بالوجه الثالث 193

الوجه الرابع 193

نتیجة النظریة الثانیة 195

النظریة الرابعة و النظر فیها 197

النظریة الخامسة 198

افتراق التمییز الشرعی عن التخییر العقلی فی أمرین 199

صحة هذه النظریة 199

نتائج البحث 200

الواجب الکفائی 203

أرکان الحکم الشرعی 203

خصائص الواجب الکفائی 204

کلمات الأصحاب فی تفسیر الواجب الکفائی 204

بیان التفسیر الأول و المناقشة فیه 204

بیان التفسیر الثانی و المناقشة فیه 208

بیان التفسیر الثالث و المناقشة فیه 209

بیان ما ذکره السید الأستاذ قدّس سرّه و المناقشة فیه 211

المختار فی المقام 212

نتائج البحث 213

الواجب الموقّت 215

ص:542

الاشکال فی إمکان الواجب الموسع و الرد علیه 215

الاشکال فی الواجب المضیق و الرد علیه 216

الکلام فی هذه المسألة فی عدة نقاط 217

النقطة الأولی: فی بیان نکتة تقدیم المقید علی المطلق و الخاص علی العام عرفا 217

المقام الأول: فی نکتة تقدیم المقید علی المطلق 217

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه فی المقام 219

تعلیق علی کلامه قدّس سرّه 219

التحقیق فی المقام و بیان مراتب ظهور اللفظ 222

عناصر تقدیم المقید 224

المقام الثانی: نکتة تقدیم الخاص علی العام 225

المقام الأول فی المخصص المتصل 225

الصحیح فی ملاک تقدیم الخاص علی العام 228

وجه تقدیم المخصص المنفصل 229

النقطة الثانیة: فی أن القضاء هل هو تابع للأداء أو أنه یأمر جدید؟ 229

تفصیل الجواب فی بیان أمور 230

تبعیة القضاء للأداء ثبوتا 232

الصحیح فی المقام 234

تفصیل المحقق الخراسانی قدّس سرّه و الرد علیه 234

النقطة الثالثة: فی تعیین موضوع وجوب القضاء 240

نتائج البحث 241

فصل: الأمر بالأمر هل هو أمر بذلک الشیء أو لا؟ 245

البحث فی مقام الثبوت 245

البحث فی مقام الاثبات 246

مسألة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر 246

مسألة أمر الأولیاء بأن یأمروا صبیانهم 247

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه و الرد علیه 248

کلام بعض الأعاظم قدّس سرّه و الرد علیه 248

نتائج البحث 250

الأمر بالشیء بعد الأمر ظاهر فی التأکید أو التأسیس 251

ص:543

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه 251

المقصد الثانی

المبحث النواهی 253

الجهة الأولی: فی بیان معنی النهی و مدلوله الوضعی 253

النظریة الأولی 253

الرد علی هذه النظریة 253

النظریة الثانیة: مختار السید الأستاذ قدّس سرّه 254

النظریة الثالثة 255

إبطال الأولیین 255

اختیار النظریة الثالثة 258

الجهة الثانیة: فی متعلق الأمر و النهی 259

اختلاف الأمر و النهی بحسب المختار و هی النظریة الثالثة 264

تعلیق بعض المحققین قدّس سرّه علی السید الأستاذ قدّس سرّه و الرد علیه 269

عناصر شمولیة النهی لجمیع أفراد متعلق 274

نتیجة البحث 274

کلام السید استاذ قدّس سرّه و المناقشة فیه 275

التنبیه علی أمور

الأمر الأول 277

الأمر الثانی 278

الأمر الثالث 280

الأمر الرابع 281

الکلام فی النواهی الواردة فی أبواب العبادات و المعاملات 282

طرق احراز أهمیة ملاک الأحکام الشرعیة 286

نتائج البحث 288

مسألة اجتماع الأمر و النهی 292

المحاولة الأولی لاثبات أن الأمر و النهی فی المسألة غیر مجتمعین فی نهی واحد 294

المناقشة الأولی فی هذه المحاولة 295

المناقشة الثانیة فی هذه المحاولة 297

ص:544

المناقشة الثالثة فی هذه المحاولة 300

المحاولة الثانیة 301

المحاولة الثالثة 302

تفصیل و تحقیق فی المحاولة الثالثة 303

القسم الأول 303

القسم الثانی 304

القسم الثالث 307

نتیجة البحث 308

ثلاثة آراء فی المسألة 308

نقد اطلاق الرأیین الأولین 309

النظر فی مقدمات الرأی الأول 310

الرأی الثانی للمحقق النائینی قدّس سرّه 314

تفصیل السید الأستاذ قدّس سرّه ما أفاده المحقق النائینی قدّس سرّه 317

صور المسألة 319

خلاصة رأی السید الأستاذ قدّس سرّه 323

تعلیق بعض المحققین قدّس سرّه علی هذا الرأی 324

ملاکات جواز اجتماع الأمر و النهی عند بعض المحققین قدّس سرّه 325

المناقشة فی مبنی بعض المحققین قدّس سرّه 326

نتائج البحث 332

دعاوی ثلاث 336

الجواب عنها 336

البحث التطبیقی الصغروی 340

رأی المحقق النائینی قدّس سرّه فی الصلاة فی الأرض المغصوبة 340

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه علیه 340

الصحیح فی المقام 341

هل تتحد الصلاة بکامل أجزائها مع المعنون 343

التنبیه علی أمور، الأول 345

الثانی و الثالث 346

نتیجة البحث 347

ص:545

ملحقات مسألة الاجتماع 349

الملحق الأول: هل هذه المسألة اصولیة أو فقهیة... 349

الملحق الثانی: الفرق بین هذه المسألة و مسألة اقتضاء النهی فساد العبادة 349

محاولات التفریق بین المسألتین، المحاولة الأولی و الرد علیها 350

المحاولة الثانیة و الرد علیها 352

المحاولة الثالثة 352

الرد علی المحاولة الثالثة 353

الملحق الثالث: ثمرة القولین فی المسألة 356

التزام المحقق النائینی قدّس سرّه ببطلان الصلاة و وجه ذلک 356

المناقشة فی جمیع الوجوه 358

المناقشة فی الوجه الثانی 361

المناقشة فی الوجه الثالث 362

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی عدة نقاط 366

تلخیص کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی عدة نقاط 366

نقد هذه النقاط 368

ذهاب المحقق الخراسانی قدّس سرّه إلی الصحة إذا کان جهله عن قصور 370

الرد علیه 371

الرد علی النقطة الرابعة و الخامسة 373

نتیجة البحث 375

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی ضمن المقدمة الثامنة و التاسعة 376

مناقشة کلامه قدّس سرّه 377

نتیجة البحث 391

الملحق الرابع: هل یشترط فی النزاع أن یکون المجمع لمتعلقی الأمر و النهی مشتملا علی ملاک کلا الحکمین أو لا؟ 392

رأی المحقق الخراسانی قدّس سرّه و المناقشة فیه 392

رأی المحقق النائینی و الأصبهانی قدّس سرّهما 393

الرد علی المحقق النائینی قدّس سرّه 393

استدلال المحقق الأصبهانی قدّس سرّه بطریقین: الطریق الأول 395

الرد علی الطریق الأول 395

ص:546

الطریق الثانی و المناقشة فیه 399

الملحق الخامس: فی تقدیم أحد الدلیلین بناء علی القول بالامتناع و القول بالجواز 403

الکلام فی تقدیم النهی فی مورد الاجتماع و الاستدلال علیه 403

الرد علی الوجه الأول 403

ما ذکره بعض المحققین قدّس سرّه و مناقشته 406

نتیجه الملحق الرابع و الخامس 407

الملحق السادس: و فیه مجموعة من المسائل 409

المسألة الأولی: إذا توضأ المکلف أو اغتسل فی الماء المغصوب عامدا 409

حکم المسألة بناء علی القول بالجواز و تعدد المجمع 410

الرد علی هذا القول 412

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه و الرد علیه 414

نتیجة البحث 416

حکم المسألة فیما إذا توضأ جاهلا بالحکم أو الموضوع 416

حکم الناسی للحکم أو الموضوع 418

المسألة الثانیة: إذا توضأ المکلف من الاناء المغصوب 420

المسألة الثالثة: إذا توضأ المکلف فی المکان المغصوب 423

تفصیل السید الأستاذ قدّس سرّه بین الوضوء و الغسل 424

نتیجة الملحق السادس 425

الملحق السابع: فی العبادات المکروهة 427

الاستدلال علی جواز اجتماع الأمر و النهی بوقوع العبادات المکروهة 427

جواب المحقق الخراسانی قدّس سرّه 427

الرد علی الجواب الأول 428

جواب المحقق الخراسانی قدّس سرّه التفصیلی 428

أقسام العبادات المکروهة 428

إیراد المحقق النائینی قدّس سرّه علی المحقق الخراسانی قدّس سرّه 431

جواب آخر للمحقق النائینی قدّس سرّه 432

التعلیق علی نظریة المحقق الخراسانی و المحقق النائینی قدّس سرّه 434

هل یختص التزاحم بالخطابات الوجوبیة؟ 434

ص:547

المناقشة فی کلام السید الأستاذ قدّس سرّه 435

عدم اختصاص التزاحم بالخطابات الوجوبیة 437

حرمة صوم عاشوراء إذا کان بعنوان الفرح و الشکر 440

التعلیق علی نظریة المحقق النائینی قدّس سرّه 440

إیراد السید الأستاذ قدّس سرّه علی المحقق النائینی قدّس سرّه 442

تعلیق علی السید الأستاذ قدّس سرّه 443

القسم الثانی من العبادات المکروهة 445

القسم الثالث من العبادات المکروهة 448

نتائج العبادات المکروهة 450

الملحق الثامن: فی الاضطرار 453

الاضطرار بغیر سوء الاختیار 454

الحکم بصحة الصلاة إذا ارتفعت الحرمة 458

مخالفة النائینی قدّس سرّه للمشهور 458

تعلیق السید الأستاذ قدّس سرّه علی القسم الثالث 461

تعلیق علی ما ذکره النائینی و السید الأستاذ قدّس سرّهما 462

اختیار رأی المشهور 466

إشارة إلی أمرین 466

الأول: حکم المحبوس فی المکان المغصوب قهرا 466

الثانی: إذا تمکن المحبوس من التخلص عن الغصب فی الوقت فی الجملة 472

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه فیما إذا عصی و أتی بالصلاة فیه 472

تعلیق علی کلام السید الأستاذ قدّس سرّه 473

حکم ما إذا لم یتمکن من الصلاة خارج المکان المغصوب من جهة ضیقه 474

وظیفة المکلف الصلاة حال الخروج 474

هل یأتی بها مع الرکوع و السجود أو یقتصر علی الإیماء؟

و رأی السید الأستاذ قدّس سرّه فیه 474

المناقشة فی رأی السید الأستاذ قدّس سرّه 475

الکلام فی صغری المسألة 477

الصحیح فی المقام 480

نتیجة هذا البحث 482

ص:548

الاضطرار بسوء الاختیار 485

المسألة الأولی 485

المسألة الثانیة و الأقوال فیه 485

النظر فی الأقول 487

الکلام فی الأحکام الوضعیة 490

کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی حاشیة المکاسب 491

تعلیق المحقق النائینی قدّس سرّه علیه 492

إیراد السید الأستاذ قدّس سرّه علی المحقق النائینی قدّس سرّه 492

تعلیق علی کلام المحقق النائینی و السید الأستاذ قدّس سرّه 493

نتیجة البحث 496

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه فی الإجازة المتأخرة 497

المناقشة فی کلام السید الأستاذ قدّس سرّه 497

کلام السید الأستاذ قدّس سرّه فی الملاقی لأحد أطراف العلم الاجمالی 498

الجواب عما ذکره قدّس سرّه 498

مناقشة مدرسة المحقق النائینی قدّس سرّه 501

عدم تمامیة ما تبناه المشهور و مدرسة النائینی قدّس سرّه 503

القول الرابع: مختار الشیخ الأنصاری قدّس سرّه 503

الاستدلال الأول علی الدعوی الأولی 504

الجواب عن هذا الوجه 504

الجواب عن الوجه الثانی 507

الوجه الثالث و الجواب عنه 508

الوجه الرابع 510

الجواب عنه 511

الکلام فی الدعوی الثانیة و ما أفاده المحقق النائینی قدّس سرّه 512

الرد علی ما أفاده المقحق النائینی قدّس سرّه 512

الثانی: کون الخروج واجب من باب أنه مقدمة لترک الحرام 515

مناقشة السید الأستاذ قدّس سرّه فی ذلک 515

عدم تمامیة هذه المناقشة 515

التنبیه علی أمور: الأول: ما إذا جعل نفسه مضطرّ إلی شرب الخمر 516

ص:549

المناقشة فیما ذکره المحقق النائینی قدّس سرّه 516

الثانی: مقصود المحقق النائینی قدّس سرّه من کون الخروج مصداقا للتخلص 517

الجواب عنه و أن الخروج لیس مصداقا للتخلص 518

الثالث: إن الحرکات الخروجبة هل هی مقدمة للخروج؟ و کلام السید الأستاذ قدّس سرّه 519

الجواب عن کلام السید الأستاذ قدّس سرّه 520

خلاصة ما علقناه علی المحق النائینی قدّس سرّه 521

الکلام فی المسألة الثالثة: الصلاة حال الخروج 521

عدم مبغوضیة الحصة الخاصة 522

القول بالمبغوضیة و المناقشة فیه 523

محصل ما ذکرناه 527

المقام الثانی: إذا تمکن المکلف من الصلاة خارج الأرض المغصوبة فی الوقت 528

إذا لم یتمکن من الصلاة الاختیاریة فی خارج الأرض المغصوبة 529

رأی السید الأستاذ قدّس سرّه 529

الجواب عنه قدّس سرّه 530

الحاق صاحب الکفایة قدّس سرّه تعدد الإضافات بتعدد العناوین و الجهات 530

الجواب عنه قدّس سرّه 530

الحاق صاحب الکفایة قدّس سرّه تعدد العناوین و الجهات 530

الجواب عنه قدّس سرّه 530

نتیجة البحث عن الاضطرار بسوء الاختیار 531

الفهرس 537

ص:550

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.