دراسات فی الاصول: تقریرا لابحاث آیت الله العظمی الفاضل النکرانی(طبع جدید) المجلد 2

اشارة

سرشناسه:موسوی، سیدصمدعلی، 1343 -

عنوان و نام پدیدآور:دراسات فی الاصول : تقریرا لابحاث آیت الله العظمی الفاضل النکرانی/ المولف السیدصمدعلی الموسوی.

مشخصات نشر:قم: دارالتفسیر، 1383 -

مشخصات ظاهری:3ج.

شابک:90000 ریال

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه -- قرن 14

موضوع:Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

موضوع:فقه جعفری -- قرن 14

موضوع:*Islamic law, Ja'fari -- 20th century

رده بندی کنگره:BP159/8/م776د4 1383

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:5106374

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

دراسات فی الاصول: تقریرا لابحاث آیت الله العظمی الفاضل النکرانی المجلد 2

السیدصمدعلی الموسوی

ص :4

تتمة المقصد الاول فی الاوامر

الفصل الرابع: فی مقدّمة الواجب

اشارة

فی مقدّمة الواجب

و لا بدّ لنا قبل بیان الأقوال و أدلّتها فی المسألة من ذکر أمرین بعنوان مقدّمة البحث:

الأمر الأوّل: فی تحریر محلّ النزاع من حیث إنّ هذه المسألة فقهیّة أو اصولیّة؟

فی تحریر محلّ النزاع من حیث إنّ هذه المسألة فقهیّة أو اصولیّة؟

و کان عنوان المسألة فی أکثر الکتب الاصولیّة-کما فی الأذهان-بأنّ مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟و لا شکّ فی أنّه إذا کان عنوان البحث بهذه الکیفیّة تکون المسألة من المسائل الفقهیّة؛لأنّ الملاک الفقهی متحقّق هاهنا،و هو أن یکون الموضوع فی المسألة فعلا من أفعال المکلّفین،و المحمول فیها حکما من الأحکام التکلیفیّة أو الوضعیّة،و کما أنّ ذا المقدّمة فعل للمکلّف کذلک مقدّمة الواجب فعل للمکلّف،و لا فرق بین هذه المسألة و القول بأنّ صلاة الجمعة فی عصر الغیبة واجبة أم لا،إلاّ أنّ هذا المثال جزئی و لا یحکی إلاّ عن معنون واحد،و ما نحن فیه کلّی و یحکی عن معنونات متعدّدة،و نعبّر عنه بالقاعدة

ص:5

الفقهیّة،و لکن الکلّیّة لا توجب خروج البحث عن الفقهیّة،فتکون هذه المسألة من المسائل الفقهیّة،و لذا استشکل بأنّه لا وجه للبحث عنها فی الکتب الاصولیّة.

و لکنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)دفعا للإشکال-و استنادا إلی أنّ البحث عن مسألة فی علم الاصول أو سائر العلوم ظاهر فی أنّها منه-غیّر عنوان المسألة، و صورة القضیّة من حیث الموضوع و المحمول حتّی تنطبق علیها ضابطة المسألة الاصولیّة،و هی وقوعها فی کبری قیاس استنباط المسألة الفقهیّة، حیث قال:إنّ الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذی المقدّمة ثابتة عقلا أم لا؟و جعل الموضوع فیه الملازمة،و معلوم أنّ تحقّق الملازمة و عدمه بین الحکمین الشرعیّین لیس فعلا للمکلّف،مثلا:الوضوء مقدّمة للصلاة الواجبة، و الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة فی جمیع الموارد متحقّقة، فتحقّق الملازمة بین وجوب الصلاة و وجوب الوضوء.و هذه النتیجة عبارة اخری عن الوضوء الواجب.و صاحب الکفایة (2)غیّر العنوان بهذه الکیفیّة حفظا للظاهر،و قال:«إن لم یمکن التغییر فلا بدّ من الحمل علی خلاف الظاهر».

و توضیح کلامه:أنّ لبّ محلّ النزاع فی ما نحن فیه-من دون فرق بین عنوان البحث-عبارة عن أنّ وجوب المقدّمة مثل وجوب ذی المقدّمة وجوب شرعی و مولوی أم لا؟بعد کون اللابدّیّة العقلیّة للمقدّمة لیست قابلة للإنکار حتّی لمنکری وجوب المقدّمة،و جعل صاحب الکفایة قدّس سرّه الموضوع فی

ص:6


1- 1) کفایة الاصول 1:139.
2- 2) المصدر السابق.

محلّ النزاع الملازمة العقلیّة،و أحد طرفیها وجوب شرعی مولوی للمقدّمة، و الطرف الآخر وجوب شرعی مولوی لذی المقدّمة.

و أمّا أصل الوجوب العقلی الذی کان للمقدّمة فلا نزاع فیه أصلا،و لکنّ الحاکم بالملازمة هو العقل،و هی تستفاد من طریق العقل،فلا یکون هذا البحث من مباحث الألفاظ.

و لذا اعترض المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)علی صاحب المعالم بأنّه مع ذکره هذا البحث فی مباحث الألفاظ استدلّ لإنکار وجوب المقدّمة بنفی الدلالات الثلاث،و هذا شاهد علی أنّ هذا البحث عنده بحث لفظی،و الحال أنّه لیس کذلک.

و لا یتوهّم أنّ الإشکال یرد علی صاحب الکفایة قدّس سرّه أیضا لذکره البحث أیضا فی مباحث الألفاظ؛مع أنّه صرّح بأنّها لیست مسألة لفظیّة.

و لا یتوهّم أیضا أنّ الظاهر من قوله:«تحقّق الملازمة بین الوجوبین»أنّه لا بدّ من تحقّق وجوب المقدّمة و وجوب ذی المقدّمة قبل إثبات الملازمة بینهما، تحقّق الرجل و المرأة قبل إیجاد العلقة الزوجیّة بینهما.

فإنّ مراده أنّا نستکشف من طریق الملازمة الوجوب الشرعی المولوی للمقدّمة،مثل استکشاف حکم الشرع من تحقّق حکم العقل بالملازمة، فیستفاد هاهنا من وجود أحد المتلازمین وجود الآخر.هذا توضیح کلامه قدّس سرّه.

و هل تثبت و تتمّ بهذا البیان عقلیّة هذه المسألة الاصولیّة أم لا؟أشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)بما توضیحه:أنّ الإنسان قد تتعلّق إرادته

ص:7


1- 1) المصدر السابق.
2- 2) مناهج الوصول إلی علم الاصول 1:323-327.

بإتیان العمل فی الخارج مباشرة،و قد تتعلّق إرادته بإتیانه من قبل الغیر بواسطة الأمر.و فی الصورة الاولی تارة لا یتوقّف العمل علی المقدّمة الخارجیّة بل یتحقّق المراد بمجرّد تحقّق الإرادة،و تارة یتوقّف علیها بحیث لا یمکن تحقّقه بدون تحقّقها.

أمّا القسم الأوّل-أی تعلّق الإرادة بإتیان العمل بالمباشرة و عدم توقّفه فی الخارج علی المقدّمة،مثل:حرکة الید و التکلّم و النظر...-فهو مسبوق بمبادئ و مقدّمات الإرادة من تصوّر العمل و الإذعان بفائدته و سائر المبادئ،ثمّ تتحقّق الإرادة بخلاّقیة نفس الإنسان من دون احتیاج إلی مسبوقیّتها بإرادة اخری،کما مرّ أن ذکرنا أنّ النفس الإنسانیّة تکون مظهرة لخلّاقیة الباری تعالی بإفاضتها إلیها بعنایة ربّانیّة،و بمجرّد تحقّق الإرادة یتحقّق المراد بدون الاحتیاج إلی مقدّمة،و هذا القسم لا یحتاج إلی البحث،کما لا یخفی.

و أمّا القسم الثانی-أی تعلّق الإرادة بإتیان العمل بالمباشرة،و توقّفه فی الخارج علی المقدّمة مثل إرادة الکون علی السطح-فهو یتوقّف علی المقدّمة الخارجیّة زائدا علی مبادئ الإرادة،و هی نصب السلّم،و هل یحتاج نصب السلّم أیضا إلی مقدّمات الإرادة أم لا؟یتحقّق فی کلام الأعاظم-سیّما صاحب الکفایة قدّس سرّه-التعبیر بأنّه یترشّح من الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة إرادة متعلّقة بالمقدّمة (1)،و الظاهر منه أنّه یتولّد من إرادة ذی المقدّمة إرادة المقدّمة بدون اختیار و احتیاج إلی المبادئ و المقدّمات،فکما أنّه لا واسطة بین الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة و نفس ذی المقدّمة کذلک لا واسطة بین الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة و المقدّمة،و لکنّه لا واقعیّة لهذا الظاهر،فإنّ الإرادة تحتاج إلی

ص:8


1- 1) کفایة الاصول 1:141.

المبادئ بدون الفرق بین إرادة المقدّمة و ذی المقدّمة،إلاّ أنّ الغرض الأصلی یتعلّق بذی المقدّمة،و المقدّمة توجب التمکّن من الوصول إلیه،و هذا لا یوجب عدم احتیاج إرادتها إلی المبادئ،فیکون المراد من التعبیر المذکور أنّ إرادة المقدّمة تابعة لإرادة ذی المقدّمة.

و أمّا القسم الثالث-أی تعلّق الإرادة بإتیان العمل عن الغیر-فما یرتبط هاهنا بالمولی عبارة عن صدور الأمر و إیجاب المأمور به علی المأمور،و نعبّر عنه بالبعث و التحریک الاعتباری،و هو من أفعاله الاختیاریّة،و یکون مسبوقا بالإرادة،و معلوم أنّها لا تتحقّق إلاّ بعد تحقّق مبادئها،و ما یرتبط بالمأمور عبارة عن شراء اللحم-مثلا-بحسب أمر المولی،و لا شکّ فی أنّه یحتاج إلی المقدّمة الخارجیّة زائدا علی مبادئ الإرادة.

ثمّ إنّ الإمام قدّس سرّه کأنّه یسأل صاحب الکفایة قدّس سرّه عن طرفی الملازمة؛إذ تتحقّق فی المسألة احتمالات أربعة،و لا یمکن الالتزام بأحدها:

الأوّل:أن یکون طرفی الملازمة عبارة عن الوجوب الفعلی المتعلّق بذی المقدّمة،و الوجوب الفعلی المتعلّق بالمقدّمة،فکما أنّ للمولی بعثا اعتباریّا فعلیّا بالنسبة إلی شراء اللحم کذلک کان له بعث اعتباری فعلی بالنسبة إلی دخول السوق مثلا،إلاّ أنّ البعث و الوجوب فی الأوّل نفسی و فی الثانی غیری،و لکنّ الکلام فی أنّه إذا صدر عن المولی«اشتر اللحم»بدون«ادخل السوق»فأین الوجوب الفعلی للمقدّمة حتّی یکون طرفا للملازمة،مع أنّه لم یصدر عن المولی إلاّ إیجاب ذی المقدّمة.

و نضیف إلیه:أنّ الملازمة هاهنا غیر الملازمة بین حکم العقل و الشرع،فإنّا نستکشف من وجود حکم العقل فی مورد أنّ للشرع فیه حکما أیضا،إلاّ أنّه

ص:9

یمکن أن لا یصل إلینا،و لکنّ المفروض فی ما نحن فیه أنّه لم یصدر من المولی سوی«اشتر اللحم»،فعلی هذا لا بدّ للمولی من الأمر بالمقدّمة فی ردیف الأمر بذی المقدّمة مثل:«ادخل السوق و اشتر اللحم»،و إلاّ یکون الأمر غلطا أو ناقصا،مع أنّه لم یلتزم به أحد،و لا ضرورة لإلزام المقدّمة من المولی حتّی فی صورة التفاته إلیها عند العقلاء،و حینئذ نسأل أنّه کیف تتحقّق الملازمة بین الوجوبین الفعلیّین مع أنّا نقطع بعدم صدور الأمر بالمقدّمة من المولی؟!

الاحتمال الثانی:أن یکون طرفی الملازمة عبارة عن الإرادتین،إحداهما:

الإرادة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة،و ثانیتهما:الإرادة المتعلّقة بالبعث إلی المقدّمة،فإن کان مراد صاحب الکفایة قدّس سرّه التلازم بین الإرادتین فی نفس المولی یرد علیه:

أوّلا:أنّه إذا کان الأمر کذلک فما الدلیل لتأثیر الإرادة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة فی المراد و عدم تأثیر الإرادة المتعلّقة بالبعث إلی المقدّمة فیه؟و لم یتحقّق المراد بعد الإرادة فی الاولی دون الثانیة؟!

و ثانیا:أنّ هذا المعنی متفرّع علی التفات المولی إلی المقدّمة أو المقدّمات، و یمکن أن یکون المولی غافلا عنها،و لا یمکن الالتزام بالملازمة بین الإرادتین فی صورة الغفلة عنها،فلا یصحّ هذا الاحتمال أیضا.

و الاحتمال الثالث عبارة عن الاحتمال الأوّل،و الاحتمال الرابع عبارة عن الاحتمال الثانی،و لکن مع حذف الفعلیّة من طرف المقدّمة فی هذین الاحتمالین و تبدیلها بکلمة التقدیریّة؛بأنّ الملازمة متحقّقة بین الوجوب الفعلی لذی المقدّمة و الوجوب التقدیری للمقدّمة،أم لا؟أو أنّ الملازمة ثابتة بین الإرادة الفعلیّة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة و الإرادة التقدیریّة المتعلّقة بالبعث إلی

ص:10

المقدّمة أم لا؟و المراد من التقدیریّة أنّ وجوب المقدّمة أو إرادتها لم یتحقّق فعلا فی نفس المولی،و لکنّه یتحقّق فی الآتیة.

و إن فرض البحث بهذه الکیفیّة فیرد علیه:أنّ الملازمة أمر وجودی،فإن تحقّق أحد طرفیها فلا بدّ من تحقّق طرفها الآخر،و لا یمکن اتّصاف شیء بوصف باعتبار وجوده فی الاستقبال؛لأنّ ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت مثبت له،بل الملازمة تکون من هذه الحیثیّة کالامور المتضایفة؛إذ الملازمة وصف للطرفین،فیحتاج ثبوت الوصف إلی فعلیّة وجود الموصوف.

و حاصل کلام الإمام قدّس سرّه:أنّه لا یمکن الالتزام بأن یکون محلّ النزاع بإحدی الاحتمالات المذکورة.

و یمکن أن یقال:إنّ هذا البیان أجنبی عن محلّ البحث فی ما نحن فیه؛بأنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه یدّعی أنّ محلّ النزاع عبارة عن الملازمة بین الوجوبین أو الإرادتین،و أنکره الإمام قدّس سرّه،إلاّ أنّ کلامه فی مقام توضیح الإنکار ینتهی إلی إنکار الملازمة،و معلوم أنّ إنکار الملازمة مسألة،و إنکار کون الملازمة محلاّ للنزاع مسألة اخری،فلا ینطبق الدلیل علی المدّعی.

و لکنّه مدفوع بأنّ ما یقع محلاّ للنزاع بین الأجلّة و الأعاظم و اختیار المشهور طرف الإثبات فیه لا یمکن أن یکون واضح البطلان مثل الاحتمالات المذکورة هاهنا،و لا یمکن نسبة ما هو واضح البطلان إلی المشهور،فلا تکون الملازمة بالکیفیّة التی ذکرها صاحب الکفایة قدّس سرّه محلاّ للنزاع.

و توضیح محلّ النزاع یحتاج إلی مقدّمة،و هی:أنّ الإرادة المتعلّقة بفعل شیء مباشرة عن الإنسان تکون المقدّمات و المبادئ أوّلها التصوّر و ثانیها التصدیق بفائدته،و لکنّ التصدیق بالفائدة لا یکون موافقا للواقع،فربما

ص:11

یتخیّل تحقّق الفائدة،و لذا تتحقّق الإرادة و بعدها یتحقّق المراد،ثمّ ینکشف عدم تحقّق الفائدة واقعا بحیث إن التفت إلیه حین الإرادة لم یتحقّق منه التصدیق بالفائدة أصلا،کما أنّه فی مقام التصدیق بالفائدة ربما یتخیّل عدم تحقّق الفائدة،و یعتقد أنّ هذا الشیء خال من الفائدة،و لذا لا تتحقّق الإرادة و المراد منه،ثمّ ینکشف ترتّب فائدة مهمّة علیه بحیث إن التفت إلیه حین الإرادة تتحقّق منه الإرادة قطعا.

و هکذا فی الإرادة المتعلّقة ببعث الغیر إلی فعل،فإنّه قد یصدر البعث عن الآمر إلی ذی المقدّمة مع أنّه غافل عن مقدّمیّة المقدّمة،و یمکن أن یتخیّل بعض الامور مقدّمة للمأمور به مع أنّه لا یرتبط بحسب الواقع به أصلا.و إن لم یمکن نسبة هاتین الجهتین-أی الغفلة عن المقدّمة و الخطأ فی التشخیص-إلی الشارع فلا یجری هذا المعنی فی الأحکام الشرعیّة،و لکنّ هذا البحث لا ینحصر فی الأحکام الشرعیّة،بل هو عام یشمل جمیع الأوامر المتحقّقة بین الموالی و العبید و الآباء و الأبناء و أمثال ذلک؛إذ الحاکم فی المسألة عبارة عن العقل بدون أن تکون المسألة فقهیّة أو اصولیّة،إلاّ أنّ النتیجة التی تستفاد من غفلة الآمر عن المقدّمة أو خطائه فی تشخیص بعض المقدّمات تجری فی الأحکام الشرعیّة أیضا.

ثمّ إنّ الإمام قدّس سرّه استنتج بأنّه لا بدّ لنا من جعل محلّ النزاع فی ما نحن فیه عبارة عن الملازمة بین الإرادة الفعلیّة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة و الإرادة الفعلیّة المتعلّقة بالبعث إلی ما یراه المولی مقدّمة،فتکون للمسألة جهتان:

الاولی ترتبط بالمولی،و هی:أنّ طرفی الملازمة عبارة عن الإرادة الحتمیّة الفعلیّة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة و الإرادة الحتمیّة الفعلیّة المتعلّقة بالبعث

ص:12

إلی ما یراه المولی مقدّمة،یعنی أنّه أوّلا:التفت إلی المقدّمة،و ثانیا:أنّه قد یعتقد بمقدّمیّة ما لم تکن مقدّمة،فتتحقّق بعده إرادته،و لا یکون هذا مخالفا لطرف الملازمة.

الجهة الثانیة ترتبط بالعبد،و هی:أنّ وظیفته الأصلیّة عبارة عن تحصیل غرض المولی من أیّ طریق أمکن،و إن کانت المقدّمة مغفولا عنها للمولی فلا یجوز له ترکها فی مقام الامتثال،فإنّ مع ترکها یترک ذا المقدّمة أیضا،کما أنّه إذا تعلّقت إرادته بشیء لتوهّم کونه مقدّمة فلا یجب علی العبد إیجاده.و مع الالتفات إلی هاتین الجهتین تندفع جمیع الإشکالات.

و لکن یرد علیه:أنّه سلّمنا إن جعلنا أحد طرفی الملازمة عبارة عمّا یراه المولی مقدّمة یوجب حلّ الإشکالات المذکورة إلاّ أنّه یستلزم إشکالا آخر، و هو أنّ المولی إن التفت إلی مقدّمیة المقدّمة-مثل:دخول السوق بالنسبة إلی شراء اللحم-فهل یجوز له الاکتفاء بالأمر بذی المقدّمة فقط أو لا بدّ له من الأمر بالمقدّمة أیضا،و إلاّ یکون الأمر ناقصا؟و الثانی مخالف للوجدان و الاستعمالات العرفیّة و أوامر الموالی العرفیّة،فلا یکون قابلا للبحث.

و إن قلنا بالأوّل فنسأل أنّه ما الدلیل علی تحقّق المراد بعد إرادة ذی المقدّمة و عدم تحقّقه بعد إرادة المقدّمة مع أنّک تقول بالملازمة بین الإرادتین؟!

و الحقّ أنّ طرفی الملازمة عبارة عن وجوب المتعلّق بذی المقدّمة و وجوب المتعلّق إلی ما یراه المولی مقدّمة،مع إصلاح من الإمام قدّس سرّه،و حینئذ إن قلنا بالملازمة ففی الأحکام الشرعیّة نقول:إنّ الشارع کما أوجب ذا المقدّمة کذلک أوجب المقدّمة،و لکن یمکن أن لا یصل إلینا فی بعض الموارد.و أمّا عدم صدور الأمر إلی المقدّمة من الموالی العرفیّة مع التفاته إلی مقدّمیة المقدّمة،

ص:13

کقوله:«اشتر اللحم»بدون«ادخل السوق»،فیکون حلّ مسألة طرفی الملازمة بأنّ الواجب کما ینقسم إلی النفسی و الغیری کذلک ینقسم إلی الأصلی و التبعی.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):«إنّ هذا التقسیم یرتبط بمقام الثبوت و لا یرتبط بمقام الإثبات و دلالة اللفظ».

و المراد من الأصلی ما یلاحظه المولی مستقلاّ و تتعلّق به إرادته،و هو یتصوّر فی الواجب النفسی و الغیری.

و المراد من التبعی ما لا یلاحظه المولی مستقلاّ و لم تتعلّق به إرادته کذلک، بل تکون الإرادة المتعلّقة به بتبع الإرادة المتعلّقة بشیء آخر،و هذا یتصوّر فی الواجبات الغیریّة فقط،فالواجب الغیری قد یکون أصلیّا و قد یکون تبعیّا، و بناء علی هذا تتحقّق الملازمة بین الوجوبین فی صورة اکتفاء المولی بوجوب ذی المقدّمة أیضا،إلاّ أنّ وجوب المقدّمة یتحقّق تبعا،و لذا ینتهی النظر بعد التحقیق المستوفی بجعل الملازمة بین الوجوبین و مع الإصلاح المذکور.

و قبل الورود فی بحث التقسیمات لا بدّ لنا من بحثین:

الأوّل:فی أنّ هذه المسألة عقلیّة محضة أو لفظیّة؟و قد تقدّم أن نقلنا عن صاحب الکفایة قدّس سرّه القول بأنّها عقلیّة محضة،و لکنّ المنطقیّین قالوا:إنّ الدلالة قد تکون بنحو المطابقة،و قد تکون بنحو التضمّن،و قد تکون بنحو الالتزام، و لا شکّ فی أنّ الدلالة المطابقیّة و کذا التضمّنیّة دلالة لفظیّة،و أمّا الدلالة الالتزامیّة ففیها کلام؛لأنّها عبارة عن دلالة اللفظ علی الملزوم،و نحن ننتقل منه إلی اللازم،و لا دلیل لجعل لازم الموضوع من الدلالة اللفظیّة،و لو التزم

ص:14


1- 1) کفایة الاصول 1:139.

أحد بأنّها منها فیمکن قوله فی هذه المسألة بکونها مسألة لفظیّة،و یؤیّده البحث عن مقدّمة الواجب فی مباحث الألفاظ.

و أمّا علی القول بعدم کونها من الدلالة اللفظیّة و أنّ العقل ینتقل من طریق الملازمة إلی اللازم فتکون مسألة عقلیّة،و لا یمکن عدّها من مباحث الألفاظ.

إذا عرفت هذا فنقول:تترتّب ثمرة مهمّة علی مبنی الإمام و ما قلنا به فی ما نحن فیه،و هی أنّ الإمام قدّس سرّه (1)یقول:إنّ البحث فی مقدّمة الواجب لا یکون بحثا لفظیّا و إن کانت الدلالة الالتزامیّة من مباحث الألفاظ،فإنّ طرفی الملازمة هاهنا عبارة عن الإرادتین،و لا تکون إحداهما مفاد اللفظ و مدلوله، و اللفظ کاشف عن إرادة المولی لا بما أنّه لفظ،بل بما أنّه فعل من أفعاله الاختیاریّة،و کلّ عمل اختیاری یکشف عن ثبوت الإرادة قبل العمل،و هذا غیر دلالة اللفظ علی الإرادة،فالمسألة عقلیّة.

و أمّا علی القول بجعل طرفی الملازمة عبارة عن الوجوبین،فیکون الوجوب مفاد اللفظ و هیئة«افعل»،و علی هذا تکون المسألة مسألة عقلیّة.

البحث الثانی:فی ما أشرنا إلیه سابقا من أنّ البحث عن مقدّمة الواجب مسألة فقهیّة أو اصولیّة أو کلامیّة أو من المبادئ الأحکامیّة،علی اختلاف المبانی و الأنظار،و قلنا:إنّ عنوان البحث إن کان بأنّ مقدّمة الواجب واجب أم لا کما یکون کذلک فی أکثر الکتب الاصولیّة فلا شکّ فی کونها مسألة فقهیّة، فإنّ الملاک الفقهی-أی کون الموضوع فعلا من أفعال المکلّف-متحقّق هاهنا، و تقدّم أنّ کلّیّة العنوان لا یمنع عن فقهیّة المسألة.

و أمّا إن کان عنوان البحث عبارة عن الملازمة فتکون المسألة مسألة

ص:15


1- 1) تهذیب الاصول 1:200-201.

اصولیّة،سواء کانت الملازمة بین الإرادتین أو بین الوجوبین،فإنّ الملاک الاصولی-أی الوقوع فی طریق استنباط الأحکام الفرعیّة-متحقّق فی ما نحن فیه.

و القائل بکلامیّة المسألة یقول:إنّ البحث هاهنا بحث عقلی،فلا محالة یکون البحث کلامیّا،و لم یلتفت إلی أنّ کلّ مسألة کلامیّة مسألة عقلیّة،و لیس کلّ مسألة عقلیّة مسألة کلامیّة،فلا أساس لهذا القول،کما أنّ احتمال کونها من مبادئ الأحکام تخیّل محض،فإنّها عبارة عن البحث عن العوارض و شئون الأحکام الخمسة کالبحث عن ماهیّة الوجوب،و أنّ التضادّ بین الوجوب و الحرمة متحقّق أم لا؟و أمثال ذلک،و البحث عن مقدّمة الواجب أجنبی عن ذلک،فتکون المسألة مسألة اصولیّة.

ثمّ إنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)دخل فی تقسیمات المقدّمة و قال:«إنّه ربما تنقسم المقدّمة إلی تقسیمات:منها:تقسیمها إلی الداخلیّة،و هی الأجزاء المأخوذة فی الماهیّة المأمور بها-أی المقولات المتباینة التی اعتبرها الشارع واحدا، کالرکوع و السجود بالنسبة إلی الصلاة-و الخارجیّة و هی الامور الخارجة عن ماهیّتها ممّا لا تکاد توجد بدونها،مثل نصب السلّم بالنسبة إلی الکون علی السطح.

و ربما یشکل کون الأجزاء مقدّمة لها و سابقة علیها،بأنّ المرکّب لیس نفس الأجزاء بأسرها.

و حاصل الإشکال:أنّ المعتبر فی المقدّمة خصوصیّتان:الاولی:التغایر بینها و بین ذی المقدّمة من حیث الوجود،الثانیة:تقدّمها علی ذی المقدّمة من حیث الزمان.و هاتان الخصوصیّتان لا تتحقّقان فی الأجزاء؛إذ الأجزاء عین

ص:16


1- 1) کفایة الاصول 1:140-141.

المرکّب،و المرکّب لیس إلاّ نفس الأجزاء،فتنحصر المقدّمة بالخارجیّة،و لا یمکن تصوّر المقدّمة الداخلیّة.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی جواب الإشکال:إنّ المقدّمة هی نفس الأجزاء بالأسر،و ذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع،فتحصل المغایرة بینهما.

و مراده منه أنّا سلّمنا اعتبار التغایر بینهما،و لکنّه لا ضرورة تقتضی أن یکون التغایر تغایر حقیقی و وجودی،بل التغایر الاعتباری کاف فی اتّصاف الأجزاء بالمقدّمیّة؛إذ الجزء إن لوحظ لا بشرط فهو المقدّمة،و إن لوحظ بشرط الانضمام فهو ذو المقدّمة،و أمّا مسألة التقدّم الزمانی فلا دخل لها بعنوان المقدّمیّة أصلا.

و إن کان الظاهر من عبارة«أنّ المقدّمة هی نفس الأجزاء بالأسر»أنّها عبارة عن مجموعة الأجزاء،و لکنّه لا یکون مراده قطعا،فإنّه یستلزم أن تکون جمیع الأجزاء مقدّمة واحدة،مع أنّ المقدّمة الداخلیّة تتعدّد بتعدّد الأجزاء.

علی أنّه یستلزم عدم التغایر بین المقدّمة و ذی المقدّمة،و یقع البحث هاهنا فی مقامین:

الأوّل:فی صحّة هذا التقسیم و ثبوت المقدّمات الداخلیّة و عدمه.

المقام الثانی:فی أنّه لو فرضنا صحّة التقسیم هل تکون المقدّمات الداخلیّة کالخارجیّة داخلة فی محلّ النزاع أم لا؟

قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):إنّه ینبغی خروج الأجزاء عن محلّ النزاع کما

ص:17


1- 1) کفایة الاصول 1:141.

صرّح به بعض،و ذلک لما عرفت من کون الأجزاء بالأسر عین المأمور به ذاتا،و إنّما کانت المغایرة بینهما اعتباریّة،فتکون واجبة بعین وجوبه،و مبعوثا إلیها بنفس الأمر الباعث إلیه،فلا تکاد تکون واجبة بوجوب آخر؛لامتناع اجتماع المثلین.

ثمّ إنّه قدّس سرّه دفع التوهّم الذی یمکن أن یحصل هاهنا،و حاصل التوهّم:أنّه مع تعدّد الجهة لا یلزم الاجتماع؛بأنّ مرحلة تعلّق التکلیف بطبیعة المأمور به فی عالم المفهوم من المولی غیر مرحلة الامتثال فی الخارج من المکلّف،و تعدّد الجهة و العنوان فی مرحلة الاولی یکفی فی تعلّق الأمرین المتضادّین أو مثلین کالصلاة الواقعة فی الدار المغصوبة،فإنّها من جهة کونها صلاة واجبة،و من جهة کونها غصبا حرام،و المفروض تعدّدها فی ما نحن فیه،حیث إنّ متعلّق الوجوب النفسی هی الأجزاء بعنوان کونها عین الکلّ و متعلّق الوجوب الغیری هی الأجزاء بعنوان کونها مقدّمة لوجود الکلّ،و الاجتماع بین العنوانین فی الخارج لا یوجب الضرر بالتغایر المتحقّق بینهما فی مقام تعلّق التکلیف، فیجوز اجتماع الأمرین هاهنا أیضا.

و توضیح جوابه قدّس سرّه عنه:أنّ الجهة إمّا تقییدیّة،و هی ما یقع موضوعا للخطاب،و إمّا تعلیلیّة و هی ما یکون علّة للحکم لا موضوعا له،فإن کانت الجهة تقییدیّة فتعدّدها یجدی فی دفع محذور اجتماع الحکمین علی موضوع واحد؛إذ المفروض تعدّد الموضوع بتعدّد الجهة،و لذا یندرج فی باب التزاحم لا التعارض.و إن کانت الجهة تعلیلیة فتعدّدها لا یجدی فی دفع المحذور المذکور؛لعدم تعلّق الحکم بالجهة حتّی یکون تعدّدها موجبا لتعدّد الموضوع.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ للصلاة فی مثل أَقِیمُوا الصَّلاةَ جهة تقییدیّة،

ص:18

فإنّها عبارة عن الرکوع و السجود و سائر الأجزاء،فلا إشکال من جهة تعلّق الوجوب النفسی بالأجزاء،و أمّا من جهة الوجوب الغیری فلا شکّ فی أنّ متعلّقه عبارة عن ذات المقدّمة لا عنوانها و مفهومها؛إذ لا یمکن الإیصال إلی السطح بسبب مفهوم المقدّمة،فیکون موضوعه ذات المقدّمة،و علّة وجوبه عنوان المقدّمیّة،و علی هذا تکون المقدّمیّة من الجهات التعلیلیّة و إن کانت الأجزاء متعلّقة بالوجوب الغیری أیضا،و المفروض أنّها عین الکلّ فتصیر متعلّقة للحکمین المتماثلین،فالوجوب العارض لها نفسی لا غیری،و لذا لا یمکن أن تکون المقدّمات الداخلیّة داخلة فی محلّ النزاع.

و ملخّص کلامه:أنّه کان للأجزاء عنوان المقدّمیّة،سواء کان المرکّب حقیقیّا بالأجزاء التحلیلیّة العقلیّة-کالجنس و الفصل للماهیّة-أو بالأجزاء الخارجیّة-کالهیولی و الصورة للإنسان-أم کان المرکّب غیر حقیقیّا صناعیّا -کالمسجد و السیارة-أو اعتباریّا کالصلاة و الحجّ،و لکنّه أنکر دخول الأجزاء فی محلّ النزاع.

و أمّا الإمام قدّس سرّه (1)فأنکر أصل المقدّمیّة فی المرکّبات الحقیقیّة،و استدلّ بأنّه یشترط فی المقدّمیّة المغایرة مع ذی المقدّمة و لو اعتبارا،و هو مفقود هاهنا؛إذ العقل یأبی عن القول بأنّ الحیوان أو الناطق مقدّمة لماهیّة الإنسان،و کذا المادّة و الصورة؛فإنّهما عین الإنسان،لا أنّ المادّة-مثلا-مقدّمة لوجود الإنسان و سلّم فی المرکّبات الغیر الحقیقیّة،فکلتا المرحلتین من البحث-أی عنوان المقدّمیّة للأجزاء و دخولها فی محلّ النزاع-من دون فرق بین المرکّب الصناعی و الاعتباری.و قال:«توضیح المقام یتوقّف علی بیان کیفیّة الإرادة

ص:19


1- 1) تهذیب الاصول 1:203-208.

الفاعلیّة؛کی یعلم منه حال الإرادة الآمریّة».

و محصّل کلامه:أنّه إذا تعلّقت إرادة الإنسان ببناء المسجد-مثلا-للتوصّل به إلی ما فیه من المصلحة و الأجر،کما یدلّ علیه قوله صلّی اللّه علیه و آله:«من بنی مسجدا -کمفحص القطاة-بنی اللّه له بیتا فی الجنّة» (1)فلا بدّ قبل تحقّق الإرادة من تحقّق مبادئها من التصوّر و التصدیق بالفائدة و سائر المبادئ،و لا شکّ فی أنّ بناء المسجد یتوقّف علی موادّ مختلفة الحقائق من حیث الکمّیة و الکیفیّة، فنسأل الآن أنّه یلزم علی المرید حین الإرادة تصوّر جمیع الموارد الملازمة کمّا و کیفا،و إلاّ تکون الإرادة ناقصة؟و بعبارة اخری هل یتحقّق الفرق بین إرادة الملتفت إلیها و الغافل عنها من حیث النقص و الکمال؟و من البدیهی أنّه لا فرق بینهما،و لذا یتحقّق مرادهما فی الخارج.

ففی بادئ الأمر تتعلّق الإرادة بأصل بناء المسجد و إحداثه،فإذا التفت إلی توقّفه علی الأرض و الأحجار و الأخشاب-مثلا-فلا محالة تحتاج إرادة کلّ منها إلی المبادئ من التصوّر و التصدیق بفائدتها،أی التمکّن بها من بناء المسجد ثمّ تتعلّق الإرادة بها،فتعدّد الإرادة بتعدّد المراد،و یشهد له تعلّق الإرادة ببناء المسجد فی حال کونه غافلا عن الأجزاء و المواد،فهذه إرادة واحدة مستقلّة،و الإرادة المتعلّقة بکلّ واحد من المقدّمات إرادة مستقلّة اخری،و هکذا إرادات المتعلّقات بالمقدّمات الخارجیّة مثل:استئجار البناء و المهندس و أمثال ذلک.

و بالنتیجة:الإرادة المتعلّقة بالمرکّب الصناعی غیر الإرادة المتعلّقة بالمقدّمات،مع أنّ المرکّب الصناعی-مثل المسجد-عنوان من العناوین

ص:20


1- 1) الوسائل 5:204،الباب 8 من أحکام المساجد،الحدیث 2.

لا مسبّب من الأسباب،هذا فی الإرادة الفاعلیّة.

و هکذا فی الإرادة الآمریّة إذا قال المولی:أیّها العبد،ابن مسجدا،و علی القول بالملازمة فمعناه أنّ شراء الأرض و سائر المواد و الأجزاء یکون متعلّقا للبعث المستقلّ الغیری و المقدّمی؛إذ یتعلّق بکلّ واحد منها إرادة مستقلّة تکشف عن تعدّد المراد،فیکون متعلّق الوجوب النفسی أصل بناء المسجد، و متعلّق الوجوب الغیری و المقدّمی کلّ واحد من الأجزاء،و لیس من اجتماع المثلین خبر و لا أثر،و هذا المعنی یجری بعینه فی المرکّبات الاعتباریّة کالصلاة و الحجّ أیضا؛إذ لا فرق بینهما إلاّ فی تحقّق اعتبار الوحدة فی الثانیة،بخلاف الاولی فیکون لأجزاء الصلاة عنوان المقدّمیّة کما أنّها تدخل فی محلّ النزاع.

و لکنّ المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)فصّل بین المرکّبات الاعتباریّة بأنّ المولی قد یلاحظ الأشیاء المختلفة الحقائق،و یعتبرها شیئا واحدا فی رتبة قبل الأمر ثمّ یجعلها متعلّقا للأمر،و لا بدّ لنا فی هذا القسم من المرکّبات الاعتباریّة من القول بمقدّمیّة أجزائها و دخولها فی محلّ النزاع.هذا فی القسم الأوّل من المرکّبات الاعتباریّة.

و أمّا القسم الثانی منها فهو عبارة عن أن یتحقّق عنوان المقدّمیّة فی رتبة متأخّرة عن الأمر؛بأنّ المولی یلاحظ الأشیاء المختلفة الحقائق و یجعلها متعلّقا للأمر بدون اعتبار الوحدة بینها،و لکنّ المکلّف بعد إیصال الأمر إلیه یعتبرها شیئا واحدا،ففی الحقیقة یتقوّم المرکّب الاعتباری باعتبار الوحدة،و الاتّصاف بالمقدّمیّة یتوقّف علی تحقّق عنوان المرکّب الذی یتحقّق بعد تعلّق الأمر باعتبار المکلّف.

ص:21


1- 1) نهایة الأفکار 1:262-270.

و هذا القسم من المرکّبات خارج عن محلّ النزاع،فإنّ مقدّمیّة الأجزاء تتحقّق بعد الأمر بذی المقدّمة،فکیف یمکن ادّعاء الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب ما صار جزء و مقدّمة بعد وجوب ذی المقدّمة؟!

و لکنّ التحقیق:أنّ هذا التقسیم لیس بصحیح،بل المرکّب الاعتباری منحصر بالقسم الأوّل،و القسم الثانی الذی ذکره غیر معقول؛فإنّه لا شکّ فی تحقّق المصلحة الملزمة فی المأمور به،و تعلّق الأمر بأشیاء مختلفة الحقائق کاشف عن تحقّقها فیها،و نقول:إن لم تتحقّق اعتبار الوحدة قبل الأمر بها من المولی فهل تتحقّق المصلحة التامّة اللازمة الاستیفاء فی کلّ واحد من الأشیاء المذکورة أو فی مجموعها من حیث المجموع؟إن کان الأوّل فلا یمکن جعل المجموع مأمورا به بأمر واحد؛إذ لا بدّ من تعدّده بتعدّد المأمور به کتعدّد الإرادة بتعدّد المراد،فتحقّق المصلحة الملزمة اللازمة الاستیفاء فی کلّ واحد منها مستقلاّ أمر غیر معقول،و إن کان الثانی-أی دخل المجموع فی ترتّب المصلحة المذکورة-بحیث إن لم تتحقّق أحدها لم تتحقّق المصلحة،فهذا ما نعبّر عنه باعتبار الوحدة،و یشهد له قولک:إنّ المکلّف بعد إیصال الأمر إلیه یعتبر الوحدة بینها؛إذ المولی إن لم یر ضرورة لاعتبار الوحدة فی مقام تعلّق الأمر، فما الذی یلزم المکلّف أن یعتبرها؟و هذا یکشف عن تحقّقه قبل الأمر؛إذ لا بدّ قبله من ملاحظة المجموع بلحاظ ترتّب الأثر علی المجموع،و هذا عبارة عن اعتبار الوحدة.هذا.أوّلا.

و ثانیا:أنّه لو فرضنا صحّة التقسیم المذکور و تعقّل القسم الثانی فلا وجه لخروجه عن محلّ النزاع،فإنّ الملاک فی المقدّمیّة هو حین الامتثال و إتیان المأمور به لا حین صدور الأمر،و تأخّر المقدّمیّة عن الأمر لا یکون مانعا عن

ص:22

الدخول فی محلّ النزاع،فإنّا نری فی المقدّمات الخارجیّة أنّ بعضها تتّصف بالمقدّمیّة حال صدور الأمر عن المولی،و بعضها تتّصف بذلک حال امتثال الأمر،مثل توقّف الحجّ فی زماننا هذا علی تسجیل الأسماء و عدم توقّفه علیه فی السابق،أو عدم احتیاج المکلّف بمقدّمة حال صدور الأمر و توقّفه بها حال امتثال الأمر لعروض عارضة کالمرض-مثلا-و لم یسمع من أحد التفصیل بین المقدّمات الخارجیّة،فما الفرق بینها و بین المقدّمات الداخلیّة؟و ما أوجب التفصیل فی الثانیة دون الاولی؟

و الجواب بالحلّ:فإنّه مرّ عن صاحب الکفایة قدّس سرّه عدم تعلّق الوجوب الغیری بنفس العنوان و مفهوم المقدّمة،بل یتعلّق بما هو مقدّمة بالحمل الشائع الصناعی-أی المصداق و نصب السلّم الخارجی مثلا-إذ یتوقّف علیه تکوینا الکون علی السطح و لا یتحقّق بدونه،لا علی مفهوم المقدّمة،فإنّ الجهة و الحیث فیه تعلیلیّة،و إذا سئل عن علّة مقدّمیّة الوجوب الغیری بأنّه لما ذا یکون نصب السلّم واجبا؟فیقال فی الجواب:لأنّه مقدّمة،فیکون تمام العلّة لوجوبه عبارة عن کونه مقدّمة،فلا فرق بین کون المقدّمیّة سابقة علی الأمر بذی المقدّمة أو لاحقة به،و لا دخل للسابقیّة فی العلّیّة أصلا.

إذا عرفت هذا فنقول:و الذی یصاحبه الوجدان من الأقوال المذکورة عبارة عمّا اختاره سیّدنا الاستاذ الإمام قدّس سرّه من التفصیل بین المرکّبات الحقیقیّة و غیر الحقیقیّة.و بالنتیجة:أنّ أجزاء المرکّبات الاعتباریّة-کالصلاة و الحجّ- داخلة فی محلّ النزاع بالبیان الذی ذکرناه عنه قدّس سرّه.

و قال بعض بالتفصیل بین المقدّمات الخارجیّة أیضا؛بأنّها علی قسمین:

قسم منها بصورة العلّة التامّة-أی مجموعة السبب و الشرط و عدم المانع-

ص:23

و قسم منها بصورة جزء العلّة،و الأوّل خارج عن محلّ النزاع بخلاف الثانی.

و بعبارة اخری:إن لاحظنا أجزاء العلّة بصورة المجموع من حیث المجموع فهی خارجة عن محلّ النزاع،و إن لاحظناها واحدة واحدة فهی داخلة فی محلّ النزاع.

و تقریب ذلک یتوقّف علی مقدّمة،و هی:أنّه لا فرق بین الإرادة الفاعلیّة و الإرادة الآمریّة من حیث المراد و أصل الإرادة،إلاّ أنّ المراد یتحقّق فی الاولی بالمباشرة و فی الثانیة بوساطة الأمر.

ثمّ استفاد منها أنّ الإرادة الفاعلیّة إذا تعلّقت بإحراق شیء فمن المعلوم أنّها تتعلّق بالعلّة دون المعلول فإنّ الإحراق خارج عن دائرة قدرة المرید،و هو یترتّب علی العلّة،و ربما لا یعدّ فعلا للفاعل،بل هو عمل و خصوصیّة للنار، و إذا کان الأمر فی الإرادة الفاعلیّة کذلک فیکون فی الإرادة الآمریة أیضا کذلک،فإن قال المولی:«أحرق هذه الکتب الضالّة»یکون معناه فی الواقع «ألق هذه الکتب فی النار»؛إذ لا بدّ من أن یکون المأمور به مقدورا و فعلا للمکلّف،و ما هو المقدور له هاهنا لیس إلاّ إیجاد العلّة التامّة،و لذا لا بدّ من خروج العلّة التامّة عن محلّ النزاع.

و لکنّ الحقّ أنّ هذا الکلام مخدوش:

أوّلا:بأنّ نتیجة الاستدلال لو فرضنا صحّته:أنّ العلّة التامّة لیست بمقدّمة، بل هی بنفسها ذو المقدّمة.

و ثانیا:أنّه استفاد منه المقدّمیّة لأجزاء العلّة التامّة کالمقتضی و الشرط و عدم المانع،و نحن نسأل أنّها مقدّمة لمجموع العلّة التامّة أو للمعلول؟فإن قلنا بالأوّل تکون المقدّمة داخلیّة،فلا یکون لنا مقدّمة خارجیّة أصلا؛لأنّها

ص:24

لیست سوی المقتضی و الشرط و عدم المانع.

و إن قلنا بالثانی یعود الإشکال؛بأنّ المعلول لیس مقدورا للمکلّف من دون فرق بین أن یلاحظ مع العلّة التامّة أو أجزائها،فإن کانت العلّة التامّة خارجة عن محلّ النزاع فتکون أجزاؤها أیضا کذلک،فتخرج جمیع المقدّمات الخارجیّة عنه،فلا معنی للبحث عن مقدّمة الواجب للقائل بخروج المقدّمات الداخلیّة عن محلّ البحث کالمحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1).

ثالثا:أنّ هذا الکلام باطل من أصله حتّی فی الإرادة الفاعلیّة،فإنّا نری بالوجدان أنّ الإحراق مقدور للإنسان و تتعلّق إرادتنا به بعد تصوّره و التصدیق بفائدته و تمامیّة سائر المبادئ،إلاّ أنّ المقدور للإنسان قد یکون بلا واسطة-کحرکة الید و أمثاله-و قد یکون مع الواسطة کالإحراق،فهو مقدور لنا مع وساطة العلّة التامّة،و إلاّ یلزم أن تکون نسبة الإحراق إلی الإنسان مجازیّا،و هو کما تری.

ثمّ قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه:و منها:تقسیمها إلی العقلیّة و الشرعیّة و العادیّة، فالعقلیّة هی ما استحیل واقعا وجود ذی المقدّمة بدونه،و الشرعیّة-علی ما قیل-ما استحیل وجوده بدونه شرعا،و لکنّه لا یخفی رجوع الشرعیّة إلی العقلیّة؛ضرورة أنّه لا یکاد یکون مستحیلا ذلک شرعا،إلاّ إذا اخذ فیه شرطا و قیدا،و استحالة المشروط و المقیّد بدون شرطه و قیده یکون عقلیّا».

و لا بدّ لنا من تکمیل هذا البیان من حیث الورود فی البحث و اختتامه.

التکملة الاولی:أنّ جعل الشارع الطهارة-مثلا-مقدّمة للصلاة لا یخلو من أحد احتمالین:

ص:25


1- 1) کفایة الاصول 1:143.

أحدهما:أنّ مقدّمیّتها لها واقعیّة من الواقعیّات-کواقعیّة استحالة تحقّق ممکن الوجود بدون تحقّق العلّة المرجّحة و الموجبة-و لکنّ العقل قاصر عن إدراکها،و کشفها الشارع لاطّلاعه علی الامور الواقعیّة،و لا شکّ فی انطباق تعریف المقدّمة العقلیّة علیها أیضا،و هو استحالة وجود ذی المقدّمة بدونها.

و ثانیهما:أنّ مقدّمیّتها لها أمر من الامور الاعتباریّة کالملکیّة و الزوجیّة،لا بمعنی انکشاف واقعیّة ما فوق إدراک العقل بها،و علی هذا أیضا ترجع إلی المقدّمة العقلیّة؛إذ لا بدّ فی مقدّمیّة المقدّمة من أمرین:الأوّل:جعل الشارع قوله بأنّ الطهارة شرط للصلاة،و الثانی:الحکم بأنّه إذا جعل الشارع الطهارة شرطا لها فعلم أنّ تحقّق المشروط بدون الشرط ممتنع،و الحاکم بهذا الامتناع هو العقل.و الأساس فی باب المقدّمیّة عبارة عن الأمر الثانی الذی یکون الحاکم به العقل،فلا بدّ من حمل عبارة صاحب الکفایة قدّس سرّه علی هذا،لا أنّ المقدّمیّة واقعیّة کشف عنها الشارع.

و الحاصل:أنّ المقدّمات الشرعیّة ترجع إلی المقدّمات العقلیّة علی هذا البیان أیضا.

التکملة الثانیة:أنّه یمکن أن یقال:إنّ کلام المحقّق الخراسانی قدّس سرّه تام،بل لیس قابلا للإنکار فیما إذا کان تعبیر الشارع مثل:«جعلت الطهارة شرطا للصلاة» أو«اعتبرتها شرطا لها»،و أمّا إذا کان التعبیر مثل:«لا صلاة إلاّ بطهور» فمعناه أنّ الصلاة لا تتحقّق إلاّ بوجود الطهور،فالشارع تعرّض إلی ما هو الأساس فی المقدّمیّة و لا دخل للعقل و حکمه فیه،فکیف تکون المسألة مسألة عقلیّة؟!

قلت:أوّلا:أنّ الشارع بیّن بقوله:«لا صلاة إلاّ بطهور»الأمر الأوّل الذی

ص:26

لا بدّ منه فی مقدّمیّة المقدّمة،و لکن بالتعبیر الکنائی،فمعناه أنّه یشترط فی الصلاة الطهارة.

و ثانیا:إن قلنا:إنّه بیّن به الأمر الثانی الذی لا بدّ منه فی المقدّمیّة،و لا شکّ فی أنّه إرشاد إلیه،و من البدیهی أنّه یکون فی صورة المفروغیّة عن الأمر الأوّل،و علی أی حال یرتبط ما هو الأساس فی المقدّمیّة بحکم العقل-أی عدم تحقّق ذی المقدّمة بدون المقدّمة-و لذا ترجع المقدّمات الشرعیّة إلی المقدّمات العقلیّة.

و أمّا المقدّمة العادیّة فکان لصاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فیها بیان یوافقه التحقیق، و حاصله:أنّ المقدّمة العادیّة إن کانت بمعنی عدم توقّف ذیها علیها بحسب الواقع بحیث یمکن تحقّق ذیها بدونها،إلاّ أنّ العادة جرت علی الإتیان به بواسطتها،فهی و إن کانت غیر راجعة إلی العقلیّة إلاّ أنّه لا ینبغی توهّم دخولها فی محلّ النزاع؛إذ المقدّمة العادیّة بهذا المعنی لیست بمقدّمة حقیقة،مثل عدم مقدّمیّة نصب السلّم للصعود علی السطح،إلاّ بحسب العادة؛لإمکان الصعود بالحبل أو الطیران أو غیرهما.و إن کانت بمعنی أنّ التوقّف علیها و إن کان فعلا واقعیّا-کنصب السلّم و نحوه للصعود علی السطح لأجل عدم التمکّن عادة من الطیران الممکن عقلا-فهی أیضا راجعة إلی العقلیّة؛لاستحالة الصعود علی السطح لغیر الطائر الفعلی عقلا بدون نصب السلّم،و إن کان الطیران بذاته ممکنا فیصدق ما ذکرنا فی تعریف المقدّمة العقلیّة-أی ما استحیل واقعا وجود ذی المقدّمة بدونه-علی المقدّمة العادیّة بهذا المعنی أیضا؛إذ المراد من الاستحالة المذکورة فیه أعمّ من الاستحالة الذاتیّة

ص:27


1- 1) کفایة الاصول 1:143.

و الوقوعیّة علی الظاهر،فلا فائدة لهذا التقسیم فی بحث مقدّمة الواجب.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):«و منها:تقسیمها إلی مقدّمة الوجود،و مقدّمة الصحّة،و مقدّمة الوجوب،و مقدّمة العلم...»إلخ.

توضیح کلامه:أنّ مقدّمة الوجود عبارة عمّا یتوقّف علیه وجود الواجب و تحقّقه،و أصل تحقّق عنوان هذه المقدّمة و دخولها فی محلّ النزاع ممّا لا شبهة فیه کطیّ المسافة بالنسبة إلی مناسک الحجّ.و أمّا مقدّمة الصحّة-کالطهارة بالنسبة إلی الصلاة-فلا شکّ فی رجوعها إلی مقدّمة الوجود،أمّا علی الوضع للصحیح فواضح،فإنّ غیر الصحیح لیس فردا للماهیّة المأمور بها حتّی یکون وجودا لها،و أمّا علی الوضع للأعمّ فلأنّ محلّ الکلام فیما نحن فیه هو مقدّمة الواجب و المأمور به،لا مقدّمة المسمّی بالصلاة مثلا،فمقدّمة الصحّة ترجع إلی مقدّمة الوجود مطلقا.

و أمّا مقدّمة الوجوب فهی ممّا یتوقّف علیه وجوب الواجب کالاستطاعة بالنسبة إلی الحجّ،و هی و إن کانت مغایرة لمقدّمة الوجود و لکن لا إشکال فی خروجها عن محلّ النزاع؛لعدم إمکان اتّصافها بالوجوب الترشّحی من قبل الوجوب المشروط بها،فإنّ بعد تحصیل الاستطاعة یلزم تحصیل الحاصل، و أمّا قبله فالحجّ لیس بواجب،فکیف یکون تحصیل الاستطاعة واجبا من باب مقدّمة الواجب؟!و الحاصل:أنّ النزاع هاهنا فی مقدّمة الواجب لا فی مقدّمة الوجوب.

و أمّا مقدّمة العلم فهی ممّا یتوقّف علیه العلم بتحقّق الواجب کالإتیان بالصلاة إلی الجهات المتعدّدة عند اشتباه القبلة و سائر موارد جریان قاعدة

ص:28


1- 1) کفایة الاصول 1:144.

الاشتغال،و لا شکّ فی حکم العقل بلزوم هذه المقدّمة،و إرشاد الروایات (1)الکثیرة إلیه،کما أنّه لا شکّ فی مغایرتها لمقدّمة الوجود،و لکنّها خارجة عن محلّ النزاع فیما نحن فیه،فإنّا نبحث فی مقدّمة الواجب-أی مقدّمة تحقّق الواجب و وجوده-لا فی مقدّمة العلم بتحقّق الواجب.

و یمکن أن یتوهّم أنّ الحاکم بلزوم الإتیان بمقدّمته العلمیّة هو العقل، و النزاع فی مقدّمة الواجب أیضا نزاع عقلی،فکیف یکون هذا قابلا للجمع مع خروجها عن محلّ النزاع؟!

و جوابه:أنّ الحاکم بالملازمة فیما نحن فیه و إن کان عبارة عن العقل إلاّ أنّ طرفی الملازمة عبارة عن الوجوب الشرعی المولوی للمقدّمة و ذی المقدّمة، و لا فرق بینهما إلاّ فی النفسیّة و الغیریّة،و أمّا المقدّمة العلمیّة فلیس لها سوی اللزوم العقلی الإرشادی،و الروایات المذکورة أیضا ترشد إلی ما حکم به العقل.

و منها:تقسیم المقدّمة إلی المتقدّمة و المقارنة و المتأخّرة بحسب الوجود بالإضافة إلی ذی المقدّمة،و نبحث هاهنا أوّلا:فی أصل صحّة التقسّم و معقولیّته و عدمه،و ثانیا:بعد الفراغ عن صحّته من حیث دخول الأقسام فی محلّ النزاع و عدمه.

و أمّا البحث فی المرحلة الاولی فیحتاج إلی مقدّمة،و هی:أنّ علماء أهل المعقول اتّفقوا فی باب العلّة و المعلول علی تقدّم العلّة علی المعلول من حیث الرتبة،و مقارنتها معه من حیث الزمان؛بمعنی تحقّق المعلول فی حال تحقّق العلّة،سواء تحقّقت العلّة قبله أو معه،لا تحقّقه من دون أن تتحقّق قبله علّة،

ص:29


1- 1) الوسائل 4:310،ب 8 من أبواب القبلة.

و لا تحقّقه فی حال انعدام العلّة بعد الحدوث.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ المقدّمة حیث کانت من أجزاء العلّة لوجود ذی المقدّمة،و لا بدّ من تقدّمها بجمیع أجزائها علی المعلول أشکل الأمر فی المقدّمة المتأخّرة،بل فی الشرط أو المقتضی المتقدّم علی المشروط زمانا المتصرّم حین المشروط،لا فیما استمرّ وجودا.و ما یلزمنا علی حلّ الإشکال عبارة عن تحقّق موارد متعدّدة فی الشرعیّات من العبادات و المعاملات کالأغسال اللیلیّة المعتبرة فی صحّة صوم المستحاضة عند بعض،و الإجازة فی صحّة العقد علی الکشف الحقیقی عند بعض،لا بناء علی النقل و لا علی الکشف الحکمی.

هذا فی الشرط المتأخّر و الشرط المتقدّم کالعقد فی الوصیة و الصرف و السلم؛إذ الملکیّة فی الوصیّة تترتّب علی الموت مع انعدام العقد حینه، و الملکیّة فیهما مترتّبة علی القبض و الإقباض مع انعدام العقد حینهما،بل فی کلّ عقد بالنسبة إلی غالب أجزائه لتصرّمها حین تأثیره مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زمانا،فإنّ الإیجاب و القبول و کذا أجزاءهما من الامور التدریجیّة المتصرّمة،فالجزء الأخیر من القبول مقارن للأثر دون غیره من سائر أجزاء القبول و جمیع أجزاء الإیجاب.

و ذکر الأعاظم و الفحول فی الفنّ طرقا متعدّدة لحلّ الإشکال،و نحن نتعرّض إلیها حتّی نصل إلی ما هو التحقیق فی المسألة،فقال المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)بما حاصله:إنّ المسائل الشرعیّة تکون من الامور الاعتباریّة و لا ترتبط بقاعدة عقلیّة،فإنّها تجری فی الواقعیّات و التکوینیّات،فتکون سببیّة غسل اللیلة لصحّة صوم یوم الماضی مثل سببیّة العقد للملکیّة و إتلاف مال الغیر

ص:30


1- 1) نهایة الأفکار:279-286.

للضمان من الامور الاعتباریّة،و لا دخل لها بقاعدة عقلیّة.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ الإشکال المذکور یکون فی التکوینیّات أیضا قابلا للجواب،و لا یلزم انخرام القاعدة أصلا،مثلا:النار سبب لإحراق الخشب بشرط مجاورته لها و یبوسته،و معلوم أنّ طبیعی النار لا یکون مؤثّرا فی الإحراق،بل حصّة خاصّة منها تکون کذلک،فإنّ للطبیعة حصصا متعدّدة،و یترتّب الأثر المذکور علی حصّة متمیّزة عن سائر الحصص بالخصوصیّة المتحقّقة فی الخشب مثلا، و هذه الخصوصیّة فی الواقع عبارة عن الإضافة المتحقّقة بین النار و الخصوصیّات المعتبرة فی الجسم من المجاورة و القابلیّة للإحراق،فیکون سبب ترتّب الأثر الخاصّ علی هذه الحصّة بعد ملاحظة سائر الحصص عبارة عن الإضافة المذکورة.

و من البدیهی أنّ طرف الإضافة کما یصحّ أن یکون أمرا فعلیّا کذلک یصحّ أن یکون أمرا استقبالیّا أو أمرا متحقّقا فیما مضی و المنعدم فعلا،و لا ضرورة تقتضی لفعلیّة طرفی الإضافة،بل یکفی فعلیّة أحد طرفی الإضافة کالعلم بالإضافة إلی الإنسان و المعلوم،و لا یلزم أن یکون معلوم الإنسان فعلیّا أبدا، و علمنا بالأمر الاستقبالی-کظهور الإمام صاحب الزمان علیه السّلام-و الأمر الماضی -کمبعث الرسول صلّی اللّه علیه و آله-لا یکون قابلا للإنکار،مع أنّ المعلوم قد وجد و تصرّم أو لم یتحقّق بعد مع أنّ العلم به فعلی.

و إذا کانت المشکلة قابلة للحلّ فی التکوینیّات فتکون فی الامور الشرعیّة بطریق أولی قابلة للحلّ.هذا تمام کلامه بتوضیح منّا.

و أجاب استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)عنه بما حاصله:أنّ من القواعد المسلّمة

ص:31


1- 1) تهذیب الاصول 1:210-211.

و القطعیّة عند أهل المعقول القاعدة الفرعیّة فی القضایا الموجبة،یعنی ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت مثبت له.

نعم،القضایا السالبة المحصّلة تصدق مع انتفاء الموضوع أیضا،و لکن فی غیرها یجب تحقّق الموضوع فی مقام الصدق،و إذا کان الأمر کذلک-أی کانت تلک الخصوصیّة حاصلة من إضافتها إلی الشیئین-فلا معنی لحصول أحد الطرفین-أعنی الواجب-دون الطرف الآخر-أعنی الشرط-إذ الإضافة الفعلیّة تستلزم تحقّق الطرفین بالفعل کالابوّة و البنوّة الفعلیتین تستلزم وجود الأب و الابن فعلا حتّی تتحصّل بین الطرفین.

و أمّا مسألة العلم بالحوادث الماضیة و الآتیة فعلا بدون تحقّق المعلوم الفعلی فجوابه یظهر بما ذکرناه مرارا من أنّ المعلوم بالعرض-یعنی خارجیّة الشیء- لا یتحقّق عند العلم به،و لکنّ المعلوم بالذات-یعنی الصورة الحاصلة من وجوده-متحقّق فی النفس و مقارن مع العلم به.و أمّا شرطیّة المجاورة و یبوسة الجسم للإحراق فلا یرتبط بالمعلوم بالذات،و طرف الإضافة هاهنا عبارة عن واقعیّة المجاورة و الیبوسة،و لا یتصوّر فیها تحقّق الإضافة فعلا بدون طرف الإضافة،فلا تصحّ المقایسة بین العلم و شرطیّتهما أصلا.فجواب المحقّق العراقی قدّس سرّه عن الإشکال لیس بتام.

و الجواب الآخر:ما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)و تبعه الإمام قدّس سرّه (2)فی قسم منه،و هو قوله:

و التحقیق فی رفع هذا الإشکال أن یقال:إنّ الموارد التی توهم انخرام

ص:32


1- 1) کفایة الاصول 1:145-146.
2- 2) تهذیب الاصول 1:213.

القاعدة فیها لا تخلو إمّا أن یکون المتقدّم أو المتأخّر شرطا للتکلیف أو الوضع -أی الحکم الوضعی کالزوجیّة و الملکیّة مثلا-أو المأمور به،ثمّ شرع فی الجواب عن کلّ واحد منها مستقلاّ.

و وافقه الإمام فی جوابه عن شرط التکلیف و أضاف إلیه مثالا،و هو:أنّ من شرائط العامّة لأصل التکلیف و ثبوت الحکم عبارة عن قدرة المکلّف علی الامتثال فی ظرف الامتثال لا فی حال التکلیف،و إذا قال المولی:یجب علیک أن تسافر غدا فلا شکّ فی فعلیّة التکلیف بمجرّد صدور الحکم عنه،و معلوم أنّ القدرة المضاف إلی الغد لا تتحقّق حینئذ،فالتکلیف المشروط یتحقّق فعلا بدون شرط.

و تقریب الجواب:أنّ الأمر یکون من الأفعال الاختیاریّة لفاعل المختار، فیکون مسبوقا بالإرادة،و هی تحتاج إلی المبادئ،و من مبادئها تصوّر الشیء و التصدیق بفائدته،أی الاعتقاد بفائدة المراد لا فائدته الواقعیّة.و معلوم أنّ التصوّر و التصدیق و العزم و الجزم و سائر مبادئ الإرادة بأجمعها ترتبط بالنفس،و توجد کأصل الوجود الذهنی بخلاّقیّة نفس الإنسان بعنایة من اللّه تعالی،و إن کان لصاحب الکفایة قدّس سرّه فی مسألة الإرادة مقالة غیر قابلة للالتزام به،و لکن أصل نفسانیّة الإرادة مع مبادئها محطّ الاستدلال هاهنا فأمر المولی فی المثال یدور مدار اعتقاده بقدرة المکلّف علی الامتثال و عدمه،و یحکم بالمسافرة فی صورة تحقّقه،و لا یدور مدار القدرة الواقعیّة و عدمها،فما هو مأخوذ فی التکلیف بعنوان الشرط مقارن له من حیث الزمان و هو لحاظ المتقدّم و المتأخّر،و ما هو متقدّم علیه أو متأخّر عنه غیر مأخوذ فیه بعنوان الشرط و هو وجودهما الواقعی و الخارجی،فلا انخرام للقاعدة.

ص:33

و لکنّ التحقیق:أنّ التکلیف الذی جعل مضافا إلیه الشرط قد یکون بالمعنی المصدری،و یعبّر عنه بالإیجاب،و هو مسبوق بالإرادة و مبادئها کسائر الأعمال الاختیاریّة للإنسان،و قد یکون بمعنی الاسم المصدری،و یعبّر عنه بالوجوب،و ربما لا یکون الشیء شرطا للإیجاب بدون الوجوب،و الأوّل مرحلة الإنشاء،و الثانی مرحلة الفعلیّة،مثل قول المولی:«إن جاءک زید فأکرمه»،و من البدیهی أنّ المولی بعد تصوّر الشرط و المشروط و التصدیق بالفائدة و سائر المبادئ أنشأ و أوجب الإکرام فعلا،و لکنّ فعلیّة هذا الحکم التعلیقی الإنشائی متوقّف علی تحقّق مجیء«زید»فی الخارج،فیکون مجیء «زید»بوجوده الخارجی لا بوجوده الذهنی شرطا لفعلیّة التکلیف و الوجوب،لا لإنشاء التکلیف و الإیجاب،إلاّ أنّ المجیء شرط مقارن لفعلیّة وجوب الإکرام مثل شرطیّة الزوال لفعلیّة وجوب الصلاة.

و أمّا مثال شرطیّة المتقدّم فنحو أن یقول المولی:«إن جاءک زید فأکرمه بعد ساعة»،أو یقول:«إن تحقّق المجیء فی الخارج یجب علیک الإکرام بعد ساعة»،فلا طریق لنا لإرجاعه إلی الوجود الذهنی،فکیف یکون الإشکال قابلا للحلّ هاهنا؟!

و أمّا المثال للشرط المتقدّم فی الشرعیّات فهو عبارة عن شرطیّة الاستطاعة لوجوب الحجّ علی قول؛إذ المشهور فی مسألة الواجب المعلّق -مثل الحجّ-قائل بأنّه یجب الحجّ بمجرّد تحقّق الاستطاعة فی وقته،أی الوجوب فعلی و الواجب معلّق بإیصال الموسم.و أنکره عدّة من الأعاظم و قالوا:إنّ الإرادة لا تتعلّق بالأمر الاستقبالی،فتکون الاستطاعة بوجوده الخارجی شرطا لوجوب الحجّ فی الموسم؛بحیث یکون الزمان قیدا للوجوب

ص:34

لا للواجب،و هذا شرط متقدّم للتکلیف و لا یکون قابلا للحلّ بما ذکره الإمام و المحقّق الخراسانی قدّس سرّهما،و لذا نحتاج إلی جواب آخر عن الإشکال.

و إن قیل:إنّ حدوث الاستطاعة لا یکفی لوجوب الحجّ،بل لا بدّ من بقائها له،فهذا هو الشرط المقارن لا المتقدّم إن بقیت الاستطاعة إلی الموسم،و إن انعدمت بعد الحدوث فلا یجب الحجّ أصلا.

قلنا:إنّه کان لوجوب الحجّ شرطان:أحدهما:مقارن له،و هو عبارة عن الموسم و الزمان،و الآخر:متقدّم علیه،و هو الاستطاعة.و من المعلوم أنّ الاستطاعة الدخیلة فی الوجوب هی الاستطاعة الحاصلة قبل الموسم لا الحاصلة حین الموسم فقط،و إلاّ یلزم القول بوجوب الحجّ علی من استطاع فی الموسم أیضا مع أنّه کما تری،و علی أیّ حال لا بدّ لنا من حلّ الإشکال،و إن لم نجد للشرط المتقدّم فی الشرعیّات مثالا.

و الأولی فی الجواب ما أشار إلیه المحقّق العراقی قدّس سرّه من أنّ مورد القاعدة العقلیّة المذکورة عبارة عن التکوینیّات و الواقعیّات الخارجیّة،و لا تجری فی الامور الاعتباریّة کالبعث و التحریک الاعتباری الذی یعبّر عنه بالتکلیف، فإنّها تدور مدار الاعتبار.

إن قلت:کیف لا تجری القاعدة فی الشرائط الشرعیّة مع أنّها ترجع إلی الشرائط العقلیّة کما مرّت؟!فلا بدّ من جریانها فیهما بدون التفکیک بینهما.

قلت:إنّ دلیل رجوعها إلیها-کما مرّ-عبارة عن أنّه لا بدّ فی المقدّمیّة من صغری و کبری.و بیان الصغری بید الشارع بقوله:هذا شرط-مثلا-و الحاکم بالکبری-أی الذی یحکم بعدم تحقّق ذی المقدّمة بدون المقدّمة-هو العقل، و محلّ النزاع هاهنا هو الصغری بعد قول الشارع بأنّ الزوال شرط لوجوب

ص:35

الصلاة-مثلا-فیبحث و یستفاد أنّ القاعدة لا تجری فیما کان الشرط و المشروط أو أحدهما اعتباریّا.

و منشأ الإشکال الاشتراک فی الاصطلاح و استعمال الألفاظ کالسبب و الشرط و المانع فی التکوینیّات و التشریعیّات معا،مع أنّ کلّ واحد منها یطلق فی التکوینیّات بملاک خاصّ،بحیث لا یصحّ إطلاق کلّ من السبب و الشرط مکان الآخر،مثل النار سبب للإحراق و مجاورة الجسم شرط له و رطوبته مانعة عنه،و لیست نسبة الجمیع إلی الإحراق نسبة واحدة؛إذ یتولّد من النار الإحراق،و للمجاورة دخل فی تأثیرها فی الإحراق و تکون مؤثّرة فیه،و إن انعدم المعلول بانعدام کلّ منها،إلاّ أنّ ارتباط کلّ منها بالمعلول ارتباط خاصّ.

و نحن نری نظائر هذه التعبیرات فی الشرعیّات أیضا،مثل الاستطاعة شرط لوجوب الحجّ،و عقد البیع سبب لمالکیّة المشتری للمبیع و البائع للثمن، و عقد النکاح سبب لحصول العلقة الزوجیّة بین الزوجین،و البلوغ شرط للتکلیف،و الحدث مانع عن الصلاة.

و معلوم أنّ الملکیّة و الوجوب و الزوجیّة تکون من الامور الاعتباریّة،و لا ضابطة لاستعمال هذه التعبیرات فی الشرعیّات،و لذا لا إشکال فی إطلاق کلمة السبب مکان الشرط و بالعکس.

و بالنتیجة کان إطلاق هذه العناوین فی الشرعیّات من باب المجاز و الاستعارة بعلاقة المشابهة،و لا یکون إطلاقها أساسا و لا ملاکا واقعیّا کإطلاقها فی التکوینیّات،و لذا لا تجری القاعدة فی الشرعیّات أصلا.هذا تمام الکلام بالنسبة إلی شرائط التکلیف.

ص:36

و أمّا شرائط الحکم الوضعی کالإجازة للملکیّة فی العقد الفضولی علی الکشف الحقیقی،فقال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بما حاصله:إنّ حالها حال شرائط التکلیف فی أنّ الشرط حقیقة فی الحکم الوضعی هو اللحاظ أیضا،فالعقد الفضولی الملحوظ معه الإجازة یؤثّر فی الملکیّة-مثلا-و لا شکّ فی أنّ لحاظ الإجازة مقارن للملکیّة،فلیس فی الحکم الوضعی شرط متأخّر حتّی یوجب انخرام القاعدة العقلیّة.

و یرد علیه ما أوردناه علیه فی شرط التکلیف من أنّ هذا الکلام تام فی مرحلة إنشاء الحکم،و أمّا فی مرحلة الفعلیّة فلا بدّ من تحقّق الإجازة خارجا کما مرّ توضیحه فی ضمن مثال:«إن جاءک زید فأکرمه بعد ساعة»و حلّ الإشکال بأنّ الشرط الشرعی لا یکون قابلا للقیاس مع الشرط العقلی و التکوینی و لا تجری القاعدة فیه،بل إطلاق الشرط علیه بالعنایة کما مرّ.

و أمّا الشرائط المأمور بها فهی عبارة عن الشرائط الشرعیّة الدخیلة فی صحّة المأمور به،و ما یرجع إلی شرط الوجود کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة، و الغسل اللیلی للمستحاضة بالنسبة إلی صوم الیوم السابق،و أمثال ذلک.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (2)فی مقام الجواب عن الإشکال هاهنا بما حاصله:

إنّ المأمور به لا بدّ من کونه حسنا و المنهی عنه قبیحا عند بعض،و الاتّصاف بالحسن و القبح بالوجوه و الاعتبارات عند بعض آخر؛بأنّ نفس العنوان یوجد الحسن و یقع متعلّقا لغرض المولی،و ممّا کان دخیلا فی تحقّق هذه الاعتبارات و العناوین عبارة عن الاضافات،و إذا راجع تحقّق الحسن و القبح

ص:37


1- 1) کفایة الاصول 1:146.
2- 2) کفایة الاصول 1:148.

إلی الإضافة،فمن المعلوم أنّ دائرة الإضافة وسیعة کما یصحّ إضافة المضاف إلی المضاف إلیه المقارن کذلک یصحّ إضافته إلی المضاف إلیه المتقدّم و المتأخّر، فمعنی شرطیّة أغسال اللیلة الآتیة لصحّة صوم یوم الماضی أنّه یتحقّق بینهما الإضافة التی توجب حسن الصوم و تجعله متعلّقا لغرض المولی،و لذا نقول:

یجب علی المستحاضة الصوم المتعقّب بالغسل،و هذه الإضافة توجب اشتمال الصوم علی المصلحة اللازمة الاستیفاء،فلا فرق فیها بین تقارن المضاف إلیه مع المضاف و تقدّمه علیه و تأخّره عنه.

و التحقیق:أنّ هذا البیان و إن کان أقلّ إشکالا ممّا قال به المحقّق العراقی قدّس سرّه و لکن مع ذلک یرد علیه ما أوردناه علیه من أنّه لا بدّ فی المتضایفین من تحقّق طرفی الإضافة و أنّ الابوّة-مثلا-ملازم للبنوّة و لا یمکن التفکیک بینهما،کما أنّه لا یمکن اتّصاف العلّة بالعلّیّة قبل اتّصاف المعلول بالمعلولیّة،و إن کانت العلّة متقدّمة علی المعلول من حیث الرتبة،فکیف یمکن تحقّق الإضافة فعلا بدون المضاف إلیه،و کیف یمکن اتّصاف الشیء بأنّه مضاف بدون تحقّق المضاف إلیه؟!

و أمّا حلّ الإشکال هاهنا فبأنّه مرّ فی تقسیم المقدّمة إلی العقلیّة و الشرعیّة و العادیّة،و قلنا:إنّ المقدّمة الشرعیّة یحتمل أن تکون واقعیّة لا نقدر علی إدراکها لنقصان عقولنا،و لکنّ الشارع لإحاطته بالواقعیّات یدرکها و یرشدنا إلیها بقوله:«لا صلاة إلاّ بطهور»،و یحتمل أن تکون کالملکیّة و الزوجیّة من الامور الاعتباریّة،کما أنّ أصل وجوب إقامة الصلاة أمر اعتباری و مجعول شرعی،فشرطیّة الطهارة لها أیضا کذلک.

و إن قلنا باعتباریّتها-کما هو الحقّ فی المسألة-فتخرج عن مورد القاعدة

ص:38

العقلیّة،فإنّ موردها عبارة عن الواقعیّات،و لا تجری فی الامور الاعتباریّة کما مرّ فی شرائط التکلیف و الوضع.

و إن قلنا بواقعیّتها فنحتاج إلی حلّ المعضلة فی مثل شرطیّة أغسال اللیلة لصحّة صوم الیوم الماضی للمستحاضة،و کان لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)جواب و له مقدّمة و هی:أنّ أجزاء الزمان-کالوجودات اللفظیّة-من الامور التدریجیّة و المتصرّمة،و لا یجتمع جزءان منها فی آن واحد،مثلا:یوم الأحد جزء من الزمان و یوم الإثنین جزء آخر منه،و من المعلوم أنّهما لا یجتمعان معا،فلا محالة یتقدّم بعضها و یتأخّر بعضها الآخر.و حینئذ یتولّد الإشکال بأنّ تقدّم یوم الأحد علی یوم الإثنین و تأخّره عنه أمر وجدانی غیر قابل للإنکار،و مع ذلک مخالف للقاعدتین العقلیّتین المسلّمتین:

إحداهما:أنّ التقدّم و التأخّر من مصادیق المتضایفین،و مقتضی التضایف تقارنهما من حیث الرتبة و الزمان،و لازم اتّصاف یوم الأحد بوصف التقدّم اتّصاف یوم الاثنین بوصف التأخّر فی هذا الآن و الزمان کاتّصاف الإمام بالإمامة و المأموم بالمأمومیّة،فلا یعقل التقدّم الرتبی و الزمانی لأحدهما علی الآخر.

و ثانیتهما:القاعدة الفرعیّة،أی ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له، فثبوت وصف التأخّر لیوم الإثنین فرع تحقّقه و ثبوته،و کیف یمکن أن یتّصف یوم الإثنین الذی لم یتحقّق بعد بوصف التأخّر؟!و إذا لم یمکن اتّصاف یوم الإثنین بوصف التأخّر فلا یمکن اتّصاف یوم الأحد أیضا بوصف التقدّم؛إذ لا یعقل التفکیک بین الأمرین المتضایفین.

ص:39


1- 1) تهذیب الاصول 1:213-216.

و إن کنّا فی یوم الإثنین ینعکس الإشکال بأنّ یوم الأحد وجد و انعدم،و لا یمکن اتّصافه بوصف التقدّم فلا یمکن اتّصاف یوم الإثنین أیضا بوصف التأخّر.

ثمّ قال فی مقام الجواب عن الإشکال بأنّا قد نبحث فی الاتّصاف و إثبات وصف التقدّم لشیء و التأخّر بشیء آخر،و قد نبحث فی واقعیّة شیء و نحن نری بعد ملاحظة یوم الأحد بالنسبة إلی الاثنین و تدریجیّة الزمان أنّ یوم الأحد بحسب الذات متقدّم علی یوم الإثنین،و أنّ التقدّم لا یکون وصفا له بل یکون جزء ذاته و داخل فی ذاته،بل التعبیر بالتقدّم و التأخّر یکون بعنوان المشیریّة؛إذ یمکن التعبیر بالأوّلیّة و الثانویّة و أمثال ذلک أیضا،فإذا راجع المسألة إلی الذات دون الاتّصاف و الوصفیّة فلا ینافی القاعدتین العقلیّتین، و مسألة الوجدان باقیة بقوّتها،کما أنّا نعبّر ارتکازا بأنّ یومنا هذا مقدّم علی الغد مع أنّه لیس من الغد أثر و لا خبر.

ثمّ ذکر لهذا المعنی أدلّة و مؤیّدات:

منها:أنّه مرّ أنّ للعلّة تقدّما رتبیّا علی المعلول،مع أنّ وصفی التقدّم و التأخّر یتحقّقان فی زمان واحد و فی رتبة واحدة،فاجتمعت فی العلّة جهتان:

الاولی:یرتبط بالذات و الرتبة فهی متقدّمة فیها،الجهة الثانیة:ترتبط بالوصف و الاتّصاف بالتقدّم،و هی فی رتبة واحدة مع المعلول فیها،و لا بدّ من التفکیک بین الجهتین،و یجری هذا التفکیک فی أجزاء الزمان؛بأنّ یومنا هذا متقدّم علی الغد وجدانا و ذاتا،مع أنّهما فی الاتّصاف متقارنان.

و منها:أنّ من المعروف تقسیم المتقابلین إلی المتناقضین و المتضایفین و المتخالفین و المتضادّین،مع أنّ هذا التقسیم مع قطع النظر عن الدقّة المذکورة

ص:40

فی أجزاء الزمان مواجه بالإشکال المهمّ،و هو:أنّ المقسم من مصادیق قسمه؛ إذ لا شکّ فی أنّ وصف التقابل کالابوّة و البنوّة من مصادیق التضایف،و کیف یعقل أن یکون المقسم من مصادیق أقسامه؟!و هکذا فی الأقسام؛إذ التضادّ من مصادیق التضایف،فإنّ اتّصاف البیاض بوصف التضادّ یحتاج إلی تحقّق السواد فی رتبته،و معلوم أنّ المراد من السواد هو سواد الجسم المتّصف بالبیاض مع أنّه لیس بموجود،فکیف یمکن أن یتّصف سواد المعدوم بعنوان التضادّ؟!علی أنّ التضادّ قسیم التضایف فی حال أنّه مصداقه و هکذا عنوان التناقض.

و حلّ المشکلة بأنّه إذا لاحظنا التضادّ و التضایف بحسب الذات مع قطع النظر عن الوصف و العنوان تکونان قسیمین،و هکذا التقابل یکون مقسما للأقسام بحسب الذات لا بحسب الوصف و العنوان،فالتفکیک بین تقدّم الشیء ذاتا و عدم تقدّمه عنوانا و وصفا یوجب حلّ المعضلة فی أجزاء الزمان.

و هکذا الحکم فی الزمانیّات،مثلا:«زید قائم الیوم»و«عمرو یقوم غدا»، و معلوم أنّ لقیام«زید»تقدّما ذاتیّا علی قیام«عمرو»،کما أنّ نفس هذا الیوم متقدّم ذاتا علی الغد کذلک قیام«زید»الذی کان ظرف تحقّقه عبارة عن هذا الیوم،إلاّ أنّ تقدّم بعض أجزاء الزمان علی بعض تکون بالأصالة و تقدّم بعض الزمانیّات علی بعض تکون بالتبع.

علی أنّ قطعیّة تحقّق أجزاء الزمان تقتضی الحکم بتقدّم بعضها علی بعض قبل تحقّق الجزء المتأخّر،بخلاف الزمانیّات،فتکون الإجازة اللاحقة ببیع الفضولی کاشفة بالکشف الحقیقی عن تحقّق الملکیّة حال العقد؛إذ الإجازة لا تکون شرطا للملکیّة،بل الشرط عبارة عن تقدّم العقد ذاتا علی الإجازة،

ص:41

و هو مقارن مع العقد،إلاّ أنّ علمنا بتقدّمه علیها متوقّف علی لحوق الإجازة، فما یعتبر فی صحّة بیع الفضولی و تأثیره فی الملکیّة هو تقدّم العقد علی الإجازة بتقدّم الذاتی بتبع الزمان،و لا شکّ فی مقارنته مع العقد،فلا انخرام فی القاعدة العقلیّة.هذا فی شرائط الوضع.

و أمّا شرائط المکلّف به مثل الأغسال اللیلیّة بالنسبة إلی صوم المستحاضة، فالمستفاد من ظاهر الکلمات و إن کان شرطیّة الأغسال اللیلیّة بوجودها الخارجی،و لکنّ واقع الأمر أنّ ما له الشرطیّة لصحّة صوم المستحاضة عبارة عن تقدّم الصوم علی غسل اللیل بالتقدّم الذاتی،إلاّ أنّه بلحاظ کونه ممکن التحقّق لا بدّ لنا من الانتظار إلی اللیل،فإن تحقّق الغسل یستکشف من أنّ صوم یوم الماضی کان واجدا للشرط حین تحقّقه؛إذ التقدّم الذاتی کان مقارنا له،و لذا لا نسمّیه شرطا متأخّرا.هذا تمام الکلام للإمام قدّس سرّه.

و لکنّ التحقیق:أنّ هذا البیان مع متانته و دقّته لا یحتاج إلیه فی شرائط الوضع،فإنّها خارجة عن مورد الإشکال کما مرّ،و جریانها فی شرائط المکلّف به مبنی علی القول بواقعیّة الشرائط الشرعیّة،مع أنّه ضعیف جدّا.و الحقّ أنّ الشرائط الشرعیّة کشرائط التکلیف و الوضع من الامور الاعتباریّة،فلا یرد الإشکال علی شرط من الشرائط المذکورة؛لأنّها امور اعتباریّة،و مورد الإشکال عبارة عن الامور الواقعیّة.

و لا بدّ لنا من نقل ما قال به المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)لتکمیل البحث،و إجمال کلامه أنّه ذکر امورا بعنوان تحریر محلّ النزاع:

الأوّل:أنّه لا إشکال فی خروج الشرائط المأمور بها من حریم النزاع،فإنّ

ص:42


1- 1) فوائد الاصول 1:271-280.

شرطیّة شیء للمأمور به کالأغسال اللیلیة لصوم المستحاضة لا تکون إلاّ مثل أجزاء المرکّب فی أنّ کلّ جزء منه یقع،و یتحقّق فی جزء من الزمان،و لا فرق بین وقوع الجزء المتأخّر فی الزمان المتأخّر و وقوع الشرط المتأخّر فی الزمان المتأخّر،فکما أنّه لا إشکال فی الجزء المتأخّر کذلک لا إشکال فی الشرط المتأخّر،و کما أنّ تحقّق المرکّب یتوقّف علی أجزائه کذلک تحقّق المشروط یتوقّف علی شرطه،هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ حقیقة الاشتراط ترجع إلی الإضافة بین المشروط و الشرط،و لا شکّ فی مقارنة الإضافة مع الصوم المشروط،إلاّ أنّ المضاف إلیه متأخّر زمانا، فلا إشکال فی شرطیّة الأغسال اللیلیّة لصحّة صوم المستحاضة،و لا نقول بأنّ غسل اللیل دخیل فی رفع حدث الیوم الماضی حتّی استشکل علینا بإشکال شرطیّة المتأخّر.

الثانی:أنّ شرائط الجعل و العلل الغائیّة فبما أنّها بوجودها الخارجی لا تکون مؤثّرة فی الحکم بل بوجودها العلمی،فلا محالة یکون مقارنا مع الجعل،فهی أیضا خارجة عن محل النزاع،و علی هذا تکون علل التشریع -کالنهی عن الفحشاء و المعراجیّة بالنسبة إلی الصلاة-خارجة عن حریم النزاع.

الثالث:أنّه لا إشکال فی خروج العناوین الانتزاعیّة-کالسبق و اللحوق و التقدّم و التأخّر-عنه،فإنّ عنوان التقدّم ینتزع من ذات المتقدّم،و لا دخل للمتأخّر فی انتزاعه عن منشائه،و لکن بشرط تحقّق المتأخّر فی ظرفه.

الرابع:أنّه لا إشکال فی خروج العلل و المقدّمات العقلیّة عنه،و أنّه لا إشکال فی عدم جواز تأخّرها عن معالیلها،فالنزاع ینحصر فی شرائط

ص:43

الحکم،سواء کان تکلیفیّا أو وضعیّا،و نحن نعبّر عنها بموضوع الحکم،و الحقّ فیه أنّ الشرط المتأخّر ممتنع.

و توضیح ذلک یتوقّف علی امور:

الأوّل:فی الافتراق بین القضیّة الحقیقیّة و الخارجیّة،و أنّ القضیّة الخارجیّة هی التی یکون الموضوع فیها الأشخاص الموجودة فی الخارج حین الحکم، و لا یتوقّف الحکم فیها علی غیر دواعی الحکم المؤثّرة فیه بوجودها العلمی، طابق الواقع أم لا.

و أمّا الحقیقة فهی التی یکون الموضوع فیها العناوین الکلّیّة التی تنطبق علی مصادیقها،سواء کانت محقّقة أو مقدّرة،و لا مدخل لعلم الحاکم فی انطباق الکلّی علی المصادیق،بل ربما کان الحاکم غافلا عن بعضها.

الأمر الثانی:أنّ القضایا الواردة فی الشریعة لبیان الأحکام تکون من قبیل الثانیة،مثل وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً، أی کلّ من وجد فی الخارج و کان مستطیعا یجب علیه الحجّ،فلا فرق بین قولنا:

الاستطاعة شرط لوجوب الحجّ،و قولنا:المستطیع موضوع لوجوب الحجّ.

الأمر الثالث:أنّه إذا رجعت المسألة إلی القضیّة الحقیقیّة فلا بدّ من القول بامتناع الشرط المتأخّر فیها،سواء قلنا بأنّ المجعول و هی السببیّة-أی الشارع جعل الموضوع سببا لترتّب الحکم-أو المجعول هو الحکم عند وجود السبب، أمّا الأوّل فواضح؛لأنّه یرجع إلی تأخّر أجزاء العلّة الفعلیّة عن المعلول،و أمّا الثانی فللزوم الخلف و المناقضة من وجود الحکم قبل وجود موضوعه.هذا تمام کلامه ملخّصا.

و التحقیق:أنّ هذا البیان مورد للمناقشات المتعدّدة،أمّا مقایسته بین

ص:44

الأجزاء و الشرائط فی الأمر الأوّل الذی ذکره لتحریر محلّ النزاع فلا وجه له؛ لأنّ محلّ البحث فی شرطیّة الأغسال اللیلیّة لصحّة صوم المستحاضة هو الحکم باتّصافه بالصحّة فی ظرف وقوعه لا من حین الغسل؛إذ الشرط المتأخّر عبارة عن الکشف الحقیقی عن تحقّق المشروط فی ظرفه صحیحا،مع أنّه لم یقل أحد فی باب المرکّب من الأجزاء؛بأنّ تحقّق جزئه الأخیر یکشف عن تحقّق المرکّب قبله،بل المرکّب یتحقّق حین تحقّق جزئه الأخیر کما لا یخفی.

و أمّا إرجاع الشرطیّة إلی الإضافة فمع أنّه باطل فی نفسه-کما مرّ-مناقض لدلیله الأوّل،فإنّ لازم القول بدلیل الأوّل تحقّق المشروط بعد تحقّق الشرط، و لازم القول بهذا الدلیل تحقّق المضاف بدون تحقّق المضاف إلیه،و الالتزام بهما یستلزم التناقض.

و أمّا ما قال به فی الأمر الثانی و الرابع من خروج العلل الغائیّة و العقلیّة من حریم النزاع فهو صحیح لا إشکال فیه،و أمّا مقالته فی الأمر الثالث من خروج العناوین الانتزاعیّة کالتقدّم و التأخّر و أمثالهما عن محلّ النزاع،فإن کان مراده التقدّم الذاتی کما ینتزع العرف مفهوم التقدّم من ذات الیوم قبل حلول الغد-کما مرّ عن استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه-فهو صحیح،و لکنّه طریق لحلّ الإشکال لا أنّه دلیل الخروج عن محلّ النزاع،فاستفادته منه لیس بصحیح.

و إن کان مراده التقدّم الوصفی و العنوانی فقد مرّ أنّه من الامور المتضایفة، و لا یمکن تحقّق التقدّم الوصفی لشیء قبل تحقّق الشیء المتأخّر،فعلی کلا التقدیرین لا یخلو هذا الأمر عن إشکال.

و أمّا ما قال به فی أصل المطلب و ما دخله فی محلّ النزاع-أی شرائط الحکم التکلیفی و الوضعی مع قطع النظر عن إشکال دخالة العلم فی الفرق بین

ص:45

القضیّة الحقیقیّة و الخارجیّة-فهو تسلیم للإشکال لا الجواب عنه؛إذ المستشکل یقول:کیف یعقل دخالة الإجازة المتأخّرة علی الکشف الحقیقی فی الملکیّة السابقة؟فیجیب:نعم یمتنع الشرط المتأخّر،فتمام کلامه صدرا و ذیلا تسلیم للإشکال فی جمیع الموارد،مع أنّا کنّا فی مقام الجواب عنه،و أساس الجواب اعتباریّة المسألة کما مرّ.

و تعرّضنا فی صدر المسألة بأنّا نبحث فی تقسیمات المقدّمة فی مرحلتین:

الاولی:فی صحّة التقسیم و عدمها،و الثانیة:فی دخول الأقسام و خروجها عن محلّ النزاع فی باب مقدّمة الواجب،کما مرّ کلا البحثین فی التقسیمات السابقة، فعلی هذا نبحث فی التقسیم الأخیر-أی تقسیم المقدّمة إلی المقارنة و المتقدّمة و المتأخّرة-أیضا فی مرحلتین،و استشکل فی المرحلة الاولی من البحث فیه بقاعدة عقلیّة مذکورة بین العلّة و المعلول،و قلنا:إنّه لا مانع من کون المقدّمة متقدّمة أو متأخّرة أو مقارنة.

و لکن لتوسعة دائرة البحث و توهّم انخرام القاعدة العقلیّة فی موارد متعدّدة ذکر صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)تقسیما لحلّ الإشکال،و هو:تقسیم المقدّمة إلی مقدّمات التکلیف و مقدّمات الوضع و مقدّمات المأمور به،و لا یخفی أنّ حلّ الإشکال فیها لا یوجب دخول الجمیع فی محلّ النزاع فی باب مقدّمة الواجب، فإنّ مقدّمة التکلیف هی مقدّمة الوجوب و مرّ خروجها عن محلّ النزاع، و هکذا مقدّمة الوضع کالإجازة فی البیع الفضولی للملکیّة؛لأنّها لیست بمقدّمة للواجب.

فما هو داخل فی حریم النزاع منها عبارة عن مقدّمة المأمور به بتمام أنواعها،

ص:46


1- 1) کفایة الاصول 1:147.

سواء کانت مقارنة أم متأخّرة أم متقدّمة،و القائل بالملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و المقدّمة یقول بوجوب تحصیل کلّ واحد منها فی ظرفه،و منکر الملازمة منکر لوجوب الجمیع فی ظرفه.

و قد مرّ عن المحقّق النائینی قدّس سرّه أنّ شرائط الحکم و الوضع بلحاظ رجوعها إلی موضوع الحکم داخلة فی محلّ النزاع لإشکال الشرطیّة المتأخّرة،و شرائط المأمور به خارجة عنها،و تنعکس المسألة هاهنا،أی فی محلّ نزاع مقدّمة الواجب،فما هو الداخل فیها خارج هاهنا،و ما هو الخارج عنها داخل هاهنا.

و قد تقدّم أن ذکرنا فی النزاع الأوّل أنّ شرائط التکلیف و الوضع و المأمور بأجمعها داخلة فیها،و أمّا فی النزاع الثانی فلا تدخل إلاّ شرائط المأمور به.

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الثانیة من بحث مقدّمة الواجب.

ص:47

ص:48

الأمر الثانی: فی تقسیمات الواجب

الأوّل:المطلق و المشروط
اشارة

و معلوم أنّه لیس لکلمة المطلق و المشروط وحدها اصطلاح خاصّ عند الفقهاء و الاصولیّین و هکذا لکلمة الواجب،و لکن کان لهذا الموصوف مع إحدی الصفتین المذکورتین اصطلاح خاصّ عندهم،و لذا ذکروا تعاریف متعدّدة و متکثّرة لهما.و لا بدّ لنا قبل الورود فیها من الإشارة إلی نکتة،و هی:

أنّ التقابل بین المطلق و المشروط هل یکون تقابل التضادّ أو التضایف؟و بعد الفراغ من عدم تقابل التناقض و الإیجاب و السلب،فإنّهما أمران وجودیّان.

و الظاهر أنّه لیس بنحو التضادّ أیضا،فإنّ اجتماع المتضادّین فی معروض ممتنع مطلقا،و لازم ذلک ألاّ یکون الواجب المطلق أصلا فی العالم؛لأنّ کلّ تکلیف مشروط بالشرائط الأربعة العامّة-أی البلوغ و العقل و القدرة و العلم- مع أنّه لیس کذلک،هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّا نری اتّصاف کثیر من الواجبات فی زمن واحد بالإطلاق و الاشتراط معا کالصلاة-مثلا-فإنّها واجب مشروط بالنسبة إلی الوقت

ص:49

و واجب مطلق بالنسبة إلی الطهارة،فلا مانع من اجتماعهما فی واجب واحد، و هذا من خصوصیّات التضایف؛إذ الابوّة و البنوّة فی شخص واجد قابل للاجتماع بلحاظ تعدّد النسب و الإضافات،فتعیّن أنّ تقابلهما یکون بنحو التضایف.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):و قد ذکر لکلّ من المطلق و المشروط تعریفات و حدود تختلف بحسب ما اخذ فیها من القیود.

و ربما اطیل الکلام بالنقض و الإبرام فی النقض علی الطرد و العکس،مع أنّها کما لا یخفی تعریفات لفظیّة لشرح الاسم و لیست بالحدّ و لا بالرسم،و لکن لم یتعرّضها صاحب الکفایة قدّس سرّه،و نحن نذکر بعضها:

منها:ما عن المشهور أنّ الواجب المطلق:ما لا یتوقّف وجوبه علی ما یتوقّف علیه وجوده،و المشروط:ما یتوقّف وجوبه علی ما یتوقّف علیه وجوده،و الظاهر منه أنّهما متضادّان و لا یجتمعان معا فی شیء واحد، و لا یقعان وصفا لموصوف واحد،فلذا یشکل علیه بواجبات،مثل الصلاة و الحجّ و أمثال ذلک،فإنّ الصلاة بالنسبة إلی الطهارة یتوقّف علیها وجودها و لا یتوقّف علیها وجوبها،و أمّا بالنسبة إلی الوقت فیتوقّف علیه وجوبها کما یتوقّف علیه وجودها،فیصدق علیها تعریف المطلق و المشروط معا.

و منها:ما عن صاحب الفصول (2)من أنّ الواجب المطلق ما لا یتوقّف وجوبه علی أمر زائد علی الشرائط العامّة المعتبرة فی التکلیف من البلوغ و العقل و القدرة و العلم،و الواجب المشروط ما یتوقّف وجوبه بعد الشرائط

ص:50


1- 1) کفایة الاصول 1:151.
2- 2) الفصول الغرویة:79.

العامّة علی شیء آخر.

و الظاهر من هذا التعریف أیضا تحقّق التضادّ بینهما مع أنّهما عنوانان متضایفان،مع أنّه لا یکون واجب لم یتوقّف علی أمر زائد من الشرائط العامّة،فإنّ الصلاة-مثلا-تتوقّف علی الوقت،و الصوم علی زمان خاصّ، و الحجّ علی الاستطاعة و الموسم،و الزکاة علی النصاب،و هکذا.

و التحقیق:

أنّ هذه التعاریف تعریفات لفظیّة لشرح الاسم،و لا بدّ لنا من ملاحظة کلّ واجب بالنسبة إلی واحد من الشرائط،و کثیر من الواجبات بل جمیعها تتّصف بالإطلاق و الاشتراط معا،و لعلّه لا یوجد واجب مطلق محض أو مشروط محض،هذا بالنسبة إلی التعریفات.

و البحث المهمّ هاهنا عبارة عن اختلاف الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)مع المشهور فی الخطاب التعلیقی المشتمل علی الشرط و الجزاء،و کانت لجزائه مادّة و هیئة کقولنا:«إن جاءک زید فأکرمه».و المشهور قائل بأنّ الشرط من قیود الهیئة، و أنّ طلب الإکرام و إیجابه معلّق علی المجیء بحیث لا وجوب حقیقة قبل حصول الشرط.

و لکنّ الشیخ قدّس سرّه (2)قائل بأنّ الشرط من قیود المادّة لا الهیئة،و أنّ الواجب فیه یکون مقیّدا به کتقیّده بکونه مضافا إلی«زید»بحیث یکون الطلب و الإیجاب فی الخطاب فعلیّا و مطلقا،و إنّما الواجب-أی الإکرام-یکون خاصّا و مقیّدا علی تقدیر المجیء.

و الظاهر أنّ هذا الاختلاف یکون فی مقام الإثبات و إفادة اللفظ و دلالته،

ص:51


1- 1) مطارح الأنظار:48-49.
2- 2) المصدر السابق.

و أمّا بلحاظ ارتباط بعض أدلّة الشیخ قدّس سرّه بمقام الثبوت فلا بدّ من تحقیق المسألة فی هذا المقام أیضا،فإن کانت نتیجة البحث فیه ارتباط جمیع القیود بالمادّة فلا محالة یکون فی مقام الإثبات أیضا کذلک،و إن کانت نتیجة البحث فیه ارتباط جمیع القیود بالهیئة فیکون فی مقام الإثبات أیضا کذلک،و إن کان ظاهر اللفظ فی مقام الإثبات مخالفا لمقام الثبوت فلا بدّ من التصرّف فی الظاهر،و إن کانت نتیجة البحث فیه اختلاف القیود من حیث الارتباط بالهیئة و المادّة فحینئذ یجری النزاع فی مقام الإثبات.

و تحقیق البحث فی مقام الثبوت یحتاج إلی مقدّمة،و هی:أنّ الأمر الصادر عن المولی تسبیب منه لتحقّق المأمور به من طریق العبد،فالأمر یقوم مقام الإرادة،و المأمور به مقام مراد الفاعل المباشری،و لا فرق بینهما إلاّ فی المباشرة و التسبیب،و لا شکّ فی أنّ الإرادة الفاعلیّة تختلف بحسب الموارد، فإنّها قد تتعلّق بالمراد المطلق بحیث لا یکون قیدا فی البین أصلا،لا من جهة الإرادة و لا من جهة المراد،کإرادة المشرف علی الموت من شدّة الجوع و العطش بالنسبة إلی شرب الماء و أکل الطعام بأیّة کیفیّة و خصوصیّة حصل، و المراد عبارة من حفظ النفس،و هو یتوقّف علی أکل الطعام و شرب الماء.

و قد تتعلّق إرادة الإنسان بشرب الماء مقیّدا بکونه باردا أو واقعا فی ظرف کذا،و هل ترتبط القیود هاهنا بالإرادة أو بالمراد؟و لا شکّ فی أنّ التصوّر و التصدیق بالفائدة تکونان من مبادئ الإرادة و أنّهما یرتبطان بالمراد لا بالإرادة،فالقیود فی هذه المرحلة ترجع إلی المراد،و هکذا فی مرحلة تعلّق الإرادة و الشوق المؤکّد نحو المراد،أی المراد مع القیود و الخصوصیّات.

و قد تتعلّق الإرادة بمراد مطلق،و لکنّ القید یرتبط بالإرادة،کما لو فرض

ص:52

تعلّقها بإکرام العدو بعد وروده علی الإنسان و صیرورته ضیفا له،فلا تکون له إرادة مطلقة فی إکرام العدو حتّی تحرّکه إلی تحصیل عنوان الضیافة،بل ربما یکون مجیئه مبغوضا له،و لکن علی فرض مجیئه تتعلّق به الإرادة،فتکون إرادته بحسب اللبّ و مقام الثبوت مقیّدة بتحقّق الضیافة،و تکون هی دخیلة فی تحقّق الإرادة و تعلّقها بالإکرام،و نظیره قول المریض المحتضر للطبیب:«إن کنت قادرا نجّنی من الموت»،فإنّ مراده-أی الشفاء و العلاج-مطلق،و لکن علمه بعدم قدرة کلّ طبیب علی المعالجة یقتضی أن تکون إرادته مقیّدة.

فتحقّق إلی هنا:أنّ القیود بحسب اللبّ علی نوعین:یرجع بعضها إلی الهیئة و بعضها إلی المادّة،و ملاکهما عبارة عن أنّ القیود التی ترتبط بالإرادة بحسب مقام الثبوت،فهی ترجع إلی الهیئة و الحکم فی مقام الإثبات،و القیود التی ترتبط بالمراد فی هذا المقام فهی ترجع إلی المادّة و المأمور به فی ذاک المقام.

و لکن یظهر من کلام المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)قاعدة اخری فی الفرق بین نحوی القیدین،و نذکره لتأیید ما ذکرناه من تنوّع القیود و إن کانت ضابطته قابلة للمناقشة کما سیأتی إن شاء اللّه،و هو:أنّ القیود فی دخلها فی المصلحة علی ضربین:إن کانت ممّا یتوقّف علیه اتّصاف المأمور به بکونه ذات مصلحة فی الخارج-کالوقت و الاستطاعة بالنسبة إلی الصلاة و الحجّ-فهو من شرائط التکلیف و الوجوب،و إن کانت ممّا یتوقّف علیه فعلیّة المصلحة و حصولها فی الخارج بمعنی أنّها لا تکاد تحصل إلاّ إذا اقترن الفعل بتلک القیود و الشرائط -کالطهارة و الستر و الاستقبال بالنسبة إلی الصلاة-فهو من شرائط الواجب و المکلّف به.

ص:53


1- 1) نهایة الأفکار 1:292-295.

و نظیره قول الطبیب للمریض:إذا مرضت بمرض کذا-کقطع الأخلاط مثلا-فاشرب المسهل،و لکن قبل شربه اشرب المنضج(جوشانده)،فالمرض أوجب تحقّق المصلحة فی شرب المسهل؛بحیث لو لا المرض لا مصلحة فیه، بل ربما کان فیه کمال المفسدة.

و أمّا فعلیّة المصلحة المذکورة فی الخارج فتتوقّف علی شرب المنضج، و التعلیق یتحقّق فی شرائط التکلیف،و لذا نقول:«إذا مرضت بمرض کذا فاشرب المسهل»،و یعبّر فی الروایات:«إذا طلعت الشمس فیجب علیک الصلاة»،و«إذا استطعت فیجب علیک الحجّ»،و لا یعبّر:«إذا طهّرت ثوبک فیجب علیک الصلاة»،و هکذا.هذا ملخّص کلامه قدّس سرّه.

و أشکل علیه الإمام قدّس سرّه (1)أوّلا:أنّ قید الهیئة و شرط الوجوب لا یلزم تحصیله و إن کان باختیار المکلّف-کالاستطاعة بالنسبة إلی الحجّ-بخلاف قید المادّة و شرط الواجب،فإنّه یلزم تحصیله عقلا و إن لم نقل به شرعا،فنسأل بأنّه هل یمکن ما هو الدخیل فی إیجاد المصلحة للمأمور به أن یکون قیدا للمأمور به و یلزم تحصیله-مثل أن یقول المولی:حجّ مع الاستطاعة-أو یمتنع؟و من البدیهی أنّه لا شکّ فی إمکانه،و مع إمکانه تنتفی الضابطة.

و جوابه دفاعا عن المحقّق العراقی قدّس سرّه أنّ ما یوجب تحقّق المصلحة الملزمة فی الحجّ عبارة عن الاستطاعة الحاصلة بنفسها لا نفس الاستطاعة بدون خصوصیّة،و معلوم أنّ الاستطاعة الموصوفة بهذا الوصف لا یلزم تحصیلها، فإن کان مراده إیجاد المصلحة بنفس الاستطاعة یرد علیه الإشکال بأنّها یمکن أن تکون قیدا للواجب و یلزم تحصیلها.

ص:54


1- 1) تهذیب الاصول 1:222.

و ثانیا:أنّا نری فی موارد رجوع القید إلی الهیئة و أنّه شرط للوجوب،مع أنّه لا یوجب تحقّق المصلحة فی المأمور به،بل هو فی نفسه ذات مصلحة مطلقا،مثل قول المولی للعبد فی حال غرق ابنه:«إن کنت قادرا علی إنقاذ ابنی فانقذه»،و معلوم أنّ قدرته شرط للوجوب و یرجع القید إلی الهیئة،و لکن لا دخل له فی إیجاد المصلحة فی إنقاذ ابن المولی.و هذا الإشکال وارد علیه.

و لکن یمکن مناقشته أیضا بأنّه فرق بین الإنقاذ المطلق و الإنقاذ المنسوب إلی العبد،و المأمور به عبارة عن الإنقاذ المضاف إلی العبد لا الإنقاذ بمعنی الاسم المصدری،و القدرة دخیلة فی إیجاد المصلحة فی الإنقاذ المنسوب إلی العبد بلا شکّ و لا ریب.

و ثالثا:أنّ القول بأنّ الصلاة الفاقدة للطهارة و الستر تتحقّق فیها الآثار کالمعراجیّة و أمثال ذلک و لکن فعلیّتها تحتاج إلیها،بعید عن أذهان المتشرّعة و ینافی مرتکزاتهم،فلا مصلحة للصلاة الفاقدة للشرائط لا فی الخارج و لا فی مرحلة الإنشاء.فالضابطة عبارة عمّا ذکرناه من أنّه ما کان دخیلا فی الإرادة فهو قید الهیئة،و ما کان دخیلا فی المراد فهو قید المادّة.

و بالنتیجة:یتحقّق إلی هنا تنوّع القیود فی مقام الثبوت،و أمّا فی مقام الإثبات فبعد اتّفاق الشیخ و المشهور فی أنّ الشرط فی القضایا الشرطیّة شرط لمجموع الجزاء،سواء کان الجزاء جملة إنشائیّة أم خبریّة،کقولنا:«إن جاءک زید فأکرمه»،و ظاهر القضیّة شرطیّة الشرط لمجموع الجزاء من الهیئة و المادّة و المفعول،و لکنّ الشیخ یدّعی تحقّق قرینة عقلیّة و هو یوجب التصرّف فی ظهور القضیّة و أنکرها المشهور.

و ما استدلّ به الشیخ قدّس سرّه أو یمکن أن یستدلّ به علی امتناع رجوع القید إلی

ص:55

الهیئة وجوه:

الأوّل:أنّ مفاد هیئة«أکرم»فی المثال عبارة عن البعث و التحریک الاعتباری،و هو بلحاظ کونه من المعانی الحرفیّة و اندکاکه فی متعلّقه من حیث احتیاجه إلی الباعث و المبعوث و المبعوث إلیه و عدم استقلاله بالمفهومیّة، فلا یکون قابلا للتوجّه و اللحاظ الاستقلالی،و إن لاحظناه استقلالا یخرج من حقیقة المعنی الحرفی کخروج الابتداء و الظرفیّة باللحاظ الاستقلالی منها،مع أنّ التقیید یحتاج إلی لحاظ المقیّد استقلالا،و هو منتف فی المعانی الحرفیّة،و لذا لا یعقل رجوع القید إلی الهیئة.

و جوابه:سلّمنا أنّ المعانی الحرفیّة غیر مستقلّة بالمفهومیّة،و قد مرّ ذکرنا أنّ وجودها فی مراتب الوجود أضعف من وجود العرض؛لاحتیاجها إلی الشیئین و احتیاج العرض إلی المعروض فقط،و لکن توقّف التقیید علی اللحاظ الاستقلالی أو عدمه یحتاج إلی التحقیق،و هو یتوقّف علی مقدّمة، و هی:أنّ القیود فی القضایا و الجمل هل ترتبط بعالم اللفظ و تشکیل الجمل أم حاکیة عن الأمر المتحقّق الواقع فی الخارج؟لا شکّ فی أنّ قید یوم الجمعة فی قولنا:«ضرب زید عمرا یوم الجمعة»حاکیة عن وقوع الضرب فی هذا الزمان،کما أنّ مادّة الضرب حاکیة عن واقعیّة و هیئته عن تحقّقه فی ما مضی، فکذا حکایة زید و عمرو عن الواقعیّتین الخارجیّتین،فتکون الجملة الخبریّة مرآتا لما یقع فی الخارج.

و إذا لاحظنا الواقعیّة الخارجیّة بعد الدقّة و التحقیق فنری أنّ یوم الجمعة قید للمعنی الحرفی،و هو عبارة عن وقوع الضرب من زید علی عمرو،و هو یتوقّف علی ثلاثة امور:و هی الضرب و الضارب و المضروب،مع أنّ المتکلّم

ص:56

فی عالم اللفظ لم یقیّده أصلا؛إذ الجملة خبریّة حاکیة عن الواقعیّة الخارجیّة، فیرتبط التقیید فی الواقعیّة بالمعنی الحرفی،و هکذا فی الجمل الاسمیّة مثل:«زید قائم یوم الجمعة»؛إذ القید یرتبط بهو هویّة متحقّقة بین«زید»و«قائم»،و هو معنی حرفی،فتقتضی الدقّة فی هذه الجمل أنّ التقیید لا یرتبط بعالم اللفظ،بل یرتبط بالواقعیّة التی تکون الألفاظ حاکیة عنها.هذا فی الجمل الخبریّة.

و أمّا الجمل الإنشائیّة فإنّ الأمر و إن لم یکن بهذا الوضوح و لکنّها عند التحقیق أیضا تکون کذلک.

توضیح ذلک:ذکرنا فی بحث الإخبار و الإنشاء أنّ حقیقة الإنشاء یحتمل أن تکون عبارة عن إبراز ما فی النفس و إظهار أمر نفسانی بالألفاظ،مثل:إبراز البیع أو النکاح الواقع فی النفس بلفظ«بعت»و«أنکحت»و أمثال ذلک،کما اختاره بعض الأعلام،و علی هذا المعنی تکون کالجملات الخبریّة فی الإبراز و الإظهار و الحکایة عن الواقع،فلا فرق بینهما فی رجوع القیود إلی الهیئة، و لکنّه مخدوش عندنا کما مرّ.

و یحتمل أن تکون عبارة عن إیجاد أمر اعتباری باللفظ،و لا یتحقّق مفهوم البیع و النکاح و الوجوب بدون لفظ«بعت»و«أنکحت»و«أکرم»مع قصد إیجادها بها،فالأساس فی باب الإنشاء هو اللفظ،إلاّ أنّه لا شکّ فی أنّ المولی یلاحظ قبل الإنشاء أنّ إکرام زید مطلقا لا مصلحة فیه،بل المصلحة تتحقّق بعد مجیئه،و لذا یتصوّره مقیّدا،و القید یرجع فی عالم الثبوت إلی الإرادة،و بعد التصدیق بفائدة هذه الواقعیّة أنشأها بجملة:«إن جاءک زید فأکرمه»،فلا یتعلّق اللحاظ الاستقلالی فی هذه المراحل بالهیئة حتّی نقول:إنّه لا یناسب المعنی الحرفی،و علی هذا و إن کان تمام الملاک فی باب الإنشاء عبارة عن

ص:57

الألفاظ و لکنّها لیست علّة تامّة للإیجاد و الإنشاء،و إلاّ فلا فرق فی مقام البیع بین إنشاء المالک و غیر المالک،بل المنشئ و الموجد یوجد بالألفاظ ما یتحقّق فی نفسه.

الوجه الثانی:أنّ معنی الهیئة جزئی،و کلّ جزئی لا یکون قابلا للتقیید، فالهیئة غیر قابلة للتقیید.

توضیح ذلک:أنّ مذهب الشیخ قدّس سرّه فی باب الحروف و ما یشابهها تبعا للمشهور هو کون الوضع فیها عامّا و الموضوع له خاصّا،و المستعمل فیه أیضا بتبعه خاصّ،فالهیئة وضعت لخصوصیّات أفراد الطلب أو البعث و التحریک الاعتباری،و الموضوع له و المستعمل فیه فرد خاصّ منه،هذا صغری کلامه،و أمّا کبری کلامه فلأنّ التقیید یوجب محدودیّة دائرة الإطلاق، و ما کان جزئیّا بحسب الذات کیف یعقل تقییده،و إذا ضمّت الصغری إلی تلک الکبری ینتج أنّ الهیئة غیر قابلة للتقیید،و هذه قرینة عقلیّة؛لعدم إرجاع القید إلی الهیئة و التصرّف فی الظهور.

و أجاب عنه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):أوّلا بمنع الصغری،و أنّ الوضع و الموضوع له و المستعمل فیه فی باب الحروف و ما یشابهها عام،و الخصوصیّة من قبل الاستعمال،و لکنّ هذا الجواب مبنائی،و لا یکون منع الصغری جوابا عن المشهور بعد اتّفاقهم مع الشیخ قدّس سرّه فی الصغری.

و ثانیا بأنّ للتقیید معنیین،فتارة یکون التقیید قبل الإنشاء کما إذا أنشأ الوجوب علی الإکرام المقیّد بالمجیء،و اخری یکون بعد الإنشاء کما إذا أنشأ وجوب الإکرام أوّلا ثمّ قیّده بالمجیء،و التقیید الممتنع هو الثانی لا الأوّل،فبعد

ص:58


1- 1) کفایة الاصول 1:13-15.

تسلیم أن یکون مفاد الهیئة جزئیّا لا یمتنع تقیید الجزئی مطلقا،و ما هو الممتنع کان خارجا عن محلّ النزاع،و ما هو داخل فیه لا یمتنع.

و الأساس فی الجواب منع الکبری بأنّ للجزئی إطلاقا بالنسبة إلی حالاته فی عین جزئیّته؛إذ لا شکّ فی جزئیّة زید-مثلا-فی عین إطلاقه بالنسبة إلی حال قیامه و قعوده و صحّته و مرضه و أمثال ذلک،و الإطلاق لا یکون وصفا للکلّی فقط،بل الجزئی أیضا یکون من مصادیق الإطلاق،فمفاد الهیئة و إن کان عبارة عن البعث و التحریک الاعتباری الجزئی و لکنّه مطلق من حیث الحالات؛إذ هو قد یکون ثابتا فی جمیع الحالات،و قد یکون ثابتا فی حالة خاصّة،و هذا الإطلاق فی المثال کان مقیّدا بقید المجیء بتوسّط قرینة متّصلة، فالجزئی أیضا یکون قابلا للتقیید،و یؤیّده أنّ المادّة علی فرض رجوع القید إلیها تکون جزئیّة؛إذ لا شکّ فی جزئیّة إکرام المضاف إلی زید،فعلی کلا التقدیرین یکون المقیّد عبارة عن الجزئی،و لا دلیل لرفع الید عن ظاهر الجملة الشرطیّة و تقیید الهیئة.

الوجه الثالث:أنّ هیئة«أکرم»فی نفسها تدلّ علی البعث المطلق،مثل:

أَقِیمُوا الصَّلاةَ و أمثال ذلک،و إن قیّدناها بقید یقع التناقض بین صدر الجملة و ذیلها سیّما فی صورة کون التقیید بعد الهیئة کقولنا:«أکرم زیدا إن جاءک».

و بطلان هذا الکلام أظهر من الشمس،فإنّه أوّلا:لو فرض صحّته یجری فیما کان التقیید بعد الهیئة،و لا مجال له فی مثل«إن جاءک زید فأکرمه».

و ثانیا:أنّ الإطلاق المذکور إن کان إطلاق القسمی-و معنی الهیئة کان عبارة عن البعث المقیّد بالإطلاق-فهو لا یکون قابلا للجمع مع التقیید،

ص:59

و لکن لا شکّ فی کون إطلاق الهیئة إطلاقا مقسمیّا،مثل:إطلاق الرقبة،و هو لا ینافی التقیید،و مفادها لا یکون مقیّدا بالإطلاق،و إلاّ یستلزم أن یکون المطلق و المقیّد من المتعارضین،مع أنّهما خارجان عن دائرة التعارض، و یتحقّق بینهما الجمع الدلالی،و تحقیق المسألة یأتی فی باب التعادل و التراجح، فیکون ادّعاء التناقض بین الصدر و الذیل حتّی فی صورة کون التقیید بعد الهیئة بلا دلیل،فلا دلیل لنا لرفع الید عن ظاهر الجملة الشرطیّة،أی رجوع القید إلی الهیئة و تعلیق الحکم علی تحقّق الشرط.

و علی مبنی الشیخ قدّس سرّه یکون الواجب المشروط عبارة عن الواجب المعلّق الذی سیأتی بیانه مفصّلا،و إجماله:أن یکون الوجوب فعلیّا و الواجب معلّقا علی الشرط کالحجّ بالنسبة إلی الموسم،فإنّ وجوبه یتحقّق بمجرّد تحقّق الاستطاعة،و لکن الحجّ الواجب معلّق علی الموسم،و هذا البیان یجری عنده فی جمیع الواجبات المشروطة.

و أمّا علی مبنی المشهور و رجوع القید إلی الهیئة فلا یتحقّق الوجوب قبل تحقّق الشرط.

و هل یصحّ علی هذا المبنی ادّعاء فعلیّة الوجوب و تحقّق التکلیف قبل تحقّق المجیء-مثلا-أم لا؟و یدّعی المحقّق العراقی فعلیّة الحکم قبل تحقّقه مع قوله بمبنی المشهور،و طریق هذا المقال منحصر بالتفکیک بین حکم المولی و مفاد الهیئة.

توضیح ذلک:أنّه لا شکّ فی أنّ مفاد هیئة«افعل»هو البعث و التحریک الاعتباری،و أمّا ما یعبّر عنه فی لسان الشرع بالتکلیف و الوجوب ففیه ثلاثة احتمالات:

ص:60

الأوّل:أن یکون الوجوب عبارة عن نفس البعث و التحریک الاعتباری أو الوجوب ینتزع عنه،و هو یکون منشأ لانتزاع حکم المولی.

الثانی:أن یکون الحکم عبارة عن الإرادة المتحقّقة فی نفس المولی و متعلّقة بهذا البعث و التحریک الاعتباری،و یعبّر عنها بالإرادة التشریعیّة؛إذ البعث و التحریک فعل اختیاری للمولی،و کلّ فعل اختیاری مسبوق بالإرادة،فنفس الإرادة المطلقة الکائنة فی نفس المولی هو الحکم و التکلیف.

الثالث:أن یکون الحکم عبارة عن الإرادة المذکورة،و لکنّها تکون مقیّدة بقید الإظهار و الإبراز،لا مطلقا کما قال به المحقّق العراقی قدّس سرّه.

و تظهر نتیجة الاحتمالات فی ما نحن فیه بأنّه علی القول بالاحتمال الأوّل یصحّ التعبیر علی المبنی المشهور فی الواجب المشروط؛بأنّه کما لا یتحقّق البعث و التحریک الاعتباری قبل تحقّق الشرط کذلک لا یتحقّق الحکم و التکلیف قبله.

و أمّا علی القول بالاحتمال الثانی و الثالث فلا بدّ من القول بأنّ البعث و التحریک لا یتحقّق قبل تحقّق الشرط،فإنّه یکون من قیود الهیئة لا المادّة، و مفادها عبارة عن البعث و التحریک الاعتباری،فلا یتحقّق المقیّد قبل تحقّق قیده،و لکنّ الحکم و التکلیف یتحقّق قبله،فإنّه عبارة عن الإرادة المتعلّقة بالبعث و التحریک،و إن کان المراد معلّقا و مقیّدا بقید المجیء-مثلا-إلاّ أنّه لا یرتبط بالإرادة،و الشاهد علی تحقّقه صدور الأمر فی ضمن الجملة الشرطیّة عن المولی،و لذا قال المحقّق العراقی قدّس سرّه بعد تسلیم نظر المشهور فی الواجب المشروط بثبوت الحکم قبل تحقّق القید،و تترتّب علی هذه المسألة ثمرات متعدّدة.

ص:61

و لکن قبل البحث فی تلک الثمرات لا بدّ من التحقیق فی حقیقة الحکم،و أنّه فی الواقع عبارة عن الإرادة المذکورة أو عبارة عن نفس البعث و التحریک الاعتباری؟و تدلّ عدّة مؤیّدات علی أنّه لا یکون سوی البعث و التحریک الاعتباری شیئا نسمّیه الحکم و التکلیف،مع أنّ تحقّق الإرادة فی نفس المولی لا یکون قابلا للإنکار:

الأوّل:عبارة عن ارتکاز العقلاء،فإنّهم بعد السؤال عن الوجوب فی قول المولی:«إن جاءک زید فأکرمه»یقولون:إنّه عبارة عن مفاد هیئة«أکرم»، و لیس ملاک الحکم فی ارتکازهم غیره.

المؤیّد الثانی:أنّه لا فرق بین الإیجاد و الوجود بحسب الواقع و الماهیّة عند الفلاسفة،إلاّ بإضافة الإیجاد إلی الفاعل بخلاف الوجود،و هذه النسبة تتحقّق بین الإیجاب و الوجوب أیضا،و لا فرق بینهما إلاّ بالاعتبار،و لا شکّ فی أنّ الإیجاب یتحقّق بهیئة«افعل»،و بقول المولی:«إن جاءک زید فأکرمه»،لا بالإرادة الحاصلة فی نفسه،فالوجوب أیضا یتحقّق بهیئة«افعل»،و لازم ذلک أن یکون الوجوب عبارة عن مفاد هیئة«افعل»،و إلاّ یلزم أن یتحقّق بین الوجوب و الإیجاب فرقا ماهویّا.

المؤیّد الثالث:أنّ الحکم علی قسمین:تکلیفی و وضعی،و لو کان الحکم عبارة عن الإرادة التشریعیّة فهل یمکن الالتزام بهذا المعنی فی الأحکام الوضعیّة؟فإنّ الملکیّة لیست بحکم للشارع،بل الحکم عبارة عن الإرادة التشریعیّة المتعلّقة بثبوت الملکیّة عقیب البیع الصحیح و إن لم یکن هذا المعنی ممتنعا و لکنّه مخالف لارتکاز أهل الشرع،و لا وجه للتفکیک بین الأحکام الوضعیّة و التکلیفیّة من هذه الجهة،و لعلّ هذا الکلام کان مستهجنا عند

ص:62

المتشرّعة.

و علی هذا المبنی لا تکلیف و لا حکم و لا بعث و لا تحریک قبل تحقّق الشرط،بخلاف مبنی الشیخ و العراقی قدّس سرّه،و إذا کان الأمر کذلک یرد علی المشهور إشکال،و هو أنّ المأمور به إن کان متوقّفا علی مقدّمة لو لم نحصّلها قبل تحقّق الشرط لا یمکن تحصیلها بعده،فعدم تحصیلها قبل تحقّق الشرط یوجب تفویت المأمور به،کقول المولی لعبده:«إن جاءک زید فأکرمه»،و علم العبد بأنّ مجیئه یتحقّق فی یوم الجمعة،و فی صورة عدم شراء الطعام فی یوم الخمیس لا یمکن تحصیله یوم الجمعة لتعطیل السوق و انسداده،و فی الشرعیّات مثل علم العبد بعدم إمکان تحصیل الطهارة بعد الوقت إن لم یحصّلها قبله،و ما وظیفة العبد فی أمثال هذه الموارد؟فهل یجب علیه تحصیل المقدّمة قبل تحقّق الشرط أم لا؟و معلوم أنّه لا یصحّ القول بالوجوب؛إذ لا معنی لاتّصاف المقدّمة به قبل اتّصاف ذی المقدّمة به و إن قلنا بعدم الوجوب، و المفروض أنّه لا یمکن له أن یصلّی بعد الغروب-مثلا-و یعبّر عن هذه المقدّمات بالمقدّمات المفوّتة.

و جوابه یتوقّف علی مقدّمة،و هی:أنّه کما ذکرنا سابقا عند التطرّق إلی ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه-بأنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة تترشّح من الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة،أو أنّ الوجوب یسری من ذی المقدّمة إلی المقدّمة-أنّه لیس المراد من الترشّح أنّ إرادة المقدّمة لا تحتاج إلی المبادئ من التصوّر و التصدیق بفائدة و أمثال ذلک،بل لا بدّ فیها من تحقّق جمیع المبادئ کالإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة،و المقصود من الترشّح أنّ الغرض المتعلّق بذی المقدّمة غرض أصلی،و الغرض المتعلّق بالمقدّمة غرض تبعی،فإنّها تجب لتحصیل

ص:63

إمکان الوصول إلی الغرض الأصلی.

و هکذا فی کلمة«السریان»فإنّه لیس المراد أنّه یسری الوجوب من ذی المقدّمة إلی المقدّمة بحیث لا یحتاج وجوبها إلی الإرادة و مبادئها،فإنّ کلیهما یحتاج إلی الإرادة التشریعیّة،و القائل بالملازمة یقول:إنّا نستکشف من إیجاب المولی لذی المقدّمة عن اختیار و إرادة إیجابه المقدّمة أیضا عن اختیار و إرادة، و منکر الملازمة ینکره.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ ملاک وجوب المقدّمة عبارة عن أنّ المأمور به لا یمکن تحقّقه فی الخارج بدونها،و حینئذ إذا رجعنا إلی العقل فهو یحکم بوجوب المقدّمة قبل تحقّق المجیء فی المثال،فإنّ الإهمال فی المقدّمة یوجب تفویت المأمور به و یکشف العقل أنّ المولی أیضا أوجب المقدّمة قبله؛لتحقّق هذا الملاک.هذا علی القول بالملازمة،و أمّا علی القول بإنکار الملازمة فتکفی اللابدّیّة العقلیّة المتحقّقة فی المقام،فالإشکال مدفوع،و الحقّ مع المشهور.

الثانی:المعلّق و المنجّز
اشارة

اخترعه صاحب الفصول (1)بقوله:إنّ الوجوب إذا تعلّق بالمکلّف به و لم یتوقّف علی أمر غیر مقدور-کالمعرفة-فیسمّی منجّزا،و ما تعلّق و توقّف حصوله فی الخارج علی أمر غیر مقدور-کالوقت فی الحجّ-فیسمّی معلّقا، فإنّ وجوبه یتعلّق بالمکلّف من أوّل زمن الاستطاعة،و یتوقّف فعله علی مجیء وقته،و هو غیر مقدور له.

و یحتمل أن یکون المراد من المعرفة فی کلامه معرفة أحکام اللّه تعالی

ص:64


1- 1) الفصول الغرویة:79-80.

و التکالیف،و یحتمل أن یکون المراد منه معرفة اللّه تعالی و معرفة النبیّ صلّی اللّه علیه و آله و معرفة الأئمّة علیهم السّلام،و الأقوی هو الأخیر.و علی کلا الاحتمالین لا تتوقّف المعرفة علی أمر غیر مقدور،فالواجب المعلّق و المنجّز مشترکان فی خصوصیّة واحدة،و هی فعلیّة التکلیف فیهما،و یفترقان فی توقّف أحدهما علی أمر غیر مقدور،و عدم توقّف الآخر علیه.

و قال فی آخر کلامه:إنّ قلت:ما الفرق بین الواجب المعلّق و الواجب المشروط؟قلت:إنّ التعلیق فی الواجب المشروط یرتبط بأصل التکلیف و الوجوب،و فی الواجب المعلّق یرتبط بالواجب.هذا تمام کلامه بتصرّف منّا.

و لا بدّ لنا قبل البحث عن إمکان الواجب المعلّق و استحالته من بیان نکتة، و هی:أنّ بحثنا یکون فی مقدّمة الواجب،و من مقدّمات هذا البحث مسألة تقسیم الواجب إلی أقسام کما ذکرنا،و لا بدّ لکلّ تقسیم من أثر و نتیجة فی بحث مقدّمة الواجب،و إلاّ لکثرت تقسیماته لکثرة الخصوصیّات،مثل:أنّ الواجب إمّا بدنی و إمّا مالی،و إمّا مختلط من الأمرین،و أنّ الواجب إمّا جوانحی -کاصول العقائد-و إمّا جوارحی کالصلاة،إلی غیر ذلک.

و أثر تقسیم الواجب إلی المطلق و المشروط أنّ الواجب إن کان مطلقا فتجب مقدّمته بناء علی القول بالملازمة بلحاظ فعلیّة وجوب ذی المقدّمة، و إن کان مشروطا فلا تجب المقدّمة قبل تحقّق الشرط؛إذ لا وجوب قبل تحقّق الشرط لذی المقدّمة علی القول المشهور،فلا معنی لوجوب المقدّمة قبله.

إذا عرفت هذا فنسأل صاحب الفصول:ما الذی یترتّب علی تقسیم الواجب إلی المعلّق و المنجّز من الفائدة فی بحث مقدّمة الواجب؟و یمکن أن یجیب بأنّه إذا ثبت التکلیف بمجرّد الاستطاعة فی باب الحجّ فیجب تحصیل

ص:65

مقدّماته،و إن لم یتحقّق وجوب الحجّ بمجرّدها فلا یجب تحصیل المقدّمات، و هذا أثر یترتّب علی هذا التقسیم.

و لکنّ التحقیق:أنّه لیس بجواب عن الإشکال،فإنّ الأثر المذکور یترتّب علی الخصوصیّة المشترکة التی کانت بمنزلة الجنس لهما و هی فعلیّة التکلیف،لا علی الخصوصیّة الممیّزة،و لا بدّ من ترتّب الأثر علی الفصل الممیّز؛إذ التقسیم یدور مداره،فلا أثر لهذا التقسیم فی بحث مقدّمة الواجب،و هذا الإنکار من المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1).

و أنکر الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (2)تقسیم الواجب إلی المعلّق و المنجّز بنحو آخر،بلحاظ أنّه اختار فی الواجب المشروط أنّ الشرط لزوما من قیود المادّة،و ادّعی امتناع کونه من قیود الهیئة ثبوتا و إثباتا،علی خلاف القواعد العربیّة و ظاهر المشهور،و لذا قال:إنّ المعلّق بما فسّره صاحب الفصول یکون من مصادیق المشروط و أقسامه مع إضافة فی المعلّق،و هی کون الشرط غیر مقدور للمکلّف،فصحّة هذا التقسیم مبنی علی مغایرة المشروط للمعلّق، و المفروض اتّحادهما،فتقسیم الواجب إلی المطلق و المشروط یغنی عن تقسیمه إلی المعلّق و المنجّز.

و لکنّ التحقیق:أنّه بناء علی القول المشهور فی الواجب المشروط،و مع قطع النظر عن إنکار صاحب الکفایة قدّس سرّه یرد علی التقسیم المذکور إشکال آخر،و توضیحه یتوقّف علی مقدّمتین:

الاولی:أنّ الظاهر من قضیّة«إن جاءک زید فأکرمه»عدم تحقّق وجوب

ص:66


1- 1) کفایة الاصول 1:161.
2- 2) مطارح الأنظار:51.

الإکرام قبل تحقّق المجیء،فلا معنی لوجوب المقدّمات أیضا،إلاّ أنّ المکلّف علم بتحقّق المجیء غدا،و علم أیضا امتناع تحصیل المقدّمات فیه عادة بلحاظ تعطیل السوق،و حینئذ یلزمه العقل بتحصیل المقدّمات قبل فعلیّة وجوب ذی المقدّمة،فإنّ ذلک لا یکون عذرا له عند العقلاء لترک الإکرام فی ظرفه.

الثانیة:أنّ المرتکز فی أذهاننا بما أنّنا متشرّعة أنّ ارتباط الوقت بالحجّ عین ارتباطه بالصلاة،کما أنّ قبل تحقّق الوقت لا یکون تکلیف بصلاة أصلا کذلک فی الحجّ قبل تحقّق الوقت لا یوجد تکلیف بحجّ أصلا،فلا فرق بینهما فی نحو الإضافة إلی الوقت،و معلوم أنّه لا معنی للواجب المعلّق فی الصلاة.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّما اخترع صاحب الفصول التقسیم المذکور فی المقام لأنّه لاحظ المستطیع و رأی أنّه لو قلنا بعدم وجوب الحجّ بعد الاستطاعة، و بتبعه قلنا بعدم وجوب تحصیل المقدّمات ینتهی إلی تفویت الحجّ علی من کان فی بلاد بعیدة،و لذا قال:لا بدّ لنا من القول بفعلیّة وجوب الحجّ بمجرّد الاستطاعة و وجوب تحصیل المقدّمات بتبعه من حینه،مع أنّه لا إلزام فی اختیار هذا القول.

و بعد التوجّه إلی المقدّمتین فإنّ الاستطاعة أحد الشرطین لوجوب الحجّ، و الشرط الثانی عبارة عن الوقت،فلا یتحقّق الوجوب قبل تحقّق الوقت أصلا،و لمّا کان الوقت بلحاظ کونه قطعی التحقّق-بخلاف الاستطاعة-یکون المکلّف ملزما من جهة العقل بتحصیل المقدّمات بمجرّد الاستطاعة،مع أنّ الحجّ لا یجب قبل الموسم،و هو توهّم أنّ طریق حلّ الإشکال منحصر بالالتزام بهذا التقسیم،و الحال أنّه لا ضرورة تقتضی لذلک بعد وجود طریق آخر لحلّه کما بیّناه.

ص:67

و لا یخفی أنّ جمیع الإشکالات المذکورة علی التقسیم المذکور مشترکة فی جهة واحدة،و هی عبارة عن عدم ادّعاء استحالة الواجب المعلّق فی کلام المستشکلین،بل یستفاد من تعبیراتهم إمکان تحقّقه کما لا یخفی.

البحث فی إمکان الواجب المعلّق و استحالته:

قال جماعة من المحقّقین الاصولیّین باستحالته،و منهم المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه (1)فی حاشیته علی الکفایة،و لکن لا بدّ لنا قبل الخوض فی هذا البحث من مراجعة الوجدان بعد التوجّه إلی الإلزامات المعمولة بین العقلاء،فإنّا حین ملاحظة الإرادة التکوینیّة و التشریعیّة لا نری من الاستحالة فیها أثر و لا خبر؛إذ المراد المربوط بالإرادة التکوینیّة قد یکون أمرا فعلیّا،مثل إرادة القعود حین القیام،و هو یتحقّق بمجرّد تحقّق الإرادة،و قد یکون أمرا استقبالیّا، مثل إرادة الحضور فی جلسة الدرس غدا و إرادة إتیان صلاة المغرب،و معلوم أنّ تحقّقه یتوقّف علی مضی الزمان،مع أنّ تحقّق حقیقة الإرادة فی کلا الموردین لا یکون قابلا للإنکار وجدانا.

و هکذا فی الإرادة التشریعیّة إذا لاحظنا أوامر الآباء بالنسبة إلی الأبناء و أوامر الموالی بالنسبة إلی العبید،فنری أنّ المبعوث إلیه قد یکون أمرا فعلیّا، و قد یکون أمرا استقبالیّا کقولنا:«سافر غدا»و«ادخل السوق»و«اشتر اللحم ساعة اخری»،و الوجدان أقوی شاهد علی عدم استحالة هذه الأوامر و أن یکون الوجوب فعلیّا و مطلقا و الواجب استقبالیّا و مقیّدا بمعنی زمان خاصّ،فیکون الواجب المعلّق من حیث الإمکان مسألة وجدانیّة.

و ما قال به المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه من استحالته ینقسم إلی قسمین:قسم منه

ص:68


1- 1) نهایة الدرایة 2:73-79.

یرتبط بالإرادة التکوینیّة،و قسم آخر بالإرادة التشریعیّة،و یعتقد بأنّه یمتنع تعلّق الإرادة التکوینیّة بالأمر الاستقبالی،و منشأ کلامه عبارة عن تعریف المشهور للإرادة بأنّها الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو المراد.

و تفصیل کلامه بتصرّف:أنّ النفس فی وحدتها کلّ القوی،فهی مع وحدتها ذات منازل و درجات،و کلّ منها باسم خاصّ،منها:القوّة العاقلة التی تدرک فی الفعل فائدة عائدة إلی جوهر ذاتها أو إلی قوّة من قواها.و منها:ما یعبّر عنه بالقوّة الشوقیّة،و هی مرتبة ینبعث للنفس عندها شوق إلی ذلک الفعل، و هذه القوّة أیضا ذات مراتب و درجات من حیث النقص و الکمال،فإذا لم یجد مزاحما و مانعا یخرج ذلک الشوق من حدّ النقصان إلی حدّ الکمال الذی عبّر عنه تارة بالإجماع،و اخری بتصمیم العزم،و ثالثة بالقصد و الإرادة،فینبعث من هذا الشوق البالغ حدّ نصاب الباعثیّة تحریک و هیجان فی مرتبة القوّة العاملة المنبثّة فی العضلات،فتحصل منها حرکة فی مرتبة العضلات.

و من الواضح أنّ الشوق و إن أمکن تعلّقه بأمر استقبالی إلاّ أنّ الإرادة لیس نفس الشوق بأیّة مرتبة کان،بل الشوق البالغ حدّ النصاب بحیث صارت القوّة الباعثة باعثة بالفعل،و حینئذ فلا یتخلّف عن انبعاث القوّة العاملة المنبثّة فی العضلات،و هو هیجانها لتحریک العضلات الغیر المنفکّ عن حرکتها،و لذا قالوا:إنّ الإرادة هی الجزء الأخیر من العلّة التامّة لحرکة العضلات.

فمن یقول بإمکان تعلّقها بأمر استقبالی إن أراد حصول الإرادة التی هی علّة تامّة لحرکة العضلات،إلاّ أنّ معلولها حصول الحرکة فی ظرف کذا، و یکون التأخّر دخیلا فی ذات المعلول،کالسفر المقیّد بکونه غدا،فلا بدّ من تأخّر المعلول،و إلاّ فلیس بمعلول.

ص:69

فنقول:هذا عین انفکاک العلّة عن المعلول،بل هو أولی بالفساد؛لتأخّر المعلول عن علّته،فهو کاعتبار أمر محال فی مرتبة ذات الشیء.

و إن أراد أنّ ذات العلّة و هی الإرادة موجودة من قبل،إلاّ أنّ شرط تأثیرها حضور وقت المراد،و حیث لم یکن موجودا ما أثّرت العلّة فی حرکة العضلات.

ففیه:أنّ حضور الوقت إن کان شرطا فی بلوغ الشوق حدّ التأکّد و النهایة و خروجه من النقص إلی الکمال،فهو عین ما رمناه من أنّ حقیقة الإرادة لا تتحقّق إلاّ حین إمکان انبعاث القوّة المحرّکة للعضلات.

و إن کان شرطا فی تأثیر الشوق البالغ حدّ التأکّد الموجود من أوّل الأمر فهو غیر معقول؛لأنّ بلوغ القوّة الباعثة فی بعثها إلی حدّ التأکّد مع عدم انبعاث القوّة العاملة تناقض بیّن،و لا یخفی أنّ الإرادة تفارق سائر الأسباب، فإنّ الأسباب الأخر ربما یکون لوجودها مقام و لتأثیرها مقام آخر،فیتصوّر اشتراط تأثیرها بشیء دون وجودها،بخلاف الإرادة فإنّها عبارة عن المیل و الشوق المؤکّد النفسانی،فهو إن تحقّق فی حدّ التأکّد و الکمال لا ینفکّ عن التأثیر فی القوّة العاملة،و إن لم یتحقّق فی هذا الحدّ فلا تکون هناک إرادة.

و أمّا ما فی الکفایة من لزوم تعلّق الإرادة بأمر استقبالی إذا کان المراد ذا مقدّمات کثیرة،فإنّ إرادة مقدّماته قطعا منبعثة عن إرادة ذیها،و توضیح الحال فیه:أنّ الشوق إلی المقدّمة بما هی مقدّمة لا بدّ من انبعاثه إلی الشوق إلی ذیها،لکنّ الشوق إلی ذیها لمّا لم یمکن وصوله إلی حدّ تتحرّک القوّة العاملة به لتوقّف فعل المراد علی مقدّمات،فلا محالة یقف فی مرتبته حتّی یمکن الوصول، و هو بعد حصول المقدّمات،فالشوق إلی المقدّمة لا مانع من بلوغه حدّ

ص:70

الباعثیّة الفعلیّة،بخلاف الشوق إلی ذیها.

و أمّا الإرادة التشریعیّة فهی-کما عرفت فی محلّه-إرادة فعل الغیر منه اختیارا،و حیث إنّ المشتاق إلیه فعل الغیر الصادر باختیاره فلا محالة لیس بنفسه تحت اختیاره،بل بالتسبیب إلیه بجعل الداعی إلیه و هو البعث نحوه، فالشوق المتعلّق بفعل الغیر إذا بلغ حدّا ینبعث منه الشوق نحو البعث الاعتباری الفعلی کان إرادة تشریعیّة،و إلاّ فلا.و من المعلوم أنّه إذا تحقّق البعث من المولی و لم یتحقّق الانبعاث فی العبد فلیس بلحاظ کونه فی مقام العصیان،بل بلحاظ کون الواجب أمرا استقبالیّا،فلیس ما سمّیناه بعثا فی الحقیقة بعثا؛إذ لا یعقل الانفکاک بینهما عند انقیاد المکلّف و تمکینه،و علیه فلا یعقل البعث نحو أمر استقبالی.هذا تمام کلامه ملخّصا.

و یرد علیه إشکالات متعدّدة،منها:أنّ أساس کلامه مبتن علی أنّ للنفس مراتب و درجات،و للقوّة الشوقیّة أیضا مراتب و منازل،و أعلی درجة الشوق عبارة عن الإرادة،و لذا عرّفها المشهور بالشوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو المراد.

و لکن التحقیق بعد عدم کون تعریف المشهور أمرا تعبّدیّا:أنّه لا سنخیّة بین الشوق و الإرادة أصلا؛إذ الشوق بجمیع مراتبه حالة انفعالیّة للنفس؛لأنّ الإنسان بعد وقوعه تحت تأثیر فوائد أمر-مثلا-یحصل له الشوق إلیه، و الإرادة حالة فعلیّة و قوّة عاملة للنفس،و تؤیّده التعبیرات العرفیّة،مثل قولنا:«هل ترید شراء الدار؟»و قولنا:«هل لک شوق إلی شراء الدار؟»،إذ لا شکّ فی أنّه یتحقّق بینهما کمال الفرق عند العرف،و منشأ الإرادة-کما بیّناه مفصّلا-عبارة عن النفس التی أعطاها اللّه تعالی،و شعبة من الخلاّقیّة کخلقها

ص:71

الإرادة و الموجود الذهنی.

و قال بعض العلماء بأنّه لا دخل للشوق حتّی فی مبادئ الإرادة بعنوان ضابطة کلّیّة،و إن لم یکن تحقّقه کثیرا ما قابلا للإنکار،ثمّ استدلّ بأنّ الإنسان قد یرید أمرا فی حال کونه کارها له و غیر مشتاق إلیه کشرب الدواء للمریض،و مثل إرادة قطع الید أو الرجل المعیوبة لحفظ النفس عن خطر الموت و أمثال ذلک؛إذ لا شکّ فی عدم کون المراد فی هذه الموارد مشتاق إلیه، فلا ضرورة تقتضی لأن یکون الشوق جزء مبادئ الإرادة.

و لکنّه مخدوش بأنّه سلّمنا أنّ المراد فی الموارد المذکورة لا یکون مشتاقا إلیه،إلاّ أنّ مبادئ الإرادة عبارة عن تصوّر الشیء المراد و التصدیق بفائدته، و الشوق إلی هذه الفائدة بحیث یکون المشتاق إلیه عبارة عن الفائدة،لا الشیء المراد بلحاظ کون الشوق أمرا انفعالیّا یوجد فی النفس بواسطة الفائدة.

و معلوم أنّ فائدة قطع الید و الرجل-أی سلامة نفس الإنسان-متعلّق للشوق،فیتحقّق الشوق فی هذه الموارد أیضا،إلاّ أنّ متعلّقه لیس نفس المراد، بل هو عبارة عن فائدة المراد.

و الإشکال المهمّ-کما مرّ-أنّ سنخ الإرادة و الشوق و مقولتهما متغایران؛إذ یتحقّق فی الشوق جنبة التأثّر و الانفعال،و فی الإرادة جنبة المؤثّریّة،و لذا لا یصحّ تعریف المشهور للإرادة بوجه،کما یؤیّده العرف أیضا.

و أمّا قوله قدّس سرّه:بأنّ الإرادة الجزء الأخیر للعلّة التامّة،و إذا تحقّقت الإرادة لا بدّ من ترتّب المعلول علیها-أی تحریک العضلات نحو المراد-إذ لا یعقل الانفکاک بین العلّة و المعلول»،ففیه:أوّلا:أنّه ما الدلیل علی هذا المدّعی؟فهل یکون أمرا تعبّدیّا بدلالة الآیة أو الروایة،أم ثبت هذا المدّعی فی علم الفلسفة

ص:72

و المباحث العقلیّة؟و لا بدّ من استناد المسألة إلی دلیل،و الحال أنّه لیس فی کلامه من البرهان أثر و لا خبر.

و ثانیا:أنّه لا بدّ لنا من ملاحظة الواقعیّات و الحقائق الخارجیّة،و هل یتحقّق هذا المعنی فی المراد الخارجی أم لا؟لعلّ أفضل مورد لتحقیقه فیما لو تعلّقت إرادة الإنسان بنفس تحریک العضلات؛إذ المراد لا یحتاج إلی المقدّمة و الفاصلة من حیث الزمان نحو إرادة حرکة الید و القیام أو القعود و أمثال ذلک، فإنّه تتحقّق حرکة الید بمجرّد إرادة حرکة الید.هذه واقعیّة لا شکّ فیها،إلاّ أنّ تحقّق شیء عقیب شیء آخر بلا فاصلة لیس معناه تحقّق العلّیّة و المعلولیّة بینهما،و أنّ الإرادة علّة لتحقّق المراد بعنوان الجزء الأخیر للعلّة التامّة،فإنّه یشترط لحرکة الید بعد الإرادة سلامة الید أوّلا،و عدم المانع من حرکته ثانیا، و واقعیّة ثالثة باسم تعلّق الإرادة بحرکة الید المقیّدة بکونها فی الحال لا بمطلق الحرکة و إن تحقّقت فی زمان الاستقبال،و مع هذا لا یرتبط وقوع حرکة الید عقیب الإرادة؛بأن تکون الإرادة الجزء الأخیر للعلّة التامّة فی هذا المورد أیضا،بل یرتبط عدم الانفکاک المذکور بأمر آخر،و هو أنّ اللّه تعالی جعل من باب التفضّل و العنایة أعضاء الإنسان و جوارحه مقهورة لنفسه،و النفس قاهرا لها،بحیث إنّ النفس إذا أرادت حرکة الید لا تقدر الید علی العصیان و الطغیان فی مقابلها،فلا یکون فی هذا المورد من العلّیّة و المعلولیّة أثر و لا خبر،فإنّ معنی تحقّق الجزء الأخیر للعلّة لیس إلاّ تحقّق المعلول بلا فاصلة، و الحال أنّا نری توقّف حرکة الید بعد الإرادة علی تحقّق الشرط و عدم المانع و نحو ذلک.

و أمّا إذا تعلّقت الإرادة بغیر حرکة العضلات-مثل إرادة شرب الماء الذی

ص:73

یتوقّف علی أخذ ظرف الماء من الأرض و جعله محاذیا للفم-فالتحقیق هاهنا یحتاج إلی مقدّمتین:

الاولی:أنّ تقدّم العلّة علی المعلول تقدّم رتبی لا زمانی کما قال به الأعاظم، بل یتحقّق بینهما التقارن من حیث الزمان.

الثانیة:أن تشخّص الإرادة بواسطة المراد و تعذّر الإرادة و وحدتها تابع لتعذّر المراد و وحدته،کما أنّ العلم تعدّده و وحدته تابع لتعدّد المعلوم و وحدته، فلا یمکن تعلّق إرادة واحدة بمرادین متعدّدین،حتّی أنّ الأمر فی المقدّمة و ذی المقدّمة أیضا کان کذلک،مثلا:الکون علی السطح یتوقّف علی نصب السلّم، و لا یمکن عادة بدونه و مع ذلک تتعدّد الإرادة بتعدّدهما.

إذا عرفت ذلک فلنرجع إلی المثال و نقول:لم لا یتحقّق شرب الماء بعد إرادته مع أنّه لا یکون بین العلّة و المعلول تأخّر زمانی؟و لم یحتاج شرب الماء بعد تحقّق الجزء الأخیر للعلّة التامّة إلی أخذ ظرف الماء و جعله محاذیا للفم؟! و فاصلة إرادة أخری مع تحقّق مرادها بین إرادة شرب الماء و تحقّق المراد أقوی شاهد علی عدم العلّیّة و المعلولیّة بینهما،ففی هذا المثال أیضا لا یتحقّق المراد بعد تحقّق الإرادة،بل یتوقّف علی تحصیل المقدّمة و تحقّق الإرادة المقدّمیّة.

و قال المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه عند ذکره هذا المثال مجیبا المحقّق الخراسانی قدّس سرّه -کما مرّ-:إنّ الإرادة لا تتعلّق بذی المقدّمة قبل تحقّق مقدّماتها،بل تتعلّق به مرحلة من الشوق،و إذا تحقّقت المقدّمات یتأکّد الشوق المذکور و یتبدّل بالإرادة.

و لکنّه مخالف للوجدان؛إذ الإنسان الذی کان فی معرض التلف من شدّة

ص:74

العطش لا یعقل القول بأنّه لا یرید شرب الماء،بل تتعلّق به مرحلة من شوقه؛ لأنّه تتعلّق به إرادته بعد أخذ الماء و جعله محاذیا لفمه،مع أنّه عبّر کثیرا ما بأنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة تترشّح و تتولّد من الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة، فکیف یعقل القول بأنّ الإنسان المؤمن الذی یکون فی مقام تحصیل الطهارة لا یرید إتیان الصلاة؟!

و التحقیق:أنّه تتحقّق فی هذه الموارد الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة قبل تحقّق المقدّمات،و من أنکر ذلک فقد عاند الوجدان،فقوله بعدم تعلّق الإرادة التکوینیّة بأمر استقبالی لا شکّ فی بطلانه.

و أمّا مقالته فی الإرادة التشریعیّة من أنّ لازم القول بالواجب المعلّق الانفکاک بین البعث و الانبعاث،مع أنّه لا یتصوّر الانفکاک بینهما کالکسر و الانکسار،ففیه:أوّلا:أنّه وقع الخلط فی کلامه بین البعث و الانبعاث التکوینی و البعث و الانبعاث الاعتباری،و ما لا یعقل الانفکاک بینهما و یشابه الکسر و الانکسار هو الأوّل دون الثانی،فإنّ ما تدلّ علیه هیئة«افعل»و یعبّر عنه بالأمر عبارة عن البعث الاعتباری الذی یوجد الداعی فی المکلّف فقط.

و یشهد لذلک أنّ البعث و الانبعاث فی الواجبات المنجّزة إن کان مثل الکسر و الانکسار معناه أن لا یقدر أحد من المکلّفین علی العصیان؛إذ العصیان مساو مع عدم تحقّق الانبعاث،فأین الانبعاث فی الکفّار و العصاة؟! مع أنّه لا شکّ فی کونهم مکلّفین بالأحکام و یعاقبون علی ترکها،فلم لا یتحقّق الانبعاث؟!فلا تصحّ المقایسة بین البعث و الانبعاث التکوینی و البعث و الانبعاث الاعتباری.

و التحقیق:أنّ فی مورد تحقّق الانبعاث عقیب البعث لیس المؤثّر فی

ص:75

الانبعاث نفس البعث-کما قال به استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه-بل المؤثّر فیه الخوف من المؤاخذة و العقاب أو الطمع فی الثواب؛إذ العباد نوعا ما یعبدون اللّه خوفا من النار أو طمعا فی الجنّة إلاّ القلیل من الأولیاء و الصلحاء،کما نقل عن أمیر المؤمنین علیه السّلام:«ما عبدتک خوفا من نارک و لا طمعا فی جنتک،و لکن وجدتک أهلا للعبادة فعبدتک» (1)فلا دخل للبعث فی الانبعاث إلاّ فی جعل الموضوع للإطاعة و العصیان،و هکذا فی أوامر الموالی العرفیّة.

و ثانیا:مع قطع النظر عمّا ذکرناه و بعد کون التقارن الزمانی بین العلّة و المعلول ممّا لا شبهة فیه یرد علیه ما فی الکفایة،من أنّه لا بدّ من الالتزام بالانفکاک بین البعث و الانبعاث حتّی فی صورة تحقّق الانبعاث عقیبه؛لأنّ البعث إنّما یکون لإحداث الداعی للمکلّف إلی المکلّف به،و هذا لا یمکن إلاّ بعد تصوّر الأمر و ما یترتّب علی موافقته من المثوبة و علی ترکه من العقوبة، و لا یکاد یکون هذا إلاّ بعد البعث بزمان،فلا محالة یکون البعث نحو أمر متأخّر عنه بالزمان و لا یتفاوت طوله و قصره فیما هو ملاک الاستحالة و الإمکان فی نظر العقل الحاکم فی هذا الباب،و هو تخلّف الانبعاث عن البعث و عدمه،فإن کان مستحیلا فلا فرق فی الاستحالة بین المعلّق و المنجّز،و إن کان ممکنا فکذلک أیضا.

و ثالثا:لو سلّمنا أنّه لا یجوز الانفکاک بین البعث و الانبعاث،و لکن لیس معناه التقارن بینهما من حیث الوجود بلا فصل بحیث إن تعلّق غرض المولی یتحقّق المبعوث إلیه غدا،بل معناه أنّ المبعوث إلیه إن کان هو السفر فی الغد فلا بدّ من تحقّقه غدا،و إن کان هو السفر فی الحال فلا بدّ من تحقّقه فی الحال،

ص:76


1- 1) البحار 70:186.

و لذا لا یثبت بهذا البیان استحالة الواجب المعلّق،و لا نحتاج إلی بیان سائر أدلّة الاستحالة بعد مناقشة کلام المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه،فالواجب المعلّق من حیث الإمکان غیر قابل للمناقشة.

و قد مرّ أنّ منشأ هذا التقسیم و ما اضطرّ صاحب الفصول لاختراعه أنّه لاحظ تبعیّة وجوب المقدّمة لوجوب ذی المقدّمة،و معناه عدم اتّصافها به قبل اتّصافه،و أنّه لاحظ أیضا فی الفقه الفتوی بوجوب المقدّمة قبل وجوب ذی المقدّمة،مثل وجوب تحصیل الزاد و الراحلة و نحو ذلک للمستطیع قبل الموسم، و وجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر فی لیلة شهر رمضان و نحو ذلک، فالتزم بهذا التقسیم فرارا من هذه المشکلة.

و قد مرّ ما حکیناه عن الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه و أنّه قائل برجوع جمیع القیود فی الواجبات المشروطة إلی المادّة و المأمور به،و لا فرق بین شرطیّة الوقت فی الصلاة و شرطیّته فی الحجّ؛إذ یتحقّق التکلیف فی کلیهما قبل الوقت،فلا إشکال فی وجوب تحصیل مقدّمات الحجّ قبل الموسم،و وجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر،فلا نحتاج علی هذا المبنی إلی التقسیم المذکور أصلا.

و لا یخفی أنّ القیود علی قسمین:قسم منها من الامور الغیر الاختیاریّة للمکلّف مثل قیدیّة الوقت و فعل الغیر و نحو ذلک،و یرجع هذا القسم من القید إلی الهیئة و الوجوب علی المشهور،و إلی المادّة و الواجب علی مبنی الشیخ قدّس سرّه، و لا إشکال فی البین.

و قسم منها من الامور الاختیاریّة للمکلّف کالاستطاعة للحجّ،و علی المشهور لا یجب تحصیله علی المکلّف،فإنّه مقدّمة الوجوب،و قد مرّ أنّها

ص:77

خارجة عن بحث مقدّمة الواجب،و أمّا علی مبنی الشیخ فقد یتوهّم فی بادئ النظر أنّه یجب علی المکلّف تحصیله،فإنّه من المقدّمات الاختیاریّة للواجب، فیرجع قولنا:«یجب علیکم الحجّ إن استطعتم»إلی أنّه یجب علیکم الحجّ فی الموسم مستطیعین،کقولنا:یجب علیکم الصلاة متطهّرین،فیجب تحصیل الاستطاعة علی المکلّف مع أنّه لم یقل به أحد.

و جواب الشیخ علی القاعدة عبارة عن أنّه سلّمنا أنّ ظاهر المسألة یکون کذلک،و لکنّ التحقیق أنّ کیفیّة أخذ القیود الاختیاریّة فی المأمور به مختلفة؛ بأنّ کثیرا منها تعلّق غرض المولی بلزوم تحصیلها کالستر و الطهارة و الاستقبال فی الصلاة-مثلا-و فی بعض الموارد تعلّق غرضه بأنّه إذا اتّفق حصول هذا القید یجب تحقّق المأمور به،فیتحقّق الفرق بین دخالة قید الطهارة فی الصلاة و الاستطاعة فی الحجّ للمصالح التی یراها المولی.

هذا،و لکن یمکن الإشکال علیه بأنّه کما یتحقّق وجوب الحجّ قبل الموسم کذلک یتحقّق وجوبه قبل الاستطاعة من دون فرق بینهما علی هذا المبنی، و علی القول بالملازمة یجب تحصیل المقدّمات قبل الاستطاعة،و لعلّ الشیخ أیضا لا یلتزم بهذا الکلام بعد کونه بعیدا عن أذهان المتشرّعة.

و اختار المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)طریقا آخر لحلّ العویصة و هو:أنّ شرطیّة شیء للمأمور به قد تکون بصورة الشرط المتقدّم،و قد تکون بصورة الشرط المقارن،و قد تکون بصورة الشرط المتأخّر.و معنی الشرطیّة المتأخّرة أنّه إذا تحقّق الشرط فی ظرفه فیکشف عن تحقّق المشروط فی ظرفه،کالإجازة فی بیع الفضولی بناء علی کاشفیّتها بالکشف الحقیقی،و علی هذا تکون مدخلیّة

ص:78


1- 1) کفایة الاصول 1:163-164.

الاستطاعة فی وجوب الحجّ بنحو الشرط المقارن،و مدخلیّة الموسم فیه بنحو الشرط المتأخّر،فکما أنّ المشتری فی البیع الفضولی إن کان قاطعا بتعقّب إجازة المالک بعد شهر-مثلا-یجوز له التصرّف فی المبیع من الآن،کذلک المستطیع یجب علیه تحصیل المقدّمات بلحاظ علمه بتحقّق الموسم،فتتّصف المقدّمة بالوجوب الغیری بهذه الکیفیّة.

و قد مرّت مناقشتنا فی کیفیّة تصویر الشرط المتأخّر فی کلامه قدّس سرّه بعد تسلیم أصل التصویر للشرط المتأخّر و المتقدّم،و لکن لا شکّ فی صحّة الاستفادة منه فی حلّ العویصة هاهنا.

و ما ذکرناه فی حلّ العویصة مبتن علی إنکار أصل تبعیّة وجوب المقدّمة لوجوب ذی المقدّمة،و حاصله:أنّ بعد العلم بعدم قدرة المکلّف علی تحصیل المقدّمات فی الموسم و أنّ الموسم قطعی التحقّق یحکم العقل بتحصیلها قبله و إن کانت شرطیّة الموسم فی وجوب الحجّ بنحو الشرط المقارن،و هکذا فی مثل وجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر فی لیلة شهر رمضان،و علی هذا المبنی إن دلّت روایة علی وجوب تحصیل المقدّمات المذکورة-مثلا-قبل وقت المأمور به تحمل علی الإرشاد إلی حکم العقل لا علی بیان حکم شرعی مولوی.

و الطریق الآخر لحلّ العویصة ما یستفاد من ذیل کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه و هو:أنّ بعد استحالة وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها لو نهض دلیل علی وجوبها قبل زمان الواجب-کالغسل فی اللیل فی شهر رمضان-فلا محالة یکون وجوبها نفسیّا.

و لا یقال:إنّه لا مطلوبیّة فی المقدّمات للمولی حتّی تکون من الواجبات

ص:79

النفسیّة.

لأنّا نقول:إنّ الواجب النفسی علی قسمین:أحدهما ما یکون نفس الواجب تمام الغرض للمولی و لا یرتبط بواجب آخر،و ثانیهما:ما یکون واجبا نفسیّا، لکنّه للتهیّؤ لواجب آخر حتّی یستعدّ المکلّف لإتیان ذی المقدّمة.و إلی هنا تمّت الطرق لحلّ العویصة.

نکتة:أنّ جمیع القیود فی الواجبات المشروطة یرجع إلی المادّة علی مبنی الشیخ قدّس سرّه،خلافا لظاهر القضیّة الشرطیّة لتحقّق قرینة توجب التصرّف فی الظاهر،و هی امتناع تقیید الهیئة بلحاظ کونها ذات معنی حرفی،و لکن مع ذلک تختلف القیود من حیث لزوم التحصیل و عدمه؛إذ لا شکّ فی عدم لزوم تحصیل القیود الغیر الاختیاریّة،مثل الوقت فی باب الصلاة و الحجّ،و المجیء فی مثل:«إن جاءک زید فأکرمه».

و أمّا القیود الاختیاریّة فتکون علی قسمین:قسم منها لا یجب تحصیله کالاستطاعة فی الحجّ،و قسم منها یجب تحصیله کالطهارة فی الصلاة.

هذا علی مبنی الشیخ قدّس سرّه،و علی المشهور تکون القیود علی قسمین:قسم منها ما یرجع إلی المادّة،و قسم منها یرجع إلی الهیئة،و القیود الراجعة إلی الهیئة أیضا علی قسمین:قسم منها ما یکون بنحو الشرط المقارن،و معناه عدم تحقّق الوجوب قبل تحقّقه،و أکثر القیود یکون من هذا القبیل.

و قسم منها یکون بنحو الشرط المتأخّر،و معناه تحقّق الوجوب قبل تحقّقه، و هذا نادر لا یتحقّق إلاّ فی مورد لیس لنا طریق للتخلّص سواه.

و أمّا القیود الراجعة إلی المادّة فهو علی قسمین أیضا:قسم منها لازم التحصیل و أکثرها من هذا القبیل،و قسم منها غیر لازم التحصیل نظیر ما مرّ

ص:80

عن الشیخ قدّس سرّه فی الاستطاعة.

فعلی هذا إذا رجع القید إلی الهیئة-و حیث یکون أکثر القیود الراجعة إلیها من قبیل الشرط المقارن-فیترتّب علیه:أوّلا:أنّ التکلیف لا یتحقّق قبل تحقّق القید،و ثانیا:أنّ مقدّماته أیضا لیست بواجبة.

و إذا رجع القید إلی المادّة فیترتّب علیه:أوّلا:أنّ التکلیف یتحقّق قبل تحقّق القید،و ثانیا:أنّ القید یلزم تحصیله،و مرّ أن ذکرنا أنّ القید الراجع إلی الهیئة لا یلزم تحصیله أصلا فإنّه قید الوجوب،و هو خارج عن محلّ البحث فی مقدّمة الواجب،هذا علی المشهور.

إذا عرفت هذا فتصل النوبة إلی ملاحظة مسألة اخری،و هی عبارة عن صورة الشکّ فی رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة.

قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):إن علم حال القید فلا إشکال،و إن دار ثبوتا أمره بین أن یکون راجعا إلی الهیئة-مثل الشرط المتأخّر أو المقارن-و أن یکون راجعا إلی المادّة علی نهج یجب تحصیله أو لا یجب،فإن کان فی المقام ما یعیّن حاله و أنّه راجع إلی أیّهما من القواعد العربیّة فهو،و إلاّ فالمرجع هو الاصول العملیّة،و معلوم أنّ مقتضاها البراءة عن الوجوب و استصحاب عدم الوجوب.

و توضیح ذلک:أنّ الشکّ فی رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة یرجع إلی أنّه هل یکون هناک قبل تحقّق القید تکلیف بذی المقدّمة أم لا؟فیجری استصحاب عدم التکلیف،و هکذا یجری الأصل فی نفس القید؛إذ الشکّ فی رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة یرجع إلی أنّ نفس هذا القید یجب تحصیله

ص:81


1- 1) کفایة الاصول 1:167.

أم لا؟فیجری استصحاب عدم وجوب تحصیل القید قبل صدور الکلام المشتمل علی القید عن المولی.

علی أنّه یجری فی کلا الموردین أصل البراءة عن التکلیف فی رتبة متأخّرة من الاستصحاب،فما یستفاد من الاصول العملیّة موافق مع رجوع القید إلی الهیئة من حیث النتیجة،و هی عدم لزوم تحصیل القید،و عدم تحقّق التکلیف قبل تحقّق القید.

و لکن استدلّ الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)-علی ما فی تقریراته فی هذه المسألة- لرجوع القید إلی المادّة بوجهین،و لکن قبل الخوض فی البحث یرد علیه أنّه کیف یقول بالتردید بین الأمرین بعد قوله باستحالة تقیید الهیئة و رجوع جمیع القیود فی الواجبات المشروطة إلی المادّة؟!

قال المشکینی قدّس سرّه (2)فی حاشیته علی الکفایة:إنّ مقصوده من الرجوع إلی الهیئة الرجوع إلیها فی الظاهر،مع کونه فی الواقع قیدا اختیاریّا غیر لازم التحصیل للمادّة،و من الرجوع إلی المادّة الرجوع إلیها علی نحو یکون لازم التحصیل،و تظهر ثمرة هذا النزاع فی لزوم تحصیل القید و عدمه فقط.

و فیه-مع عدم صحّة کون الهیئة بمعنی المادّة-:أنّه مخالف لما استدلّ به الشیخ قدّس سرّه من الفرق بین إطلاق الهیئة و المادّة من حیث الشمولیّة و البدلیّة؛إذ لا معنی للإطلاق البدلی فی المادّة،فیکون الإطلاق الشمولی فیما إذا کان المراد من الهیئة نفسها لا المادّة،فیحتمل قویا أنّه قدّس سرّه ذکر المسألة علی مبنی المشهور و فرض رفع الید عن مسلکه و مبناه،و لذا قال فی دلیله الأوّل:إنّ إطلاق الهیئة

ص:82


1- 1) مطارح الأنظار:48-49.
2- 2) کفایة الاصول 1:168.

یکون شمولیّا کما فی شمول العامّ لأفراده،فإنّ وجوب الإکرام فی مثل:«أکرم العالم»علی تقدیر الإطلاق یشمل جمیع التقادیر التی یمکن أن تکون تقدیرا له کالفقیر و الغنی و الهاشمی و غیره.

أو فی مثل: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ، فإنّ نتیجة جریان مقدّمات الحکمة هاهنا هی الإطلاق؛بمعنی أنّ کلّ ما یصدق علیه عنوان البیع فقد أحلّه اللّه،و هذا الإطلاق شمولی،و أمّا إطلاق المادّة فیکون بدلیّا غیر شامل لفردین فی حالة واحدة کما فی مثل:«أکرم الرجل»أو«رجلا»،فإنّ نتیجة جریان مقدّمات الحکمة فیه أیضا هی الإطلاق،لکن الإطلاق من حیث انتخاب کلّ فرد من أفراد الرجل للإکرام،و یعبّر عن هذا بالإطلاق البدلی إذا دار الأمر بینهما، و الترجیح مع الأوّل،و یرجع القید إلی المادّة.

ففی مثل:«إن جاءک زید فأکرمه»إذا شکّ فی رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة فیستفاد من هذه القاعدة أنّ إطلاق الهیئة شمولی؛إذ الوجوب ثابت فی جمیع الحالات،سواء تحقّق المجیء أم لا،و إطلاق المادّة لو فرض إطلاقه بدلی، فیرجع قید المجیء فی صورة الشکّ إلی الثانی.

و أجاب عنه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بأنّ مفاد إطلاق الهیئة و إن کان شمولیّا بخلاف المادّة إلاّ أنّه لا یوجب ترجیحه علی إطلاقها؛لأنّه أیضا کان بالإطلاق و مقدّمات الحکمة،غایة الأمر أنّها تارة تقتضی العموم الشمولی و اخری البدلی،و ربما یقتضی التعیین أحیانا کاقتضاء الصیغة کون الوجوب نفسیّا إذا دار الأمر بینه و الوجوب الغیری،أو عینیّا فیما إذا دار الأمر بینه و الوجوب الکفائی،أو تعیینیّا فیما إذا دار الأمر بینه و الوجوب التخییری،فإنّ وجوب

ص:83


1- 1) کفایة الاصول 1:169.

مقابلها یتوقّف علی بیان قید زائد مثل وجوب ذی المقدّمة،و الواجب النفسی قبله فی الأوّل،و عدم إتیان شخص آخر بالواجب فی الثانی،و عدم الإتیان بعدله الآخر فی الثالث.

و ترجیح عموم العامّ علی إطلاق المطلق إذا دار الأمر بین تخصیص الأوّل و تقیید الثانی إنّما هو لأجل کون دلالته بالوضع لا لکونه شمولیّا،بخلاف المطلق فإنّه بمقدّمات الحکمة یکون العامّ أظهر منه دلالة،و لذا یقدّم علیه.

و علی هذا لو فرض دوران الأمر بین تقیید الإطلاق الشمولی و تخصیص عموم العامّ البدلی فالترجیح مع الثانی بلحاظ ارتباطه بالدلالة الوضعیّة اللفظیّة،بخلاف الأوّل.

و التحقیق فی الجواب:أنّه لیس للإطلاق إلاّ معنی واحد فی جمیع الموارد، و لا ترتبط الشمولیّة و البدلیّة بالإطلاق.

توضیح ذلک:أنّ الإطلاق یستفاد من مقدّمات الحکمة،و لکنّها تستفاد من کون المولی فی مقام بیان جمیع الخصوصیّات الدخیلة فی المتعلّق،لا فی مقام الإجمال و الإهمال بعد التفاته و توجّهه إلیها و عدم کونه مکرها،کما إذا قال:

اعتق الرقبة،و نحن نستفید بعد التوجّه إلی جمیع الجهات أنّ المولی الحکیم بیّن بهذه الجملة تمام المتعلّق للتکلیف؛بأنّه جعل متعلّق الحکم طبیعة عتق الرقبة، من دون أخذ خصوصیّة اخری فیه،و لا بدّ لنا من ملاحظة أنّ الشمولیّة و البدلیّة وصفان للإطلاق أم لا.

و مثال إطلاق الشمولی:قوله تعالی: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ (1)،و معنی الإطلاق الشمولی عبارة عن استیعاب جمیع الأفراد و الدلالة علیها،و لا شکّ فی أنّ لفظ

ص:84


1- 1) البقرة:275.

البیع لا یدلّ علی هذا المعنی و لا یحکی عنه؛إذ لا فرق بینه و بین لفظ الإنسان فی عدم الدلالة علی الأفراد،فإنّ معنی الإنسان عبارة عن الحیوان الناطق، و معنی زید-مثلا-عبارة عن الحیوان الناطق المتخصّص بالخصوصیّات الفردیّة،و هما متباینان،فکیف یمکن أن یدلّ لفظ الإنسان علی زید المتخصّص بهذه الخصوصیّة مع أنّ وجود الطبیعی عین وجود أفراده خارجا؟!و لکنّ مرحلة الاتّحاد فی الوجود غیر مرحلة الدلالة و الحکایة و المرآتیّة،فکما أنّ لفظ الصلاة لا یحکی عن الغصب مع اتّحادهما من حیث الوجود فی الدار المغصوبة،و کذلک لفظ الإنسان لا یحکی عن زید أبدا بلحاظ وضعهما للمعنیین المتغایرین،و هکذا فی لفظ«البیع»فإنّه لا یدلّ إلاّ علی أنّ تمام الموضوع للحکم بالحلّیّة و الصحّة هو طبیعة البیع،و فی کلّ مورد تحقّقت هذه الطبیعة یصدق علیه أنّه بیع،سواء صدر عن زید أو عن عمرو،و سواء صدر بصیغة العربیّة أو غیرها،لا أنّ لفظ البیع یدلّ علی بیع صادر عن زید،و کما أنّ صدق الإنسان علی زید لا یدلّ علی أنّ لفظ الإنسان یدلّ علی التکثّر و التعدّد،و لذا لا یصحّ جعل کلمة الشمول وصفا للإطلاق.

و مثال الإطلاق البدلی هو قولنا:«أکرم عالما»،و لا فرق بین لفظ«العالم» و لفظ«البیع»من حیث الدلالة علی الطبیعة و الإطلاق،إلاّ أنّ تنوین التنکیر هاهنا یدلّ علی الوحدة و البدلیّة،و یکون کقولنا:«أکرم العالم العادل»من جهة تعدّد الدال و المدلول.و بالنتیجة لیس للإطلاق نوعان و معنیان.هذا تمام الکلام فی الوجه الأوّل من استدلال الشیخ الأنصاری قدّس سرّه لرجوع القید إلی المادّة.

الوجه الثانی فی کلامه قدّس سرّه:أنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة و یرتفع به مورده،بخلاف العکس،و کلّما دار الأمر بین تقییدین کذلک

ص:85

کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولی،أمّا الصغری فلأجل أنّه لا یبقی مع تقیید الهیئة محلّ حاجة و بیان لإطلاق المادّة؛لأنّها لا محالة لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة،فإنّ وجوب الإکرام-مثلا-إذا قیّد بمجیء زید فلا یبقی للمادّة-و هی الإکرام-إطلاق؛إذ الإکرام قبل المجیء لیس بواجب،فدائرة الواجب تتضیّق قهرا بتقیّد الوجوب،بخلاف تقیید المادّة فإنّ محلّ الحاجة إلی إطلاق الهیئة علی حاله،فیمکن الحکم بالوجوب علی تقدیر وجود القید و عدمه،أی قبل تحقّق المجیء و بعده.

و أمّا الکبری فلأنّ التقیید و إن لم یکن مجازا إلاّ أنّه خلاف الأصل،و لا فرق فی الحقیقة بین تقیید الإطلاق و بین أن یعمل عملا یشترک مع التقیید فی الأثر و بطلان العمل بالإطلاق.

و الحاصل:أنّ تقیید الهیئة یستلزم ارتکاب خلافی الظاهر،و تقیید المادّة یستلزم ارتکاب خلاف ظاهر واحد،و لا ریب فی تقدّم الثانی علی الأوّل.

و جوابه:ما یستفاد من ذیل کلام المحقّق الخراسانی قدّس سرّه من أنّ القید إمّا متّصل و إمّا منفصل،فإن کان متّصلا-کما فی مثل:«إن جاءک زید فأکرمه»- فلا ینعقد إطلاق لا للهیئة و لا للمادّة؛لاحتفافهما بما یصلح للقرینیّة،و قد قرّر فی محلّه أنّ البیان و کذا نصب القرینة لتقیید المراد مانع من جریان مقدّمات الحکمة،فلا مجال للإطلاق و التقیید فی القید المتّصل أصلا،کما أنّه لا مجال لهما فی قول المولی:«اعتق رقبة مؤمنة».

و إذا قیل:إنّه لا یجوز المقایسة بین ما نحن فیه و هذا المثال؛إذ لا شکّ هاهنا فی رجوع قید الإیمان إلی الرقبة،بخلاف مثل:«إن جاءک زید فأکرمه»؛إذ یحتمل فیه رجوع القید إلی المادّة،و یحتمل رجوعه إلی الهیئة،و فی الصورة

ص:86

الثانیة یوجب ارتکاب خلافی الظاهر.

قلنا:إنّ هذا المعنی مسلّم لا شکّ فیه،و لکن بعد رجوع القید إلی الهیئة و بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة لا یمکن تحقّق مقدّمات الحکمة،فکأنّ المولی صرّح من الابتداء بتضییق دائرة المادّة،فلا یکون من جهة المادّة ارتکاب خلاف الأصل أبدا،فنفس رجوع القید إلی الهیئة قرینة علی تقیید المادّة،فلا فرق بین رجوع القید إلی المادّة و رجوعه إلی الهیئة فی عدم استلزام خلاف الظاهر إذا کان القید متّصلا فلا ترجیح فی البین.

و أمّا إذا کان القید منفصلا فلا شکّ فی صحّة بیانه؛إذ المولی بعد أن قال:

«أکرم زیدا»و بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة فی الهیئة و المادّة ثمّ ذکر قید المجیء -مثلا-و عرض الشکّ للمکلّف فی أنّه یرجع إلی الهیئة أو المادّة فلا محالة تقیید الهیئة یوجب ارتکاب خلافی الظاهر بخلاف الثانی،و أشار المحقّق الخراسانی قدّس سرّه إلی صحّة هذا البیان فی ذیل کلامه.

و أمّا قوله:«فتأمّل»فقد اختلف المحشّون فی أنّه إشارة إلی أیّ وجه من الوجوه المحتملة هاهنا،و اختار المرحوم المشکینی (1)وجها و استاذه المرحوم القوچانی قدّس سرّهما وجها آخر،و لکن یحتمل قویّا أنّه إشارة إلی التهافت الواضح بین صدر کلامه و ذیله،فإنّه قال فی ذیل کلامه (2):نعم،إذا کان التقیید بمنفصل و دار الأمر بین الرجوع إلی المادّة أو الهیئة کان لهذا التوهّم-أی ثبوت الإطلاق فی الهیئة و المادّة معا-مجال؛لاستقرار الظهور و إن کان بقرینة مقدّمات الحکمة.

ص:87


1- 1) کفایة الاصول 1:170.
2- 2) المصدر السابق.

و لازم الاستدراک أنّ ما ذکر قبله من الأحکام بالنسبة إلی التقیید بقید متّصل لا یجری إلی ما بعده،و قال فی الصدر:إنّ التقیید و إن کان خلاف الأصل إلاّ أنّ العمل الذی یوجب عدم جریان مقدّمات الحکمة و انتفاء بعض مقدّماته لا یکون علی خلاف الأصل أصلا؛إذ معه لا یکون هناک إطلاق کی یکون بطلان العمل به فی الحقیقة مثل التقیید الذی یکون علی خلاف الأصل.

قلنا:إنّ المثال الأوضح لعدم جریان مقدّمات الحکمة نفس التقیید بقید متّصل،فلا یصحّ التفکیک بینهما،و القول بأنّ التقیید خلاف الأصل بخلاف العمل الذی أثره أثر التقیید،فإنّ عدم جریان مقدّمات الحکمة أقوی و أولی فی التقیید من عدم جریانها فیه.هذا تمام الکلام فی الواجب المعلّق و المنجّز.

ص:88

الأمر الثالث: الواجب النفسی و الغیری

الواجب النفسی و الغیری

ذکر المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)فی ابتداء الأمر تعریفا ثمّ أشکل علیه،و التزم بعد ذلک بتعریف آخر،و ما ذکره عبارة عن أنّ طلب الشیء و إیجابه حیث لا یکاد یکون بلا داع-بعد کونه من الأفعال الاختیاریّة للمولی-فإن کان الداعی فیه التوصّل به إلی واجب فلا یمکن التوصّل بدونه إلیه لتوقّفه علیه،فالواجب غیریّ،و إلاّ فهو نفسی،و لا فرق فی الواجب النفسی بین محبوبیّته فی نفسه کمعرفة اللّه تعالی،أو محبوبیّته بما له من فائدة مترتّبة علیه کأکثر الواجبات من العبادات و التوصّلیّات.

و توضیح ذلک:أنّه لا بدّ فی الطلب الإنشائی کسائر الأفعال الاختیاریّة من الداعی و المحرّک،و لکنّه علی نوعین؛إذ الداعی لإیجاب شیء قد یکون مقدّمیّة هذا الشیء لواجب آخر و توقّفه علیه؛بحیث إن لم یتحقّق الشیء المذکور لا یتحقّق الواجب،مثل دخول السوق لشراء اللحم فی جملة«ادخل السوق و اشتر اللحم»؛إذ یتوقّف تحقّق الثانی علی الأوّل،و یسمّی هذا بالواجب

ص:89


1- 1) کفایة الاصول 1:171.

الغیری.

و قد یکون الداعی محبوبیّة الشیء بنفسه کمعرفة اللّه تعالی،و یؤیّده تفسیر کلمة«یعبدون» (1)ب«یعرفون»فی لسان الروایات.

و قد یکون الداعی ترتّب الآثار و الخواصّ علی الواجب کترتّب النهی عن الفحشاء و المنکر علی الصلاة،و یسمّی هذان القسمان بالواجب النفسی.

و من هنا أشکل بأنّه یلزم علی هذا التعریف اندراج جمیع الواجبات سوی المعرفة باللّه فی الواجب الغیری لصدق تعریفه علیها؛لأنّ الفوائد المترتّبة علی الواجبات النفسیّة-کالصلاة و الصوم و الحجّ و نحوها-لو لم تکن مطلوبة و واجبة التحصیل لما دعت إلی إیجابها،فمطلوبیّة تلک الواجبات إنّما هی لأجل التوصّل إلی فوائدها،فما الفرق بین وجوب الوضوء و وجوب الصلاة،و لم سمّی الأوّل بالواجب الغیری بخلاف الثانی؟!

ثمّ دفع الإشکال بقوله:فإن قلت:نعم،و إن کان ما یترتّب علی الصلاة -مثلا-محبوبا لزوما،إلاّ أنّه حیث کان من الخواصّ المترتّبة علیها،و لذا لا یکون داخلا تحت قدرة المکلّف حتّی یتعلّق الأمر به بنفسه،بخلاف الصلاة التی یتوقّف تحقّقها علی تحقّق الوضوء،فإنّ فعل الصلاة کفعل الوضوء یکون مقدورا للإنسان،فلا یکون الوضوء قابلا للمقایسة مع الصلاة.

و أجاب عنه بقوله:قلت:بل هی-أی الفوائد المترتّبة علی الصلاة-داخلة تحت القدرة؛لدخول أسبابها تحتها،و القدرة علی السبب قدرة علی المسبّب، و هو واضح،و إلاّ لما صحّ وقوع مثل التطهیر و التملیک و التزویج و الطلاق و العتاق إلی غیر ذلک من المسبّبات موردا لحکم من الأحکام التکلیفیّة.

ص:90


1- 1) فی قوله تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ.

ثمّ قال:فالأولی أن یقال:إنّ الأثر المترتّب علی الواجب و إن کان لازما إلاّ أنّ ذا الأثر لمّا کان معنونا بعنوان حسن یستقلّ العقل بمدح فاعله،بل و بذمّ تارکه صار متعلّقا للإیجاب بما هو کذلک،و لا ینافیه کونه مقدّمة لأمر مطلوب واقعا،بخلاف الواجب الغیری لتمحّض وجوبه فی أنّه لکونه مقدّمة لواجب نفسی،و هذا أیضا لا ینافی أن یکون معنونا بعنوان حسن فی نفسه،إلاّ أنّه لا دخل له فی إیجابه الغیری،و لعلّه مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه و ما أمر به لأجل غیره.هذا تمام کلامه قدّس سرّه فی هذا المقام مع التوضیح.

و یرد علیه إشکالات متعدّدة:

الأوّل:أنّه لو فرضنا أنّه یتحقّق فی الواجبات النفسیّة عنوان حسن أوجب تعلّق الأمر بها،بخلاف الواجبات الغیریّة،إلاّ أنّه لا یمکن القول به فی الواجبات النفسیّة التوصّلیّة،مثل:أداء الدین و دفن المیّت و نحو ذلک؛إذ لا یصحّ الالتزام بتحقّق عنوان حسن لا یدرکه العقل فی هذه الموارد قطعا،سوی إیصال حقّ الدائن إلیه فی الأوّل،و الدفاع عن عروض الأمراض التی تحصل بتعفّن بدن المیّت.نعم،یجری هذا الکلام فی الواجبات النفسیّة التعبّدیّة علی الظاهر.

الثانی:أنّ علّیّة العنوان الحسن المذکور لوجوب الأحکام مخالف للآیات و الروایات التی تکفّلت لعلل الأحکام،کقوله تعالی: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ (1)و سائر الأدلّة التی ذکرها الصدوق قدّس سرّه فی کتاب علل الشرائع من الروایات المشتملة لهذا المعنی.

الثالث:أنّ مع قطع النظر عن الإشکالین المذکورین هل یکون حسن

ص:91


1- 1) البقرة:183.

العنوان الحسن-الذی تکون الصلاة معنونة به-لنفسه أو لترتّب الآثار و الخواصّ علیه؟فإن کان حسنه ذاتیّا-کعنوان معرفة اللّه-یصحّ القول به، و لکن لا یتحقّق مثل هذا العنوان فی الواجبات،بل یکون حسنه لترتّب الآثار علیه،و إذا کان الأمر کذلک فلم لا نقول من الابتداء أنّ إیجاب الصلاة یکون لترتّب الخواصّ علیه،فلا یصحّ الأکل من القفا؟!و القول بأنّ إیجابها یکون لتحقّق عنوان حسن فیها،و حسنه یکون لترتّب الآثار علیه.

و التحقیق فی تعریف الواجب النفسی و الغیری مبتن علی التحقیق فی حقیقة الوجوب،فإنّ المقسم فی التقسیمات هو الوجوب فی الواقع لا الواجب؛إذ الوجوب قد یکون مطلقا و قد یکون مشروطا،و هکذا فی سائر التقسیمات، فالمقسم فی هذا التقسیم-أی النفسی و الغیری-أیضا هو الوجوب.

و اختلفوا فی حقیقة الوجوب فی أنّه عبارة عن الإرادة المتحقّقة فی نفس المولی،أو عبارة عنها بشرط إظهارها بواسطة هیئة«افعل»و نحوها،أو عبارة عن البعث و التحریک الاعتباری یعنی مفاد هیئة«افعل»کما اخترناه سابقا.

و نقول:لا بدّ لنا من اختیار التعریف الأوّل الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه هاهنا بعد التوجّه إلی حقیقة الوجوب،و أنّ هیئة«افعل»إن تعلّقت بشیء لنفسه لا للتوصّل إلی واجب آخر فهو واجب نفسی،و إن تعلّقت به للتوصّل إلی واجب آخر لا لنفسه-کالوضوء و نحوه-فهو واجب غیریّ.

و أشکل علیه المحقّق الخراسانی قدّس سرّه بأنّ الآثار المترتّبة علی الصلاة أیضا واجبة التحقّق،فنسبة الصلاة إلی الآثار تکون مثل نسبة الوضوء إلی الصلاة، فکما أنّ وجوب الوضوء غیریّ،کذلک وجوب الصلاة أیضا غیریّ.

و جوابه:أنّ وجوب الوضوء یکون للتوصّل إلی الصلاة الواجبة،بمعنی أنّها

ص:92

مبعوث إلیها بالبعث و التحریک الاعتباری،فهی تکلیف مستقلّ،بخلاف ما یترتّب علی الصلاة من الآثار و الخواصّ کالنهی عن الفحشاء و المنکر و قربان کلّ تقی،مع أنّ تحقّق المصلحة فیها ممّا لا شبهة فیه،و لکن لم یتعلّق بها الوجوب مستقلاّ و لا یکون فی الفقه بابا بهذه العناوین و لا تقع متعلّقا للأمر، و لذا لا نقول:إنّ الصلاة وجبت للتوصّل إلی واجب آخر،فما اختاره صاحب الکفایة قدّس سرّه ممّا نقطع بخلافه.

و الثمرات المترتّبة علی الواجب النفسی و الواجب الغیری متعدّدة،و العمدة منها ثمرتان:

الاولی:أنّ الوجوب فی الواجب النفسی لا یکون تابعا لوجوب شیء آخر، و لا یتوقّف وجوبه علی وجوب شیء آخر،بخلاف الوجوب فی الواجب الغیری،فإنّ وجوبه تابع لوجوب غیره.

و الثانیة:أنّ مخالفة الواجب النفسی توجب استحقاق العقوبة،بخلاف مخالفة الواجب الغیری فإنّها لا توجب استحقاق العقوبة أصلا،فإن أوجب ترک المقدّمة أو المقدّمات لترک ذی المقدّمة یکون استحقاق العقوبة لترک ذی المقدّمة فقط.

و إذا دار الأمر بین الواجب النفسی و الواجب الغیری بعد إحراز أصل الوجوب هل تثبت النفسیّة بالاصول اللفظیّة-مثل أصالة الإطلاق أو حکم العقل-أم لا؟و فی الصورة الثانیة ما تقتضیه الاصول العملیّة ما هو؟

قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):و أمّا إذا شکّ فی واجب أنّه نفسیّ أو غیری، فالتحقیق أنّ الهیئة و إن کانت موضوعة لما یعمّهما-أی لجامع الطلب-إلاّ أنّ

ص:93


1- 1) کفایة الاصول 1:173.

إطلاقها یقتضی کونه نفسیّا،فإنّه لو کان شرطا لغیره لوجب التنبیه علیه علی المتکلّم الحکیم؛لکون شرطیّته قیدا زائدا علی نفس الطلب.

و جوابه:-کما مرّ سابقا-:أنّ لازم التقسیم أن تکون الأقسام غیر المقسم، و المقسم هاهنا عبارة عن مطلق الوجوب و طبیعته،فکما أنّ الواجب الغیری قسم من هذا المقسم کذلک الواجب النفسی قسم منه،و یتحقّق فی کلّ من القسمین بعد تحقّق أصل الوجوب خصوصیّة زائدة،و لا یعقل أن یکون أحد القسمین عین المقسم،إلاّ أنّه یکون قید أحدهما قیدا وجودیّا،و الآخر قیدا عدمیّا بناء علی التعریف الذی اخترناه،و هو أنّ وجوب الواجب النفسی لا یکون للتوصّل إلی واجب آخر،و وجوب الواجب الغیری یکون للتوصّل إلی واجب آخر،و کلاهما قیدان وجودیّان بناء علی التعریف الذی اخترناه، فلا یمکن التمسّک بأصالة الإطلاق لإثبات النفسیّة بعد اشتراکهما فی التقیید؛إذ یثبت به المقسم لا الأقسام کما لا یخفی.

و لمّا کان الشیخ الأنصاری قدّس سرّه فی صدد الجواب عن التمسّک بالإطلاق فی تقریراته یظهر أنّ بعض الأعاظم تمسّک به قبل صاحب الکفایة قدّس سرّه لإثبات النفسیّة،و محصّل کلام الشیخ (1)أنّه:لا وجه للاستناد إلی إطلاق الهیئة لدفع الشکّ المذکور؛إذ الهیئة ملحقة بباب الحروف من حیث الوضع و کیفیّته، و الوضع فیها عامّ و الموضوع له خاصّ،فمفاد الهیئة عبارة عن الأفراد و المصادیق التی لا یعقل فیها التقیید.

نعم،لو کان مفاد الأمر هو المفهوم-أی کان الموضوع له عامّا-صحّ القول بالإطلاق،لکنّه بعید عن الواقع بمراحل؛إذ لا شکّ فی اتّصاف الفعل بالمطلوبیّة

ص:94


1- 1) مطارح الأنظار:67.

بسبب الطلب المستفاد من الأمر،مثلا نقول بعد تعلّق الأمر بالصوم:إنّ الصوم مطلوب،و لا یعقل اتّصافه به بواسطة مفهوم الطلب،فإنّ الفعل یصیر مرادا أو مطلوبا بواسطة واقع الإرادة و حقیقتها لا بواسطة مفهومها،فالصوم مطلوب بالطلب الحقیقی،و هذا دلیل علی وضع هیئة«افعل»لمصادیق الطلب لا لمفهومه و ماهیّته المطلقة،فلا مجال للتمسّک بأصالة الإطلاق.

و أجاب عنه المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):أوّلا:بأنّ مفاد الهیئة-کما مرّت الإشارة إلیه-لیس الأفراد،بل هو مفهوم الطلب،و مرّ أنّ الوضع و الموضوع له و المستعمل فیه فی باب الحروف و ما یشبه بها عامّ کالأسماء،بل لا فرق بینهما إلاّ فی موارد الاستعمال بواسطة شرط الوضع.

و ثانیا:بأنّ هیئة«افعل»وضعت لإنشاء الطلب،و لا شکّ فی أنّه لا یتعلّق بفرد الطلب الخارجی؛لأنّه قائم بالنفس إنّما یوجد بأسبابه الخاصّة،بل هو یتعلّق بمفهوم الطلب و طبیعته و ماهیّته،فتکون المفاهیم قابلة للإنشاء لا المصادیق،و لا جمیع المفاهیم بل بعضها،فهیئة«افعل»وضعت لأن ینشئ بها مفهوم الطلب،فیکون لمفاد الهیئة إطلاق و قابل للتمسّک فیما نحن فیه.

و التحقیق:أنّ کلامهما لا یخلو عن مناقشة کما مرّ مفصّلا فی المباحث السابقة،و لا بدّ من الإشارة إلیها،فنقول بعنوان المناقشة فی کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه:إنّ مفاد هیئة«افعل»عبارة عن البعث و التحریک الاعتباری،و هو قائم مقام البعث و التحریک التکوینی،و یجب علی المکلّف إطاعته إذا صدر عن المولی عند العقلاء،و لا دخل له أصلا بمصداق الطلب و لا بمفهوم الطلب.

و المناقشة فی کلام الشیخ قدّس سرّه أنّه لا نسلّم کبری کلامه،فإنّه قال:بأنّ مفاد

ص:95


1- 1) کفایة الاصول 1:173-174.

الهیئة جزئی بلحاظ کونه من ملحقات المعانی الحرفیّة،و کلّ معنی حرفی لا یکون قابلا للتقیید،فمفاد الهیئة لا یکون قابلا للتقیید.

فنقول:إنّ الجزئی أیضا یکون قابلا للتقیید بلحاظ حالاته و أوصافه،مثل:

تقیید زید بقید المجیء،بل یرجع نوع التقییدات فی الجملات إلی المعانی الحرفیّة و الجزئیّة،مثل:قولنا:«ضربت عمروا یوم الجمعة فی المدرسة»، و معلوم أنّ قید یوم الجمعة یرجع إلی الضرب الصادر من زید-مثلا-و الواقع علی عمرو،و لا شکّ فی أنّ الضرب الکذائی یکون معنی حرفیّا.

و للمحقّق النائینی قدّس سرّه (1)بیان آخر للتمسّک بالإطلاق فی دوران الأمر بین النفسیّة و الغیریّة.

و توضیح بیانه یتوقّف علی مقدّمة،و هی:أنّ الواجب الغیری لمّا کان وجوبه مترشّحا عن الوجوب النفسی یصحّ التعبیر بأنّ الوجوب الغیری معلول للوجوب النفسی،فوجوب الصلاة علّة لوجوب الوضوء،و حینئذ یصحّ التعبیر بأنّ وجوب الصلاة شرط لوجوب الوضوء،و وجوبه مشروط بوجوبها،فکما أنّ وجود ذی المقدّمة مشروط بوجود المقدّمة،و کذلک وجوب المقدّمة مشروط بوجوب ذی المقدّمة،فیتوقّف وجود الصلاة علی وجود الوضوء،و یتوقّف وجوب الوضوء علی وجوب الصلاة،فالوضوء بالنسبة إلی الصلاة یکون من قیود المادّة،و وجوب الصلاة بالنسبة إلی الوضوء یکون من قیود الهیئة،و من البدیهی أنّ الدوران بین النفسیّة و الغیریّة یکون فیما لو صدر عن المولی أمران و احرز وجوب واجبین،و کان الشکّ فی وجوب الثانی من حیث إنّه واجب نفسی کالواجب الأوّل أو غیریّ.

ص:96


1- 1) فوائد الاصول 1:220-222،أجود التقریرات:169.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ للمسألة ثلاثة صور،فقد یکون لکلا الدلیلین إطلاق،و قد یکون لأحدهما إطلاق،و قد لا یکون لکلیهما إطلاق.

أمّا فی الصورة الاولی فلا إشکال فی صحّة التمسّک بکلا الإطلاقین،و تکون النتیجة هو الوجوب النفسی للوضوء و عدم کونه قیدا وجودیّا للصلاة-مثلا- فإنّ إطلاق دلیل الوضوء یقتضی عدم تقییده من حیث الهیئة،و إطلاق دلیل الصلاة یقتضی عدم تقییده من حیث المادّة؛إذ المشکوک فی الأوّل التقیید من حیث الهیئة،و فی الثانی التقیید من حیث المادّة.

و أمّا فی الصورة الثانیة فإن کان دلیل الصلاة مطلقا تکون نتیجة جریان أصالة الإطلاق هاهنا أنّ تحقّق الصلاة و وجودها لا یکون مقیّدا بوجود الوضوء و تحقّقه،فینتفی أحد الاشتراطین المقوّمین للواجب الغیری،و لازم ذلک انتفاء اشتراط الثانی،و أنّ وجوب الوضوء أیضا لا یکون مقیّدا بوجوب الصلاة.

و معلوم أنّ مثبتات الاصول اللفظیّة أیضا حجّة کما ثبت فی محلّه،و هکذا إن کان دلیل الوضوء مطلقا تکون نتیجة جریان الإطلاق هاهنا أنّ وجوب الوضوء لا یکون مقیّدا بوجوب الصلاة،و لازم ذلک عدم توقّف وجود الصلاة علی وجود الوضوء؛إذ ینتفی بانتفاء أحد الاشتراطین اشتراط الآخر أیضا.

و الحاصل:أنّ التمسّک بالإطلاق فی هاتین الصورتین ینتج النفسیّة فی دوران الأمر بین النفسیّة و الغیریّة.

و أمّا فی الصورة الثالثة فلا مجال للتمسّک بالإطلاق؛إذ لا إطلاق فی البین؛ لعدم جریان مقدّمات الحکمة.هذا تمام کلامه قدّس سرّه مع التوضیح.

و هذا البیان مع أنّه بیان دقیق لا یخلو عن مناقشتین:

ص:97

الاولی:أنّ التعبیر الرائج فی باب مقدّمة الواجب بناء علی القول بالملازمة:

أنّ وجوب المقدّمة یترشّح عن وجوب ذی المقدّمة،و هی عبارة اخری عن العلّیّة و المعلولیّة،فقد ذکرنا مفصّلا أنّ هذا لا ینطبق مع الواقعیّة لا فی الأفعال المباشرة و لا فی الأفعال التسبیبیّة،فإنّ الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة لا تکون علّة للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة،و إلاّ تنتقض قاعدة کلّیّة توقّف الإرادة علی المبادئ؛لأنّ معنی العلّیّة و المعلولیّة هو تحقّق المعلول قهرا بعد تحقّق العلّة، فتنتقض القاعدة فیما نحن فیه،مع أنّها لیست قابلة للتخصیص.

علی أنّ لازم ذلک تحقّق الإرادة المتعلّقة بنصب السلّم بعد إرادة الکون علی السطح لمن کان غافلا عن مقدّمیّته،مع أنّه لیس کذلک؛إذ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة کالإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة تحتاج إلی التصوّر و التصدیق بالفائدة و سائر المبادئ،إلاّ أنّ الفائدة المترتّبة علی ذی المقدّمة مطلوب نفسی للمرید، و الفائدة المترتّبة علی المقدّمة مطلوب غیری له.

و هکذا فی الأوامر الصادرة عن الموالی؛إذ النزاع فی الوجوب الشرعی للمقدّمة لا فی لابدّیّتها العقلیّة،فهو لیس قابلا للإنکار،و معنی العلّیّة تحقّق إیجاب المقدّمة من ناحیة المولی بمجرّد إیجاب ذی المقدّمة و إن کان المولی غافلا عن مقدّمیّتها،و لا طریق لنا لإثبات هذا المعنی،مع أنّه علی القول بالعلّیة لا بدّ من الالتزام بذلک.

المناقشة الثانیة:أنّه اعتقد بتحقّق الاشتراطین المذکورین للواجب الغیری بالنسبة إلی الواجب النفسی،و معلوم أنّ تحقّق أحدهما یکفی للتمسّک بالإطلاق،و لذا لا بدّ لنا من نفیهما معا،و هو فی اشتراط وجود الواجب النفسی بوجود الواجب الغیری ظاهر؛إذ المقصود منه إن کان هی المقدّمیّة-بمعنی

ص:98

عدم تحقّق الأوّل بدون الثانی فی الخارج-فهذا لا یستلزم التقیید،فإنّ معنی المقدّمیّة هو عدم إمکان کونه علی السطح عادة بدون نصب السلّم،و لکنّ النزاع فی التقیید و دخالة نصب السلّم بعنوان القید فی مادّة«کن علی السطح»، و انتفاؤه بأصالة الإطلاق،لا فی المقدّمة.

و من البدیهی أنّ التقیّد لا یکون لازم المقدّمیّة و التوقّف،و لیس معنی قوله:

«کن علی السطح»أنّ الواجب هو الکون علی السطح المقیّد بنصب السلّم، و إلاّ یلزم أن تتحقّق لواجب قیود خمسة-مثلا-بالنسبة إلی مادّته إذا توقّف علی مقدّمات خمسة،و لا یمکن الالتزام بذلک.

نعم،الأمر کذلک فی کثیر من المقدّمات الشرعیّة کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة،و لکن تقیّد ذی المقدّمة بالمقدّمة أمر زائد علی المقدّمیّة،و المقدّمیّة بنفسها لا تقتضی التقیید،فکلامه قدّس سرّه ناش من الخلط بین المقدّمیّة و القیدیّة، فلا یصحّ هذا الاشتراط.

و أمّا اشتراط وجوب الواجب الغیری بوجوب الواجب النفسی فهو یستفاد من مسألة الترشّح و العلّیّة و المعلولیّة،کأنّه یدّعی أنّه تتحقّق ضابطة عقلیّة هاهنا،و هی أنّ کلّ معلول مقیّد و مشروط بوجود العلّة.

و لکنّ التحقیق:أنّ ما ثبت عقلا عبارة عن عدم تحقّق المعلول بدون تحقّق العلّة،و أمّا اشتراط المعلول بوجود العلّة فهو أمر زائد بل خلاف الواقع؛لأنّ المعلول المعدوم مشروط بوجود العلّة أو المعلول الموجود.و الأوّل لا یصلح للاتّصاف بوصف الشرط و القید،فإنّ القاعدة الفرعیّة تشمل جمیع موارد الثبوت،سواء کانت بصورة قضیّة حملیّة أو بصورة ثبوت الوصف، فالمشروطیّة فی حال عدم المعلول أمر غیر معقول.

ص:99

و الثانی لا یصحّ أیضا،فإنّ رتبة الوصف متأخّرة عن ذات الموصوف دائما، و المقدّم بالرتبة هاهنا عبارة عن المشروطیّة التی کانت وصفا للمعلولیّة؛إذ یتحقّق بها مورد المعلولیّة،و رتبة المعلولیّة التی کانت موصوفة لها متأخّرة، و هذا یکشف عن عدم تحقّق الاشتراط و المشروطیّة أصلا،و المسلّم أنّ وجوب الواجب الغیری لا یتحقّق قبل تحقّق وجوب الواجب النفسی،و هذا لا یستلزم أن یکون الوجوب النفسی شرطا لتحقّق الوجوب الغیری و لو فرضنا العلّیّة هاهنا؛إذ الشرطیّة أمر زائد علی العلّیّة التامّة،فلیس فی الواجب الغیری من الشرطین المذکورین أثر و لا خبر حتّی ینفی بأصالة الإطلاق، فلا یصحّ التمسّک به لإثبات النفسیّة.

و اختار استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)طریقا آخر لإثبات النفسیّة،و هو أنّه:کما مرّ فی البحث عن هیئة«افعل»أنّ البعث المتعلّق بشیء حجّة علی العبد، و لا یجوز له المخالفة اعتذارا بعدم إثبات کونه للوجوب أو الاستحباب،و هذا لا یکون عذرا له لمخالفة العقلاء،بل العقل و العقلاء یحکم بلزوم امتثال هذا الأمر،و هذا یشبه بالاحتیاط الوجوبی العقلی،و هکذا فیما نحن فیه لا یکون احتمال کون الواجب مقدّمة للغیر عذرا للمخالفة عند العقل و العقلاء،بل المکلّف ملزم بالامتثال عند العقلاء،و لکن لا یترتّب علیه أثر سوی لزوم الإتیان به،و لا یثبت عنوان النفسیّة حتّی یثمر ثمرة عند حصول الوفاء بالنذر و نحو ذلک بإتیانه،و هو جیّد.

و إذا دار الأمر بین النفسیّة و الغیریّة مع فقدان أصل لفظی و حکم العقل تصل النوبة إلی الاصول العملیّة.

ص:100


1- 1) مناهج الوصول إلی علم الاصول 1:372،تهذیب الاصول 1:243.

قال المحقّق النائینی قدّس سرّه فی هذا المقام:إنّ للشکّ أقساما ثلاثة:القسم الأوّل:ما إذا علم بوجوب کلّ من الغیر و الغیری من دون أن یکون وجوب الغیر مشروطا بشرط غیر حاصل،کما إذا علم بعد الزوال بوجوب کلّ من الوضوء و الصلاة،و شکّ فی وجوب الوضوء من حیث کونه غیریّا أو نفسیّا،و ثمرة النفسیّة و الغیریّة عبارة عن وحدة العقاب و تعدّده عند ترک المکلّف لکلّ منهما،و وقوع الصلاة باطلة إذا ترک الوضوء و أقام الصلاة،و عدمه،ففی هذا القسم یرجع الشکّ إلی الشکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء و أنّه شرط لصحّتها، و حینئذ یرجع الشکّ بالنسبة إلی الصلاة إلی الشکّ بین الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین،و أصالة البراءة تقتضی عدم شرطیّة الوضوء للصلاة و صحّتها بدونه،فیترتّب علیه أثر الواجب النفسی و لا یثبت عنوان النفسیّة (1).

و فیه:أنّه جعل المسألة من مصادیق الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین ثمّ حکم بجریان أصالة البراءة،و لکنّه مخدوش من حیث الصغری و الکبری معا.أمّا الصغری فلما مرّ من أنّ البحث فی المسألة لا ینحصر بالمقدّمات الشرعیّة.

علی أنّ جمیع المقدّمات الشرعیّة لا ترجع إلی الاشتراط و التقیید و إن کان الأمر فی کثیر منها کذلک.

و قلنا:إنّ لازم مقدّمیّة نصب السلّم للکون علی السطح لیس التقیید بأن یکون المأمور به عبارة عن الکون علی السطح المقیّد بنصب السلّم حتّی ینفی القیدیّة بأصالة البراءة،فلا ربط لما نحن فیه بالأقلّ و الأکثر الارتباطیّین أصلا.

هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّه لو فرضنا أن یکون ما نحن فیه من صغریات الأقلّ و الأکثر

ص:101


1- 1) فوائد الاصول 1:222.

الارتباطیّین فالکبری ممنوعة؛إذ المبانی فیه مختلفة،فإنّ الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)هاهنا قائل بانحلال الشکّ و جریان البراءة،و المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (2)قائل باستحالة الانحلال و جریان أصالة الاشتغال،و المحقّق النائینی قدّس سرّه (3)قائل بالتفصیل،و أنّه فی صورة الشکّ فی الجزئیّة یحکم بالبراءة العقلیّة،و فی صورة الشکّ فی الشرطیّة یحکم بالاشتغال،فما نحن فیه بلحاظ کونه من قبیل الشکّ فی الشرطیّة لا یکون مجری البراءة علی مبناه قدّس سرّه.

ثمّ قال:القسم الثانی:ما إذا علم بوجوب کلّ من الغیر و الغیری و لکن کان وجوب الغیر مشروطا بشرط غیر حاصل کالمثال المتقدّم فیما إذا علم قبل الزوال،ففی هذا القسم یجری الاستصحاب و البراءة معا؛إذ الشکّ فی نفسیّة الوضوء و غیریّته یرجع إلی شرطیّة الصلاة بالوضوء و عدمه،و أصالة البراءة تنفی الشرطیّة،و یرجع أیضا إلی أنّ الوضوء قبل الزوال تعلّق به تکلیف فعلی أم لا؟و الاستصحاب ینفی وجوبه قبل الزوال،فأثر البراءة عبارة عن نفسیّة وجوب الوضوء و أثر الاستصحاب غیریّته،و لا منافاة بینهما،فإنّا لا نثبت عنوان النفسیّة و الغیریّة کما مرّ.

و التحقیق:أنّ مع قطع النظر عن الإشکال المذکور فی أصل البراءة یکون هذا البیان فی هذا القسم بیانا تامّا و قابلا للمساعدة،و لا إشکال فی الجمع بین الاصول العملیّة.

ثمّ قال:القسم الثالث:ما إذا علم بوجوب ما شکّ فی غیریّته و لکن شکّ فی وجوب الغیر،کما إذا شکّ فی وجوب الصلاة-فی المثال المتقدّم-و علم

ص:102


1- 1) فرائد الاصول 2:459-462.
2- 2) کفایة الاصول 2:228.
3- 3) فوائد الاصول 4:143.

بوجوب الوضوء،و لکن شکّ فی کونه غیریّا حتّی لا یجب؛لعدم وجوب الصلاة ظاهرا بمقتضی البراءة،أو نفسیّا حتّی یجب،فقد قیل فی هذا القسم بعدم وجوب الوضوء و إجراء البراءة فیه؛لاحتمال کونه غیریّا،فلا یعلم بوجوبه علی کلّ حال.

هذا،و لکنّ الأقوی وجوبه؛لأنّ المقام یکون من التوسّط فی التنجیز الذی علیه یبتنی جریان البراءة فی الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین،فأصل تنجیز الحکم معلوم و الواسطة فی التنجیز مشکوکة،و لذا یحکم بوجوب الوضوء.

و الإشکال فی تصویر هذه الصورة و جعلها ممّا نحن فیه؛إذ الشکّ هاهنا یرجع إلی الشکّ فی أصل الوجوب،و هو خارج عن محلّ البحث،و لذا قلنا:إنّ الدوران بین النفسیّة و الغیریّة یکون فی مورد تحقّق وجوب الواجبین،و لکنّ أحدهما مسلّم النفسیّة و الآخر مشکوک النفسیّة و الغیریّة،و لا یمکن الجمع بین العلم بوجوب الوضوء و الشکّ فی وجوب الصلاة؛إذ الشکّ فی الصلاة یسری إلی الوضوء أیضا،فإنّا لا نعلم بأنّه علی تقدیر کونه مقدّمة واجب أم لا، و کیف یتحقّق العلم بوجوب الوضوء بعد نفی وجوب الصلاة بأصالة البراءة؟! فهذه الصورة خارجة عمّا نحن فیه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه تعرّض لمسألتین فی ذیل هذا البحث بعنوان «تذنیبان»و قال:الأوّل:«لا ریب فی استحقاق الثواب علی امتثال الأمر النفسی و موافقته و استحقاق العقاب علی عصیانه و مخالفته عقلا،و أمّا استحقاقهما علی امتثال الأمر الغیری و مخالفته ففیه إشکال،و إن کان التحقیق عدم الاستحقاق علی موافقته و مخالفته بما هو موافقة و مخالفة».

ثمّ استدلّ لذلک بدلیلین:الأوّل:أنّ العقل یستقلّ بعدم الاستحقاق إلاّ

ص:103

لعقاب واحد أو لثواب،کذلک فیما خالف الواجب و لم یأت بواحدة من مقدّماته علی کثرتها،أو وافقه و أتاه بما له من المقدّمات.

الثانی:أنّ موافقة الأمر الغیری بما هو أمر لا بما هو شروع فی إطاعة الأمر النفسی لا یوجب قربا،و لا مخالفته بما هو کذلک بعدا،و المثوبة و العقوبة إنّما تکونان من تبعات القرب و البعد (1).و لا یخفی أنّ کلا الدلیلین یرجع إلی حکم العقل.

فإن قلت:إنّ هذا ینافی الروایات المتضمّنة لترتّب الثواب علی المقدّمات، مثل:ما ورد فی زیارة سیّد الشهداء أبی عبد اللّه الحسین علیه السّلام من أنّ لکلّ قدم ثواب عتق عبد من أولاد إسماعیل علیه السّلام،و ما ورد فی الحجّ ماشیا،و نحو ذلک (2).

قلنا:إنّه یدفع بأحد وجهین:

أحدهما:أنّ العقل یحکم بعدم استحقاق المثوبة لامتثال الواجب الغیری، و لکنّه لا ینکر إعطاء الثواب من اللّه تعالی تفضّلا و امتنانا.

و ثانیهما:لا بأس باستحقاق العقوبة علی المخالفة عند ترک المقدّمة و زیادة المثوبة علی الموافقة فیما لو أتی بالمقدّمات بما هی مقدّمات للواجب من باب أنّه یصیر حینئذ من أفضل الأعمال حیث صار أشقّها،إشارة إلی ما ورد فی الروایات من:«أنّ أفضل الأعمال أحمزها» (3)،فإن کان الداعی و المحرّک لإتیان المقدّمات الإیصال إلی ذی المقدّمة یتحقّق هذا العنوان،و إلاّ فلا.

هذا،و لکن لا بدّ لنا لتحقیق المسألة من ملاحظة ترتّب الثواب و العقاب ابتداء فی الواجبات النفسیّة،و أنّ ترتّب الثواب و العقاب علیها مسلّم أم لا؟

ص:104


1- 1) کفایة الاصول 1:175-178.
2- 2) الوسائل 14:441،الباب 41 من أبواب المزار،الحدیث 6.
3- 3) مجمع البحرین 4:16.

و نری بعد الملاحظة أنّ فی المسألة آراء مختلفة.

و قال جماعة من الفلاسفة:إنّ الثواب عبارة عن الصور البهیّة التی تجسّمها و تمثّلها النفس الإنسانیّة بالأعمال و الأفعال الحسنة کالحور و القصور و أمثال ذلک،فهی من لوازم الأعمال و ملازمة للإنسان العامل بها،و تکون لها خصوصیّتان:الاولی:أنّ مصاحبتها توجب النشاط و السرور للنفس،الثانیة:

أنّها تعطی النفس استعدادا للکمال و الصعود إلی مراتب عالیة،و العقاب عبارة عن الصور القبیحة المتناسبة مع الأعمال السیّئة،فهی أیضا ملازمة و مصاحبة للإنسان العامل،و من مصاحبتها یحصل للنفس التألّم و التأثّر أوّلا،و السقوط و الانحطاط ثانیا.

و یؤیّده بعض الآیات و الحکایات،کقوله تعالی: یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَیْنَها وَ بَیْنَهُ أَمَداً بَعِیداً (1)؛إذ العمل لا یتّصف بالحضور،فإنّه متصرّم الوجود،فلا محالة یکون معنی الآیة أنّ کلّ عمل یتمثّل و یتجسّم بصورة متناسبة،و یراها العامل عنده حاضرة،و ربما یودّ أن لا یکون معها مصاحبا و لا یراها أصلا،و لا دلیل للتصرّف فی الآیة،و إضافة لفظ«الثواب»و«العقاب»بعد کلمة«النفس».

و کقوله تعالی: فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ* وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ (2).و روی عن علیّ بن الحسین علیهما السّلام:أنّ أحکم آیة فی القرآن هذه الآیة.و معناها أنّ العامل یری نفس العمل لا ثوابه و عقابه،و لازم ذلک تجسّم الأعمال و تمثّلها.و نقل عن بعض الأعاظم حکایات مؤیّدة لهذا المعنی.

ص:105


1- 1) آل عمران:30.
2- 2) الزلزلة:7-8.

و قال جماعة آخرون أخذا بظواهر الآیات و الروایات:بأنّ الثواب و العقاب من مجعولات المولی کما هو ظاهر قوله تعالی: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَةِ فَلا یُجْزی إِلاّ مِثْلَها (1)،فالثواب عبارة عمّا التزمه المولی علی نفسه من إعطاء مثوبة کذا لامتثال أمر کذا تفضّلا علی العباد،و العقاب عبارة عن جعله عقوبة کذا لمخالفة أمر کذا،فالمسألة تابعة لجعله،و یمکنه جعل المثوبة للواجبات الغیریّة،مثل أکثر الواجبات النفسیّة، کما مرّت الإشارة إلی الروایات الواردة فی زیارة أبی عبد اللّه الحسین علیه السّلام و نحو ذلک،و لا یلزم من جعل المثوبة لبعض الواجبات الغیریّة جعلها فی جمیعها،کما أنّ الأمر فی الواجبات النفسیّة أیضا کذلک.

و التحقیق:أنّ مع قطع النظر عن الجعل فالتعبیر باستحقاق المثوبة لیس بصحیح أصلا بعد کون اللّه تعالی مالکا لوجود الإنسان بالملکیّة الحقیقیّة،فإنّ المالکیّة تکون من شئون خالقیّته و قیمومیّته،و بعد احتیاج الإنسان إلیه تعالی فی حدوثه و بقائه فإنّه عین الفقر و الربط،و الفقر المحض لا شیء له سوی الفقر و الربط،و بعد تفضّله و عنایته و منحه النّعم العدیدة الظاهریّة و الباطنیّة للإنسان؛بحیث یقول تعالی: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها، فکیف یحکم العقل باستحقاق المثوبة لامتثال الأوامر الإلهیّة التابعة للمصالح المتحقّقة فی متعلّقها،مع أنّ المصالح و الفوائد أیضا تعود إلی العبد؟!بل لا یصحّ مثل هذا التعبیر فی امتثال أوامر الموالی العرفیّة،مع أنّ ملکیّتها للعبد ملکیّة اعتباریّة،و مصالح المأمور به تعود کثیرا ما إلی المولی،فضلا عن امتثال الأوامر الإلهیّة،فلا یعقل القول باستحقاق المطیع المثوبة علی اللّه تعالی

ص:106


1- 1) الأعراف:160.انعام

کاستحقاق الدائن علی المدیون.

و أمّا استحقاق العقوبة فی صورة مخالفة أوامر الموالی العرفیّة و الإلهیّة فهو أمر عقلیّ لا شبهة فیه،و إذا کان التعبیر باستحقاق المثوبة فی الواجبات النفسیّة غیر صحیح ففی الواجبات الغیریّة لا یصحّ بطریق.

هذا،و لو فرض صحّة القول باستحقاق المثوبة عند الامتثال فی الواجبات النفسیّة فالحقّ مع صاحب الکفایة قدّس سرّه من أنّ امتثال الواجبات الغیریّة لا یوجب استحقاق المثوبة.

بیان ذلک:أنّه إذا قال المولی:«یجب علیک الکون علی السطح»و المکلّف یعلم أنّه متوقّف علی نصب السلّم،و الاختلاف بین القائلین بالملازمة و منکریها فی تحقّق اللزوم الشرعی المولوی و عدمه للمقدّمة بعد الاتّفاق علی تحقّق اللزوم العقلی لها،ففی مقام الامتثال قد تحصل للمکلّف حالة الانقیاد و یقع تحت تأثیر داعویّة أمر المولی،و قد لا تحصل له هذه الحالة.

و علی الأوّل لا بدّ له من نصب السلّم لإیجاد المأمور به فی الخارج،بلا فرق بین أن یکون للمقدّمة وجوب غیری أم لا،فلا داعویّة للوجوب الشرعی للمقدّمة،بل کان وجوده کالعدم،فما کان کذلک من حیث العمل الخارجی لا یعقل أن تکون موافقته موجبة لاستحقاق المثوبة.

و علی الثانی أیضا لا فرق بین أن یکون للمقدّمة وجوب شرعی مولوی أم لا؛إذ لا أثر لوجوده و عدمه،فلا توجب مخالفته استحقاق العقوبة.

فإن قلت:إذا فرض إتیان شخص بجمیع المقدّمات التی یحتاجها ذو المقدّمة، و لکن عرض له الموت أو النسیان قبل الإتیان بذی المقدّمة،و عدم إتیان شخص آخر أحدها،و عروض الموت أو النسیان علیه قبل فعلیّة التکلیف

ص:107

بذی المقدّمة،فلا شبهة فی تحقّق الفرق بینهما،و لا محالة یستحقّ الأوّل المثوبة بخلاف الثانی.

قلنا:سلّمنا تحقّق الفرق هاهنا،و لکنّه فی استحقاق المدح و عدمه لا فی استحقاق المثوبة و عدمه؛إذ الانقیاد و التهیّؤ بإتیان المبادئ مع عدم حصول ذیها لا یوجب إلاّ کونه ممدوحا عند العقلاء،بخلاف من لم یأت بالمبادئ أصلا.

فإن قلت:کیف یتصوّر عدم الفرق بین من توجّه إلی مکّة من أقصی البلاد لإتیان المناسک و من توجّه إلیها من البلاد القریبة مع قلّة المشقّة فی الثانی و کثرتها فی الأوّل؟

قلنا:لا شکّ فی زیادة استحقاق المثوبة فی الأوّل،و لکنّها لا ترتبط بالمقدّمات،بل هی لتحقّق عنوان آخر لذی المقدّمة،و هو عنوان الأشقّیّة و الأحمزیّة،فهی ترتبط و تتعلّق بذی المقدّمة من باب أفضل الأعمال أشقّها.

هذا علی المبنی المعروف عند الاصولیّین،و أمّا علی مبنی الجعل،فالمسألة تابعة لجعل المولی فی الواجبات النفسیّة و الغیریّة،بلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

و بالجملة،أنّ موافقة الأمر الغیری بما هو أمر لا بما هو شروع فی إطاعة الأمر النفسی لا یوجب قربا،و لا توجب مخالفته بما هو کذلک بعدا،و المثوبة و العقوبة إنّما تکونان من آثار القرب و البعد علی المبنی المعروف.

و من هنا استشکل أوّلا:بأنّه إذا کان الأمر الغیری بما هو لا إطاعة له و لا قرب فی موافقته و لا مثوبة فی امتثاله،فکیف حال بعض المقدّمات -کالطهارات الثلاث-حیث لا شبهة فی حصول الإطاعة و القرب و المثوبة بموافقة أمرها؟!

و الجواب عنه علی القول بالجعل سهل لا یحتاج إلی تکلّف،و علی القول

ص:108

بالاستحقاق یتوقّف علی جواب الإشکال الثانی.

و ثانیا:بأنّ الواجبات النفسیّة علی قسمین:فقد تکون تعبّدیّة،و قد تکون توصّلیّة،مثل:أداء الدین و دفن المیّت،و أمّا الواجبات النفسیّة فلا شبهة فی توصّلیّتها،فإنّ وجودها کالعدم و لا یحصل بها التقرّب إلی اللّه،و الفرق بین التوصّلی و التعبّدی فی شرطیّة قصد القربة و عدمه کما مرّ فی محلّه،فالأمر الغیری ملازم للتوصّلیّة بعنوان قاعدة کلّیّة.

و انتقضت هذه القاعدة بالطهارات الثلاث؛إذ یعتبر فیها قصد القربة،و أنّها تکون باطلة بدونه فی عین کونها من الواجبات الغیریّة،فما منشأ عبادیّتها؟

إن کانت العبادیّة مستندة إلی الأمر النفسی الاستحبابی المتعلّق بها ففیه أوّلا:لو سلّمنا الاستحباب النفسی فی الوضوء و الغسل فلا دلیل علی الاستحباب النفسی فی التیمّم،مع أنّه لا فرق بینها من حیث العبادیّة.

و ثانیا:کیف یجتمع حکمان متغایران فی متعلّق واحد؟!و معلوم أنّه لا یمکن الجمع بین الحکمین المتغایرین فی عنوان واحد.

و ثالثا:أنّ لازم ذلک أن یقصد المکلّف حین الوضوء أمرا نفسیّا استحبابیّا، مع أنّا نری بعد مراجعة المتشرّعة و الفتاوی خلاف ذلک.

و إن کانت مستندة إلی الأمر الغیری بأنّه قد یتعلّق بمقدّمات غیر عبادیّة، و قد یتعلّق بالمقدّمات العبادیّة،مثل:الطهارات الثلاث،فلا فرق من هذه الناحیة بین الأمر النفسی و الغیری،و الإشکال فیه أنّه یستلزم الدور،و تقریبه یحتاج إلی مقدّمة،و هی:أنّ متعلّق الوجوب الغیری و المحکوم بهذا الحکم لیس مفهوم المقدّمة،و ما تکون مقدّمة بالحمل الأوّلی الذاتی،بل هو عبارة عن مصداق المقدّمة،و ما تکون مقدّمة بالحمل الشائع الصناعی،فإنّ نصب السلّم

ص:109

یوجب التمکّن من الکون علی السطح لا عنوان مفهوم المقدّمة،فالمعروض للوجوب فی قولنا:«المقدّمة واجبة»هو مصداق المقدّمة،فما یتعلّق به الأمر الغیری فی الطهارات الثلاث عبارة عن الغسلتین و المسحتین مع قصد القربة -مثلا-إذ الوضوء العبادی واجب بالوجوب الغیری،فلا بدّ من تحقّق قصد القربة قبل الأمر الغیری،فإنّ رتبة الموضوع متقدّمة علی رتبة الحکم، و المفروض أنّ عبادیّة الوضوء تتحقّق بنفس هذا الأمر الغیری،فالأمر الغیری یتوقّف علی عبادیّته،و عبادیّته متوقّفة علی الأمر الغیری.و حاصل الدور:أنّ الأمر الغیری بما أنّه حکم متأخّر عن الوضوء العبادی،و بما أنّه دخیل فی عبادیّة الوضوء العبادی متقدّم علیه.

و قال المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)فی مقام الجواب:إنّ الأمر الغیری المتوجّه إلی المرکّب أو المقیّد ینبسط و یتبعّض علی أجزاء متعلّقه الخارجیّة و العقلیّة کانبساط الأمر النفسی علی أجزاء الواجب مع بقاء وحدته؛إذ الوحدة لا تنافی التبعّض،نظیره وحدة الماء الواقع فی الحوض،و تبعّضه بأبعاض متعدّدة؛إذ الاتّصال مساوق للوحدة برهانا،و مع ذلک له أبعاض ربما یتلوّن بعضه باللون الأحمر،و بعضه الآخر باللون الأصفر،و هکذا سائر الأعراض،فالأمر الغیری ینحلّ إلی أوامر ضمنیّة غیریّة،و حینئذ تکون ذوات الأفعال فی الطهارات الثلاث مأمورا بها بالأمر الضمنی من ذلک الأمر الغیری،و إذا أتی بکلّ جزء بداعی ذلک الأمر الضمنی یتحقّق ما هو المقدّمة -أعنی الأفعال الخارجیّة المتقرّب بها-و بذلک یسقط الأمر الضمنی المتوجّه إلی القید بعد فرض کونه توصّلیا؛لحصول متعلّقه قهرا بامتثال الأمر الضمنی

ص:110


1- 1) نهایة الأفکار 1:327-329.

المتعلّق بذات الفعل.

و لکنّه إن سلّمنا جواز أخذ قصد القربة فی المتعلّق یرد علیه:أوّلا:أنّ الأوامر الضمنیّة الغیریّة المتعلّقة بالغسلتین و المسحتین لا شبهة فی عبادیّتها علی المبنی،و أمّا الأمر الضمنی المتعلّق بقصد القربة فلا یمکن أن یکون عبادیّا، فإنّ إتیان قصد القربة بداعی قصد القربة أمر غیر معقول؛إذ هو داعویّة شیء لنفسه،و هو کما تری،فیکون الأمر الضمنی المتعلّق به أمرا توصّلیّا،و لازم ذلک أن یتحقّق فی الشریعة أمر کان بعض أجزائه عبادیّا و بعضه الآخر توصّلیّا، و لم نسمع بهذا من آبائنا الأوّلین؛إذ الأوامر إمّا عبادیّة و إمّا توصّلیّة،و ما سمعنا بالأمر المشترک بینهما بلحاظ متعلّقه.

و ثانیا:أنّ الأمر الغیری لا یصلح لأن تتحقّق به عبادیّة متعلّقه،فإنّ إطاعته لا توجب استحقاق المثوبة،و موافقته لا توجب استحقاق العقوبة،و لا یتحقّق بإطاعته التقرّب إلی اللّه تعالی،فکیف یمکن أن یکون مصحّحا لعبادیّة شیء مع أنّ العبادة تکون مقرّبا إلی المولی؟!

و طریق آخر لحلّ الإشکال للمحقّق النائینی قدّس سرّه (1)و هو أیضا قائل بانبساط الأمر و تبعّضه و تعدّد أبعاضه بلحاظ تعدّد أبعاض المأمور به،و لکنّه یعتقد بانبساطه علی الشرائط کالأجزاء،و قال:إنّ الوضوء یکتسب العبادیّة من ناحیة الأمر النفسی المتوجّه إلی الصلاة بما لها من الأجزاء و الشرائط،بداهة أنّ نسبة الوضوء إلی الصلاة کنسبة الفاتحة إلیها من الجهة التی نحن فیها،حیث إنّ الوضوء قد اکتسب حصّة من الأمر بالصلاة لمکان قیدیّته لها،کاکتساب الفاتحة حصّتها من الأمر الصلاتی لمکان جزئیّتها،فکما أنّ الفاتحة اکتسبت

ص:111


1- 1) فوائد الاصول 1:228.

العبادیّة منه کذلک الوضوء اکتسب العبادیّة منه بعد ما کان الأمر الصلاتی عبادیّا،و کذا الحال فی الغسل و التیمّم.

و جوابه:أوّلا-بعد عدم کون مسألة الانبساط و التبعّض من المسائل المسلّمة کما سیأتی إن شاء اللّه-:أنّه لو فرض صحّة الانبساط و هو محدود بالمأمور به و ما له دخل فی تشکیل ماهیّة المأمور به،فلا شکّ فی أنّه منحصر بالأجزاء،و أنّ الشرائط خارجة عن حقیقة المأمور به و ماهیّته.

لا یقال:بأنّ القید خارج عنها،و لکنّ التقیّد به جزء للمأمور به.

فإنّا نقول:إنّ البحث و النزاع فی عبادیّة القید و الشرط الذی هو خارج عن دائرته لا التقیّد،فلا یمکن شمول الأمر الصلاتی للوضوء،فکیف یمکن أن یکون مصحّحا لعبادیّته؟!

و ثانیا:أنّه إذا تعلّق أمر عبادیّ بمرکّب ذات أجزاء یصیر کلّ جزء منه عبادة،و جزئیّة المرکّب العبادی ملازم للعبادیّة،فلا محالة یکون کلّ جزء من أجزاء العبادة عبادة.

و أمّا شرائط العبادة فتکون علی قسمین:بعضها تکون عبادة کالطهارات الثلاث،و بعضها لیس بعبادة کتطهیر الثوب و البدن و ستر العورة و استقبال القبلة و نحو ذلک،مع أنّ لازم کلامه قدّس سرّه اتّصاف جمیع شرائط العبادة بالعبادیّة؛ إذ لا فرق بینها و بین الأجزاء من هذه الناحیة.

إن قلت:إنّ مقتضی القاعدة کان کذلک،إلاّ أنّ الأدلّة الخارجیّة تدلّ علی أنّ طهارة البدن و الثوب و أمثال ذلک لیست بعبادة.

قلنا:إنّه یستلزم أن یکون الأمر بالصلاة فی قوله تعالی: أَقِیمُوا الصَّلاةَ أمرا عبادیّا بالنسبة إلی عدّة من الشرائط و الأجزاء،و غیر عبادی بالنسبة إلی

ص:112

عدّة اخری،و لا یلتزم بذلک متشرّع.

و أجاب عنه أیضا استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)بأنّه کما أنّ الأمر الغیری لا یکون مصحّحا لعبادیّة متعلّقه؛إذ لا داعویّة له إلاّ إلی الغیر و کان وجوده کالعدم،کذلک الأمر الضمنی لا یصلح لتصحیح عبادیّة متعلّقه،لا من حیث عدم داعویّته إلی متعلّقه،بل من حیث إنّ متعلّقه لیس تمام المتعلّق،فإنّه جزء من أجزاء المرکّب الارتباطی الذی إن لم یتحقّق جزء منه لم یتحقّق أصلا،فلا یمکن تصحیح العبادیّة بالأمر الضمنی،و المصحّح عبارة عمّا یدعو المکلّف إلی تمام المتعلّق،أی الأمر النفسی الاستقلالی.

و الإنصاف أنّ هذا الجواب بعد قبول الانبساط بکیفیّته المذکورة قابل للمساعدة.

و طریق آخر لتصحیح عبادیّة الطهارات الثلاث،و هو عبارة عن التفکیک بین داعویّة الأمر و متعلّقه من حیث توسعة الانبساط و تضییقه.

بیان ذلک:أنّ المأمور به و المتعلّق للأمر بالصلاة محدود فی الأجزاء فقط، و لکنّ داعویّة بالنسبة إلی الأجزاء و الشرائط مساو،کما أنّه یدعو إلی الأجزاء کذلک یدعو إلی الشرائط،بلا فرق بینهما من هذه الناحیة،إلاّ أنّ الدلیل الخارجی یدلّ علی إتیان مثل الوضوء حین الامتثال بداعی الأمر بالصلاة، بخلاف مثل تطهیر الثوب فإنّ إتیانه بداعی غیره أیضا لا یوجب الإشکال، فلا بدّ من إتیان جمیع الأجزاء و بعض الشرائط-مثل الطهارات الثلاث- بداعویّة الأمر المذکور،بخلاف بعضها الآخر.

و لکنّه مخدوش،فإنّه لا یمکن الالتزام بالاختلاف بین متعلّق الأمر

ص:113


1- 1) مناهج الوصول إلی علم الاصول 1:385،تهذیب الاصول 1:253.

و داعویّته من حیث السعة و الضیق؛إذ الأمر لا یدعو إلاّ إلی متعلّقه،کما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه مکرّرا،و إذا فرض خروج الشرائط عن دائرة المتعلّق فلا داعویّة للأمر إلیها أصلا،و إلاّ یلزم أن یکون الأمر المتعلّق بالصلاة داعیا إلی الصوم،هو کما تری.

هذا،و لکنّ التحقیق فی تصحیح عبادیّة الطهارات الثلاث أنّ الإشکال و جمیع الأجوبة التی حکیناها عن الأعاظم یبتنی علی أساس توهّم أنّه مسلّم و مفروغ عنه،مع أنّه لیس کذلک،و هو أنّ عبادیّة العبادة تحتاج إلی الأمر، سواء کان نفسیّا أو غیریّا،و علی هذا الأساس استشکل فی بحث الترتّب أیضا کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی،و منشأ هذا الأساس عبارة عن احتیاج العبادة إلی قصد القربة،بمعنی إتیان المأمور به بداعی الأمر المتعلّق به،و لذا نحتاج فی تحقّق العبادیّة إلی الأمر،و إلاّ لا یعقل قصد امتثال الأمر.

و من البدیهی أنّ هذا المعنی قابل للمناقشة؛إذ یحتمل قویّا أن یکون قصد القربة بمعنی إتیان المأمور به بداعی کونه مقرّبا إلی المولی کما هو الظاهر من اللفظ و المرتکز فی الأذهان،و یحتمل أن یکون بمعنی إتیانه بداعی کونه حسنا، و یحتمل أن یکون بمعنی إتیانه بداعی کونه ذا مصلحة.و علی هذه المعانی لا نحتاج إلی تعلّق الأمر بالعبادة.

و یمکن أن یقال:إذا کان الأمر کذلک فمن أین یعلم عبادیّة الطهارات الثلاث و توصّلیّة تطهیر الثوب مثلا؟

و جوابه:أنّ عبادیّة بعض الأعمال معلومة لا تحتاج إلی الدلیل کالسجدة، فإنّ العبادة عبارة عن الخضوع و الخشوع فی مقابل المعبود،سواء کان أهلا للعبادة أم لا،و هذا المعنی متحقّق فی السجدة.

ص:114

و أمّا کثیر من الأعمال فلا یعلم عبادیّتها إلاّ من طریق الشرع،و لیس معناه لزوم تحقّق الأمر،بل الإجماع أو ضرورة الفقه أو البداهة عند المتشرّعة أیضا یکفی للعبادیّة،و الطهارات الثلاث من هذا القبیل،فإنّا لا نفهم عبادیّتها،بل لا نفهم عبادیّة الصلاة بهذه الهیئة الترکیبیّة.

و أمّا بعد الرجوع إلی الفقه و المتشرّعة فنستفید أنّها مقرّبة إلی المولی، بخلاف مثل تطهیر الثوب،فالأمر بالصلاة-مثلا-یدلّ علی أصل الوجوب فقط،و لزوم إتیانها مع قصد القربة یستفاد من الخارج إن کان ملاک العبادیّة تحقّق الأمر،و هو یتحقّق فی الواجبات التوصّلیّة أیضا.و معلوم أنّ معنی لزوم قصد التقرّب فی المأمور به أنّ امتثاله ریاء أو بدواع أخر لا یکون مقرّبا،بل یکون مبعّدا عن المولی.

و الحاصل:أنّه لا یشترط فی عبادیّة المأمور به أزید من أمرین:أحدهما:

صلاحیّته لأن یتقرّب به،و ثانیهما:التقرّب به فی مقام العمل و الامتثال،و لا بدّ لنا من إحراز صلاحیة العبادیّة من طریق الشرع،و نستفید منها فی باب الطهارات الثلاث من الإجماع و ضرورة الفقه،و البداهة عند المتشرّعة، فلا نحتاج إلی الأمر حتّی یلزم توالی الفاسدة المذکورة.

و منها:الإشکال علی القول بتصحیح عبادیّة الطهارات الثلاث بالأمر النفسی الاستحبابی بأنّه لا یحکم بالاستحباب النفسی للتیمّم إلاّ فی موارد نادرة،مثل:استحبابه عند النوم مع التمکّن من الماء،بخلاف الوضوء فإنّه مستحبّ فی جمیع الحالات حتّی فی حال الوضوء بعنوان التجدید،و هکذا للغسل أیضا استحباب نفسی فی الأمکنة و الأزمنة المختلفة،و إن لم تکن دائرة استحبابه مثل دائرة استحباب الوضوء من حیث الوسعة،فالوضوء عبادیّته

ص:115

و مقرّبیّته مطلقة،بخلاف التیمّم فإنّ عبادیّته مشروطة بشرائط خاصّة و ظرف خاصّ.

و لا یرد هذا الإشکال علی المبنی المختار،فإنّ کلّ واحد من الطهارات الثلاث عبادة و مقرّبة من دون فرق بین أن یکون له استحباب نفسی أم لا، و ملاک العبادیّة-أی الصلاحیة للتقرّب-فی الجمیع متحقّقة،مع أنّ الوضوء الحرجی علی القول بجریان قاعدة«لا حرج»بنحو العزیمة لا بنحو الرخصة کما هو التحقیق لیس بصحیح،فعبادیّة الوضوء أیضا لا تکون عبادیّة مطلقة کما هو الظاهر.

و منها:أنّ علی القول بالملازمة بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و الوجوب الشرعی للمقدّمة یقع الوضوء-مثلا-متعلّقا للأمرین المتخالفین -أی الاستحباب النفسی و الوجوب الغیری-فکیف یمکن الجمع بینهما فی متعلّق واحد؟

و جوابه-بعد قبول القول بالملازمة-:أنّ ذات الوضوء-أی الغسلتین و المسحتین-یکون مأمورا به بالأمر النفسی الاستحبابی،و مجموع هذا الأمر و المأمور به-أی ذات الوضوء بوصف کونها عبادة و متعلّقة للأمر النفسی الاستحبابی-یکون مقدّمة متعلّقة للأمر الغیری الوجوبی،و نظیره تعلّق الأمرین المتخالفین بصلاة الظهر بعد شرطیّتها و مقدّمیّتها لصلاة العصر؛بأنّ متعلّق الوجوب النفسی هو ذات صلاة الظهر،و متعلّق وجوب الغیری المقدّمی هی صلاة الظهر المتّصفة بأنّها واجبة،فیتحقّق الفرق بین المتعلّقین.

و منها:أنّ الأمر النفسی الاستحبابی إن کان مصحّحا لعبادیة الطهارات الثلاث یلزم علی المکلّف فی مقام الامتثال أن یتوجّه إلیه،و یکون الداعی

ص:116

و المحرّک له عبارة عنه،و وقوعها باطلة إن کان الداعی غیره،مع أنّه لا إشکال فی صحّتها إن اتی بها بقصد الأمر الغیری المتعلّق بها،بل هکذا یقع العمل فی الخارج؛إذ المتوضّئ بعد السؤال عن محرّکه یقول:«أتوضّأ للصلاة»،و معناه:

أنّ الداعی و المحرّک لهذا العمل عبارة عن الأمر الغیری الملازم للأمر النفسی المتعلّق بالصلاة،و لا إشکال فیه من حیث الفتوی أیضا.

و یستفاد من ذلک أمران:

الأوّل:أنّ عبادیّة الطهارات الثلاث لا ترتبط بالأمر النفسی الاستحبابی، سیّما فی التیمّم بلحاظ عدم تحقّقه فیه أصلا،فکما أنّ المتیمّم فی مقام العمل لا یتوجّه إلی الأمر النفسی الاستحبابی کذلک المتوضّئ لا یتوجّه إلیه.

الثانی:أنّ خصوصیّة الثانیة المذکورة-أی إتیان العمل بقصد التقرّب أو إتیانه بداعویّة أمره إن کان له أمر-لا یعتبر فی العبادیّة،کأنّه یقول:إن فرض تصحیح عبادیّة الطهارات الثلاث بالإجماع أو ضرورة الفقه أو البداهة عند المتشرّعة،فنسأل أنّ إتیان الوضوء-مثلا-بداعی الأمر الغیری صحیح أم لا؟

إن حکمت ببطلانه نقول:لا إشکال فی صحّته،و توافقه الفتوی،و یکون الأمر فی مقام العمل أیضا کذلک،و إن حکمت بصحّته نقول:کیف یمکن أن یکون الأمر الغیری مصحّحا لعبادیّة شیء مع أنّ موافقته لا توجب القرب إلی المولی،بل کان وجوده کالعدم؟!

و جوابه:أنّ المتوضّئ حیث یقول:«أتوضّأ للصلاة»قد یکون مراده منه أنّی أتوضّأ مع قصد القربة للصلاة،و حینئذ لا شبهة فی صحّة وضوءه و عدم تصحیح العبادیّة بالأمر الغیری،و قد یکون مراده منه أنّی أتوضّأ بدونه

ص:117

للصلاة،و حینئذ لا شکّ فی بطلان وضوئه؛لفقدانه الخصوصیّة الثانیة المعتبرة فی العبادیّة.

و ربّما یتوهّم صحّته فی الصورة الثانیة أیضا؛لأنّ الصلاة تتوقّف علی وضوء عبادی،و یرجع القول المذکور إلی أنّی أتوضّأ وضوء مقدّمة للصلاة،و هذا القول یکفی لعبادیّة الوضوء،و علی هذا یعود الإشکال فی محلّه.

و لعلّ أنّ ما قاله صاحب الکفایة قدّس سرّه فی ذیل کلامه المتقدّم ناظر إلی هذا المعنی،و هو قوله:«نعم،لو کان المصحّح لاعتبار قصد القربة فی الطهارات أمرها الغیری لکان قصد الغایة ممّا لا بدّ منه فی وقوعها صحیحة (1)...»إلخ.

و جوابه:أنّ مجرّد إتیان الوضوء الذی یکون مقدّمة للصلاة لا یوجب إتیانه مع قصد القربة،و نظیره بطلان الصلاة الریائیّة فإنّها لأجل الریاء کانت باطلة، لا لأجل إتیان المکلّف بصورة الصلاة؛إذ هو قصد عنوان ما یصلح للعبادیّة، و لکنّه فاقد للخصوصیّة الثانیة المعتبرة فی العبادیّة-أی قصد القربة-إذ هو لا یجتمع مع الریاء.و بالنتیجة سلّمنا أنّ الوضوء العبادی مقدّمة للصلاة،و لکن هذا لا یرجع إلی أن یکون نفس الوضوء مع قصد القربة،فلا یصحّ الوضوء بدون قصد القربة أصلا.

و محصّل ما ذکرناه فی باب الطهارات الثلاث أنّ لعبادیّتها یتحقّق طریقان:

أحدهما:الإتیان بها بقصد القربة و لکونها صالحة للمقرّبیة،و ثانیهما:الإتیان بها بداعی الأمر النفسی المتعلّق بها،و لا فرق فی هاتین الجهتین بین کونه قبل الوقت و بعد الوقت،و إنّما الفرق بینهما فی تحقّق الأمر الغیری و عدمه،و هو لا یکون ملاک الصحّة و العبادیّة،بل لا یتصوّر بطلان الوضوء قبل الوقت

ص:118


1- 1) کفایة الاصول 1:178.

أصلا،بخلاف إتیانه بعد الوقت،فإنّ إتیانه فیه بداعی الأمر الغیری بدون قصد القربة یکون باطلا.

و لا یخفی علیک أنّ بحثنا فی الامور التی ذکروها قبل البحث عن مقدّمة الواجب و عدمه،و کان الأمر الثالث منها فی تقسیمات الواجب،و فی ذیل البحث عن تقسیمه إلی النفسی و الغیری ینتهی البحث إلی هنا.و صاحب الکفایة قدّس سرّه کأنّه نسی تقسیمه إلی الأصلی و التبعی،و لذا دخل فی الأمر الرابع،ثمّ التفت إلیه بعده و ذکره فی غیر محلّه،و نحن أیضا نشرع فی البحث عن الأمر الرابع حفظا لترتیب الکفایة.

ص:119

ص:120

الأمر الرابع: تبعیّة الوجوب الغیری لوجوب ذی المقدّمة فی الإطلاق و الاشتراط

اشارة

تبعیّة الوجوب الغیری لوجوب ذی المقدّمة فی الإطلاق و الاشتراط

فی أنّ الوجوب الغیری للمقدّمة علی القول بالملازمة هل یکون تابعا فی الإطلاق و الاشتراط لوجوب ذی المقدّمة أم لا؟و المشهور قائل بالتبعیّة.

و نسب إلی صاحب المعالم قدّس سرّه (1)ما لا یستفاد من ظاهر کلامه حیث قال:

و أیضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة علی تقدیر تسلیمها إنّما ینهض دلیلا علی الوجوب فی حال کون المکلّف مریدا للفعل المتوقّف علیها،کما لا یخفی علی من أعطاها حقّ النظر.

و فسّر کلامه المذکور فی مبحث الضدّ (2)بأنّ الوجوب الغیری المقدّمی مشروط بشرط مستقلّ دائما،و هو عبارة عن إرادة المکلّف الإتیان بذی المقدّمة و إن کان الوجوب المتعلّق بذی المقدّمة مطلقا.

و لکنّ التحقیق:أنّ ما نقل عنه لا یوافق مع ما نسب إلیه؛إذ المنسوب إلیه عبارة عن القضیّة الشرطیّة،و یتحقّق بین الشرط و الجزاء العلّیّة المنحصرة،

ص:121


1- 1) معالم الدین:71.
2- 2) المصدر السابق.

و إلاّ لم یتحقّق لها مفهوم،و المنقول عنه عبارة عن القضیّة الحینیّة،کأنّه یقول:

«أیّها العبد حینما أردت ذا المقدّمة تجب علیک المقدّمة»،و علی أیّ حال یقول بتضییق دائرة وجوب المقدّمة.

و جوابه أوّلا-کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)-:إنّ علی القول بالملازمة و الالتزام بهذا الأمر الغیر الواضح لا یصحّ الفرق بین الوجوبین و التفکیک بینهما من حیث التوسعة و التضییق،بل التبعیّة أمر واضح لا شبهة فیه.

و ثانیا:ما أجاب به الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (2)علی ما فی تقریراته، و هو یتوقّف علی مقدّمة،و هی:أنّه یتحقّق فی کلّ واجب الشرط المناسب له، و لذا مرّ فی باب الواجب المطلق و المشروط أنّه لا یتحقّق الواجب المطلق من جمیع الجهات،بل المطلق و المشروط من الامور النسبیّة کالصلاة-مثلا-فإنّها مطلقة بالنسبة إلی الوضوء و مشروطة بالنسبة إلی الوقت،و هکذا فی سائر الواجبات،و لا یمکن أن یکون شرط الواجب عبارة عن إرادة نفس هذا الواجب،کقولنا:«یجب علیک الصلاة إن أردتها»؛إذ المکلّف إمّا تتحقّق له إرادة الصلاة،أو لا تتحقّق،و فی الصورة الثانیة لا شکّ فی عدم تحقّق المشروط أیضا،فلیست الصلاة بواجبة عند عدم إرادتها،و أمّا إذا تحقّقت الإرادة فمعناه أن تتحقّق الصلاة فی الخارج،و کانت علّة تحقّقها عبارة عن نفسها،فلا دخل لأمر المولی فی تحقّق المأمور به.

و لا یتوهّم أنّ لکلّ من الإرادة و الأمر دخلا فی تحقّقه،فإنّ الإرادة متقدّمة علی الأمر من حیث الرتبة؛إذ لا شکّ فی تقدّم رتبة الشرط علی المشروط،

ص:122


1- 1) کفایة الاصول 1:181.
2- 2) مطارح الأنظار:72.

و بعد تأثیر ما هو المتقدّم من حیث الرتبة لا تصل النوبة إلی ما هو المتأخّر عنه،فیستند العمل الخارجی إلی إرادة العبد،و لا دخل للبعث و التحریک فی تحقّقه،فیلزم أن یکون أمر المولی لغوا أو مستحیلا،فإنّه فی صورة عدم الإرادة لغو،و فی صورة تحقّقها تحصیل للحاصل،و هو محال،و لا یمکن الجمع بین الأمر و تعلیقه بإرادة المکلّف و مشیّته عند العرف أیضا.

و بعد هذه المقدّمة یستفاد أنّه لقائل أن یقول:إنّ هذا البرهان لا یجری فی کلام صاحب المعالم قدّس سرّه،فإنّه قائل بأنّ الوجوب الغیری للمقدّمة مشروط بإرادة ذی المقدّمة لا بإرادة نفس المقدّمة.

قلنا:إنّ إرادة ذی المقدّمة ملازم لإرادة المقدّمة؛لأنّ بعد تحقّق المقدّمیّة و الالتفات إلیها لا یمکن التفکیک بین إرادتهما،فکلّما تحقّقت إرادة ذی المقدّمة تتحقّق إرادة المقدّمة أیضا بالملازمة،فإن قال المولی:«یجب علیک نصب السلّم إن أردت الکون علی السطح»فهذا یرجع إلی أنّه یجب علیک نصب السلّم إن أردت نصب السلّم،و هو تعلیق الواجب علی نفسه،و لا شکّ فی أنّه مستحیل.

هذا محصّل کلام الشیخ قدّس سرّه.

و لکن یمکن لصاحب المعالم أن یجیب بأنّه سلّمنا المقدّمة المذکورة بعنوان ضابطة کلّیّة،و أنّه لا یمکن تعلیق إیجاب الشیء بإرادة نفس هذا الشیء،و لکن لا نسلّم رجوع تعلیق وجوب المقدّمة بإرادة ذیها إلی هذه الضابطة،و ما ذکره بعنوان دلیل الاستحالة فیما حکیناه عنه-أی استناد العمل إلی الإرادة بعد وقوعها شرطا بلحاظ تقدّم الشرط علی الجزاء،فلا مجال للبعث و الأمر- لا یصحّ و لا یجری هاهنا،فإنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة متأخّرة عن الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة دائما،و لذا یعبّر فی الکلمات بالترشّح و العلّیّة،فتکون

ص:123

للإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة علّیّة و تقدّم علی الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة،و حینئذ إذا قال المولی:«یجب علیک نصب السلّم إن أردت الکون علی السطح» فلا شکّ فی تأخّر وجوب نصب السلّم و الجزاء عن إرادة الکون علی السطح و الشرط،و لکن وجوب الجزاء مع إرادته مقارن له من حیث الرتبة،و المتقدّم عبارة عن الشرط فقط،و معلوم أنّ إیجاب شیء مقارنا لإرادته لا یکون تحصیلا للحاصل،فالمقارنة بینهما مانعة عن تحقّق عنوان تحصیل الحاصل.

فالحقّ فی الجواب ما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه.هذا تمام الکلام حول مقالة صاحب المعالم قدّس سرّه فی هذا البحث.

و ینسب أیضا إلی الشیخ الأنصاری ما یکون مخالفا للمشهور،و هو علی ما نقله صاحب الکفایة قدّس سرّه عن تقریراته:أنّ الوجوب الغیری المقدّمی مشروط علی أن یکون الإتیان بالمقدّمة بداعی التوصّل بها إلی ذی المقدّمة،و علی هذا یتوقّف وجوب المقدّمة علی خصوصیّتین،و هما إرادة ذی المقدّمة و إیجاد المقدّمة بداعی التوصّل بها إلی ذی المقدّمة،فلا بدّ لنا من البحث فی مرحلتین:

الاولی:فی صحّة هذه النسبة إلیه بعنوان المقابلة مع المشهور و عدمها،و من المعلوم أنّ البحث فیما نحن فیه فی أنّ الوجوب الغیری المقدمی-سواء کانت المقدّمة عبادیّة أم لا-هل یکون تابعا للوجوب النفسی لذی المقدّمة أم لا؟ و لکن بعد مراجعة تقریرات الشیخ قدّس سرّه نلاحظ أنّه لیس فی مقام بیان هذا البحث،بل هو فی مقام بیان اتّصاف المقدّمة بالعبادیّة،و أنّ إتیانها فی الخارج بعنوان العبادة سواء کانت من الامور العبادیّة أم لا یتوقّف علی إتیانها بداعی امتثال الأمر الغیری المتعلّق بها،و یعبّر عن هذا بقصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة،فهو یکون فی مقام تصحیح عبادیّة المقدّمة،و لا دخل له فیما نحن فیه

ص:124

أصلا،فتبعیّة وجوب المقدّمة لوجوب ذی المقدّمة مسألة،و تصحیح عبادیّتها مسألة اخری.

الثانیة:فی أنّه لو فرضنا صحّة هذه النسبة إلیه فیکون فی کلامه ثلاثة احتمالات:

الأوّل:أن یکون مراده بصورة قضیّة شرطیّة کأنّه یقول:یجب علیک نصب السلّم إن أردت الکون علی السطح من هذا الطریق.

الثانی:أن یکون مراده بصورة قضیّة حینیّة کأنّه یقول:یجب علیک نصب السلّم إن أردت الکون علی السطح من هذا الطریق.

الثانی:أن یکون مراده بصورة قضیّة حینیّة کأنّه یقول:یجب علیک نصب السلّم حینما کنت مریدا للکون علی السطح من هذا الطریق،و من أنّ المشروط و المعلّق علیه فی هذین الاحتمالین عبارة عن نفس الوجوب.

و الثالث:أن یکون قصد التوصّل داخلا فی دائرة المأمور به و الواجب، و یتعلّق الوجوب الغیری المقدّمی علی الشیء المقیّد،و الفرق بینهما یظهر فی لزوم التحصیل و عدمه کقوله:«یجب علیک نصب السلّم مع قصد التوصّل».

و أمّا علی الاحتمال الأوّل فنبحث أوّلا فی مقام الثبوت،و بعد ثبوت إمکانه تصل النوبة إلی مقام الإثبات و الاستدلال،و أوّل ما یصحّ القول به فی هذا المقام عبارة عمّا مرّ ذکره عن المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی جواب صاحب المعالم، و هو یرجع إلی أنّه بعد قبول أصل الملازمة یکون القول بالتفکیک بین الوجوب الغیری و الوجوب النفسی خلاف البداهة العقلیّة؛إذ التفکیک بین العلّة و المعلول من حیث الإطلاق و الاشتراط ممتنع عقلا.

نعم،ثبت فی المباحث الفلسفیّة أنّ کلّ معلول مقیّد بعلّته کتقیّد الحرارة المعلولة للنار بأنّها جاءت من قبل النار،و لکنّ الذی نبحث فیه کون المعلول مشروطا بشرط لا یرتبط بالعلّة أصلا،و لذا اعتبر صاحب الکفایة قدّس سرّه أنّ

ص:125

مسألة التبعیّة واضحة بحیث یکون خلافه أمرا مستحیلا.

و ثانیا:ما أورده الشیخ قدّس سرّه علی صاحب المعالم من دون أن یکون قابلا للذبّ عنه،فإنّ قصد التوصّل فی الحقیقة یکون إلی إرادتین، و کأنّه یقول:تجب علیک المقدّمة إن أردت المقدّمة و إن أردت ذی المقدّمة،و معناه أنّه لا دخل للبعث و التحریک فی تحقّق وجوب المقدّمة،بل لإرادتها فی رتبة متقدّمة دخل فی تحقّق الوجوب،و تعلیق الوجوب بإرادة نفس الواجب تحصیل حاصل و أمر مستحیل کما اعترف الشیخ قدّس سرّه به آنفا، و عدم قابلیّته للدفاع یکون بلحاظ أخذ نفس إرادة الواجب بعنوان شرط الوجوب،إلاّ أنّه أضاف فی جنبها إرادة اخری،و لکنّها تکون کالحجر إلی جنب الإنسان،و لا تمنع من الاستحالة،و لا تتحقّق بین الإرادتین ملازمة، فیکون کلامه قدّس سرّه علی الاحتمال الأوّل مستحیلا،و لا تصل النوبة إلی مقام الإثبات.

و یجری هذا الکلام بعینه من صدره إلی ذیله بالملاک المذکور علی الاحتمال الثانی أیضا،و لا فرق بینهما إلاّ فی کمال الوضوح و غیره.

و أمّا علی الاحتمال الثالث فقد یقول:إنّ الإرادة لا تکون أمرا اختیاریّا و إلاّ یتسلسل کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه،و علی هذا لا یمکن أن تکون الإرادة واجبة،و لا یمکن جعلها قیدا للواجب،فإنّ قید الواجب أیضا لازم التحصیل، فإذا انحلّ قصد التوصّل إلی الإرادتین الغیر الاختیاریّین،کیف یمکن جعله قیدا للواجب؟!و هذا أیضا یکون مستحیلا بحسب مقام الثبوت.

و قد یقال:إنّ الإرادة توجد بواسطة نفس الإنسان کالوجود الذهنی،و ذلک بعنایة اللّه تعالی شعبة من الخلاّقیة إلیها کما هو الحقّ.

ص:126

نکتة:

و الظاهر أنّ المتعیّن فی کلامه قدّس سرّه بعد ملاحظة مبناه فی مطلق الواجب المشروط هو الاحتمال الثالث،فإنّه قائل برجوع القید فیه إلی المادّة،فیکون قصد التوصّل قیدا للواجب،و معناه لزوم تحصیل القید کذات الواجب، و حینئذ لو قلنا:إنّ القصد و الإرادة لا یکون أمرا اختیاریّا فیستشکل بأنّه لا یمکن تعلّق التکلیف و الوجوب بها،سواء کان الوجوب نفسیّا أو غیریّا.

و لکن تقدّم أن ذکرنا أنّها أمر اختیاری،و یؤیّده شرطیّة قصد القربة فی الواجبات التعبّدیّة؛إذ لا إشکال فی أنّها لو کانت من الامور الغیر الاختیاریّة فلا معنی للزوم تحصیلها.

و یمکن أن یتوهّم أنّه مرّ عن المحقّق الخراسانی قدّس سرّه استحالة أخذ قصد الامتثال و إتیان المأمور به بداعی أمره فی المتعلّق،سواء کان بصورة الجزئیّة أو الشرطیّة،فلا یرد علیه هذا الإشکال.

و جوابه أوّلا:أنّه سلّمنا إنکاره أخذ قصد الامتثال فی المتعلّق من ناحیته، و لکنّه قائل بأنّ الحاکم بلزوم اعتباره هو العقل،و علی هذا کیف یحکم العقل بلزوم اعتبار ما هو أمر غیر اختیاری؟!

و ثانیا:أنّه قائل بعدم إمکان أخذ قصد القربة بمعنی قصد الامتثال فی المتعلّق،و أمّا إن کان بمعان أخر کإتیان الشیء بداعی کونه حسنا أو ذات مصلحة،فلا مانع من أخذه فی المتعلّق عنده،فیعود إشکال الاستحالة.

و لکن بعد بطلان هذا المبنی و إمکان أخذ الإرادة فی المتعلّق عندنا و رجوع القید إلی المادّة عند الشیخ قدّس سرّه فلا نبحث معه فی مقام الثبوت؛إذ لا إشکال ثبوتا فی تعلّق الوجوب الغیری بشیء مقیّد بقصد التوصّل إلی ذی المقدّمة،

ص:127

و إذا وصلت النوبة إلی مقام الإثبات فلا یتمّ البحث مع الشیخ قدّس سرّه هاهنا،بل نبحث معه فی أصل مسألة الملازمة،فإنّ کلامه فرع ثبوت الملازمة،فإن اخترنا عدمها فلا تصل النوبة إلی هذا الکلام،و أمّا إن اخترناها فنبحث أنّ الوجوب الغیری المقدّمی یتعلّق بذات المقدّمة أو یتعلّق بها مع قصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة.

ثمّ ذکر المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)ثمرة فقهیّة بین القول المشهور عند القائلین بالملازمة و قول الشیخ قدّس سرّه و هی:فیما کان للواجب الأهمّ مقدّمة منحصرة محرّمة،کإنقاذ الغریق أو إطفاء الحریق المتوقّف علی الدخول فی ملک الغیر بغیر إذن مالکه؛بأنّه تتبدّل الحرمة الأوّلیّة بالوجوب الغیری المقدّمی علی القول المشهور،بلا فرق بین أن یتحقّق قصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة و عدمه،فلا عصیان للتکلیف التحریمی؛لأنّه بعد فرض مقدّمیّته للواجب الأهمّ صار حکمه الوجوب الغیری،إلاّ أنّه یتحقّق التجرّی فی صورة واحدة، و هی صورة عدم التفات المکلّف إلی المقدّمیّة و الوجوب الغیری و اعتقاده بالحرمة حین العمل.

و أمّا علی قول الشیخ قدّس سرّه فیتحقّق الوجوب الغیری فی صورة واحدة فقط، و هی صورة التفاته إلی المقدّمیّة،و إرادته إتیانها و إتیان ذیها،ففی هذه الصورة تتبدّل الحرمة بالوجوب الغیری،و أمّا إذا لم یلتفت إلی المقدّمیّة أو لم یقصد المقدّمة مع الالتفات إلیها فیکون عاصیا،و أمّا إذا قصدها و لم یقصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة،و حینئذ إن استمرّ عدم القصد حتّی بعد الإتیان بالمقدّمة فیکون المکلّف عاصیا بالنسبة إلی المقدّمة کعصیانه بالنسبة إلی ذی المقدّمة؛إذ

ص:128


1- 1) کفایة الاصول 1:183.

لا وجوب لها،بل تبقی علی حرمتها بلحاظ عدم قصده بها التوصّل إلی ذیها، و إن لم یستمرّ عدم قصده،بل حصل له بداء الإتیان بذی المقدّمة بعد المقدّمة، فیکون عاصیا بالنسبة إلی الوجوب الغیری،و متجرّیا بالنسبة إلی الوجوب النفسی بلحاظ عدم قصده من حین الدخول فی ملک الغیر.

و أمّا إن کان الداعی للمقدّمة متعدّدا-کإنقاذ الغریق و رؤیة الدار مثلا- فتتبدّل الحرمة بالوجوب الغیری علی المشهور بلا شبهة.

و أمّا علی قول الشیخ قدّس سرّه فإن کان مراده من قصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة طرف الإثبات فقط فلا إشکال أیضا فی تبدّله بالوجوب الغیری،و إن کان مراده منه طرف الإثبات و النفی معا یعنی قصد بها التوصّل و لم یقصد بها شیئا آخر،فهذه المقدّمة لیست متعلّقة للوجوب الغیری،و هی حرام،و یتحقّق بها العصیان.

القول الثالث:فی مقابل المشهور من القائلین بالملازمة ما قال به صاحب الفصول قدّس سرّه (1)و هو:أنّ الوجوب الغیری یتعلّق بالمقدّمة الموصلة،أی ترتّب ذی المقدّمة خارجا علی المقدّمة،سواء تحقّق قصد التوصّل من الابتداء أم لا، بخلاف الشیخ قدّس سرّه فإنّه اعتبر قصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة،سواء تحقّق الإیصال أم لا.

یحتمل أن یکون مراده شرطیّة الإیصال؛بأنّ الوجوب الغیری المقدّمی مشروط دائما بالإیصال و ترتّب ذی المقدّمة علیها،و یحتمل أن یکون مراده قیدیّة الإیصال للواجب و المتعلّق،و حینئذ یلزم تحصیله،و یعبّر عن الأوّل بأنّه تجب المقدّمة إن کانت موصلة،و عن الثانی بأنّه تجب المقدّمة

ص:129


1- 1) الفصول الغرویة:86.

مع قصد الإیصال.

و اجیب عن الاحتمال الأوّل بأنّه بدیهی الاستحالة ثبوتا؛إذ لا شکّ فی تقدّم الشرط علی الجزاء دائما فی القضایا الشرطیّة من حیث الرتبة،فإن کان عنوان الإیصال شرطا للوجوب الغیری فلا بدّ من تعلّق الوجوب الغیری بعد تحقّق عنوان الإیصال خارجا،مثل تعلّق الوجوب بالحجّ بعد تحقّق الاستطاعة، و هذا تحصیل للحاصل؛إذ لا معنی لتعلّق الوجوب بالمقدّمة بعد تحقّقها و تحقّق ذیها،فترجع الشرطیّة إلی الامتناع البیّن فی مقام الثبوت،فلا تصل النوبة إلی مقام الإثبات.

و الحقّ أنّ هذا الجواب صحیح و لا یکون قابلا للمناقشة.

و علی الاحتمال الثانی أیضا تمسّکوا بطرق متعدّدة لإثبات الاستحالة فی مقام الثبوت:

أحدها:عبارة عن مسألة الدور.

بیان ذلک:أنّ ذا المقدّمة یتوقّف علی المقدّمة الموصلة،و هذا التوقّف لازم المقدّمیّة لا شبهة فیه،و المقدّمة الموصلة تتوقّف علی ذی المقدّمة،فیتحقّق الدور المستحیل.

و لکنّه قابل للجواب:بأنّه وقع الخلط فی تقریر الدور؛إذ سلّمنا أنّه لا یمکن تحقّق المقدّمة الموصلة بدون ذی المقدّمة،فتوقّف المقدّمة بوصف الإیصال علی ذیها لا یکون قابلا للإنکار،و أمّا توقّف ذی المقدّمة علی المقدّمة الموصلة فلیس بصحیح؛لأنّه یتوقّف علی ذات المقدّمة،لا علیها بوصف الإیصال، فتتحقّق المغایرة بین المتوقّف و المتوقّف علیه،فلا یرد هذا الإشکال.

و ثانیها:أنّ هذا القول یستلزم التسلسل،و هو مبنیّ علی أنّ المرکّب إذا کان

ص:130

واجبا بالوجوب النفسی أو الغیری تتّصف أجزاؤه الداخلیّة بوصف المقدّمیّة للمأمور به کاتّصافها بوصف الجزئیّة له،و علی هذا إن کان متعلّق الوجوب الغیری عبارة عن الأمر المرکّب-أی المقدّمة بانضمام قید الإیصال-فیکون کلّ جزء منه مقدّمة لمجموع المرکّب الواجب،و لا بدّ لکلّ مقدّمة من انضمام قید الإیصال إلیها،فإنّه لا یقول بمقدّمیّة ذات المقدّمة وحدها للمقدّمة الموصلة، و هکذا لا یقول بمقدّمیّة قید الإیصال وحده للمقدّمة الموصلة،و إذا انضمّ إلیهما قید الإیصال فینقل الکلام إلی کلّ الأجزاء ثانیا،و هکذا،فإنّ وجوب المقدّمة الموصلة یستلزم أن تکون الذات بقید الإیصال واجبة،و قید الإیصال أیضا بقید إیصال آخر واجبا،فیتقیّد کلّ منهما بإیصال آخر،و هلمّ جرّا،و معلوم أنّه أمر مستحیل.

و جوابه:أنّ المرکّب إن کان مرکّبا عقلیّا-مثل ترکیب ماهیّة الإنسان من الجنس و الفصل-فلا یصحّ التعبیر عن أجزائه بالمقدّمة،فلا یعقل القول بأنّ الناطق أو الحیوان جزء للإنسان،و هکذا إن کان المرکّب من المرکّبات الحقیقیّة الخارجیّة-مثل ترکیب الجسم من المادّة و الصورة-إذ لا یعقل القول بأنّ مادّة الشیء أو صورته مقدّمة للشیء،و أمّا إن کان المرکّب من المرکّبات الصناعیّة-مثل ترکیب الدار من الحجر و الفلز و الآجر و نحوها-فلا مانع من التعبیر عن أجزائه بالمقدّمة.

و هکذا إن کان المرکّب من المرکّبات الاعتباریّة،مثل:ترکیب الصلاة و الحجّ مثلا من المقولات المتباینة و الحقائق المتخالفة التی اعتبرها الشارع شیئا واحدا بلحاظ ترتّب أثر واحد علیها کالمعراجیّة-مثلا-ففی هذا المرکّب أیضا یصحّ التعبیر عن أجزائه بالمقدّمة،و إن کان فی التعبیرات المتعارفة عنوان

ص:131

المقدّمات غیر عنوان المقارنات،و لکن لا برهان لعدم صحّة هذا التعبیر.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ المرکّب فیما نحن فیه مرکّب عقلی؛إذ لا شکّ فی أنّ التقیّد جزء عقلی لا صناعی و لا اعتباری،فلا یصحّ أن تکون الأجزاء العقلیّة مقدّمة للمرکّب،و هذا یستفاد من تعبیره بأنّ المقدّمة المقیّدة بقید الإیصال تکون واجبة بالوجوب الغیری،فهذا الإشکال بلحاظ مبنائیّته محکوم بالبطلان.

و ثالثها:أنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة یستلزم اجتماع الحکمین المتماثلین علی شیء واحد،و هو محال.

بیان ذلک:أنّ بعد تعلّق الوجوب النفسی بذی المقدّمة و ترشّح الوجوب الغیری عنه إلی المقدّمة الموصلة،و توقّف المقدّمة الموصلة علی ذی المقدّمة، یتحقّق له عنوان مقدّمة المقدّمة،و یتعلّق به الوجوب الغیری أیضا،فیصیر ذو المقدّمة متعلّقا للوجوب النفسی و الغیری معا،و یتعدّد الوجوب الغیری بتعدّد المقدّمات.

إن قلت:لا مانع من اجتماع الحکمین المتخالفین فی شیء واحد فضلا عن اجتماع الحکمین المتماثلین إذا تعدّد العنوان کالصلاة فی الدار المغصوبة،فلا مانع من تعلّق الوجوب النفسی بعنوان ذی المقدّمة و الوجوب الغیری بعنوان مقدّمة المقدّمة.

قلنا:إنّ ما نحن فیه لا یکون قابلا للمقایسة مع الصلاة فی الدار المغصوبة، فإنّ متعلّق الوجوب فیها عبارة عن عنوان الصلاة،و متعلّق النهی عبارة عن عنوان الغصب،و لا شکّ فی تغایرهما فی مقام تعلّق الحکم مع اجتماعهما فی مقام الوجود.و أمّا الوجوب النفسی هاهنا فلا یتعلّق بعنوان ذی المقدّمة،بل یتعلّق

ص:132

بنفس الکون علی السطح-مثلا-و حیثیّة ذی المقدّمة حیثیّة تعلیلیّة، فالوجوب الغیری أیضا لا یتعلّق بعنوان مقدّمة المقدّمة،بل یتعلّق بالکون علی السطح،کما أنّه لا یتعلّق بعنوان المقدّمة،بل یتعلّق بنصب السلّم،کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه،فهذا القول یستلزم اجتماع الحکمین المتماثلین علی ذی المقدّمة،و هو مستحیل.

و جوابه:أنّ توقّف الکون علی السطح علی نصب السلّم،و هکذا توقّف نصب السلّم الموصل علی الکون علی السطح،لا یکون قابلا للإنکار،و لکنّه إذا تحقّق لذی المقدّمة عنوان مقدّمة المقدّمة،فلا یکون متعلّق الوجوب الغیری نفس ذی المقدّمة علی مبنی صاحب الفصول،بل یکون متعلّقه الکون علی السطح الموصل،فنسأل حینئذ عن الموصل إلیه،و ما هو الموصل إلیه فی مقدّمة المقدّمة؟

یحتمل أن یکون الموصل إلیه فیها-کما فی سائر الموارد-عبارة عن الکون علی السطح،فإن کان کذلک فلا شکّ فی استحالته؛إذ لا معنی لأن یکون الکون علی السطح متّصفا بالموصلیّة إلی الکون علی السطح.

و یحتمل أن یکون الموصل إلیه فیها عبارة عن نصب السلّم،فهو أیضا ممتنع؛إذ الکون علی السطح لیس بمقدّمة لذات المقدّمة الاولی، بل یکون مقدّمة للمقدّمة الموصلة،و علی هذا یکون الکون علی السطح مقدّمة موصلة لنصب السلّم الذی یوصلنا إلی الکون علی السطح، فتتحقّق موصلیّة شیء إلی نفسه مع واسطة واحدة،و هذا مستحیل،فلا یقول صاحب الفصول قدّس سرّه بتعلّق الوجوب الغیری بذی المقدّمة أصلا حتّی یستلزم هذه المحذورات.

ص:133

و استشکل فی الکفایة (1)علی صاحب الفصول بإشکالین،و محصّل الإشکال الأوّل:أنّ الغرض الداعی إلی إیجاب شیء عبارة عن الأثر و الخصوصیّة المترتّبة علیه،و الأثر المترتّب علی المقدّمة و الغرض الداعی إلی تعلّق الوجوب الغیری علیها لیس إلاّ التمکّن و الاقتدار من ذی المقدّمة،و لا یتفاوت فی هذا الغرض بین المقدّمة الموصلة و غیر الموصلة؛إذ هو یتحقّق فی جمیع المقدّمات، فلا بدّ من تعلّق الوجوب الغیری بمطلق المقدّمة،لا بالمقدّمة الموصلة فقط،و إلاّ یلزم إنکار وجوب المقدّمة فی غالب الواجبات،و القول بوجوب خصوص العلّة التامّة فی خصوص الواجبات التولیدیّة،و معناه تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة التی کان لها إیصال تکوینی إلی ذی المقدّمة کالإحراق و الحرارة المتولّدة من النار قهرا،و أمّا أجزاء العلّة التامّة-کالشرط و المقتضی و نحوهما- فلا یتعلّق بها الوجوب.

فإن قلت:ما من واجب إلاّ و له علّة تامّة؛ضرورة استحالة وجود الممکن بدونها،فالتخصیص بالواجبات التولیدیّة بلا مخصّص،بل الأمر کان کذلک فی مطلق العلّة التامّة فی جمیع الواجبات،بلا فرق بین التولیدیّة و غیرها.

قلنا:نعم،و إن استحال صدور الممکن بلا علّة،إلاّ أنّ متمّم العلّة التامّة و مکمّلها فی سائر الواجبات عبارة عن إرادة المکلّف،و هی لا تتّصف بالوجوب؛لعدم کونها بالاختیار،و إلاّ لتسلسل،بخلاف الواجبات التولیدیّة؛ إذ لا دخل للإرادة و عدمها فی علّتها بلحاظ ترتّب المعلول قهرا بمجرّد تحقّق العلّة.

و لکنّ أساس هذا الإشکال باطل؛إذ لیس مراد صاحب الفصول من

ص:134


1- 1) کفایة الاصول 1:184-186.

المقدّمة الموصلة ما یترتّب علیه ذو المقدّمة قهرا،بل هو قائل بأنّ المقدّمة و أجزاء العلّة فی جمیع الواجبات قد یتحقّق ذو المقدّمة عقیبها،و قد لا یتحقّق، و إذا تحقّق فإنّه یکشف عن تعلّق الوجوب الغیری بها،و إذا لم یتحقّق فإنّه یکشف عن عدم تعلّق الوجوب الغیری بها،فما نسب إلی صاحب الکفایة قدّس سرّه توهّم محض.

و محصّل الإشکال الثانی:أنّه إذا تتحقّقت المقدّمة فی الخارج و لم یتحقّق ذو المقدّمة،فهل یسقط الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة أم لا؟و معلوم أنّه یسقط بمجرّد الإتیان بها من دون انتظار ترتّب الواجب علیها،مع أنّ الطلب لا یسقط إلاّ بالموافقة،أو بالعصیان و المخالفة،أو بارتفاع موضوع التکلیف،کما فی سقوط الأمر بالکفن أو الدفن بسبب غرق المیّت أحیانا أو حرقه، و لا یکون الإتیان بها بالضرورة من هذه الامور غیر الموافقة،فینتج أنّ الوجوب الغیری متعلّق بنفس المقدّمة،بلا دخل لتحقّق ذی المقدّمة عقیبه.

و یمکن الجواب عنه دفاعا عن صاحب الفصول:بأنّا لا نسلّم ما فرضته أمرا بدیهیّا و مفروغا عنه؛إذ لا یصحّ القول بسقوط الوجوب الغیری قبل تحقّق ذی المقدّمة،بل نحن ننتظر بعد تحقّق المقدّمة ترتّب ذیها علیها،فإن ترتّب فإنّه یستکشف تعلّق الوجوب الغیری بها و سقوطه بالموافقة،و إن لم یترتّب فیستکشف عدم الوجوب الغیری من أصله،فلا محلّ للبحث عن سقوطه و علّة سقوطه.

نکتة:

لا یقال:إنّ الإشکالین غیر قابلین للجمع،بل بینهما تهافت،فإنّه قال فی الإشکال الأوّل:إنّ مراد صاحب الفصول من المقدّمة الموصلة ما یترتّب عقیبه

ص:135

ذو المقدّمة قهرا،و علی هذا لا مورد للإشکال الثانی؛لأنّ مورده تحقّق المقدّمة بدون ذیها و فرض الفاصلة بینهما.

لأنّا نقول:إنّ الإشکال الثانی یرد مع قطع النظر و رفع الید عن الإشکال الأوّل،و إلاّ فلا تصل النوبة إلی الإشکال الثانی.

و هذان الإشکالان و إن کانت لهما جنبة إثباتیّة و لکن یمکن إرجاعهما إلی مقام الثبوت؛بأنّ القول بالمقدّمة الموصلة یستلزم انحصار الوجوب الغیری فی العلّة التامّة فی خصوص الواجبات التولیدیّة،و هذا مستحیل ثبوتا.

و کان لبعض الأعاظم کلام فی توجیه قول صاحب الفصول لدفع الإشکالات المذکورة.

قال المحقّق الحائری قدّس سرّه فی هذا المقام:«إنّ الطلب متعلّق بالمقدّمات فی لحاظ الإیصال لا مقیّدا به حتّی یلزم المحذورات السابقة» (1).

بیان ذلک:أنّ الآمر إذا لاحظ المقدّمات علی حدة و منفکّة عمّا عداها لا یریدها جزما،فإنّ ذات المقدّمة و إن کانت موردا للإرادة لکن بلحاظ تعلّق الأمر الغیری بها فی ظرف ملاحظة باقی المقدّمات معها لا تکون کلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحیث تسری الإرادة إلی حال انفکاکها عن باقی المقدّمات،و إذا لاحظها بأجمعها یریدها بذواتها؛لأنّ تلک الذوات بهذه الملاحظة لا تنفکّ عن ذی المقدّمة و المطلوب الأصلی،و لذا یتعلّق بها الوجوب الغیری بهذه الملاحظة،فلیس متعلّق الوجوب الغیری المقدّمة المقیّدة بقید الإیصال،بل کان متعلّقه ذات المقدّمة بلحظ الإیصال،و هذا الکلام مساوق للوجدان،و لا یرد علیه ما ورد علی القول باعتبار الإیصال قیدا و إن اتّحد معه

ص:136


1- 1) درر الفوائد:119.

فی الأثر.

و نظیر هذا البیان ما قال به المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)مع اصطلاحات زائدة و توضیحات إضافیّة،و محصّل کلامه:أنّ تخصیص الوجوب الغیری بالمقدّمة الموصلة إن کان بصورة قضیّة تقییدیّة و شرطیّة فلا شکّ فی ورود الإشکالات المذکورة،و أمّا إن کان بصورة قضیّة حینیّة فلا إشکال فی البین،و معلوم أنّه لا دخل لحال الإیصال و حینه فی ترتّب الحکم،بل هو عنوان مشیر،و تکون لکلّ واحدة من المقدّمات حصّتان و نحویان من الوجود،حصّة توأمة مع سائر المقدّمات،و حصّة غیر توأمة معها،و الوجوب الغیری متعلّق بحصّة توأمة معها و ملازمة للإیصال،و لا یتعدّد الوجوب الغیری بتعدّد المقدّمات بل هو واحد،نظیر الأوامر الضمنیّة المتعلّقة بالأجزاء فی المرکّبات الارتباطیّة فی اختصاص شمولها لکلّ جزء من المرکّب بحال انضمام بقیة الأجزاء أیضا، و قصور الأوامر الضمنیّة بنفسها عن الشمول لجزء عند عدم انضمام بقیّة الأجزاء،فکما أنّ الأمر النفسی المتعلّق بأجزاء الصلاة أمر واحد ینبسط علی الأجزاء کذلک الأمر الغیری المقدّمی المتعلّق بالمقدّمات أمر واحد ینبسط علی المقدّمات.

و هکذا کما أنّ بعض الأمر النفسی یتعلّق بحصّة توأمة من کلّ جزء لا بنحو المطلق و لا مقیّدا بانضمام سائر الأجزاء کذلک الوجوب الغیری یتعلّق بحصّة خاصّة من المقدّمة،و لا یتعلّق بمطلق المقدّمة،و لا علی المقیّدة بقید الانضمام.

و جواب کلام المحقّق الحائری قدّس سرّه:أنّ البحث یکون هاهنا فی مقام الثبوت، و لا معنی للإجمال و الإهمال فی هذا المقام،و لا بحث هاهنا فی کیفیّة اللحاظ،

ص:137


1- 1) نهایة الأفکار 1:340-344.

فیسأل حینئذ:أنّ الوجوب الغیری متعلّق بذات المقدّمة أو بالمقدّمة المقیّدة بقید الإیصال؟و الأوّل یرجع إلی کلام المشهور،و الثانی لا یخلو من إشکالات، و لا یتصوّر فی مقام الثبوت عدم الإطلاق و عدم التقیید.

و ما قال به من تبدیل قید الإیصال بلحاظ الإیصال لا یکون سوی تلاعب بالألفاظ و العبارة،فلا بدّ من الالتزام بأحد القولین المذکورین بحسب الواقع و مقام الثبوت.

و جواب کلام المحقّق العراقی قدّس سرّه:أنّه عبّر فی صدر کلامه عن کلام صاحب الفصول بقضیّة حینیّة،و للحین عنوان المشیریّة و لا دخل له فی ترتّب الحکم، و هذه القضیّة فی الواقع و الحقیقة قضیّة مطلقة.

ثمّ قال:إنّ الوجوب الغیری یتعلّق بحصّة توأمة من المقدّمة مع سائر المقدّمات،و هی ملازمة للإیصال،و الحال أنّ کلمة الحصّة فی الواقع هی التقیید،و معناها تجزّی المطلق و تشعّبه،فلا یمکن تحقّق الحصّة و الشعبة بدون التقیید.

و التحقیق:أنّه بدّل قید الإیصال المذکور فی کلام صاحب الفصول بکلمة «الحصة»،و هذا یرجع إلی قید الإیصال الذی ذکرناه و إن أنکرته.

قلنا:إنّ الحصّة التوأمة عبارة عن مطلق المقدّمة،و هذا یرجع إلی کلام المشهور؛إذ لا یتصوّر شیء ثالث بحسب مقام الثبوت،فیحصل ممّا ذکرناه أنّ قید الإیصال فی کلام صاحب الفصول یرجع إلی قیدیّته فی الواجب،بالمعنی الذی ذکرناه،و لا إشکال فیه بحسب مقام الثبوت،فلا بدّ لنا من البحث معه بحسب مقام الإثبات،فإنّ کلّ ما لا یکون مستحیلا لیس بواقع فی مقام الإثبات،و لذا ذکر صاحب الکفایة قدّس سرّه أدلّته،و العمدة منها ما قال به فی ذیل

ص:138

کلامه،و هو:أنّ صریح الوجدان قاض بأنّ من یرید شیئا لمجرّد حصول شیء آخر لا یریده إذا وقع مجرّدا عنه،و یلزم منه أن یکون وقوعه علی الوجه المطلوب منوطا بحصوله.

و المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)أجاب عنه بجوابین بعد جواب سائر الأدلّة،و لکنّ الأوّل منهما مبتنی علی تفسیره الباطل لکلام صاحب الفصول،و هو أنّ المراد من المقدّمة الموصلة الإیصال التکوینی،و هذا منحصر فی العلّة التامّة فی خصوص الواجبات التولیدیّة،و لذا أشکل علیه بأنّ الغرض من المقدّمة لا یکون الإیصال إلی ذی المقدّمة،بل الغرض منها التمکّن من ذی المقدّمة،و لا فرق فی هذا الأثر بین الموصلة و غیرها،مع أنّ أصل التفسیر لیس بصحیح کما مرّ تفصیله.

و محصّل جوابه الثانی:أنّه علی فرض تسلیم أن یکون الغرض من الإرادة الغیریّة المتعلّقة بالمقدّمة هو التوصّل إلی ذی المقدّمة،و لکنّه لا یستلزم عدم مطلوبیّتها الغیریّة فی صورة عدم ترتّب الغایة؛لعدم حصول سائر ما له دخل فی حصولها،کیف لا تقع المقدّمة المجرّدة عن ذیها علی صفة المطلوبیّة و الحال أنّه إن لم تقع علی هذه الصفة یلزم أن یکون وجود الغایة من قیود ذیها و مقدّمة لوقوعه علی نحو تکون الملازمة بین وجوبه بقید الإیصال و وجوبها؟! و هذا بدیهی البطلان؛ضرورة أنّ الغایة لا تکاد تکون قیدا لذی الغایة بحیث کان تخلّفها موجبا لعدم وقوع ذی الغایة علی ما هو علیه من المطلوبیّة الغیریّة.

و لعلّ منشأ توهّم صاحب الفصول خلطه بین الجهة التقییدیّة و التعلیلیّة،

ص:139


1- 1) کفایة الاصول 1:184-186.

حیث إنّ التوصّل بالمقدّمة إلی ذیها علّة لوجوب المقدّمة،و هو جعله قیدا لمعروض الوجوب،مع أنّ الجهة التعلیلیّة واسطة فی ترتّب الحکم علی الموضوع و من مبادئ نفس الحکم و علله،و الجهة التقییدیّة من قیود متعلّق الحکم و موضوعه.

و التحقیق:أنّ هذا الجواب مع أنّه قابل للدقّة و التوجّه لیس بصحیح، و الحقّ ما استفدناه فی أمثال هذا المورد من استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)و هو:أنّ الشائع بین العلماء الافتراق بین الجهات التعلیلیّة و التقییدیّة،و الحال أنّه لیس قابلا للقبول فی المسائل العقلیّة؛إذ لا بدّ فیها من إرجاع العلّة إلی الجهات التقییدیّة.

بیان ذلک:أنّ الحاکم بالملازمة بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و الوجوب الشرعی للمقدّمة هو العقل،فالمسألة عقلیّة محضة،فنسأل حینئذ العقل و نقول:إنّ الوجوب الشرعی الغیری متعلّق بذات المقدّمة أو المقدّمة التی یترتّب علیها ذو المقدّمة؟و بعد ما عرفت من أنّه لا سبیل للإهمال و الإجمال فی حکم العقل و مقام الثبوت فلا محالة یحکم العقل إمّا بتعلّقه بنفس المقدّمة مطلقا،و هذا یرجع إلی کلام المشهور،و إمّا یحکم بتعلّقه بالمقدّمة الموصلة،و هذا یرجع إلی القیدیّة؛إذ لا یتصوّر فی مقام الثبوت مع المطلق و المقیّد شیء آخر.

و بالنتیجة بعد فرض تسلیم أصل الملازمة فالحق مع صاحب الفصول،فإنّ دلیله المذکور لا یکون قابلا للجواب.

بقی شیء:و هو ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة،و هی:أنّ من ترک الواجب

ص:140


1- 1) تهذیب الاصول 1:267،مناهج الوصول إلی علم الاصول 1:400.

الأهمّ-کإزالة النجاسة عن المسجد-و اشتغل بالواجب المهمّ-کالصلاة-تقع صلاته صحیحة علی قول صاحب الفصول،و تقع باطلة علی قول المشهور، و ترتّب هذه الثمرة علی النزاع المذکور مبتن علی مقدّمات:

إحداها:مقدّمیّة ترک أحد الضدّین لفعل الآخر،کترک الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة،ثانیتها:وجوب مقدّمة الواجب،و ثالثتها:کون الأمر بشیء مقتضیا للنهی عن ضدّه،و رابعتها:اقتضاء النهی عن العبادة للفساد.

فعلی القول بوجوب مطلق المقدّمة-سواء ترتّب علیها ذو المقدّمة أم لا- إذا کان ترک الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة یصیر هذا الترک واجبا بالوجوب الغیری،فیصیر نقیضه-أی فعل الصلاة-حراما و منهیّا عنها،و النهی فی العبادة یقتضی الفساد؛إذ لا یمکن أن یکون المنهی و المبغوض مقرّبا إلی اللّه تعالی،فالصلاة مکان الإزالة تقع باطلة علی قول المشهور،و أمّا بناء علی القول بالمقدّمة الموصلة فتصحّ الصلاة،فإنّ ترک الصلاة المجرّد لیس بواجب، بل الواجب بالوجوب الغیری هو ترک الصلاة الموصل إلی الإزالة،و کان لنقیضه مصداقان:أحدهما:ترک الصلاة و الإزالة معا،و الآخر:فعل الصلاة و ترک الإزالة،و ربما یتخیّل أنّ کلیهما یتّصفان بالحرمة،مع أنّه لیس کذلک؛إذ المقیّد إذا صار واجبا یصیر نقیضه حراما إذا کان أمرا واحدا،و لذا ذکروا فی مقام تعریف النقیض:أنّ نقیض کلّ شیء رفعه و عدمه،فإذا کان ترک الصلاة الموصل واجبا یکون عدم ترک الصلاة الموصل حراما،و لکنّه قد یتقارن خارجا مع فعل الصلاة و ترک الإزالة،و قد یتقارن مع ترک کلیهما معا.

و معلوم أنّ المقارنة لا توجب سرایة الحرمة من مقارن إلی مقارن آخر،کما أنّ حکم أحد المتلازمین لا یتعدّی إلی متلازم آخر کذلک فیما نحن فیه

ص:141

لا تتعدّی الحرمة من الأمر العدمی إلی الأمرین الوجودیّین المقارنین معه، فلا یکون فعل الصلاة متّصفا بالحرمة علی هذا القول،بل تکون الصلاة صحیحة.

و أورد علی تفریع هذه الثمرة الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (1)بما حاصله:أنّ الحکم إن تعلّق علی نفس العنوان الواقعی بدون التعدّی عنه مع إعمال دقّة النظر تکون الصلاة صحیحة علی کلا القولین؛إذ المشهور قائل بأنّ ترک الصلاة مقدّمة و واجب بالوجوب الغیری،فنقیضه حرام،و معلوم أنّ نقیض کلّ شیء رفعه،فالمحرّم عبارة عن عدم ترک الصلاة لا فعل الصلاة،فلا دلیل لبطلان الصلاة؛إذ لا یمکن أن یکون الوجود مصداقا للعدم،و عدم العدم لیس بوجود بحسب المفهوم و العنوان و إن کان متّحدا معه،و هذا لا یوجب سرایة الحرمة عنه إلی الأمر الوجودی؛إذ الأحکام تدور مدار العناوین.

و أمّا مع الإغماض عن هذه الدقّة فتکون الصلاة باطلة علی کلا القولین، فإنّ صاحب الفصول قائل بأنّ الواجب بالوجوب الغیری هو ترک الصلاة الموصل،و نقیضه المحرّم هو عدم ترک الصلاة الموصل،و یتحقّق له فردان:

أحدهما:فعل الصلاة و ترک الإزالة،و ثانیهما:ترک الصلاة و ترک الإزالة معا، و ذلک لا یوجب فرقا فیما نحن بصدده حتّی یتحقّق الثمرة،بل کلا الفردین محرّم، فلا ثمرة فی البین.

و أجاب عنه صاحب الکفایة قدّس سرّه (2)بأنّ الفارق عبارة عمّا تخیّله أنّه لا یوجب الفرق،فإنّ نقیض المحرّم علی قول صاحب الفصول عنوان واحد-یعنی عدم

ص:142


1- 1) مطارح الأنظار:78.
2- 2) کفایة الاصول 1:193.

ترک الصلاة الموصل-و لا یکون للفردین المذکورین عنوان المصداق له؛إذ الوجود لا یمکن أن یکون مصداقا للعدم کما اعترفت به،کما أنّه لا یکون لهما عنوان الملازمة،فإنّ النقیض قد یتحقّق مع الفرد الأوّل دون الثانی،و قد یتحقّق مع الفرد الثانی دون الأوّل،و الحال أنّه لو فرض تحقّق الملازمة بینهما أیضا لا یفید؛إذ لا یسری حرمة شیء إلی ما یلازمه،بل لا بدّ أن لا یکون الملازم محکوما بحکم آخر علی خلاف حکمه،لا أن یکون محکوما بحکمه، فیتحقّق لهما عنوان المقارنة مع النقیض،فإنّ عدم ترک الصلاة الموصل قد یقترن مع فعل الصلاة و ترک الإزالة،و قد یقترن مع ترکهما معا،و لا شکّ فی عدم سرایة الحرمة من مقارن إلی مقارن آخر،فتکون الصلاة صحیحة.

و أمّا علی المشهور فترک الصلاة واجب بالوجوب الغیری،و ترک ترک الصلاة حرام،و هو متّحد خارجا مع فعل الصلاة،و معلوم أنّ الاتّحاد و العینیّة الخارجی یوجب سرایة الحکم من مفهوم إلی مفهوم آخر.

و التحقیق فی المسألة یقتضی إمعان النظر و البحث فی معنی النقیض أوّلا، و أنّ وجوب شیء مستلزم لحرمة نقیضه أم لا ثانیا،و أمّا معنی النقیض فیحتمل أن یکون أمرا عدمیّا کما قال به صاحب الکفایة و الشیخ و القائلون بترتّب الثمرة،و هو أنّ نقیض کلّ شیء رفعه،و علی هذا لا یکون الوجود نقیضا للعدم،بل نقیض العدم رفعه و ترکه و عدمه،و لذا لا یصحّ القول بأنّ الوجود و العدم متناقضان.

و یحتمل أن یکون معناه أنّ نقیض کلّ شیء رفعه أو کونه مرفوعا به،أی إذا اضیف النقیض إلی الوجود معناه رفع الوجود،و إذا اضیف إلی العدم یکون معناه ما یرتفع العدم بسببه،و علی هذا یصحّ القول بأنّ الوجود و العدم

ص:143

متناقضان؛لأنّ ما یرتفع به العدم لیس إلاّ الوجود.

و یحتمل أن یکون معناه عبارة عن المنافرة و المعاندة بین الأمرین الوجودی أو العدمی؛بحیث لا یمکن اجتماعهما و لا ارتفاعهما.

و أمّا فی المسألة الثانیة-أی وجوب شیء مستلزم لحرمة نقیضه أم لا- فیحتمل أوّلا إنکار هذا المعنی رأسا،فإنّه یستلزم تحقّق التکلیف التحریمی فی کلّ مورد تحقّق فیه التکلیف الوجوبی،فاجتمع فی الصلاة-مثلا-حکمان:

أحدهما:وجوبی متعلّق بفعلها،و الآخر:تحریمیّ متعلّق بترکه،و من ترکها یستحقّ العقوبتان،مع أنّه لیس کذلک،و هکذا حرمة شیء لا یستلزم وجوب نقیضه،فإنّه لغو،فأساس هذه الثمرة باطل و لا مورد لهذا البحث.

و یحتمل أن یکون وجوب شیء مستلزما لحرمة نقیضه بدون التسریة إلی شیء آخر و إن کان متّحدا معه فی الوجود الخارجی،و یحتمل عدم انحصار الحرمة بالنقیض،بل یستلزم حرمة ما یتّحد مع النقیض وجودا أیضا.

و علی الاحتمال الأوّل-یعنی عدم استلزام وجوب شیء لحرمة نقیضه کما هو الحقّ فی المسألة-ینهدم أساس هذه الثمرة،و علی الاحتمال الثانی-أی استلزام وجوب شیء لحرمة نقیضه بدون التسریة إلی شیء آخر-إن کان النقیض بمعنی الأوّل تکون الصلاة صحیحة علی کلا القولین؛إذ المشهور أیضا قائل بوجوب ترک الصلاة بعنوان المقدّمة للإزالة،و نقیضه الحرام عبارة عن ترک ترک الصلاة فقط،ففعل الصلاة صحیح،فإنّ الحرمة لا تتعدّی عن النقیض.

و إن کان النقیض بالمعنی الثانی فتتحقّق الثمرة؛لأنّ ترک الصلاة واجب، و نقیضه المحرّم علی هذا الاحتمال عبارة عن وجود الصلاة علی المشهور.

ص:144

و لکن لقائل أن یقول ببطلان الصلاة علی قول صاحب الفصول أیضا،فإنّه یقول:بأنّ ترک الصلاة الموصل إلی الإزالة واجب،و لنقیضه الحرام فردان:

أحدهما:فعل الصلاة،و الآخر:ترک الصلاة و الإزالة معا،فوجودها نقیض و باطل،فلا ثمرة فی البین.

و جوابه:أنّ النقیض إن کان أمرا وجودیّا واحدا-یعنی فعل الصلاة فقط- یکون الإشکال صحیحا،و لکن لا یمکن أن یتحقّق لشیء واحد نقیضان،بل النقیض أمر واحد جامع بین الفردین،و علی هذا لا یتعدّی الحرمة عن دائرة النقیض إلی مصادیقه،و لذا تصحّ الصلاة علی هذا القول،و أمّا علی قول المشهور فینحصر النقیض المنهیّ عنه بوجود الصلاة،فتظهر الثمرة علی المعنی الثانی.

و إن کان النقیض بالمعنی الثالث یکون النقیض علی قول المشهور عبارة عن وجود الصلاة،و هو لا یکون مع ترک الصلاة قابلا للجمع و لا قابلا للرفع، و أمّا علی قول صاحب الفصول فالواجب هو ترک الصلاة الموصل و نقیضه الذی لا یجتمع معه و لا یرتفع کلاهما عبارة عن فعل الصلاة و ترک الصلاة و الإزالة معا،و علی هذا الاحتمال تکون الصلاة باطلة علی کلا القولین،و لا ثمرة فی البین.

و أمّا علی القول بالاحتمال الثالث-یعنی کما أنّ وجوب الشیء مستلزم لحرمة النقیض کذلک مستلزم لحرمة ما یتّحد مع النقیض-فالصلاة باطلة علی کلا القولین و لا تظهر الثمرة،فإنّ النقیض إن کان أمرا عدمیّا لا شکّ فی أنّ فعل الصلاة متّحد معه وجودا،فیکون بطلان الصلاة علی القول المشهور بلحاظ سرایة الحرمة إلی ما یتّحد مع النقیض،و هکذا علی قول صاحب الفصول

ص:145

تتعدّی الحرمة إلی مصداقی النقیض.

و إن کان النقیض بالمعنی الثانی فیکون بطلان الصلاة بلحاظ کونها نقیضا علی المشهور،و بلحاظ حرمة ما یتّحد مع النقیض علی قول صاحب الفصول.

و إن کان بالمعنی الثالث فیکون بطلانها بلحاظ توسعة دائرة معنی النقیض مع عدم انحصار الحرمة بدائرة النقیض،فتحقّق الثمرة مبنائی.

و الحقّ أنّ الثمرة مبتنیة علی أساسین و کلاهما باطل عندنا،أی استلزام وجوب شیء لحرمة نقیضه،و کون النقیض أمرا عدمیّا.

الواجب الأصلی و التبعی

و الظاهر أنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه نسیه فی محلّه و بعد الالتفات إلیه ذکره هاهنا، و نحن أیضا نلتزم بالبحث علی طبقه،فنقول:اختلف صاحب الفصول مع المحقّق الخراسانی قدّس سرّه و بعض آخر فی أنّ هذا التقسیم یرتبط بمقام الدلالة و الإثبات أو بمقام الثبوت و الواقع،و صاحب الفصول قائل بالأوّل (1)، و صاحب الکفایة قدّس سرّه قائل بالثانی (2).

و قال صاحب الفصول (3)فی مقام تعریفهما:إنّ الواجب الأصلی ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ،سواء کان هذا الدلیل و الخطاب المستقلّ دلیلا لفظیّا مثل الکتاب و السنّة أو دلیلا لبّیا مثل الإجماع،و الواجب التبعی ما لا یفهم وجوبه بخطاب مستقلّ.

و إذا لاحظنا هذا التقسیم مع تقسیم الواجب إلی النفسی و الغیری فیمکن

ص:146


1- 1) الفصول الغرویة:82.
2- 2) کفایة الاصول 1:194-195.
3- 3) المصدر السابق.

أن یکون کلّ من الواجب الأصلی و التبعی واجبا نفسیّا و واجبا غیریّا، فیجتمع فی الصلاة-مثلا-کلا العنوانین الأصلی و النفسی بلحاظ استفادتها من الدلیل المستقلّ،و هکذا یجتمع فی الوضوء کلا العنوانین الأصلی و الغیری؛لأنّ وجوبه أیضا یستفاد من الدلیل المستقلّ.و هکذا فی الواجب التبعی یمکن أن یکون واجبا نفسیّا و یمکن أن یکون واجبا غیریّا،کقول المولی لعبده:«إن لم یجئک زید فلا یجب إکرامه»،و مفهومه علی القول به فی القضیّة الشرطیّة«إن جاءک زید یجب إکرامه»،فیجتمع فی إکرام زید الوجوب النفسی و التبعی،فإنّه یستفاد من مفهوم الدلیل و یکون لازم مفاد الدلیل،و هکذا یستفاد من قوله:

«کن علی السطح»علی القول بالملازمة أنّ وجوب نصب السلّم غیری و تبعیّ معا،هذا محصّل کلامه.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):و الظاهر أن یکون هذا التقسیم بلحاظ الأصالة و التبعیّة فی الواقع و مقام الثبوت،فالواجب الأصلی ما یکون ملتفتا إلیه مع مطلوبیّته للمولی الآمر،و لذا یصیر متعلّقا للإرادة و الطلب مستقلاّ للالتفات إلیه بما هو علیه ممّا یوجب طلبه،کان طلبه نفسیّا أو غیریّا،و الواجب التبعی ما لا یکون ملتفتا إلیه أصلا،أو لا یکون مطلوبیّة الملتفت إلیه له،فلذا یصیر متعلّقا للإرادة تبعا لإرادة غیره؛لأجل کون إرادته لازمة لإرادة الغیر من دون التفات إلیه بما یوجب إرادته.

و علی هذا المعنی لا تجتمع التبعیّة مع النفسیّة؛إذ الواجب النفسی عبارة عمّا تتحقّق له المصلحة اللازمة الاستیفاء،فکیف یجتمع هذا مع عدم الالتفات إلیه أو إلی مطلوبیّته؟!نعم،لو کان الاتّصاف بالأصالة و التبعیّة بلحاظ الدلالة

ص:147


1- 1) المصدر السابق.

اتّصف الواجب النفسی بهما أیضا؛ضرورة أنّه قد یکون غیر مقصود بالإفادة، بل افید بتبع غیره المقصود بها.

ثمّ استدلّ فی ذیل کلامه بأنّ الظاهر-کما مرّ-أنّ الاتّصاف بهما إنّما هو فی نفسه لا بلحاظ حال الدلالة علیه،و إلاّ لما اتّصف بواحدة منهما؛إذ لم یکن بعد مفاد دلیل،و هو کما تری؛إذ من البدیهی أنّهما یتحقّقان قبل هذه المرحلة.

و قال المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه (1)تأییدا لکلام صاحب الکفایة قدّس سرّه:و التحقیق ما أشرنا إلیه فی بعض الحواشی المتقدّمة من أنّه للواجب وجودا و وجوبا بالنسبة إلی مقدّمته جهتان من العلّیّة:إحداهما:العلّیّة الغائیّة،حیث إنّ المقدّمة إنّما تراد لمراد آخر لا لنفسها،بخلاف ذیها فإنّه مراد لا لمراد آخر کما مرّ مفصّلا.

و الثانیة:العلّیّة الفاعلیّة،و هی أنّ إرادة ذی المقدّمة علّة لإرادة مقدّمته،و منها تنشأ و ترشّح علیها الإرادة،فالجهة الاولی مناط الغیریّة،و الجهة الثانیة مناط التبعیّة.و وجه الانفکاک بین الجهتین أنّ ذات الواجب النفسی حیث إنّه مترتّب علی الواجب الغیری فهی الغایة الحقیقیّة،لکنّه ما لم یجب لا تجب المقدّمة، فوجوب المقدّمة معلول خارجا لوجوب ذیها و متأخّر عنه رتبة،إلاّ أنّ الغرض منه ترتّب ذیها علیها.

و الدلیل علی ارتباط التبعیّة و الأصالة بالعلّیّة الفاعلیّة عبارة عن استقلال ذی المقدّمة و أصالته فی التحقّق،و تبعیّة إرادة المقدّمة للإرادة المتعلّقة بذیها، و حینئذ لا محالة لا یرتبط هذا التقسیم بمقام الإثبات و الدلالة.

و نضیف إلیه أنّ التقسیم إلی النفسیّة و الغیریّة بلحاظ ارتباطه بالوجوب و البعث و التحریک الاعتباری یرتبط بمقام الإثبات و الدلالة.

ص:148


1- 1) نهایة الدرایة 2:157-158.

و ممّا ذکرنا تبیّن أنّ التبعیّة بلحاظ المعلولیّة،سواء اریدت المقدّمة تفصیلا للالتفات إلیها أو ارتکازا للغفلة عنها،و أنّ الالتفات الموجب لتفصیلیّة الإرادة لا یقتضی الأصلیّة،کما أنّ الغفلة عمّا فیه مصلحة نفسیّة موجبة لارتکازیّة الإرادة لا ینافی أصلیّتها؛لعدم تبعیّتها لإرادة اخری.

و الإشکال علی المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه کما مرّ مکرّرا أنّ التعبیر بالترشّح و العلّیّة عن الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة لیس بصحیح،فإنّه یستلزم عدم احتیاج الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة إلی المبادئ کالتصوّر و التصدیق بالفائدة و نحو ذلک،مع أنّه باطل؛لأنّ تصوّر شیء المراد عبارة عن التفات النفس و توجّهها إلیه.و من المعلوم أنّ الشیء إذا کان غیر متصوّر فلا یکون قابلا لتعلّق الإرادة به،فلا فرق بین الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة و الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة من حیث الاحتیاج إلی المبادئ،و علی هذا لا یکون التوضیح المذکور منه مصحّحا لکلام استاذه بعد إنکار العلّیّة و الترشّح.

و یرد علی صاحب الکفایة:أوّلا:نفس ما مرّ من الإشکال علی تقسیم الواجب إلی المعلّق و المنجّز،بأنّه لیس فی مقابل تقسیمه إلی المطلق و المشروط تقسیما مستقلاّ،فإنّه لا یجری فی الواجب المشروط،بل هو من تقسیمات الواجب المطلق.

و یرد نظیر هذا الإشکال علیه بعد تصریحه بأنّ التقسیم بالأصالة و التبعیّة إن کان بلحاظ مقام الإثبات و الدلالة یمکن أن یکون الواجب النفسی واجبا أصلیّا،و یمکن أن یکون واجبا تبعیّا،و هکذا الواجب الغیری یمکن أن یکون واجبا أصلیّا،و یمکن أن یکون واجبا تبعیّا.

و أمّا إن کان التقسیم بلحاظ مقام الثبوت فالواجب الغیری قد یکون أصلیّا و قد یکون تبعیّا،بخلاف الواجب النفسی فإنّه لا یمکن أن یکون تبعیّا،

ص:149

فلا یکون هذا التقسیم تقسیما مستقلاّ للواجب؛إذ لا یجری کلّ واحد من قسمی التقسیم السابق فی کلّ واحد من قسمی التقسیم اللاّحق.

و ثانیا:ما هو المراد من کلمة المستقلّ بعنوان وصف الإرادة فی کلامه،سیّما مع العلّة التی ذکرها بقوله:للالتفات إلیه بما هو علیه،هل المراد منه الإرادة التفصیلیّة،و المراد من الالتفات أیضا الالتفات التفصیلی فی مقابل الالتفات الإجمالی و عدم الالتفات رأسا،أو المراد منه الإرادة الأصلیّة فی مقابل الإرادة التبعیّة؟و کلاهما لا یخلو من إشکال،فإنّ الأوّل یستلزم خروج الالتفات الإجمالی مع أنّه لیس بصحیح؛إذ لا دلیل لاعتبار الالتفات التفصیلی فقط فی الواجب النفسی،بل کما أنّ العلم الإجمالی منجّز للتکلیف کذلک الالتفات الإجمالی کاف فی الواجب النفسی،فیمکن أن یکون الواجب النفسی واجبا تبعیّا کالواجب الغیری.

و الثانی یستلزم أن لا یکون الواجب الغیری واجبا أصلیّا حتّی مثل الوضوء؛إذ الإرادة المتعلّقة به تابعة للإرادة المتعلّقة بالصلاة،فلا یصحّ القول بأنّ الواجب الغیری قد یکون أصلیّا و قد یکون تبعیّا؛لأنّ مقتضی المقدّمیّة و الغیریّة تبعیّة إرادته،فلا یکون هنا دلیل مقنع لارتباط تقسیم الواجب بالأصلی و التبعی بمقام الثبوت.

و الصحیح ما قال به صاحب الفصول من ارتباط هذا التقسیم بمقام الدلالة و الإثبات،و علی هذا یصحّ أن یکون کلّ واحد من الأصلی و التبعی واجبا نفسیّا،و یصحّ أن یکون کلّ واحد منهما واجبا غیریّا و بالعکس،کما اعترف به صاحب الکفایة قدّس سرّه.

ثمّ ذکر المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)فی ذیل کلامه أنّه:إذا شکّ فی واجب أنّه

ص:150


1- 1) کفایة الاصول 1:195.

أصلی أو تبعیّ فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به یثبت أنّه تبعیّ تترتّب علیه آثاره إذا فرض له أثر شرعی-کما فی النذر و نحوه-کسائر الموضوعات المتقوّمة بامور عدمیّة.نعم،لو کان التبعی أمرا وجودیّا خاصّا غیر متقوّم بعدمی و إن کان یلزمه-مثل ما کانت إرادته تابعة لإرادة غیره-لما ثبت بها إلاّ علی القول بالأصل المثبت،کما هو واضح،فافهم.

و خالفه المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه فی ذلک و قال:ربما تکون نتیجة الاستصحاب و أصالة العدم الواجب الأصلی،فإنّ الواجب التبعی عبارة عمّا کانت إرادته مترشّحة عن غیره و معلولة لإرادة غیره،و مترتّبا علی إرادة غیره،و معلوم أنّها من الامور الوجودیّة،و الواجب الأصلی ما لم یکن کذلک،فإذا علمنا أنّ هذا الشیء متعلّق للإرادة و شککنا فی أنّ إرادته مترشّحة عن إرادة غیره أم لا فیجری استصحاب عدم الترشّح بأنّ هذا الشیء لم تکن إرادته مترشّحة عن إرادة الغیر،فالآن کما کان.

و لکنّ التحقیق:أنّه لا یجری الاستصحاب فی هذه الموارد رأسا کما مرّ فی استصحاب عدم قرشیّة المرأة؛بمغایرة القضیّة المتیقّنة مع القضیّة المشکوکة بلحاظ انتفاء الموضوع فی الاولی و تحقّقه فی الثانیة،و إذا لم یکن اتّحاد بینهما فلا یجری الاستصحاب.

و المحقّق الخراسانی قدّس سرّه قائل بتحقّق الحالة السابقة العدمیّة للواجب التبعی، بمعنی أنّه لم یتعلّق به إرادة مستقلّة.

قلنا:إنّ الحالة السابقة المتیقّنة تکون مع فرض انتفاء الموضوع و عدم تعلّق الإرادة،و الشکّ یکون مع فرض تحقّق الموضوع و تعلّق الإرادة.و المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه أیضا قائل بترشّح الحالة السابقة العدمیّة،و الحال أنّها مع فرض

ص:151

انتفاء الموضوع و عدم تعلّق الإرادة رأسا،و الشکّ مع فرض تعلّق الإرادة، و لذا لا یکون هنا مجری الاستصحاب بعنوان الأصل الکلّی،بل یختلف جریان الاصول بحسب اختلاف الموارد،فقد تکون نتیجته الواجب الأصلی،و قد تکون نتیجته الواجب التبعی.

إلی هنا تمّت المباحث المقدّماتیّة لمسألة مقدّمة الواجب،مع أنّه یترتّب علیها أیضا فوائد مستقلّة کثیرة،فلنشرع فی المباحث الأصلیّة لهذه المسألة، و منها بحث الثمرة،فما هی ثمرة بحث مقدّمة الواجب بعنوان مسألة اصولیّة فی أبواب الفقه؟

بعد ما عرفت أنّ ملاک اصولیّة المسألة لیس إلاّ أن تکون نتیجتها صالحة للوقوع فی طریق الاجتهاد و استنباط حکم فرعی کلّی،فتکون الثمرة کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه أنّه علی القول بالملازمة و ضمیمة مقدّمة کون شیء مقدّمة لواجب یستنتج أنّه واجب،مثلا:نقول:الوضوء مقدّمة لواجب،و کلّ ما هو مقدّمة لواجب واجب،فینتج أنّ الوضوء واجب،و علی القول بإنکار الملازمة یستنتج عدم وجوبه.

توضیح ذلک:أنّ هذه المسألة-کما مرّ-عقلیّة محضة؛بأنّ ذی المقدّمة إذا صار واجبا بالوجوب الشرعی المولوی من المولی،هل یستلزم أن یکون وجوب المقدّمة وجوبا شرعیّا مولویّا،أم لا؟و الحاکم بالملازمة و عدمها لیس إلاّ العقل،و هذا النزاع یقع طریقا لاستنباط حکم فرعی کلّی فی جمیع أبواب الفقه،فإنّ القائل بالملازمة یستنبط أنّ تطهیر الثوب مثلا واجب،و منکرها یستنبط عدم وجوبه بوجوب شرعی مولوی،و هکذا فی سائر مقدّمات أبواب الفقه.

ص:152

الأمر الخامس: فی بیان الثمرة فی مسألة مقدّمة الواجب

فی بیان الثمرة فی مسألة مقدّمة الواجب

و منه یتّضح أنّه لیس من الثمرة لمثل هذه المسألة الاصولیّة الموارد التی ذکروها ثمرة لها،مثل:برء النذر بإتیان مقدّمة واجب لمن نذر واجبا علی القول بالملازمة،و عدم حصول البرء بذلک علی القول بإنکارها.

و مثل حصول الفسق بترک واجب واحد بمقدّماته إذا کانت له مقدّمات کثیرة؛لأنّه بناء علی وجوب المقدّمة یصدق الإصرار علی ارتکاب الصغائر، و عدم تحقّق الإصرار بترک واجب له مقدّمات علی القول بإنکار الملازمة.

و مثل:حرمة أخذ الاجرة علی المقدّمة بناء علی وجوبها،و عدم حرمة أخذ الاجرة علیها علی القول بعدم وجوبها.

و الدلیل علی عدم کونها من الثمرة:أنّ الوفاء و عدم الوفاء بالنذر لیس بحکم شرعی،بل الحاکم به هو العقل،فإنّه یقول بحصول الوفاء به بلحاظ موافقة المأتی به مع المأمور به،و ما یرتبط بالشارع عبارة عن وجوب الوفاء بالنذر و وجوب المقدّمة،و لا یکون له حکم ثالث؛بأنّک إذا أتیت بمقدّمة الواجب وفیت بنذرک،فلیس هذا بحکم فقهی،فلا تکون ثمرة للبحث الاصولی.

ص:153

و هکذا حصول الفسق بترک المقدّمات،فإنّ للشارع حکما بأنّ الإصرار علی الصغائر یوجب الفسق،و أنّ مقدّمة الواجب واجبة،و أمّا ترک واجب کذا مع مقدّماته یوجب تحقّق الفسق،فلا یکون حکما شرعیّا،بل هو تطبیق بین الحکمین من ناحیة العقل.

و هکذا مسألة أخذ الاجرة علی الواجب،فإنّ ما یرتبط بالشارع عبارة عن وجوب المقدّمة،و أنّ أخذ الاجرة علی الواجب حرام،و العقل یستفید منهما أنّه إذا کانت المقدّمة واجبة فأخذ الاجرة علیها حرام،و هذا لا یرتبط بالشارع،فلا تکون هذه الموارد من الثمرة،و لا نحتاج إلی أجوبة صاحب الکفایة قدّس سرّه عنها.

و یمکن أن یقال:إنّه سواء قلنا بالملازمة أو بعدمها لا بدّ من إتیان المقدّمة، و یلزم علی المکلّف بحکم العقل أو الشرع،فما هی الثمرة التی تترتّب علی هذا النزاع عملا؟

و أجاب عنه المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)بقوله:و حینئذ فالأولی جعل الثمرة التوسعة فی التقرّب،فإنّه بناء علی الملازمة کما یتحقّق القرب بإتیان المقدّمة بقصد التوصّل بها إلی ذیها کذلک یتحقّق بإتیانها بداعی أمرها و مطلوبیّتها لدی المولی و لو غیریّا،بناء علی ما عرفت من صلاحیة الأمر الغیری أیضا للمقرّبیّة.و أمّا علی القول بعدم الملازمة فلا یکاد یصحّ التقرّب بالمقدّمة إلاّ بإتیانها بقصد التوصّل بها إلی ذیها.

و أشار أیضا إلی ثمرة اخری،توضیح ذلک:أنّ ممّا یوجب تحقّق الضمان و ثبوت اجرة المثل عبارة عن أمر الآمر للحمّال-مثلا-بحمل وسائله إلی

ص:154


1- 1) نهایة الأفکار 1:340-344.

مکان کذا،فإنّه یستحقّ اجرة المثل بعد الحمل بدون عقد الإجارة،و استفاد المحقّق العراقی من هذه القاعدة ثمرة عملیّة؛بأنّه إذا أمره بإتیان عمل کان له مقدّمات،و علی القول بالملازمة یکون الأمر بشیء أمرا بمقدّماته أیضا،و علی هذا فإن أتی بالمقدّمات بدون ذی المقدّمة یستحقّ الاجرة فی مقابلها؛لأنّه عمل عملا بأمر غیره مع عدم کون العمل بعنوان المجّانیّة و التبرّع،و علی القول بإنکار الملازمة لا یستحقّ الاجرة؛لعدم کون المقدّمة مأمورا بها.

و یمکن أن یقال:إنّه یرد علیه الإشکال الذی أورده صاحب الکافیة قدّس سرّه علی الثمرات الثلاث المذکورة،من عدم ارتباط هذه التطبیقات العقلیّة بالشارع و عدم کونها ثمرة للمسألة الاصولیّة،و هکذا إمکان قصد القربة بالمقدّمة علی القول بوجوبه واجبا شرعیّا،و إمکان تبدیلها بالواجب التعبّدی لا یرتبط بالشارع بل هو حکم العقل،و هکذا فی الثمرة الثانیة،فإنّ للشارع حکما کلّیّا بأنّه إذا أمر الآمر بعمل یوجب الاجرة إن لم یکن العمل بعنوان التبرّع و المجّانیّة.و أمّا کون وقوع عمل خاصّ مأمورا به من ناحیة شخص یوجب استحقاق الاجرة فلا یرتبط بالشارع،بل هو من التطبیقات العقلیّة.

و جوابه:أنّ القائلین بتحقّق الثمرات الثلاث المذکورة کانوا فی مقام جعلها ثمرة مستقیمة للبحث الاصولی،و لکنّ المحقّق العراقی قدّس سرّه بعد إنکارها و القول بأنّ الثمرة عبارة عن الوجوب الشرعی للمقدّمات قال فی المرحلة الثانیة فی مقام الجواب عن فائدة هذه الثمرة عملا بأنّ فائدتها تظهر عملا فی هذین الموردین،و لذا لا یرد علیه الإشکال المذکور.

و لکنّ التحقیق:أنّ کلامه بعد هذا التوضیح و الدفاع أیضا لا یخلو عن مناقشة،أمّا مسألة قصد القربة فی الواجب التوصّلی فیرد علیه أنّه إن کان

ص:155

واجبا نفسیّا مثل أداء الدین فیمکن قصد القربة به و استحقاق المثوبة،و إن کان واجبا غیریّا فلا یصلح وجوبه للداعویّة و المقرّبیّة،و لذا أشکل و صعب علینا تصحیح عبادیّة الطهارات الثلاث کما مرّ مفصّلا،و لعلّه نسی هذه المباحث و قال بإمکان قصد القربة به بعنوان الثمرة العملیّة مع أنّه لا یمکن به قصد القربة؛لعدم صلاحیّة الأمر الغیری للداعویّة و المقرّبیّة.

و هکذا مسألة أخذ الاجرة،فإنّ مورد القاعدة الکلّیّة المذکورة فی باب الضمان عبارة عمّا إذا أتی المأمور العمل بداعی الأمر فقط؛إذ الحمّال لو نذر أن یحمل فی کلّ یوم حملا فی سبیل اللّه و حمله فی المثال بهذا الداعی فلا شکّ فی عدم استحقاقه،و علی هذا یمکن أن یکون الداعی لإتیانه بالمقدّمات عبارة عن اللابدّیّة العقلیّة لا أمر الآمر،فهو یأتی بها و إن قلنا بعدم الملازمة.

و یمکن أن یقال:إنّ بین المثال و ما نحن فیه فرقا؛إذ الحمّال نذر أن یحمله مجّانا،و هاهنا إن لم یکن الأمر بذی المقدّمة من ناحیته لم یکن من اللابدّیّة العقلیّة أثر و لا خبر،فهو علی أیّ حال مستند إلی أمر الآمر کما لا یخفی.

و جوابه:أنّه أتی بالمقدّمة بدون ذی المقدّمة،فلا دخل للآمر فی إیجادها أصلا؛إذ لو کان له دخل لدعاه إلی ذی المقدّمة أیضا،فنستفید من ذلک أنّ تمام المحرّک و الداعی عبارة عن اللابدّیّة العقلیّة،و لذا لا یستحقّ الاجرة.

و من هنا نرجع إلی الثمرات الثلاث المذکورة فی الکفایة و نقول:إنّها لیست ثمرة مستقیمة للمسألة الاصولیّة کما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه،و لکن لا بأس فی کونها ثمرة عملیّة و ثمرة مع الواسطة للمسألة،فتکون ثمرة البحث الاصولی عبارة عن وجوب الوضوء شرعا،و ثمرته عملا عبارة عن الوفاء بالنذر بعد إتیانه علی القول بالملازمة،و عدمه علی القول بإنکارها،و ما أورد علیها صاحب الکفایة من الإشکال یکون قابلا للجواب.

ص:156

الأمر السادس: فی تأسیس الأصل فی المسألة

اشارة

فی تأسیس الأصل فی المسألة

و من المباحث الأصلیّة فی هذه المسألة عبارة عن تأسیس الأصل إن لم یحرز لنا طرف النفی أو الإثبات فی باب الملازمة و کنّا فی حالة الشکّ،فهل یتحقّق أصل عملی لإثبات أحد الطرفین أم لا؟قد یقع مجری الأصل ما هو محلّ النزاع فی بحث مقدّمة الواجب،یعنی الملازمة و عدمها،و علی هذا لا یکون هنا أصل؛إذ الملازمة تکون من المسائل العقلیّة کما مرّ،و لیست لها حالة سابقة عدمیّة حتّی یحتمل تبدّلها بالوجودیّة،بل هی أزلیّة و أبدیّة،مثل:حکم العقل بامتناع اجتماع النقیضین،فإن تحقّقت الملازمة یکون تحقّقها من الأزل إلی الأبد،و إن لم تتحقّق یکون عدم تحقّقها أیضا کذلک،فلا أصل فی أصل المسألة، و قد یقع مجری الأصل نتیجة المسألة،یعنی ما جعلناه ثمرة اصولیّة،و هی عبارة عن وجوب المقدّمات شرعا،و علی هذا یتحقّق استصحاب العدم،فإنّ الأحکام الشرعیّة حادثة و تکون لها حالة سابقة عدمیّة،کالحجّ-مثلا-فإنّ وجوبه حدث بعد نزول الآیة: وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (1)،و إذا شکّ فی وجوب بعض مقدّماته یجری استصحاب العدم.

ص:157


1- 1) آل عمران:97.

و لکن أشکل علیه:أوّلا:بأنّ مجرّد تحقّق حالة سابقة عدمیّة لا یکفی فی جریان الاستصحاب،و یلزم أیضا أن یکون المستصحب حکما شرعیّا أو موضوعا له،و هذا الشرط مفقود فیما نحن فیه،لا بلحاظ أنّ عدم الوجوب لیس بمجعول شرعی،بل بلحاظ أنّ الملازمة تکون عقلیّة و قهریّة بین الوجوبین و لیس بمجعول للشارع؛إذ لا یکون وجوب المقدّمة نفیا و إثباتا بید الشارع،و لا یمکن له أن یقول:أوجبت الصلاة بخلاف مقدّماتها؛لأنّ وجوبها أمر قهریّ و ممّا لا بدّ منه،فکیف یجری الاستصحاب؟

و جوابه:أنّ المجعول الشرعی قد یکون بالذات و بلا واسطة،و قد یکون بالتبع مثل جزئیّة أجزاء المأمور به المرکّب،و ما یعتبر فی جریان الاستصحاب عبارة عن مطلق المجعول الشرعی،سواء کان بالذات أم بالتبع،و لذا یجری استصحاب عدم جزئیّة السورة-مثلا-بعد الشکّ فیها،فعلی القول بالملازمة یکون وجوب المقدّمة مجعولا للشارع و لکنّه بالتبع،و لا إشکال فی جریانه من هذه الناحیة.

و ثانیا:أنّه علی القول بعدم ترتّب ثمرة عملیّة علی بحث مقدّمة الواجب یرد علیه أنّ الغرض من جریان الاستصحاب و سائر الاصول العملیّة عبارة عن ترتّب ثمرة عملیّة علیها فی مقام العمل،و إن لم تترتّب علیها ثمرة فی هذا المقام فلا داعی لجریانها،فما الذی یترتّب علی الاستصحاب هاهنا من الأثر فی مقام العمل؟

و جوابه:أنّ هذا الإشکال مبنائی فقد مرّ اختیار ترتّب بعض الثمرات علیه فی مقام العمل.و بالنتیجة من نذر إتیان الواجب الشرعی و شکّ فی وجوب الوضوء-مثلا-و یجری الاستصحاب فیه لا یحصل الوفاء بالنذر بإتیانه به.

ص:158

و ثالثا:أنّه یثبت بالاستصحاب أنّ المقدّمة بحسب الحکم الظاهری لا تکون واجبة،مع أنّ وجوب ذی المقدّمة-کالصلاة مثلا-ممّا لا شبهة فیه، و جریان الاستصحاب یوجب التفکیک بینهما من حیث الحکم،فإن تحقّقت بحسب الواقع بین وجوبهما ملازمة کیف یجتمع هذا مع الاستصحاب الذی ینفیها؟

و أجاب عنه المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)بأنّ دعوی الملازمة إن کان محدودا فی وجوبین واقعیّین فلا ینافی الاستصحاب مع الملازمة أصلا؛إذ لا مانع من کون الحکم الظاهری مخالفا للحکم الواقعی،و إن کانت دائرة الملازمة موسّعة و تحقّقت الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة فی مرحلة الفعلیّة کتحقّقها فی مرحلة الواقع.

قال فی متن الکفایة:«لصحّ التمسّک بذلک فی إثبات بطلانها»،أی یصحّ التمسّک بالاستصحاب فی إثبات بطلان الملازمة،و لکنّه فی نسخة قال:«لما صحّ التمسّک بالأصل».

و لکنّ التحقیق:أنّ سیاق العبارة یقتضی صحّة ما فی النسخة،و أن یکون ما ذکره فی الحاشیة جزء کلامه،فإنّ وعاء الملازمة هو الواقع و القائل بها عالم بتحقّقها،و ربما یدّعی شهادة الوجدان علیها،فکیف یمکن بطلانها بالاستصحاب الذی یکون مجراه عبارة عن الشکّ فی الملازمة و عدمها؟! و بالنتیجة لا یصحّ التمسّک بالاستصحاب علی القول بالملازمة المطلقة.

و أشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)بأنّ الاستصحاب وظیفة الشاکّ

ص:159


1- 1) کفایة الاصول 1:193-196.
2- 2) تهذیب الاصول 1:219.

و توسعة دائرة الملازمة و عدم محدودیّتها مربوط بالقائل بالملازمة،فکیف یمکن أن یکون دعوی التوسعة منه مانعا عن تمسّکه بالاستصحاب؟

و جوابه:ما ذکر استاذنا السیّد البروجردی (1)فی مقام توجیه کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه و هو:أنّ مجری الاصول العملیّة عبارة عمّا إذا کان الحکم الواقعی مشکوکا و فعلیّته مقطوعة العدم علی جمیع التقادیر،مثلا:نجری أصالة الحلّیّة فی صورة الشکّ فی حلّیّة شرب الدخانیات و حرمته بحسب الحکم الظاهری، و نقطع بعدم فعلیّة الحرمة الواقعیّة لنا إن کان فی الواقع حراما،فإن لم یکن الحکم الواقعی مقطوع العدم فی بعض التقادیر فلا یجری الأصل العملی.

و ما نحن فیه من هذا القبیل؛لأنّ فی صورة محدودیّة الملازمة بالحکمین الواقعیّین سلّمنا أنّ الحکم الظاهری حاکم فی مرحلة الفعلیّة بلحاظ عدم إیصالهما فی هذه المرحلة،و أمّا فی صورة توسعة دائرة الملازمة فلا شکّ فی فعلیّة أحد طرفی الملازمة-یعنی وجوب ذی المقدّمة-و علی تقدیر الملازمة یتحقّق وجوب المقدّمة أیضا فی مرحلة الفعلیّة،فلا یمکن للشاکّ أن یقول:إنّا نعلم بعدم الوجوب الفعلیّ للمقدّمة مطلقا،فإنّه عالم بعدم الفعلیّة علی تقدیر عدم الملازمة فقط.و من البدیهی أنّ فی صورة العلم بفعلیّة وجوب المقدّمة علی أحد التقدیرین لما صحّ التمسّک بالأصل،و لا یبقی إشکال بعد هذا التوضیح اللطیف و الدقیق.

و ملخّص کلامه:أنّ الاصول العملیّة تجری فی مورد القطع بعدم فعلیّة التکلیف الواقعی علی تقدیر ثبوته،و هذه الخصوصیّة لا تتحقّق فیما نحن فیه، فإنّ بعد العلم بفعلیّة وجوب ذی المقدّمة و العلم بفعلیّة وجوب المقدّمة علی

ص:160


1- 1) نهایة الاصول 1:196-197.

تقدیر الملازمة لا یبقی للاستصحاب مجال،و هذا نظیر عدم جریان أصالة الحلّیّة فی باب الفروج و الدماء التی یکون نفس الاحتمال فیها موجب لتنجّز التکلیف.

مسألة مقدّمة الواجب و الأقوال فیها

هل تتحقّق الملازمة أم لا؟

قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)فی مقام الاستدلال علی تحقّق الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة:و الأولی إحالة ذلک إلی الوجدان حیث إنّه أقوی شاهد علی أنّ الإنسان إذا أراد شیئا له مقدّمات أراد تلک المقدّمات أیضا لو التفت إلیها،بحیث ربما یجعلها فی قالب الطلب مثله،و یقول مولویّا:

«ادخل السوق و اشتر اللحم مثلا»،بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب«ادخل» مثل المنشأ بخطاب«اشتر»فی کونه بعثا مولویّا،و لا فرق بینهما إلاّ فی النفسیّة و الغیریّة،و لا یعقل أن یکون الأمر بدخول السوق أمرا إرشادیّا،فإنّه فی مورد لا یلتفت المکلّف إلی المأمور به مثل أوامر الطبیب،و لا شکّ فی التفات المکلّف هاهنا إلی عدم إمکان شراء اللحم بدون دخول السوق.

ثمّ قال:و یؤیّد الوجدان-بل یکون من أوضح البرهان-وجود الأوامر الغیریّة فی الشرعیّات و العرفیّات،کالأمر بالوضوء و الغسل و الأمر بدخول السوق؛لوضوح أنّه لا یکاد یتعلّق بمقدّمة أمر غیری إلاّ إذا کان فیها مناطه، و إذا کان فیها کان فی مثلها،فیصحّ تعلّقه به أیضا؛لتحقّق ملاک الأمر الغیری و مناطه،و هو التوصّل إلی ذی المقدّمة.

ص:161


1- 1) کفایة الاصول 1:200.

و التحقیق:أنّ الوجدان ممّا لا یمکن نفیه و إثباته؛إذ لا دلیل لتحقّق حکمه فیما نحن فیه و عدمه،بل هو مثل التبادر یدّعی بعض تحقّق الملازمة وجدانا و الآخر عدمه وجدانا،فلا بدّ لنا من التحقیق فی الشواهد و القرائن التی ذکرت لتحقّقه.

و ما یستفاد من صدر کلامه من أنّ المولی إذا التفت إلی مقدّمة یجعلها متعلّقا للطلب فی عرض ذی المقدّمة،مثل:«ادخل السوق و اشتر اللحم»، و غایة ما یستفاد من ذلک أنّه یمکن للمولی و یجوز له أن یجعل المقدّمات أو بعضها مأمورا به بالأمر المولوی،و بهذا لا یثبت المدّعی،فإنّه عبارة عن الملازمة و عدم الانفکاک بین وجوبی المقدّمة و ذی المقدّمة،و معناها التحتّم لا الجواز و الإمکان،و معلوم أنّ منکر الملازمة أیضا یقول بهذا المعنی،و أنّه یمکن له جعل المقدّمة مأمورا بها بالأمر المولوی.

و الجواب عمّا ذکره فی ذیل کلامه بعنوان التأیید من تعلّق الأوامر الشرعیّة بالمقدّمات:أنّ هذه الأوامر إرشادیّة،و أمّا فی باب المعاملات فقد اعترف صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی مسألة النهی عن المعاملة و هل یقتضی الفساد أم لا؟ بأنّه لا یبعد القول بکون النواهی المتعلّقة بالمعاملات إرشادیّة،و لیس معنی قوله علیه السّلام:«لا تبع ما لیس عندک» (2)أنّه إذا بعت ما لیس عندک فقد ارتکبت محرّما،بل معناه أنّه لا یقع صحیحا.

و أمّا فی العبادات إذا تعلّق الأمر أو النهی بمجموعة العبادة مثل:«أقیموا الصلاة»و«دعی الصلاة أیّام أقرائک»فلا بحث فی ظهورهما فی الوجوب

ص:162


1- 1) کفایة الاصول 1:298.
2- 2) فقه القرآن 2:58.

و الحرمة و المولویّة،و إذا تعلّق بخصوصیّات العبادة کقوله علیه السّلام:«لا تصلّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» (1)،و«لا تصلّ فی النجس»فلا شکّ فی إرشادیّته؛إذ یرشد المولی إلی أنّ النجاسة مانعة عن تحقّق عنوان الصلاة،فیکون لهذه الأوامر ظهور فی الإرشاد سیّما مع التوجّه إلی معلومیّة المقدّمات و الموانع فی الامور التکوینیّة،بخلاف الشرعیّات فإنّ المقدّمات و الموانع فیها تحتاج إلی البیان و الإرشاد،فالظاهر أنّ الأوامر المتعلّقة بالوضوء و الغسل و أمثال ذلک إرشادیّة.

و ربّما یؤیّده تعلیق الأمر بالوضوء بقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فإنّه یرشد إلی أنّ الصلاة لا تصحّ بدون الوضوء،و إن أبیت عن هذا الظهور نقول:

نحن لا نکون فی مقام الاستدلال،و مجرّد إثبات هذا الظهور لها و عدم الدلیل علی خلافه یکفینا،فما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بعنوان الدلیل للملازمة قابل للمناقشة،کما لا یخفی.

و استدلّ أیضا للقول بالملازمة بأنّ الإرادة التشریعیّة فی جمیع الموارد تابعة للإرادة التکوینیّة،ففی کلّ مورد تحقّقت و أمکنت الإرادة التکوینیّة یمکن فیه تحقّق الإرادة التشریعیّة أیضا،و لذا لا یتعلّق الأمر و الإرادة التشریعیّة بمثل اجتماع الضدّین و المثلین،کأنّه یتحقّق بین الإرادتین نوع من الملازمة.

و من البدیهی أنّ من أراد الإتیان بعمل یتوقّف علی مقدّمة تتعلّق إرادته بها قطعا بعد التفاته إلیها و عدم إمکان تحقّق ذی المقدّمة بدونها إذا کان الأمر فی الإرادة الفاعلیّة و التشریعیّة،و یکون فی الإرادة التشریعیّة بلحاظ التبعیّة أیضا کذلک،کما أنّ المولی إذا أراد إیجاد الکون علی السطح بنفسه کان له إرادتان،

ص:163


1- 1) الوسائل 4:347،الباب 2 من أبواب لباس المصلّی،الحدیث 7.

کذلک إذا أمر بشخص آخر بإتیانه کان له أمران:إحداهما یتعلّق بذی المقدّمة و الآخر بالمقدّمة،و لا یصحّ التفکیک بینهما،فتقتضی تبعیّة الإرادة التشریعیّة للإرادة التکوینیّة القول بالملازمة.

و فیه:أوّلا:أنّه ما الدلیل علی هذه التبعیّة؟

و ثانیا:أنّه بعد التوجّه إلی أنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة لا تکون معلولة للإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة بحیث لا تحتاج إلی المبادئ کما مرّ مرارا،و لا شکّ فی أنّ المولی إذا أراد إیجاد الکون علی السطح بنفسه تتعلّق إرادته بجمیع مبادیه أوّلا و بالمقدّمة ثانیا،إن التفت إلیها یلتفت إلی أنّه لا یمکن عادة بدونها الکون علی السطح،و لکنّه إذا کان فی مقام التشریع و صدور الأمر بذلک تتعلّق إرادته التشریعیّة بذی المقدّمة،و مع ذلک یمکن عدم تعلّق إرادته التشریعیّة بالمقدّمة،بل یصحّ قوله بعدم تعلّق الأمر الوجوبی بها لعدم الاحتیاج إلیه،فإنّ المکلّف إذا التفت إلیها یوجدها فی الخارج بحکم العقل،و منکر الملازمة أیضا قائل بتحقّق اللابدّیّة العقلیّة،فیتحقّق بین الإرادتین فرق واضح.

و ربما یقال بلغویّة تعلّق الإرادة التشریعیّة بالمقدّمة،فإنّها تحتاج إلی المبادئ و منها التصدیق بالفائدة،و إذا لاحظ المولی أنّ العبد یأتی بها بحکم العقل و اللابدّیّة العقلیّة،فما فائدة أمره و إرادته التشریعیّة؟نعم،لا إشکال فی صدوره عن المولی الحکیم فی بعض الموارد،مثل:«ادخل السوق و اشتر اللحم»بغرض التأکید إن لم یمکن حمله علی الإرشاد.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):و لا بأس بذکر الاستدلال الذی هو کالأصل لغیره ممّا ذکره الأفاضل من الاستدلالات،و هو ما ذکره أبو الحسن البصری،

ص:164


1- 1) کفایة الاصول 1:201.

و هو:أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز ترکها،و حینئذ فإن بقی الواجب علی وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق،و إلاّ خرج الواجب المطلق عن کونه واجبا.

و لکن لا بدّ لنا من إصلاحه قبل الإفساد و الجواب عنه؛إذ المراد من الوجوب فی القضیّة الشرطیّة الاولی هو الوجوب الشرعی،فمعناها أنّ المقدّمة لو لم تجب شرعا لجاز ترکها شرعا،مع أنّ الجواز بالمعنی الأخصّ عبارة عن الإباحة،و الجواز بالمعنی الأعمّ إن نسب إلی الفعل عبارة عن غیر الحرمة،و إن نسب إلی الترک عبارة عن غیر الوجوب،فیوافق الحرمة أیضا،فما هو المراد من الجواز هاهنا؟إن کان بمعنی الإباحة فلا شکّ فی بطلانها،فإنّ معناها أنّه إذا لم یکن الشیء واجبا شرعا کان مباحا شرعا،مع أنّ الحرمة و الکراهة و الاستحباب مع کونها غیر الواجب لا یکون مباحا،فلا تتحقّق الملازمة بین الشرط و الجزاء و المقدّم و التالی،و إن کان جواز الترک بالمعنی الأعمّ-یعنی غیر الوجوب-فلا تصحّ الملازمة إلاّ علی القول بعدم خلوّ المقدّمة عن الحکم الشرعی.

و أمّا علی القول بخلوّها عن الحکم الشرعی کما هو الحقّ فلا تتحقّق الملازمة بینهما؛إذ یمکن أن تکون المقدّمة خالیة عن الحکم الشرعی بعد حکم العقل بلزوم الإتیان بها،و نظیرها خلوّ أحد المتلازمین عن الحکم الشرعی و إطاعة اللّه تعالی.فلا بدّ من إصلاح التالی بأنّ المراد منه عدم المنع،فمعنی الشرطیّة الاولی أنّه لو لم تجب المقدّمة شرعا لا مانع من ترکها شرعا.

و الظاهر أن یکون المراد من قوله:«حینئذ»حین إذ جاز ترکها کما یقتضیه سیاق العبارة،مع أنّ لازم ذلک کذب الشرطیّة الثانیة؛إذ یلزم من مجرّد جواز ترک المقدّمة مع بقاء ذی المقدّمة علی وجوبه محذور التکلیف بما لا یطاق،و إنّما

ص:165

یلزم هذا المحذور إذا ترکت المقدّمة،فلا بدّ من إصلاحه بأنّ المقصود منه«حین إذ ترکت المقدّمة عن جواز»یعنی:إذا ترکت المقدّمة بالاستناد إلی الجواز الشرعی یلزم المحذور المذکور.

و محصّل الاستدلال أنّه لو لم تجب المقدّمة شرعا فلا مانع من ترکها شرعا، و حینئذ فإن بقی الواجب المطلق بوجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق،و إن خرج عن هذا العنوان و بدّل بالواجب المشروط معناه دخالة جمیع المقدّمات-مثل أوقات الصلوات-فی وجوب الصلاة و وجودها معا،و الحال أنّه خلاف بداهة الفقه کما لا یخفی.

و لکن لا بدّ لنا قبل بیان مناقشته من ملاحظة المسألة وجدانا؛بأنّه علی فرض إنکار الملازمة و عدم تعلّق وجوب شرعی بالمقدّمة لا شکّ فی أنّ العقل الذی یقول بوجوب إطاعة اللّه تعالی یحکم بوجوبها أیضا؛حذرا من الوقوع فی عقاب ترک المأمور به بلحاظ ترک مقدّمته،و علی هذا إن ترکها المکلّف فقد اختار ترکه بسوء اختیاره بترک مقدّمته،فلا تحتاج المقدّمة إلی الحکم اللزومی الشرعی بعد إلزام العقل بإتیانها؛إذ لا فرق وجدانا بین وجوب المقدّمة شرعا و عدمه فی تحقّق العصیان المستتبع للعقاب بسبب ترک المأمور به الناشئ من ترک مقدّمته.

إذا عرفت هذا فنقول فی مقام الجواب عنه:إنّ المراد من الجواز و عدم المنع الشرعی إن کان عدم المنع و عدم الإشکال المحدود فی دائرة الشرع فقط سلّمنا صحّة الشرطیّة الاولی،و لکنّه لا یوجب صدق إحدی الشرطیّتین،و لا یلزم منه أحد المحذورین،فإنّه قال:حین إذ ترکت المقدّمة عن عدم المنع الشرعی، فإن بقی الواجب علی وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق،و الحال أنّ الأمر لیس

ص:166

کذلک؛لأنّ العقل یحکم بعدم جواز ترک المقدّمة،فإنّه ینتهی إلی ترک المأمور به،فمن ناحیة الشرع و إن لم یتحقّق المنع من ترکها و لکنّه یتحقّق من ناحیة العقل؛إذ هو حاکم بالاستقلال بلزوم الإتیان بالمقدّمة للتوصّل إلی المأمور به.

و إن کان المراد من الجواز عدم المنع من الترک شرعا و عقلا سلّمنا صدق الشرطیّتین،إلاّ أنّ الملازمة فی الشرطیّة الاولی ممنوعة؛بداهة أنّه لو لم تجب المقدّمة شرعا لا یستلزم عدم المنع من ترکها شرعا و عقلا؛لإمکان أن لا یکون محکوما بحکم شرعا،و إن کان واجبا عقلا إرشادا فالمقدّمة و إن لم تکن واجبة بالوجوب الشرعی و لکنّها لازمة باللزوم العقلی،فلا تصحّ أدلّة القائلین بالملازمة بما ذکرناه إلی هنا.

و الحقّ أنّه لا تتحقّق الملازمة،و هو المستفاد من کلام استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)،و لنا دلیل علی إنکارها؛إذ لو فرض تحقّقها إمّا یتحقّق بین البعثین و إمّا یتحقّق بین الإرادتین،و علی کلا التقدیرین إمّا تلاحظ الفعلیّة فی جانب المقدّمة،و إمّا تلاحظ التقدیریّة فیه،و یتحقّق الدلیل علی منع الملازمة علی جمیع الاحتمالات.

توضیح ذلک:أنّه لو فرض تحقّق الملازمة بین الوجوب الفعلی لذی المقدّمة و الوجوب الفعلی للمقدّمة،و کان المراد منه أنّه إذا بعث المولی إلی شیء یجب له البعث إلی مقدّماته رعایة لشئون المولویّة،فهو فاسد ضرورة؛لأنّا نری عدم البعث إلیها من الموالی غالبا،بل البعث إلیها لغو جدّا،و ما یری وقوعه هو إرشاد إلی حکم العقل أو إرشاد إلی الشرائط الشرعیّة أو تأکید للأمر النفسی.

و إن کان المراد من الملازمة بینهما العینیّة-أی الأمر بذی المقدّمة یکون أمرا

ص:167


1- 1) تهذیب الاصول 1:278-282.

بالمقدّمة-فهو فی الحقیقة أمران یتعلّق أحدهما بذی المقدّمة و الآخر بالمقدّمة، فهو أوضح فسادا و مخالف للعقل و الوجدان و الأدبیّة،فإنّ جملة«اشتر اللحم» لا تدلّ هیئة و لا مادّة علی وجوب دخول السوق.

و إن کان المراد من الملازمة بینهما من قبیل لوازم الماهیّة مثل الزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة،فهو أیضا باطل،فإنّ المسائل المربوطة بلازم الماهیّة لا تقع موردا للاختلاف أصلا،و الحال أنّ الأعاظم أنکروا الملازمة بین الوجوبین.

علی أنّ من خصوصیّة لازم الماهیّة أنّ بمجرّد الالتفات إلی الملزوم یتحقّق الالتفات إلی اللازم أیضا،و هذه الخصوصیّة مفقودة فیما نحن فیه،فإنّ کثیرا ما تقع المقدّمة مغفولا عنها للمولی فضلا عن الحکم بها.

و إن کان المراد منها أنّ البعث إلی ذی المقدّمة علّة للبعث إلی المقدّمة بحیث یتولّد قهرا من البعث إلیه البعث إلیها و من إیجابه إیجابها،فهو أیضا باطل؛لأنّ مقتضی العلّیّة و المعلولیّة عدم انفکاک إیجاب المقدّمة عن إیجاب ذی المقدّمة أصلا،مع أنّا نری أنّه لیس کذلک،فإن احتمل إیجاب المقدّمة من ناحیة المولی و عدم إیصاله إلینا قلنا:إنّه لا یمکن الالتزام به فی الموالی العرفیّة وجدانا؛إذ ربما تکون المقدّمة مغفول عنها لها،و لا یمکن تعلّق الإیجاب من ناحیتها بالمقدّمة المغفول عنها،فلا تصحّ هذه الاحتمالات.

و إن کان المراد من البعث المتعلّق بالمقدّمة البعث التقدیری،أی تعلّق الإیجاب من المولی إلی ذی المقدّمة فعلا،و یتعلّق بالمقدّمة بعد التفاته إلی المقدّمیّة،فهو أوضح فسادا؛لأنّ عنوان الملازمة یکون من مصادیق التضایف، و لا یمکن أن یکون أحد طرفیها أمر وجودی و الآخر عدمی،فإن کان لأحد طرفی الملازمة فعلیّة فلا محالة لطرفها الآخر من فعلیّة.

ص:168

و إن کان المراد من الملازمة استلزام الإرادة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة للإرادة المتعلّقة بالبعث إلی المقدّمة،بمعنی أنّه یتولّد و یترشّح من إرادته إرادة اخری قهرا بدون أن تکون ناشئة من المبادئ،فبطلانها أوضح من أن یبیّن کما مرّ مکرّرا،فإنّ قاعدة احتیاج الإرادة إلی المبادئ لا یکون قابلا للتخصیص.

و إن کان بمعنی سببیّة الإرادة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة لإرادة اخری ناشئة من المبادئ،فهو مردود بعد ترتّب الثمرة علیها،مع أنّ من مبادئ الإرادة التصدیق بالفائدة؛إذ المولی لا یری للإرادة فائدة بعد التفات المکلّف إلی المقدّمیّة،فهذا دلیل علی عدم تحقّق الملازمة.

و أمّا التفصیل بین السبب و غیره-أی العلّة التامّة و أجزائها-فقد استدلّ علی وجوب السبب بأنّ التکلیف لا یکاد یتعلّق إلاّ بالمقدور،و المقدور لا یکون إلاّ هو السبب،و إنّما المسبّب من آثاره المترتّبة علیه قهرا،و لا یکون من أفعال المکلّف و حرکاته و سکناته-کالإحراق المترتّب علی الإلقاء فی النار-فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إلیه عنه إلی سببه.

و لا یخفی ما فیه،فإنّه لیس بدلیل علی التفصیل،بل علی أنّ الأمر النفسی إنّما یکون متعلّقا بالسبب دون المسبّب مع وضوح فساده؛ضرورة أنّ المسبّب مقدور للمکلّف،و هو متمکّن منه بواسطة السبب،و لا یعتبر فی التکلیف أزید من القدرة،سواء کانت بلا واسطة أو معها کما لا یخفی.

و أمّا التفصیل بین الشرط الشرعی و غیره فقد استدلّ علی الوجوب فی الأوّل بأنّه لو لا وجوبه شرعا لما کان شرطا،حیث إنّه لیس ممّا لا بدّ منه عقلا أو عادة.

ص:169

و فیه-مضافا إلی ما عرفت من رجوع الشرط الشرعی إلی العقلی-:أنّه لا یکاد یتعلّق الأمر الغیری إلاّ بما هو مقدّمة الواجب،فلو کانت مقدّمیّته متوقّفة علی تعلّقه بها لدار.

توضیح ذلک:أنّ المراد من قوله:«لما کان شرطا»إن کان عدم الشرطیّة بحسب الواقع و مقام الثبوت،أی لو لا الوجوب الغیری للوضوء لما کان الوضوء شرطا واقعا،فمعناه أنّ الشرطیّة الشرعیّة الواقعیّة للوضوء متوقّفة علی وجوبه الغیری،و لا شکّ فی أنّ ملاک تعلّق الوجوب الغیری به عبارة عن شرطیّته للصلاة،و هذا دور واضح.

و إن کان المراد منه عدم الشرطیّة بحسب مقام الإثبات-أی لو لا الوجوب الغیری للوضوء-لما کان لنا طریق لاستکشاف شرطیّته.

ففیه:أوّلا:أنّ هذا الدلیل لا ینطبق علی المدّعی؛إذ المدّعی عبارة عن تعلّق الوجوب الغیری بالشرائط الشرعیّة بواسطة الملازمة العقلیّة،بخلاف غیرها، و مفاد الدلیل عبارة عن أنّه لا طریق لإثبات الشرطیّة سوی الوجوب الغیری،و الحال أنّا لا نبحث فی طرق استکشاف الشرطیّة،بل نبحث فی أنّ بعد إحراز مقدّمیّة شیء و شرطیّته هل یلازم وجوب ذی المقدّمة و المشروط مع وجوب المقدّمة و الشرط أم لا؟

و ثانیا:أنّه یتحقّق لاستکشاف الشرطیّة الشرعیّة طرق متعدّدة و مختلفة، منها:الأوامر الإرشادیّة،فقد ذکرنا فیما سبق أنّ الشرائط الشرعیّة و الموانع الشرعیّة تستفاد من الأوامر و النواهی الإرشادیّة نوعا،مثل:«لا تصلّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» (1)،و مثل قوله تعالی: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا

ص:170


1- 1) الوسائل 4:347،الباب 2 من أبواب لباس المصلّی،الحدیث 7.

وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ (1)،فإنّ الأوّل یرشد إلی أنّ وبر ما لا یؤکل لحمه مانع من صحّة الصلاة،و الثانی یرشد إلی أنّ تحقّق الصلاة الصحیحة فی الخارج یتوقّف علی الوضوء.

و منها:جعل المأمور به مقیّدا بالشرط،مثل:«صلّ مع الطهارة»فإنّ هذه العبارة متکفّلة لبیان قیدیّة الطهارة و شرطیّتها،مع أنّها خارجة عن دائرة المأمور به بالأمر النفسی.

و منها:بیان القیدیّة بصورة الاستثناء،مثل:«لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» (2)،و«لا صلاة إلاّ بطهور» (3).

و ثالثا:أنّ مع قطع النظر عمّا ذکرناه و فرض انحصار طریق استکشاف الشرطیّة بالوجوب الغیری لا طریق لنا لاستکشاف الوجوب الغیری،و من أین یعلم أنّ الوجوب المتعلّق بالوضوء وجوب غیریّ؟إذ یحتمل أن یکون قول الشارع مثلا:«توضّأ للصلاة»ظاهرا فی الوجوب الإرشادی،و لذا لا یمکن حمله علی الوجوب الغیری قبل إحراز شرطیّته،فلا بدّ من إحراز شرطیّته أوّلا،ثمّ حمله علی الوجوب الغیری،و هذا أیضا فی الحقیقة یشبه بالدور،فهذا الدلیل لیس بصحیح.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه:تتمّة:لا شبهة فی أنّ مقدّمة المستحبّ کمقدّمة الواجب،فتکون مستحبّة لو قیل بالملازمة بین استحباب ذی المقدّمة و استحباب المقدّمة،إلاّ أنّه فرق بین مقدّمة الواجب و مقدّمة المستحبّ،فی أنّ

ص:171


1- 1) المائدة:6.
2- 2) المستدرک 4:158،الباب 1 من أبواب القراءة فی الصلاة،الحدیث 5.
3- 3) الوسائل 1:315،الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة،الحدیث 1.

منکر الملازمة یقول بتحقّق رجحان عقلی هاهنا مکان اللابدیّة العقلیّة فی مقدّمة الواجب.

لا یقال:إنّه لا فرق بین الصلاة الواجبة و المستحبّة فی وجوب الوضوء فیهما،فلا یصحّ القول بأنّ مقدّمة المستحبّ مستحبّ.

لأنّا نقول:إنّه خلط بین الوجوب الشرطی و الوجوب الغیری؛إذ لا شکّ فی أنّ الوجوب المذکور وجوب شرطیّ،کأنّه قال الشارع:إذا أتیت بصلاة اللیل فاعلم أنّ الوضوء شرط لها،و هذا یرتبط بمرحلة الموضوع و جعل المقدّمیّة، و نحن لا نبحث فی هذه المرحلة،بل نبحث بعد إحراز المقدّمیّة و الشرطیّة فی أنّ استحباب صلاة اللیل ملازم لاستحباب الوضوء أم لا،و علی القول بالملازمة فهو مستحبّ غیری.

تتمّة:فی مقدّمة الحرام

مقدّمة الحرام:

هل تتحقّق الحرمة الغیریّة لمقدّمات الحرام أم لا؟و الأقوال هنا متعدّدة و متکثّرة.

منها:أنّ کلّ واحد من مقدّمات الحرام یتّصف بوصف الحرمة من باب الملازمة.

و منها:عدم اتّصافها بالحرمة أصلا.

و منها:التفصیل بین ما کانت المقدّمة علّة تامّة للحرام بحیث لم تکن إرادة الإنسان أیضا مانعة عن تحقّقه بعدها کالأفعال التولیدیّة و التسبیبیّة،مثل:

تحقّق الإحراق بعد الإلقاء فی النار،و بین ما لم تکن کذلک،بل یتمکّن المکلّف مع فعلها من ترک الحرام،فإن کانت المقدّمة من قبیل القسم الأوّل تکون

ص:172

حراما،و إن کانت من قبیل القسم الثانی فلا تکون حراما،إلاّ أنّ مقدّمات الحرام کثیرا ما تکون من قبیل القسم الثانی،و القائل بهذا القول هو صاحب الکفایة قدّس سرّه (1).

و منها:أنّ مقدّمة الحرام إن کانت موصلة إلی الحرام نستکشف أنّها کانت حراما،و إن لم تکن موصلة و لم یترتّب علیها ذو المقدّمة و لو بإعراض المکلّف عنه باختیاره فنستکشف عدم حرمتها.

و منها:أنّ المکلّف إذا قصد بالمقدّمة التوصّل إلی ذی المقدّمة فهی حرام، و إن لم یترتّب علیها ذو المقدّمة،و أمّا إذا لم یقصد بها التوصّل إلیه فهی لیست بحرام،و إن ترتّب علیها ذو المقدّمة أحیانا.

و أمّا المحقّق الخراسانی قدّس سرّه بعد قوله بوجوب مطلق المقدّمة فی مقدّمة الواجب فقد استدلّ للتفصیل المذکور هنا بأنّ متعلّق غرض المولی و مطلوبه فی باب الواجب عبارة عن وجود المأمور به و تحقّقه خارجا،و إذا لاحظناه مع المقدّمات نری أنّه یرتبط بوجود کلّ واحدة من المقدّمات،بحیث إن لم یتحقّق أحد منها لم یتحقّق المأمور به،و لذا یتّصف کلّ واحدة منها بالوجوب الغیری من باب الملازمة،و لکن مطلوب المولی فی ناحیة المحرّمات عبارة عن ترک الحرام.و إذا لاحظناه مع المقدّمات فهو لا یتوقّف علی ترک جمیع المقدّمات، بخلاف الواجب،بل هو یتوقّف علی ترک إحدی المقدّمات.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ المکلّف فی غیر الأفعال التولیدیّة-یعنی أکثر المحرّمات بعد الإتیان بجمیع مقدّمات الحرام-یکون مختارا فی فعل الحرام و ترکه،فإنّ الجزء الأخیر لعلّته التامّة عبارة عن الإرادة،و هی مکمّلة لها،فلا بدّ من کونها

ص:173


1- 1) کفایة الاصول 1:203-205.

محکومة بحکم الحرمة،و لکن قد أثبتنا سابقا أنّها أمر غیر اختیاری،و لا یتعلّق بها الحکم أصلا و لو کان غیریّا.

و أشکل علیه سیّدنا استاذنا السیّد قدّس سرّه (1)بأنّ الإرادة لا تکون جزء أخیرا للعلّة فی الأفعال الاختیاریّة أیضا،بل هی وقعت فی مرحلة متقدّمة علی المقدّمات المتعدّدة،فتکون جمیع الأفعال کالأفعال التولیدیّة فی ترتّب ذی المقدّمة علی المقدّمة بلا فصل بینهما،فإذا حرم الشرب الإرادی یتوقّف تحقّقه علی الشرب و الإرادة المتعلّقة به،فمع إرادة الشرب یتحقّق جزء من الموضوع، و جزؤه الآخر یتوقّف علی أفعال اختیاریّة مثل:أخذ إناء الماء و جعله محاذیا للفم،و منها:تحریک عضلات الحلقوم و قبضها حتّی یتحقّق البلع،و الجزء الأخیر لتحقّق الشرب هو هذا الفعل الاختیاری،فتتعیّن الحرمة فیه بعد تحقّق سائر المقدّمات،فلا بدّ من تعلّق الإرادة بذی المقدّمة أوّلا ثمّ ترشّحها و تعلّقها بالمقدّمات واحدة بعد اخری،فکیف تکون الإرادة الجزء الأخیر للعلّة التامّة فی الأفعال الاختیاریّة؟!

و یمکن أن یقال:إنّ إیجاد المقدّمة الأخیرة لیس إلاّ عن إرادة،فثبت ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و جوابه:أوّلا:أنّا نبحث فی الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة بأنّها تکون الجزء الأخیر للعلّة أو متقدّمة علی سائر المقدّمات،و متعلّق الجزء الأخیر من العلّة عبارة عن إرادة مقدّمی.

و ثانیا:أنّه لا بدّ فی الأفعال التولیدیّة-کالإلقاء فی النار-أیضا من الإرادة المقدّمی،فکما أنّ الجزء الأخیر فی الأفعال الاختیاریّة یحتاج إلی الإرادة کذلک

ص:174


1- 1) تهذیب الاصول 1:282.

فی الأفعال التولیدیّة یحتاج إلیها،فلا فرق بینهما من هذه الناحیة،و إذا اتّصفت مقدّمة الأخیر بالحرمة فلا بدّ من کونها فی کلیهما کذلک.

و لا یخفی أنّ بیان الإمام قدّس سرّه مع صحّته و دقّته یحتاج إلی تبصرة بأنّه تتحقّق لنا موارد لا فاصلة بین الإرادة و المراد،کما إذا کانت العلّة التامّة لتحقّق المراد عبارة عن نفس الإرادة،مثل:غمض العین و فتحها و حرکة الید و أمثال ذلک، فما قال به من تحقّق الفاصلة بین الإرادة و المراد صحیح،و لکنّه لا بصورة الموجبة الکلّیّة،و لذا قال المشهور فی تعریف الإرادة:أنّها عبارة عن الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو المراد،و معلوم أنّها إذا تعلّقت بنفس تحریک العضلات لا یتحقّق بینهما فاصلة.

و المحقّق الحائری قدّس سرّه (1)فصّل بین ما یکون العنوان بما هو مبغوضا من دون تقیید بالاختیار و إن کان له دخل فی استحقاق العقاب،مثل:قتل النفس،و بین ما یکون المبغوض الفعل الصادر عن إرادة و اختیار،ففی الأوّل تکون إحدی المقدّمات لا بعینها محرّمة،إلاّ إذا وجد باقی الأجزاء و انحصر اختیار المکلّف فی واحدة منها فتحرم علیه هذه الباقیة بعینها،و فی الثانی لا تتّصف الأجزاء الخارجیّة بالحرمة؛لأنّ العلّة التامّة للحرام هی المجموع المرکّب منها و من الإرادة،و لا یصحّ إسناد الترک إلاّ إلی عدم الإرادة؛لأنّه أسبق رتبة من سائر المقدّمات الخارجیّة.انتهی.

و لازم کلامه فی القسم الأوّل أنّ المقدّمة إن کانت منحصرة بمقدّمة واحدة فهی تتّصف بالحرمة الغیریّة بعنوان العلّة التامّة للحرام،و أمّا فی القسم الثانی إن کانت الإرادة عنده من الامور الاختیاریّة فهی تتّصف بالحرمة الغیریّة،

ص:175


1- 1) درر الفوائد:130-132.

و إن کانت من الامور الغیر الاختیاریّة عنده فهی لا تتّصف بالحرمة الغیریّة بلحاظ عدم قابلیّتها لتعلّق التکلیف بها،و سائر المقدّمات لا تکون محرّمة بلحاظ عدم استناد الحرام إلیها.

هذا،و أورد علیه استاذنا السیّد (1)بأنّ لازم العنوان الذی ذکره قدّس سرّه للقسم الثانی خروج الإرادة عن ردیف سائر المقدّمات و دخولها فی دائرة ذی المقدّمة و تعلّق الحرمة النفسیّة بها،فإنّه عبارة عن فعل کان للإرادة دخل فی مبغوضیّته؛بحیث إن وقع لا عن إرادة لا یتحقّق مبغوضا للمولی کشرب المسکر مثلا.

و لکنّه لیس بوارد علیه؛لأنّ دخالة الإرادة فی المبغوضیّة قد تکون بصورة الجزئیّة،مثل:قول المولی بأنّ شرب المسکر و إرادته معا حرام،و قد تکون بصورة القیدیّة کقوله:«شرب المسکر الصادر عن إرادة حرام»،و لیس معناه أن تکون الإرادة جزء المنهی عنه و المحرّم،بل هی خارجة عن دائرة الحرام النفسی،و التقیّد بها جزء له.

و الحاصل:أنّ نتیجة البحث فی مقدّمة الحرام أنّا ننکر الملازمة رأسا کما تقدّم فی بحث مقدّمة الواجب.نعم،قد تکون حرمتها بعنوان التجرّی،و علی فرض تسلیم الملازمة یکون المحرّم هو الجزء الأخیر للعلّة التامّة،و هو قد یکون عبارة عن الإرادة،و قد یکون عبارة عن غیرها کما مرّ بیانه.

ص:176


1- 1) تهذیب الاصول 1:283.

الفصل الخامس: فی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه،و عدمه

فی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه،و عدمه

هل یقتضی الأمر بالشیء النهی عن ضدّه أم لا؟عنونت المسألة بهذه الکیفیّة فی کلمات الاصولیّین،فالمحقّق النائینی قدّس سرّه (1)ذکر قبل الورود فی البحث امورا بعنوان المقدّمة،و هی:

الأوّل:أنّه لا إشکال فی أنّ المسألة من المسائل الاصولیّة؛لأنّ ملاک الاصولیّة-أی وقوع نتیجتها فی طریق الاستنباط-متحقّق فیها؛بأنّ القائل بالاقتضاء یقول بأنّ الصلاة الواجبة إذا تزاحمت مع واجب أهمّ-کالإزالة- تصیر منهیّا عنها و محرّمة،و هذا حکم فرعی کلّی.و القائل بعدم الاقتضاء یقول بأنّ الصلاة فی مقام المزاحمة مع واجب أهمّ لا تکون محرّمة و لا منهیّا عنها، و هذا أیضا حکم فرعیّ کلّی.

و الظاهر أنّ مراده لا یکون انحصار المسألة بالاصول؛إذ یمکن أن تکون المسألة مسألة لغویّة؛بأنّ الأمر بالشیء لغة عین النهی عن ضدّه أم لا؟أی الواضع حین وضع هیئة«افعل»للدلالة علی الوجوب کان مراده وجوب الشیء فقط أو حرمة ترکه أیضا،و لذا مرّ فی ابتداء البحث أنّه لا مانع من

ص:177


1- 1) فوائد الاصول 1:301.

تداخل علمین فی بعض المسائل.

الأمر الثانی:أنّ هذه المسألة لیست من المباحث اللفظیّة؛لوضوح أنّ المراد من الأمر العنوان الأعمّ من اللفظی و اللبّی المستکشف من الإجماع و نحوه،بل هی من المباحث العقلیّة،و ذکرها فی المباحث اللفظیّة لکون الغالب فی الأوامر کونها لفظیّة.

الأمر الثالث:أنّ المراد من الاقتضاء فی العنوان الأعمّ من کونه علی نحو العینیّة،و ما یعبّر عنه بالدلالة المطابقیّة أو التضمّنیّة أو الالتزامیّة بالمعنی الأخصّ أو الأعمّ.

و لکنّه یتحقّق هاهنا إشکالان،و الأوّل مختصّ بکلام النائینی قدّس سرّه،و الثانی مشترک بین کلام النائینی و المحقّق الخراسانی قدّس سرّهما.

أمّا الإشکال الأوّل فهو:أنّ بین کلامه فی الأمر الأوّل و کلامه فی الأمر الثانی تهافتا،فإنّ القول بعقلیّة المسألة فی الأمر الأوّل و القول بشمول کلمة «الاقتضاء»للدلالات الثلاث اللفظیّة لا یکون قابلا للاجتماع معا،و لذا مرّ فی ابتداء بحث مقدّمة الواجب من صاحب الکفایة قدّس سرّه أنّ صاحب المعالم قائل بلفظیّة هذه المسألة بلحاظ نفیه الدلالات الثلاث فی مقام نفی الملازمة.

و أمّا الإشکال الثانی فهو:أنّ شمول کلمة«یقتضی»للعینیّة و الجزئیّة، و التضمّن ینافی معناه الحقیقی،فإنّ معناه و جمیع مشتقّاته عبارة عن التأثیر و التأثّر؛إذ المؤثّر الأصلی و الموجد فی أجزاء العلّة التامّة بعد وجدان الشرط و فقدان المانع هو المقتضی،فما یعتبر فی معناه الحقیقی عبارة عن خصوصیّتین:

الاولی:أنّه یستعمل فیما تحقّق فیه أمران متغایران،و الثانیة:أن یکون أحد الأمرین مؤثّرا فی الآخر،مثلا:النار شیء و الإحراق شیء آخر،و لا یعقل

ص:178

القول بأنّهما شیء واحد،و لا شکّ فی أنّ کلمة«یقتضی»لا تستعمل فیما نحن فیه بمعناه الحقیقی؛إذ لا یکون بین الأمر بالشیء و النهی عن ضدّه العلّیّة و المعلولیّة و التأثیر و التأثّر،فإنّهما أمران اعتباریّان،فلا بدّ من استعماله بعنوان المجاز.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ استعمال اللفظ فی غیر الموضوع له یحتاج إلی العلاقة،سواء کان المجاز بمعنی المشهور أو بالمعنی الذی اختاره الإمام قدّس سرّه أی جعل المعنی المجازی مصداقا ادّعائیّا للمعنی الحقیقی،فکیف یمکن ادّعاء العینیّة بین الأمر بالشیء و النهی عن ضدّه؟و استعمال کلمة«یقتضی»هاهنا مع فقدان کلتا الخصوصیّتین المعتبرتین فی معناه الحقیقی،ففی مورد العینیّة لا یکون مجوّزا و مصحّحا لاستعمال کلمة«الاقتضاء».و هکذا إن کانت کلمة«یقتضی» بمعنی التضمّن-أی النهی عن الضدّ یکون بعض مدلول الأمر بالشیء-فلا یصحّ استعماله و لو مجازا،و لا یصحّ القول بأنّ الکلّ مقتض لجزئه؛إذ یشترط فی الاقتضاء المغایرة،و الجزء و الکلّ مشتمل أحدهما للآخر و لیس بمتغایرین.

و الحقّ أنّ کلمة«یقتضی»لا تکون بمعنی العینیّة و الجزئیّة أصلا،فإنّ معنی العینیّة فی المثال أنّ ما یفهم من الأمر بالإزالة عین ما یفهم من النهی عن الصلاة،مع أنّه لا یتبادر منه أصلا،بل لا یصحّ هذا المعنی بالنسبة إلی الضدّ العامّ-یعنی ترک الإزالة-فضلا عن الضدّ الخاصّ،فادّعاء العینیّة واضح البطلان.و هکذا ادّعاء الجزئیّة.

و ما قاله فی المعالم:من أنّ الوجوب هو طلب الفعل مع المنع عن الترک (1)فهو مخدوش:أوّلا:بأنّه علی فرض صحّته فی الضدّ العامّ لا یصحّ فی الضدّ

ص:179


1- 1) معالم الدین:63.

الخاصّ.

و ثانیا:أنّه لا یصحّ فی الضدّ العامّ أیضا؛إذ العرف لا یفهم من الوجوب سوی المعنی البسیط،و لا ینتقل الذهن عند سماع کلمة الوجوب و هیئة«افعل» إلی المنع عن الترک،فإن کان هو جزء معناه فلا بدّ من الانتقال إلیه،فهذا القول أیضا واضح البطلان،فلا بدّ لنا إمّا من الالتزام بخروج هذین القولین عن محلّ النزاع،و إمّا تبدیل کلمة«یقتضی»بکلمة«یدلّ»أو یکشف فی عنوان المسألة، حتّی یشمل العینیّة و الجزئیّة و الالتزام.

و علی القول بخروج هذین القولین و بقاء کلمة«یقتضی»فی العنوان یرفع الإشکال من حیث اعتبار التعدّد و المغایرة فی مورد استعماله،و لکن یبقی الإشکال من حیث عدم تحقّق الخصوصیّة الثانیة المعتبرة فیه،أی السببیّة و المسبّبیّة.

و إن قلت:إنّه لا مانع من استعماله هاهنا استعمالا مجازیّا.

قلنا:سلّمنا أنّ للاستعمالات المجازیّة مع کثرتها محسّنات لا تتحقّق فی الاستعمالات الحقیقیّة،إلاّ أنّه لا یناسب الاستفادة منها فی عناوین المسائل، سیّما فی عنوان ما نحن فیه الذی تترتّب علیه ثمرات متعدّدة فقهیّة و إن تحقّق الاستعمال المجازی مجوّزا و مصحّحا،و لذا لا تصحّ الاستفادة من الاستعمال المجازی فی ألفاظ المعاملات کالنکاح و الطلاق و نحو ذلک.

و یمکن أن یقال:إنّ کلمة«یقتضی»تستعمل هاهنا استعمالا حقیقیّا؛بأنّ الخصوصیّة المغایرة متحقّقة لا شبهة فیه،و أمّا الخصوصیّة المعتبرة الثانیة-أی السببیّة و المسبّبیّة-أیضا متحقّقة؛لأنّ القائل بالاقتضاء یقول فی باب الضدّین بأنّ عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر،فعدم الإتیان بالصلاة من مقدّمات الإزالة،

ص:180

و علی هذا یکون وجوب الإزالة سببا لترک الصلاة.

و لکنّه قد مرّ الجواب عنه فی باب مقدّمة الواجب،و أنّ التعبیر بالعلّیّة و المعلولیّة و الترشّح فی هذه الموارد لیس بصحیح،فعلی القول بخروج العینیّة و الجزئیّة عن محلّ النزاع أیضا لا یمکن رفع عنوان المجازیّة عن کلمة «یقتضی»،و لذا لا بدّ من تبدیله بکلمة«یدلّ»أو یکشف.

هذا،و لا بدّ لنا قبل الخوض فی الاستدلال و نقل الأقوال من التنبیه علی امور:

الأوّل:أنّ المراد من الضدّ العامّ هاهنا هو النقیض،إن کان المأمور به هو الفعل فنقیضه هو الترک،و إن کان المأمور به هو الترک فنقیضه هو الفعل بعد الاختلاف المذکور فی ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة.

و أمّا الضدّ الخاصّ فهو عبارة عمّا یکون المأمور به معه مشترکا فی کونهما أمرین وجودیّین،إلاّ أنّهما لا یکونان قابلین للاجتماع فی آن واحد،و لذا یقولون فی تعریف المتضادّین:أنّهما أمران وجودیّان لا یجتمعان.

الأمر الثانی:أنّ ما هو المعروف فی المثال المذکور فیما نحن فیه أنّ الإزالة واجب أهمّ و الصلاة واجب مهمّ،و لا یخفی أنّ أهمّیّتها تکون بلحاظ فوریّتها فی صورة وسعة وقت الصلاة،و أمّا فی صورة ضیق الوقت فلا أهمّیّة لها فی مقابل الصلاة،و لا إشکال فی تأخیرها فی هذا المورد؛إذ الصلاة لا تترک بحال.

الأمر الثالث:أنّ القول بالاقتضاء فی هذا المثال-أی الضدّ الخاصّ-یتوقّف علی القول بمقدّمیّة عدم الضدّ لتحقّق ضدّ آخر أوّلا،و القول بالملازمة فی مسألة مقدّمة الواجب ثانیا،فإنّ منکر الملازمة لا یمکن له القول بالاقتضاء.

و القول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ ثالثا،فإنّ ترک الصلاة

ص:181

إذا کانت مقدّمة للإزالة و واجبا من باب الملازمة فلا یستفاد منه کون الصلاة منهیّا عنها،مع أنّ مدّعی القائل بالاقتضاء عبارة عن کونها منهیّا عنها،فمن ینکر أحد هذه الامور لا یمکنه القول بالاقتضاء.

ثمّ إنّ القائل بالاقتضاء یدّعی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ فحسب،و الضدّ الخاصّ قد یکون أمرا غیر عبادی،و قد یکون أمرا عبادیّا،و علی الثانی یبحث أنّ هذا النهی المتعلّق بالعبادة یقتضی الفساد أم لا یقتضیه بلحاظ کونه نهیا غیریّا.

و الکلام فی بادئ الأمر عمّا هو الأساس فی هذه المسألة أی کون عدم أحد الضدّین من مقدّمات وجود ضدّ آخر،و یتحقّق فی هذه المقدّمیّة ثلاثة أقوال، کما یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه صدرا و ذیلا (1):القول بالمقدّمیّة مطلقا، و القول بإنکار المقدّمیّة مطلقا،و القول بالتفصیل بین ما تحقّق أحد الضدّین و أردنا تحقّق الضدّ الآخر محلّه،و بین عدم تحقّقهما أصلا؛بأنّه تتحقّق المقدّمیّة فی الأوّل دون الثانی.

و منشأ القول بالمقدّمیّة:أنّ من مقدّمات العلّة التامّة عدم المانع،و أنّه یتحقّق بین الضدّین التمانع،یعنی وجود أحد الضدّین مانع عن وجود الضدّ الآخر، فعدم أحد الضدّین بعنوان عدم المانع مقدّمة لتحقّق الضدّ الآخر.

و لکن قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه 2:و هو توهّم فاسد،و ذلک لأنّ المعاندة و المنافرة بین الشیئین لا تقتضی إلاّ عدم اجتماعهما فی التحقّق،و حیث لا منافاة أصلا بین أحد العینین-الضدّین-و ما هو نقیض الآخر و بدیله بل بینهما کمال الملاءمة کان أحد العینین مع نقیض الآخر و ما هو بدیله فی مرتبة واحدة من

ص:182


1- 1و2) کفایة الاصول 1:206-207.

دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدّم أحدهما علی الآخر،کما لا یخفی،فلا بدّ للمقدّمة أن تکون متقدّمة علی ذیها زمانا،و لا أقلّ من التقدّم الرتبی،و هذه الملاءمة تقتضی التقارن الرتبی و نفی المقدّمیّة.

و التحقیق:أنّ هذا البیان مع قطع النظر عن ذیله قابل للمناقشة؛لأنّ غایة ما یستفاد منه عبارة عن أنّ الملاءمة تتحقّق بین وجوب الإزالة و ترک الصلاة، و لا یکون لازم ذلک التقارن بینهما؛إذ یمکن أن تتحقّق الملاءمة بین الشیئین من دون أن یکون بینهما تقارن أصلا،فإنّه یتحقّق کمال الملاءمة بین عدم العلّة و عدم المعلول،بحیث قالوا فی باب المسامحة:إنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول، و مع ذلک لا یصحّ القول بالتقارن بینهما،و ینفیه صاحب الکفایة قدّس سرّه(1)فی مسألة الضدّ کما سیأتی قوله بأنّ النقیضین فی رتبة واحدة،فإن کان وجود العلّة متقدّما علی وجود المعلول یکون عدمها أیضا متقدّما علی عدمه،و إلاّ یلزم أن یتحقّق النقیضان فی رتبتین،و هذا دلیل علی بطلان برهانه قدّس سرّه؛إذ الملاءمة لا تستلزم التقارن،کما لا یخفی.

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه أضاف فی ذیل کلامه تشبیها بقوله:«فکما أنّ المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر کذلک فی المتضادّین».

و قال تلمیذه الشیخ علیّ القوچانی قدّس سرّه (1)فی توضیح هذه العبارة:إنّ مقصوده لیس صرف التشبیه،بل هو استدلال مستحکم،و نصّ کلامه فی حاشیته:«أنّه لا خفاء فی أنّ النقیض للوجود هو العدم البدلی الکائن فی مرتبته،و إلاّ لزم ارتفاع النقیضین فی مرتبة سلب أحدهما مقدّمة للآخر،فظهر أنّ هذا النحو من

ص:183


1- 2) کفایة الاصول المطبوع مع حاشیة القوچانی:112.

التعاند لا یقتضی إلاّ تبادلهما فی التحقّق،لا ارتفاع أحدهما أوّلا ثمّ تحقّق الآخر ثانیا،و حیث عرفت ذلک فی النقیضین فکذلک الوجودان المتقابلان».

توضیح ذلک:أنّ النقیضین فی رتبة واحدة؛بمعنی أنّ الوجود فی ظرف معیّن من الزمان أو فی مرتبة من مراتب الواقع لیس نقیضه إلاّ العدم فی ذلک الظرف أو المرتبة؛إذ لا تعاند فی غیر هذا الوجه،فإنّ عدم«زید»فی الغد لا یعاند وجوده فی الیوم،و عدم المعلول فی رتبة العلّة لا یباین وجوده فی مرتبة نفسه.

و إن شئت فعبّر:أنّ نقیض الشیء بدیله،فنقیض شیء فی زمان أو رتبة هو عدمه الذی فی ذلک الزمان و فی تلک الرتبة،و إلاّ یلزم اجتماع النقیضین، فالمعلول معدوم فی رتبة العلّة،و موجود فی رتبة متأخّرة منها،فنقیض الوجود فی رتبة العلّة هو العدم فی رتبتها.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ الضدّین أیضا فی مرتبة واحدة؛إذ لو فرضنا تحقّق أحد الضدّین -کالبیاض-فی ظرف من الزمان و فی موضوع معیّن فضدّه هو السواد فی تلک القطعة و فی هذا الموضوع المتعیّن؛لعدم المنافاة لو تحقّقا فی قطعتین أو موضوعین،فالبینونیّة الحقیقیّة بین الضدّین لا تتحقّق إلاّ بالمطاردة،و هی تتوقّف علی ما ذکرناه.

و ببیان آخر:أنّ مناط امتناع اجتماع الضدّین هو لزوم اجتماع النقیضین الذی هو أمّ القضایا،و مناط الامتناع فیه إنّما یکون مع وحدة الرتبة کما تقدّم فکذلک فی اجتماع الضدّین.

و نتیجة هاتین المقدّمتین:أنّه کان أحد الضدّین مع نقیض الآخر فی رتبة واحدة،فعلم أنّ البیاض مع نقیضه فی رتبة واحدة،کما علم أنّ البیاض مع السواد واقعان مرتبة واحدة أیضا،و القائل بالاقتضاء یدّعی مقدّمیّة ترک

ص:184

الصلاة للإزالة و تقدّمه علیها رتبة.

و یبطل هذا الاستدلال بأنّه لا شکّ فی أنّ الصلاة و الإزالة أمران متضادّان، و لازم التضادّ بینهما أن یکون المتضادّان فی رتبة واحدة،فقد ثبت أنّ الأمر فی المتناقضین أیضا یکون کذلک،أی الصلاة مع ترکها تکون فی رتبة واحدة.

و الحاصل:أنّ ترک الصلاة مع الإزالة تکون فی رتبة واحدة،و بالنتیجة:أنّ ترک الصلاة لیست مقدّمة للإزالة؛لأنّ معنی المقدّمیّة التقدّم فی الرتبة و أثبتنا وحدتهما رتبة،فبیانه لنفی مقدّمیة أحد الضدّین للضدّ الآخر مرکّب من ثلاث مقدّمات:الاولی:فی المتناقضین،و الثانیة:فی المتضادّین،و الثالثة:فی اقتضاء مجموع حکم المتناقضین و المتضادّین عدم المقدّمیّة فیما نحن فیه.

و لکنّه استشکل علیها استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1):أمّا فی أوّلها بأنّ المستفاد منها أنّ الزمان إن کان دخیلا بعنوان القیدیّة فی جهة الوجود یکون کذلک فی جهة نقیضه أیضا،یعنی نقیض وجود«زید»الموجود فی هذا الیوم عبارة عن عدمه فی هذا الیوم بصورة القید،مع أنّ واقع المسألة لیس کذلک،فإنّ نقیض المقیّد لا یکون عبارة عن عدم تحقّق المقیّد و تحقّق القید،بل هو عبارة عن عدم المقیّد بصورة سالبة محصّلة،و هی قد تصدق مع تحقّق المقیّد و عدم قیده، و قد تصدق مع عدم تحقّق ذات المقیّد،کقولنا:«زید لیس بقائم»،و مثل قولنا:

«رجل أعمی لیس فی هذه المدرسة»،فنقیض کون«زید»فی هذا الیوم هو عدم کونه فیه لا کون العدم فیه؛إذ مثل«لا قائم»یحتاج إلی موضوع،و فرض وجود الموضوع فی کلّ من طرفی الوجود و العدم ینافی معنی المتناقضین.

و هذا هو الفرق بین قضیّتی المعدولة و المحصّلة؛بأنّ المحمول فی المعدولة أمر

ص:185


1- 1) تهذیب الاصول 1:291-294.

سلبی،مثل:«زید لا قائم»و تجری فیها القاعدة الفرعیّة،و مع انتفاء الموضوع لا صلاحیة للحمل،بخلاف سالبة محصّلة فإنّ فیها سلب الحمل لا حمل السلب،مثل:«زید لیس بقائم»،و لذا یصدق مع وجود«زید»و عدم اتّصافه بوصف القیام و عدم وجوده رأسا.

و أمّا فی ثانیها:فإنّه لا یستفاد من کلامه أزید من کون المتضادّین أمرین وجودیّین لا یجتمعان فی زمان واحد،مع أنّا نبحث فی المقدّمیّة و عدمها و التقدّم الرتبی،و أنّ عدم المانع بما أنّه جزء العلّة التامّة مقدّم علی المعلول من حیث الرتبة،و البیان المذکور لا یقتضی أن یکون المتضادّان فی رتبة واحدة.

علی أنّ التقدّم الزمانی قابل للرؤیة،بخلاف التقدّم الرتبی فإنّها مسألة عقلیّة،و المترتّبان عقلا مجتمعان خارجا و متّحدان زمانا،و العقل یحکم بتقدّم العلّة علی المعلول فإنّها تفیضه،و الحاکم بالتقارن أیضا هو العقل،کما إذا تحقّق لعلّة واحدة المعلولان فی عرض واحد،و ملاک حکم العقل بتقارنهما هو أنّ کلاّ منهما معلول،و لا ینقص أحدهما فی المعلولیّة عن الآخر،و لا یزید فیها علی الآخر،و لا یتحقّق الملاک العقلی للحکم بالتقارن الرتبی فی المتضادّین.

و أمّا فی ثالثها:فإنّه لو فرضنا صحّة ما ذکره فی المتناقضین و المتضادّین و أنّ الصلاة و ترکها فی رتبة کما أنّ الصلاة و الإزالة فی رتبة واحدة فلا نسلّم أن یکون ترک الصلاة و الإزالة فی رتبة واحدة؛إذ لا یتحقّق الملاک العقلی لوحدة رتبتهما،فلا یمکن نفی المقدّمیّة بهذا الکلام.

و کان لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)هاهنا تحقیق مفید فی موارد کثیرة بعد التوجّه إلی أنّ مسألة مقدّمیّة أحد الضدّین و عدمها لضدّ الآخر مسألة عقلیّة

ص:186


1- 1) تهذیب الاصول 1:294-297.

محضة عند القائل بالمقدّمیّة و نافیها،فاللازم عدم خروج البحث عن محدودة العقل،قال:إنّ من القضایا ما هو علی الظاهر قضیّة موجبة،و إن کانت بحسب الواقع أیضا موجبة لا بدّ من جریان قاعدة فرعیّة فیها،أی ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت مثبت له،إلاّ أنّ ثبوت الموضوع و المثبت له یتفاوت بتناسب المحمول،إن کان المحمول أمرا خارجیّا،مثل:«الجسم أبیض»لا بدّ لموضوعه من التحقّق الخارجی،و إن کان المحمول أمرا ذهنیّا-مثل:«الإنسان کلّی»لا بدّ لموضوعه من التحقّق الذهنی،و إن کان المحمول أمرا مربوطا بعالم التقرّر و الثبوت و ما یعبّر عنه بنفس الأمر لا بدّ لموضوعه أیضا أن یکون کذلک،مثل:

«الإنسان ماهیّة من الماهیّات».

و استشکل علیه بأنّ من القضایا ما تکون علی الظاهر موجبة،مثل:

«اجتماع النقیضین محال»،و القاعدة الفرعیّة وجود الموضوع فی الخارج،و القول بأنّ اجتماع النقیضین الموجود فی الخارج محال؛إذ لا شکّ فی أنّ وجوده الذهنی لا یتّصف بالمحالیة،فکیف تجری القاعدة هنا؟!

و جوابه:أنّ هذا النحو من القضایا و إن کانت بحسب الظاهر موجبة و لکنّها بحسب الواقع قضیّة سالبة محصّلة،و قد مرّ أنّها مع انتفاء الموضوع أیضا تکون صادقة،و معناه أنّ اجتماع النقیضین لا یتحقّق فی الخارج أصلا،و هکذا فی مثل شریک الباری ممتنع،فلا بدّ للقضیّة الموجبة الحملیّة من موضوع حقیقی و واقعی یناسب المحمول.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ کلا الفریقین فیما نحن فیه فی مقام تشکیل القضیّة؛ إذ القائل بالمقدّمیّة یقول:بأنّ عدم أحد الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر،و القائل بوحدة الرتبة یقول:بأنّ عدم أحد الضدّین متّحد رتبة مع الضدّ الآخر،و فی

ص:187

کلتا القضیتین یثبت المحمول للموضوع،و الموضوع فیهما عبارة عن عدم أحد الضدّین،و معلوم أنّه لا واقعیّة للعدم لا فی الخارج و لا فی الذهن و لا فی نفس الأمر،سیّما علی القول بأصالة الوجود،فکیف تجری القاعدة الفرعیّة هنا؟!

إن قلت:إنّ للعدم حظّا من الواقعیّة،و لذا یقال فی الفلسفة:إنّ وجود العلّة علّة لوجود المعلول،و عدم العلّة علّة لعدم المعلول،فالتأثیر و التأثّر لا ینحصر بدائرة الوجود،بل للعدم أیضا العلّیّة و التأثیر،فلا مانع من القول بأنّ عدم أحد الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر.

قلنا:إنّ هذا التعبیر لا واقعیّة له؛إذ کیف یمکن أن تکون العلّة عدما و المعلول أیضا عدما؟!و لکنّ أحد العدمین مؤثّرا فی عدم الآخر،و لکنّه لیس إغراء بالجهل بعد إثبات أنّ العدم لیس بشیء،بل هو تأکید للجملة الاولی، کأنّه یقول:إنّ شدّة ارتباط المعلول بالعلّة و قوّته بحدّ ینعدم المعلول بانعدام العلّة،لا أنّ له العلّیّة و التأثیر،و لذا القضیّة الحملیّة التی کان موضوعها أمرا عدمیّا و محمولها أمرا وجودیّا لیست بقضیّة صادقة.

و للمحقّق الأصفهانی قدّس سرّه (1)هاهنا کلام مخالف لکلام الإمام قدّس سرّه و ذکر فی الابتداء مسألة بعنوان المقدّمة،و هی فی نفسها قابلة للدقّة و لا تخلو عن فائدة، و قال:إنّ التقدّم قد یکون تقدّما علّیا،و قد یکون تقدّما طبعیّا،و ما فیه التقدّم فی الأوّل عبارة عن ضرورة الوجود،و فی الثانی عبارة عن نفس الوجود.

ثمّ قال:إنّ التقدّم الطبعی علی أقسام؛لأنّ المتقدّم قد یکون دخیلا فی قوام المتأخّر مثل:تقدّم الجزء علی الکلّ،و قد یکون للمتقدّم عنوان المؤثّریّة فی المتأخّر کتقدّم المقتضی بالنسبة إلی المقتضی،مثل:تقدّم النار علی الإحراق،

ص:188


1- 1) نهایة الدرایة 2:180-184.

و قد یکون المتقدّم مصحّحا لفاعلیّة الفاعل،مثل:مجاورة الجسم و محاذاته للنار فإنّه مصحّح لتأثیر النار فی الإحراق،و قد یکون للمتقدّم دخل فی أنّه متمّم لقابلیّة القابل مثل:خلوّ الجسم عن الرطوبة،و مثل:عدم سواد الجسم لعروض البیاض علیه،فخلوّ الجسم من عرض السواد متمّم لقابلیّة الجسم لعروض البیاض علیه،کما أنّ عدم الرطوبة متمّم لقابلیّته للإحراق.

ثمّ قال:إنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه تمسّک لنفی المقدّمیّة بلزوم الدور؛بأنّه لو توقّف وجود أحد الضدّین-کالسواد-علی عدم الضدّ الآخر-کعدم البیاض-توقّف الشیء علی عدم مانعة،فعدم البیاض أیضا متوقّف علی وجود السواد توقّف العدم علی وجود مانعة؛لأنّ التوقّف لأجل التمانع من الطرفین،و عدم البیاض قد یکون لعدم المقتضی،و قد یکون لعدم الشرط،و فی بعض الأحیان یکون لوجود المانع مثل:السواد،و لازم ذلک أن یکون کلاهما فی رتبة متقدّمة.

ثمّ أجاب عنه بأنّه سلّمنا أنّ وجود السواد متوقّف علی عدم البیاض،و هو متمّم لقابلیّة القابل،و لکن عدم البیاض لا یتوقّف علی وجود السواد،و لا یصدق فیه أیّ نوع من أنواع التقدّم المذکورة؛إذ العدم لا یکون فاعلا و لا قابلا حتّی یکون السواد متمّما لقابلیّته أو مصحّحا لفاعلیّته.

ثمّ أشکل علیه بأنّ لازم القول بتوقّف وجود أحد الضدّین علی عدم الضدّ الآخر تشکیل قضیّة حملیّة؛بأنّ عدم أحد الضدّین یکون مقدّمة لوجود الضدّ الآخر،فکیف تجری هاهنا القاعدة الفرعیّة مع أنّ العدم لا ثبوت له و لا ذات له؟!

و محصّل جوابه عنه:أنّه یتحقّق سنخ من الواقعیّة الذی لا یکون قابلا

ص:189

للإنکار مع أنّه لا یکون قابلا للإدراک و المشاهدة بالحواس،مثلا:للجسم المتحقّق فی الخارج واقعیّات ثلاثة:الأوّل:أنّ هذا الجسم موجود،الثانی:أنّ هذا الجسم قابل لعروض اللون علیه،الثالث:بمنزلة المتمّم لقابلیّته و استعداده، و هو أنّ شرط عروض السواد علیه کونه بحیث لم یکن معروضا للبیاض،فإنّ معروضیّة البیاض مانع عن عروض السواد علیه،و هذه الواقعیّة من الامور العدمیّة،بخلاف واقعیّة الاولی و الثانیة،فعدم الضدّ من مصحّحات قابلیّة المحلّ لقبول الضدّ الآخر،و القابلیّات و الاستعدادات و الإضافات و أعدام الملکات و إن لم یکن لها مطابق فی الخارج لکنّها من الامور الانتزاعیّة و حیثیّات و شئون الامور الخارجیّة،و ثبوت شیء لشیء لا یقتضی أزید من ثبوت المثبت له بنحو یناسب ثبوت الثابت و المحمول،فعدم أحد الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر.

و جوابه:أنّه لا فرق بین عدم المطلق و عدم المضاف و عدم الملکة فی عدم حظّها عن الواقعیّة و التحقّق،فإن کانت القضیّة بصورة السالبة المحصّلة التی تصدق مع انتفاء الموضوع فیعود السؤال أیضا بأنّ القاعدة المذکورة کیف تجری هاهنا؟!فلا بدّ للقائل بالاقتضاء من إثبات ثلاث مراحل،و أثبتنا إلی هنا أنّ المرحلة الاولی منها لا تکون قابلة للإثبات؛إذ لا یمکن اتّصاف الموضوع العدمی بالوصف الوجودی بدون الفرق بین المقدّمیّة و التقارن فی الرتبة.

و لو سلّمنا و فرضنا أنّ عدم أحد الضدّین مقدّمة لوجود الضدّ الآخر فلا بدّ من القول بالملازمة فی باب مقدّمة الواجب حتّی یکون ترک الصلاة واجبا بلحاظ تحقّق الملازمة بین وجوب الإزالة و وجوبه فی المثال،فلا یمکن لمنکریها القول بالاقتضاء،و علی فرض القول بالملازمة لا یتمّ المطلب أیضا،فإنّ ادّعاء

ص:190

القائل بالاقتضاء لا یکون وجوب ترک الصلاة بعنوان مقدّمیّته للإزالة،بل مدّعاه حرمة الصلاة،و أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه،فلا بدّ له من إثبات أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ،یعنی إذا کان ترک الصلاة بعنوان مقدّمة الواجب واجبا یکون نقیضه-أی فعل الصلاة-منهیّا عنه، و کثیر من العلماء قائل بهذه المرحلة،و استدلّوا لإثباتها بطرق مختلفة،فیدّعی بعض أنّ الأمر بالشیء عین النهی عن نقیضه،و البعض الآخر أنّ النهی عن النقیض مدلول تضمّنی للأمر بالشیء،و الثالث أنّه لازم بیّن بالمعنی الأخصّ له.

و مدّعی العینیّة یقول:إنّ المولی إذا أراد إیجاد شیء فی الخارج فلا فرق بین أن یقول:«أقم الصلاة»أو یقول:«لا تترک الصلاة»،و بین قوله:«اشتر اللحم» أو«لا تترک شراء اللحم»کعدم الفرق بین قولنا:«جاءنی إنسان»و«جاءنی بشر»،فإنّهما کالمترادفین،فإذا کان ترک الصلاة مقدّمة للإزالة و واجبا من باب الملازمة فلا فرق بین وجوبه و النهی عن فعله،کما أنّه لا فرق بین الأمر بالإزالة و النهی عن ترکها.یحتمل أن یتحقّق حکم واحد فیما یقع شیء مأمور به،إلاّ أنّ ظهوره قد یکون بصورة الأمر بالشیء،و قد یکون بصورة النهی عن ترکه،و یؤیّده تشبیهه بالمترادفین فی مقام الاستدلال.

و یحتمل أن یتحقّق حکمان:أحدهما:یتعلّق بالفعل و الآخر بالترک،و یؤیّده قوله بعدم الفرق بین الضدّ الخاصّ و الضدّ العامّ.و معلوم أنّه یتحقّق فی الضدّ الخاصّ حکمان؛إذ الأمر بالإزالة غیر النهی عن الصلاة،و نحن نبحث علی کلا الاحتمالین إن کان مراد القائل بالعینیّة القول بتعدّد الحکم.

و جوابه:أنّه یستلزم تعدّد العقاب فی صورة العصیان و المخالفة،أحدهما

ص:191

لترک الإزالة و الآخر لفعل الصلاة،مع أنّه لا یمکنه الالتزام بذلک.

و إن کان مراده القول بوحدة الحکم فجوابه:أنّه لا اشتراک بین الأمر و النهی لا فی مرحلة الهیئة و لا فی مرحلة المادّة و لا فی مقام الملاک و العلّة،و أمّا من حیث الملاک فلأنّه فی باب الواجبات عبارة عن اشتمالها علی مصلحة لازمة الاستیفاء،و فی باب المحرّمات عبارة عن اشتمالها علی مفسدة لازمة الاجتناب، و معلوم أنّه من ترک الصلاة تفوته المصلحة،لا أنّه تعود إلیه المفسدة المذکورة، و هکذا من ترک شرب الخمر اجتنب عن المفسدة،لا أنّه تعود إلیه المصلحة، فتغایر الملاک ینفی العینیّة بین الأمر بالشیء و النهی عن ترکه،هذا من حیث الملاک.

و هکذا فی مراحل الهیئة و المادّة فإنّ هیئة«افعل»تدلّ علی الوجوب، و هیئة«لا تفعل»تدلّ علی الحرمة،و لا اشتراک بین الوجوب و الحرمة أصلا، و أنّ الأمر متعلّق بالفعل و النهی متعلّق بالترک،فکیف یمکن ادّعاء العینیّة؟

نکتة:

أنّه ثبت فی محلّه أنّ القضیّة الحملیّة بالحمل الأوّلی الذاتی عبارة عمّا کان بین الموضوع و المحمول اتّحاد مفهومی،فإن کان بینهما تغایر من حیث المفهوم فلا یکون حملا أوّلیّا ذاتیّا،و إن کان الموضوع و المحمول متّحدا من حیث الماهیّة مثل:«الإنسان حیوان ناطق»فإنّ ما یفهم من الإنسان غیر ما یفهم من الحیوان الناطق عرفا،فکیف یمکن ادّعاء العینیّة بین «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» و«لا تترک الصلاة»؟!فالقول بالعینیّة باطل رأسا.

و یمکن للقائل بالاقتضاء القول بأنّ الأمر بالشیء یدلّ بدلالة تضمّنیّة علی النهی عن نقیضه،و لکنّه مبتن علی أن یکون معنی الوجوب أمرا مرکّبا من

ص:192

جزءین کالإذن فی الفعل و المنع عن الترک،و هذا المعنی للوجوب یکون عبارة اخری عن النهی عن الضدّ العامّ.

و لکنّه أیضا باطل؛إذ الوجدان حاکم بأنّ الوجوب أمر و الحرمة أمر آخر، و سیأتی من المحقّق الخراسانی قدّس سرّه القول بالتضادّ بین الأحکام،و معلوم أنّ الوجوب و الحرمة فی أعلی درجة من التضادّ،فلا معنی لأخذ الحرمة فی معنی الوجوب.

و التحقیق:أنّ الوجوب أمر بسیط لا ترکّب فیه کالحرمة.

و ما یستفاد من کلام المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)أنّ الأمر بالشیء یدلّ بدلالة التزامیّة علی النهی عن النقیض.

توضیح ذلک:أنّ اللزوم قد یکون بیّنا،و قد یکون غیر بیّن،و البیّن قد یکون بمعنی الأخصّ و هو ما یوجب تصوّر الملزوم الانتقال إلی اللازم،و قد یکون بمعنی الأعمّ،و هو ما ینتقل الذهن بعد تصوّر اللازم و الملزوم معا إلی تحقّق الارتباط بینهما،و لزوم غیر البیّن ما یحتاج إلی إقامة الدلیل،و لا یکفی صرف التصوّرین لإثبات الارتباط بین اللازم و الملزوم،و المحقّق النائینی قدّس سرّه یدّعی أنّ الذهن ینتقل بمجرّد تصوّر وجوب شیء إلی حرمة ترکه.هذا ملخّص کلامه قدّس سرّه.

و لقائل أن یقول:إنّ الوجدان یشهد علی خلاف ذلک،فإنّ انتقال الذهن إلی حرمة الترک عند استماع کلمة الوجوب قلیلا ما یتّفق،و لا یکون هذا الانتقال بصورة الدائم و عدم الانفکاک بینهما.

و لو فرضنا تحقّق هذه الملازمة فی مقام التصوّر فههنا احتمالان:الأوّل:أن

ص:193


1- 1) فوائد الاصول 1:303.

یکون مراده قدّس سرّه أنّه یلزم علی المولی إصدار النهی عن الترک لفظا عقیب الأمر بالشیء،و الثانی:أن یکون مراده قدّس سرّه أنّه یتحقّق لنفس الأمر بالشیء مدلولان:

أحدهما:مدلول مطابقی،و ثانیهما:مدلول التزامی،نظیر ما مرّ من القائل بالملازمة فی مقدّمة الواجب.

فإن کان مراده الاحتمال الأوّل فالجواب عنه:أوّلا:أنّ الوجدان حاکم علی خلافه کما ذکرناه آنفا،و ثانیا:أنّه ما الدلیل علی وجوب هذا المعنی علی المولی؟فمجرّد انتقال ذهن المخاطب من الوجوب إلی الترک لا یقتضی أن یکون المولی ملزما بإصدار الحکمین.

و إن کان مراده الاحتمال الثانی الذی هو القریب من کلامه فیرد علیه:أنّ مخالفة الحکمین-أی وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة-فی باب مقدّمة الواجب لا یوجب أزید من استحقاق عقوبة واحدة،فإنّ مخالفة الوجوب الغیری لا یوجب استحقاق العقوبة،و لکنّ الأمر بالصلاة إن دلّ علی النهی عن ترکها بدلالة التزامیّة-و معناها أنّ اللازم و الملزوم أمران متغایران-فعلی هذا إذا تحقّق من المکلّف ترک الصلاة فقد خالف التکلیفین النفسیّین،و لذا یستحقّ العقوبتین،مع أنّ مذاق المتشرّعة و فهمهم یأبی عن ذلک،فالأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن نقیضه،لا بصورة عینیّة و لا بصورة تضمّنیة و لا بدلالة التزامیّة.

و یمکن أن یقال:إنّا نبحث فی مرحلة سابقة علی الزجر و البعث و نقول:إنّ الإرادة المتعلّقة بإیجاد شیء یقتضی أن تتعلّق إرادة اخری بترک نقیضه، و الاقتضاء فی هذا المقام لا یکون قابلا للإنکار.

و جوابه:أوّلا:أنّ هذا الفرض خارج عن محلّ النزاع،فإنّ البحث فی أنّ

ص:194

الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا؟

و ثانیا:أنّ المراد من الإرادة هل هی الإرادة التکوینیّة أو الإرادة التشریعیّة؟إن کان المراد منها الإرادة التکوینیّة فلا شکّ فی أنّها تحتاج إلی المبادئ،و لا تتحقّق بدونها أصلا،فإذا تعلّقت إرادة شخص بدخول السوق -مثلا-فلا بدّ من تصوّره و التصدیق بفائدته و العزم و الجزم حتّی تتحقّق الإرادة،و تتعلّق الإرادة المذکورة بوجوب دخول السوق،و الوجدان أقوی شاهد علی عدم تصوّره عنوان ترکه و التصدیق بفائدته و سائر المبادئ،فکیف تتحقّق إرادة ثانیة متعلّقة بترک النقیض،فلا تتحقّق هنا إلاّ إرادة واحدة.

و إن کان المراد منها الإرادة التشریعیّة-یعنی إرادة المولی أن یبعث عبده إلی الدخول فی السوق-فلا بدّ له من تصوّر البعث إلی دخول السوق و التصدیق بفائدته و سائر المبادئ قبل صدور الأمر حتّی تتحقّق الإرادة.

و المتوهّم یقول:إنّ بعد تعلّق الإرادة التشریعیّة بالبعث إلی دخول السوق تتعلّق إرادة تشریعیّة اخری بالزجر عن ترکه،و نحن نقول:إنّ الإرادة تحتاج إلی المبادئ التی کان أوّلها:التصوّر،و ثانیها:التصدیق بفائدته،فبعد أمر المولی بوجوب دخول السوق فما الذی یترتّب علی الزجر عن ترکه من فائدة؟

و لا یتوهّم أنّه تتحقّق له فائدة تأکیدیّة،فإنّ التأکید أوّلا:لا ینحصر بالنهی عن النقیض،بل له طرق متعدّدة منها تأکید الأمر الأوّل.

و ثانیا:أنّ التأکید خارج عن محلّ النزاع؛إذ القائل بالاقتضاء قائل بتعدّد الحکم،و التأکید مخالف لمدّعاه،فلا یصحّ هذا المعنی لا فی الإرادة التکوینیّة و لا فی الإرادة التشریعیّة.

و الحاصل:أنّ القول باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه الخاصّ یتوقّف

ص:195

علی إثبات المراحل الثلاث المذکورة،و أثبتنا إلی هنا بطلانها جمیعا،فلا یمکن إثبات القول بالاقتضاء عن طریق المقدّمیّة.

و الطریق الثانی عبارة عن مسألة الملازمة؛بأنّ ترک أحد الضدّین ملازم لوجود الضدّ الآخر،و إثبات القول بالاقتضاء من هذا الطریق أیضا یتوقّف علی إثبات المراحل الثلاث:الاولی:إثبات أصل الملازمة،و الثانیة:إثبات اتّحاد المتلازمین من حیث الحکم،و إثبات أنّ وجوب الإزالة ملازم لوجوب ترک الصلاة،و الثالثة:إثبات أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ و نقیضه بعد القول بالتوسعة فی معنی النقیض،یعنی نقیض کلّ شیء رفعه أو کونه مرفوعا به حتّی یکون الفعل نقیض الترک،کما مرّ تفصیله فی المقدّمة الموصلة،و لا نحتاج إلی البحث عن المرحلة الثالثة بلحاظ اشتراک هذا الطریق مع الطریق الأوّل فی هذه المرحلة،و لا بدّ لنا من البحث عن المرحلة الاولی و الثانیة.

و لقائل أن یقول:إنّ إثبات أصل الملازمة لا یحتاج إلی البحث،فإنّه أمر بدیهی سیّما فی مورد لم یکن ثالثا للضدّین بلحاظ استحالة اجتماع الضدّین، و معلوم أنّ فعل أحد الضدین ملازم لترک الضد الآخر.

و جوابه:أنّ مجرّد عدم اجتماع الضدّین لا یکفی لتحقّق الملازمة بینهما،فإنّ التلازم من المسائل العقلیّة،و لا یمکن تحقّقها بدون المنشأ و الملاک،و منشأ الملازمة قد یکون عبارة عن العلّیّة و المعلولیّة؛إذ لا ینفک عقلا وجود العلّة عن وجود المعلول،کما لا ینفکّ وجود أحد المعلولین لعلّة واحدة عن معلول آخر،و قد یکون عبارة عن المصداقیّة للکلّی،مثل:مصداقیّة زید للإنسان؛إذ لا یمکن انفکاک المصداق عن الکلّی،و معلوم أنّ منشأ الملازمة فیما نحن فیه

ص:196

لا یکون عبارة عن العلّیّة و المعلولیّة.

و یمکن أن یتوهّم أنّ الإزالة من مصادیق ترک الصلاة کما أنّ البیاض من مصادیق عدم السواد،فمنشأ الملازمة فیما نحن فیه عبارة عن المصداقیّة،و لذا تکون الإزالة ملازمة لترک الصلاة.

و جوابه:ذکرنا مفصّلا فی الطریق الأوّل أنّه لا یمکن جعل العدم موضوعا فی القضیّة الحملیّة بلحاظ القاعدة الفرعیّة،و لذا لا یصحّ القول بأنّ عدم أحد الضدّین ملازم للضدّ الآخر.

و یمکن للمتوهّم أن یعکس القضیّة بأنّ الإزالة ملازمة لترک الصلاة، و حینئذ یکون الموضوع أمرا وجودیّا و تجری القاعدة الفرعیّة بلا إشکال، و یصحّ جعل الإزالة مصداق«لا صلاة»،فالإزالة«لا صلاة»،کما أنّ البیاض «لا سواد».

و جوابه:أنّ معنی الحمل هو الاتّصاف و التطبیق،و لا یمکن أن یکون العدم وصفا للوجود؛إذ لا حظّ للعدم عن الوجود،بلا فرق بین عدم المطلق و عدم المضاف و عدم الملکة،فلا یتحقّق منشأ الملازمة بین وجود أحد الضدّین و عدم الضدّ الآخر،إلاّ أن تکون القضیّة بصورة سالبة محصّلة،فإنّها صادقة مع انتفاء الموضوع أیضا،فالمرحلة الاولی لیس بتامّة.

و لو فرضنا ثبوت الملازمة فلا بدّ من إثبات اتّحاد المتلازمین فی الحکم،مثلا:إذا کان أحد المتلازمین واجبا فلا بدّ أن یکون الملازم الآخر أیضا واجبا،و الدلیل علی ذلک أنّ بعد وجوب أحد المتلازمین إمّا أن یکون الملازم الآخر واجبا أو لیس بواجب،فإن کان واجبا فبها و نعم المطلوب،و إن قلنا بأنّه لیس بواجب فلا شکّ فی أنّ هذا العنوان یشمل الإباحة و الکراهة

ص:197

و الاستحباب و الحرمة،و جمیعها یشترک فی جواز الترک،فإن کان ملازم الثانی جائز الترک فتقتضی قاعدة الملازمة أن یکون ملازم الأوّل أیضا جائز الترک، و هذا خلف و یوجب خروج الواجب عن کونه واجبا،و لذا لا بدّ لنا لدفع هذا المحذور من القول بوجوب ملازم الثانی بعد وجوب ملازم الأوّل.

و لا یتوهّم أنّه لا ضرورة تقتضی لکون ملازم الثانی محکوما بحکم،بل هو خال عن الحکم،فالملازم الأوّل واجب،و الملازم الثانی لیس بواجب و لا غیر واجب.

لأنّا نقول:إنّه لا بدّ له من حکم؛لدلالة الجملة المعروفة المسلّمة علی أنّ للّه فی کلّ واقعة حکما یشترک فیه العالم و الجاهل،و لا إشکال فی أنّ الملازم الثانی من مصادیق کلّ واقعة،فلا بدّ له من حکم.

و هذا الدلیل یجری فی الحرمة أیضا،بخلاف سائر الأحکام؛إذ لا إشکال فی کون أحد المتلازمین مباحا و الآخر مستحبّا أو مکروها.

و جوابه:أوّلا:سلّمنا أنّ للّه فی کلّ واقعة حکما یشترک فیه العالم و الجاهل، و لکن عنوان الواقعة عبارة عن فعل المکلّف و ما یکون موضوعا للأحکام الخمسة التکلیفیّة،و هو عبارة عن الوجودات،مثل:وجود الصلاة،و وجود شرب الخمر،و أمثال ذلک،فهذا العنوان لا یشمل الامور العدمیّة مثل:عنوان ترک الصلاة فیما نحن فیه؛إذ المدّعی أنّ الإزالة إذا کانت واجبة فترک الصلاة أیضا یکون واجبا من باب الملازمة،مع أنّ عدم الصلاة لیس بواقعة حتّی یکون محکوما بحکم.

و ثانیا:علی فرض شمول کلمة الواقعة للامور الوجودیّة و العدمیّة معا فإنّه یستلزم التالی الفاسد الذی لا یکون قابلا للالتزام به،و هو اجتماع الحکمین

ص:198

النفسیّین فی الصلاة-مثلا-أحدهما:متعلّق بفعلها،و الآخر:متعلّق بترکها، فیستحقّ تارک الصلاة عقابان لمخالفة الحکمین النفسیّین،و لا یمکن الالتزام بتعذّر الحکمین،سواء قلنا بشمول الروایة للامور العدمیّة أم لا.

و ثالثا:أنّه لا یتحقّق التطابق بین الدلیل و المدّعی،فإنّ العبارة المعروفة و ما هو المسلّم بین الفقهاء-أی أنّ للّه فی کلّ واقعة حکما یشترک فیه العالم و الجاهل-یرتبط بالواقع و اللوح المحفوظ،و لا یستفاد منها وجوب ترک الصلاة بعد وجوب الإزالة فی مرحلة الواقع.نعم،ترک الصلاة واجب فی المرحلة الفعلیّة من باب الملازمة،و لا نعلم أنّه فی الواقع أیضا کان کذلک.

و رابعا:أنّ مع قطع النظر عن جمیع ما ذکرناه یکون أصل الاستدلال مصادرة للمطلوب،فإنّک تقول:إن کان أحد المتلازمین واجبا و الملازم الثانی إمّا یکون واجبا أیضا و إمّا لیس بواجب،و علی الثانی یجوز ترک الملازم الثانی، و لازم ذلک جواز ترک الملازم الأوّل أیضا.و نحن نقول:إنّ هذا عین المدّعی و عین الکلام؛لأنّ سرایة جواز الترک من الملازم الثانی إلی الأوّل مبتن علی تسلیم اتّحاد المتلازمین فی الحکم،فلا دلیل لسرایة الجواز،و لا یلزم الخلف أصلا.

نکتة:و هی أنّ إطلاق عنوان التکلیفیّة علی الأحکام الخمسة یکون من باب التغلیب.

توضیح ذلک:أنّ للواجب خصوصیّتین:الاولی:أنّ إیجابه یکون من الشارع،و الثانیة:أنّه یشتمل علی مصلحة لازمة الاستیفاء،و هکذا فی المستحبّ یکون استحبابه من ناحیة الشارع و یشتمل علی مصلحة غیر لازمة الاستیفاء،و هکذا فی الحرام و المکروه.و لکنّ المباح یکون علی نوعین:نوع

ص:199

منه ما یکون الحاکم به عبارة عن الشارع بلحاظ کونه خالیا عن المفسدة و المصلحة معا أو بلحاظ کون المصلحة و المفسدة فیه متساویتین،و نوع منه ما لا یکون للشارع فیه حکم،بل هو خال عن الحکم؛لأنّ الشارع لم یحکم بحرمته و کراهته و لا وجوبه و استحبابه،فإن کان هذا نوعا من المباح فیتحقّق أمر وجودی مستقلّ خال عن الحکم،فجواز الفعل و الترک فی المباح لیس بمستند إلی حکم الشارع،بل مستند إلی عدم حکم الشارع فیه،فالعبارة المعروفة تقع موردا للمناقشة.

و البحث الآخر فی المسألة عبارة عن بحث ترتّب الثمرة علی القول بالاقتضاء،و معلوم أنّ ضدّ الإزالة قد یکون أمرا عبادیّا-کالصلاة-و قد یکون أمرا غیر عبادی-کالخیاطة و نحو ذلک-و القائل بالاقتضاء یقول بحرمة کلّ ما یکون مضادّا للإزالة،و إذا کان الضدّ عبادة فیوجب الأمر بالإزالة تعلّق النهی بالعبادة،و هو یقتضی الفساد أیضا،فتکون الصلاة باطلة علی القول بالاقتضاء و صحیحة علی القول بعدم الاقتضاء.

و لکن أنکر الثمرة بعض بأنّ الصلاة مکان الإزالة علی کلا القولین صحیحة حتّی علی القول بالاقتضاء،و بعض آخر بأنّها علی کلا القولین باطلة حتّی علی القول بعدم الاقتضاء،و القائل بالصحّة یقول:بأنّ النهی فی العبادة لا یقتضی الفساد؛إذ لا یدلّ علیه دلیل تعبّدی کالآیة و الروایة.

نعم،إن کان النهی إرشادیّا فلا شکّ فی اقتضائه ذلک،مثل قوله:«دعی الصلاة أیّام أقرائک»،فإنّه علی فرض إرشادیّته یرشد من الابتداء إلی الفساد و البطلان،و لکنّه خارج عن محلّ البحث بعد ما کان مفاد لفظه إرشادا إلی الفساد،فإنّا نبحث فیما تعلّق النهی التحریمی المولوی بالعبادة،مثل:أن یکون

ص:200

النهی المتعلّق بصلاة الحائض-کقوله:«دعی الصلاة أیّام أقرائک»-نهیا تحریمیّا مولویّا؛إذ هو لا یدلّ من حیث اللفظ علی أزید من الحرمة،و علی القول بالفساد یحکم العقل بأنّ العبادة إن کانت مشتملة علی مفسدة لازمة الاجتناب یکون مبعّدا عن المولی،و المبعّد لا یمکن أن یکون مقرّبا،و المبغوض لا یمکن أن یکون محبوبا و مطلوبا،و لذا تکون العبادة باطلة؛إذ لا یتحقّق هنا عنوانان مستقلاّن کالصلاة فی الدار المغصوبة،بل النهی متعلّق بنفس العبادة.

إذا عرفت هذا فنسأل بأنّه هل یتحقّق فیما نحن فیه الملاک المعتبر فی فساد المنهیّ عنه أم لا؟فقد مرّ أنّ أکثر القائلین بالاقتضاء استدلّوا بالمقدّمیّة،و أنّ ترک الصلاة مقدّمة للإزالة،و مقدّمة الواجب واجبة،و لا شکّ فی أنّ وجوب المقدّمة أبدا وجوب غیریّ،و من خصوصیّاته أنّ موافقته لا توجب استحقاق الثواب،و مخالفته لا توجب استحقاق العقاب کما مرّ،و لا یکون فی فعله مصلحة و لا فی ترکه مفسدة،فالوجوب الغیری لا یکون مقرّبا و لا مبعّدا.

و معلوم أنّ النهی المتعلّق بفعل الصلاة الناشئ عن الوجوب الغیری المتعلّق بترکها أیضا یکون نهیا غیریّا،فلا یمکن أن تکون حرمته نفسیّة،و علی هذا لا یتحقّق فی النهی الغیری المبعّدیّة و المقرّبیة،فما الدلیل لأن یکون تعلّق مثل هذا النهی فی العبادة مقتضیا لفسادها؟فملاک الفساد الموجود فی مثل صلاة الحائض لا یتحقّق هاهنا.

و علی القول بالتلازم یکون الأمر أیضا کذلک،فإنّ بعد فرض تلازمهما و اتّحاد المتلازمین فی الحکم لا تتحقّق فی ترک الصلاة فی نفسه مصلحة أصلا، و تعلّق الوجوب به یکون من ملازمته للإزالة،و فوریّة وجوب الإزالة یوجب أهمّیّتها و أولویّتها،لا أنّه یتحقّق فی فعل الصلاة فی هذا المقام مفسدة کتحقّقها

ص:201

فی صلاة الحائض.

فعلی کلا القولین لا تکون الصلاة مکان الإزالة باطلة،و لا نسلّم ترتّب هذه الثمرة الخاصّة کما قال به استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)،و أمّا ترتّب الثمرة العامّة -أی حرمة الضدّ علی القول بالاقتضاء و عدم حرمته علی القول بعدمه-فلا إشکال فیه.

و أنکر بعض العلماء ترتّب الثمرة الخاصّة،یعنی بطلان الضدّ إن کان أمرا عبادیّا بنحو آخر،و هو أنّ الصلاة مکان الإزالة تکون باطلة علی کلا القولین.

أمّا علی القول بالاقتضاء فمعلوم أنّ النهی المتعلّق بالعبادة یقتضی الفساد، و لا فرق بین هذا النهی و النهی عن الصلاة المتوجّه إلی الحائض،و أمّا علی القول بعدم الاقتضاء فلأنّ القائل بعدم الاقتضاء لا یقول أیضا بأنّ کلا الضدّین فی آن واحد یکونان مأمور بهما،و لا یمکن للمولی بعد فرض تحقّق المضادّة بین الصلاة و الإزالة أن یتعلّق التکلیف الفعلی بهما،بل الأمر الفعلی یتوجّه إلی الإزالة بلحاظ أهمّیّتها بالنسبة إلی الصلاة فی سعة الوقت،فالصلاة لیست بمأمور بها و لا بمنهیّ عنها،و هذا یکفی لبطلانها؛إذ یشترط فی صحّة العبادة تعلّق الأمر بها،سیّما علی القول بأن یکون قصد القربة بمعنی إتیان المأمور به بداعی أمره.هذا ما قال به الشیخ البهائی قدّس سرّه (2)و جماعة من العلماء.

و أجاب عنه المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (3):أوّلا:بأنّه لا نحتاج فی صحّة العبادة إلی الأمر،بل یکفی مجرّد الرجحان و المحبوبیّة للمولی لصحّتها،فإنّه یصحّ من العبد أن یتقرّب بمجرّد الرجحان إلی المولی کما لا یخفی،فالصلوات التی تکون ضدّا

ص:202


1- 1) تهذیب الاصول 1:399.
2- 2) زبدة الاصول:82-83.
3- 3) کفایة الاصول 1:212.

للإزالة بناء علی عدم حرمتها تکون راجحة و محبوبة للمولی،فتکون صحیحة.

لا یقال:إنّ فقدان الأمر یدلّ علی فقدان الرجحان و المحبوبیّة؛لأنّ طریق استکشافها عبارة عن نفس الأمر،فإذا لم تکن الصلاة مکان الإزالة مأمورا بها فلا طریق لاستکشاف محبوبیّتها.

فإنّا نقول:إنّه لا شکّ فی محبوبیّتها،فإنّ المزاحمة علی قول عدم حرمة الضدّ لا توجب إلاّ ارتفاع الأمر المتعلّق به فعلا مع بقائه علی ما هو علیه؛لبقاء ملاکه من المصلحة کما هو مذهب العدلیّة،أو غیرها من أیّ شیء کان کما هو مذهب الأشاعرة،و عدم حدوث ما یوجب مبغوضیّته و خروجه عن قابلیّة التقرّب به کما حدث بناء علی الاقتضاء.

و أجاب عنه ثانیا فی ذیل بحث الترتّب بما قال به المحقّق الکرکی قدّس سرّه (1)قبله، و هو:أنّ کلامه صحیح فیما إذا فرض وجوب کلا الضدّین فوریّا و مضیّقا،مثل:

إنقاذ الغریق المهمّ بعد فرض کونه عبادة،و ترک إنقاذ الغریق الأهمّ بلحاظ عدم القدرة علی إنقاذهما.و معلوم أنّ المهمّ هاهنا خارج عن دائرة الأمر، و تکون العبادة باطلة بلحاظ فقدان الأمر بالمهمّ فی هذا الفرض،و لکن فیما إذا کانت العبادة موسّعة و کانت مزاحمة بالأهمّ فی بعض الوقت لا فی تمامه،مثل الصلاة مکان الإزالة،فلا شکّ فی أنّ المزاحمة تتحقّق بین الإزالة و مصداق من مصادیق الصلاة،لا بین نفس طبیعة الصلاة و بینها.

و لذا یمکن أن یقال:إنّه حیث کان الأمر بالطبیعة علی حاله و إن صارت مضیّقة بخروج ما زاحمه الأهمّ من أفرادها من تحتها أمکن أن یؤتی بما زوحم

ص:203


1- 1) المصدر السابق:219-220.

منها بداعی ذاک الأمر و إن کان الفرد خارجا عن تحتها بما هی مأمور بها،إلاّ أنّه لمّا کان الفرد المزاحم وافیا بغرض المولی و تتحقّق فیه المصلحة-کالباقی تحت الطبیعة-کان عقلا مثله فی الإتیان به فی مقام الامتثال و الإتیان به بداعی ذلک الأمر بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلا،و سیأتی أنّ الأوامر و النواهی تتعلّق بالطبائع لا بالمصادیق،فعلی فرض احتیاج العبادة إلی الأمر یصحّ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلّق بطبیعة الصلاة؛إذ الإتیان بالصلاة بداعی الأمر المتعلّق بهذا المصداق باطل قطعا و إن لم تکن المزاحمة فی البین.

و الجواب الثالث:و هو ما تصدّی به جماعة من الأفاضل لتصحیح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب علی العصیان و عدم إطاعة الأمر بالأهمّ بنحو الشرط المتأخّر،أو البناء علی المعصیة بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن،بدعوی أنّه لا مانع عقلا عن تعلّق الأمر بالضدّین کذلک،أی بأن یکون الأمر بالأهمّ مطلقا و الأمر بالمهمّ معلّقا علی عصیان ذاک الأمر أو البناء و العزم علیه.و معلوم أنّ عصیان التکلیف و العزم علیه متأخّر عن التکلیف،فالأمر بالصلاة متأخّر عن الأمر بالإزالة من حیث الرتبة،و إن کان مقارنا له من حیث الزمان.

و أجاب المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)عن الترتّب بأنّ ما هو ملاک استحالة طلب الضدّین فی عرض واحد آت فی طلبهما بنحو الترتّب أیضا،فإنّه و إن لم یکن فی مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما،إلاّ أنّه کان فی مرتبة الأمر بالمهمّ اجتماعهما، بداهة فعلیّة الأمر بالأهمّ فی هذه المرتبة،و عدم سقوطه بمجرّد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها مع فعلیّة الأمر بالمهمّ أیضا؛لتحقّق ما هو شرط فعلیّته فرضا.

ص:204


1- 1) کفایة الاصول 1:212-218.

لا یقال:نعم،و لکن هذا الاجتماع بسوء اختیار المکلّف حیث یعصی فیما بعد بالاختیار،فلولاه لما کان متوجّها إلیه إلاّ الطلب بالأهمّ،و لا برهان علی امتناع الاجتماع إذا کان بسوء الاختیار.

فإنّه یقال:استحالة طلب الضدّین لیس إلاّ لأجل استحالة طلب المحال، و استحالة طلبه من الحکیم الملتفت إلی محالیّته لا تختصّ بحال دون حال،و إلاّ لصحّ فیما علّق علی أمر اختیاری فی عرض واحد بلا حاجة فی تصحیحه إلی الترتّب-أی و إن اختصّت الاستحالة بغیر حال الاختیار و کان التعلیق علی سوء الاختیار مصحّحا لطلب الضدّین لزم أیضا صحّة تعلیق طلب الضدّین علی فعل اختیاری غیر عصیان الأمر بالأهمّ،مثل:أن یقول:إن أکلت تفّاحا فصلّ و أزل النجاسة عن المسجد فی آن واحد-مع أنّه محال بلا ریب و لا إشکال.

أقول:إنّ ما سمّی بعنوان الواجب المشروط و شرطه عبارة عن العصیان بنحو الشرط المتأخّر أو العزم علی العصیان بنحو الشرط المقارن،هل یکون هذا الشرط شرطا شرعیّا أو شرطا عقلیّا؟

إن کان المراد منه هو الأوّل یرد علیه:أوّلا:أنّ طریق تبیین الشرائط الشرعیّة منحصر ببیان الشارع،مثل:بیان شرطیّة الاستطاعة لوجوب الحجّ، و شرطیّة النصاب لوجوب الزکاة،و نحو ذلک،و لا نری فی آیة و لا روایة تعلیق الأمر بالصلاة علی عصیان الأمر بالإزالة أو العزم علیه.

و ثانیا:أنّ لهذا الشرط فیما نحن فیه خصوصیّة توجب افتراقه عن الشرائط الشرعیّة المذکورة،بل یمتنع عقلا أن یکون هذا الشرط شرطا شرعیّا، توضیح ذلک یتوقّف علی بیان امور:

ص:205

الأوّل:أنّ التکالیف الإلهیّة من الأوامر و النواهی هل تتعلّق بالطبائع و الماهیّات أو تتعلّق بالأفراد و المصادیق،یعنی الوجودات الماهیّة بضمیمة الخصوصیّات الفردیّة و العوارض المشخّصة؟سیأتی تحقیق هذا البحث فی محلّه مفصّلا،و لکنّ المختار تبعا للأعاظم و الفحول فی هذا الفنّ أنّها تتعلّق بالطبائع و المفاهیم.

الأمر الثانی:أنّه سیأتی فی باب المطلق و المقیّد بحث حول معنی الإطلاق، و ذکر المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)له معنی،و هو:أنّ الإطلاق یکون بمعنی الشمول و سریان الحکم المتعلّق بالطبیعة لجمیع الأفراد و المصادیق،کأنّ المولی لاحظ شمول الطبیعة بالنسبة لها.

و لکن اجیب عنه:أوّلا:بأنّه لا یبقی علی هذا فرق بین المطلق و العامّ،فلا فرق بین«أحلّ اللّه کلّ بیع»،و أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ.

و معلوم أنّ دلالة أحدهما علی العموم بالدلالة الوضعیّة،و دلالة الآخر علیه من طریق مقدّمات الحکمة لا یکون فرقا بینهما،بل الفرق أنّ«أحلّ اللّه کلّ بیع»یدلّ علی العموم و سریان الأفراد،بخلاف أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ؛ إذ لا دلالة له علی العموم و الشمول أصلا،و دلیل ذلک ما یکون بعنوان الجواب الثانی عن صاحب الکفایة قدّس سرّه و هو:أنّ المطلق لیس بالمعنی المذکور.

و التحقیق:أنّ لفظ البیع و إن کان معرّفا باللاّم وضع لماهیّة البیع،مثل لفظ الإنسان الذی وضع للماهیّة-أی الجنس و الفصل-و لا مدخلیّة لعنوان الوجود أیضا فیها،و لذا لا یکون حمل الموجود علی الإنسان-فی قضیّة «الإنسان موجود»-حملا أوّلیّا ذاتیّا،فإنّ الوجود لا یکون جنسا لماهیّة

ص:206


1- 1) کفایة الاصول 1:221-223.

الإنسان و لا فصلا له،فالوجود خارج عن ماهیّته،و أفراد الإنسان عبارة عن وجوداته بضمیمة الخصوصیّات الفردیّة و العوارض المشخّصة.

و علی هذا،کیف یمکن حکایة ما وضع للماهیّة عن الوجود،و تعدّده فضلا عن عوارضه المشخّصة مع أنّ نسبة الماهیّة إلی الوجود و العدم سواء؟کیف یمکن القول بدلالة ماهیّة الإنسان علی وجودات متعدّدة بل علی خصوصیّات فردیّتها؟و معلوم أنّها لا تدلّ علیها بإحدی الدلالات الثلاث.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ الإطلاق بمعنی السریان و الشمول أمر غیر صحیح؛إذ السریان لا یکون تمام الموضوع له لکلمة البیع و لا جزء الموضوع له و لا ملازم له،بل معناه أنّ المولی قد لاحظ فی مقام تعلّق الحکم نفس طبیعة البیع و جعلها تمام الموضوع له للحکم بالحلّیّة،و لذا نتمسّک به بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة إن شککنا فی جزئیّة شیء أو قیدیّته،فلا دخل للخصوصیّات الفردیّة فی ماهیّة مطلقة أصلا.

الأمر الثالث:أنّه لا شکّ فی أنّ المزاحمة فی المثال المعروف لبحث الترتّب -أی الصلاة و الإزالة-لا تکون فی مرحلة الماهیّة،فإنّ لازم ذلک تحقّق المزاحمة بینهما بصورة دائمیّة کدائمیّة تعاند الإنسانیّة مع الناهقیّة،و الحال أنّه لا نری المزاحمة بینهما فی مرحلة الماهیّة وجدانا،بل لا تتحقّق المزاحمة بینهما فی أکثر الموارد و الحالات،فتتحقّق المزاحمة بینهما فی بعض الحالات و الموارد،کما إذا ورد شخص فی المسجد بغرض إقامة الصلاة فی سعة الوقت و التفت إلی أنّه یکون ملوّثا.

و یستفاد من هذه الامور أنّ الأمر بالإزالة متعلّق بطبیعة الإزالة أوّلا، و نفس الإزالة تکون تمام الموضوع له ثانیا،و المزاحمة تتحقّق بین الصلاة و بینها

ص:207

فی بعض الحالات ثالثا،و علی هذا کیف یعقل اشتراط الشارع الأمر بالصلاة علی عصیان الأمر بالإزالة أو العزم علیه؟إذ لا یمکن تعلیقه الأمر بها بحالة خاصّة و خصوصیّة فردیّة بعد فرض الصحّة و تسلیم الامور المذکورة.

و إن کان المراد من الاشتراط المذکور شرطا عقلیّا-مثل شرطیّة العلم و القدرة علی التکالیف،و هذا هو الظاهر من القول بالترتّب-فهو أیضا مخدوش.توضیح ذلک أیضا یتوقّف علی بیان أمرین:

الأوّل:أنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)قائل بأنّ کلّ حکم له مراتب أربع:الاولی:

عبارة عن مرتبة الاقتضاء،و هی مرتبة اشتمال الواجب علی مصلحة کاملة، و اشتمال الحرام علی مفسدة کاملة،و اشتمال المستحبّ علی مصلحة راجحة، و اشتمال المکروه علی مفسدة مرجوحة.

المرتبة الثانیة:عبارة عن مرتبة الإنشاء،و هی مرتبة جعل الحکم علی وفق الاقتضاء.

المرتبة الثالثة:عبارة عن مرتبة الفعلیّة،و هی تتحقّق بعد علم المکلّف بالحکم و القدرة علی إتیانه.

المرتبة الرابعة:عبارة عن مرتبة التنجّز،و هی مرتبة استحقاق العقوبة و المثوبة علی مخالفة الحکم و موافقته.

و أشکل علیه المشهور بأنّ نفس الاقتضاء لیس بحکم،بل هو فی مرتبة متقدّمة علی الحکم،و لذا لا ینبغی أن یجعل من مراتب الحکم.و هکذا مرتبة التنجّز و استحقاق الثواب و العقاب لیس من مراتب الحکم،بل هی متأخّرة عن الحکم،و لذا لا ینبغی أن یجعل منها،فتتحقّق لکلّ حکم مرتبتان،یعنی

ص:208


1- 1) کفایة الاصول 1:217.

مرتبة الإنشاء و مرتبة الفعلیّة.

و استنکره شدیدا استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)و استدلّ علی بطلان کلام المشهور صاحب الکفایة قدّس سرّه بأنّ قولکم:«إنّ الأحکام الإنشائیّة إذا حصل العلم و القدرة علیها تصل إلی مرحلة التنجّز و الفعلیّة و إلاّ فلا»،هل المراد منها الأحکام المدوّنة فی الکتاب و السنّة کما هو الظاهر من کلامهم؟و معناه أنّ ما یدلّ علیه قوله تعالی و قول رسوله و الأئمّة علیهم السّلام من الأحکام منحصر بالعالم و القادر،مع أنّه لا فرق فی أدلّة الأحکام بین الجاهل و العالم و القادر و العاجز، إلاّ فی موردین:أحدهما:فیمن جهر فی موضع الإخفات أو أخفت فی موضع الجهر،و ثانیهما:فیمن أتمّ فی موضع القصر أو قصّر فی موضع الإتمام،و لم یقل أحد بأنّ المخاطب بالأحکام هو العالم و القادر فقط إلاّ فی هذین الموردین.

و ممّا یدلّ علی تکلیف الجاهل و العاجز عبارة عن دلیل البراءة العقلیّة و هی قاعدة قبح العقاب بلا بیان،و معناها أنّ القبیح هو المؤاخذة و العقوبة بلا بیان، لا التکلیف بلا بیان،فالتکلیف محقّق للجاهل و لکنّه لا یعاقب مع الجهل،فلا شرطیّة للعلم علی خلاف ما هو المعروف للتکلیف إن کان المراد منه الأحکام المدوّنة،بل الجهل عذر یمنع العقاب،و هکذا القدرة.

و إن کان المراد من الحکم و التکلیف إرادة تشریعیّة ذات الباری فلازم کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه دوران الإرادة التشریعیّة مدار علم المکلّف،و جهله و قدرته و عجزه وجودا و عدما و تبدّلها باختلاف حالات المکلّف،و هو کما تری،فلیس لکلّ حکم مرتبتان و لا مراتب أربعة،بل التحقیق کما یستفاد من الروایات أنّ الأحکام علی قسمین:قسم منهما مشترک بین العالم و الجاهل

ص:209


1- 1) تهذیب الاصول 1:304-306.

و القادر و العاجز،و یعبّر عنه بالأحکام الفعلیّة،و هو ما اوحی إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و وصل إلینا إمّا بلسانه و إمّا بلسان الأئمّة علیهم السّلام.

و القسم الآخر ما لا یظهر بلسان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و الأئمّة علیهم السّلام لاقتضاء بعض المصالح،و إظهاره موکول إلی عصر ظهور صاحب الزمان عجّل اللّه تعالی فرجه،و هو الآن فی مرحلة الإنشاء،و جمیع الأحکام تصل بعد الظهور فی مرحلة الفعلیّة کالحکم بنجاسة بعض الأشیاء و الفرق،و لذا عبّر فی بعض الروایات بأنّه یأتی بدین جدید.

الأمر الثانی:ما تترتّب علیه آثار متعدّدة،و هو أنّ الخطابات العامّة مثل أَقِیمُوا الصَّلاةَ و آتُوا الزَّکاةَ هل تنحلّ و تتعدّد بتعدّد المکلّفین أو تکون خطابا واحدا بنحو العموم؟و الفرق بینهما أنّ الخطاب إن کان شخصیّا یلزم أن لا یکون المولی الآمر عالما بعدم الانبعاث،فإن علم بعدم تأثیر البعث فی المکلّف،أو علم إتیانه بالمأمور به و إن لم یبعثه المولی لا یصحّ البعث بالمعنی الحقیقی؛لأنّه لغو لا یصدر من المولی الحکیم،و هکذا فی النهی،بخلاف الخطابات العامّة؛إذ لا یشترط فیها علم المولی بانبعاث جمیع المخاطبین، و یکفی فی التکلیف بنحو العموم علمه بانبعاث أکثر المکلّفین بل عدّة منهم.

و هناک قرینة مهمّة علی عدم انحلال الخطابات العامّة مثل: أَقِیمُوا الصَّلاةَ، و هی أنّ من خالفها فی مقام العمل نعبّر عنه بالعاصی،و هو عبارة عمّن توجّه إلیه الخطاب و لکنّه خالف التکلیف،و من لا یتوجّه إلیه التکلیف لا ینطبق علیه عنوان العاصی،و نستکشف من ذلک العنوان أنّ العصاة مکلّفون بها کالمطیعین،و بعد کون الآمر هو الباری تعالی الذی یکون عالما بمخالفة العصاة،فإن قلنا بانحلالها یکون تکلیف العصاة و بعثهم لغوا،فتوجّه

ص:210

التکلیف إلیهم قرینة علی عدم انحلال الخطابات العامّة.

و هکذا فی الکفّار؛إذ تتحقّق قاعدة فقهیّة بأنّ الکفّار مکلّفون بالفروع کتکلیفهم بالاصول،و تخصیص بعض الخطابات العامّة بالمؤمنین مثل:قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ (1)یکون بعنوان التجلیل لهم أو لعلل آخر؛إذ الحقّ أنّ الکفّار مکلّفون بجمیع الفروع،فإن قلنا بانحلال الخطابات العامّة یکون الخطاب الشخصی بالنسبة إلیهم لغوا،فلا بدّ من الالتزام بعمومیّتها و عدم انحلالها،سیّما بعد عدم انحصار الکفّار و العصاة بمنطقة خاصّة أو لسان خاصّ أو قبیلة خاصّة.

و من الثمرات المترتّبة علی هذه المسألة عبارة عمّا تعرّضه الشیخ الأنصاری (2)و المحقّق الخراسانی قدّس سرّهما (3)فی بحث الاشتغال،من أنّه یتحقّق لمنجّزیّة العلم الإجمالی شرائط:منها:أن یکون جمیع أطراف العلم الإجمالی مورد ابتلاء المکلّف،و إلاّ لا أثر للعلم؛إذ لا یعقل الخطاب ب«لا تشرب الخمر الموجود فی بلد کذا»بعد فرض خروجه عن محلّ ابتلاء المکلّف.

و یرد علیه:أنّ هذا القول یصحّ علی القول بانحلال الخطابات العامّة و توجّه الخطاب الشخصی إلیه مثل:«لا تشرب الخمر الموجود فی أقصی العالم».

و أمّا علی القول بعدم الانحلال فلا ضرورة لأن تکون أطراف العلم الإجمالی مورد ابتلاء المکلّف،و فی الخطابات العامّة لا یتحقّق هذا الشرط،بل یکفی لصدورها و تحقّقها تبعیّة عدّة من المکلّفین.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ المعروف و المشهور بین العلماء أنّ العلم و القدرة

ص:211


1- 1) البقرة:183.
2- 2) فرائد الاصول 2:420.
3- 3) کفایة الاصول 1:218.

من الشرائط العامّة للتکلیف،و الحاکم بهما هو العقل،فالعلم شرط للتکلیف بحیث إن لم یبیّن المولی أو لم یصل بیانه إلی المکلّف لا یکون العبد مکلّفا، و هکذا مسألة القدرة،و إذا کان العبد عاجزا فلیس بمکلّف،و المراد من القدرة هی القدرة العقلیّة،بخلاف کلمة الوسع فی قوله تعالی: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (1)؛إذ المراد منه هو القدرة العرفیّة،و یکون الباری هاهنا فی مقام التفضّل،و الظاهر أنّه لا فرق فی معنی الشرطیّة بین هذین الشرطین و سائر الشرائط الشرعیّة،مثل:الاستطاعة بالنسبة إلی الحجّ،و هو أنّ الواجد لهذا الشرط یکون مکلّفا،و فاقده لا یکون مکلّفا،فلا بدّ أن یکون العلم و القدرة أیضا کذلک،أی العالم بالتکلیف مکلّف و الجاهل به غیر مکلّف،و القادر علی إتیان المکلّف به مکلّف و العاجز عنه لیس بمکلّف.

و من المعلوم أنّ الشرائط الشرعیّة یکون بیانها بید الشارع و لا دخل للعقل فیها،و أمّا إذا کان الشرط عقلیّا فلا بدّ له من ملاک عقلی،و بعد مراجعة العقل فیما نحن فیه نری تحقّق قاعدة مسلّمة عنده،و هی قاعدة قبح العقاب بلا بیان،یعنی یحکم العقل بقبح مؤاخذة العبد الجاهل لمخالفته تکلیف لم یبیّن له.

و من هنا نفهم أنّ التکلیف متوجّه إلی الجاهل أیضا،و لا یکون مثل غیر المستطیع؛إذ لا یصحّ التعبیر بأنّه یقبح مؤاخذة غیر المستطیع لمخالفة الحجّ،فإنّه لیس بمکلّف أصلا،و لکن الجاهل مکلّف،و تتحقّق منه مخالفة التکلیف،إلاّ أنّه لا یصحّ للمولی أن یؤاخذه و یعاقبه.

و یؤیّده قوله تعالی: وَ ما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً (2)،و هو أیضا

ص:212


1- 1) البقرة:286.
2- 2) الإسراء:15.

ناظر إلی حکم العقل،فلا شرطیّة للعلم؛إذ لا ینتفی المشروط بانتفاء الشرط، مع أنّه لا فرق فی معنی الشرطیّة بین الشرط الشرعی و الشرط العقلی.

و هکذا من ناحیة القدرة بعد شمول خطاب عامّ،مثل: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ (1)للقادر و العاجز بحکم العقل بعد الرجوع إلیه بأنّ العاجز معذور فی المخالفة،لا أنّه لیس بمکلّف،فلا فرق فی أصل توجّه التکلیف إلیهما،فالقدرة أیضا لا تکون من شرائط التکلیف العامّة،مع أنّه یتحقّق دلیلان لنفی شرطیّة کلّ من العلم و القدرة.

أمّا الدلیل الأوّل بالنسبة إلی نفی شرطیّة العلم فهو عبارة عن أنّه إذا شککنا فی تحقّق الشرط فی سائر الواجبات المشروطة یکون معناه الشکّ فی تحقّق المشروط،و بعد الفحص عن تحقّق الشرط تجری البراءة عن المشروط کالشکّ فی تحقّق الاستطاعة و عدمه،فإنّه یرجع إلی الشکّ فی وجوب الحجّ، فیکون مجری للبراءة،و إذا کان العلم شرطا للتکلیف ینتج الشکّ فی التکلیف القطع بعدم التکلیف من دون احتیاج إلی جریان أصالة البراءة،فإنّ القول بشرطیّة العلم للتکلیف من ناحیة و الشکّ فیه من ناحیة اخری،معناه أنّه لیس بعالم،فهو متیقّن بأنّ الشرط لیس بموجود،فشرطیّة العلم للتکلیف و جریان أصالة البراءة فی مورد الشکّ فیه لا یکون قابلا للجمع،و من هنا نستکشف عدم شرطیّة العلم للتکلیف.

و أمّا الدلیل الثانی بالنسبة إلیه فهو مبنی علی ما قلناه من أنّ الأحکام علی قسمین:قسم منها أحکام فعلیّة و هو أکثر الأحکام،و قسم منها أحکام إنشائیّة و فعلیّتها متوقّف علی ظهور إمام العصر علیه السّلام،و الأحکام المدوّنة فی

ص:213


1- 1) البقرة:183.

الکتاب و السنّة و ما بأیدینا أحکام فعلیّة،و إن کان العلم شرطا لفعلیّة الأحکام یلزم الدور علی هذا المبنی،فإنّ معنی الشرطیّة أنّ فعلیّة الأحکام تتوقّف علی العلم بها،و العلم أیضا یتوقّف علی الفعلیّة؛إذ لا بدّ للعلم من المعلوم بعد کون البحث فی العلم بالواقع لا فی العلم بخلاف الواقع.

أمّا الدلیل الأوّل بالنسبة إلی نفی شرطیّة القدرة فإنّه مرّت فی بحث مقدّمة الواجب تقسیمات للمقدّمة،و أنّها تارة تکون مقدّمة الوجود،و اخری تکون مقدّمة الصحّة،و ثالثة تکون مقدّمة العلم،و رابعة تکون مقدّمة الوجوب،و مرّ أیضا أنّه لا یجب تحصیل مقدّمة الوجوب کالاستطاعة مثلا،و إن قلنا بشرطیّة القدرة للتکلیف بعنوان المقدّمة الوجوبیّة فلا بدّ من القول بجواز اتّخاذ طریق العجز حتّی لا یقدر علی إتیان التکلیف،مثل جواز اتّخاذ طریق غیر الاستطاعة حتّی لا یجب علیه الحجّ،و الحال أنّه لا یمکن الالتزام بذلک عقلا، بل العقل یحکم بتحصیل القدرة لإتیان أوامر المولی،و من هنا نستکشف أنّ القدرة لا تکون کسائر الشرائط مقدّمة وجوبیّة للتکلیف.

و أمّا الدلیل الثانی بالنسبة إلیه فإنّه قد مرّ آنفا جریان أصالة البراءة فی صورة الشکّ فی الشرطیّة عند المشهور،و فی صورة الشکّ فی القدرة،و أنّه قادر علی إتیان المأمور به أم لیس بقادر فیجری الاحتیاط عندهم،و یستفاد من ذلک أنّه لا شرطیّة للقدرة،و تحقّق التضادّ فی کلام المشهور و قولهم بالفرق بین القدرة و سائر الشرائط أقوی دلیل علی عدم شرطیّة القدرة،فتحصّل أنّ العلم و کذا القدرة لا تکون من الشرائط العامّة للتکلیف،بل الجهل عذر و مانع عن المؤاخذة،و هکذا العجز.هذا تمام الکلام فی بحث مقدّمات مسألة الترتّب.

إذا عرفت ذلک فنقول:هل نحتاج فی تصحیح عبادیّة ما هو المهمّ إلی مسألة

ص:214

الترتّب و أن یکون الأمر بالصلاة-مثلا-مشروطا بعصیان الأمر بالإزالة،أم لا نحتاج إلیها،إذ الأمر موجود علی الإطلاق فی ناحیة الأهمّ و المهمّ معا؟ و العمدة من المقدّمات ثلاثة أمور:الأوّل:عدم انحلال الخطابات العامّة، و کونها خطابا واحدا متوجّها إلی عامّة المکلّفین بنحو العموم.

و الثانی:عدم شرطیّة العلم و القدرة للتکالیف،و کون الجهل و العجز بعنوان العذر و المانع عن العقاب عقلا.

و الثالث:عدم تحقّق التزاحم و التضادّ بین ماهیّة الصلاة و الإزالة،و تحقّقه فی بعض حالات المکلّف.

ثمّ إنّا نستفید من ذلک بأنّه تارة یتوجّه إلی المکلّف خطاب واحد بنحو العموم،مثل:أزل النجاسة عن المسجد-مثلا-بعد دخوله فیه و رؤیته ملوّثا، فإن وافقه یستحقّ المثوبة،و إن خالفه مع کونه عالما و قادرا یستحقّ العقوبة، و إن لم یکن کذلک یکون معذورا فی المخالفة.

و اخری یتوجّه إلیه أمران متساویان من حیث الأهمّیّة،کالأمر بإنقاذ الغریقین المتساویین فی الأهمّیّة مع عدم قدرة المکلّف إلاّ علی إنقاذ أحدهما، فإن استفاد من قدرته لإنقاذ أحدهما یستحقّ المثوبة لما وافقه و یکون معذورا لما خالفه عقلا،و إن لم یستفید من قدرته و خالف کلا الأمرین فلا إشکال عقلا فی أصل استحقاق العقوبة،بل الظاهر أنّه یستحقّ العقوبتین؛إذ لا شکّ فی استقلال کلا التکلیفین،و عدم عذره فی مخالفتهما،فلا حجّة له فی مقابل المولی بعد فرض عدم توجّه خطاب شخصی إلیه بأنّه جمع بین الإنقاذین،بل توجّه کلا التکلیفین بنحو العامّ.

و ثالثة یتوجّه إلیه أمران مع أولویّة أحدهما و أهمّیّته بالنسبة إلی الآخر،

ص:215

کالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد بالنسبة إلی الأمر بالصلاة فی سعة الوقت، أو الأمر بإنقاذ الغریق بالنسبة إلی الأمر بالإزالة،فإن وافق الأمر بالأهمّ و استفاد من قدرته فی إنقاذ نفس محترمة فیستحقّ المثوبة لما وافقه و یکون معذورا لما خالفه،و لا یستحقّ العقوبة لمخالفة الأمر بالمهمّ قطعا من حیث العقل.

و إن وافق الأمر بالمهمّ و خالف الأمر بالأهمّ فیستحقّ المثوبة لما وافقه أیضا؛إذ لا نقص فی الأمر بالمهمّ،فإنّ الأمر بالصلاة کما ذکرناه متعلّق بماهیّة الصلاة و طبیعتها بنحو العموم بدون دخالة الخصوصیّات الفردیّة فیها،کما أنّ الأمر بالإزالة متعلّق بماهیّتها بنحو العموم،و تحقّق التزاحم و التضادّ بینهما خارج عن دائرة تعلّق الحکم بالماهیّة و الطبیعة،و کما أنّ الأمر المتعلّق بالإزالة مطلق کذلک الأمر المتعلّق بالصلاة مطلق لا یکون مشروطا بالعصیان و نحو ذلک.

و من البدیهی أنّ معنی الأهمّ و المهمّ لا یکون اختلافهما فی الرتبة من حیث تعلّق الأمر،و الشاهد علی ذلک قول منکر الترتّب بأهمّیّة الإزالة بالنسبة إلی الصلاة،فالأهمّ و المهمّ لا یکون ملازما للترتّب.

فإن کان الواجب المهمّ عبادة-و العبادة تحتاج إلی الأمر-فلا شکّ فی صحّة هذه العبادة؛إذ لا نقص فیها أصلا،و أهمّیّة الإزالة لا تقتضی بطلان الصلاة،إلاّ أنّه یستحقّ العقوبة فی مقابل مخالفة الأمر بالأهمّ،فیستحقّ المثوبة علی إتیان الصلاة،و یستحقّ العقوبة علی ترک الإزالة،و إن لم یستفید من قدرته أصلا و خالف کلا الأمرین فیستحقّ العقوبتین بلحاظ تساوی القدرة بالنسبة إلی کلا التکلیفین.

ص:216

و إن فرض صحّة قول المشهور و قلنا بانحلال الإطلاقات العامّة إلی خطابات شخصیّة و شرطیّة العلم و القدرة للتکلیف فهل تصحّ مسألة الترتّب أم لا؟و نبحث تارة فی مقام الثبوت،و اخری فی مقام الإثبات.

و أمّا البحث فی المقام الأوّل فقد مرّ أن ذکرنا أنّ الترتّب یکون بمعنی الطولیّة و تأخّر رتبة الأمر بالمهمّ عن رتبة الأمر بالأهمّ،مثل:تأخّر رتبة المعلول عن العلّة و المؤثّر و المتأثّر عن المؤثّر،و دلیل تأخّر رتبته أنّه مشروط بشرط متأخّر عن الأمر بالأهمّ،و هو عبارة عن عصیان الأمر بالأهمّ،و عصیانه متأخّر عنه،فالأمر بالصلاة-مثلا-متأخّر عن الأمر بالإزالة.

و دلیل تأخّر عصیانه عنه:أنّ الإطاعة و العصیان أمران متناقضان؛لأنّ الإطاعة عبارة عن فعل المأمور به،و العصیان عبارة عن ترک المأمور به، و معلوم أنّ إطاعة الأمر متأخّر عنه فالعصیان أیضا کذلک؛إذ النقیضان فی رتبة واحدة،و المشروط بالمتأخّر لا محالة متأخّر.

و جوابه:أوّلا:تقدّم أن نقلنا ما ذکره المحقّق القوچانی قدّس سرّه فی توضیح تشبیه صاحب الکفایة قدّس سرّه مسألة الضدّین بمسألة النقیضین،و محصّل کلامه فی مقام نفی المقدّمیّة:

أنّ فعل الصلاة و ترک الصلاة فی رتبة واحدة،و یتحقّق بین ترک الصلاة و فعل الإزالة کمال الملاءمة التی تقتضی أن یکون فعل الصلاة و الإزالة أیضا فی رتبة واحدة،فلا مقدّمیّة فی البین.

و قلنا فی جوابه:أنّ الترک و العدم لا یمکن أن یقع موضوعا لأمر وجودی؛ لأنّه لیس بشیء حتّی یحکم علیه بشیء وجودی کالحکم بالتأخّر أو الاتّحاد و نحو ذلک،فإنّها أحکام ثبوتیّة تحتاج إلی الموضوع.

ص:217

و ثانیا:أنّ مع قطع النظر عن هذا الجواب و فرض کون عدم الصلاة مع فعلها فی رتبة واحدة فما الدلیل علی أن یکون عدم الصلاة مع فعل الإزالة فی رتبة واحدة؟و تأخّر الرتبة و تقدّمها من المسائل العقلیّة و تابع لملاک عقلیّ، مثل:أن یتحقّق لمعلولین علّة واحدة و کان أحد المعلولین علّة لأمر ثالث، و معلوم أنّ المعلولین بعد تأخّرهما عن العلّة فی رتبة واحدة،و المعلول الثالث متأخّر عن علّته بلحاظ و ملاک العلّیّة،و من البدیهی أنّ رتبة المعلول الثالث مع المعلول الذی یکون فی رتبة علّته،لا یکون التقدّم و التأخّر عقلا بلحاظ فقدان ملاکه.

و یستفاد ممّا ذکرناه فیما نحن فیه أیضا مع إضافة،و نقول:سلّمنا أنّ الإطاعة متأخّرة عن الأمر بالإزالة،و لکنّه لا دلیل علی تأخّر العصیان عنه،فإنّه:أوّلا:

أمر عدمیّ لا یکون قابلا لحمل حکم وجودی علیه،و ثانیا:أنّ التأخّر الرتبی یحتاج إلی ملاک عقلی،و هو یتحقّق فی الإطاعة دون العصیان؛إذ الإطاعة عبارة عن فعل المأمور به فی الخارج،و العصیان عبارة عن الترک،و من لم یصلّ عن عمد یعدّ عاصیا بأیّ داع یتحقّق.

و ثالثا:أنّ غرض القائل بالترتّب فیما نحن فیه حمل الحکمین الوجودیین علی العصیان:أحدهما:اتّحاد العدم مع الوجود و الإطاعة مع العصیان فی الرتبة، و ثانیهما:شرطیّة العصیان للأمر بالمهمّ،و الحال أنّه لا بدّ أن یکون الشرط أمرا وجودیّا،فالترتّب یکون محلاّ للإشکال و النظر ثبوتا.

و لو فرضنا صحّته فی مقام الثبوت فهل یصحّ فی مقام الإثبات أم لا؟لا شکّ فی أنّ غرض القائل بالترتّب عبارة عن رفع استحالة طلب الضدّین فی آن واحد،فإنّه أیضا قائل و معترف بأنّ الأمر بالإزالة و الأمر بالصلاة فی زمان

ص:218

واحد لا یکون کلاهما قابلا للجمع بل هو غیر معقول،و مراده من الترتّب إمکان جمعهما بدون الاستحالة.

و لا بدّ لنا من ملاحظة أنّه یتحقّق مع الترتّب طریق إلی الإمکان و یسدّ طریق الاستحالة أم لا؟توضیح ذلک:أنّه یتصوّر لما هو شرط للأمر المهمّ ثلاثة احتمالات:أحدها:أن یکون لنفس العصیان الخارجی للأمر بالأهمّ شرطیّة بنحو الشرط المقارن،و ثانیها:أن یکون لها شرطیّة بنحو الشرط المتأخّر،نظیر الإجازة فی البیع الفضولی بناء علی الکشف الحقیقی،و ما یعبّر عنه بشرطیّة تعقّب الإجازة،و ثالثها:أن یکون الشرط عبارة عن العزم علی العصیان أو التلبّس به أو الشروع فیه،و هو یتحقّق بإرادة المعصیة.

و علی الأوّل:لا شکّ فی أنّ بعد مضیّ آناً ما من الزمان فی الواجب المضیّق -لا فی مثل الصلاة و الإزالة بلحاظ کونه وجوبها فورا ففورا-یتحقّق العصیان،فیسقط الأمر بالأهمّ؛إذ العصیان کالإطاعة مسقط للتکلیف،فلا یتحقّق فی کلا الزمانین أزید من أمر واحد،فإنّ قبل تحقّق العصیان یتحقّق الأمر بالأهمّ فقط.و أمّا بعد تحقّقه فیتحقّق الأمر بالمهمّ فقط،فلا یمکن اجتماع الأمرین مع الترتّب و الطولیّة علی هذا المبنی فضلا عن الاستحالة.

و علی الثانی:سلّمنا أنّه یتحقّق کلا الأمرین فی زمان واحد؛إذ العصیان فی ظرفه مسقط للتکلیف لا قبله،و شرط الأمر بالمهمّ-یعنی تعقّب العصیان- متحقّق أیضا،فیتحقّق الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ فی آن واحد،و لکنّه لا ترتفع بهذا الاشتراط غائلة الاستحالة،و لا أثر له إلاّ فعلیّة الأمر المهمّ،و تعقّب العصیان لا یکون مسقطا للأمر بالأهمّ،فتبقی استحالة طلب الضدّین.

و هکذا علی الثالث،فإنّ العزم علی العصیان لا یکون مسقطا للتکلیف،

ص:219

مع أنّ شرط الأمر بالمهمّ حاصل،و حصول الشرط موجب لتحقّقه.

و الحاصل:أنّه تحقّق من المولی طلب الضدّین فی آن واحد،و هو مستحیل، و لا یمکن ارتفاعه بواسطة الاشتراط،فلا یحصل غرض القول بالترتّب،أی تحقّق طلب الضدّین فی زمان واحد،و رفع استحالته مع الترتّب و تقدّم رتبة أحدهما علی الآخر،فإنّ استحالة طلب الضدّین أمر مطلق لا ینحصر بزمان دون زمان.

توضیح ذلک:أنّ رافع الاستحالة إمّا أن یکون أصل اشتراط الواجب المهمّ،و إمّا أن یکون اشتراطه بأمر ناشئ عن سوء اختیار المکلّف،و إمّا أن یکون اختلاف الرتبة و تأخّر رتبته عن رتبة الواجب الأهمّ،مع أنّه لا یمکن رفع الاستحالة بأیّ وجه من الوجوه؛إذ بناء علی الأوّل یصحّ بطریق أولی قول المولی:«إن أکلت الیوم خبزا یجب علیک الجمع بین الصلاة و الإزالة»، و علی الثانی یصحّ قوله:«إن عصیت واجب کذا یجب علیک الجمع بین الصلاة و الإزالة»،و الحال أنّ سوء الاختیار یرتبط بالمکلّف،و طلب الضدّین یرتبط بالمولی،و ما یرتبط بالمکلّف کیف یمکن أن یکون رافعا لاستحالة ما یرتبط بالمولی؟!

و علی الثالث:أنّ اختلاف الرتبة لا یکون مؤثّرا فی رفع الاستحالة،فإنّ هذه المسألة مسألة زمانیّة،و لذا یقال:هل یجوز طلب الضدّین فی زمان واحد أم لا؟و لا یرتبط بالرتبة حتّی یکون اختلافها رافعا لاستحالته،فلا طریق لإثبات القول بالترتّب من حیث مقام الإثبات أیضا.

و لکنّ المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)ذکر عدّة من الفروع الفقهیّة و قال:إنّ کلّ فقیه

ص:220


1- 1) أجود التقریرات 1:302.

لاحظها لا بدّ له من الالتزام بمسألة الترتّب،و أدلّ دلیل علی إمکان الشیء وقوعه،و نحن نذکر فرعا واحدا منها و نبحثه حتّی تظهر حقیقة الحال،و لا بدّ لنا قبل بحثه من طرح أمرین بعنوان المقدّمة:

الأوّل:أنّ الفرع الذی یستدلّ به لوقوع الترتّب لا بدّ أن یکون واجدا لخصوصیّات ما نحن فیه،و هما خصوصیّتان:الاولی:أن یتحقّق بین الواجبین التضادّ فی مقام العمل،و لا یمکن الجمع بینهما،مثل عدم إمکان اجتماع السواد و البیاض فی جسم واحد فی زمان واحد.

الخصوصیّة الثانیة:أن یکون الواجب المهمّ مشروطا بشرط متأخّر عن الواجب الأهمّ من حیث الرتبة لا من حیث الزمان،کما أنّ الأمر بالتوبة و اشتراطه بعصیان الأمر بالصلاة-مثلا-یتخیّل أن یکون من مصادیق مسألة الترتّب،مع أنّه لیس کذلک،فإنّ قبل تحقّق عنوان العصیان یتحقّق الأمر بالصلاة فقط،و بعد تحقّقه یسقط هذا الأمر و یتحقّق الأمر بالتوبة.

الأمر الثانی:أنّ الفرع الذی یستدلّ به فیما نحن فیه لا بدّ أن یکون فرعا فقهیّا مسلّما بین الفقهاء،لا من الامور الفقهیّة الاختلافیّة بین القائل بالترتّب و منکره.

إذا عرفت ذلک فنذکر ما هو المهمّ من الفروع المذکورة فی کلام المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)و محصّل کلامه:أنّه لو فرض حرمة إقامة عشرة أیّام فی بلد علی المسافر لنهی الوالد أو النذر-مثلا-و فرضنا رجحان متعلّقه شرعا،و لکنّه خالف النذر عملا و أقام فیه،فلا إشکال فی أنّه یجب علیه صوم شهر رمضان و إتمام الصلوات الیومیّة،فقد توجّه إلیه حرمة الإقامة و وجوب الصوم،إلاّ أنّ

ص:221


1- 1) فوائد الاصول 1:357-358.

وجوب الصوم یکون مترتّبا علی عصیان حرمة الإقامة،فیکون عین الخطاب الترتّبی فیما نحن فیه من مسألة الضدّین،و هذا واقع فی الشریعة،و أدلّ دلیل علی إمکان شیء وقوعه.

و جوابه أوّلا:بعد ملاحظة ما ذکرناه بعنوان المقدّمة أنّ هذا الفرع فرع فرضی و جعلی لا واقعی،فإنّ وجوب الصوم و الإتمام لا یترتّب علی الإقامة، بل یترتّب علی قصد الإقامة کما لا یخفی.

و لو فرضنا أن یکون متعلّق نذره عدم قصد عشرة أیّام فی بلد کذا لا عدم الإقامة الخارجیّة فلا تتحقّق مسألة الترتّب أیضا،فإنّ غرض القائل بالترتّب إثبات کلا التکلیفین فی آن واحد و رفع استحالته بالاشتراط،و أمّا فی هذا المثال فلا یکون کلاهما قابلا للاجتماع،فإنّ قبل تحقّق قصد الإقامة منه لا یتحقّق التکلیف بوجوب الصیام و إتمام الصلاة،و بعد تحقّقه یسقط الأمر بوجوب الوفاء بالنذر.

و ثانیا:أنّه لا یتحقّق التضادّ فی مقام العمل بین عدم قصد الإقامة و الصوم و إتمام الصلاة؛إذ یمکن الجمع بینهما،و إن کان الصوم باطلا.

و ثالثا:أنّه لا یتحقّق فی هذا المثال الترتّب الظاهری فضلا عن الواقعی،فإنّ الدلیل الثانی مطلق مثل الدلیل الأوّل،و لا یکون مشروطا بعصیان الأمر الأوّل،کشرطیّة الأمر بالتوبة بعصیان الأمر بالصلاة مثلا؛إذ الأوّل یحکم بوجوب الوفاء بالنذر مطلقا،و الثانی یحکم بوجوب الصوم و الإتمام علی قاصد إقامة عشرة أیّام مطلقا،و لا یتحقّق بینهما التقدّم و التأخّر و لو من حیث الظاهر،إلاّ أنّه وقع قصد عشرة أیّام فی مورد مصداقا لعصیان«أوفوا بالنذور»،فلا یوجب الالتزام بالحکم الفقهی فی هذا الفرع الالتزام بالقول

ص:222

بالترتّب.

و ملخّص الکلام فی هذه المسألة:أنّه اخترنا فی أصل البحث أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه حتّی فی الضدّ العامّ بمعنی النقیض و الترک؛إذ القائل بالاقتضاء تمسّک لإثباته من طریق الملازمة أو المقدّمیّة،فقد مرّ مفصّلا أنّ عدم الضدّ لا یتّصف بالمقدّمیّة و لا بالملازمة.

و ثمرة هذا البحث عبارة عن حرمة الضدّ علی القول بالاقتضاء،سواء کان الضدّ أمرا عبادیّا أم غیر عبادی،و عدم حرمته علی القول بعدم الاقتضاء.

و ثمرة اخری تظهر فیما إذا کان الضدّ أمرا عبادیّا عند المشهور،و هی أنّ الأمر بالإزالة إن اقتضی النهی عن الصلاة فتقع هذه منهیّا عنها و تصیر باطلة؛إذ النهی المتعلّق بالعبادة یقتضی فسادها،و هذه الثمرة وقعت مورد النفی و الإنکار،و قد مرّ أنّ العبادة صحیحة سواء قلنا بالاقتضاء أم قلنا بعدم الاقتضاء،أمّا علی الأوّل فإنّ النهی مقدّمی و غیری لا نفسی،و هو لیس بکاشف عن مبغوضیّة العبادة و لا یقتضی فسادها،و علی الثانی لا وجه لبطلانها،فعلی کلا القولین تکون الصلاة مکان الإزالة صحیحة.

و قد مرّ ما ذکرناه عن الشیخ البهائی قدّس سرّه (1)من إنکار الثمرة بطریق آخر، حیث قال:إنّ الصلاة مکان الإزالة باطلة علی کلا القولین،أمّا علی القول بالاقتضاء فلأنّها منهیّا عنها،و النهی یقتضی الفساد،و أمّا علی القول بعدم الاقتضاء فلأنّ العبادة تحتاج إلی الأمر،و لا یمکن أن تکون الصلاة و الإزالة معا مأمورا بها فی آن واحد،فبطلان الصلاة مستند إلی عدم الأمر.

ص:223


1- 1) زبدة الاصول:82-83.

و أجاب عنه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بأنّ العبادة لا یحتاج فی صحّتها إلی الأمر؛لأنّ تحقّق الملاک و المصلحة التامّة یکفی لصحّتها،و مزاحمة الإزالة لا یوجب نقصا فی الملاک و المصلحة.

و طریق آخر للجواب عنه:وجدان الأمر للصلاة.و الطریق الذی اخترناه لوجدان الأمر عبارة عن عدم انحلال الخطابات العامّة و عدم شرطیّة العلم و القدرة للتکالیف،و أنّه لا یتحقّق التضادّ بین الصلاة و الإزالة من حیث الطبیعة و الماهیّة،و یتحقّق الأمر بهما فی عرض واحد بصورة الکلّی،لا بخطاب شخصی بدون الترتّب و الطولیّة.و نتیجة الأهمّ و المهمّ عبارة عن أنّ المکلّف إن استفاد من قدرته بالنسبة إلی الأهمّ یکون معذورا بالنسبة إلی الأمر بالمهمّ، و إن استفاد منها بالنسبة إلی المهمّ فلا یحکم العقل بمعذوریّته بالنسبة إلی الأمر بالأهمّ بعد إحراز الأهمّیة،بل یستحقّ العقوبة بالنسبة إلیه.

و لکن علی فرض رفع الید عن هذا المبنی و اختیار قول المشهور قلنا بأنّه لا یمکن تحقّق غرض القائل بالترتّب-یعنی اجتماع الأمرین فی زمان واحد- و رفع استحالته بالإطلاق و الاشتراط،فلا یمکن أن یقع الترتّب جوابا عن الشیخ البهائی قدّس سرّه فی مقام إنکار الثمرة.هذا تمام الکلام فی بحث الترتّب،و لا یخفی أنّه من المباحث المهمّة فی علم الاصول.

ص:224


1- 1) کفایة الاصول 1:212.

الفصل السادس: فی أنّه هل یجوز الأمر للآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

فی أنّه هل یجوز الأمر للآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)بعدم الجواز،خلافا لأکثر المخالفین،إنّما الإشکال فی أصل محلّ البحث قبل تحقیق المسألة،و لا شکّ فی أنّ کلمة«یجوز»فی عنوان المسألة لیس بمعنی الإباحة و الجواز الذی یستعمل فی لسان الفقهاء،بل یکون بمعنی الإمکان،و الإمکان علی نوعین فی مقابل الاستحالة،یعنی:

الإمکان الذاتی و الإمکان الوقوعی،فی مقابل الاستحالة الذاتیّة و الاستحالة الوقوعیّة،و الاستحالة الذاتیّة عبارة عمّا یکون محورا لجمیع الاستدلالات فی العالم،و الاستحالة الوقوعیّة ترتبط بممکن الوجود،فإنّه إذا لم تتحقّق علّته یستحیل و یمتنع أن یقع فی الخارج و إن کان بحسب الذات ممکنا متساویا النسبة إلی الوجود و العدم،و إن تحقّقت علّته یجب أن یقع فی الخارج،و لکن یعبّر عنه بواجب الوجود بالغیر و ممتنع الوجود بالغیر.

و البحث فی أنّ المراد من الإمکان هل هو الإمکان الوقوعی أو الإمکان الذاتی؟و الظاهر أنّ کلیهما لا یخلو من إشکال؛إذ البحث عن الإمکان الذاتی لا یکون من شأن الاصولی،و لا یناسب المباحث الاصولیّة،بلحاظ ارتباطه

ص:225


1- 1) کفایة الاصول 1:220-221.

بالمباحث الفلسفیّة،هذا أوّلا.

و ثانیا:یرد علیهما إشکال مشترک،و هو:أنّ استعمال کلمة«العلم»فی عنوان المسألة یوجب إخراجها عن الإمکان الوقوعی و الذاتی؛إذ الممکن تابع لعلّته من حیث الوجود و العدم،و لا دخل للعلم و الجهل فیه،مع أنّ معنی العنوان المذکور بعد إرجاع الضمیر فی کلمة«شرطه»إلی الأمر-أی هل یمکن أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الأمر أم لا؟-یرجع إلی أنّ المعلول بدون تمامیّة علّته هل یمکن وقوعه أم لا؟و من المعلوم بدیهیّة الاستحالة وقوعا،فتحریر محلّ النزاع مشکل.

و لکنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه بعد القول بعدم الجواز فی عنوان المسألة و صدر کلامه قال فی مقام التوجیه و تصحیح محلّ النزاع:نعم،لو کان المراد من لفظ «الأمر»الأمر ببعض مراتبه و من الضمیر الراجع إلیه بعض مراتبه الاخری -بأن یکون النزاع فی أنّ أمر الآمر یجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعلیّته،و بعبارة اخری:کان النزاع فی جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلی مرتبة الفعلیّة؛لعدم شرطه-لکان جائزا.

ثمّ قال:و قد عرفت سابقا أنّ داعی إنشاء الطلب لا ینحصر بالبعث و التحریک الجدّی حقیقة،بل قد یکون صوریّا امتحانیّا،و ربما یکون غیر ذلک.

و فیه:أنّ هذا القول مبتن علی القول بتحقّق المراتب أو المرتبتین للحکم، و قد أنکرنا هذا المبنی تبعا لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه و قلنا:إنّ الأحکام علی قسمین:قسم منها إنشائیّة و تتوقّف فعلیّتها علی زمان ظهور ولیّ اللّه الأعظم الحجّة الثانی عشر علیه السّلام،و قسم منها فعلیّة و هی الأحکام التی وصلت إلینا

ص:226

بالکتاب و السنّة.

و لذا قال استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه بأنّه علی القول بالاستخدام فی مرجع الضمیر الأولی رجوعه إلی المکلّف أو المکلّف به،فیرجع محلّ النزاع إلی أنّه هل یجوز الأمر للآمر الحکیم مع علمه بأنّ المکلّف به لا یکون واجدا لشرط تعلّق التکلیف به؛لعدم مقدوریّته للمکلّف،و علی هذا یکون هذا شعبة من شعب النزاع بین الأشاعرة و العدلیّة فی أنّ التکلیف بمحال جائز من المولی الحکیم أم لا؟مثل أن یقول المولی بخطاب واحد:یجب علیک الجمع بین الضدّین بعد اتّفاقهما علی استحالة تکلیف محال له،مثل جعله شیئا واحدا مأمورا به و منهیّا عنه فی آن واحد،فالأشاعرة قالوا بجوازه،و العدلیّة قالوا بالعدم،و لکن بعد ملاحظة ما ذکرناه فی بحث الترتّب نقول:إنّ أمره بخطاب شخصی لیس بجائز،و هکذا أمره بخطاب عامّ علی القول بالانحلال،و هکذا علی القول بعدم الانحلال فی صورة فاقدیّة أکثر المکلّفین لشرط تعلّق التکلیف بهم،و أمّا علی القول بعدم الانحلال و واجدیّة أکثرهم للشرط یجوز أمر الآمر بخطاب عامّ و لا مانع منه.

ص:227

ص:228

الفصل السابع: فی أنّه هل تتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع أو بالأفراد؟

فی أنّه هل تتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع أو بالأفراد؟

تجری فی تحریر محلّ النزاع فی هذا البحث احتمالات:

الأوّل:أن یکون المراد من الأفراد المذکورة فی مقابل الطبائع و الماهیّات فی عنوان البحث وجودات الطبیعة بدون خصوصیّات فردیّة،فیرجع النزاع إلی أنّ الأوامر و النواهی متعلّقة بالماهیّات أو متعلّقة بالوجودات،و هذا البحث متفرّع علی بحث أصالة الوجود و أصالة الماهیّة فی الفلسفة،و القائل بأصالة الوجود یقول بتعلّقها بالوجودات،و القائل بأصالة الماهیّة یقول بتعلّقها بالماهیّات.و لکنّه یتحقّق لهذا الاحتمال مبعّدات:

الأوّل:أنّ لازم ذلک استعمال کلمة«الوجودات»مکان«الأفراد»فی عنوان البحث الاصولی،و الأفراد عبارة عن الوجودات مع خصوصیّات فردیّة.

المبعّد الثانی:أنّ البحث بهذه الکیفیّة لا یکون بحثا اصولیّا بما هو اصولی، بل هو بحث فلسفی،و یظهر أحد نتائج الاختلاف بین أصالة الوجود و أصالة الماهیّة فیما نحن فیه،مع أنّ ظاهر عنوان المسألة أنّه بحث اصولی.

المبعّد الثالث:أنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه و عدّة من المحقّقین یقولون بتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع مع تصریحهم بأنّ القول بأصالة الماهیّة،و أصالة

ص:229

الوجود فی الفلسفة لا یوجب فرقا فی مختارنا فی هذه المسألة،و هذا دلیل علی الفرق بین المسألتین.

الاحتمال الثانی أیضا مبتن علی البحث الفلسفی و المنطقی،و هو البحث فی وجود الکلّی الطبیعی؛إذ المشهور قائل بأنّ وجوده عین وجود أفراده،و لذا یصحّ التعبیر بعد تولّد زید-مثلا-أنّه وجد الإنسان کما یصحّ التعبیر بأنّه وجد زید،بخلاف الرجل الهمدانی فإنّه قائل بأنّ نسبة الکلّی إلی الأفراد و المصادیق مثل نسبة الأب إلی الأبناء،فیحتمل أن یقول المشهور فیما نحن فیه بتعلّق الأوامر و النواهی بالأفراد؛إذ الطبیعی لا یکون متلبّسا بالوجود الاستقلالی فی مقابل وجود الأفراد،و القائلون بتعلّقها بالطبائع لا بدّ من تبعیّتهم للرجل الهمدانی من القول بأنّ الطبیعی بمنزلة الأب للأفراد.

و فیه:أوّلا:أنّ لازم ذلک خروج المسألة عن المباحث الاصولیّة و جعلها من ثمرات ما یبحث فی المنطق و الفلسفة،و هو خلاف الظاهر.

و ثانیا:أنّ لازم هذا الاحتمال أن یکون القائل بتعلّق الأوامر و النواهی فیما نحن فیه تابعا للرجل الهمدانی فی المنطق،مع أنّ المشهور بعد مخالفته قائل بتعلّقها بالطبائع،و هذا أیضا لا یکون محلاّ للنزاع.

الاحتمال الثالث:أن یکون محلّ النزاع متفرّعا علی مسألة لغویّة و هی:أنّ الوضع فی أسماء الأجناس التی تقع معروضة لهیئة«افعل»کالصوم و الصلاة فی الشریعة یکون عامّا،و الاختلاف فیها یکون فی الموضوع له،و القائل بتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع یقول بأنّ الموضوع له فیها أیضا یکون عامّا،و أمّا القائل بأنّ الوضع فیها عامّ و الموضوع له خاصّ؛فلا بدّ له من القول بتعلّقها بالأفراد،فإنّ هیئة«افعل»تکون بمعنی البعث و الطلب و یتعلّق بالمادّة،و إذا

ص:230

کان الوضع و الموضوع فیها عامّا فلا بدّ من تعلّقها بالطبائع،و إذا کان الوضع فیها عامّا و الموضوع له خاصّا فلا بدّ من تعلّقها بالأفراد.

و فیه:أوّلا:أنّ الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ أمر غیر معقول کما مرّ؛إذ لا یمکن ملاحظة الأفراد من ناحیة العامّ بعد فرض تقوّمها بعوارض فردیّة و مشخّصات شخصیّة،فلا ارتباط و لا سنخیّة بینها و بین ماهیّة الإنسان مثلا.

و ثانیا:أنّ علی فرض ابتناء هذه المسألة علی البحث اللغوی فلا بدّ من الإشارة إلیه فی کلمات المستدلّین،مع أنّه لیس فی استدلالاتهم أثر و لا خبر من هذا الابتناء،بل یستفاد من ظاهر کلامهم أنّ المسألة تکون مسألة عقلیّة لا لغویّة.

و ثالثا:أنّ علی فرض أن یکون الوضع فی أسماء الأجناس عامّا و الموضوع له فیها خاصّا فلا یستلزم أن لا یکون للوضع العامّ و الموضوع له العامّ مصداق،بل یمکن أن یتحقّق له مصداق آخر حتّی یستدلّ به القائل بتعلّقها بالطبائع.

الاحتمال الرابع:أنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)حکی عن السکّاکی ادّعاء الاتّفاق علی أنّ المصدر المجرّد من الألف و اللام و التنوین لا یدلّ إلاّ علی الماهیّة،فقد مرّ البحث فی أنّ المصدر لیس مادّة للمشتقّات،فإنّ هیئته أیضا تدلّ علی معنی زائد علی ما تدلّ علیه مادّته.و علی فرض رفع الید عن هذا المبنی و التسلیم بقول کون المصدر أصل الکلام و شمول ادّعاء اتّفاق السکّاکی للمصدر الذی یتحقّق فی ضمن فعل الأمر،فإذا کان المصدر مجرّدا أو غیر معروض لهیئة«افعل»فلا دخل للوجود أیضا فیه،و أمّا إذا کان معروضا لها

ص:231


1- 1) کفایة الاصول 1:117.

فیوجب هذه المعروضیّة لإشراب عنوان الوجود فیه-و لا نحتاج فی هیئة الماضی و المضارع إلی هذا الإشراب لدلالتهما علی التحقّق-بناء علی القول بتعلّق الأوامر و النواهی بالأفراد،و لا یوجب إشراب الوجود فیه علی القول بتعلّقها بالطبائع،و لا یوجب انقلاب معنی المصدر عمّا هو علیه.

و فیه:أوّلا:أنّ النزاع فی هذه المسألة لا ینحصر بهیئة«افعل»و«لا تفعل»، بل البحث فی تعلّق الأحکام بالعناوین من دون الفرق بین بیان الحکم بکلمة «یجب»أو«کتب»أو«حرّمت»أو الأمر و النهی،و إن کان المذکور فی عنوان البحث کلمة الأوامر و النواهی.

و ثانیا:أنّه یستفاد من ظاهر البحث أنّه بحث عقلیّ،مع أنّ البحث بهذه الکیفیّة یوجب إرجاعه إلی البحث اللغوی؛بأنّ المادّة لا تدلّ إلاّ علی الماهیّة، و لکن تتحقّق فی هیئة«افعل»خصوصیّة،و هی وضعها و دلالتها علی طلب الوجود،علی أنّه أساس هذا الاحتمال-یعنی کون المصدر مادّة المشتقّات- مخدوش عندنا.

الاحتمال الخامس:ما ذکره المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)و هو:أنّ المقصود من تعلّق الأحکام بالطبائع هو وجود الطبائع و الماهیّات لا نفسها،و المقصود من تعلّقها بالأفراد:الخصوصیّات الفردیّة و العوارض المشخّصة زائدا علی وجود الطبیعة.

و دلیله علی هذا التوجیه:أنّ الطبیعة و الماهیّة من حیث هی هی لیست إلاّ هی،یعنی لا موجودة و لا معدومة،لا مطلوبة و لا غیر مطلوبة،و إذا کان کذلک فلا معنی للقول بأنّ مقصود القائلین بتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع

ص:232


1- 1) کفایة الاصول 1:222-223.

هی نفس الطبیعة،فیکون مرادهم وجود الطبیعة،کما أنّ مراد القائل بتعلّقها بالأفراد هو دخول خصوصیّات فردیّة أیضا فی دائرة الطلب.

و فیه:أنّ مراد الفلاسفة من العبارة المذکورة أنّ الماهیّة فی مقام الذات و الذاتیّات لیست إلاّ هی،یعنی ما کان خارجا عن دائرة الجنس و الفصل یکون قابلا للنفی عنها،و لذا یصحّ سلب المتناقضین کالوجود و العدم عنها فی هذا المقام؛لخروجهما عن دائرة الماهیّة،کما أنّ الطلب و غیره خارج عنها.و من البدیهیّات أنّه لا یستفاد من ذلک عدم إمکان تعلّق الطلب بالطبیعة فی مقام الخارج،و لا یدّعی القائل بتعلّقه بالطبیعة و الماهیّة أن یکون الطلب جزءها، فوقع منه قدّس سرّه الخلط بین المقامین.

مثلا:إذا قلنا:الماهیّة موجودة بمعنی کون الوجود جزء لها و حمل الوجود علیها بالحمل الذاتی،فهی قضیّة کاذبة؛إذ المحمول لا یکون تمام الماهیّة و لا جزء الماهیّة للموضوع،و إذا قلنا:الماهیّة موجودة بمعنی عروض الوجود علیها و حمله علیها بالحمل الشائع،فهی قضیّة صادقة.

مع أنّه یتحقّق فی کلامه نوع من التناقض،فإنّه یقول:لا یمکن تعلّق الطلب بالطبیعة و لا بدّ من إضافة الوجود إلیها.

قلنا:إن أمکن إضافة الوجود إلیها فلم لا یمکن إضافة الطلب إلیها بعد نفیهما معا فی العبارة المعروفة و خروجهما معا عن دائرة الماهیّة،فلا فرق بینهما فی العروض علی الماهیّة،و لکنّه صرّح بصحّة تعلّق الأمر بالطبیعة؛لأنّه طلب الوجود و عدم صحّة تعلّق الطلب بها؛لأنّه لیس کذلک،و الحال أنّه لا یصحّ التفکیک بینهما أصلا.

إذا عرفت ذلک فنقول:و التحقیق فی تحریر محلّ النزاع:أنّ المراد من تعلّق

ص:233

الأوامر و النواهی بالطبیعة هو تعلّقها بنفس الطبیعة،و المراد من تعلّقها بالأفراد هو تعلّقها بوجودات الطبائع بعد أنّ دخول الخصوصیّات الفردیّة و العوارض المشخّصة فی دائرة الطلب أمر بدیهیّ البطلان،و إن کان جعل کلمة الأفراد بهذا المعنی فی عنوان البحث فی مقابل کلمة الطبائع-إذا کان المراد منها نفسها-خلافا للظاهر.

و نذکر من باب المقدّمة لما هو الحقّ فی المسألة أنّه قد مرّ النزاع بین الشیخ و المشهور فی الواجب المشروط،و قول المشهور برجوع القید فیه إلی الهیئة، و قول الشیخ برجوعه إلی المادّة بعد الاتّفاق بأنّ ظاهر القواعد الأدبیّة یقتضی رجوعه إلی الهیئة،و لکنّ الشیخ یدّعی تحقّق قرینة عقلیّة التی توجب التصرّف فی الظاهر و رفع الید عنه.

و نظیر هذا النزاع یتحقّق فیما نحن فیه،فإنّ القائل بتعلّق الأحکام بوجودات الطبائع کالقائل بتعلّقها بنفس الطبائع معترف،بأنّ ظاهر العبارة فی مثل: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» و «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ» و نحو ذلک تعلّقها بنفس الطبائع،و لکنّ القائل بتعلّقها بوجود الطبیعة قائل بتحقّق قرینة عقلیّة توجب التصرّف فی الظاهر و إضافة کلمة الوجود إلیها،و القرینة إمّا عبارة عمّا استفاده صاحب الکفایة قدّس سرّه من العبارة المعروفة بین الفلاسفة،و قد عرفت الجواب عنها آنفا،و إمّا عبارة عن أنّ المقصود من التکلیف تحقّق المکلّف به و إیجاده فی الخارج،و لذا تعلّق الأمر بوجود الماهیّة لا نفسها،و هذا یکون أساس المشکلة فی المسألة؛إذ الوجود منشأ لترتّب الآثار،فلا محالة تتعلّق الأحکام به.

و جوابه أوّلا:أنّ هذا البیان یوجب ابتناء المسألة علی أصالة الوجود،فإنّ

ص:234

ترتّب الخواصّ و الآثار علی الوجود لا یکون إلاّ علی القول بأصالته،و ینکره القائل بأصالة الماهیّة،فقد تقدّم نفی هذا الابتناء مفصّلا.

و ثانیا:أنّ نسبة الحکم إلی الموضوع نسبة العرض إلی المعروض،و تجری هاهنا أیضا قاعدة فرعیّة،فنسأل حینئذ:أنّ مفهوم وجود الطبیعة مطلوب للمولی أو واقعیّته مطلوبة له؟و علی الأوّل لا فرق بینه و بین مفهوم الطبیعة، و لا وجه لإضافة الوجود إلیه،و علی الثانی لا بدّ من تحقّق المتعلّق مثل الصلاة أوّلا فی الخارج،ثمّ تعلّق الحکم به بلحاظ تقدّم الموضوع علی الحکم تقدّم المعروض علی العرض،مع أنّه لا یمکن الالتزام به أصلا.و هذا الإشکال بعینه یرد علی القول بتعلّق الأحکام بالأفراد أیضا.

و المحقّق الخراسانی قدّس سرّه بعد القول بتعلّق الأحکام بالطبائع و أنّ المقصود منها وجود الطبائع توجّه إلی أنّ ذلک مستلزم لتحصیل الحاصل،و أجاب عنه بأنّ المولی أراد صدور الطبیعة و إیجادها من المکلّف.

و فیه:أنّه لا فرق بین الإیجاد و الوجود إلاّ من حیث الاعتبار،فیعود الإشکال ثانیا،بأنّ الصلاة-مثلا-إذا تحقّقت فی الخارج فلا معنی لتعلّق الأمر بها؛إذ الخارج یکون ظرف سقوط التکلیف.

و بعبارة اخری قد یکون البحث فی مقام جعل الحکم و وضعه و إثباته،و قد یکون فی مقام إجراء الحکم و امتثاله،و الأوّل مقام تعلّق الحکم و مقدّم علی مقام امتثاله،و الثانی مقام سقوط الحکم و ظرف امتثاله و إتیان المکلّف به، فلا یتحقّق فی مرحلة تقنین الحکم و جعله شیئا سوی الطبیعة حتّی یتعلّق الحکم به،فلا محالة یکون متعلّق الحکم نفس الطبیعة بعد عدم إمکان تعلّقه بالوجودات و الأفراد،فیصحّ قضیّة الماهیّة مطلوبة بمعنی کون الماهیّة معروضة للطلب لا بمعنی کونه جزء للماهیّة.هذا تمام الکلام فی المقام.

ص:235

ص:236

الفصل الثامن: فی نسخ الوجوب

فی نسخ الوجوب

إذا نسخ الوجوب فهل یدلّ الدلیل الناسخ أو المنسوخ علی بقاء الجواز أم لا؟

و هذا البحث بهذه الصورة عنوان فی الکلمات،و لکن لا بدّ فی الابتداء من البحث فی مقام الثبوت،و بعد القول بالإمکان فی هذا المقام تصل النوبة إلی مقام الإثبات،و عنوان البحث فی مقام الإثبات أیضا لا یکون بهذه الکیفیّة.

و البحث فی مقام الثبوت بأنّه هل یمکن بقاء الجواز بالمعنی الأعمّ أو بالمعنی الأخصّ بعد ارتفاع الوجوب أم لا؟و المرتکز فی الأذهان أنّ للوجوب ماهیّة مرکّبة-کما ذکر صاحب المعالم قدّس سرّه (1)-و هی الإذن فی الفعل و المنع من الترک، و هکذا الاستحباب و الکراهة و الإباحة.

و التحقیق:أنّ الوجوب أمر اعتباری بسیط ینشأ عن إرادة المولی الحتمیّة، کما أنّ الاستحباب أمر بسیط اعتباری ناشئ عن إرادة غیر حتمیة،و یکون التفاوت بینهما بالشدّة و الضعف،کالتفاوت بین أفراد الکلّی المشکّک،مثل أفراد الوجود،و کان ما به الامتیاز فیها عین ما به الاشتراک،فالوجوب هو أمر بسیط و قد نسخ علی ما هو المفروض،فلم یکن هنا جواز حتّی یکون باقیا

ص:237


1- 1) معالم الدین:89.

بعد نسخ الوجوب.

و إذا قیل:إنّ هذا إنکار لأمر بدیهیّ؛إذ لا شکّ فی أنّ الشیء إذا کان واجبا یتحقّق معه جواز الفعل،بل رجحانه.

قلت:سلّمنا أنّه یتحقّق مع وجوب شیء جواز و رجحان فعله،و لکنّه لا یکون جزء ماهیّة الوجوب و لا تمام ماهیّته،بل الوجوب یدلّ بدلالة التزامیّة علی الجواز بنحو دلالة الملزوم علی ثبوت اللازم؛بمعنی تبعیّته له مثل تبعیّة وجوب المقدّمة لوجوب ذی المقدّمة،فلا یعقل بقاء اللازم بعد ارتفاع الملزوم و نسخه،فنحکم فی هذا المقام بالاستحالة،و أنّه یستحیل بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب،و لا تصل النوبة إلی مقام الإثبات أصلا.

و لو فرض إمکان بقاء الجواز فی هذا المقام ففی مقام الإثبات لا بدّ من تغییر عنوان البحث بأنّ ملاحظة دلیل الناسخ و المنسوخ و الجمع بینهما هل یقتضی بقاء الجواز أم لا؟لا ملاحظة کلّ منهما مستقلاّ کما یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و ربما یقال:إنّ الجمع بینهما یقتضی بقاء الجواز،بل یقتضی بقاء الرجحان، نظیره ما إذا قال المولی:«صلّ صلاة الجمعة»،و قال فی ضمن دلیل آخر:«لا تجب صلاة الجمعة»،و المشهور بعد مواجهة هذین الدلیلین یحمل الأمر علی خلاف ظاهره،بقرینة الدلیل الثانی؛إذ الدلیل الظاهر علی الوجوب یدلّ علی الرجحان و الجواز أیضا،و القرینة توجب التصرّف فی دلالته علی الوجوب فقط،و تبقی دلالته علی أصل الجواز و الرجحان بقوّتها.و هکذا فیما نحن فیه، فإنّ دلیل الناسخ یوجب نسخ وجوب دلیل المنسوخ فقط،و یبقی جوازه و رجحانه بقوّته،فما نسخ وجوبه محکوم برجحان الفعل و جوازه.

ص:238

و هل تصحّ هذه المقایسة أم لا؟أمّا فیما نحن فیه بعد ملاحظة ما ذکرناه فی مقام الثبوت من أنّ الوجوب أمر بسیط غیر مرکّب کما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه،إلاّ أنّ وجوب الشیء یدلّ بالدلالة الالتزامیّة علی الجواز، و لکنّها دلالة تبعیّة و فرعیّة،بخلاف الدلالة المطابقیّة و التضمّنیّة،و لذا لا معنی لبقاء الدلالة الفرعیّة بعد ارتفاع الدلالة الأصلیّة،فلا یعقل بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب،فلو فرض عدم استحالة المسألة فی مقام الثبوت لا یمکن الالتزام بها فی مقام الإثبات.

و أمّا فی مثل:«صلّ صلاة الجمعة»و«لا تجب صلاة الجمعة»بعد اختلاف الدلیلین فی أصل الوجوب،فالمشهور قائل بأنّ هیئة«افعل»حقیقة فی الوجوب و مجاز فی غیره،و إن استعمل اللفظ فإنّه یحمل علی الحقیقة إن لم تکن قرینة علی خلاف المعنی الحقیقی،و أمّا إذا کانت القرینة علی خلافه-مثل:لا تجب صلاة الجمعة-فإنّها توجب التصرّف فی هیئة«افعل»و تحمل علی غیر المعنی الموضوع له.

و لکن علی ما اخترناه فی هذه المسألة من أنّه لا یکون من الحقیقة و المجاز فی هیئة«افعل»أثر و لا خبر،بل مفادها عبارة عن البعث إلی المبعوث إلیه،إلاّ أنّ البعث الناشئ عن الإرادة الحتمیّة من دون ترخیص فی مخالفته من ناحیة المولی نسمّیه بالوجوب،و أمّا إذا استعملت هیئة«افعل»مع الترخیص فی مخالفته من ناحیته فنستکشف أنّ البعث لا یکون ناشئا عن الإرادة الحتمیّة و نسمّیه بالاستحباب.

و علی هذا المبنی استعملت هیئة«صلّ»فی معناها الحقیقی،إلاّ أنّ ترخیص المولی بمخالفته بقوله:«لا تجب صلاة الجمعة»دلیل علی أنّ هذا البعث

ص:239

لا یکون ناشئا عن الإرادة الحتمیّة،و لذا یحمل علی الاستحباب.فبمجرّد المشابهة الصوریّة بین هذه المسألة و بین ما نحن فیه لا یمکن القول ببقاء الجواز و الرجحان بعد نسخ الوجوب،و لا دلیل علی بقاء الجواز.

و الطریق الآخر لبقاء الجواز عبارة عن استصحابه،و لکن لا مجال له إلاّ بناء علی جریانه فی القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الکلّی،و هو ما إذا شکّ فی حدوث فرد کلّی مقارنا لارتفاع فرده الآخر،و بعد جریان الاستصحاب تترتّب علیه آثار الکلّی لا الفرد،و فیما نحن فیه تحقّق الجواز فی ضمن الوجوب قطعا یحتمل أن یتحقّق مقارنا لارتفاع وجوب فرد آخر من الجواز،فنستصحب کلّی الجواز و لا مانع منه.

و جوابه:أنّ جریان استصحاب الکلّی من القسم الثالث محلّ إشکال کما سیأتی تحقیقه فی باب الاستصحاب إن شاء اللّه،و لکن علی فرض جریانه فیه لا مجال له فیما نحن فیه؛إذ الجواز المستصحب لا یکون حکما شرعیّا و لا موضوعا للحکم الشرعی،فإنّ الجواز الذی یتحقّق حین الوجوب لیس بحکم شرعی،و إلاّ یستلزم أن یکون فی کلّ واجب للشارع حکمان شرعیّان،مع أنّه لیس کذلک بلا إشکال؛إذ المجعول الشرعی عبارة عن الوجوب،و هو أمر واحد بسیط غیر مرکّب،و الجواز حکم عقلی یدلّ علیه الوجوب بدلالة التزامیّة عقلیّة،فإذا نسخ وجوب شیء فلا یمکن بقاء جوازه،بل یمکن أن یکون محکوما بالحرمة.

ص:240

الفصل التاسع: فی الواجب التعیینی و التخییری و کیفیّة تعلّق الحکم بهما

اشارة

فی الواجب التعیینی و التخییری و کیفیّة تعلّق الحکم بهما

أمّا تعلّق الواجب التعیینی فیتعلّق بنفس الواجب کصلاة الظهر-مثلا- و تترتّب آثار الوجوب علیها من عدم جواز الترک،و استحقاق المثوبة علی الموافقة،و استحقاق العقوبة علی المخالفة.

و أمّا تعلّق الحکم فی الواجب التخییری فیحتمل أن یکون نظیر تعلّقه بالواجب التعیینی،بأن یکون الواجب علی نوعین:نوع منه الواجب التعیینی و نوع منه الواجب التخییری،أی یتعلّق الحکم فیه بکلا الشیئین تعیینا،إلاّ أنّ امتثال أحدهما مسقط لغیره کما أنّه قد یسقط الواجب بأمر مباح،و مخالفتهما معا توجب استحقاق عقوبة واحدة،و کذا موافقتهما توجب استحقاق مثوبة واحدة.

و یحتمل أن یکون الواجب التخییری واجبا تعیینیّا فی الواقع و معیّنا عند اللّه،فإن امتثل المکلّف ما هو المعیّن عند اللّه یسقط التکلیف بعنوان إتیان الواجب،و إن امتثل ما لیس بواجب بحسب الواقع فیسقط التکلیف بغیر الواجب.

و یحتمل أن یکون الواجب فیه عنوان أحد الشیئین لا بعینه،أو مصداق

ص:241

أحدهما لا علی التعیین،و هو ما یعبّر عنه بالفرد المردّد.

و یحتمل أن یکون الواجب فیه عبارة عمّا یختاره المکلّف فی مقام العمل، و لازم ذلک اختلاف الواجب بحسب اختیار المکلّفین،بل بحسب تعدّد اختیار مکلّف واحد.فالواجب ما یختاره المکلّف بعنوان الواجب التعیینی فی الحقیقة.

و المهمّ فی المسألة التفصیل الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)،و محصّل کلامه:

أنّ الواجب التخییری علی نوعین:الأوّل:ما یرجع إلی الواجبات التعیینیّة و أکثر الواجبات التخییریّة یکون من هذا القبیل،و هو الذی یکون الأمر بأحد الشیئین بملاک أنّه هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد منهما بحیث إذا أتی بأحدهما حصل به تمام الغرض،و لذا یسقط به الأمر،فالواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما،و کان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلیّا،و ذلک لوضوح أنّ الواحد لا یکاد یصدر من الاثنین بما هما اثنان ما لم یکن بینهما جامع فی البین؛ لاعتبار نحو من السنخیّة بین العلّة و المعلول.

النوع الثانی:أن یکون الأمر بأحد الشیئین بملاک أنّه یکون فی کلّ واحد منهما غرض لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیانه،و لذا یکون کلّ واحد منهما واجبا،و لکن یتحقّق بین الغرضین نوع من التضادّ؛بحیث لا یمکن الجمع بینهما،و لا ترجیح لأحدهما علی الآخر.

و حلّه بأنّ الواجب التخییری سنخ من الوجوب تترتّب علیه آثاره الخاصّة من عدم جواز ترکه،و ترتّب الثواب علی فعل الواحد منهما،و العقاب علی ترکهما.و هذه عبارة عن الاحتمال الأوّل فی المسألة.

و أمّا بیانه بالنسبة إلی النوع الأوّل من الواجب التخییری ففیه:أنّ القاعدة

ص:242


1- 1) کفایة الاصول 1:225-226.

المسلّمة المتحقّقة فی الفلسفة عبارة عن أنّ الواحد لا یصدر منه إلاّ واحد،و لذا یکون البحث بین الفلاسفة فی الصادر الأوّل عن الواحد الحقیقی،و هو عبارة عن وجود محمّد صلّی اللّه علیه و آله کما ورد فی روایات معتبرة،بخلاف قاعدة الواحد لا یصدر إلاّ من واحد؛إذ الظاهر من الفلاسفة الالتزام بوجود العلّتین لمعلول واحد،و لکن علی فرض تمامیّة هذه القاعدة و عمومیّتها لما نحن فیه،و أنّ القدر الجامع المشترک بین الشیئین یکون مؤثّرا فی غرض واحد لا ضرورة تقتضی لرفع الید عن التخییر الشرعی الذی یکون الظاهر من الأدلّة اللفظیّة،مع أنّه لا طریق سوی الواجب التخییری لتبیین المولی،و لا تتحقّق قرینة عقلیّة توجب التصرّف فی الظاهر و الالتزام بالتخییر العقلی،کالتصرّف فی ظاهر الآیة الشریفة: وَ جاءَ رَبُّکَ (1)،فهذا التفصیل لیس بصحیح؛إذ لا فرق فی الواجبات التخییریة بین غرض واحد أو أغراض متعدّدة غیر قابلة للاجتماع.

فنرجع إلی أصل مسألة الواجب التخییری،و تتحقّق فیه شبهة الاستحالة، و هناک أقوال متعدّدة فی المسألة للتخلّص منها،و هی:أنّ الوجوب و البعث الذی یعبّر عنه بالإرادة التشریعیّة یشترک مع الإرادة التکوینیّة فی خصوصیّات الإرادة،و لا فرق بینهما إلاّ بالمباشرة و التسبیب،و معلوم أنّ الإرادة التکوینیّة و نظائرها من الصفات النفسانیّة کانت ذات إضافة کالعلم -مثلا-و یکون تشخّصها و تعیّنها بتعیّن طرف إضافتها-أی المراد و المعلوم- و من البدیهی أنّه لا یمکن تعلّق الإرادة التکوینیّة بشیء مبهم غیر معیّن.

و یمکن أن یقال:إنّه لا فرق بین تعلّق الإرادة بأمر مبهم و العلم الإجمالی کالعلم بأنّ أحد هذین المائعین خمر مثلا.

ص:243


1- 1) الفجر:22.

و لکنّ الدقّة فیه تقتضی خلاف ذلک،فإنّ فی العلم التفصیلی بخمریّة شیء یعلم أوّلا بأنّ الخمر هنا موجود بصورة کلّی،و ثانیا بأنّ ذلک الخمر الموجود هو هذا المائع.و أمّا فی العلم الإجمالی فما یتعلّق به العلم لا إبهام فیه،و لکنّ العلم محدود،فإنّه یعلم بأنّ الخمر هنا موجود بصورة الکلّی،إلاّ أنّ تطبیق هذا الکلّی علی أحد المائعین غیر معلوم له،فالمعلوم فیه أیضا مشخّص،و أمّا فی الإرادة التکوینیّة فلا یعقل أن یکون المراد مبهما و مردّدا،و لا فرق فی مثل هذه الموارد بین الإرادة التکوینیّة و التشریعیّة،فالواجب التخییری یکون مستحیلا،فإنّ معناه تحقّق الإرادة بدون تشخّص المراد.

و حلّ الشبهة و المختار فی المسألة هو:أنّ الوجوب و البعث فی الواجب التخییری یکون متعدّدا لا واحدا متعلّقا بالشیئین علی نحو التخییر،و لا فرق فی التعدّد بینه و بین وجوب صلاة الظهر و العصر،إلاّ أنّ فی أحدهما مصلحة مستقلّة لازمة الاستیفاء،و تتحقّق بین المصلحتین کمال الملاءمة،و یمکن اجتماعهما،و لکنّه فی الواجب التخییری نوع خاصّ من التعدّد کما فی کفّارة الإفطار-مثلا-إذ تتحقّق مصلحة واحدة،و یکون کلّ واحد من الخصال الثلاثة مؤثّرا فی تحقّقها.

و یمکن أن یتحقّق فی کلّ من الواجبین مصلحة مستقلّة لازمة الاستیفاء، و لکن لا یمکن اجتماعهما بلحاظ التضادّ المتحقّق بینهما،و یمکن أن تکون المصلحتان قابلتین للاجتماع،و لکن کان لزوم استیفاء إحداهما متوقّفا علی عدم استیفاء الاخری،فیکون البعث و الإرادة التشریعیّة فی جمیع الأقسام متعدّدة،فالمختار فی المسألة هو القول فی الواجب التخییری،و هو أنّه نوع خاصّ من الوجوب بأنّ الواجب و الوجوب متعدّد،و لکن هذا التعدّد غیر

ص:244

التعدّد المتحقّق فی الواجب التعیینی.

تذنیب:

هل یمکن التخییر بین الأقلّ و الأکثر إذا کان الأقلّ لا بشرط بالنسبة إلی الزیادة أو لا؟ربما یقال:بأنّه مستحیل،فإنّ الأقلّ إذا وجد کان هو الواجب لا محالة و لو کان فی ضمن الأکثر؛لحصول الغرض به،و کان الزائد علیه من أجزاء الأکثر زائدا علی الواجب،بلا فرق بین کون الأقلّ و الأکثر تدریجیّ الوجود-مثل التسبیحات الأربعة-أو دفعیّ الوجود کالخط الطویل المتحقّق دفعة.

هذا،و لکن لا بدّ لنا من ملاحظة کلّ واحد من القسمین مستقلاّ،و نبحث أوّلا فی تدریجیّ الوجود،فکان لصاحب الکفایة قدّس سرّه (1)جوابا عنه،و حاصله:

أنّ الأقلّ یکون محصّلا للغرض إذا لم یوجد فی ضمن الأکثر،و إلاّ یکون المحصّل للغرض هو الأکثر،فإن اقتصر فی التسبیحات بمرّة واحدة کان کافیا و إلاّ یکون المؤثّر فی الغرض هو مجموعتها.

و الجواب الآخر عنه لاستاذنا المرحوم السیّد البروجردی قدّس سرّه (2)و هو:أنّ الکلّی المشکّک لا ینحصر فیما إذا کان التفاوت بین الأفراد بالشدّة و الضعف أو النقص و الکمال،بل یشمل لما یکون التفاوت بینها بالقلّة و الکثرة،فکلّی الخطّ یشمل الخطّ القصیر و الطویل معا،و حینئذ إذا شرع المکلّف برسم الخطّ فلا یصحّ الحکم بأنّه أوجد فردا قصیرا منه قبل رفع یده و توقّفه عنه.

نعم،إن لم یستمرّ برسمه یتحقّق الأقلّ و یحصل غرض المولی و یسقط

ص:245


1- 1) کفایة الاصول 1:226-227.
2- 2) لمحات الاصول:188.

التکلیف به،و إن استمرّ حتّی یتحقّق الأکثر یکون المؤثّر فی تحصیل الغرض هو الأکثر؛إذ یتحقّق وجود واحد من ماهیّة الخطّ فی ضمن الأکثر لا وجودان منها،فلا استحالة فی البین.

و لکنّ التحقیق:أنّه لا یمکن حلّ الإشکال بهذا البیان،فإنّ محلّ النزاع-کما مرّ-عبارة عمّا إذا کان الأقلّ لا بشرط بالنسبة إلی الزائد،و معلوم أنّ اللابشرط یجتمع مع ألف شرط،لا الأقلّ المقیّد بعدم الزیادة؛إذ هو مباین للأکثر و خارج عن محلّ النزاع،و علی هذا إذا تحقّق الأکثر تدریجا فی الخارج یتحقّق الأقلّ فی ضمنه أیضا،و هو یتحقّق فی التدریجیّات قبل الأکثر،و یحصل بتحقّقه غرض المولی و یسقط الأمر،فلا یترتّب علی الزائد عنه غرض،إلاّ أن یکون بصورة المباح أو المستحبّ،و القول بأنّ التسبیحة الواحدة تکون محصّلة للغرض إذا کانت واحدة لیس بصحیح،فإنّه خلاف الفرض.

و أمّا البحث فی الأقلّ و الأکثر إذا تحقّقا دفعة فقد مرّ فی أصل الواجب التخییری أنّ له ثلاث صور،و نلاحظ کلّ واحد من الصور مستقلاّ:

الاولی:أن یکون للمولی غرض واحد و تعلّق بماهیّة رسم الخطّ-مثلا- و هو یحصل بإیجاد الخطّ الطویل و القصیر فی الخارج،و هل یمکن إیجابهما بصورة الواجب التخییری أم لا؟یتوهّم فی بادئ النظر أنّه لا مانع منه،و لکن بعد دقّة النظر یظهر أنّه مستحیل؛لأنّه إذا تحقّق الخطّ الطویل دفعة فی الخارج فالمؤثّر فی الغرض هل هو الطویل أو القصیر المتحقّق فی ضمنه؟إن کان المؤثّر هو الأوّل یکون معناه خروج الأقلّ عن عنوان اللابشرط،فلا محالة یکون المؤثّر هو الثانی،فلا معنی للتخییر بینهما،بل هو أمر ممتنع،فلا بدّ من القول بأنّ الزائد علی القصیر یکون مباحا أو مستحبّا.

ص:246

الصورة الثانیة:أن یکون للمولی غرضان غیر قابلین للاجتماع مع کون کلیهما لازم الاستیفاء،و فیما نحن فیه غرض واحد لازم التحصیل یترتّب علی الأقلّ و مثله علی الأکثر،و لکن لا یمکن اجتماعهما،و علی هذا إذا تحقّق الخطّ الطویل فی الخارج فهل یترتّب غرض واحد علی المجموع أو علی القصیر؟ و کلاهما یحتاج إلی الدلیل هاهنا،أو یترتّب علیهما معا،و المفروض أنّهما لا یجتمعان أو لا یترتّب علیهما أصلا،مع أنّه لا یمکن الالتزام به،فالتخییر لا یکاد یعقل بینهما،فالزائد علی الأقلّ إمّا أن یکون مستحبّا أو مباحا.

الصورة الثالثة:أن یکون للمولی غرضان قابلان للاجتماع،إلاّ أنّ مع تحقّق أحدهما لا ضرورة لتحصیل الآخر،ففی هذه الصورة یمکن التخییر بینهما،فإنّه إذا تحقّق الخطّ الطویل دفعة واحدة لا مانع من أن یکون الأقلّ و الأکثر-أی الطویل و القصیر المتحقّق فی ضمنه معا-مؤثّران فی الغرض،فإنّهما قابلان للاجتماع.هذا تمام الکلام فی الواجب التخییری.

ص:247

ص:248

الفصل العاشر: فی وجوب الواجب الکفائی

فی وجوب الواجب الکفائی

و من تقسیمات الواجب تقسیمه إلی العینی و الکفائی،و محور البحث فی هذا التقسیم عبارة عن الواجب الکفائی،و لا بدّ لنا قبل تعریفه من ملاحظة آثاره و خصوصیّاته،و من البدیهی أنّ التکلیف فی الواجب العینی یتعلّق بکلّ واحد من المکلّفین استقلالا بلحاظ تعدّد التکلیف بحسب تعدّد المکلّفین و إن کان خطاب العامّ واحدا،و تترتّب علیه آثاره من استحقاق المثوبة لمن وافقه بلا دخل لسائر المکلّفین،و استحقاق العقوبة لمن خالفه هکذا،و معلوم أنّ عدم انحلال الخطابات العامّة لا یمنع من تعدّد التکلیف.

و أمّا فی الواجب الکفائی فإنّه أیضا یتعلّق بکلّ واحد من المکلّفین و لکنّه یسقط التکلیف فیه بفعل بعضهم،سواء کان الواجب قابلا للتعدّد-مثل صلاة المیّت-أم لم یکن کذلک کدفنه،و مقتضی تعلّق الوجوب بکلّ واحد هو استحقاق الجمیع للعقوبة علی تقدیر مخالفتهم جمیعا،لا أنّ عقوبة واحدة تنقسم علیهم،بل کلّ واحد منهم یستحقّ عقوبة مستقلّة.

و بعد ملاحظة هذه الخصوصیّات وقع الخلاف فی حقیقة الواجب الکفائی؛ إذ التکلیف متقوّم بالآمر المکلّف و المأمور المکلّف و المکلّف به،و الإشکال

ص:249

هاهنا فی ناحیة المکلّف،و یتحقّق فی تصویره احتمالات متعدّدة:

الأوّل:أن یکون المکلّف عبارة عن مجموع المکلّفین من حیث المجموع، و فیه ثلاثة احتمالات بالنظر الدقّی؛إذ یحتمل أن یکون المقصود منه جمیع المکلّفین،و علی هذا لا یکون فرقا بین الواجب العینی و الواجب الکفائی،مع أنّه لا یمکن تکلیف جمیع المکلّفین فی بعض الموارد،مثل دفن المیّت.

و یحتمل أن یکون المقصود منه تحقّق المکلّف به فی الخارج بلا فرق بین تحقّقه من شخص واحد أو مجموع المکلّفین،و هذا یرجع إلی صرف الوجود الذی یقول به المحقّق النائینی قدّس سرّه فی مقابل مطلق الوجود،و سیأتی تفصیله.

و یحتمل أن یکون المقصود منه تکلیف جمیع المکلّفین بإتیان فرد واحد من المأمور به،و هذا المعنی مع عدم إمکانه فی بعض الموارد لم یلتزم به أحد فی الواجب الکفائی.

الاحتمال الثانی:أن یکون المکلّف عبارة عن واحد غیر معیّن فی الواقع لا مفهومه،بل واقعیّته و مصداقه،و تحقّق استحالة هذا المعنی فی الفلسفة؛إذ التحقّق فی الخارج مع وصف عدم التعیّن و التشخّص أمر مستحیل،فإنّ التحقّق و الوجود مساوق للتشخّص،فلا یمکن أن یکون المکلّف عبارة عن واقعیّة أحد المکلّفین مع وصف غیر المعیّن خارجا.

الاحتمال الثالث:أن یکون المکلّف عبارة عن واحد مردّد،کما أن یکون المکلّف به فی الواجب التخییری فردا مردّدا.و الفرق بینه و بین الواحد الغیر المعیّن أنّ المکلّف هاهنا معیّن و لکنّ الإبهام یکون فی طرف إضافة التشخّص، بخلاف الواحد غیر المعیّن.

و لکنّه أیضا مستحیل کما مرّ نظیره فی الواجب التخییری؛بأنّ تشخّص

ص:250

الإرادة التکوینیّة یکون بالمراد،و لا یعقل تحقّق الإرادة بدون تشخّص المراد، و هکذا فی الإرادة التشریعیّة لا یمکن أن یکون طرف إضافة الإرادة فردا مردّدا.

الاحتمال الرابع:أن یکون المکلّف عبارة عن صرف الوجود من المکلّفین، فیتحقّق التکلیف بفعل بعضهم،کما یتحقّق بفعل عدّة منهم،و کما یتحقّق بفعل جمیعهم فی مقابل الوجود الساری و مطلق الوجود.

الاحتمال الخامس:أن یکون الفرق بین الواجب العینی و الکفائی من ناحیة المکلّف به،بلا فرق بینهما من حیث المکلّف؛بأنّ محصّل غرض المولی فی الواجب العینی هو حصول المأمور به عن کلّ واحد من المکلّفین بالمباشرة، و أمّا محصّل الغرض فی الواجب الکفائی فهو تحقّق المأمور به فی الخارج،بلا فرق بین تحقّقه بالمباشرة أو بالغیر.

و التحقیق:أنّ الواجب الکفائی علی ثلاثة أقسام،و تصویره بالنسبة إلیها مختلف،و هی:

الأوّل:أن یتعلّق التکلیف بطبیعة المأمور به،و معلوم أنّ الطبیعة بما هی هی قد لا یکون لها مصداق أصلا،مثل:«شریک الباری ممتنع»،و قد ینحصر مصداقها بفرد واحد،مثل:طبیعة واجب الوجود،و دفن المیّت فیما نحن فیه، فإنّه لا یکون قابلا للتعدّد،و هکذا قتل سابّ النبیّ صلّی اللّه علیه و آله.

و الغرض من البعث و التکلیف فی مثل هذه الموارد هو انبعاث المکلّف، فلا یصحّ تصویر الواجب الکفائی بما قال به المحقّق النائینی قدّس سرّه؛لأنّ أحد مصادیقه صرف الوجود عبارة عن جمیع المکلّفین،و لا یعقل انبعاثهم جمیعا لقتل شخص واحد.

ص:251

و من هنا یظهر جواب الاحتمال الخامس أیضا،فإنّ المکلّف بناء علی هذا عبارة عن جمیع المکلّفین،و الفرق بینه و بین الواجب العینی فی مدخلیّة قید المباشرة و عدمه،و أیّ مناسبة تقتضی انبعاث جمیع المکلّفین لقتل شخص واحد،و لو مع عدم قید المباشرة،فکیف یمکن تصویر الواجب الکفائی هاهنا؟!

و التحقیق:أنّ تصویره إمّا أن یکون نظیر ما مرّ منّا فی الواجب التخییری؛ بأنّ غرض المولی مترتّب علی کفّارة الإفطار،و یتحقّق لتحصیله ثلاث طرق، فلا مجال له إلاّ بیان التکلیف بصورة الواجب التخییری،و تؤیّده المسائل العقلائیّة،و هکذا فیما نحن فیه تعلّق غرض المولی بتحقّق قتل سابّ النبیّ صلّی اللّه علیه و آله فی الخارج و جمیع المکلّفین مأمورون بتحقّقه خارجا،و لکن یعبّر فی مقام التکلیف بکلمة«أو»و«إمّا»بصورة التخییر.

و إمّا أن یکون الفرق بین الواجب العینی و الکفائی بالإطلاق و التقیید،بأنّ الصلاة-مثلا-واجبة علی کلّ واحد من المکلّفین،سواء صلّی الغیر أم لا، بخلاف دفن المیّت فإنّه واجب بشرط عدم إتیان الغیر به.

القسم الثانی:أن یتعلّق التکلیف بطبیعة المأمور به و لها أفراد متعدّدة، و لکنّ الواجب و محصّل غرض المولی عبارة عن الفرد الواحد،کالصلاة علی المیّت فإنّها قابلة للتعدّد،و من البدیهی أنّه لا یعقل هاهنا أیضا أن یکون المکلّف جمیع أفراد المکلّفین بدون قید المباشرة،أو صرف الوجود الذی أحد مصادیقه عبارة عن جمیع أفراد المکلّفین فی العالم.و هذا القسم من الواجب الکفائی یرجع إلی القسم الأوّل منه من حیث التصویر،فلا بدّ من تصویره إمّا من طریق الإطلاق و التقیید،و إمّا شبیه الواجب التخییری،کما مرّ تفصیله آنفا.

ص:252

القسم الثالث:أن یتعلّق التکلیف بطبیعة المأمور به التی تکون قابلة للتعدّد، و المکلّف عبارة عن صرف الوجود،و له ثلاثة مصادیق کما مرّ،و کلّ واحد منها محصّل للغرض،و تصویر الواجب الکفائی فی هذا القسم یمکن أن یکون من الطریق الذی اختاره النائینی قدّس سرّه بأن یکون المکلّف به و المکلّف معا صرف الوجود منهما،و یتحقّق صرف الوجود من الطبیعة بإیجاد فرد واحد منها کما یتحقّق بإیجاد عدّة من أفرادها،و کما یتحقّق بإیجاد جمیع أفراد المکلّفین جمیع أفرادها،و لکن لا یوجد فی الفقه مثال لذلک.

ص:253

ص:254

الفصل الحادی عشر: فی الواجب الموقّت و الموسع

فی الواجب الموقّت و الموسع

و من تقسیمات الواجب تقسیمه إلی الموقّت و غیر الموقّت،و تقسیم الموقّت إلی الموسّع و المضیّق،و قد یعبّر عن غیر الموقّت بالمطلق،فالمطلق قد یستعمل فی مقابل المشروط،و قد یستعمل فی مقابل الموقّت،و معلوم أنّ الموضوع للأحکام الفقهیّة عبارة عن فعل المکلّف.و تبعیّة العمل الصادر عنه للمکلّف من حیث الزمان و المکان ممّا لا بدّ منه عقلا،إلاّ أنّه تارة ممّا له دخل فی الواجب شرعا فیکون موقّتا،و اخری لا دخل له فیه شرعا فهو غیر موقّت، و الموقّت إمّا أن یکون الزمان المأخوذ فیه بقدره فمضیّق،و إمّا أن یکون أوسع منه فموسّع.

توضیح ذلک:أنّ الزمان بما هو هو إمّا لا دخل له فی ترتّب الآثار و المصالح، بحیث لو أمکن تحقّق المأمور به خالیا عن الزمان یحصل غرض المولی،و إمّا تکون له مدخلیّة فیه،لا الزمان بخصوصیّة کذا و شهر کذا و یوم کذا،بل لماهیّة الزمان بما هو زمان مدخلیّة فی حصول الغرض و ترتّب الآثار.

و الصورة الاولی مصداق أظهر للواجب غیر الموقّت،و أمّا الصورة الثانیة فالظاهر أنّها أیضا مصداق له،فإنّ مدخلیّة الزمان بدون الخصوصیّة لا تحتاج

ص:255

إلی بیان الشارع بعد علمه؛بأنّ فعل المکلّف لا یمکن وقوعه فی خارج الزمان، و لعلّه کان منافیا لحکمة الشارع بعنوان اللغویّة،و الحال أنّ الواجب الموقّت عبارة عمّا کان بیان أصل الواجب و تقیّده بالزمان معا من ناحیة الشارع؛ بحیث إن لم یمکن بیانه لا یستفاد التوقیت أصلا.

و استشکل بعض علماء العامّة فی تصویر الواجب الموسّع؛بأنّ بعد السؤال عن أنّ الصلاة فی أوّل الظهر-مثلا-واجبة أم لا؟إن قلت بعدم وجوبها فهو المطلوب،و إن قلت بوجوبها فلم تکون جائزة الترک؟!و هکذا فی کلّ جزء من أجزاء الزمان.

و جوابه:أنّه لا یصحّ وضع الید علی أجزاء الزمان؛إذ الواجب و المأمور به عبارة عن الصلاة بین الحدّین،و لذا قال اللّه تعالی: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ (1)،و یظهر من ذلک أمران:

الأوّل:أنّ ما هو المعروف فی الألسنة من أنّ الواجب الموسّع فی آخر الوقت یصیر مضیّقا لیس بصحیح،فإنّهما نوعان من الواجب الموقّت،و لا یمکن أن یکون تکلیف واحد موسّعا و مضیّقا معا؛إذ المکلّف به فی کلّ أجزاء الزمان هو الصلاة بین الزوال و الغروب،و لا یکون قابلا للتغییر،إلاّ أنّه فی آخر الوقت یلزم العقل بإتیان الصلاة حتّی تقع بین الحدّین،فلا یمکن أن یصیر الواجب الموسّع مضیّقا،و هکذا العکس.

الثانی:أنّه لا یکون فی الواجب الموسّع أزید من تکلیف واحد،و هو لزوم إقامة الصلاة بین الحدّین مثلا،و التخییر فی الأفراد الطولیّة التدریجیّة الزمانیّة کالتخییر فی الأفراد الدفعیّة-یعنی أمکنة مختلفة-تخییر عقلی.

ص:256


1- 1) الأسراء:78.

و استشکل فی بعض الکتب فی الواجب الموقّت المضیّق؛بأنّه کیف یمکن تطابق أوّل جزء من الزمان مع أوّل جزء التکلیف و آخره مع آخره عقلا؟ و هو ناش عن فرض المولی غیر محیط و عاجز عن انطباقه معه،و فرض جمیع الواجبات مثل الصلاة،و الحال أنّ البحث فی هذه الموارد یدور مدار الاعتبارات العرفیّة.

ثمّ إنّه وقع البحث فی أنّ الواجب الموقّت إذا فات فی الوقت هل یدلّ دلیل أصل الوجوب المقیّد علی إتیانه فی خارج الوقت أم لا؟و بعبارة اخری هل یدلّ دلیل علی وجوب الأداء علی القضاء أم لا؟و معلوم أنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه علی الأمر به فی خارج الوقت،فإنّ معنی التوقیت یرجع إلی أنّ الزمان قید للمأمور به و دخیل فیه کسائر القیود،فکما أنّه لا یستفاد من قوله:

«صلّ مع الطهارة»بقاء مطلوبیّة الصلاة مع فقدانها،کذلک فیما نحن فیه؛إذ المقیّد أمر واحد و لا یرجع إلی المرکّب،و جزئیّة التقیّد عقلی محض،و لذا لا یقال:إنّ الصلاة مرکّب من الطهارة و استقبال القبلة و أمثال ذلک،و إذا کان المقیّد مأمورا به فلا مجال للأمر بالمقیّد بما هو مقیّد بعد زوال قیده،فلا فرق بین«صلّ مع الطهارة»و«صلّ فی الوقت»من هذه الناحیة.

و لکنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)استثنی موردا من ذلک بقوله:نعم،لو کان التوقیت بدلیل منفصل لم یکن له إطلاق علی التقیید بالوقت و کان لدلیل الواجب إطلاق لکان قضیّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت،فإنّ دلیل التوقیت مهمل،و إن کان له الإطلاق فلا بدّ من الأخذ به؛لحکومته علی إطلاق دلیل الواجب.

ص:257


1- 1) کفایة الاصول 1:229.

سلّمنا أنّ هذا البیان صحیح،و أنّ بعد اجتماع هذه الخصوصیّات یمکن القول بأنّ الدلیل الذی یدلّ علی أصل المأمور به یدلّ علی قضائه فی خارج الوقت،و لکنّه استثناء منقطع و خارج عن الفرض؛إذ التمسّک بدلیل أصل الواجب لا یکون محلّ البحث،بل النزاع فی أنّ الدلیل المقیّد هل یدلّ علی وجوبه بعد زوال القید أم لا؟و لا دلالة فی هذا الفرض أیضا للأمر بالموقّت علی وجوبه فی خارج الوقت،فالأمر بالموقّت بما هو موقّت لا یدلّ علی الوجوب فی خارج الوقت إذا أخلّ به فی الوقت،و هکذا لا یدلّ علی عدم الوجوب أیضا.

و قد یتمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب الموقّت فی خارج الوقت؛بأنّ وجوب صلاة الظهر-مثلا-کان قبل غروب الشمس معلوما،فیستصحب وجوبها بعد غروبها،فهذا الاستصحاب الحکمی یثبت وجوبها بعد الوقت.

و جوابه:أنّ هذا الاستصحاب لیس قابلا للتمسّک؛لفقدان ما هو الرکن فی هذا الباب-یعنی اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة من حیث الموضوع و المحمول-فإنّ الدلیل المعتمد فی باب الاستصحاب عبارة عن الروایات التی ذکر فیها کلمة الیقین و الشکّ،أی«لا تنقض الیقین بالشکّ»و من البدیهی تعلّقهما بالأمر التصدیقی و القضیّة؛إذ الموضوع بوحدته و المحمول بوحدته لا یتعلّق به الیقین و لا الشکّ،و نستکشف من استعمال کلمة«النقض»فی هذا المورد اتّحاد القضیّة المشکوکة و المتیقّنة،و تحقّق الشکّ و الیقین بلحاظ الزمان، و لا یتحقّق فیما نحن فیه اتّحاد القضیّتین؛إذ المتیقّن هو وجوب الصلاة المقیّدة بالوقت،و المشکوک وجوب نفس الصلاة،فالصلاة المقیّدة بالوقت کانت واجبة،و لا شکّ فی عدم بقائها،و ما نشکّ فی بقائه لا یتحقّق له حالة سابقة

ص:258

متیقّنة.

إن قلت:إنّ الفقهاء یتمسّکون بالاستصحاب فی مثل ما نحن فیه،مثلا:قام الدلیل علی أنّ الماء الکرّ إذا تغیّر أحد أوصافه الثلاثة بملاقاة النجس یصیر متنجّسا،ثمّ وقع البحث فی أنّه إذا زال تغیّره من قبل نفسه هل تکون نجاسته باقیة أم لا؟و المحقّقون قائلون ببقاء نجاسته للاستصحاب،فلا فرق بین هذا المثال و ما نحن فیه؛إذ الموضوع فی کلیهما عبارة عن الشیء المقیّد بما هو مقیّد، کالماء المقیّد بحصول التغیّر فی أحد أوصافه الثلاثة کان نجسا،فتستصحب نجاسته بعد زوال تغیّره من قبل نفسه،فلم لا یجری الاستصحاب فی الواجب الموقّت بعد زوال قیده؟!

قلنا:فی مقام الجواب بأنّ بین المثالین فرق فی أنّ الحکم فی مثل:«صلّ فی الوقت»حکم تکلیفی،و فی مثل:«الماء المتغیّر أحد أوصافه الثلاثة نجس» حکم وضعی.

بیان ذلک:أنّه قد مرّ أنّ الأحکام التکلیفیّة متعلّقة بنفس الطبائع و الماهیّات لا بوجودها،و ما یقول به الفلاسفة:من أنّ الماهیّة من حیث هی هی لیست إلاّ هی،لا موجودة و لا غیر موجودة،لا مطلوبة و لا غیر مطلوبة،لیس معناه ما استفاد صاحب الکفایة قدّس سرّه،بل معناه أنّ فی ماهیّة الإنسان-مثلا-لا مدخلیّة لأیّ شیء سوی الجنس و الفصل حتّی الوجود و العدم خارجان عن دائرة الماهیّة،و لا یکون معنی قولنا:«الطلب متعلّق بالطبیعة»،جعله جزء لها، بل معناه أنّ الطلب عارض علیها،فلا فرق بین قولنا:«الماهیّة موجودة» و«الماهیّة مطلوبة»من هذه الناحیة.

و إذا تعلّق الحکم بالطبیعة،و العنوان یکون من خصوصیّاته أنّ العنوان إذا

ص:259

کان مقیّدا بقید أو موصوفا بوصف لا یمکن انطباقه فی غیر مورد الوصف و القید؛إذ القید یوجب محدودیّة المقیّد،و لا یعقل أن یصدق عنوان الإنسان الأبیض علی غیر الأبیض،و عنوان الرجل العالم علی غیر العالم،و المأمور به فیما نحن فیه عبارة عن الطبیعة المقیّدة-أی الصلاة المقیّدة بالوقت-فلا یمکن انطباق هذا العنوان علی الصلاة خارج الوقت،و القضیّة المتیقّنة عبارة عن وجوب الصلاة المقیّدة بالوقت،و القضیّة المشکوکة عبارة عن أنّ الصلاة فی خارج الوقت هل تکون واجبة أم لا؟و لا یتحقّق الاتّحاد بین القضیّتین بنظر العرف،فلا مجال لجریان الاستصحاب هاهنا.

و أمّا دلیل جریان الاستصحاب فی مثل الماء الذی زال تغیّره من قبل نفسه فهو عبارة عن کون الحکم فیه حکما وضعیّا،و معلوم أنّه یتعلّق بالوجود الخارجی،بخلاف الحکم التکلیفی؛إذ الوجود الخارجی یکون ظرف سقوطه لا ثبوته،و متعلّق الحکم الوضعی فی قوله تعالی: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ (1)هو البیع المحقّق فی الخارج مع الشرائط المعتبرة الشرعیّة،و هکذا الماء المتغیّر أحد أوصافه الثلاثة فی الخارج نجس،لا مفهومه و لا وجوده الذهنی،فلا بدّ من تحقّق الماء المتغیّر أوّلا،ثمّ اتّصافه بالنجاسة،و لذا یتحقّق الاتّحاد بین القضیّتین؛ إذ الماء الموجود فی الحوض بعد تغیّر أحد أوصافه الثلاثة صار نجسا،و بعد زوال تغیّره من قبل نفسه یحکم العرف بأنّ هذا الماء کان بالأمس نجسا و الیوم یکون مشکوک النجاسة،فتستصحب نجاسته.

فیرجع الفرق بین المثالین إلی الفرق بین الحکم التکلیفی و الوضعی،و هو أنّ الحکم التکلیفی یتحقّق قبل وجود الطبیعة و یسقط به،بخلاف الحکم الوضعی

ص:260


1- 1) البقرة:275.

فإنّه یترتّب علی وجود الموضوع فی الخارج،فبعد عدم دلالة الأمر بالموقّت علی الوجوب فی خارج الوقت و عدم جریان الاستصحاب لا بدّ من التمسّک بأصالة البراءة،إلاّ أن یتحقّق دلیل خاصّ کما ورد فی باب الصلاة و الصوم.

هذا تمام الکلام فی باب الأوامر.

ص:261

ص:262

المقصد الثانی: فی النواهی

اشارة

فی النواهی

ص:263

ص:264

فی دلالة صیغة النهی

الظاهر أنّ النهی بمادّته و صیغته فی الدلالة علی الطلب مثل الأمر بمادّته و صیغته،غیر أنّ متعلّق الطلب فی أحدهما الوجود و فی الآخر العدم،فیعتبر فیه ما استظهرنا اعتباره فی الأمر بلا تفاوت أصلا.

نعم،یختصّ النهی بخلاف ما هو فی الأمر،و هو:أنّ متعلّق الطلب فیه هل هو الکفّ أو مجرّد الترک و أن لا یفعل؟و الظاهر هو الثانی.هذا ما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1).

و معلوم أنّ هذا الاختلاف-کما یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه-مبتن علی ما هو مسلّم عندهم من أنّ هیئة«لا تفعل»تدلّ علی الطلب مثل دلالة هیئة«افعل»علیه،إلاّ أنّ المطلوب فی الأوامر عبارة عن طلب إیجاد الطبیعة، و فی النواهی عبارة عن طلب ترک الطبیعة أو طلب کفّ النفس عن إیجادها.

و التحقیق:أنّ اختلافهما اختلاف ماهوی و حقیقی،و لا یرجع إلی الاختلاف فی المطلوب،و لا دلالة لهما علی الطلب أصلا،فإنّ هیئة«افعل» وضعت للبعث الاعتباری إلی إیجاد الطبیعة المأمور بها،و هیئة«لا تفعل» وضعت للزجر الاعتباری عن إیجاد الطبیعة.

توضیح ذلک:أنّ المولی القادر بعد إرادة عمل من عبده قد یبعثه تکوینا

ص:265


1- 1) کفایة الاصول 1:232.

إلیه،مثل:أخذه من یده و بعثه إلی إتیان المطلوب،و قد یبعثه اعتبارا إلیه بعد إیجاد أرضیّة البعث فی ذهن المکلّف؛بأنّ إطاعة المولی تجب عقلا أو شرعا و أنّ مخالفته توجب استحقاق العقوبة.

ثمّ إنّ البعث الاعتباری یوجب الانبعاث کثیرا،و ربما یخالفه و یستحقّ العقاب،و هیئة«افعل»وضعت لهذا البعث الاعتباری.

و هکذا فی النهی،فقد یمنع و ینهی العبد تکوینا،مثل:إیجاد المانع التکوینی بین الطفل و حوض الماء،و قد ینهی و یزجر اعتبارا بعد إیجاد أرضیّة النهی الاعتباری،و لذا نقول:لا تشرب الخمر-مثلا-ثمّ یتحقّق الانزجار من المکلّف اختیارا و عن إرادة کتحقّق الانبعاث الاعتباری بعد الأمر منه اختیارا.

فالاختلاف بین الأمر و النهی یرجع إلی الهیئة لا إلی المادّة کما مرّ تفصیله فی باب الأوامر،فهیئة«افعل»تبعث العبد اعتبارا إلی إیجاد الفعل،و هیئة«لا تفعل»تزجره اعتبارا عن إیجاد هذا الفعل،و لا معنی لأن یتحقّق فی مادّة واحدة الوجود إذا جعلت تحت هیئة«افعل»،و العدم إذا جعلت تحت هیئة«لا تفعل»،و هذا المعنی الذی ذکرناه متداول بین العقلاء،فلا مجال للنزاع فی أنّ متعلّق النواهی هو الأعدام و التروک أو کفّ النفس.

و لو فرض صحّة المبنی الذی یکون متّفق علیه بین صاحب الکفایة قدّس سرّه و سائر العلماء من دلالة الأوامر و النواهی علی الطلب،إلاّ أنّ متعلّق الطلب عبارة عن الأمر الوجودی،و متعلّق النهی یحتمل أن یکون کفّ النفس عن الطبیعة-کما قال به عدّة من العلماء-و یحتمل أن یکون ترک الطبیعة و عدمها کما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه،و لا یصحّ الالتزام بما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه.

ص:266

و أشکل علیه:بأنّ الترک و مجرّد أن لا یفعل خارج عن الاختیار،و الحال أنّه لا بدّ من کون المأمور به مقدورا للمکلّف،فلا یصحّ أن یتعلّق به البعث و الطلب.

و أجاب عنه بقوله:إنّ الترک أیضا یکون مقدورا،و إلاّ لما کان الفعل مقدورا و صادرا بالإرادة و الاختیار،و کون العدم الأزلی لا بالاختیار لا یوجب أن یکون کذلک بحسب البقاء و الاستمرار الذی یکون بحسبه محلاّ للتکلیف.

و الدلیل علی عدم صحّة قوله قدّس سرّه:أنّه قد مرّ فی بحث الضدّ أنّ عدم أحد الضدّین و ترکه لا یمکن أن یکون مقدّمة لفعل الضدّ الآخر؛إذ العدم لیس بشیء حتّی یتّصف بشیء آخر،و إثبات المقدّمیّة بعنوان الوصف و الحالة له فرع ثبوته،فإنّ ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له،و لا یمکن اتّصاف العدم بالتقدّم و التأخّر و التقارن؛إذ لا حظّ له من الوجود،من دون فرق بین عدم المطلق و عدم المضاف و عدم الملکة،و لذا لا یمکن أن یکون متعلّق الطلب فی النواهی عبارة عن ترک الطبیعة و عدمها.

سلّمنا أنّ البعث و الزجر من الامور الاعتباریّة،و لکن لا وسعة لدائرتها بحیث یجوز الاعتبار بأیّ نحو کان؛إذ الملکیّة أمر اعتباری و لکن لا یمکن جعل المالک أمرا عدمیّا،فلا بدّ علی هذا القول أن یکون متعلّق الطلب فی النواهی عبارة عن کفّ النفس.

ثمّ إنّه لا دلالة لصیغة النهی علی الدوام و التکرار کما لا دلالة لصیغة الأمر، إلاّ أنّ سقوط الأمر و حصول الغرض فی باب الأوامر یتحقّق بوجود فرد واحد من الطبیعة فی الخارج،و فی باب النواهی لا یتحقّق عدم الطبیعة إلاّ

ص:267

بترک جمیع أفراد الطبیعة المنهی عنها،فدلالة النهی علی الاستمرار و الدوام إنّما هی بحکم العقلاء لا العقل و لا الوضع کما سیأتی تفصیله.

بقی الکلام فی منشأ هذا الفرق و السؤال عنه علی جمیع المبانی،سواء کان الأمر بمعنی البعث إلی إیجاد الطبیعة و النهی بمعنی الزجر عنه،أو الأمر بمعنی طلب وجود الطبیعة و النهی بمعنی طلب ترکها و عدمها،أو الأمر بمعنی طلب الوجود و النهی بمعنی کفّ النفس عن إیجادها.

و یتحقّق فی منشأ الفرق احتمالان:

الأوّل:أن ینسب إلی الوضع،فیقال بأنّ هیئة«افعل»وضعت فی مقام الوضع للطلب أو البعث إلی إیجاد الطبیعة و لو بوجود واحد،و هیئة«لا تفعل» وضعت للترک أو الزجر عن إیجاد جمیع أفراد الطبیعة،و لکنّه لیس بصحیح؛إذ یتحقّق فی الهیئات جهة مشترکة،و هی عبارة عن الاشتراک فی المادّة،و المادّة التی تکون فی هیئة«ضرب»-مثلا-بمعنی خاصّ تکون فی هیئة«یضرب» و«اضرب»و«لا تضرب»أیضا بهذا المعنی.

و أمّا فی الهیئة فقد مرّ عن المحقّق الخراسانی قدّس سرّه أنّ هیئة«افعل»و هیئة«لا تفعل»یشترکان فی معنی واحد،و هو دلالتهما علی الطلب،إلاّ أنّ المطلوب فی هیئة«افعل»عبارة عن الوجود المضاف إلی الطبیعة،و فی هیئة«لا تفعل» عبارة عن العدم المضاف إلی الطبیعة،و علی فرض صحّة هذا المبنی یکون «افعل»بمعنی أطلب منک وجود الطبیعة،و«لا تفعل»بمعنی أطلب منک ترک الطبیعة،و لا یکون فی باب الوضع أزید من هذا المعنی،فلا ترتبط مطلوبیّة وجود واحد فی الأوامر و مطلوبیّة ترک جمیع الوجودات فی النواهی بالوضع.

و علی المبنی المختار یکون الموضوع له فی هیئة«افعل»عبارة عن البعث

ص:268

الاعتباری إلی إیجاد الطبیعة،و الموضوع له فی هیئة«لا تفعل»عبارة عن الزجر الاعتباری عن إیجاد الطبیعة،و لا دلیل لکفایة وجود واحد من الطبیعة فی مرحلة البعث الاعتباری و لزوم ترک جمیع الوجودات منها فی مرحلة الزجر الاعتباری،فلا یصحّ ارتباط هذا الفرق بالوضع.

الثانی:أن یرجع هذا الفرق إلی العقل کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)حیث ذکر بأنّ وجود الطبیعة یکون بوجود فرد واحد،و عدمها لا یکاد یکون إلاّ بعدم الجمیع،فدلالة النهی علی الاستمرار إنّما هی بحکم العقل، فالطبیعة توجد بوجود فرد ما،و لا تنعدم إلاّ بانعدام جمیع الأفراد،کما هو المعروف.

و یتبادر إلی الذهن صحّة هذا المعنی فی بادئ النظر،و لکنّ المسائل العقلیّة لا تکون قابلة للإغماض،فهل یصحّ هذا المعنی عقلا أم لا؟

و التحقیق:أنّه علی فرض صحّته یصحّ علی مبناه فقط،لا علی القول بأنّ الأمر عبارة عن السوق و التحریک و البعث الاعتباری إلی إیجاد الطبیعة، و النهی عبارة عن المنع و الزجر الاعتباری عن إیجاد الطبیعة،مع أنّه لا یصحّ علی مبناه أصلا.

توضیح ذلک:أنّ المحقّقین-و منهم صاحب الکفایة قدّس سرّه-یقولون:إنّ وجودا واحدا من وجودات الطبیعة یکون تمام الماهیّة و تمام الطبیعة،مثلا:حمل «الإنسان»علی«زید»فی قضیّة«زید إنسان»حمل الشائع الصناعی،فزید هل هو تمام الإنسان أو حصّة من الإنسان؟و معلوم أنّه إنسان کامل من حیث الماهیّة الإنسانیّة،و زید و بکر-مثلا-إنسانان کاملان،فإذا صار زید موجودا

ص:269


1- 1) کفایة الاصول 1:232.

بعد ما لم یکن موجودا صار الإنسان موجودا،کما أنّه إذا صار بکر موجودا صار إنسان آخر موجودا،فوجد إنسانان،و إذا کان الأمر فی ناحیة الوجود کذلک یکون فی ناحیة العدم أیضا کذلک،یعنی إذا انعدم زید انعدم الإنسان.

و بعبارة أخری:إذا کان وجود فرد واحد وجود تمام الماهیّة فیرجع تعدّد الوجودات إلی تعدّد الطبیعة،و قد مرّ فی المنطق أنّ نسبة الکلّی الطبیعی إلی الأفراد عبارة عن نسبة الآباء إلی الأولاد،لا نسبة أب واحد إلی الأولاد، فکلّ واحد من الوجودات وجود مستقلّ من الطبیعة.

و من المعلوم أنّ الوجود و العدم أمران متناقضان،و لا یمکن اختلافهما فی الوحدة و التکثّر،فکیف یصحّ القول فی ناحیة الوجود أنّ للطبیعة وجودات متعدّدة حسب تعدّد المصادیق و یکفی لوجود الإنسان وجود فرد واحد منه، و فی ناحیة العدم أنّ عدم الإنسان متوقّف علی انعدام جمیع مصادیق الإنسان؟ فکما أنّه یترتّب علی وجود زید وجود الإنسان کذلک یترتّب علی عدم زید عدم الإنسان و لا یمکن التفکیک بینهما.

و لکن یمکن أن یقال:إنّه یستلزم اتّصاف طبیعة الإنسان بالمتناقضین بلحاظ الاتّصاف بوجود زید-مثلا-و الاتّصاف بعدم بکر فی آن واحد.

و جوابه:أنّ المتناقضین فی واحد حقیقی غیر قابلین للاجتماع،و أمّا اجتماعهما فی الواحد الجنسی-کالناهق و الناطق فی الحیوان-و فی الواحد النوعی-کالعالم و الجاهل فی الإنسان-و فی الواحد الصنفی،فلا بحث و لا إشکال فیه،و لا یعقل أن یتّصف جسم واحد خارجی فی آن واحد بالسواد و البیاض،بخلاف طبیعة الجسم فإنّها تتّصف بالسواد و البیاض معا بلحاظ المصادیق،و هکذا طبیعة الإنسان تتّصف بالوجود و العدم فی آن واحد بلحاظ الأفراد الموجودة فی الخارج و المعدومة فیه،و لذا لا یصحّ بیان صاحب الکفایة قدّس سرّه فی ابتناء الفرق

ص:270

المذکور بین الأوامر و النواهی علی المسألة العقلیّة.

و التحقیق:أنّ الفرق المذکور بینهما مسألة مسلّمة عقلائیّة،و لا شکّ فی اعتبار فهم العرف و العقلاء إن لم یکن فی الشریعة دلیل علی خلافه،سیّما فی باب التفهیم و التفهّم.

و المهمّ فی بحث الفرق بین الأوامر و النواهی أنّ الأمر یسقط بالعصیان و المخالفة کما یسقط بالإطاعة و الموافقة،بخلاف النهی فإنّه لا یسقط بالموافقة و لا بالعصیان؛إذ لا شکّ فی بقاء لا تشرب الخمر بقوّته بعد ترک شرب الخمر فی مورد واحد أو موارد متعدّدة،و هکذا بعد شربه کذلک،فیتحقّق فی باب الأوامر موافقة واحدة و مخالفة واحدة،و فی باب النواهی موافقات متعدّدة حسب تعدّد الأفراد المنهی عنها و مخالفات کذلک،و یتحقّق البحث و الاختلاف فی منشأ هذا الفرق.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):«ثمّ إنّه لا دلالة للنهی علی إرادة الترک لو خولف،أو عدم إرادته،بل لا بدّ فی تعیین ذلک من دلالة و لو کان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة،و لا یکفی إطلاقها من سائر الجهات».

توضیح ذلک:أنّه لو عصی النهی-کقوله:«لا تشرب الخمر»بإیجاد فرد واحد من شربه خارجا أو وافق النهی کذلک-فلا دلالة لصیغة النهی علی حرمة سائر الأفراد،و لا علی عدم حرمتها،بل لا بدّ فی تعیین ذلک من دلیل مستقلّ و إن کان الدلیل عبارة عن إطلاق المتعلّق من هذه الجهة؛إذ یمکن تحقّق الإطلاق لمتعلّق النهی فی مثل قوله:«لا تشرب الخمر»من جهات مختلفة،کالإطلاق من حیث الزمان و المکان و الظرف و الإناء،و لکنّه لا یفید

ص:271


1- 1) کفایة الاصول 1:232.

فیما نحن فیه،و الإطلاق المفید عبارة عن کون المولی فی مقام البیان من هذه الناحیة،أی کون المنهی عنه مطلوب الترک و إن خالف النهی أو وافق فی مورد واحد أو موارد متعدّدة.

و یرد علیه:أنّه لا یجری فی مورد لم یکن المولی فی مقام البیان من هذه الجهة،فلا یصحّ القول باستمرار النهی بعنوان الکلّی.

و المحقّق النائینی قدّس سرّه أجاب من جهة اخری:بأنّه کما أنّه إذا تعلّق الأمر بالعامّ الاستغراقی ینحلّ بأوامر متعدّدة،و تتحقّق له موافقات متعدّدة و مخالفات متعدّدة حسب تعدّد أفراد المأمور به مثل:«أکرم کلّ عالم».و هکذا النهی فی مثل:«لا تشرب الخمر»،یکون معناه أطلب منک ترک کلّ فرد من أفراد شرب الخمر،و علی هذا ینحلّ النهی أیضا إلی نواهی متعدّدة،و لا فرق بینه و بین قوله:«اترک کلّ فرد من أفراد شرب الخمر»،فتتحقّق له أیضا موافقات و مخالفات متعدّدة حسب تعدّد أفراد المنهی عنه (1).

و الظاهر أنّه أیضا قابل للمناقشة،فإنّ العموم الاستغراقی فی مثل:«أکرم کلّ عالم»یستفاد من إضافة کلمة«کلّ»إلی طبیعة العالم،و هی تدلّ بالوضع علیه،و أمّا فی باب النهی،مثل:«لا تشرب الخمر»فلا دلالة له علی العموم الاستغراقی أصلا،فإنّ هیئة النهی لا تدلّ علی أزید من الزجر أو طلب الترک، و الطبیعة لا تدلّ علی الخصوصیّات الفردیّة،بل لا یعقل حکایتها عنها،فلا دلیل علی استفادة العموم من«لا تشرب الخمر»،کما لا یخفی.

و المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه (2)أجاب من جهة اخری:و هی أنّ الأمر متعلّق

ص:272


1- 1) فوائد الاصول 1:394-395.
2- 2) نهایة الدرایة 2:291.

بطلب الوجود،و النهی متعلّق بطلب الترک،و لکنّ الطلب المنشأ بهیئة«افعل» طلب جزئی،و لا محالة یکون متعلّق الطلب الشخصی وجود واحد،و الطلب المنشأ بهیئة«لا تفعل»عبارة عن کلّی الطلب.و المادّة أیضا عبارة عن الماهیّة و الطبیعة،فإذا تعلّق کلّی طلب الترک بطبیعة شرب الخمر یحکم العقل بأنّ لازمه تعلّق کلّ فرد من أفراد کلّی الطلب بکلّ فرد من أفراد هذه الطبیعة،و أنّ لکلّ فرد من أفراد طبیعة شرب الخمر سهما من أفراد طبیعة طلب الترک.

و جوابه أوّلا:أنّ علی فرض صحّة هذا الکلام یصحّ علی مبناه لا علی المبنی المختار.

و ثانیا:أنّ جزئیّة الطلب المنشأ فی باب الأوامر و کلّیة الطلب المنشأ فی باب النواهی عین المدّعی،و لا دلیل علیه.

و ثالثا:أنّه قد مرّ فی باب الوضع قول المشهور بأنّ الوضع فی باب الحروف عامّ و الموضوع له خاصّ،و قول صاحب الکفایة قدّس سرّه بأنّ الوضع و الموضوع له فیها مثل الأسماء عامّ و اختلافهما بحسب موارد الاستعمال،و ذکرنا أنّ الحقّ مع المشهور،و کذلک یکون الوضع و الموضوع له فی باب الهیئات کما قال به المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه،و معلوم أنّه لا تفاوت بین الهیئات من هذه الناحیة،و إن کان الموضوع له فی هیئة«افعل»خاصّا یکون فی هیئة«لا تفعل»أیضا کذلک،و إن کان الوضع و الموضوع له فیها عامّا یکون فی هیئة«لا تفعل»أیضا کذلک،و لا یصحّ القول بالفرق بین الهیئات.

و الحقّ فی الجواب عبارة عمّا قال به استاذنا المرحوم السیّد البروجردی قدّس سرّه (1)و کلامه مبتن علی أمرین مسلّمین عنده:الأوّل:أنّ الأمر

ص:273


1- 1) نهایة التقریر 1:175-177.

وضع للبعث الاعتباری،و النهی وضع للزجر الاعتباری،و لا دلالة لهما علی طلب الوجود و طلب الترک أصلا،و متعلّق البعث و الزجر عبارة عن الطبیعة.

الثانی:أنّ العقلاء بما هم عقلاء بدون الاستناد إلی الوضع و العقل یحکمون بأنّ المبعوث إلیه وجود واحد من الطبیعة فی باب الأوامر،و المزجور عنه فی باب النواهی عبارة عن جمیع وجودات الطبیعة.

و تعلّق الزجر و النهی بها قد یکون بصورة انحلاله إلی النواهی المتعدّدة حسب تعدّد أفراد الطبیعة،و هذا یرجع إلی بیان النائینی قدّس سرّه.

و قد یکون الزجر و التکلیف واحدا بدون انحلال،و المزجور عنه عبارة عن جمیع أفراد الطبیعة،و الحاکم بهذا هو العقلاء؛نظیر أمر الأب ولده بترک شرب التتن بقوله:«لا تدخّن»،و لا مانع من أن یکون للحکم مع وحدته موافقات و مخالفات متعدّدة،و إسقاط الأمر بإطاعة واحدة و عصیان واحد أمر عقلیّ، و معلوم أنّ الامور العقلیّة تابعة للملاک العقلی،و دلیله بنظر العقل أنّ المبعوث إلیه وجود ما من وجودات الطبیعة،و بعد تحقّقه یتحقّق المبعوث إلیه و یحصل الغرض و تصدق الإطاعة و یسقط الأمر،و لذا یحکم العقل بأنّه لا وجه لبقاء الأمر و استمراره بعد ذلک.

و أمّا من جهة المخالفة فلا یکون العصیان بما هو عصیان مسقطا للتکلیف عقلا و إن اشتهر ذلک بینهم،و ما یوجب سقوطه فی الواجبات المؤقّتة عبارة عن امتناع تحقّقها و عدم قدرة المکلّف علی إتیانها بعد مضیّ أوقاتها؛إذ الصلاة المقیّدة بالوقت الکذائی لا یمکن إیجادها بعد مضیّ هذا الوقت.

و أمّا عدم سقوط النهی بعصیان واحد و إطاعة واحدة عقلا فلا یکون إلاّ لعدم تحقّق تمام الملاک و تمام الغرض؛إذ المنهیّ عنه عبارة عن جمیع وجودات

ص:274

الطبیعة،و تحصل مع ترک شرب الخمر فی مجلس واحد حصّة من الغرض لإتمامه،و مع ترکه فی مجلس آخر تحصل حصّة اخری منه،و هکذا،و لذا لا یسقط النهی إلاّ مع ترک جمیع أفراد المنهی عنه،و حصول الغرض فی الجملة لا یکون مسقطا للتکلیف بالمرّة،فإنّ العصیان ینقض الغرض،لکن بارتکاب فرد من شرب الخمر ینقض حصّة منه،و یبقی النهی بالنسبة إلی بقیّة الأفراد مع اختیار المکلّف و قدرته علی ترکه،هذا تمام کلامه مع الإیضاح.

ص:275

ص:276

فصل: فی اجتماع الأمر و النهی

اشارة

فی اجتماع الأمر و النهی

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):«اختلفوا فی جواز اجتماع الأمر و النهی فی واحد و امتناعه علی أقوال:أوّلها:الجواز مطلقا،ثانیها:الامتناع مطلقا،ثالثها:

جوازه عقلا و امتناعه عرفا،و

قبل الخوض فی المقصود یقدّم امور:

الأوّل:المراد بالواحد مطلق ما کان ذا وجهین و مندرجا تحت عنوانین

، بأحدهما کان موردا للأمر،و بالآخر للنهی و إن کان کلّیا مقولا علی کثیرین کالصلاة فی المغصوب،و إنّما ذکر هذا لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر و النهی و لم یجتمعا وجودا و لو جمعهما واحد مفهوما کالسجود للّه تعالی و السجود للصنم-مثلا-لا لإخراج الواحد الجنسی أو النوعی کالحرکة و السکون الکلّیّین المعنونین بالصلاتیّة و الغصبیّة».

و مقصوده:أنّ المراد من کلمة الواحد فی عنوان البحث لا یکون خصوص الواحد الشخصی و إن کان هو القدر المتیقّن فی محلّ النزاع،بل یشمل الواحد الجنسی و النوعی أیضا،و إن کان تمثیله لهما فی الابتداء محلّ إشکال،و لذا

ص:277


1- 1) کفایة الاصول 1:233.

صحّحه فی الذیل.

ثمّ تعرّض للفرق بین المثالین المذکورین و أنّه لا یتحقّق الجامع الجنسی و النوعی بین السجود للّه و السجود للصنم،و یشترکان فی اللفظ و العنوان فقط.

و فیه:أوّلا:أنّ نفس هذا العنوان یهدینا إلی أنّ هذا النزاع یجری فیما لو لم یکن الاجتماع لم تکن مشکلة فی البین،و إنّما یحصل الإشکال من جهة الاجتماع، و لذا تکون مسألة الأمر بالضدّین و هکذا النهی عنهما خارجة عن محلّ النزاع؛ لامتناعه قبل الاجتماع،و قد عرفت أنّ متعلّق الأوامر و النواهی عبارة عن الطبائع و الماهیّات لا الأفراد و المصادیق،فإنّ قبل تحقّق الفرد لا یتحقّق الموضوع،و بعد تحقّقه یحصل الغرض،و معلوم أنّ العوارض الفردیّة لا تکون قابلة للتفکیک عن وجود الطبیعة.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ الواحد الشخصی لا یعقل أن یکون داخلا فی محلّ النزاع،فإنّ تعلّق الأمر بوحدته فیه مستحیل فضلا عن اجتماع الأمر و النهی فیه،فلا محالة یکون المراد من الواحد فی عنوان البحث الواحد الجنسی و النوعی.

و ثانیا:أنّا نری استعمال کلمة«السجود»فی السجود للّه،و فی السجود لغیر اللّه،کقوله تعالی: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِی خَلَقَهُنَّ (1)،و یتحقّق هنا فی بادئ النظر ثلاثة احتمالات:

الأوّل:أن تکون کلمة«السجود»موضوعة للجامع بینهما بصورة المشترک المعنوی،و هذا الجامع إمّا یکون جنسا للنوعین و إمّا نوعا لهما،فتتحقّق بینهما وحدة جنسیّة أو نوعیّة،و لا یتصوّر المشترک المعنوی بدونهما.

ص:278


1- 1) فصّلت:37.

الثانی:أن تکون موضوعة لهما بصورة المشترک اللفظی،و علی هذا یکون اشتراکهما فی اللفظ دون المعنی،بل یمکن فی المشترک اللفظی وضع اللفظ للمعنیین المتضادّین،کوضع لفظ القرء للحیض و الطهر،فلا تتحقّق بینهما وحدة جنسیّة و لا نوعیّة.

و لکن لا یمکن الالتزام بذلک،فإنّ للسجود معنی کلّیّا عرفیّا،و هو قد یتحقّق فی مقابل اللّه تعالی و یسمّی سجودا للّه،و قد یتحقّق فی مقابل غیره و یسمّی سجودا لغیر اللّه،کما هو المعلوم.

الثالث:أن یکون استعماله فیهما بصورة الحقیقة و المجاز،و من البدیهی أنّه لا یمکن الالتزام بمجازیّة استعمال کلمة لا تَسْجُدُوا باعتبار مادّتها نظیر «رأیت أسدا یرمی».

و لا یکون احتمال رابع فی البین،و بعد عدم إمکان الالتزام بالاحتمالین الأخیرین فلا محالة یتعیّن المشترک المعنوی،و لا فرق بین المثالین.

و یمکن أن یقال فی مقام الفرق بینهما:إنّه لا یتحقّق فی مثال السجود مورد الاجتماع للعنوانین حتّی یصدق علیه السجود للّه و السجود للصنم،بخلاف مثال الحرکة و السکون الکلّیّین.

و جوابه أوّلا:إنّا نبحث فی الواحد الجنسی لا فی مورد الاجتماع،و لا یصحّ إخراج مثال السجود عن دائرة الواحد الجنسی؛لعدم تحقّق مورد الاجتماع فیه؛إذ لا یتحقّق مورد التصادق بین الإنسان و البقر،مع أنّه لا شکّ فی اشتراکهما فی الحیوانیّة،و تحقّق الواحد الجنسی فیهما.

و ثانیا:أنّ مورد التصادق فی مثال الصلاة و الغصب هل یکون ملحوظا للمولی فی مقام تعلّق الأمر بالصلاة و النهی بالغصب أم لا؟و معلوم أنّه لا یمکن

ص:279

لحاظ الواحد الشخصی فی هذا المقام؛إذ هو قبل الوجود لیس بشیء،و بعده لا یعقل تعلّق الأمر و النهی به،فلا یکون الملحوظ فی المقام المذکور سوی المتعلّق،و من البدیهی أنّه عبارة عن طبیعة الصلاة،لا الصلاة فی الدار المغصوبة،و إذا لم یکن مورد التصادق ملحوظا للمولی فکیف یکون فارقا بین المثالین؟!فلا یکون مثال السجود قابلا للخروج عن دائرة الواحد الجنسی، فیشمل عنوان محلّ النزاع هذا المثال أیضا إذا اجتمع الأمر و النهی فی واحد، مع أنّه خارج عن محلّ النزاع قطعا و لا شبهة فیه.

و ینحصر حلّ الإشکال بتغییر عنوان محلّ النزاع بأنّه هل یجوز تعلّق الأمر و النهی بالعنوانین المتصادقین فی واحد أم لا؟و علی هذا لا إشکال فی خروج عنوان السجود للّه و عنوان السجود للصنم عن محلّ النزاع؛لعدم کونهما متصادقین فی مورد أصلا،و المراد من الواحد فی عنوان البحث هو الواحد الشخصی،و لکنّه بعنوان مورد الاجتماع و مادّة التصادق،لا بعنوان متعلّق الأمر و النهی،و یکون مقام تعلّق الأمر و النهی فی رتبة متقدّمة علی مقام التصادق،فیتعلّق الأمر بعنوان الصلاة و النهی بعنوان الغصب،و لکنّ هذین العنوانین ربما یجتمعان فی مورد واحد کالصلاة فی الدار المغصوبة،و لیس المأمور به الصلاة مع وصف کونها متصادقة مع الغصب،و لیس المنهیّ عنه الغصب مع وصف کونه متصادقا مع الصلاة،حتّی یستشکل بأنّ مع علم المولی بمورد التصادق کیف یصدر عنه الأمر و النهی.

الأمر الثانی:الذی تعرّضه صاحب الکفایة قدّس سرّه عبارة عن الفرق بین هذه

المسألة

و مسألة النهی فی العبادة یقتضی الفساد أم لا:و منشأ توهّم عدم الفرق بینهما هو کلمة العبادة فی عنوان المسألة الآتیة؛إذ العبادة تحتاج إلی الأمر

ص:280

الوجوبی أو الاستحبابی،و إذا تعلّق بها النهی فیکون معناه اجتماع الأمر و النهی.

و قال (1)فی مقام بیان الفرق بینهما:إنّ الجهة المبحوث عنها فی هذه المسألة التی بها تمتاز المسائل هی أنّ تعدّد الوجه و العنوان فی الواحد یوجب تعدّد متعلّق الأمر و النهی بحیث ترتفع به غائلة استحالة الاجتماع فی الواحد بوجه واحد،أو لا یوجبه بل یکون حال الشیء ذی الوجهین حال الشیء ذی الوجه الواحد،فالنزاع فی سرایة کلّ من الأمر و النهی إلی متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقهما وجودا،و عدم سرایته لتعدّدهما وجها.

و هذا بخلاف الجهة المبحوث عنها فی المسألة الاخری،فإنّ البحث فیها فی أنّ النهی فی العبادة أو المعاملة یوجب فسادها بعد الفراغ عن التوجّه إلیها.

نعم،لو قیل بالامتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع یکون -مثل الصلاة فی الدار المغصوبة-من صغریات تلک المسألة.

فالجهة المبحوث عنها فی المسألة الآتیة عبارة عن تحقّق الملازمة و عدمه بین تعلّق النهی بالعبادة و بطلانها،و هذا یکفی فی التمایز بین المسألتین.

و لکن اعترض علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)بأنّه لا بدّ لنا فی مقام الفرق بین المسألتین من ملاحظة الذات و ذاتیاتهما-أی الموضوع و المحمول فیهما-إذ التمایز بأمر ذاتی فی المرتبة المتقدّمة علی التمایز بأمر عرضی،و المسألتان مختلفتان موضوعا و محمولا؛إذ البحث فی المقام إنّما هو فی أنّ الأمر و النهی هل یجتمعان فی واحد أم لا؟کما أنّ البحث فی المسألة الآتیة فی أنّ العبادة المنهیّ

ص:281


1- 1) کفایة الأصول 1:234-235.
2- 2) تهذیب الاصول 1:377.

عنها هل تکون فاسدة أم لا؟فلا تصل النوبة إلی التمایز فی الجهة المبحوث عنها بعد اختلافهما من حیث الموضوع و المحمول معا،فإنّ ظاهره اتّحاد المسألتین موضوعا و محمولا مع أنّه لیس کذلک کما عرفت.

و یحتاج بیانه قدّس سرّه إلی مکمّل فنقول:قد مرّ عن المحقّق الخراسانی قدّس سرّه:أنّ جریان المسألة الثانیة علی جمیع الأقوال المتحقّقة فی المسألة الاولی یدلّ علی أنّها مسألة مستقلّة،و جریانها علی بعض الأقوال المتحقّقة فیها یدلّ علی فرعیّتها،و یمکن أن یقال:إنّ مسألة النهی فی العبادة تجری علی القول بالاجتماع فقط فی المقام و لا تجری علی القول بالامتناع،فیرجع البحث إلی أنّ اجتماع الأمر و النهی فی واحد جائز أم لا؟و علی القول بالجواز هل یدلّ النهی علی فساده أم لا؟مع أنّهما مسألتان مستقلّتان،و تجری المسألة الثانیة علی جمیع الأقوال المتحقّقة فی المسألة السابقة.

و جوابه:أنّ منشأ هذا التوهّم فاسد،و هو کون النهی فی العبادة بمعنی اجتماع الأمر و النهی فیها،و دلیل فساده:أنّ العبادة تحتاج إلی الأمر،و لکن یفرض فی المقام أنّ صوم یوم العید-مثلا-لو تعلّق به الأمر مکان النهی لکان أمرا عبادیّا،و لکن لم یتعلّق الأمر به فعلا،بل لا یعقل تعلّقه به حتّی علی القول بجواز الاجتماع؛إذ معناه کونه مأمورا به و منهیّا عنه بعنوان واحد،و لم یقل به أحد.

و من هنا نستکشف أنّه لیس معنی تعلّق النهی فی العبادة اجتماع الأمر و النهی فیها،و لذا لا یعقل أن تکون مسألة النهی فی العبادة من فروع هذه المسألة؛إذ یتحقّق هاهنا الأمر و النهی المتعلّقان بالعنوانین،بخلاف مسألة صوم یوم العید-مثلا-إذ یتحقّق فیه النهی فقط ، و البحث فی صورة مخالفة النهی فی

ص:282

أنّ العبادة هل تکون باطلة أم لا؟

الأمر الثالث الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه :أنّ مسألة اجتماع الأمر

و النهی...

(1)

هل هی مسألة اصولیّة،أو من مبادئها الأحکامیّة،أو التصدیقیّة،أو مسألة کلامیّة،أو مسألة فقهیّة؟و قال:إنّه حیث کانت نتیجة هذه المسألة ممّا تقع فی طریق الاستنباط کانت من المسائل الاصولیّة؛إذ علی القول بجواز الاجتماع یقال:الصلاة فی المکان المغصوب-مثلا-ممّا اجتمع فیه الأمر و النهی، و کلّ ما اجتمع فیه الأمر و النهی صحیح،فالصلاة المذکورة صحیحة،و علی القول بالامتناع تنعکس النتیجة،فالصحّة أو الفساد تستنبط من هذه المسألة، فتکون من المسائل الاصولیّة،لا من مبادئها الأحکامیّة،و لا التصدیقیّة،و لا من المسائل الکلامیّة،و لا من المسائل الفرعیّة،و إن کانت فیها جهاتها کما لا یخفی؛ضرورة أنّ مجرّد ذلک لا یوجب کونها منها إذا کانت فی المسألة جهة اخری یمکن عقدها معها من المسائل الاصولیّة؛إذ لا مجال حینئذ لتوهّم عقدها من غیرها فی الاصول و إن عقدت أیضا کلامیّة فی علم الکلام و صحّ عقدها فرعیّة أو غیرها بلا کلام،و قد عرفت فی أوّل الکتاب أنّه لا ضیر فی کون مسألة واحدة یبحث فیها عن جهة خاصّة فی مسائل علمین لانطباق جهتین عامّتین علی تلک الجهة،کانت بإحداهما من مسائل علم و بالاخری من آخر،فتذکّر.هذا تمام کلامه مع زیادة توضیح.

و فیه:أنّه لا یمکن صدق عنوان الفقهیّة علی هذه المسألة إلاّ مع تغییر عنوان البحث،و معه یمکن أن یصدق علی أکثر المسائل الاصولیّة عنوان الفقهیّة، مثلا:إن کان عنوان البحث فی بحث مقدّمة الواجب:أنّه هل تتحقّق الملازمة

ص:283


1- 1) کفایة الاصول 1:236.

بین وجوب المقدّمة و وجوب ذی المقدّمة أم لا؟فتکون المسألة اصولیّة،و إن کان عنوان البحث:أنّه هل تکون مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟فتکون المسألة فقهیّة،و لذا لا تصحّ أن تکون المسألة مسألة فقهیّة مع حفظ العنوان،فإنّا لا نقول:إنّ الصلاة فی الدار المغصوبة هل هی واجبة فقط أو محرّمة فقط،أم واجبة و محرّمة معا،بل نقول:إنّ اجتماع الأمر و النهی فی واحد ممتنع أم لا،فلا نبحث عن فعل المکلّف حتّی تکون المسألة فقهیّة.

و هکذا لا یمکن أن تکون المسألة مسألة کلامیّة حتّی مع تغییر عنوان البحث،فإنّ ضابطتها عبارة عن البحث فی أحوال المبدأ و المعاد،فلا بدّ من تغییر عنوان البحث بأنّه هل یحسن صدور الأمر و النهی عن الحکیم علی الإطلاق و تعلّقهما بالعنوانین المتصادقین أم لا؟لأنّ مسألة اجتماع الأمر و النهی مسألة عقلیّة نظیر بحث مقدّمة الواجب،و لا یکون موضوع البحث فی المباحث العقلیّة عبارة عن الأمر أو النهی الصادر عن ذات الباری،بل هی مباحث عامّة عرفیّة و غیر منحصرة به،و لذا لا نلاحظ فی البحث إضافة صدور الأمر و النهی إلی الباری و غیره،کما لا یخفی.

و هکذا لا یصحّ أن تکون المسألة من المبادئ التصدیقیّة،و القائل به المحقّق النائینی قدّس سرّه علی ما نقل فی تقریراته (1)،و هی عبارة عمّا یقع بعنوان الصغری للمسألة الاصولیّة،بأنّ مسألة التعارض و التزاحم،و الآثار المترتّبة علیها تکون من مسائل علم الاصول،و نحن نبحث فی المقام بأنّه هل یتحقّق فی مورد اجتماع الأمر و النهی موضوع للتزاحم و التعارض أم لا؟فتکون مسألة الاجتماع نزاعا صغرویا لموضوع مسألة التعارض و التزاحم،فتکون من

ص:284


1- 1) أجود التقریرات 1:333-334.

المبادئ التصدیقیّة فی علم الاصول.

و قال المرحوم المشکینی (1)فی مقام تفسیر المبادئ التصدیقیّة بأنّ موضوع الاصول هی الأدلّة الأربعة،و الکلام هنا فی وجود حکم العقل،فتکون من المبادئ التصدیقیّة.

و لازم هذا التفسیر أن تکون جمیع المباحث العقلیّة الموجودة فی علم الاصول من المبادئ التصدیقیّة،و هذا التفسیر لیس بصحیح،و أصل تعریف المبادئ التصدیقیّة عبارة عمّا قال به المحقّق النائینی قدّس سرّه و لکنّ تطبیقه علی ما نحن فیه لیس بصحیح،فإنّه یحتاج إلی تغییر عنوان البحث.

و أمّا المبادئ الأحکامیّة فهی عبارة عن المسائل التی یکون الموضوع فیها عبارة عن الأحکام،کالبحث عن تحقّق التضادّ و عدمه بین الأحکام الخمسة،و تقسیم الأحکام إلی الوضعیّة و التکلیفیّة و أمثال ذلک،و معلوم أنّها تنطبق علی عنوان محلّ النزاع،فإنّ معروض إمکان الاجتماع و امتناعه هی نفس الأمر و النهی،فتکون المسألة من المبادئ الأحکامیّة.

و لکن بعد تحقّق الضابطة الاصولیّة فی المسألة لا یضرّ انطباق عنوان آخر فی اصولیّته،فلا یکون البحث عنها بعنوان استطرادا.

الأمر الرابع:الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بعنوان المقدّمة عبارة عن

عدم اختصاص النزاع بمثل هیئة«افعل»و هیئة«لا تفعل»

(2)

بقوله:إنّه قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه أنّ المسألة عقلیّة،و لا اختصاص للنزاع فی جواز الاجتماع و الامتناع فیها بما إذا کان الإیجاب و التحریم باللفظ،کما ربما یوهمه

ص:285


1- 1) هامش کفایة الاصول 1:236.
2- 2) کفایة الاصول 1:237.

التعبیر بالأمر و النهی الظاهرین فی الطلب بالقول،إلاّ أنّه لکون الدلالة علیهما غالبا بهما کما هو أوضح من أن یخفی،فإذا استفید الإیجاب و التحریم من مثل:

کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ، و حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ، أو من الإجماع،أو من دلیل عقلی،فیجری النزاع أیضا بلا إشکال.

و ذهاب البعض إلی الجواز عقلا،و الامتناع عرفا لیس بمعنی دلالة اللفظ علیه عرفا،بل بدعوی أنّ الواحد بالنظر الدقیق العقلی اثنان،و أنّه بالنظر المسامحی العرفی واحد ذو وجهین،و إلاّ فلا یکون معنی محصّل للامتناع العرفی، غایة الأمر دعوی دلالة اللفظ علی عدم الوقوع بعد اختیار جواز الاجتماع عقلا،فتدبّر.

الأمر الخامس الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه :عبارة عن تعمیم النزاع

و جریانه فی جمیع أقسام الإیجاب و التحریم

(1)

؛إذ الحرمة کالوجوب قد تکون نفسیّة و قد تکون غیریّة،إلاّ أنّ دائرة الحرمة الغیریّة محدودة؛إذ یمکن بعد تحقّق عشر مقدّمات الحرام إرادة الإنسان ترک الحرام،فلا تتّصف المقدّمات بالحرمة الغیریّة،بخلاف الوجوب الغیری،فإنّ مقدّمات الواجب تتّصف بها من الابتداء،و هکذا.

کما أنّ الوجوب قد یکون تعیینیّا و قد یکون تخییریّا،کذلک الحرمة قد تکون تعیینیّة و قد تکون تخییریّة،مثل:أن ینهی المولی عبده عن مجالسة زید و مجالسة بکر تخییرا،و تتحقّق الحرمة بمجالستهما معا.

و کما أنّ الوجوب قد یکون عینیّا و قد یکون کفائیّا کذلک الحرمة قد تکون عینیّة و قد تکون کفائیّة،و هی و إن لم یوجد لها مثال فی الشریعة و لکنّها أیضا

ص:286


1- 1) المصدر السابق:238.

قابلة للتصوّر،و قد فرض لها المشکینی قدّس سرّه (1)مثالا بقوله:نعم،یتحقّق فی الضدّ الخاصّ للواجب الکفائی إذا قلنا باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عنه،و لم یکن لهما ثالث،و علی فرض تحقّقها فی الشریعة یجری النزاع فیها أیضا.فإنّ ملاک النزاع فی جواز الاجتماع و الامتناع یعمّ جمیع أقسام الإیجاب و التحریم؛إذ لو کان هناک شیء واحد و له عنوان واحد لم یکن قابلا لاجتماع حکمین من الأحکام المذکورة،و إذا تعدّد العنوان هل ترتفع غائلة الاستحالة أم لا؟

و مثّل المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (2)للواجب التخییری و الحرمة التخییریّة بأنّه:إذا أمر بالصلاة و الصوم تخییرا بینهما،و کذلک إذا نهی عن التصرّف فی الدار و مجالسة الأغیار،فصلّی فیها و جالسهم،کان حال الصلاة فیها حالها،کما إذا أمر بها تعیینا و نهی عن التصرّف فیها،کذلک فی جریان النزاع فی الجواز و الامتناع و مجیء أدلّة الطرفین و ما وقع من النقض و الإبرام فی البین.

و ما یقال فی مقام الفرق بین الواجب النفسی و الواجب الغیری و غیرهما من عدم مطلوبیّة الواجب الغیری،و عدم استحقاق العقوبة و المثوبة فی مقابل مخالفته و موافقته لا یوجب الفرق فیما نحن فیه.

الأمر السادس الذی تعرّضه صاحب الکفایة قدّس سرّه بعنوان المقدّمة:أنّ بعض

الاصولیّین أخذ فی محلّ النزاع قید المندوحة فی مقام الامتثال

(3)

،بمعنی أنّ النزاع یختصّ بصورة قدرة المکلّف علی موافقة الأمر و النهی معا؛بأن یتمکّن من فعل الصلاة-مثلا-فی غیر المکان المغصوب،و إتیانها بسوء اختیاره فیه،و إلاّ

ص:287


1- 1) هامش کفایة الاصول 1:238.
2- 2) کفایة الاصول 1:238.
3- 3) المصدر السابق.

لزم التکلیف بالمحال؛لکون الأمر بالصلاة حینئذ تکلیفا بما لا یطاق،فلا بدّ من القول بالامتناع،و لا یمکن للقائل بالاجتماع القول بالجواز.

لا یقال:إنّ عدم ذکر هذا القید فی کلمات الاصولیّین دلیل علی عدم قیدیّته، فإنّا نقول:إنّ عدم تقییدهم فی عنوان البحث بهذا القید إنّما یکون للاتّکال علی الوضوح؛إذ بدون المندوحة یلزم التکلیف بالمحال.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی مقام الجواب عنه:إنّ التحقیق مع دعوی کون عدم التقیید للاتّکال علی الوضوح عدم اعتبارها فیما هو المهمّ فی محلّ النزاع.

و توضیح کلامه:أنّ البحث فی عدم جواز اجتماع الأمر و النهی یقع فی مقامین:

الأوّل:لحاظه فی مرحلة الجعل بأن یقال:هل یمتنع تعلّق حکمین متضادّین فی نفسهما-مع قطع النظر عن مقام الامتثال-بشیء واحد ذی عنوانین؟لعدم کون تعدّد الوجه موجبا لتعدّد المتعلّق،کامتناع تعلّق الوجوب و الحرمة بشیء واحد ذی عنوان واحد،أم یمکن ذلک؛لکون تعدّد الوجه موجبا لتعدّد المتعلّق و مغایرة متعلّق الوجوب و الحرمة؟

المقام الثانی:لحاظه فی مرحلة الامتثال،بأن یقال:هل یصحّ التکلیف بأمر غیر مقدور للمکلّف أم لا؟و ذلک لعجزه و عدم قدرته علی امتثاله، کالأمر بالضدّین المتزاحمین الواجدین للملاک،فإنّ القصور حینئذ من المکلّف؛ لعدم قدرته علی الامتثال و الجمع بینهما.

و المهمّ فی المقام هو المقام الأوّل؛لأنّ محطّ النزاع هو کون تعدّد الوجه مجدیا فی تعدّد المتعلّق حتّی یجوز اجتماع حکمین متضادّین،و ترتفع به غائلة الاستحالة،أو عدم کونه مجدیا فی ذلک و أنّه کوحدة الوجه فی لزوم

ص:288

اجتماع الضدّین.

و علیه فمرکز البحث مقام الجعل دون الامتثال،و المندوحة أجنبیّة عن ذلک، و لذا یمکن للقائل بجواز التکلیف بغیر المقدور القول بالامتناع فی مسألة اجتماع الأمر و النهی،کالأشاعرة فإنّهم بلحاظ إنکار الحسن و القبح العقلیّین یقولون بجواز صدور الحکم عن الحکیم علی الإطلاق بغیر المقدور؛إذ لا ربط بین المسألتین.

لا یتوهّم أنّ سرایة الاستحالة عن التکلیف بالمحال عند غیر الأشاعرة إلی الاجتماع توجب اعتبار المندوحة؛لأنّا نقول:إنّ التکلیف بالمحال الذی جوّزه بعض مغایر للتکلیف المحال الذی لم یجوّزه أحد،و أنّ مسألة الاجتماع من قبیل الثانی لا الأوّل،و المندوحة رافعة للزوم التکلیف بالمحال،لا التکلیف المحال الذی هو مورد البحث،فإنّ ملاک الاستحالة فی محلّ النزاع هو التضادّ بین الحکمین،و فی تلک المسألة عدم المقدوریّة علی المکلّف به.فقیدیّة المندوحة هاهنا لا أنّها غیر معتبرة فقط،بل اعتبارها یوجب خلط محلّ النزاع، کما لا یخفی.

الأمر السابع:الذی تعرّضه صاحب الکفایة قدّس سرّه متضمّن لدفع التوهّمین

(1)

الذین قد یتوهّمهما بعض،و قال:إنّه ربّما یتوهّم تارة أنّ النزاع فی الجواز و الامتناع یبتنی علی القول بتعلّق الأحکام بالطبائع،و أمّا الامتناع علی القول بتعلّقها بالأفراد فلا یکاد یخفی؛ضرورة لزوم تعلّق الحکمین بواحد شخصی و لو کان ذا وجهین علی هذا القول.و اخری أنّ القول بالجواز مبنیّ علی القول بالطبائع؛لتعدّد متعلّق الأمر و النهی ذاتا علی هذا القول و إن اتّحدا وجودا،

ص:289


1- 1) کفایة الاصول 1:241.

و القول بالامتناع علی القول بالأفراد؛لاتّحاد متعلّقهما شخصا خارجا و کونه فردا واحدا.

ثمّ قال فی مقام جوابهما:و أنت خبیر بفساد کلا التوهّمین،فإنّ تعدّد الوجه إن کان یجدی بحیث لا یضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود و الإیجاد لکان یجدی و لو علی القول بالأفراد،فإنّ الموجود الخارجی الموجّه بوجهین یکون فردا لکلّ من الطبیعتین،فیکون مجمعا لفردین موجودین بوجود واحد،فکما لا تضرّ وحدة الوجود بتعدّد الطبیعتین لا یضرّ بکون المجمع اثنین بما هو مصداق و فرد لکلّ من الطبیعتین،و إلاّ لما کان یجدی أصلا حتّی علی القول بالطبائع کما لا یخفی؛لوحدة الطبیعتین وجودا و اتّحادهما خارجا،فکما أنّ وحدة الصلاتیّة و الغصبیّة فی الصلاة فی الدار المغصوبة وجودا غیر ضائر بتعدّدهما و کونهما طبیعتین،کذلک وحدة ما وقع فی الخارج من خصوصیّات الصلاة فیها وجودا غیر ضائر بکونه فردا للصلاة فیکون مأمورا به،و فردا للغصب فیکون منهیّا عنه،فهو علی وحدته وجودا یکون اثنین لکونه مصداقا للطبیعتین،فلا تغفل.

و التحقیق:أنّ المقصود من الفرد الذی جعل فی مقابل الطبیعة فی المسألة السابقة،إن کان الطبیعة الموجودة فی الخارج بدون العوارض المشخّصة، سلّمنا أنّه لا ابتناء فی البین،و لا بدّ من حلّ المسألة فی محلّها،و أنّ الوجود إن اخذ فی المتعلّق بعنوان القید فلا یمکن تعلّق الأمر لوحده به فضلا عن تعلّق الأمر و النهی معا؛إذ الخارج ظرف سقوط التکلیف لا ظرف ثبوته،و لا یعقل اتّصاف الصلاة بالوجود بعد تحقّقها فی الخارج،کما أنّه لا یعقل اتّصاف شرب الخمر بعد تحقّقه خارجا بکونه منهیّا عنه؛لعدم إمکان تغییره عمّا هو علیه.

و إن کان المقصود من الفرد عنوان کلّی فرد الطبیعة فعلی هذا أیضا لا تبتنی

ص:290

مسألة الاجتماع علی مسألة تعلّق الأحکام بالطبائع أو الأفراد؛إذ یمکن لکلّ من القولین فی تلک المسألة اختیار کلّ من القولین فی هذه المسألة بلا إشکال.

و لکنّه بعید أن یکون مراد القائل بتعلّق الأحکام بالأفراد؛إذ لو کان مراده عنوانا کلّیّا لا دلیل لإعراضه عن عنوان کلّی الطبیعة.

و ما یستفاد من ظاهر عبارة صاحب الکفایة قدّس سرّه أن یکون المراد من الفرد الطبیعة الموجودة فی الخارج مع خصوصیّاتها الفردیّة و العوارض المشخّصة، فیکون المأمور به عبارة عن الصلاة الموجودة فی الخارج مع خصوصیّات وقوعها فی زمان کذا و مکان کذا و...و المنهیّ عنه عبارة عن شرب الخمر المتحقّق فیه مع خصوصیّات وقوعه هکذا،و علی هذا لا بدّ من الالتزام بابتناء مسألة الاجتماع علی تلک المسألة،بأنّ القائل بتعلّق الأحکام بالطبائع لا محالة یقول هاهنا بجواز الاجتماع،و القائل بتعلّقها بالأفراد لا محالة یقول هاهنا بامتناع الاجتماع.

توضیح ذلک:أنّ أساس القول بجواز الاجتماع هو القول بتعلّق الأحکام بالطبائع،و علی هذا یکون اتّحاد الصلاة مع الغصب فی مرحلة الامتثال،و هی متأخّرة عن مرحلة تعلّق الأحکام بها،و معلوم أنّ اتّحاد الأمر و النهی فی مرحلة متأخّرة لا یضرّ فی مرحلة متقدّمة،فالقول بالاجتماع متفرّع علی القول بتعلّق الأحکام بالطبائع،کما أنّ القول بالامتناع متفرّع علی القول بتعلّقها بالأفراد؛إذ الصلاة مع عوارضها المشخّصة تکون متعلّق الأمر علی هذا.

و هکذا فی الغصب-مثلا-فتکون العوارض المتحقّقة مع الصلاة-کوقوعها فی المکان المغصوب-أیضا داخلة فی دائرة المتعلّق،و تکون الخصوصیّات المتحقّقة مع الغصب-مثل تحقّقه فی حال الصلاة أیضا-داخلة فی دائرة متعلّق

ص:291

النهی،فکأنّما یرجع معنی قوله:«لا تغصب»،و «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» إلی«لا تغصب فی حال الصلاة»و«صلّ فی مکان مغصوب»،و معلوم أنّ هذا ممتنع.

و بالجملة،لا یشکّ فی فرعیّة هذه المسألة لتلک المسألة علی المعنی الذی یستفاد من ظاهر کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه للفرد،سیّما بعد تعبیره فی الأمر الثانی فی مقام الفرق بین هذه المسألة و مسألة النهی فی العبادة،بأنّ الجهة المبحوث عنها فیما نحن فیه عبارة عن مسألة السرایة،و أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة هل یسری إلی خصوصیّاتها الفردیّة-کالغصب-أم لا؟و أنّ النهی المتعلّق بطبیعة الغصب هل یسری إلی خصوصیّاته الفردیّة-کالصلاة-أم لا؟ و القائل بتعلّق الأحکام بالطبیعة ینفی السرایة،و القائل بتعلّقها بالفرد قائل بالسرایة،فلا یصحّ القول بعدم الفرعیّة علی هذا المعنی.

الأمر الثامن:الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه و کذا الأمر التاسع متضمّن

لبیان الفرق بین التزاحم و التعارض

(1)

،و أنّ مسألة الاجتماع تکون من صغریات باب التزاحم؛و أنّ الحکمین فی باب التزاحم قد یکونا من سنخ واحد-مثل وجوب إنقاذ الغریقین-و قد یکونا من سنخین،و الحکم عبارة عن ترجیح الأهمّ و الأخذ به،أو ترجیح محتمل الأهمّیة،أو التخییر فی صورة التساوی.

و أمّا فی باب التعارض فلا بدّ من مراجعة مقام إثبات الحکم و ملاحظة دلیل الحکمین و الأخذ بأظهرهما،و إن کانا متساویین فالحکم هو التساقط، و فی الخبرین المتعارضین تجری قاعدة التعارض التی تعرضها مقبولة عمر بن حنظلة،هذا فرقهما من حیث الحکم.

و افتراقهما من حیث الموضوع أنّه یتحقّق فی المتزاحمین مناط کلا الحکمین،

ص:292


1- 1) کفایة الاصول 1:241.

و لکنّ المکلّف لا یکون قادرا علی الجمع،مثل:إنقاذ الغریقین؛إذ تتحقّق فی کلیهما مصلحة لازمة الاستیفاء،و إن کان المتزاحمان عبارة عن الأمر و النهی فمعناه أنّ المتعلّق بلحاظ الأمر واجد لمصلحة تامّة لازمة الاستیفاء،و بلحاظ النهی واجد لمفسدة تامّة لازمة الترک.

و أمّا فی مادّة الاجتماع فی المتعارضین فیتحقّق مناط واحد،و لکن لا نعلمه، مثل:تعارض«أکرم العلماء»و«لا تکرم الفسّاق»فی العالم الفاسق؛إذ لا یتحقّق فیه أزید من مناط واحد.و ما نحن فیه یکون من قبیل المتزاحمین،فإنّا نعلم أنّه یتحقّق فی الصلاة تمام ملاک الأمر،و فی الغصب تمام ملاک النهی،و لذا صرّح بأنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع إلاّ إذا کان فی کلّ واحد من متعلّقی الإیجاب و التحریم مناط حکمه مطلقا حتّی فی مورد التصادق و الاجتماع؛کی یحکم علی الجواز بکونه فعلا محکوما بالحکمین،و علی الامتناع بکونه محکوما بأقوی المناطین،أو بحکم آخر غیر الحکمین فیما لم یکن هناک أحدهما أقوی.

و أشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)بأنّه یمکن أن یکون غرض صاحب الکفایة قدّس سرّه من عنوان هذا البحث أحد احتمالین:

الأوّل:أن یکون مراده إضافة قید فی باب اجتماع الأمر و النهی بأنّه هل یجوز تعلّق الأمر و النهی بالعنوانین المتصادقین فی واحد بشرط تحقّق مناط الحکمین فیه أم لا؟و علی هذا یرد علیه بأنّه لا فرق بین هذا القید و مسألة قید المندوحة،مع أنّه قال بخروجه عن محلّ النزاع،و عدم اعتباره فیما نحن فیه؛ لارتباطه فی المتعلّق و التکلیف بالمحال،و البحث فی مسألة الاجتماع یرتبط

ص:293


1- 1) تهذیب الاصول 1:382-384.

بالمرحلة المتقدّمة،أی محالیّة نفس التکلیف.

و نحن نرجع عین هذا الکلام إلی صاحب الکفایة قدّس سرّه و نقول:إنّ تحقّق الملاکین فی مادّة الاجتماع هل یرتبط بمحلّ النزاع فیما نحن فیه،أو یرتبط بالمتأخّر عنه،أی المتعلّق؟

إن قلت:إنّه یرتبط بالمقام الثانی فلا فرق بین ما نحن فیه و قید المندوحة، و لا بدّ من اعتبار قید المندوحة أیضا فی محلّ النزاع.

قلت:إنّه یرتبط بمحلّ النزاع و نفس تعلّق الأمر و النهی بالعنوانین المتصادقین علی واحد،فلا ضرورة إلی وجود الملاکین هاهنا.فلا فرق بین هذا القید و قید المندوحة.

الاحتمال الثانی:أن یکون مراده من هذا البحث الجواب عن السؤال المقدّر،بأنّه ما الدلیل علی معاملة التعارض فی مثل:«أکرم العلماء»و«لا تکرم الفسّاق»إذا اجتمعا فی واحد،بخلاف مثل«صلّ»و«لا تغصب»،مع أنّ النسبة فی کلا المثالین عبارة عن العموم و الخصوص من وجه.

و قال فی مقام الإجابة:إنّ الدلیل لمعاملة اجتماع الأمر و النهی مع«صلّ» و«لا تغصب»أنّه یتحقّق فی مادّة اجتماعهما مناطان،بخلاف مثل:«أکرم العلماء»و«لا تکرم الفسّاق»؛إذ لا یحرز تحقّق الملاکین فی مادّة اجتماعهما،و أنّه یتحقّق فی العالم الفاسق مناط الوجوب بما أنّه عالم و مناط الحرمة بما أنّه فاسق،بخلاف الصلاة فی الدار المغصوبة،فکلامه علی هذا ناظر إلی مقام التطبیق کما لا یخفی.

و یرد علیه:أنّه لا یصحّ جعل کلمة التزاحم فی ردیف کلمة التعارض؛إذ التزاحم مسألة عقلیّة،و الأحکام المترتّبة علیه أیضا عقلیّة؛إذ لم یؤخذ فی أی

ص:294

دلیل شرعی عنوان التزاحم،بخلاف عنوان التعارض فإنّه جعل الموضوع فی الأخبار العلاجیّة بعنوان الخبرین المتعارضین و الحدیثین المختلفین،و معلوم أنّ المرجع لمعنی الموضوع الذی اخذ فی الدلیل الشرعی هو العرف،و لا یرتبط بالعقل،کقوله:«الدّم نجس»،یکون معناه أنّ کلّ ما یصدق علیه الدم عرفا لا عقلا فهو نجس،فلا بدّ من الرجوع إلی العرف فی تشخیص التعارض،و لذا لا یصحّ عطف کلمة التعارض علی التزاحم.

و لکنّ التحقیق:أنّ إشکال الإمام قدّس سرّه لیس بصحیح؛إذ الموضوع فی الأخبار العلاجیّة عبارة عن الخبرین المتعارضین فقط،و الرجوع فی معناهما إلی العرف لا یدلّ علی کون التعارض مسألة عرفیّة؛إذ التعارض لا ینحصر بهما،بل یتحقّق بین البیّنتین،کما أنّه قد یتحقّق بین الظاهرین من الآیتین،و لذا یتحقّق فی الاصول بحث عقلی فی الخبرین المتعارضین بأنّه مع قطع النظر عن الأخبار العلاجیّة ما الذی تقتضیه القاعدة-أی حکم العقل-فیهما؟فهل تقتضی التساقط کما هو الظاهر،أم لا؟و معلوم أنّ هذه المسألة مسألة عقلیّة موضوعا و حکما.

و البحث فیما نحن فیه یکون فی الحکمین المتعارضین،و الدلیل علیهما قد یکون الخبرین،و قد یکون الظاهرین،و قد یکون البیّنتین،و عدم صحّة عطف الخبرین المتعارضین علی التزاحم لا یکون دلیلا علی عدم صحّة عطف البیّنتین المتعارضتین و الظاهرین المتعارضین علیه،و لذا یکون التعارض فی غیر الخبرین المتعارضین أیضا مسألة عقلیّة.

الأمر العاشر الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه :و هو یتضمّن بیان الثمرة

(1)

ص:295


1- 1) کفایة الاصول 1:246.

المترتّبة علی القول بالجواز و الامتناع،و المشهور قائل بأنّ ثمرة القول بالجواز عبارة عن صحّة صلاة من أتی بها فی الدار المغصوبة عالما عامدا بعد استحقاقه العقوبة لمخالفة النهی،فالصلاة بما أنّها صلاة مقرّبة للمولی و بما أنّها غصب مبعّدة عنه،و لا مانع عن مقرّبیّة شیء واحد و مبعّدیّته بالعنوانین.

و لکن فی مقابل المشهور ذهب عدّة من الأعاظم و المحقّقین إلی عدم ترتّب هذه الثمرة علی القول بالجواز،و منهم استاذنا المرحوم السیّد البروجردی قدّس سرّه فإنّه مع إصراره علی القول بالجواز یؤکّد علی بطلان الصلاة فی الدار المغصوبة، و یظهر من الإمام قدّس سرّه أیضا المیل إلی هذا المعنی،و أنّ لازم القول بجواز الاجتماع عدم صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة،بل یمکنه الحکم ببطلانها.

و من القائلین بجواز اجتماع الأمر و النهی و ترتّب صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)،و إجمال کلامه هاهنا:أنّ البرهان علی ذلک یترکّب من مقدّمات بدیهیّة:

الاولی:عبارة عن بساطة المقولات العرضیّة التسعة؛إذ لازم الترکیب تحقّق ما به الاشتراک بینها و ما به الامتیاز لکلّ واحد منها،و معناه کون ما به الاشتراک فوق هذه المقولات،و نفس عنوان المقولة تمنعه و تتنافی مع هذا المعنی؛إذ المقولة عبارة عن الامور الواقعة فی منتهی الأعراض و منتهی حدّها، فلا بدّ من القول بأنّ ما به الاشتراک فیها عین ما به الامتیاز،نظیر الوجود.

الثانیة:عبارة عن تباین المقولات و تغایرها بحسب الحقیقة و الهویّة کمال المغایرة و التباین،و إن لم تکن مغایرتها کاملة یعود الإشکال إلی تصوّر ما فوق ذلک،مع أنّ تصوّره ینافی عنوان المقولة؛إذ معناها أنّه لا یکون

ص:296


1- 1) فوائد الاصول 1:424-429.

ما فوقها شیء أصلا.

الثالثة:کون الحرکة-أی البقاء و الاستمرار-فی کلّ مقولة عین تلک المقولة،و لیست هی بمنزلة الجنس و القدر المشترک للمقولات حتّی یلزم الترکیب و یعود الإشکال المذکور،و لا هی أیضا من الأعراض المستقلّة العارضة علیها حتّی یلزم قیام عرض بعرض،فالحرکة فی کلّ مقولة لا تکون شیئا وراء هذه المقولة.

ثمّ قال:و الظاهر أن تکون أفعال الصلاة من مقولة الوضع،سواء قلنا:إنّ المأمور به فی مثل الرکوع و السجود هو الهیئة و الحالة الخاصّة من التقوّس و الانحناء-کما هو مختار الجواهر-أو الفعل کما هو المختار،فإنّ المراد منه الفعل الصادر عن المکلّف،فیکون الانحناء إلی الرکوع أوضاعا متلاصقة متّصلة، و علی کلا التقدیرین یکون الرکوع و السجود من مقولة الوضع،و الاختلاف فی حقیقتهما لا یضرّ فی المقام.

و أمّا الغصب فیکون من مقولة الأین،فإنّه عبارة عن إشغال مکان الغیر و الکون فیه و احتلاله عدوانا،و إذا کانت الصلاة من مقولة الوضع فلا محالة تکون الحرکة الصلاتیّة أیضا من مقولة الوضع،و هکذا فی الغصب،أی تکون الحرکة الغصبیّة من مقولة الأین؛إذ تحقّق فی المقدّمة الثالثة أنّ الحرکة فی کلّ مقولة عین تلک المقولة،فیتحقّق بین کلتا الحرکتین کمال المغایرة،فلا یعقل اتّحاد متعلّق الأمر و النهی و تعلّق کلّ منهما بعین ما تعلّق به الآخر؛إذ الاتّحاد یوجب عدم تباین المقولات،و کما لا یعقل الترکیب الاتّحادی بین الجوهر و الإضافة فی قولک:«زید فی الدار»،فکذلک لا یعقل الترکیب الاتّحادی بین الصلاة و الإضافة فی قولک:«صلاة زید فی الدار»،و کما لا یکون زید غصبا

ص:297

کذلک لا تکون الصلاة غصبا،و لا یستلزم الارتباط بین المقولتین الاتّحاد بینهما،بل هنا مقولتان متغایرتان.

و لازم ذلک اتّصاف الصلاة فی الدار المغصوبة بالصحّة؛إذ الصلاة من مقولة الوضع و مقرّبة للمولی و محبوبة له،و تترتّب علیها المثوبة،و الغصب من مقولة الأین،و مبعّد عن المولی و مبغوض له،و تترتّب علیه العقوبة.

و بالنتیجة:تکون صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة علی القول بالجواز من الواضحات،هذا تمام کلامه ملخّصا.

و لکنّ التحقیق:أنّ هذا البیان لا یخلو من مناقشة؛إذ المقولات التسع العرضیّة ترتبط بالامور الواقعیّة العرضیّة،و لیس معنی احتیاج العرض إلی المعروض سلب الواقعیّة،و من المعلوم أنّ جعل الامور الاعتباریّة من مصادیق الامور الواقعیّة لیس بصحیح،و کون الصلاة من مقولة الوضع بلحاظ کون الرکوع و السجود منها لا یکون قابلا للالتزام؛إذ الصلاة لا تنحصر بهما،بل هی عبارة عن مجموعة من الواقعیّات و المقولات المتعدّدة التی لاحظ الشارع بلحاظ إحاطته بالواقعیات بینها وحدة اعتباریّة،و سمّاها بالصلاة،و من البدیهی أنّها خارجة عن مقسم المقولة.

سلّمنا أنّ کلّ جزء منها یکون مصداق مقولة من المقولات،و لکن هذه المجموعة الواحدة الاعتباریّة التی سمّیت بالصلاة لا تکون مصداقا لأیّ مقولة من المقولات.

و هکذا فی الغصب،فإنّ معناه الاستیلاء علی مال الغیر عدوانا؛إذ لا شکّ فی أنّ الاستیلاء و موضوعه-أی الملکیّة-یکون من الامور الاعتباریّة،فإنّ الملکیّة إذا تحقّقت بالبیع أو نحوه تتحقّق قاعدة السلطنة المستفادة من قوله صلّی اللّه علیه و آله:

ص:298

«الناس مسلّطون علی أموالهم» (1)،و لا إشکال فی أنّ هذا الدلیل یکون فی مقام إنشاء الاستیلاء و إیجاده،و معلوم أنّ کلّ ما یتحقّق بالإنشاء القولی أو الفعلی فهو أمر اعتباری،و الظاهر أنّ الاستیلاء بالغصب أیضا کان کذلک،و لیس المراد منه الاستیلاء التکوینی،بل العرف إذا رأی مال الغیر فی اختیار الغاصب و أنّه یمکن تصرّفه بدون إذن المالک یعبّر عنه بالغصب.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّه یتحقّق هاهنا مطلب أساسی،کما نبّه علیه مکرّرا استاذنا السیّد البروجردی قدّس سرّه (2)فی مباحثه الفقهیّة و الاصولیّة،و هو:أنّه یتحقّق لنا عنوانان فقهیّان:أحدهما:عنوان الغصب،و ثانیهما:عنوان التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه،کما ورد فی روایة الناحیة المقدّسة أنّه:«لا یحلّ لأحد أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه» (3)؛إذ یمکن عدم تصرّف الغاصب فی مال الغیر مع تسلّطه علیه عدوانا،و یمکن التصرّف فی مال الغیر بدون صدق عنوان الغصب و الاستیلاء علیه،مثل:تصرّف طالب العلوم الدینیّة فی کتب صدیقه و ألبسته و أوانیه حال غیبته مع علمه بعدم رضاه بذلک،بحیث إن ظنّ مجیئه یضعها فورا فی محلّها، و لا یبعد القول بارتکاب الحرامین إذا تصرّف الغاصب فی العین المغصوبة،و ما یتوهّم اتّحاد الصلاة معه عبارة عن التصرّف فی مال الغیر،لا الغصب و الاستیلاء علیه؛إذ الصلاة فی ملک الغیر نوع من التصرّف فیه،کما صرّح صاحب الدار-مثلا-بعدم رضایته بإتیان الصلاة فی داره،و هذا مثال لاجتماع الأمر و النهی،فلا یکون الغصب طرف مقایسة الصلاة،بل طرف مقایستها

ص:299


1- 1) عوالی اللئالی 1:222،ح 99.
2- 2) نهایة التقریر 1:248.
3- 3) وسائل الشیعة 17:309،الباب 1 من أبواب الغصب،الحدیث 4.

عبارة عن التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه.

و لا إشکال فی أنّ التصرّف فی مال الغیر عنوان انتزاعی عن المقولات المتعدّدة المتباینة و جامع بینها،فإنّ عنوان التصرّف قد یتحقّق بالجلوس فی دار الغیر،و قد یتحقّق بالقیام فیها،و قد یتحقّق بالحرکة فیها،و هکذا،و إن کان مال الغیر عبارة عن الألبسة فیتحقّق التصرّف فیها بلبسها،و إن کان عبارة عن الأطعمة فیتحقّق بأکلها،و یکون متعلّق الأمر واحد اعتباری باسم الصلاة،و متعلّق النهی واحد اعتباری آخر بعنوان التصرّف فی مال الغیر، و قلنا بعدم سرایتهما من متعلّقه إلی عناوین أخر کما هو المفروض علی القول بجواز الاجتماع.

و علی هذا یکون متعلّق الحرمة عنوان التصرّف فی مال الغیر لا مصادیقه، مثل:لبس ألبسته،و الکون فی داره،و أمثال ذلک،فلا یتحقّق الاتّحاد بین الصلاة و عنوان التصرّف،بل یتحقّق بینها و بین مصادیق العنوان المذکور،مثل الکون فی دار الغیر،فما یتّحد معه الصلاة لیس بحرام.

و من البدیهی أنّ إضافة المال إلی الغیر مثل إضافة المال إلی النفس أمر اعتباری،فکیف یمکن جعل المقولة للعنوانین الاعتباریّین باسم التصرّف فی مال الغیر،و القول بأنّ الغصب من مقولة الأین،فلا یصحّ کون الغصب من هذه المقولة کعدم صحّة کون الصلاة من مقولة الوضع حتّی نقول بتباینهما،و أنّه علی القول بجواز الاجتماع تکون الصلاة صحیحة؟!

و یمکن أن یقال دفاعا عن المحقّق النائینی قدّس سرّه:إنّه لا شکّ فی کون الصلاة من الامور الاعتباریّة،و لکنّ کون الرکوع و السجود من أجزائها الرکنیّة،و کونها من الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین،و أنّ بطلان جزء منها یستلزم بطلانها أیضا،

ص:300

لا شکّ فیه،و نلاحظ الرکوع و السجود مع عنوان الکون فی مکان الغیر،و کون الرکوع و السجود من مقولة الوضع،و الکون فی مکان الغیر من مقولة الأین لا یکون قابلا للإنکار.

و جوابه أوّلا:سلّمنا أنّ بطلان الجزء الرکنی مستلزم لبطلان الصلاة،و أمّا صحّته فلا تستلزم صحّة الصلاة،و هو قدّس سرّه یکون فی مقام إثبات صحّة الصلاة، لا فی مقام إثبات بطلانها،فیستفاد منه عکس المراد.

و ثانیا:أنّ الرکوع بنظره قدّس سرّه عبارة عن الأفعال المتلاصقة المتّصلة و إن لاحظناها مع أنفسها سلّمنا کونها من مقولة الوضع،و لکن إن لاحظناها بالنسبة إلی الفضاء المتحیّز فیها تکون داخلة فی مقولة الأین،فإنّ لانحناء الإنسان بالنسبة إلی هذا الفضاء حالة مخصوصة غیر حالة قیام الإنسان بالنسبة إلیه،فتکون حالة الرکوع نوع من احتلال الفضاء،فالغصب و الرکوع معا یکون علی مبناه من مقولة الأین.

و قال استاذنا السیّد البروجردی قدّس سرّه (1)بجواز اجتماع الأمر و النهی،و مع هذا یؤکّد علی بطلان الصلاة فی الدار المغصوبة،و محصّل کلامه قدّس سرّه:

أنّ متعلّق الأوامر و النواهی فی مرحلة تعلّقها عبارة عن الماهیّات و الطبائع و المفاهیم،فتمام متعلّق الأمر فی هذه المرحلة هو مفهوم الصلاة،و تمام متعلّق النهی هو عنوان التصرّف فی مال الغیر،و لا ربط بینهما فی هذه المرحلة بأیّ نحو من الارتباط،و لذا لا إشکال فی جواز اجتماع الأمر و النهی،و تصادق العنوانین علی شیء واحد یرتبط بمرحلة الوجود و التحقّق فی الخارج،و لکن إذا کانت مادّة اجتماع العنوانین عبادة،مثل:الصلاة فی الدار المغصوبة فیتحقّق

ص:301


1- 1) نهایة التقریر 1:248.

عنوان المقرّبیّة و المبعّدیّة أیضا،إلاّ أنّ موضوعهما عبارة عن الوجود الخارجی للعبادة لا ماهیّتها و لا وجودها الذهنی؛إذ المقرّبیّة تترتّب علی الوجود الخارجی للصلاة،کما أنّ المبعّدیّة تکون من شأن الوجود الخارجی للغصب.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّه لا یتصوّر للصلاة فی الدار المغصوبة أزید من وجود واحد،و إن کانت فی عالم المفاهیم متکثّرة و متعدّدة،و لکن فی ظرف المقرّبیّة و المبعّدیّة لیست إلاّ وجودا واحدا،و لا یمکن أن یکون وجود واحد بما أنّه واحد مقرّبا و مبعّدا معا،و لذا لا إشکال فی بطلان الصلاة فی الدار المغصوبة.

هذا تمام کلامه قدّس سرّه.

و لکنّه قابل للمناقشة بنظری القاصر بعد تسلیم جمیع مراحل کلامه،من کون مرحلة تعلّق الأحکام هی مرحلة المفاهیم و العناوین،و عدم الارتباط بین عنوان الصلاة و عنوان الغصب فی هذه المرحلة،و کون المقرّبیّة و المبعّدیّة من لوازم الوجود الخارجی للصلاة و الغصب،لا من لوازم الماهیّة،و أنّه لا یتحقّق للصلاة فی الدار المغصوبة إلاّ وجود واحد،و لکنّ البحث فی أنّ الصلاة إذا وقعت فی الدار المباحة،هل یکون لإباحة الدار دخل فی المقرّبیّة إلی المولی أم لا؟لا شکّ فی أنّ هذا الوجود الخارجی بما أنّه مصداق لمفهوم الصلاة مع وصف تحقّقه فی الخارج مقرّب للمولی،و لا دخل لوقوعها فی الدار المباحة فی المقرّبیّة أصلا،و إذا تحقّقت الصلاة فی الدار المغصوبة یتحقّق عنوان آخر أیضا -و هو عنوان الغصب-بوجود واحد،فلا مانع من کون وجود واحد بما أنّه صلاة مقرّب للمولی و بما أنّه غصب مبعّد عنه،وجود المضاف إلی الصلاة مقرّب،و وجود المضاف إلی الغصب مبعّد.

و لذا لا یصحّ التعبیر بأنّه یکون جعل المبعّد مقرّبا؛إذ الوجود الخارجی بما

ص:302

أنّه منطبق علیه عنوان الصلاة یکون مقرّبا،و بما أنّه منطبق علیه عنوان الغصب یکون مبعّدا،و لذا یکون لازم القول بجواز الاجتماع و ثمرته صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة کما قال به المشهور.

و أمّا علی القول بامتناع اجتماع الأمر و النهی فیقول بعض بتقدّم الأمر علی النهی،و یقول البعض الآخر بتقدّم النهی علی الأمر،و تمسّک کلّ منهما بوجوه کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی.

فإن قلنا بامتناع الاجتماع و ترجیح الأمر علی النهی تکون الصلاة فی الدار المغصوبة صحیحة علی القاعدة؛لکونها مأمورا بها فقط.و لکن بلحاظ کون البحث عن ثمرة عملیّة و مقام تطبیق الأمر و النهی یقتضی ترجیح الأمر علی القول بالامتناع أن لا یکون للمکلّف مندوحة؛إذ لو کان إتیان الصلاة فی الدار المباحة ممکنا فلا معنی لترجیح الأمر و أقوائیّة ملاکه،و لا بدّ من إتیانها فی الدار المباحة،کما أنّ الترجیح فی باب التزاحم یکون فیما إذا لم یمکن إنقاذ الغریقین؛إذ لا تصل النوبة إلی ترجیح أقوی الملاکین فی صورة إمکان إنقاذهما،و لذا لا بدّ من جعل الفرض فیما إذا لم یمکن إتیان الصلاة إلاّ فی الدار المغصوبة،و حینئذ یقول القائل بتقدیم الأمر بأنّ الصلاة-بلحاظ کونها عمود الدین و إطلاق عنوان الکفر علی تارکها فی الروایات-لیست إلاّ مأمورا بها، و هذا یکفی فی الاتّصاف بالصحّة.

و إن قلنا بامتناع اجتماع الأمر و النهی و ترجیح النهی علی الأمر،و علم المصلّی بأنّ هذه الدار مغصوبة و أنّ الغصب حرام،أو کونه جاهلا مقصّرا،فلا محالة تکون الصلاة باطلة قطعا؛إذ لا یتصوّر وجها لصحّة صلاته.

و أمّا إن کان المصلّی جاهلا بالموضوع أو الحکم بأنّه لم یتوهّم أنّ الغصب

ص:303

یکون من المحرّمات أو لم یکن له طریق إلی السؤال و کشف الواقع بعد التوهّم -و یعبّر عنه بالجاهل القاصر-فهذه الصورة تکون محلّ البحث و النزاع من حیث صحّة الصلاة و بطلانها.

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)إنّه:«لا یتصوّر وجها لبطلان صلاته؛لکونه جاهلا بالحرمة،و کان فی جهله معذورا».

و کلامه قدّس سرّه یکون فی بادئ النظر صحیحا،و لکنّه یحتاج إلی الدقّة و التحلیل؛ إذ المفروض هاهنا القول بالامتناع و ترجیح النهی علی الأمر،فلا تکون الصلاة فی الدار المغصوبة مأمورا بها أصلا،و حینئذ إن قلنا:بأنّ صحّة الصلاة تحتاج إلی الأمر و بدونه تکون باطلة فلا بحث فی البین،و لا إشکال فی بطلان الصلاة، فإنّها لیست إلاّ منهیّا عنها،و جهله لا یوجب تغییر الحکم إلاّ أنّه مانع عن تنجّز التکلیف و ترتّب استحقاق العقوبة علی مخالفة النهی؛لأنّه جاهل قاصر.

و یمکن أن یقول صاحب الکفایة قدّس سرّه:بأنّ صحّة العبادة لا تحتاج إلی الأمر الفعلی،بل یکفی فی صحّتها تحقّق مناط الأمر،کما قال فی مسألة الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن الضدّ أم لا،بأنّ الصلاة مکان الإزالة صحیحة علی القول بعدم الاقتضاء؛لتحقّق مناط الأمر فیها،فیمکن أن یقول هاهنا أیضا کذلک،لا سیّما بعد قوله فی المقدّمة الثامنة و التاسعة:إنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع إلاّ إذا کان فی کلّ واحد من متعلّقی الإیجاب و التحریم مناط حکمه مطلقا حتّی فی مورد التصادق و الاجتماع،کما أنّ الصلاة فی الدار المغصوبة تکون مشتملة علی المصلحة اللازمة الاستیفاء،و المفسدة اللازمة الترک معا، فعلی هذا یکون دلیل صحّة صلاة الجاهل القاصر تحقّق مناط الأمر.

ص:304


1- 1) کفایة الاصول 1:246-247.

و جوابه یحتاج إلی الدقّة فی أنّه هل یمکن تحقّق ملاک الأمر هاهنا علی القول بالامتناع و ترجیح النهی علی الأمر أم لا؟و علی فرض إمکان تحقّقه هل تکون الصلاة فی الدار المغصوبة مثل الصلاة مکان الإزالة من حیث کفایة تحقّق مناط الأمر فی صحّتها أم لا؟

إن قلنا:بجواز الاجتماع یتصادق فی مادّة الاجتماع العنوانان و الماهیّتان و الطبیعتان،و لیس المراد منهما الطبیعة و الماهیّة المنطقیّة حتّی لا یمکن تصادقهما فی مورد واحد کما سیأتی،بل هما أمران اعتباریّان کما مرّ،و لذا تکون الصلاة فی الدار المغصوبة مجمع العنوانین،و لا مانع من صدق عنوان المأمور به و عنوان المنهی عنه علیه معا،و من هنا نستکشف تحقّق المناطین فیها،أی المصلحة اللازمة الاستیفاء بما أنّها صلاة،و المفسدة اللازمة الترک بما أنّها غصب.

و إن قلنا:بامتناع الاجتماع و ترجیح الأمر علی النهی فلا إشکال فی تحقّق الأمر و کاشفیّته عن تحقّق المصلحة الملزمة.

و إن قلنا:بامتناع الاجتماع و ترجیح النهی علی الأمر یکون الدلیل للامتناع -کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه-عبارة عمّا یترتّب علی مقدّمات أربعة:و هو أنّ بعد تحقّق التضادّ بین الأحکام الخمسة التکلیفیّة،و بعد أنّ متعلّق الأحکام هو ما یصدر من المکلّف و یتحقّق فی الخارج،و بعد أنّ تعدد العنوان لا یستلزم تعدد المعنون،و بعد أنّ وحدة الوجود ملازمة لوحدة الماهیّة،یتحقّق و یستفاد منها أنّ الصلاة فی الدار المغصوبة لو کانت واجبة و محرّمة معا یلزم اجتماع المتضادّین فی شیء واحد،و هو مستحیل عقلا کاستحالة اجتماع السواد و البیاض فی جسم واحد.

ص:305

و فیه:أنّه لو فرض تمامیّة هذه المقدّمات و تمامیّة أنّ وجوب الصلاة فی الدار المغصوبة و حرمتها معا یستلزم اجتماع المتضادّین فنسأل:أنّه کیف یمکن القول بتحقّق المصلحة اللازمة الاستیفاء و المفسدة اللازمة الترک معا فیها إن تحقّق التضادّ بین الواجب و الحرمة مع أنّهما أمران اعتباریّان؟و کیف لا یتحقّق التضادّ بین المصلحة و المفسدة مع أنّهما أمران واقعیّان؟و لا مجال له إلاّ من القول بتحقّق التضادّ بینهما أیضا.

و حینئذ کیف یمکن تصوّر اجتماع الملاکین فی شیء واحد؟و قد مرّ تصریحه بأنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع إلاّ أن یتحقّق فی مادّة الاجتماع کلا الملاکین،و لا یمکن اجتماع الوجوب و الحرمة فی شیء واحد،فالصلاة فی الدار المغصوبة و إن کانت من حیث العنوان متعدّدة و لکنّها لا تتّصف بالصحّة،و لا یمکن وقوعها معروضة للوجوب و الحرمة معا بلحاظ وحدة المعنون.

و یرد علیه:أنّه کیف یمکن أن یکون معنون واحد حاملا لهذین المناطین -أی المصلحة و المفسدة الملزمتین-معا؟و لازم بیانه قدّس سرّه أنّه لا یتحقّق فی مادّة الاجتماع إلاّ مناط النهی،إلاّ أنّ جهل المکلّف مانع عن تنجّزه و ترتّب العقوبة علی مخالفته،و لیس معناه تحقّق مناط الأمر مکان مناط النهی؛إذ لا یمکن تحقّق مناط الأمر مع وجود مناط النهی،فلو فرض کفایة مجرّد مناط الأمر فی صحّة العبادة یکون السؤال هکذا:أنّ مع القول بالامتناع و ترجیح النهی علی الأمر أین ملاک الأمر؟

و لو فرض تحقّق کلا المناطین فی مادّة الاجتماع-علی القول بالامتناع و ترجیح النهی علی الأمر أیضا-هل یکفی مجرّد تحقّق مناط الأمر فی صحّة العبادة مطلقا أو فی بعض الموارد؟و قد مرّ فی بحث الاقتضاء أنّ علی القول

ص:306

بالاقتضاء تکون الصلاة منهیّا عنها و النهی المتعلّق بالعبادة یوجب البطلان، و علی القول بعدم الاقتضاء و إن لم یقتض الأمر المتعلّق بالإزالة کون الصلاة منهیّا عنها فی حال الإزالة،و لکن یقتضی عدم کونها مأمورا بها فی هذه الحالة علی القول باستحالة الترتّب،و مع ذلک تکون الصلاة مکان الإزالة صحیحة؛ لتحقّق مناط الأمر و المصلحة الملزمة فیها.

و أمّا علی القول بالامتناع و ترجیح النهی علی الأمر و عدم تنجّزه بلحاظ کون المکلّف جاهلا معذورا بعد فرض تحقّق ملاک الأمر،فهل تتّصف صلاته فی الدار المغصوبة بالصحّة-کالصلاة مکان الإزالة-أم لا؛لتحقّق الفرق بین ما نحن فیه و الصلاة مکان الإزالة،بعد تحقّق مناط الأمر فی کلتیهما؟

قال المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)فی مقام بیان الفرق بینهما:إنّ التزاحم علی قسمین:

قسم منه التزاحم بین الحکمین،و القسم الآخر التزاحم بین المقتضیین و المناطین،و بینهما بون بعید،فإنّ تزاحم الحکمین إنّما یکون فی مقام الفعلیّة و تحقّق الموضوع بعد الفراغ عن مرحلة الجعل و الإنشاء؛لإطلاقهما فی هذه المرحلة و تعلّقهما بطبیعة متعلّقهما بلحاظ جمیع أفرادها،من متحقّقة الوجود و مقدّرة الوجود،مثل:إطلاق«أنقذ الغریق»،فإنّه تعلّق بإنقاذ کلّ فرد من أفراد الغریق،و منشأ التزاحم عبارة عن عدم قدرة المکلّف فی مقام الامتثال؛ لإنقاذ کلا الغریقین فی آن واحد،فلذا تجری قواعد باب التزاحم من الأخذ بالأهمّ أو التخییر،و التزاحم بین الصلاة و الإزالة علی القول بعدم الاقتضاء یکون من هذا القبیل،و أثر هذا النوع من التزاحم أنّ المکلّف إن کان جاهلا قاصرا بوجوب فوریّ الواجب الأهمّ تکون صلاته صحیحة؛لعدم تنجّز

ص:307


1- 1) فوائد الاصول 2:431-434.

الأمر بالأهمّ،و تکون الصلاة مأمورا بها حقیقة،و وقعت إطاعة لأمرها،فلا وجه لبطلانها.

و أمّا تزاحم المناطین فإنّما یکون فی مقام الجعل و الإنشاء حیث یتزاحم المقتضیان فی نفس الآمر و إرادته،و یقع الکسر و الانکسار بینهما فی ذلک المقام، و یری تحقّق الملاکین للصلاة فی الدار المغصوبة،و ینشأ حکما علی طبق ملاک النهی فقط بلحاظ أقوائیّته،فیکون حکمها أنّها منهیّ عنها.

و لازم القول بالامتناع و ترجیح النهی تقیید إطلاق «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» بعدم وقوعها فی الدار المغصوبة،و بقاء«لا تغصب»علی إطلاقه،و أثر هذا النوع من التزاحم أنّ المکلّف إن کان جاهلا قاصرا بحرمة الغصب یکون جهله مانعا عن تنجّز النهی و ترتّب استحقاق العقوبة علی مخالفته،فلا وجه لصحّة الصلاة بعد انکسار مناط أمرها و مغلوبیّته فی مرحلة الجعل،و لا یستلزم عدم تنجّز النهی تحقّق مناط الأمر فی محلّه،بل الأولی تسمیة تزاحم الحکمین بالتعارض لدخالة مناط واحد فی جعل الحکم،و هو مناط النهی.

و أشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)بأنّه لیس معنی غالبیّة ملاک النهی و راجحیّته و مغلوبیّة ملاک الأمر و مرجوحیّته انعدام ملاک الأمر و حذفه عن عالم الواقع،بل یکون ملاک الأمر أیضا تامّا،و لکن لم ینشأ الحکم علی طبقه لأجل المانع،و هو أتمّیّة ملاک النهی،و إذا فرض کفایة تحقّق الملاک لصحّة العبادة و عدم تنجّز النهی بلحاظ الجهل فلا مانع من صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة،و رجوع هذه المسألة إلی التعارض لیس بصحیح؛إذ لا یتحقّق فی التعارض أزید من ملاک واحد،فلا فرق بین ما نحن فیه و بین الضدّین

ص:308


1- 1) تهذیب الأصول 1:388-389.

المتزاحمین کالصلاة مکان الإزالة.

إن قلت:إنّ بین المسألتین فرقا؛إذ یکون المقام من صغریات باب التعارض،و مع ترجیح جانب النهی ینشأ الأمر بالصلاة فی غیر الدار المغصوبة،و التقیید هنا کسائر التقییدات،و لکنّ النهی عن الغصب مطلق لا تقیید فیه،فالصلاة فی الدار المغصوبة لیست بمأمور بها.

قلت:إنّ التقیید یتحقّق بین الحکمین المتزاحمین أیضا،فإنّ المولی المحیط بالأوضاع و الشرائط یعلم بتزاحم الصلاة مع الإزالة أحیانا،و یقتضی الأمر بالإزالة عدم کون الصلاة مأمورا بها فی حال الإزالة،و لازم ذلک تقیید إطلاق «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» بعدم وقوعها مکان الإزالة،فیکون معناه:أقیموا الصلاة التی لم تکن مزاحمة مع الإزالة،ففی کلتا المسألتین لا بدّ من الالتزام بالتقیید.

و یمکن أن یقال دفاعا عن المحقّق النائینی قدّس سرّه:بأنّ التقیید فی کلتیهما لا یکون قابلا للإنکار،إلاّ أنّه یتحقّق بین التقییدین فرق،و ذلک بأنّ التقیید بین الملاکین یرتبط بأصل جعل الحکم و إنشائه،فإنشاء وجوب الصلاة مقیّد بعدم وقوعها فی الدار المغصوبة بلحاظ تحقّق التزاحم فی مرحلة الاقتضاء و غلبة ملاک النهی علی ملاک الأمر فی هذه المرحلة،و إنشاء حرمة الغصب مطلق بلحاظ ترجیح ملاک النهی،و أمّا فی التزاحم بین الحکمین فیکون الإنشاء فی کلیهما مطلقا، و التقیید یرتبط بمرحلة فعلیّة إقامة الصلاة.

قلت:سلّمنا تحقّق الفرق المذکور بینهما،و لکنّه لا یمکن أن یکون فارقا فی محلّ البحث،فإنّ دلیل صحّة الصلاة مکان الإزالة هل یدل علی تحقّق الملاک أو تحقّق الحکم الإنشائی الغیر الفعلی؟لا شکّ فی أنّ دلیل الصحّة عبارة عن تحقّق الملاک،و لا أثر لوجود حکم إنشائی غیر فعلی و عدمه،و ملاک الأمر

ص:309

مرجوح و مغلوب بالنسبة إلی ملاک النهی و لیس بمعدوم،و بعد عدم تنجّز النهی تکون الصلاة صحیحة؛لتحقّق الملاک.

هذا،و لکنّ الأصل فی الجواب هو الجواب الأوّل کما قلنا:و هو أنّه علی القول بالامتناع و ترجیح جانب النهی لا یتحقّق إلاّ ملاک النهی،و لیس معنی عدم تنجّز ملاک النهی بلحاظ الجهل به تحقّق ملاک الأمر،و لذا تکون الصلاة باطلة.

و لا بدّ من ذکر مسألة اخری أیضا بعنوان مقدّمة،و هی:أنّ العنوانین المذکورین فی عنوان البحث إذا کانا متباینین فلا کلام فی عدم جریان النزاع فیهما کالنظر إلی الأجنبیّة فی حال الصلاة؛لعدم اتّحادهما معا و إن تحقّقت المقارنة بینهما،و لذا ذکرنا أنّه لا بدّ من مقایسة الصلاة مع الکون فی دار الغیر؛ لاتّحادهما معا،بخلاف الغصب،فلا إشکال فی جواز اجتماع الأمر و النهی فی المتباینین،و لا قائل بالامتناع أصلا،فهما خارجان عن محلّ النزاع.

و إن کان بینهما تساوی فهل یمکن للمولی أن یقول:«أکرم کلّ إنسان»،ثمّ یقول:«لا تکرم کلّ ضاحک»؟

و قد مرّ عن المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی بحث الاقتضاء إنکار المقدّمیّة فی الضدّین و أنّ عدم أحد الضدّین لیس بمقدّمة للضدّ الآخر،و قبول التلازم فیهما،سیّما فی الضدّین الذین لا ثالث لهما.

ثمّ قال:إنّ أحد المتلازمین إن کان محکوما بحکم إلزامی-مثل الوجوب- فلا یمکن أن یکون الملازم الآخر محکوما بحکم إلزامی مباین له مثل الحرمة، فإذا تعلّق الوجوب بفعل الإزالة فلیس معناه تعلّق الوجوب بترک الصلاة أیضا،بل لا یمکن تعلّق الحرمة به فقط،و لذا یقول فیما نحن فیه:إنّ الإنسان

ص:310

ملازم للضحک،و کیف یمکن تعلّق الحکمین اللزومیّین المتضادّین بهما،و لا إشکال فی عدم جواز اجتماع الأمر و النهی فی المتساویین،فهما أیضا خارجان عن محلّ النزاع.

و قد أمضینا البحث فی الدورة السابقة بهذه الکیفیّة و لکن دقّة النظر تقتضی خلافه؛إذ قد مرّ عدم مدخلیّة قید المندوحة فی محلّ النزاع؛لتمحّضه فی تکلیف محال،و أنّه یمکن للمولی الحکم بحکمین متباینین فی العنوانین المتصادقین أم لا، و المحالیّة الناشئة عن عدم المندوحة ترتبط بتکلیف بمحال،و هو خارج عن محلّ النزاع کما مرّ تفصیله،و یجری هذا المعنی فی المتساویین أیضا؛إذ الإنسان و الضاحک عنوانان متصادقان،و لیس من شرائطهما تحقّق مادّة افتراقهما، و عدم إمکان اجتماع إکرام الإنسان مع عدم إکرام الضاحک یرتبط بالمکلّف به و عدم قدرة المکلّف،و هذا خارج عن محلّ النزاع،و البحث فی تعلّق الأمر و النهی بالعنوانین المتصادقین مع قطع النظر عن قدرة المکلّف و عدمه،فالظاهر أنّ المتساویین داخلان فی محلّ البحث،و إن لم یکن له ثمرة عملیّة لامتناع التکلیف بالمحال عندنا أیضا،و لکن یترتّب علیه ثمرة علمیّة.

اختلف العلماء فی جریان النزاع و عدمه فی الأعمّ و الأخصّ المطلقین،قال المحقّق القمّی (1)و النائینی قدّس سرّهما (2)و عدّة اخری بعدم جریانه فیه،و قال صاحب الفصول (3)بجریانه فیه،و لکنّه ینقسم إلی قسمین:إذ قد تکون الأعمّیة و الأخصّیة بحسب المورد لا المفهوم،و لم یؤخذ مفهوم الأعمّ فی الأخصّ،مثل:

أعمّیة الحیوان بالنسبة إلی الإنسان،فإنّهما مفهومان متغایران،و لم یؤخذ فی

ص:311


1- 1) قوانین الاصول 1:140-153.
2- 2) فوائد الاصول 2:410.
3- 3) الفصول الغرویّة:126.

مفهوم الإنسان و مدلوله مفهوم الحیوان،و لذا لا ننتقل من سماع کلمة الإنسان إلی الحیوان،و دخالة الحیوان فی ماهیّة الإنسان بعنوان الجنس لا یرتبط بالمفهوم و العنوان.

و قد تکون الأعمّیة و الأخصّیة بحسب المفهوم،و هو ما إذا اخذ مفهوم العامّ فی الخاصّ،مثل عنوان الرقبة و رقبة مؤمنة،و عنوان الصلاة و الصلاة فی الدار المغصوبة.

و الظاهر أن یکون القسم الأوّل داخلا فی محلّ النزاع،مثل:أن یقول المولی:

«أکرم عالما»،ثمّ یقول:«لا تکرم إنسانا»،فإنّهما عنوانان متغایران و متصادقان علی وجود واحد،بل یکون دخوله فی محلّ النزاع أظهر من المتساویین؛ لتحقّق مادّة الافتراق من ناحیة العامّ،و کلام صاحب الفصول ناظر إلی هذا القسم من العامّ و الخاصّ المطلق.

و أمّا القسم الثانی مثل:أن یقول المولی: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» ،ثمّ یقول:«لا تصلّوا فی الدار المغصوبة»،بناء علی کون النهی تحریمیّا،لا الإرشادی إلی بطلان الصلاة،فلقائل أن یقول بعدم دخوله فی محلّ النزاع؛إذ المطلق عبارة عن المعنی المقیّد بالشمول و السریان لجمیع الأفراد،کتقیید المقیّد کما قال به القدماء،و لذا یستلزم تقیید المطلق المجازیّة بعد وضعه لذات الموضوع له مع قید الإطلاق.

و لکنّ التحقیق:أنّ المطلق خال عن القید،یعنی یکون لا بشرط،و لذا لا یکون تقیید المطلق مستلزما للمجازیّة بلحاظ أنّ اللابشرط یجتمع من ألف شرط،فلا مانع من کون متعلّق الأمر مطلق الصلاة و متعلّق النهی الصلاة المقیّدة بوقوعها فی الدار المغصوبة لتعدّد العنوانین و تصادقهما فی واحد.

ص:312

و لا یقال:إنّ الصلاة فی الدار المغصوبة هی الصلاة المطلقة،و لا یمکن القول باجتماع الأمر و النهی هاهنا،و لذا یکون خارجا عن محلّ النزاع.

لأنّا نقول:إنّه لا دخل لمعنی المطلق بهذه الکیفیّة فی محلّ النزاع بعد تعدّد العنوانین و تصادقهما فی واحد،فیکون الأعمّ و الأخصّ المطلق بکلا قسمیه داخلا فی محلّ النزاع.

و أمّا العموم و الخصوص من وجه فهل یکون مطلقا داخلا فی محلّ النزاع أم لا؟و کان للمحقّق النائینی قدّس سرّه (1)بیان مفصّل هاهنا،و حاصله:أنّ مع وجدان الشرائط الثلاث للعموم و الخصوص من وجه یدخل فی محلّ النزاع:

الأوّل:أن یکون العموم من وجه بین المتعلّقین لا بین الموضوعین،و معلوم أنّ المتعلّق عبارة عن فعل المکلّف،و الموضوع عبارة عمّا یضاف فعل المکلّف إلیه،مثلا:یکون متعلّق النهی فی مثل«لا تشرب الخمر»عبارة عن شرب الخمر،و الموضوع هو الخمر،فلا بدّ من کون العموم من وجه بین المتعلّقین، مثل:الصلاة فی الدار المغصوبة،فإنّ کلاّ من الصلاة و الغصب فعل المکلّف، و النسبة بینهما العموم من وجه،فیدخل فی محلّ النزاع،و أمّا مثل:«أکرم العالم» و«لا تکرم الفاسق»فهو خارج عن محلّ النزاع بلحاظ تحقّق العموم من وجه بین الموضوعین-أی العالم و الفاسق-لا بین المتعلّقین؛إذ المتعلّق فی کلیهما أمر واحد،و هو الإکرام.

و قد مرّ أن ذکرنا فی مقام الاستدلال للقول بالجواز أنّ الصلاة من مقولة و الغصب من مقولة اخری،و لا یمکن الاجتماع بین المقولات؛لتحقّق التباین بینها،فتکون الصلاة بعنوان مقولتها متعلّق الأمر،و الغصب بعنوان مقولة

ص:313


1- 1) فوائد الاصول 2:410-412.

اخری متعلّق النهی،فلا بدّ من کون المتعلّقین من مقولتین،و إلاّ یکون خارجا عن محلّ النزاع،هذا تمام الکلام فی الشرط الأوّل.

الشرط الثانی:أنّه یکفی فی الأفعال التولیدیّة و التسبیبیّة أن یکون المتعلّق مقدورا للمکلّف مع الواسطة،و الحکم فیها بحسب الواقع یتعلّق بالسبب و ما هو مقدور له بلا واسطة،و إن تعلّق بحسب الظاهر بالمسبّب،و لا بدّ من کون العموم من وجه مربوطا بالسبب لا بالمسبّب و إلاّ خرج عن محلّ النزاع،مثلا:

إذا قال المولی:«أکرم العالم»،فکأنّه قال فی الحقیقة:«إذا ورد علیک العالم یجب علیک القیام فی مقابله»؛إذ الإکرام مسبّب و القیام سبب لتحقّقه،و إذا قال بعده:

«لا تکرم الفاسق»و قصد المکلّف بقیام واحد فی مقابلهما إکرامهما معا بعد ورودهما علیه،فهو خارج عن محلّ النزاع،و لا بدّ من القول بالامتناع؛إذ المأمور به و المنهیّ عنه معا عبارة عن القیام بقصد التعظیم،فلا تتحقّق فیه المقولتان المتباینتان،فالعموم من وجه إذا تحقّق فی الأفعال التولیدیّة خرج عن محلّ النزاع.

الشرط الثالث:أن یکون الترکیب بین المقولتین فی مادّة الاجتماع ترکیبا انضمامیّا لا ترکیبا اتّحادیّا؛بأن یکون لکلّ جزء من أجزاء المرکّب عنوان مستقلّ،و ماهیّة مستقلّة،و یتحقّق الترکیب و الانضمام بینهما مع حفظ مقولتهما، و لذا لا یتوهّم أنّه لا یمکن تحقّق الاتّحاد بین المقولتین حتّی یعبّر عنه بمادّة الاجتماع؛إذ لا بدّ من کون الترکیب بینهما ترکیبا انضمامیّا،و إلاّ یکون خارجا عن محلّ النزاع،مثلا:إذا قال المولی:«اشرب الماء»،ثمّ قال:«لا تغصب» فالمکلّف إن شرب الماء فی المکان المغصوب فهو داخل فی محلّ النزاع،و إن شرب الماء المغصوب فهو خارج عن محلّ النزاع،فإن کان العموم من وجه

ص:314

واجدا لهذه الشرائط الثلاثة دخل فی محلّ النزاع،و إن کان فاقدا لأحد منها خرج عنه.هذا توضیح کلامه قدّس سرّه.

و لکنّ التحقیق:أنّ جمیع الشرائط المذکورة مورد للمناقشة،فإنّ منشأ الشرط الثالث عبارة عن الاعتقاد بأمرین:أحدهما:أنّ الترکیب یرتبط بالموجودات الخارجیّة بلحاظ اجتماعها خارجا،و لا یتحقّق فی عالم العناوین و الطبائع أصلا،و یجری بحث الترکیب بهذه الکیفیّة علی القول بتعلّق الأحکام بالوجودات الخارجیّة،لا علی القول بتعلّقها بالعناوین و الطبائع کما هو الحقّ؛ إذ لا یتحقّق فیها الترکیب حتّی نبحث أنّه انضمامی أو اتّحادی.

و ثانیهما:أنّه قائل بجواز اجتماع الأمر و النهی،و معلوم أنّه لا یمکن اجتماعهما فی المرکّب الاتّحادی،فلا ضرورة علی القول بالامتناع أن یکون فی مادّة الاجتماع ترکیبا انضمامیّا،مع أنّه لا بدّ من تحریر محلّ النزاع علی جمیع المبانی.

و هکذا یکون منشأ الشرط الثانی اعتقاده بانصراف الأحکام حقیقة من المسبّبات إلی الأسباب فی الأفعال التولیدیّة و التسبیبیّة،و لا ضرورة لهذا الشرط علی القول بعدم انصراف الأحکام عن ظاهرها،و أنّ الأحکام فی الواقع أیضا متعلّقة بالمسبّبات،فتکون هذه المسألة مسألة اختلافیّة،و لازم القول بتعلّقها بالأسباب لا یکون إضافة القید فی عنوان محلّ النزاع هاهنا.

و أمّا الشرط الأوّل-أی اعتبار تحقّق العموم من وجه بین المتعلّقین لا بین الموضوعین-فقد مرّ أنّ دلیل خروج«أکرم العلماء»و«لا تکرم الفسّاق»عن محلّ النزاع عبارة عن عدم إحراز کلا الملاکین فی مادّة الاجتماع،و إن أحرز فی مورد تحقّقهما معا فلا شکّ فی أنّه أیضا داخل فی محلّ النزاع،و إن لم تکن النسبة المذکورة بین المتعلّقین.

ص:315

و إذا قیل:إنّ مقتضی القول بالاجتماع-استنادا إلی تعدّد المقولة-تحقّق هذا الشرط.

قلنا:إنّ البحث عن المقولة فی الامور الاعتباریّة لیس بصحیح،و نحن أیضا نقول بالاجتماع استنادا إلی تعدّد العنوان و المفهوم،فالعموم من وجه داخل فی محلّ النزاع مطلقا بعد إحراز تحقّق الملاکین فی مادّة الاجتماع.

أصل البحث فی المسألة و بیان المختار فیها

اشارة

و بعد الفراغ عن بیان المقدّمات وصلنا إلی أصل البحث فی المسألة،فالمحقّق الخراسانی قدّس سرّه قائل بامتناع اجتماع الأمر و النهی،و أکثر تلامذته یقولون بجوازه، و مقتضی التحقیق هو القول بالجواز،و لا بدّ لنا من التوجّه إلی امور لإثبات هذا المطلب:

الأوّل:أنّ تعلّق الأحکام بالطبائع و العناوین کاشف عن تحقّق الملاک فیها

، مثلا:تعلّق الأمر بالصلاة معلول لتحقّق الجهة المقتضیة فیها،مثل:کونها معراج المؤمن،و ناهیة عن الفحشاء و المنکر،و نحو ذلک،و هکذا فی باب النواهی،فإنّا نستکشف من تعلّق النهی بشرب الخمر دون شرب الماء أنّه تتحقّق لا محالة فی شرب الخمر علّة مقتضیة له،و هذا مطلب واضح.

و بعبارة اخری:أنّه لا بدّ فی تعلّق الإرادة التکوینیّة بالمراد من تصوّر المراد و التفات النفس إلیه و تصدیق فائدته،و لا یمکن تعلّقها به بدون المبادئ،بل کلّ کلمات الخطیب-مثلا-فی حال الخطابة و التکلّم بالألفاظ و الکلمات سریعا یکون مسبوقا بالإرادة،و کلّ إرادة مسبوقة بالمبادئ و لکنّها بعنایة إلهیّة، و الحالة الخلاّقیّة للنفس الإنسانیّة تتحقّق سریعا،و هکذا فی الإرادة التشریعیّة،و من المعلوم أنّ تعلّق إرادة الباری بالبعث الاعتباری إلی الصلاة

ص:316

یکون لتحقّق خصوصیّة فی المبعوث إلیه،و هکذا فی تعلّق زجره الاعتباری بشرب الخمر مثلا.

إنّما الکلام فی أنّه إذا تعلّق الحکم بطبیعة لتحقّق الملاک فیها،مثل:تعلّق الأمر بالصلاة لکونها ناهیة عن الفحشاء و المنکر،هل یکون حامل الملاک و واجد هذه الخصوصیّة عبارة عن نفس طبیعة الصلاة أو یکون لبعض العوارض المتّحدة معها فی الخارج أیضا دخل فی الملاک؟و إذا تحقّقت الصلاة فی الدار المغصوبة-مثلا-هل یکون المؤثّر فی النهی عن الفحشاء و المنکر عبارة عن الصلاة مع خصوصیّة وقوعها فی الدار المغصوبة أو بدونها؟و معلوم أنّ التأثیر منحصر بطبیعة الصلاة،و إذا کان الأمر کذلک فلا شکّ فی عدم سرایة الأمر عن متعلّقه إلی ما یتّحد معه فی الوجود الخارجی؛إذ الأمر تابع للملاک و الملاک متقوّم بطبیعة الصلاة،و لا دخل لغیرها فی تحقّق الملاک،فکیف یعقل سرایة الأمر إلی ما تتّحد الصلاة معه أحیانا؟!

الأمر الثانی:أنّ التمسّک بأصالة الإطلاق متوقّف علی جریان مقدّمات

الحکمة

،و البحث فی معنی أصالة الإطلاق،و أنّ معنی الإطلاق فی الآیة الشریفة: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ (1)عبارة عن الشمول و سریان الحکم بالحلّیّة و النفوذ بجمیع الأفراد و مصادیق البیع،نظیر قولنا مثلا:أحلّ اللّه کلّ بیع،فلا فرق بین أصالة الإطلاق و أصالة العموم من حیث النتیجة،و الاختلاف بینهما فی الطریق فقط،أو یتحقّق بینهما اختلاف ماهویّ بأنّ مفاد أصالة العموم معلوم لنا بلحاظ دلالة کلمة«کلّ»علی الشمول و السریان و استیعاب جمیع الأفراد.

ص:317


1- 1) البقرة:275.

بخلاف أصالة الإطلاق فإنّه بعد إثباته من طریق مقدّمات الحکمة لا تدلّ إلاّ علی نفس الطبیعة،و بعد فرض عدم دلالة المفرد المعرّف بالألف و اللاّم فی مثل أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ لا طریق لدخالة الأفراد و الأنواع فی معنی البیع أصلا، و معناه أنّ تمام متعلّق الحکم بالحلّیّة و النفوذ عبارة عن نفس طبیعة البیع، و لکنّ العقل یحکم بانطباق الحکم بالحلّیّة علی کلّ فرد من أفراد البیع بما أنّه مصداق لهذه الطبیعة.

و علی هذا تکون أصالة العموم أصلا لفظیّا بلحاظ أخذ اللفظ الدالّ علی العموم فی متعلّق الحکم،و أصالة الإطلاق أصلا عقلیّا یستفاد من مقدّمات الحکمة.

الأمر الثالث:أنّ الأوامر و النواهی هل تتعلّق بنفس الطبائع أو تتعلّق

بالطبائع مع التقیّد بالوجود الذهنی أو مع التقیّد بالوجود الخارجی؟

و أنّ معروض الوجوب فی قولنا:«الصلاة واجبة»هی طبیعة الصلاة أو الصلاة الموجودة فی الذهن أو الصلاة الموجودة فی الخارج؟

و لا بدّ لنا قبل التحقیق فی هذه المسألة من ذکر مقدّمة،و هی:أنّه هل تتحقّق قضیّة حملیّة صادقة یکون الموضوع فیها نفس الطبیعة و الماهیّة،و المحمول فیها أحد الأعراض مع قطع النظر عن الوجود الذهنی و الخارجی فی عروض هذا العرض علیه أم لا؟قلت:نعم،لا شکّ فی تحقّقها فی مثل«الإنسان کلّی»؛إذ المعروض بعرض الکلّیّة و الموصوف بهذا الوصف هی نفس الماهیّة،فإنّ تقیّدها بالوجود الذهنی أو الخارجی یوجب التشخّص و الجزئیّة،و هی فی مقابل الکلّیة،و یمتنع صدقها علی کثیرین،و إن کان ظرف تشکیل القضیّة هو الذهن،و لکنّ الموضوع لیس الإنسان المقیّد بالوجود الذهنی،بل الموضوع

ص:318

نفس ماهیّة الإنسان.

و لا ینافی ذلک ما هو المسلّم فی علم الفلسفة من أنّ الماهیّة من حیث هی هی لیست إلاّ هی،و سلب جمیع الأوصاف الوجودیّة و العدمیّة عنها،و منها وصف الکلّیة و غیر الکلّیة.

فإنّ معنی هذه العبارة أنّ الماهیّة فی عالم الذات و الذاتیّات و بالحمل الأوّلی محدودة بحدّها،و لا یتجاوز عن الجنس و الفصل،و تکون بهذا الحمل قضیّة «الإنسان کلّی»قضیّة کاذبة،و أمّا بالحمل الشائع فتکون قضیّة صادقة،کما أنّ قضیّة«الإنسان موجود»أیضا تکون کذلک،فهی بالحمل الشائع قضیّة صادقة و الموضوع فیها نفس الماهیّة،و إن لم تکن قضیّة ضروریّة لا بمعنی ضرورة ثبوت المحمول للموضوع کما فی مثل:«الإنسان حیوان ناطق»،و لا بمعنی الضرورة بشرط المحمول کما فی مثل:«الإنسان المقیّد بالوجود الخارجی موجود فیه»و«الإنسان المقیّد بالوجود الذهنی موجود فیه»،و لا ممتنعة کما فی مثل:«الإنسان المقیّد بالوجود الذهنی موجود فی الخارج»،أو بالعکس،بل هی قضیّة ممکنة صادقة بالحمل الشائع؛لتحقّق ملاکه فیها،أی کون الموضوع من مصادیق المحمول،و لکنّها بالحمل الأوّلی قضیّة کاذبة،کما لا یخفی.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول:إنّ معروض الوجوب فی قضیّة«الصلاة واجبة»،هل هی نفس ماهیّة الصلاة،أو الصلاة المقیّدة بالوجود الذهنی أو المقیّدة بالوجود الخارجی؟إن أثبتنا بطلان الاحتمالین الأخیرین تعیّن الاحتمال الأوّل،فإن کانت الصلاة المقیّدة بالوجود الذهنی متعلّقة للأمر فإنّه ینافی الغرض من وجوب الصلاة؛إذ الغرض منه ترتّب الآثار و الثمرات علیها کالنهی عن الفحشاء و المنکر،و المعراجیّة و أمثال ذلک،و هذه لا تترتّب علی

ص:319

وجودها الذهنی.

إن قلت:إنّ متعلّق الوجوب هی الصلاة المقیّدة بالوجود الذهنی،و أمّا فی مقابل الامتثال فلا بدّ من إتیانها فی الخارج.

قلت:إنّ بعد عدم مطابقة المأتی به مع المأمور به لا یمکن تحقّقها أصلا؛إذ الصلاة الموجودة فی الذهن یمتنع انطباقها علی الصلاة الخارجیّة،و یستحیل موافقتها الصلاة الخارجیّة.فهذا الاحتمال بدیهی البطلان.

و المهمّ هو الاحتمال الثالث،و هو أن یکون متعلّق الحکم ما یصدر عن المکلّف خارجا،و معروض الوجوب هی الصلاة المقیّدة بالوجود الخارجی، کما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه فی المقدّمة الثانیة من مقدّمات القول بالامتناع، و یؤیّده ترتّب الآثار و الثمرات علی الصلاة المتحقّقة فی الخارج دون الطبیعة بمجرّدها.

و هناک أدلّة متعدّدة علی بطلان هذا الاحتمال،و هی:

الأوّل:أنّ بیان قید الموجود فی الخارج لیس بضروری فی مثل«الجسم أبیض»؛لوضوح عدم إمکان کون الجسم أبیض بدون تحقّقه فی الخارج،و فی القضایا الحملیّة و إن لم یکن بهذا الوضوح،و لکن لا شکّ فی تقدّم الموضوع علی المحمول کتقدّم المعروض علی العرض،و علی هذا لا محالة یکون معنی قضیّة«الصلاة واجبة»:الصلاة الموجودة فی الخارج واجبة.

و یرد علیه:أنّ الصلاة إذا کانت متّصفة بالوجود الخارجی فلا معنی لإیجابها،فإنّه تحصیل للحاصل،و هو أمر مستحیل،و من جهة الحرمة إن کان شرب الخمر الموجود فی الخارج حراما أو منهیّا عنه یکون معناه أنّ الأمر الموجود فی الخارج لم یوجد فیه،و هذا أیضا أمر مستحیل؛إذ یمتنع أن تتغیّر

ص:320

صفحة الواقع التی وقع فیها شرب الخمر.

الدلیل الثانی:أنّه کما لا فرق بین الشارع و العقلاء فی کیفیّة التفهیم و التفهّم لعدم اتّخاذ الشارع طریقا خاصّا فی ذلک غیر طریقهم،کذلک لا فرق بینهما وجدانا فی أصل التقنین و جعل القانون،و کیفیّته من حیث إنّ متعلّق الحکم هو نفس الطبیعة أو الطبیعة المقیّدة بالوجود الخارجی،و بعد ملاحظة کیفیّة جعل القوانین العرفیّة نری أنّه لا أثر لوجود الطبیعة فی الخارج فی زمان صدور الأمر و جعل القانون؛إذ لا بدّ من جعل القانون أوّلا،و إبلاغه إلی المکلّفین و علمهم به ثانیا،ثمّ ملاحظتهم الآثار المترتّبة علی الموافقة و المخالفة،و بعد هذه المراحل یتحقّق الداعی لإتیانه فی الخارج لعدّة من المکلّفین.

و بالنتیجة:تکون مرحلة وجود المأمور به متأخّرة عن مرحلة البعث و صدور الأمر بمرحلتین،فکیف یمکن أخذه فی مرتبة متعلّق البعث،و القول بأنّ البعث متعلّق بوجود المبعوث إلیه؟!فلا محالة یتعلّق البعث بالطبیعة،ثمّ یطّلع العبد علیه،ثمّ ینبعث إن کان مطیعا،و الوجدان حاکم بعدم التفاوت بین القوانین العرفیّة،و الشرعیّة فی سیر مراحل جعل القانون.

الدلیل الثالث:أنّ الغرض من الأمر فی الأوامر العرفیّة إذا قال السیّد لخادمه مثلا:«ادخل السوق و اشتر اللحم»لا یکون إلاّ تحقّق ما یکون معدوما فی الخارج،و تبدیل حالته العدمیّة بحالة وجودیّة عن طریق الأمر، و لا شکّ فی أنّه لا تتحقّق هاتان الحالتان لأیّ شیء سوی الطبیعة،فإنّها قد تکون معدومة و قد تکون موجودة،و لا یمکن اجتماع الفرد الخارجی مع حالة عدمیّة،فإنّ قوام الفردیّة بثلاثة أشیاء:و هی الطبیعة و الوجود و الخصوصیّات الفردیّة،فکیف تتصوّر حالتان للوجود الخارجی؟!فالغرض من توجّه الأمر

ص:321

إلی المکلّف أنّ ما لیس بموجود فی الخارج یصیر بیده موجودا،و هذا لا یکون شیئا آخر غیر الطبیعة.

سلّمنا أنّ الوجود الخارجی المأمور به و المنهی عنه مؤثّر فی ترتّب الآثار و المصالح و المفاسد،و لکنّه لا یدلّ علی أنّ متعلّق الأمر و النهی أیضا وجودهما خارجی؛إذ لا طریق لتحقّق الغرض و الإیصال إلیه إلاّ بتعلّق الأمر بالطبیعة، و توهّم عدم إمکان التفکیک بین متعلّق الأمر و محصّل الغرض باطل،بعد الإثبات بالأدلّة الثلاثة أنّ متعلّق الأحکام هی الطبیعة،هذا أمر عقلائی و وجدانی.

و بذلک یدفع توهّم آخر،و هو:أنّ المتعلّق إن کانت الطبیعة فلا بدّ من الالتزام بکفایة الوجود الذهنی للمأمور به أیضا فی مقام الامتثال،فإنّ الوجود الذهنی کالوجود الخارجی واقعیّة من الواقعیّات.

و جوابه:أنّ الغرض من الأمر معلوم لنا و لا شبهة فیه،و هو إیجاد المأمور به و تحقّق الطبیعة فی الخارج،لا مجرّد واقعیّة الطبیعة و لو تحقّقت بالوجود الذهنی؛إذ لا یترتّب علیه شیء من الآثار.

إذا لاحظت هذه المقدّمات الثلاثة یظهر أنّ اجتماع الأمر و النهی و تصادقهما فی شیء واحد جائز،و لا یتصوّر مانع منه؛إذ أثبتنا فی المقدّمة الاولی أنّ سرایة الحکم عن دائرة متعلّقه إلی أمر خارج عنها ممتنع؛إذ الحکم تابع للملاک،و هو لا یتحقّق فی الخارج عن المتعلّق،فلا یسری الوجوب عن دائرة الصلاة،و کذا الحرمة عن دائرة الغصب.

و أثبتنا أیضا فی المقدّمة الثانیة أنّ معنی أصالة الإطلاق بعد جریان مقدّمات الحکمة فی مثل الصلاة واجبة غیر معنی أصالة العموم،و هو:أنّ

ص:322

موضوع الوجوب و متعلّقه هو نفس طبیعة الصلاة،لا أنّ الصلاة بجمیع عوارضها و مقارناتها واجبة.

و أثبتنا أیضا فی المقدّمة الثالثة أنّ متعلّق الحکم فی الواجبات و المحرّمات عبارة عن نفس الطبیعة،و دخالة الوجود الخارجی فیه بعنوان القید مستحیل، کما أنّ دخالة الوجود الذهنی فیه غیر معقول،فیعرض الوجوب کعروض عنوان الکلّیّة و الوجود علی نفس الطبیعة.

و نری فی الشریعة تعلّق الأمر بالصلاة بقوله: أَقِیمُوا الصَّلاةَ و النهی بالغصب بقوله:(لا تغصب)مثلا،و لا شکّ فی أنّه لا یتحقّق التضادّ و التمانع بینهما فی مرحلة تعلّق الحکم،کما أنّه لا یتحقّق التضادّ فی هذه المرحلة بین الأمر بالصلاة و سائر النواهی،کالنهی عن الغیبة و الزنا و النظر إلی الأجنبیّة مثلا.

نعم،قد یتصادق عنوان الغصب و الصلاة فی الخارج علی شیء واحد حین إتیان الصلاة فی الدار المغصوبة،و لکن هذا الاتّحاد و التصادق یکون من لوازم وجودهما الخارجی،و معلوم أنّ الخارج لا یرتبط بمرحلة تعلّق الحکم؛إذ هو ظرف موافقة الحکم و مخالفته،أی ظرف سقوط التکلیف،و هو متأخّر عن مرحلة ثبوته التی تکون محلّ البحث هاهنا،و لذا یجوز تعلّق الأمر و النهی بالعنوانین المتصادقین فی الوجود الخارجی أحیانا،بل و إن کان التصادق دائمیّا؛لأنّا نبحث فی تکلیف محال،لا فی التکلیف بالمحال کما مرّ تفصیله،و هذا الطریق أجود الطرق للقول بجواز الاجتماع.

و قد مرّ عن المحقّق النائینی قدّس سرّه القول بجواز اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد،و إن کان المأمور به الوجود الخارجی للصلاة و المنهیّ عنه الوجود

ص:323

الخارجی للغصب،فإنّهما من المقولتین المتباینتین و ترکیبهما ترکیب انضمامیّ لا اتّحادی.

و لکنّه لیس بتام؛لأنّه متفرّع علی کون متعلّق الأحکام الطبائع الموجودة فی الخارج،و قد أثبتنا فی المقدّمة الثالثة أنّه لا یتحقّق فی مرحلة تعلّق الأحکام سوی ذات الطبیعة،فلا یکون هذا الطریق قابلا للمساعدة أصلا.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ کون الصلاة و الغصب من مقولتین لیس بصحیح؛إذ الصلاة أمر اعتباریّ،و الغصب أمر انتزاعی،و کلاهما خارجان عن دائرة المقولات،و إن لاحظنا بعض أجزاء الصلاة مع منشأ انتزاع الغصب کالرکوع-مثلا-مع واقعیّة التصرّف فی دار الغیر،فیکون کلاهما من مقولة الأین.

و ثالثا:أنّ جواز الاجتماع فی الترکیب الانضمامی من البدیهیّات،و لا یمکن لأحد فیه القول بالامتناع،فإنّ مجرّد الانضمام و الاتّصال و المجاورة لا یوجب سرایة النهی عن متعلّقه إلی متعلّق الأمر،و بالعکس،فهو خارج عن محلّ البحث؛إذ النزاع بین القائل بالجواز و الامتناع فی الترکیب الاتّحادی،کما هو معلوم.

لا یتوهّم:أنّ امتناع الاجتماع فی الترکیب الاتّحادی من البدیهیّات بعد فرض کون الصلاة و الغصب من مقولة واحدة،و ترکیبهما فی الخارج بالترکیب الاتّحادی.

فإنّا نقول:إنّ الأمر و النهی لا یتعلّق بالمقولة،بل یتعلّق بطبیعة الصلاة و الغصب،و لا شکّ فی استقلالهما فی مرحلة تعلّق الحکم،فیکون الطریق للقول بجواز الاجتماع الطریق الذی ذکرناه.

و یمکن أن یقال:إنّ القول بجواز الاجتماع یستلزم أن تکون الصلاة فی الدار

ص:324

المغصوبة مأمورا بها و منهیّا عنها معا،مع أنّه لا یمکن للوجود الواحد أن یکون کذلک،فنسأل أنّها واجبة أو محرّمة،أو واجبة و محرّمة معا؟

و جوابه:أنّها مع وصف الوقوع فی الدار المغصوبة لیست بواجبة؛إذ الواجب هی الصلاة،و وصف وقوعها فی مکان کذا خارج عن متعلّق الأمر، و هکذا لیست بمحرّمة؛إذ الحرام هو الغصب و وصف تحقّقه فی ضمن الصلاة خارج عن متعلّق النهی،و معنی جریان أصالة الإطلاق فیهما کما مرّ أنّ طبیعة الصلاة متعلّق الأمر،و طبیعة الغصب متعلّق النهی،فلا دلیل علی وجوبها و لا حرمتها؛إذ لا یکون بهذا العنوان متعلّق حکم من الأحکام.

إن قلت:أنّ تعلّق الأمر یکشف عن محبوبیّة المأمور به للمولی،و تعلّق النهی یکشف عن مبغوضیّة المنهی عنه له،و لازم القول بجواز اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد کونه محبوبا و مبغوضا معا للمولی،مع أنّ المحبوبیّة و المبغوضیّة ترتبط بالوجود الخارجی لا بالطبیعة المجرّدة،فکما أنّه لا یمکن أن یکون الجسم الواحد معروضا للسواد و البیاض معا فی آن واحد،کذلک الموجود فی الخارج مع کونه واحدا لا یمکن أن یکون محبوبا و مبغوضا معا؛ لتحقّق التضادّ بینهما.

قلت:إنّ السواد و البیاض واقعیّتان خارجیّتان و لا بدّ من کون معروضهما أیضا موجودا فی الخارج،فمعنی قولنا:«الجسم أبیض»أنّ الجسم الموجود فی الخارج فعلا أبیض،و لذا لا یمکن أن یکون الجسم الموجود فی الخارج معروضا للسواد و البیاض الخارجی معا.

و لکنّ الحبّ و البغض-کالعلم-یکون من الأوصاف القائمة بالنفس الإنسانیّة،و من الأوصاف النفسانیّة ذات الإضافة إلی الخارج،فلا بدّ من

ص:325

ملاحظة قیامها بالنفس أوّلا،و ارتباطها بالخارج ثانیا،أمّا من جهة قیامها بالنفس فیجب أن تکون فی البین نفس حتّی تتّصف بأنّها تحبّ شیئا أو تبغض شیئا أو تعلم شیئا،و أمّا من جهة إضافتها إلی الخارج فنری بالبداهة تعلّق کمال المحبّة و الاشتیاق بکثیر من الأشیاء،مع تحقّقها فی الخارج فعلا،کمحبّة إلی الحجّ فی موسمه،و هکذا فی البغض،و العلم،و قد مرّ أنّ الاشتیاق مبدأ من مبادئ الإرادة و عامل محرّک لتحقّق المراد،فظرف تحقّقه قبل تحقّق المراد.

و قد ذکر فی تقسیم العلل أنّ من جملتها العلّة الغائیّة،و هی متأخّرة عن المعلول فی الوجود الخارجی،و متقدّمة علیه فی التأثیر،فیظهر أنّ قبل تحقّق المعلول یتحقّق الاشتیاق إلیه.

بل قد یتعلّق العلم بالممتنعات کما فی قولنا:«شریک الباری ممتنع»،فإنّ بعد تصوّره و جعله موضوعا نحکم بامتناعه.

لا یتوهّم:أنّ تحقّق العلم بدون تحقّق المعلوم کیف یعقل مع أنّ العلم من الأوصاف ذات الإضافة؟!

فإنّا نقول:إنّ طرف إضافة العلم فی الحقیقة و الواقع هو ما ینعکس فی الذهن لا الموجود الخارجی الذی یتصوّر فی بادئ النظر أنّه متعلّق العلم، و علی هذا فلا فرق بین أن یکون المعلوم موجودا فی الخارج بالفعل أم لا و هکذا فی الحبّ و البغض.

فعلی هذا یکون وقوع الصلاة فی الدار المغصوبة فی الخارج مجمع العنوانین، و فی الذهن له صورتان:الصورة الصلاتیّة و الصورة الغصبیّة،أحدهما متعلّق الحبّ النفسانی،و الآخر متعلّق البغض النفسانی،فمقایسة هذه المسألة مع السواد و البیاض لیس بصحیح.

ص:326

بل قد یتحقّق فی الموجود الخارجی جهة معلومة،و جهة مجهولة،مثلا:إذا رأینا شبحا من بعید بعد إحراز حیوانیّته و الشکّ فی إنسانیّته و فرسیّته یکون الموجود الخارجی معلوما لنا و مجهولا معا؛إذ المعلوم هی صورة جنسیّته المرتسمة فی النفس،و المجهول صورة فصلیّته المرتسمة فیها،مع أنّه لا یمکن خارجا تحقّق الجنس بدون الفصل،و بالعکس،فإذا أمکن التفکیک بین الصورة الفصلیّة و الصورة الجنسیّة،فالتفکیک بین الصورة الصلاتیّة و الصورة الغصبیّة بطریق أولی بمکان من الإمکان.

و الفرق الآخر بین مسألة السواد و البیاض و ما نحن فیه:أنّ اجتماع السواد و البیاض فی جسم واحد فی آن واحد لا یمکن بأیّ وجه من الوجوه،و لو لأشخاص متعدّدین،و أمّا اجتماع الحبّ و البغض فی شیء واحد من جهة واحدة فلا یمکن بالنسبة إلی شخص واحد،و أمّا بالنسبة إلی شخصین فلا شکّ فی جواز اجتماعهما،فلا یثبت بهذا الطریق القول بالامتناع.

إن قلت:إنّ وجود الأمر کاشف عن وجود المصلحة الملزمة فی المأمور به، و وجود النهی کاشف عن وجود المفسدة الملزمة فی المنهیّ عنه،و یستلزم القول بجواز اجتماع الأمر و النهی أن یتحقّق فی وجود واحد مصلحة ملزمة و مفسدة ملزمة معا،و الحال أنّ التضادّ بین المصلحة و المفسدة مثل التضادّ بین السواد و البیاض.

قلت:إنّه لا بدّ من ملاحظة المقیس علیه فی الابتداء،بأنّ الموضوع فی قضیّة «الجسم أبیض»لا تکون ماهیّة الجسم؛إذ لا یتحقّق التضادّ فی مرحلة الماهیّة کما مرّ تفصیله،بل الموضوع هو الجسم الخارجیّ المتخصّص بالخصوصیّات الفردیّة،و لذا نقول:هذا الجسم مع اتّصافه بالبیاض لا یعقل اتّصافه بالسواد

ص:327

فی آن واحد،فیعرض البیاض أو السواد علی هذا الجسم بدون واسطة.

أمّا اتّصاف شیء بالحسن أو القبح أو المصلحة إذا قلنا:«هذا الشیء حسن»أو«هذا الشیء ذات مصلحة»أو«هذا الشیء قبیح»،فیحتاج إلی الواسطة و تشکیل القیاس،مثلا:إذا رأینا شخصا یؤذی یتیما-مثلا-نقول:هذا العمل ظلم،و الظلم قبیح،فهذا العمل قبیح،و معنی تشکیل القیاس أنّ موضوع القبح عنوان کلّی،و بلحاظ انطباقه علی إیذاء الیتیم یکون هذا العمل قبیحا،و هکذا فی الحسن و المصلحة،و هذا یوجب الفرق بین ما نحن فیه و«الجسم أبیض»،فإنّ فی عروض البیاض علی الجسم بلا واسطة فی البین،بل الهذیّة محفوظة،و مع حفظ الهذیّة لا یعقل اجتماع السواد و البیاض،و بدونه لا إشکال فی اجتماعهما،و نقول:هذا الجسم معروض للبیاض و ذاک الجسم معروض للسواد،و لا تتحقّق الهذیّة فی الصلاة فی الدار المغصوبة،بل یحتاج إلی تشکیل القیاس،و لذا نقول:هذا العمل صلاة،و الصلاة مشتملة علی المصلحة الملزمة،فهذا العمل مشتمل علی المصلحة الملزمة،و هکذا نقول:هذا العمل غصب،و الغصب مشتمل علی المفسدة الملزمة،فهذا العمل مشتمل علی المفسدة،و لیس معناه عروض الحکم و المحمول فی الکبری علی الموضوع فی الصغری بلا واسطة،بل هو یعرض علی الموضوع فی الکبری،ثمّ ینطبق علی الموضوع فی الصغری بعنوان مصداق الکلّی.

و هذا لا ینافی القول بتعلّق الأحکام بالطبائع،و ترتّب الآثار علی وجوداتها الخارجیّة،لا الماهیّات،فإنّ بین الماهیّة و الوجود مع العوارض المشخّصة تتحقّق واسطة باسم وجود الطبیعة،و هو الذی تتقوّم المصلحة به؛إذ وجود الصلاة ناهی عن الفحشاء و المنکر لا ماهیّتها و لا عوارضها الفردیّة،و أمّا

ص:328

موضوع التضادّ فهو الوجود مع العوارض المشخّصة،و لا یکفی فی تحقّقه وجود المجرّد،و لذا یصحّ القول:بأنّ الجسم الموجود أبیض و أسود معا بلحاظ الأفراد المتحقّقة فی الخارج.

و علی هذا تتحقّق ثلاث مراحل:الاولی:مرحلة عروض الوجوب علی الصلاة،و هی مرحلة الماهیّة و الطبیعة.

الثانیة:مرحلة ترتّب الآثار،و هی مرحلة وجود الصلاة فی الخارج، و ترتبط المصلحة و المفسدة بهذه المرحلة.

الثالثة:مرحلة التضادّ،و هی مرحلة الماهیّة الموجودة المتخصّصة بخصوصیّات فردیّة،فلا مانع من کون الصلاة فی الدار المغصوبة مشتملة علی المصلحة بلحاظ أنّها صلاة،و مشتملة علی المفسدة بلحاظ أنّها غصب.

و الطریق الذی اخترناه إلی هنا یبتنی علی فرض تحقّق التضادّ بین الأحکام الخمسة،و رفع غائلته بتعدّد المتعلّق،مع أنّ تحقّق التضاد بینها یحتاج إلی البحث و الدقّة،بأنّ تعریف التضادّ هل ینطبق علی الأحکام الخمسة أم لا؟ و أنّ حقیقة الحکم ما هو؟

أمّا تعریف المتضادّین فعلی ما ذکره المنطقیّون:أنّهما ماهیّتان نوعیّتان مشترکتان فی جنس القریب مع البعد بینهما،أو کمال البعد بینهما.

و علی هذا لا یتحقّق التضاد بین صنفین من ماهیّة واحدة،کما أنّه لا یتحقّق بین الماهیّتین النوعیّتین المشترکتین فی جنس البعید و المتوسّط.

و أمّا حقیقة الحکم فهی علی ثلاثة احتمالات:

الأوّل:ما قال به المحقّق النائینی قدّس سرّه علی ما ببالی من أنّ الحکم عبارة عن الإرادة المتعلّقة بالبعث إلی شیء أو الزجر عنه،و المظهرة بصدور البعث

ص:329

أو الزجر عن المولی.

فاسم الإرادة المتعلّقة بالبعث هو الوجوب،و اسم الإرادة المتعلّقة بالزجر هی الحرمة،و لا شکّ فی عدم صدق تعریف التضاد علیهما علی هذا المعنی؛ لعدم کون الإرادتین المذکورتین نوعین من الإرادة،بل هما شخصان منها؛إذ القیام و القعود أمران متضادّان بخلاف الإرادتین المتعلّقتین بهما؛إذ القیام و القعود دخیلان فی تشخّص الإرادة لا فی نوعها،و تعلّقها بأشیاء متعدّدة لا یوجب تغییر ماهیّتها،کما أنّ تعلّق العلم بمعلومات مختلفة لا یوجب تغییر ماهیّة العلم،فإن کان الحکم هی الإرادة المتعلّقة بالبعث أو الزجر فلا یصدق علیه تعریف التضادّ أصلا،مع أنّ الوجوب و الاستحباب کلاهما عبارتان عن الإرادة المظهرة المتعلّقة بالبعث،و الفرق بینهما بقوّة الإرادة و ضعفها،و من المسلّم أنّ الاختلاف بالشدّة و الضعف لا یمکن أن یرجع إلی الاختلاف فی الماهیّة.

الاحتمال الثانی:أنّ الحکم هو البعث الاعتباری الذی یتحقّق بواسطة هیئة«افعل»،و الزجر الاعتباری الذی یتحقّق بواسطة هیئة«لا تفعل»کما هو المختار،و علی هذا الاحتمال أیضا لا ینطبق تعریف التضادّ علیهما بأدلّة متعدّدة:

الأوّل:أنّه قد مرّ فی المباحث السابقة أنّ الموضوع فی القضیّة الحملیّة إن کان هذا الجسم الموجود فی الخارج و المحمول هو الأسود و الأبیض معا تکون القضیّة کاذبة؛لتحقّق التضاد بینهما فی هذه المرحلة،و إن کان الموضوع فیها ماهیّة الجسم و المحمول هو الأسود و الأبیض معا تکون القضیّة صادقة؛إذ لا یکون فی هذه المرحلة من التضادّ-بل التناقض-أثر و لا خبر،و لذا یصحّ القول بأنّ ماهیّة الإنسان موجودة و معدومة معا،و الموجود بلحاظ أفراده

ص:330

الموجودة فی الخارج،و المعدوم بلحاظ أفراده الممکنة التحقّق و المعدومة فیه.

و قد مرّ أیضا أنّ البعث أو الزجر لا یمکن أن یتعلّق بغیر الماهیّة؛إذ لا یعقل تعلّقه بهذا الموجود،فإنّ معناه تحقّق الصلاة فی الخارج أوّلا ثمّ تعلّق البعث بها،و هکذا فی الزجر،فتکون ماهیّة الصلاة مبعوث إلیها و ماهیّة الغصب مزجور عنها،و لا یتحقّق التضاد فی هذه المرحلة.

إن قلت:إن لم یتحقّق التضاد و التناقض فی مرحلة الماهیّات فلا مانع من وقوع ماهیّة واحدة متعلّقا للبعث و الزجر معا،کقولنا:«صلّ»و«لا تصلّ».

قلت:لا شکّ فی استحالة تعلّق البعث و الزجر معا بماهیّة واحدة،مثل:

«صلّ»و«لا تصلّ»،و لکن علّتها لا تکون عبارة عن التضاد،بل تکون علّتها عدم مقدوریّة هذا التکلیف للمکلّف فی مقام الامتثال،مثل أن یقول المولی:

«اجمع بین الضدّین»،فعدم إمکان تعلّق الأمر و النهی بطبیعة واحدة فی آن واحد لا یکون کاشفا عن تحقّق التضاد بینهما.

الدلیل الثانی:قد مرّ أنّه لا فرق فی مسألة التضاد و عدم إمکان عروض السواد و البیاض علی معروض واحد فی آن واحد أن یکون من جهة شخص واحد أو من جهة أشخاص متعدّدین،و أمّا فی البعث و الزجر فیمکن أن تکون طبیعة واحدة فی آن واحد من جهة أحد الموالی مبعوثا إلیها و من الجهة الاخری مزجورا عنها،مثل:أن یقول أحدهم لابنه:«اشرب اللبن»و الآخر یقول لابنه:«لا تشرب اللبن»،فلا یتحقّق التضاد بین البعث و الزجر أصلا.

الدلیل الثالث:أنّ التضاد یرتبط بالامور الواقعیّة و الحقائق و التکوینیّات، و لا محلّ له فی الامور الاعتباریّة؛إذ مرّ فی تعریف أهل المعقول:أنّ المتضادّین ماهیّتان نوعیّتان،و من المعلوم أنّ الماهیّة لا تتحقّق فی الامور الاعتباریّة،

ص:331

بل هی للواقعیّات العینیّة و الخارجیّة،و استعمال کلمة الماهیّة فی الامور الاعتباریّة-مثل ماهیّة الإحرام و ماهیّة الصلاة-یکون علی سبیل العنایة و المجاز و المسامحة،فإنّها تابعة لاعتبار الشرع أو العقلاء،فالأحکام من الامور الاعتباریّة،و بعیدة عن مسألة التضاد بمراحل.

بقی متمّم و هو:قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّه لا ریب فی أنّ الأحکام الخمسة متضادّة فی مقام فعلیّتها و بلوغها إلی مرتبة البعث و الزجر.

و الظاهر منه أنّه لا فرق بین الأحکام الخمسة فی أصل عنوان التضاد، و رتبة التضاد من حیث الشدّة و الضعف،فعلی فرض قبول التضاد بین الوجوب و الحرمة،کیف یمکن إثباته بین الوجوب و الاستحباب مع أنّ الفرق بینهما أنّ أحدهما ناش عن الإرادة القویّة،و الآخر ناش عن الإرادة الضعیفة؟!

یمکن أن یتوهّم:أنّ تغایر منشأهما یوجب التغایر بینهما،و لکنّه لیس بصحیح؛إذ التغایر بین البعثین لیس بأزید و أشدّ من التغایر بین الإرادتین، و قد ذکرنا أنّ اختلاف الإرادتین فی الشدّة و الضعف لا یرجع إلی اختلاف ماهوی،بل کلاهما داخلان تحت کلّی واحد مشکّک،فلا یتحقّق التضاد بینهما، و علی هذا لا یمکن تحقّق التضاد بین البعثین الناشئین من مراحل ماهیّة واحدة.

و لکنّ جریان هذا الإشکال علی صاحب الکفایة مبتن علی کون مدّعاه تحقّق التضاد بین جمیع الأحکام الخمسة،مع أنّه اعترف فی بحث استصحاب الکلّی من القسم الثالث و مواضع أخر من الکفایة بأنّه یتحقّق کمال المغایرة بین الوجوب و الاستحباب بنظر العرف،و أمّا بنظر العقل فیکون الاختلاف بینهما

ص:332


1- 1) کفایة الاصول 1:249.

فی الرتبة بعد دخولهما فی ماهیّة کلّیّة مشکّکة واحدة.

و معلوم أنّ مسألة اجتماع الأمر و النهی مسألة عقلیّة لا ترتبط بالعرف، و لازم بیانه قدّس سرّه فی مواضع أخر عدم تحقّق التضاد بینهما فی هذه المسألة،فیتحقّق الاختلاف بین کلامه هاهنا و کلامه فی سائر الموارد فی تحقّق التضاد و عدمه بین الوجوب و الاستحباب.

الاحتمال الثالث:أنّ الحکم أمر اعتباریّ یتحقّق عقیب البعث و الزجر، و علی هذا أیضا لا ینطبق تعریف التضاد؛لجریان الأدلّة المذکورة فی الاحتمال الثانی هاهنا أیضا،لا سیّما الدلیل الثالث من عدم تحقّق التضاد فی الامور الاعتباریّة التی تکون تمام تقوّمها بالاعتبار،و أنّه یتحقّق فی الماهیّات و الحقائق و الواقعیّات،و إطلاق الماهیّة علی الامور الاعتباریّة لا یخلو عن مسامحة،فالحکم بأیّ معنی کان لا یتحقّق التضاد بین الأحکام حتّی بین الوجوب و الحرمة.

و من أدلّة القائلین بجواز اجتماع الأمر و النهی دلیل قابل للتحقیق و الملاحظة،و هو:أنّه لو لم یجز اجتماع الأمر و النهی لما وقع نظیره و قد وقع کما فی العبادات المکروهة،کالصلاة فی مواضع التهمة و فی الحمّام و الصیام فی السفر و فی بعض الأیّام کصوم یوم عاشوراء.

بیان الملازمة:أنّه لو لم یکن تعدّد الجهة مجدیا فی إمکان اجتماعهما لما جاز اجتماع حکمین آخرین فی مورد مع تعدّدها؛لعدم اختصاصهما من بین الأحکام بما یوجب الامتناع من التضاد،بداهة تضادّها بأسرها،و التالی باطل؛لوقوع اجتماع الکراهة و الإیجاب أو الاستحباب فی مثل:الصلاة فی الحمّام و الصیام فی السفر و فی عاشوراء و لو فی الحضر،و اجتماع الوجوب

ص:333

و الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب فی مثل:الصلاة فی المسجد أو الدار.

و المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی مقام الجواب عنه یقسّم العبادات المکروهة إلی ثلاثة أقسام مع وجود العبادات المحرّمة کصلاة الحائض؛لعدم اجتماع الأمر و النهی فیها معا،بل هی منهیّ عنها فقط.

و قال:إنّ العبادات المکروهة علی ثلاثة أقسام:أحدها:ما تعلّق به النهی بعنوانه و ذاته و لا بدل له کصوم یوم عاشوراء،و النوافل المبتدئة فی بعض الأوقات،مثل بعد صلاة العصر إلی الغروب.ثانیها:ما تعلّق به النهی کذلک، و یکون له البدل کالنهی عن الصلاة فی الحمّام.ثالثها:ما تعلّق النهی به لا بذاته، بل بما هو مجامع له وجودا أو ملازما له خارجا کالصلاة فی مواضع التهمة، بناء علی کون النهی عنها لأجل اتّحادها مع الکون فی مواضعها (1).

و معلوم أنّ القسم الثالث الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بناء علی اتّحاد الصلاة و الکون فی مواضع التهمة مؤیّد للطریق الذی ذکرناه،فإنّ بعد إثبات جواز اجتماع الأمر و النهی بالبرهان،فیکون هذا أقوی شاهد علی وقوعه فی الشریعة،و أفتی به الفقهاء.

و أمّا القسم الثانی فقد مرّ أن ذکرنا أنّ النسبة بین العنوانین المتصادقین لا تختصّ بالعموم من وجه،بل العموم و الخصوص المطلق و المتساویان أیضا داخلان فی محلّ النزاع،و علی هذا المبنی لا إشکال فی جواز اجتماع الأمر و النهی التنزیهی فی الصلاة فی الحمّام،فإنّها بما أنّها صلاة متعلّقة للأمر و واجبة و أنّها صلاة بقید وقوعها فی الحمّام مکروهة،فهی متعلقة للنهی التنزیهی.

و أمّا من أنکر دخول العموم و الخصوص المطلق فی محلّ النزاع-مثل

ص:334


1- 1) کفایة الاصول 1:255.

صاحب الفصول-أو أنکر جواز اجتماع الأمر و النهی-مثل صاحب الکفایة قدّس سرّه-فلا بدّ له من جواب آخر،و أولی الجواب ما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)و حاصله:أنّ الخصوصیّات الفردیّة لا مدخلیّة لها فی المأمور به،و لکنّ الشارع حین وجّه الأمر بإقامة الصلاة لاحظ أنّ المکلّف غافل و جاهل بالفرق الموجود بین الصلاة فی الحمّام و الصلاة فی المسجد و الصلاة فی الدار-مثلا-و أنّ صلاة ذی المصلحة إذا لوحظت مع الخصوصیّات الفردیّة بعضها توجب حزازة و منقصة فی المصلحة،و بعضها توجب زیادتها،و بعضها لا توجب التغییر فیها.

و لذا یقول الشارع فی مقام إرشاد المکلّف إلی هذه الواقعیّة بأنّ«لا تصلّ فی الحمّام»،لیس معناه حکما مولویّا کراهیّا،بل إرشاد إلی أنّ وقوع الصلاة فی المکان المذکور یوجب المنقصة فی مصلحتها،و هکذا معنی«صلّ فی المسجد» لیس حکما مولویّا استحبابیّا،بل إرشاد إلی أنّ إتیانها فیه یوجب زیادة المصلحة،و ما نقول بامتناع اجتماعه هاهنا عبارة عن اجتماع حکمین مولویّین، و لا مانع من اجتماع الحکم المولوی مع الحکم الإرشادی،فلا ینطبق الدلیل علی المدّعی؛إذ لا یتحقّق الحکمان هاهنا فی الحقیقة،کأنّ الشارع یقول:إن کنت ترید زیادة المصلحة فصلّ فی المسجد،و إن کنت ترید عدم نقصانها فلا تصلّ فی الحمّام.

و أمّا القسم الأوّل فلا إشکال فیه أیضا علی المبنی المختار،فإنّ صوم یوم عاشوراء مستحبّ و متعلّق للأمر بعنوان أنّه صوم یوم من أیّام السنة،و مکروه و متعلّق للنهی التنزیهی بعنوان أنّه صوم المقیّد بیوم عاشوراء.

ص:335


1- 1) انظر:المصدر السابق:255-256.

و علی القول بالامتناع أو خروج العموم و الخصوص المطلق عن محلّ النزاع فلا بدّ من جواب آخر،و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی مقام الجواب عنه:إنّ النهی تنزیهی عن صوم یوم عاشوراء بعد الإجماع علی أنّه یقع صحیحا،و مع ذلک یکون ترکه أرجح کما یظهر من مداومة الأئمّة علیهم السّلام علی الترک،إمّا لأجل انطباق عنوان ذی مصلحة علی الترک،مثل مخالفة بنی امیّة،و إمّا لأجل ملازمة الترک کعنوان کذلک،فیکون الترک-کالفعل-ذا مصلحة موافقة للغرض،و إن کان مصلحة الترک أکثر فهما حینئذ یکونان من قبیل المستحبّین المتزاحمین،فلا یرتبط بمسألة اجتماع الأمر و النهی،هذا ملخّص کلامه قدّس سرّه.

و استشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)بأنّ الترک عدمی لا ینطبق علیه عنوان وجودی،و لا یمکن أن یکون ملازما لشیء،فإنّ الانطباق و الملازمة من الوجودیّات التی لا بدّ فی ثبوتها لشیء من ثبوت ذلک الشیء،و لذا یکون تقسیم العدم إلی عدم المطلق و عدم المضاف و عدم الملکة نوع من المسامحة، و لذا لا یصحّ تعلّق الطلب بالترک فی باب النواهی،بل النهی زجر عن الوجود کما أنّ الأمر بعث إلیه.

و لکن مع قطع النظر عن إشکال الإمام قدّس سرّه یرد علیه إشکال آخر و هو:أنّه لمّا عرفت أنّ فی مورد الواجبات لا یوجد أزید من حکم واحد،و کذا فی مورد المحرّمات أیضا،فعلیه یکون ترک الواجب لیس بحرام بل فعله واجب، و ترک المحرّم لیس بواجب بل فعله حرام،و هکذا فی الاستحباب و الکراهة، فإذا کان الشیء مستحبّا فلا یتّصف ترکه بالکراهة کما أنّ الشیء إذا کان

ص:336


1- 1) المصدر السابق.
2- 2) تهذیب الاصول 1:414-416.

مکروها لا یتصف ترکه بالاستحباب،و بعبارة اخری:الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه العام،و لا النهی عن ضدّه الخاصّ.

فنقول:سلّمنا أنّ عنوان ذی المصلحة یتّحد مع ترک الصوم فی یوم عاشوراء،أو ملازم له،و یتحقّق المستحبّان المتزاحمان،و التزاحم هاهنا بین الفعل و الترک،و لکنّ البحث فی تعلّق النهی التنزیهی علی صوم یوم عاشوراء، و هو محطّ نظر القائل بجواز الاجتماع فی مقام الاستدلال؛لوقوعه فی الشریعة، فکیف یکون هذا قابلا للحلّ و الجواب.

و قد مرّ أنّه علی المبنی المختار قابل للجواب حتّی علی فرض انحصار محلّ النزاع بالعموم و الخصوص من وجه،و لکنّه یبتنی علی مقدّمة،و هی:أنّ یوم عاشوراء عید لبنی امیّة کما نری فی زیارة عاشوراء«أنّ هذا یوم تبرّک به بنو امیّة و ابن آکلة الأکباد»،و لذا یصومون فیه و یهیّئون مئونة سنتهم،و یلبسون الثیاب الجدیدة،و یخضبون و أمثال ذلک،فمتعلّق الکراهة فی الحقیقة هو التشبّه بهم،و معلوم أنّ التشبّه لیس من العناوین القصدیّة،بل واقعیّة تحصل بدون القصد،و من مصادیق التشبّه بهم هو الصوم فی هذا الیوم،و مصداقه الآخر التجارة و ذخیرة مئونة السنة فیه،فیتحقّق لنا عنوانان:

أحدهما:صوم مطلق الأیّام سوی العیدین و شهر رمضان،و هو متعلّق الاستحباب.و ثانیهما:التشبّه ببنی امیّة فی یوم عاشوراء،و هو متعلّق النهی الکراهتی،و النسبة بین العنوانین عموم و خصوص من وجه،فهذا أیضا دلیل للقول بجواز الاجتماع.

و إلی هنا ذکرنا أنّ محلّ النزاع فی مسألة اجتماع الأمر و النهی یرتبط بتکلیف محال،و لا یرتبط بتکلیف بمحال،و لذا قلنا:إنّ عدم وجود المندوحة خارج

ص:337

عن محلّ النزاع،فإنّه تکلیف بمحال مع الواسطة،و منشؤه عدم مقدوریّة مکلّف به،هذا علی فرض ثبوت التضادّ بین الأحکام.

و أمّا بعد الإثبات بالأدلّة الأربعة أنّه لا یتحقّق التضادّ بینها،فلا بدّ من إرجاع محلّ النزاع إلی التکلیف بمحال،و قد مرّ أنّ تعلّق الأمر و النهی بعنوان واحد مثل:«صلّ»و«لا تصلّ»لا إشکال فیه من حیث البعث و الزجر؛إذ المحالیّة ناشئة عن عدم قدرة المکلّف علی امتثالهما،إذا کان الأمر فی عنوان واحد هکذا یکون فی عنوانین متصادقین بطریق أولی کذلک،فلا یتحقّق هاهنا تکلیف محال أصلا.

ثمّ ذکر صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فرعا بعد الفراغ عن أصل مسألة الاجتماع، و هو عبارة عن حکم الخروج عن الدار المغصوبة بعد دخولها بسوء الاختیار و الالتفات،مع أنّه أیضا تصرّف فی مال الغیر بدون إذنه،و لکنّه مضطرّ إلیه،إلاّ أنّ الاضطرار إلیه یکون بسوء الاختیار،مع أنّه ممّا ینحصر به التخلّص عن محذور الحرام.

و یستفاد من مجموع الکلمات أنّه یتحقّق هاهنا خمسة أقوال:

الأوّل:أنّه مأمور به و منهیّ عنه معا مثل الصلاة فی الدار المغصوبة، و اختاره العامّة و الفاضل القمّی ناسبا له إلی أکثر المتأخّرین و ظاهر الفقهاء، و هذا القول مبتن علی القول بجواز اجتماع الأمر و النهی فی أصل المسألة،و لکن لا یلزم علی القائل بالاجتماع الالتزام بهذا القول؛إذ یمکن له أن یقول بعدم وجود الأمر هاهنا،کما سیأتی.

الثانی:أنّه مأمور به فقط.

ص:338


1- 1) کفایة الاصول 1:263.

الثالث:أنّه منهیّ عنه فقط.

الرابع:أنّه لا یکون مأمورا به و لا منهیّا عنه.

الخامس:أنّه کان منهیّا عنه قبل الدخول،و لکنّ النهی یسقط بحدوث الاضطرار،و لذا لا یکون منهیّا عنه بالنهی الفعلی،إلاّ أنّه یجری علیه حکم المعصیة و أثر النهی،و هو ما اختاره صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و أمّا کونه مأمورا به أو مأمورا به و منهیّا عنه معا فلا دلیل علیه من الآیة، و الروایة و الإجماع،و یستفاد من الروایات حرمة التصرّف فی مال الغیر أو مال المسلم فقط،کقوله علیه السّلام:«لا یحلّ لأحد أن یتصرّف فی مال غیره إلاّ بإذنه» (1)، و هکذا قوله علیه السّلام:«حرمة مال المسلم کحرمة دمه».

فلا یکون الخروج بهذا العنوان حراما،بل الدخول أیضا کان کذلک،فإنّه یکون حراما بعنوان التصرّف فی مال الغیر بدون إذنه،فلیس من الوجوب النفسی أثر و لا خبر،و ما یتحقّق هاهنا هو الحکم التحریمی المتعلّق بالتصرّف فی مال الغیر.

و یمکن القول بتحقّق الوجوب الغیری لعنوان الخروج بعد قبول أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العام-أی الترک-و أنّ النهی عن الشیء یقتضی الأمر بضدّه العام،فیستفاد من الحدیث المذکور أنّ ترک التصرّف فی مال الغیر یکون واجبا،فیکون الخروج مقدّمة لترک التصرّف فیه؛و بعد قبول أنّ مقدّمة الواجب واجبة یکون الخروج مأمورا بالأمر الغیری،و إن أنکرنا أحد المبنیین أو کلاهما-کما هو الحقّ-فلا یتحقّق أیّ نوع من الأمر،فلا مجال للقول الأوّل و الثانی.

ص:339


1- 1) الوسائل 24:234،الباب 63 من أبواب الأطعمة المحرمة،الحدیث 3.

الظاهر أنّ القول الثالث-یعنی کونه منهیّا عنه-یکون مقتضی التحقیق،و لا یرتفع النهی الفعلی بالاضطرار،بدلیل مبناه الذی اخترناه تبعا لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه و یترتّب علیه ثمرات متعدّدة،و هو أنّه لا بدّ لخطابات شخصیّة من شرائط خاصّة،فإذا توجّه الخطاب الشخصی إلی عبد من جهة المولی توقّف فعلیّته و تنجّزه علیه،و استحقاق العقوبة علی مخالفته علی علم المکلّف بالمکلّف به،و مقدوریّة المأمور به له،و عدم الاضطرار بترکه.و نضیف إلیها أنّ غرضه من البعث و الزجر إن کان الانبعاث و الانزجار لا بدّ من علم المولی أو احتماله بتحقّق الانبعاث و الانزجار فیه بعدهما،و نضیف أیضا أنّه لا بدّ من کون المأمور به و المنهی عنه مورد ابتلاء المکلّف،کما اشترطه الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (1)لتنجّز العلم الإجمالی.

و أمّا فی الخطابات العامّة،مثل: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» و «آتُوا الزَّکاةَ» ،فإن قلنا بانحلالها بخطابات متعدّدة حسب تعدّد المکلّفین فهی أیضا ترجع إلی خطابات شخصیّة،و لا بدّ فیها من تحقّق الشرائط المذکورة،و حینئذ إذا کان البعث لغرض الانبعاث لا معنی لتوجّه الخطاب إلی الکفّار و العصاة؛لأنّ اللّه تعالی یعلم بکفرهم و عصیانهم.

و لکنّ التحقیق فیها عدم الانحلال،و أنّه لا بدّ لها من شرائط خاصّة اخری، و نری بالوجدان شمولها لجمیع المکلّفین من القادر و العاجز و العالم و الجاهل و المضطرّ و غیره و الکافر و العاصی،و یصحّ توجّه الخطاب إلیهم بعد علم المولی بامتثال أکثرهم أو عدّة منهم،و لذا یعبّر فی الروایات و المحاورات أنّ الجاهل و العاجز معذور فی المخالفة،لا أنّهما خارجان عن دائرة التکلیف.

ص:340


1- 1) انظر:فرائد الاصول(تراث الشیخ الأعظم)2:333-334.

و یشهد علی ذلک امور:

الأوّل:أنّ الشکّ فی تحقّق الشرط و عدمه فی الواجبات المشروطة یرجع إلی الشکّ فی أصل الوجوب و یجری فیه أصالة البراءة،و علی هذا إن قلنا بانحلال خطابات عامّة و شککنا فی مورد تحقّق القدرة و عدمه علی إتیان المأمور به تجری أصالة البراءة قاعدة،مع أنّه مجری أصالة الاحتیاط عند الفقهاء،و لا یتصوّر له دلیل سوی خروج القدرة عن دائرة الشرطیّة،و أنّ العاجز أیضا مکلّف،و لکنّ العجز عذر فی المخالفة،و هذا شاهد علی عدم الانحلال.

الأمر الثانی:أنّه لا إشکال فی وجوب القضاء علی النائم فی جمیع أوقات الصلاة کمن کان نائما قبل الزوال إلی بعد الغروب،مع أنّه علی القول بالانحلال لا یمکن توجّه التکلیف إلیه أصلا فی وقت الأداء،فکیف یمکن تکلیفه بالقضاء،و الحال أنّه لم یفت منه شیء،و لا طریق له إلاّ عدم انحلال خطابات عامّة،و توجّهها إلی النائم و غیره،إلاّ أنّ النائم فی ترک الصلاة فی الوقت کان معذورا.

و أمّا وجوب قضاء صوم أیّام الحیض علی الحائض مع عدم وجوب أدائه علیه فیکون بدلیل خاصّ،بدون أخذ عنوان الفوت فیه،بخلاف النائم فإنّ دلیل وجوبه علیه،هو«اقض ما فات کما فات».

الأمر الثالث:أنّ ما ذکره الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه فی طرفی العلم الإجمالی من شرطیّة کون المنهیّ عنه مورد ابتلاء المکلّف بکلا طرفیه،و إلاّ یکون التکلیف مستهجنا،نقول:إنّ هذا الشرط یصحّ بالنسبة إلی خطابات شخصیّة،و هکذا علی القول بالانحلال فی خطابات عامّة،لا علی القول بعدم

ص:341

الانحلال،و لذا یصحّ تکلیف جمیع المکلّفین بالاجتناب عن الخمر الموجود بأقصی نقاط العالم إذا کان مورد ابتلاء کثیر منهم أو عدّة منهم،و تظهر ثمرته فی العلم الإجمالی إن علمنا بخمریّة هذا المائع،أو المائع الموجود فی أقصی نقاط العالم،فیلزم الاجتناب عنه؛إذ لا یکون التکلیف شخصیّا حتّی نلاحظ حال آحاد المکلّفین،و من هنا لا یری أحد یقول بشرطیّة القید المذکور للتکالیف العامّة.

الأمر الرابع:أنّ علی القول بالانحلال فی الخطابات التکلیفیّة العامّة لا بدّ من القول به فی الخطابات الوضعیّة أیضا؛إذ لا فرق بینهما من هذه الجهة،فکما أنّه لا یصحّ الحکم بالاجتناب بدون قید«إن ابتلیت»عن الخمر الموجود فی أقصی نقاط العالم،کذلک لا یصحّ الحکم بنجاسة الخمر المذکور بدون القید المذکور،فإنّ جعل هذا الحکم مستلزم للّغویة.

مع أنّه لا شکّ فی عدم دخالة قید الابتلاء فی نجاسة الخمر،و لا یقول أحد بأنّ الخمر الخارج عن دائرة الابتلاء لا یکون نجسا،فإذا کان الأمر فی الأحکام الوضعیّة هکذا یکون فی الأحکام التکلیفیّة أیضا کذلک،و لذا لا تصحّ مقایسة الخطابات العامّة بالخطابات الشخصیّة،و لا شکّ فی شمولها لجمیع أفراد المکلّفین،و لکنّ المکلّف إذا لم یکن عالما یکون معذورا فی المخالفة، و من هنا یکون الدلیل للبراءة العقلیّة عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بیان، لا قبح التکلیف بلا بیان،فیشمل التکلیف للعالم و الجاهل و النائم و المضطرّ،إلاّ أنّ العناوین المذکورة تکون عذرا فی المخالفة.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ الخروج من دار مغصوبة کالدخول فیها یکون منهیّا عنه فقط،و صدق عنوان الاضطرار علیه لکونه الطریق المنحصر

ص:342

للتخلّص عن الحرام لا یوجب المعذوریّة؛إذ الاضطرار بسوء الاختیار لا یکون عذرا لا عقلا و لا شرعا،بل حرمة الدخول و الخروج تکون بعنوان التصرّف فی مال الغیر لا بعنوانهما،و لا یتحقّق عذر فیما نحن فیه،فبعد أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه العام و بالعکس،و أنّ مقدّمة الواجب لیست بواجبة،و لا تتحقّق الملازمة بین وجوب المقدّمة،و وجوب ذی المقدّمة،و أنّه لا یتحقّق الانحلال فی الخطابات العامّة،فیستفاد أنّ الخروج بعنوان التصرّف فی مال الغیر یکون منهیّا عنه بالنهی الفعلی المنجّز فقط.

و أمّا مع رفع الید عن المبانی الثلاثة المذکورة فهل یکون الخروج عن الدار المغصوبة کالصلاة فیه مأمورا به و منهیّا عنه معا أم لا؟

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّه لو قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهی فی الصلاة فی الدار المغصوبة مع ذلک یکون الخروج عنها خارجا عن عنوان هذه المسألة،فإنّ من المسلّم بین القائل بالجواز و القائل بالامتناع تحقّق عنوانین فیها:أحدهما:عنوان الصلاة و هو متعلّق الأمر،و ثانیهما:عنوان الغصب و هو متعلّق النهی،و الاختلاف فی سرایة الأمر و النهی عن متعلّقهما إلی متعلّق آخر و عدمه.

و لا یتحقّق فی الخروج عن الدار المغصوبة عنوانان،فإنّه بعنوانه یکون مأمورا به و منهیّا عنه معا،و هو نظیر«صلّ»و«لا تصلّ»،لا شکّ فی امتناعه، إلاّ أنّ علّة الامتناع عند القائل بالتضادّ بین الأحکام عبارة عن اجتماع الضدّین،و عند منکره عبارة عن عدم قدرة المکلّف علی الامتثال،فلا یصحّ المقایسة بین المثالین،فإنّ الصلاة فی الدار المغصوبة تکون من مصادیق مسألة

ص:343


1- 1) کفایة الاصول 1:263-272.

اجتماع الأمر و النهی بخلاف الخروج من الدار المغصوبة.

و التحقیق:أنّ ما ذکره المحقّق الخراسانی قدّس سرّه لیس بصحیح؛إذ قد مرّ أنّ موضوع الحرمة و النهی فی الروایة هو عنوان التصرّف فی مال الغیر یکون الخروج کالدخول من مصادیقه،کما أنّ حرمة البقاء فی الدار المغصوبة تکون بهذا العنوان لا بعنوانه،فلا مجال للقول بکون الخروج منهیّا عنه بعنوانه،بل بعنوان محصّل التصرّف فی مال الغیر حرام.هذا من جهة النهی و الحرمة.

و أمّا من جهة الأمر و الوجوب فلا شکّ فی أنّ الوجوب هاهنا وجوب غیریّ و مقدّمی،بأنّ التصرّف فی مال الغیر إن کان حراما یکون ترک التصرّف واجبا علی القول بالاقتضاء من باب المقدّمة،فیتعلّق الوجوب الغیری بالخروج بعنوان المقدّمیّة لترک التصرّف،و قد مرّ فی بحث مقدّمة الواجب أنّ متعلّق الوجوب الغیری لا یکون وجود المقدّمة الخارجی،مثل:نصب السلّم الخارجی،و لا عنوان نصب السلّم مثلا،بل متعلّقه هو عنوان ما یتوقّف علیه الکون علی السطح؛إذ یقال فی مقام التعلیل لوجوب نصب السلّم بأنّه ما یتوقّف علیه الصعود علی السطح،مثل:«لا تشرب الخمر لأنّه مسکر»،و«لا تأکل الرمّان لأنّه حامض»،و معناه أنّ أکل کلّ حامض محکوم بالحرمة،کما أنّ شرب کلّ مسکر محکوم بالحرمة.

فالحکم بالحرمة حقیقة متعلّق بأکل الحامض و شرب المسکر،و نسبته إلی الرمّان و الخمر لا یخلو من مسامحة،فإنّهما من مصادیق أکل الحامض و شرب المسکر،و هکذا فیما نحن فیه؛إذ الحاکم بالملازمة بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و الوجوب الشرعی للمقدّمة هو العقل،و بدیهی عند العقل أنّ الوجوب الشرعی المقدّمی یتعلّق بما یتوقّف علیه ترک التصرّف.

ص:344

و قال صاحب الکفایة فی مقام إنکار دخول الأجزاء فی هذا البحث بأنّ الواجب بالوجوب الغیری ما کان بالحمل الشائع مقدّمة-أی المصداق-لأنّه المتوقّف علیه لا عنوان المقدّمة،أی ما یتوقّف علیه الواجب.نعم،یکون هذا العنوان علّة لترشّح الوجوب علی المعنون یعنی المصداق (1).

فکأنّه یقول بالفرق بین الحیثیّة التقییدیّة و الحیثیّة التعلیلیّة،و أنّ للقید دخالة فی المتعلّق،و لکنّ العلّة واسطة لحمل الحکم علی ذیها،و تبعه فی هذا الکلام آخرون.

مع أنّه لیس بصحیح بنظر العقل و العقلاء،و لا تسامح فی حکم العقل،و هو یقول فی مقام تعلیل وجوب نصب السلّم:لأنّه مقدّمة الکون علی السطح، فیکون متعلّق الوجوب الشرعی الغیری عنوان مقدّمة الکون علی السطح، و نسبة الوجوب الغیری إلی نصب السلّم بما أنّه یتّحد مع المقدّمیة مسامحة.

و یستفاد من هنا أنّ الوضوء بعنوانه لا یکون واجبا،بل یکون مستحبّا بهذا العنوان؛إذ الوجوب الغیری یتعلّق بعنوان ما یتوقّف علیه الواجب، و الوضوء من مصادیقه،فللعقل حکم واحد،و هو أنّ ما تتوقّف علیه الصلاة واجب،و یشمل هذا الحکم الکلّی لجمیع المقدّمات و إن کانت عشرة،فیکون محطّ الحکم فی الحیثیّة التعلیلیّة کالحیثیّة التقییدیّة عبارة عن نفس العلّة،و لا فرق بینهما أصلا.

و بالنتیجة:یتحقّق هاهنا أیضا عنوانان:أحدهما:عنوان التصرّف فی مال الغیر و هو متعلّق النهی،و ثانیهما:عنوان ما یتوقّف علیه ترک التصرّف فیه و هو متعلّق الأمر،و قد انطبق العنوانان فی الخروج عن الدار المغصوبة،

ص:345


1- 1) کفایة الاصول 1:141.

فلا یصحّ الإشکال علی أبی هاشم و أتباعه من هذه الجهة،و یکون الخروج مأمورا به و منهیّا عنه معا بعنوانین.

و لکن یرد الإشکال علیه من جهة اخری،و هو أنّه قد مرّ فی إحدی المقدّمات المذکورة لمسألة الاجتماع حصر بعض العلماء النزاع فی مورد تحقّق قید المندوحة،و ذکرنا عدم دخالة القید المذکور فی الجهة المبحوث عنها،و لکن لا بدّ من تحقّقه فی تطبیق مسألة اجتماع الأمر و النهی فی الخارج،مثل سائر الشرائط المعتبرة للتکلیف.

و علی هذا یرد علیه:أنّ الخروج لا یمکن أن یکون المأمور به و المنهیّ عنه معا؛لعدم تحقّق قید المندوحة له بعد الورود بسوء الاختیار؛إذ لا طریق سوی الخروج،و هذا فارق بینه و بین الصلاة فی الدار المغصوبة.

و بالنتیجة:لا یمکن الالتزام بما قال به أبو هاشم و أتباعه مع رفع الید عن المبانی الثلاثة المذکورة أیضا،فیکون الخروج مأمورا به و لکن یجری علیه حکم المعصیة و أثر النهی بدون تعلّق النهی الفعلی به،و هو ما اختاره صاحب الفصول ظاهرا.

و البحث الآخر أنّه تتحقّق قاعدة فلسفیّة مسلّمة،و هی:أنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

قال المحقّق النائینی قدّس سرّه (1):إنّه بناء علی کون المقام من صغریات تلک القاعدة فالحقّ ما علیه المحقّق الخراسانی قدّس سرّه من أنّه لیس بمأمور به شرعا،و لا منهیّا عنه مع کونه یعاقب علیه.

و أمّا بناء علی عدم کون المقام من صغریات تلک القاعدة فالحقّ ما اختاره

ص:346


1- 1) فوائد الاصول 1:447-451.

الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)من کون الخروج مأمورا به فقط،ثمّ قال:و الأقوی أنّه لیس مصداقا لها،و ذکر أدلّة له،و المهمّ منها دلیلان:

الأوّل:أنّ الخروج غیر ممتنع للتمکّن من ترکه بإرادة البقاء؛إذ یجوز له أن یرید الخروج،و یجوز له أن یرید البقاء،فلا امتناع فی البین حتّی نقول:

الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

الدلیل الثانی:أنّ مورد القاعدة المذکورة ما لا یکون للعقل نظر خاصّ فیه و إلاّ لا محلّ لها،و ما نحن فیه کان کذلک؛إذ العقل یحکم لمن کان أمره دائرا بین الخروج و البقاء بتعیّن الخروج علیه؛لأنّه أقلّ المحذورین،فلا مجال لقاعدة الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار،فالخروج مأمور به فقط و لا یجری علیه حکم المعصیة.

و العجب من المحقّق النائینی قدّس سرّه أنّه لم یلاحظ عبارة صاحب الکفایة قدّس سرّه بدقّة، فإنّه صرّح بعدم ارتباطها فیما نحن فیه،بل هی ذکرت فی مقابل الأشاعرة؛ لقولهم بأنّ أفعال الإنسان-کالحرکة و السکون و أمثال ذلک-غیر اختیاریّة؛ لما هو المسلّم عند الفلاسفة من أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد،و أنّ الشیء ما لم یمتنع لم ینعدم،فکلّ وجود مسبوق بوجوب الوجود،و کلّ عدم مسبوق بامتناع الوجود،و لا معنی لاستناد وجود القیام و عدمه إلی الإرادة،بل عدمه مستند إلی امتناع الوجود،و وجوده مستند إلی وجوبه.

فقالوا فی جوابهم:إنّ المقصود من الواجب فی القاعدة هو الواجب بالغیر لا الواجب بالذات،و معناها أنّ الشیء ما لم تتحقّق علّته التامّة لا یمکن أن یتحقّق فی الخارج،و معلوم أنّ الجزء الأخیر للعلّة التامّة عبارة عن الإرادة،

ص:347


1- 1) مطارح الأنظار:151.

و لذا نقول:الإیجاب بالاختیار لا ینافی الاختیار.

و هکذا فی جانب الامتناع؛إذ المراد منه لا یکون الامتناع بالذات بل الامتناع بالغیر،بمعنی أنّ الشیء ما لم تتحقّق علّته التامّة یمتنع وجوده فی الخارج،و جزء أخیرها هو إرادة الإنسان،و لذا نقول:إنّ هذه القاعدة مؤیّدة للاختیار،و لا ترتبط بما نحن فیه أصلا کما أشار إلیه صاحب الکفایة قدّس سرّه.

فانقدح ممّا ذکرنا أنّ الخروج منهیّ عنه بالنهی المنجّز الفعلی،و مع قطع النظر عن المبانی المذکورة یکون مأمورا به،و یجری علیه حکم المعصیة.هذا تمام الکلام فی مسألة اجتماع الأمر و النهی.

ص:348

فی أنّ النهی عن الشیء یقتضی فساده أم لا

اشارة

جعل صاحب الکفایة قدّس سرّه عنوان البحث بهذا النحو،مع أنّ کلمة«الشیء» مطلق یشمل النهی المتعلّق بمثل الزنا و شرب الخمر أیضا،و الحال أنّ جملة «یقتضی فساده أم لا»تکون قرینة لاختصاصه بالعبادات و المعاملات،الشیء الذی قد یقع صحیحا و قد یقع فاسدا و لا مناقشة من هذه الجهة.

و لکنّ التعبیر بکلمة«یقتضی»مع کونه ظاهرا فی السببیّة و التأثیر لا ینطبق علی بعض الأدلّة التی ستذکر فی أصل البحث،مثل استدلال بعض العلماء لاستفادة الفساد من النهی فی المعاملات بأنّ النهی فیها ظاهر فی الإرشاد بفساد المعاملة،کقوله علیه السّلام:«لا تبع ما لیس عندک» (1)؛إذ لا یکون معناه أنّه إذا بعت مال الغیر ارتکبت محرّما،بل معناه أنّ بیع مال الغیر بدون إذنه لا یؤثّر فی التملیک و التملّک،و معلوم أنّ الإرشاد حکایة عن الواقعیّة،و لا یتناسب مع التعبیر بکلمة الاقتضاء و السببیّة.

کما أنّه لا یصحّ التعبیر بکلمة«یدلّ»مکان کلمة«یقتضی»،فإنّ فاعله عبارة عن النهی و هو لفظ،و إذا نسبت إلیه کلمة الدلالة فلا بدّ من انحصارها فی محدودة الدلالة اللفظیّة الوضعیّة،مع أنّا نری استدلال بعض العلماء

ص:349


1- 1) انظر:الوسائل 18:47،الباب 7 من أبواب أحکام العقود،الحدیث 3.

لاستفادة الفسادة من النهی المتعلّق بالعبادة بأنّه إذا تعلّق النهی بالعبادة فمعناه مبغوضیّة العبادة للمولی،و حینئذ یحکم العقل بأنّ الذی یکون مبغوضا للمولی لا یمکن أن یکون مقرّبا إلیه،فعلی هذا کیف یصحّ التعبیر بکلمة «یدلّ»،أی الدلالة المستندة إلی ظهور اللفظ.

فالأولی التعبیر بأنّه هل یکشف،أو هل یستفاد من تعلّق النهی بالعبادة فسادها أم لا؟

و أمّا البحث عن مقدّمات المسألة فقال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه
اشارة

(1)فی

المقدّمة

الاولی بأنّ الفرق بین هذه المسألة و المسألة السابقة فی الجهة المبحوث عنها

کما عرفت،فإنّها فی المسألة السابقة عبارة عن السرایة و عدم السرایة،و فی هذه المسألة عبارة عن أنّ تعلّق النهی بالعبادة یستلزم فسادها أم لا؟

و لکنّک عرفت أنّه لیس بصحیح،فإنّ بعد تغایر المسألتین من حیث الموضوع و المحمول لا تصل النوبة إلی تغایرهما فی الجهة المبحوث عنها،فإنّ الموضوع فی المسألة السابقة هو اجتماع الأمر و النهی فی واحد،و المحمول فیها هو الجواز و عدمه،و الموضوع فیما نحن فیه تعلّق النهی بالشیء،و المحمول هو اقتضاء الفساد و عدمه،فلا تتحقّق جهة اشتراک بینهما أصلا حتّی نقول بتغایرهما فی الجهة المبحوث عنها.

المقدّمة الثانیة:أنّه لا شکّ فی اصولیّة هذه المسألة لانطباق ضابطة علم

الاصول علیها؛لوقوعها کبری القیاس لاستنتاج حکم فرعی.

فإنّا نقول علی القول بالاقتضاء:بیع ما لیس عند البائع یکون منهیّا عنه، و النهی المتعلّق بالمعاملة یقتضی الفساد،فبیع ما لیس عنده یکون فاسدا،

ص:350


1- 1) کفایة الاصول 1:283-285.

و لکنّ البحث فی أنّها مسألة اصولیّة لفظیّة أو مسألة اصولیّة عقلیّة؟

قال المرحوم الحائری قدّس سرّه فی کتاب الدرر (1):إنّها مسألة عقلیّة.

و لکن بعد ملاحظة أنّه لا ضرورة لکون المسألة الاصولیّة عقلیّة محضة أو لفظیّة محضة،بل یمکن أن تکون مرکّبة منهما،و بعد ملاحظة أنّا نری فی الکلمات نوعین من الاستدلال علی دلالة النهی علی الفساد،مثل:قولهم فی مثل:«لا تبع ما لیس عندک»بأنّه لا یکون حکما تحریمیّا مولویّا،بل یکون حکما إرشادیّا،فإنّ مفاده أنّ هذا النحو من البیع لا یؤثّر فی التملیک و التملّک، فهذا الاستدلال یرتبط باللفظ.

و أمّا الاستدلال علی اقتضاء النهی فساد العبادة بأنّه إذا تعلّق بالعبادة معناه مبغوضیّتها للمولی و أنّها مبعّدة عن ساحته،فالعقل یحکم بأنّها لا یمکن أن تکون مقرّبة إلیه،مثل صلاة الحائض،فهذا یرتبط بالعقل.و بالنتیجة:تکون هذه المسألة عقلیّة و لفظیّة معا.

المقدّمة الثالثة:أنّ الظاهر من لفظ النهی هو النهی التحریمی

،و أمّا النهی التنزیهی فهل یکون داخلا فی محلّ النزاع أم لا؟ربما یقال بخروجه عنه، و یمکن أن یستدلّ لذلک بدلیلین:

الدلیل الأوّل:أنّه لا یتحقّق مورد یتعلّق النهی التنزیهی فیه بالعبادة.

توضیح ذلک:أنّ تقسیم العبادات المکروهة إلی ثلاثة أقسام-کما مرّ-لا یتعلّق النهی الکراهتی فیها بنفس العبادة،و لذا لا یخلو عن مسامحة.

و أمّا القسم الثالث منها-مثل:«لا تصلّ فی مواضع التهمة»-فقد مرّ أنّ متعلّق النهی هو الکون فی مواضع التهمة و إن تحقّق فی ضمن غیر الصلاة،و أمّا

ص:351


1- 1) درر الفوائد 1:184-185.

فی القسم الثانی،مثل:«لا تصلّ فی الحمّام»فلا یتعلّق النهی بنفس الصلاة،بل یتعلّق بخصوصیّة وقوعها فی الحمّام.

و أمّا فی القسم الأوّل،مثل:«لا تصم فی یوم عاشوراء»فقد مرّ عن المحقّق الخراسانی قدّس سرّه أنّه یتحقّق هاهنا مستحبّان متزاحمان و ینطبق کلاهما علی هذا الیوم،و لکنّ استحباب ترک الصوم فیه أرجح من فعله فلا یتحقّق النهی،و إن تحقّق فهو إرشادی.

و قد ذکرنا أنّ متعلّق النهی فی المثال التشبّه ببنی امیّة،لا عنوان الصوم بلحاظ أنّهم یصومون فیه باعتقاد أنّه یوم عید،فلا یکون النهی التنزیهی متعلّقا بنفس العبادة بلا عنایة و تجوّز أصلا.

و أمّا کراهة اقتداء المسافر بالحاضر-سواء کان بمعنی أقلّیة الثواب من اقتدائه بمسافر آخر،أو بمعنی أقلّیة الثواب من صلاة الفرادی-فلا یتعلّق النهی التنزیهی حتّی فی الصورة الثانیة بنفس الصلاة،بل یتعلّق بالاقتداء،فلا یوجد مورد یتعلّق النهی فیه بنفس العبادة،فلا مجال للبحث فی أنّ النهی التنزیهی إذا تعلّق بالعبادة هل یقتضی الفساد أم لا؟

و جوابه:أنّ محلّ البحث لا ینحصر بالعبادات بل یشمل عنوان البحث-کما مرّ-لکلّ ما یکون قابلا للاتّصاف بالصحّة و الفساد،و هو أعمّ من العبادات و المعاملات.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّه لا شکّ فی کون عنوان الاقتداء منهیّا عنه کما اعترف المستدلّ به، و الحال أنّ الاقتداء أمر عبادی،و لذا یقولون:إنّ الریاء فی الجماعة یوجب بطلان الجماعة قطعا،و یقول بعض:إنّه یوجب بطلان الصلاة أیضا،و هذا کاشف من عبادیّة الاقتداء،فیتعلّق النهی التنزیهی فی العبادة هاهنا.

ص:352

الدلیل الثانی:ما أشار إلیه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بقوله:إنّ ملاک البحث یعمّ التنزیهی،و معه لا وجه لتخصیص العنوان،و اختصاص عموم ملاکه بالعبادات لا یوجب التخصیص بالنهی التحریمی کما لا یخفی.

و هذا إشارة إلی التوهّم الذی یکون دلیلا للقائل بخروج النهی التنزیهی عن محلّ البحث،و هو أنّ عموم الملاک یختصّ بالعبادات؛لأنّ المرجوحیّة المستکشفة عن النهی-تحریمیّا کان أو تنزیهیّا-إنّما تنافی صحّة العبادة؛لأنّها تستدعی المحبوبیّة المنافیة للمرجوحیّة دون المعاملة؛إذ لا ملازمة قطعا بین النهی التنزیهی فیها و بین الفساد،فلا تنافی مرجوحیّتها صحّتها،کما فی مثل بیع الکفن حیث یکون کذلک،فیکون عدم اطّراد عموم الملاک فی المعاملات قرینة علی إرادة التحریمی من النهی المذکور فی العنوان؛لأنّه مطّرد فی العبادات و المعاملات.

و الحقّ فی جوابه ما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه.

ثمّ إنّه قد اختلف العلماء فی دخول النهی الغیری و عدمه فی محلّ النزاع، فقال صاحب القوانین قدّس سرّه (2):بأنّه خارج عنه؛لعدم استحقاق العقوبة علی مخالفته،و هو نظیر الأمر الغیری،فلذا لا یشمله البحث.

و أجاب عنه صاحب الکفایة قدّس سرّه بأنّ دلالة النهی الغیری علی الفساد علی القول به إنّما یکون لدلالته علی الحرمة من غیر دخل لاستحقاق العقوبة علی مخالفته فی ذلک،و یؤیّد ذلک أنّه جعل ثمرة النزاع فی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه:فساده إذا کان عبادة (3)،مع أنّ النهی المتعلّق بالعبادة کالصلاة

ص:353


1- 1) کفایة الاصول 1:284.
2- 2) قوانین الاصول 1:102.
3- 3) کفایة الاصول 1:284.

مکان الإزالة یکون غیریّا.

و لکنّ الحقّ مع المحقّق القمّی قدّس سرّه،و الدلیل علی ذلک ما نذکره لا ما ذکره قدّس سرّه، و هو:أنّه کما لا دخل لاستحقاق العقوبة علی المخالفة فی الفساد،کذلک لا دخل للحرمة بما هی فیه،بل حرمة الشیء تکشف عن مبغوضیّته للمولی،و أنّه مبعّد عن ساحته،و لا یمکن أن یکون شیء واحد بعنوان واحد مقرّبا و مبعّدا معا،و معلوم أنّ النهی الغیری أیضا یکشف عن مبغوضیّة المنهی عنه،و لکنّه کان کاشفا عن مبغوضیّته لأجل الغیر،لا عن مبغوضیّة ذاتیّة،و لا منافاة بین المبغوضیّة و المبعّدیة من أجل الغیر،و المقرّبیة من حیث الذات،فتکون الصلاة مکان الإزالة من حیث الذات محبوبة للمولی،و من حیث إنّها مقدّمة لترک الإزالة الحرام مبغوضة له،و لذا أنکرنا الثمرة المذکورة،و قلنا بصحّة الصلاة علی القول بالاقتضاء أیضا.

و قد مرّ فی تقسیم الواجب إلی النفسی و الغیری و إلی الأصلی و التبعی أنّ الواجب الغیری یمکن أن یکون أصلیّا و یمکن أن یکون تبعیّا،بخلاف الواجب النفسی فإنّه لا یکون إلاّ أصلیّا،و حینئذ إن قلنا بدخول النهی الغیری فی محلّ النزاع یقع البحث فی أنّه هل یتحقّق الفرق بین النهی الغیری الأصلی،و النهی الغیری التبعی،أم لا؟و إن قلنا بخروجه عنه فلا یبقی مجال لهذا البحث کما هو الحقّ.

المقدّمة الرابعة:أنّ لفظ الشیء فی عنوان البحث عام

کما ذکرنا،و لکن بقرینة جملة یقتضی الفساد ینحصر بما کان قابلا للصحّة و الفساد،و هو عبارة عن المعاملات و العبادات،فیستفاد من ذلک أنّ مثل شرب الخمر خارج عن محلّ النزاع؛إذ لا أثر له حتّی یتّصف بالصحّة و الفساد بلحاظ ترتّب الأثر

ص:354

و عدمه،و هکذا«شیء»الذی له أثر لا ینفک عنه،مثل إتلاف مال الغیر،فإنّ أثره-أی الضمان-یترتّب علیه دائما و إن تحقّق فی حال النوم أو الاضطرار أو الغفلة،فینحصر محلّ النزاع بالعبادات و المعاملات بمعنی الأعمّ من العقود و الإیقاعات.

و یمکن أن یقال:إنّ تعلّق النهی بالعبادة کیف یتصوّر،مع أنّه لا بدّ فی العبادة من تعلّق الأمر بها و لو کان الأمر استحبابیّا؟

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه فی مقام جوابه:إنّ المراد بالعبادة هاهنا ما یکون بنفسه و بعنوانه عبادة له تعالی موجبا بذاته للتقرّب من حضرته لو لا حرمته -کالسجود و الخضوع و الخشوع له و تسبیحه و تقدیسه-أو ما لو تعلّق الأمر به کان أمره أمرا عبادیّا،لا یکاد یسقط إلاّ إذا أتی به بنحو قربی کسائر أمثاله، نحو صوم العیدین و الصلاة فی أیّام العادة (1).

و من تقسیمات الواجب تقسیمه إلی التعبّدی و التوصّلی،و أشار صاحب الکفایة قدّس سرّه إلیه هاهنا،و الفرق بینهما أنّه یعتبر فی صحّة الواجب التعبّدی و سقوط أمره إتیانه بقصد القربة،بخلاف الواجب التوصّلی.

و أشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)بأنّ العبادة من حیث اللغة و العرف و العقلاء یکون لها معنی خاصّ،و هو ما یعبّر عنه باللغة الفارسیّة ب(پرستش)،و بهذا المعنی تکون الآیة الشریفة: إِیّاکَ نَعْبُدُ و کلمة «لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ» ،یعنی لا معبود صالحا للعبادة سوی الباری،فنحن نری اعتبار قصد القربة فی مثل الخمس و الزکاة،مع أنّه لا یصدق علیهما العبادة بهذا المعنی،

ص:355


1- 1) کفایة الاصول 1:284.
2- 2) تهذیب الاصول 1:146-147.

فلا یصحّ تعبیرهم بأنّ الواجب التوصّلی یصیر عبادة إن أتی به بقصد القربة، بل لا یخلو من کونه موجبا للسخریة،و معلوم أنّ إطاعة الباری أو إطاعة الوالدین و إن تحقّق بقصد القربة إلاّ أنّه یصحّ التعبیر عنه بالعبادة.

فالأولی فی مقام التقسیم القول بأنّ الواجب إمّا تقرّبی و إمّا توصّلی، و التقرّبی قد یکون عبادیّا-کالصلاة و الصوم-و قد یکون غیر عبادی کالزکاة و الخمس،و ما یوجب التزام صاحب الکفایة قدّس سرّه بذکر المصداقین هاهنا للعبادة -یعنی ما کانت عبادة بالذات و إن تعلّق الأمر مکان النهی یکون أمره أمرا عبادیا-عبارة عن توسعته لدائرة الواجب التعبّدی،و أنّ کلّ ما لم یکن توصّلیا یکون تعبّدیّا،و جعل صلاة الحائض مصداقا للأمر التعلیقی،مع أنّها عبادة بالفعل فإنّ عبادیّة الصلاة ذاتیّة.

و لکنّ التحقیق:أنّه لا یوجد دلیل یدلّ علی انحصار محلّ النزاع بما کان المنهی عنه عبادة أو معاملة حتّی نحتاج إلی معنی العبادة و بیان المراد منها،بل یکون محلّ النزاع عبارة عن کلّ ما کان قابلا للاتّصاف بالصحّة و الفساد، و وقع متعلّق النهی،سواء انطبق علیه عنوان العبادة أو المعاملة،أو غیرهما.

و یرد علی الإمام قدّس سرّه:أنّه سلّمنا عدم انطباق عنوان العبادة علی مثل الزکاة و الخمس،کما أنّ الصلاة لا شکّ فی مصداقیّتها للعبادة و إن تحقّقت من الحائض، لا أنّها لو أمر بها کان أمرها عبادیّا،و لکنّ الصوم مع کونه أمرا قلبیّا عدمیّا، هل یلحق بالزکاة و الخمس أو یلحق بالصلاة؟و الظاهر إلحاقه بالصلاة،مع أنّه لا یتحقّق فیه عنوان العبادة بالمعنی المذکور؛إذ لا دخل للصائمیّة-یعنی ترک المفطرات-فی العبادة،و الحال أنّ خروج الصوم عن العبادة لا یقبله أکثر الفقهاء.

ص:356

المقدّمة الخامسة:فی توضیح عنوانی الصحّة و الفساد

:قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّ الصحّة و الفساد وصفان إضافیّان یختلفان بحسب الآثار و الأنظار،فربما یکون شیء واحد صحیحا بحسب الأثر أو النظر و فاسدا بحسب آخر،و من هنا صحّ أن یقال:إنّ الصحّة فی العبادة و المعاملة لا تختلف، بل فیهما بمعنی واحد و هو التمامیّة،و إنّما الاختلاف فیما هو المرغوب منهما من الآثار التی بالقیاس علیها تتّصف بالتمامیّة و عدمها،و هکذا الاختلاف بین الفقیه و المتکلّم فی صحّة العبادة إنّما یکون لأجل الاختلاف فیما هو المهمّ لکلّ منهما من الأثر بعد الاتّفاق ظاهرا علی أنّها بمعنی التمامیّة،کما هی معناها لغة و عرفا.

و لمّا کان غرض الفقیه هو وجوب القضاء أو الإعادة،أو عدم الوجوب فسّر صحّة العبادة بسقوطهما،و أمّا المتکلّم فلمّا کان غرضه حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة فسّرها بما یوافق الأمر تارة و بما یوافق الشریعة اخری.

و أمّا الصحّة فی المعاملات فهی تکون مجعولة،حیث کان ترتّب الأثر علی المعاملة إنّما هو بجعل الشارع،و ترتیبه علیها و لو إمضاء؛ضرورة أنّه لو لا جعله لما کان یترتّب علیه؛لأصالة الفساد.

فالبیع الصحیح:ما یترتّب علیه الأثر المرتقب عنه،أی التملیک و التملّک.

و البیع الفاسد:ما لا یترتّب علیه أثر،و النکاح الصحیح:ما تترتّب علیه الزوجیّة،و النکاح الفاسد عکسه،و الطلاق الصحیح:ما یحصل به الفراق بین الزوجین،و الطلاق الفاسد عکسه،و لا یکون للفقهاء اصطلاح خاصّ فی معنی

ص:357


1- 1) کفایة الاصول 1:284-286.

الصحّة و الفساد فی مقابل اللغة و العرف،بل العرف و اللغة و جمیع العلوم التی تستعمل فیها کلمة الصحّة و الفساد متوافقة فی أنّ الصحّة تکون بمعنی التمامیّة، و الفساد بمعنی النقص،و لکن یتوهّم مغایرتها علی الظاهر بلحاظ مغایرة الآثار المترتّبة علیها،فیکون التقابل بین الصحّة و الفساد عین التقابل بین النقص و التمام،یعنی تقابل العدم و الملکة.هذا بعض کلامه قدّس سرّه مع زیادة توضیح.

و أشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)بأنّه:قد تقدّم فی بحث الصحیح و الأعمّ أنّ ترادف الصحّة و الفساد مع التمام و النقص ممّا لم یثبت بحسب اللغة و العرف،بل ثبت خلافه؛لأنّ النقص و التمام یطلقان علی الشیء المرکّب بحسب الأجزاء غالبا إن کان واجدا و مشتملا لجمیع الأجزاء و الشرائط و الخصوصیّات المعتبرة فیه کالإنسان و الدار و المعجون،فیقال:إنّه تامّ،و لا یقال:إنّه صحیح،و إن کان فاقدا لبعض الأجزاء أو الخصوصیّات یعبّر عنه بأنّه ناقص و لا یعبّر عنه بأنّه فاسد.

و أمّا الصحّة و الفساد فیستعملان غالبا فی شیء کان له أثر نوعی و خاصیّة نوعیّة بحسب الکیفیّات و الأحوال،مثل الکیفیّات المزاجیّة و شبهها،فیقال:

فاکهة صحیحة،إذا لم یفسدها الدود و الحرارة،أو فاسدة،إذا ضیّعتها المفسدات،فالتقابل بین الصحّة و الفساد تقابل التضاد؛لأنّ کلاهما أمران وجودیّان؛إذ الصحّة عبارة عن کیفیّة وجودیّة عارضة للشیء موافقة لمزاجه بحیث تقبله الطباع،و الفساد عبارة عن کیفیّة وجودیّة عارضة له مخالفة لمزاجه و منافرة لطبیعته النوعیّة،فیکون بینهما تقابل التضادّ،کما أنّ بین التمام و النقص تقابل العدم و الملکة.هذا بحسب اللغة و العرف.

ص:358


1- 1) تهذیب الاصول 1:146-147.

ثمّ قال:نعم،یمکن تصحیح ما ذکره المحقّق الخراسانی قدّس سرّه من الترادف فی العبادات و المعاملات؛لأنّه یطلق الصحّة و الفساد علی الصلاة بلحاظ واجدیّتها للأجزاء و الشرائط و فاقدیّتها لها،مع أنّها أیضا کالإنسان و الدار مرکّبة من الأجزاء و الشرائط،و یصحّ إطلاق التامّ و الناقص علیها،و هکذا فی المعاملات فإنّها بحسب أسبابها-أی العقود-تتّصف بالصحّة و الفساد،مثل:

اتّصافها بالتمام و النقص،و هذا بخلاف الاستعمالات العرفیّة.

إنّما الکلام فی أنّ ذلک الإطلاق هل هو بوضع جدید فی لفظی الصحّة و الفساد عند الفقهاء،أو باستعمالهما فی الابتداء مجازا و کثر ذلک حتّی بلغا حدّ الحقیقة؟أقربهما هو الثانی،بل الأوّل بعید.

و التحقیق:أنّه لا شکّ فی أنّ الصحّة و الفساد یستعملان فی العبادات و المعاملات بمعنی التمام و النقص،و لکن مع ذلک لا یمکن التفکیک بین أجزائهما و شرائطهما من حیث الصحّة و الفساد،بخلاف الاستعمالات العرفیّة؛إذ من المعهود القول بأنّ هذا المرکّب-کالدار مثلا-تامّ من حیث الأجزاء،و ناقص من حیث الشرائط،و لا یصحّ القول بأنّ هذه الصلاة صحیحة من حیث الأجزاء،و فاسدة من حیث بعض الشرائط؛إذ الصلاة إمّا صحیحة مطلقا، و إمّا فاسدة مطلقا،و هکذا فی مثل البیع و سائر المعاملات؛فلا یتحقّق فیهما مجمع الاتّصاف بالصحّة و الفساد.

و لا یخفی أنّه لاحظنا إلی هنا قسما من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه و یستفاد من صدر کلامه و ذیله مع توضیحنا:أنّ الصحّة و الفساد وصفان إضافیّان لا واقعیّة لهما،یختلفان بحسب الآثار و الأنظار،و لذا نری قول بعض الفقهاء بأنّ الصلاة بدون السورة-مثلا-صحیحة،و الآخر یقول:بأنّها فاسدة،و بعضهم

ص:359

یقول بأنّ الصلاة منع قراءة التسبیحات مرتبة واحدة صحیحة،و الآخر یقول بأنّها فاسدة،و نستکشف من ذلک أنّه لا حقیقة لهما،بل هما أمران إضافیّان.

ثمّ استشهد لذلک بمسألة الإجزاء،و قال:إنّ الأمر فی الشریعة یکون علی ثلاثة أقسام:من الواقعی الأوّلی و متعلّقه عبارة عن الصلاة مع الوضوء، و الواقعی الثانوی أو الاضطراری و متعلّقه عبارة عن الصلاة مع التیمّم،و الأمر الظاهری و متعلّقه عبارة عن الصلاة مع الوضوء الاستصحابی،و لا شکّ فی إجزاء المأمور به بالأمر الأوّلی،و لکن تختلف الأنظار فی أنّ المأمور به بالأمر الثانوی و الظاهری یفیدان الإجزاء أو لا،بعد فرض حصول الماء فی الوقت أو انکشف أنّه کان حین الصلاة فاقد الوضوء،و بعض یقول:بأنّهما مسقطان للإعادة و القضاء،و الآخر یقول:بأنّهما غیر مسقطین لهما،و هذا دلیل علی أنّ الصحّة و الفساد أمران إضافیّان؛إذ الصلاة تتّصف بالصحّة عند القائل بالإجزاء و تتّصف بالفساد عند منکره.

ثمّ قال:إنّ الصحّة عند المتکلّم عبارة عن موافقة الشریعة أو موافقة الأمر، و لکنّ بعضهم یقول:بأنّ المقصود من موافقة الأمر هو موافقة الأمر الأوّلی، و البعض الآخر یقول:إنّ المراد منها أعمّ من الأمر الواقعی الأوّلی و الثانوی و الظاهری،فتختلف الصحّة و الفساد بحسب اختلاف الأنظار،فلا واقعیّة لهما.

و الکلام مع صاحب الکفایة قدّس سرّه فی مرحلتین:

الاولی:أنّ کون الصلاة بدون السورة صحیحة بنظر و فاسدة بنظر آخر لا یکون دلیلا علی عدم تحقّق الواقعیّة لهما،بل تتحقّق لهما واقعیّة،و لکن کلّ فقیه یدّعی انتهاءه و وصوله إلی الواقعیّة،و ینتهی إلیها فی الحقیقة أحدهما، و للمصیب أجران،و للمخطئ أجر واحد و معذور فی الخطأ،و لا یرتبط

ص:360

باختلاف الأنظار بخلوّهما عن الواقعیّة.

المرحلة الثانیة:أنّه لا دخل للإجزاء بالصحّة و الفساد أصلا؛إذ المفروض فی باب الإجزاء صحّة المأمور به بالأمر الثانوی و الظاهری و إتیانه بإجازة الشارع.

و أمّا مع فرض بطلانه کالإتیان بالصلاة مع التیمّم فی أوّل الوقت-مثلا- فلا مجال لبحث الإجزاء،بل کلمة الإجزاء تهدینا إلی أنّ المأمور به بالأمر الظاهری إذا وقع صحیحا،ثمّ صار واجدا للماء علی خلاف العادة،هل هو مجزی عن المأمور به بالأمر الواقعی أم لا؟و ما هو مسلّم بین القائل بالإجزاء و عدمه عبارة عن صحّة المأمور به بالأمر الظاهری،و إتیانه بإجازة الشارع، و لکن فی عین کونه صحیحا هل یکتفی به إذا صار واجدا للماء أم لا؟هذا خلط وقع فی کلامه بین الإجزاء و عدمه و الصحّة و الفساد.

ثمّ وقع النزاع فی أنّ الصحّة و الفساد من الأحکام الجعلیّة الشرعیّة أم لا؟ و علی فرض کونهما مجعولین شرعیّین هل یکونان من الأحکام الشرعیّة الاستقلالیّة أو التبعیّة أو تختلف الصحّة و الفساد بحسب اختلاف الموارد؟

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی قسم آخر من کلامه فی هذا البحث:إنّه لا شبهة فی أنّ الصحّة و الفساد عند المتکلّم وصفان اعتباریّان ینتزعان من مطابقة المأتی به مع المأمور به و عدمها،إلاّ أنّ منشأ انتزاعهما أمران واقعیّان؛ إذ لا شکّ فی أنّ مطابقة المأتی به مع المأمور به التی تکون منشأ انتزاع الصحّة، و عدمها الذی یکون منشأ انتزاع الفساد أمران تکوینیّان واقعیّان.

و أمّا الصحّة بمعنی سقوط القضاء و الإعادة عند الفقیه فهی من لوازم

ص:361


1- 1) کفایة الاصول 1:290.

الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی الأوّلی عقلا إذا نسبت إلیه،حیث لا یکاد یعقل ثبوت الإعادة و القضاء معه جزما،فالصحّة بهذا المعنی فی المأمور به بالأمر الواقعی الأوّلی و إن کانت لیست بحکم وضعی مجعول بنفسه أو بتبع تکلیف،إلاّ أنّها لیست بأمر اعتباری انتزاعی کما توهّم،بل ممّا یستقلّ به العقل کما یستقلّ باستحقاق المثوبة به،و إذا نسبت إلی الأمر الثانوی أو الظاهری فالسقوط ربما یکون مجعولا و کان الحکم به تخفیفا و منّة علی العباد مع ثبوت المقتضی لثبوت الإعادة و القضاء،کما عرفت فی مسألة الإجزاء،کما ربما یحکم بثبوتهما،فتکون الصحّة و الفساد فی المأمور بالأمر الاضطراری و الظاهری حکمین مجعولین لا وصفین انتزاعیّین.

نعم،الصحّة و الفساد تکون من الأحکام الجعلیّة الشرعیّة فی الطبیعی المأمور به،و أمّا فی الموارد الخاصّة فلا یکونان مجعولین،بل إنّما هی تتّصف بهما بمجرّد الانطباق علی ما هو المأمور به،هذا فی العبادات.

و علیه فالحقّ فی العبادات التفصیل بین العنوان الکلّی و الموارد الجزئیّة،من حیث الجعل الشرعی للصحّة و الفساد و عدمه.

و أمّا الصحّة فی المعاملات فهی تکون مجعولة،حیث کان ترتّب الأثر علی معاملة إنّما هو بجعل الشارع و ترتیبه علیها و لو إمضاء؛ضرورة أنّه لو لا جعله لما ترتّب علیها الأثر؛لأصالة الفساد.نعم،صحّة کلّ معاملة شخصیّة و فسادها لیس إلاّ لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا و عدمه،کما هو الحال فی التکلیفیّة من الأحکام؛ضرورة أنّ اتّصاف المأتی به بالوجوب أو الحرمة أو غیرهما لیس إلاّ لانطباقه علی ما هو الواجب أو الحرام.هذا تمام کلامه مع زیادة توضیح.

ص:362

و لکن لا شکّ فی اتّصاف العبادات بالوجوب قبل تحقّقها فی الخارج،و لذا نقول:الصلاة واجبة قبل إتیانها خارجا،فإنّ متعلّق الوجوب عبارة عن نفس ماهیّة الصلاة و عنوانها کما مرّ تحقیقه،و هکذا فی سائر الأحکام التکلیفیّة.

و أمّا فی عروض وصف الصحّة و الفساد علی العبادات فلا بدّ من تحقّقها خارجا،و ملاحظة مطابقتها للمأمور به و عدمها،ثمّ توصف بأنّ هذه الصلاة -مثلا-صحیحة أم فاسدة،و من هنا نستکشف أنّ الحکم بالصحّة و الفساد فیها خارجان عن دائرة جعل الشارع،فإنّه محدود بالماهیّات و العناوین،کما اعترف صاحب الکفایة قدّس سرّه أیضا بأنّ الحکم بصحّة المأمور به بالأمر الأوّلی یکون من المستقلاّت العقلیّة.

و یمکن أن یتوهّم أنّه قد مرّ فی بحث الصحیح و الأعمّ اتّفاق القولین بأنّ الوضع و الموضوع له فی ألفاظ العبادات عامّان نظیر أسماء الأجناس،فیستفاد من ضمّ القول بالصحیح و عمومیّة الوضع و الموضوع له فیها أنّ الصحّة و الفساد ترتبطان بالماهیّة،و لا ترتبطان بالوجود الخارجی،فإنّ معنی عمومیّة الوضع و الموضوع له أنّ الشارع لاحظ الصلاة المتّصفة بالصحّة بنحو العام ثمّ وضع لفظ الصلاة لها،و معناه أنّ للشارع دخلا فی جعل الصحّة و الفساد، کما لا یخفی.

و جوابه کما مرّ فی محلّه:أنّ القائل بالصحیح لا یأخذ عنوان الصحیح فی الموضوع له،بل یلاحظه مع خصوصیّة لا تنطبق خارجا إلاّ علی الصلاة الصحیحة،و یقول الشارع:جعلت و وضعت لفظ الصلاة للمرکّب من عشرة أجزاء و خمسة شرائط-مثلا-و هذا ینطبق علی الصلاة التی تکون صحیحة بعد الإتیان بها فی الخارج،و لا یقول:وضعت لفظ الصلاة للصلاة الصحیحة

ص:363

حتّی یرد علیه الإشکال المذکور.

و أمّا قوله قدّس سرّه بالنسبة إلی الأمر الاضطراری و الظاهری و أنّ الحکم بإجزاء الصلاة مع التیمّم عن الصلاة مع الوضوء و عدمه لا یرتبط بالعقل،و هو من المجعولات الشرعیّة،فهو لیس بصحیح مع قطع النظر عن خلطه بین الصحّة و الفساد و الإجزاء و عدمه.

سلّمنا أنّ العقل لا یدرک أنّ ما یکون شرطا للصلاة منحصر بالطهارة المائیّة أو أعمّ منها،فلا بدّ من بیانه من قبل الشارع،و بعد بیانه لا یکون الحاکم بالصحّة و الفساد سوی العقل إن کان الشرط عند الشارع خصوص الطهارة المائیّة،و یکون الحاکم ببطلان الصلاة بعد وجدان الماء هو العقل،و إن کان الشرط عنده أعمّ منها فالحاکم بصحّتها بعده أیضا هو العقل،مع أنّ أصل اعتبار الشرطیّة و الجزئیّة و عدمه یکون من المجعولات الشرعیّة،و هکذا فی الأمر الظاهری،فإنّ بعد بیان دلیل الاستصحاب من قبل الشارع یستفاد أنّ الطهارة المعتبرة فی الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعیّة و الظاهریّة،فالعقل حاکم بأنّ هذه الصلاة حیث کانت واجدة للطهارة الظاهریّة فتکون صحیحة.هذا فی باب العبادات.

و أمّا قوله قدّس سرّه فی باب المعاملات بأنّ الحکم الکلّی للصحة مجعول الشارع، بنحو التأسیس أو الإمضاء،بخلاف صحّة المعاملة الشخصیّة فإنّه یرتبط بالعقل،فهو أیضا لیس بصحیح،فإنّ مثل: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا تنفیذ للبیع المتداول بین العقلاء من قبل الشارع دون الربا،و ما هو المجعول عند العقلاء عبارة عن جعل السببیّة و المؤثّریّة للبیع،و هو یرتبط بماهیّة البیع و طبیعته،و لذا یتمسّک الفقهاء بإطلاق أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ فی مثل المعاطاة

ص:364

و أمثال ذلک،و لا شکّ فی أنّ الإطلاق من شئون الطبیعة،فجعل الشارع -إمضاء للعقلاء-البیع سببا للنقل و الانتقال فی عالم الاعتبار،بخلاف الرّبا.

و من البدیهی أنّ الحکم بالصحّة یتوقّف علی تحقّق فرد من البیع خارجا حتّی نحکم بأنّ هذا البیع صحیح و ذاک البیع الفاقد لبعض الشرائط-مثلا- فاسد.

و لا معنی لترتّب الأثر قبل تحقّق البیع فی الخارج،و لذا وقع الخلط فی کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه بین جعل السببیّة و جعل الصحّة،مع أنّه لیس کذلک کما عرفت،و هکذا إذا فرض للشارع معاملة تأسیسیّة،فالصحّة و الفساد فی باب العبادات و المعاملات یرتبط بالعقل،و لا یکون من المجعولات الشرعیّة أصلا.

المقدّمة السادسة:فی صورة الشکّ

،و أنّه إذا لم نتوصّل من حیث الدلیل إلی دلالة النهی علی الفساد أو عدم دلالته علیه و بقینا فی حالة الشکّ،فهل یتحقّق هناک أصل یثبت الدلالة علیه أو عدمها أم لا؟و لا بدّ لنا من البحث هاهنا فی مقامین:الأوّل فی المسألة الاصولیّة بأن یکون الأصل بعنوان الدلیل فی صورة الشکّ لدلالة النهی علی الفساد و عدمها،الثانی:فی المسألة الفقهیّة،و الشکّ فی أنّ المعاملة المحرّمة هل تکون دخیلة فی النقل و الانتقال أم لا؟

أمّا فی المقام الأوّل فلا بدّ من حفظ عنوان محلّ النزاع و جریان الأصل، و هو عنوان دلالة النهی علی الفساد و عدمها،مثل حفظ عنوان الملازمة فی بحث مقدّمة الواجب،إلاّ أنّ هذه المسألة-کما مرّ-تکون مسألة اصولیّة لفظیّة و اصولیّة عقلیّة معا،بخلاف بحث مقدّمة الواجب فإنّه مسألة عقلیّة محضة، و علی هذا لا بدّ أن نبحث فی الجهة اللفظیّة للمسألة و فی الجهلة العقلیّة لها، فنبحث ابتداء فی المقام الأوّل من جهة الدلالة الوضعیّة بأنّه إذا شککنا فی

ص:365

دلالة النهی بالدلالة اللفظیّة علی الفساد،هل یتحقّق أصل لإثبات المسألة أم لا؟یمکن أن یتوهّم فی بادئ النظر جریان استصحاب عدم دلالة النهی علی الفساد بالدلالة اللفظیّة.

و جوابه:أنّه لا بدّ فی الاستصحاب من حالة متیقّنة سابقة،و هی مفقودة هاهنا؛إذ النهی حین حدوثه إمّا یکون دالاّ علی الفساد و إمّا لم یکن دالاّ علیه، و حیث لم یعلم شیء منهما فلیس له حالة سابقة معلومة لتستصحب.

و یمکن أن یتوهّم أنّ وضع المفردات و الحروف مقدّم علی وضع المرکّبات فی جمیع اللغات،و النهی یستفاد من المرکّب،و هو کلمة«لا»فنقول:إنّ الألف و اللاّم حین وضع المفردات لا یکون دالاّ علی الفساد قطعا،و بعد وصول النوبة إلی وضع المرکّبات نشکّ فی أنّ الواضع وضعه للدلالة علی الفساد أم لا؟ فیستصحب عدم وضعه لها.

و جوابه:أنّ المرکّب المذکور فی حال وضع المفردات لم یکن موجودا و لا موضوعا حتّی نقول:إنّه لم یکن دالاّ فی هذا الحال علی الفساد؛إذ المفردات مغایرة للمرکّبات،فلا تتحقّق حالة سابقة متیقّنة للمستصحب.و بالنتیجة:لا یمکن إثبات المسألة عن طریق الأصل فی الجهة الاولی من المقام الأوّل.

و البحث فی الجهة الثانیة من المقام الأوّل بأنّ الملازمة العقلیّة هل تتحقّق بین الحرمة و الفساد أم لا؟و البحث فی هذه الجهة یکون عین البحث المذکور فی مقدّمة الواجب،و قد مرّ هناک تحقّق الطریقین لجریان استصحاب عدم تحقّق الملازمة العقلیّة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة فی صورة الشکّ،و أمّا الطریق الأوّل فهو ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بأنّ الملازمة إثباتا و نفیا أمر أزلیّ،و لا یتحقّق لها حالة سابقة متیقّنة للشاکّ،فإنّ حکم العقل

ص:366

بالملازمة أو عدمها یکون من الأزل،و لا یکون الشکّ فی بقاء الملازمة بعد تحقّقها سابقا أو عدمه بعد عدم تحقّقها لیستصحب الآن،فلا مجال لجریان استصحاب الملازمة،و لازم ذلک فیما نحن فیه أیضا أنّه إذا شککنا فی تحقّق الملازمة بین الحرمة و الفساد،فلا مجال لجریان استصحاب عدم تحقّقها؛لعدم تحقّق حالة سابقة متیقّنة.

و لکنّه مع ذلک قال بجریان الاستصحاب فی العام و الخاص،مثلا:إذا شککنا فی قرشیّة المرأة نستصحب عدم قرشیّتها بأنّ هذه المرأة قبل ولادتها و قبل انعقاد نطفتها لم تکن قرشیّة،و نشکّ بعد ولادتها فی اتّصافها بالقرشیّة، فنجری استصحاب عدم القرشیّة.

و یکون وجه تفصیله بینهما علی ما قال به:أنّ الشکّ فی الملازمة إلی الأزل، و أنّ العقل هل کان حاکما فی الأزل بالملازمة بین الحرمة و الفساد أم لم یکن حاکما بذلک و لا نشکّ فی البقاء،بخلاف الشکّ فی قرشیّة المرأة؛إذ لا شکّ فی أنّ المرأة القرشیّة باسم هند-مثلا-لم تکن موجودة،و بعد تولّدها نشکّ فی أنّه ولدت قرشیّة أم لا،فلا یکون هذا قابلا للمقایسة مع حکم أزلیّ.

و لکنّ التحقیق:أنّه لا یجری استصحاب عدم قرشیّة المرأة أیضا کما ذکرناه مکرّرا تبعا لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه؛إذ لا بدّ فی الاستصحاب من اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة،و بدونه لا یصدق عنوان النقض،و هو لا یتحقّق فی استصحاب عدم قرشیّة المرأة،فإنّ القضیّة المتیقّنة-یعنی لم تکن هذه المرأة بقرشیّة-قضیّة سالبة محصّلة،و هی تکون صادقة مع انتفاء الموضوع أیضا، بخلاف القضیّة المشکوکة فإنّ وجود الموضوع فیها مفروض و محرز،و لا یمکن الاتّحاد بینهما،و لذا لا یجری استصحاب عدم القرشیّة.

ص:367

و أمّا الطریق الثانی فهو ما ذکره الإمام قدّس سرّه (1)و قال:کما أنّ العالمیّة و القرشیّة وصف وجودی للمرأة کذلک الملازمة وصف وجودی،فلا بدّ من تحقّق الموضوع أوّلا باقتضاء القاعدة الفرعیّة حتّی یتّصف بها،و علی هذا لا بدّ من تحقّق الحرمة ابتداء،ثمّ اتّصافها بالملازمة مع الفساد أو عدمها،و قبل تحقّق الحرمة لا معنی لاتّصافها بالملازمة،فلا مجال لجریان الاستصحاب مع هذه الحالة السابقة العدمیّة نظیر استصحاب عدم القرشیّة.

و لکنّه مخدوش؛بأنّ لازم ذلک تحقّق وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة معا قبل الاتّصاف بالملازمة لکونها من باب المفاعلة،إلاّ أن یقول باستعمالها مسامحة،و أنّ المقصود منها اللازم و الملزوم،و علی هذا أیضا لا یکون الاتّصاف باللازم فرع تحقّق الملزوم،بل معناه أنّه لو تحقّق الملزوم یتحقّق اللازم؛إذ لا شکّ فی تحقّق الملازمة بین تحقّق آلهة و فساد الأرض و السماء،مع أنّه لم یتحقّق أصلا،و الحقّ مع صاحب الکفایة قدّس سرّه فی هذه الجهة من المسألة،فلا مجال لجریان الأصل فی کلتا الجهتین من المسألة.

و مع قطع النظر عن الإشکالات المذکورة یرد علیهما الإشکال المشترک، و هو:أنّه یشترط فی الاستصحاب أن یکون المستصحب مجعولا شرعیّا،أو موضوعا للحکم الشرعی،مثل:استصحاب صلاة الجمعة و استصحاب خمریّة المائع بعد الشکّ فی زوالها،و من البدیهی أنّ عدم دلالة النهی علی الفساد لا یکون مجعولا شرعیّا،و لا موضوعا للحکم الشرعی،و لا نری روایة تقول:

إذا کان النهی دالاّ علی الفساد یثبت حکم کذا،و إذا لم یکن کذلک یثبت

ص:368


1- 1) تهذیب الاصول 1:412-413 و 480-482،مناهج الوصول إلی علم الاصول 2:156-157،معتمد الاصول 1:214-215.

حکم کذا.

و هکذا عدم الملازمة بین الحرمة و الفساد لا یکون مجعولا شرعیّا و لا موضوعا للحکم الشرعی؛إذ الملازمة-إثباتا و نفیا-مسألة عقلیّة،و إن تحقّقت الملازمة بینهما یتحقّق الفساد بحکم العقل.

و مضافا إلی هذا الإشکال المشترک یرد علی صاحب الکفایة قدّس سرّه إشکال آخر،و هو:أنّه لا فرق بین استصحاب عدم قرشیّة المرأة و استصحاب عدم دلالة النهی علی الفساد،فلما ذا قلت بجریان الأوّل دون الثانی؟و الفارق أنّ عدم قرشیّة المرأة موضوع للحکم الشرعی،بأنّ المرأة إذا لم تکن قرشیّة فهی تحیض إلی خمسین سنة،هذا کلّه بالنسبة إلی المقام الأوّل.

و أمّا فی المقام الثانی فلا بدّ من ملاحظة المعاملات و البحث فیها مرّة و ملاحظة العبادات و البحث فیها مرّة اخری،و یقع الکلام فی باب المعاملات أوّلا علی مبنی المختار فی مسألة الصحّة و الفساد،و ثانیا علی مبنی صاحب الکفایة قدّس سرّه فیها،و اخترنا أنّ الصحّة و الفساد من عوارض الوجود الخارجی، فمثلا:إذا وقع البیع فی الخارج فقد یکون معروضا للصحّة و قد یکون معروضا للفساد،و علی هذا إن تحقّق بیع فی وقت النداء و فرضنا أنّه منهیّ عنه و حرام، و شککنا فی أنّ النهی یدلّ علی فساده أم لا،و یرجع الشکّ إلی أنّ المبیع صار ملکا للمشتری و الثمن ملکا للبائع و حصل النقل و الانتقال به أم لا؟ فیستصحب عدم حصول النقل و الانتقال،و یعبّر عنه بأصالة الفساد.

و لا یخفی أنّ محلّ البحث هو الشبهات الحکمیّة،و أنّ البیع فی وقت النداء صحیح أم لا،و لا تجری هاهنا أصالة الصحّة،فإنّ مجراها الشبهات الموضوعیّة کالشکّ فی رعایة المتعاملین شرائط الصحّة و عدمها.

و اختار المحقّق الخراسانی قدّس سرّه أنّ الصحّة و الفساد ترتبط بالطبیعة و تعرض

ص:369

علیها مثل عروض الحرمة و الوجوب علیها،و هذا إن شککنا فی أنّ البیع وقت النداء صحیح أم لا،و یرجع الشکّ إلی أنّ الشارع جعل الصحّة للبیع وقت النداء أم لا؟فیستصحب عدم جعل الصحّة له و لو فی زمان ما من صدر الإسلام،فعلی کلا المبنیین تکون المعاملة باطلة.

و أمّا فی باب العبادات فقد نقول بلزوم تحقّق الأمر الفعلی لصحّة العبادة، و قد نقول بکفایة تحقّق المناط فی صحّتها،و علی الأوّل فإن تعلّق النهی بالعبادة فلا معنی لتعلّق الأمر بها و لو استحبابا بعد فرض تعلّق النهی بنفس العبادة، ففی المسألة الفقهیّة نحکم ببطلانها لفقدان الأمر،و نعبّر هاهنا أیضا بجریان أصالة الفساد؛لعدم تحقّق ملاک الصحّة.

و علی الثانی فإن تعلّق النهی الغیری بالعبادة مثل تعلّق النهی المقدّمی بالصلاة مکان الإزالة فهو لا یکون کاشفا عن مبغوضیّة المنهی عنه و لا ینافی المقربیّة،و علی فرض شمول عنوان البحث للنهی الغیری-کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه-فلا یکون کاشفا عن فساد العبادة؛لتحقّق ملاک الصحّة.

و إن تعلّق النهی النفسی بالعبادة فلا بدّ من الحکم بفسادها،فإنّه کاشف عن مبغوضیّة المنهی عنه و مبعّدیته عن ساحة المولی؛إذ المقرّبیة و المبعّدیة فی شیء واحد بعنوان واحد لا یکون قابلا للجمع و إن تحقّق فی کلام استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه إبهاما و إجمالا،و لعلّه یستفاد منه إمکان الجمع بینهما،مع أنّه لیس بصحیح بعد تردیده فی صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة،فکیف یمکن قوله هاهنا بالحکم بالصحّة؟!هذا تمام الکلام فی هذه المقدّمة.

المقدّمة السابعة:ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)و لکنّه لا یرتبط بما نحن فیه

ص:370


1- 1) کفایة الاصول 1:292-294.

أصلا،و هو:أنّ متعلّق النهی إمّا أن یکون نفس العبادة و مجموعها مثل«دعی الصلاة أیّام أقرائک»،أو جزئها کالنهی عن قراءة سورة السجدة فی الصلاة،أو شرطها الخارج عن ماهیّة الصلاة،أو وصفها الملازم لها کالجهر و الإخفات للقراءة،أو وصفها غیر الملازم کالغصبیّة لأکوان الصلاة المنفکّة عنها.

ثمّ قال:لا ریب فی دخول القسم الأوّل فی محلّ النزاع،و کذا القسم الثانی بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة،إلاّ أنّ بطلان الجزء لا یوجب بطلانها إلاّ مع الاقتصار علیه،لا مع الإتیان بغیره ممّا لا نهی عنه،إلاّ أن یستلزم محذورا آخر.

و نحن نقول:إنّ تعلّق النهی بجزء العبادة و سرایة فساده إلی الکلّ مع الاقتصار علیه و عدم سرایته إلیه مع الإتیان بغیره فهذه مسألة فقهیّة، و لا ترتبط بالبحث الاصولی الذی نبحث فیه من أنّ تعلّق النهی بالعبادة هل یدلّ علی فسادها أم لا؟

ثمّ قال:و أمّا القسم الثالث فلا یکون حرمة الشرط و النهی عنه موجبا لفساد العبادة إلاّ فیما کان عبادة،کالوضوء فإنّ حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به،و إن لم یکن عبادة-کتطهیر الثوب و البدن من النجاسة- فلا یدلّ النهی علی فساده؛لعدم کونه عبادة.

و أنت خبیر بعدم ارتباط هذه المسألة بدلالة النهی علی الفساد،فإنّ استلزام بطلان الشرط لبطلان المشروط مسألة عقلیّة،و لا یرتبط بمحلّ البحث هاهنا.

ثمّ قال:و أمّا القسم الرابع فالنهی عن الوصف اللازم مساوق للنهی عن موصوفه،فیکون النهی عن الجهر فی القراءة-مثلا-مساوقا للنهی عنها؛

ص:371

لاستحالة کون القراءة التی یجهر بها مأمورا بها مع کون الجهر بها منهیّا فعلا، کما لا یخفی.

و من البدیهی أنّ هذا بحث صغروی،و البحث فیما نحن فیه بحث کبروی، و الموضوع فیه تعلّق النهی بالعبادة،و لا نبحث فی أنّ تعلّق النهی بالعبادة یتحقّق فی موضع کذا و لا یتحقّق فی موضع کذا.

هذا،مع فرض رجوع النهی عن الجهر فی القراءة إلی النهی عنها،فلعلّه أیضا لم یکن بصحیح،و علی أیّ حال فلا یرتبط بمحلّ البحث.

ثمّ قال:و هذا بخلاف ما إذا کان الوصف مفارقا،کما فی القسم الخامس،فإنّ النهی عنه لا یسری إلی الموصوف إلاّ فیما إذا اتّحد معه وجودا بناء علی امتناع الاجتماع کما فی الصلاة فی الدار المغصوبة،و أمّا بناء علی الجواز فلا یسری إلیه.

و معلوم أنّ السرایة و عدمها بحث صغروی لا یرتبط فیما نحن فیه.

و قال فی خاتمة کلامه:و أمّا النهی عن العبادة لأجل أحد هذه الامور-یعنی الجزء و الشرط و الوصف-فحاله حال النهی عن أحدها إن کان النهی عن العبادة بنحو الواسطة فی العروض،و حاله حال النهی عن نفس العبادة إن کان النهی عنها بنحو الواسطة فی الثبوت.و معلوم أنّ متعلّق النهی فی الصورة الاولی أحد هذه الامور فی الحقیقة،و انتسابه إلی العبادة لا یخلو عن مسامحة، نظیر انتساب الحرکة إلی الجالس فی السفینة،و متعلّقه فی الصورة الثانیة نفس العبادة حقیقة،إلاّ أنّ الواسطة فی تعلّقه یکون أحد الامور المذکورة.

و حاصل الکلام:أنّ ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه مفصّلا بعنوان المقدّمة لا یرتبط بمحلّ البحث،کما لا یخفی.

إذا عرفت هذه المقدّمات فتصل النوبة إلی أصل البحث،و لا بدّ لنا من البحث فی مقامین:

ص:372

الأوّل:فی اقتضاء النهی عن العبادة لفسادها

و البحث فیها قد یکون فی مقام الدلالة اللفظیة،و قد یکون فی مقام حکم العقل-و إن لم یتعرّض للبحث اللفظی فی الکفایة-و لا شکّ فی ضرورة البحث فی مقام الدلالة اللفظیّة أیضا،فنقول:إنّه هل یتحقّق للنواهی المتعلّقة بالعبادات من حیث الدلالة اللفظیّة و فهم العرف ظهور فی الحرمة المولویّة أو ظهور فی الإرشاد إلی الفساد،بعد التوجّه إلی بیان الأجزاء و الشرائط و الموانع من طریق الأوامر و النواهی معمولا مثل:«صلّ مع الطهارة»و«لا تصلّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه»،و بعد التوجّه إلی إرشادیّتهما قطعا؟فإذا تعلّق النهی بنفس العبادة مثل:«لا تصلّی فی أیّام أقرائک»فالظاهر و المتفاهم منه عرفا الإرشاد إلی الفساد،و أنّها لا یمکن أن تقع صحیحة و لا یمکن أن یترتّب علیها الأثر،إلاّ أن تکون فی البین قرینة علی الحرمة الذاتیّة.هذا من الجهة اللفظیّة للمسألة.

و أمّا من الجهة العقلیّة فیکون الموضوع فیها الحرمة المولویّة،و أنّ العبادة بعد تعلّق النهی المولوی علیها،هل یمکن وقوعها صحیحة أم لا؟یمکن أن یتوهّم بأنّه لا یمکن تصوّر کون الشیء عبادة مع تعلّق الحرمة المولویّة به حتّی نقول:إنّ الحرمة المولویّة تقتضی الفساد أم لا،فإنّها إن تحقّقت فی الخارج بدون قصد القربة فلا تکون محرّمة،و إن تحقّقت مع قصد القربة و الحال أنّها لا تکون مقرّبة شرعا فتکون حرمتها تشریعیّة،و لا یبقی مجال للحرمة الذاتیّة.

و جوابه قد مرّ فی المقدّمة الاولی،و هو:أنّ المقصود من العبادة هنا إمّا أن یکون ما هو عبادة ذاتا-مثل السجود للّه و الخشوع له-و قلنا:إنّ الصلاة أیضا کانت من هذا القبیل،فإنّها عبارة عن الرکوع و السجود و التحمید

ص:373

و التسبیح للّه،و إمّا أن یکون بنحو التعلیق کقولنا:إن تعلّق الأمر بهذا العمل مکان النهی لکان أمره أمرا عبادیّا،مثل صوم العیدین.

هذا ما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه،و معلوم أنّ طرف الملازمة هنا هو النهی المتعلّق بالعبادة،لا الشیء الذی یتصوّر له حالتی الصحّة و الفساد،و بالنتیجة:

إذا تعلّق النهی بالعبادة الذاتیّة-مثل أن یقول للحائض:«لا تصلّی أیّام أقرائک»أو«لا تسجدی للّه»-فهل تکون حرمتها ملازمة لفسادها أم لا؟

و جوابه:أنّ النهی التحریمی کاشف عن مبغوضیّة المنهی عنه،و أنّه یوجب المبعّدیة عن ساحة المولی،و تتحقّق فیه مفسدة لازمة الاجتناب،فکیف یمکن أن تقع العبادة صحیحة مع أنّ معناها حصول القرب من المولی،فلا شکّ فی تحقّق الملازمة بین حرمة العبادة و فسادها بنظر العقل.

و قد مرّ فی ابتداء البحث أنّ النهی المأخوذ فی عنوان المسألة أعمّ من النهی التنزیهی و التحریمی،و ذکرنا أنّ مثال تعلّق النهی التنزیهی بذات العبادة عبارة عن اقتداء المسافر بالحاضر،فعلی هذا إذا تعلّق النهی الکراهتی بالعبادة کما فی المثال،فهل تتحقّق الملازمة بین الکراهة و الفساد عقلا أم لا؟و لا ریب فی مرجوحیّة هذه العبادة و أنّ عدم إتیانها أولی من إتیانها،فیتحقّق لها عنوان المبغوضیّة فی الجملة و لا تکون صالحة للمقرّبیة،و لا ریب أیضا أنّ المکلّف مأذون من قبل الشارع بارتکاب المکروه،و من المستبعد لدی الذهن صدور الإذن منه بارتکاب عبادة فاسدة،فتتحقّق فی المسألة مشکلة،و حلّها بالتفکیک بین الحکم الوضعی و التکلیفی؛بأنّ کراهة العبادة من حیث الحکم الوضعی ملازمة لفسادها و بطلانها،و معنی الإذن فی الارتکاب الذی یستفاد من الکراهة أنّه لا یترتّب علی ارتکابها استحقاق العقوبة.

ص:374

المقام الثانی:فی اقتضاء النهی عن المعاملة لفسادها
اشارة

و البحث فیها قد یکون من حیث الدلالة اللفظیّة و الظهور العرفیّ للنواهی المتعلّقة بها،و قد یکون من حیث تحقّق الملازمة و عدمها عقلا بین الحرمة المولویّة و فساد المعاملة،و موضوع البحث فی الأوّل هو تعلّق النهی بالمعاملة من غیر قرینة تدلّ علی إرشادیّته أو مولویّته،و لا بدّ قبل الخوض فی البحث من التوجّه إلی أمرین:

الأوّل:أنّه لا تتحقّق بین المعاملات معاملة تأسیسیّة شرعیّة،بل تکون جمیعها إمضائیّة بعد ما کانت متداولة بین العقلاء،و لکنّ الشارع حرّم بعضها و أضاف بعض الشرائط إلی الآخر لاستحکام نظم الاجتماع،کقوله: (حَرَّمَ الرِّبا) و«نهی النبیّ صلی اللّه علیه و آله عن بیع الغرر»،بخلاف العبادات فإنّ مثل الصلاة بهذا النحو کمّا و کیفا تکون من المخترعات الشرعیّة،سواء قلنا بالحقیقة الشرعیّة أم لا.

الأمر الثانی:أنّه یتحقّق فی المعاملات ثلاثة خصوصیّات طولیّة:أحدها:ما یصدر من المتعاملین بالمباشرة من الإیجاب و القبول و التعاطی،و ثانیهما:ما یتفرّع علیه من التملیک و التملّک،و هو مسبّب و مقدور للمکلّف مع الواسطة، و ثالثها:ما یترتّب علی هذا المسبّب من الأحکام و الآثار،و الغرض من المعاملات ترتّب الآثار،لذا تکون صحّة المعاملة عند الفقهاء بمعنی ترتّب الأثر المقصود علیها،و هذا یهدینا إلی أنّ الشارع حینما یقول:«لا تبع ما لیس عندک»معناه أنّه لا یترتّب علی هذا البیع الأثر المقصود،و أنّه لا یکون مع«لا تشرب الخمر»من سنخ واحد و فی سیاق واحد،و لا یستظهر العرف منه أنّ لهذا البیع بما أنّه فعل من أفعال البائع حرمة مولویّة،و لا یکون الظهور اللفظی

ص:375

مساعدا علی حرمة البیع،و لا یبعد ادّعاء أنّ المتفاهم عند العرف إرشادیّة النهی إلی عدم ترتّب الآثار و الأحکام المقصودة منه.

و موضوع البحث فی الجهة الثانیة هو تعلّق النهی المولوی بالمعاملة و حرمتها،بأنّه هل تتحقّق الملازمة العقلیّة بین حرمة المعاملة و فسادها أم لا؟ و لکن بلحاظ تحقّق المراحل الثلاثة الطولیّة فی المعاملات کما ذکرناه لا بدّ من ملاحظة أنّ النهی التحریمی المولوی تعلّق بأیّ مرحلة من المراحل المذکورة، و لا بدّ من البحث فی کلّ منها مستقلاّ،فإن تعلّق النهی بما یصدر عن المکلّف بالمباشرة من الإیجاب و القبول أو التعاطی،مثل:أن یقول البائع للمشتری فی أثناء الصلاة:«بعتک داری»؛إذ هو بما أنّه لفظ صادر عن المکلّف فی أثناء فریضة الصلاة یکون محرّما و یوجب بطلان الصلاة،و یترتّب علیه استحقاق العقوبة،و لا شکّ فی مبغوضیّته للمولی،و لکنّه مع ذلک لا یوجب بطلان المعاملة؛إذ لا یتحقّق نقص فی المعاملة،و معلوم أنّ الحرمة و المبغوضیّة لا تنافی السببیّة،و الشاهد علی ذلک سببیّة إتلاف مال الغیر للضمان مع أنّه کثیرا ما یکون محرّما و قلیلا ما یتحقّق علی وجه الحلال،مثل:تحقّقه من النائم أو الطفل أو المضطرّ إلیه،فیکون قول:«بعتک داری»حراما بما أنّه کلام صادر من المکلّف فی أثناء الصلاة مع کونه سببا للتملیک و التملّک،فلا تتحقّق الملازمة بین الحرمة و الفساد فی هذه الصورة عقلا.

و إن تعلّق النهی بالمسبّب،مثل:بیع المصحف و العبد المسلم إلی الکافر، و المحرّم و المبغوض عند الشارع هنا تملیکهما إلیه،فلا تتحقّق الملازمة بین الحرمة و الفساد فی هذه الصورة أیضا بنظر العقل؛إذ البیع لا یکون فاقدا للخصوصیّات و الشرائط المعتبرة فیه حتّی نحکم ببطلانه،فتکون المعاملة

ص:376

محرّمة و مبغوضة للمولی،و مع ذلک لا مانع من صحّتها بلحاظ واجدیّتها لجمیع الشرائط المعتبرة فیها.

و لکنّ الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (1)قائل بالتفصیل فی هذه المسألة علی ما فی تقریراته،و هو أنّه یحتمل أن تکون المعاملات أسبابا شرعیّة بأنّ الشارع جعل البیع سببا للتملیک و التملّک،کما أنّ العبادات تکون من مخترعاته، و یحتمل أن تکون سببیّة المعاملات من المسائل الواقعیّة العقلیّة،إلاّ أنّ عقولنا قاصرة عن إدراکها،و یکشفها الشارع لنا بلحاظ إحاطته العلمیّة و یبیّنها لنا، و یکون بیع العبد المسلم إلی الکافر باطلا علی الاحتمال الأوّل،فإنّ حرمة البیع و صحّته معا من جهة الشارع لا تکون قابلة للاجتماع،و علی الاحتمال الثانی یکون البیع صحیحا،فإنّ جعل السببیّة لا یکون بید الشارع،و ما بیده عبارة عن جعل الحرمة و المبغوضیّة،فلا تتحقّق الملازمة بین الحرمة و الفساد علی هذا الاحتمال.

و لکنّ التحقیق:أنّ المعاملات امور عقلائیّة لا واقعیّة لها،و لا تکون من المجعولات الشرعیّة،بل العقلاء بعد احتیاجهم فی الحیاة الاجتماعیّة إلی الأطعمة و الألبسة و أمثال ذلک توافقوا علی تبادلها و تعاملها بینهم،و الشارع أمضاها کثیرا ما مع إضافة بعض الشرائط،و منع بعضها؛لتحقّق المفاسد الاجتماعیّة فیه،و علی هذا یکون حلّ صحّة بیع العبد المسلم إلی الکافر-مثلا- مع مبغوضیّته بأنّ الشارع لم یمض کلّ واحد واحد من المعاملات،بل أمضاها بنحو مطلق،مثل:قوله: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ، ثمّ بیّن بعض المقیّدات،مثل:نهی النبیّ صلّی اللّه علیه و آله عن بیع الغرر،و نحو ذلک.و أمّا فی بیع العبد المسلم إلی الکافر فقال:

ص:377


1- 1) مطارح الأنظار:163.

إنّه حرام بالحرمة المولویّة و مبغوض لی،و هذا لا ینافی صحّة البیع؛إذ الحرمة المولویّة لا تکون مقیّدة لإطلاق أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ، بخلاف مثل نهی النبیّ عن بیع الغرر،فإنّه إرشاد إلی الفساد،فیکون البیع صحیحا و حراما و یترتّب علیه استحقاق العقوبة،فما قال به الشیخ قدّس سرّه لیس بتامّ.

نکتة:

حکی عن أبی حنیفة و الشیبانی (1)دلالة النهی علی الصحّة فی المعاملات، و وافقهما فخر المحقّقین فی ذلک،و لا بدّ من قبوله فی بعض الموارد،مثل ما نحن فیه؛إذ لا شکّ فی اعتبار القدرة فی متعلّق النهی،و لا یقدر علیه إلاّ فیما إذا کانت المعاملة مؤثّرة صحیحة کالنهی عن تملیک العبد المسلم للکافر،فلو لم یکن قادرا علی هذا التملیک لما صحّ النهی عنه،فالنهی عنه کاشف عن مقدوریّته،و المقدوریّة دلیل علی صحّة المعاملة،فالنهی هنا دلیل علی الصحّة.

و إن تعلّق النهی بالتسبّب-أی الإیصال بالمسبّب-من طریق سبب خاصّ، مثل:أن یقول الزوج لزوجته:«ظهرک علیّ کظهر امّی»لحصول المفارقة بینهما؛ إذ المحرّم لیس التلفّظ بهذه الجملة و لا البینونة و الطلاق،بل المحرم هو الظهار المتداول بین الناس فی عصر الجاهلیّة،فلا تتحقّق الملازمة العقلیّة بین الحرمة المولویّة و الفساد،بل هذا النهی أیضا یدلّ علی الصحّة؛إذ النهی عنه کاشف عن مقدوریّته للمکلّف،و لا معنی لمقدوریّة هذا العمل سوی صحّة الظهار و حصول البینونة به،مع مبغوضیّته و ترتّب استحقاق العقوبة علیه،فلا بدّ من الالتزام بکلام أبی حنیفة و تلمیذه فی هذا القسم أیضا.

و إن تعلّق النهی التحریمی بأثر المعاملة مثل قوله علیه السّلام:«ثمن العذرة

ص:378


1- 1) کفایة الاصول 1:299.

سحت»، (1)و معنی تعلّق الحرمة بالذات حرمة،أیّ نوع من التصرّفات فیه، و یکون هذا النهی و الحرمة ملازما لفساد المعاملة،فإنّ صحّة بیع العذرة النجسة و دخول الثمن فی ملک البائع لا یکون قابلا للجمع مع حرمة جمیع أنواع التصرّفات فیه،فتتحقّق ملازمة عقلیّة بین الحرمة و الفساد هنا،سیّما بعد التوجّه إلی ما ذکرناه فی مقدّمة البحث،من أنّ الغرض من المعاملات بالمعنی الأعمّ ترتّب الآثار علیها،و معنی النهی التحریمی عن ترتّب الآثار أنّه لم تتحقّق المعاملة أصلا،لا أنّها تتحقّق و لکن لا یترتّب علیها أثر من الآثار.

هذا کلّه فی مقام الثبوت،و أمّا فی مقام الإثبات فإن تعلّق النهی فی مورد المعاملة کان مجملا،فإنّه کان من قبیل القسم الأخیر حتّی یکون النهی فیه ملازما للفساد،أو من قبیل الأقسام الثلاثة الاولی حتّی لم یکن النهی فیه ملازما للفساد،فهل هناک طریق لرفع الإجمال المذکور أم لا؟

لا یبعد القول باستظهار کونه من قبیل القسم الأخیر،بعد ملاحظة ما ذکرناه فی ابتداء البحث بعنوان النکتة من استظهار الإرشادیّة من روایة:لا تبع ما لیس عندک،بدلیل أنّ الغرض فی باب المعاملات هو ترتّب الآثار علیها،و الملکیّة و الزوجیّة و أمثال ذلک تکون مقدّمة لترتّب الآثار،و لذا قلنا:

إنّ الشارع یهدینا إلی عدم ترتّب الآثار علی بیع مال الغیر،و استفدنا من هذا الطریق أنّ هذا النهی إرشادی.

و من هنا یستفاد فیما نحن فیه بأنّ النهی التحریمی إذا تعلّق بالمعاملة و کان متعلّقه مجملا فلا یبعد استظهار أنّه من قبیل القسم الرابع،بلحاظ أنّ الغرض فی باب المعاملات ترتّب الآثار،و هذا یکون قرینة لترجیح القسم الأخیر،

ص:379


1- 1) الوسائل 17:175،الباب 40 من أبواب ما یکتسب به،الحدیث 1.

فنحکم بتحقّق الملازمة بین الحرمة و الفساد عقلا،و لکنّ الاستظهار لا یکون مسألة برهانیّة؛إذ یمکن أن ینکره بعض.

و لکن بعد إثبات عدم تحقّق الملازمة العقلیّة بین حرمة المعاملة و فسادها یمکن أن یقال بتحقّق ملازمة شرعیّة بینهما من جهة دلالة غیر واحد من الأخبار علیها:

منها:ما رواه فی الکافی و الفقیه عن زرارة عن الباقر علیه السّلام قال:سألته عن مملوک تزوّج بغیر إذن سیّده،فقال:«ذلک إلی سیّده،إن شاء أجازه و إن شاء فرّق بینهما»،قلت:أصلحک اللّه تعالی،إنّ الحکم بن عیینة و إبراهیم النخعی و أصحابهما یقولون:إنّ أصل النکاح فاسد و لا یحلّ إجازة السیّد له،فقال أبو جعفر علیه السّلام:«إنّه لم یعص اللّه إنّما عصی سیّده،فإذا أجاز فهو له جائز». (1)

و استفاد الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (2)الملازمة الشرعیّة بین الحرمة و الفساد من الروایة بعد ملاحظة أنّ عصیان السیّد مستلزم لعصیان اللّه تعالی، و لا یمکن التفکیک بینهما،فإنّ وجوب إطاعة السیّد علی العبد یکون من الشارع و بأمره.

و استدلاله قدّس سرّه بها یبتنی علی مقدّمات:

الاولی:أنّ المنهی عنه فی باب المعاملات قد یکون إیجاد السبب،و الألفاظ الصادرة عن المتعاملین بالمباشرة،و قد یکون تأثیر السبب فی المسبّب.

الثانیة:أنّ العبد و ما فی یده ملک للمولی،و کما أنّ تصرّف الغیر فیه بدون إذن مالکه حرام،کذلک تصرّف العبد فی نفسه بدون إذنه حرام،و کما أنّ إجراء

ص:380


1- 1) الکافی 5:478،الحدیث 3،الفقیه 3:350،الحدیث 1675،الوسائل 21:114،الباب 24 من أبواب نکاح العبید و الاماء،الحدیث 1.
2- 2) مطارح الأنظار:164-165.

عقد نکاح العبد من الغیر تصرّف فی مال المولی و یحتاج إلی إذنه،کذلک إجراء عقد النکاح لنفسه یحتاج إلی الإذن.

الثالثة:أنّه لا شکّ فی تحقّق معصیة اللّه تعالی بعد تحقّق معصیة المولی،إلاّ أنّ معصیة اللّه تعالی قد تتحقّق بواسطة معصیة السیّد و من طریقها،و قد تتحقّق بدون وساطتها،مثل تحقّق الزنا من العبد.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ المراد من قوله علیه السّلام:«إنّه لم یعص اللّه تعالی»أنّه لم یعص اللّه تعالی مباشرة و بدون الواسطة،بل عصی سیّده و تحقّق عصیان اللّه بعده،فیکون تلفّظ العبد بلفظ قبلت تصرّفا فی ملک المولی بدون إذنه و عصیانا له،و عصیان اللّه تعالی مع الواسطة،و هذا لا یکون مؤثّرا فی بطلان النکاح،بل هو فی اختیار سیّده،إن شاء أجازه،و إن شاء فرّق بینهما،و معناه أنّه إذا کان هناک عصیان اللّه تعالی بلا واسطة،فالروایة تدلّ علی الملازمة الشرعیّة بین الحرمة و الفساد،و معلوم أنّ کلّ معصیة تتحقّق فی المعاملة فی غیر العبد تکون معصیة للّه تعالی بلا واسطة.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّ المعصیة فی الجملتین الموجبة و السالبة لیس بمعنی مخالفة الحکم التحریمی،بل الظاهر أن یکون المراد بالمعصیة المنفیّة فی الروایة أنّ النکاح لیس ممّا لم یمضه اللّه و لم یشرّعه کی یقع فاسدا کالتزویج فی العدّة،بل کان ممّا أمضاه و أذن به،و المراد بالمعصیة المثبتة فیها أنّه ارتکب عملا لم یأذن به المولی،و معناه أنّه إن لم یکن للنکاح مشروعیّة من ناحیة الشارع کان النکاح فاسدا،و إن کان له مشروعیّة کما کان کذلک فلا وجه لبطلانه،و لا حرمة فی البین حتّی تتحقّق الملازمة الشرعیّة بین الحرمة

ص:381


1- 1) کفایة الاصول 1:299.

و الفساد،و المقصود من الروایة أنّ النکاح إذا نسب إلی اللّه تعالی فقد أمضاه و أذن بارتکابه،و إذا نسب إلی المولی فهو لم یأذن بارتکابه،حیث عبّر عنه فی الروایة بمعصیة السیّد.

و لکن لا بدّ من البحث فی مقامین:أحدهما:فی معنی الروایة،و الآخر فی النتیجة التی تستفاد منها.

فأمّا معنی الروایة فنقول:لا یصحّ ما استفاده الشیخ قدّس سرّه و لا ما استفاده صاحب الکفایة قدّس سرّه،و أمّا فی النتیجة فلا بدّ من اختیار نظر أحدهما.

توضیح ذلک:أنّ محطّ نظر السائل فی سؤاله الإمام الباقر علیه السّلام لا یکون إیجاد السبب،و أنّ تلفّظ العبد بکلمة«قبلت»تصرّف فی مال الغیر بدون إذنه و حرام،بل إبهامه و محطّ نظره هنا أنّ النکاح و الزواج مستلزم لصرف الوقت و مصاریف کثیرة-بعد عدم دلالة الروایة علی کون مجری العقد هو نفس العبد-و هذا مساعد لفهم العرف.

کما أنّ استعمال کلمة«العصیان»بالنسبة إلی الحکم الوضعی غیر متعارف مثل إطلاق لفظ العصیان علی نفس البیع الغرری قبل التصرّف فی الثمن.

و تعلیله بأنّه لم یمضه اللّه،بل یستعمل لفظ العصیان بالنسبة إلی مخالفة الحکم التکلیفی المولوی،فیکون معنی الروایة مع حفظ محطّ نظر السائل و استعمال لفظ العصیان فی مورده:أنّ بعد سؤال زرارة عن صحّة تزویج العبد بدون إذن مولاه و بطلانه،قال الإمام علیه السّلام:«ذلک إلی سیّده»،نظیر العقد الفضولی إن شاء أجازه،و إن شاء فرّق بینهما،مثل:ردّ البیع الفضولی من المالک.

و بعد قول زرارة بأنّ العامّة قائلون ببطلان أصل النکاح،قال الإمام علیه السّلام بعدم صحّة هذه الفتوی،و أنّه لم یعص اللّه و إنّما عصی سیّده،یعنی یکون لزواج

ص:382

العبد بدون إذن المولی عنوانان:

أحدهما:عنوان معصیة المولی لعدم استئذانه،و إن لم یصدر النهی عنه و لکن عدم الاستئذان یوجب تحقّق عنوان المعصیة،و معلوم أنّ معصیة المولی للعبد حرام بالحرمة الشرعیّة و یترتّب علیها استحقاق العقوبة.

و ثانیهما:أنّه إذا نسب إلی اللّه تعالی ینطبق علیه عنوان عدم المعصیة،فإنّه لم یرتکب عملا محرّما فی الشریعة،فیصحّ تعلیل الإمام علیه السّلام بأنّه لم یعص اللّه، و هذا نظیر اجتماع العنوانین فی الصلاة فی الدار المغصوبة.

و یؤیّده ما رواه زرارة أیضا عن أبی جعفر علیه السّلام قال:سألته عن رجل تزوّج عبده امرأة بغیر إذنه فدخل بها،ثمّ اطّلع علی ذلک مولاه،قال:«ذاک لمولاه، إن شاء فرّق بینهما،و إن شاء أجاز نکاحهما...»،فقلت لأبی جعفر علیه السّلام:فإنّه فی أصل النکاح کان عاصیا،فقال أبو جعفر علیه السّلام:«إنّما أتی شیئا حلالا،و لیس بعاص للّه إنّما عصی سیّده و لم یعص اللّه،إنّ ذلک لیس کإتیان ما حرّم اللّه علیه من نکاح فی عدّة و أشباهه» (1).

و هکذا ما رواه منصور بن حازم عن أبی عبد اللّه علیه السّلام فی مملوک تزوّج بغیر إذن مولاه،أ عاص للّه؟قال:«عاص لمولاه»،قلت:حرام هو؟قال:«ما أزعم أنّه حرام،و قل له أن لا یفعل إلاّ بإذن مولاه» (2).

و المستفاد منهما أنّ عدم عصیان اللّه یکون لتحقّق الزواج غیر المحرّم به، و عصیان السیّد یکون لعدم استئذانه.

و أمّا من حیث النتیجة فالحقّ مع الشیخ الأنصاری قدّس سرّه بأنّ نکاح العبد إن

ص:383


1- 1) الوسائل 21:115،الباب 24 من أبواب نکاح العبید و الاماء،الحدیث 2.
2- 2) الوسائل 21:113،الباب 23 من أبواب نکاح العبید و الاماء،الحدیث 2.

کان محرّما شرعا یکون فاسدا،و لذا لا نحتاج لفساد النکاح فی العدّة إلی الدلیل بعد تحقّق الدلیل علی حرمته و معلوم أنّ الروایات لا تختصّ بالنکاح فقط،بل تعمّ جمیع أبواب المعاملات بإلغاء خصوصیّة النکاح،و عدم القول بالفصل بینه و بین سائر المعاملات.

تذنیب:

ذکرنا قول أبی حنیفة و الشیبانی بدلالة النهی علی الصحّة،و ظاهر کلامهما عامّ یشمل العبادات و المعاملات معا،و وافقهما فی ذلک فخر المحقّقین،و خالفهما المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه و لکنّه فی مقام بیان أقسام تعلّق النهی فی المعاملة لم یتعرّض لتعلّق النهی بالتسبّب و تعرّض لبقیّة الأقسام،و قد عرفت مخالفتنا لهما فیما إذا تعلّق النهی بالسبب،مثل حرمة التکلّم ب«بعت»و«اشتریت»فی حال الصلاة،و أنّ النهی عنه لا یدلّ علی الصحّة و لا علی الفساد،و هکذا فیما إذا تعلّق النهی بأثر المعاملة،مثل حرمة ثمن العذرة،فإنّ النهی عنه یدلّ علی فساد المعاملة؛إذ لا یمکن أن یکون البیع صحیحا مع حرمة جمیع التصرّفات فی الثمن.

و قد عرفت أیضا موافقتنا لهما فی موردین:أی تعلّق النهی بالتسبّب،و تعلّقه بالمسبّب،فلا بدّ لنا من البحث مع المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه فیما إذا تعلّق النهی بالمسبّب.

و حاصل کلامه قدّس سرّه (1):أنّ النهی عن المعاملة یکشف عن صحّتها بشرط تحقّق أمرین:أحدهما:وجود المنهی عنه بعنوان الموصوف و صحّته بعنوان الوصف،و ثانیهما:أن یکون الوصف ملازما للموصوف،و لیس هنا کذلک؛إذ

ص:384


1- 1) نهایة الدرایة:407.

المسبّب المنهی عنه فی باب البیع عبارة عن التملیک،و معناه إیجاد الملکیّة، فالموصوف المتعلّق للنهی هو التملیک الذی یکون بمعنی إیجاد الملکیّة،و الصفة عبارة عن الصحّة التی تکون بمعنی وجود الملکیّة،و معلوم أنّه لا فرق بین الوجود و الإیجاد إلاّ بالاعتبار،فلا یتحقّق أمران متغایران متلازمان،و لذا لا یدلّ النهی عن المسبّب علی صحّة المعاملة.

و لکنّه لیس بتام؛إذ النزاع مع أبی حنیفة و الشیبانی نزاع معنوی لا لفظی حتّی نحتاج إلی جعل الوصف و الموصوف أمرین متغایرین،فإنّ اتّصاف المعاملة بالصحّة فی مورد،و بالفساد فی مورد آخر لا یکون قابلا للإنکار،فإذا تعلّق النهی بإیجاد الملکیّة فمعناه مقدوریّته لنا،و المقدوریّة دلیل علی صحّة المعاملة،و إلاّ یکون النهی لغوا،فإذا نهانا الشارع عن تملیک العبد المسلم من الکافر معناه المقدوریّة الحاکیة عن صحّة المعاملة،فالحقّ فی هذه المسألة معهما کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و أمّا کلامهما فی باب العبادات فمبتن علی القول بالصحّة فی بحث الصحیح و الأعمّ؛إذ النهی إذا تعلّق بالصلاة فلا بدّ من دلالته علی الصحّة بلحاظ وضع لفظها للصلاة الصحیحة،بخلاف القول بالأعمّ فإنّ تعلّق النهی بالصلاة بعد کون المنهی عنه أعمّ من الصحیح و الفاسد لا یدلّ علی صحّته لکونه مقدورا لنا.

و لکنّ التحقیق:أنّ الصحیحی إمّا أن یقول بوضع لفظ الصلاة للصحیح المطلق المشتمل علی قصد القربة بمعنی داعی الأمر الملازم لوجود الأمر،فلا یعقل أن تکون الصلاة المأمور بها منهیّا عنها أیضا،و إمّا أن یقول بوضعه للصحیح الجامع للأجزاء و الشرائط بدون قصد القربة،و أنّه لا دخل له فی المسمّی،فعلی هذا لا دلالة لتعلّق النهی بها علی الصحّة،فلا یصحّ کلامهما فی العبادات أصلا.هذا تمام الکلام فی باب النواهی.

ص:385

ص:386

المقصد الثالث: فی المفاهیم

اشارة

فی المفاهیم

ص:387

ص:388

المفاهیم

و لا بدّ لنا قبل الخوض فی أصل البحث من بیان معنی المفهوم،و ما هو المراد منه فی المقام،و معلوم أنّ المفهوم بمعنی مدلول اللفظ أو ما یفهم منه-أی المفهوم بمعناه اللغوی أو العرفی-خارجان عن محلّ الکلام،فیکون البحث فی المفهوم المقابل للمنطوق،و لا بدّ من تحقّق قضیّة شرطیّة أو وصفیّة أو مشتملة علی الغایة لجریان هذا البحث.

و یستفاد نوع من التناقض و التهافت بین صدر و ذیل کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه و وسط کلامه،و لکن لا بدّ قبل ذکر کلامه من التوجّه إلی أمر،و هو:

أنّ من البدیهی أنّه یتحقّق الفرق بین قولنا:«صلاة الجمعة واجبة»،و قولنا:

«وجوب صلاة الجمعة»؛إذ الأوّل قضیّة بلحاظ الاشتمال علی المبتدأ و الخبر، بخلاف الثانی فإنّه لیس ممّا یصحّ السکوت علیه،و هکذا قولنا:«إن جاءک زید فأکرمه»قضیّة شرطیّة لها شرط و جزاء،و یصحّ السکوت علیها،و مفهومها أیضا قضیّة و جملة،إلاّ أنّها تکون سالبة.

و کما أنّ المنطوقیّة صفة للقضیّة لا للحکم،کذلک المفهومیّة صفة لها،فهنا قضیّتان:إحداهما منطوقیّة و الاخری مفهومیّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)قال فی أواسط کلامه:إنّ مفهوم«إن جاءک زید

ص:389


1- 1) کفایة الاصول 1:300-301.

فأکرمه»-مثلا لو قیل به-قضیّة شرطیّة سالبة بشرطها و جزائها.

و قال فی صدر کلامه:إنّ المفهوم کما یظهر من موارد إطلاقه:هو عبارة عن حکم إنشائی أو إخباری تستتبعه خصوصیّة المعنی الذی ارید من اللفظ بتلک الخصوصیّة.

و قال فی ذیل کلامه:فصحّ أن یقال:إنّ المفهوم إنّما هو حکم غیر مذکور،لا أنّه حکم لغیر مذکور،کما فسّر به.

و الحال أنّ الاثنین باطلان؛إذ الحکم مفرد و لیس بجملة،و المفهوم کالمنطوق قضیّة مشتملة علی الحکم الإنشائی أو الإخباری،فلا یصحّ القول بأنّ المفهوم حکم،کما أنّه لا یصحّ القول بأنّ صلاة الجمعة واجبة حکم،بل هی قضیّة مشتملة علی الحکم.

ثمّ إنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه ذکر أمرین قبل الورود فی البحث،و لا بدّ من

اشارة

ملاحظتهما:

الأوّل:أنّ المفهوم من صفات المدلول أو الدلالة

و إن کان بصفات المدلول أشبه،و توصیف الدلالة أحیانا کان من باب التوصیف بحال المتعلّق.

توضیح ذلک:أنّه وقع الاختلاف بین القدماء و المتأخّرین من القائلین بثبوت المفهوم فی طریق إثباته،أمّا القدماء منهم فقالوا:إنّ المولی فی مقام جعل التکلیف للمکلّف و إنشاء الحکم بدون الغفلة و الإجبار،فإذا قال:«إن جاءک زید فأکرمه»-مثلا-یستفاد العقل أنّ للمجیء مدخلیّة فی وجوب الإکرام، بحیث إن لم یتحقّق المجیء لم یتحقّق وجوب الإکرام.

و أمّا المتأخّرون منهم فقالوا:إنّ الواضع وضع کلمة«إن»و سائر أدوات الشرط للدلالة علی العلّیّة المنحصرة،و استفادها بعضهم من طریق الإطلاق،

ص:390

فیکون معنی الجملة المذکورة:أنّ العلّة المنحصرة لوجوب إکرام زید مجیئه، و مفهومها قضیّة شرطیّة سالبة.

أمّا علی مبنی القدماء فلا یرتبط المفهوم بالدلالة و المدلول حتّی یکون وصفا لأحدهما،بل هو حکم عقلیّ،و منشؤه الخصوصیّات الموجودة فی الآمر.

و أمّا علی مبنی المتأخّرین-سیّما علی القول بالوضع-فالمفهوم عبارة عن المدلول الالتزامی للقضیّة المنطوقیّة،و علی هذا یصحّ أن یکون عنوان المفهوم صفة للمدلول أو صفة للدلالة أو صفة للدالّ،کما أنّ عنوان المطابقة و التضمّن و الالتزام أیضا یکون کذلک،فکما أنّه یصحّ القول بأنّ لفظ الإنسان یدلّ بالمطابقة علی الحیوان الناطق و هکذا دلالة الإنسان علی الحیوان الناطق دلالة مطابقیّة،و هکذا الحیوان الناطق مدلول مطابقیّ للإنسان،کذلک فی المدلول الالتزامی المفهومی یصحّ القول بأنّه:«إن لم یجئک زید فلا یجب إکرامه»مدلول التزامی،و«إن جاءک زید فأکرمه»دلالته علی المفهوم دلالة التزامیّة،و هکذا «إن جاءک زید فأکرمه»تدلّ بالالتزام علی أنّه إذا لم یتحقّق مجیء زید فلا یجب إکرامه،فلا فرق بین المدلولات الالتزامیّة المفردة و المدلولات الالتزامیّة المفهومیّة من هذه الجهة.

الأمر الثانی:أنّ النزاع فی بحث المفاهیم نزاع صغروی أو نزاع کبروی؟

و هو أنّه:هل یکون قضیّة منطوقیّة مستتبعة لقضیّة مفهومیّة أم لا؟

یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه أنّه نزاع صغروی،و لکنّه أیضا یحتاج إلی توضیح،بأنّ الصغرویّة علی مبنی المتأخّرین لا إشکال فیه؛إذ النزاع عندهم یرجع إلی أنّه هل یتحقّق المدلول الالتزامی للقضیّة الشرطیّة لدلالة

ص:391

أداة الشرط بالوضع أو بالإطلاق علی العلّیّة المنحصرة أم لا؟و لیس النزاع بینهم فی الحجّیّة و عدم حجّیّة المدلول الالتزامی.

و أمّا علی مبنی المتقدّمین فیرجع إلی حدّ مدخلیّة الشرط فی الجزاء بعد اتّفاق المثبتین و المنکرین فی أصل المدخلیّة،و لکنّ المثبتین یدّعون المدخلیّة الکاملة بنحو العلّیّة المنحصرة،و المنکرون یدّعون أنّه من الممکن أن ینوب مقام الشرط شرط آخر و قام مقامه.

فحاصل النزاع:أنّه هل تکون المدخلیّة إلی مرتبة العلّیّة المنحصرة حتّی تکون القضیّة الشرطیّة مفهوما،أم لا یکون إلی هذه المرتبة حتّی لا یکون لها مفهوما،فیکون النزاع علی هذا المبنی أیضا صغرویّا.

إذا فرغنا من المقدّمات فلنشرع فی أصل البحث و نقول:إنّ النزاع یجری فی القضیّة الشرطیّة،سواء کان جزاؤها حکما شرعیّا أو إنشائیّا،مثل:«إن جاءک زید فأکرمه»،و سواء کان حکما شرعیّا تکلیفیّا أو وضعیّا،مثل:«الماء إذا بلغ قدر کرّ لا ینجّسه شیء»،أو کان بصورة جملة خبریّة،مثل:«إن جئتنی جئتک»،و اختلف العلماء فی أنّه هل یتحقّق للقضیّة الشرطیّة مفهوم أم لا؟ و بعبارة اخری:هل یتحقّق بتبع القضیّة المنطوقیّة قضیّة مفهومیّة اخری أم لا؟

و استفاد القائلون بثبوت المفهوم لها من طریقین:أحدهما طریق المتقدّمین منهم،و الآخر طریق المتأخّرین منهم،و الطریق الأوّل إن کان سالما من المناقشة یجری فی جمیع القضایا لا یختصّ بالقضیّة الشرطیّة فقط،بخلاف الطریق الثانی.

أمّا طریق المتقدّمین فهو:أنّ المولی العاقل المختار إذا قال:«إن جاءک زید فأکرمه»،فهو عمل صادر من المولی المرید،و لا محالة تتحقّق فیه مبادئ

ص:392

الإرادة من التصوّر و التصدیق بفائدة،و لازم ذلک صدوره عن توجّه و التفات للإیصال إلی غرض،و الغرض هنا بعد ملاحظة غرض وضع الألفاظ-أی سهولة التفهیم و التفهّم-هو بیان المراد و إبراز ما فی الضمیر،و الأغراض الاحتمالیّة الاخری-مثل:امتحان التکلّم و القراءة و نحو ذلک-لا یکون قابلا للاعتناء لدی العقلاء،فیکون غرضه صدور الحکم للمکلّف.

و إذا لاحظنا الخصوصیّات المذکورة فی المولی لا یکون قابلا للالتزام لأن یکون قید المجیء فی کلامه لغوا،مع أنّه یمکنه القول بأکرم زیدا بدون أیّ تعلیق و اشتراط،و مع أنّه یمکن له ضمیمة قیود اخری إلی قید المجیء،فیستفاد من اکتفائه بهذا القید أنّ له بوحدته مدخلیّة فی وجوب الإکرام،و معناه أنّ مع انتفاء المجیء ینتفی وجوب الإکرام،و یجری هذا الکلام بعینه فی القضیّة الوصفیّة،مثل:«أکرم زید الجائی»و سائر القضایا.

و التحقیق:أنّه لا یثبت بهذا الطریق المفهوم الذی یکون محلّ البحث بعد

اشارة

ملاحظة أمرین:

الأوّل:ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه فی تنبیهات بحث المفاهیم

(1)

،و هو أنّا نعبّر عن المفهوم بالانتفاء عند الانتفاء،یعنی انتفاء وجوب الإکرام عند انتفاء مجیء زید،و من البدیهی أنّ المراد من انتفاء الوجوب فی المفهوم لیس شخص الحکم المجعول من قبل المولی،فإنّه ینتفی لا محالة بانتفاء قید من قیود الموضوع،و لا بحث فیه بل البحث فی المفهوم یکون فی انتفاء سنخ هذا الحکم و مماثله،کما أنّا نثبت فی مفهوم الموافقة مثل الحکم المذکور فی المنطوق لا شخصه،فإنّ الموضوع فی قوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما

ص:393


1- 1) کفایة الاصول 1:301.

أُفٍّ (1)،هو قول أف،و یستفاد بالأولویّة مثل هذا النهی بالنسبة إلی ضربهما و شتمهما و جرحهما،و هکذا فی مفهوم المخالفة یدّعی القائل بالمفهوم انتفاء سنخ الحکم المذکور فی المنطوق عند انتفاء الشرط،فالبحث فی المفهوم یرجع إلی أنّه هل یتحقّق مع انتفاء الشرط وجوب أصلا أم لا؟

الأمر الثانی:أنّه سلّمنا صحّة بیان المتقدّمین

و أنّه تامّ بجمیع مقدّماته و أنّ لمجیء زید یکون تمام المدخلیّة فی حکم المولی،إلاّ أنّ دخالته نفیا و إثباتا یدور مدار شخص حکم المولی و ما صدر عنه بهیئة«افعل»،أو بالجملة الاسمیّة، مثل:«إن جاءک زید فالواجب هو إکرامه»،أو بالجملة الفعلیّة،مثل:«إن جاءک زید یجب علیک إکرامه»،و بعد إثبات أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ هذا الحکم المجعول من قبل المولی یکون الدلیل أجنبیّا عن المدّعی،و یشهد علی ذلک عدم التهافت و التناقض بین قول المولی:«إن جاءک زید فأکرمه» و بین قوله فی الغد:«إن سلّم علیک زید فأکرمه»،فإنّهما حکمان،و الدخیل فی الحکم الأوّل هو المجیء،و فی الحکم الثانی هو السلام،فلا یمکن إثبات المفهوم بهذا الطریق.

و أمّا طریق المتأخّرین لإثبات المفهوم فی القضیّة الشرطیّة فیتحقّق فیه عنوان،حیث ذکروا لإثباته طرق مختلفة،و هو أنّ الارتباط بین الشرط و الجزاء فی القضیّة الشرطیّة یکون بنحو العلّیّة المنحصرة،و معنی قوله:«إن جاءک زید فأکرمه»أنّ العلّة المنحصرة لوجوب إکرام زید هو مجیؤه،و انتفاء المعلول عند انتفاء العلّة المنحصرة أمر لا یحتاج إلی البیان،و هو معنی المفهوم.

و إنّما الکلام فی منشأ هذه العلّة المنحصرة و منشأ الدلالة علیها،احتمالات:

اشارة

ص:394


1- 1) الاسراء:23.

الأوّل:أن یکون منشؤها وضع الواضع

بأنّه فی مقام الوضع وضع کلمة «إن»و«إذا»،و سائر أدوات الشرط للعلّة المنحصرة،و طریق استکشاف هذا المعنی هو تبادر العلّة المنحصرة منها،فیستفاد من التبادر أنّ الموضوع له أدوات الشرط هو العلّة المنحصرة.

و لکنّ التحقیق أنّه یعتبر فی العلّة المنحصرة ستّة خصوصیّات:

الخصوصیّة الاولی:أن یتحقّق بین العلّة و المعلول ارتباطا.

الخصوصیّة الثانیة:أن یکون الارتباط بینهما بنحو اللزوم لا بنحو المقارنة.

الخصوصیّة الثالثة:أن یکون الارتباط اللزومی بینهما بنحو الترتّب و الطولیّة لا من قبیل الارتباط بین الأربعة و الزوجیّة.

الخصوصیّة الرابعة:أن یکون الترتّب و الطولیّة من العلّة،أی کان التقدّم و السبقة للعلّة و ترتّب المعلول علیها.

الخصوصیّة الخامسة:أن تتّصف العلّة بالتمامیّة قبل اتّصافها بالانحصار، فلا بدّ أن تکون العلّة تامّة و مستقلّة حتّی تتّصف بالمنحصرة.

الخصوصیّة السادسة:أن لا تکون العلّة متعدّدة.

إذا عرفت هذا فنرجع إلی موارد استعمال الجمل الشرطیّة حتّی نلاحظ أنّ ادّعاء تبادر العلّة المنحصرة من أداة الشرط صحیح أم لا؟و نری فی موارد متعدّدة استعمال الجمل الشرطیّة مع أنّ الشرط لا یکون علّة منحصرة للجزاء،مثل:«إذا طلعت الشمس فالحرارة موجودة»،و هکذا جملة:«إذا تحقّقت النار فالحرارة موجودة»؛إذ العلّة مع کونها تامّة لیست بعلّة منحصرة للمعلول و الجزاء فیهما.

و هکذا فی العلّة الناقصة،مثل:«إذا تحقّقت النار فالإحراق موجود»،

ص:395

مع أنّها قضیّة شرطیّة حقیقیّة،و لا مجازیّة فی البین.

و هکذا فی مثل:«إذا تحقّقت الأربعة تحقّقت الزوجیّة»،مع أنّه استعمال حقیقی لا تتحقّق العلّیة بین الشرط و الجزاء.

و هکذا فی مثل:«إذا جاء رئیس الجمهوریّة فی بلدة قم المقدّسة فسیکون معه المحافظ»،فاللازم فی القضیّة الشرطیّة أن یکون بین الشرط و الجزاء نوع من الارتباط،و لا یعتبر فیها شیء من الخصوصیّات المذکورة سوی ذلک، فکیف یکون الارتباط بینهما فیها بنحو العلّیة المنحصرة؟!

الاحتمال الثانی:أن یکون منشؤها الانصراف؛

بأنّ أدوات الشرط وضعت لمطلق الارتباط،إلاّ أنّ القضیّة الشرطیّة إذا اطلقت و لم تکن قرینة لتعیین نوع الارتباط عند الإطلاق ینصرف إلی أعلی مراتب الارتباط و أکمل مصادیقه،و هو ما یعبّر عنه بالعلّة المنحصرة.

و جوابه:أنّ الانصراف ینشأ من کثرة الاستعمال،و لا دخل للشرافة و الکمال و القوّة فیه؛إذ معناه انس الذهن الذی یتحقّق بواسطة کثرة الاستعمال،و لا شکّ فی أنّ استعمال القضایا الشرطیّة کثیر ما یکون فی غیر العلّة المنحصرة،فلا یصحّ هذا الطریق أیضا،و أضاف صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)إلی ذلک أنّه لیس اللزوم بین العلّة و المعلول إذا کانت منحصرة أکمل ممّا إذا لم تکن العلّة بمنحصرة،فإنّ الانحصار لا یوجب أن یکون ذاک الربط الخاصّ الذی لا بدّ منه فی تأثیر العلّة فی معلولها آکد و أقوی.

الاحتمال الثالث:أن یکون منشأ العلّة المنحصرة الإطلاق بمقدّمات

الحکمة

؛بأنّ المولی حین استعمال أدوات الشرط کان فی مقام بیان نوع

ص:396


1- 1) کفایة الاصول 1:303.

الارتباط،و عدم بیانه مع عدم وجود القرینة فی کلامه،و عدم القدر المتیقّن فی مقام التخاطب یقتضی حمل کلامه علی أکمل مراتب الارتباط-أی العلّة المنحصرة-إذ لا یحتاج بیانه إلی مئونة زائدة،فیستفاد المفهوم حینئذ من الإطلاق،کما یستفاد من إطلاق صیغة الأمر الوجوب النفسی؛لأنّ الوجوب الغیری یحتاج إلی مئونة زائدة،مثل أن یقول:الوضوء واجب إذا کانت الصلاة واجبة.

و کان صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)حین الجواب عنه بصدد بیان الفرق بین الموردین،بعد قبوله هذا الکلام فی الواجب النفسی و الغیری،فإنّ النفسی هو الواجب علی کلّ حال،بخلاف الغیری فإنّه واجب علی تقدیر دون تقدیر، فیحتاج بیانه إلی مئونة التقیید بما إذا وجب الغیر،فیکون الإطلاق فی الصیغة مع مقدّمات الحکمة محمولا علیه،و هذا بخلاف اللزوم و الترتّب بنحو الترتّب علی العلّة المنحصرة؛ضرورة أنّ کلّ واحد من أنحاء اللزوم و الترتّب محتاج فی تعیّنه إلی القرینة مثل الآخر بلا تفاوت أصلا،کما لا یخفی.

و لکنّ التحقیق فی الجواب:أنّ هذا الکلام باطل فی المقیس علیه أیضا،فإنّ کلّ واحد من النفسیّة و الغیریّة قسم من أقسام الواجب،و لهما مقسم مشترک، و لا یمکن أن یکون أحد القسمین عین المقسم،بل لا بدّ من کون القسم عبارة عن المقسم مع خصوصیّة زائدة،و إلاّ لا یصحّ التقسیم،و هکذا نقول فیما نحن فیه بأنّ بعد قبول وضع أدوات الشرط لمطلق الارتباط لا یمکن حملها علی قسم خاصّ منه کالعلّة المنحصرة،فإنّها ارتباط مع خصوصیّة زائدة لا عینه، فهذا الطریق أیضا باطل.

ص:397


1- 1) المصدر السابق:304-305.

الاحتمال الرابع:أن یتمسّک للدلالة علی المفهوم بإطلاق الشرط

بأنّا نعلم خارجا أنّ الشیء لو کانت علله متعدّدة مستقلّة تامّة یکون المؤثّر فی وجود المعلول حینئذ هو الجامع بینها مع فرض المقارنة بینها،و أمّا مع سبق إحداها فیستند الأثر إلیها و یلغو العلّة الاخری،و إن کانت العلّة منحصرة یصحّ القول بأنّه کلّما وجدت العلّة المنحصرة وجد المعلول،و إلاّ فلا،ففی مثل:«إن جاءک زید فأکرمه»إن لم یکن شرط الإکرام منحصرا فی المجیء کان علی المولی بیانه بعد فرض کونه فی مقام البیان و تمامیّة سائر مقدّمات الحکمة،فإطلاق الشرط -أعنی المجیء-من حیث الحالات یقتضی أن یکون فی حال انفراده و انحصاره مؤثّرا،سواء کان قبله أو بعده أو معه شیء آخر أم لا،و نعبّر عنه بالعلّة المنحصرة.

و أجاب عنه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بمنع الصغری،و قال:إنّه لا تکاد تنکر الدلالة علی المفهوم مع إطلاق الشرط کذلک،إلاّ أنّه من المعلوم ندرة تحقّقه لو لم نقل بعدم اتّفاقه.

و لکنّ الحقّ فی الجواب منع الکبری؛فإنّ هذا الطریق یرجع فی الحقیقة إلی طریق المتقدّمین.

و الجواب عنه:أنّ بهذا الإطلاق یصحّ إثبات العلّیة المنحصرة،إلاّ أنّه لا یمکن به إثبات المفهوم الذی یکون محلّ الاختلاف،فإنّ غایة ما یستفاد من إطلاق الشرط أنّ المجیء علّة منحصرة لتحقّق شخص الحکم المجعول من قبل المولی،و معلوم أنّ بانتفاء الشرط ینتفی شخص هذا الحکم، و لکنّه لیس بمفهوم؛إذ المفهوم انتفاء سنخ هذا الحکم،کما سیأتی توضیحه

ص:398


1- 1) کفایة الاصول 1:305.

إن شاء اللّه تعالی.

الاحتمال الخامس:أن یتمسّک للدلالة علی المفهوم بإطلاق الشرط

بنحو آخر،بأنّ المولی إذا قال:«إن جاءک زید فأکرمه»،و کان أمر المجیء مردّدا بین کونه علّة منحصرة لوجوب الإکرام أو غیر منحصرة یکون مقتضی الإطلاق و تمامیّة مقدّمات الحکمة أنّه علّة منحصرة؛إذ العلّة الغیر المنحصرة تحتاج إلی مئونة زائدة و بیان زائد،مثل:«إن جاءک زید أو سلّم علیک فأکرمه»،و عدم بیان زائد من قبل المولی یهدینا إلی حمل الشرط علی العلّة المنحصرة.

کما أنّ إطلاق صیغة الأمر إذا کان الوجوب مردّدا بین التعیینی و التخییری یقتضی کونه تعیینا،فإنّ الوجوب التخییری محتاج إلی بیان زائد علی أصل الوجوب،کأن یقول فی مقام بیان کفّارة الإفطار فی شهر رمضان:«صم ستّین یوما أو أطعم ستّین مسکینا»،و علیه یکون مقتضی الإطلاق فیما نحن فیه کون العلّة منحصرة.

و جوابه:-بعد إنکار الکلام فی المقیس علیه-أمر بیّن؛إذ الوجوب التعیینی قسم من مطلق الوجوب،کما أنّ الوجوب التخییری عبارة عن المقسم مع خصوصیّة زائدة،کذلک الوجوب التعیینی عبارة عن المقسم مع خصوصیّة زائدة،فلا یعقل أن یکون المقسم عین القسم.

و لکنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)بلحاظ قبول المسألة فی المقیس علیه کان فی صدد بیان الفرق بین ما نحن فیه و المقیس علیه،و قال:إنّ التعیّن لیس فی الشرط نحوا یغایر نحوه فیما إذا کان متعدّدا-أی لا فرق بین العلّة المنحصرة و غیر المنحصرة من حیث الماهیّة-کما کان فی الوجوب کذلک،و کان الوجوب

ص:399


1- 1) کفایة الاصول 1:307.

فی کلّ منهما متعلّقا بالواجب بنحو آخر،فلا بدّ فی التخییری منهما من العدل دون التعیینی،و هذا بخلاف الشرط فإنّه-واحدا کان أو متعدّدا-نحوه واحد، و دخله فی المشروط بنحو واحد،لا تتفاوت الحال فیه ثبوتا کی تتفاوت عند الإطلاق إثباتا.

و بعبارة اخری:أنّ مجیء زید یکون مؤثّرا و علّة تامّة لوجوب الإکرام،قد یعبّر عنه بالعلّة الغیر المنحصرة بلحاظ عدم تأثیر شیء آخر فی تحقّق الجزاء،و قد یعبّر عنه بالعلّة الغیر المنحصرة بلحاظ تأثیر شیء آخر أیضا فیه،و قد مرّ أنّه لا فرق بین العلّة المنحصرة و غیر المنحصرة من حیث القوّة و الضعف،و لا یکون الارتباط فی العلّة المنحصرة أقوی من الارتباط فی العلّة الغیر المنحصرة.

الاحتمال السادس:أن یتمسّک للدلالة علی المفهوم بإطلاق الجزاء فی

اشارة

القضیّة الشرطیّة،و الاستدلال بهذا الإطلاق متفرّع علی أمرین:

الأوّل:أنّ المجعولات الشرعیّة عبارة عن الأحکام الخمسة التکلیفیّة و ما

شابهها من الأحکام الوضعیّة

،مثل:الطهارة و النجاسة و أمثال ذلک،و أمّا بقیة الأحکام الوضعیّة-مثل:السببیّة و الشرطیّة و أمثال ذلک-فلا یمکن أن تکون مورد جعل شرعی،فلا یتوهّم جعل الشرطیّة و السببیّة من الشارع للمجیء فی القضیّة الشرطیّة.

الأمر الثانی:أنّ مورد التمسّک بالإطلاق و مجراه هو المجعول الشرعی
اشارة

و ما کان خارجا عن دائرة الجعل الشرعی لا معنی لجریان الإطلاق من طریق مقدّمات الحکمة فیه،فالمجعول الشرعی فی القضیّة الشرطیّة عبارة عن الجزاء، یعنی وجوب إکرام زید،فیجری الإطلاق فیه؛بأنّ تعلیق المولی الحکم بقید

ص:400

واحد و هو المجیء-بعد کونه فی مقام البیان و تمامیّة سائر مقدّمات الحکمة- یکون معناه:أنّ عند تحقّق المجیء یتحقّق وجوب الإکرام،سواء کان هناک شرط آخر موجودا أم لا،و یستفاد من ذلک أنّ الجزاء ینتفی عند انتفاء شخص هذا القید،و معناه العلّیة المنحصرة،و یعبّر عن هذا بالتمسّک بإطلاق الجزاء لاستفادة المفهوم.

و لکنّ التحقیق أنّ هذا الطریق أیضا لیس بصحیح،فإنّا نقول:
أوّلا:أنّ بطلان هذین المبنیین لا إشکال فیه

؛لأنّ قابلیّة جعل السببیّة و الشرطیّة و الملکیّة و أمثال ذلک لدی الشارع ممّا لا یکون قابلا للإنکار،مع کونها خارجة عن دائرة الأحکام التکلیفیّة،فلا مانع من الالتزام بجعل السببیّة بین الشرط و الجزاء من الشارع فی القضیّة الشرطیّة،و هکذا لا مانع من کون مجری الإطلاق غیر المجعول الشرعی،کما فی مثل:اعتق الرقبة؛إذ یتحقّق فیه الحکم باسم الوجوب،و متعلّق الحکم و هو فعل المکلّف باسم العتق،و مضاف إلیه المتعلّق و ما یعبّر عنه بالموضوع باسم الرقبة،و محطّ الإطلاق فیه عبارة عن الرقبة بعد ارتباطها بواسطة المتعلّق إلی الحکم الشرعی،و هکذا فی القضیّة الشرطیّة یکون مجوّز جریان الإطلاق فی المجیء ارتباطه بالحکم بعنوان القیدیّة،مع أنّه أمر تکوینی خارجی.

و ثانیا:أنّه لو فرضنا تمامیّة هذین المبنیین فلا یصحّ ما یستفاد منهما

؛لأنّ معنی الإطلاق فی مثل:«اعتق رقبة»بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة أنّ تمام الموضوع لهذا الحکم طبیعة الرقبة،فهی کما تصدق علی الرقبة المؤمنة تصدق علی الرقبة الکافرة،لا أنّها مرآة للأفراد،فإنّها وضعت للطبیعة و الماهیّة،و لا یعقل لحاظ الخصوصیّات فی مرآة الماهیّة کما یکون فی العموم کذلک،فإنّ

ص:401

لفظها وضع للدلالة الإجمالیّة علی الأفراد،مثل:«أکرم کلّ عالم»،یعنی سواء کان أبیضا أم أسودا،و سواء کان مصریّا أم عراقیّا،فمعناه الشمول و السریان، بخلاف الإطلاق فإنّ لفظه لا یحکی إلاّ عن الموضوع له نظیر لفظ الإنسان، و إن کان الموضوع له-أی الماهیّة-متّحدا مع الأفراد خارجا،لا أنّ معناه أیضا الشمول و السریان،إلاّ أنّه یستفاد من طریق مقدّمات الحکمة،کما سیأتی تفصیله.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ معنی إطلاق الحکم فی مثل:«إن جاءک زید فأکرمه»أنّ تمام ما هو مجعول الشارع عبارة عن وجوب الإکرام،و علی هذا من أین یستفاد أنّ العلّة المنحصرة لوجوب الإکرام عبارة عن المجیء؟نعم،لو کان الإطلاق بمعنی العموم یستفاد منه أنّ عند تحقّق المجیء یجب الإکرام،سواء تحقّق قبله أو بعده أو معه شیئا آخر أم لا،و عند انتفائه ینتفی وجوب الإکرام، فتثبت العلّیة المنحصرة،فیدور مبنی المتأخّرین فی باب المفاهیم مدار العلّة المنحصرة وجودا و عدما.

و لکن یستفاد من کلام المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)خلاف ذلک،فإنّه قال:إنّ مرکز التشاجر و النزاع فی أنّ الحکم المنشأ فی القضیّة،هل هو کلّی الوجوب و سنخه کی یلزم من انتفاء القید انتفاء کلّی الوجوب،أو شخص الحکم کی لا ینافی ثبوت شخص حکم آخر عند انتفاء القید؟فکان القائل بثبوت المفهوم للقضیّة یدّعی أنّ الحکم المعلّق فی القضیّة اللفظیّة هو سنخ الحکم،و القائل بعدم المفهوم یدّعی خلافه.و لکنّه قدّس سرّه أیضا یرجع فی آخر کلامه إلی مبنی المتأخّرین و یقول:إنّ مجرّد ظهور عقد الوضع فی دخل العنوان بخصوصیّته فی ترتّب

ص:402


1- 1) نهایة الأفکار 1:478-480.

الحکم السنخی غیر مجد أیضا فی استفادة الانتفاء عند الانتقاء،إلاّ بضمّ قضیّة إطلاق ترتّب الحکم و الجزاء علیه فی الترتّب علیه بالخصوص بنحو الاستقلال،و إلاّ فبدونه یحتمل أن یکون هناک علّة اخری تقوم مقامه عند انتفائه،و مع هذا الاحتمال لا یمکن الأخذ بالمفهوم فی القضیّة.

فبعد بطلان أدلّة القائلین بالمفهوم لا نحتاج إلی تعرّض أدلّة المنکرین کما ذکرها صاحب الکفایة قدّس سرّه فإنّ عدم الدلیل لتحقّق المفهوم دلیل لعدم تحقّقه.

ثمّ ذکر صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)عدّة امور بعنوان تنبیهات لهذا البحث،و قال:

«بقی هنا امور:الأوّل:أنّ المفهوم هو انتفاء سنخ الحکم المعلّق علی الشرط، لا انتفاء شخصه؛ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه و لو ببعض قیوده،و لا یتمشّی الکلام فی أنّ للقضیّة الشرطیّة مفهوما أو لیس لها مفهوم إلاّ فی مقام کان هناک ثبوت سنخ الحکم فی الجزاء و انتفاؤه عند انتفاء الشرط ممکنا،و إنّما وقع النزاع فی أنّ لها دلالة علی الانتفاء عند الانتفاء أو لا یکون لها دلالة».

ثمّ قال:و من هنا انقدح أنّه لیس من المفهوم دلالة القضیّة علی الانتفاء عند الانتفاء فی الوصایا و الأوقاف و النذور و الأیمان کما توهّم،بل عن الشهید قدّس سرّه فی تمهید القواعد:أنّه لا إشکال فی دلالتها علی المفهوم،و ذلک لأنّ انتفاءها عن غیر ما هو المتعلّق لها من الأشخاص التی یکون بألقابها أو بوصف شیء و بشرطه مأخوذة فی العقد،أو مثل العهد لیس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب علیه،بل لأجل أنّه إذا صار شیء وقفا علی أحد أو أوصی به أو نذر له إلی غیر ذلک لا یقبل أن یصیر وقفا علی غیره أو وصیّة أو نذرا له،و انتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصیّة عن غیر مورد المتعلّق قد عرفت أنّه عقلی

ص:403


1- 1) کفایة الاصول 1:309.

مطلقا.و لو قیل بعدم المفهوم فی مورد صالح له فالمفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحکم عند انتفاء الشرط.

و لکن استشکل علیه بأنّ المنشأ فی القضیّة و المجعول من المولی هو شخص الحکم و الوجوب الجزئی،و القائل بالمفهوم یدّعی أنّ الشرط علّة منحصرة لهذا الحکم المجعول،فکیف یکون المفهوم بمعنی انتفاء کلّی الوجوب عند انتفاء الشرط؟!هذا نوع من التهافت؛إذ المجعول فی القضیّة المنطوقیّة هو الحکم الشخصی،فلو کان لها مفهوم کان مفهومها انتفاء ذلک الحکم الشخصی دون غیره.

و أجاب عنه صاحب الکفایة قدّس سرّه بأنّ المعلّق علی الشرط فی قوله:«إن جاءک زید فأکرمه»هو الوجوب الکلّی الذی وضعت له هیئة«افعل»،و قد عرفت أنّه لا فرق بین الأسماء و الحروف من حیث الوضع و الموضوع له و المستعمل فیه فی العمومیّة،و الفرق بینهما فی اللحاظ الآلی و الاستقلالی، و معلوم أنّهما من خصوصیّات الاستعمال،فما یدلّ علیه هیئة«افعل»فی المثال هو کلّی الوجوب کما یدلّ علیه کلمة«یجب»فی قضیّة:«إن جاءک زید یجب إکرامه»،فالحکم المجعول فی القضیّة هو کلّی الوجوب لا الوجوب الجزئی.

و لکن هذا الجواب مبنائیّ،و المشهور قائل بأنّ الموضوع له و المستعمل فیه فی باب الحروف و ملحقاتها خاصّان،و لا یصحّ هذا الجواب علی هذا المبنی.

و أجاب عنه الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (1)بأنّ القضیّة إن کانت بصورة الجملة الاسمیّة،مثل:«إن جاءک زید یجب إکرامه»،فلا یرد علیه إشکال لکون الوجوب فیه کلّیا،حیث إنّ المادّة قد استعملت فی معناها الکلّی.

ص:404


1- 1) مطارح الأنظار:173.

و أمّا إن کانت مثل:«إن جاءک زید فأکرمه»،فالوجوب المستفاد من الهیئة و إن کان جزئیّا إلاّ أنّ أداة الشرط مثل کلمة«إن»تدلّ علی انحصار علّة سنخ الحکم،و طبیعته بالشرط المذکور فی المنطوق؛إذ لو کان الحکم جزئیّا لا کلّیا کان انتفاؤه بانتفاء الشرط عقلیّا و یکون أجنبیّا عن باب المفهوم،فإنّ شخص الوجوب یرتفع بارتفاع موضوعه و لو لم یوجد فی حیال أداة الشرط کما فی اللقب و الوصف،فتکون مشقّة إثبات العلّیة المنحصرة للشرط لإثبات أنّ المجعول من المولی هو الحکم الکلّی،لا شخص الحکم المذکور فی المنطوق،فإنّ انتفاؤه بانتفاء الشرط أمر عقلی لا یحتاج إلی المشقّة المذکورة.

و لکنّه أیضا لیس بصحیح،فإنّ إثبات العلّیة المنحصرة للشرط لا محالة یکون للحکم المجعول من المولی،فإن کان الحکم المجعول من قبل شخص الوجوب فلا یمکن خروج العلّیة المنحصرة من دائرته،و إن کان الحکم المجعول من کلّی الوجوب فهو مخالف لمبناه فی وضع الحروف و ملحقاتها؛ لتبعیّته للمشهور فی هذا الباب.

و أجاب عنه أستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)بأنّه لا شکّ بأنّ العلّیة المنحصرة وصف للشرط،إنّما الکلام فی معلول هذه العلّة،و هو بحسب ظاهر القضیّة عبارة عن المجموعة المترتّبة علی الشرط،یعنی وجوب إکرام زید،و لکنّ العرف و العقلاء یری کمال الارتباط و المناسبة بین المجیء و الإکرام،و هذا یوجب أمر المولی بالإکرام،ففی الحقیقة یکون المعلول فیها عبارة عن الإکرام، و لا شکّ فی عمومیّة مادّة المشتقّات من حیث الوضع و الموضوع له و المستعمل فیه،و معنی شدّة الارتباط بین المجیء و الإکرام عرفا انتفاء سنخ الوجوب عند

ص:405


1- 1) تهذیب الاصول 1:431.

انتفاء الشرط.

هذا،و نضیف إلیه تنبیهات بصورة إشکالات و دفعها فنقول:
التنبیه الأوّل:إن قلت:إنّ قاعدة العلّیة تقتضی تحقّق الإکرام قهرا من غیر

إرادة بعد تحقّق المجیء

مع أنّه لا یکون کذلک،و هذا دلیل علی عدم کون الإکرام معلولا لها فی القضیّة.

و جوابه:أنّ نظر القائل بالمفهوم هنا إلی جانب النفی،یعنی انتفاء السنخ عند انتفاء الشرط،و أنّ السنخیّة و الارتباط تتحقّق بین المجیء و الإکرام فقط،و لا یتوجّه إلی جانب الإثبات و تحقّق الملازمة بین العلّة و المعلول.

إن قلت:إنّ کلام الإمام قدّس سرّه هنا یرجع إلی کلام الشیخ الأنصاری قدّس سرّه فی الواجب المشروط بإرجاع القیود إلی المادّة و المتعلّق،و لازم ذلک فعلیّة الوجوب و استقبالیّة الواجب،فأنکر الواجب المشروط الذی یقول به المشهور،و کلام الإمام قدّس سرّه یرجع إلی أنّ الواجب هو الإکرام المقیّد بمجیء زید، فهذا عدول عن مبناه فی الواجب المشروط.

و جوابه:أنّ کلامه قدّس سرّه و إن کان مشابها لکلام الشیخ قدّس سرّه فی الواجب المشروط،و لکنّه یقول:إنّ تکلیف العبد عبارة عن وجوب الإکرام بعد مجیء زید،و لا یکون الوجوب فعلیّا قبل تحقّق المجیء،و لا یکون هذا عدولا عن مبناه.

التنبیه الثانی:فی تعدّد الشرط و وحدة الجزاء:

قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):أنّه إذا تعدّد الشرط،مثل:«إذا خفی الأذان فقصّر،و إذا خفیت الجدران فقصّر».أمّا علی القول بعدم المفهوم فی القضیّة

ص:406


1- 1) کفایة الاصول 1:312-313.

الشرطیّة فلا تعارض بینهما و لا ینفیان شرطا ثالثا،و أمّا علی القول بظهورها فی المفهوم و أنّه مساوق لانحصار العلّة الشرط للجزاء فلا بدّ من التصرّف و رفع الید عن الظهور،إمّا برفع الید عن المفهوم فیهما،فلا دلالة لهما علی عدم مدخلیّة شیء آخر فی الجزاء-و قدّمنا هذا الاحتمال لرجوعه إلی إنکار المفهوم-و إمّا بتخصیص مفهوم کلّ منهما بمنطوق الآخر،فیقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطین،و یدلّ الشرطان علی نفی الشرط الثالث.

و إمّا بتقیید إطلاق الشرط فی کلّ منهما بالآخر،فیکون الشرط هو خفاء الأذان و الجدران معا،فإذا خفیا وجب القصر،و لا یجب عند انتفاء خفائهما و لو خفی أحدهما.و إمّا بجعل الشرط هو القدر المشترک بینهما؛بأن یکون تعدّد الشرط قرینة علی أنّ الشرط فی کلّ منهما لیس بعنوانه الخاصّ،بل بما هو مصداق لما یعمّهما من العنوان.

و لا بدّ لنا قبل التحلیل و ملاحظة الاحتمالات من تشخیص طرفی المعارضة فی هذه الموارد،و أنّ التعارض یتحقّق بالأصل بین المنطوقین،و بالتبع بین المفهومین،أو أنّه یتحقّق بالأصل بین المفهومین،أو أنّه یتحقّق بین مفهوم کلّ واحد منهما و منطوق الآخر.و قد مرّ أنّ المتأخّرین استفادوا المفهوم عن طریق العلّیة المنحصرة،و أنّ طریق إثباتها إمّا عبارة عن الوضع و التبادر،و إمّا عبارة عن الانصراف،و إمّا عبارة عن الإطلاق،و مجریه إمّا أداة الشرط و إمّا نفس الشرط بتقریبین و إمّا الجزاء کما مرّ مفصّلا،و لا بدّ من ملاحظة جمیع الطریق لاختیار أحد الاحتمالات و تشخیص طرفی المعارضة.

فإن قلنا بالمفهوم من طریق العلّیة المنحصرة المستفادة من الوضع و أنّ المتبادر من أدوات الشرط هی العلّیة المنحصرة فلا شکّ فی کون التعارض بین

ص:407

المنطوقین؛إذ لو استعمل مکان أدوات الشرط العلّة المنحصرة،مثل:أن یقول أحد الدلیلین:العلّة المنحصرة لوجوب القصر هو خفاء الأذان،و یقول الدلیل الآخر:العلّة المنحصرة لوجوب القصر هو خفاء الجدران،و معلوم أنّ نفس هذین المنطوقین غیر قابلین للاجتماع عقلا.

و هکذا إن قلنا بالمفهوم من طریق العلّة المنحصرة المستفادة من الانصراف، و إن قلنا بالمفهوم من طریق العلّة المنحصرة المستفادة من الإطلاق الذی یکون وصفا إمّا لأداة الشرط المذکور فی المنطوق،و إمّا لنفس الشرط المذکور فیه،و إمّا للجزاء المذکور فیه،فیکون التعارض أیضا بین المنطوقین.

و حینئذ لا بدّ من علاج التعارض فنقول:علی القول بوضع أداة الشرط للعلّة المنحصرة یکون مقتضی أصالة الحقیقة عند سماع قضیّة:«إذا خفی الأذان فقصّر»استعمال کلمة«إذا»فی معناها الحقیقی-أی العلّیة المنحصرة-و هکذا فی جملة:«إذا خفی الجدران فقصّر»،فیتعارض کلّ منهما مع الآخر،و یکون التساقط مقتضی القاعدة الأوّلیة فی التعارض بین الأمارتین،فإنّ أصالة الحقیقیّة أمارة و إن عبّر عنها بالأصل،فلیس لهاتین القضیّتین بعد التساقط مفهوم،و هکذا علی القول بانصراف أداة الشرط فیهما إلی العلّة المنحصرة،فإنّ الانصرافین فی کلّ منهما بعد التعارض و عدم الترجیح یتساقطان،فلا مفهوم فی البین.

و أمّا علی القول بدلالة الإطلاق علی العلّیة المنحصرة فقد مرّ أنّه یعتبر فیها خصوصیّات متعدّدة،مثل تحقّق الارتباط،و کون الارتباط بنحو اللزوم، و کون الارتباط اللزومی بنحو الترتّب لا بنحو التلازم،و کون الجزاء مترتّبا علی الشرط لا بالعکس،و کون الترتّب بنحو العلّیة التامّة لا الناقصة،و کون

ص:408

العلّة التامّة منحصرة.

و حینئذ لو فرضنا استفادة المرحلة السادسة-أی انحصار العلّة-عن الإطلاق و ارتباط سائر المراحل بوضع أداة الشرط-مثلا-فیدلّ إطلاق أحد الدلیلین علی أنّ خفاء الأذان علّة منحصرة لوجوب القصر،و إطلاق الدلیل الآخر علی أنّ خفاء الجدران علّة منحصرة لوجوب القصر،و مقتضی القاعدة الأوّلیة فی تعارض الأمارتین هو التساقط؛إذ أصالة الإطلاق أمارة عقلیّة.

و یحتمل أن یجری فی کلّ من القضیّتین إطلاقان،أحدهما لإثبات المرحلة الخامسة،و هی مرحلة کون العلّة تامّة،و الآخر لإثبات المرحلة السادسة، و هی مرحلة کون العلّة التامّة منحصرة،فمقتضی القاعدة بعد التعارض هو تساقط جمیع الإطلاقات الأربعة؛إذ لا یتحقّق التعارض بین الإطلاقین فی کلّ من المرحلتین؛لأنّ کون خفاء الأذان علّة تامّة لوجوب القصر لا یتنافی مع کون خفاء الجدران علّة تامّة لوجوب القصر،إلاّ أنّ العلّیة التامّة لخفاء الأذان تنافی العلّیّة المنحصرة لخفاء الجدران،و هکذا العلّیّة التامّة لخفاء الجدران تنافی العلّیّة المنحصرة لخفاء الأذان،و لذا یتحقّق التعارض بین الإطلاقات الأربعة.

فلاحظنا إلی هنا مرحلتین من هذا التنبیه،إحداهما:أنّ طرفی التعارض ما هو؟و الاخری:أنّ بعد التعارض هل یتحقّق المفهوم أم لا؟و قلنا:إنّ التعارض إن کان بین أصالة الحقیقتین أو الانصرافین أو الإطلاقین فلا یتحقّق المفهوم،و لکن کلّ من خفاء الأذان و خفاء الجدران علّة تامّة لوجوب القصر، و إن کان بین الإطلاقات الأربعة فأیضا لا یتحقّق المفهوم و لا یکون لهما علّیة تامّة له،فلا بدّ من تحقّق خفاء الأذان و خفاء الجدران معا لتحقّق وجوب القصر.

ص:409

المرحلة الثالثة:فی أنّه هل یستفاد من القضیّتین نفی الثالث و أنّه لا دخل فی وجوب القصر غیر خفاء الأذان و خفاء الجدران أم لا؟و التحقیق التفصیل بین الطرق المذکورة،و إن استفدنا العلّیة المنحصرة من طریق الوضع،فبعد تعارض و تساقط أصالة الحقیقة فیهما یکون مفاد أحد الدلیلین أنّ خفاء الأذان علّة تامّة لوجوب القصر،و مفاد الآخر أنّ خفاء الجدران علّة تامّة لوجوب القصر،و هو لا ینافی تحقّق علّة تامّة ثالثة له.

و هکذا إن استفدناها من طریق الانصراف فبعد التعارض و تساقط الانصرافین یثبت بالدلیلین علّیة تامّة لهما،و لا ینافی تحقّق علّة تامّة ثالثة.

و إن استفدناها من طریق الإطلاق،فبعد التوجّه إلی أنّ تقیید دلیل المطلق بالنسبة إلی فرد من أفراده الإطلاقی لا یوجب قدح الإطلاق بالنسبة إلی سائر الأفراد-مثلا تقیید إطلاق الرقبة من حیث الإیمان و الکفر لا یوجب قدح إطلاقها من حیث السواد و البیاض،و العلم و الجهل و أمثال ذلک-فیتعارض و یتساقط الإطلاقان بالنسبة إلی جهة المعارضة فقط،و یقول أحد الدلیلین:إنّه إذا خفی الأذان فقصّر،سواء خفی الجدران أم لا،و الآخر یقول:إنّه إذا خفی الجدران فقصّر،سواء خفی الأذان أم لا،فیکون تساقط الإطلاق محدودا فی مفاد الدلیلین و یبقی الإطلاق بقوّته بالنسبة إلی الأمر الثالث،سواء کان هو جزء العلّة أو علّة تامّة بوحدته.

التنبیه الثالث:فی تداخل المسبّبات و عدمه:

معلوم أنّ فی الفقه عدّة موارد یتحقّق الدلیل فیها للتداخل کالوضوء و الغسل،سواء کانت أسبابهما المتعدّدة من نوع واحد أو من أنواع مختلفة، و موارد یتحقّق الدلیل فیها لعدم التداخل مثل باب الکفّارات،و هذا النزاع

ص:410

یجری فی موارد فقدان الدلیل لأحد الجانبین.

و فیه أقوال،و المشهور عدم التداخل،و عن جماعة منهم المحقّق الخوانساری قدّس سرّه (1)التداخل،و عن الحلّی (2)التفصیل بین اتّحاد جنس الأسباب و تعدّده.

و التحقیق یقتضی بیان امور بعنوان المقدّمة لتنقیح محلّ النزاع:
الأوّل:أنّه إذا قال أحد الدلیلین:«إذا بلت فتوضّأ»

مثلا و الآخر:«إذا نمت فتوضّأ»،یکون هذا نظیر«إذا خفی الأذان فقصّر و إذا خفی الجدران،فقصّر»، إلاّ أنّ البحث هنا فی علّیّة الشرط المنحصرة،و فیما نحن فیه فی الجزاء من حیث التکرار و عدمه،و لکن هذا النزاع لا یجری علی الاحتمال الثالث من الاحتمالات الأربعة المتقدّمة فی التنبیه السابق،-أی کون مجموع الشرطین مؤثّرا فی تحقّق الجزاء-فإنّ مجموع المرکّب من البول و النوم إن کان سببا لوجوب الوضوء لا یبقی محلّ لبحث التداخل؛لأنّ الشرط لا یتحقّق بتحقّق البول بوحدته و إن تحقّق عشر مرّات،و یجری النزاع فی بقیة الاحتمالات المذکورة.

الأمر الثانی:أن یکون الجزاء قابلا للتعدّد و التکرار

لا من قبیل القتل؛إذ لو قال أحد الدلیلین:«من سبّ المعصوم یجب قتله»و الآخر:«من ارتدّ یجب قتله»،فإذا تحقّق کلاهما من شخص واحد فلا یجری هذا النزاع،فإنّ المقتول لا یمکن علیه جریان القتل ثانیا.

الأمر الثالث:أنّه یتحقّق فی باب التداخل عنوانان

،و یعبّر عن أحدهما

ص:411


1- 1) مشارق الشموس:61.
2- 2) السرائر 1:258.

بتداخل الأسباب،و عن الآخر بتداخل المسبّبات،و محلّ النزاع هنا العنوان الأوّل بأنّه إذا تحقّقت أسباب متعدّدة یلزم تحقّق مسبّبات متعدّدة،أو یکفی تحقّق مسبّب واحد؟

ربما یقال:إنّ تداخل المسبّبات یتحقّق فی مورد تعلّق الحکمین بالعنوانین، و کانا فی عالم الامتثال قابلین للاجتماع،مثل:ضیافة العالم الهاشمی بعد أمر المولی بإکرام العالم و ضیافة الهاشمی،و الظاهر أنّه لیس من تداخل المسبّبات؛ إذ المقصود منه ما أشار إلیه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی آخر بحث التداخل،و هو:

أنّه إذا لم یکن موضوع الحکم فی الجزاء قابلا للتعدّد و کان قابلا للتأکّد-کما إذا وجب قتل شخص للقصاص و الارتداد-فیتأکّد الحکم حینئذ،و أمّا إذا لم یکن قابلا للتعدّد و التأکّد-کالملکیّة و الطهارة و النجاسة-فلا بدّ من الالتزام بتداخل الأسباب فیه.

الأمر الرابع:أنّ بحث التداخل یرتبط بمقام الإثبات و ظهور القضیّة

الشرطیّة من حیث الدلالة

،فلا بدّ من کون التداخل و عدمه فی مقام الثبوت أمرا ممکنا؛إذ لو کان أحد الجانبین أمرا مستحیلا لا تصل النوبة إلی البحث فی أنّ مقتضی القاعدة هو التداخل أو عدمه فی مقام الإثبات.

و استدلّ المرحوم البروجردی قدّس سرّه (2)علی استحالة عدم التداخل بأنّ المولی بحسب مقام الثبوت إن أراد تحقّق فردین من طبیعة واحدة فقد یحکم بدون التعلیق بأنّه:أیّها العبد توضّأ مرّتین،و قد یحکم معلّقا علی الشرط إذا کانت السببیّة فی البین فیقول:«إذا بلت و إذا نمت فتوضّأ مرّتین»،و إن أراد عقیب کلّ

ص:412


1- 1) کفایة الاصول 1:320.
2- 2) نهایة الاصول 1:308.

سبب وضوء واحدا و علی فرض تقدّم شرط إحدی القضیّتین علی شرط القضیّة الاخری مستمرّا کتقدّم البول علی النوم دائما یقول المولی:«إذا بلت فتوضّأ و إذا نمت فتوضّأ وضوء آخر»،و أمّا إذا لم یکن أحدهما مقدّما علی الآخر مستمرّا فحینئذ لا معنی لإضافة کلمة«وضوء آخر»إلیهما و لا إلی أحدهما،فلا محالة یقول:«إذا بلت فتوضّأ،و إذا نمت فتوضّأ»بدون التعلیق و التقیید بأیّ قید،و معناه تعلّق الحکم بنفس طبیعة الوضوء،و الطبیعة الواحدة التی لم یلحظ فیها جهة الکثرة یستحیل أن یتعلّق بها وجوبان مستقلاّن،هذا تمام کلامه مع زیادة توضیح.

و یمکن جوابه بأنّ طریق بیان التعدّد لا ینحصر بما ذکرته،و یصحّ تقیید الطبیعة فی صورة الأخیر أیضا،و هو أن یقول المولی:«إذا بلت فتوضّأ بسبب البول،و إذا نمت فتوضّأ بسبب النوم»،کما کان کذلک فی مثل:«النار سبب للحرارة»،فإنّه فی الباطن عبارة عن أنّ النار سبب للحرارة الآتیة من قبل النار،و إن لم یکن فی الظاهر معلّقا،و هکذا فیما نحن فیه،فلا استحالة فی البین.

هذا طریق واحد و یمکن أن تتحقّق طرق اخری،فلا بدّ من البحث فی مقام الإثبات.

إذا عرفت المقدّمات فلنشرع فی أصل المسألة،و نلاحظ فی الابتداء أدلّة قول المشهور علی عدم التداخل،و ما هو الأصل و الأساس لأدلّتهم عبارة عمّا ذکره العلاّمة الحلّی قدّس سرّه فی مختلف الشیعة (1)،و محصّله مع زیادة توضیح:أنّ فی قضیّة«إذا بلت فتوضّأ و إذا نمت فتوضّأ»-مع أنّ الشرطین قد یکونا متقارنین و قد یکونا متعاقبین-تتحقّق أربعة احتمالات،

أن أبطلنا ثلاثة منها یتعیّن الاحتمال الرابع قهرا

ص:413


1- 1) مختلف الشیعة 2:423.

الاحتمال الرابع قهرا.

الأوّل:أنّه إذا تحقّق البول و النوم معا

-سواء تحقّقا متعاقبین أو متقارنین- فلا یکونا مؤثّرین فی وجوب الوضوء،بل یسقطان عن السببیّة رأسا،بخلاف ما إذا تحقّق کلّ منهما بوحدته.

و بطلان هذا الاحتمال لا إشکال فیه بعد مخالفته لظاهر القضیّتین و الفتاوی.

الاحتمال الثانی:أنّه إذا تحقّق البول و النوم معا یکون وجوب الوضوء

مستندا إلی واحد منهما

،بلا فرق بین أن یکون مستندا إلی واحد معیّن أو واحد غیر معیّن.

و بطلانه أیضا لا بحث فیه،فإنّ الاستناد إلی واحد معیّن ترجیح من غیر مرجّح،و الاستناد إلی واحد غیر معیّن مخالف لظاهر القضیّتین؛لأنّ ظاهر إحداهما أنّ البول سبب مستقلّ لوجوب الوضوء،و ظاهر الاخری أنّ النوم سبب مستقلّ لوجوب الوضوء،و لا یتحقّق شیء یدلّ علی سببیّة أمر ثالث باسم واحد غیر معیّن.

الاحتمال الثالث:أن یکون مجموع المرکّب من البول و النوم مؤثّرا فی

وجوب الوضوء

،و لا یتحقّق وجوب الوضوء بدون تحقّقهما معا.

و قد مرّ أنّ هذا الاحتمال خارج عن محلّ النزاع فی مسألة التداخل.

فیبقی الاحتمال الرابع و هو:أن یکون کلّ سبب مؤثّرا فی مسبّب خاصّ

، و کلّ منهما کان سببا مستقلاّ لوجوب وضوء مستقل،و هذا معنی عدم التداخل.

و کان للشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه (1)کلام مفصّل حول هذا الاستدلال،

ص:414


1- 1) مطارح الأنظار:177.

و قال فی تقریرات بحثه:إنّ هذا الاستدلال مبتن علی ثلاثة مقدّمات،فإن کان إحداهما قابلا للمناقشة فلا محلّ لمسألة عدم التداخل،و اجتماعها یهدینا إلی مسألة عدم التداخل،و کان لها إجمال و تفصیل،أمّا إجمال المقدّمة الاولی فإنّ النوم الذی یتحقّق عقیب البول لا یکون وجوده کالعدم،بل کان له أیضا أثر.

و أمّا إجمال المقدّمة الثانیة فإنّ الأثر الذی یکون النوم مؤثّرا فیه غیر الأثر الذی یکون البول مؤثّرا فیه،لا أنّ السبب الأوّل مؤثّر فی حدوث وجوب الوضوء،و کلا السببین مؤثّران فی بقائه.

و أمّا إجمال المقدّمة الثالثة فهی أن یکون متعلّق الوجوب فی مقام الامتثال أیضا متعدّدا،و لا یکفی تعدّد المسبّب و الوجوب،بل لا بدّ من تعدّد الواجب حین العمل و الامتثال.

ثمّ تناول الشیخ الأعظم قدّس سرّه البحث فی المقدّمة الاولی مفصّلا،و جعل تلامذته کلّ طرف منها بعنوان دلیل مستقلّ،و کان لصاحب الکفایة قدّس سرّه بالنسبة إلی هذه المقدّمة بیان،و الأولی منه ما ذکره المحقّق الهمدانی قدّس سرّه فی کتاب مصباح الفقیه (1)، و هو أنّه:إذا تعلّق الحکم الوجوبی من المولی بطبیعة بدون أیّ نوع من التقیید و التعلیق-مثل«جئنی بالماء»-و لکن قبل امتثال المکلّف فی الخارج صدر عنه عین هذا الحکم ثانیا،فلا إشکال فی تأکیدیّة الحکم الثانی و کفایة الامتثال مرّة واحدة،کما یستفاده العقل و العقلاء بعد ملاحظة إطلاق المتعلّق فی کلا الحکمین،و أنّ طبیعة واحدة لا یمکن أن تکون متعلّق الحکمین المتماثلین؛ لاستحالة اجتماع المثلین.

و أمّا إن صدر عنه الحکمان بصورة قضیّة شرطیّة،مثل:«إذا بلت فتوضّأ

ص:415


1- 1) مصباح الفقیه(کتاب الطهارة):126.

و إذا نمت فتوضّأ»فظاهر کلّ من القضیتین یقتضی السببیّة المستقلّة،فیکون مقتضی القضیّة الاولی أنّ البول سبب مستقلّ لوجوب الوضوء،و مقتضی القضیّة الثانیة أنّ النوم سبب مستقلّ لوجوبه،مع أنّ متعلّق الجزاء مطلق، فالجزاء ظاهر فی إطلاق المتعلّق،و لا یمکن اجتماع الوجوبین علی ماهیّة مطلقة، فیتحقّق التعارض بین ظهور الجزاء و ظهور القضیّة الشرطیّة فی السببیّة المستقلّة.

ثمّ قال:إنّ ظهور القضیّة الشرطیّة مقدّم علی ظهور الجزاء.

و یتحقّق فی دلیل التقدّم بیانان:أحدهما مشترک بین صاحب الکفایة و المحقّق الهمدانی قدّس سرّهما،و الآخر ما یستفاد من کلام صاحب مصباح الفقیه فقط، و الدلیل المشترک أنّ ظهور الجزاء یستفاد من طریق مقدّمات الحکمة،و إحدی المقدّمات عبارة عن عدم القرینة علی التقیید،فحینئذ نقول:إنّ ظهور القضیّة الشرطیّة فی السببیّة المستقلّة قرینة علی تقیید الجزاء و مانع من انعقاد إطلاقه، و لذا یکون ظهور القضیّة مقدّما علی الإطلاق.

و أمّا الدلیل الذی یستفاد من ذیل کلام المحقّق الهمدانی قدّس سرّه فهو أنّ المولی إذا قال:«إذا بلت فتوضّأ»فلا إشکال فی نفس هذه القضیّة بوحدتها؛إذ یمکن أن یکون الجزاء مطلقا مع کون البول سببا مستقلاّ له،و لکنّه فی القضیّة الشرطیّة الثانیة إذا قال:«إذا نمت»،قبل بیان الجزاء یوجد ظهور للشرط فی السببیّة المستقلّة،و هذا الظهور مقدّم علی بیان الجزاء و جعل الإطلاق له،سواء کان الجزاء بصورة«یجب الوضوء»أو بصورة«فتوضّأ»،فیکون ظهور الشرط فی السببیّة المستقلّة-أی النوم-للوجوب مقدّما علی ظهور الجزاء فی الإطلاق و مانع من انعقاده،و یقیّده بقید مرّة اخری،هذا تمام کلامه.

ص:416

إنّما الکلام فی منشأ هذا الظهور؛إذ المدّعی إن تمسّک بالوضع و التبادر،بأنّ المتبادر من کلّ قضیّة شرطیّة أنّ الشرط سبب مستقلّ لتحقّق الجزاء.

و جوابه:أنّه کما مرّ بطلان هذا الکلام بالنسبة إلی العلّة المنحصرة،کذلک لا دلیل علی إثبات مثل هذا الوضع و التبادر فیما نحن فیه.

علی أنّا نری فی کثیر من الموارد استعمال أداة الشرط فی جزء السبب، و عدم المانع بدون أیّ نوع من التجوّز و المسامحة،فالاستعمالات العرفیّة الکثیرة نافیة لهذا المدّعی و مانعة منه.

و هکذا مسألة الانصراف لا یصحّ للمدّعی أن یتمسّک به لإثبات العلّیة التامّة للشرط فی القضیّة.

و إن تمسّک بالإطلاق بأنّ أداة الشرط بحسب الوضع تدلّ علی مطلق الارتباط بین الشرط و الجزاء،و لکن بحسب الإطلاق تنطبق علی السببیّة المستقلّة.

و جوابه:أنّ تقدّم ظهور إطلاقی الشرط علی ظهور إطلاقی الجزاء یحتاج إلی دلیل،و نضیف إلیه:أنّ کلّ قضیّة من القضیّتین إن لوحظت فی نفسها فلا منافاة بین الظهورین و لا مانع من کون النوم سببا مستقلاّ لوجوب مطلق الوضوء، فنأخذ ظهور الشرط و ظهور الجزاء بالنسبة إلی إطلاق المتعلّق،و أنّ الواجب هی طبیعة الوضوء بدون أیّ قید.

و أمّا إذا لوحظت کلّ منهما بالنسبة إلی الاخری فیرد الإشکال؛لعدم إمکان اجتماع الإطلاقین فی الشرط مع الإطلاقین فی الجزاء،و لا یمکن أن یکون البول و النوم سببا مستقلاّ لوجوب الوضوء،مع أنّ الواجب هو نفس طبیعة الوضوء بدون التقیید و التعلیق،فما الدلیل لتقدّم الإطلاقین فی الشرط علی الإطلاقین

ص:417

فی الجزاء؟و مجرّد تقدّم الشرط فی مقام الذکر لا یوجب تقدّمه فی مقام المعارضة،مع أنّه لا یکون کذلک دائما؛إذ یمکن أن یقول:«أکرم زیدا إن جاءک»و هذا نظیر أن یقول أحد بتقدّم الخبر الصادر عن الباقر علیه السّلام علی الخبر الصادر عن الصادق علیه السّلام فی مقام المعارضة،مع أنّه یقول بعض بعکس هذا.

نعم،إن کان ظهور الشرط ظهورا وضعیّا فهو مقدّم علی الظهور الإطلاقی، و هکذا إن ثبت ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه فی حاشیة کتابه من أنّ ظهور الشرط مقدّم علی ظهور الجزاء عند العرف،و هذا یکفی فی تقدّمه؛إذ مسألة التداخل و عدمه لیست بمسألة عقلیّة،بل مسألة لفظیّة،و الحاکم فیها هو العرف.هذا بیان واحد للمقدّمة الاولی من مقدّمات الشیخ الأنصاری قدّس سرّه.

و البیان الآخر للمحقّق النائینی قدّس سرّه (1)و بیانه هنا مبتن علی مبناه فی البحث السابق من أنّ الأحکام تتعلّق بالطبائع أو الأفراد،و هو قائل بأنّ متعلّق الأحکام عبارة عن صرف الوجود من الماهیّة،و هو أوّل ما یتحقّق به وجود الطبیعة،سواء کان فردا واحدا أو أفرادا متعدّدة فیما یمکن تحقّق أفراد متعدّدة فی آن واحد.

و علی هذا المبنی یقول فیما نحن فیه:إنّ المولی حین یقول:«إذا بلت فتوضّأ» یتحقّق لهذه القضیّة الشرطیّة مدلولان:أحدهما:مدلول لفظی،و هو تعلّق الطلب بصرف الوجود من الطبیعة،و الآخر مدلول عقلی و یتحقّق فیه قید، و هو أنّ المطلوب الواحد إذا امتثل مرّة لا یمکن امتثاله ثانیة؛لعدم قابلیّة صرف الوجود للتعدّد و التکرّر.هذا فی المطلوب الواحد.

و أمّا إذا کان المطلوب متعدّدا،و قال المولی عقیب الجملة السابقة:«إذا نمت

ص:418


1- 1) فوائد الاصول 1:492-494.

فتوضّأ»،فیقتضی کلّ من القضیّتین أن یکون شرطها سببا مستقلاّ لترتّب الجزاء،و لازم حفظ استقلال کلّ من السببین الالتزام بتعدّد مطلوب المولی، فحینئذ یحکم العقل بتکرّر صرف الوجود من الطبیعة،و تحقّق الوضوء عقیب کلّ سبب،و لا یعارضه حکم العقل بأنّ امتثال الطبیعة یحصل بإتیانها مرّة واحدة.

ثمّ قال:و ممّا ذکرنا انقدح الفرق بین طریقنا و الطریق الذی ذکره صاحب الکفایة و صاحب مصباح الفقیه،فإنّا نقول:إنّه إذا کان المطلوب واحدا یحکم العقل بأنّ صرف الوجود لا یتکرّر،و إذا کان المطلوب متعدّدا فلا یبقی موضوع لحکم العقل؛لأنّ موضوعه عبارة عن المطلوب الواحد،فنحن نرد من طریق الورود،و لکنّهما وردا من طریق الحکومة،فإنّ بیانهما یرجع إلی أنّ الظهور الإطلاقی فی الشرط مقدّم علی ظهور إطلاقی الجزاء لکونه معلّقا علی عدم البیان،و صلاحیة ظهور إطلاقی الشرط للبیان لا شبهة فیه،فظهور القضیّة الشرطیّة فی السببیّة المستقلّة حاکم علی ظهور إطلاقی الجزاء.هذا تمام کلامه مع التصرّف فی عباراته.

و التحقیق:أنّ ظاهر کلامهما أیضا عبارة عن الورود،فإنّ إطلاق الجزاء یتحقّق فی صورة عدم تحقّق القرینة علی التقیید،و إذا تحقّقت القرینة لا یبقی محلّ للإطلاق،و هذا هو الورود،و لکنّه لیس بمهمّ،إنّما الإشکال فی أصل بیانه، فإنّ ظهور إطلاقی الشرط فی القضیّتین یقتضی السببیّة المستقلّة لکلا الشرطین، و لازم ذلک تعدّد المطلوب،و لکن ظهور إطلاقی الجزاء یقتضی وحدة المطلوب،فإنّ متعلّق الوجوب هو صرف الوجود من طبیعة الوضوء بدون التقیید و التعلیق،و لا یعقل أن یتعلّق به حکمان مستقلاّن تأسیسیّان،

ص:419

و تشخیص تعدّد المطلوب و وحدته لا یکون بعهدة العقل،فإذا تحقّق الظهوران فلا دلیل لتقدّم ظهور الشرط علی ظهور الجزاء إلاّ أن یکون عند العرف مقدّما علیه،کما ادّعاه المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی حاشیة الکفایة،و هو یحتاج إلی الإثبات.

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الاولی من مقدّمات الشیخ الأنصاری قدّس سرّه و حاصله:أنّ وجود سبب ثان لیس کالعدم،بل یترتّب علیه الأثر الوجودی، و علی فرض إثبات هذه المقدّمة و الإغماض عن المناقشة فیها فلا بدّ فی المقدّمة الثانیة من إثبات أنّ الأثر الوجودی الذی یترتّب علیه مغایر للأثر الذی یترتّب علی السبب الأوّل،بمعنی أنّه حکم تأسیسی مستقلّ لا تأکیدی،و کلام الشیخ قدّس سرّه حول هذه المقدّمة أیضا مفصّل،و لکن قبل الورود فی بیانه إذا لاحظناها فی نفسها یکون إثباتها أمر مشکل.

توضیح ذلک:أنّه إذا تعلّق الحکم بطبیعة واحدة مرّتین بدون التعلیق و التقیید-مثل:أن یقول المولی:«جئنی بالماء»،و قبل امتثاله من جانب العبد خارجا یقول أیضا:«جئنی بالماء»-فلا شکّ فی أنّ الحکم الثانی تأکیدی،و لا محذور فی البین؛لعدم إمکان تعلّق حکمان مستقلاّن علی طبیعة مطلقة واحدة، فلا بدّ من حمل الحکم الثانی علی التأکید.

و أمّا فی مثل:«إذا بلت فتوضّأ و إذا نمت فتوضّأ»فیکون مقتضی إطلاق الجزاء أنّ الطبیعة المطلقة الواحدة لا یمکن أن تکون متعلّق الحکمین التأسیسیّین،و مقتضی إطلاق الشرط أنّ لکلّ سبب سببیّة مستقلّة و له حکم تأسیسی مستقلّ،سیّما بعد التوجّه إلی الوقوع الخارجی و أنّه قد یکون النوم متقدّما علی البول،و قد یکون البول متقدّما علی النوم،فلا بدّ من طریق التخلّص من هذه المشکلة،و طریق التخلّص إمّا أن یکون بالتصرّف فی إطلاق

ص:420

متعلّق الجزاء و تقییده بأنّه«إذا نمت فتوضّأ وضوء من قبل النوم»و«إذا بلت فتوضّأ وضوء من قبل البول»أو«إذا بلت فتوضّأ و إذا نمت فتوضّأ وضوء آخر»،و إمّا أن یکون بالتصرّف فی سببیّة السبب الثانی؛بأنّه لا یترتّب علیه حکم تأسیسی،بل یکون أثره تأکید حکم الأوّل.

و معلوم أنّ نتیجة الطریق الأوّل عبارة عن عدم التداخل،و لا دلیل لترجیحه علی الطریق الثانی،و لا بدّ للقائل بعدم التداخل من إثبات ترجیح الطریق الأوّل.

و کلام الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)هنا مع توضیح و تلخیص:أنّ السبب فی مثل:

«إذا بلت فتوضّأ»عبارة عن الشرط،و المسبّب یحتمل أن یکون عبارة عن وجوب الوضوء کما یقتضیه ظاهر القضیّة الشرطیّة،و یحتمل أن یکون عبارة عن نفس الوضوء،و علی الاحتمال الأوّل یکون معنی القضیّة:أنّ عقیب البول یتحقّق اشتغال ذمّة المکلّف بالوضوء،و إذا تحقّق النوم یتحقّق عقیبه اشتغال الذمّة الجدید بالوضوء،و إلاّ یلزم إمّا إنکار سببیّة النوم مع أنّ المفروض إثباتها فی المقدّمة الاولی،و إمّا إنکار قابلیّة المتعلّق للتعدّد و التکرّر مع أنّه لیس کذلک،و لذا نقول بترجیح جانب التأسیس.

إن قلت:إنّ المولی إذا قال:«جئنی بالماء»مرّتین،لما ذا لا تقول باشتغال ذمّة العبد مکرّرا؟و ما المانع من تحقّق الحکمین التأسیسیّین؟و ما الدلیل علی الالتزام بتأکیدیّة حکم الثانی؟

قلت:لا یتوهّم أنّ التأکید یتحقّق فی مورد وحدة المتعلّق فقط،بل یتحقّق فی مورد مغایرة المتعلّق أیضا کالإفطار فی شهر رمضان فإنّ الإفطار بشیء

ص:421


1- 1) مطارح الأنظار:177.

حلال یکون حراما،و الإفطار بشیء حرام یکون حراما مؤکّدا کالإفطار بشرب المسکر مثلا.

هذا،مضافا إلی أنّ التعلیق لا یکون مساوقا مع التأسیس عندی،بل هو مترتّب علی أمرین:أحدهما:أن یکون المتعلّق قابلا للتعدّد،و ثانیهما:أن یکون اشتغال الذمّة متعدّدا،و لا یتحقّق الطریق إلی التأسیس من دون إثبات تعدّد اشتغال الذمّة.

ثمّ إنّه لا بدّ من حمل«جئنی بالماء»الصادر عن المولی أوّلا علی التأسیس، و أمّا الذی صدر عنه ثانیا فهو محکوم بأنّه حکم تأکیدی؛لعدم إمکان أن تکون طبیعة واحدة متعلّقا للحکمین التأسیسیّین،و أمّا فی القضایا الشرطیّة فلا یمکن هذا الأمر؛إذ لا یتحقّق التقدّم و التأخّر الدائمی بین الشرطین،بل قد یکون النوم مقدّما علی البول،و قد یکون البول مقدّما علی النوم،و لا یمکن حمل ما صدر عن المولی ثانیا علی التأکید؛إذ یمکن أن یتحقّق سببه قبل سبب الآخر.علی أنّه یمکن صدور الجملتین عن المولی قبل تحقّق البول و النوم.

و التحقیق:أنّ هذا البیان لیس بتام؛إذ یرد علیه:

أوّلا:أنّ منشأ تعدّد الاشتغال الذی هو شرط للتأسیسیّة لا محالة عبارة عن ظهور إطلاقی الشرط،و هو معارض مع ظهور إطلاقی متعلّق الجزاء.

و بعبارة اخری:أنّ التأسیسیّة و تعدّد الحکم إن کان مع حفظ إطلاق متعلّق الجزاء فهو غیر معقول؛لأنّ تعلّق الحکمین بالطبیعة الواحدة بدون التقیید و التعلیق أمر مستحیل،و إن کان مع التصرّف فیه و تقدّم ظهور إطلاقی الشرط علیه فهو ترجیح بلا مرجّح،و لا دلیل علیه إلاّ أن یقول بتقدّمه عند العرف کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه،و لکنّه یحتاج إلی الإثبات.

ص:422

و ثانیا:أنّه علی فرض قبول تعدّد الاشتغال فهو لا یکون مساوقا مع التأسیسیّة،بل یناسب التأکید أیضا؛إذ لا بدّ فی موارد التأکید من الالتزام بتعدّد الاشتغال،و إلاّ یلزم أن یکون الحکم الثانی لغوا،و لکن تعدّد الاشتغال قد یمتثل بإیجاد فرد واحد من المتعلّق فی الخارج،و قد یمتثل بإیجاد فردین منه فیه،بل قد یمتثل تعدّد الاشتغال فی مورد التأسیس أیضا بامتثال واحد،کما مرّ فی مثال ضیافة العالم الهاشمی،و ما یوجب شبهة عدم تعدّد الاشتغال فی مورد التأکید،هو کفایة امتثال واحد،مع أنّه لا یکون دلیلا لذلک.

و ثالثا:أنّه لا محلّ لمسألة التأکید فی مثال الإفطار أصلا،بل یتحقّق فی الإفطار بالمسکر عنوانان:أحدهما عنوان شرب المسکر،و هو متعلّق التحریم و یترتّب علیه الحدّ،و الآخر عنوان الإفطار فی شهر رمضان،و هو أیضا متعلّق التحریم و یترتّب علیه التعزیر،و إن جمع أحد بین العنوانین فیتحقّق هنا حکمان مستقلاّن فیترتّب علیه الحدّ و التعزیر،و هذا نظیر الصلاة فی الدار المغصوبة،فخروج هذا المثال عن دائرة التأکید لا شبهة فیه.

بقی من کلام الشیخ الأنصاری قدّس سرّه فرض سببیّة البول و النوم لنفس الوضوء، و کون المسبّب فی القضیّتین عبارة عن نفس الوضوء،و قال:إنّ المقصود من السببیّة هنا لا تکون السببیّة العادیّة و العقلیّة حتّی یتحقّق المسبّب بعد تحقّق السبب قهرا،بل المقصود منها السببیّة الجعلیّة،بمعنی تحقّق الارتباط بین البول و الوضوء،و لکنّه لیس بمعلوم إلاّ لجاعل السببیّة أی الشارع.

و بعبارة اخری:أنّ الوضوء عقیب البول و النوم مطلوب للشارع،و لازم ذلک القول بالتداخل،فإنّ المطلوب وقوع الوضوء عقیب النوم و البول،فإذا بال المکلّف و نام و لم یتخلّل بینهما وضوء بل تحقّق وضوء عقیبهما یصدق أنّ

ص:423

هذا الوضوء وقع عقیب النوم کما یصدق أنّه وقع عقیب البول.

و أمّا کلام الشیخ قدّس سرّه (1)حول المقدّمة الثالثة فهو:أنّ بعد إثبات أنّ السبب الثانی لیس وجوده کالعدم و أنّه یؤثّر فی حکم تأسیسی مستقلّ فلا تبقی شبهة لعدم انطباق حکمین تأسیسیین علی فرد واحد،هذا بخلاف اجتماع العنوانین فی فرد واحد،نظیر:إکرام العالم و ضیافة الهاشمی،فتکون نتیجة البحث استحالة التداخل و عدم معقولیّته؛لعدم إمکان أن یکون فردان من ماهیّة فردا واحدا، فلا یعقل القول بالتداخل،و علی هذا تکون الضابطة فیما نحن فیه عبارة عن عدم التداخل،فإن کان ظاهر القضیّة الشرطیّة علی خلافها فلا بدّ من التصرّف فیه.

ثمّ قال:إنّ تداخل الأغسال فی غسل واحد إن تحقّق من المکلّف بنیّة عناوین متعدّدة یکون بدلیل کونها ماهیّات مختلفة،و الشاهد علی ذلک التعبیر عنها فی بعض الروایات بأنّه:«إذا اجتمع علیک حقوق»و معناه أنّ کلّ واحدة منها حقّ مستقلّ،و لا مانع من اجتماع ماهیّات مختلفة فی وجود واحد،فیکون غسل الجنابة ماهیّة خاصّة،و غسل الحیض ماهیّة اخری،و هکذا.و إن لم یکن من حیث الصورة بینهما فرق لکون العبادات من العناوین القصدیّة،مثل صلاة الظهر و العصر،و جواز التداخل فی الأغسال من الشارع دلیل علی کونها ماهیّات مختلفة.

و لکنّ التحقیق:أنّ هذا الکلام أیضا لیس بتام؛إذ سلّمنا أنّ الفردین مع حفظ کونهما فردین لا یمکن جعلهما فردا واحدا،إلاّ أنّ هذا الکلام یرجع إلی أنّ الواجب و متعلّق الوجوب فی جزاء القضیتین هو فرد من الوضوء،مع أنّه

ص:424


1- 1) مطارح الأنظار:177.

مخالف لمبناه؛إذ قد مرّ أنّه قائل بتعلّق الأحکام بالطبائع و الماهیّات.

علی أنّه أمر مستحیل،فإنّ الفرد عبارة عن وجود الماهیّة مع خصوصیّات فردیّة،و قد مرّ قول صاحب الکفایة قدّس سرّه بأنّ الماهیّة لا یمکن أن تقع متعلّق الأحکام؛إذ الماهیّة من حیث هی هی لیست إلاّ هی،و لا محالة یکون متعلّق الأحکام وجود الطبیعة،و الخصوصیّات الفردیّة خارجة عن دائرة المتعلّق عنده.

و قلنا:إنّ لازم ذلک وجود الطبیعة قبل وجوبه؛لتقدّم الموضوع علی الحکم،و تعلّق الأمر بشیء موجود تحصیل للحاصل،و تعلّق النهی و الزجر بشرب الخمر الموجود تغییر الواقعیّة عمّا وقعت علیه،مع أنّهما أمران ممتنعان، و بیان الشیخ قدّس سرّه أسوأ حالا من ذلک؛لدخالة الخصوصیّات الفردیّة أیضا فی المتعلّق.

و یمکن أن یقال:إنّ المراد من الفرد-بعد تقدیم ظاهر القضیّة الشرطیّة و حفظ تعلّق الأحکام بالطبائع-تقیید الجزاء فی القضیّتین،یعنی«إذا بلت فتوضّأ وضوء من قبل البول»،و«إذا نمت فتوضّأ وضوء من قبل النوم»، فیکون متعلّق الوجوب الماهیّتین المتغایرتین.و إن عبّر عنهما بالفرد،و لکن تعلّق الأحکام به واضح البطلان.

و جوابه:أنّ تغایر متعلّق الوجوب فی القضیّتین بهذا البیان لا شکّ فیه، و لکنّه لا دلیل علی مغایرتهما بنحو التباین حتّی نقول بعدم إمکان اجتماعهما فی وجود واحد،و لعلّ مغایرتهما کانت نظیر مغایرة الأغسال الواجبة-أی التغایر بالعموم من وجه-إلاّ أن یقول الشیخ الأنصاری قدّس سرّه بالفرق بین المسألتین بأنّ الروایة فی باب الأغسال تدلّ علی کفایة غسل واحد بنیّة جمیع الأغسال،و أمّا

ص:425

فیما نحن فیه بعد قبول أصل المغایرة و تعدّد الاشتغال یکون مقتضی الاشتغال الیقینی عدم الاکتفاء بوضوء واحد فی مقام الامتثال،فلا بدّ من تحقّق وضوءین حتّی تتحقّق البراءة الیقینیّة.

و التحقیق:أنّ هذا و إن کان توجیها لکلام الشیخ قدّس سرّه و لکنّه لا ینطبق علی نتیجة کلامه،فإنّه استفاد من المقدّمات الثلاثة أنّ التداخل أمر مستحیل، و نتیجة هذا التوجیه تعدّد التکلیف،و حکم قاعدة الاشتغال بتعدّد الوضوء فی مقام الامتثال،و قد مرّ فی ابتداء البحث أنّ القول بالاستحالة خارج عن محلّ النزاع،و أنّه یجری فیما کان التداخل و عدمه ثبوتا أمرا ممکنا.

مضافا إلی أنّنا استفدنا من کلام المحقّق الخراسانی قدّس سرّه أنّ الحاکم بتقدیم ظهور القضیّة الشرطیّة فی السببیّة المستقلّة علی ظهور إطلاق متعلّق الجزاء هو العرف،فیحکم العرف بتعدّد الاشتغال،و لازم ذلک تغایر متعلّق التکلیف، و مع انضمام حکم قاعدة الاشتغال إلیه استفدنا عدم التداخل فی المسألة،و هذا مخالف مع ظاهر کلام الشیخ قدّس سرّه و سائر القائلین بعدم التداخل،و لکنّه لا بدّ من الالتزام بذلک؛إذ لا یتحقّق طریق سوی ذلک،فنتیجة البحث فی القضیّتین الشرطیّتین عبارة عن عدم التداخل مع حذف کلمة الاستحالة التی تتحقّق فی کلام الشیخ قدّس سرّه.

و البحث الآخر فی أنّه إذا تحقّقت قضیّة شرطیّة واحدة،مثل:«إذا بلت فتوضّأ»هل یجب بحسب القاعدة الأوّلیة عقیب کلّ بول وضوء مستقلّ،فإذا بال مرّتین یجب علیه وضوءان أم لا؟و قد مرّ عن بعض العلماء القول بالتفصیل بین أسباب متعدّدة من نوع واحد،و أسباب متعدّدة من أنواع المختلفة،و تمّ البحث فی القسم الثانی،و نبحث الآن فی القسم الأوّل.

ص:426

فربما یقال:إنّ مسألة التداخل و عدم التداخل هنا مبتن علی کون الشرط فی القضیّة الشرطیّة عبارة عن الطبیعة أو الأفراد؛إذ یحتمل أن تکون القضیّة بمعنی أنّه:إذا تحقّق کلّ فرد من أفراد البول یجب علیک الوضوء،فلا بدّ حینئذ من القول بعدم التداخل؛لاستقلال الأفراد فی السببیّة.

و یحتمل أن یکون الشرط فی القضیّة عبارة عن طبیعة البول و ماهیّته، و العرف قائل بأنّ الطبیعة لا تتعدّد بتعدّد الأفراد،و حینئذ لا بدّ من القول بالتداخل.

و جوابه:أنّ الشرط إن کان عبارة عن الطبیعة فهو خارج عن محلّ النزاع؛ إذ النزاع یجری فیما کان الفرد الثانی فی مقابل الفرد الأوّل مؤثّرا فی ترتّب الجزاء،و أن تکون أفراد متعدّدة من نوع واحد نظیر أفراد متعدّدة من أنواع متعدّدة،و لو فرض الشرطیّة للطبیعة فلا فرق فیها بین فرد واحد و أفراد متعدّدة و لا أثر للفرد الثانی أصلا،و الحال أنّه خلاف الفرض؛إذ المفروض أن یکون کلّ فرد من أفراد البول مؤثّرا فی ترتّب الجزاء.

و أمّا إن کان الشرط عبارة عن أفراد الطبیعة کما یساعده العرف فمقتضی القاعدة عدم التداخل،فلا یصحّ القول بالتفصیل،إلی هنا تمّت مسألة التداخل.

و لا بدّ لنا من التعرّض لبحث آخر لتکمیل بحث مفهوم الشرط و تتحقّق له مقدّمة،و هی:أنّ الاختلاف بین المفهوم و المنطوق فی الإیجاب و السلب، و المنطوق یدلّ علی ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط،و المفهوم یدلّ علی انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط،و لازم ذلک أخذ جمیع خصوصیّات المنطوق فی المفهوم،إن کان المنطوق:«إن جاءک زید فأکرمه یوم الجمعة»فمفهومه«إن لم یجئک زید فلا یجب إکرامه یوم الجمعة»،و إن کان الشرط فی القضیّة الشرطیّة

ص:427

أمرا مرکّبا مثل:«إن جاءک زید و سلّم علیک یجب علیک إکرامه»فمفهوم هذا المنطوق یعنی انتفاء المرکّب قد یکون بانتفاء کلا الجزءین،و قد یکون بانتفاء جزء واحد منه،مثل:«إن لم یجئک زید أو لم یسلّم علیک فلا یجب علیک إکرامه».

و إن کان الشرط فی المنطوق أحد أمرین،مثل:«إن جاءک زید أو کتب لک کتاب یجب علیک إکرامه»،فمفهومه یکون بانتفاء کلا الأمرین،مثل:«إن لم یجئک زید و لم یکتب لک کتابا فلا یجب علیک إکرامه».

و إن اخذ فی جزاء القضیّة الشرطیّة العام المجموعی،مثل:«إن رزقت زیارة الحجّة علیه السّلام یجب علیک إکرام العلماء»،و معلوم أنّ هنا حکما واحدا،و هو متعلّق بإکرام جمیع العلماء،و لا یمتثل إلاّ بإکرام الجمیع،و له موافقة واحدة،و مخالفة واحدة،و مفهوم هذه القضیّة یکون بانتفاء إکرام مجموع العلماء،و هو کما یصدق بانتفاء وجوب إکرامهم رأسا،کذلک یصدق بانتفاء وجوب إکرام عدّة منهم.

و إن اخذ فی الجزاء العام الاستغراقی فالحکم فیه یتعدّد بتعدّد أفراده،و لکلّ حکم موافقة و مخالفة مستقلّة،مثل:«إن رزقت زیارة الحجّة علیه السّلام یجب علیک إکرام کلّ عالم»،فهل یکون مفهومه العام الاستغراقی المنفی أو انتفاء إکرام کلّ عالم؟و هو یصدق مع وجوب إکرام بعض العلماء،و نظیره ما ورد فی الفقه مثل:

قوله علیه السّلام:«الماء إذا بلغ قدر کرّ لا ینجّسه شیء»، (1)قال الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (2):

مفهومه:«أنّ الماء إذا لم یبلغ قدر کرّ ینجّسه کلّ شیء صالح للتنجیس»،

ص:428


1- 1) الوسائل 1:158،الباب 9 من أبواب الماء المطلق،الحدیث 1.
2- 2) مطارح الأنظار:174.

بخلاف صاحب هدایة المسترشدین (1)،فإنّه یقول:بأنّ کلمة«شیء»نکرة واقعة فی سیاق النفی فی القضیّة المنطوقیّة،و لذا یفید العموم،و أمّا من جهة المفهوم فهی نکرة واقعة فی سیاق الإثبات،فهی لا تفید العموم،فالمفهوم نقیض العموم،ینطبق علی موجبة کلّیة و موجبة جزئیّة.

و قال الشیخ الأنصاری قدّس سرّه لتبیین مدّعاه:إنّه لا خصوصیّة للفظ«الشیء» المأخوذ فی الجزاء،بل هو مرآة للعناوین النجسة،و عنوان إجمالی قام مقامها، فإن کان قول الإمام علیه السّلام مکانه«أنّ الماء إذا بلغ قدر کرّ لا ینجّسه الدم و المنی و البول و الغائط...»،یکون مفهومه قطعا«أنّ الماء إذا لم یبلغ قدر کرّ ینجّسه الدم و المنی و البول،...»و هکذا فی العام الاستغراقی.

و لقائل أن یقول:إنّ الأمر لیس بدائر بین الأمرین حتّی نحتاج إلی تأیید أحدهما لا محالة،بل یتحقّق أمر ثالث،و هو أنّ المفهوم عبارة عن الانتفاء عند الانتفاء،بلا فرق بین کون جزاء القضیّة موجبة أم سالبة،مثل:«إن جاءک زید فلا تکرمه»،و مفهومه أیضا انتفاء الجزاء-أی لا تکرمه-عند انتفاء الشرط، و لا یکون المقصود فی باب المفهوم إثبات النقیض؛إذ لا ربط بین المسألتین، و مفاد المفهوم لا یکون أزید من انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط،فعلی هذا یکون مفهوم الماء إذا بلغ قدر کرّ لا ینجسه شیء،أنّ مع انتفاء بلوغ الماء قدر کرّ ینتفی الجزاء-أی لا ینجسه شیء-و أمّا قیام ینجسه کلّ النجاسات مقامه أو بعضها فلا بدّ أن یستفاد من الخارج،و لا یکون من شأن المفهوم تعیین أحدهما،و لا یلزمنا الالتزام بکلام الشیخ و لا بکلام صاحب الحاشیة معیّنا بعد الدقّة فی معنی المفهوم؛إذ المفهوم ینطبق علی کلاهما معا کما لا یخفی.

ص:429


1- 1) انظر:هدایة المسترشدین:291.

البحث فی مفهوم الوصف

و لا بدّ فی هذه المسألة من التعرّض لأمرین بعنوان المقدّمة:

الأوّل:أنّ الوصف قد یکون معتمدا علی الموصوف و مشتملا علی ذکره، مثل:«أکرم رجلا عالما»و قد یکون غیر معتمد علیه،مثل:«أکرم عالما»، و ربما یقال:إنّ النزاع فی باب مفهوم الوصف یختصّ بالصورة الاولی،فإنّ طریق إثبات المفهوم هنا أنّ إضافة القید فی کلام المولی الحکیم یکون لغرض لا محالة،و لا بدّ للقید من مدخلیّة لخروج کلام المتکلّم عن اللغویة،و مورد هذا الاستدلال فیما إذا ذکر الوصف و الموصوف معا،فالصورة الاولی خارجة عن دائرة النزاع فی مفهوم الوصف،و لکنّه لیس بصحیح؛إذ الاستدلال لا ینحصر بإضافة لفظیّة،بل إن ذکر عنوان یرجع عند التحلیل إلی الذات و الصفة،مثل:«أکرم عالما»فیجری الاستدلال بأنّ عدول المتکلّم عن عنوان الذات إلی عنوان الصفة مع تأخّره عن الذات من حیث الرتبة لا محالة یکون لغرض،و هو مدخلیّته فی الحکم بحیث ینتفی الحکم بانتفائه،فلا فرق بین الصورتین من هذه الجهة.

و لذا یکون مفهوم الروایة النبویّة:«لیّ الواجد یحلّ عرضه و عقوبته» (1)، یعنی تأخیر و مسامحة المدیون الواجد یحلّ عقوبته و عرضه:«أنّ لیّ غیر الواجد لا یحلّ عقوبته و عرضه»عند کثیر من القائلین بالمفهوم،مع أنّ الوصف ذکر خالیا عن الموصوف.

الأمر الثانی:أنّ الوصف إذا لوحظ مع الموصوف یتحقّق بینهما حالات مختلفة من حیث النسبة،و ما هو القدر المتیقّن من محلّ النزاع أن تکون النسبة

ص:430


1- 1) الوسائل 18:334،الباب 8 من أبواب الدین و القرض،الحدیث 4.

بینهما عامّا و خاصّا مطلقا،بحیث یکون الوصف أخصّ مطلقا،مثل:«أکرم إنسانا عالما»،و هکذا إن کانت النسبة بینهما عموما و خصوصا من وجه، و مادّة الاجتماع عبارة عمّا یدلّ علیه المنطوق،مثل:«فی الغنم السائمة زکاة»، و معلوم أنّ مادّة الافتراق من جهة الموصوف،أی الغنم غیر السائمة داخل فی محلّ النزاع فی باب المفهوم قطعا.

و أمّا مادّة الافتراق من جهة الوصف،مثل:«الإبل السائمة»فالظاهر أنّه خارج عن محلّ النزاع؛إذ لا بدّ فی المفهوم من کون الموضوع محفوظا،خلافا لبعض الشافعیّة (1)فإنّه یقول بأنّا نستفید من مفهوم هذه الجملة عدم وجوب الزکاة فی الإبل غیر السائمة أیضا،و هکذا إن کانت النسبة بینهما التباین،بل فی نفس المنطوق أیضا محلّ إشکال بأنّه کیف یمکن أن یکون الوصف و الموصوف متباینین،مثل:«أکرم إنسانا غیر مستوی القامة»؟!

و هکذا إن کان الوصف و الموصوف متساویین،یعنی کلّما صدق علیه الوصف صدق علیه الموصوف،و بالعکس؛إذ البحث فی وجود الحکم و عدمه فیما تحقّق الموصوف بدون الوصف،و هذا الفرض لا یتحقّق فی المتساویین.

و هکذا فی العموم و الخصوص المطلق إذا کان الموصوف أخصّ مطلقا؛إذ النزاع یجری فیما إذا تحقّق الموصوف بدون الوصف.

ثمّ إنّ کلمات النافین و المثبتین هنا نظیر ما ذکر فی مفهوم الشرط من طریق القدماء لإثبات المفهوم،و طرق المتأخّرین لاستفادة العلّیة المنحصرة من الوضع و الانصراف،و إطلاق أداة الشرط،و إطلاق نفس الشرط،و إطلاق الجزاء.

ص:431


1- 1) الأمّ 2:5،25.

و الجواب الجواب،لکنّ الفرق بین مفهوم الوصف و مفهوم الشرط:أنّ القائل بالمفهوم فی القضیّة الشرطیّة من طریق الوضع و الانصراف یقول:إنّ أداة الشرط-مثل کلمة«إن»و«إذا»-وضعت للدلالة علی العلّیة المنحصرة، أو أنّها تنصرف إلیها فی مقام الاستعمال،و أمّا فی القضیّة الوصفیّة فلا بدّ من القول بأنّ الجملة الوصفیّة وضعت للدلالة علی العلّیة المنحصرة،أو أنّها تنصرف إلیها حین الاستعمال؛إذ لا یمکن القول بدلالة الوصف أو الموصوف علیها.

و لکنّه قد مرّ فی ابتداء بحث المفاهیم أنّ القائل بالمفهوم من طریق الوضع و الانصراف لا یحصر دائرة المفهوم بالجمل الإنشائیّة،بل یجری هذا المعنی عنده فی الجمل الخبریّة أیضا،ففی القضیّة الوصفیّة أیضا یقول بتحقّق المفهوم فی الجمل الإنشائیة و الخبریة معا؛إذ لا یصحّ الفرق بینهما من حیث الدلالة علی العلّیة المنحصرة بالوضع أو الانصراف و عدمها،و الحال أنّه لا یمکن الالتزام بذلک فی مثل:«جاءنی رجل عالم»،و«أضیف غدا رجلا عالما»، فتکون مسألة المفهوم فی القضیّة الوصفیّة أسوأ حالا من المفهوم فی القضیّة الشرطیّة،و إذا کانت أدلّة القائلین بالمفهوم هنا قابلة للمناقشة فتکون هاهنا أیضا کذلک.هذا تمام الکلام فی القضیّة الوصفیّة.

مفهوم الغایة

و من القضایا التی وقع الاختلاف فیها من حیث المفهوم هی القضیّة المغیّاة بغایة،فیقع البحث فی أنّ القضیّة الغائیة هل تدلّ علی انتفاء الحکم عند انتفاء الغایة أم لا؟و أمّا مسألة دخول الغایة فی المغیّا و خروجها عنه فلا دخل لها فی أصل البحث عن المفهوم،بل لها علاقة فی سعة المفهوم و ضیقه.

ص:432

و اختار المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)و أکثر تلامذته التفصیل فی المسألة،و هو أنّ الغایة إن کانت غایة للحکم یتحقّق المفهوم،و إن کانت غایة للموضوع لا یتحقّق المفهوم،مثل:«کلّ شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه قذر»،فیحتمل أن یکون«حتّی تعلم»غایة للطاهر،و یحتمل أن یکون غایة لکلّ شیء،یعنی کلّ شیء غیر معلوم القذارة طاهر.

و استدلّ المحقّق الحائری قدّس سرّه (2)علی هذا التفصیل بما یلی:قد حقّقنا فی محلّه أنّ مفاد هیئة«افعل»إنشاء طبیعی الطلب لا الطلب الجزئی الخارجی،فتکون الغایة فی قضیّة:«اجلس من الصبح إلی الزوال»غایة لکلّی الطلب المتعلّق بالجلوس،و لازم ذلک ارتفاع حقیقة الطلب و طبیعته عن الجلوس عند وجودها.نعم،لو قلنا:إنّ مفاد الهیئة هو الطلب الجزئی الخارجی فلازم ذلک ارتفاع ذلک الطلب الجزئی،و لا ینافی وجود جزئی آخر بعد الغایة،و حیث إنّ التحقیق هو الأوّل تکون القضیّة ظاهرة فی ارتفاع سنخ الحکم.

و أمّا إن کانت الغایة غایة للموضوع فحالها حال الوصف فی عدم الدلالة علی المفهوم.

و قال المحقّق الحائری (3)فی تعلیقته علی هذا الکلام:یمکن أن یقال بمنع المفهوم حتّی فیما اخذ فیه الغایة قیدا للحکم،کما فی«اجلس من الصبح إلی الزوال»؛لمساعدة الوجدان علی أنّا لو قلنا بعد الکلام المذکور:«و إن جاء زید فاجلس من الزوال إلی الغروب»،فلیس فیه مخالفة لظاهر الکلام الأوّل،

ص:433


1- 1) کفایة الاصول 1:324-325.
2- 2) درر الفوائد:204-205.
3- 3) المصدر السابق.

و یکشف هذا عن عدم تحقّق المفهوم له؛إذ لو کان مفهومه:«لا یجب الجلوس بعد الزوال»لا محالة یکون معارضا للکلام الثانی،فلا بدّ من إنکار المفهوم للقضیّة الغائیّة رأسا.

و التحقیق:أنّ ذلک-أی ما فی التعلیقة-لا یمکن المساعدة علیه أوّلا:أنّ المتعلّق فی کلا الحکمین هو الجلوس،و العرف بعد ملاحظة الحکمین یری القضیّتین بمنزلة قضیّة واحدة،و أنّ حکم المولی هو إیجاب الجلوس من الصبح إلی الغروب،إذا فلا بدّ من ملاحظة الحکم بالنسبة إلی ما بعد الغروب،و بعد مراجعة العرف یستفاد عدم وجوب الجلوس بعد الغروب،و الحکم منشؤه عبارة عن مفهوم الغایة و حکم الثانی مانع من عدم الوجوب بعد الزوال، و تعدّد الحکم کاشف عن تعدّد العلّة.

و ثانیا:أنّه لو فرض تحقّق المفهوم لقوله:«اجلس من الصبح إلی الزوال»، فلا یتحقّق التعارض بین مفهوم الکلام الأوّل و منطوق الکلام الثانی،فإنّ مفاد المفهوم أنّه:لا یجب الجلوس بعد الزوال،سواء جاء زید أم لا،و المنطوق یقول:«إن جاءک زید یجب الجلوس بعد الزوال».

و من المعلوم أنّه لا یتحقّق التعارض بین المطلق و المقیّد،کما حقّق فی محلّه.

و ثالثا:أنّ الغایة یحتمل أن تکون قیدا للموضوع فی المثال عند العرف، و علی هذا لا یدلّ علی المفهوم،کما اعترف بذلک،فیکون الدلیل علی عدم التعارض بین الحکمین کون الغایة قیدا للموضوع عرفا،فلا یمکن سدّ طریق مفهوم الغایة بهذا البیان فی صورة کون الغایة قیدا للحکم،بل لا بدّ من الالتزام بمفهوم الغایة إن کانت غایة للحکم،و إن قلنا بأنّ مفاد الهیئة طلب جزئیّ.

و ما یهدینا إلی هذه الاستعمالات العرفیّة المتداولة المتکثّرة إذا کان حکم

ص:434

المولی مغیّا بغایة یحکم العرف بانتفاء الحکم عند انتفاء الغایة،بلا فرق بین إلقاء الحکم بهیئة«افعل»أو بکلمة«یجب»،و حاکمیّة فهم العرف بالنسبة إلی المتفاهم من القضایا لا شبهة فیه،فلا نحتاج لإثبات المفهوم هنا إلی الوضع و الانصراف و الإطلاق و أمثال ذلک.

و أمّا بحث دخول الغایة فی المغیّا و خروجها عنه مع عدم ارتباطه فی بحث المفاهیم فلا بدّ من الإشارة إلیه،بعد التوجّه إلی أنّ المراد من الغایة هنا هو مدخول«إلی»و«حتّی»،و تکون نفس الغایة ذات أجزاء زمانیّة،مثل:«أتمّوا الصیام إلی اللیل»،أو ذات أجزاء مکانیّة،مثل:«سرت من البصرة إلی الکوفة»،أو ذات أجزاء أخر،مثل:«أکلت السمکة حتّی رأسها»،فغایة الفلسفی-أی انتهاء کلّ جسم-خارجة عن محلّ النزاع،فلا یصحّ ارتباط هذا البحث بجزء لا یتجزّأ و أمثال ذلک.

و بعد التوجّه إلی عدم اختصاص هذا النزاع بغایة الموضوع-کما أشار إلیه المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی حاشیته علی الکفایة-و أنّ غایة الحکم إن کانت ذات أجزاء زمانیّة،مثل:«أتمّوا الصیام إلی اللیل»فهی أیضا داخلة فی محلّ النزاع.

و إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ مسألة دخول الغایة فی المغیّا و خروجها عنه مسألة عرفیّة،و الظاهر بعد الرجوع إلی الاستعمالات العرفیّة أنّها خارجة عن المغیّا،و لا فرق فی ذلک بین غایة الحکم و غایة الموضوع، فلا طریق لهذه المسألة سوی الاستعمالات العرفیّة،و نحن نری صدق جملة:

«سرت من الدار إلی المدرسة»،عرفا إذا کان السیر من باب الدار إلی باب المدرسة.

ص:435

فی دلالة الاستثناء علی اختصاص الحکم بالمستثنی منه

یحتمل أن یرتبط هذا المعنی بالمنطوق،و مفهومیّته أمر مشکل،و معلوم أنّ الاستثناء من النفی إثبات،مثل:«ما جاءنی القوم إلاّ زیدا»،و من الإثبات نفی، مثل:«جاءنی القوم إلاّ بکرا»،إنّما الکلام فی دلالة الاستثناء علی انحصار المجیء بزید و عدمه فی المثال الأوّل و انحصار عدم المجیء ببکر و عدمه فی المثال الثانی،و حکی عن أبی حنیفة إنکار هذه الدلالة،و استشهد بروایة:«لا صلاة إلاّ بطهور»،بأنّ الاستثناء لو کان دالاّ علی اختصاص الحکم بالمستثنی منه لکان دالاّ علی أنّ الواجدة للطهور هی الصلاة مطلقا،و إن کانت فاقدة لما عداه من الأجزاء و الشرائط،فهو باطل قطعا؛إذ لا شکّ فی انتفاء الصلاة بفقدان رکن من أرکانها مع وجود الطهور.

و جوابه:أنّ المستثنی منه هنا هو التامّ الجامع للأجزاء و الشرائط إلاّ الطهور،فإنّه إمّا لیس بصلاة أصلا بناء علی وضع ألفاظ العبادات للصحیح، و إمّا لیس بصلاة تامّة بناء علی وضعها للأعمّ،فالمراد من مثله أنّه لا تکون الصلاة التی کانت واجدة لأجزائها و شرائطها المعتبرة فیها صلاة إلاّ إذا کانت واجدة للطهارة،مع أنّ إثبات عدم دلالة الاستثناء علی الاختصاص بسبب القرینة لا یقدح فی وضع أداة الاستثناء للدلالة علیه،فالاستعمال مع القرینة کما فی المثال لا یدلّ علی مدّعاه أصلا.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّه لا موقع للاستدلال علی المدّعی بقبول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله إسلام من قال کلمة التوحید؛لإمکان دعوی أنّ دلالتها علی التوحید کان بقرینة الحال أو المقال.

ص:436


1- 1) کفایة الاصول 1:326.

ثمّ استشکل فی دلالتها علی التوحید بالمناسبة،مع أنّه لا یرتبط بمسألة المفهوم أصلا،و هو أنّ خبر«لا»إمّا یقدّر«ممکن»أو«موجود»،و علی کلّ تقدیر لا دلالة لها علی التوحید،أمّا علی الأوّل فإنّه حینئذ لا دلالة لها إلاّ علی إثبات إمکان وجوده تبارک و تعالی لا وجوده،و أمّا علی الثانی فلأنّها و إن دلّت علی وجوده تعالی،إلاّ أنّه لا دلالة لها علی عدم إمکان و استحالة إله آخر.

ثمّ أجاب عنه بما لا یلیق بشأنه،و قال:إنّ المراد من الإله هو واجب الوجود،و نفی ثبوته و وجوده فی الخارج،و إثبات فرد منه فیه-و هو اللّه تعالی-یدلّ بالملازمة البیّنة علی امتناع تحقّقه فی ضمن غیره تبارک و تعالی؛ ضرورة أنّه لو لم یکن ممتنعا لوجد لکونه من أفراد الواجب،و أمره دائر بین وجوب الوجود و استحالة الوجود،بخلاف الممکن.

و لکن هذا لا یوافق التأریخ و اللغة و القرآن؛إذ التوحید علی أقسام:توحید فی الذات،و توحید فی الصفات،و توحید فی الأفعال،و توحید فی العبادة، و معلوم أنّ إشکال أعراب الجاهلیّة لا یکون فی مرتبة توحید الذات،فإنّهم کانوا معتقدین بالمبدإ،کما أشار إلیه القرآن بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ (1)،و یستفاد من هذه الآیة اعتقادهم بتوحید الذات و توحید الأفعال،و لازم ذلک الاعتقاد بتوحید الصفات،و لکنّهم کانوا فاقدین للتوحید فی العبادة،و کان غرضهم من عبادة الصنم التقرّب إلی اللّه تعالی،و یقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِیُقَرِّبُونا إِلَی اللّهِ زُلْفی (2)،و قول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله لهم:«قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا»یکون معناه:

ص:437


1- 1) العنکبوت:61.
2- 2) الزمر:3.

أنّ فلا حکم فی التوحید فی العبادة،و یکون معنی کلمة«إله»من حیث اللغة:

المعبود الصالح للعبودیّة،فمعنی کلمة التوحید أنّه لا معبود موجود إلاّ اللّه.

و توهّم صاحب الکفایة قدّس سرّه أنّه یرتبط بمقام التوحید فی الذات،و هو کما تری.

و أمّا دلالة الاستثناء علی الحصر بمعنی استفادة الأمرین من جملة«جاءنی القوم إلاّ زیدا»،أی عدم مجیء زید،و انحصار عدم المجیء به،فعلی القول به کما یکون کذلک عند العرف لا یرتبط هذا بالمفهوم،بل هو مفاد المنطوق؛إذ لا یبقی محلّ للمفهوم بعد تعرّض المنطوق لجانبی الإیجاب و السلب معا،بخلاف کلمة«إنّما»و«بل»الإضرابیّة و أمثال ذلک.هذا تمام الکلام فی باب المفاهیم.

ص:438

المقصد الرابع: فی العامّ و الخاصّ

اشارة

فی العامّ و الخاصّ

ص:439

ص:440

العامّ و الخاصّ

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی الفصل الأوّل منه أنّه:قد عرّف العام بتعاریف، و قد وقع من الأعلام فیها النقض بعد الاطّراد تارة و الانعکاس اخری بما لا یلیق بالمقام،فإنّها تعاریف لفظیّة تقع فی جواب السؤال عنه ب«ما»الشارحة، و لیست واقعة فی جواب السؤال عنه ب«ما»الحقیقیّة.

ثمّ ذکر شاهدا لذلک و قال:کیف؟و کان المعنی المرکوز منه فی الأذهان أوضح ممّا عرّف به مفهوما و مصداقا،و لذا یجعل صدق ذلک المعنی علی فرد و عدم صدقه المقیاس فی الإشکال علیها بعدم الاطّراد أو الانعکاس بلا ریب فیه و لا شبهة تعتریه-أی المعنی المرکوز-من أحد،و التعریف لا بدّ أن یکون بالأجلی،کما هو أوضح من أن یخفی.

ثمّ قال:فالظاهر أنّ الغرض من تعریفه إنّما هو بیان ما یکون بمفهومه جامعا بین ما لا شبهة فی أنّها أفراد العام لیشار به إلیه فی مقام إثبات ما له من الأحکام لا بیان ما هو حقیقته و ماهیّته؛لعدم تعلّق غرض به بعد وضوح ما هو محلّ الکلام بحسب الأحکام من أفراده و مصادیقه،حیث لا یکون بمفهومه العام محلاّ لحکم من الأحکام،فلا موضوعیّة لعنوان العام و لا خصوصیّة له،

ص:441


1- 1) کفایة الاصول 1:331.

و لا یترتّب علی فهمه بکنهه ثمرة فقهیّة؛إذ لم یترتّب علیه بما له من المعنی المصطلح حکم فرعی نظیر ترتّبه علی الموضوعات الاستنباطیّة.

و أورد علیه المرحوم المشکینی قدّس سرّه (1)بأنّ ظاهر العلماء من التعاریف التعریف الحقیقی لا سیّما مع نقض بعضهم علی الآخر بعدم الطرد و العکس،و لو کان مرادهم اللفظی منه لم یکن له مجال.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّهم کثیرا ما یبحثون عمّا لا ثمرة له،مضافا إلی أنّه یترتّب علیه ثمرة اصولیّة عنده،و هو تقدّم العام علی المطلق عند التعارض کما صرّح به فی بحث المقدّمة.

و الجواب عن الأوّل:أنّ ظهور التعریف فی الحقیقی لا یکون قابلا للإنکار، و لکنّ تحقّق قرینة أقوی علی خلافه یوجب رفع الید عنه،و هی القطع بأنّ هذا الشیء فرد للعام و لا یشمله التعریف،فلا یبقی مجال للظهور المذکور.

أو أنّ هذا الشیء کالمفرد المعرّف بلام الجنس لیس بفرد له،و لکن یشمله التعریف،فهذا التعریف لا یکون بطارد ما یکون خارجا عن ماهیّة العام،فلا مجال لکلامه قدّس سرّه بعد تحقّق الشاهد المذکور فی کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و الجواب عن الإشکال الثانی:أوّلا:أنّ المقصود من الأثر:الأثر الفقهی، و أنّ عنوان العام لا یکون موضوعا للأمر و النهی فی الشریعة،و هذا الأثر أثر اصولی،و ثانیا:أنّ أقوائیّة دلالة العام أوجب تقدّمه علی المطلق،و حینئذ لا تبقی موضوعیّة لعنوان العام و المطلق؛إذ العام بما هو عام لا یکون موضوعا للتقدّم بعد ما کانت أقوائیّة الدلالة علّة له،بل کلّ دلالة تکون أقوی من الاخری،فهو مقدّم،و العام من مصادیقه.

ص:442


1- 1) المصدر السابق.

و الفرق بین العام و المطلق أنّ العام یدلّ بدلالة لفظیّة وضعیّة علی الأفراد و المصادیق و ناظر إلیها،مثل:«أکرم کلّ عالم»،فالعام متعرّض للأفراد بنحو الإجمال لا بنحو التفصیل؛إذ لا یدلّ علی الخصوصیّات الفردیّة،نظیر دلالة «أکرم زیدا العالم»،و«أکرم بکرا العالم»و...و المطلق أنّ المولی إذا قال:«اعتق رقبة»أو «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» -مثلا-یستفید العقل بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة أنّ مراده مطلق الرقبة و طبیعة البیع،فالإطلاق لا یرتبط بالوضع و الدلالة اللفظیّة أصلا.

و الحاصل:أنّ العموم مستند بوضع الواضع،و الإطلاق مستند بمقدّمات الحکمة.

و لکن یلاحظ فی کلمات کثیر من العلماء تقسیم العموم إلی أنّه قد یستفاد من طریق وضع اللفظ،نظیر کلمة«کلّ»مثلا،و قد یستفاد من طریق العقل، نظیر النکرة فی سیاق النفی،و قد یستفاد من الإطلاق،نظیر: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» ، و العقل یستفید العموم من مثل:«لا رجل فی الدار»؛إذ الطبیعة لا تنتفی إلاّ بانتفاء جمیع أفرادها.

و معلوم أنّه لیس بصحیح؛إذ یرد علیه:أوّلا:أنّ الطریق الثانی و الثالث کلاهما عقلیّان،فإنّه کما یستفاد الإطلاق من تمامیّة مقدّمات الحکمة کذلک یحکم بأنّ الطبیعة لا تنتفی إلاّ بانتفاء جمیع أفرادها.

و ثانیا:أنّه قد مرّ مفصّلا أنّ هذه القاعدة العقلیّة مخالفة للعقل؛إذ لو کان إیجاد الطبیعة بوجود زید-مثلا-یکون انعدامها بعدمه،فلا مانع من کون الطبیعة متّصفة بالوجود و العدم معا،بلحاظ الأفراد الموجودة فی الخارج و المعدومة فیه،کاتّصاف ماهیّة الإنسان بالطویل و القصیر بلحاظ الأفراد،

ص:443

کما أنّها بالحمل الأوّلی لا یکون طویل القامة و لا قصیر القامة،لا موجودة و لا معدومة؛لعدم کونها جزء الماهیّة،فمبنی عمومیّة وقوع النکرة فی سیاق النفی لیس بصحیح.

و کذلک لا یصحّ استفادة العموم من مقدّمات الحکمة،بل نتیجتها عبارة عن الإطلاق،و معناه أنّ تمام المتعلّق و الموضوع للحکم بالوجوب فی إفطار شهر رمضان عبارة عن عتق الرقبة-مثلا-بدون أیّ نظارة إلی الأفراد و المصادیق، بخلاف العموم،فلا یمکن أن یکون الإطلاق طریقا للعموم بلحاظ اختلافهما ماهیّة و تباینهما ذاتا،و لذا ذکرهما الاصولیّون فی البابین المستقلّین.

و لا بدّ من ملاحظة تقسیم العام و المطلق؛إذ العام قد یکون استغراقیّا،و قد یکون مجموعیّا،و قد یکون بدلیّا،و المطلق أیضا قد یکون شمولیا،و قد یکون بدلیّا،و إن کان هذا التقسیم محلاّ للبحث و المناقشة کما سیأتی.

و البحث فی العام یکون أوّلا:فی مفاد الأقسام،و ثانیا:فی أنّ هذه الأقسام هل تتحقّق قبل عروض الحکم علیها أم بعده؟

و العام الاستغراقی:أن یکون کلّ فرد من أفراده مستقلاّ فی الموضوعیّة بدون رعایة الانضمام و الوحدة و لو اعتبارا،کقولنا:«أکرم کلّ عالم»،فإذا أکرم بعض العلماء و لم یکرم الآخر فقد أطاع و عصی.

و العام المجموعی:أن یکون مجموع الأفراد موضوعا لحکم واحد،فلو أکرم العلماء إلاّ واحدا لم یتحقّق الامتثال؛إذ یکون کلّ واحد من الأفراد جزء من الموضوع،نظیر المرکّبات الاعتباریّة من الأجزاء و الشرائط المختلفة،فلو أخلّ ببعضها لم یترتّب علیها الأثر المطلوب،مثل الصلاة؛إذ لا فرق بین من لم یصلّ أصلا أو صلّی و أخلّ ببعض الأجزاء و الشرائط من حیث عدم ترتّب الأثر.

ص:444

و العام البدلی:أن یکون واحد من الأفراد علی البدل موضوعا للحکم،کما لو قال المولی:«أکرم عالما»أو«أکرم أیّ عالم شئت»فتحصل الإطاعة بإکرام واحد من الأفراد،و العصیان بترک إکرام الجمیع.

و المهمّ استظهار صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی الجهة الثانیة من البحث بأنّ التقسیم یکون باعتبار الحکم و بعد عروض الحکم،لا بلحاظ نفس العام،بل باختلاف کیفیّة تعلّق الأحکام به،و إلاّ فالعموم فی الجمیع بمعنی واحد،و هو شمول المفهوم لجمیع ما یصلح أن ینطبق علیه.

ثمّ أشکل علی نفسه فی الحاشیة بقوله:إن قلت:کیف ذلک،و لکلّ واحد منها لفظ غیر ما للآخر مثل«أیّ رجل»للبدلی،و«کلّ رجل»للاستغراقی؟ قلت:نعم،و لکنّه لا یقتضی أن تکون هذه الأقسام له و لو بملاحظة اختلاف کیفیّة تعلّق الأحکام؛لعدم إمکان تطرّق هذه الأقسام إلاّ بهذه الملاحظة، فتأمّل جیّدا.

و معلوم أنّ هذا لیس بجواب عن الإشکال،بل هو فرار منه.

و التحقیق:أنّ التقسیم یکون باعتبار نفس العام،کما أنّه لا یتوقّف تفهیم و تبیین مفاد المقسم إلی تعلّق الحکم،کذلک فی الأقسام بعد ملاحظة ظهور بعض الألفاظ فی العموم الاستغراقی،و بعضها الآخر فی العموم المجموعی، و بعضها الآخر فی العموم البدلی،و لا شکّ فی تحقّق هذه الظهورات فی رتبة الموضوع،و قبل تعلّق الحکم،کما أنّ اللفظ المطلق فی الدلالة علی الطبیعة لا یتوقّف علی تعلّق الحکم به،کذلک اللفظ العام فی الدلالة علی العموم لا یتوقّف علی تعلّق الحکم الإنشائی به،بل تکون دلالته علیه أظهر من دلالة لفظ

ص:445


1- 1) کفایة الاصول 1:332.

المطلق بلحاظ کونها دلالة لفظیّة وضعیّة.

و الشاهد علی ذلک:أنّ الظاهر من کلمة الحکم فی عبارة صاحب الکفایة قدّس سرّه الحکم الإنشائی و المجعول،وجوبیّا کان أم تحریمیّا،و الحال أنّه قد یلاحظ استعمال ألفاظ العموم فی مقام الإخبار،مثل:قوله تعالی: قالَ إِنِّی أُرِیدُ أَنْ أُنْکِحَکَ إِحْدَی ابْنَتَیَّ هاتَیْنِ عَلی أَنْ تَأْجُرَنِی ثَمانِیَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِکَ وَ ما أُرِیدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَیْکَ سَتَجِدُنِی إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِینَ* قالَ ذلِکَ بَیْنِی وَ بَیْنَکَ أَیَّمَا الْأَجَلَیْنِ قَضَیْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَیَّ (1).

و دلالة کلمة«أیّ»علی العموم البدلی،و استعمالها فی الجملة الخبریّة شاهد علی ما ذکرناه،فتتحقّق ألفاظ مخصوصة فی رتبة متقدّمة علی تعلّق الحکم لأقسام العموم،إلاّ أنّه لا مانع من استعمال بعضها فی مورد بعضها الآخر بصورة المجاز و الاستعارة أو المشترک اللفظی.

و أمّا تقسیم المطلق إلی الشمولی و البدلی فالقول بأنّ المثال الأوّل: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ معناه بعد إثبات الإطلاق بتمامیّة مقدّمات الحکمة حلّیة جمیع مصادیق البیع،و المثال الثانی:«جئنی برجل»و«اعتق رقبة»فإنّ معناهما بعد إثبات الإطلاق کفایة إحضار رجل واحد و عتق رقبة واحدة،فلیس بصحیح؛إذ قلنا مکرّرا:إنّ الإطلاق لا یرتبط بالدلالة اللفظیّة،بل العقل فی ظرف وجود مقدّمات الحکمة یحکم بوجود الإطلاق،یعنی تمام ما له دخل فی الحکم عبارة عمّا ذکر فی کلام المولی،لا دخل لما هو خارج عنه فی المتعلّق أصلا.

و علی هذا لا فرق بین المثالین من حیث الإطلاق،و لا تتحقّق المباینة بین

ص:446


1- 1) القصص:27-28.

الإطلاقین حتّی نقول بأنّهما قسمان،بل یجری الإطلاق فیهما بمعنی واحد، کما لا یخفی.

إن قلت:إنّ کفایة الإتیان بفرد واحد من الأفراد فی مقام امتثال الأمر و الإطاعة فی مثل:«جئنی برجل»دلیل علی تحقّق الفرق بینهما.

قلت:هذا ممّا لا شکّ فیه،و لکنّه لا یرتبط بالإطلاق،بل یرتبط بقاعدة عقلیة اخری،و هی أنّ الطبیعة توجد بوجود فرد ما،و غرض المولی تعلّق بإیجاد الطبیعة،و یحصل الامتثال بإتیان فرد منها،و لا ینافی الاستناد بجانب إثبات القاعدة المذکورة إنکارها فی جانب النفی،فیتحقّق فی مثل:«أعتق رقبة»حکمان عقلیّان:أحدهما:یحکم بأنّ تمام الموضوع عتق رقبة،و الآخر یحکم بأنّ الطبیعة إذا وقعت مأمورا بها تحصل موافقة الأمر بإتیان فرد منها.

و الحاصل:أنّ اتّصاف الإطلاق بالبدلی لیس بتام.

إن قلت:إذا قال المولی:«جئنی برجل أیّ رجل شئت»لا شکّ فی صحّة هذا التعبیر،و یکون ل«أیّ رجل شئت»فی المثال عنوان التأکید؛إذ یستفاد بدون إضافته أیضا کفایة الإتیان بأیّ رجل،و لازم ذلک أن یکون له عنوان التأکید.هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ دلالة کلمة«أیّ»علی العموم البدلی و ظهورها فیه ممّا لا شبهة فیه،و فی المثال وقع بعنوان التأکید للإطلاق،و نتیجة صحّة هذین الأمرین و انضمامهما ارتباط البدلیّة بالإطلاق،و إلاّ یلزم إنکار أحدهما،فهذا المثال یهدینا إلی تحقّق الإطلاق البدلی.

قلت:إنّه وقع الخلط هنا بین عنوان التأکید و عنوان عدم الاحتیاج إلی ذکر جملة«أیّ رجل شئت»؛لأنّ معنی التأکید تکرار مفاد الجملة الاولی ببیان

ص:447

آخر،فمفاد«جئنی برجل»،أن یکون تمام الموضوع لأمر المولی هو المجیء برجل و یعبّر عنه بالإطلاق،و تأکیده یکون بقوله:«جئنی برجل»و معنی جملة:«أیّ رجل شئت»تأیید لقاعدة عقلیّة:«الطبیعة توجد بوجود فرد ما»، و لا یکون تأکیدا للجملة الاولی حتّی یکون دلیلا للإطلاق البدلی،فلا یتحقّق الإطلاق البدلی.

و هکذا الإطلاق الشمولی؛إذ الشمول یرتبط بالأفراد و المصادیق و لا یتصوّر منشأ لذلک فی مثل: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ، فإنّ لفظ البیع وضع لطبیعة مبادلة مال بمال مثلا،و لا یتحقّق فی مفاده النظارة و التعرّض للمصادیق.

و یمکن أن یقال:إنّ وجود الطبیعی عین وجود أفراده.

قلنا:هذا ممّا لا شبهة فیه،إلاّ أنّ مدلول کلمة«البیع»من حیث الوضع لا یرتبط بالأفراد و الخصوصیّات الفردیّة،کما أنّ مفاد لفظ«الإنسان»یکون کذلک،فکما أنّ البدلیّة لا ترتبط بالإطلاق کذلک الشمول لا یرتبط به،بل یتحقّق بینهما نوع من التضادّ؛إذ الإطلاق یدلّ علی الطبیعة و الماهیّة،و مدلول الشمول سریان الأفراد و المصادیق.

و لکنّه لا شکّ فی تحقّق الفرق بین قوله:«الصلاة واجبة»،و قوله:«الصلاة معراج المؤمن»،و قوله: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ، و قوله:«اعتق رقبة»بلحاظ سقوط الأمر و تحقّق الامتثال بالإتیان بفرد واحد من الطبیعة فی بعض الموارد، و تحقّق الحکم فی جمیع مصادیق الطبیعة فی البعض الآخر منها،و هذا الاختلاف مستند إلی الأحکام المتعلّقة بالمطلق،فإنّ نفس تعلّق الحکم التکلیفی به بضمیمة القاعدة العقلیّة المذکورة یهدینا إلی کفایة فرد واحد من طبیعة الصلاة-مثلا-فی مقام الامتثال،و قد تتحقّق قرینة تقتضی تحقّق فرد

ص:448

واحد منها،کقولنا فی مقام الإخبار:«جاءنی الرجل»،فإنّا نعلم خارجا بعدم إمکان مجیء جمیع أفراد الرجل،و صدق الطبیعة بمجیء فرد واحد منها.

و قد یتعلّق به الحکم الوضعی کالحلّیة أو عرض خاصّ،مثل:«الإنسان ضاحک»و مثل:«الإنسان ناطق»و نحو ذلک،ففی هذه الموارد یتحقّق الحکم فی کلّ مورد تتحقّق الطبیعة فیه بدون الفرق بین الأفراد.و المعراجیّة أیضا من هذا القبیل،فلا یرتبط الاختلاف بالإطلاق أصلا،بل منشؤه تعلّق أنواع الحکم بالطبیعة المطلقة.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ ألفاظ العموم وضعت للدلالة علی العموم فی رتبة متقدّمة علی تعلّق الحکم،و لکن استشکل بأنّه لیس لنا لفظ یدلّ علی العموم بحیث یستغنی عن التمسّک بمقدّمات الحکمة،فإنّ الألفاظ الدالّة علیه کلفظة «الکلّ»و أمثالها تابعة لمدخولها،فإن اخذ مطلقا فالکلّ یدلّ علی تمام أفراد المطلق،و إن اخذ مقیّدا فهو یدلّ علی تمام أفراد المقیّد،و المفروض أنّ مدخول الکلّ لیس موضوعا للمعنی المطلق کما أنّه لیس موضوعا للمعنی المقیّد،بل هو موضوع للطبیعة المهملة الغیر الآبیة عن الإطلاق و التقیید،فلا یدلّ قولنا:

«أکرم کلّ عالم»علی إکرام تمام أفراد العالم إلاّ إذا احرز کون العالم الذی دخل علیه لفظ الکلّ مطلقا،و مع عدم إحرازه یمکن أن یکون المدخول هو العالم العادل-مثلا-فیکون لفظ الکلّ دالاّ علی تمام أفراد ذلک المقیّد،و لذا لو صرّح بهذا القید لم یکن تجوّزا أصلا،لا فی لفظ العالم و لا فی لفظ الکلّ.

و أمّا النکرة فی سیاق النفی و ما فی حکمها فلا یقتضی وضع اللفظ إلاّ نفی الطبیعة المهملة،و هی تجامع المقیّدة،کما أنّها تجامع المطلقة،و المحرز لکون الطبیعة المدخولة للنفی هی المطلقة لا المقیّدة هو مقدّمات الحکمة لا غیرها،

ص:449

کما أنّ المحرز لکون الطبیعة المدخولة للفظ الکلّ مطلقة لیس إلاّ تلک المقدّمات؛إذ بدونها یردّد الأمر بین أن یکون النفی واردا علی المطلق و بین أن یکون واردا علی المقیّد،فتتوقّف ألفاظ العموم فی الدلالة علیه بجریان مقدّمات الحکمة و الإطلاق.

و أجاب عنه المحقّق الحائری قدّس سرّه (1)فی کتاب درر الفوائد بما حاصله:أنّ استفادة استیعاب أفراد الرجل من جملة«أکرم کلّ رجل»لا یحتاج إلی مقدّمات الحکمة،فإنّ الظاهر من جعل الرجل عنوانا للموضوع أنّه بنفسه مورد للحکم،و لهذا العنوان مدخلیّة فی الحکم،کما أنّه یستفاد من قوله:«أکرم کلّ رجل»اتّکاء المولی علی عنوان الرجولیّة و نفی عنوان المرأة،کذلک یستفاد منه اتّکاؤه علیه و نفی عنوان العالم و أمثال ذلک،فمفهوم الرجل ینفی عنوان العالمیّة زائدا علی عنوان الرجولیّة کنفیه عنوان المرأة من دون احتیاج إلی مقدّمات الحکمة.

ثمّ ذکر الإشکال النقضی بقوله:و لو لا ذلک لما دلّ قولنا:«أکرم العالم»مطلقا أیضا علی الإطلاق؛إذ الإطلاق أیضا أمر وارد علی مفهوم لفظ العالم، و المفروض أنّه مهمل یجتمع مع المقیّد،و لذا لو قال:«أکرم العالم العادل»مطلقا لم یکن تجوّزا قط،کما ذکرناه فی تقریر الشبهة فی مدخول لفظ الکلّ و النفی،و لا شبهة فی أنّ العرف و العقلاء لا یقفون عند سماع هذا الکلام،و لا یطلبون مقدّمات الحکمة فی مفهوم لفظ العالم الذی ورد الإطلاق علیه،و الحال أنّ لازم هذا الکلام جریان الإطلاق فی الطبیعة المطلقة مرّتان،بعد عدم إمکان جریانه فی الطبیعة المقیّدة بالعدالة و الطبیعة المهملة؛إذ الغرض من جریان الإطلاق نفی

ص:450


1- 1) درر الفوائد:211-212.

مدخلیّة قید العدالة و عدم إمکانها موضوعا للإطلاق فی الاولی،و عدم تمامیّة مقدّمات الحکمة فی الثانیة،فإنّ معنی العالم المهمل عبارة عمّا لا یکون المولی فی مقام بیانه.

و الحاصل:أنّ ألفاظ العموم لا تحتاج فی الدلالة علیه إلی المطلق.

و التحقیق:أنّ هذا الجواب لیس بصحیح؛إذ سلّمنا مدخلیّة عنوان الرجل فی الحکم بلحاظ جعله موضوعا فی کلام المولی،و لذا نعلم بعدم مدخلیّة عنوان المرأة فیه،و لکنّ البحث فی أنّ العنوان المأخوذ فی کلام المولی عبارة عن الرجل أو الرجل العالم،فهذا العنوان مشکوک عندنا.و معلوم أن لفظ الکلّ تابع لمدخوله من حیث السعة و الضیق،و لا یمکن تعیین المدخول بواسطة کلمة الکلّ،و لا طریق لتعیینه سوی الإطلاق و جریان مقدّمات الحکمة.

و الجواب الآخر ما ذکره استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)و هو:أنّ مجری الإطلاق لا یکون قابلا للجمع مع مجری العموم؛لمغایرتهما ماهیّة،فإنّ موضوع الإطلاق عبارة عن نفس الطبیعة بدون أیّ نظارة إلی الأفراد و المصادیق، و البحث فی أنّ الحکم متعلّق بالطبیعة المطلقة أو متعلّق بالطبیعة المقیّدة، و المحرز هنا تمامیّة مقدّمات الحکمة و عدمه،بخلاف العموم فی مثل:«أکرم کلّ عالم»فإنّه یتحقّق فیه التعرّض للأفراد و النظارة إلی المصادیق بالإجمال،و لا فرق من هذه الناحیة بینه و بین تعرّض المصادیق باسمها و خصوصیّاتها مفصّلا.

ثمّ قال:سلّمنا أنّ المولی إذا قال:«أکرم کلّ رجل»قد یتحقّق الشکّ فی أنّ مراده إکرام مطلق الرجل أو إکرام رجل عالم،کما إذا کانت أفراد العالم

ص:451


1- 1) مناهج الوصول إلی علم الاصول 2:232-234.

منحصرة بعشرة علماء و تعرّض المولی فی مقام بیان الحکم لاسم تسعة منهم فقط،فیتحقّق الشکّ فی أنّ إکرام العاشر أیضا هل یکون مقصودا له أم لا؟ و لکن رافع الشکّ هنا عبارة عن الأصل العقلائی بدون الاستناد إلی الإطلاق، و هو أصالة عدم الخطأ و الاشتباه،و هو حاکم بأنّ وجوب الإکرام محدود بما ذکره المولی و لا یکون أزید من ذلک.

و هکذا نقول فی مثل:«أکرم کلّ رجل»بأنّه لو کان مقصود المولی إکرام کلّ رجل عالم مع أنّ مسألة الطبیعة لم تکن فی البین و لا موردا للالتفات-کما هی مورد للالتفات فی الإطلاق-حتّی نتمسّک بالإطلاق،فلا محالة عدم تعرّضه لقید العالم مستند إلی الخطأ،و أصالة عدم الخطأ تحکم بنفیه و استیعاب جمیع أفراد الرجل،نظیر أصالة عدم الزیادة و النقیصة فی الروایات،و هذا الجواب جیّد جدّا.

و لعلّه کان هذا المعنی مراد صاحب الکفایة قدّس سرّه فی بحث النکرة فی سیاق النفی بقوله:«نعم،لا یبعد أن یکون کلمة«کلّ»ظاهرا عند إطلاقها فی استیعاب جمیع أفرادها» (1).

و ربّما عدّ من الألفاظ الدالّة علی العموم النکرة الواقعة فی سیاق النفی مثل:

«لیس فی الدار رجل»،و هکذا اسم الجنس الواقع فی سیاق النفی مثل:«لا رجل فی الدار»،أو النهی بناء علی کونه بمعنی طلب ترک الطبیعة لا بمعنی الزجر عن إیجاد الطبیعة،فمعنی«لا تشرب الخمر»یکون:أطلب منک ترک شرب الخمر،کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه،و من المعلوم أنّ دلالة النکرة علی العموم لا ترتبط بالوضع بخلاف لفظ الکلّ،و لذا قال المحقّق

ص:452


1- 1) کفایة الاصول 1:334.

الخراسانی قدّس سرّه (1):و دلالتها علیه لا ینبغی أن تنکر عقلا؛لضرورة أنّه لا یکاد یکون طبیعة معدومة إلاّ إذا لم یکن فرد منها بموجود،و إلاّ کانت موجودة.

و قد تقدّم مفصّلا توضیح هذه القاعدة العقلیّة فی جانب النفی و الإثبات، و بطلانها فی طرف النفی بأنّ إیجاد الطبیعة إن کان بوجود فرد ما فلا محالة یکون انعدامها بانعدام فرد ما،و لذا لا مانع من اجتماع امور متضادّة من الوجود و العدم فی آن واحد فی الطبیعة بلحاظ الأفراد الموجودة و المعدومة فی الخارج،کما أنّ طبیعة الجسم تتّصف بالسواد و البیاض فی آن واحد بلحاظ الأفراد،فلا دلالة للنکرة فی سیاق النفی علی العموم عقلا.

إن قلت:لا شکّ بیننا و بین وجداننا فی استفادة انتفاء جمیع الأفراد من جملة:«لا رجل فی الدار».

قلت:سلّمنا،و لکنّه مفاد عرفی لها لا عقلی؛إذ العرف یحکم بأنّ الطبیعة لا تنعدم إلاّ بانعدام جمیع الأفراد،فیکون مستند دلالتها علیه القاعدة العرفیّة، و لا یکون معناه التبادر عند العرف حتّی یرجع إلی الدلالة اللفظیّة الوضعیّة.

و لا یخفی أنّ دلالة النکرة الواقعة فی سیاق النفی أو النهی علی العموم یتوقّف علی الإطلاق و جریان مقدّمات الحکمة،بخلاف ألفاظ العموم؛إذ القاعدة المذکورة-سواء کانت عقلیّة أم عرفیّة-لا تعیّن الموضوع،فإنّها بمنزلة الکبری و الموضوع بمنزلة الصغری،و لا یمکن تعیین الصغری بواسطة الکبری، بل لا بدّ من أخذه من الخارج،و لذا نحتاج إلی جریان مقدّمات الحکمة لإحراز أنّ المقصود من«الرجل»مطلق الرجل أو الرجل المقیّد بالعلم،و لا طریق لنا سوی ذلک.

ص:453


1- 1) المصدر السابق.

و الفرق بین ما نحن فیه و مثل:«أکرم کلّ عالم»أنّه لا یتحقّق فی عالم اللفظ هنا إلاّ الطبیعة و نفیها بدون أی نظارة إلی الأفراد و الکثرة،فیدلّ«لا رجل فی الدار»علی نفی وجود الطبیعة فیها،و القاعدة تحکم بأنّه إذا کانت الطبیعة منتفیة فانتفاؤها متوقّف علی انتفاء جمیع الأفراد،فلا بدّ لنا من جریان مقدّمات الحکمة لإحراز إطلاق الطبیعة فی مورد الشکّ،بخلاف«أکرم کلّ عالم»فإنّ لفظ الکلّ هنا یدلّ من ابتداء الأمر علی الأفراد و الکثرة،و لا یکون من الطبیعة أثر و لا خبر،حتّی نحتاج إلی مقدّمات الحکمة فی مورد الشکّ فی أنّ المقصود منه مطلق العالم أو العالم العادل؛لحکومة أصالة عدم الخطأ فی هذا المورد عند العقلاء.

و الأقوال فی دلالة المحلّی باللام-جمعا کان أو مفردا-علی العموم مختلفة، و المشهور أنّ الجمع المحلّی باللام یدلّ علیه،بخلاف المفرد المعرّف باللاّم، و صاحب الکفایة قدّس سرّه قائل بعدم دلالتها علیه رأسا،و یستفاد من بعض الکلمات دلالتها معا علیه،فلا بدّ من البحث فی کلّ منهما علی حدة.

و نقول:أمّا دلالة المفرد المعرّف باللاّم-مثل: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ -علیه وضعا فلیس بصحیح؛لعدم ثبوت وضع اللام و لا مدخوله و لا المرکّب منهما للعموم،و إن لم یکن مانع بحسب مقام الثبوت من وضع المرکّب منهما له،و لکن یتحقّق الدلیل علی خلافه،و هو التبادر و الانسباق إلی الذهن من جملة أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ غیر ما ینسبق إلیه من جملة«أحلّ اللّه کلّ بیع»،بلحاظ تعلّق الحکم فی الاولی بالطبیعة و فی الثانیة بالأفراد.

علی أنّ لازم ذلک انتفاء أکثر الإطلاقات،فإنّها کثیرا ما عبارة عن المفرد المعرّف باللاّم؛لتمسّک الفقهاء فیه بالإطلاق.

ص:454

و یمکن أن یقال:إنّ مراد القائل بدلالة المفرد المعرّف باللام علی العموم هو الإطلاق الشمولی الذی یقول به صاحب الکفایة قدّس سرّه و عدّة من العلماء.

و جوابه:أوّلا:أنّ تقسیم الإطلاق إلی الشمولی و البدلی لیس بصحیح.

و ثانیا:أنّ إنکار مثل صاحب الکفایة قدّس سرّه دلالته علی العموم مع قبول تقسیم الإطلاق دلیل علی بطلان هذا التوجیه.و بالنتیجة:لا یصحّ القول بدلالة المفرد المعرّف باللاّم علی العموم.

و أمّا الجمع المحلّی باللام فأنکر المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)دلالته علی العموم بالتقریب المذکور فی المفرد المعرّف باللام،و لکنّ الظاهر أنّ الوضع الکلّی للجمع المحلّی باللام للدلالة علیه لا یکون قابلا للإنکار،و إلاّ لا بدّ من الالتزام بعدم الفرق بین قولنا: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ و«أحلّ اللّه البیوع»من حیث المفاد، مع أنّ العرف یستفید العموم من الثانی بخلاف الأوّل،فیکون التبادر و الانسباق عند العرف و العلماء دلیلا علی وضعه للعموم،و من مصادیقه کلمة البیوع.

و حینئذ یقع البحث فی أنّ للجمع المحلّی باللام ظهورا فی العام الاستغراقی أو البدلی أو المجموعی،و أنّه من أیّ قسم منه؟

یمکن أن یقال بظهوره فی العام المجموعی بقرینة أنّ مدخول اللام هنا لیس الطبیعة،بل هو عبارة عن الجمع،و دخول اللام علیه یوجب دلالته علی أعلی مراتب الجمع-أیّ العموم-و انتفاء دلالته علی أقلّ مراتبه،و لکنّ حالة الانضمام و الارتباط و الاجتماع بین الأفراد محفوظة،کما أنّ لفظ الجمع مشعر بهذا المعنی،فیکون من العام المجموعی.

ص:455


1- 1) کفایة الاصول 1:334-335.

و لکنّه باطل لبطلان مبناه،و هو تحقّق حالة الانضمام فی الجمع،مع أنّ المولی إذا قال:«أکرم علماء البلد»و تحقّق من المکلّف إکرام الاثنین منهم،لا یقول أحد بأنّه لم یتحقّق منه موافقة أصلا؛لتحقّق الموافقة بالنسبة إلیهما.و إن کان اللازم علیه إکرام الثالث أیضا؛لصدق عنوان أقلّ مراتب الجمع،و العرف أیضا یساعد علی هذا المعنی،و الشاهد علی ذلک عدم تأکیدیّة قولنا:«أکرم مجموع العلماء»مع أنّ القول بدلالة الجمع المحلّی باللاّم علی العام المجموعی مستلزم لذلک،فالإنصاف أنّه یدلّ علی العموم الاستغراقی.

و إذا خصّص العام بالمخصّص المتّصل أو المنفصل المعلوم من حیث المفهوم و المصداق،هل هو حجّة فی الباقی أم لا؟و من البدیهی أنّ الشکّ إذا کان فی أصل التخصیص یصحّ التمسّک بعموم«أکرم العلماء»مثلا،و إذا کان الشکّ فی المخصّص الثانی هل یجوز التمسّک به أم لا؟

توجد هنا ثلاثة أقوال:الأوّل:جواز التمسّک مطلقا،الثانی:عدم جواز التمسّک مطلقا،الثالث:التفصیل بین المخصّص المتّصل و المنفصل بجواز التمسّک فی الأوّل و عدم جوازه فی الثانی.

و منشأ البحث أنّ تخصیص العام مستلزم للمجازیّة فی دلیل العام أم لا؟ و القائل بالاستلزام یقول بأنّ تخصیص العام کاشف عن عدم استعمال«أکرم العلماء»فی معناه الحقیقی من الابتداء،و لازم ذلک عدم التمسّک به؛لأنّا لا نعلم بدائرة المجاز من حیث التوسعة و الضیق،و القائل بعدم الاستلزام یقول باستعمال العام فی صورة التخصیص و عدمه فی معناه الحقیقی و جواز التمسّک به مطلقا.

و القائل بالتفصیل یقول بالاستلزام إذا کان التخصیص منفصلا،و یقول

ص:456

بعدمه إذا کان التخصیص متّصلا،و فی الصورة الثانیة یقول بجواز التمسّک به بخلاف الصورة الاولی.

فلا مناص من البحث و التحقیق فی حقیقة المجاز من باب المقدّمة،و هو عند المشهور کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه:عبارة عن استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له بعلاقة من العلائق المذکورة فی محلّها،و الحقیقة:استعمال اللفظ فی المعنی الموضوع له،فلفظ الأسد-مثلا-إذا استعمل فی الحیوان المفترس یکون استعمالا حقیقیّا،و إذا استعمل فی الرجل الشجاع بعلاقة المشابهة استنادا إلی إجازة الواضع یکون استعمالا مجازیّا،فیکون استعمال اللفظ فیهما بلا واسطة بدون أیّ تصرّف عقلی و معنوی،إلاّ أنّ الاستعمال المجازی یحتاج إلی قرینة.

و قال السکّاکی فی قسم من المجاز-أی الاستعارة،مثل«رأیت أسدا فی الحمّام»-:إنّ اللفظ مستعمل فی معناه الحقیقی،و لکن یتحقّق التصرّف فی أمر عقلی،و هو ادّعاؤه أنّ الرجل الشجاع أیضا من مصادیق الأسد،بمعنی أنّه یتحقّق للأسد فرد حقیقی و هو الحیوان المفترس،و فرد ادّعائی و هو الرجل الشجاع.

و أجود من ذلک ما قال به الشیخ أبو المجد الأصفهانی قدّس سرّه (1)فی کتاب وقایة الأذهان،و محصّل کلامه مع زیادة توضیح:أنّ الداعی للاستعمالات المجازیّة عبارة عن اللطائف و الظرائف و النکت التی لا یمکن إلقاؤها بالاستعمالات الحقیقیّة،و المجاز علی القول المشهور لیس سوی التلاعب بالألفاظ،و لا حسن فیه،مع بعده عن مقام الفصحاء،بل یستلزم فی بعض الموارد للکذب و الغلط، مثل قول الشاعر لمحبوبته:

ص:457


1- 1) وقایة الأذهان:103-135.

قامت تظلّلنی و من عجب شمس تظلّلنی من الشمس

و لو لا إرادة معانی هذه الألفاظ لما کان موقع للتعجّب عن تظلیل محبوبته؛ لأنّه جسم حائل و یمنع الشمس عن الإنسان،فکیف یکون التعجّب من تظلیله؟!و یصحّ التعجّب فیما کانت محبوبته فردا من الشمس ادّعاء،و هکذا فی مثل قوله:أسد علیّ و فی الحروب نعامة...،و مقصوده هنا من الأسد:الأسد الحقیقی،و من النعامة:النعامة الحقیقیّة،و نحو ذلک من الأمثلة.

و کلامه قدّس سرّه یعمّ مطلق المجاز،مرسلا کان أم استعارة،و صرّح أنّ بملاحظة مجموع کلام السکّاکی فی المفتاح یظهر أنّه یعمّ مذهبه أیضا فی مطلق المجاز، و إنّما خصّ الاستعارة بالمثال لأنّها من أشهر أقسامه،و من البعید من مثله أن یفرّق بینهما من غیر فارق أصلا؛إذ الادّعاء الذی بنی علیه مذهبه ممکن فی جمیع أقسام المجاز.

أمّا قوله تعالی: وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی کُنّا فِیها (1)فالمشهور قائل بأنّ المقصود من القریة بعلاقة الحالّ و المحلّ هو أهل القریة،مع أنّه لا حسن فیه و لیس بصحیح،فإنّ مقصود أبناء یعقوب أنّ الدرب و الجدار یشهد بصدقنا و وجدان صواع الملک فی رحل أخینا.

و هکذا فی قولنا حین موت عالم:«کیف لا تظلم الدنیا و قد فقدت الشمس»،و نحو ذلک.

فالتحقیق:أنّ کلام السکّاکی عام یشمل مطلق المجاز.و الفرق بین کلامه و ما ذکرناه أنّه یبنی مذهبه علی أنّ التصرّف فی أمر عقلیّ،و أنّ المستعیر یدّعی أنّ للأسد-مثلا-فردا آخر و هو الرجل الشجاع.

ص:458


1- 1) یوسف:82.

و الاعتراض علیه:أوّلا:أنّ هذا الکلام صحیح فی أسماء الأجناس لکلّیتها و تصوّر الفرد الحقیقی و الادّعائی فیها،بخلاف الأعلام الشخصیّة کقولنا:هو حاتم؛إذ لا یتحقّق لحاتم فردان.

و قال التفتازانی فی مقام توجیه کلامه:إنّ المستعیر یتأوّل فی وضع اللفظ و یجعل حاتم کأنّه موضوع للجواد.

و جوابه:أنّ حاتم صار علما لشخص کذا قبل اتّصافه بصفة الجود،بل بدون التفات الواضع إلی صفة الجود،فکیف یمکن تعمیمه إلی کلّ من یتّصف بهذه الصفة؟!

و ثانیا:أنّ اللفظ فی أسماء الأجناس أیضا موضوع للفرد الواقعی لا الادّعائی،فکیف یمکن توسعته إلیه و یلزم علی ذلک کرّ علی ما فرّ؟!

و لا ترد مثل هذه الإشکالات علی ما ذکرناه،فإنّا نقول:إنّ تلک الألفاظ مستعملة فی معانیها الأصلیّة و مستعملها لم یحدث معنی جدیدا،بل أراد بها معانیها الأوّلیة بالإرادة الاستعمالیّة علی نحو سائر استعمالاته من غیر فرق بینهما فی مرحلتی الوضع و الاستعمال أصلا،و لکن یتحقّق فی الرتبة المتأخّرة عن الاستعمال الادّعاء بأنّ هذا حاتم و هو أسد،و هذا ما یطابقه الوجدان و یعضده البرهان،و لا یعرض علی ذهن مستقیم إلاّ قبله،و لا علی طبع سقیم إلاّ رفضه،هذا تمام کلامه قدّس سرّه مع تلخیص و توضیح،و هو کلام جیّد و قابل للمساعدة کما قال به استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه.

إذا عرفت هذا فنقول:هل یکون تخصیص العام مستلزما لمجازیّته علی هذا المبنی أم لا؟یمکن أن یتوهّم أنّ المولی إذا قال:«أکرم العلماء»ثمّ قال بدلیل منفصل:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»یستفاد من تطبیق العام علی غیر الفاسق

ص:459

أنّ العالم الفاسق کأنّه لیس بعالم ادّعاء.

و لکنّه مردود بأنّ معنی التخصیص محدودیّة الحکم لا الموضوع،کما یشهد له الوجدان و العرف،فإنّ التخصیص نظیر التبصرة فی القانون و لا یکون الادّعاء فی البین،مثل:قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و قوله تعالی: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (2)،و معلوم أنّ کلمة«حرّم»تدلّ علی الحکم الوضعی،کما أنّ الأمر بوجوب الوفاء کنایة عن صحّة البیع،فمعناه أنّه لا یجب الوفاء بعقد الربا؛لکونه شبیه التبصرة فی جنب القانون الکلّی، و لیس معناه أنّ عقد الربا لیس بعقد و لو ادّعاء.

و هذا هو الفرق بین الحکومة و التخصیص،فإنّ الدلیل الحاکم ناظر إلی الدلیل المحکوم و یوجب التوسعة و التضییق فی موضوعه،بخلاف التخصیص فلا یکون التخصیص-متّصلا کان أم منفصلا-من مصادیق المجاز علی هذا المبنی.

و أمّا علی مبنی المشهور-أی کون المجاز عبارة عن استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له-فهل التخصیص مستلزم لمجازیّة العام أم لا؟و المخصّص المتّصل لا یستلزم المجازیّة،فإنّه لیس بمخصّص أصلا،بل هو بمنزلة الوصف،فهو نظیر قولنا:«أکرم العلماء الموصوفین بالعدالة أو الموصوفین بعدم الفسق»،و علی فرض کونه تخصیصا فلا یوجب المجازیّة،فإنّ لازم ذلک استعمال لفظ العلماء فی غیر ما وضع له،و علی هذا یکون الاستثناء باطلا؛لعدم دخول العالم الفاسق فی عنوان العام من الابتداء،فکیف یمکن استثناؤه منه؟!

ص:460


1- 1) المائدة:1.
2- 2) البقرة:275.

إنّما الکلام فی المخصّص المنفصل علی هذا المبنی،یمکن أن یقال:إنّ أمره دائر بین النسخ و المجاز،فإن قلنا باستعمال العام من الابتداء فی علماء غیر الفاسق فهذا استعمال مجازیّ؛إذ الجمع المحلّی باللام الموضوع للعموم استعمل فی غیر ما وضع له.

و إن قلنا باستعماله فی جمیع العلماء فلا بدّ من الالتزام بنسخه بواسطة«لا تکرم الفسّاق»،و هذا خلف،فإنّا نبحث فی التخصیص و هو عدم تعلّق غرض المولی بإکرام العالم الفاسق أصلا.

و النسخ و هو الظاهر من الدلیل المنسوخ باستمرار الحکم و تحقّقه دائما، و یستکشف من الدلیل الناسخ توقیتیّته،و أنّه کان ذا مدّة معیّنة،و لم یذکر لنا مصلحة،فلا مناص هنا إلاّ من الالتزام بالمجازیّة.

و المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)قائل بأنّه لا یستلزم المجازیّة مع تبعیّته للمشهور فی معنی المجاز،و بیانه هنا مع زیادة توضیح:أنّه یمکن الجمع بین الأمرین،بأنّ المراد الجدّی للمولی مقیّد و محدود بإکرام العلماء غیر الفاسقین،و مع ذلک استعمل کلمة«العلماء»فی العموم،فإنّ الإرادة علی قسمین:استعمالیّة و جدّیة، و یجوز استعمال اللفظ فی العموم مع تعلّق الإرادة الجدّیة بالخصوص،و الإرادة الاستعمالیّة تدور مدار الاستعمال و التفهیم و التفهّم فی عالم اللفظ.

إن قلت:ما فائدة التفکیک بین المراد الجدّی و الاستعمالی فی هذه الموارد؟ و لما ذا لا یقول من الابتداء:أکرم العلماء الموصوفین بعدم الفسق؟

و جوابه یحتاج إلی مقدّمة،و هی:أنّه لا یکون للشارع فی مقام جعل القانون طریق خاصّ غیر ما هو المتداول بین العقلاء،کما أنّه یکون کذلک فی

ص:461


1- 1) کفایة الاصول 1:336-337.

مقام التفهیم و التفهّم أیضا،فلا فرق فی کیفیّة التقنین بین الشارع و العقلاء من حیث جعل القانون بصورة العام،ثمّ إخراج بعض الموارد عنه بصورة التخصیص و التبصرة للمصالح أو المفاسد المقتضیة لذلک.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ فائدة جعل القانون بهذه الکیفیّة عبارة عن التمسّک بالعام فی غیر مورد التخصیص،فلا یراد من استعمال العام فی العموم إلاّ تأسیس قاعدة یرجع إلیها فی ظرف الشکّ،لا أنّ العموم مراد جدّی للمتکلّم،و هذا مختصّ بمقام التقنین،مع أنّه یتحقّق التناقض بین العام و الخاص من حیث المنطق،فإنّ نقیض الموجبة الکلّیة هو سالبة جزئیّة،کما أنّه یتحقّق التضادّ بینهما فی مقام الإخبار.

و أمّا فی مقام التقنین فیتحقّق بینهما الجمع الدلالی،و لذا یصحّ تخصیص عمومات القرآن بخبر واحد معتبر،فیصحّ التفکیک بین الإرادتین و المراد الجدّی و الاستعمالی بهذا البیان.

و یتحقّق هذا المعنی فی الأوامر الاختیاریّة أیضا؛إذ لا شکّ فی أنّ مراد الوالد-مثلا-من قوله:«ادخل السوق و اشتر اللحم»هو معناه الحقیقی حین الاستعمال،أی انبعاث ولده إلی المبعوث إلیه،مع أنّ مراده الجدّی هو الاختبار لا الانبعاث الحقیقی،هذا توضیح کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و لکن أشکل علیه المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)ثمّ ذکر طریقا آخر للتخلّص من المجاز،و إشکاله:أنّ التفکیک بین الإرادة الجدّیة و الاستعمالیّة لیس بصحیح، فإنّ مراد المولی من قوله:«أکرم العلماء»إن کان العموم فاستعمل لفظ العام و أراد منه معناه الحقیقی،فالمراد الجدّی و الاستعمالی واحد،و إن کان مراده

ص:462


1- 1) فوائد الاصول 1:517.

غیره فمعناه استعمال لفظ له ظهور و لم یرد ما هو مقتضی ظاهره بدون أیّ قرینة،فلا محالة یعبّر عنه بالهازل،نظیر قوله:«رأیت أسدا»و استعماله فی الرجل الشجاع بدون قرینة.

و جوابه:أنّ منشأ هذا الإشکال غفلته عن أنّ التفکیک بین الإرادتین لا یصحّ إلاّ فی مقام التقنین و نظائره،مثل:مقام الاختبار،لا فی جمیع الاستعمالات،کما صرّح صاحب الکفایة قدّس سرّه بعدم صحّته فی مقام الإخبار؛إذ یحکم العرف بالتناقض بین قولنا:«ما جاءنی من القوم أحد»،و قولنا:«جاءنی من القوم زید»،و إن ادّعینا أنّ مرادنا الجدّی هو عدم مجیء القوم سوی زید، و هکذا لا یصحّ فی مثل:«رأیت أسدا».

و أمّا دلیله علی عدم استلزام التخصیص للمجازیة فی العامّ فهو:أنّ المولی إذا قال:«أکرم کلّ عالم»ثمّ قال بدلیل منفصل:«لا تکرم الفسّاق من العلماء» فلا یتوهّم المجازیّة فی کلمة الکلّ؛لدلالتها علی استیعاب أفراد مدخوله بدلالة وضعیّة لفظیّة،بلا تفاوت بین سعة دائرة المدخول أو ضیقه،فإنّها تکون فی کلا المقامین بمعنی واحد.

و هکذا فی لفظ العالم فإنّه استعمل فی طبیعة مهملة،و تکون قابلة للجمع مع کلّ قید،و قیّدها بقوله:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»نظیر قوله:«أکرم کلّ عالم عادل»؛إذ یحتمل هنا استعمال لفظ العالم فی الطبیعة المرسلة،و یحتمل استعماله فی الطبیعة المقیّدة بالعدالة،و یحتمل استعماله فی الطبیعة المهملة،و الأوّل مستلزم للتناقض؛لعدم إمکان تقیید الطبیعة المرسلة الشاملة لجمیع الأفراد بالعدالة،و الثانی لا یمکن الالتزام به؛لأنّ معناه عدم دلالة لفظة«العادل»معنی زائدا علی مدلول لفظ«العالم»،بل هی قرینة لاستعمال لفظ«العالم»فی

ص:463

خصوص العالم العادل،و لذا یتعیّن الاحتمال الثالث،یعنی استعماله فی الطبیعة المهملة،و الخصوصیّة إنّما استفیدت من لفظة عادل،فلم یستعمل العالم إلاّ فی معناه،بلا فرق بین أن یکون القید متّصلا أو منفصلا أو لم یذکر تقیید أصلا، فمن أین تأتی المجازیّة؟و أیّ لفظ لم یستعمل فی معناه حتّی یتوهّم المجازیّة فیه؟

و التحقیق:أنّ المقایسة بین المخصّص المتّصل و المنفصل لیست صحیحة؛إذ یجوز للمتکلّم أن یلحق بکلامه ما شاء ما دام مشتغلا به،و بعد الفراغ منه یتحقّق له ظهور،فإن ذکر کلمة«یرمی»-مثلا-بعد جملة:«رأیت أسدا» فبأصالة الظهور یحکم أنّ المراد هنا هو الرجل الشجاع،و إن لم یذکر کلمة یرمی بعدها،فیحکم بأنّه أراد منه معناه الحقیقی بدون أیّ حالة انتظاریّة.

و هکذا فیما نحن فیه،فإنّا نعلم فی مثل قوله:«أکرم کلّ عالم عادل»بدلالة لفظة«العالم»علی الطبیعة المهملة،و تقییدها بکلمة«العادل»بحکم أصالة الظهور.إنّما الإشکال فی مدلول قوله:«أکرم کلّ عالم»قبل بیان المخصّص بدلیل منفصل،بأنّه استعمل فی العموم أو فی خصوص العادل،و ما هو المراد الجدّی منه؟

إن قلنا باستعماله فی العموم فلا بدّ من الالتزام بالتناقض و التنافی بین العامّ و الخاصّ،مع أنّه یتحقّق بینهما الجمع الدلالی بلا شبهة،و معناه عدم تحقّق التهافت و التعارض.

و إن قلنا باستعماله فی عالم عادل و هذا الاستعمال لو لم یکن غلطا لعدم تحقّق أیّ علاقة من علائق المجاز فلا بدّ من الالتزام بالمجاز؛لعدم کونه استعمالا حقیقیّا،و هو کرّ علی ما فرّ منه،کما لا یخفی.

و احتمال استعماله فی الطبیعة المهملة مردود بأنّه مستلزم لعدم تحقّق أصالة

ص:464

العموم،مع أنّ المفروض مرجعیّتها فی موارد الشکّ.و إذا استعمل فی الطبیعة المهملة فکیف یمکن التمسّک بها فی مورد الشکّ فی التخصیص؟فلا بدّ من تحقّق المراد الجدّی المشخّص،فإن کان هو عموم العلماء فهذا یباین التخصیص،و إن کان هو خصوص العالم العادل،فلو لم یکن غلطا فلا أقلّ من المجاز.

و الحاصل:أنّ التخصیص لا یستلزم المجازیّة فی العامّ علی المبنی الذی اخترناه تبعا للإمام و الشیخ أبو المجد قدّس سرّهما،و هکذا علی ما اختاره صاحب الکفایة قدّس سرّه فی طریق التخلّص من المجاز،و لذا یصحّ التمسّک بالعامّ فی مورد الشکّ فی التخصیص الثانی،کما أنّه یصحّ التمسّک به فی مورد الشکّ فی أصل عروض التخصیص.

و أمّا علی القول باستلزامه للمجازیّة فلا یصحّ التمسّک به فی مورد الشکّ فی التخصیص الثانی،فإنّ دائرة المجاز وسیعة؛إذ یحتمل أن یکون المراد من المجاز العالم العادل الهاشمی،و یحتمل أن یکون المراد منه العالم العادل الفقیه،و هکذا، و هو فی مقابل الحقیقة نظیر الکذب فی مقابل الصدق من حیث کثرة المصادیق،فلا تبقی حجّیّة للعامّ بعد التخصیص المستلزم للمجازیّة.

ص:465

ص:466

فصل: فی المخصّص المجمل

اشارة

فی المخصّص المجمل

و إجمال المخصّص من حیث المفهوم قد یکون لتردّده بین الأقلّ و الأکثر،کما إذا خصّص«أکرم العلماء»ب«لا تکرم الفسّاق منهم»،و دوران مفهوم الفاسق بین مرتکب مطلق المعصیة،و بین مرتکب خصوص الکبیرة،و قد یکون لتردّده بین المتباینین کما إذا خصّص العام المذکور ب«لا تکرم زیدا»و کونه مردّدا بین شخصین،و علی کلا التقدیرین قد یکون المخصّص متّصلا،و قد یکون منفصلا.

أمّا إذا کان التردید بین الأقلّ و الأکثر فی المخصّص المتّصل کقولنا:«أکرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم»فالشکّ فی إطلاق عنوان الفاسق و عدمه علی مرتکب الصغیرة منهم فی لسان الشریعة،و أنّ إکرامه واجب أم لا.

و معلوم أنّه لا یصحّ التمسّک بأصالة العموم لإثبات وجوب الإکرام،فإنّه بمنزلة الصفة،فإذا قال المولی:«أکرم العلماء العدول»-مثلا-و شککنا فی صدق عنوان العلماء علی العالم بالعلوم العربیّة-مثلا-فلا شکّ فی عدم جواز التمسّک بالعامّ لإثبات وجوب الإکرام،فإنّه فرع إحراز العالمیّة،و هکذا إن شککنا فی صفته فإنّ التمسّک بعموم«أکرم العلماء العدول»فرع إحراز العدالة،

ص:467

و هکذا فیما نحن فیه،مع أنّ إطلاق عنوان التخصیص علیه مسامحة،فإنّه لیس بمخصّص أصلا کما مرّ.

علی أنّ أصالة العموم مصداق من مصادیق أصالة الظهور،و لا ظهور للکلام فی العموم فی هذا الفرض حتّی یتمسّک به لرفع التردید،فالمرجع هنا أصالة البراءة.

و أمّا إذا کان التردید بین الأقلّ و الأکثر فی المخصّص المنفصل کقول المولی الیوم:«أکرم العلماء»-مثلا-و قوله غدا:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»،فهل یصحّ التمسّک بأصالة العموم لإثبات وجوب الإکرام للفرد المشکوک الفسق مثل مرتکب الصغیرة،أم لا؟

و التحقیق:

أنّه یصحّ التمسّک بها کما قال به الأعاظم،فإنّ العامّ قد انعقد له ظهور فی العموم،و المخصّص المنفصل لا یمنع ظهوره فیه،و المانع منه عبارة عن قرینة متّصلة بالکلام،و مع عدمها ینعقد الظهور،و تقدیم الخاصّ فی مورده علی العامّ یکون تقدیما للأقوی و الأظهر علی الظاهر،لا أنّه ینکشف من عدم انعقاد الظهور له،و لذا یکون الخاصّ حجّة فی خصوص الفرد المعلوم الفسق کمرتکب الکبیرة،فلا یصحّ التمسّک بدلیل خاصّ لإثبات حرمة إکرام مرتکب الصغیرة للشکّ فی فردیّته للخاصّ،و یصحّ التمسّک بعموم العام الذی انعقد له ظهور فی العموم.

هذا،و لکنّ المحقّق الحائری قدّس سرّه (1)قائل بأنّه بعد ما صارت عادة المتکلّم جاریة علی ذکر التخصیص منفصلا عن کلامه فحال المخصّص المنفصل فی کلامه حال المتّصل فی کلام غیره فی الاحتیاج إلی إحراز عدم المخصّص

ص:468


1- 1) درر الفوائد:215.

المنفصل عند التمسّک بعموم کلامه،و لازم ذلک الإجمال فیما نحن فیه لعدم إحراز عدم التخصیص بالمنفصل،و نوع المخصّصات فی لسان الشرع تکون کذلک، و لذا لا یصحّ التمسّک بالعمومات الواردة فی الشریعة.

و جوابه:أنّ مراده إن کان التنزیل فی جمیع الخصوصیّات یعنی حال المخصّص المنفصل فی کلامه حال المتّصل فی کلام غیره فی جمیع الأحکام و الخصوصیّات فهو مستلزم لعدم جواز تمسّک أصحاب الأئمّة علیهم السّلام بکلام إمام زمانهم؛لأنّه کالتمسّک بصدر کلام متکلّم قبل مجیء ذیله،فحیث جری دیدنهم علی التمسّک دلّ ذلک علی استقرار ظهور الکلام و عدم کونه مع کلام الإمام اللاّحق کصدر الکلام الواحد الصادر فی مجلس واحد مع ذیله،کما صرّح به فی تعلیقته.

و إن کان مراده التنزیل فی بعض الخصوصیّات فلا أثر له فیما نحن فیه، و لکنّ التمسّک به متوقّف علی الفحص عن المخصّص،بخلاف العامّ المخصّص بالمتّصل.

و إذا خصّص العامّ بمخصّص متّصل و کان مردّدا بین المتباینین-کقول المولی:«أکرم العلماء إلاّ زیدا»مع کونه مشترکا لفظا بین شخصین-و لا توجد قرینة فی الکلام لبیان مراده،فلا یجوز التمسّک بالعامّ لإثبات وجوب إکرامهما؛ لعدم انعقاد ظهور للعامّ فی العموم بالنسبة إلی المورد الخاصّ کما تقدّم فی المخصّص المتّصل المجمل المردّد بین الأقلّ و الأکثر؛لسریان إجمال المخصّص إلیه، و لذا تجری أصالة البراءة عن وجوب إکرامهما معا.

و أمّا إذا خصّص العامّ بمخصّص منفصل و کان أمره دائرا بین المتباینین -کقوله:«لا تکرم زیدا العالم»عقیب قوله:«أکرم العلماء»-فهو لا یکون مانعا

ص:469

عن انعقاد ظهور العامّ بلا إشکال،و بیان المخصّص المنفصل قد یکون بصورة نفی حکم العام کقوله:«لا یجب إکرام زید العالم»،و هذا نظیر المخصّص المتّصل، و قد یکون بصورة التحریم کقوله:«یحرم إکرام زید العالم»،مع أنّه لا تتصوّر صورتان فی المخصّص المتّصل؛إذ الاستثناء من الإثبات نفی و من النفی إثبات، و لا یتصوّر أمر ثالث.

فإذا کان بیان المخصّص المنفصل بصورة التحریم کقوله:«یحرم إکرام زید» بعد قوله:«أکرم العلماء»مع کونه مردّدا بین شخصین،فکلّ واحد منهما یحتمل أن یکون واجب الإکرام،و یحتمل أن یکون محرّم الإکرام،فالأمر دائر بین المحذورین،و المرجع هنا عبارة عن أصالة التخییر،أی العقل یحکم بأخذ جانب الفعل أو الترک.

و إذا کان بیان المخصّص بصورة نفی حکم العامّ کقوله:«لا یجب إکرام زید العالم»فلا شبهة فی مانعیّة الدلیل الخاصّ عن التمسّک بأصالة العموم؛لکونه حجّة أقوی؛إذ التمسّک بها فی مورد کلا الشخصین خلاف التخصیص،و فی مورد واحد منهما ترجیح بلا مرجّح،فلا محالة تصل النوبة إلی الأصل العملی بعد عدم إمکان التمسّک بالأصل اللفظی،و یتحقّق هنا مبنی أصالة الاشتغال و البراءة معا،و مبنی الاشتغال أنّه یتحقّق اشتغال ذمّة المکلّف بتکلیف عامّ بعد قوله:«أکرم العلماء»،و بعد قوله:«لا یجب إکرام زید العالم»نشکّ فی براءة الذمّة لو ترکنا إکرام زید بن بکر،و هکذا لو ترکنا إکرام زید بن عمرو-مثلا- بلحاظ إجمال المخصّص،و نفی الوجوب فقط عن إکرام زید العالم،و لا بدّ من البراءة الیقینیّة عند اشتغال الذمّة یقینا،و هی تحصل بإکرامهما معا عملا،لا أنّه یجب إکرامهما معا،فإنّه مستلزم للغویّة دلیل المخصّص،و إکرامهما معا عملا

ص:470

لا ینافی الدلیل المخصّص.

و مبنی البراءة أنّ بعد عدم صحّة التمسّک بالدلیل الخاص بلحاظ إجماله و عدم صحّة التمسّک بأصالة العموم بلحاظ المغلوبیّة بحجّة أقوی،فیرجع الشکّ فی وجوب إکرام کلّ من الشخصین إلی الشکّ فی التکلیف،و هو مجری أصالة البراءة.

و لکنّ التحقیق القول بالتفصیل بین العام الاستغراقی و المجموعی،بأنّ العام إن کان مجموعیّا-و معناه توجّه تکلیف واحد إلی المکلّف و تحقّق موافقة واحدة-فلا بدّ من إکرامهما معا؛إذ العلم بموافقة التکلیف متوقّف علی إکرامهما معا،و هو لا ینافی الدلیل المخصّص.

و إن کان استغراقیّا-و معناه تحقّق حکم مستقلّ لکلّ واحد من أفراد طبیعة العالم-فبعد إکرام بقیّة العلماء یرجع الشکّ فی وجوب إکرام کلّ من الشخصین إلی الشکّ فی التکلیف،و هو مجری البراءة،و معلوم أنّه لا یتحقّق هنا العلم الإجمالی الوجدانی حتّی یلزم اکرامهما معا،بل تتحقّق أصالة العموم،و بعد مغلوبیّتها بحجّة أقوی لا یبقی لها ظهور.

توضیح ذلک:أنّه کما أنّ العلم الإجمالی بخمریّة أحد الإناءین یوجب الاجتناب عن الإناءین المشتبهین،کذلک تحقّق البیّنة الشرعیّة علی خمریّة أحدهما یوجب اجتنابه،فیکون کلاهما موضوع لأصالة الاشتغال،و مع ذلک یکون ما نحن فیه مجری للبراءة؛إذ لا شکّ فی تحقّق أصالة العموم،و لکن بعد تخصیصها و تردید المخصّص بین الشخصین یتحقّق العلم الإجمالی بعدم حجّیّتها بالنسبة إلی واحد منها،و التردید یوجب عدم حجّیّتها بالنسبة إلیهما معا،أی تساقط أصالة العموم بالنسبة إلیهما.

ص:471

کما أنّه مقتضی القاعدة فی باب التعارض سواء کان التعارض بالذات -مثل:نفی مفاد کلّ واحد من الدلیلین مفاد الآخر-أو بالعرض-مثل:أن یکون مفادهما قابلا للجمع و لکنّا نعلم خارجا بکذب أحدهما-و سواء کان التعارض بین الخبرین أو بین البیّنتین،و هکذا فیما نحن فیه،فبعد العلم الإجمالی بعدم حجّیّة أصالة العموم بالنسبة إلی واحد منهما تقتضی القاعدة تساقطها بالنسبة إلیهما،فتجری أصالة البراءة عن وجوب إکرامهما معا.

تتمّة:

إذا قال المولی:«أکرم أیّ عالم شئت»،ثمّ قال بدلیل منفصل:«لا یجب إکرام زید العالم»و کونه مردّدا بین شخصین،فالظاهر أنّه یلحق بالعامّ المجموعی؛إذ یتحقّق هنا أیضا تکلیف واحد،و لا یکفی إکرام أحدهما فی مقام الامتثال؛لاحتمال کون کلّ واحد منهما مورد دلیل المخصّص،و الموافقة الیقینیّة متوقّفة علی إکرامهما معا،فیکون هنا مجری أصالة الاحتیاط.هذا تمام الکلام فی الشبهات المفهومیّة.

و إذا کان المخصّص مجملا بحسب المصداق کما لو لم نعلم أنّ العالم الفلانی ارتکب معصیة کبیرة حتّی یکون فاسقا أم لا؟فلا کلام فی عدم جواز التمسّک بالعامّ لو کان متّصلا به،فإنّ التمسّک بکلّ دلیل فرع إحراز موضوعه خارجا بلا فرق بین أدلّة الأحکام الوجوبیّة و التحریمیّة،فإذا شککنا فی خلّیّة مائع و خمریّته-مثلا-لا یجوز التمسّک بعموم«لا تشرب الخمر»؛لأنّ المرجع هنا أصل عملی،و هو الاحتیاط عند بعض العلماء،و البراءة العقلیّة عند بعض آخر،و لکنّ عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة متّفق علیه عند الکلّ.

مع أنّ المخصّص المتّصل بمنزلة الوصف،و لا ظهور لجملة«أکرم العلماء إلاّ

ص:472

الفسّاق منهم»فی العموم من الابتداء،فیکون للمولی حکم واحد،و هو وجوب الإکرام،و متعلّقه العالم الذی لا یکون فاسقا،فکما أنّه لا یجوز التمسّک ب«أکرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم»إذا شککنا فی عالمیّة زید،کذلک لا یجوز التمسّک به،و أمّا إذا شککنا فی عدالته و ارتکابه الکبیرة حتّی یکون فاسقا أم لا،فالمرجع هو الاصول العملیّة،و هذا ممّا لا شبهة فیه،و لا یحتاج إلی بحث زائد.

إنّما الکلام فی المخصّص المنفصل کما لو قال المولی:«أکرم العلماء»ثمّ قال بعد مضیّ زمان:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»،فلا خلاف فی عدم جواز التمسّک بعموم«أکرم العلماء»إن شککنا فی عالمیّة زید،و هکذا لا خلاف فی عدم جواز التمسّک بعموم«لا تکرم الفسّاق من العلماء»إن شککنا فی فسق زید العالم،و جواز التمسّک بعموم«أکرم العلماء»فی هذه الصورة و عدمه مختلف بین العلماء،و نری فی کتاب العروة التمسّک بالعام فی شبهة مصداقیّة المخصّص فی موارد.

و المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)قائل بأنّ المخصّصات المنفصلة ترجع إلی المخصّصات المتّصلة،و لذا لا یجوّز التمسّک بالعام،فإنّ المخصّص المنفصل یکشف من کون المراد من العلماء هو العلماء المتّصفون بعدم الفسق،و إلاّ لا فرق بین النسخ و التخصیص،و لذا لا یجوز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة،سواء کان المخصّص متّصلا أم منفصلا؛لعدم الفرق بینهما من حیث الماهیّة و الظهور و الاستعمال.

و لکنّه قد تقدّم التفکیک بین الإرادة الجدّیّة و الاستعمالیّة،و أنّه یتحقّق فیما

ص:473


1- 1) فوائد الاصول 1:525-526.

کان المخصّص منفصلا دلیلان و ظهوران،و لذا لا بدّ لنا من أخذ طریق آخر هنا.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّ غایة ما یمکن أن یقال فی وجه جواز التمسّک بالعام هنا:إنّ المخصّص إذا کان منفصلا ینعقد للعام ظهور فی العموم،و لا مانع عن حجّیّته إلاّ بالنسبة إلی ما یکون الخاصّ حجّة فعلیّة فیه،و هو الأفراد التی یعلم انطباق الخاصّ علیها،و لا یکون الخاصّ حجّة فیما اشتبه أنّه من أفراده، کالعالم المشکوک الفسق حتّی یزاحم حجّیّة العامّ،فیجوز التمسّک بالعامّ فیه؛ لکونه من أفراده التی لم یثبت خروجها عن حکمه،و لا یکون فی مقابله حجّة أقوی منه.

ثمّ قال:و هو فی غایة الفساد.

و توضیح کلامه یحتاج إلی بیان مقدّمة،و هی:أنّ اتّصاف الدلیل بالحجّیّة بمعنی إمکان احتجاج المولی به علی المکلّف و بالعکس یحتاج إلی تحقّق ثلاثة مراحل:

الاولی:أن یکون له ظهور،و لا یکون مجملا أو مشترکا بلا قرینة.

الثانیة:أن تتحقّق أصالة الظهور،بمعنی استعمال المتکلّم للفظ فی معناه الظاهر.

الثالثة:أن تتحقّق أصالة التطابق بین الإرادة الاستعمالیّة و الجدّیّة،و إن لم تتحقّق مرحلة منها فلا یمکن الاحتجاج به.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ العامّ إن کان خالیا عن المخصّص تتحقّق فیه جمیع المراحل المذکورة،و تخصیصه یوجب عدم تحقّق المرحلة الثالثة فیه؛إذ هو

ص:474


1- 1) کفایة الاصول 1:342.

یکشف عن کون المراد الجدّی و موضوع وجوب الإکرام فی العامّ هو العالم غیر الفاسق فقط و إن کان المراد الاستعمالی عموم العلماء،و یتحقّق فی دلیل خاصّ جمیع المراحل المذکورة-و المراد من الاستعمالی و الجدّی فیه عبارة عن عدم وجوب إکرام الفسّاق من العلماء-ففی العالم المشکوک الفسق کما أنّه لا یمکن التمسّک بدلیل خاصّ لعدم إحراز موضوعه و احتمال کونه غیر الفاسق، کذلک لا یمکن التمسّک بدلیل عامّ لتضییق دائرة المراد الجدّی فیه و احتمال کونه فاسقا،بلا فرق بینهما.

إن قلت:إنّه قد مرّ فی الشبهة المفهومیّة إذا کان إجمال المخصّص دائرا بین الأقلّ و الأکثر فإنّه یصحّ التمسّک بالعامّ فی الفرد المشکوک الفسق،مثل:مرتکب الصغیرة،فلم لا یقال هنا:إنّه کما لا یصحّ التمسّک بدلیل خاصّ کذلک لا یصحّ التمسّک بالعامّ؛إذ المراد الجدّی فیه بعد التخصیص محدود بالعالم غیر الفاسق، فما الفرق بین المقامین؟

قلت:إنّ الشبهة المفهومیّة-سواء کان التردید فی المخصّص بین المتباینین أو بین الأقلّ و الأکثر-لا یتحقّق فیها أصل الظهور-یعنی المرحلة الاولی من المراحل المذکورة-إلاّ أنّ التردید إذا کان بین الأقلّ و الأکثر فتتحقّق جمیع المراحل بالنسبة إلی القدر المتیقّن یعنی مرتکب الکبیرة،و أمّا بالنسبة إلی مرتکب الصغیرة فلا یتحقّق أصل الظهور،و معنی الخاصّ یرجع إلی أنّه لا تکرم العالم الذی یرتکب الکبیرة،و فی مرتکب الصغیرة نشکّ فی أصل التخصیص،فلا مناص من التمسّک بالعام.بخلاف ما نحن فیه لکون الشبهة مصداقیّة،و لا یستلزم خروج زید-مثلا-لقلّة التخصیص و لا دخوله لکثرة التخصیص،فلا تصحّ المقایسة بین المقامین.

ص:475

هذا کلّه فی المخصّص اللفظی،و أمّا فی المخصّص اللبّی-بأن لا یکون فی الکلام إلاّ العامّ،لکنّ العقل یدرک أنّ المتکلّم لا یرید بعض أفراده-فهل یجوز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة أم لا؟

فصّل صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی ذلک،و حاصل تفصیله:أنّ الخاصّ اللبّی علی قسمین:

أحدهما:أنّ الخاصّ اللبّی إن کان ممّا یصحّ عرفا أن یتّکل علیه المتکلّم بأن یکون حکما عقلیّا ضروریّا؛بحیث یعدّ عرفا من القرائن المتّصلة المانعة عن انعقاد ظهور للعامّ فی العموم و الموجبة لظهوره فی الخاصّ من أوّل الأمر، فهو کالخاصّ المتّصل اللفظی فی عدم جواز التمسّک بالعامّ لإحراز حکم الفرد المشکوک.

و ثانیهما:أنّ الخاصّ اللبّی إذا لم یکن حکما عقلیّا ضروریّا بأن کان نظریّا متوقّفا علی الدقّة و الالتفات فیجوز التمسّک فیه بالعامّ،فإنّه ظاهر فی العموم، و هذا الظاهر حجّة ما لم تقم قرینة علی خلافه،فیبقی العامّ علی حجّیّته فی المصداق المشتبه.

و السرّ فی ذلک:أنّ الکلام الملقی من السیّد هنا لیس إلاّ کلاما واحدا و حجّة واحدة،و هو العامّ الظاهر فی العموم،فلا بدّ من اتّباعه ما لم یقطع بخلافه.

مثلا:إذا قال المولی:«أکرم جیرانی»و قطع المکلّف بأنّه لا یرید إکرام من کان عدوّا له منهم،کانت أصالة العموم باقیة علی الحجّیّة بالنسبة إلی من لم یعلم بخروجه عن عموم الکلام؛للعلم بعداوته؛لعدم حجّة اخری بدون ذلک علی خلافه،ففی الفرد المشکوک العداوة یرجع إلی العامّ؛إذ الخارج عن حیّز

ص:476


1- 1) کفایة الاصول 1:343-344.

العامّ هو معلوم العداوة فقط،و مشکوک العداوة لم یخرج عن حیّزه.

بخلاف ما إذا کان المخصّص لفظیّا؛إذ السیّد هنا ألقی إلی عبده حجّتین -و هما العامّ و الخاصّ-و نسبة الفرد المشتبه إلیهما متساویة،و لا مرجّح لاحتمال فردیّته لأحدهما بالخصوص،فلا یصحّ التمسّک بأحدهما لاندراجه تحته، و القطع بعدم إرادة العدوّ لا یوجب انقطاع حجّیّته إلاّ فیما قطع أنّه عدوّه،لا فیما شکّ فیه،کما یظهر صدق هذا من صحّة مؤاخذة المولی لو لم یکرم واحدا من جیرانه؛لاحتمال عداوته له،و حسن عقوبته علی مخالفته،و عدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة.

ثمّ ذکر فی ذیل کلامه تقریبا آخر،و هو:أنّ ما یرتبط بباب الألفاظ من أصالة الظهور و أصالة العموم مسائل عقلائیّة،و السیرة المستمرّة المألوفة بین العقلاء التی هی ملاک الحجّیّة هنا قد استقرّت علی حجّیّة أصالة الظهور بالنسبة إلی الفرد المشتبه فی المخصّص اللبّی دون المخصّص اللفظی،و هذا یکفینا، و لا یلزم السؤال عن دلیل الفرق بینهما.هذا تمام کلامه قدّس سرّه مع زیادة توضیح.

و التحقیق:أنّ ما ذکره أخیرا کلام صحیح إن احرز الفرق بینهما عندهم واقعا،إنّما الکلام فی أصل الإحراز الذی تحتاج المسائل العقلائیّة إلیه،و إن شکّ فیه فلا یمکن القول بالفرق بینهما،فلا بدّ من البحث هنا علی طبق الضوابط.

و حینئذ نرجع إلی ما ذکره قدّس سرّه فی صدر کلامه من أنّ الحجّة الصادرة من المولی واحدة،و هی قوله:«أکرم کلّ جیرانی»،و احتمال عداوة زید-مثلا-لا یکون عذرا لترک إکرامه،و لا بدّ من اتّباع الحجّة ما لم تقم قرینة علی خلافها.

و نقول:إنّه غیر قابل للمساعدة بعد الالتفات إلی أمرین:

الأوّل:أنّ حجّة المولی لا تنحصر بالحجّة اللفظیّة،بل الحجّة اللبّیة أیضا

ص:477

حجّته،کحجّیّة القطع فی مقابل دلیل المولی.

الثانی:أنّ إدراک العقل بالنسبة إلی عدم وجوب إکرام عدوّ المولی إدراک کلّی،فإنّه یدرک الکبریات الکلّیة،و لعلّه حین الإدراک لا یلتفت إلی المصادیق، و علی هذا لا فرق بین المخصّص اللفظی و المخصّص اللبّی فی عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة.

و استدلّ المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)لعدم جواز التمسّک به هنا بأنّ اتّصاف کلام المولی بالحجّیّة یرتبط بالدلالة التصدیقیّة لکلامه،و تتحقّق الدلالة التصدیقیّة له فیما تحقّق له القصد و المراد الجدّی،فالحجّیّة تتوقّف علی کون المولی فی مقام بیان مراده،و لا یمکن بیان المراد إلاّ بعد تصوّره،فإذا شکّ المولی فی عالمیّة زید -مثلا-فکیف یمکن له تصوّر وجوب إکرامه؟!و حینئذ لا یمکن اتّصاف کلام المولی بالحجّیّة بالنسبة إلیه.هذا تمام کلامه فی کتاب المقالات.

و یرد:أوّلا:أنّ الأحکام الصادرة عن المولی کلّیّة،و إذا احرز له تحقّق مصلحة فی إکرام کلّ عالم یحکم بوجوب الإکرام بصورة کلیّة،و لا یلزم علیه العلم بالأفراد و المصادیق و تعدادها،و إن کان العامّ ناظرا إلی أفراد الطبیعة و لکنّها نظارة إجمالیّة لا تفصیلیّة فاللازم علیه تصوّر وجوب إکرام کلّ عالم، لا تصوّر وجوب إکرام زید مثلا،نظیر إدراکات العقل.

و ثانیا:أنّه قدّس سرّه خرج عن محلّ النزاع،فإنّا نبحث فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص،و لکنّه ذکر الشبهة المصداقیّة للعام بعنوان المثال،و هو الشکّ فی عالمیّة زید،و نحن أیضا نقول هنا بعدم جواز التمسّک بالعام.

و ثالثا:أنّ النزاع فی شکّ المکلّف لا فی شکّ المولی؛إذ لا یکون بیان

ص:478


1- 1) مقالات الاصول 1:443.

الموضوع بعهدة المولی،و لا یکون رافعا للشکّ فی الشبهة المصداقیّة.فما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه لعدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة للمخصّص قابل للمساعدة،من توقّف الحجّیّة علی مراحل ثلاثة و فقدان بعضها هنا.

و المحقّق النائینی قدّس سرّه ذکر تفصیلا بین المخصّص اللفظی و اللبّی غیر ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه،و هو:أنّ المخصّص اللبّی إن کان من العناوین التی لا تصلح إلاّ أن تکون قیدا للموضوع و لم یکن إحراز انطباق ذلک العنوان علی مصادیقه من وظیفة الآمر و المتکلّم بل کان من وظیفة المأمور و المخاطب،ففی مثل هذا یکون حال المخصّص اللبّی کالمخصّص اللفظی فی عدم صحّة التعویل علی العامّ فیما شکّ فی کونه من مصادیق المخصّص،و ذلک کما فی قوله علیه السّلام:«انظروا إلی رجل قد روی حدیثنا...»إلخ،حیث إنّه عامّ یشمل العادل و غیره،إلاّ أنّه قام الإجماع علی اعتبار العدالة فی المجتهد الذی یرجع إلیه فی القضاء،فتکون العدالة قیدا فی الموضوع،و لا یجوز الرجوع إلی العموم عند الشکّ فی عدالة مجتهد،کما إذا کان اعتبار العدالة بدلیل لفظی.

و إن کان المخصّص اللبّی من العناوین التی لا تصلح أن تکون قیدا للموضوع،و کان إحرازها من وظیفة الآمر و المتکلّم بأن کان من قبیل الملاکات،ففی مثل هذا یجوز الرجوع إلی العامّ فی الشبهة المصداقیّة،و ذلک کما فی مثل قوله علیه السّلام:«اللّهمّ العن بنی امیّة قاطبة»حیث یعلم أنّ الحکم لا یعمّ من کان مؤمنا منهم؛إذ لیس فیه ملاک اللعن،و لکنّ إحراز أنّ فی بنی امیّة مؤمنا إنّما هو من وظیفة المتکلّم،حیث لا یصحّ له إلقاء مثل هذا العموم إلاّ بعد إحراز ذلک،و لو علمنا من الخارج بإیمان بعضهم کان ذلک موجبا لعدم اندراجه تحت العموم،و لکنّ المتکلّم لم یبیّنه لمصلحة هناک اقتضت ذلک،

ص:479

فلا یجوز لنا لعنه؛لعلمنا بعدم ثبوت الملاک فیه.

و أمّا إذا شککنا فی إیمان أحد من بنی امیّة فاللازم الأخذ بالعموم و جواز لعنه؛لأنّه من نفس العموم یستکشف أنّه لیس بمؤمن،و أنّ المتکلّم أحرز ذلک، و إلاّ لما ألقی العموم کذلک،و یکون خروج معلوم الإیمان من التخصیص الأفرادی،حیث إنّه لم یؤخذ عنوانا للموضوع،ففی هذا القسم من المخصّص اللبّی فقط یجوز التمسّک بالعامّ فی شبهة مصداقیّة المخصّص،بخلاف سائر المخصّصات.

و لا بدّ لنا من بیان مقدّمة لتوضیح الإشکال الوارد علی کلامه قدّس سرّه،و هی:أنّ التخصیص قد یکون أفرادیّا کما إذا قال المولی:«لا تکرم زیدا العالم»بعد قوله:

«أکرم العلماء»،و إذا شککنا فی تخصیص فرد آخر فمعلوم أنّ المرجع فی الشکّ فی التخصیص الزائد هو أصالة العموم کالشکّ فی أصل التخصیص،و هذا خارج عن محلّ النزاع.

و قد یکون عنوانیّا،کما إذا قال:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»بعد قوله:

«أکرم العلماء»،و یمکن أن یکون ذلک بصورة التعلیل،مثل:قوله:«لا تکرم زیدا العالم لأنّه فاسق»،و محلّ النزاع عبارة عن المخصّص العنوانی،أی واقعیّة العنوان،و لا دخل للعلم به فی المسألة،فإن شککنا فی صدق عنوان الفاسق علی زید العالم،هل یجوز التمسّک بالعامّ أم لا؟

إذا عرفت هذا فنقول:لا فرق بین المثالین،کما أنّ المستفاد من الروایة الاولی أنّ للاجتهاد فقط دخلا فی المرجعیّة،إلاّ أنّ الإجماع یجعل العدالة قیدا للموضوع،و کأنّه قال علیه السّلام من الابتداء:انظروا إلی رجل قد روی حدیثنا و نظر إلی حلالنا و حرامنا و کان عادلا فللعوام أن یقلّدوه،و هکذا فی المثال الثانی،

ص:480

و إن کان المستفاد من قوله علیه السّلام جواز لعن بنی امیّة عموما،و لکنّ العقل یحکم بأنّ عنوان المؤمن لا یناسب جواز اللّعن،سواء احرز لنا صدق هذا العنوان خارجا فی فرد أم کان مشکوکا،فیکون عدم الإیمان هنا بصورة قید للموضوع،فلا فرق بینهما من هذه الجهة،إلاّ أن یقول بالفرق بین الإجماع و العقل فی المخصّص اللبّی،و لکنّه مع عدم دلالة ظاهر کلامه علیه خلاف الواقع کما لا یخفی.

فلا یصحّ التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة أصلا،و لا یصحّ تفصیل النائینی قدّس سرّه کما مرّ عدم صحّة تفصیل المحقّق الخراسانی قدّس سرّه.

و لا بدّ من البحث عن امور بعنوان التنبیهات:

الأوّل: لو فرض کون النسبة بین دلیل العامّ و دلیل الخاصّ عموما من وجه

لو فرض کون النسبة بین دلیل العامّ و دلیل الخاصّ عموما من وجه

،مثل:

قول المولی:«لا تکرم الفسّاق»فی مقابل«أکرم العلماء»،ما هو المرجع إذا احرز عالمیّة زید-مثلا-و شکّ فی فسقه؟و المبانی هنا متعدّدة فیمکن أن یقال بکونه من مصادیق مسألة اجتماع الأمر و النهی؛لعدم انحصارها فی الطبیعتین المتصادقتین فی مورد واحد-کالصلاة فی الدار المغصوبة-بل یکون ما نحن فیه أیضا من مصادیقها،فکما أنّه یصدق علی الصلاة فی الدار المغصوبة عنوان الامتثال و العصیان معا کذلک العالم المعلوم الفسق یکون واجب الإکرام بما أنّه عالم،و یکون محرّم الإکرام بما أنّه فاسق،و لا فرق بینهما،إلاّ أن یقال بأنّ متعلّق الحکم فی مثل:«صلّ»و«لا تغصب»هی الطبیعة،بخلاف«أکرم العلماء»و«لا تکرم الفسّاق»؛إذ المتعلّق فیهما الأفراد و المصادیق لنظارة العامّ إجمالا إلیها،فکیف یمکن دلالة«أکرم العلماء»بوجوب الإکرام بالنسبة إلی

ص:481

الأفراد،و دلالة«لا تکرم الفسّاق»بحرمة الإکرام بالنسبة إلیها؟!و لذا یکون ما نحن فیه خارجا عن مورد اجتماع الأمر و النهی.

و لکن لو فرض کونه من مصادیق اجتماع الأمر و النهی یجب إکرام العالم الفاسق؛لأنّه عالم،و یحرم إکرامه؛لأنّه فاسق،و أمّا فی زید المحرز العالمیّة و المشکوک الفسقیّة فیجوز التمسّک بالعامّ؛إذ یتحقّق هنا دلیلان،أحدهما معلوم الانطباق و الآخر مشکوک الانطباق،و لا بدّ من التمسّک بالدلیل المعلوم الانطباق،فلا دلیل لحرمة إکرامه،و لا یجوز التمسّک بمثل:«لا تکرم الفسّاق»؛ إذ التمسّک به فرع إحراز موضوعه.

و إن قلنا:بأنّ العامّین من وجه یکونان من المتعارضین بالنسبة إلی مادّة الاجتماع؛لصدق عنوان التعارض علی المتعارضین فی بعض المفاد أیضا، و حینئذ یکون مقتضی القاعدة تساقط کلا الدلیلین عن الحجّیّة،و لازم ذلک عدم جریانهما فی العالم المحرز الفسق،فلا بدّ من الرجوع إلی الاصول العملیّة، فإن کان الأمر دائرا بین الوجوب و الحرمة تجری أصالة التخییر،و إن کان دائرا بین الوجوب و عدمه تجری أصالة البراءة.

و أمّا فی العالم المشکوک الفسق فلا بدّ من التمسّک بعموم«أکرم العلماء»،فإنّ بعد عدم جریان«لا تکرم الفسّاق»هنا بلحاظ الشکّ فی الفسق لا مانع من جریان«أکرم العلماء»،فیجب إکرام العالم المشکوک الفسق.

و لکنّه لو فرض أن یکون الدلیلان المتعارضان خبرین و فرضنا ترجیح جانب«لا تکرم الفسّاق»فی مادّة الاجتماع بمرجّح من المرجّحات الواردة فی الأخبار العلاجیّة فلا یجوز إکرام العالم الفاسق.

و أمّا فی العالم المشکوک الفسق فلا یجوز التمسّک بعموم«أکرم العلماء»،فإنّ

ص:482

تقدّم«لا تکرم الفسّاق»یکشف عن کون المراد الجدّی فیه عبارة عن إکرام العالم غیر الفاسق،و لا نحرز عدم فسقه.

کما أنّه لا یجوز التمسّک بعموم«لا تکرم الفسّاق»؛إذ التمسّک به فرع إحراز موضوعه،کما مرّ نظیر ذلک فی المخصّص المنفصل،و لا فرق بینهما إلاّ فی وجه التقدّم،فإنّه هنا عبارة عن أقوائیّة المخصّص من حیث الدلالة،و فیما نحن فیه عبارة عن موافقة الشهرة أو مخالفة العامّة.

و إن قلنا:بأنّ العامّین من وجه یکونان من المتزاحمین؛لتحقّق مقتضی وجوب الإکرام فی کلّ عالم،و مقتضی حرمة الإکرام فی کلّ فاسق،و قد ذکرنا تبعا لسیّدنا الاستاذ الإمام قدّس سرّه القول بفعلیّة کلا الحکمین فی المتزاحمین،و حینئذ لا بدّ من الأخذ بالأهمّ فی العالم الفاسق،و إن لم یکن أهمّ فی البین فالحکم عبارة عن التخییر.

و أمّا فی العالم المشکوک الفسق فلا بدّ من التمسّک بعموم«أکرم العلماء»،فإنّ جریان الحکمین الفعلیّین متوقّف علی إحراز موضوعهما،و إذا لم یحرز عنوان الفسق فلا یبقی أزید من حکم فعلی واحد،و هو«أکرم العلماء»؛لعدم صلاحیة جریان«لا تکرم الفسّاق».

و إن قلنا فی المتزاحمین بوجود کلا المقتضیین و تبعیّة فعلیّة الحکم لمقتضی الأقوی و عدم فعلیّة مقتضی غیر الأقوی،و فرضنا أنّ مقتضی الأقوی یرتبط بمثل«لا تکرم الفسّاق»فحینئذ لا بدّ من التمسّک بعموم«لا تکرم الفسّاق»فی مادّة الاجتماع.

و أمّا فی العالم المشکوک الفسق فلا یجوز التمسّک بعموم«أکرم العلماء»،فإنّه عامّ من حیث الحکم الإنشائی،و فعلیّته محدودة بلحاظ الارتباط بالعالم غیر

ص:483

الفاسق.کما أنّه لا یجوز التمسّک بعموم«لا تکرم الفسّاق».و هذا أیضا من قبیل المخصّص المنفصل.

التنبیه الثانی:فی جریان حکم العامّ فیما یکون صدق عنوان الخاصّ علیه

مشکوکا بالأصل الموضوعی کالاستصحاب:

و من البدیهی أنّه إذا شککنا فی صدق العنوان المأخوذ فی دلیل موضوعا للحکم فیصحّ التمسّک بالاستصحاب لإحرازه نفیا کان أو إثباتا،مثل:

استصحاب خمریّة مائع لإثبات أثره-أی حرمة الشرب-أو استصحاب عدم خمریّته لنفی هذا الأثر،بلحاظ حالة سابقة متیقّنة له بعد أخذ عنوان الخمر موضوعا فی دلیل،مثل:«لا تشرب الخمر»،و هکذا فی سائر العناوین المأخوذة فی موضوع الأحکام،فإذا قال المولی:«أکرم العلماء»،ثمّ قال بدلیل منفصل:«لا تکرم الفسّاق من العلماء».فکما أنّه یصحّ التمسّک بالاستصحاب فی مشکوک العالمیّة کذلک یصحّ التمسّک به فی العالم المشکوک الفسق،بلحاظ حالة سابقة متحقّقة لهما نفیا أو إثباتا،فإذا کانت الحالة السابقة المتیقّنة عبارة عن عدم الفسق-مثلا-فتکون نتیجة جریان الاستصحاب عدم شمول«لا تکرم الفسّاق من العلماء»للعالم المشکوک الفسق،فلا حرمة فی إکرامه.

هذا،و لکنّ الکلام فی جریان«أکرم العلماء»و شموله له بعد عدم جریان«لا تکرم الفسّاق»فیه،فهل یمکن للاستصحاب عزل أحد الدلیلین و نصب الآخر مکانه أم لا؟اختلف القوم علی ثلاثة أقوال:

الأوّل:ما قال به المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)بأنّ استصحاب عدم عنوان المخصّص کما أنّه یمنع من جریان دلیل المخصّص کذلک یوجب جریان دلیل

ص:484


1- 1) کفایة الاصول 1:346.

العامّ و إن کانت الحالة السابقة عدمیّة،و هی عبارة عن العدم الأزلی،مثل:

استصحاب عدم قرشیّة المرأة.

القول الثانی:ما قال به المحقّق العراقی قدّس سرّه (1)بأنّ الاستصحاب الموضوعی کاستصحاب عدم الفسق یمنع من جریان دلیل المخصّص فقط؛بمعنی انتفاء حرمة الإکرام،و لا یمکن للاستصحاب نصب دلیل العامّ مکانه.

القول الثالث:ما قال به استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)و هو التفصیل بین العدم الأزلی و غیره،بأنّ استصحاب عدم الفسق و نحوه کما یمنع من جریان دلیل المخصّص کذلک یوجب جریان دلیل العامّ فی المستصحب،و یمکنه عزل أحد الدلیلین و نصب الآخر مکانه،و أمّا استصحاب العدم الأزلی فلیس بصحیح من أساسه،فلا تصل النوبة إلی العزل و النصب به.

و بیان المحقّق العراقی قدّس سرّه مبتن علی ما اختاره فی باب التخصیص من أنّ تخصیص العامّ بالمخصّص المنفصل لا یوجب التصرّف فی دلیل العامّ فی أیّ مرحلة من مراحله.

توضیح ذلک:أنّه قد ذکرنا فیما سبق أنّ اتّصاف الدلیل بالحجّیّة متوقّف علی تمامیّة ثلاثة مراحل:المرحلة الاولی:أن یکون لألفاظه ظهور فی معناها،فی مقابل الألفاظ المجملة و المشترکة باشتراک لفظی بدون نصب القرینة لتعیین المراد،المرحلة الثانیة:أن یتحقّق أصالة الظهور،بمعنی استعمال اللفظ فی معناه الظاهر،المرحلة الثالثة:أن تتحقّق أصالة التطابق بین الإرادة الاستعمالیّة و الإرادة الجدّیّة.

ص:485


1- 1) نهایة الأفکار 1:518-529.
2- 2) تهذیب الاصول 487-491.

و المحقّق العراقی قدّس سرّه یقول بأنّ تخصیص«أکرم العلماء»بدلیل منفصل،مثل:

«لا تکرم الفسّاق من العلماء»لا یستلزم أیّ نوع من التصرّف فی أیّ مرحلة من مراحل الدلیل العامّ،بل یکون المخصّص المنفصل نظیر وفاة عدّة من العلماء بعد قوله:«أکرم العلماء»،و لا فرق بینهما فی عدم إیجاد التغییر فی مفاد العامّ، و إن کان اللازم فی مقام الامتثال تطبیق العمل بدلیل المخصّص بلحاظ أقوائیّة دلالته،و لکن لا یکون معناه التصرّف فی الدلیل العامّ،فلا فرق فی مفاد العامّ، سواء تحقّق المخصّص المنفصل أم لا؛لکونه بمنزلة وفاة الفسّاق من العلماء معا، و لا یوجب الخدشة فی دلیل العام،فاستصحاب عدم الفسق ینفی عنوان المأخوذ فی دلیل المخصّص موضوعا للحکم،و لا یکون قادرا علی جعل المستصحب مصداقا للعامّ حتّی یکون واجب الإکرام.

لا یقال:إنّه تتحقّق ملازمة عقلیّة بین عدم الفسق و وجوب الإکرام؛إذ المفروض إحراز عالمیّة المستصحب،فالعالم المشکوک الفسق إمّا یکون محرّم الإکرام،و إمّا یکون واجب الإکرام،فإذا لم یکن محرّم الإکرام بعد الاستصحاب،فلا محالة یکون واجب الإکرام.

فإنّا نقول:بأنّه لا شکّ فی عدم ترتّب الآثار و الملازمات العقلیّة و العادیّة علی الاستصحاب الجاری فی الموضوعات،و ما یترتّب علیه عبارة عن الأثر و الحکم الشرعی نفیا و إثباتا فقط.

و التحقیق:أنّ هذا المبنی مردود عندنا،و قد مرّ أنّ التخصیص یوجب التصرّف فی المرحلة الثالثة من دلیل العامّ،و یحکم بأنّ دائرة المراد الجدّی تکون أضیق من دائرة المراد الاستعمالی للمولی،و هو عبارة عن إکرام العالم غیر الفاسق،و قد مرّ القول عن بعض بأنّه یستلزم المجازیّة فی العامّ،بمعنی

ص:486

تصرّفه فی الدلیل العامّ فی مرحلة الاستعمال،و أنّ العامّ استعمل فی العالم غیر الفاسق،فتکون مقایسة المخصّص المنفصل مع وفاة عدّة من العلماء خلاف الإنصاف.

و لو فرضنا صحّة المبنی المذکور،و لکن ما ذکره فی ذیل کلامه من عدم ترتّب الملازمات العقلیّة علی الاستصحابات الموضوعیّة یکون مورده ترتّب اللوازم العقلیّة و العادیّة لنفس المستصحب الموضوعی،و أمّا ترتّب لوازم حکم المستصحب الموضوعی فلا شکّ فیه،فإذا استصحب عدم الفسق فلا یجری «لا تکرم الفسّاق»،و هو ملازم لوجوب الإکرام،و لا یکون نفس المستصحب -أی عدم الفسق-ملازما له،نظیر استصحاب الخمریّة،و ترتّب اللازم العقلی للحرمة علیه،بمعنی حکم العقل بلزوم رعایة«لا تشرب الخمر».

و کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه هنا یحتاج إلی زیادة توضیح،فنقول:إنّ تخصیص العامّ بالمخصّص المنفصل یحکی عن عدم تعلّق المراد الجدّی بالعموم، و أنّ دائرته تکون أضیق من دائرة المراد الاستعمالی،و لکن البحث فی أنّ التخصیص یستلزم إیجاد عنوان خاصّ للمراد الجدّی،مثل:العالم الموصوف بأنّه غیر فاسق،أم لا،و لازم ذلک لزوم إحراز العالمیّة و غیر الفاسقیّة معا و لو کان من طریق الاستصحاب.

و التحقیق:أنّ الباقی تحت العامّ بعد تخصیصه بالمنفصل لا یتعنون بعنوان خاصّ،بل هو باق علی ما کان علیه العامّ قبل التخصیص من اللاعنوانیّة، فیکفی فی إثبات حکم العامّ للفرد المشکوک نفی الخاصّ بالأصل،و لا ضرورة لإحراز عدم الاتّصاف بالفسق،و تظهر نتیجته فی استصحاب العدم الأزلی.

مثلا:إذا شکّ فی أنّ امرأة تکون قرشیّة،أو غیر قرشیّة،و تظهر ثمرته فی

ص:487

دوام دم حیضها إلی ستّین سنة أو انقطاعه بعد خمسین سنة،فإنّ ما یدلّ علی تحیّض المرأة إلی خمسین سنة عامّ یشمل کلّ امرأة،سواء کانت قرشیّة أم غیرها،کقوله علیه السّلام:«کلّ امرأة تری الحمرة إلی خمسین سنة» (1).

و قد خصّص هذا العامّ بما یدلّ علی أنّ المرأة إذا کانت قرشیّة تری الحمرة إلی ستّین سنة،و الباقی تحت العامّ بعد تخصیصه المرأة المعلوم عدم قرشیّتها و التی لم یثبت انتسابها إلی قریش،فاستصحاب عدم انتساب المشکوکة القرشیّة إلیه قبل الولادة تثبت فردیة هذه المرأة للعامّ،و لا ضرورة لاستصحاب اتّصاف عدم کونها منتسبة إلی قریش،و لذا قالوا:إنّ السالبة لا تحتاج إلی وجود الموضوع،و علی هذا کان إحراز المشتبه بالأصل الموضوعی فی غالب الموارد-إلاّ ما شذّ-ممکنا.هذا تمام کلامه قدّس سرّه مع زیادة توضیح.

و حکی عن المحقّق الحائری قدّس سرّه فی درسه توجیه لاستصحاب العدم الأزلی، و هو أنّ العوارض علی قسمین:قسم منها عارض الماهیّة،مثل:عروض الزوجیّة علی الأربعة؛إذ لو فرض للماهیّة وعاء تقرّر و ثبوت غیر وعاء فی الوجود الذهنی و الخارجی،فتکون ماهیّة الأربعة فیه معروض الزوجیّة،فلا تحتاج فی العروض علیها إلی الوجود.و قسم منها عارض الوجود،مثل:

عروض السواد و البیاض علی الجسم،فإنّ عروضهما علیه یتوقّف علی اتّصافه بالوجود الخارجی،فیکون معنی الجسم أبیض أنّ الجسم الموجود أبیض.

ثمّ قال:إنّ استصحاب العدم الأزلی لا یجری فی عارض الماهیّة؛لعدم انفکاک لازم الماهیّة و عارضها عنها فی أیّ وعاء،فلا یتصوّر له حالة سابقة عدمیّة متیقّنة،و لکنّه یجری فی عارض الوجود،نظیر قرشیّة المرأة فإنّها

ص:488


1- 1) انظر:الوسائل 2:335،الباب 31 من أبواب الحیض،الحدیث 2.

تعرض علیها حینما توجد و تتحقّق فی الخارج،ففی صورة الشکّ نقول:إنّ ماهیّة المرأة قبل نفخ الروح فیها لم تکن قرشیّة،و نشکّ أنّها بعد نفخ الروح أو الولادة أو بعد ما صارت موجودة،هل اتّصفت بالقرشیّة أم لا؟فیجری استصحاب العدم.

و لکنّ المسألة تحتاج إلی التحقیق و التأمّل،و إن لم یکن هنا محلّ بحثها إلاّ أنّ کثرة الابتلاء بها تقتضی البحث فیها بصورة مفصّلة،و لا بدّ لنا من بیان مقدّمة، و هی:أنّ المعروف-بل المسلّم-عند الأصولیّین و المنطقیّین أنّ کلّ قضیّة تترکّب من ثلاثة أجزاء:الموضوع و المحمول و النسبة،و الظاهر منهم أنّه کما تتحقّق النسبة فی القضیّة الملفوظة کذلک تتحقّق فی القضیّة المعقولة،و هو ما یتصوّره المتکلّم فی وعاء ذهنه قبل التلفّظ،بل تتحقّق فی القضیّة المحکیّة أیضا، و هو أمر متحقّق فی الخارج و واقعیّة خارجیّة،و ما تکون القضیّتان مرآة لها.

و من المسلّم أیضا أنّ النسبة تحتاج إلی منتسبین متغایرین من حیث المعنی، مثل:الجسم و البیاض،و لا یکفی التغایر فی اللفظ فی تحقّقها.

إذا عرفت هذا فلا بدّ من ملاحظة القضایا من حیث تحقّق النسبة فیها و عدمه،و نقول:إنّ القضیّة الحملیّة بالحمل الأوّلی إن کانت مستقیمة و غیر مفتقرة إلی الحذف،مثل:الإنسان حیوان ناطق فلا تتحقّق المغایرة بین الموضوع و المحمول حتّی تحتاج إلی النسبة،و إن فرض مغایرتهما من حیث المفهوم و لکنّه لا یکون مجوّزا لجعل الإنسان شیئا و الحیوان الناطق شیئا آخر، و الحکم بتحقّق النسبة بینهما بعنوان الرابط،و فی مثل:«الإنسان إنسان» و«الإنسان بشر»أوضح من ذلک؛لعدم مغایرة الموضوع و المحمول فیهما مفهوما.

ص:489

و هکذا فی القضایا الحملیّة بالحمل الشائع الذی یکون ملاکه کون الموضوع من مصادیق المحمول،مثل:زید إنسان؛إذ لا یتحقّق بینهما مغایرة،و لا یتحقّق فی الخارج شیئان؛لکون زید الإنسان متخصّص بالخصوصیّات الفردیّة،فلا نسبة فی البین،و هکذا فی مثل:زید قائم؛لاتّحاد زید مع عنوان القائم فی الخارج.

و لذا قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی باب المشتقّ:إنّ ملاک الحمل هو الاتّحاد و الهوهویّة،و هذا مناف مع النسبة لتقوّمها بالاثنینیّة،فلا یصحّ لمثله القول بترکّب القضایا من ثلاثة أجزاء،و إن نری منه القول بذلک فی مثل قوله:«زید لفظ»،و إرادة شخص ما تلفّظه.

و یقول فی مقام جواب صاحب الفصول:إنّه لا مانع من کون زید دالاّ و مدلولا معا بعد کفایة التغایر الاعتباری بینهما،فکلمة«زید»بما أنّه لفظ صدر من المتکلّم یکون دالاّ،و بما أنّ نفسه مراد یکون مدلولا،فلا یلزم اتّحاد الدال و المدلول و لا ترکّب القضیّة من جزءین،بل هی تترکّب من ثلاثة أجزاء.

و الحاصل:أنّ ملاک الحمل هو الاتّحاد و الهوهویّة،و هذا لا یکون قابلا للجمع مع النسبة،کما لاحظت فی الأمثلة المذکورة،و لا یتوهّم تحقّقها فی القضیّة الملفوظة و المعقولة بعد عدمها فی الواقعیّة المحکیّة؛لکونهما مرآة لها و حاکیة عنها.

و إن کانت قضیّة حملیّة مأوّلة مثل:«زید له القیام»و«الجسم له البیاض»، تتحقّق النسبة هنا علی الظاهر،و لکن بحسب الواقع ترجع هذه القضیّة أیضا

ص:490


1- 1) کفایة الاصول 1:20.

إلی الحملیّة الغیر المؤوّلة؛لتعلّق کلمة«له»بکائن أو ثابت،و علی هذا فالجسم متّحد مع کائن له البیاض،کما أنّ زیدا متّحد مع ثابت له القیام،فلا تتحقّق النسبة هنا أیضا.

و من هنا یستفاد عدم صحّة ما یقال فی مقام تعریف القضیّة بأنّها مشتملة علی نسبة تامّة یصحّ السکوت علیها،مثل:«زید قائم»،بخلاف مثل:«زید القائم»؛لعدم اشتماله علی نسبة کذلک.

فلا بدّ من القول بأنّها حاکیة عن الواقعیّة بنحو حکایة تصدیقیّة،و أمّا المثال المذکور فتکون حکایته عنها بنحو حکایة تصوّریّة.

و هکذا ما یقال فی مقام تعریف التصدیق و التصوّر بأنّ العلم إن کان إذعانا للنسبة فتصدیق و إلاّ فتصوّر،فلا بدّ من القول:بأنّ العلم إن کان إذعانا لاتّحاد شیء مع شیء آخر فی الوجود فتصدیق،و إلاّ فتصوّر.

و هکذا ما یقال فی ملاک الصدق و الکذب بأنّ القضیّة الصادقة أن تکون لنسبتها واقع تطابقه،و الکاذبة أن تکون لنسبتها واقع لا تطابقه.

فلا بدّ من القول بأنّ الإخبار عن الاتّحاد بین الشیئین إن کان مطابقا للواقع فهی قضیّة صادقة،و إلاّ فکاذبة.

و أمّا فی القضایا السالبة-سواء کانت مستقیمة أم مأوّلة-فلا یصدق علیها التعریف المذکور للقضیّة من کونها مشتملة علی نسبة تامّة یصحّ السکوت علیها،فإنّ مفاد مثل:«زید لیس بقائم»هو سلب النسبة و نفی الاتّحاد بین الموضوع و المحمول،و لو فرضنا الالتزام بتحقّق النسبة بحسب الظاهر فی الموجبة المؤوّلة فلا یمکن الالتزام به فی السالبة المؤوّلة؛لأنّ مفاد«زید لیس له القیام»هو نفی الاتّحاد و سلب الارتباط التکوینی بین«زید»و«القیام»،

ص:491

و یستفاد من ذلک عدم تحقّق النسبة فی القضایا الحملیّة،سواء کانت موجبة أم سالبة،و ملاک الحمل فی الموجبة هو الاتّحاد و الهوهویّة،و فی السالبة هو سلب الاتّحاد و الهوهویّة.

ثمّ إنّ القضایا-سواء کانت موجبة أم سالبة-قد تکون محصّلة و قد تکون معدولة،و المحصّلة:هی أن یفرض فی الموضوع و المحمول أمران وجودیّان، و الموجبة المحصّلة مثل:«زید قائم»،و السالبة المحصّلة مثل:«لیس زید بقائم».

و المعدولة:هی أن یفرض فی المحمول أو الموضوع أمرا عدمیّا،و الموجبة المعدولة مثل:«زید لا قائم»،و السالبة المعدولة مثل:«لیس زید بلا قائم».

و الفرق بین الموجبة المعدولة المحمول و السالبة المحصّلة من حیث المفاد و المدلول:أنّ القضیّة الموجبة تحتاج إلی ثبوت الموضوع للقاعدة الفرعیّة، بخلاف السالبة المحصّلة لکونها صادقة مع انتفاء الموضوع أیضا،مع أنّ الموجبة المعدولة تدلّ علی مرتبة شدیدة و الاتّحاد و الهوهویّة بین الموضوع و المحمول، کما نعبّر عنها بالفارسی ب«فلانی نااهل است»،و دلالة السالبة المحصّلة تکون أضعف من ذلک.و هذا هو الفرق بین قولنا:«زید لا قائم»و قولنا:«لیس زید بقائم».

و القسم الخامس من القضایا ما یعبّر عنه بموجبة سالبة المحمول،و هی عبارة عن الموجبة التی یکون محمولها قضیّة سالبة،و یرتبط بالموضوع بمثل کلمة«هو»و نحو ذلک،مثل:«زید هو الذی لیس بمجتهد».

و السالبة المحصّلة منها تصدق مع انتفاء الموضوع،بخلاف سائر القضایا فإنّها تحتاج إلی إحراز الموضوع،و بدونه لا تکون صادقة.

إذا عرفت هذه المقدّمة بتفصیلها فنقول:إنّ إیجاد التضییق فی المراد الجدّی

ص:492

من العامّ بالمخصّص المنفصل بأیّ نحو یکون من القضایا المذکورة،بعد ما عرفت أنّ التخصیص لا یوجب تحقّق عنوان الخاصّ للعامّ،بل یکفی عدم عنوان المخصّص؟

و یحتمل فی بادئ النظر رجوع العام المخصّص بصورة موجبة معدولة المحمول التی ترجع إلی القضیّة الموصوفة،فیکون المراد الجدّی بعد تخصیص العامّ هو إکرام عالم لا فاسق،أی عالم موصوف بأنّه لا فاسق،و یحتمل رجوعه بصورة موجبة سالبة المحمول،و هی أیضا ترجع إلی القضیّة الوصفیّة، فیکون المراد الجدّی بعد التخصیص هو إکرام العالم الذی لا یکون فاسقا، و یحتمل رجوعه بصورة السالبة المحصّلة التی تکون صادقة مع انتفاء الموضوع أیضا،فیکون المراد الجدّی بعد التخصیص هو إکرام عالم لیس بفاسق.

و لکنّ التحقیق:أنّ العالمیّة فی المراد الجدّی أمر مسلّم و مفروغ عنه، و البحث فی کیفیّة أخذ عدم کونه فاسقا فیه،و لذا لا یکون مع السالبة المحصّلة قابلا للتطبیق أصلا،و تضییق المخصّص و إن کان بالنسبة إلی الأمر العدمی،أی عدم کونه متّصفا بالفسق،إلاّ أنّ العالمیّة لا بدّ من تحقّقها بعنوان الموضوع، فلا بدّ من کونه إمّا بصورة موجبة معدولة المحمول،و إمّا بصورة موجبة سالبة المحمول،و احتیاج القضایا الحملیّة الموجبة التی یکون حملها و اتّصافها بلحاظ الخارج إلی وجود الموضوع فی الخارج ممّا لا شکّ فیه.

و أمّا استصحاب عدم قرشیّة المرأة فلا شکّ فی ارتباط القرشیّة و عدمها بوجود المرأة،و قد مرّ تحقّق الدلیل العامّ بأنّ کلّ امرأة تری الحمرة إلی خمسین سنة،و الدلیل المخصّص بأنّ المرأة إذا کانت قرشیّة تری الحمرة إلی ستّین سنة، فیکون المراد الجدّی إمّا بصورة موجبة معدولة-أی المرأة اللاقرشیّة-و إمّا

ص:493

بصورة موجبة سالبة المحمول-یعنی المرأة التی لیست بقرشیّة-و کلتاهما تحتاجان إلی وجود الموضوع فی الخارج،فکیف یجری استصحاب عدم قرشیّة المرأة حتّی ینطبق علیه حکم العامّ من رؤیة الحمرة إلی خمسین سنة؟

و قد مرّ عن المحقّق الحائری قدّس سرّه (1)جواز جریان استصحاب العدم فی عوارض الوجود؛بأنّ ماهیّة هذه المرأة قبل أن توجد لم تکن قرشیّة و نشکّ بعد الوجود باتّصافها بها،فتستصحب عدم القرشیّة.

و جوابه:أنّ الماهیّة من الامور الاعتباریّة،فلا یمکن أن تکون قضیّة متیقّنة،فإنّها لیس بشیء و لا واقعیّة لها قبل الوجود،کما قال به الأعاظم من الفلاسفة.

لا یقال:بأنّه لا معنی للوازم الماهیّة بناء علی ذلک؛إذ الملزوم إن لم یکن شیئا کیف یکون له لازم؟

فإنّا نقول:إنّ المقصود من لوازم الماهیّة أنّه لو فرض للماهیّة تحصّل و تقرّر غیر الوجود الذهنی و الخارجی ففی هذا الوعاء أیضا تکون الزوجیّة-مثلا- من لوازم الأربعة،فهذا الطریق بلحاظ أصالة الوجود و اعتباریّة الماهیّة لیس بصحیح.

و الطریق الآخر لجریان استصحاب عدم القرشیّة و إثبات عنوان العامّ بضمیمة انتفاء عنوان المخصّص عبارة عن طریق السالبة المحصّلة التی تنطبق مع وجود الموضوع و عدمه معا؛بأنّ المرأة المشکوکة قرشیّتها لم تکن قبل الولادة قرشیّة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع-یعنی لم تکن موجودة حتّی تتّصف بالقرشیّة-فهذه القضیّة السالبة کانت متیقّنة،و نستمرّها بمعونة

ص:494


1- 1) درر الفوائد:218-220.

الاستصحاب إلی زمان الوجود،فتکون القضیّة بعد الولادة سالبة بانتفاء المحمول،فتحقّق عنوان العامّ-أی وجود المرأة-بالوجدان،و عنوان الخاصّ -أی القرشیّة-ینفی بالاستصحاب.

و جوابه أوّلا:أنّ شرط جریان الاستصحاب عند الاصولیّین هو اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة من حیث الموضوع و المحمول،و کان عروض الیقین و الشکّ بلحاظ الزمان السابق و اللاّحق،و لا یتحقّق هذا الشرط فیما نحن فیه؛ إذ الموضوع فی القضیّة المتیقّنة هی المرأة الغیر موجودة،و فی القضیّة المشکوکة هی المرأة الموجودة،و مجرّد صدق عنوان السالبة المحصّلة علیهما-کصدق الجنس علی الأنواع-لا یوجب الاتّحاد بینهما.

و ثانیا:أنّ هذا الاستصحاب مثبت،فإنّ بعد استصحاب السالبة المحصّلة و استمرارها إلی زمان الوجود لا بدّ من تحقّق الإضافة و الارتباط بین المرأة الموجودة و عدم القرشیّة؛إذ المستصحب لا یکون عدم اتّصاف المرأة بالقرشیّة، بل هو أنّ هذه المرأة لم تکن قرشیّة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع،و إذا استمرّت إلی زمان الولادة و إحراز وجودها بالوجدان فلا محالة یحکم العقل بعدم قرشیّتها الآن أیضا،فالحاکم بالإضافة و الارتباط بینهما هو العقل، و یسمّی هذا عند الاصولیّین بالأصل المثبت،و هو لا یجری عند المحقّقین منهم.

و الحاصل:أنّه لا یجری هذا الاستصحاب و کذا استصحاب عدم قابلیّة التذکیة و أمثال ذلک.هذا تمام الکلام فی التنبیه الثانی.

التنبیه الثالث: فیما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بعنوان وهم و إزاحة

فیما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بعنوان وهم و إزاحة

،و هو أنّه ربما یظهر من

ص:495


1- 1) کفایة الاصول 1:346-348.

بعضهم التمسّک بالعمومات فیما إذا شکّ فی فرد،لا من جهة احتمال التخصیص، بل من جهة اخری،کما إذا شکّ فی صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فیستکشف صحّته بعموم مثل:«أوفوا بالنذور»فیما إذا وقع متعلّقا للنذر؛بأن یقال:وجب الإتیان بهذا الوضوء وفاء بالنذر للعموم،و کلّ ما یجب الوفاء به لا محالة یکون صحیحا؛للقطع بأنّه لو لا صحّته لما وجب الوفاء به.

و ربما یؤیّد ذلک بما ورد من صحّة الإحرام و الصیام قبل المیقات،و فی السفر إذا تعلّق بهما النذر کذلک.

مع أنّه یتحقّق الفرق بین ما نحن فیه و بین الموردین من جهتین:

الاولی:أنّ المقصود هنا إثبات صحّة الوضوء بمائع مضاف من طریق التمسّک بعموم«أوفوا بالنذور»،سواء تعلّق به النذر أم لا،و الحال أنّ صحّة الإحرام قبل المیقات،و الصوم فی السفر مقیّد بصورة النذر فقط؛إذ الإحرام قبل المیقات بدون النذر مثل الصلاة قبل الوقت فی البطلان و عدم المشروعیّة، کما یستفاد من الروایات.

الجهة الثانیة:أنّه لا یکون فی الإحرام قبل المیقات أمر مشکوک فیه،فإنّا نعلم بصحّته مع تعلّق النذر به قطعا،و عدم صحّته بدونه قطعا،و هکذا فی الصوم فی السفر،بخلاف ما نحن فیه،فإنّا نشکّ من الابتداء بأنّه هل یجوز الوضوء بماء مضاف أم لا؟

و لکن یمکن سرایة الإشکال إلی هذین الموردین،بأنّه کیف یصیر ما لا شکّ فی عدم مشروعیّته مشروعا بتعلّق النذر؟

و جوابه:أوّلا:کما قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):أنّ صحّة الصوم فی السفر

ص:496


1- 1) کفایة الاصول 1:349.

بنذره فیه،و کذا الإحرام قبل المیقات یکون بدلیل خاصّ کاشف عن رجحانهما ذاتا فی السفر و قبل المیقات،و إنّما لم یؤمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع یرتفع بالنذر.

و ثانیا:أنّهما یصیران راجحین بتعلّق النذر بعد ما لم یکونا کذلک.

و التحقیق فی مسألة نذر الوضوء بمائع مضاف:أنّه یتحقّق هنا دلیل عامّ یدلّ علی وجوب الوفاء بالنذر مطلقا،و دلیل آخر یکون مفاده بحسب الروایات أنّه:لا نذر إلاّ فی طاعة اللّه،و بإسناده یعتبر الرجحان فی متعلّق النذر،و إذا لاحظناه فی مقابل الدلیل العامّ فإمّا یکون له عنوان المخصّص،و إمّا یکون له عنوان الحکومة،و لا مجال لاحتمال ثالث بلحاظ الضوابط بیننا و بین وجداننا،فلا بدّ لنا من البحث علی الاحتمالین،فلذا نقول:

إنّ الشکّ فی صحّة الوضوء بماء مضاف و بطلانه یرجع فی الواقع إلی أنّ الوضوء بماء مضاف یکون طاعة للّه أم لا؟فمع عدم کونها مردّدة بین المتباینین و الأقلّ و الأکثر من حیث المفهوم فإنّها بمعنی کلّ عمل راجح یقرّب الإنسان إلی اللّه تعالی،فیرجع الشکّ إلی شبهة مصداقیّة المخصّص المنفصل،و قد مرّ هنا أنّه کما لا یجوز التمسّک بدلیل خاصّ کذلک لا یجوز التمسّک بدلیل عامّ،بلا فرق بین المخصّص اللفظی و اللبّی.

و إن کان له عنوان الحکومة علی عمومات وجوب الوفاء بالنذر فلا شکّ فی کون الدلیل الحاکم مبیّنا للدلیل المحکوم و مفسّرا له من حیث مراده الاستعمالی،فیکون مجموعهما بمنزلة دلیل واحد،و معنی التمسّک بالعامّ هنا التمسّک بالدلیل فی الشبهة المصداقیّة لنفس هذا الدلیل،و هو ممّا لا یقول به أحد.

ص:497

و لو فرضنا کونهما دلیلین مستقلّین فلا یصحّ التمسّک بالعامّ مع ذلک أیضا؛ لجریان الملاک المانع عن التمسّک به فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص هنا أیضا؛ إذ لا فرق بین الدلیل المخصّص و الحاکم،سیّما الدلیل الحاکم الذی یوجد التضییق فی الدلیل المحکوم،فتکون هذه المسألة إمّا عین التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة،و إمّا نظیره من حیث الملاک.

و أمّا بالنسبة إلی ما ذکره بعنوان المؤیّد،یعنی نذر الإحرام قبل المیقات فتتحقّق ثلاثة أنواع من الأدلّة:

الأوّل:الروایات الصحیحة التی مفادها تعیین المواقیت المعیّنة للإحرام من ناحیة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،و عبّر المعصوم علیه السّلام فیها:أنّه لا ینبغی لحاجّ و لا معتمر أن یحرم قبلها و لا بعدها،و مقتضی إطلاقه أنّ الإحرام قبل المیقات لیس بجائز و لا مشروع حتّی فی صورة النذر.

النوع الثانی:ما ورد فی مطلق النذر بعنوان:لا نذر إلاّ فی طاعة اللّه، و اعتبار الرجحان فی متعلّق النذر مستند إلیه.

النوع الثالث:ما ورد فی خصوص الإحرام قبل المیقات بأنّ نذره صحیح.

و یمکن الجمع بینها،إمّا عن طریق تقیید إطلاق النوع الأوّل بمفاد النوع الثالث،و حاصل الجمع:أنّه لا ینبغی لحاجّ و لا معتمر أن یحرم قبلها و لا بعدها إلاّ فی صورة النذر؛لما یدلّ علی مشروعیّته و وجوب الوفاء به،و ترتّب الکفّارة علی مخالفته،و إن کان الإحرام من المیقات مع مخالفته صحیحا فلا محالة یکون الإحرام قبل المیقات مشروعا،و لکن یتحقّق المانع عن الأمر به استحبابا أو وجوبا،و هو یرتفع بالنذر.

هذا،و لکن نقول:إنّ ما یدلّ علی اعتبار الرجحان فی متعلّق النذر یحتمل

ص:498

أن یکون المراد رجحانه فی نفسه و مع قطع النظر عن تعلّق النذر به،و یحتمل أن یکون المراد تحقّق الرجحان فیه و إن کان ناشئا من قبل النذر،و علی الأوّل یکون النوع الثالث مخصّصا للنوع الثانی؛لعدم کونه آبیا عن التخصیص.

و الحاصل:أنّه یعتبر الرجحان فی متعلّق النذر،إلاّ فی نذر الإحرام قبل المیقات،فیجب الوفاء به و إن لم یکن راجحا فی نفسه.

و علی الثانی یصیر الإحرام قبل المیقات راجحا بتعلّق النذر به،و لکن استشکل المرحوم الحکیم قدّس سرّه (1)فی کفایة الرجحان الناشئ من قبل النذر،بأنّه مستلزم للدور المستحیل؛إذ الرجحان متوقّف علی صحّة النذر،و صحّة النذر متوقّفة علی الرجحان،فلا بدّ من تحقّق الرجحان فی متعلّق النذر فی نفسه.

و التحقیق:أنّه لیس بصحیح؛إذ الصحّة قد تکون من جمیع الجهات حتّی من جهة رجحان المتعلّق،و یعبّر عنها بالصحّة المطلقة،و قد تکون من سائر الجهات سوی رجحان المتعلّق،و هذا یوجب الفرق فی الموقوف و الموقوف علیه،و یمنع من استلزام الدور؛بأنّ الصحّة المطلقة متوقّفة علی رجحان المتعلّق،و لکنّ الرجحان لا یتوقّف علیها،بل یتوقّف علی صحّة سائر الخصوصیّات و الشرائط المعتبرة فی النذر سوی رجحان المتعلّق.

التنبیه الرابع: أنّه هل یجوز التمسّک بأصالة عدم التخصیص فی إحراز عدم کون ما شکّ فی

أنّه هل یجوز التمسّک بأصالة عدم التخصیص فی إحراز عدم کون ما شکّ فی

أنّه من مصادیق العامّ

،مع العلم بعدم کونه محکوما بحکمه مصداقا له-مثل ما إذا علم أنّ زیدا یحرم إکرامه و شکّ أنّه عالم أو لیس بعالم،فیحکم علیه بأصالة عدم تخصیص«أکرم العلماء»أنّه لیس بعالم،بحیث یحکم علیه بسائر ما لغیر

ص:499


1- 1) المستمسک 11:298.

العالم من الأحکام-أو لا؟

هذا ما عنونه صاحب الکفایة قدّس سرّه و مثاله فی الفقه:أنّ العلماء اختلفوا فی نجاسة غسالة النجس و طهارتها،فبعضهم قال بالتفکیک بین الغسالة الاولی و الثانیة فیما یعتبر التعدّد-و ذلک فی غیر ماء الاستنجاء،فإنّ له أحکاما خاصّة-و لکنّهم اتّفقوا علی أنّها لا تکون منجّسة علی فرض نجاستها.

و قال بعضهم:إنّ هنا یتحقّق دلیل عامّ،و هو أنّ کلّ نجس منجّس،فهل الغسالة نجسة و لا تکون منجّسة حتّی یکون خروجها عن العامّ بنحو التخصیص،أم طاهرة و لا تکون منجّسة حتّی یکون خروجها عنه بنحو التخصّص؟و بالتمسّک بأصالة عدم التخصیص و بقاء عموم کلّ نجس منجّس علی حاله تثبت طهارة الغسالة،فیترتّب علیها جمیع آثار الطهارة.

و التحقیق:أنّ أصالة العموم لا تکون من الاصول الشرعیّة نظیر الاستصحاب،و لا من الاصول العقلیّة نظیر البراءة،بل تکون من الاصول العقلائیّة نظیر أصالة الظهور و أصالة الحقیقة،و ملاک حجّیّتها بناء العقلاء و عدم ردع الشارع،و عدم اتّخاذه طریقا خاصّا غیر طریقهم فی مقام التفهیم و التفهّم،و حجّیّة ظواهر الکتاب مستندة إلی ذلک،فلا بدّ فی مورد جریان هذه الاصول من إحراز بناء العقلاء،و إن لم یحرز بناؤهم أو کان مشکوکا فلا یجوز التمسّک بها؛إذ هو نظیر عدم الدلیل الشرعی علی حجّیّة شیء،و إذا راجعنا العقلاء و لاحظنا بناءهم نعلم أنّهم یتمسّکون بأصالة العموم فی صورة الشکّ فی تخصیص العامّ،أو الشکّ فی التخصیص الزائد،و الشکّ فیما نحن فیه فی أنّه هل یکون زید عالما حتّی یکون خروجه عن العامّ بنحو التخصیص،أم یکون جاهلا حتّی یکون خروجه عنه بنحو التخصّص؟و لم یحرز فی مثل هذا المورد

ص:500

تمسّکهم بالعامّ،و لا أقلّ من الشکّ فی تمسّکهم بعد عدم التردید فی مراد المتکلّم،فإنّ زیدا لا یکون واجب الإکرام قطعا،و سائر العلماء یکون واجب الإکرام قطعا،فلا مجال للتمسّک بأصالة العموم هنا،و لا یمکن لنا إحراز عدم عالمیّة زید،و عدم نجاسة الغسالة بها.

و لذا قال صاحب الکفایة قدّس سرّه:إنّ مورد التمسّک بأصالة الحقیقة هو الشکّ فی مراد المتکلّم،لا الشکّ فی کیفیّة الاستعمال،و یتحقّق هذا المعنی فی أصالة العموم أیضا.

و أمّا إذا قال المولی:«أکرم العلماء»،ثمّ قال:«لا تکرم زیدا»و لکنّه کان مردّدا بین زید العالم و زید الجاهل،فیجوز التمسّک بالعامّ،و الحکم بأنّ مراد المولی هو وجوب إکرام زید العالم،و انطباق الدلیل الثانی علی زید الجاهل، فاستفید من أصالة العموم لاستکشاف مراد المولی.

و معلوم أنّه لا مانع من ترتّب اللوازم و الملزومات العقلیّة و العادیّة علی الاصول العقلائیّة،بخلاف الاصول التعبّدیّة،نظیر الاستصحاب،و لذا یثبت فیما نحن فیه بأصالة العموم وجوب إکرام زید العالم،و هکذا یرفع بها الإبهام عن دلیل«لا تکرم زیدا»،و ینطبق علی زید الجاهل،هذا تمام الکلام فی هذا الفصل.

ص:501

ص:502

فصل: فی العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

اشارة

فی العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

هل تکون أصالة العموم متّبعة مطلقا أو بعد الفحص عن المخصّص و الیأس عن الظفر به؟

و لا بدّ لنا قبل الورود فی البحث من بیان امور بعنوان المقدّمة

اشارة

و تحریر محلّ النزاع:

الأوّل:أنّ ملاک حجّیّة أصالة العموم هو الظنّ النوعی أو الظنّ الشخصی

، بمعنی أنّ حجّیّتها متوقّفة علی حصول الظنّ الشخصی،أم یکفی فیها حصول الظنّ النوعی؟و التحقیق أنّ الملاک هو الظنّ النوعی،کما یکون کذلک فی سائر الاصول،و إن کان المراد من الاصول العقلائیّة هی القواعد العقلائیّة،و لا یکون لها أساسا یقینیّا،و لذا تصل النوبة إلی المظنّة،و یقع البحث بأنّ أیّ نوع منها یکون ملاک الحجّیة؟

الأمر الثانی:أنّ حجّیّة أصالة العموم مختصّة بالمخاطبین و المشافهین أم لا؟

و التحقیق أنّها لا تختصّ بهم،کما أنّ حجّیّة الظواهر تکون کذلک لجواز تمسّک غیر المشافهین أیضا بهما.

الأمر الثالث:أنّ محلّ النزاع هنا العامّ الصادر عن المولی

،و احتمال کونه مخصّصا بدون أیّ علم تفصیلا أو إجمالا بالتخصیص،و إلاّ لا یبقی مجال

ص:503

لجریان أصالة العموم،کما أنّه لا یبقی مجال لجریان أصالة الإباحة مع العلم الإجمالی بخمریّة أحد الإناءین.

الأمر الرابع:أنّ محلّ النزاع یختصّ بالمخصّصات المنفصلة

،فإنّ احتمال کون مراد المولی إکرام العلماء العدول أو غیر الفسّاق،و عدم ذکره المخصّص المتّصل خطأ مندفع بأصالة عدم الخطأ و الاشتباه،کما أنّ احتمال کون المراد فی مثل:

«رأیت أسدا»هو المعنی المجازی،و عدم ذکر القرینة خطأ مندفع بأصالة عدم القرینة التی هی من فروع أصالة عدم الخطأ،فلا یجری هذا النزاع فی المخصّص المتّصل.

إذا عرفت ذلک فنقول:التحقیق فی المسألة التفصیل الذی ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)،و توضیحه:أنّ العمومات علی قسمین:قسم منها ما یکون فی معرض التخصیص و یستعمل فی مقام التقنین کما هو الحال فی عمومات الکتاب و السنّة،بعد القطع باستفادة الشارع فی مقام التفهیم و التفهّم من طریق العقلاء-أی بیان مقاصده من طریق الظواهر-و هکذا فی مقام التقنین، و الطریق المتعارف بین العقلاء فی هذا المقام هو جعل القانون بصورة کلّی فی الابتداء،ثمّ تقییده و تخصیصه بعنوان التبصرة بلحاظ الموانع الموجودة،أو ترتّب المفاسد علیه فی مقام الإجراء؛لعدم إحاطتهم علما بتمام جهات القانون بحسب الأزمنة و الموارد،إلاّ أنّ الملاک فی الشریعة هی المصالح المقتضیة لجعل القانون بهذه الکیفیّة،مثل ما اقتضی بیان القوانین و الأحکام فی صدر الإسلام بصورة التدریج و التدرّج،و لذا نری بیان العامّ فی لسان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و بیان مخصّصة فی لسان الصادقین علیهما السّلام،و هذا دلیل علی عدم اتّخاذ الشارع طریقا

ص:504


1- 1) کفایة الاصول 1:353-354.

خاصّا فی مقام التقنین.

ففی هذا القسم من العمومات لا یجوز التمسّک بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص،و ذلک لأجل أنّه لو لا القطع باستقرار سیرة العقلاء علی عدم العمل به قبله فلا أقلّ من الشکّ،کیف و قد ادّعی الإجماع علی عدم جوازه فضلا عن نفی الخلاف عنه؟!و هو کاف فی عدم الجواز کما لا یخفی.

و أمّا إذا لم یکن العامّ کذلک کما هو الحال فی غالب العمومات الواقعة فی ألسنة أهل المحاورات،سواء کان بصورة الخبر،مثل:«ما أجد أحدا فی المدرسة»أم بصورة الإنشاء،مثل:«و اقرأ سلامی علی العلماء»،فلا شبهة فی أنّ سیرة العقلاء علی العمل به بلا فحص عن المخصّص،فإنّ تخصیص هذا القسم من العامّ یوجب التناقض عندهم،کما یکون العامّ و الخاصّ متناقضین بحسب المنطق؛لأنّ نقیض الموجبة الکلّیّة هی السالبة الجزئیة،و لکنّهما فی مقام التقنین لا یکونا کذلک عندهم.

ثمّ ذکر صاحب الکفایة قدّس سرّه الفرق بین الفحص عن المخصّص و الفحص فی الاصول العملیّة الجاریة فی الشبهات الحکمیّة؛بأنّ الفحص عن المخصّص فحص عمّا یزاحم الحجّة؛لأنّ ظهور العامّ فی العموم مقتض للحجّیّة إن لم یکن المزاحم الأقوی فی البین،فالفحص هنا فحص عمّا هو مزاحم للحجّة،بخلافه فی الاصول العملیّة فإنّه هنا محقّق لموضوعها،و لا یتحقّق بدونه حجّة، ضرورة أنّ حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان مثلا متوقّف علی إحراز کون المورد بلا بیان،و هکذا حکمه بالتخییر فی دوران الأمر بین المحذورین متوقّف علی عدم الدلیل المشخّص و لو أمارة ظنّیة فی البین،و هکذا حکمه بالاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی،و معلوم أنّ إحراز عدم البیان و عدم الدلیل

ص:505

المشخّص موقوفان علی الفحص،فلا یکون العقاب بدونه بلا بیان و المؤاخذة علی المخالفة من غیر برهان.

و إطلاق دلیل الاصول الشرعیّة-مثل:لا تنقض الیقین بالشکّ و رفع ما لا یعلمون-و إن دلّ علی الاستصحاب و البراءة فی موردهما من غیر تقیید بالفحص و جواز العمل بهما بدونه،إلاّ أنّ الإجماع بکلا قسمیه قائم علی تقیید الدلیل به و عدم جواز العمل بهما قبل الفحص،فالفحص هنا فحص عن وجود الحجّة،و فی أصالة العموم فحص عن مزاحم الحجّة.

و لکنّک قد عرفت:أنّ اتّصاف الدلیل بالحجّیّة متوقّف علی تحقّق ثلاثة مراحل:

الاولی:تحقّق أصل ظهور اللفظ فی معناه.

المرحلة الثانیة:تحقّق أصالة الظهور بمعنی استعمال اللفظ فی معناه الحقیقی.

المرحلة الثالثة:تحقّق أصالة التطابق بین الإرادة الاستعمالیّة و الإرادة الجدّیّة،و قد عرفت أیضا أنّ تخصیص العامّ مانع عن جریان أصالة التطابق، و اتّصاف الدلیل العام بالحجّیّة متوقّف علی عدم المخصّص،و مع عدمه یتّصف بذلک،فیرجع الفحص عن المخصّص أیضا إلی الفحص عن وجود الحجّة،و لا تتحقّق الحجّة بدونه.

و استدلّ بعض العلماء (1)علی عدم جریان أصالة العموم قبل الفحص بأنّا نعلم إجمالا بصدور المخصّصات و المقیّدات عن لسان الأئمّة علیهم السّلام للعمومات و الإطلاقات الواردة فی الکتاب و السنّة،و لا یصحّ ادّعاء تحقّق مجموعة من الروایات الصادرة عن الأئمّة علیهم السّلام فی الکتب الأربعة،بل عدّة منها لم تصل

ص:506


1- 1) مطارح الأنظار:202.

إلینا قطعا.

و دلیل عدم إیصالها جمیعا إلینا أمران:

الأوّل:عدم توفّر وسائل الطبع و النشر.

الثانی:عداوة الخلفاء الغاصبین لحقوق الأئمّة المعصومین علیهم السّلام و اتّخاذهم سیاسة خاصّة تجاههم أدّت إلی محو الکثیر من آثارهم و آثار أتباعهم عمدا، و جعل أئمّة الضلال فی مقابلهم،و نحن نلمس الآثار السیّئة لهذا العمل الشنیع إلی الآن،بل هو باق إلی زمان ظهور بقیّة اللّه الأعظم روحی و أرواح العالمین لتراب مقدمه الفداء.

و الحاصل:أنّا نعلم إجمالا بتحقّق المخصّصات و المقیّدات فی لسان الأئمّة علیهم السّلام للعمومات و الإطلاقات،و عدّة منها موجودة فی الکتب الأربعة،فلذا لا یصحّ التمسّک بها قبل الفحص عن المخصّص و المقیّد؛إذ العلم الإجمالی مانع عن جریان أصالة العموم،کما أنّه مانع عن جریان استصحاب الطهارة و أصالة الطهارة فی الإناءین المشتبهین،کما أنّه مانع عن قیام البیّنة لنفی خمریة الإناءین المشتبهین،فهذا العلم الإجمالی مانع عن التمسّک بأصالة العموم فی جمیع العمومات الواردة فی الکتاب و السنّة،و هکذا فی بعضها؛للزوم الترجیح بلا مرجّح.

و جوابه:أنّ هذا الاستدلال لا ینطبق علی جمیع موارد المدّعی،بل یثبت به قسمة منه،فإنّ العلم الإجمالی بورود مقیّدات و مخصّصات فیما بأیدینا من الکتب و إن کان مانعا من جریان أصالة العموم قبل الفحص،إلاّ أنّه بعد الفحص و العثور علی المقدار المتیقّن منها الذی هو الأقلّ یوجب انحلال العلم الإجمالی،و یکون الأکثر شبهة بدویة تجری فیه أصالة العموم،کما هو الشأن

ص:507

فی کلّ علم إجمالی تردّدت أطرافه بین الأقلّ و الأکثر،فإنّه لو سئل عن مقدار معلومه الإجمالی بأنّه یصل إلی حدّ و عدد یکون الزائد علیه مشکوکا لکان الجواب بأنّه لا علم لی بأزید من ذلک،و مقتضی ذلک هو أنّه لو عثر علی ذلک المقدار المتیقّن ینحلّ العلم الإجمالی،و لا یجب الفحص فی سائر الشبهات،بل ینبغی أن تجری أصالة العموم بلا فحص،مع أنّه واجب لدی العقلاء عند کلّ شبهة شبهة،فلا بدّ أن یکون الملاک لوجوب الفحص غیر العلم الإجمالی.

و قال المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)فی مقام الدفاع عن المستدلّ:بأنّ المعلوم بالإجمال تارة یکون مرسلا غیر معنون بعنوان یشار إلیه بذلک العنوان،و اخری یکون معنون بعنوان یشار إلیه بذلک العنوان،و انحلال العلم الإجمالی بالاطّلاع علی المقدار المتیقّن إنّما یکون فی القسم الأوّل،و أمّا القسم الثانی فلا ینحلّ بذلک، بل حاله حال دوران الأمر بین المتباینین.

و ضابط القسمین هو:أنّ العلم الإجمالی کلّیا إنّما یکون علی سبیل المنفصلة المانعة الخلوّ المنحلّة إلی قضیّتین حملیّتین،و هاتان القضیّتان تارة تکونان من أوّل الأمر إحداهما متیقّنة و الاخری مشکوکة؛بحیث یکون العلم الإجمالی قد نشأ منهما،و یکون العلم الإجمالی عبارة عن ضمّ قضیّة مشکوکة إلی قضیّة متیقّنة لیس إلاّ،کما إذا علم إجمالا بأنّه مدیون لزید و تردّد الدّین بین أن یکون خمسة دراهم أو عشرة،فإنّ هذا العلم الإجمالی لیس إلاّ عبارة عن قضیّة متیقّنة،و هی کونه مدیونا لزید بخمسة دراهم،و قضیّة مشکوکة،و هی کونه مدیونا لزید بخمسة دراهم زائدا علی الخمسة المتیقّنة،ففی مثل هذا العلم الإجمالی ینحلّ قهرا بالعثور علی المقدار المتیقّن؛إذ لا علم حقیقة بسوی ذلک،

ص:508


1- 1) فوائد الاصول 1:542-546.

و الزائد علیه مشکوک من أوّل الأمر،و لم یتعلّق العلم به أصلا،و ذلک واضح.

و اخری لا تکون القضیّتان علی هذا الوجه،بل تعلّق العلم بالأطراف علی وجه تکون جمیع الأطراف ممّا تعلّق العلم بها بوجه بحیث أنّ الأکثر علی تقدیر ثبوته فی الواقع یکون ممّا أصابه العلم،و ذلک فی کلّ ما یکون المعلوم بالإجمال معنون بعنوان کان قد تعلّق العلم به بذلک العنوان،فیکون کلّ ما اندرج تحت هذا العنوان و انطبق علیه ممّا تعلّق العلم به،سواء فی ذلک الأقلّ و الأکثر،کما إذا علم أنّه مدیون لزید بما فی الدفتر، فإنّ جمیع ما فی الدفتر من دین زید قد تعلّق العلم به،سواء کان دین زید خمسة أو عشرة،و فی مثل هذا لیس له الاقتصار علی المقدار المتیقّن؛إذ لا مؤمّن له علی تقدیر ثبوت الأکثر فی الواقع بعد ما أصابه العلم،فحال العلم الإجمالی فی مثل هذا الأقلّ و الأکثر حال العلم الإجمالی فی المتباینین فی وجوب الفحص و الاحتیاط.

إذا عرفت ذلک فنقول:ما نحن فیه من العلم الإجمالی المعنون المقتضی للفحص التامّ الغیر المنحلّ بالعثور علی المقدار المتیقّن؛لأنّ العلم قد تعلّق بأنّ فی الکتب التی بأیدینا مقیّدات و مخصّصات،فیکون نظیر تعلّق العلم بأنّه مدیون لزید بما فی الدفتر،فتعلّق العلم بکلّ مقیّد و مخصّص وصل إلینا فی الکتب،و قد عرفت أنّ مثل هذا العلم الإجمالی لا ینحلّ بالعثور علی المقدار المتیقّن،بل لا بدّ فیه من الفحص التامّ فی جمیع ما بأیدینا من الکتب.هذا تمام کلامه قدّس سرّه و یکون قابلا للاستفادة فی موارد متعدّدة بعنوان القاعدة.

و لکن استشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1):أوّلا بالنقض،و هو:أنّ

ص:509


1- 1) تهذیب الاصول 1:499-500.

عنوان ما فی الدفتر علامة و خصوصیّة للدین،و معلوم أنّه یتحقّق فی جمیع الدیون نظیر هذه الخصوصیّة من حیث زمان الدین و مکانه و غایته،مثل:

تردّد الدین الذی أخذه فی أوّل الشهر أو فی سفر مکّة بین خمسة دراهم و عشرة دراهم،و لا شکّ فی أنّ نسبة هذین العنوانین إلی الأقلّ و الأکثر أیضا علی السواء،فلا فرق بین هذه العناوین و عنوان ما فی الدفتر،و لازم بیانه قدّس سرّه لزوم الاحتیاط فی جمیع موارد الدیون المردّدة بین الأقلّ و الأکثر،مع أنّه لم یلتزم بذلک.

و ثانیا بالحلّ،و هو:أنّ المعلوم بالإجمال قد یکون عنوانا متعلّقا بنفسه للحکم الشرعی،وضعیّا کان أم تکلیفیّا،و قد لا یکون کذلک،بل یکون مقارنا أو ملازما لما هو الموضوع للحکم الشرعی،و علی الأوّل قد یکون العنوان أمرا بسیطا غیر مقدور للمکلّف بلا واسطة-بل مقدور له بالواسطة- و قد یکون أمرا مرکّبا مقدورا له بلا واسطة.

و مثال الأوّل:هو الطهور فی قول الشارع:لا صلاة إلاّ بطهور،بناء علی کونه عبارة عن الحالة النفسانیّة التی تحصل عقیب الوضوء و الغسل،فهو متضمّن لبیان الحکم الشرعی الوضعی باسم الشرطیّة للطهور،فإن شککنا فی أجزاء سببه بین الأقلّ و الأکثر فلا شکّ فی لزوم الاحتیاط،فإنّه شکّ فی المحصّل،و براءة الذمّة متوقّفة علی إحراز الشرط،و هو لا یحصل إلاّ بإتیان الأکثر فلا بدّ من الاحتیاط.

و مثال الثانی:هو الصلاة فی صورة الشکّ فی جزئیّة السورة مثلا لکونها مرکّبة مردّدة بین الأقلّ و الأکثر،و تعلّق التکلیف بنفسها و مقدورة للمکلّف بلا واسطة،و هذا من موارد دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین الذی

ص:510

اختلف القوم فی جریان أصالة الاشتغال فیه أو البراءة،و صاحب الکفایة قدّس سرّه قائل بجریان البراءة الشرعیّة فیه دون البراءة العقلیّة (1).

و مثال الثالث عبارة عمّا نحن فیه.

و التحقیق:أنّه یعتبر فی منجّزیّة العلم الإجمالی أن یکون المعلوم بالإجمال

-نظیر المستصحب-حکما شرعیّا أو موضوعا للحکم الشرعی،مثل:العلم الإجمالی بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة،أو العلم الإجمالی بخمریّة أحد المائعین،و لا بدّ هاهنا من الاحتیاط.

و أمّا إذا کان المعلوم بالإجمال مقارنا مع موضوع الحکم الشرعی أو ملازما له فلا منجّزیّة للعلم الإجمالی،و لا یترتّب علیه فی الشریعة حکم،ففی مثال الدین موضوع الحکم الشرعی هو أداء الدین فی صورة مطالبة الدائن و قدرة المدیون علی الأداء،و لا أثر لإثباته فی الدفتر،و هذا لا یوجب للاحتیاط،أو الموضوع عبارة عن اشتغال الذمّة بالدین،سواء کان مضبوطا فی الدفتر أم لا، و هکذا فیما نحن فیه؛إذ المانع من جریان أصالة العموم عند العقلاء هو العلم الإجمالی بالمخصّصات و المقیّدات،لا العلم الإجمالی بوجود المخصّصات فی الجوامع الروائیّة و الکتب التی بأیدینا،و العلم بالمخصّص نظیر العلم بأصل الدین،و الفحص عن القدر المتیقّن منها کاف لجریان أصالة العموم،و الشکّ بالنسبة إلی المخصّصات الزائدة بدویّ و مجری للبراءة،فلا یصحّ دفاع المحقّق النائینی قدّس سرّه عن المستدلّ بالعلم الإجمالی،فإنّ عنوان ما فی الدفتر و ما فی الجوامع الروائیّة لا یکون حکما شرعیّا و لا موضوعا له،فکیف یکون موجبا للاحتیاط؟

ص:511


1- 1) کفایة الاصول 2:228-235.

نعم،إذا علم الحال بأدنی فحص و مراجعة الدفتر بدون أیّ مشکلة یجب الفحص و لو کان الشکّ بدویّا،إلاّ فی باب النجاسات؛لما رواه زرارة (1)فی الصحیحة الثالثة.

ص:512


1- 1) انظر:الوسائل 3:466،الباب 37 من أبواب النجاسات،الحدیث 1.

فصل: فی الخطابات الشفاهیّة

اشارة

فی الخطابات الشفاهیّة

هل الخطابات الشفاهیّة-مثل: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا -تختصّ بالحاضر فی المجلس التخاطب،أو تعمّ غیره من الغائبین بل المعدومین؟

هذا ما جعله الاصولیّون عنوانا لمحلّ البحث،

و لکنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه

اشارة

یقول:إنّه یحتمل أن یکون محلّ النزاع أحد وجوه ثلاثة:

(1)

الأوّل:أن یقال:هل یصحّ تعلّق التکلیف المتکفّل له الخطاب بالمعدومین

کما یصحّ تعلّقه بالموجودین أم لا؟

و هذا العنوان یشمل ما لا یکون مقرونا بأداة الخطاب أیضا،مثل:قوله تعالی: وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (2)،ففی هذا الفرض لا یعتبر عنوان خطاب المشافهة،کما أنّه لا فرق فی الموجودین فی زمان التکلیف بین الحاضرین و الغائبین،و یکون النزاع علی هذا الاحتمال نزاعا عقلیّا،و الحاکم فیه هو العقل.

الثانی:أنّه هل یصحّ خطاب المعدومین بالأداة الموضوعة له کالنداء

و ضمیر الخطاب عقلا أم لا؟

فیکون محور البحث فی هذا الفرض هو المخاطبة،

ص:513


1- 1) کفایة الاصول 1:354-355.
2- 2) آل عمران:97.

و ینطبق عنوان الاصولیّین علیه،و یجری هذا النزاع فی الغائب الموجود فی زمان التکلیف أیضا،و یکون النزاع علی هذا الاحتمال أیضا نزاعا عقلیّا.

الثالث:أنّ الألفاظ العامّة،مثل:«الذین»و«الناس»الواقعة عقیب أداة

الخطاب،مثل:«یا أیّها»،هل تعمّ الغائبین-بل المعدومین-بالوضع أم لا؟

توضیح ذلک:أنّ الظاهر من أداة الخطاب هو الاختصاص بالحاضرین الموجودین،و الظاهر من العناوین العامّة المذکورة هو شمول جمیع المکلّفین إلی یوم القیامة،و البحث فی أقوائیّة ظهور أیّ منهما،فیکون النزاع علی هذا الوجه لغویّا.هذا تمام کلامه قدّس سرّه.

و لکن سلّمنا أنّ المسألة علی الاحتمالین الأوّلین مسألة عقلیّة،إلاّ أنّ المسألة العقلیّة قد تکون بدیهیّة،و قد تکون نظریّة،و ما یبحث عنه فی علم الاصول هی العقلیّة النظریّة،فلا یصحّ تحریر محلّ النزاع بمثل ما ذکره فی الاحتمال الأوّل و الثانی،فإنّ بطلان تعلّق البعث و الزجر بالمعدوم مع وصف کونه معدوما،و هکذا خطابه بالخطاب الحقیقی من البدیهیّات العقلیّة،و لا یکون قابلا للبحث فضلا عن النزاع فیه فی الأعصار و الأمصار،و الاختلاف هنا یرشدنا إلی عدم صحّة تحریر محلّ النزاع بهذه الکیفیّة.

و لکن نسب إلی بعض علماء الحنابلة-کما ذکر صاحب الفصول قدّس سرّه (1)- قولهم بجواز خطاب المعدوم و تکلیفه فی حال المعدومیّة،و استدلّوا بقوله تعالی: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ (2)،بأنّه تعالی یوجّه التکلیف قبل إیجاد شیء و وجوده بواسطة لفظ«کن»و بعد جعله مخاطبا

ص:514


1- 1) الفصول الغرویة:179-183.
2- 2) یس:82.

یصیر موجودا،فیصحّ خطاب المعدوم و تکلیفه فی حال المعدومیّة.

و یستفاد من هذا الاستدلال جعلهم أیضا محلّ النزاع أحد الاحتمالین المذکورین فی کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه مع أنّه یرد علیه.

أوّلا:أنّ المسألة العقلیّة لا تحتاج إلی الاستدلال بالکتاب و السنّة بعد استقلال العقل فی الدلیلیّة،فلا یصحّ التمسّک بالآیات و الروایات فی المسائل العقلیّة.

و ثانیا:أنّ الآیة الشریفة تکون فی مقام بیان الإرادة التکوینیّة-یعنی إذا تعلّقت إرادته التکوینیّة بإیجاد شیء فیوجد-و لا تکون فی مقام بیان إرادته التشریعیّة حتّی تحتاج إلی الخطاب.

و ثالثا:أنّ معنی الآیة الشریفة معنی کنائی،کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه و الفلاسفة،و هو أنّه لا یمکن تخلّف المراد عن الإرادة فی الإرادة التکوینیّة، بخلاف الإرادة التشریعیّة،فلا یصحّ استدلال بعض الحنابلة حتّی نحتاج إلی جعل محلّ النزاع أحد الاحتمالین المذکورین فی کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و هکذا لا یصحّ الاحتمال الثالث المذکور فی کلامه قدّس سرّه،فإنّ کون المسألة لغویّة و إن کان لا ینافی البحث عنها فی الاصول ککون هیئة«افعل»موضوعة للوجوب و مثله،و لکنّها تحتاج إلی جعل العنوان أنّ أداة الخطاب هل تکون قرینة للتصرّف فی العناوین العامّة أو العناوین العامّة تکون قرینة للتصرّف فی أداة الخطاب؟

و الحال أنّه لا یری فی الکلمات جعل العنوان بهذه الکیفیّة،بل جعل العنوان فی الکتب الاصولیّة أنّ الخطابات الشفاهیّة هل تعمّ الغائبین و المعدومین نظیر الحاضرین أم لا؟فلا تصحّ جمیع الاحتمالات المذکورة فی کلامه قدّس سرّه أن یجعل

ص:515

محلاّ للنزاع.

و التحقیق:

اشارة

بعد امتناع تکلیف المعدوم و مخاطبته معه عقلا أن یجعل محلّ النزاع أنّ شمول الأدلّة المتضمّنة للأحکام للمعدومین هل یستلزم توجّه التکلیف إلیهم و مخاطبتهم،نظیر الحاضرین و الموجودین فی زمان الخطاب أم لا یستلزم ذلک؛إذ یستفاد شمولها لهم من قاعدة الاشتراک فی الحکم المستندة إلی الإجماع أو الضرورة؟

و لا بدّ لنا من ملاحظة کیفیّة جعل الأحکام فی الشریعة بأنّها مجعولة بصورة القضیّة الخارجیّة أو بصورة القضیّة الطبیعیّة أو بصورة القضیّة الحقیقیّة،و معلوم أنّ الموضوع فی القضیّة الطبیعیّة هو نفس الطبیعة و الماهیّة، بدون دخالة أیّ نوع من الوجود فیه،و علامتها جواز إضافة کلمة الماهیّة إلی الموضوع،مثل:«الإنسان حیوان ناطق»،و إن احتاج تشکیل القضیّة إلی الوجود الذهنی-یعنی تصوّر الموضوع و المحمول-و لکن لا مدخلیّة له فی أصل القضیّة،و إلاّ تکون القضیّة کاذبة؛لعدم إمکان حمل الإنسان الموجود فی الذهن علی الحیوان الناطق الموجود فیه؛لکونهما فردین من الوجود.

و الموضوع فی القضیّة الخارجیّة هو الموجود بالفعل و المحقّق فی الخارج، مثل:أن یقول المرجع الواجب الإطاعة:«إنّ مشارکة العلماء فی تشییع جنازة المرحوم الگلپایگانی قدّس سرّه واجبة»،و من البدیهی أنّ هذا الحکم یختصّ بالأفراد الموجودین بالفعل،و لا یشمل الموجودین فی الماضی و المستقبل.

و الموضوع فی القضیّة الحقیقیّة أفراد الطبیعة القابلة للصدق علی الموجود فی الحال و الاستقبال،مثل:«کلّ نار حارّة»،فإنّ لفظة«نار»بوحدتها لا تدلّ إلاّ علی نفس الطبیعة،و قد ذکرنا مکرّرا أنّ الطبیعة و إن کانت متّحدة مع الأفراد

ص:516

بالوجود الخارجی،و لکنّها لا تدلّ علیها و لا تحکی عنها،بخلاف الأفراد فإنّها تدلّ بالدلالة التضمّنیّة علی الطبیعة،فکلمة«النار»لا تحکی إلاّ عن ماهیّة النار،و لکن بعد جعلها مضاف إلیه لکلمة الکلّ الذی یدلّ بحسب الدلالة الوضعیّة علی استیعاب أفراد مدخوله یکون معناها:أنّ کلّ فرد من أفراد طبیعة النار حارّة،و هذا الحکم لا یختصّ بالأفراد الموجودة بالفعل،بل یشمل الأفراد التی تتحقّق فی المستقبل أیضا.

لا یقال:إنّ هذا المعنی یتنافی مع القاعدة الفرعیّة،أی ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له؛بأنّه کیف یمکن اتّصاف النار التی لم تتحقّق بعد بأنّها حارّة؟

فإنّا نقول:إنّ المراد من قضیّة«کلّ نار حارّة»هو تحقّق الاتّحاد بین النار الواقعیّة و الحقیقیّة و الحرارة،یعنی إذا تحقّقت النار فی الخارج تتّصف بأنّها حارّة.

نکتة:

أنّ دلالة کلمة«کلّ»علی استیعاب الأفراد تکون بمعنی نظارتها إلی الکثرة بدون خصوصیّاتها الفردیّة،فمعنی«کلّ نار حارّة»أنّ کلّ النار الموجودة بالفعل أو فیما یأتی تتّصف بأنّها حارّة،بلا فرق بین أنواع منشأها، و خصوصیّاتها الزمانیّة و المکانیّة،فلا یمکن التفکیک بین النار و الاتّصاف بالحرارة.

نکتة اخری:

إذا قال قائل:«کلّ إنسان حیوان ناطق»هل هی قضیّة طبیعیّة أم حقیقیّة؟ مع أنّ الحیوان الناطق وصف لماهیّة الإنسان.

ص:517

و جوابه:أنّ مثل هذا التعبیر لا یصدر من الحکیم الملتفت؛إذ لا تترتّب علی الإتیان بلفظة«کلّ»فائدة،و لا تحتاج الطبیعة إلیها،و لا یصحّ اتّصاف الوجود خاصّة بالوصف المذکور.

و لکن یقتضی ظاهر عبارة المحقّق النائینی قدّس سرّه أنّ نسبة المعدومین و الموجودین فی القضیّة الحقیقیّة علی السواء؛إذ المعدومون ینزّلون بمنزلة الموجودین،و هذا الفرض و التقدیر یکون مجوّزا لحمل المحمول علیها نظیر حمله علی الموجودین،فالموضوع فی القضیّة الحقیقیّة عبارة عن الأفراد الموجودة،سواء کانت موجودة بالحقیقة أم بالتنزیل.

و التحقیق:أنّ الاستعمالات العرفیّة لا تساعد علی هذا التفسیر،فإنّ القضیّة الحقیقیّة ممّا یکون متداولا فی الاستعمالات،و لکن لا یلتفت أحد من المستعملین إلی أنّ لها أفرادا موجودة بالفعل و أفرادا موجودة بالتنزیل،و ما یساعده الوجدان و نظر أهل المعقول أنّه لا بدّ فی القضیّة الحقیقیّة من وجود الموضوع،و کلمة الکلّ فی مثل:«کلّ نار حارّة»تدلّ علی استیعاب الأفراد، و معلوم أنّ الاتّصاف بالفردیّة یتوقّف علی وجود النار خارجا،و إذا تحقّقت الفردیّة تکون متّحدة مع الحرارة.

إذا عرفت هذا فنرجع إلی أصل البحث،و أنّ الأحکام الشرعیّة هل تختصّ بالموجودین و الحاضرین و تشمل المعدومین من باب الاشتراک فی الحکم،أم لا؟و حلّ المعضلة فی الأدلّة الغیر المشتملة علی أداة الخطاب،مثل: وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (1)یکون بصورة القضیّة الحقیقیّة، و لا یتوهّم اختصاص الحکم فیها بالمستطیعین عند الخطاب؛لشموله لکلّ

ص:518


1- 1) آل عمران:97.

إنسان مستطیع بالاستطاعة المالیّة و البدنیّة و الزمانیّة و السربیّة.

و أمّا فی الأدلّة المشتملة علی أداة الخطاب بعد شرطیّة وجود المخاطب و حضوره فی مجلس التخاطب فی الخطابات الحقیقیّة،فقال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی مقام حلّ المعضلة هنا:إنّ منشأ الإشکال هو توهّم وضع أداة الخطاب للخطاب الحقیقی،و لکن کما أنّ الطلب یکون علی قسمین:قسم منه طلب حقیقیّ،و هو یرتبط بعالم النفس کارتباط العلم بها،و قسم منه طلب إنشائی،و هو إنشاء مفهوم الطلب بواسطة هیئة«افعل»و أمثال ذلک، و الموضوع له هو الطلب الإنشائی،و الداعی قد یکون الطلب الحقیقی و قد یکون الاختبار و نحو ذلک،کذلک فی أداة الخطاب یکون الموضوع له هو الخطاب الإنشائی،و لکنّه یکون مقارنا و متّحدا مع الخطاب الحقیقی،و قد لا یکون کذلک،إلاّ أنّها تنصرف إلی الخطاب الحقیقی عند الإطلاق بدون القرینة،و لا فرق فی الخطاب الإنشائی بین الموجود و المعدوم،بل بین النباتات و الجمادات من حیث صحّة الاستعمال،و لذا لا یکون خطاب المؤمنین الغیر الموجودین بقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2)مستحیلا.

و هکذا فی أداة الاستفهام یکون الموضوع له هو الاستفهام الإنشائی، و الداعی قد یکون الاستفهام الحقیقی،و قد یکون الإنکار،و قد یکون التقریر و أمثال ذلک،و هکذا فی باب التمنّی و الترجّی،و لذا لا یصحّ الإشکال علی الاستفهام و التمنّی و الترجّی الواردة فی القرآن؛بأنّ لازم هذه العناوین جهل المستفهم و المتمنّی و المترجّی لاستعمالها فی معناها الحقیقی.هذا تمام کلامه قدّس سرّه

ص:519


1- 1) کفایة الاصول 1:365.
2- 2) المائدة:1.

بتلخیص و توضیح.

و التحقیق:أنّ عنوان البحث بأنّ الخطابات الشفاهیّة هل تختصّ

بالحاضرین أم تشمل الغائبین و المعدومین أیضا

،ثمّ التمثیل لها بقوله تعالی:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لیس بصحیح؛إذ المخاطب فی الخطابات القرآنیة هو الباری تعالی،و لا دخل لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فیها إلاّ تبلیغها و تبینها بعد الوحی إلیه صلّی اللّه علیه و آله،مع أنّه لا شاهد لتشکیل مجلس التخاطب عند نزول کلّ آیة منها حتّی یکون الحاضرون القدر المتیقّن من المخاطبین،و الحال أنّ الخطاب الشفاهی بمعنی کون المخاطب فی مقابل المخاطب و استماع الخطاب من لسانه مستحیل فی حقّ الباری؛لاستلزامه الجسمیّة،فلا محالة تکون الخطابات القرآنیّة خارجة عن دائرة هذه المسألة.

علی أنّ ذکر کلمة«قل»فی الخطابات المصدّرة بها أقوی شاهد لعدم کونها من الخطابات الشفاهیّة المرتکزة فی أذهاننا،مع أنّه لا دلیل لتشکیل مجلس التخاطب من الکافرین بعد نزول سورة«الکافرون»،و ذلک لأنّ القرآن کتاب اللّه،کما عرّف نفسه بکتاب مبین،و کتاب لا ریب فیه،و نحو ذلک.

و لا بدّ من الالتفات إلی أمرین:

الأوّل:أنّه لا بدّ لکلّ نبیّ من المعجزة المناسبة لما هو شائع فی عصره و زمانه مثل:جعل العصا ثعبانا بید موسی علیه السّلام فی عصر شیوع السحر،و إحیاء الأموات و شفاء الأبرص و الأکمه علی ید عیسی علیه السّلام فی عصر شیوع الطبابة، و إتیان القرآن بواسطة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فی عصر شیوع الفصاحة و البلاغة فی أوساط العرب.

الأمر الثانی:أنّ دلیل کون القرآن المعجزة البارزة و الکاملة لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله

ص:520

هو أنّ بعد کون الإسلام بعنوان الدین الکامل و الباقی و المستمرّ إلی یوم القیامة لا بدّ له من معجزة کذلک،و لا یمکن أن تکون معجزة دائمیّة سوی الکتاب، و لذا لا یمکن لأحد من أبناء البشر الإتیان بمثل سورة صغیرة من القرآن إلی یوم القیامة.

و یستفاد من ذلک أنّ ترتیب السور و الآیات القرآنیّة و تدوین کلّ آیة و سورة فی محلّها بواسطة الکتاب کان فی عصر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،و أمره الناشئ من الوحی الإلهی؛إذ لا یصحّ إطلاق الکتاب علی الأوراق المنتشرة و المتفرّقة بین الناس،و تعریفه بالکتاب یهدینا إلی الالتزام بذلک،بخلاف ما التزم به العلاّمة الطباطبائی قدّس سرّه،و أمّا الجمع المنسوب إلی أمیر المؤمنین علیه السّلام فهو جمع القرآن و ما یرتبط به من التأویل و التفسیر،و شأن النزول لا جمع أصل القرآن.

فلا یکون مثل قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)خطابا شفاهیّا،بل یکون خطابا کتبیّا،و لا یلزم فیه حضور المخاطبین و مجلس التخاطب و أمثال ذلک،و هذا نظیر خطاب استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه بالمسلمین فی وصیّته بحفظ النهضة الإسلامیّة و الثورة علی حکّام الجور،و لعلّه کتبها فی نصف اللیل من دون حضور أیّ فرد عنده،و لا یلزم فیه ما یشترط فی الخطاب الشفاهی،و هکذا فی الخطابات القرآنیّة.

و یؤیّده تکلیف الکفّار بفروع الدین،مثل تکلیفهم بالاصول و شمول الأحکام لجمیع أبناء البشر،و ذکر عنوان المؤمنین فی بعض الآیات یکون من باب المثال و الإشارة إلی خصوصیّة بعض المکلّفین.

و یؤیّده أیضا أنّ استفادة الحکم من الآیة المشتملة علی أداة الخطاب و الآیة

ص:521


1- 1) المائدة:1.

الغیر المشتملة لها تکون علی نحو واحد وجدانا،و لا تختصّ الاولی بالحاضرین فی مجلس التخاطب حتّی تشمل الغائبین و المعدومین بمعونة قاعدة الاشتراک،بل لا فرق بینهما من حیث شمول جمیع المکلّفین بصورة القضیّة الحقیقیّة.

و لا تکون الخطابات القرآنیّة من الخطابات الشفاهیّة،و لا یصحّ جعل عنوان البحث بمثل ما هو الشائع و المذکور فی الکتب الاصولیّة،و عمومیّة الخطابات القرآنیّة لجمیع المکلّفین إلی یوم القیامة ممّا لا شبهة فیه کما ذکرناه.

ص:522

فصل: فی ثمرة الخطابات الشفاهیّة

فی ثمرة الخطابات الشفاهیّة

ثمّ ذکر صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)ثمرتین لکیفیّة البحث المذکور فی الکتب الاصولیّة،و نحن أیضا نبحث عنهما تبعا له:

الاولی:أنّ الخطابات الشفاهیّة إن کانت متوجّهة إلی المعدومین -کالموجودین-فظواهرها حجّة لهم کحجّیّتها للمشافهین،فیجوز لهم التمسّک بعمومها و إطلاقها،و إن لم تکن متوجّهة إلیهم فلا تکون ظواهرها حجّة لهم، فلیس لهم التمسّک بها لإثبات الأحکام فی حقّهم،بل لا سبیل إلی إثباتها لهم إلاّ الإجماع و قاعدة الاشتراک.

و لکن أنکر صاحب الکفایة قدّس سرّه ترتّب هذه الثمرة علی البحث، و حاصل کلامه:أنّ المحقّق القمّی قدّس سرّه (2)اختلف مع المشهور فی أصل حجّیّة الظواهر،و قال:بحجّیّتها لخصوص المقصودین بالإفهام، بخلاف المشهور فإنّهم یقولون:بحجّیّتها للعموم بلا فرق بین المقصودین بالإفهام و غیرهم.

ص:523


1- 1) کفایة الاصول 1:359.
2- 2) قوانین الاصول 1:233.

فإن اخترنا نظر المشهور هنا فلا شکّ فی حجّیّة الظواهر للعموم کما لا یخفی، و إن اخترنا نظر المحقّق القمّی قدّس سرّه فیکون الأمر أیضا کذلک،فإنّ المقصودین بالإفهام لیس هم خصوص المخاطبین و الحاضرین فی مجلس التخاطب،بل الظاهر أنّ الناس کلّهم إلی یوم القیامة مقصودون بالإفهام کما یومئ إلیه غیر واحد من الأخبار.

و لکنّ المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)کان مصرّا علی ترتّب هذه الثمرة،و یقول:إن کانت الخطابات الشفاهیّة مقصورة علی المشافهین و لا تعمّ غیرهم فلا معنی للرجوع إلیها و حجّیّتها فی حقّ الغیر.

و التحقیق:أنّه لیس بصحیح،فإنّ اختصاص الخطاب بالمشافهین مسألة،وسعة حجّیّة الخطاب المتضمّن للحکم مسألة اخری،فعلی القول باختصاص الخطابات بالمشافهین یصحّ للمعدومین أیضا التمسّک و الرجوع إلی مثل قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، إلاّ أنّه یکون لهم بالواسطة،و بعد تمامیّة الصغری و الکبری بأنّه لا بدّ من إثبات وجوب الوفاء بها للحاضرین فی مجلس التخاطب،ثمّ إثباته للمعدومین بدلیل الاشتراک فی الحکم الناشئ من الضرورة أو الإجماع،فهذه الآیة حجّة للحاضرین،و کلّ ما کان حجّة لهم یکون حجّة لنا أیضا بالدلیل المذکور، فهذه الآیة حجّة لنا،فلا تترتّب الثمرة المذکورة إلاّ علی القول بحجّیّة الظواهر للمقصودین بالإفهام،و أنّ المقصودین بالإفهام هم المشافهون،و کلاهما مردود عندنا کما ذکرناه.

الثمرة الثانیة:أنّ المشافهین و الحاضرین فی زمان صدور الخطاب إذا کانوا

ص:524


1- 1) فوائد الاصول 1:549.

واجدین لخصوصیّة دون المعدومین-مثل:خصوصیّة حضور المعصوم علیه السّلام و شککنا فی مدخلیّة هذه الخصوصیّة فی ثبوت الحکم،نحو وجوب صلاة الجمعة-فیصحّ التمسّک بإطلاق الخطاب علی القول بعمومیّته للحاضرین و المعدومین،فیمکن إثبات وجوب صلاة الجمعة للمعدومین بقوله تعالی:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا نُودِیَ لِلصَّلاةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلی ذِکْرِ اللّهِ... (1)لشمول نفس الخطاب لهم کالموجودین.

و أمّا علی القول باختصاص الخطاب بالمشافهین فلا یجوز لهم التمسّک به لإثبات الحکم المذکور؛لعدم شمول الخطاب لهم،و عدم جریان قاعدة الاشتراک؛لجریانها فیما لو تحقّقت جمیع الخصوصیّات المعتبرة فی تکلیف المکلّفین،و هکذا الخصوصیّات المحتملة الدخیلة فیه،و هذا ما عبّر عنه فی الکفایة بالاتّحاد فی الصنف،و معلوم أنّ المعدومین فاقدون لخصوصیّة حضور المعصوم علیه السّلام.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (2):إنّ الخصوصیّات و القیود علی نوعین:

الأوّل:ما کان کلّ المشافهین واجدا له،مثل:قید حضور المعصوم علیه السّلام،فإذا کان الشکّ فی مدخلیّة مثل هذا القید تترتّب الثمرة المذکورة بلا إشکال.

النوع الثانی:ما کان بعض الحاضرین واجدا له و البعض الآخر فاقدا له،أو کان مکلّف واحد واجدا له فی حال و فاقدا له فی حال آخر،فإذا کان الشکّ فی مدخلیّة هذا النحو من القید فی ثبوت الحکم فلا تترتّب الثمرة المذکورة؛إذ لو کان له دخل لکان علی المولی الحکیم بیانه،و حیث إنّه لم یبیّن فیستفاد عدم

ص:525


1- 1) الجمعة:9.
2- 2) کفایة الاصول 1:359-361.

مدخلیّته،و أنّ الحکم ثابت للمشافهین بنحو الإطلاق،و هکذا للمعدومین إمّا بقاعدة الاشتراک،و إمّا بنفس الدلیل المتضمّن للحکم،سواء قلنا باختصاص الخطابات بالمشافهین أم بتعمیمه.هذا تمام کلامه قدّس سرّه بتصرّف،و تمام الکلام فی الخطابات الشفاهیّة.

ص:526

فصل: فی تعقّب العامّ بضمیر یرجع إلی بعض أفراده

فی تعقّب العامّ بضمیر یرجع إلی بعض أفراده

هل تعقّب العامّ بضمیر یرجع إلی بعض أفراده یوجب تخصیصه به أو لا؟ و توضیح ذلک یحتاج إلی بیان أمرین:

الأوّل:ما أشار إلیه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)إجمالا،و هو:أنّ محلّ النزاع بکیفیّته المذکورة فی عنوان البحث یمکن تصویره بصورتین:

الاولی:ما یکون خارجا عن محلّ النزاع بأن یتحقّق فی الکلام حکم واحد،و لم یکن العامّ مستقلاّ بالحکم،بل کان حکمه حکم الضمیر،و یکون العامّ و الضمیر معا موضوعا للحکم،مثل:أن یقول:«و المطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهن»،و دلالة الجمع المحلّی باللام-أی المطلقات-علی العموم-أی الرجعیّات و البائنات-ممّا لا شبهة فیه،و لکنّ الکلمة المشتملة علی الضمیر -یعنی أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ-یوجب اختصاص الحکم بالمطلّقات الرجعیّات،و صاحب الکفایة قدّس سرّه قائل بخروج هذا الفرض عن محلّ النزاع، و أنّ رجوع الضمیر إلی بعض أفراد العامّ یوجب تخصیص العامّ،و الحال أنّ التخصیص یکون بالنسبة إلی الحکم أبدا،و لم یحمل الحکم هاهنا أصلا علی

ص:527


1- 1) کفایة الاصول 1:362.

العامّ،فکیف یمکن تخصیصه؟!کأنّه یقول من الابتداء:و المطلّقات بعولة خصوص الرجعیّات منهنّ أحقّ بردّهنّ،إلاّ أنّ هذا النزاع مع صاحب الکفایة قدّس سرّه یکون نزاعا لفظیّا،فإنّ هذا الفرض خارج عن محلّ النزاع.

الصورة الثانیة:ما یکون محلّ النزاع،و هو أن یکون العامّ و الضمیر موضوعین مستقلّین للحکمین المتغایرین،و لکنّ مرجع الضمیر یکون بعض أفراد العامّ قطعا،و البحث فی أنّ رجوع الضمیر إلی بعض أفراده هل یوجب تخصیص حکم العامّ أیضا بمرجع الضمیر أم لا؟کما فی قوله تعالی:

وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (1)-إلی قوله-: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ،و معنی الجملة الاولی بلحاظ عمومیّة الموضوع:أنّ کلّ مطلّقة -سواء کانت بائنة أم رجعیّة-یجب أن تعتدّ بثلاثة قروء،و لکن لا شکّ فی رجوع ضمیر بعولتهنّ إلی المطلّقات الرجعیّات فقط،فهل یستلزم هذا للالتزام باختصاص وجوب التربّص أیضا بالمطلّقات الرجعیّات أم لا؟

الأمر الثانی:ما لم یتعرّضه صاحب الکفایة قدّس سرّه و هو:أنّه یمکن أن یقال:إنّ مرجع الضمیر لیس بعض الأفراد،بل جمیع الأفراد یکون المرجع،و الموضوع للحکم الثانی کالموضوع للحکم الأوّل.

و جوابه:أنّ هذا الأمر یستفاد إمّا من الدلیل النقلی کالإجماع و الروایات و أمثال ذلک،و إمّا من الدلیل العقلی،نظیر قول المولی للعبید:«أهن الفسّاق و اقتلهم»،و العقل یحکم بأنّ وجوب القتل یختصّ ببعض الفسّاق،و رجوع الضمیر إلی بعض الفسّاق لا یوجب رفع الید عن عمومیّة الحکم الأوّل، و معلوم أنّ الدلیل النقلی یکون بمنزلة قرینة منفصلة،و الحکم العقلی یکون

ص:528


1- 1) البقرة:228.

بمنزلة قرینة متّصلة،و لعلّه یتحقّق الفرق الحکمی بینهما من حیث البحث الاصولی.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ فی محلّ النزاع فی بادئ النظر یتصوّر ثلاثة احتمالات:

الأوّل:أن یکون محلّ النزاع خصوص ما یستفاد المرجع من القرینة المنفصلة.

الثانی:أن یکون محلّ النزاع خصوص ما یستفاد هذا الأمر من القرینة المتّصلة.

الثالث:أن یکون کلاهما محلّ النزاع،و لکنّ تمثیل العلماء للمسألة بالآیة الشریفة یوجب انتفاء الاحتمال الثانی،فإنّ رجوع الضمیر فیها إلی بعض الأفراد یستفاد من القرینة المنفصلة،فیبقی هاهنا الاحتمال الأوّل و الثالث،فلا بدّ من البحث فیهما.

و الاحتمال الذی ذکر مثاله فی کلمات العلماء و یکون القدر المتیقّن من محلّ النزاع،و التحقیق فیه:أنّ تخصیص العامّ لا یستلزم المجازیّة فیه؛إذ التخصیص یوجب التصرّف فی الإرادة الجدّیّة و أصالة التطابق،لا فی الإرادة الاستعمالیّة و أصالة الظهور،کما استفدناه من المحقّق الخراسانی قدّس سرّه و زیّناه بالألفاظ و الکلمات و الأمثلة،ففیما نحن فیه یستفاد اختصاص الحکم بأحقّیّة الردّ لبعولة المطلّقات الرجعیّات فقط من الدلیل الخارجی کالروایات،مثل:أن یقول:«لا یجوز لبعولة المطلّقات البائنات الرجوع إلیها»،و معلوم أنّه لیس لهذا الدلیل فی مقابل العامّ عنوان سوی المخصّص،و من هنا یستفاد أنّ الضمیر لم یرجع إلی بعض أفراد العامّ،فإنّه قام مقام اسم الظاهر«المطلّقات»،و المراد الاستعمالی

ص:529

منه جمیع المطلّقات لا بعضها،ففی الحقیقة رجع الضمیر إلی جمیع أفراد العامّ، فتخصیص العامّ الثانی من حیث المراد الجدّی ببعض أفراد العامّ بالقرینة المنفصلة لا یوجب تخصیص العامّ الأوّل أیضا به؛إذ لم تنهض فی مقابله قرینة و لم یعرض له التخصیص،فالعموم باق علی حاله.

و العجب من صاحب الکفایة قدّس سرّه لاتّخاذه هنا طریقا مخالفا لهذا المبنی المتین کأنّه عرضه النسیان عن هذا المبنی،فإنّه یقول:و التحقیق أن یقال:إنّه حیث دار الأمر بین التصرّف فی العامّ بإرادة خصوص ما ارید من الضمیر الراجع إلیه،فالموضوع لکلّ من الحکمین-أعنی وجوب العدّة و جواز الرجوع للزوج فی العدّة-هی الرجعیّات بقرینة رجوع الضمیر إلیها،أو التصرّف فی الضمیر، إمّا بإرجاعه إلی بعض ما هو المراد من مرجعه من باب المجاز فی الکلمة-بأنّ ضمیر الجمع وضع للإرجاع إلی جمیع أفراد العامّ،و استعماله فی بعض أفراده استعمال فی غیر ما وضع له،و یکون مجازا من قبیل استعمال لفظ الأسد فی الرجل الشجاع-و إمّا بإرجاعه إلی تمام ما هو المراد من مرجعه مع التوسّع فی الإسناد؛بإسناد الحکم المسند إلی البعض حقیقة إلی الکلّ توسّعا و مجازا،من قبیل إسناد إنبات البقل إلی الربیع.

فإسناد أحقّیّة الرجوع إلی بعولة جمیع المطلّقات إسناد إلی غیر ما هو له، فإنّ أصالة الظهور فی طرف العامّ سالمة عنها فی جانب الضمیر،و ذلک لأنّ المتیقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور فی تعیین المراد لا فی تعیین کیفیّة الاستعمال،و أنّه علی نحو الحقیقة أو المجاز فی الکلمة أو الإسناد مع القطع بما یراد کما هو الحال فی الضمیر،فلا یبقی مجال لجریان أصالة الظهور فیه بعد العلم بأنّ المراد منه خصوص الرجعیّة،و تبقی أصالة الظهور فی العامّ خالیة عن

ص:530

المعارض،و مقتضاها أنّ المقصود منه فی قوله تعالی: وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ هو الأعمّ من الرجعیّة و البائنة،و لا مجال للقول بسقوط أصالتی الظهورین بعد العلم الإجمالی بعدم جریان إحداهما کما لا یخفی.

و لا فرق بین هذا الطریق و الطریق الذی اخترناه من حیث النتیجة،و لکنّه خلاف مبناه الذی ذکرناه مفصّلا.

هذا کلّه فی الاحتمال الأوّل،و أمّا الاحتمال الآخر،و هو:أن یحکم العقل برجوع الضمیر إلی بعض أفراد العامّ،مثل قول المولی:«أهن الفسّاق و اقتلهم»؛إذ العقل یحکم بأنّ بعضهم-کالکافر و المرتدّ-یستحقّ القتل لا جمیعهم،فیکون حکم العقل هاهنا بمنزلة المخصّص المتّصل للعامّ الثانی و قرینة متّصلة بالکلام،و معلوم أنّه مانع من انعقاد ظهوره له،بل التعبیر بالمخصّص المتّصل لا یخلو عن مسامحة کما لا یخفی.

و أمّا بالنسبة إلی العامّ الأوّل فیرجع البحث إلی أنّه إذا کانت فی الکلام قرینة متّصلة صالحة للقرینیّة و لکن لا نعلم أنّ المتکلّم استند إلیها أم لا، فیصیر الکلام مجملا من حیث وجوب إهانة جمیع الفسّاق أو خصوص الکافرین و المرتدّین منهم،فتصل النوبة إلی الاصول العملیّة بعد فقدان الدلیل الاجتهادی،و هی تختلف باختلاف الموارد،و فیما نحن فیه تجری البراءة عن وجوب إهانة غیر المرتدّ من الفسّاق.و هذا نظیر وقوع الاستثناء عقیب الجمل المتعدّدة،و لکن اختلط علی صاحب الکفایة قدّس سرّه فی هذه المسألة؛لأنّه أشار إلیها فی ذیل البحث عن الاحتمال الأوّل.

ص:531

ص:532

فصل: فی التخصیص بالمفهوم

اشارة

فی التخصیص بالمفهوم

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1):و قد اختلفوا فی جواز التخصیص بالمفهوم المخالف-مع الاتّفاق علی الجواز بالمفهوم الموافق-علی قولین،و قد استدلّ لکلّ منهما بما لا یخلو عن قصور.

و الحال أنّه لا حجّیّة للاتّفاق و الإجماع فی المسألة الاصولیّة التی کان لها مبنی عقلی أو عقلائی،کما أنّه لا حجّیّة له فی المسألة اللغویة و الفلسفیّة،و إنّما تنحصر حجّیّته فی المسائل الفقهیّة،علی أنّ الإجماع المذکور فی کلامه قدّس سرّه إجماع منقول،و لا حجّیّة له حتّی فی المسائل الفقهیّة،فلا بدّ من البحث عن صلاحیّة المفهوم الموافق للمخصّصیّة و عدمها أیضا،و هذا یحتاج إلی بیان معنی المفهوم الموافق و الفرق بینه و بین المفهوم المخالف،فإنّ المفهوم المخالف ما یخالف المنطوق فی الإیجاب و السلب و مستند إلی العلّیّة المنحصرة بأنّ الشرط فی القضیّة إذا کانت علّة منحصرة لثبوت الجزاء فعند انتفاء العلّة ینتفی المعلول قهرا،و البحث فی المفهوم الموافق بأنّه کیف یستفاد من کلام المتکلّم بعد اتّفاقه مع المنطوق فی الإیجاب و السلب،و هذا یتوقّف علی توضیح معناه،و تتحقّق

ص:533


1- 1) کفایة الاصول 1:363.

فیه احتمالات متعدّدة علی سبیل القضیّة المانعة الخلو:

الأوّل:أن یکون بمعنی إلغاء الخصوصیّة

؛بأنّه ذکر فی موضوع کلام المتکلّم عنوان،و لکنّ العرف یحکم بسریان الحکم لفاقده أیضا،کقول القائل:رجل شکّ بین الثلاث و الأربع،و حکم الإمام علیه السّلام بالبناء علی الأکثر و الإتیان بصلاة الاحتیاط،و معلوم أنّه لا خصوصیّة فی الحکم لعنوان الرجولیّة؛إذ الإمام علیه السّلام یکون فی مقام بیان حکم المصلّی الشاکّ بلا فرق بین الرجل و المرأة،و علی هذا یکون إطلاق عنوان المفهوم من باب المسامحة؛إذ الروایة تدلّ بالدلالة المنطوقیّة علی نحو الإطلاق،و ذکر الرجل یکون من باب المثال.

الثانی:أن یکون المقصود منه المعنی الکنائی

الذی سیق الکلام لأجله مع عدم ثبوت الحکم للمنطوق،نظیر ذکر اللازم و إرادة الملزوم،مثل:ذکر کثیر الرماد کنایة عن سخاوة زید،بحیث یکون مدار الصدق و الکذب وجود الملزوم و عدمه،و یکون الغرض من الکلام إفادة الملزوم.

الثالث:أن یکون المقصود منه الفرد الجلی

؛بأن یکون المتکلّم فی مقام إفادة الحکم العامّ،و لکنّه یلاحظ أنّ إلقاءه بنحو العموم یوجب عدم التفات المخاطب إلی الأفراد الخفیّة،و لذا یؤتی بأخفّ المصادیق للانتقال إلی سائرها، کقوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (1)،فانّ قول اف یکون أخفی مراتب إیذاء الوالدین،و المقصود بیان حرمة الإیذاء بنحو العموم.

الرابع:أن یکون المقصود منه الأولویّة القطعیّة

،بمعنی عدم ذکر الحکم فی المنطوق بنحو العموم،و لکن یحکم العقل بالمناط القطعی بمورد غیر المورد المذکور فی الکلام،کقوله تعالی فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ إذا کان المراد منه بیان

ص:534


1- 1) الإسراء:23.

حرمة قول«أفّ»فقط،فإنّ العقل یحکم بأنّه إذا کان هذا حراما فیکون سبّهما و ضربهما بطریق أولی حراما.

الخامس:أن یکون المقصود منه الموارد التی تجری فیها علّة الحکم و یعبّر

عنه بمنصوص العلّة

،کما ورد فی الأخبار،مثلا:«لا تشرب الخمر لأنّه مسکر»، فإذا کانت المسکریّة تمام العلّة للحکم فیدور الحکم سعة و ضیقا مدارها و کان الکبری أی کلّ مسکر حرام مطویّة فی العلّة.

و لا بدّ من ملاحظة صلاحیّة کلّ واحد من الاحتمالات لتخصیص العامّ و عدمها،فنقول:إنّ صلاحیّة المفهوم الموافق علی الاحتمال الأوّل للتخصیص لا شکّ فیها؛إذ المفروض أنّ ذکر الخصوصیّة یکون من باب المثال،فیصحّ تخصیص دلیل الاستصحاب بحدیث«رجل شکّ بین الثلاث و الأربع»، و تضییق دائرة«لا تنقض الیقین بالشکّ»به،فکما أنّه لا یجوز للرجل المصلّی استصحاب عدم الإتیان بالأربع عند الشکّ فیه کذلک للمرأة عند ذلک؛ لصلاحیّة هذا الحدیث مفهوما و منطوقا للمخصّصیّة.

و هکذا علی الاحتمال الثانی،فإنّ الغرض الأصلی إلقاء معنی الملزوم و المعنی الکنائی،بل سیق الکلام لبیانه،و هو یکون مدار الصدق و الکذب،فصلاحیّة المفهوم الموافق بهذا المعنی لتخصیص العامّ ممّا لا شکّ فیه و لا ریب.

و أمّا علی الاحتمال الثالث فیصحّ أیضا تخصیص العامّ به،فإنّ الغرض الأصلی فی قوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ بیان المعنی العامّ و الکلّی،و دلیل التعرّض للفرد الخفی هو عدم التفات أکثر الأذهان إلیه،فنفس الآیة تدلّ علی عمومیّة الحکم،فکما أنّه یجوز تخصیص العامّ المعارض بالفرد الخفی کذلک یجوز تخصیصه بالفرد الجلی،و لا وجه لسلب صلاحیّة التخصیص عنه.

ص:535

و هکذا علی الاحتمال الخامس،فإنّ المسکریّة تمام العلّة للحرمة فی المثال، و لا مدخلیّة للخمریّة و لو بنحو الجزئیّة فی العلّة،و العلّة متضمّنة للکبری الکلّیّة-أی کلّ مسکر حرام-و التعلیل یغنی المتکلّم عن التصریح به،فنبیذ المسکر أیضا حرام و مخصّص لأدلّة الحلّیّة،مثل:«کلّ شیء لک حلال»کالخمر المسکر.

و یبقی الاحتمال الرابع،و هو ما یستفاد العقل من الأولویّة القطعیّة حکما من کلام المتکلّم،مثل:استفادة حرمة الضرب و الشتم من قوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ بدون ارتباط هذا الحکم من حیث الدلالة باللفظ،و هذا نظیر حکم العقل بالملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة،فهل یمکن تخصیص العامّ بالحکم المستفاد من الأولویّة القطعیّة أم لا؟

و قال المحقّق النائینی قدّس سرّه (1):إنّه لا یمکن أن یکون المنطوق أجنبیّا عن العامّ و غیر معارض له مع کون المفهوم معارضا له،فالتعارض فی المفهوم الموافق إنّما یقع ابتداء بین المنطوق و العامّ،و یتبعه وقوعه بین المفهوم و العامّ،ففی الأولویّة القطعیّة یدور الأمر مدار الأصالة و التبعیّة،فإن کان المنطوق معارضا للعامّ، فیتحقّق عنوان المخصّص له بالأصل و للمفهوم بالتبع،و لا یمکن تحقّق هذا العنوان للمفهوم بدون المنطوق.

و لکن اعترض علیه بعض العلماء بأنّ الأمر یکون کذلک فی أکثر الموارد، إلاّ أنّه یمکن الجمع بین کون المفهوم بمعنی الأولویّة القطعیّة و تعارض المفهوم مع العامّ بدون المنطوق فی بعض الموارد،کما إذا قال المولی:«لا تکرم العلماء»، ثمّ قال بدلیل آخر:«أکرم جهّال خدّام الفقهاء».

ص:536


1- 1) فوائد الاصول 1:556.

و معلوم أنّه لا منافاة بین الدلیلین،و لا تعارض بینهما حتّی بنحو العامّ و الخاصّ المطلق من حیث المنطوق،و لکن تتحقّق الأولویّة فی الدلیل الثانی؛ أوّلا:بأنّ الجهّال من خدّام الفقهاء إن کانوا واجبی الإکرام یکون علماؤهم بطریق أولی کذلک.

و ثانیا:بأنّ خدّام الفقهاء إن کانوا واجبی الإکرام یکون الفقهاء کذلک بطریق أولی،و لا شکّ فی تعارض کلّ من المفهومین مع عموم«لا تکرم العلماء»،و صلاحیّتهما لتخصیصه،و یتحقّق هاهنا فی بادئ النظر ثلاثة احتمالات:

الأوّل:إنکار وجود المفهوم الموافق؛لعدم إمکان تخصیص العامّ المنطوقی به، فلیس له مفهوم أصلا.

الثانی:الإعراض عن المنطوق و المفهوم معا،و فرض أنّه لم یصدر من المولی؛لعدم إمکان التفکیک بین المنطوق و المفهوم.

الثالث:الأخذ بهما و تخصیص العامّ به،کما یؤیّده العرف و العقلاء بعد ملاحظة ملاکه-أی الأولویّة القطعیّة-و أنّ التخصیص لا یستلزم المجازیّة فی العامّ،فلا یکون إنکار المفهوم،و إنکار المفهوم و المنطوق معا قابلا للالتزام، فیجوز تخصیص العامّ بالمفهوم الموافق بهذا المعنی أیضا.

و أمّا البحث عن صلاحیّة المفهوم المخالف للتخصیص فیتوقّف علی بیان امور بعنوان المقدّمة:

الأوّل:أنّ هذا البحث متمحّض فی العامّ و المخصّص،و البحث عن المطلق و تقییده بالمفهوم المخالف لا یرتبط بمحلّ النزاع،و لذا لا یصحّ تمثیله بقوله علیه السّلام:

«خلق اللّه الماء طهورا لا ینجّسه شیء» (1).و قوله علیه السّلام:«الماء إذا بلغ قدر کرّ

ص:537


1- 1) الوسائل 1:135،الباب 1 من أبواب الماء المطلق،الحدیث 9.

لا ینجّسه شیء» (1).و مفهومه:أنّ الماء إذا لم یبلغ قدر کرّ ینجّسه شیء أو کلّ شیء من النجاسات،فإنّ لفظ الماء مفرد معرّف بلام الجنس،و لا یکون من الألفاظ الدالّة علی العموم،بل هو مطلق،و لا یکون مثالا لما نحن فیه.

و أمّا إذا قال المولی:«أکرم کلّ عالم»،ثمّ قال بدلیل آخر:«إن جاءک زید فأکرمه»،و مفهومه إن لم یجئک زید فلا یجب إکرامه،فهل هذا مثال لما نحن فیه أم لا؟

و التحقیق:أنّه تتحقّق فی قوله:«أکرم کلّ عالم»خصوصیّتان:الاولی:

خصوصیّة العامّی،و هی مدلول کلمة کلّ عالم،الثانیة:خصوصیّة الإطلاقی، أی سواء تحقّق المجیء أم لا.

و معلوم أنّ دائرة العامّ من حیث السعة و الضیق تابعة لدائرة المطلق،فإن استفدنا من الإطلاق و جریان مقدّمات الحکمة أنّ مدخول کلمة«کلّ»عبارة عن نفس الطبیعة،فتدلّ کلمة«کلّ»علی أفراد هذه الطبیعة المطلقة،ففی هذا المثال أیضا لا یکون تخصیصا للعامّ،بل یکون المفهوم مقیّدا لإطلاق کلمة الکلّ.

و إن قلنا:لا ضرورة إلی جریان مقدّمات الحکمة و الإطلاق للدلالة علی العموم،بل یستفاد من إضافة کلمة«الکلّ»إلی کلمة«العالم»الدالّة علی جمیع مصادیق هذه الطبیعة،فعلی هذا یکون ذلک مثالا لما نحن فیه.

الأمر الثانی:أنّ النزاع فی القضیّة الشرطیّة-کما مرّ-نزاع صغروی بمعنی أنّه هل یتحقّق لها مفهوم أم لا؟و لیس النزاع أنّ مفهومها حجّة أم لا،و البحث فیما نحن فیه متفرّع علی الالتزام بثبوت المفهوم لها،فالقائل بجواز تخصیص

ص:538


1- 1) المصدر السابق:158،الباب 9 من أبواب الماء المطلق،الحدیث 1.

العامّ بالمفهوم المخالف،یقول فی الحقیقة بتحقّق المفهوم للقضیّة الشرطیّة أوّلا، و صلاحیّته للمخصّصیّة ثانیا.

و القائل بعدم إمکان تخصیصه به یقول بأنّ وجود العامّ فی مقابل المفهوم مانع من الالتزام بثبوت المفهوم،لا أنّه یتحقّق و لکن لا یجوز تخصیص العامّ به،فهذا النزاع أیضا نزاع صغروی کما لا یخفی.

ثمّ إنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)یقول فی مقام بیان حکم المسألة:إنّه إذا ورد العامّ و ما له المفهوم فی کلام أو کلامین،و لکن علی نحو یصلح أن یکون کلّ منهما قرینة متّصلة للتصرّف فی الآخر،و دار الأمر بین تخصیص العموم و إلغاء المفهوم،فتارة یکون منشأ الدلالة و الظهور فی کلّ منهما الوضع و اخری الإطلاق الناشئ عن مقدّمات الحکمة بناء علی کون الإطلاق الشمولی بمعنی العموم و استفادته منه.

و الصورة الثالثة لم یذکرها صاحب الکفایة قدّس سرّه و هی أن یکون أحدهما بالوضع و الآخر بالإطلاق.

ففی الصورتین الاولیین لا یکون عموم و لا مفهوم؛لعدم تمامیّة مقدّمات الحکمة فی واحد منهما؛لوجود قرینة متّصلة مانعة عن انعقاد الظهور لکلّ منهما؛لتوقّف تمامیّة مقدّمات الحکمة فی کلّ منهما علی عدم الآخر،فلا محالة یتساقطان لأجل المزاحمة،و هکذا فیما إذا کان منشأ الظهور فیهما الوضع،مثل:

أن یقول المولی:«أکرم کلّ عالم»،ثمّ قال:«إن جاءک زید العالم فأکرمه» و مفهومه علی فرض تمامیّة ظهوره هو:«إن لم یجئک زید فلا یجب إکرامه».

فبعد تعارضه مع العامّ و تساقطهما لا بدّ من العمل بالاصول العملیّة فی حکم

ص:539


1- 1) کفایة الاصول 1:363.

زید العالم المتّصف بعدم المجیء،و هی تختلف باختلاف الموارد،و فی المثال تجری البراءة.

و أمّا فی الصورة الثالثة فلا إشکال فی تقدّم ما ظهوره بالوضع علی ما ظهوره بمقدّمات الحکمة؛لأنّ الظهور إذا کان بالوضع کان صالحا لأن یکون قرینة مانعة عن الظهور بالإطلاق الناشئ من مقدّمات الحکمة التی منها عدم القرینة،فیقدّم علیه.

و أمّا إذا کان العامّ و ما یدلّ علی المفهوم فی کلامین مستقلّین،فإن کانا متّحدین من حیث الاستناد إلی الوضع أو الإطلاق فیعامل معهما معاملة المجمل؛لسقوطهما عن الحجّیّة للمزاحمة،و إن تحقّق لهما الظهور البدوی لکون کلّ منهما قرینة منفصلة للآخر،لا المتّصلة المانعة عن انعقاده،فالمرجع هو الأصل العملی.

و إن کانا مختلفین بعد أنّ المراد من عدم القرینة فی باب مقدّمات الحکمة هو عدم القرینة المتّصلة،لا عدم مطلق القرینة،سواء کانت متّصلة أم منفصلة کما هو الظاهر،فیتحقّق العموم الوضعی و الإطلاقی معا،فیقدّم ما هو الأظهر منهما عند العرف بعد التعارض،و إلاّ یتساقطان،فالمرجع فی زید العالم المتّصف بعدم المجیء هو الأصل العملی،و إن قلنا بأنّ المراد من عدم القرینة هنا عدم مطلق القرینة فیقدّم ما هو مستند إلی الوضع؛لعدم انعقاد الظهور مع وجودها لما هو مستند إلی الإطلاق.

ص:540

فصل: فی الاستثناء المتعقّب لجمل

اشارة

فی الاستثناء المتعقّب لجمل

هل الظاهر من الاستثناء الواقع عقیب الجمل المتعدّدة هو رجوعه إلی الکلّ أو خصوص الأخیرة أو لا ظهور له فی واحد منهما،فیصیر الکلام مجملا بالإجمال المردّد بین الأقلّ و الأکثر،مع أنّ الرجوع إلی الأخیرة هو القدر المتیقّن فلا بدّ فی التعیین من قرینة؟فیه أقوال،و لکن لا بدّ لنا فی الابتداء البحث عن إمکان رجوعه إلی الجمیع و عدمه ثبوتا،و إن کان بحسب هذا المقام ممتنعا،فلا تصل النوبة إلی مقام الإثبات.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):و إن کان المتراءی من کلام صاحب المعالم رحمه اللّه (2)حیث مهّد مقدّمة لصحّة رجوعه إلیه:أنّه محلّ الإشکال و التأمّل،مع أنّه لا إشکال فی صحّة رجوعه إلی الکلّ فی هذا المقام.

و الحال أنّه قیل باستحالته بأنّ الاستثناء قد یقع بأداة الاستثناء،مثل:کلمة «إلاّ»،و قد یقع بغیرها سواء کان اسما،مثل:«جاءنی القوم باستثناء زید»،أو فعلا،مثل:«جاءنی القوم»و استثنی منه زیدا.

ص:541


1- 1) کفایة الاصول 1:364-365.
2- 2) معالم الدین:122-125.

و هکذا فی المستثنی فإنّه قد یکون عامّا ذا أفراد متعدّدة،مثل:«أکرم الفقهاء و الاصولیّین و المفسّرین إلاّ الفسّاق منهم»،و قد یکون فردا واحدا مع صدق کلّ واحد من المستثنی منه علیه،مثل:«أکرم العلماء و أهن الفسّاق و أضف کلّ هاشمیّ إلاّ زیدا»،مع کونه مجمع کلّ العناوین المذکورة،فیجب إکرامه بما أنّه عالم،و یجب إهانته بما أنّه فاسق،و تجب ضیافته بما أنّه هاشمیّ،و قد یکون المستثنی فردا یصدق علی أفراد متعدّدة بتعداد المستثنی منه،مثل:«أکرم الفقهاء و النحویّین و الاصولیّین إلاّ زیدا»،و وجد المسمّی ب«زید»فی کلّ واحد من العناوین،و معلوم أنّ هذا النزاع یجری فیما کان المستثنی صالحا للرجوع إلی الکلّ،لا فی مثل ما إذا وجد المسمّی ب«زید»فی واحد من العناوین المذکورة لا فی جمیعها.

ثمّ قال:إنّ الاستثناء إن کان بغیر الحرف من الاسم و الفعل فلا یمکن ارتباطه بجمیع الجمل؛لأنّه مستلزم لاستعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنی واحد،و هو أمر مستحیل؛بأنّ کلمة الاستثناء أو«استثنی»وضعت لإخراج واحد،و استعمالها فی الإخراج المتعدّد بلحاظ تعدّد المخرج عنه ممتنع.

و إن کان الاستثناء بأداة الاستثناء و الحرف فقد مرّ أنّ الوضع فی باب الحروف عامّ،و الموضوع له فیها خاصّ،فکلمة«إلاّ»وضعت لخصوصیّة خاصّة،فکیف یمکن استعمالها فی خصوصیّات متعدّدة؟!و استحالته واضحة.

و یتحقّق فی بعض الصور استحالة اخری بالنسبة إلی المستثنی کما فی قولنا:

«أکرم الفقهاء و الاصولیّین و المفسّرین إلاّ زیدا»بعد تحقّق المسمّی ب«زید»فی جمیع العناوین و کون کلمة«زید»علما لشخص واحد من حیث الوضع،فإن خرج بها جمیع المسمّیات یکون استعمال اللفظ الواحد فی أکثر من معنی

ص:542

واحد،و هو مستحیل،إلاّ أنّ وحدة الاستحالة و تعدّدها لا یوجب الفرق فی أصل الاستحالة.

و التحقیق:أنّ هذا الکلام لیس بتام؛إذا فیه:

أوّلا:أنّ استحالة استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنی واحد مبنائی، و قد أنکرناها،خلافا للمحقّق الخراسانی قدّس سرّه،و قلنا:إنّ وقوعه فی المحاورات المتداولة و الاستعمالات العرفیّة لا یکون قابلا للإنکار،فإنّ لفظ«من»-مثلا- وضع لألف ألف معنی بوضع واحد،فهو مشترک لفظی بین المعانی المتعدّدة،مع أنّ الوضع فی باب الحروف عامّ،و الموضوع له خاصّ،و لکن یستعمل لفظ «من»فی کثیر من الموارد فی أکثر من معنی واحد،کما لو قال المولی لعبده:

«اخرج من قم»،و یمکن له امتثال هذا الأمر خارجا بخروجه من أیّ باب من أبواب البلد،و معلوم أنّ هذا استعمال للفظ فی أکثر من معنی واحد،و هکذا فی سائر الاستعمالات العرفیّة.

و ثانیا:أنّه علی فرض صحّة هذا المبنی و استحالة استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنی واحد فلا یکون ما نحن فیه من مصادیقه،فإنّ الاستثناء سواء کان بالحرف أو بغیره لا یکون الإخراج فیه متعدّدا؛إذ لا ملازمة بین تعدّد المخرج عنه و الإخراج،کما أنّه لا ملازمة بین تعدّد المخرج و الإخراج،ففی قولنا:«أکرم الفقهاء و الاصولیّین و المفسّرین إلاّ الفسّاق»یخرج الفسّاق من کلّ العناوین بإخراج واحد.

نعم،إن کان المستثنی لفظ«زید»و تحقّق فی جمیع العناوین المسمّی به فنسلم هنا استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد،و لکن لا مانع من کونه بمعنی المسمّی ب«زید»،و هو کلّی ذو أفراد متعدّدة،و إن کان هذا خلاف

ص:543

الظاهر إلاّ أنّ البحث یکون فی مقام الثبوت و طریق التخلّص من الاستحالة، و لا محلّ لمسألة الظاهر و خلافه فی هذا المقام،فترفع الاستحالة بهذا الطریق، و لذا لا بدّ لنا من البحث فی مقام الإثبات،و تحصل هنا کما ذکرنا ثلاثة احتمالات،و المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)قائل بالتفصیل،و هو متفرّع علی الأمرین المسلّمین عنده:

الأوّل:أنّ کلّ قضیّة مشتملة علی قضیّتین:إحداهما ترتبط بالموضوع و یعبّر عنها بعقد الحمل،فمعنی«الإنسان ضاحک»أنّ کلّ شیء له الإنسانیّة کان له الضاحکیّة.

الثانی:أنّ الاستثناء یرتبط بعقد الوضع،ففی مثل:«جاءنی القوم إلاّ زیدا» یرجع الاستثناء إلی القوم؛إذ یکون له عنوان عقد الوضع،و للمجیء عنوان عقد الحمل،کأنّه یقول:«القوم إلاّ زیدا جاءنی».

ثمّ قال:إذا کانت الجمل المتقدّمة متّحدة فی عقد الوضع و مختلفة فی عقد الحمل،مثل قولنا:«أکرم العلماء و سلّم علیهم و أضفهم إلاّ الفسّاق منهم»، فلا بدّ من الالتزام برجوع الاستثناء إلی الجمیع،بلحاظ وحدة عقد الوضع فی الجمیع و ارتباط الاستثناء به،و إذا کانت الجمل متّحدة فی عقد الحمل و مختلفة فی عقد الوضع،مثل قولنا:«أکرم الفقهاء و الاصولیّین و المفسّرین إلاّ الفسّاق منهم»،فالظاهر أنّه یرجع إلی الأخیرة؛إذ لا وجه و لا ضرورة بعد رجوعه إلی الأخیرة بالإرجاع إلی سائر الجمل.هذا تمام کلامه قدّس سرّه.

و التحقیق:أنّ الأمر الأوّل من الأمرین المذکورین ممّا لا شبهة فیه کما ثبت فی محلّه،و لکنّ الأمر الثانی منهما لیس بصحیح،فإنّ القضیّة المشتملة علی

ص:544


1- 1) فوائد الاصول 1:554-555.

الاستثناء متضمّنة لحکمین:أحدهما سلبی و الآخر إیجابی؛إذ الاستثناء من الإیجاب سلب،و من السلب إیجاب،و إن قلنا:بارتباط الاستثناء بعقد الوضع یرجع مثل:«جاءنی القوم إلاّ زیدا»إلی القضیّة الوصفیّة،بمعنی أنّ القوم المتّصفین بأنّهم غیر«زید جاءنی»،فلا بدّ إمّا من الالتزام بعدم تعرّض حکم «زید»أصلا هاهنا،و إمّا من الالتزام بالمفهوم فی القضیّة الوصفیّة،و استفادة حکم مجیء القوم من المنطوق و حکم عدم مجیء زید من المفهوم،و کلاهما مردودان.

ففی هذا المثال بلحاظ أنّ الاستثناء من الإثبات نفی و بالعکس،و النفی و الإثبات یرتبطان بعقد الحمل یرجع الاستثناء إلی عقد الحمل،و التفصیل المذکور لیس بصحیح.

و الحقّ فی المسألة بعد إضافة الفرض الثالث إلی الفرضین المذکورین فی کلام النائینی قدّس سرّه و هو أن تکون الجمل مختلفة فی عقد الوضع و عقد الجمل معا، کقولنا:«أکرم الفقهاء و أهن الفسّاق و أضف الهاشمیین إلاّ زیدا»و تحقّق المسمّی ب«زید»فی جمیع العناوین.

و بعد أنّ المستثنی قد یکون اسم ظاهر مثل:«إلاّ زیدا»،و قد یکون العنوان العامّ المشتمل علی الضمیر،و أنّ البحث فی مقام الإثبات یدور مدار ظهور الألفاظ عرفا و لا یدور مدار البرهان.

فإذا کان عقد الوضع فی الجمل واحدا مع وجود الضمیر فی المستثنی،مثل:

«أکرم العلماء و سلّم علیهم و أضفهم إلاّ الفسّاق منهم»،یرجع الاستثناء إلی مرجع الضمائر،و هو الاسم الظاهر المذکور فی الجملة الاولی بعد کون تکرار عقد الوضع فی الجمل الثانیة و الثالثة مع وحدته فی الجمیع مغایرا للاستعمالات

ص:545

المتداولة،بل ذکره فیها مع الضمیر متداول،فلا محالة یرجع الاستثناء إلی الجمیع،و لا یجوز إرجاعه إلی الأخیرة فقط عرفا.

و هکذا إن کان عقد الحمل واحدا و عقد الوضع متعدّدا و المستثنی مشتملا علی الضمیر،مثل:«أکرم الفقهاء و الاصولیّین و المفسّرین إلاّ الفسّاق منهم»، بلحاظ ارتباط الاستثناء بعقد الحمل،و هو فی الجمیع واحد.و لا یجوز رجوعه إلی الأخیرة؛إذ الظاهر عند العرف الرجوع إلی الجمیع.

و إذا کان عقد الحمل و عقد الوضع کلاهما متعدّدا،و المستثنی مشتملا علی الضمیر مثل:«أکرم الفقهاء و سلّم علی المفسّرین و أضف الهاشمیّین إلاّ الفسّاق منهم»،یکون الکلام فاقدا للظهور،فیصیر مجملا،و لکنّ الرجوع إلی الأخیرة قطعیّ بعنوان القدر المتیقّن لا بعنوان ظهوره فیها.

و أمّا إذا کان المستثنی من العناوین العامّة غیر المشتملة علی الضمیر فلا بدّ من الالتزام بتحقّق الضمیر بحسب الواقع،و إنّما لم یذکر فی الکلام اتّکالا علی الوضوح و عدم الاحتیاج إلیه،و إلاّ یصیر المستثنی منقطعا،و هو علی فرض تجویزه خلاف الظاهر،و یتصوّر فی هذا الفرض أیضا الصور الثلاثة المذکورة -أی کون عقد الحمل واحدا و عقد الوضع متعدّدا،و بالعکس،و کونهما متعدّدین-و فی الصورتین الاولیین الظاهر رجوع الاستثناء إلی الجمیع و إجمال الکلام فی الصورة الثالثة،فکان المستثنی فی الصور الستّ المذکورة عنوانا کلّیا.

و قد عرفت إلی هنا أنّ حکم صاحب الکفایة قدّس سرّه بإجمال الکلام بعنوان الکلّی لیس بصحیح.

و أمّا إذا کان المستثنی علما فحینئذ قد یکون المسمّی ب«زید»واحدا و مجمعا للعناوین المذکورة بعنوان المستثنی منه،و قد یتحقّق فی کلّ عنوان

ص:546

من یکون مسمّی ب«زید»،ففی الصورة الاولی قد یکون عقد الحمل فی جمیع الجمل واحدا،مثل:«أضف العلماء و الفقراء و الهاشمیّین إلاّ زیدا».و یرجع الاستثناء هاهنا إلی الجمیع بلحاظ ارتباطه بعقد الحمل الذی ذکر فی صدر الکلام،فلا یجب ضیافة«زید»بأیّ عنوان من العناوین.

و قد یکون عقد الحمل متعدّدا مثل:«أکرم العلماء و سلّم علی الهاشمیّین و أطعم الفقراء إلاّ زیدا»،و لا دلیل لرجوعه إلی الجمیع فی هذه الصورة؛إذ لا ظهور للکلام،بل الرجوع إلی الأخیرة یکون القدر المتیقّن و إلی ما عداها مشکوکا،و هذا ما یعبّر عنه بالإجمال.

و فی الصورة الثانیة-أی صورة تحقّق المسمّی بزید فی جمیع العناوین-إذا کان عقد الحمل واحدا مثل:«أضف العلماء و الفقراء و الهاشمیّین إلاّ زیدا» فیبتنی الحکم هنا علی المسألة الاخری،و هی مسألة استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد،و یتحقّق فی أصل هذه المسألة ثلاثة أقوال:الأوّل:القول بالاستحالة و الامتناع کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه،الثانی:القول بعدم الجواز عرفا و لغة،الثالث:القول بالجواز و وقوعه کثیرا ما فی الاستعمالات المتداولة مثل استعمال الحروف فی مقام الإنشاء.

فعلی القول بالاستحالة لا بدّ من رجوع الاستثناء إلی الجملة الأخیرة فی المثال،و إلاّ یلزم استعمال لفظ«زید»فی أکثر من معنی واحد،و هذا مستحیل، فتتحقّق قرینة عقلیّة علی خلاف ظهور رجوع الاستثناء إلی الجمیع،و هکذا علی القول بعدم الجواز؛لکون عدم الجواز من الواضع قرینة لاختصاص الاستثناء بالجملة الأخیرة.

و یمکن أن یقال:إنّ المستثنی فی المثال استعمل فی المعنی العامّ و الکلّی بصورة

ص:547

المجاز،و هو المسمّی ب«زید»کأنّه قال من الابتداء:«أضف العلماء و الفقراء و الهاشمیّین إلاّ من کان مسمّی ب«زید»من هذه العناوین الثلاثة»،فلا استحالة فی البین و لا عدم الجواز،و یرجع الاستثناء إلی الجمیع بلا إشکال، فیدور الأمر بین ظهورین:أحدهما:ظهور الاستثناء فی الرجوع إلی الجمیع بلحاظ ارتباطه بعقد الحمل الذی ذکر فی صدر الکلام،و لازم ذلک استعمال لفظ«زید»فی المسمّی ب«زید».و الآخر:ظهور لفظ«زید»فی معناه الحقیقی و هو شخص واحد،و إن لم یکن لأحدهما ترجیح علی الآخر یصیر الکلام مجملا.

و أمّا علی القول بالجواز الذی هو المختار فیرجع الاستثناء إلی جمیع الجمل بلحاظ ظهور الاستثناء بالرجوع إلی عقد الحمل،و هذا قرینة علی استعمال لفظ«زید»فی کلّ من یسمّی ب«زید»من العناوین الثلاثة المذکورة.

نعم،إن کان عقد الحمل أیضا متعدّدا،مثل:«أضف العلماء و أطعم الفقراء و سلّم علی الهاشمیّین إلاّ زیدا»فلا بدّ من الالتزام بالإجمال؛إذ لا دلیل علی رجوع الاستثناء إلی الجمیع؛لارتباطه بعقد الحمل،و ما هو المتیقّن الرجوع إلی الأخیرة،و ما عداها محلّ شکّ.

إنّما الکلام فی موارد الحکم بالإجمال،و یمکن أن یتوهّم أنّ المتکلّم إذا قال:

«أکرم العلماء و أطعم الفقراء و سلّم علی الهاشمیّین إلاّ الفسّاق منهم»فیکون رجوع الاستثناء إلی الجملة الأخیرة ممّا لا شبهة فیه،و لکن بالنسبة إلی سائر الجمل لا بدّ من الرجوع إلی أصالة العموم بلحاظ الشکّ فی تخصیصها مثل سائر موارد الشکّ فی التخصیص.و هکذا فی سائر موارد الحکم بالإجمال.

و لکنّه لیس بصحیح؛لکون أصالة العموم من الاصول العقلائیّة،و یصحّ

ص:548

التمسّک بها فی الموارد التی احرز رجوع العقلاء إلیها،و لا یصحّ التمسّک بها فی موارد الیقین أو الشکّ بعدم رجوعهم إلیها،فإذا قال المولی:«أکرم العلماء» -مثلا-و شککنا فی وجود الدلیل المتّصل أو المنفصل بعنوان المخصّص فلا شکّ فی تمسّک العقلاء بأصالة العموم بعد الفحص و الیأس منه،بخلاف ما نحن فیه؛ لاکتناف الکلام بما یصلح للمخصّصیّة،و لکن اتّکال المتکلّم علیه مشکوک لنا، فإنّ اختصاص الاستثناء بالجملة الأخیرة غیر معلوم لنا،و فی مثل هذا المورد لم یحرز تمسّک العقلاء بأصالة العموم،و لا أقلّ من الشکّ فی تمسّکهم بها،و هذا یکفی لعدم صحّة تمسّکنا بها هاهنا،فلا بدّ من الرجوع إلی الاصول العملیّة، و هی عبارة عن الاستصحاب،و فی صورة عدم جریانه تجری البراءة،و هکذا إن کان الحکم المذکور فی المستثنی منه حکما تحریمیّا.هذا ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه فی موارد الإجمال مع توضیح،و هو الحقّ علی المختار.

و لکنّ المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)یقول فی مقام تثبیت أصالة العموم:إنّ مراد المتکلّم بعد ذکر الاستثناء الواحد لا یخلو من الحالین؛إمّا یرتبط الاستثناء بنظره بالجملة الأخیرة،و إمّا یرتبط بالجمیع،و علی الأوّل لا إشکال فی أنّ عموم الجملة الاولی و الثانیة محفوظ،و علی الثانی لا یمکن إیصال المتکلّم إلی غرضه و مراده،فإنّه إذا ذکر«إلاّ الفسّاق»عقیب الجملة الأخیرة یأخذ الاستثناء محلّه،یعنی یوجد الارتباط مع الجملة الأخیرة،فهذه العبارة لا تکون قابلة للجمع مع إرادة رجوع الاستثناء إلی الجمیع،فنستکشف من هذا التعبیر أنّ مراده رجوع الاستثناء إلی الأخیرة،فتبقی الجملة الاولی و الثانیة بعمومها.

ص:549


1- 1) أجود التقریرات 1:497.

و جوابه:أنّ هذا البیان صحیح إن کان المتکلّم فی مقام بیان تمام مراده،لا فی مقام الإجمال الذی معناه تعلّق غرض المتکلّم بعدم بیان کلّ المراد،بل یکون فی صدد بیان بعض المراد،و ما نحن فیه من هذا القبیل،فکیف لا یمکن إیصال المتکلّم إلی غرضه و المفروض أنّه لا ظهور للاستثناء فی الجملة الأخیرة؟!فهذا البیان لیس بصحیح.

ص:550

فصل: فی تخصیص العامّ الکتابی بخبر الواحد

فی تخصیص العامّ الکتابی بخبر الواحد

وقع الاختلاف فی تخصیص عمومات الکتاب و تقیید مطلقاته بالخبر الواحد المعتبر،و قال أکثر العلماء بجوازه،و قال بعضهم بعدم جوازه،و توقّف البعض الآخر بعد أن قال:«لا إشکال فی تخصیصها بالخاصّ الکتابی و بخبر الواحد المحفوف بالقرینة القطعیّة و بالخبر المتواتر» (1).

و استدلّ للجواز:أوّلا:بأنّه قد استقرّت سیرة الأصحاب علی العمل بأخبار الآحاد فی قبال عمومات الکتاب،مع اتّصال هذه السیرة بزمان الأئمّة علیهم السّلام الکاشفة عن رضاهم بذلک،و لذا نری فی الکتب الفقهیّة تخصیص عمومات الکتاب نظیر أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2)بمثل:«نهی النبیّ عن بیع الغرر» (3)،و أمثال ذلک.

و ثانیا:بأنّ دائرة حجّیّة خبر الواحد لو کانت منحصرة بما لا یکون فی مقابله عموم الکتاب للزوم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحکمه؛ضرورة أنّ خبر

ص:551


1- 1) انظر:معالم الدین:140-141.
2- 2) المائدة:1.
3- 3) الوسائل 7:448،الباب 40 من أبواب آداب التجارة،الحدیث 3.

الواحد الذی لا یکون مخالفا لعموم الکتاب،إمّا معدوم و إمّا نادر و هو کالمعدوم؛إذ الأخبار متضمّنة لبیان الأمر الزائد علی عمومات الکتاب،إذ تستفاد الأجزاء و الشرائط و خصوصیّات العبادات و المعاملات منها،و لغویّتها تستلزم تعطیل أکثر الأحکام مع توصیة الأئمّة علیهم السّلام بحفظها و ضبطها و مراقبتها.

و یمکن أن یقال بأنّ العامّ الکتابی قطعیّ الصدور و خبر الواحد ظنّی الصدور،فکیف یمکن تخصیصه به؟!

و جوابه یحتاج إلی توضیح فیقال بأنّ المولی إذا قال لعبده:«أکرم کلّ عالم» ثمّ قال بعد مدّة:«لا تکرم زید العالم»فلا شکّ فی عدم جریان أصالة العموم و تخصیص«أکرم کلّ عالم»،مع أنّ کلاهما قطعی الصدور.

کما أنّه لا شکّ فی جریان أصالة العموم إذا صدر عن المولی:«أکرم کلّ عالم»و احتمل العبد صدور المخصّص أیضا عنه،و لکن لم یجده بعد الفحص.

و أمّا إذا علم المکلّف بصدور«أکرم کلّ عالم»عنه،و قامت قرینة ظنّیة معتبرة مثل خبر الثقة بصدور«لا تکرم زید العالم»أیضا عنه مع أنّه حجّة عند العقلاء،فلا إشکال فی أنّ طرفی المعارضة عبارة عن العامّ القطعی الصدور و الخاصّ الظنّی الصدور،و معلوم أنّه للعامّ عبارة عن أصالة العموم التی یرتبط بالدلالة،و للخاصّ عبارة عن الصدور،و صدور العامّ کدلالة الخاصّ خالی عن المعارض،و لا یمکن حفظ أصالة العموم فی العامّ،و صدور الخاصّ عن المولی،فلا بدّ من الأخذ بأحدهما.

إذا عرفت هذا فنقول:إنّ أصالة العموم مستندة إلی بناء العقلاء،کما أنّ حجّیّة خبر الثقة مستندة إلیه،إلاّ أنّ التمسّک بأصالة العموم مشروط عندهم بعدم الدلیل المعتبر فی مقابلها،و الشاهد علی ذلک تقدیم الخاصّ علی أصالة

ص:552

العموم فی الفرض الأوّل عندهم،بخلاف خبر الثقة فإنّه حجّة مطلقا،و الشاهد علی ذلک حکمهم بتساقط الخبرین المتعارضین علی القاعدة،و معنی التساقط أنّ کلاّ منهما حجّة فی نفسه،و التساقط یکون بلحاظ عدم إمکان الجمع بینهما لا أنّ کلاّ منهما یصیر فاقدا للحجّیّة بلحاظ تحقّق المعارض و المخالف،فیکون خبر الثقة مقدّما علی أصالة العموم بنحو الورود بلحاظ انعدام شرط حجّیتها.

و هکذا فی العامّ الکتابی فإنّه و إن کان قطعی الصدور و لکن تستفاد دلالته من طریق أصالة العموم،و إذا کان فی مقابله خبر الثقة فلا بدّ من الأخذ به و جعله مخصّصا للعامّ الکتابی.هذا هو الوجه الأوّل الذی استدلّ به المانعون.

أمّا الوجه الثانی:و هو أنّ أدلّة حجّیّة خبر الواحد غیر شاملة للخبر المخالف لکتاب اللّه،و إن کانت المخالفة بصورة التخصیص فإنّ دلیل حجّیّة الخبر-و هو الإجماع-لبّی،و المتیقّن منه هو الخبر غیر المخالف للکتاب،فلا یشمل المخالف، فالمخالف یبقی تحت عدم حجّیّة الأمارات غیر العلمیّة.

و جوابه:أوّلا:أنّ المراد من الإجماع إن کان إجماعا اصطلاحیّا فهو لم یتحقّق أصلا بلحاظ مخالفة عدّة من الأصحاب من القدماء و المتأخّرین فی مسألة حجّیّة خبر الواحد،و إن کان المراد منه بناء العقلاء فلا فرق من حیث بناء العقلاء بین أن یکون الخبر مخصّصا أو مقیّدا للکتاب أم لا، مع أنّ دلیل الحجّیّة لا ینحصر ببناء العقلاء،بل ما هو المهمّ من الأدلّة -کما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه-الأخبار المتواترة الإجمالیّة،بمعنی القطع بصدور بعضها عن الأئمّة علیهم السّلام فلا بدّ من الأخذ بالمتیقّن من العناوین المذکورة فیها،و هو خبر العادل،و لا نری فیها تقیید الخبر بعدم کونه مخصّصا

ص:553

أو مقیّدا للکتاب.

و ثانیا:أنّه لو فرض انحصار الدلیل بالإجماع و کونه إجماعا اصطلاحیّا فلا بدّ لنا من الأخذ بالقدر المتیقّن فی الموارد المشکوکة،و لکن لا یکون ما نحن فیه منها؛للقطع بأنّ معقد الإجماع یشمل الخبر المخصّص للکتاب أیضا.

و الشاهد علی ذلک:

1-أنّ انحصار دائرة حجّیّة خبر الواحد بما لا یکون مخصّصا أو مقیّدا للکتاب مستلزم لإلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحکمه،و معناه قیام الإجماع علی حجّیّة ما لا یتحقّق له مصداق أو یکون نادرا،و النادر کالمعدوم.

2-أنّ السیرة العملیة للأصحاب بتخصیص و تقیید الکتاب بخبر الواحد کاشفة عن أنّ مراد المجمعین هو اعتبار حجّیّة خبر الواحد مطلقا،فنعلم أنّ الخبر المخصّص أیضا داخل فی معقد الإجماع.

الوجه الثالث:الذی استدلّ به المانعون:أنّ الأخبار الدالّة علی طرح الخبر المخالف للقرآن علی کثرتها و اختلاف تعبیراتها من کون ما خالف قول ربّنا «باطلا»و«زخرفا»و«لم نقله»و«فاضربوه علی الجدار»کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه و غیر ذلک تدلّ علی طرح کلّ خبر مخالف للکتاب و إن کانت مخالفته بصورة التخصیص و التقیید؛إذ الموجبة الکلّیّة و السالبة الجزئیّة و بالعکس متناقضتان،و یکون العامّ و المخصّص کذلک.

و جوابه:أوّلا:أنّ المخالفة بالعموم و الخصوص لیست مخالفة عند العرف و فی مقام التقنین،بل الطریق المتداول بین العقلاء جعل القانون بصورة العامّ،ثمّ استثناء بعض الموارد بصورة التبصرة،و لم یتّخذ الشارع طریقا خاصّا فی باب التقنین،و لذا یحمل العامّ علی الخاصّ و المطلق علی المقیّد عند العرف بدون

ص:554

التوقّف و التحیّر و الرجوع إلی الأخبار العلاجیّة.

و ثانیا:لو سلّم صدق المخالفة علیها فهی خارجة عنها حکما،کما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه و تتحقّق شواهد متعدّدة علی عدم کون العموم و الخصوص من المتخالفین.

الشاهد الأوّل:أنّه یتحقّق فی کتاب اللّه العامّ و الخاصّ کقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)،و قوله تعالی فی آیة اخری: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (2)،و لا یکون للآیة عنوان سوی التخصیص و تحریم الربا بها مع أنّه من العقود المتداولة بین الناس یکون مخالفا لعموم الآیة الاولی،و الحال أنّه ذکر عدم الاختلاف فی القرآن بعنوان الدلیل لإعجاز القرآن،کما أشار إلیه قوله تعالی: وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً (3)،و من هنا نستکشف خروج العامّ و الخاصّ من عنوان المتخالفین.

علی أنّ تخصیص الکتاب بخبر الواحد المحفوف بالقرینة القطعیّة یجوز حتّی عند المانعین،فإن کان الخبر مخالفا للکتاب یکون قطعیّ الصدور أیضا کذلک، و قطعیّة صدوره لا توجب خروجه عن دائرة التخالف،و هذا یهدینا إلی عدم صدق عنوان المتخالفین علی العموم و الخصوص.

الشاهد الثانی:أنّه لا شکّ فی عدم کون المخصّص المتّصل مخالفا و متناقضا مع العامّ،و الوجدان حاکم بعدم الفرق بینه و بین المخصّص المنفصل من هذه الجهة،و لا یمکن الالتزام بکونه مخالفا مع العامّ بخلافه،فکلاهما لا یکونا متناقضین معه.

ص:555


1- 1) المائدة:1.
2- 2) البقرة:275.
3- 3) النساء:82.

الشاهد الثالث:أنّ سیاق قوله علیه السّلام:«ما خالف قول ربّنا لم نقله» (1)و أمثال ذلک یکون آبیا عن التخصیص،و هذا ممّا لا شبهة فیه،مع أنّا نعلم إجمالا بصدور روایات تخالف عموم الکتاب و إطلاقاته عن الأئمّة علیهم السّلام بعد ملاحظة الکتب الروائیّة،فکیف یمکن الجمع بین هذه الروایات و قوله علیه السّلام:«ما خالف قول ربّنا لم نقله»مع أنّ الظاهر منه عدم صدور روایة تخالف الکتاب أصلا، حتّی روایة واحدة؟!و نستکشف من ذلک أنّ العموم و الخصوص خارج عن دائرة التخالف.

الوجه الرابع الذی استدلّ به المانعون:أنّ عدم جواز نسخ الکتاب بخبر الواحد من المسلّم و ممّا لا شکّ فیه،فلا یجوز التخصیص به أیضا؛إذ لا فرق بین النسخ و التخصیص،بل النسخ تخصیص فی الأزمان و التخصیص المصطلح تخصیص فی الأفراد،فإنّ التخصیص یوجب خروج الأفراد العرضیّة و الموجودة فی زمان التخصیص کالفسّاق من العلماء،و النسخ یوجب خروج الأفراد الطولیّة و الموجودة بعد زمان النسخ.

و جوابه:أوّلا:أنّ القاعدة و إن کانت مقتضیة لعدم الفرق بینهما،إلاّ أنّ الإجماع علی عدم جواز نسخ الکتاب بخبر الواحد أوجب الفرق بینهما،و لولاه لقلنا بالجواز فی کلیهما،و لا بدّ من الاقتصار علی المتیقّن فیما خالف القاعدة، و هو النسخ دون التخصیص.

و ثانیا:أنّ قیاس النسخ بالتخصیص قیاس مع الفارق،حیث إنّ الدواعی لضبط نواسخ القرآن کثیرة،و لذا قلّ الخلاف فی تعیین موارده بخلاف التخصیص.

ص:556


1- 1) انظر:الوسائل 27:106،الباب 9 من أبواب صفات القاضی.

توضیح ذلک:أنّ طریق إثبات القرآنیّة-بأنّ هذه الآیة أو السورة جزء من القرآن-منحصر بالإجماع و التواتر،و لذا ردّ قرآنیّة قول عمر:«إذا زنیا الشیخ و الشیخة فارجموهما البتة نکالا من اللّه و اللّه عزیز حکیم»،و لم یقبل منه أحد، و إن التزم المتأخّرون من العامّة بنسخ آیة الرجم تلاوة و بقائها حکما فی مقام توجیه ادّعائه،کما قالوا أیضا:إنّه الصحیح ما یروی عن عائشة و أنّ ممّا أنزل فی القرآن:عشر رضعات معلومات یحرمن...فنسخن بخمس رضعات معلومات...و هذا هو التحریف،مع اتّهامهم للشیعة بأنّهم قائلون بذلک، و الحال أنّهم أنکروا التحریف من الصدر الأوّل إلی یومنا هذا بأشدّ الإنکار.

و بالنتیجة لا یعقل نسخ الکتاب بخبر الواحد بعد انحصار طریق إثباته بالتواتر و الإجماع و کونه بعنوان المعجزة الباقیة إلی یوم القیامة لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله، فلا بدّ من نسخه بآیة اخری أو الإجماع و الخبر المتواتر،بخلاف التخصیص فإنّه تبیین و تفسیر للعامّ،فخبر الواحد لا یصلح لأن یکون ناسخا للقرآن.

ثمّ إنّه وقع البحث فی تحقّق آیة الناسخ و المنسوخ فی القرآن،و أنکره بعض الأعلام قدّس سرّه إلاّ فی آیة النجوی بلحاظ ظهور العبارة فی المنسوخیّة،و هو قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ناجَیْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقَةً ذلِکَ خَیْرٌ لَکُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ* أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقاتٍ... (1)،و لم یعمل بهذه الآیة سوی أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السّلام بناء علی الروایات،و علیک بمراجعة التفاسیر.

ص:557


1- 1) المجادلة:12-13.

ص:558

فصل: فی دوران الخاصّ بین کونه مخصّصا و ناسخا

اشارة

فی دوران الخاصّ بین کونه مخصّصا و ناسخا

لا یخفی أنّ الخاصّ و العامّ المتخالفین فی الحکم یختلف حالهما ناسخا و مخصّصا و منسوخا،فیکون الخاصّ مخصّصا تارة و ناسخا مرّة و منسوخا اخری،و ذلک لأنّ الخاصّ إن کان مقارنا مع العامّ-بأن صدرا فی آن واحد من معصومین أو من معصوم واحد فی مجلس واحد-أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به،فلا محیص عن کونه مخصّصا و بیانا له،هذا ما قال به صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی هاتین الصورتین،و الحقّ معه فی الصورة الاولی.

و فی الصورة الثانیة

اشارة

لقائل أن یقول بجریان کلا العنوانین-أی المخصّصیّة و الناسخیّة معا-و ثمرة النسخ و التخصیص أنّه علی التخصیص یبنی علی خروج الخاصّ عن حکم العامّ رأسا و من أوّل الأمر،مثلا:إذا قال المولی فی یوم السبت:«أکرم العلماء یوم الجمعة»،ثمّ قال فی یوم الإثنین:«لا تکرم زیدا العالم»،فلا یجب إکرامه علی التخصّص رأسا،و علی النسخ یبنی علی ارتفاع حکمه عن حکم العامّ من حین ورود الخاصّ،بعد صلاحیة الخاصّ للناسخیّة و المخصّصیّة معا.

ص:559


1- 1) کفایة الاصول 1:368.
و یتحقّق هنا قولان:
الأوّل:ما نقل عن بعض الأعاظم

(1):و هو عدم إمکان النسخ أصلا،فإنّ صدور الأحکام الواقعیّة فی مقابل الأحکام الصوریّة و الأوامر الامتحانیّة یکون بداعی موافقة المکلّف و تحقّق المأمور به خارجا،فإن حملنا الخاصّ علی التخصیص فی المثال یکون مبیّنا للمراد الجدّی للمولی،و أنّ إرادته الجدّیّة تعلّقت من الابتداء بإکرام العلماء غیر زید.

و إن حملناه علی النسخ یکون معناه رفع الحکم الثابت فی الشریعة بعد اعتقاد المکلّف باستمراره بحسب إطلاق الدلیل،و لکنّ المانع من النسخ أنّه کیف یمکن أن یکون حکم العام حکما واقعیّا صادرا بداعی الإتیان فی الخارج مع کون الخاصّ ناسخا له قبل حضور وقت العمل بالعام؟!و لا یصدق هنا رفع الحکم الثابت فی الشریعة الذی هو معنی النسخ؛إذ لا یمکن نسخ الحکم الثابت بداعی العمل قبل وقت العمل به،فلا بدّ من الحمل علی التخصیص، و لا مجال للنسخ.

القول الثانی:ما قال به المحقّق النائینی قدّس سرّه

(2)،و هو القول بالتفصیل بأنّ القضیّة المشتملة علی الحکم العام إن کانت بنحو القضیّة الخارجیّة-مثل:أن یقول المولی:«أکرم کلّ عالم موجود بالفعل»یعنی کلّ إنسان یکون فی حال صدور هذا التکلیف متّصفا بأنّه عالم،ثمّ قال بعد یومین:«لا تکرم زیدا العالم» مع کونه فی زمان صدور العام موجودا و عالما-فلا بدّ من حمل هذا الخاصّ الصادر قبل حضور وقت العمل بالعامّ علی التخصیص،فإنّ معنی النسخ هنا

ص:560


1- 1) معالم الدین:143.
2- 2) أجود التقریرات 1:507-508.

أن یکون«زید»فی هذین الیومین واجب الإکرام بالوجوب الواقعی و بداعی الإتیان به فی الخارج،و لا وجه له و لا أثر.

و إن کانت القضیّة المشتملة علی الحکم العامّ بنحو القضیّة الحقیقیّة،بمعنی کون الموضوعات و المکلّفین مقدّرة الوجود،و حینئذ قد یکون الحکم العامّ واجبا موقّتا و قد یکون واجبا مطلقا،و المفروض فی الأوّل صدور الدلیل المردّد بین الناسخ و المخصّص قبل حضور وقت الواجب الموقّت،مثلا:صدر عن الباری فی شهر رجب آیة: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ (1)،و صدر عنه فی شهر شعبان آیة: فَمَنْ کانَ مِنْکُمْ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ (2)،فلا بدّ هنا أیضا من الالتزام بالتخصیص؛إذ لا وجه و لا أثر لوجوب الصوم علی المسافر و المریض فی فاصلة نزول الآیتین، و لا یتصوّر له مصلحة حتّی نقول به و الالتزام بنسخه.

و أمّا علی الثانی-أی کون القضیّة المشتملة علی الحکم العامّ بنحو القضیّة الحقیقیّة غیر الموقّتة-مثل أن یقول المولی:«أکرم العلماء»بدون أیّ خصوصیّة فی الموضوعات و المکلّفین،بعد فرض وجود المعدومین و اتّصاف غیر العلماء بالعالمیّة،و صدر عنه بعد یومین الدلیل المردّد بین الناسخ و المخصّص،فلا مانع من کونه ناسخا؛إذ لا یشترط فی صحّة جعل الحکم العام وجود الموضوع له أصلا،فإنّ المفروض أنّه جعل علی موضوع مقدّر الوجود، و یصدق حینئذ رفع الحکم الثابت فی الشریعة.

و جوابه:أنّه لا یکفی فی القضیّة الحقیقیّة مجرّد فرض وجود موضوعها فی

ص:561


1- 1) البقرة:183.
2- 2) البقرة:184.

الخارج؛إذ یلزم لغویّة جعل الحکم بداعی الإتیان فی الخارج مع التفات الآمر بانتفاء شرط فعلیّته فیه،بل الحکم فی القضیّة الحقیقیّة یحمل علی العنوان بصورة القانون الکلّی،کقوله تعالی: وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (1)،یعنی کلّ من وجد و صار مستطیعا یجب علیه الحجّ،و لا یکون من الفرض و التقدیر أثر و لا خبر،و علی هذا کیف یمکن الالتزام بالنسخ بعد جعل الحکم الواقعی بداعی الإتیان فی الخارج و حمله علی عنوان المستطیع بصورة العموم،و قول المولی بدلیل الناسخ أنّه لا یجب الحجّ علی زید المستطیع بعد أوّل شهر شوّال مثلا؟!

و لا یتصوّر ملاک لوجوب الحجّ بالنسبة إلیه فی فاصلة نزول آیة الحجّ و صدور الدلیل الناسخ،و لا وجه لثبوته فی هذه المدّة حتّی یصدق علیه رفع الحکم الثابت فی الشریعة،فلا یصحّ التفصیل المذکور فی کلامه قدّس سرّه.

الصورة الثالثة:أن یکون الخاصّ واردا بعد حضور وقت العمل بالعامّ

، و یمکن أن یقال:یکون فی هذه الصورة ناسخا لا مخصّصا؛إذ لو کان مخصّصا لزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة،و هو قبیح بلا ریب،مع أنّ المخصّص یکون مبیّنا للعام.

و جوابه:أنّ هذا مغایر للسیرة العملیّة المستمرّة بین الفقهاء من جعل الخاصّ مخصّصا للعامّ،و إن کان زمان صدوره متأخّرا عنه،و لذا نری جعلهم ما ورد فی لسان الصادقین و العسکریّین علیهم السّلام مخصّصا لعمومات الکتاب و الروایات النبویّة،من دون ملاحظة أنّه تأخیر للبیان عن وقت الحاجة،کما هو حال غالب العمومات و الخصوصات فی الآیات و الروایات،و إن قلنا

ص:562


1- 1) آل عمران:97.

بناسخیّة الخصوصات فی جمیع هذه الموارد فلا بدّ من الالتزام بقلّة موارد التخصیص،مع أنّ القول بالتخصیص مستلزم لتأخیر البیان عن وقت الحاجة،فتتحقّق هنا عویصة.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی مقام حلّ العویصة:إنّ العامّ إذا کان واردا لبیان الحکم الواقعی یکون الخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل به ناسخا له،و إذا کان واردا لبیان غیره یکون الخاصّ مخصّصا له.

و معلوم أنّ الحکم الواقعی قد یکون فی مقابل الحکم الظاهری الذی اخذ الشکّ فی موضوعه،بمعنی تعلّقه بالعنوان الواقعی،مثل:تعلّق الحکم بالنجاسة علی الخمر بدون دخالة علم المکلّف به و جهله،و قد یکون فی مقابل الأوامر الاختباریّة و الامتحانیّة،بمعنی جعله بداعی الإتیان فی الخارج کما ذکرناه.

و توضیح کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه:أنّ العامّ إن کان لبیان الحکم الواقعی -بمعنی صدوره من الابتداء للعمل به-فلا معنی لتأخیر مخصّصاته عن وقت العمل به؛إذ لا شکّ فی قباحته و عدم جواز تأخیر البیان عن وقت الحاجة الذی یلزم هنا علی القول بالتخصیص،فلا بدّ من کونه ناسخا له،و إن لم یکن العام لبیان الحکم الواقعی و لم یکن جعله للعمل به من ابتداء الصدور بجمیع خصوصیّاته،بل کان جعله بعنوان القانون الکلّی لمصلحة،و کان الغرض متعلّقا بتأخیر مقیّداته و مخصّصاته إلی مدّة،فلا مانع هاهنا من کون الخاصّ مخصّصا له،کما هو الحال فی غالب العمومات و الخصوصات فی الآیات و الروایات،و لا مانع من تأخیر البیان هنا،فیکون الناس مکلّفین بالعمل بها ما لم یرد علیها مخصّص.

ص:563


1- 1) کفایة الاصول 1:368.

و استشکل علیه بأنّه لا یوجد طریق لتشخیص النوعین من العامّ،و أنّه من قبیل الأوّل حتّی یکون الخاصّ ناسخا له،أو من قبیل الثانی حتّی یکون مخصّصا له.

و یمکن أن یکون طریق تشخیصهما إمّا نفس المخصّصات،بأنّ العامّ الکتابی إن کان مخصّصا بعد وقت العمل به فهو من قبیل الثانی،و إن لم یکن له مخصّصا أصلا أو صدر مخصّصه قبل حضور وقت العمل به فهو من قبیل الأوّل،و إمّا تحقّق القرینة،بأنّ العام الکتابی إن کان محفوفا بالقرینة بأنّه صدر ضربا للقاعدة فهو من قبیل الثانی،و إلاّ یکون مبیّنا للحکم الواقعی.

و معلوم أنّ کلا الطریقین لا یخلو من إشکال بأنّه علی الأوّل یبقی إشکال قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة بحاله؛إذ العامّ علی هذا الفرض ظاهر فی إرادة العموم واقعا،و المخصّصات المتأخّرة عنه الواردة بعد حضور وقت العمل به کاشفة عن عدم إرادة العموم فیه،و هذا بعینه هو تأخیر البیان عن وقت الحاجة،و دلیل قبحه أنّه یوجب وقوع المکلّف فی الکلفة و المشقّة من دون مقتض لها فی الواقع،أو أنّه یوجب إلقاؤه فی المفسدة،أو یوجب تفویت المصلحة عنه،کما إذا کان العامّ مشتملا علی حکم ترخیصی فی الظاهر،و لکن کان بعض أفراده فی الواقع واجبا أو محرّما،فإنّه علی الأوّل یوجب تفویت المصلحة الملزمة عن المکلّف،و علی الثانی یوجب إلقاؤه فی المفسدة،و کلاهما قبیح من المولی الحکیم.

و علی الثانی فلا ظهور للعام فی العموم فی مقام الإثبات حتّی یتمسّک به بعنوان المرجع؛إذ المولی کأنّه یقول علی هذا الفرض:إنّ صدور العام لا یکون للإجراء و الإتیان به خارجا،فلا ینعقد له ظهور فی العموم و لا یکون حجّة فی

ص:564

ظرف الشکّ.

و لکن نقول فی مقام الدفاع عن المحقّق الخراسانی قدّس سرّه:إنّا نختار الطریق الثانی لتشخیص النوعین من العام،و لا یرد علیه الإشکال المذکور؛إذ یمکن أن یکون صدور العام بکیفیّة النوع الثانی،و لکنّه مع ذلک کان مرجعا فی موارد الشکّ فی التخصیص،فلا مانع من جریان أصالة العموم إلاّ فی مورد العلم بالتخصیص و إن کان العام مبیّنا للحکم الظاهری لکونه مغیّا بغایة العلم،و لا فرق من هذه الجهة بینه و بین العام المبیّن للحکم الواقعی.

و یترتّب علی صدور هذا النوع من العام و جعله آثارا متعدّدة:منها:کونه مرجعا فی موارد الشکّ فی التخصیص،و منها:استفادة المکلّف منه التهیّؤ للعمل به بعد تعیین حدوده و صدوره،فإنّه صدر للإتیان به فی الخارج و لا یکون لغوا و بلا أثر إلی یوم القیامة،فلا مانع من التمسّک بعمومه إلاّ إذا احرز التخصیص.

و لکنّه تتحقّق فیما اختاره صاحب الکفایة قدّس سرّه تبعا للشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه الامور المستبعدة:

منها:أنّه لا وجه لتقسیم العمومات القرآنیّة إلی نوعین مذکورین،أی ورود بعضها لبیان الحکم الواقعی،بمعنی الإتیان به من حین الصدور،و ورود بعضها لبیان الحکم غیر الواقعی،بمعنی صدوره بعنوان القانون الکلّی لا للعمل به،و لا شاهد لهذا فی الروایات و التفاسیر.

و منها:أنّ تشخیص النوعین المذکورین من طریق ورود المخصّص بعد حضور وقت العمل به و عدمه خارج عن ماهیّة العام،فإنّ واجدیّة المخصّص و فاقدیّته لا توجب التغییر فی ماهیّة العام،و لا بدّ من ملاحظة النوعیّة إلی

ص:565

نفس الشیء،لا أنّه إذا کان هناک مخصّص بعد حضور وقت العمل بالعام فهذا نوع من العام،و إذا لم یکن هناک مخصّص فهذا نوع آخر منه.

و منها:أنّ حمل عنوان الحکم الواقعی و غیر الواقعی بالمعنی المذکور علی العام لم یسمع من غیرهما،و لا یتحقّق فی کلام الاصولیّین و الکتب الاصولیّة، فإن لم یتحقّق لنا طریق لحلّ العویصة المذکورة سوی ما ذکر فی کلامهما فلا مانع من الالتزام بهذه الامور المستبعدة،و مع فرض تحقّقه فلا وجه للالتزام بها.

و لا بدّ لنا من بیان مقدّمة لحل العویصة بأنّ أساس الإشکال-کما عرفت- أنّ ما ورد فی کلام الصادقین و العسکریّین علیهم السّلام-مثلا-إن کان مخصّصا لعمومات الکتاب یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة،و إن کان ناسخا یلزم کثرة النسخ و ندرة المخصّص،مع أنّ الأمر بالعکس قطعا.

و نحن نقول بأنّه مخصّص کما استقرّت علیه السیرة العملیّة المستمرّة بین العلماء من دون ملاحظة الفاصلة بین العامّ و الخاصّ،و سلّمنا أنّ تأخیر البیان عن وقت الحاجة قبیح،و لکن اتّصاف الأشیاء و العناوین بالقبح العقلی مختلف بأنّ بعضها تکون علّة تامّة للقبح بحیث کلّما تحقّق العنوان یتحقّق القبح العقلی، و لا یکون قابلا للانفکاک عنه،مثل:عنوان الظلم،فإنّه لا ینفکّ عنه بوجوه، و بعضها یکون مقتضیا للقبح فی نفسه ما لم یعارضه عنوان أقوی،مثل:عنوان الکذب،فإنّه قبیح فی نفسه،و إذا عارضه عنوان آخر کالإصلاح بین الناس -مثلا-فإنّه یکون حسنا بل لازما.

و معلوم أنّ تأخیر البیان عن وقت الحاجة فی نفسه لیس بقبیح،بل یکون قبحه لاستلزامه لأحد الامور الثلاثة التالیة:

ص:566

الأوّل:أنّه یوجب وقوع المکلّف فی الکلفة و المشقّة من دون مقتض لها فی الواقع،کما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل علی حکم إلزامی فی الظاهر و لکن کان بعض أفراده فی الواقع مشتملا علی حکم ترخیصی،فتأخیر البیان یوجب إلزام المکلّف و وقوعه بالنسبة إلی تلک الأفراد المباحة فی المشقّة و الکلفة،من دون موجب و مقتض لها.

الثانی:أنّه یوجب إلقاء المکلّف فی المفسدة،کما إذا کان العام مشتملا علی حکم ترخیصی فی الظاهر و لکن کان بعض أفراده فی الواقع محرّما،فإنّه یوجب إلقاؤه فی المفسدة.

الثالث:أنّه یوجب تفویت المصلحة عنه،کما إذا کان العام مشتملا علی حکم ترخیصی فی الظاهر و لکن کان بعض أفراده فی الواقع واجبا،فإنّه یوجب تفویت المصلحة الملزمة عن المکلّف،و لا شکّ فی قباحة الجمیع من المولی الحکیم.

و لکن من المعلوم أنّ هذا القبیح قابل للرفع؛ضرورة أنّ المصلحة الأقوی إذا اقتضت إلقاء المکلّف فی المفسدة أو تفویت المصلحة عنه أو إلقاؤه فی الکلفة و المشقّة،فلا قبح فیه أصلا،فلا یکون قبح هذه العناوین کقبح الظلم لیستحیل انفکاکها عنه،بل هو کقبح الکذب،یعنی أنّها فی نفسها قبیحة مع قطع النظر عن طروّ أیّ عنوان حسن علیها،کما یتحقّق نظیر هذا المعنی فی مسألة التعبّد بالظنّ،مثل:حجّیّة خبر الواحد،و أمثال ذلک.

فلا مانع من تأخیر البیان عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التی تکون أقوی من مفسدة التأخیر،أو کان فی تقدیم البیان مفسدة أقوی من مفسدة تأخیره،و لا یکون حینئذ قبیحا،بل هو حسن و لازم،فیکون ورود

ص:567

مخصّصات عمومات الکتاب فی لسان الأئمّة علیهم السّلام تدریجا لمصلحة أقوی.

و یشهد لذلک:أوّلا:أنّ بیان الأحکام فی أصل الشریعة المقدّسة أیضا کان علی نحو التدریج واحدا بعد واحد لمصلحة تقتضی ذلک،و هی التسهیل علی الناس و رغبتهم إلی الدّین،و معلوم أنّ هذه المصلحة أقوی من مصلحة الواقع التی تفوت عن المکلّف،و لذا نلاحظ فی الروایات أنّ بعض الأحکام صار مشروعا فی أواخر عمر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله مثل:مشروعیّة حجّ التمتّع فی حجّة الوداع.

و ثانیا:أنّه قد ورد فی بعض الروایات أنّ عدّة من الأحکام بقیت عند صاحب الأمر روحی و أرواح العالمین لتراب مقدمه الفداء،و هو علیه السّلام بعد ظهوره یبیّن تلک الأحکام للناس،فلا مانع من تأخیر البیان عن وقت الحاجة إذا کانت فیه مصلحة مقتضیة لذلک أو کان فی تقدیمه مفسدة مانعة عنه،و حلّ العویصة بهذا الطریق أولی من الطریق المذکور فی کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه.

الصورة الرابعة:ما إذا ورد العامّ بعد الخاصّ،و قبل حضور وقت العمل به

، ففی هذه الصورة یتعیّن کون الخاصّ المتقدّم مخصّصا للعامّ المتأخّر؛إذ لا إشکال فی تقدیم بیان العامّ علیه،إلاّ أنّ بیانیّة الخاصّ تکشف بعد صدور العامّ عن المولی،و احتمال ناسخیّة العامّ للخاصّ مردود بأنّها تستلزم أن یکون جعل الخاصّ لغوا محضا؛إذ لا یترتّب علیه أثر،و هو ما لا یمکن صدوره من المولی الحکیم.

الصورة الخامسة:ما إذا ورد العامّ بعد الخاصّ و بعد حضور وقت العمل

به،و المفروض أنّ حکم الخاصّ مستمرّ علی الظاهر،ففی هذه الصورة یقع

ص:568

الکلام فی أنّ الخاصّ المتقدّم مخصّص للعامّ المتأخّر،أو أنّ العام المتأخّر ناسخ للخاصّ المتقدّم بعد إمکان کلیهما بحسب مقام الثبوت؛إذ الخاصّ لا یکون فاقدا لشرائط المخصّصیّة،کما أنّ ناسخیّة العامّ لا تستلزم لغویّة جعل حکم الخاصّ.

و تظهر الثمرة بینهما حیث إنّه علی الأوّل یکون الحکم المجعول فی الشریعة المقدّسة هو حکم الخاصّ دون العامّ،و کان مورد الخاصّ خارجا عن دائرة العامّ إلی الأبد،و علی الثانی ینتهی حکم الخاصّ بعد ورود العامّ،فیکون الحکم المجعول فی الشریعة المقدّسة بعد وروده هو حکم العامّ.

و یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)أنّ الأظهر أن یکون الخاصّ مخصّصا،و قال فی وجه ذلک:أنّ کثرة التخصیص فی الأحکام الشرعیّة حتّی اشتهر:«ما من عامّ إلاّ و قد خصّ»و ندرة النسخ فیها جدّا أوجبتا کون ظهور الخاصّ فی الدوام و الاستمرار،و إن کان بالإطلاق و مقدّمات الحکمة أقوی من ظهور العامّ فی العموم و إن کان بالوضع؛بمعنی أنّ ناسخیّة العامّ مستندة إلی جریان أصالة العموم فی دلیل العامّ،و مخصّصیّة الخاصّ مستندة إلی جریان أصالة الإطلاق من حیث الزمان فی دلیل الخاصّ،و لا شکّ فی تقدّم أصالة العموم علی أصالة الإطلاق قاعدة فی موارد اخری،بخلاف ما نحن فیه، بلحاظ مانعیّة کثرة التخصیص و قلّة النسخ عنه.

و اشکل علیه:أوّلا:بأنّ هذا یرجع إلی أن یدلّ دلیل خاصّ بالدلالة اللفظیّة علی أصل الحکم،و بالدلالة الإطلاقیّة علی استمراره و دوامه،و هذا أمر مستحیل؛ضرورة أنّ استمرار الحکم فی مرتبة متأخّرة عن نفس الحکم،

ص:569


1- 1) کفایة الاصول 1:368-371.

و لا یمکن أن یکون دلیل واحد متکفّلا لکلیهما؛لکون الدوام و الاستمرار بمنزلة العرض و الصفة للحکم،فلا بدّ من إثبات الحکم ثمّ اتّصافه بذلک.

کما أنّه لا یصحّ استصحاب بقاء حکم خاصّ بعد ورود العامّ أو استصحاب عدم النسخ؛إذ لا شکّ فی تقدّم أصالة العموم الجاریة فی طرف العام علیه،إمّا بنحو الورود و إمّا بنحو الحکومة؛إذ لا یبقی مجال للأصل العملی إذا تحقّق الأصل اللفظی.

و کما أنّه لا یصحّ ترجیح جانب التخصیص بمساعدة الحدیث المعروف بأنّ:

«حلال محمّد صلّی اللّه علیه و آله حلال إلی یوم القیامة،و حرامه حرام إلی یوم القیامة» (1)،بمعنی أنّ کلّ الأحکام فی الشریعة المقدّسة ثابتة و مستمرّة إلی یوم القیامة،بعد أنّ سیاق هذه العبارة یأبی عن التخصیص و یمنع عدم الاستمرار حتّی فی مورد واحد.

و وجه عدم صحّته:أنّ الحدیث یکون فی مقام بیان أنّ شریعة الإسلام خاتمة الشرائع و الأدیان،و هذا لا یتنافی مع ارتباط الناسخ و المنسوخ بالشریعة،فإنّ الحدیث لا یکون ناظرا إلی المعنی المذکور حتّی یکون قابلا للتمسّک فی مورد الشکّ فی النسخ،بعد قطعیّة وقوع النسخ نادرا فی الشریعة المقدّسة.

و اشکل علیه:ثانیا:بأنّ الخاصّ لا یصلح لأن یکون مخصّصا للعامّ،فإنّ صلاحیّته للتخصیص تتوقّف علی جریان مقدّمات الحکمة و هی غیر جاریة هنا؛إذ العامّ المستند إلی الوضع قرینة علی تقیید الخاصّ و مانع عن تمامیّة مقدّمات الحکمة بالنسبة إلیه،فلا یکون إطلاقا للخاصّ حتّی یکون معارضا

ص:570


1- 1) الوسائل:18،الباب 12 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 47.

لأصالة العموم الجاریة فی العام.

و لکنّ هذا الإشکال مبنیّ علی القول بکون المراد من عدم القرینة الذی یکون من مقدّمات الحکمة عدم القرینة مطلقا،سواء کانت متّصلة أم منفصلة، لا علی القول بکون المراد منه عدم القرینة المتّصلة،کما یقول به صاحب الکفایة قدّس سرّه،إذ المفروض ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاصّ،فتکون قرینة منفصلة.

و التحقیق فی هذا الفرض أیضا کون الخاصّ مخصّصا للعامّ کما استقرّت علیه السیرة المستمرّة بین الفقهاء من دون ملاحظة تأریخ صدور العامّ و الخاصّ من حیث التقدّم و التأخّر،و حضور وقت العمل بأحدهما و عدمه، و قد مرّ أنّ قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة لیس من قبیل قبح الظلم، و المصالح المقتضیة له أوجبت صدور المخصّصات بصورة التدریج و التدرّج.

و ما هو المهمّ هنا أنّ نسخ القانون من وظیفة المقنّنین و لا یرتبط بغیره أصلا،و المقنّن فی الشریعة المقدّسة لیس سوی اللّه تعالی،و ما یقول به رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و الأئمّة المعصومون علیهم السّلام یکون بعنوان الحکایة عن القانون،بلحاظ معرفتهم بجزئیّات قوانین الشریعة المقدّسة و خصوصیّاتها لا بعنوان جعل القانون،فعلی هذا لا معنی لشبهة النسخ و احتماله،فلا بدّ لنا من الالتزام بالتخصیص فی جمیع الصور المذکورة،بلا فرق بین أن یکون الخاصّ مقدّما أو مؤخّرا،و بلا فرق بین حضور وقت العمل به و عدمه،و بلا فرق بین معلومی التأریخ و مجهولی التأریخ.

ثمّ ذکر صاحب الکفایة قدّس سرّه مسألة النسخ فی ذیل هذا البحث،و لکن لا مجال للتعرّض لها هنا؛لعدم کونها مسألة اصولیّة.

ص:571

ص:572

المقصد الخامس: فی المطلق و المقیّد

اشارة

فی المطلق و المقیّد

ص:573

ص:574

فی المطلق و المقیّد

عرف المطلق:بأنّه ما دلّ علی معنی شائع فی جنسه،و المقیّد بخلافه،و هذا التعریف و إن اشتهر بین الأعلام،و لکن وقع مورد النقض و الإبرام من حیث عدم الجامعیّة و المانعیّة.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّه قد نبّهنا فی غیر مقام علی أنّ مثله من قبیل شرح الاسم و لیس بتعریف حقیقی،و هو ممّا یجوز أن لا یکون بمطّرد و لا بمنعکس،فالأولی الإعراض عن ذلک.

و التحقیق: أنّ صحّة هذا الکلام و تطبیقه فی بعض التعاریف لا یستلزم انطباقه فی جمیع الموارد بعنوان القاعدة الکلّیّة،بعد أن کان التعریف اللفظی نظیر«سعدانة نبت»یقال لمن کان جاهلا بأنّها من الجمادات أو من الحیوانات أو من النباتات،و لا فائدة له لمن کان عالما إجمالا بأنّها من النباتات،و معلوم أنّ المطلق لا یکون مجهولا محضا،فإنّ معناه الإجمالی مرتکز فی ذهن المبتدئ فی علم الاصول فضلا عن العالم به،مع أنّ الإشکالات الطردیّة و العکسیّة من العلماء تشهد بعدم کون التعریف عندهم لفظیّا،فلا یصحّ الحکم بالتعریف اللفظی فی جمیع الموارد بعنوان المفرّ عن الإشکالات.

ص:575


1- 1) کفایة الاصول 1:376.

فالظاهر أنّ التعریف المذکور تعریف حقیقی،و المقصود منه أنّ المطلق لفظ دالّ علی معنی شائع فی جنسه،و لیس المراد بالجنس ما اصطلح علیه المنطقیّون،بل المراد منه ما هو الشامل للأفراد المتسانخة المندرجة تحته، فیکون الرجل من مصادیق المطلق مع أنّه صنف من الإنسان.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ الظاهر من هذا التعریف أنّ الإطلاق و التقیید من أوصاف اللفظ بالأصالة مع أنّهما من صفات المعنی؛ضرورة أنّ نفس الطبیعة التی جعلت موضوع الحکم قد تکون مطلقة و قد تکون مقیّدة مع قطع النظر عن اللفظ،فإنّ ماهیّة الإنسان مطلقة،و الإنسان الأبیض مقیّد،و هکذا.

و ثانیا:أنّ الشیوع فی جنسه الذی جعل صفة المعنی یحتمل فیه وجهان:

الأوّل:أن یراد به کونه لازما للمعنی و من خصوصیّاته،فالمطلق دالّ علی المعنی،و لکنّه فی حدّ ذاته شائع فی جنسه،و علی هذا لا إشکال فی البین.

الثانی:أن یکون نفس الشیوع جزء مدلول اللفظ،کما أنّ ذات المعنی جزء آخر،فالمطلق یدلّ علی المعنی و الشیوع،و هذا لیس بصحیح؛إذ لا یدلّ اللفظ المطلق-مثل:الإنسان-علی الخصوصیّات و الکثرة و إن کان وجود الطبیعی عین وجود أفراده فی الخارج؛إذ لا ترتبط مسألة الاتّحاد فی الوجود بمقام الدلالة و الوضع.

و ثالثا:أنّ هذا التعریف یشمل بعض المقیّدات کالرقبة المؤمنة؛لشیوعها أیضا فی جنسه،و العرف أیضا یعاملها معاملة الإطلاق فیما إذا قال المولی:«إن أفطرت فی شهر رمضان فیجب علیک عتق رقبة مؤمنة»،فلا یکون مانع الأغیار.

و رابعا:أنّ الظاهر من التعریف أنّ المطلق ینطبق علی المعنی الکلّی کما هو

ص:576

المرتکز فی الأذهان،و لازم ذلک عدم تحقّق الإطلاق و التقیید فی الامور الجزئیّة و المصادیق،و الحال أنّهما یتحقّقان فیها أیضا،کما فی قولنا:«إن جاءک زید فأکرمه»،سواء قلنا برجوع القید إلی الهیئة أو إلی المادّة،فالواجب علی الثانی هو إکرام زید مقیّدا بتحقّق قید المجیء،و لا محالة یکون الإکرام المضاف إلی زید أمرا جزئیّا.

و هکذا علی الأوّل فإنّ الهیئة تکون من المعانی الحرفیّة،و معلوم أنّ الموضوع له فی باب الحروف خاصّ،فعلی کلا التقدیرین یکون المجیء قیدا للمعنی الجزئی،فلا تنحصر دائرة المطلق و المقیّد فی الکلّیّات،بل یتحقّق فی الجزئیّات أیضا بلحاظ الحالات المختلفة،بل یتحقّق فی الجملات الخبریّة أیضا،فإنّ ضارب زید-مثلا-قد یقول:«ضربت زیدا»،و قد یقول:«ضربت زیدا یوم الجمعة».

و بعد ملاحظة أنّ المعنی یتّصف بالإطلاق بالأصالة و یکون اتّصاف اللفظ به بالتبع،و أنّه یتحقّق فی الجزئیّات أیضا لا بدّ من تعریفه بأنّ المطلق هو المعنی المعرّی عن القید.

و یمکن أن یرد علیه أیضا بعدم شموله لمثل الرقبة المؤمنة،و الجواب عنه:أنّ الإطلاق و التقیید من الامور الإضافیّة،فیمکن أن یکون شیء مطلقا و مقیّدا باعتبارین،فتکون الرقبة المؤمنة کذلک،کما أنّ الحجّ-مثلا-یکون واجبا مشروطا بالنسبة إلی الاستطاعة و واجبا مطلقا بالنسبة إلی سائر الشرائط، مثل:تحصیل الزاد و الراحلة،فلا إشکال فی اجتماع الإطلاق و التقیید فی عنوان واحد.

و لا یخفی أنّ تقابل الإطلاق و التقیید تقابل العدم و الملکة لا الإیجاب

ص:577

و السلب،فالمطلق ما کان خالیا عن القید ممّا شأنه أن یتقیّد بذلک،و ما لیس من شأنه التقیّد لا یکون مطلقا و لا مقیّدا،کما أشار إلیه صاحب الکفایة قدّس سرّه فی موارد عدیدة،منها:ما یقول باستحالة أخذ قصد القربة بمعنی داعی الأمر فی المأمور به،مثل سائر الأجزاء و الشرائط من المولی،و ترتّب الثمرة علیه،بأنّه إذا شککنا فی تعبّدیّة واجب-مثل الزکاة-و توصّلیّته،لا یصحّ التمسّک بإطلاق: آتُوا الزَّکاةَ لنفی اعتبار قصد القربة،فإنّ مورد جریان أصالة الإطلاق عبارة عمّا کان قابلا للتقیید،و لا یکون قصد القربة بهذا المعنی قابلا للأخذ فی المتعلّق.

و من هنا نستکشف أنّ تقابل الإطلاق و التقیید عنده تقابل العدم و الملکة، و ما فی الأذهان أیضا یساعد علی هذا المعنی.

نکتة:

أنّ مورد الإطلاق و إن کان کثیرا ما عبارة عن الأحکام،و لکن مصبّه قد یکون المتعلّق،مثل:«اعتق رقبة»،و قد یکون المکلّف مثل: وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (1)،فإنّ قید«من استطاع»عطف بیان للناس،من حیث الأدب،فتکون دائرة الإطلاق و التقیید وسیعة.

ثمّ إنّ اسم الجنس یکون من مصادیق المطلق بعد أنّه لا ینحصر فی الجواهر و الأعراض کالرجل و السواد،بل یتحقّق فی الامور الاعتباریّة أیضا کالملکیّة و الزوجیّة،فنقول:إنّ الواضع حین وضع أسماء الأجناس قد تصوّر ماهیّة الإنسان-مثلا-و وضع اللفظ بإزاء نفس الماهیّة،و المستعمل فیه أیضا یکون نفس الماهیّة،سواء کان الاستعمال بصورة القضیّة الحملیّة

ص:578


1- 1) آل عمران:97.

بالحمل الأوّلی-مثل-:«الحیوان الناطق إنسان»أو بصورة القضیّة الحملیّة بالحمل الشائع،مثل:«زید إنسان»،فیکون المحمول-أی الإنسان- فی کلتا القضیّتین بمعنی واحد،إلاّ أنّ معنی القضیّة الاولی یرجع إلی أنّ الحیوان الناطق ماهیّة الإنسان،و معنی الثانیة یرجع إلی أنّ زیدا فرد من ماهیّة الإنسان.

و لکن یستفاد من کلام المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه (1)أنّ الإنسان فی«زید إنسان»بلحاظ ارتباطه بالکثرة،غیر الإنسان فی«الحیوان الناطق إنسان»،و قال:لا منافاة بین کون الماهیّة فی مرحلة الوضع ملحوظة بنحو اللابشرط القسمی،و کون الموضوع له هو ذات المعنی؛تسریة للوضع إلی المعنی بجمیع أطواره.

و هذه العبارة تهدینا إلی أنّه قائل بالفرق بین الإنسان فی القضیّتین؛بأنّ «زید إنسان»ناظر إلی حالة خاصّة للمعنی،و«بکر إنسان»ناظر إلی حالة خاصّة اخری له،و هکذا،بخلاف«الحیوان الناطق إنسان»،فإنّه لا یکون ناظرا إلی الکثرة و الأطوار.

و هذا الکلام منه عجیب،فإنّ معنی الإنسان عبارة عن الماهیّة،و لا تتحقّق له الحالات و الأطوار،و اتّحاد ماهیّة الإنسان مع زید و عمرو...من حیث الوجود لا یرتبط بالمعنی بلحاظ ارتباط الوضع بالماهیّة التی لیست لها حالات،و مصداقیّة الأفراد المذکورة لها لا یوجب أن یتحقّق لها حالات مختلفة،فترتبط الحالات بالوجود،و نسبة الماهیّة إلی جمیع الحالات من الوجود و العدم و نحو ذلک علی السواء،فیکون الإنسان فی کلتا القضیّتین

ص:579


1- 1) نهایة الدرایة 2:491.

بمعنی واحد.

و لو فرضنا أنّ الواضع حین الوضع لاحظ الماهیّة بنحو اللابشرط القسمی و لکنّ الموضوع له هو نفس الماهیّة کما صرّح بذلک،و معلوم أنّ الاستعمال تابع للموضوع له لا الوضع،فلا فرق بین القضیّتین من هذه الجهة.

ص:580

فی تقسیم الماهیّة إلی أقسام ثلاثة

ذکر الاصولیّون أنّ الماهیّة قد تلاحظ فی نفسها فیعبّر عنها بالماهیّة اللابشرط،و قد تلاحظ مع تقیّد بوجود شیء آخر فیعبّر عنها بالماهیّة بشرط شیء،و قد تلاحظ مع تقیّد بعدم شیء آخر،فیعبّر عنها بالماهیّة بشرط لا.

و اشکل علی هذا التقسیم بأنّه لا بدّ من مغایرة المقسم مع الأقسام کمغایرة کلّ واحد من الأقسام مع الآخر،و الماهیّة اللابشرط هنا عین المقسم؛إذ لا فرق بین الماهیّة و الماهیّة اللابشرط.

و اجیب بأنّ المقسم هنا لیس نفس الماهیّة،بل هی الماهیّة الملحوظة أو لحاظ الماهیّة بدون دخالة قید اللحاظ فیه،و یتحقّق فی کلّ الأقسام قید زائد، ففی القسم الأوّل لوحظت الماهیّة مع قید اللابشرط،و فی الثانی لوحظت الماهیّة مقیّدة مع شیء آخر،و فی الثالث لوحظت الماهیّة مقیّدة بعدم شیء آخر.

و لکنّ الإمام قدّس سرّه (1)قال:إنّ هذا التقسیم تقسیم واقعی و ملاک صحّته هو الواقع لا اعتبار المعتبر،و المقسم جنس الماهیّة التی لها مصادیق مختلفة؛بأنّ الماهیّة إذا قیست إلی أیّ شیء خارج عن ذاتها،إمّا أن یکون ذلک الشیء

ص:581


1- 1) مناهج الوصول إلی علم الاصول 2:320-322.

لازم الالتحاق بها بحسب وجودها أو ذاتها،مثل:الزوجیّة بالنسبة إلی ماهیّة الأربعة،فماهیّة الأربعة بالنسبة إلی الزوجیة تکون مشروطة بشرط شیء، و إمّا أن یکون ذلک الشیء ممتنع الالتحاق بحسب وجودها أو ذاتها،کالفردیّة بالنسبة إلی ماهیّة الأربعة،فهی الماهیّة بشرط لا بالنسبة إلی الفردیّة،و إمّا أن یکون ذلک الشیء ممکن الالتحاق،کالوجود بالنسبة إلی الماهیّة،و الکتابة بالنسبة إلی ماهیّة الإنسان،فهذه هی الماهیّة اللابشرط،فالماهیّات بحسب نفس الأمر لا تخلو عن أحد هذه الأقسام،و لا یتخلّف عمّا هی علیه بورود الاعتبار علی خلافه.

و معلوم أنّ هذا بیان دقیق و قابل للاستفادة،و لکن لا یتمّ به البحث فیما نحن فیه،فإنّا نبحث فی الموضوع له فی أسماء الأجناس،و لا شکّ فی کون الوضع أمرا اعتباریّا و جعلیّا بدون أیّ دلالة و ارتباط ذاتی بین اللفظ و المعنی، فقد یلاحظ الواضع ماهیّة الحیوان الناطق و یضع لفظ«الإنسان»لنفس هذه الماهیّة،و قد یلاحظ ماهیّة الحیوان الناطق مقیّدة بقید الرقّیّة ثمّ یضع لفظ «الرقبة»لها،و لا یمکن تحقّق الوضع بدون اللحاظ و الاعتبار،فلا بدّ من إضافة هذا المکمّل إلی کلام الإمام قدّس سرّه هنا،فیکون الموضوع له فی أسامی الأجناس نفس الماهیّات.

ص:582

البحث عن علم الجنس

اشارة

و أمّا أعلام الأجناس ک«اسامة»و«ثعالة»فقد قال جماعة:إنّه لا فرق بینها و بین أسماء الأجناس،إلاّ أنّ أسماء الأجناس موضوعة لنفس الماهیّة، و أعلام الأجناس موضوعة لتلک الماهیّة لکن بشرط تعیّنها فی الذهن،و من هنا یعاملونها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس.

و أشکل علیه صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بما محصّله:أنّ أعلام الأجناس لو کانت موضوعة للماهیّة المتعیّنة فی الذهن فلازم ذلک أنّها بما لها من المعنی غیر قابلة للحمل علی الأفراد الخارجیّة،حیث لا موطن لها إلاّ الذهن،و معلوم أنّ الموجود الخارجی و الذهنی متضادّان غیر قابلین للاتّحاد و الانطباق علی الآخر،فلا یصحّ قولنا:«هذا اسامة»،مع أنّه لا شبهة فی صحّة انطباق أعلام الأجناس بما لها من المعنی علی الأفراد الخارجیّة من دون تصرّف و تجرید فیها أصلا،و الحال أنّ الخصوصیّة الذهنیّة لو کانت مأخوذة فی معانیها لم یمکن انطباقها علیها بدون تصرّف و تجرید.

هذا،مضافا إلی أنّ وضع علم الجنس للمعنی المقیّد بالقید الذهنی یحتاج عند الاستعمال دائما إلی تجریده عن خصوصیّته فی مقام الاستعمال،و هذا

ص:583


1- 1) کفایة الاصول 1:378-379.

لا یصدر عن جاهل فضلا عن الواضع الحکیم و الملتفت إلی أنّ الوضع مقدّمة الاستعمال؛إذ لا شکّ فی لغویّة وضع لفظ لمعنی لم یستعمل فیه إلاّ قلیلا،کما إذا قال:«اسامة حیوان ناطق»بصورة القضیّة الحملیّة بالحمل الأوّلی فی جواب السؤال عن معنی اسامة،و لذا قال قدّس سرّه:التحقیق أنّه موضوع لصرف المعنی بلا لحاظ شیء معه أصلا کاسم الجنس،و التعریف فیه لفظی،کما هو الحال فی التأنیث اللفظی.

و لکن کان للمحقّق الحائری قدّس سرّه (1)هنا کلام فی مقام الدفاع عن المشهور، و الجمع بین أن تکون قضیّة:«هذا اسامة»قضیّة صحیحة بلا عنایة و تجرید، و بین أن یکون علم الجنس موضوعا للطبیعة بما هی متعیّنة بالتعیّن الذهنی.

و توضیح کلامه:أنّ اللحاظ الدخیل فی معناه إن کان لحاظا استقلالیّا یرد علیه ما أورده صاحب الکفایة قدّس سرّه،و لکنّه یمکن أن یکون لحاظا مرآتیّا،مثل لحاظ الکلّی و تصوّره،فکما أنّ تصوّر الکلّی-کالإنسان-لا یوجب صیرورته متشخّصا و جزئیّا بلحاظ مرآتیّته،مع أنّ الوجود الذهنی-کالوجود الخارجی-مساوق مع التشخّص و الجزئیّة،کذلک ملحوظیّة الذهن دخیلة فی معناه،فلا یکون معنی علم الجنس أمرا ذهنیّا غیر قابل للحمل علی الموجود الخارجی،فإنّ لحاظه فی الذهن آلیّ بحیث صار مغفولا عنه.

و لکن هذا من عجائب کلامه و لا ینبغی صدوره عنه،فإنّا نبحث فی وضع علم الجنس،و لا بدّ فیه من تصوّر اللفظ و المعنی،و معلوم أنّ تصوّرهما آلیّ و هکذا تصوّر المتعلّق باللحاظ الذی یکون وصفا للمعنی أو جزء له،و أمّا نفس هذا اللحاظ فلا محالة یکون استقلالیّا؛إذ لا یمکن تعلّق لحاظ آلی

ص:584


1- 1) درر الفوائد 1:232.

بلحاظ آلی آخر،و هذا لا یکون قابلا للمقایسة مع تصوّر الکلّی؛إذ لا یکون فیه إلاّ لحاظ واحد.

و کان لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه هنا بیان یحتاج إلی توضیح،و هو متوقّف

اشارة

علی ذکر مقدّمتین:

(1)

الاولی:أنّ التعریف و التنکیر أمران واقعیّان لا یرتبطان باللحاظ

و الاعتبار

،و لذا لا یمکن تبدیل المعرفة مع حفظ تعریفها بالنکرة،و بالعکس، فتکون معاملة المعرفة مع بعض الألفاظ،مثل«زید»،بلحاظ تشخّص معناه و تعیّنه بحسب الواقع،و دلالة اللفظ علی المعنی المتخصّص بالخصوصیّات، بخلاف النکرة مثل:لفظ«رجل»؛إذ لا دلالة له علی التعیّن و التشخّص أصلا.

المقدّمة الثانیة:أنّ الماهیّة فی نفسها لیست بمعرفة و لا نکرة

،و لذا یتوقّف تعریف لفظ«الإنسان»إلی الألف و اللام،و تنکیره إلی التنوین،و هذا دلیل علی أنّ الماهیّة بما هی هی لا تتّصف بأنّها معرفة و لا نکرة،بل قابلة للاتّصاف بهما، و لفظ«إنسان»بدون التنوین و اللاّم لا یکون معرفة و لا نکرة.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ المستعمل فی مقام الاستعمال قد یکون فی مقام بیان ماهیّة الإنسان-مثلا-و قد یکون فی مقام المقایسة بینها و بین سائر الماهیّات و بیان امتیازها عنها،و معلوم أنّ لکلّ ماهیة خصوصیّة ذاتیة لا تتحقّق فی ماهیّة اخری،و هی لا ترتبط باللحاظ و عدمه و لا بالوجود و عدمه، ففی نفس ماهیّة الإنسان امتیاز لا یتحقّق فی ماهیّة البقر،و بالعکس.

ثمّ قال:إنّ اسم الجنس موضوع للماهیّة فیما کان الغرض بیان نفس الماهیّة، و علم الجنس موضوع للطبیعة بما هی متمیّزة بذاتها بین المفاهیم،فإنّ کلّ

ص:585


1- 1) تهذیب الاصول 1:529.

طبیعة إذا لوحظت بالإضافة إلی سائر الطبائع تکون ممتازة عنها و متعیّنة بذاتها فی عالم الواقع و نفس الأمر.

و یستفاد هذا المعنی من إضافة ألف و لام التعریف إلی اسم الجنس،و الفرق بین علم الجنس و المصدّر بألف و لام الجنس أنّه لا یتحقّق فی علم الجنس تعدّد الدال و المدلول،بخلاف مثل الرجل،فإنّ لفظ«رجل»یدلّ علی نفس الماهیّة،و الألف و اللاّم یدلّ علی تمیّزها عن سائر الماهیّات،فیکون علم الجنس معرفة حقیقیّة،و کان تعریفه بلحاظ الخصوصیّة المتحقّقة فی الماهیّة،لا بلحاظ التقیّد بالأمر الذهنی،فیصحّ تشکیل قضیّة:«هذا اسامة»بدون التصرّف و التجرید.

ص:586

البحث عن المفرد المعرّف باللاّم

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):و المشهور أنّه علی أقسام:المعرّف بلام الجنس أو الاستغراق أو العهد بأقسامه علی نحو الاشتراک بینها لفظا أو معنی، و الظاهر أنّ الخصوصیّة فی کلّ واحد من الأقسام من قبل خصوص اللام أو من قبل قرائن المقام من باب تعدّد الدال و المدلول،لا باستعمال المدخول لیلزم فیه المجاز أو الاشتراک،فکان المدخول علی کلّ حال مستعملا فیما یستعمل فیه غیر المدخول،و المعروف أنّ اللام تکون موضوعة للتعریف و مفیدة للتعیین فی غیر العهد الذهنی.

و أنت خبیر بأنّه لا تعیّن فی تعریف الجنس إلاّ الإشارة إلی المعنی المتمیّز بنفسه من بین المعانی ذهنا،و لازمه أن لا یصحّ حمل المعرّف باللاّم بما هو معرّف علی الأفراد؛لما عرفت من امتناع الاتّحاد مع ما لا موطن له إلاّ الذهن إلاّ بالتجرید،و معه لا فائدة فی التقیّد بالتعیّن الذهنی مع أنّ التأویل و التصرّف فی القضایا المتداولة فی العرف غیر خال عن التّعسّف.

هذا،مضافا إلی أنّ الوضع لما لا حاجة إلیه-بل لا بدّ من التجرید عنه و إلغائه فی الاستعمالات المتعارفة المشتملة علی حمل المعرّف باللاّم أو الحمل

ص:587


1- 1) کفایة الاصول 1:379-381.

علیه-کان لغوا کما أشرنا إلیه.

ثمّ قال:فالظاهر أنّ اللام مطلقا تکون للتزیین کما فی الحسن و الحسین علیهما السّلام، و استفادة الخصوصیّات-من العهد الخارجی و الحضوری و الذکری و تعریف الجنس و الاستغراق و العهد الذهنی-إنّما تکون بالقرائن التی لا بدّ منها لتعیینها علی کلّ حال،و لو قیل بإفادة اللاّم للإشارة إلی المعنی،و مع الدلالة علی المعنی مقرونا بتلک الخصوصیّات لا حاجة إلی تلک الإشارة لو لم تکن مخلّة و قد عرفت إخلالها،فتأمّل جیّدا.

و التحقیق فی المسألة:أنّ التعیّن المذکور لا یکون تعیّنا ذهنیّا کما ذکرناه فی البحث عن علم الجنس،بل لنفس الماهیّة تتحقّق حالتان،فقد تلاحظ الماهیّة من حیث هی هی،و قد تلاحظ بالمقایسة إلی سائر الماهیّات و امتیازها عنها، فوضع اسم الجنس للاولی،و علم الجنس للثانیة من دون ارتباط باللحاظ و التعیّن الذهنی.

و الفرق بین علم الجنس و المعرّف بلام الجنس فی تعدّد الدال و المدلول فی الثانی بخلاف الأوّل،و محدودیّة دائرة الأوّل فی بعض الماهیّات وسعة دائرة الثانی،فلا یرد علی هذا المبنی ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه من إشکالات.

و یرد علی المحقّق الخراسانی قدّس سرّه:أوّلا:أنّ کون الألف و اللاّم للتزیین مطلقا لا یصحّ عند المحقّقین من علماء الأدب،مع تفویت غالب الخصوصیّات و النکات التی تدلّ علیه الألف و اللاّم.

مضافا إلی أنّ الالتزام بالتزیین یکون فی موارد لا بدّ منها،مثل:الحسن و الحسین علیهما السّلام سیّدا شباب أهل الجنّة.

و ثانیا:أنّ قوله قدّس سرّه:و المعروف أنّ اللاّم تکون موضوعة للتعریف و مفیدة

ص:588

للتعیین فی غیر العهد الذهنی،لا دلیل علیه؛إذ لا نقص فیه،مع أنّ التعریف إن کان بمعنی الإشارة الذهنیّة و الالتفات الذهنی-کما صرّح به قدّس سرّه-یتحقّق هذا المعنی فی العهد الذهنی زائدا علی غیره،و من هنا نستکشف أنّ التعریف لیس بالمعنی المذکور،بل یکون بمعنی الوضع للماهیّة فی مقام بیان امتیازاتها الذاتیّة کما ذکرناه آنفا.

ص:589

ص:590

الجمع المحلّی باللاّم

اشارة

لا شکّ فی أنّ الجمع المحلّی باللاّم یفید العموم و الاستغراق،و إنّما الکلام فی کیفیّة دلالته؛إذ یحتمل أن یکون مستندا إلی نفس الجمع بأن یکون الجمع المحلّی باللام موضوعا لإفادة العموم،و یحتمل أن یکون مستندا إلی نفس اللام، إمّا من طریق وضع اللاّم للدلالة علی العموم إذا کان مدخوله الجمع،فلا یکون تعریفا من حیث المعنی أصلا،و إمّا من طریق دلالة اللاّم علی التعیین و تعریف المدخول فیرتبط تعریفه بالاستغراق و الاستیعاب؛إذ لا تعیّن لشیء من مراتب الجمع إلاّ الاستغراق،و هذا هو الظاهر من کلمات المشهور من علماء الأدب.

و لکن استشکل علی هذا الاحتمال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)بأنّ تعریف الجمع لا یکون مستلزما لتعیّن المرتبة المستغرقة لجمیع الأفراد لتعیّن مرتبة اخری من مراتب الجمع أیضا،و هی أقلّ مراتبه،کما لا یخفی،فلا بدّ أن تکون دلالته علی العموم مستندة إلی وضع الجمع المحلّی باللاّم للعموم.

و التحقیق:أنّ هذا الإشکال غیر وارد علی المشهور،فإنّ التعیّن فی ناحیة الاستیعاب واضح،أی کلّ مصداق من مصادیق العلماء-مثلا-بخلاف أقلّ

ص:591


1- 1) کفایة الاصول 1:381.

المراتب؛لتعیّنه من حیث العدد لا من حیث الواقعیّة،و لذا یکون ثلاثة فی قولنا:«أکرم ثلاثة من العلماء»نکرة و مبهما،نظیر:«جئنی برجل»،و لذا یکون المکلّف مختارا فی إکرام کلّ ثلاثة ثلاثة منهم،بخلاف الاستیعاب،فلا إشکال فی دلالة اللاّم علی تعریف و تعیین المدخول و أن یکون تعیّنه کاشفا عن أکثر مراتب الجمع و الاستیعاب.

و لکنّ الأوفق مع الکتب الاصولیّة و الأنسب مع ظاهر عناوینها وضع الجمع المحلّی باللاّم للدلالة علی العموم و الاستیعاب،و هذا لا یتنافی مع کون اللام للتعریف و ارتباط العموم بنفس الجمع،و یؤیّد هذا الاحتمال ذکره فی مباحث العامّ و الخاصّ بأنّ من الألفاظ الدالّة علی العموم الجمع المحلّی باللاّم.

النکرة:

و من الألفاظ التی یطلق علیها لفظ المطلق النکرة،مثل:«رجل»فی قوله تعالی: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِینَةِ رَجُلٌ (1)،أو فی قولنا:«جئنی برجل»،و قد عرفت أنّ الماهیّة من حیث هی هی لا تکون نکرة و لا معرفة،بل قابلة لکلیهما،و لذا نحتاج فی تعریفها و تنکیرها إلی اللام و التنوین.

و یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه أنّ النکرة إذا استعملت فی مقام الإخبار تدلّ علی ما یکون معیّنا عند المتکلّم و غیر معیّن عند المخاطب،و إذا استعملت فی مقام الإنشاء تدلّ علی الطبیعة المبهمة عند کلّ منهما و مقیّدة بقید الوحدة،فالنکرة فی مقام الإخبار وضعت للموجود المشخّص عند المخبر و المبهم عند المخاطب،و فی مقام الإنشاء وضعت للماهیّة المبهمة المقیّدة بقید الوحدة.

ص:592


1- 1) یس:20.

و یرد علیه:أوّلا:من البعید تعدّد الوضع فی باب النکرة بحسب الواقع.

و ثانیا:أنّ التعیّن الذی یتحقّق فی مقام الإخبار لا یرتبط بالنکرة،فإنّ کلمة «رجل»فی کلتا الحالتین تدلّ علی الماهیّة المقیّدة بقید الوحدة من دون فرق بین الإخبار و الإنشاء،و لکنّ إسناد الفعل الخارجی-مثل المجیء-إلی هذه الطبیعة یوجب التعیّن،فوقوعها فاعلا لما یحکی عن الواقعیّة الخارجیّة یوجب ذلک.

و هذا إشکال جیّد،و نضیف إلیه أمرین:

الأوّل:کلّما وقعت النکرة فی مقام الإخبار لا تکون معیّنة عند المتکلّم؛إذ یمکن أن تکون عنده أیضا مبهمة لعروض النسیان.مثلا:کان عالما بمجیء رجل عنده قبل مدّة و لکنّه لم یلتفت فعلا إلی خصوصیّاته،فیقول فی مقام الإخبار:«جاءنی رجل قبل شهر»مثلا.

الأمر الثانی:ما یحتاج إلی بیان مقدّمة،و هی:أنّ الأمر المحقّق فی الخارج لا محالة یکون معیّنا و مشخّصا بحسب الواقع من تمام الجهات،و لکنّ المخبر فی مقام الحکایة عنه قد یتعلّق غرضه بحکایته مع جمیع الخصوصیّات الزمانیّة و المکانیّة و نحو ذلک،و قد یتعلّق بحکایته مجملا للمصالح المقتضیة له،کما مرّ نظیره فی باب الحروف فی مثل:«سرت من البصرة إلی الکوفة»،فإنّ السیر الخارجی یکون بحسب الواقع مشخّصا،و لکنّ المتکلّم قد یکون فی مقام بیان سیره مع جمیع خصوصیّاته،و قد یکون فی مقام بیانه إجمالا.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ المتکلّم فی مقام الحکایة عن مجیء رجل عنده لا یکون فی مقام بیان الواقعیّة بتمامها؛لاقتضاء المصلحة الإخبار لبیان مجیء الطبیعة المقیّدة بقید الوحدة فقط،و لذا یقول:«جاءنی رجل»،فالواقعیّة

ص:593

مشخّصة بدون دلالة إسناد المجیء إلیها علی التعیّن،فیکون هذا القول مرآة لبعض الواقعیّة لا لتمامها کما توهّمه صاحب الکفایة قدّس سرّه و المستشکل،و نفس العبارة تهدینا إلی عدم کون المتکلّم فی مقام الحکایة عن تمام الخصوصیّات، فلا یکون فی باب النکرة إلاّ وضعا واحدا،و الموضوع له هی الماهیّة المقیّدة بقید الوحدة من دون فرق بین مقام الإخبار و مقام الإنشاء.

ثمّ قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إذا عرفت ذلک فالظاهر صحّة إطلاق المطلق عندهم حقیقة علی اسم الجنس و النکرة بالمعنی الثانی-أی إذا استعملت فی مقام الإنشاء-کما یصحّ لغة،و غیر بعید أن یکون جریهم فی هذا الإطلاق علی وفق اللغة من دون أن یکون لهم فیه اصطلاح علی خلافها کما لا یخفی.

نعم،لو صحّ ما نسب إلی المشهور من کون المطلق عندهم موضوعا للماهیّة المقیّدة بالإرسال و الشمول البدلی لم یکن اسم الجنس و النکرة من مصادیق المطلق؛لفقدان قید الشمول فیهما،حیث إنّ اسم الجنس وضع للماهیّة المبهمة من دون لحاظ قید معها،و النکرة وضعت للماهیّة المقیّدة بالوحدة،فلحاظ الشمول مفقود فی کلیهما،إلاّ أنّ الکلام فی صدق النسبة.

ثمّ قال:و لا یخفی أنّ المطلق بهذا المعنی-أی المقیّد بالشمول-غیر قابل لطروّ القید،فإنّ الإطلاق المقیّد بالسریان و الشمول ینافی التقیید و یعانده،بل و هذا بخلاف المطلق بالمعنیین المذکورین لاسم الجنس و النکرة-أی صرف الطبیعة المهملة و الطبیعة المقیّدة بالوحدة-فإنّهما قابلان للتقیید،و علی ما ذکر من معنیی اسم الجنس و النکرة لا یلزم من التقیید مجاز فی المطلق؛لإمکان إرادة معنی لفظ المطلق من لفظه و إرادة قیده من قرینة حال أو مقال،فیراد

ص:594


1- 1) کفایة الاصول 1:382-383.

المقیّد بتعدّد الدالّ و المدلول،و إنّما یستلزم التقیید مجازا بناء علی المعنی المنسوب إلی المشهور للمطلق،و هو الماهیّة المقیّدة بالشیوع و الإرسال؛ لاستلزام التقیید تجریده عن قید الإرسال،فیکون المطلق حینئذ مستعملا فی جزء معناه،فیصیر مجازا،و من هنا یستفاد عدم صحّة النسبة المذکورة.

و التحقیق:أنّ ذیل کلامه قدّس سرّه کلام جیّد،و لکن یرد علی صدر کلامه قدّس سرّه ما ذکرناه من أنّ النکرة-سواء استعملت فی مقام الإخبار أم فی مقام الإنشاء- یکون لها معنی واحد،و هی الطبیعة المقیّدة بقید الوحدة.

و لو فرضنا کونها فی مقام الإخبار بمعنی الفرد المعیّن عند المتکلّم و المبهم عند المخاطب،و لکنّک عرفت أنّنا ذکرنا إمکان جریان الإطلاق و التقیید فی الجزئیّات أیضا و عدم محدودیّتهما فی الکلّیّات،کما فی مثل قولنا:«إن جاءک زید فأکرمه»،فإنّ قید المجیء یرجع إلی الهیئة لدی المشهور،مع کونها من ملحقات الحروف،و معناها جزئیّ عندهم،بل لو کان المجیء قیدا للمادّة-کما قال به الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه-أیضا یکون قیدا للجزئی،فإنّ الإکرام المضاف إلی الجزئی یکون جزئیّا،فعلی کلا التقدیرین یرجع القید إلی الجزئی، بل یکون نوع القیود فی الکلمات قیودا للجزئی کما فی قولنا:«ضربت زیدا یوم الجمعة»؛إذ یکون یوم الجمعة قیدا لوقوع الضرب الخارجی علی زید،و لا شکّ فی جزئیّته،و هکذا القیود الاخری.

فعلی فرض صحّة القول بدلالة النکرة فی مقام الإخبار علی المعنی الجزئی، لا ینافی هذا مع الإطلاق،کما لا یخفی.

و لکنّ المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)بعد إنکار النسبة المذکورة إلی المشهور فی هذا

ص:595


1- 1) کفایة الاصول 1:383-384.

الفصل یقول فی الفصل الآتی بما ینافیه،فإنّه قال:«قد ظهر لک أنّه لا دلالة لمثل «رجل»إلاّ علی الماهیّة المبهمة وضعا،و أنّ الشیاع و السریان کسائر الطوارئ یکون خارجا عمّا وضع له،فلا بدّ فی الدلالة علی الشیاع من قرینة حال أو مقال أو حکمة،و هی تتوقّف علی مقدّمات».

و یستفاد من هذه العبارة أنّ بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة یکون لقید السریان دخل فی الماهیّة بعنوان قید المعنی،مع أنّه لیس کذلک بعد ملاحظة أمرین:

الأوّل:أنّ مسألة الدلالة اللفظیّة الوضعیّة غیر مسألة الاتّحاد الخارجی، فمثل:«زید إنسان»قضیّة حملیّة،و یکون الموضوع من مصادیق المحمول خارجا و متّحد معه،مع أنّه لا یعقل دلالة لفظ الإنسان علی زید و حکایته عنه؛إذ الدلالة الوضعیّة اللفظیّة محدودة بالموضوع له،و لا تتجاوز عنه،إلاّ أن یکون الاستعمال مجازا فیما تحقّقت علاقة من العلائق المشهورة،فالاتّحاد فی الوجود مسألة،و الدلالة و الحکایة مسألة اخری،و لذا نری اتّحاد الصلاة و الغصب وجودا فی بعض الموارد مع عدم حکایة أیّ منهما عن الآخر أصلا.

الأمر الثانی:أنّ أصالة العموم أصل عقلائی لفظی مستند إلی الوضع،فلفظ العقود فی قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ جمع محلّی باللام قد وضعه الواضع للدلالة علی العموم،بخلاف أصالة الإطلاق فإنّها أصل عقلی مستند إلی مقدّمات الحکمة؛إذ العقل بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة یحکم بأنّ تمام المراد نفس الماهیّة و الطبیعة،مع اشتراکهما فی المرجعیّة حین الشکّ فی التخصیص و التقیید،فیتحقّق بینهما فرق حقیقیّ فاحش،ففی مثل:«أکرم کلّ عالم»تتحقّق الحکایة عن الأفراد بالحکایة الإجمالیّة؛لاستناد أصالة العموم

ص:596

إلی اللفظ،و لا تتحقّق الحکایة عنها فی أصالة الإطلاق أصلا،لا بالحکایة التفصیلیّة و لا بالحکایة الإجمالیّة،فلا مجال للشیوع و السریان و لو بنحو البدلیّة فی معنی المطلق،و لا دخل له فیه و لو بمعونة القرینة.

ففی المطلق تمام الموضوع و تمام المتعلّق هی الماهیّة؛و لذا یحصل الامتثال و الموافقة بإتیان کلّ فرد من أفرادها،فلا یرجع الإطلاق إلی العموم.

مقدّمات الحکمة
اشارة

و یتحقّق فی کلّ واحد منها بحثان:الأوّل:فی تعریفه و معناه،البحث الثانی:

فی مقدّمیّته،و الأقوال فیهما مختلفة،مع أنّ الغرض من الأخذ بالإطلاق هو الاحتجاج علی المولی و رفع المؤاخذة عن المکلّف.

المقدّمة الاولی:أن یکون المولی فی مقام بیان تمام مراده لا فی مقام الإجمال

و الإهمال،

و معلوم أنّ المقصود من المراد فی هذه المقدّمة هو المراد الاستعمالی لا المراد الجدّی،و إلاّ یکون الدلیل المقیّد کاشفا عن عدم الإطلاق،و أنّ المولی لم یکن فی مقام بیان تمام مراده،و لم تکن مقدّمات الحکمة تامّة،فلا یمکن التمسّک بأصالة الإطلاق فی مورد الشکّ فی التقیید،فتتوقّف تمامیّة المقدّمة الاولی علی کون المقصود منه المراد الاستعمالی؛و لذا نقول بحمل المطلق علی المقیّد،یعنی ما ثبت له الإطلاق و احرز عنوان کونه مطلقا یحمل علی المقیّد،و یکون لأصالة الإطلاق نظیر أصالة العموم عنوان الأصل الأوّلی و القانون و المرجع فی موارد الشکّ،و هذا لا یکون قابلا للجمع مع کون المراد الجدّی هو جمیع المصادیق؛ لعدم کونه قابلا للتقیید و الاستثناء.

و فی مقابل کون المولی فی مقام بیان تمام مراده الاستعمالی أن یکون فی مقام الإجمال و الإهمال،فإذا تعلّق غرض المولی ببیان الحکم مجملا یعبّر عنه

ص:597

بالإجمال،و إذا لم یتعلّق غرضه ببیان المراد لا بنحو التفصیل و لا بنحو الإجمال فیعبّر عنه بالإهمال،و کلّ منهما مانع عن تمامیّة المقدّمة الاولی.هذا تمام البحث الأوّل فی هذه المقدّمة.

البحث الثانی:فی مقدّمیّتها،و أنّ إحراز کون المولی فی مقام بیان تمام مراده دخیل فی إثبات الإطلاق أم لا؟و المحقّق الحائری قدّس سرّه (1)یدّعی أنّا لا نحتاج إلی هذه المقدّمة لإثباته مع قوله بأنّ المطلق یکون بالمعنی الذی نسب إلی المشهور أی السریان فی جمیع الأفراد-لا بأنّ تمام المتعلّق هی نفس الماهیّة کما ذکرناه.

و محصّل کلامه قدّس سرّه أنّ قول المولی:«اعتق رقبة»-مثلا-مردّد بین المطلق و المقیّد،و أنّ إرادته متعلّقة بمطلق عتق الرقبة أم متعلّقة بعتق رقبة مؤمنة؟و لا ثالث،فإن کان مراده عتق مطلق الرقبة فلا مغایرة بین اللفظ و مراده،و لا احتیاج إلی سؤال و توجیه المولی،و إن کان مراده عتق خصوص رقبة مؤمنة مع عدم ذکره قید الإیمان فی اللفظ مع مدخلیّته فی المراد،فیکون هنا مجال للسؤال عن علّة هذا التعبیر،و لا بدّ للمولی من توجیهه بأنّه لو کان المراد مقیّدا تکون الإرادة متعلّقة به بالأصالة،و بالمطلق بالتّبع لمکان الاتّحاد،فإذا تعلّقت إرادة المولی بحضور عالم عنده یصحّ القول بتعلّق إرادته بحضور رجل عنده بالتّبع.

و الظاهر فی دوران الأمر بینهما أنّ الإرادة أوّلا و بالذات متعلّقة بالمطلق و بما لا یحتاج إلی السؤال و التوجیه،لا بما یحتاج إلی هذه المشقّة،و نحن نأخذ بالظاهر کما فی سائر الموارد،و بعد تسلم هذا الظهور تسری الإرادة إلی تمام

ص:598


1- 1) درر الفوائد:234.

الأفراد،و هذا معنی الإطلاق،و لا نحتاج إلی کون المولی فی مقام بیان تمام المراد،فلا نحتاج إلی المقدّمة الاولی من مقدّمات الحکمة فی حمل کلام المولی علی المطلق.

و یرد علیه؟أوّلا:أنّ لازم نفی المقدّمة الاولی من مقدّمات الحکمة عدم الفرق بین کون المولی فی مقام بیان تمام المراد أو فی مقام الإجمال أو الإهمال فی حمل کلامه علی المطلق،و إن تحقّقت القرینة علی کون المولی فی مقام بیان أصل القانون،لا فی مقام بیان خصوصیّاته،مثل:أن یقول:«إنّ الصلاة من الواجبات»مع ذلک یحمل کلامه علی الإطلاق و ینفی به الأجزاء و الشرائط المشکوکة،و هذا ممّا لا یکون قابلا للالتزام،و لا یقول به أحد.

و ثانیا:أنّ الظاهر الذی یقتضی حمل الکلام بما لا یحتاج إلی السؤال و التوجیه لا یرتبط باللفظ؛إذ لا دلالة له إلاّ علی المعنی الموضوع له،و تطبیق مفاد اللفظ علی مراد المتکلّم خارج عن دائرة اللفظ،بل یرتبط بمقدّمات الحکمة،فإنّ العقلاء بعد تمامیّتها یحکمون بأنّ مراد المولی هو عتق مطلق الرقبة و إن لم تکن مقدّمات الحکمة تامّة،أی ظهور یقتضی أن یحمل الکلام علی کون المراد هو المطلق دون المقیّد،مع عدم دلالة اللفظ علی تعیین مراد المولی،و لذا لا تکون مقدّمیّة هذه المقدّمة قابلة للإنکار،و لا یصحّ البیان المذکور.

المقدّمة الثانیة:عدم القرینة علی التقیید و انتفاء ما یوجب التعیین فی کلام

المولی

،فلا مجال للتمسّک بالإطلاق مع وجودها،فیحتمل أن یکون المقصود من عدم القرینة علی التقیید عدم القرینة المتّصلة علیه،و یحتمل أن یکون المقصود منه الأعمّ من المتّصلة و المنفصلة،فإن تحقّقت قرینة متّصلة فی الکلام علی التقیید فلا معنی لحمله علی الإطلاق،سواء کانت بصورة الوصف،مثل:

ص:599

«إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة»أم بصورة الاستثناء،و لکن هذا الاحتمال لا یرتبط بمورد مقدّمات الحکمة،فإنّ مجراها هو الشکّ فی مراد المولی،و دوران الأمر بین المطلق و المقیّد،و مع وجود قرینة متّصلة فی الکلام لا یبقی الشکّ فی المراد،فهذا الاحتمال خارج عن مجراها.

و علی الثانی-یعنی کون بیان القید و إن کان بالقرینة المنفصلة مانعا عن جریان الإطلاق-قلنا:إنّه لا ینطبق علی تعبیرات المعروف و المشهور بین الاصولیّین،فإنّ المولی إذا قال:«اعتق رقبة»و قال أیضا بعد مدّة:«لا تعتق الرقبة الکافرة»،یقولون فی مقام الجمع بینهما:إنّ المطلق یحمل علی المقیّد،یعنی المطلق الذی قد ثبت إطلاقه یحمل علیه،لا أنّ دلیل المقیّد کان کاشفا عن عدم الإطلاق للمطلق،مع أنّ هذا الاحتمال یرجع إلی کاشفیّة القرینة المنفصلة علی التقیید عن عدم ثبوت الإطلاق من أوّل الأمر،و معلوم أنّ القرینة المنفصلة لا توجب الإخلال فی الإطلاق،فلا یعدّ عدم القرینة علی التقیید من مقدّمات الحکمة.

المقدّمة الثالثة:انتفاء القدر المتیقّن فی مقام التخاطب،

و معلوم أنّه یتحقّق لکلّ مطلق مصادیق ظاهرة و متیقّنة،و المقدّمة الثالثة هنا لا تکون عبارة عن عدم الفرد الجلیّ و المتیقّن للمطلق،بل عبارة عن عدم الفرد المتیقّن فی مقام التخاطب؛بأن تکون الرقبة المؤمنة مورد البحث و المقاولة بین المکلّف و المولی،و فی هذا الحال قال المولی:«اعتق رقبة»و کان مراده عتق خصوص الرقبة المؤمنة.و هذا لا یتنافی مع کون المولی فی مقام البیان،فإنّ صدور الحکم فی هذا الحال یوجب انطباقه علی الرقبة المؤمنة بدون أیّ إخلال فی الغرض.

ص:600

و الظاهر أنّه لا دخل لهذه المقدّمة أیضا فی الإطلاق و لا تکون من مقدّمات الحکمة،سواء فسّرنا الإطلاق بما ذکرناه من کون تمام الموضوع و تمام الماهیّة هی نفس الماهیّة و الطبیعة،أو بما علیه المشهور من جعل الطبیعة ساریة و شائعة فی الأفراد و مرآة لها.

أمّا علی المختار فلأنّ القدر المتیقّن إنّما یضرّ فی مورد الشکّ فی الأقلّ و الأکثر،فإنّ مورد استعمال هذه الکلمة إمّا یکون الشکّ فیهما و إمّا یکون مقام الامتثال و الموافقة،مع أنّ الأمر فی باب الإطلاق لیس کذلک؛لدوران الأمر بین تعلّق حکم المولی بعتق ماهیّة الرقبة أم بعتق الرقبة المقیّدة بقید الإیمان، و لا یکون القدر المتیقّن فی البین؛إذ لو کان متعلّق حکم المولی عتق مطلق الرقبة فیکون عتق الرقبة المؤمنة خارجا عن دائرة الحکم.

و لا یختلط علیک مقام تعلّق الحکم مع مقام الامتثال،فتعلّق الحکم بالرقبة المقیّدة بقید الإیمان لیس بمتیقّن بل هو طرف الشکّ،بل التعبیر بالقدر المتیقّن هنا لیس بصحیح؛إذ لا نبحث فی مقام الامتثال و اشتغال الذمّة بمثل الدّین، فإذا قال المولی فی مقام البیان:«اعتق رقبة»مع تعلّق غرضه بعتق الرقبة المؤمنة لم یبیّن مراده،و لا طریق لنا لفهم مراده.

و أمّا علی القول المشهور فلا دخل للمقدّمة الثالثة فی الإطلاق لوجهین:

الأوّل:أنّ المورد لا یکون مخصّصا لحکم العام کقولنا:«سألت المعصوم عن الخمر؟فقال:کلّ مسکر حرام»و هکذا فی باب المطلق،کما إذا کان جواب المعصوم«المسکر حرام»؛إذ لا یوجب السؤال عن الخمر اختصاص الحکم به فقط،بل یقولون بإطلاق الحکم،سواء کان خمرا أم غیره،و الحال أنّ السؤال عن الخمر یکون من المصادیق الظاهرة و البارزة للقدر المتیقّن فی مقام

ص:601

التخاطب،و هذا دلیل علی عدم دخالة انتفاء القدر المتیقّن فی الإطلاق أصلا، و هذا دلیل متقن.

الثانی:أنّ قبل جریان الإطلاق کان عتق الرقبة المؤمنة مقطوعا و عتق الرقبة الکافرة مشکوکا،لا مسلّم العدم،و إلاّ لا مجال للإطلاق،و نتیجة جریان الإطلاق إن کان الأخذ بالمتیقّن و خروج المشکوک رأسا،فإن لم یکن مستحیلا فلیس بصحیح،فإنّ ما کان مبتنیا علی الیقین و الشکّ لا یمکن أن یکون نتیجته انتفاء المبنی المذکور.

و یمکن مناقشته بأنّ وجود القدر المتیقّن مانع من التمسّک بالإطلاق،لا أنّه یوجب الخروج عن حالة الشکّ،بل هو محفوظ،و یستفاد حکمه من الاصول العملیّة،و لکنّ الدلیل الأوّل خال عن المناقشة.

و بالنتیجة:لا نحتاج لقرینیّة الحکمة-التی یعبّر عنها بالقرینة الثالثة فی مقابل القرینة الحالیّة و المقالیّة-إلی أزید من مقدّمة واحدة،و هی کون المولی فی مقام بیان تمام مراده الاستعمالی لغرض جعل الضابطة و القانون حتّی یتمسّک به فی موارد الشکّ فی التقیید،و عروض التقیید له لا ینافی الإطلاق و لا یکون کاشفا عن عدم تحقّقه،بل هذا من هذه الجهة نظیر مسألة العامّ و الخاصّ،إلاّ أنّ جعل القانون قد یکون بنحو العموم بمعنی الشیوع و النظارة إلی الأفراد،و قد یکون بنحو الإطلاق بمعنی تعلّق الحکم بنفس الطبیعة بدون أیّ نظارة إلی الأفراد.

إنّما الإشکال فی صورة الشکّ فی کون المولی فی مقام بیان تمام مراده أم لا، فإنّ بدون إحرازه لا یکون الإطلاق قابلا للتمسّک،و إن لم تتحقّق قرینة-لا نفیا و لا إثباتا-فمن أیّ طریق یمکن إحرازه؟

ص:602

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه (1):إنّه لا یبعد أن یکون الأصل فیما إذا شکّ فی کون المتکلّم فی مقام بیان تمام المراد هو کونه بصدد بیانه،ثمّ استدلّ:أوّلا:بأنّ سیرة أبناء المحاورة جرت علی التمسّک بالإطلاقات مع عدم علمهم بکون المتکلّم فی مقام البیان إذا لم یکن هناک ما یوجب صرف وجهها إلی جهة خاصّة.

و ثانیا:بأنّ هذا الأصل العقلائی أوجب تمسّک المشهور من الفقهاء بالإطلاقات مع عدم إحراز کون مطلقها فی مقام البیان.

و یمکن أن یتوهّم أنّ وجه تمسّکهم بها هو ذهابهم إلی وضع المطلق للشیوع و السریان،فلا یکون تمسّکهم بها مستندا إلی الأصل المزبور حتّی یکون شاهدا علی صحّة الأصل.

و دفعه قدّس سرّه:بأنّ هذا التوجیه بعید؛لما مرّ سابقا من وضع المطلق للماهیّة المهملة التی لم یلحظ معها شیء أصلا،فالشیوع خارج عن معناه،و لعلّ وجه نسبة وضع المطلق للمعنی المقرون بالشیاع إلی المشهور ملاحظة عدم الوجه للتمسّک بالإطلاقات بدون إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان،و قد بیّنا أنّ الوجه فیه هو سیرة العقلاء.هذا تمام کلامه مع زیادة توضیح.

و التحقیق:

أنّ هذا الکلام بالصورة الکلّیّة لیس بصحیح،بیان ذلک:أنّ الأحکام الصادرة عن الإمام قدّس سرّه علی نوعین؛إذ الحکم الصادر عنه علیه السّلام قد یکون بداعی الضبط و الحفظ فی الکتب بعنوان الذخیرة للشیعة،فلا بدّ هاهنا من ملاحظة المطلق و المقیّد،و حمل المطلق علی المقیّد،و لا دلیل لکون المولی فی مقام بیان تمام المراد،و لا أقلّ من الشکّ فی تحقّق الأصل العقلائی هنا،و هذا یکفی لعدم إمکان التمسّک بالإطلاق.

ص:603


1- 1) کفایة الاصول 1:387-388.

و قد یکون بداعی عمل السائل فی مسألة شخصیّة مبتلی بها کقوله علیه السّلام فی جواب السؤال عن الظهار:«إن ظاهرت فاعتق رقبة»،فلا بدّ هاهنا من القول بکون المولی فی مقام بیان تمام المراد،و لا یکون التفکیک بین الإرادة الجدّیّة و الاستعمالیّة مناسبا فی هذا المقام،فلا بدّ من الالتزام بالأصل العقلائی المذکور.

و العجب ممّا ذکره الإمام قدّس سرّه (1)فی کتاب التهذیب من أنّ الأصل فی الکلام کون المتکلّم فی مقام بیان کلّ ما له دخل فی حکمه بعد إحراز کونه فی مقام بیان الحکم،و علیه جرت سیرة العقلاء فی المحاجّات.نعم،لو شکّ أنّه فی مقام بیان هذا الحکم أو حکم آخر فلا أصل هنا لإحراز کونه فی مقام هذا الحکم.

و معلوم أنّ هذا الکلام ضعیف جدّا،فإنّ فی مقابل کون المولی فی مقام البیان کونه فی مقام الإهمال و الإجمال؛بمعنی کونه فی مقام أصل التشریع لا فی مقام بیان الأجزاء و الشرائط،ففی مثل قوله تعالی: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ یمکن أن یتعلّق الغرض ببیان أنّ تمام المتعلّق هو نفس طبیعة البیع،و یمکن أن یتعلّق ببیان حلّیة البیع فی مقابل الربا بنحو الإجمال،و لا یکون فی مقابل المقدّمة الاولی کونه فی مقام حکم آخر،و لا مورد لهذا الکلام.

و اعلم أنّ الانصراف مانع من تحقّق الإطلاق بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة،
اشارة

و لکن الانصراف علی أنواع:

أحدها:انصراف المطلق إلی المقیّد فی بادئ النظر

؛لغلبة الاستعمال الموجبة لانس الذهن به،و لکنّه یزول بالتأمّل،و هذا الانصراف البدوی لا یکون مانعا من الإطلاق.

ثانیها:انصراف المطلق إلیه لکونه القدر المتیقّن فی مقام التخاطب

،و هو

ص:604


1- 1) تهذیب الاصول 1:535.

مانع من الإطلاق علی مبنی صاحب الکفایة،لا علی مبنی المختار کما ذکرناه.

ثالثها:انصراف المطلق إلی المقیّد لکثرة استعماله فیه

؛بمعنی وضع کلمة «الرقبة»-مثلا-لمطلق الرقبة،و قال المولی بالنسبة إلی کفّارة الإفطار فی شهر رمضان:«من أفطر یجب علیه عتق الرقبة»و لکن یستفاد من القرینة أنّ مراده الجدّی هو خصوص الرقبة المؤمنة.

و هکذا قال فی باب الظهار-مثلا-:«من ظاهر یجب علیه عتق رقبة» و اقیمت القرینة أیضا علی کون مراده الجدّی هو خصوص الرقبة المؤمنة، و هکذا کرّر هذا المعنی فی موارد کثیرة،و لکن شککنا فی مورد بعد قوله:

«یجب علیک عتق رقبة»أنّ مراده مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة،مع عدم قرینة معیّنة،و کثرة الاستعمال المذکور یوجب تحقّق الظهور للمطلق فی المعنی المقیّد من حیث الإرادة الجدّیة،و معلوم أنّ هذا الانصراف مانع من الإطلاق بلا شبهة.

رابعها:انصراف المطلق إلی المقیّد؛لصیرورته حقیقة ثانویّة له و مشترکا

لفظیّا معه

؛لکثرة استعماله فیه،بحیث لا یحمل علی أحدهما إلاّ بالقرینة المعیّنة، کما إذا فرض أنّ الصعید وضع لمطلق وجه الأرض،ثمّ استعمل کثیرا ما فی خصوص التراب الخالص بحیث صار مشترکا بینهما،و هذا الانصراف یمنع أیضا من الأخذ بالإطلاق؛إذ الکلام یصیر فی الحقیقة مجملا فی هذا الفرض.

خامسها:انصراف المطلق إلی المقیّد الناشئ عن بلوغ کثرة الاستعمال حدّ

النقل

،و مهجوریّة المعنی المطلق،و حمل اللفظ علی المعنی المقیّد فی هذه الصورة أولی من السابقة،و هذه الأنواع الخمسة ما یستفاد من صدر کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه و ذیله،و قد عرفت أحکامها.

ص:605

ص:606

أحکام المطلق و المقیّد

إذا صدر عن المولی حکمان متنافیان أحدهما مطلق و الآخر مقیّد،مثل:

«اعتق رقبة»و«اعتق رقبة مؤمنة»،فهل یحمل المطلق علی المقیّد أم لا،بعد فرض أنّه لا یتحقّق فی الواقع أزید من حکم واحد فی هذا المورد،و لکن یدور الأمر بین أن یکون متعلّقه هو المطلق أو المقیّد؟و معلوم أنّه یتحقّق بینهما کمال التنافی بلحاظ عدم إمکان کون متعلّق حکم واحد مطلقا و مقیّدا معا؛إذ لا بحث فی مقام الامتثال و اشتغال الذمّة حتّی یکون عتق الرقبة المؤمنة هو القدر المتیقّن.

إنّما الکلام فی طریق إحراز وحدة الحکم،و هو قد یستفاد من طریق وحدة السبب،مثل:«إن أفطرت فی شهر رمضان متعمّدا فعلیک عتق رقبة»،و«إن أفطرت فی شهر رمضان متعمّدا فعلیک عتق رقبة مؤمنة»،و نعلم أنّ بالنسبة إلی الإفطار لیس أزید من حکم واحد،و هکذا بالنسبة إلی الظهار،و قد یستفاد من تصریح المولی أو القرائن الخارجیّة،فتکون وحدة الحکم فی جمیع الصور الآتیة مفروغ عنها.

و فی فرض وحدة الحکم قد یکون المطلق و المقیّد فی الإثبات و النفی متوافقین-کما فی المثال المذکور-و قد یکونا مختلفین،مثل:«اعتق رقبة»

ص:607

و«لا تعتق رقبة کافرة»،کما أنّهما قد یقعان فی کلامین،و قد یقعان فی کلام واحد،و لعلّه یتحقّق الفرق بینهما من حیث الحکم.

فإن کانا مختلفین فلا إشکال فی التقیید و حمل المطلق علی المقیّد علی ما صرّح به صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)،و الحال أنّه یتحقّق لهذه المسألة فروض مختلفة، و کلامه قدّس سرّه یکون قابلا للمساعدة فی بعض الفروض،و فی بعض آخر یکون قابلا للبحث،و إلیک بعضها:

منها:أن یکون الدلیل المطلق بصورة النفی و المقیّد بصورة الإیجاب،مثل:

«لا تعتق رقبة»و«اعتق رقبة مؤمنة»،بناء علی عدم دلالة المفرد المعرّف باللاّم علی العموم،بلا فرق بین دلالة النهی علی الحرمة أو الکراهة،فلا مناص هنا سوی حمل المطلق علی المقیّد،فإنّ لنا حکما واحدا و لا یمکن أن یکون له متعلّقان،فلا بدّ من الالتزام بأنّ المراد من الرقبة فی قوله:«لا یعتق رقبة»هی الکافرة.

إنّما الکلام فی دلیل تقدّم المقیّد علی المطلق؛إذ یمکن القول بتقدّم المطلق علی المقیّد،و یحتمل قویّا أن یکون الدلیل أنّ أصالة الإطلاق أصل عقلائیّ مبتن علی مقدّمات الحکمة،و العقلاء فی مورد تقابل المطلق مع المقیّد یأخذون بدلیل المقیّد،و یترکون أصالة الإطلاق.

و یحتمل أن یکون لدلیل المطلق ظهور فی الإطلاق و لدلیل المقیّد ظهور أقوی فی التقیید؛و لذا یکون مقدّما علیه.

و التحقیق:أنّ حمل المطلق علی المقیّد فی صورة اختلافهما فی النفی و الإثبات لیس بصحیح مطلقا،بخلاف ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه فإنّ للمسألة فروضا

ص:608


1- 1) کفایة الاصول 1:389.

متعدّدة:

الأوّل و الثانی:أن یکون المطلق بصورة النفی و المقیّد بصورة الإثبات کما فی مثل:«لا تعتق رقبة»و«اعتق رقبة مؤمنة»،و یصحّ حمل المطلق علی المقیّد هنا،سواء کان النهی تحریمیّا أو تنزیهیّا.

و إن کان دلیل المطلق إثباتیّا و دلیل المقیّد نفییّا،مثل:«اعتق رقبة»و«لا تعتق رقبة کافرة»،فلا بدّ من حمل المطلق علی المقیّد فی صورة کون النهی تحریمیّا،بخلاف صورة کونه تنزیهیّا؛إذ لا ینحصر طریق الجمع بینهما بهذا الطریق،فإنّ هذا نظیر: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» و«صلّ فی المسجد»و«لا تصلّ فی الحمّام»؛بأنّ المأمور به هی طبیعة الصلاة،و لکنّ وقوعها فی الحمّام مکروه بمعنی کونه أقلّ ثوابا،و وقوعها فی المسجد مستحبّ بمعنی أکثر فضیلة،ففیما نحن فیه أیضا یکون المأمور به عتق مطلق الرقبة،و لکن إذا کانت الرقبة مؤمنة یترتّب علیه فضیلة زائدة،و إذا کانت کافرة یترتّب علیه فضیلة قلیلة.

هذا فی الفرض الثالث و الرابع.

الفرض الخامس:أن یکون دلیل المطلق بصورة الإثبات و دلیل المقیّد بصورة النفی،مثل:«اعتق رقبة»و«لا تعتق رقبة کافرة»،و لکن شککنا فی أنّ نهیه تحریمیّ أو تنزیهیّ،ففی هذه الصورة یحتمل قویّا حمل المطلق علی المقیّد؛ إذ العقلاء یقولون بذلک.

و لقائل أن یقول:إنّ دلیل المطلق بإطلاقه یقتضی أن یکون النهی تنزیهیّا، و لا برهان لنا لردّ کلام القائل،إلاّ أنّه مخالف لسیرة العقلاء،هذا تمام الکلام فی المختلفین.

و إن کان المطلق و المقیّد متوافقین فی الإثبات و النفی مع فرض وحدة الحکم

ص:609

فقد یقعان فی کلام واحد،و قد یقعان فی کلامین،و علی فرض وقوعهما فی کلام واحد و کونهما مثبتین مثل:«إن ظاهرت فاعتق رقبة»،و قال بعد ذلک:

«و اعتق رقبة مؤمنة»،فلا مانع هنا من حمل المطلق علی المقیّد،أو أنّ الإطلاق لم ینعقد فی هذا المورد من الابتداء حتّی یحمل علی المقیّد.

إنّما الکلام فیما إذا کان المطلق و المقیّد مثبتین فی کلامین منفصلین،فالمشهور قائل بحمل المطلق علی المقیّد،و لقائل أن یقول:إن هنا یکون نظیر «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» و«صلّ فی المسجد»فی حمل دلیل المقیّد علی الاستحباب و حفظ دلیل المطلق بإطلاقه،فدلیل المقیّد یهدینا إلی أنّ عتق رقبة مؤمنة عقیب الظهار یکون أکثر ثوابا،فلا ینحصر الطریق بما ذکره المشهور،و لعلّ هذا الطریق کان أرجح منه.

و أشار صاحب الکفایة قدّس سرّه (1)فی ذیل کلامه إلی طریق آخر لمختار المشهور، و هو:أنّ لدلیل المطلق ظهورا فی أنّ متعلّق التکلیف عتق مطلق الرقبة،و لدلیل المقیّد ظهور فی أنّ الواجب عتق رقبة مؤمنة بنحو الواجب التعیینی،و لا یمکن الجمع بین الظهورین،و لکنّ ظهور دلیل المقیّد فیه أقوی من ظهور دلیل المطلق فی الإطلاق.

و المحقّق الحائری قدّس سرّه (2)فی مثل:«اعتق رقبة»و«اعتق رقبة مؤمنة»قائل بالتفصیل؛بأنّ إحراز وحدة الحکم إن کان من غیر جهة وحدة السبب فیدور الأمر بین حمل الأمر المتعلّق بالمطلق علی ظاهره من الوجوب و الإطلاق، و التصرّف فی الأمر المتعلّق بالمقیّد،إمّا هیئة بحملها علی الاستحباب،و إمّا

ص:610


1- 1) کفایة الاصول 1:389.
2- 2) درر الفوائد:236-237.

برفع الید عن ظاهر القید من دخله فی موضوع الوجوب و جعله إشارة إلی الفضیلة الکائنة فی المقیّد،و بین حمل المطلق علی المقیّد،و حیث لا ترجیح لأحدها لاشتراک الکلّ فی مخالفة الظاهر،فیتحقّق الإجمال.

و إن کان الإحراز من جهة وحدة السبب فیتعیّن التقیید،و لا وجه للتصرّف فی المقیّد بأحد النوعین،فإنّه إذا فرض کون الشیء علّة لوجوب المطلق، فوجوب القید أجنبیّ عن تأثیر تلک العلّة،فلا یمکن أن یقال:إنّ وجوب المقیّد معلول لتلک العلّة،فلا بدّ له من علّة اخری،و المفروض وحدتها،و کذا کون الشیء علّة لوجوب المطلق ینافی کونه علّة الاستحباب للفرد الخاصّ؛إذ استناد المتباینین إلی علّة واحدة غیر معقول.

و جوابه:أنّ الاستحباب هنا یکون بمعنی أفضل الأفراد،و هو لا ینافی أصل الوجوب،فمثل الظهار سبب لوجوب عتق مطلق الرقبة،و استحباب اختیار عتق الرقبة المؤمنة بالمعنی المذکور لا یوجب التناقض و التخالف،فهذا التفصیل لیس بتامّ.

و التحقیق:أنّ ملاک حمل المطلق علی المقیّد لا یکون مسألة أقوائیّة الظهور، و قد ذکرنا أنّ أصالة الإطلاق من الاصول العقلائیّة،و لا بدّ لنا من الرجوع إلی العقلاء لملاحظة مقدار اعتبارها لدیهم،و بعد الرجوع إلیهم یتّضح أنّ اعتبارها منحصر بمورد عدم الدلیل فی مقابلها،و الشکّ فی وجود الدلیل المقیّد بعد الفحص و الیأس عنه،و أمّا إذا تحقّق فی مقابلها الدلیل المقیّد فیقولون بحمل المطلق علی المقیّد،و لیس هذا جمعا بین الدلیلین؛إذ یتحقّق هنا فی الواقع دلیل واحد،و دلیل المطلق دلیل فی صورة عدم الدلیل فی مقابله،و مع وجود الدلیل المقیّد لا یتحقّق دلیل آخر،و هذا لا یکون بمعنی کاشفیّة دلیل المقیّد عن عدم

ص:611

الاطلاق بل مع ثبوت الإطلاق و تمامیّة مقدّمات الحکمة یکون اعتباره محدودا بعدم الدلیل فی مقابله،فالملاک هنا بناء العقلاء.

فلا یتحقّق فی بناء العقلاء التفصیل بین إحراز وحدة الحکم من جهة وحدة السبب،و بین إحرازه من غیر الجهة المذکورة.

هذا،و إنّما الإشکال فی باب المستحبّات کما إذا ورد استحباب زیارة مولانا الحسین علیه السّلام بنحو الإطلاق،ثمّ ورد استحبابها فی أوقات خاصّة-کالعیدین و یوم عرفة و نصفی رجب و شعبان-حیث إنّ مقتضی حمل المطلق علی المقیّد هو الحکم بتعیّن المقیّد فی الاستحباب،و عدم استحباب المطلق رأسا،و لکنّه کما تری خلاف المشهور،حیث إنّ بناءهم علی حمل الأمر بالمقیّد علی تأکّد الاستحباب.

و أجاب صاحب الکفایة قدّس سرّه عنه بوجهین:

أحدهما:أنّ عدم حمل المطلق علی المقیّد فی المستحبّات کان بملاحظة التسامح فی أدلّتها،و کان عدم رفع الید عن دلیل استحباب المطلق بعد مجیء دلیل المقیّد،و حمله علی تأکّد استحبابه من التسامح فیها.

و لکن هذا الجواب لیس بصحیح،فإنّ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن ترتبط بجبران و تصحیح ضعف سند الروایة،و إعطاء الثواب تفضّلا و إن کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله لم یقله،کما تری فی أخبار (1)القاعدة المذکورة التصریح بذلک،مع أنّ مفاد الجواب المذکور یرجع إلی تقویة دلالة دلیل المطلق و الشکّ فیما نحن فیه فی استحباب عتق مطلق الرقبة أو عتق الرقبة المؤمنة،فکیف یستفاد من قاعدة التسامح استحباب عتق مطلق الرقبة؟!و جابریّة القاعدة المذکورة لضعف

ص:612


1- 1) الوسائل 1:80،الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات.

الدلالة فی غایة الضعف و السقوط.

و ثانیهما:أنّ غلبة وجود مراتب المحبوبیّة فی المستحبّات بخلاف الواجبات أوجبت حمل الدلیل المطلق و المقیّد علی مراتب الاستحباب،و أنّ أصل عتق الرقبة-مثلا-مستحبّ،و عتق الرقبة المؤمنة مستحبّ مؤکّد،نظیر تحقّق مراتب الاستحباب فی إقامة الصلاة فی مسجد المحلّة و فی مسجد السوق و فی المسجد الجامع،و أمثال ذلک،و هذا الجواب صحیح و قابل للمساعدة.

و أمّا إذا کان المطلق و المقیّد منفیّین کما قال المولی فی دلیل:«لا تشرب المسکر»و فی دلیل آخر:«لا تشرب الخمر»فیمکن القول بعدم المنافاة بینهما و لذا نری فی بعض الروایات تعلیل حرمة شرب الخمر بأنّه مسکر،و هذا دلیل علی عدم تحقّق المنافاة بینهما،بل تتحقّق الکبری المطویّة فی جمیع المسائل المعلّلة کما ذکرناه،مثل:«لا تأکل الرمّان لأنّه حامض»و«کلّ حامض حرام»، و لا نحتاج إلی ذکره إلاّ فی بعض الموارد،نظیر أدلّة الاستصحاب،و هو قوله علیه السّلام:«لا ینبغی أن تنقض الیقین بالشکّ أبدا» (1)،فلا مانع من حرمة المطلق و المقیّد معا،و لا وجه لحمل المطلق علی المقیّد.

و لکنّه لیس بصحیح،فإنّ وحدة الحکم فی جمیع صور هذه المسألة مفروغ عنها کما هو المفروض،فکیف یمکن تعلّق حکم واحد بالمسکر و الخمر معا؟! فلا محالة یکون المسکر موضوعا له،و الخمر من مصادیقه،کما أنّ أکل الحامض یکون موضوعا للحرمة،و أکل الرمّان یکون من مصادیقه،فیتحقّق کمال المنافاة بین الدلیلین؛إذ الموضوع فی أحدهما هو الخمر و فی الآخر هو المسکر،فلا بدّ من حمل المطلق علی المقیّد؛لأنّ مناطه-أی التنافی المستکشف

ص:613


1- 1) الوسائل 3:466،الباب 37 من أبواب النجاسات،الحدیث 1.

من وحدة الحکم-متحقّق هنا.هذا فی موارد عدم تحقّق التعلیل فی المسألة نظیر ما نحن فیه.

و أمّا فی موارد تحقّق التعلیل فنفس التعلیل یهدینا إلی أنّ تمام الموضوع للحرمة هو العنوان المذکور فی العلّة.هذا کلّه فیما إذا احرزت وحدة الحکم من جهة وحدة السبب أو من جهة سائر القرائن.

و أمّا إذا قال المولی فی دلیل:«اعتق رقبة»و فی دلیل آخر:«اعتق رقبة مؤمنة»بدون تحقّق أیّ قرینة دالّة علی وحدة الحکم،فهل یمکن استفادة وحدة الحکم من نفس هاتین العبارتین أم لا؟

و لا بدّ لنا من ملاحظة أمرین لاستکشاف المسألة:

الأوّل:أنّ الإطلاق و التقیید خارج عن دائرة مسألة اجتماع الأمر و النهی کما ذکرناه،و موردها عبارة عمّا إذا کان بین العنوانین عموم و خصوص من وجه.

الأمر الثانی:أنّه قد مرّ فی مثل: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» و«صلّ فی المسجد»أنّ الأمر المتعلّق بالمقیّد أمر استحبابیّ،إلاّ أنّ متعلّقه لا یکون نفس الصلاة،و إن کان هو الظاهر،بل متعلّقه إیقاع الصلاة فی المسجد،فیکون معنی قوله:«صلّ فی المسجد»یستحبّ إیقاع الصلاة فیه،و لا بدّ لنا من هذا التصرّف و ارتکاب خلاف الظاهر لتحقّق الدلیل هنا،کما مرّ بیانه مفصّلا.

ففیما نحن فیه بعد ظهور أحد الدلیلین بأنّ متعلّق الحکم هو عتق مطلق الرقبة،و الظهور الآخر بأنّ متعلّقه هو عتق الرقبة المؤمنة،و بعد فرض عدم إمکان تعلّق الحکمین المتضادّین أو المتماثلین بالمطلق و المقیّد؛لخروجهما عن دائرة مسألة اجتماع الحکمین،و بعد عدم الدلیل لحمل«اعتق الرقبة المؤمنة»

ص:614

علی الاستحباب،و ارتکاب خلاف الظاهر فیه،یستفاد وحدة الحکم من نفس هذین التعبیرین و ظاهرهما بدون الاحتیاج إلی إحراز وحدته من طریق وحدة السبب أو قرینة حالیّة أو مقالیّة.

و حیث إنّ الحکم واحد و یتحقّق التنافی بین الدلیلین فلا بدّ من حمل المطلق علی المقیّد،کما هو بناء العقلاء فی هذا المورد.

و لا یخفی أنّه لا فرق فیما ذکر من الحمل فی المتنافیین بین کونهما فی مقام بیان الحکم التکلیفی و فی مقام بیان الحکم الوضعی،ففی مثل: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ، و«نهی النبیّ عن بیع الغرر»أیضا یحمل المطلق علی المقیّد،فتجری فی الأحکام الوضعیّة المباحث المذکورة،طابق النعل بالنعل.

ص:615

ص:616

فصل: فی المجمل و المبیّن

فی المجمل و المبیّن

و الظاهر أنّ المراد من المبیّن فی موارد إطلاقه:الکلام الذی له ظاهر،و یکون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنی معیّن،و المجمل خلافه.

و معلوم أنّ الظهور لا یساوق المعنی الحقیقی،بل لا فرق فی جریان أصالة الظهور فی الاستعمالات الحقیقیّة و المجازیّة،فإن کان لکلام ظهور-سواء کان فی المعنی الحقیقی أو المجازی-فهو مبیّن،و لا بدّ من الأخذ بظاهره،و الکلام الفاقد للظهور مجمل،و لا وجه للأخذ به.

ثمّ إنّه وقع الخلاف فیما إذا نسبت الحرمة إلی العین،مثل: حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ (1)فی أنّه من مصادیق المجمل أو المبیّن،فإنّ متعلّق الحرمة هو فعل المکلّف،مثل:أکل المیتة و سائر التصرّفات فیها،لا العین الخارجیّة کما لا یخفی.

و جوابه:أنّ بیان الصغریات و تشخیص المجمل و المبیّن لا یکون من

ص:617


1- 1) المائدة:3.

وظائف الفقیه،بل الملاک فیه نظر العرف فإن کان جمیع التصرّفات فی المیتة أو بعض التصرّفات الظاهرة فیها حراما عندهم فهذا مبیّن،و إن قالوا بعدم تعلّق الحرمة بالعین فهذا مجمل،فالملاک هنا نظر العرف.

هذا تمام الکلام فی مباحث الألفاظ.

ص:618

فهرس المطالب

ص:619

ص:620

فهرس المطالب الفصل الرابع:فی مقدّمة الواجب 5

الأمر الأوّل:فی تحریر محلّ النزاع من حیث إنّ هذه المسألة فقهیّة أو اصولیّة؟5

الأمر الثانی:فی تقسیمات الواجب 49

الأوّل:المطلق و المشروط 49

الثانی:المعلّق و المنجّز 64

الأمر الثالث:الواجب النفسی و الغیری 89

الأمر الرابع:تبعیّة الوجوب الغیری لوجوب ذی المقدّمة فی الإطلاق و الاشتراط 121

الواجب الأصلی و التبعی 146

الأمر الخامس:فی بیان الثمرة فی مسألة مقدّمة الواجب 153

الأمر السادس:فی تأسیس الأصل فی المسألة 157

مسألة مقدّمة الواجب و الأقوال فیها 161

تتمّة:فی مقدّمة الحرام 172

الفصل الخامس:فی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه،و عدمه 177

الفصل السادس:فی أنّه هل یجوز الأمر للآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟225

ص:621

الفصل السابع:فی أنّه هل تتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع أو بالأفراد؟229

الفصل الثامن:فی نسخ الوجوب 237

الفصل التاسع:فی الواجب التعیینی و التخییری و کیفیّة تعلّق الحکم بهما 241

الفصل العاشر:فی وجوب الواجب الکفائی 249

الفصل الحادی عشر:فی الواجب الموقّت و الموسع 255

المقصد الثانی:فی النواهی فی دلالة صیغة النهی 265

فصل:فی اجتماع الأمر و النهی 277

أصل البحث فی المسألة و بیان المختار فیها 316

فی أنّ النهی عن الشیء یقتضی فساده أم لا 349

الأوّل:فی اقتضاء النهی عن العبادة لفسادها 373

المقام الثانی:فی اقتضاء النهی عن المعاملة لفسادها 375

المقصد الثالث:فی المفاهیم المفاهیم 389

البحث فی مفهوم الوصف 430

مفهوم الغایة 432

فی دلالة الاستثناء علی اختصاص الحکم بالمستثنی منه 436

المقصد الرابع:فی العامّ و الخاصّ العامّ و الخاصّ 441

فصل:فی المخصّص المجمل 467

فصل:فی العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص 503

ص:622

فصل:فی الخطابات الشفاهیّة 513

فصل:فی ثمرة الخطابات الشفاهیّة 523

فصل:فی تعقّب العامّ بضمیر یرجع إلی بعض أفراده 527

فصل:فی التخصیص بالمفهوم 533

فصل:فی الاستثناء المتعقّب لجمل 541

فصل:فی تخصیص العامّ الکتابی بخبر الواحد 551

فصل:فی دوران الخاصّ بین کونه مخصّصا و ناسخا 559

المقصد الخامس:فی المطلق و المقیّد فی المطلق و المقیّد 575

فی تقسیم الماهیّة إلی أقسام ثلاثة 581

البحث عن علم الجنس 583

البحث عن المفرد المعرّف باللاّم 587

الجمع المحلّی باللاّم 591

مقدّمات الحکمة 597

أحکام المطلق و المقیّد 607

فصل:فی المجمل و المبیّن 617

ص:623

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.