عنوان الکتاب: العزاء فی مرآة الاستدلال
المؤلف: السیّد محمّد هادی الحجازی
ترجمة : محمد باقر الأسدی
الإشراف العلمی: اللجنة العلمیة فی مؤسسة وارث الأنبیاء
بیانات النشر : النجف، العراق: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة، مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة، 2016/1437 للهجرة.
الإخراج الفنی: حسین المالکی
الطبعة: الأُولی
سنة الطبع : 1437ه 2016م
عدد النسخ : 1000
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
إلی الذین یقیمون العزاء علی أهل البیت علیهم السلام
ویریدون الاطّلاع علی منزلة هذه الشعیرة وأصلها.
ص: 7
ص: 8
إنّ نشر المعرفة، وبیان الحقیقة، وإثبات المعلومة الصحیحة، غایاتٌ سامیة وأهدافٌ متعالیة، وهی من أهمّ وظائف النُّخب والشخصیات العلمیة، التی أخذت علی عاتقها تنفیذ هذه الوظیفة المقدّسة.
من هنا؛ قامت الأمانة العامة للعتبة الحسینیة المقدسة بإنشاء المؤسّسات والمراکز العلمیة والتحقیقیة؛ لإثراء الواقع بالمعلومة النقیة؛ لتنشئة مجتمعٍ واعٍ متحضّر، یسیر وفق خطوات وضوابط ومرتکزات واضحة ومطمئنة.
وممّا لا شکّ فیه أنّ القضیة الحسینیة - والنهضة المبارکة القدسیة - تتصدّر أولویات البحث العلمی، وضرورة التنقیب وتتبّع جزئیّاتها المتنوّعة والمتعدّدة، والتی تحتاج إلی الدراسة بشکلٍ تخصّصی علمی، ووفق مناهج وخطط رصینة ودقیقة، ولأجل هذه الأهداف والغایات تأسّست مؤسّسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصّصیة فی النهضة الحسینیة، وهی مؤسّسة علمیّة متخصّصة فی دراسة النهضة الحسینیة من جمیع أبعادها: التاریخیة، والفقهیة، والعقائدیة، والسیاسیة، والاجتماعیة، والتربویة، والتبلیغیّة، وغیرها من الجوانب العدیدة المرتبطة بهذه النهضة العظیمة، وکذلک تتکفّل بدراسة سائر ما یرتبط بالإمام الحسین(علیه السّلام).
وانطلاقاً من الإحساس بالمسؤولیة العظیمة الملقاة علی عاتق هذه المؤسّسة المبارکة؛
ص: 9
کونها مختصّة بأحد أهمّ القضایا الدینیة، بل والإنسانیة، فقد قامت بالعمل علی مجموعة من المشاریع العلمیة التخصّصیة، التی من شأنها أن تُعطی نقلة نوعیة للتراث، والفکر، والثقافة الحسینیة، ومن جملة تلک المشاریع:
1- قسم التألیف والتحقیق: والعمل فیه جارٍ علی مستویین:
أ - التألیف: والعمل فیه قائم علی تألیف کتبٍ حول الموضوعات الحسینیة المهمّة، التی لم یتمّ تناولها بالبحث والتنقیب، أو التی لم تُعطَ حقّها من ذلک. کما ویتمّ استقبال الکتب الحسینیة المؤلَّفة خارج المؤسّسة، فتخضع للتقییم العلمی من قبل اللجنة العلمیة، وبعد إجراء التعدیلات والإصلاحات اللازمة یتمّ العمل علی إخراجها فنیّاً وطباعتها ونشرها.
ب - التحقیق: والعمل فیه جارٍ علی جمع وتحقیق التراث المکتوب عن الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة، سواء المقاتل منها، أو التاریخ، أو السیرة، أو غیرها، وسواء التی کانت بکتابٍ مستقل أو ضمن کتاب، تحت عنوان: (الموسوعة الحسینیّة التحقیقیّة). وکذا العمل جارٍ فی هذا القسم علی متابعة المخطوطات الحسینیة التی لم تُطبع إلی الآن؛ لجمعها وتحقیقها، ثمّ طباعتها ونشرها. کما ویتم استقبال الکتب التی تم تحقیقها خارج المؤسّسة، لغرض طباعتها ونشرها، وذلک بعد مراجعتها وتقییمها وإدخال التعدیلات الّلازمة علیها وتأیید صلاحیتها للنشر من قبل اللجنة العلمیة فی المؤسّسة.
2- مجلّة الإصلاح الحسینی: وهی مجلّة فصلیة متخصّصة فی النهضة الحسینیة، تهتمّ بنشر معالم وآفاق الفکر الحسینی، وتسلیط الضوء علی تاریخ النهضة الحسینیة وتراثها، وکذلک إبراز الجوانب الإنسانیة والاجتماعیة والفقهیة والأدبیة فی تلک النهضة المبارکة.
ص: 10
3- قسم ردّ الشبهات عن النهضة الحسینیة: ویتمّ فیه جمع الشبهات المثارة حول الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة، ثمّ فرزها وتبویبها، ثمّ الرد علیها بشکل علمی تحقیقی.
4- الموسوعة العلمیة من کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام): وهی موسوعة تجمع کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام) فی مختلف العلوم وفروع المعرفة، ثمّ تبویبها حسب التخصّصات العلمیة، ووضعها بین یدی ذوی الاختصاص؛ لیستخرجوا نظریات علمیّة ممازجة بین کلمات الإمام(علیه السّلام) والواقع العلمی.
5- قسم دائرة معارف الإمام الحسین(علیه السّلام): وهی موسوعة تشتمل علی کلّ ما یرتبط بالنهضة الحسینیة، من أحداث ووقائع ومفاهیم ورؤی وأسماء أعلام وأماکن وکتب، وغیر ذلک من الأُمور، مرتّبة حسب حروف الألف باء، کما هو معمول به فی دوائر المعارف والموسوعات، وعلی شکل مقالات علمیّة رصینة، تُراعی فیها کلّ شروط المقالة العلمیّة، ومکتوبةٌ بلغةٍ عصریة وأُسلوبٍ سلس.
6- قسم الرسائل الجامعیة: وهو قسم مؤلَّف من کادر علمی حوزوی وأکادیمی - أساتذة دراسات علیا - والعمل فیه جارٍ علی مستویین:
أ - إعداد موضوعات حسینیّة - من عناوین وخطط تفصیلیة و... - تصلح لأن تکون رسائل وأطاریح جامعیة، فی شتی المجالات والعلوم الدینیة والإنسانیة، تکون بمتناول طلّاب الدراسات العلیا، کما تقوم بالإشراف علی الرسائل والأطاریح، وذلک بالتوافق مع الجامعات أو الکلیات المعنیة. إضافة إلی تقدیم مصادر مقترحة للبحث.
ب - إحصاء الرسائل الجامعیة التی کُتبتْ حول النهضة الحسینیة، ومتابعتها من قبل لجنة علمیة متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمیة، وتهیئتها للطباعة والنشر.
ص: 11
7- قسم الترجمة: والعمل فیه جارٍ علی ترجمة التراث الحسینی من اللغات الأُخری إلی اللغة العربیّة.
8 - قسم الرصد والإحصاء: ویتمّ فیه رصد جمیع القضایا الحسینیّة المطروحة فی الفضائیات، والمواقع الإلکترونیة، والکتب، والمجلات والنشریات، وغیرها؛ ممّا یعطی رؤیة واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضیة الحسینیة بمختلف أبعادها، وهذا بدوره یکون مؤثّراً جدّاً فی رسم السیاسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقیّة الأقسام فیها، وکذا بقیة المؤسّسات والمراکز العلمیة بمختلف المعلومات.
9- قسم الندوات والمؤتمرات: ویتمّ من خلاله إقامة ندوات علمیّة تخصّصیة فی النهضة الحسینیة، یحضرها الباحثون، والمحقّقون، وذوو الاختصاص...
10- قسم المکتبة الحسینیة التخصّصیة: حیث قامت المؤسّسة بإنشاء مکتبة حسینیّة تخصّصیة تجمع التراث الحسینی المطبوع والمخطوط کذلک.
11- قسم الموقع الألکترونی: وهو قسم مؤلّف من کادر علمی وفنّی؛ یقوم بنشر وعرض النتاجات الحسینیة التی تصدر عن المؤسسة، کما ویتکفل بتغطیة الجنبة الإعلامیة للمؤسسة ومشاریعها العلمیة.
12- قسم المناهج الدراسیة: ویحتوی علی لجنة علمیة فنیة تقوم بعرض القضیة الحسینیة بشکل مناهج دراسیة علی ناشئة الجیل بالکیفیة المتعارفة من إعداد دروس وأسئلة بطرق معاصرة ومناسبة لمختلف المستویات والأعمار؛ لئلا یبقی بعیداً عن الثورة وأهدافها.
13- القسم النسوی: ویتضمن کادراً علمیاً وفنیاً یعمل علی استقطاب الکوادر العلمیة النسویة، وتأهیلها للعمل ضمن أقسام المؤسسة؛ للنهوض بالواقع النسوی، وتغذیته بثقافة ومبادئ الثورة الحسینیة.
ص: 12
وهناک مشاریع أُخری سیتمّ العمل علیها قریباً إن شاء الله تعالی.
وتأسیساً علی ما سبق توضیحه حرصت المؤسّسة علی فتح أبوابها لاستقبال الکتب الحسینیة التخصّصیّة، ومتابعتها متابعة علمیّة وفنّیة من قبل اللجنة العلمیة المشرفة فی المؤسّسة، وفی هذا السیاق قام قسم الترجمة باختیار مجموعة من الکتب الحسینیة القیمة والمکتوبة باللغة الفارسیة لغرض ترجمتها - داخل القسم، أو بالتعاقد مع مترجمین محترفین - ومنها کتاب: (عزاداری در آینه استدلال) أی: (العزاء فی مرآة الاستدلال) لمؤلفه الأستاذ فی الحوزة والجامعة السید محمد هادی الحجازی، وقد استعرض فیه المؤلّف أنواع العزاء، وبیّن حکمها الشرعی فی الفقه الشیعی والسنّی، کما تعرّض للشبهات المثارة حول العزاء ومشروعیته والجواب عنها، کلّ ذلک مشفوعاً بالأدلة من النصوص القرآنیة والروائیة وأقوال فقهاء المسلمین، ودراستها دراسة فاحصة، والخروج بنتائج علمیّة مهمّة ذات فوائد جمّة وجلیلة؛ وقد قام بترجمته الأُستاذ محمد باقر الأسدی فکان هذا الکتاب القیّم الماثل بین یدیک عزیزی القارئ.
وفی الختام نتمنّی للمؤلِّف والمترجم دوام السداد والتوفیق لخدمة القضیة الحسینیة، ونسأل الله تعالی أن یبارک لنا فی أعمالنا، إنّه سمیعٌ مجیبٌ.
اللجنة العلمیة فی مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة
ص: 13
ص: 14
«لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِیُّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ بِقَتْلِ وَلَدِهَا الحُسَیْن وَمَا یَجْرِی عَلَیْهِ مِنَ الْمِحَنِ بَکَتْ فَاطِمَةُ بُکَاءً شَدِیداً، وَقَالَتْ: یَا أَبَهْ، مَتَی یَکُونُ ذَلِکَ؟
قَالَ: فِی زَمَانٍ خَالٍ مِنِّی وَمِنْکِ وَمِنْ عَلِیٍّ.
فَاشْتَدَّ بُکَاؤُهَا، وَقَالَتْ: یَا أَبَهْ، فَمَنْ یَبْکِی عَلَیْهِ وَمَنْ یَلْتَزِمُ بِإِقَامَةِ الْعَزَاءِ لَهُ؟
فَقَالَ النَّبِیُّ: یَا فَاطِمَةُ، إِنَّ نِسَاءَ أُمَّتِی یَبْکُونَ عَلَی نِسَاءِ أَهْلِ بَیْتِی، وَرِجَالَهُمْ یَبْکُونَ عَلَی رِجَالِ أَهْلِ بَیْتِی، وَیُجَدِّدُونَ الْعَزَاءَ جِیلاً بَعْدَ جِیلٍ فِی کُلِّ سَنَةٍ، فَإِذَا کَانَ الْقِیَامَةُ تَشْفَعِینَ أَنْتِ لِلنِّسَاءِ وَأَنَا أَشْفَعُ لِلرِّجَالِ، وَکُلُّ مَنْ بَکَی مِنْهُمْ عَلَی مُصَابِ الحُسَیْن أَخَذْنَا بِیَدِهِ وَأَدْخَلْنَاهُ الْجَنَّةَ...».
(بحار الأنوار: ج44، ص292).
ص: 15
ص: 16
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ
إنّ إقامة العزاء من الأُمور التی نشأت منذ خلق الإنسان، فالتعاطف مع الآخرین والحزن علی مصائبهم ولا سیّما الأقرباء أمرٌ مترسّخ فی الفطرة الإنسانیة، وهذا الأمر الفطری نلاحظه بوضوح فی مصائب أعلام الدین وأئمّة المذهب(علیهم السّلام) ، وقد کان موجوداً فی عهد النبی الخاتم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؛ حیث قام به النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نفسه.
ولمصائب أهل البیت(علیهم السّلام) منزلة جلیلة فی القلوب والنفوس، لا سیّما فاجعة کربلاء؛ حیث إنّ کلّ مَن یسمع بأحداث یوم عاشوراء أو سائر مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) یشعر - بکلّ تأکید - بالحزن وتتکدّر صفوة عیشه؛ فإذاً إقامة العزاء علی فقد الأحبة من الأُمور التی کانت محلّ ابتلاء الناس فی کلّ زمان.
إنّ الکتاب الذی بین أیدیکم مقتبس من رسالة دکتوراه کتبها المؤلِّف، محاولاً الإجابة عن تساؤل، حاصله: ما هو حکم إقامة العزاء علی المیّت من منظار الفقه الإسلامی، الأعمّ من الفقه الشیعی أو السنّی. فقد ظهرت أطراف تتظاهر بالتنویر وتبثّ الشبهات وتعارض هذا الأمر الفطری والدینی بإثارة شبهات حول جواز إقامة العزاء، ولا یخفی أنّ جزءاً من هذه الشبهات قد نشأ من الشبهات الوهابیة التی تدَّعی حرمة إقامة العزاء.
ص: 17
ومن هذا المنطلق؛ فقد أصبح من الضروری تفنید ودحض شبهات المشکّکین عبر دراسة استدلالیة شاملة تبحث حول حکم إقامة العزاء من وجهة نظر الفقه عند الفریقین (الشیعی والسنّی).
تمّ تنظیم الکتاب فی أربعة أقسام:
القسم الأوّل یتعلّق بشرح عشر مفردات مهمّة فی موضوع العزاء؛ وذلک لأنّ الروایات التی سنستدلّ بها تشتمل علی مفردات وألفاظ لا بدّ من إدراک معانیها؛ لکونها ضروریة جدّاً فی استنباط حکم إقامة العزاء من هذه الروایات.
وبما أنّ الموضوع الرئیسی فی هذا الکتاب هو حکم إقامة العزاء علی المیّت من منظور الفقه الشیعی والسنّی، فإنّ القسم الثانی منه یتکفّل ببیان حکم إقامة العزاء من منظور الفقه الشیعی ویعرض القسم الثالث منه هذا الأمر من منظور الفقه السنّی. وبما أنّ إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) تحتلّ مکانة خاصّة فی الفقه الشیعی فقد ارتأینا أن نبحث مواضیع القسم الثانی من الکتاب فی فصلین: الفصل الأوّل یهتمّ بدراسة حکم إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ، أمّا الفصل الثانی فیدور البحث فیه عن حکم إقامة العزاء لغیر المعصومین(علیهم السّلام) .
ونظراً لکثرة الشبهات التی أُثیرت ضدّ إقامة العزاء من قبل التنویریین الشیعة من جهة وأعداء المذهب الشیعی من جهة أُخری، فقد اختصّ القسم الرابع من الکتاب ببیان هذه الشبهات والردّ علیها.
ص: 18
1 - هناک روایات استُدلّ بها فی ثنایا الکتاب، وقد تمّت دراستها من ناحیة السند والدلالة بطریقة موضوعیة ودقیقة.
2 - هناک استدلالات وتصریحات نُقلت عن العلماء، ولقد دقّقنا فیها وناقشناها ودرسناها.
3 - ذکرنا بعد بحث کلّ نظریة فی الکتاب نتیجة ذلک البحث، وطرحنا بعد کلّ مصداق نتیجته النهائیة. کما أنّنا ذکرنا فی نهایة کلّ فصل نتائج عامّة تترتّب علی مباحث ذلک الفصل.
4 - مصادر وعناوین الروایات التی استُدلّ بها والأقوال التی نُقلت عن الآخرین فقد ذکرناها بدقّة.
5 - أعددنا لمواضیع الکتاب فهرساً مفصّلاً فی نهایته.
6 - ذکرنا فی نهایة الکتاب قائمة بأسماء المصادر والمراجع التی استفدنا منها فی هذا الکتاب.
وفی الختام أشکر وأُقدّر جمیع الأساتذة والأحبّة الذین تحمّلوا العناء والجهد الکثیر فی سبیل إنجاز هذا الکتاب. کما أرجو من جمیع الباحثین والأساتذة الکرام أن یتحفونی بآرائهم وتوجیهاتهم حول محتوی هذا الکتاب.
کما أتقدم بالشکر الجزیل إلی سماحة الشیخ رافد التمیمی مدیر مؤسسة وارث الأنبیاء فرع قم المقدّسة لما بذله من العنایة الفائقة فی ترجمة هذا الکتاب وطباعته.
نأمل أن نکون ممّن یقیم العزاء مع بقیة الله الأعظم(عجل الله تعالی فرجه الشریف) حین یقیم عزاءه الأکبر..!
قم - السید محمّد هادی الحجازی
شهر رمضان 1437 - خرداد 1395
ص: 19
ص: 20
ص: 21
ص: 22
یُطلق (العزاء) علی معنیین مختلفین فی اللغة والعرف:
أمّا (العزاء) لغةً، فله معنی واحد وهو الصبر، کما صرّح به کثیر من اللغویین حیث قالوا: (العَزَاءُ: الصَّبرُ). منهم الصاحب بن عباد فی المحیط(1)، وابن فارس فی معجم مقاییس اللغة(2)، والحمیری فی شمس العلوم(3)، والطریحی فی مجمع البحرین(4).
وقد أضاف البعض متعلّق الصبر إلی هذا التعریف: منهم الخلیل(5)، وابن منظور(6)، والزبیدی، فقد قالوا: بأنّ «العَزَاءُ: ...هُوَ الصَّبرُ عَن کُلِّ مَا فَقَدتَ»(7). ویری الفیومی أنّ متعلّق الصبر هو کلّ ما یصیب الإنسان من حوادث: «عَزِیَ، یَعزَی: ...صَبَرَ عَلَی مَا نَابَهُ»(8).
ص: 23
وعلی ضوء تفسیر اللغویین لمعنی کلمة العزاء نقول: إنّ إحدی الوقائع التی یمکن أن تصیب الإنسان هی فقدان أعزائه والأشخاص المحبّبین إلیه، فبفقدان أحدهم یُفجع الإنسان حیث علیه أن یلتزم الصبر فی مصیبته ویعزّیه الآخرون من باب المواساة له، أی: یأمرونه بالصبر علی هذه المصیبة.
یدلّ (العزاء) علی مفهوم واضح فی العرف. فهو یعنی الحزن علی مصاب أحد والبکاء والنیاح. والمعزّی هو المکروب والمهموم علی فقدان أحد أحبّته.
أمّا إقامة العزاء فی عرف عامّة الناس فهی تُطلق علی معنیین:
المعنی الأوّل: الحزن علی ما یُصیب الإنسان بالفعل من حوادث شخصیّة، کفقدان أحد الأحبّة والحداد علیهم.
المعنی الثانی: مراسم العزاء، وهی شعائر تقلیدیة تُقام منذ القِدَم لأعلام الدین.
وهما معنیان مختلفان تماماً. فالأوّل أمر غیر اختیاری ومصیبة حقیقیة تُخرج المصابین بها من مسار حیاتهم العادیة، والتی لا بدّ لها من وقتٍ لیعودوا إلی حیاتهم الطبیعیة تدریجیاً.
أمّا مراسم العزاء، فهی أمر اختیاری تماماً یخطّط له الأشخاص ویعتبرونه جزءاً من حیاتهم العادیة. إنّ الحزن حالة نفسیة فی داخل الفرد، لکن مراسم العزاء حالة اجتماعیة؛ حیث إنّ هناک أموراً تساعد المفجوع علی العودة للحیاة الطبیعیة، منها مراسم العزاء.
قد تکون الفجیعة مفاجئة ودون استعداد مسبق، کفقدان شخص محبوب فی حادث سیر، وقد تکون أمراً یتوقّعه الناس ویستعدّون له، کوفاة شخص محبوب بعد أن عانی مرضاً مستعصیاً. ففقدان الأحباب فجیعة فی کلا الحالین، لکن المفاجئ منه أشدّ إیلاماً.
ص: 24
یطلق (العزاء) علی معنیین:
الأوّل حقیقی والثانی مجازی. أمّا معناه الحقیقی، فهو الصبر کما صرّح به اللغویون. ولکن العزاء یستعمل فی معنی مجازی أیضاً، وهو عبارة عن معناه العرفی الذی یرادف الحزن والغم. والسبب فی هذا الاستعمال المجازی هو أنّ المصیبة یرافقها الحزن والنیاح عادة، وهذه العلاقة أدّت إلی إیجاد معنی مجازی لکلمة العزاء.
وبناءً علی ما سبق؛ فإنّ لفظ العزاء یصدق بمفهومیه اللغوی والعرفی علی مَن أصابته المصیبة، أی: إنّه حزین ومهموم بسبب هذه المصیبة وهذا هو المعنی العرفی، کما أنّه ینبغی أن یلتزم الصبر رغم هذا الحزن والغمّ، وهذا هو المعنی الحقیقی.
ص: 25
ص: 26
صرّح کثیر من اللغویین بأنّ (البکاء) استُعمل بطریقین: ممدوداً (البُکاء) ومقصوراً (البُکا). ولکن هل یوجد فرق بینهما من ناحیة المعنی؟ توجد خمس نظریات لأهل اللغة:
ذهب فریقٌ من اللغویین إلی أنّ البکاء هو الصوت الذی یکون مع البکاء، والبکا هو خروج الدموع من العینین من دون صوت. قال الجوهری فی الصحاح: «البُکا یُمَدّ ویُقصَرُ، فَإذَا مَدَدتَ أرَدتَ الصَّوتَ الّذِی یَکُونُ مَعَ البُکَاءِ، وإذَا قَصَرتَ أرَدتَ الدُّمُوعَ وَخُرُوجَهَا»(1). وهذا ما أشار إلیه ابن منظور فی لسان العرب أیضاً(2).
اعتبر بعض اللغویین أنّ البکاء یعنی الصوت، والبکا یعنی الحزن. منهم الخلیل کما نقل عنه لسان العرب: «قَالَ الخَلیلُ: مَن قَصَرَهُ ذَهَبَ بِهِ إلَی مَعنَی الحُزنِ، ومَن مَدَّهُ ذَهَبَ بِهِ إلَی مَعنَی الصَّوتِ»(3).
ص: 27
ذهب فریقٌ آخر من أهل اللغة إلی أنّ البکاء حزنٌ مع الصیاح، والبکا حزنٌ بدون الصوت. منهم الحمیری؛ حیث قال فی شمس العلوم: «بَکَاهُ بُکَاءً، مَمدُودٌ وقَد یُقصَرُ... إِذَا قَصَرتَ البُکَاءَ فَهُوَ بِمَعنَی الحُزنِ، أی: لَیسَ مَعَهُ صَوتٌ، وإِذَا کَانَ ثَمَّ نَشِیجٌ(1) وَصِیَاحٌ فَهُوَ مَمدُودٌ»(2).
اعتبر بعض اللغویین أنّ البکاء هو سیلان الدمع عن حزن، ولکن إذا کان الصوت غالباً علی الحزن. وفسَّروا البکا بأنّه سیلان الدمع أیضاً، ولکن حینما یکون الحزن غالباً علی الصوت. قال الراغب فی المفردات: «البُکَاءُ بِالمَدِّ: سَیَلانُ الدَّمعِ عَن حُزنٍ وَعَوِیلٍ، یُقَالُ إذَا کَانَ الصَّوتُ أغلَب ...وبِالقَصرِ یُقَالُ إذَا کَانَ الحُزنُ أغلَب»(3).
قال فریقٌ من اللغویین: إنّه لا فرق بین البکاء والبکا، وکلاهما بمعنًی واحد. قال الزبیدی فی تاج العروس: «بَکَی الرَّجُلُ یَبکِی بُکَاءً وبُکی، بِضَمِّهِمَا، یُمَدُّ وَیُقصَرُ. قَالَهُ الفَرَّاءُ وَغَیرُهُ، وَظَاهِرُهُ أنَّهُ لاَ فَرقَ بَینَهُما»(4).
ص: 28
لا شکّ فی أنّ (البکاء) و(البکا) لفظان موضوعان لمعنًی یقابل الضحک، کما صرّح به المصطفوی؛ حیث قال: «إنَّ الأصلَ الوَاحِدَ فِی هَذِهِ المَادَّةِ هُوَ مَا یُقَابِلُ الضِّحک»(1). وهذا المقدار یکفی للاستدلال فی المباحث القادمة.
کما یمکن الجمع بین النظریات الأربع الأُولی بالنحو التالی: هناک شیئان فی البکاء:
الأوّل: هو الصوت الذی یصدر من البکاء.
والثانی: هو الحزن والشعور الداخلی الموجود فی البکاء. وعلی ضوء هذه النقطة؛ فإنّ (البکاء) الممدود یدلّ علی الصوت الذی یکون فی جریان الدمع عادة، وهذا ما أشارت إلیه جمیع النظریات الأربع.
لکن (البکا) المقصور یدلّ علی الحزن الداخلی الذی یکون فی انهمال الدمع عادةً، کما أشارت إلیه جمیع النظریات الأربع؛ فالحقیقة أنّ مضمون کلّ هذه النظریات الأربع یعود إلی نظریةٍ واحدة.
مفهوم البکاء فی الإنسان واضحٌ کما قال بذلک المصطفوی، ولکن کیف یُتصوّر البکاء فی غیر الإنسان من الحیوانات وحتّی الجمادات، کالذی أشارت إلیه بعض الروایات من بکاء البقاع علی وفاة المؤمن؟ بینما نری أنّ الله تعالی فی القرآن الکریم ینفی البکاء عن السماء والأرض، حیث قال تعالی: «فَمَا بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاءُ » (2).
قال المصطفوی: «البکاء والضحک یختلف مفهومهما باختلاف الموارد: ففی الإنسان
ص: 29
لا یحتاج إلی البیان، وفی سائر الموجودات علی ما هومقتضی سرورها وحزنها وانبساطها وتأثّرها، أی: الحالة الّتی توجد بعد هذه البسطة والقبضة. «فَمَا بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاءُ » (1) أی: ما تغیّرت حالهما ولم یوجد تغییر ولا اختلاف فی نظم العالم وفی حرکات السماء والأرض»(2).
وهذا ما أشارت إلیه الروایات أیضاً:
«عن زرارة، عن عبد الخالق بن عبد ربّه، قال سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام) یقول: لم یجعل الله له من قبلُ سمیاً، الحسین بن علی(علیهماالسّلام) لم یکن له من قبلُ سمیاً، ویحیی بن زکریا(علیهماالسّلام) لم یکن له من قبلُ سمیاً، ولم تبک السماء إلّا علیهما أربعین صباحاً. قال: قلت: ما بکاؤها؟ قال کانت تطلع حمراء وتغرب حمراء»(3).
ص: 30
صرّح علماء اللغة بأن لفظ (التباکی) یُستعمل فی معنیین:
قال کثیر من علماء اللغة: إنّ التباکی یعنی تکلّف البکاء ومحاولة اصطناعه. وهذا ما صرّح به الجوهری فی الصحاح(1)، والحمیری فی شمس العلوم(2)، وابن منظور فی لسان العرب(3)، والطریحی فی مجمع البحرین(4)، والزبیدی فی تاج العروس، حیث قالوا: إنّ التباکی هو تکلّف البکاء واصطناعه: «تَبَاکی: تَکَلّف البُکَاء»(5).
صرّح بعض اللغویین بأن: «التباکی هو تقمّص حالة البکاء، ولو لم یخرج الدمع من العین»(6).
ولقد أشار الطریحی إلی هذا الرأی وطرحه کنظریة فی هذا المجال، حیث قال:
ص: 31
«وَقِیلَ: مَعنَاهُ لاتَکَلّفُوا البُکَاءَ»(1).
والشاهد علی هذا المعنی موجود فی أشعار العرب:
إذَا انسَکبَت دُموُعٌ فِی خُدوُدٍ * تَبیّنَ مَن بَکی ممَّن تَبَاکی (2).
ولا شکّ فی أن التباکی فی البیت المذکور یدلّ علی المعنی الثانی فحسب(3).
فی الحقیقة أنّ المعنیین المذکورین للتباکی هما عبارة عن مصداقین لهذه الکلمة. فالذی یحبّ إقامة العزاء حقّاً، ویرید أن یشارک فیها بطریقةٍ ما، یحبُّ أن یبکی وإن لم یمکنه البکاء یستطیع أن یتکلّف البکاء، أو یتقمّص حالة البکاء، وبذلک یُعبّر عن الحزن الکامن بداخله.
ص: 32
ذکرَ أهل اللغة معنیین لکلمة (الجزع):
ذهب أکثر اللغویین إلی أنّ (الجزع) یعنی عدم الصبر: «الجَزَعُ: نَقِیضُ الصَّبرِ»(1)، منهم الخلیل، الجوهری(2)، الحمیری(3)، ابن منظور(4)، الطریحی(5)، الزبیدی(6) والمصطفوی(7).
واستدلّ فریق منهم بآیة شریفة لتأیید ما ذهبوا إلیه، حیث إنّها تدلّ علی تناقض هذین اللفظین: «سَوَاءٌ عَلَیْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا » (8) کما صرّح به المصطفوی(9).
وبعض اللغویین - مضافاً إلی أنّه جعل معنی الجزع مقابلاً للصبر - أشار إلی معنی
ص: 33
نفس الجزع أیضاً. کما نری ذلک فی معجم مقاییس اللغة(1)، والمصباح المنیر: «الجَزَعُ: نَقِیضُ الصَّبرِ وهُوَ انقِطَاعُ المُنَّةِ(2) عَن حَملِ مَا نُزِلَ»(3).
قال فریق آخر من اللغویین: بأنّ الجزع أبلغ من الحزن؛ فإنّ الحزن عام والجزع هو حزنٌ خاص، وهو یصرف الإنسان عما هو بصدده بحیث ینقطع أمله فی إیجاد حلّ له. ولنضرب مثالاً لتوضیح هذا الفرق: إذا تألّم الإنسان من مرض طفله فإنّه حزین فی الاصطلاح؛ لأنّه یأمل فی تحسّن حاله، بخلاف ما إذا تألّم الإنسان علی موت أحبّته، فإنّه حینئذ یجزع لانقطاع أمله فی شفائه. وقد صرّح الراغب الأصفهانی بهذا المعنی(4) کما أشار إلیه الزبیدی کنظریة مطروحة فی هذا المجال (قیل)(5).
أصل مادة (ج ز ع) یعنی قطع ما کان له امتداد. وإنّما فسّر اللغویون الجزع بأنّه ضدّ الصبر، باعتبار أنّ الجزع یقطع امتداد السکون وحالة الطمأنینة. ولقد أشار بعض اللغویین إلی هذه النقطة، قال المصطفوی: «إنَّ الأصلَ الوَاحِدَ فِی هَذِهِ المَادَّةِ: هُوَ القَطعُ المَخصُوصُ، أی: قَطعُ مَا کَانَ لَهُ امتِدَادٌ... فَالجَزَعُ ضِدُّ الصَّبرِ: وَهُوَ قَطعُ امتِدَادِ السُّکُونِ وَحَالَةِ الطُّمَأنِینَةِ وَالصَّبرِ، حَتَّی یَظهَرَ مِنهُ مَا یُخَالِفُ السُّکُونَ وَیَنقَطِعُ حَالُهُ المُمتَدُّ تَقدِیراً»(6).
ص: 34
ذکرت کتب اللغة أربعة معانی لکلمة (النَّوح):
ذهب بعض اللغویین إلی أن النَّوح یعنی تعدید محاسن المیت وذکر خصاله الحسنة. کما صرّح به الحمیری حیث قال: «نَاحَ، النَّوحُ وَالنِّیَاحَةُ: تَعدِیدُ مَحَاسِنِ المَیِّتِ»(1).
قال فریقٌ آخر من اللغویین بأنّ النَّوح یعنی البکاء. وهذا ما ذهب إلیه الصاحب بن عبّاد حیث قال: «یَقَعُ النَّوحُ عَلَی النِّسَاءِ اللَّاتِی اجتَمَعنَ فِی المَنَاحَةِ... وسُمِّیَت لِتَقَابُلِهِنَّ عِندَ البُکَاءِ»(1).
الوجه فی قوله: «لِتَقَابُلِهِنّ...». هو أنّ أصل (ن وح) یدلّ علی تقابل الشیء مع شیء آخر. کما صرّح به المصطفوی: «نوح: أصلٌ یدلّ علی مقابلة الشی ء للشی ء، تناوحت الریحان: تقابلتا فی المهبّ. وهذه الریح نیّحة لتلک، أی: فی مقابلتها»(2). وهذا ینطبق علی ما نحن فیه أیضاً. بتعبیرٍ آخر: صحیح أنّ النوح یطلق علی نوع من إقامة العزاء، ولکن بما أنّ إقامة العزاء تکون عند مقابلة الأشخاص عادة فقد لوحظ أصل معنی (ن وح) فی النوح بمعنی إقامة العزاء.
لایمکن القول: بأنّ واحدة من النظریات الأربع تدلّ علی المعنی الحقیقی وبقیة النظریات تدلّ علی المعنی المجازی، بل الصحیح أنّ کلّ هذه النظریات تعود إلی نظریة واحدة. أی: إنّ کلّ واحدة من هذه النظریات تشیر إلی جانب من معنی النوح؛ لأنّ النوح یعنی البکاء مع الحزن، وهما یترافقان مع أمرین عادة، أحدهما الصیاح والعویل والآخر تعداد محاسن المیت. أی: إنّ الأشخاص الذین ینوحون علی المیت مضافاً إلی أنّهم یحزنون ویبکون، یعدّدون خصائص المیت الفردیة.
ص: 36
التذکیر بخصائص المیت الفردیة قد یزید المفجوع حزناً ویدفعه للعویل والصیاح. وسبب تخصیص النوح بالنساء فی کلام بعض أهل اللغة أنّ هذا التخصیص من باب الغلبة؛ لأنّ الغالب أنّ النساء هنّ اللواتی ینحنَ علی المیت عند إقامة العزاء.
کلمة (نوحه) فی اللغة الفارسیة ترادف النوح فی العربیة، وتوصّلنا بعد دراسة کتب اللغة إلی أنّ استعمالها بهذه الطریقة یختصّ باللغة الفارسیة، أمّا العرب فیعبّرون عن هذا المعنی بالنوح (دون الهاء) وهذا المعنی هو المراد فی بحثنا. أمّا کلمة النوحة فی العربیة فتعنی القوّة «النَّوحَةُ: القُوَّةُ»(1). وهذا المعنی لا علاقة له بموضوعنا.
وبالتالی یتبیّن أنّ الهاء فی نهایة کلمة (نوحه) أُضیفت فی اللغة الفارسیة، فالناطقون باللغة الفارسیة یعبّرون عن النوح ب-(نَوحه کرد) بدل أن یقولوا: (نَوح کرد) أی: یضیفون الهاء إلی آخر الکلمة.
قال البعض فی سبب تسمیة النبی نوح(علیه السّلام): بأنّه کان یُکثر النوح علی نفسه. منهم الطریحی فی مجمع البحرین حیث قال: «سُمِّیَ نُوحاً؛ لِأَنَّهُ کَانَ یَنُوحُ عَلَی نَفْسِهِ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ ونَحَّی(2) نَفْسَهِ عَمَّا کَانَ فِیهِ قَوْمُهِ مِنْ الضَّلَالَةِ»(3).
وقال المصطفوی نقلاً عن المطهر بن طاهر المقدسی(4): «إنّما سُمّی نوحاً لکثرة نوحه علی نفسه وقومه»(5).
ص: 37
ص: 38
ذکر اللغویون أربع نظریات فی معنی (الصرخة):
ذهب جماعة من اللغویین کالخلیل(1) وابن منظور(2) والمصطفوی إلی أنّ الصرخة تعنی الصیحة الشدیدة عند المصیبة: «الصَّرخَةُ: صَّیحَةُ شَّدِیدَةُ عِندَ فَزَعِةٍ أَوِ مُصِیبَةٍ»(3).
اعتبر بعض اللغویین أنّ الصرخة تعنی مطلق الصوت. منهم الجوهری حیث قال: «الصُّرَاخُ: الصَّوتُ»(4)، وکذلک الحمیری، قال: «صَرَخَ، الصُّرَاخُ: الصَّوتُ»(5).
ذهب فریقٌ آخر من اللغویین إلی أنّ الصرخة تعنی الصوت والصیاح. منهم ابن فارس: «صَرَخَ الصَّادُ وَالرَّاءُ وَالخَاءُ أَصِیلٌ یَدُلُّ عَلی صَوتٍ رَفِیعٍ»(6). وابن منظور: «قیل:
ص: 39
الصُّراخُ الصوت الشدید ما کان؛ صرخ یصرُخُ صُراخاً»(1). وکذلک الفیومی(2) الطریحی: «صَرَخَ: یَصرُخُ... إِذَا صَاحَ»(3).
قال بعض اللغویین: بأنّ الصرخة تعنی الأذان. قال الزبیدی: «الصَّرخَةُ: الأَذَانُ»(4).
تدلّ مادّة (ص ر خ) علی الصوت المرتفع والصیاح، وهذا هو المعنی الذی ذکرته النظریة الثالثة، أمّا النظریة الأُولی فهی تقیّد المعنی الأصلی بوقت المصیبة، أی: الصیاح عند المصیبة. وذکرت النظریة الثانیة جزءاً من المعنی الأصلی، وهو مطلق الصوت ولم تذکر الجزء الأخر منه، أی: ارتفاع الصوت. أمّا النظریة الرابعة فهی تشیر إلی أحد مصادیق المعنی الأصلی وهو الأذان؛ وذلک لأنّ الأذان یکون بصوتٍ مرتفع.
ص: 40
توجد بین اللغویین أربع نظریات فی معنی (اللطم):
قال الخلیل فی کتاب العین: «اللَطمُ: ضَربُ الخَدِّ وصَفَحَاتِ الجِسمِ بِبَسطِ الیَدِ»(1). وقد وافقه ابن منظور فی لسان العرب حیث صرّح بهذا المعنی(2).
قال الجوهری فی الصحاح: «اللَّطمُ: الضَّربُ عَلَی الوَجهِ بِبَاطِنِ الرَّاحَةِ»(3). وقد صرّح بهذا المعنی جمع من اللغویین، کالحمیری فی شمس العلوم(4)، والفیومی فی المصباح المنیر(5)، والطریحی فی مجمع البحرین(6).
هناک فرقان أساسیان بین هاتین النظریتین:
ص: 41
أوّلاً: حسب النظریة الأُولی فإنّ اللطم هو ضرب الخد وهو جزء من الوجه، بخلاف النظریة الثانیة التی تفسِّر اللطم بأنّه ضرب الوجه سواء کان الخد أو غیره. فمن هذه الناحیة تُعتبر النظریة الثانیة أعم من الأُولی.
ثانیاً: حسب النظریة الأُولی فإنّ المضروب هو الخد وظاهر الجسم، ولکن حسب النظریة الثانیة فالمضروب هو الوجه خاصّة، ولایشمل سائر أعضاء الجسم.
فی النظریة الأُولی یکون الضرب ببسط الید، فیشمل ما إذا بسط الشخص یده وضرب خدّه بأصابعه دون أن تتدخل راحة الید فی ذلک، خلافاً للنظریة الثانیة فهی تشیر إلی الضرب براحة الید، ولاتشمل الضرب بالأصابع.
فی الواقع أنّ المعنی المذکور فی النظریة الثالثة هو المعنی الحقیقی للطم، أی أنّ اللطم هو ملاصقة شیء لشیء، لکن بما أنّ فی النظریات الثلاث الأُخری، الضرب جزء من معنی اللطم یُعلم أنّ الضرب یکمن فی معنی اللطم، وبتعبیر آخر: فإن اللطم عبارة عن التصاق شیئین بالضرب وضرب الوجه بالکف أحد مصادیقه؛ لأنّه مصداق الالتصاق مع الضرب.
قال ابن فارس: «اللَامُ وَالطَّاءُ وَالمِیمُ أصلٌ صَحِیحٌ یَدُلُّ عَلَی مُلاصَقَةِ شَی ءٍ لِشَی ءٍ... مِن ذَلِکَ اللّطمُ: الضَّربُ عَلَی الوَجهِ بِبَاطِنِ الرَّاحَةِ»(1). أمّا ما ذکرته النظریة الأُولی من أن اللطم هو الضرب ببسط الید، فالوجه فیه أنّ ضرب الوجه یکون ببسط الید عادة. أمّا النظریة الرابعة فهی إشارة للمصداق.
ص: 43
ص: 44
توجد نظریتان بین اللغویین فی معنی (اللَّدم):
قالت جماعة من علماء اللغة: بأنّ اللدم هو ضرب الوجه والصدر والعضدین مطلقاً، أو فی النیاحة. قال الخلیل فی العین: «اللّدمُ: ضَربُ المَرأةِ صَدرَهَا وَعَضُدَیهَا فِی النِّیَاحَةِ»(1).
وقد صرّح الصاحب بن عبّاد بهذا المعنی(2). کما أشار إلیه کلّ من النهایة(3) ولسان العرب(4)، وقال الطریحی فی مجمع البحرین: «اللّدمُ: ضَربُ الوَجهِ والصَّدرِ ونَحوهِ»(5).
قال بعض اللغویین: بأن اللدم هو مطلق الضرب. منهم الجوهری، حیث قال فی الصحاح: «یُسَمَّی الضَّربُ لَدماً»(6).
ص: 45
کما أشار إلی هذا المعنی کلّ من الحمیری فی شمس العلوم(1)، والزمخشری فی الفائق(2)، والزبیدی فی تاج العروس(3).
المعنی الحقیقی لکلمة (اللَّدم) هو مطلق التصاق شیء بشیء، ولو لم یکن بالضرب. وهذا هو الفرق بین (اللَّطم) و(اللَّدم)؛ حیث إنّ اللطم هو إلصاق الشیئین بالضرب، بخلاف اللدم فهو یدلّ علی مطلق التصاق شیء بشیء، ولو لم یکن بالضرب. وهذا ما صرّح به ابن فارس فی المعجم حیث قال: «اللَامُ وَالدّالُ وَالمِیمُ أصلٌ یَدُلُّ عَلَی إلصَاقِ شَی ءٍ بِشَی ءٍ، ضَرباً أو غَیرَهُ»(4).
فالواقع أن کلّا من النظریتین الأُولی والثانیة تشیر إلی أحد مصادیق هذا المعنی، أی: الضرب؛ لأنّ الضرب فی الحقیقة هو إلصاق شیء بشیء. نعم تختلف النظریة الأُولی بأنّها قد تحدّد مصداق المضروب أیضاً.
ص: 46
ذکر أهل اللغة أربع نظریات حول معنی (الرَّنَّة):
قال بعض اللغویین: بأن الرنّة تعنی الصوت. منهم ابن الأثیر، حیث قال فی کتابه النهایة: «الرَّنِینُ: الصَّوتُ وقَد رَنَّ یَرِنُّ رَنِیناً»(1). کما قال الطریحی فی مجمع البحرین: «الرَّنَّةُ بِالفَتحِ وَالتَّشدِیدِ أعنِی: الصَّوتُ... یُقَالُ: رَنَّتِ المَرأةُ...: صَوَّتَت»(2). وقال الجوهری فی الصحاح: «الرَّنَّةُ: الصَّوتُ»(3).
شمس العلوم(1)، وابن منظور فی لسان العرب(2).
نقل الزبیدی فی تاج العروس عن ابن الأعرابی بأنّه فسّر الرنّة بالصوت الذی یکون فی حال الفرح أو الحزن: «قَالَ ابنُ الأَعرَابِیِّ: الرَّنَّةُ: صَوتٌ فِی فَرَحٍ أَو حُزنٍ»(3).
قال الفیومی فی المصباح المنیر: «رَنَّ: ... یَرِنُّ... وَلَهُ رَنَّةٌ، أی: صَیحَةٌ»(4).
(ر ن ن) أصل یدلّ علی الصوت، فکلمة الرنّ لها معنی حقیقی وهو الصوت. وهذا ما صرّح به ابن فارس حیث قال: إنّ حروف (ر ن ن) تدلّ علی الصوت. أمّا ما نقله تاج العروس عن ابن الأعرابی من أنّ الرنّ یعنی الصوت فی فرح أو حزن، فهو لاینافی ما قلناه؛ لأنّه قبِلَ المعنی الأصلی للکلمة وأنّ الرنّة بمعنی الصوت، غیر أنّه حدّد زمناً خاصّاً لهذا الصوت. ولکن هناک معنیان مجازیان لهذا اللفظ إضافةً إلی معناه الحقیقی، وهما فی الواقع یقیّدان المعنی الحقیقی:
المعنی المجازی الأوّل: الصیحة الحزینة.
المعنی المجازی الثانی: الصیحة (الصوت المرتفع).
ص: 48
فالحقیقة أنّ النظریتین الثانیة والرابعة تشیران إلی المعنی المجازی.
یُحتمل فیها وجهان:
الوجه الأول: إنّها تاء مصدریة؛ وهذا یعنی أنّ الرنّة مصدر الثلاثی المجرّد.
الوجه الثانی: إنّها تاء التأنیث؛ لأنّ الرنّة تصدر من النساء عادةً. ولذلک عندما شرح بعض اللغویین معنی الرنّة جعلوا المرأة فاعلاً لها وقالوا: «رَنَّتِ المَرأةُ تَرِنُّ رَنِیناً»(1). وبتعبیر آخر: فقد أُضیفت التاء إلی نهایة الکلمة لغلبة استعمالها فی النساء.
ص: 49
ص: 50
ذکر علماء اللغة أربع نظریات فی معنی کلمة (الشعائر):
قالت جماعةٌ من علماء اللغة: بأنّ الشعائر هی أعمال الحجّ فقط، قال ابن فارس فی معجمه: «الشَّعِیرَةُ: وَاحِدَةُ الشَّعَائِرِ، وهِی أعلامُ الحَجّ»(1). وهذا ما أشار إلیه کلّ من الحمیری فی شمس العلوم(2)، والفیومی فی المصباح المنیر(3).
ذهبت جماعة أُخری من اللغویین إلی أنّ الشعائر هی کلّ ما أمر الله بأدائه. قال ابن الأثیر فی النهایة: «الشَّعَائِرُ: المَعَالِمُ الّتِی نَدَبَ اللهُ إلَیهَا وَأمَرَ بِالقِیَامِ عَلَیهَا»(4).
المعنی الحقیقی للشعائر هو ما ذکرته النظریة الأُولی، أی: العلامات. فالواقع أنّ کلّ علامة شعیرة، ولکن بما أنّ الشعائر فی بحثنا تختصّ بالشعائر الدینیة فإنّها تقیّد بتلک العلامات التی جعلت لطاعة الله أو العلامات التی أمر الله بها. وهذا ما ذکرته النظریتان الثانیة والرابعة، أمّا النظریة الثالثة، فهی تبیّن مصادیق الشعائر، أی: إنّ أعمال الحجّ من مصادیق الشعائر.
ص: 52
ص: 53
ص: 54
قبل أن نبدأ بتبیین حکم إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) لا بدّ من التنویه إلی نقطة کمقدّمة لهذا البحث.
إذا نظرنا فی الروایات الواردة عن أهل البیت(علیهم السّلام) یتضح لنا أنّه لا فرق بین المعصومین(علیهم السّلام) فی حکم إقامة العزاء لهم؛ فإقامة العزاء لا تختصّ بالإمام الحسین(علیه السّلام) دون غیره، فکلّهم نور واحد وحجج الله علی عباده.
وبالتالی؛ إذا ثبت أیّ حکم لإقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) فإنّه یثبت لسائر المعصومین(علیهم السّلام) أیضاً.
نعم، إنّ الشرع قد حثّ علی إقامة العزاء لسیّد الشهداء(علیه السّلام) وأکّد علیها کثیراً، ولکن لا فرق بین الإمام الحسین(علیه السّلام) وسائر المعصومین(علیهم السّلام) فی أصل حکم العزاء، کما قال المیرزا جواد التبریزی فی الجواب علی استفتاء عن حکم البکاء علی مصائب معصوم غیر الإمام الحسین(علیه السّلام) فی أثناء الصلاة، حیث قال: «لا فرق بین الإمام الحسین وباقی الأئمة(علیهم السّلام) إذا کان البکاء للمودّة لهم(علیهم السّلام) الراجع إلی أمر الآخرة»(1).
ص: 55
رغم أنّ السؤال یتعلّق بالبکاء أثناء الصلاة، ولکن الظاهر أنّ هذا الحکم لا یختصّ بالصلاة، بل یشمل غیر الصلاة أیضاً. وهذا یعنی أنّ أصل جواز البکاء لا یختصّ بالإمام الحسین(علیه السّلام) بل یشمل سائر المعصومین(علیهم السّلام) أیضاً.
ولقد علّل المحقّق الخوئی لجواز البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) فی الصلاة، حیث قال: «ربّما یُقال بجواز البکاء علی سیِّد الشُّهداء أرواحنا فداه فی حال الصلاة... وأمّا البکاء لِما یترتّب علی مصیبته واستشهاده(علیه السّلام) من حصول ثلمة لا تنجبر فی الدین وضعف، بل تضعضع فی أرکان الإسلام والمسلمین... فلا ینبغی الإشکال فی جوازه»(1). یمکن أن نستفید من عموم هذا التعلیل ونعمِّم هذا الحکم علی سائر الأئمة(علیهم السّلام) أیضاً؛ إذ إنّهم جمیعاً حجج الله علی عباده وإنّ استشهادهم أدّی إلی ثلمة فی الدین وضعف فی أرکان الإسلام.
وهذا نظیر ما قاله کاشف الغطاء فی رسالة أحکام الأموات، حیث صرّح بتحریم بعض أنواع العزاء ثمّ قال: «الظاهر تحریم اللطم، والخدش، وجزّ الشعر، وشقِّ الثوب، علی غیر الأب والأخ، خصوصاً لموت الوَلد والزوج، والظاهر اختصاص ذلک کلِّه حرامه ومکروهه بما کان للحزن علی فراق الأحباب، أمّا ما کان لفقد أولیاء الله وأُمنائه فلا بأس به»(2). ونستفید من هذا الکلام أنّ حکم العزاء لا یختصّ بإمام، بل یشمل جمیع الأئمّة(علیهم السّلام) ؛ لأنّهم جمیعاً من أولیاء الله وأمنائه.
ص: 56
«حَدّثَنَا عَبدُ اللهِ بنِ الفَضلِ الهَاشِمِیّ، قَالَ: قُلتُ لأبِی عَبدِ اللهِ جَعفَرِ بنِ مُحَمّدٍ الصَّادِقِ(علیهماالسّلام): یَا بنَ رَسُولِ اللهِ، کَیفَ صَارَ یَومُ عَاشُورَاء یَومَ مُصِیَبةٍ وَغَمٍّ وَجَزَعٍ وَبُکَاءٍ دُونَ الیَومِ الّذِی قُبِضَ فِیهِ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وَالیَومِ الّذِی مَاتَت فِیهِ فَاطِمَةُ(علیهاالسّلام) وَالیَومِ الّذِی قُتِلَ فِیهِ أمِیرُ المُؤمِنیِن(علیه السّلام)، وَالیَومِ الّذِی قُتِلَ فِیهِ الحَسَنُ(علیه السّلام) بِالسمِّ؟ فَقَالَ: إنَّ یَومَ الحُسَین(علیه السّلام) أعظَمُ مُصیِبَةً مِن جَمِیعِ سَائرِ الأیَّامِ... فَلَمَّا قُتِلَ الحُسَینُ(علیه السّلام) لَم یَکُن بَقِیَ مِن أهلِ الکِسَاءِ أحَدٌ... فَکَانَ ذِهَابُهُ کَذِهَابِ جَمِیعِهِم، کَمَا کَانَ بَقَاؤهُ کَبَقَاءِ جَمِیعِهِم؛ فَلِذَلِکَ صَارَ یَومُهُ أعظَمُ مُصِیبَةً...»(1).
کلمة «أعظَمُ» فی هذه الروایة صفة تفضیل وتفید بأنّ سائر الأیّام (أیّام استشهاد سائر أولیاء الله) هی أیضاً أیّام الحزن والمصیبة والبکاء لکن استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) مصیبةٌ عظمی. فهذه الروایة تدلّ علی أنّ العزاء لا یختصّ بالإمام الحسین(علیه السّلام) بل یشمل سائر المعصومین(علیهم السّلام) أیضاً.
وعلی ضوء هذه المقدّمة؛ نقول: إنّ هناک أربع نظریات بین الفقهاء حول حکم إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) : الجواز، الاستحباب، الاستحباب المؤکّد، والوجوب الکفائی.
إنّ الغالبیة العظمی من الفقهاء لم یفردوا بحثاً خاصّاً لحکم إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ، ولکن إذا تتبّعنا کلماتهم فی أبواب الفقه المختلفة نستفید من مفهوم کلامهم أنّهم یجیزون إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) . وفیما یلی نشیر إلی ثلاثة مواضع من کلامهم:
ص: 57
قال کثیرٌ من الفقهاء فی مبحث الصوم: إنّ صوم عاشوراء مستحبّ فیما إذا کان علی وجه المصیبة والحزن. وصرّح کثیر منهم بأنّ مصائب عاشوراء هی سبب هذا الحزن ولا شکّ فی أنّ استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) إحدی مصائب هذا الیوم، بل هو مصداقها الأتمّ. فیتّضح من کلام الفقهاء فی صوم عاشوراء أنّهم یجیزون إقامة العزاء لاستشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) والتی تتمثّل فی الحزن والغمّ والبکاء.
ولقد صرّح بهذا القول جماعة من کبار العلماء، منهم: الشیخ الطوسی فی الاقتصاد(1)، وتهذیب الأحکام(2)، والجمل والعقود(3)، والمبسوط(4)، وابن البرّاج فی المهذّب(5)، وابن إدریس فی السرائر(6)، والعلّامة الحلّی فی التذکرة(7)، والمنتهی(8)، والسیّد العاملی فی المدارک(9)، والسبزواری فی الذخیرة(10) والکفایة(11)، والطباطبائی فی الریاض(12)، والحائری فی الشرح الصغیر(13)، والمیرزا القمّی فی غنائم الأیّام(14).
ص: 58
لقد وردت روایات کثیرة حول صوم عاشوراء، فمنها ما تکرّه صوم هذا الیوم ومنها ما تحثّ علیه؛ فبالتالی هناک صنفان من الروایات فی هذا المجال، ولقد بیّنهما الشیخ الطوسی فی کتاب التهذیب بشکل مستقل(1). واختار کثیر من الفقهاء الجمع بین هذین الصنفین تبعاً للشیخ الطوسی، فقالوا: بأنّ صوم هذا الیوم جائز لو کان علی وجه الحزن والمصیبة ولیس مکروهاً. ولکن إذا کان علی غیر هذا الوجه فهو مکروه. فالروایات التی تحثّ علی صوم عاشوراء تُحمل علی الصوم حزناً وعزاءً. أمّا الروایات التی تدلّ علی الکراهیة فتحمل علی الصوم لغیر الحزن.
واعتبر العلماء أنّ سبب هذا الحزن والعزاء هو المصائب التی حلّت بعترة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی هذا الیوم. کما صرّح به الشیخ فی التهذیب(2)، والسیّد العاملی فی المدارک(3)، والسبزواری فی الذخیرة(4) والکفایة(5)، والطباطبائی فی الریاض(6).
إنّ استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) هو أعظم مصائب هذا الیوم، لذلک فقد قال العلّامة فی التذکرة(7) والمنتهی فی مقام التعلیل للحزن: «یُستحبّ صوم یوم عاشوراء حزناً لا تبرّکاً؛ لأنّه یوم قتل أحد سیّدی شباب أهل الجنّة الحسین بن علی(علیهماالسّلام) وهتک حریمه، وجرت فیه أعظم المصائب علی أهل البیت(علیهم السّلام) ؛ فینبغی الحزن فیه بترک الأکل والملاذّ»(8).
ص: 59
النتیجة: إذا دقّقنا فی کلمات الفقهاء یتبیّن أنّهم صرّحوا بجواز الحزن والعزاء علی استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) عند تعلیلهم لصوم عاشوراء، فإنّهم قالوا بجواز صوم عاشوراء علی وجه الحزن والمصیبة، وسبب هذا الحزن هو استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) فی یوم عاشوراء. بالتالی یتبیّن أنّ الحزن (إقامة العزاء) علی شهادة الإمام الحسین(علیه السّلام) جائز.
قال السیّد الیزدی فی کتاب العروة فی مبحث جواز أو عدم جواز البکاء أثناء الصلاة: «ربّما یُقال بجواز البکاء علی سیِّد الشُّهداء أرواحنا فداه فی حال الصلاة وهو مشکل»(1).
ظاهر کلام السیّد أنّه یجیز أصل البکاء علی سیّد الشهداء(علیه السّلام) ولکنّه یری الإشکال فی البکاء أثناء الصلاة. فإنّه أیضاً ممَّن یجیزون أصل العزاء بطریقة البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام).
علّق جمع من العلماء علی کلام السیّد الیزدی، وقالوا بجواز البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) أثناء الصلاة. وإن کان بعضهم قد قیّد الحکم بالجواز، إلّا أنّهم جمیعاً قبلوا أصل الجواز. فنستفید من کلامهم أیضاً أنّهم یجیزون إقامة العزاء (البکاء) علی الإمام الحسین(علیه السّلام)، منهم: النجفی، والنائینی، وآل یاسین، وکاشف الغطاء، والحکیم، والخوئی(2)، واللنکرانی(3).
ص: 60
بل قال صاحب الجواهر: «بل قد یمنع أیضاً کون البکاء لفقد المیت من الأُمور الدنیویة مطلقاً، فإنّ البکاء علی الحسین(علیه السّلام) وغیره من الأئمة الهادین(علیهم السّلام) بل والعلماء المرضیین ونحوهم ممن کانت العلقة بینهم وبین الباکی أُخرویة لیس من الدنیا فی شی ء»(1). وظاهر کلامه أنّ البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) وسائر الأئمّة(علیهم السّلام) جائز.
أمّا المحقّق الخوئی، فقد ذهب إلی التفصیل بین صور البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) أثناء الصلاة وأجازه فی صورة واحدة. قال: «وأمّا البکاء لما یترتّب علی مصیبته واستشهاده(علیه السّلام) من حصول ثلمة لا تنجبر فی الدین وضعف، بل تضعضع فی أرکان الإسلام والمسلمین فضلًا عن المثوبات الأُخرویّة المترتّبة فی الأخبار علی البکاء علیه(علیه السّلام) بحیث یرجع الکلّ إلی العبادة وقصد القربة والبکاء لأمر أُخروی لا دنیوی، فلا ینبغی الإشکال فی جوازه»(2).
ویستفاد من کلامه أیضاً بأنّ أصل العزاء (البکاء) علی مصائب الإمام الحسین(علیه السّلام) جائزٌ، وجدیرٌ بالذکر أنّ السیّد الخوئی قد صرّح فی فتوی له بأنّ البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) من شعائر الله(عزوجل)§ُنظر: الخوئی، أبو القاسم، صراط النجاة (مع تعلیقات وملحق لسماحة الشیخ جواد التبریزی): ج3، ص442.
الله تعالی من ظالمیه، وثالثة: لأنّه(علیه السّلام) ظُلِم فی طریق الدعوة إلی الله تعالی، ورابعة: لأجل التوسّل به(علیه السّلام) إلی الله(عزوجل). والإشکال إنّما هو فی القسم الأوّل فقط، وأمّا بقیة الأقسام، فالظاهر عدم الإشکال فیها»(1).
قوله: «أمّا بقیة الأقسام، فالظاهر عدم الإشکال فیها» یدلّ علی أنّ أصل العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) جائز.
مقدّمة: اختلف الفقهاء فی جواز البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) أثناء الصلاة ولا شکّ فی أنّ الذین بحثوا حکم البکاء علیه فی الصلاة قبلوا بأصل جوازه فی غیر الصلاة؛ إذ لو کانوا قائلین بعدم جوازه فلا معنی لبحث جوازه فی الصلاة.
ونقول علی ضوء هذه المقدّمة: لم یذکر الفقهاء دلیلاً علی أصل جواز البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام)، ویبدو أنّهم لم یروا داعیاً للاستدلال علی جوازه؛ لأنّه أمر مسلَّم عندهم جمیعاً. ولعلّ السبب فی تسلیمهم بجواز البکاء علیه هو ما سنذکره من الأدلّة (الآیات والروایات المتواترة و...) وقد أفردنا لها جزءاً من المباحث القادمة.
إذن؛ العزاء(البکاء) علی الإمام الحسین(علیه السّلام) جائز.
لبس السواد من مصادیق إقامة العزاء. فکما أنّ الشخص المفجوع یبکی علی
ص: 62
مصیبته، فکذلک یلبس السواد تعبیراً عن حزنه فی هذه المصیبة؛ بالتالی فإنّ لبس السواد من أشکال إقامة العزاء.
قال صاحب الحدائق عن لبس السواد فی مأتم الإمام الحسین(علیه السّلام): «لا یبعد استثناء لبس السواد فی مأتم الحسین(علیه السّلام) من هذه الأخبار (الأخبار الناهیة عن لبس السواد) لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان»(1).
وفی کلامه تصریح بأنّ إظهار شعائر الحزن بلبس السواد وغیره جائز. بالتالی فإن لبس السواد (إقامة العزاء) فی مأتم الإمام الحسین(علیه السّلام) جائز.
إشکال: إن بعض عبارات العلماء فی هذه المصادیق الثلاثة (صوم عاشوراء، والبکاء فی الصلاة، ولبس السواد) ظاهرة فی الاستحباب، رغم أنّ بحثنا فی أصل الجواز.
الجواب: العبارات الظاهرة فی الاستحباب تدلّ علی الجواز أیضاً؛ لأنّ الجواز لازم الاستحباب والاستحباب یتفرّع علی الجواز. وبالتالی؛ فإنّ هذه العبارات تدلّ علی جواز إقامة العزاء علی المعصوم(علیه السّلام) بالدلالة الالتزامیة.
قال بعض العلماء: بأنّ لبس السواد فی مأتم الإمام الحسین(علیه السّلام) جائز، منهم: المحدّث البحرانی؛ حیث علّل لهذا الأمر قائلاً: «لا یبعد استثناء لبس السواد فی مأتم الحسین(علیه السّلام) من هذه الأخبار؛ لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان، ویؤیّده ما رواه شیخنا المجلسی عن البرقی فی کتاب المحاسن أنّه روی عن عمر بن زین العابدین(علیه السّلام) أنّه قال: لما قُتل جدّی الحسین...»(2)). هذه الروایة هی معتبرة عمر بن علی
ص: 63
وقد رواها البرقی فی المحاسن. ولقد اعتمد البحرانی علی هذه الأدلّة للقول بجواز لبس السواد فی مأتم الإمام الحسین(علیه السّلام).
«وَعَنِ الحَسَنِ بنِ طَرِیفِ بنِ نَاصِحٍ(1)، عَن أَبِیهِ(2)، عَنِ الحُسَینِ بنِ زَیدٍ(3)، عَن عُمرَ بنِ عَلِیِّ بنِ الحُسَینِ(علیهماالسّلام)(4)، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ الحُسَینُ بنُ عَلِیٍّ(علیهماالسّلام) لَبِسَ نِسَاءُ بَنِی هَاشِمٍ السَّوَادَ وَالمُسُوحَ، وَکُنَّ لاَ یَشتَکِینَ مِن حَرٍّ وَلاَ بَردٍ، وَکَانَ عَلِیُّ بنُ الحُسَینِ(علیهماالسّلام) یَعمَلُ لَهُنَّ الطَّعَامَ لِلمَأتَمِ»(5).
ص: 64
یشتمل سند الروایة علی رواة یمکن الاطمئنان بوثاقتهم عبر جملة من القرائن التی سبق ذکرها فی هامش سند الروایة. ولعلّ السبب الذی جعل المحدِّث البحرانی هذه الروایة مؤیِّداً لمدعاه هو لأجل المباحث الرجالیة فی سندها.
أوّلاً: النساء لبسن السواد عند الإمام السجّاد(علیه السّلام) ولم یمنعهنّ الإمام(علیه السّلام) عن ذلک، کما أنّه لم یأمرهنّ بإقامة العزاء بطریقة أُخری. ولو کان لبس السواد فی العزاء أمراً مرفوضاً فی الشرع لوجب علی الإمام(علیه السّلام) أن ینهاهنّ عن ذلک؛ لأنّ الإغراء بالجهل قبیح. ولکن الإمام(علیه السّلام) لم یفعل ذلک، ولو نهی الإمام(علیه السّلام) عن لبس السواد لکان من مصادیق المقولة الشهیرة: «لَو کانَ لَبَانَ». ولنُقل ذلک النهی إلینا بطرق مختلفة؛ فالدواعی لنقلها کثیرة.
ثانیاً: لقد کانت السیّدة زینب(علیهاالسّلام) بین الهاشمیات اللواتی لبسن السواد، وهی ذات منزلة رفیعة إلی درجة أنّ الإمام السجّاد(علیه السّلام) خاطبها قائلاً: «یا عمة... أنت - بحمد الله - عالِمة غیر معلَّمة، فهمة غیر مفهَّمة...»(1). وهذه الروایة تدلّ علی أنّ السیّدة زینب(علیهاالسّلام) حظیت بنوع متمیّز من العلم. وجدیرٌ بالذکر أنّ الأئمة(علیهم السّلام) أنفسهم استشهدوا بفعل الفاطمیات لإثبات بعض مصادیق إقامة العزاء کجواز لطم الخدود: «وَقَد شَقَقنَ الجُیوبَ وَلَطَمنَ الخُدُودَ الفَاطِمِیاتُ عَلی الحُسَینِ بنِ عَلی(علیهماالسّلام)...»(2).
ص: 65
قَالَ ابنُ أبِی الحَدِیدِ: فِی شَرحِ نَهجِ البَلاغَةِ: «قَالَ المَدَائِنِی: ولَمَّا تُوُفّیَ عَلِیٌ(علیه السّلام) خَرَجَ عَبدُ اللهِ بنِ العَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَلِّبِ إلی النَّاسِ فَقَالَ: إنَّ أمِیرَ المُؤمِنیِن(علیه السّلام) تُوُفّیَ وَقَد تَرَکَ خَلَفاً، فَإن أحبَبتُم خَرَجَ إلَیکُم وَإن کَرِهتُم فَلا أحَدَ عَلَی أحَدٍ. فَبَکَی النَّاسُ وقَالوُا: بَل یَخرُجُ إلَینَا. فَخَرَجَ الحَسَنُ(علیه السّلام) فَخَطَبَهُم... وَکَانَ خَرَجَ إلَیهِم وَعَلَیهِ ثِیَابٌ سُودٌ...»(1).
«فَخرُ الدِّینِ الطُّرَیحِیُّ فِی المُنتَخَبِ وغَیرُهُ فِی غَیرِهِ مُرسَلاً أَنَّ یَزِیدَ لَعَنَهُ اللهُ استَدعَی بِحَرَمِ رَسُولِ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فَقَالَ لَهُنَّ: أَیُّمَا أَحَبُّ إِلَیکُنَّ المُقَامُ عِندِی أَوِ الرُّجُوعُ إِلَی المَدِینَةِ؟... قَالُوا: نُحِبُّ أَوَّلاً أَن نَنُوحَ عَلی الحُسَینِ(علیه السّلام) قَالَ: افعَلُوا مَا بَدَا لَکُم. ثُمَّ أُخلِیَت لَهنَّ الحُجَرُ وَالبُیُوتُ فِی دِمَشقَ فَلَم تَبقَ هَاشِمِیَّةٌ وَلاَ قُرَشِیَّةٌ إِلاَّ وَلَبِسَتِ السَّوَادَ عَلَی الحُسَینِ(علیه السّلام) وَنَدَبُوهُ - عَلَی مَا نُقِلَ - سَبعَةَ أَیَّامٍ...»(2).
الروایتان الثانیة والثالثة تؤیّدان جواز لبس السواد فی المأتم.
دلالتهما علی جواز لبس السواد فی المأتم واضحة تماماً. ففی الروایة الثانیة لبس الإمام الحسن(علیه السّلام) ثیاباً سوداء فی عزاء أبیه(علیه السّلام)، وفی الروایة الثالثة لبست الهاشمیات السواد، ویبدو أنّهنّ فعلن هذا عند الإمام السجّاد(علیه السّلام) وبما أنّ الهاشمیات ینتمینَ إلی أهل البیت(علیهم السّلام) ؛ فمن البعید أن یرتکبنَ حراماً عند الإمام السجّاد(علیه السّلام).
ص: 66
ذکرنا من استدلالات العلماء ثلاثة مواضع تدلّ علی جواز إقامة العزاء، ولکن الأدلّة لا تنحصر علی ما ذکر، فهناک أدلّة أُخری یمکن الاستناد إلیها لإثبات جواز إقامة العزاء. ألا وهی الأدلّة الموجودة فی القرآن الکریم والروایات.
«لَا یُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَکَانَ اللَّهُ سَمِیعًا عَلِیمًا » (1).
هذه الآیة الشریفة تبیّن أنّ الله یحبّ للمظلوم أن یجهر بمساوئ الظالم ولا شکّ فی أنّ أهل البیت(علیهم السّلام) الذین استُشهدوا علی أیدی الظالمین تعرّضوا للظلم منهم، وحسب الآیة الشریفة فإنّ الله یحبّ الجهر بمساوئ أُولئک الظلمة، ولا شکّ فی أنّ إقامة العزاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) أحد مصادیق الجهر بمساوئ الظالمین وظلمهم؛ وبالتالی یحبّه الله(عزوجل)؛ لأنّ إقامة العزاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) تشتمل علی بعدین: البُعد الأوّل: هو التولّی. والبُعد الثانی: هو التبرّی. فإذا نظرنا إلی البعد الثانی لإقامة العزاء نری أنّه عبارة عن تبیین مساوئ الظالمین وخبثهم؛ وبالتالی نستنتج أنّ هذه الآیة الشریفة تدلّ علی جواز إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) .
إنّما تدلّ الآیة الشریفة علی حقّ المعصومین(علیهم السّلام) للجهر بمساوئ الظالمین ولاتدلّ علی أکثر من هذا؛ لأنّهم تعرّضوا لهذا الظلم دون غیرهم، ولا یحقّ للشیعة أن یجهروا بمساوئ الظالمین عن طریق إقامة العزاء؛ لأنّهم لم یتعرّضوا للظلم.
ص: 67
صحیحٌ أنّ المعصومین(علیهم السّلام) هم الذین تعرّضوا للظلم مباشرة، ولکن الشیعة أیضاً ظُلموا بشکل غیر مباشر. فقد أدّی استشهاد الأئمّة(علیهم السّلام) وتعرّضهم للظلم إلی حرمان الناس - ولا سیّما الشیعة - من برکات حضورهم، (کالاستفادة من علومهم وإقامة القسط و...) فظلم الظالمین لأهل البیت(علیهم السّلام) هو فی الواقع ظلم فی حقّ الشیعة أیضاً.
وبتعبیرٍ آخر: فإنّ حیاة الناس ومعیشتهم تأثّرت کثیراً بغیاب أهل البیت(علیهم السّلام) ، والحیاة بحضورهم الخارجی تختلف کثیراً عن الحیاة فی غیابهم. والظالمون الذین قتلوا أهل البیت(علیهم السّلام) ألحقوا ضرراً کبیراً بالشیعة وحتّی غیر الشیعة. لذلک یمکن القول: بأنّ الظلم الذی تعرّض له أهل البیت(علیهم السّلام) هو ظلم للشیعة أیضاً. وبالتالی تنطبق علیهم الآیة الشریفة؛ فیجوز لهم الجهر بمساوئ الظالمین لأنّهم ظلموا.
ثمة طوائف من الروایات تدلّ علی جواز إقامة العزاء، نشیر إلی طائفتین منها: الطائفة الأُولی: إقامة العزاء بالبکاء. الطائفة الثانیة: إقامة العزاء باللطم.
تنقسم الطائفة الأُولی من الروایات إلی ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: روایات بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی أهل البیت(علیهم السّلام) .
القسم الثانی: روایات بکاء سائر المعصومین علی أهل البیت(علیهم السّلام) .
القسم الثالث: الروایات التی أطلقت جواز البکاء علی أیّ میّت.
روایات القسم الأوّل علی صنفین:
الصنف الأول: فی إقامة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) خاصّة.
ص: 68
الصنف الثانی: فی إقامة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) العزاء علی سائر المعصومین(علیهم السّلام) .
روایات الصنف الأوّل کثیرة، ولکنا نکتفی بذکر روایتین معتبرتین منها:
«حَدَّثَنِی أبِی رَحِمَهُ اللهُ تَعَالی، قَالَ: حَدَّثَنِی سَعدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ أبِی خَلَفٍ، عَن أحمَدَ بنِ مُحَمّدِ بنِ عِیسَی، عَنِ الحُسَینِ بنِ سَعِیدٍ، عَن النَّضرِ بنِ سُوَیدٍ، عَن یَحیَی الحَلَبِی، عَن هَارُونِ بنِ خَارِجَةِ، عَن أبِی بَصِیرٍ، عَن أبِی عَبدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: إنَّ جَبرَئیلَ أتَی رَسُولَ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) والحُسَینُ(علیه السّلام) یَلعَبُ بَینَ یَدَیهِ، فَأخبَرَهُ أنَّ أُمَّتَهُ سَتَقتُلُهُ. قَالَ: فَجَزِعَ رَسُولُ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )...»(1).
سند الروایة الأُولی صحیح؛ لأنّ کل رواتها إمامیون ثقات.
الروایة الثانیة: معتبرة محمّد بن سنان
«حَدَّثَنِی مُحَمّدُ بنُ جَعفَرٍ الرَّزّازِ القُرَشِیّ الکُوفِیّ، قَالَ: حَدَّثَنِی مُحَمّدُ بنُ الحُسَینِ بنِ أبِی الخَطَّابِ، عَن مُحَمّدِ بنِ سَنَانٍ، عَن سَعِیدِ بنِ یَسَارٍ أو غَیرِهِ قَالَ: سَمِعتُ أبَا عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) یَقُولُ: لَمَّا أن هَبَطَ جَبرَئیِلُ(علیه السّلام) عَلَی رَسُولِ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بِقَتلِ الحُسَینِ(علیه السّلام) أخَذَ بِیَدِ عَلیٍّ(علیه السّلام) فَخَلا بِهِ مَلِیاً مِنَ النّهَارِ فَغَلَبَتهُمَا العَبرَة...»(2).
شکّ حول أحد الرواة وهذا یضعف السند، فقد جاء فی سند هذه الروایة: «عَن سَعِیدِ بنِ یَسَارٍ أو غَیرِهِ». وظاهر هذه العبارة أنّ الراوی محتمل لشخصین، أحدهما سعید بن یسار وهو إمامی ثقة والثانی مجهول. وهذا الشکّ یُسقط الروایة عن الحجّیة. أمّا السندان الآخران فلا مشکلة فیهما إلّا وجود محمّد بن سنان بین رواتهما، وقد اختلف العلماء فی وثاقة محمّد بن سنان(1).
قال بعض العلماء بوثاقة محمّد بن سنان، کالإمام الخمینی(2)، وبعض علماء الرجال،
ص: 70
کالمحقّق الزنجانی(1). واستدلّوا بأنّ أحمد بن محمّد بن عیسی اعتبره من مشایخه وروی عنه کثیراً، وأحمد بن محمّد من أدقّ الرواة وأحرصهم علی صحّة الروایات. کما تمسّک الکلباسی بمجموعة من القرائن لتوثیق محمّد بن سنان وهذه القرائن تفید الاطمئنان بوثاقته(2).
ص: 71
«وَمِمَّا خَرَجَ مِنَ النَّاحِیَةِ... فَانزَعَجَ الرَّسُولُ وَبَکَی قَلبُهُ المَهُولُ(1) وعَزَّاهُ بِکَ المَلَائِکَةُ وَالأَنبِیَاءُ، وفُجِعَت بِکَ أُمُّکَ الزَّهرَاء... وأُقِیمَت لَکَ المَآتِمُ فِی أَعلَی عِلِّیِّینَ، ولَطَمَت عَلَیکَ الحُورُ العِینُ، وبَکَتِ السَّمَاءُ وَسُکَّانُهَا والجَنَانُ وَخُزَّانُهَا...»(2).
هذه الروایات تدلّ علی أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) جزع فی مصیبة استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) وبکی علیه. وبالتالی یُستفاد منها جواز إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام).
هناک روایات أُخری إضافة إلی الروایات التی سبق ذکرها ودراستها ولا مشکلة فی دلالة هذه الروایات علی أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أقام العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) بالبکاء والحزن والجزع و... (3). أمّا من ناحیة السند فیمکن الاستدلال بهذه الروایات ببیانین:
ص: 72
یصحّ الاستدلال بهذه الروایات من باب التجابر، بمعنی أنّ سیرة العلماء العملیة والنقلیة قد درجت علی تجویز إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) وهذه السیرة تساعدنا فی الأخذ بهذه الروایات؛ لأنّها تجبر ضعف أسانیدها. وتدلّ مجموع الروایات والسیرة علی جواز إقامة العزاء. وبالتالی یصحّ الاستدلال بهذه الروایات من أجل إثبات المدعی.
بما أنّ عدد هذه الروایات یتجاوز العشر فنتأکّد من صدور مضمون واحدة منها عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی أقلِّ تقدیر، فهناک طرقٌ مختلفة لهذه الأخبار، وإذا اعتمد علی قانون الاحتمالات یمکن القول: إنّ تواطئ جمیع رواة هذه الأسانید علی الکذب أمرٌ بعید، أی أنّ احتمال کذبهم ضعیف جدّاً؛ وبالتالی یصحّ الاستدلال بهذه الروایات لنثبت أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أقام العزاء للإمام الحسین(علیه السّلام).
النتیجة: یشتمل الصنف الأوّل علی روایتین ولا مشکلة فی سندیهما، کما أنّنا ذکرنا مؤیِّدین لهما والمؤیِّد الثانی بدوره یشتمل علی عدّة روایات ویمکن الاستدلال بها اعتماداً علی التجابر والتعاضد.
نکتفی فی الصنف الثانی بذکر أربع روایات.
«حَدَّثَنِی مُحَمّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ أحمَدَ بنِ الوَلیِدِ، قَالَ: حَدّثَنِی مُحَمَّدُ بنُ أبِی القَاسَم مَاجِیلِوَیهِ، عَن مُحَمّدِ بنِ عَلیٍ القُرَشِیّ، عَن عُبَیدِ بنِ یَحیَی الثَّورِیّ، عَن مُحَمّدِ بنِ الحُسَینِ بنِ عَلیِ بنِ الحُسَینِ، عَن أبِیهِ، عَن جَدّهِ، عَن عَلِی بنِ أبِی طَالِبٍ(علیهم السّلام) قَالَ: زَارَنَا رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )
ص: 73
ذَاتَ یَومٍ فَقَدّمنَا إلَیهِ طَعَاماً... فَأکَلَ مِنهُ... ثُمَّ قَامَ إلَی مَسجِدٍ فِی جَانِبِ البَیتِ وصَلَّی وَخَرَّ سَاجِداً، فَبَکَی وَأطَالَ البُکَاءَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَمَا اجتَرَی مِنَّا أهلِ البَیتِ أحَدٌ یَسألهُ عَن شَیءٍ، فَقَامَ الحُسَینُ(علیه السّلام)... ثُمَّ قَالَ: یَا أبَتِ، مَا یُبکِیکَ؟ فَقَالَ: ... فَهَبَطَ إلیَّ جَبرَئیِلُ فَأخبَرَنِی أنَّکُم قَتلَی وَأنَّ مَصَارِعَکُم شَتَّی...»(1).
لا بدّ من بیان مقدّمة قبل دراسة هذا السند:
مقدّمة: دراسة رجالیة فی رواة کامل الزیارات
إذا أردنا أن ندرس سند هذه الروایة فلا بدّ أوّلاً من إجراء دراسة وتحقیق حول أسناد روایات کتاب کامل الزیارات؛ لأنّنا استندنا إلی روایات هذا الکتاب فی أکثر من موضع.
قال المحقّق الخوئی فی مبحث التوثیقات العامّة فی کتاب معجم الرجال: التوثیقات العامّة: قد عرفت فیما تقدّم أنّ الوثاقة تثبت بإخبار ثقة، فلا یفرق فی ذلک بین أن یشهد الثقة بوثاقة شخص معیّن بخصوصه وأن یشهد بوثاقته فی ضمن جماعة... وبما ذکرناه نحکم بوثاقة جمیع مَن وقع فی أسناد کامل الزیارات أیضاً؛ فإنّ جعفر بن قولویه قال فی أوّل کتابه: وقد علمنا بأنّا لا نحیط بجمیع ما روی عنهم فی هذا المعنی ولا فی غیره، لکن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته ولا أخرجت فیه حدیثاً روی عن الشذاذ من الرجال یؤثر ذلک عنهم عن المذکورین غیر المعروفین بالروایة المشهورین بالحدیث والعلم...
وقد زعم بعضهم اختصاص التوثیق بمشایخه فقط، ولکنّه خلاف ظاهر عبارته، کما لا یخفی(2).
ص: 74
لکن المحقّق الخوئی عدل عن هذا الرأی فی السنوات الأخیرة من حیاته، وقال: بأنّ شهادة ابن قولویه تختصّ بمشایخه الذین أخذ عنهم بلا واسطة، ولا تشمل جمیع رواة السند. وقد صرّح سماحته بهذا الأمر لدی جوابه علی استفتاء فی کتاب صراط النجاة(1).
وکذا قال قبله المیرزا النوری فی خاتمة المستدرک، حیث قال بعد نقل کلام ابن قولویه: «فتراه رحمه الله نصّ علی توثیق کلّ مَن رواه عنه فیه»(2). فتوثیق ابن قولویه حسب ما ذهب إلیه المحقّق الخوئی أخیراً یشمل 32 شخصاً من رواة هذا الکتاب ولکن حسب رأیه الأوّل یتمّ توثیق جمیع رواة هذا الکتاب الذین یبلغ عددهم 388 راویاً.
قال المیرزا جواد التبریزی: «أمّا رجال کامل الزیارات، فما ذکره فی مقدّمة الکتاب فهو راجع إلی عناوین الأبواب، ویکفی فی ثبوت ما ذکره فی عناوین الأبواب أن تکون روایة واحدة من روایات الباب رجالها ثقات وهذا مبنی علی التغلیب، کما یظهر ذلک لمَن تتبّع سائر الکتب المؤلّفة فی الأدعیة و الزیارات»(3).
قال بعض علماء الرجال: إنّ کلام المیرزا جواد التبریزی مجرّد دعوی، بل ثبت خلافه أیضاً، فعلی سبیل المثال: إذا نظرنا إلی الباب الأول من کتاب کامل الزیارات نری أنّه روی خمس روایات، أمّا الروایة الأُولی ففی سندها قاسم بن یحیی والحسن بن
ص: 75
راشد، ولا یوجد لهما توثیقٌ خاصّ. أمّا الروایتان الثانیة والخامسة ففی سندیهما معلی بن أبی شهاب، وهو مجهول، کما أنّ الروایتین الثالثة والرابعة مرسلتان(1)؛ بالتالی لا توجد روایة معتبرة فی الباب الأوّل من هذا الکتاب حتّی تثبت عنوانه(2).
فالصواب هو ما ارتآه المحقّق الخوئی أخیراً، وهو أنّ شهادة ابن قولویه تختصّ بمشایخه الذین أخذ عنهم مباشرة، وهناک عدّة قرائن تؤیِّد هذا الرأی(3)؛ وعلی ضوء
ص: 76
هذه القرائن یتبیّن عدم صحّة الاستدلال بهذه الشهادة لإثبات وثاقة جمیع رواة أحادیث کامل الزیارات، بل هی تثبت وثاقة الرواة الذین روی عنهم المؤلِّف بلا واسطة.
وثبت بهذه المقدّمة أنّ الاستناد إلی أحادیث کامل الزیارات یحتاج إلی دراسة أحوال جمیع الرواة وإثبات وثاقتهم واحداً واحداً إلّا المشایخ الذین روی المؤلِّف عنهم بلا واسطة.
ص: 77
فی سند الروایة المذکورة عبید بن یحیی الثوری، ومحمّد بن حسین بن علی، وهما لم یوثّقا فی کتب الرجال. وکذلک فیه محمّد بن علی أبوسمینة، وهو متّهمٌ بالغلو(1).
«حَدَّثَنَا عَلِیُّ بنُ أحمَدِ بنِ مُوسَی الدَّقَّاقِ(رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أبِی عَبدِ اللهِ الکُوفِیِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَی بنُ عِمرَانِ النَّخَعِی، عَن عَمّهِ الحُسَینِ بنِ یَزِیدِ النَّوفِلِی، عَن الحَسَنِ بنِ عَلِیِّ بنِ أبِی حَمزَةِ، عَن أبِیهِ، عَن سَعیِدِ بنِ جُبَیرٍ، عَن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کَانَ جَالِساً ذَاتَ یَومٍ إذ أقبَلَ الحَسَنُ(علیه السّلام) فَلَمَّا رَآهُ بَکَیٰ... ثَمَّ أقبَلَ الحُسَینُ(علیه السّلام) فَلَمَّا رَآهُ بَکَیٰ... ثُمَّ أَقبَلَت فَاطِمَةُ(علیهاالسّلام) فَلَمَّا رَآهَا بَکَیٰ... ثُمَّ أقبَلَ أمِیرُ المُؤمِنیِن(علیه السّلام) فَلَمَّا رَآهُ بَکَیٰ... فَقَالَ لَهُ أصحَابُهُ: یَا رَسُولَ اللهِ، مَا تَرَی وَاحِداً مِن هَؤلاءِ إلاَّ بَکَیتَ...؟ فَقَالَ: أمَّا عَلِیُّ بنُ أبِی طَالِبٍ(علیه السّلام)... إنِّی بَکَیتُ حِینَ أقبَلَ لأنِّی ذَکَرتُ غَدرَ الأُمّةِ بِهِ بَعدِی... حَتّیٰ یُضرَبَ عَلَی قَرنِهِ ضَربَةً تُخضَبُ مِنهَا لِحیَتُهُ فِی أفضَلِ الشُّهُورِ شَهرِ رَمَضَان... وَأمَّا ابنَتِی فَاطِمَة... إنِّی لَمَّا رَأیتُهَا ذَکَرتُ مَا یُصنَعُ بِهَا بَعدِی، کَأنِّی بِهَا وَقَد دَخَلَ الذُّلُّ بَیتَهَا، وَانتُهِکَت حُرمَتُهَا، وَغُصِبَت حَقُّهَا، وَمُنِعَت إرثُهَا، وَکُسِرَ جَنبُهَا (وَکُسِرَت جَنبَتُهَا) وَأُسقُطِت جَنِینُهَا... وَأمَّا الحَسَنُ(علیه السّلام)... إنِّی لَمَّا نَظَرتُ إلَیهِ تَذَکّرتُ مَا یجری عَلَیهِ مِنَ الذُّلِّ بَعدِی، فَلاَ یَزَالُ الأمرُ بِهِ حَتّی یُقتَلُ بِالسَّمِّ ظُلماً وَعُدوَاناً، فَعِندَ ذَلِکَ تَبکِی المَلاَئکَةُ وَالسَّبُعُ الشِّدَادُ لِمَوتِهِ، وَیَبکِیهِ کُلُّ شَیءٍ حَتّیٰ الطَّیرُ فِی جَوِّ السَّمَاءِ وَالحِیتَانُ فِی جَوفِ المَاءِ... وَأمَّا الحُسَینُ(علیه السّلام)... إنِّی لَمَّا رَأیتُهُ تَذَکَّرتُ مَا یُصنَعُ بِهِ بَعدِی... آمُرُهُ بِالرِّحلَةِ عَن دَارِ هِجرَتِی وَأبَشِّرُهُ بِالشَّهَادَةِ فَیَرتَحِلُ عَنهَا إلی أرضِ مَقتَلِهِ... ثُمَّ یُذبَحُ کَمَا یُذبَحُ الکَبشُ مَظلُوماً. ثُمَّ بَکَیٰ رَسُولُ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وَبَکَیٰ مَن حَولَهُ وَارتَفَعَت أَصوَاتُهُم بِالضَّجِیجِ...»(2).
ص: 78
فیه موسی بن عمران النخعی الذی لم یُذکر له اسم فی کتب الرجال.
«حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ أحمَدِ بنِ الوَلیِدِ(رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمَدُ بنُ إدرِیس وَمُحَمَّدُ بنُ یَحیَی العَطّارِ جَمِیعاً، عَن مُحَمَّدِ بنِ أحمَدِ بنِ یَحیَی بنِ عِمرَانِ الأشعَرِیِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبوُ عَبدِ اللهِ الرّازِی، عَن الحَسَنِ بنِ عَلیِّ بنِ أبِی حَمزَة، عَن سَیفِ بنِ عُمَیرَة، عَن مُحَمّدِ بنِ عُتبَة، عَن مُحَمّدِ بنِ عَبدِ الرّحمٰنِ، عَن أبِیهِ، عَن عَلِیّ بنِ أبِی طَالِبٍ(علیه السّلام) قَالَ: بَینَا أنَا وَفَاطِمَةُ وَالحَسَنُ وَالحُسَینُ عِندَ رَسُولِ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إذ التَفَتَ إلَینَا فَبَکَی، فَقُلتُ: مَا یُبکِیکَ یَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ: أبکِی مِمَّا یُصنَعُ بِکُم بَعدِی. فَقُلتُ: ومَا ذَاکَ یَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أبکِی مِن ضَربتِکَ عَلَی القَرنِ، وَلَطمِ فَاطِمَة خَدَّهَا، وَطَعنَةِ الحَسَن فِی الفَخِذِ وَالسَّمِّ الَّذِی یُسقَی، وَقَتلِ الحُسَینِ. قَالَ: فَبَکَیٰ أهلُ البَیتِ جَمِیعاً»(1).
فی سند هذه الروایة محمّد بن عبد الرحمن، وهو من قضاة العامّة، ولم یرد فیه توثیق(2).
«وَبِهَذَا الإسنَادِ (عَنِ الحُسَینِ بنِ إِبرَاهِیم القَزوِینِیِّ، عَن مُحَمَّدِ بنِ وَهبَان، عَن عَلِیِّ بنِ حَبَشِیٍّ، عَنِ العَبَّاسِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الحُسَینِ، عَن أَبِیهِ، عَن صَفوَان بنِ یَحیَی)، عَن الحُسَینِ (ِبنِ أَبِی غُندَر)، عَن عَمروِ بنِ شِمرٍ، عَن جَابِرٍ، عَن أبِی جَعفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ: قَالَ أمِیرُ المُؤمِنِین(علیه السّلام): فِی حَدِیثٍ: أَنَّ رَسُولَ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بَکَیٰ بُکَاءً شَدِیداً، فَقَالَ لَهُ الحُسَینُ: لِمَ بَکَیتَ؟ قَالَ: أَخبَرَنِی جَبرَئِیلُ أَنَّکُم قَتلَی وَمَصَارِعَکُم شَتَّی...»(3).
ص: 79
فی سند هذه الروایة علّتان، أوّلاً فیه العبّاس بن محمد، وهو لم یوثّق فی کتب الرجال، وثانیاً فیه عمرو بن شمر، ولم یشهد النجاشی بوثاقته(1).
یمکن الاستدلال بهذه الروایات کما بیّنا سابقاً(2)، حیث تجتمع هذه الروایات وتتعاضد مع روایات أُخری تشارکها فی المعنی والمضمون؛ وبالتالی نطمئنّ بصدور مضمون إحداها عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فهذه الروایات لها طرق متعدّدة، ویمکن أن نستعین بقانون الاحتمالات ونقول: من البعید أن یتواطأ جمیع رواة هذا الأسناد علی الکذب واحتمال کذبهم ضعیف جدّاً. لذلک یمکن التمسّک بهذه الروایات لإثبات أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أقام العزاء علی أهل بیته، وبالتالی یثبت جواز هذا العمل للآخرین.
تنبیه: لو افترضنا أنّ التمسّک بهذه الروایات الأربع لیس صحیحاً، فیمکن أن نعتمد علی طریق آخر ونقول: إذا أردنا أن نثبت دعوانا (أی: نثبت أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أقام العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ) فیمکن أن نستعین بقاعدة إلغاء الخصوصیة، ونتمسّک بالروایات التی دلّت علی عزاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی الإمام الحسین(علیه السّلام). وکما قلنا سابقاً فإنّ جمیع المعصومین(علیهم السّلام) نور واحد، ولهم حکم واحد، وإذا ثبت حکم لأحد منهم فإنّه یثبت لسائر المعصومین(علیهم السّلام) أیضاً إلّا إذا دلّ دلیل علی خلاف ذلک(3). وبما أنّنا لا نری خصوصیة لعزاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی الإمام الحسین(علیه السّلام) فجواز إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) یُثبت جوازها بالنسبة إلی سائر المعصومین(علیهم السّلام) أیضاً؛ وبالتالی یثبت أنّ إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) جائز للآخرین أیضاً.
ص: 80
تدلّ هذه الروایات علی أنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بکی علی مصائب أهل بیته(علیهم السّلام) . أی: إنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أقام العزاء وبکی علی مقتل أهل بیته(علیهم السّلام) واستشهادهم، وبما أنّ هذه الروایات لا تختصّ بالإمام الحسین(علیه السّلام) بل تتعلّق بجمیع أهل البیت(علیهم السّلام) ، فبالتالی تدلّ علی جواز إقامة العزاء علیهم جمیعاً.
النتیجة: الصنف الثانی یشتمل علی أربع روایات ویمکن التمسّک بها من باب التعاضد والاطمئنان بصدور بعضها.
هناک روایات کثیرة حول بکاء سائر المعصومین(علیهم السّلام) (سوی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )) علی أهل البیت(علیهم السّلام) ، ولکنّنا نکتفی هنا بخمس روایات:
«عَن ابنِ عَبّاسٍ، قَالَ: لَقَد دَخَلتُ عَلَی عَلِیٍّ(علیه السّلام) بِذِی قَار، فَأخرَجَ إلَیَّ صَحِیفَةً... فَقُلتُ: یَا أمِیرَ المُؤمِنیِن، اقرَأهَا عَلَیَّ. فَقَرَأهَا، فَإذَا فِیهَا کُلُّ شَیءٍ کَانَ مُنذُ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلَی مَقتَلِ الحُسَینِ(علیه السّلام)، وکَیفَ یُقتَلُ، وَمَن یَقتُلُهُ، وَمَن یَنصُرُهُ، وَمَن یُستَشهدُ مَعَهُ، فَبَکَیٰ بُکَاءً شَدِیداً وَأبکَانِی. فَکَانَ فِیمَا قَرَأَهُ عَلَیَّ کَیفَ یُصنَعُ بِهِ وَکَیفَ یُستَشهَدُ فَاطِمَةُ وَکَیفَ یُستَشهَدُ الحَسَنُ ابنُهُ وَکَیفَ تَغدِرُ بِهِ الأمَّةُ، فَلَمَّا أن قَرَأ کَیفَ یُقتَلُ الحُسَینُ وَمَن یَقتُلُهُ أکثَرَ البُکَاء...»(1).
هذه الروایة أخرجها سلیم بن قیس فی کتابه، وهو من الرواة الثقات، وکتابه من
ص: 81
الأُصول المعتبرة(1). أمّا الذی روی عنه سلیم وهو ابن عبّاس (عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب) فقد قال المحقِّقون: بأنّه إمامی ثقة جلیل(2). إذاً، الروایة معتبرة من ناحیة السند.
أبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: مَرَّ أمِیرُ المُؤمِنیِن(علیه السّلام) بِکَربَلاء فِی أُنَاسٍ مِن أصحَابِهِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهَا اغرَورَقَت(1) عَینَاهُ بِالبُکَاءِ ثُمَّ قَالَ: ... هَذَا مُلقی رِحَالِهِم وهُنَا تُهرَقُ دِمَاؤهُم...»(2).
فی سند هذه الروایة سعد بن عبد الله وأحمد بن محمد بن عیسی، وهما ثقتان جلیلان، أمّا جعفر بن محمد بن عبید الله الأشعری، فلیس له توثیقٌ خاصّ فی کتب الرجال. ولکن هناک قرائن علی وثاقته کما مرّت فی هامش سند الروایة. وبالتالی؛ هذه الروایة معتبرةٌ من ناحیة السند.
أبِی(1) عَن مُحَمَّدِ بنِ زِیَادِ الأزدِی (مُحَمّدِ بنِ أبِی عُمَیر زِیَادٍ)، عَن حَمزَةِ بنِ حِمرَان(2)، عَن أبِیهِ حِمرَانِ بنِ أعیَن، عَن أبِی جَعفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلیٍّ البَاقِرِ(علیهماالسّلام) قَالَ: کَانَ عَلِیُّ بنُ الحُسَینِ(علیهماالسّلام) یُصَلِّی فِی الیَومِ وَاللَّیلَةِ ألفَ رَکعَةٍ... وَلَقَد کَانَ بَکَیٰ عَلَی أبِیهِ الحُسَینِ(علیه السّلام) عِشرِینَ سَنَةٍ، وَمَا وُضِعَ بَینَ یَدَیهِ طَعَامٌ إلاَّ بَکَیٰ؛ حَتّیٰ قَالَ لَهُ مَولَی لَهُ: یَا بنَ رَسُولِ اللهِ، أمَا أنَ لِحُزنِکَ أن یَنقَضِی؟ فَقَالَ لَهُ: وَیحَکَ! إنَّ یَعقُوبَ النَّبِیّ(علیه السّلام) کَانَ لَهُ اثنَا عَشَرَ ابناً فَغَیَّبَ اللهُ عَنهُ وَاحِداً مِنهُم فَابیَضَّت عَینَاهُ مِن کَثرَةِ بُکَائِهِ عَلَیهِ وَشَابَ رَأسُهُ مِنَ الحُزنِ وَاحدَودَبَ ظَهرُهُ مِنَ الغَمِّ وَکَانَ ابنُهُ حَیّاً فِی الدُّنیَا، وَأَنَا نَظَرتُ إِلَی أَبِی وَأَخِی وَعَمِّی وَسَبعَة عَشَرَ مِن أَهلِ بَیتِی مَقتُولِینَ حَولِی، فَکَیفَ یَنقَضِیَ حُزنِی؟!»(3).
بعض رجال السند إمامیون ثقات، بل بعضهم من أصحاب الإجماع نظیر محمّد بن
ص: 84
زیاد الأزدی. ورغم ذلک یوجد فی سند الروایة مَن لیس لهم توثیق فی کتب الرجال وهم: المظفر بن جعفر، وجعفر بن محمد، ومحمد بن خالد الطیالسی، وحمزة بن حمران. ولکن هناک قرائن علی وثاقتهم، وقد مرّت فی هامش سند الروایة، وإذا جمعنا هذه القرائن یمکن القول: بأنّهم ثقات علی التحقیق. وبالتالی؛ تکون هذه الروایة معتبرة من ناحیة السند.
«حَدّثَنِی مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ، عَن مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ الصَّفَّارِ، عَن أَحمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عِیسَی، عَن مُحَمَّدِ بنِ خَالِدِ البَرقِیِّ(1)، عَن أَبَانِ الأَحمَرِ، عَن مُحَمَّدِ بنِ الحُسَینِ الخَزَّاز(2)، عن هَارُون بنِ خَارِجَةِ عَن أَبِی عَبدِ الله(علیه السّلام)، قَالَ: کُنَّا عِندَهُ فَذَکَرنَا الحُسَین(علیه السّلام) وَعَلَی قَاتِلِهِ لَعنَةُ اللهِ فَبَکَی أَبُو عَبدِ الله(علیه السّلام) وَبَکَینَا، قَالَ: ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَقَالَ: قَالَ الحُسَینُ(علیه السّلام): أَنَا قَتِیلُ العَبرَةِ لَا یَذکُرُنِی مُؤمِنٌ إِلّا بَکَی»(3).
ص: 85
کلّ رجال السند ثقات إلّا محمّد بن خالد البرقی ومحمّد بن الحسین بن کثیر الخزّاز، فالأوّل مختلَف فیه والثانی لم یُذکر اسمه فی کتب الرجال. ولکن یمکن توثیقهما اعتماداً علی القرائن المذکورة التی مرّت فی هامش سند الروایة، وبالتالی نقول: إنّ سند الروایة خالٍ من العلّة والروایة معتبرة.
«حَدّثَنَا جَعفَرُ بنُ مُحَمّدِ بنِ مَسرُورٍ(رحمه الله) قَالَ: حَدّثَنَا الحُسَینُ بنُ مُحَمّدِ بنِ عَامِر، عَن عَمّهِ عَبدِ الله بنِ عَامِر، عَن إبرَاهِیم بنِ أبِی مَحمُودٍ، قَالَ: قَالَ الرّضَا(علیه السّلام): ... إِنَّ یَومَ الحُسَینِ(علیه السّلام) أَقرَحَ جُفُونَنَا وَأَسبَلَ دُمُوعَنَا وَأَذَلَّ عَزِیزَنَا بِأَرضِ کَربٍ وَبَلَاءٍ... ثُمَّ قَالَ(علیه السّلام): کَانَ أَبِی(علیه السّلام) إِذَا دَخَلَ شَهرُ المُحَرَّمِ لَا یُرَیٰ ضَاحِکاً، وَکَانَتِ الکَآبَةُ تَغلِبُ عَلَیهِ حَتَّیٰ یَمضِیَ مِنهُ عَشرَةُ أَیَّامٍ، فَإِذَا کَانَ یَومُ العَاشِرِ کَانَ ذَلِکَ الیَومُ یَومَ مُصِیبَتِهِ وَحُزنِهِ وَبُکَائِهِ، وَیَقُولُ: هُوَ الیَومُ الَّذِی قُتِلَ فِیهِ الحُسَین(علیه السّلام)»(1).
رغم أنّ جمیع رجال الروایة إمامیون ثقات إلّا أنّ السیّد الخوئی قال فی حقّ جعفر بن محمد بن مسرور: «جعفر بن محمد بن مسرور: من مشایخ الصدوق، وقد ترحّم علیه... أقول: لا دلالة فی شی ء من ذلک، علی وثاقة الرجل ولا علی حسنه»(2). ولکنّه من
ص: 86
مشایخ الإجازة، وقد ذهب البعض إلی توثیق مشایخ الإجازة بشکل مطلق؛ وبالتالی یُعتبر هذا الروای ثقة حسب مذهبه.
إذا دقّقنا فی هذه الروایات ونظائرها یتبیّن أنّ الأئمة المعصومین کأمیرالمؤمنین والإمام الرضا وأبیه الإمام الکاظم(علیهم السّلام) بکوا جمیعاً علی مصائب الإمام الحسین(علیه السّلام) وأقاموا العزاء علیه بالبکاء، بل وهناک روایات تتکلّم عن بکاء أمیرالمؤمنین(علیه السّلام) علی مصائب السیّدة الزهراء والإمام الحسن(علیهماالسّلام). بالتالی؛ هذه الروایات تفید بأنّ إقامة العزاء علی مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) ولا سیّما الإمام الحسین(علیه السّلام) جزء من سیرة المعصومین(علیهم السّلام) وسنّتهم.
النتیجة: کما ذکرنا سابقاً هناک خمس روایات فی القسم الثانی، ویصحّ الاستدلال بها لإثبات بکاء المعصومین علی أهل البیت(علیهم السّلام) .
مضافاً إلی الروایات التی مرّت بنا فی جواز البکاء علی المعصومین(علیهم السّلام) خاصّة، فهناک روایات کثیرة تدلّ علی جواز البکاء علی المیت مطلقاً، وهی روایات کثیرة جدّاً إلی درجة أنّ الشیخ محمد تقی الآملی قال بوجود التواتر المعنوی فی روایات جواز البکاء علی المیت(1)، وسنحقّق هذه الروایات فی المباحث القادمة(2). وبما أنّ هذه الروایات مطلقة فهی تشمل المعصومین(علیهم السّلام) أیضاً، أی: إنّ هذه الروایات المتواترة تدلّ
ص: 87
علی جواز البکاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ؛ لأنّ إطلاقها یعم الحکم علی المعصومین(علیهم السّلام) وغیرهم.
إنّ التباکی من مصادیق إقامة العزاء علی مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) ، وقد صرّحت الروایات بهذا الأمر(1)، والتباکی هو تکلّف البکاء وتقمّص حالة البکاء، فإذا لم یستطِع المتفجّع أن یبکی عند ذکر مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) فیُستحسن له أن یتقمّص حالة الباکین ومظهرهم (کأن یضع یده علی عینیه ویُطرق برأسه) ویتکلّف البکاء.
نکتفی بذکر روایتین من الطائفة الثانیة.
«عِدَّةٌ مِن أَصحَابِنَا، عَن سَهلِ بنِ زِیَادٍ(2)، عَن أَحمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَبِی نَصرٍ وَالحَسَنِ بنِ
ص: 88
عَلِیٍّ(1) جَمِیعاً، عَن أَبِی جَمِیلَةٍ(2)، عَن جَابِرٍ(3)، عَن أَبِی جَعفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ: قُلتُ: لَهُ مَا الجَزَعُ؟ قَالَ: أَشَدُّ الجَزَعِ الصُّرَاخُ بِالوَیلِ وَالعَوِیلِ وَلَطمُ الوَجهِ وَالصَّدرِ وَجَزُّ الشَّعرِ مِنَ النَّوَاصِی...»(4).
یوجد فی سند هذه الروایة رواة اختلف الفقهاء فی وثاقتهم، ولکن یمکن الاستعانة بالقرائن التی مرّت فی هامش سند الروایة لتصحیحه؛ وبالتالی تکون الروایة معتبرة.
ص: 89
اعتبر الإمام الصادق(علیه السّلام) فی هذه الروایة أنّ لطم الوجه أحد مصادیق الجزع، وإذا ضممنا هذه الروایة إلی صحیحة معاویة بن وهب نتوصّل إلی جواز ضرب الجسد (اللطم) فی مصیبة الإمام الحسین(علیه السّلام).
«الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِیُّ فِی أَمَالِیهِ، عَن أَبِیهِ (مُحَمّدِ بنِ الحَسَنِ بنِ عَلِی الطُّوسی)، عَنِ المُفِیدِ، عَنِ ابنِ قُولَوَیهِ، عَن أَبِیهِ، عَن سَعدٍ(سَعدِ بنِ عَبدِ اللهِ القُمّی)، عَن أَحمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الحَسَنِ بنِ مَحبُوبٍ، عَن أَبِی مُحَمَّدٍ الأَنصَارِیِّ، عَن مُعَاوِیَةَ بنِ وَهبٍ، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) فِی حَدِیثٍ قَالَ: کُلُّ الجَزَعِ وَالبُکَاءِ مَکرُوهٌ سِوَی الجَزَعِ وَالبُکَاءِ عَلَی الحُسَینِ(علیه السّلام)»(1).
هذه الروایة تدلّ بوضوح علی أنّ لطم الوجه من مصادیق الجزع، وإذا ضممنا هذه الروایة إلی صحیحة معاویة بن وهب، یتّضح أنّ ضرب الجسد (اللطم) فی مصیبة الإمام الحسین(علیه السّلام) جائز.
«وَذَکَرَ أَحمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدَ القُمِّیِّ فِی نَوَادِرِهِ، قَالَ: رَوَی مُحَمَّدُ بنُ عِیسَی (بنِ عُبَیدٍ) عَن أَخِیهِ جَعفَرِ بنِ عِیسَی، عَن خَالِدِ بنِ سَدِیر أَخِی حَنَانِ بنِ سَدِیر، قَالَ: سَأَلتُ أَبَا عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) عَن رَجُلٍ شَقَّ ثَوبَهُ عَلَی أَبِیهِ... فَقَالَ: لاَ بَأسَ بِشَقِّ الجُیُوبِ قَد شَقَّ مُوسَی بنُ عِمرَان(علیهماالسّلام) عَلَی أَخِیهِ هَارُون(علیه السّلام)... وَقَد شَقَقنَ الجُیُوبَ وَلَطَمنَ الخُدُودَ الفَاطِمِیَّاتُ عَلَی الحُسَینِ بنِ عَلِیٍّ(علیهماالسّلام)، وَعَلَی مِثلِهِ تُلطَمُ الخُدُودُ وَتُشَقُّ الجُیُوبُ»(1).
لا علّة فی سند هذه الروایة إلّا وجود خالد بن سدیر، فهو لم یوثّق فی کتب الرجال إلّا أنّ السیّد الخوانساری قال فی کتابه جامع المدارک: «ولا شی ء فی اللّطم علی الخدود سوی الاستغفار والتوبة... المنجبر بالعمل»(2). وکما هو ثابت فی علم الأُصول ومشهور بین الفقهاء، فإنّ ضعف السند ینجبر بعمل الأصحاب. إذن؛ لا مشکلة فی هذا السند والروایة معتبرة.
لقد صرّحت هذه الروایة بجواز اللطم، واستشهد الإمام(علیه السّلام) بما فعله أهل بیت
ص: 91
الإمام الحسین(علیه السّلام) حیث إنّهن لطمنَ علی الإمام الحسین(علیه السّلام)، ولو کان اللطم حراماً لما ذکره الإمام فی مقام الاستشهاد والتأیید.
إشکال: رُوی فی کتب المقاتل أنّ سیّد الشهداء(علیه السّلام) أوصی أُخته السیدة زینب(علیهاالسّلام) وأهل بیته قائلاً:
«یَا أُختَاهُ، یَا أُمَّ کُلثُوم، وَأنتَ یَا زَینَبُ، وَأنتَ یَا فَاطِمَةُ، وَأنتَ یَا رُبَابُ، اُنظُرنَ إذَا أنَا قُتِلتُ فَلاَ تَشقُقنَ عَلَیَّ جَیباً، وَلاَ تَخمِشنَ عَلَیَّ وَجهاً»(1).
أوّلاً: هذه الروایة لیست مسندة، فضلاً عن کونها معتبرة، فما ذُکر فی المقاتل مرسل، وإذا کانت عندنا روایة معتبرة تدلّ علی الجواز فلا یُلتفت إلی کلام یفتقد السند.
ثانیاً: لو فُرضت صحّة هذه الروایة وتعارضت مع الروایة التی ذکرناها فمقتضی القاعدة أن نحمل روایة النهی علی عدم إظهار الذلّة أمام الأعداء، وهذا لا یضرّ ببحثنا، أی: أصل جواز إقامة العزاء باللطم.
کما أنّ هناک روایات تدلّ علی استحباب إقامة العزاء، بل وتؤکّد استحبابها وسنذکرها فی النظریتین الثانیة والثالثة، وهذه الروایات لها دلالة التزامیة علی جواز إقامة العزاء؛ لأنّ الاستحباب والاستحباب المؤکّد یتفرعان علی الجواز.
النتیجة: ذکرنا فی الطائفة الثانیة روایتین معتبرتین لا مشکلة سندیة فیهما؛ وبالتالی یصح التمسّک بهما.
ص: 92
لقد ذکر الدلیل علی النظریة الأُولی (جواز إقامة العزاء) بثلاثة مواضع من کلام الفقهاء (صوم عاشوراء، البکاء فی الصلاة، ولبس السواد)، کما ذکرنا لها دلیلاً من القرآن الکریم ودلالته تامّة، وأشرنا إلی طائفتین من الروایات التی تدلّ علی أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وبعض أهل بیته(علیهم السّلام) أقاموا العزاء علی سائر المعصومین(علیهم السّلام) بالبکاء والجزع واللطم و... إذن؛ نستنتج أنّ إقامة العزاء علی المعصوم(علیه السّلام) جائز.
ذهب کثیر من الفقهاء إلی أنّ البکاء علی مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) مستحب، فهو نوع من إقامة العزاء علیهم. قال الحرّ العاملی فی هدایة الأُمّة: «یستحبّ البکاء لمصابهم(علیهم السّلام) »(1). کما أفرد لهذا الموضوع باباً فی وسائل الشیعة یحمل عنوان: «بَابُ اسْتِحْبَابِ الْبُکَاءِ لِقَتْلِ الحُسَیْن(علیه السّلام) وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الْبَیْتِ(علیهم السّلام) »(2).
قال المولی محمد النراقی فی کتاب مشارق الأحکام: «ما ورد فی متظافرة الأخبار، من استحباب البکاء والإبکاء علی الحسین(علیه السّلام)»(3). کما قال الملّا حبیب الله الکاشانی فی کتاب ذریعة الاستغناء: «البکاء علی الحسین(علیه السّلام) وسائر المظلومین من أهل البیت(علیهم السّلام) وأصحابهم والتفجّع فی مصائبهم ورزایاهم أمر مطلوب شرعاً؛ لتواتر الأخبار بالحثّ علیه»(4). ویظهر من قوله: «مطلوب شرعاً» أنّه یعتبر البکاء مستحبّاً.
ص: 93
وقال المحدّث البحرانی فی الحدائق ما نصّه: «لیس فی شی ء من أفراد البکاء ما یوجب الثواب الجزیل والأجر الجمیل مثل البکاء علیه والبکاء علی آبائه وأبنائه(علیهم السّلام) »(1).
وقال آل عصفور البحرانی فی کتاب سداد العباد، باب مبطلات الصلاة: «الأوّل: فی مبطلاتها... والبکاء علی میّت، ما لم یکن مندوباً للبکاء علیه کالبکاء علی الحسین(علیه السّلام) ومَن ضاهاه، فهو کالبکاء من خشیة الله فی الثواب والأجر»(2).
وقال المولی أحمد النراقی فی مستند الشیعة ما نصّه: «ما فی بعض أخبارنا من أنّ کلّ بکاء مکروه سوی البکاء علی الحسین(علیه السّلام) مبالغة فی عظم أجره»(3). ویُستفاد من کلامه أنّ البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) مستحبّ؛ لأنّه قال: «مبالغة فی عظم أجره». وإذا ترتّب الثواب علی عمل رغم عدم وجوبه، فنستنتج أنّه مستحبّ.
قال کاشف الغطاء: «وأحسن الأعمال وأنزهها فی ذکری الحسین السبط(علیه السّلام) هو النیاحة والندبة والبکاء لریحانة الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )»(4). وظاهر هذه العبارة أنّ البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) مستحبّ.
ولقد عقد العلّامة المجلسی باباً فی کتاب بحار الأنوار لاستحباب البکاء علی الإمام الحسین وسائر المعصومین(علیهم السّلام) وسمّاه: «باب ثواب البکاء علی مصیبته ومصائب سائر الأئمة(علیهم السّلام) ...»(5). ثمّ قال بعد نقل أحد الأحادیث بأنّه: «ویدلّ علی استحباب النوحة»(6).
ص: 94
وکما سیأتی فی المباحث القادمة، فقد قالت جماعة من العلماء: بأنّ البکاء علی المیّت المؤمن مستحبّ، وفی المورد الذی تکون المصیبة سبباً لشدّة الحزن والبکاء مسکناً للحزن(1). منهم العلّامة المجلسی فی بحار الأنوار(2)، الحرّ العاملی فی هدایة الأُمّة(3) ووسائل الشیعة(4)، والشیخ محمد حسن النجفی فی نجاة العباد(5)، والنراقی فی مستند الشیعة(6)، والسید الیزدی فی العروة(7).
ویتّضح من کلمات هؤلاء العظام أنّ البکاء علی الأئمة(علیهم السّلام) مستحبّ بطریق أوْلی؛ لأنّهم المصداق الحقیقی للمؤمن، وکذلک الحزن علیهم ولا سیّما الإمام الحسین(علیه السّلام) شدید جدّاً؛ لأنّهم أرکان الدین وقُتلوا مظلومین واستُشهدوا بأُسلوب فظیع.
استدلّ العلماء بمجموعة من الآیات والروایات لاستحباب البکاء علی المعصومین(علیهم السّلام) :
نذکر آیتین من القرآن الکریم لإثبات استحباب إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) :
ص: 95
«ذَلِکَ وَمَنْ یُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ » (1).
أوّلاً: لا بدّ من بیان مقدّمة: وردت کلمة: «حُرُماتِ» فی هذه الآیة الشریفة وهی جمع الحرمة، وقد جاء فی لسان العرب: «الحُرُماتُ جمع حُرْمَة... الحُرْمَةُ: ما لا یَحِلُّ لک انتهاکه»(2).
ولقد ذکرت کتب التفسیر روایة فی ذیل هذه الآیة، فیها یسأل الراوی عن معنی الحرمات فی هذه الآیة الشریفة فیقول(علیه السّلام): «هی ثلاث حرمات واجبة، فمن قطع منها حرمة فقد أشرک بالله. الأُولی: انتهاک حرمة الله فی بیته الحرام، والثانیة: تعطیل الکتاب والعمل بغیره، والثالثة: قطیعة ما أوجب الله من فرض مودتنا وطاعتنا»(3).
إذن؛ یتّضح من هذه الروایة أنّ محبّة ومودّة أهل البیت(علیهم السّلام) من حرمات الله، بمعنی أنّه لا یجوز انتهاک حرماتهم، وقطع مودّتهم موجبٌ للشرک.
ونقول علی ضوء هذه المقدّمة: من جهة أنّ مودّة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأهل بیته(علیهم السّلام) من الأُمور التی یعتبرها الإسلام من حرمات الله ولا یجوز انتهاکها. ومن جهة أُخری تدلّ الآیة الشریفة علی استحباب تعظیم حرمات الله، لإطلاق الخیر علیه، وبالتالی یستحبّ تعظیم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأهل بیته(علیهم السّلام) ومودّتهم.
ولا شکّ فی أنّ إقامة العزاء علی الأئمة(علیهم السّلام) تُعتبر تعظیماً لهم وتعبیراً عن حبّنا
ص: 96
ومودّتنا لهم. فبکاؤنا علی مصائب المعصومین(علیهم السّلام) هو فی الواقع احترامهم وتعظیمهم وتعبیر عن حبّنا لهم؛ فنستنتج من هذه الآیة الکریمة أنّ إقامة العزاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) مستحبّ شرعاً.
« قُلْ لَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی » (1).
کلمة «المودّة» مشتقّة من مادّة (ودد) وتعنی المحبّة(2)، هذه الآیة الکریمة تبیّن لنا أنّ أجر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مودّة أهل بیته(علیهم السّلام) ، وهو أمرٌ محبوب عند الله، ولا شکّ فی أنّ إقامة العزاء فی مصائب أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) من أظهر مصادیق المودّة لهم، وبتعبیرٍ آخر: إنّنا نواسی أهل بیت النبی(علیهم السّلام) بإقامة العزاء؛ لأنّنا نحبّهم ونرید أن نعبّر عن مودّتنا لهم.
وعلی ضوء ذلک؛ فإنّ إقامة العزاء من مظاهر المودّة لأهل البیت(علیهم السّلام) وهو أمر محبوب عند الله تعالی وله رجحان، وهکذا تدلّ الآیتان المذکورتان بوضوح علی استحباب إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) .
استدلّ بطوائف من الروایات لإثبات استحباب إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) :
ص: 97
نکتفی بذکر روایة صحیحة واحدة من هذه الطائفة:
سبق الکلام فی صحیحة معاویة (1)، وقد بحثناها من ناحیة السند وقلنا: إنّها روایة صحیحة السند(2).
استدلّ النراقی بهذه الروایة فی کتابه مستند الشیعة، حیث قال: «ما فی بعض أخبارنا من أنّ کلّ بکاء مکروه سوی البکاء علی الحسین(علیه السّلام) مبالغة فی عظم أجره»(3).
ولا یخفی أنّ هذا الاستنباط لا یصحّ إلّا إذا فسّرنا الروایة اعتماداً علی روایات أُخری، فهذه الروایة وحدها لا تدلّ علی الاستحباب وعظم الأجر، نعم إذا لاحظنا هذه الروایة مع سائر الروایات الواردة فی إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) نستنتج أنّها لیست مکروهة فحسب، بل مستحبّة أیضاً.
تدلّ صحیحة معاویة بن وهب مع سائر الروایات علی جواز البکاء والجزع علی الإمام الحسین(علیه السّلام) بل واستحبابهما. والسؤال المطروح هنا: ما هو حدّ الجزع ومقداره؟
وقد جاء الجواب عن هذا السؤال فی روایة جابر عن الإمام الباقر(علیه السّلام).
ص: 98
سبق البحث فی سند روایة جابر(1)، واتضح أنّها روایة معتبرة السند(2).
هذه الروایة تدلّ بوضوح علی أنّ الجزع هو الصراخ بالویل والحزن والبکاء ولطم الوجه والصدر وجزّ الشعر من النواصی. فإذا ضممنا هذه الروایة إلی الروایات الدالّة علی جواز الجزع نستنتج أنّ جمیع هذه الأعمال جائزة عند إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام)، بل ومستحبّة أیضاً.
النتیجة: استدللنا بروایة صحیحة واحدة من الطائفة الأُولی، ودلالتها علی الاستحباب تامّة.
نکتفی بذکر روایة صحیحة واحدة من هذه الطائفة أیضاً:
«حَدّثَنِی مُحَمَّدُ بنُ مَسعُودٍ، قَالَ: حَدّثَنِی عَبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الوَشَّاءِ، قَالَ: حَدّثَنَا عَلِیُّ بنُ عُقبَةٍ عَن أَبِیهِ قَالَ: قُلتُ لِأَبِی عَبدِ الله(علیه السّلام): إِنَّ لَنَا خَادِماً لَا تَعرِفُ مَا نَحنُ عَلَیهِ فَإِذَا أَذنَبَت ذَنباً وَأَرَادَت أَن تَحلِفَ بِیَمِینٍ قَالَت: لاَ! وَحَقِّ الَّذِی إِذَا ذَکَرتُمُوهُ بَکَیتُم. قَالَ: فَقَالَ:
رَحِمَکُمُ الله مِن أَهلِ البَیت»(3).
ص: 99
جمیع رواة السند من الإمامیین الثقات، ولا مشکلة سندیة فیها.
ظاهر الروایة أنّ الذی یُبکی علیه هو الإمام الحسین(علیه السّلام) والإمام الصادق(علیه السّلام) یدعو لهم. وهذا نوع من التأیید والتقریر لفعلهم.
إذن؛ الإمام(علیه السّلام) أیّد إقامة العزاء ودعا لمَن یقیمون العزاء، وهذا الدعاء یدلّ علی استحباب فعلهم، وإلّا فما معنی أن یدعو الإمام(علیه السّلام) لشخص لأنّه قام بفعل مباح؟!
النتیجة: ذکرنا روایة صحیحة السند من الطائفة الثانیة، ودلالة هذه الروایة علی الاستحباب تامة.
نکتفی فی الطائفة الثالثة بذکر ثمان روایات تدلّ علی ثواب البکاء:
یَا بنَ شَبِیبٍ، إِن کُنتَ بَاکِیاً لِشَی ءٍ فَابکِ لِلحُسَینِ بنِ عَلِیِّ بنِ أَبِی طَالِبٍ(علیهماالسّلام)؛ فَإِنَّهُ ذُبِحَ کَمَا یُذبَحُ الکَبشُ... یَا بنَ شَبِیبٍ، إِن بَکَیتَ عَلَی الحُسَین(علیه السّلام) حَتَّی تَصِیرَ دُمُوعُکَ عَلَی خَدَّیکَ غَفَرَ اللهُ لَکَ کُلَّ ذَنبٍ أَذنَبتَهُ، صَغِیراً کَانَ أَو کَبِیراً قَلِیلاً کَانَ أَو کَثِیراً... یَا بنَ شَبِیبٍ، إِن سَرَّکَ أَن تَکُونَ مَعَنَا فِی الدَّرَجَاتِ العُلَی مِنَ الجِنَانِ فَاحزَن لِحُزنِنَا وَافرَح لِفَرَحِنَا...»(1).
لا توجد علّة فی سند هذه الروایة، ولکن هناک بحث فی اثنین من الرواة، الأوّل محمّد بن علی ماجیلویه الذی اختُلف فی وثاقته، والثانی إبراهیم بن هاشم الذی لا یوجد نصّ خاصّ فی توثیقه. ولکن کما قلنا فی هامش سند الروایة: إنّ هناک قرائن یمکن الاعتماد علیها لتوثیق هذین الراویین.
«حَدّثَنَا مُحَمّدُ بنُ إبرَاهِیم بنِ إسحَاقِ (الطّالِقَانِی)(2)، قَالَ: أخبَرَنَا أحمَدُ بنُ مُحَمّدِ
ص: 101
الهَمِدَانِیّ(1)، عَن عَلِی بنِ الحَسَنِ بنِ عَلِی بنِ فَضّالٍ(2)، عَن أبِیه(3)، عَن أبِی الحَسَنِ عَلِی بنِ مُوسَی الرّضَا(علیهماالسّلام) قَالَ: ... وَمَن کَانَ یَومُ عَاشُورَاء یَومَ مُصِیبَتِه وَحُزنِهِ وَبُکَائِهِ جَعَلَ اللهُ(عزوجل) یَومَ القِیَامَةِ یَومَ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ...»(4).
لا علّة فی سند هذه الروایة، ولکن هناک خلاف فی بعض رواتها، وکما قلنا فی سند الروایة السابقة: هناک قرائن تفید وثاقتهم. إذن؛ لا علّة فی سند الروایة، وهی روایة معتبرة.
«حَدّثَنَا مُحَمّدُ بنُ إبرَاهِیم بنِ إسحَاقِ(رحمه الله)، قَالَ: أخبَرَنَا أحمَدُ بنُ مُحَمّدِ الهَمِدَانِیّ عَن عَلِی بنِ الحَسنِ بنِ عَلِی بنِ فَضّالِ، عَن أبِیهِ قَالَ: قَالَ الرّضَا(علیه السّلام): مَن تَذَکّرَ مُصَابَنَا وَبَکَی لِمَا ارتُکِبَ مِنّا کَانَ مَعَنَا فِی دَرَجَتِنَا یَومَ القِیَامَةِ، وَمَن ذُکِّرَ بِمُصَابِنَا فَبَکَی وَأبکَی لَم تَبکِ عَینُهُ یَومَ تَبکِی العُیوُن...»(5).
سند هذه الروایة کسند الروایة الثانیة تماماً. إذن؛ الکلام الذی قلناه هناک ینطبق علی
ص: 102
هذا السند أیضاً، فلا مشکلة فی السند والروایة معتبرة.
مُسلِمٍ، عَن أبِی عَبد اللهِ(علیه السّلام)، قَالَ: حَدّثَنِی أبِی(علیه السّلام)، عَن جَدّی(علیه السّلام)، عَن آبَائِه(علیهم السّلام) : أنّ أمِیرَ المُؤمِنِین(علیه السّلام) عَلَّمَ أَصحَابَهُ فِی مَجلِسٍ وَاحِدٍ أَربَعَمِائَةِ بَابٍ مِمَّا یَصلُحُ لِلمُؤمِنِ فِی دِینِهِ ودُنیَاهُ قَالَ(علیه السّلام): ... کُلُّ عَینٍ یَومَ القِیَامَةِ بَاکِیَةٌ وَکُلُّ عَینٍ یَومَ القِیَامَةِ سَاهِرَةٌ (1) إِلاَّ عَینَ مَنِ اختَصَّهُ اللهُ بِکَرَامَتِهِ وَبَکَی عَلَی مَا یُنتَهکُ مِنَ الحُسَینِ(علیه السّلام) وآلِ مُحَمَّد(علیهم السّلام) ...»(2).
فی سند هذه الروایة محمّد بن عیسی بن عبید، والقاسم بن یحیی بن الحسن، والحسن بن راشد مولی بنی العبّاس، وقد وردت فیهم تضعیفات، إلّا أنّ هناک قرائن یمکن الاعتماد علیها لتوثیقهم، فعلی ضوء القرائن التی مرّت فی هامش سند الروایة لا مشکلة فی هذا السند والروایة معتبرة.
«حَدّثَنِی الحَسَنُ بنُ عَبدِ الله بنِ مُحَمّدِ بنِ عِیسیَ، عَن أبِیهِ(3)، عَنِ الحَسَنِ بنِ مَحبُوبٍ، عَن
ص: 104
العَلاءِ بنِ رَزِینٍ، عَن مُحَمّدِ بنِ مُسلِمٍ، عَن أبِی جَعفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ: کَانَ عَلِیُّ بنُ الحُسَینِ(علیهماالسّلام) یَقُولُ: أَیُّمَا مُؤمِنٍ دَمَعَت عَینَاهُ لِقَتلِ الحُسَینِ بنِ عَلِی(علیهماالسّلام) دَمعَةً حَتَّی تَسِیلَ عَلَی خَدِّهِ بَوَّأَهُ اللهُ بِهَا فِی الجَنَّةِ غُرَفاً یَسکُنُهَا أَحقَاباً، وَأَیُّمَا مُؤمِنٍ دَمَعَت عَینَاهُ دَمعاً حَتَّی یَسِیلَ عَلَی خَدِّهِ لِأَذیً مَسَّنَا مِن عَدُوِّنَا فِی الدُّنیَا بَوَّأَهُ اللهُ مُبَوَّأَ صِدق ٍ...»(1).
إنّ رواة السند کلّهم إمامیون ثقات، بل إنّ بعضهم من أصحاب الإجماع(2)؛ لأنّ
ص: 105
الحسن بن عبد الله من مشایخ ابن قولویه بلا واسطة، وهو شهد بوثاقة جمیع مشایخه بلا واسطة. ولکن یوجد فی السند راوٍ واحد قد یشکّل علّة للسند، وهو عبد الله بن محمّد والد الحسن بن عبد الله، حیث لم یرد فیه توثیق خاص فی کتب الرجال. ولکن کما مرّ فی هامش سند الروایة توجد قرائن تدلّ علی وثاقته. إذن؛ هذه الروایة معتبرة السند.
«حَدّثَنَا عَلِیُّ بنُ أحمَدِ بنِ مُوسَی الدّقَاقِ(رحمه الله)، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بنُ أبِی عَبدِ اللهِ الکُوفِیّ، قَالَ: حَدّثَنَا مُوسَی بنُ عِمرَانِ النّخَعِی، عَن عَمّهِ الحُسَینِ بنِ یَزیِدِ النّوفِلِیّ، عَن الحَسَنِ بنِ عَلِی بنِ أبِی حَمزَةٍ، عَن أبِیهِ، عَن سَعیدِ بنِ جُبَیرٍ، عَن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ: إنّ رَسُولَ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کَانَ جَالِساً ذَاتَ یَومٍ إذ أقبَلَ الحَسَنُ(علیه السّلام) فَلمّا رَآهُ بَکَی ثُمّ قَالَ: ... وأمّا الحَسَنُ(علیه السّلام)... فَمَن بَکَاهُ لَم تَعمَ عَینُهُ یَومَ تَعمَی العُیُونُ، وَمَن حَزِنَ عَلَیهِ لَم یَحزَن قَلبُهُ یَومَ تَحزَنُ القُلُوب...»(1).
فی سند هذه الروایة الحسن بن علی بن أبی حمزة، وهو لم یوثّق(2).
«حَدّثَنِی أبِی، عَن سَعدِ بنِ عَبدِ اللهِ، عَن الحَسَنِ بنِ مُوسَی الخَشّابِ، عَن إسمَاعِیلِ بنِ مِهرَان، عَن عَلِی بنِ أبِی حَمزَةٍ، عَن أبِی بَصِیرٍ، قَالَ: قَالَ أبُو عَبدِ الله(علیه السّلام): قَالَ الحُسَینُ بنُ عَلیٍ(علیهماالسّلام): أَنَا قَتِیلُ العَبرَةِ لاَ یَذکُرُنِی مُؤمِنٌ إِلاَّ استَعبَرَ»(3).
ص: 106
فی سند هذه الروایة الحسن بن موسی الخشّاب، ولم یرد فیه توثیق.
«حَدّثَنَا جَعفَرُ بنُ مُحَمّدِ بنِ مَسرُورٍ(رحمه الله)، قَالَ: حَدّثَنَا الحُسَینُ بنُ مُحَمّدِ بنِ عَامِرٍ، عَن عَمّهِ عَبدِ الله بنِ عَامِر (الأشعَرِی)، عَن إبرَاهِیمَ بنِ أبِی مَحمُودٍ، قَالَ: قَالَ الرّضَا(علیه السّلام): ... فَعَلَی مِثلِ الحُسَینِ(علیه السّلام) فَلیَبکِ البَاکُونَ؛ فَإِنَّ البُکَاءَ یَحُطُّ الذُّنُوبَ العِظَامَ»(1).
کلّ رجال هذه الروایة إمامیون ثقات، إلّا جعفر بن محمّد بن مسرور، وقد سبق الکلام عنه(2). وطبقاً لما ذهب إلیه البعض یمکن الاعتماد علی الروایات الثلاث الأخیرة کمؤیّد للروایات السابقة.
تدلّ الروایة الثالثة والرابعة والخامسة علی أنّ للبکاء فی مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) أجراً عظیماً. کما أنّ الروایة الأُولی والثانیة والسابعة والثامنة تبیّن أجر البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) بالذات. أمّا الروایة السادسة فتشیر إلی ثواب البکاء علی الإمام الحسن(علیه السّلام).
إذن؛ یمکن الاستنتاج من هذه الروایات أنّ البکاء علی مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) لیس جائزاً فحسب، بل له أجر وثواب عظیم؛ وبالتالی یکون مستحباً أیضاً.
ص: 107
النتیجة: لقد ذکرنا فی الطائفة الثالثة ثمان روایات وأسناد الروایات الخمس الأُولی خالیة من العلّة، ویمکن الاعتماد علیها، کما أنّ دلالة جمیع هذه الروایات الثمانیة علی ثواب البکاء علی المعصومین(علیهم السّلام) تامّة، فالاستدلال بها صحیح، والروایات الثلاث الأخیرة خیر مؤیّد للمطلب.
الطائفة الرابعة من الروایات تدلّ علی تأیید إقامة مجلس العزاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) وسنکتفی بذکر روایتین:
عَلِیِّ بنِ فَضَّالٍ عَن أَبِیهِ(1) قَالَ: قَالَ الرِّضَا(علیه السّلام): مَن تَذَکَّرَ مُصَابَنَا فَبَکَی وَأَبکَی لَم تَبکِ عَینُهُ یَومَ تَبکِی العُیُونُ، وَمَن جَلَسَ مَجلِساً یُحییٰ فِیهِ أَمرُنَا لَم یَمُت قَلبُهُ یَومَ تَمُوتُ القُلُوبُ»(2).
سند هذه الروایة یواجه مشاکل بسبب بعض الرواة، کأحمد بن حسن، الذی لم یُذکر اسمه فی کتب الرجال، ومحمّد بن بکران الذی لم یوثّق فی الرجال، ومحمّد بن إبراهیم بن إسحاق وهو أیضاً لم یُذکر فی کتب الرجال، ولکن کما قلنا فی سند الروایة هناک قرائن تدلّ علی وثاقتهم؛ وبالتالی سند الروایة معتبر ولا مشکلة فیه؛ فیصح الاستدلال بها.
فی صدر هذا الحدیث أیّد الإمام(علیه السّلام) إقامة العزاء والبکاء علی مصائبهم وذکر ثوابهما الأُخروی. وفی ذیل الحدیث تکلّم الإمام(علیه السّلام) عن المجالس التی یُحیی فیها أمرهم. فصدر الحدیث یشکّل قرینة تدلّ علی أنّ ذیل الحدیث یشمل مجالس العزاء أیضاً، أی: إنّها من المجالس التی یُحیی فیها أمر أهل البیت(علیهم السّلام) . فیثبت أنّ أهل البیت(علیهم السّلام) أمروا بإقامة مجالس العزاء لهم، وهذا یدلّ علی استحبابها.
«حَدّثنَی حَکیمُ بنُ دَاوُدِ بنِ حَکیمِ وَغَیرُهُ، عَن مُحَمَّدِ بنِ مُوسَی الهَمدَانِیِّ، عَن مُحَمَّدِ بنِ خَالِدٍ الطَّیَالِسِیِّ، عَن سَیفِ بنِ عُمَیرَة وَصَالِحِ بنِ عُقبَةٍ جَمِیعاً، عَن عَلقَمَةِ بنِ مُحَمَّدٍ الحَضرَمِیِّ وَمُحَمَّدِ بنِ إِسمَاعِیل(بِن بَزِیعٍ)، عَن صَالِحِ بنِ عُقبَةٍ، عَن مَالِکٍ الجُهَنِیّ (مَالِک بنِ أعینِ الجُهَنِی)، عَن أَبِی جَعفَرٍ البَاقِر(علیه السّلام) قَالَ: مَن زَارَ الحُسَینَ(علیه السّلام) یَومَ عَاشُورَاء... قَالَ:
ص: 109
قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاکَ فَمَا لِمَن کَانَ فِی بُعدِ البِلَادِ وَأَقَاصِیهَا وَلَم یُمکِنهُ المَصِیر (المَسِیر) إِلَیهِ فِی ذَلِکَ الیَوم؟ قَالَ: إِذَا کَانَ ذَلِکَ الیَوم بَرَزَ إِلَی الصَّحرَاءِ... ثُمَّ لیَندُبِ الحُسَینَ(علیه السّلام) ویَبکِیهِ وَیَأمُرُ مَن فِی دَارِهِ بِالبُکَاءِ عَلَیه وَیُقِیمُ فِی دَارِهِ مُصِیبَتَهُ بِإظهَارِ الجَزَعِ عَلَیهِ وَیَتَلَاقَونَ بِالبُکَاءِ بَعضُهُم بَعضاً فِی البُیُوتِ، ولیُعِزّ بَعضُهُم بَعضاً بِمُصَابِ الحُسَین(علیه السّلام) فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُم إِذَا فَعَلُوا ذَلِکَ عَلَی اللهِ(عزوجل) جَمِیعَ هَذَا الثَّوَابِ...»(1).
وأخرجها الشیخ الطوسی فی مصباح المتهجّد بإسناد آخر: «رَوَی مُحَمّدُ بنُ إسمَاعِیلِ بنِ بَزِیعٍ، عَن صَالِحِ بنِ عُقبَةٍ، عَن أبِیهِ، عَن أبِی جَعفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ: مَن زَارَ الحُسَینُ بنُ عَلیٍ(علیهماالسّلام) فِی یَومِ عَاشُورَاء...»(2).
أُخرجت هذه الروایة فی کتابین وبسندین مختلفین. السند الأوّل فی کامل الزیارات، والثانی فی مصباح المتهجّد.
أمّا السند الأوّل ففیه حکیم بن داود بن حکیم، وهو من مشایخ ابن قولویه بلا واسطة؛ وبالتالی تثبت وثاقته عن طریق شهادة ابن قولویه بوثاقة رواة کتابه. وفیه أیضاً محمّد بن موسی بن عیسی الهمدانی، وهو مضافاً إلی أنّه لم یوثّق فی الرجال، رُمی بالغلو أیضاً(3). أمّا السند الثانی ففیه عقبة بن قیس، وهو أبو صالح، ولم یرد فیه توثیق. وبالتالی تصلح هذه الروایة لتکون بسندیها مؤیّدة لسائر الروایات.
أمر الإمام الباقر(علیه السّلام) الراوی بإقامة العزاء فی بیته یوم عاشوراء، فهذه الروایة تدلّ علی
ص: 110
جواز إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام)، بل واستحبابها أیضاً، وبما أنّ جمیع الأئمّة(علیهم السّلام) نورٌ واحد، ولا فرق بین الإمام الحسین(علیه السّلام) وسائر الأئمّة(علیهم السّلام) فی حکم إقامة العزاء لهم، فتدلّ هذه الروایة علی جواز - بل استحباب - إقامة مجالس العزاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) .
النتیجة: ذکرنا روایتین من الطائفة الرابعة. أمّا الروایة الأُولی فلا مشکلة سندیة فیها، وأمّا الروایة الثانیة فهی خیر مؤیّد للطائفة الرابعة من الروایات.
هناک عدّة روایات تدلّ علی استحباب إنشاد الشعر فی مصیبة الإمام الحسین(علیه السّلام) ونستدلّ بخمس روایات:
«حَدّثَنِی مُحَمّدُ بنُ أحمَدِ بن الحُسَینِ العَسکَرِیّ، عَن الحَسَنِ بنِ عَلِیّ بنِ مَهزِیَارٍ، عَن أبِیه، عَن مُحَمّدِ بنِ سَنَانٍ، عَن مُحَمَّدِ بنِ إِسمَاعِیلٍ، عَن صَالِحِ بنِ عُقبَةٍ، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: مَن أَنشَدَ فِی الحُسَینِ(علیه السّلام) بَیتَ شِعرٍ فَبَکَی وَأَبکَی عَشرَةً فَلَهُ وَلَهُمُ الجَنَّةُ، وَمَن أَنشَدَ فِی الحُسَینِ(علیه السّلام) بَیتاً فَبَکَی وَأَبکَی تِسعَةً فَلَهُ وَلَهُمُ الجَنَّةُ، فَلَم یَزَل حَتَّی قَالَ: مَن أَنشَدَ فِی الحُسَینِ(علیه السّلام) بَیتاً فَبَکَی وَأَظُنُّهُ قَالَ: أَو تَبَاکَی فَلَهُ الجَنَّة»(1).
فی سند هذه الروایة الحسن بن علی بن مهزیار، ولم یرد فیه توثیق فی کتب الرجال.
ص: 111
«حَدّثَنِی مُحَمَّدُ بنُ جَعفَرٍ، عَن مُحَمَّدِ بنِ الحُسَینِ، عَنِ ابنِ أَبِی عُمَیرٍ، عَن عَبدِ اللهِ بنِ حَسَّان، عَن (ابنِ) أَبِی شُعبَة، عَن عَبدِ اللهِ بنِ غَالِبٍ قَالَ: دَخَلتُ عَلَی أَبِی عَبدِ الله(علیه السّلام) فَأَنشَدتُهُ مَرثِیَةَ الحُسَینِ(علیه السّلام) فَلَمَّا انتَهَیتُ إِلَی هَذَا المَوضِع:
لَبَلِیَّةٌ تَسقُوا حُسَیناً بِمِسقَاةِ الثَّرَی غَیرِ التُّرَابِ
فَصَاحَت بَاکِیَةٌ مِن وَرَاءِ السَّترِ یَا أَبَتَاه»(1).
فی سند هذه الروایة عبد الله بن حسّان، وهو لم یوثّق فی کتب الرجال.
«حَدّثَنِی أبُو العَبّاسِ، عَن مُحَمَّدِ بنِ الحُسَینِ،ِ عَنِ الحَسَنِ بنِ عَلِیِّ بنِ أَبِی عُثمَان، عَن حَسَنِ بنِ عَلِیِّ بن أبِی المُغَیرَةِ، عَن أَبِی عمَارَةِ المُنشِدِ، عَن أَبِی عَبدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: قَالَ لِی: یَا أَبَا عمَارَةِ، أَنشِدنِی فِی الحُسَینِ(علیه السّلام). قَالَ: فَأَنشَدتُهُ فَبَکَی، ثُمَّ أَنشَدتُهُ فَبَکَی، ثُمَّ أَنشَدتُهُ فَبَکَی... فَقَالَ: لِی یَا أَبَا عمَارَة... وَمَن أَنشَدَ فِی الحُسَین(علیه السّلام) شِعراً فَأَبکَی وَاحِداً فَلَهُ الجَنَّةُ، وَمَن أَنشَدَ فِی الحُسَین(علیه السّلام) شِعراً فَبَکَی فَلَهُ الجَنَّةُ، وَمَن أَنشَدَ فِی الحُسَین(علیه السّلام) شِعراً فَتَبَاکَی فَلَهُ الجَنَّةُ»(2).
فی سند هذه الروایة الحسن بن علی بن أبی عثمان الذی قال النجاشی فی حقّه:«ضعفه أصحابنا»(3). وکذلک أبوعمارة المنشد نفسه، فلم یرد فیه توثیق فی کتب الرجال وبین الرجالیین.
ص: 112
«حَدّثَنَا أبُو العَبّاس القُرَشِی، عَن مُحَمَّدِ بنِ الحُسَینِ بنِ أبِی الخَطّابِ، عَن مُحَمَّدِ بنِ إِسمَاعِیلٍ، عَن صَالِحِ بن عُقبَةٍ، عَن أَبِی هَارُونِ المَکفُوفِ (مُوسَی بنِ عُمَیرٍ)، قَالَ: قَالَ لِی أَبُو عَبدِ الله(علیه السّلام): یَا أَبَا هَارُون، أَنشِدنِی فِی الحُسَینِ(علیه السّلام) قَالَ: فَأَنشَدتُه فَبَکَی... قَالَ لِی: یَا أبَا هَارُون... وَمَن أَنشَدَ فِی الحُسَین(علیه السّلام) شِعراً فَبَکَی وَأَبکَی وَاحِداً کُتِبَت لَهُمَا الجَنَّةُ»(1).
فی سند هذه الروایة رواة من أمثال صالح بن عقبة الذی قال فی حقّه ابن الغضائری: «صالح بن عقبة بن قیس... غالٍ کذاب لا یُلتفت إلیه»(2). وأبوهارون المکفوف (موسی بن عمیر) الذی قد نقل الکشی روایة فی ذمّه(3).
«حَدَّثَنِی نَصرُ بنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنِی أَحمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عِیسَی، عَن یَحیَی بنِ عِمرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ، عَن زَیدٍ الشَّحَّامِ، قَالَ: کُنَّا عِندَ أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) وَنَحنُ جَمَاعَةٌ مِنَ الکُوفِیِّینَ، فَدَخَلَ جَعفَرُ بنُ عَفَّانَ عَلَی أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) فَقَرَّبَهُ وَأَدنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: یَا جَعفَرُ، قَالَ: لَبَّیکَ! جَعَلَنِیَ اللهُ فِدَاکَ. قَالَ: بَلَغَنِی أَنَّکَ تَقُولُ الشِّعرَ فِی الحُسَینِ(علیه السّلام) وَتُجِیدُ! فَقَالَ لَهُ: نَعَم جَعَلَنِیَ اللهُ فِدَاکَ. فَقَالَ: قُل. فَأَنشَدَهُ وَمَن حَولَهُ حَتّی صَارَت لَهُ الدُّمُوعُ عَلَی وَجهِهِ وَلِحیَتِهِ... ثُمَّ قَالَ: مَا مِن أَحَدٍ قَالَ فِی الحُسَینِ(علیه السّلام) شِعراً فَبَکَی وَأَبکَی بِهِ إِلاَّ أَوجَبَ اللهُ لَهُ الجَنَّةَ وَغَفَرَ لَهُ»(4).
ص: 113
فی سند الروایة نصر بن الصّبّاح وهو غالٍ بشهادة النجاشی(1)، والکشی(2).
صحیح أنّنا لا نستطیع الاستدلال بکلّ واحدة من هذه الروایات مستقلاً، ولکن یمکن کما مرّ سابقاً(3) أن نستدلّ بمجموع الروایات عن طریقین:
لقد درجت سیرة الفقهاء العملیة وفتاواهم علی جواز إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) بإنشاد الشعر، وهذه السیرة تساعد الروایات الضعیفة وتجبر ضعف أسنادها. فإذا ضُمّت السیرة إلی الروایات تدلّ بمجموعها علی جواز إقامة العزاء بإنشاد الشعر، إذن؛ یجوز إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) بإنشاد الشعر.
یبلغ عدد الروایات الضعیفة سنداً أکثر من خمس روایات، وهکذا نطمئنّ علی أقل تقدیر من صدور مضمون إحدی الروایات عن الإمام الصادق(علیه السّلام)؛ حیث إنّ کلّ هذه الروایات مرویّة عن الإمام الصادق(علیه السّلام) ولها طرق مختلفة، وإذا اعتمدنا علی قانون الاحتمالات یمکن
أن نقول: من البعید جدّاً أن یتواطأ جمیع الرجال الواقعین فی هذه الأسانید علی الکذب، واحتمال کذبهم ضعیف جدّاً. إذن؛ یصحّ التمسّک بمجموع هذه الروایات لإثبات جواز - وحتّی استحباب - إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) بإنشاد الشعر.
ص: 114
تدلّ هذه الروایات بوضوح علی جواز إنشاد الشعر فی مصیبة الإمام الحسین(علیه السّلام)، بل تدلّ علی أنّ لها ثواباً، وهذا الثواب یکشف عن استحباب هذا العمل.
النتیجة: ذکرنا خمس روایات للطائفة الخامسة، ولکن أسانیدها ضعیفة لا تخلو من القدح، إلّا أنّه یمکن التمسّک بها لإثبات المدعی عن طریق التجابر والتعاضد.
نکتفی للطائفة السادسة (استحباب الصرخة فی العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ) بذکر روایة واحدة صحیحة السند.
«وَبِهَذَا الإسنَادِ (أی: حَدّثَنِی أبِی(رحمه الله) وَمُحَمّدُ بنُ عَبدِ الله وَعَلِیُّ بنُ الحُسَینِ وَمُحَمّدُ بنُ الحَسَنِ رَحِمَهُمُ الله جَمِیعاً، عَن عَبدِ اللهِ بنِ جَعفَرِ الحِمیَرِی)، عَن مُوسَی بنِ عُمَر (مُوسَی بنِ عُمَرِ بنِ یَزِیدِ بنِ ذِبیَان)، عَن حَسَّانِ البَصرِی (الصّحِیحُ غَسَّانُ البَصرِی)، عَن مُعَاوِیَة بنِ وَهبٍ، قَال: استَأذَنتُ عَلَی أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) فَقِیلَ لِی: اُدخُل. فَدَخَلتُ، فَوَجَدتُهُ فِی مُصَلّاه فِی بَیتِهِ، فَجَلَستُ حَتَّی قَضَی صَلَاتَهُ، فَسَمِعتُهُ یُنَاجِی رَبَّهُ وَهُوَ یَقُولُ: ... وَارحَم تِلکَ الأَعیُنَ الَّتِی جَرَت دُمُوعُهَا رَحمَةً لَنَا، وَارحَم تِلکَ القُلُوبَ الَّتِی جَزِعَت وَاحتَرَقَت لَنَا، وَارحَم تِلکَ الصَّرخَةَ الَّتِی کَانَت لَنَا»(1).
فی سند هذه الروایة حسّان البصری، وحسّان غلط بل الصحیح غسّان. فیضعّف سند الروایة بسبب وجود غسّان البصری؛ إذ أنّه لم یُذکر اسمه فی المجامیع الرجالیة.
ص: 115
ولقد أخرجها ابن قولویه بإسنادٍ آخر(1)، ولکنّه أیضاً لا یخلو من علّة؛ وذلک لوجود عبد الله بن عبد الرحمان الأصمّ فیه، الذی قال النجاشی فی حقه: «ضعیف غالٍ لیس بشی ء»(2). وکذلک فیه علی بن محمد بن سالم، وعبد الله بن حمّاد البصری، وهما لم یُذکرا فی کتب الرجال.
ولقد أخرج الکلینی نفس الروایة بإسنادین (مع اختلاف یسیر) ولکنّهما ضعیفان أیضاً. أمّا السند الأوّل، ففیه غسّان البصری الذی لم یُذکر له اسم فی کتب الرجال، وأمّا السند الثانی ففیه عبارة «بَعضُ أصحَابِنَا». وهذا یضعّف سند الروایة(3).
وعلی الرغم من أنّ الأسانید المذکورة ضعیفة إلّا أنّ الشیخ الصدوق أخرج هذه الروایة بسند آخر، مع اختلاف یسیر فی لفظ الروایة، إلّا أنّه لا یضرّ بالمدعی. وروایة الصدوق صحیحة؛ إذ أنّ جمیع رواتها إمامیون ثقات(4).
هذه الروایة تصرّح بجواز الصرخة لأهل البیت(علیهم السّلام) ؛ لأنّ الإمام الصادق(علیه السّلام) ترحّم علی مَن یصرخ فی مصیبتهم، وترحُّمُ الإمام(علیه السّلام) یدلّ علی استحباب هذا العمل، فلا معنی للترحّم علی أحد لقیامه بعمل جائز ومباح.
ص: 116
«قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِی قُرَّة: نَقَلتُ مِن کِتَابِ أَبِی جَعفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ الحُسَینِ بنِ سُفیَانِ البَزُوفَرِیِّ هَذَا الدُّعَاءَ... فَعَلَی الأطَائبِ مِن أهلِ بَیتِ مُحَمّدٍ وَعَلِیّ صَلّی الله عَلَیهِمَا وَآلِهِمَا فَلیَبکِ البَاکُونَ، وَإیّاهُم فَلیَندُبِ النّادِبوُنَ، وَلِمِثلِهِم فَلتُذرَفِ (فَلتُدِر) الدّموُعَ وَلیَصرُخِ الصّارِخوُنَ وَیَضِجّ الضّاجّوُنَ...»(1).
ذکر ابن المشهدی فی المزار الکبیر نقلاً عن محمّد بن أبی قرّة، أنّه روی هذا الدعاء عن کتاب أبی جعفر محمّد بن الحسین بن سفیان البزوفری، ثمّ قال: «ذَکَرَ فِیهِ أَنَّهُ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَیْهِ وَعَجَّلَ فَرَجَهُ وَفَرَجَنَا بِهِ»(2). ولکن قال العلّامة المجلسی فی البحار: «قَالَ السَّیِّدُ رَضِیَ اللهُ عَنْهُ: ذَکَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیِّ بْنِ أَبِی قُرَّةَ: نَقَلْتُ مِنْ کِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَیْنِ بْنِ سُفْیَانَ الْبَزَوْفَرِیِّ رَضِیَ اللهُ عَنْهُ دُعَاءَ النُّدْبَة(3)»(4). ولعلّ مراد السید الرضی من بعض الأصحاب، هو ابن المشهدی. ویؤیّده کلام العلّامة المجلسی حیث قال: «أظنّ أنّ السیّد أخذه منه»(5).
إذن؛ علینا دراسة سند دعاء الندبة فی ثلاث مراحل:
قال السیّد الخوئی: «لم یظهر اعتبار هذا الکتاب فی نفسه، فإنّ محمّد بن المشهدی لم
ص: 117
یظهر حاله، بل لم یُعلَم شخصه، وإن أصرّ المحدّث النوری: علی أنّه محمّد بن جعفر بن علی بن جعفر المشهدی الحائری، فإنّ ما ذکره فی وجه ذلک لا یورث إلّا الظنّ»(1).
ولکن فی المقابل، قال بعض الأعاظم بوثاقة ابن المشهدی واستدلّ کما یلی:
أوّلاً: قال بعض المحقّقین فی الرجال: «إنّ هذا العنوان قد أُطلق علی ثلاثة أشخاص...
الأوّل: ... السید أبو البرکات محمد بن إسماعیل المشهدی، فقیه محدّث ثقة...
الثانی: ... الشیخ محمد بن جعفر المشهدی، کان فاضلاً محدِّثاً صدوقاً...
الثالث: ... الشیخ محمد بن جعفر الحائری فاضل جلیل... فکلّهم ثقات؛ لما ورد من ألفاظ المدح والوثاقة فی حقّهم»(2).
ثانیاً: قال صاحب الوسائل: «الشیخ محمد بن جعفر المشهدی، کان فاضلاً محدِّثاً صدوقاً له کتب...»(3).
ثالثاً: رغم أنّ ابن المشهدی کان مشهوراً وألّف مجموعة من الکتب إلّا أنّه لم یقدح فیه أحد، ولو ورد فی مثله قدح لوصلنا قطعاً فهو من باب (لَو کانَ لَبَانَ).
رابعاً: اعتبر صاحب الوسائل أنّ کتاب ابن المشهدی من الکتب المعتمدة التی روی عنها بلا واسطة(4).
شهد ابن المشهدی فی مقدّمة کتابه بوثاقة مَن روی عنهم، حیث قال: «فَإِنِّی قَدْ
ص: 118
جَمَعْتُ فِی کِتَابِی هَذَا مِنْ فُنُونِ الزِّیَارَاتِ لِلْمَشَاهِدِ المُشَرَّفَاتِ... مِمَّا اتَّصَلَتْ بِهِ مِنْ ثِقَاتِ الرُّوَاةِ إِلَی السَّادَاتِ»(1). لکن السیّد الخوئی استشکل علی شهادة ابن المشهدی وقال: إنّ محمد بن المشهدی من المتأخّرین، وقد سبق أنّ توثیقات المتأخّرین لیست معتبرة؛ لأنّها تعتمد علی الحدس والرأی.
نعم، صحیح أنّ شهادة ابن المشهدی لا تفیدنا هنا، ولکن یمکن إثبات وثاقة ابن أبی قرّة عن طریق آخر. فإنّ محمد بن علی بن یعقوب القنائی (ابن أبی قرّة) ثقة؛ لأنّ النجاشی قال فی حقّه: «کان ثقة، وسمع کثیراً وکتب کثیراً، وکان یورق لأصحابنا ومعنا فی المجالس. له کتب منها: [کتاب] عمل یوم الجمعة، کتاب عمل الشهور، کتاب معجم رجال أبی المفضّل، کتاب التهجّد. أخبرنی وأجازنی جمیع کتبه»(2). وهذا المقدار یکفی لإثبات وثاقته.
کنیته أبوجعفر، والظاهر أنّه حَسَنٌ، بل ثقة أیضاً، فهناک قرائن تدلّ علی وثاقته:القرینة الأُولی: قال المحقّق الخوئی: کان من مشایخ المفید(3). وکان المفید یثق بأبی جعفر وکتابه، وقد روی عنه(4).
القرینة الثانیة: روایة ابن الغضائری عنه، رغم أنّ کثیراً من الرواة لم یسلموا من تضعیفه وجرحه.
القرینة الثالثة: توثیق ابن المشهدی لجمیع رواة کتاب المزار(5). نعم، صحیح أن
ص: 119
توثیقات ابن المشهدی لیست حجّة؛ لأنّه من المتأخّرین وتوثیقاته تقوم علی الحدس والظنّ، ولکن تکمن فائدتها فی تقویة سائر القرائن.
القرینة الرابعة: أنّ ابن المشهدی قد اعتمد علی کتابه؛ حیث إنّه أفتی باستحباب هذا الدعاء.
یتضح من روایة البزوفری عن المفید أنّه کان معاصراً له. فمن البعید أن یکون قد روی عن الإمام العسکری(علیه السّلام). فقد استُشهد الإمام العسکری(علیه السّلام) سنة مئتین وستین هجری، وتوفّی المفید بعدها بمئة وثلاث وخمسین سنة. فلا بدّ من القول: بأنّ البزوفری قد أرسل دعاء الندبة عن أحد الأئمة(علیهم السّلام) .
أما احتمال روایته عن أحد النواب الأربعة فهو ممکن زماناً؛ لأنّ الغیبة الصغری امتدّت (69) سنة. ولکنّه مرفوض أیضاً؛ لأنّ النواب الأربعة لم یرووا إلّا عن الإمام الحجّة(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وکذلک لا معنی لأن یکون دعاء الندبة مرویاً عن الإمام الحجّة(عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ لأنّه یشتمل علی عبارات یمتنع صدورها عنه. کعبارة: «لَیتَ شِعرِی أینَ استَقَرّت بِک النّوَی؟!».
ولکن یمکن الجواب عن هذا الإشکال: بأنّ الإمام(عجل الله تعالی فرجه الشریف) استعمل هذه العبارة؛ لأنّه کان فی مقام التعلیم لشیعته، نظیر دعاء کمیل الذی علّمه أمیرالمؤمنین(علیه السّلام) لکمیل. رغم أنّه یشتمل علی عبارات الاستغفار التی لا تنسجم مع عصمة الإمام(علیه السّلام). ولکن هذا لا یخلّ بصحّة الدعاء، فقد کان الإمام(علیه السّلام) فی مقام تعلیم کیفیة الدعاء والاستغفار.
نتیجة البحث: أنّ ما یضمّه دعاء الندبة من مضامین عالیة حول إقامة العزاء، یمکن أن تکون مؤیّدة للروایة الأُولی.
لقد وردت فی هذا الدعاء عبارات تدلّ بوضوح علی استحباب إقامة العزاء (البکاء
ص: 120
والصرخة وغیرهما).
النتیجة: ذکرنا للطائفة السادسة روایة واحدة صحیحة سنداً ودلالةً، وذکرنا دعاء الندبة کمؤیّد لها؛ لأنّه یشتمل علی مضامین عالیة تتعلّق بإقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) .
هناک روایات أُخری یمکن التمسّک بها لإثبات استحباب البکاء علی المعصومین(علیهم السّلام) . هذه الروایات تدلّ علی استحباب البکاء، ولکنّها لا تختصّ بالمعصومین(علیهم السّلام) ، بل تعمّ جمیع الأموات؛ وبالتالی تعمّ المعصومین(علیهم السّلام) أیضاً. وسنذکر هذه الروایات فی المباحث القادمة ونقوم بدراستها.
استُدلّ بآیتین شریفتین لإثبات استحباب إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ، ولقد کانت دلالتهما تامّة. کما ذکرنا سبع طوائف من الروایات تدلّ علی ثواب إقامة العزاء
علی المعصوم(علیه السّلام) بالبکاء وإقامة المجالس وإنشاد الشعر والصرخة. وبما أنّ الثواب یلازم الاستحباب فیثبت استحباب إقامة العزاء علی المعصوم(علیه السّلام).
قال السیّد جعفر الطباطبائی الحائری: «ربّما یظهر من بعض فقرات الزیارة الواردة عن الناحیة المقدّسة... ما یدلّ علی الجواز بل الرجحان المفرط من نحو الجزع والندبة
ص: 121
والصیاح والنیاح فی مصابه(علیه السّلام)... فإنّ منها قوله(علیه السّلام) ولأندبنّک صباحاً ومساءً»(1). ویُستفاد من عباراته أنّ إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) لیس جائزاً فحسب، بل هو مستحبّ مؤکّد.
وقال الشیخ محمد تقی الآملی فی مبحث البکاء علی المؤمن: «لا إشکال ولا خلاف فی جواز البکاء علی المیت... وأمّا بکاء فاطمةB علی أبیها (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فخارج عن مورد البحث، کبکاء مولانا السجّاد(علیه السّلام) علی أبیه(علیه السّلام)؛ فإنّهما من أفضل العبادات»(2). وهذا الکلام یدلّ علی أنّ البکاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) مستحب مؤکّد؛ حیث إنّه قال: إنّهما من أفضل العبادات.
سنذکر للنظریة الثالثة دلیلاً واحداً.
«وَمِمَّا خَرَجَ مِنَ النَّاحِیَةِ ... فَلَأَندُبَنَّکَ صَبَاحاً وَمَسَاءً»(3).
روی هذه الروایة ابن المشهدی فی کتاب المزار. إذن یمکن الاعتماد علیها کمؤیّد لإثبات الاستحباب المؤکّد لإقامة العزاء.
قال الإمام الحجّة : «فَلَأَندُبَنَّکَ صَبَاحاً وَمَسَاءً». ونظراً إلی أنّ کلام الأئمة(علیهم السّلام)
ص: 122
یخلو من الغلو، فنستنتج أنّ ما فعله الإمام(علیه السّلام) یدلّ علی تأکید استحباب إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام).
لقد تمسّکنا بدلیل واحد لإثبات الاستحباب المؤکّد لإقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ، وهو زیارة الناحیة المقدسة. إذن یمکن لهذه الزیارة أن تکون مؤیّدة لحکم الاستحباب المؤکّد.
لم یتحدّث معظم العلماء عن وجوب إقامة العزاء، إلّا أنّ بعض الفقهاء قالوا بوجوبه الکفائی. قال المحقّق الطباطبائی: «بل ذکرنا فی جواب بعض الأسئلة: أنّ إقامة العزاء فی الجملة واجبة کفائیة»(1).
لم یذکر العلماء مستنداً للنظریة الرابعة، ولکن یمکن الاستدلال علی وجوب العزاء بقاعدة تعظیم الشعائر، وقبل ذلک لا بدّ من بحث هذه القاعدة.
توجد فی شریعتنا الإسلامیة المقدّسة قاعدة تُسمّی بقاعدة تعظیم الشعائر، وهنا سنقوم بتسلیط الضوء علی أبعاد هذه القاعدة بإیجاز.
کما مرّ فی القسم الأوّل (مفاهیم العزاء) فإنّ للشعائر معنیً حقیقیاً وهو العلامات،
ص: 123
فالواقع أنّ کلّ علامة شعیرة، ولکن بما أنّ الشعائر فی بحثنا تختصّ بالشعائر الدینیة فإنّها تقیّد بتلک العلامات التی جعلت لطاعة الله أو العلامات التی أمر الله بها.
قال السیّد المراغی فی العناوین الفقهیة: «إنّ التعظیم قسمان:
أحدهما: مراعاة مرتبة الشی ء والسلوک معه علی مقتضی شأنه ومرتبته عرفاً وعادةً أو شرعاً، وترک هذا یُسمّی إهانة، وهی محرّمة.
وثانیهما: مراعاته زائداً علی ذلک، فإنّه أمرٌ مطلوب، فإنّه لو جاء عالم فالقیام له وجعل مکانٍ لائقٍ له حفظٌ لمرتبته، وأمّا تقبیل یده والقعود عنده فی غایة التأدّب... وإحضار بعض التعارفات له زیادة تعظیم لو تُرک لا یُسمی إهانة، فهذا القسم من التعظیم لا یمکن القول بوجوبه باستلزام ترکه الإهانة؛ لما قد عرفت أنّه لا یُعد ترکه إهانة، إلّا أن یقوم دلیل علی وجوب التعظیم»(1).
ویتّضح من کلام السیّد المراغی أن المقصود بالتعظیم فی بحثنا هو القسم الأوّل الذی یُعتبر ترکه إساءة، خلافاً للقسم الثانی، فإنّ ترکه لا یُعتبر إساءة.
استدلّ الباحثون بثلاث آیات قرآنیة لإثبات قاعدة تعظیم الشعائر:
«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ »(2).
ص: 124
موضوع هذه الآیة الشریفة هو الشعائر، وإذا کان الحکم إیجابیاً فإنّ متعلّقه التعظیم، أمّا إذا کان الحکم تحریمیاً فیکون متعلّقه التهاون.
«إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ»(1).
هذه الآیة الشریفة تبیّن مصادیق شعائر الله.
«ذَلِکَ وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ »(2).
نبحث آراء الفقهاء والمفسّرین فی معنی الشعائر.
لفقهاء الإمامیة نظریتان فی معنی الشعائر:
ذهب النراقی فی العوائد إلی أنّ المراد من الشعائر فی آیات القرآن، خصوص مناسک الحج(3)، ولم یوافقه غیره من فقهاء الإمامیة علی هذا الرأی.
ذهب أکثر الفقهاء إلی أنّ الشعائر حقیقة لغویة تنطبق علی کلّ شیء جُعِل علامة
ص: 125
للدین. قال السیّد البجنوردی فی القواعد الفقهیة: «المراد من حرمات الله وشعائر الله مطلق ما هو محترم فی الدین، وتطبیقها علی مناسک الحجّ ومشاعره من باب تطبیق الکلّی علی بعض مصادیقه»(1).
للمفسّرین فی معنی الشعائر رأیان أساسیان:
قال الشیخ الطوسی: «الشعائر: المعالم للأعمال، فشعائر الله: معالم الله التی جعلها مواطن للعبادة... فشعائر الله أعلام متعبّداته»(2).
قال الفخر الرازی: «وأما شَعائِر اللهِ فهی أعلام طاعته وکلّ شی ء جُعِل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله... ومنه الشعائر فی الحرب، وهو العلامة التی یتبیّن بها إحدی الفئتین من الأُخری»(3).
إذا نظرنا إلی کلمات الفقهاء فی الکتب الفقهیة المختلفة، یتبیّن أنّهم عدّوا أُموراً کثیرة من مصادیق الشعائر. وفیما یلی نُشیر إلی عدّة منها:
قال المحقّق الأردبیلی: «فالکراهة - بعد الاندراس... - غیربعید، ثمّ إنّه قیل: إنّ قبور
ص: 126
المعصومین(علیهم السّلام) مستثنیً من ذلک، لتعظیم شعائر الله»(1).
وقال السیّد العاملی فی مبحث کراهة بناء القبور: «وکیف کان فیُستثنی من ذلک قبور الأنبیاء والأئمة(علیهم السّلام) ... لا یبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء أیضاً؛ استضعافاً لخبر المنع والتفاتاً إلی أنّ فی ذلک تعظیماً لشعائر الإسلام»(2).
وقال الفیض الکاشانی فی نفس المبحث: «وقبور الأنبیاء والأئمة(علیهم السّلام) مستثناة عن ذلک... وربّما یلحق بها قبور العلماء والصلحاء؛ استضعافاً لخبر المنع وتعظیماً لشعائر الإسلام»(3).
قال المحدّث البحرانی فی الحدائق: «ما یحرم الاستنجاء به... وجوب إکرام التربة المشرّفة وحرمة إهانتها... وما کُتب علیه شی ء من علوم الدین فلدخوله فی الشعائر المأمور بتعظیمها فی قوله تعالی: « وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ » (4)»(5).
قال السیّد الطباطبائی فی الریاض: «ویلحق باسمه تعالی اسم الأنبیاء والأئمّة(علیهم السّلام) ... لما دلّ علی استحباب تعظیم شعائر الله تعالی»(6).
ص: 127
وقال صاحب الجواهر فی مبحث تحریم تنجیس المصحف: بأنّ حرمة الهتک ووجوب التعظیم یشملان جمیع حرمات الدین، حیث قال: «وأَلْحقَ الشهیدان والمحقّق الثانی وغیرهم بالمساجد الضرائح المقدّسة والمصحف المعظّم؛ فیجب إزالة النجاسة عنه، کما یحرم تلویثه أو مطلق المباشرة، وهو جیّد فیهما وفی کلّ ما عُلم من الشریعة وجوب تعظیمه وحرمة إهانته وتحقیره»(1).
قال صاحب الجواهر: «ویُستحبّ کنس المساجد قطعاً بمعنی جمع کناستها - بضمِّ الکاف - وإخراجها؛ لما فیه من تعظیم الشعائر»(2).
وقال الشهید الصدر: «إنّ المستفاد من مجموع ذلک کون المشاهد المشرفة لا تقلّ مکانة واحتراماً عن المسجد الاعتیادی علی أقلّ تقدیر... هذا فیما إذا لم یلزم الهتک، والّا فلا إشکال فی ثبوت الحکم؛ لأنّ صیانة المشهد الشریف من الهتک والإهانة داخلة فی المراتب المتیقن وجوبها من مراتب تعظیم شعائر الله تعالی»(3).
قال السیّد الحکیم فی المستمسک: «بل ذلک فی هذه الأعصار معدود من شعائر الإیمان ورمز إلی التشیّع؛ فیکون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد یکون واجباً، لکن لا بعنوان الجزئیة من الأذان»(4).
ص: 128
قال العلّامة الحلّی فی التذکرة: «صلاة العیدین واجبة علی الأعیان... لأنّها من شعائر الدین الظاهرة وأعلامه؛ فتکون واجبة علی الأعیان کالجمعة. وقال أحمد بن حنبل: إنّها واجبة علی الکفایة لا علی الأعیان»(1).
کما قال فی مبحث صلاة الجماعة: «الجماعة مشروعة فی الصلوات المفروضة الیومیة بغیر خلاف بین العلماء کافّة، وهی من جملة شعائر الإسلام وعلاماته»(2).
قال الشهید الأوّل فی القواعد: «یجوز تعظیم المؤمن بما جرت به (عادة الزمان)... لدلالة العمومات علیه، قال الله تعالی: « وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ »(3) وقال تعالی: «ذَلِکَ وَمَنْ یُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ »(4)»(5).
النتیجة: إذا تأمّلنا فی کلمات الفقهاء یتّضح أنّ الشعائر عنوان عام یمکن إطلاقه علی کلّ ما هو علامة للدین. وبتعبیرٍ آخر: فإنّ الشعائر لیست توقیفیة، بل تشمل کلّ الأُمور التی توجد فیها ملاک الشعاریة. ویدلّ علی ذلک ظهور إطلاقات الأمر بالشعائر فی مطلق الشعائر.
ومن الأُمور التی توجد فیها ملاک الشعاریة نفس المعصومون(علیهم السّلام) أنفسهم الذین هم من شعائر الله، ویدلّ علی ذلک ما ورد فی النصوص الشرعیة من إطلاق صفات علی الأئمّة(علیهم السّلام) نظیر: (أعلام الهدی)(1)، و(منار الهدی)، و(حجج الله)، و(أرکان الإیمان)(2)، وهذه التعابیر ترادف الشعائر، فهم شعائر الله تعالی وتنطبق علیهم أحکام الشعائر، وبالتالی فإنّ إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) شعیرة وعلامة للتشیّع.
وعلی ضوء هذه المقدّمة یمکن التمسّک بدلیلین لإثبات وجوب إقامة العزاء:
الدلیل الأوّل یشتمل علی ثلاث آیات شریفة من القرآن الکریم:
قال السیّد المراغی: «إنّ الآیة علی فرض ثبوت العموم فی الشعائر لا یثبت الوجوب، بل ظاهرها أنّ تعظیمها من تقوی القلوب، وأین ذلک من الوجوب؟ والجواب عنه: بأنّ ذلک إذا علم أنّه من التقوی فیمکن إثبات الوجوب بأحد أمرین:
أحدهما: أنّ التقوی إنّما هو الحذر عن أمر مخوف، فعُلم من ذلک أنّ هناک شیئاً یُخاف منه، فینبغی الحذر عنه بتعظیم الشعائر وکلّ ما هو کذلک فهو واجب؛ إذ لا خوف فی مخالفة المستحب حتّی یُحذر عنه، فکونه من التقوی والحذر أمارة العقاب علی ترکه.
وثانیهما: أنّ هذه الآیة نجعلها صغری ونُثبت وجوب التقوی بقول مطلق بالآیات الکثیرة الآمرة بالتقوی، کقوله تعالی: « وَإِیَّایَ فَاتَّقُونِ » (1). وقوله تعالی:«وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ»(2). وغیر ذلک ممّا لا یُحصی. وبما دلّ علی الذمّ بمخالفة التقوی والعتاب واللوم علی غیر المتقین فی الآیات والروایات(3). فنقول: تعظیم الشعائر من التقوی للآیة وکلّ تقوی واجب للإطلاق فی الأوامر، فتعظیم الشعائر واجب وهو المطلوب»(4).
ونظراً إلی أنّ إقامة العزاء من مصادیق الشعائر فنستنتج من کلام السیّد المراغی أنّ تعظیم العزاء واجب.
صحیح أنّ التقوی یعنی الابتعاد عن کلّ ما یترتّب علیه خوف العقاب، کما صرّح به الراغب فی المفردات(5)، لکن الآیة الشریفة لا تتکلّم عن مطلق التقوی، بل تقوی
ص: 131
القلوب، ولو أُضیفت التقوی إلی القلب فلا تفید هذا المعنی (أی: الابتعاد عمَّا یعاقب الله علیه)، بل تعنی تطهیر القلب من الرذائل والأفکار والنِّیات القبیحة.
ولقد ذکر الطبرسی هذا الاحتمال فی مجمع البیان، حیث قال: «أضاف التقوی إلی القلوب؛ لأنّ حقیقة التقوی تقوی القلوب»(1). وإذا فُرض هذا الاحتمال فکیف یمکن أن نستفید وجوب التقوی من هذه الآیة الشریفة؟
إنّ الآیة السابقة تتضمّن قرینة تدعم المدّعی، حیث إنّها تبیّن أنّ المقصود بتقوی القلب هو اتّقاء الشرک، وهو ذنب قلبی یجب اتقاؤه. وهذا یقوّی احتمال وجوب تعظیم الشعائر:«حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَیْرَ مُشْرِکِینَ بِهِ وَمَنْ یُشْرِکْ بِاللَّهِ فَکَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّیْرُ أَوْ تَهْوِی بِهِ الرِّیحُ فِی مَکَانٍ سَحِیقٍ»(2).
لا یصحّ الجواب عن الإشکال السابق، فغایة الأمر أنّ الآیة المذکورة قرینة سیاقیة والقرینة السیاقیة لیست حجّة إلّا إذا بلغت حدّ الظهور، فیبقی الإشکال السابق علی قوّته، ولا یصحّ الاستدلال بهذه الآیة علی وجوب تعظیم الشعائر؛ وبالتالی لا یمکن التمسّک بها لإثبات وجوب إقامة العزاء.
« وَمَنْ یُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ »(3).
کما مرّ سابقاً فإنّ إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) من الشعائر؛ لذلک فهی من
ص: 132
حرمات الله التی لا بدّ أن تُحترم، وبالتالی تکون مصداقاً لهذه الآیة ویجب تعظیمها بموجب هذه الآیة الشریفة.
وردت کلمة (خَیرٌ) فی هذه الآیة وهی لا تدلّ علی الوجوب، بل ظهورها فی الاستحباب. فهذه الآیة لا تدلّ علی وجوب تعظیم حرمات الله والتی تشمل مصادیق متعدّدة، منها إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) .
«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ » (1).
هذه الآیة تدلّ بوضوح علی عدم جواز التهاون والتساهل تجاه الشعائر وتحلیلها، فهذه الآیة تدلّ علی وجوب تعظیم الشعائر وتحریم ترکه، ولکنّها لا تدلّ علی تحریم ترک التعظیم بشکل مطلق، بل یحرم الترک فیما إذا أدّی إلی الهتک، کما صرّح بذلک الشهید الثانی فی المسالک(2).
وبتعبیرٍ آخر: إذا دقّقنا فی معنی الإحلال فیمکن أن نستنتج منه الظهور فی معنی التعظیم، فقد اتّفق المفسِّرون وکثیرٌ من أهل اللغة(3) علی أنّ الإحلال یعنی الإباحة
ص: 133
والتحلیل. والمقصود أنّ لکلّ أمرٍ حرمةً وحدوداً.
فللمسجد حرمته الخاصّة، وللعالِم حرمته الخاصّة أیضاً، ویجب علی کلّ شخص أن یلتزم بهذه الحرمات، والمقصود بعدم إباحة هذه الحرمات هو الالتزام بها وعدم التهاون بها. وهذا ما أشار إلیه جمع من المفسِّرین:
فقد قال الفیض الکاشانی فی تفسیر الصافی: « لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ »(1)، لا تتهاونوا بحرمات الله»(2). وقال المشهدی فی کنز الدقائق: ««یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ »(3)، أی: لا تتهاونوا بحدودها الّتی حدّها للعباد وجعلها شعائر الدّین وعلامته»(4). وصرّح الزمخشری فی الکشاف بذلک فی قوله: «وإحلال هذه الأشیاء أن یُتهاون بحرمة الشعائر»(5).
وإذا تأمّلنا فی کلام المفسِّرین نتوصّل إلی أنّ إحلال شعائر الله لا یعنی هتک هذه الشعائر فقط؛ لأنّ الآیة لیست فی مقام تبیین حرمة هتک الشعائر فحسب، بل تشیر إلی لزوم تعظیم الشعائر أیضاً، فمعنی الإحلال أعمّ وأوسع من الهتک وهو التهاون. فالآیة لا تنهی عن هتک الشعائر فحسب الذی هو مصداقها الیقینی، بل تنهی عن
التهاون بها أیضاً. إذن؛ یجب تعظیم الشعائر الذی یتمثّل فی الاهتمام بالشعائر وعدم التهاون بها.
ص: 134
هناک ثلاث روایات یُستدلّ بها لإثبات وجوب إقامة العزاء:
«عَلِیُّ بنُ إِبرَاهِیم، عَن أَبِیهِ، عَن ابنِ أَبِی عُمَیرٍ وَمُحَمَّدُ بنُ إِسمَاعِیل، عَنِ الفَضلِ بنِ شَاذَان، عَن ابنِ أَبِی عُمَیرٍ وَصَفوَان بنِ یَحیَی، عَن مُعَاوِیَة بنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبدِ اللهِ(علیه السّلام): إِذَا رَمَیتَ الجَمرَةَ فَاشتَر هَدیَک... وَعَظِّم شَعَائِرَ اللهِ(عزوجل)»(1).
فی سند هذه الروایة إبراهیم بن هاشم وقد سبق القول: بأنّه إمامی ثقة علی التحقیق(2). أمّا بقیة رواة السند فهم کذلک إمامیون ثقات؛ وبالتالی الروایة معتبرة.
«رُوینَا عَن جَعفَرِ بنِ مُحَمّدٍ(علیهماالسّلام)، عَن أبِیهِ(علیه السّلام)، عَن آبَائِهِ(علیهم السّلام) : أنّ رَسُولَ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) خَطَبَ یَومَ النّحرِ فَقَالَ: أُیّهَا النّاسُ، مَن کَانَ عِندَهُ سِعَةٌ فَلیُعَظّم شَعَائرَ الله»(3).
هذه الروایة أخرجها القاضی النعمان المغربی فی دعائم الإسلام بسند مرسل.
«حَدّثَنَا عَلِیُّ بنُ إِبرَاهِیم بنِ هَاشِم، قَالَ: حَدّثَنَا القَاسِمُ بنُ الرَّبِیعِ الوَرّاقِ، عَن مُحَمَّدِ بنِ سَنَانٍ، عَن صَبَاحِ المَدَائِنِیِّ، عَنِ المُفَضَّلِ أَنَّهُ کَتَبَ إِلَی أَبِی عَبدِ الله(علیه السّلام)، فَجَاءَهُ هَذَا الجَوَابُ مِن أَبِی عَبدِ الله(علیه السّلام): أَمَّا بَعدُ، فَإِنِّی أُوصِیکَ وَنَفسِی بِتَقوَی الله... وَتَعظِیمِ حُرُمَاتِ اللهِ وَشَعَائِرِهِ،
ص: 135
وَتَعظِیمِ البَیتِ الحَرَامِ وَالمَسجِدِ الحَرَامِ وَالشَّهرِ الحَرَام» (1).
فی سند هذه الروایة القاسم بن الربیع، ولم تثبت وثاقته، کما أنّ ابن الغضائری لم یوثِّقه فی رجاله(2). وفیه أیضاً صباح المدائنی وهو غلط، والصحیح میّاح المدائنی، وهذا الراوی لم یرد فیه توثیق ولم یوثقه النجاشی(3) وابن الغضائری(4).
صحیح أنّ هذه الروایات تأمر بتعظیم الشعائر، ولکن هناک ثلاث قرائن تدلّ علی أنّ المقصود بالشعائر هو (الهَدی)، وهذه القرائن کما یلی:
القرینة الأُولی: التصریح بشرائه فی صحیحة معاویة بن عمّار.
القرینة الثانیة: روایة دعائم الإسلام تتعلّق بخطبة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی یوم النحر.
القرینة الثالثة: روایة البصائر تتطرّق بعد ذکر الشعائر إلی تعظیم البیت الحرام والمسجد الحرام.
وفضلاً عن ذلک، فإنّ هذه الراویات لا تخلو من مشاکل سندیة؛ وبالتالی لا تدلّ هذه الروایات علی وجوب تعظیم الشعائر.
نظراً إلی الأدلّة التی ذکرناها فلا یوجد دلیل علی وجوب تعظیم الشعائر بشکل مطلق، وهذا ما صرّح به السیّد الخوئی(5)
إلّا إذا أدّی ترک تعظیم الشعائر إلی هتکها
ص: 136
وإهانتها، فعندئذ یجب تعظیم الشعائر کما مرّ.
وهذا ما ذکره صاحب الجواهر فی مسألة لمس الجُنب للدراهم والعملات التی نُقش علیها اسم الله، حیث خالف رأی الذین جوزوا ذلک وقالوا بکراهته فقط، وقال: «وأمّا ما ذکره من عدم وجوب التعظیم فهو مسلّم إن أُرید به زیادة التعظیم، وکذا یمکن تسلیمه فی التعظیم الذی لا یکون ترکه تحقیراً، وأمّا التعظیم الذی یکون ترکه تحقیراً فلا ینبغی الإشکال فی وجوبه، بل لعلّه من ضروریات المذهب بل الدین»(1).
وکذا قال النراقی - وهو من الفقهاء الذین لا یقولون بوجوب تعظیم الشعائر بشکل مطلق، إلّا أنّه قال - فی العوائد: «قد ثبت بالعقل والنقل حرمة الاستخفاف والإهانة بأعلام دین الله مطلقاً وانعقد علیها الإجماع، بل الضرورة، بل یوجب فی الأکثر الکفر وترک التعظیم، قد یکون بما یکون إهانة واستخفافاً وقد لا یکون کذلک... فما کان من الأوّل یکون حراماً لإیجابه الإهانة، دون ما کان من الثانی»(2).
إذن؛ إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) من شعائر الله ویحرم التهاون بها حسب الآیة الشریفة «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ »(3)، کما مرّ فی الدلیل الثانی.
لو حصل التهاون یوماً ما بإقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) وعُدّ نوع من الاستخفاف بمصائبهم یمکن أن نقول علی ضوء الآیة الشریفة: إنّ إقامة العزاء واجب کفائی حتّی یقوم به مَن به الکفایة، وینتفی التهاون عنها.
ص: 137
نظراً إلی الأدلّة التی ذکرناها فإنّ إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) ولا سیّما الإمام الحسین(علیه السّلام) جائز بل راجح. حتّی إنّه یرقی إلی الوجوب الکفائی فی بعض الظروف؛ وهذا یعنی أنّ إقامة العزاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) لیس محرّماً من المنظور الشرعی.
ص: 138
أمّا حکم إقامة العزاء علی غیر المعصوم(علیه السّلام) فسنسلّط الضوء علیه من بُعدین:
الأوّل: آراء الفقهاء ونظریاتهم فیه.
والثانی: أدلّتهم. وندرس کلاً منهما بدقّةٍ وتفصیل.
لم یفرد العلماء بحثاً لحکم إقامة العزاء علی المیت (غیر المعصوم(علیه السّلام)) بشکلٍ عام، بل اکتفوا بذکر مصادیق ذلک ودراسة حکم هذه المصادیق. إذن؛ سنذکر أقوال العلماء فی مصادیق العزاء وندرس أدلّتهم.
ذهب جمیع علماء الإمامیة إلی جواز إقامة العزاء علی المیت بالبکاء، وأضاف البعض أنّه غیر مکروه، بل وقال بعضهم باستحبابه. إذن؛ یمکن أن نقول: إنّ لفقهاء الشیعة ثلاث نظریات فی حکم البکاء علی غیر المعصوم(علیه السّلام): (الجواز، عدم الکراهة والاستحباب).
قال عددٌ کبیر من العلماء بجواز البکاء علی المیت. منهم القاضی النعمان المغربی فی
ص: 139
تأویل الدّعائم(1) ودعائم الاسلام(2)، والشیخ الطوسی فی المبسوط(3)، وابن إدریس الحلّی فی السرائر(4)، والمحقّق الحلّی فی المعتبر(5)، والشهید الأوّل فی البیان(6) والدروس(7) والذکری(8)، والمحقِّق الأردبیلی فی الزبدة(9) والمجمع(10)، والسبزواری فی الذخیرة(11)، والحرّ العاملی فی الهدایة(12) والوسائل(13)، ویوسف البحرانی فی الحدائق(14)، والنراقی فی المعتمد(15)، وحسین البحرانی فی السداد(16)، والمیرزا القمّی فی الغنائم(17)، والمحقّق الخوئی فی الموسوعة(18).
ولا یخفی أنّ بعض العلماء جوّزوا البکاء علی المیت، ولکن بشرط أن لا یشتمل علی
ص: 140
أُمور محرّمة، منهم: ابن الأشعث فی الأشعثیات(1)، وصاحب الجواهر فی نجاة العباد(2)، والآملی فی مصباح الهدی(3).
ذکر العلماء أربعة أدلّة علی جواز البکاء علی المیّت:
قبل أن نرجع إلی الأدلّة الاجتهادیة لبیان حکم المسألة، رأینا من المناسب أن نبحث حکم المسألة اعتماداً علی الأُصول العملیة. فلا مانع من التمسّک بأصل البراءة لإثبات حلّیة هذا العمل؛ لأنّه مستند إلی القواعد الأُصولیة. کما صرّح بذلک صاحب الجواهر حیث قال: «ثمّ إنّه لا ریب فی جواز البکاء علی المیت نصّاً وفتوی؛ للأصل»(4).
ویبدو أنّ مقصوده بالأصل هو ما ذکره السیّد الخوئی فی بحث الأموات، حیث قال: «یجوز البکاء علی المیت، والوجه فی ذلک أُمور: الأوّل: الأصل؛ فإنّ کلّ ما لم یقم دلیل علی حرمته فی الشریعة المقدّسة فهو محکوم بالحلّیة، ولم یدلّنا دلیل علی حرمة البکاء علی المیِّت...»(5). وکذلک قال السیّد شرف الدین فی کتاب المجالس الفاخرة: «الأصل العملی یقتضی إباحة البکاء علی مطلق الموتی... ولا دلیل علی خلاف هذا الأصل»(6).
ص: 141
أما الأدلّة الاجتهادیة التی استُدلّ بها علی جواز البکاء علی المیت فهی عبارة عن ثلاثة أدلّة، أی: السیرة، والإجماع، والروایات. ونبحث عن ذلک تحت عنوان الدلیل الثانی والثالث والرابع.
استدلّ السیّد الخوئی بالسیرة لإثبات جواز البکاء علی المیت، حیث قال: «الثانی: السیرة المستمرّة المتصلة بزمان المعصومین(علیهم السّلام) ولم یردعوا عنها بوجه، فلو کان البکاء علی المیِّت محرّماً لانتشرت حرمته ووصلت إلینا متواترة؛ لکثرة الابتلاء بالأموات والبکاء علیهم»(1). وقال السیّد شرف الدین: «بل السیرة القطعیة والأدلّة اللفظیة حاکمان بمقتضاه»(2).
إذا تأمّلنا فی هذه السیرة نتوصّل إلی أنّه لا مشکلة فی التمسّک بها، فقد درجت السیرة والعادة علی البکاء فی مصیبة الموتی فی زماننا، ولا شکّ فی أنّ هذه السیرة کانت موجودة فی العصور الماضیة أیضاً، فهی لیست سیرة جدیدة مستحدثة، والدلیل علی ذلک أنّ فقدان الأحبّة مصیبة تصیب الجمیع، وکان الناس علی مرّ العصور یفقدون أحبّتهم ویبکون لفقدهم، ولا شکّ فی أنّ هذه السیرة کانت مستمرّة إلی عصر المعصومین(علیهم السّلام) ولم یردعوا عنها، ولو أرادوا الردع عنها فعلاً، لوجب أن یکون الردع بطرق مختلفة وتعابیر متعدّدة حتّی یرتدع الناس عن هذه السیرة المهمّة والسائدة بینهم، ولو کان الأمر کذلک لبلغنا خبره، ولکن لم یبلغنا مثل هذا الخبر؛ فیتبیّن أنّ المعصومین(علیهم السّلام) لم یردعوا عن هذه السیرة، وهذا یکشف عن موافقة المعصومین(علیهم السّلام) وتقریرهم لهذه السیرة.
ص: 142
هناک أدلّة تنهی عن البکاء(1). (سنبحث هذه الأدلّة فی القسم الثالث، أی: حکم إقامة العزاء من منظور أهل السنّة) (2)، وهذه الأدلّة تستطیع أن تردع عن هذه السیرة. وبالتالی صحیح أنّ هناک سیرة مستمرّة للبکاء علی الموتی إلّا أنّها لیست حجّة لوجود الردع عنها.
رغم أنّ هنالک أدلّة قد یُتوهّم بأنّها رادعة عن السیرة، إلّا أنّ هذه الأدلّة - کما سنُثبت فی المباحث القادمة - لا تصلح للرادعیة؛ فتبقی السیرة علی حجّیتها وقوّتها(3).
وردت ثلاثة إشکالات علی ادّعاء الإجماع وعدم الخلاف:
لقد ذکر علماء الأُصول فی مبحث الإجماع أنّ الإجماع المدرکی ومحتمل المدرکیة لیسا حجّة، والإجماع الموجود فی موضوعنا مدرکی أو محتمل المدرکیة علی الأقل؛ لأنّه یُحتمل أن یکون مدرک المُجمعین ودلیلهم هو نفس الأدلّة والروایات التی سیأتی الکلام عنها فی المباحث القادمة.
هذا الإشکال غیر وارد؛ لأنّ أهم الأدلّة علی حجّیة الإجماع هو تقریر المعصوم(علیه السّلام)، فإذا تحقّق الإجماع فهو حجّة ولو کان مدرکیاً، أی: وجد الدلیل من الکتاب والسنّة مع الإجماع. وهذا ما ذهب إلیه المحقّق الزنجانی فی کتاب النکاح، حیث قال بعد نقل هذا الإشکال: «لا بدّ من القول: بأنّ الإجماع یصلح للاستدلال إذا ثبت اتصاله بزمان المعصوم(علیه السّلام)، وسواء فی ذلک الإجماع المدرکی وغیر المدرکی. فیصحّ الاستناد إلی الإجماع ولو کان مدرکیاً، وحتّی إذا لم یمتلک المدرک المذکور صلاحیة الاستدلال بحدّ ذاته؛ لأنّ عمدة الأدلّة علی حجّیة الإجماع هی تقریر المعصوم(علیه السّلام)، فإذا انتشر أمرٌ بین الناس وکان موضع ابتلائهم فی مختلف العصور ومنها عصر المعصوم(علیه السّلام) ولم یردع المعصوم(علیه السّلام) عنه فیکون ذلک حجّة، ولا یمکن حمله علی التقیة؛ لأنّ التقیة فی مسألة واحدة لم تکن فی کلّ الأزمنة»(1).
ص: 144
حتّی لو فرضنا أنّ هذه الإجماعات لیست مدرکیة أو محتملة المدرک فهی لا تستطیع أن تکون حجّة، فقد ثبت فی علم الأُصول أنّ الإجماعات المنقولة لیست حجّة، وهذا ما اختاره المحقّقون من الأُصولیین.
ثبت فی علم الأُصول أنّ ادّعاء عدم الخلاف لیس حجّة شرعاً، بل وکذلک ادّعاء الإجماع (الإجماع المنقول) لیس حجّة رغم أنّه أقوی من ادّعاء عدم الخلاف، فبطریق أوْلی لا یکون ادّعاء عدم الخلاف حجّة.
الروایات الدالّة علی جواز البکاء کثیرة إلی درجة أنّ المولی مهدی النراقی فی معتمد الشیعة(1) والمولی أحمد النراقی فی مستند الشیعة(2) قالا: بأنّ هذه الروایات مستفیضة. بل وقال صاحب الجواهر: «ثمّ إنّه لا ریب فی جواز البکاء علی المیّت نصّاً وفتوی؛ للأصل والأخبار التی لا تقصر عن التواتر معنیً»(3). وهنا سنشیر إلی بعض هذه الروایات:
ص: 145
أَبِیهِ(1) جَمِیعاً، عَن ابنِ مَحبُوبٍ، عَن عَلِیِّ بنِ رِئَابٍ قَالَ: سَمِعتُ أَبَا الحَسَنِ الأَوَّلَ(علیه السّلام) یَقُولُ: إِذَا مَاتَ المُؤمِنُ بَکَت عَلَیهِ المَلَائِکَةُ وَبِقَاعُ الأَرضِ الَّتِی کَانَ یَعبُدُ اللهَ عَلَیهَا وَأَبوَابُ السَّمَاءِ الَّتِی کَانَ یُصعَدُ أَعمَالُهُ فِیهَا...»(2).
فی سند هذه الروایة الحسن بن محبوب وعلی بن رئاب وهما ثقتان، ولکن فیه سهل بن زیاد وإبراهیم بن هاشم، وقد اختلف علماء الرجال فیهما وتردّد المحدّث البحرانی فی هذا الحدیث بأنّه صحیح أو حسن(3)، ولکن هناک قرائن علی وثاقة هذین الراویین، کما مرّت فی هامش سند الروایة.
استدلّ المحدّث البحرانی بهذه الروایة(4) ودلالتها علی الدعوی واضحة؛ لأنّها تصرّح ببکاء الملائکة والبقاع و... علی موت المؤمن وهو نوع من العزاء. إذن؛ نستفید من هذه الروایة أنّ البکاء (العزاء) فی وفاة المؤمن جائزٌ، ولو لم یکن ذلک جائزاً لما کان
ص: 147
هناک معنی لقوله(علیه السّلام): «بَکَت عَلَیهِ المَلَائِکَةُ وَبِقَاعُ الأَرضِ».
لقد ذکرنا هذه الروایة سابقاً(1) ودرسنا سندها وقلنا: إنّها روایة معتبرة، ولا مشکلة فی سندها(2).
استدلّ السیّد الخوئی بهذه الروایة(3) واستدلاله صحیح، ففی هذه الروایة یصرّح الإمام السجّاد(علیه السّلام) بأنّ استشهاد شهداء کربلاء هو السبب فی بکائه؛ وبالتالی یدلّ فعل الإمام(علیه السّلام) علی جواز إقامة العزاء علی الموتی.
هذه الروایة تختصّ بالبکاء علی شهداء کربلاء؛ وبالتالی یختصّ الجواز بالبکاء علی
ص: 148
الشهداء، ولا یشمل البکاء علی سائر الموتی الذین لم یُستشهَدوا.
صحیح أنّ هذه الروایة تحکی عن بکاء الإمام السجّاد(علیه السّلام) علی الشهداء، ولکن یمکن إلغاء خصوصیتها بالشهداء، فلا یحتمل أن یکون للشهادة دخل فی جواز البکاء، والذی بعث الإمام(علیه السّلام) علی البکاء هو فقدان هؤلاء الشهداء وفراقهم.
والدلیل علی ذلک إشارة الإمام السجّاد(علیه السّلام) إلی قصّة بکاء سیّدنا یعقوب(علیه السّلام) علی سیّدنا یوسف(علیه السّلام)؛ حیث إنّه لم یبکِ علی وفاة سیّدنا یوسف(علیه السّلام)، بل بکی لفقدانه وغیابه وبُعده عنه، فلیس خصوص شهادة شهداء کربلاء سبباً للبکاء علیهم بل سبب البکاء هو الفراق والبُعد.
کلا الموردین یتعلّقان بالبکاء علی فقدان أولیاء الله، فالمورد الأول یحکی عن بکاء الإمام السجّاد(علیه السّلام) علی شهداء کربلاء، والمورد الثانی یحکی عن بکاء سیّدنا یعقوب(علیه السّلام) علی سیّدنا یوسف(علیه السّلام)، الذی هو بکاء علی فقد ولیٍّ من أولیاء الله؛ وبالتالی لا علاقة لهما بالبکاء علی فقدان شخصٍ عادی؛ فإذن الدلیل أخصّ من المدّعی؛ لأنّ الدلیل یُثبت البکاء علی أولیاء الله خاصّة، ولکن المدّعی هو أنّ البکاء علی الموتی جائز مطلقاً وإن لم یکونوا من أولیاء الله. وبعبارةٍ أُخری: ربّما هناک خصوصیة لشهداء کربلاء؛ لمنزلتهم الرفیعة؛ ولذلک لا یمکن تعمیم حکم البکاء علی سائر الموتی.
صحیح أنّ هذه الروایة تختصّ بالبکاء علی أولیاء الله، ولکن هناک روایات أُخری تدلّ علی جواز البکاء علی الناس العادیین وبقرینة هذه الروایات یتضح أنّه لا خصوصیة لأولیاء الله، ویجوز للإنسان أن یبکی حزناً علی فراق أحبّته.
ص: 149
«عِدَّةٌ مِن أَصحَابِنَا(1)، عَن سَهلِ بنِ زِیَادٍ(2)، عَن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ(3)، عَنِ ابنِ القَدَّاحِ(4)، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: ... فَلَمَّا مَاتَ إِبرَاهِیمُ بنُ رَسُولِ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هَمَلَت عَینُ رَسُولِ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بِالدُّمُوعِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِیُّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): تَدمَعُ العَینُ وَیَحزَنُ القَلبُ، وَلا نَقُولُ مَا یُسخِطُ الرَّبَّ، وَإِنَّا بِکَ یَا إِبرَاهِیمُ لَمَحزُونُونَ...»(5).
فی سند هذه الروایة رواة اختلف الفقهاء فی وثاقتهم، منهم سهل بن زیاد، وجعفر بن محمد، وفیه أیضاً جعفر بن محمد بن عبید الله الأشعری الذی لم یرد فیه توثیق خاصّ، ولکن هناک قرائن علی وثاقتهم کما مرّت فی هامش سند الروایة، فیمکن أن نعدّ هذا السند معتبراً.
استدلّ بهذه الروایة الشهید الأوّل(6)، والمحدّث البحرانی(7)، وصاحب الجواهر(8)، والسیّد الخوئی(9)، واستدلالهم صحیح، فهذه الروایة تدلّ بوضوح علی جواز إقامة العزاء علی المیّت بالبکاء والحزن، بدلیل أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نفسه أقام العزاء علی ابنه بالبکاء.
ص: 150
«حُمَیدُ بنُ زِیَادٍ(1)، عَنِ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَمَاعَة(2)، عَن غَیرِ وَاحِدٍ(3)، عَن أَبَان(4)، عَن أَبِی بَصِیرٍ(5)، عَن أَحَدِهِمَا(علیهماالسّلام) قَالَ: لَمَّا مَاتَت رُقَیَّةُ ابنَةُ رَسُولِ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قَالَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):
ص: 151
الحَقِی بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثمَانِ بنِ مَظعُونٍ وَأَصحَابِهِ قَالَ: وَفَاطِمَةُ(علیهاالسّلام) عَلَی شَفِیرِ القَبرِ تَنحَدِرُ دُمُوعُهَا فِی القَبرِ...»(1).
وثاقة بعض رواة السند موضع نقاش بین الفقهاء، ویمکن تصحیح السند بمعونة القرائن التی تقدّمت فی هامش سند الروایة، ونعدّها معتبرة.
استدلّ بهذه الروایة صاحب الحدائق(2)، وصاحب الجواهر(3)، والمحقّق الخوئی(4)، واستدلالهم تامٌّ وصحیح. فهذه الروایة تدل علی جواز البکاء علی المیت؛ لأنّها تقول: إنّ السیّدة فاطمة(علیهاالسّلام) أقامت العزاء علی أُختها بالبکاء.
اعتماداً علی الأدلّة المذکورة یمکن القول: بأنّ النظریة الأُولی (جواز البکاء)
ص: 152
صحیحة. وهذا یعنی أنّ إقامة العزاء علی المیت بالبکاء جائز؛ وذلک أولاً: لقیام السیرة القطعیة علیه ولم یُردع عنها، وما زعمه البعض ردع هذه السیرة لا یصلح للردع. وثانیاً: تدلّ روایات کثیرة علی ذلک، وهی تامّةٌ سنداً ودلالةً.
صرّح العلّامة الحلّی فی التحریر(1)
والتذکرة(2)
والمنتهی(3) والنهایة(4)، والشهید الأوّل فی الذکری بأنّ: «البکاء علی المیت جائزٌ، بل هو غیر مکروهٍ أیضاً»(5).
إنّ للجواز معنیین فی اصطلاح الفقهاء:
الأوّل: الجواز بالمعنی الأعمّ، وهو ما یقابل عدم الجواز، أی: الحرمة.
الثانی: الجواز بالمعنی الأخصّ، وهو یعنی الإباحة وتساوی الطرفین. صرّح بعض الفقهاء بأنّ إقامة العزاء جائزٌ بالمعنی الثانی، وبذلک أخرجوه من دائرة الکراهة. بینما قالت جماعة أُخری بالجواز مقابل الحرمة، کما مرّ فی النظریة الأُولی.
ذکر العلماء دلیلین علی عدم کراهة البکاء علی المیت:
ص: 153
قال العلّامة الحلّی فی منتهی المطلب: «البکاء علی المیّت جائزٌ غیر مکروه إجماعاً»(1). ویبدو أنّه قصد بقوله الإجماع القولی، ولیس الإجماع العملی (السیرة).
کما قال العلّامة(رحمه الله) فی نهایة الأحکام: «البکاء جائز إجماعاً ولیس بمکروه»(2). أمّا ادعاء الإجماع فی هذه العبارة فلا یمکن التأکّد من أنّه یشمل عدم الکراهة أیضاً؛ لأنّه ذکر کلمة الإجماع قبل قوله: «لیس بمکروه».
لیس الإجماع المنقول حجّة کما مرّ(3)، فلا یصح الاستدلال به.
الدلیل الثانی علی عدم کراهة البکاء علی المیّت عبارة عن أربع روایات، وهی کالتالی:
ذکر العلّامة الحلّی هذا الدلیل فی تحریر الأحکام(1)، ولکنّه لم یُبین طریقة الاستدلال بهذه الروایة. والظاهر أنّ تقریب الاستدلال بهذه الروایة کما یلی: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یدلّ علی عدم کراهة هذا العمل؛ لأنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لا یقوم بعمل مکروه. إذن؛ استدلال العلّامة بهذه الروایة صحیح.
«وَقَالَ الصَّادِقُ(علیه السّلام): إنَّ النَّبِیَّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حِینَ جَاءَتهُ وَفَاةُ جَعفَرِ بنِ أَبِی طَالِبٍ(علیه السّلام) وَزَیدِ بنِ حَارِثَة کَانَ إِذَا دَخَلَ بَیتَهُ کَثُرَ بُکَاؤُهُ عَلَیهِمَا جِدّاً وَیَقُولُ: کَانَا یُحَدِّثَانِی وَیُؤَانِسَانِی، فَذَهَبَا جَمِیعاً»(2).
استدلّ العلّامة الحلّی بهذه الروایة فی منتهی المطلب(1) والتذکرة(2)، ودلالتها علی المُدّعی واضحة، وهی کما مرّ فی تقریب الاستدلال بالروایة السابقة: من أنّ قیام النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بفعل یدلّ علی عدم کراهته.
«وَقَالَ الصَّادِقُ(علیه السّلام): ... وَلَمَّا انصَرَفَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مِن وَقعَةِ أُحُدٍ إِلَی المَدِینَةِ سَمِعَ مِن کُلِّ دَارٍ قُتِلَ مِن أَهلِهَا قَتِیلٌ نَوحاً وَبُکَاءً، ولَم یَسمَع مِن دَارِ حَمزَة عَمِّهِ فَقَالَ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لَکِنَّ حَمزَةَ لا بَوَاکِیَ لَهُ. فَآلَی أَهلُ المَدِینَةِ أن لاَ یَنُوحُوا عَلَی مَیِّتٍ وَلاَ یَبکُوهُ حَتّی یَبدَءُوا بِحَمزَة فَیَنُوحُوا عَلَیهِ وَیَبکُوهُ، فَهُم إِلَی الیَومِ عَلَی ذَلِکَ»(3).
أخرج الصدوق هذه الروایة بسند مرسل.
استدلّ بها العلّامة الحلّی فی کتاب منتهی المطلب بعد ذکر الدلیل السابق(4). وإنّ دلالتها علی مطلوبنا واضحة؛ لأنّه یظهر من قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «لَکِنَّ حَمزَةَ لا بَوَاکِیَ لَهُ». أنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کان یحبّ البکاء علی حمزة؛ وهذا یعنی أنّ البکاء علی المیّت جائزٌ بل إنّه لیس مکروهاً أیضاً؛ لأنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لا یأمر بفعلٍ مکروه.
ص: 156
یرد علیه الإشکال السابق(1)
من أنّ سیّدنا حمزة لم یکن شخصاً عادیاً، بل کان شهیداً ذا منزلة رفیعة، وأکثر ما یثبته هذا الدلیل هو أنّ البکاء علی فقدان أولیاء الله جائز ولیس مکروهاً، ولکنّه لا یشمل کلّ الموتی، رغم أنّنا نبحث الآن عن حکم البکاء علی مطلق المیّت وإن لم یکن من أولیاء الله.
أوّلاً: بدایة الحدیث تقول: إنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) سمع من کلّ دار قُتل من أَهلها قتیل نَوحاً وبکاءً ولم یسمع من دار حمزَة، فقال: «لَکِنَّ حَمزَةَ لا بَوَاکِیَ لَهُ». ویظهر من هذا الکلام أنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم یکره عملهم.
ثانیاً: لو فرض أنّ بدایة الحدیث لا تظهر فی المعنی المذکور بل تُشعر به، فنقول: إنّ نهایة الحدیث تدلّ بوضوح علی جواز البکاء علی الأشخاص العادیین حیث قال الإمام الصادق(علیه السّلام): «فآلی أهل المدینة... فَهُم إِلَی الیَومِ عَلَی ذَلِکَ». وهذا یدلّ علی أنّ فعلهم لیس مکروهاً بل هو جائز؛ لأنّ ظاهر کلامه(علیه السّلام) أنّه یؤیّد فعلهم.
قَال (الصَّادِق) (علیه السّلام): «مَن خَافَ عَلَی نَفسِهِ مِن وَجدٍ بِمُصِیبَةٍ فَلیُفِض مِن دُمُوعِهِ؛ فَإِنَّهُ یسکنُ عَنهُ»(2).
أخرج الشیخ الصدوق هذه الروایة بسندٍ مرسل فی کتاب مَن لایحضره الفقیه.
ص: 157
هذا الدلیل أیضاً من جملة الأدلّة التی ذکرها العلّامة الحلّی فی منتهی المطلب(1). لم یذکر العلّامة تقریب الاستدلال بهذه الروایة، ولکن یبدو أنّه کما یلی: هذه الروایة تدلّ علی أنّ البکاء علی المیت لیس مکروهاً؛ لأنّه لو کان کذلک لما أمره به الإمام المعصوم(علیه السّلام).
تقول الروایة: إنّ الإمام(علیه السّلام) أمر بالبکاء فیما إذا خاف الشخص علی نفسه، وهذا فیه خصوصیة وضرورة تُجوّز الأمر بالمکروه، ولولا هذه الخصوصیة والضرورة لدلّ الحدیث علی عدم کراهة البکاء؛ لأنّ الإمام(علیه السّلام) لا یأمر بمکروه، لکنّ نلاحظ أنّ الإمام(علیه السّلام) أمر بالبکاء لخصوصیةٍ وهی خوف المصاب علی نفسه، وهنا لا إشکال فی أمر الإمام(علیه السّلام) بعمل مکروه؛ لأنّ الخوف علی النفس أمرٌ أهمّ من العمل المکروه، ولو کان المکروه یدفع خطراً عن النفس لجاز فعله، وهذا هو الذی یجوّز أمر الإمام(علیه السّلام) بالمکروه. بل یمکن القول بأنّ البکاء علی المیّت مکروه بالعنوان الأوَّلی، ولکنّه واجب بالعنوان الثانوی عند الخوف علی النفس. وبالتالی؛ لا تدلّ هذه الروایة علی عدم کراهة البکاء علی المیّت.
لو غضضنا الطرف عن الإشکال الأوّل فهناک إشکالٌ ثانٍ یرد علی دلالة الروایة، وهو أنّ هذه الروایة تدلّ علی عدم کراهة البکاء حین الخوف علی النفس، وهذا أخصّ من المدعی؛ لأنّنا نبحث عن حکم البکاء علی المیّت بشکل مطلق، لا خصوص البکاء عند الخوف علی النفس.
ص: 158
فیما یتعلّق بعدم کراهة البکاء علی المیّت فقد اُدعی الإجماع علی ذلک، وبیّنا أنّ هذه الإجماعات لیست حجّة. ولکنّنا فی هذا البحث استدللنا بمعتبرة ابن القدّاح (بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی إبراهیم)، وهی روایة معتبرة لا مشکلة فی سندها وتدلّ علی عدم کراهة البکاء علی المیّت. فهذه الروایة تصرّح بأنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بکی علی المیّت، وبکاؤه (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یدلّ علی عدم کراهته؛ إذ لو کان هذا العمل مکروهاً لما قام به النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أبداً. وکذلک ذکرنا روایات أُخری ولکنّها ضعیفة من ناحیة السند، ولکن یمکن التمسّک بها کمؤیّد لمعتبرة ابن القدّاح. وهکذا نستنتج أنّ إقامة العزاء علی المیّت بالبکاء لیس مکروهاً.
قالت جماعة من العلماء باستحباب البکاء علی المیّت - فضلاً عن جوازه - وهم فریقان:
أمّا الفریق الأوّل: فقد ذهب إلی أنّه مستحبّ مطلقاً.
وأمّا الفریق الثانی: فقد قال باستحباب البکاء فیما إذا کان الحزن شدیداً وکان البکاء مسکّناً للشخص ومهدّئاً له. إذن؛ لا بدّ من دراسة کلا النظریتین مستقلاً.
ذکر القائلون بالاستحباب مطلقاً دلیلین لإثبات مدعاهم:
الدلیل الأول: معتبرة الواسطی - دعاء سیّدنا إبراهیم(علیه السّلام)
«أَحمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَن عَلِیِّ بنِ الحَکَمِ، عَن أَبَانِ بنِ عُثمَانَ، عَن مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ الوَاسِطِیِّ(1)، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: إنَّ إِبرَاهِیمَ خَلِیلَ الرَّحمَنِ(علیه السّلام) سَأَلَ رَبَّهُ أن یَرزُقَهُ ابنَةً تَبکِیهِ بَعدَ مَوتِهِ»(2).
رجال سند هذه الروایة کلّهم إمامیون ثقات، إلّا محمّد الواسطی (محمّد بن الحسن الواسطی)؛ حیث لم یرد فیه توثیقٌ خاصّ فی کتب الرجال، ولکن یمکن توثیقه اعتماداً
ص: 160
علی القرائن التی ذکرناها فی هامش سند الروایة.
دلالة هذه الروایة علی استحباب البکاء علی المیّت واضحةٌ تماماً، فلو لم یکن البکاء علی المیّت مستحبّاً - بل کان مباحاً - لما کان هناک معنی لدعاء النبی إبراهیم(علیه السّلام) بأن یرزقه الله بنتاً لتقوم بعمل مباح. فطلب هذا الأمر فی دعاء سیّدنا إبراهیم(علیه السّلام) یدلّ علی أنّ البکاء علی المیّت مستحبّ.
نعم، صحیح أنّ هذه الروایة تختصّ بالبکاء علی الأب، ولکن یمکن إلغاء خصوصیتها؛ حیث إنّ ظاهر الروایة یدلّ علی أنّ ذکر الموتی بعد الوفاة أمر مرغوب فیه، وهذا الأمر لا یختصّ بالأب بل یشمل الجمیع، کما قال العلّامة المجلسی بعد ذکر هذه الروایة: «بیان: یدلّ علی رجحان البکاء فی المصائب لا سیّما علی الأب، وعلی استحباب إقامة المأتم، وعلی رجحان طلب ما یوجب بقاء الذکر بعد الموت»(1).
ما فعله النبی إبراهیم(علیه السّلام) یخص الشریعة الإبراهیمیة ولا علاقة له بالشریعة المحمدیة. وبتعبیرٍ آخر: ربما کان البکاء علی المیّت مستحباً فی شریعة النبی إبراهیم(علیه السّلام)، ولکنّه لیس مستحبّاً فی شریعة النبی محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؛ وبالتالی لا یمکن الاستناد إلی فعل النبی إبراهیم(علیه السّلام) لإثبات حکم فی الشریعة الإسلامیة.
أوّلاً: أحکام الشرائع السابقة نافذة فی الشریعة الإسلامیة بحکم الاستصحاب إلّا
ص: 161
ما عُلِم بنسخه.
ثانیاً: حتّی لو فُرض أنّ أحکام الشرائع السابقة لا تستمرّ فی الشریعة الإسلامیة فظاهر الروایة یدلّ علی أنّ الإمام الصادق(علیه السّلام) أیّد ما قام به النبی إبراهیم(علیه السّلام)؛ وبالتالی تدلّ هذه الروایة علی استحباب البکاء علی المیّت فی الشریعة النبویة والمذهب الجعفری.
لقد ذکرنا معتبرة علی بن رئاب سابقاً(1)، وقمنا بدراسة سندها وذکرنا القرائن علی وثاقة رواتها وقلنا: إنّها روایة معتبرة حسب هذه القرائن(2).
استدلّ الحرّ العاملی بهذه الروایة لإثبات استحباب البکاء علی المیّت(3)، کما قال الشیخ الآملی بعد الاستدلال بها: «ولا یخفی أنّ التأسّی بالملائکة وببقاع الأرض وأبواب السماء مرغوب فیه، والبکاء علی المؤمن مثل بکائهم مندوب»(4).
ولا مشکلة فی استفادة الاستحباب من هذه الروایة؛ فقد قال الإمام(علیه السّلام): «بَکَت عَلَیهِ المَلَائِکَةُ وَبِقَاعُ الأَرضِ». وعلی هذا؛ لا یمکن أن یکون البکاء مبغوضاً عند الله. بل
ص: 162
إنّ کلام الإمام(علیه السّلام) یدل علی أنّ ما فعلته الملائکة والبقاع أمر مرغوب فیه. أمّا القول: بأنّ هذه الروایة تدل علی جواز البکاء للملائکة والبقاع خاصة، ولا یشمل البکاء الإنسان علی المؤمن فهو بعید عن الصواب.
إنّ البحث فی استحباب البکاء علی مطلق المیّت وإن لم یکن مؤمناً، ولکن هذه الروایة تثبت استحباب البکاء فی خصوص المیّت المؤمن. إذن الدلیل أخصّ من المدعی. وبتعبیر آخر: فإنّ ظاهر هذه الروایة أنّ البکاء علی المیّت المؤمن أمر مرغوب فیه؛ لأنّه مؤمن، ولأنّ الأرض حُرمت من وجود شخص مؤمن، ولیس لأنّه شخصٌ عادیّ. وعلی هذا؛ فإنّ الدلیل أخصّ من المدّعی.
قال بعض العلماء - کالنراقی(1)، والشیخ محمد حسن النجفی(2)، والسیّد الیزدی -: بأنّ البکاء علی المیّت مستحبّ فیما إذا أدّت المصیبة إلی حزن شدید وساعد البکاء علی تهدئة الشخص والتخفیف من حزنه(3).
ذکر القائلون باستحباب البکاء عند اشتداد الحزن دلیلین لإثبات مدّعاهم:
ص: 163
«أَ بُو عَلِیٍّ الأَشعَرِیُّ، عَن مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الجَبَّارِ، عَن أَبِی مُحَمَّدٍ الهُذَلِیِّ، عَن إِبرَاهِیمَ بنِ خَالِد القَطَّانِ، عَن مُحَمَّدِ بنِ مَنصُور الصَّیقَلِ، عَن أَبِیهِ قَالَ: شَکَوتُ إِلَی أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) وَجداً وَجَدتُهُ عَلَی ابنٍ لِی هَلَکَ، حَتّی خِفتُ عَلَی عَقلِی، فَقَالَ: إِذَا أَصَابَکَ مِن هَذَا شَیءٌ فَأَفِض مِن دُمُوعِکَ؛ فَإِنَّهُ یَسکُنُ عَنکَ».(1)
لم یوثق رواة هذا السند فی کتب الرجال إلّا اثنین منهم (أبو علی الأشعری، ومحمد بن عبدالجبّار) وهما إمامیان ثقتان. وبالتالی سند الروایة ضعیف.
ذکر بعض العلماء هذه الروایة فی کتبهم، وأفتوا علی أساسها باستحباب البکاء عند اشتداد الحزن. منهم الحرّ العاملی فی هدایة الأُمّة(2) ووسائل الشیعة(3).
وصرّح فریقٌ آخر من العلماء - کالنراقی فی مستند الشیعة(4)، والسیّد الیزدی فی العروة الوثقی(5) - بأنّ البکاء فی هذا الحال مستحبٌّ دون أن یذکروا دلیلهم علی ذلک، ویبدو أنّهم استندوا إلی هذه الروایة فی ما ذهبوا إلیه.
أمّا بیان دلالة هذه الروایة علی استحباب البکاء عند الحزن الشدید، فإنّه یستند إلی
ص: 164
أمر الإمام(علیه السّلام) بالبکاء؛ حیث إنّ الأمر بالبکاء یدلّ علی استحبابه، ولو کان البکاء حراماً أو مکروهاً لما أمر به الإمام المعصوم(علیه السّلام).
«وَقَالَ [الصَّادِقُ](علیه السّلام): مَن خَافَ عَلَی نَفسِهِ مِن وَجدٍ بِمُصِیبَةٍ فَلیُفِض مِن دُمُوعِهِ؛ فَإِنَّهُ یسکنُ عَنهُ»(1).
سند هذه الروایة لا یخلو من مشکلة؛ لأنّها روایة مرسلة، وبالتالی فسندها ضعیف.
استدلّ بهذه الروایة الشیخ الحرّ العاملی فی هدایة الأُمّة(2) ووسائل الشیعة(3)، ودلالتها علی المطلوب کالروایة السابقة، وبنفس الطریقة التی بینّاها هناک.
مجرّد الأمر بالبکاء لا یدلّ علی استحبابه؛ لأنّ الأمر فی هاتین الروایتین إرشادیٌّ ولیس مولویاً، وبالتالی لا یُستفاد منه الاستحباب. والمقصود بکون الأمر إرشادیاً هو أنّه یرشدک إلی أن فی البکاء خلاص من حزنک الشدید.
ص: 165
نظریة الفریق الأوّل (الاستحباب مطلقاً) صحیحة، أمّا نظریة الفریق الثانی (الاستحباب عند الحزن الشدید) فلیست صحیحة؛ لأنّ الروایتین اللتین استدلّ بهما أصحاب النظریة الثانیة ضعیفتان کما أنّ دلالتهما لیست تامّة.
أمّا الروایتان اللتان استدلّ بهما أصحاب النظریة الأُولی فهما معتبرتان، کما أنّ دلالة الروایة الأُولی تامّة. وعلی هذا الأساس؛ فإنّ نظریة الفریق الأوّل وهو القول باستحباب البکاء مطلقاً صحیحة؛ وبالتالی یُستحبّ إقامة العزاء علی الموتی بالبکاء.
بعد استقصاء آراء العلماء - والتأمّل فی الأقوال والأدلّة التی ساقوها - یتبیّن أنّه لا خلاف بین علماء الإمامیة فی إقامة العزاء علی المیّت بالبکاء، وجمیعهم قائل بجوازه بالمعنی الأعم (عدم الحرمة) ولم یقل أحد بتحریمه؛ إذن یمکن أن یُقال: لقد أجمع علماء الإمامیة علی أنّ إقامة العزاء علی المیّت بالبکاء جائز ولیس محرّماً. بل بعضهم مَن قال بعد تجویزه بأنّه لیس مکروهاً، وذهب بعضٌ آخر إلی أنّه مستحبّ.
أحد مصادیق العزاء هو أن یمیّز صاحب العزاء نفسه عن الآخرین (بأن لا یلبس الرداء، أو یرسل طرفاً من عمامته، أو یضع مئزراً علیها، أو یمشی حافیاً و...)، وهذا التمیز عن الآخرین نوع من إقامة العزاء علی المیت؛ لأنّ صاحب العزاء یعبّر به عن مصابه وحزنه.
ص: 166
لقد ذکر العلماء مصادیق التمیّز ضمن أدلّتهم (کعدم لبس الرداء، والمشی حافیاً و...)، ویظهر من کلامهم أنّ التمیّز لا ینحصر بهذه الأُمور، وإنّما ذکروا مصادیق للتمیّز دون حصره علیها. إذن؛ یمکن أن نعمّم هذا الحکم علی مصادیق أُخری، کلبس السواد. وبالتالی؛ فإنّ ما درجت علیه العادة فی بعض المناطق من التمیّز بأُمور أُخری یدخل فی هذا البحث، کوضع فوطة بیضاء علی عنق صاحب العزاء و...
قال المحدّث البحرانی(1)، وصاحب الجواهر: «والمراد بوضعه عدم نزعه إن کان ملبوساً، وعدم لبسه إن کان منزوعاً، بل یقتضی التعلیل المذکور استحباب تغییر هیئة اللباس سیّما فی البلاد التی لا یعتاد فیها لبس الرداء»(2).
وعلی ضوء هذه النقطة؛ یُطرح السؤال التالی: هل یجوز أن یتمیّز أصحاب العزاء ومَن یتعلّق بالمیّت عن الآخرین أم لا؟ للعلماء أقوال مختلفة فی الردّ علی هذا السؤال، وسنذکر هذه الأقول ضمن قسمین تمیّز غیر صاحب العزاء وتمیّز صاحب العزاء:
هل یجوز لغیر صاحب العزاء أن یتمیّز عن الآخرین أم لا؟ للعلماء ثلاث نظریات: (الحرمة، والکراهة، والاستحباب).
ص: 167
نقل بعض العلماء - کالشهید الأوّل(1)، والمحقّق السبزواری(2) - عن ابن حمزة أنّه کان یقول بحرمة المشی دون الرداء لغیر صاحب العزاء. ویظهر من کلام الشهید والسبزواری أنّهما استندا فی هذا النقل إلی ما قاله ابن حمزة فی کتاب الوسیلة، باب أحکام الأموات، حیث قال: «والمحظور ثمانیة أشیاء: اللطم، والخدش، وجز الشعر، والنیاحة...»(3)، کما قال کاشف الغطاء: «ویکره الضرب... ومشی غیر صاحب المصیبة بغیر رداء، ولا یبعد تحریمه»(4).
نُسبت هذه النظریة إلی ابن حمزة فی کتاب الوسیلة، ولم یذکر ابن حمزة دلیلاً علی مدّعاه. ولکن یمکن أن نذکر دلیلین علی ما ذهب إلیه:
یمکن الاستدلال لإثبات الحرمة بمعتبرة السکونی(5)، وهی روایة استدلّ بها
ص: 168
القائلون بکراهة التمیّز (وسیأتی بیان ذلک فی أدلّة النظریة الثانیة)، وغایة دلالتها هی حرمة التمیّز. ولعلّ معتبرة السکونی هی التی استند إلیها ابن حمزة لإثبات الحرمة، وسنثبت أنّ هذه الروایة تدلّ علی الکراهة دون الحرمة.
«وَقَالَ [الصادق](علیه السّلام): مَلعُونٌ مَلعُونٌ مَن وَضَعَ رِدَاءَهُ فِی مُصِیبَةِ غَیرِهِ».(1)
سند هذه الروایة ضعیف؛ لأنّها روایة مرسلة.
ذکر العلامة هذه الروایة فی المنتهی(2)، ولعل هذه الروایة هی التی استند إلیها ابن حمزة؛ حیث إنّها تدلّ علی لعن مَن تمیّز فی مصیبة غیره، واللعن یدلّ علی حرمة الفعل.
هناک مشکلة فی دلالة هذه الروایة؛ لأنّ اللعن فی هذه الروایة لیس ظاهراً فی الحرمة، فهناک روایات کثیرة وردت فیها کلمة: «مَلعُونٌ»، ولکن لم یقل أحد: بأنّها تدلّ علی الحرمة. کالروایات التی تتضمّن اللعن علی مَن أخّر صلاة العشاء إلی أن تشتبک النجوم، وکذا مَن لم ینصح أخاه فقد أُطلق علیه: «مَلعُونٌ مَلعُونٌ» (3) ، ومع ذلک لم یقل
ص: 169
أحد من الفقهاء بتحریمهما. وبالتالی فإنّ عبارة: «مَلعُونٌ مَلعُونٌ» فی هذه الروایة لا تدلّ علی حرمة التمیّز لغیر صاحب العزاء.
لقد ذُکر دلیلان لهذه النظریة، ولکنّهما لا یصلحان للاستدلال علی الحرمة. أمّا الدلیل الأوّل، فرغم أنّه حدیث معتبر إلّا أنّ دلالته لیست تامّة، یعنی الدلیل الأوّل (معتبرة السکونی) ظاهر فی الکراهة، وسیأتی الکلام فی ذلک. کما أنّ هناک جماعة من الفقهاء والعلماء استفادوا الکراهة من هذه الروایة. أمّا الدلیل الثانی، فهو ضعیف السند، ولیست دلالته علی الحرمة تامّة، ولذلک لا تصلح للاستدلال. وعلی هذا؛ فلا یوجد دلیل لنظریة تحریم التمیّز لغیر صاحب العزاء.
قالت جماعة من العلماء: بأنّ التمیّز مکروه لغیر صاحب العزاء. وقد نقل ابن حمزة هذا الرأی کنظریة مطروحة فی هذا المجال بقوله: «رُوِی»(1)، أمّا الشهید(2) والسبزواری(3) فقد صرّحا بکراهته. وقد نسب العلّامة المجلسی هذا الرأی إلی المشهور(4).
ومن القائلین بکراهة التمیّز ابن الأشعث؛ حیث إنّه أفرد لذلک باباً فی کتابه بعنوان:
ص: 170
«بَابُ کَرَاهِیَةِ الصِّیَاحِ حَوْلَ النَّعْشِ وَالْمَشْیِ بِغَیْرِ رِدَاءٍ»(1)، وفیه عطف المشی بغیر الرداء علی الصیاح حول النعش وقال بکراهتهما، فکلامه یحتمل أمرین:
یُحتمل أن یکون المقصود بالکراهة، صاحب العزاء فقط؛ حیث إنّه ذکر الصیاح حول النعش قبل المشی، وهذه قرینة تدعم هذا الاحتمال؛ لأنّ صاحب العزاء هو الذی یصیح عادةً، وبالتالی؛ فإنّ المراد بالمشی بغیر الرداء الذی عطفه علی الصیاح هو خصوص صاحب العزاء.
یُحتمل أن یکون هذان المکروهان موضوعین مختلفین لا علاقة بینهما، وهذا یعنی أن یکون المقصود بکراهة نزع الرداء أعمّ من صاحب العزاء وغیره، وأن لا یکون عطفه علی الصیاح قرینة علی اختصاص الحکم بصاحب العزاء. بل یمکن أن نقول: بأنّ المقصود بکراهة الصیاح أعمُّ أیضاً؛ لأنّه یحدث أحیاناً أن یصیح غیر صاحب العزاء حزناً علی المیّت. فالصیاح لا یخصّ صاحب العزاء حتی یکون قرینة علی اختصاص کراهة المشی بغیر الرداء بصاحب العزاء.
والصحیح هو الاحتمال الثانی، وأنّ مقصود ابن الأشعث أعمّ، ولا ینحصر علی صاحب العزاء. والدلیل علی ذلک:
أوّلاً: إطلاق کلامه. ثانیاً: أنّه روی حدیثاً واحداً فی هذا الباب، وهذا الحدیث مطلق لا یختصّ بصاحب العزاء، بل یشمل غیر صاحب العزاء أیضاً، وهذه قرینة علی أنّ مقصوده فی عنوان الباب مطلق. وعلی هذا؛ فإنّ کلام ابن الأشعث یدلّ علی کراهة التمیّز لغیر صاحب العزاء.
ص: 171
«مُحَمَّدُ بنُ أَحمَد بنِ یَحیَی، عَن إِبرَاهِیمَ بنِ هَاشِمٍ(1)، عَنِ النَّوفَلِیِّ(2)، عَنِ السَّکُونِیِّ(3)، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام)، عَن أَبِیهِ(علیه السّلام)، عَن آبَائهِ(علیهم السّلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ثَلَاثَةٌ مَا أَدرِی أَیُّهُم أَعظَمُ جُرماً؟ الَّذِی یَمشِی مَعَ الجَنَازَةِ بِغَیرِ رِدَاءٍ، أَوِ الَّذِی یَقُولُ: قِفُوا أَوِ الَّذِی یَقُولُ: استَغفِرُوا لَهُ غَفَرَ اللهُ لَکُم»(4).
اختلف العلماء فی جمیع رجال هذا السند إلّا محمّد بن أحمد بن یحیی، وهو إمامیٌّ
ص: 172
ثقة. ولکن یمکن توثیقهم اعتماداً علی القرائن التی ذکرناها فی هامش سند الروایة؛ وبالتالی یکون سند الروایة معتبراً.
استدلّ بها الشهید الأوّل فی الذکری(1)، والسبزواری فی الذخیرة(2)، واستنبطا منها الکراهة، ولکنّهما لم یذکرا الدلیل علی ذلک. ولقد استدلّ ابن الأشعث فی الأشعثیات بروایة قریبة من هذا المضمون(3).
لعلّ ما فکّر فیه هؤلاء الأعاظم هو أنّ هذه الروایة أطلقت الجرم علی ثلاثة أعمال، ولا شکّ فی عدم تحریم العملین الثانی والثالث، فیمکن أن نقول - اعتماداً علی القرینة السیاقیة -: إنّ العمل الأوّل (المشی مع الجنازة بغیر رداء) وهو الموضوع البحث (تمیّز غیر صاحب العزاء) لیس محرّماً أیضاً، بل هو مکروه فقط. ولو کان محرّماً للزم أن یُستعمل لفظ الجرم فی أکثر من معنی.
وهذا یعنی أنّ عبارة «أعظَمُ جُرماً» تدلّ علی الحرمة (طلب الترک) والکراهة (رجحان الترک) معاً. وهذا هو استعمال اللفظ فی أکثر من معنی، وقد ذهب بعض الفقهاء إلی أنّه لا یجوز، أمّا الذین قالوا بجوازه فقد قالوا: بأنّ هذا النوع من الاستعمال لم یقع فی الشرع. ولعلّ هؤلاء الأعاظم لم یجوّزوا استعمال اللفظ فی أکثر من معنی؛ وبالتالی إن لم یکن العمل الثانی والثالث محرّمین فإنّ العمل الأوّل لیس محرّماً أیضاً، وإن لم یکن محرّماً فهو مکروه؛ لإطلاق الجرم علیه.
ص: 173
استدلّ الشهید والسبزواری بهذه الروایة لإثبات کراهة التمیّز لغیر صاحب العزاء، ورغم أنّ هذه الروایة مطلقة ولا تختصّ بغیر صاحب العزاء لکنّهما قیّدا الحکم بغیر صاحب العزاء، ولم یتّضح لنا دلیلهما علی ذلک، ویبدو أنّه کان من الأفضل لهما أن یُصدرا حکماً مطلقاً: بأنّ التمیّز مکروه لصاحب العزاء وغیره، کما فعل ابن الأشعث.
ذُکر لهذه النظریة دلیل واحد، وهو معتبرة السکونی التی لا مشکلة فیها سنداً ودلالة. واستُنتج أنّ إقامة العزاء علی المیت بالتمیّز عن الآخرین مکروه لغیر صاحب العزاء.
ذهب جمع من العلماء إلی أنّ التمیّز مستحبّ لغیر صاحب العزاء فی بعض الحالات: کأن یکون لأولیاء الله والعلماء، وهذا ما قاله صاحب الجواهر: «قد یُستفاد من مرسل الفقیه وضع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) رداءه فی جنازة سعد بن معاذ... استحباب نزعه لغیره فی جنازة الأعاظم من الأولیاء والعلماء»(1).
أمّا الذین قالوا باستحباب التمیّز لخصوص الأعلام وأولیاء الله، فقد استدلّوا بدلیلین:
ص: 174
«وَقَد وَضَعَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) رِدَاءَهُ فِی جِنَازَةِ سَعدِ بنِ مَعَاذٍ (رحمه الله)، فَسُئِلَ عَن ذَلِکَ. فَقَالَ: إِنِّی رَأَیتُ المَلَائِکَةَ قَد وَضَعَت أَردِیَتَهَا؛ فَوَضَعتُ رِدَائِی»(1).
ولقد روی هذه الروایة البرقی فی المحاسن باختلاف یسیر، وسنذکرها کدلیل ثانٍ علی هذه النظریة.
رِدَاءٍ. فَقِیلَ لَهُ: یَا رَسُولَ الله، تَمشِی بِغَیرِ رِدَاءٍ؟ فَقَالَ: إنِّی رَأیتُ المَلائِکَةَ تَمشِی بِغَیرِ أردِیَة فَأحبَبتُ أن أتَأسِّی بِهِم» (1).
أُخرجت الروایتان فی کتابین مختلفین، وهما متقاربتان من ناحیة المضمون، أمّا الأُولی، فقد رویت فی کتاب الفقیه بسندٍ مرسل؛ وعلی هذا فهو ضعیف. وأمّا الثانیة، فقد رویت فی محاسن البرقی بسندٍ معتبر، فهناک قرائن تثبت وثاقة رواتها، وقد ذکرت هذه القرائن فی هامش سند الروایة.
استدلّ صاحب الجواهر بالروایة الأُولی(2) دون أن یذکر طریقة الاستدلال بها، وربما اعتمد هذه الطریقة فی استدلاله:
فمن جهة أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نزع رداءه فی تشییع جنازة سعد بن معاذ، وهو من سادة المسلمین، وتمیّز النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن الآخرین، وعلّل ذلک بأنّه تأسّی بالملائکة، وهذا یعنی أنّ فعل الملائکة مرغوبٌ فیه وراجح؛ ولهذا تأسّی بهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).
ومن جهةٍ أُخری، فإنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم یکن صاحب العزاء؛ فنستنتج أنّ التمیّز فی مصیبة الأعلام وأولیاء الله مستحبّ لغیر صاحب العزاء.
وکان من الأفضل لصاحب الجواهر أن یستدلّ بالروایة الثانیة؛ لأنّها معتبرة من ناحیة السند.
ص: 176
لقد ذُکر دلیلان علی هذه النظریة. أمّا الدلیل الأول ففی سنده ضعفٌ، ولکن یمکن القول باستحباب التمیّز؛ استناداً لأخبار: «مَن بلغ» علی بعض المبانی.
أمّا الدلیل الثانی، فهو صحیح السند وتامّ الدلالة. وعلی هذا؛ یمکن القول: بأن التمیّز فی مصیبة الأعلام وأولیاء الله مستحبّ لغیر صاحب العزاء.
ستُّ نظریات فی تمیّز صاحب العزاء عن الآخرین: الحرمة مطلقاً(1)، الکراهة مطلقاً، الجواز مطلقاً، الاستحباب مطلقاً، الجواز فی مصیبة أبیه وأخیه خاصّة، الجواز فی مصیبة أبیه وجده لأبیه خاصّة.
قال بعض العلماء: بأن تمیّز صاحب العزاء والمصیبة عن الآخرین حرام مطلقاً. نقل ابن إدریس فی السرائر رأی الشیخ بأنّه یجوز لصاحب المیّت أن یتمیّز عن غیره، بإرسال طرف العمامة، أو أخذ مئزر فوقها علی الأب والأخ، ثمّ قال: «لم یذهب إلی هذا سواه(رحمه الله)، والذی یقتضیه أُصول مذهبنا أنّه لا یجوز اعتقاد ذلک وفعله، سواء کان علی الأب، أو الأخ، أو غیرهما»(2).
ص: 177
علّل ابن إدریس لمدّعاه قائلاً: «والذی یقتضیه أُصول مذهبنا أنّه لا یجوز اعتقاد ذلک وفعله، سواء کان علی الأب، أو الأخ، أو غیرهما؛ لأنّ ذلک حکم شرعی، یحتاج إلی دلیلٍ شرعیّ ولا دلیل علی ذلک، فیجب إطراحه؛ لئلّا یکون الفاعل له مبدعاً؛ لأنّه اعتقاد جهل»(1).
ومقصوده من القواعد (أُصول مذهبنا) هو: (أصالة المنع) أو بعبارة أُخری: (أصالة الاحتیاط)، ولقد کان یعتقد بإجراء هذا الأصل فی الشبهات التحریمیة. وبعبارة أُخری: فقد کان إبن إدریس یعتقد بأنّ الأصل فی الأشیاء هو الحظر والمنع، وأمّا الإباحة فتحتاج إلی الدلیل، وادعی أنّه لا دلیل فیما نحن فیه علی الجواز فهو محکومٌ بالحرمة.
استشکل المحقّق الحلّی علی کلام ابن إدریس قائلاً: «وما ذکره المتأخّر غلط؛ لأنّ الشیخ لم یدّعِ استحبابه، بل ادّعی جوازه، وکلّما لم یوجبه العقل والشرع ولم یحرّمه، فإنّه جائز، فلا یجوز أن یعتقد إلّا ذلک...»(2).
وبتعبیرٍ آخر: فقد استشکل المحقّق علی ابن إدریس بأنّ إشکاله علی الشیخ غیر وارد؛ لأنّه لم یقل بالاستحباب حتّی یُطالَب بالدلیل، بل قال بالجواز. ولو قال الشیخ بالاستحباب لاستُشکل علیه بعدم الدلیل علی ذلک؛ حیث إنّ الاستحباب یحتاج إلی الدلیل. ولکنّه قال بالجواز، والقول بالجواز یعتمد علی القواعد والمعاییر، فإذا لم یوجد دلیل علی حرمة الشیء یُحکَم بجوازه، ولایُعتَبر فاعله مبدعاً.
لو فرضنا أنّ مستند الشیخ فی الجواز هو عدم الدلیل علی الحرمة فلماذا خصّ الجواز
ص: 178
بالأب والأخ؟ فلو کان مستند الحکم عدم الدلیل یلزم أن یجری هذا الحکم علی غیر الأب والأخ أیضاً. فیتّضح من تخصیص الجواز بالأب والأخ أنّ مستند الشیخ فی هذا الحکم لیس عدم الدلیل علی الحکم، بل هناک دلیلٌ آخر. ویبدو أنّه نفس الأدلّة التی سنذکرها لاحقاً التی تختصّ بجواز التمیّز علی الأب والأخ.
قال المحدّث البحرانی فی الحدائق: «نعم، ظاهر ابن الجنید القول بما قاله الشیخ، حیث ذکر التمیّز بطرح بعض زیّه بإرسال طرف العمامة - أو أخذ مئزر من فوقها - علی الأب والأخ، ولا یجوز علی غیرهما، فقول ابن إدریس - : إنّه لم یذهب إلی هذا سواه - لیس فی محلّه»(1).
ولقد بحثنا فیما بلغنا من کتب ابن الجنید ولم نعثر علی شیء ممّا ذُکر، ولکن یمکن أن یکون المحدّث البحرانی قد نقل هذا الکلام عمّا لم یبلغنا من کتب ابن الجنید.
لقد ثبت فی علم الأُصول أنّ الأصل الأوّلی هو جواز الأفعال ولیس عدمه، یعنی إذا شککنا فی حکم فعل فإنّ الأصل جواز ذلک الفعل، ولیس الأصل حرمته، کما صرّح بذلک المحقّق الحلّی(2).
لا شکّ فی أنّ نظریة تحریم التمیّز لیست صحیحة، فهناک دلیلٌ واحد علیها وهو عدم الدلیل علی الجواز، وقد ثبت أنّ هذا الدلیل لیس صحیحاً؛ وعلی هذا فإنّ تمیّز صاحب العزاء لیس حراماً مطلقاً.
ص: 179
کما تقدّم فی مبحث تمیّز غیر صاحب العزاء، فقد ذهب ابن الأشعث إلی أنّ التمیّز مکروه؛ لأنّه جعل باباً بعنوان «بَاب کَرَاهِیَةِ الصِّیَاحِ حَوْلَ النَّعْشِ وَالْمَشْیِ بِغَیْرِ رِدَاءٍ»(1) وقلنا: إنّ ظاهر کلامه مطلق ویشمل صاحب العزاء وغیره. وعلی هذا؛ فإنّه یقول: بأنّ تمیّز صاحب العزاء مکروه أیضاً.
ذکر العلماء دلیلین علی کراهة التمیّز لصاحب العزاء:
«أخبَرَنَا عَبدُ اللهِ بنُ مُحَمّدٍ، قَالَ: أخبَرَنَا مُحَمّدُ بنُ مُحَمّدٍ، قَالَ: حَدّثَنِی مُوسَی بنُ إسمَاعِیلٍ، قَالَ: حَدّثَنَا أبِی، عَن أبِیهِ، عَن جَدّهِ جَعفَرِ بنِ مُحَمّدٍ(علیهماالسّلام)، عَن أبِیهِ(علیه السّلام)، عَن جَدّهِ عَلِی بنِ الحُسَینِ(علیهماالسّلام)، عَن أبِیهِ(علیه السّلام)، عَن عَلِیِ بنِ أبِی طَالِبٍ(علیه السّلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): مَا أدرِی أیُّهُم أعظَمُ جُرماً؟ الّذِی یَمشِی مَعَ الجِنَازَةِ بِغَیرِ رِدَاءٍ أوِ الّذِی یَقُولُ: ارفَعُوا أوِ الّذِی یَقُولُ: استَغفِرُوا لَهُ غَفَرَ اللهُ لَکُم» (2).
فی سند هذه الروایة موسی بن إسماعیل وأبوه، ولم یرد فیهما توثیق فی کتب الرجال.
ص: 180
نقل الدلیل الأوّل عن الأشعثیات(3)، وهو دلیل مطلق یشمل موضوع البحث أیضاً، غیر أنّه لم یذکر طریقة الاستدلال بهذه الروایة، ولکن یمکن القول بأنّ تقریب الاستدلال بها کما مرّ فی الاستدلال بمعتبرة السکونی(4). وکان من الأفضل أن یستدلّ لإثبات مدّعاه بمعتبرة السکونی؛ لأنّها روایةٌ معتبرةٌ سنداً.
ذُکر دلیلان لهذه النظریة، وقلنا: إنّ الدلیل الأوّل ضعیفٌ سنداً. ولکن الدلیل الثانی معتبرٌ، وکلاهما یدلّان علی کراهة التمیّز. وبالتالی؛ نستنتج أنّ التمیّز مکروه لصاحب العزاء مطلقاً، کما أنّه مکروه لغیر صاحب العزاء مطلقاً أیضاً.
ذهب جمع من العلماء إلی أنّ التمیّز جائز لصاحب العزاء مطلقاً، منهم العلّامة فی
ص: 181
التلخیص(1) والنهایة(2)، والشهید الأوّل فی الذکری(3) والبیان(4)، والسبزواری فی الذخیرة(5)، ویوسف البحرانی فی الحدائق(6)، وحسین البحرانی فی السداد(7).
استُدلّ علی جواز التمیّز لصاحب العزاء مطلقاً بأربعة أدلّة:
«عَلِیُّ بنُ إِبرَاهِیم، عَن أَبِیهِ، عَنِ ابنِ أَبِی عُمَیرٍ، عَن بَعضِ أَصحَابِهِ، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: ینبَغِی لِصَاحِبِ المُصِیبَةِ أن یَضَعَ رِدَاءَهُ؛ حَتّی یَعلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ صَاحِبُ المُصِیبَةِ» (8).
ولکن لا توجد مشکلة فی سند هذه الروایة؛ لأنّ رواتها إمامیون ثقات إلّا إبراهیم بن هاشم الذی اختلف فیه العلماء، وقد ثبت سابقاً أنّه إمامیٌّ ثقة(1). وفی سندها یروی ابن أبی عمیر عن «بَعضِ أصحَابِنَا»، وهذا لا یخلّ بسند الروایة؛ لأنّ ابن أبی عمیر لا یروی ولا یُرسل إلّا عن الثقة(2)؛ وبالتالی فهذه الروایة معتبرة السند.
تمسّک بهذا الدلیل فی النهایة(3) والذکری(4) والحدائق(5)، واستدلال هؤلاء الأعاظم صحیح؛ لأنّ هذه الروایة تدلّ بالصراحة علی أنّ التمیّز جائزٌ لصاحب المصیبة مطلقاً.
«الحُسَینُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَن أَحمَدَ بنِ إِسحَاق، عَن سَعدَانَ بنِ مُسلِمٍ(6)، عَن أَبِی بَصِیرٍ، عَن
ص: 183
أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: یَنبَغِی لِصَاحِبِ المُصِیبَةِ أن لاَ یَلبَسَ رِدَاءً، وَأن یَکُونَ فِی قَمِیصٍ حَتّی یُعرَفَ»(1).
لا مشکلة فی سند هذه الروایة، غیر أنّ العلماء اختلفوا فی وثاقة سعدان، وبملاحظة القرائن التی ذُکرت فی هامش سند الروایة یمکن القول: إنّه ثقة، وهذه الروایة معتبرة.
یُحتمل أن یکون الدلیل الثانی من کتاب الذکری؛ حیث قال الشهید: «أمّا صاحب الجنازة، فیخلعه لیتمیّز عن غیره؛ لما مرّ، ولخبر ابن أبی عمیر المرسل عن الصادق(علیه السّلام) وخبر أبی بصیر عنه(علیه السّلام)...»(2). ولکنّه لم یذکر نصّ الروایة، رغم أنّ المقصود بخبر أبی بصیر متردّد بین هذه الروایة والروایة التالیة التی سنذکرها کدلیلٍ ثالث. إذن؛ لا یمکن أن نقول جزماً ما هی الروایة التی قصدها الشهید عند الاستدلال بخبر أبی بصیر.
وقد یحتمل أن تکون کلتا الروایتین روایة واحدة، بمعنی أنّ أبا بصیر قد رواها
ص: 184
بلفظین. ولکن فی نهایة المطاف، فإنّ هذه الروایة تدلّ کالروایة الأُولی علی أنّ التمیّز جائزٌ لصاحب العزاء مطلقاً.
«عَنهُ (أحمَدِ بنِ أبِی عَبدِ اللهِ البَرقِیّ)، عَن أبِیهِ، عَن سُعدَانَ، عَن أبِی بَصیر، عَن أبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: یَنبَغِی لِصَاحِبِ الجِنَازَةِ أن یُلقِی رِدَاءَهُ حَتّی یُعرَفَ، وَیَنبَغِی لِجِیرَانِهِ أن یُطعِمُوا عَنهُ ثَلاثَةَ أیّامٍ»(1).
لا مشکلة فی سند هذه الروایة أیضاً. نعم، فی سندها سعدان کالروایة السابقة، وقد مرّ الکلام هناک عن وثاقته؛ وبالتالی فهذه روایة معتبرة.
کما سبق البیان فی الدلیل السابق، فهذا الدلیل أیضاً یمکن أن یکون من کتاب الذکری للشهید الأوّل (2)، وهذه الروایة کالروایتین السابقتین تدلّ بوضوح علی جواز التمیّز لصاحب العزاء مطلقاً.
«عَلِیُّ بنُ إِبرَاهِیم، عَن أَبِیهِ، عَنِ ابنِ أَبِی عُمَیرٍ، عَنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ(3)، عَنِ الحُسَینِ بنِ
ص: 185
عُثمَان قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِسمَاعِیلُ بنُ أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) خَرَجَ أَبُو عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) فَتَقَدَّمَ السَّرِیرَ بِلاَ حِذَاءٍ وَلاَ رِدَاءٍ»(1).
لا مشکلة فی سند هذه الروایة؛ لأنّ کلّ رواتها إمامیون ثقات، إلّا القاسم بن محمّد الذی اختلف العلماء فی وثاقته، ولکن هناک قرائن علی وثاقته کما مرّت فی هامش سند الروایة، وإذا اعتمدنا علیها فیمکن أن نقول: إنّ هذا الراوی ثقة وهذه الروایة معتبرة.
استدلّ بها العلّامة الحلّی(2) علی جواز التمیّز مطلقاً ودلالتها علی ذلک واضحة. فهی تدلّ علی أنّ صاحب العزاء وهو الإمام الصادق(علیه السّلام) تمیّز عن غیره بخلع الرداء، کما أنّ المیّت فی هذه الروایة هو ابن الإمام(علیه السّلام) ولیس أباه أو أخاه أو جدّه لأبیه. وبالتالی؛ نستفید من هذه الروایة أنّ التمیّز جائزٌ لصاحب العزاء مطلقاً، ولا یختصّ الجواز
ص: 186
بمصیبة أبیه أو أخیه أو جدّه لأبیه، کما أنّه لا یحتمل وجود خصوصیة لمصیبة الابن.
نظریة جواز التمیّز لصاحب العزاء مطلقاً نظریة صحیحة تماماً؛ حیث إنّ الروایات الأربع المذکورة لإثباتها معتبرة ودلالتها تامّةٌ، وبالتالی فهذه النظریة صحیحة.
ذهب فریقٌ من العلماء بأنّ تمیّز صاحب العزاء لیس جائزاً فحسب، بل هو مستحبٌّ أیضاً منهم ابن حمزة فی الوسیلة(1)، العلّامة الحلّی فی التذکرة(2)، المجلسی فی بحار الأنوار(3) ومرآة العقول(4) وزاد المعاد(5)، والشیخ محمد حسن النجفی فی الجواهر (6). کما أن بعض العلماء وإن لم یصرّح باستحباب ذلک غیر أنّ ظاهر کلامه یُوحی بذلک کالأردبیلی فی المجمع، والسبزواری فی الذخیرة، حیث قالا: «ینبغی هذا العمل لصاحب المیت»(7)، والظاهر من لفظ (ینبغی) هو مطلوبیة الفعل واستحبابه.
ذکر ثلاثة أدلّة علی استحباب التمیّز لصاحب العزاء:
ص: 187
الروایات التی ذُکرت فیها علّة التمیّز عبارة عن:
أوّلاً: معتبرة ابن أبی عمیر(1) التی مرّ الکلام عنها(2)، وقد استدلّ بها فی التذکرة(3)، والمجمع(4)، والذخیرة(5)، والجواهر(6).
ثانیاً: المعتبرة الأُولی لأبی بصیر(7)، وقد سبق الکلام عنها أیضاً(8)، واستدلّ بها فی المجمع(9)، والذخیرة(10)، والجواهر(11).
ثالثاً: المعتبرة الثانیة لأبی بصیر(12) التی سبق بیانها(13)، وهی الروایة التی استدلّ بها
ص: 188
صاحب الحدائق(1)، وتقدم أنّ جمیع هذه الروایات معتبرة(2).
إنّ الذین استدلّوا بهذه الروایات لم یبیّنوا تقریب الاستدلال بها، إلّا صاحب الجواهر، ولکن یمکن استفادة الاستحباب من هذه الروایات اعتماداً علی وجود أمرین فیها:
1. کلمة (ینبغی): حیث یظهر من هذه الکلمة أنّ هذا العمل مستحبّ ومرغوب فیه.
2. التعلیل: یدلّ علی الاستحباب، کما قال صاحب الجواهر: «بل یقتضی التعلیل المذکور استحباب تغییر هیئة اللباس»(3).
فی جنازة سعد بغیر رداء، ولا توجد صلة قرابة بین النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وسعد (أی: إنّه لیس أخاه، أو أباه، أو جدّه لأبیه). ثمّ علّل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) موقفه بأنّه تأسّی بالملائکة، وهذا یعنی أنّ ما فعله النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أمرٌ مرغوبٌ فیه. إذن؛ نستفید من هذه الروایة أنّ التمیّز مستحبٌّ لغیر صاحب العزاء، فیثبت استحبابه لصاحب العزاء بطریقٍ أوْلی؛ إذ لا معنی لاستحباب التمیّز لغیر صاحب العزاء، وعدم استحبابه لصاحب العزاء؛ لأنّه المفجوع وصاحب المصیبة الحقیقی، فهذه الروایة تدلّ علی استحباب التمیّز للجمیع.
کما تقدم سابقاً(1) فإنّ هذه الروایة أخصّ من المدّعی؛ وذلک لأنّ سعد بن معاذ لم یکن شخصاً عادیاً، بل کان من الأعاظم؛ ولذلک یمکن أن یکون التمیّز مستحبّاً فی خصوص مصائب الأعاظم، ولیس کلّ الناس، فغایة ما تدلّ علیه الروایة هو أنّ التمیّز مستحبٌّ فی مصیبة الأعاظم وأولیاء الله. والحال أنّ البحث لیس فی خصوص الأعاظم، بل فی مطلق الناس، إذن؛ لا یمکن الاستدلال بالأولویة لتعمیم الحکم علی صاحب العزاء إلّا إذا کان المیّت من الأعاظم.
جاء هذا الدلیل فی تذکرة الفقهاء(1) ومجمع الفائدة(2) وذخیرة المعاد(3)، ودلالتها علی المطلوب واضحةٌ، فالإمام الصادق(علیه السّلام) صاحب العزاء وفعله یدلّ علی استحباب التمیّز، هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخری فإنّ إسماعیل ابن الإمام(علیه السّلام) ولم یکن والده أو أخاه؛ وبالتالی لا یختصّ حکم الاستحباب بمصیبة الأب أو الأخ، بل التمیّز مستحبّ مطلقاً، ولا توجد خصوصیة للابن قطعاً؛ إذ لا یحتمل الخصوصیة فیه. إذن؛ یمکن أن نقول: هذه الروایة تدلّ علی أنّ التمیّز مستحبّ لصاحب العزاء مطلقاً، ولو فی مصیبة أشخاص غیر الأب والأخ.
هذه النظریة صحیحة تماماً، فقد ذُکر لإثباتها ثلاثة أدلّة (خمس روایات) کلّها معتبرة، وتامّة الدلالة، إلّا الدلیل الثانی؛ لوجود مشکلة فی دلالته. وعلی هذا؛ نستنتج أنّ هذه النظریة صحیحة، فثبت استحباب التمیّز لصاحب العزاء بشکل مطلق.
نقل العلامة الحلّی فی المنتهی قول الشیخ بالتفصیل بین الأب والأخ وغیرهما، ثمّ نقل قول ابن إدریس علی تحریم التمیّز مطلقاً، فقال: «والأقرب عندی ما قاله الشیخ؛ لأنّه قد ورد استحباب التمیّز بنزع الرداء، وکذا بإرسال طرف العمامة، أو أخذ مئزرٍ فوقها، ویؤیّده تعلیل الصادق(علیه السّلام)»(1).
ومراد العلّامة بالمؤیّد، تلک الروایات التی مرّ ذکرها، أی: معتبرة ابن أبی عمیر(2) والمعتبرة الأُولی(3) والثانیة(4) لأبی بصیر. ولقد قمنا بدراسة أسانید هذه الروایات وتبیّن أنّها روایات معتبرة السند(5).
الإشکال الأوّل: قال العلّامة: بأنّ الجواز یختصّ بمصیبة الأب والأخ، ولکنّه لم یذکر دلیلاً علی مدّعاه؛ لأنّ الروایات التی استدلّ بها علی التمیّز مطلقة، ولا تختصّ بمصیبة الأب أو الأخ.
ص: 192
الإشکال الثانی: الروایات المؤیّدة التی أشار إلیها العلّامة لا تؤیّد تفصیل الشیخ؛ لأنّها تجوّز التمیّز بشکلٍ مطلق دون أی تفصیل؛ وبالتالی فهی دلیلٌ علی بطلان القول بالتحریم المطلق، والذی ذهب إلیه ابن إدریس، ولا تؤیّد نظریة اختصاص الجواز بمصیبة الأب والأخ.
لیست هذه النظریة تامّة، فالأدلّة التی ذُکرت لا تدلّ علی التفصیل الذی قالوا به (اختصاص الجواز بمصیبة الأب والأخ) بل هی مطلقة. فإذن؛ التفصیل الأوّل بدون دلیل.
قال أبوالصلاح الحلبی فی الکافی: «ویستحبّ للرجل أن یحفی ویحلّ أزراره فی جنازة أبیه وجدّه لأبیه، دون مَن عداهم»(1).
تفرّد الحلبی بهذا النوع من التفصیل(2)، ولم یذکر دلیلاً علی ما ذهب إلیه.
لم یُذکر لهذه النظریة دلیل، فکلام الحلبی لیس مصحوباً بدلیل، وبعد البحث والتأمّل فی الروایات تبیّن أنّ هذا النوع من التفصیل لا یعتمد علی دلیل.
ص: 193
لا شکّ فی أنّ نظریة التحریم لیست تامة؛ لأنّ دلیلها الأوّل مرفوض لمشکلة فی دلالته ودلیلها الثانی مرفوض لمشکلة فی سنده، ولکن نظریة الکراهة صحیحة، فالروایة التی تعتمد علیها هذه النظریة صحیحةٌ وتامّةُ الدلالة.
کما أنّ نظریة استحباب التمیّز لخصوص أولیاء الله صحیحة أیضاً؛ لأنّها تستند إلی روایة صحیحة سنداً وتامّةٍ دلالةً. إذن؛ هذه الروایة تخصّص أدلّة الکراهة فتختصّ الکراهة بالتمیّز لغیر أولیاء الله؛ لأنّ التمیّز فی مصیبة أولیاء الله مستحبّ.
النظریة الأُولی (التحریم مطلقاً) لیست تامّة. ولکن النظریات الثانیة والثالثة والرابعة (الکراهة مطلقاً، الجواز مطلقاً، والاستحباب مطلقاً) صحیحة؛ لأنّها تستند إلی روایات معتبرةٍ تامة الدلالة. أمّا النظریتان الخامسة والسادسة (التفصیل الأوّل والثانی) فلا دلیل علیهما.
ویمکن الجمع بین أدلّة الکراهة والاستحباب بأن نقول: صحیح أنّ أدلّة نظریتی الکراهة والاستحباب تامّة، ولکن الروایات الدالّة علی الکراهة مطلقة وتشمل غیر صاحب العزاء أیضاً، والروایات الدالّة علی الاستحباب تختصّ بصاحب العزاء؛ فنستنتج أنّ الروایات الدالّة علی الکراهة لا ترید الإطلاق بل تختصّ بغیر صاحب العزاء أی: تُحمل روایات الکراهة علی غیر صاحب العزاء، وتُحمل روایات الاستحباب علی صاحب العزاء من دون معارض.
نعم، هناک تفصیلٌ آخر یتعلّق بغیر صاحب العزاء، فالتمیّز فی مصیبة أولیاء الله والأعاظم مستحبٌّ، ولکنّه مکروهٌ فی مصیبة عامّة الناس، وروایات الکراهة هذه
ص: 194
تتعلّق بعامّة الناس. وبالتالی؛ فهی لا تتعارض مع الروایات الدالّة علی استحباب التمیّز لغیر صاحب العزاء فی خصوص مصائب أولیاء الله.
ونستنتج أنّ تمیّز غیر صاحب العزاء فی المصیبة لیس محرّماً، بل هو مستحبٌّ فی بعض الحالات (أی: فی مصائب أولیاء الله والأعاظم)، ولکنّه مکروهٌ فی مصیبة غیرهم. کما أنّ تمیّز صاحب العزاء لیس محرّماً، بل هو مستحبٌّ مطلقاً (سواء أکان فی مصیبة الأب والجد والأخ، أو غیرهم).
ذکر العلماء ثلاث نظریات فی حکم إقامة العزاء بالنوح، وهی: التحریم مطلقاً(1)، الکراهة مطلقاً، والتفصیل بین النوح بالحقّ أو بالباطل.
ادّعی الشیخ الإجماع علی تحریم النوح(1)، وکلامه مطلق یشمل النوح بالحقّ أیضاً.
یرد علیه نفس الإشکال السابق علی الإجماعات المنقولة(2).
أشار النراقی إلی الدلیل الثانی کنظریة فی هذا المجال (قیل) حیث قال: «والحقّ جواز النوح علیه بالحقّ لا بالباطل... والجمع بین المستفیضة المجوّزة الواردة فی موارد مختلفة والأخبار الناهیة عنه، بحمل الأُولی علی الحقّ والثانیة علی الباطل. وقیل بتحریمه مطلقاً أخذاً بإطلاق الثانیة(3)، وضعفه ظاهر»(4).
أشار النراقی إلی هذا الدلیل ثمّ ضعّفه، أمّا السبب فی ضعفه فیعود إلی وجود إطلاقات مجوّزة مقابل الإطلاقات الناهیة، فلا بدّ من الجمع بین هذین الفریقین من الروایات.
ص: 196
لا شکّ فی أنّ النظریة الأُولی لیست تامّة؛ وذلک لضعف دلیلیها.
قال السیّد محمد جواد العاملی فی مفتاح الکرامة: «والقول بالکراهیة مطلقاً غیر بعید، کما نصّ علیه فی التهذیب(1) وغیره(2)؛ لمکان الموثّقة المذکورة، موثّقة سماعة من قوله: سألته عن کسب المغنّیة والنائحة، فکرهه»(3).
«رَوَی الحُسَینُ بنُ سَعِیدٍ، عَن عُثمَانَ بنِ سَعِیدٍ، عَن سمَاعَةَ قَالَ: سَأَلتُهُ [أَبَا عَبْدِ اللهِ(علیه السّلام)] عَن کَسبِ المُغَنِّیَةِ والنَّائِحَةِ فَکَرِهَهُ»(4).
أخرج الشیخ هذه الروایة فی التهذیب، وذکر فی سندها اسم عثمان بن سعید. ولکن إذا اعتمدنا علی قرینة (الراوی والمروی عَنه) نکتشف أنّه فی الحقیقة عثمان بن عیسی. کما أنّ الشیخ نفسه ذکر فی سندها اسم عثمان بن عیسی، عندما نقل الروایة فی الاستبصار(5)، أما فیما یتعلّق بوثاقته، فقد شهد النجاشی والشیخ بأنّه قال بالوقف بعد
ص: 197
استشهاد الإمام الکاظم(علیه السّلام)(1)، وکان من رؤساء الواقفة، ولکن حسب روایة الکشی فإنّه قد تاب عن الوقف(2)، وأنّه ثقة. کما ذهبت جماعة إلی أنّه من أصحاب الإجماع (3). إذن؛ هذه الروایة معتبرة السند، کما عدّها فی مفتاح الکرامة موثقة(4).
استدلّ بها السیّد محمد جواد العاملی لإثبات کراهة النوح بالباطل وقال: «والقول بالکراهیة مطلقاً غیر بعید... لمکان الموثّقة المذکورة»(5).
تختصّ هذه الروایة بمَن تمتهن النوح وتکسب المال عن طریق النوح علی موتی الآخرین، وهذا لا علاقة له بصاحب العزاء الذی ینوح علی فقیده. إذن؛ لا یصحّ استدلاله بهذه الروایة.
النظریة الثانیة صحیحة؛ لأنّ الروایة المذکورة معتبرة السند وتامّة الدلالة؛ وعلی هذا فإنّ النوح علی المیّت مکروه مطلقاً، حتّی لو کان بالحقّ.
قال کثیرٌ من العلماء بالتفصیل، فجوّزوا النوح بالحقّ وحرّموا النوح الباطل.
ص: 198
وصرّح بهذا التفصیل فریقٌ من هؤلاء، کالمحقّق الحلّی فی المختصر(1)، والعلّامة الحلّی فی التذکرة(2) والنهایة(3) والمنتهی(4)، والشهید الأوّل فی البیان(5)، والشهید الثانی فی الروضة(6)، والسبزواری فی الذخیرة(7)، والمجلسی فی البحار(8) وزاد المعاد(9)، والنراقی فی المعتمد(10)، والبحرانی فی السداد(11)، والشیخ محمد حسن النجفی فی النجاة(12).
وهناک فریق آخر من المفصّلین لم یصرّحوا بالتفصیل، ولکن مفهوم کلامهم یُوحی بذلک، من قبیل: ابن إدریس فی السرائر(13)، العلّامة الحلّی فی التحریر(14)، الشهید الأوّل فی الذکری(15)، المحقّق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(16)، الفیض الکاشانی فی مفاتیح الشرائع(17) والنخبة(18)، والمحقّق القمی فی غنائم الأیّام§ُنظر: المیرزا القمّی، أبو القاسم، غنائم الأیّام: ج 3، ص557.
نظریة التفصیل بین النوح بالحقّ والنوح بالباطل، تشتمل علی دلیلین:
اعتبر بعض العلماء أن نظریة التفصیل تستند إلی الإجماع، کما قال العلّامة فی منتهی المطلب(1)، والمجلسی فی البحار (2). بینما البعض الآخر لم یدّع الإجماع علی ذلک، بل نقل الإجماع عن الآخرین، منهم النراقی فی معتمد الشیعة (3). ونقل ابن إدریس فی السرائر الإجماع علی أحد طرفی التفصیل (أی: تحریم النوح بالباطل فقط)(4). ویثبت من مفهوم کلامه الإجماع علی الطرف الأخر أیضاً، کما أنّ السبزواری ادّعی عدم الخلاف علی القول بالتفصیل(5).
إنّ الإجماع المنقول لیس حجّة کما مرّ، وکذلک ادّعاء عدم الخلاف؛ فالعلماء طعنوا فی حجّیة الإجماع المنقول، رغم أنّه أفضل من ادّعاء عدم الخلاف؛ فلا یبقی شکٌّ فی عدم حجّیة ادّعاء عدم الخلاف(6)، وفضلاً عن ذلک فقد ثبت فی علم الأُصول أنّ ادّعاء عدم الخلاف لیس حجّةً شرعاً، ولا یمکن الاعتماد علیه.
ص: 200
یتضمّن الدلیل الثانی علی القول بالتفصیل ثلاث روایات:
«أَحمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَن عَلِیِّ بنِ الحَکَمِ، عَن مَالِکِ بنِ عَطِیَّة، عَن أَبِی حَمزَة، عَن أَبِی جَعفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ: مَاتَ الوَلِیدُ بنُ المُغَیرَةِ فَقَالَت أُمُّ سَلَمَة لِلنَّبِیِّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إنّ آلَ المُغیرَةِ قَد أَقَامُوا مَنَاحَةً فَأَذهَبُ إِلَیهِم؟ فَأَذِنَ لَهَا، فَلَبِسَت ثِیَابَهَا وَتَهَیَّأَت... فَنَدَبَتِ ابنَ عَمِّهَا بَینَ یَدَی رَسُولِ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )... قَالَ(علیه السّلام): فَمَا عَابَ ذَلِکَ عَلَیهَا النَّبِیُّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وَلَا قَالَ شَیئاً»(1).
سند هذه الروایة صحیح؛ لأنّ جمیع رواتها إمامیون ثقات. ورغم أنّه أسند الروایة إلی «عِدَّةٍ مِن أصحَابِنَا» إلا أنّه لا یخلّ بصحة السند، کما مرّ بیانه(2).
ذکر هذا الدلیل فی کتاب غنائم الأیّام(3)، ولکن المیرزا القمی لم یتطرّق إلی تقریب الاستدلال، ولعلّ تقریبه بأنّ أُمّ سلمة أرادت الذهاب إلی مجلس النوح، وندبت بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فلم ینهَ عن ذلک. ثمّ لا شکّ فی أنّ أُمّ سلمة لا تنوح بکلمات قبیحة وباطلة؛ لأنّ صدور هذا الفعل عن أُمّ سلمة بعید، خاصّةً عندما تکون بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؛ فیتّضح أنّ فعلها جائزٌ ویؤیّده النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). إذن؛ نستنتج أنّ النوح بالحقّ جائزٌ، والنوح بالباطل حرامٌ.
ص: 201
لا شکّ فی أنّ أُمّ سلمة ناحت بالحقّ؛ ولذلک فإنّ هذه الروایة سکتت عن النوح بالباطل، وعلی هذا؛ فإنّ الدلیل أخصّ من المدّعی. وبتعبیرٍ آخر: فإنّ غایة ما تثبته هذه الروایة هی أنّ النوح بالحقّ جائزٌ، ولکنّها لا تدلّ علی حرمة النوح بالباطل.
«وَعَن عَلِیِّ بنِ أَحمَد العَاصِمِیِّ، بِإِسنَادِهِ عَن مُوسَی بنِ جَعفَرٍ(علیهماالسّلام)، عَن آبَائِهِ(علیهم السّلام) ، عَن عَلِیٍّ(علیه السّلام): أنّ فَاطِمَةَ لَمَّا تُوُفِّیَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کانَت تَقُولُ: وَا أَبَتَاه! مِن رَبِّهِ مَا أَدنَاهُ! وَا أَبَتَاه! جَنَانُ الخُلدِ مَثوَاهُ! وَا أَبَتَاه! یُکرِمُهُ رَبُّهُ إِذَا أَتَاهُ! یَا أَبَتَاه! الرَّبُّ والرُّسُلُ تُسَلِّمُ عَلَیهِ حِینَ تَلقَاهُ!»(1).
فی سند هذه الروایة علی بن أحمد العاصمی الذی لم یُذکر اسمه فی کتب الرجال.
هذا الدلیل استدلّ به فی الذکری (3) والغنائم (4) أیضاً، ولکن یرد علیه نفس الإشکال الذی ورد علی دلالة الدلیل السابق، أی: أنّه أخصّ من المدّعی.
الجمع بین الروایات المجوّزة والروایات الناهیة یدلّ علی أنّ النوحَ بالحقّ جائزٌ، والنوح بالباطل حرامٌ. وبعبارةٍ أُخری: فإنّ الروایات المجوزة تُحمَل علی النوح بالحقّ، والروایات الناهیة تُحمَل علی النوح بالباطل.
قال الآملی: «بل الشهید فی الذکری(1) استظهر من کلام المبسوط وابن حمزة إرادتهما النوح بالباطل؛ ممّا حرّماه، مستشهداً بأنّ نیاحة الجاهلیة کانت کذلک غالباً»(2).
بمعنی أنّ النیاحة لما کانت فی الجاهلیة تترافق غالباً مع أقوال باطلة؛ ولذلک ورد النهی عنها فی روایات أهل البیت(علیهم السّلام) ، وهکذا یتبیّن أنّ أصل النوح جائزٌ، ولکن یجب أن لا یترافق مع أقوالٍ باطلة.
ذکرنا ثلاثة أدلّة للنظریة الثالثة (التفصیل بین النوح بالحقّ أو بالباطل):
الدلیل الأوّل (الإجماع) : وهو غیر معتبر فی ما نحن فیه.
والدلیل الثانی (الروایات) : ضعیفٌ؛ لوجود مشاکل فی السند أو الدلالة أو کلیهما.
أمّا الدلیل الثالث (الجمع بین الروایات): فلا مشکلة فیه.
نظریة التحریم المطلق لیست صحیحة کما تقدّم؛ لأنّها تستند إلی الإجماع وعدم الخلاف، ولا حجّیة لهما، کما أنّه لا یصحّ الاستدلال بخصوص إطلاقات الروایات الناهیة لإثبات الحرمة.
أمّا نظریة الکراهة مطلقاً فهی صحیحة؛ لأنّها تستند إلی روایة صحیحة السند وتامّة الدلالة، تبقی نظریة التفصیل بین النوح بالحقّ والباطل، وقد ذکرنا لها ثلاثة أدلّة وقلنا:
ص: 204
إنّ الدلیلین الأوّلین ضعیفان؛ لعدم الحجّیة، أو لأنّهما أخصّ من المدّعی، ولکن یبقی له دلیلٌ آخر صحیح، وهو الجمع بین الروایات الناهیة والروایات المجوزة، وهو مدعومٌ بشاهد جمعٍ کما سبق.
إذن؛ نستنتج أنّ إقامة العزاء بالنوح جائزٌ إذا لم یشتمل علی أقوالٍ باطلة، وإلّا فلیس بجائز. وبناءً علی الدلیل المذکور فی نظریة الکراهة یمکن القول: بأنّ النوح من دون أقوال باطلة جائزٌ، ولکنّه فی نفس الوقت مکروهٌ.
للفقهاء ثلاث نظریات حول حکم الصراخ فی مصیبة المیت، وهی: الکراهة مطلقاً(1)، التحریم مطلقاً، والتفصیل بین الصراخ المعتدل والخارج عن حدّ الاعتدال.
ذکر العلماء أربعة أدلّة لإثبات کراهة الصراخ فی مصیبة المیّت:
«عَلِیُّ بنُ إِبرَاهِیم، عَن أَبِیهِ، عَن ابنِ مَحبُوبٍ، عَن عَلِیِّ بنِ رِئَابٍ، عَن زُرَارَةَ، قَالَ: حَضَرَ أَبُو جَعفَرٍ(علیه السّلام) جَنَازَةَ رَجُلٍ مِن قُرَیشٍ وَأَنَا مَعَهُ، وَکَانَ فِیهَا عَطَاءٌ، فَصَرَخَت صَارِخَةٌ، فَقَالَ عَطَاءٌ: لَتَسکُتِنَّ أَو لَنَرجِعَنَّ. قَالَ: فَلَم تَسکُت. فَرَجَعَ عَطَاءٌ، قَالَ: فَقُلتُ: لِأَبِی جَعفَرٍ(علیه السّلام) أنّ عَطَاءً قَد رَجَعَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قُلتُ: صَرَخَت هَذِهِ الصَّارِخَةُ فَقَالَ لَهَا: لَتَسکُتِنَّ أَو لَنَرجِعَنَّ. فَلَم تَسکُت، فَرَجَعَ، فَقَالَ: امضِ بِنَا؛ فَلَو أَنَّا إِذَا رَأَینَا شَیئاً مِنَ البَاطِلِ مَعَ الحَقِّ تَرَکنَا لَهُ الحَقَّ؟ لَم نَقضِ حَقَّ مُسلِمٍ»(1).
سند هذه الروایة صحیحٌ؛ لأنّ جمیع رواتها إمامیون ثقات.
ذُکر هذا الدلیل فی کتاب الحبل المتین (2) للشیخ البهائی، وقد استفاد من کلمة «باطل» تأکُّد کراهة الصراخ علی المیّت، وهذه الاستفادة صحیحة والقرینة علی ذلک: أنّ إطلاق کلمة «الحقّ» علی أمرٍ لا یعنی بالضرورة أنّه واجب؛ إذ یصح إطلاقها علی کلّ أمر صحیح، ونقول - اعتماداً علی قرینة المقابلة - : إنّ کلمة الباطل کذلک لا تختصّ بالأُمور المحرّمة، بل تُطلق علی المکروه أیضاً. إذن؛ لا یمکن استفادة التحریم من هذه العبارة، والصواب أنّها تدلّ علی الکراهة.
ص: 206
أمّا قوله(علیه السّلام): «لَم نَقضِ حَقَّ مُسلِمٍ». فإنّ المراد منه حضور جنازة هذا المیّت؛ حیث إنه لا شکّ فی أنّ الحضور لیس واجباً، بل مستحبٌّ تدعو إلیه الأخلاق الإسلامیة. وعلی هذا؛ یمکن أن نقول: یتبیّن بالاعتماد علی قرینة السیاق أنّ کلمة «باطل» فی هذه الروایة لا تدلّ علی حرمة الفعل، بل تدلّ علی کراهته، وهکذا تتّضح صحّة الاستدلال بهذه الروایة علی کراهة الصراخ.
«عِدَّةٌ مِن أَصحَابِنَا، عَن سَهلِ بنِ زِیَادٍ، عَنِ الحَسَنِ بنِ عَلِیٍّ، عَن عَلِیِّ بنِ عُقبَة، عَنِ امرَأَةِ الحَسَنِ الصَّیقَلِ، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: لاَ یَنبَغِی الصِّیَاحُ عَلی المَیِّتِ، وَلاَ شَقُّ الثِّیَابِ»(1).
سند هذه الروایة ضعیف؛ لوجود امرأة الحسن الصیقل، حیث إنّها لم تُذکر فی کتب الرجال، ولقد صرّح السیّد الخوئی بضعف هذه الروایة(2). إذن؛ لا بدّ من الاستدلال بمعتبرة جرّاح المدائنی؛ لأنّ مضمونها قریب من هذه الروایة، وسیأتی الکلام عنها کدلیل ثالث علی هذه النظریة.
رواها عن الحسن الصفّار أیضاً إلّا أنّ الصحیح أنّها روایة امرأة الحسن الصیقل، وقد أشار إلیه صاحب الجواهر بقوله: «أنّ المعروف فی کتب الفروع عن الحسن الصیقل، وفی الذکری الصفّار بدل الصیقل، والأمر سهل»(1).
وقد کان من الأفضل أن یستدلّ الشهید بمعتبرة جرّاح المدائنی، والتی تحمل مضموناً مماثلاً ولا مشکلة فی سندها. ورغم ذلک، فإنّ دلالة هذه الروایة علی المدّعی واضحة، وکما سیأتی فی المباحث القادمة فقد اعتبر بعض العلماء أنّ عبارة «لا ینبغی» ظاهرة فی التحریم، ولکن الحقیقة أنّها ظاهرة فی الکراهة، کما استظهره الشهید.
«مُحَمَّدُ بنُ یَحیَی، عَن أَحمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عِیسَی، عَنِ الحُسَینِ بنِ سَعِیدٍ، عَنِ النَّضرِ بنِ سُوَیدٍ، عَنِ القَاسِمِ بنِ سُلَیمَان(2)، عَن جَرَّاحِ المَدَائِنِیِّ(3)، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: لاَ یَصلُحُ الصِّیَاحُ عَلَی المَیِّتِ وَلاَ یَنبَغِی، وَلَکِنَّ النَّاسَ لاَ یَعرِفُونَهُ، وَالصَّبرُ خَیرٌ»(4).
ص: 208
لا مشکلة فی سند هذه الروایة، ولکن فیه القاسم بن سلیمان وجرّاح المدائنی، وکما مرّ فی هامش سند الروایة یمکن توثیقهما عبر مجموعة من القرائن. إذن؛ هذه الروایة معتبرة ولا علّة فی سندها.
وردت فی هذه الروایة عبارتا «لا یصلح» و«لا ینبغی» وظاهرهما کراهة الصیاح.
نقل العلّامة المجلسی هذه الروایة فی بحار الأنوار(3)، ولها دلالة واضحة علی الکراهة؛ لأنّها لا تصرّح بالنهی، بل هی فی مقام تبیین أمر أخلاقی.
ذکرنا لهذه النظریة أربعة أدلّة، وکلّ هذه الأدلّة تامٌّة وصحیحة من ناحیة السند والدلالة، إلّا الدلیل الثانی. وبناءً علی هذا؛ فلا توجد مشکلة فی النظریة الأُولی.
ذهب جمع من العلماء إلی تحریم الصیاح فی مصیبة المیّت، منهم: المحدِّث البحرانی فی
ص: 209
الحدائق(1)، والآملی فی مصباح الهدی(2)، والخوئی فی الموسوعة(3).
ذکر القائلون بتحریم الصیاح دلیلین لإثبات مدّعاهم:
یظهر من کلام الشیخ محمد تقی الآملی أنّ العلماء قد أجمعوا علی تحریم الصیاح؛ حیث إنّه نسب حکم التحریم إلی الأصحاب(4).
حتّی لو افترضنا أنّ عبارة الشیخ محمد تقی الآملی تفید ادّعاء الإجماع فإنّه لیس دلیلاً تاماً؛ إذ یرد علیه نفس الإشکال السابق علی الإجماعات(5)؛ وبالتالی لا یصلح لأن یکون مستنداً للتحریم.
أمّا الاستدلال بهذه الروایة، فیمکن بثلاثة تقریبات:
قال الشیخ محمد تقی الآملی: «یمکن استفادة الحرمة منه هاهنا بقرینة العطف علی الصراخ علی المیّت الذی عرفت أنّه حرام؛ لظاهر ما دلّ علی حرمته من الأخبار، وعلیه فتوی الأصحاب»(1).
قال السیّد الخوئی: «أُورد علی الاستدلال به أنّ کلمة (لا ینبغی) (فی خبر الحسن الصیقل عن أبی عبد الله(علیه السّلام) أنّه قال: لا ینبغی الصیاح علی المیِّت ولا شقّ الثیاب) ظاهرة فی الکراهة أو فی استحباب الترک، لا فی الحرمة. ولکن قدّمنا نحن أنّ الکلمة ظاهرة فی الحرمة؛ لأنّ معنی (لا ینبغی) لا یتیسّر ولا یتمکّن»(2).
قال المحدِّث البحرانی: «أقول: لا یخفی أنّ الظاهر من قوله(علیه السّلام) فی روایة الحسن الصیقل: لا ینبغی بمعونة ما نقلناه عن التهذیب(3) إنّما هو التحریم.
ص: 211
أمّا أوّلاً؛ فلأنّ استعمال هذا اللفظ فی التحریم شائع فی الأخبار کما عرفت فی غیر موضع من هذا الکتاب.
وأمّا ثانیاً؛ فلأنّ الظاهر من الأخبار وکلام الأصحاب أنّ الصراخ محرّم، وإنّما الجائز النوح بالصوت المعتدل والقول بحقّ، فکذا یجب القول فی الشقّ، والّا لزم استعمال اللفظ المشترک فی معنییه أو حقیقته ومجازه، وهم لا یقولون به»(1).
وبما أنّ سند هذه الروایة ضعیفٌ فلا جدوی فی دراسة دلالتها أکثر من هذا.
ذکرنا دلیلین للنظریة الثانیة، وبیّنا ضعف کلّ واحد منهما؛ وبالتالی لا یوجد دلیل صحیح یدعم النظریة الثانیة.
قیّد کل منهما الحرمة بخروج الصیاح عن حد الاعتدال، ومفهوم کلامهما أنّ الصیاح بصوتٍ معتدلٍ حلالٌ. ولکنّهما لم یذکرا دلیلاً علی هذا المدّعی.
لم یذکر أصحاب النظریة دلیلاً علی مدّعاهم، فنحن لم نعثر علی دلیلٍ واضحٍ فی کلامهم، وکما قلنا فی القسم الأوّل من هذا الکتاب (المفاهیم): فإنّ لفظ (صرخ) یعنی الصیاح والصوت المرتفع، ولا یکمن فیه الخروج عن حدّ الاعتدال.
لا شکّ فی أنّ نظریة التحریم لیست صحیحة؛ لأنّها تعتمد علی دلیلین ضعیفین وهما الإجماع وروایة امرأة الحسن الصیقل. أمّا نظریة التفصیل فهی کذلک لیست صحیحة؛ لأنّها لا تستند إلی دلیل. أمّا القول بالکراهة فهو صحیح؛ لأنّه یعتمد علی روایات معتبرة السند، وتامّة الدلالة. وعلی هذا؛ فإنّ الصیاح فی مصیبة المیّت لیس محرّماً، ولکنّه مکروه ولا فرق بین الصیاح المعتدل أو الخارج عن الاعتدال.
عادةً یبحث الفقهاء هذه الأُمور الثلاثة (لطم الجسد، وخدش الجلد، وجزّ الشعر) ضمن بحثٍ فقهیٍّ واحدٍ؛ ولذلک سنقوم بدراسة کلّ هذه الأُمور تحت عنوان المصداق الخامس، وللعلماء نظریتان حول اللطم، والخدش، وجزّ الشعر: (الجواز، والحرمة).
ذهب بعض المتأخّرین إلی جواز هذه الأُمور، قال السیّد المرعشی: «والأقوی جواز
ص: 213
اللطم»(1). کما قال السیّد الخوئی بأنّ کل هذه الأُمور الثلاثة (أی: لطم الجسد، خدش الجلد، وجزّ الشعر) لیست محرّمة (2).
ذکر القائلون بالجواز دلیلین علی مدّعاهم:
قال السیّد الخوئی: وإن ورد النهی عنه فی بعض الأخبار... إلّا أنّ الأخبار لضعف أسنادها لا یمکن الاعتماد علیها(3).
وقال عن حکم جزّ الشعر: «ورد النهی عن ذلک (جزّ الشعر) فی روایة خالد(4)... إلّا أنّ خالداً هذا ضعیفٌ؛ لعدم توثیقه... ومعه لا یمکن الحکم بحرمة الجزّ»(5).
إنّ استدلال المحقّق الخوئی صحیح حسب مبناه؛ لأنّه یری ضعف روایة خالد.
ص: 214
والحقّ - کما سیأتی بیانه - أنه سیتمّ تصحیح سند روایة خالد؛ وبالتالی فهذه الروایة معتبرةٌ. إذن؛ یمکن استفادة حرمة هذه الموارد منها.
تقدّمت معتبرة جابر(1)، وقلنا: إنّها معتبرة السند(2). وذکرنا کذلک صحیحة معاویة بن وهب(3)، وکذلک ثبت أنّها روایة صحیحة(4)، إلا أنّه استُشکل علی سندها بسبب وجود أبی محمد الأنصاری (عبد الله بن إبراهیم بن حمّاد الأنصاری)، حیث نقل الکشی عن نصر بن صباح أنّ هذا الروای مجهول(5)، ولکن قدّمنا ثلاثة أجوبة عن هذا الإشکال(6).
ذکر الإمام الباقر(علیه السّلام) فی روایة جابر أنّ لطم الوجه وجزّ الشعر من مصادیق الجزع، وإذا ضممنا هذه الروایة إلی صحیحة معاویة نستنتج أنّه یجوز لطم الوجه وجزّ الشعر
ص: 215
فی مصائب جمیع الناس، ولکنّهما مکروهان إلّا فی مصیبة الإمام الحسین(علیه السّلام).
رغم أنّ الکراهة فی اصطلاح الفقهاء أحد الأحکام الخمسة المعروفة، ولکنّها فی الروایات تعنی النهی مطلقاً. إذا علمنا هذه النقطة فلا بدّ أن نقول: صحیحٌ أنّ هذه الروایة فی مقام بیان المصادیق فحسب، إلّا أنّ کلمة (مکروه) فی صحیحة معاویة بن وهب لا تعنی الکراهة الموجودة فی اصطلاح الفقهاء بل هی أعمّ من الکراهة والحرمة. وبتعبیرٍ آخر: فإنّ الکراهة فی لسان الروایات تعنی النهی مطلقاً، والنهی یتلاءم مع الحرمة ومع الکراهة.
هذا الدلیل أخصّ من المدّعی؛ لأنّه وإن کان یدلّ علی جواز لطم الوجه وجزّ الشعر، إلّا أنّه لا یدلّ علی خدش الجلد، وبالتالی؛ فإنّ هذا الدلیل أخصّ من المدّعی من هذه الناحیة.
ذکرنا لهذه النظریة دلیلین:
أمّا الدلیل الأوّل فلیس تامّاً، فرغم أنّ الروایات الناهیة ضعیفة السند - کما سیتضح فی المباحث اللاحقة - إلّا أنّ روایة خالد مدعومة بعمل المشهور؛ وبالتالی یجبر ضعف سندها، فتکون روایة معتبرة. وبناءً علی هذا؛ تثبت حرمة هذه الأفعال.
أمّا الدلیل الثانی فرغم أنّه کان صحیح السند إلّا أنّه لا یشتمل علی جواز خدش الجلد؛ وبالتالی فإنّه أخصّ من المدّعی من هذه الجهة.
کما أنّ کلمة (مکروه) فی صحیحة معاویة لا تدلّ علی الکراهة المصطلحة، بل تدلّ
ص: 216
علی مطلق النهی، وبقرینة معتبرة خالد بن سدیر یُحمل لفظ المکروه علی الحرمة، ولیس الکراهة المصطلحة. إذن؛ لا یوجد دلیل علی جواز هذه الأفعال.
ذهبت الأغلبیة العظمی من العلماء إلی تحریم لطم الجسد، وخدش الجلد، وجزّ الشعر، منهم: الشیخ فی المبسوط(1)، وابن حمزة فی الوسیلة(2)، وابن إدریس فی السرائر(3)، والعلّامة الحلّی فی التحریر(4)، والشهید الأوّل فی البیان(5) والذکری(6)، والفیض الکاشانی فی المفاتیح(7) والنخبة(8)، والعلّامة المجلسی فی البحار(9)، والنراقی فی المعتمد(10)، والبحرانی فی السداد(11)، وکاشف الغطاء فی کشف الغطاء(12)، والمیرزا القمّی فی الغنائم(13)، والنجفی فی الجواهر(14) والنجاة(15)، والمامقانی فی غایة الآمال(16)، والسیّد الیزدی فی
ص: 217
العروة(1)، والسیّد الحکیم فی المستمسک(2)، والآملی فی مصباح الهدی(3).
ذکر القائلون بالتحریم ثلاثة أدلّة علی حرمة هذه الأُمور:
الأیّام(1)، وجواهر الکلام(2)؛ حیث قالوا بحرمة هذه الأفعال؛ لما فیها من السخط لقضاء الله.
کما سیأتی فی مبحث شقّ الثوب علی المیّت؛ فإنّ هذا الدلیل لیس تامّاً؛ لأنّ السبب فی هذه الأفعال هو الحزن لفقدان الأقارب، ولیس السخط لقضاء الله، کأن یبکی الإنسان علی فراق أصدقائه، فهذا البکاء بسبب الفراق، ولیس بسبب السخط لقضاء الله.
الدلیل الثالث عبارة عن خمس روایات، وهی کما یلی:
استدلّ بها الشیخ محمد تقی الآملی فی مصباح الهدی لإثبات حرمة هذه الأفعال(5).
لا یمکن استفادة الحرمة من هذه الروایة؛ لأنّها فی مقام بیان مصادیق الجزع دون
ص: 219
إصدار حکم علیها. نعم، لقد ذُکر حکم هذه المصادیق فی روایةٍ أُخری، وهی صحیحة معاویة بن وهب (1) التی مرّت سابقاً، وبیّنا أنّها روایة صحیحة تدلّ علی أنّ الجزع مکروه. وقلنا: إنّ المکروه فی هذه الروایة یعنی المنهی عنه، والنهی أعمّ من الحرمة والکراهة (2). وبناءً علی هذا؛ فإنّ المصادیق المذکورة مکروهة (منهی عنها) فلا یمکن استفادة الحرمة من هذه الروایة، بل یُستفاد منها النهی مطلقاً، وهو أعمّ من الکراهة والحرمة.
«وَذَکَرَ أَحمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدِ القُمِّیِّ فِی نَوَادِرِهِ، قَالَ: رَوَی مُحَمَّدُ بنُ عِیسَی، عَن أَخِیهِ جَعفَرِ بنِ عِیسَی، عَن خَالِدِ بنِ سُدِیرٍ أَخِی حَنَانِ بنِ سُدِیرٍ، قَالَ: سَأَلتُ أَبَا عَبدِ اللهِ(علیه السّلام)... وإذَا خَدَشَتِ المَرأَةُ وَجهَهَا أَو جَزَّت شَعرَهَا أَو نَتَفَتهُ، فَفِی جَزِّ الشَّعرِ عِتقُ رَقَبَةٍ، أَو صِیَامُ شَهرَینِ مُتَتَابِعَینِ، أَو إِطعَامُ سِتِّینَ مِسکِیناً. وَفِی الخَدشِ إِذَا دَمِیَت وفِی النَّتفِ کَفَّارَةُ حِنثِ یَمِینٍ. وَلَا شَیءَ فِی اللَّطمِ عَلَی الخُدُودِ سِوَی الِاستِغفَارِ وَالتَّوبَةِ»(3).
تقدمت معتبرة خالد بن سدیر، وقمنا بدراسة سندها، وقلنا: إنّ خالداً ضعیف، ولکن عمل المشهور بهذه الروایة یجبر ضعف سندها(4).
ص: 220
استُدلّ بها فی الذکری(1)، والغنائم(2)، والجواهر(3) لإثبات حرمة هذه الموارد، فهذه الروایة تدلّ بوضوح علی حرمة اللطم والخدش وجزّ الشعر؛ لأنّها وضعت لکلّ واحد منها کفارة؛ ولا یمکن وضع الکفارة لفعلٍ جائز. إذن؛ وضع الکفارة لأیّ عمل یدلّ علی حرمته.
«وَقَالَ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لِفَاطِمَةَ(علیهاالسّلام) حِینَ قُتِلَ جَعفَرُ بنُ أَبِی طَالِبٍ لاَ تَدعِی بِذُلٍّ وَلاَ ثُکلٍ وَلاَ حَرَبٍ، وَمَا قُلتِ فِیهِ فَقَد صَدَقتِ»(4).
سند هذه الروایة ضعیف؛ لأنّها روایة مرسلة.
استدلّ بها الشهید بعد ذکر مجموعة من الأدلّة علی تحریم اللطم والخدش وجزّ الشعر(5).
لا علاقة لهذه الروایة بالأُمور المذکورة؛ لأنّها تنهی عن النوح فقط.
«الشَّهِیدُ الثَّانِی فِی مُسَکِّنِ الفُؤَادِ، عَنِ ابنِ مَسعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لَیسَ مِنَّا مَن ضَرَبَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُیُوبَ»(6).
ص: 221
سند هذه الروایة ضعیفٌ؛ لأنّ الشهید الثانی رواها مرسلاً.
استدلّ بهذه الروایة الشیخ محمد تقی الآملی فی مصباح الهدی(1).
هناک مشکلة فی دلالتها علی المدّعی؛ لأنّها تقول: إنّ مَن یقوم بهذه الأعمال لیس منا، وهذا لیس ظاهراً فی التحریم، بل یتناسب مع الکراهة أیضاً. إذن؛ دلالة هذه الروایة علی موضوع البحث لیست تامّة، ولا یصحّ الاستدلال بها لضعف سندها ودلالتها.
«عِدَّةٌ مِن أَصحَابِنَا، عَن أَحمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ، عَن عُثمَانَ بنِ عِیسَی، عَن أَبِی أَیُّوبِ الخَزَّازِ، عَن رَجُلٍ، عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) فِی قَولِ اللهِ(عزوجل): «وَلَا یَعْصِینَکَ فِی مَعْرُوفٍ» (2)، قَالَ: المَعرُوفُ أن لاَ یَشقُقنَ جَیباً، وَلاَ یَلطِمنَ خَدّاً»(3).
سند هذه الروایة ضعیف؛ لأنّها مرسلة، وذلک لوجود عبارة «عَن رَجُلٍ» فی سند الروایة.
فی دلالتها علی المدّعی مشکلة؛ لأنّ البحث فی المقام عن حکم اللطم والخدش وجزّ الشعر بشکلٍ مطلق سواء عند الرجل أو المرأة، إلّا أنّ هذه الروایة تختصّ بالمرأة، وکما أنها تبیّن حرمة اللطم فقط، وساکتة عن حکم بقیة الأُمور (الخدش، وجزّ الشعر، ولطم الجسد).
ذکرنا لهذه النظریة ثلاثة أدلّة (الإجماع، السخط لقضاء الله، والروایات). والدلیلان الأوّل والثانی ضعیفان. أمّا الدلیل الثالث (الروایات) ففیها مشاکل سندیة ودلالیة، إلّا الروایة الثانیة التی هی صحیحة سنداً وتامّة الدلالة. وهذه الروایة تستطیع أن تکون دلیلاً قویاً علی صحّة هذه النظریة؛ وبالتالی یحرم القیام بهذه الأعمال عند إقامة العزاء علی الموتی.
قلنا: إنّ نظریة التحریم تعتمد علی دلیلٍ واحد صحیح السند والدلالة (معتبرة خالد) هذا من جهة. ومن جهة أُخری هناک دلیل صحیح السند علی الجواز ولکنّه ضعیف الدلالة. فنستنتج أنّ إقامة العزاء باللطم والخدش وجزّ الشعر حرام إلّا فی مصائب المعصومین(علیهم السّلام) .
للعلماء ثمان نظریات فی حکم شقّ الثوب علی المیّت:
ص: 223
النظریة الأُولی: حرمة شقّ الثوب مطلقاً(1)
ذهب بعض العلماء إلی تحریم شقّ الثوب علی المیّت، منهم: ابن إدریس؛ حیث قال فی السرائر: «ولا یجوز للرّجل أن یشقّ ثوبه فی موت أحد من الأهل والقرابات... فأمّا المرأة، فلا یجوز لها أن تشقّ ثوبها علی موت أحد من النّاس»(2). وقال المحقّق الطباطبائی فی الریاض(3) والشرح الصغیر: «ثمّ مقتضی الأصل المستفاد من الأدلّة القاطعة حرمة شقّ الثوب مطلقاً، ولو علی الأب والأخ»(4).
کما أن عدّة من العلماء - کالنجفی فی نجاة العباد(5)، والسیّد الیزدی فی العروة(6)، والسیّد الحکیم فی المستمسک - وإن لم یفتوا بالحرمة بنحو مطلق ولکن فی نفس الوقت احتاطوا وقالوا: «لا یجوز شقّ الثوب علی غیر الأب والأخ، والأحوط ترکه فیهما أیضا ً»(7).
استدلّ القائلون بالحرمة بثلاثة أدلّة لإثبات ما ذهبوا إلیه:
ص: 224
استدلّ به ابن إدریس؛ حیث قال - لإثبات حرمة شقّ الثوب -: «والأصل حفاظ المال»(1).
لیس دلیل ابن إدریس صحیحاً؛ لأنّه إذا قصد بقوله: إنّ حفظ المال واجب، فهذا الدلیل لیس تاماً؛ إذ لا یوجد دلیل علی وجوب حفظ المال، ولکن إذا کان قصدُه حرمة تضییع المال وتبذیره فهذا هو الدلیل الثانی الذی سنقوم بدراسته. ولا یستبعد أن یکون مراد ابن إدریس هذا الاحتمال الثانی؛ لأنّه فسَّر مراده بالعطف حیث قال: «والأصل حفاظ المال وتضییعه سفه». فإذن؛ ظاهره أنّ الدلیلین الأوّل والثانی هما فی الحقیقة دلیل واحد.
قال ابن إدریس فی مقام التعلیل لحرمة شقّ الثوب: «والأصل حفاظ المال وتضییعه سفه؛ لأنّه إدخال ضرر، والعقل یقبّح ذلک»(2). کما قال صاحب الریاض عند التعلیل لحکم التحریم: «لما فیه من إضاعة المال المحترم المحرّمة جدّاً»(3).
إنّ دلیل السرائر والریاض لیس تامّاً؛ والسبب هو ما قاله السیّد الخوئی، حیث لاحظ علی الدلیل قائلاً: «وفیه: أنّه إذا کان له غرض عقلائی فی شقّ ثوبه لم یُعدّ من
ص: 225
التبذیر المحرّم؛ فإنّ الإنسان قد یرید إظهار تأثّره فی موت أقربائه أو صدیقه، وإظهار ذلک قد یکون بضرب الید علی الید، وأُخری بشقّ الجیب، فلا محذور فیه من هذه الجهة»(1).
تمسّک المحقّق الهمدانی بالروایات الضعیفة المتعاضدة والمنجبرة بفتوی الأصحاب، وأفتی علی أساس ذلک بحرمة شقّ الثوب مطلقاً(2)، وهذه الروایات الضعیفة کما یلی:
«دَعَائِمُ الإِسلَامِ، عَن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ(علیهماالسّلام) أَنَّهُ أَوصَی عِندَمَا احتضرَ فَقَالَ: لا یُلطَمَنَّ عَلَیَّ خَدٌّ، وَلا یُشَقَّنَّ عَلَیَّ جَیبٌ، فَمَا مِن امرَأَةٍ تَشُقُّ جَیبَهَا إِلَّا صُدِعَ لَهَا فِی جَهَنَّمَ صَدعٌ کُلَّمَا زَادَت زِیدَت»(3).
«وَعَن أَبِی أُمَامَةَ: أنَّ رَسُولَ اللهِ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لَعَنَ الخَامِشَةَ وَجهَهَا وَالشَّاقَّةَ جَیبَهَا...»(4).
«سِبطُ الشَّیخِ الطَّبرِسِیِّ فِی مِشکَاةِ الأَنوَارِ، نَقلاً مِن کِتَابِ المَحَاسِنِ: عَن أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) فِی قَولِ اللهِ(عزوجل): « وَلَا یَعْصِینَکَ فِی مَعْرُوفٍ »(5) قَالَ: المَعرُوفُ أن لاَ یَشقُقنَ جَیباً...»(6).
ص: 226
تقدمت مرسلة مسکِّن الفؤاد(1)، وبحثنا سندها، وقلنا: إنّها روایة ضعیفة؛ لأنّ الشهید الثانی رواها بسند مرسل(2).
کلّ هذه الروایات ضعیفة؛ لأنّها مرسلة.
قال المحقّق الهمدانی بعد نقل هذه الروایات: «ولا یبعد کفایة هذه الروایات - بعد التجابر والتعاضد واعتضادها بفتوی الأصحاب وغیرها - لإثبات الحرمة»(3).
ولکن هل یُجبر ضعف السند بعمل الأصحاب أم لا؟ اختلف فیه العلماء کما مرّ(4)، وذهب مشهور الأُصولیین إلی أنّ عمل الفقهاء یجبر ضعف السند، وبالتالی؛ فإنّ مرجع هذا الدلیل إلی مبنی الفقهاء، فیکون الدلیل مبنائیاً، فمن اعتبر عمل المشهور جابراً للسند یکون هذا الدلیل تاماً عنده. والحقّ مع القائلین بجبر السند؛ لأنّ عمل مشهور الفقهاء یؤدّی إلی تراکم الظنون ویفید الاطمئنان.
هذه الروایات تدلّ بوضوح علی حرمة شقّ الجیوب مطلقاً؛ لأنّ بعض هذه الروایات جعلت جزاء مَن شقّ الجیب النار، وفی بعض آخر وصف هذا الفعل بأنّه
ص: 227
عصیان الله. نعم، صحیحٌ أنّ الروایة الأُولی والثانیة والثالثة تختصّ بالنساء، ولکن الحقیقة أنّه لا توجد خصوصیة للنساء، وترکیز روایات المعصومین(علیهم السّلام) علیهِنّ إنّما بسبب انتشار هذا الفعل لدی النساء، والشاهد علی ذلک إطلاق الروایة الرابعة، إذن؛ لا یختصّ الحکم بالنساء، بل یشمل الرجال أیضاً.
الدلیل الأوّل والثانی لهذه النظریة ضعیفان، أمّا الدلیل الثالث فقد اختلفت مبانی العلماء فی جبر سنده بعمل المشهور، وعلی مبنی المشهور (جبر ضعف السند بعمل المشهور) یکون شقّ الثوب حراماً مطلقاً.
قال فی کشف اللثام: «ویحرم شقّ الرجل الثوب علی غیر الأب والأخ»(1). وهذا ما صرّح به فی المقنعة(2)، والنهایة(3)، والمنتهی(4)، وجامع المقاصد(5)، والبحار(6).
تُمسّک بسبعة أدلّة لاثبات حرمة شقّ الرجل الثوب علی غیر الأب والأخ:
أقام القائلون بهذه النظریة دلیلین علی المستثنی:
ص: 228
روایتان هناک روایتان تدلان علی أنّ موسی(علیه السّلام) قد شقّ ثوبه علی أخیه هارون(علیه السّلام)، وأنّ الإمام العسکری(علیه السّلام) شقّ ثوبه علی أبیه الإمام الهادی(علیه السّلام)، وهاتان الروایتان هما الدلیل الأوّل علی المستثنی.
«عَلِیُّ بنُ عِیسَی فِی کِتَابِ کَشفِ الغُمَّةِ، نَقلاً مِن کِتَابِ الدَّلَائِلِ لِعَبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ الحِمیَرِیِّ، عَن أَبِی هَاشِمٍ الجَعفَرِیِّ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو مُحَمَّدٍ(علیه السّلام) فِی جَنَازَةِ أَبِی الحَسَنِ(علیه السّلام) وَقَمِیصُهُ مَشقُوقٌ، فَکَتَبَ إِلَیهِ ابنُ عَونٍ مَن رَأَیتَ أَو بَلَغَکَ مِنَ الأَئِمَّةِ شَقَّ قَمِیصَهُ فِی مِثلِ هَذَا؟ فَکَتَبَ إِلَیهِ أَبُو مُحَمَّدٍ(علیه السّلام): یَا أَحمَقُ! وَمَا یُدرِیکَ مَا هَذَا؟! قَد شَقَّ مُوسَی(علیه السّلام) عَلَی هَارُونَ(علیه السّلام)»(1).
سند هذه الروایة صحیح، ففیه الحمیری والجعفری وهما إمامیان ثقتان. کما أنّ علی بن عیسی الإربلّی، أی: صاحب کتاب کشف الغمّة من علماء الشیعة ومحدّثیهم(2).
«وَعَنهُ (أَحمَدَ بنِ عَلِیِّ بنِ کُلثُوم)، عَن إِسحَاقَ بنِ مُحَمَّدٍ، عَن إِبرَاهِیمَ بنِ الخَضِیبِ قَالَ: کَتَبَ أَبُو عَون الأَبرَشُ قَرَابَةُ نَجَاحِ بنِ سَلَمَةَ إِلَی أَبِی مُحَمَّدٍ(علیه السّلام): أَنَّ النَّاسَ قَدِ استَوهَنُوا مِن شَقِّکَ عَلَی أَبِی الحَسَنِ(علیه السّلام). فَقَالَ: یَا أَحمَقُ! مَا لَکَ وَذَاکَ؟! قَد شَقَّ مُوسَی(علیه السّلام) عَلَی هَارُونَ(علیه السّلام)»(3).
ص: 229
فی سند هذه الروایة إسحاق بن محمد بن أحمد النخعی، وهو لم یوثَّق فی کتب الرجال(1). وفیه إبراهیم بن الخضیب الأنباری - والصحیح أنّه ابن الخصیب ولیس الخضیب - وهو کذلک لم یوثّق فی کتب الرجال.
استدلّ بهاتین الروایتین الفاضل الهندی فی کشف اللثام(2)، ودلالتهما علی موضوع البحث واضحة تماماً؛ لأنّها تدلّ علی جواز شقّ الثوب علی الأب والأخ؛ وذلک لأنّ الإمام(علیه السّلام) شقّ الثوب علی أبیه(علیه السّلام)، والنبی موسی(علیه السّلام) شقّ الثوب علی أخیه(علیه السّلام).
استدلّ الإمام(علیه السّلام) فی هاتین الروایتین بفعل موسی(علیه السّلام) فی مصیبة أخیه(علیه السّلام) (شقّ الثوب علی الأخ) لإثبات جواز فعله (شقّ الثوب علی الأب)، رغم أنّه لا توجد علاقة بین الأمرین؛ حیث إنّ مدعی الإمام(علیه السّلام) هو جواز شقّ الثوب علی الأب، لکنّه استدلّ بما یدلّ علی جواز شقّ الثوب علی الأخ. إذن؛ لا بدّ من القول: بأنّ مقصود الإمام(علیه السّلام) هو أن فعل سیّدنا موسی(علیه السّلام) یدلّ علی جواز شقّ الثوب مطلقاً، ولو کان علی غیر الأخ. وهکذا، فإنّ استدلاله یشمل شقّ الثوب علی الأب، ویمکن أن یکون دلیلاً علی جواز فعل الإمام(علیه السّلام). وإذا دلّ هذا الدلیل علی الجواز مطلقاً فإنّه یشمل غیر الأب أیضاً (کالعم، والخال، والأُمّ، و...)، وهکذا لا یصلح لأن یکون دلیلاً علی ما نحن فیه؛ لأنّنا نبحث عن جواز شقّ الثوب علی الأب والأخ فقط، ولکن هذا الدلیل یُثبت جواز ذلک فی نطاق أعم منهما.
ص: 230
إذا ثبت جواز شقّ الثوب علی الأخ فیثبت جواز الشقّ علی الأب بطریقٍ أوْلی. ولعلّ الراوی لم یسأل الإمام(علیه السّلام) عن علاقة عزاء موسی(علیه السّلام) علی أخیه(علیه السّلام) بعزاء الإمام(علیه السّلام) علی أبیه(علیه السّلام)، وقد یرجع ذلک إلی ثبوت هذه الأولویة القطعیة عند الراوی.
«وَعَن مُحَمَّدِ بنِ یَحیَی وَغَیرِهِ، عَن سَعدِ بنِ عَبدِ اللهِ، عَن جَمَاعَةٍ مِن بَنِی هَاشِمٍ مِنهُمُ الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ الأَفطَسِ: أَنَّهُم حَضَرُوا یَومَ تُوُفِّیَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِیِّ بنِ مُحَمَّدٍ بَابَ أَبِی الحَسَنِ(علیه السّلام) یُعَزُّونَهُ... إِذ نَظَرَ إِلَی الحَسَنِ بنِ عَلِیٍّ(علیهماالسّلام) قَد جَاءَ مَشقُوقَ الجَیبِ»(1).
فی سند الدلیل الثانی الحسن بن الحسن الأفطس، وهو لم یُذکر فی کتب الرجال.
استدلّ بها المحدّث البحرانی فی الحدائق(2)، فهذه الروایة تدلّ علی جواز شقّ الثوب علی الأخ؛ لأنّ الإمام العسکری(علیه السّلام) شقّ ثوبه علی وفاة أخیه السیّد محمّد.
یرد علی دلالتها أنّها أخصّ من المدّعی، فالمدّعی هو جواز شقّ الثوب علی الأب والأخ بینما تثبت هذه الروایة جواز شقّ الثوب علی الأخ فقط، ولا علاقة لها بجواز الشقّ علی الأب. وبالتالی؛ فإنّ هذا الدلیل یثبت جزءاً من المدّعی.
ص: 231
نجیب عن هذا الإشکال کما أجبنا سابقاً، فإذا ثبت جواز شقّ الثوب علی الأخ یثبت جواز شقّ الثوب علی الأب بطریقٍ أوْلی(1).
وعلی هذا؛ نستنتج أنّه یجوز للرجل أن یشقّ الجیب فی مصیبة الأب والأخ؛ لأنّ الإمام العسکری(علیه السّلام) شقّ الجیب علی أبیه(علیه السّلام)، والنبی موسی(علیه السّلام) شقّ الجیب علی أخیه(علیه السّلام).
قال المحقّق الأردبیلی: «وحصول الإضاعة المحرّمة هنا ممنوع، وکذا السخط، فإنّه قد یفعل بمجرّد الحزن، لا لذلک، وإلّایحرم علیهما أیضاً»(1).
وقد نقل السبزواری هذین الدلیلین فی الذخیرة، ثمّ قال: «وفیه تأمّل»(2). ولعلّه یشیر إلی نفس هذا الإشکال، کما قال فی الغنائم: «وهو أیضاً مطلقاً ممنوع؛ لأنّه قد یکون لا لذلک»(3).
قال المحقّق الهمدانی: «وللنظر فیهما (تضییع المال، والسخط علی قضاء الله) مجال، والأوْلی جعل مثل هذه الأُمور من مؤیّدات الدلیل، کما صنعه بعض، لا دلیلاً یُعتمد علیه، بعد وضوح إقدام العقلاء فی مقاصدهم العقلائیّة علی ارتکاب مثل هذه الأُمور من دون أن یُعدّ تبذیراً وسرفاً؛ کی یکون محرّماً، وإمکان تحقّقه علی وجه لا یکون ساخطاً بقضاء الله جلّ جلاله»(4).
استشکل المحقّق الخوئی علی الدلیل الثانی بقوله: «وفیه: أنّ بین الشقّ والسخط عموماً وخصوصاً من وجه؛ فإنّه قد لا یشقّ ثوبه علی المیِّت لکونه ثمیناً ومحبوباً لدیه، إلّا أنّه ساخط لقضائه جدّاً، وقد یشقّ ثوبه مع الرضا بقضاء الله سبحانه، وقد یجتمعان، وکلامنا فی حرمة الشقّ فی نفسه»(5).
ص: 233
کما استشکل علی الدلیل الأوّل قائلاً: «وفیه: أنّه إذا کان له غرض عقلائی فی شقّ ثوبه لم یُعدّ من التبذیر المحرّم؛ فإنّ الإنسان قد یرید إظهار تأثّره فی موت أقربائه أو صدیقه،
وإظهار ذلک قد یکون بضرب الید علی الید، وأُخری بشقّ الجیب؛ فلا محذور فیه من هذه الجهة»(1).
والحقّ مع هؤلاء الأجلّاء؛ إذ لا یمکن التمسّک بهذین الدلیلین (الدلیل الأوّل والثانی)؛ والسبب فی ذلک هو ما جاء فی کلامهم، حیث قالوا: إنّ شقّ الثوب هو من أجل فقدان الأحبّة والأقارب، ولیس من أجل السخط لقضاء الله. وهذا نظیر البکاء فی فراق الأحبّة؛ حیث إنّ فراق الأحبّة هو السبب فی البکاء، ولیس السخط لقضاء الله.
یشتمل هذا الدلیل علی ثلاث روایات:
الروایة: «لَیْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وشَقَّ الْجُیُوبَ». وکما مرّ سابقاً، فإنّ هذه العبارة لیست ظاهرة فی التحریم، بل تنسجم مع الکراهة أیضاً(1).
تقدمت روایة أبی أیّوب(2)، وقمنا بدراسة سندها، وقلنا: إنّها روایة ضعیفة؛ لوجود عبارة: «عَن رَجُلٍ». فی سندها(3).
استدلّ کاشف اللثام بهذه الروایة أیضاً(4)، ولکن دلالتها موضع إشکال، فهی أخصّ من المدّعی؛ لاختصاصها بالنساء، بینما نحن نبحث حکم شقّ الثوب مطلقاً، أی: بالنسبة للرجل والمرأة، إلّا إذا قیل: إنّ الإمام الصادق(علیه السّلام) تکلّم فی خصوص النساء من باب غلبة هذا الفعل لدیهنّ. أیّ: أنّ الإمام(علیه السّلام) رکّز علی شقّ الثوب لدی النساء؛ لکثرة قیامهنّ بهذا الفعل مقارنةً بالرجال، وإلّا فالحکم یشمل الرجال أیضاً.
السیّد الخوئی بعد نقل بعض هذه الروایات: «... هذه الروایات المجوزة والمانعة ضعیفة السند، ولا یمکن الاعتماد علیها»(1).
ذکر کاشف اللثام هذه الروایة أیضاً(2)، ولکن دلالتها علی المدّعی تواجه نفس مشکلة الروایة السابقة، أی: إنّها أخصّ من المدّعی، إلّا إذا تمسّکنا بالوجه المذکور هناک، فلا یبعد القول بعدم خصوصیة المرأة فی هذه المسألة، وإنّ الإمام(علیه السّلام) ذکر النساء من باب غلبة هذا الفعل لدیهنَّ، وإلّا فالحکم یشمل الرجال أیضاً.
لقد بیّنا فیما مرّ أنّ جمیع الأدلّة التی ساقها أصحاب النظریة لإثبات المستثنی منه ضعیفة السند، کما أنّ بعضها ضعیفة الدلالة أیضاً؛ وبالتالی لا یمکن الاعتماد علیها. ثمّ ذکرنا دلیلین علی المستثنی (جواز شقّ الثوب للرجل فی مصیبة أبیه وأخیه) وقلنا: إنّ أحد الدلیلین صحیح السند وتامّ الدلالة (صحیحة کشف الغمّة)، وهذا یعنی أنّه یجوز للرجل أن یشقّ ثوبه علی أخیه وأبیه، ولکن هذه الأدلّة لا تثبت جواز شقّ الثوب للآخرین.
قال آل العصفور البحرانی: «ویحرم شقّ الثوب علی غیر الأب والأخ للرجال، ویحلّ للنساء علی سائر أرحامها وقرابتها»(3).
ص: 236
اختار آل العصفور البحرانی هذه النظریة فی کتاب السداد (1)، ولکنّه لم یذکر دلیلاً علیها.
دلیل هذه النظریة غیر واضحٍ لنا، وبمراجعة الأدلّة یتضح لنا أنّه لا یُستفاد هکذا نظریة من الأدلّة.
النظریة الرابعة: جواز شقّ الرجل ثوبه علی الأب والأخ، وجواز شقّ المرأة ثوبها مطلقاً(2)
وهذا ما ذهب إلیه العلّامة الحلّی؛ حیث قال: «یجوز شقّ الثوب علی موت الأب والأخ... ولا یجوز للرجل شقّه علی غیرهما، أمّا المرأة فیجوز مطلقاً»(3).
تعتمد النظریة الرابعة علی دلیلین:
«وَلَمَّا قُبِضَ عَلِیُّ بنُ مُحَمَّدٍ العَسکَرِیُّ(علیهماالسّلام) رُئِیَ الحَسَنُ بنُ عَلِیّ(علیهماالسّلام) قَد خَرَجَ مِنَ الدَّارِ وَقَد شُقَّ قَمِیصُهُ مِن خَلفٍ وَقُدَّامٍ»(4).
أخرجها الشیخ الصدوق بسندٍ مرسل فی کتاب مَن لایحضره الفقیه.
ص: 237
ذکر هذا الدلیل العلّامة الحلّی فی نهایة الأحکام؛ حیث استدلّ بهذه الروایة علی الجزء الأوّل من مدّعاه (جواز شقّ الثوب للرجل فی مصیبة أبیه وأخیه) (1)، ولکنّه لم یذکر دلیلاً علی الجزء الثانی من مدّعاه (جوازه للمرأة مطلقاً)، ولعلّ دلیله علی الجزء الثانی من مدعاه هو نفس ما أشار إلیه الشهید، وسنبیّن ذلک فی الدلیل الثانی.
دلالتها علی المدّعی موضع إشکال، فهذه الروایة أخصّ من المدّعی، وتختصّ بشقّ الثوب علی الأب، ولا تشمل حکم شقّ الثوب علی الأخ.
«وَذَکَرَ أَحمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدِ القُمِّیِّ فِی نَوَادِرِهِ، قَالَ: رَوَی مُحَمَّدُ بنُ عِیسَی، عَن أَخِیهِ جَعفَرِ بنِ عِیسَی، عَن خَالِدِ بنِ سُدِیرٍ أَخِی حَنَانِ بنِ سُدِیرٍ، قَالَ: سَأَلتُ أَبَا عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) عَن رَجُلٍ شَقَّ ثَوبَهُ عَلَی أَبِیهِ، أَو عَلَی أُمِّهِ، أَو عَلَی أَخِیهِ، أَو عَلَی قَرِیبٍ لَهُ؟ فَقَالَ: لا بَأسَ بِشَقِّ الجُیُوبِ؛ قَد شَقَّ مُوسَی بنُ عِمرَانَ(علیهماالسّلام) عَلَی أَخِیهِ هَارُونَ(علیه السّلام)، ولا یَشُقَّ الوَالِدُ عَلَی وَلَدِهِ، وَلا زَوجٌ عَلَی امرَأَتِهِ، وتَشُقُّ المَرأَةُ عَلَی زَوجِهَا، وإِذَا شَقَّ زَوجٌ عَلَی امرَأَتِهِ أَو وَالِدٌ عَلَی وَلَدِهِ فَکَفَّارَتُهُ حِنثُ یَمِینٍ، ولا صَلَاةَ لَهُمَا حَتَّی یُکَفِّرَا وَیَتُوبَا مِن ذَلِکَ، وإِذَا خَدَشَتِ المَرأَةُ وَجهَهَا أَو جَزَّت شَعرَهَا أَو نَتَفَتهُ، فَفِی جَزِّ الشَّعرِ: عِتقُ رَقَبَةٍ، أَو صِیَامُ شَهرَینِ مُتَتَابِعَینِ، أَو إِطعَامُ سِتِّینَ مِسکِیناً، وفِی الخَدشِ إِذَا دَمِیَت وَفِی النَّتفِ کَفَّارَةُ حِنثِ یَمِینٍ، ولا شَی ءَ فِی اللَّطمِ عَلَی الخُدُودِ، سِوَی الِاستِغفَارِ وَالتَّوبَةِ، وقَد شَقَقنَ الجُیُوبَ وَلَطَمنَ الخُدُودَ الفَاطِمِیَّاتُ عَلَی الحُسَینِ بنِ عَلِیٍّ(علیهماالسّلام)، وعَلَی مِثلِهِ تُلطَمُ الخُدُودُ وَتُشَقُّ الجُیُوبُ»(2).
ص: 238
لا مشکلة فی سند هذه الروایة إلّا خالد بن سدیر؛ إذ لم یرد له توثیقٌ فی کتب الرجال. ولکن عمل الأصحاب بهذه الروایة یجبر ضعف سندها کما مرّ(1).
استدلّ الشهید بهذه الروایة فی الذکری؛ حیث نقل کلام العلّامة فی النهایة ثمّ قال: «وفی الخبر إیماءٌ إلیه» (2). وکما قال البحرانی: «أراد بالخبر ما یأتی من شقّ الفاطمیات علی الحسین(علیه السّلام)» (3).
المدّعی: یجوز للرجل أن یشقّ ثوبه علی الأب والأخ، ویجوز ذلک للمرأة مطلقاً. والحال أنّ صدر هذه الروایة یجوّز للرجل أن یشقّ ثوبه علی أبیه وأُمه وأخیه وأقربائه، ولایختصّ الجواز بالأب والأخ. کما أنّ الروایة تدلّ علی جواز شقّ الثوب للمرأة فی وفاة زوجها خاصّةً لا مطلقاً، وعلی هذا؛ فإنّ دلالة الروایة علی المدّعی ناقصة.
ولا یمکن الاستدلال بفعل الفاطمیات؛ لأنّ عبارة: «عَلَی مِثلِهِ». قرینة علی وجود خصوصیة فی الموضوع، بمعنی أنّ هذا الفعل یجوز علی مثل الإمام الحسین(علیه السّلام) ولا یجوز علی أیّ شخص. إذن؛ لا یمکن تعمیم الحکم علی الآخرین.
لقد ذکرنا دلیلین علی هذه النظریة. أمّا الدلیل الأوّل، فهو مرفوض؛ لضعف سنده ودلالته. وأمّا الدلیل الثانی، فرغم أنّه تامٌّ سنداً، إلّا أنّ دلالته علی المدّعی ناقصة.
ص: 239
النظریة الخامسة: جواز شقّ الثوب علی خصوص الأب والأخ مطلقاً(1)
ذهب العدید من العلماء إلی أنّ شقّ الثوب علی خصوص الأب والأخ جائزٌ مطلقاً (للرجل والمرأة)، منهم: الشیخ فی المبسوط(2)، وابن حمزة فی الوسیلة(3)، والمحقّق الحلّی فی الشرائع(4)، والعلّامة الحلّی فی الإرشاد(5) والتحریر(6) والتذکرة(7) والتلخیص(8)، والشهید الأوّل فی البیان(9) وغایة المراد(10)، والفاضل المقداد فی التنقیح(11)، وابن فهد الحلّی فی المهذب(12)، والشهید الثانی فی الحاشیة(13) والمسالک(14)، والمحقّق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(15)، والسیّد العاملی فی المدارک(16)، والسبزواری فی الذخیرة(17)، والفیض الکاشانی فی النخبة(18)، والحرّ العاملی فی الهدایة(19)، والمازندرانی فی شرح فروع الکافی(20)،
ص: 240
والنراقی فی المعتمد(1)، وکاشف الغطاء فی کشف الغطاء(2)، والمیرزا القمی فی الغنائم(3)، والنجفی فی الجواهر(4)، والشیخ الأنصاری فی کتاب الصلاة(5)، والمحقّق الهمدانی فی مصباح الفقیه(6)، والخوانساری فی رسالة أحکام الأموات(7)، والسیّد عبد الأعلی السبزواری فی المهذّب(8)، والشیخ محمد تقی الآملی فی مصباح الهدی(9).
قال أصحاب هذه النظریة بجواز شقّ الثوب علی خصوص الأب والأخ مطلقاً، واستدلّوا بثلاثة أدلّة:
الإجماع المنقول حجّة فما بالک بادّعاء عدم الخلاف الذی هو أخس منه(1)، وبالتالی؛ فإنّ ادّعاء عدم الخلاف لا یصلح للاستدلال أیضاً.
استدلّ السبزواری فی المهذّب بإطلاقات أدلّة النهی عن الإسراف الذی هو من الکبائر(2). ویبدو أنّ المحقّق السبزواری قصد أنّ هناک دلیلاً خاصّاً لجواز شقّ الثوب علی الأب والأخ؛ ولذلک فلا تشمله أدلّة النهی عن الإسراف، وهذا یعنی أنّ الدلیل الخاصّ (جواز شق الثوب علی الأب والأخ) حاکم علی أدلّة الإسراف. أمّا فی غیر الأب والأخ فلا یوجد دلیلٌ خاصٌّ علی الجواز؛ وبالتالی تشملها إطلاقات أدلّة الإسراف، ویُحکم علیها بالحرمة.
إنّ ما استدلّ به السیّد السبزواری لیس تامّاً، ولقد بیّنا(3) سبب ذلک نقلاً عن السیّد الخوئی، حیث قال: «إذا کان له غرض عقلائی فی شقّ ثوبه لم یُعدّ من التبذیر المحرّم؛ فإنّ الإنسان قد یرید إظهار تأثّره فی موت أقربائه أو صدیقه، وإظهار ذلک قد یکون بضرب الید علی الید، وأُخری بشقّ الجیب، فلا محذور فیه من هذه الجهة»(4).
کما قال المحقّق الهمدانی عند رفضه لبعض أدلّة تحریم شقّ الثوب: «لا دلیل یُعتمد علیه، بعد وضوح إقدام العقلاء فی مقاصدهم العقلائیّة علی ارتکاب مثل هذه الأُمور، من دون أن یُعدّ تبذیراً وسرفاً؛ کی یکون محرّماً»(5).
ص: 242
یشتمل الدلیل الثالث علی خمس روایات:
استُدل بهذه الروایة فی تذکرة الفقهاء(3)، ومجمع الفائدة (4). ویُلاحَظ علیه: بأنّه أخصّ من المدّعی؛ لأنّه یُثبت جواز شقّ الثوب علی الأب، ولا یشمل حکم الشقّ علی الأخ.
قال المحقّق الهمدانی فی مصباح الفقیه: «وأمّا الشقّ علیهما (الأب والأخ) فلم یُنقل الخلاف فی جوازه من أحد، عدا ما سمعته من الحلّی، وهو ضعیف؛ لما روی مستفیضاً بطرقٍ متعدّدة من شقّ العسکری(علیه السّلام) قمیصه عند موت أبیه(علیه السّلام)»(5).
تقدّمت صحیحة کشف الغمّة(6)، وقمنا بدراسة سندها، وتبیّن أنّها روایة صحیحة
ص: 243
السند؛ لأنّ جمیع رواتها إمامیون ثقات(1).
«أحمَدُ بنُ عَلِی بنِ کُلثُومِ السَّرَخسِی، قَالَ: حَدّثَنِی أبُو یَعقُوب إسحَاقُ بنُ مُحَمّدٍ البَصِری، قَالَ: حَدّثَنِی مُحَمّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ شَمُونِ وغَیرُهُ، قَالَ: خَرَجَ أبُو مُحَمّدٍ(علیه السّلام) فِی جِنَازَةِ أبِی الحَسَنِ(علیه السّلام) وَقَمِیصُهُ مَشقُوقٌ، فَکَتَبَ إلَیهِ أبُو عَونِ الأبرَشِ قَرَابَةَ نَجَاحِ بنِ سَلمَةِ: مَن رَأیتَ أو بَلَغَکَ مِنَ الأئمَةِ شَقَّ ثَوبَهُ فِی مِثلِ هَذَا؟! فَکَتَبَ إلَیهِ أبُو مُحَمّدٍ(علیه السّلام) یَا أحمَقُ! وَمَا یُدرِیکَ مَا هَذَا؟! قَد شَقَّ مُوسَی(علیه السّلام) عَلَی هَارُون(علیه السّلام)»(2).
لقد مرّ الکلام عن روایة إبراهیم(3)، وقمنا بدراسة سندها، وقلنا: إنّ فیه إسحاق وإبراهیم، ولم یرد فیهما توثیق(4).
«أحمَدُ بنُ عَلِی بنِ کُلثُوم، قَالَ: حَدَّثَنِی إسحَاقُ بنُ مُحَمّدٍ البَصِری، قَالَ: حَدّثَنِی الفَضلُ ابنُ الحَارِثِ، قَالَ: کُنتُ بِسُرِّ مَن رَأی وَقتَ خُرُوجِ سَیّدِی أبِی الحَسَنِ(علیه السّلام) فَرَأینَا أبَا مُحَمّدٍ(علیه السّلام) مَاشِیاً قَد شُقَّ ثِیَابُهُ»(5).
ص: 244
وهذه هی نهایة کلام المحقّق الهمدانی فی المسألة(1).
أورد المحقّق الهمدانی إشکالاً علی رأیه دون أن یدفعه بجوابٍ واضح؛ حیث إنّه قال: «واحتمال اختصاص الجواز بکونه علی الأنبیاء والأئمّة(علیهم السّلام) ...». ثمّ اکتفی فی الرد علیه بقوله: «لا یُلتفت إلیه»(2).
وقد أجاب السیّد الخوانساری عن هذا الإشکال: «واحتمال اختصاص ذلک بالنبیّ والوصی، مدفوع بقاعدة الاشتراک فی التکلیف»(3)، أی: لا یختصّ هذا الحکم بالأنبیاء والأئمة(علیهم السّلام) ، بل إنّ التکالیف مشترکة بین أولیاء الله وغیرهم بموجب قاعدة الاشتراک فی التکلیف. ولعلّ هذا الجواب کان فی مخیلة المحقّق الهمدانی؛ ممّا دفعه إلی أن یقول: «لا یُلتفت إلیه».
دلیل الهمدانی أخصّ من المدّعی؛ لأنّ المدّعی هو جواز شقّ الثوب علی الأب والأخ، بینما تختصّ هذه الروایات (روایات شقّ ثوب الإمام العسکری(علیه السّلام)) بجواز الشقّ علی الأب ولا تشمل شقّ الثوب علی الأخ.
صحیحٌ أنّ الإمام العسکری(علیه السّلام) شقّ ثوبه علی أبیه(علیه السّلام)، ولکنّه استدلّ بفعل سیّدنا موسی(علیه السّلام)؛ إذ شقّ ثوبه علی أخیه هارون(علیه السّلام)، وبالتالی؛ فإنّ هذا الدلیل یشمل الأخ أیضاً.
ص: 245
النتیجة: نقل المحقّق الهمدانی أربع روایات وکلّها ضعیفة السند، إلّا الروایة الأُولی، ولقد بیّنا سبب ضعف الروایة الثالثة(1). أمّا الروایة الثانیة، فهی ضعیفة أیضاً؛ لعدم توثیق أبی یعقوب إسحاق بن محمّد البصری ومحمد بن الحسن بن شمون فی کتب الرجال، وکذلک الأمر بالنسبة إلی الروایة الرابعة، فهی ضعیفة أیضاً؛ لوجود إسحاق بن محمد البصری فی سندها، ولکن رغم أنّ ثلاث روایات من مجموع الأربع ضعیفة إلّا أنّه لا یضرّ باستفاضة الروایات.
هذا الدلیل أخصّ من المدّعی؛ لأنّه یختصّ بالنساء ولا یشمل الرجال، بینما موضوع البحث فی حکم شقّ الثوب بالنسبة إلی الجمیع نساءً ورجالاً.
یمکن الاعتماد علی إلغاء الخصوصیة بأن یُقال: إنّ حکم الجواز یشمل الرجال أیضاً، ولا یقتصر علی النساء. وبتعبیرٍ آخر: لا یوجد هنا احتمال الخصوصیة، وبالتالی فالحکم یشمل الرجال أیضاً.
هذا الدلیل أخصّ من المدّعی من ناحیة أُخری أیضاً، فقد مرّ أنّ الاستدلال بفعل الفاطیمات لإثبات جواز شقّ الثوب علی الجمیع لیس صحیحاً؛ لأنّ عبارة: «وَعَلی مِثلِهِ». قرینة علی وجود الخصوصیة لموضوع هذه الروایة. بمعنی أنّ هذا الفعل یجوز فی مصیبة الإمام الحسین(علیه السّلام) ومَن کان مثله. إذن؛ الدلیل أخصّ من المدّعی، ویختص ببعض الأفراد فقط.
إن هذا الدلیل أعمّ من المدّعی من بُعدٍ آخر، فقد کانت بین الفاطیمات سیّدات تربطهنّ صلات أُخری بالإمام الحسین(علیه السّلام) غیر صلة الأبوة والأُخوّة - کالعمومة مثلاً - وبالتالی؛ فإنّ هذا الدلیل لا یختصّ بالأب والأخ، بل یشمل غیرهما أیضاً (کالعمّ).
ص: 247
تقدّمت معتبرة خالد(1)، وقلنا: إنّ فی سندها خالد بن سدیر الذی لم یرد فیه توثیق فی کتب الرجال، ولکن عمل الأصحاب بهذه الروایة یجبر ضعف سندها کما مرّ(2).
جاء الاستدلال بها فی کتاب التنقیح الرائع(3)، ولکن دلالتها موضع إشکال؛ لأنّ هذا الدلیل لا یختصّ بالأب والأخ، بل یشمل الأُمَّ وسائر الأقرباء أیضاً، مع أنّ المدّعی هو جواز شقّ الثوب علی الأب والأخ فقط.
استُدلّ بهذه الروایة فی التنقیح الرائع(1)، ومجمع الفائدة (2)، ولکن یُلاحظ علی دلالة هذه الروایة: بأنّها تدلّ علی شقّ الثوب بواسطة الرجال (الإمام العسکری(علیه السّلام) وسیّدنا موسی(علیه السّلام)). أی: إنّها لا تشمل النساء. ولکن المدّعی أنّ شقّ الثوب علی الأب والأخ جائز مطلقاً (أی: للرجال والنساء).
نعم، قد یقال: صحیحٌ أنّ الروایة تتکلّم عن شقّ الثوب بواسطة الرجال، إلّا أنّنا نلغی الخصوصیة عن الرجل لتشمل النساء أیضاً، وهذا لیس بعیداً فیما نحن فیه؛ لأنّه لا یُحتمل وجود خصوصیة للرجل.
«وَقَد رُوِی جَوَازُ تَخرِیقِ الثَّوبِ عَلَی الأبِ وَالأخِ، وَلاَ یَجُوزُ عَلَی غَیرِهِم»(3).
أخرج هذه الروایة الشیخ الطوسی من دون أن یُسندها، حیث قال: «رُوِی...». وبالتالی؛ فهی ضعیفة السند.
لا مشکلة فی دلالة هذه الروایة علی المدّعی؛ فإنّ المدّعی هو أنّ شقّ الثوب علی الأب والأخ جائزٌ للرجل والمرأة، وهذه الروایة تقول: إنّ شقّ الثوب علی خصوص الأب والأخ جائزٌ مطلقاً، وبالتالی؛ فإنّ هذه الروایة تشمل النساء أیضاً.
قال المحقّق الهمدانی فی مصباح الفقیه: «واستُدلّ أیضاً بروایات أوثقها فی النفس ما حُکی عن المبسوط من نسبته إلی الروایة لانجبار مثل هذه الروایة المرسلة بفتوی
ص: 249
الأصحاب؛ إذ من المستبعد عادةً التزامهم بمثل هذا الفرع من دون عثور علی روایة مقبولة لدیهم»(1). وقال المحقّق الخوئی: «لم یُعلم أنّ الشیخ أراد بذلک غیر الأخبار المتقدّمة الدالّة علی النهی عن شق الثیاب»(2). أی: یُحتمل أن یکون مراد الشیخ نفس الروایات الناهیة التی مرّت، لا روایات غیرها.
ذکرنا ثلاثة أدلّة علی هذه النظریة وبیّنا ضعف الأوّل والثانی، ثمّ بیّنا الدلیل الثالث الذی یشتمل علی عدّة روایات، فأمّا الروایة الأُولی فهی ضعیفة السند والدلالة، وأمّا الثانیة والثالثة فرغم صحّة السند إلّا أنّ دلالتهما موضع إشکال، والروایة الخامسة تامّة الدلالة ولکنّها ضعیفة السند. تبقی الروایة الرابعة التی تشتمل علی روایتین وإحداهما صحیحة کشف الغمّة، وهی روایة صحیحة السند والدلالة. وعلی هذا؛ یمکن للروایة الرابعة أن تکون مستنداً لهذه النظریة.
اختار بعض العلماء هذه النظریة، منهم ابن سعید الحلّی فی الجامع، حیث قال: «لا بأس بشقّ الإنسان ثوبه لموت أخیه ووالدیه وقریبه»(3). کما روی الشهید الأوّل فی الدروس روایة تُشیر إلی هذا الأمر(4).
فی کتب الرجال، ولکن الأصحاب عملوا بهذه الروایة؛ وعملهم یجبر ضعف السند(1).
یبدو من کلام الشهید فی الدروس أنّه مال إلی هذه النظریة؛ لأنّه ذکر هذه الروایة فی کتاب الدروس(2)، ولکنّه أسند الروایة إلی حنان بن سدیر، وهذا سهو منه؛ لأنّها مرویة عن خالد بن سدیر، ولیست عن أخیه حنان.
دلالة الروایة علی المدّعی لیست تامّة؛ فقد جاءت کلمة (القریب) فی کلام السائل (الروای)، ولیس فی کلام الإمام(علیه السّلام). وکلام السائل لا یخصِّص کلام الإمام(علیه السّلام)، بل إنّ کلام الإمام(علیه السّلام) مطلق ویشمل الجمیع، وإن لم یکونوا من الأقرباء. وعلی هذا؛ فلا تناسب بین الدلیل والمدّعی. وبعبارة أُخری: تخصیص الحکم بالقریب لا یستند إلی دلیل؛ لأنّ کلام الإمام(علیه السّلام) عن جواز شقّ الثوب مطلق، ویشمل غیر الأقرباء أیضاً.
المدّعی هو جواز شق الثوب علی القریب مطلقاً، إلّا أنّ هذه الروایة لا تدلّ علی جواز شقّ الثوب علی القریب بشکلٍ مطلق. فرغم أنّ العرف یعتبر أنّ الابن قریب الأب، والمرأة قریبة زوجها، إلّا أنّها تصرّح بعدم جواز شقّ الأب علی ابنه والزوج علی
ص: 251
امرأته. إذن؛ هذا الدلیل أخصّ من المدّعی.
ذُکر لهذه النظریة دلیل واحد، وسند هذا الدلیل معتبر لعمل الأصحاب به، لکن دلالته علی المدّعی موضع إشکال. إذن؛ لا یمکن أن یکون مستنداً لهذه النظریة.
ذهب الملّا محمد تقی المجلسی فی روضة المتقین إلی ما هو أعلی من الجواز، حیث قال: «وشقّ الثوب من الإمام(علیه السّلام) یدلّ علی استحبابه علی الأب»(1).
أنّ جمیع هذه الروایات ضعیفة إلّا صحیحة کشف الغمّة (1).
استدلّ الملّا محمد تقی المجلسی بهذه الروایات فی روضة المتقین، واعتبر أنّ عمل الإمام(علیه السّلام) یدلّ علی استحباب شقّ الثوب علی الأب.
جمیع الروایات التی تعتمد علیها هذه النظریة ضعیفة السند، إلّا صحیحة کشف الغمّة، ولکن هذه الروایة الواحدة تکفی للاستدلال علی الاستحباب.
النظریة الثامنة: جواز شقّ الثوب مطلقاً(2)
قال السیّد الخوئی(3)، والمحقّق القمی: «لا دلیل علی حرمة شقّ الجیب فی موت أحدٍ من الأموات، ومقتضی القاعدة الأوّلیة هو الجواز»(4).
قال المحقّق الخوئی: «إنّها أفعال لم تثبت حرمتها مطلقاً. إذن؛ لا مانع شرعاً من الإتیان
ص: 253
بها فی مصائب الأئمّة الطاهرین(علیهم السّلام) وغیر الأئمّة» (1). ونقل السیّد محمّد العاملی فی المدارک روایة الصیقل، وحمل عبارة: «لا ینبغی». علی الکراهة، ثمّ قال: «مقتضی الأصل الجواز»(2). واستفاد صاحب الحدائق من کلام العاملی أنّه لا یوجد فی الأخبار دلیل علی حرمة شقّ الثوب(3).
إنّ دلیل النظریة الثامنة صحیح وفقاً لمبانی بعض الفقهاء؛ لأنّه لا یوجد دلیل صحیح وتامّ الدلالة علی التحریم؛ لأنّ النظریة الثامنة تعتمد علی دلیل واحد صالح للنقاش، وهو تعاضد الروایات الضعیفة وانجبارها بعمل الأصحاب، مع أنّ المحقّق الخوئی لا یقول بانجبار ضعف الروایات بعمل الأصحاب، وفی المقابل ذهب الکثیر من الأعاظم إلی جبر السند بعمل المشهور، وقد مرّ أنّ القول بالجبر أقوی؛ لأنّه یؤدّی إلی تراکم الظنون(4).
کلّ النظریات باطلة إلّا الأُولی والخامسة والسابعة. أمّا النظریة الأُولی (الحرمة مطلقاً) فهی صحیحة؛ لأنّ إطلاق الروایات یدلّ علی حرمة شقّ الثوب، والنظریة الخامسة صحیحة أیضاً (جواز الشقّ علی خصوص الأب والأخ مطلقاً، أی: للرجل
ص: 254
والمرأة)؛ لأنّها تعتمد علی أدلّة خاصّة تدلّ علی جواز شقّ الثوب علی الأب والأخ فقط. إذن؛ لا بدّ من الجمع بین أدلّة النظریتین عن طریق التخصیص. فالروایات التی تدلّ علی جواز شقّ الثوب علی خصوص الأب والأخ تخصِّص إطلاق الروایات الدالّة علی الحرمة مطلقاً. وبناء علی الأدلّة المذکورة فی النظریة السابعة (استحباب شقّ الثوب علی الأب)؛ یتبیّن أنّ شقّ الثوب علی الأب مستحبّ. وعلی هذا، یجوز للرجل والمرأة أن یقیما العزاء علی الأب والأخ بشقّ الثوب، ولا یجوز الشقّ علی غیرهما. کما أنّ شقّ الثوب علی الأب مستحبّ أیضاً.
ص: 255
سلّطنا الضوء فی هذا الفصل علی ستّة من مصادیق العزاء علی المیّت، وثبت جواز القیام بجمیع هذه المصادیق، إلّا المصداق الخامس الذی ثبتت حرمته (وهو عبارة عن اللطم والخدش وجزّ الشعر). وهذا یعنی أنّه یجوز للإنسان أن یبکی فی العزاء، ویتمیّز عن الآخرین، وینوح، ویصیح علی کلّ میّت، کما یجوز له أن یشقّ الثوب علی موت الأب والأخ فقط. وبالتالی نستنتج أنّ إقامة العزاء جائزٌ من وجهة نظر الشیعة بصورة کبری کلّیة.
ص: 256
ص: 257
ص: 258
إنّ الغالبیة العظمی من علماء السنّة (علی غرار علماء الشیعة) لم یبحثوا بشکلٍ کلّی عن حکم إقامة العزاء علی المیّت، بل اکتفوا بذکر المصادیق ودراسة أحکامها. لذا؛ سنقوم بتسلیط الضوء علی آرائهم فی مصادیق العزاء.
اختلف علماء السنّة فی حکم البکاء علی المیت، کما صرّح بذلک الجزیری. فذهبت المالکیة والحنفیة إلی تحریمه، بینما جوّزته الشافعیة والحنبلیة(1). منهم مَن قال بالتفصیل. إذن؛ یمکن أن نقول: إنّ لعلماء السنّة خمس نظریات فی البکاء علی المیت: (التحریم مطلقاً(2)، الکراهة مطلقاً، الاستحباب، الجواز مطلقاً، والتفصیل).
اعتبر بعض أهل السنّة أنّ البکاء علی المیّت حرام مطلقاً. کما ورد التصریح بحرمة البکاء علی المیّت فی موسوعة الفقه الإسلامی(3).
ص: 259
قال الشافعی: بأنّ البکاء علی المیّت یُباح إلی أن تخرج الروح، ویکره بعد ذلک، وهذا ما صرّح به ابن قدامة فی المغنی(1)، وذکره الشربینی نقلاً عن الشافعی(2). ونقل المحقّق فی المعتبر(3) والعلّامة فی التذکرة هذه الفتوی عن الشافعی(4).
قال أحمد بن حنبل: بأنّ البکاء علی المیّت جائز مطلقاً. کما صرّح بذلک عبد الرحمن بن قدامة فی الشرح الکبیر(5)، وعبد الله بن قدامة فی المغنی(6)، وابن تیمیة فی المحرّر (7). کما أنّ العلّامة نسب إلیه هذا القول فی التذکرة(8)، وذکر الجزیری أنّ الشافعیة یقولون بجواز البکاء(9)، کما صرّح القرافی(10) وکوکب عبید: بأنّ البکاء علی المیّت جائز(11).
ذهب بعض علماء السنّة إلی أنّ البکاء علی المیّت مستحبّ فی بعض الأحیان. فقد قال الشربینی فی المغنی - نقلاً عن بعض علماء السنّة -: «قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنْ کَانَ (البکاء) لِمَا فُقِدَ مِنْ عِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ وَبَرَکَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، فَیَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ»(12).
ص: 260
صرّح عبد الله بن قدامة بأنّ البکاء غیر مکروه إذا لم یکن معه ندب ولا نیاحة(1).
سبق أنّ (الندب) یعنی تعداد محاسن المیّت، وهذا ما صرّح به ابن قدامة فی المغنی(2). ولعلماء أهل السنّة أربع نظریات فی إقامة العزاء بالندب.
«الکراهة مطلقاً(3)، التحریم مطلقاً، التفصیل الأوّل، التفصیل الثانی».
نسب عبد الله بن قدامة فی المغنی(4)، وعبد الرحمن بن قدامة فی الشرح الکبیر(5)، القول بکراهة الندب (تعداد محاسن المیت) إلی بعض أهل السنّة.
قال العلّامة فی التذکرة: «لا بأس بالنوح والندب بتعدّد فضائله... وجماعة من أصحاب الحدیث من الجمهور حرّموه» (6). وقال منصور بن یونس: «یَحْرُمُ النَّحِیبُ وَالتَّعْدَادُ، أَیْ: تَعْدَادُ الْمَحَاسِنِ وَالْمَزَایَا وَإِظْهَارُ الْجَزَعِ»(7)، کما قال ابن قدامة فی الشرح الکبیر: «ولا یجوز الندب... الندب: هو تعداد محاسن المیّت»(8).
ص: 261
قال القسطلانی فی کتاب إرشاد الساری باب رثاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی سعد بن خولة: «والمراد هنا: توجّعه علیه الصلاة والسلام وتحزّنه علی سعد؛ لکونه مات بمکّة بعد الهجرة منها، لا مدح المیّت وذکر محاسنه، الباعث علی تهییج الحزن وتجدید اللوعة، إذ الأوّل مباح، بخلاف الثانی؛ فإّنه منهی عنه. وقد أطلق الجوهری الرثاء علی عدّ محاسن المیّت مع البکاء وعلی نظم الشعر فیه. والأوجه حمل النهی علی ما فیه تهییج الحزن... دون ما عدا ذلک، فما زال کثیر من الصحابة وغیرهم من العلماء یفعلونه...»(1).
قال أحمد بن حنبل بجواز الندب بشرط أن لا یکون بالباطل، ویکون بتعداد الفضائل وقول الصدق. وهذا ما أشار إلیه عبد الرحمن بن قدامة فی الشرح الکبیر(2)، وعبد الله بن قدامة فی المغنی(3). کما نقل العلّامة هذا القول عن أحمد(4).
کذلک نقل ابن قدامة فی الشرح الکبیر، عن حرب، عن أحمد کلاماً یحتمل إباحة النوح والندب(5). والظاهرأنّ مراده هو التفصیل والجواز مشروط بأن لا یکون مع الباطل، حتّی لا یتعارض مع سائر کلمات أحمد بن حنبل. فقد نقل ابن قدامة نفسه عن أحمد أنّه قال: «وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا ذَکَرَتْ الْمَرْأَةُ مِثْلَ مَا حُکِیَ عَنْ فَاطِمَةَ، فِی مِثْلِ الدُّعَاءِ، لَا یَکُونُ مِثْلَ النَّوْحِ. یَعْنِی لَا بَأْسَ بِهِ»(6).
ص: 262
یظهر من هذه العبارة أنّ أحمد أراد القول بالتفصیل المذکور. أی: إذا ذکرت النائحة کلاماً مثل کلام فاطمة(علیهاالسّلام) (وهو لیس بباطل) فلا بأس به، ولکن إذا ترافق نوحها مع کلمات باطلة فلا یجوز.
یشتمل المصداق الثالث علی عدّة عناوین. ولکن بما أنّ حکمها مشترک بحثها علماء السنّة فی بحث واحد فنقوم بدراسته تحت عنوان مصداق واحد.
قال ابن قدامة فی المغنی: «خَمْشُ الْوُجُوهِ وشَقُّ الْجُیُوبِ وضَرْبُ الْخُدُودِ والدُّعَاءُ بِالْوَیْلِ وَالثُّبُورِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ مَکْرُوهٌ»(1).
یبدو أنّ الأغلبیة الساحقة من علماء السنّة یعتقدون بتحریم شقّ الثوب واللطم والخدش وجزّ الشعر ونشره علی المیت. ولقد جاء التصریح بهذا الحکم فی الموسوعة الفقهیة(2). وقال منصور بن یونس البهوتی فی کشاف القناع بتحریم هذه الأفعال(3)، کما صرّحت به موسوعة الفقه الإسلامی حیث جاء فیها: «یحرم شقّ الثوب ولطم الخد»(4). وجاء کذلک: «یحرم علی أهل المیت وأقاربه وغیرهم ما یلی: ... لطم الخدود، وشقّ الجیوب»(5). وجاء فی کتاب الفقه علی المذاهب الأربعة: «لا یجوز... لطم الخدود، وشقّ الجیوب»(6).
ص: 263
قال ابن تیمیة فی منهاج السنّة: «ومن حماقتهم: إقامة المأتم والنیاحة علی مَن قتل من سنین عدیدة، ومن المعلوم أنّ المقتول وغیره من الموتی إذا فعل مثل ذلک بهم عقب موتهم کان ذلک مما حرّمه الله ورسوله... وهؤلاء یأتون من لطم الخدود، وشقّ الجیوب، ودعوی الجاهلیة، وغیر ذلک من المنکرات بعد موت المیت بسنین کثیرة، ما لو فعلوه عقب موته لکان ذلک من أعظم المنکرات التی حرّمها الله ورسوله، فکیف بعد هذه المدّة الطویلة؟! ومن المعلوم أنّه قد قُتل من الأنبیاء وغیر الأنبیاء ظلماً وعدوناً مَن هو أفضل من الحسین...»(1).
ویُستفاد من کلام ابن تیمیة أنّه یحرّم إقامة العزاء والمأتم (أی: لطم الوجوه، وشقّ الجیوب)، سواء أکان للإمام الحسین(علیه السّلام) أو لغیره. ولا یجوز لأحد أن یقیم المأتم علی المیت حتّی عقب وفاته؛ لأنّه من المنکرات والمحرّمات الشرعیة.
یرد علی کلامه إشکالان:
الإشکال الأول: لقد ذهب کبار علماء السنّة إلی جواز إقامة العزاء، واستدلّوا لذلک بروایات کثیرة عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). وکما سیأتی فی تکملة هذا البحث (الفصل الثانی)، فإنّ فتوی ابن تیمیة تخالف روایات معتبرة ومقبولة لدی أهل السنّة، کما أنّها تخالف مشهور علماء أهل السنّة.
الإشکال الثانی: أوّلاً هناک روایات صحیحة عن أهل البیت(علیهم السّلام) فی هذه المسألة، وقد بلغت حدّ التواتر المعنوی، وکلّها تدلّ علی جواز إقامة المأتم علی سیّد الشهداء(علیه السّلام)
ص: 264
بل واستحبابها. ومن جهةٍ أُخری، فإنّ العامة لا یشترطون العصمة فی اتباع أهل البیت(علیهم السّلام) ، ویکفی أن یعتقدوا بأنّهم أئمّة فی الإفتاء؛ حیث إنّهم لا یقلّون عن الأئمة الأربعة بشیء. فإذا ثبت أنّ إقامة المأتم أمر قطعی فی مدرسة أهل البیت(علیهم السّلام) ، فلماذا ینکره بعض العامّة کابن تیمیة؟!
ص: 265
تبیّن بعد الدقّة فی آراء أهل السنّة أنّهم اختلفوا فی جواز إقامة العزاء، وهناک نظریات مختلفة حول مصادیق العزاء. فقد ذهب البعض إلی حرمة إقامة العزاء، بینما البعض الآخر یعتقد بجوازه أو کراهته.
ص: 266
نبحث أدلّة أهل السنّة فی کلّ واحد من مصادیق العزاء مستقلاً:
هناک عدّة نظریات حول حکم البکاء علی المیت، وسنقوم بدراسة هذه النظریات وأدلّتها.
الدلیل علی النظریة الأُولی: تحریم البکاء مطلقاً(1) - أربعة أدلّة قال بعض أهل السنّة بتحریم البکاء علی المیّت، واستدلّوا بمجموعة من الأدلّة. وفیما یلی سنقوم ببیان هذه الأدلّة ودراستها.
إنّ العمدة فی أدلّة أهل السنّة لتحریم البکاء علی المیّت هی تلک الأخبار التی تروی نهی عمر بن الخطّاب وابنه عن البکاء علی المیّت. قال الترمذی فی السنن: «وَقَدْ کَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ البُکَاءَ عَلَی الْمَیِّتِ، قَالُوا: الْمَیِّتُ یُعَذَّبُ بِبُکَاءِ أَهْلِهِ عَلَیْهِ، وذَهَبُوا إِلَی هَذَا الحَدِیثِ»(2).
ویبدو أنّ مقصود الترمذی بالکراهة هو التحریم، ولیس الکراهة المصطلحة التی
ص: 267
هی من الأحکام الخمسة. وهناک قرینتان تؤیّدان هذا الأمر:
القرینة الأُولی: إنّ الحدیث الذی رواه الترمذی ظاهر فی التحریم، ففیه تصریح بأنّ البکاء علی المیّت یؤدّی إلی تعذیبه، والتعذیب یدلّ علی حرمة الفعل. فالحدیث الذی استدلّ به الترمذی لا یدلّ علی الکراهة.
القرینة الثانیة: کلّ مَن استدلّ بهذا الحدیث من علماء أهل السنّة استفاد منه الحرمة لا الکراهة، وسیأتی تفصیل هذا البحث فی المباحث القادمة. إذن؛ هاتان القرینتان تدلّان علی أنّ المراد من الکراهة فی عبارة الترمذی هو التحریم، ولیس الکراهة التی تقابل الاستحباب.
«حَدَّثَنَا عَبدَانُ، قَالَ: أَخبَرَنِی أَبِی، عَن شُعبَةَ، عَن قَتَادَةَ، عَن سَعِیدِ بنِ المُسَیِّبِ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَن أَبِیهِ رضی الله عنهما، عَنِ النَّبِیِّ صلّی الله علیه وسلّم قَالَ: المَیِّتُ یُعَذَّبُ فِی قَبرِهِ بِمَا نِیحَ عَلَیهِ»(1).
تنبیه: إن النوح فی مصطلح أهل السنّة یعنی البکاء کما جاء فی موسوعة الفقه الإسلامی(2).
«حَدَّثَنَا أَبُو بَکرِ بنُ أَبِی شَیبَةَ ومُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ نُمَیرٍ، جَمِیعاً عَنِ ابنِ بِشرٍ، قَالَ أَبُو بَکرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ بِشرٍ العَبدِیُّ، عَن عُبَیدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَن عَبدِ اللهِ، أَنَّ حَفصَةَ بَکَت عَلَی عُمَرَ، فَقَالَ: مَهلاً یَا بُنَیَّةُ! أَلَم تَعلَمِی أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم
ص: 268
قَالَ: إِنَّ المَیِّتَ یُعَذَّبُ بِبُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ؟!»(1).
«حَدَّثَنِی عَلِیُّ بنُ حُجرٍ السَّعدِیُّ، حَدَّثَنَا عَلِیُّ بنُ مُسهِرٍ، عَنِ الأَعمَشِ، عَن أَبِی صَالِحٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا طُعِنَ(2) عُمَرُ أُغمِیَ عَلَیهِ، فَصِیحَ عَلَیهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَمَا عَلِمتُم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم، قَالَ: إِنَّ المَیِّتَ لَیُعَذَّبُ بِبُکَاءِ الحَیِّ؟!»(3).
«حَدَّثَنَا عَبدُ اللهِ بنُ أَبِی زِیَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا یَعقُوبُ بنُ إِبرَاهِیمَ بنِ سَعدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِی، عَن صَالِحِ بنِ کَیسَانَ، عَنِ الزُّهرِیِّ، عَن سَالِمِ بنِ عَبدِ اللهِ، عَن أَبِیهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم: المَیِّتُ یُعَذَّبُ بِبُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ... »(4).
«حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ رَافِعٍ وعَبدُ بنُ حُمَیدٍ، قَالَ ابنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبدُ الرَّزَّاقِ، أَخبَرَنَا ابنُ جُرَیجٍ، أَخبَرَنِی عَبدُ اللهِ بنُ أَبِی مُلَیکَةَ، قَالَ: تُوُفِّیَتِ ابنَةٌ لِعُثمَانَ بنِ عَفَّانَ بِمَکَّةَ، قَالَ: فَجِئنَا لِنَشهَدَهَا، قَالَ: فَحَضَرَهَا ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ... فَقَالَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لِعَمرِو بنِ عُثمَانَ: وَهُوَ مُوَاجِهُهُ، أَلَا تَنهَی عَنِ البُکَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم قَالَ: إِنَّ المَیِّتَ لَیُعَذَّبُ بِبُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ»(5).
ص: 269
«حَدَّثَنَا أَبُو کُرَیبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَن هِشَامٍ، عَن أَبِیهِ قَالَ: ذُکِرَ عِندَ عَائِشَةَ أَنَّ ابنَ عُمَرَ یَرفَعُ إِلَی النَّبِیِّ صلّی الله علیه وسلّم أنَّ المَیِّتَ یُعَذَّبُ فِی قَبرِهِ بِبُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ. فَقَالَت: وَهِلَ! إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله صلّی الله علیه وسلّم: إِنَّهُ لَیُعَذَّبُ بِخَطِیئَتِهِ أَو بِذَنبِهِ، وَإِنَّ أَهلَهُ لَیَبکُونَ عَلَیهِ الآنَ»(1).
«حَدَّثَنَا قُتَیبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بنُ عَبَّادٍ المُهَلَّبِیُّ، عَن مُحَمَّدِ بنِ عَمرٍو، عَن یَحیَی بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِیِّ صلی الله علیه وسلّم قَالَ: المَیِّتُ یُعَذَّبُ بِبُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ. فَقَالَت عَائِشَةُ: یَرحَمُهُ اللهُ، لَم یَکذِب وَلَکِنَّهُ وَهِمَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم لِرَجُلٍ مَاتَ یَهُودِیّاً: إِنَّ المَیِّتَ لَیُعَذَّبُ وإِنَّ أَهلَهُ لَیَبکُونَ عَلَیهِ»(2).
یعتقد علماء العامة بأنّ هذه الروایات تدلّ علی حرمة البکاء علی المیّت؛ لأنّه یتسبّب فی تعذیب المیّت.
لقد حاول البعض توجیه هذه الروایات، فقد قال الطریحی فی مجمع البحرین تعلیقاً علی هذه الروایات: «فِی الْخَبَرَ: الْمَیِّتِ یُعَذِّبُ بِبُکَاءِ أَهْلِهِ عَلَیْهِ... قِیل: المراد بالمیت المشرف علی الموت؛ فإنّه یشتدّ حاله بالبکاء»(3). ولکن یبدو بناءً علی الإشکالات التی ستطرح أنّ هذه الروایة لیست صحیحة أصلاً.
ص: 270
قال النووی (شارح صحیح المسلم) بعد نقل هذه الروایات: «هذه الروایات من روایة عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله رضی الله عنهما، وأنکرت عائشة، ونَسبتها إلی النسیان والاشتباه علیهما، وأنکرت أن یکون النبی صلّی الله علیه وسلّم قال ذلک، واحتجّت بقوله تعالی: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی » . قالت: وإنّما قال النبی صلّی الله علیه وسلّم فی یهودیة: إنّها تعذّب وهم یبکون علیها، یعنی: تعذّب بکفرها فی حال بکاء أهلها، لا بسبب البکاء»(1).
وقد أخرج البخاری الروایة المذکورة فی صحیحه: «قال ابن عباس: فَلَمَّا أُصِیبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَیبٌ یَبکِی... فَقَالَ عُمَرُ رضی الله عنه: یَا صُهَیبُ، أَتَبکِی عَلَیّ وَقَد قَالَ رَسُولُ الله صلّی الله علیه وسلّم: إِنَّ المَیِّتَ یُعَذَّبُ بِبَعضِ بُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ؟! قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضی الله عنه: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضی الله عنه ذَکَرتُ ذَلِکَ لِعَائِشَةَ. فَقَالَت: رَحِمَ اللهُ عُمَرَ، واللهِ، مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم إِنَّ اللهَ لَیُعَذِّبُ المُؤمِنَ بِبُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ. وَلَکِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم قَالَ: إِنَّ اللهَ لَیَزِیدُ الکَافِرَ عَذَاباً بِبُکَاءِ أَهلِهِ عَلَیهِ. وَقَالَت: حَسبُکُمُ القُرآنُ «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی »»(2).
کما أخرج مسلم مثل هذه الروایة فی صحیحه:
«حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وأَبُو الرَّبِیعِ الزَّهْرَانِیُّ، جَمِیعاً، عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ خَلَفٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَیْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِیهِ، قَالَ: ذُکِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: الْمَیِّتُ یُعَذَّبُ بِبُکَاءِ أَهْلِهِ عَلَیْهِ، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ شَیْئاً فَلَمْ یَحْفَظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَی رَسُولِ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ یَهُودِیٍّ وهُمْ یَبْکُونَ عَلَیْهِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ
ص: 271
تَبْکُونَ وإِنَّهُ لَیُعَذَّبُ»(1).
وأخرجها أبو داود فی سننه نقلاً عن عبد الله بن عمر:
«حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِیِّ، عَنْ عَبْدَةَ وأَبِی مُعَاوِیَةَ الْمَعْنَی، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِیهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم: إِنَّ الْمَیِّتَ لَیُعَذَّبُ بِبُکَاءِ أَهْلِهِ عَلَیْهِ. فَذُکِرَ ذَلِکَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: وَهِلَ - تَعْنِی ابْنَ عُمَرَ - إِنَّمَا مَرَّ النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم عَلَی قَبْرٍ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا لَیُعَذَّبُ وَأَهْلُهُ یَبْکُونَ عَلَیْهِ»(2).
نلاحظ فی هذه الروایات أن عائشة زوجة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أنکرت هذه الروایة، وهذا یقدح فی صحّة الروایة. ودلیل ذلک ما بیّنه العلّامة المجلسی فی البحار؛ حیث قال ما نصّه: «وفی هذا نسبة الراوی إلی الخطاء، وهو علّة من العلل المخرجة للحدیث عن شرط الصحّة»(3).
وکما سیأتی فقد قال الشافعی فی اختلاف الحدیث: «وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ أَشْبَهُ أَنْ یَکُونَ مَحْفُوظاً عَنْهُ صلّی الله علیه وسلّم بِدَلَالَةِ الْکِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ»(4).
لقد کان البکاء علی المیت أمراً شائعاً علی مدی العصور وحتّی فی عهد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). وإذا کانت هذه الروایة صدرت عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فعلاً، ونهی عن البکاء فلا بدّ أن یطلع علیه جمع کبیر من الناس، فکیف یُعقل أن یتفرّد عمر وابنه بمثل هذه الروایة ولا یرویها شخصٌ آخر؟ وبتعبیرٍ آخر: هناک دواعی کثیرة إلی تناقل مثل هذه الروایة؛ لأنّها
ص: 272
تنهی عن عادة شائعة بین الناس، وهذا الشیوع یؤدّی إلی کثرة الروایة وطرقها. فلا یعقل أن یتفرّد بها شخصان فقط.
لقد بیّن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) معیاراً لمعرفة الأحادیث الضعیفة، وهو مخالفة الحدیث لکتاب الله. فإن کان الحدیث مخالفاً للقرآن فلا یؤخذ به. ومن الواضح أنّ هذا الحدیث یعارض کتاب الله حیث قال: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی » (1).
فلا یعقل أن یُعذّب المیّت ببکاء غیره؛ لأنّه حینئذ یزر وزر شخص آخر. وهذا هو التعارض الموجود بین هذا الحدیث والقرآن. وبالتالی؛ لا بدّ من ردّ هذا الحدیث وترکه اعتماداً علی المعیار الذی قدّمه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). کما أنّ عائشة نفسها استدلّت بهذه الآیة لردّ هذا الحدیث.
ثمّ إنّ هذا الحدیث یعارض آیات أُخری أیضاً، فقد قال الشافعی فی اختلاف الحدیث: «قَالَ الشَّافِعِیُّ: وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ أَشْبَهُ أَنْ یَکُونَ مَحْفُوظاً عَنْهُ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ؛ بِدَلَالَةِ الْکِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ، فَإِنْ قِیلَ: فَأَیْنَ دَلَالَةُ الْکِتَابِ؟ قِیلَ: فِی قَوْلِهِ(عزوجل): «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی » (2). «وَأَنْ لَیْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَی » (3). «وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ » (4). « لِتُجْزَی کُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَی» (5)»(6).
وعلی هذا؛ یمکن أن نقول: إنّ هذا الحدیث یخالف أربع آیات قرآنیة؛ لأنّ هذه
ص: 273
الآیات تدلّ علی أنّ الإنسان یعذّب بفعله لا بأفعال الآخرین.
یتعارض هذا الحدیث مع روایات أُخری کما قال صاحب الجواهر(1). ویبدو أنّ صاحب الجواهر قصد تلک الروایات التی رواها أهل السنّة أنفسهم، وسنذکرها فی النظریة الثانیة بالتفصیل. وهی روایات تدلّ علی جواز البکاء، بل تدلّ کذلک علی أنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نفسه بکی علی الموتی.
حتّی لو افترضنا أنّ هذا الحدیث الذی تفرّد به عمر وابنه حدیث صحیح صدر عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فهناک سؤال یطرح نفسه: لماذا لم یعمل عمر بهذا الحدیث فی مواقف مختلفة؟ وهنا نشیر إلی ثلاثة مواقف منها:
«لَمّا استُشهدَ زیدُ بنُ الخَطّابِ بِالیَمَامَةِ، وکَانَ صَحِبَهُ رَجُلٌ مِن بَنِی عَدِی بنِ کَعبٍ؛ فَرَجَعَ إلَی المَدِینَةِ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ دَمَعَت عَینَاهُ وقَالَ: وخَلّفتَ زَیداً ثَاوِیاً وأتَیتَنِی؟!»(2).
«حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا شُعبَةُ، عَن عَلِیِّ بنِ زَیدٍ، عَن أَبِی عُثمَانَ، قَالَ: أَتَیتُ عُمَرَ بِنَعیِ النُّعمَانِ بنِ مُقَرِنٍ قَالَ: فَجَعَلَ یَدَهُ عَلَی رَأسِهِ وجَعَلَ یَبکِی»(3).
ص: 274
«وَلَمَّا تُوُفّیَ خَالِدُ بنُ الوَلِیدِ أیَّامَ عُمَرِ بنِ الخَطّاب - وَکَانَ بَینَهُمَا هَجرَة - امتنَعَ النسَاءُ مِنَ البُکَاءِ عَلَیهِ، فَلَمَّا انتَهَی ذَلِکَ إلَی عُمَرَ، قَالَ: ومَا عَلَی نِسَاءِ بَنِی المغیرَة أن یَرِقنَ مِن دَمعِهِنَّ عَلَی أبِی سُلَیمَان مَا لَم یَکُن نَقعٌ(1) وَلاَ لَقلَقَةٌ(2)»(3).
هذه الروایات تدلّ بوضوح علی أنّ عمر بکی علی الموتی وجوّز البکاء علیهم، وهذا یعنی أنّ فعل عمر لا یوافق قوله.
«حَدَّثَنَا عَبدُ اللهِ بنُ نُمَیرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسحَاقَ، عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ القَاسِمِ، عَن أَبِیهِ، عَن عَائِشَةَ، قَالَت: لَمَّا أَتَت وَفَاةُ جَعفَرٍ عَرَفنَا فِی وَجهِ رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم الحُزنَ، فَدَخَلَ عَلَیهِ رَجُلٌ فَقَالَ: یَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ النِّسَاءَ یَبکِینَ. قَالَ: فَارجِع إِلَیهِنَّ فَأَسکِتهُنَّ، فَإِن أَبَینَ فَاحثُ فِی وُجُوهِهِنَّ التُّرَابَ»(4).
هناک أمران فی هذه الروایة یدلّان علی تحریم البکاء علی المیّت، الأوّل نهی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن البکاء؛ حیث إنّه أمر بالسکوت، والثانی أمره برمی التراب علی وجوه النساء اللواتی یبکین علی المیت.
النقد الذی یوجَّه إلی هذا الدلیل یتمثّل فی إشکالین:
ص: 275
فی سنده محمد بن إسحاق، وقد ضعّفه المحدثون وعلماء الرجال من أهل السنّة کالمزی، واعتبر هؤلاء أنّ ما رواه محمد بن إسحاق ضعیف وموضوع(1).
یتعارض هذا الحدیث مع عشرات الأحادیث المشهورة التی رویت عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی هذا الموضوع، والتی تشیر إلی بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی بعض المسلمین(2)، ولا سیّما جعفر بن أبی طالب بعد استشهاده(3). وهذه الأحادیث تعارض الحدیث المذکور. وبما أنّ هذا الحدیث شاذ والأحادیث التی تعارضه مشهورة؛ فلا بدّ من ردّ الحدیث الشاذ، وهذا من مبانی أهل السنّة والجماعة.
«حَدَّثَنَا أَبُو بَکرِ بنُ أَبِی شَیبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بنُ یَزِیدَ وحَدَّثَنِی إِسحَاقُ بنُ مَنصُورٍ، أَخبَرَنَا حَبَّانُ بنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا یَحیَی، أَنَّ زَیداً، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَلامٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا مَالِکٍ الأَشعَرِیَّ، حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِیَّ صلّی الله علیه وسلّم قَالَ: أَربَعٌ فِی أُمَّتِی مِن
ص: 276
أَمرِ الجَاهِلِیَّةِ، لاَ یَترُکُونَهُنَّ: الفَخرُ فِی الأَحسَابِ، والطَّعنُ فِی الأَنسَابِ، والاستِسقَاءُ بِالنُّجُومِ، والنِّیَاحَةُ»(1).
وأخرجه أبو یعلی الموصلی بسندٍ آخر، وقال: إنّه حدیثٌ صحیح(2).
جاء الاستدلال بهذه الروایة فی موسوعة الفقه الإسلامی(3)، وفیها دلالة علی النهی عن البکاء؛ لأنّه من عادات الجاهلیة.
وإن کان سند هذا الحدیث صحیحاً وفق مبانی أهل السنّة، ورغم ذلک فلا بدّ من ردّه؛ لأنّه یخالف روایات مشهورة کثیرة تدلّ علی جواز البکاء، بل وتدلّ بعضها علی بکاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نفسه وموافقته علی بکاء الآخرین. إذن؛ یجب ردّ هذا الحدیث الشاذ اعتماداً علی الروایات المشهورة.
«حَدَّثَنَا عَبدُ اللهِ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ زَیدٍ، حَدَّثَنَا أَ یُّوبُ، عَن مُحَمَّدٍ، عَن أُمِّ عَطِیَّةَ رَضِیَ اللهُ عَنهَا، قَالَت: أَخَذَ عَلَینَا النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم عِندَ البَیعَةِ أَن لاَ نَنُوحَ»(4).
ص: 277
تمسک التویجری بهذه الروایة لإثبات حرمة البکاء فی موسوعة الفقه الإسلامی(1)؛ لنهی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عنه.
سند هذه الروایة وإن کان صحیحاً أیضاً حسب معاییر أهل السنّة، ولکن یرد علیها نفس الإشکال السابق، من أنّ هذه الروایة تعارض الروایات الکثیرة التی تدلّ علی جواز البکاء.
ذُکر أربعة أدلّة علی النظریة الأُولی (تحریم البکاء):
أمّا الدلیل الأوّل (تعذیب المیت) فترد علیه خمسة إشکالات أساسیة؛ حیث إنّ عائشة أنکرته، وتفرّد به عمر وابنه، کما أنّه یتعارض مع آیات القرآن وسائر الروایات، ولم یعمل به عمر نفسه.
أمّا الدلیل الثانی (رمی التراب علی وجوه الباکیات)، فإنّه ضعیف السند، فضلاً عن تعارضه مع الروایات المشهورة.
وکذلک الدلیلان الثالث والرابع؛ إذ إنّهما یتعارضان مع روایات کثیرة تدلّ علی جواز البکاء. وبالتالی؛ لا یوجد دلیلٌ تامٌّ علی تحریم البکاء علی المیت وفقاً لمعاییر الفقه السنّی.
الدلیل علی النظریة الثانیة: کراهة البکاء مطلقاً(2) - دلیلان (روایتان) استدلّ القائلون بکراهة البکاء بروایتین:
ص: 278
«أَخبَرَنَا عُتبَةُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عُتبَةَ، قَالَ: قَرَأتُ عَلَی مَالِکٍ، عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ جَابِرِ بنِ عَتِیکٍ، أَنَّ عَتِیکَ بنَ الحَارِثِ وهُوَ جَدُّ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ أَبُو أُمِّهِ أَخبَرَهُ، أَنَّ جَابِرَ بنَ عَتِیکٍ أَخبَرَهُ، أَنَّ النَّبِیَّ صلّی الله علیه وسلّم جَاءَ یَعُودُ عَبدَ اللهِ بنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَد غُلِبَ عَلَیهِ، فَصَاحَ بِهِ، فَلَم یُجِبه شیء، فَاستَرجَعَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم وَقَالَ: قَد غُلِبنَا عَلَیکَ أَبَا الرَّبِیعِ(1). فَصِحنَ النِّسَاءُ وَبَکَینَ، فَجَعَلَ ابنُ عَتِیکٍ یُسَکِّتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم: دَعهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبکِیَنَّ بَاکِیَةٌ. قَالُوا: وَمَا الوُجُوبُ یَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: المَوتُ»(2).
«حَدَّثَنَا عُبَیدُ بنُ غَنَّامِ بنِ حَفصِ بنِ غِیَاثٍ وَمُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ الحَضرَمِیُّ، قَالَا: ثَنَا أَبُو بَکرِ بنُ أَبِی شَیبَةَ، وحَدَّثَنَا الحُسَینُ بنُ إِسحَاقَ التُّستَرِیُّ، ثَنَا عُثمَانُ بنُ أَبِی شَیبَةَ، قَالَا: ثَنَا جَرِیرٌ، عَن عَبدِ المَلِکِ بنِ عُمَیرٍ، عَن رَبِیعِ الأَنصَارِیِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم عَادَ ابنَ أَخِی جَبرَ الأَنصَارِیَّ، فَجَعَلَ أَهلُهُ یَبکُونَ عَلَیهِ، فَقَالَ لَهُم جَبرٌ: لَا تُؤذُوا رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم: دَعهُنَّ فَلیَبکِینَ مَا دَامَ حَیّاً، فَإِذَا وَجَبَ فَلیَسکُتنَ»(3).
ص: 279
ذکر مجمع الزوائد ومنبع الفوائد هذه الروایة نقلاً عن الطبرانی، ثمّ قال: جمیع رواتها ثقات(1).
تدلّ هاتان الروایتان علی کراهة البکاء علی المیت بعد خروج الروح؛ وذلک لأنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قد نهی عنه.
أوّلاً: إنّهما روایتان شاذّتان؛ وذلک بالنظر إلی الأحادیث النبویة الکثیرة التی تدلّ علی جواز البکاء بعد الموت والتی لم یرد فیها النهی عنه. إذن؛ لا بدّ من ردّ هاتین الروایتین الشاذتین، ولا یخفی أنّ ردّ الشاذ بالمشهور من مبانی أهل السنّة فی الحدیث.
ثانیاً: حتّی لو سلّمنا بعدم شذوذهما وقبلنا دلالتهما علی کراهة البکاء، فتطرح إشکالیة أُخری، وهی: أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نفسه بکی علی وفاة أصحابه وأقربائه فی مواقف متعدّدة. وإن کان هذا الفعل مکروهاً حقّاً، فلا یُعقل أن یقوم به النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). إذاً؛ فعلُ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یکشف لنا عن عدم کراهته. وبتعبیرٍ آخر: کیف یُعقل أن ینهی النبی عن البکاء ثمّ یقوم به؟! ألیس هذا تناقضاً بین الفعل والقول الذی یستحیل علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟!
لقد ذکرنا دلیلین (روایتین) علی النظریة الثانیة (کراهة البکاء) وأوردنا علیهما إشکالین:
الإشکال الأوّل: هو أنّهما روایتان شاذّتان.
ص: 280
والإشکال الثانی: هو أنّهما مخالفتان لسیرة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) العملیة والقولیة.
وعلی هذا؛ فلا یوجد دلیلٌ تامٌّ علی کراهة البکاء علی المیت وفقاً لمذهب أهل السنّة ومبانیهم.
الدلیل علی النظریة الثالثة: جواز البکاء مطلقاً(1) - دلیلان
وقد تمسک بجواز البکاء بنحو مطلق بدلیلین:
« یَا أَسَفَی عَلَی یُوسُفَ وَابْیَضَّتْ عَیْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ کَظِیمٌ » (2).
قال الآلوسی فی تفسیر روح المعانی: «استُدلّ بالآیة علی جواز التأسّف والبکاء عند النوائب»(3). فهذه الآیة تدلّ علی أنّ سیّدنا یعقوب(علیه السّلام) حزن وبکی علی فراق سیّدنا یوسف(علیه السّلام) إلی درجة أنّه فقد بصره. وبالتالی؛ یتّضح أنّ البکاء علی فراق الأعزّاء والأحبّاء جائز.
وقال القرطبی فی تفسیره: «وَإِنَّمَا ابْیَضَّتْ عَیْنَاهُ مِنَ الْبُکَاءِ، ولَکِنَّ سَبَبَ الْبُکَاءِ الْحُزْنُ، فَلِهَذَا قَالَ: «مِنَ الْحُزْنِ »(4). وروی السیوطی فی الدرّ المنثور: «کان منذ خرج یوسف(علیه السّلام) من عند یعقوب(علیه السّلام) إلی یوم رجع ثمانون سنة لم یفارق الحزن قلبه، ودموعه علی خدّیه، ولم یزل یبکی حتّی ذهب بصره»(5). وقال الزمخشری فی الکشاف: «قِیل: ما جفّت
ص: 281
عینا یعقوب من وقت فراق یوسف إلی حین لقائه ثمانین عاماً»(1).
وقال الآلوسی: «وَابْیَضَّتْ عَیْناهُ مِنَ الحُزْنِ، أی: بسببه، وهو فی الحقیقة سبب للبکاء، والبکاء سبب لابیضاض عینه؛ فإنّ العبرة إذا کثرت محقت سواد العین وقلبته إلی بیاض کدر»(2). کما صرّح بذلک الزمخشری؛ حیث قال: «الحزن کان سبب البکاء الذی حدث منه البیاض»(3).
وروی الزمخشری حدیثاً عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی هذا الشأن:
«وعن رسول الله صلّی الله علیه وسلّم أنّه سأل جبریل(علیه السّلام): ما بلغ من وجْد یعقوب علی یوسف؟ قال: وجْد سبعین ثکلی. قال: فما کان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهید، وما ساء ظنّه بالله ساعة قط» (4).
إشکال: أورد الزمخشری إشکالاً حیث قال: «فإن قلت: کیف جاز لنبیّ الله أن یبلغ به الجزع ذلک المبلغ؟»(5).
أوّلاً: لقد أجاب الزمخشری عن هذا الإشکال بعد إیراده فقال: «قلت: الإنسان مجبول علی أن لا یملک نفسه عند الشدائد من الحزن؛ ولذلک حُمِد صبره، وأن یضبط نفسه حتّی لا یخرج إلی ما لا یحسن، ولقد بکی رسول الله صلّی الله علیه وسلّم علی وَلَده إبراهیم».(6)
ص: 282
ثانیاً: لقد کان لبکاء یعقوب(علیه السّلام) أجرٌ کبیر؛ لأنّه بکی علی مفقودٍ عزیز عند الله، وفقدان مثله یستحقّ هذا التأسّف والحسرة.
النتیجة: تدلّ هذه الآیة الشریفة علی جواز الحزن والبکاء علی فراق الأحباب؛ لأنّه إذا جاز البکاء لأنبیاء الله(علیهم السّلام) کسّیدنا یعقوب(علیه السّلام) فلا یُعقل أن یُشکّک فی جوازه لغیرهم.
یشتمل الدلیل الثانی علی ثلاث طوائف من الروایات: فعل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، تقریر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وفعل الخلفاء.
سنشیر إلی تسعة موارد من بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی الموتی، وسنعتمد فی ذلک علی مصادر أهل السنّة:
هناک روایات کثیرة فی کتب أهل السنّة تدلّ علی بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی الإمام الحسین(علیه السّلام)(1). وسنکتفی هنا بذکر اثنتین منها:
قَالَ الطّبَرَانِی: «حَدّثَنَا أحمَدُ بنُ رُشدین المِصرِی، حَدَّثَنَا عَمرُو بنُ خَالِدِ الحَرّانِی، حَدّثَنَا ابنُ لُهَیعَة، عَن أبِی الأسوَدِ، عَن عُروَةِ بنِ الزّبَیرِ، عَن عَائشَةَ رَضِی الله عَنهَا قَالَت: دَخَلَ الحُسَینُ بنُ عَلِی رضی الله عنهما عَلی رَسُولِ الله صلّی الله علیه وسلّم وهُوَ یُوحَی إلَیهِ... فَقَالَ
ص: 283
جَبرِیلُ لِرَسُولِ الله صلّی الله علیه وسلّم: أتُحِبّهُ یَا مُحَمّدُ؟ قَالَ: یَا جَبرِیل، وَمَا لِی لاَ أحِبّ ابنِی؟! قَالَ: فَإنّ أُمّتَکَ سَتَقتُلُهُ مِن بَعدِک. فَمَدّ جَبرِیل(علیه السّلام) یَدَهُ، فَأتَاهُ بِتُربَةٍ بَیضَاء، فَقَالَ: فِی هَذِه الأرضِ یُقتَلُ ابنُکَ هَذا یَا مُحَمّدُ! وَاسمُهَا الطّفُ، فَلَمّا ذَهَبَ جَبرِیلُ(علیه السّلام) مِن عِندِ رَسُولِ الله صلّی الله علیه وسلّم خَرَجَ رَسُولُ الله صلّی الله علیه وسلّم - وَالتّربَةُ فِی یَدِهِ - یبکِی ...»(1).
«قَالَ الطّبَرِی: ... فَلَمّا کَانَ بَعدَ حَولٍ وُلِدَ الحُسَینُ، فَجَاءَ النّبِیّ صلّی الله علیه وسلّم... وجَعَلَهُ فِی حِجرِهِ، فَبَکَی صلّی الله علیه وسلّم، قُلتُ: فِدَاکَ أبِی وأمِّی! مِمَّ بُکَاؤکَ؟ فَقَالَ: ابنِی هَذا یَا أسمَاءُ! إنّهُ تَقتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِیَةُ مِن أُمّتِی، لاَ أنَالَهُمُ الله شَفَاعَتِی، یَا أسمَاءُ! لاَ تُخبِرِی فَاطِمَةَ؛ فَإنّهَا قَریِبَةُ عَهد بِوِلاَدَة»(2).
هناک روایات تدلّ علی بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی استشهاد سیّدنا حمزة، ونکتفی هنا بذکر روایتین:
«وَرَوَی عَبدُ الله بنِ نُمَیرٍ، عَن أبِی حَمّادِ الحَنَفِی، عَن عَبدِ الله بنِ مُحَمّد عَقِیلٍ، عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ الله: لَمّا رَأی النّبِیّ صلّی الله علیه وسلّم حَمزَةَ قَتیِلاً بَکَی، فَلَمّا رَأی مَا مُثِّلَ بِهِ شَهِقَ»(3).
«قَالَ الوَاقِدِی: ورُوِی أنّ صَفِیّةَ لَمّا جَاءَت، حَالَتِ الأنصَارُ بَینَهَا وبَینَ رَسُولِ الله صلّی الله علیه وسلّم فَقَالَ: دَعُوهَا. فَجَلَسَت عِندَهُ، فَجَعَلَت إذَا بَکَت یَبکِی رَسُولُ الله صلّی الله
ص: 284
علیه وسلّم، وإذَا نَشِجَت(1) یَنشَجُ رَسُولُ الله صلّی الله علیه وسلّم، وَجَعَلَت فَاطِمَة تَبکِی، فَلَمّا بَکَت، بَکَی رَسُولُ الله صلّی الله علیه وسلّم...»(2).
إن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بکی لشهادة زید وجعفر وابن رواحة؛ نکتفی بذکر ثلاث روایات:
«حَدَّثَنَا أَحمَدُ بنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ زَیدٍ، عَن أَیُّوبَ، عَن حُمَیدِ بنِ هِلاَلٍ، عَن أَنَسٍ رضی الله عنه: أَنَّ النَّبِی صلّی الله علیه وسلّم نَعَی زَیداً وَجَعفَراً وَابنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبلَ أَن یَأتِیَهُم خَبَرُهُم، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّایَةَ زَیدٌ فَأُصِیبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعفَرٌ فَأُصِیبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِیبَ - وَعَینَاهُ تَذرِفَانِ - ....»(3).
إشکال: إنّ الضمیر فی عبارة «عَینَاهُ». یرجع إلی ابن رواحة، ولیس إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، بمعنی أنّ ابن رواحة استُشهد وعیناه تذرفان. وبالتالی؛ لا تدلّ هذه الروایة علی بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).
الجواب: یدلّ سیاق الروایة علی أنّ عبارة: «وَعَینَاهُ تَذرِفَانِ». تحکی عن حال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). ویؤیّد ذلک ما نقله ابن قدامة فی المغنی؛ حیث استدلّ بهذه الروایة، ولم یذکر الضمیر، بل صرّح بأنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هو الذی بکی، وبالتالی؛ فهو مرجع الضمیر فی الروایة المذکورة(4).
ص: 285
«لَمّا أتَی رَسُول الله صلّی الله علیه وسلّم نَعیُ جَعفَرِ بنِ أبِی طَالِبٍ وزِیدِ بنِ حَارِثَة بَکَیٰ»(1).
«عَنِ الوَاقِدِی، حَدّثَنِی مُحَمّدُ بنُ مُسلِم، عَن یَحیَی بنِ یَعلَی، سَمِعتُ عَبدَ الله بنَ جَعفَر یَقُولُ: أنَا أحفَظُ حِینَ دَخَلَ رَسُولُ الله صلّی الله علیه وسلّم عَلَی أُمّی، فَنَعَی لَهَا أبِی، فَأنظُرُ إلَیهِ وَهُوَ یَمسَحُ عَلَی رَأسِی ورَأسِ أخِی، وعَینَاهُ تُهرقَانِ الدّمُوع»(2).
«حَدَّثَنا أبو بَکرِ بنِ أبی شَیْبَة وَعَلیّ بن مُحمّد، قَالا: حَدَّثَنا وَکیع، عَن سُفْیان، عَن عَاصم ابن عُبید الله، عَن القاسِم بنِ مُحمّد، عَن عائشَة، قَالت: قَبَّل رَسُولُ الله صَلَّی الله عَلَیه وسَلَّم عُثمانَ بنِ مَظْعُون وَهوَ مَیّتٌ، فَکأنّی أَنظُر إلی دُمُوعِهِ تَسیِلُ عَلی خَدَّیه»(3).
نقل العلّامة الحلّی فی التذکرة عن أحمد قوله بجواز البکاء؛ لأنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قبّل عثمان بن مظعون وهو میّت، ثمّ رفع رأسه والدموع تسیل من عینیه (4). وقال ابن قدامة - بعد نقل هذه الروایة فی الشرح الکبیر -: «هذا حدیثٌ صحیح» (5).
«حَدَّثَنَا أَصبَغُ، عَنِ ابنِ وَهبٍ، قَالَ: أَخبَرَنِی عَمرو، عَن سَعِیدِ بنِ الحَارِثِ الأَنصَارِیِّ،
ص: 286
عَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضی الله عنه، قَالَ: اشتَکَی سَعدُ بنُ عُبَادَةَ شَکوَی لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم یَعُودُهُ مَعَ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ، وسَعدِ بنِ أَبِی وَقَّاصٍ، وعَبدِ اللهِ بنِ مَسعُود، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَیهِ فَوَجَدَهُ فِی غَاشِیَةِ أَهلِهِ، فَقَالَ: قَد قَضَی؟ قَالُوا: لاَ یَا رَسُولَ اللهِ. فَبَکَی النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم فَلَمَّا رَأَی القَومُ بُکَاءَ النَّبِیِّ صلّی الله علیه وسلّم بَکَوا، فَقَالَ: أَلاَ تَسمَعُونَ؟ إِنَّ اللهَ لاَ یُعَذِّبُ بِدَمعِ العَینِ، ولاَ بِحُزنِ القَلبِ، ولَکِن یُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَی لِسَانِهِ - أَو یَرحَمُ»(1).
واستدلّ بهذه الروایة ابن قدامة فی المغنی(2)، والقرافی فی الذخیرة(3).
«حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ سنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَیحُ بنُ سُلَیمَانَ، حَدَّثَنَا هِلاَلُ بنُ عَلِیٍّ، عَن أَنَسٍ رضی الله عنه قَالَ: شَهِدنَا بِنتَ رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم ورَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم جَالِسٌ عَلَی القَبرِ، فَرَأَیتُ عَینَیهِ تَدمَعَانِ...»(4).
استدلّ عبد الله بن قدامة بهذه الروایة فی المغنی(5)، وقال عبد الرحمن بن قدامة - فی الشرح الکبیر بعد نقل الروایة -: هذا حدیثٌ صحیح(6).
أمّا فیما یتعلّق ببکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی ابنیه إبراهیم وطاهر، فقد استُدلّ بثلاث روایات:
ص: 287
«حَدَّثَنَا الحَسَنُ بنُ عَبدِ العَزِیزِ، حَدَّثَنَا یَحیَی بنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا قُرَیشٌ - هُوَ ابنُ حَیَّانَ - عَن ثَابِتٍ، عَن أَنَسِ بنِ مَالِکٍ رضی الله عنه قَالَ: ... إِبرَاهِیمُ یَجُودُ بِنَفسِهِ، فَجَعَلَتْ عَینَا رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم تَذرفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ رضی الله عنه: وَأَنتَ یَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ: یَا بنَ عَوفٍ، إِنَّهَا رَحمَةٌ. ثُمَّ أَتبَعَهَا بِأُخرَی(1)، فَقَالَ صلّی الله علیه وسلّم: إِنَّ العَینَ تَدمَعُ، وَالقَلبَ یَحزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلاَّ مَا یُرضی رَبّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِکَ - یَا إِبرَاهِیمُ - لَمَحزُونُونَ»(2).
وقد أخرج عبد الله بن قدامة هذه الروایة ثمّ قال: «مُتَّفَقٌ عَلَیْهِا»(3). کما أخرج مسلم روایةً قریبةً من هذا المضمون(4).
ظاهر التعبیر ب-: «یجُودُ بِنَفسِهِ». أنّ إبراهیم کان حیّاً ومشرفاً علی الموت، لا أنّه کان بعد وفاته. فإذن؛ هذه الروایة لا تدلّ علی أنّ البکاء علی المیت جائز.
أوّلاً: صحیحٌ أنّ بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی هذه الروایة کان حینما أشرف إبراهیم علی الموت ولیس بعد مماته، ولکنّ الأمر الذی لا شکّ فیه هو أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بکی ترحّماً علی
ص: 288
إبراهیم وحزناً علی فراقه. کما صرّح النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بذلک فی نهایة الروایة. وهذا المقدار
یکفی للاستدلال؛ لأنّ سبب البکاء (الفراق والترحّم) موجود بعد وفاة إبراهیم أیضاً.
ثانیاً: لقد روی ابن ماجة هذه القصّة، وفی روایته تصریح بأنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بکی علی إبراهیم بعد وفاته وقبل أن یُکفن.
«حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسمَاعِیلَ بنِ سَمُرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شَیبَةَ، عَن أَنَسِ بنِ مَالِکٍ، قَالَ: لَمَّا قُبِضَ إِبرَاهِیمُ بنُ النَّبِیِّ صلّی الله علیه وسلّم قَالَ لَهُمُ النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم: لَا تُدرِجُوهُ فِی أَکفَانِهِ حَتّی أَنظُرَ إِلَیهِ. فَأَتَاهُ، فَانکَبَّ عَلَیهِ وبَکَی»(1).
«رَوَی جَابِرٌ: أَنَّ النَّبِیَّ صلّی الله علیه وسلّم أَخَذَ ابنَهُ، فَوَضَعَهُ فِی حِجرِهِ، فَبَکَی، فَقَالَ لَهُ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ: أَتَبکِی؟! أَو لَم تَکُن نَهَیت عَن البُکَاءِ؟ قَالَ: لاَ، ولَکِن نَهَیت عَن صَوتَینِ أَحمَقَینِ فَاجِرَینِ؛ صَوتٍ عِندَ مُصِیبَةٍ، وخَمشِ وُجُوهٍ، وشَقِّ جُیُوبٍ، ورَنَّةِ شَیطَانٍ»(2).
لقد استدلّ عبد الله بن قدامة بهذه الروایة، ثمّ قال: «وَهَذَا یَدُلُّ عَلَی أَنَّهُ لَمْ یَنْهَ عَنْ مُطْلَقِ الْبُکَاءِ، وإِنَّمَا نَهَی عَنْهُ مَوْصُوفاً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ»(3).
«حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ نَصرٍ الصَّائِغُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسحَاقَ المُسَیَّبِیُّ، ثَنَا یَحیَی بنُ یَزِیدَ بنِ عَبدِ المَلِکِ، عَن أَبِیهِ، عَن یَزِیدَ بنِ خُصَیفَةَ، عَن أَبِیهِ، عَنِ السَّائِبِ بنِ یَزِیدَ، أَنَّ النَّبِیَّ صلّی الله علیه وسلّم لَمَّا هَلَکَ ابنُهُ طَاهِرٌ ذَرَفَت عَینُ النَّبِیِّ صلّی الله علیه وسلّم فَقِیلَ: یَا رَسُولَ اللهِ،
ص: 289
بَکَیتَ! فَقَالَ النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم: إِنَّ العَینَ تَذرِفُ، وإِنَّ الدَّمعَ یَغلِبُ، وإِنَّ القَلبَ یَحزَنُ، ولا نَعصِی اللهَ عزَّ وجلَّ»(1).
لا یخفی أنّ سند هذه الروایة ضعیفٌ بشهادة مجمع الزوائد؛ وذلک لوجود یحیی بن یزید، وهو ضعیف(2).
لقد ذکرت کتب الحدیث روایات عن بکاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی ابن إحدی بناته، وفیما یلی نشیر إلی اثنتین منها:
«حَدَّثَنَا عَبدَانُ وَمُحَمَّدٌ، قَالاَ: أَخبَرَنَا عَبدُ اللهِ، أَخبَرَنَا عَاصِمُ بنُ سُلَیمَانَ، عَن أَبِی عُثمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِی أُسَامَةُ بنُ زَیدٍ، قَالَ: أَرسَلَت ابنَةُ النَّبِی صلّی الله علیه وسلّم إِلَیهِ أنَّ ابناً لِی قُبِضَ فَائتِنَا. فَأَرسَلَ یُقرِئُ السَّلاَمَ وَیَقُولُ: إِنَّ لِلهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعطَی وَکُلٌّ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُسَمّیً، فَلتَصبِر وَلتَحتَسِب... فَرُفِعَ إِلَی رَسُولِ الله صلّی الله علیه وسلّم الصَّبِی... فَفَاضَت عَینَاهُ. فَقَالَ سَعدٌ: یَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا! فَقَالَ: هَذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِی قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإِنَّمَا یَرحَمُ اللهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»(3).
«وَعَن أَبِی هُرَیرَةَ قَالَ: ثَقُلَ ابنٌ لِفَاطِمَةَ، فَأَرسَلَت إِلَی النَّبِیِّ صلّی الله علیه وسلّم تَدعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم: ارجِع؛ فَإِنَّ لَهُ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَبقَی، وکَلٌّ لِأَجَلٍ
ص: 290
بِمِقدَارٍ. فَلَمَّا احتُضِرَ بَعَثَت إِلَیهِ، وَقَالَ لَنَا: قُومُوا. فَلَمَّا جَلَسَ جَعَلَ یَقرَأُ: «فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *وَأَنْتُمْ حِینَئِذٍ تَنْظُرُونَ
حَتّی قُبِضَ، فَدَمَعَت عَینَا رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم فَقَالَ سَعدٌ: یَا رَسُولَ اللهِ، أَتَبکِی وَتَنهَی عَنِ البُکَاءِ؟! قَالَ: إِنَّمَا هِیَ رَحمَةٌ، وإِنَّمَا یَرحَمُ اللَهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»(2).
ثمّ علّق الهیثمی قائلاً: «رَوَاهُ الْبَزَّارُ(3) وَفِیهِ إِسْمَاعِیلُ بْنُ مُوسَی الْمَکِّیُّ، وفِیهِ کَلَامٌ، وقَدْ وُثِّقَ»(4).
ویبدو أنّ هذا سهو منه؛ لأنّ إسماعیل بن موسی لم یُذکر فی سند هذه الروایة، بل هو إسماعیل بن مسلم، وقد قال عنه البزار: روی عنه الأعمش والثوری؛ لأنّه ذکر المزی فی تهذیب الکمال أسماء مَن روی عن إسماعیل بن مسلم، وبهذه القرینة یتبیّن أنّ راوی هذه الروایة هو إسماعیل بن مسلم، وهو لم یُوثّق حسبما نقل المزی(5). أمّا إسماعیل بن موسی فقد وُثّق(6)، ولکنّه لم یروِ هذا الحدیث. وعلی هذا؛ فإنّ سند هذه الروایة ضعیفٌ؛ لوجود إسماعیل بن مسلم.
«حَدَّثَنَا أَبُو بَکرِ بنُ أَبِی شَیبَةَ وزُهَیرُ بنُ حَربٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُبَیدٍ، عَن یَزِیدَ بنِ کَیسَانَ، عَن أَبِی حَازِمٍ، عَن أَبِی هُرَیرَةَ، قَالَ: زَارَ النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم قَبرَ أُمِّهِ، فَبَکَیٰ وَأَبکَیٰ مَن حَولَهُ»(7).
ص: 291
هذه الروایات تدلّ بوضوح علی أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بکی علی وفاة أصحابه وأبنائه، حتّی
أنّه بکی عند قبر أُمه أیضاً.
نُشیر إلی أربعة موارد تدلّ علی تقریر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) للبکاء وموافقته علی جوازه:
«وَعَن عَامِرِ بنِ سَعدٍ، قَالَ: دَخَلتُ عَرِیشاً(1) وفِیهِ قَرَظَةُ بنُ کَعبٍ وأَبُو مَسعُودٍ الأَنصَارِیُّ، قَالَ: فَذَکَرَ حَدِیثاً لَهُمَا قَالَا فِیهِ: إِنَّهُ رُخِّصَ لَنَا فِی البُکَاءِ عِندَ المُصِیبَةِ»(2).
ویظهر من قوله: «ذَکَرَ حَدِیثاً لَهُمَا». أنّه روی حدیثاً عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وهذه الروایة صحیحةٌ بشهادة الهیثمی(3).
«ولَمّا أتَی النّبِی صلّی الله علیه وسلّم نَعیُ جَعفَر أتَی امرَأتَهُ أسمَاء بِنتَ عُمِیس، فَعزّاهَا فِی زَوجِهَا جَعفَر وَدَخَلَت فَاطِمَةُ وَهِی تَبکِی وَتَقوُلُ: وَاعَمّاهُ! فَقَالَ رَسُولُ الله صلّی الله علیه وسلّم: عَلَی مِثلِ جَعفَرٍ فَلتَبکِ البَوَاکِی»(4).
«حَدَّثَنَا زَیدُ بنُ الحُبَابِ، حَدَّثَنِی أُسَامَةُ بنُ زَیدٍ، حَدَّثَنِی نَافِعٌ عَنِ ابنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم لَمَّا رَجَعَ مِن أُحُدٍ فَجَعَلَت نِسَاءُ الأَنصَارِ یَبکِینَ عَلَی مَن قُتِلَ مِن
ص: 292
أَزوَاجِهِنَّ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم: وَلَکِن حَمزَةَ لاَ بَوَاکِیَ لَهُ. قَالَ: ثُمَّ نَامَ فَاستَنبَهَ وَهُنَّ یَبکِینَ، قَالَ: فَهُنَّ الیَومَ إِذا یَبکِینَ یَندُبنَ بِحَمزَةَ»(1).
لقد نهی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عمر عن ضرب الباکیات فی مواقف عدّة، ونذکر هنا موقفین منها:
«حَدَّثَنَا عَبدُ الصَّمَدِ وَحَسَنُ بنُ مُوسَی، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَن عَلِیِّ بنِ زَیدٍ، قَالَ أَبِی: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا ابنُ سَلَمَةَ، أَخبَرَنَا عَلیُّ بنُ زَیدٍ، عَن یُوسُفَ بنِ مِهرَانَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثمَانُ بنُ مَظعُونٍ... حَتّی مَاتَت رُقَیَّةُ ابنَةُ رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم فَقَالَ: الحَقِی بِسَلَفِنَا الخَیرِ عُثمَانَ بنِ مَظعُونٍ. قَالَ: وَبَکَت النِّسَاءُ فَجَعَلَ عُمَرُ یَضرِبُهُنَّ بِسَوطِهِ، فَقَالَ النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم لِعُمَر: دَعهُنَّ یَبکِینَ»(2).
«أَخبَرَنَا عَلِیُّ بنُ حُجرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسمَاعِیلُ هُوَ ابنُ جَعفَرٍ، عَن مُحَمَّدِ بنِ عَمرِو بنِ حَلحَلَةَ، عَن مُحَمَّدِ بنِ عَمرِو بنِ عَطَاءٍ، أَنَّ سَلَمَةَ بنَ الأَزرَقِ قَالَ: سَمِعتُ أَبَا هُرَیرَةَ قَالَ: مَاتَ مَیِّتٌ مِن آلِ رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم، فَاجتَمَعَ النِّسَاءُ یَبکِینَ عَلَیهِ، فَقَامَ عُمَرُ یَنهَاهُنَّ وَیَطرُدُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم: دَعهُنَّ یَا عُمَرُ؛ فَإِنَّ العَینَ دَامِعَةٌ والقَلبَ مُصَابٌ والعَهدَ قَرِیبٌ»(3).
ص: 293
هذه الروایات تدلّ بوضوح علی تقریر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) للبکاء علی المیت؛ لأنّه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أیّد بکاء الآخرین، بل أمر به، وکذلک نهی الذین یمنعون عن البکاء علی الموتی.
لقد ورد فی سیرة الخلفاء أنّهم بکوا علی الموتی وأقاموا العزاء علیهم. وفیما یلی نُشیر إلی موردین یدلّان علی ذلک:
«حَدَّثَنَا بِشرُ بنُ مُحَمَّدٍ، أَخبَرَنَا عَبدُ اللهِ، قَالَ: أَخبَرَنِی مَعمَرٌ وَیُونُسُ، عَنِ الزُّهرِیِّ، قَالَ: أَخبَرَنِی أَبُوسلمةَ أَنَّ عَائِشَةَ، زَوجَ النَّبِیِّ صلّی الله علیه وسلّم أَخبَرَتهُ، قَالَت: أَقبَلَ أَبُو بَکرٍ رضی الله عنه... فَدَخَلَ المَسجِدَ، فَلَم یُکَلِّمِ النَّاسَ حَتّی دَخَلَ عَلَی عَائِشَةَ رَضِی اللهُ عَنهَا، فَتَیَمَّمَ(1) النَّبِیَّ صلّی الله علیه وسلّم... فَکَشَفَ عَن وَجهِهِ، ثُمَّ أَکَبَّ عَلَیهِ، فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَکَی...»(2).
لقد نقل عبد الله بن قدامة هذه الروایة ونظائرها فی المغنی، ثمّ قال: «کلّها أحادیث صحیحة»(3). وقال عبد الرحمن بن قدامة فی الشرح الکبیر: «هذا حدیثٌ صحیح» (4).
ص: 294
«وَرَوَی الأُمَوِیُّ، فِی المَغَازِی، عَن عَائِشَةَ: أَنَّ سَعدَ بنَ مُعَاذٍ لَمَّا مَاتَ، جَعَلَ أَبُو بَکرٍ وَعُمَرُ یَنتَحِبَانِ(1)، حَتّی اختَلَطَت عَلَیَّ أَصوَاتُهُمَا»(2).
إنّ دلالة الروایتین واضحة، فهما تدلّان علی بکاء أبی بکر وعمر علی المیّت.
لقد ذکرنا دلیلین علی النظریة الثالثة (جواز البکاء). أمّا الدلیل الأوّل، فیتمثّل فی آیة قرآنیة شریفة. وأمّا الدلیل الثانی، فهو یتمثّل فی الروایات التی مرّ ذکرها. وکلا الدلیلین یدلّان بوضوح علی جواز البکاء علی المیت؛ لأنّهما یکشفان عن بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی الموتی وموافقته علی بکاء الآخرین.
الدلیل علی النظریة الرابعة: استحباب البکاء مطلقاً(3) - لا دلیل علیها ذهب البعض إلی استحباب البکاء علی المیت، ولکنّه لم یذکر دلیلاً علی مدّعاه، بل اکتفی ببیان بعض المصادیق، ولا یُستبعد أن یکون استدلاله فی الاستحباب قائماً علی الروایات السابقة التی دلّت علی بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی بعض أصحابه الذین عُرفوا بالشجاعة والفضیلة.
ص: 295
بما أنّ القائلین بالاستحباب لم یقیموا دلیلاً علی ما ذهبوا إلیه، فتبقی هذه النظریة من دون دلیل.
لم یذکر أصحاب هذه النظریة دلیلاً علی رأیهم.
بما أنّ النظریة الخامسة (التفصیل) لیست مصحوبة بدلیل، فیُحکم علیها بالبطلان.
ذکرنا خمس نظریات فی حکم المصداق الأوّل، ومرّ الکلام عن ضعف أدلّة نظریتی التحریم والکراهة. أمّا الاستحباب والتفصیل فلا دلیل علیهما.
إذن؛ تبقی نظریة الجواز وهی مستندة إلی دلیلین تامّین، وبالتالی؛ فهی النظریة المقبولة فی حکم المصداق الأوّل. وعلی هذا یجوز البکاء علی المیّت وفقاً لما یصح من أدلّة أهل السنّة.
إنّ لعلماء السنّة خمس نظریات فی حکم الندب علی المیت، وسنقوم بدراسة أدلّة کلّ نظریة مستقلاً.
ص: 296
لم یُذکر دلیل علی هذه النظریة. نعم، قد یقول قائل: إنّ الأدلّة الناهیة عن الندب تدلّ علی الکراهة. ولکن أدلّة النهی لا تدلّ علی الکراهة، بل تدلّ علی التحریم، کما سیأتی تفصیل ذلک لاحقاً.
لم یذکر القائلون بهذه النظریة دلیلاً علی مذهبهم، فیتّضح أنّها مجرد دعوی لا دلیل علیها.
أقام القائلون بالتحریم دلیلین لإثبات حرمة الندب علی المیت.
«حَدَّثَنَا عَبدُ اللهِ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ زَیدٍ، حَدَّثَنَا أَیُّوبُ، عَن مُحَمَّدٍ، عَن أُمِّ عَطِیَّةَ، قَالَت: أَخَذَ عَلَینَا النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم عِندَ البَیعَةِ أَن لاَ نَنُوحَ»(1).
جاء هذا الدلیل فی کتاب المعتبر، وقد نسبه إلی کثیرٍ من أصحاب الحدیث(2).
هذا الحدیث لا علاقة له بالندب (تعداد محاسن المیت)، بل هو یتعلّق بالنوح، وقد مرّ أنّ النوح فی اصطلاح أهل السنّة یعنی البکاء، ولیس بمعنی تعداد محاسن المیت. وبالتالی؛ لا علاقة لهذا الحدیث بموضوعنا.
ص: 297
وإن فُرض أن یقول قائل: بأنّ هذه الروایة تتعلّق بالندب، ولکن حتّی فی هذه الحالة یمکن أن نقول: بأنّ هذه الروایة تشیر إلی النوح الذی یترافق مع الجزع والسخط، أو القول الباطل. کما أشار المعتبر إلی ذلک(1). وبتعبیرٍ آخر: یمکن أن نعتمد علی قرینة الروایات المجوّزة، فنحمل هذه الروایة علی الندب الذی یکون مع القول الباطل.
جاء هذا الدلیل فی کتاب کشاف القناع لمنصور بن یونس؛ حیث علّل تحریم الندب وتعداد محاسن المیت بقوله: «ذَلِکَ یُشْبِهُ التَّظَلُّمَ مِنْ الظَّالِمِ، وهُوَ عَدْلٌ مِنْ اللهِ تَعَالَی؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ یَتَصَرَّفَ فِی خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ لِأَنَّهُمْ مِلْکُهُ»(2). بمعنی أنّ الندب یُشبه تظلّم المظلوم من الظالم، وکأنّه طعن فی تقدیر الله وسخط علیه. ولقد نسب المعتبر هذا الدلیل إلی أصحاب الحدیث أیضاً(3).
لقد أجاب المعتبر عن هذا الدلیل کما یلی: «وأما قولهم: یشبه التسخط والاستعابة. فنحن نحرّم ذلک، لکن لیس کلّ النوح کذلک وإنّما نبیح منه ما یتضمّن ذکر خصائصه وفضائله وفواضله وحکایة التألّم بفقده، وهذا لا یتضمّن ما ذکروه»(4).
وبتعبیرٍ آخر: إذا اشتمل الندب علی الغضب بتقدیر الله فهو حرام. ولکن لیس کلّ
ص: 298
ندب هکذا، ففی کثیر من الأحیان یشتمل الندب علی ذکر محاسن المیت وفضائله، ولا یکون له علاقة بالغضب علی تقدیر الله.
ذکرنا دلیلین علی النظریة الثانیة ولکنّهما ضعیفان. وبالتالی؛ لادلیل علی تحریم الندب مطلقاً.
جاء هذا التفصیل فی کتاب إرشاد الساری للقسطلانی. حیث استدلّ علی هذه النظریة بالأدلّة الناهیة، لکنّه لم یقل ما هی الأدلّة الناهیة التی یقصدها بالتحدید. ولکن یبدو أنّه قصد نفس الأدلّة التی مرّت فی نظریة التحریم.
یلاحَظ علی هذا الدلیل: بأنّه لیس تامّاً؛ إذ لا توجد قرینة علی حمل الأدلّة الناهیة علی هذا التفصیل.
لقد أقام أصحاب هذه النظریة (التفصیل الأوّل) دلیلاً واحداً علی مدّعاهم، وقد مرّ أنّه لیس تاماً.
ص: 299
ذهب البعض إلی التفصیل بین الندب بالباطل والندب بالحقّ. ولقد ساقوا ثلاثة أدلّة علی مدعاهم:
«أَخبَرَنَا إِسحَاقُ بنُ إِبرَاهِیمَ، قَالَ: أَنبَأَنَا عَبدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعمَرٌ، عَن ثَابِتٍ، عَن أَنَسٍ، أَنَّ فَاطِمَة بَکَت عَلَی رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم حِینَ مَاتَ فَقَالَت: یَا أَبَتَاهُ! مِن رَبِّهِ مَا أَدنَاهُ، یَا أَبَتَاهُ! إِلَی جِبرِیلَ نَنعَاه، یَا أَبَتَاهُ! جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأوَاهُ»(1).
وجاء فی الشرح الکبیر(2) والمغنی(3) أنّ أحمد بن حنبل استدلّ بفعل السیّدة الزهراء(علیهاالسّلام) قائلاً: «إذا ذکرت المرأة مثل ما حُکی عن فاطمة فی مثل الدعاء لا یکون مثل النوح، یعنی لا بأس به»(4). ویظهر من هذه العبارة أنّه قال بالتفصیل بین الندب بالحقّ - کندب السیدة الزهراء(علیهاالسّلام) - والندب الذی یشتمل علی أقوال باطلة، فقال بجواز الأوّل وحرمة الثانی.
«وَرُوِیَ عَن عَلِیّ عَن فَاطِمَةَ أنّهَا أخَذَت قَبضَةً مِن تُرَابِ قَبرِ النّبِی صلّی الله علیه وسلّم
ص: 300
فَوَضَعَتهَا عَلَی عَینِهَا ثُمّ قَالَت: ...
صُبَّت عَلَیّ مَصَائبُ لَو أنّهَا صُبَّت عَلَی الأیّامِ عُدنَ لَیَالِیَا»(1).
لم نعثر علی هذه الروایة فی مصادر الحدیث السنّیة، ورغم ذلک فقد استدلّ بها ابن قدامة لإثبات ما ذهب إلیه. ولعلّه لذلک لم یسندها، بل نقلها بقوله: «رُوِی».
«قد رَثَی ابنُ عُمَرَ أَخَاهُ عَاصِماً... وَهَذَا یَدُلُّ عَلَی إِبَاحَةِ مِثلِهِ مِنَ المَرَاثِی...»(2).
إنّ فعل السیّدة الزهراء(علیهاالسّلام) وابن عمر دلیلٌ علی صحّة هکذا مراثی. ولکنّه کیف یدلّ علی حرمة الرثاء والندب إذا اشتملا علی أقوال باطلة؟
وبتعبیرٍ آخر: فإنّ هذا الدلیل أخصّ من المدّعی؛ إذ قد یکون مطلق الندب جائزاً حتی الندب بالباطل، ولکنّهم ندبوا بالحقّ خاصّة.
لقد ذکرنا ثلاثة أدلّة علی النظریة الرابعة (التفصیل الثانی)، ولکن دلالتها ضعیفة؛ لأنّها أخصّ من المدّعی، وبالتالی؛ لا یوجد دلیلٌ تامٌّ علی النظریة الرابعة.
ذکرنا أربع نظریات لحکم المصداق الثانی (الندب) ولقد مرّ أنّ نظریة الکراهة مجرّد دعوی لا دلیل علیها. کما ذکرنا دلیلین علی نظریة التحریم وبیّنا ضعفهما. أمّا التفصیل
ص: 301
الأوّل فذکرنا له دلیلاً واحداً وقلنا: إنّه لیس تامّاً أیضاً. ثمّ تطرّقنا إلی النظریة الرابعة وأقمنا علیها ثلاثة أدلّة، وقلنا: إنّ هذه الأدلّة تُثبت جزءاً من المدّعی، وهو جواز الندب بالحقّ، ولکنّها لا تبثت حرمة الندب بالباطل. وعلی هذا؛ نقول: إنّ الندب علی الموتی جائزٌ مطلقاً؛ وفقاً لأدلّة أهل السنّة والجماعة.
لعلماء السنّة نظریتان فی حکم المصداق الثالث، وسنبحث کلّ واحدة منهما مستقلاً.
لم یذکر القائلون بکراهة هذه الأفعال دلیلاً علی مذهبهم، ولعلّهم اعتمدوا علی الأدلّة التی ستأتی فی النظریة التالیة. بمعنی أنّهم استفادوا الکراهة من هذه الأدلّة.
بما أنّ هذه النظریة لیست مصحوبة بدلیل، فنعتبرها مجرّد دعوی لا دلیل علیها.
إنّ القائلین بتحریم هذه الأفعال استدلّوا بخمسة أدلّة لإثبات الحرمة:
«حَدَّثَنَا أَبُو نُعَیمٍ، حَدَّثَنَا سُفیَانُ، حَدَّثَنَا زُبَیدٌ الیَامِیُّ، عَن إِبرَاهِیمَ، عَن مَسرُوقٍ، عَن عَبدِ اللهِ رضی الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِیُّ صلّی الله علیه وسلّم: لَیسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ، وشَقَّ الجُیُوبَ، ودَعَا بِدَعوَی الجَاهِلِیَّةِ»(1).
ص: 302
واستدلّ بها ابن قدامة فی الشرح الکبیر، وقال: إنّها روایةٌ متّفقٌ علیها(1). کما جاء التصریح بذلک فی کتاب الفقه علی المذاهب الأربعة(2)، وموسوعة الفقه الإسلامی(3).
«وَقَالَ الحَکَمُ بنُ مُوسَی: حَدَّثَنَا یَحیَی بنُ حَمزَةَ، عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ جَابِرٍ: أَنَّ القَاسِمَ بنَ مُخَیمِرَةَ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنِی أَبُو بُردَةَ بنُ أَبِی مُوسَی رضی الله عنه، قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَی وَجَعاً شَدِیداً، فَغُشِیَ عَلَیهِ... فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَنَا بَرِیءٌ مِمَّن بَرِئَ مِنهُ رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ»(4).
قال مصطفی دیب البغا - فی تحقیقه للبخاری تعلیقاً علی ذیل هذه الروایة -: «الصالقة التی ترفع صوتها عند المصیبة... الحالقة التی تحلق شعرها عند المصیبة... الشاقّة التی تشقّ ثیابها عند المصیبة»(5).
«حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حُمَیدُ بنُ الأَسوَدِ، حَدَّثَنَا الحَجَّاجُ - عَامِلٌ لِعُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِیزِ عَلَی الرَّبَذَةِ - حَدَّثَنِی أَسِیدُ بنُ أَبِی أَسِیدٍ، عَنِ امرَأَةٍ مِنَ المُبَایِعَاتِ، قَالَت: کَانَ فِیمَا أَخَذَ عَلَینَا رَسُولُ اللهِ صلّی الله علیه وسلّم فِی المَعرُوفِ الَّذِی أَخَذَ عَلَینَا أَن لاَ نَعصِیَهُ فِیهِ: أَن لاَ نَخمُشَ
ص: 303
وَجهاً، ولاَ نَدعُوَ وَیلاً، ولاَ نَشُقَّ جَیباً، وأَن لاَ نَنشُرَ شَعراً»(1).
ولقد استدلّ بهذه الروایة فی موسوعة الفقه الإسلامی(2).
استدلّ به عبد الرحمن بن قدامة علی تحریم هذه الأُمور؛ حیث قال فی مقام التعلیل للحرمة: «لأنّ ذلک یُشبه التظلّم، والاستغاثة، والتسخّط بقضاء الله»(3).
لا تلازم بین التظلّم وهذه الأُمور، فقد یقوم شخصٌ بهذه الأعمال لشعوره بالحزن والحنین، دون أن یقصد بها التظلمّ والسخط لقضاء الله. إذن؛ القیام بهذه الأعمال لا یعنی بالضرورة أنّ الشخص یتظلّم حتّی یکون فعله محرّماً.
وبتعبیرٍ آخر: إنّ السبب الحقیقی لهذه الأعمال هو الحزن علی فقد الأقرباء والأحبّة، ولیس السخط لقضاء الله. وهذا نظیر البکاء علی فراق الأصحاب؛ حیث إنّه بسبب الحزن علی فقدهم ولیس الغضب لقضاء الله.
هذا دلیلٌ آخر تمسّک به عبد الرحمن بن قدامة لإثبات تحریم شقّ الثوب؛ حیث قال: إنّ شقّ الجیوب إفساد المال من دون مسوّغٍ لذلک(4).
ص: 304
یرد علیه نفس الإشکال الذی مرّ فی أدلّة الشیعة(1): من أنّه إذا کان شقّ الثوب لغرض عقلائی فلیس من التبذیر الحرام.
ذکرنا خمسة أدلّة للنظریة الثانیة (التحریم)، وقلنا: إنّ الدلیلین الأخیرین ضعیفان.
أمّا بقیة الأدلّة فهی صحیحة وفق مبانی أهل السنّة، وتدلّ علی حرمة هذه الأُمور.
لقد ذکرنا نظریتین فی حکم المصداق الثالث. أمّا نظریة الکراهة، فهی مجرّد دعوی لا دلیل علیها. وأمّا نظریة التحریم، فقد ساق علماء السنّة خمسة أدلّة لإثباتها، وقد بیّنا ضعف اثنین منها، فتبقی ثلاثة أدلّة صحیحة. وبناءً علی هذا؛ فإنّ إقامة العزاء بشقّ الثوب، واللطم، والخدش، وجزّ الشعر، حرامٌ وفق مبانی أهل السنّة.
ص: 305
علی ضوء الأدلّة التی ساقها أهل السنّة یتّضح أنّ إقامة العزاء علی المیت جائزٌ بحدّ ذاته، إذا کان بطریقة البکاء والندب. نعم، صحیحٌ أنّهم لا یجوّزون بعض مصادیق العزاء - کشقّ الثوب، واللطم، والخدش، وما شابهها - ولکنّه لا یُخلُّ بأصل جواز إقامة العزاء بصورةٍ کبری کلیة، وعلی هذا؛ یمکن أن نقول: یجوز إقامة العزاء علی المیت وفق وجهة نظر أهل السنّة والجماعة.
وبالتالی؛ فإنّ نظریة الوهابیة القائمة علی تحریم العزاء علی المیت لا تستند إلی دلیل، ولا یمکن إثباتها بالأدلّة المعتبرة لدی أهل السنّة.
ص: 306
ص: 307
ص: 308
هناک شبهات حول العزاء یمکن أن یثیرها مَن ینتمی إلی التشیّع، وفی هذا القسم سنکتفی بذکر أربع شبهات، ومن ثمّ نردّ علیها:
قد یُلاحظ علی جواز إقامة العزاء بأنّه یتنافی مع الصبر الذی أمرت به الشریعة الإسلامیة المقدّسة؛ فإنّ الآیات القرآنیة الشریفة أمرتنا بالصبر، بینما یدلّ العزاء بمختلف مصادیقه علی الجزع وعدم الصبر.
« وَبَشِّرِ الصَّابِرِینَ »*الَّذِینَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِیبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ » (1).
«فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِیلًا »(2).
هناک ثلاثة أجوبة للردّ علی الشبهة الأُولی (جوابٌ نقضیّ، وجوابان حلّیان)
الصغری: إذا کان هناک تعارض بین إقامة العزاء والصبر فیلزم من ذلک أن یکون
ص: 309
سیّدنا یعقوب(علیه السّلام) قد ارتکب فعلاً قبیحاً؛ حیث إنّه بکی فی فراق سیّدنا یوسف(علیه السّلام)، کما جاء فی القرآن الکریم. بل یلزم قبح بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقد بکی علی الإمام الحسین(علیه السّلام) کما جاء فی روایاتٍ کثیرة.
الکبری: اللازم باطل، أی: لا شکّ فی أنّ سیدنا یعقوب(علیه السّلام) والنبی الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کانا من الصابرین، ولم یکن فعلهما قبیحاً.
النتیجة: فالملزوم مثله فی البطلان، فلا تعارض بین الصبر وإقامة العزاء.
إنّ الصبر فی هذه الآیات الشریفة یعنی التسلیم لقضاء الله، والاعتقاد بأنّ المصیبة من قضاء الله وقدره، وهذا لا یتنافی مع إقامة العزاء والبکاء علی المیّت.
وبتعبیرٍ آخر: فإنّ صاحب المصیبة یبکی ویقیم العزاء علی أقربائه شفقةً وحزناً علی فراقهم، ولکنّه فی نفس الوقت یرضی بأمر الله ویسلّم لقضائه. ویؤیّده ما رُوی عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، حیث قال فی مصیبة ابنه إبراهیم: «تَدْمَعُ الْعَیْنُ وَیَحْزَنُ الْقَلْبُ، ولَا نَقُولُ مَا یُسْخِطُ الرَّبَّ، وإِنَّا بِکَ - یَا إِبْرَاهِیمُ - لَمَحْزُونُونَ...»(1).
لو افترضنا أنّ الصبر یتنافی مع إقامة العزاء، فیمکن أن نقول: إنّ أدلّة الصبر تقیّد بغیر مصائب أهل البیت(علیهم السّلام) ، من باب حمل المطلق علی المقیّد؛ وذلک لأنّ هناک أدلّة قطعیة علی جواز إقامة العزاء علی أهل البیت(علیهم السّلام) (کما سبق فی القسم الثانی من الکتاب)، وآیات الصبر مطلقة، وبالتالی؛ فإنّها تُقیّد بتلک الأدلّة القطعیة. وقد ثبت فی علم الأُصول أنّ تقیید القرآن بالسنّة القطعیة صحیحٌ ولا إشکال فیه(2).
ص: 310
من جملة الإشکالات الموجّهة إلی إقامة العزاء أنّ بعض أسالیب العزاء تؤدّی إلی الإضرار بالجسم؛ وهذا حرامٌ. ولذلک؛ حتّی إذا کان العزاء جائزاً بالعنوان الأوَّلی فإنّ بعض أسالیبه حرام بالعنوان الثانوی.
یمکن أن نردّ علی هذه الشبهة بثلاثة أجوبة أیضاً:
مقدّمة: الضرر عرفاً هو أن یفقد الإنسان شیئاً من دون أن یحصل علی مقابل. کأن یقوم بتجارة ویفقد أمواله ولا یحصل علی ربحٍ مقابل فقدان تلک الأموال، وهذا ما ینطبق علیه عنوان الضرر عرفاً. ولکن إذا فقد الإنسان شیئاً وحصل فی المقابل علی شیءٍ أفضل فلا یُسمّی ذلک ضرراً فی العرف، ومثال ذلک: الحجامة، فهی بالنظرة الأُولی ضرر؛ لأنّها عبارة عن أخذ الدم من الجسم، ولکن لا یصدق علیها عنوان الضرر؛ لأنّها تفید صحّة الجسم. وکذلک الجهاد فی سبیل الله؛ حیث إنّه قد یعرّض الإنسان للموت أو أضرار جسمیة أُخری. ولکن بما أنّ المجاهد یحصل فی المقابل علی أجر دنیوی وأُخروی فلا یصدق علیه عنوان الضرر. وقد صرّح المحقّق النراقی بهذه النقطة فی عوائد الأیّام؛ حیث قال: «والنفع والعوض أعم من أن یکون دینیاً أو دنیویاً، فی الآخرة أو الدنیا»(1).
وهناک شواهد کثیرة تؤیّد هذا المدعی:
ص: 311
هناک أدلّة علی جواز أو رجحان أو وجوب الدفاع عن المال والعرض والنفس. ومنها هذه الروایة عن النبی الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حیث قال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِید»(1).
ولم یشکّک أحدٌ من الفقهاء فی جواز أو وجوب هکذا دفاع، رغم أنّه یُحتمل قتل الشخص، أو أضرار جسمیة أُخری(2).
إذن؛ یجوز للإنسان أن یعرّض نفسه للخطر من أجل حفظ المال وأن لا یخضع للظلم، وإن تعرّض للموت أو لأضرار جسمیة أُخری، ویُعتبر ذلک نوعاً من النهی عن المنکر. فکیف إذا کان الشخص فی مقام حفظ شعائر الدین والدفاع عنها لبقاء الدین والمذهب؟! لا شکّ فی أنّه یجوز بطریقٍ أوْلی، ولا یمنع عنه ترتّب الضرر علیه.
« وَقَالَ یَا أَسَفَی عَلَی یُوسُفَ وَابْیَضَّتْ عَیْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ کَظِیمٌ » (3).
تقریب الاستدلال: تدلّ هذه الآیة علی أنّ النبیّ یعقوب(علیه السّلام) حزن علی فراق النبیّ یوسف(علیه السّلام) وبکی کثیراً، إلی درجة أنّه فقد بصره وهو من أهمّ أعضاء جسم الإنسان. ولعلّ النبیّ یعقوب(علیه السّلام) کان یعلم أنّ البکاء بهذه الطریقة یؤدّی إلی فقدان بصره، ولکنّه
ص: 312
لم یکفف عن البکاء واستمرّ فی ذلک، إلی درجة أنّه عرّض حیاته للخطر، وقد حذّره أبناؤه من خطرٍ کهذا: «قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتَّی تَکُونَ حَرَضًا أَوْ تَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ » (1).
فالبکاء بهذه الطریقة لا ینقص من منزلة النبیّ یعقوب(علیه السّلام)؛ لأنّه بکی علی فقدان یوسف(علیه السّلام)، وهو ذو منزلة رفیعة عند الله، وفراق مثله یستحقّ هذا الحزن، بل إنّ الله أثنی علی یعقوب(علیه السّلام) وذکر قصّته؛ لیکون عبرةً للآخرین: «لَقَدْ کَانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبَابِ» (2).
فإذن؛ هذه الآیة تدلّ علی جواز إقامة العزاء علی أولیاء الله، وإن أدّی إلی الضرر (فقدان البصر)، وهذا الضرر لا یضرّ بمقام نبوة یعقوب(علیه السّلام)؛ بل یترتّب الثواب علیه؛ لأنّ ما فات عنه ویقیم العزاء لأجله کان أمراً عظیماً موجعاً مستحقّاً للعزاء.
ونفس هذا الکلام یجری فی إقامة العزاء علی الأئمّة(علیهم السّلام) أیضاً، لا سیّما الإمام الحسین(علیه السّلام)؛ إذ لا شکّ فی أنّهم أفضل وأجلّ منه منزلة وشأناً. وعلی هذا؛ فإنّ هذه الآیة تدلّ علی جواز الإضرار بالجسم فی مصائب الأولیاء.
إنّ الآیة المذکورة تدلّ علی حکمٍ یختصّ بالأُمم السابقة، ولا شکّ فی أنّ بعض أحکام الشرائع السابقة نُسخت بعد ظهور الشریعة الإسلامیة. فلا یصحّ - حینئذٍ - إسراء هذا الحکم إلی الشریعة الإسلامیة.
هذا البحث متوقّف علی مسألة أُصولیة طُرحت من قِبَل الفقهاء والأُصولیین،
ص: 313
وهی: هل أحکام الشرائع السابقة حجّة للشریعة الإسلامیة أم لا؟ وقد اختلف الأُصولیون فی هذه المسألة، فقد قال البعض بنسخ جمیع أحکام الشرائع السابقة بظهور
الشریعة الإسلامیة، بینما قال فریقٌ آخر بنسخ بعض من أحکام الشرائع السابقة. وبناءً علی النظریة الثانیة؛ إذا شککنا فی حکمٍ خاصٍّ هل نُسخ أم لا؟ فهناک رأیان للعلماء، فقد ذهب البعض إلی إجراء استصحاب عدم النسخ، بینما استشکل بعضٌ آخر علی هذا الاستصحاب، ورفضوا إجراءه هنا. وبناءً علی إجراء الاستصحاب؛ فیصحّ الاستدلال بهذه الآیة فی بحثنا.
بکی الإمام السجّاد(علیه السّلام) فی مصیبة أبیه المظلوم إلی درجة أنّه کاد یُقبض من شدّة البکاء؛ وهذا یعنی أنّه تعرّض لتلف النفس. ولقد أشارت الروایات إلی هذا الأمر: «فِی الخِصَالِ: عَن مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنِ العَبَّاسِ بنِ مَعرُوفٍ، عَن مُحَمَّدِ بنِ سَهلٍ البَحرَانِیِّ، یَرفَعُهُ إِلَی أَبِی عَبدِ اللهِ(علیه السّلام) قَالَ: البَکَّاءُونَ خَمسَةٌ: آدَمُ، وَیَعقُوبُ، وَیُوسُفُ، وَفَاطِمَةُ بِنتُ مُحَمَّدٍ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وَعَلِیُّ بنُ الحُسَینِ(علیهم السّلام) ... وَأَمَّا عَلِیُّ بنُ الحُسَینِ(علیهماالسّلام) فَبَکَی... عَلَی الحُسَینِ(علیه السّلام)... حَتَّی قَالَ لَهُ مَولیً لَهُ: جُعِلتُ فِدَاکَ! إِنِّی أَخَافُ عَلَیکَ أَن تَکُونَ مِنَ الهَالِکِینَ. قَالَ: إِنَّما أَشکُوا بَثِّی وَحُزنِی إِلَی اللهِ، وَأَعلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعلَمُونَ، إِنِّی لَم أَذکُرمَصرَعَ بَنِی فَاطِمَةَ إِلَّاخَنَقَتنِی لِذَلِکَ عَبرَةٌ»(1).
وعلی هذا؛ نستنتج أنّ أدلّة الضرر لا تشمل فعل الإمام السجّاد(علیه السّلام)، رغم أنّه فعلٌ ضرری.
ص: 314
عندما سمع همّام صفات المتقین من أمیر المؤمنین صعِقَ صعقةً وفارق الحیاة، فقال الإمام(علیه السّلام): «هَکَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا»(1). لقد کان الإمام(علیه السّلام) یعلم أنّ حیاة همام تتعرّض للخطر فی مثل هذا الموقف؛ ولذلک فقد امتنع عن ذکر صفات المتقین فی بدایة الأمر، ولم یجب عن سؤاله. لکن هماماً أصرّ علی ذلک، فأجابه الإمام(علیه السّلام) ووصف له المتقین؛ حتّی صعق همام وفارق الحیاة.
تدلّ هذه الشواهد علی أنّ أدلّة نفی الضرر لا تشمل ما إذا تضرّر الإنسان فی سبیل تحقیق أُمورٍ مستحسنة فی الشرع.
ونقول - علی ضوء هذه المقدّمة -: إنّ الحزن الشدید والبکاء الطویل قد یؤدّیان إلی فقدان البصر. وهذا یُعدّ ضرراً فی النظرة الأُولی، ولکنّهما قد یتّصفان بالرجحان ویخرجان من عنوان الضرر، وکذلک الأمر فیما یتعلّق بإقامة العزاء علی سیّد الشهداء(علیه السّلام)؛ حیث إنّ هناک روایات کثیرة تدلّ علی ثوابها الأُخروی، وقد ذکرنا بعضها فی مبحث إقامة العزاء علی المعصوم. وعلی هذا؛ لا یتضرّر الذین یقیمون العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام). وبتعبیرٍ آخر: صحیحٌ أنّ إقامة العزاء تبدو فی بادئ الأمر وکأنّها تشکّل ضرراً لمن یقیم العزاء، ولکنّه فی المقابل یحصل علی أجرٍ کبیر، ویبلغ منزلةً رفیعة. وعلی هذا؛ فلا یصدق علیه عنوان الضرر.
حتّی إذا قلنا: إنّ عنوان الضرر یصدق علی بعض مصادیق العزاء وتشملها أدلّة لا ضرر أیضاً، فمع ذلک لا تدلّ أدلّة لا ضرر علی تحریمها.
مقدّمة: هناک أربع نظریات أساسیة بین الفقهاء حول مفاد أدلّة لا ضرر:
ص: 315
یعتقد الشیخ الأنصاری بأنّ أدلّة لا ضرر تفید نفی الحکم الضرری. أی: ینفی الحکم الذی ینشأ منه الضرر(1).
یری الآخوند أنّ نفی أدلّة لا ضرر من قبیل نفی الحکم بلسان نفی الموضوع. والقصد منه التأکید علی أنّه لا حکم للموضوع الضرری(2).
یعتقد شیخ الشریعة بأنّ النفی فی أدلّة لا ضرر یعنی النهی التحریمی(3).
ذهب الإمام الخمینی بأنّ النفی فی أدلّة لا ضرر بمعنی النهی، ولکنّه لیس بمعنی النهی الإلَهی - کالنهی عن الغصب والکذب - بل یعنی النهی المولوی والسلطانی الذی صدر عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بصفته حاکماً وسلطاناً(4).
علی ضوء هذه المقدّمة؛ یتضح أنّ ما یؤدّی إلی الضرر من أسالیب إقامة العزاء، لا یحرم إلّا حسب النظریة الثالثة (مذهب شیخ الشریعة)، وقد ثبت فی علم الأُصول أنّ
ص: 316
مذهب شیخ الشریعة لیس صحیحاً(1).
تنبیهٌ: حتّی لو قال قائل: بأنّ أدلّة لا ضرر تدلّ علی التحریم فلیس کلّ ضرر محرّماً. وإلّا یلزم منه أن یحرم کثیر من الأطعمة؛ لأنّه یضرّ بالجسم. إذن؛ المقصود بالضرر هو الضرر المعتدّ به ولیس کلّ ضرر. کما أنّ أدلّة لا ضرر تخصّص بالأدلّة التی تثبت جواز اللطم وغیره من أسالیب العزاء التی تضرّ بالجسم. وبالتالی؛ نستنتج أنّ الإضرار بالجسم حرامٌ بحدّ ذاته، ولکن لا بأس فی ذلک إن کان فی مصیبة أهل البیت والأئمّة الطاهرین(علیهم السّلام) .
حتّی لو فرضنا أنّ عنوان الضرر یصدق علی إقامة العزاء وأدلّة حرمة الإضرار تشملها، وأنّ دلالة هذه الأدلّة علی الحرمة تامّة، فمع ذلک یمکن أن نقول: إنّ أدلّة حرمة الإضرار تتزاحم مع أدلّة الأُمور التی تُعرِّض الإنسان للضرر؛ وعندئذٍ یقدّم الأهمّ، ولا شکّ أنّ ملاک إقامة شعائر الدین أقوی إلی درجةٍ لا یمنع عنها ضررٌ شخصیّ مهما کان. فهناک أدلّة وشواهد کثیرة علی الأهمّیة القصوی لشعائر الدین، ولقد مرّ الکلام عنها فی مبحث الشعائر(2). کما أنّ هناک أحادیث کثیرة حول إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) بشتّی الأسالیب، ولها مصادیقٌ مختلفة، یحمل البعض منها عنوان الضرر مثل لطم الوجه، والصیاح، وقرح الجفون، و... وقد یؤدّی البعض منها إلی الإضرار بالنفس، ورغم ذلک فقد وردت روایات کثیرة فی جوازها.
وعلی هذا؛ فإنّ إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) جائزٌ، وإن أدّی إلی الضرر بالنفس. کما صرّح بذلک کثیرٌ من الفقهاء والمحقّقین.
ص: 317
قال المحقّق النائینی ردّاً علی استفتاء أهل البصرة: «لا إشکال فی جواز اللطم بالأیدی علی الخدود والصدور حدّ الاحمرار والاسوداد، بل یقوی جواز الضرب بالسلاسل أیضاً علی الأکتاف والظهور إلی الحدّ المذکور، بل وإن أدّی کلّ من اللطم والضرب إلی خروج دم یسیر علی الأقوی، وأمّا إخراج الدم من الناصیة بالسیوف والقامات فالأقوی جواز ما کان ضرره مأموناً، وکان من مجرّد إخراج الدم من الناصیة بلا صدمة علی عظمها...»(1).
وقد أجاب آل یاسین علی نفس الاستفتاء السابق بقوله: «ولا فرق فی اللطم المندوب إلیه عموماً وخصوصاً بین أن یکون بالأکف علی الخدود أو الصدور أو سلاسل الحدید علی الظهور... ولا فرق أیضاً فی اللطم المندوب بین أن یکون بهدوء وسکینة أو بعنف وشدّة، بل یجوز وإن بلغ حدّ الاحمرار والاسوداد قطعاً، بل وإن أوجب انبعاث شیء من الدم أیضاً، بل وإن أدّی إلی الإغماء أحیاناً أو تقرّح موقع الدم قلیلاً بنحوٍ یُتحمّل...»(2).
وقال المامقانی: «لا ینبغی الشبهة فی جواز الأُمور المذکورة فی السؤال، بل وإدماء الرأس بالسیف...»(3).
وقال المحقّق الأصفهانی: «لیس فی شیء من تلک الأعمال المعمولة فی المواکب العزائیة دلیل قوی علی حرمته، حتّی الضرب بالقامات ما لم یؤدِّ إلی تلف النفس وشبهه... فالأقوی جوازها جمیعاً، بل رجحانها...»(4).
ص: 318
من جملة الانتقادات الموجّهة إلی بعض أسالیب العزاء هی أنّها تؤدّی إلی إهانة وإذلال وتضعیف المذهب الحقّ، وتُعرّضه لاستهزاء الآخرین. وبتعبیرٍ آخر: فإنّ بعض مصادیق إقامة العزاء تؤدّی إلی تشویه التشیّع فی نظرة شعوب العالم وإهانته. وعندما یشاهد غیر المسلمین وحتّی بعض المسلمین مشاهد إقامة العزاء بهذه الأسالیب یتنفّرون من المذهب الحقّ، ویحملون انطباعاً سلبیاً عنه. ونتیجة لذلک؛ فإنّ الشعائر التی من المفترض أن تُساهم فی ترویج الدین والدعوة إلی المذهب الحقّ، تمنع عن انتشار الدین ونشر معارفه، بل تشوّهه وتؤدّی إلی إهانته وإذلاله وتضعیفه. وعلی هذا؛ یحرم هذا النوع من العزاء بالعنوان الثانوی؛ لأنّه یضرّ بأصل الدین.
سنردّ علی هذه الشبهة بجوابٍ واحدٍ فقط:
إنّ الاستهزاء لیس بالضرورة ملازماً مع الهتک والتوهین، أی: لا یمکن القول بأنّ کلّ سخریة واستهزاء یکون سبباً لتضعیف المذهب ودلیل علی وهنه؛ فإنّ المستهزئ إذا أراد أن یسخر من شیء، فإنّه یکرهه أولا ویستهجنه، ثمّ یبدأ الاستهزاء به. وهذا التصرّف قد یکون نتیجة لأحد الأُمور التالیة:
قد ینشأ الاستهزاء من عدم الأدب والأخلاق والثقافة، کالمشرکین الذین ظلّوا یسخرون من المسلمین علی مدی التأریخ، بسبب قیامهم بالفرائض الدینیة، ومن الواضح أنّ استهزاء هؤلاء لا یدلّ علی وجود وهنٍ أو انحراف، ولا یستلزم الهتک والتوهین، ولا
ص: 319
ینبغی أبداً أن یؤثّر فی الإنسان. بل یجب علی الإنسان أن یمضی فی طریقه بعزیمةٍ أقوی وجدّیة أکثر، وأن لا یخشی فی ذلک لومة لائم، ولا یتأثّر باستهزاء الآخرین.
قد ینشأ الاستهزاء من اختلاف الأعراف ووجهات النظر، فقد یکون العمل الواحد جمیلاً ومستحسناً فی وجهة نظر شخص، بینما یکون نفس العمل قبیحاً ومستهجناً من وجهة نظر شخصٍ آخر. وقد یکون هناک أمرٌ یتقبّله أحد المجتمعات کسلوک شائع وشعیرة من شعائره، ولکن بقیة المجتمعات تحمل انطباعاً خاطئاً عنه؛ بسبب عدم معرفة العادات والتقالید السائدة فی ذلک المجتمع، وبالتالی تسخر منه. ومن الواضح أنّ هذا النوع من الاستهزاء والاستهجان لا یستلزم هتک المذهب وتوهینه، ولا یمنع عن القیام بتلک الشعیرة.
قد یکون قبح الفعل ذاتیاً وحقیقیاً، ویتحوّل هذا الفعل رغم قبحه إلی شعیرة من شعائر أحد المذاهب. فحینئذٍ یؤدّی استهجان الآخرین واستهزاؤهم إلی هتک ذلک المذهب وتوهینه.
وعلی ضوء هذا التقسیم؛ یمکن أن نقول: إنّ النوع الثالث من الاستهزاء هو وحده یؤدّی إلی توهین المذهب واستهجانه.أمّا النوعان الآخران، فلا یترتّب علیهما توهین المذهب، وعادةً یکون الاستهزاء من النوعین الأوّل والثانی. أمّا فیما یتعلّق بإقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) وسائر أهل البیت(علیهم السّلام) ؛ فإنّ الاستهزاء به ناجم عن السببین الأوّل والثانی؛ وذلک لأنّ حقیقة العزاء لیست قبیحة. وعلی هذا؛ لا ینبغی التخلّی عن إقامة العزاء بسبب استهزاء الآخرین؛ حیث إنّ استهزاءهم ناتجٌ عن عدم فهم هذه الشعائر بشکلٍ صحیح. کما أنّ أتباع سائر الدیانات والمذاهب لا یتخلّون عن طقوسهم التی قد تبدو باطلة وتافهة فی نظرتنا.
ص: 320
التنبیه الأوّل: إذا أردنا دعوة الآخرین إلی المذهب الحقّ فلا بدّ من توظیف الطرق الصحیحة التی تکون علی قدر عقولهم وتجتذبهم، کحسن الخلق، والوفاء بالعهد والأمانة، والصدق و... ولکن هذا لا یعنی التخلّی عن شعائرنا؛ لأنّ کثیراً من الشعائر وضعت لیمارسها المسلمون داخل البیئة الإسلامیة وفی أوساط المؤمنین، والهدف منها تعزیز وحفظ الهویة الإلهیة والملکوتیة للمؤمنین. ولذلک نری أنّ الذین یبتعدون عن أجواء المساجد ومجالس العزاء والنعی ومناجاة الأسحار و... یفقدون مشاعرهم الإیمانیة شیئاً فشیئاً، وتضعف صلتهم بالدین. لذلک؛ فقد أمر الإسلام بحفظ شعائر الدین وإقامتها، ولم یکتفِ بذلک، بل أمر بتعظیم هذه الشعائر أیضاً.
وبالتالی؛ لا ینبغی أن یؤدّی الخوف من استهزاء الآخرین وإساءتهم إلی القضاء علی شعائر الدین وطمسها، فهو ذنبٌ لا یُغتفر؛ لأنّه سیقضی علی الهویة الإیمانیة لدی الناس، ویخلّ بمعتقداتهم. وبتعبیرٍ آخر: فإنّ تعطیل بعض الشعائر خاصّة الشعائر الحسینیة فی إقامة العزاء وتهمیشها بحجّة إهانة وإذلال وتضعیف المذهب، هو فی الحقیقة هدم لأصل المذهب.
التنبیه الثانی: إذا کان هناک مجتهدٌ فقیهٌ جامعٌ للشرائط وکان أعلم بمصالح الإسلام، وأشفق علیه من غیره، واعتبر هذا الفقیه أنّ بعض أسالیب العزاء من النوع الثالث الذی له قبح ذاتی، واعتبره إهانةً وتضعیفاً لمذهب التشیّع، وحرّمه من باب الحکم الثانوی؛ فیجب علی المعزیّن والموالین اتِّباعه والتخلّی عن تلک الأسالیب.
لقد وردت روایات کثیرة فی النهی عن لبس السواد، إلی درجة أنّ صاحب الوسائل أفرد باباً مستقلاً له، وروی فیه قرابة عشر روایات(1). فکیف یمکن الجمع بین هذه
ص: 321
الروایات والقول بجواز لبس السواد فی عزاء أهل البیت(علیهم السّلام) ؟
بعبارة أُخری: وردت روایات فی لباس المصلّی ومضمونها أنّ اللباس الأسود لباس الأعداء وأهل النار والعبّاسیین؛ ولذلک فقد قال أکثر الفقهاء: بأنّ لبس السواد مکروه لا سیّما فی الصلاة. وبالتالی؛ تدلّ هذه الروایات علی أنّ إقامة العزاء بلبس السواد أمرٌ مکروهٌ ومرجوح.
یمکن أن نقدّم أربعة أجوبة للردّ علی الشبهة الرابعة:
إذا تتبّعنا سیرة أهل البیت(علیهم السّلام) ومَن یتعلّق بهم نجد أنّهم لبسوا السواد تعبیراً عن حزنهم؛ ولإقامة العزاء علی موتاهم، فقد اعتُبر لبس السواد فی نظرتهم نوعاً من إقامة العزاء، وهناک روایات کثیرة تدلّ علی هذا الأمر، وقد مرّت فی المباحث السابقة(1)، مثل موثقة عمربن علی(2)، وروایة ابن أبی الحدید(3).
وبناءً علی هذه الروایات؛ یستحبّ لبس السواد علی المیّت.
ص: 322
حتّی لو فرضنا أنّ هناک روایات فی کراهة لبس السواد، وأنّه لا یوجد فی سیرة أهل البیت(علیهم السّلام) ما یؤیّد لبس السواد، فمع ذلک یمکن أن نقدّم جواباً آخر ونقول: إنّ الکراهة التی تفیدها هذه الرویات تشمل ما إذا لبس السواد بعنوان اللبس، ولکن إذا لبس السواد للتعبیر عن الحزن، ولإظهار شعائر العزاء فلا تشمله روایات الکراهة؛ ولذلک فقد قال کثیر من العلماء المحقّقین: «لا یبعد استثناء لبس السواد فی مأتم الحسین(علیه السّلام) من هذه الأخبار؛ لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان»(1). نظیر الملابس المهنیة وسترات العمل الخاصة التی یرتدیها أصحاب الوظائف المختلفة، ومنها زی الشرطة، وهذه الملابس لیست لباساً عادیاً، بل إنّها شعار ورمز یشیر إلی انتماء الشخص إلی وظیفة معیّنة.
إنّ التتبّع والدقّة فی الروایات الواردة فی هذا الباب یوضّح لنا أنّ النهی عن لبس السواد لیس نهیاً تعبّدیاً؛ حیث إنّها نهت عن التشبّه بفرعون، وأهل النار، والعبّاسیین، (وقد ورد فی الروایات أنهّم اتخذوا السواد لباساً لهم). وعلی هذا؛ فقد تعلّق النهی بالتشبّه والتشبّه أمرٌ قصدیّ، فإذا لبس السواد وقصد بذلک أن یتشبّه بهم فهو أمرٌ مرجوح، ولکن إذا لم یقصد التشبّه - بل أراد التعبیر عن الحزن والعزاء - فیصبح لبس السواد راجحاً.
حتّی لو فرضنا أنّ لبس السواد مکروه، والنهی عنه تعبّدی فإنّه لا یضرّ بالمدّعی؛
ص: 323
لأنّ البحث فی جواز إقامة العزاء بلبس السواد والقول بالکراهة لا یخلّ بالجواز.
وبتعبیرٍ آخر: حتّی إذا قلنا بکراهة لبس السواد، فهذا لا یعنی أن إقامة العزاء بلبس السواد حرام.
ص: 324
سنذکر فی هذا القسم بعض الشبهات التی تُثار من قِبل سائر المذاهب، ومن ثمّ نردّ علیها. وسنکتفی فی هذا الباب بأربع شبهات:
رغم أنّ الأصل فی البکاء علی الموتی هو الإباحة ولم یرد فی الشریعة ما ینهی عنه. ولکن یوجد من الوهابیة مَن یتمسّک ببعض الروایات؛ لیثبت أنّ البکاء علی الموتی أمر مرفوض فی الدین وهی الروایات التی تدلّ علی أنّ المیّت یُعذَّب ببکاء أهله علیه(1)، قد تقدّمت هذه الروایات محلّها فی القسم الثالث من هذا الکتاب(2).
لقد أجبنا عن هذه الشبهة فی القسم الثالث من هذا الکتاب(3)، وخلاصة الجواب کما یلی: فمن جهةٍ هناک روایات کثیرة تصرّح بجواز البکاء، والمصادر التاریخیة والحدیثیة الشیعیة والسنیة تزخر بأقوال وأفعال وتقریرات الرسول الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی هذه
ص: 325
المسألة، وکلّها تدلّ علی جواز البکاء علی المیّت، ومنها الروایات التی تحکی بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی سیّد الشهداء(علیه السّلام)، وجعفر، وزید، وابن رواحة، وحمزة. ومن جهةٍ أُخری؛ فإنّ الروایات التی زُعِم أنّها تدلّ علی حرمة البکاء لا تخلو من بعض الإشکالات، وقد بیّنا هذه الإشکالات بالتفصیل. وعلی هذا؛ فإنّ الروایات التی توهم البعض أنّها تنهی عن البکاء تواجه مشکلات عدیدة، ولا تستطیع أن تعارض الروایات المجوّزة؛ ولذلک فلا بدّ من ترکها.
وهذا ما ادّعاه ابن تیمیة الحرّانی؛ حیث تطرق إلی ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)، وقال: «فلیعلم المسلمون أنّ البکاء علی الحسین بعقیدة أنّه قُتِل مظلوماً وعدواناً لغو، بل کفر؛ ویوجب الخروج عن الإسلام..».
وقال أیضاً: «وصار الشیطان بسبب قتل الحسین رضی الله عنه یُحدث للناس بدعتین: بدعة الحزن، والنوح یوم عاشوراء... بل إحداث الجزع والنیاحة للمصائب القدیمة من أعظم ما حرّمه الله ورسوله، وکذلک بدعة السرور والفرح»(1).
فاعتبر ابن تیمیة فی هذه العبارات البکاء وإقامة العزاء علی سیّد الشهداء(علیه السّلام) کفراً وبدعة.
لا یوجد دلیل علی أنّ العزاء کفرٌ أو بدعةٌ. کما أنّ ابن تیمیة نفسه لم یذکر دلیلاً علی ما زعمه. وکیف یمکنه القول: بأنّ العزاء کفرٌ وبدعةٌ. مع أنّ کبار علماء السنّة نقلوا
ص: 326
روایات کثیرة مفادها أنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأبا بکر وعمر کلّهم بکوا علی الموتی، وأقاموا العزاء علیهم. بل إنّ السیرة النبویة القطعیة تدلّ علی مشروعیة البکاء وإقامة العزاء.
قال الحنفیة: إنّ عدم الأمر بإقامة المأتم علی الأنبیاء یدلّ علی عدم الأمر بإقامة المأتم علی غیرهم. وبتعبیرٍ آخر: لم یرد أمر بالحداد علی مصائب أنبیاء الله رغم أنّهم رُسله، فکیف یمکن القول بأنّنا مأمورون بإقامة الحداد علی غیرهم؟!
إنّ قیاس رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأهل بیته(علیهم السّلام) بسائر الأنبیاء(علیهم السّلام) قیاسٌ مع الفارق؛ وذلک لأنّ الله خصّ نبیّنا(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بصفات دون غیرهم. ومنها أنّ الغنائم أُحلّت له ولأُمّته وجُعل الخمس له ولأهل بیته. وعدم نسخ شریعة رسولنا الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) والحثّ علی زیارة قبره. فقد ذکر علماء السنّة أنّ الدین أمرنا بزیارة قبر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بعد وفاته، وشدّ الرحال إلی قبره الشریف(1)، بینما لم یرد مثل هذا الأمر بالنسبة إلی سائر الأنبیاء(علیهم السّلام) . وهذا یعنی أنّ الله خصّ رسوله محمّداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بزیارة قبره وأُمورٍ أُخری؛ من أجل تکریمه، ولأنّ فضائله أکثر من سائر الأنبیاء(علیهم السّلام) . إذن؛ لا مانع من أن یجوز إقامة العزاء علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأهل بیته(علیهم السّلام) إجلالاً وتبجیلاً لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).
ص: 327
قال الزرندی الحنفی فی کتاب نظم درر السمطین فی معرض حدیثه عن مقتل الإمام الحسین(علیه السّلام): «کانَ قتل الحُسَیْن رضی الله عنه فی الإسلامِ خطباً فادحاً... ولا یُتخذ هذا الیوم للندبِ والسیاحةِ والمأتمِ والحزنِ، کما یفعله بعضُ الجهلة... ولیس فیها إلّا الإثارة والشحناء بین أهل الإسلام، وإدخال الشکّ والشبهة علی العوامّ، وهذا من تزیین الشیطان وأعوانه»(1).
کما قال ابن حجر فی الصواعق المحرقة نقلاً عن الغزالی: «یحرم علی الْوَاعِظ وَغَیره رِوَایَة مقتل الحُسَیْن وحکایاته، وَمَا جری بَین الصَّحَابَة من التشاجر والتخاصم؛ فَإِنَّهُ یهیج علی بغض الصَّحَابَة والطعن فیهم، وهم أَعْلَام الدّین... فالطاعن فیهم مطعون، طَاعن فِی نَفسه وَدینه»(2).
سنردّ علی الشبهة الرابعة بجوابین:
علی ضوء الروایات التی تدلّ علی جواز إقامة العزاء فلا یعقل القول: بأنّ إقامة العزاء تثیر الفرقة والشحناء؛ لأنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الذی بکی وأقام العزاء علی الأموات والشهداء، ولا سیّما الإمام الحسین(علیه السّلام) وأهل البیت(علیهم السّلام) .
ص: 328
هل یُعقل أن نعتقد بهذه الشبهة ونسکت علی هذه الوقائع التاریخیة المؤلمة بحجّة أنّها تثیر الخلاف بین المسلمین؟! ألا یؤدّی ذلک إلی إخفاء الحقائق التاریخیة؟! والحال أنّنا نری أنّ الأئمة المعصومین(علیهم السّلام) استمرّوا بواجبهم تجاه إقامة العزاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) بما یتوافق مع ظروف عصرهم. بل إذا أردنا قبول هذه الشبهة، فلا بّد أن نسکت عن کلّ قضیة تثیر الخلاف بین المسلمین، وأن نخذل الحقّ خوفاً من الخلاف والتنازع، وهذا غیر مقبول.
(وَآخِرُ دَعوَانَا أنِ الحَمدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِینَ).
ص: 329
ص: 330
1. القرآن الکریم.
2. الاحتجاج، أحمد بن علی الطبرسی (تالقرن السادس الهجری)، نشر المرتضی، 1403ه-.ق.
3. أحکام النّساء، محمد بن محمد المفید (ت413ه-)، مؤتمر ألفیة الشیخ المفید، 1413ه-.ق.
4. اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی)، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، جامعة مشهد، 1348ه-.ق.
5. إرشاد الأذهان، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، جامعة المدرّسین، 1410ه-.ق.
6. إرشاد السّاری، أحمد بن محمد القسطلانی (ت923ه-)، المطبعة الکبری، 1323ه-.ق.
7. إرشاد العباد، السید جعفر الحائری الطباطبائی (ت1321ه-)، المطبعة العلمیة، 1404ه-.ق.
8. الاستبصار، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، دار الکتب الإسلامیة، 1390ه-.ق.
ص: 331
9. الاستیعاب، یوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر (ت463ه-)، دار الجیل، 1412ه-.ق.
10. أُصول علم الرجال، مسلم الداوری (معاصر)، دار المحبین، 1426ه-. ق.
11. الأمالی، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، المکتبة الإسلامیة، 1362ه-.ق.
12. الأمالی، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، دار الثّقافة، 1414ه-.ق.
13. أمل الآمل، محمد بن الحسن الحرّ العاملی (ت1104ه-)، مکتبة الأندلس، 1385ه-.ق.
14. الانتصار، علی بن الحسین الشریف المرتضی (ت436ه-)، جامعة المدرسین، 1415ه-.ق.
15. أنوار الفقاهة، حسن بن جعفر کاشف الغطاء (ت1262ه-)، مؤسّسة کاشف الغطاء، 1422 ه-.ق.
16. إیضاح الفوائد، محمد بن الحسن الحلّی، المشهور ب-(فخر المحقِّقین) (ت771ه-)، إسماعیلیان، 1387ه-.ق.
17. بحار الأنوار، محمد باقر المجلسی (ت1110ه-)، مؤسّسة الطبع والنشر، 1410ه-.ق.
18. بحوث فی شرح العروة، محمد باقر الصدر (ت1400ه-)، مجمع الشهید الصدر، 1408ه-.ق.
ص: 332
19. برامج الأقراص الکمبیوتریة لمؤسّسة النور، مرکز النور للأبحاث الکمبیوتریة للعلوم اللإسلامیة.
20. بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفّار (ت290ه-)، المکتبة النجفیة، 1404ه-.ق.
21. البیان، محمد بن مکی العاملی المشهور ب-(الشهید الأوّل) (ت786ه-)، 1412ه-.ق.
22. پژوهشی در علم رجال (تحقیق فی علم الرجال)، (معاصر)، الترابی الشهرضائی، أکبر.
23. تاج العروس، محمد مرتضی الزبیدی (ت1205ه-)، دار الفکر للطباعة، 1414ه-.ق.
24. تاریخ الإسلام، محمد بن أحمد الذّهبی (ت748ه-)، دار الغرب الإسلامی، 2003م.
25. تاریخ دمشق، علی بن الحسن المشهور ب-(ابن عساکر) (ت571ه-)، دار الفکر للطّباعة، 1415ه-.ق.
26. تأویل الدعائم، القاضی النعمان بن محمد المغربی (ت363ه-)، دار المعارف.
27. تحریر الأحکام، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، مؤسّسة الإمام الصادق(علیه السّلام)، 1420ه-.ق.
28. التحقیق فی کلمات القرآن، حسن المصطفوی (ت1426ه-)، مرکز الکتاب، 1402ه-.ق.
ص: 333
29. تذکرة الفقهاء، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1414ه-.ق.
30. تفسیر الصافی، المولی محمد محسن الفیض الکاشانی (ت1091ه-)، الصدر، 1415 ه-.ق.
31. تفسیر القرطبی، محمد بن أحمد القرطبی (ت671ه-)، دار الکتب المصریة، 1384ه-.ق.
32. تفسیر القمّی، علی بن إبراهیم بن هاشم القمّی (ت القرن الثالث الهجری)، مؤسّسة دار الکتاب، 1404ه-.ق.
33. تفصیل الشّریعة، محمد الفاضل اللنکرانی (ت1428ه-)، المرکز الفقهی للأئمّة الأطهار(علیهم السّلام) ، 1429ه-.ق.
34. تفصیل وسائل الشّیعة، محمد بن الحسن الحرّ العاملی (ت1104ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1409ه-.ق.
35. تلخیص المرام، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1421ه-.ق.
36. تمهید القواعد، زین الدین بن علی العاملی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1416 ه-.ق.
37. التنقیح الرائع، مقداد بن عبدالله السیوری الحلّی (ت826ه-)، مکتبة المرعشی، 1404ه-.ق.
38. التوحید، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، جامعة المدرّسین، 1398ه-.ق.
ص: 334
39. تهذیب الأحکام، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، دارالکتب الإسلامیة، 1407 ه-.ق.
40. تهذیب الأُصول، جعفر السبحانی، تقریراً لأبحاث السید الخمینی(ت1409ه-)، إسماعیلیان، 1382ه-.ق.
41. تهذیب الکمال، یوسف بن عبد الرحمن المزی (ت742ه-)، مؤسّسة الرسالة، 1400ه-.ق.
42. ثواب الأعمال، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، الشریف المرتضی، 1364 ه-.ق.
43. الجامع للشرائع، یحیی بن سعید الحلّی (ت690ه- تقریباً)، مؤسسة سیّد الشهداء(علیه السّلام)، 1405 ه-.ق.
44. جامع المدارک، أحمد الخوانساری، (ت1405ه-)، اسماعیلیان، 1405ه-. ق.
45. جامع المقاصد، علی بن الحسین الکرکی (المحقّق الثانی) (ت940ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1414ه-.ق.
46. الجعفریات، محمد بن محمد الأشعث (ت القرن الرابع الهجری)، مکتبة نینوی الحدیثة.
47. الجمل والعقود، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، جامعة الفردوس، 1387ه-.ق.
ص: 335
48. جواهر الفقه (الجواهر فی الفقه)، القاضی ابن البرّاج (ت481ه-)، جامعة المدرّسین، 1411ه-.ق.
49. جواهر الکلام، محمد حسن النجفی (ت1266ه-)، دار إحیاء التراث، 1404ه-. ق.
50. حاشیة الإرشاد، زین الدین بن علی العاملی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1414ه-.ق.
51. حاشیه الشرائع، زین الدین بن علی العاملی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1422ه-.ق.
52. الحبل المتین، بهاء الدین محمد بن الحسین العاملی (ت1031ه-)، مکتبة بصیرتی، 1390ه-.ق.
53. الحدائق الناضرة، یوسف بن أحمد البحرانی (ت1186ه-)، جامعة المدرسین، 1405ه-.ق.
54. خاتمة المستدرک، المیرزا حسین النوری (ت1320ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1417ه-.ق.
55. الخصال، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، جامعة المدرّسین، 1403ه-.ق.
56. خلاصة الأقوال، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)،
الحیدریة، 1381ه-.ق.
57. الخلاف، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، جامعة المدرّسین، 1407ه-.ق.
ص: 336
58. الدرّ المنثور، جلال الدین السیوطی (ت911ه-)، دار الفکر.
59. الدّروس الشّرعیة، محمد بن مکی العاملی المشهور ب-(الشهید الأوّل) (ت786ه-)، جامعة المدرّسین، 1417ه-.ق.
60. الدلائل، السید تقی الطباطبائی القمّی (معاصر)، مکتبة المحلّاتی، 1423ه-.ق.
61. ذخائر العقبی، أحمد بن عبد الله (ت694ه-)، مکتبة القدسی، 1356ه-.ق.
62. الذخیرة، أحمد بن إدریس القرافی (ت684ه-)، دار الغرب الإسلامی، 1994م.
63. ذخیرة المعاد، محمد باقر السبزواری (ت1090ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1247ه-.ق.
64. ذریعة الاستغناء، حبیب الله الکاشانی (ت1340ه-)، مرکز إحیاء الآثار، 1417ه-.ق.
65. ذکری الشیعة، محمد بن مکّی العاملی المشهور ب-(الشهید الأوّل) (ت786ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1419ه-.ق.
66. رجال ابن داود، الحسن بن علی بن داود الحلّی (ت707ه-)، جامعة طهران، 1383ه-.ق.
67. رجال ابن الغضائری، أحمد بن الحسین الغضائری (ت القرن الخامس الهجری)، إسماعیلیان، 1364ه-.ق.
ص: 337
68. رجال البرقی، أحمد بن محمد بن خالد البرقی (ت274ه-)، جامعة طهران، 1383ه-.ق.
69. رجال الطوسی، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، الحیدریة، 1381ه-.ق.
70. رجال النجاشی، أحمد بن علی النجاشی (ت450ه-)، جامعة المدرّسین، 1407ه-.ق.
71. الرسائل التسع، جعفر بن الحسن المشهور ب-(المحقّق الحلّی) (ت676ه-)، مکتبة المرعشی، 1413ه-.ق.
72. رسائل الشریف المرتضی، علی بن الحسین الشریف المرتضی (ت436ه-)، دار القرآن، 1405ه-.ق.
73. رسائل الشعائر الحسینیة، مجموعة من العلماء، تحقیق محمد الحسون ، مؤسّسة الرافد، 1432ه-.ق.
74. الرسائل العشر، جمال الدین أحمد الحلّی (ت841 ق)، مکتبة المرعشی، 1409ه-.ق.
75. الرسائل الفقهیة، الخواجوئی المازندرانی (ت1171ه- تقریباً)، دار الکتاب الإسلامی، 1416 ق.
76. رسائل المحقّق الکرکی، علی بن الحسین الکرکی المشهور ب-(المحقّق الثانی) (ت940ه-)، مکتبة المرعشی، 1409 ه-.ق.
77. رسالة فی أحکام الأموات، محمد تقی الخوانساری (ت1371ه-)، در راه حق، 1415ه-.ق.
ص: 338
78. روح المعانی، محمود بن عبدالله الآلوسی (ت1270ه-)، دار الکتب العلمیة، 1415ه-.ق.
79. الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، زین الدین بن علی العاملی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مکتبة الداوری، 1416ه-.ق.
80. روضة المتقین، محمد تقی المجلسی (ت1070ه-)، مؤسّسة کوشانبور، 1406ه-.ق.
81. روض الجنان، زین الدین بن علی العاملی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1402ه-.ق.
82. ریاض المسائل، علی بن محمد الطباطبائی (ت1131ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1418ه-.ق.
83. زاد المعاد، محمد باقر المجلسی الثانی (ت1110ه-)، الأعلمی، 1423ه-.ق.
84. زبدة البیان، أحمد بن محمد المشهور ب-(المقدّس الأردبیلی) (ت993ه-)، المکتبة الجعفریة.
85. سداد العباد، حسین بن محمد آل عصفور البحرانی (ت1216ه-)، مکتبة المحلّاتی، 1421ه-.ق.
86. السرائر، محمد بن إدریس الحلّی (ت598ه-)، جامعة المدرّسین، 1410ه-.ق.
87. سنن ابن ماجة، محمد بن یزید المشهور ب-(ابن ماجة) (ت273ه-)، دار إحیاء الکتب العربی.
ص: 339
88. سنن أبی داود، سلیمان بن الأشعث السجستانی (ت275ه-)، المکتبة العصریة.
89. سنن الترمذی، محمد بن عیسی الترمذی (ت279ه-)، مکتبة المصطفی، 1395ه-.ق.
90. السنن الکبری، أحمد بن الحسین البیهقی (ت458ه-)، دار الکتب العلمیة، 1424ه-.ق.
91. سنن النسائی، أحمد بن شعیب النسائی (ت303ه-)، مکتبة المطبوعات، 1406ه-.ق.
92. شرائع الإسلام، جعفر بن الحسن المشهور ب-(المحقّق الحلّی) (ت676ه-)، إسماعیلیان، 1408ه-.ق.
93. الشرح الصغیر، علی بن محمد الحائری (ت1231ه-)، مکتبة المرعشی، 1409ه-.ق.
94. شرح فروع الکافی، محمد هادی بن محمد صالح المازندرانی (ت1120ه-)، دار الحدیث، 1429ه-.ق.
95. الشرح الکبیر، عبد الرحمن بن قدامة المقدسی (ت682ه-)، دار الکتب العربی.
96. شرح نهج البلاغة، عبد الحمید بن هبة الله المشهور ب-(ابن أبی الحدید) (ت656ه-)، مکتبة المرعشی، 1404ه-.ق.
97. شمس العلوم، نشوان بن سعید الحمیری (ت573ه-)، دار الفکر المعاصر، 1420ه-.ق.
ص: 340
98. الصحاح، تاج الّلغة، إسماعیل بن حمّاد الجوهری (ت393ه-)، دار العلم، 1410ه-.ق.
99. صحیح البخاری، محمد بن إسماعیل البخاری (ت256ه-)، دار طوق النجاة، 1422ه-.ق.
100. صحیح مسلم، مسلم بن الحجّاج النیسابوری (ت261ه-)، دار إحیاء التراث العربی.
101. صراط النجاة المُحشّی، أبو القاسم الخوئی (ت1413ه-)، نشر المنتخب، 1416ه-.ق.
102. الصواعق المحرقة، أحمد بن محمد الهیتمی (ت974ه-)، مؤسّسة الرسالة، 1417ه-.ق.
103. العروة الوثقی، تعلیق محمد الفاضل اللنکرانی (ت1337ه-)، المرکز الفقهی للأئمّة الأطهار(علیهم السّلام) .
104. عزاداری رمز محبّت (العزاء سرّ المودة)، مهدی الصدری (معاصر)، دلیل ما، 1390ه-.ش.
105. العقد الفرید، أحمد بن محمد الأندلسی المشهور ب-(ابن عبد ربّه) (ت328ه-)، دار الکتب العلمیة، 1404ه-.ق.
106. علل الشرائع، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، مکتبة الداوری، 1386ه-.ق.
ص: 341
107. العناوین الفقهیه، عبد الفتّاح بن علی المراغی (ت1250ه-)، مکتب الانتشارات الإسلامیة، 1417ه-.ق.
108. عوائد الأیّام، أحمد بن محمد النراقی(ت1245ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1417ه-.ق.
109. عیون أخبار الرضا(علیه السّلام)، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، انتشارات جهان، 1378ه-.ق.
110. غایة المراد، محمد بن مکّی العاملی المشهور ب-(الشهید الأوّل) (ت786ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1414ه-.ق.
111. غایة المرام، المفلح بن الحسن الراشد الصیمری (ت نهایة القرن التاسع الهجری)، دار الهادی، 1420ه-.ق.
112. غنائم الأیّام، المیرزا أبو القاسم القمّی (ت1232ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1417ه-.ق.
113. الفائق فی غریب الحدیث والأثر، محمود بن عمر الزمخشری (ت583ه-)، دار الکتب العلمیة، 1417ه-.ق.
114. فتح الباری، عبد الرحمن بن أحمد الحنبلی (ت795ه-)، مکتبة الغرباء، 1417ه-.ق.
115. فرائد الأُصول، مرتضی الأنصاری (ت1281ه-)، مکتب الانتشارات الإسلامی، 1419ه-.ق.
ص: 342
116. الفردوس الأعلی، محمد حسین بن علی کاشف الغطاء (ت1373ه-)، دار أنوار الهدی، 1426ه-.ق.
117. الفقه علی المذاهب الأربعة، عبدالرحمن بن محمد الجزیری (ت1360ه-)، دار الکتب، 1424ه-.ق.
118. فقه القرآن، قطب الدین سعید بن عبدالله الراوندی (ت573ه-)، مکتبة المرعشی، 1405ه-.ق.
119. فوائد القواعد، زین الدین بن علی العاملی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1419ه-.ق.
120. الفهرست، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، المکتبة المرتضویة.
121. قاعدة لا ضرر، فتح الله شیخ الشریعة، (ت1339ه-)، جامعة المدرّسین، 1410ه-. ق.
122. قواعد الأحکام، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1421ه-.ق.
123. القواعد والفوائد، محمد بن مکّی العاملی المشهور ب-(الشهید الأوّل)، (ت786ه-)، مکتبة المفید.
124. الکافی، محمد بن یعقوب الکلینی (ت329ه-)، دار الکتب الإسلامیة، 1407ه-.ق.
125. الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی (ت447ه-)، مکتبة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، 1403ه-.ق.
ص: 343
126. کامل الزیارات، جعفر بن محمد القمّی المشهور ب-(ابن قولویه) (ت367ه-)، المرتضویة، 1356ه-.ق.
127. کتاب البیع، روح الله الموسوی الخمینی (ت1409ه-)، مؤسّسة نشر وتنظیم آثار الإمام الخمینی، 1421ه-.ق.
128. کتاب سلیم، سلیم بن قیس الهلالی (ت80ه-)، انتشارات الهادی، 1415ه-.ق.
129. کتاب الصّلاة، مرتضی الأنصاری (ت1281ه-)، المؤتمر العالمی للشیخ الأنصاری، 1415ه-.ق.
130. کتاب الطهارة، روح الله الموسوی الخمینی (ت1409ه-)، مؤسّسة نشر وتنظیم آثار الإمام الخمینی، 1421ه-.ق.
131. کتاب العین، الخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت175ه-)، منشورات الهجرة، 1410ه-.ق.
132. کتاب النّکاح، موسی الشبیری الزنجانی (معاصر)، رأی پرداز، 1419ه-.ق.
133. الکشّاف، محمود بن عمر الزمخشری (ت583ه-)، دار الکتب العربی، 1407ه-.ق.
134. کشاف القناع، منصور بن یونس البهوتی (ت1051ه-)، دار الکتب العلمیة.
135. کشف الرّموز، حسن بن أبی طالب الفاضل الآبی (ت القرن السابع الهجری)، جامعة المدرّسین، 1417ه-.ق.
136. کشف الغطاء: جعفر بن خضر کاشف الغطاء (ت1228ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی.
ص: 344
137. کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة(علیهم السّلام) ، علی بن عیسی الإربلی (ت693ه-)، مکتبة بنی هاشم، 1381ه-.ق.
138. کشف الّلثام، محمد بن الحسن الفاضل الهندی (ت1137ه-)، جامعة المدرّسین، 1416ه-.ق.
139. کفایة الأثر، علی بن محمد الخزّاز القمی (ت القرن الرابع الهجری)، بیدار، 1401ه-.ق.
140. کفایة الأحکام، محمد باقر بن محمد السبزواری (ت1090ه-)، مکتب الانتشارات، 1423ه-.ق.
141. کفایة الأُصول، محمد کاظم الخراسانی (ت1329ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1409ه-.ق.
142. کمال الدین، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، دار الکتب الإسلامیة، 1395ه-.ق.
143. کنز العرفان، مقداد بن عبدالله السیوری الحلّی (ت826ه-)، المکتبة المرتضویة، 1425ه-.ق.
144. لسان العرب، محمد بن مکرم الإفریقی المشهور ب-(ابن منظور) (ت711ه-)، دار الفکر للطباعة، 1414ه-.ق.
145. اللمعة الدّمشقیة، محمد بن مکی العاملی المشهور ب-(الشهید الأوّل) (ت786ه-)، دار التراث، 1410ه-.ق.
ص: 345
146. المبسوط، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، المکتبة المرتضویة، 1387ه-.ق.
147. متشابه القرآن ومختلفه، محمد بن علی بن شهر آشوب (ت588ه-)، دار بیدار، 1369ه-.ق.
148. مثیرالأحزان، ابن نما الحلّی (ت645ه-)، مدرسة الإمام المهدی، 1406ه-.ق.
149. مجمع البحرین، فخرالدین الطریحی (ت1087ه-)، المکتبة المرتضویة، 1416ه-.ق.
150. مجمع البیان، الفضل بن الحسن الطبرسی (ت690ه-)، ناصر خسرو، 1372ه-.ق.
151. مجمع الرسائل، محمد حسن النجفی (ت1266ه-)، مؤسّسة صاحب الزمان ، 1415ه-.ق.
152. مجمع الزوائد، علی بن أبی بکر الهیثمی (ت807ه-)، دار المأمون للتراث.
153. مجمع الفائدة، أحمد بن محمد المشهور ب-(المقدّس الأردبیلی) (ت993ه-) جامعة المدرّسین، 1403ه-.ق.
154. مجموعة فتاوی ابن بابویه، علی بن بابویه الصدوق (ت329ه-).
155. المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقی (ت274ه-)، دار الکتب، 1371ه-.ق.
156. المحرّر فی الفقه، عبد السلام بن عبدالله الحرانی المشهور ب-(ابن تیمیة) (ت652ه-)، مکتبة المعارف، 1404ه-.ق.
157. المحیط فی الّلغة، الصاحب بن عبّاد (ت385ه-)، عالم الکتاب، 1414ه-.ق.
158. المختصرالنافع، جعفر بن الحسن المشهور ب-(المحقّق الحلّی) (ت676ه-)، المطبوعات الدینیة، 1418ه-.ق.
ص: 346
159. مختلف الشیعة، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، جامعة المدرّسین، 1413ه-.ق.
160. مدارک الأحکام، محمد بن علی العاملی (ت1009ه-)، مؤسسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1411 ه-.ق.
161. مرآة العقول، محمد باقر المجلسی (ت1110ه-)، دار الکتب الإسلامیة، 1404ه-.ق.
162. المراسم العلویة، حمزة بن عبد العزیز السلاّر (ت448ه-)، منشورات الحرمین، 1404ه-.ق.
163. المزار الکبیر، محمد بن جعفر المشهدی (ت610ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1419ه-.ق.
164. المسائل الصاغانیة، محمد بن محمد المفید (ت413ه-)، مؤتمر ألفیة الشیخ المفید، 1413ه-.ق.
165. المسائلالناصریات، علی بن الحسین الشریف المرتضی (ت436ه-)، رابطة الثقافة، 1417ه-.ق.
166. مسالک الأفهام، زین الدین بن علی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مؤسّسة المعارف، 1413ه-.ق.
167. المستدرک علی الصحیحین، محمد بن عبدالله الحاکم النیسابوری (ت405ه-)، دار الکتب، 1411ه-.ق.
ص: 347
168. مستمسک العروة، محسن الطباطبائی الحکیم (ت1390ه-)، دار التفسیر، 1416ه-.ق.
169. مستند الشیعة، أحمد بن محمد النراقی (ت1245ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1415ه-.ق.
170. مسکن الفؤاد، زین الدین بن علی المشهور ب-(الشهید الثانی) (ت966ه-)، مکتبة بصیرتی.
171. مسند أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل (ت241ه-)، مؤسّسة الرسالة، 1421ه-.ق.
172. مسند البزّار، أحمد بن عمرو البزّار (ت292ه-)، مکتبة العلوم والحِکم، 2009م.
173. مشارق الأحکام، محمد بن أحمد النراقی (ت1297ه-)، مؤتمر النراقیین، 1422ه-.ق.
174. مشکاة الأنوار، علی بن الحسن الطبرسی (ت نهایة القرن السادس الهجری)، المکتبة الحیدریة، 1385ه-.ق.
175. مصابیح الظلام، محمد باقر بن محمد الوحید البهبهانی (ت مطلع القرن الثالث عشر الهجری)، مؤسّسة الوحید، 1424ه-.ق.
176. مصباح الفقیه، رضا بن محمد الهمدانی (ت1322ه-)، المؤسّسة الجعفریة، 1416ه-.ق.
177. المصباح المنیر، أحمد بن محمد الفیّومی (ت770ه-)، منشورات دار الرضی.
178. مصباح الهدی، المیرزا محمد تقی الآملی (ت1391ه-)، المؤلّف، 1380ه-.ق.
179. مصباح الزائر، علی ابن طاووس (ت 664ه-)، مؤسسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1416ه-. ق.
ص: 348
180. مصباح الأُصول، محمد سرور البهسودی، (تقریراً لأبحاث السید أبو القاسم الخوئی) (ت1413ه-)، مکتبة الداوری، 1417ه-.ق.
181. المصنّف، عبد الله بن محمد الکوفی المشهور ب-(ابن أبی شیبة) (ت235ه-)، مکتبة الرشد، 1409ه-.ق.
182. المعالم المأثورة، المیرزا هاشم الآملی (ت1413ه-)، المؤلّف، 1406ه-.ق.
183. المعتبر، جعفر بن الحسن المشهور ب-(المحقّق الحلّی) (ت676ه-)، مؤسّسة سیّد الشهداء(علیه السّلام)، 1407ه-.ق.
184. معتمد الشیعة، محمد مهدی النراقی (ت1209ه-)، مؤتمر النراقیین، 1422ه-.ق.
185. المعجم الکبیر، سلیمان بن أحمد الطبرانی (ت360ه-)، مکتبة ابن تیمیة، 1415ه-.ق.
186. معجم مقاییس اللّغة، أحمد بن فارس (ت395ه-)، مکتب الإعلام الإسلامی، 1404ه-.ق.
187. المغنی، عبدالله بن قدامة المقدسی (ت620ه-)، مکتبة القاهرة، 1388ه-.ق.
188. مغنی المحتاج، محمد بن أحمد الشربینی (ت977ه-)، دار الکتب العلمیة، 1415ه-.ق.
189. مفاتیح الشرایع، المولی محمد محسن الفیض الکاشانی (ت1091ه-)، مکتبة المرعشی.
190. مفتاح الکرامة، محمد بن جواد العاملی (ت1226ه-)، جامعة المدرّسین، 1419ه-.ق.
ص: 349
191. المفردات فی غریب القرآن، الحسین بن محمد المشهور ب-(الراغب الإصفهانی) (ت مطلع القرن السادس الهجری)، دار العلم، 1412ه-.ق.
192. المقنع، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، مؤسّسة الإمام الهادی(علیه السّلام)، 1415ه-.ق.
193. المقنعه، محمد بن محمد المفید (ت413ه-)، مؤتمر ألفیة الشیخ المفید، 1413ه-.ق.
194. ملاذ الأخیار، محمد باقر المجلسی (ت1110ه-)، مکتبة المرعشی، 1406ه-.ق.
195. منتهیالمطلب، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، مجمع البحوث، 1412ه-.ق.
195. منتهی المقال، محمد بن إسماعیل المازندرانی (ت1216ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1416ه-.ق.
197. مَن لایحضره الفقیه، محمد بن علی الصدوق (ت381ه-)، جامعة المدرّسین، 1413ه-. ق.
198. منهاج السنّة، أحمد بن عبدالحلیم الحرّانی المشهور ب-(ابن تیمیة) (ت728ه-)، جامعة الإمام محمد سعود، 1406ه-.ق.
199. المنهاج شرح صحیح مسلم، یحیی بن شرف النووی (ت676ه-)، دار إحیاء التراث، 1392ه-.ق.
200. منهاج المؤمنین، شهاب الدین المرعشی (ت1411ه-)، مکتبة المرعشی، 1406ه-.ق.
201. موسوعة الإمام الخوئی، أبو القاسم الخوئی (ت1413ه-)، مؤسّسة إحیاء الآثار، 1418ه-.ق.
ص: 350
202. الموسوعة الرجالیة المیسّرة، أکبر الترابی الشهرضائی (معاصر) مؤسّسة الإمام الصادق(علیه السّلام)، 1424ه-.ق.
203. موسوعة الفقه الإسلامی، محمد بن إبراهیم التویجری(معاصر)، بیت الأفکار، 1430ه-.ق.
204. الموسوعة الفقهیة، العلوی بن عبد القادر السقاف (معاصر)، الدّرر السّنیة، 1433ه-.ق.
205. المهذّب، ابن البرّاج القاضی الطرابلسی (ت481ه-)، جامعة المدرّسین، 1406ه-.ق.
206. مهذّب الأحکام، عبد الأعلی السبزواری (ت1414ه-)، مؤسّسة المنار، 1413ه-.ق.
207. المهذّب البارع، أحمد بن محمد الحلّی (ت841ه-)، جامعة المدرّسین، 1407ه-.ق.
208. نجاة العباد، محمد حسن النجفی (ت1266ه-)، 1318ه-.ق.
209. النخبة، المولی محمد محسن الفیض الکاشانی (ت1091ه-)، منظمة الإعلام الإسلامی، 1418ه-.ق.
210. نهایة الأحکام، الحسن بن یوسف المشهور ب-(العلّامة الحلّی) (ت726ه-)، مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) ، 1419ه-.ق.
211. النهایة فی غریب الحدیث، المبارک بن محمد الجزری المشهور ب-(ابن الأثیر) (ت606ه-)، إسماعیلیان.
ص: 351
212. النهایة فی مجرّد الفقه، محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، دار الکتاب، 1400ه-.ق.
213. نهایة المرام، محمد بن علی العاملی الموسوی (ت1009ه-)، جامعة المدرّسین، 1411ه-.ق.
214. الوجیزة فی الرجال، محمد باقر المجلسی (ت1110ه-)، وزارة الثقافة الإیرانیة، 1420ه-.ق.
215. الوسیلة، محمد بن علی الطوسی المشهور ب-(ابن حمزة) (ت القرن السادس الهجری)، مکتبة المرعشی، 1408ه-.ق.
216. هدایة الأُمّة، محمد بن الحسن الحرّ العاملی (ت1104ه-)، مجمع البحوث الإسلامیة، 1412ه-.ق.
ص: 352
إهداء. 7
مقدّمة المؤسّسة 9
مقدّمة المؤلّف.. 17
القسم الأوّل مصطلحات ومفاهیم حول العزاء
الفصل الأول:مفهوم العزاء. 23
معنی العزاء فی اللغة. 23
معنی العزاء عرفاً 24
الفصل الثانی: مفهوم البکاء. 27
النظریة الأُولی: الممدود: الصوت الذی یکون مع البکاء. والمقصور: جریان الدموع فقط.. 27
النظریة الثانیة: الممدود: الصوت. والمقصور: الحزن. 27
النظریة الثالثة: الممدود: الحزن مع الصیاح. والمقصور: الحزن بدون الصوت.. 28
ص: 353
النظریة الرابعة: الممدود: غلبة الصوت علی الحزن. والمقصور: غلبة الحزن علی الصوت.. 28
النظریة الخامسة: عدم الفرق بین الممدود والمقصور. 28
الفصل الثالث: مفهوم التباکی........................... 31
المعنی الأوّل: تکلّف البکاء. 31
المعنی الثانی: تقمّص حالة البکاء. 31
الفصل الرابع: مفهوم الجزع. 33
المعنی الأوّل: عدم الصبر. 33
المعنی الثانی: انقطاع الأمل. 34
الفصل الخامس: مفهوم النَّوح. 35
المعنی الأوّل: تعداد محاسن المیت.. 35
المعنی الثانی: الصیاح بعویل. 35
المعنی الثالث: الحزن والغم. 35
المعنی الرابع: البکاء. 36
الفصل السادس: مفهوم الصرخة 39
النظریة الأُولی: الصیحة الشدیدة عند المصیبة. 39
النظریة الثانیة: مطلق الصوت.. 39
النظریة الثالثة: مطلق الصوت المرتفع. 39
النظریة الرابعة: الأذان. 40
الفصل السابع: مفهوم اللطم. 41
ص: 354
النظریة الأُولی: ضرب الخد وظاهر الجسم بالید المبسوطة. 41
النظریة الثانیة: ضرب الوجه بباطن الراحة. 41
النظریة الثالثة: مطلق إلصاق الشیء بالشیء ولو بدون الضرب.. 42
النظریة الرابعة: مطلق الضرب بالکف.. 42
الفصل الثامن: مفهوم اللدم. 45
النظریة الأُولی: ضرب الصدر والعضدین والوجه. 45
النظریة الثانیة: مطلق الضرب.. 45
الفصل التاسع: مفهوم الرنّة 47
النظریة الأُولی: مطلق الصوت.. 47
النظریة الثانیة: الصیحة الحزینة. 47
النظریة الثالثة: الصوت فی فرح أو حزن. 48
النظریة الرابعة: الصیحة (الصوت المرتفع) 48
الفصل العاشر: مفهوم الشعائر. 51
النظریة الأُولی: مطلق العلامات.. 51
النظریة الثانیة: کلّ ما جُعل علماً لطاعة الله.. 51
النظریة الثالثة: خصوص أعمال الحج. 52
النظریة الرابعة: کلّ ما أمر الله بإقامته 52
ص: 355
القسم الثانی
حکم إقامة العزاء من المنظور الشیعی
الفصل الأول: حکم إقامة العزاء علی المعصومین(علیهم السّلام) 55
النظریة الأُولی: جواز إقامة العزاء - ثلاثة شواهد من ثلاثة مواضع 57
الموضع الأوّل: استحباب صوم عاشوراء. 58
دلیل الموضع الأوّل: الجمع بین الروایات الآمرة والناهیة. 59
الموضع الثانی: مبحث البکاء علی الإمام الحسین(علیه السّلام) فی حال الصلاة 60
دلیل الموضع الثانی: جواز البکاء أمر مسلّم. 62
الموضع الثالث: جواز لبس السواد. 62
دلیل الموضع الثالث: ثلاث روایات.. 63
الروایة الأُولی: نساء بنی هاشم یلبسن السواد فی مأتم الإمام الحسین(علیه السّلام)... 64
الروایة الثانیة: الإمام الحسن(علیه السّلام) یلبس السواد فی مأتم أمیرالمؤمنین(علیه السّلام)... 66
الروایة الثالثة: الهاشمیات یلبسن السواد فی مأتم الإمام الحسین(علیه السّلام)... 66
الدلیل علی النظریة الأُولی: دلیلان. 67
الدلیل الأول: آیة الجهر بالسوء علی الظلم. 67
الدلیل الثانی: الروایات - طائفتان من الروایات.. 68
الطائفة الأُولی: روایات جواز إقامة العزاء بالبکاء - ثلاثة أقسام. 68
القسم الأوّل: روایات بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی أهل البیت(علیهم السّلام) - صنفان. 68
الصنف الأوّل: جزع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وبکاؤه علی الإمام الحسین(علیه السّلام) خاصّة - روایتان ومؤیّدان. 69
الروایة الأُولی: صحیحة أبی بصیر.. 69
ص: 356
الروایة الثانیة: معتبرة محمّد بن سنان. 69
المؤیّد الأول: زیارة الناحیة المقدسة. 72
المؤیِّد الثانی: مجموع الروایات.. 72
الصنف الثانی: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی أهل بیته(علیهم السّلام) - أربع روایات.. 73
الروایة الأُولی: روایة کامل الزیارات.. 73
الروایة الثانیة: روایة ابن عبّاس... 78
الروایة الثالثة: روایة عبد الرحمن.. 79
الروایة الرابعة: روایة جابر. 79
القسم الثانی: بکاء سائر المعصومین(علیهم السّلام) علی أهل البیت(علیهم السّلام) - خمس روایات.. 81
الروایة الأُولی: معتبرة ابن عبّاس - بکاء أمیرالمؤمنین(علیه السّلام) علی استشهاد أهل البیت(علیهم السّلام) .... 81
الروایة الثانیة: معتبرة ابن میمون القدّاح - بکاء أمیرالمؤمنین(علیه السّلام) علی شهداء کربلاء. 82
الروایة الثالثة: معتبرة حمران - بکاء الإمام السجّاد(علیه السّلام) علی شهداء کربلاء. 83
الروایة الرابعة: معتبرة هارون - بکاء الإمام الصادق(علیه السّلام) علی سیّد الشهداء(علیه السّلام)... 85
الروایة الخامسة: روایة إبراهیم - بکاء الإمامین الکاظم والرضا علی سیّد الشهداء(علیهم السّلام) .... 86
القسم الثالث: الروایات التی أطلقت جواز البکاء علی أیّ میّت.. 87
تنبیه: کلامٌ حول التباکی.. 88
الطائفة الثانیة: الروایات التی تدلّ علی جواز إقامة العزاء باللطم - روایتان. 88
الروایة الأُولی: معتبرة جابر مدعومة بصحیحة معاویة. 88
الروایة الثانیة: معتبرة خالد بن سدیر. 91
النظریة الثانیة: استحباب إقامة العزاء 93
ص: 357
الاستدلال علی النظریة الثانیة: دلیلان. 95
الدلیل الأوّل: آیتان من القرآن. 95
الآیة الأُولی: تعظیم حرمات الله.. 96
الآیة الثانیة: مودّة أهل البیت(علیهم السّلام) .... 97
الدلیل الثانی: الروایات - سبع طوائف.. 97
الطائفة الأُولی: الروایات الدالّة علی کراهة الجزع إلاّ علی الإمام الحسین(علیه السّلام) - روایة واحدة 98
صحیحة معاویة بن وهب.. 98
الطائفة الثانیة: دعاء الإمام(علیه السّلام) لمَن یقیمون العزاء - روایة واحدة 99
صحیحة عقبة بن خالد - دعاء الإمام الصادق(علیه السّلام) للباکین علی الإمام الحسین(علیه السّلام)... 99
الطائفة الثالثة: الروایات الدالة علی ثواب البکاء - ثمان روایات.. 100
الروایة الأُولی: معتبرة ریّان بن شبیب.. 100
الروایة الثانیة: المعتبرة الأُولی لحسن بن علی بن فضّال. 101
الروایة الثالثة: المعتبرة الثانیة لحسن بن علی بن فضّال. 102
الروایة الرابعة: المعتبرة الأُولی لمحمّد بن مسلم. 103
الروایة الخامسة: المعتبرة الثانیة لمحمّد بن مسلم. 104
الروایة السادسة: روایة ابن عبّاس.. 106
الروایة السابعة: روایة أبی بصیر. 106
الروایة الثامنة: روایة إبراهیم. 107
الطائفة الرابعة: تأیید إقامة مجلس العزاء - روایتان. 108
الروایة الأُولی: معتبرة الحسن بن فضّال. 108
ص: 358
الروایة الثانیة: روایة مالک الجهنی. 109
الطائفة الخامسة: الأمر بإنشاد الشعر فی مصائب الإمام الحسین(علیه السّلام) - خمس روایات.. 111
الروایة الأُولی: روایة صالح بن عقبة. 111
الروایة الثانیة: روایة عبد الله بن غالب.. 112
الروایة الثالثة: روایة أبی عمارة 112
الروایة الرابعة: روایة أبی هارون. 113
الروایة الخامسة: روایة زید الشحّام. 113
الطائفة السادسة: ترحّم الإمام(علیه السّلام) علی الصرخة لأهل البیت(علیهم السّلام) - روایة واحدة ومؤیّد واحد. 115
صحیحة معاویة بن وهب.. 115
المؤیّد: دعاء الندبة. 117
الطائفة السابعة: إطلاقات استحباب البکاء علی المؤمن. 121
النظریة الثالثة: إقامة العزاء مستحبٌّ مؤکّد. 121
الدلیل علی النظریة الثالثة: دلیل واحد. 122
زیارة الناحیة المقدسة. 122
النظریة الرابعة: إقامة العزاء واجب کفائی. 123
الدلیل علی النظریة الرابعة: دلیل واحد - تعظیم الشعائر واجب کفائی. 123
مقدّمة: توضیح قاعدة تعظیم الشعائر. 123
إثبات وجوب تعظیم الشعائر: دلیلان. 130
الدلیل الأوّل: آیات القرآن الکریم - ثلاث آیات.. 130
ص: 359
الآیة الأُولی: تعظیم الشعائر من تقوی القلوب.. 130
إشکال علی الاستدلال بالآیة الأُولی.. 131
الآیة الثانیة: تعظیم حرمات الله.. 132
إشکال علی الاستدلال بالآیة الثانیة. 133
الآیة الثالثة: عدم تحلیل الشعائر. 133
الدلیل الثانی: الروایات - ثلاث روایات.. 135
الروایة الأُولی: معتبرة الکافی.. 135
الروایة الثانیة: روایة الدعائم. 135
الروایة الثالثة: روایة بصائر الدرجات.. 135
إشکال علی دلالة الروایات الثلاث.. 136
النتیجة الکلیة للفصل الأوّل: حکم إقامة العزاء علی المعصوم(علیه السّلام) 138
الفصل الثانی: حکم إقامة العزاء علی غیر المعصوم(علیه السّلام) 139
المصداق الأوّل: البکاء - ثلاث نظریات.. 139
النظریة الأُولی: جواز البکاء. 139
الدلیل علی النظریة الأُولی: أربعة أدلّة 141
الدلیل الأول: الأصل العملی. 141
الدلیل الثانی: السیرة 142
إشکال علی الدلیل الثانی: الأدلّة الناهیة عن البکاء تردع عن هذه السیرة. 143
الجواب عن الإشکال: عدم صلاحیة هذه الأدلّة للردع. 143
الدلیل الثالث: الإجماع وعدم الخلاف.. 143
ص: 360
إشکال علی الدلیل الثالث: ثلاثة إشکالات.. 144
الدلیل الرابع: الروایات - أربع روایات.. 145
الروایة الأُولی: معتبرة علی بن رئاب - بکاء الملائکة علی المؤمن. 146
الروایة الثانیة: معتبرة حمران - بکاء الإمام السجّاد(علیه السّلام) علی شهداء کربلاء. 148
الروایة الثالثة: معتبرة ابن القدّاح - بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی إبراهیم. 150
الروایة الرابعة: معتبرة أبی بصیر - بکاء السیّدة فاطمة(علیهاالسّلام) علی رقیّة. 151
النظریة الثانیة: عدم کراهة البکاء. 153
الدلیل علی النظریة الثانیة: دلیلان. 153
الدلیل الأول: الإجماع. 154
الدلیل الثانی: الروایات - أربع روایات.. 154
الروایة الأُولی: معتبرة ابن القدّاح - بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی إبراهیم. 154
الروایة الثانیة: المرسلة الأُولی للصدوق - بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی جعفر وزید. 155
الروایة الثالثة: المرسلة الثانیة للصدوق
- أمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بالبکاء علی حمزة 156
الروایة الرابعة: المرسلة الثالثة للصدوق
- أمر الإمام الصادق(علیه السّلام) بالبکاء. 157
النظریة الثالثة: استحباب البکاء - فریقان. 159
الفریق الأول: استحباب البکاء مطلقاً 159
دلیل الفریق الأول: دلیلان. 160
الدلیل الأول: معتبرة الواسطی - دعاء سیّدنا إبراهیم(علیه السّلام)... 160
الدلیل الثانی: معتبرة علی بن رئاب - بکاء الملائکة علی المؤمن. 162
الفریق الثانی: استحباب البکاء عند اشتداد الحزن. 163
ص: 361
دلیل الفریق الثانی: دلیلان. 163
الدلیل الأول: روایة منصور الصیقل - الأمر بالبکاء عند اشتداد الحزن. 164
الدلیل الثانی: مرسلة الصدوق - الأمر بالبکاء عند اشتداد الحزن. 165
المصداق الثانی: التمیّز عن الآخرین - قسمان. 166
القسم الأول: تمیّز غیر صاحب العزاء - ثلاث نظریات.. 167
النظریة الأُولی: حرمة تمیّز غیر صاحب العزاء. 168
الدلیل علی النظریة الأُولی: دلیلان. 168
الدلیل الأول: معتبرة السکونی - التمیّز جرم. 168
الدلیل الثانی: مرسلة الصدوق - من تمیّز ملعون. 169
النظریة الثانیة: کراهة التمیز لغیر صاحب العزاء. 170
الدلیل علی النظریة الثانیة: معتبرة السکونی - التمیّز جرم. 172
النظریة الثالثة: استحباب التمیّز لغیر صاحب العزاء. 174
الدلیل علی النظریة الثالثة: دلیلان. 174
الدلیل الأول: مرسلة الصدوق - تمیّز النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی جنازة سعد. 175
الدلیل الثانی: معتبرة إسحاق - تمیّز النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی جنازة سعد. 175
القسم الثانی: تمیّز صاحب العزاء - ستُّ نظریات.. 177
النظریة الأُولی: حرمة التمیّز علی صاحب العزاء مطلقاً 177
الدلیل علی النظریة الأُولی: عدم الدلیل علی الجواز. 178
النظریة الثانیة: کراهة تمیّز صاحب العزاء مطلقاً 180
دلیل النظریة الثانیة: دلیلان. 180
ص: 362
الدلیل الأول: روایة إسماعیل - التمیّز جرمٌ. 180
الدلیل الثانی: معتبرة السکونی - التمیّز جرم. 181
النظریة الثالثة: جواز التمیّز لصاحب العزاء مطلقاً 181
الدلیل علی النظریة الثالثة: أربعة أدلّة. 182
الدلیل الأوّل: معتبرة ابن أبی عمیر - التمیّز لکی یُعرف.. 182
الدلیل الثانی: المعتبرة الأُولی لأبی بصیر - التمیّز لکی یُعرف.. 183
الدلیل الثالث: المعتبرة الثانیة لأبی بصیر - التمیّز لکی یُعرف.. 185
الدلیل الرابع: معتبرة القاسم - تمیّز الإمام الصادق(علیه السّلام) فی جنازة إسماعیل. 185
النظریة الرابعة: استحباب التمیّز لصاحب العزاء مطلقاً 187
الدلیل علی النظریة الرابعة: ثلاثة أدلّة. 187
الدلیل الأوّل: الروایات التی علّلت التمیّز بأنّه سبب لمعرفة صاحب العزاء. 188
الدلیل الثانی: معتبرة إسحاق - تمیّز النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی جنازة سعد. 189
الدلیل الثالث: معتبرة القاسم - تمیّز الإمام الصادق(علیه السّلام) فی جنازة إسماعیل. 190
النظریة الخامسة: التفصیل الأوّل - جواز التمیّز فی مصیبة الأب والأخ خاصّة. 191
الدلیل علی النظریة الخامسة: روایات التمیّز. 192
النظریة السادسة: التفصیل الثانی - جواز التمیّز فی مصیبة الأب وأب الأب.. 193
الدلیل علی النظریة السادسة: لا دلیل له. 193
المصداق الثالث: النوح - ثلاث نظریات.. 195
النظریة الأُولی: تحریم النوح مطلقاً 195
الدلیل علی النظریة الأُولی: دلیلان. 195
ص: 363
الدلیل الأول: الإجماع. 196
الدلیل الثانی: إطلاق الروایات الناهیة. 196
النظریة الثانیة: کراهة النوح مطلقاً 197
الدلیل علی النظریة الثانیة: معتبرة سماعة - کراهة کسب المغنّیة. 197
النظریة الثالثة: التفصیل بین النوح بالحق والنوح بالباطل. 198
الدلیل علی النظریة الثالثة: ثلاثة أدلّة 200
الدلیل الأول: الإجماع وعدم الخلاف.. 200
الدلیل الثانی: الروایات - ثلاث روایات.. 201
الروایة الأُولی: صحیحة أبی حمزة - نوح أُم سلمة بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )... 201
الروایة الثانیة: روایة علی بن أحمد - نوح السیّدة فاطمة(علیهاالسّلام)علی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )... 202
الروایة الثالثة: مرسلة الصدوق - تأیید الإمام الصادق(علیه السّلام) للنوح.. 203
الدلیل الثالث: الجمع بین الروایات.. 203
المصداق الرابع: الصراخ - ثلاث نظریات.. 205
النظریة الأُولی: کراهة الصراخ مطلقاً 205
الدلیل علی النظریة الأُولی: أربعة أدلّة 206
الدلیل الأوّل: صحیحة زرارة - الصراخ عملٌ باطلٌ. 206
الدلیل الثانی: روایة امرأة الحسن الصیقل - لا ینبغی الصیاح.. 207
الدلیل الثالث: معتبرة جرّاح المدائنی - لا ینبغی الصیاح.. 208
الدلیل الرابع: معتبرة جابر - الصراخ جزع. 209
النظریة الثانیة: تحریم الصیاح مطلقاً 209
ص: 364
الدلیل علی النظریة الثانیة: دلیلان. 210
الدلیل الأول: الإجماع. 210
الدلیل الثانی: روایة امرأة الحسن الصیقل - لا ینبغی الصیاح.. 210
النظریة الثالثة: التفصیل بین الصیاح المعتدل والخارج عن حدّ الاعتدال. 212
الدلیل علی النظریة الثالثة: لیس لها دلیل. 212
المصداق الخامس: لطم الجسد، وخدش الجلد، وجزّ الشعر - نظریتان. 213
النظریة الأُولی: جواز اللطم والخدش وجزّ الشعر. 213
الدلیل علی النظریة الأُولی: دلیلان. 214
الدلیل الأوّل: عدم الدلیل علی الحرمة. 214
الدلیل الثانی: معتبرة جابر وصحیحة معاویة. 215
النظریة الثانیة: حرمة اللطم والخدش وجزّ الشعر. 217
الدلیل علی النظریة الثانیة: ثلاثة أدلّة 218
الدلیل الأول: الإجماع. 218
الدلیل الثانی: السخط لقضاء الله.. 218
الدلیل الثالث: الروایات - خمس روایات.. 219
الروایة الأُولی: معتبرة جابر - هذه الأفعال من مصادیق الجزع. 219
الروایة الثانیة: معتبرة خالد بن سدیر - وجوب الکفارة علی مَن قام بهذه الأفعال. 220
الروایة الثالثة: مرسلة الصدوق - نصیحة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) للسیّدة فاطمة(علیهاالسّلام).... 221
الروایة الرابعة: مرسلة مسکِّن الفؤاد - لیس منّا مَن ضرب الخدود. 221
الروایة الخامسة: روایة أبی أیّوب - مَن لطم الخدّ فقد عصی الله.. 222
ص: 365
المصداق السادس: شقّ الثوب - ثمان نظریات.. 223
النظریة الأُولی: حرمة شقّ الثوب مطلقاً 224
الدلیل علی النظریة الأُولی: ثلاثة أدلّة. 224
الدلیل الأوّل: وجوب حفظ المال. 225
الدلیل الثانی: حرمة تضییع المال. 225
الدلیل الثالث: تعاضد الروایات الضعیفة وتجابرها - أربع روایات.. 226
الروایة الأُولی: مرسلة دعائم الإسلام - وصیة الإمام الصادق(علیه السّلام)... 226
الروایة الثانیة: مرسلة أبی أمامة - لعن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )... 226
الروایة الثالثة: مرسلة المحاسن - مَن شقّ ثوبه فقد عصی اللّه.. 226
الروایة الرابعة: مرسلة مسکِّن الفؤاد - لیس منا مَن شقّ الجیوب.. 226
النظریة الثانیة: حرمة شقّ الثوب إلاّ شقّ الرجل علی الأب والأخ. 228
الدلیل علی النظریة الثانیة: سبعة أدلّة. 228
الدلیل علی المستثنی - جواز شقّ الثوب للرجل علی الأب والأخ - دلیلان. 228
الدلیل الأوّل: الروایات التی تدلّ علی شقّ موسی علی أخیه، والإمام العسکری علی أبیه(علیهم السّلام) - روایتان. 229
الروایة الأُولی: صحیحة کشف الغمّة. 229
الروایة الثانیة: روایة إبراهیم بن الخصیب.. 229
الدلیل الثانی: روایة الحسن بن الحسن - شقّ الإمام العسکری(علیه السّلام) جیبه. 231
الدلیل علی المستثنی منه - تحریم شقّ الثوب علی الجمیع - ثلاثة أدلّة. 232
الدلیل الأول: حرمة تضییع المال. 232
الدلیل الثانی: السخط لقضاء الله.. 232
ص: 366
الدلیل الثالث: الروایات - ثلاث روایات.. 234
الروایة الأُولی: مرسلة مسکّن الفؤاد - لیس منا مَن شقّ الجیوب.. 234
الروایة الثانیة: روایة أبی أیّوب - مَن شقّ الجیب فقد عصی الله.. 235
الروایة الثالثة: مرسلة الدعائم - وصیة الإمام الصادق(علیه السّلام)... 235
النظریة الثالثة: جواز شقّ الرجل ثوبه علی الأب والأخ، وجواز شقّ المرأة ثوبها علی الأقرباء. 236
الدلیل علی النظریة الثالثة: لیس لها دلیل. 237
النظریة الرابعة: جواز شقّ الرجل ثوبه علی الأب والأخ، وجواز شقّ المرأة ثوبها مطلقاً 237
الدلیل علی النظریة الرابعة: دلیلان. 237
الدلیل الأوّل: مرسلة الصدوق - شقّ الإمام العسکری(علیه السّلام) علی أبیه(علیه السّلام)... 237
الدلیل الثانی: معتبرة خالد بن سدیر - شقُّ الفاطمیات علی الإمام الحسین(علیه السّلام)... 238
النظریة الخامسة: جواز شقّ الثوب علی خصوص الأب والأخ مطلقاً 240
الدلیل علی النظریة الخامسة: ثلاثة أدلّة 241
الدلیل الأول: الإجماع وعدم الخلاف.. 241
الدلیل الثانی: النهی عن الإسراف.. 242
الدلیل الثالث: الروایات - خمس روایات.. 243
الروایة الأُولی: مرسلة الصدوق - شقّ الإمام العسکری(علیه السّلام) علی أبیه(علیه السّلام)... 243
الروایة الثانیة: معتبرة خالد بن سدیر - فعل الفاطمیات.. 246
الروایة الثالثة: معتبرة خالد بن سدیر - یجوز شقّ الثوب.. 248
الروایة الرابعة: الروایتان اللتان تدلّان علی شقّ موسی ثوبه علی هارون(علیهماالسّلام).... 248
الروایة الخامسة: روایة المبسوط - جواز تخریق الثوب.. 249
ص: 367
النظریة السادسة: جواز شقّ الثوب علی الأقرباء دون غیرهم. 250
الدلیل علی النظریة السادسة: معتبرة خالد بن سدیر - جواز شقّ الثوب علی الأقرباء. 250
النظریة السابعة: استحباب شقّ الثوب علی خصوص الأب.. 252
الدلیل علی النظریة السابعة: الروایات التی تدلّ علی أنّ الإمام العسکری(علیه السّلام) شقّ ثوبه علی أبیه(علیه السّلام).. 252
النظریة الثامنة: جواز شقّ الثوب مطلقاً 253
الدلیل علی النظریة الثامنة: عدم الدلیل علی التحریم. 253
النتیجة الکلیة للفصل الثانی: حکم إقامة العزاء علی غیر المعصوم(علیه السّلام) 256
القسم الثالث
حکم إقامة العزاء من منظور أهل السنّة
الفصل الأول: آراء أهل السنّة 259
المصداق الأوّل: البکاء - خمس نظریات.. 259
النظریة الأُولی: تحریم البکاء مطلقاً 259
النظریة الثانیة: کراهة البکاء مطلقاً 260
النظریة الثالثة: جواز البکاء مطلقاً 260
النظریة الرابعة: استحباب البکاء. 260
النظریة الخامسة: التفصیل - البکاء مع الندب والنیاحة مکروهٌ، وبدون ذلک مباح.. 261
المصداق الثانی: الندب - أربع نظریات.. 261
النظریة الأُولی: کراهة الندب مطلقاً 261
النظریة الثانیة: تحریم الندب مطلقاً 261
النظریة الثالثة: التفصیل الأوّل - التفصیل بین الندب المهیّج للحزن وغیر المهیّج.. 262
ص: 368
النظریة الرابعة: التفصیل الثانی - التفصیل بین الندب بالحقّ والندب بالباطل.. 262
المصداق الثالث: شقّ الجیوب، واللطم وخمش الوجه، وجزّ الشعر - نظریتان 263
النظریة الأُولی: الکراهة. 263
النظریة الثانیة: التحریم. 263
النتیجة الکلیة للفصل الأول: آراء أهل السنّة 266
الفصل الثانی: أدلّة أهل السنّة 267
أدلّة المصداق الأوّل: البکاء. 267
الدلیل علی النظریة الأُولی: تحریم البکاء مطلقاً - أربعة أدلّة. 267
الدلیل الأوّل: الروایات التی تدلّ علی أنّ المیّت یُعذّب ببکاء أهله علیه - سبع روایات.. 267
الروایة الأُولی: عن عمر بن الخطّاب.. 268
الروایة الثانیة: عن عمر بن الخطّاب.. 268
الروایة الثالثة: عن عمر بن الخطّاب.. 269
الروایة الرابعة: عن عمر بن الخطّاب.. 269
الروایة الخامسة: عن عبد الله بن عمر. 269
الروایة السادسة: عن عبد الله بن عمر. 270
الروایة السابعة: عن عبد الله بن عمر. 270
إشکال علی الدلیل الأوّل: خمسة إشکالات.. 270
الإشکال الأوّل: إنکار عائشة لهذه الروایة. 271
الإشکال الثانی: انحصار الراوی.. 272
الإشکال الثالث: تعارض الحدیث مع الآیات القرآنیة. 273
ص: 369
الإشکال الرابع: تعارض هذا الحدیث مع روایات أُخری.. 274
الإشکال الخامس: لم یعمل عمر بهذا الحدیث.. 274
الدلیل الثانی: أمر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) برمی التراب علی وجوه النساء الباکیات.. 275
الإشکال علی الدلیل الثانی: إشکالان. 275
الإشکال الأوّل: ضعف السند. 276
الإشکال الثانی: تعارض الشاذ مع المشهور. 276
الدلیل الثالث: النیاحة من الجاهلیة. 276
الإشکال علی الدلیل الثالث: تعارض الشاذ مع المشهور. 277
الدلیل الرابع: التعهّد بعدم النوح. 277
الإشکال علی الدلیل الرابع: تعارض الشاذ مع المشهور. 278
الدلیل علی النظریة الثانیة: کراهة البکاء مطلقاً - دلیلان (روایتان). 278
الروایة الأُولی: حدیث جابر - نهی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن البکاء. 279
الروایة الثانیة: حدیث ربیع - نهی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن البکاء. 279
إشکال علی دلالة الروایة الأُولی والثانیة. 280
الدلیل علی النظریة الثالثة: جواز البکاء مطلقاً - دلیلان. 281
الدلیل الأول: آیة قرآنیة - بکاء سیّدنا یعقوب(علیه السّلام)... 281
الدلیل الثانی: الروایات - ثلاث طوائف، فعل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وتقریره وفعل الخلفاء. 283
الطائفة الأُولی: فعل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) - تسعة موارد. 283
ص: 370
المورد الأوّل: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام) - روایتان. 283
الروایة الأُولی: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عندما أخبره جبریل باستشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام)... 283
الروایة الثانیة: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عند الإخبار باستشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام)... 284
المورد الثانی: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی سیّدنا حمزة - روایتان. 284
الروایة الأُولی: روایة ابن عبد البر.. 284
الروایة الثانیة: روایة ابن أبی الحدید. 284
المورد الثالث: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی زید وجعفر وابن رواحة - ثلاث روایات.. 285
الروایة الأُولی: روایة البخاری.. 285
الروایة الثانیة: روایة ابن عبد البرّ.. 286
الروایة الثالثة: روایة الذهبی. 286
المورد الرابع: بکاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی عثمان بن مظعون. 286
المورد الخامس: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی سعد بن عبادة 286
المورد السادس: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی بنته. 287
المورد السابع: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی ابنیه إبراهیم وطاهر - ثلاث روایات.. 287
الروایة الأُولی: روایة البخاری عن وفاة إبراهیم. 288
الروایة الثانیة: روایة الترمذی عن وفاة إبراهیم. 289
الروایة الثالثة: روایة الطبرانی عن وفاة طاهر. 289
المورد الثامن: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی ابن إحدی بناته - روایتان. 290
الروایة الأُولی: روایة البخاری.. 290
الروایة الثانیة: روایة الهیثمی.. 290
المورد التاسع: بکاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عند قبر أُمه آمنة. 291
الطائفة الثانیة: قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وتقریره - أربع موارد. 292
ص: 371
المورد الأول: ترخیص النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی البکاء عند المصیبة. 292
المورد الثانی: موافقة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی البکاء لمصیبة جعفر. 292
المورد الثالث: أمر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بالبکاء علی حمزة. 292
المورد الرابع: نهی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لعمر عن ضرب الباکیات - روایتان. 293
الروایة الأُولی: نهی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن ضرب الباکیات بالسوط.. 293
الروایة الثانیة: نهی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن منع الباکیات وطردهن.. 293
الطائفة الثالثة: فعل الخلفاء - موردین.. 294
المورد الأول: بکاء أبی بکر علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )... 294
المورد الثانی: بکاء أبی بکر وعمر علی سعد بن معاذ. 295
الدلیل علی النظریة الرابعة: استحباب البکاء مطلقاً - لا دلیل علیها 295
الدلیل علی النظریة الخامسة: التفصیل بین البکاء مع الندب وغیره، فالأوّل مکروه والثانی جائز -
لا دلیل علیها 296
أدلّة المصداق الثانی: الندب.. 296
الدلیل علی النظریة الأُولی: کراهة الندب - لا دلیل علیها 297
الدلیل علی النظریة الثانیة: تحریم الندب - دلیلان. 297
الدلیل الأوّل: التعهّد بعدم النوح عند مبایعة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )... 297
الإشکال الأوّل علی الدلیل الأوّل. 297
الإشکال الثانی علی الدلیل الأوّل. 298
الدلیل الثانی: السخط لقضاء الله.. 298
إشکال علی الدلیل الثانی.. 298
ص: 372
الدلیل علی النظریة الثالثة: التفصیل الأوّل - التفصیل بین الندب المهیّج للحزن وغیره - الأدلّة الناهیة 299
إشکال علی الدلیل.. 299
الدلیل علی النظریة الرابعة: التفصیل الثانی - التفصیل بین الندب بالحقّ والندب بالباطل - ثلاثة أدلّة. 300
الدلیل الأول: ندب السیّدة الزهراء(علیهاالسّلام).... 300
الدلیل الثانی: ندب السیّدة الزهراء(علیهاالسّلام).... 300
الدلیل الثالث: ندب ابن عمر. 301
إشکال علی دلالة الروایات الثلاث - الدلیل أخصّ من المدّعی. 301
أدلّة المصداق الثالث: شقّ الثوب، واللطم، والخدش، وجزّ الشعر، و... 302
الدلیل علی النظریة الأُولی: کراهة هذه الأفعال - لا دلیل علیها 302
الدلیل علی النظریة الثانیة: تحریم هذه الأفعال - خمسة أدلّة. 302
الدلیل الأول: لیس منّا مَن قام بهذه الأفعال. 302
الدلیل الثانی: براءة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ممَّن قام بهذه الأُمور. 303
الدلیل الثالث: أخذ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) العهد بعدم القیام بهذه الأفعال. 303
الدلیل الرابع: السخط لقضاء الله.. 304
إشکالٌ علی الدلیل الرابع. 304
الدلیل الخامس: تضییع المال. 304
إشکال علی الدلیل الخامس... 305
النتیجة الکلیة للفصل الثانی: أدلّة أهل السنّة 306
ص: 373
القسم الرّابع
الردّ علی شبهات العزاء
الفصل الأول: الردّ علی شبهات من داخل الأوساط الشیعیة 309
الشبهة الأُولی: إقامة العزاء مخالفة لآیات الصبر فی القرآن الکریم - آیتان 309
الردّ علی الشبهة الأُولی: ثلاثة أجوبة 309
الجواب الأوّل: الجواب النقضی... 309
الجواب الثانی: الجواب الحلّی الأوّل. 310
الجواب الثالث: الجواب الحلّی الثانی.. 310
الشبهة الثانیة: إقامة العزاء إیذاءٌ للجسم، وإضرارٌ بالنفس 311
الردّ علی الشبهة الثانیة: ثلاثة أجوبة 311
الجواب الأوّل: عدم شمول أدلّة نفی الضرر
- أربعة شواهد. 311
الشاهد الأوّل: جواز التضرّر فی سبیل الدفاع عن النفس والمال. 312
الشاهد الثانی: بکاء النبیّ یعقوب(علیه السّلام) وفقدان البصر... 312
الشاهد الثالث: بکاء الإمام السجّاد(علیه السّلام) وتعرّضه لتلف النفس... 314
الشاهد الرابع: وفاة همّام بعد سماع أوصاف المتقین من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)... 315
الجواب الثانی: عدم دلالة أدلّة لا ضرر علی التحریم. 315
الجواب الثالث: تزاحم أدلة حرمة الإضرار مع أدلة إقامة العزاء وأولویة الثانیة. 317
الشبهة الثالثة: إقامة العزاء تؤدّی إلی إهانة وإذلال وتضعیف المذهب 319
ص: 374
الرد علی الشبهة الثالثة: جواب واحد. 319
أنواع الاستهزاء: ثلاثة أنواع. 319
النوع الأول: الاستهزاء نتیجة لخلو الشخص من مکارم الأخلاق.. 319
النوع الثانی: الاستهزاء نتیجة لاختلاف الأعراف.. 320
النوع الثالث: الاستهزاء نتیجة لأسباب حقیقة. 320
الشبهة الرابعة: کراهة لبس السواد فی العزاء 321
الردّ علی الشبهة الرابعة: أربعة أجوبة 322
الجواب الأوّل: السیرة العملیة لأهل البیت(علیهم السّلام) .... 322
الجواب الثانی: عدم شمول أدلة الکراهة. 323
الجواب الثالث: النهی إرشادی.. 323
الجواب الرابع: عدم تنافی الکراهة مع الجواز بالمعنی الأعم. 323
الفصل الثانی: الردّ علی شبهات من خارج الأوساط الشیعیة 325
الشبهة الأُولی: الروایات الناهیة عن البکاء. 325
الردّ علی الشبهة الأولی: جواب واحد. 325
الشبهة الثانیة: البکاء کفرٌ وبدعة 326
الردّ علی الشبهة الثانیة: جواب واحد. 326
الشبهة الثالثة: عدم الأمر بإقامة العزاء علی الأنبیاء(علیهم السّلام) 327
الرد علی الشبهة الثالثة: جوابٌ واحد. 327
الشبهة الرابعة: إثارة الخلافات بین المسلمین.. 328
ص: 375
الردّ علی الشبهة الرابعة: جوابان. 328
فهرس المصادر والمراجع. 331
المحتویات.. 353
ص: 376