موسوعة ردّ الشبهات الفقهیة المعاصرة (الحدود) الجز الثانی

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:موسوعة ردّ الشبهات الفقهیة المعاصرة (الحدود) الجز الثانی/ تالیف اللجنةالعلمیه [مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)]؛ اشراف محمدجواد الفاضل اللنکرانی؛ باهتمام محمدمهدی الجواهری؛ قسم التحقیق والنشر فی مرکز فقه الایمه الاطهار علیهم السلام.

مشخصات نشر:قم: : مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)= 1394 -

مشخصات ظاهری:2ج.

فروست:لیتفقهو فی الدین؛170، 171.

شابک:دوره 978-600-388-003-0: ؛ 180000 ریال: ج.1 978-600-388-004-7: ؛ 180000 ریال: ج.2 978-600-388-005-4: ؛ ج.3 978-600-388-086-3: ؛ ج.4 978-600-388-087-0: ؛ ج.5 978-600-388-088-7:

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج 3-5 (چاپ اول: 1396 ) (فیپا) .

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع:*Islamic law, Ja'fari -- Handbooks, manuals, etc.

موضوع:حدود (فقه)

موضوع:Hadd punishment (Islamic law)

شناسه افزوده:فاضل لنکرانی، محمدجواد، 1341 -

شناسه افزوده:Fadhil Lankarani, Muhammad Jawad

شناسه افزوده:جواهری، محمدمهدی، 1903 - 1997م.

شناسه افزوده:مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)

رده بندی کنگره:BP183/9/م826 1394

رده بندی دیویی:297/3422

شماره کتابشناسی ملی:3807867

ص :1

هویة الکتاب

الحدود

الجزء الثانی

تألیف: جمع من الباحثین

باهتمام: الشیخ محمّد مهدی الجواهری

الإخراج الفنی: ضیاء قاسم الخفّاف

الطبعة الأُولی - 2000 نسخة

شابِک (ردمک):

سنة الطبع:

المطبعة:

* جمیع الحقوق محفوظة للمؤلف *

ص:2

ص:3

ص:4

حکم قتل المرتد (شبهات وردود)

بقلم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته)

اشارة

قال الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام:

«وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائکم تأنفون»(1).

أصدر الإمام الخمینی (رضوان الله تعالی علیه) حکماً یقضی بارتداد سلمان رشدی، ولزوم قتله وإهدار دمه، ثمّ أصدر مرجع الشیعة الکبیر سماحة آیة الله العظمی الحاج الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی قدس سره من بعده حکماً یقضی بلزوم قتل رافق تقی وإهدار دمه؛ لصدق عنوان الارتداد وسبّ النبی صلی الله علیه و آله.

وقد وصلتنی أخیراً مجموعة من الرسائل، جاء أحدها من أحد

ص:5


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة: 106.

الأشخاص ممن له تاریخ طویل وباع فی الحوزة العلمیة، وله مؤلّفات عدیدة أیضاً، ورد فیها بعض النقاط العلمیة والإشکالات الفقهیة حول حکم قتل المرتد، ولم تکن هذه أموراً جدیدة، بل هی إشکالات قدیمة.

لقد کنت أتوقّع من هذا الشخص أن یطرح نقاطاً جدیدة وأموراً مستحدثة فی میدان البحث والنقاش، لتکون أبحاثاً جادّة.

کما أعتذر عن عدم الإجابة علی أیّ من الرسائل الواردة بنحو مستقل، فارتأیت أن أجیب بجواب عام وشامل، آملاً أن یکون لکلّ من له قلب أو سمع رهن الدین والمنطق والاستدلال لیعثروا علی الحقیقة، ویذعنوا لها، فیسلّموا تسلیماً.

وأری من اللازم هنا أن أشیر إلی هذه النکتة وهی: أنّ کلّ إنسان مؤمن أو مسلم لا یسرّ لانحراف إنسان آخر أو لسوء عاقبته، ولا یسرّ لقتل إنسان بما هو إنسان أبداً، بل إنّ ما یوجب السرور والفرح هو تطبیق أحکام الله والطاعة لأوامره.

والنقطة الهامّة التی وردت فی عبارات الأئمة المعصومین علیهم السلام، وخاصّة الإمام الحسین علیه السلام باعتبارها أحد أهم أهداف الدین وغایاته هی: إقامة الحدود الإلهیة التی تمّ التأکید علیها، ویستتبعها برکات مادیة ومعنویة عدیدة، روی القطب الراوندی فی لبّ اللباب عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «حدّ یقام فی الأرض أزکی من عبادة ستین سنة»(1).

ص:6


1- (1) مستدرک الوسائل 9:18 ح 10 نقلاً عن لبّ اللباب.

وأقول بکلّ صراحة لکلّ المسلمین والبشریة قبل بیان الجواب التفصیلی: بأنّ وجوب قتل المرتد هو من جملة الأحکام التی لم یتردد فیها أحد من الفقهاء من المتقدّمین والمتأخّرین، وهی محلّ وفاق الشیعة والسنّة أیضاً، وقد تردد عدد قلیل جدّاً من العلماء فی الأعوام الأخیرة، لا یتجاوز عددهم أصابع الید الواحدة، ولا یمکن مقارنتهم بمئات الفقهاء العظماء من القدماء والمتأخّرین. إنّ هذا الحکم الذی سنفصح عنه بالتوضیح حکم ضروری، وأهل الاجتهاد یعلمون أنّه لا سبیل للاجتهاد فی الضروریات.

إنّنا نعلن للجمیع وبصوت عال، وبکلّ اعتزاز وفخر أنّ الذی له قیمة وحقیقة هو قانون الله، ولا قیمة لأیّ قانون ومنشور أمامه، ولا یمتلک أیّ أحد أو جماعة صلاحیة التشریع، بل الله وحده هو القادر علی سنّ القوانین للبشر، وعلی المسلمین فی العالم أن یعلموا أنّ وجوب قتل المرتد قانون إلهی مسلّم به، تمّ تنفیذه فی عصر الرسول صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام والعصور التی تلتهما.

وسنبیّن بشکل موجز هنا المحاور العلمیة المختلفة فی هذا البحث، و یمکن تصنیفها وبشکل مضغوط إلی ستة محاور، وهی کما یلی:

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن.

المحور الثانی: قتل المرتد المستفاد من الروایات.

المحور الثالث: قتل المرتد ومسألة إشاعة الفوضی.

ص:7

المحور الرابع: هل أنّ حکم قتل المرتد موجب لوهن الدین؟

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم علیه السلام؟

المحور السادس: هل یتنافی وجوب قتل المرتد مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله ورأفته؟

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن

1 - ظنّ البعض أنّ حکم قتل المرتد لا یستند إلی أیّ ثوابت ونصوص قرآنیة، بل صرّحوا أکثر من ذلک: أنّ هذا الحکم یتعارض مع روح القرآن، ویبدو أنّ هذا التصوّر کان قد نشأ فی أوساط بعض أهل السنّة، ونبیّن هنا مقدّمة وهی: صحیح أنّه لا یوجد آیة فی القرآن الکریم تصرّح بوجوب قتل المرتد، وإن أردنا الاستدلال بکتاب الله وحده علی وجوب قتل المرتد، وترک الروایات والإجماع بل الضرورة، فسیکون الاستدلال صعباً ومشکلاً، ولکن ینبغی التوجّه إلی عدّة مطالب:

المطلب الأوّل: ألم یستدلّ فقیه أو مفسّر فی طول التاریخ لهذا الحکم بالقرآن الکریم؟ تشیر عبارات المنکرین لحکم الارتداد لهذا المطلب، وهو أنّه لم یستدلّ أحد من أصحاب الرأی والنظر فی طول التاریخ بالقرآن الکریم علی وجوب قتل المرتد، وتنشأ هذه الذهنیة من عدم الدقّة الکاملة فی الآیات القرآنیة من قبل بعض هؤلاء المخالفین، أو قلّة اطّلاع البعض، أو الضعف العلمی لآخرین منهم.

ص:8

ولإیضاح هذا المطلب ینبغی القول:

الإیضاح الأوّل: یمکن أن یستفاد من الآیة الشریفة 54 من سورة البقرة استحقاق المرتد للقتل، قال تعالی: (وَ إِذْ قالَ مُوسی لِقَوْمِهِ یا قَوْمِ إِنَّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتِّخاذِکُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلی بارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بارِئِکُمْ) .

اتّجه کثیر من بنی إسرائیل بعد النجاة من جیش فرعون، والغلبة علیهم، وذهاب موسی إلی طور سیناء لأخذ الألواح، إلی عبادة عجل السامری، فخرجوا عن التوحید، فقال لهم موسی علیه السلام:

یا قوم، إنّکم ظلمتم أنفسکم بسبب هذا الانحراف، فتوبوا إلی بارئکم، فاقتلوا أنفسکم.

والمراد من هذا القتل لیس قتل النفس ومحاربة النفس والأهواء الشهوانیة، بل المراد القتل الحقیقی الذی یعنی إزهاق الروح، ومن الواضح أنّ مسألة القتل تمّ طرحها من قبل الله تبارک وتعالی؛ وسبب ذلک هو ارتداد بنی إسرائیل بعد مشاهدتهم کلّ تلک المعاجز والآیات الإلهیة.

ویستفاد من الآیة الشریفة:

أوّلاً: أنّ الارتداد بین الیهود موضوع للقتل، وعقوبة هذا الفعل هو القتل.

ثانیاً: مع ملاحظة إجراء استصحاب أحکام الشرائع السابقة یمکن إثبات هذا الحکم فی الشریعة الإسلامیة أیضاً، وترک مسألة النسخ. نعم، إن

ص:9

لم یرتض أحد هذا الاستصحاب فعلیه الاکتفاء بالأمر الأوّل، وهذا المقدار کاف لتقریب المدّعی.

ذکر الألوسی فی تفسیر روح المعانی: « توبتهم هو القتل، إمّا فی حقّهم خاصّة، أو توبة المرتد مطلقاً فی شریعة موسی علیه السلام»(1).

وروی فی ذیل الآیة عن علی علیه السلام:

أنّ بنی إسرائیل سألوا موسی علی نبیّنا وآله وعلیه السلام، فقالوا: «یا موسی، ما توبتنا؟ قال: یقتل بعضکم بعضاً، فأخذوا السکاکین، فجعل الرجل یقتل أخاه وأباه وابنه لا یبالی من قتل حتّی قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحی الله إلی موسی، مرهم فلیرفعوا أیدیهم، فقد غفرت لمن قتل، و تبت علی من بقی»(2).

أمّا النقطة المتبقّیة هنا فهی أن نقول: إنّ هذه الآیة الشریفة موردها عبادة العجل والارتداد الجماعی والفئوی، وعلیه فلا یمکن استفادة حکم الارتداد الشخصی منها. نعم، یمکن بقرینة(فَتُوبُوا) استفادة أن تکون التوبة واجبة بنحو مستقل علی کلّ أحد منهم ویکون حکم وجوب القتل لارتداد کلّ واحد منهم مستقلاً، والنتیجة أنّ ارتداد کلّ شخص هو موضوع لاستحقاق القتل.

الإیضاح الثانی: قال الفخر الرازی فی التفسیر الکبیر فی ذیل الآیة 217

ص:10


1- (1) روح المعانی 260:1.
2- (2) الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور 305:4.

من سورة البقرة: (وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ) : «أمّا حبوط الأعمال فی الدنیا فهو أنّه یقتل عند الظفر به، ویقاتل إلی أن یظفر به، ولا یستحق من المؤمنین موالاة، ولا نصراً ولا ثناء حسناً، وتبین زوجته منه، ولا یستحق المیراث من المسلمین»(1).

من الواضح أنّ الفخر الرازی استفاد هذه الأحکام من إطلاق حبط الأعمال فی الدنیا، ویشمل إطلاقه أیضاً الشهادتین والإسلام الذی کان یجعله سابقاً فی دائرة الطهارة والاحترام بما فیه احترام دمه، فبحبط الأعمال یسقط کلّ ما قام به - لفظاً وعملاً - عن الاعتبار.

روی فی بعض الروایات المعتبرة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «شهادة أن لا إله إلّا الله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، به حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث»(2).

مفهوم هذه الروایة هو أنّه مع عدم الشهادة لم تکن الدماء محقونة، وتنتفی المناکح والمواریث.

وقال المرحوم المحقق الخوئی فی التنقیح: «ورد فی غیر واحد من الروایات من أنّ المناط فی الإسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النکاح إنّما

ص:11


1- (1) التفسیر الکبیر 40:6.
2- (2) الکافی 25:2، ح 1.

هو شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسوله، وهی التی علیها أکثر الناس»(1).

ولعلّ الشیخ الطوسی من هذه الجهة أفتی بأنّ المسلم لو حجّ ثمّ ارتدّ فحجّه باطل، ولو کنّا نحن وإطلاق هذه الآیة الشریفة فالحقّ مع الشیخ الطوسی.

وینبغی أن نجیب فی هذا الاستدلال علی سؤالین:

السؤال الأوّل: لو قال أحد: إنّ معنی حبط الأعمال فقط هو بطلان الأعمال من حیث الأجر والثواب الأخروی، ولا ملازمة له مع العقوبة والجزاء الدنیوی.

فنقول فی الجواب: إنّ هذا بعید عن الإنصاف؛ لأنّ الله سبحانه وتعالی جعل کلّ الأعمال کالعبادات مثل الصلاة والصوم، والنکاح أیضاً، وسائر الأمور التی لها صبغة دینیة، وکذلک الشهادة علی الإسلام والتوحید والنبوّة جعلها باطلة و منتفیة بسبب الارتداد، و جعل بطلانها فی الدنیا والآخرة معاً، ولازم هذا المطلب أن نقول: إنّ حبط الأعمال فی الدنیا بمعنی العقوبة والجزاء الدنیوی.

وبعبارة أخری: لیس المقصود من حبط الأعمال فقط إسقاط أعمال البر التی لها أجر أخروی، حتّی نقول: إنّ الحبط یعنی عدم ترتّب الأجر الأخروی علی الأعمال، بل الحبط بمعنی أنّه لم یقم بأیّ عمل، ولیس له أیّ

ص:12


1- (1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی 78:3.

شهادة، وأنّ ما کان سبباً لاحترامه لحدّ الآن یمکن اعتباره کالعدم، وبانتفائه فلا یبقی له احترام، ونفس عدم الاحترام موضوع لاستحقاق العقوبة والجزاء فی هذه الدنیا.

وبعبارة أخری: لو سلّمنا أنّ الآیة الشریفة وإطلاق حبط الأعمال فی الدنیا لا ظهور لهما فی خصوص القتل، ولکن نعتقد أنّ أصل العقوبة والجزاء الدنیوی هو معنی مطابقی أو لازم عادی لها، فادّعاء المخالفین لوجوب قتل المرتد بأنّ القرآن الکریم لم یبیّن أیّ عقوبة وجزاء دنیوی للمرتد، ولا آیة تدلّ بالصراحة أو بالظهور علی هذا الأمر، مخدوش بهذا الاستدلال.

ورد فی تفسیر کنز الدقائق: «لبطلان ما تخیّلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنیویة»(1) ، فهو أیضاً فهم فوات الفوائد الدنیویة من الآیة، وهذه لها ملازمة عادیة بالعقوبة والجزاء الدنیوی، یعنی: حبط العمل فی الدنیا والآخرة، فله هذا المعنی الواسع.

وبالنسبة لشرب الخمر والزنا وبعض المحرّمات الأخری ورد التعبیر فی الروایات بحبط العمل، أمّا التعبیر بحبط العمل فی الدنیا والآخرة فظاهراً لم یرد إلّا فی الارتداد، ویشمل إطلاقه مثل هذه الآثار.

السؤال الثانی: قیّدت هذه الآیة المبارکة بلفظ «الموت»، فقال جلّ

ص:13


1- (1) کنز الدقائق 321:2.

وعلا: (فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ) ، ولهذا القید ظهور فی أنّ حبط الأعمال فی الدنیا والآخرة یکون عند ارتداد الشخص، وبقاء الارتداد حتّی وفاته، ومغادرة الدنیا وهو علی حالة الکفر. فلا یستفاد من الآیة الشریفة أنّ مجرد الارتداد سبب لحبط الأعمال، وترتّب الآثار الدنیویة والأخرویة.

الجواب: أوّلاً: ذکر فی بعض آیات القرآن الکریم أنّ مجرد الشرک والارتداد بلا قید الموت سبب لحبط الأعمال، کقوله تعالی: (وَ لَوْ أَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)1 ، وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَکْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)2 ، وقد ثبت فی محلّه من مباحث علم الأصول: عدم سریان قاعدة حمل المطلق علی المقیّد فی الموارد التی یکون العنوانان مثبتین، ولیس بینهما تنافی، و النتیجة: أنّ الآیة محلّ البحث تبیّن مصداقاً من مصادیق المرتد، وأمّا عنوان الموت فی حال الکفر فلا خصوصیة له فی مطلوب ومقصود الله تعالی.

ثانیاً: لو سلّمنا فی هذا المورد بسریان قاعدة المطلق والمقید، فیکون هذا فی حال ما لو کان القید عنواناً احترازیاً، ولکن یمکن أن یقال: إنّ هذا القید کنایة عن عدم التوبة، یعنی: شمول هذه الأحکام لمن ارتدّ ولم یتب بعد ذلک.

ص:14

ثالثاً: إذا أردنا وضع هذه الکلمات بعنوان القید فلا یکون معنی لعنوان الحبط فی الدنیا، مع أنّ للآیة الشریفة ظهور فی أنّ المرتد فی هذه الدنیا مشمول لحبط الأعمال. فحتّی یکون لعنوان الحبط فعلیة، علینا أن نقول: إنّ تمام الملاک هو الارتداد وعدم التوبة، وإن قلنا: إنّه لا یمکن الحکم علیه إلی حین الموت و وصول الأجل، فلا معنی حینئذ لحبط الأعمال فی الدنیا.

الإیضاح الثالث: قال شمس الدین السرخسی فی کتابه المبسوط فی باب المرتدین: «والأصل فی وجوب قتل المرتدین قوله تعالی: (أَوْ یُسْلِمُونَ) ، قیل: الآیة فی المرتدین»(1). فهو استدلّ بالآیة 16 من سورة الفتح لوجوب قتل المرتدین.

الإیضاح الرابع: ذکر الشهید الثانی فی مسالک الإفهام بعد عدّه الردّة من أفحش أقسام الکفر وأغلظها حکماً، فأشار إلی آیتین یظهر منه الاستدلال بذلک، هما قوله تعالی: (وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ)2 ، وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ)3 ، ثمّ تمسّک بالنبوی الشریف: «لا یحلّ دم امرئ مسلم إلّا بإحدی ثلاث: کفر بعد إیمان،

ص:15


1- (1) المبسوط 98:10.

أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغیر نفس»(1)(2) ، والظاهر أنّه استفاد من الآیتین لزوم القتل وإن لم یصرّح بذلک.

الإیضاح الخامس: مضافاً إلی إطلاق حبط الأعمال، یمکن استفادة المدّعی أیضاً من قوله تعالی: (وَ الْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)3 . وفی تفسیر لفظ «الفتنة» الوارد فی الآیة قولان: ففسرها البعض بالکفر، والبعض الآخر بالارتداد، یعنی: الفتنة هی ارتداد یتبعه الکفّار، یریدون به إرجاع المسلمین عن دینهم، وهی أشدّ بکثیر من قتل ذلک الشخص (الحضرمی) الذی تشیر إلیه الآیة الشریفة.

وعلی هذا، الفتنة اسم مصدر لا مصدر، فیکون الارتداد أسوأ وأشدّ وأقبح بکثیر من القتل الاعتیادی. ألا یمکن استفادة جواز قتل المرتد من هذا التعبیر؟ فإذا استتبع القتل الاعتیادی جواز قتل القاتل شرعاً وعقلاً وعقلائیاً بعنوان القصاص، فکیف بالارتداد الذی هو أشدّ بکثیر منه لا یمکن أن یمتلک قابلیة استتباعه هذا الجواز؟!

التفتوا إلی أنّنا لا نرید استفادة فعلیة وجوب القتل من الآیة الشریفة، بل إنّ هذا المقدار وهو أن یکون الارتداد له قابلیة أن یصبح موضوعاً لاستحقاق القتل، فأیّ استبعاد فی جواز قتل المرتد المستفاد من کلام

ص:16


1- (1) سنن أبی داود 366:2 ح 4502.
2- (2) مسالک الإفهام 22:15.

النبی صلی الله علیه و آله أو الأئمة المعصومین علیهم السلام - کما سنشیر إلیه لاحقاً - المتّخذ من هذه الآیة الکریمة؟!

وینبغی الالتفات هنا إلی أنّ کلّ ارتداد هو فتنة حسب هذه الآیة، فلا ینبغی تصوّر أنّ بعض أنواع الارتداد فتنة، وبعضه لیس فتنة، وأنّ ما عبّرت به الآیة الشریفة عن الارتداد بلفظ«الفتنة» إنّما هو حکایة عن عمق القبح فی هذا الأمر.

الإیضاح السادس: مضافاً إلی ما تقدّم، یمکن الاستدلال بآیة أخری من القرآن، وهو قوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا) .(1)

قال الشیخ الطوسی فی المبسوط: «وقال قوم: المراد بها المرتدون عن الإسلام إذا ظفر بهم الإمام عاقبهم بهذه العقوبة؛ لأنّ الآیة نزلت فی العرینیین؛ لأنّهم دخلوا المدینة فاستوخموها فانتفخت أجوافهم واصفرّت ألوانهم»(2).

وهم قوم أسلموا ثمّ مرضوا فلم یقدروا علی البقاء فی المدینة، فأمرهم النبی صلی الله علیه و آله أن یخرجوا إلی لقاح إبل الصدقة، فیشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلک فصحّوا، فقتلوا الراعی وارتدّوا، واستاقوا الإبل، فبعث النبی

ص:17


1- (1) سورة المائدة: 33.
2- (2) المبسوط 47:8.

عشرین رجلاً فی طلبهم، فأخذهم وقطع أیدیهم وأرجلهم، وسمل أعینهم، وطرحهم فی الحرة، حتّی ماتوا، وکان ذلک لأجل الارتداد.

ورد فی حاشیة کتاب التاج الجامع للأصول الوارد فی أحادیث النبی صلی الله علیه و آله بعد ذکر هذه القضیة: أنّ شأن نزول هذه الآیة هم المرتدون، وهذا نظر جمهور العلماء سلفاً وخلفاً(1).

الإیضاح السابع: الدلیل الآخر حسب بعض الروایات الواردة عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی استشهاده بالآیة 137 من سورة النساء لبیان حکم قتل المرتد، فقد ورد فی کتاب دعائم الإسلام عن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه الکرام علیهم السلام:

«أنّ علیاً علیه السلام کان لا یزید المرتد علی ترکه ثلاثة أیام یستتیبه، فإذا کان الیوم الرابع قتله من غیر أن یستتاب، ثمّ یقرأ: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَمْ یَکُنِ اللّهُ لِیَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِیَهْدِیَهُمْ سَبِیلاً)2 .(2)

الاستشهاد بهذه الآیة دلیل واضح علی استفادة الإمام علیه السلام وجوب قتل المرتد بنحو من الآیة الشریفة. ویمکن أن لا یتّضح لنا کیفیة الاستدلال، ولکن المعلوم هو أنّهم فهموا أصل وجوب القتل من الآیة الشریفة. نعم، یحتمل استفادة ذلک من إطلاق عنوانی عدم المغفرة الإلهیة - یعنی: لا فی

ص:18


1- (1) التاج الجامع للأصول 19:3.
2- (3) دعائم الإسلام 479:2، ح 1716.

الدنیا ولا فی الآخرة - وعدم الهدایة الإلهیة.

وإذا قیل: إنّ الآیة الشریفة تدل علی عدم قبول توبة مثل هؤلاء الأشخاص فقط.

فنقول فی الجواب: إنّ هناک ملازمة بین هذا العنوان، یعنی: عدم قبول التوبة، ومسألة القتل؛ لأنّه لیس عندنا فی الفقه مورد واحد لا یقبل فیه توبة المجرم، ومع ذلک یترک ذلک الشخص علی حاله.

ونتیجة النقاط المذکورة: هو ادّعاء البعض ظهور آیاتٍ من القرآن الکریم فی لزوم معاقبة المرتد و قتله، وأنّ المنتقدین لهذا الحکم عندما یقولون: إنّ الآیة إمّا أن تکون نصّاً أو الخبر القطعی نصّاً بعید عن الفقاهة والاجتهاد.

وواضح لکافّة أهل النظر: أنّ من أهم مباحث علم الأصول هو إثبات حجیة الظواهر الأعم من ظاهر القرآن الکریم والروایات.

وثبت أیضاً لدی الأصولیین: أنّ إطلاق الألفاظ هو أحد مصادیق الظواهر، ولم یر عالم لحدّ الآن لزوم النص فی استنباط الأحکام.

وعلی کلّ حال، لا یمکن القطع بنفی الاستدلال بالقرآن الکریم علی قتل المرتد، وإن کان الاستدلال بذلک وحده مشکلاً.

وبعبارة أخری: إن دلّت الروایات بوضوح علی الحکم، فبإمکاننا استفادة التأیید من هذه الآیات علی الأقل.

المطلب الثانی: الذین یدّعون عدم ملائمة مثل هذا الحکم مع روح

ص:19

القرآن، فینبغی أن یجیبوا:

أوّلاً: کیف یکون لهم مثل هذه الدعوی الکبری؟! فادّعاء معرفة روح القرآن أمر ثقیل وعسیر جدّاً، ومثل هذا المطلب خارج عن أسلوب الاستدلال أصلاً.

وبعبارة أخری: أنّکم تمسّکتم بشیء لا یمکن الأخذ به، وفی المقابل یمکننا ادّعاء ملائمة هذا الحکم مع روح القرآن، وعلی کلّ التمسّک بروح دلیل لا روح له لا ینفع ذلک أیّ طرف من الأطراف.

ثانیاً: لو دققنا فی الآثار المترتبة علی المرتد فی القرآن الکریم، فسنفهم جیداً استحقاق المرتد للعقوبة الدنیویة الشدیدة، ففی القرآن الکریم ذکر ثمانیة آثار للمرتد:

الأثر الأوّل: حبط الأعمال فی الدنیا والآخرة.

الأثر الثانی: أنّه فی الآخرة من الخاسرین، ولیس أمامه طریق للخلاص.

الأثر الثالث: لن یغفر الله له أبداً.

الأثر الرابع: سلب التوفیق الإلهی منه، قال تعالی: (کَیْفَ یَهْدِی اللّهُ قَوْماً کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ)1 .

الأثر الخامس: دخوله فی جهنّم.

الأثر السادس: خلوده فی نار جهنّم.

ص:20

الأثر السابع: الشیطان یزیّن لهم أفعالهم القبیحة والسیّئة، و یبتلیهم بطول الأمل.

الأثر الثامن: علی المرتد لعنة الله والملائکة والناس أجمعین إلی یوم القیامة، قال تعالی: (أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَ الْمَلائِکَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِینَ)1 .

وهذه الآثار تدلّ علی کون الارتداد ذنباً فی نظر القرآن الکریم، بل ذنب ومعصیة کبیرة، وأنّه من أشدّ الکبائر أیضاً.

وهل یمکن قبول أنّ استحقاق أشدّ العقوبة والجزاء الدنیوی للمرتد لا یلائم روح القرآن، مع وجود هذه الآثار الشدیدة الأخرویة وبعضها الدنیویة؟! إنّ من یتحدّث عن الحریة واحترام أیّ نوع من الأفکار وعقائد الآخرین، کیف یوجّه هذه الآثار الأخرویة الشدیدة للارتداد؟!

وبعبارة أخری: بناء علی هذه الرؤیة، لیس للارتداد قابلیة أن یکون موضوعاً للعقوبة والجزاء الدنیوی، ولا صلاحیة له بأن یکون موضوعاً للعقوبة والجزاء الأخروی. وهؤلاء یطرحون الارتداد تحت عنوان حریة الفکر، وأنّه حقّ بشری، وحینئذ فلا یمکن تصوّر أیّ قبح فیه، ومع عدم القبح لا یکون له قابلیة العقوبة الدنیویّة ولا الأخرویة.

والنتیجة: علیهم أن ینکروا العقوبات الأخرویة للارتداد أیضاً.

ص:21

وإن قلتم: إنّنا نقبل القبح فی نفسه، فحینئذ أیّ استیحاش لهم من العقوبة الدنیویة.

إذن یمکن أن یقال بوجود ملازمة قهریة وعادیة بین الآثار الشدیدة المذکورة للمرتد فی القرآن الکریم، مع عقوبته ومجازاته الدنیویة، وما ورد عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام فی قتل المرتد مستفاد من هذه الملازمة، أیّ: أنّهم استفادوا هذه الملازمة من آیات الارتداد.

المطلب الثالث: ینبغی السؤال ممن یرفع صوته عالیاً ویطرح مسألة خلو القرآن الکریم للجزاء الدنیوی بالنسبة للمرتد هل تقبلون الحدود الأخری التی صرّح بها القرآن الکریم؟ فهل تقبلون حدّ الزنا والسرقة والمحارب والمفسد فی الأرض المصرّح به فی القرآن الکریم؟ ومن المسلّم أنّ من یرفع شعار الحریة ویتّخذ منشور حقوق الإنسان معلماً له، ویبدی رأیه فی ذلک فهؤلاء ینکرون مثل هذه الحدود أیضاً. وإن لم ینکروها فعلیهم أن یوضّحوا کیف یقبلوها وینکرونها فی المرتد؟! مع أنّ الارتداد أقبح وأشنع بکثیر من الزنا و السرقة.

المطلب الرابع: أوّلاً: حتّی لو قبلنا عدم إشارة القرآن الکریم لاستحقاق المرتد للعقوبة والجزاء الدنیوی، إلّا أنّ هذا لا یوجّه أیّ ضربة لهذا الحکم؛ لأنّ کثیراً من الأحکام الفقهیة لم ترد فی القرآن الکریم، فهناک آلاف الأحکام فی مسألة الصلاة والزکاة والحج و... لم ترد فی القرآن الکریم.

ص:22

ثانیاً: لا یمکن تصوّر حقیقة للقرآن الکریم منفصلة عن کلام النبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام، فلا یمکن الوصول إلی حقیقة القرآن الکریم دون مراجعة سنّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الطاهرین علیهم السلام، قال الله تعالی: (وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ) ، (1) فینبغی أن یکون بیان القرآن من قبل النبی صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام، وقال الله تعالی: (وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)2 . یعنی: أنّ علی المسلمین متابعة ما بیّنه النبی صلی الله علیه و آله بعنوان أنّه تفسیر إلهی أو بأیّ عنوان آخر. وبناء علی هذا لو قال النبی صلی الله علیه و آله فی حدیث أو أحادیث بوجوب قتل المرتد فإنّ العمل به فی الحقیقة عمل بالقرآن، ویصدق هذا الأمر أیضاً بالنسبة للأئمة المعصومین علیهم السلام الذین هم القرآن الناطق، والمفسّر الحقیقی للقرآن.

والالتفات إلی حدیث الثقلین والتعبیر بقوله: «لن یفترقا» یوضّح المطلب لأهل الفهم والنظر تماماً، وحسب هذا التعبیر لا انفصال بین القرآن الحقیقی و العترة، ولیس له قابلیة الانفکاک، کما أنّ العترة الحقیقیة لا تنفصل عن القرآن، ولیس لها قابلیة الانفصال، وعلی ضوء حدیث الثقلین فالاستدلال بالقرآن دون التوجّه والالتفات إلی الروایات والأخبار وبالعکس، باطل ومردود.

ص:23


1- (1) سورة النحل: 44.

المحور الثانی: قتل المرتد المستفاد من الروایات

بعد دراسة أدلة لزوم قتل المرتد من منظار القرآن الکریم ینبغی دراسة هذا المطلب بإجمال من منظار الروایات.

المخالفون لقتل المرتد لهم عدّة شبهات أو توهّمات بالنسبة للروایات:

التوهّم الأوّل: ندرة الروایات الدالة علی وجوب قتل المرتد.

التوهّم الثانی: أنّ هذه الروایات معنونة بالخبر الواحد، وبما أنّ الدلیل المهم لحجیة الخبر الواحد هو بناء العقلاء، فلو راجعنا بناءهم فلا نراهم یعملون فی الأمور المهمّة - کالقتل - بالخبر الواحد.

أمّا الجواب عن التوهّم الأوّل:

ألف: ذکر بحث المرتد فی الفقه والروایات فی خمسة موارد:

کتاب الطهارة، کتاب النکاح، کتاب الصید والذباحة، کتاب الإرث، وکتاب الحدود فی حدّ المرتد، فلو راجع الإنسان بنحو الإجمال ما ورد من روایات فی هذه الکتب المذکورة فی مورد المرتد، لفهم بوضوح أنّ عدد الروایات الواردة فی المرتد قد تجاوزت العشرین روایة.

فقد روی المرحوم ثقة الإسلام الکلینی فی کتاب الکافی ( 256/7) باب حدّ المرتد، ثلاثاً وعشرین روایة، وأکثر هذه الروایات صحیحة، واستدلّ بها الفقهاء فی الأبواب الخمسة المذکورة، وهذه الروایات مضافاً إلی صحة سندها متحقق فیها مبنی المحققین فی حجیّة الخبر الواحد وهو

ص:24

الوثوق بالصدور، ومما لا شک فیه بلوغ هذه الروایات حدّ التواتر المعنوی والإجمالی.

وقد قبل الفقهاء العظام فی موارد أخری فی الفقه مع وجود عشر روایات علی الأقل فی موضوع واحد عنوان التواتر، فکیف الأمر إذا بلغت الروایات ثلاثاً وعشرین روایة، وإذا وصلت الروایة حدّ التواتر فلا حاجة بعد ذلک إلی دراسة السند، وهذا أمر واضح ومسلّم به عند الفقهاء.

ب: لایمکن للفقیه فی عملیة الاستنباط والاستدلال بالروایات النظر إلی بعض الروایات، بل علیه تحلیل ودراسة کافّة الطوائف المتعلّقة بالموضوع، فإذا درسنا موضوع المرتد فی الروایات، فسنواجه عدّة طوائف:

الطائفة الأولی: الروایات الدالة علی وجوب قتل المرتد صریحاً:

ألف: صحیحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن المرتد، فقال: «من رغب عن الإسلام، و کفر بما أنزل الله علی محمّد صلی الله علیه و آله بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ویقسّم ما ترکه علی ولده»(1).

ب: الحدیث الخامس من هذا الباب، وهی صحیحة جمیل بن دراج عن أحدهما علیهم السلام:

فی رجل رجع عن الإسلام، قال علیه السلام: «یستتاب، فإن تاب وإلّا قتل»(2). صرّح فی هذا الحدیث بأصل استحقاق قتل المرتد.

ص:25


1- (1) الکافی 256:7، ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 5.

ج: الحدیث العاشر من هذا الباب، عن الإمام الکاظم علیه السلام قال: سألته عن مسلم تنصّر، قال: «یقتل ولا یستتاب»(1).

د: الحدیث الحادی عشر من هذا الباب، عن عمار الساباطی قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: «کلّ مسلم بین المسلمین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً نبوّته، وکذّبه، فإنّ دمه مباح لکلّ من سمع ذلک منه»(2).

ه -: عن عبد الله بن أبی یعفور قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

إنّ بزیعاً یزعم أنّه نبی، فقال علیه السلام: «إن سمعته یقول ذلک فاقتله»(3).

و: ما ورد فی کتب أهل السنّة عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی حکم وجوب قتل المرتد أیضاً.

روی فی کتاب التاج الجامع للأصول فی أحادیث الرسول عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لا یحلّ دم امرئ مسلم یشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّی رسول الله، إلّا بإحدی ثلاث: النفس بالنفس، والثیّب الزانی، والمفارق لدینه التارک للجماعة»(4) ، ثمّ قال: روی البخاری ومسلم والنسائی وأبو داود والترمذی هذه الروایة.

ص:26


1- (1) المصدر نفسه، ح 10.
2- (2) المصدر نفسه، ح 11.
3- (3) المصدر نفسه، ح 13.
4- (4) التاج الجامع للأصول 17:3-18.

وقد صرّحت هذه الروایة عن النبی صلی الله علیه و آله بجواز قتل الإنسان فی ثلاثة موارد، منها: من فارق دینه وارتدّ.

ثمّ نقل عن عکرمة: أنّ علی بن أبی طالب علیه السلام قتل جماعة رجعوا عن الإسلام.

وروی فی کافّة کتب حدیث أهل السنّة عدا صحیح مسلم عن ابن عباس، عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من بدّل دینه فاقتلوه»(1).

الطائفة الثانیة: الروایات الواردة فی خصوص المرأة المرتدة، وهی تدلّ علی عدم جواز قتلها، وتؤکّد علی عدم قتل المرأة إذا ارتدّت، وتدلّ هذه الروایات جیداً علی أنّ هذا هو استثناء من حکم المرتد، وأنّ أصل وجوب قتل المرتد أمر مسلّم به.

الطائفة الثالثة: الروایات الدالة علی الحکم بالقتل علی أصحاب الکبائر إن تکرر منهم صدور الکبیرة، ولاشکّ فی أنّ الارتداد من الذنوب الکبیرة، بل هو من أشدّ الکبائر. واتّفق الفقهاء علی أنّ المرتد إن لم یقتل فی المرّة الأولی فیجب قتله فی المرّة الثالثة أو الرابعة، واستدلّوا فی هذا المورد بروایة عن الإمام الکاظم علیه السلام أنّه قال: «أصحاب الکبائر یقتلون فی الثالثة»(2). نعم، کما أنّ الزانی إن أقیم علیه الحدّ ثلاث مرّات، فارتکب

ص:27


1- (1) مجمع الزوائد 261:6.
2- (2) عوالی اللئالی 356:2، ح 33.

ذلک الفعل مرّة رابعة فینبغی قتله، کذلک الأمر فی مسألة الارتداد، کما صرّح جمیل بن دراج بذلک أیضاً فی الحدیث الخامس من هذا الباب.

والمقصود هو أنّ علی الفقیه أن یلتفت إلی هذه الجهة أیضاً، فإذا لم یکن لدینا فرضاً روایة تدلّ بصراحة علی لزوم قتل المرتد، أمکننا التمسّک بهذا النوع من الروایات الدالة علی قتل المرتد ولو فی حال التکرار أیضاً.

الطائفة الرابعة: الروایات الدالة علی أنّ الشهادة علی التوحید ونبوّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله توجب حقن الدماء وحفظها وصحة النکاح والمواریث، والمفهوم من هذه الروایات هو أنّ عدم الشهادة مساوق لانتفاء حقن الدماء، قال المرحوم المحقق الخوئی فی التنقیح: «ورد فی غیر واحد من الروایات من أنّ المناط فی الإسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النکاح إنّما هو شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسوله»(1).

ونتیجة هذه الطائفة هو انتفاء سبب حقن الدماء عمّن ارتدّ.

الطائفة الخامسة: الروایات الدالة علی أنّ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام أجری فی موارد حکم المرتد علی بعض الأشخاص.

الروایة الأولی: عن أمیر المؤمنین علیه السلام:

«أنّه أتی بمستورد العجلی، وقد قیل: إنّه تنصّر وعلّق صلیباً فی عنقه، فقال له قبل أن یسأله، وقبل أن یشهد علیه: ویحک یا مستورد، إنّه قد رفع إلیّ أنّک تنصّرت، ولعلّک أردت أن

ص:28


1- (1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی 78:3.

تتزوّج نصرانیة، فنحن نزوّجک إیاها، قال: قدوس قدوس، قال: فلعلّک ورثت میراثاً من نصرانی، فظننت أنا لا نورثک، فنحن نورثک؛ لأنّا نرثهم ولا یرثوننا، قال: قدوس قدوس، قال: فهل تنصّرت کما قیل؟ فقال: نعم، تنصّرت، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: الله أکبر، فقال المستورد: المسیح أکبر، فأخذ أمیر المؤمنین علیه السلام بمجامع ثیابه، فأکبّه لوجهه، فقال: طئوه عباد الله، فوطؤوه بأقدامهم حتّی مات»(1).

الروایة الثانیة: عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «أتی قوم أمیر المؤمنین علیه السلام فقالوا: السلام علیک یاربّنا، فاستتابهم فلم یتوبوا، فحفر لهم حفیرة وأوقد فیها ناراً، وحفر حفیرة أخری إلی جانبها وأفضی بینهما، فلمّا لم یتوبوا ألقاهم فی الحفیرة وأوقد فی الحفیرة الأخری حتّی ماتوا»(2).

فلینتبه إلی أنّ مثل هذا الغلو هو من مصادیق الارتداد.

الروایة الثالثة: روی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: « أتی أمیر المؤمنین صلوات الله علیه برجل من بنی ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه فشهدوا علیه، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام:

ما یقول هؤلاء الشهود؟ قال: صدقوا، وأنا أرجع إلی الإسلام، فقال: أما إنّک لو کذّبت الشهود لضربت عنقک وقد قبلت منک فلا تعد، فإنّک إن رجعت لم أقبل منک رجوعاً بعده»(3).

ص:29


1- (1) مستدرک الوسائل 163:18، ح 22396.
2- (2) الکافی 257:7، ح 8.
3- (3) المصدر نفسه، ح 9.

الظاهر من هذه الروایات وقوع مثل هذه الموارد فی زمن حکومة أمیر المؤمنین علیه السلام، وقد أجری الإمام علیه السلام الحد فی موارد عدیدة، ولا قرینة عندنا تدلّ علی أنّ صدور الأحکام فی مثل هذه القضایا هی قضایا خاصّة وخارجیة، أو ما اصطلح علیه أنّها قضیة فی واقعة، بل إنّ ظاهر هذه الروایات یدلّ علی کون أمیر المؤمنین علیه السلام فی مقام تطبیق الحکم الکلی علی المصداق.

وروی فی کتب أهل السنة أنّ النبی صلی الله علیه و آله أصدر حکماً بقتل جماعة ارتدّوا عن الإسلام، وقد أشرنا سابقاً إلی هذا فی هذه الرسالة، وراجع أیضاً التاج الجامع للأصول فی أحادیث الرسول(1).

ألا یمکن الاستنتاج بوضوح من مجموع هذه الطوائف أنّ المرتد محکوم بالقتل فی الإسلام؟ ثمّ ألا یمکن فهم مسألة وجوب قتل المرتد من الروایات الواردة فی تقسیم أمواله بین ورثته، واعتداد زوجته عدّة الوفاة بمجرد الارتداد؟

والظاهر أنّ من ینکر قتله ینکر هذه الأحکام أیضاً، یعنی: أوّلاً: أنّهم لا یعتبرون الإسلام سبباً لحفظ الدماء وحرمتها.

ثانیاً: إنکارهم بینونة زوجته.

ثالثاً: رفضهم تقسیم أمواله.

ص:30


1- (1) التاج الجامع للأصول 17:3-18.

رابعاً: اعتقادهم حلیة ذبیحته.

ویلزمهم أن ینکروا جمیع الأحکام الثابتة للمرتد فی الفقه، ولا یمکنهم أن ینکروا وجوب القتل فقط ویقبلون الباقی.

وفی رأینا لا یبقی مجال للشک - مع وجود هذه الطوائف المتعددة - فی أنّ وجوب قتل المرتد هو من الأحکام المسلّم بها والقطعیة فی الدین الإسلامی. وینبغی الالتفات إلی أنّ هذه الروایات لم تنقل عن أمیر المؤمنین علیه السلام وزمن حکومته فحسب أو خصوص زمن حکومة النبی صلی الله علیه و آله، لکی یحتمل أنّ وجوب قتل المرتد هو حکم سیاسی أو حکم مقید بزمن خاص، بل روی ذلک عن الأئمة المعصومین علیهم السلام کالإمام الباقر والصادق والکاظم والرضا علیهم السلام أیضاً.

ویکشف هذا الأمر عن أنّ حکم المرتد حکم دائمی ومستمر إلی یوم القیامة، وبیّنت هذه الروایات حکم المرتد علی نحو القضیة الحقیقیة والقاعدة الکلّیة.

أمّا الجواب عن التوهّم الثانی، وهو ما قیل: إنّ روایات قتل المرتد خبر واحد، ولا حجیة للخبر الواحد فی الأمور الخطیرة، فنقول:

أوّلاً: اتّضح أنّ روایات وجوب قتل المرتد هی فی حدّ التواتر المعنوی أو الإجمالی، وأنّها مفیدة للقطع.

ثانیاً: علی فرض کونها خبراً واحداً، فنقول فی الجواب: لا فرق فی

ص:31

حجیة الخبر الواحد بین الأمور الخطیرة وغیر الخطیرة، وهذا هو رأی کثیر من فحول وأعاظم الفقهاء والأصولیین، فقد عمل الفقهاء سواء المتقدّمین أو المتأخرین من أوّل الفقه إلی آخره بالخبر الواحد الوارد فی الدماء وغیر الدماء، الأموال وغیر الأموال، العبادات وغیرها، السیاسات وغیرها، وتشهد کتبهم الفقهیة بذلک. وقد بحثنا فی أبحاث خارج الأصول فی بحث حجیة الخبر الواحد هذا المورد بالتفصیل، وهو موجود علی موقعنا الإلکترونی(1).

ثالثاً: صرّح الشیخ الطوسی فی بحث وجوب قتل المرتد أنّ إجماع الأمّة الإسلامیة علی ذلک، یعنی: لیس إجماع الشیعة والسنّة وحدهم، بل إجماع الأمّة کلّها علی ذلک، وهذا التعبیر یجعل هذا الحکم فی مرتبة الحکم الضروری، إذن لیس مستند هذا الحکم هو الخبر فقط، بل یضمّ إلیه وجود مثل هذا الإجماع أیضاً.

رابعاً: ما هو ملاکنا فی الفصل بین الأمور الخطیرة عن غیر الخطیرة؟ فقد استدلّ بأخبار الآحاد فی مباحث الخمس والزکاة المتعلّقة بأموال الناس.

فهل أنّ تعیین تکلیف هذا الحجم الکبیر من الأموال لا یشمله عنوان الأمور الخطیرة؟! ففی باب الزکاة الذی هو أمر قرآنی مسلّم، لم تبیّن الشرائط والخصوصیات لدفع الزکاة فی أیّ آیة من القرآن، وأنّه فی أیّ الموارد یعطی العشر؟ وأیّها یعطی الواحد من عشرین؟ فقد ثبت ذلک وحده

ص:32


1- (1) دروس خارج الأصول للعام الدراسی 87-88، الدرس 77، بتاریخ 1387/1/16 ش.

بالخبر الواحد. ولم یثبت الذبح لملیونی حاجّ فی منی إلّا بالخبر الواحد «لاذبح إلّا فی منی»، ولم یعمل الفقهاء بالخبر الثقة بعنوانه، بل هناک شروط أخری مطروحة، کعمل الفقهاء وخاصّة المتقدّمین منهم، وکذا عدم وجود المعارض، وبناء علی هذا أیّ إشکال فی العمل بخبر الواحد الثقة فی الأمور المهمّة مع وجود مثل هذه الشروط؟! إذ مثل هذه الشروط متوفرة فی روایات قتل المرتد.

خامساً: ما تسمعوه فی الفقه من احتیاط الفقهاء فی مورد الدماء والفروج والأموال فقد أثبتنا فی محلّه أنّ کثیراً منهم لم یفتوا بوجوب الاحتیاط، بل أفتوا بشدّة الرجحان والاستحباب الشدید(1).

سادساً: إذا لم یدلّ خبر من الأخبار أو طوائف الروایات والآیات أو الإجماع بصورة مستقلة علی المدّعی، فلا شک أنّها بمجموعها توجب اطمئنان الفقیه بالحکم.

المحور الثالث: هل قتل المرتد إشاعة للفوضی ؟

استعرضت بعض البحوث والدراسات مسألة إشاعة الفوضی أو تشجیع المؤمنین علی نقض القوانین، وذکروا أنّ إثبات وتنفیذ أیّ حکم وخاصّة الأحکام التی تتعلّق بأرواح الناس إنّما هو مختص بالمحاکم الصالحة.

ص:33


1- (1) راجع التلقیح الصناعی للمؤلّف.

وهنا عدّة نقاط تخصّ هذا الموضوع، وهی:

النقطة الأولی: إذا ثبت وأحرز ارتداد شخص فی المحاکم الصالحة فهل یجوز قتله باعتقاد هؤلاء الکتّاب أم لا؟ الظاهر أنّ إشکال هؤلاء الأشخاص علی أصل الحکم، فحتّی لو ثبت الموضوع فی المحاکم الصالحة فهؤلاء لا یعتقدون بهذه العقوبات.

النقطة الثانیة: لایوجد فقیه أو مرجع تقلید یحتفظ لنفسه حقّ القول بمثل هذه النظریة قبل إحراز موضوع الارتداد بالنسبة لشخص معین، وإذا أصدر الإمام الخمینی رضوان الله علیه مثل هذا الحکم فی حقّ المرتد سلمان رشدی فقد کان بعد إحراز الموضوع عنده تماماً، وکذلک فتوی آیة الله العظمی الفاضل اللنکرانی قدس سره بالنسبة إلی «رافق تقی» کانت بعد أن ترجمت مطالب هذا الشخص کراراً، وصدرت هذه الفتوی بعد إحراز الموضوع، فهل أنّ الفقیه الجامع للشرائط مع الشرائط العدیدة المذکورة فی محلّها لا یمکنه إحراز الموضوع؟! ألیست فلسفة تشکیل المحاکم هو إحراز الموضوع؟! وهل أنّ المحکمة تشرّع حکماً وقانوناً أم أنّها تنفّذ وتطبّق القانون؟! وهل أنّ المراحل الثلاث البدویة الاستئناف والمحکمة العلیا لها خاصیة أخری غیر الإحراز الصحیح للموضوع؟!

النقطة الثالثة: السؤال الأصلی هو أنّه أیّ محکمة عندکم هی المحکمة الصالحة؟ هل لکونها لا تصدر أحکاماً تتطابق مع الشعارات الخدّاعة لحقوق الإنسان تکون غیر صالحة؟! وعلیه فینبغی أن تخدشوا فی أکثر الأحکام

ص:34

الإسلامیة الصادرة عن هذه المحاکم! أم أنّ المحاکم الصالحة هی المحاکم الکفوءة التی تعمل علی تطبیق القوانین الشرعیة المعتبرة علی المصادیق؟ یعنی: المحاکم التی تعمل و تطبّق القرارات والضوابط الشرعیة.

ومن الواضح أنّ تطبیق هذه الأحکام علی ید الفقیه تکون بنحو أحسن وأدق، فإنّ الفقیه یطبّق حکم الله بالنسبة لمورده ومصداقه بدقّة کاملة وبشکل صحیح، وهذا أحد شؤون الفقاهة. والقضاء منصب مهم لرسول الله صلی الله علیه و آله والأئمة الطاهرین علیهم السلام والفقهاء جامعی الشرائط بحیث یعتبر فیه توفّر شرط الاجتهاد، إذ لا یمکن لغیر المجتهد أن یتصدّی منصب القضاء فی الإسلام حسب الحکم الأولی.

النقطة الرابعة: هل أنّ نفس الحکم إشاعة للفوضی أم تنفیذه؟

وبعبارة أخری: هل أنّهم یشکلون علی الحکم أم علی کیفیة التنفیذ؟ ألیس وجوب قتل المرتد قانوناً إلهیاً؟ ألا یعدّ الاعتماد علی وثائق وموازین حقوق الإنسان الحالیة نقضاً حقیقیاً للقانون فیما لو استلزم نفیاً لحکم الله ومانعاً من تنفیذه؟ وهل نترک أحکام الله جانباً فی عصرنا الراهن فنتوجّه صوب الشعارات الظاهریة ومعطیات حقوق الإنسان؟ ألیس هذا هو أسوأ أسلوب فی نقض أهم وأقوی قانون، وأقبح أسلوب لإیجاد الهرج والمرج؟! وهل ترغیبنا للبشر علی تنفیذ أحکام دین الله صحیح أم ترغیبنا للمنشور العالمی لحقوق الإنسان؟! وهل أنّ المنشور العالمی لحقوق الإنسان الذی أهدی الحریة للمثلیین قادر علی ضمان سعادة البشریة؟! وعلی کلّ حال

ص:35

فعلی المستشکلین إمّا قبول الإسلام أو المنشور العالمی لحقوق الإنسان، والجمع بینهما مستحیل.

فإن قالوا: یجب علینا أن نفسّر الإسلام فی العصر الراهن بما یتطابق وهذا المنشور. قلنا: وهذا فی الحقیقة نفی للإسلام. والعجب مِن بعض مَن یقلق لنقض منشور حقوق الإنسان إلّا أنّ الغیرة الدینیة لیس فقط لاتغضبهم، بل تجعلهم یدافعون عن أشخاص هم أنفسهم یعترفون بأکاذیب هؤلاء!

یقول علی بن أبی طالب علیه السلام:

«وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون! وأنتم لنقض ذمم آبائکم تأنفون! وکانت أمور الله علیکم ترد، وعنکم تصدر، وإلیکم ترجع، فمکّنتم الظلمة من منزلتکم، وألقیتم إلیهم أزمّتکم، وأسلمتم أمور الله فی أیدیهم، یعملون بالشبهات، ویسیرون فی الشهوات»(1).

هذا ما قاله أمیر المؤمنین علیه السلام فی بیان أسباب سقوط الأمّة الإسلامیة وانحطاطها، وانحراف أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، والعارفین بالدین عن مسیر الحق، وفی الإشارة کفایة لأهله.

النقطة الخامسة: هناک ضوابط وشروط واضحة لتنفیذ الحدود حتّی بالنسبة للمنفّذ لها فی الإسلام، ولا ینبغی الغفلة عن أنّ المصلحة تقتضی أحیاناً أن یکون المنفّذ عموم الناس، یعنی: أنّ الناس کافة مکلّفون

ص:36


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة: 106.

ومسؤولون عن تنفیذ حکم خاص، ففی مورد المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله خوطب کافة المسلمین بهذا التکلیف، وفلسفة هذا هو أن یعلم الجمیع القبح الشدید للمرتد عند الله، واستحقاقه هذا الحکم منه، لیکون عبرة للجمیع، وهناک نوع وقایة ودفاع مشروع عن کیان الإسلام فی حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، إذ لا یسمح الإسلام الذی أصوله وفروعه مطابقة مع العقل والمنطق أن ینکر شخص الدین وأحقیّة الدین بعد إحرازه، أو یستهین بأقدس المقدّسات وهو الوجود المبارک لرسول الله صلی الله علیه و آله.

ولیس المقصود فی مثل هذا الحکم جذب الآخرین إلی الإسلام لکی نقول: إنّ هذا الحکم مانع من إقبال الآخرین للإسلام، بل هو حصن حصین یحفظ کلّ المسلمین من التعرّض والإضرار بالدین بواسطة أنفسهم، وهذا الحکم یمنع الإنسان المسلم من تسریع الخروج عن الدین ویدعوه إلی التفکیر والتأمل فیه أکثر. ومن جهة أخری: الکفّار فی طول التاریخ استفادوا من حربة الارتداد لضرب الإسلام فسدّ الله تعالی هذا الطریق أمامهم إلی الأبد.

النقطة السادسة: قالوا: من لوازم صدور فتوی القتل وحکم إعدام المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله تشویه صورة الإسلام والتشیع والفقاهة بالعنف والقتل وعدم سعة الصدر... نعم، إذا أراد أحد تعریف الإسلام عن هذا الطریق فقط دون ذکر خصوصیات وشرائط هذا الحکم، وبعبارة أخری: لو طرح ظاهراً منه و أغفل سائر الجزئیات، فربما یکون له مثل هذا اللازم. وأمّا

ص:37

إذا قیل للبشریة: إنّ المنطق والعقل هما الحاکمان فی الإسلام، وإذا کان لشخص سؤال فی بعض الموارد، وخاصّة فی أوساط المسلمین، فعلی ضوء مدرسة أهل البیت علیهم السلام، هناک أشخاص وحجج منصبون من قبل الله تعالی یمکن مراجعتهم وأخذ الإجابة علی أسئلتهم، فإن لم یفعل ذلک وعاند فرأی نفسه فجأة من المعاندین وأظهر إنکاره بین الناس، فقد حددت له هکذا عقوبة.

والحقیقة أنّ الارتداد یعدّ نوعاً من الفوضی فی الدین، والذین یکتبون استناداً إلی الهرج والمرج لِمَ لا ینتبهون إلی هذه الحقیقة؟! لقد کان حکم لزوم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله فی صدر الإسلام إلی عصرنا الحاضر، ولم یکن فی أیّ زمان من الأزمنة سبباً لتشویه صورة الإسلام. نعم، منذ أن ادّعت البلدان المستعمرة حقوق الإنسان، وفی الواقع بدأت مخالفتها للإسلام، و صرخت بوجه هذا الحکم وقالت: ما هذا الحکم؟ انتهی هذا الاعتراض المرافق للأغراض والدواعی والتبلیغات السیّئة وغیر الصحیحة بالنسبة للدین إلی أن تکون أحکام الإسلام معارضة مع حکم العقل والحریة و الکرامة.

فلماذا نکون نحن المسلمین سذّج ونخدع بهذه العناوین ببساطة؟! فیوم یقولون بعدم انسجام أحکام الإسلام مع العقل، ویوم آخر یقولون بأنّ الإسلام یتعارض مع الحریة، ویوم ثالث یطرحون الکرامة الإنسانیة وعدم رعایتها.

ص:38

ومن الواضح أنّه لا ینبغی فی القضاوة جعل حکم جزئیٍ وذلک فی جانبه الظاهری ملاکاً للحسن والقبح، وبعبارة أخری: لیس من اللازم طرح مسألة الحسن والقبح فی متعلّق حکم خاص، بل یلزم الأخذ بالملاک فی المجموع وبالنسبة إلی النوع، فینبغی النظر إلی المجموع ثمّ الحکم والقضاوة.

فلماذا تحترمون إنکار وعناد شخص ذاق حقائق الدین ولمسها، وأقیمت له الآیات والبینات، ولکن ترون أنّ استحقاق عقوبته أسلوب عنیف وغیر منطقی؟!

وهل من أنکر الشمس فی رابعة النهار له قیمة عندکم؟! لماذا ترون الارتداد نوعاً من الفکر وتعدّون مخالفته ساحة لصراع الأفکار والرؤی؟! الارتداد إنکار للحقیقة غیر القابلة للإنکار.

ذکروا لزوم الدخول فی مجال الفکر بالمنطق والجدال بالتی هی أحسن والاستدلال القوی، هذا أمر صحیح، إلّا أنّ السؤال هنا هو لو أنکر شخص نفس هذا الأسلوب فکیف تواجهونه؟

ولو أنکر شخص الواضحات، وکان إنکاره هذا خطراً علی الآخرین، فما هو حکم العقل هنا؟

الإنسان المرتد مریض، ومرضه - یعنی: إنکاره عن هوی وحب للدنیا - موجب لسرایته إلی الآخرین ومجموع الدین، فلابدّ من معاقبة هکذا إنسان.

ص:39

وأشار المستشکلون إلی الآیة الشریفة: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ...)1 ، فهل انصافاً تشمل هذه الآیة المرتد؟ وما هی نسبة هذه الآیة مع آیات الارتداد؟ ألم یلاحظوا قول الله تعالی فی آیات الارتداد: إنّ المرتد هو من لم تشمله الهدایة والغفران الإلهی؟ فمن واجهه الله بهذه الغلظة والشدّة أتشمله مثل هذه الآیة الشریفة؟! إنّ من الواضح أنّ هذه الآیة متعلّقة بمن لم یقع علی الصراط المستقیم الإلهی، فینبغی وضعه علی الصراط المستقیم، أمّا من کان فی طریق الله عزّوجل، وأراد مخالفته عن هوی وعناد فلا یکون مشمولاً لهذه الآیة الشریفة. فهل یمکن عدّ من ارتکب جریمة القتل مشمولاً للآیة الشریفة، والقول بلزوم العمل مع القاتل بأحد هذه الطرق الثلاثة؟! لکنّی لا أری عاقلاً یحتمل هذا المعنی، وهو أن یتعامل مع من سعی إلی قتل الناس وقتل منهم مجموعة کبیرة بالحکمة والموعظة الحسنة والجدال بالتی هی أحسن.

لقد أوضحنا سابقاً أنّ حکم المرتد لیس لجذب الآخرین إلی الإسلام، بل هو عقوبة متعلّقة بالمسلمین أنفسهم، وذلک لعدم سریان مؤامرات الکفّار إلی الآخرین.

لکن الأمر المهم هنا هو: أنّه لتعریف الإسلام ینبغی بیان جامعیة الدین فی کافّة الأبعاد، أی: ترویج العقل والعلم والأخلاق والتدخّل فی الشؤون

ص:40

الاجتماعیة والسیاسیة وتدبیر المجتمع، هذه هی طرق تعریف الدین الإسلامی، لماذا لا تبیّنوا عدم شمولیة مثل هذا الحکم - یعنی: وجوب القتل - فی مورد الکافر الأصلی الذی بقی من البدایة إلی النهایة علی کفره؟

المحور الرابع: هل هذا الحکم وهن للدین ؟

قالوا: إنّ صدور مثل هذه الفتوی سبب لوهن الدین، والسؤال هو: ما هو ملاک الوهن فی الدین؟ توجد هنا أربعة احتمالات ینبغی تحلیل کلّ منها علی حدة:

ألف: أن نقول: العمل الذی یرفضه عقلاء العالم فی کافّة الأزمنة والأمکنة ولا یقبلونه هو مصداق الوهن، فنقول فی هذا الفرض:

أوّلاً: العقلاء فی کلّ زمان ومکان لا یرتضون إهانة أحد بمقدّسات ملیار ونیف إنسان ویرونه مستحقاً للعقوبة، وکلّما کان المستهان به أو المنکر له أشدّ قداسة فاستحقاقه للعقوبة یکون أشد، وإذا کانت إهانته سبباً للانحراف أو استغلال العدو، وأراد تخریب أصل الدین أو إضعافه، یرون لزوم مواجهته بحزم وجدیة.

ثانیاً: لو فرض عدم استحقاق المرتد و سابّ النبی صلی الله علیه و آله للعقوبة فی نظر العقلاء، فنقول: لقد خطّأهم الشارع فی هذا المورد، واعتبر من أسلم ثمّ أراد الارتداد، أنّه یستحق العقاب الشدید، أمّا الکافر الأصلی الذی أراد البقاء علی کفره فلا یری استحقاقه للعقاب الدنیوی.

ص:41

وهذه القاعدة العامّة وهی أنّ للشارع أن یخطّئ العقلاء فی بعض الموارد أمر یعلمه کلّ مطلّع علی الفقه والأصول، ولا مخالف فی ذلک. نعم، لا یمکن للشارع أن یخطّئ حکم العقل أبداً، وهذا هو أحد موارد افتراق العقل والعقلاء، الذی بحث بصورة مفصّلة فی أبحاث خارج الأصول.

ب: أن یکون ملاک الوهن هو العمل الذی لا یطابق طبع الإنسان، مع کراهیته له، فنقول فی هذا الفرض: لا یکره طبع أیّ إنسان مجازاة المرتد و سابّ أشرف الکائنات وأطهرها، وهذا أمر واضح.

ج: أن نقول: إنّ معیار الوهن هو أیّ عمل أو قول لا یطابق رغبة غیر المتدینین، فتکون نتیجة هذا الفرض: أنّ أغلب أحکام الإسلام فی العبادات والعقوبات والمعاملات و السیاسات، بل بعض الأخلاقیات موهونة، وینبغی أن نعتقد بأنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر تدخّل سافر فی شؤون الآخرین وباعث للوهن، و أیضاً بأنّ الجهاد والشهادة فی سبیل الله سبب للوهن.

د: ملاک الوهن کلّ عمل یفتقد التوجیه العقلی أو النقلی. ویبدو أنّ هذا الفرض هو المعنی الصحیح للوهن.

وقد أوضحنا فی هذا البحث التوجیه العقلی البیّن لحکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، والأدلة النقلیة أیضاً دالة علی ذلک. ومن الناحیة العقلیة فإنّ إنکار الخالق والمالک الذی کلّ وجود الإنسان منه موضوع لاستحقاق

ص:42

العقاب الدنیوی، و العقل یدرک أنّ الله تعالی یمکنه جعل هذا الحکم للإنسان الذی مخلوقه، وعلی فرض الجعل لا یری أیّ قبح فی ذلک.

وبعبارة أخری: السؤال الأصلی فی هذا البحث هو: هل یمکن من الناحیة العقلیة أن یجعل الله تعالی هذا الحکم؟

مال بعض منکری حکم الارتداد إلی القول بهذا المطلب، مع أنّنا لو سلّمنا بأنّ کافّة الملاکات فی الأحکام العقلیة ترجع إلی حسن العدل وقبح الظلم - وقد تأمّل الإمام الخمینی رضوان الله علیه فی بعض أبحاثه الأصولیة فی ذلک - ففی جعل حکم وجوب قتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله لا یری العقل أیّ قبح أو ظلم، ویقبل بأنّ الله تعالی باعتباره المالک الحقیقی للبشر لو حکم بمثل هذا الحکم لم یکن ظلماً من جهته، وهو حکم صحیح، والعقل یدرک هذا فی مقام الثبوت، ویقبل أصل استحقاق العقاب فیما یخصّ مقام الإثبات، وبحسب الأدلة النقلیة قد بیّن الشارع نوع الحکم.

أمّا النکتة الهامّة فی عنوان الوهن الذی غفلوا عنه فهو أنّ هذا العنوان عنوان ثانوی کالحرج والاضطرار والتقیة وأمثال ذلک، وقد ثبت فی محلّه عدم اعتبار مثل هذه العناوین فی کافّة الموارد والمصادیق، ففی التقیة مثلاً لو کان فیها دم فلا اعتبار للتقیة حینئذ، «إذا بلغت الدم فلا تقیة».

وفی مورد الوهن لا موضوعیة لهذا العنوان فی بعض الموارد، فمثلاً فی الموارد التی تطرح الشدّة والغلظة مع الکفّار أو قتل المشرکین والکفّار لا یتفوّه فقیه بعدم وجوب قتل المشرکین إذا أدّی إلی وهن الدین، ویصدّق

ص:43

هذا المطلب جیّداً کلّ مطّلع علی الفقاهة، وکذلک الأمر فی المرتد، فلا أثر لهذا العنوان أبداً. نعم، فی مثل حدّ الرجم إن أوجب وهناً للدین، أمکن تعطیله بشکل مؤقت، أمّا الحکم الذی فی ذاته وماهیته فیه المواجهة الشدیدة مع الکفّار والمنحرفین، ویأبی الکفّار والمشرکون عنه، وهو موجب لتنفّرهم و ابتعادهم، لا یمکن تحدیده بهذا العنوان.

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم علیه السلام ؟

قالوا: یری کثیر من فحول الفقهاء أنّ تنفیذ الحدود والجهاد الابتدائی إنّما هو مشروط بحضور النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام.

وفی رأینا أنّ هذا المطلب بعید عن التحقیق والواقع، والحقیقة عکس ذلک، فالمشهور من القدماء کالشیخ المفید (المقنعة 810)، و سلّار (المراسم 260)، وأبی الصلاح الحلبی (الکافی 421)، وابن زهرة (غنیة النزوع 436)، وابن سعید (الجامع للشرائع 548)، والشیخ الطوسی صریحاً فی کتاب المبسوط وبتوجیه قلیل فی کتاب النهایة (النهایة 301)، وکذلک العلامة صریحاً فی التحریر ( 242/2) والقواعد ( 525/1) والإرشاد ( 352/1) والتبصرة ( 90) والمختلف ( 478/4)، والشهید الأوّل فی الدروس ( 47/2)، والمحقق الثانی فی حاشیة الشرائع، والشهید الثانی فی مسالک الإفهام، والفاضل المقداد فی التنقیح الرائع: هو الاعتقاد بمشروعیة ذلک، وجوازه فی زمن الغیبة.

نعم، قد تستفاد المخالفة من بعض عبارات ابن إدریس فی السرائر،

ص:44

وبعض الفقهاء کالصیمری فی غایة المرام، وابن فهد فی المهذّب البارع استفادا هذه المخالفة. ولکن أورد المرحوم السید محمّد باقر الشفتی فی رسالة إقامة الحدود فی زمن الغیبة (ص 144) أنّه یستفاد من عبارات آخر کتاب السرائر أنّ ابن إدریس کالمشهور من الموافقین، ومن عباراته فی آخر الکتاب لم یستفد الجواز فحسب، بل إصراره علی الموافقة أیضاً.

والسؤال المطروح هنا هو: بأیّ دلیل یدّعی أنّ کثیراً من الفحول اشترطوا فی تنفیذ الحدود الإمام المعصوم علیه السلام؟ المحقق الحلّی فی الشرائع والمختصر من جملة المتوقّفین لا المخالفین، وعدّ المرحوم المحقق الخوئی والمحقق السیّد أحمد الخوانساری (قدس سرّهما)، المحقق الحلّی وابن إدریس من جملة المتوقّفین فی هذا الحکم. فمن هؤلاء الفحول المدّعَون؟! قال صاحب الجواهر وهو محور الفقاهة: «لا أجد فیه خلافاً إلّا ما یحکی عن ظاهر ابنی زهرة وإدریس، ولم نتحققه، بل لعلّ المتحقق خلافه»(1).

المحور السادس: هل یتنافی وجوب قتل المرتد مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله ورأفته ؟

قالوا: أیّ تناسب فی هکذا فتاوی مع موازین نبی الرحمة صلی الله علیه و آله؟

أوّلاًً: هذه التعابیر والعبارات بعیدة کلّ البعد عن شأن الاجتهاد وصناعة الاستدلال الفقهی، فهی أشبه ما تکون بالشعار، مَثَلُ هذه الکلمات

ص:45


1- (1) جواهر الکلام 394:21.

من قبیل أن نقول: إذا کان الله أرحم الراحمین فلماذا خلق جهنم، ویعذّب البعض یوم القیامة؟

وعلیه فینبغی إنکار کافّة الحدود الإلهیة فی زمن الحضور وزمن الغیبة.

ثانیاً: ورد فی التاریخ أنّ فی زمن النبی صلی الله علیه و آله قد أُجری حکم الارتداد - أی: القتل - علی بعض الأشخاص(1) ، فکیف یوجّهون هذا العمل مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله؟ وکیف یفسّرون قول الله تعالی: (أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ)2 ؟ فهل یرون أنّ المرتد بعد الارتداد داخل فی المسلمین والمؤمنین؟ فمن الواضح أنّه لیس کذلک. ألیس فی ثقافة القرآن المرتد أسوأ من الکافر؟!

ثالثاً: إنّ قتل المرتد سبب للرحمة لنوع المسلمین، وعدم معاقبته سبب لخسران مجتمع المسلمین، ولماذا یطرحون الرحمة بالنسبة إلی شخص خاص وفرد معیّن بصورة مستقلة، مع غض النظر عن الآخرین وعن الدین نفسه؟ وبعبارة أخری: لم یفسّر هؤلاء نبی الرحمة تفسیراً صحیحاً، فرسول الله صلی الله علیه و آله رحمة للبشریة ونوع الناس، ولیس لکلّ فرد علی حدة.

ص:46


1- (1) راجع کتاب التاج الجامع للأصول فی أحادیث الرسول 18:3-19، و بعض المصادر التاریخیة الأخری.

تنبیهات:

الأوّل: عدم اختصاص حکم الارتداد بالإسلام، بل تعرّضت له سائر الأدیان أیضاً، یستفاد هذا المطلب من قوله تعالی: (وَ لَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَ إِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ)1 .

وتدل الآیة المبارکة 54 من سورة البقرة علی ذلک أیضاً، وعلی ضوء تصریح القرآن الکریم أنّ الارتداد فی قوم موسی علیه السلام کان یستتبع استحقاق القتل، لذا الأحکام الجزائیة للارتداد لاتختص بالدین الإسلامی، بل فی بعض الأدیان والمذاهب الأخری کالیهودیة والمسیحیة الذی یرجع عن دینه فهو کافر ومرتد وتجب مجازاته(1).

الثانی: یستفاد من مجموع الأدلة أنّ الارتداد الباطنی لیس موضوعاً لوجوب القتل إن لم یظهر. نعم، إن أظهر ارتداده، وأعلن عن إنکاره حکم علیه بالقتل.

الثالث: یستفاد من القرآن الکریم أنّ الأحکام الدنیویة والأخرویة للمرتد تکون فی حالة معرفة وعلم الشخص بالإسلام، ثمّ إنکاره(مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُمُ)3 ، فالشاک فی الدین أو المنکر له بسبب الإعلام السیّ ء

ص:47


1- (2) راجع العهد القدیم، سفر التوریة، التثنیة، الفصل 13؛ والعهد الجدید، رسالة إلی المسیحیین الیهود من أصل عبری، المادة 10، الجملة 26-32.

وتحریک الآخرین مستثنی من هذا الحکم. طبعاً فی هذه الموارد لبعض الفقهاء تأمّل ینبغی دراسته مفصّلاً فی محلّه، قال المرحوم آیة الله العظمی الفاضل اللنکرانی قدس سره فی جواب استفتاء: لا یمکن تنفیذ حکم المرتد علی من بلغ وصدق علیه عنوان الشاک فی الإسلام، بل ینبغی إمهالهم.

الرابع: هل لتوبة المرتد أثر فی رفع الآثار الدنیویة له أم لا؟ بحث مفصّل مذکور فی کتب الفقه والتفسیر.

إنّ فرضنا فی هذه الرسالة هو إذا ارتدّ شخص ولم یتب عن ارتداده فهو یستحق القتل، یعنی: عرضنا البحث فی القدر المتیقن.

الخامس: لزوم قتل المرتد من الناحیة الفقهیة والأولیّة لایحتاج إلی فتوی وحکم من مرجع التقلید، فلو تلاقی مسلم مع مرتد أمکن للمسلم إجراء هذا الحکم بالنظر الأولی الشرعی. روی عن عمار الساباطی أنّه قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: «فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک»(1). نعم، الاحتیاط یقتضی أن یکون بنظر المجتهد الجامع للشرائط.

السادس: ینبغی الانتباه إلی هذا الأمر وهو: ما الفرق بین المرتد ومن بقی علی کفره الأصلی؟ ولماذا لم تذکر للکافر المستمر فی کفره عقوبة القتل فی الإسلام؟ السر فی هذا المطلب یکمن فی أنّ من ارتدی ثوب الإسلام، ووضع نفسه فی دائرة المسلمین، فمع إظهار ارتداده یکون قد

ص:48


1- (1) الکافی 174:6، ح 1.

أعلن حربه علی الإسلام، ومن الطبیعی هنا مواجهته بشدّة، علی خلاف الکافر المستمر فی الکفر.

السابع: لأجل الخدشة فی وجوب قتل المرتد ورد فی بعض الکلمات: أنّ العلماء اختلفوا فی تعریف ضروری الدین.

فنقول فی الجواب: أوّلاً: ضروری الدین هو کلّ ما یکون محلّ وفاق بین الشیعة والسنّة، دون حاجة إلی الاستدلال حتّی الإجماع علی صحة ذلک.

ثانیاً: علی فرض الاختلاف فی معنی الضروری، إلّا أنّ هناک موردین قد بُیّنا فی الروایات بوضوح فی موضوع المرتد، وهما:

ألف: الخروج عن الإسلام، وإنکار نبوّة النبی صلی الله علیه و آله.

ب: تکذیب المعاد، ورد فی بعض الروایات أنّه جیء بزندیق إلی أمیر المؤمنین علیه السلام قد کذّب القیامة، فأمر علیه السلام بقتله.

إنّ إنکار نبوّة النبی صلی الله علیه و آله وکذا المعاد من أسباب الارتداد، فینبغی علیهم أن یقبلوا - علی الأقل - فی هذه الموارد حکم المرتد.

وبعبارة أخری: لیس لعنوان الضروری موضوعیة بنفسه، بل هو طریق للوصول إلی المصادیق، فلو أحرزت بعض المصادیق من خلال الروایات، فلا شک حینئذ فی لزوم تنفیذ حکم القتل فی ذلک المورد، سواء صدق عنوان الضروری علی هذه المصادیق أم لم یصدق.

الثامن: یظهر من بعض الشبهات أنّ هناک انتقاداً للأسلوب الاجتهادی

ص:49

الشائع فی الحوزات العلمیة، وینبغی بناءً علی بعض مبانی معرفة الإنسان والنظرة الکونیة وعلم تفسیر المتون أن یؤسس لطریقة جدیدة فی الاجتهاد. هل هذا الادّعاء صحیح أم لا؟ یتطلّب مجالاً مستقلاً و بحثاً آخر.

إنّ ما تعرّضنا لبیانه فی هذه الرسالة کان علی طبق الأسلوب الاجتهادی المألوف للفقهاء منذ ألف عام، وعلی ضوئه لا إشکال فی حکم وجوب قتل المرتد، وأنّ هذا الحکم لیس مؤقتاً، ولا سیاسیاً محضاً، وإن صحّ أن تکون فیه هذه الحیثیة أیضاً. والأسلوب المقترح من قبل البعض مستلزم لتغییر کثیر من أحکام الدین، ولیس نتیجته سوی اضمحلال الدین، واللجوء إلی القوانین المشرّعة من قِبل البشر، وبعبارة أخری: یستتبع ذلک اندراس تراث أهل البیت وفقه الأئمة الطاهرین علیهم السلام.

التاسع: وفی الخاتمة نری أنّ هذا البحث مفتوح، فإذا رأی الفقیه الجامع للشرائط المصلحة فی تأخیر تنفیذ حکم الله تعالی فی المرتد أو عدم تنفیذه أو کان فی موارد لهذا العنوان مصادیق کثیرة - فلو کان أُجری مثل هذا الحکم منذ البدایة لما تحقق هذا الفرض - فهل له أن یأمر بوقف تنفیذ هذا الحکم أم لا؟ ورد فی بعض روایات تنفیذ الحدود عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه: «لا یبطل حدّاً من حدود الله عزّوجل»(1) ، وعلی کلّ حال یحتاج هذا البحث إلی تأمّل ودقة أکثر.

ص:50


1- (1) الکافی 176:7، ح 13.

وأغتنم هذه الفرصة و أعلن بأنّ المرکز الفقهی للأئمة الأطهار علیهم السلام الذی هو مرکز تخصصی فی المسائل الفقهیة مستعد للبحث والمناظرة فی هذا الموضوع، وبإمکان الباحثین فی المجال الدینی والفقهی، الراغبین فی المشارکة بعیداً عن الضجیج السیاسی والتمایلات الغربیة، متابعة هذا الموضوع من خلال هذا الطریق.

وما ورد فی هذه الرسالة کان بحثاً موجزاً فی الدفاع عن حکم المرتد، ومن الواضح أنّ بحثه التفصیلی بحاجة إلی مجال أوسع.

وفّق الله الجمیع لفهم الحقیقة والعمل بها، وفهم الدین والعمل به إن شاء الله.

ص:51

ص:52

فهرس مصادر

مقال حکم قتل المرتد (شبهات وردود)

1 - التاج الجامع للأصول، منصور بن علی ناصف (ت بعد 1371).

2 - تفسیر روح المعانی، محمود بن عبد الله الآلوسی (ت 1270).

3 - التفسیر الکبیر، فخر الدین الرازی (ت 606)، الطبعة الثالثة.

4 - تفسیر کنز الدقائق وبحر الغرائب، محمّد بن محمّد رضا القمی المشهدی من أعلام القرن الثانی عشر، تحقیق: حسین درگاهی، الناشر: مؤسسة الطبع والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، الطبعة الأولی 1367 ش.

5 - التنقیح فی شرح العروة الوثقی (ضمن موسوعة السید الخوئی) (ت 1413)، تقریر: الشیخ علی الغروی، الناشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثانیة 1426 ه -.

6 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق و تعلیق: عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1362 ش.

ص:53

7 - الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور، جلال الدین عبد الرحمن ابن أبی بکر السیوطی ( ت 911)، الناشر: دارالمعرفة - بیروت.

8 - دعائم الإسلام وذکر الحلال والحرام والقضایا والأحکام عن أهل البیت علیهم السلام، النعمان بن محمّد المغربی ( ت 363)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع 1383 ه -.

9 - سنن أبی داود، سلیمان بن الأشعث السجستانی (ت 275)، تحقیق و تعلیق: سعید محمّد اللحام، الناشر: دار الفکر، الطبعة الأولی 1410 ه -.

10 - عوالی اللئالی العزیزیة فی الأحادیث الدینیة، ابن أبی جمهور الأحسائی (ت 880)، تحقیق: مجتبی العراقی، الطبعة الأولی 1403 ه -، قم.

11 - الکافی، محمد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح و تعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

12 - المبسوط، شمس الدین السرخسی (ت 483)، الناشر: دار المعرفة - بیروت، سنة الطبع 1406 ه -.

13 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی ( ت 460)،

ص:54

تصحیح و تعلیق: محمد باقر البهبودی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1351 ش.

14 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علی بن أبی بکر الهیثمی ( ت 807)، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، سنة الطبع 1408 ه -.

15 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثانی زین الدین بن علی العاملی (ت 965)، تحقیق و نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

16 - مستدرک الوسائل ومستنبط المسائل، میرزا حسین النوری الطبرسی (ت 1320)، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - بیروت، الطبعة الأولی 1408 ه -.

17 - نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشریف الرضی من کلام أمیر المؤمنین علی علیه السلام، تحقیق: صبحی الصالح، الطبعة الأولی 1387 ه -، بیروت.

ص:55

ص:56

القسم الثانی: إقامة الحدود والتعزیرات

اشارة

ص:57

ص:58

هل یجوز إقامة الحدّ علی المذنب فی الدول غیر الإسلامیة ؟

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

البحث فی مسألة ما لو ارتکب شخص ذنباً موجباً للحد فی أرض غیر إسلامیة وفی الروایات یعبّر عنها بأرض العدو فهل یقام علیه الحد أو یؤخّر إلی حین دخوله أرض المسلمین التی تجری فیها أحکام الشریعة؟

والبحث یقع فی نقطتین:

النقطة الأولی: هل ارتکاب الذنب فی أرض غیر إسلامیة موجب للحد؟

النقطة الثانیة: هل للحاکم إقامة الحد علی من ارتکب ذنباً فی أرض غیر إسلامیة أو یؤخّره إلی حین رجوعه للأرض الإسلامیة؟

أمّا النقطة الأولی فلم تتعرّض لها الأخبار وکلمات الفقهاء إلّا ضمناً کما سنلاحظ عند بحث النقطة الثانیة والسبب فی ذلک وضوح الأمر وأنّ المدار فی الذنب فعل الإنسان لا الأرض التی یرتکب الذنب فیها وبما أنّه ارتکب ذنباً موجباً للحد فیثبت فی حقّه وإن تأخّر العقاب لما بعد کما سیأتی.

ص:59

أضف إلی أنّ خبر أبی مریم وغیاث بن إبراهیم الآتیین یتضمّنان ثبوت الحد علی من ارتکبه فی أرض العدو، أی: الأرض غیر الإسلامیة. فالبحث کلّه منصبّ فی النقطة الثانیة.

النقطة الثانیة: ورد فی الأخبار أنّ الحد لا یقام علی مرتکبه فی أرض العدو سواء ارتکبه هنالک ابتداءً أم ارتکبه فی أرض الإسلام ومن ثمّ ذهب إلی هناک، ففی الخبر: «علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن فضال، عن یونس بن یعقوب، عن أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا یقام علی أحد حد بأرض العدو».(1)

والروایة صحیحة السند لوثاقة رجالها وأبو مریم هو عبد الغفار بن القاسم الأنصاری.

وفی الخبر الآخر: «الحسین بن سعید، عن محمّد بن یحیی، عن غیاث بن إبراهیم، عن جعفر، عن أبیه، عن علی علیه السلام أنّه قال: لا أقیم علی رجل حداً بأرض العدو حتّی یخرج منها، مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق بالعدو».(2)

ص:60


1- (1) الکافی 218:7، باب الأوقات التی یحد فیها من وجب علیه الحد.
2- (2) تهذیب الأحکام 40:10. وللروایة طریقان آخران ذکرهما الحر العاملی فقال: ورواه الصدوق فی (العلل) عن أبیه، عن سعد، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن یحیی مثله. وباسناده عن محمّد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن موسی الخشاب، عن غیاث بن إبراهیم، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبیه، عن علی علیهم السلام فی حدیث مثله. وسائل الشیعة 25:28.

والروایة معتبرة سنداً لوثاقة رواتها.

والخبر الأوّل مطلق لم یحدّد سبب النهی عن إقامة الحد، خلافاً للخبر الثانی فقد علل السبب وأنّه مخافة الالتحاق بأرض العدو فیما لو أُقیم علیه وهو بینهم.

آراء الفقهاء فی المسألة:

اختلفت الأقوال فی مسألة من ارتکب ذنباً موجباً للحد فی أرض غیر المسلمین، حیث ذهب جملة من الفقهاء إلی ثبوت الحکم وتأخیر إقامة الحد إلی حین الرجوع إلی أرض المسلمین، وذهب آخرون إلی وجوب إقامة الحد وعدم التوانی فیه؛ إذ لا نظر فی الحدود، ففی المسألة قولان:

القول الأوّل: وهو ما ذهب إلیه مشهور الفقهاء من عدم إقامة الحد فی الأرض غیر الإسلامیة، وإنّما یؤخّر إلی حین دخوله فیها تبعاً للنصوص المتقدّمة، قال الشیخ الطوسی: «من فعل ما یجب علیه به الحد فی أرض العدو من المسلمین، وجب علیه الحد، إلّا أنّه لا یقام علیه الحد فی أرض العدو، بل یؤخّر إلی أن یرجع إلی دار الإسلام.. دلیلنا علی وجوب الحد قوله تعالی: (الزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ولم یفصّل، وقوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ) ، وإنمّا أخّرناها لإجماع الفرقة علی ذلک».(1)

ص:61


1- (1) الخلاف 523:5.

وقال الفاضل الهندی: «.. (ولا) ینبغی کما فی المنتهی والتذکرة أن یقام حد (فی أرض العدو) کما نصّ أمیر المؤمنین علیه السلام فی خبر أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام (لئلاّ تلحقه غیرة وحمیّة فیلحق بهم) کما نصّ علیه فی خبر غیاث بن إبراهیم عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا أُقیم علی أحد حدّاً بأرض العدو حتّی یخرج منها؛ لئلاّ تلحقه الحمیّة فیلحق بالعدوّ».(1)

وفی الجواهر: «.. (ولا) یقام أیضاً (فی أرض العدو مخافة الالتحاق) کما نصّ علیه أمیر المؤمنین علیه السلام فی خبر أبی جعفر علیه السلام.

وقال الصادق علیه السلام فی خبر إسحاق: «لا تقام الحدود بأرض العدو؛ مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق العدو»، ولا ریب فی کون ذلک فی حد الجلد»(2). ونصّ علی الحکم کثیر من العلماء کالشیخ المفید(3) والدیلمی(4) والقاضی ابن البراج(5) والطبرسی(6) وابن حمزة الطوسی(7) وابن إدریس(8)

ص:62


1- (1) کشف اللثام 465:10:
2- (2) جواهر الکلام 344:41.
3- (3) المقنعة: 781.
4- (4) المراسم العلویة: 255.
5- (5) المهذّب 529:2.
6- (6) المؤتلف من المختلف بین أئمة السلف 434:2.
7- (7) الوسیلة: 412.
8- (8) السرائر 457:3.

والمحقق الحلی(1) والصیمری(2) والعلامة الحلی(3) فی بعض کتبه والسید الخوانساری(4) والحر العاملی(5) والطباطبائی(6) والشریف الکاشانی(7) والسید الخوئی(8) والسید الکلبایکانی(9) وغیرهم.

والسبب فی ذلک کما صرّحت فیه الروایة من الحیلولة دون ذهابه إلیهم والتحاقه بدینهم، قال الشیخ التبریزی: «ظاهر کلام الماتن قدس سره لزوم الترک، وفی کلام جماعة یکره إقامة الحد فی أرض العدو، ولا یبعد التعیّن فیما احتمل التحاقه بالعدو، فإنّ الغرض من إقامة الحد تأدیبه ومنعه عن المنکر، وإقامته علیه فی أرض العدو فیما أوجب التحاقه بهم یوجب نقض الغرض».(10)

ص:63


1- (1) شرائع الإسلام 938:4.
2- (2) تلخیص الخلاف 274:3.
3- (3) تحریر الأحکام 193:2.
4- (4) جامع المدارک 42:7.
5- (5) هدایة الأمة إلی أحکام الأئمة 448:8.
6- (6) ریاض المسائل 502:15.
7- (7) تسهیل المسالک إلی المدارک: 16.
8- (8) القضاء والشهادات 217:2.
9- (9) الدر المنضود فی أحکام الحدود 389:1.
10- (10) تنقیح مبانی الأحکام (الحدود والتعزیرات): 124.

وأصحاب هذا الرأی اختلفوا فی مسألتین:

الأولی: فی تحدید معنی الجملة الواردة فی آخر الروایة: «مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق بالعدو» وکیفیة تفسیرها؟

الثانیة: هل الحکم عام لکلّ الحدود أو مختص بغیر حد القصاص باعتبار انتفاء الموضوع بالقتل؟

أما النقطة الأولی فقد اختلفوا فیها، فبعضهم حملها علی أنّها علّة فی الحکم، فمع انتفائها یقام الحد فی أرض غیر إسلامیة وهو ما ذهب إلیه المحقق فی الشرائع فقال: « ولا فی أرض العدو مخافة الالتحاق»،(1) والسید الخوئی إذ قال: « وأمّا إذا لم یخف علیه ذلک فلا بأس من حدّه»،(2) وهو ظاهر کلّ من قیّد الحکم بخوف الالتحاق بالعدو.

إلاّ أنّ صاحب الجامع ناقش أمر التعلیل فقال: « وقد یقال: إطلاق المعتبرة الأولی یقید بالثانیة، والأظهر أن یکون ما ذکر من باب الحکمة من جهة أنّ المطلق لابدّ من بقاء الغالب فیه بعد التقیید لا الأقل ولا المساوی».(3)

وقد شرح السید الکلبایکانی العبارة المتقدّمة فقال: « وظاهر هذا التعلیل هو الإطلاق، فیفید أنّه لا یقام علیه الحد فی أرض الکفّار؛ لأنّ هذا

ص:64


1- (1) شرائع الإسلام 938:4.
2- (2) القضاء والشهادات 217:2.
3- (3) جامع المدارک 44:7.

الخوف حاصل لا أنّه لا یقام علیه إذا خیف علیه ذلک، ولذا قال بعض الأعاظم قدس سره: والأظهر أن یکون ما ذکر من باب الحکمة من جهة أنّ المطلق لابدّ فیه من بقاء الغالب فیه بعد التقیید لا الأقل ولا المساوی.

ومراده رحمه الله: أنّه لابدّ فی التقیید أن لا یخرج الأکثر حتّی لا یکون من باب تخصیص الأکثر.

أقول: الظاهر أنّه وإن لم یکن الالتحاق بنفسه محققاً إلّا أنّ خوف الالتحاق محقق نوعاً لهذا هو النجاشی الشاعر المخصوص لأمیر المؤمنین علیه السلام فقد شرب الخمر فی شهر رمضان، فضربه علیه السلام ثمانین، ثمّ حبسه لیلة، ثمّ دعا به من الغد فضربه عشرین لتجرّئه علی شرب الخمر فی شهر رمضان، وصار هذا سبباً لفراره وإقباله علی معاویة والالتحاق به، وعلی هذا فهذا الخوف محقق نوعاً، فیکون القید من القیود الواردة مورد الغالب وهو لا یقید الدلیل العام أو المطلق، وعلی هذا فیؤخّر الحد وإن لم یکن فی مورد خوف أصلاً».(1)

فالقید لیس وارداً علی الموضوع کی یقال بتقیید الروایة الأولی بالثانیة وإنّما وارد لبیان طبیعة الحکم، وأنّ من یقام علیه الحد فی أرض العدو عادة ما یؤدّی إلی التجائه إلیهم والالتحاق بهم وهو وإن تخلّف فی بعض الأفراد لکن فی الغالب یکون کذلک فلذلک لا یکون قیداً منوّعاً ولا علّة ینتفی

ص:65


1- (1) الدر المنضود فی أحکام الحدود 390:1.

الحکم بانتفائها بل الحکم جار فی کلّ الحالات.

ویبقی معرفة ما إذا کان القید منوّعاً أو وارداً مورد الغالب إلی استظهار عرفی یساعد علیه وهو ما سنذکره فی الأمر اللاحق.

هل قید الالتحاق منوّع أو وارد مورد الأغلب؟

قلنا: ذهب الأغلب إلی أنّ قید ( مخافة الالتحاق بالعدو) منوّع فعند الاطمئنان بعدم الالتحاق یجب إقامة الحد؛ لعدم جواز التوانی فیها بل یجب إقامتها علی الفور بخلاف البعض الآخر حیث ذهب إلی أنّ القید لیس منوّعاً وإنّما ورد مورد الغالب؛ لأنّ طبع الإنسان الهرب من العقوبة والوقوع فی المشقة والحد مشتمل علیه فإذا ما أقیم علیه حاول التخلص منه بشتّی الطرق، ولا أقل یکون حافزاً لفراره خارج دائرة الالتزام وهذا هو المقصود من الالتحاق، فالنجاشی حینما شرب الخمر مع سمعان بن هبیرة أبو سمال فی شهر رمضان، وضرب الحد وعقوبة هتک حرمة الشهر الکریم، التحق بمعاویة لعنه الله وأنشد شعراً فی ذمّ الإمام علیه السلام(1) مع أنّه کان شاعر الإمام

ص:66


1- (1) الکافی 216:7. والقصة ذکرها المترجمون للصحابی المعمّر سمعان بن هبیرة بن مساحق، قال ابن حجر: سمعان بن هبیرة بن مساحق بن بجیر بن أسامة بن نصر بن قعین بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزیمة الأسدی أبو السمال.. عاش مئة وسبعاً وستین سنة.. وقال المرزبانی فی معجمه: هو الذی شرب فی رمضان مع النجاشی الحارثی، فأقام الحد علی النجاشی، وهرب أبو السمال، وأنشد له فی ذلک شعراً قاله الإصابة 217:3. وترجم فی الإصابة 387:6 للنجاشی فقال: النجاشی الشاعر الحارثی اسمه قیس بن عمرو بن مالک بن معاویة بن خدیج بن حماس بن ربیعة بن کعب بن الحارث بن

فی صفین یرد علیهم بشعره.

فهل القید منوّع أو أنّه ورد لبیان الحالة الغالبة؟

کلا الاحتمالین له وجه إلّا أنّ حمله علی الغالب فیه مؤونة من الوضوح لدی المتلقّی أو الانصراف الخارجی، والمفروض أنّ المقام خال منها وما ذکر فیما تقدّم لا یمکنه أن یکون صارفاً للقید نحو الأغلب؛ وإنّما هی تتحدّث عن طبیعة الحد وهذا ما لا ینکر إذ إنّ الحد بطبعه مما یفر الإنسان منه ویحاول التخلّص والأفلات لکنه لا یلازم الخروج من الدین والفرار إلی أرض غیر المسلمین وإن وجد فی نفسه حزازة وامتعاض.

ص:67

وفرار النجاشی من معسکر الإمام علی علیه السلام لا ربط له بمورد البحث لحمل القید علی الغالب؛ لأنّ الحد أقیم علیه فی الکوفة وهی لیست أرضاً للعدو، بل هی عاصمة الخلافة الإسلامیة فالاستشهاد به خروج عمّا نحن فیه اللهم إلّا أن یقال بأنّ عنوان أرض العدو یشمل الأرض القریبة من أرضهم وهو کما تری، وعدم إقامة الحد علیه فیه مفسدة کبیرة تضع الإمام علیه السلام تحت طائلة التساؤل من التهاون فی الحدود ومحاباة أصحابه فیها وأهل الشام یتربّصون بالإمام کلّ حرکة وفعل للتشنیع وتشویه صورته أمام الرأی العام وإیراد الشکوک علیه بأنّه مداهن فی دم عثمان وإقامة الحد علی قاتلیه.

مضافاً إلی أنّ بعض المذنبین هم الذین یطلبون من الإمام إقامة الحد علیهم من أجل التطهیر، کالذی سرق وطلب من الإمام إقامة الحد علیه(1) ، وآخران زنیا وطلبا من الإمام تطهیرهما(2) ، وهذا یرجّح کون القید منوّعاً ولیس وارداً مورد الغالب لاختلاف الأشخاص فی تقبّلهم لتحمّل جریرة ذنبهم.

فما ذهب إلیه السید الخوانساری ورجّحه السید الکلبایکانی محلّ تأمّل، والصحیح أنّ القید منوّع ففی صورة الأمن من الفرار إلی العدو یقام الحد.

القول الثانی: وذهب جملة من الفقهاء إلی الحکم بالکراهة لعدم

ص:68


1- (1) مناقب آل أبی طالب 2.
2- (2) وسائل الشیعة 104:28، باب 16 من أبواب حدّ الزنا فی ثبوت الزنا بالإقرار أربع مرات لا أقل منها.

صحة الأخبار واستشعار التعلیل والالتزام بوجوب إقامة الحد وإن کان فی أرض غیر إسلامیة، قال الشهید الثانی: « الثانیة: یکره إقامة الحد فی أرض العدو وهم الکفّار؛ مخافة أن تحمل المحدود الحمیة فیلتحق بهم، روی ذلک إسحاق بن عمار عن الصادق علیه السلام:

«أنّ علیاً علیه السلام کان یقول: لا تقام الحدود بأرض العدو؛ مخافة أن تحمله الحمیة فیلتحق بأرض العدو». والعلّة مخصوصة بحد لا یوجب القتل».(1) واختاره المحقق الأردبیلی(2) وغیره.

وبیّن سیّد الریاض سبب حکمهم بقوله: « وظاهر العبارة ونحوها من عبائر الجماعة کون النهی هنا للحرمة، وصریح المسالک کونه للکراهة، کما یحکی عن ظاهر المنتهی والتذکرة؛ ولعلَّه لعدم صحّة الروایة، وإشعار التعلیل فیها بالکراهة».(3)

والتعلیل غیر صحیح بعد صحة الأخبار، وظاهر النهی الحرمة، ومعه لا معنی لحمله علی الکراهة فهذا القول لا یصح، والقول الأوّل هو الصحیح.

هل یخصّص الحد بغیر القتل؟

ذهب جملة من الفقهاء تبعاً للتعلیل الوارد فی الخبر إلی تخصیصه بغیر حد القتل، فإذا ما کان حدّاً لقتل فیقام علی الجانی وإن کان فی أرض

ص:69


1- (1) مسالک الإفهام 381:14.
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان 80:13.
3- (3) ریاض المسائل 502:15.

العدو، وهذا ما ذکره الشهید الثانی فی عبارته المتقدّمة والعلامة الحلی(1) وصاحب الجواهر(2) والسید الکلبایکانی(3) والسید الروحانی(4) وغیرهم، بینما ذهب آخرون إلی ثبوت الحکم فی مطلق الحد.

والصحیح أنّه مختص بالحدود غیر الموجبة للفوت، والتی یبقی المحدود حیاً بعد إقامتها؛ لوضوح التعلیل فی قوله: «مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق العدو» بعد عدم تصورّها فی الحدود الموجبة للفوت کالقصاص.

ومنه یتّضح ما فی کلام البعض من قوله: « فإنّ الظاهر من حکایة قول أمیر المؤمنین علیه السلام أنّها لبیان الحکم وأنّ من شرائط الإقامة أن لا تکون فی أرض العدو. وکیف کان فلا إشکال فی المسألة.

ثمّ إنّ ظاهر المتن وإن کان الاختصاص بحدّ الجلد إلّا أنّ إطلاق الموثّقة الأولی التعمیم لحدّ القتل والرجم أیضاً، واختصاص الخبرین الآخرین بغیر القتل بقرینة التعلیل لا یوجب تخصیص إطلاقها، کما لا یخفی».(5)

فیه ما لا یخفی؛ لوضوح أنّ ظاهر الخبر التعلیل لا الشرط ولا یوجد

ص:70


1- (1) تحریر الأحکام 194:2.
2- (2) جواهر الکلام 344:41.
3- (3) تقریرات الحدود والتعزیرات 144:1.
4- (4) فقه الصادق 431:25.
5- (5) مبانی تحریر الوسیلة 258:2.

فی المقام إطلاق لحمل الأخبار علیه، وإنّما هی روایة واحدة نقلت تامّة مرّة وناقصة فی الأخری، وبعد تسلیم الإطلاق لا معنی للقول بالشمول لحد القتل والرجم مع التعلیل المتقدّم فلاحظ.

حکم المقیم فی الأرض غیر الإسلامیة:

والکلام المتقدّم کان فی غیر المقیم فی الدولة غیر الإسلامیة، وأمّا المقیمین فیها فهل یشملهم الحکم بحیث لا یقام علیه الحد إلی حین دخوله الأرض الإسلامیة أو یقام الحد علیه؟ بعد الفراغ عن جواز إقامته فیها.

بمراجعة الأخبار المتقدّمة والتعلیل الوارد فیها «مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق العدو» نلاحظ أنّها تتحدّث عمّن یکون الحد وازعاً لأن یلتحق بالکفّار والخارجین عن قانون الدولة الإسلامیة، ومن یقیم عندهم ویرتکب ذنباً موجباً للحد لا یجری فی حقّه التعلیل المتقدّم، فإذا ما فرض أنّ الحاکم - سواء الإمام المعصوم أو نائبه الخاص والعام - له القدرة علی إقامته - والحدود لا یجوز تعطیلها وإبطالها - فعلیه أن یقیمه ولا یتوانی فی تأخیره.

وقد یقال: إنّ الأخبار نهت عن إقامة الحد فی أرض العدو من أجل الحفاظ علی المسلمین وسدّ المانع أمامهم من الالتحاق بالأعداء الذین لا یلتزمون بشرعیة ولا یتقیّدون بحدود معیّنة فمن باب الأولویة لا یجوز إقامة الحد علی المقیمین فی أرض العدو؛ کی لا یلتحقوا بهم ویلتجئوا إلی

ص:71

دینهم أو الاحتماء بهم فإنّهم أولی بالمراعاة ممن یکون هناک بنحو عرضی.

فإنّه یقال: یلزم منه الحکم بتعطیل الحدود فیمن یقیم فی الدول غیر الإسلامیة، وعدم جریانها فی حقّه، وهو مخالف لإطلاق نصوص الحدود وفوریتها، وعدم تقییدها من جهة الفرد أو المکان.

فالنصوص شاملة لکلّ زمان ومکان، خرج منه صورة التواجد بنحو طارئ فی أرض العدو وخاف الالتحاق بهم، فیبقی الباقی داخل فی عموم أحکام الحدود وعدم جواز تعطیلها أو تأخیرها مع الإمکان.

ص:72

فهرس مصادر

مقال هل یجوز إقامة الحد علی المذنب فی الدول غیر الإسلامیة؟

1 - الإصابة فی تمییز الصحابة، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی (ت 852)، تحقیق وتعلیق: عادل أحمد عبد الموجود وعلی محمّد معوض، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

2 - تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1420 ه -.

3 - تسهیل المسالک إلی المدارک فی رؤوس القواعد الفقهیة، حبیب الله الشریف الکاشانی (ت 1340)، سنة الطبع 1404 ه -.

4 - تقریرات الحدود و التعزیرات، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414).

ص:73

5 - تلخیص الخلاف وخلاصة الاختلاف، مفلح بن حسن بن رشید الصیمری من أعلام القرن السابع، تحقیق: السید مهدی الرجائی، إشراف: السید محمود المرعشی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

6 - تنقیح مبانی الأحکام (الحدود والتعزیرات)، الشیخ جواد التبریزی (ت 1427)، الناشر: دار الصدیقة الشهیدة - قم، الطبعة الثالثة 1429 ه -.

7 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

8 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السید أحمد الخوانساری (ت 1405)، تعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

9 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

10 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

ص:74

11 - الدر المنضود فی أحکام الحدود، تقریر بحث السید الکلبایکانی، الشیخ علی الکریمی الجهرمی، الناشر: دار القرآن الکریم - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

12 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

13 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

14 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

15 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، الناشر: مؤسسة دار الکتاب - قم، الطبعة الثالثة 1412 ه -.

16 - القضاء والشهادات، تقریر بحث السید الخوئی، الشیخ محمّد الجواهری، الناشر: منشورات مکتبة الإمام الخوئی - قم، الطبعة الأولی 1428 ه -.

17 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق:

ص:75

علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

18 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

19 - المؤتلف من المختلف بین أئمة السلف، فضل بن الحسن الطبرسی (ت 548)، تحقیق ومقابلة: جمع من الأساتذة، مراجعة: السید مهدی الرجائی، الناشر: مجمع البحوث الإسلامیة - مشهد، الطبعة الأولی 1410 ه -.

20 - مبانی تحریر الوسیلة، الشیخ محمّد المؤمن القمی، تحقیق ونشر: مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی 1422 ه -.

21 - مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان، المحقق أحمد الأردبیلی (ت 993)، تصحیح وتعلیق: مجتبی العراقی وعلی بناه الإشتهاردی وحسین الیزدی الإصفهانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

22 - المراسم العلویة فی الأحکام النبویة، حمزة بن عبد العزیز الدیلمی (ت 448)، تحقیق: السید محسن الحسینی الأمینی، الناشر: المعاونیة الثقافیة للمجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام، سنة الطبع 1414 ه -.

ص:76

23 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

24 - المقنعة، محمّد بن النعمان العکبری البغدادی الملقّب بالشیخ المفید (ت 413)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

25 - مناقب آل أبی طالب، محمّد بن علی بن شهرآشوب (ت 588)، تصحیح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، الناشر: المکتبة الحیدریة - النجف الأشرف، سنة الطبع 1376 ه -.

26 - المهذّب، القاضی عبد العزیز بن البراج الطرابلسی (ت 481)، إعداد: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1406 ه -.

27 - هدایة الأمة إلی أحکام الأئمة علیهم السلام، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مجمع البحوث الإسلامیة - مشهد، الطبعة الأولی 1412 ه -.

28 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:77

29 - الوسیلة إلی نیل الفضیلة، محمّد بن علی الطوسی المعروف بابن حمزة من أعلام القرن السادس، تحقیق: الشیخ محمّد الحسون، إشراف: السید محمود المرعشی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

ص:78

حکم إبدال التعزیر بالغرامة المالیة وأثر ذلک فی التهاون بالجریمة

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

موضوع البحث یتمحور حول ما إذا أراد الحاکم أن یضع غرامة مالیة معیّنة بدلاً من تعزیر الجانی، فهل یستطیع ذلک شرعاً أم لا؟ وهل له أثر فی الاستخفاف بالجرم؟

وفی البدء نبیّن العقوبات الشرعیة وکیفیة تشریعها.

العقوبات الشرعیة تنقسم إلی عدّة أقسام:

القسم الأوّل: الحدود المنصوصة فی النصوص الشرعیة وتکون حقّاً لله تعالی، کحدّ الزنا والسرقة وغیرها.

القسم الثانی: الحدود المنصوصة فی النصوص الشرعیة وهی من حقوق الناس، کالقصاص والقذف.

القسم الثالث: عقوبة التعزیر التی لم ینصّ علیها بمقدار معیّن.

أمّا القسم الأوّل: وهو ما کان الحد حقّاً لله تعالی، فالنصوص تصرّح بوجوب إقامته وعدم جواز ترکه، ففی الموثقة: «عن أحمد بن محمّد، عن

ص:79

عثمان بن عیسی، عن سماعة بن مهران، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلک له، فإذا رفع إلی الإمام قطعه، فإن قال الذی سرق منه: أنا أهب له، لم یدعه الإمام حتّی یقطعه إذا رفعه إلیه، وإنّما الهبة قبل أن یرفع إلی الإمام، وذلک قوله تعالی: (وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ) فإذا انتهی إلی الإمام فلیس لأحد أن یترکه»(1) ، وفی الصحیح: «عدّة من أَصحابنا، عن سهل بن زیاد وعلی بن إبراهیم، عن أبیه جمیعاً، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضریس الکناسی، عن أبی جعفر علیه السلام قال: لا یعفی عن الحدود التی لله دون الإمام، فأمّا ما کان من حقّ الناس فی حد فلا بأس أن یعفی عنه دون الإمام»(2) ، وفی الصحیح الآخر: « عدة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد ومحمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی وعلی بن إبراهیم، عن أبیه جمیعاً، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن محمّد بن قیس، عن أبی جعفر علیه السلام:

قال کان لأمّ سلمة - زوجة النبیّ صلی الله علیه و آله - أمة فسرقت من قوم، فأتی بها النبیّ صلی الله علیه و آله، فکلمته أمّ سلمة فیها، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: یا أمّ سلمة هذا حدّ من حدود الله عزّ وجل لا یضیع، فقطعها رسول الله صلی الله علیه و آله».(3)

ومعتبرة طلحة بن زید: « الحسین بن سعید، عن محمّد بن یحیی، عن طلحة بن زید، عن جعفر قال: حدّثنی بعض أهلی أنّ شاباً أتی أمیر

ص:80


1- (1) الاستبصار 251:4.
2- (2) الکافی 252:7.
3- (3) الکافی 7:254.

المؤمنین علیه السلام فأقر عنده بالسرقة، قال: فقال له علیه السلام:

إنّی أراک شاباً لا بأس بهیئتک، فهل تقرأ شیئاً من القرآن؟

قال: نعم، سورة البقرة، فقال: فقد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن یقطعه؛ لأنّه لم تقم علیه بیّنة».(1)

والنصوص فی مسألة عدم جواز العفو عن الحد المنصوص وهو حقّ لله تعالی متضافرة وکثیرة.

والفقهاء لهم تفصیل فی المقام، إذ قالوا: بأنّ الحد إن کان ثابتاً بالبیّنة فلا یجوز للإمام العفو، وإن کان ثابتاً بالإقرار جاز للإمام العفو بشرط توبة المقرّ، قال الشیخ المفید: « ومن زنی وتاب قبل أن تقوم الشهادة علیه بالزنی درأت عنه التوبة الحد، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه کان للإمام الخیار فی العفو عنه أو إقامة الحد علیه، حسب ما یراه من المصلحة فی ذلک له ولأهل الإسلام، فإن لم یتب لم یجز العفو عنه فی الحد بحال».(2)

وقال الشیخ الطوسی: « ومن زنی وتاب قبل قیام البیّنة علیه بذلک درأت التوبة عنه الحد، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه وجب علیه الحدّ، ولم یجز للإمام العفو عنه، فإن کان أقرّ علی نفسه عند الإمام ثمّ أظهر التوبة کان للإمام الخیار فی العفو عنه أو إقامة الحدّ علیه، حسب ما یراه من

ص:81


1- (1) تهذیب الأحکام 127:10.
2- (2) المقنعة: 777.

المصلحة فی ذلک، ومتی لم یتب لم یجز للإمام العفو عنه علی حال».(1)

وقال أبو الصلاح الحلبی: « فإن تاب الزانی أو الزانیة قبل قیام البیّنة علیه، وظهرت توبته وحمدت طریقته سقط عنه الحدّ، وإن تاب بعد قیام البیّنة فالإمام العادل مخیّر بین العفو والإقامة، ولیس ذلک لغیره إلّا بإذنه، وتوبة المرء سرّاً أفضل من إقراره لیحدّ».(2)

وقال ابن إدریس: « ومن زنی وتاب قبل قیام البیّنة علیه بذلک درأت التوبة عنه الحد، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه وجب علیه الحد، ولم یجز للإمام العفو عنه، سواء کان حدّه جلداً أو رجماً.

فإن کان أقرّ علی نفسه وهو عاقل حر عند الإمام، ثمّ أظهر التوبة، کان للإمام الخیار فی العفو أو إقامة الحد علیه، حسب ما یراه من المصلحة فی ذلک، هذا إذا کان الحد رجماً یوجب تلف نفسه، فأمّا إذا کان الحد جلداً فلا یجوز العفو عنه، ولا یکون الحاکم بالخیار فیه؛ لأنّا أجمعنا علی أنّه بالخیار فی الموضع الذی ذکرناه، ولا إجماع علی غیره، فمن ادّعاه وجعله بالخیار وعطّل حدّاً من حدود الله فعلیه الدلیل».(3)

وقال السید الطباطبائی: «.. ( ولو أقرّ) بحدّ ( ثمّ تاب) عن موجبه

ص:82


1- (1) النهایة: 696.
2- (2) الکافی فی الفقه: 407.
3- (3) السرائر 444:3.

(کان الإمام مخیّراً فی الإقامة) علیه أو العفو عنه مطلقاً ( رجماً کان أو غیره) بلا خلاف إلّا من الحلّی فخصّه بالرجم، قال: لأنّا أجمعنا أنّه بالخیار فی الموضع الذی ذکرنا، ولا إجماع علی غیره، فمن ادّعاه وجعله بالخیار وعطَّل حدّاً من حدود الله تعالی فعلیه الدلیل.

ورُدّ بأنّ المقتضی لإسقاط الرجم عنه اعترافه بالذنب، وهو موجود فی الحدّ؛ لأنّه إحدی العقوبتین، ولأنّ التوبة تسقط تحتم أشدّ العقوبتین، فإسقاطها لتحتّم الأُخری الأضعف أولی.

والأولی الجواب عنه بقیام الدلیل فی غیر الرجم أیضاً، وهو النصوص.

ففی الخبرین بل الأخبار: « جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال: أتقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطَّل حدّاً من حدود الله تعالی؟ فقال: وما یدریک ما هذا؟ إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذاک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع».

وقصور الأسانید مجبور بالتعدّد، مع عمل الأکثر، بل الکلّ عداه، وهو شاذٌّ کما صرّح به بعض الأصحاب.

وأخصّیة المورد مدفوع بعموم الجواب، مع عدم قائل بالفرق بین الأصحاب، مع ورود نصّ آخر باللواط متضمّناً للحکم أیضاً علی العموم من حیث التعلیل، وهو المرویّ عن تحف العقول، عن أبی الحسن الثالث علیه السلام - فی حدیث - قال: ((وأمّا الرجل الذی اعترف باللواط فإنّه لم تقم علیه

ص:83

البیّنة، وإنّما تطوّع بالإقرار عن نفسه، وإذا کان للإمام الذی من الله تعالی أن یعاقب عن الله سبحانه کان له أن یمنّ عن الله تعالی؛ أما سمعت قول الله تعالی: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ) .

نعم، لیس فی شیء منها اعتبار التوبة، کما هو ظاهر الجماعة، ولعلّ اتّفاقهم علیه کافٍ فی تقییدها بها.

وظاهره کباقی النصوص والفتاوی قصر التخییر علی الإمام، فلیس لغیره من الحکَّام، وعلیه نبّه بعض الأصحاب، واحتمل بعضٌ ثبوته لهم أیضاً، وفیه إشکال، والأحوط إجراء الحدّ أخذاً بالمتیقّن؛ لعدم لزوم العفو.

ثمّ إنّ هذا فی حدود الله سبحانه.

وأمّا حقوق الناس، فلا یسقط الحدّ إلّا بإسقاط صاحبه، کما صرّح به بعض الأصحاب؛ ووجهه واضح، وفی بعض المعتبرة: « لا یعفی عن الحدود التی لله تعالی دون الإمام، فأمّا ما کان من حقّ الناس فی حدّ فلا بأس بأن یعفی عنه دون الإمام»).(1)

إلی غیرها من الکلمات الکثیرة حتّی قال جملة من الفقهاء بأنّ الحکم لا خلاف فیه.

تفریق الفقهاء بین البیّنة والإقرار:

فرّق الفقهاء فی العفو بین ما کان الحد ثابتاً بالبیّنة فلا یحقّ للإمام

ص:84


1- (1) ریاض المسائل 458:15.

العفو، وبینما کان ثابتاً بالإقرار فیجوز للإمام العفو، وهذا التفریق ذکروه تبعاً لورود النصّ المفرّق بین الأمرین، ففی معتبرة طلحة بن زید حیث علل الإمام علیه السلام الأمر فیها بقوله: «وإنّما منعه أن یقطعه لأنّه لم تقم علیه بیّنة»، وفی مرسلة البرقی: «عن بعض أصحابه، عن بعض الصادقین علیهم السلام قال: جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام: أتقرأ شیئاً من کتاب الله؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث بن قیس: أتعطل حدّاً من حدود الله؟ فقال: وما یدریک ما هذا؟ إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذلک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع»(1) ، وفی صحیحة مالک بن عطیة قال: « عن أبی عبد الله علیه السلام قال: بینما أمیر المؤمنین علیه السلام فی ملاء من أصحابه، إذ أتاه رجل فقال: یا أمیر المؤمنین علیه السلام إنّی أوقبت علی غلام فطهّرنی، فقال له: یا هذا امض إلی منزلک لعلّ مراراً هاج بک، فلمّا کان من غد عاد إلیه، فقال له: یا أمیر المؤمنین إنّی أوقبت علی غلام فطهّرنی، فقال له: اذهب إلی منزلک لعلّ مراراً هاج بک، حتّی فعل ذلک ثلاثاً بعد مرّته الأولی، فلمّا کان فی الرابعة قال له: یا هذا إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله حکم فی مثلک بثلاثة أحکام فاختر أیهن شئت، قال: وما هنّ یا أمیر المؤمنین؟ قال: ضربة بالسیف فی عنقک بالغة ما بلغت، أو إهداب من جبل مشدود الیدین والرجلین، أو إحراق بالنار، قال: یا أمیر المؤمنین أیهن أشدّ علیّ؟ قال:

ص:85


1- (1) تهذیب الأحکام 129:10.

الإحراق بالنار، قال: فإنّی قد اخترتها یا أمیر المؤمنین، فقال: خذ لذلک أهبتک، فقال: نعم، قال: فصلّی رکعتین، ثمّ جلس فی تشهده، فقال: اللهم إنّی قد أتیت من الذنب ما قد علمته، وإنّی تخوّفت من ذلک فأتیت إلی وصی رسولک وابن عم نبیک فسألته أن یطهّرنی، فخیّرنی ثلاثة أصناف من العذاب، اللهم فإنّی اخترت أشدهن، اللهم فإنّی أسألک أن تجعل ذلک کفارة لذنوبی، وأن لا تحرقنی بنارک فی آخرتی، ثمّ قام - وهو باک - حتّی دخل الحفیرة التی حفرها له أمیر المؤمنین علیه السلام، وهو یری النار تتأجج حوله، قال: فبکی أمیر المؤمنین علیه السلام وبکی أصحابه جمیعاً، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام:

قم یا هذا فقد أبکیت ملائکة السماء وملائکة الأرض، فإنّ الله قد تاب علیک، فقم ولا تعاودن شیئاً مما فعلت».(1)

ص:86


1- (1) وسائل الشیعة 161:28. قال السید الهاشمی فی المقالات: 259: إلاَّ أنّ احتمال اختصاصها بحدّ اللواط لا دافع له، خصوصاً مع ملاحظة کون القتل کالرجم فی المحصن یرفع الید عنه بأقلّ سبب بخلاف الحدّ الذی هو دون النفس کالجلد والقطع، ولهذا لو جحد المقرّ بعد إقراره یرفع عنه الرجم دون الجلد، ومن هنا قیّد بعض الفقهاء کابن إدریس اختیار الإمام وحقّه فی العفو بما إذا کان الحدّ رجماً. هذا مضافاً إلی أنّ فی مورد الروایة فرض توبة المجرم، تلک التوبة التی أبکت الإمام والأصحاب وملائکة السماء والأرض، فلعلّ سقوط العقوبة کان بسببها، لا من ناحیة عفو الإمام، بل قد یقال بظهور ذیلها فی ذلک، حیث لم یبیّن فیه أنّ الإمام قد وهبه وعفا عنه، کما فی معتبرة طلحة. وفیه: أوّلاً: أنّ کون اختصاصها بحدّ اللواط لا دافع له أوّل الکلام، فکیف یجعله غیر مدفوع؟! فهو مصادرة علی المطلوب. وثانیاً: أنّ الحد ثبت علیه بإقرار تام، فلا یوجد أیّ سبب یدفع عنه الحد کالنکوص أو عدم اکتمال الإقرار، فلا یوجد فی الروایة سبب لرفع الید عن الحد سوی عفو

والروایة تدلّ بوضوح عن عفو الإمام عن الحد المرتبط بحقّ الله سبحانه وتعالی، فبعد إقرار الشخص أربع مرّات بأنّه ارتکب الفعل، وتمّ الأمر فی حقّه، وشروع الإمام بإقامة الحد ومن ثمّ توقّف، دلیل واضح علی أنّ حقّ العفو ثابت للإمام علیه السلام.

وأمّا قوله: « فإنّ الله قد تاب علیک» فلیس له مدخلیة فی أصل العفو، وإلّا لزم منه القول بلزوم العفو عند توبة من أقرّ بالحد، والمفروض أن لا قائل بذلک، بل یقولون بأنّ للإمام العفو عند ثبوت الحد بالإقرار.

ومما یدعم ذلک روایة تحف العقول: « عن أبی الحسن الثالث علیه السلام - فی حدیث - قال: وأمّا الرجل الذی اعترف باللواط فإنّه لم یقم علیه البینة، وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه، وإذا کان للإمام الذی من الله أن یعاقب عن الله کان له أن یمنّ عن الله؛ أما سمعت قول الله: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ) ..».(1)

ص:87


1- (1) وسائل الشیعة 41:28. ومن الغریب ما ذکره مقرر بحث السید الخوئی حیث قال:

وهی وإن کانت مرسله: إلّا أنّه یمکن الاستشهاد بها فی المقام؛ لنظرها إلی الروایة المتقدمة، وهی صریحة فی حقّ الإمام بالعفو عن الحد الثابت بالإقرار بامتنان من الله سبحانه وتعالی علیه وعلی المذنبین.

قال السید الطباطبائی: «.. ( ولو أقرّ) بحدٍّ ( ثمّ تاب) عن موجبه ( کان الإمام مخیّراً فی الإقامة) علیه والعفو عنه ( رجماً کان أو غیره) بلا خلاف، إلّا من الحلّی فخصّه بالرجم».(1)

وقال فی الجواهر: « بلا خلاف أجده فی الأوّل، بل فی محکی السرائر الإجماع علیه، بل لعلّه کذلک فی الثانی أیضاً وإن خالف هو فیه، للأصل الذی یدفعه أولویة غیر الرجم منه بذلک، والنصوص المنجبرة بالتعاضد وبالشهرة العظیمة».(2)

ص:88


1- (1) ریاض المسائل 435:13.
2- (2) جواهر الکلام 293:41.

وقال فی تفصیل الشریعة: « لو أقرّ بما یوجب الحد ثمّ تاب کان للإمام علیه السلام عفوه أو إقامة الحدّ علیه رجماً کان أو غیره، ولا یبعد ثبوت التخییر لغیر إمام الأصل من نوّابه.

ویدلّ علی أصل الحکم النصوص الواردة فی المقام:

منها: روایة ضریس الکناسی، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «لا یعفی عن الحدود التی لله دون الإمام، فأمّا ما کان من حقّ الناس فی حدٍّ فلا بأس بأن یعفی عنه دون الإمام».

فإنّ مقتضی الفقرة الأولی أنّ الإمام له أن یعفی عن الحدود التی لله، والقدر المتیقّن صورة ما إذا کان ثابتاً بالإقرار، ولیس له إطلاق یشمل صورة الشهادة أیضاً؛ لعدم کونها فی مقام البیان فی جانب الإثبات حتّی یتمسّک بإطلاقه، ولکن الإشکال فی سند الحدیث من جهة ضریس؛ نظراً إلی عدم ورود مدح ولا قدح فیه، ویمکن دفعه من جهة وقوع ابن محبوب فی السند، نظراً إلی کونه من أصحاب الإجماع.

ومنها: مرسلة أبی عبد الله البرقی، عن بعض أصحابه، عن بعض الصادقین علیهم السلام قال: «جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال له: أتقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطَّل حدّاً من حدود الله؟ فقال: وما یدریک ما هذا؟ إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذاک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع».

ص:89

وکون المورد هی السرقة لا یوجب اختصاص الضابطة المذکورة فی الذیل بها، وإن ورد فیها قوله علیه السلام:

«وإن شاء قطع»، فإنّ الظاهر أنّ المراد لیس خصوص القطع، بل إجراء الحدّ، قطعاً کان أو غیره، کما أنّه علی تقدیر خروج المورد وهی السرقة عن الضابطة المذکورة - کما سیأتی - لا یقدح ذلک فی التمسّک بالضابطة والعمل بها، فتدبّر.

ومنها: ما رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن محمّد بن یحیی، عن طلحة بن زید، عن جعفر علیه السلام قال: «حدّثنی بعض أهلی أنّ شاباً أتی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ عنده بالسرقة، قال: فقال له علیّ علیه السلام:

إنّی أراک شابّاً لا بأس بهیئتک، فهل تقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن یقطعه لأنّه لم یقم علیه بیّنة».

والظاهر اتّحادها مع الروایة السابقة، خصوصاً مع نقل الشیخ قدس سره لها بهذا السند، کما فی الوسائل، وإن جعلت فیها وفی بعض الکتب الفقهیة روایة أُخری لطلحة بن زید، قال فی الفهرست: (له، أی: لطلحة کتاب، وهو عامیّ المذهب إلّا أنّ کتابه معتمد).

ومنها: روایة الحسن بن علی بن شعبة فی تحف العقول، عن أبی الحسن الثالث علیه السلام - فی حدیث - قال: «وأمّا الرجل الذی اعترف باللواط فإنّه لم یقم علیه البیّنة، وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه، وإذا کان للإمام الذی

ص:90

من الله أن یعاقب عن الله کان له أن یمنّ عن الله؛ أمّا سمعت قول الله:

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ) ».

إذا عرفت ما ذکرنا من روایات المسألة، فالکلام یقع فی أمور:

الأوّل: أنّه بملاحظة الروایات المذکورة لا مجال للخدشة فی أصل الحکم، وهو کون الإمام مخیّراً بین العفو وبین إجراء الحدّ فی الصورة المفروضة فی المسألة؛ لأنّه مضافاً إلی اعتبار بعض الروایات، بل کثیر منها لما ذکرنا، یکون استناد المشهور إلیها والفتوی علی طبقها - مع کونها مخالفة للأدلَّة الواردة فی الحدود، ولذا اعترض أشعث علی أمیر المؤمنین علیه السلام بأنّ ذلک یلزم تعطیل حدّ من حدود الله تعالی - یکون جابراً لضعفها علی تقدیره، فأصل الحکم ممّا لا إشکال فیه...».(1)

هل عفو الإمام فی صورة الإقرار مشروط بتوبة المقر؟

اشترط جملة من الفقهاء أنّ العفو یکون عن التائب دون غیره، فمن اقترف ذنباً موجباً للحد وأقرّ عند الإمام فله أن یعفو عنه بشرط توبته، قال الشیخ الطوسی: « ومن زنی وتاب قبل قیام البیّنة علیه بذلک درأت التوبة عنه الحدّ، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه وجب علیه الحدّ، ولم یجز للإمام العفو عنه، فإن کان أقرّ علی نفسه عند الإمام ثمّ أظهر التوبة کان للإمام

ص:91


1- (1) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة: 111.

الخیار فی العفو عنه أو إقامة الحدّ علیه، حسب ما یراه من المصلحة فی ذلک، ومتی لم یتب لم یجز للإمام العفو عنه علی حال».(1)

وقال المحقق الحلی: « لو أقرّ بحدّ ثمّ تاب کان الإمام مخیّراً فی إقامته، رجماً کان أو جلداً».(2)

وقال الشهید الأوّل: « ولو أقرّ بحدّ ثمّ تاب تخیّر الإمام فی إقامته، رجماً کان أو غیره».(3)

وکذلک بقیة کلمات الفقهاء فی هذا الأمر، حیث اشترطوا التوبة فی موضوع العفو.

وقد استدلّ للمشهور بعدّة أدلة:

1 - التمسّک بمعتبرة مالک بن عطیة، حیث إنّه فرض فیها توبة المقرّ أیضاً، کما صرّح الإمام بذلک فی ذیلها، وحینئذ یقال بتقیید إطلاق روایة طلحة، وحملها علی فرض التوبة، من باب حمل المطلق علی المقیّد، فتثبت فتوی المشهور.

ویرد علیه: أنّه لم یرد فی الروایة أنّ العفو لأجل التوبة، وإنّما ورد وصف لحال المقرّ بالحد، وهو یبکی ویتضرّع إلی الله سبحانه وتعالی،

ص:92


1- (1) النهایة: 696.
2- (2) شرائع الإسلام 935:4.
3- (3) اللمعة الدمشقیة: 237.

والإمام رقّ لحاله وعفا عنه، وهذا لا یعنی أنّ العفو مشروط بالتوبة، ففرق بین العفو لأجل التوبة وبین اشتراط التوبة فی العفو، فالأوّل لا یثبت الشرطیة ویجوز العفو حتّی فی صورة عدم التوبة، بخلاف الثانی حیث یشترط التوبة فی العفو.

2 - دعوی تقیید إطلاق روایة طلحة بروایة تحف العقول المتقدّمة، حیث ورد فیها التعبیر بقوله: « وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه»، الظاهر فی حصول الندم والتوبة منه.

ویرد علیه: أنّها ضعیفة سنداً، ولا دلالة لها علی التقیید بالتوبة، وإنّما تعلل العفو لأجل الإقرار، وهو مورد العفو کما تقدّم، فلا شیء فیها یدلّ علی ما رامه المستدل باشتراط العفو بالتوبة.

3 - التمسّک بفحوی ما دلّ علی تقیید الشفاعة بظهور الندم والتوبة من المجرم، کما فی روایة السکونی، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: « قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا یشفعنّ أحد فی حدّ إذا بلغ الإمام، فإنّه لا یملکه، واشفع فیما لم یبلغ الإمام إذا رأیت الندم، واشفع عند الإمام فی غیر الحدّ مع الرجوع من المشفوع له، ولا یشفع فی حقّ امرئ مسلم ولا غیره إلّا بإذنه»، حیث یقال: إنّ ظاهرها أنّ حقّ الشفاعة فی غیر الحدّ، وفیما لم یبلغ الإمام من الحدّ مختصّ بما إذا تاب المجرم، فکأنّه فی غیر مورد الندم والتوبة من المجرم لا یجوز إلّا إجراء العقوبة.

وأورد علیه فی المقالات قائلاً: « وفیه: أنّ ظاهرها أنّ الندم قید لنفس

ص:93

الشفاعة، لا لحقّ الشفاعة، فضلاً عن حقّ العفو للإمام، فالروایة ترید أن تمنع من الشفاعة بلا توبة وندم من المجرم؛ لأنّه لا یستحقّه حینئذ، بل قد یتجرّأ أکثر علی تکرار الجریمة، فلا ظهور فی الروایة فی اختصاص العفو بفرض توبة المقرّ، بل الروایة غیر ناظرة إلی مسألة الإقرار وحقّ العفو للحاکم فیه أصلاً، کما لا یخفی».(1)

وفیه: أنّ حقّ الشفاعة لا وجود له فی المقام لینفی عنه، والإمام یرید أن یرشد الشفعاء إلی الطریق الصحیح فیها، وهو صورة ندم المشفوع له، وفی غیرها لا یطلبون الشفاعة، فإذا کان الإمام یوصی الشفعاء بملاحظة الندم والتوبة فمراعاة الندم له من باب أولی، فلا أقل یستشعر من الروایة مدخلیة الندم فی المقام.

4 - التمسّک بصحیح ابن سنان، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: « السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلی اللَّه، وردّ سرقته علی صاحبها فلا قطع علیه»(2) ، حیث یقال: إنّ مقتضی الشرطیة فیه اشتراط التوبة من السارق زائداً علی مجیئه الذی قد یجعل کنایة عن إقراره.

وأورد علیه فی المقالات بقوله: « إلّا أنّ الروایة أجنبیّة عن مسألة العفو؛ لأنّها ظاهرة فی بیان حکم آخر، وهو سقوط الحدّ بالتوبة، حیث عبّر

ص:94


1- (1) مقالات فقهیة: 262.
2- (2) الکافی 220:7.

فیها بأنّه لا قطع علیه، وظاهره السقوط، ولهذا فرّع ذلک علی عنوان السارق بوجوده الواقعی الذی هو موضوع الحدّ، کما أنّ التعبیر بمجیئه لیس کنایة عن الإقرار، ولا عن المجیء إلی الحاکم، وإلّا لکان ینبغی أن یذکر ذلک، وإنّما المقصود بقرینة الذیل مجیئه إلی المسروق منه لیردّ علیه سرقته، فتکون الروایة ناظرة إلی حکم آخر، ولیس ناظرة إلی حکم الإقرار».(1)

وفیه: کیف لا تکون دلیلاً علی الإقرار وعدم المجیء إلی الحاکم مع ظهور الروایة فی الإقرار وإرجاع المسروق إلی صاحبه، فحمل الخبر علی خصوص الإرجاع دون الإقرار مخالف لظهور الروایة فی الأمرین معاً.

وعلیه فالروایة وإن کانت ناظرة إلی مسألة أخری - بناء علی ما ذکره - إلّا أنّ لها دلالة فیما نحن فیه، وهو مدخلیة التوبة فی العفو عن الحد.

ومن الاستشعار فی خبر السکونی وهذا الخبر - صحیحة ابن سنان - یقوی ما ذهب إلیه المشهور من اشتراط التوبة فی العفو.

والأمر لا یظهر له ثمرة إلّا فیما إذا قلنا بأنّ الحکم وهو العفو یسری من الإمام إلی الفقیه باعتباره من شؤون المنصب لا الذات المقدّسة للإمام، وإلّا فإذا حکمنا بعدم السریان فلا ثمرة فی المقام؛ لرجوع الأمر إلی تکلیف الإمام، وهو أمر مرتبط به صلوات الله وسلامه علیه.

ص:95


1- (1) مقالات فقهیة: 263.

وفی مقابل هذا القول هناک من ذهب إلی عدم اشتراط توبة المقر لأجل العفو عنه، قال مقرر بحث السید الخوئی: « وقیّد المشهور جواز عفو الإمام عمّن ثبت علیه الحد بإقراره، بما إذا تاب المقر عن فعله، وإلّا فلیس له أن یعفو.

ولا یعرف لذلک أیّ وجه؛ لأنّ ما دلّ علی جواز العفو للإمام، کمعتبرتی طلحة وضریس لیس فیهما ما یدلّ علی التوبة، فإن تمّ إجماع علی اعتبارها - ولا یتم - فبه وإلّا فلا وجه له، خصوصاً بعدما کان الوارد فی معتبرة ضریس کلمة الحدود، وهو جمع محلّی بالألف واللام یفید العموم، فله علیه السلام العفو عن الحدود علی الإطلاق، سواء کان المقر تائباً أم لا، کما أنّ إطلاقها یشمل أیضاً ما إذا ثبت الحد بالبیّنة إلّا أنّه لا بدّ من رفع الید عن ذلک؛ لما دلّ علی عدم العفو مع البیّنة، وخصوصاً أیضاً بعد ما کان الراوی فی روایة طلحة هو الإمام الصادق علیه السلام، فإنّه لو کان الراوی لها غیره عنه، لا هو عن أمیر المؤمنین علیه السلام لکانت قضیة شخصیة لا إطلاق فیها؛ لإمکان أن یکون المقر قد تاب، لکن بما أنّ الراوی هو الإمام، ولیست روایته نقل تاریخ فقط، بل فی مقام بیان الحکم الشرعی، وحیث إنّه فی مقام البیان ولم یتعرّض إلی الخصوصیة، فیستکشف الإطلاق.

علی أنّ فی ذیل هذه المعتبرة ورد قوله التعلیل بأنّ عدم القطع إنّما هو لأجل عدم قیام البیّنة، حیث قال علیه السلام:

«وإنّما منعه أن یقطعه لأنّه لم یقم علیه بیّنة»، وهو یکشف عن عدم مدخلیة التوبة فیه، وإلّا لذکرها معه.

ص:96

وأمّا ما یقال من أنّ ما ذکره فی تحف العقول من قوله علیه السلام: « وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه» دالّ علی التوبة؛ لأنّ التطوّع لا یکون إلّا مع التوبة، وإلّا فلا داعی یدعوه إلی الإقرار، فالتطوّع ملازم للتوبة، فلا یمکن قبوله؛ لضعف الروایة، فلا یمکن أن تکون مقیّدة لمعتبرتی طلحة وضریس.

علی أنّ ما ذکر إشعار لا دلالة، بل یمکن أن یکون إقراره لداع آخر غیر التوبة والندم علی الفعل».(1)

وقد عرفت دلالة الأخبار علی الاشتراط کما بینّا فی البحث فلاحظ.

وأمّا القسم الثانی: وهو الحدود المنصوصة فی النصوص الشرعیّة وهی من حقوق الناس، کالقصاص والقذف، فحقّ الإسقاط فیها یکون لصاحب الحقّ، فإذا تنازل صاحب الحقّ عن حقّه فلا یقام الحد علی المذنب، ففی خبر السکونی: « عن الصّادق علیه السلام، قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا یشفعنّ أحد فی حدّ إذا بلغ الإمام، فإنّه لا یملکه، واشفع فی ما لم یبلغ الإمام إذا رأیت النّدم، واشفع عند الإمام فی غیر الحدّ مع الرّجوع من المشفوع له، ولا تشفع فی حقّ امرئ مسلم ولا غیره إلّا بإذنه».(2)

ویمکن الاستدلال بالآیة المبارکة: (وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً فَلا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ

ص:97


1- (1) القضاء والشهادات، تقریر بحث السید الخوئی للجواهری 119:2.
2- (2) الکافی 254:7.

إِنَّهُ کانَ مَنْصُوراً) ، (1) حیث جعلت السلطنة للولی الذی هو صاحب الحق، وإذا ما کان السلطنة بیده فیستطیع التجاوز عنها والتنازل عن حقّه جمیعاً.

وعقد الحر العاملی باباً تحت عنوان: (یستحب للولی العفو عن القصاص، أو الصلح علی الدیة، أو غیرها)(2) ، مضافاً إلی إمکانیة الاستدلال بالروایات الواردة فی الأبواب الخاصّة، کالقصاص والقذف وغیرها.

قال العلّامة الحلی: « ولا یجب علیه قبول الدیة وإن بذل الجانی؛ لأنّ القصاص شُرّع للتشفّی ودفع الفساد، والدیة إنّما تثبت صلحاً، ولیس واجباً علیه تحصیل المال بإسقاط حقّه، وکذا له العفو عن القصاص مجّاناً بغیر عوض».(3)

وقال السید السبزواری: « الخامسة عشر: لو عفا المجنی علیه عن قصاص النفس أو دیتها یصح عفوه، وکذا لو عفا الوارث».(4)

وأمّا القسم الثالث: وهو التعزیرات فهی العقوبة غیر المقدّرة التی فرضها الشارع عند ارتکاب مخالفة، وأوکل تقدیرها إلی الحاکم، وعرّفها الشهید الثانی بقوله: « التعزیر لغة: التأدیب، وشرعاً: عقوبة أو إِهانة لا تقدیر

ص:98


1- (1) سورة الإسراء: 33.
2- (2) وسائل الشیعة 119:29.
3- (3) تذکرة الفقهاء 24:14.
4- (4) مهذّب الأحکام 54:29.

لها بأصل الشرع غالباً».(1)

وعرّفها فی الریاض بالتأدیب فقط من دون قید الغالب.(2)

وسبب التقیید بالغالب؛ لأنّ جملة أفراده کذلک، ولکن وردت الروایات بتقدیر بعض أفراده، فیذکر خمسة مواضع: کتعزیر المجامع زوجته فی نهار رمضان، فإنّه مقدّر بخمسة وعشرین سوطاً، ومن تزوّج أمة علی حرّة ودخل بها قبل الإذن، ضرب اثنا عشر سوطاً ونصفاً؛ ثمن حدّ الزانی، والمجتمعان تحت إزار واحد مجرّدین، مقدّر بثلاثین إلی تسعة وتسعین علی قول بحسب ما یراه الحاکم الشرعی، ومن افتضّ بکراً بإصبعه، فذهب الشیخ الطوسی إلی جلده من ثلاثین إلی سبعة وسبعین، وقال الشیخ المفید: من ثلاثین إلی ثمانین، ویری ابن إدریس الحلّی: من ثلاثین إلی تسعة وتسعین، والرجل والمرأة یوجدان فی لحاف واحد وإزار مجرّدین، فإنّهما یعزّران من عشرة إلی تسعة وتسعین، وفی الخلاف روی أصحابنا: فیه الحدّ، وفی غیره أُطلق التعزیر.

وربما یقال: لیس من هذه الموارد الخمسة مقدّر سوی الأوّلین، والثلاثة الباقیة یرجع الأمر فیها ما بین الطرفین إلی رأی الحاکم الشرعی بما یراه من المصلحة بحسب الزمان والمکان والفرد الذی یجری علیه الحدّ من القوّة والضعف.

ص:99


1- (1) مسالک الإفهام 325:14.
2- (2) ریاض المسائل 415:13.

وصاحب الجواهر علیه الرحمة یقول: کان الذی دعاه إلی تسمیة المقدّر المزبور تعزیراً مع أنّ له مقداراً هو اشتمال النصّ علی إطلاق التعزیر علیه.

وفیه بعد تسلیمه فی الجمیع إمکان منع إرادة ما یقابل الحدّ من التعزیر، ولعلَّه لذا ذکرها بعضهم فی الحدود، والأمر سهل.

یقول السید الکلبایکانی: « ووجه إضافة هذا القید هو ما تقدّم من وجود موارد قد عیّن فیها مقدار التعزیر کالحد بعد أنّ الأصل فیه عدم التقدیر، وذلک لورود الروایات بتقدیر بعض أفراده، وقد أحصاها فی المسالک وعدّها خمسة - إلی أن قال -: ولا یخفی أنّ أکثر هذه الموارد داخلة فی قاعدة التعزیر ومعیاره؛ وذلک لأنّه وإن ذکر وعیّن فیه طرفا هذا المقدّر إلّا أنّ الأمر فی اختیار ما بین الطرفین موکول إلی نظر الحاکم، وهذا غیر ما قدّر مقدار العقوبة معیّناً بلا زیادة أو نقصان، وبلا تخییر فی مراتب العقوبة الذی یسمّی بالحد اصطلاحاً».(1)

والنصوص الواردة فی تحدید التعزیر یشوبها الضعف والاختلاف، لذلک حاول الفقهاء التوفیق بین مفهوم التعزیر، وهو التأدیب المفوّض أمره إلی الحاکم، وبین ورود تحدید بعض التعزیرات ضمن النصوص، فلجأوا إلی مسألة تخییر الحاکم بین الطرفین، فمن جامع زوجته فی نهار شهر

ص:100


1- (1) الدر المنضود فی أحکام الحدود 21:1.

رمضان جلد خمس عشرة جلدة، معناه أنّ الحاکم مخیّر بین السوط الأوّل إلی السوط الخامس عشر، حیث یستطیع ضربه اثنین أو خمسة أو عشرة إلی الخمسة عشر، فالتخییر فی ضمن دائرة الخمسة عشر، بخلاف الحد المنصوص کحد الخمر مثلاً فیجلد الشارب ثمانین جلدة من دون تخییر للحاکم فیها.

وعلی کلّ حال یمکن القول بأنّ الحاکم له حقّ العفو عن التعزیر من خلال النصوص الواردة فی موارد مختلفة، ففی موثقة سماعة قال: « سألته عن شهود الزور قال: فقال: یجلدون حدّاً لیس له وقت، وذلک إلی الإمام ویطاف بهم حتّی یعرفهم الناس، وأمّا قول الله عزّ وجل: (وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً... * إِلاَّ الَّذِینَ تابُوا) قال: قلت: کیف تعرف توبته؟ قال: یکذّب نفسه علی رؤوس الناس حتّی یضرب ویستغفر ربّه، وإذا فعل ذلک فقد ظهرت توبته»(1) ، فأعطت الأمر إلی الإمام فی تنفیذ التعزیر فیمن شهد زوراً، ولم تلزمه بإجرائه، وإنّما جعلت الوقت مفتوحاً ولیس محدداً، وکذلک روایته الأخری والتی ورد فیها:

«ولکن سنضربه حتّی لا یعود یؤذی المسلمین»(2)، حیث أرجعت الأمر إلی الإمام وأنّه المتکفّل بالأمر.

ویدلّ علی ذلک أیضاً بعض الروایات الخاصّة، کمعتبرة السکونی المتقدّمة، حیث ورد فیها: « واشفع عند الإمام فی غیر الحدّ مع الرجوع من

ص:101


1- (1) الکافی 241:7.
2- (2) الکافی 263:7.

المشفوع له»، فإنّ هذه الجملة بعد قوله: « لا یشفعنّ أحد فی حدّ إذا بلغ الإمام، فإنّه لا یملکه» تدلّ بوضوح علی أنّ وجه صحة الشفاعة عند الإمام فی غیر الحدّ أنّه یملکه، والذی هو عبارة أخری عن أنّ الاختیار بیده، وجواز العفو منه إذا رأی المصلحة فیه.

وتدلّ علی ذلک أیضاً معتبرة سلمة، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال:

«کان أسامة ابن زید یشفع فی الشیء الذی لا حدّ فیه، فأتی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بإنسان قد وجب علیه حدّ، فشفع له أسامة، فقال رسول اللَّه: لا تشفع فی حدّ»(1)، وهی واضحة الدلالة علی المطلوب؛ لأنّ الإمام علیه السلام وإن کان ینقل عن أسامة إلّا أنّ ذلک فی مقام بیان الحکم، فیکون مفاد إخباره علیه السلام أنّ الحکم الشرعی هو جواز الشفاعة فی الشیء الذی لا حدّ فیه، دون ما فیه الحدّ، فیتمسّک بإطلاقه فی کلتا الفقرتین.

فالتعزیر أمره بید الحاکم من جهة التقدیر - فی غیر المقدّرات - ومن جهة العفو وعدمه إذا ما لاحظ المصلحة فی ذلک.

هل یجوز التعزیر بالغرامة المالیة؟

اتّضح من خلال ما تقدّم أنّ أمر التعزیر بید الحاکم الشرعی، فهو من یقدّره، ومن یقوم بإجرائه أو العفو عنه، بحسب ما یراه من المصلحة فی ذلک، إلّا أنّ البحث هنا یتمحور حول جواز التعزیر بالمال دون الضرب، فلو

ص:102


1- (1) وسائل الشیعة 43:28.

أنّ شخصاً اعتدی علی شخص آخر بأن سبّه أو نال منه، فللحاکم تأدیبه بأن یضربه ویردعه عن الفعل، أو کما تقول الروایة المتقدّمة:

«ولکن سنضربه حتّی لا یعود یؤذی المسلمین»، فهل یجوز أخذ المال منه بدلاً من ضربه، خصوصاً وأنّ الروایة عللت الضرب للردع عن الإیذاء أم أنّ التعویض المالی لا یجوز ویکون الأمر منحصراً بالضرب التأدیبی لا غیر؟ هذا ما وقع البحث فیه بین الفقهاء، وسوف نتعرّض للمسألة بشکل مفصّل بإذن الله تعالی.

قال الشیخ المنتظری: « هل یجوز التعزیر بالمال أیضاً بإتلافه أو أخذه منه أم لا؟

فیه وجهان: من أنّ الغرض ردع فاعل المنکر، وربّما یکون التعزیر المالی أوفی بالمقصود وأردع وأصلح له وللمجتمع، فیدلّ علی جوازه إطلاق أدلّة الحکومة، وربما یستأنس له أیضاً ببعض الأخبار الواردة فی موارد خاصّة.

ومن أنّ أحکام الشرع توقیفیّة، فلا یجوز التعدّی عما ورد فی باب الحدود والتعزیرات».(1)

وقد استدلّ لجواز التعزیر بالمال بعدّة أمور نذکرها تباعاً:

الأوّل: تحریق موسی علیه السلام للعجل المتّخذ إلهاً، قال تعالی: (وَ انْظُرْ إِلی

ص:103


1- (1) دراسات فی ولایة الفقیه 330:2.

إِلهِکَ الَّذِی ظَلْتَ عَلَیْهِ عاکِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِی الْیَمِّ نَسْفاً)1 ، وأحکام الشرائع السابقة یجوز استصحابها ما لم یثبت نسخها، والعجل کان قیّماً جدّاً صنعه السامری من مجموع حلیّ بنی إسرائیل.

الثانی: هدم مسجد ضرار وتحریقه مع مالیته، حیث وجّه رسول الله صلی الله علیه و آله مالک بن الدّجشم الخزاعی وعامر بن عدی علی أن یهدموه ویحرقوه، فجاء مالک فقال لعامر: انتظرنی حتّی أُخرج ناراً من منزلی، فدخل فجاء بنار وأشعل فی سعف النخل، ثمّ أشعله فی المسجد، فتفرّقوا وقعد زید بن حارثة حتّی احترقت البلیة، ثمّ أمر بهدم حایطه.(1) وروی أنّه بعث عمّار بن یاسر ووحشیّاً فحرّقاه، وأمر بأن یتّخذ کناسة یلقی فیها الجیف.(2)

الثالث: تهدید رسول اللّه صلی الله علیه و آله بتحریق بیوت التارکین للجماعات، ففی صحیحة ابن سنان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام، قال: سمعته یقول:

«إنّ أناساً کانوا علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أبطؤوا عن الصلاة فی المسجد، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: لیوشک قوم یَدَعُون الصلاة فی المسجد أن نأمر بحطب فیوضع علی أبوابهم فیوقد علیهم نار فتحرق علیهم بیوتهم».(3)

ص:104


1- (2) تفسیر القمی 305:1.
2- (3) مجمع البیان 126:5.
3- (4) تهذیب الأحکام 25:3.

الرابع: الروایات الواردة فی تغریم المتاع مرّتین، فروی السکونی بسند لا بأس به، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

«قضی النبیّ صلی الله علیه و آله فیمن سرق الثمار فی کمّه، فما أکل منه فلا شیء علیه، وما حمل فیعزر ویغرم قیمته مرّتین».(1)

والاستدلال به مبنیٌ علی کون تغریم القیمة مرّتین بیاناً للتعزیر، فیکون العطف تفسیریاً أو کونه متمماً له، وظاهر قوله: قضی النبی صلی الله علیه و آله أنّ الحکم کان حکماً ولائیاً منه صلی الله علیه و آله، لا حکماً فقهیاً.

الخامس: ما ورد فی تغریم من عذّب عبده قیمة العبد، ففی خبر مسمع بن عبد الملک، عن أبی عبد اللّه علیه السلام:

«أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام رفع إلیه رجل عذّب عبده حتّی مات، فضربه مئة نکالاً، وحبسه سنة، وأغرمه قیمة العبد فتصدّق بها عنه»(2)، وفی روایة أخری عن أبی عبد اللّه علیه السلام:

«فی رجل قتل مملوکه، أنّه یضرب ضرباً وجیعاً، وتؤخذ منه قیمته لبیت المال»(3)، وفی روایة یونس عنه علیه السلام قال:

«سئل عن رجل قتل مملوکه، قال: إن کان غیر معروف بالقتل ضرب ضرباً شدیداً، وأخذ منه قیمة العبد ویدفع إلی بیت مال المسلمین».

السادس: جمیع موارد الکفارات الواردة من عتق الرقبة أو الصدقة بمال أو إطعام مسکین بمدّ أو إطعام ستّین مسکیناً أو إطعام عشرة مساکین

ص:105


1- (1) الکافی 230:7.
2- (2) الکافی 303:7.
3- (3) تهذیب الأحکام 236:10.

أو کسوتهم، حیث أنّها بأجمعها صرف المال، وتکون نوعاً من التأدیب والتعزیر وإن کانت أُموراً عبادیة یشترط فیها القربة، فیستأنس منها إمکان التعزیر بالمال.(1)

السابع: الاعتبار العقلی الموجب للوثوق بالحکم، بتقریب أنّ التعزیر لیس أمراً عبادیّاً تعبّدیاً محضاً شُرّع لمصالح غیبیّة لا نعرفها، بل الغرض منه هو تأدیب الفاعل وردعه، وکذا کلّ من رأی وسمع فیصلح بذلک الفرد والمجتمع، ولأجل ذلک فوّض تعیین حدوده ومقداره إلی الحاکم.

الثامن: الأولویة القطعیّة، فإنّ الإنسان کما یکون مسلّطاً علی ماله، فکذلک

یکون مسلّطاً علی نفسه وبدنه، بل هی ثابتة بالأولویّة القطعیّة، فإذا جاز نقض سلطنته علی بدنه وهتک حریمه بضربه وإیلامه بداعی الردع والتأدیب فلیجز نقض السلطة المالیة بطریق أولی، ولکن بهذا الداعی وبمقدار لابدّ منه لذلک، ویؤیّد ما ذکرناه استقرار سیرة العقلاء فی الأعصار المختلفة علی التغریم المالی فی کثیر من الخلافات.

وهذه الأمور بمجموعها تدلّ علی أنّ الغرامة المالیة مشروعة، وجاری التعامل بها فی مسائل متعددة من المسائل الفقهیة، وهذا یساعد فی مورد بحثنا من جهة أنّ التعزیر شرّع من أجل التأدیب والردع حتّی لا یتهاون

ص:106


1- (1) نظام الحکم فی الإسلام: 310.

الناس فی الحدود الإلهیة أو حقوق الناس، کما تشیر إلیه بعض الروایات کقوله علیه السلام:

«ولکن سنضربه حتّی لا یعود یؤذی المسلمین»، وفی روایة أخری

«ضربه ضرباً وجیعاً»(1)، فغرض الضرب التأدیب وعدم تکرار ما صدر منه والرجوع عن إیذاء المسلمین والنیل منهم أو التعرّض لهم، وإذا کان الغرض یتحقق بتغریمه وفرض عقوبة مالیة یرجع تحدیدها إلی تقدیر الحاکم ورؤیته، فلا مانع من ذلک والحکم بجواز التغریم المالی کعقوبة علی المخالفة الشرعیة.

قد یقال: إنّ فرض العقوبة المالیة یؤدّی إلی التهاون بالجریمة والاستخفاف بها، خصوصاً لدی الاغنیاء لوجود القدرة المالیة عندهم؟

والجواب: أنّ عقوبة التعزیر فرضت لأجل الردع والتأدیب للحفاظ علی انتظام المجتمع وعدم تعدّی بعضهم علی الآخر، وتقدیرها راجع إلی نظر الحاکم، فهو الذی یحدد مقدار الضرب أو یعفو عنه أساساً، فإذا ما لاحظ الحاکم أنّ الردع والتأدیب یتحقق من خلال فرض عقوبة مالیة معیّنة فیجوز له إقرار ذلک والعمل به؛ لأنّ الغرض هو إقرار النظام وعدم الإخلال به من قبل أفراد المجتمع بتجاوز البعض علی البعض الآخر، وهذا الغرض کما یتحقق بالضرب کذلک یتحقق بالغرامة المالیة وفرضها علی المعتدین لردعهم وکبح جنوحهم بالتمادی فی التعدّی والاستخفاف، وهذا بدوره لا یؤدّی إلی تمییع الجریمة والاستهانة بها من قبل المجرمین؛ لأنّ الغرض

ص:107


1- (1) الکافی 263:7.

قائم علی التأدیب والردع، فعلی الحاکم التحقق فی الأمر قبل القیام به، فإذا لاحظ أنّ الغرض یتحقق بالتغریم المالی فیجوز له إجراؤه والعمل به، وإن رأی أنّ الغرض لا یتحقق بالتغریم المالی فلا یجوز له العمل؛ لأنّ الردع لم یتحقق فلا معنی لأن یردع المذنب بأمر لیس برادع.

والإشکالیة ناشئة من وضع قانون عام للغرامة المالیة بشکل عام، وهذا ما یسبب فی بعض الأفراد التهاون والاستخاف بالجریمة والتعدّی علی حقوق الآخرین، خصوصاً عند بعض الأفراد المتموّلین، وهذه الإشکالیة صحیحة فی الجملة، والتخلّص منها یکون عن طریق إرجاع الأمر إلی تقدیر الحاکم الشرعی فی کلّ حالة یرد فیها تعدّ وخروج عن حدود الشریعة الإسلامیة مما یوجب التعزیر وتأدیب الفاعل، فإذا ما اشترطنا ذلک خرجنا من الإشکالیة المتقدّمة، وهی الاستخفاف بالحدود الشرعیة.

ص:108

فهرس مصادر

مقال حکم إبدال التعزیر بالغرامة المالیة وأثر ذلک فی التهاون بالجریمة

1 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الرابعة 1363 ش.

2 - تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الأولی 1414 ه -.

3 - تفسیر القمی، علی بن إبراهیم القمی (نحو 329)، تصحیح وتعلیق: السید طیب الموسوی الجزائری، الناشر: مؤسسة دار الکتاب للطباعة والنشر - قم، الطبعة الثالثة 1404 ه -.

4 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی (ت 1428)، تحقیق ونشر: مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام - قم، الطبعة الثانیة 1422 ه -.

5 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق

ص:109

وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

6 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوجانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

7 - دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة، الشیخ المنتظری (ت 1430)، الناشر: المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

8 - الدر المنضود فی أحکام الحدود، تقریر بحث السید الکلبایکانی، الشیخ علی الکریمی الجهرمی، الناشر: دار القرآن الکریم - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

9 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

10 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

11 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)،

ص:110

تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

12 - القضاء والشهادات، تقریر بحث السید الخوئی، الشیخ محمّد الجواهری، الناشر: منشورات مکتبة الإمام الخوئی - قم، الطبعة الأولی 1428 ه -.

13 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

14 - الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی (ت 447)، تحقیق: رضا الأستادی، الناشر: مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامة - إصفهان.

15 - اللمعة الدمشقیة، الشهید الأوّل (ت 786)، الناشر: دار الفکر - قم، الطبعة الأولی 1411 ه -.

16 - مجمع البیان فی تفسیر القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسی من أعلام القرن السادس، تحقیق وتعلیق: لجنة من العلماء والمحققین، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

17 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی

ص:111

العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

18 - مقالات فقهیة، السید محمود الهاشمی، الناشر: الغدیر للطباعة والنشر، الطبعة الأولی 1417 ه -.

19 - المقنعة، محمّد بن محمّد بن النعمان العکبری البغدادی الملقّب بالشیخ المفید (ت 413)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

20 - مهذّب الأحکام فی بیان الحلال والحرام، السید عبد الأعلی السبزواری (ت 1414)، الناشر: مکتب آیة الله العظمی السید السبزواری، الطبعة الرابعة 1413 ه -.

21 - نظام الحکم فی الإسلام، الشیخ المنتظری (ت 1430)، تلخیص وتعلیق: لجنة الأبحاث الإسلامیة فی مکتبه، الطبعة الأولی 1380 ش.

22 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

23 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:112

الأحکام التی توجب وهن الدین (قتل المرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله إنموذجاً)

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

مقدّمة:

إنّ الدین الإسلامی قد اهتمّ بجمیع مفاصل الحیاة الإنسانیة، فقنّن القوانین، ووضع الأحکام التی تحدّد مسیرة هذا الکائن الحی العاقل، فجعل لکلّ تصرّف إنسانی حکماً معیّناً، وجعل لکلّ قوّة من قوی النفس قانوناً یحکمها، یحفظ حقوقها من جهة، ویمنعها من التجاوز علی حقوق غیرها، سواء ما یرتبط بالجانب الفردی أو الجانب الاجتماعی، من هنا کانت الأحکام الشرعیة تارة تمنع وأخری توجب وثالثة تحث ورابعة تبیح، وهکذا کانت الأحکام الشرعیة بین الحرمة والوجوب والاستحباب والکراهة والإباحة.

ومجموع هذه الأحکام تعتبر أحکام الدین، ولا یجوز تعدّیها، والعمل علی خلافها؛ لما یترتب علی ذلک من عقوبة أخرویة أو دنیویة أو کلیهما، وقد دار البحث فی الأوساط العلمیة من أنّه إذا صادف فی بعض الأحیان أنّ

ص:113

هناک أحکاماً أو فتاوی توجب وهن الدین، وتبرزه بصورة غیر لائقة بأهدافه وغایاته، فهل یستدعی ذلک تغییر تلک الأحکام؟ أو لا أقل من تعطیلها؟ أو لا یستدعی ذلک؟ فإن کان الجواب بالإیجاب فما هی آلیة ذلک؟ وإذا کان الجواب بالنفی فکیف یجاب عن إشکال الموهنیة؟ وفی هذا المقال سوف نتناول عیّنتین من الأحکام الشرعیة التی ادّعی أنّهما یوجبان وهن الإسلام، وأنّه لابدّ من تغییر حکمهما أو تعطیلهما، وهما: حکم قتل المرتد وقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

نقاط محوریة:

قبل الدخول فی بحث العیّنتین المتقدّمتین لابدّ من الإشارة إلی بعض النقاط المحوریة فی البحث، والتی من شأنها أن تضع النقاط علی الحروف، وتبیّن حقیقة الأمر بصورة أوضح، وتکشف الستار عن بعض الثوابت الإسلامیة التی لها مدخلیة مباشرة أو غیر مباشرة فی بحثنا هذا.

النقطة الأولی: الرحمة والغضب فی الدین الإسلامی

إنّ الدین الإسلامی هو دین الرحمة والرأفة والعطف والتسامح، وهذه حقائق قرآنیة روائیة واضحة جدّاً، فقرآننا قرآن الرحمة، ونبیّنا نبی الرحمة، ولکن کلّ هذا فی المورد الذی یستحقّ الرحمة، وفی قابل یقبل الرحمة والعطف والتسامح لا مطلقاً، من هنا نجد أنّ القرآن الکریم فی مواطن عدیدة هدد وأمر بالقتال والدفاع عن النفس وإیقاف المتجاوز عند حدّه،

ص:114

قال تعالی: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّکُمْ)1 ، وقال تعالی: (قاتِلُوا الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ لا یُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا یَدِینُونَ دِینَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ)2 ، وقال تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِینَ یَلُونَکُمْ)3 ، إلی غیر ذلک من الآیات القرآنیة التی تؤکّد أنّ هناک مواطن لا مجال للرحمة فیها والعطف، وهی فیما إذا کان الطرف المقابل لا یستحقّها، والتی یکون إجراؤها فیه ظلماً وقبیحاً لأنها وضع الشیء فی غیر موضعه، کما ونجد أنّ النبی الأعظم صلی الله علیه و آله قد خاض حروباً عدیدة، وأمر بقتل أناس مجرمین یستحقّون القتل، وبذلک یتبیّن أنّ الله تعالی کما هو غفور رحیم فهو شدید العقاب، فکما أنّ من أسمائه الرحمان والرحیم، کذلک من أسمائه المنتقم وشدید العقاب، وبذلک یتبیّن سذاجة من یقول: إنّ الأحکام التی تأمر بالقتل وما شاکل تتنافی مع رحمة الإسلام وتکون موهنة للإسلام، بل الصحیح أن یقال: إنّ أحکام القتل التی لیست فی محلّها هی التی توهن الإسلام، وبکلمة أخری نقول: إنّ استخدام القسوة فی موضع الرحمة یوجب وهن الإسلام، وکذا العکس، وأمّا استخدام القسوة فی محلّها، واستخدام الرحمة فی محلّها فهو أمر لابدّ منه، وهو منسجم مع

ص:115

مرتکزات الدین والفطرة والعقل السلیم، قال تعالی: (نَبِّئْ عِبادِی أَنِّی أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِیمُ * وَ أَنَّ عَذابِی هُوَ الْعَذابُ الْأَلِیمُ)1 .

النقطة الثانیة: حقیقة الحکم الظاهری

إنّ الأحکام الشرعیة تنقسم إلی قسمین: حکم واقعی وحکم ظاهری، والمقصود من الحکم الواقعی هو ذلک الحکم الذی یقطع بصدوره من المولی، وأنّه حکم الله فی لوح الواقع.

وأمّا الحکم الظاهری فهو ذلک الحکم الذی لا یقطع بنسبته إلی المولی تعالی؛ لأنّه أخذ فی موضوعه الشک، لذلک فإنّ الحکم الظاهری بما هو لیس بحجّة؛ لأنّه لا یعلم صدوره من المولی، ولکن قامت مجموعة من الأدلة علی اعتبار بعض الأحکام الظاهریة، فکانت تلک الأحکام حجّة ومعتبرة لا بنفسها وإنّما بدلیلها؛ لأنّ دلیلها قطعی، من قبیل: قیام الدلیل القطعی علی حجیة خبر الثقة، وحجیة الظهور، وما شاکل من هذه الأمارات، بل وحتّی الأصول العملیة التی هی اقل مرتبة من الامارات لیقام الدلیل القطعی علیها ایضاً، ولأجل ذلک اتّفق الفقهاء علی جواز نسبة الأحکام الظاهریة التی تکون من قبیل الأمارات إلی المولی تعالی، وهو ما یعرف عندهم بقیام الأمارة مقام القطع الطریقی، وبناء علی ذلک فإنّه لا یجوز مخالفة الحکم الظاهری، بحجة أنّه حکم ظاهری وأنّه لا یعلم نسبته

ص:116

إلی الله تعالی؛ لأنّ هذا خلط وتخبط بین نفس الحکم الظاهری وبین دلیله - وسیأتی بیان هذا الأمر أکثر عند الجواب عن بعض الإشکالات - فلا یرفع الید عن الحکم الظاهری إلاّ بحجة شرعیة أخری، وهذه الحجة الأخری إن کانت حکماً واقعیاً فقد انتفی الحکم الظاهری بانتفاء موضوعه، وإن کانت ظاهریاً فهو عمل بالحکم الظاهری أیضاً لا أنّه إبطال للحکم الظاهری، واختلاف المصداق لا یعنی الخروج عن الحکم الظاهری.

النقطة الثالثة: حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله

من الأحکام التی اتّفق علیها الفقهاء فی أبحاثهم وفتاواهم هی قتل المرتد وقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، فهی من المسائل الإجماعیة الواضحة فی الدین الإسلامی، والتی لم یخالف فیها أحد، وقد جاء فیها من الأخبار الکثیر حتّی ادّعی فیها التواتر الذی یوجب القطع بهذا الحکم، وأنّه من الأحکام الواقعیة فی الدین الإسلامی، قال الإمام الخمینی فی من سبّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله: «من سبّ النبی صلی الله علیه و آله - والعیاذ بالله - وجب علی سامعه قتله، ما لم یخف علی نفسه أو عرضه، أو نفس مؤمن أو عرضه، ومعه لا یجوز، ولو خاف علی ماله المعتد به أو مال أخیه کذلک جاز ترک قتله، ولا یتوقف ذلک علی إذن من الإمام علیه السلام أو نائبه، وکذا الحال لو سبّ بعض الأئمة علیهم السلام، وفی إلحاق الصدیقة الطاهرة علیها السلام بهم وجه، بل لو رجع إلی سبّ النبی صلی الله علیه و آله یقتل بلا إشکال»(1) ، وقال فی الارتداد: «ذکرنا فی المیراث

ص:117


1- (1) تحریر الوسیلة 429:2.

المرتد بقسمیه وبعض أحکامه، فالفطری لا یقبل إسلامه ظاهراً، ویقتل إن کان رجلاً، ولا تقتل المرأة المرتدة ولو عن فطرة، بل تحبس دائماً، وتضرب فی أوقات الصلوات، ویضیّق علیها فی المعیشة، وتقبل توبتها فإن تابت أخرجت عن الحبس، والمرتد الملی یستتاب فإن امتنع قتل، والأحوط استتابته ثلاثة أیام وقتل فی الیوم الرابع»(1) ، قال السیّد الخوئی فی من سبّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله: «یجب قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله علی سامعه، مالم یخف الضرر علی نفسه أو عرضه أو ماله الخطیر ونحو ذلک، ویلحق به سبّ الأئمة علیهم السلام وسبّ فاطمة الزهراء علیها السلام، ولا یحتاج جواز قتله إلی الإذن من الحاکم الشرعی»(2) ، وقال فی الارتداد: «المرتد عبارة عمن خرج عن دین الإسلام، وهو قسمان: فطری وملی، الأوّل: المرتد الفطری هو الذی ولد علی الإسلام من أبوین مسلمین أو من أبوین أحدهما مسلم، ویجب قتله، وتبین منه زوجته، وتعتد عدّة الوفاة، وتقسم أمواله حال ردّته بین ورثته، الثانی: المرتد الملی وهو من أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ ورجع إلیه، ولا تزول عنه أملاکه، وینفسخ العقد بینه وبین زوجته، وتعتد عدّة المطلقة إذا کانت مدخولاً بها»(3). إلی غیر ذلک من الفتاوی لکبار وعظماء الطائفة الحقّة ونفس هذا الحکم نجده عند فقهاء العامة أیضاً.

ص:118


1- (1) تحریر الوسیلة 445:2.
2- (2) مبانی تکملة المنهاج، موسوعة السید الخوئی 321:41.
3- (3) مبانی تکملة المنهاج، موسوعة السید الخوئی 391:41.

النقطة الرابعة: الوهن فی الدین

إنّ الکلام عن وهن الدین لابدّ من التطرّق فیه إلی بعض الأمور:

الأمر الأوّل: ما معنی وهن الدین؟

إنّ کلمة الوهن تعنی الضعف(1) ، فکلّ شیء یوجب ضعف الدین یعتبر أمراً موهناً ولابد من التحرّز عنه؛ لأنّ من الواضح جدّاً أنّ الهدف الأساس من سنّ الأحکام وتقنین القوانین إنّما یراد منه إعزاز الدین وتقویته ونشره؛ لأنّ الدین هو قانون ربّ العالمین وبعزّته یعتز المؤمنون، قال تعالی: (وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ)2 . وجاء فی بعض الروایات عن الإمام الرضا علیه السلام من المنع عن الفرار فی الجهاد، معللاً ذلک بأنّه یوجب وهن الدین، قال علیه السلام:

«حرّم الله الفرار من الزحف؛ لما فیه من الوهن فی الدین، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة»(2). فعنوان وهن الدین من العناوین التی توجب الاجتناب عما یحققها؛ لأنّه ضعف فی الدین، وهذا من الأمور الواضحة التی تکاد أن تکون اتّفاقیة بین المسلمین.

الأمر الثانی: من هو الذی یحکم بتحقق الوهن؟

هذا هو الأمر المهم فی مسألة تحقق الوهن، وأنّه کیف یکون أمراً مّا

ص:119


1- (1) مختار الصحاح: 377، تاج العروس 579:18.
2- (3) من لا یحضره الفقیه 565:3، واُنظر: عیون الأخبار 99:2، علل الشرائع 481:2.

موهناً للدین دون غیره؟ وکیف یکون شیئاً مّا فی مرحلة موهناً للدین وفی أخری لا یکون کذلک؟ ویترتب علی ذلک بشکل طبیعی أنّه یکون ممنوعاً فی حال موهنیته دون غیرها، من هنا وقع البحث فی من هو القاضی بتحقق الوهن؟

وفی مقام الجواب نقول: إنّ مفهوم الوهن فی الدین یعنی الضعف فیه، فهنا توجد إضافة فی الوهن وهی أنّه وهن فی الدین، وهذا یعنی أنّه لابدّ من معرفة الدین حتّی یعرف بتبعه الوهن والضعف فیه، فمن لا یعرف الدین لا یمکنه أن یحکم علی أمر مّا بأنّه موهن للدین أو لیس بموهن، وعلیه لابدّ أن یکون الحاکم بوهن الدین هو إنسان متخصص فی الدین، وهم فقهاؤنا العظام رحم الله الماضین وحفظ الباقین منهم، ومن هنا ینفتح البحث علی الکیفیة التی من خلالها یشخّص الفقیه تحقق وهن الدین من عدمه، وتحقق الأمور التی تؤدّی إلی وهن الدین، فنقول: إنّ الفقیه یصل إلی تلک النتیجة من خلال بعض الأمور والتی من أهمها العرف، وبحث العرف وما یرتبط به من المسائل الطویلة، لذلک لا نتعرّض لجمیع أبعادها، وإنّما نکتفی بقدر الحاجة، وهو ما معنی العرف؟ وما هی شرائطه وأقسامه؟

معنی العرف:

قد ذکر للعرف أکثر من معنی، أهمّها:

أوّلاً: «هی الحصیلة التی تتکوّن لدی الفقیه والباحث من خلال تواجده فی مجتمعه، ومن خلال مخالطته للآخرین طوال عمره بین الناس

ص:120

من دون التفات وعنایة بها، بل یتلقّی المسائل العرفیة بطریقة لا إرادیة، فهی أشبه بالدراسة الشخصیة للموارد العرفیة، فما یحکم به من أحکام علی الوقائع إنّما حکم بها لحکم العرف بها أیضاً».

ثانیاً: «أنّ مسألة العرف إنّما تستکشف بواسطة الاستقراء من قبل العالم والباحث حول مسألة معیّنة، لکن یجب أن یکون التنقیب حول الأعراف فی زمان سابق علی وصوله إلی مرحلة الابتلاء».

أقسام العرف:

ذکرت للعرف عدّة أقسام، نذکرها علی نحو العنونة:

الأوّل: العرف الصحیح والفاسد.

الثانی: العرف العام والخاص.

الثالث: العرف الحادث والمقارن والمتأخر.

الرابع: العرف المسلّم وغیر المسلّم.

الخامس: العرف القولی والعملی والارتکازی.

شرائط العرف:

لابدّ أن تتوفر عدّة شروط فی العرف حتّی یکون معتبراً ویصح الاعتماد علیه، وهی عبارة عن:

أوّلاً: أن یکون العرف مطّرداً أو غالباً.

ص:121

ثانیاً: أن یکون العرف عاماً.

ثالثاً: أن لا یعارض العرفَ تصریحٌ بخلافه من قبل المتکلّم أو المتصرّف.

رابعاً: أن یکون العرف موجوداً عند انشاء التصرّف.

خامساً: أن لا یکون العرف مخالفاً لأدلة الشرع.

سادساً: أن لا تکون المسألة العرفیة من المسائل التوقیفیة(1).

وهذا فی نفسه بحث موسّع لا مجال لطرقه هنا، ولکن نقول: إنّ الجهة التی یحقّ لها أن تحکم بتحقق الوهن هو الحاکم الشرعی المتصدّی لحفظ مصالح الدین وعموم المسلمین، وهذا أیضاً ضمن ضوابط معیّنة وشروط محددة لا کیفما کان؛ فإنّ الوهن هنا أضیف للدین فلابدّ إذن من تحقق ذلک بحکم من هو متخصص بالدین، وله معرفة أکثر من غیره بأحکام ربّ العالمین.

الإشکال الأوّل: موهنیة حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله للدین

بعد هذه النقاط المهمّة، والتی لها تأثیر بالغ علی بحثنا ندخل فی صلب الموضوع، ونبتدیء بهذا الإشکال: أنّ الحکم بقتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله - خصوصاً أنّه أوکل إجراء ذلک الحکم لمن سمعه - یوجب

ص:122


1- (1) انظر مقال: العرف والتقعید الأصولی، للشیخ صباح عباس الساعدی، المنشور فی العدد الأوّل من مجلة الإصلاح الحسینی.

وهن الدین، والدلیل علی ذلک أنّ الکثیر من العقلاء یرفضون مثل هذه الأحکام سواء من المتدیّنین أو من غیرهم، ولأجل ذلک فإنّ إجراء مثل هذه الأحکام یوجب تشویه صورة الإسلام، وإظهاره بشکل شرس ومتوحّش ومنفور، وهذا بعید عن رحمة الإسلام.

ثمّ علل صاحب الإشکال کلامه هذا بقوله: إنّ مثل هذه الأحکام الجزائیة کانت فی الزمان القدیم غیر موهنة، وأمّا الآن فهی کذلک، فعقلاء الأمس غیر عقلاء الیوم، ثمّ رتّب نتیجة علی ذلک بأنّ جمیع العقوبات الجسمیة، من قبیل: قتل القاتل، وقطع ید السارق، ورجم الزانی أو جلده، وأمثالها أصبحت أحکاماً منسوخة بحکم العقلاء؛ فهی موهنة للدین.

ثمّ أعطی هذا المستشکل بدائل جزائیة لتلک الجرائم، کأن تکون العقوبة مالیة مثلاً أو السجن.

جواب الإشکال:

قد أشار المستشکل إلی ثلاثة أمور:

1. إنّ مثل هذه العقوبات الجزائیة توجب وهن الدین، وتظهره بمظهر غیر لائق برحمته وعطفه وتسامحه.

2. إنّ الدلیل علی الموهنیة هو حکم الکثیر من العقلاء بأنّ مثل هذه العقوبات قد ولّی وقتها.

3. إنّ البدیل عن العقوبات الجزائیة لابدّ أن یکون عقوبة مالیة أو

ص:123

السجن مثلاً.

وقبل الدخول فی نقاش هذه الأمور الثلاثة لابدّ من الإشارة إلی نقطة مهمّة غفل عنها المستشکل، وهی:

التفریق بین أصل الحکم وبین إجراء الحکم

فإنّه تارة یدّعی أنّ أصل الإفتاء بالحکم هو الذی یوجب وهن الدین واضعافه، وأخری یدّعی أن تطبیق ذلک الحکم هو الذی یوجب الوهن، فإنّ هناک اختلافاً بین الأمرین.

أصل الحکم بالقتل یوجب الوهن:

إن کان قصد المستشکل هو أنّ أصل تلک الأحکام الجزائیة یوجب الوهن فی الدین، فیرد علیه:

أوّلاً: أنّ الأحکام الشرعیة من مختصّات الشارع الأقدس، ولا دخالة للعقلاء فی تحدید ذلک أو تغییره أو اقتراح حلول له، ف - «إنّ دین الله تعالی لا یصاب بالعقول»(1) ، فمهما تغیّرت آراء العقلاء فإنّ الأحکام الشرعیة تبقی ثابتة لا تتغیّر، واختلاف العقول والعادات والتقالید لا یؤثّر فیها شیئاً، ف - «حلال محمّد حلال أبداً إلی یوم القیامة، وحرامه حرام أبداً إلی یوم

ص:124


1- (1) کمال الدین: 324.

القیامة»(1) ، فلا علاقة للعقلاء ولا للعرف بتحدید الأحکام الشرعیة أو تغییرها، کما تقدّم ذلک عن الکلام عن العرف وشرائطه.

وإلّا فلو فتحنا الباب لمثل هذه الترّهات فلن یبقی من الدین شیء، فکلّ طائفة سوف تدّعی موهنیة بعض الأحکام، فالیوم الأحکام الجزائیة، وبالأمس أحکام العفة والحیاء ومخالطة المرأة للرجال، أو ضرورة التخلّص من مظاهر الدین؛ لأنّها تخالف روح التعایش وتبعث علی الکراهیة والتفرّق، وغداً ضرورة التخلّص من بعض العبادات؛ لأنّها توجب السخریة، أو تغییر بعض ممارسات الحجاج اللاعقلائیة، حتّی یصل الأمر إلی عبثیة الصوم وإسراف الخمس والزکاة و...، وبذلک یفقد الدین قیمته وحیویته وفائدته، ویتساوی المتدیّن مع غیره، وتتحد غایة الشیطان مع غایة الرحمن تحت هذه العناوین الواهیة.

إشکال وجواب:

الإشکال: ربما یقال: إنّ هناک مجموعة من الأحکام تعتبر من الأحکام المتغیّرة، وهذا یعنی أنّ لتلک الأحکام مدّة خاصّة ووقتاً معیّناً وشروطاً محددة بتغیّرها یتغیّر الحکم، وقد بحث هذا الأمر فی أبحاث مستقلة تحت عنوان الثابت والمتغیّر فی الدین، فلیس تغییر کلّ حکم هو التغییر المرفوض الذی تقدّم الإشکال علیه، بل إنّ هناک أحکاماً هی بذاتها متغیّرة، ولا تصلح لکلّ

ص:125


1- (1) الکافی 58:1.

زمان أو مکان، ولأجل ذلک فلربما تکون الأحکام الجزائیة من هذا القبیل، وأنّ تغیّرها لا یستدعی الإشکال المتقدّم.

وهذا الإشکال والتساؤل وإن لم یخطر ببال صاحب الإشکال المتقدّم إلّا أنّه حری بالطرح والإجابة.

الجواب: أنّ البحث عن الثابت والمتغیّر فی الدین من الأبحاث المهمّة والدقیقة، ولیس هنا مجال طرحها، ولکن نقول بصورة إجمالیة تفی بالغرض للجواب عن الإشکال المتقدّم: إنّ هناک قانوناً قاض بأنّ الأصل فی الأحکام هو الثبات، وأنّ هناک ضوابط وموازین لمعرفة الحکم الثابت من المتغیّر، وأنّ هذه الموازین اذا ما طبقناها فی المقام فسیظهر أنّ أکثر الأحکام الجزائیة والتی منها حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله من الأحکام الثابتة فی الدین.

الأصل فی الثابت والمتغیّر من الأحکام:

إنّ الأصل فی الأحکام هو الثبات، لا التغیّر، وعلی ذلک أدلة عدیدة، منها:

أوّلاً: الروایات، فإنّ هناک روایات عدیدة تثبت أنّ الأحکام الشرعیة ثابتة ولا تتغیّر، من قبیل الروایة المتقدّمة من أنّ حلال محمّد حلال مستمر وکذا حرامه، ومن قبیل قول الإمام الصادق علیه السلام:

«لأنّ حکم الله عزّوجل فی الأوّلین والآخرین وفرائضه علیهم سواء، إلّا من علة أو حادث یکون، والأوّلون والآخرون أیضاً فی منع الحوادث شرکاء والفرائض علیهم واحدة، یسأل الآخرون من أداء الفرائض عما یسأل عنه الأوّلون، ویحاسبون

ص:126

عما به یحاسبون»(1) ، وغیرها من الروایات.

ثانیاً: الإطلاق المقامی علی ثبات الأحکام وعمومها واستمرارها.

ثالثاً: ارتکاز المتشرّعة وعموم المسلمین علی استمرار الأحکام واشتراکها بین الجمیع.

رابعاً: أنّ تشریعات الأحکام علی نحو القضایا الحقیقیة إلاّ ما خرج بالدلیل، وهذا معنی الثبات.

خامساً: الاستصحاب، فلو شککنا فی تغیّر حکم ما نستصحب بقاءه.

إلی غیر ذلک من الأدلة والشواهد علی أنّ الأصل فی الأحکام هو الثبات، وأنّ الحکم المتغیّر یحتاج إلی قرینة قویة تخرجه من هذا الأصل، ومع عدم القرینة فالحکم بالثبات هو المتعیّن، وفی المقام فإنّه لا توجد أیّ قرینة علی أنّ أحکام القصاص والعقوبات الجزائیة من الأحکام المتغیّرة، بل إنّ القرائن والأدلة علی الخلاف، فإنّ هناک مجموعة من القرائن علی أنّ هذه الأحکام من الثابتات فی الدین.

موازین الثابت والمتغیّر:

هناک مجموعة من الموازین والقرائن التی تحدد الثابت من المتغیّر من الأحکام، وهی علی قسمین: قرائن خاصة وقرائن عامة:

ص:127


1- (1) الکافی 18:5.

أمّا العامة، فمنها:

أوّلاً: ثبات الموضوع، وهو یعنی أنّه إذا کان موضوع الحکم ثابتاً فإنّ الحکم یکون ثابتاً بتبعه ولا یتغیّر، وفی المقام فإنّ موضوع القصاص والعقوبات الجزائیة ثابت، فإنّ القتل هو القتل، والسرقة هی السرقة، وسبّ النبی هو سبّ النبی، لذلک حتّی صاحب الإشکال هنا لا یدّعی أنّ مرتکب هذه الجرائم لا یستحق العقوبة، بل هو یدّعی الاستحقاق إلّا أنّه غیّر نوع العقوبة، وهذا هو الذی لا یجوز؛ لأنّه مادام الموضوع ثابتاً فالحکم ثابت أیضاً، ولا یوجد أیّ مبرر لتغییره.

ثانیاً: ان لا یکون الموضوع بمتناول ید البشر بکلّ خصائصه وحیثیاته، بحیث لا یمکنهم التوصّل إلی جمیع خصوصیاته بمفردهم، فإذا کان الموضوع من هذا القبیل فإنّه لا یمکن الحکم بتغیّر الموضوع ما لم یتدخّل الشارع نفسه فی ذلک، وفی المقام فإنّ موضوعات القصاص وأحکامها أمور لیست بمتناول ید البشر، ولا یمکن للعقل البشری بمفرده أن یقف علی جمیع أبعادها وحیثیاتها، لأجل ذلک لا یحقّ لأحد تغییر تلک الأحکام، فما لم یغیّرها الشارع نفسه فهی أحکام ثابتة.

إلی غیر ذلک من القرائن العامة التی تعیّن الثبات علی التغیّر.

وأمّا القرائن الخاصة، فمنها:

أوّلاً: القرائن اللفظیة، بأن تکون هناک قرینة لفظیة تدلّ علی الثبات،

ص:128

کأن یکون نص الروایة مثلاً فیه تأبید، والقرائن فی روایات القصاص علی التأبید والثبات کثیرة جدّاً، فعلی سبیل المثال ما جاء فی حکم سابّ النبی، حیث قال أبو عبد الله علیه السلام:

«أخبرنی أبی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: الناس فیّ أسوة سواء من سمع أحداً یذکرنی فالواجب علیه أن یقتل من شتمنی ولا یرفع إلی السلطان، والواجب علی السلطان إذا رفع، إلیه الی أن یقتل من نال منّی»(1) ، فالروایة واضحة فی الثبات؛ لأنّ الناس فی هذا الحکم سواء.

ثانیاً: وجود الحکم فی القرآن والسنّة القطعیة، ومن الواضح الذی لا یختلف فیه اثنان أنّ الکثیر من الأحکام الجزائیة موجودة فی القرآن الکریم وفی آیات عدیدة کالقصاص، قال تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصاصُ فِی الْقَتْلی الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثی بِالْأُنْثی)2 ، والزنا قال تعالی: (الزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ)3 ، والسرقة قال تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ)4 ، إلی غیر ذلک من الایات المبارکة، وهذا دلیل واضح جدّاً علی ثبات تلک الأحکام.

ثالثاً: صدور الحکم علی نحو القضیة الحقیقیة، ومن الواضح جدّاً أنّ

ص:129


1- (1) الکافی 266:7.

هناک مجموعة من روایات العقوبات الجزائیة صدرت علی نحو القضیة الحقیقیة کمعتبرة عمار الساباطی، حیث قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«کلّ مسلم بین مسلمین ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّدا صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه، فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، وأمرأته بائنة منه یوم ارتد، ویقسّم ماله علی ورثته، وتعتد أمرأته عدّة المتوفی عنها زوجها...»(1). وفی الآیات القرآنیة الأمر أوضح.

رابعاً: وجود تلک الأحکام فی الشرائع السابقة، فإنّه دلیل علی استمرارها، وفی المقام فإنّ العقوبات الجزائیة الجسمیة کانت موجودة فی الشرائع السابقة، قال تعالی: (إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَ الرَّبّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ کِتابِ اللّهِ وَ کانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآیاتِی ثَمَناً قَلِیلاً وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الْکافِرُونَ * وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ)2 .

ولا نطیل الکلام فی هذا البحث فإنّ القرائن الکثیرة والشواهد العدیدة علی أنّ أکثر أحکام العقوبات الجزائیة فی الإسلام هی علی نحو القضایا الثابتة لا المتغیّرة، من هنا لا یحقّ لأیّ أحد تغییر تلک الأحکام أو نسخها

ص:130


1- (1) وسائل الشیعة 324:8، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 3.

واستبدالها بأحکام جدیدة حسب الذوق والتشهی، ولعمری فإنّ هذا أسوء من قیاسات أبی حنیفة بکثیر، بل لو کان أبو حنیفة حیّاً لخجل من هذا الکلام السخیف.

ویرد علیه ثانیاً:

النقاش فی الصغری، فإنّ ما ادّعی من الوهن غیر ثابت، وذلک لأمور:

أوّلاً: أنّ الکثیر من المسلمین وهم الآن یشکّلون أکثر من خمسین دولة إسلامیة لا یرون أیّ وهن فی الأحکام الجزائیة فی الإسلام، بل یرون الأمر علی العکس، وأنّ هذه الأحکام ضروریة لاستقامة المجتمع وتحقیق العدالة الاجتماعیة، فهل أنّ هذه الدول وهذه المجتمعات لا تعدّ من العقلاء، فلا یحترم المستشکل رأیها؟!

ثانیاً: أنّ الکثیر من غیر المسلمین لا یرون أیّ بأس فی تنفیذ مثل أحکام الإعدام أو العقوبات البدنیة، فإنّ الکثیر من دول العالم غیر الإسلامی تعتقد وتنفّذ حکم الإعدام، فإنّ أکثر من عشرین ولایة إمریکیة مازالت تنفّذ حکم الإعدام وإلی یومنا الحاضر، هذا فضلاً عن بعض الدول الإفریقیة والآسیویة ودول أمریکا الجنوبیة، أفلا یعدّ هؤلاء من العقلاء بنظر المستشکل علی العقوبات الجزائیة البدنیة؟!

ثالثاً: أنّ نفس المستشکل اعترف أنّ الحکم بالوهن هو حکم کثیر من العقلاء لا أنّه حکم أکثر العقلاء فضلاً عن جمیعهم، فإذا کان الأمر

ص:131

کذلک فلماذا رجّح هذا المستشکل تلک الفئة القائلة بالوهن علی الفئة التی لا تقول بذلک؟ ألیس هذا تشهیاً واتّباعاً للرغبات النفسیة الشخصیة؟!

فإن قلت: لماذا انتم ترجّحون فئة العقلاء التی لا تری وهناً فی تلک الأحکام؟ فإنّ هذا أیضاً تشهی واتّباع للآراء الشخصیة، فما أشکلتم به علی صاحب الإشکال بنفسه یرد علیکم.

قلت: نحن لم نرجّح قولاً علی قول ولا فئة علی فئة، وإنّما رجّحنا حکم الله تعالی علی أحکام بعض الناس، لا أنّه رجّحنا حکم بعض الناس علی بعض.

رابعاً: أنّ مخالفة کثیر من عقلاء لأحکام الدین بصورة عامة فضلاً عن الأحکام الجزائیة أمر لیس بالجدید، فإنّ مثل هذه المخالفات کانت منذ القدم، وهذا هو القرآن یحدّثنا عن الإشکالات التی طرحتها الأقوام علی أنبیائها، والتی عبّر عنها القرآن الکریم بأنّ أکثرهم للحقّ کارهون، وأکثرهم لا یعلمون، فمادام ثبت أنّ هذه الأحکام هی الحق فلا یعتنی بمن خالفها، وهذا من واضحات الدین إلّا علی الذین عمیت أبصارهم وبصائرهم.

خامساً: أنّ مجمل شرائط الأخذ بالعرف العقلائی غیر متوفرة فی المقام کما هو واضح.

ویرد علیه ثالثاً:

إنّ مثل هذه الأحکام لا تخالف الرحمة الإسلامیة، ولا تظهر الإسلام

ص:132

بمظهر المتوحش الشرس؛ لأنّ هذه هی أحکام وقائیة جزائیة تکون تحت ظروف معیّنة، وفی حالة التجاوز علی الحقوق والأنفس والأعراض، فمن العدالة الإلهیة أن یقتص من الجانی بمثل ما ارتکب من جریمة، ومن الرحمة الإلهیة أن یؤخذ بحقّ المجنی علیه، ومن العلم الإلهی بحقائق الأمور تتعیّن العقوبات، فالرحمة الإلهیة لا تعارض العدل والقسط، بل إنّ نفس هذه الأحکام هی رحمة إذا ما نظرنا إلیها بعین المجنی علیه.

هذه ثلاث مناقشات علی المستشکل فیما إذا قصد أنّ الوهن متوجّه إلی نفس الأحکام الشرعیة الجزائیة.

تنفیذ الحکم یوجب الوهن:

وأمّا إن قصد أنّ الوهن ناتج من تنفیذ تلک الأحکام لا من نفس أصل تشریعها، فإنّه یرد علیه:

أوّلاً: أنّ إجراء وتنفیذ الأحکام الجزائیة لیس من قبیل الأحکام المتغیّرة، بل هو من الأحکام الثابتة، وما ذکرناه من القرائن والشواهد السابقة یأتی هنا.

ثانیاً: أنّ الکثیر من عقلاء الیوم لا یرون أیّ بأس أو توهین لمثل هذه الأحکام، بل الأمر علی العکس، وخصوصاً فی مثل إهانة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسبّه، فقد انتفض العالم باجمعه علی الإهانة التی حصلت من خلال الفیلم المسئ للرسول صلی الله علیه و آله، وکانت الإدانة علی مستوی عالمی فضلاً

ص:133

عن عقلاء المسلمین، وکانت المطالبة بإنزال أشدّ العقوبات علی الفاعلین والمرتکبین لتلک الجریمة.

ثالثاً: أنّ فلسفة هذه الأحکام واضحة وهی تحقیق العدالة الاجتماعیة التی لا یستقیم المجتمع بدونها، ومن الواضح فإنّ العدل أمر مرغوب فیه عند العقلاء، ولأجل ذلک لا یعتنی بمن حصلت له شبهة تمنعه من قبول ذلک، وإلّا لو شرحنا وبیّنا لأیّ عاقل أنّ الإنسان الذی یقتل إنساناً بلا ذنب، ویعتدی علی عرضه وماله أنّه یستحق القتل، فمن البعید جدّاً أن یرفض هذا العاقل تلک العقوبة.

رابعاً: أنّه ربما یتم إیقاف تنفیذ مثل هذه الأحکام، ویکون ذلک لأسباب اضطراریة استثنائیة تحتم علی الفقیه - والفقیه وحده - أن یوقفها بشکل موقت، فلا یحقّ لأحد غیره اتّخاذ ذلک القرار، کما لا یحقّ له نفسه أن یبدّل الأحکام بشکل کلی، کلّ هذا ضمن شرائط محددة ومعیّنة.

خامساً: لو کانت العقوبة مالیة لوجدنا الاغنیاء یعیثون فی الأرض الفساد، کما حصل ذلک فی فترات من تاریخ البشریة، عند تسلّط الأغنیاء علی مقدّرات الأمور، ومن دون قانون محدد وواضح.

الإشکال الثانی: الأمر العقلائی مقدّم علی فتاوی الفقهاء

إنّ العقوبات الجزائیة الجسمیة قد نُهی عنها فی قانون حقوق الإنسان، وأصبحت تلک الأحکام من الأمور المرفوضة والمنفّرة والمنفورة، وهذا أمر

ص:134

عقلائی، وفی حال تعارض هذا الأمر مع فتاوی الفقهاء فإنّ الراجح هو الحکم العقلائی، والمرجوح هو حکم الفقهاء، وهذا المرجوح لیس هو حکم الله، فإنّ هذه الأحکام من الأحکام الظاهریة، وبناء علی مذهب العدلیة المخطئة فیمکن أن لا تکون تلک الفتاوی هی حکم الله، فإذا عارضها البناء العقلائی فیکون هو الراجح وهی المرجوح.

ثمّ أجاب المستشکل عن إشکال مقدّر حاصله: أنّ الأحکام الجزائیة الجسمیة من الأحکام الثابتة فی القرآن والسنّة فکیف یصح تغییرها تبعاً للعقلاء؟

فأجاب: أنّ هذه الأحکام أصلها موجود، ولم تکن موهنة فی تلک الأزمان، أمّا الیوم فبعد حکم العقلاء بموهنیتها فلابدّ من تغییرها، وعدم تغییرها إنّما هو فهم الفقهاء الخاطئ والمرجوح، وهذا لیس حکم الله.

الجواب عن الإشکال الثانی:

قد أشار المستشکل فی هذا الإشکال إلی ثلاث نقاط:

1. إنّ حکم العقلاء کما هو فی قانون حقوق الإنسان علی خلاف الأحکام الجزائیة البدنیة من القتل والقطع والرجم وما شاکل، وحکم العقلاء هذا مقدّم علی تلک الأحکام.

2. إنّ تلک الأحکام لیست هی أحکام الله الواقعیة، وإنّما هی أحکام ظاهریة تتبع رأی الفقیه.

3. لیس الإشکال علی أصل وجود الأحکام الجزائیة فی الإسلام، وإنّما الإشکال علی استمرارها بحکم الفقهاء.

ص:135

الجواب عن النقطة الأولی:

أمّا النقطة الأولی من الإشکال فیرد علیها:

أوّلاً: أنّ قانون حقوق الإنسان لا یمثّل آراء العقلاء جمیعاً، فإنّ من وضعه فئة خاصّة، وتحت ظروف خاصة، وقد روعیت فیه مصالح خاصة، وهذا أمر لیس محل بحثه هنا، ولیست هذه الأمور خفیة علی أحد. وهذا لا یعنی أنّه لا توجد مشترکات بین قانون حقوق الإنسان والأحکام الإسلامیة، فإنّ الإسلام دین الفطرة، وإنّما الکلام فیما إذا وقع تعارض بین قوانین حقوق الإنسان وبین قوانین الإسلام، فمن هو المقدّم؟ فتقدیم قانون حقوق الإنسان أوّل الکلام، بل لا یمکن قبوله لما سیأتی.

ثانیاً: أنّ الکثیر من البشر لم یقبلوا قانون حقوق الإنسان، ولم یعملوا بکلّ ما فیه، وإنّما عملوا بما ینسجم مع دینهم وتوجّهاتهم من ذلک القانون، فإنّ المسلمین لهم قوانین تختلف عن قوانین حقوق الإنسان، وکذا الهندوس والیهود، وحتّی الملاحدة والشیوعیین، فکیف یدّعی بعد ذلک ضرورة تغییر الأحکام الإسلامیة تبعاً لقانون حقوق الإنسان، وهو لیس محل اتّفاق عند أبناء البشر؟!

ثالثاً: أنّ قانون حقوق الإنسان یخالف الأحکام الإسلامیة فی مجموعة من الأمور، فلو قبلنا بهذه هنا للزم قبولها فی الجمیع، وهذا یعنی تغیّر الکثیر من الأحکام الإسلامیة الثابتة، کأحکام الإرث، والرجل والمرأة، ومسائل

ص:136

الزواج، والدیات، والحدود، إلی غیر ذلک. ولعمری إنّ هذا الرأی یجعلنا نترحّم علی أمثال أبی حنیفة.

الجواب عن النقطة الثانیة:

وأمّا النقطة الثانیة من الإشکال فیرد علیها:

أوّلاً: صحیح أنّ المذهب الجعفری مذهب مخطئة، وهو یعنی أنّ الأحکام الظاهریة یمکن أن لا تطابق الواقع، ولکن هذا لا یعنی أنّ الحکم الظاهری یمکن رفع الید عنه بسهولة، حیث تقدم منّا فی النقطة الثانیة فی حقیقة الحکم الظاهری أنّه لا یجوز رفع الید عن الحکم الظاهری إلّا بحجة شرعیة؛ لأنّ الحکم الظاهری قد ثبت بحجة قطعیة، لا یجوز تخطیها بدون دلیل أو برهان.

ثانیاً: قد ثبت فی محلّه أنّ الحکم الظاهری کالأمارات تقوم مقام القطع الطریقی، من هنا جاز إسناد مؤدّاها إلی المولی، ویصح أن یقال: إنّ هذا هو حکم الله، فمن یرید أن یثبت خلاف ذلک فعلیه البحث والتأصیل لأصول جدیدة خاصة به، علی أن تکون منسجمة وقائمة علی الدلیل والبرهان، لا علی الذوق والتشهی وشیء من الجهل والغفلة.

الجواب عن النقطة الثالثة:

وأمّا النقطة الثالثة من الإشکال فیرد علیها:

أوّلاً: أنّ ثبات الأحکام هو الأصل فی المسألة کما تقدّم بیانه، فمادام

ص:137

المستشکل یری تغیّرها علیه أن یبدی الدلیل علی ذلک.

ثانیاً: أنّ القرائن والشواهد تدل علی ثبات تلک الأحکام ودوامها، کما تقدّم.

ثالثاً: کان علی المستشکل أن یفرّق بین أصل الحکم وتنفیذه، حتّی لا یقع فی الخلط، کما تقدّم منّا بیان ذلک.

وبذلک یثبت بطلان دعوی الموهنیة کبری وصغری.

الإشکال الثالث: لا فرق بین حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله وبین حکم الرجم

قد صرّح مجموعة من الفقهاء أنّ اجراء حکم الرجم یعطّل فیما إذا کان إجراؤه موجباً لوهن الدین وتشویه صورة الإسلام، کما لو أنّ هذا الحکم لم یبیّن بشکله الصحیح وفلسفته الحکیمة، وکذلک الأمر فی بقیة الحدود، وعلیه فالمدّعی أنّ حکم قتل المرتد وسابّ النبی من هذا القبیل، فلابدّ أن یعطّل.

جواب الإشکال:

أوّلاً: من الواضح أنّ هذا الإشکال إنّما یکون فی دائرة تنفیذ الأحکام لا أصل تشریعها، بخلاف ما حاول أن یستفیده البعض من هذا الإشکال.

ثانیاً: أنّ هناک فرقاً بین قتل المرتد وبقیة الحدود، من جهة أنّ هذا الحکم بذاته وحقیقته إنّما أرید به ردع الکفّار والمتجاوزین علی الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله، ففی حقیقته یوجد الغضب والانتقام والتصدّی، ولأجل ذلک

ص:138

ان کان الوهن المدّعی سببه هو هذا، وأنّه یظهر الإسلام بغیر مظهر الرحمة، فإنّ هذا هو المطلوب من مثل هذه الأحکام، وإن کان المقصود الموهنیة بسبب شیء آخر - لأیّ سبب کان - فهذا یوجب تعطیل الحکم فی تلک الظروف خاصة فقط، لا أنّه یبدّل ویغیّر علی الدوام، ویعتبر منسوخاً بحکم العقلاء.

ثالثاً: أنّ تحدید الموهنیة وایقاف العمل بتنفیذ تلک الأحکام إنّما یکون بید الحاکم الجامع للشرائط، وبید الولی الفقیه، ولا یحقّ لأحد غیره التدخّل فی ذلک، فله الحقّ بإیقاف تنفیذ تلک الأحکام بحسب ما یراه من مصلحة، فالإشکال علی الفقهاء بعدم تغییرهم تلک الأحکام واضح البطلان جدّاً؛ لأنّ المستشکل إن کان منهم فهو یحکم بقناعته وخبرته وعلمه، ولیس کلامه حجّة علی غیره، إلّا إذا کان أمراً ولائیاً، وإن لم یکن هذا المستشکل من الفقهاء فقوله لیس بحجة حتّی علی نفسه فضلاً عن غیره، وما أجمل ما قیل: رحم الله أمرئاً عرف قدر نفسه.

والنتیجة: لو کانت هناک موهنیة بالفعل فإنّ تحدیدها والبتّ بها إنّما هو بید الفقیه الجامع للشرائط، لا أنّه أمر بید العقلاء یغیّرونه حسب أذواقهم وما یرونه من مصلحة.

فإن قلت: إنّ الفقیه من العقلاء فکیف تجیزون لعاقل واحد تغییر ذلک دون مجموعة من العقلاء؟

قلت: إنّ هذا الإذن للفقیه لیس بما أنّه من العقلاء فقط، بل بما أنّه

ص:139

خبیر بأمور الدین، وهو الموصی إلیه بالوصیة العامة من قبل الإمام المعصوم علیه السلام لإدارة أمور المجتمع الإیمانی، فالفقیه یعتبر النائب العام لولی الدین الذی هو الإمام المعصوم علیه السلام، فلأجل هذا المنصب جاز له تحدید مثل تلک الأمور، ومع ذلک لیس هو مطلق التصرّف، بل لابدّ له من مراعاة الشروط والقواعد فی ذلک.

الإشکال الرابع: ابتعاد الفقهاء عن موازین نبی الرحمة

إنّ السبب الذی أدّی بالفقهاء إلی الحکم بمثل قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله هو ابتعادهم عن موازین وقوانین نبی الرحمة، وابتعادهم عن القرآن الکریم، وإلّا لو رجعوا إلی القرآن الکریم لوجدوا أنّ القرآن یکرّم الإنسان، فکرامة الإنسان قبل المعتقد(وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ)1 ، لذلک لا یجوز قتله وإهانته؛ لأنّه خرج عن دین الإسلام بقناعته، فمثل هذه الأحکام تخالف روح الدین والقرآن، لذلک من الخطأ أن یستنبط حکم شرعی من بعض الآیات والروایات، بل لابدّ أن ینظر إلی مجموع الدین، ثمّ یکون الاستنباط.

فإن قلت: إنّ هذا الإشکال علی الإسلام إنّما جاء بعد الاستعمار وبحجة قانون حقوق الإنسان، فلابدّ أن لا یعتنی بقولهم؛ لأنّهم أعداء الدین وأعداء الشعوب الإسلامیة.

قلت: انظر لما قیل ولا تنظر لمن قال، فالحقّ أحقّ أن یتبّع وإن کان

ص:140

من الأعداء، فلیس کلّ شیء قاله المحتل المستعمر فهو مرفوض، بل عندهم علوم کثیرة یجب أن تؤخذ منهم وهذه منها، فإنّ حقوق الإنسان إنّما هو نتاج العقل البشری، وهو ملک الجمیع، وإن حاول البعض أن یستفید منه بشکل خاطئ.

جواب الإشکال:

قد أشار المستشکل إلی مجموعة قضایا، وهی:

1. إنّ موازین الفقهاء وخصوصاً المتأخرین منهم علی خلاف موازین نبی الرحمة صلی الله علیه و آله.

2. إنّ الرؤیة القرآنیة التی ابتعد عنها الفقهاء تکرّم بنی آدم، والحکم بالقتل لأجل المعتقد خلاف ذلک.

3. من الخطأ أن ینظر إلی الدین بما هو مجزأ، بل لابدّ أن ینظر إلیه کشیء واحد.

4. إنّ قانون حقوق الإنسان لابدّ أن یؤخذ به وإن کان من جاء به أناس کاذبون یریدون استخدامه فی غایات مرفوضة.

أمّا النقطة الأولی فهی لا تستحقّ الجواب أصلاً.

وأمّا النقطة الثانیة فإنّ القرآن قد کرّم بنی آدم بجنسهم لا کلّ فرد فرد، وإلّا فالآیات القرآنیة التی تذم وتلعن وتهین کثیرة، وذلک لمن یستحق الإهانة والذم واللعن، قال تعالی: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَکْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ

ص:141

هُمْ إِلاّ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً)1 ، وقال تعالی: (وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ کَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أُولئِکَ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِکَ هُمُ الْغافِلُونَ)2 ، وقال تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ)3 فهل یعنی هذا أنّ القرآن یناقض نفسه؟! وهذا هو الذی بیّناه فی النقطة الأولی فی صدر البحث.

وأمّا النقطة الثالثة فهی حقّ، وعلیها العمل من قبل فقهائنا العظماء، فهم ینظرون إلی الدین بنظرة واحدة متکاملة، لذلک لا یحکمون بحکم ولا یستنبطون من آیة أو روایة إلّا بعد النظر فی معارضاتها ومخصصاتها ومقیداتها والعمومات الأخری والمرتکزات الدینیة، بل وحتّی العقلائیة والإطلاقات اللفظیة والمقامیة والقرائن المتصلة والمنفصلة إلی غیر ذلک، وأمّا اتّهامهم بخلاف ذلک فهو کذب وافتراء أو جهل مرکب.

وأمّا النقطة الرابعة فهی المصداق الأوضح لعنوان المصادرة، فإنّ الکلام فی بطلان فقرات ذلک القانون التی تعارض الأحکام الإسلامیة، فکیف تؤخذ صحتها أمرا مسلّماً؟!

ص:142

فهرس مصادر

مقال الاحکام التی توجب وهن الدین

1 - تاج العروس فی جواهر القاموس، السید محمّد مرتضی الحسینی الزبیدی، تحقیق: علی شیری، نشر: دار الفکر، سنة الطبع 1414 ه -، بیروت - لبنان.

2 - تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة العاشرة 1425 ه -، قم - إیران.

3 - تکملة المنهاج (ضمن منهاج الصالحین)، السید الخوئی، نشر: مدینة العلم، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -.

4 - العرف والتقعید الأصولی، صباح عباس الساعدی، مجلة الإصلاح الحسینی، العدد الأول.

5 - علل الشرائع، الشیخ الصدوق، تقویم: السید محمّد صادق بحر العلوم، نشر: المکتبة الحیدریة، سنة الطبع 1385 ه -، النجف الأشرف - العراق.

ص:143

6 - عیون أخبار الرضا، الشیخ الصدوق، تصحیح و تعلیق: الشیخ حسین الأعلمی، نشر: مؤسسة الأعلمی، سنة الطبع 1404 ه -، بیروت - لبنان.

7 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، صححه وعلّق علیه: علی أکبر الغفاری، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الخامسة 1363 ش، طهران - إیران.

8 - کمال الدین و تمام النعمة، الشیخ الصدوق، تصحیح و تعلیق: الشیخ علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1405 ه -، قم - إیران.

9 - مختار الصحاح، محمّد الرازی، ضبط و تصحیح: أحمد شمس الدین، نشر: دار الکتب العلمیة، الطبعة الأولی 1415 ه -، بیروت - لبنان.

10 - من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، تحقیق و تصحیح: علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة، قم - إیران.

11 - وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، قم - إیران، 1414 ه -.

ص:144

حکم عقوبة الاتّجار بالإنسان الحر

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

ذکر الفقهاء حدّ بیع الإنسان الحر - سواء کان کبیراً أم صغیراً - تبعاً لورود النصّ فیه إلّا أنّهم اختلفوا فی تعلیله، فهل یجری علیه حدّ السرقة أو حدّ الإفساد أو حدٌّ مستقلٌ عنهما أو لا یجری علیه الحد أصلاً؟ وعلی الاحتمالین الأوّل والثالث فالحد القطع، وعلی الاحتمال الثانی فاستشکل فی تحدیده من جهة ورود النص بالقطع ومن جهة التخییر فیه بین القتل وقطع الید والأرجل من خلاف والنفی، وعلی الاحتمال الرابع فلا قطع علیه وإن کان للحاکم تعزیره من أجل حسم الفساد والتأدیب.

وصور مسألة بیع الحر علی النحو التالی:

الأولی: أن یسرق حراً صغیراً ویبیعه.

الثانیة: أن یسرق حراً صغیراً ولا یبیعه.

الثالثة: أن یسرق حراً کبیراً ویبیعه.

الرابعة: أن یسرق حراً کبیراً ولا یبیعه.

ص:145

الخامسة: التواطؤ بینهما علی بیع أحدهما الآخر.

السادسة: أن یبیع الرجل زوجته.

وقبل نقل کلمات الفقهاء وأدلتهم نذکر الأخبار الواردة فی المقام لمعرفة صحتها من عدمها، ومن خلال دراستها تتضح أحکام صور المسألة:

الروایة الأولی: موثق السکونی: «عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن النوفلی، عن السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام أتی برجل قد باع حراً فقطع یده».(1)

والروایة موثقة لحسن حال کلّ من الحسین بن یزید النوفلی وإسماعیل بن أبی زیاد السکونی.

وهی مطلقة من حیث کون الحر کبیراً أو صغیراً، وخالیة من لفظ السرقة.

الروایة الثانیة: خبر طریف: «محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن حنان بن معاویة، عن طریف بن سنان الثوری قال: سألت جعفر بن محمّد علیهم السلام عن رجل سرق حرة فباعها؟ قال: فقال: فیها أربعة حدود: أمّا أوّلها فسارق تقطع یده، والثانیة إن کان وطأها جلد الحد، وعلی الذی اشتری إن کان وطأها وقد علم إن کان محصناً رجم، وإن کان غیر محصن جلد الحد، وإن کان لم یعلم فلا شیء علیه، وعلیها هی إن کان استکرهها

ص:146


1- (1) الکافی 229:7، باب حدّ من سرق حراً فباعه.

فلا شیء علیها، وإن کانت أطاعته جلدت الحد».(1)

والخبر ضعیف لجهالة کلّ من حنان بن معاویة وطریف بن سنان الثوری.

ومطلقة من حیث الکبر والصغر، وواردة بلفظ السرقة.

الروایة الثالثة: خبر سنان بن طریف: «محمّد بن علی بن محبوب، عن العبّاس بن موسی، عن یونس بن عبد الرحمان، عن سنان بن طریف قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل باع امرأته؟ قال: علی الرجل أن تقطع یده، وعلی المرأة الرجم إن کانت وطئت، وعلی الذی اشتراها إن وطأها وکان محصناً أن یرجم إن علم بذلک، وإن لم یکن محصناً ضرب مئة جلدة».(2)

والخبر حسن؛ لأنّ سنان بن طریف إمّا الهاشمی أو الثوری وکلاهما مقبول الروایة.(3)

ص:147


1- (1) تهذیب الأحکام 113:10.
2- (2) تهذیب الأحکام 113:10.
3- (3) تعلیقة علی منهج المقال: 197. ویحتمل قویاً أنّهما شخص واحد وإن ذکر أنّ أحدهم الثوری والآخر مولی بنی هاشم فاستبعد الاتّحاد، إلاّ أنّ هذا الاستبعاد ینتفی بملاحظة أنّ مولی لا تستلزم أنّه غیر عربی، کما کان یقال لابن مسعود: إنّه عبد آل محمّد صلی الله علیه و آله مع کونه عربیاً، قال الشیخ اللنکرانی: «ولا یخفی أنّ صاحب الوسائل حکی فی الباب الثامن والعشرین من أبواب حدّ الزنا روایتین عن الشیخ، إحداهما عن طریف بن سنان، والأُخری عن سنان بن طریف، مشتملتین علی مثل هذه الروایة الأخیرة، والظاهر اتّحاد الروایات الثلاث وعدم کونها متعدّدة، غایة الأمر وقوع الاشتباه فی الراوی کما لا یخفی».

وهو صریح فی الکبیر وفی عدم السرقة.

ویحتمل الاتّحاد مع ما تقدم لاتّحادهما فی الألفاظ والمعنی إلّا فی التقدیم والتأخیر.

الروایة الرابعة: «وعن أبی جعفر وأبی عبد الله علیهم السلام - کذلک قال صاحب الحدیث - عن أحدهما أنّه قال: فی الرجل یبیع امرأته؟ قال: تقطع یده، فإن کان الذی اشتراها علم بأنّها حرة فوطأها رجم إن کان محصناً، أو ضرب الحد إن لم یکن محصناً، وترجم هی إذا طاوعته».(1)

والخبر ضعیف السند لجهالة الراوی، وهو متّحد مع الحدیثین السابقین.

الروایة الخامسة: خبر النهدی: «علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن محمّد بن حفص، عن عبد الله بن طلحة قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل یبیع الرجل وهما حرّان، یبیع هذا هذا وهذا هذا، ویفرّان من بلد إلی بلد، فیبیعان أنفسهما ویفران بأموال الناس؟ فقال: تقطع یدیهما؛ لأنّهما سارقان أنفسهما وأموال الناس».(2)

والروایة ضعیفة السند عند المشهور لجهالة محمّد بن حفص.

وبعد احتمال الاتّحاد قویاً بین الأخبار الثلاثة - الثانیة والثالثة والرابعة -

ص:148


1- (1) دعائم الإسلام 467:2.
2- (2) الکافی 230:7.

مع ضعفها، وضعف الخبر الخامس فلا یبقی إلّا الخبر الأوّل وهو موثقة السکونی.

نعم، ذکروا أنّ الشهرة عاضدة لضعفها، قال فی الجواهر: «ودعوی ضعف النصوص المزبورة - ولا جابر لها سوی الشهرة المحکیة، وفی حصوله بها نوع مناقشة، سیّما مع رجوع الشیخ الذی هو أصلها عمّا فی النهایة - واضحة الفساد بعد تحقق الشهرة المزبورة علی القطع».(1)

وأضاف الشیخ اللنکرانی فی ردّ من شکک بالشهرة لرجوع الشیخ عنها فقال: «إنّ عبارة الخلاف لا یستفاد منها نفی القطع مطلقاً، بل غایة مفادها عدم ثبوت القطع من جهة السرقة التی یعتبر فیها المالیّة بمقدار النصاب».(2)

وفی کلامه نظر من جهة أنّ الشیخ نفی القطع وعلله بالإجماع والأخبار، ولم یذکر بائع الحر فی حدّ المحاربة فی کتاب الخلاف(3) ، وتعریفه المحاربة بأنّها «قطّاع الطریق الذین یشهرون السلاح، ویخیفون السبیل»(4) ، ولم یذکره کحدّ مستقل؛ یشهد علی نفی الشهرة علی القطع

ص:149


1- (1) جواهر الکلام 511:41. والظاهر أنّ کلامه ردّ علی سیّد الریاض، حیث قال الأخیر: «إلاّ أن تردّ بقصور أسانیدها، وعدم وضوح جابر لها عدا الشهرة المحکیّة، وفی حصوله بها نوع مناقشة، سیّما مع رجوع الشیخ الذی هو أصلها عمّا فی النهایة». ریاض المسائل 114:16.
2- (2) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة: 550.
3- (3) الخلاف 457:5.
4- (4) المصدر السابق.

مطلقاً لا علی القطع من جهة السرقة خاصّة.

نعم، تبقی المناقشة الأُولی من أنّ رجوع الشیخ عن رأیه من نفی القطع لا یستلزم عدم تحقق الشهرة خارجاً، لکن یعارضه کلامه فی المبسوط: «إن سرق حراً صغیراً روی أصحابنا أنّ علیه القطع، وبه قال قوم، وقال أکثرهم: لا یقطع»(1) ، فلاحظ.

رأی الفقهاء فی المسألة:

اختلف الفقهاء فی تعلیل الحکم بقطع ید بائع الحر بعد الاتّفاق علی أصل الحکم، وفی المقام یوجد لدینا ثلاثة آراء، نذکرها مع أدلتها، وملاحظة ما یرد علیها، ثمّ نختار الراجح منها.

القول الأوّل: ذهب المشهور إلی ثبوت حدّ القطع فی سرقة الحر الصغیر وبیعه وإن اختلفوا فی تعلیله من جهة السرقة أو الفساد، قال الشیخ الطوسی: «إن سرق حراً صغیراً روی أصحابنا أنّ علیه القطع، وبه قال قوم، وقال أکثرهم: لا یقطع، ونصرة الأوّل قوله: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) ولم یفرّق».(2)

والتقیید بالصغیر ذکره جملة من الفقهاء، قال الشهید الثانی: «قیّده فی

ص:150


1- (1) المبسوط 31:8.
2- (2) المبسوط 31:8.

المبسوط بالصغر، وتبعه الأکثر»(1) ، منهم الطبرسی(2) ، وابن إدریس(3) ، وابن سعید(4) ، والصیمری(5) ، والعلّامة الحلی(6) ، والفاضل الهندی(7).

وتقیید الشیخ بیع الحر بالصغیر لم یظهر له وجه مع إطلاق موثقة السکونی وتصریح بقیّة الأخبار بالکبیر، قال الفاضل الهندی: «وقید الصغر ممّا فصّله الشیخ فی الخلاف والمبسوط وتبعه غیره، مع إطلاق الخبر الأوّل، وکون البواقی فی الکبیر؛ لأنّ الکبیر فی الأکثر متحفّظ بنفسه لا یمکن بیعه، وإلّا فالحکم عامّ کما نصّ علیه فی التحریر».(8) وعلی ذلک فلا وجه للتقیید.

والتعلیل بالتحفّظ یلائم الحکم بالقطع لأجل السرقة والإفساد، فلا یصح ما ورد فی الشرح: «وإطلاق المتن یقتضی عدم الفرق بین الصغیر والکبیر، وقیّده فی الأکثر بالأوّل، وتعلیل المتن (لفساده) یساعده الأوّل

ص:151


1- (1) مسالک الإفهام 502:14.
2- (2) المؤتلف من المختلف 408:2.
3- (3) السرائر 499:3.
4- (4) الجامع للشرائع: 562.
5- (5) تلخیص الخلاف 245:3.
6- (6) مختلف الشیعة 237:9.
7- (7) کشف اللثام 608:10.
8- (8) کشف اللثام 574:10.

زیادة علی إطلاق النص»(1) ؛ لأنّ التعلیل بالفساد لأجل الحد خروج من إشکالیة السرقة التی ستأتی، ولیست للسرقة.

والجهة الأخری تعلیلهم القطع لأجل الفساد لا السرقة حیث اختلفوا فیها، فذهب الشیخ فی النهایة والمحقق الحلی و العلّامة وابنه(2) وغیرهم إلی ثبوت الحد لأجل الفساد، وفی المقابل ذهب الفیض الکاشانی وغیره إلی القطع للسرقة قال: «والتعلیل بالإفساد یأباه.. وسیأتی أنّ حدّ المفسد لا یختص بالقطع، وأمّا الأخبار فمستفیضة بقطع ید سارق الحر مطلقاً، وتسمیته سارقاً بلا معارض».(3) وإن کان آخر کلامه محلّ تأمّل کما سیأتی.

وقال السید الهاشمی: «عنوان قطع الید اصطلاح لحدّ السرقة لا المحاربة أو الإفساد فی الأرض؛ إذ الثابت فیه القتل أو الصلب أو قطع الرجل والید من خلاف أو النفی، فحمل هذه الروایات علی إرادة تعمیم ذلک الحدّ لمن سرق حرّة فباعها أو باع امرأته أو حراً باعتبار کونه مفسداً واضح الفساد».(4)

والذی أدّی بالقائلین بالقطع أنّه لأجل الفساد عدم التوفیق بین القطع

ص:152


1- (1) الشرح الصغیر فی شرح المختصر النافع 380:3.
2- (2) النهایة 336:3، شرائع الإسلام 175:4، قواعد الأحکام 555:3، إیضاح الفوائد 520:4.
3- (3) مفاتیح الشرائع 93:2.
4- (4) مقالات فقهیة: 122.

وکونه حراً، لاشتراط الملکیة والنصاب المخصوص فی المسروق بینما الحر لیس مالاً فضلاً عن بلوغه النصاب، «فحیث لم یمکنهم حلّ الإشکال ودفعه حاولوا تعلیل ذلک، وبیان أنّ نکتته الإفساد لا السرقة»(1).

ثمّ أورد علیه بقوله: «مع أنّ الأولی فی دفع الإشکال أن یقال بأنّ دلیل شرطیة النصاب إنّما یقید ذلک فی خصوص الأموال المسروقة لا کلّ مسروق، فتبقی عمومات قطع السارق فی غیرها علی حجّیتها، وأیّاً ما کان فالحمل المذکور ممّا لا یمکن المساعدة علیه بوجه، علی أنّه لو فرض صحة هذا الحمل فغایته التعمیم للإفساد فی الأرض بالمعنی الذی ذکرناه، أی: التجاوز علی الأموال والأنفس ولو بغیر شهر السلاح والمحاربة، لا مطلق الإفساد فی المجتمع کما هو مدّعی القائل بالتعمیم».(2)

ویرد علیه:

أوّلاً: ما فهمه من عبارة الشیخ الطوسی من عدم تحقق النصاب فی سرقة الحر - صغیراً أو کبیراً - غیر صحیح؛ إذ إنّ النصاب فرع المالیة والشیخ ینکر مالیة الحر من الأساس، فالردّ علیه بتخصیص النصاب بالأموال دون غیرها لا یدفع الإشکال.

بمعنی أنّ عدم تحقق النصاب فی الحر لعدم المالیة، فتخصیص

ص:153


1- (1) مقالات فقهیة: 123.
2- (2) المصدر السابق.

النصاب بالأموال لا یجدی نفعاً فی انطباق الحکم علی الحر لبقاء عدم المالیة فیه، فتأمّل.

وثانیاً: أنّ القطع لأجل الفساد فرع تعمیمه لصورة التجاوز علی الأموال والأنفس بغیر شهر السلاح والمحاربة وهولا یتم فغریب، فإنّه إذا ما فرض التعمیم لغیر شهر السلاح وإبقاء عنوان التجاوز فأیّ معنی أوضح من بیع الإنسان فی الحکم بالتجاوز والتعدّی وتطبیق الإفساد علیه؟!

فلا معنی بقبول التعمیم ورفض الانطباق علی صورة البیع لوضوح صدقه بأدنی رویّة.

ثالثاً: مناسبات الحکم والموضوع لا تجری فی أغلب الأخبار الواردة فی المقام، کخبر عبد الله بن طلحة النهدی: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل یبیع الرجل وهما حرّان، یبیع هذا هذا وهذا هذا، ویفرّان من بلد إلی بلد، فیبیعان أنفسهما ویفرّان بأموال الناس؟ قال: تقطع أیدیهما؛ لأنّهما سارقا أنفسهما وأموال المسلمین»، وخبر سنان بن طریف قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل باع امرأته؟ قال: علی الرجل أن یقطع یده، وعلی المرأة الرجم إن کانت وطئت، وعلی الذی اشتراها إن وطأها وکان محصناً أن یرجم إن علم بذلک، وإن لم یکن محصناً ضرب مئة جلدة»؛ لوضوح عدم تحقق سرقة أحدهما الآخر، وإنّما تواطا علی البیع بینهما، وکذلک بیع الزوجة ومع ذلک أجاب الإمام علیه السلام بأنّهما سرقا وحکم بالقطع، وهو لا ینسجم مع الاستخدام الفقهی للسرقة، وهذا یبطل قرینة مناسبة الحکم

ص:154

والموضوع التی ذکرها، قال السید الکلبایکانی: «یمکن أن یقال: إنّ التعبیر بالسرقة فی هذه الروایات ووجوب القطع علیه إنّما هو لأجل أخذه لأموال الناس بالخدعة والحیلة، وبیع ما لا یجوز بیعه لهم، وأخذ ثمنه منهم بغیر مشروع الذی حکمه بحسب هذه الأخبار أو المراد بالسرقة أنّ حکمه - أی: حکم عمله - حکم السرقة وإن لم یکن هو بحسب الاصطلاح سارقاً».(1)

رابعاً: تخصیص النصاب بالمال الذی ذکره لا یحلّ الإشکال؛ وذلک لوجود النصوص الخالیة عن ذکر السرقة ومع ذلک حکم بالقطع فیها أیضاً، فیبقی الإشکال الذی ذکروه علی حاله.

القول الثانی: ومن الإشکال فی المسألة وضعف الأخبار الواردة فیها عنوان السرقة التزم جملة من الفقهاء، کالسید الخوئی وجملة من تلامیذه باستقلالیة حدّ (بیع الحر) عن (حدّ السرقة والمحاربة) فقال: «الرابع عشر بیع الحر: من باع إنساناً حراً - صغیراً کان أو کبیراً، ذکراً کان أو أنثی - قطعت یده».(2) وجعله حدّاً مستقلاً عنهما؛ لمعتبرة السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «إنّ أمیر المؤمنین صلوت الله علیه أتی برجل قد باع حراً فقطع یده»، المثبتة للقطع والخالیة من لفظ السرقة.

وهو وجه من وجوه الجمع بین الأخبار، بملاحظة الأخذ بالقدر المتّفق

ص:155


1- (1) تقریرات الحدود والتعزیرات 383:1.
2- (2) تکملة منهاج الصالحین: 51، مبانی تکملة المنهاج 384:41، منهاج الصالحین للشیخ الوحید الخراسانی 498:3.

علیه وهو القطع دون الخصوصیات الأخری، مع أنّ بعض العبارات کقوله: «تقطع أیدیهما؛ لأنّهما سارقا أنفسهما» لا یمکن أخذه کعنوان من عناوین السرقة التی علل بها القطع؛ إذ لا یمکن قطع ید الإنسان لأنّه سرق نفسه؛ لعدم إمکانیة تحقق السرقة للنفس خارجاً فلاحظ.(1)

قال الشیخ اللنکرانی: «ویمکن أن یقال، بل لعلَّه الظاهر: إنّ نفس عنوان بیع الحر یترتّب علیه الحکم بقطع الید فی الشریعة فی ردیف السرقة، من دون أن یکون من مصادیق الفساد».(2)

القول الثالث: وذهب آخرون إلی إنکار ثبوت الحد مطلقاً - سواء کان بعنوان السرقة أم الفساد - قال الشهیدین: « (الخامسة: لا یقطع سارق الحر وإن کان صغیراً)؛ لأنّه لا یعدّ مالاً، (فإن باعه قیل) والقائل الشیخ وتبعه العلّامة: (قطع) کما یقطع السارق، لکن لا من حیث إنّه سارق، بل (لفساده فی الأرض) وجزاء المفسد القطع، (لا حدّاً) بسبب السرقة.

ویشکل بأنّه إن کان مفسداً فاللازم تخیّر الحاکم بین قتله وقطع یده ورجله من خلاف إلی غیر ذلک من أحکامه لا تعیین القطع خاصّة.

وما قیل: من أنّ وجوب القطع فی سرقة المال إنّما جاء لحراسته،

ص:156


1- (1) وهذا لم یتعرّض له السید فی المقالات، ولم یذکره ولو علی نحو الاحتمال فی کلامه وهو غریب جدّاً، مع أنّه الوجه الراجح فی المسألة کما سیتّضح.
2- (2) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة(الحدود): 551.

وحراسة النفس أولی فوجوب القطع فیه أولی لا یتم أیضاً؛ لأنّ الحکم معلّق علی مال خاص یسرق علی وجه خاص، ومثله لا یتم فی الحر، ومطلق صیانته غیر مقصودة فی هذا الباب کما یظهر من الشرائط، وحمل النفس علیه مطلقاً لا یتم، وشرائطه لا تنتظم فی خصوصیة سرقة الصغیر وبیعه دون غیره، من تفویته، وإذهاب أجزائه، فإثبات الحکم بمثل ذلک غیر جیّد، ومن ثمّ حکاه المصنف قولاً، وعلی القولین لو لم یبعه لم یقطع».(1)

وقال سیّد الریاض: «ظاهر جماعة التردّد فی المسألة، کالماتن فی الشرائع، والفاضل المقداد فی التنقیح، والشهیدین فی المسالک واللمعتین، وبه یتّجه ما فی الخلاف من عدم القطع؛ لحصول الشبهة الدارئة».(2)

وهؤلاء استندوا فی کلامهم إلی عدم تمامیة الأخبار، قال سیّد الریاض: «تردّ بقصور أسانیدها، وعدم وضوح جابر لها عدا الشهرة المحکیّة، وفی حصوله بها نوع مناقشة، سیّما مع رجوع الشیخ الذی هو أصلها عمّا فی النهایة».(3)

ومن جهة عدم إمکانیة إدراج الأمر تحت حدّ السرقة لتفرّعها عن

ص:157


1- (1) الروضة البهیة 251:9.
2- (2) ریاض المسائل 115:16، واختاره السید الإمام أیضاً قال: «مسألة 13: لو سرق حراً -- کبیراً أو صغیراً، ذکراً أو أنثی -- لم یقطع حدّاً، فهل یقطع دفعاً للفساد؟ قیل: نعم، وبه روایة، والأحوط ترک القطع وتعزیره بما یراه الحاکم».
3- (3) المصدر السابق.

الملکیة والنصاب الخاص، لا تحت حدّ الفساد لوضوح أنّ حکمه التخییر بین القتل أو القطع من خلاف أو النفی، فلذلک اختاروا الطعن فی الأخبار وردّها سنداً والتوقّف فی الحکم.

ویرد علیه: أنّ أصحاب هذا القول التزموا بصحة الأخبار، بل واستفاضتها، قال سیّد الریاض: «والنصوص به مستفیضة، منها القویّ»(1) ، فلا مسوّغ من ردّها والتوقّف فی الحکم بعد ورود النصّ به.

وعدم إمکانیة إدراجه تحت حدّ السرقة والإفساد لا یلازم ذلک؛ إذ یمکن الالتزام به کحدّ مستقل بعنوان بیع الحر، کما التزم به أصحاب القول الثانی.

والجنوح إلی الدرء بالشبهة بعد الاشتباه فی الحکم أو موضوعه، والمقام لیس منهما بعد تمامیة الأخبار، والالتزام بعدم حصر الحدود بعناوین محددة، وإنّما تثبت تبعاً للنصّ وهو تام فی المقام.

نعم، احتمل مقرر بحث السید الکلبایکانی: «أنّ هذه الأخبار المتقدّمة قد خصصت حکمه هنا بالقطع فقط دون سائر الأحکام المذکورة فی الآیة، وهذا الإشکال وجوابه لم یذکرهما الأستاذ».(2)

وهو کما تری من تفرّعه علی حصر الحدود فی أمور محددة، مع أنّه

ص:158


1- (1) ریاض المسائل 112:16.
2- (2) تقریرات الحدود والتعزیرات 383:1.

لا دلیل علیه، وصریح أخبار المقام ترتّب الحکم علی عنوان بیع الحر دون السرقة المجردة، والغفلة عمّا سبق فی کلام أستاذه: «لکن إذا صار من مصادیق هذه الآیة بیع الحر أو الحرة فلم لا یترتب علیه سائر أحکام الآیة من القتل أو الصلب أو النفی من الأرض ویترتّب علیه قطع الید فقط؟».(1)

فجعل سارق الحر مع بیعه من مصادیق الآیة یستلزم التطبیق؛ إذ لا معنی له مع التخصیص، ولعلّه لأجل ذلک لم یذکره السید.

الرأی المختار:

بعد عرض الروایات الواردة فی مسألة البحث والآراء المذکورة، یترجّح القول الثانی وهو ما ذهب إلیه السید الخوئی، وهو: من باع إنساناً حراً - صغیراً کان أو کبیراً، ذکراً کان أو أنثی - قطعت یده؛ لتمامیة خبر السکونی، وتأیید الأخبار الأخری، والشهرة المنقولة، وقد ورد فیها أنّ من باع إنساناً - حراً کبیراً کان أو صغیراً - وضع یده علیه عن طریق السرقة أو الغفلة أو النوم وغیرها فحدّه الشرعی القطع، ویؤیّدها بعض الأخبار التی لم یرد فیها لفظة السرقة، وأنّ الحکم مترتّب علی بیع الحر دون التقید بالسرقة، لذا لو سرق حراً ولم یبعه فلا قطع.

ویثبت الحکم فی الصورة الأولی والثالثة والخامسة والسادسة لتحقق

ص:159


1- (1) المصدر السابق.

العنوان، دون الصورة الثانیة والرابعة لعدم التحقق.

ویبقی شیء فی المقام وهو أنّ من حکم بالقطع لأجل السرقة أو الفساد فتحدید مکان قطع الید معلوم، وأمّا من حکم بالقطع بعنوان حدّ بیع الحر، فهل قطع الید کقطع ید السارق أم أنّه غیر ملزم بذلک؟

والجواب: أنّهم لم یتعرّضوا لتحدید مقدار القطع فی کلامهم، ولعلّه اعتمدوا علی الارتکاز الشرعی فی السارق، حیث تقطع أصابع یده الأربع من الید الیمنی، ویترک له الراحة والإبهام.

وکیف کان، فالذی یظهر بعد الحکم بکون القطع فی بیع الحر حدّاً مستقلاً، وعدم تحدید المقدار المقطوع، فالرجوع إلی العرف فیه، ولا یشترط أن یکون نفس المقدار الوارد فی السرقة؛ لأنّه لیس حدّ سرقة.

ص:160

فهرس مصادر

مقال حکم عقوبة الاتّجار بالإنسان الحر

1 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، فخر المحققین محمّد بن الحسن الحلی (ت 771)، تعلیق: السید حسین الموسوی الکرمانی والشیخ علی بناه الإشتهاردی والشیخ عبد الرحیم البروجردی، الطبعة الأولی 1387 ه -.

2 - تعلیقة علی منهج المقال، محمّد باقر الوحید البهبهانی (ت 1205).

3 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی (ت 1428)، تحقیق ونشر: مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام - قم، الطبعة الثانیة 1422 ه -.

4 - تقریرات الحدود والتعزیرات، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414).

5 - تکلمة منهاج الصالحین، السید الخوئی (ت 1413)، الناشر: مدینة العلم، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -.

6 - تلخیص الخلاف وخلاصة الاختلاف، مفلح بن حسن بن رشید

ص:161

الصمیری من أعلام القرن السابع، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

7 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

8 - الجامع للشرائع، یحیی بن سعید الحلی (ت 690)، تحقیق وتخریج: جمع من الفضلاء، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، سنة الطبع 1405 ه -.

9 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

10 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، التحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

11 - دعائم الإسلام وذکر الحلال والحرام والقضایا والأحکام عن أهل بیت رسول الله علیه وعلیهم أفضل السلام، النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حیون التمیمی المغربی (ت 363)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع 1383 ه -.

ص:162

12 - الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، زید الدین الجبعی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، الناشر: داوری - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

13 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

14 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

15 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

16 - الشرح الصغیر فی شرح المختصر النافع، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1409 ه -.

17 - قواعد الأحکام، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

18 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق:

ص:163

علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

19 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

20 - المؤتلف من المختلف بین أئمة السلف، الفضل بن الحسن الطبرسی (ت 548)، تحقیق ومقابلة: جمع من الأساتذة، مراجة: السید مهدی الرجائی، الناشر: مجمع البحوث الإسلامیة - مشهد، الطبعة الأولی 1410 ه -.

21 - مبانی تکملة المنهاج (ضمن موسوعة السید الخوئی)، السید الخوئی (ت 1413)، الناشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، سنة الطبع 1422 ه -.

22 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تصحیح وتعلیق: السید محمّد تقی الکشفی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1387 ه -.

23 - مختلف الشیعة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1413 ه -.

24 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی

ص:164

العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

25 - مفاتیح الشرائع، محمّد محسن الفیض الکاشانی (ت 1091)، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الناشر: مجمع الذخائر الإسلامیة، سنة الطبع 1401 ه -.

26 - مقالات فقهیة، السید محمود الهاشمی، الناشر: الغدیر للطباعة والنشر، الطبعة الأولی 1417 ه -.

27 - منهاج الصالحین، الشیخ الوحید الخراسانی.

28 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

ص:165

ص:166

القسم الثالث: حدّ السرقة

اشارة

ص:167

ص:168

زراعة العضو المقطوع فی حدّ السرقة

اشارة

بقلم: الشیخ محمّد رضا السلامی

هذه المسألة لم تکن مطروحة فی الکتب الفقهیة لعلمائنا السابقین، بل لم تطرح إلّا مؤخّراً وبصورة جزئیة من قبل فقهائنا ومحققینا، بعد حصول التقدّم الکبیر فی علم الطب بقسمیه: زرع الأعضاء والطب التجمیلی.

فمن العسیر الحصول علی سابقة بحثیة فقهیة فی هذه المسألة، سوی مجموعة من المقالات والبحوث المختصرة.

ونحن لکی نعطی صورة إجمالیة کلّیة للجوانب الدخیلة فی تحدید الرأی الفقهی لهذه المسألة، سنطرح أوّلاً عناوین لبعض المسائل التی یتوقّف علیها البحث.

إنّ الموقف الفقهی من هذه المسألة، یتوقّف قبلاً علی تحدید من هوالمالک للعضو المقطوع أو من له حقّ الأولویة فیه، هل هو الشارع أو صاحب العضو؟ وهل هناک حکم فی الشریعة لکیفیة التعامل مع العضو المقطوع کدفنه مثلاً؟ أو أنّ أمر التعامل معه متروک للحاکم أو لصاحب العضو؟

ص:169

ثمّ یتوقّف لاحقاً علی أنّه هل یوجد فرق بین زرع نفس العضو المقطوع، أو زرع عضو انتزع من آخر، أو تمّ الحصول علیه من زراعة أنسجة بشریة بعملیة الاستنساخ، أو من أنسجة قابلة للنمو وتکوین العضو المقطوع، لو فرضنا حصول تطوّر فی علم الطب وعلم الأنسجة إلی هذا الحد.

والأقوال فی المسألة یمکن أن تکون ثلاثة: عدم الجواز مطلقاً، والجواز مطلقاً، أو بإجازة الحاکم. والسابقة المطروحة فی هذه المسألة من الجواز وعدمه تختص بمسألة القصاص عند الشیعة والسنّة، وسیأتی الإشارة إلیها فی ضمن الکلام عن الأدلة التی یمکن التمسّک بها فی استنباط حکم زرع العضو المقطوع بالحد.

حقّ الأولویة بالبدن وأعضائه:

اتّفق الکلّ تقریباً من الخاصّة والعامّة علی أنّ بدن الإنسان لا یملک بالملکیة الاعتباریة، وأنّه أمانة من قبل الله سبحانه وتعالی المالک الحقیقی للإنسان، واستدلّوا علی ذلک: بأنّ البدن لا مالیة له، وبحرمة بیع الحر وتملّکه.

ولکن الظاهر أنّه لم یناقش أحد فی حقّ الاختصاص أو الأولویة بالبدن وأعضائه بالنسبة لصاحب البدن، وأنّ الشریعة أعطته حقّ التصرّف وفق ضوابط وحدود، ومنعته من التصرّف علی نحو التعدّی والضرر،

ص:170

کالذی یؤدّی إلی التهلکة أو قطع العضو أو إتلافه، بل وقع الأخذ والرد فی حرمة مثل الجرح ومقداره لغایة غیر عقلائیة، وأنّ الناس غیر مسلّطین علی أبدانهم کما هم مسلّطون علی أموالهم.

وقد یکون ثبوت هذه الأولویة أو الاختصاص وجدانی فطری لا نقاش فیه، وإن استدلّ علیها السید الخوئی رحمه الله بالملکیة الذاتیة(1).

ولکن الکلام فی أنّ حقّ الاختصاص أو الأولویة هذا هل ینتفی فی حالة قطع العضو بحد أو قصاص ویتمحّض فیه حقّ الله أو لا؟ إذ قد یقال: إنّ الأمر بالقطع من قبل الشارع یقطع هذه الأولویة أو الملکیة الذاتیة.

وعلیه ربّما یقال: إنّ حکم جواز وصل العضو المقطوع بحد أو عدم جوازه، یتوقّف علی إثبات بقاء هذه الأولویة وحقّ التصرّف أو عدمها، فلو قلنا بعدم ثبوت حقّ الأولویة، وأنّ العضو المقطوع فی الحد یتمحّض حقّاً لله، فإنّه یترتّب علیه بالتالی عدم الجواز، ولا مجال للحکم بالجواز. نعم، لو قلنا: ببقاء حقّ الأولویة یمکن الکلام حینئذ علی الجواز نفیاً أو إثباتاً، استناداً إلی ما تفیده الأدلة الأخری التی یمکن وجودها فی البین.

ولکن یمکن أن یعترض علی هذا التوقّف، ویقال: إنّ أصل الکلام فی المسألة هو فی جواز مثل هذا الوصل أو عدم جوازه، سواء قلنا بثبوت الاختصاص والأولویة أو نفیهما، فإنّ فرض الجواز أو عدم الجواز یأتی

ص:171


1- (1) مصباح الفقاهة 7:2.

حتّی ولو قلنا بتمحّض الحقّ فی العضو لله، سواء قبل القطع أو بعده. فلو فرضنا ثبوت الجواز للوصل من خلال الأدلة، فإنّه سوف لا ینافیه القول بأنّ العضو المقطوع حقّ لله لا للعبد، فالسؤال هنا فی الأساس هو سؤال عن الحکم الشرعی فی إمکان وصل العضو أو لا؟

وعلی هذا ( أی: أنّ الأصل فی المسألة هو الحکم الشرعی بالجواز أو العدم) یمکن فرض المسألة فیما لو وُصِل عضو من آخر مکان العضو المقطوع بحد، أو تمکّن من تعویض العضو المقطوع بعملیة زراعة أنسجة معیّنة تنمو إلی العضو الصحیح، أو بعملیة تجمیل مثلاً.

ومن هنا لابدّ من إجالة النظر فی الأدلة التی یمکن أن یستدلّ بها علی الجواز أو عدمه:

الدلیل الأوّل:

قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ)1 .

استدلّ القائل بجواز وصل وزرع العضو المقطوع بالحد، بأنّ الأمر المستفاد من هیئة الأمر فی الآیة(فَاقْطَعُوا) قد تمّ امتثاله بتحقّق القطع والإبانة؛ لأنّ الأمر لا یتعلّق إلّا بالطبیعی وهو یتحقّق بصرف الوجود، فإذا

ص:172

وُجِد تَمّ الامتثال للأمر، فإعادة قطع العضو مرة أُخری تحقیقاً للمنع فیما لو وصل وزرع یکون من الامتثال بعد الامتثال، وهو باطل، ولا دلیل عندنا علی المنع.

ولکن یمکن أن یقال: إنّ قطع العضو المعاد، لیس من باب الامتثال بعد الامتثال حتّی یحکم ببطلانه، وإنّما هو امتثال لأمر آخر وهو المنع (عدم جواز) من وصل العضو المقطوع بالحد، هذا فیما لو ثبت دلیل المنع المدّعی.

إذ قد یدّعی من یقول بالمنع بأنّ تحقق الامتثال أوّلاً لا یکون إلّا ابتداء واستدامة، فکأنّه یدّعی أنّ فی البین أمرین: الأوّل: تحقق القطع ابتداءً، الثانی: استدامة البینونة.

فإعادة قطع الموصول بعد إجراء الحد هو امتثال للأمر الثانی لا للأمر الأوّل حتّی یکون من باب الامتثال بعد الامتثال، أو فقل: إنّ بعد وصل العضو المقطوع لم یتم الامتثال للأمر کاملاً، فیعاد قطعه امتثالاً للأمر علی وجهه، ولیس امتثالاً بعد الامتثال.

والتحقیق فی الآیة:

إنّها رتّبت وجوب القطع علی السارق والسارقة بالفاء فی(فَاقْطَعُوا) وهو یتحقق بالإزالة والإبانة، ثمّ بیّنت أنّ القطع(جَزاءً بِما کَسَبا) ، أی: هو استحقاق لما کسبته أیدیهما، وجزاء مفعول لأجله یعود علی (اقطعوا)، أی: فاقطعوا للجزاء، ثمّ قالت الآیة: (نَکالاً مِنَ اللّهِ) أی: عقوبةً وتنکیلاً منه

ص:173

تعالی، ونکال مفعول لأجله ثانٍ (1) علی الترتیب، ولیس (جزاء) و (نکالاً) متساویان فی المعنی، وإنّما هما متباینان، ولذا لم یعطف (نکالاً) بحرف العطف علی (جزاء)، فلا یکونان مفعولین بالعرض، وإنّما بالترتیب، وهذا یفید زیادة فی المعنی، فکأنّه قال: فاقطعوهما للجزاء وجازوهما للنکال(2) ، فالنکال علّة للجزاء والجزاء علّة للقطع، وهذا أکثر فائدة فی معنی الکلام؛ لأنّ فیه زیادة.

ولکن الفقهاء والمفسّرین لم یبیّنوا الفائدة من المعنی الإضافی المراد هنا، وإنّما ذکروا أنّ النکال هو العقوبة، مع أنّ هذا المعنی قد تمّ استفادته والإشارة إلیه بقوله: (جَزاءً بِما کَسَبا) ، فالجزاء هو المجازاة والمجازاة علی السیئة لا تکون إلّا بالعقوبة، فأیّ فائدة فی تکرار بیان المعنی بلفظة (نکالاً) إذا کان معناها العقوبة، إذ کان یکفی لإفادة المعنی القول: جزاء بما کسبا من الله.

ومعنی النکال لیست العقوبة مجردة، وإنّما العقوبة بنحو أعظم وأشد، قال الفخر الرازی: فالنکال من العقوبة هو أعظم، حتّی یمتنع من سمع به عن ارتکاب مثل ذلک الذنب الذی وقع التنکیل به، وهو فی العرف یقع علی ما یفتضح به صاحبه ویعتبر به غیره(3) ، ونقل عن القفال: أنّه العقوبة الغلیظة

ص:174


1- (1) مجمع البیان 332:3، تفسیر سورة المائدة الآیة: 38، الکشاف 612:1.
2- (2) تفسیر الآلوسی 134:6، تفسیر أبی السعود 35:3.
3- (3) تفسیر الرازی 43:31، تفسیر سورة النازعات.

الرادعة للناس عن الإقدام علی مثل تلک المعصیة(1) ، وقال الفراهیدی فی کتاب العین: (النکال) اسم لما جعلته نکالاً لغیره إذا بلغه أو رآه خاف أن یعمل عمله(2) ، وفی الصحاح للجوهری: ویقال: نکل به تنکیلاً إذا جعله نکالاً وعبرة لغیره(3) ، وقال الطبرسی: النکال: الإرهاب للغیر(4).

فالآیة مورد البحث تفید فائدتین: القطع والإبانة، وهو جزاء ما اقترفته أیدیهما من السرقة، إضافة إلی أنّ هذا الجزاء لابدّ أن یکون علی وجه النکال والفضیحة، وهما لا یتحققان إلّا باستدامة الإبانة، إذ إنّ فیها تتحقق العبرة للغیر بحیث یرتدع عن فعل ما فعلاه، وتکون العقوبة بنحو أعظم وأشد، ویتمّ الإرهاب والفضیحة.

ومن قال بجواز الوصل بعد القطع، اکتفی من الآیة بالفائدة الأولی، ولم یلتفت إلی ما یفیده معنی النکال من العبرة والإرهاب والفضیحة.

فأیّ عبرة أو إرهاب أو فضیحة تکون بعد وصل الأصابع المقطوعة، خاصّة بعدما وصل إلیه علم الطب والتجمیل من تطوّر إلی حدّ یکون العضو المزروع أفضل وأکمل وأجمل من العضو المقطوع، کما هو الملاحظ من

ص:175


1- (1) تفسیر الرازی 112:3، تفسیر قوله تعإلی: (فجعلناها نکالاً لما بین یدیها...) الآیة 66 من سورة البقرة.
2- (2) کتاب العین 371:5 مادة (نکل).
3- (3) الصحاح 1835:5 مادة (نکل).
4- (4) مجمع البیان 249:1، تفسیر قوله تعإلی: (فَجَعَلْناها نَکالاً لِما بَیْنَ یَدَیْها...) الآیة 66 من سورة البقرة.

عملیات التجمیل، والأمر أوضح فیما لو أصبحت عملیة الزرع أسرع وأسهل، بحیث یرغب فیها الکثیر من أجل الحصول علی عضو أفضل وأجمل، فإنّ مجرد إبانة الأصابع ثمّ الحکم بجواز إعادتها ووصلها مرّة أخری، ینافی ظاهر الآیة من کون الجزاء نکالاً، ولا یبقی من أثر العقوبة إلّا ألم القطع، وحتّی الألم ینعدم باستعمال العقاقیر المخدّرة عند عملیة القطع، ولم نجد من الفقهاء من منع من استعمالها عند إجراء الحد.

الدلیل الثانی:

قوله تعالی: (الزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ لْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ)1 .

وموضع الاستدلال علی المنع من إعادة العضو المقطوع قوله تعالی: (وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ) علی اعتبار أنّ السماح بإعادة زرع العضو المقطوع من الرأفة الممنوعة فی الآیة، استدلّ بذلک قسم الأبحاث الشرعیة بدار الإفتاء المصریة فی مقالة بعنوان (نقل وزراعة الأعضاء).

ولکن الاستدلال بها علی المنع لا یتمّ إلّا بتعدیة الحکم بعدم الرأفة إلی عموم الحدود، ومنع اختصاصه بحد الزنا، وهذا ما لا دلیل علیه من

ص:176

نفس الآیة، فإنّ الضمیر فی قوله: (بهما) یعود علی الزانیة والزانی.

نعم، یحکم بالتعدیة لبقیة الحدود لمعتبرة(1) غیاث بن إبراهیم عن جعفر عن أبیه عن أمیر المؤمنین علیهم السلام فی قول الله عزّ وجل: (وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ) ، قال: فی إقامة الحدود، وفی قوله تعالی: (وَ لْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ) ، قال: الطائفة واحد(2).

ولظاهر بعض کلمات فقهاء الإمامیة من استشهادهم بالآیة فی عدم الشفاعة والتهاون والتفریط فی الحدود(3) ، وما یفهم من کلمات مفسّری العامّة من عمومها للحدود فی تفسیرهم للآیة(4).

ولکن وقع بحث لدی المفسّرین والفقهاء من العامّة فی المعنی المراد من الآیة، وأنّ عدم الرأفة المأمور بها، هل هو فی أصل إقامة الحدود أو فی کیفیة إقامتها؟ فذهب بعض إلی الرأی الأوّل، وبعض آخر إلی الثانی(5) ،

ص:177


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 221:1، إعلام الناس لحضور إقامة الحد، جامع المدارک 7:53، کیفیة جلد الزانی.
2- (2) تهذیب الأحکام 150:10 ح 602 کتاب الحدود، باب من الزیادات.
3- (3) کشف اللثام 492:10، کتاب الحدود، المقصد الأوّل، لا کفالة فی الحد، ریاض المسائل 512:13، لا کفالة ولا شفاعة فی حد، القواعد والفوائد 127:1، القاعدة الثانیة، الفائدة الأولی.
4- (4) تفسیر القرآن للصنعانی 50:3، تفسیر ابن أبی حاتم 2518:8، معانی القرآن 4:495، تفسیر البیضاوی 173:4.
5- (5) المصنّف للصنعانی 367:7، باب (ولا تأخذکم بهما رأفة فی دین الله)، المصنّف لابن أبی شیبة 546:6 (فی قوله: ولا تأخذکم بهما رأفة فی دین الله)، جامع البیان 88:18، أحکام القرآن، 338:3، تفسیر الثعلبی 62:7.

ویمکن التمسّک بالإطلاق لیشمل عدم الرأفة فی أصل إقامة الحد وفی الکیفیة(1) ، وإن استدلّ بها الأصحاب علی عدم الرأفة فی کیفیة الضرب، وفی الروایات دلالة علیه(2) ، ولکنه لا یقیّد الإطلاق؛ لأنّه بیان لأحد الموارد، وشموله لأصل الإقامة بالأولویة، ومثله التمسّک بإطلاق قوله علیه السلام:

«إقامة الحدود» فی الروایة الشامل لأصل الإقامة وکیفیة الإقامة، وهو المستفاد من ظاهر روایة الدعائم(3).

وعلی کلّ حال، سواء کانت الآیة مطلقة أو تدلّ علی عدم الرأفة فی کیفیة إجراء الحد، فإنّ النقاش فی جواز الوصل بعد القطع وعدمه یدخل فیها بعد البناء علی عمومها لکلّ الحدود، لوضوح أنّ مورد الخلاف هنا هو فی الکیفیة، ولیس فی أصل إجراء الحد، فإنّ المستدلّ بالآیة علی المنع یدّعی بأنّ المنع من الوصل تطبیق للأمر بعدم الرأفة الوارد فی الآیة.

ولکن الحقّ والإنصاف، أنّ مورد الخلاف یرجع إلی أنّ مجرد الإبانة والفصل هل هو تمام الامتثال للحد أو أنّه لا یکون إلّا بالاستدامة؟ وهذا ما یجب الرجوع فی تحدیده إلی الآیة السابقة المارة الذکر لا إلی هذه الآیة، فإنّها تأتی فی مرتبة لاحقة بعد مرتبة تحدید نوع ومقدار الحد.

ص:178


1- (1) شرح أصول الکافی 98:8، نقلاً عن الفاضل الأردبیلی.
2- (2) إیضاح الفوائد 482:4، کتاب الحدود، فی کیفیة استیفاء الحد، المهذّب البارع 41:5، کتاب الحدود، کیفیة جلد الزانی، الکافی 183:7 ح 2، 3، باب صفة حد الزانی.
3- (3) دعائم الإسلام 451:2 ح 1580، کتاب الحدود.

وإلّا فالطرفان متّفقان علی عدم الرأفة فی حدّ القطع بعد تسلیم عموم الآیة لکلّ الحدود، ولکن السؤال فی ما هو الحد الذی لا یجوز الرأفة فیه، هل هو مجرد الإبانة أو مع الاستدامة؟ فإن کان ظاهر الآیة السابقة وجوب القطع علی الاستدامة سیکون الوصل منافیاً لأصل الامتثال، ویکون الأمر بعدم الرأفة نهیاً عن الرأفة فی أصل إقامة الحد.

الدلیل الثالث:

قوله تعالی: (تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ)1 .

الحد: النهایة التی إذا بلغ المحدود له امتنع، وحدود الله ما حدّه الله وبیّنه لعباده، وأمرهم أن لا یتعدّوها ولا یقصروا عنها(1) ، والمراد منه فی الآیة أحکام الله من أوامره ونواهیه، فتدخل فیه الحدود بمعناها المصطلح، کما هو واضح، ومن هنا أورد الآیة العدید من الفقهاء فی کتاب الحدود استشهاداً منهم لعدم جواز تعدّی الحدود وتعطیلها(2).

ص:179


1- (2) تفسیر غریب القرآن للطریحی: 189.
2- (3) دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة 368:2، الباب السادس، الفصل السادس، الجهة الثامنة: فی حکم من قتله الحد أو التعزیز أو التأدیب، المحلی لابن حزم 153:11، کتاب الحدود، هل تدرأ الحدود بالشبهات، و 162:11، کتاب الحدود، حد الممالیک، شرح مسند أبی حنیفة: 458، حد السارق.

کما أورد المحدّثون قول علی علیه السلام:

«إنّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها» لنفس الغایة أیضاً(1). وکلّ ما حدّ الله تعالی فالإفراط فیه أو التفریط تعدٍّ.

وعلیه فللمستدل علی المنع من وصل العضو المقطوع، الاستناد إلی الآیة فی القول بعدم الجواز، باعتبار أنّ وصل العضو المقطوع بالحد تعدّی علی حدود الله وتعطیل لها.

ولکن فی المقابل، یمکن أن یستدلّ بها من یقول بجواز الوصل علی العکس، علی اعتبار أنّ المنع من الوصل أو إعادة القطع تجاوز وزیادة علی الحد، وهو من التعدّی أیضاً، فإنّ الزیادة علی الحد قد جاءت بهذا المعنی فی روایة العیاشی عن محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام، فی قول الله تبارک وتعالی: (تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ) ، فقال: إنّ الله غضب علی الزانی فجعل له جلد مئة، فمن غضب علیه فزاد فأنا إلی الله منه بریء، فذلک قوله(تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها)2 ، والروایة غیر معتبرة للإرسال، فإنّ روایات تفسیر العیاشی محذوفة السند.

ص:180


1- (1) نهج البلاغة لمحمّد عبده 24:4(105)، من لا یحضره الفقیه 75:4 ح 5149، وسائل الشیعة 17:28، کتاب الحدود، باب عدم جواز تجاوز الحد وتعدیه، الأمالی للشیخ المفید: 159، المجلس العشرون، عوالی اللئالی 548:3 ح 15، باب الحدود.

ومن هنا یتبیّن أنّ مورد النزاع فی المسألة ابتداء هو فی تحدید مقدار الحد، وهل هو حصول القطع والإبانة ابتداء أو لا بدّ فیه من الاستدامة؟ فالواجب أوّلاً تحدید مقدار الحد، ثمّ نرتّب علیه بعد ذلک التعدّی من عدمه.

ولا یخلو الاستدلال بالآیة من الاشتباه فی المعنی المراد من حدود الله، والخلط بین کون المراد هو أوامره ونواهیه، وبین أنّ المراد هو الحدود المصطلح علیها فی الفقه.

ونفس الکلام یأتی فیما لو استدلّ بالآیات(مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)1 ، (وَ مَنْ یَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها)2 .

وکذا الاستدلال بالنهی النبوی عن تعطیل الحدود(1) ، وکلّ روایات النهی عن تعطیل الحدود والنقص منها والزیادة علیها(2).

فإنّ الواجب أوّلاً تحدید مقدار الحد، ثمّ البحث فی دخول التعدّی من عدمه.

الدلیل الرابع:

ما رواه فی التهذیب عن محمّد بن الحسن الصفار عن الحسن بن

ص:181


1- (3) المهذّب لابن البراج 517:2، کتاب الحدود، دعائم الإسلام 442:2، ح 1540.
2- (4) وسائل الشیعة 16:27، کتاب الحدود، باب عدم جواز تجاوز الحد وتعدیه.

موسی الخشاب عن غیاث بن کلوب عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبیه علیه السلام: أنّ رجلاً قطع من بعض أُذن رجل شیئاً، فرفع ذلک إلی علی علیه السلام فأقاده، فأخذ الآخر ما قطع من أُذنه فردّه علی أُذنه بدمه، فالتحمت وبرئت، فعاد الآخر إلی علی علیه السلام فاستقاده، فأمر بها فقطعت ثانیة، وأمر بها فدفنت، وقال علیه السلام:

إنّما یکون القصاص من أجل الشین(1).

والروایة حسنة بالخشاب فإنّه لم یرد فیه توثیق، أو موثّقة بابن کلوب، فإنّه من العامّة عمل الأصحاب بروایاته، وهی منجبرة بعمل الأصحاب، واستدلّ بها البعض علی عدم جواز وصل العضو المقطوع فی الحد، ولکنها أوّلاً: ظاهرة فی مورد القصاص، وثانیاً: ورود التعلیل فی آخرها بأنّ المنع من أجل الشین والمماثلة، ولا مماثلة فی الحد.

وأمّا الاستدلال بالإجماع فی هذا المورد کما ذکره الشیخ فی الخلاف(2) ، فإنّ فیه إضافة إلی أنّه خاص بمورد القصاص، أنّه إجماع مدرکی للروایة، أو لما قالوا من وجوب الإزالة للنجاسة بعد أن حکموا بکونها میتة.

الدلیل الخامس:

ما رواه الصدوق فی (عیون أخبار الرضا علیه السلام) فیما کتب به إلی محمّد

ص:182


1- (1) تهذیب الأحکام 279:10، ح 1093 کتاب الدیات، باب القصاص.
2- (2) الخلاف 201:5، المسألة ( 72)، کتاب الجنایات.

بن سنان فی جواب مسائله فی العلل: حدّثنا محمّد بن علی ماجیلویه رحمه الله عن عمّه محمّد بن أبی القاسم عن محمّد بن علی الکوفی عن محمّد بن سنان، وحدّثنا علی بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقاق ومحمّد بن أحمد السنانی وعلی بن عبد الله الوراق والحسین بن إبراهیم بن أحمد بن هشام المکتب رضی الله عنهم، قالوا: حدّثنا محمّد بن عبد الله الکوفی عن محمّد بن إسماعیل عن علی بن العباس، قال: حدّثنا القاسم بن ربیع الصحاف عن محمّد بن سنان، وحدّثنا علی بن أحمد بن عبد الله البرقی وعلی بن عیسی المجاور فی مسجد الکوفة وأبو جعفر محمّد بن موسی البرقی بالری رحمهم الله، قالوا: حدّثنا محمّد بن علی ماجیلویه عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبیه عن محمّد بن سنان، أنّ علی بن موسی الرضا علیه السلام کتب إلیه فی جواب مسائله:

«... وعلّة قطع الیمین من السارق؛ لأنّه یباشر الأشیاء بیمینه، وهی أفضل أعضائه وأنفعها له، فجعل قطعها نکالاً وعبرة للخلق، لئلا یبتغوا أخذ الأموال من غیر حلّها، ولأنّه أکثر ما یباشر السرقة بیمینه...» الروایة(1).

والروایة من ضمن مسائل محمّد بن سنان عن الرضا علیه السلام المعروفة، ولکن ابن سنان ضعیف جدّاً لا یعوّل علیه، ولا یلتف إلی ما تفرّد به، ووثّقه بعض المتأخرین والمعاصرین، لما ورد من روایات فیها مدح عظیم له، وأنّ

ص:183


1- (1) عیون أخبار الرضا 95:2 باب ( 33): فی ذکر ما کتب به الرضا علیه السلام إلی محمّد بن سنان.

ترکه کان من جهة اتّهامه بالغلو ولم یثبت.

وقد استدلّ علی المنع من الوصل، بقوله فی الروایة:

«فجعل قطعها نکالاً وعبرة للخلق»، وهو نفس المعنی المستدلّ به من الآیة الأولی المارّة الذکر.

ویمکن استفادة المنع من قوله تعلیلاً لقطع الیمین:

«لأنّه یباشر الأشیاء بیمینه، وهی أفضل أعضائه وأنفعها له»، فإنّ قطع الأنفع یوحی بأنّ القطع علی التأبید حتّی یحرم من أنفع الأعضاء، وکذا قوله فی الروایة:

«ولأنّه أکثر ما یباشر السرقة بیمینه»، یفهم أنّ القطع حرمان له من أکثر ما یباشر به السرقة، فلو کان المراد هو الإبانة فقط لا علی التأبید لما کان هناک کثیر فائدة لمثل هذه العلل، ولما بان الفرق بین قطع الیمین أو الیسار.

الدلیل السادس:

ما رواه الکلینی فی الکافی عن محمّد بن یحیی عن محمّد بن أحمد عن محمّد بن عیسی عن أحمد بن عمر الحلّال، قال: قال یاسر: عن بعض الغلمان عن أبی الحسن علیه السلام، أنّه قال: لا یزال العبد یسرق حتّی إذا استوفی ثمن یده، أظهرها الله علیه(1) ، ورواها الصدوق مرفوعة فی عیون أخبار الرضا علیه السلام، وفیها:

«إذا استوفی ثمن دیة یده»(2)، وفی الفقیه مرسلة، وفیها:

ص:184


1- (1) الکافی 260:7، ح 4، کتاب الحدود، باب النوادر.
2- (2) عیون أخبار الرضا علیه السلام 260:1، ح 36، باب ( 26): فیما جاء عن الإمام علی بن موسی علیهما السلام من الأخبار المتفرقة.

«إذا استوفی دیة یده»(1).

وهی عندی أوضح الروایات علی المنع من الوصل؛ لأنّ الإمام علیه السلام جعل المثمن للسرقة نفس الید لا القطع، واستیفاء هذا المثمن لا یکون إلّا بالتأبید، بل إنّ جعل السرقة وهی الثمن بمقدار دیة الید فی روایة الصدوق أوضح فی الدلالة، ولکن الروایة ضعیفة لا یمکن الاستدلال بها للإرسال، فهی عن بعض الغلمان ولا یعرف من هو.

ومع ذلک یمکن جعلها قرینة لفهم قوله تعالی فی آیة حدّ السرقة: (جَزاءً بِما کَسَبا) علی أنّ جزاء وثمن ما کسباه من السرقة، هو قطع الید تأبیداً، لا مجرد القطع فقط.

وتُنَزَّل الروایة منزلة المؤیّدات لما استظهرناه من آیة حدّ السرقة فیما مضی.

ومثلها فی الدلالة ما رواه الصدوق مرسلاً، والشیخ الطوسی عن البرقی مرسلاً أیضاً، وعن طلحة بن زید وهی معتبرة

«أنّ شاباً أقرّ بالسرقة عند أمیر المؤمنین علیه السلام، فقال له علی علیه السلام: إنّی أراک شاباً لا بأس بهئتک، فهل تقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت یدک لسورة البقرة...» الروایة(2).

فإنّه علیه السلام وهب یده لسورة البقرة لا قطع یده.

ص:185


1- (1) من لا یحضره الفقیه 60:4، ح 5098.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 62:4، ح 5106، الاستبصار 252:4، ح 954، 955، تهذیب الأحکام 127:10، ح 506، و 129:10، ح 516.

الدلیل السابع:

الفهم العرفی المرتکز فی الذهن بأنّ القطع علی التأبید، المتحصّل من مجمل ما یذکر فی الروایات لمقدار الحد وشروطه، هذا الفهم الذی یستشعر به وینسبق إلی ذهن کلّ من یقرأ الروایات، ویطّلع علی تفاصیلها، من التحدید الدقیق لموضع الحد، ومقدار السرقة بالربع دینار کحد فاصل، والسرقة من الحرز، وعدم وجود بدیل للحد من التعزیز أو الحبس، وعدم جواز النقصان أو الزیادة علی حدّ القطع، وغیر ذلک من التفاصیل الموجودة فی الروایات.

فمنها ما ورد من صدق اسم السارق علی کلّ من سرق شیئاً من مسلم، وهو عند الله سارق، ولکن لا یقطع إلّا فی ربع دینار، ثمّ قال علیه السلام:

«ولو قطعت أیدی السّراق فیما أقل هو من ربع دینار لألفیت عامة الناس مقطعین»(1).

ومنها قوله علیه السلام:

«لا یقطع السارق حتّی یقر بالسرقة مرّتین، فإن رجع ضمن السرقة ولم یقطع إذا لم یکن شهود»(2).

ومنها ما ورد من أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان إذا قطع ترک الإبهام والراحة، فقیل له:

«یا أمیر المؤمنین ترکت علیه یده؟ قال: فقال لهم: فإن تاب فبأیّ شیء یتوضّأ؟...» الروایة(3).

ص:186


1- (1) الوسائل 243:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) الوسائل 249:28، أبواب حد السرقة.
3- (3) الوسائل 253:28، أبواب حد السرقة.

ومثلها ما عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«کان علی علیه السلام لا یزید علی قطع الید والرجل، ویقول: إنّی لأستحی من ربیّ أن أدعه لیس له ما یستنجی به أو یتطّهر به...» الروایة(1).

فإنّ التعلیل یدلّ علی التأبید، إلّا أن یعترض بصدق التعلیل فی ذلک الزمان، حیث لم یعرف زرع الأعضاء بعد.

ومثلها قول أبی عبد الله علیه السلام:

«إنّ القطع لیس من حیث رأیت یقطع، إنّما یقطع الرجل من الکعب، ویترک له من قدمه ما یقوم علیه ویصلّی ویعبد الله، قلت له: من أین تقطع الید؟ قال: تقطع الأربع الأصابع، ویترک الإبهام یعتمد علیها فی الصلاة، ویغسل بها وجهه للصلاة...» الروایة(2).

فلقائل أن یقول: لو کان القطع بما هو قطع، هو الحد، لما کان کبیر فرق بین قطع کلّ الکف أو قطع الأربع الأصابع، ولکن بما أنّ للقطع أثر التأبید، وَضَح الفرق بینهما بما علّله علی علیه السلام وأبی عبد الله علیه السلام.

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أُتی أمیر المؤمنین علیه السلام برجال قد سرقوا، فقطع أیدیهم، ثمّ قال: إنّ الذی بان من أجسادکم قد وصل إلی النار، فإن تتوبوا تجترونها وإن لم تتوبوا تجترکم»(3).

ص:187


1- (1) الوسائل 255:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) الوسائل 257:28، أبواب حد السرقة.
3- (3) الوسائل 265:28، أبواب حد السرقة.

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام فی رجل أشل الید الیمنی أو أشل الشمال سرق، قال:

«تقطع یده الیمنی علی کلّ حال»(1).

فإنّ الحکم بجواز قطع الید الیسری الشلاء أولی من الحکم بجواز وصل الیمنی المقطوعة، ولکن مع ذلک قال الإمام علیه السلام:

«إنّ الیمنی تقطع علی کلّ حال».

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»(2).

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«یقطع سارق الموتی کما یقطع سارق الأحیاء»(3).

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«النباش إذا کان معروفاً بذلک قطع»(4).

ومنها ما عن أبی جعفر علیه السلام فی صبی یسرق قال:

«إن کان له سبع سنین أو أقل رفع عنه، فإن عاد بعد سبع سنین قُطعت بنانه أو حُکّت حتّی تدمی، فإن عاد قطع منه أسفل من بنانه، فإن عاد بعد ذلک وقد بلغ تسع

ص:188


1- (1) الوسائل 266:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) الوسائل 277:28، أبواب حد السرقة.
3- (3) الوسائل 279:28، أبواب حد السرقة.
4- (4) الوسائل 282:28، أبواب حد السرقة.

سنین قطع یده، ولا یضیع حدّ من حدود الله عزّ وجل»(1).

وغیرها من الروایات فی أبواب حدّ السرقة، وهی وإن کانت لا توحی بمفردها علی هذا الفهم العرفی بالتأبید، ولکن المجموع قد یستظهر منه ذلک، ویبقی الکلام فی صحة وقوع مثل هذا الفهم، إذ للنقاش فی انعقاده مجال واسع، بل ربما لا یخرج عن کونه قضیة ذوقیة شخصیة أو استحساناً لیس إلّا!!

الدلیل الثامن:

استدلّ علی المنع من وصل العضو المقطوع بالحد، بما ورد من الأمر بحسم الید المقطوعة بالزیت المغلی لینقطع النزف وتنسد العروق، کالنبوی المروی عند العامّة من أنّه صلی الله علیه و آله أُتی برجل قد سرق، فقال:

«اذهبوا فاقطعوه، ثمّ احسموه»(2) ، والعلوی المروی عندنا وعند العامة، من أنّ علیاً کان إذا قطع سارقاً حسمه بالزیت(3).

ص:189


1- (1) الوسائل 297:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) مستدرک الحاکم 381:4، أحادیث قطع ید السارق، السنن للبیهقی 271:8، جماع أبواب قطع الید والرجل فی السرقة، سنن الدار قطنی 81:3، ح 3138، 3139، المبسوط للطوسی 36:8، فصل فی قطع الید والرجل فی السرقة، عوالی اللئالی 565:3، ح 77، باب الحدود.
3- (3) المبسوط للطوسی 36:8، فصل فی قطع الید والرجل فی السرقة، دعائم الإسلام 470:2، ح 1675 و، ح 1678، سنن البیهقی 271:8، جماع أبواب قطع الید والرجل فی السرقة، المصنّف لابن أبی شیبة 529:6، ح 5، حسم ید السارق.

وحمله بعض العامّة علی الوجوب لظاهر الأمر(1) ، ومن هنا استدلّ به من استدلّ علی المنع، وآخرون منهم علی أنّه لیس من الحد؛ لأنّه مداواة(2) ، وبهذا لا ینعقد للأمر ظهور فی الوجوب.

وأمّا أصحابنا فحملوه علی الاستحباب نظراً لمصلحة المقطوع، لا حقّاً لله وتتمة للحد(3) ، والظاهر أن لا خصوصیة فی الحسم، وإنّما لأنّه من المداواة فی ذلک الوقت، ویمکن أن یکون بغیرها، کما تدلّ علیه الروایات، وهو السائد فی هذا الوقت.

ففی الوسائل عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أُتی أمیر المؤمنین علیه السلام بقوم سرّاق قد قامت علیهم البیّنة وأقرّوا، قال: فقطع أیدیهم، ثمّ قال: یا قنبر ضمّهم إلیک فداو کلومهم، وأحسن القیام علیهم، فإذا برأوا فأعلمنی...» الروایة(4).

فالحمل علی الاستحباب، وأنّ الحسم لیس من الحد، یمنع من الاستدلال بالروایة علی المنع من الوصل بعد القطع.

ص:190


1- (1) سبل السلام 24:4، ح 9، کتاب الحدود، نیل الأوطار 310:7، کتاب القطع فی السرقة، باب حسم ید السارق.
2- (2) المبسوط للسرخسی 127:16، کتاب الشهادات، باب من لا تجوز شهادته.
3- (3) شرائع الإسلام 957:4، فی أحکام حد السرقة، قواعد الأحکام 566:3، المقصد السادس: فی حد السرقة، الفصل الثالث: فی الحد، شرح اللمعة الدمشقیة 286:9، الفصل الخامس: فی السرقة، جواهر الکلام 542:41، بیان حد السرقة.
4- (4) الوسائل 300:28، ح 34823، أبواب حد السرقة، باب ( 30).

ثمّ إنّ الکلام یأتی فی جواز الوصل بعد الحسم أو عدم جوازه، خاصّة بعدما وصل إلیه الطب الحدیث وعلم التجمیل فی زماننا من تطوّر، ووضوح إمکان حصول ذلک حتّی لو حسمت الید.

الدلیل التاسع:

وأُستُدِلّ علی المنع أیضاً بما ورد فی النبوی من تعلیق ید السارق فی رقبته بعد القطع.

وهو ما رواه الترمذی: حدّثنا قتیبة، حدّثنا عمر بن علی المقدّمی، حدّثنا الحجاج عن مکحول عن عبد الرحمن بن محیریز، قال: سألت فضالة بن عبید عن تعلیق الید فی عنق السارق أمن السنّة هو؟ قال:

«أُتی رسول الله صلی الله علیه وسلم بسارق، فقطعت یده، ثمّ أمر بها فعُلّقت فی عنقه»(1).

والحدیث عندهم ضعیف بالحجاج بن أرطأة(2).

واستدلّوا به علی أنّ التعلیق فی العنق تحقیق للنکال، وردّ الکف (أی: وصلها) یمنع تحقیق النکال.

وفیه: أنّ المنع إذا کان لتحقیق النکال فإنّه مأخوذ من الآیة، والتعلیق

ص:191


1- (1) سنن الترمذی 4:3، ح 1471، المعجم الکبیر 300:18، عبد الله بن محیریز، مسند أحمد 19:6، مسند فضالة بن عبید الأنصاری، السنن الکبری للبیهقی 8:275، باب ما جاء فی تعلیق الید فی عنق السارق.
2- (2) نیل الأوطار 310:7، باب حسم ید السارق إذا قطعت واستحباب تعلیقها فی عنقه، تهذیب التهذیب 365] 172:2].

فی العنق إن قلنا باستحبابه مع ضعف الروایة، فإنّه مصداق من مصادیق النکال، لما فیه من الزجر والعبرة.

وقال أصحابنا باستحبابه(1) ، أخذاً بالحدیث وإن کان من طریق العامّة، علی قاعدة التسامح فی أدلة السنن، ولکنه مشکل لما فی ظاهر المتن المخالف للمقطوع عندنا من أنّ القطع للأصابع لا الید الظاهرة فی الکف علی قول العامّة.

والقول بالمنع یتوقّف علی القول بوجوب تعلیق الید، بل یبقی الکلام فی جواز الوصل أو المنع أیضاً بعد تعلیق الید فی العنق، أو جواز إجراء زرع لعضوٍ من آخر، أو زرع أنسجة بعملیة تجمیل حتّی لو قلنا بالوجوب.

الدلیل العاشر:

ما رواه الکراجکی مرسلاً فی الخرائج من أنّ علیاً علیه السلام قطع أسوداً أقرّ بالسرقة، فأخذ المقطوع یمدح أمیر المؤمنین فی الطریق، فسمعه الحسن والحسین علیهم السلام فأخبرا أمیر المؤمنین علیه السلام، فبعث إلیه من أعاده، وقال له:

«قطعتک وأنت تمدحنی؟! فقال: یا أمیر المؤمنین إنّک طهّرتنی، وإنّ حبّک قد خالط لحمی وعظمی، فلو قطّعتنی إرباً إرباً لما ذهب حبّک من قلبی،

ص:192


1- (1) المبسوط للطوسی 36:8، فصل فی قطع الید والرجل فی السرقة، مسالک الإفهام 527:14، الباب الخامس: فی حد السرقة، جواهر الکلام 542:41، استحباب تعلیق الید المقطوعة فی رقبة السارق.

فدعا له أمیر المؤمنین علیه السلام، ووضع المقطوع إلی موضعه فصح وصلح کما کان»(1).

ورواه ابن جریر فی نوادر المعجزات(2) ، وشاذان بن جبریل القمی فی الروضة والفضائل(3) مرفوعاً عن الأصبغ بن نباتة باختلاف، وفی المتن ما یخالف المقطوع به فی مذهب أهل البیت علیهم السلام من أنّ القطع کان من الرسغ.

والروایة علی ضعفها لم یعمل بها أحد من الفقهاء فی حکم الإقرار بالسرقة(4).

ثمّ إنّها لا تدلّ علی أکثر من جواز الوصل بعد القطع بإذن الإمام علیه السلام، بعد ثبوت السرقة بالإقرار، ولعل ذلک من باب أنّ له علیه السلام العفو عن الحد إذا ثبت بالإقرار دون البیّنة.

واستدلّوا علی ذلک بمعتبرة طلحة بن زید المرویة فی الاستبصار، قال: فأمّا ما رواه الحسین بن سعید عن محمّد بن یحیی عن طلحة بن زید عن جعفر، قال: حدّثنی بعض أهلی أنّ شاباً أتی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ عنده بالسرقة، قال: فقال له علی علیه السلام:

«إنّی أراک شاباً لا بأس بهیئتک، فهل تقرأ

ص:193


1- (1) الخرائج والجرائح 561:2، ح 19، فصل فی أعلام أمیر المؤمنین علیه السلام.
2- (2) نوادر المعجزات: 60، ح 26، الباب الأول: دلائل أمیر المؤمنین علیه السلام.
3- (3) الروضة فی فضائل أمیر المؤمنین علیه السلام: 225، ح 186، الفضائل: 172.
4- (4) جواهر الکلام 523:41، عدم ثبوت القطع بالإقرار مرة واحدة، فقه الصادق 25:523، بیان ما یثبت به السرقة.

شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: فقد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن یقطعه؛ لأنّه لم تقم علیه البینة»(1).

وبمرسلة أبی عبد الله البرقی التی رواها الشیخ فی التهذیب والاستبصار: ما رواه محمّد بن أحمد بن یحیی عن أبی عبد الله البرقی عن بعض أصحابه عن بعض الصادقین علیهم السلام، قال: جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام:

«أتقرأ شیئاً من کتاب الله، قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطّل حدّاً من حدود الله تعالی؟ فقال: وما یدریک ما هذا، إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذلک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع»(2).

وضعف السند لو کان - کما ادّعاه بعض - فهو مجبور بالشهرة وعمل الأصحاب، وعلیه فتوی الأشهر(3) ، وقیّدوه بالتوبة إجماعاً.

فإذا کان للإمام العفو بعد الإقرار والتوبة ابتداءً، کان له الإذن بالوصل بعد القطع بعدهما بالأولویة.

ص:194


1- (1) الاستبصار 252:4، ح 954.
2- (2) الاستبصار 252:4، ح 955، تهذیب الأحکام 129:10، ح 526.
3- (3) المقنع: 430، أبواب الحدود، باب الزنا واللواط، الکافی للحلبی: 412، حد السرقة، النهایة: 718، باب الحد فی السرقة، غنیة النزوع: 434، الفصل السادس: فی حد السرقة، جامع الخلاف والوفاق: 596، تبصرة المتعلمین: 251، حد السرقة، المختلف 212:9، حد السرقة، مجمع الفائدة 274:13.

وبذلک یفصّل القول بجواز الوصل بین إذن الإمام علیه السلام بعد الإقرار والتوبة وعدمه، ولو قلنا بالتعدی للفقیه الجامع للشرائط سواء علی مبنی الولایة العامّة أو الولایة فی إقامة الحدود، کان له الإذن علی الشرطین، بزرع العضو المقطوع، أو زرع عضو من آخر مکانه، أو زرع أنسجة بعملیة تجمیل، ولا یجوز له الإذن لو ثبتت السرقة بالبیّنة أو لم تثبت التوبة.

الدلیل الحادی عشر:

الاستدلال بنقض الغرض علی المنع من الوصل للعضو المقطوع، حیث إنّ جواز إعادة ما قطع من الید مفوّت للحکمة، وناقض للغرض من تشریع الحد، وهو الردع والزجر عن الفعل.

وبعبارة أُخری: أنّ المستشرف لروح الشریعة لابدّ له من الحکم بالمنع من زرع العضو المقطوع، فإنّ مبنی الشریعة علی المحافظة علی نظام وسلامة المجتمع الإسلامی، وهو لا یتمّ إلّا بتشریع العقوبات الرادعة والزاجرة، والتی منها القطع، وهذا علی الأقل یدعو للاحتیاط فی إجازة زرع العضو المقطوع بالحد.

الدلیل الثانی عشر:

الاستدلال علی المنع بما یستفیده العرف من مناسبات الحکم والموضوع، فإنّ الحکم بوجوب القطع جزاء للسرقة یناسبه الحکم بتأبید القطع.

ص:195

وهذا لا یخرج عن روح الاستدلال السابق، وفی استفادة الاحتیاط منه فی إعطاء الإجازة لزرع العضو المحدود.

الدلیل الثالث عشر:

الاستدلال علی المنع من وصل العضو المقطوع بالحد من جهة أنّ العضو المبان نجس؛ لأنّه أصبح من المیتة، ولا یجوز الصلاة فی النجس.

وهذا أوّلاً؛ لو سلّمنا به، لا یوجب المنع من الوصل بالأصالة، وإنّما یوجب المنع من باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر؛ لأنّه یکون مانعاً من الصلاة للنجاسة.

وثانیاً؛ إنّه موهون؛ لأنّ العضو المزروع لو التأم عضویاً ودبّت فیه الحیاة لصار جزءً من الحی، ویخرج بذلک عن المیتة ومن کونه محکوماً بالنجاسة.

الدلیل الرابع عشر:

التمسّک لجواز إعادة العضو المقطوع بأنّ حدّ السرقة هو حقّ الله، وحقوق الله تبنی علی المسامحة والإرفاق، فلا مناص من الرجوع إلی عدالة الإسلام وسماحته فی الحکم بالجواز، هذا ما استدلّ به عبد الرحمن فقیهی فی مقال له بعنوان (بیع الأعضاء الإنسانی).(1)

ص:196


1- (1) نشر فی مجموعة آثار کنکرة بررسی مبانی فقهی إمام خمینی/ مسائل مستحدثة: ( 1) مجموعة مقالات.

ولکن من الواضح أنّ المسامحة والإرفاق غیر مطلوب هنا فی هذا الحد، وإلّا لما ناسب أصل القطع، کما أنّه یتعارض مع الردع والزجر المنظور إلیه فی الشریعة من هذا الحد.

ثمّ إنّ هذا الأصل، أی: أصل المسامحة والإرفاق فی الإسلام، لا یمکن الاستناد إلیه إلّا بعد أن نفقد الدلیل علی عدم الجواز، ومنه الردّ والإجابة علی الظاهر المستفاد من آیة السرقة الآنفة الذکر أوّلاً.

الدلیل الخامس عشر:

أن یستدلّ علی المنع من الوصل، بأنّ فی السرقة جانباً من حقّ الناس، ولا یجوز المسامحة فی حقّ الناس، علی العکس من حقّ الله، إلّا إذا أجاز صاحب الحق، فیجوز عند ذلک الوصل، کما ذکره الدکتور الزحیلی فی بحثه المقدّم إلی المنظمة الإسلامیة للعلوم الطبیة فی الکویت.

ویمکن أن یستدلّ علی أنّ السرقة حقّ الناس، بما رواه الکلینی فی الکافی عن علی بن محمّد عن محمّد بن أحمد المحمودی عن أبیه عن یونس عن الحسین بن خالد عن أبی عبد الله علیه السلام، قال: سمعته یقول:

«الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحد، ولا یحتاج إلی بیّنة مع نظره؛ لأنّه أمین الله فی خلقه، وإذا نظر إلی رجل یسرق فالواجب علیه أن یزبره وینهاه ویمضی ویدعه، قلت: کیف ذاک؟ قال: لأنّ الحقّ إذا کان لله فالواجب علی الإمام إقامته، وإذا کان

ص:197

للناس فهو للناس»(1).

ولکن روی الشیخ الطوسی بإسناده عن الحسن بن محبوب عن أبی أیوب عن الفضیل، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«من أقرّ علی نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرّة واحدة، حراً کان أو عبداً، أو حرة کانت أو أمة، فعلی الإمام أن یقیم الحد علیه للذی أقر به علی نفسه کائناً من کان إلّا الزانی المحصن - إلی أن قال -، فقال: إذا أقر علی نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق الله، وإذا أقر علی نفسه أنّه شرب خمراً حدّه...» الروایة(2).

والتی یظهر منها أنّ السرقة حقّ من حقوق الله، وطریق الجمع هو أنّ فی حدّ السرقة جهتین: جهة حقّ الناس، وجهة حقّ الله، ولکن حقّ الناس مغلّب، لإطلاق النص الأوّل، وفتوی الأصحاب، کما ذکره صاحب الجواهر(3) ، ومن هنا کان للمسروق منه العفو وعدم المطالبة قبل الرفع إلی الحاکم فلا یقطع، وأمّا إذا رفعه فلیس له ذلک فیقطعه الحاکم.

ویدلّ علیه روایة سَرقِة رداء صفوان بن أمیة(4) ، وروایة سماعة بن مروان عن أبی عبد الله علیه السلام، قال:

«من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلک له، فإذا رفع إلی الإمام قطعه، فإن قال الذی سرق له: أنا أهبه، لم یدعه الإمام حتّی

ص:198


1- (1) الکافی 262:7، ح 15، کتاب الحدود، باب النوادر، الاستبصار 216:4، ح 809.
2- (2) تهذیب الأحکام 7:10 ح 20، کتاب الحدود، باب حدود الزنا.
3- (3) جواهر الکلام 551:41، کتاب الحدود، حد السرقة، اللواحق، المسألة الرابعة.
4- (4) الکافی 251:7، ح 2، کتاب الحدود، باب العفو عن الحدود.

یقطعه إذا رفعه إلیه، وإنّما الهبة قبل أن یرفع إلی الإمام، وذلک قول الله عزّوجل: (وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ)

،فإذا انتهی الحدّ إلی الإمام فلیس لأحد أن یترکه»(1).

وعلیه فهذا الاستدلال یتمّ فی أصل إقامة الحد، وقبل الرفع إلی الحاکم، کما هو صریح الروایات، فإنّ لصاحب الحقّ أن یسقط حقّه ویعفو فلا یقطع السارق، ولا یتمّ فی کیفیة إجرائه أو تخفیفه، بل حتّی فی أصل إقامته بعد الرفع إلی الحاکم، فإنّه بعد الرفع یتمحّض حقّاً لله، فیجب علی الحاکم قطعه، ومن هنا لیس لصاحب الحقّ الإذن بزرع العضو المقطوع بعد أن لم یکن له العفو عن أصل الحد بعد الرفع للإمام، وعلیه فلابدّ من الرجوع إلی الأدلة الأُخری الدالة علی جواز عفو الإمام علیه السلام، ومن ثمّ جواز الإذن بالوصل أو عدمه.

ثمّ إنّ محل الکلام فی مسألة جواز الوصل بعد القطع هو فی کیفیة إجراء الحد ومقداره، من تحقق الحد بالقطع فقط أو بالاستدامة، لا فی أصل إقامة الحد حتّی یقال بجواز العفو من صاحب الحق، وبه یرجع إلی ظاهر آیة السارق والسارقة الآنفة الذکر.

ومما مضی من الأدلة والمناقشة فیها، یتبیّن أنّه لا مجال لمن یدّعی جواز الوصل لأن یتمسّک بأصل الإباحة، کما ادّعاه بعضهم(2) فی المسألة؛ لأنّ

ص:199


1- (1) الکافی 251:7، ح 1 کتاب الحدود، باب العفو عن الحدود.
2- (2) بیع الأعضاء الإنسانی لعبد الرحمن فقیهی (مجموعة آثار کنکرة بررسی مبانی فقهی إمام خمینی/ مسائل مستحدثة 364:1).

الأمر لا یصل إلی الأصل إلّا بعد انعدام الدلیل، بل کان الأولی لمن یرید التمسّک بالأصل أن یحکم بالاحتیاط مراعاة لدلیل نقض الغرض وروح الشریعة ودلیل مناسبات الحکم والموضوع (الدلیل الحادی عشر والثانی عشر).

ولکن الأمر لا یصل إلی التمسّک بأصل الاحتیاط؛ لظهور قوله تعالی: (نَکالاً مِنَ اللّهِ) فی آیة السارق والسارقة (الدلیل الأوّل) الدال علی المنع، وظهور قوله فی روایة طلحة بن زید:

«وهبت یدک لسورة البقرة» (الدلیل السادس).

نعم، یخصص الإطلاق فی الآیة والروایة بما ورد من تخییر الإمام علیه السلام فی العفو عن الحد عموماً أو حدّ السرقة خصوصاً بعد الإقرار والتوبة، الدال علی جواز إذنه بالوصل بعد القطع بالأولویة علی الشرطین (الدلیل العاشر).

ویعدّی الحکم إلی الحاکم الجامع للشرائط، إمّا بأدلة الولایة العامّة أو الولایة الخاصّة فی الحدود، أو باستظهار أنّ المراد من الإمام فی روایات العفو هو قائد الأمّة الإسلامیة، فیشمل الحاکم الشرعی الجامع للشرائط، مقابل من استظهر منها أنّه حقّ خاص للإمام علیه السلام فقط.

ودلیل المنع المستفاد من قوله تعالی: (نَکالاً مِنَ اللّهِ) ، وقوله فی الروایة:

«وهبت یدک لسورة البقرة» کما یشمل المنع من إعادة نفس العضو المقطوع، کذلک یشمل زرع عضوٍ من آخر، أو زراعة أنسجة بعملیة تجمیل، وکذا الإذن بالوصل من الإمام علیه السلام أو الحاکم یشمل جمیع الحالات أیضاً.

ص:200

فهرس مصادر

مقال زراعة العضو المقطوع فی حد السرقة

1 - أحکام القرآن، أحمد بن علی الرازی الجصاص، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

2 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، محمّد بن الحسن الطوسی، تحقیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الرابعة 1363 ش.

3 - کتاب الأمالی، الشیخ المفید محمّد بن محمّد بن النعمان، تحقیق: علی أکبر غفاری، دار المفید للطباعة والنشر و التوزیع - بیروت، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

4 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، ابن العلامة الحلی محمّد بن الحسن بن یوسف بن المطهر الحلی، الطبعة العلمیة بقم، الطبعة الأولی 1387 ه -.

5 - بیع الأعضاء الإنسانی، مقال لعبد الرحمن فقیهی، مجموعة آثار

ص:201

کنکره بررسی مبانی فقهی إمام خمینی، مسائل مستحدثة، مجموعة مقالات.

6 - تبصرة المتعلمین فی أحکام الدین، العلامة الحلی الحسن بن یوسف المطهر، تحقیق: السید أحمد الحسینی والشیخ هادی الیوسفی، الناشر: انتشارات فقیه - طهران، الطبعة الأولی 1368 ه - ش.

7 - تفسیر إرشاد العقل السلیم إلی مزایا القرآن الکریم (تفسیر أبی السعود)، القاضی أبی السعود محمّد بن العمادی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی، بیروت - لبنان.

8 - تفسیر البیضاوی، البیضاوی، الناشر: دار الفکر - بیروت.

9 - تفسیر جامع البیان عن تأویل أی القرآن، محمّد بن جریر الطبری، الناشر: دار الفکر - بیروت، سنة الطبع 1415.

10 - تفسیر روح المعانی (تفسیر الآلوسی)، الآلوسی.

11 - تفسیر العیاشی، العیاشی أحمد بن مسعود بن عیاش، تحقیق: السید هاشم الرسولی المحلاتی، المکتبة العلمیة الإسلامیة - طهران.

12 - تفسیر غریب القرآن الکریم، الشیخ فخر الدین الطریحی، تحقیق: محمّد کاظم الطریحی، الناشر: انتشارات زاهدی - قم.

ص:202

13 - تفسیر القرآن العظیم، ابن أبی حاتم الرازی، تحقیق: أسعد محمّد الطیب، الناشر: دار الفکر، بیروت - لبنان، سنة الطبع 1424 ه -.

14 - تفسیر القرآن العظیم، عبد الرزاق الصنعانی، تحقیق: الدکتور مصطفی مسلم محمّد، الناشر: مکتبة الرشد للنشر والتوزیع، المملکة العربیة السعودیة - الریاض، الطبعة الأولی 1410 ه -.

15 - التفسیر الکبیر، الفخر الرازی، الطبعة الثالثة.

16 - تفسیر الکشاف عن حقائق التنزیل و عیون الأقاویل، أبوالقاسم محمود بن عمر الزمخشری، الناشر: شرکة مکتبة و مطبعة مصطفی البابی الحلبی و أولاده بمصر، سنة الطبع 1385 ه -.

17 - تفسیر مجمع البیان، أبو علی الفضل بن الحسن الطبرسی، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، الطبعة الأولی 1410 ه -.

18 - تهذیب الأحکام، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة، طهران.

19 - تهذیب التهذیب، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر و التوزیع، الطبعة الأولی 1404 ه -.

20 - جامع الخلاف والوفاق بین الإمامیة و بین أئمة الحجاز والعراق، علی بن محمّد بن محمّد القمی السبزواری، تحقیق: حسین الحسنی

ص:203

البیرجندی، الناشر: انتشارات زمینة سازان ظهور إمام عصر عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی.

21 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السید أحمد الخوانساری، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانیة 1355 ش.

22 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، محمّد بن حسن النجفی، تحقیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة 1367 ش.

23 - الخرائج و الجرائح، قطب الدین الراوندی، تحقیق ونشر: مؤسسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی 1409 ه -.

24 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی، تحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1407 ه -.

25 - دراسات فی ولایة الفقیه و فقه الدولة الإسلامیة، الشیخ المنتظری، الناشر: منشورات المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة، الطبعة الأولی 1408 ه -.

26 - دعائم الإسلام، القاضی أبی حنیفة النعمان، الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع 1387 ه -.

27 - الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، الشهید الثانی زین

ص:204

الدین العاملی، تحقیق و تعلیق: السید محمّد کلانتر، الناشر: انتشارات داوری - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -

28 - الروضة فی فضائل أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، شاذان بن جبرائیل القمی، تحقیق: علی الشکرچی، الطبعة الأولی 1423 ه -.

29 - ریاض المسائل، السید علی الطباطبائی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

30 - سبل السلام، محمّد بن إسماعیل الکحلانی الصنعانی، جمع و تعلیق: محمّد عبد العزیز الخولی، الناشر: شرکة مکتبة و مطبعة مصطفی البابی الحلبی و أولاده بمصر، الطبعة الرابعة 1379 ه -.

31 - سنن الترمذی (الجامع الصحیح)، محمّد بن عیسی بن سورة الترمذی، تحقیق: عبد الوهاب عبد اللطیف، الناشر: دار الفکر للطباعة و النشر، الطبعة الثانیة 1403 ه -.

32 - سنن الدارقطنی، علی بن عمر الدار قطنی، علّق علیه: مجدی بن منصور بن سید الشوری، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، الطبعة الأولی 1417 ه -.

33 - السنن الکبری، أبو بکر أحمد بن الحسین بن علی البیهقی، الناشر: دار الفکر.

ص:205

34 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال و الحرام، المحقق الحلی نجم الدین جعفر بن الحسن، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

35 - شرح أصول الکافی، المولی محمّد صالح المازندرانی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی - بیروت، الطبعة الأولی 1421 ه -.

36 - شرح مسند أبی حنیفة، الملا علی القاری، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت.

37 - الصحاح، إسماعیل بن حماد الجوهری، تحقیق: عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملایین، الطبعة الرابعة 1407 ه -.

38 - عوالی اللئالی العزیزیة فی الأحادیث الدینیة، ابن أبی جمهور محمّد بن علی بن إبراهیم الإحسائی، تحقیق: آقا مجتبی العراقی، مطبعة سید الشهداء - قم، الطبعة الأولی 1403 ه -.

39 - کتاب العین، الخلیل بن أحمد الفراهیدی، تحقیق: الدکتور مهدی الخزومی و الدکتور إبراهیم السامرائی، الناشر: مؤسسة دار الهجرة - إیران، الطبعة الثانیة.

40 - عیون أخبار الرضا علیه السلام، الصدوق محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، تصحیح و تعلیق: الشیخ حسین الأعلمی، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، سنة الطبع 1404 ه -.

ص:206

41 - غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع، السید حمزة بن علی بن زهرة الحلبی، تحقیق: إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1417 ه -.

42 - الفضائل، شاذان بن جبرائیل القمی، الناشر: منشورات المطبعة الحیدریة و مکتبتها فی النجف الأشرف، سنة الطبع 1381 ه -.

43 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، الناشر: مؤسسة دار الکتاب - قم، الطبعة الثالثة 1412 ه -.

44 - قواعد الأحکام، العلّامة الحلی الحسن بن یوسف بن المطهر، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1413 ه -.

45 - القواعد و الفوائد، محمّد بن مکی العاملی (الشهید الأوّل)، تحقیق: السید عبد الهادی الحکیم، الناشر: مکتبة المفید - قم.

46 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، تصحیح: علی أکبر غفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1388 ش.

47 - الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی، تحقیق: رضا الأستادی، مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامة - إصفهان.

48 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی (الفاضل الهندی)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

ص:207

49 - الکشف والبیان عن تفسیر القرآن (تفسیر الثعلبی)، الثعلبی، تحقیق: أبو محمّد بن عاشور، الناشر: دار إحیاء التراث العربی - بیروت، الطبعة الأولی 1422 ه -.

50 - مبانی تکملة المنهاج، السید أبوالقاسم الخوئی، مطبعة الآداب - النجف الأشرف.

51 - المبسوط، شمس الدین السرخسی، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزیع - بیروت، سنة الطبع 1406 ه -.

52 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی، علّق علیه: محمّد تقی الکشفی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1387 ه -.

53 - مجمع الفائدة و البرهان فی شرح إرشاد الأذهان، المولی أحمد الأردبیلی، تصحیح: آقا مجتبی العراقی و الشیخ علی پناه الإشتهاردی و آقا حسین الیزدی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی.

54 - المحلی، علی بن أحمد بن سعید بن حزم، تحقیق: أحمد محمّد شاکر، الناشر: دار الفکر.

55 - مختلف الشیعة، العلامة الحلی الحسن بن یوسف بن المطهر، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1412 ه -.

56 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثانی زین

ص:208

الدین بن علی العاملی، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -.

57 - المستدرک علی الصحیحین وبذیله التخلیص للذهبی، أبو عبد الله الحاکم النیسابوری، إشراف: الدکتور یوسف عبد الرحمن المرعشی، الناشر: دار المعرفة - بیروت.

58 - مسند أحمد، أحمد بن حنبل، الناشر: دار الصادر - بیروت.

59 - مصباح الفقاهة، السید أبوالقاسم الخوئی، الطبعة الأولی المحققة، الناشر: مکتبة الداوری - قم.

60 - مصنّف ابن أبی شیبة، عبد الله بن محمّد بن أبی شیبة الکوفی العبسی، الناشر: دار الفکر - بیروت، الطبعة الأولی 1409 ه -.

61 - مصنّف الصنعانی، عبد الرزاق الصنعانی، تحقیق: حبیب الرحمن الأعظمی.

62 - معانی القرآن الکریم، أبو جعفر النجاشی، تحقیق: الشیخ محمّد علی الصابونی، الناشر: جامعة أم القری، معهد البحوث العلمیة و إحیاء التراث الإسلامی، الطبعة الأولی 1408 ه -.

63 - المعجم الکبیر، سلیمان بن أحمد الطبرانی، تحقیق: حمدی عبد المجید السلفی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الثانیة.

64 - المقنع، الصدوق محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی،

ص:209

تحقیق ونشر: لجنة التحقیق التابعة لمؤسسة الإمام الهادی علیه السلام، سنة الطبع 1415 ه -.

65 - من لا یحضره الفقیه، الصدوق محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، تعلیق: علی أکبر غفاری، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة.

66 - المهذّب، عبد العزیز بن البراج الطرابلسی، تحقیق: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1406 ه -.

67 - المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع، العلامة أحمد بن محمّد بن فهد الحلی، تحقیق: الشیخ مجتبی العراقی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

68 - نقل وزراعة الأعضاء، مقال لمصطفی عبد الکریم مراد، قسم الأبحاث الشرعیة بدار الإفتاء المصریة، 2009 م.

69 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

70 - نهج البلاغة شرح محمّد عبدة، الشیخ محمّد عبدة، الناشر: دار الذخائر - قم.

71 - نوادر المعجزات، محمّد بن جریر بن رستم الطبری الشیعی،

ص:210

تحقیق ونشر: مؤسسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی 1410 ه -.

72 - نیل الأوطار من أحادیث سید الأخیار، محمّد بن علی الشوکانی، الناشر: دار الجیل - بیروت، سنة الطبع 1973 م.

73 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، الشیخ محمّد بن الحسن الحر العاملی، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:211

ص:212

شرطیة الحرز فی حکم قطع ید السارق

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

إنّ الفقه الإسلامی هو القانون الإلهی فی الدین الخاتم، الذی أنزله الله تعالی لإدارة الحیاة الفردیة والاجتماعیة للبشر، فإنّ الشریعة المقدّسة رسمت للإنسان الطریق القویم والمنهج المستقیم الذی یوصله إلی حیث الغایة من الخلق والهدف من وجود الکون علی مستویین:

المستوی الأوّل: وهو المستوی الفردی الذی یهتم بحیاة کلّ فرد وخصوصیاته، وطریقة تعبّده وتنسّکه من خلال تشریع الأحکام، من قبیل: الصلاة والصیام وأمثالهما. طبعاً، لا ینافی ذلک أن یکون لمثل هذه العبادات جنبة اجتماعیة أخری.

المستوی الثانی: وهو المستوی الاجتماعی، الذی یهتم بتنظیم حیاة الفرد بما هو أحد أفراد المجتمع الذین تحکمهم علاقات وتعاملات معیّنة، کمسائل البیع والإجارة والزواج وأمثالها من المعاملات الکثیرة.

ویصطلح علی المستوی الأوّل فی الفقه بالعبادات، وعلی المستوی الثانی بالمعاملات.

ص:213

وانطلاقاً من الرحمة الإلهیة والحکمة الربانیة فإنّ الشریعة المقدّسة لم تترک کبیرة ولا صغیرة إلّا وبیّنت حکمها أو لا أقل بیّنت الوظیفة العملیة التی علی المکلّف أن یتّبعها.

ثم إنّ من أهم المسائل الاجتماعیة التی أکّدت علیها الشریعة الإسلامیة، وبیّنت مفرداتها بدقّة، وعیّنت جزئیاتها بحساسیة متناهیة - کمّاً وکیفاً - هی مسائل الدیّات والحدود، أو ما یصطلح علیه بقانون العقوبات، أو القانون الجزائی، وهو فیما لو اعتدی شخص علی آخر سواء کان الاعتداء علی شخصه وذاته أو علی أملاکه ومتعلّقاته، فإنّ أیّ نوع من أنواع الاعتداء له غرامة، علی المعتدی أن یتحمّلها(وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ)1 .

طبعاً هذا غیر العقوبة الأخرویة التی تلازم الحرمة التکلیفیة فلم تترک الشریعة المقدّسة مثل هذه الأمور بدون تحدید وتقنین وإلّا لساد الاختلاف والفساد فی المجتمع.

إلّا أنّه بین فترة وأخری تثار بعض الإشکالات علی بعض القوانین الإسلامیة، وعادة ما تعود هذه الإشکالات والاعتراضات؛ إمّا إلی عدم

ص:214

اطّلاع المستشکل علی أبعاد المسألة وتفاصیلها، والناس أعداء ما جهلوا، وإمّا إلی عدم انسجام هذه الأحکام مع بعض الرؤی الشخصیة التی ترجع إلی الأهواء والقناعات الفردیة الذوقیة، وإمّا إلی العداء الذی تکنّه بعض النفوس لهذا الدین الحنیف، وإمّا إلی بساطة وسذاجة المستشکل.

ونحن لا نرید أن نغلق باب النقد والسؤال، ولکن نرید أن نقول: یجب أن لا یصل هذا السؤال إلی حدّ الإشکال، - فضلاً أن یصل إلی حدّ الإشکالیة - قبل الفحص والسؤال من أهل الخبرة والاختصاص.

إنّ من بین المسائل الفقهیة الجزائیة التی یشکل علیها هی مسألة قطع ید السارق، فإنّ الشریعة الإسلامیة حکمت أنّ من سرق مالاً من غیره تُقطع یده، وهذا الحکم - أی: حکم القطع - لا یکون إلّا إذا تحقّقت مجموعة من الشرائط، منها: البلوغ، والعقل، وارتفاع الشبهة، وأن لا یکون المال مشترکاً، وأن یبلغ ربع دینار ذهباً أو خُمسه، إلی غیرها من الشروط المذکورة فی محلّها من الکتب الفقهیة المختصة(1).

شرطیة الحرز:

ومن الشرائط المهمّة التی لا بدّ من توفّرها حتّی یمکن إجراء حکم القطع علی السارق هو: أن یکون المال محرزاً فی مکان معیّن وبطریقة

ص:215


1- (1) انظر موسوعة السیّد الخوئی 339:41، أسباب الحدود.

خاصّة، أی: مخبِّأً فی مکان ما ولیس بظاهر، وإلّا إذا لم یکن محرزاً فلا یمکن تطبیق هذا الحکم علی السارق حتّی لو توفّرت بقیة الشرائط.

الإشکالات الواردة علی هذا الشرط:

هناک مجموعة من الإشکالات ذکرت حول هذا الشرط، منها:

1 - إنّ لازم اشتراط أن یکون المال المسروق فی حرزٍ أنّ من سرق مالاً محرزاً فی مثل السیارة أو مالاً محرزاً فی أمتعة یحملها الحیوان فسیکون علیه القطع، ولکن لو سرق شخص نفس تلک السیارة بما فیها هذا المال المحرز، أو سرق ذلک الحیوان بما یحمل فلا یکون علیه القطع؛ وذلک لأنّ المال المسروق لیس محرزاً، وبناءً علی هذا کیف یمکن قبول إجراء حکم القطع علی النحو الأوّل من السرقة وعدم إجرائه علی النحو الثانی؟! وهذا یکشف عن وجود خلل فی هذا الحکم، وینبغی إعادة النظر فیه.

2 - إنّ الفقهاء عرّفوا السرقة التی فیها القطع هی: أخذ مال الغیر من حرزه، وبدون إذن صاحب المال...

ولکن هذا التعریف لا ینطبق علی مجموعة من الموارد المستحدثة، والتی تکثر فیها السرقات، بل لعلّ السرقة فی هذه العصور تتمحور حول هذه الموارد، من قبیل: السرقة من مواقع الإنترنت، والأنظمة المصرفیة (البنوک)، وشبکات الهواتف النقّالة، وأعضاء جسم الإنسان، وأمثال هذه الموارد التی لا ینطبق علیها التعریف المتقدّم، إذ إنّها لیست أموراً محرزة

ص:216

فی مکان معیّن، فکیف یمکن أن نتصوّر أنّ من سرق ربع دینار ذهباً من شخص فسیکون علیه القطع، ولکن من سرق الملایین من الحساب المصرفی لشخص آخر فلا یکون علیه القطع؟!

فهذا یکشف عن الخلل والإشکال فی هذه المسألة الفقهیة.

من هنا أخذ البعض یرتّب بعض النتائج، ویستخلص أنّ الفقه الإسلامی إذا لم یعط حلولاً لهذه الإشکالات فسیفقد صلاحیة إدارة المجتمع الإنسانی المعاصر، فإنّ احتیاجات البشر أصبحت متنوّعة ومستحدثة، ولا تنسجم مع الطرح الفقهی القدیم، بل راح البعض - وللأسف - یجزم بذلک، مع عدم متابعته للحلول التی یقدّمها الفقهاء بشکل دقیق وصحیح، وعدم مراجعته القنوات الخاصة التی تعنی بهذه الأمور.

وفی هذا المقال نرید أن نجیب عن هذه التساؤلات والإشکالات، من خلال عرض الأدلة الفقهیة والأدوات الاستنباطیة، مع عرض کلمات الفقهاء وأهل الفن والاختصاص؛ لمعرفة سلامة أو سقم ما یُدّعی من هذه الإشکالات علی شرطیة الحرز فی جواز قطع ید السارق.

الإجابة علی الإشکالات:

تعتبر مسألة شرطیة الحرز فی جواز قطع ید السارق من المسائل الإجماعیة فی الفقه، والتی لم یقع فیها أیّ اختلاف أو إشکال؛ وذلک تبعاً لمجموعة من الروایات الصحیحة المعتبرة التی نصّت أو أشارت إلی هذا

ص:217

الشرط - ویأتی ذکر الروایات بالتفصیل - وهذا الأمر لا کلام فیه، إلّا أنّ البحث وقع فی تعریف الحرز، وبیان معناه وحدوده، فعند مراجعة کلمات الفقهاء فی ذلک نجد بعض الاختلاف فیما بینهم.

تعریف الحرز:

قال الشیخ الطوسی فی النهایة: «الحرز هو کلّ موضع لم یکن لغیر المتصرّف فیه الدخول إلیه إلّا باذنه، أو یکون مقفلاً علیه، أو مدفوناً، فأمّا المواضع التی یطرقها الناس کلّهم، ولیس یختص بواحد دون غیره فلیست حرزاً، وذلک مثل الخانات والحمامات والمساجد والأرحیة وما أشبه ذلک من المواضع»(1).

قال فی الجواهر - بعد أن ذکر هذا التعریف عن الشیخ -: «عن المبسوط والتبیان والغنیة وکنز العرفان نسبته إلی أصحابنا، بل عن الأخیر الإجماع علیه صریحاً»(2).

وقد استشهد صاحب الریاض لهذا التعریف بمجموعة من الروایات.(3)

والمحصّل من هذا التعریف الذی علیه أکثر الفقهاء: إنّ هناک ثلاث

ص:218


1- (1) النهایة 320:3.
2- (2) جواهر الکلام 293:41.
3- (3) ریاض المسائل 104:16.

موارد للحرز یتحقّق معها حکم قطع ید السارق: الأوّل: فیما إذا سرق من مکان لا یحقّ له الدخول فیه إلّا بإذن. الثانی: أن یسرق مالاً مقفلاً علیه. الثالث: أن یسرق مالاً مدفوناً.

ولکن واجه هذا التعریف إشکالاً بأنّه غیر مانع من دخول الأغیار، فإنّ الفقرة الأولی منه تنطبق علی موارد لا یجوز فیها القطع، قال ابن إدریس فی السرائر:

«أمّا حدّه للحرز بما حده فغیر واضح؛ لأنّه قال: «والحرز هو کلّ موضع لم یکن لغیر المتصرّف فیه الدخول إلیه إلّا بإذنه»، وهذا علی إطلاقه غیر مستقیم؛ لأنّ دار الإنسان إذا لم یکن علیها باب، أو یکون علیها باب ولم تکن مغلقة ولا مقفلة، ودخلها إنسان وسرق منها شیئاً، لا قطع علیه بلا خلاف، ولا خلاف أنّه لیس لأحد الدخول إلیها إلّا بإذن مالکها، فلو کان الحدّ الذی قاله مستقیماً لقطعنا من سرق ما فی هذه الدار؛ لأنّه لیس لأحد دخولها إلّا بإذن صاحبها، فهی حرز علی حدّه رضی الله عنه»(1).

فالإشکال إذن علی المورد الأوّل من الموارد الثلاثة التی ذکرها الشیخ.

والإشکال واضح، ولأجل هذا الإشکال أضاف ابن حمزة قیداً للدخول بغیر إذن، وهو أن تکون الدار مغلقة أو مقفلة(2) ، فهذا تسلیم بالإشکال.

ولکن دافع العلّامة فی المختلف عن تعریف الشیخ الطوسی بحمل

ص:219


1- (1) السرائر 484:3.
2- (2) انظر جواهر الکلام 293:41.

کلامه علی الإذن التکوینی لا الإذن الشرعی، حیث قال: «ویحتمل أن یکون المراد بقوله:

«لیس لغیر المتصرّف الدخول فیه» سلب القدرة لا الجواز الشرعی».(1)

أی: أنّ الدار التی لم تقفل ولم تغلق فإنّ الإذن فی دخولها متحقّق؛ لأنّ الإذن بمعنی القدرة علی الدخول، ولیس الإذن معناه الإذن الشرعی، لذلک فإنّ من دخل داراً لم تقفل ولم تُغلق فإنّه دخلها بالإذن التکوینی، ومادام الإذن التکوینی موجوداً، فلا قطع علیه إن سرق من تلک الدار.

ولکن هذا لیس جواباً فی الحقیقة، بل هو تسلیم بالإشکال وتأویل لعبارة الشیخ الطوسی علی خلاف ظاهرها جدّاً، ومن المقطوع به أیضاً أنّ المراد هو الإذن الشرعی لا القُدرة، وإلّا فالإذن بمعنی القدرة متحقّق حتّی مع القفل والغلق وإلّا لما أمکن أن یسرق شیئاً أصلاً.

والجواب عن هذا الإشکال یتطلّب البحث عن حقیقة الحرز روائیاً؛ لأنّ الفیصل فی هذه المسألة هو الروایات، وسنستعرض ونبحث ما هو المستفاد منها، ثمّ نجیب عن هذا الإشکال وبقیة الإشکالات المتقدّمة.

التحقیق فی شرطیة الحرز:

إنّ شرط الحرز لم یُؤخذ بهذا اللفظ منقولاً إلّا فی مرسل ابن العلّامة

ص:220


1- (1) المختلف 216:9.

وابن فهد الحلی، حیث روی عن رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لا قطع إلّا من حرز»(1)(2)، وکذا رواه مرسلاً فی العوالی.

وکذا ورد لفظ الحرز فی صحیحة محمّد بن مسلم الآتیة، إلّا أنّه لم یؤخذ لفظ الحرز فیها مستقلاً، من هنا کان لزاماً عرض الروایات الواردة فی هذا الصدد؛ لاستخراج المعنی المراد من هذا الشرط، ومعرفة حدوده بشکل صحیح، کما لابدّ من تسلیط الضوء علی الروایات المعارضة أیضاً، وإلّا لما صح التمسّک بأیّ نتیجة من دون حلّ التعارضات.

نستعرض هنا أوّلاً الروایات الموافقة، ثمّ نستعرض الروایات التی تعارضها، ثمّ نستخلص أهم النتائج المرتبطة بالمقام.

عرض الروایات فی المقام:

هناک مجموعة من الروایات التی جاءت فی هذه المسألة، نستعرضها مع بیان دلالاتها، ثمّ نستخلص أهم النتائج منها:

الروایة الأولی:

صحیحة أبی بصیر، قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قوم اصطحبوا فی

ص:221


1- (1) إیضاح الفوائد 529:4، المهذّب البارع 97:5، وانظر عوالی اللئالی 568:3، مستدرک الوسائل 136:18.
2- (2) الکافی 228:7، التهذیب 110:10، الوسائل 276:28، ح 34749.

سفر رفقاء فسرق بعضهم متاع بعض؟

فقال:

«هذا خائن لا یقطع، ولکن یتبع بسرقته وخیانته.

قیل له: فإن سرق من منزل أبیه؟ فقال: لا یقطع؛ لأنّ ابن الرجل لا یُحجب عن الدخول إلی منزل أبیه، هذا خائن، وکذلک إن سرق من منزل أخیه أو أخته إن کان یدخل علیهم لا یحجبانه عن الدخول»(1).

وتدلّ هذه الروایة علی أنّ من کان مأذوناً فی الدخول ومقاربة الأموال إذا سرق فلا یقطع، وهذا معناه أنّه إذا لم یکن مأذوناً کذلک فعلیه القطع، إذن فالمال المحرز علیه القطع وإلّا فلا.

فإن قلت:

هذا استدلال بمفهوم الوصف وهو لم یثبت حجیّته.

قلت:

الاستدلال بهذه الروایة من خلال ثلاث فقرات:

الأولی: وهو الاستدلال بمفهوم الوصف، وهو المستفاد من الفقرة الأولی فی الروایة، وهذا یرد علیه الإشکال کما فی البحث الأصولی؛ إذ لا حجیّة فیه.

الثانیة: الاستدلال بمفهوم التعلیل، وهو المستفاد من الفقرة الثانیة فی

ص:222


1- (1) الکافی 228:7، التهذیب 110:10، الوسائل 276:28، ح 34749.

الروایة، وهو قوله علیه السلام:

«لأنّ ابن الرجل لا یحجب...»، وقد وقع اختلاف بین الأصولیین فی حجیّة هذا المفهوم، فلو سلّمنا عدم حجیّته، لا یمکن الاستدلال بهذه الفقرة أیضاً.

الثالثة: الاستدلال بمفهوم الشرط، وهو الاستدلال بالفقرة الأخیرة من الروایة، وهو قوله:

«إن کان یدخل علیهم لا یحجبانه عن الدخول» ومفهوم الشرط حجّة.

ولا یشکل علی هذا الاستدلال بأنّ الشرط هنا مسوق لتحقّق الموضوع، فإنّ عدم الدخول ینفی أساس الموضوع للسرقة، فهو کقولک: إن رزقت ولداً فاختنه.

لا یُشکل بهذا؛ لأنّ الشرط لیس کذلک، فإنّ الشرط لم ینصبّ علی الدخول بل علی الحجب، والمعنی: إن کان یدخل علیهم بدون حجب ومنع فهو لا یقطع، وإن کان یدخل علیهم مع الحجب والمنع فهو یقطع، والقرینة علی ذلک ظهور الروایة فی ذلک أوّلاً، وثانیاً: سیاق الروایة یدلّ علی ذلک أیضاً، فإنّ الفقرة السابقة علّلت هذا الحکم بأنّ ابن الرجل لا یحجب، فمصبّ الکلام علی الحجب، فلا یکون الشرط مسوقاً لتحقق الموضوع، وبذلک یتمّ الاستدلال.

الروایة الثانیة:

معتبرة السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

ص:223

«کلّ مَدخل یُدخَل فیه بغیر إذن صاحبه فسرق منه السارق فلا قطع علیه، یعنی الحمامات والخانات والأرحیة»(1).

وزاد الفقیه: والمساجد(2).

وتدلّ هذه الروایة علی أنّ الأماکن التی لا تحتاج إلی إذن فی الدخول فلیس علی السارق منها القطع، ومعناه أنّ الأماکن التی تحتاج إلی الإذن فعلی السارق القطع، فهی صریحة بعدم القطع فی سرقة الأماکن العامّة، وبمفهومها علی جواز القطع فی غیر ذلک.

ولکن الإشکال علی هذه الروایة هو من جهة عدم ثبوت مفهوم الوصف.

الروایة الثالثة:

معتبرة السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام:

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»(3).

دلالة هذه الروایة واضحة فی أنّ الذی ینقب بیتاً أو یکسر قفلاً فهو یقطع، وستأتی الإشارة لاحقاً إلی أنّ مفهوم الحصر سوف یعارض موارد القطع فی غیر النقب والکسر.

ص:224


1- (1) الکافی 231:7، الوسائل 276:28، ح 34750.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 44:4، التهذیب 108:10.
3- (3) التهذیب 108:10، الاستبصار 243:4، الوسائل 277:28، ح 34751.

الروایة الرابعة:

مرسلة جمیل: فقد روی العیاشی عن جمیل عن بعض أصحابه عن أحدهما علیهم السلام قال:

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»(1).

والکلام عن هذه الروایة کسابقتها إلّا أنّها ضعیفة من جهة السند.

الروایة الخامسة:

صحیحة الحلبی، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل ثقب بیتاً فأُخِذَ قبل أن یصل إلی شیء؟ قال: «یعاقب، فإن أُخِذَ وقد أخرج متاعاً فعلیه القطع»(2).

دلالة هذه الروایة واضحة فی أنّ من ثقب بیتاً وأخرج الأموال المسروقة فعلیه القطع، وتکون هذه الروایة مقیّدة لإطلاق الروایات السابقة القائلة بأنّ من ثقب بیتاً یقطع، فهی تفید أنّ من ثقب بیتاً وأخرج الأموال فهو الذی یُقطع لا مطلقاً، وهناک روایات عدیدة أخری بهذا المضمون والمعنی.

الروایة السادسة:

معتبرة السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «أتی أمیر المؤمنین علیه السلام بطرار قد طرّ دراهم من کم رجل، قال: إن کان طرّ من قمیصه الأعلی لم

ص:225


1- (1) تفسیر العیاشی 319:1، الوسائل 277:28.
2- (2) الکافی 224:7، التهذیب 107:10، الوسائل 262:28، ح 34714.

أقطعه، وإن کان طرّ من قمیصه الداخل قطعته»(1).

تدلّ هذه الروایة علی أنّ السرقة من القمیص الأعلی لیس فیها قطع، وأمّا السرقة من القمیص الداخل والمحرز ففیها القطع، وهی واضحة الدلالة علی شرط الإحراز فی الحکم بالقطع.

الروایة السابعة:

صحیحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

فی کم یقطع السارق؟

قال:

«فی ربع دینار...، قلت له: أرأیت من سرق أقل من ربع دینار هل یقع علیه حین سرق اسم السارق؟ وهل هو عند الله سارق فی تلک الحال؟ فقال: کلّ من سرق من مسلم شیئاً قد حواه وأحرزه فهو یقع علیه اسم السارق، وهو عند الله سارق، ولکن لا یقطع إلّا فی ربع دینار أو أکثر»(2).

تبیّن هذه الروایة أنّ السرقة تصدق فیما إذا أخذ مالاً من مسلم قد حواه وأحرزه، وأنّه تقطع یده إذا کان ما سرقه مقدار ربع دینار.

وهی واضحة الدلالة علی شرطیة الحرز فی القطع.

ص:226


1- (1) الکافی 226:7، التهذیب 115:10، الوسائل 270:28، ح 34737.
2- (2) الکافی 221:7، التهذیب 99:10، الاستبصار 238:4، الوسائل 243:28، ح 34658.

الروایات المعارضة:

هناک بعض الروایات التی قد تکون بظاهرها معارضة لبعض الروایات المتقدّمة:

منها: صحیحة الحلبی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سألته عن الرجل یأخذ اللص یرفعه أو یترکه؟ فقال:

«إنّ صفوان بن أُمیة کان مضطجعاً فی المسجد الحرام، فوضع رداءه وخرج یهریق الماء، فوجد رداءه قد سرق حین رجع إلیه، فقال: من ذهب بردائی؟ فذهب یطلبه فأخذ صاحبه، فرفعه إلی النبی صلی الله علیه و آله، فقال النبی صلی الله علیه و آله: اقطعوا یده، فقال صفوان: أتقطع یده من أجل ردائی یا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأنا أهبه له، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: فهلّا کان هذا قبل أن ترفعه إلیّ، قلت: فالإمام بمنزلته إذا رفع إلیه؟ قال: نعم»(1).

هذه الصحیحة تدلّ علی أنّ من سرق من المسجد فهو یقطع مع أنّ المساجد من الأماکن العامّة التی لا تحتاج إلی إذن فی الدخول، وهذا یعارض ما ثبت من الروایات المتقدّمة التی اشترطت فی القطع أن تکون السرقة من الأماکن التی تحتاج إلی إذن، وعفت عن الأماکن التی لیست کذلک، بل صرّحت بعدم القطع فی مثل المساجد والحمامات والأرحیة والخانات، وعلیه فلا یمکن الالتزام بالکلیة القائلة: إنّ فی السرقة من

ص:227


1- (1) الکافی 251:7، التهذیب 123:10، الاستبصار 251:4، الوسائل 39:28، ح 34161.

الأماکن التی تحتاج إلی إذن قطع، ولا قطع فی السرقة من الأماکن العامّة.

ومثل هذا الخبر ما رواه الصدوق مرسلاً فی الفقیه والخصال، قال:

«وکان صفوان بن أمیة بعد إسلامه نائماً فی المسجد، فسُرق رداؤه، فتبع اللص وأخذ منه الرداء، وجاء به إلی رسول الله صلی الله علیه و آله، وأقام بذلک شاهدین عدلین علیه، فأمر علیه السلام بقطع یمینه، فقال صفوان: یا رسول الله، أتقطعه من أجل ردائی؟ قد وهبته له، فقال علیه السلام: إلّا کان هذا قبل أن ترفعه إلیّ؟ فقطعه»(1).

فهذه المرسلة وسابقتها تمثّلان إشکالاً علی ما تقدّم.

الجواب عن الإشکال:

الجواب الأوّل: وهو ما ذکره الشیخ الصدوق فی الفقیه فی ذیل المرسلة، حیث قال:

«لا قطع علی من یسرق من المساجد والمواضع التی یدخل إلیها بغیر إذن، مثل: الحمامات والأرحیة والخانات، وإنّما قطعه النبی صلی الله علیه و آله؛ لأنّه سرق الرداء وأخفاه، فلإخفائه قطعه، ولو لم یخفه لعزّره ولم یقطعه»(2).

وقد فسّر صاحب الوسائل هذا الوجه بما هو خلاف ظاهر العبارة جدّاً، حیث أفاد أنّ سبب القطع هو إخفاء صفوان لثوبه، فالسارق سرق مالا

ص:228


1- (1) الفقیه 193:3، الخصال: 193، الوسائل 277:28، ح 34752.
2- (2) الفقیه 193:3.

ًمحرزاً، فقال بعد أن نقل عبارة الصدوق المتقدّمة:

«أقول: الظاهر أنّ مراده أنّ صفوان کان قد أخفی الرداء وأحرزه ولم یترکه ظاهراً فی المسجد»(1).

فعبارة الصدوق واضحة بأنّ قصده أنّ السارق هو الذی أخفی لا أنّ صفوان کان قد أخفی ثوبه.

والوجه فی هذا التوجیه الذی ذکره الشیخ الصدوق هو ما رواه مرسلاً عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: قال علی علیه السلام: «لا قطع فی الدغارة المعلنة وهی الخلسة، ولکنّی أُعزّره، ولکن یُقطع من یأخذ ویخفی»(2). وما رواه الکلینی بسند صحیح عن محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال: «قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی رجل اختلس ثوباً من السوق، فقالوا: قد سرق هذا الرجل، فقال: إنّی لا أقطع فی الدغارة المعلنة، ولکن أقطع ید من یأخذ ثمّ یخفی».

فحمل الشیخ الصدوق القطع فی الروایة المتقدّمة علی أنّ السارق قد أخفی المال المسروق، ومن أخفی المال فعلیه القطع، لذلک قطعه الرسول صلی الله علیه و آله.

نقاش الجواب الأوّل.

یرد علی هذا الوجه أمور:

أوّلاً: إنّ هذا الحمل تبرّعی حتّی لو سلّمنا أنّه تقطع ید السارق إذا

ص:229


1- (1) الوسائل 277:28.
2- (2) الفقیه 406:5، ح 5117.

أخفی المال المسروق؛ إذ لا شاهد علی أنّ السارق قد أخفی المال المسروق فی روایة صفوان، فلا توجد أیّة إشارة فی الروایتین علی ذلک.

ثانیاً: إنّ القرائن تشیر إلی خلاف ذلک، حیث روی الصدوق فی الخصال أنّ صفوان وجد رداءه بید السارق، هذا قرینة علی أنّه لم یُخفه.

ثالثاً: إنّ ظاهر روایة الإمام علی علیه السلام أنّه لا یُقطع فیمن یسرق علناً ویُقطع فیمن یسرق خفیة، فالعلن والخفیة راجع إلی نفس عملیة السرقة، لا إلی المال المسروق، والشاهد علی ذلک قرینة المقابلة، حیث قال فی المقطع الأوّل:

«لا قطع فی الدغارة المعلنة»، فأرجع العلن إلی نفس الأخذ، وقال فی المقطع الثانی:

«ولکن یقطع من یأخذ ویخفی»، أی: یخفی الأخذ لا المأخوذ.

رابعاً: حتّی لو فرضنا أنّ السارق أخفی المال المسروق مع ذلک لا یقطع إذا لم یحرز شرط الحرز؛ لأنّ إخفاء المال المسروق لیس علّة تامة للقطع، بل هو أحد أجزاء العلة، أی: أنّه لا یؤثّر إلّا مع تحقّق بقیة الأجزاء، فإنّ هذا الشرط فی قبال السرقة العلنیة فیما هو ظاهر الروایتین المتقدّمتین.

الجواب الثانی عن الإشکال:

وهو ما ذکره الشیخ الحر فی الوسائل تفسیراً لعبارة الصدوق المتقدّمة، من أنّه یحتمل أن یکون صفوان قد أحرز ثوبه فی المسجد وأخفاه(1).

ص:230


1- (1) الوسائل 277:28.

ونقل هذا الوجه أیضاً صاحب الریاض عن بعض الأعلام واستحسنه(1).

وبذلک یکون قطع ید السارق علی طبق القاعدة وموافقاً لشرط الحرز.

نقاش الجواب الثانی:

إنّ هذا الجواب خلاف ظاهر الروایتین، أمّا الأولی فواضح؛ لأنّه ترک رداءه فی المسجد وخرج یهریق الماء، أو لا أقل من أنّه لا شاهد علی هذا الحمل.

وأمّا الثانیة فهو وإن قیل: إنّه کان نائماً فلعلّه وضعه تحته، إلّا أنّه لا شاهد علیه أیضاً، وکون الحرز مراعاة المال - کما قیل عن البعض - لا یفید فی المقام؛ لأنّه لا یصدق علی النائم عرفاً، کما هو واضح.

قال السیّد الخوئی: وهذه الصحیحة تدلّ علی أنّ الحدّ یثبت علی السارق من المسجد الحرام، وحملها علی السرقة من محرز فیه بعید.

الجواب الثالث عن الإشکال:

وهو ما ذکره السیّد الخوئی من أنّ هذا الحکم لا یبعد أن یکون من مختصّات المسجد الحرام، قال: فإن تمّ إجماع علی اشتراک المسجد الحرام مع غیره من المساجد فهو، وإلّا لم یبعد ثبوت الحدّ علی السارق من المسجد الحرام بخصوصه الذی جعله الله مثابة للناس وأمناً.

ص:231


1- (1) ریاض المسائل 579:13.

ومما یؤکّد ذلک - أی: کون مثل هذا الحکم من الأحکام الخاصّة بالمسجد الحرام - عدّة روایات: منها: صحیحة عبد السلام بن صالح الهروی عن الرضا علیه السلام - فی حدیث - قال: قلت له: بأیّ شیء یبدأ القائم منکم إذا قام؟ قال:

«یبدأ ببنی شیبة، فیقطع أیدهم؛ لأنّهم سرّاق بیت الله تعالی».

باعتبار أنّ قطع القائم علیه السلام أیدی بنی شیبة لیس مبنیاً علی قیام حدّ السرقة علیهم؛ نظراً إلی أنّ شرائط القطع فیهم غیر موجودة، بل هم من الخائنین لبیت الله، فیکون هذا من أحکام بیت الله الحرام دون غیره(1).

ولکن یمکن أن لا یکونوا خائنین؛ وذلک لأنّه لم یؤذن لهم من الأساس أصلاً ولیسوا ممن لا یحتاجون إلی إذن فیکون قطعهم علی طبق القاعدة.

فإن قلت: إنّ المساجد لا تحتاج إلی إذن فیکون القطع علی خلاف القاعدة، وهو خصوصیّة المسجد الحرام.

قلت: هذا عود إلی أوّل الکلام، ویحتاج لتبریر القطع إلی إثبات خصوصیة المسجد الحرام، ولا یکون شاهداً علی ذلک بنفسه.

نعم، احتمال الخصوصیة فی المسجد الحرام عرفی؛ وذلک لاختصاص المسجدین ببعض الأحکام دون غیرهما.

وإن أبیت عن احتمال الخصوصیة، فإنّ هذا الخبر لا یصلح لمعارضة

ص:232


1- (1) موسوعة السیّد الخوئی 347:41، مبانی تکملة المنهاج، الحدود.

الأخبار الکثیرة والعدیدة التی علیها رأی المشهور، بل علیه الإجماع، إلّا ما نُسب إلی العُمانی من أنّ السارق من الأماکن العامّة یقطع، مستشهداً بالخبر المتقدّم(1) ، وهو کما تری.

وبذلک لا تصلح هذه الروایة لمعارضة الروایات المتقدّمة.

ومن الروایات المعارضة:

معتبرة السکونی المتقدّمة

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»، حیث إنّها تدلّ بمفهومها أنّه لا موجب للقطع إلّا هذان الأمران، وهذا یعارض ما ورد فی مثل الروایة الأولی والسادسة والسابعة المتقدّمة، حیث إنّنا أثبتنا القطع فی غیر هذین الموردین.

ولکن یجاب عن هذا الإشکال إمّا بعدم ثبوت مفهوم الحصر، وإمّا أنّ المفهوم لا یصلح لمعارضة المنطوق، فإنّ المنطوق یقدّم علیه بالأظهریة، أو بالنصیة؛ لأنّ ظهور المفهوم لم یصل إلی مرحلة اللازم البیّن بالمعنی الأخص الذی یقصد مستقلاً بالکلام کما هو ظاهر.

ومن الروایات المعارضة:

ما جاء فی حکم الطرار حیث إنّ الروایات فیه علی ثلاث طوائف(2):

ص:233


1- (1) انظر مسالک الإفهام 352:2.
2- (2) انظر الوسائل 270:28، أبواب حدّ السرقة، الباب 13، باب حکم الطرار.

الأولی: ما تقدّم ذکره من التفصیل بین ما کان الطر من القمیص الأعلی فلا قطع فیه، وبین ما کان من القمیص الأسفل ففیه القطع.

الثانی: ما جاء فی أنّ الطرار لا یقطع بقول المطلق.

الثالث: ما جاء فی أنّ الطرار یقطع بقول المطلق.

ومن الواضح فإنّ المعارضة محلولة بین هذه الطوائف الثلاثة بحمل المطلق علی المقیّد، فتکون الروایات المانعة من القطع بقول مطلق محمولة علی السرقة من القمیص الأعلی، والروایات المثبتة للقطع بقول مطلق محمولة علی السرقة من القمیص الأسفل.

المستفاد من الروایات فیما یرتبط بالمقام:

هناک مجموعة من الأمور إذا تحقّق واحد منها فإنّه یکون مجوّزاً للقطع، وهذا معناه أنّ کلّ واحد من هذه الموارد یعتبر حرزاً:

الأوّل: أن یکون المال فی بیت لا یجوز الدخول فیه إلّا بإذن من قبل المالک.

الثانی: أن یکون المال فی مکان مقفل.

الثالث: أن یکون المال فی مکان ینقب ویثقب.

الرابع: أن یکون المال فی مکان غیر ظاهر، بل داخل ومخفی.

الخامس: أن یکون المال فی حرز.

ص:234

ومن مجموع هذه الموارد تبیّن حدود الحرز والمقصود منه، فإنّ الملاحظ لهذه المصادیق التی أشارت إلیها الروایات یستظهر أنّ الحرز هو کلّ شیء یخفی ویخبئ، فإنّ کون المال فی مکان یحتاج إلی إذن، أو أنّه فی مکان مُغلق، أو أنّه فی مکان مُقفل، وغیرها من الموارد، کلّها تشیر إلی أنّ المال الذی یکون محجوباً عن الغیر إذا سرق ففیه القطع، وأمّا الأموال التی لیست کذلک فلا قطع فیها، وبذلک تبیّن أنّ الحقّ فی تعریف الحرز هو ما ذکره الشیخ الطوسی فی المبسوط، قال: «فإذاً ثبت أنّه لا قطع إلّا علی من سرق من حرز، احتجنا إلی تبیین الحرز، ومعرفته مأخوذة من العرف، فما کان حرزاً لمثله فی العرف ففیه القطع، وما لم یکن حرزاً لمثله فی العرف فلا قطع؛ لأنّه لیس بحرز»(1).

ثمّ یذکر مجموعة من المصادیق التی یری العرف أنّها فی الحرز، ومجموعة أخری من الموارد التی لا یراها العرف کذلک.

والذی یدلّ علی هذا المطلب أیضاً - بالإضافة إلی الروایات المتقدّمة التی أکّدت علی ذکر المصادیق والموارد مما یکشف عن عرفیة المسألة - صحیحة الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه قال:

«فی رجل استأجر أجیراً وأقعده علی متاعه فسرقه، قال: هو مؤتمن، وقال فی رجل أتی رجلاً وقال: أرسلنی فلان إلیک لترسل إلیه بکذا وکذا، فأعطاه وصدّقه، فلقی صاحبه،

ص:235


1- (1) المبسوط 22:8.

فقال له: إنّ رسولک أتانی فبعثت إلیک معه کذا وکذا، فقال: ما أرسلته إلیک، وما أتانی بشیء، فزعم الرسول أنّه قد أرسله وقد دفعه إلیه، فقال: إن وجد علیه بیّنة أنّه لم یرسله قطع یده، ومعنی ذلک أن یکون الرسول قد أقر مرّة أنه لم یرسله، وإن لم یجد بیّنة فیمینه بالله ما أرسلته، ویستوفی الآخر من الرسول المال، قلت: أرأیت إن زعم أنّه إنّما حمله علی ذلک الحاجة؟ فقال: یقطع؛ لأنّه سرق مال الرجل»(1).

وهذا یدلّ علی عرفیة الحرز فی المسألة، وإلّا من سرق بواسطة الکذب لا یصدق علیه أحد الموارد المتقدّمة التی أشارت إلیها الروایات، بل إنّ المنطبق علیه هو أنّه أخرج المال من حرزه عرفاً وإن لم یکسر قفلاً أو ینقب بیتاً، بل إنّ صاحب المال هو الذی أعطاه المال؛ لذلک حکم علیه الإمام علیه السلام بأنّه سارق ویستحق القطع.

ویؤیّد هذا المعنی أیضاً ما ورد من الروایات فی سرقة الضیف والمؤتمن، فقد عقد صاحب الوسائل باباً فی ذلک، وفیه مجموعة من الروایات المعتبرة(2).

وکذا ما ذکره من الروایات فی باب حکم سرقة العبد من مولاه(3).

ص:236


1- (1) الکافی 227:7، الفقیه 43:4، الوسائل 273:28، ح 34745.
2- (2) الوسائل 275:28، باب أنّه لا یقطع الضیف، ولکن یقطع ضیف الضیف.
3- (3) الوسائل 298:28.

وکذا باب أنّه لا قطع علی الأجیر الذی لا یحرز المال من دونه(1).

فهذه الموارد - وفیها مجموعة من الروایات - إن لم نقل أنّها تدلّ علی عرفیة الحرز، فإنّها تشیر إلیه وتؤیّد ما قلناه بقوّة.

ومن مجموع ذلک نستخلص أنّ الحرز شرط فی القطع، والذی یحدّد الحرز هو العُرف، فما کان عرفاً فی حرز ففیه القطع، ومالم یکن کذلک فلا قطع فیه.

قال فی الجواهر: «وعلی کلّ فمن شرطه أن یکون محرزاً بقفل أو غلق أو دفن أو نحوها مما یعدّ فی العُرف حرزاً لمثله؛ إذ لا تحدید فی الشرع للحرز المعتبر فی القطع نصّاً وفتوی، بل إجماعاً بقسمیه»(2)

قال السیّد الروحانی: فلا إشکال فی اعتبار کون المال محرزاً، وحیث لا تحدید شرعاً للحرز فیتعیّن الرجوع فیه إلی العرف(3).

الجواب علی الإشکالات المتقدّمة:

جواب إشکال ابن إدریس:

ما ذکره ابن إدریس فی السرائر من إشکال فإنّه یرد علیه نقضاً وحّلاً.

ص:237


1- (1) الوسائل 271:28.
2- (2) جواهر الکلام 293:41.
3- (3) فقه الصادق 286:39.

أمّا النقض: فإنّ القید الذی ذکره الشیخ فی النهایة هو عبارة عن مضمون الروایة الأولی المتقدّمة، حیث استفدنا شرطیة الإذن من مفهوم الشرط فیها، ومفهوم الشرط ثابت، وعلیه فسوف یکون الإشکال علی الروایة أیضاً لا فقط علی عبارة الشیخ.

وأمّا الحلّ: فإنّ التعریف الذی ذکره الشیخ فی النهایة تعریف للمصادیق - مع أنّه لم یذکر جمیع المصادیق فی الروایات - ولم یعط ضابطة کلّیة فی المقام، والضابطة الکلیة هی ما توصّلنا إلیه من خلال البحث المتقدّم، والتی أشار إلیها الشیخ فی المبسوط، وهی عُرفیة الحرز، من هنا فإنّ النقض الذی ذکره ابن إدریس لا نُسلّم به علی إطلاقه، بل إنّ السارق من تلک الدار لا یُقطع إذا لم یصدق علیه أنّه سرق من حرز عرفاً، وإلّا لو صدق علیه أنّه من حرز لحکم بقطع یده، وسوف یکون الإجماع المدّعی علی الخلاف.

جواب الإشکال الثانی:

وهو الإشکال الأوّل الذی ذکرناه فی صدر البحث من أنّه لا یمکن قبول أنّ من سرق مالاً محرزاً فی السیارة مثلاً فعلیه القطع، وأمّا من سرق نفس السیّارة فلا قطع علیه.

والجواب عن هذا الإشکال یتّضح أیضاً ممّا تقدّم، فإنّه بعد أن ثبُت أنّ الحرز یحدّده العرف، فأینما صدق الحرز جاز القطع وإلّا فلا، ففی المثال

ص:238

المذکور إن صدق أنّ المال المخبّئ فی السیارة فی حرز عرفاً فإنّ علی سارقه القطع وإلّا فلا، وکذا نفس السیارة فإن کانت عرفاً فی حرز فعلی سارقها القطع وإلّا فلا قطع علیه، ثمّ إنّ المال الذی أحرز فی السیارة غیر المحرزة عادة لا یصدق علیه أنّه فی الحرز، لذلک فلیس علی السارق القطع لا علی هذا المال ولا علی السیارة، وهذا لا یختص بهذا المورد، فإنّ من یعلم أنّ السرّاق سوف یحفرون هذا المکان جزماً، فإنّه لو دفن فیه شیئاً لا یصدق علیه أنّه أحرزه، وکما فی موارد القفل، مع أنّ هذه الأمور منصوصة فی الروایات، إلّا أنّه کما قلنا المدار علی الصدق العرفی، وهذا هو مدلول الروایات العدیدة المتقدّمة.

جواب الإشکال الثالث:

وأمّا ما أُشکل به فی صدر البحث أیضاً من أنّ تعریف السرقة لا یشمل مجموعة من الموارد التی تکثر فیها السرقات فی هذه الأیام، فإنّه لا أساس له؛ وذلک لانطباق التعریف علی مثل هذه المصادیق بحسب العرف الذی هو المناط فی المسألة وتحدید الحرز، فإنّ الحسابات المصرفیة، والبرمجیات الإلکترونیة جمیعها تحتوی علی رموز وأقفال وکلمات وأرقام سریّة، فهی مُقفلة عرفاً، وقد جاء النص علی أنّ الأمور المقفلة محرزة، وفیها القطع، ولیس المراد من القفل هو قطعة الحدید فی الأزمان القدیمة، وإنّما هو کلّ شیء یمنع من الدخول أو التصرّف فی شیء آخر، وهذه الأمور کلّها یصدق علیها أنّها مقفلة ومشفّرة، فمن تجاوز علیها یعتبر سارقاً.

ص:239

نعم، هناک بحث من جهة أخری وهو: أنّ مثل هذه الأمور هل یصدق علیها أنّها مال أولا، وهذا بحث آخر لا ربط له فی المقام، فهو بحث صغروی، ولا یؤثّر علی تعریف السرقة وحدودها وانطباقها العُرفی علی مثل هذه الموارد إذا ثبتت مالیّتها.

ولأجل خطورة المسألة ودقّتها، والمسائل المصیریة التی تترتب علیها نجد أنّ الروایات تشیر عادة إلی نفس المصادیق الخارجیة وتحدّد حکمها، وهو ما سار علیه فقهاؤنا فی رسائلهم العملیة.

قال السیّد الإمام: «أن یُخرج المتاع من الحرز بنفسه أو بمشارکة غیره، ویتحقّق الإخراج بالمباشرة کما لو جعله علی عاتقه وأخرجه، والتسبیب کما لو شدّه بحبل ثمّ جذبه من خارج الحرز...»(1)

إلی آخر الموارد التی یشیر إلیها السیّد الإمام.

وکذا قال السیّد الخوئی: «أن یکون المال فی مکان محرز، ولم یکن مأذوناً فی دخوله، ففی مثل ذلک لو سرق المال من ذلک المکان وهتک الحرز قطع، وأمّا لو سرقه من مکان غیر محرز، أو مأذون فی دخوله، أو کان المال تحت یده لم یقطع، ومن هذا القبیل المؤتمن إذا خان وسرق الأمانة...»(2)

ص:240


1- (1) تحریر الوسیلة 434:2.
2- (2) موسوعة السیّد الخوئی 345:41، أسباب الحدود السرقة.

إلی آخره من الموارد التی فیها القطع، والتی لیس فیها ذلک.

وجمیع هذا یکشف عن عرفیة المسألة، وأنّ منهجیة الشارع هی بیان الحکم عن طریق بیان المصادیق.

لذلک لیس من الصحیح الجمود علی الموارد المنصوصة ثمّ الإشکال بها علی عدم دخول الموارد المستحدثة، أو نفس الموارد المنصوصة إذا تغیّرت ظروفها وشرائطها.

ص:241

ص:242

فهرس مصادر

مقال شرطیة الحرز فی حکم قطع ید السارق

1 - الاستبصار، الشیخ الطوسی، تحقیق: السید حسن الخرسان، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الرابعة 1363 ش، طهران - إیران.

2 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، فخر المحققین ابن العلّامة الحلی، تعلیق: السید حسین الکرمانی و الشیخ علی الإشتهاردی و الشیخ عبد الرحیم البروجردی، الطبعة الأولی 1387، قم - إیران.

3 - تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة العاشرة 1425 ه -، قم - إیران.

4 - تفسیر العیاشی، محمّد بن مسعود العیاشی، تحقیق: السید هاشم الرسولی المحلاتی، نشر: المکتبة الإسلامیة، طهران - إیران.

5 - تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، تحقیق و تعلیق: السید حسن الخرسان، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة 1364 ش، طهران - إیران.

ص:243

6 - جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، مراجعة و تصحیح: رضا جعفر مرتضی العاملی و محمّد علی حاتم، نشر: دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الأولی 1430 ه -، بیروت - لبنان.

7 - الخصال، الشیخ الصدوق، تحقیق: علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشرالإسلامی 1403 ه -، قم - إیران.

8 - ریاض المسائل، السید علی الطباطبائی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشرالإسلامی، الطبعة الأولی 1410 ه -، قم - إیران.

9 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، ابن ادریس الحلی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة 1410 ه -، قم - إیران.

10 - عوالی اللئالی، الشیخ محمّد الإحسائی، تحقیق: ألشیخ مجتبی العراقی، الطبعة الأولی 1403 ه -، قم - إیران.

11 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، نشر: منشورات الاجتهاد، الطبعة الرابعة 1429 ه -، قم - إیران.

12 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، صححه وعلّق علیه: علی أکبر الغفاری، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الخامسة 1363 ش، طهران - إیران.

13 - مبانی تکملة المنهاج ( ضمن موسوعة السید الخوئی)، أبو القاسم الخوئی، نشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثالثة 1428 ه -، قم - إیران.

ص:244

14 - المبسوط، الشیخ الطوسی، تصحیح و تعلیق: السید محمّد تقی الکشفی. نشر: المکتبة المرتضویة، سنة الطبع 1387 ه -، طهران - إیران.

15 - مختلف الشیعة، العلامة الحلّی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشرالإسلامی، الطبعة الأولی 1412 ه -، قم - إیران.

16 - مسالک الإفهام، زین الدین بن علی العاملی (الشهید الثانی)، تحقیق و نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -، قم - إیران.

17 - مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1408 ه -، قم - إیران.

18 - من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، تحقیق و تصحیح: علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة، قم - إیران.

19 - المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع، أحمد بن محمّد بن فهد الحلی، تحقیق: الشیخ مجتبی العراقی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1407 ه -، قم - إیران.

20 - النهایة، الشیخ الطوسی، نشر: انتشارات قدس محمّدی، قم - إیران.

21 - وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، قم - إیران، 1414 ه -.

ص:245

ص:246

حکم تعدد السارقین لمال واحد

اشارة

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

تضمّنت الشریعة الإسلامیة أحکاماً مختلفة، هدفها تهذیب الإنسان وتنظیم حیاته سواء کانت الفردیة أو الجماعیة، وامتدّت هذه الأحکام بصورة أفقیة لتشمل جمیع مناحی الحیاة، کما امتدّت بصورة عمودیة لتشمل جمیع الأزمان؛ إذ إنّ الشریعة لم تختص بوقت دون آخر، ولم تترک مسألة إلّا ووضعت لها حلولاً وأجوبة.

ومن الأحکام التی تعرّضت لها الشریعة الإسلامیة، والتی تتعلّق بالمجتمع والحفاظ علی أمنه واستقراره، هی تلک التی تعالج مسألة السرقة، فلم تترک المجتمع فریسة بید أصحاب النفوس الضعیفة، بل وضعت قوانین صارمة علی السارق، أهمّها قطع یده وفق ضوابط وشروط معیّنة، فلو تحققت هذه الشروط لکان حکم السارق هو القطع، ولو تخلّفت بعضها لتغیّر الحکم تبعاً للشرط المفقود، فقد یکون الحکم هو العفو أو التعزیر أو غیر ذلک ممّا هو مفصّل ومبسوط فی کتب الفقه، ولیس من غرضنا فی المقام أن نتناول أدلّة وشروط إقامة الحدّ بالنسبة للسارق المنفرد، بل نعتبر

ص:247

ذلک أصلاً مُسلّماً نبنی علیه بحثنا، وسیکون جلّ اهتمامنا بمسألة تعدّد السارق، فهل یکون الحکم هو الحکم أم هناک اختلاف وتفصیل؟

وقبل ولوج المسألة بتفاصیلها کان من اللازم بیان شروط إقامة الحدّ علی السارق المنفرد، من دون الدخول فی تفاصیل أدلّتها.

شروط الحدّ للسارق المنفرد:

ذکر الفقهاء عدّة شروط للسارق لا بدّ من توفّرها من أجل إقامة الحدّ علیه، وهی مجملاً:

1 - البلوغ.

2 - العقل.

3 - ارتفاع الشبهة، بأنْ لا یتوهّم أنّ المال الفلانی ملکه، فیتبیّن لغیره.

4 - أن لا یکون المال مشترکاً بینه وبین غیره، وکانت السرقة بمقدار حصّته أو أقل.

5 - أن یکون المال فی مکان محرز أو لم یکن مأذوناً فی دخوله.

6 - أن یکون المال المسروق بقدر النصاب، وهو ربع دینار علی المشهور، وقیل: خمس دینار، وهو الذی استظهره السیّد الخوئی(1).

ص:248


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 293:1.

7 - أن لا یکون السارق والداً لصاحب المتاع.

8 - أنْ یأخذ المال سرّاً.

9 - أنْ لا یکون السارق عبداً لصاحب المال.

وغیر ذلک من الشروط (1) ، ولهم فیها تفاصیل، لا نرید إطالة البحث بها، إذ غرضنا هو بیان الحکم عند التعدّد مع توفّر تلک الشرائط.

صور المسألة:

الصورة الأولی: فیما لو قام جماعة بهتک الحرز والسرقة معاً، فهناک حالات:

الحالة الأولی: أنّهما سرقا معاً شیئاً بلغ نصابین، وفی هذه الصورة لا خلاف فی وجوب القطع.

قال ابن زهرة الحلبی: «وإذا سرق اثنان فما زاد علیهما شیئاً، فبلغ نصیب کلّ واحد منهم المقدار الذی یجب فیه القطع، قطعوا جمیعاً بلا خلاف، سواء کانوا مشترکین فی السرقة، أو کان کلّ واحد منهم یسرق لنفسه، وإن لم یبلغ نصیب کلّ واحد منهم ذلک المقدار، ولم یکونوا مشترکین، فلا قطع علی واحد منهم بلا خلاف»(2).

ص:249


1- (1) انظر: شرائع الإسلام 952:4-953، تکملة منهاج الصالحین، الخوئی: 45--47.
2- (2) غنیة النزوع: 433.

وبه قال الشافعی ومالک، وخالف أبو حنیفة، ذکر ذلک الشیخ الطوسی، وقال: «إذا نقب ثلاثة، وأخرج کلّ واحد منهم شیئاً، قوّم، فإن بلغ قیمته نصاباً وجب قطعه، وإن نقص لم یقطع. وبه قال الشافعی ومالک. وقال أبو حنیفة: أجمعُ ما أَخرَجوهُ وأُقوّمَهُ، ثمّ أفض علی الجمیع، فإنْ أصاب کلّ واحد منهم نصاباً قطعته، وإنْ نقص لم أقطعه.

دلیلنا: أنّ ما ذکرناه مجمع علیه، وما قالوه لیس علیه دلیل، والأصل براءة الذمة»(1).

الحالة الثانیة: أنّهما سرقا ما لم یبلغ النصاب، ولا خلاف فی هذه الصورة بعدم القطع، کما ذکرناه عن الشیخ الطوسی وابن زهرة سابقاً؛ لأنّ المنفرد لا یقطع فالمتعدّد من باب أولی.

الحالة الثالثة: أنّ ما سرقاه معاً بلغ النصاب أو زاد عنه، ولم یبلغ مقدار کلّ واحد منهما نصاباً، فهنا وقع الکلام، وفی هذه الصورة حالتان:

الحالة الأولی: إذا أخرج کلّ واحد منهما منفرداً ما لا یبلغ النصاب، فهنا یترتب علی کلّ واحد منهما حکم المنفرد، فلا قطع إذن. وذکر صاحب الجواهر أنّه لا خلاف فیه(2).

ص:250


1- (1) الخلاف 422:5.
2- (2) انظر: جواهر الکلام 546:41.

الحالة الثانیة: إذا أخرجاه معاً بعد أن هتکا الحرز، وکان المال أکثر من نصاب، لکن عند قسمته علیهم لا یبلغ نصیب کلّ واحد منهم نصاباً، فهنا وقع الکلام فی قولین:

الأوّل: ماعن الشیخ فی النهایة والمفید والمرتضی وجمیع أتباع الشیخ وجوب القطع، بل عن الانتصار والغنیة الإجماع علیه(1).

قال السیّد المرتضی فی الانتصار: «وممّا انفردت به الإمامیة القول: بأنّه إذا اشترک نفسان أو جماعة فی سرقة ما یبلغ النصاب من حرز قطع جمیعهم، وخالف باقی الفقهاء فی ذلک. دلیلنا علی صحة ما ذهبنا إلیه: الإجماع المتردد، وأیضاً قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) ، والظاهر یقتضی أنّ القطع إنّما وجب بالسرقة المخصوصة، وکلّ واحد من الجماعة یستحق هذا الاسم، فیجب أنْ یستحق القطع»(2).

وقال ابن زهرة فی غنیته: «وإذا سرق اثنان فما زاد علیهما شیئاً، فبلغ نصیب کلّ واحد منهم المقدار الذی یجب فیه القطع، قطعوا جمیعاً بلا خلاف، سواء کانوا مشترکین فی السرقة، أو کان کلّ واحد منهم یسرق لنفسه، وإن لم یبلغ نصیب کلّ واحد منهم ذلک المقدار، ولم یکونوا مشترکین، فلا قطع علی واحد منهم بلا خلاف.

ص:251


1- (1) انظر: جواهر الکلام 546:41.
2- (2) الانتصار: 531.

وإن کانوا مشترکین فی ذلک، ففی إخراجه من الحرز قطعوا جمیعاً بربع ینار، بدلیل إجماع الطائفة، وأیضاً قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) ؛ لأنّ ظاهره یقتضی أنّ وجوب القطع إنّما کان بالسرقة المخصوصة، وإذا استحق کلّ واحد منهم هذا الاسم، وجب أن یستحق القطع.

ویُحتجُّ علی المخالف بما رووه من الخبر المقدّم؛ لأنّه علیه السلام أوجب القطع فی ربع دینار فصاعداً، ولم یفصّل بین الواحد وبین ما زاد علیه(1) ، ومن أصحابنا من اختار القول: بأنّه لا قطع علی واحد من الجماعة حتّی یبلغ نصیبه المقدار الذی یجب فیه القطع علی کلّ حال، والمذهب هو الأول.(2)

الثانی: ما عن الشیخ فی الخلاف والمبسوط، والإسکافی والحلّی وعامّة متأخری الأصحاب عدم القطع، وعن الخلاف علیه الإجماع(3).

قال فی المبسوط: «إذا اشترکوا فی إخراجه، مثل أن حملوه معاً فأخرجوه، نظرتُ: فإنْ بلغت حصّة کلّ واحد نصاباً قطعناهم، وإنْ کانت أقلّ من نصاب فلا قطع، سواء کانت السرقة من الأشیاء الثقیلة کالخشب والحدید أو الخفیفة کالحبل والتکة و الثوب.

ص:252


1- (1) یشیر بذلک إلی ما رووه عن عائشة عن النبی: القطع فی ربع دینار فصاعداً. وقد ذکره فی: 430.
2- (2) غنیة النزوع: 433.
3- (3) انظر: جواهر الکلام 546:41.

وقال بعضهم: إن کانت السرقة من الأشیاء الثقیلة فبلغت قیمته نصاباً قطعوا وإن کان نصیب کلّ واحد منهم أقل من نصاب، وإن کان من الأشیاء الخفیفة فعن هذا القائل روایتان: إحداهما: مثل قول من تقدّم، والثانیة: کقوله فی الثقیل.

وقال قوم من أصحابنا: إذا اشترک جماعة فی سرقة نصاب قطعوا کلّهم»(1).

وقال فی الخلاف: «والأوّل [أی: عدم القطع] أحوط. دلیلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأیضاً فما اعتبرناه مجمع علی وجوب القطع به، وما ذکروه لیس علیه دلیل، والأصل براءة الذمّة»(2).

أدلّة القولین:

أدلّة القول بالقطع:

استدلّ لهذا القول بأمور:

1 - مرسل الشیخ الطوسی، حیث قال:

«روی أصحابنا أنّه إذا بلغت السرقة نصاباً، وأخرجوها بأجمعهم، وجب علیهم القطع، ولم یفصّلوا».(3)

باعتبار أنّ ظاهر العبارة أنّ الأصحاب رووا ذلک عن أهل البیت علیهم السلام.

ص:253


1- (1) المبسوط 29:8.
2- (2) الخلاف 421:5.
3- (3) انظر: الخلاف 421:5.

2 - إطلاق نصوص سرقة النصاب، من قبیل قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) لصدقها علی المجموع، فیدور الأمر بین عدم القطع، و القطع، وقطع أحدهما دون البقیة. وعدم القطع یستلزم منه سقوط الحدّ مع تحقق موضوعه وهو غیر صحیح، وقطع أحدهما دون غیره مستلزم للترجیح بلا مرجح، فیتعیّن الثانی، وهو القطع لجمیعهم.(1)

قال ابن زهرة الحلبی تبعاً للسیّد المرتضی فی تقریر الاستدلال بالآیة: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) : «لأنّ ظاهره یقتضی أنّ وجوب القطع إنّما کان بالسرقة المخصوصة، وإذا استحقّ کلّ واحد منهم هذا الاسم، وجب أن یستحق القطع»(2).

وقد أوضح المحقق الحلی الاستدلال بطریقة أخری فقال: «إنّما وجب علیهما القطع؛ لأنّ إخراج النصاب حصل من کلّ واحد منهما، فلیس إضافة ذلک الفعل إلی أحدهما بأولی من إضافته إلی الآخر، ولا یتقدّر التجزئة بحیث یضاف إخراج بعض منه إلی أحدهما دون صاحبه. ومثله: اثنان یشترکان فی قتل واحد عمداً، فالقصاص علی کلّ واحد منهما؛ لأنّ کلّ واحد قاتل نفساً، أی: النفس التی قتلها الآخر، إذ القتل متحقّق، ونسبته إلی أحدهما دون الآخر محال علی هذا التقدیر، ونسبته لا إلیهما أیضاً محال،

ص:254


1- (1) انظر: جواهر الکلام 546:41.
2- (2) غنیة النزوع: 433، الانتصار: 531.

فیتعیّن نسبته إلیهما، وکذا القول فی إخراج النصاب»(1).

3 - صحیح محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام:

«قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی نفر نحروا بعیراً فأکلوه، فامتحنوا أیّهم نحر، فشهدوا علی أنفسهم أنّهم نحروه جمیعاً لم یخصوا أحداً دون أحد، فقضی علیه السلام أن تقطع أیمانهم»(2).

فالصحیح عامٌّ وشامل لصورة ما إذا کانت حصّة کلّ واحد نصاباً أو أقل.

4 - الإجماع، کما مرّ فی عبارة السیّد المرتضی وابن زهرة.

أدلّة القول بعدم القطع:

ویمکن أنْ یستدلّ لهذا القول بأمور:

1 - عدم تمامیّة الدلیل علی القطع، والأصل هو براءة الذمّة.

قال ابن إدریس فی السرائر: «والإجماع حاصل منعقد علی أنّه إذا بلغ نصیب کلّ واحد منهم مقدار ما یجب فیه القطع قطعوا، ولیس کذلک إذا نقص فإنّ فیه خلافاً، والأصل براءة الذمة، وترک إدخال الألم علی الحیوان»(3).

ص:255


1- (1) نکت النهایة، مطبوع ضمن (النهایة ونکتها) 331:3.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 63:4.
3- (3) السرائر 493:3.

وقال الطوسی: «فما اعتبرناه مجمع علی وجوب القطع به، وما ذکروه لیس علیه دلیل، والأصل براءة الذمّة»(1).

2 - الإجماع المدّعی علی عدم القطع.

3 - قاعدة درء الحدود بالشبهات، والموضوع فی المتعدّد غیر بیّن وواضح، فیسقط معه الحدّ.

4 - عدم تحقّق موضوع الحکم، وهو سرقة النصاب من قبل الفرد الواحد بحسب المتبادر من الروایات، ومع انتفاء الموضوع ینتفی الحکم.

التحقیق فی المسألة:

من الواضح أنّ العمدة فی المسألة هو تحقیق أدلّة القول الأوّل، فمع عدم تمامیتها یصار إلی القول الثانی؛ لاقتضاء الأصل له، بل إنّ مجرد التشکیک واحتمالیة اختصاص القطع بالسارق المنفرد یوجب عدم القطع؛ لأنّ الحدود تُدرأ بالشبهات، فنقول:

1 - أمّا المرسل، فلم نعثر علی مَن ذکره غیر الشیخ فی الخلاف، وقد أرسله ولم یبیّن سنده، فهو ضعیف لا یمکن الاعتماد علیه، علی أنّه من غیر الواضح من عبارته أنّ هناک روایة نقلها الأصحاب، بل لعلّ مراده فتواهم بوجوب القطع، خصوصاً أنّه ذیّل نقله عنهم بقوله: ولم یفصّلوا.

ص:256


1- (1) الخلاف 421:5.

وکیف ما کان فإنّها إنْ کانت روایة فهی مرسلة، ودعوی انجبارها بعمل الأصحاب ضعیفة أیضاً، حتّی لو قلنا بانجبار الضعیف بالعمل؛ إذ من غیر الواضح استنادهم إلیه فی خصوصه، مع وجود ما ذکرناه من أدلّة أخری ادّعی دلالتها علی المدّعی، وخصوصاً أنّهم لم یوردوه فی کلماتهم.

2 - أمّا صحیحة محمّد بن قیس، فلا شک أنّها واردة فی السارق المتعدّد، لکن یمکن القول بأنّها أجنبیّة عن محل البحث؛ ذلک أنّهم سرقوا بعیراً، فلا یبعد أن تبلغ حصّة کلّ واحد منهم النصاب، فیقطع لأجل سرقته للنصاب لا لکونهم معاً سرقوا نصاباً، وإن لم نجزم بذلک فلا أقّل من أنّه احتمال معتدٌ به، فلا یمکن معه الاستدلال بالروایة علی قطع الجمیع.

علی أنّه یمکن القول: إنّها قضیّة فی واقعة، ولم تبیّن تفصیلاتها، فلا یمکن التمسّک بها.

3 - أمّا دعوی الإجماع، فلا یبعد کونه إجماعاً مدرکیّاً ولیس تعبدیّاً؛ لوجود النصوص فی المسألة، ولا أقلّ من کونه محتمل المدرکیة، فلیس بحجّة فی المقام، علی أنّ دعوی الإجماع هذه معارضة بدعوی الإجماع علی العدم.

4 - وأمّا إطلاق النصوص، فقد یُقال: إنّه لا یمکن التمسّک به؛ لأنّها ظاهرة ومنصرفة إلی الفرد الواحد السارق، بل لعلّ ذلک هو المتعارف فی ذلک العصر، فشمولها للمتعدّد فی النصاب الواحد فیه تأمّل کبیر، بل منع.

ص:257

فالذی یدور علیه البحث هو: هل أنّ المأخوذ فی لسان الأدلّة هو إخراج النصاب من حرزه، بغض النظر عن تعدّد الفاعل وانفراده، أم أنّ المأخوذ فیها هو قیام الفرد بإخراج النصاب من حرزه.

فإنْ استظهر الأوّل کان القول هو الأوّل؛ لتحقق شرائط القطع حینئذٍ، وهی إخراج النصاب من الحرز، وهو حاصل، فیجب قطع الجمیع.

وإنْ استظهر الثانی، فلا قطع ما لم یبلغ نصیب کلّ واحد نصاباً، فیتعیّن القول الثانی.

وإنْ احتمل الثانی فقط دون الاستظهار، فالقول الثانی هو المتعیّن أیضاً؛ لدرء الحدود بالشبهات.

فلا بدّ من ملاحظة الأدلّة فی ذلک، ومنها:

1 - قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ) .(1)

فقد ادّعی ظهورها فی أنّ المعیار فی القطع هو صدق عنوان السارق علیه، والمشترک مع غیره یصدق علیه العنوان، فیقطع الجمیع.

لکن یمکن المناقشة فی ذلک بأنّ الآیة غیر متعرّضة لشرائط القطع، بل هی فی مقام بیان أصل الحکم فقط، وهو قطع ید السارق، فلم تتعرّض

ص:258


1- (1) سورة المائدة: 38.

للحرز، ولا إلی مقدار المال المسروق، ولا إلی تعیین المقدار المقطوع من الید، ولا غیر ذلک من الشرائط، فعنوان السارق لوحده غیر کاف فی القطع إلّا مع تحقق بقیّة الشرائط، وحیث إنّ الآیة غیر متعرّضة للشرائط، فلا یمکن التمسّک بإطلاقها من جهة عدم تحدید السارق بالواحد أو الأکثر، فهی لیست فی مقام البیان من هذه الجنبة.

ثمّ لو قلنا: إنّ الآیة مطلقة، فإنّها مطلقة من جهة بقیّة الشرائط، کتحدید الید، أو کون المال فی الحرز، أو مقدار النصاب، أو کون السارق لیس بابن المسروق ولا عبده، وما إلی ذلک من شروط، أمّا من جهة انفراد وتعدّد السارق فلعلّ ظهورها فی إرادة السارق الواحد أقوی من ظهورها فی إرادة عنوان السارق سواء کان المنفرد أو المتعدّد، أو لا أقلّ من الشک والتردّد فی شمولها للمتعدّد، والحدود تدرأ بالشبهات، فتأمّل.

2 - الروایات الواردة فی مسألة النصاب، ومنها:

صحیحة محمّد بن مسلم قال:

«قلت لأبی عبد الله علیه السلام: فی کم یقطع السارق؟ فقال: فی ربع دینار، قال: قلت له: فی درهمین؟ فقال: فی ربع دینار، بلغ الدینار ما بلغ، فقلت له: أرأیت من سرق أقل من ربع دینار هل یقع علیه حین سرق اسم السارق؟ وهل هو عند الله سارق فی تلک الحال؟ فقال: کلّ من سرق من مسلم شیئاً قد حواه وأحرزه فهو یقع علیه اسم السارق، وهو عند الله سارق، ولکن لا یقطع إلّا فی ربع دینار أو أکثر، ولو قطعت أیدی

ص:259

السّراق فیما هو أقلّ من ربع دینار لألفیت عامّة الناس مقطعین»(1).

فهذه الروایة تؤیّد ما ذکرناه من أنّ عنوان السارق لوحده غیر کاف فی القطع ما لم تتحقق بقیّة الشرائط، التی منها کون المال المسروق یبلغ نصاباً للفرد، کما هو ظاهر وبیّن من الروایة.

ومنها: معتبرة سماعة بن مهران عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قطع أمیر المؤمنین علیه السلام فی بیضة، قال: قلت: وما بیضة؟ فقال: بیضة قیمتها ربع دینار، قال: قلت: هو أدنی حدّ السارق؟ فسکت»(2).

فالروایة کسابقتها یظهر منها أنّ موضوع القطع، القطع علی السارق إذا بلغت سرقته النصاب.

وهکذا فإنّ الروایات الواردة فی مسألة السرقة، ظاهرة أو منصرفة إلی إرادة السارق المنفرد، ولا أقل من أنّ ذلک هو القدر المتیقن منها، وشموله لما عداه غیر بیّن، والحدود تدرأ بالشبهات، فلا یمکن المصیر إلی القول بالقطع.

وبالجملة فإنّ القاعدة المستفادة من الأدلة هی: أنّ السرقة الموجبة للقطع مأخوذ فیها سرقة النصاب بالنسبة لشخص واحد لا أکثر، وصدق عنوان السارق لوحده غیر کاف فی القطع ما لم یتحقق شرطه وهو بلوغ

ص:260


1- (1) الکافی 222:7، الاستبصار 238:4.
2- (2) تهذیب الأحکام 100:10، وسائل الشیعة 244:28.

حصّته النصاب، واشتراک جماعة فی إخراج ما قیمته النصاب یحقّق عنوان السارق علی کلّ منهما، إلّا أنّه لا یحقّق عنوان أنّ کلاًّ منهما سرق نصاباً، وإضافة النصاب إلی مجموعهما غیر کافیّة.

نعم، جاء فی دعائم الإسلام، عن علی علیه السلام، قال: «إذا اشترک النفر فی السرقة قطعوا جمیعاً»(1).

لکن الروایة مرسلة ضعیفة لا یمکن الاعتماد علیها، بل إنّ کتاب دعائم الإسلام برمّته غیر ثابت لمؤلّفه، فلا یمکن الاعتماد علی شیء فیه.

دلیل آخر:

قد یقال: إنّ عدم القطع فی السارق المتعدّد عند عدم بلوغ المسروق نصاباً لکلّ شخص إنّما هو مختص بالتعدّد الاتّفاقی، أمّا لو کان التعدّد من قبیل الشبکات الإرهابیة بحیث یخططون للسرقة ویقومون بها معاً، فهنا یمکن المصیر إلی وجوب قطعهم جمیعاً مع بلوغ مجموع المال نصاباً وإن لم یکن حصّة کلّ واحد منهم نصاباً، واستدلّ له بما یلی:

1 - إنّ عدم القطع یوجب انفتاح باب السرقة.

2 - إنّ ذلک یکون ذریعة إلی إسقاط الحدّ وارتکاب جرائم بشعة!(2)

ص:261


1- (1) دعائم الإسلام 476:2.
2- (2) الحدود، الأردبیلی 424:3، و 53:1--54.

والجواب: أنّ صورة المسألة فیما إذا أخرج اثنان أو أکثر ما قیمته نصاباً، ولم یبلغ حصّة کلّ واحد منهم نصاباً، ومنه یتّضح:

أوّلاً: أنّ ذلک لا یؤدّی إلی انفتاح باب السرقة للعصابات والشبکات الإرهابیة؛ إذ من النادر جدّاً أنْ تکون سرقاتهم بأقلّ من النصاب، والغالب أنّهم یقومون بسرقات کبیرة جدّاً، وإذا ما فکّروا أن تکون سرقتهم قلیلة کی ما یتخلّصوا من عقوبة القطع، فلعلّ ذلک یصبّ بمصلحة المالک لا بمصلحة السارق.

ثانیاً: أنّ الحدّ وإن کان عقوبة رادعة هدفه المحافظة علی أمن وأمان المجتمع، إلّا أنّ سقوطه لا ینفی العقوبة فهناک تعزیر قد یصل إلی السجن عدّة سنوات، وهناک ضمان للمال، فضلاً عن العقوبة الأخرویة التی هی أساس الردع عن ارتکاب المحرمات، فسقوط الحدّ لا یعنی القول بالحلیّة حتّی تتمکن الشبکات من القیام بأعمال سرقة خطیرة!

ثالثاً: کون ذلک ذریعة إلی إسقاط الحدّ لا یؤدّی إلی إثبات الحدّ؛ ذلک أنّ السارق المنفرد إذا سرق أقلّ من النصاب لم یکن علیه الحدّ، فلو کان السارق ذکیّاً، وأخذ یسرق مرّات متعدّدة ومن أماکن مختلفة، وفی کلّ مرّة یسرق أقلّ من النصاب، فهل نوجب علیه القطع فی أقلّ من النصاب حتّی لا یکون ذریعة إلی إسقاط الحدّ؟!

نتیجة البحث: اتّضح أنّ الأدلة علی القطع غیر تامّة، وحینئذٍ فإنّ القول بعدم القطع هو الأقوی، فإنّ موضوع القطع هو بلوغ المسروق لکلّ

ص:262

فرد حدّ النصاب، وهو منتفٍ فی المقام، فیثبت علیهم ما یثبت علی السارق المنفرد الذی لم یبلغ ما سرقه النصاب، ولا أقل من أنّ ظهور الروایات فی قطع المتعدّد غیر واضح، والحدود تدرأ بالشبهات، فلا قطع فی حال التعدّد إلّا فی حالة بلوغ حصّة کلّ واحد منهم نصاباً.

الصورة الثانیة: أحدهما هَتکَ الحرز والآخر قام بالسرقة: لو فرضنا أنّ شخصین قاما بالسرقة، فکانت وظیفة أحدهما هتک الحرز کما لو کسر الباب أو القفل، وأخذ الآخر الأموال، فهل یقام علیهما الحدّ أم لا؟

من خلال ملاحظة شروط القطع فإنّها تتضمّن أمرین مهمّین: أحدهما: هتک الحرز، والآخر: إخراج المال، أی: القیام بفعل السرقة، وفی المقام فإنّ الشرطین متحققان فی صورة الاشتراک، لکنّهما غیر متحققین فی صورة الانفراد، فالذی هتک الحرز، لم یخرج المال، فلا یصدق علیه عنوان السارق، والذی أخرج المال، أخرجه من غیر حرز، فلا یتحقق شرط القطع، فالظاهر أنّه لا قطع علیهما معاً.

لکن فی الحقیقة أنّ هذا الظهور لا یخلو من شائبة إشکال، ولعلّه یتمّ فی خصوص الهاتک للحرز؛ إذ إنّه لم یسرق فلا یثبت علیه سوی ضمان التخریب والتعزیر، أمّا الذی أخرج المال فقد قام بعملین:

أحدهما: إخراج المال وسرقته.

والثانی: دخول الدار بلا إذن من صاحبه، فنفس دخوله فی دار غیر

ص:263

مأذون له فیه، هو بمنزلة هتک الحرز أیضاً، فإنّ الدار مع کونها مبنیة ومعمّرة تعتبر بالنظر العرفی حرزاً، ولذا لو نام صاحب الدار وترک بابه مفتوحاً، وجاء سارق وأخذ المال، فلا یبعد ثبوت الحدّ علیه، لأنّ العرف یری أنّ السارق قام بأمرین، وهما: هتک الحرز المتحقق بدخول الدار بلا إذن، والآخر هو السرقة وإخراج المال.

بل فی الروایات الصحیحة ما یستظهر منه ذلک أیضاً، ففی صحیحة أبی بصیر قال:

«سألت أبا جعفر علیه السلام عن قوم اصطحبوا فی سفر رفقاء فسرق بعضهم متاع بعض، فقال: هذا خائن لا یقطع، ولکن یتبع بسرقته وخیانته، قیل له: فإن سرق من أبیه؟ فقال: لا یقطع؛ لأنّ ابن الرجل لا یحجب عن الدخول إلی منزل أبیه، هذا خائن، وکذلک إن أخذ من منزل أخیه أو أخته إن کان یدخل علیهم لا یحجبانه عن الدخول».

والشاهد فی الروایة أنّ السارق من أبیه أو أخیه لا یقطع؛ لأنّ الابن والأخ غیر محجوب عن الدخول، بل مأذون له فی ذلک، ومنه یظهر أنّ الذی یدخل بلا إذن فهو هاتک للحرز فیقطع.

وفی معتبرة السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«قال أمیر المؤمنین علیه السلام: کلّ مَدخَل یُدخَل فیه بغیر إذن صاحبه فسرق منه السارق فلا قطع فیه، یعنی الحمامات والخانات والأرحیة».(1)

ص:264


1- (1) انظر: تهذیب الأحکام 109:10، وسائل الشیعة 276:28.

والروایة هنا صریحة بمفهومها بأنّ المناط فی القطع هو الدخول بغیر إذن، وصریحة بمنطوقها بعدم القطع فی سرقة الأماکن العامّة التی لاتحتاج إلی إذن فی الدخول، فالروایات متوافقة مع النظر العرفی فی کون دخول البیوت بلا إذن یعدّ هتکاً للحرز.

وقال ابن زهرة:

«وروی أصحابنا: أنّ الحرز فی المکان هو الذی لا یجوز لغیر مالکه أو مالک التصرّف فیه دخوله إلّا بإذن، ویدلّ علی جمیع ذلک إجماع الطائفة».(1)

لکن لقائل أنْ یقول: إنّ هذا خروج عن فرض المسألة؛ إذ إنّ فرض المسألة هو إخراجه من غیر الحرز، فیکون النزاع فی المصداق.

والحقّ أنّه کذلک فالنزاع فی المصداق، فإنّه لو أخرج المال المنهتک لا یجب القطع لعدم تحقق الموضوع، لا فی الهاتک ولا فی السارق، ولذا لو فرضنا أنّ السارق بعد أنْ هتکوا له الحرز لم یدخل مکاناً غیر مأذون فیه، وتمکّن من إخراج الأموال، کما لو کان الشیء المحرز فی مکان عام، فهتکه شخص وسرقه آخر، فلا یبعد ثبوت الضمان والتعزیر علی کلیهما من دون القطع، والله العالم.

قد یقال: بأنّ المعتبر فی حدّ السرقة هو إخراج المال الذی أحرزه المالک، ولا یشترط أنْ یکون المخرج هاتکاً بنفسه، فیجب القطع حینئذٍ.

ص:265


1- (1) غنیة النزوع: 430.

فإنّه یقال: بأنّ الشرط هو إخراج المال مع کونه محرَزاً، من دون ملاحظة خصوصیة المحرِز، وفی الفرض أنّ الذی أخرج المال أخرجه وهو منهتک فلم یتحقق الشرط.

نعم، کلّ هذا فی غیر صورة الشبکات والعصابات المنظّمة التی یشترک أفرادها معاً بسرقة منظّمة، تُناط بکلّ فرد من أفرادها وظیفة معیّنة، فقد قیل بوجوب قطع الجمیع؛ لما تقدّم ذکره سابقاً من:

1 - أنّ عدم القطع یوجب انفتاح باب السرقة.

2 - أنّ ذلک یکون ذریعة إلی إسقاط الحدّ وارتکاب جرائم بشعة!(1)

لکن عرفنا سابقاً أنّه غیر تام؛ ذلک أنّ سقوط الحدّ لا یعنی سقوط العقوبة من التعزیر وردّ العین أو الضمان مع التلف، کما أنّ التحایل من أجل درء الحدّ لا یوجب ثبوت الحدّ، کما عرفنا ومثّلنا له بالسارق المنفرد الذی یسرق فی کلّ مرّة أقل من النصاب، فإنّه لا یقطع.

أمّا مسألة ارتکاب الجرائم البشعة، فلم یتّضح لنا وجهها، فإنْ کان المراد جرائم أخری غیر السرقة کالقتل مثلاً، فهذه جرائم أخری لها حکمها الخاص، وغیر متعلّقة بسقوط الحدّ عن السارق المتعدّد من عدمه، وإنْ کان المراد ارتکاب السرقات الکبیرة لأمنهم من عقوبة القطع، فهذا غیر تام أیضاً؛ لأنّ عدم الحدّ لا یعنی سقوط التعزیر والضمان، کما أنّ التعزیر

ص:266


1- (1) الحدود، الأردبیلی 53:1-54، و 424:3.

یتناسب مع نوع الجریمة وحجمها، فقد یصل إلی السجن عدّة سنوات أو غیر ذلک.

والغرض أنّ ما ذکر غیر کاف لوحده لأن یکون دلیلاً علی عدم سقوط الحدّ فی محلّ البحث.

ولکن مع ذلک فلا یبعد التعامل مع الشبکات معاملة السارق الواحد، لا لأجل أنّ التعدّد یعتبر ذریعة للتخلّص من القطع، ولا لأجل أنّ عدم القطع یؤدّی إلی انفتاح باب السرقة، بل لأنّ التعدّد فی هذه الصورة هو أخطر وأقوی حالة من المنفرد، فهذه الشبکة وإن کانت من أفراد متفرقة إلّا أنّها تعمل بمثابة العقل الواحد، وتنفّذ بطریقة واحدة، فهی أخطر بکثیر من السارق المنفرد، وإذا ما أدخلنا روح الشریعة والقرآن والروایات فی استنباط الحکم الشرعی، فمن الواضح أنّ الغرض والمقصد الأساس من قطع ید السارق هو حمایة أمن ونظام المجتمع، وتخویف وزجر أصحاب النفوس الضعیفة من القیام بفعل السرقة، وإلّا فسوف یتحوّل المجتمع إلی غابة، ویعیش الناس فی خوف واضطراب، ولا یسلمون علی أموالهم، وذلک یؤدّی إلی زعزعة نظام الناس، وتفشّی الجریمة بینهم، فإذا کان الحکم الذی یحقق هذا الغرض فی السارق المنفرد هو القطع، فبالمتعدّد إذا کانوا علی شکل شبکة یکون أولی وأوضح؛ لأنّهم یشکّلون خطورة غیر متناهیة علی المجتمع، ویسلبون الأمن والأمان من عیون الناس، کما أنّ إمکانیاتهم علی السرقة أقوی من إمکانیة الفرد، فلا یبعد حینئذ بعد تنقیح

ص:267

الغرض من قطع ید السارق أن تکون الأدلّة شاملة بروحها إلی هذه الصورة أیضاً.

لکن ینبغی الاقتصار فی هذه الصورة علی ما إذا کان المسروق یمثّل نصاباً لکلّ واحد منهم، وإلّا فللتوقف مجال کبیر؛ إذ عرفنا فیما سبق أنّ موضوع القطع هو الهتک وسرقة النصاب لکلّ فرد، ومع عدم تحقق الموضوع ینتفی الحکم.

ومن هنا لعلّه یتّضح حکم من یقوم بوضع الخطط والأفکار للسرقة، فإنّه إن کان ضمن شبکة وعصابة إجرامیة تقوم بالسرقة، فلا یبعد شموله بالقطع أیضاً، فیما إذا کانت أفکاره وخططه تتوقف علیها عملیة السرقة، أو کان لها الأثر الکبیر فی ذلک، من قبیل ما لو کان خبیراً فی فتح الأبواب وکسر أقفالها بطریقة لا یعرفها غیره، أو له خطط متینة وقویة فی إخراج الآلات الکبیرة والثقیلة من داخل البیت إلی خارجه، بحیث لو لا أفکاره لما تمکّنوا من فتح الباب والدخول، ولما تمکّنوا من إخراج المسروق من الدار، فلا یبعد أنّ العرف یراه أحد المنفّذین لعملیة السرقة، وقد عرفنا فیما تقدّم أنّ أفراد الشبکة یعاملون معاملة الفرد الواحد.

أمّا إذا کانت أفکاره غیر مؤثّرة فی تحقّق السرقة، فلا یبعد عدم شموله؛ لأنّ العرف لا یراه مشترکاً معهم حینئذ.

الصورة الثالثة: لو هتک الحرز جماعة، وأخرج المال بعضهم، فقد

ص:268

اتّضح ممّا سبق أنّ من اشترک فی الهتک والإخراج یتوجب علیه القطع، مع بلوغ المال حدّ النصاب لکلّ واحد من المخرجین؛ لتحقق شرط القطع، وهو الهتک وإخراج النصاب، وأمّا الذین اشترکوا فی الهتک فقط، فعلیهم نصیبهم من الضمان والتعزیر دون القطع؛ لعدم صدق اسم السارق علیهم. نعم، لو کانوا ضمن شبکة منظّمة فلا یبعد شمول جمیعهم بالقطع علی التفصیل المتقدّم.

الصورة الرابعة: فیما لو هتک الحرز اثنان أو جماعة، وقاموا بالسرقة، وبعضهم غیر متحققة فیه شرائط الحدّ، فهل یحدّ البقیة أم لا؟

اتّضح من الصور المتقدّمة، بأنّ المال إذا لم یبلغ نصاباً لکلّ فرد سقط الحدّ، أمّا لو بلغ المال نصاباً لکلّ واحد منهم فقد تحقّقت فی حقّه شروط السارق المنفرد فیحدّ لو تحققت باقی الشرائط، ویعامل الآخر بحسبه.

فلو کان الآخر غیر مکلّف مثلاً فیعفی فی الأولی أو الثانیة بحسب ما هو مفصّل من حکمه، وکذا لو کان أحد السّراق أب المسروق فیقطع الآخر، قال العلّامة: «ولو سرق الاثنان ما یبلغ قیمته نصف دینار قطعا، ولو کان أحدهما ممن لا قطع علیه کأبی المسروق منه، قطع الآخر»(1).

وبه قال مالک والشافعی، وذکروا أنّه إذا اشترک اثنان فی سرقة، وکان أحدهما ممن لا یجب علیه القطع کالصغیر غیر الممیز مع البالغ، أو

ص:269


1- (1) تحریر الأحکام 373:5.

المجنون مع العاقل البالغ، والأب مع الأجنبی، فیقطع البالغ وحده دون الصغیر والمجنون، وحجّتهما أنّ القطع امتنع عن الصغیر والمجنون لمعنیً یخصّه قائم فی نفسه فلا یتعدّاه لشریکه(1).

الصورة الخامسة: إذا کان للسارق حقٌّ فی المال فسرقه اقتصاصاً لحقّه، لکنّه ساعد غیره من السّراق، بحیث لو لا مساعدته لم یتمکّنوا من السرقة، فهل یجری علیه الحدّ أم لا؟

لا شکّ فی أنّ أخذ ماله اقتصاصاً لا یوجب الحدّ، کما لا شکّ فی وجوب الحدّ علی هؤلاء مع هتک الحرز وبلوغ قیمة کلّ واحد منهم النصاب.

أمّا صاحب الاقتصاص فهو مُعین ومساعد لهؤلاء بلا شک، لکن لا یلزمه القطع؛ لما تقدّم من أنّ الهاتک فی غیر الشبکات المنظّمة لا یجب علیه القطع، والقطع مختص بمن هتک وسرق، فلو کان الهاتک غیر السارق لم یُقطعا إجماعاً.

وفی الفرض فإنّ صاحب حقّ الاقتصاص أقصی ما قام به هو هتک الحرز أو مساعدتهم فیه، أمّا السرقة فهو قام بأخذ ماله، وهم قاموا بالسرقة.

نعم، لو فرضنا أنّهم أخرجوا مالاً واحداً له قیمة کبیرة بالسویة، کما لو حملوا ماکنة ذات ثمن عال وأخرجوها معاً، فهنا لا إشکال فی وجب القطع

ص:270


1- (1) التشریع الجنائی الإسلامی مقارناً بالقانون الوضعی، عبد القادر عودة 170:4.

علی الآخرین مع تحقّق النصاب لکلّ منهم، أمّا صاحب حقّ الاقتصاص، فإنْ کان بقیة المال بعد أخذ حقّه یبلغ نصاباً، فلا یبعد الحکم بقطعه أیضاً لسرقته نصاباً معهم، فهو قام بالهتک والسرقة.

وإنْ کان المال المتبقّی بعد أخذ حقّه لا یبلغ نصاباً، وکان نصیب رفقائه نصاباً لکلّ منهم، فالحکم بالقطع غیر متّضح، فلا ینبغی ترک الاحتیاط فی المسألة وعدم شموله بالقطع.

ص:271

ص:272

فهرس مصادر

مقال حکم تعدد السارقین لمال واحد

1 - القرآن الکریم.

2 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، الشیخ الطوسی، تحقیق وتعلیق: السید حسن الموسوی الخرسان، الطبعة الرابعة 1363 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

3 - الانتصار، السید المرتضی، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1415 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

4 - تحریر الأحکام، العلّامة الحلی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الطبعة الأولی 1420 ه -، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام.

5 - التشریع الجنائی الإسلامی مقارناً بالقانون الوضعی، عبد القادر عودة، الناشر: دار الکتب العلمیة.

6 - تکملة منهاج الصالحین، السید الخوئی، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -، المطبعة مهر - قم.

ص:273

7 - تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، تحقیق: السید حسن الموسوی الخرسان، الطبعة الثالثة 1364 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

8 - جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن الجواهری، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الطبعة الثانیة 1365 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

9 - الخلاف، الشیخ الطوسی، سنة الطبع 1407 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

10 - دعائم الإسلام، القاضی النعمان المغربی، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، سنة الطبع 1383 ه -، الناشر: دار المعارف - القاهرة.

11 - السرائر، ابن إدریس، الطبعة الثانیة 1410 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

12 - شرائع الإسلام، المحقق الحلی، مع تعلیقات: السید صادق الشیرازی، الطبعة الثانیة 1409 ه -، الناشر: انتشارات استقلال - طهران.

13 - غنیة النزوع، ابن زهرة الحلبی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الطبعة الأولی 1417 ه -، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام.

ص:274

14 - فقه الحدود والتعزیرات، السید عبد الکریم الأردبیلی، نشر: مؤسسة النشر لجامعة المفید، 1421 ه -.

15 - الکافی، الشیخ الکلینی، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الطبعة الخامسة، 1363 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

16 - مبانی تکملة منهاج الصالحین، السید الخوئی، الطبعة الثانیة 1396 ه -، المطبعة العلمیة - قم المقدسة.

17 - المبسوط، الشیخ الطوسی، تصحیح وتعلیق: السید محمد تقی الکشفی، سنة الطبع 1387، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة.

18 - من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الطبعة الثانیة 1404 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

19 - نکت النهایة، المحقق الحلی، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم، الناشر: مؤسسة تحقیقات ونشر معارف أهل بیت علیهم السلام.

20 - وسائل الشیعة، الحر العاملی، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الثانیة 1414 ه -، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث بقم المشرفة.

ص:275

ص:276

القسم الرابع: السجن والتعزیرات

اشارة

ص:277

ص:278

البحث فی السجن وأحکامه فی الشریعة

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

قبل البدء بالبحث نستعرض المعنی اللغوی کی یتبیّن معناه ویکون البحث تامّاً من جمیع أطرافه.

معنی السجن لغة:

قال الخلیل: (الحبس والمحبس: موضعان للمحبوس)(1).

وقال الجواهری: (السجن: الحبس. والسجن بالفتح: المصدر. وقد سجنه یسجنه، أی: حبسه)(2).

وقال ابن منظور: (السجن: الحبس. والسجن بالفتح: المصدر.

سجنه یسجنه سجناً، أی: حبسه. وفی بعض القراءة: قال ربّ السجن أحبّ إلیّ.

ص:279


1- (1) کتاب العین 150:3.
2- (2) الصحاح 2133:5.

والسجن: المحبس... فمن کسر السین فهو المحبس وهو اسم. ومن فتح السین فهو مصدر سجنه سجناً. وفی الحدیث: ما شیء أحق بطول السجن من لسان.

والسجّان: صاحب السجن.

ورجل سجین: مسجون، وکذلک الأُنثی بغیر هاء، والجمع سجناء وسجنی)(1).

فالسجن: هو المکان المخصص لحبس الإنسان، والقائم علیه یسمّی سجّان.

المعنی الاصطلاحی للسجن:

لم یصطلح الفقه بشکل عام علی معنی جدید للسجن غیر المعنی اللغوی، فالسجن فی الفقه استخدم بنفس المعنی اللغوی.

تشریع السجن فی الإسلام:

توجد لدینا روایات وأخبار کثیرة فی تشریع أصل السجن فی الإسلام علی نحو الإجمال، وإن وقع الاختلاف فی مواردها، إلاّ أنّه علی نحو إلاجمال ثابت لا غبار علیه.

ص:280


1- (1) لسان العرب 203:13.

نورد فی مقدّمة البحث کلمات الفقهاء فی مشروعیة السجن بشکل عام فی الفقه الإسلامی:

قال الشیخ الطوسی فی الخلاف فی بحث حکم المرأة المرتدّة: «المرأة إذا ارتدّت لا تقتل، بل تحبس وتجبر علی الإسلام حتّی ترجع أو تموت فی الحبس»(1).

وقال فی کتاب الحدود: «شرع فی صدر الإسلام إذا زنت الثیب أن تحبس حتّی تموت، والبکر أن تؤذی وتوبخ حتّی تتوب»(2).

وقال ابن البراج: «والمرتدّة عن الإسلام لا یجب علیها القتل بل تستتاب، فإن لم تتب تحبس أبداً، وتضرب فی أوقات الصلاة، ویضیق علیها فی المطعم والمشرب»(3).

وقال ابن زهرة: «ولا تقتل المرتدّة، بل تحبس حتّی تسلم أو تموت فی الحبس، بدلیل إجماع الطائفة..»(4).

وقال ابن إدریس: «ولا تقتل المرتدّة، بل تحبس وإن کانت قد ارتدّت عن فطرة الإسلام حتّی تسلم أو تموت»(5).

ص:281


1- (1) الخلاف 351:5.
2- (2) المبسوط 2:8
3- (3) المهذّب 552:2
4- (4) غنیة النزوع: 381
5- (5) السرائر 207:2

وقال فی حکم النساء فی المحاربة: «وحکم النساء فی أحکام المحاربة حکم الرجال فی أنّهنّ یقتلن، ویعمل بهنّ ما یعمل بالرجال؛ لعموم قوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ) ، بخلاف المرتدّة فإنّها لا تقتل بالردّة، بل تحبس أبداً، ویضیّق علیها فی المأکول والملبوس، وتضرب فی أوقات الصلاة، سواء کانت ارتدّت عن فطرة الإسلام أو عن إسلام تعقبه کفر»(1).

وقال المحقق الحلی: «والمرأة لا تقتل، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلاة حتّی تتوب ولو کانت عن فطرة»(2).

وقال فی الشرائع: «ولا تقتل المرأة بالردّة، بل تحبس أبداً وإن کانت مولودة عن فطرة، وتضرب أوقات الصلاة»(3).

وقال ابن سعید الحلی: «والمرتدّة تحبس أبداً حتّی تتوب فی الحالین، وتضرب أوقات الصلاة»(4).

وقال العلاّمة الحلی: «والمرأة المرتدّة لا تقتل وإن کانت عن فطرة، بل تحبس دائماً، وتضرب أوقات الصلاة..»(5).

ص:282


1- (1) السرائر 532:3
2- (2) المختصر النافع: 256.
3- (3) شرائع الإسلام 962:4.
4- (4) الجامع للشرائع: 240.
5- (5) إرشاد الأذهان 190:2، وتحریر الأحکام 57:5.

وقال فی القواعد: «لو قدمت مسلمة فجاء زوجها یطلبها فارتدّت لم ترد؛ لأنّها بحکم المسلمة، فیجب أن تتوب أو تحبس، ویرد علیه المهر للحیلولة»(1).

وقال الشهید الأوّل: «والمرتدّة لا تقتل بالارتداد، ولکن تحبس، وتضرب أوقات الصلوات حتّی تتوب أو تموت، وکذلک الخنثی»(2).

وقال ابن فهد الحلی: «والمرأة لا تقتل بالردّة وإن کانت عن فطرة، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلاة دائماً حتّی تتوب»(3).

وقال ابن طی: «والمرأة لا تقتل وإن کانت عن فطرة، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلوات»(4).

وقال الشهید الثانی: «من ترک من المکلّفین الصلاة مستحلّاً، أی: معتقد حلّ ترکها، وکان التارک ممن ولد علی الفطرة الإسلامیة قتل من غیر استتابة؛ لأنّه مرتد... ولو کان امرأة لم تقتل بترکها، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلاة حتّی تتوب أو تموت؛ لقول الباقر والصادق علیهم السلام:

المرأة إذا ارتدّت استتیبت، فإن تابت وإلاّ خلدت فی السجن»(5).

ص:283


1- (1) قواعد الأحکام 519:1.
2- (2) اللمعة الدمشقیة: 222.
3- (3) المهذّب البارع 345:4.
4- (4) الدرّ المنضود: 309.
5- (5) روضة الجنان: 354.

وقال القمّی فی جامع الخلاف: «ولا تقتل المرأة، بل تحبس حتّی تسلم أو تموت فی الحبس»(1).

موارد الحبس الواردة فی الشریعة الإسلامیة:

1 - المرأة المرتدّة عن الإسلام: حیث لاحظنا کلمات الفقهاء المتقدّم فی الاتّفاق علی حبسها وعدم قتلها، وسیأتی البحث عنها عند البحث فی الأخبار الواردة فیها.

2 - المختلس والطرار والنباش: حیث ورد أنّهم یحبسون، وسیجیئ بحث الأخبار فیهم.

3 - الحالق شعر المرأة: حیث ورد فی الأخبار أنّه یضرب ضرباً وجیعاً ویحبس.

4 - المؤلی إذا أبی أن یطلق أو یفیء: حیث ورد أنّه یحبس فی حظیرة.

5 - شارب الخمر فی شهر رمضان: حیث ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه حبس شارب الخمر لیلة.

6 - من أمسک شخصاً من أجل أن یقتله: حیث ورد أنّ الإمام الصادق علیه السلام حکم بحبس الماسک.

7 - القاتل عمداً إذا لم یقتص منه: حیث یحقّ للحاکم حبسه.

8 - شاهد الزور: ورد أنّه یحبس.

ص:284


1- (1) جامع الخلاف والوفاق: 500.

9 - أمین السوق إذا خان: حیث ورد حبسه.

10 - من یلقن المجرم بما یضر الآخرین من المسلمین.

11 - من قتل عبده المملوک.

12 - من سرق فی الثالثة، أی: سرق سرقة ثالثة.

هذه الموارد التی وردت الأخبار والروایات أنّ حکمها الشرعی - سواء سبقها حد أو تعزیر - الحبس.

أدلة شرعیة الحبس فی الفقه الإسلامی:

یمکن تقسیم أدلة مشروعیة الحبس فی الشریعة الإسلامیة إلی:

1 - الکتاب.

2 - السنّة.

3 - الإجماع.

وسنبحث هذه الأدلة تفصیلاً.

الدلیل الأوّل: الاستدلال بالکتاب الکریم علی شرعیة الحبس:

استدل لمشروعیة الحبس بقوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)1 ، فقد ورد فی تفسیر

ص:285

العیاشی عن أحمد بن الفضل الخاقانی من آل زرین قال فی خبر طویل: «قطع الطریق بجلولاء علی السابلة من الحجاج وغیرهم، وأفلت القطاع، فبلغ الخبر المعتصم، فکتب إلی العامل له کان بها: تأمر الطریق بذلک فیقطع علی طرف إذن أمیر المؤمنین، ثمّ ینفلت القطاع؟!...

فطلبهم العامل حتّی ظفر بهم، واستوثق منهم، ثمّ کتب بذلک إلی المعتصم، فجمع الفقهاء وابن أبی داود، ثمّ سأل الآخرین عن الحکم فیهم، وأبوجعفر محمّد بن علی الرضا علیه السلام حاضر.

فقالوا: قد سبق حکم الله فیهم فی قوله: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ...) .

ولأمیر المؤمنین أن یحکم بأیّ ذلک شاء فیهم.

فالتفت إلی أبی جعفر علیه السلام فقال: ما تقول فیما أجابوا فیه؟ فقال: قد تکلّم هؤلاء الفقهاء، والقاضی بما سمع أمیر المؤمنین، قال: أخبرنی بما عندک، قال: إنّهم قد أضلّوا فیما أفتوا به، والذی یجب فی ذلک أن ینظر أمیر المؤمنین فی هؤلاء الذین قطعوا الطریق، فإن کانوا أخافوا السبیل فقط ولم یقتلوا أحداً ولم یأخذوا مالاً أمر بإیداعهم الحبس».(1)

قال السیّد الکلبایکانی: «وحاصل ما یستفاد من هذه الروایات الکثیرة المعمول بها عند الأصحاب أنّ المحارب إذا حارب الله ورسوله، وأخاف

ص:286


1- (1) تفسیر العیاشی 314:1.

السبیل، وقطع علی الناس الطریق، وقتل وأخذ المال، تقطع یده الیمنی ورجله الیسری.. وإذا لم یقتل ولم یأخذ المال، بل شهر السلاح وأخاف السبیل فقط فحکمه أن ینفی من الأرض بأن ینفی من مصر إلی مصر آخر، أو یودع فی السجن ویکفی شرّه عن الناس»(1).

ولکن الروایة ضعیفة السند؛ لأنّ أحمد بن الفضل لم یرد فی حقّه ذکر فی التراجم، والتفصیل بالحبس ورد فی هذه الروایة فقط.

أضف إلی أنّ هنالک جملة من الروایات الصحیحة التی بیّنت حکم المحارب وفصّلته ولم تذکر الأمر بالحبس، بل ذکرت النفی والتغریب من البلد إن أخاف المارّة ولم یقتل أو یسلب أموالهم، ففی الکافی بسنده عن عبید الله بن إسحاق المدائنی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال: «سئل عن قول الله عزوّجل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا) الآیة، فما الذی إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟

فقال: إذا حارب الله ورسوله وسعی فی الأرض فساداً فقتل قتل به، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم یقتل قطعت یده ورجله من خلاف، وإن شهر السیف فحارب الله ورسوله وسعی فی الأرض فساداً ولم یقتل ولم یأخذ المال ینفی من الأرض، قلت: کیف ینفی وما حدّ نفیه؟

ص:287


1- (1) تقریرات الحدود والتعزیزات 24:2.

قال: ینفی من المصر الذی فعل فیه ما فعل إلی مصر غیره، ویکتب إلی أهل ذلک المصر أنّه منفی فلا تجالسوه ولا تبایعوه ولا تناکحوه ولا تؤاکلوه ولا تشاربوه، فیفعل ذلک به سنة..»(1).

وفی السند عبید الله بن إسحاق المدائنی، وهو مجهول لم یذکر بمدح ولا ذم.

وفی تفسیر القمی بسنده عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن جمیل بن دراج قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزّوجل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ...) ، فقلت: أیّ شیء علیهم من هذه الحدود التی سمّی الله عزّوجل؟ قال: ذلک إلی الإمام إن شاء قطع، وإن شاء صلب، وإن شاء نفی، وإن شاء قتل.

قلت: النفی إلی أین؟ قال: ینفی من مصر إلی مصر آخر، وقال: إنّ علیاً علیه السلام نفی رجلین من الکوفة إلی البصرة»(2).

والروایة صحیحة الإسناد، إلاّ أنّها بیّنت الأمور المتقدّمة علی نحو التخییر، فکأنّما أخمد التقسیم فی الکلام، فهی لا تنافی التقسیم الوارد فی جملة من الأخبار.

ص:288


1- (1) الکافی 247:7، باب حدّ المحارب.
2- (2) الکافی 475:7.

والروایات فی هذا المعنی کثیرة جدّاً، ولم یرد فیها حبس للمحارب إن لم یقتل ولم یسلب المال، وهذا بخلاف ما ورد فی کلمات فقهاء العامّة حیث فسّروها بالحبس أیضاً.

قال الشیخ الطوسی: «المحارب هو الذی یجرد السلاح.. فمتی فعل ذلک کان محارباً. ویجب علیه إن قتل ولم یأخذ المال أن یقتل علی کلّ حال، وإن قتل وأخذ المال وجب علیه أوّلاً أن یردّ المال، ثمّ یقطع بالسرقة، ثمّ یقتل بعد ذلک ویصلب. وإن أخذ المال ولم یقتل ولم یجرح قطع، ثمّ نفی من البلد.. وکذلک إن لم یجرح ولم یأخذ المال وجب علیه أن ینفی من البلد الذی فعل فیه ذلک..»(1).

وقال ابن الصلاح الحلبی: «وإن لم یقتلوا ولم یأخذوا مالاً أن ینفیهم من الأرض، بالحبس أو النفی من مصر إلی مصر..»(2).

وقال ابن البراج ذاکراً التقسیم: «وإن لم یجرح ولا أخذ مالاً کان علیه النفی کما قدمناه»(3).

وکذلک قال المحقق الحلی فی المختصر(4) ، والشرائع(5) ، وابن سعید

ص:289


1- (1) النهایة: 720.
2- (2) الکافی فی الفقه: 252.
3- (3) المهذّب 553:2.
4- (4) المختصر النافع: 226.
5- (5) شرائع الإسلام 961:4.

فی جامع الشرائع(1) ، والفاضل الآبی(2) ، و العلّامة الحلی فی التحریر(3) ، وابن العلّامة فی إیضاح الفوائد(4) ، والشهید فی الدروس(5) ، وابن فهد فی المهذّب البارع(6) ، والشیخ جعفر فی کشف الغطاء(7) ، والسیّد الطباطبائی فی ریاض المسائل(8) ، والسیّد الخوانساری فی جامع المدارک(9) ، والسیّد الخوئی فی مبانی تکملة المنهاج(10).

فإذن الآیة لا یمکن الاستدلال بها علی الحبس فی بعض أقسام المحارب، وهو الذی لم یجن ولم یسرق. نعم، الخلاف فی أنّ هذه الأمور الأربعة علی نحو الترتیب أو التخییر، إلّا أنّه لا یضر فی مورد البحث.

الآیة الثانیة التی استدلّ بها علی مشروعیة الحبس قوله تعالی: (وَ اللاّتِی یَأْتِینَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِکُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْکُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِکُوهُنَّ

ص:290


1- (1) الجامع للشرائع: 241.
2- (2) کشف الرموز 587:2.
3- (3) تحریر الأحکام 381:5.
4- (4) إیضاح الفوائد 543:4.
5- (5) الدروس 60:2.
6- (6) المهذّب البارع 124:5.
7- (7) کشف الغطاء 419:2.
8- (8) ریاض المسائل 28:13.
9- (9) جامع المدارک 167:7.
10- (10) مبانی تکملة المنهاج 319:1.

فِی الْبُیُوتِ حَتّی یَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ یَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِیلاً)1 .

إذ ذکرت الآیة أنّ التی تقم علیها بیّنة الفاحشة تحبس فی البیت إلی أن تموت أو یجعل الله سبحانه وتعالی إلیها سبیلاً.

وفی تفسیر العیاشی عن الصادق علیه السلام:

«قوله: (وَ الَّذانِ یَأْتِیانِها مِنْکُمْ)

؟ قال: یعنی البکر إذا أتت الفاحشة التی أتتها هذه الثیب، (فَآذُوهُما)

،قال: تحبس»(1).

وفی تفسیر النعمانی بسنده عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «کانت من شریعتهم فی الجاهلیة أنّ المرأة إذا زنت حبست فی بیت وأقیم بأودها حتّی یأتیها الموت..»(2).

قال الشیخ الطوسی: «فإذا ثبت أنّه فاحشة، فقد أمر الله تعالی بحبس من أتاها»(3) ، وقال فی المبسوط: «شرع فی صدر الإسلام إذا زنت الثیب أن تحبس حتّی تموت، والبکر أن تؤذی وتوبخ حتّی تتوب»(4).

وقال القطب الراوندی: «شرع الله تعالی فی بدو الإسلام إذا زنت الثیب أن تحبس حتّی تموت»(5).

ص:291


1- (2) تفسیر العیاشی 227:1.
2- (3) بحار الأنوار 6:90 المتضمّن لتفسیر النعمانی.
3- (4) الخلاف 386:5.
4- (5) المبسوط 2:8.
5- (6) فقه القرآن 367:2.

والآیة وقع خلاف فیها، هل هی منسوخة بآیة سورة النساء التی أثبتت الجلد للبکر والأحادیث التی أثبتت الرجم للثیب؟ إلّا أنّ الخلاف المتقدّم لا یضر فی مورد البحث؛ لأنّه علی کلا القولین فإنّ الشریعة أثبتت الحبس، سواء قلنا بالنسخ أم قلنا بأنّه حکم مؤقت. وهذا ما یغنینا فی مورد بحثنا.

لکن تبقی نقطة جدیرة بالملاحظة وهی: أنّ الآیة وإن أثبتت الحبس فی حقّ المرأة الزانیة إلّا أنّ هذا الحکم لم یستمر وارتفع وشرع بدله حکم آخر، فالآیة قاصرة فی الاستدلال علی مورد البحث.

والجواب: صحیح أنّ حکم الحبس فی البیوت غیر ثابت الآن، وأنّه ملغی فی الشریعة إلّا أنّه یثبت وجود تشریع للحبس فی الشریعة الإسلامیة، وهو کافٍ فی إثبات المطلوب.

الآیة الثالثة التی استدلّ بها علی مشروعیة الحبس قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا شَهادَةُ بَیْنِکُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ حِینَ الْوَصِیَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَیْرِکُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِی الْأَرْضِ فَأَصابَتْکُمْ مُصِیبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَیُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِی بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ کانَ ذا قُرْبی وَ لا نَکْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِینَ)1 .

قال الشیخ الطبرسی: «المعنی تحبسونهما من بعد صلاة العصر؛ لأنّ

ص:292

الناس کانوا یحلفون بالحجاز بعد صلاة العصر لاجتماع الناس وتکاثرهم فی ذلک الوقت»(1).

وقال السیّد الطباطبائی: «أی: توقفونهما، والحبس: الإیقاف..»(2).

وقال الراغب الأصفهانی: «والحبس: مصنع الماء الذی یحبسه..»(3).

وقال ابن العربی: «وفی ذلک دلیل علی حبس من وجب علیه الحق، وهو أصل من أصول الحکومة، وحکم من أحکام الدین، فإنّ الحقوق المتوجّهة علی قسمین: منها ما یصح استیفاؤه معجلاً، ومنها ما لا یمکن استیفاؤه إلّا مؤجلاً، فإن خلی من علیه الحقّ وغاب واختفی بطل الحقّ وتوی، فلم یکن بد من التوثیق منه، فإمّا بعوض عن الحق، ویکون بمالیة موجودة فیه، وهی المسمّی رهناً، وهو الأولی والأوکد، وأمّا شخص ینوب منابه فی المطالبة والذمة، وهو دون الأوّل؛ لأنّه یجوز أن یغیب کغیبته ویتعذّر وجوده کتعذّره، ولکن لا یمکن أکثر من هذا، فإن تعذّرا جمیعاً لم یبق إلّا التوثق بحبسه حتّی تقع منه التوفیة لما کان علیه من حق، فإن کان الحقّ بدنیاً لا یقبل البدل کالحدود والقصاص ولم یتفق استیفاؤه معجلاً لم یبق إلّا التوثق بسجنه، ولأجل هذه الحکمة شرع السجن»(4).

ص:293


1- (1) مجمع البیان 440:3.
2- (2) تفسیر المیزان 196:6.
3- (3) المفردات فی غریب القرآن: 106.
4- (4) أحکام القرآن 242:2، وعنه القرطبی فی التفسیر 352:6.

وعلی العموم فهذه الآیة تثبت مشروعیة السجن، وأنّه مما شرع فی الشریعة الإسلامیة ولو بنحو الإجمال، بحیث یختلف عنه فی زماننا؛ لأنّ اختلاف المصادیق باختلاف الأزمنة لا یقتضی انتفاء أصل المفهوم وثبوته فی عمومها.

الدلیل الثانی: الاستدلال بالسنّة علی شرعیة الحبس:

بعد أنّ عرفنا مشروعیة أصل السجن فی الشریعة الإسلامیة - بنحو الإجمال - من القرآن الکریم، ننتقل إلی السنّة المطهرة، وننظر فی الأخبار الواردة فیه، وقد ادّعی تواتر الأخبار علی شرعیة السجن فی الشریعة الإسلامیة.

1 - روی الشیخ الطوسی بسنده عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «جاء رجل إلی رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: إنّ أمی لا تدفع ید لامس، قال: فاحبسها، قال: قد فعلت، قال: فامنع من یدخل علیها، قال: قد فعلت، قال: فقیّدها، فإنّک لا تبرها بشیء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزّوجل»(1).

والسند صحیح، والروایة صرّحت بحبس المرأة عن الوقوع فی المعاصی.

ص:294


1- (1) من لا یحضره الفقیه 72:4، ح 512.

2 - روی الکلینی بسنده عن محمّد بن یحیی عن أحمد بن محمّد عن ابن فضال عن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أتی أمیر المؤمنین صلوات الله علیه برجل تکفل بنفس رجل فحبسه، فقال: اطلب صاحبک»(1).

وفی التهذیب بسنده عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبیه علیهم السلام:

«أنّ علیاً علیه السلام أتی برجل کفل برجل بعینه فأخذ بالمکفول، فقال: احبسوه حتّی یأتی بصاحبه»(2).

3 - روی الکلینی بسنده عن حریز عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«سألته عن رجل قتل رجلاً عمداً، فرفع إلی الوالی، فدفعه الوالی إلی أولیاء المقتول لیقتلوه، فوثب علیهم قوم فخلّصوا القاتل من أیدی الأولیاء؟ فقال: أری أن یحبس الذین خلّصوا القاتل من أیدی الأولیاء حتّی یأتوا بالقاتل، قیل: فإن مات القاتل وهم فی السجن؟ قال: فإن مات فعلیهم الدیة، یؤدّونها جمیعاً إلی أولیاء المقتول»(3).

4 - وفی الوسائل بسنده عن الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«قضی علی علیه السلام فی رجلین أمسک أحدهما وقتل الآخر، قال: یقتل القاتل، ویحبس

ص:295


1- (1) الکافی 105:5، ح 6، وفی من لا یحضره الفقیه 95:3 بسنده عن الأصبغ بن نباتة، وفی تهذیب الأحکام 209:6.
2- (2) تهذیب الأحکام 209:6 باب الکفالات والضمانات، وفی الوسائل 430:18 باب أنّ الکفیل یحبس حتّی یحضر المکفول أو ما علیه.
3- (3) الکافی 286:7، باب الرجل یخلّص من علیه القود.

الآخر حتّی یموت غماً کما حبسه حتّی مات غماً»(1)..

5 - وفی الکافی بسنده عن أبان بن عثمان عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«کان علی صلوات الله علیه لا یزید علی قطع الید والرجل ویقول: إنّی لأستحی من ربّی أن أدعه لیس له ما یستنجی به أو یتطهّر به.

قال: وسألته إن هو سرق بعد قطع الید والرجل؟ فقال: استودعه السجن أبداً وأغنی عن الناس شرّه»(2).

وبنحوها عدّة روایات نقلها الشیخ الکلینی فی الباب، وفیها الصحیح والموثّق.

6 - وفی الکافی بسنده عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام فی رجل أمر رجلاً بقتل رجل فقتله؟ فقال:

«یقتل به الذی قتله، ویحبس الآمر بقتله فی السجن حتّی یموت»(3).

وفی مضمونها جملة من الأخبار، والتی تصرّح بحبس الآمر بالقتل، والروایة صحیحة الإسناد.

7 - روی الشیخ بسنده عن أبان عن الفضیل بن یسار قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام:

عشرة قتلوا رجلاً فقال: «إن شاء أولیاؤه قتلوهم جمیعاً وغرموا

ص:296


1- (1) وسائل الشیعة 49:29، باب حکم من أمسک رجلاً فقتله آخر.
2- (2) الکافی 222:7، باب حدّ القطع وکیف هو.
3- (3) الکافی 285:7، باب الرجل یأمر رجلاً بقتل رجلٍ.

تسع دیات، وإن شاؤوا تخیّروا رجلاً فقتلوه وأدّت التسعة الباقون إلی أهل المقتول الأخیر عشر الدیة کلّ رجل منهم، قال: ثمّ إنّ الوالی یلی أدبهم وحبسهم»(1).

8 - وروی الشیخ الکلینی بسنده عن النوفلی عن السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام أتی برجل اختلس درّة من أذن جاریة، قال: هذه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه»(2).

9 - وفی الاستبصار بسنده عن حریز عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «لا یخلد فی السجن إلّا ثلاثة: الذی یمسک علی الموت، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع الید والرجل»(3).

10 - وأیضاً فی الاستبصار بسنده عن عباد بن صهیب عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«المرتد یستتاب فإن تاب وإلّا قتل، قال: والمرأة تستتاب فإن تابت وإلّا حبست فی السجن وأضر بها»(4).

11 - روی الشیخ بسنده عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«کان علی علیه السلام لا یحبس فی السجن إلّا ثلاثة: الغاصب، ومن أکل مال الیتیم ظلماً، ومن اؤتمن علی أمانة فذهب بها، وإن وجد له شیئاً باعه، غائباً کان أو

ص:297


1- (1) تهذیب الأحکام 217:10، ح 854.
2- (2) الکافی 226:7، باب ما یجب علی الطرار والمختلس من الحد.
3- (3) الاستبصار 255:4، باب حدّ المرتد والمرتدة.
4- (4) الاستبصار 255:4، باب حدّ المرتد والمرتدة.

شاهداً»(1). والروایة صحیحة السند.

12 - وروی الشیخ الکلینی بسنده عن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«کان أمیر المؤمنین علیه السلام یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه، ثمّ یأمر فیقسم ماله بینهم بالحصص، فإن أبی باعه فیقسم، یعنی: ماله»(2).

والروایة صحیحة السند، وورد فی بابها أخبار کثیرة فی مسألة المماطلة فی الدین أو خیانة الأمانة.

13 - وفی کتاب الجعفریات بسنده عن الإمام علی علیه السلام قال:

«یجبر الرجل علی النفقة علی امرأته، فإن لم یفعل حبس».(3)

14 - روی الشیخ فی التهذیب بسنده عن محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی ولیدة کانت نصرانیة فأسلمت وولدت لسیّدها، ثمّ إنّ سیّدها مات وأوصی بها عتاقة السریة علی عهد عمر، فنکحت نصرانیاً دیرانیاً، فتنصرت فولدت منه ولدین وحبلت بالثالث، قال: قضی أن یعرض علیها الإسلام، فعرض علیها فأبت، فقال: ما ولدت من ولد نصرانی فهم عبید لأخیهم الذی ولدت لسیّدها الأوّل، وأنا أحبسها حتّی تضع ولدها الذی فی بطنها..»(4). والروایة صحیحة السند

ص:298


1- (1) الاستبصار 47:3، باب من یجوز حبسه فی السجن.
2- (2) الکافی 102:5، باب النزول علی الغریم.
3- (3) مستدرک الوسائل 157:15.
4- (4) تهذیب الأحکام 143:10، باب حدّ المرتد والمرتدة.

15 - وروی الشیخ بسنده عن أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«أتت امرأة أمیرالمؤمنین علیه السلام فقالت: إنّی فجرت، فأعرض بوجهه عنها، فتحوّلت حتّی استقبلت وجهه، فقالت: إنّی فجرت، فأعرض بوجهه عنها، ثمّ استقبلته فقالت: إنّی قد فجرت، فأعرض بوجهه عنها، ثمّ استقبلته فقالت: إنّی قد فجرت، فأمر بها فحبست وکانت حاملاً، فتربّص بها حتّی وضعت، ثمّ أمر بها بعد ذلک فحفر لها حفیرة فی الرحبة..»(1).

16 - روی الشیخ بسنده عن النوفلی عن السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«کان قوم یشربون فیکسرون فیتباعجون(2) بسکاکین کانت معهم، فرفعوا إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فسجنهم، فمات منهم رجلان وبقی رجلان.

فقال أهل المقتولین: یا أمیر المؤمنین، أقدهما بصاحبینا..»(3).

17 - وروی الکلینی بسنده عن الحارث بن حضیرة قال: «مررت بحبشی وهو یستقی بالمدینة فإذا هو أقطع، فقلت له: من قطعک؟ قال: قطعنی خیر الناس، إنّا أخذنا فی سرقة ونحن ثمانیة نفر، فذهب بنا إلی علی بن أبی طالب علیه السلام فأقررنا بالسرقة، فقال لنا: تعرفون أنّها حرام؟ فقلنا: نعم، فأمر بنا فقطعت أصابعنا من الراحة وخلیت الإبهام، ثمّ أمر بنا فحبسنا فی

ص:299


1- (1) من لا یحضره الفقیه 30:4، ج 5016.
2- (2) بعج فلان بطن فلان بالسکین، أی: شقه وخضخضه فیه، کتاب العین 237:1.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 118:4، باب فضل دیة الرجل علی دیة المرأة.

بیت یطعمنا فیه السمن والعسل حتّی برئت أیدینا..»(1).

18 - وروی الکلینی بسنده عن حماد عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«لا یخلد فی السجن إلّا ثلاثة: الذی یُمثّل، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع الید والرجل»(2).

19 - روی الشیخ الصدوق بسنده عن عامر بن السمط عن الإمام علی بن الحسین علیه السلام:

«فی الرجل یقع علی أخته، قال: یضرب ضربة بالسیف بلغت منه ما بلغت، فإن عاش خلد فی الحبس حتّی یموت»(3).

20 - وروی الصدوق بسنده عن أحمد بن أبی عبد الله البرقی عن علی علیه السلام أنّه قال:

«یجب علی الإمام أن یحبس الفسّاق من العلماء، والجهّال من الأطباء، والمفالیس من الأکریاء»(4).

فهذه جملة من الأخبار الصحیحة الواردة فی شرعیة الحبس فی جملة من الموارد، والتی قدّمنا ذکر بعضها أثناء نقل الروایات، وهی متواترة وثابتة ومبیّنة بأنّ الحبس والسجن مما أقرّته وحکمت به الشریعة الإسلامیة فی باب الحدود، سواء حکم بالحبس ابتداء کما فی المرأة المرتدّة - عن فطرة أوملّة -، وکالذین یتضاربون بالسکاکین والأسلحة القاتلة بعد شربهم

ص:300


1- (1) الکافی 264:7، باب النوادر.
2- (2) الکافی 270:7، باب النوادر.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 29:3، باب الحبس بتوجّه الأحکام.
4- (4) من لا یحضره الفقیه 31:3، باب الحبس بتوجّه الأحکام.

الخمر، أوحکمت به بعد إقامة الحدّ کمن زنی بأخته فحکمه القتل إلّا أنّه مع عدم موته أثناء إقامة الحدّ فینتقل حکمه إلی الحبس والخلود فیه.

الدلیل الثالث: الاستدلال بالإجماع علی شرعیة الحبس:

قام الإجماع عندنا علی أنّ بعض الحدود حکمها الحبس دون غیره، ومن تلک الموارد:

المورد الأوّل: المرأة المرتدّة حیث قام الإجماع علی أنّها لا تقتل بالردّة، بل تحبس إلی أن تتوب أو ترجع عن ردّتها.

قال السیّد عبد الله الجزائری: «وأنّ المرتدّ قسم واحد لا یقتل إلّا بعد الاستتابة والإصرار، وله إطلاق کثیر من الروایات المقیدة فی المشهور بالملّی. هذا کلّه فی الرجل المرتد.

وأمّا المرأة المرتدّة فلا قتل علیها قولاً واحداً، بل تستتاب فإن تابت عفی عنها، وإن أبت إلّا الإصرار خلدت فی الحبس..»(1).

وقال فی الجواهر: « (ولا تقتل المرأة بالردّة) إجماعاً بقسمیه ونصوصاً «بل تحبس دائماً وإن کانت مولودة علی فطرة، وتضرب أوقات الصلاة»(2).

وقال ابن زهرة: «ولا تقتل المرتدّة، بل تحبس حتّی تسلم أو تموت

ص:301


1- (1) تحفة السنیة: 34.
2- (2) جواهر الکلام 611:41.

فی الحبس، بدلیل إجماع الطائفة..»(1).

فهذه الموارد مما اتفق علیه العلماء تبعاً للنصوص الروائیة، ولم نر خلافاً بینهم فی ذلک.

المورد الثانی: حبس المؤلی زوجته والممتنع عن الفیء أو الطلاق: فالمرأة المؤلی علیها إذا رفعت أمرها للحاکم الشرعی، فحکمها الإمهال أربعة أشهر وبعدها یجبر علی الرجوع أو الطلاق وإلّا حبس.

قال فی تتمة الحدائق: «ولو امتنع من الأمرین حبس وضیّق علیه فی المطعم والمشرب علی وجه لا یمکنه الإقامة علیه والصبر عادة حتّی یفیء أو یطلق.. فإن أبی بعد ذلک إذا کان الأمر علیه إمام المسلمین وامتنع ضربت عنقه أو أضرم علیه النار فی الحضیرة التی حبس فیها. وهذا الحکم مجمع علیه فی الجملة، والأخبار به مستفیضة..»(2).

وقال فی الریاض: «.. (فإن امتنع) عن الأمرین (حبسه) الحاکم (وضیّق علیه فی المطعم والمشرب حتّی یکفّر ویفیء أو یطلق) بلا خلاف فیه إلّا الکفارة لوقوع الخلاف فیها.. ومستندهم هنا الأخبار»(3).

وقال فی الجواهر: «.. (وإن امتنع عن الأمرین) بعد مرافعة الحاکم

ص:302


1- (1) غنیة النزوع: 381.
2- (2) تتمة الحدائق الناضرة 79:1.
3- (3) ریاض المسائل 223:11.

(حبس وضیّق علیه حتّی یفیء أو یطلق) بلا خلاف أجده فیه»(1).

المورد الثالث: حبس الغریم إذا التوی علی غرمائه وامتنع فی دفع الدین لهم، فقد ادّعی الإجماع علی أنّ الحاکم له حقّ حبس الملتوی.

قال المحقق السبزواری: «إذا حلّ الأجل وتعذّر الأداء، وکان المرتهن وکیلاً فی البیع واستیفاء حقّه کان له ذلک.. وإلّا رفع أمره إلی الحاکم فیلزمه الحاکم بالبیع أو یبیع علیه؛ لأنّه ولی الممتنع، کما یفعل ذلک فی سائر الحقوق، کما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام ورواه جماعة عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «کان أمیر المؤمنین علیه السلام یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه.. والظاهر عدم الخلاف فی جواز ذلک للحاکم»(2).

وقال فی الریاض: «.. (ولو التمس) من الحاکم (حبسه حبس) بلا خلاف..»(3).

المورد الرابع: حبس السارق فی الثالثة إلی حین الممات، وهو مما أجمع علیه فقهاء الإمامیة.

قال الشیخ الطوسی: «إذا سرق السارق بعد قطع الید الیمنی والرجل الیسری فی الثالثة خلد فی الحبس، ولا قطع علیه.. دلیلنا: إجماع الفرقة

ص:303


1- (1) جواهر الکلام 315:33.
2- (2) کفایة الأحکام 565:1.
3- (3) ریاض المسائل 86:13.

وأخبارهم»(1).

وقال فی الجواهر تحت شرح عبارة الشرائع: «فإن سرق ثالثة حبس دائماً» قال: «حتّی یموت أو یتوب، وأنفق علیه من بیت المال إن لم یکن له مال، ولا یقطع شیء منه بلا خلاف أجده فی شیء من ذلک نصاً وفتوی، بل یمکن دعوی القطع به من النصوص»(2).

المورد الخامس: من أمسک رجلاً وقتله آخر، یقتل القاتل ویحبس الممسک، وقد صرّحوا بأنّ هذا الحکم مجمع علیه.

قال الشیخ الطوسی: «روی أصحابنا أنّ من أمسک إنساناً حتّی جاء آخر فقتله أنّ علی القاتل القود، وعلی الممسک أن یحبس أبداً حتّی یموت.. دلیلنا: إجماع الطائفة وأخبارهم؛ لأنّهم ما رووا خلافاً لما بیّناه»(3).

وقال فی کشف اللثام: «ولو أمسک واحد وقتل آخر ونظر ثالث، قتل القاتل وخلد الممسک السجن أبداً؛ للإجماع»(4).

وقال فی الجواهر: «.. (ولو أمسک واحد وقتل الآخر، فالقود علی القاتل)؛ لأنّه مباشر (دون الممسک، لکن الممسک یحبس أبداً) بلا خلاف

ص:304


1- (1) الخلاف 436:5.
2- (2) جواهر الکلام 533:41.
3- (3) الخلاف 174:5.
4- (4) کشف اللثام 40:11.

أجده فی شیء من ذلک، بل عن الخلاف والغنیة الإجماع علیه، للمعتبرة والمستفیضة»(1).

المورد السادس: من أمر رجلاً بقتل رجل آخر، فقد حکی الإجماع علی أنّ المباشر یقتل والآمر یحبس.

قال الشهید الثانی: «.. (ولکن یحبس الآمر) دائماً (حتّی یموت) ویدلّ علیه مع الإجماع صحیحة زرارة عن الباقر علیه السلام..»(2).

وقال السیّد الطباطبائی: «ویحبس الآمر أبداً حتّی یموت فی المشهور، بل علیه الإجماع فی الروضة وغیرها..»(3).

وقال الشیخ المجلسی: «الحدیث.. صحیح، والحکمان مقطوع بهما فی کلام الأصحاب»(4).

المورد السابع: حبس الجانی فیما إذا کان ولی المجنی علیه صغیراً أو غائباً أو مجنوناً، فلا یقتص من القاتل حتّی یبلغ ولی الدم، حیث أفتی غالبیة الفقهاء بحبس الجانی إلی حین تحقق شروط الاقتصاص.

قال العلّامة الحلی: «وینبغی حبس الجانی إلی وقت بلوغه، ولو بلغ

ص:305


1- (1) جواهر الکلام 46:42.
2- (2) الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة 27:10.
3- (3) ریاض المسائل 41:14.
4- (4) مرآة العقول 35:24.

فاسد العقل تولّی الإمام استیفاء حقّه إجماعاً»(1).

المورد الثامن: حبس القاتل إذا هرب بعد أخذ الدیة منه، حیث قال العلّامة المجلسی: «وعمل بهما أکثر الأصحاب»(2).

المورد التاسع: حبس الکفیل إذا امتنع المکفول عن الحضور، وقد نصّ الفقهاء علی هذا الحکم، ولم یخالف فیه أحد، فقد نقل صاحب الحدائق أنّ الفقهاء أفتوا بمضمون الأخبار الصحیحة الواردة فی حبس الکفیل عند عدم حضور المکفول(3) ، وکذلک السیّد فی الریاض(4) ، ونقل فتوی جملة من الفقهاء فی الجواهر(5) ، وإن وقع الاختلاف فی التفاصیل إلّا أنّ أصل الحکم وهو ثبوت الحبس علی الکفیل متّفق علیه.

هذه جملة من الموارد التی صرّح الفقهاء بالإجماع فیها علی ثبوت حکم الحبس، وأنّه أحد الحدود الثابتة فی الشریعة الإسلامیة، مما یفهم منه أنّ حکم الحبس بنحو الإجمال ثابت فی جملة من الأحکام الشرعیة بنحو العقوبة الجزائیة علی ارتکاب المخالفة، کما فی المرأة المرتدّة أو المتباعجون بالحراب والأسلحة أو الحالق لشعر امرأة أو أمر شخصاً بقتل

ص:306


1- (1) تحریر الأحکام 453:4.
2- (2) روضة المتقین 416:10.
3- (3) الحدائق الناضرة 64:21.
4- (4) ریاض المسائل 600:8.
5- (5) جواهر الکلام 190:26.

شخص آخر حیث یحکم بحبس الآمر، أو کان تفویتاً لحقّ کمن أطلق قاتلاً وفوّت حقّ القصاص علی أولیاء الدم أو الکفیل إذا امتنع المکفول عن الحضور أو امتنع عن أداء الکفالة أو الملتوی ونحوها.

ومن خلال ما تقدّم نستخلص أنّ الحبس ثابت فی الشریعة الإسلامیة، وبالأدلة الثابتة من الآیات القرآنیة التی تقدّم ذکرها، وهی تثبت الحکم ولو بنحو الإجمال، وفی الأخبار المتواترة والبالغة من الکثرة حدّاً لا یستهان بها، سواء المعللة منها کما ذکر البعض، کقول الإمام علیه السلام فی جواب من سأله عن أمّه التی لا تدفع ید لامس، إذ أجاب بقوله: «فقیّدها فإنّک لا تبرها بشیء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزّوجل»(1) ، وبعض الأخبار ورد فی أحکام خاصّة لم یذکر فیها تعلیل، کأخبار الملتوی علی الغرماء والسارق فی الثالثة.

وکذلک قیام الإجماع علی ثبوت الحبس فی جملة من المسائل، والتی نقلنا جملة منها فی الصفحات السابقة.

فإذن مسألة الحبس بشکلها الإجمالی من مقررات وأحکام الشریعة الإسلامیة، بل هی من الأحکام التی قارن تشریعها بدایات الدین الإسلامی، کما فی حبس الأسری، حیث شرعت لهم أحکام معیّنة، وتعامل معهم النبی صلی الله علیه و آله علی ضوء التعالیم القرآنیة والأحکام التی سنّها وبیّنها صلوات الله وسلامه علیه.

ص:307


1- (1) من لا یحضره الفقیه 72:4.

حقوق السجین فی الإسلام:

وفی هذا البحث سنتعرّض إلی الحقوق والأحکام، أی: ما هی حقوق السجین التی یفترض بالحاکم توفیرها له، ویدخل فیه مکان الحبس وکیفیته، وکیفیة التعامل مع السجین.

والبحث الثانی فی الأحکام المفروضة والمجعولة فی الشریعة الإسلامیة للسجین.

والبحث یقع فی مطلبین:

المطلب الأوّل: مکان السجین:

عند الرجوع إلی الأحکام الشرعیة والروایات الواردة فی ذلک، نلاحظ أنّ الإسلام حینما شرع السجن وحکم به فی بعض الموارد کعقوبة معیّنة، فإنّ الهدف من ذلک هو ردع المسجون عن ظلمه للآخرین، وعدم الإخلال بالنظام الاجتماعی والحفاظ علی استقراره وإیجاد الأمن والأمان فیه، لذا فالسجن فی حقیقة الأمر مکان تربیة وتعلیم للمسجون، وتأهیل لرجوعه داخل المجتمع وهو معافی من العوائق النفسیة والجنون المفرط الذی یؤدّی إلی الإضرار بغیره وبنفسه، فالسجن مکان التربیة والتأهل حتّی یرجع الفرد إلی داخل بیئته وهو مؤهل للعیش کفرد من أفرادها، وهذا لا یتحقق من دون تهیئة الظروف الملائمة التی تساعد فی بناء شخصیة السجین واستقراره النفسی، لذا نلاحظ أنّ الإسلام أکّد علی تهیئة المکان الملائم والمناسب الذی یوفّر المستلزمات الضروریة والناجحة فی تحقیق الغایة التی بنی علی

ص:308

ضوئها السجن، قال فی أحکام السجون: «أن یکون بناء السجن مریحاً وواقیاً من الحر والبرد مما یتوفر معه راحة السجین، ومن هنا تری النبی صلی الله علیه و آله یحبس فی الدور الاعتیادیة التی یسکنها سائر الناس ویتوفر فیها النور والشعاع والسعة، فقد حبس الأسری المقاتلین الذین حکمهم القتل فی دور اعتیادیة، إذ فرّقهم فی بیوت الصحابة، وأحیاناً کان یحبسهم فی دار واحدة کما حبسهم فی دار امرأة من بنی النجار من الأنصار»(1).

وحکمت الشریعة بالضمان فیما لو فرّط السجّان فی مکان السجین أو مأکه أو ملبسه، فلو مات أو مرض أو تضرر بسبب ذلک فالسجّان ضامن فیما إذا قصّر فی حقّه، قال الشیخ الطوسی: «إذا أخذ صغیراً فحبسه ظلماً فوقع علیه حائط أو قتله سبع أو لسعته حیّة أو عقرب فمات کان علیه الضمان، وبه قال أبو حنیفة، وقال الشافعی: لا ضمان علیه. دلیلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأیضاً طریقة الاحتیاط تقتضیه، وأمّا إذا مات حتف أنفه فلا ضمان علیه بلا خلاف»(2).

وهذا النصّ یوضّح لزوم کون مکان الحبس مؤمّناً من السقوط غیر الصالح للاستقرار، وأن لا تقتربه الوحوش المفترسة أو الحیّات والهوام المضرّة بالمسجون.

وصرّح بذلک أیضاً فی المبسوط قال: «إذا أخذ حرّاً فحبسه.. ومات

ص:309


1- (1) أحکام السجون: 117.
2- (2) الخلاف 161:5، جامع الخلاف والوفاق: 559.

بسببٍ، مثل أن لدغته حیّة أو عقرب أو قتله سبع أو وقع علیه حائط أو سقف فعلیه الضمان، وهذا الذی یقتضیه مذهبنا وأخبارنا»(1).

وقد وردت بذلک جملة من الأخبار، ففی الدعائم عن الإمام علی علیه السلام قال:

«ولا تحل بینه وبین من یأتیه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش..»(2).

أضف إلی ذلک فإنّ القواعد الشرعیة الحاکمة فی الدین تقتضی اشتراک المحبوس فی الحقوق مع غیره بدون استثناء إلّا التضییق فی المحبس والمنع من ممارسة حریته، وهذا الأمر خرج بالدلیل والنصوص الثابتة فیبقی الباقی تحت عموم القاعدة من وجوب توفیر المکان الملائم والمریح، وتوفیر الملبس الشتوی والصیفی، وتوفیر الطعام والشراب الملائم بحاله، وعدم تعریض حیاته للخطر، وتوفیر الرعایة الصحیة الملائمة فیما إذا عرض علیه المرض أو احتمل إصابته به.

المطلب الثانی: فی حقوق المحبوس:

السجین باعتباره إنسان وفرد من المجتمع فله حقوق یتمتع بها وإن کان فی الحبس، حیث بیّنا أنّ الحبس لیس لأجل التشفّی أو عزل الفرد وإخراجه من دائرته التی یعیش فیها أو نفیه، وإنّما هو مکان تأهیل وبناء لشخصیته وعلاجها مما أصابها من الأمراض الموبئة التی أخرجتها عن حدّ

ص:310


1- (1) المبسوط 18:7، کشف اللثام 13:11.
2- (2) دعائم الإسلام 532:2.

التوازن إلی خطر یهدد ذاته وکیانه الأسری والاجتماعی، وبما أنّه مکان تأهیل وبناء لذا فإنّ الشریعة الإسلامیة فرضت جملة من الحقوق، من جهة کونه إنساناً یتمتع بحقّه منها، ومن جهة المساعدة علی البناء والتخلّص من الأمراض والأوبئة التی أصابته، وهنالک جملة من الحقوق سنوردها تبعاً لما ورد فی الأخبار والروایات.

1 - حقّ السجین فی المطعم والمشرب: ففی خبر الدعائم عن الإمام علی علیه السلام قال:

«ولا تحل بینه وبین من یأتیه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش»(1). وهذا الأمر من المسلّمات فی الشریعة الإسلامیة، وقد قدّمنا ما ذکره الفقهاء حول ذلک، وأنّ الحابس إذا ما قصّر فی المأکل والمشرب ومکان الحبس یکون علیه الضمان.

2 - حقّه فی ملاقاة الآخرین: وهو ما ورد فی الخبر المتقدّم عن الدعائم فی رسالة الإمام علی علیه السلام حیث بیّن أنّه لا یحال بین السجین وبین ملاقاة الآخرین، ثمّ قال بعضهم: «أمّا القسمان الأوّلان، أعنی: ما یقع بداعی العقوبة حدّاً أو تعزیراً فیجوز بل یجب أن یضاف إلیه بعض العقوبات الأخر من القید والغل والضرب قبل الحبس أو فی الحبس، والتضییق فی المأکل والمشرب، وزیارة الأهل والعیال والأخوان وسائر الإمکانات إذا رأی الحاکم العادل البصیر به وبنفسیاته هذه الأمور فی تنبّهه وفی إصلاحه وتهذیبه»(2).

ص:311


1- (1) دعائم الإسلام 532:2.
2- (2) دراسات فی ولایة الفقیه 446:2.

إلّا أنّ هذا الأمر فیه نظر بل منع، حیث فی الأعم الأغلب یؤدّی إلی سوء تصرّف السجّان مع السجین بحجّة ردعه أو إصلاحه، مما یؤدّی إلی الإیقاع والإتیان بخلاف الغایة المقصودة.

أضف إلی أنّ ذلک یحتاج إلی دلیل ناص علیه، ونحن خرجنا بدلیل مخصص فی جواز الحبس، وأمّا بقیة الأمور فهی باقیة علی المنع.

ومسألة الردع والإصلاح وإن کانت ملاحظة فی طیّات الأخبار الواردة فی موارد الحبس إلّا أنّها تشیر وبوضوح إلی استخدام الأسالیب الإیجابیة للإصلاح دون السلبیة، کتعلیمهم وإخراجهم للترویح عن النفس، وزیارة الأهل والأقارب والأصدقاء، وغیر ذلک مما یلاحظ فیها الإیجاب، أمّا الضرب أو التضییق فهو لم یرد أو یستفاد من أیّة روایة فلا مبرر للحکم بجوازه.

ثم إنّ هنالک أموراً إیجابیة تحفز الحبس علی الارتداع، کالتخفیف من العقوبة والامتیازات المعنویة والمادیة، مما توجد حافزاً وباعثاً قویاً فی الإصلاح والاستقامة، یمکن الاستفادة منها بدلاً من استخدام أسالیب العنف والضیق ونحوها.

3 - حقّه فی التعلیم: منحت الشریعة الإسلامیة السجین الحقّ فی التعلیم، بل وإجبارهم علی ذلک إذا ما اقتضی الأمر ذلک یقول الفکیکی: «وفی مدوّنات الفقه الإسلامی بأنّ العبادات الشرعیة والآداب التهذیبیة والتعالیم القرآنیة والقراءة والکتابة کانت مرعیة ومحتمة فی النافع

ص:312

والمخیس، وکان أمیرالمؤمنین علیه السلام یؤدّب المسجونین المکلّفین بالنفعات - العصی - علی ترکهم الشعائر الدینیة..»(1).

1 - حقّ السجین فی اللقاء بزوجته: من حقوق السجین الالتقاء بزوجته، إذ إنّ الحاجة الجنسیة من الأمور الملازمة لطبیعة الإنسان، وهو بحاجة لها لا یمکنه الاستغناء عنها، لذا أجازت الشریعة لقاء السجین بزوجته، ففی الجعفریات بسنده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن جدّه عن الإمام علی علیه السلام:

«أنّ امرأة استعدت علیاً علیه السلام علی زوجها، فأمر علی علیه السلام بحبسه، وذلک الزوج لا ینفق علیها إضراراً بها، فقال الزوج: احبسها معی، فقال علی علیه السلام: لک ذلک، انطلقی معه»(2).

2 - حقّ السجین فی النظر فی أمره وتعجیل محاکمته: فقد ورد عن الإمام علی علیه السلام:

«أنّه کان یعرض السجون فی کلّ یوم جمعة، فمن کان علیه حدّ أقامه ومن لم یکن علیه حدّ خلّی سبیله»(3).

وفی الاستبصار بسند صحیح عن غیاث بن إبراهیم عن أبیه:

«أنّ علیاً علیه السلام کان یحبس فی الدین فإذا تبیّن له إفلاس وحاجة خلّی سبیله»(4).

وقد صرّح الفقهاء بذلک فی فتاویهم، قال الشیخ الطوسی:

«فإذا جلس

ص:313


1- (1) أحکام السجون: 134.
2- (2) مستدرک الوسائل 432:13.
3- (3) دعائم الإسلام 433:2.
4- (4) الاستبصار 47:3.

للقضاء فأوّل شیء ینظر فیه حال المحبسین فی حبس المعزول؛ لأنّ الحبس عذاب فیخلّصهم منه، ولأنّه قد یکون منهم من تم علیه الحبس بغیر حقّ»(1).

وقال المحقق فی الشرائع: «وأن یجلس للقضاء فی موضع بارز.. ثمّ یسأل عن أهل السجون ویثبت أسماءهم، وینادی فی البلد لیحضر الخصوم، ویجعل لذلک وقتاً، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد، ویسأله عن موجب حبسه، وعرض قوله علی خصمه، فإن ثبت لحبسه موجب أعاده، وإلّا أشاع حاله، بحیث إن لم یظهر له خصم أطلقه»(2).

3 - حقّ السجین فی الخروج ضمن دائرة السجن وخارجه: ففی خبر أمیر المؤمنین علیه السلام الذی أرسل رسالة إلی ابن هرثمة وکان علی سوق الأهواز جاء فیه:

«ومر بإخراج أهل السجن فی اللیل إلی صحن السجن لیتفرّجوا»(3).

وروی الشیخ فی تهذیب الأحکام عن عبد الرحمن بن سیابة - وعبد الله بن سنان کما فی روایة الصدوق (4)- عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«علی الإمام أن یخرج المحبسین فی الدین یوم الجمعة إلی الجمعة، ویوم العید إلی العید فیرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعید ردّهم إلی السجن»(5).

ص:314


1- (1) المبسوط 91:8.
2- (2) شرائع الإسلام 864:4.
3- (3) دعائم الإسلام 532:2.
4- (4) من لایحضره الفقیه 31:3.
5- (5) تهذیب الأحکام 319:6.

وفی الجعفریات بسنده قال:

«إنّ علیاً علیه السلام کان یخرج أهل السجون من السجن فی دین أو تهمة إلی الجمعة فیشهدونها، ویضمنهم الأولیاء حتّی یردّونهم»(1).

واستظهر العلماء من ذلک أنّه عام شامل لکلّ مسلم مسجون، ولا خصوصیة لأهل الدین دون غیرهم.

4 - حقّه فی حضور الشعائر الدینیة العامّة ومشارکة المجتمع الإسلامی فیها: کما لاحظنا فی الأخبار التی نقلناها فی القسم السادس.

5 - نفقة السجین علی بیت المال: فقد ورد فی جملة من الأخبار منها الصحیح وغیره أنّ النفقة من بیت المال، ففی الوسائل بسنده عن أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«.. إنّ علیاً علیه السلام کان یطعم من خلد فی السجن من بیت مال المسلمین»(2).

وفی صحیحة أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«وأنفق علیه من بیت المال»(3).

6 - إذا کان مریضاً فلا یجوز حبسه: وقد أفتی بذلک جملة من الفقهاء منهم السیّد فی العروة، حیث قال:

«إذا کان المدیون مریضاً یضرّه

ص:315


1- (1) مستدرک الوسائل 27:6.
2- (2) وسائل الشیعة 92:15.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 63:4.

الحبس یشکل جواز حبسه، کما أنّه لو کان له مانع آخر - کما إذا کان أجیراً للغیر أو کان علیه واجب - یکون الحبس منافیاً له»(1).

وکذلک السیّد الإمام فی تحریر الوسیلة(2).

وهذا الحکم مستند إلی قاعدة لا ضرر؛ لأنّ حبس المریض إضرار بحاله، وتفویت للهدف الذی من أجله شرع حکمه، فلذلک لا داعی لإیداع المریض فی السجن.

عرض بعض المؤخذات حول الحبس فی الشریعة الإسلامیة:

بعد أن استعرضنا الأدلّة لبیان تشریع الحبس فی الشریعة الإسلامیة، وموارد الحبس، وحقوق السجین، قد تطرح بعض الإیرادات حول الحبس ومشروعیته، وسنوردها هنا لبیان مدی قابلیتها وصحتها.

الإیراد الأوّل: إنّ تشریع الحبس مخالف لغرض وهدف الشریعة الإسلامیة؛ حیث إنّها جاءت رحمة ورأفة، ومن أجل تنظیم حیاة الإنسان، بینما الحبس ینافی ذلک کلّه، بل وقد یأتی بخلاف غرض وهدف الشریعة.

والجواب عن ذلک: إنّ الدین هدفه تنظیم حیاة الإنسان الفردیة والاجتماعیة، والتنظیم یحتاج إلی مراعاة جمیع الحدود والجوانب، فإذا ما

ص:316


1- (1) العروة الوثقی 63:6.
2- (2) تحریر الوسیلة 417:2.

کان النظم یتوقّف علی ردع الصائل والخارج عن الوضع الطبیعی بأن یوضع فی الحبس، والذی هو مکان للتأهّل والبناء، ولیس الغرض منه نفی المعتدی أو التشفی منه، فإذا ما کان الحبس من أجل هذا الأمر فهو من صمیم وذات الهدف الذی أرساه الشرع، فالمخمورین المتحاربین بالدمی والأسلحة یضر عدم اتّخاذ موقف شرعی منهم فی تنظیم الحیاة الاجتماعیة، ویعرض الأفراد للخطر، لأجل ذلک یتدخل الشرع فی الأمر ویقف موضحاً وطبیباً لأمثال هؤلاء، لیحفظ المجتمع من الخلل والتوازن، ویؤهّل هؤلاء الأفراد ویعیدهم إلی دائرتهم الاجتماعیة بعدما خرجوا منها بسبب أمثال هذا الأمر الطائش.

نعم، لاحظنا أنّ موارد السجن مختلفة فمنها من یسجن بسبب أمره بالقتل أو إطلاق قاتل والحیلولة دون القود منه، وهؤلاء واضح الأمر فیهم من أنّهم یسببون اختلال النظام، إلّا أنّ المدیون المعسر إلقاؤه فی الحبس یضر بحاله وبعائلته، فهو نوع إضرار.

والجواب عنه: إنّ الشریعة حکمت بسجن المدیون المماطل الذی لدیه القدرة علی تسدید دینه لکنه یماطل فی الدفع وإعطاء الحق، وأمّا المعسر فلا یسجن بل یکون فقیراً ویتکفّل الحاکم الشرعی بشؤونه والصرف علیه من بیت المال مع وجوده، ففی خبر الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین علیه السلام:

«.. وقضی فی الدین أنّه یحبس صاحبه فإن تبیّن إفلاسه والحاجة فیخلی سبیله حتّی یستفید مالاً..»(1).

ص:317


1- (1) من لا یحضره الفقیه 28:3.

قال المحقق الأردبیلی: «لا خلاف علی الظاهر فی تحریم حبس المدیون.. علی تقدیر عدم ثبوت قدرته علی الأداء شرعاً..»(1).

وقال فی الحدائق: «لا یجوز حبس الغریم مع ظهور إعساره بموافقة الغریم أو قیام البیّنة أو علم الحاکم..»(2) ، وکذلک قال فی الریاض(3) ، والنراقی فی المستند(4) ، والجواهر(5) ، والشیخ الأنصاری(6) ، والسیّد بحر العلوم(7) ، والسیّد فی العروة الوثقی(8) ، والسیّد الخوانساری(9) ، والسیّد الخوئی(10) ، والسیّد الکلبایکانی(11) ، وغیرها من کلمات الفقهاء، والحکم لا یکاد یوجد له مخالف.

فإذن: لا خلاف أنّ المدیون المعسر لا یحبس؛ لأنّه إضرار بحاله وإجحاف به، ولا فائدة من حبسه، بل یرجع فی تسدید دیونه إلی بیت المال باعتباره أحد مستحقّیه.

ص:318


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 274:9.
2- (2) الحدائق الناضرة 412:20.
3- (3) ریاض المسائل 87:13.
4- (4) مستند الشیعة 177:17.
5- (5) جواهر الکلام 281:25.
6- (6) القضاء والشهادات: 196.
7- (7) بلغة الفقیه 257:3.
8- (8) العروة الوثقی 488:6.
9- (9) جامع المدارک 27:6.
10- (10) مبانی تکملة المنهاج 24:1.
11- (11) کتاب القضاء 294:1.

وأمّا المسجون فی الأحکام الأخری کالسارق فی الثالثة والمرتدّة والمتباعج بالحراب والخائن والذی أطلق محبوساً وجب علیه الحد، فهؤلاء یحبسون لإخلالهم بالنظام أو تفویتهم حقوق الآخرین، فلیس فی ذلک ظلم وإجحاف بحقّهم، بل الظلم یتحقق مع عدم معاقبتهم وتأدیبهم؛ لأنّه یؤدّی إلی إفساد المجتمع وإخلال النظم.

الإیراد الثانی: حبس المتّهم مع عدم وجود البیّنة، حیث ذهب جملة من الفقهاء تبعاً لبعض النصوص - والتی فیها المعتبر - أنّه یحبس ستة أیام أو ثلاثة أیام علی الخلاف، قال العلّامة الحلی: «مسألة: قال الشیخ فی النهایة: المتّهم بالقتل ینبغی أن یحبس ستة أیام، فإن جاء المدّعی ببیّنة أو فصل الحکم معه وإلّا خلی سبیله، وتبعه ابن البراج.

وقال ابن حمزة: یحبس ثلاثة أیام.

وقال ابن إدریس: لیس علی هذه الروایة دلیل یعضدها، بل هی مخالفة للأدلة..

ثمّ قال: والتحقیق أن نقول: إن حصلت التهمة للحاکم بسبب لزم الحبس ستة أیام؛ عملاً بالروایة وتحفظاً للنفوس عن الإتلاف، وإن حصلت لغیره فلا؛ عملاً بالأصل»(1).

ص:319


1- (1) مختلف الشیعة 306:9.

وهنا یرد الإشکال: إنّ حبس المتّهم - بمجرد التّهمة - مخالف لقاعدة الحریة، وأنّ المتّهم بریء حتّی تثبت إدانته، فکیف جوّزتم حبسه مع أنّه مخالف للقواعد والأصول الشرعیة؟!

والجواب: إنّ هذا الحکم مختلف فیه، فذهب جملة من الفقهاء إلی عدم ثبوت هذا الحکم؛ لأنّه تعجیل بعقوبة لم تثبت، ومخالف لأصل حریة الإنسان المقررة فی الشریعة، قال المحقق الحلی: «قیل: یحبس المتّهم بالدم ستة أیام فإن ثبتت الدعوی وإلاّ خلّی سبیله، وفی المستند ضعف، وفیه تعجیل لعقوبة لم یثبت سببها»(1) ، وکذلک قال العلّامة الحلی وفخر المحققین(2) والمحقق الأردبیلی(3) وصاحب الریاض(4) ، والسیّد الخوانساری(5).

فالمسألة خلافیة حیث ذهب جملة من الفقهاء إلی عدم جواز حبس المتّهم فی الدم من دون قیام بیّنة أو عدم واجدیتها للشرائط.

ثمّ ذهب جملة من الفقهاء إلی ثبوت هذا الحکم کالإمام الخمینی(6)

ص:320


1- (1) المختصر النافع: 291.
2- (2) المهذّب البارع 209:5.
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 215:14.
4- (4) ریاض المسائل 10:14.
5- (5) جامع المدارک 248:7.
6- (6) تحریر الوسیلة 533:2.

والسیّد الخوئی(1) والسیّد الروحانی(2) والشیخ الوحید الخراسانی(3).

وقد بیّن سبب الذهاب إلی هذا الحکم بأنّه وإن کان مخالفاً لأصل البراءة وتعجیل العقوبة قبل إثباتها إلّا أنّ الأخبار تخصصه، ومنها روایة السکونی عن الإمام الصادق علیه السلام والتی حکمت بالسجن ستة أیام(4) ؛ لأنّ مصلحة المحافظة علی الدماء وعدم تضییع حقوق الآخرین تستدعی التثبّت بالأمر والوقوف عنده حتّی یتبیّن الحال خلال المدّة التی ذکرت، وهی ستة أیام لا أکثر، وهذه المدّة لیست علی نحو الموضوعیة، بل هی زمان مضروب لتبیان الحال، فإذا ما أمکن معرفة الحال قبلها فیخلّی سبیله أیضاً.

نعم، تبقی مسألة تعویض المنافع الفائتة خلال هذه المدّة، فهل یجب تعویضها أم لا؟ ومن یدفع التعویض علی فرض ثبوته، الحاکم الشرعی أو المدّعی؟

وهذه المسألة اختلف فیها الفقهاء، ومال صاحب العروة إلی الضمان حیث قال: «إذا استأجره لقلع ضرسه ومضت المدّة التی یمکن إیقاع ذلک فیها، وکان المؤجر باذلاً نفسه استقرت الأجرة، سواء کان المؤجر حراً أو عبداً بإذن مولاه، واحتمال الفرق بینهما بالاستقرار فی الثانی دون الأوّل؛

ص:321


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 123:2.
2- (2) فقه الصادق 110:26.
3- (3) منهاج الصالحین 533:3.
4- (4) وسائل الشیعة 160:29.

لأنّ منافع الحر لا تضمن إلّا بالاستیفاء لا وجه له.. مع أنّا لا نسلّم أنّ منافعه لا تضمن إلّا بالاستیفاء، بل تضمن بالتفویت أیضاً إذا صدق ذلک، کما إذا حبسه وکان کسوباً فإنّه یصدق فی العرف أنّه فوّت علیه کذا مقداراً»(1).

فتفویت المنافع کإتلافها، وحیث إنّ الإتلاف موجب للضمان فکذلک التفویت یکون موجباً له أیضاً.

وقاعدة: من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، لنفی ضمان منافع الحر قاصرة عن ذلک؛ إذ إنّها لیست قاعدة واردة فی نصّ شرعی، وإنّما مأخوذة ومتصیّدة من عدّة أخبار، فلا یمکن الاتکاء علیها وشمولها لمنافع الحر، هذا أوّلاً.

وثانیاً: نفس منافع الحر ذات قیمة عند العقلاء، ولا معنی لقیمیتها إلّا کونها ذات قیمة مالیة، فتفویتها یوجب الضمان.

خصوصاً وأنّ الفقهاء قد صرّحوا بأنّ منافع الحر تقع مهراً، قال العلّامة فی المختلف: «یجوز أن یکون منافع الحر مهراً، مثل تعلیم القرآن أو شعر مباح أو بناء أو خیاطة ثوب وغیر ذلک مما له أجرة»(2).

فالمنافع لها مالیة وتقع مورداً لجملة من العقود فی الشریعة، مما یعنی اعتبارها ومالیتها، فتفویتها إضرار بصاحبها یستلزم ضمانها وتعویضها لصاحبها.

ص:322


1- (1) العروة الوثقی 41:5.
2- (2) مختلف الشیعة 132:7.

وهذا ما مال إلیه بعضهم حیث قال: «إن تمّ الإجماع والاتّفاق فلیس لنا کلام، وإلّا فالمسألة مشکلة من حیث إنّ الآخذ والحابس لشخص زید الذی کان صانعاً لما منعه من شغله وصنعته فقد فوّت علیه الفائدة التی کان یستفیدها لولا المنع، فیکون هو المفوّت لها عنه، وحکم الشارع بنفی الضمان ضرر علیه، ولا ضرر ولا ضرار فی الإسلام، خصوصاً إذا کان والمحبوس والممنوع مما لا معیشة له سواه، وکان إعاشته وإعاشة عیاله منحصراً به»(1).

الإیراد الثالث: لو ظهر أنّ القاضی حکم خطأً علی شخصٍ وتبیّن براءته بعد ذلک، فضمان أو جبران الخسارة الواردة علیه عند الخطأ إن کانت علی القاضی لزم منه تعطیل القضاء، وإن قلنا علی بیت المال لزم منه التهاون بأمر القضاء وعدم الدقة فیه.

والجواب: قد بیّنت الشریعة شروط القاضی وأنّه لابدّ أن یکون فقیهاً عادلاً عارفاً بموارد القضاء، وبصیراً ومطّلعاً علی أحکامه وشرائطه، فلا ینصّب لهذا المقام کلّ من أحبّ وأراد؛ لأنّ القضاء مما تقوم به معایش العباد وحیاتهم، وهو یضمن سیر استقرار الحیاة الاجتماعیة، لذا أکّدت الشریعة علی شرطیة العلم والمعرفة والعدالة والاستقامة، والأخبار فی ذلک متضافرة یمکن الرجوع إلیها(2).

ص:323


1- (1) الموجز فی السجن والنفی: 46 عن ذخیرة الصالحین 80:5.
2- (2) الکافی 428:7، باب النوادر.

والقاضی مهما کان متحرّیاً وعادلاً ومطّلعاً إلّا أنّه قد یخطأ فی الحکم فی بعض الأحیان، وإمّا ینشأ الخطأ من الاشتباه فی الحکم أو الاشتباه فی البیّنة کبیان فسق الشهود أو غیر ذلک من الأسباب الموجبة لنقض الحکم، وفی مثل هذه الحالة بیّنت الشریعة هذا الحکم، ففی خبر الأصبغ بن نباتة وأبی مریم عن الإمام علی علیه السلام قال:

«إنّ ما أخطأت القضاة فی دم أو قطع فهو علی بیت مال المسلمین»(1).

وخبر أبی مریم موثّق وخبر الأصبغ منجبر بالشهرة، بل ادّعی الإجماع علی ذلک، قال فی فقه الصادق: « (ولو) أقام الحاکم الحدّ بالقتل أو غیره مما یوجب الدیة، ثمّ (فسق الشهود فالدیة فی بیت المال) کغیره مما یخطأ فیه الحاکم، ولا یضمنها الحاکم ولا عاقلته بلا خلاف، ویشهد به خبر الأصبغ بن نباتة..»(2).

وهذا الأمر بنحو الإجمال من أنّ خطأ الحاکم علی بیت المال دون ماله، وتفصیل المسألة هو أنّ الفقهاء بحثوا حکم من مات فی الحدّ أو التعزیر أو التأدیب، وفصّلوا فی هذه الأقسام الثلاثة.

وبدأوا بالحد، وذکروا لا ضمان فی هذه الصورة؛ لوجود جملة من الأخبار فی ذلک، ففی صحیحة الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أیما رجل

ص:324


1- (1) وسائل الشیعة 226:27، الکافی 354:7، باب المقتول لا یدری من قتله.
2- (2) فقه الصادق 429:25.

قتله الحد أو القصاص فلا دیة له»(1).

وفی صحیحة زید الشحام قال:

«سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل قتله القصاص هل له الدیة؟ قال: لو کان ذلک لم یقتص من أحد، ومن قتله الحد فلا دیة له»(2).

وتبعاً لذلک أفتی الفقهاء بذلک، قال الشیخ الطوسی: «إذا ضرب الإمام شارب الخمر ثمانین فمات لم یکن علیه شیء..»(3).

وقال المحقق: «من قتله الحد أو التعزیر فلا دیه له..»(4).

ولو استبان أنّ الحد المقام لیس بصحیح ومات المحدود سواء بالقصاص أو الرجم فالدیة علی بیت المال، قال المحقق فی الشرائع: «لو أقام الحاکم الحد بالقتل فبان فسوق الشاهدین کانت الدیة فی بیت المال، ولا یضمنها الحاکم ولا عاقلته»(5).

وعلّق الشهید فی المسالک بقوله: «لأنّ ذلک من خطأ الحاکم، وخطؤه فی بیت المال؛ لأنّه معدّ للمصالح، وکذا القول فی الکفارة»(6).

ص:325


1- (1) الکافی 291:7، باب من لا دیة له.
2- (2) الکافی 291:7، باب من لا دیة له.
3- (3) الخلاف 22:3.
4- (4) شرائع الإسلام 948:4.
5- (5) شرائع الإسلام 951:4.
6- (6) مسالک الإفهام 474:14.

وادّعی فی الجواهر الإجماع علیه فقال: «بلا خلاف أجده فیه إلّا ما یحکی عن ظاهر الحلبی من الضمان فی ماله، وهو واضح الضعف»(1).

وقال السیّد الکلبایکانی: «ولیس الضمان علی الحاکم ولا علی عاقلته؛ لأنّه یعتبر من خطأ الحاکم، وخطأ الحاکم من بیت المال المعدّ لمصالح المسلمین، وهو محسن فی عمله؛ لکونه فی مقام إصلاح الأمور، وحفظ النظام، وخدمة الدین، وإقامة الشعائر، وإجراء الأحکام، فالغرامة اللازمة علیه کانت علی بیت مال المسلمین، وبما ذکرناه یجمع بین الحقّین: حقّ المقتول وحقّ الحاکم القائم بأمور المسلمین»(2).

وقال السیّد الیزدی: «لو تبیّن خطأ الحاکم فی حکمه انتقض، وحینئذٍ فإن کان قبل العمل به فلا إشکال، وإن کان بعده فإمّا أن یکون فی قتل أو قطع، وإمّا أن یکون فی مال، ففی الأوّل إذا لم یکن مقصّراً ولاجائراً فی حکمه فلا قصاص علیه قطعاً، وتکون الدیة من بیت المال، لخبر الأصبغ بن نباتة: (ما أخطأت القضاة من دم أو قطع فعلی بیت مال المسلمین).

نعم، لو کان المحکوم له عالماً بفساد دعواه ومع ذلک أقدم علیها کان القصاص علیه... وأمّا إن کان حکم الحاکم عن جور أو تقصیر فی الاجتهاد أو فی مقدمات القضاء، وکانت الدعوی فی قتل أو قطع کان الضمان علیه

ص:326


1- (1) جواهر الکلام 472:41.
2- (2) الدر المنضود فی أحکام الحدود 402:2.

إلّا إذا کان المحکوم له ظالماً فی دعواه، وکان هو المباشر للقتل أو القطع، فحینئذٍ یکون القصاص علیه؛ لأنّ المباشر أقوی من السبب، وإن کان المباشر غیره بتسبیب منه فالمحکوم علیه أو ولیه مخیّر بین القصاص منه أو من الحاکم»(1).

فالأخبار والفتاوی قائمة علی أنّه إذا تبیّن خطأ الحاکم فی حکمه، ولم یکن مقصّراً، وفات المحل بموت أو قطع، فالدیة علی بیت المال ولیس علی القاضی ولا علی أهله. وهذا لیس فیه استهانة بالقضاء، ولا یؤدّی إلی الاستخفاف به؛ لأنّنا قدمنا أنّ القاضی یشترط فیه الاجتهاد والعدالة والضبط والبلوغ، وهی شرائط داخلیة تمنع القاضی من التعدّی فی عمله والاستخفاف به، وإذا ما ظهر تقصیر منه فی کیفیة الحکم أو البیّنة فالدیة علیه.

فالشریعة وضعته بین حدّین واضحین، بعد أن عیّنت صفاته وشروطه، الحدّ الأوّل: عدم الضمان مع عدم التقصیر، والحدّ الثانی: الضمان عند التقصیر، فلا یستطیع الاستخفاف فی القضاء؛ لأنّه سیکون ضامناً، ولا یترک العمل فی هذا المنصب؛ لأنّه مع جامعیة الشرائط والعمل ضمن الضوابط یکون قد عمل بوظیفته المحددة، فلا یضمن شیئاً فیما إذا أظهر الخطأ بعد ذلک.

هذا کلّه فی مسألة الحدود المقررة والمحددة فی الشریعة.

أمّا فی الحدود غیر المعیّنة کالتعزیر والتأدیب، فإن تعدّی بأن عزّر أو

ص:327


1- (1) العروة الوثقی 454:6، مسألة 39 لو تبیّن خطأ الحاکم فی حکمه.

ضرب أکثر من المقدار اللازم فتلف المضروب یضمن وإلّا فلا ضمان علیه.

قال الشیخ الطوسی: «إذا عزّر الإمام من یجب تعزیره أو من یجوز تعزیره - وإن لم یجب - فمات منه، لم یکن علیه شیء، وبه قال أبو حنیفة، وقال الشافعی: یلزمه دیته. وأین تجب؟ فیه قولان: أحدهما: - وهو الصحیح عندهم - علی عاقلته، والثانی: فی بیت المال، دلیلنا: أنّ الأصل براءة الذمة، وشغلها یحتاج إلی دلیل»(1).

وأیضاً قال فی المبسوط: «إذا عزّر الإمام رجلاً فأدّی إلی تلفه فلا ضمان علیه..»(2).

وقال المحقق فی الشرائع: «ومن قتله الحدّ أو التعزیر فلا دیة له. وقیل: تجب علی بیت المال، والأوّل مروی»(3).

نعم، یبقی الفرق بین الحدّ وغیره، وفی مسألة لزوم الاحتیاط والتثبّت فی التعزیر وعدم التعدّی عن المقدار اللازم، بل یکتفی بالحدّ الأدنی إن أمکن مع ملاحظة المصلحة، وإلّا فإن تعدّی إلی الأکثر مع عدم المراعاة وتضرر المعزَّر أو المؤدَّب فالضمان علی الحاکم من بیت المال مع الخطأ وعدم التقصیر، ومن ماله مع التعدّی والتقصیر.

ص:328


1- (1) الخلاف 493:5.
2- (2) المبسوط 245:3.
3- (3) شرائع الإسلام 951:4.

فهرس مصادر

مقال البحث فی السجن وأحکامه فی الشریعة

1 - أحکام السجون بین الشریعة والقانون، الشیخ أحمد الوائلی (ت 1424)، الناشر: مؤسسة أهل البیت علیهم السلام - بیروت.

2 - أحکام القرآن، ابن العربی (ت 543)، تحقیق: محمّد عبد القادر عطا، الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر.

3 - إرشاد الأذهان إلی أحکام الإیمان، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: فارس الحسون، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

4 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 1460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - قم، الطبعة الرابعة 1363 ش.

5 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، فخر المحققین محمّد بن الحسن الحلی (ت 771)، تعلیق: السید حسین الکرمانی والشیخ علی پناه الاشتهاردی والشیخ عبد الرحیم البروجردی، الطبعة الأولی 1387 ه -.

ص:329

6 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، العلاّمة الشیخ محمّد باقر المجلسی (ت 1111)، تحقیق: السید إبراهیم المیانجی ومحمّد باقر البهبودی، الناشر: مؤسسة الوفاء - بیروت، الطبعة الثانیة 1403 ه -.

7 - بلغة الفقه، السید محمّد بحر العلوم (ت 1326)، شرح وتعلیق: السید محمّد تقی بحر العلوم، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الرابعة 1403 ه -.

8 - تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1420 ه -.

9 - تحریر الوسیلة، الإمام روح الله الخمینی (ت 1410)، الناشر: دار الکتب العلمیة، الطبعة الثانیة 1390 ه -.

10 - تحفة السنیة فی شرح نخبة المحسنیة، السید عبد الله الجزائری (ت 1173)، نسخة مخطوطة.

11 - تفسیر العیاشی، محمّد بن مسعود العیاشی (ت 320)، تحقیق: هاشم الرسولی المحلاتی، الناشر: المکتبة العلمیة الإسلامیة - طهران.

12 - تقریرات الحدود والتعزیرات، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414).

ص:330

13 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

14 - جامع الخلاف والوفاق بین الإمامیة وبین أئمة الحجاز والعراق، علی بن محمّد بن محمّد القمی السبزواری من أعلام القرن السابع، تحقیق: حسین البیرجندی، الناشر: انتشارات زمینه سازان ظهور إمام عصر عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی 1379 ش.

15 - الجامع لأحکام القرآن، محمّد بن أحمد الأنصاری القرطبی (ت 671)، تصحیح: أحمد عبد العلیم البردونی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی - بیروت.

16 - الجامع للشرائع، یحیی بن سعید الحلی (ت 690)، تحقیق وتخریج: جمع من الفضلاء، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، سنة الطبع 1405 ه -.

17 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السید أحمد الخوانساری (ت 1405)، تعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

18 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

ص:331

19 - الحدائق الناضرة فی أحکام العترة الطاهرة، الشیخ یوسف البحرانی (ت 1186)، تحقیق: الشیخ محمّد تقی الإیروانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

20 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، التحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

21 - دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة، الشیخ المنتظری (ت 1430)، الناشر: المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1408.

22 - الدر المنضود فی أحکام الحدود، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414)، بقلم الشیخ علی الکریمی الجهرمی، الناشر: دار القرآن الکریم - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

23 - الدر المنضود فی معرفة صیغ النیات والإیقاعات والعقود، زین الدین علی بن علی بن محمّد بن طی الفقعانی (ت 855)، تحقیق وتعلیق: محمّد برکت، الناشر: مکتبة مدرسة إمام العصر عجل الله تعالی فرجه الشریف العلمیة - شیراز، الطبعة الأولی 1418 ه -.

24 - الدروس الشرعیة فی فقه الإمامیة، الشهید الأوّل (ت 786)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1417 ه -.

ص:332

25 - دعائم الإسلام وذکر الحلال والحرام والقضایا والأحکام عن أهل بیت رسول الله علیهم السلام، النعمان بن محمّد التمیمی المغربی (ت 363)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف - القاهرة.

26 - الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، زین الدین الجبعی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق: السید محمّد کلانتر، الناشر: منشورات مکتبة الداوری - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

27 - روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه، الشیخ محمّد تقی المجلسی (ت 1070)، تعلیق: السید حسین الکرمانی والشیخ علی پناه الاشتهاردی، الناشر: بنیاد فرهنگ إسلامی حاج محمّد حسین کوشانپور.

28 - روض الجنان فی شرح إرشاد الأذهان، زین الدین الجبعی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم.

29 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

30 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

ص:333

31 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

32 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربیة، إسماعیل بن حماد الجوهری (ت 393)، تحقیق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار الملایین - بیروت، الطبعة الرابعة 1407 ه -.

33 - العروة الوثقی، السید محمّد کاظم الطباطبائی الیزدی (ت 1337)، مع تعلیقات عدّة من الفقهاء العظام، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1417 ه -.

34 - کتاب العین، الخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت 175)، تحقیق: مهدی المخزومی وإبراهیم السامرائی، الناشر: مؤسسة دار الهجرة - قم، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

35 - عیون الحقائق الناظرة فی تتمة الحدائق الناضرة، الشیخ حسین البحرانی آل عصفور (ت 1216)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

36 - غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع، السید حمزة بن علی بن زهرة الحلبی (ت 585)، تحقیق: إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1417 ه -.

ص:334

37 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، الناشر: مؤسسة دار الکتاب - قم، الطبعة الثالثة 1412 ه -.

38 - فقه القرآن، سعید بن هبة الله الراوندی (ت 573)، تحقیق: السید أحمد الحسینی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی النجفی المرعشی، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

39 - کتاب القضاء، تقریر بحث السید الکلبایکانی بقلم السید علی المیلانی، سنة الطبع 1401 ه -.

40 - القضاء والشهادات، الشیخ مرتضی الأنصاری (ت 1281)، تحقیق: لجنة تحقیق تراث الشیخ الأعظم، الناشر: المؤتمر العالمی بمناسبة الذکری المئویة الثانیة لمیلاد الشیخ الأنصاری، الطبعة الأولی 1415 ه -.

41 - قواعد الأحکام فی معرفة الحلال والحرام، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

42 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

43 - الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی (ت 447)، تحقیق: رضا

ص:335

الأستادی، الناشر: مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامة - إصفهان.

44 - کشف الرموز فی شرح المختصر النافع، زین الدین أبو علی الحسن بن أبی طالب بن أبی المجد الیوسفی المعروف بالمحقق الآبی (ت 690)، تحقیق: الشیخ علی پناه الاشتهاردی وحسین الیزدی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1408 ه -.

45 - کشف الغطاء عن مبهمات الشریعة الغراء، الشیخ جعفر کاشف الغطاء (ت 1228)، الناشر: انتشارات مهدوی - إصفهان.

46 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

47 - کفایة الأحکام، محمّد باقر السبزواری (ت 1090)، تحقیق: الشیخ مرتضی الواعظی الأراکی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1423 ه -.

48 - لسان العرب، محمّد بن مکرم بن منظور (ت 711)، الناشر: نشر أدب الحوزة، سنة الطبع 1405 ه -.

49 - اللمعة الدمشقیة، الشهید الأوّل (ت 786)، الناشر: دار الفکر - قم، الطبعة الأولی 1411 ه -.

ص:336

50 - مبانی تکملة المنهاج، السید الخوئی (ت 1413)، الطبعة الثانیة 1396 ه -.

51 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تصحیح وتعلیق: السید محمّد تقی الکشفی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع: 1387 ش.

52 - مجمع البیان فی تفسیر القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسی من أعلام القرن السادس، تحقیق وتعلیق: لجنة من العلماء والمحققین، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

53 - مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان، المحقق أحمد الأردبیلی (ت 993)، تعلیق: مجتبی العراقی وعلی بناه الاشتهاردی وحسین الیزدی الإصفهانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

54 - المختصر النافع فی فقه الإمامیة، المحقق الحلی (ت 676)، الناشر: قسم الدراسات الإسلامیة فی مؤسسة البعثة - طهران، الطبعة الثالثة 1410 ه -.

55 - مختلف الشیعة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

56 - مرآة العقول فی شرح أخبار آل الرسول، الشیخ محمّد باقر

ص:337

المجلسی (ت 1111)، إخراج ومقابلة وتصحیح: السید هاشم الرسولی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1404 ه -.

57 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

58 - مستدرک الوسائل ومستنبط المسائل، الشیخ حسین النوری الطبرسی (ت 1320)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - بیروت، الطبعة الأولی 1408 ه -.

59 - مستند الشیعة فی أحکام الشریعة، المحقق أحمد بن محمّد مهدی النراقی (ت 1245)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1415 ه -.

60 - المفردات فی غریب القرآن، الراغب الإصفهانی (ت 502)، الناشر: دفتر نشر الکتاب، الطبعة الثانیة 1404 ه -.

61 - کتاب من لا یحضره الفقیه، محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی (ت 381)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة.

62 - منهاج الصالحین، الشیخ حسین الوحید الخراسانی، الناشر: مدرسة الإمام باقر العلوم علیه السلام.

ص:338

63 - المهذّب، عبد العزیز بن البراج الطرابلسی (ت 481)، إعداد: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1406 ه -.

64 - المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع، أحمد بن محمّد بن فهد الحلی (ت 841)، تحقیق: الشیخ مجتبی العراقی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

65 - الموجز فی السجن والنفی فی مصادر التشریع الإسلامی، الشیخ نجم الدین الطبسی.

66 - المیزان فی تفسیر القرآن، السید محمّد حسین الطباطبائی (ت 1402)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

67 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

68 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:339

ص:340

الجهة المصدّرة للأحکام القضائیة والجهة المنفّذة لها

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

من الأبحاث القضائیة المهمّة فی الفقه الإسلامی هوالبحث عن الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام الجزائیة والبت فی المنازعات والمرافعات، کما لا یقل أهمیّة عنه البحث عن الجهة المنفّذة لهذه الأحکام.

وأهمیة البحث عن الجهة المصدّرة للأحکام تظهر وتتجلّی علی مستویین: فتارة یبحث عن هذا الأمر فی حدود الفقه الإسلامی والشریعة المقدّسة، وأخری یکون البحث عنه من جهة القوانین الرسمیة القائمة فی الدول الإسلامیة وغیر الإسلامیة علی السواء.

ولأجل ذلک سوف یکون البحث عن مسألتین:

المسألة الأولی: الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام وفق الشریعة الإسلامیة.

من الأمور الواضحة أنّه لا ولایة لأحد علی أحد، فلا یحقّ لشخص أن یحکم علی آخر إلّا وفق ظوابط معیّنة، وبدونها فالأصل عدم جواز ذلک.

ص:341

نعم، وفقاً للرؤیة الکونیة الإلهیة فإنّه من المسلّمات وجود الولایة للخالق تعالی، کما أنّه توجد الولایة للشخص المعصوم الذی یعتبر المولّی علی أمور الناس بإذن من الله تعالی. فالإنسان المعصوم نبیاً أو إماماً یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة والجزائیة، وهذا یعتبر من الثوابت فی مختلف الدیانات السماویة، والمنطق والعقل یدعم ذلک، وهذا لا کلام لنا فیه. ولیس محلّاً للنقاش فی هذه الدراسة.

وإنّما الکلام فی فرض عدم وجود المعصوم، أو فقل: فی زمن الغیبة الکبری بناء علی المعتقد الشیعی والذی یدور بحثنا مداره، ففی مثل هذه الظروف یأتی السؤال: من یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة؟ خصوصاً وأنّه لا بدّ من وجود قاض یحلّ النزاعات والتخاصمات، ویحفظ المصالح العامّة للمجتمع.

فالمسألة إذن بین أصلین مسلّمین:

الأول: حریة الإنسان، ولا ولایة لأحد علی آخر.

الثانی: ضرورة وجود قاض وحاکم یحلّ النزاعات والتخاصمات الواقعة من اصطدام المصالح الشخصیة للأفراد أو المجتمعات أو التجمّعات.

و هذا الأمر البیّن یحتّم علینا البحث عن هذه الجهة التی یحقّ لها تقلّد هذا المنصب، وتحتّم البحث عن الشروط المؤهِلّة لذلک.

القاضی المنصوب وقاضی التحکیم:

قبل الدخول فی بیان شرائط القاضی لا بدّ من تعریف نوعین من

ص:342

القضاة، فإنّ شرائط کلّ منهما تختلف عن الآخر:

الأوّل: قاضی التحکیم، وهو الذی ینتخبه الخصمان المتنازعان للحکم فیما بینهما، فیتراضیان بحکمه وقضائه.

وهذا النوع من التحکیم لیس من القضاء فی واقع الأمر، وإنّما هو من باب التحکیم والتراضی بین الطرفین، ولأجل ذلک لم یکن نفوذ حکمه من المسلّمات کما فی القاضی المنصوب، بل وقع البحث والاختلاف فی أنّ حکم قاضی التحکیم هل هو نافذ ولازم علی الطرفین مطلقاً، أو عدم ذلک مطلقاً، أو فی خصوص وقت رضاهما به دون غیره، أو علی خصوص الراضی به دون الرافض؟ أقوال فی المسألة:

قال المحقق فی الشرائع: «نعم، لو تراضی خصمان بواحد من الرعیة، وترافعا إلیه، فحکم بینهما لزمهما الحکم، ولا یشترط رضاهما بعد الحکم».(1)

قال فی الجواهر بعد أن نقل کلام المحقق المتقدّم: «لکن فی الروضة وغیرها فی اشتراط تراضی الخصمین بالحکم بعده قولان، بل فی بعض القیود أنّه للشیخ فی بعض أقواله، بل فی التحریر: ولو تراضی خصمان بواحد من الرعیة، وترافعا إلیه فحکم، لم یلزمهما الحکم...»(2)

ص:343


1- (1) شرائع الإسلام 861:4
2- (2) جواهر الکلام 23:40.

کما وقد وقع الاختلاف فی شرائط قاضی التحکیم، من أنّه هل یشترط فیه ما یشترط فی القاضی المنصوب، أو لا یشترط ذلک؟

قال فی الشرائع: «ویشترط فیه ما یشترط فی القاضی المنصوب عن الإمام...».(1)

وکذا قال فی المسالک.(2)

ولکن قال السیّد الخوئی: «وأمّا قاضی التحکیم فالصحیح أنّه لا یعتبر فیه الاجتهاد خلافاً للمشهور، وذلک لإطلاق عدّة من الآیات...، ولإطلاق الصحیحة المتقدّمة، وإطلاق صحیحة الحلبی...».(3)

وبناءً علی ما تقدّم من تعریف قاضی التحکیم وحقیقة أمره، فإنّه یکون من الواضح أنّ هذا النوع من القضاء أو فقل: «التحکیم» إنّما یختص بحقوق الناس الشخصیة الواقعة محّلاً للنزاع بین طرفین أو أطراف؛ لأنّ المناط فی هذا الحاکم هو رضا الأطراف المتخاصمة بحکمه، وهذه الأطراف لا معنی لرضاها فی غیر حقوقها الشخصیة، فلا یسری إلی حقوق الله تعالی أو حقوق المجتمع؛ إذ لیس لأحد التدخّل فی حقوق الله تعالی، کما فی الحدود والتعزیرات، فإنّه لا یحقّ لأحد البت بها إلّا القاضی

ص:344


1- (1) شرائع الإسلام 861:4.
2- (2) مسالک الإفهام 331:13.
3- (3) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 12:41.

المنصوب من قبل الولی الحقیقی وهو الحقّ تعالی.

وهذا النوع من التحکیم خارج عن هذه الدراسة، والسبب فی ذلک واضح مما تقدّم بیانه، فلا نطیل.

الثانی: القاضی المنصوب

إنّ البحث عن القاضی المنصوب یکون فی عدّة أمور: فتارة یبحث عن أصل جواز نصب القاضی، وأخری یبحث عن شرائط القاضی المنصوب، وثالثة یبحث فی دائرة حکم القاضی المنصوب سعة وضیقاً.

الأمر الأوّل: فی البحث عن أصل جواز نصب القاضی

إنّ نفوذ حکم شخص علی آخر وإن کان خلاف الأصل إلّا أنّ هناک مجموعة من الأدلة تثبت جواز ذلک، بل تدلّ علی وجوبه وضرورته وجوباً کفائیاً:

الدلیل الأوّل: لزوم حفظ النظام

إنّ حفظ النظام الاجتماعی من أهمّ الواجبات العقلیة والشرعیة والعرفیّة، ومن أهمّ العوامل المؤدّیة لحفظ ذلک النظام هو وجود القاضی الذی یحلّ النزاعات، ویفک المخاصمات، ویحدد العقوبات والجزاءات، ولو لا ذلک لعمّ الهرج والمرج فی کافّة أرجاء المعمورة.

قال السیّد الخوئی: «القضاء واجب کفائی»، ثمّ قال معلّقاً علی ذلک: «وذلک لتوقّف حفظ النظام - المادی والمعنوی - علیه، ولا فرق فی ذلک

ص:345

بین القاضی المنصوب وقاضی التحکیم».(1)

الدلیل الثانی: مقبولة، بل صحیحة عمر بن حنظلة

قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث، فتحاکما إلی السلطان وإلی القضاة أیحلّ ذلک؟ قال: من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت...، قلت: فکیف یصنعان؟ قال: ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً، فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنّما استخفّ بحکم الله، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی الله، وهو علی حدّ الشرک بالله...».(2)

فقد نصّ الإمام علیه السلام علی تنصیب القاضی، وضرورة اتّباع حکمه، فدلالة هذه الروایة واضحة علی المطلوب، بل نصّ فیه.

قال السیّد الخوئی: «إنّ قوله علیه السلام فیها: «فلیرضوا به حکماً»، بعد قوله: «ینظران من کان منکم» یدلّ علی أنّهم ملزومون بالرضا به حکماً نظراً إلی أنّه علیه السلام قد جعله حاکماً علیهم بمقتضی قوله: «فإنّی جعلته»، حیث إنّه تعلیل لإلزامهم بذلک.

فالنتیجة: أنّ الروایة تامّة من حیث الدلالة علی نصب القاضی ابتداء»(3).

ص:346


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 6:41.
2- (2) وسائل الشیعة 136:27، أبواب صفات القاضی ب 11، ح 1.
3- (3) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 10:41.

وأمّا سند الروایة: فإنّ الکلام فیه یکون فی عمر بن حنظلة، ویبتنی القول بوثاقته من عدمها علی القول بتمامیة قاعدة أصحاب الإجماع أو المشایخ الثلاث؛ لأنّ هناک روایة تثبت اعتبار ابن حنظلة رواها یزید بن خلیفة، ویزید بن خلیفة لم یوثّق إلّا بروایة أصحاب الإجماع عنه کابن مسکان وصفوان بن یحیی ویونس بن عبد الرحمن. وهی من القواعد التی علیها العمل عند أکثر العلماء، هذا بالإضافة إلی أنّ هناک مجموعة من القرائن الأخری بمجموعها تدلّ علی وثاقة ابن حنظلة، فالروایة معتبرة من هذه الجهة.

الدلیل الثالث: معتبرة أبی خدیجة

قال: قال أبو عبد الله علیه السلام:

«إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه»(1).

أمّا دلالة هذه الروایة فهی فی قوله علیه السلام:

«فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه» فإنّ الإمام علیه السلام وفق الشرائط التی ذکرها قد جعل ونصب القاضی، وأمر بالرجوع إلیه، فهذه دلالة واضحة علی المطلب.

ولکن أشکل السیّد الخوئی علی دلالة هذه الروایة بقوله: «ولکن الصحیح: أنّ الروایة غیر ناظرة إلی نصب القاضی ابتداء؛ وذلک لأنّ

ص:347


1- (1) وسائل الشیعة 13:27، أبواب صفات القاضی ب 1، ح 5.

قوله علیه السلام:

«فإنّی قد جعلته قاضیاً» متفرّع علی قوله علیه السلام:

«فاجعلوه بینکم» وهو القاضی المجعول من قبل المتخاصمین.

فالنتیجة: «أنّ المستفاد منها أنّ من جعله المتخاصمان بینهما حکماً هو الذی جعله الإمام علیه السلام قاضیاً، فلا دلالة فیها علی نصب القاضی ابتداء»(1).

ویجاب عنه بالحلّ والنقض:

أمّا النقض: فإنّ دلالة روایة أبی خدیجة نفس روایة عمر بن حنظلة، حیث إنّ ابن حنظلة هو الذی عرض قضیة التخاصم بین الاثنین، فنهی الإمام علیه السلام عن التحاکم إلی الطاغوت، وأمر بالرجوع إلی: «من کان منکم ممن روی حدیثنا...» وکذا الأمر فی روایة أبی خدیجة، حیث نهی الإمام علیه السلام عن الرجوع إلی أهل الجور، ثمّ أمر بالرجوع إلی: «انظروا إلی رجل منکم یعلم...» فلو کانت روایة أبی خدیجة لا تدلّ لکانت روایة ابن حنظلة کذلک، مع أنّ السیّد الخوئی تمم دلالة روایة ابن حنظلة کما أسلفنا.

وأمّا الحلّ:

أوّلاً: أنّ أمر الإمام علیه السلام فی الرجوع إلی الأصحاب فی المنازعة لم یکن متفرّعاً علی اختیار المتخاصین، وإنّما هو متفرّع علی أصل الخصومة.

ثانیاً: أنّ الإمام علیه السلام هو الذی أمر بالرجوع إلی أحد الأصحاب فی مسألة الخصومة، فحتّی لو فرّع قوله علیه السلام:

«فإنّی قد جعلته قاضیاً» علی ذلک

ص:348


1- (1) تکملة مبانی المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 11:48.

أیضاً لا یضر فی المقام؛ لأنّ کلا الأمرین - المفرّع والمفرّع علیه - صدرا من الإمام علیه السلام.

ثالثاً: لانُسلِّم بالتفریع أصلاً؛ لأنّ الفقرة الثانیة فیها أمر وهو ظاهر فی الوجوب.

هذا ویمکن الاستشهاد لهذا المطلب بمجموعة من الروایات الأخری، کما فی بعض التواقیع الصادرة عن الإمام الحجّة علیه السلام، من قبیل قوله علیه السلام:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة الله»(1).

الأمر الثانی: شرائط القاضی المنصوب

هناک مجموعة من الشرائط لابدّ من توفّرها فی القاضی حتّی یمکنه تقلّد هذا المنصب، والحکم، وفصل الدعاوی:

الشرط الأوّل: البلوغ.

وقد استدلّ علی شرطیة البلوغ بمجموعة من الأدلة:

منها: الإجماع، والأصل، وانصراف الأدلة عن الصبی، ومعتبرة أبی خدیجة المتقدّمة، ومقبولة ابن حنظلة، ومناسبة الحکم للموضوع، وربما یعدّ منها السیرة العقلائیة والمتشرعیة المتصلة بزمن المعصوم علیه السلام، ومنها:

ص:349


1- (1) وسائل الشیعة 140:27، أبواب صفات القاضی، ب 11، ح 9.

سلب فعل الصبی وعبارته، إلی غیر ذلک من الأدلة.

نعم، ذکرت عدّة مناقشات علی بعض هذه الوجوه(1) ، أو جمیعها(2) ، إلّا أنّ التسالّم یمنع من الأخیر وهو منع جمیع الوجوه.

الشرط الثانی: العقل.

ودلیله واضح.

الشرط الثالث: الذکورة

وقد استدلّ علی شرطیتها بوجوه:

منها: الإجماع، وصحیحة أبی خدیجة المتقدّمة، ومقبولة ابن حنظلة، والنبوی: «لا یفلح قوم ولیتهم امرأة»، والنبوی الآخر: «لیس علی المرأة جمعة...، ولا تولّی القضاء»، والنبوی الثالث: «لا تولّی المرأة القضاء، ولا تولّی الإمارة»، ومنها: انصراف أدلة القضاء عن المرأة، وغیر ذلک.

وقد ذکرت مجموعة من الملاحظات علی بعض الوجوه، راجعها فی المطولات الفقهیة(3) ، إلّا أنّ التسالم بین الفقهاء قدیماً وحدیثاً یثبت الشرطیة.

ص:350


1- (1) انظر: العروة الوثقی 416:6، فقه الصادق 16:25.
2- (2) انظر: کتاب القضاء لمحمّد الیزدی 39:1-42.
3- (3) انظر: مستند الشیعة 36:17، جواهر الکلام 14:40، العروة الوثقی 418:6.

الشرط الرابع: الإیمان

وقد استدلّ علیه بالإجماع، وعدّة روایات، منها: معتبرة أبی خدیجة المتقدّمة، ومقبولة عمر ابن حنظلة.

وقد استدلّ علی ذلک أیضاً بمثل قوله تعالی: (وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً)1 ، إلّا أنّ المناقشة فی الاستدلال بهکذا آیات واضحة؛ إذ الکلام عن الإیمان الذی هو شرط هنا هو الولایة لأهل البیت علیهم السلام فی قبال أبناء العامّة، وأمّا الإیمان فی الآیة فهو فی قبال الکفر، فهو شامل لعموم المسلمین. نعم، هذه الآیة تدلّ علی شرطیة الإسلام.

الشرط الخامس: الاجتهاد

وقد استدلّ علی شرطیته بعدّة أدلة:

منها: الإجماع، ومنها: الخروج عن الأصل، وهو یعنی أنّ حکومة شخص علی آخر خلاف الأصل، ولا یخرج عن هذا الأصل إلّا فی القدر المتیقّن، والقدر المتیقّن هو حکومة المجتهد، ومنها: مجموعة من الآیات القرآنیة التی دلّت علی أنّ الحکومة لرسول الله صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام کآیة أولی الأمر، ولا یخرج عن هذه الآیات إلّا بإذنهم علیه السلام، ولم یأذنوا إلّا للمجتهدین، ومنها: مجموعة من الروایات کمعتبرة أبی خدیجة ومقبولة ابن حنظلة.

ص:351

وهناک مجموعة من الشرائط الأخری التی لا بدّ أن تتوفر فی القاضی، من قبیل: طهارة المولد، والعدالة، والعلم بأحکام القضاء، والحریة عند بعض الفقهاء، وقد ذکرت أدلة عدیدة علی هذه الشروط، وذکرت ضمنها نقاشات کثیرة، راجعها فی المطولات الفقهیة الاستدلالیة. وبحثها خارج عن هذه الدراسة.

النتیجة:

إنّ من توفّرت فیه الشروط المتقدّمة فإنّه یحقّ له تقلّد منصب القضاء، ویحقّ له إصدار الأحکام القضائیة الشرعیة، سواء کانت مرتبطة بحقوق الله تعالی من التعزیرات والحدود وغیرهما، أو کانت فی الدعاوی والمرافعات وفضّ النزاعات بین أفراد المجتمع، أی: ما یرتبط بحقوق الناس ومشاکلهم.

الأمر الثالث: فی سعة وضیق دائرة حکم القاضی المنصوب

إنّ ما تمّ إثباته إلی الآن أنّه إذا توفّرت مجموعة من الشرائط فی شخص معیّن فإنّه یحقّ له أن یکون قاضیاً، وهو المجتهد الجامع للشرائط، ولکن یبقی الکلام فی دائرة وحدود هذه الصلاحیة، فهل هذا الحقّ یثبت له بصورة مطلقة، أو أنّه توجد قیود تقیّد حکم القاضی وتمنعه من التعدّی فی بعض الحالات؟

وفی مقام الجواب عن هذا السؤال نقول: إنّ حکم القاضی لیس مطلقاً وفی کلّ وقت، وإنّما هو مقیّد فی حالتین، فإنّه تارة یقیّد القاضی فی نفس

ص:352

إصدار الحکم، وأخری یقیّد بنفس تصدّیه إلی هذا المنصب، فهنا نوعان من التقیید:

النوع الأوّل: أن یکون التقیید علی إصدار الحکم القضائی من قبل القاضی، وذلک فیما إذا کان هناک قاضی آخر قد أصدر حکماً فی واقعة معیّنة، فإنّه لا یجوز لقاض آخر أن یقضی فی هذه المسألة أو أن ینقض حکم الحاکم الأوّل.

وقد استدلّ علی ذلک:

أوّلاً: بأنّه لو جوّزنا حکم الحاکم الثانی ونقض حکم الأوّل فإنّه یلزم منه نقض الغرض الذی من أجله کان القضاء؛ وذلک لأنّ القضاة متفاوتون فی الفهم، وإدراک النصوص، والتعامل مع القضایا، فلو ترک أسبابه مفتوحة لما حلّت أکثر الدعاوی - خصوصاً بین المتخاصمین - إذ إنّ کلّ منهما یلتجئ لمن یکون حکمه فی صالحه، مع أنّ الغرض من جمیع ذلک هو فضّ الخصومة.

ثانیاً: أنّه یلزم من تجویز ذلک الهرج والمرج، والفساد الکبیر فی المجتمع، واختلال النظام؛ لأنّه لن ینصاع المحکوم والحال هذه إلی هذا الحکم، بل یتأمّل وینتظر من یأتی وینقض هذا الحکم، وهذا خلاف أهمّ الأدلة التی دلت علی أصل القضاء، وهو حفظ النظام العام، وحفظ المجتمع.

ثالثاً: الإجماع علی ذلک

ص:353

قال السیّد الخوئی: «لا یجوز الترافع إلی حاکم آخر بعد حکم الحاکم الأوّل، ولا یجوز للآخر نقض حکم الأوّل»، وقال معلّقاً علی ذلک: «بلا خلاف ولا إشکال، فإنّ حکم الحاکم نافذ علی الجمیع، سواء فی ذلک الحاکم الآخر وغیره»(1).

موارد جواز نقض الحکم الأوّل:

بعدما تقدّم من عدم جواز نقض الحکم الأوّل بوجه ربما یقال: إنّ هذا یعنی عصمة الحاکم والقاضی الأوّل وإلّا کیف یصحح حکمه بصورة مطلقة، ومن البدیهی أنّه غیر معصوم، وإذا کان کذلک فإنّه سوف یلزم وقوع الظلم فیما لو کان الحاکم الأوّل مخطئاً أو مشتبهاً أو متعمّداً ذلک فی حکمه، وسوف یلزم منه نقض الغرض أیضاً.

ولکن نقول: إنّ هناک بعض الحالات التی یجوز معها نقض حکم القاضی الأوّل، ومعها یندفع الإشکال المتقدّم وغیره من الشبهات:

الحالة الأولی: أن یتنبّه القاضی الأوّل نفسه إلی أنّ حکمه کان خاطئاً بسبب تعامله مع الأدلة والشواهد وما شاکل، وحینئذ یجوز نقض حکمه الأوّل والحکم من جدید حسب الشواهد المتوفّرة، وهذه الحالة وإن کانت هی من نفس القاضی الأوّل إلّا أنّها تعتبر نقضاً للحکم الأوّل.

ص:354


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 26:41.

الحالة الثانیة: فیما لو تنبّه قاض آخر لاشتباه القاضی الأوّل علی وجه لو تنبّه القاضی الأوّل لخطئه لتنبّه له - کما لو کان حکمه مخالفاً لما ثبت قطعاً من الکتاب والسنّة - فإنّه یجوز فی هذه الحالة أن ینقض القاضی الثانی حکم القاضی الأوّل، أو ینبّه القاضی الأوّل علی خطئه لینقضه بنفسه.

الحالة الثالثة: فیما لو ثبت أنّ القاضی الأوّل لم یکن أهلاً للقضاء حین قضائه - کما لو ثبت اختلال أحد الشروط المتقدّمة فی القاضی، خصوصاً المتّفق علیها - فإنّه یجوز حینئذ نقض حکمه وإصدار حکم جدید علی وفق الضوابط والشروط (1).

ویمکن استخلاص الضابطة من جمیع ذلک: بأنّه لابدّ أن لا یکون نقض القاضی الثانی لحکم الأوّل راجعاً إلی مسألة اجتهادیة أو ذوقیة أو لفهم خاص، بل لابدّ أن یکون راجعاً إلی مسألة واضحة جدّاً بحیث یصدق علی مخالفتها مخالفة الدلیل القطعی الواضح، الذی بحیث لو نبّه علیه القاضی الأوّل لَقَبِلَهُ ولم یتردد.

النوع الثانی: أن یکون التقیید لنفس تصدّی القاضی الجامع للشرائط للقضاء والحکم، وذلک فیما لو کان هناک ولی فقیه مبسوط الید، وله النفوذ

ص:355


1- (1) انظر فی ذلک: تکملة مبانی المنهاج ضمن موسوعة السید الخوئی 26:41، القضاء فی الفقه الإسلامی للسیّد الحائری: 791-800، آداب القضاء وأحکامه لمحمّد الیزدی: 125.

فی السلطة علی منطقة معیّنة من العالم، فإنّه هو الذی له الحقّ فی تعیین القضاة فی المحاکم الشرعیة والقانونیة.

ولتوضیح هذه النقطة من البحث لابدّ من تسلیط الضوء علی حالتین مرّ بها المجتمع الإیمانی (الشیعی) مدی العصور:

الحالة الأولی: وهی حالة تسلّط الحاکم الجائر علی مقدّرات الأمور وإدارة البلاد والحکم علیها، ففی مثل هذه الحالة فإنّ أیّ فقیه جامع للشرائط یحقّ له التصدّی لمنصب القضاء - وجوباً کفائیاً - ویکون هو الحاکم الشرعی الذی یجب علی المؤمنین الرجوع إلیه فی قضایاهم ونزاعاتهم، وقد تقدّمت الأدلة علی ذلک فی بحث شرائط القاضی وأدلة نصب القضاة، وهذا من المسائل الواضحة فی الفقه الإمامی، والذی علیه العمل والسیرة الشرعیة من زمن الأئمة علیه السلام وإلی یومنا هذا، فی کلّ مکان لیس للولی الفقیه العادل سلطة.

جاء فی مقبولة ابن حنظلة: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث فتحاکما إلی السلطان...؟، قال: من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت...، قلت: وکیف یصنعان؟ قال: ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا...، فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً...»(1) ، وکذا ما جاء فی صحیحة

ص:356


1- (1) وسائل الشیعة 136:27، أبواب صفات القاضی ب 11، ح 1.

أبی خدیجة المتقدّمة(1).

الحالة الثانیة: وهی حالة تسلّط الولی الفقیه العادل علی مقدّرات الأمور، وبسط یده الشریفة علی بلاد أو دولة معیّنة - کما هو الحال فی مثل الجمهوریة الإسلامیة حیث الولایة والسلطة للولی الفقیه العادل الجامع للشرائط، فهو الذی یصدر الأحکام ویعیّن القضاة - ففی مثل هذه الحالة یقع البحث والکلام فی أنّه هل یحقّ للمجتهد الجامع للشرائط إصدار الأحکام القضائیة من دون إذن الولی الفقیه أو لا یحقّ له ذلک؟

ومن الواضح أنّ محلّ البحث لیس فی قاضی التحکیم؛ لأنّه قد تقدّم أنّ تعیینه بید المتخاصمین - طبعاً مع تحقق بقیة الشرائط - وإنّما الکلام فی الأحکام الصادرة عن القاضی المنصوب، وحینئذ فالبحث ینحل إلی دعویین، نصیغهما بسؤالین:

الأوّل: هل یحقّ إصدار حکم القاضی من قبل مجتهد جامع للشرائط فی واقعة فیما لو کان للولی أو من نصّبه الولی الفقیه حکم فی هذه الواقعة، أو لا یحقّ له ذلک؟

الثانی: هل یحقّ إصدار حکم قضائی من قبل مجتهد جامع للشرائط فیما لو لم یکن للولی الفقیه أو من نصّبه حکم خاص فی هذه الواقعة؟

ص:357


1- (1) وسائل الشیعة 13:27، أبواب صفات القاضی ب 1 ص 5

الجواب عن السؤال الأوّل:

إنّ الجواب عن هذا السؤال قد اتّضح مما تقدّم فی البحث عن النوع الأوّل من تقیید حکم الحاکم بحکم حاکم شرعی آخر، فقد قلنا: إنّه لو کان لقاض جامع للشرائط حکم فی واقعة معیّنة فإنّه لا یجوز نقضه من قبل أیّ حاکم آخر، وفی المقام فإنّه لو کان هناک حکم للولی الفقیه أو من نصّبه الولی الفقیه فلا یحقّ لأیّ حاکم آخر إصدار الحکم فی تلک الواقعة.

وهذه المسألة من مسلّمات الفقه الإمامی، ولا کثیر بحث فیها، وقد تقدّمت الإشارة إلی أدلتها، ولا خصوصیة للولی الفقیه أو من نصّبه علی غیره. نعم، ربما یکون من باب أولی الأمر فی الولی الفقیه أو من نصّبه فی عدم جواز نقض حکمه.

الجواب عن السؤال الثانی:

فی هذا السؤال فرض عدم وجود حکم قضائی للولی الفقیه أو من نصّبه فی مسألة معیّنة، وهذا لابدّ من تقسیم الحوادث والوقائع، والنظر فی ماهیة وحقیقة کلّ منها، فإنّه تارة تکون تلک المسألة من القضایا الجزئیة البسیطة الشخصیة التی لا ترتبط ولا تؤثّر علی النظام العام ولا علی المجتمع بصورة عامّة، ففی مثل هذا الفرض لا یوجد أیّ مانع شرعی أو عقلانی أو عرفی من تصدّی الفقیه الجامع للشرائط لإصدار حکم فی هذه المسألة.

وتارة أخری تکون تلک المسألة مما تؤثّر فی النظام العام وفی

ص:358

المجتمع بصورة عامّة، کأن تکون من قبیل مسائل الجهاد، أو العلاقات الخارجیة العامّة، أو عقد المصالحات مع الدول الأخری، أو النظام الاقتصادی، وما شاکل هذه المسائل، وفی مثل هذه المسائل لا یصح إصدار حکم قضائی إلّا بإذن الولی الفقیه المبسوط الید علی تلک البلاد، باعتبار أنّه هو المسؤول الأوّل عن حفظ النظام العام ومجمل الأمور العامّة فی المجتمع.

وفی الواقع أنّ هذا لا یخرج عن دائرة الفرضیة إذا ما نظرنا إلیه نظرة عملیة واقعیة؛ لأنّه لیس فقط من المستبعد، بل مما لم یتحقق إلی الآن أن لا یکون للولی الفقیه فی مثل هذه المسائل المهمّة والمصیریة فی المجتمع رأی یحدد الموقف الشرعی من تلک المسائل، ومعه یندرج هذا القسم فی مجرد التصوّرات والفروض، وعلیه فینحصر الأمر فی القسم الأوّل وهی المسائل الجزئیة، فإنّه لا یوجد أیّ مانع من تصدّی الحاکم الشرعی لإصدار حکمها إذا لم یکن للولی الفقیه أو من نصّبه حکم فیها، والجواز هنا علی وفق القواعد والأصول.

ولا یفوتک فإنّ هذا غیر مسألة تنفیذ الأحکام وتطبیقها کإجراء الحدود والتعزیرات، فإنّ هذه المسألة سیأتی بحثها لاحقاً إن شاء الله تعالی.

دفع شبهة وردّ إشکال:

من خلال ما تقدّم یظهر الخلل فیما ادّعاه بعض المتفقّهین والمتطفّلین علی الأبحاث الفقهیة، من أنّه إذا صدر حکم من أحد الفقهاء الجامعین للشرائط مع وجود الولی الفقیه فی مورد لیس له فیه حکم فإنّه یلزم:

ص:359

أوّلاً: وجود مشکلة فی الولی الفقیه نفسه؛ لأنّه إمّا لیس جامعاً للشرائط لعدم اجتهاده وفقاهته، وإمّا الشک فی عدالته ابتداءً أو استدامة، وإمّا الشک فی تدبیره للأمور، وخلاصة الأمر أنّه غیر لائق لولایة الأمر.

ثانیاً: أنّ الفقیه الجامع للشرائط الذی أصدر الحکم القضائی فی هذه المسألة لا یؤمن بولایة الفقیه أساساً ولذلک أصدر الحکم حتّی مع کون هذا الولی الفقیه جامعاً للشرائط.

فیرید المستشکل أن یقول: إذا أصدر أحد الفقهاء حکماً فی مسألة لیس للولی الفقیه فیها حکم، فإنّه إمّا یلزم الخلل فی الولی الفقیه، وإمّا یلزم أنّ هذا الفقیه المصدر للحکم لا یؤمن بولایة الفقیه.(1)

ووجه الخلل فی الأمرین واضح، أمّا الأوّل: فإنّه لا یوجد أیّ دلیل یمنع من إصدار حکم قضائی من قبل الفقیه الجامع للشرائط مع عدم وجود حکم قضائی للولی الفقیه أو من نصّبه، إلّا فی الموارد الخاصّة التی تقدّمت الإشارة إلیها فی التفصیل المتقدّم بین المسائل الکبری والمسائل الجزئیة.

وأمّا الخلل فی الثانی: فإنّه لا توجد ملازمة بین إصدار حکم قضائی فی مسألة جزئیة لیس للولی الفقیه حکم فیها أو لمن نصّبه، وبین عدم الإیمان بولایة الفقیه أو عدم الاعتقاد بالولی الفقیه.

ص:360


1- (1) انظر: رسالة نقد مجازات مرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله: 6، محسن کدیور، بالفارسی (راجع موقعه علی الإنترنت).

وأنا لا أعلم ما هذه الملازمات الجزافیة التی یدّعیها البعض ویطلقها بلا شاهد ولا دلیل.

وبذلک تبیّن أیضاً بطلان ما استشهد به لذلک، حیث ادّعی أنّ الولی الفقیه یفتی بأنّ إجراء الحدود فی زمن الغیبة من مختصّات الولی الفقیه، حیث إنّ هذه الفتوی واردة فی إجراء الأحکام القضائیة لا صدورها، وهذا ما سیأتی بحثه لاحقاً بشکل مستقل، فالمستشهد خلط بین الأمرین.

بل ادّعی أکثر من ذلک، وفرّع علی هذا القول نتیجة لا یمکن التفوّه بها، حیث ادّعی أنّه لا یحقّ للفقیه الجامع للشرائط أن یصدر حکماً شرعیاً علی أحد المواطنین فی دولة أخری؛ لأنّه نقض لحاکمیة تلک الدولة(1).

فإن کان قاصداً بکلامه هذا الحکم الأولی، فهذا ما لا یمکن قبوله بوجه، فأیّ حقّ هذا یثبت للدول الظالمة والغاصبة والجائرة، فهل أنّ دولة أمریکا مثلاً لها الحاکمیة الشرعیة علی تلک البلاد؟! أو هل لبعض الحکومات المسمّاة بالإسلامیة الحقّ والسلطة الشرعیة علی تلک البلاد، خصوصاً فی مثل دول الملوک والأمراء؟!

ألا یعلم هذا القائل أنّ الأرض وما علیها ملک لصاحب الزمان علیه السلام، وأنّه قد أعطی الحقّ فی القضاء للفقهاء الجامعین للشرائط، کما تقدّم إثبات ذلک.

ص:361


1- (1) انظر: رسالة نقد مجازات مرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله: 7، محسن کدیور بالفارسی (راجع موقعه علی الإنترنت)..

وأمّا إن کان قصده أنّ ذلک لا یجوز بالحکم الثانوی، أی: أنّه یجوز للفقیه الجامع للشرائط إصدار الحکم کذلک ابتداءً، إلّا أنّه توجد ظروف ثانویة تمنع من ذلک، فیکون عدم الجواز حکماً ثانویاً، کما لو کانت هناک مفاسد اجتماعیة أو اقتصادیة أو سیاسیة تتولّد إثر ذلک الحکم فتتضرر الدولة الإسلامیة جرّاء ذلک، فإن کان هذا قصده، فهو صحیح فی نفسه إلّا أنّ هذا ما یحدده الفقیه الجامع للشرائط، وإلّا لما کان جامعاً للشرائط، وسوف یکون کلام المستشکل خلاف الفرض أساساً.

فلا یعدو هذا القول الکلام الفارغ الذی لا یستند علی أساس علمی واضح.

المسألة الثانیة: الشرع والقانون الرسمی

إنّ ما علیه الحال والنظام - خصوصاً فی الأزمان المتأخرة - هو وجود المحاکم الرسمیة القانونیة، المعدّة ضمن القانون الأساسی فی تلک الدول، فهذه المحاکم هی التی تبت فی القضایا والنزاعات وتصدر الأحکام القضائیة، وبناء علی ذلک فما هی النسبة وما هو وجه الجمع بین هذه المحاکم وبین قضاء الفقیه الجامع للشرائط؟

والکلام یقع تارة فی البحث عن حکم الحاکم الشرعی فی الدولة الغاصبة، وتحت حکم الحاکم الجائر، وأخری یکون الکلام فی الدولة العادلة وحکومة الولی الفقیه، فهنا فرضان:

ص:362

الفرض الأوّل: الحکومة الجائرة الغاصبة

إنّ المسألة واضحة فی هذا الفرض منذ زمن الأئمة علیهم السلام، فإنّهم قد بیّنوا الموقف الصحیح الذی علیه العمل والإفتاء، حیث أمروا علیهم السلام أتباعهم وشیعتهم بعدم التحاکم عند الحاکم الجائر، بل لابدّ من الرجوع إلی حاکم عادل مؤمن تتوفّر فیه مجموعة من الشرائط التی تؤهّله إلی التصدّی لمنصب القضاء، فقد جاء فی مقبولة ابن حنظلة: «من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت»، ثمّ قال علیه السلام:

«ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً، فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً...»، وکما دلّت علی ذلک أیضاً صحیحة أبی خدیجة المتقدّمة.

الفرض الثانی: الحکومة العادلة الشرعیة

وهو فرض وجود الحکومة العادلة - کما هو الحال فی الجمهوریة الإسلامیة - وفرض وجود الولی الفقیه، فهنا قد یدّعی أنّه لا یحقّ لأیّ جهة إصدار الأحکام إلّا إذا کانت من خلال محکمة صالحة منصوص علیها فی القانون الأساسی للدولة، ولأجل ذلک فإنّ حکم أیّ فقیه حتّی لو کان جامعاً للشرائط لا قیمة له، ما دام هو خارج القانون المدوّن ضمن القانون الأساسی.

ولأجل بیان الموقف الشرعی الفقهی من هذه الدعوة لابدّ من تفصیل

ص:363

الکلام فی أمرین، حتّی تتضح أبعاد هذه الدعوة، ویتّضح الجواب عنها والموقف الصحیح منها، وهما:

1 - فی معنی المحکمة الصالحة المقنّنة والمنصوص علیها ضمن نظام الدولة وقانونها الأساسی.

2 - فی بیان الفوارق بین الرسالة العملیة للفقهاء التی تعتبر قانون الحیاة الشرعیة فی مختلف المجالات، وبین قانون الدولة، وکیفیة تعیین الأحکام الشرعیة کبنود قانونیة.

الأوّل: فی معنی المحکمة الصالحة.

ربما یوهم البعض بکلامه أنّ المحکمة الصالحة عبارة عن مجموعة من الأفراد، وعدّة من الاختصاصات، تتابع مسألة قضائیة معیّنة، وتنظر فی جمیع جزئیاتها، خصوصاً مع الوضع الشائک والمعقّد فی هذه الأزمان فی المعاملات والقوانین الدولیة والأنظمة الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة الجدیدة، واتّساع دائرة النزاعات والصراعات بین الأفراد، والشرکات والمؤسسات المحلّیة منها والعالمیة، إلی غیر ذلک من الاندماج الکبیر الذی حصل فی مختلف قطاعات الحیاة الاجتماعیة.

ولأجل ذلک ادّعی هذا البعض أنّه لا یمکن للفقیه الجامع للشرائط - أساساً - أن یتصدّی لمثل هذه القضایا وهذه النزاعات، فلا یحقّ له أن یصدر الأحکام القضائیة علی مثل هذه الأمور، بل لابدّ أن یکون ضمن محکمة صالحة هی التی تبتّ فی هذه القضایا.

ص:364

وکما ادّعی هذا البعض أنّ إحراز موضوع الحکم لا یکون إلّا بعد تشکیل المحکمة، واستماع أدلة الطرفین أو الأطراف والوکلاء، وفحص البیّنة والیمین، وملاحظة الوثائق، وجمیع ما یرتبط بذلک. فالأمر یختلف عما کان فی السابق، حیث کانت الموضوعات بسیطة وسهلة ویمکن للفقیه إحراز الموضوع بسهولة وإصدار الحکم علیه، لذلک فإنّ فی هذه الأزمان المعقّدة لابدّ من إرجاع تشخیص الموضوع وإصدار الحکم علیه إلی المحکمة الصالحة، ولا یحقّ للفقیه إلّا إصدار الأحکام الشرعیة واستنباطها من أدلتها المقررة، ولا علاقة له بالقضاء.

هذا بالإضافة إلی أنّ اعتراض المتهم علی الحکم، وإرجاع الدعوة إلی محکمة التمییز لعرضها علی قاض آخر، کلّها أمور لم تلحظ فی الفقه أصلاً(1).

ملاحظة وبیان:

قبل بیان الجواب عن الدعاوی الجزافیة المتقدّمة لابدّ من التنویه علی أمر أغفله المستشکل، بل عمل علی تغییبه وهو: أنّ المحکمة الصالحة المدّعاة مهما تفرّعت أقسامها ومهما تعدد موظفوها، فهی تبقی حکومة القاضی الواحد، فمهما قسّم المستشکل ومهما فرّع إلّا أنّه لا یمکن أن یغیّر الواقع وحقیقة الأمر؛ إذ القاضی فی کلّ محکمة سواء کانت إسلامیة أو غیر إسلامیة إنّما هو قاض واحد هو الذی یصدر الحکم فی نهایة المطاف.

ص:365


1- (1) انظر: رسالة نقد مجازات مرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله: 8.

نعم، هذا لا یمنع من وجود مستشارین معه أو مساعدین أو أهل خبرة یستعین بهم لکشف الموضوع.

وإذا أردنا أن نعبّر عن المحکمة الصالحة بطریقة أخری نقول: هو القاضی الجامع للشرائط التی تؤهّله لإصدار الأحکام القضائیة.

الجواب: لا فرق بین المحکمة الصالحة والفقیه الجامع للشرائط.

بعد هذه الملاحظة المتقدّمة تتّضح حقیقة الأمر، فإنّه لا فرق حینئذ بین المحکمة الصالحة والفقیه الجامع للشرائط؛ إذ کلا العنوانین یشترط فیه الفقاهة والخبرة والقدرة علی تشخیص الموضوع والقدرة علی إصدار الحکم، فلو کان الفقیه غیر قادر علی تشخیص الموضوع بشکله الدقیق فهو حینئذ غیر جامع للشرائط، ولا یحقّ له إصدار الحکم القضائی، وکذلک الحال فی القاضی فی المحکمة الصالحة، فإنّه لو اختلّ عنده أحد الشروط المعتبرة فإنّه لا یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة، فالمسألة حینئذ لا ترتبط بعنوان المحکمة الصالحة وعدمه، وإنّما الموضوعیة لمسألة تحقق الشروط من عدمها، فکما أنّه یجب علی قاض المحکمة أن ینظر فی الدعوة ویستمع للطرفین والوکلاء والشهود وللأدلة المقدّمة، کذلک یجب ذلک علی الفقیه الجامع للشرائط، فالمسألة مسألة عنونة لا أکثر.

محکمة التمییز:

وأمّا ما ادّعی من أنّ محکمة التمییز غیر موجودة فی الفقه أصلاً فهی

ص:366

دعوة لا نصف قائلها إلّا بالسذاجة والبساطة، حیث إنّه قد تقدّم الکلام فی جواز نقض حکم الحاکم فی بعض الموارد، وهل یکون النقض إلّا من خلال النظر المجدد فی القضیة؟!

أو لا أقل أنّ جواز النقض یحتّم جواز النظر فی القضیة، ومحکمة التمییز لا تعنی الوجوب، بل هی علی حسب طلب أصحاب الدعوی.

فالغریب فی المسألة أنّ تغیّر الأسماء والمصطلحات یؤدّی إلی اختلاط الأوراق عند البعض، والارتباک الواضح فی دعاواهم، فإنّ من الصحیح أنّ مصطلح محکمة التمییز لیس موجوداً فی الفقه، إلّا أنّه لا یعنی أنّ حقیقته وروحه غیر موجودة.

والأغرب من ذلک أن یدّعی أنّ الفقیه لا یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة؛ والسبب فی ذلک هو أنّ الفقیه وإن کان خبیراً فی الأحکام إلّا أنّه لیس خبیراً فی تحدید الموضوعات، ومن دون تحدید الموضوع لا یحقّ إصدار الحکم القضائی؛ لأنّ الحکم القضائی یختلف عن الحکم الشرعی؛ لأنّ الأوّل ناظر إلی وجود الموضوع فعلاً، فهو صادر علی نحو القضیة الجزئیة الخارجیة، وأمّا الثانی فهو لا یشترط فیه ذلک، فهو صادر علی نحو القضیة الحقیقیة.

و فی هذه الدعوی تأمّل کبیر؛ لأنّه إن کان معنی هذه الدعوی أنّ کلّ قضیة لا یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة، فلازمه أنّه حتّی قاضی المحکمة لا یجوز له ذلک؛ لأنّ من أهمّ شرائطه الفقاهة.

ص:367

وإن کان معناها أنّ بعض الفقهاء لا یحقّ لهم ذلک، قلنا: هذا من المسلّمات المتّفق علیها، وهی أنّ بعض الفقهاء الذین لم تجتمع فیهم شرائط القضاء لا یحقّ لهم إصدار الأحکام القضائیة، ومن أهمّ تلک الشرائط عدم تحدید الموضوع.

فالکلام إذن فی اجتماع الشرائط من عدمها، ولا علاقة لذلک فی المحکمة أو فی تحدید الموضوع أو ما شاکل، فإن توفّرت الشرائط جاز لقاضی المحکمة الحکم، وکذا جاز للفقیه ذلک.

والإنصاف یقتضی أن لا نحمل کلام صاحب هذه الدعوی علی سوء القصد وعلی مجرد إثارة الشبهات والإشکالات، بل نحمله علی الجهل بمراد الفقهاء؛ إذ لعلّه فهم من کلماتهم أنّ کلّ فقیه یحقّ له القضاء حتّی لو لم تجتمع بقیة الشرائط.

الثانی: فی الفرق بین الرسالة العملیة (فتوی الفقیه) وقانون الدولة.

إنّ القوانین المعمول بها فی أغلب دول العالم الآن، هی إمّا وضعیة خالصة، وإمّا خلیط بین القانون الوضعی والقانون الدینی، والمقصود بالقوانین الوضعیة هی تلک القوانین التی وضعها البشر بأنفسهم تبعاً لما یرونه من المصلحة حسب العقل والعرف، وما یتناسب مع کلّ مجتمع أو دولة بالخصوص، لذلک نجد أنّ قانون کلّ دولة وکلّ مجتمع یختلف عن قانون الدولة الأخری والمجتمع الآخر، بل لا یکاد یتّفقان إلّا فی الموارد الکلیة العامّة التی علیها آراء البشر بصورة عامّة.

ص:368

هذا بالإضافة إلی القوانین العالمیة التی صوّتت علیها الدول فی جمعیة الأمم المتحدة.

وعلی هذا المنوال سارت أکثر الدول الإسلامیة، مع تطعیم قانونها الوضعی ببعض الأحکام الإسلامیة التی لا تخالف القانون الوضعی أساساً. والسبب فی ذلک إمّا عناداً للدین وتسلیماً لقدرة الشیاطین، وإمّا جهلاً بأحکام ربّ العالمین، حیث یعتقد البعض أنّ الدین الإسلامی لیس له قابلیة إدارة المجتمعات وحفظ النظام العام.

هذا الوضع القائم الیوم بعید کلّ البعد عن التعالیم الإسلامیة والقوانین الإلهیة؛ لأنّ الإسلام یؤکّد أنّ القانون الذی یجب اتّباعه وجعل الأمور تسیر علی وفق رؤاه وتعالیمه، هو قانون السماء وأحکام الله تعالی المتمثّلة بالقرآن الکریم وسنّة المعصومین محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام. من هنا کانت إطلالة الجمهوریة الإسلامیة بقیادة إمام الأمة إطلالة علی العالم المعاصر، من خلال تدوین القوانین التی لها القابلیة لإدارة شؤون المجتمع الإنسانی وتنظیم حیاة البشر بالاعتماد علی الشریعة الإسلامیة، فجاء قانون الجمهوریة الإسلامیة منبثقاً من داخل الفقه الإسلامی، فتلک القوانین تابعة لأحکام الإسلام التی یستنبطها الولی الفقیه الجامع للشرائط، لذلک فإنّ قانون الجمهوریة الإسلامیة لیس هو شیء وراء الفقه والرسالة العملیة، بل هما شیء واحد فی الحقیقة والمعنی وإن اختلفا فی الصیاغة والتدوین.

قال السیّد الإمام فی الجواب عن السؤال، ما هی نوعیة الحکومة التی

ص:369

تعیّنها بعد انتصار الثورة؟: حکومة الجمهوریة الإسلامیة، أمّا الجمهوریة فلأنّها تعتمد علی آراء أکثر الناس، وأمّا إسلامیة فلأنّ قانونها الأساس ودستورها هو قانون الإسلام؛ لأنّ الإسلام له قوانین فی مختلف الأبعاد، ولأجل ذلک لا تحتاج إلی قوانین أخری(1).

اختلاف القانون عن الرسالة العملیة:

نعم، یوجد اختلاف بین القانون الذی تسیر علیه الدولة وبین الرسالة العملیة من جهات:

الأولی: أنّ صیاغة عبارات الرسالة العملیة تختلف عن صیاغة البنود القانونیة؛ وذلک لأنّ الرسائل العملیة کتبت وهی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة فقط، أیّ: تحدید الوظیفة الشرعیة للأفراد، وعلی المکلّف أن یرجع لتلک الرسائل ویأخذ حکمه منها بنفسه، والمسؤولیة علی المکلّف تکون أمام الله تعالی، فإن عمل بها فقد برئت ذمته وإلّا فلا، وأمّا القانون فإنّ صیاغته ناظرة إلی أمرین: الأوّل: بیان نفس الحکم والوظیفة، والثانی: بیان الموضوع الذی یطبّق علیه القانون بشکل دقیق، أو فقل: إنّ القانون ناظر إلی الحکم وإلی کیفیة تطبیق ذلک الحکم فی صیاغة القانون، وهذا ما یؤدّی إلی اختلاف صیاغة الحکم بین الرسالة العملیة والقانون.

ص:370


1- (1) صحیفة نور 21:4.

الثانیة: أنّ صیاغة القانون عادة ما تکون بشکل واضح بحیث یتّفق علی فهمه الجمیع - إلّا النادر القلیل - من خلال بیان تمام القیود التی لها دخل فی الحکم بلغة جدیدة عصریة بسیطة واضحة، فبمقدار ما یهتم بأصل الحکم یهتم بصیاغته وألفاظه التی تدلّ علیه، وأمّا فی الرسالة العملیة فإنّ الصیاغة لم تعط هذه الأهمیة بالشکل الکافی، لذلک نجد أنّ کثیراً من المسائل فی الرسائل العملیة تحتاج إلی شرح وبیان.

الثالثة: أنّ الرسائل العملیة تحتوی علی المهم من الأحکام الشرعیة، وهی تلک الأحکام التی تختص بالواجبات والمحرمات، وقلیل من المستحبات والمکروهات، وأمّا غیر ذلک فلم تولیه أهمیة؛ وذلک لأسباب عدیدة لعلّ من أهمها السبب الذی من أجله کتبت الرسائل العملیة، وهذا القسم من الأحکام فی الرسائل العملیة ینصب علی الحیاة الفردیة للناس والحیاة الاجتماعیة، حیث إنّه ینظّم حیاة الناس مع الله تعالی ومع بعضهم البعض.

وأمّا القانون فهو ینصب علی القضایا الاجتماعیة، بحیث یکون القانون منظّماً لتعاملات الأفراد فیما بینهم، ولا علاقة له بالممارسات الفردیة التی ترتبط بالإنسان مع ربّه وخالقه، أو ما یحدد قناعاته الشخصیة.

الرابعة: أنّ الرسالة العملیة ترکت مجالاً واسعاً للمباحات یکون تحدیدها وفق الاتّفاقات بین أفراد المجتمع، وذلک حسب الرؤیة الدینیة لمجموعة من القضایا، لذلک نجد أنّ الرسالة العملیة أغفلت هذه الأمور بالاکتفاء بالحکم بالإباحة.

ص:371

وأمّا القانون فباعتبار أنّه یراد منه تنظیم الحیاة الاجتماعیة وفق ما تقتضیه الظروف فإنّه یقنن هذه الأمور بالشکل الذی لا یخالف أحکام الإسلام وتعالیمه، من قبیل: قانون العسکر والجیش، فکون الجندی یخدم فی الجیش مدّة سنة أو سنتین أمر لم ینص علیه الشرع وإنّما جعله مباحاً، ولکن یأتی القانون ویحدد أنّ الفترة سنتان، فیکون القانون ملزماً للجمیع بناء علی التوافقات والشروط التی ألزم الشارع بکلیاتها، حیث إنّ المؤمنین عند شروطهم، وکذلک الأمر فی قانون المرور، وقانون الریاضة، والصحة، والصناعة، والطرق والمواصلات، ومختلف الوزارات والإدارات، فإنّ هذه المسائل لابدّ أن تبیّن وتحدد بشکل واضح ودقیق حتّی لا یقع الاختلاف بین أفراد المجتمع فی حقوقهم وواجباتهم الاجتماعیة التوافقیة المدنیة، فإنّه من الصحیح أنّ من حقّ العامل فی الدائرة أن یعمل ساعتین أو ست ساعات؛ لأنّ هذا أمر مباح، إلّا أنّ المقنّن یأتی ویقنن ست ساعات، ویجعل فی قبال ذلک الراتب الشهری، فهنا یکون العامل ملزماً بالحضور والعمل لست ساعات، فلو لم یحدد وقت العمل ولم یجعل کقانون یمکن الرجوع إلیه، فإنّه لا یمکن حلّ النزاعات وفق الدعاوی.

ولعلّ هذا الفرق من أهمّ الفوارق بین الرسالة العملیة وبین قانون الدولة.

الخامسة: أنّ الرسائل العملیة مختلفة الفتاوی والأحکام، وذلک تبعاً لاختلاف المجتهدین فی النظر والفهم والرأی، لذلک فإنّ الرسائل العملیة تمثّل عدّة قوانین واتّجاهات فکریة، وهذا أمر لا یضر فی المقام.

ص:372

وأمّا القانون فباعتبار أنّه ینظّم حیاة المجتمع ککل فلابدّ أن یکون بصیغة واحدة وبمضمون واحد ویحکم علی الجمیع وإلّا لما حصل النظم المطلوب فی المجتمع، لذلک فإنّ القانون لابدّ أن یمثّل رأی الولی الفقیه المبسوط الید، ومن ثمّ فإنّ اختلاف بعض بنود القانون الأساسی لبعض الرسائل العملیة لا یعنی مخالفة القانون للإسلام، وإنّما یعنی مخالفة رأی الولی الفقیه لتلک الرسائل.

فإن قلت: لو لم یکن هناک قانون، بل مجرد الرسائل العملیة، فهل یعنی هذا عدم انتظام حیاة المجتمع؟

قلت: لیس الأمر کذلک؛ لأنّه فی مورد النزاعات لا ینظر إلی تقلید الأفراد، بل إلی حکم الحاکم الشرعی الجامع للشرائط، وعلی الجمیع الإطاعة والتنفیذ، إذن لا بدّ من توحید الجهة فی مثل هذه المسائل، وخصوصاً المصیریة منها.

ومن خلال جمیع ذلک یتبیّن: أنّ الحاجة إلی القانون والدستور لا تعنی الاستغناء عن الرسالة العملیة، أو المعارضة معها، وأنّ وجود بعض البنود فی القانون دون الرسالة العملیة لا یعنی أنّ هذا القانون غیر إسلامی؛ لأنّ جمیع ما فی القانون لابدّ أن یکون تحت مظلّة الأحکام الإسلامیة العامّة والکلیة، والکلّ تحت مظلّة الحاکم الشرعی وهو الفقیه الجامع للشرائط.

ویتبیّن بذلک أیضاً: بطلان ما قیل: إنّ الفتوی الشرعیة لا قیمة لها إذا لم

ص:373

تکن قانوناً مصوّت علیه فی المحافل الرسمیة؛ وذلک لأنّ هذه الفتوی إن کانت من الأمور المتّفق علیها بین الفقهاء، فهی لابدّ أن تکون ضمن القانون - حسب الفرض -، وإن کانت من الولی الفقیه فهی قانون بحدّ ذاتها؛ لأنّ القانون یعتمد علی رأی الولی الفقیه أساساً، وأمّا إن کانت الفتوی مما اختصّ بها أحد الفقهاء غیر الولی الفقیه، فهی وإن لم تکن ذات قیمة قانونیة یستدلّ بها فی المحاکم الشرعیة وتکون حجّة علی الجمیع، إلّا أنّها ذات قیمة دینیة تکلیفیة بالنسبة إلی مقلّدی ذلک الفقیه، فهی حجّة ومعتبرة من هذه الجهة.

بحث تطبیقی فی المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله:

بعد هذا البحث المتقدّم - عن الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام القضائیة والتصدّی لهذا المنصب الخطیر - نشیر إلی بعض الموارد التی استشکل فیها علی جواز إصدار الحکم علیها، من قبیل: الحکم بالقتل علی من سبّ النبی صلی الله علیه و آله، وعلی من ارتدّ عن الدین الإسلامی، فنقول:

إنّ الشریعة الإسلامیة بیّنت حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله بشکل واضح، وأنّه إذا سبّ شخص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو ارتدّ عن الدین الإسلامی الحنیف عن فطرة، فإنّ حکمه القتل، وفی هذه الحالة یحقّ للقاضی الشرعی إصدار الحکم علی الشخص الذی ثبت فی حقّه الارتداد أو السباب.

أدلة قتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

هناک أدلة عدیدة تثبت أنّ حکم المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله هو القتل،

ص:374

وسوف نذکر بعضها بشکل مختصر؛ لأنّ البحث فی هذه الدراسة یتمحور حول الجهة المصدّرة للحکم والجهة المنّفذة، وما نذکره هنا من الأدلة ما هو إلّا تتمیماً للفائدة.

أدلة قتل المرتد الفطری:

1 - خالإجماع، فقد انعقد إجماع الفقهاء علی ذلک.

2 - معتبرة عمار الساباطی، حیث قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«کلّ مسلم بین مسلمین ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه، فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ، ویقسّم ماله علی ورثته، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّی عنها زوجها...»(1).

3 - صحیحة الحسین بن سعید، قال: قرأت بخط رجل إلی أبی الحسن الرضا علیه السلام:

«رجل ولد علی الإسلام، ثمّ کفر وأشرک وخرج عن الإسلام، هل یستتاب؟ أو یقتل ولا یستتاب؟ فکتب علیه السلام: یقتل»(2).

4 - صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام، قال:

«سألته عن مسلم تنصّر، قال: یقتل ولا یستتاب...»(3).

ص:375


1- (1) وسائل الشیعة 324:8، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 3.
2- (2) وسائل الشیعة 325:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 6.
3- (3) وسائل الشیعة 325:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 5.

إلی غیر ذلک من الروایات العدیدة التی دلّت علی أنّ حکم المرتد الفطری هو القتل.

أدلة قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

1 - الإجماع واتّفاق الفقهاء علی ذلک.

2 - صحیحة هشام بن سالم، حیث روی عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه سئل ممن شتم رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال علیه السلام:

«یقتله الأدنی فالأدنی قبل أن یرفع إلی الإمام»(1).

3 - صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال: إنّ رجلاً من هذیل کان یسبّ رسول الله صلی الله علیه و آله...، فقلت لأبی جعفر علیه السلام:

أرأیت لو أنّ رجلاً الآن سبّ النبیّ صلی الله علیه و آله أیقتل؟ قال: «إن لم تخف علی نفسک فاقتله»(2).

إلی غیر ذلک من الروایات، وکذلک أُلحق بالنبی صلی الله علیه و آله الأئمة المعصومون وفاطمة الزهراء علیهم السلام، لروایات عدیدة، منها: صحیحة هشام بن سالم، قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

ما تقول فی رجل سبابة لعلی علیه السلام؟ قال: فقال لی: «حلال الدم والله لو لا أن تعم به بریئاً...»(3).

ص:376


1- (1) وسائل الشیعة 337:28، أبواب حد المرتد، ب 7، ح 1.
2- (2) وسائل الشیعة 213:28، أبواب حد القذف، ب 25، ح 4.
3- (3) وسائل الشیعة 215:28، أبواب حد القذف، ب 27، ح 1.

الجهة المصدّرة لحکم المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

هنا لابدّ من تطبیق البحث المتقدّم، فهنا توجد ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: أن لا تکون هناک حکومة عادلة، ولا یوجد فقیه مبسوط الید، فإنّه حینئذ یجوز للحاکم الشرعی الجامع للشرائط إصدار هذا الحکم علی الشخص المرتد أو سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، وفقاً للضوابط المتقدّمة فی البحث، ولا یجوز نقض هذا الحکم من قبل أیّ فقیه وحاکم آخر، إلّا بما تقدّم استثناؤه.

الفرض الثانی: أن تکون هناک حکومة عادلة، وفیها الولی الفقیه الجامع للشرائط، وأن یکون للولی الفقیه حکم معیّن فی هذا المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله، أو یکون الحکم من قبل القاضی الذی نصّبه الولی الفقیه، وحینئذ لا یجوز التصدّی لإصدار الحکم فی هذه المسألة من قبل قاض آخر، ولا یجوز نقض الحکم إلّا بما تقدّم استثناؤه.

الفرض الثالث: أن تکون هناک حکومة عادلة، وولی فقیه مبسوط الید، إلّا أنّه لا یوجد له أو لمن نصّبه حکم فی هذه المسألة الخاصّة، فإنّه یجوز لفقیه آخر جامع للشرائط قد ثبت عنده ارتداد ذلک الشخص أن یحکم علیه بالقتل، ولا یوجد أیّ مانع من إصدار هکذا حکم، کما تقدّم تفصیل ذلک.

الجواب عن بعض الإشکالات:

الإشکال الأوّل: أنّ فتوی الفقیه لیست قانوناً مدوّناً فلا قیمة لها، فلو أصدر أیّ فقیه حکماً بالارتداد علی شخص - غیر الولی الفقیه فی ضمن القانون - لا قیمة لهذا الحکم أصلاً.

ص:377

جواب الإشکال: أتصوّر قد اتّضح الجواب عن هذا الإشکال من خلال البحث المتقدّم، وأنّ فتوی الفقیه وإن لم تکن قانوناً إلّا أنّها حجّة شرعیة علی مقلّدی هذا المجتهد الجامع للشرائط، وهی وظیفة شرعیة ربما یقدّمها المشرّعة علی أیّ قانون آخر.

الإشکال الثانی: أنّ القانون الأساسی لم یعیّن مجازات المرتد وإن عیّنها فی سابّ النبی صلی الله علیه و آله، وعلیه فلا یجوز الحکم علی المرتد بالقتل من قبل فقیه آخر؛ لأنّه لا یحقّ الحکم إلّا للولی الفقیه أو من نصّبه.

جواب الإشکال: أوّلاً: أنّ الولی الفقیه - والذی هو المؤسس للجمهوریة الإسلامیة، والذی قد صیغت مجموعة من بنود القانون الأساسی وفق رسالته العملیة - قد أفتی بذلک، وقد أعمل ذلک الحکم خارجاً وفعلاً، حینما أصدر الفتوی الشهیرة بارتداد سلمان رشدی ولزوم قتله.

ثانیاً: حتّی لو فرض خلو القانون عن ذلک الحکم، فهذا لا یعنی عدم جواز إصدار هکذا حکم من قبل فقیه آخر جامع للشرائط، حیث تقدّم أنّه لا مانع من ذلک أصلاً، کما فی الفرض الثالث المتقدّم، وما تقدّم علیه.

الإشکال الثالث: أنّه مع التسلیم بوجود هکذا حکم، إلّا أنّه لا یحقّ لهذه المحاکم الموجودة إصدار هکذا حکم؛ وذلک لأنّ الکثیر من القضاة فیها لیسوا من الفقهاء، بل هم ممن درسوا القضاء بشکل فتوائی ثمّ عیّنهم الولی الفقیه فی تلک المناصب بالمباشرة أو بالواسطة، لذلک فلا یمکنهم تشخیص بعض المسائل الاجتهادیة، خصوصاً فی مثل الدماء وموضوع

ص:378

الارتداد، ولذلک یجب الاجتناب عن إصدار هکذا أحکام.

جواب الإشکال: أوّلاً: أنّه لیس جمیع القضاة فی تمام المحاکم هم کذلک، بل إنّ فیهم المجتهد الجامع للشرائط، وحینئذ یجوز إصدار تلک الأحکام.

ثانیاً: أنّ هؤلاء القضاة وإن کانوا غیر مجتهدین إلّا أنّهم منصوبون من قبل الولی الفقیه، وهذا معناه أنّهم یعملون باجتهاد وفتوی من نصّبهم التی هی علی شکل قانون مدوّن فی المحاکم، فالحکم الذی یصدر من هؤلاء هو فی الواقع حکم الفقیه الجامع للشرائط.

الجهة الثانیة من البحث: من یحقّ له تنفیذ الأحکام القضائیة

إنّ البحث عن الجهة التی یحقّ لها تنفیذ الأحکام القضائیة لا یقل أهمیة عن الجهة التی یحقّ لها إصدار تلک الأحکام، والبحث عن هذه الجهة یکون فی أمور:

الأمر الأوّل: فی أصل جواز إقامة الحدود والتعزیرات وتنفیذ الأحکام القضائیة فی زمن الغیبة الکبری.

إنّ المشهور بین الفقهاء هو جواز إقامة الحدود والتعزیرات فی زمن الغیبة الکبری، قال الشیخ المفید: «فأمّا إقامة الحدود فهو إلی سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالی، وهم أئمة الهدی من آل محمّد علیهم السلام، ومن نصّبوه لذلک من الأمراء والحکّام، وقد فوّضوا النظر فیه إلی فقهاء

ص:379

شیعتهم مع الإمکان، فمن تمکّن من إقامتها علی ولده وعبده، ولم یخف من سلطان الجور إضراراً به علی ذلک فلیقمها...، وکذلک إن استطاع إقامة الحدود علی من یلیه من قومه، وأمن بوائق الظالمین فی ذلک، فقد لزمه إقامة الحدود علیهم...»(1).

قال الدیلمی فی المراسم العلویة: «فقد فوّضوا علیهم السلام إلی الفقهاء إقامة الحدود والأحکام بین الناس بعد أن لا یتعدّوا واجباً ولا یتجاوزوا حدّاً، وأمروا عامّة الشیعة بمعاونة الفقهاء علی ذلک ما استقاموا علی الطریقة ولم یحیدوا»(2).

قال الشیخ الطوسی: «فأمّا إقامة الحدود فلیس یجوز لأحد إقامتها إلّا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالی، أو من نصّبه الإمام لإقامتها، ولا یجوز لأحد سواهما إقامتها علی حال...، وأمّا الحکم بین الناس والقضاء بین المختلفین فلا یجوز أیضاً إلّا لمن أذن له سلطان الحقّ فی ذلک، وقد فوّضوا ذلک إلی فقهاء شیعتهم فی حال لا یتمکّنون فیه من تولّیه بنفوسهم...»(3).

قال السیّد الخوئی: «یجوز للحاکم الجامع للشرائط إقامة الحدود علی الأظهر»، ثمّ قال معلّقاً علی کلامه هذا: «هذا هو المعروف والمشهور بین

ص:380


1- (1) المقنعة: 810.
2- (2) المراسم العلویة فی الأحکام النبویة: 263.
3- (3) النهایة: 300.

الأصحاب، بل لم ینقل فیه خلاف إلّا ما حکی عن ظاهر ابنی زهرة وإدریس من اختصاص ذلک بالإمام أو بمن نصّبه لذلک، وهو لم یثبت. ویظهر من المحقق فی الشرائع والعلّامة فی بعض کتبه التوقّف»(1).

والمهم فی المقام هو الاستدلال علی ذلک، فقد استدلّ علیه بعدّة أدلة، منها:

الأوّل: أنّ أحد أهمّ الأدلة المتقدّمة فی تشریع أصل القضاء هو حفظ النظام العام وحفظ تماسک المجتمع، وهذه من مهمات الأهداف التی علیها سیرة العقلاء فضلاً عن الشریعة، وهذا هدف وغایة موجودة فی کلّ زمان لا تختص بزمن حضور الإمام المعصوم علیه السلام.

قال السیّد الخوئی: «فالحکمة المقتضیة لتشریع الحدود تقضی بإقامتها فی زمان الغیبة کما تقضی بها زمان الحضور»(2).

الثانی: إطلاق أدلة الحدود والتعزیرات، حیث إنّها لم تقیّد بزمان دون زمان، فکما تدلّ علی جواز ذلک فی زمن الحضور فهی تدلّ علیه فی زمن الغیبة. نعم، لیس الإطلاق بمعنی جواز إقامة ذلک لکلّ أحد، بل للقدر المتیقّن وهو الفقیه الجامع للشرائط، کما سیأتی بیانه.

الثالث: التوقیع الصادر عن الناحیة المقدّسة، وهو ما رواه إسحاق بن

ص:381


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 273:41.
2- (2) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 273:41.

یعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمری رضی الله عنه أن یوصل لی کتاباً قد سُئلت فیه عن مسائل أشکلت علیّ، فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزمان علیه السلام:

«أمّا ما سألت عنه أرشدک الله وثبّتک من أمر...، وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله علیهم»(1).

ورواه الشیخ الطوسی بسنده عن محمّد بن یعقوب الکلینی عن إسحاق بن یعقوب(2).

أمّا الکلام عن سند هذا الحدیث فهو من جهة إسحاق بن یعقوب فقط، وقد أثبتنا اعتباره وإمکان الاعتماد علیه فی کتابنا زید بن علی علیه السلام(3).

فالسند تمام، وأمّا الدلالة فبإطلاق قوله علیه السلام:

«وأمّا الحوادث» فهی تدلّ علی لزوم الرجوع إلی الفقهاء من رواة أحادیثهم علیهم السلام.

الرابع: ما رواه حفص بن غیاث، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام قلت: من یقیم الحدود السلطان أو القاضی؟ فقال: «إقامة الحدود إلی من إلیه الحکم»(4) ، وبما أنّ الحکم فی زمن الغیبة قد ثبت أنّه للمجتهد الجامع

ص:382


1- (1) إکمال الدین وإتمام النعمة: 485.
2- (2) الغیبة للشیخ الطوسی: 290.
3- (3) زید بن علی علیه السلام: 180.
4- (4) تهذیب الأحکام 314:6.

للشرائط، فیثبت جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة أیضاً.

وأمّا السند فالإشکال فیه من جهة القاسم بن محمّد، فهو إمّا الجوهری وهو مجهول، وإمّا الإصفهانی المعروف بکاسولا، فقد نصّ النجاشی علی أنّه غیر مرضی(1) ، وإن ذکرت هناک بعض الشواهد لاثبات اعتباره(2) ، إلّا أنّها بمجموعها غیر ناهضة لإثبات ذلک.

وأمّا علی بن محمّد فهو ابن شیرة القاسانی، وهو ثقة معتبر وإن اضطربت کلمات الشیخ الطوسی فیه، حیث ضعّفه مرّة ووثّقه أخری.

الخامس: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة: «ینظران من کان منکم...، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنّما استخفّ بحکم الله، وعلینا ردّ، والرادّ علینا، الرادّ علی الله...»، فهذه الفقرة من الروایة ناظرة إلی تنفیذ الأحکام القضائیة، وأنّها تکون تابعة لحکم الفقیه الذی جعله الإمام حاکماً بتعیین مطلق یمتد إلی سائر الأزمان، إلی غیر ذلک من الشواهد والأدلة التی تثبت جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة الکبری.

وأمّا ما استشهد به علی عدم جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة فهو ما روی عن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه عن علی علیه السلام أنّه قال: «لا یصلح

ص:383


1- (1) رجال النجاشی: 863] 315].
2- (2) انظر: الرسائل الرجالیة للکلباسی 220:3.

الحکم ولا الحدود ولا الجمعة إلّا بإمام»(1) ، فإنّه بالإضافة إلی الإشکال السندی، فإنّه باطل جزماً فی فقرته الأولی، حیث قد ثبت بأدلة قطعیة کثیرة أنّه یجوز، بل یجب إصدار الأحکام القضائیة فی زمن الغیبة، وکذا تبطل الفقرة الأخیرة، حیث إنّ الجمعة یجوز إقامتها فی زمن الغیبة فضلاً عمّن قال بوجوبها الإ علی رأی نادر جداً، هذا کلّه بناء علی أنّ المراد بالإمام هو الإمام المعصوم علیه السلام، مع أنّ الظاهر لیس کذلک، حیث ذهب الکثیر من العلماء إلی أنّ المراد هو الإمام العادل الذی لابدّ أن تتوفّر فیه شرائط إمام الجماعة، طبعاً بإضافة شرائط القضاء فی باب القضاء.

الأمر الثانی: فی شرائط المجری للأحکام.

هناک مجموعة من الشواهد والبراهین دلّت علی أنّ تنفیذ وإجراء الأحکام القضائیة لا یکون إلّا بید الفقیه الجامع للشرائط، منها:

الأوّل: أنّ الهدف من القضاء أساساً، وکذا تنفیذ الأحکام القضائیة هو حفظ النظام العام، وإبعاد المجتمع عن الفوضی والظلم والتعدّی علی حقوق الآخرین، من هنا فلو فوّض إجراء الأحکام لعموم الناس فإنّه یوجب اختلال النظام، والهرج والمرج، ولا یستقر حجر علی حجر، لذلک فلا مخرج من هذه الفوضی إلّا بتفویض الأمر للفقیه الجامع للشرائط، وهو القدر المتیقّن فی البین.

ص:384


1- (1) دعائم الإسلام 182:1، الجعفریات (الأشعثیات): 43، مستدرک الوسائل 402:17.

قال السیّد الخوئی بعد أن ذکر أدلة جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة: «وهذه الأدلة تدلّ علی أنّه لابدّ من إقامة الحدود، ولکنها لا تدلّ علی أنّ المتصدّی لإقامتها من هو، ومن الضروری أنّ ذلک لم یشرّع لکلّ فرد من أفراد المسلمین، فإنّه یوجب اختلال النظام، وأن لا یثبت حجر علی حجر...، فإذن لابدّ من الأخذ بالمقدار المتیقّن، والمتیقّن هو من إلیه الأمر، وهو الحاکم الشرعی»(1).

الثانی: صحیحة داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«إنّ أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله قالوا لسعد بن عبادة: أرأیت لو وجدت علی بطن امرأتک رجلاً ما کنت صانعاً به؟ قال: کنت أضربه بالسیف، قال: فخرج رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: ماذا یا سعد؟ فقال سعد: قالوا: لو وجدت علی بطن امرأتک رجلاً ما کنت صانعاً به؟ فقلت: أضربه بالسیف، فقال: یا سعد، فکیف بالأربعة شهود؟ فقال: یا رسول الله، بعد رأی عینی وعلم الله أن قد فعل؟ قال: أیّ والله بعد رأی عینک وعلم الله أن قد فعل، إنّ الله قد جعل لکلّ شیء حدّاً، وجعل لمن تعدّی ذلک الحدّ حدّاً»(2).

فهذه الصحیحة تدلّ علی أنّ إجراء الأحکام لا تکون إلّا من قبل وبإذن الحاکم الشرعی الجامع للشرائط حتّی وإن کان المکلّف یری بعینه

ص:385


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 273:41.
2- (2) وسائل الشیعة 14:28، أبواب مقدمات الحدود، ب 2، ح 1.

ومستیقن الحدث.

الثالث: روایة حفص بن غیاث، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام من یقیم الحدود، السلطان أو القاضی؟ فقال:

«إقامة الحدود إلی من إلیه الحکم»(1).

دلالة هذه الروایة واضحة علی المطلوب، حیث إنّ من إلیه الحکم هو الفقیه الجامع للشرائط، کما تقدّم بیانه، إلّا أنّ المشکلة فی هذه الروایة هو من جهة السند، حیث إنّ القاسم بن محمّد الواقع فی السند لم یوثّق إن کان هو الجوهری، وغیر مرضی إن کان هو الإصفهانی، کما تقدّم بیان ذلک.

الرابع: التوقیع الصادر عن الإمام الحجّة علیه السلام:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله»(2).

بناء علی أنّ إقامة الحدود فی زمن الغیبة من تلک الحوادث، والسند تام کما قدّمناه.

إذن یتعیّن بذلک أنّ إجراء الحدود والتعزیرات فی زمن الغیبة إنّما هو بإشراف وبإذن الحاکم الشرعی الجامع للشرائط.

قال الشیخ المفید: «فأمّا إقامة الحدود فهو إلی سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالی، وهم أئمة الهدی من آل محمّد علیهم السلام، ومن

ص:386


1- (1) وسائل الشیعة 49:28، أبواب مقدمات الحدود، ب 28، ح 1.
2- (2) وسائل الشیعة 140:27، أبواب صفات القاضی ب 11، ح 9.

نصّبوه لذلک من الأمراء والحکّام، وقد فوّضوا النظر فیه إلی فقهاء شیعتهم مع الإمکان»(1).

قال العلّامة الحلی: «وهل یجوز للفقهاء إقامة الحدود حال الغیبة؟ جزم به الشیخان(2) ، وهو قوی عندی، ویجب علی الناس مساعدتهم علی ذلک»(3).

وقال فی التذکرة: «إنّ للفقهاء الحکم بین الناس، فکان إلیهم إقامة الحدود، ولما فی تعطیل الحدود من الفساد»(4).

قال الشهید الأوّل: «ویجوز للفقهاء حال الغیبة إقامة الحدود مع الأمن»(5).

إلی غیر ذلک من کلمات کبار الفقهاء وفتاواهم الدالة علی أنّ إقامة الحدود وتنفیذ الأحکام القضائیة لا تکون إلّا بید الفقیه الجامع للشرائط.

الأمر الثالث: فی إجراء الحدود والتعزیرات فی ظلّ حکومة الولی الفقیه.

بناء علی ما تقدّم من أنّ الجهة التی یحقّ لها تنفیذ الأحکام القضائیة

ص:387


1- (1) المقنعة: 810.
2- (2) أی: الشیخ المفید والشیخ الطوسی.
3- (3) تحریر الأحکام 242:2.
4- (4) تذکرة الفقهاء 445:9.
5- (5) اللمعة الدمشقیة: 75.

هی نفس الجهة التی یحقّ لها إصدار تلک الأحکام، أی: أنّ الشروط التی لابدّ أن تتوفّر هناک لابدّ أن تتوفّر هنا؛ حفاظاً علی نظم المجتمع ودفع المفاسد عنه، بالإضافة إلی الروایات المتقدّمة، من هنا نقول: إنّ الجهة المنفّذة للأحکام الشرعیة فی زمن الولی الفقیه الجامع للشرائط هی التی تکون مُعیَّنة ومأذونة من قبله، ولا یحقّ لأحد إجراء تلک الأحکام إلّا بإذنه، هذا فیما إذا کانت هناک جهة معیّنة من قبل الحکومة العادلة، وأمّا إذا لم یکن لها موقف واضح اتّجاه قضیة معیّنة لأیّ سبب کان فالأمر یرجع إلی الحاکم الجامع للشرائط، وبعبارة أخری: تبیّن أنّ الکلام المتقدّم فی الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام القضائیة یأتی نفسه هنا، فالکلام الکلام.

الأمر الرابع: فی بعض مستثنیات قانون تنفیذ الأحکام القضائیة.

ثبت ممّا تقدّم أنّ الجهة التی یحقّ لها تنفیذ الأحکام القضائیة لابدّ أن تتوفّر فیها جمیع الشرائط المشروطة فی الجهة المصدّرة للأحکام، سواء بالمباشرة أو بالواسطة، ولکن هناک بعض الموارد المستثناة من هذه القاعدة، وهی مجموعة من الموارد التی نصّت الروایات علی جواز تنفیذ الحکم فیها من دون الحاجة إلی الرجوع إلی الفقیه الجامع للشرائط، بل یحقّ لکلّ مکلّف أن ینفّذ تلک الأحکام فی تلک الموارد، من تلک الموارد، الموردان محلّ البحث، نذکرهما ونذکر الأدلة علی استثنائها من تلک القاعدة، ونری هل أنّ تلک الأدلة تامّة أولا.

ص:388

المورد الأوّل: المرتد

اشارة

والمرتد علی قسمین: فهو إمّا ملّی، وهو الکافر الذی أسلم ثمّ کفر، وإمّا فطری، وهو الذی نشأ مسلماً وبلغ کذلک ثمّ کفر، لأبوین مسلمین أو لأحدهما.

والکلام فعلاً فی الرجل المرتد الفطری.

والکلام تارة عن حکم المرتد ووجوب قتله، وأخری فیمن ینفّذ هذا الحکم.

وجوب قتل المرتد:

هناک مجموعة من الأدلة دلّت علی أنّ المرتد یجب قتله، منها: الإجماع، ومنها: معتبرة عمار الساباطی، ومنها: صحیحة الحسین بن سعید، وصحیحة علی بن جعفر، وغیرهما، وقد تقدّم نقل هذه الروایات فیما مضی.

فمسألة قتل المرتد من القضایا الواضحة فی الشریعة الإسلامیة.

الجهة المنفّذة لحکم المرتد:

نصّت بعض الروایات علی أنّ المرتد یجوز قتله لمن سمع منه الارتداد، ولا حاجة للرجوع إلی الحاکم الشرعی.

الروایة الأولی: معتبرة عمار الساباطی، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«کلّ مسلم بین مسلمین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله

ص:389

نبوّته وکذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ...»(1).

فإنّ هذه الروایة ظاهرة فی المطلب، حیث إنّ الإمام علیه السلام جوّز قتل المرتد لمن سمع الارتداد من المرتد، وأنّ دمه مباح، وإباحة الدم تعنی أنّه یحقّ لأیّ شخص أن یقتله.

الروایة الثانیة: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«ومن جحد نبیّاً مرسلاً نبوّته وکذّبه فدمه مباح، قال: فقلت: أرأیت من جحد الإمام منکم ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً من الله وبرئ منه ومن دینه فهو کافر مرتد عن الإسلام...، ودمه مباح فی تلک الحال»(2).

فإباحة الدم تقتضی عدم مراجعة الحاکم الشرعی فی ذلک.

وهذه الروایة مخصصة ومقیّدة لعمومات وإطلاقات أدلة ضرورة الرجوع إلی الحاکم الشرعی الجامع للشرائط فی تنفیذ الأحکام الشرعیة، التی تقدّم ذکرها.

إذن فحکم المرتد هو القتل فی الحال؛ لأنّه مهدور الدم. هذا ما یستظهر من الأدلة وسیأتی ذکر بعض الإشکالات علی ذلک والجواب عنها.

ص:390


1- (1) وسائل الشیعة 324:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 3.
2- (2) وسائل الشیعة 323:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 1.

المورد الثانی: سابّ النبی صلی الله علیه و آله

من الموارد التی لا یرجع فیها إلی الحاکم الشرعی فی تنفیذ الحکم هو لزوم قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله علی من سمع منه ذلک، فقد فوّض تنفیذ هذا الحکم لعموم الناس مع الأمن من الضرر، وکذا ألحقّ بالنبی صلی الله علیه و آله الأئمة وفاطمة الزهراء علیهم السلام. والمهم فی المقام هو عرض الأدلة الدالة علی ذلک، وهی:

الأوّل: إجماع علماء الطائفة - متقدّمیهم ومتأخّریهم - علی ذلک.

الثانی: صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد الله علیه السلام:

«أنّه سئل عمّن شتم رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال علیه السلام: «یقتله الأدنی فالأدنی قبل أن یرفع إلی الإمام»(1).

وهذه الروایة صریحة فی المطلب، حیث صرّحت بعدم رفع هذا الأمر إلی أحد.

الثالث: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«إنّ رجلاً من هذیل کان یسبُ رسول الله صلی الله علیه و آله فبلغ ذلک النبی صلی الله علیه و آله...، قال محمّد بن مسلم: قلت لأبی جعفر علیه السلام: أرأیت لو أنّ رجلاً الآن سبّ النبی صلی الله علیه و آله أیقتل؟ قال: إن لم تخف علی نفسک فاقتله»(2).

ص:391


1- (1) وسائل الشیعة 337:28، أبواب حد المرتد، ب 7، ح 1.
2- (2) وسائل الشیعة 213:28، أبواب حد القذف ب 25، ح 3.

فإنّ الإمام الباقر علیه السلام قد أعطی کبری کلیة، وهی أنّ من سبّ النبی صلی الله علیه و آله یقتل مع عدم الخوف علی النفس.

الرابع: صحیحة هشام بن سالم، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

ما تقول فی رجل سبابة لعلی علیه السلام؟ قال: فقال لی: «حلال الدم والله لو لا أن تعم به بریئاً، قال: قلت: لأیّ شیء یعم به برئیاً؟ قال: یقتل مؤمن بکافر»(1).

فقد جعلت الروایة سابّ علی علیه السلام حلال الدم، وهو عبارة أخری عن هدر دمه.

إلی غیر ذلک من الروایات التی دلّت علی تفویض إجراء حکم قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله أو أحد المعصومین علیهم السلام إلی عموم الناس، مع الأمن من الضرر.

قال المرتضی فی الانتصار: «مما کان الإمامیة منفردة به: القول بأنّ من سبّ النبی صلی الله علیه و آله مسلماً کان أو ذمیاً قتل فی الحال»(2).

قال ابن زهرة: «ویقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وغیره من الأنبیاء أو أحد الأئمة علیهم السلام، ولیس علی من سمعه فسبق إلی قتله من غیر استئذان لصاحب

ص:392


1- (1) وسائل الشیعة 215:28، أبواب حد القذف، ب 27، ح 1.
2- (2) الانتصار: 480.

الأمر سبیل، کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة»(1).

قال المحقق الحلی: «یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله، وکذا من سبّ أحد الأئمة علیهم السلام، ویحلّ دمه لکلّ سامع إذا أمن»(2).

وکذا قال فی الشرائع(3) ، وأیضاً الفاضل الآبی فی کشف الرموز(4) ، والعلّامة فی التبصرة(5) ، وغیرها من کلمات العلماء.

ولکن توجد روایة استظهر منها بعض العلماء اشتراط الاستئذان من الحاکم الشرعی الجامع للشرائط، وهی روایة عمار السجستانی، عن أبی عبد الله علیه السلام أنّ عبد الله بن النجاشی قال له - وعمار حاضر -: «إنّی قتلت ثلاثة عشر رجلاً من الخوارج کلّهم سمعته یبرء من علی بن أبی طالب علیه السلام، فسألت عبد الله بن الحسن فلم یکن عنده جواب وعظم علیه، وقال: أنت مأخوذ فی الدنیا والآخرة، فقال أبو عبد الله علیه السلام:

وکیف قتلتهم یا أبا بحیر؟ فقال: منهم من کنت أصعد سطحه بسلّم حتّی أقتله، ومنهم...، وقد استتر ذلک علیّ، فقال أبو عبد الله علیه السلام: لو کنت قتلتهم بأمر الإمام لم یکن علیک شیء فی قتلهم، ولکنک سبقت الإمام فعلیک ثلاثة عشر شاة

ص:393


1- (1) غنیة النزوع: 428.
2- (2) المختصر النافع: 221.
3- (3) شرائع الإسلام 948:4.
4- (4) کشف الرموز 567:2.
5- (5) تبصرة المتعلّمین: 249.

تذبحها بمنی، وتتصدّق بلحمها لسبقک الإمام، ولیس علیک غیر ذلک»(1).

إلّا أنّ هذه الروایة فیها مشکلة سندیة ودلالیة، حیث لا هی تامّة سنداً ولا واضحة الدلالة علی المطلوب، قال السیّد المرعشی النجفی: «ثمّ فی هذه الموارد حیث یقتل الساب، هل یشترط استئذان الحاکم أو یجوز أو یجب ذلک مطلقاً أم مع الأمن من الخوف؟

ذهب المشهور إلی عدم الاستئذان، کما هو ظاهر الروایات الشریفة، إلّا أنّ شیخنا المفید و العلّامة الحلی (قدس سرهما) قالا بالاستئذان من الإمام المعصوم علیه السلام أو نائبه الخاص أو العام کالفقیه الجامع للشرائط، ومستندهما روایة عمار السجستانی، إلّا أنّ السند فیه مجاهیل، والروایة متعرّضة للتبرّی، وکلامنا فی السبّ، وقد أعرض عنها الأصحاب، فللجمع یقال: بحملها علی الاستحباب، وربما کان اللازم احترام الإمام علیه السلام ومنه الاستئذان، فالمختار عدم وجوب الاستئذان فی قتل الساب لله ولرسوله والأمیر وفاطمة الزهراء والأئمة علیهم السلام»(2).

قال السیّد الإمام الخمینی: «من سبّ النبی صلی الله علیه و آله - والعیاذ بالله - وجب علی سامعه قتله، مالم یخف علی نفسه أو عرضه أو نفس مؤمن أو عرضه، ومعه لا یجوز، ولو خاف علی ماله المعتدّ به أو مال أخیه کذلک جاز ترک

ص:394


1- (1) وسائل الشیعة 230:29، باب دیة الناصب، ح 1.
2- (2) القصاص علی ضوء الکتاب والسنّة 332:1.

قتله، ولا یتوقف ذلک علی إذن من الإمام علیه السلام أو نائبه، وکذا الحال لو سبّ بعض الأئمة علیهم السلام»(1).

قال السیّد الخوئی: «یجب قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله علی سامعه مالم یخف الضرر علی نفسه أو عرضه أو ماله الخطیر ونحو ذلک، ویلحق به سبّ الأئمة علیهم السلام وسبّ فاطمة الزهراء علیها السلام، ولا یحتاج جواز قتله إلی الإذن من الحاکم الشرعی»(2).

والنتیجة: أنّه تبیّن من خلال جمیع ما تقدّم أنّ سابّ النبی صلی الله علیه و آله أو أهل بیته علیهم السلام فإنّ حکمه القتل، ولا یرفع أمره إلی الحاکم الشرعی، فهذا المورد أحد الموارد المستثناة من القاعدة المتقدّمة، وهی ضرورة الرجوع إلی الحاکم الشرعی فی تنفیذ الأحکام القضائیة وإجراء الحدود الإلهیة.

وهناک موارد أخری لیس هنا محلّ بحثها، من قبیل: مدّعی النبوّة.

إشکالات وردود:

ذکرت فی المقام بعض الإشکالات علی تفویض إجراء وتنفیذ الأحکام القضائیة لعموم الناس.

الإشکال الأوّل: أنّ الحکم بإهدار دم المرتد لیس فیه إلّا روایة واحدة،

ص:395


1- (1) تحریر الوسیلة 429:2.
2- (2) تکملة منهاج الصالحین، المطبوع فی ذیل المنهاج: 43.

وفیها مشاکل سندیة ودلالیة.

الرد: تبیّن من خلال ما تقدّم أنّ هذا الإشکال عبارة عن دعوی لا أساس لها، ولا تصمد أمام البحث العلمی، حیث تقدّم أنّ هناک مجموعة من الروایات الصحیحة الدالة علی وجوب قتل المرتد، وأنّ دمه مباح لمن سمعه، کما فی صحیحة الحسین بن سعید، حیث سئل الإمام الرضا علیه السلام عن رجل ولد علی الإسلام ثمّ کفر وأشرک هل یستتاب، أو یقتل ولا یستتاب؟ فکتب علیه السلام: یقتل. وکما فی صحیحة عمار الساباطی، عن أبی عبد الله علیه السلام أنّ کلّ مسلم بین المسلمین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، إلی غیر ذلک من الروایات، هذا بالإضافة إلی إجماع الطائفة علی ذلک.

الإشکال الثانی: أنّ تشخیص حقیقة الارتداد عن الإسلام، أو تشخیص المعنی واللفظ الذی یحقق سبّ النبی صلی الله علیه و آله من المسائل التخصصیة العلمیة التی لا یدرکها ویحیط بأبعادها إلّا أصحاب الاختصاص، فکیف یمکن أن یفوّض ذلک إلی عموم الناس؟! فإنّ مثل تشخیص أنّ المرتد الفطری هل هو الذی بلغ مسلماً أو أنّه یکفی أن یولد لأبوین مسلمین؟ وإذا کان تکفی الولادة فهی لأبوین مسلمین أو یکفی أحدهما؟ أو مثل أنّ منکر الضروری هل یعتبر مرتداً أو لا؟ وإذا کان یعتبر مرتداً فما هو معنی الضروری وحقیقته؟ وهکذا هناک مجموعة من المسائل الاجتهادیة التی لا یمکن أن تفوّض إلی عوام الناس، هذا بالإضافة إلی وقوع الاختلاف بین المجتهدین

ص:396

فی تحدید بعض الجزئیات المتقدّمة.

الرد: أوّلاً: أنّ هناک مجموعة من المسائل الاتّفاقیة الواضحة التی یفهمها کلّ شخص، من قبیل: الإنکار الصریح لأصل الإسلام، أو لأصل وجود الخالق، أو لبعض ضروریات الدین التی یعرفها حتّی غیر المسلمین بأنّها من أصل وأساسیات الدین الإسلامی، أو من قبیل: بعض الألفاظ التی تحقق السبّ والإهانة للرسول الأعظم صلی الله علیه و آله أو أحد أهل بیته علیهم السلام، فهذه موارد اتّفاقیة لا خلاف فیها ولا تحتاج إلی اجتهاد أو إعمال نظر.

ثانیاً: أنّ هذا الإشکال فیه خلط بین المفهوم والمصداق؛ وذلک لأنّه لیس المطلوب من المکلّف العادی أن یحدد مفهوم المرتد وشرائط الارتداد وما یحقق ذلک، وإنّما المطلوب من المکلّف هو تطبیق الحکم الشرعی علی موضوعه الخارجی، فإنّ المکلّف کما یأخذ أصل الحکم من الحاکم الجامع للشرائط کذلک یأخذ شروط ذلک الحکم وأبعاده المختلفة بحسب ما یراه المجتهد الذی قلّده، فإنّ المکلّف عند ما یرجع إلی مقلّده یجده یفتی بوجوب قتل المرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، ویجده یفتی بأنّ المرتد الفطری هو الذی ولد لأبوین مسلمین أو لأحدهما، وهو الذی أنکر ضروریاً من ضروریات الدین، وأنّ الضروری هو الذی یکون بمعنی کذا وکذا، فعند ما یری المکلّف أنّ جمیع هذه الشروط قد تحققت فی شخص معیّن، عندها یتحتم علیه تنفیذ ذلک الحکم الشرعی القضائی من دون الحاجة إلی الحاکم الشرعی والاستئذان منه، فعدم الرجوع إلی الحاکم الشرعی فی

ص:397

مجرد التنفیذ لا فی تحدید الحکم والمفاهیم والشروط.

الإشکال الثالث: أنّ الروایات التی تدلّ علی تفویض إجراء وتنفیذ الأحکام القضائیة إلی عموم الناس غیر معتبرة.

الرد: هذه دعوی لا تقل جزافیة عن سابقاتها، حیث تقدّم أنّ هناک مجموعة من الروایات الصحیحة والمعتبرة علی تفویض ذلک إلی عموم الناس، وقد تقدّم عرض تلک الروایات فی بحث المرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، بالإضافة إلی مجموعة من الروایات الأخری التی فوّضت ذلک إلی عموم الناس فی غیر هذین الموردین أیضاً، کما فی مدّعی النبوّة.

الإشکال الرابع: أنّ إجراء الحدود له ضوابط لابدّ من تحدیدها ومراعاتها حین التنفیذ، فمثلاً: هل یقتل المرتد أو الساب شنقاً أو رمیاً أو ضرباً أو بالسکین أو یفتک به کیفما اتّفق؟ فهذه أمور لا یتیسّر لعامّة الناس البت فیها.

الرد: لیس المطلوب من عامّة الناس الاجتهاد فی ذلک، بل یکفیهم التقلید والرجوع إلی المجتهد الجامع للشرائط فی کیفیة التنفیذ، فالکلام هنا نفس الکلام فی الردّ علی الإشکال الثانی المتقدّم.

الإشکال الخامس: أنّ تنفیذ حکم الإعدام والقتل من قبل عموم الناس فی مثل هذه الموارد، لو کانت فیه مصلحة فهی فیما سبق من الأزمان المتقدّمة، ولیست کذلک فی زماننا المعاصر، خصوصاً مع وجود وسائل

ص:398

الإعلام الحدیثة التی تنشر کلّ شیء، وهذا یؤدّی إلی وهن الدین.

الرد: أوّلاً: أنّ حلال محمّد صلی الله علیه و آله حلال إلی یوم القیامة وحرامه کذلک، فما کان فیه مصلحة سابقة ولم یأت دلیل آخر علی خلافه ولم ینط بالعرف والظروف الخارجیة فإنّ مصلحته باقیة.

ثانیاً: لا یوجد أیّ دلیل علی انتفاء المصلحة فی هذه الأزمان المتأخّرة، حیث تبقی هذه دعوی بلا دلیل.

ثالثاً: لو حکّمنا نظر الآخرین فی أحکام الدین لما کان هناک دین أصلاً، فقد أشکل أعداء الدین علی أوضح الأحکام الإسلامیة الاتّفاقیة بین المسلمین، کمسائل القصاص والحج والإرث وغیرها.

فلابدّ أن یکون المدار علی الدلیل فإن تمّ فهو وإلّا فلا، وقد تقدّم تمامیة ذلک.

الإشکال السادس: أنّ القتل والإعدام والخشونة لا تبعث علی الفکر والتدبّر، بل علی العکس فإنّها تؤدّی إلی التحجّر وعدم التفکّر، فهی یمکن أن تکون حافظة للدین فی فترات معیّنة إلّا أنّها تضرّ بالدین مستقبلاً وتنفّر الناس عنه.

الرد: أوّلاً: أنّ الدین دین الله تعالی وهو أدری بدینه، وأعلم بما ینفّر من الدین وما یرغّب فیه، وأعلم بما یحفظ الدین مما یضرّبه، فبما أنّ الدلیل قد تمّ علی ذلک فلا سبیل إلّا بالأخذ به.

ص:399

ثانیاً: أنّ الأمر علی العکس تماماً، فإنّ هذا الحکم - وخصوصاً جعل تنفیذه بید عموم الناس - یؤدّی إلی حفظ الدین، وسدّ الطریق علی من یرید الاستهانة بالدین، ویجعله دیناً خالیاً من البراهین المقنعة والأدلة القویة الواضحة بالدخول والخروج منه، اعتباطاً وتشهیاً أو بقصدٍ وخبث سریرةٍ.

ثالثاً: أنّ التاریخ یثبت خلاف ذلک، فإنّ الأحکام المتقدّمة لم تکن ولیدة الساعة، أو أنّها اکتشفت فی فترات متأخّرة، بل هی کانت منذ بدایات الإسلام الحنیف وما زالت إلی الیوم، ولم نر الإسلام قد تحوّل إلی دین تحجّر، بل هو باتّساع دائم، وفکر متّقد وحیویة علمیة وحریة فکریة.

وأمّا بعض الدعوات المغرضة من هنا وهناک فهی کانت وما زالت وستبقی، وهذه خطوات الشیطان یمنّی بها أولیاءه.

الإشکال السابع: أنّ تفویض إجراء حکم المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله إلی عموم الناس یوجب اختلال النظام والهرج والمرج، حیث إنّه یمکن لأیّ شخص أن یقتل آخر ویدّعی أنّه ارتدّ فقتله، أو أنّه سبّ النبی صلی الله علیه و آله فأقام علیه الحد، وحینئذ لا یبقی حجر علی حجر، وإن قیل له: ما هو الدلیل علی ارتداده أو سبّه النبی صلی الله علیه و آله؟ فإنّه یقول: أنا سمعته، وأنتم أذنتم لی بقتله، فلا یوجد مائز بین الحقّ والباطل، فلا یمکن القول حینئذ بتفویض الحکم إلی عموم الناس.

الرد: أنّ من قتل شخصاً وادّعی أنّه مرتد أو سابّ للنبی صلی الله علیه و آله فهو لا یخرج عن أحد احتمالین:

ص:400

الاحتمال الأوّل: أن لا یکون القاتل متعرّضاً لأیّ ضرر بسبب قتله لهذا الشخص، وحینئذ لا فرق فی أنّه قتله لأجل الارتداد أو لأجل شیء آخر - إلّا فی جهة الثواب والعقاب الأخروی - أی: أنّه لو کان القاتل فی مأمن من الضرر فلا داعی لأن یقول: إنّه قتله لأجل ارتداده أساساً.

ولا فرق حینئذ بین أن تکون هناک بیّنة ودلیل علی الارتداد أو لم تکن، فلا یرد الإشکال فی هذه الحالة أساساً، وهو واضح، ولا حاجة لأن یدّعی القاتل أنّه قتله لأجل ارتداده، فإذا ادّعی ذلک فالقرائن علی صدقه.

الاحتمال الثانی: أن یکون القاتل متعرّضاً للضرر بسبب هذا القتل، فإن کان الضرر من الحاکم الجائر أو من عشیرة وعصبة المقتول بحیث لا ینفع معهم دلیل أو برهان علی ارتداد المقتول، فهنا لا یجوز القتل أساساً، حیث اشترطت الروایات الأمن من الضرر، وحینئذ لا یمکن أن نتصوّر أنّ القاتل یضع نفسه هذا الموضع ویدّعی أنّ المقتول کان مرتداً أو سابّاً للنبی صلی الله علیه و آله.

وأمّا إن کان الضرر من الحاکم العادل بحیث أقیمت الدعوی علی القاتل بأنّه قتل نفساً بغیر ذنب، فهنا لاتشفع له فتوی الفقیه بعدم لزوم الإذن من الحاکم الشرعی بقتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله؛ وذلک لأنّ هذه الفتوی مقیّدة بعدم الضرر علی النفس، فلا تکون هی بنفسها رافعة للضرر المقیّدة هی به، فإنّه لو أقیمت علیه دعوی فإنّ القاضی یتعامل معها کما یتعامل مع بقیة الدعاوی بالبراهین والأدلة والشواهد الشرعیة، فإن لم تکن له حجّة فهو لیس بمأمن من الضرر والعقاب، وبذلک لا یمکن لأیّ شخص

ص:401

أن یقتل شخصاً آخر ثمّ یدّعی علیه أنّه ارتدّ أو سبّ النبی صلی الله علیه و آله، بل لابدّ أن یقیم الدلیل علی ذلک، وإلّا أقیم علیه الحد.

من هنا فلا یمکن استغلال فتوی الفقیه بعدم لزوم الإذن من الحاکم الشرعی لإقامة الحدّ علی المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، وتطبیقها علی النوایا السیئة، وبذلک یتبیّن أنّ هذه الفتوی وهذا الحکم لا یبعث علی الهرج والمرج کما تصوّره البعض.

نعم، لو قتل شخص شخصاً بسبب الارتداد ثمّ لم یستطع إقامة البیّنة علی ذلک فأقیم علیه الحد، فإنّ هذا لا یعنی أنّه مذنب أمام الله تعالی، بل ربما یجازیه الله تعالی خیراً علی فعلته ونیّته بحسب الواقع، فعالَم الواقع غیر عالم البیّنات والشواهد والأدلة الذی هو حیّز دائرة الحکم والقضاء، وهو معنی النبوی المشهور: «إنّما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان... فأیما رجل قطعت له من مال أخیه شیئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1).

الإشکال الثامن: أنّ هدر دم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله لیس هو حکم الله تعالی، وإنّما هو حکم الفقهاء.

الرد: أوّلاً: أنّ هناک مجموعة کبیرة من الروایات دلّت علی هدر دم هؤلاء، فإذا أضفنا إلیهما مثل مدّعی النبوّة حیث نصّت الروایات علی إهدار دمه، فإنّه یمکن أن نتمسّک بالتواتر المعنوی لتلک الأحکام، أو لا أقل من

ص:402


1- (1) وسائل الشیعة 232:27، باب أنّه لا یحلّ لمن أنکر حقاً، ح 1، والسند صحیح.

التواتر الإجمالی - علی القول به - وحینئذ سوف یکون هذا الحکم هو حکم الله تعالی قطعاً وواقعاً لا ظاهراً وظنّاً.

ثانیاً: ما هو المقصود من قول المستشکل أنّ هذا هو حکم الفقهاء؟

هل یقصد أنّه رأی شخصی للفقهاء اعتمدوا فیه علی أذواقهم وسلائقهم الشخصیة؟ فإن کان هذا هو قصده فهذه تهمة خطیرة لفقهاء الأمّة ککل، وعلی هذه الدعوی لا یبقی حجر علی حجر، وهو واضح البطلان. وأمّا إن کان قصده أنّ هذا حکم الفقهاء؛ لأنّه حکم ظاهری ظنّی، حیث اعتمدوا فیه علی حجیة الظهور وحجیة خبر الواحد، فإنّ هذا لا یصلح للإشکال أساساً؛ لأنّ الحکم الظاهری حجّة فی نفسه، وعلیه العمل، وقد دلّت الأدلة القطعیة علی ذلک، بل إنّ نفس هذا المستشکل یعتمد علی حجیة الظهور وحجیة خبر الواحد، بل لا مناص عنهما فی الفقه هذا أوّلاً.

وثانیاً: أنّ الأخبار فی مورد المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله وأمثالهما کثیرة، فقد ادّعی فیها التواتر - کما تقدّم - ولا أقل من الاستفاضة فهی أکثر من کونها خبر آحاد علی کلّ حال، وأمّا من جهة الدلالة فإنّ بعض تلک الأخبار صریحة فی المطلوب.

فإذا أردنا أن نحسن الظن بهذا المستشکل حملنا کلامه علی الجهل بالقواعد والأصول العلمیة.

ویتبیّن بذلک بطلان جمیع الإشکالات المزعومة فی المقام

ص:403

ص:404

فهرس مصادر مقال الجهة المصدّرة للأحکام القضائیة والجهة المنفّذة لها

1 - آداب القضاء و أحکامه، محمّد یزدی.

2 - الانتصار، السید المرتضی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1415 ه -، قم - إیران.

3 - النهایة، الشیخ الطوسی، نشر: انتشارات قدس محمّدی، قم - إیران.

4 - تحریر الأحکام، العلامة الحلّی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، نشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1420 ه -، قم - إیران.

5 - تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة العاشرة 1425 ه -، قم - إیران.

6 - تذکرة الفقهاء، العلامة الحلّی، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1414 ه -، قم - إیران.

7 - تکملة منهاج الصالحین، السید الخوئی، نشر: مدینة العلم، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -، قم - إیران.

ص:405

8 - تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، تحقیق و تعلیق: السید حسن الخرسان، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة 1364 ش، طهران - إیران.

9 - الجعفریات (الأشعثیات) محمّد بن الأشعث الکوفی، نشر: مکتب نینوی، طهران - إیران.

10 - جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، مراجعة و تصحیح: رضا جعفر مرتضی العاملی و محمّد علی حاتم، نشر: دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الأولی 1430 ه -، بیروت - لبنان.

11 - دعائم الإسلام، القاضی النعمان، تحقیق: آصف فیضی، نشر: دار المعارف، سنة الطبع 1963 م - 1383 ه -، القاهرة - مصر.

12 - رجال النجاشی، الشیخ أحمد بن علی النجاشی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الخامسة 1416 ه -، قم - إیران.

13 - الرسائل الرجالیة، محمّد الکلباسی، تحقیق: محمّد حسین الدرایتی، نشر: دار الحدیث، الطبعة الأولی 1422 ه -، قم - إیران.

14 - رسالة نقد مجازات مرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، محسن کدیور، سنة الطبع 1390 ش.

15 - زید بن علی، الشیخ رافد التمیمی، نشر: مرکز الأبحاث العقائدیة، الطبعة الأولی 1429 ه -، قم - إیران.

ص:406

16 - شرائع الإسلام، المحقق الحلّی، تعلیق: السید صادق الشیرازی، نشر: انتشارات استقلال، الطبعة الثانیة 1409 ه -، طهران - إیران.

17 - صحیفة نور، الإمام الخمینی.

18 - العروة الوثقی، السید محمّد کاظم الیزدی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1417 ه -، قم - إیران.

19 - غنیة النزوع، ابن زهرة الحلبی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، نشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1417 ه -، قم - إیران.

20 - الغیبة، الشیخ الطوسی، تحقیق: الشیخ عبد الله الطهرانی والشیخ علی أحمد ناصح، نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1411 ه -، قم - إیران.

21 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، نشر: منشورات الاجتهاد، الطبعة الرابعة 1429 ه -، قم - إیران.

22 - القصاص علی ضوء الکتاب والسنّة، السید عادل العلوی، تقریرات بحث السید المرعشی النجفی، نشر: مکتبة السید المرعشی، سنة الطبع 1415 ه -، قم - إیران.

23 - القضاء فی شرح العروة الوثقی، محمّد الیزدی.

ص:407

24 - القضاء فی الفقه الإسلامی، السید کاظم الحائری، نشر: مجمع الفکر الإسلامی، الطبعة الأولی 1415 ه -، قم - إیران.

25 - کشف الرموز، الفاضل الآبی، تحقیق: الشیخ علی پناه الإشتهاردی، والحاج آغا حسین الیزدی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1408 ه -، قم - إیران.

26 - کمال الدین و تمام النعمة، الشیخ الصدوق، تصحیح و تعلیق: الشیخ علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1405 ه -، قم - إیران.

27 - اللمعة الدمشقیة، محمّد مکی العاملی (الشهید الأوّل)، نشر: دار الفکر، الطبعة الأولی 1411 ه -، قم - إیران.

28 - مبانی تکملة المنهاج ( ضمن موسوعة السید الخوئی)، أبو القاسم الخوئی، نشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثالثة 1428 ه -، قم - إیران.

29 - المختصر النافع، المحقق الحلّی، نشر: مؤسسة البعثة، الطبعة الثالثة 1410 ه -، طهران - إیران.

30 - المراسم العلویة فی الأحکام النبویّة، الشیخ حمزة الدیلمی، تحقیق: السید محسن الحسینی الأمینی، نشر: المعاونیة الثقافیة للمجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام، سنة الطبع 1414 ه -، قم - إیران.

ص:408

31 - مسالک الإفهام، زین الدین بن علی العاملی (الشهید الثانی)، تحقیق و نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -، قم - إیران.

32 - مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة المحققة الأولی 1408 ه -، قم - إیران.

33 - مستند الشیعة فی أحکام الشریعة، أحمد النراقی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1415 ه -، قم - إیران.

34 - المقنعة، الشیخ المفید، نشر و تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة 1410 ه -، قم - إیران.

35 - النهایة، الشیخ الطوسی، نشر: انتشارات قدس محمّدی، قم - إیران.

36 - وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، سنة الطبع 1414 ه -، قم - إیران.

ص:409

ص:410

الفهرس

حکم قتل المرتد (شبهات وردود)

بقلم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته)

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن 8

المحور الثانی: قتل المرتد المستفاد من الروایات 24

المحور الثالث: هل قتل المرتد إشاعة للفوضی؟ 33

المحور الرابع: هل هذا الحکم وهن للدین؟ 41

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم علیه السلام؟ 44

المحور السادس: هل یتنافی وجوب قتل المرتد مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله 45

القسم ثانی

إقامة الحدود والتعزیرات

هل یجوز إقامة الحدّ علی المذنب فی الدول غیر الإسلامیة؟

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

آراء الفقهاء فی المسألة 61

هل یخصّص الحد بغیر القتل؟ 69

حکم المقیم فی الأرض غیر الإسلامیة 71

ص:411

حکم إبدال التعزیر بالغرامة المالیة وأثر ذلک فی التهاون بالجریمة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

تفریق الفقهاء بین البیّنة والإقرار 84

هل عفو الإمام فی صورة الإقرار مشروط بتوبة المقر؟ 91

هل یجوز التعزیر بالغرامة المالیة؟ 102

الأحکام التی توجب وهن الدین (قتل المرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله)

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

نقاط محوریة 114

النقطة الأولی: الرحمة والغضب فی الدین الإسلامی 114

النقطة الثانیة: حقیقة الحکم الظاهری 116

النقطة الثالثة: حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله 117

النقطة الرابعة: الوهن فی الدین 119

معنی العرف 120

أقسام العرف 121

شرائط العرف 121

الإشکال الأوّل: موهنیة حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله للدین 122

التفریق بین أصل الحکم وبین إجراء الحکم. 124

أصل الحکم بالقتل یوجب الوهن 124

الأصل فی الثابت والمتغیّر من الأحکام 126

موازین الثابت والمتغیّر 127

ص:412

تنفیذ الحکم یوجب الوهن 133

الإشکال الثانی: الأمر العقلائی مقدّم علی فتاوی الفقهاء 134

الإشکال الثالث: لا فرق بین حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله 138

الإشکال الرابع: ابتعاد الفقهاء عن موازین نبی الرحمة 140

حکم عقوبة الاتّجار بالإنسان الحر

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

رأی الفقهاء فی المسألة 150

الرأی المختار 159

القسم الثالث

حدّ السرقة

زراعة العضو المقطوع فی حدّ السرقة

بقلم: الشیخ محمّد رضا السلامی

حقّ الأولویة بالبدن وأعضائه 170

شرطیة الحرز فی حکم قطع ید السارق

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

شرطیة الحرز 215

الإشکالات الواردة علی هذا الشرط 216

تعریف الحرز 218

عرض الروایات فی المقام 221

الروایات المعارضة 227

المستفاد من الروایات فیما یرتبط بالمقام 234

ص:413

حکم تعدد السارقین لمال واحد

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

شروط الحدّ للسارق المنفرد 248

أدلّة القول بالقطع 253

أدلّة القول بعدم القطع 255

القسم الرابع

السجن والتعزیرات

البحث فی السجن وأحکامه فی الشریعة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

معنی السجن لغة 279

تشریع السجن فی الإسلام 280

موارد الحبس الواردة فی الشریعة الإسلامیة 284

أدلة شرعیة الحبس فی الفقه الإسلامی 285

حقوق السجین فی الإسلام 308

المطلب الأوّل: مکان السجین 308

المطلب الثانی: فی حقوق المحبوس 310

عرض بعض المؤخذات حول الحبس فی الشریعة الإسلامیة 316

الجهة المصدّرة للأحکام القضائیة والجهة المنفّذة لها

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

القاضی المنصوب وقاضی التحکیم 342

موارد جواز نقض الحکم الأوّل 354

ص:414

محکمة التمییز 366

اختلاف القانون عن الرسالة العملیة 370

بحث تطبیقی فی المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله 374

أدلة قتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله 374

أدلة قتل المرتد الفطری 375

أدلة قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله 376

المورد الأوّل: المرتد 389

وجوب قتل المرتد 389

الجهة المنفّذة لحکم المرتد 389

المورد الثانی: سابّ النبی صلی الله علیه و آله 391

الفهرس 411

ص:415

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.