بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 5

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:بحوث فی القواعد الفقهیه [کتاب]: تقریرات محمدالسند/ بقلم مشتاق الساعدی.

مشخصات نشر:قم: موسسه محکمات الثقلین؛ تهران: نشر صادق، 13 -

مشخصات ظاهری:5ج.

شابک:978-600-5215-35-9

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 1437ق.= 2016م.= 1395.

یادداشت:کتاب حاضر بر اساس تقریرات محمد السند نوشته شده است.

موضوع:فقه -- قواعد

موضوع:Islamic law -- *Formulae

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:ساعدی، مشتاق

رده بندی کنگره:BP169/5/س9ب3 1300ی

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:4803290

ص :1

اشارة

بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 5

تقریرات محمدالسند

بقلم مشتاق الساعدی

ص :2

هویة الکتاب

عنوان الکتاب: بحوث فِی القواعد الفقهیة ---- الجزء الخامس

المؤلف: تقریرا لأبحاث المرجع الدینی المحقق الشَّیْخ مُحمَّد السَّنَد

بقلم: الشَّیْخ مشتاق الساعدی

سنة الطبع: 2017 میلادیة

عدد صفحات الکتاب: 520

الإخراج الفنی: السِّیّد عبدالله الهاشمی - النجف الأشرف

حقوق الطبع محفوظة

ص:3

ص:4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی خیر الخلق اجمعین محمد النبی الامین واله الطاهرین المعصومین.

بین یدی القارئ العزیز نطرح الجزء الخامس من موسوعة(بحوث فی القواعد الفقهیة) التی هی نتاج استاذنا المحقق سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد السند(دام ظله الشریف).

وقد جاء هذا الجزء متمما للاجزاء الاربعة الماضیة التی بحث فیها مجموعة من القواعد الفقهیة فی ابحاث الخارج الفقهیة والاصولیة, بالاضافة الی فوائد لها صلة بتلک القواعد.

وجاء هذا الجزء حاویا لقواعد متنوعة اکثرها من باب القصاص والقضاء بالاضافة لقواعد اخری.

وقواعد هذا الجزء هی:

1 - قاعدة لا یبطل دم امرئ مسلم.

2 - قاعدة فی هدر دم من هتک او اعتدی علی غیره دفعا او عقوبة.

3 - قاعدة فی اللوث والتهمة واثارها القانونیة.

ص:5

4 - قاعدة فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث.

5 - قاعدة قضائیة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا.

6 - قاعدة فی باب الجنایات: (تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة).

7 - قاعدة باب الجنایات: (لا یجنی الجانی علی اکثر من نفسه).

8 - قاعدة فی(تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس)

9 - قاعدة فی هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا.

10 - قاعدة فی القصاص العرفی.

11 - قاعدة المثلیة فی الاطراف والاعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل.

12 - قاعدة فی سقوط القصاص.

13 - قاعدة فی غایة القصاص.

14 - قاعدة فی قصاص الاطراف وانها لمجرد ابانة العضو او للشین ایضا؟.

15 - قاعدة فی تبعیض القصاص فی الاطراف والجراحات.

16 - قاعدة: ان الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا.

17 - قاعدة فی باب الصلاة: (فِی إجزاء الاضطراری بَعْض الوقت).

18 - قاعدة فی فقه العقیدة: (التوسل عبادة توحیدیة) وهی من تقریر فضیلة الاخ الشیخ محمد عیسی ال مکباس دام توفیقه.

19 - قاعدة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی: قاعدة التعایش السلمی(التقریب

ص:6

بین المذاهب), وهی من تقریر فضیلة الاخ الشیخ علی حمود العبادی دام توفیقه.

20 - قاعدة فی(شرطیة الولایة فی صحة التوبة والعبادات وقبولها ونیة القربة), وهی من تقریر فضیلة الاخ الشیخ قیصر التمیمی دام توفیقه.

هذا تمام القواعد التی بحثها سماحة الشیخ الاستاذ دام ظله فی هذا الجزء راجیا من الله تعالی ان یمد بعمره الشریف لخدمة الاسلام والمسلمین انه قریب مجیب.

وقع الفراغ منه فی جوار مولی الموحدین

وسید الوصیین علیه السلام فی 15 من ذی القعدة 1437.

مشتاق الساعدی

ص:7

ص:8

القاعدة الأولی: لا یطل أو (لا یبطل) دم امرئ مسلم

ص:9

ص:10

القاعدة الاولی: لا یطل أو (لا یبطل) دم امرئ مسلم أو (کل مقتول غیر عدوانی تضمن دیتة من بیت المال)

محل القاعدة:

مورد القاعدة فیما اذا استند القتل الی انسان قاتل ولکن اما عدوانی لم یعثر علیه او کان القاتل معذورا کالمدافع مع قصور المقتول او المقتول بحکم القاضی المعذور ومن ثم فما ورد فی(الجبار) وهو الهدر انما استند القتل الی غیر انسان قاتل وسیاتی ذکر جملة روایات دالة علی تحدید موضوع القاعدة.

تحریر المسالة:

ان دیة المجنون المقتول مدافعة من القاتل یمکن تقریر ثبوتها بعدة امور, منها:

الامر الأول: صحیحة ابی بصیر: قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا مَجْنُوناً - فَقَالَ إِنْ کَانَ الْمَجْنُونُ أَرَادَهُ - فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِیَةٍ - وَیُعْطَی وَرَثَتُهُ دِیَتَهُ مِنْ بَیْتِ مَالِ الْمُسْلِمِینَ - قَالَ وَإِنْ کَانَ قَتَلَهُ مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونَ الْمَجْنُونُ أَرَادَهُ - فَلَا قَوَدَ لِمَنْ لَا یُقَادُ مِنْهُ - وَأَرَی أَنَّ عَلَی قَاتِلِهِ الدِّیَةَ فِیمَالِهِ - یَدْفَعُهَا إِلَی وَرَثَةِ الْمَجْنُونِ وَیَسْتَغْفِرُ الله وَیَتُوبُ إِلَیْهِ).

وکذلک الروایة الصحیحة الی ابی الورد قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِالله أَوْ أَبِی

ص:11

جَعْفَرٍ علیهما السلام أَصْلَحَکَ الله رَجُلٌ حَمَلَ عَلَیْهِ رَجُلٌ مَجْنُونٌ فَضَرَبَهُ الْمَجْنُونُ ضَرْبَةً فَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ السَّیْفَ مِنَ الْمَجْنُونِ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ أَرَی أَنْ لَا یُقْتَلَ بِهِ وَلَا یُغْرَمَ دِیَتَهُ وَتَکُونُ دِیَتُهُ عَلَی الْإِمَامِ وَلَا یَبْطُلُ دَمُهُ (1) .

الامر الثانی: طائفة من روایات(لا یطل او (لا یبطل) دم امرئ مسلم):

1 - روایة بُرَیْدِ بْنِ مُعَاوِیَةَ الْعِجْلِیِّ قَالَ سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْداً فَلَمْ یُقَمْ عَلَیْهِ الْحَدُّ وَلَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ حَتَّی خُولِطَ وَذَهَبَ عَقْلُهُ ثُمَّ إِنَّ قَوْماً آخَرِینَ شَهِدُوا عَلَیْهِ بَعْدَ مَا خُولِطَ أَنَّهُ قَتَلَهُ فَقَالَ إِنْ شَهِدُوا عَلَیْهِ أَنَّهُ قَتَلَ حِینَ قَتَلَ وَهُوَ صَحِیحٌ لَیْسَ بِهِ عِلَّةٌ مِنْ فَسَادِ عَقْلٍ قُتِلَ بِهِ وَإِنْ لَمْ یَشْهَدُوا عَلَیْهِ بِذَلِکَ وَکَانَ لَهُ مَالٌ یُعْرَفُ دُفِعَ إِلَی وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الدِّیَةُ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ وَإِنْ لَمْ یَتْرُکْ مَالًا أُعْطِیَ الدِّیَةُ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ وَلَا یُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (2)).

یقرب ذلک:

ان الضمان باللوث مع احتمال عدم ضمان المتهم لیس الا حیطة علی حرمة دم المسلم.

2 - معتبرة ابی بصیر: سألتُ أبا عبد الله.... فَإِذَا ادَّعَی الرَّجُلُ عَلَی الْقَوْمِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا کَانَتِ الْیَمِینُ لِمُدَّعِی الدَّمِ قَبْلَ الْمُدَّعَی عَلَیْهِمْ فَعَلَی الْمُدَّعِی أَنْ یَجِیءَ بِخَمْسِینَ یَحْلِفُونَ أَنَّ فُلَاناً قَتَلَ فُلَاناً فَیُدْفَعُ إِلَیْهِمُ الَّذِی حُلِفَ عَلَیْهِ فَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا وَإِنْ شَاءُوا قَبِلُوا الدِّیَةَ وَإِنْ لَمْ یُقْسِمُوا کَانَ عَلَی الَّذِینَ ادُّعِیَ عَلَیْهِمْ أَنْ یَحْلِفَ مِنْهُمْ

ص:12


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 72.
2- (2) تهذیب الأحکام: ج 10، ص 232.

خَمْسُونَ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا فَإِنْ فَعَلُوا أَدَّی أَهْلُ الْقَرْیَةِ الَّذِینَ وُجِدَ فِیهِمْ وَإِنْ کَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ أُدِّیَتْ دِیَتُهُ مِنْ بَیْتِ مَالِ الْمُسْلِمِینَ فَإِنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یُطَلَّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (1) .

3 - ما رواه جَمِیلِ بْنِ دَرَّاجٍ وَابْنِ حُمْرَانَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: قُلْنَا أَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِی الْحُدُودِ قَالَ فِی الْقَتْلِ وَحْدَهُ إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (2) .

الامر الثالث:

موثقة ابی بصیر عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ غَشِیَهُ رَجُلٌ عَلَی دَابَّةٍ - فَأَرَادَ أَنْ یَطَأَهُ فَزَجَرَ الدَّابَّةَ - فَنَفَرَتْ بِصَاحِبِهَا فَطَرَحَتْهُ وَکَانَ جِرَاحَةٌ أَوْ غَیْرُهَا فَقَالَ لَیْسَ عَلَیْهِ ضَمَانٌ - إِنَّمَا زَجَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَهِیَ الْجُبَارُ(3).

قد یقال:

ان الروایة نافیة للضمان من بیت المال نظرا لقوله علیه السلام وهی الجبار؟

فانه یقال:

الصحیح انها نافیة للضمان عن القاتل المدافع وعن تسبیبه فلم یبق الا فعل الدابة وهی جبار, فضم کلا المقدمتین وهی نفی الضمان عن نفسه وهو الزاجر واسناد الفعل للدابة ینتج عدم الدیة لا من الزاجر ولا من بیت المال, ومفهوم

ص:13


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 157.
2- (2) الکافی: ج 7، ص 390.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 29، ص 275.

ذلک انه لو لم یکن الفعل مستندا للعجماء ونحوها من أفعال السوانح الطبیعیة لتقرر الضمان من بیت المال.

الامر الرابع:

ان فی جملة من الروایات حصر المهدور دمه من المسلمین بالمعتدی بوصفه دمه هدر, ومفهومها هو ان دم المسلم محترم ومع عدم ضمان دمه لاحد فلا محال ان ضمانه من بیت المال.

ویدل علی ذلک:

روایة الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أَیُّمَا رَجُلٍ قَتَلَهُ الْحَدُّ فِی الْقِصَاصِ فَلَا دِیَةَ لَهُ - وَقَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ عَدَا عَلَی رَجُلٍ لِیَضْرِبَهُ - فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَجَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ - وَقَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ - لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْفَفَقَئُوا عَیْنَهُ - أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَقَالَ مَنْ بَدَأَ فَاعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (1)).

وروایة السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ آبَائِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ شَهَرَ سَیْفاً فَدَمُهُ هَدَرٌ(2).

وغیرهما.

ویقرب بان عمومات احترام دم المسلم تدل علی ان دمه محترم وبضمیمة عدم ضمان القاتل بموجب ما یسقط الضمان والمفروض ان المقتول فی قتله لم یکن عدوانیا فلا محالة یکون مقتضی اطلاق حرمة دمه ضمان دیته من بیت المال.

ص:14


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 59.
2- (2) المصدر: ص 239.

القاعدة الثانیة: فی هدر دم من هتک او اعتدی علی غیره دفعا او عقوبة

ص:15

ص:16

القاعدة الثانیة: فی هدر دم من هتک أو اعتدی

علی غیره دفعا أو عقوبة

تحریر القاعدة:

وتحریر القاعدة فی مقامین مع ذکر فائدة:

اما القاعدة فتدرس حیثیة عامة وهی وظیفة الزوج تجاه المعتدی علی زوجته بالزنا.

واما الفائدة فتذکر حیثیة خاصة وهی حکم ووظیفة الزوج تجاه زوجته الزانیة.

القاعدة فی مقامین:

المقام الأول:

الاقوال:

الشیخ فی النهایة وابن ادریس السرائر قیدا الحکم بکون الزانی والزانیة محصنین, ویستفاد من هذا القید انه من باب الترخیص فی إقامة الحد بینهما.

والمحقق الحلی فی النکت جزم بالاطلاق, قال قدس سره: (وقد روینا فیما سلف

ص:17

عن جماعة: أن من دخل داراً للتلصّص أو الزنا، فدمه هدر).

حکی العلامة فی التحریر عن الشیخ قد رخص فی الغیبة إقامة الحدود علی المملوک والولد والزوجة ان امن الضرر.

وفی الفقه علی المذاهب الأربعة ان قتل الزانی بامراته مما اتفقت علیه کل الشرائع.

المقام الثانی:

الأدلة:

وتدل علی ذلک عدة ادلة:

الدلیل الأول:

القران الکریم: قوله تعالی: (وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَی اللّهِ)1 .

وقوله تعالی: (فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ)2 .

وقوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِکَ لَهُمْ خِزْیٌ فِی الدُّنْیا وَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِیمٌ ( 33)3 .

فالایات کما تشرع الرد علی الاعتداء بعد وقوعه کذلک یمکن استفادة

ص:18

شمولها لما قبل وقوع الاعتداء بالقتل مثلا, وذلک لان من استباح حریم الغیر بالمخاطرة والمعرضیة للقتل او مادونه فقد قام بالاعتداء علی الغیر, فللغیر ان یقابل ذلک بالمثل لدفع المخاطر فهو نحو من انحاء الدفع, وهو کما یکون علی صعید فردی فهو قد یکون علی صعید جماعی کما حصل من الرسول الأعظم مع بنی النظیر وبنی قریظة وغیرهم.

الدلیل الثانی:

طوائف من الروایات:

الطائفة الأولی:

مصححة عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً - فَلَمَّا کَانَ لَیْلَةُ الْبِنَاءِ - عَمَدَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی رَجُلٍ صَدِیقٍ لَهَا - فَأَدْخَلَتْهُ الْحَجَلَةَ - فَلَمَّا ذَهَبَ الرَّجُلُ یُبَاضِعُ أَهْلَهُ - ثَارَ الصَّدِیقُ فَاقْتَتَلَا فِی الْبَیْتِ فَقَتَلَ الزَّوْجُ الصَّدِیقَ - وَقَامَتِ الْمَرْأَةُ فَضَرَبَتِ الرَّجُلَ فَقَتَلَتْهُ بِالصَّدِیقِ - قَالَ تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ دِیَةَ الصَّدِیقِ وَتُقْتَلُ بِالزَّوْجِ (1).

ورواها الشیخ الطوسی والکلینی باسناد اخر.

الطائفة الثانیة:

ما ورد انه من اطلع علی دار قوم لینظر عوراتهم:

وهنا نقاط:

1 - لسان هذه الطائفة لیس جواز ذلک للدفاع بل ظاهرها انه جزاء وحد

ص:19


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 258.

عقوبة, بشهادة عدم کونه دفعا بحسب اطلاق هذه الروایات المرخصة بفقأ العین من دون انذار وزجر مسبق.

2 - ان کثیر منها صحاح.

3 - ان للاطلاع علی العورات مراتب منها ما یصل الی اباحة دمه.

4 - ان الحکم بجواز العقوبة غیر متوقف علی اثبات ذلک بالبینة وان کان الاثبات هو لدرء القصاص.

وهی عدة روایات:

1 - صحیح حَمَّادِ بْنِ عِیسَی عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: بَیْنَمَا رَسُولُ الله فِی بَعْضِ حُجُرَاتِهِ - إِذِ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِی شَقِّ الْبَابِ وَبِیَدِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله مِدْرَاةٌ - فَقَالَ لَوْ کُنْتُ قَرِیباً مِنْکَ لَفَقَأْتُ بِهِ عَیْنَکَ (1).

2 - معتبرة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَی الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ - وَقَالَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَی مُؤْمِنٍ فِی مَنْزِلِهِ - فَعَیْنَاهُ مُبَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ فِی تِلْکَ الْحَالِ - وَ مَنْ دَمَرَ عَلَی مُؤْمِنٍ بِغَیْرِ إِذْنِهِ - فَدَمُهُ مُبَاحٌ لِلْمُؤْمِنِ فِی تِلْکَ الْحَالَةِ الْحَدِیثَ (2).

3 - معتبرة عُبَیْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام یَقُولُ بَیْنَمَا رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله فِی حُجُرَاتِهِ مَعَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ - وَمَعَهُ مَغَازِلُ یَقْلِبُهَا إِذْ بَصُرَ بِعَیْنَیْنِ تَطَّلِعَانِ - فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّکَ تَثْبُتُ لِی لَقُمْتُ حَتَّی أَنْخُسَکَ - فَقُلْتُ نَفْعَلُ نَحْنُ مِثْلَ هَذَا إِنْ فُعِلَ مِثْلُهُ - فَقَالَ إِنْ خَفِیَ لَکَ فَافْعَلْهُ (3).

ص:20


1- (1) من لا یحضره الفقیه: ج 4، ص 101.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 29، ص 66.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 29، ص 67.

4 - مصحح الْعَلَاءِ بْنِ الْفُضَیْلِ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: إِذَا اطَّلَعَ رَجُلٌ عَلَی قَوْمٍ یُشْرِفُ عَلَیْهِمْ - أَوْ یَنْظُرُ مِنْ خَلَلِ شَیْ ءٍ لَهُمْ فَرَمَوْهُ - فَأَصَابُوهُ فَقَتَلُوهُ أَوْ فَقَئُوا عَیْنَیْهِ فَلَیْسَ عَلَیْهِمْ غُرْمٌ - وَقَالَ إِنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ حُجْرَةِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله فَجَاءَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله - بِمِشْقَصٍ لِیَفْقَأَ عَیْنَهُ فَوَجَدَهُ قَدِ انْطَلَقَ - فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله أَیْ خَبِیثُ - أَمَا وَالله لَوْ ثَبَتَّ لِی لَفَقَأْتُ عَیْنَکَ (1).

5 - صحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی حَدِیثٍ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْ - فَفَقَئُوا عَیْنَهُ أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَقَالَ مَنِ اعْتَدَیفَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (2).

الطائفة الثالثة:

ما ورد فی جواز قتال اللص والمحارب:

1 - موثق السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّ لِصّاً دَخَلَ عَلَی امْرَأَتِی فَسَرَقَ حُلِیَّهَا - فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ لَوْ دَخَلَ عَلَی ابْنِ صَفِیَّةَ - لَمَا رَضِیَ بِذَلِکَ حَتَّی یَعُمَّهُ بِالسَّیْفِ (3).

2 - وفی روایة جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیهما السلام قَالَ: إِنَّ الله لَیَمْقُتُ الْعَبْدَ یُدْخَلُ عَلَیْهِ فِی بَیْتِهِ فَلَا یُقَاتِلُ)(4).

3 - روایة وَهْبٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیهما السلام أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَخَلَ عَلَیْکَ رَجُلٌ یُرِیدُ

ص:21


1- (1) المصدر: ص 68.
2- (2) المصدر: ص 68.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 15، ص 119.
4- (4) وسائل الشیعة: ج 15، ص 119.

أَهْلَکَ وَمَالَکَ - فَابْدُرْهُ بِالضَّرْبَةِ إِنِ اسْتَطَعْتَ - فَإِنَّ اللِّصَّ مُحَارِبٌ لله وَلِرَسُولِهِ - فَمَا تَبِعَکَ مِنْهُ شَیْ ءٌ فَهُوَ عَلَیَّ (1).

4 - ومثلها قویة الحسین بن علوان.

5 - مرسل ابْنِ أَبِی عُمَیْرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: قَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام إِذَا دَخَلَ عَلَیْکَ اللِّصُّ الْمُحَارِبُ فَاقْتُلْهُ - فَمَا أَصَابَکَ فَدَمُهُ فِی عُنُقِی(2).

6 - مصحح الْحُسَیْنِ بْنِ أَبِی الْعَلَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ یُقَاتِلُ دُونَ مَالِهِ - فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ - فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِیدِ فَقُلْتُ أَ یُقَاتِلُ أَفْضَلُ أَوْ لَایُقَاتِلُ - فَقَالَأَمَّا أَنَا فَلَوْ کُنْتُ لَمْ أُقَاتِلْ وَتَرَکْتُهُ (3).

7 - معتبرة الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ الرِّضَا علیه السلام«فِی کِتَابِهِ إِلَی الْمَأْمُونِ قَالَ: (وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِیدٌ»(4).

8 - وَ بِأَسَانِیدَ تَقَدَّمَتْ فِی إِسْبَاغِ الْوُضُوءِعَنْ رَسُولِ الله صلوات الله علیه وعلی اله: قَالَ: یُبْغِضُ الله تَبَارَکَ وَتَعَالَی رَجُلًا - یُدْخَلُ عَلَیْهِ فِی بَیْتِهِ فَلَا یُقَاتِلُ (5).

وغیرها.

ص:22


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) المصدر: ص 121.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 15، ص 122.
4- (4) المصدر: ص 123.
5- (5) المصدر: ج 29، ص 60.

الطائفة الرابعة:

ما جاء فی السارق الداخل علی امراة او کابرها مطلقا.

1 - معتبرة عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَبِعَتْهَا نَفْسُهُ فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام یَضْمَنُ مَوَالِیهِ - الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَیَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمَا کَابَرَهَا عَلَی فَرْجِهَا - لِأَنَّهُ زَانٍ وَهُوَ فِی مَالِهِ یَغْرَمُهُ - وَلَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ لِأَنَّهُ سَارِقٌ (1).

2 - روایة عَبْدِ الله بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَابَعَتْهُ نَفْسُهُ - فَکَابَرَهَا عَلَی نَفْسِهَا فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام اقْضِ عَلَی هَذَا کَمَا وَصَفْتُ لَکَ - فَقَالَ یَضْمَنُ مَوَالِیهِ الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَیَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمُکَابَرَتِهَا عَلَی فَرْجِهَا - إِنَّهُ زَانٍ وَهُوَ فِی مَالِهِ عَزِیمَةٌ - وَلَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ کَابَرَ امْرَأَةً لِیَفْجُرَ بِهَا فَقَتَلَتْهُ فَلَا دِیَةَ لَهُ وَلَا قَوَدَ(2).

3 - روایة مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَیْلِ عَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ لِصٍّ دَخَلَ عَلَی

ص:23


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) المصدر السابق.

امْرَأَةٍ وَهِیَ حُبْلَی - فَقَتَلَ مَا فِی بَطْنِهَا - فَعَمَدَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی سِکِّینٍ فَوَجَأَتْهُ بِهَا فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ هَدَرٌ دَمُ اللِّصِّ (1) .

4 - معتبرة عبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام یَقُولُ فِی رَجُلٍ أَرَادَ امْرَأَةً عَلَی نَفْسِهَا حَرَاماً - فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَأَصَابَتْ مِنْهُ مَقْتَلًا - قَالَ لَیْسَ عَلَیْهَا شَیْ ءٌ فِیمَا بَیْنَهَا وَبَیْنَ الله عَزَّ وَجَلَّ - وَإِنْ قُدِّمَتْ إِلَی إِمَامٍ عَادِلٍ أَهْدَرَ دَمَهُ (2).

الطائفة الخامسة:

هدر دم مطلق المعتدی (قاعدة فی هدر دم من اعتدی علی الامن المدنی):

1 - صحیح سُلَیْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ یَقُولُ مَنْ بَدَأَ فَاعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (3).

ویستفاد من هذه الروایة قاعدة عامة مفادها:

1 - ان المعتدی لا حرمة له وضعا ولا تکلیفا.

2 - ان مدافعته مشروعة.

3 - ان هذه المدافعة لو استلزمت او توقفت علی ما یزید علی عدوان المعتدی فلا قود فیها.

4 - ان هذه القاعدة لا تختص بحق الفرد بل تشمل الحق العام وحق عامة الناس أی انها لا تختص بالفقه الفردی بل تشمل الفقه الاجتماعی والسیاسی لا

ص:24


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 62.
2- (2) المصدر: ص 61.
3- (3) المصدر: ص 60.

سیما مع الإشارة فی الصحیح الی وهب عن جعفر عن ابیه انه قال: (اذا دخل علیک رجل یرید اهلک ومالک فابدره بالضربة ان استطعت فان اللص محارب لله ولرسوله صلی الله علیه و آله فما تبعک منه من شی فهو علیه).

وهذه الروایة لها طریق اخر - طریق الحمیری - غیر طریق الشیخ الطوسی مثله الا انه قال(فاقتله فما تبعک منه من شی فهو علیه).

وهذا المضمون هو ما فی موثق ابان عن رجل عن الحلبی عن ابی عبد الله قال امیر المومنین علیه السلام: (اذا دخل علیک اللص المحارب فاقتله فما اصابک فدمه فی عنقی).

والظاهر انه یمکن استفادة تقریر القاعدة بالتقریر التالی ان المعتدی اذا اعتدی ولو علی ما هو دون النفس ودون العرض کالمال لکنه کان لا یبالی بحرمة النفس والعرض وباقی الحرمات فی الوصول الی غایته فانه یکون محاربا وان الحرابة لا تختص بقطاع الطرق بل تشمل کل من یقوم بعدوان ولا یبالی فی عدوانه بالاعتداء علی الحرمات الثلاثة, أی یعتدی علی ما یسمی فی عصرنا الحاضر بالامن المدنی وهو حرمة النفس والعرض والمال.

5 - ومن ذلک یتبین الوجه فی ما مر من قضیة بنی قریظة والقصاص الجماعی وهو الذی جری من رسول الله تجاه الیهود من بنی النظیر وبنی قریظة وغیرهم وانها من قاعدة هدر حرمة المعتدی علی الامن المدنی والمتجاوز والهاتک للحرمات المدنیة(النفس والعرض والمال) وان کل ذلک ینطوی تحت عموم الایة من اعتدی علیکم فاعتدوا علیه.

ص:25

6 - ان قاعدة المحارب فی الحقیقة قاعدة غیر مختصة بقطاع الطرق والسراق بل موضوعها کل من یزعزع امن الحرمات الثلاثة المدنیة کما فی المخاطرة البالغة فی الأموال العامة او افشاء الارجاف المربک للامن العام فی شتی الأصعدة سواء کانت امنیة او عسکریة او اقتصادیة او أخلاقیة.

7 - لا یخفی ان درجة الحرابة لقطاع الطرق واللصوص بالمعنی المعهود لا تبلغ درجات الافساد الضارة بالمجتمع فی مجالات عدیدة وهذا ما یعرف فی القانون الوضعی بعقوبات الإعدام المسجلة علی الخیانة العظمی للوطن او الامن القومی, کما ان عقوبة المحارب علی درجات کما ذکر فی حد المحارب.

2 - الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی حَدِیثٍ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْ - فَفَقَئُوا عَیْنَهُ أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَقَالَ مَنِ اعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (1).

3 - الْعَلَاءِ بْنِ الْفُضَیْلِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ یَضْرِبَ رَجُلًا ظُلْماً - فَاتَّقَاهُ الرَّجُلُ أَوْ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ - فَأَصَابَهُ ضَرَرٌ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ (2).

فائدة بمثابة صغری للقاعدة:

فی إقامة الزوج الحد علی الزوجة بلا رجوع للحاکم الشرعی.

الأدلة الخاصة:

الدلیل الأول:

ما تقدم فی القاعدة من اثبات إقامة الحد علی المعتدی.

ص:26


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 59.
2- (2) المصدر السابق.

الدلیل الثانی:

الایة الکریمة: (وَ اللاّتِی یَأْتِینَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِکُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْکُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِکُوهُنَّ فِی الْبُیُوتِ حَتّی یَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ یَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِیلاً ( 15)1 .

بتقریب دلالتها علی جواز إقامة الحد من قبل الأزواج علی زوجاتهم, حیث ان الخطاب فی الظاهر لهم.

(الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَیْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَکُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً إِنَّ اللّهَ کانَ عَلِیًّا کَبِیراً ( 34)2 .

وصدر الایة دالة علی ولایة الزوج علی زوجته وذیلها ترخیص فی التعزیر والتعزیر نحو من انحاء الحد.

ویعضد هذا المفاد ما ورد فی جملة من الروایات من لزوم طاعة الزوجة للزوج وان ولایته علی المراة اجمالا کولایة المراة علی العبد فی جواز اجراء الحدود علیه.

الدلیل الثالث: الروایات:

فی (روایة سَعِیدِ بْنِ الْمُسَیَّبِ): (أَنَّ مُعَاوِیَةَ کَتَبَ إِلَی أَبِی مُوسَی الْأَشْعَرِیِّ - أَنَّ ابْنَ أَبِی الْجِسْرَیْنِ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ - فَاسْأَلْ لِی عَلِیّاً عَنْ هَذَاقَالَ أَبُو

ص:27

مُوسَی - فَلَقِیتُ عَلِیّاً علیه السلام فَسَأَلْتُهُ إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ إِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةٍ - یَشْهَدُونَ عَلَی مَا شَهِدَ وَإِلَّا دُفِعَ بِرُمَّتِهِ (1) .

وقد رواها العامة فی مصادرهم.

ومفادها ان الشهود الأربعة لدرء القصاص لا لاصل اجراء القتل, ولو خرج الزانی من البیت فبقاء الحکم غیر معلوم الا ان یکون محصنا مع توفر البینة.

وصحیح عَبَّادِ بْنِ صُهَیْبٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیهما السلام قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ یُمْسِکَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِنْ رَآهَا تَزْنِی - إِذَا کَانَتْ تَزْنِی وَإِنْ لَمْ یُقَمْ عَلَیْهَا الْحَدُّ - فَلَیْسَ عَلَیْهِ مِنْ إِثْمِهَا شَیْ ءٌ(2)).

وحَدَّثَنِی مُوسَی قَالَ حَدَّثَنَا أَبِی عَنْ أَبِیهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِیٍّ صلوات الله علیهم «أَنَّ رَسُولَ صلی الله علیه و آله قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَ رَأَیْتَ لَوْ وَجَدْتَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ فِی ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَا کُنْتَ صَانِعاً بِهِمَا قَالَ سَعْدٌ أَقْتُلُهُمَا یَا رَسُولَ الله فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله فَأَیْنَ الشُّهَدَاءُ الْأَرْبَعَةُ»(3)).

وقد رواها العامة بطرق عدیدة.

وتُؤیِّد هذه الأدلة:

1 - روایة دعائم الإسلام: عن رسول صلی الله علیه و آله أنّه قال من جهد البلاء أن یقدّم الرّجل فیقتل صبراً والأسیر ما دام فی الوثاق والرّجل یجد علی بطن امرأته

ص:28


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 135.
2- (2) المصدر: ج 20، ص 436.
3- (3) الجعفریات: ص 144.

رجلاً(1).

2 - ومرسلة الدروس, مُحَمَّدُ بْنُ مَکِّیٍّ الشَّهِیدُ فِی الدُّرُوسِ قَالَ رُوِیَ أَنَّ مَنْ رَأَی زَوْجَتَهُ تَزْنِی فَلَهُ قَتْلُهُمَا(2).

3 - وما فی عوالی اللئالی العزیزیة: رُوِیَ فِی الْحَدِیثِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَیَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِیکِ بْنِ شَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِیُّ صلی الله علیه و آله الْبَیِّنَةَ وَإِلَّا حُدَّ فِی ظَهْرِکَ فَقَالَ یَا رَسُولَ الله یَجِدُ أَحَدُنَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا یَلْتَمِسُ الْبَیِّنَةَ فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله یَقُولُ الْبَیِّنَةَ وَإِلَّا فَحُدَّ فِی ظَهْرِکَ فَقَالَ وَالَّذِی بَعَثَکَ بِالْحَقِّ إِنَّنِی لَصَادِقٌ وَسَیُنْزِلُ الله مَا یُبْرِئُ ظَهْرِی مِنَ الْجَلْدِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَی وَالَّذِینَ یَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الْآیَةَ (3)).

4 - ما ورد فی اللعان ان قوله مقبول فی اثبات الحد علیها الا تشهد بتکذیبه.

5 - موثق زرارة - فی تفسیر القمی - قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام یَقُولُ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِیمُ بْنُ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله حَزِنَ عَلَیْهِ حُزْناً شَدِیداً - فَقَالَتْ عَائِشَةُ مَا الَّذِی یَحْزُنُکَ عَلَیْهِ - فَمَا هُوَ إِلَّا ابْنَ جَرِیحٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله عَلِیّاً وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ - فَذَهَبَ عَلِیٌّ علیه السلام إِلَیْهِ وَمَعَهُ السَّیْفُ - وَکَانَ جَرِیحٌ الْقِبْطِیُّ فِی حَائِطٍ وَضَرَبَ عَلِیٌّ علیه السلام بَابَ الْبُسْتَانِ - فَأَقْبَلَ إِلَیْهِ جَرِیحٌ لِیَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ - فَلَمَّا رَأَی عَلِیّاً علیه السلام عَرَفَ فِی وَجْهِهِ الْغَضَبَ - فَأَدْبَرَ رَاجِعاً وَلَمْ یَفْتَحِ الْبَابَ - فَوَثَبَ عَلِیٌّ علیه السلام عَلَی الْحَائِطِ وَنَزَلَ إِلَی الْبُسْتَانِ وَاتَّبَعَهُ وَوَلَّی جَرِیحٌ مُدْبِراً - فَلَمَّا خَشِیَ أَنْ یُرْهِقَهُ صَعِدَ فِی نَخْلَةٍ وَصَعِدَ عَلِیٌّ علیه السلام فِی أَثَرِهِ - فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَمَی بِنَفْسِهِ مِنْ فَوْقِ النَّخْلَةِ - فَبَدَتْ عَوْرَتُهُ فَإِذَا لَیْسَ

ص:29


1- (1) دعائم الإسلام: ج 2، ص 411.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 28، ص 149.
3- (3) عوالی اللئالی: ج 3، ص 411.

لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَلَا مَا لِلنِّسَاءِ - فَانْصَرَفَ عَلِیٌّ علیه السلام إِلَی النَّبِیِّ صلی الله علیه و آله فَقَالَ یَا رَسُولَ الله إِذَا بَعَثْتَنِی فِی الْأَمْرِ - أَکُونُ فِیهِ کَالْمِسْمَارِ الْمُحْمَی فِی الوتر [الْوَبَرِ] أَمْ أَثَّبَّتُ قَالَ فَقَالَ لَا بَلِ اثَّبِّتْ، فَقَالَ وَالَّذِی بَعَثَکَ بِالْحَقِّ مَا لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَلَا مَا لِلنِّسَاءِ - فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله الْحَمْدُ لله الَّذِی یَصْرِفُ عَنَّا السُّوءَ أَهْلَ الْبَیْتِ (1) .

ومفاد الموثقة وان کان محمولا علی محامل أراد بها رسول الله ان یفضح افک المنافقین الا انه متضمن لقاعدة استحقاق إقامة الزوج الحد علی الزانی بزوجته.

النتیجة:

فتبین من مجموع ما ذکرنا استفادة صحة ما ذهب الیه المشهور المنصور فی مسالة ان من رای زوجته یزنی بها رجل وهی مطاوعة جاز له قتلهما وهو الأقوی.

ص:30


1- (1) تفسیر القمی: ج 2، ص 99.

القاعدة الثالثة: قاعدة فی اللوث والتهمة واثارها القانونیة

ص:31

ص:32

القاعدة الثالثة: قاعدة فی اللوث والتهمة وأثارها القانونیة أو (ضابطة فی اللوث وتحدیده)

اشارة

والبحث فی القاعدة یقع فی مقامات:

المقام الأول:

الاقوال فی المسالة وآثار اللوث وموضوعه ودرجاته مع بیان فائدة فی المقام:

بعض کلمات الاصحاب والقانونیین:

ظاهر الشیخ فی التهذیبین والنهایة وابن البراج والوسیلة والشرائع ان قتیل القریة علی مقتضی قاعدة اللوث ومن ثم ترتب القسامة لا انه تعبد خاص.

وکذا ظاهر الصدوق والدعائم فی ثبوت اللوث والقسامة بمجرد وجود القتیل بین ظهرانیهم وان الحلف لدفع القود, وهذا هو الأقوی خلافا

ص:33

لجملة من اطلاقات الروایات الموهمة لذلک وخلافا لظاهر المفید وابی الصلاح.

وقالوا فی القانون الوضعی: القرائن قد تکون مصطنعة مرتبة بقصد تضلیل العدالة... لذلک یجب علی القاضی اتقاء الوقوع فی الخطا ان یظهر کثیرا من الحکمة والحذر فیما یستنتجه من الظروف وقرائن الأحوال فعلیه ان یتحقق لیس من ان القرینة ثابتة ثبوتا تاما فقط ولکن تتفق من عناصر الدعوی الأخری.

وظاهر القانون الوضعی عموم اللوث لکل الجنایات لا خصوص القتل والطرف بل لمثل الزنا ونحوه من الجرائم.

ضابطة موضوعیة للوث:

لا یخفی ان اللوث وان کان ناشئا من قرائن دالة ظنا علی وقوع الجنایة من المتهم ولیست دلالتها بالظن المعتبر فضلا عن الیقین الا انها تکون اجمالا لوثا فی البین, هذا بلحاظ دلالة القرائن الموجبة للوث علی صدور القتل من المتهم. واما اصل وجود القرائن فلا بد من العلم بها لا الظن والا لترامی الظن وکانت سلسلة من رجوم الظن فلا یعد لوثا بل یکون تظنیا وتمحلا للظن, وهذا الشرط لا بد منه فی قرائن اللوث.

آثار اللوث:

ان للوث آثارا وان لم یکن بدرجة البینة ویدل علی ذلک روایات اتیة فی بیان اللوث واثاره کما یدل علیه صحیح زرارة والحلبی:

ص:34

فصحیح - (زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ احْتِیَاطاً لِلنَّاسِ - لِکَیْمَا إِذَا أَرَادَ الْفَاسِقُ أَنْ یَقْتُلَ رَجُلًا - أَوْ یَغْتَالَ رَجُلًا حَیْثُ لَا یَرَاهُ أَحَدٌ - خَافَ ذَلِکَ فَامْتَنَعَ مِنَ الْقَتْلِ)(1) - نص فیه, فی قوله علیه السلام(حیث لا یراه احد) علی عدم وجود البینة.

وصحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْقَسَامَةِ کَیْفَ کَانَتْ - فَقَالَ هِیَ حَقٌّ وَ هِیَ مَکْتُوبَةٌ عِنْدَنَا - وَ لَوْ لَا ذَلِکَ لَقَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ثُمَّ لَمْ یَکُنْ شَیْ ءٌ - وَ إِنَّمَا الْقَسَامَةُ نَجَاةٌ لِلنَّاسِ (2).

فقوله: (ولولا ذلک لقتل الناس... لم یکن شی) أی لیس هناک مثبت یدینهم.

درجات اللوث:

قد یقرر من روایات قتیل القریة ان اللوث فی الدیة یکفی فیه درجة اقل من درجة اللوث فی القصاص, کما ان اثبات القتل علی قاتل مبهم اجمالی فی القریة غایته اثبات الدیة فقط لعدم تعین القاتل بخلاف القصاص علی معین, ومنه یعرف ان إقامة القسامة علی اهل قریة لا یثبت القصاص بل غایته اثبات الدیة.

فائدة فی حقیقة الیمین فی القضاء بالقسامة:

الظاهر ان هذا التشریع النبوی مستل من قوله تعالی فی اللعان: (وَ الَّذِینَ یَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ یَکُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ

ص:35


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 151 ط ال البیت.
2- (2) المصدر ص 152.

أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِینَ وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَیْهِ إِنْ کانَ مِنَ الْکاذِبِینَ وَ یَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْکاذِبِینَ وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّهِ عَلَیْها إِنْ کانَ مِنَ الصّادِقِینَ)1.

فعبر فی الایة عن الیمین فی اللعان انه شهادة مغلظة فی الحلف وقید موضوع الیمین بعدم البینة واعتبرت شهادة المراة فی نفی الحد.

ثم ان فی القسامة کثرة فی العدد وتغلیظ فلیست هی مجرد شهادة وتغلیظ بالیمین کالذی فی اللعان بل تکرار للتاکید فتکون کالتواتر والاستفاضة, نعم مع تکرار القسم فی القسامة من عدد قلیل او من شخص واحد یکون من تشدید التغلیظ.

المقام الثانی:

شواهد القاعدة:

علی ان اللوث هو مطلق ویثبت بمجرد وجود القتیل:

الشاهد الأول: کلمات اللغویین:

منها: ما فی المصباح المنیر فی غریب الشرح الکبیر للرافعی(1): (اللَّوْثُ: بِالْفَتْحِ البَیِّنَةُ الضَّعِیفَةُ غَیْرُ الْکَامِلَةِ قَالَهُ الْأَزْهَرِیُّ وَ مِنْهُ قِیلَ لِلرَّجُلِ الضَّعِیفِ الْعَقْلِ (أَلْوَثُ) وَ فِیهِ(لَوْثَةٌ) بِالْفَتْحِ أَیْ حَمَاقَةٌ و(اللُّوثَةُ) بِالضَّمِّ الاسْتِرْخَاءُ و الحُبْسَةُ فِی اللِّسَانَ و(لَوَّثَ) ثَوْبَهُ بِالطِّینِ لَطَخَهُ و(تَلَوَّثَ)

ص:36


1- (2) ج 2 ص 560.

الثَّوْبُ بِذلِکَ).

وفی مجمع البحرین(1): (و اللوث أمارة یظن بها صدق المدعی فیما ادعاه من القتل کوجود ذی سلاح ملطخ بالدم عند قتیل فی دار. و فی النهایة اللوث هو أن یشهد شاهد واحد علی إقرار المقتول قبل أن یموت أن فلانا قتلنی، أو یشهد شاهدان علی عداوة بینهما أو تهدید منه له أو نحو ذلک، و هو من التلوث التلطخ).

وفی تاج العروس من جواهر القاموس(2): (قال أَبو منصورٍ: و اللَّوْثُ عند الشّافِعیّ: شِبْه الدَّلَالَةِ و لا یکونُ بَیِّنَةً تَامّ)

وفی کتاب العین(3): (اللوث: إدارة الإزار و العمامة و نحوهما مرتین، و الکور فی العمامة أحسن).

وغیرها.

ومحصل کلماتهم:

أولا:

ان البینة اذا کانت غیر واجدة للشروط او غیر کاملة فانها بمثابة القرینة علی التهمة واللوث, فهذا مطرد فی کل موارد عدم استتمام شروط البینة فلا تکون البینة غیر الواجدة الشروط عدیمة الأثر بل موجبة للوث والتهمة

ص:37


1- (1) ج 2 ص 263.
2- (2) ج 3 ص 257.
3- (3) ج 8 ص 237.

وهو اثر مهم.

ثانیا: یستفاد من کلام الطریحی ان مطلق الامارة لیس لوث لانه قیدها بکونها موجبة للظن.

ثالثا: ان اللوث ما یلتصق ویحیط بالشخص.

الشاهد الثانی: الایات الکریمة.

قوله تعالی: (قالَ هِیَ راوَدَتْنِی عَنْ نَفْسِی وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ کانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْکاذِبِینَ ( 26) وَ إِنْ کانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَکَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصّادِقِینَ ( 27)1 .

ویقرب ذلک:

بان الایة فیها بیان للاعتداد بالقرائن الحالیة وشاهد الحال وانها قد تصل الی درجة العلم العرفی(الاطمئنان).

وقوله تعالی: (وَ جاؤُ عَلی قَمِیصِهِ بِدَمٍ کَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَکُمْ أَنْفُسُکُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِیلٌ)2 .

وورد فی تفسیرها.

فی بحار الأنوار (ط - بیروت)(1) عن تفسیر القمی: (وَ قَالُوا یَا رَبِّ اکْتُمْ عَلَیْنَا هَذَا ثُمَّ جَاءُوا إِلَی أَبِیهِمْ عِشاءً یَبْکُونَ وَ مَعَهُمُ الْقَمِیصُ قَدْ لَطَّخُوهُ

ص:38


1- (3) ج 2 ص 224

بِالدَّمِ فَ قالُوا یا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أَیْ نَعْدُو وَ تَرَکْنا یُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَکَلَهُ الذِّئْبُ إِلَی قَوْلِهِ عَلی ما تَصِفُونَ ثُمَّ قَالَ یَعْقُوبُ مَا کَانَ أَشَدَّ غَضَبَ ذَلِکَ الذِّئْبِ عَلَی یُوسُفَ وَ أَشْفَقَهُ عَلَی قَمِیصِهِ حَیْثُ أَکَلَ یُوسُفَ وَ لَمْ یَمْزِقْ قَمِیصَهُ قَالَ فَحَمَلُوا یُوسُفَ إِلَی مِصْرَ...)

وبقرینة الروایة یفهم تکذیب دعوی اخوة یوسف من قبل ابیهم, وهو عدم تمزق قمیصه بالرغم من انها امارة ظنیة.

الشاهد الثالث: الروایات

منها:

زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ لِیُغَلَّظَ بِهَا فِی الرَّجُلِ - الْمَعْرُوفِ بِالشَّرِّ الْمُتَّهَمِ - فَإِنْ شَهِدُوا عَلَیْهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ (1).

تقریب الاستدلال:

وتقیید الموثق موضوع القسامة بالمتهم دال علی اخذ اللوث فی موضوعها, وهو اعم من بصمات القتل بل یشمل العداوة وکذا القید الأول(المعروف بالشر) فی نسخة الفقیه والوسائل.

هذا کله ضمیمة لقوة اللوث.

الروایة الثانیة:

صحیح مَسْعَدَةَ بْنِ زِیَادٍ عَنْ جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: کَانَ أَبِی رَضِیَ الله عَنْهُ إِذَا لَمْ

ص:39


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 154

یُقِمِ (وفی التهذیب یقسم) الْقَوْمُ الْمُدَّعُونَ الْبَیِّنَةَ عَلَی قَتْلِ قَتِیلِهِمْ وَ لَمْ یُقْسِمُوا بِأَنَّ الْمُتَّهَمِینَ قَتَلُوهُ حَلَّفَ الْمُتَّهَمِینَ بِالْقَتْلِ خَمْسِینَ یَمِیناً بِالله مَا قَتَلْنَاهُ وَ لَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ تُؤَدَّی الدِّیَةُ إِلَی أَوْلِیَاءِ الْقَتِیلِ وَ ذَلِکَ إِذَا قُتِلَ فِی حَیٍّ وَاحِدٍ فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ فِی عَسْکَرٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِینَةٍ فَدِیَتُهُ تُدْفَعُ إِلَی أَوْلِیَائِهِ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ (1).

ومثلها کثیر من الروایات التی وقع فیها المقابلة بین القتیل فی القریة وفی السوق والمکان العام.

اما ما ذکره صاحب الجواهر - فقال ما نصه: (و لکن العمدة ما عرفته من الإجماع السابق، ضرورة منع الإجمال فی الإطلاقات المزبورة الفارقة بین الدماء و الأموال، و صحیح مسعدة لا ظهور فیه فی الاشتراط علی وجه إن لم تحصل أمارة للحاکم لم تشرع القسامة، و لا الخبر الآخر و الفرق المزبور بین قتیل الزحام و غیره إنما هو بالنسبة إلی أداء الدیة لا فی اللوث، کما ستعرفه فی نصوصه، فتأمل جیدا)(2).

فلا یتم اذ ان التفصیل فی الموثقة والروایات ناظر الی کل من القتل وثبوت الدیة لا خصوص دفع الدیة.

تنظیر لهذا الحکم:

ونظیر هذا التفصیل والتقیید ما رواه علی بن فضیل عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مَقْتُولٌ فِی قَبِیلَةِ قَوْمٍ - حَلَفُوا جَمِیعاً مَا قَتَلُوهُ وَ لَا یَعْلَمُونَ

ص:40


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 153
2- (2) ج 42 ص 231.

لَهُ قَاتِلًا - فَإِنْ أَبَوْا أَنْ یَحْلِفُوا - أُغْرِمُوا الدِّیَةَ فِیمَا بَیْنَهُمْ فِی أَمْوَالِهِمْ سَوَاءً - بَیْنَ جَمِیعِ الْقَبِیلَةِ مِنَ الرِّجَالِ الْمُدْرِکِینَ (1).

وصحیح برید عن ابی عبد الله علیه السلام: (إِنَّمَا حُقِنَ دِمَاءُ الْمُسْلِمِینَ بِالْقَسَامَةِ - لِکَیْ إِذَا رَأَی الْفَاجِرُ الْفَاسِقُ فُرْصَةً مِنْ عَدُوِّهِ - حَجَزَهُ مَخَافَةُ الْقَسَامَةِ أَنْ یُقْتَلَ بِهِ فَکَفَّ عَنْ قَتْلِهِ - وَ إِلَّا حَلَّفَ الْمُدَّعَی عَلَیْهِ - قَسَامَةَ خَمْسِینَ رَجُلًا مَا قَتَلْنَا وَ لَا عَلِمْنَا قَاتِلًا - وَ إِلَّا أُغْرِمُوا الدِّیَةَ إِذَا وَجَدُوا قَتِیلًا بَیْنَ أَظْهُرِهِمْ - إِذَا لَمْ یُقْسِمِ الْمُدَّعُونَ)(2).

ومعتبرة أبی بصیر سألتُ أبا عبد الله... فَإِنْ فَعَلُوا أَدَّی أَهْلُ الْقَرْیَةِ الَّذِینَ وُجِدَ فِیهِمْ - وَ إِنْ کَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ أُدِّیَتْ دِیَتُهُ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ - فَإِنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یَبْطُلُ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (3).

وجملة من روایات أخری کما فی الباب الثامن والعاشر من أبواب دعوی القتل من کتاب قصاص الوسائل.

الروایة الثالثة:

صحیح زرارة قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ - احْتِیَاطاً لِدِمَاءِ النَّاسِ کَیْمَا إِذَا أَرَادَ الْفَاسِقُ أَنْ یَقْتُلَ رَجُلًا - أَوْ یَغْتَالَ رَجُلًا حَیْثُ لَا یَرَاهُ أَحَدٌ - خَافَ ذَلِکَ فَامْتَنَعَ مِنَ الْقَتْلِ (4).

ومثلها صحیح برید.

ص:41


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 153.
2- (2) المصدر ص 152
3- (3) المصدر 156.
4- (4) المصدر والصفحة.

ولفظ الفسق فی الروایة والذی معناه من برز عصیانه وشره یوجب التهمة واللوث, کما ان التقیید بالخوف دال علی وجود راس خیط وبصمة کقرینة علی القتل.

الروایة الرابعة:

(عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ وَ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام أَنَّهُمْ قَالُوا فِی حَدِیثٍ وَ لَا یَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِی الطَّلَاقِ وَ لَا فِی الْحُدُودِ إِلَی أَنْ قَالُوا وَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِی الْقَتْلِ لَطْخٌ یَکُونُ مَعَ الْقَسَامَةِ)(1).

تقریب الدلالة:

وهی دالة علی ان الشهادة غیر کاملة الشروط وان لم تکن معتبرة فی اثبات القصاص الا انها توجب اللوث کما تدل الروایة علی ان اللوث ماهیته لطخ والتصاق بصمات واثار.

هذا وقد یقرر من الروایات الوارة فی القسامة فی لوث اهل القریة ونحوها ان اللوث فی الدیة یکفی فیه درجة اقل من اللوث فی القصاص.

کما ان اثبات القتل بالقسامة علی قاتل مجمل مبهم فی القریة غایته اثبات الدیة لعدم تعین القاتل بخلاف القصاص حیث ان الدعوة فیه لابد ان تکون علی معین.

والمحصل فی تعریف اللوث والتهمة انها قرائن مادیة تلصق جنایة القتل وغیره بشخص او اشخاص سواء اکان بوصف العمل ام الاعم منه ومن الخطا.

ص:42


1- (1) دعائم الاسلام ج 2 ص 512

فوائد اللوث والتهمة:

من فوائد اللوث والتهمة فی غیر القتل کفائدته فی القتل موضوعا:

1 - انها تقلب المدعی منکرا والمنکر مدعیا, وان کان القتل یختص بحکم قضائی بالقسامة کما ذکرنا فی بحث القسامة من سند القصاص.

2 - ما ذکروه فی باب الاجارة ونحوها فی باب المعاملات کالودیعة والعاریة ان المتهم ضامن للعین مع التلف او مطلقا, وقد یخرج بان ید المتهم علی العین لیست مضمونة فهی ضامنة ما لم یثبت عدم التفریط, فهی لیست مامونة ولا ماذونة بل العقد والتعاقد بنی علی ضمانها ما لم یثبت عدم التقصیر وهو مضمون ما ورد(کل اجیر یعطی الاجرة علی ان یصلح فیفسد فهو ضامن) فهو شرط ضمنی لا انه من باب ضمان المتهم.

3 - قاعدة فی جواز التحری والاستدراج والفحص والمسالة من قبل القاضی للمنکر المتهم مع اللوث وعدم جوازه بدون ذلک, وقد فصلنا ذلک فی تنبیهات بحث القسامة واللوث.

4 - انه یمکن للمنکر اقامة البینة دون الیمین لدفع التهمة عن نفسه بخلاف غیر موارد التهمة فان المتعین علیه الیمین.

5 - الفرق بین اللوث والریبة, ان المتتبع لکلمات اللغویین یقف علی ان الریبة ما تکون منشأ للشک وان لم یکن بدرجة اللوث فالریبة دون اللوث, والتهمة اعم منهما.

ص:43

ص:44

القاعدة الرابعة: فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث

ص:45

ص:46

القاعدة الرابعة: فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث

اشارة

ادلة القاعدة مع بیان مفادها:

الروایة الأولی:

صحیحة أَبِی بَصِیرٍ یَعْنِی الْمُرَادِیَّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: لَا یُضَمَّنُ الصَّائِغُ وَ لَا الْقَصَّارُ وَ لَا الْحَائِکُ - إِلَّا أَنْ یَکُونُوا مُتَّهَمِینَ فَیُخَوِّفُ بِالْبَیِّنَةِ وَ یَسْتَحْلِفُ - لَعَلَّهُ یَسْتَخْرِجُ مِنْهُ شَیْئاً - وَ فِی رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ جَمَّالًا فَیَکْسِرُ الَّذِی یَحْمِلُ أَوْ یُهَرِیقُهُ - فَقَالَ عَلَی نَحْوٍ مِنَ الْعَامِلِ - إِنْ کَانَ مَأْمُوناً فَلَیْسَ عَلَیْهِ شَیْ ءٌ - وَ إِنْ کَانَ غَیْرَ مَأْمُونٍ فَهُوَ ضَامِنٌ (1).

الروایة الثانیة:

صحیح سُلَیْمَانَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ رَجُلٍ سَرَقَ سَرِقَةً - فَکَابَرَ عَنْهَا فَضُرِبَ فَجَاءَ بِهَا بِعَیْنِهَا - هَلْ یَجِبُ عَلَیْهِ الْقَطْعُ قَالَ نَعَمْ - وَ لَکِنْ لَوِ اعْتَرَفَ وَ لَمْ یَجِئْ بِالسَّرِقَةِ لَمْ تُقْطَعْ یَدُهُ - لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ عَلَی الْعَذَابِ (2).

ص:47


1- (1) وسائل الشیعة ج 19 ص 125
2- (2) المصدر ج 28 ص 261

تقریب الاستدلال:

وهی وان نفت الحد او فصلت الا ان سکوته عن تعذیب المتهم بلوث یفید بالفحوی انه سائغ, وظاهرها ان استخراج حقیقة الحال باستخراج المستندات المورثه للعلم من المتهم امر مشروع.

الروایة الثالثة:

موثق إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ أَنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا قَطْعَ عَلَی أَحَدٍ یُخَوَّفُ مِنْ ضَرْبٍ - وَ لَا قَیْدٍ وَ لَا سِجْنٍ وَ لَا تَعْنِیفٍ إِلَّا أَنْ یَعْتَرِفَ فَإِنِ اعْتَرَفَ قُطِعَ - وَ إِنْ لَمْ یَعْتَرِفْ سَقَطَ عَنْهُ لِمَکَانِ التَّخْوِیفِ (1).

تقریب الاستدلال: وموردها هو ان الاعتراف بعد الاقرار اکراها یعتد به فالاعتراف الطوعی ولو جاء عقب الإقرار الاکراهی لا یخدش به.

الروایة الرابعة:

معتبرة عَمْرِو بْنِ أَبِی الْمِقْدَامِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِی جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَهُوَ یَطُوفُ - یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ إِنَّ هَذَیْنِ الرَّجُلَیْنِ طَرَقَا أَخِی لَیْلًا - فَأَخْرَجَاهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلَمْ یَرْجِعْ إِلَیَّ - وَ وَ الله مَا أَدْرِی مَا صَنَعَا بِهِ فَقَالَ لَهُمَا مَا صَنَعْتُمَا بِهِ - فَقَالا یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ کَلَّمْنَاهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَی مَنْزِلِهِ - إِلَی أَنْ قَالَ فَقَالَ لِأَبِی عَبْدِ الله جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام - اقْضِ بَیْنَهُمْ إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ یَا غُلَامُ اکْتُبْ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ - قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله کُلُّ مَنْ طَرَقَ رَجُلًا بِاللَّیْلِ - فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ - إِلَّا أَنْ یُقِیمَ عَلَیْهِ الْبَیِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهُ إِلَی مَنْزِلِهِ - یَا غُلَامُ نَحِّ

ص:48


1- (1) المصدر والصفحة.

هَذَا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ - فَقَالَ یَا ابْنَ رَسُولِ الله - وَ الله مَا أَنَا قَتَلْتُهُ وَ لَکِنِّی أَمْسَکْتُهُ - ثُمَّ جَاءَ هَذَا فَوَجَأَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ أَنَا ابْنُ رَسُولِ الله - یَا غُلَامُ نَحِّ هَذَا فَاضْرِبْ (عُنُقَهُ لِلْآخَرِ) - فَقَالَ یَا ابْنَ رَسُولِ الله مَا عَذَّبْتُهُ - وَ لَکِنِّی قَتَلْتُهُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ - فَأَمَرَ أَخَاهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ - ثُمَّ أَمَرَ بِالْآخَرِ فَضَرَبَ جَنْبَیْهِ وَ حَبَسَهُ فِی السِّجْنِ - وَ وَقَّعَ عَلَی رَأْسِهِ یُحْبَسُ عُمُرَهُ - وَ یُضْرَبُ فِی کُلِّ سَنَةٍ خَمْسِینَ جَلْدَةً (1).

تقریب الاستدلال: ومفاد الروایة انه علیه السلام هدده واوهمه بحکم القتل فاعترف.

الروایة الخامسة:

معتبرة سَعْدُ بْنُ طَرِیفٍ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ أُتِیَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِجَارِیَةٍ فَشَهِدَ عَلَیْهَا شُهُودٌ أَنَّهَا بَغَتْ وَ کَانَ مِنْ قِصَّتِهَا أَنَّهَا کَانَتْ یَتِیمَةً عِنْدَ رَجُلٍ وَ کَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَ کَانَ الرَّجُلُ کَثِیراً مَا یَغِیبُ عَنْ أَهْلِهِ فَشَبَّتِ الْیَتِیمَةُ وَ کَانَتْ جَمِیلَةً فَتَخَوَّفَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ یَتَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَی مَنْزِلِهِ فَدَعَتْ بِنِسْوَةٍ مِنْ جِیرَانِهَا فَأَمْسَکْنَهَا ثُمَّ اقْتَضَّتْهَا بِإِصْبَعِهَا فَلَمَّا قَدِمَ زَوْجُهَا سَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنِ الْیَتِیمَةِ فَرَمَتْهَا بِالْفَاحِشَةِ وَ أَقَامَتِ الْبَیِّنَةَ مِنْ جِیرَانِهَا عَلَی ذَلِکَ قَالَ فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمْ یَدْرِ کَیْفَ یَقْضِی فِی ذَلِکَ فَقَالَ لِلرَّجُلِ اذْهَبْ بِهَا إِلَی عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ فَأَتَوْا عَلِیّاً وَ قَصُّوا عَلَیْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ أَ لَکِ بَیِّنَةٌ قَالَتْ نَعَمْ هَؤُلَاءِ جِیرَان یَشْهَدْنَ عَلَیْهَا بِمَا أَقُولُ فَأَخْرَجَ عَلِیٌّ علیه السلام السَّیْفَ مِنْ غِمْدِهِ وَ طَرَحَهُ بَیْنَ یَدَیْهِ ثُمَّ أَمَرَ بِکُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشُّهُودِ

ص:49


1- (1) المصدر ج 29 ص 51

فَأُدْخِلَتْ بَیْتاً ثُمَّ دَعَا بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ فَأَدَارَهَا بِکُلِّ وَجْهٍ فَأَبَتْ أَنْ تَزُولَ عَنْ قَوْلِهَا فَرَدَّهَا إِلَی الْبَیْتِ الَّذِی کَانَتْ فِیهِ ثُمَّ دَعَا بِإِحْدَی الشُّهُودِ وَ جَثَا عَلَی رُکْبَتَیْهِ وَ قَالَ لَهَا أَ تَعْرِفِینِی أَنَا عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ وَ هَذَا سَیْفِی وَ قَدْ قَالَتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ مَا قَالَتْ وَ رَجَعَتْ إِلَی الْحَقِّ وَ أَعْطَیْتُهَا الْأَمَانَ فَاصْدُقِینِی وَ إِلَّا مَلَأْتُ سَیْفِی مِنْکِ فَالْتَفَتَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی عَلِیٍّ فَقَالَتْ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ الْأَمَانَ عَلَی الصِّدْقِ فَقَالَ لَهَا عَلِیٌّ علیه السلام فَاصْدُقِی فَقَالَتْ لَا وَ الله مَا زَنَتِ الْیَتِیمَةُ وَ لَکِنِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ لَمَّا رَأَتْ حُسْنَهَا وَ جَمَالَهَا وَ هَیْئَتَهَا خَافَتْ فَسَادَ زَوْجِهَا فَسَقَتْهَا الْمُسْکِرَ وَ دَعَتْنَا فَأَمْسَکْنَاهَا فَاقْتَضَّتْهَا بِإِصْبَعِهَا فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام الله أَکْبَرُ الله أَکْبَرُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ فَرَّقَ بَیْنَ الشُّهُودِ إِلَّا دَانِیَال... الحدیث)(1)) .

وروها الشیخ الکلینی بسند صحیح عن معاویة بن وهب.

الروایة السادسة: الشَّیْخُ بِأَسَانِیدِهِ السَّابِقَةِ إِلَی کِتَابِ ظَرِیفٍ عَنْ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَ أَفْتَی علیه السلام فِیمَنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ مَنْ یَحْلِفُ مَعَهُ - وَ لَمْ یُوثَقْ بِهِ عَلَی مَا ذَهَبَ مِنْ بَصَرِهِ - أَنَّهُ یُضَاعَفُ عَلَیْهِ الْیَمِینُ - إِنْ کَانَ سُدُسَ بَصَرِهِ حَلَفَ وَاحِدَةً - وَ إِنْ کَانَ الثُّلُثَ حَلَفَ مَرَّتَیْنِ - وَ إِنْ کَانَ النِّصْفَ حَلَفَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَ إِنْ کَانَ الثُّلُثَیْنِ حَلَفَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ - وَ إِنْ کَانَ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ حَلَفَ خَمْسَ مَرَّاتٍ - وَ إِنْ کَانَ بَصَرَهُ کُلَّهُ حَلَفَ سِتَّ مَرَّاتٍ ثُمَّ یُعْطِی - وَ إِنْ أَبَی أَنْ یَحْلِفَ - لَمْ یُعْطَ إِلَّا مَا حَلَفَ عَلَیْهِ وَ وُثِقَ مِنْهُ بِصِدْقٍ - وَ الْوَالِی یَسْتَعِینُ فِی ذَلِکَ بِالسُّؤَالِ وَ النَّظَرِ وَ التَّثَبُّتِ - فِی الْقِصَاصِ وَ الْحُدُودِ وَ الْقَوَدِ(2).

ص:50


1- (1) المصدر ج 27 ص 278
2- (2) المصدر ج 29 ص 292

ومفادها مشروعیة تحری القاضی بتوسط الوالی ابتداء فی باب القصاص والحدود والدیات سواء فی النفوس ام الجروح.

وکذا یستفاد منها استعانة القاضی بالوالی فی التحری کما هو الحال فی القانون الوضعی الجاری.

فائدة جانبیة:

أولاً: قضایا امیر المومنین علیه السلام جلها تحریات وتحقیقات ومفادها ظاهر بوضوح انها فی مقام استخراج الحال والحقیقة فی موارد التهمة.

ثانیا: قد یظهر من بعض اقضیة امیر المومنین جواز تحری القاضی وان لم یکن فی البین لوث بقرینة خاصة فتکفی ادنی درجات الریبة.

ثالثا: ان ظاهر هذه الروایة والروایات الاتیة جواز الاخافة والتهدید النفسی والارعاب النفسانی فی مورد التحری القضائی.

رابعا: جواز المکایدة لاجل استلال حقیقة الحال من لسان المتهم والشهود.

خامسا: لزوم التدقیق بالقرائن والتثبت بدقة منها ومقارنة إفادات الشهود الاخرین لاستکشاف الحقیقة.

سادسا: جواز تفریق الشهود لاجل استکشاف صدق افاداتهم وتطابقها او عدم تطابقها.

سابعا: لا یبعد جواز استفادة واستعمال مطلق الطرق المحللة العقلائیة لاستکشاف الحقیقة.

ص:51

ثامنا: ان الأمیر علیه السلام اعتمد علی الیات متعددة بحسب الموضوعات لکشف الخداع والتلبیس وإظهار الحقیقة فی کل مورد وموضوع وکل بحسبه.

وهذه النقاط وغیرها واضحة فی الروایات التی تنقل جملة من قضایا امیر المومنین علیه السلام فی أسالیب التحری القضائی.

هذه جملة منها مع تعلیق علی جلها:

الروایة السابعة:

مرفوعة علی بن إبراهیم عن بعض أصحابه عن أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: (أُتِیَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام بِرَجُلٍ وُجِدَ فِی خَرِبَةٍ - وَ بِیَدِهِ سِکِّینٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ - وَ إِذَا رَجُلٌ مَذْبُوحٌ یَتَشَحَّطُ فِی دَمِهِ - فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام مَا تَقُولُ - قَالَ أَنَا قَتَلْتُهُ قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَأَقِیدُوهُ بِهِ - فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ أَقْبَلَ رَجُلٌ مُسْرِعٌ إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَنَا قَتَلْتُهُ - فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ ع لِلْأَوَّلِ - مَا حَمَلَکَ عَلَی إِقْرَارِکَ عَلَی نَفْسِکَ - فَقَالَ وَ مَا کُنْتُ أَسْتَطِیعُ أَنْ أَقُولَ - وَ قَدْ شَهِدَ عَلَیَّ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ وَ أَخَذُونِی - وَ بِیَدِی سِکِّینٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ - وَ الرَّجُلُ یَتَشَحَّطُ فِی دَمِهِ وَ أَنَا قَائِمٌ عَلَیْهِ - خِفْتُ الضَّرْبَ فَأَقْرَرْتُ - وَ أَنَا رَجُلٌ کُنْتُ ذَبَحْتُ بِجَنْبِ هَذِهِ الْخَرِبَةِ شَاةً - وَ أَخَذَنِی الْبَوْلُ فَدَخَلْتُ الْخَرِبَةَ - فَرَأَیْتُ الرَّجُلَ مُتَشَحِّطاً فِی دَمِهِ - فَقُمْتُ مُتَعَجِّباً فَدَخَلَ عَلَیَّ هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِی - فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام خُذُوا هَذَیْنِ - فَاذْهَبُوا بِهِمَا إِلَی الْحَسَنِ - وَ قُولُوا لَهُ مَا الْحُکْمُ فِیهِمَا - قَالَ فَذَهَبُوا إِلَی الْحَسَنِ وَ قَصُّوا عَلَیْهِ قِصَّتَهُمَا - فَقَالَ الْحَسَنُ علیه السلام قُولُوا لِأَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - إِنْ کَانَ هَذَا ذَبَحَ ذَاکَ فَقَدْ أَحْیَا هَذَا وَ قَدْ قَالَ الله عَزَّ وَ جَلَّ وَ مَنْ أَحْیاها فَکَأَنَّما

ص:52

أَحْیَا النّاسَ جَمِیعاً یُخَلَّی عَنْهُمَا - وَ تُخْرَجُ دِیَةُ الْمَذْبُوحِ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ) (1).

مر شرح شطر من الروایة اذ انها احد وجوه قاعدة اخذ المتهم باللوث بالدیة فی ج 1 من سند القصاص فراجع.

واجمالا یستفاد من الروایة:

ووجه مفاد الروایة ما ذکرنا من نظیره فی مسالة 155 من بحث القصاص من ان بعض الافعال ینزلها الشارع منزلة فعل اخر نظیر قصاص ولی المقتول من الجانی بضربة علی رقبته ولم تزهق روحه فجعل هذا الفعل بمنزلة قصاص النفس کما فی روایة ابان التی افتی بها جماعة, وکذا الحکم فی الهارب الذی اقر بالزنا فان اقراره بالزنا وتمکینه نفسه توطینا علی الحد اعتبره الشارع بمثابة اقامة للحد وکذا فی المقام فان اقرار الثانی وتمکینه نفسه بمثابة قصاص تنزیلی فتثبت الدیة من بیت المال لانقاذ المقر الاول.

الروایة الثامنة:

معتبرة أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: دَخَلَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام الْمَسْجِدَ فَاسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ یَبْکِی وَ حَوْلَهُ قَوْمٌ یُسْکِتُونَهُ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام مَا أَبْکَاکَ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ إِنَّ شُرَیْحاً قَضَی عَلَیَّ بِقَضِیَّةٍ مَا أَدْرِی مَا هِیَ إِنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ خَرَجُوا بِأَبِی مَعَهُمْ فِی السَّفَرِ فَرَجَعُوا وَ لَمْ یَرْجِعْ أَبِی فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا مَا تَرَکَ مَالًا فَقَدَّمْتُهُمْ إِلَی شُرَیْحٍ فَاسْتَحْلَفَهُمْ وَ قَدْ عَلِمْتُ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ أَنَّ أَبِی خَرَجَ وَ مَعَهُ مَالٌ کَثِیرٌ فَقَالَ لَهُمْ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام

ص:53


1- (1) المصدر 243

ارْجِعُوا فَرَجَعُوا وَ الْفَتَی مَعَهُمْ إِلَی شُرَیْحٍ فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام یَا شُرَیْحُ کَیْفَ قَضَیْتَ بَیْنَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ ادَّعَی هَذَا الْفَتَی عَلَی هَؤُلَاءِ النَّفَرِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِی سَفَرٍ وَ أَبُوهُ مَعَهُمْ فَرَجَعُوا وَ لَمْ یَرْجِعْ أَبُوهُ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا مَا خَلَّفَ مَالًا فَقُلْتُ لِلْفَتَی هَلْ لَکَ بَیِّنَةٌ عَلَی مَا تَدَّعِی فَقَالَ لَا فَاسْتَحْلَفْتُهُمْ فَحَلَفُوا فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام هَیْهَاتَ یَا شُرَیْحُ هَکَذَا تَحْکُمُ فِی مِثْلِ هَذَا فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ فَکَیْفَ فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام وَ الله لَأَحْکُمَنَّ فِیهِمْ بِحُکْمٍ مَا حَکَمَ بِهِ خَلْقٌ قَبْلِی إِلَّا دَاوُدُ النَّبِیُّ علیه السلام یَا قَنْبَرُ ادْعُ لِی شُرْطَةَ الْخَمِیسِ فَدَعَاهُمْ فَوَکَّلَ بِکُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنَ الشُّرْطَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَی وُجُوهِهِمْ فَقَالَ مَا ذَا تَقُولُونَ أَ تَقُولُونَ إِنِّی لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ بِأَبِی هَذَا الْفَتَی إِنِّی إِذاً لَجَاهِلٌ ثُمَّ قَالَ فَرِّقُوهُمْ وَ غَطُّوا رُءُوسَهُمْ قَالَ فَفُرِّقَ بَیْنَهُمْ وَ أُقِیمَ کُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَی أُسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِینِ الْمَسْجِدِ وَ رُءُوسُهُمْ مُغَطَّاةٌ بِثِیَابِهِمْ ثُمَّ دَعَا بِعُبَیْدِ الله بْنِ أَبِی رَافِعٍ کَاتِبِهِ فَقَالَ هَاتِ صَحِیفَةً وَ دَوَاةً وَ جَلَسَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ صَلَوَاتُ الله عَلَیْهِ فِی مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَ جَلَسَ النَّاسُ إِلَیْهِ فَقَالَ لَهُمْ إِذَا أَنَا کَبَّرْتُ فَکَبِّرُوا ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ اخْرُجُوا ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَجْلَسَهُ بَیْنَ یَدَیْهِ وَ کَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ لِعُبَیْدِ الله بْنِ أَبِی رَافِعٍ اکْتُبْ إِقْرَارَهُ وَ مَا یَقُولُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَیْهِ بِالسُّؤَالِ فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی أَیِّ یَوْمٍ خَرَجْتُمْ مِنْ مَنَازِلِکُمْ وَ أَبُو هَذَا الْفَتَی مَعَکُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ فِی یَوْمِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ فِی أَیِّ شَهْرٍ قَالَ فِی شَهْرِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ فِی أَیِّ سَنَةٍ قَالَ فِی سَنَةِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ إِلَی أَیْنَ بَلَغْتُمْ فِی سَفَرِکُمْ حَتَّی مَاتَ أَبُو هَذَا الْفَتَی قَالَ إِلَی مَوْضِعِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ فِی مَنْزِلِ مَنْ مَاتَ قَالَ فِی مَنْزِلِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَالَ وَ مَا کَانَ مَرَضُهُ قَالَ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ کَمْ یَوْماً مَرِضَ قَالَ کَذَا وَ کَذَا قَالَ فَفِی

ص:54

أَیِّ یَوْمٍ مَاتَ وَ مَنْ غَسَّلَهُ وَ مَنْ کَفَّنَهُ وَ بِمَا کَفَّنْتُمُوهُ وَ مَنْ صَلَّی عَلَیْهِ وَ مَنْ نَزَلَ قَبْرَهُ فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ جَمِیعِ مَا یُرِیدُ کَبَّرَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام وَ کَبَّرَ النَّاسُ جَمِیعاً فَارْتَابَ أُولَئِکَ الْبَاقُونَ وَ لَمْ یَشُکُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ قَدْ أَقَرَّ عَلَیْهِمْ وَ عَلَی نَفْسِهِ فَأَمَرَ أَنْ یُغَطَّی رَأْسُهُ وَ یُنْطَلَقَ بِهِ إِلَی السِّجْنِ ثُمَّ دَعَا بِآخَرَ فَأَجْلَسَهُ بَیْنَ یَدَیْهِ وَ کَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ کَلَّا زَعَمْتُمْ أَنِّی لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ مَا أَنَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْمِ وَ لَقَدْ کُنْتُ کَارِهاً لِقَتْلِهِ فَأَقَرَّ ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ کُلُّهُمْ یُقِرُّ بِالْقَتْلِ وَ أَخْذِ الْمَالِ ثُمَّ رَدَّ الَّذِی کَانَ أَمَرَ بِهِ إِلَی السِّجْنِ فَأَقَرَّ أَیْضاً فَأَلْزَمَهُمُ الْمَالَ وَ الدَّمَ فَقَالَ شُرَیْحٌ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ وَ کَیْفَ حَکَمَ دَاوُدُ النَّبِیُّ علیه السلام فَقَالَ إِنَّ دَاوُدَ النَّبِیَّ علیه السلام مَرَّ بِغِلْمَةٍ یَلْعَبُونَ وَ یُنَادُونَ بَعْضَهُمْ بِیَا مَاتَ الدِّینُ فَیُجِیبُ مِنْهُمْ غُلَامٌ فَدَعَاهُمْ دَاوُدُ علیه السلام فَقَالَ یَا غُلَامُ مَا اسْمُکَ قَالَ مَاتَ الدِّینُ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ علیه السلام مَنْ سَمَّاکَ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ أُمِّی فَانْطَلَقَ دَاوُدُ علیه السلام إِلَی أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا یَا أَیَّتُهَا الْمَرْأَةُ مَا اسْمُ ابْنِکِ هَذَا قَالَتْ مَاتَ الدِّینُ فَقَالَ لَهَا وَ مَنْ سَمَّاهُ بِهَذَا قَالَتْ أَبُوهُ قَالَ وَ کَیْفَ کَانَ ذَاکِ قَالَتْ إِنَّ أَبَاهُ خَرَجَ فِی سَفَرٍ لَهُ وَ مَعَهُ قَوْمٌ وَ هَذَا الصَّبِیُّ حَمْلٌ فِی بَطْنِی فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ وَ لَمْ یَنْصَرِفْ زَوْجِی فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ فَقُلْتُ لَهُمْ فَأَیْنَ مَا تَرَکَ قَالُوا لَمْ یُخَلِّفْ شَیْئاً فَقُلْتُ هَلْ أَوْصَاکُمْ بِوَصِیَّةٍ قَالُوا نَعَمْ زَعَمَ أَنَّکِ حُبْلَی فَمَا وَلَدْتِ مِنْ وَلَدٍ جَارِیَةٍ أَوْ غُلَامٍ فَسَمِّیهِ مَاتَ الدِّینُ فَسَمَّیْتُهُ قَالَ دَاوُدُ علیه السلام وَ تَعْرِفِینَ الْقَوْمَ الَّذِینَ کَانُوا خَرَجُوا مَعَ زَوْجِکِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَأَحْیَاءٌ هُمْ أَمْ أَمْوَاتٌ قَالَتْ بَلْ أَحْیَاءٌ قَالَ فَانْطَلِقِی بِنَا إِلَیْهِمْ ثُمَّ مَضَی مَعَهَا فَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فَحَکَمَ بَیْنَهُمْ بِهَذَا الْحُکْمِ بِعَیْنِهِ وَ أَثْبَتَ عَلَیْهِمُ الْمَالَ وَ الدَّمَ وَ قَالَ لِلْمَرْأَةِ سَمِّی ابْنَکِ هَذَا عَاشَ الدِّینُ ثُمَّ إِنَّ الْفَتَی وَ الْقَوْمَ اخْتَلَفُوا فِی مَالِ الْفَتَی کَمْ کَانَ فَأَخَذَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام خَاتَمَهُ و

ص:55

َجَمِیعَ خَوَاتِیمِ مَنْ عِنْدَهُ - ثُمَّ قَالَ أَجِیلُوا هَذَا السِّهَامَ فَأَیُّکُمْ أَخْرَجَ خَاتَمِی فَهُوَ صَادِقٌ فِی دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ سَهْمُ الله وَ سَهْمُ الله لَا یَخِیبُ) (1).

ان هذه الروایة تدل ان علم التحری ومهارة التحری علم ممضی من الشارع فی موارد الریبة مع کونه طرفا فی القضیة, وهذه قاعدة فی نفسها.

الروایة التاسعة:

الصحیح الی عمر بن یزید عن أَبِی الْمُعَلَّی(العلاء) عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أُتِیَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِامْرَأَةٍ - قَدْ تَعَلَّقَتْ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَ کَانَتْ تَهْوَاهُ - وَ لَمْ تَقْدِرْ لَهُ عَلَی حِیلَةٍ - فَذَهَبَتْ وَ أَخَذَتْ بَیْضَةً - فَأَخْرَجَتْ مِنْهَا الصُّفْرَةَ - وَ صَبَّتِ الْبَیَاضَ عَلَی ثِیَابِهَا بَیْنَ فَخِذَیْهَا - ثُمَّ جَاءَتْ إِلَی عُمَرَ فَقَالَتْ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ أَخَذَنِی فِی مَوْضِعِ کَذَا وَ کَذَا - فَفَضَحَنِی قَالَ فَهَمَّ عُمَرُ أَنْ یُعَاقِبَ الْأَنْصَارِیَّ - فَجَعَلَ الْأَنْصَارِیُّ یَحْلِفُ وَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام جَالِسٌ - وَ یَقُولُ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ تَثَبَّتْ فِی أَمْرِی - فَلَمَّا أَکْثَرَ الْفَتَی قَالَ عُمَرُ لِأَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - مَا تَرَی یَا أَبَا الْحَسَنِ فَنَظَرَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - إِلَی بَیَاضٍ عَلَی ثَوْبِ الْمَرْأَةِ وَ بَیْنَ فَخِذَیْهَا - فَاتَّهَمَهَا أَنْ تَکُونَ احْتَالَتْ لِذَلِکَ - فَقَالَ ائْتُونِی بِمَاءٍ حَارٍّ قَدْ أُغْلِیَ غَلَیَاناً شَدِیداً - فَفَعَلُوا فَلَمَّا أُتِیَ بِالْمَاءِ - أَمَرَهُمْ فَصَبُّوا عَلَی مَوْضِعِ الْبَیَاضِ - فَاشْتَوَی ذَلِکَ الْبَیَاضُ - فَأَخَذَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فَأَلْقَاهُ فِی فِیهِ - فَلَمَّا عَرَفَ طَعْمَهُ أَلْقَاهُ مِنْ فِیهِ - ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَی الْمَرْأَةِ حَتَّی أَقَرَّتْ بِذَلِکَ - وَ دَفَعَ الله عَزَّ وَ جَلَّ عَنِ الْأَنْصَارِیِّ عُقُوبَةَ عُمَرَ(2).

ص:56


1- (1) المصدر ج 27 ص 280.
2- (2) المصدر ص 282.

قوله علیه السلام - فَاتَّهَمَهَا أَنْ تَکُونَ احْتَالَتْ لِذَلِکَ - فیه دلالة علی ان التحریات والتحقیقات موضوعها المسوغ لها ادنی الاسترابة والریبة الحادثة للقاضی من دعوی احد المتنازعین.

الروایة العاشرة:

روایة عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ السَّلُولِیِّ فِی حَدِیثٍ أَنَّ غُلَاماً ادَّعَی عَلَی امْرَأَةٍ أَنَّهَا أُمُّهُ - فَأَنْکَرَتْ فَقَالَ عُمَرُ عَلَیَّ بِأُمِّ الْغُلَامِ - فَأُتِیَ بِهَا مَعَ أَرْبَعِ إِخْوَةٍ لَهَا - وَ أَرْبَعِینَ قَسَامَةً یَشْهَدُونَ أَنَّهَا لَا تَعْرِفُ الصَّبِیَّ - وَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ غُلَامٌ مُدَّعٍ غَشُومٌ ظَلُومٌ - یُرِیدُ أَنْ یَفْضَحَهَا فِی عَشِیرَتِهَا - وَ أَنَّ هَذِهِ جَارِیَةٌ مِنْ قُرَیْشٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ - وَ أَنَّهَا بِخَاتَمِ رَبِّهَا إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِعُمَرَ - أَ تَأْذَنُ لِی أَنْ أَقْضِیَ بَیْنَهُمْ - فَقَالَ عُمَرُ سُبْحَانَ الله کَیْفَ لَا وَ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص - یَقُولُ أَعْلَمُکُمْ عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ - ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ أَ لَکِ شُهُودٌ قَالَتْ نَعَمْ - فَتَقَدَّمَ الْأَرْبَعُونَ قَسَامَةً فَشَهِدُوا بِالشَّهَادَةِ الْأُولَی - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لَأَقْضِیَنَّ الْیَوْمَ بَیْنَکُمْ بِقَضِیَّةٍ - هِیَ مَرْضَاةُ الرَّبِّ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ - عَلَّمَنِیهَا حَبِیبِی رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله ثُمَّ قَالَ لَهَا أَ لَکِ وَلِیٌّ - فَقَالَتْ نَعَمْ هَؤُلَاءِ إِخْوَتِی - فَقَالَ لِإِخْوَتِهَا أَمْرِی فِیکُمْ وَ فِی أُخْتِکُمْ جَائِزٌ - قَالُوا نَعَمْ قَالَ أُشْهِدُ الله - وَ أُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ - أَنِّی قَدْ زَوَّجْتُ هَذِهِ الْجَارِیَةَ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَ النَّقْدُ مِنْ مَالِی - یَا قَنْبَرُ عَلَیَّ بِالدَّرَاهِمِ - فَأَتَاهُ قَنْبَرُ بِهَا فَصَبَّهَا فِی یَدِ الْغُلَامِ - فَقَالَ خُذْهَا فَصُبَّهَا فِی حَجْرِ امْرَأَتِکَ - وَ لَا تَأْتِنِی إِلَّا وَ بِکَ أَثَرُ الْعُرْسِ یَعْنِی الْغُسْلَ - فَقَامَ الْغُلَامُ فَصَبَّ الدَّرَاهِمَ فِی حَجْرِ الْمَرْأَةِ - ثُمَّ تَلَبَّبَهَا فَقَالَ لَهَا قُومِی - فَنَادَتِ الْمَرْأَةُ النَّارَ النَّارَ یَا ابْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ - تُرِیدُ أَنْ تُزَوِّجَنِی مِنْ وَلَدِی

ص:57

هَذَا وَ الله وَلَدِی - زَوَّجَنِی إِخْوَتِی هَجِیناً فَوَلَدْتُ مِنْهُ هَذَا - فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَ شَبَّ أَمَرُونِی أَنْ أَنْتَفِیَ مِنْهُ وَ أَطْرُدَهُ - وَ هَذَا وَ الله وَلَدِی (1).

وقوله علیه السلام لعمر اتاذن لی ان اقضی بینهم تسمیة وتوصیف للتحری والتحقیق الجنائی بالقضاء لانه قضاء, وکذلک قوله علیه السلام لاقضین الیوم علیکم بقضیة هی مرضاة الرب... ولا ریب ان اجراء التحقیق من احکام ولایة القاضی وانه شان وعمل قضائی ونحو اجراء قضائی, واعتماد من القاضی علی الیة کاشفة لواقع الحال والنزاع, کما انه یقوم بسلسلة التحقیقات بالزامات وظیفیة عملیة للمتنازعین.

الروایة الحادیة عشر:

مصحح ابی الصَّبَّاحِ الْکِنَانِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أُتِیَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ قَدْ تَزَوَّجَهَا شَیْخٌ - فَلَمَّا أَنْ وَاقَعَهَا مَاتَ عَلَی بَطْنِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ - فَادَّعَی بَنُوهُ أَنَّهَا فَجَرَتْ وَ تَشَاهَدُوا عَلَیْهَا - فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ فَمُرَّ بِهَا عَلَی عَلِیٍّ علیه السلام - فَقَالَتْ یَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ الله إِنَّ لِی حُجَّةً - قَالَ هَاتِی حُجَّتَکِ - فَدَفَعَتْ إِلَیْهِ کِتَاباً فَقَرَأَهُ - فَقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُعْلِمُکُمْ بِیَوْمَ تَزَوَّجَهَا - وَ یَوْمَ وَاقَعَهَا وَ کَیْفَ کَانَ جِمَاعُهُ لَهَا - رُدُّوا الْمَرْأَةَ فَلَمَّا کَانَ مِنَ الْغَدِ دَعَا بِصِبْیَانٍ أَتْرَابٍ - وَ دَعَا بِالصَّبِیِّ مَعَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ - الْعَبُوا حَتَّی إِذَا أَلْهَاهُمُ اللَّعِبُ - قَالَ لَهُمْ اجْلِسُوا حَتَّی إِذَا تَمَکَّنُوا صَاحَ بِهِمْ - فَقَامَ الصِّبْیَانُ وَ قَامَ الْغُلَامُ فَاتَّکَی عَلَی رَاحَتَیْهِ - فَدَعَا بِهِ عَلِیٌّ علیه السلام وَ وَرَّثَهُ مِنْ أَبِیهِ - وَ جَلَدَ إِخْوَتَهُ الْمُفْتَرِینَ حَدّاً حَدّاً - فَقَالَ عُمَرُ

ص:58


1- (1) المصدر ص 283

کَیْفَ صَنَعْتَ فَقَالَ عَرَفْتُ ضَعْفَ الشَّیْخِ فِی تُکَأَةِ الْغُلَامِ عَلَی رَاحَتَیْهِ) (1).

وفیه اعتماد علی علم الوراثة واحکامها فی التحریات والتحقیقات الجنائیة وان العلوم المرتبطة بالعلوم المختلفة تعتمد نتائجها بالحریات اذا أوصلت الی العلم او الاطمئنان صلی الله علیه و آله اذ قوله علیه السلام عرفت ضعف الشیخ فی تکاة الغلام علی راحته تعلیل لوجه حصول العلم من هذه الالیة فی التحقق بتوسط قواعد علم الوراثة.

الروایة الثانیة عشر:

مرسلة عَبْدِ الله بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام أَنَّ رَجُلًا أَقْبَلَ عَلَی عَهْدِ عَلِیٍّ علیه السلام مِنَ الْجَبَلِ حَاجّاً - وَ مَعَهُ غُلَامٌ لَهُ فَأَذْنَبَ فَضَرَبَهُ مَوْلَاهُ - فَقَالَ مَا أَنْتَ مَوْلَایَ بَلْ أَنَا مَوْلَاکَ - فَمَا زَالَ ذَا یَتَوَعَّدُ ذَا وَ ذَا یَتَوَعَّدُ ذَا - وَ یَقُولُ کَمَا أَنْتَ حَتَّی نَأْتِیَ الْکُوفَةَ یَا عَدُوَّ الله - فَأَذْهَبَ بِکَ إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَلَمَّا أَتَیَا الْکُوفَةَ أَتَیَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَقَالَ الَّذِی ضَرَبَ الْغُلَامَ أَصْلَحَکَ الله - هَذَا غُلَامٌ لِی وَ إِنَّهُ أَذْنَبَ فَضَرَبْتُهُ فَوَثَبَ عَلَیَّ - وَ قَالَ الْآخَرُ هُوَ وَ الله غُلَامٌ لِی - إِنَّ أَبِی أَرْسَلَنِی مَعَهُ لِیُعَلِّمَنِی - وَ إِنَّهُ وَثَبَ عَلَیَّ یَدَّعِینِی لِیَذْهَبَ بِمَالِی - قَالَ فَأَخَذَ هَذَا یَحْلِفُ وَ هَذَا یَحْلِفُ - وَ هَذَا یُکَذِّبُ هَذَا وَ هَذَا یُکَذِّبُ هَذَا - فَقَالَ انْطَلِقَا فَتَصَادَقَا فِی لَیْلَتِکُمَا هَذِهِ - وَ لَا تَجِیئَانِی إِلَّا بِحَقٍّ - قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - قَالَ لِقَنْبَرٍ اثْقُبْ فِی الْحَائِطِ ثَقْبَیْنِ - وَ کَانَ إِذَا أَصْبَحَ - عَقَّبَ حَتَّی تَصِیرَ الشَّمْسُ عَلَی رُمْحٍ یُسَبِّحُ - فَجَاءَ الرَّجُلَانِ وَ اجْتَمَعَ النَّاسُ - وَ قَالُوا قَدْ وَرَدَ عَلَیْهِ قَضِیَّةٌ - مَا وَرَدَ عَلَیْهِ مِثْلُهَا لَا یَخْرُجُ مِنْهَا فَقَالَ لَهُمَا - مَا تَقُولَانِ فَحَلَفَ هَذَا أَنَّ هَذَا عَبْدُهُ - وَ حَلَفَ هَذَا أَنَّ هَذَا عَبْدُهُ - فَقَالَ لَهُمَا

ص:59


1- (1) المصدر والصفحة.

قُومَا فَإِنِّی لَسْتُ أَرَاکُمَا تَصْدُقَانِ - ثُمَّ قَالَ لِأَحَدِهِمَا أَدْخِلْ رَأْسَکَ فِی هَذَا الثَّقْبِ - ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ أَدْخِلْ رَأْسَکَ فِی هَذَا الثَّقْبِ - ثُمَّ قَالَ یَا قَنْبَرُ عَلَیَّ بِسَیْفِ رَسُولِ الله ص - عَجِّلْ أَضْرِبْ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِنْهُمَا - قَالَ فَأَخْرَجَ الْغُلَامُ رَأْسَهُ مُبَادِراً - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِلْغُلَامِ - أَ لَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّکَ لَسْتَ بِعَبْدٍ - وَ مَکَثَ الْآخَرُ فِی الثَّقْبِ - قَالَ بَلَی إِنَّهُ ضَرَبَنِی وَ تَعَدَّی عَلَیَّ - قَالَ فَتَوَثَّقَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام وَ دَفَعَهُ إِلَیْهِ (1).

فی هذه الروایة بیان لجواز استخدام المکیدة فی التحری القضائی کما مر.

الروایة الثالثة عشر:

صحیحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِی لَیْلَی یُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ قَالَ: قَضَی أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام بَیْنَ رَجُلَیْنِ اصْطَحَبَا فِی سَفَرٍ - فَلَمَّا أَرَادَ الْغَدَاءَ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْ زَادِهِ خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ - وَ أَخْرَجَ الْآخَرُ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ - فَمَرَّ بِهِمَا عَابِرُ سَبِیلٍ فَدَعَوَاهُ إِلَی طَعَامِهِمَا - فَأَکَلَ الرَّجُلُ مَعَهُمَا حَتَّی لَمْ یَبْقَ شَیْ ءٌ - فَلَمَّا فَرَغُوا أَعْطَاهُمَا الْمُعْتَرُّ بِهِمَا - ثَمَانِیَةَ دَرَاهِمَ ثَوَابَ مَا أَکَلَهُ مِنْ طَعَامِهِمَا - فَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ أَرْغِفَةٍ لِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ - اقْسِمْهَا نِصْفَیْنِ بَیْنِی وَ بَیْنَکَ - وَ قَالَ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ لَا - بَلْ یَأْخُذُ کُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنَ الدَّرَاهِمِ - عَلَی عَدَدِ مَا أَخْرَجَ مِنَ الزَّادِ - فَأَتَیَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی ذَلِکَ - فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمَا قَالَ لَهُمَا - اصْطَلِحَا فَإِنَّ قَضِیَّتَکُمَا دَنِیَّةٌ - فَقَالا اقْضِ بَیْنَنَا بِالْحَقِّ - قَالَ فَأَعْطَی صَاحِبَ الْخَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ - وَ أَعْطَی صَاحِبَ الثَّلَاثَةِ أَرْغِفَةٍ دِرْهَماً - وَ قَالَ أَ لَیْسَ أَخْرَجَ أَحَدُکُمَا مِنْ زَادِهِ خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ - وَ أَخْرَجَ الْآخَرُ ثَلَاثَةً قَالا نَعَمْ قَالَ - أَ لَیْسَ أَکَلَ ضَیْفُکُمَا مَعَکُمَا مِثْلَ مَا أَکَلْتُمَا قَالا نَعَمْ -

ص:60


1- (1) المصدر ص 284

قَالَ أَ لَیْسَ أَکَلَ کُلُّ وَاحِدٍ مِنْکُمَا - ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ قَالا نَعَمْ - قَالَ أَ لَیْسَ أَکَلْتَ أَنْتَ یَا صَاحِبَ الثَّلَاثَةِ - ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ - وَ أَکَلْتَ أَنْتَ یَا صَاحِبَ الْخَمْسَةِ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ - وَ أَکَلَ الضَّیْفُ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ - أَ لَیْسَ قَدْ بَقِیَ لَکَ یَا صَاحِبَ الثَّلَاثَةِ - ثُلُثُ رَغِیفٍ مِنْ زَادِکَ - وَ بَقِیَ لَکَ یَا صَاحِبَ الْخَمْسَةِ رَغِیفَانِ وَ ثُلُثٌ - وَ أَکَلْتَ ثَلَاثَةً غَیْرَ ثُلُثٍ - فَأَعْطَاکُمَا لِکُلِّ ثُلُثِ رَغِیفٍ دِرْهَماً - فَأَعْطَی صَاحِبَ الرَّغِیفَیْنِ وَ ثُلُثٍ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ - وَ أَعْطَی صَاحِبَ الثُّلُثِ رَغِیفٍ دِرْهَماً (1).

فی هذه الصحیحة بیان لاعتماد النظم الریاضیة الحسابیة لکشف الأسهم بالمداقة.

الروایة الرابعة عشر:

معتبرة مُحَمَّدِ بْنِ قَیْسٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: کَانَ لِرَجُلٍ عَلَی عَهْدِ عَلِیٍّ علیه السلام جَارِیَتَانِ - فَوَلَدَتَا جَمِیعاً فِی لَیْلَةٍ وَاحِدَةٍ - فَوَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا ابْناً وَ الْأُخْرَی بِنْتَا - فَعَمَدَتْ صَاحِبَةُ الْبِنْتِ - فَوَضَعَتْ بِنْتَهَا فِی الْمَهْدِ الَّذِی فِیهِ الِابْنُ وَ أَخَذَتْ ابْنَهَا - فَقَالَتْ صَاحِبَةُ الْبِنْتِ الِابْنُ ابْنِی - وَ قَالَتْ صَاحِبَةُ الِابْنِ الِابْنُ ابْنِی - فَتَحَاکَمَا إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَأَمَرَ أَنْ یُوزَنَ لَبَنُهُمَا وَ قَالَ - أَیَّتُهُمَا کَانَتْ أَثْقَلَ لَبَناً فَالابْنُ لَهَا(2).

الروایة تدل علی اعتماد العلوم المختصة بالموضوعات لتحری الحقیقة.

ص:61


1- (1) المصدر ص 285
2- (2) المصدر 286

ومثلها روایة حفص بن غالب فی نفس الباب.

الروایة الخامسة عشر:

روی مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُفِیدُ فِی الْإِرْشَادِ قَالَ رَوَتِ الْعَامَّةُ وَ الْخَاصَّةُ أَنَّ امْرَأَتَیْنِ تَنَازَعَتَا عَلَی عَهْدِ عُمَرَ - فِی طِفْلٍ ادَّعَتْهُ کُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَداً لَهَا بِغَیْرِ بَیِّنَةٍ - وَ لَمْ یُنَازِعْهُمَا فِیهِ غَیْرُهُمَا - فَالْتَبَسَ الْحُکْمُ فِی ذَلِکَ عَلَی عُمَرَ - فَفَزِعَ فِیهِ إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَاسْتَدْعَی الْمَرْأَتَیْنِ وَ وَعَظَهُمَا وَ خَوَّفَهُمَا - فَأَقَامَتَا عَلَی التَّنَازُعِ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام - ائْتُونِی بِمِنْشَارٍ فَقَالَتِ الْمَرْأَتَانِ فَمَا تَصْنَعُ بِهِ - فَقَالَ أَقُدُّهُ نِصْفَیْنِ لِکُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْکُمَا نِصْفُهُ - فَسَکَتَتْ إِحْدَاهُمَا وَ قَالَتِ الْأُخْرَی - الله الله یَا أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام إِنْ کَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِکَ فَقَدْ سَمَحْتُ بِهِ لَهَا - فَقَالَ الله أَکْبَرُ هَذَا ابْنُکِ دُونَهَا - وَ لَوْ کَانَ ابْنَهَا لَرَقَّتْ عَلَیْهِ وَ أَشْفَقَتْ - وَ اعْتَرَفَتِ الْأُخْرَی أَنَّ الْحَقَّ لِصَاحِبَتِهَا - وَ أَنَّ الْوَلَدَ لَهَا دُونَهَا - قَالَ وَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّهُ کَانَ بَیْنَ یَدَیَّ تَمْرٌ فَبَدَرَتْ زَوْجَتِی - أَخَذَتْ مِنْهُ وَاحِدَةً فَأَلْقَتْهَا فِی فِیهَا - فَحَلَفْتُ أَنَّهَا لَا تَأْکُلُهَا وَ لَا تَلْفِظُهَا - فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام تَأْکُلُ نِصْفَهَا وَ تَلْفِظُ نِصْفَهَا - وَ قَدْ تَخَلَّصْتَ مِنْ یَمِینِکَ (1).

وهذه الروایة من أسالیب الکید المحلل الذی یتخذه القاضی لکشف الحقیقة.

الروایة السادسة عشر:

موثق السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِنَّ النَّبِیَّ صلی الله علیه و آله کَانَ یَحْبِسُ فِی تُهَمَةِ

ص:62


1- (1) المصدر ص 289

الدَّمِ سِتَّةَ أَیَّامٍ - فَإِنْ جَاءَ أَوْلِیَاءُ الْمَقْتُولِ بِثَبَتٍ وَ إِلَّا خَلَّی سَبِیلَهُ (1).

والحبس اجراء تنفیذی کما لا یخفی ولو کان المتهم برئ فی الواقع, ومفادها کما یتعلق بقاعدة التحری للقاضی والوالی فهو یتعلق أیضا باثار التهمة.

ص:63


1- (1) المصدر ص 160

ص:64

القاعدة الخامسة، قاعدة قضائیة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا

ص:65

ص:66

القاعدة الخامسة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا قاعدة قضائیة

اشارة

الادلة:

یستدل لتکرار الیمین بوجوه:

أولا:

ان اطلاق النصوص المتضمنة لحلف الخمسین وان حلف الخمسین کالفعل فی الواجب الکفائی بالنسبة للولی وقومه من غیر فرق بین صدورها منهم فی جمع علی التوزیع او علی التفریق ولا بین الولی وغیره.

وهذا التقریب من کون الیمین وظیفة کفائیة علی المجموع ذکره صاحب الجواهر, وان الخمسین کافیة لکل المتهمین والمدعی علیهم اذا تعددوا مع کون الدعوی مشترکة علیهم فی الفعل لاسیما ان مضمون مفاد عنوان لفظ المحلوف علیه المتکرر فی الروایات(ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا) فالنفی لاسناد القتل للمجموع وبضمیر الجمع ولیس بضمیر المفرد, کما ان النفی اعم من نفی اسناده لهم کمتهمین او نفی اسناده للغیر مما یدل علی جواز حلف غیر المتهمین عن المتهمین لکن مع کونهم من اولیائهم وارحامهم.

ص:67

وهذا نظیر صحیح مَسْعَدَةَ بْنِ زِیَادٍ عَنْ جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: کَانَ أَبِی رَضِیَ الله عَنْهُ إِذَا لَمْ یُقِمِ الْقَوْمُ الْمُدَّعُونَ - الْبَیِّنَةَ عَلَی قَتْلِ قَتِیلِهِمْ - وَ لَمْ یُقْسِمُوا بِأَنَّ الْمُتَّهَمِینَ قَتَلُوهُ - حَلَّفَ الْمُتَّهَمِینَ بِالْقَتْلِ خَمْسِینَ یَمِیناً بِالله - مَا قَتَلْنَاهُ وَ لَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا - ثُمَّ یُؤَدِّی الدِّیَةَ إِلَی أَوْلِیَاءِ الْقَتِیلِ - ذَلِکَ إِذَا قُتِلَ فِی حَیٍّ وَاحِدٍ - فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ فِی عَسْکَرٍ أَوْ سُوقِ مَدِینَةٍ - فَدِیَتُهُ تُدْفَعُ إِلَی أَوْلِیَائِهِ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ (1).

حیث ورد فیها حلف المتهمین بالقتل خمسین یمینا, بعد حمل خمسین علی الاطلاق فقد لا یکونوا خمسین شخصا قد حلفوا بل لعلهم عشرة وحلفوا خمسین یمینا, فکما ان الدیة تتوزع علیهم لو کانوا دون الخمسین فکذا الامر بالحلف, فالاسناد فی الدیة والحلف علی نسق واحد الی مجموعهم.

ویدعم الاطلاق ان الیمین فی الأصل کما مر انه علی المتهم لا غیره وانما شمل ذویه لانهم اولیائه فی الدیة.

ومثلها روایة علی بن فضیل فی نفس الباب.

ویوید ذلک ما بیناه فی مسالة 114 من سند القصاص, من حلف المتهمین عن غیر المتهمین.

ولولا ما ورد من جواز استعانة المتهم(المدعی علیه) بغیره بالقسم لکان المقتضی الاولی ان القسم کله علیه, یقسم بنفسه خمسین قسما.

وما ورد فی جملة من الروایات من وصف القسامة بخمسین رجلا لیس قیدا بل مورد وسبب صدور وبدء هذه السنة النبویة کما فی روایة ابی بصیر

ص:68


1- (1) المصدر ص 153.

عن بدء تشریع القسامة ففی روایة أَبِی بَصِیرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الْقَسَامَةِ أَیْنَ کَانَ بَدْوُهَا - فَقَالَ کَانَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله - لَمَّا کَانَ بَعْدَ فَتْحِ خَیْبَرَ - تَخَلَّفَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ أَصْحَابِهِ - فَرَجَعُوا فِی طَلَبِهِ فَوَجَدُوهُ مُتَشَحِّطاً فِی دَمِهِ قَتِیلًا - فَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ إِلَی رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله - فَقَالُوا یَا رَسُولَ الله قَتَلَتِ الْیَهُودُ صَاحِبَنَا - فَقَالَ لِیُقْسِمْ مِنْکُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا عَلَی أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ...)(1)

وکذا معتبرة لَیْثٍ الْمُرَادِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الْقَسَامَةِ عَلَی مَنْ هِیَ - أَ عَلَی أَهْلِ الْقَاتِلِ أَوْ عَلَی أَهْلِ الْمَقْتُولِ - قَالَ عَلَی أَهْلِ الْمَقْتُولِ - یَحْلِفُونَ بِالله الَّذِی لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَتَلَ فُلَانٌ فُلَاناً(2).

ومفادها یقرب ما ذکره المحقق صاحب الجواهر من کون الحلف وظیفة کفائیة علی أولیاء المقتول والا فعلی أولیاء القاتل لاسیما علی القول بکون الحالفین للقسامة یلزم کونهم من اولیائه کما ذهبنا الیه واختاره جماعة فانه لا محیص ان العصبة والاولیاء لیس من الضروری ان یبلغوا الخمسین بل فی کثیر من الموارد اقل من ذلک, ولا سیما ان العصبة تضمن فی العمد مع عجز القاتل, والقاتل یضمن بالخطا مع عجز العصبة فهنا مسوولیة طولیة دائرة بینهم وهذا یفید قاعدة فی باب الدعاوی فی القضاء وهو قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضیا وطولیا.

وکذا مفاد صحیح برید المتقدم ان المسوول عن الحلف هو المسوول عن

ص:69


1- (1) المصدر ص 156
2- (2) المصدر ص 157

الدیة(فان ابوا اغرموا الدیة) ولیس من الضروری ان یکونوا خمسین, فکذا المسوولیة فی الحلف فهی کفائیة جماعیة.

ثانیا:

ومن ادلة صحة التکرار فی القسامة, صحیح یونس وموثق ابن فضال, حیث قال علیه السلام فیها(فان لم یکن للمصاب من یحلف معه ضوعفت علیه الایمان).

ثالثا: روایة ظریف بن ناصح عن امیر المومنین علیه السلام: (... وَ کَذَلِکَ الْقَسَامَةُ کُلُّهَا فِی الْجُرُوحِ - وَ إِنْ لَمْ یَکُنْ لِلْمُصَابِ بَصَرُهُ مَنْ یَحْلِفُ مَعَهُ - ضُوعِفَتْ عَلَیْهِ الْأَیْمَانُ...)(1)

ویقرب الاستدلال: ان القسامة تکرر علی المدعی ان لم یأت معه غیره لیحلف.

وَ رَوَاهُ الشَّیْخُ بِأَسَانِیدِهِ السَّابِقَةِ إِلَی کِتَابِ ظَرِیفٍ عَنْ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَ أَفْتَی علیه السلام فِیمَنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ مَنْ یَحْلِفُ مَعَهُ - وَ لَمْ یُوثَقْ بِهِ عَلَی مَا ذَهَبَ مِنْ بَصَرِهِ - أَنَّهُ یُضَاعَفُ عَلَیْهِ الْیَمِینُ...)(2).

وفی الروایة تعمیم الحکم لکل من القسامة فی النفس والجروح.

فائدة رجالیة:

فی اعتبار کتاب ظریف:

قد عقد صاحب الوسائل الباب الثانی فی أبواب دیات الأعضاء ذکر

ص:70


1- (1) المصدر ص 292
2- (2) المصدر والصفحة

فیها عدة روایات موثقة وصحیحة مستفیضة دالة علی عرض کتاب الفرائض علی الامامین الصادق والرضا علیهما السلام وانهما امضیا الکتاب, وانه مما کتبه امیر المومنین الی امرائه وعماله.

فهو کتاب معتمد مروی باسانید عدیدة من الشیخ فی التهذیب والصدوق فی التهذیب والکلینی فی الکافی وهو معتمد فی کتاب القصاص والدیات, ویعرف تارة بکتاب ظریف بن ناصح وأخری بکتاب ما افتی به امیر المومنین فی الدیات وثالثة بکتاب الفرائض, بل هذا الکتاب هو الکتاب العمدة لاصحاب الکتب الأربعة فی أبواب الدیات.

ص:71

ص:72

القاعدة السادسة: قاعدة فی باب الجنایات: تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة

ص:73

ص:74

القاعدة السادسة: قاعدة فی باب الجنایات تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة

ویستدل علی القاعدة بوجهین:

الوجه الاول:

محسنة حَبِیبٍ السِّجِسْتَانِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ یَدَیْنِ لِرَجُلَیْنِ الْیَمِینَیْنِ - قَالَ فَقَالَ یَا حَبِیبُ تُقْطَعُ یَمِینُهُ لِلَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَوَّلًا - وَ تُقْطَعُ یَسَارُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَخِیراً - لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ قَالَ فَقُلْتُ - إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام إِنَّمَا کَانَ یَقْطَعُ الْیَدَ الْیُمْنَی وَ الرِّجْلَ الْیُسْرَی - فَقَالَ إِنَّمَا کَانَ یَفْعَلُ ذَلِکَ فِیمَا یَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الله - فَأَمَّا یَا حَبِیبُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِینَ - فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِی الْقِصَاصِ الْیَدُ بِالْیَدِ - إِذَا کَانَتْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - وَ الرِّجْلُ بِالْیَدِ إِذَا لَمْ یَکُنْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - فَقُلْتُ لَهُ أَ وَ مَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ وَ تُتْرَکُ لَهُ رِجْلُهُ - فَقَالَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ إِذَا قَطَعَ یَدَ رَجُلٍ - وَ لَیْسَ لِلْقَاطِعِ یَدَانِ وَ لَا رِجْلَانِ - فَثَمَّ تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ لِأَنَّهُ لَیْسَ لَهُ جَارِحَةٌ یُقَاصُّ مِنْهَا(1).

ص:75


1- (1) المصدر ص 274.

ومفاد الروایة مجموعة أمور:

أولاً: تقدیم حق أولیاء المجنی الأول زمنا للاستیفاء, ومن ثم مکنوا من ید الجانی الیمنی کما نصت الروایة, واما المجنی علیه الثانی فیبدل عن الیمنی الی قطع الید الیسری للجانی.

ثانیاً: انه مع فوت محل القصاص وبدله یتعین علیه الدیة.

ثالثاً: إنَّما تجب علی الجانی الدیة اذا کان هو المانع من استیفاء القصاص لاولیاء المجنی علیه الثانی.

الوجه الثانی: قد یقرب تقدیم الأسبق عند التعاقب بان حق أولیاء المقتول الأول ثبت علی الجانی وحقوق اللاحقین قد طرات علی مکان مشغول وشخص مرهون والی هذا یشیر مفاد محسنة حبیب السجستانی المار الذکر الوارد فی قطع الیدین, فی قوله علیه السلام(أَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ)(1).

تتمة للقاعدة:

مع اشتغال المحل لاولیاء المقتول الأول تثبت الدیة الی أولیاء المقتول اللاحق لانه مع أی مانع من القصاص او محذور فی البین یترتب علی أولیاء المقتول فانه یثبت لهم الدیة, نعم لهم القصاص مع عفو أولیاء المقتول الأول عن القصاص.

واما تعلیق الدیة علی رضی الجانی فذلک فیما لم یکن مانعا عن استیفاء

ص:76


1- (1) المصدر والصفحة.

القصاص, وبضم قاعدة لا یبطل دم امرئ مسلم یثبت لاولیاء المقتول اللاحق الدیة.

وبعبارة أخری:

ان ثبوت الدیة کالقصاص علی القاعدة الا انه رفعت الید عن ذلک بما دل علی شرطیة رضا الجانی, وغایة هذا دلیل الشرطیة یقتصر به علی موارد ثبوت القصاص لاولیاء المقتول وعدم الضرر الزائد علیهم فان تخلف احد القیدین, فینحسر دلیل شرطیة رضی الجانی ویرجع الی مقتضی القاعدة فی الضمان کما هو الحال فی الموارد المنصوصة للزوم رد المال فی القصاص علی أولیاء المقتول لان الرد ضرر علی أولیاء المقتول فی القصاص.

ص:77

ص:78

القاعدة السابعة؛ قاعدة باب الجنایات: لا یجنی الجانی علی أکثر من نفسه

ص:79

ص:80

القاعدة السابعة: قاعدة باب الجنایات لا یجنی الجانی علی اکثر من نفسه

اشارة

ادلة القاعدة:

ان مضمون هذه القاعدة مفتی به عند الاصحاب, وقد دلت علیه الروایات, منها:

1 - صحیح عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام یَقُولُ فِی رَجُلٍ قَتَلَ امْرَأَتَهُ مُتَعَمِّداً - قَالَ إِنْ شَاءَ أَهْلُهَا أَنْ یَقْتُلُوهُ قَتَلُوهُ - وَ یُؤَدُّوا إِلَی أَهْلِهِ نِصْفَ الدِّیَةِ - وَ إِنْ شَاءُوا أَخَذُوا نِصْفَ الدِّیَةِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - وَ قَالَ فِی امْرَأَةٍ قَتَلَتْ زَوْجَهَا مُتَعَمِّدَةً - قَالَ إِنْ شَاءَ أَهْلُهُ أَنْ یَقْتُلُوهَا قَتَلُوهَا - وَ لَیْسَ یَجْنِی أَحَدٌ أَکْثَرَ مِنْ جِنَایَتِهِ عَلَی نَفْسِهِ (1).

2 - صحیح هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی الْمَرْأَةِ تَقْتُلُ الرَّجُلَ مَا عَلَیْهَا - قَالَ لَا یَجْنِی الْجَانِی عَلَی أَکْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ.(2)

3 - صحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: فِی الرَّجُلِ یَقْتُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّداً - فَأَرَادَ أَهْلُ الْمَرْأَةِ أَنْ یَقْتُلُوهُ - قَالَ ذَاکَ لَهُمْ إِذَا أَدَّوْا إِلَی أَهْلِهِ نِصْفَ الدِّیَةِ - وَ إِنْ قَبِلُوا الدِّیَةَ فَلَهُمْ نِصْفُ دِیَةِ الرَّجُلِ - وَ إِنْ قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ -

ص:81


1- (1) المصدر ص 81
2- (2) لمصدر ص 83

قُتِلَتْ بِهِ لَیْسَ لَهُمْ إِلَّا نَفْسُهَا الْحَدِیثَ (1).

4 - الصحیح الی ابن مسکان عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَیْنِ أَوْ أَکْثَرَ مِنْ ذَلِکَ قُتِلَ بِهِمْ (2).

5 - مثلها روایة الدعائم عَنْ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ وَأَبِی عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّهُمَا قَالا فِی الرَّجُلِ یَقْتُلُ الْمَرْأَةَ عَمْداً یُخَیَّرُ أَوْلِیَاءُ الْمَرْأَةِ [بَیْنَ] أَنْ یَقْتُلُوا الرَّجُلَ وَ یُعْطُوا أَوْلِیَاءَهُ نِصْفَ الدِّیَةِ أَوْ أَنْ یَأْخُذُوا نِصْفَ الدِّیَةِ مِنَ الرَّجُلِ الْقَاتِلِ إِنْ بَذَلَ لَهُمْ ذَلِکَ وَ إِنْ قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا عَمْداً قُتِلَتْ بِهِ لَیْسَ عَلَیْهَا وَ لَا عَلَی أَحَدٍ بِسَبَبِهَا أَکْثَرَ مِنْ أَنْ تُقْتَلَ)(3).

وغیرها من الروایات والاقوال کما ذکرها المیرزا النوری فی المستدرک والسید البروجردی فی جامع احادیث الشیعة.

بعض الاقول:

1 - قال الشَّیْخُ الطُّوسِیُّ فِی النِّهَایَةِ: (وَ إِذَا قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَ اخْتَارَ أَوْلِیَاؤُهُ الْقَوَدَ فَلَیْسَ لَهُمْ إِلَّا نَفْسَهَا یَقْتُلُونَهَا بِصَاحِبِهَا وَ لَیْسَ لَهُمْ عَلَی أَوْلِیَائِهَا سَبِیلٌ وَ قَدْ رُوِیَ أَنَّهُمْ یَقْتُلُونَهَا وَ یُؤَدِّی أَوْلِیَاؤُهَا تَمَامَ دِیَةِ الرَّجُلِ إِلَیْهِمْ وَ الْمُعْتَمَدُ مَا قُلْنَا).(4)

2 - قال الصَّدُوقُ فِی الْمُقْنِعِ، (فَإِنْ قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً مُتَعَمِّداً فَإِنْ شَاءَ

ص:82


1- (1) المصدر ص 81
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) ج 2 ص 408
4- (4) ص 748

أَوْلِیَاؤُهَا قَتَلُوهُ وَ أَدَّوْا إِلَی أَوْلِیَائِهِ نِصْفَ الدِّیَةِ وَ إِلَّا أَخَذُوا خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَ إِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا مُتَعَمِّدَةً فَإِنْ شَاءَ أَهْلُهُ أَنْ یَقْتُلُوهَا قَتَلُوهَا فَلَیْسَ یَجْنِی أَحَدٌ جِنَایَةً أَکْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَ إِنْ أَرَادُوا الدِّیَةَ أَخَذُوا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ).(1)

مورد القاعدة:

نعم هذه القاعدة موردها الجنایة الواحدة وجنایة المراة علی الرجل وهی ان لا تتحمل اکثر من القصاص.

شبهة معارضة ودفعها:

ولا تعارض الروایات السابقة بموثق أَبِی مَرْیَمَ الْأَنْصَارِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: فِی امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا قَالَ تُقْتَلُ وَ یُؤَدِّی وَلِیُّهَا بَقِیَّةَ الْمَالِ (2).

لما رده الشیخ فی الاستبصار قائلاً: (فَهَذِهِ الرِّوَایَةُ شَاذَّةٌ لَمْ یَرْوِهَا إِلَّا أَبُو مَرْیَمَ الْأَنْصَارِیُّ وَ إِنْ تَکَرَّرَتْ فِی الْکُتُبِ فِی مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ وَ مَعَ ذَلِکَ فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْکِتَابِ قَالَ الله تَعَالَی وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فَحَکَمَ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ لَمْ یَذْکُرْ مَعَهَا شَیْئاً آخَرَ وَ الرِّوَایَاتُ الَّتِی قَدَّمْنَاهَا صَرِیحَةٌ بِأَنَّهُ لَا یَجْنِی الْجَانِی عَلَی أَکْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَ أَنَّهُ لَیْسَ عَلَی أَوْلِیَائِهَا شَیْ ءٌ فَإِذَا وَرَدَتْ هَذِهِ الرِّوَایَةُ مُخَالِفَةً لِذَلِکَ یَنْبَغِی أَنْ لَا یُلْتَفَتَ إِلَیْهَا وَ لَا إِلَی الْعَمَلِ بِهَا)(3).

ص:83


1- (1) ص 515
2- (2) وسائل الشیعة ج 29 ص 85
3- (3) استبصار ج 4 ص 268

ص:84

القاعدة الثامنة: فی تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس

ص:85

ص:86

القاعدة الثامنة: فی تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس

الاقوال:

ذهب مشهور الفقهاء الی تقدیم حق القصاص من العضو علی حق القصاص من النفس حتی لو کانت الجنایة علی النفس متقدمة زمنا.

الادلة:

ویستدل للقاعدة:

أولا:

محسنة حَبِیبٍ السِّجِسْتَانِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ یَدَیْنِ لِرَجُلَیْنِ الْیَمِینَیْنِ - قَالَ فَقَالَ یَا حَبِیبُ تُقْطَعُ یَمِینُهُ لِلَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَوَّلًا - وَ تُقْطَعُ یَسَارُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَخِیراً - لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ قَالَ فَقُلْتُ - إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام إِنَّمَا کَانَ یَقْطَعُ الْیَدَ الْیُمْنَی وَ الرِّجْلَ الْیُسْرَی - فَقَالَ إِنَّمَا کَانَ یَفْعَلُ ذَلِکَ فِیمَا یَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الله - فَأَمَّا یَا حَبِیبُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِینَ - فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِی الْقِصَاصِ الْیَدُ بِالْیَدِ - إِذَا کَانَتْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - وَ الرِّجْلُ بِالْیَدِ إِذَا لَمْ یَکُنْ لِلْقَاطِعِ

ص:87

یَدٌ - فَقُلْتُ لَهُ أَ وَ مَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ وَ تُتْرَکُ لَهُ رِجْلُهُ - فَقَالَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ إِذَا قَطَعَ یَدَ رَجُلٍ - وَ لَیْسَ لِلْقَاطِعِ یَدَانِ وَ لَا رِجْلَانِ - فَثَمَّ تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ لِأَنَّهُ لَیْسَ لَهُ جَارِحَةٌ یُقَاصُّ مِنْهَا (1).

تقریب القاعدة:

ان هذه القاعدة تعلل بقاعدة سبق الجنایة من باب تقدیم الأسبق حقا, واذا کان الأسبق حقا لا ینفی موضوع المتاخر لان الأسبق متعلق بالنفس والأخر متعلق بالعضو, والتعلیل بثبوت الدیة اذا کان لیس للجانی جارحه یقاص منها والفرض ان فی المقام لیس متعلق الجنایة السابقة هی الجارحة, فلا یکون السبق موجبا لنفی حق القصاص للجنایة المتاخرة, وکذا التعلیل توخذ لهم حقوقهم بالقصاص الرجل بالید اذا لم یکن للقاطع ید.

ثانیا:

قد یقال لو کان حق جنایة النفس مقدما زمنا وحق جنایة الطرف موخر فلصاحب الطرف الاستیفاء أولا, لانه غیر مزاحم لصاحب جنایة النفس کما انه جمع بین الحقین, هذا فضلا عما اذا سبقت الجنایة علی الطرف الجنایة علی النفس فالامر فیها واضح.

قد یقال:

مع سبق الجنایة علی النفس فان من حق أولیاء المقتول ان یقتصوا من الجانی وهو کامل الأعضاء فاذا اقتص منه عضو قبل إقامة القصاص علی

ص:88


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 174

نفسه فانه قصاص من انسان ناقص.

فانه یقال:

انه تقدمت القاعدة انه لا یجنی علی اکثر من النفس, نعم لو کان المجنی علیه ناقص العضو وکان قد استوفی حقه اما بقصاص او بدیة فحینئذ اللازم اذا أراد أولیاء المقتول القصاص من الجانی ان یدفعوا دیة العضو للجانی ثم یقتصون منه.

واما ثبوت الدیة لو بادر أولیاء المقتول الی القصاص قبل قصاص العضو, وهل الدیة علی الجانی او علی أولیاء المقتول المبادرین؟

نعم تثبت علی الجانی الدیة بمقتضی ذیل محسنة السجستانی ألمتقدمة وما مر من مسالة لو قتل شخص اثنین, واما الاولیاء المبادرون فعلیهم الاثم فحسب.

ص:89

ص:90

القاعدة التاسعة: هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا (لا یسقط الضمان عن المعتدی)

ص:91

ص:92

القاعدة التاسعة: هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا لا یسقط الضمان عن المعتدی

عبارات الاعلام فی المسالة:

قال فی الشرائع: (الزحفان العادیان یضمن کل منهما ما یجنیه علی الأخر، و لو کف أحدهما فصال الأخر فقصد الکاف الدفع، لم یکن علیه ضمان إذا اقتصر علی ما یحصل به الدفع و الأخر یضمن)(1).

وعلق الجواهر علیه: (لقاعدة الضمان بعد فرض عدوان کل منهما بقصد کل منهما قتل الآخر أو أخذ ماله أو النیل من عرضه أو نحو ذلک و لعله علیه یحمل النبوی «إذا اقتتل المسلمان بسیفهما فهما فی النار»)(2).

وقال ابن حمزة فی الوسیلة إلی نیل الفضیلة: (ومن اعتدی علی المعتدی علیه لم یضمن)(3).

ثم ذکر قویة عبد الله بن طلحة الاتیة فی الأدلة.

ص:93


1- (1) ج 4 ص 178
2- (2) ج 41 ص 666
3- (3) ص 455

وافتی بها المقنع والنهایة والتحریر وابن فهد وفی کثیر من الکلمات عملوا بها فی کون دم المعتدی هدرا لا یقع قصاصا.

وردها ابن ادریس والمسالک وغیرهم.

وتعرض لها فی الشرائع فی لواحق موجبات الضمان المسالة الرابعة دون ان یردها وانما قال(فی تضمین دیة الصدیق تردد اقربه ان دمه هدر).

الادلة:

ویستدل علیها بادلة, منها:

ما ورد فی هدر دم اللص:

وفیه عدة روایات منها:

1 - صحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أَیُّمَا رَجُلٍ قَتَلَهُ الْحَدُّ فِی الْقِصَاصِ فَلَا دِیَةَ لَهُ - وَ قَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ عَدَا عَلَی رَجُلٍ لِیَضْرِبَهُ - فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَجَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ - وَ قَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ - لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْ فَفَقَئُوا عَیْنَهُ - أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَ قَالَ مَنْ بَدَأَ فَاعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (1).

2 - معتبرة الْعَلَاءِ بْنِ الْفُضَیْلِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ یَضْرِبَ رَجُلًا ظُلْماً - فَاتَّقَاهُ الرَّجُلُ أَوْ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ - فَأَصَابَهُ ضَرَرٌ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ (2).

ص:94


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 59
2- (2) المصدر والصفحة.

3 - مصحح مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَیْلِ عَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ لِصٍّ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ وَ هِیَ حُبْلَی - فَقَتَلَ مَا فِی بَطْنِهَا - فَعَمَدَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی سِکِّینٍ فَوَجَأَتْهُ بِهَا فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ هَدَرٌ دَمُ اللِّصِّ (1).

4 - موثق السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ آبَائِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ شَهَرَ سَیْفاً فَدَمُهُ هَدَرٌ(2).

ومثلها صحیح سلیمان بن خالد وموثق ابان وغیرها.

تقریب الاستدلال بالروایات:

اذا کان اللص وما دونه دمه هدر فکیف بمن یعتدی علی المجنی علیه ویشرف به علی الموت وان لم یمت فللمجنی علیه قتل الجانی من باب الهدر فضلا عن الدفع.

5 - محسنة مَنْصُورٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: اللِّصُّ مُحَارِبٌ لله وَ لِرَسُولِهِ فَاقْتُلُوهُ - فَمَا دَخَلَ عَلَیْکَ فَعَلَیَّ (3).

ومثله موثق غیاث فی نفس الباب.

6 - موثق السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّ لِصّاً دَخَلَ عَلَی امْرَأَتِی فَسَرَقَ حُلِیَّهَا - فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ لَوْ دَخَلَ عَلَی ابْنِ صَفِیَّةَ - لَمَا رَضِیَ بِذَلِکَ حَتَّی یَعُمَّهُ بِالسَّیْفِ (4).

ص:95


1- (1) المصدر ص 61
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) المصدر ج 28 ص 320
4- (4) المصدر ج 15 ص 119

وفی نفس الباب روایات مستفیضة علی هدر دمه.

7 - صحیح عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَبِعَتْهَا نَفْسُهُ فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَ ذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام یَضْمَنُ مَوَالِیهِ - الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَ یَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمَا کَابَرَهَا عَلَی فَرْجِهَا - لِأَنَّهُ زَانٍ وَ هُوَ فِی مَالِهِ یَغْرَمُهُ - وَ لَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ لِأَنَّهُ سَارِقٌ (1).

وظاهر الصحیح ان قتل السارق لا یعد قصاصا مع وقوعه بعد قتل الغلام بل هو هدر ومن ثم توخذ دیة الغلام من ترکة السارق.

8 - قویة عَبْدِ الله بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَابَعَتْهُ نَفْسُهُ - فَکَابَرَهَا عَلَی نَفْسِهَا فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَ ذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام اقْضِ عَلَی هَذَا کَمَا وَصَفْتُ لَکَ - فَقَالَ یَضْمَنُ مَوَالِیهِ الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَ یَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمُکَابَرَتِهَا عَلَی فَرْجِهَا - إِنَّهُ زَانٍ وَ هُوَ فِی مَالِهِ عَزِیمَةٌ - وَ لَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ قَالَ رَسُولُ الله - صلی الله علیه و آله مَنْ کَابَرَ امْرَأَةً لِیَفْجُرَ بِهَا فَقَتَلَتْهُ فَلَا دِیَةَ لَهُ

ص:96


1- (1) المصدر ج 29 ص 60

وَ لَا قَوَدَ(1).

وتقریب الاستدلال بها ما مر فی صحیح ابن سنان.

9 - صحیح أَبِی حَمْزَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَی امْرَأَةٍ وَ هِیَ حُبْلَی فَوَقَعَ عَلَیْهَا فَقَتَلَ مَا فِی بَطْنِهَا فَوَثَبَتْ عَلَیْهِ فَقَتَلَتْهُ قَالَ ذَهَبَ دَمُ اللِّصِّ هَدَراً وَ کَانَ دِیَةُ وَلَدِهَا عَلَی الْمَعْقُلَةِ (2).

10 - محسنة الْفَتْحِ بْنِ یَزِیدَ الْجُرْجَانِیِّ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام فِی رَجُلٍ دَخَلَ دَارَ آخَرَ لِلتَّلَصُّصِ أَوِ الْفُجُورِ - فَقَتَلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَ یُقْتَلُ بِهِ أَمْ لَا - فَقَالَ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ غَیْرِهِ - فَقَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ وَ لَا یَجِبُ عَلَیْهِ شَیْ ءٌ(3).

11 - فی الدعائم: رُوِّینَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِیٍّ صلی الله علیه و آله أَنَّهُ قَضَی فِی رَجُلٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ فَاسْتَکْرَهَهَا عَلَی نَفْسِهَا وَ جَامَعَهَا وَ قَتَلَ ابْنَهَا فَلَمَّا خَرَجَ قَامَتِ الْمَرْأَةُ إِلَیْهِ بِفَأْسٍ فَأَدْرَکَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ فَقَتَلَتْهُ فَأَهْدَرَ دَمَهُ وَ قَضَی بِعُقْرِهَا وَ دِیَةِ ابْنِهَا فِی مَالِهِ وَ قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ علیه السلام إِذَا رَاوَدَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَنْ نَفْسِهَا فَدَفَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهَا فَقَتَلَتْهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ قَالَ وَ دَمُ اللِّصِّ هَدَرٌ وَ لَا شَیْ ءَ عَلَی مَنْ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ (4).

وغیرها من الروایات.

ص:97


1- (1) المصدر ص 62
2- (2) المصدر ص 61
3- (3) المصدر ص 70
4- (4) ص 426

مجمل مفاد روایة ابن طلحة:

ثم ان ظاهر المحقق النجفی فی الجواهر وغیره من الاعلام: ان قتل اللص فی قویة عبد الله بن طلحة وصحیح عبد الله بن سنان وان کان دفعا عن ثیابها المسروقة فضلا عن کونه هدرا لکونه لصا محاربا فلا یقع قصاصا ولا قود له ولا دیة فمن ثم توخذ الدیة للغلام مع ان الروایتین تعللا الهدر بکونه کابرها علی فرجها مع کون الغصب والاغتصاب قد وقع ومع ذلک قد جعل علیه السلام القتل المتعقب لذلک مصداقا للقاعدة فی قویة ابن طلحة, نعم فی صحیحة عبد الله بن سنان جعل الهدر لکونه سارقا کذلک بقیة روایات القاعدة کصحیح ابن فضیل حیث علل هدر الدم انه لکونه سارقا لا لکونه قاتلا او مغتصبا فیدلل علی ان المعتدی کاللص محارب.

الاشکال علی القاعدة ودفعه:

وقد یشکل علی القاعدة:

واشکل السید الخوئی صغرویا علی تطبیق القاعدة فی المقام بان قتل الجانی قبل موت المجنی علیه یکون ظلما وعدوانا.

ویرد: ان الاشکال محل تامل بعد کون الجانی قد جاح علی المجنی بما یودی الی زهوق روحه, وهذا الوصف صادق فی مشهد الجنایة بل وکذا یصدق خارج مشهد الجنایة.

اشکالان اخران علی القاعدة:

ص:98

وقد یشکل باشکالین اخرین علی تطبیق القاعدة:

حتی لو قلنا ان القاعدة فی نفسها متینه ولکن قد یشکل فی تطبیقها فی المقام باشکالین:

الاشکال الأول:

ان سرایة فعل الجانی مع العمد فی الجنایة وحصول السرایة یکشف عن معرضیة القتل وحینئذ فالجنایة لا تکون متمحضة فی الطرف من الأول.

الاشکال الثانی:

ان القاعدة لا تنطبق فی المقام لان الهدر فی المقام انما هو بموجب عنوان خاص وهو فیما أدی قصاص الطرف بنحو موزون معتاد بینما موضوع القاعدة انما هو فی مهدور الدم بوصف انه لص او محارب او معتدی.

دلیل الصورة الثالثة:

وقد یقرب التهاتر فی الصورة الثالثة:

اذ بعد موت المجنی علیه یتحقق فی ذمة الجانی حق القصاص علیه لولی المجنی علیه فیما لو کان القاتل ولی المجنی علیه کما ثبت للجانی حق القصاص علی ولی المجنی فیتهاترا.

ص:99

ص:100

القاعدة العاشرة: قاعدة فی القصاص العرفی

ص:101

ص:102

القاعدة العاشرة: قاعدة فی القصاص العرفی

قال السید الخوئی قدس سره فی مسالة 152 من بحث القصاص: (واما علی الثانی وهو - فیما إذا کان موته بها قبل موته - فالمشهور أنّها تقع هدراً، و علی ذلک یجری فیه جمیع الوجوه المتقدّمة. و لکن الأظهر هو أنّها لا تقع هدراً، و ذلک لأنّ موته حیث إنّه کان مستنداً إلی المجنیّ علیه فهو و إن لم یکن قصاصاً کما عرفت إلّا أنّه وقع فی محلّه، لأنّه اعتداء بالمثل، و قد عرفت أنّ الجانی لا یجنی أکثر من نفسه. و لا فرق فی ذلک بین أن یکون موته بعد موت المجنیّ علیه أو قبله، و قد جرت علی ذلک السیرة العقلائیة أیضاً. هذا، و یمکن استفادة ما ذکرناه من معتبرة السکونی المتقدّمة فی المسألة 87).

ادلة القاعدة:

موثق السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: کَانَ قَوْمٌ یَشْرَبُونَ فَیَسْکَرُونَ - فَیَتَبَاعَجُونَ بِسَکَاکِینَ کَانَتْ مَعَهُمْ - فَرُفِعُوا إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ فَسَجَنَهُمْ - فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ وَبَقِیَ رَجُلَانِ - فَقَالَ أَهْلُ الْمَقْتُولَیْنِ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - أَقِدْهُمَا بِصَاحِبَیْنَا فَقَالَ لِلْقَوْمِ مَا تَرَوْنَ - فَقَالُوا نَرَی أَنْ تُقِیدَهُمَا - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِلْقَوْمِ - فَلَعَلَّ ذَیْنِکَ اللَّذَیْنِ مَاتَا قَتَلَ کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ - قَالُوا لَا نَدْرِی فَقَالَ

ص:103

عَلِیٌّ علیه السلام - بَلْ أَجْعَلُ دِیَةَ الْمَقْتُولَیْنِ عَلَی قَبَائِلِ الْأَرْبَعَةِ - وَآخُذُ دِیَةَ جِرَاحَةِ الْبَاقِیَیْنِ مِنْ دِیَةِ الْمَقْتُولَیْنِ - قَالَ وَذَکَرَ إِسْمَاعِیلُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ - عَنْ سِمَاکِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عُبَیْدِ الله بْنِ أَبِی الْجَعْدِ - قَالَ کُنْتُ أَنَا رَابِعَهُمْ فَقَضَی عَلِیٌّ هَذِهِ الْقَضِیَّةَ فِینَا. (1)

اقول:

ظاهره الالتزام بالقصاص العرفی فی اصل الاعتداء لا فی المعتدی فیه أی وان لم یکن قصاصا فی النفس لان قتل الجانی قبل موت المجنی علیه فی احد الصورتین کما هو الحال فیما لو اقتص فیما لا یقتص منه لخوف التغریر کالهاشمة والدامیة فان المجنی علیه لو اقتص ولم تسری للنفس فلا حق له فی الدیة.

وهذه القاعدة اما من باب التهاتر بین الحقین او انه اقتصاص بالمعنی الاعم, وهذا هنا ینافی ما التزم به فی المسالة 153 من بحثه فی القصاص.

ص:104


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 224

القاعدة الحادیة عشر: قاعدة المثلیة فی الاطراف والاعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل

ص:105

ص:106

القاعدة الحادیة عشر: قاعة المثلیة فی الأطراف والأعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل

الاقوال:

عمم ابو الصلاح الحلبی البحث فی المقام الی اصابع الیدین والرجلین والعینین والاسنان بل من الرجل الی الید لمن لا رجل له.

واستشکل العلامة فی التحریر الانتقال من الید الی الرجل مع عدم وجودها خلافا للمشهور بین الاصحاب عملا بالنص الوارد.

واشترط فی المبسوط وحدة المحل فی الزائدة فضلا عن الاصلیة.

ومال الاردبیلی لجواز الانتقال مع عدم المثلیة, وذهب الی ذلک جملة من المعاصرین.

وذکرنا فی مسالة( 189 و 190) من سند القصاص نظیر هذا البحث فی الاسنان کالسن الاصلیة والزائدة.

وفی الخلاف ان فی السن الزائدة ثلث الدیة و ورد فی الاصبع الزائدة کذلک.

ومثله فی موتلف الطبرسی.

وفصل فی المبسوط بان السن الاصلیة لا تقلع بالزائدة

ص:107

وتقلع الزائدة بالزائدة مع وحدة المحل.

ومثله ابن البراج والعلامة فی القواعد.

وذهب الغنیة والکیدری ان فی السن الزائدة الارش وقیل ثلث الدیة.

وادعی فی الجواهر عدم الخلاف لاشتراط وحدة المحل فی الزائد للقصاص, واحتمل فی عبارة الشرائع عدم وحدة المحل فی الاصبع لکنه اشترط فی الاسنان التساوی فی المحل, ولعل عبارته فی السن الاصلی ودیة اصابع الید الاصلیة متساویة عند المشهور وهو یشعر بالتماثل وان اختلف المحل.

وفصل السید الخوئی فی اشتراط المحل بین الاعضاء والاسنان والاصابع فاشترط فی الاعضاء دون الاسنان والاصابع.

وفی المبسوط فان لم یکن(الیسری) قطعت الیمنی وهو مذهبنا.

وفی المهذب(1): وان لم یکن له یدان وکانت له رجلان قطعت رجله الیمنی بالیمنی.

وفی مفتاح الکرامة(2): قل المصرح - أی بشرط وحدة المحل - وتمسک بعموم النص والفتوی فی الانتقال من الید الیمنی الی الیسری مع اشارته للنص الخاص.

وحکی عن الشرائع والتحریر والارشاد والروض ومجمع البرهان انهم

ص:108


1- (1) ج 2 ص 179
2- (2) ج 11 ص 143 ط ق.

لم یشترطوا تساوی المحل بخلاف المبسوط والمسالک واستظهر من کلامهم الشمول لاختلاف المحل.

الادلة:

الدلیل الاول: الروایات الخاصة

اولا:

محسنة حَبِیبٍ السِّجِسْتَانِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ یَدَیْنِ لِرَجُلَیْنِ الْیَمِینَیْنِ - قَالَ فَقَالَ یَا حَبِیبُ تُقْطَعُ یَمِینُهُ لِلَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَوَّلًا - وَ تُقْطَعُ یَسَارُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَخِیراً - لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ قَالَ فَقُلْتُ - إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام إِنَّمَا کَانَ یَقْطَعُ الْیَدَ الْیُمْنَی وَ الرِّجْلَ الْیُسْرَی - فَقَالَ إِنَّمَا کَانَ یَفْعَلُ ذَلِکَ فِیمَا یَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الله - فَأَمَّا یَا حَبِیبُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِینَ - فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِی الْقِصَاصِ الْیَدُ بِالْیَدِ - إِذَا کَانَتْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - وَ الرِّجْلُ بِالْیَدِ إِذَا لَمْ یَکُنْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - فَقُلْتُ لَهُ أَ وَ مَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ وَ تُتْرَکُ لَهُ رِجْلُهُ - فَقَالَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ إِذَا قَطَعَ یَدَ رَجُلٍ - وَ لَیْسَ لِلْقَاطِعِ یَدَانِ وَ لَا رِجْلَانِ - فَثَمَّ تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ لِأَنَّهُ لَیْسَ لَهُ جَارِحَةٌ یُقَاصُّ مِنْهَا(1).

وَ رَوَاهُ الْبَرْقِیُّ فِی الْمَحَاسِنِ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ مِثْلَهُ إِلَی قَوْلِهِ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ - فَقُلْتُ تُقْطَعُ یَدَاهُ جَمِیعاً فَلَا تُتْرَکُ لَهُ یَدٌ یَسْتَنْظِفُ بِهَا - فَقَالَ نَعَمْ إِنَّهَا فِی حُقُوقِ النَّاسِ - فَیُقْتَصُّ فِی الْأَرْبَعِ جَمِیعاً - فَأَمَّا فِی حَقِّ الله فَلَا یُقْتَصُّ مِنْهُ

ص:109


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 124

إِلَّا فِی یَدٍ وَ رِجْلٍ - فَإِنْ قَطَعَ یَمِینَ رَجُلٍ وَ قَدْ قُطِعَتْ یَمِینُهُ فِی الْقِصَاصِ - قُطِعَتْ یَدُهُ الْیُسْرَی وَ إِنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ یَدَانِ - قُطِعَتْ رِجْلُهُ بِالْیَدِ الَّتِی قَطَعَ - وَ یُقْتَصُّ مِنْهُ فِی جَوَارِحِهِ کُلِّهَا - إِذَا کَانَتْ فِی حُقُوقِ النَّاسِ.

والتعلیل فی ذیل الروایة یقتضی التعمیم لبقیة الجوارح کالاذنین والحاجبین والعینین, کما تعلیله - لان لیس له جارجة یقاص منها - شامل لقطع ید من لا رجل له وقد قطع رجل شخص اخر.

ولا یخفی امکان تقریب دلالته ایضا علی الاصابع أی فی الانتقال من الیمنی الی الیسری والعکس لاطلاق الید علی الاصابع کما فی حد السرقة واطلاق الرجل علی اصابع الرجل ایضا.

فکذلک الحال فی تقریب عنوان الید والرجل فی هذه الروایة.

ثانیا:

صحیح مُحَمَّدِ بْنِ قَیْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام أَعْوَرُ فَقَأَ عَیْنَ صَحِیحٍ - فَقَالَ تُفْقَأُ عَیْنُهُ قَالَ - قُلْتُ یَبْقَی أَعْمَی قَالَ الْحَقُّ أَعْمَاهُ (1).

بتقریب ان مفاده شامل للانتقال من الیسری للیمنی والعکس, مع ان العین من اشرف الاعضاء وقد عمل المشهور بالنص.

وفی المسالة شقوق:

فهل یتعدی الی العینین فیما بینهما او مع الیدین والرجلین والاذنین والحاجبین

ص:110


1- (1) المصدر ص 178

والشفتین والجفنین علی اشکال فی الاخیرین لاختلاف المنفعة؟ احتمالان.

اما الانتقال من الیدین والرجلین الی غیرهما من الجوارح فلاینتقل لتنصیص الروایة علی الانتقال للدیة لا الانتقال للجوارح.

واما التعمیم بین الاذنین والعینین فیقربهما عموم التعلیل فی الذیل لعنوان الجوارح.

الدلیل الثانی:

عموم لفظ العین بالعین والسن بالسن والجروح قصاص:

ویوید هذا العموم بنظیر له فی الحدود کالانتقال بحد السرقة من الید الی الرجل, فغایة ما یقتضیه هو الانتقال من الیمنی الی الیسری والعکس لا الانتقال من نوع عضو الی نوع عضو اخر.

الدلیل الثالث:

ویمکن تقریبه ایضا:

انه مع صدق العنوان کنوع عنوان الید او العین او السن او الاصبع فیقتصر علیه مع توفره والا فتنتقل النوبة الی الدیة لا سیما فی الاطراف بعد کون القصاص نظیر الضمان فی الاعیان المالیة فالاصل فیه شخص العین بکل خصوصیاتها ثم المثل والمثلی ثم القیمة والقیمی, وعلی ضوء ذلک یجری فی باب القصاص وهو عموم العنوان ثم الی الدیة وهی القیمة.

ص:111

ص:112

القاعدة الثانیة عشرة: قاعدة فی سقوط القصاص

ص:113

ص:114

القاعدة الثانیة عشرة: قاعدة فی سقوط القصاص

الاقوال:

المشهور لا یقول بثبوت القصاص فی کسر العظام.

ذهب ابن حمزة الی ثبوت القود فی الهاشمة والمنقلة, قال فی الوسیلة: (و الهاشمة ما یهشم العظم و لا یحتاج إلی النقل و فیها القصاص إن کان عمدا أو الدیة و هی عشرة أبعرة و حکم الخطإ و عمده فیها و فیما علی ما ذکرنا فی الموضحة. و المنقلة ما یکسر العظم و یخرج إلی النقل من موضع إلی موضع و دیتها خمسة عشر بعیرا و فی عمدها القصاص أو الدیة).(1)

ومن یذکر القصاص فی کسر العضد والمنکب بل اقتصر علی الدیة.

واطلق الشیخان القصاص بلا استثناء للهاشمة والمنقلة والمأمومة.

قال الشیخ فی النهایة: (و القصاص ثابت فی جمیع هذه الجراح إلّا فی المأمومة خاصّة، لأنّ فیها تغریرا بالنفس، و لیس فیها أکثر من دیتها)(2).

وقال فی المقنعة: (وفی کسر العظم من عضو خمس دیة ذلک الموضحة...

ص:115


1- (1) ص 444.
2- (2) ص 775.

واذا کسر العظم عثم وعیب کان دیته اربعة اخماس کسره... وینبغی ان ینتظر الحاکم بالمجروح والمکسور حتی یعالج ویستبرا حاله باهل الصناعة فان صلح بالعلاج لم یقتص له ولکن یحکم علی الجانی بالارش فیما جنی فان لم یصلح بعلاج حکم له بالقصاص) (1).

وقال الشیخ فی الخلاف: (مسألة 56: إذا جرحه، فسری الی نفسه و مات، وجب القصاص فی النفس، و لا قصاص فی الجرح، سواء کان مما لو انفرد کان فیه القصاص، أو لم یکن فیه القصاص... و ان کان مما لو انفرد و اندمل لا قصاص فیه مثل الهاشمة، و المنقلة، و المأمومة، و الجائفة، و قطع الید من بعض الذراع، و الرجل من بعض الساق. فاذا صارت نفسا فهل لولیه أن یقتص منها، ثم یقتل أم لا؟ علی قولین: أحدهما: لیس له ذلک. و الثانی: له ذلک.

دلیلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم. و روی العباس بن عبد المطلب أن النبی علیه السلام قال: لا قصاص فی المنقلة) (2).

وقال ایضا: (مسألة 58: الموضحة فیها نصف العشر، خمس من الإبل بلا خلاف، و فیها القصاص أیضا بلا خلاف. و ما بعدها من الهاشمة فیها عشرة، و المنقلة فیها خمسة عشر بعیرا، و المأمومة فیها ثلث دیة النفس بلا خلاف أیضا، و لا قصاص فیها و لا فیما فوق الموضحة بلا خلاف. و لا یجوز عندنا أن یوضح و یأخذ فضل ما بینهما, و قال بعض الفقهاء: له أن یوضح و

ص:116


1- (1) ص 761
2- (2) ج 5 ص 191

یأخذ فضل ما بین الجنایتین، فان کانت هاشمة له أن یوضح و یأخذ خمسا، و إن کانت منقلة له أن یوضح و یأخذ عشرا، و کذلک فی المأمومة. دلیلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم (1) .

ونقلها فی المبسوط ج 7 ص 73 مع اختلاف یسیر.

وفی المراسم لا قصاص فیما یبرا ویصح ولم یستثنی الا الجائفة والمامومة بخلاف الهاشمة والمنقلة صلی الله علیه و آله فقال: (و لا قصاص إلا فی سبع منهن، و ما عدا المأمومة و الجائفة فإن فیهما تعذر بالنفس و لا قصاص فیهما).(2)

وقال فی الکافی: (ولا یجوز القصاص بجرح ولا قطع ولا کسر ولا خلع حتی یحصل الیاس من صلاحه فان اقتص بجرح فبرا المجروح والمقتص منه لم یبرا فلا شی لاحدهما علی صاحبه وان برا احدهما والتائم جرحه اعید القصاص من الاخر ان کان القصاص باذنه وان کان بغیر اذنه رجع المقتص منه علی المعتدی دون المجنی علیه فان کان الجرح مما یخاف للاقتصاص به تلف المقتص منه کالجائفة والمامومة وما یجری مجراها لم یجز الاقتصاص به...)(3).

وفی غنیة النزوع إلی علمی الأصول و الفروع(ثم الهاشمة: و هی التی تهشم العظم، و فیها عشر الدیة. ثم المنقلة: و هی التی تحوج مع کسر العظم إلی نقله من موضع إلی آخر، و فیها عشر و نصف عشر. ثم المأمومة: و هی التی تصل إلی أم الدماغ، و فیها ثلث الدیة، و فی هذه الثلاث ما ذکرناه من

ص:117


1- (1) () المصدر ص 192
2- (2) ص 247
3- (3) الکافی فی الفقه 288

المقدر بلا خلاف، و لیس فیها قصاص بلا خلاف) (1).

وفی الجامع(اذ کان فی الجرح تغریر النفس او کان مما یبرا فلیس فیه قصاص)(2).

وفی المبسوط(اذا قطع اذن رجل فابانها ثم الصقها المجنی علیه فی الحال کان علی الجانی القصاص لان القصاص علیه بالابانه وقد ابانها, نعم لو قال الجانی ازیل اذنه ثم اقتصوا منی قال قوم تزال لانه الصق بنفسه میتة)(3).

ومثله ابن براج فی الجواهر والمهذب.

وقال فی نکت النهایة:

(قوله: «والقصاص ثابت فی جمیع هذه الجراح إلّا فی المأمومة خاصّة». الهاشمة کیف یمکن أن یقتصّ منها؟ لأنّ الرضّ قد یزید و ینقص فی طول العظم و عرضه، و ربما أدّی ذلک الاقتصاص إلی نقل العظم الذی اقتصّ منه. الجواب: قد حقّق رحمه الله البحث فی هذه المسألة فی غیر النهایة بما هو الحقّ، فقال فی الخلاف: الموضحة فیها القصاص بلا خلاف، وما بعدها من الهاشمة والمنقلة والمأمومة لا قصاص فیها بلا خلاف، ولا یجوز عندنا أن یوضح ویأخذ فضل ما بینهما. واستدلّ بإجماع الفرقة وأخبارهم. فإذن المعوّل علیه هذا. ولأنّه موضع غرر فلا یشرع فیه القصاص لأنّ القصاص مساواة و هی متعذّرة هنا فی الأغلب. و لما روی عن علیّ علیه السلام أنّه قال: لیس فی

ص:118


1- (1) ص 419
2- (2) الجامع للشرائع ص 572
3- (3) ج 7 ص 92

عظم قصاص)(1).

قال فی الدعائم: (و الأصل فیما یقتص منه من الجراحات و الجنایات علی أعضاء و غیر ذلک أن کل ما یوصل إلی القصاص منه بلا زیادة و لا نقصان و یؤمن فیه الاعتداء و لا یخاف فیه موت المقتص منه فالقصاص فیه مباح و ما عدا ذلک فالدیة فیه من مال الجانی إذا کان حرا بالغا جائز الأمر متعمدا للفعل و الدیة فیما تجب فیه الدیة علی العاقلة من الخطإ و قد ذکرنا ما تعقله العاقلة من جراحات الخطإ)(2).

وفی الوسیلة إلی نیل الفضیلة(و الهاشمة ما یهشم العظم و لا یحتاج إلی النقل و فیها القصاص إن کان عمدا أو الدیة و هی عشرة أبعرة و حکم الخطإ و عمده فیها و فیما علی ما ذکرنا فی الموضحة و المنقلة ما یکسر العظم و یخرج إلی النقل من موضع إلی موضع و دیتها خمسة عشر بعیرا و فی عمدها القصاص أو الدیة)(3).

وفی الشرائع: (و لا یثبت القصاص فیما فیه تغریر، کالجائفة و المأمومة. و یثبت فی الحارصة و الباضعة و السّمحاق و الموضحة...)(4).

وفی فقه القرآن(للراوندی) (وأما الجروح فإنه یقتص منها إذا کان الجارح مکافئا للمجروح علی ما بیناه فی النفس فیقتص بمثل جراحته الموضحة

ص:119


1- (1) ج 3 ص 453
2- (2) ج 2 ص 421
3- (3) ص 455
4- (4) ج 4 ص 219

بالموضحة و الهاشمة بالهاشمة و المنقلة بالمنقلة و لا قصاص فی المأمومة و هی التی تبلغ أم الرأس و لا الجائفة و هی التی تبلغ الجوف لأن فی القصاص منهما تضریرا بالنفس. و لا ینبغی أن یقتص الجراح بعد أن یندمل من المجروح فإذا اندمل اقتص حینئذ من الجارح و إن سرت إلی النفس کان فیها القود. و کسر العظم لا قصاص فیه و إنما فیه الدیة) (1).

السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی: (و الذی اخترناه نحن هو الظاهر، و تعضده الأدلّة، و جمیع الظواهر تشهد بصحته. ثم قال فی نهایته، و القصاص ثابت فی جمیع هذه الجراح، إلّا فی المأمومة خاصة، لأن فیها تغریرا بالنفس، فلیس فیها أکثر من دیتها. الّا انه رجع فی مسائل خلافه و مبسوطة الی ما اخترناه. و هو الأصح، لأن تعلیله فی نهایته لازم له فی الهاشمة و المنقلة)(2).

تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة(ط - الحدیثة): (لا قصاص فی الهاشمة و المنقّلة و المأمومة و الجائفة، لما فیها من التّغریر، و لیس له أن یقتصّ فی الموضحة بالسّمحاق و یأخذ دیة الزائد، لإمکان القصاص فی الجنایة، و لو اتّفقا علی ذلک جاز)(3).

وقال الکیدری فی إصباح الشیعة بمصباح الشریعة: (و الهاشمة: و هی التی تهشم العظم، و فیها عشر الدیة. و المنقلة: و هی التی تحوج مع کسر العظم إلی نقله من موضع إلی آخر، و فیها عشر و نصف عشر. و المأمومة: و

ص:120


1- (1) ج 2 ص 417
2- (2) ج 3 ص 408
3- (3) ج 5 ص 615

هی التی تصل إلی أم الدماغ و فیها ثلث الدیة، و لیس فی هذه الثلاثة قصاص، و قیل: فی جمیع ذلک القصاص إلا فی المأمومة، لأن فیها تغریرا بالنفس) (1).

وفی مختلف الشیعة فی أحکام الشریعة(و کأنّ الشیخین - رحمهما الله - لم یصرّحا بثبوت القصاص فی الهاشمة و المنقلة، بل علی تعمیم القصاص فی الجراح، و الهشم و النقل کأنّهما خارجان عن الجراح)(2).

وفی کشف الرموز فی شرح مختصر النافع: (و یثبت القصاص فیما لا تعزیر فیه کالخارصة و الموضحة، و یسقط فیما فیه التعزیر کالهاشمة و المنقّلة و المأمومة و الجائفة و کسر العظام(3).

اقول: ویظهر من عبارته ان عنوان کسر العظام مغایر للهاشمة والمنقلة والمامومة, أی ما اقتصر علی کسر العظم فقط بلا هشمه او نقله, ومنا یظهر عدم التدافع فی عبارة الراوندی المارة.

ویتحصل:

ان مشهور المتقدمین یذهبون الی ثبوت القصاص فی الکسر اذا لم یصلح علی التفصیل اعلاه بخلاف مشهور المتاخرین.

وظاهر کلمات الاصحاب انهم عللوا عدم القصاص فی الهاشمة والمنقلة بالتغریر بالنفس او عدم الضبط بالزیادة والنقیصة.

ص:121


1- (1) ص 509
2- (2) ج 9 ص 416
3- (3) ج 2 ص 623

الادلة:

الوجه الاول:

الروایات منها:

1 - موثقة اسحاق بن عمار: عَنْ جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِیّاً علیه السلام(کَانَ یَقُولُ لَیْسَ فِی عَظْمٍ قِصَاصٌ...)(1).

2 - روی أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِیسَی فِی نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِیهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام قَالَ: لَا یَمِینَ فِی حَدٍّ وَ لَا قِصَاصَ فِی عَظْمٍ (2).

3 - موثق إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ الاخر عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیه السلام أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ مِنْ بَعْضِ أُذُنِ رَجُلٍ شَیْئاً - فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَأَقَادَهُ - فَأَخَذَ الْآخَرُ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهِ - فَرَدَّهُ عَلَی أُذُنِهِ بِدَمِهِ فَالْتَحَمَتْ وَ بَرَأَتْ - فَعَادَ الْآخَرُ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَاسْتَقَادَهُ - فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ ثَانِیَةً وَ أَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ - وَ قَالَ علیه السلام إِنَّمَا یَکُونُ الْقِصَاصُ مِنْ أَجْلِ الشَّیْنِ (3).

4 - مقطوعة أَبَانٍ أَنَّ فِی رِوَایَتِهِ الْجَائِفَةُ مَا وَقَعَتْ فِی الْجَوْفِ - لَیْسَ لِصَاحِبِهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - وَ الْمُنَقِّلَةُ تُنَقَّلُ مِنْهَا الْعِظَامُ - وَ لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - وَ فِی الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّیَةِ - لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ (4).

ص:122


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 185
2- (2) ص 143
3- (3) وسائل الشیعة ج 29 ص 185
4- (4) لمصدر ص 179

5 - مقطوعة أَبِی حَمْزَةَ فِی الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ - وَ فِی السِّمْحَاقِ دُونَ الْمُوضِحَةِ أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ - وَ فِی الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ عُشْرٌ وَ نِصْفُ عُشْرٍ - وَ فِی الْجَائِفَةِ مَا وَقَعَتْ فِی الْجَوْفِ - لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - وَ الْمُنَقِّلَةُ (تُنَقَّلُ مِنْهَا) الْعِظَامُ - وَ لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - (وَ فِی) الْمَأْمُومَةِ تَقَعُ ضَرْبَةٌ فِی الرَّأْسِ إِنْ کَانَ سَیْفاً - فَإِنَّهَا تَقْطَعُ کُلَّ شَیْ ءٍ وَ تَقْطَعُ الْعَظْمَ فَتَؤُمُّ الْمَضْرُوبَ - وَ رُبَّمَا ثَقُلَ لِسَانُهُ وَ رُبَّمَا ثَقُلَ سَمْعُهُ - وَ رُبَّمَا اعْتَرَاهُ اخْتِلَاطٌ - فَإِنْ ضُرِبَ بِعَمُودٍ أَوْ بِعَصًا شَدِیدَةٍ - فَإِنَّهَا تَبْلُغُ أَشَدَّ مِنَ الْقَطْعِ یُکْسَرُ مِنْهَا الْقِحْفُ قِحْفُ الرَّأْسِ (1).

6 - وروی دعائم الإسلام عَنْهُ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ لَا یُقْتَصُّ مِنَ الْمُنَقِّلَةِ وَ لَا مِنَ السِّمْحَاقِ وَ لَا مِمَّا هُوَ دُونَهُمَا یَعْنِی علیه السلام مَا هُوَ دُونَهُمَا إِلَی الدِّمَاغِ وَ دَاخِلِ الرَّأْسِ قَالَ وَ فِیهَا الدِّیَةُ وَ لَا یُقَادُ مِنَ الْمَأْمُومَةِ وَ لَا مِنَ الْجَائِفَةِ وَ لَا مِنْ کَسْرِ عَظْمٍ وَ فِی ذَلِکَ کُلِّهِ الْعَقْلُ)(2).

ویوید تفصیل القدماء ما رواه فی الدعائم حیث استظهر منها التفصیل بین الراس والبدن ما روی فی الجعفریات - وَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِیِّ بْنِ الْحُسَیْنِ عَنْ أَبِیهِ عَنْ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ علیه السلام قَالَ قَضَی رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله فِی الْمُوضِحَةِ فِی الرَّأْسِ وَ الْوَجْهِ سَوَاءً)(3).

ص:123


1- (1) المصدر ص 180
2- (2) ج 2 ص 421
3- (3) ص 246

قد تعارض:

اما صحیحة أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ السِّنِّ وَ الذِّرَاعِ یُکْسَرَانِ عَمْداً - لَهُمَا أَرْشٌ أَوْ قَوَدٌ فَقَالَ قَوَدٌ - قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ أَضْعَفُوا الدِّیَةَ - قَالَ إِنْ أَرْضَوْهُ بِمَا شَاءَ فَهُوَ لَهُ.(1)

فقد حمل المقنعة والنهایة وابن زهرة العمل بها فیما لا یرجی صلاحه, وحمله المجلسی الاول علی من یعتاد الکسر أی له خبرویة فی تقدیره.

الجمع بین الروایات:

ویمکن الجمع بین الروایات بما یاتی من تفصیل فی الصحیح الی جمیل بن دراج.

ففی الصحیح الی جَمِیلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام فِی رَجُلٍ کَسَرَ یَدَ رَجُلٍ ثُمَّ بَرَأَتْ یَدُ الرَّجُلِ - قَالَ لَیْسَ فِی هَذَا قِصَاصٌ وَ لَکِنْ یُعْطَی الْأَرْشَ.(2)

بِالْإِسْنَادِ اعلاه عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: فِی سِنِّ الصَّبِیِّ یَضْرِبُهَا الرَّجُلُ فَتَسْقُطُ ثُمَّ تَنْبُتُ - قَالَ لَیْسَ عَلَیْهِ قِصَاصٌ وَ عَلَیْهِ الْأَرْشُ - قَالَ عَلِیٌّ وَ سُئِلَ جَمِیلٌ کَمِ الْأَرْشُ فِی سِنِّ الصَّبِیِّ وَ کَسْرِ الْیَدِ - قَالَ شَیْ ءٌ یَسِیرٌ وَ لَمْ یَرْوِ فِیهِ شَیْئاً مَعْلُوماً.(3)

ص:124


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 176
2- (2) المصدر ص 177
3- (3) المصدر 178

الوجه الثانی:

انه مقتضی القاعدة وهو ما استدل به الاکثر من استلزام التغریر بالنفس.

اشکل علی ذلک الشهید الثانی ان کسر مطلق العظم لا تغریر فیه.

الوجه الثالث:

انه لا یمکن الاستیفاء بالمثل فی کسر العظم کما استدل به الشهید الثانی.

ویمکن ان یشکل علی ذلک: بما سیاتی من قاعدة التزم بها مشهور القدامی مفادها الاقتصار علی الاقل مع اخذ التفاوت, لاسیما وان اصل القصاص فی النفس مبنی علی المماثلة فی اصل القصاص لا المماثلة فی العدوان ومن ثم فلا یقتص من الجانی بالکیفیة التی قتل بها المجنی علیه, مما یشیر ان باب القصاص لیس مبنیا علی المماثلة المطلقة بل علی المقابلة فی اصل القصاص.

ص:125

ص:126

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة فی غایة القصاص

ص:127

ص:128

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة فی غایة القصاص

الاقوال:

افتی الصدوق والنهایة والخلاف بموثقة اسحاق الاتیة, وظاهر الشیخ فی المبسوط عمل الاصحاب بها, ولم یفت بها العلامة فی القواعد وافتی بها فی المقنعة معکوسا - ای فی ما لو لصق المجنی علیه القطعة المبانة منه - وکانه فهم عکس الفرض من الموثقة, وجمع ابن البراج بین الفرضین بضابطة جامعة.

وقد یقرر مقتضی القاعدة فی ایة القصاص: (وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ ( 45)1 .

ان غایة القصاص هو نقص العضو کما هو موثقة اسحاق الاتی, لان الایة قابلت بین قصاص الاعضاء وقصاص الجروح والمقابلة انما تتم بکون القسم الاول نقص عضو بخلاف قصاص الجروح فلو اعید العضو الی محله لکان من قصاص الجروح لا الاعضاء.

ص:129

وموثقة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیه السلام أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ مِنْ بَعْضِ أُذُنِ رَجُلٍ شَیْئاً - فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَأَقَادَهُ - فَأَخَذَ الْآخَرُ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهِ - فَرَدَّهُ عَلَی أُذُنِهِ بِدَمِهِ فَالْتَحَمَتْ وَ بَرَأَتْ - فَعَادَ الْآخَرُ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَاسْتَقَادَهُ - فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ ثَانِیَةً وَ أَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ - وَ قَالَ علیه السلام إِنَّمَا یَکُونُ الْقِصَاصُ مِنْ أَجْلِ الشَّیْنِ (1).

ضابطة: غایة القصاص فی معرضیة الهلکة:

وهی جواب علی ما یرد من الاشکال علی صحیح أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ - بسند الفقیه - عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام قَالَ: أُتِیَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِرَجُلٍ قَدْ قَتَلَ أَخَا رَجُلٍ - فَدَفَعَهُ إِلَیْهِ وَ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ - فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ حَتَّی رَأَی أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ - فَحُمِلَ إِلَی مَنْزِلِهِ فَوَجَدُوا بِهِ رَمَقاً فَعَالَجُوهُ فَبَرَأَ - فَلَمَّا خَرَجَ أَخَذَهُ أَخُو الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ - فَقَالَ أَنْتَ قَاتِلُ أَخِی وَ لِی أَنْ أَقْتُلَکَ - فَقَالَ قَدْ قَتَلْتَنِی مَرَّةً - فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَی عُمَرَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ - فَخَرَجَ وَ هُوَ یَقُولُ وَ الله قَتَلْتَنِی مَرَّةً - فَمَرُّوا عَلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ - فَقَالَ لَا تَعْجَلْ حَتَّی أَخْرُجَ إِلَیْکَ - فَدَخَلَ عَلَی عُمَرَ فَقَالَ لَیْسَ الْحُکْمُ فِیهِ هَکَذَا - فَقَالَ مَا هُوَ یَا أَبَا الْحَسَنِ - فَقَالَ یَقْتَصُّ هَذَا مِنْ أَخِی الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ مَا صَنَعَ بِهِ - ثُمَّ یَقْتُلُهُ بِأَخِیهِ - فَنَظَرَ الرَّجُلُ أَنَّهُ إِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ أَتَی عَلَی نَفْسِهِ - فَعَفَا عَنْهُ وَ تَتَارَکَا(2).

فان روایته علی القواعد وان تعلیله علیه السلام یرید به بیان ان النفس موجبة لاستثناء من عموم قصاص الاطراف اذا کان قصاص الطرف معرضا لهلکة

ص:130


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 185
2- (2) المصدر ص 125

النفس مع ان الحق للقصاص مقرر حسب القاعدة الاولیة لکنه اذا ادی الی التغریر بالنفس فانه یسقط وینتقل الی الدیة فکذا فی المقام فان ولی المقتول وان استحق القصاص للنفس لکن ما فعله حیث لم یندرج فی القصاص للنفس وان کان سائغا ظاهرا لا بحسب الواقع للفصل الزمنی مع الضربة القاتلة فلا یندرج فی القصاص للنفس, وحینئذ فالضربة الاولی مضمونة ولو دیة او قصاصا, وحیث لا یقتص لها لکونها فی معرض هلکة النفس للتزاحم فکذا هاهنا لا یقتص للمقتول وذلک لتزاحمه مع ما جری علی الجانی مما لا یستحق ولی المقتول وکانما ما قاله الامیر علیه السلام(ضربة بضربة) ناظر الی هذا, فحاصل معنی روایة ابان ان القصاص الاولی حیث یسقط بسبب استلزامه التعدی کما فی الجائفة والمامومة والهاشمة والناقلة کذا هنا فی المقام لا یقتص ولی المقتول لاستلزامه الزیادة والتعدی فتعلیله علیه السلام لبیان ان القاعدة الاولیة وان کانت القصاص لکنه یسقط اذا استلزم الزیادة کما فی قصاص الطرف المنصوص علیه فی الایة, فکذا فی قصاص النفس فان المقرر وان کان النفس بالنفس کالعین بالعین والاذن وبالاذن لکنه یسقط اذا استلزم الزیادة والتعدی فالتعلیل فی الروایة متقن من المتقنات.

ولا یعترض بمفاد موثق اسحاق لانه لا یستلزم التعدی بخلاف المقام الذی یستلزم التعدی.

ضابطة (فائدة):

(قصاص الطرف فی معرض القتل قصاص نفس) او(تنزیل الفعل منزلة فعل اخر رعایة للحقین).

ما ورد ان قصاص الطرف الذی فی معرض القتل لا یثبت القصاص بل

ص:131

الدیة شاهد علی ان القصاص فی العضو الذی فی معرض القتل هو قصاص نفس لا قصاص طرف فقوله علیه السلام فی روایة ابان ان یقتص منه ما صنع کنایة وتنبیه علی ان هذا - أی ضربة ولی المقتول للجانی - نحو استیفاء لقصاص النفس بنحو تنزیلی کما فی جملة من الموارد کاقرار الثانی بالقتل لانقاذ المقر الاول وکالهارب القار بالزنا, والحاصل ان مفاد الروایة لیس شاذا عن القواعد حتی تطرح, سیما ان الصدوق افتی بها فی الفقیه والکلینی والشیخ فی التهذیب والمبسوط, وسیما ان ضابطة ما یسوغ من الضرب للقتل قصاصا یباین المثلة والتعذیب فللجمع بین الحقین من دون ایکال الضابطة الی العرف لانه غیر منضبط تکون النتیجة بما فی مفاد الروایة تعبدا جما بین الحقین.

تتمة:

یقع البحث فی انه هل یجوز تعدد الضربات فی قصاص القتل او لابد من الوحدة کما فی روایة نهج البلاغة(إِنْ قَتَلْتَ فَضَرْبَةً مَکَانَ ضَرْبَةٍ)(1).

خالف المامقانی فی حاشیة المکاسب انه یسوغ له ان یضرب القاتل عدة ضربات بالسیف لقتله.

ویمکن تقریب ذلک ان القصاص لیس هو الا الضربة الموصوفة بانها قاتلة أی شانها ذلک وفی معرض القتل والتعلیل فی روایة ابان المتقدمة مشیرة الی ذلک وذیلها تنبیه منه علیه السلام الی ان ذلک اقتصاص للجانی من ولی المقتول.

ص:132


1- (1) المصدر ص 128

القاعدة الرابعة عشرة: فی قصاص الاطراف أنها لمجرد إبانة العضو أو للشین أیضا

ص:133

ص:134

القاعدة الرابعة عشرة: فی قصاص الأطراف أنها لمجرد إبانة العضو أو للشین أیضا

اشارة

ویتضح الحال فی القاعدة من خلال عرض صورتان وبیان تطبیق فی مسالة من بحث القصاص.

وهنا صورتان.

الاولی: ان الجانی هو الذی الصق اذنه.

الثانیة: ان المجنی علیه هو الذی الصق اذنه.

ذکرنا فی کتاب القصاص شطر من الکلام فی المسالة 155, وخالف فی التحریر انه لیس للمجنی علیه ازالة اذن الجانی مرة ثانیة.

وفی موثق اسحاق بن عمار عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیه السلام أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ مِنْ بَعْضِ أُذُنِ رَجُلٍ شَیْئاً - فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَأَقَادَهُ - فَأَخَذَ الْآخَرُ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهِ - فَرَدَّهُ عَلَی أُذُنِهِ بِدَمِهِ فَالْتَحَمَتْ وَ بَرَأَتْ - فَعَادَ الْآخَرُ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَاسْتَقَادَهُ - فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ ثَانِیَةً وَ أَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ - وَ قَالَ علیه السلام إِنَّمَا یَکُونُ الْقِصَاصُ مِنْ أَجْلِ الشَّیْنِ)(1).

ص:135


1- (1) المصدر ص 185.

ومورد الروایة هو الصاق الجانی اذنه وهو الصورة الاولی, وان احتمل ظهور العکس ایضا.

تقریب الصورة الثانیة بوجوه:

الوجه الاول: ویمکن ان یقرب ما لو الصق المجنی علیه اذنه بان المجنی علیه غایة حقه هو القصاص للنقص والشین فلما الصق المجنی علیه عضوه لم یبق له شین فیکون قد استوفی اکثر من حقه فحینئذ للجانی حق الاقتصاص من المجنی علیه ویدعمه ما ذکرناه فی المسالة 155 من بحث القصاص.

وقد مرت روایة ابان بن عثمان وتقدم بیان مفادها فی ذیل قاعدة عدم جواز التعدی فی القصاص, فاذا تعدی اقتص من المجنی علیه.

الوجه الثانی:

ما ذهب الیه جماعة من سقوط حق قصاص المجنی علیه لو الصق اذن نفسه قبل ان یقتص من الجانی, فان مقتضی سقوط حق القصاص تقوم ذلک الحق بعدم التئام الاذن مرة اخری وبقائها مقطوعة.

الوجه الثالث:

ان مقتضی تعلیل موثق اسحاق المتقدم دال علی ان الموضوع لحق القصاص هو القطع والابانه والشین فاذا ما اختل الموضوع فی جزئه الثانی فلا یتم تحققه ویکون اقتصاص المجنی علیه من الجانی تعدیا, وهذا التقریب للتعلیل فی موثق اسحاق لیس من باب تعمیم التعلیل عن مورد الموثق فی احد الصورتین للاخری.

ص:136

تطبیق وشرح للقاعدة:

فی مسالة 175 من بحث القصاص: (لو قطعت اذن شخص مثلا ثم الصقها المجنی علیه قبل الاقتصاص من الجانی والتحمت, فهل یسقط به حق الاقتصاص؟ المشهور عدم السقوط, ولکن الاظهر الاقوی هو السقوط وانتقال الامر للدیة).

هذه المسالة بمثابة تتمة لشرح للقاعدة.

قال الحلبی فی الکافی: لا یجوز القصاص بجرح ولا قطع ولا کسر ولا خلع حتی الیاس من صلاحه.

وفی المقنعة: وینبغی ان ینتظر الحاکم بالمجروح والمکسور حتی یعالج ویستبرا حاله لاهل الصناعة, فان صلح بالعلاج لم یقتص له لکنهیحکم علی الجانی بالارش فیما جنی فان لم یصلح بعلاج حکم له بالقصاص.

قال فی التحریر: ففی وجب القصاص اشکال ینشا من وجوبه بالابانة وقد حصلت ومن عدم الابانة علی الدوم... والاقرب وجوب القصاص مطلقا وان قلنا بعدمه فله الارش.

وفی القواعد ولو الصقها المجنی علیه لم یومر بالازالة والقصاص.

اقول: التزام المشهور فی المسالة السابقة متدافع مع ما التزموا به فی هذه المسالة, فانهم فی المسالة السابقة بنو علی کون التعلیل وهو الشین جزء للموضوع وفی هذه المسالة بنوا علی ان الابانة هی تمام الموضوع.

وقرب فی الجواهر رفع التدافع, بان المجنی علیه لو الصق ما التحمت اذنه

ص:137

فجاء اخر فقطعها ان للمجنی علیه ان یقتص قصاصا.

وقد یقرب تقریر القاعدة فی قصاص الاطراف بمفاد الایة(وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ...) (1).

التقریب الاول:

قد یقرب ان المستفاد من الایة هو کون القصاص لاجل العضو فاذا ما رجع الی حاله السابق فلا قصاص بمقتضی ظهور المقابلة بین عنوان العضو فی مقابل عضو(الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ...) بجعل کبری الجروح کالعام بعد مصادیق وامثلة الخاص فظاهر الباء المقابلة لذات العضو.

ویشهد لهذا التقریب ثانیا: ما یدل علی ان الایة ثلاثة اقسام, النفس والاطراف والجروح وان الثانی عطف علی الاول حکما واما الثالث فالواو استئنافیة کما استظهره التبیان ومجمع البیان, مما یدلل علی ما افتوا به طبقا للنص الوارد من انه یقلع السن بالسن ولو عادت السن فلا قصاص, کما فی صحیح جمیل بن دراج عن احدهما علیهما السلام فی سن الصبی یضربها الرجل فتسقط ثم تنبت قال لیس علیه قصاص وعلیه الارش... الحدیث).

وفی المسالک: سن الصبی فضلة نازلة منزلة الشعر(2).

ص:138


1- (1) المائدة 45
2- (2) مسالک الافهام ج 15 ص 289

ویشهد لهذا لتقریب ثالثا:

مما یدعم المقابلة بین الاعضاء تقدیرهم الحکومة مع عود العضو الی محله والدیة کاملة اذا لم یعد مما یقتضی ذلک.

ویشهد لهذا التقریب رابعا:

مما یدلل علی المقابلة فی العضو لا فی الابانة کالجرح کما بینا فی المسالة 176 من القصاص وغیرها, من ان الاعور یقتص من عینه الصحیحة, وهذا یظهر منه المقابلة فی الاعضاء لا فی اصل الابانة والا فالابانة من العین العوراء یحصل بها الالم, وکذا الحکم فی مقطوع الید او الرجل والا فیقطع مما بقی من العضو ویبان منه شطرا.

التقریب الثانی:

قد یقرب عکس ذلک فی مفاد الایة بان جملة(الجروح قصاص) بمثابة الشرح بما سبق وتبیان ان القصاص للابانة والجرح او عطف مستقل.

ویدعم هذا التقریب بصحیح الحلبی قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ جِرَاحَاتِ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ - فِی الدِّیَاتِ وَ الْقِصَاصِ سَوَاءً - فَقَالَ الرِّجَالُ وَ النِّسَاءُ فِی الْقِصَاصِ السِّنُّ بِالسِّنِّ - وَ الشَّجَّةُ بِالشَّجَّةِ وَ الْإِصْبَعُ بِالْإِصْبَعِ سَوَاءً - حَتَّی تَبْلُغَ الْجِرَاحَاتُ ثُلُثَ الدِّیَةِ.. الحدیث)(1).

وحکم دیة الاطراف حکم دیة الجراحات.

ص:139


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 163

وقد تنقد هذه القرینة - صحیح الحلبی - ان تعمیم عنوان الجراحات للعضو فی صحیح الحلبی لیس بمعنی وحدة سنخ الحکم بین الجراحة والعضو بل بلحاظ التسویة فی الفرق بین المراة والرجل الی ثلث الدیة, ومما یدلل علی عدم التسویة بین حکم الشراحات وقطع العضو ان الدیة فی الجراحات مبنیة علی برء الجرح والا ستکون دیة عضو بخلاف دیة العضو فانها مبنیة علی تلف العضو.

وقد یقرب ثالثا:

ان عطف(والجروح قصاص) وان کان مستقلا الا انه شارح لما سبق لان فی الجروح الموضوع هو الفعل نفسه من الجنایة کحدث لا کنتیجة الحدث.

فتحصل ان القصاص فی الاعضاء مباین سنخا لقصاص الجروح وان الغایة فی الاول اتلاف ذات العضو نفسه لا مجرد الابانة والجرح, بینما الغایة فی الثانی فانها لمجرد الجرح والایلام به لا التلف والاتلاف.

ص:140

القاعدة الخامسة عشرة: قاعدة فی تبعیض القصاص فی الاطراف والجراحات

ص:141

ص:142

القاعدة الخامسة عشرة: قاعدة فی تبعیض القصاص فی الأطراف والجراحات

اشارة

والبحث فیها یقع فی ثلاث جهات: الاقوال والادلة وتتمات.

الجهة الاولی:

الاقوال:

ذهب المشهور والمبسوط الی التبعیض فی القصاص عند عدم امکان القصاص التام, ویستشعر من الجواهر - بعد حکایة کلام التحریر حیث قرب العدم - المیل الی الجواز, واحتمل فی القطع من الذراع التبعیض من الاصابع, وهو توسعة فی التبعیض.

وفی المسالک استشکل فی التبعیض من جهة الالزام بالدیة.

وفی قواعد الأحکام: و لو قطع من نصف الکفّ لم یکن له القصاص من موضع القطع، لعدم وقوع القطع علی مفصل محسوس یمکن اعتبار المساواة فیه، و له قطع الأصابع و المطالبة بالحکومة فی الباقی، و لیس له قطع الأنامل و مطالبة دیة باقی الأصابع و الحکومة، فإن رضی بقطعها مع إسقاط الباقی جاز، و لیس له أن یقطع الأنامل ثمّ یکمل القطع فی الأصابع، لزیادة الألم.

ثم ان التبعیض تارة یفرض فی الکم وتارة فی الکیف.

ص:143

الجهة الثانیة: الادلة:

یستدل للتبعیض الذی ذهب الیه المشهور او بعض درجاته بامور:

اولا: بما فی المبسوط وغیره من ان القطع من وسط الذراع کسر محتمل للتعدی فینتقل الی مفاصل الاعضاء.

ثانیا: ان اسناد القطع حاصل للاصابع مع قطع الکف وکذلک اسناده للکف حاصل مع قطع وسط الذراع, وکذا الحال فی المرفق مع العضد مما یحقق موضوع القصاص بنحو متعدد بدلی کالمجموعی لا الاستغراقی لاسیما وان التفکیک بین قطع المفصل من الکوع والقطع من الذراع لازمه ان الزیادة علی المفصل مانعة من القصاص وهو غریب کما قیل.

ثالثا: ان المماثلة الماخوذة فی القصاص من قوله تعالی: (فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم)(1) هی قید کسقف اعلی لا انها حد مانع عما دونه کما هو الحال فی جملة من ابواب الفقه, من اخذ القید بلحاظ السقف الاعلی ککون الحیض عشرة ایام وکون شهر الصیام ثلاثین یوما فانه لا یمانع ما دل علی ان المدار فی شهر الصیام علی رؤیة الهلال ولو کان تسع وعشرین یوما.

رابعا: قد یقرر ان قصاص الجنایة متقوم ببعدین, بعد الکم وبعد الکیف, فمن جهة الکیف وهو الایلام یحصل مرة واحدة لا تتعدد, ومن جهة الکم فهی قابلة للتعدد والتبعیض, ولکن علی ذلک یشکل ما ذهب الیه المشهور من اخذ الدیة مع القصاص من الکوع.

ص:144


1- (1) البقرة 194.

خامسا: قد یخرج التبعیض انه من باب المصالحة علی العضو عن القصاص لکن بشرط عدم صدق المثلة والتمثیل لانه ورد فی شروط القصاص النهی عن التمثیل.

تتمات:

ضابطتان فی التبعیض:

هذه الضابطة نظیر ما مر فی قصاص النفس انه کلما استلزم قصاص الطرف الرد فلولی الدم ان یلزم الجانی بالدیة, فعلی ذلک کلما استلزم الرد صح التبعیض والحکومة فی مازاد علی المفصل فی مقابل ان یقتص من المفصل الاعلی.

والضابطة الاخری: ان کل مورد لا یضبط تقدیره فیصار فیه الی التبعیض لتفادی التعدی فی القصاص.

فروع فی التبعیض:

الفرع الاول: قد یقرر جواز التبعیض فی قطع الذراع بین التبعیض فی القطع من الکف مع القطع من الاصابع حیث لما لم یمکن القصاص کاملا وجاز التبعیض فکما یجوز اخذ الکف یجوز اخذ الاصابع خاصة, ومال الیه فی الجواهر.

الفرع الثانی: کلما کان علی المجنی علیه الرد فی القصاص ساغ له التبعیض. لو قطع الرجل اصابع من المراة فهل لها التبعیض او کانت دیة الجنایة علی المراة ثلث الدیة او اکثر, او ان لها الاکتفاء بقصاص نصف الجنایة والامتناع عن فاضل الدیة کما فی القواعد واشکل منه اذا قطع ثلاثة اصابع او اثنین؟ اختار فخر المحققین الجواز وکذلک صاحب الجواهر وغیر واحد من المعاصرین, وتردد

ص:145

العلامة والشهید الثانی فی الروضة والمسالک(1) والفاضل فی کشف اللثام(2) وصاحب الریاض(3), وقد استندوا الی قاعدة التبعیض فی قصاص الاطراف التی مر وجهها.

الفرع الثالث: لو کان بعض اعضاء المجنی علیه مصابا بالشلل وکان نفس ذلک العضو من الجانی صحیحا کما لو کانا اصبعا المجنی علیه سالمین وثلاثة شلاء فیقتص من الجانی اصبعین سالمین ویوخذ منه دیة الاصابع الشلاء وهکذا الامر لباقی اقسام الید اذا وقعت علیها الجنایة وکانت معیبة, ذهب الی ذلک المبسوط (4) والعلامة وابن البراج وکاشف اللثام وصاحب الجواهر.

الفرع الرابع: لو کان عضو المجنی ناقصا کالید الفاقدة لبعض الاصابع فقد افتی بالقصاص والدیة والارش فیما قابل المعیب منها کما فی التحریر والمسالک وکشف اللثام والریاض والجواهر.

التبعیض فی الجرحات:

اذا ادی القصاص فی بعض الجراحات الی التغریر فی النفس او التعدی الی غیر موضع الجنایة فلا یجوز القصاص نعم یجوز ان یقتصر علی الموضحة ویاخذ ارش الباقی کما فی المبسوط والشرائع والمسالک وجامع الشرائع والقواعد والتحریر ومجمع الفائدة ومفاتیح الشرائع وکشف اللثام والریاض ومفتاح

ص:146


1- (1) ج 15 ص 111.
2- (2) ج 11 ص 48.
3- (3) ج 2 ص 505 ط القدیمة.
4- (4) ج 7 ص 84.

الکرامة والجواهر, (لو جنی جراحة منقلة او مامومة فینتقل الی الموضحة).

الفرع الخامس: لو کان الجانی او المجنی علیه له عضو زائد کالاصبع فالحکم فی بعض فروض المسالة التبعیض فی القصاص والاکتفاء باقتصاص البعض, وفی حال عدم التمکن او الضرر بتوافق الطرفین او عدم رضی الجانی بطلب المجنی علیه.

الفرع السادس: لو کانت الاصبع الزائدة فی الجانی فقط فالمشهور ان القصاص فی الاصابع الاصلیات دون الکف لاستلازمه التغریر بالعضو الزائد, وقیل بالقصاص وهو مفاد روایة ابن حریش المتقدمة خلافا للمشهور, وسیاتی تتمة لهذا الفرع فی المسالة الاتیة.

اثارات:

الاثارة الاولی: هل یندرج فی التبعیض استبدال قصاص النفس بقصاص العضو واخذ الدیة والارش فی قبال ما نقص من القصاص؟

الاثارة الثانیة: الضرب غیر المودی الی الجرح, هل یثبت فیه القصاص او الدیة؟

ص:147

ص:148

القاعدة السادسة عشرة: ان الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا

ص:149

ص:150

القاعدة السادسة عشرة: إن الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا

الاقوال:

فصل فی المبسوط بین العفو عن الجنایة فیسقط القصاص وبین العفو عن عقلها ودیتها.

وفی کشف اللثام ان صدر العفو عنها مع الصلح علی الدیة فتثبت والا فلا... وتثبت علی القول الاخر ما لم یصرح باسقاطها.

وظاهر الشرائع ان الدیة عوض طولی عن القصاص موضوعا ومحمولا.

قال فی المبسوط: (فأما إن قتله قبل الاندمال مثل أن قطع یده ثم قتله، فالولی بالخیار بین القصاص و العفو، فان اختار القصاص کان له القطع، و العفو و القتل بعده و لا یدخل قصاص الطرف فی قصاص النفس، و إن اختار العفو دخل أرش الطرف فی دیة النفس، فلا یکون له غیر الدیة. و أرش الطرف یدخل فی دیة النفس، و قود الطرف لا یدخل فی قود النفس، و قال بعضهم لا فصل بینهما، فلا یدخل أرش الطرف فی دیة النفس کما لا یدخل قصاصه فی قصاص النفس.

ص:151

والذی یقتضیه مذهبنا أنه یدخل کل واحد منهما فی بدل النفس، أما الأول فلا إشکال فیه، و أما القصاص فلأن أصحابنا رووا أنه إذا مثل انسان بغیره فقتله فلم یکن له غیر القتل، و لیس له التمثیل بصاحبه، و قال بعضهم له أن یقطع یده ثم یقتله و لا یکون ذلک قصاصا بل یکون للمماثلة کما لو أجافه ثم قتله کان للولی أن یجیفه ثم یقتله، و إن کان لا قصاص فی الجائفة).(1)

وفی مجمع الفائدة نقل التفصیل بلحاظ الاندمال وعدمه کما فی الشرائع وغیره.

وهنا نقاط لتنقیح وجه القاعدة:

الاولی: وقد بنینا فی کتاب القصاص ان الدیة تثبت بالجنایة لا بالصلح علی اسقاط القصاص غایة الامر هی طولیة مع القصاص فی الاستیفاء وثبوت الحکم فاسقاط القصاص لا یعدم موضوع الدیة بل هو ثابت بالجنایة ومن ثم اذا فکک فی الاسقاط بین القصاص والدیة فان اسقاط القصاص معلق علی اخذ الدیة.

الثانیة: الروایات

1 - موثق إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ(لَا یُقْضَی فِی شَیْ ءٍ مِنَ الْجِرَاحَاتِ حَتَّی تَبْرَأَ).(2)

فمع السرایة لا یکون هناک قصاص طرف وانما قصاص نفس.

2 - موثق أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام(فِی رَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً ثُمَّ

ص:152


1- (1) ج 7 ص 22
2- (2) وسائل الشیعة ج 29 ص 280

یَطْلُبُ فِیهَا - فَوَهَبَهَا لَهُ ثُمَّ انْتَفَضَتْ بِهِ فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ هُوَ ضَامِنٌ لِلدِّیَةِ إِلَّا قِیمَةَ الْمُوضِحَةِ - لِأَنَّهُ وَهَبَهَا وَ لَمْ یَهَبِ النَّفْسَ الْحَدِیثَ) (1).

وهی لا تدل علی ان جنایة الطرف مع السرایة لا تتبدل الی جنایة نفس مع عدم الاندمال بل غایة دلالتها انه مع عدم الاندمال ان ابراه عن مقدار دیة الجرح فانه یستثنی من دیة النفس بلا دلالة لهذا الابراء علی الابراء عن دیة النفس ولا عن قصاص النفس فمفادها والتی قبلها ینطبق علی تفصیل المتن, کما انها لا تدل علی ان جنایة الطرف او الجرح مع الاندمال تدخل فی جنایة النفس مطلقا.

الثالثة: وقد یقال بالفرق بین السرایة الی الکف والسرایة الی النفس ان فی الاول لا یکشف عن عدم القصاص فی الاصبع لان القصاص بالید اقل او اکثر, واما فی النفس فیکشف عن عدم کونه قصاصا فی الطرف فیکون العفو عن قصاص الاصبع عفو عن ما لم یجب له فی الثانی دون الاول.

الرابعة: فی مجمع الفائدة وغیره نقل التفصیل بین الاندمال وعدمه, وذلک لانه بالاندمال یتبین ویتحقق ان قصاص طرف وانها لا تسری بخلاف ما قبل الاندمال, ولکن لو عفی قبل ولم تندمل کشف عن انه عفی عن ما لم یجب فلا تسقط دیة العضو ویقتص للنفس منه من دون رد دیة, لکن فی القواعد ان العفو عن الاصابع عفو عن الکف ان ساواه فی النقص او فی الباقی فی الاصبع ویطالب فی الحکومة.

ص:153


1- (1) المصدر ص 387

ویتحصل من مجموع النقاط الاربعة:

ان الدیة فی عرض القصاص من جهة الموضوع والموجب والسبب لثبوتها الا انها فی طول القصاص استیفاء, ومن ثم فسقوط القصاص لا یلازم سقوط الدیة ولا یزیل موضوعها بل هو یوکد تقرر موضوعها بعد سقوطه.

تنبیهات فی المسالة:

التنبیه الاول: لو عفی عن قود الجنایة خاصة دون الدیة فلا یبعد ان یکون هذا السقوط والقصاص مراعی باعطاء دیة له لا مطلقا, فلو امتنع اعطائه للدیة عاد استحقاقه للقصاص وذلک بمقتضی المعاوضة صلحا بین اسقاط القصاص واخذ الدیة.

ودعوی ان الاسقاط ایقاع ولا رجوع فی الایقاع, مدفوعة بامکان الفسخ بحسب العرف العقلائی ودلالة النص الوارد فی العتق المشروط.

التنبیه الثانی: وجه تقیید السرایة فی قصاص الکف بکون السرایة مقصودة او فی معرض الوقوع هو کون القصاص متقوم بالعمد فلابد من تحقق قیود العمد تجاه الجنایة علی الکف او النفس.

ص:154

القاعدة السابعة عشرة؛ قاعدة فی باب الصلاة: فی إجزاء الاضطراری بعض الوقت

ص:155

ص:156

القاعدة السابعة عشرة: فی إجزاء الاضطراری بعض الوقت - قاعدة فی باب الصلاة -

المعروف فِی کلمات مُتأخّری العصر أنَّ مُقْتَضَی القَاعِدَة هُوَ عدم الإجزاء لانکشاف قدرته عَلَی الطبیعی.

ولکن یمکن تقریب الإجزاء بامور:

أوَّلاً: أنَّهُ حین یَکُون عاجزاً فِی جملة الوقت لا یَکُون مُخاطباً عزیمة بالطبیعی الأولی وإنْ کَانَ بلحاظ باقی الوقت لا سیّما مَعَ امتداد فترة العجز أطول مِنْ فترة القدرة مَعَ فرض یأسه.

ثانیاً: إنَّ القَاعِدَة الَّتِی أسسوها مِنْ إضافة العجز والاضطرار بإسناده إلی کُلّ الطبیعة بین الحدّین إنَّما قرّروه عبر الظهور اللفظی مِنْ إسناد أدلّة الاضطرار فِی الأبواب إلی الطبیعة التامَّة وَذَلِکَ عبر الإطلاق فِی الإسناد.

ویمکن دفعه بقرائن عدیدة اعتمد عَلَیْهَا المشهور:

القرینة الاولی: أنَّ الیائس المُضطر مُنجز عَلَیْهِ الناقص والأقل وإنْ کَانَ المطلوب مِنْهُ الکُلّ التّام، ولکن التّام غَیْر مُنجز فِی ظرف الیأس وَذَلِکَ بَعْدَ فرض الجهل المُرکّب، نظیر الشّاک والجهل البسیط فِی الأقل والأکثر الارتباطی حَیْثُ ذهب

ص:157

مُتأخّرو العصر إلی الوسطیّة فِی التنجیز فالکُلّ التّام مُنجز مِنْ ناحیة الأقل المعلوم الناقص وَغَیْر مُنجز مِنْ ناحیة الجزء المشکوک. وکذلک فیما نَحْنُ فیه، وَعَلَی ذَلِکَ وتقرَّر الوسطیّة فِی التنجیز فِی ظرف الیأس تتشکل قرینة عَلَی شمول أدلّة الاضطرار لظرف العجز فِی بَعْض الوقت لا مِنْ ناحیة تخیل المُکَلَّف بَلْ ثبوتاً لفرض مُناسبة التنجیز وَهَذِهِ قرینة عامّة لإسناد أدلّة الاضطرار إلی الطبیعة فِی الجُملة لا إلی الطبیعة بالجُملة بین الحدّین.

وَعَلَی ذَلِکَ فالیأس المضطر لَهُ تنجیز تنجیز بالنَّاقص والأقل وإنْ کَانَ المطلوب مِنْهُ الکُل التَّام ولکنَّ التّام غَیْر مُنجز فِی ظرف الیأس بَعْدَ فرض الجهل المُرکب مِنْهُ بتجدد القُدرة، فَهُوَ فِی ظرف الیأس عاجز عَنْ البقیّة ولو بسبب الجهل مَعَ فعلیّة الأمر بالکُل.

القرینة الثَّانیة: هِیَ ورود أدلَّة الاضطرار الخاصّة فِی الأبواب بکفایة العجز فِی الجُملة فِی بَعْض الوقت فَإنَّها قرینة لإسناد الاضطرار فِی بَقیَّة أجزاء المُرکب لبعض الوقت مَعَ فرض الیأس.

القرینة الثالثة: هِیَ القرائن الخاصّة فی کل باب کالفوریّة فِی الصَّلاة فِی الفضیلة والفوریّة فِی الحجّ.

والحاصل أنَّ تنجیز الأقل یعنی أنَّ الباعثیّة واقعیّة ثبوتیّة للتکلیف به لکنَّ بمقدار الأقلّ الناقص وَهُوَ مُنطبق عَلَی الاضطراری، وَهَذَا یفید أنَّ أوامر الاضطرار الواردة فِی الباب هِیَ باعثة وشاملة للمضطر فِی بَعْض الوقت.

ویعضُد الأجزاء فِی خصوص المقام الإطلاق فِی صحیح جمیل، قَالَ: سألت

ص:158

أبا عبدالله علیه السلام ما حدّ المریض الذی یُصلِّی قاعداً؟ فَقَالَ: «إنَّ الرَّجُل لیوعک ویحرج ولکنه أعلم بنفسه، إذَا قوی فلیقُم»(1) بتقریب شمول الذیل لأثناء الصَّلاة.

وبذلک یَتِمُّ الإطلاق فِی عبارة السید الیزدی فی العروة لما لو تجدّدت القدرة فِی الأثناء بَعْدَ الإتیان بما هُوَ رکن بالهیئة الناقصة المُتأخِّرة مِنْ جلوس او اضطجاع أو استلقاء، هَذَا مَعَ أنَّ التکبیر للإحرام هُوَ جزء رُکنی فِی الابتداء عَلَی أیة حال.

ص:159


1- (1) وسائل الشیعة کتاب الصلاة أبواب القیام: ب 3/6.

ص:160

القاعدة الثامنة عشرة: التوسل عبادة توحیدیة

* هذهِ القاعدة من تقریرات درس الشیخ الأستاذ السند دام ظله، بقلم الأخ الشیخ محمد عیسی آل مکباس دام توفیقه.

ص:161

ص:162

القاعدة الثامنة عشرة: التوسل عبادة توحیدیة

توطئة:

الحمد للّه الذی یصطفی من عبادة ویجعلهم أبوابا لرحمة، ووسیلة الی رضوانه، وکلمات لمغفرة و التوبة الیه، واسماء یدعی بهم، وادلاء یتوجه بهم الیه، و بیوتا اذن ان ترفع یذکر فیها اسمه، وامر باتیانها من ابوابها.

ثم الصلاة و السلام علی شفیع الامة، وصاحب الوسیلة الذی امرنا بالمجیء الیه لیستغفر لنا ذنوبنا، و الذی تعرض علیه و علی أهل بیته علیهم السلام أعمالنا، (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ)1 .

کیف لا؟ و قد جعل الباری محبتهم و تولیهم سبیلاً و وسیلة الیه، فقال فی کتابه: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)2 .

(قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ)3 .

(قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً)4 .

ص:163

وبعد:

فان التوسل بالنبی صلی الله علیه و آله و أهل بیته علیهم السلام و التوجه بهم الی اللّه تعالی فی مقام التوجه الی اللّه تعالی هو من اعظم الأبواب العبادیة و القربات الزلفی، فقد فرض تعالی عند التوجه الیه تولیة الوجه شطر المسجد الحرام(وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ)1 وقد بیّن تعالی الحکمة فی ذلک حیث قال: (وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِیمٌ ( 115)2 وقال(سَیَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِی کانُوا عَلَیْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ ( 142)3 .

ان تولیة الوجه شطره هو لجهة الاضافة الیه تعالی وبهذه الملاحظة فالتولیة للمشرق او المغرب هو قبلة للتوجه الیه تعالی، ومن المعلوم ان وجه اللّه الذی هو ثّم فی التولی للمشرق والمغرب لیس هو الوجه الجسمانی، تعالی اللّه عما یقوله الحشویة المجسمة، بل هو الآیة والعلامة التی تؤدی الیه تعالی، ولذلک فرّع علی استقبال القبلة من جهة انها لله الهدایة الی الصراط المستقیم، ومن هذه الآیات الکریمة یستفاد ان الهادی و السبیل الی الله تعالی هو مما یتوجه به الیه تعالی، وهو فرض عین فی اقامة الوجه للدین الحنیف، وقد وصف تعالی مودة أهل البیت وتولیهم بأنها سبیل الیه، فهم یتوجه بهم الیه تعالی، کما جاء فی زیارتهم علیهم السلام(ومن قصده - تعالی - توجه بکم).

ص:164

ویتبیّن بذلک ان التوجه بهم والتوسل بهم الیه تعالی فریضة من عظائم الفرائض العبادیة و الدینیة.

فالبحث فی هذا الباب لیس یقتصر علی المشروعیة و الرجحان بل یترقی الی بیان فریضیته و کبرویة هذه الفریضة، وقد قام البحاثة الأریب الدرائی المتتبع الفاضل الشیخ محمد عیسی آل مکباس بضبط ما ألقیناه من البحث حول ذلک بعبارة موجزة مقتضبة لیعم نفعه، کما هو المرجو من العلی القدیر، انه خیر معین ونصیر.

تقدیم:

ان احد أبواب عبادة الله تعالی - نظیر الصلاة و الصوم و الدعاء و الذکر و نحوها من أنواع وأجناس وأصناف العبادات - وهو التوسل إلیه تعالی بأصفیاءه وبالذین أخلصهم بقرباه.

فإن التوسل إلیه بهم، نحو زلفی و قربی إلیه تعالی، فإن المتوسل یعطف بزمام قلبه إلی وجه الله تعالی، وان کان(سَیَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِی کانُوا عَلَیْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ ( 142) وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِیعَ إِیمانَکُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ ( 143) قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِکَ فِی السَّماءِ فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ)

ص:165

(وَ إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ لَیَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا یَعْمَلُونَ ( 144) وَ لَئِنْ أَتَیْتَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ بِکُلِّ آیَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَکَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّکَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِینَ ( 145) اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ ( 146) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّکَ فَلا تَکُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ ( 147) وَ لِکُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّیها فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ أَیْنَ ما تَکُونُوا یَأْتِ بِکُمُ اللّهُ جَمِیعاً إِنَّ اللّهَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ ( 148)1 .

فإن القبلة لیست إلّا وسیلة للتوجه بها إلیه تعالی، (لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِکَةِ وَ الْکِتابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَی الْمالَ عَلی حُبِّهِ ذَوِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَ السّائِلِینَ وَ فِی الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَی الزَّکاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِینَ فِی الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِینَ الْبَأْسِ أُولئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177)2.)

(وَ لَیْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقی وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها)3 .

ص:166

فالقبلة لیست هی المعبود و انما هی وجهة یتوجه بها إلیه تعالی، و من ذلک صار آدم صفی الله قبلة للملائکة و سجودهم لله تعالی فی قوله تعالی(وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ 1) ومن ذلک صارت بیوت موسی کلیم الله تعالی قبلة لبنی اسرائیل فی صلاتهم لله تعالی(وَ أَوْحَیْنا إِلی مُوسی وَ أَخِیهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِکُما بِمِصْرَ بُیُوتاً وَ اجْعَلُوا بُیُوتَکُمْ قِبْلَةً وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ ( 87)2 ومن ذلک قوله تعالی(إِذْ قالَ یُوسُفُ لِأَبِیهِ یا أَبَتِ إِنِّی رَأَیْتُ أَحَدَ عَشَرَ کَوْکَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَیْتُهُمْ لِی ساجِدِینَ ( 4)3 ، (فَلَمّا دَخَلُوا عَلی یُوسُفَ آوی إِلَیْهِ أَبَوَیْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِینَ ( 99) وَ رَفَعَ أَبَوَیْهِ عَلَی الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ یا أَبَتِ هذا تَأْوِیلُ رُءْیایَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّی حَقًّا)4 .

(لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری وَ لکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ ( 111)5 .

و قد روی النسائی و الترمذی فی حدیث الاعرابی ان النبی صلی الله علیه و آله علمه قول: یا محمد انی توجهت بک الی الله(1).

ص:167


1- (6) سنن الترمذی، کتاب الدعوات، باب 118، سنن ابن ماجه، کتاب اقامة الصلاة و السنة فیها، باب 189، حدیث 1385.

و روی الترمذی و ابن ماجة حدیث عثمان بن حنیف، ان رجلا ضریر البصر أتی النبی صلی الله علیه و آله فقال: ادع الله ان یعافینی، فقال النبی صلی الله علیه و آله:

إن شئت صبرت فهو خیر لک، و إن شئت دعوت، قال: فادعه، فأمره ان یتوضأ و یدعو بهذا الدعاء: اللهم انی اسألک و أتوجه الیک بنبیک محمد نبی الرحمة، یا محمد انی توجهت بک الی ربی فی حاجتی لیقضیها، اللهم شفعه فیّ. و رواه النسائی و صححه البیهقی، و زاد: فقام و قد أبصر(1).

ومن ذلک یتبین ان التوجه بالنبی صلی الله علیه و آله والاستشفاع به والاستعانة به الیه تعالی وتقدیمه بین یدی الحاجة الیه تعالی، وتوسیطه هی عناوین موازیة للتوسل به صلی الله علیه و آله الی الله تعالی، وقد قال تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ وَ جاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ ( 35)2 ، وقال تعالی: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً ( 64)3 .

فأمر بابتغاء الوسیلة الیه تعالی، وقد عیّن تلک الوسیلة وهی التوجه فی الاستغفار والتوبة والاوبة بالرسول صلی الله علیه و آله وان استغفار النبی صلی الله علیه و آله وتشفعه دخیل فی توبة الله تعالی علیهم و رحمته لهم.

ص:168


1- (1) سنن الترمذی، کتاب الدعوات، باب 119، حدیث 3578، سنن ابن ماجة، کتاب اقامة الصلاة، باب 189، حدیث 1385.

وقال تعالی: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَکِّیهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ( 103)1 ، فجعل دعاء النبی صلی الله علیه و آله لهم دخیل فی حصول السکینة و الایمان و الطهارة لهم، و قوله تعالی(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِکَ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللّهُ یَعْلَمُ مُتَقَلَّبَکُمْ وَ مَثْواکُمْ ( 19)2 ، وهذا نظیر ما قاله تعالی فی قصة اخوة یوسف علیه السلام(قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَکَ اللّهُ عَلَیْنا وَ إِنْ کُنّا لَخاطِئِینَ ( 91) قالَ لا تَثْرِیبَ عَلَیْکُمُ الْیَوْمَ یَغْفِرُ اللّهُ لَکُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِینَ ( 92)3 ، وقوله تعالی(قالُوا یا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا کُنّا خاطِئِینَ ( 97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَکُمْ رَبِّی إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ ( 98)4 ، وقوله تعالی فی شأن قوم موسی علیه السلام(فَادْعُ لَنا رَبَّکَ یُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ)5 ، وقوله تعالی فی شأن قوم فرعون مع النبی موسی علیه السلام(وَ لَمّا وَقَعَ عَلَیْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا یا مُوسَی ادْعُ لَنا رَبَّکَ بِما عَهِدَ عِنْدَکَ)6 ، و قوله تعالی فی شأن النبی عیسی علیه السلام(اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ)7 ، وقوله تعالی فی شأن النبی موسی علیه(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ آذَوْا مُوسی فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ کانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِیهاً ( 69)8 .

ص:169

والوجیه فی اللغة والمعنی هو ذو الحظوة والقرب مما یتوجه به الی الله تعالی ویتوسل به الیه.

وقال الله تعالی: (وَ لَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی ( 5)1 ، المفسر بمقام الوسیلة و الشفاعة، کما فی الدعاء المأثور(اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمداً صلی الله علیه و آله الوسیلة والفضیلة وابعثه المقام المحمود الذی وعدته وارزقنی شفاعته یوم القیامة).

و من ذلک ینجلی ان الایمان بمقام الشفاعة له صلی الله علیه و آله یلازم الایمان بالتوسل، لان التوسل به صلی الله علیه و آله ینطوی علی تشفعه بقضاء الحاجة لدیه تعالی، فالاعتقاد بالشفاعة دلیل رجحان التوسل(وَ لا یَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضی)2 ، (لا یَمْلِکُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ( 87)3 ، فإذنه تعالی فی الشفاعة متطابق مع امره تعالی، (وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ)4 ، أی بالتوسل الیه تعالی بالوسائل الشافعة لدیه، فالتوسل و الاستشفاع به صلی الله علیه و آله الی الله هو دعاؤه تعالی، و الوسائل التی اذن تعالی ان یدعی بها هی أبواب لدعوته جلّ و علا، لا دعوة من دونه.

و روی الحاکم فی مستدرکه ان آدم لما اقترف الخطیئة قال: یا ربی اسألک بحق محمد صلی الله علیه و آله لما غفرت لی، فقال: یا آدم کیف عرفت؟

قال: لانک لما خلقتنی نظرت الی العرش فوجدت مکتوبا فیه لا إله إلّا الله

ص:170

محمد رسول الله، فرأیت اسمه مقرونا مع اسمک، فعرفته أحب الخلق الیک(1).

وروی البخاری، عن أنس ان عمر بن الخطاب کان اذا اقحط الناس استسقی بالعباس فقال: اللهم انا نتوسل الیک بنبیک فتسقینا، و انا نتوسل الیک بعم نبیک، و نستشفع الیک بشیبته، فسقوا(2).

و روی أحمد بن حنبل ان عائشة قال لها مسروق: سألتک بصاحب هذا القبر ما الذی سمعت من رسول الله؟ - یعنی فی حق الخوارج - قالت: سمعته یقول: انهم شر الخلق و الخلیقة، یقتلهم خیر الخلق و الخلیقة، و أقربهم عند الله وسیلة(3).

وروی فی کنز العمال عن علی علیه السلام ان یهودیا جاء الی النبی صلی الله علیه و آله فقام بین یدیه و جعل یحد النظر الیه، فقال: یا یهودی ما حاجتک؟ فقال: أنت أفضل أم موسی؟ فقال له: انه یکره للعبد ان یزکی نفسه، و لکن قال الله تعالی(وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ)،) ان آدم لما اصابته خطیئته التی تاب منها کانت توبته اللهم انی اسألک بمحمد وآل محمد لما غفرت لی، فغفر له(4). ویشیر صلی الله علیه و آله الی قوله تعالی(فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ)5 .

وقد اطلق القرآن الکلمة علی المقربین عنده تعالی کما فی قوله تعالی(إِنَّ

ص:171


1- (1) مستدرک الحاکم 615/2.
2- (2) صحیح البخاری، کتاب الاستسقاء، باب 3، کتاب فضائل النبی، باب 11.
3- (3) مسند أحمد بن حنبل 140/1، و رواه فی سنن الدارمی، کتاب الجهاد باب 39، و فی سنن ابن ماجة، المقدمة، باب 14، حدیث 170.
4- (4) کنز العمال 455/11.

اَللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ)1 ، وقال تعالی(أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ)2 .

و کیف لا یکون آل محمد صلی الله علیه و آله وسائل الدعاء الی الله تعالی و قد حباهم الله تعالی بالزلفی، و اجتباهم و حظاهم بأنعمه الخاصة، و جعلهم السبیل الیه تعالی، فقال(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)3 ، وقال: (قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ)4 ، وقال:

(قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً)5 . فمودتهم سبیل الیه، و هم الوسیلة للتوجه الیه تعالی، و قد أبان قربهم الیه من بین الأمة و مزید عنایته بهم حیث قال: (إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)6 .

ثم لا یخفی ان التوسل و الاستشفاع بالمقربین الی الباری تعالی، هو من آداب الدعاء و التوجه الی الحضرة الالهیة، فاننا کما نتوجه بجسمنا فی الصلاة الی المسجد الحرام و الکعبة بقصد التوجه الحقیقی بقلوبنا الی الله تعالی، فلیست الکعبة إلّا وسیلة للتوجه الیه تعالی، و من شرائط عبادته تعالی، فهذا یفصح عن دور الوسیلة و الوسائل فی التوجه و الدعاء، مع ان الشأن اینما تولوا فثم وجه الله

ص:172

لکن ذلک لا ینفی خصیصة المسجد الحرام و الکعبة المشرفة، ألا تری ان الباری تعالی جعل آدم علیه السلام قبلة لسجود الملائکة مع کون السجود هو لله تعالی، و لم یقبل من ابلیس اللعین السجود لله تعالی من دون ان یتخذ آدم قبلة یتجه بها الیه تعالی، و کرر تعالی هذه الواقعة فی سبع سور قرآنیة، کل ذلک لاجل ان یبیّن تعالی ان من آداب عبادته تعالی و دعائه التوجه الیه بأولیائه المقربین، و ان هذا الأدب اللازم هو نمط من التعظیم لله تعالی، کما هو الشأن فی الکعبة المشرفة و البیت الحرام، فقد جعل تعالی لهما حرمة و تقدیس، و جعل حرمتهما و تعظیمهما من حرمته و تعظیمه، و قال تعالی: (وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ)1 .

ولا یخفی علی الفطن اللبیب ان مقتضی قوله تعالی: (قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ * وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِیعَ إِیمانَکُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ * قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِکَ فِی السَّماءِ فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ لَیَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا یَعْمَلُونَ * وَ لَئِنْ أَتَیْتَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ بِکُلِّ آیَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَکَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّکَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِینَ * اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ)

ص:173

(یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ * اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّکَ فَلا تَکُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ * وَ لِکُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّیها)1 .

و قوله تعالی((وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِیمٌ) )(1).

ان فعله تعالی و خلقته وجها و آیة له تعالی، فان مخلوقیة ما فی الشرق و ما فی الغرب، أی ما فی الکون أجمع آیات تتجه بالمتدبر فیها الی الله تعالی، فهی وجه له تعالی، و القبلة ما یقابل عند الاتجاه، و تولیة الوجه جهة القبلة المقابلة بما هی رمز لوجهه تعالی، فکأنا نستقبل بتولیة وجوهنا تجاه القبلة وجهه تعالی، اذ الاستقبال و المقابلة انما تحصل بتوجه المستقبل - بالکسر - بوجهه تجاه وجه المستقبل - بالفتح - فآیاته الکبری سبحانه وجه له تعالی، و کذلک کلماته التامات هی آیاته، و هی وجهة له تعالی یتجه بها الیه کما مران النبی عیسی علیه السلام کلمته و آیته(إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ)3 ، کما وصف بذلک النبی موسی علیه السلام(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ آذَوْا مُوسی فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ کانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِیهاً)4 . فوجهه تعالی لیس ما یذهب الیه المجسمة الزائغة عن التوحید من اثبات الجسم و الاعضاء، تعالی الله عن ما یقوله الظالمون علوا کبیرا، بل هو آیات خلقته التامة الدلالة علی عظمته و کماله.

ص:174


1- (2) البقرة/ 115.

وان التوجه الی أشرف مخلوقاته هو تولیة لشطر الوجه نحو وجهه الکریم، و فی روایة الصدوق فی أمالیه فی قصة الشاب النباش للقبور حیث کان یبکی علی شبابه بکاء الثکلی علی ولدها واقفا علی باب رسول الله صلی الله علیه و آله، فادخل فسلم فرد صلی الله علیه و آله، ثم قال: ما یبکیک یا شاب؟ قال: کیف لا ابکی و قد رکبت ذنوبا ان اخذنی الله عز و جل ببعضها ادخلنی نار جهنم و لا ارانی إلّا سیأخذنی بها، و لا یغفر لی أبدا، فاخذ رسول الله صلی الله علیه و آله یسائله عن نوع معصیته هل هی الشرک او قتل النفس او غیرها، الی ان أقر الشاب بجنایته، فتنفر نبی الرحمة من فظاعة جرمه، فذهب الشاب الی جبال المدینة و تعبد فیها، و لبس المسوخ، و غلّ یدیه جمیعا الی عنقه ونادی: یا رب، هذا عبدک بهلول بین یدیک مغلول، یا رب، أنت الذی تعرفنی، و زل منی ما تعلم یا سیدی، یا رب، انی أصبحت من النادمین، وأتیت نبیک تائبا فطردنی وزادنی خوفا، فأسألک باسمک و جلالک وعظمة سلطانک ان لا تخیب رجائی سیدی، ولا تبطل دعائی، ولا تقنطنی من رحمتک، فلم یزل یقول ذلک أربعون یوما ولیلة، و تبکی له السباع والوحوش، فأنزل الله تبارک وتعالی علی نبیه صلی الله علیه و آله آیة فی توبته(وَ الَّذِینَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَکَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ)1 ، یقول عز وجل:

أتاک عبدی یا محمد تائبا فطردته فأین یذهب و الی من یقصد، و من یسأل ان یغفر له ذنبا غیری، ثم قال عز و جل: (وَ لَمْ یُصِرُّوا عَلی ما فَعَلُوا وَ هُمْ یَعْلَمُونَ * أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِینَ)2 .

ص:175

فجعل الباری الاتیان الی نبیه و قصده اتیان الی بابه تعالی و قصد الیه، و من ثم قال تعالی فی آیة اخری: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

اللهم انا نسألک و نتوجه الیک بنبیک نبی الرحمة، و امام الهدی، و آله المطهرین الذین اذهبت عنهم الرجس، و افترضت علینا مودتهم فی کتابک، صلواتک علیه و آله، یا رسول الله، یا رسول الله، انا توجهنا و استشفعنا بکم الی الله، فاشفعوا لنا عند الله، فانکم وسیلتنا الی الله، و بحبکم نرجو النجاة، فکونوا عند الله رجانا.

شبهة و إثارة:

هناک إثارة من قبل بعض أتباع أحد المذاهب الإسلامیة، حول مسألة التوسل بالأولیاء، سواء کان التوسل بالنبی صلی الله علیه و آله أو بأهل البیت علیهم السلام، وهم الخمسة من أصحاب الکساء، من قبیل ما یقال فی دعاء الفرج: یا محمد یا علی، یا علی یا محمد، اکفیانی فانکما کافیان، و انصرانی فانکما ناصران.

و أصحاب هذه الاثارة یعتبرون التوجه و التوسل بالاولیاء أیا کانوا حتی و لو کان رسول الله صلی الله علیه و آله شرکا فی العبادة، و یستدلون بعدة وجوه علی هذا المدعی لاثبات دعواهم.

أدلة القائلین بعدم جواز التوسل بغیر الله تعالی:

أولاً: ان الدعاء عبارة عن النداء، و طلب الحاجة عبادة، و هی لا تجوز لغیر

ص:176

الله تعالی کائنا من کان، نبیا کان أو ولیّا أو ملکا، و الدعاء هو فی حد ذاته عبادة، فیکون دعاء غیر الله عز و جل عبادة لذلک الشخص المدعو.

و الدعاء کما ورد فی الاحادیث هو مخ العبادة و روح العبادة، فالعبادات بمنزلة الجسد، و الدعاء بمثابة الروح و الجوهر، فکیف یسوغ توجیه الدعاء الی غیره تعالی، و کذلک الحال فی الاستغاثة و التوسل بغیره تعالی و الاستنصار بأحد من المخلوقین و الاستعانة به نبیا کان أو ولیا أو ملکا أو جنیا أو صنما أو غیر ذلک من المخلوقات، و کذلک الحال فی السؤال و الالتماس، و بالتالی اذا وجّه الانسان الدعاء و أراد به غیر الله سبحانه و تعالی یکون ذلک نوع شرک فی العبادة، و یعبر عنه بالشرک الصریح أو الشرک الاکبر(1).

ثانیا: ان مقتضی قول(لا إله إلّا الله) هو التوحید فی العبادة، فاذا دعی غیر الله عز و جل کان هذا نوع عبادة و تألیه لغیر الله عز و جل، و فی توضیحه بلحاظ الفقرة الاولی و الثانیة نقول:

اختلف المفسرون و المتکلمون فی معنی(لا إله إلّا الله) هل مؤداها توحید الذات، أو توحید الصفات و الاسماء، أو توحید الافعال، أو توحید العبادة، و

ص:177


1- (1) المقصود من الشرک الاکبر أو الشرک الصریح هو الذی یوجب ردة عن الدین، أما الشرک الاصغر أو الشرک غیر الصریح هو الذی لا یوجب ردة، و هو قلما ینجو منه أحد إلا المخلصین الموحدین، و الشرک الصریح یوجب ردة، لانه مناف لمقررات الدین الاسلامی و ثوابته و اولیاته، و الاذعان و الاقرار بما هو مناف صراحة لاولیات الدین - الاسلامی هو نوع انشاء فسخ، و خروج عن عهود و مواثیق الشهادتین، لان الشهادة بالشهادتین أو بالشهادة الثالثة لحصول الایمان، کما هو عند الامامیة یلزم منه الالتزام بعدة مواثیق و عهود، فلو أنشأ الشهادات الثلاث و التزم بما هو مناف لهم صریحا، فانه یخرج عن العهد و المیثاق الذی التزم به، أما عدم ایجاب الشرک الاصغر ردة، لان المتکلم لا یعی تناقضه مع الشهادتین، و لا یکن ظاهرا عرفا فی الفسخ.

هذا الاختلاف ناشی من معنی الالوهیة و من معنی لفظة الله، حیث ان الله او اسم الجلالة هل هو اسم علم للذات؟ أو اسم مشتق من التألیه؟ فإن کان مشتقا من التألیه فهو باق علی المعنی الوصفی، و یکون المعنیان متحدین أو متقاربین أما ان کان فی الاصل علما للذات فیکون الله بالمعنی الاول خلاف المعنی الآخر.

معنی الإله فی اللغة:

إله و أصله من أله یأله، أذا تحیر، یرید اذا وقع العبد فی عظمة الله تعالی و جلاله و غیر ذلک من صفات الربوبیة(1) ، أو وله یأله، و هو عبارة عن الوله و التوجه نحو الشی، و قال بعض: و له یأله بمعنی عبد یعبد، و قال آخرون: و له یأله، أی اتخذه ربا و خالقا.

فمفاد(لا إله إلّا الله) توجیه و ترکیز العبادة لله سبحانه و تعالی، فاذا توسل أو توجه لغیر الله سبحانه و تعالی کان ذلک شرک عبادة.

ثالثاً: الاستناد الی آیات عدیدة وردت فی القرآن الکریم تنص علی ان التوسل و القصد لا یکون إلّا لله عز و جل و بدون أی وسائط حسب مدعاهم منها:

1 - (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ سَیُجْزَوْنَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)2 فقوله(فَادْعُوهُ بِها) أی أنه فی مقام الدعاء و التوجه لا یدعو الانسان إلّا باسماء الله، (وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ) أی ینحرفون عن أسمائه حیث یذکرون اسماء غیره، مثل یا محمد و یا

ص:178


1- (1) النهایة لابن الاثیر 62/1، مادة (أله).

علی و ما شابه ذلک.

2 - (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً)1 .

3 - (وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَنْفَعُکَ وَ لا یَضُرُّکَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّکَ إِذاً مِنَ الظّالِمِینَ)2 .

4 - (ذلِکَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِیُّ الْکَبِیرُ)3 .

5 - (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّی وَ لا أُشْرِکُ بِهِ أَحَداً)4 .

6 - (وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ)5 .

7 - (إِنْ یَنْصُرْکُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَکُمْ وَ إِنْ یَخْذُلْکُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِی یَنْصُرُکُمْ مِنْ بَعْدِهِ)6 .

8 - (وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَضُرُّهُمْ وَ لا یَنْفَعُهُمْ وَ یَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ)7 .

9 - (وَ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِیاءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِیُقَرِّبُونا إِلَی اللّهِ

ص:179

زُلْفی)1 .

فیعلم من هذه الآیات ان التوحید فی العبادة و الدعاء و الاستغاثة هو اصل الدین و أساس الملة، و صحة العبادة مشروطة بصحة العقیدة کما قال الله تعالی(وَ لَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَ إِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَ لَتَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ) ، وقال تعالی(وَ لَوْ أَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما کانُوا یَعْمَلُونَ) ، فجعل صحة العقیدة بالتوحید شرطا فی صحة و قبول العبادات.

رابعا: توجیه قوله تعالی(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ)2 ، بأن المراد بالوسیلة فی الآیة الطاعات و القربات، و الاعمال الصالحة التی یتقرب بها العبد الی الباری تعالی.

خامسا: ما ورد فی الحدیث أن ابراهیم حین القی فی النار أتاه جبرئیل فقال له: هل لک إلیّ من حاجة؟ فقال إبراهیم: أما الیک فلا، و أما الی رب العالمین فنعم(1).

فیستفاد من الحدیث ان ابراهیم علیه السلام یعطینا درسا بأن عرض الحاجة لا یکون إلّا لله سبحانه و تعالی.

هذه مجموعة من الادلة التی استدلوا بها علی عدم جواز التوسل بغیر الله، و قبل الجواب عنها نقدم و نبین مقولة علی عکس مدعاهم

فنقول:

ص:180


1- (3) تفسیر القمی 73/2.

إن نفی هذه الوسائط و الوسائل فی حال التوسل بالله عز وجل هو الشرک بذاته، و ان التوسل و التشفع بهذه الوسائط لقضاء الحوائج هو التوحید بعینه.

و توضیح ذلک: هو أن هذه الوسائل و الوسائط اذا کانت مجعولة و منصوبة من قبل الله عز و جل فالتوسل و التوجه بها هو التوحید التام، أما اذا لم تکن مجعولة من قبل الله فالتوسل بها یکون شرکا.

وجه ان من الوسائط ما هو مأمور بها من قبل الله عزّ و جل:

و وجه هذه الدعوی بکلا شقیها ان نصب الوسائط و الابواب ان کان من قبل المخلوقین فهو یعد تصرفا فی ارادة الرب، فمن ثم یکون شرکا، و لذلک کان الانکار علی عبدة الاوثان من قبل الله عبر رسله، لانهم هم الذین جعلوا واقترحوا لانفسهم وسائط من دون نصب الله عز وجل لتلک الوسائط والوسائل، فالله تعالی فی انکاره علی عبدة الاصنام والاوثان لم ینکر علیهم أصل فکرة التوسیط، بل انکر الوسائط المقترحة والمجعولة من قبلهم والتی تجاوزا فیها ارادة الرب، ویدل علی هذا الامر - وهو عدم انکار اصل الوساطة بل انکار خصوص الوسائط المقترحة من دون الله عز وجل وان محط الانکار هو اشراک سلطان العبید مع سلطان الله تعالی - طوائف من الآیات المبارکة:

الطائفة الأولی: ما کان بلسان استنکار الاسماء المقترحة من قبل العبید و هوی انفسهم.

1 - (أَ تُجادِلُونَنِی فِی أَسْماءٍ سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما نَزَّلَ اللّهُ بِها

ص:181

مِنْ سُلْطانٍ)1 .

وقد تقرر فی علم أصول الفقه ان النهی أو النفی اذا ورد علی طبیعة مقیدة فانما یقع علی القید لا ذات المقید، کقولک لا رجل طویل فی الدار، فانه ینفی فی المثال المذکور الصنف و القید و هو الرجل الطویل، لا ذات الطبیعة المقیدة و هو عموم الرجل.

وفی مجال البحث فی الآیة فانها لم تنف أصل الوسائط و الوسائل، و انما نفت الوسائط و الاسماء المقترحة من قبل انفسهم و آبائهم و التی ما انزل الله بها من سلطان، فمصب الانکار کونها من غیر اذن و سلطان الهی، أی کونها مقترحة من قبلهم وإلّا فلو کان أصل الوساطة و التوسیط أمر مستنکر فلا معنی لتقییده بقوله تعالی(ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) .

2 - (إِنْ هِیَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَی)2 .

الطائفة الثانیة: ما کان بلسان تحقق الاشراک بغیر الله من الوسائط بسبب أنه لیس من قبل سلطان الله و ارادته و حکمه.

1 - (سَنُلْقِی فِی قُلُوبِ الَّذِینَ کَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَکُوا بِاللّهِ ما لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَی الظّالِمِینَ)3 .

2 - (وَ کَیْفَ أَخافُ ما أَشْرَکْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّکُمْ أَشْرَکْتُمْ بِاللّهِ ما لَمْ)

ص:182

(یُنَزِّلْ بِهِ عَلَیْکُمْ سُلْطاناً)1 .

3 - (وَ أَنْ تُشْرِکُوا بِاللّهِ ما لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)2 .

الطائفة الثالثة: ان التوسل بالوسائط والشفعاء بغیر سلطان الله واذنه یوجب عبادة من هو دونه.

1 - (وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَیْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ)3 .

2 - (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ)4 .

الطائفة الرابعة: ان أخذ التشریع من غیره تعالی شرک فی التشریع و الدیانة ان کان من دون اذنه.

1 - (أَمْ لَهُمْ شُرَکاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّینِ ما لَمْ یَأْذَنْ بِهِ اللّهُ)5 .

2 - (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّهِ تَفْتَرُونَ)6 .

فمصب الانکار علی الوثنیة و المشرکین لیس فکرة الوساطة و التوسیط بل هی تصرفهم من قبل انفسهم بوضع وسائط و اقتراحها بما لم ینزل اللّه بها من

ص:183

سلطان ولم یأذن بها، فشرکهم بمنازعة سلطانهم لسلطان الله تعالی، وهذه الطوائف من الآیات مفسرة لکل آیات الانکار علی المشرکین و الوثنیین عبدة الاصنام و غیرهم، و أین هذا المعنی من المعنی الذی یتوخاه أصحاب الاثارة و المقالة المذکورة من انکار أصل التوسیط و الوساطة.

أما بالنسبة الی الکلام حول الطوائف الاربع: فنری فی لسان الطائفة الاولی ان مصب التخطئة للوثنیین انما هو لکون الاسماء التی یدعون بها هی أسماء من وضع أنفسهم و اقتراح منهم علی الله ما نزل الله بها من سلطان و لا اذن لهم فیها.

فمدار التخطئة علی تحکیم سلطانهم و ارادتهم علی سلطان الله و ارادته لا علی توسیط الاسماء بینهم و بین الباری عز و جل.

و أما مفاد الطائفة الثانیة فإن سبب الوقوع فی الاشراک لیس فی توسلهم بالوسائط بل فی کون تلک الوسائط لم ینصبها الله عز و جل لهم.

فالاشراک انما تحقق لتشریکهم ارادتهم مع ارادة الباری عز و جل، حیث لم یجعلوا ارادتهم منقادة لارادة الله عز و جل.

و بالتالی فلا یکون خضوعهم لتلک الوسائط خضوعا لله عز و جل بل خضوعا لهوی انفسهم.

و مفاد الطائفة الثالثة ان الموجب لتحقق عبادة من هو دون الله عز و جل هو ان الخضوع لمن هو دون الله عز و جل من دون امر الله و من دون العلم بکرامته عند الله و وجاهته عنده لا یکون طاعة و لا خضوعا لله تعالی.

و بالتالی لا یکون عبادة لله تعالی بل عبادة للاغیار، و ذلک لان الخضوع

ص:184

للغیر اذا کان بأمر الله عز و جل یکون فی الحقیقة خضوعا لله و طاعة له، و الغیر ما هو إلّا وسیلة لتحقق الطاعة و العبادة، بخلاف ما اذا لم یکن فی البین أمر منه تعالی.

و مفاد الطائفة الرابعة فی صدد بیان الشرک فی التشریع و انه ایضا هو الآخر انما یتحقق بسبب عدم اذنه تعالی لاستقاء التشریع من تلک الوسائط.

فالمتحصل ان هذه الطوائف الاربع مفسرة لکل الآیات المبطلة لعقیدة الثنویة و الاصنام، و ان جهة الزیغ و الانحراف فیها لیست من جهة أصل فکرة الوسائط و الوسائل والاحتیاج الیها بل من جهة کونها بارادة العبید وتحکیمها علی ارادة الرب و سلطانه.

مفهوم العبادة:

ذکر للعبادة فی اللغة عدة معان منها:

1 - مملوکیة المنفعة، کقوله تعالی(عَبْداً مَمْلُوکاً لا یَقْدِرُ عَلی شَیْ ءٍ)1 ، و قوله تعالی(وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَیْرٌ مِنْ مُشْرِکٍ وَ لَوْ أَعْجَبَکُمْ)2 .

2 - سیادة الطاعة، وان لم تکن اصالة للمطاع، کقوله تعالی(أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَیْکُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ)3 .

3 - الطاعة والخضوع لمعبود علی وجه التقدیس، علی وجه انه غنی بالذات

ص:185

و مصدر کل النعم و الکمالات، و المستحق بالذات و بالاصالة لذلک، و هو المعنی الاهم من بین تلک المعانی.

فیکون الکلام فی حقیقة العبادة حینئذ عینه الکلام المتقدم حیث ان الوسائط اذا کانت من جعل الباری تکون العبادة للباری باعتبار أمره، وذلک من قبیل سجود الملائکة لآدم علیه السلام، حیث کانت العبادة هنا المتحققة بالسجود لآدم علیه السلام هی فی الحقیقة احترام وتعظیم لآدم علیه السلام ولکنها عبادة لله عز وجل باعتبار الامتثال لامره تعالی.

قصة آدم علیه السلام مع إبلیس:

و قد شرح هذه القصة أمیر المؤمنین علیه السلام فی نهج البلاغة فی الخطبة القاصعة، و فی القصة مجموعة من المحاور الهامة إلّا أننا سوف نستعرض منها مسألة سجود الملائکة لآدم علیه السلام.

و فی البدایة نقول: ان القصة قد ذکرت فی عدة سور قرآنیة منها:

1 - (إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ * فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ)1 .

2 - (وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ أَبی وَ اسْتَکْبَرَ وَ کانَ مِنَ الْکافِرِینَ)2 .

فعلی ضوء کلام اصحاب الاثارة یکون امتناع ابلیس من السجود لآدم علیه السلام

ص:186

عین التوحید، و سجود الملائکة لآدم علیه السلام عین الکفر و الشرک.

مع ان الامر علی خلاف ذلک حیث اصبح الملائکة فی غایة من القرب من الله عز وجل لامتثالهم لامر الله من خلال سجودهم لآدم علیه السلام، سواء فسر السجود بمعنی جعل آدم قبلة أو بمعنی الاحترام و التعظیم والانقیاد لآدم علیه السلام، واصبح ابلیس فی غایة البعد من الله عز وجل واستحق الطرد من رحمة الله لاستکباره علی طاعة الامر الالهی، لانه اراد ان یحکم ارادته علی ارادة الخالق عز و جل.

ففی الحدیث القدسی: قال ابلیس لله عز و جل: اعفنی من السجود لآدم و اعبدک عبادة لم یعبدک بها احد قبلی و لا یعبدک بها احد بعدی، فقال الله له: لا حاجة لی فی عبادتک، فانی ارید ان اعبد من حیث ارید لا من حیث ترید.

فإذا حقیقة العبادة الامتثال للامر الالهی و الطواعیة و الاذعان، و لیس المدار فی العبادة هو الشکلیة فی هیئة و طقوس العبادة، بل المدار فی العبادة و صحتها و التوحید فیها هو کمال الاستسلام لارادة الباری عز و جل و امتثال امره کما قرر ذلک علماء الکلام و أصول الفقه.

و ههنا یطرح تساؤل و هو ما الفرق فی التوجه لاحجار الکعبة و التوجه للاصنام؟

و یتضح الفرق فی هذا الامر و لیس فی وجود الواسطة و عدمها، إذ فی کلا الموردین الوساطة متحققة، بل فی وجود الامر الالهی وعدمه، حیث یکون التوجه الی احجار الکعبة عبادة بلحاظ الامر الالهی، والتوجه الی احجار الاصنام

ص:187

شرک و عصیان بلحاظ النهی الالهی.

و هنا یطرح سؤال ایضا و هو قد قلتم ان المدار فی العبادة لیس علی وجود الوساطة بل المدار علی وجود الامر و عدمه، فهل یعقل ان یأمر الله عز وجل بأن یعبد غیره؟

و کأن المستشکل یرید ان یجعل الضابطة لیس علی الامر بل علی اسناد الفعل و اضافته و الموجه الیه، و اذا کان کذلک فکیف یأمر بعبادة غیره، و هو ممتنع.

والجواب: ان المدار فی العبادة علی الامر لا غیر کما اسلفنا سابقا، و ان الذی یحقق اضافة العبادة الی الله عز و جل او الی غیره هو نفس الامر.

وتوضیحه: ان المدار فی العبادة لیس علی ایجاد الهیئة و الشکل غیر ملابسة و غیر متصلة بشی و غیر متعلقة و غیر متجهة بشیء، بل جوهر العبادة الخضوع و الاستسلام، فنلاحظ مثلا ان الله یأمر بطاعته و الخضوع له لکن باب التوجه له مثلا الکعبة، أو ایجاد السجود الی آدم علیه السلام.

نفی الوسائط یؤول الی التجسیم:

و هنا مسألة یجدر الاشارة الیها و هی ان القول بنفی الوسائط یؤول الی القول بالتجسیم حیث ان الباری لیس بجسم، فلا یقابل و لا یحاذی و لا یجابه و لا یجسّم بل لا بد من وسائط اخری، و هذا منتف، أو القول بأن الکل أنبیاء سواء فی النشأة السابقة أو النشآت اللاحقة، و هذا منتف ایضا، و الخیار الثالث هو تعطیل الباری عن تدبیر شؤون خلقه، و هذا منتف ایضا، فلا یبقی إلّا القول

ص:188

بالوسائط، و هو وجود الخلیفة فی الارض انطلاقا من قوله(إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً)،) و الخلیفة أعم من النبی و الرسول، و وظیفة الخلیفة الوساطة فی تدبیر شؤون العباد، و حیث لا تعطیل کما ذکر و لا تشبیه فلا یبقی إلّا القول بالتنبأ - نبوة کل فرد - و هو باطل، أو الصیرورة الی القول بالوسائط، و هو المطلوب، حیث انتفت جمیع تلک الوجوه.

و هنا نقطة مهمة لا بد من الاشارة الیها و هی المضمنة فی الدعاء المأثور و هو(اللهم عرفنی نفسک فانک ان لم تعرفنی نفسک لم اعرف رسولک، اللهم عرفنی رسولک فانک ان لم تعرفنی رسولک لم اعرف حجتک، اللهم عرفنی حجتک فانک ان لم تعرفنی حجتک ضللت عن دینی).

و مضمون هذا الدعاء ان منظومة المعارف تصح و تکون صائبة بصحة و حقانیة معرفة الانسان بربه، و ان الخلل الناشی فی معرفة الرسول منبعه الخلل فی معرفة الله عز و جل، کما ان الخلل فی معرفة الامام أو الحجة منشأه الخلل فی معرفة الرسول، و الجهل بمعرفة الرسول بالتالی ناشی عن الخلل فی معرفة الله عز و جل.

و یؤید هذا مجموعة من الآیات منها:

1 - (وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلی بَشَرٍ مِنْ شَیْ ءٍ)1 . ان هذا الانکار بالرسل ناشی من جهلهم بقدر الباری وعظیم حکمته وتدبیره، وهو ناشی من خلل المعرفة لدیهم فی افعال الباری.

ص:189

2 - (وَ ما کانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُکَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْیاً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولاً فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ ما یَشاءُ إِنَّهُ عَلِیٌّ حَکِیمٌ)1 .

أی علیّ عن التجسیم، و حکیم فی فعله أی لا تعطیل لقدرته سبحانه، فعلی ضوء نفی التجسیم یکون وجه الله لیس الوجه الجسمانی، بل هو الآیة المخلوقة التی تکون من اکبر الآیات التی اذا توجه الانسان الیها أو بها صار متوجها الی الله عز و جل.

فاذا الوسیلة و الوساطة امر برهانی ضروری فی کل النشآت، فالقول بعدم الوساطة یلزم منه اما القول بالتجسیم او القول بالتنبأ او القول بالتعطیل، بخلاف القائل بالوسائط المنصوبة من قبله تعالی، فلا یلزمه أی محذور من هذه المحاذیر.

و هذا النظر و الاعتقاد الحق مما امتاز به مذهب اهل البیت علیهم السّلام.

و النقطة الاخری التی ینبغی ان نشیر الیها ان التوسل والشفاعة والتوسط والوسیلة تحمل عدم المحوریة الذاتیة للشفیع والوسیط، أی لیس للوسیط والشفیع و الوسیلة الاستقلالیة عن الله عز و جل.

فلذلک نری ان الوسائط التی اتخذت من دون الله عز و جل أخفقت فی وساطتها و وجاهتها لانها استقلت عن سلطان الله و ارادته و اذنه.

و الغریب من اصحاب هذه المقالة القول بأن الشفاعة و التشفع بالنبی صلی الله علیه و آله فی الآخرة لیس بشرک، و کذلک التشفع بالنبی صلی الله علیه و آله حال حیاته لیس بشرک، أما التشفع به صلی الله علیه و آله حال موته فهو الشرک.

ص:190

فیرد علیهم السؤال التالی: ان منطقة الشرک من أین نتجت فی هذا الکلام، هل من حد المعنی أو من الحد التعبدی، أو من خلال المعنی العقلی؟

فاذا کان المعنی عقلیا فالغیریة اذا أوجبت الشرک فانها توجبه فی کل نشأة سواء نشأة الدنیا او الآخرة، و اذا لم توجب الغیریة الشرک لجهة الوساطة، فما الفرق بین انواع التشفع فی الدنیا و الآخرة أو حال الموت أو الحیاة؟!

الرد علی أدلة المانعین من التوسل:

بعد هذه النقاط التی جعلناها کمقدمة للجواب نجیب علی أدلتهم التی جعلوها مانعة من الشفاعة و الوسیلة، فنقول:

الرد علی الدلیل الأول: انه ینقض علی هذا الدلیل بطلب الانسان الحی الحاجة من الحی، مثل طلب العلاج من الطبیب، و البناء من البنّاء، و من الزراع اصلاح الزراعة، و غیر ذلک.

و قد أتفق المسلمون علی ان هذا الطلب فی تعاملات البشر لا یوجب کفرا و لا شرکا.

وقد أجابوا علی هذا النقض بأمرین:

الأول: بأن سؤال الحی الحاضر بما یقدر علیه و الاستعانة به فی الامور الحسیة التی یقدر علیها لیس ذلک من الشرک بل من الامور الاعتیادیة الحیاتیة.

الثانی: ان الامور العادیة والاسباب الحسیة التی یقدر علیها المخلوق الحی الحاضر لیست من العبادة بل تجوز بالنص والاجماع، بأن یستعین الانسان بالانسان

ص:191

الحی القادر فی الامور العادیة التی یقدر علیها، کأن یستعین به أو یستغیث به فی دفع شر کولده أو خادمه أو کلبه و ما اشبه ذلک، و کأن یستعین الانسان بالانسان الحی الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الاسباب الحسیة، کالمکاتبة و نحوها فی بناء بیته أو اصلاح سیارته، و ما أشبه ذلک، و من ذلک الاستغاثة التی جرت لاحد بنی اسرائیل عندما استغاث بموسی علیه السلام فی قوله تعالی(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِی مِنْ شِیعَتِهِ عَلَی الَّذِی مِنْ عَدُوِّهِ)1 . و استغاثة الانسان باصحابه فی الجهاد او الحرب و نحو ذلک.

و أما الاستغاثة بالاموات و الجن و الملائکة و الاشجار و الاحجار فذلک من الشرک الاکبر، و هو من جنس عمل المشرکین الاولین مع آلهتهم کاللات و العزی.

دفع الرأیین: أما الکلام فی الامر الاول: فالوهن فیه واضح، حیث ان الغیریة مع الله عز و جل لا تفترق مع الفرد الحی أو المیت، و لیس هناک موجب للفرق.

و أما التعلق بالقادر او القدرة، فإن کانت نابعة من الحی بلحاظ الاستقلال بنفسه فهو الشرک الصریح، و اما ان کانت القدرة من الله و مضافة الی المخلوق من قبل الخالق، فأی فرق بین الحی و المیت، و أما تقیید الاستعانة بالامور الحسیة فانه ناشی عن أصالة الحس و المادة و التنکر للعوالم المخلوقة التی ما وراء الحس و المادة، و یلزم منه الصیرورة الی کلام المادیین.

ص:192

وأما الکلام فی الامر الثانی: و قد استدل القائل هنا بالدلیل النقلی سواء فی الجواز أو النفی، و هو غیر تام، و بیانه ما یلی:

أولا: ان بحث الشرک بحث عقلی، و لو بنینا علی أنه نقلی فلا شک ان لادراک العقل فیه مجال، و النصوص الواردة لیست إلّا منبهة للعقل، و اذا کان عقلیا فهو فی حکم العقل سیان فی الحی و المیت.

ثانیا: الاستدلال بأن الطلب من الاموات من جنس عمل اصحاب الاوثان، و قد مر ان الانکار القرآنی علی اصحاب الاصنام لم یتوجه الی انکار اصل الواسطة بل النکیر علی التصرف و الجعل الانسانی، و الصیرورة الی سلطان الانسان دون تحکیم سلطان الله عز و جل.

ثالثا: انه اذا جازت الاستغاثة بالحی لقیام النص و الاجماع، أی الاذن الشرعی، فلا فرق إذا فی الاستغاثة بین الحی و المیت مادام المجوز لذلک هو الاذن، و من ذلک یتضح ان المدار لیس علی الغیریة مع الله عز و جل کما فرضه القائل بل علی الاذن و عدمه، فاذا وجد الاذن فلا یفرق حینئذ بین الحی أو المیت.

الرد علی الدلیل الثانی:

وهو التمسک بالآیات القرآنیة.

و منها قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ)1 .

ان الاسم عبارة عن السمة والعلامة والآیة، وجملة کثیرة من الاسماء الالهیة

ص:193

هی اسماء فعلیة مشتقة من أفعاله تعالی، فهی مخلوقة، و هی نفس الآیات و المخلوقات من جهة افتقارها و بما هی مفتقرة للباری، لا بما هی منفصلة عن الله عز و جل، و لا شک ان افضل المخلوقات و اکرمهم علی الله عز و جل محمد صلی الله علیه و آله و آل محمد علیهم السّلام، فرفض الاسماء، و هی الآیات و الوسائط، و عدم التوجه بها یؤدی الی الالحاد به عز وجل بصریح الآیة(وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ).

و هناک أمر ثانی فی الجواب: و هو ان الاسم استعمل بمعنی الآیة و الکلمة و السمة، و قد اشیر الی ذلک فی عدة آیات قرآنیة منها:

1 - (وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ)1 .

2 - (وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آیَةً لِلْعالَمِینَ)2 .

3 - (إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ)3 .

4 - (إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ کَلِمَتُهُ)4 .

فأطلق علی عیسی علیه السلام کلمة من الله.

5 - (أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ)5 .

6 - (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ)6 .

ص:194

7 - (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ)1 .

8 - (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ)2 .

9 - (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِکَلِماتِهِ)3 .

فکل هذه الاسماء و العلامات و الکلمات یتوجه بها الی الله عز وجل حیث جعلت واسطة فی نیل المطلوب والمراد من قبل الله عز و جل.

والامر الثالث فی الجواب: ما اشار الیه قوله تعالی(إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ)4 .

فبین الله تعالی ان دعائهم لا یستجاب و ذلک بعدم تفتح أبواب السماء لهم من خلال التکذیب بآیات الله المنصوبة من قبله، و الاستکبار عن التوجه بها الی الله، حیث عبرت الآیة بالاستکبار عنها لا بالاستکبار علیها، و هذه الآیة فی نفس سورة آیة دعاء الله تعالی بأسمائه، وهذا التعبیر فی الآیة بعینه ورد فی حق ابلیس فی الآیات الواردة فیه، حیث أبی واستکبر عن التوجه بآدم علیه السلام فی السجود، وکذب بحجیة آدم علیه السلام وفضیلته فی الخلافة الالهیة، فلم یقبل الله أعماله، ولم یزن لها صرفا، وطرد من جوار الله وقربه.

و کذلک ما ورد فی قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها

ص:195

أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ)1 .

وقوله تعالی(وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِینُهُ فَأُولئِکَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما کانُوا بِآیاتِنا یَظْلِمُونَ * وَ لَقَدْ مَکَّنّاکُمْ فِی الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَکُمْ فِیها مَعایِشَ قَلِیلاً ما تَشْکُرُونَ * وَ لَقَدْ خَلَقْناکُمْ ثُمَّ صَوَّرْناکُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ لَمْ یَکُنْ مِنَ السّاجِدِینَ * قالَ ما مَنَعَکَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ قالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ * قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما یَکُونُ لَکَ أَنْ تَتَکَبَّرَ فِیها فَاخْرُجْ إِنَّکَ مِنَ الصّاغِرِینَ)2 .

فالسیاق الواحد مدلل علی ان ما فعله ابلیس کان انکارا و ظلما لآیة من آیات الله عز و جل، و هناک آیة اخری تدل علی ان تکذیب الآیات هو تکذیب لله عز و جل و هو قوله تعالی(فَإِنَّهُمْ لا یُکَذِّبُونَکَ وَ لکِنَّ الظّالِمِینَ بِآیاتِ اللّهِ یَجْحَدُونَ)3 حیث ان الآیة هنا هم الانبیاء و الاوصیاء و الوسائط.

الرد علی الدلیل الثالث: وهو التمسک بقوله تعالی(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ) ، والکلام فی مفاد الوسیلة فی الآیة وتحدیده، فقد اتفقت روایات الفریقین ان مقام الوسیلة هو مقام للرسول صلی الله علیه و آله، وهو المقام المحمود والشفاعة الکبری، فابتغاء الوسیلة الی الله هنا یکون بالتوجه بمقام رسول الله صلی الله علیه و آله، و الظریف فی تعبیر الآیة أنه لیس بالصورة التالیة(و ابتغونی) أو(ابتغوه) بل

ص:196

الابتغاء اسند الی الوسیلة لکن کطریق و عبور و واسطة الیه تعالی، و بالتالی اذا جازت ان تکون للرسول صلی الله علیه و آله شفاعة جاز التشفع به، لان طلب المشروع مشروع، و لا یمکن التفکیک بین المسألتین بأن یکون شافعا و لا یجوز التشفع به.

و قد یشکل علی هذا: ان الشفاعة المذکورة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصة بیوم القیامة أو حال کونه حیا فی الحیاة الدنیا، و ان متعلق الشفاعة غفران الذنوب لا غیره من حاجات معاشیة کطلب الرزق و الشفاء و ما شابه ذلک، و غیر هذه الامور یعد شرکا.

ونجیب علی هذا بما یلی:

أما الدعوی الاولی: فان التوسل و التوسط اذا کان شرکا فلا فرق فی الحیاة و الممات، و علی القول بأن الادلة نقلیه فهی مطلقة غیر مخصصة بالدار الدنیا.

وأما الدعوی الثانیة: فلا وجه لها حیث افترض ان متعلق الشفاعة فی الامور الخطیرة الاخرویة، و هی غفران الذنوب و النجاة من النار و الدخول للجنة، و هی حاصلة فیها، أما فی الامور الدنیویة البسیطة غیر حاصلة، مع ان متاع الحیاة الدنیا بجنب الآخرة قلیل، و لعمرک ان اصحاب الاثارة غلب علیهم المذهب الحسی المادی، و عظمت المادة فی اعینهم علی الآخرة و الامور الاخرویة، و هو تفریق بلا فارق، مع ان الشفاعة لیست مختصة بغفران الذنوب بل هی واسعة، تشمل ترفیع الدرجات و المقامات.

الرد علی الدلیل الرابع: و هو ما یتعلق بقضیة ابراهیم علیه السلام حینما ارید ان یلقی فی النار، و عرض جبرئیل علیه السلام المساعدة، فنقول:

ص:197

ان مبدأ المسائلة من جبرئیل علیه السلام لابراهیم علیه السلام ما هو إلّا فی مقام الامتحان لایمان و ثبات و رباطة الجأش عند ابراهیم علیه السلام، و مما یعزز هذا قول ابراهیم لجبرئیل علمه بحالی یغنی عن سؤالی مع ان الدعاء مرغوب فیه علی کل حال، و قد توعد الله عز و جل المستکبر عن دعائه، فهل یتوهم ان ابراهیم علیه السلام خارج عن الادب الالهی، و العیاذ بالله تعالی من هذا الوهم، فإذا قوله هذا انما کان لارادة اظهار الثبات و الحزم و عدم الهلع بل الطمأنینة التامة و الکاملة.

و یمکن ان یقال بان ابراهیم علیه السلام لم یطلب حاجة من جبرئیل لانه افضل منه و لا یمکن التوسل بمن هو ادنی مرتبة بالنسبة للمتوسل.

ملامح من التوسل فی الشعائر العبادیة:

هناک مجموعة من الشعائر العبادیة التی شرعها الشارع المقدس و فی مجموعها حالة من التوسل و التوجه بها الی الله عز و جل و فی صمیم المرکز التوحیدی و هو بیت الله الحرام حیث یقول تعالی: (إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ * فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ کانَ آمِناً)1 . ففی الآیة مزج بین مسألتین الاولی ان البیت الحرام هو اول بیت وضع للعبادة و للحج، و المسألة الثانیة ما یحویه هذا البیت من آیات بینات مثل مقام ابراهیم، و الامان بالنسبة الی داخلیه و للحجاج و المعتمرین، فان الحج فی اللغة هو القصد، و فی الشرع هو القصد الی بیت اللّه الحرام، قصدا الی الوفود علی اللّه تعالی، فالحج الذی هو ضیافة رحمانیة للوافدین و قصد الی الله تعالی جعل

ص:198

مقرونا بآیات الانبیاء و الاصفیاء، لیکون دلیلا و شاهدا علی ان التوجه و السیر الی اللّه تعالی یتم بالتوجه بانبیائه و اصفیائه، و التوسل بهم الی الله عز و جل، و ما شابه ذلک، و نحاول ان نتکلم هنا عن هذه الآیات البینات و هی کثیرة:

الاولی: مقام ابراهیم علیه السلام: قال تعالی(وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی)1.)

فالتعبیر(بمقام) فی قوله تعالی(وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) عبارة عن التفخیم و التعظیم لذلک المکان، و ذلک لمماسته لجسد ابراهیم علیه السلام، و من ملامح تعظیمه ان الحاج و المعتمر لابد ان یتوجه الیه فی حال صلاة الطواف ثم الی سمت الکعبة، فاذا کانت الحال هذه فکیف لا یتوجه بنفس ابراهیم علیه السلام وبشخصه علما بأن حجر المقام ما نال التشریف إلا بابراهیم علیه السلام، وقد عبر عن المقام و قد جعل آیة، فکیف نمنع ان یکون ابراهیم آیة، فما هذا إلّا عناد و مکابرة و صد عن آیات الله عز و جل.

الثانیة: حجر اسماعیل، و قد ورد فی الروایات ان فیه قبر اسماعیل و أمه و سبعون نبیا، و الملاحظ ان جمیع المسلمین یطوفون بالبیت الحرام و یطوفون بهذه القبور، و قد أمر ابراهیم و اسماعیل بتطهیر البیت بنص القرآن، مع ان اسماعیل هو الذی جعل قبر أمه فی الحجر، فاذا کان الحال ذلک فی مرکز بیت التوحید، و هو بیت الله الحرام، أول بیت وضع للناس، فکیف یقال ان الطواف بالقبور عبادة لتلک القبور، و مع کل ذلک یصف الباری عز و جل ان هذه من الآیات البینات و انها هدی للعالمین.

ص:199

و لسنة أهل الجماعة عدة روایات دالة علی ان قبر اسماعیل فی الحجر منها:

1 - الدر المنثور للسیوطی 103/3 وقد اخرجه عن ابن عساکر بسنده عن ابن عباس.

2 - الدر المنثور للسیوطی 126/1 اخرج عن ابن سعد فی الطبقات و غیره انه لما توفی اسماعیل دفن فی الحجر مع أمه.

الثالثة: المستجار أو الملتزم، و فیه آیة بینة مرتبطة بأصفیاء الله تعالی و منتجبیه حیث انشق جدار الکعبة لفاطمة بنت اسد عندما ارادت الولادة بالامام علی علیه السلام فی قضیة مشهورة معلومة، و هذه آیة بینة ظاهرة فی ولادة الامام علی علیه السلام، و استلام المستجار و الملتزم من الکعبة من الشعائر المستحبة بین عامة المسلمین.

الرابعة: السعی بین الصفا و المروة، و فیه آیة مرتبطة بأولیاء الله تعالی، و قد روی فی قوله تعالی(إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَیْهِ أَنْ یَطَّوَّفَ بِهِما)1 و فی سبب تسمیة الصفا و المروة أن آدم لما نزل علی الصفا سمی الصفا، لان آدم کان صفی اللّه، و لما نزلت حواء علی المروة سمیت مروة، و هی مشتقة من المرأة.

و فی تشریع السعی یذکر انه کان تأسیا بالسعی الذی قامت به هاجر بین الصفا و المروة من اجل تحصیل الماء لابنها اسماعیل.

الخامسة: بئر زمزم، حیث سن الشرب من زمزم بعد الطواف، و قصة نبوع ماء زمزم مشهورة حیث نبع الماء بفعل تحرک و فحص اسماعیل برجله فی حال

ص:200

کونه رضیعا.

الی غیر ذلک من الآیات الاخری کالوقوف بعرفة والمزدلفة ورمی الجمرات و الذبح و سبب تشریعها و تسمیتها، فنلاحظ ان جمیع تلک الاعمال و الشعائر التی یأتی بها الانسان فی بیت التوحید و فی حرم التوحید ما هی إلّا اعمال قد ارتبطت بالانبیاء و الاصفیاء، و نحن عند ما نأتی بها مرتبطة بهم مع کون تلک الاعمال هی نحو من التوجه بهم الی اللّه تعالی، و بذلک نحن نسیر علی وفق خطاهم و نهجهم فی تلک الاعمال و الافعال تطابق النعل للنعل، و هذا مما یدلل علی ان الوفود الیه سبحانه و تعالی لا یکون إلّا بالتوجه و التوسل باولئک الانبیاء و الاولیاء فی الافعال و الاعمال.

موارد أخری فی التوسل:

و هناک موارد اخری دالة علی التوسل و التشفع و هی کثیرة منها:

الاول: القسم بشخص النبی صلی الله علیه و آله، مع ان القسم بالشی نحو توسیط له و توسل به، و جعله منشأ للتوثیق، و قد ورد القسم بشخصه فی عدة آیات قرآنیة منها:

1 - (لَعَمْرُکَ إِنَّهُمْ لَفِی سَکْرَتِهِمْ یَعْمَهُونَ)1 .

و لم یرد القسم فی القرآن بعمر أحد غیر خاتم الرسل صلی الله علیه و آله.

2 - (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ * وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ)2 .

ص:201

و الآیة علی کلا تفسیری(لا) زائدة أو نافیة فهی دالة علی تعظیم مقام النبی صلی الله علیه و آله.

3 - (ص وَ الْقُرْآنِ ذِی الذِّکْرِ)1 وقد فسر صاد هنا بانه اسم من اسماء النبی صلی الله علیه و آله.

4 - (ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِیدِ)2 .

5 - (یس * وَ الْقُرْآنِ الْحَکِیمِ)3 .

6 - (الر تِلْکَ آیاتُ الْکِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِینٍ)4 .

7 - (طس تِلْکَ آیاتُ الْقُرْآنِ وَ کِتابٍ مُبِینٍ)5 .

و قد روی عن الامام السجاد علیه السلام ان کل اسم جاء بعده قسم بالقرآن أو الکتاب فهو اسم من اسماء النبی صلی الله علیه و آله.

و من المعلوم ان القسم ینبأ عن تعظیم المقسوم به، و هذا مما یدلل هنا علی عظمة النبی صلی الله علیه و آله و وجاهته عند الله تعالی، و بالتالی حظوته و قبول شفاعته، و التشفع به و التوجه به الی الله تعالی.

الثانی: أمر الله بالتوسل بالنبی صلی الله علیه و آله، و قد ورد فی عدة آیات قرانیة منها:

ص:202

1 - (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

فأسند المجی الی النبی صلی الله علیه و آله لا الیه تعالی، و جعل المجی الی النبی صلی الله علیه و آله مجی الیه تعالی، ثم جعل شفاعة النبی صلی الله علیه و آله بالاستغفار لهم شرط فی قبول الباری توبتهم.

2 - (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ)2 .

3 - (وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا یَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَیْتَهُمْ یَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ)3 .

و هذه الآیة مشابهة لآیة استکبار ابلیس عن التوجه بآدم الی اللّه تعالی فی السجود حیث أبی و استکبر و کان من الکافرین، فالذین یستکبرون عن التوسل برسول اللّه و شفاعته لغفران الذنوب و للفلاح و الصلاح و یلوون رؤوسهم، و یصدون عن توسیط الرسول صلی الله علیه و آله لن یغفر اللّه لهم و لا یهدیهم لفسقهم بذلک، کما ورد التعبیر عن عمل ابلیس فی اباءه عن التوجه بآدم علیه السلام بأن فسق عن أمر ربه.

4 - (وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ)4 .

فالآیات القرانیة کلها تشیر الی التوسل بالنبی من خلال أمر اللّه عز و جل نبیه بالاستغفار للمؤمنین تارة، و دعوتهم للمجی الی النبی لطلب الاستغفار تارة اخری، و قد عدّ المتخلف عن المجی الی الرسول صلی الله علیه و آله صادا و مستکبرا عن عبادة

ص:203

اللّه سبحانه و تعالی.

5 - (قالَ سَلامٌ عَلَیْکَ سَأَسْتَغْفِرُ لَکَ رَبِّی إِنَّهُ کانَ بِی حَفِیًّا)1 .

فالآیة المبارکة ابانت مقام ابراهیم و حفاوته عند اللّه عز و جل

بحیث یکون شفیعا عبر الاستغفار للغیر، مع ان الملة الحنیفیة التوحیدیة هی ملة ابراهیم.

6 - قول موسی علیه السلام: (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ لِأَخِی وَ أَدْخِلْنا فِی رَحْمَتِکَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِینَ)2 .

7 - قول أبناء یعقوب: (یا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا کُنّا خاطِئِینَ)3 .

8 - (الَّذِینَ یَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ یُؤْمِنُونَ بِهِ وَ یَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِینَ آمَنُوا)4 .

و هذه الآیة تبین وساطة حملة العرش فی غفران الذنوب، وقد روی الفریقان ان حملة العرش فی یوم القیامة هم أربعة من الانبیاء اولی العزم، واربعة من هذه الامة النبی صلی الله علیه و آله واهل بیته، ولا بد من الالفات الی امر هام بالغ الخطورة، و هو ان الغفران و التوبة یعنی القرب الی اللّه تعالی و الرجوع الیه، فاذا کان طریق الرجوع الیه و هو التوبة من الاوبة هو بالتوجه بمن هو وجیه عند اللّه، فمحصل معنی الآیات هو یا وجیها عند اللّه اشفع لنا عند الله، وانه بالتوجه بالنبی صلی الله علیه و آله

ص:204

و أهل بیته علیهم السلام الیه تعالی یحصل القرب و الزلفی.

فنلاحظ فی هذه الآیات ان موسی علیه السلام یطلب المغفرة لأخیه هارون علیه السلام، و ان ابناء یعقوب یتوجهون الی أبیهم لیستغفر لهم ما فرطوا فی حق أخیهم یوسف علیه السلام، و ان حملة العرش و من حوله یستغفرون للذین آمنوا، و ما ذلک إلّا لوجاهة هؤلاء و قربهم من الله عز وجل حتی اصبحوا وجها یتوجه به الی الله سبحانه و تعالی.

الثالث: التوسل بغیر الانبیاء و الاولیاء، و قد وردت موارد عدیدة فی القرآن الکریم منها:

1 - (اذْهَبُوا بِقَمِیصِی هذا فَأَلْقُوهُ عَلی وَجْهِ أَبِی یَأْتِ بَصِیراً)1 .

و فی الآیة اشارة الی جواز التوسل و مشروعیته حتی بما یتعلق بالانبیاء، فنلاحظ فی الآیة ان الشفاء الذی حصل لیعقوب من خلال توسط قمیص یوسف، مما یدلل علی ان وجاهة الرسل و الاولیاء عند الله عز و جل توجب التوجه بهم الی الله تعالی، و انهم محل للشفاعة بل لما هو ادنی من ذلک و هو الشفاء و ما شابهه.

لا یقال: ان هذه قضیة خاصة قد جرت لیوسف و یعقوب و لا یجوز تعدیتها الی غیرها.

لأنا نقول: ان الاشارة فی الآیة کانت الی طبیعی التشفع و التوسل و الاستشفاء، و المورد لا یخصص الوارد، مع ان فی ذیل سورة یوسف(لَقَدْ کانَ

ص:205

فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری) ، فدلل ان ما فی قصصهم عبرة لیستن بها و یؤخذ بها،

و کذلک فی صدر السورة(فِی یُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آیاتٌ لِلسّائِلِینَ) .

2 - (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها کَذلِکَ یُحْیِ اللّهُ الْمَوْتی وَ یُرِیکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ)1 .

فقد توسل لاجل احیاء میت بواسطة بعض حیوان و هی البقرة، فاذا کان بعض البقرة و من خلاله جعل واسطة لامر عظیم و هو الاحیاء فهل تری ان التوسط و التوسل بالاولیاء فی صغار الامور أو کبارها یعد شرکا و کفرا.

3 - (إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ التّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمّا تَرَکَ آلُ مُوسی وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِکَةُ)2 .

فنلاحظ ان التابوت قد حصل علی السکینة و البرکة لعلاقته بآل موسی و هارون و ما ذلک إلّا لمقام و وجاهة موسی و هارون.

4 - (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ یَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ کَذلِکَ سَوَّلَتْ لِی نَفْسِی)3 .

فبینت الآیة ان لاثر تراب حصان جبرئیل حیث کان یرشد بنی اسرائیل فی طریقهم فی البحر یبسا هذا التأثیر.

ص:206

الرابع: ما ورد من روایات فی التوسل و التشفع و التبرک برسول اللّه صلی الله علیه و آله و هی کثیرة منها:

1 - روی البخاری عن الجعید بن عبد الرحمن قال: سمعت السائب بن یزید قال: ذهبت بی خالتی الی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالت:

یا رسول اللّه ان ابن اختی وجع، فمسح رأسی و دعا لی بالبرکة، و توضأ و شربت من وضوئه(1).

2 - روی البخاری عن الحکم قال: سمعت أبا جحیفة قال: خرج رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالهاجرة الی البطحاء، فتوضأ، ثم صلی الظهر رکعتین، و العصر رکعتین، و بین یدیه عنزة، و زاد فیه عون عن أبیه، عن أبی جحیفة قال: کان یمر من ورائها المرأة، و قام الناس فجعلوا یأخذون یدیه فیمسحون بها وجوههم(2).

3 - روی البخاری عن عون بن أبی جحیفة، عن أبیه قال:

سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی قبة من ادم، و رأیت بلالا اخذ وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله، و رأیت الناس یبتدرون ذاک الوضوء، فمن اصاب منه شیئا تمسح به، و من لم یصب منه شیئا اخذ من بلل ید صاحبه(3).

4 - روی السمهودی، والمتقی الهندی ان غبار المدینة شفاء من الجذام، وان غبار المدینة یبری الجذام، وان فی غبارها شفاء من کل داء.

ص:207


1- (1) صحیح البخاری، کتاب المناقب، باب صفة النبی، ص 632.
2- (2) صحیح البخاری، کتاب المناقب، باب صفة النبی ص 633.
3- (3) صحیح البخاری، کتاب الصلاة، باب الصلاة فی الثوب الاحمر ص 92.

5 - (1) روی السمهودی ایضا: ان النبی صلی الله علیه و آله قال: ما لکم یا بنی الحارث روبی؟ قالوا: اصابتنا یا رسول اللّه هذه الحمی، قال: فأین أنتم عن صعیب(2) ؟

6 - فی سنن ابن ماجة، عن عثمان بن حنیف ان رجلا ضریر البصر اتی النبی صلی الله علیه و آله فقال: ادع اللّه لی ان یعافینی، فقال: ان شئت اخرت لک و هو خیر، و ان شئت دعوت، فقال: ادعه، فأمره ان یتوضا فیحسن وضوءه و یصلی رکعتین، و یدعو بهذا الدعاء(اللهم انی اسألک و اتوجه الیک بمحمد نبی الرحمة، یا محمد انی قد توجهت بک الی ربی فی حاجتی هذه لتقضی، اللهم فشفعه فیّ (3).

7 - روی البیهقی فی خبر صحیح انه فی ایام عمر جاء رجل الی قبر النبی صلی الله علیه و آله فقال: یا محمد استسق لامتک، فسقوا(4).

8 - روی النسائی عن عبد اللّه بن عمرو یقول سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما یقول، و صلوا علیّ فانه من صلی علیّ صلاة صلی اللّه علیه عشرا، ثم سلوا اللّه لی الوسیلة، فانها منزلة فی الجنة لا تنبغی إلّا لعبد من عباد اللّه، ارجو ان اکون انا هو، سأل لی الوسیلة حلت له الشفاعة(5).

9 - روی مسلم، عن عائشة، عن النبی صلی الله علیه و آله قال: ما من میت تصلی علیه أمة

ص:208


1- (1) وفاء الوفا للسمهودی 67/1-68 و کنز العمال 205/13.
2- (2) صعیب: وادی بطحان دون الماجشونیة، و فیه حفرة مما یأخذ الناس منه، و هو الیوم اذا وبأ انسان اخذ منه.
3- (3) سنن ابن ماجه، کتاب اقامة الصلاة، باب 189 ما جاء فی صلاة الحاجة، ح 1385، سنن الترمذی کتاب الدعوات، باب 119، ح 3578.
4- (4) سنن البیهقی 326/3.
5- (5) سنن النسائی، کتاب الاذان، الصلاة علی النبی بعد الاذان.

من المسلمین یبلغون مئة، کلهم یشفعون له إلّا شفّعوا فیه(1).

10 - روی مسلم، عن النبی قال: ما من رجل مسلم یموت فیقوم علی جنازته اربعون رجلا، لا یشرکون بالله شیئا إلّا شفعهم الله فیه(2).

11 - نقل عبد الله بن احمد بن حنبل فی کتاب العلل و السؤالات قال: سألت أبی عن الرجل یمس منبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله یتبرک بمسه و تقبیله، و یفعل بالقبر ذلک رجاء ثواب الله تعالی، فقال: لا بأس.

12 - عن اسماعیل، ابن المنکدر یصیبه الصمات، فکان یقوم و یضع خده علی قبر النبی صلی الله علیه و آله، فعوتب فی ذلک، فقال: یستشفی بقبر النبی صلی الله علیه و آله.

فما ذکرناه من روایات صریحة فی جواز التوسل و التشفع و الاستشفاء سواء بالنبی صلی الله علیه و آله أو بأهل بیته علیهم السلام أو بالاولیاء او بالصالحین او بالبقاع و البلدان کالمدینة المنورة و غیرها، و هی لم تنل هذه المکانة من الشفاء فی ترابها و غبارها إلّا بشخص النبی صلی الله علیه و آله، فهل بعد کل هذا یبقی مجال للشک فی جواز التوسل و التشفع بالاولیاء؟

موارد عقلیة علی التوسّل:

و هنا نذکر عدة موارد عقلیة دالة علی جواز التوسل و التشفع و هی:

الأول: ذکر الفلاسفة ان اللّه خالق کل شی لکن خلقه للمخلوقات لیس علی رتبة واحدة بل مترتبة، و ذلک لیس لعجز فی الباری، و انما المخلوق منه ما

ص:209


1- (1) صحیح مسلم، کتاب الجنائز، باب 18 من صلی علیه مئة شفعوا فیه، ح 58.
2- (2) صحیح مسلم، کتاب الجنائز باب 19، من صلی علیه اربعون رجلا شفعوا فیه، ح 59.

یمتنع فرض ذاته قبل سلسلة من المخلوقات الاسبق منه، و انما المخلوق السابق یکون سببا لتقرر امکان المخلوق اللاحق و سببیته راجعة مآلا الی تسبیب الباری تعالی، أی ان المخلوق الجسمانی مثلا یمتنع ان یفرض وجوده بلا مادة عنصریة، و بالتالی یکون المخلوق السابق هو افضل و اقرب الی اللّه عز و جل، و یکون بابا للمخلوق اللاحق و وسیلة له.

الثانی: ان طریقة الوفود علی أی شخص فی الآداب العقلائیة و المتعارف الاجتماعی تکون عن طریق الاستئذان من خلال حجابه او بوابه، و هذا العمل نوع من الاحترام و التعظیم فی الوسط الاجتماعی بین افراد الانسان، و قد قرر الاسلام هذا النوع من الادب فی کثیر من آیاته، (وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها) ، (إِنَّ الَّذِینَ یُنادُونَکَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ ( 4) ، وروایاته، (أنا مدینة العلم و أنت یا علی بابها، فمن اراد المدینة و الحکمة فلیأتها من بابها)، بل نری ان هذا الادب الالهی قد قرره الشارع المقدس فی الوفود علی بیت اللّه الحرام، فجعل الاحرام مقدمة للتهیؤ و التعظیم، و الوقوف بعرفات ثم المزدلفة ثم قضاء التفث مقدمة علی زیارة البیت ثانیة، فعلیه یکون التوجه بالوسائط و الوسائل الی اللّه نوع من انواع الادب الذی یقره العقل و العقلاء فی تعاملهم.

خاتمة فی التوسل:

الوسائط مظهر قدرة البارئ:

قد یطرح هنا سؤال و هو ان الاعتقاد بالوسائط قد یفضی الی اعتقاد عجز الباری سبحانه و تعالی، و مما لا شک فیه ان الباری غنی عن العالمین، لانه اذا اراد

ص:210

شیئا فانما یقول له کن فیکون.

ویجاب عن هذا السؤال بعدة أمور:

الاول: جواب حلی، و هو ان اقدار الله لبعض مخلوقاته لا یعنی الافتقار منه عز و جل، کما لا یعنی اقدار الباری للوسائط استقلالها عن قدرة الباری و إلّا لکانت فی وجودها مستقلة عنه فی مرحلة البقاء، و لاقتصر احتیاجها الیه فی مرحلة الحدوث فقط، و هذه مقولة بعض المعتزلة، و العیاذ بالله تعالی منها، بل المخلوقات کما هی محتاجة فی وجودها حدوثا هی محتاجة فی وجودها بقاء الی الباری، و لو قطع الباری عنایته لحظة او فی اقل من اللحظة عنها لبطلت و انعدمت و صارت فانیة، فکذلک المخلوقات فی قدراتها علی ما یصدر منها من افعال لا تستقل عن قدرة الباری تعالی حدوثا و بقاء، و من ذلک یظهر ان القائل بحصر تخلیق الله تعالی للخلق عن طریق الابداع فقط التزم بذلک لتوهمه بأن التخلیق من المادة المخلوقة سابقا مثلا هناک شراکة فی التخلیق من الله و من المادة، و ان المادة مستقلة فی عرض الباری، و العیاذ بالله، و هذا الوهم جهالة، بل هو نوع من التوسیط بینه و بین مخلوقاته عبر اولیائه و مقربیه الذین اصطفاهم و جعلهم ابوابا لرحمته و محلا لنیل شفاعته.

الثانی: جواب نقضی، و هو ان نقرب اشکالهم ببیان فلسفی و هو ان کل فعل من افعال الباری لا بد ان یکون حسب مدعاهم ابداعی أی بلا واسطة بل من الباری مباشرة، فکل ما کان غیر ابداعی یکون عجزا من الباری، إلّا اننا نشاهد اکثر الموجودات مخلوقة غیر ابداعیة بل کانت مخلوقات بتوسط اسباب.

فهذه المخلوقات التی نشاهدها اما ان ننسبها للباری بتوسط الوسائط،

ص:211

فیکون العجز حسب ما ادعوا، و اما ان لا ننسبها للباری لانها مخلوقات غیر ابداعیة یعنی لیست بکن فیکون، فتکون المشکلة اعظم حیث تجرد نسبة هذه المخلوقات عن الله عز و جل.

و عند ما یقال بتوسط شی فی مخلوقاته لا یستوجب بالضرورة نسبة العجز للباری، بل الاشیاء مفتقرة الیه، و فی کل الاحوال تلک الاشیاء لا تنفک عن قدرة وارادة الباری، بل هی مرتبطة و مفتقرة الی الباری وارادته فی کل الاحوال و الازمان.

الثالث: وجود طوائف من الآیات القرآنیة دالة علی وقوع التخلیق من الله عبر الوسائط من ملائکة و رسل و غیر ذلک و هی:

الطائفة الأولی: وفاة الانفس و فیها عدة اسنادات:

الأول: الاسناد فی وفاة الانفس الی الملائکة

1 - (إِنَّ الَّذِینَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)1 .

2 - (حَتّی إِذا جاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا یُفَرِّطُونَ)2 .

3 - (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)3 .

4 - (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ طَیِّبِینَ)4 .

ص:212

5 - (حَتّی إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا یَتَوَفَّوْنَهُمْ)1 .

6 - (وَ لَوْ تَری إِذْ یَتَوَفَّی الَّذِینَ کَفَرُوا الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِیقِ)2 .

7 - (فَکَیْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ)3 .

8 - (وَ لَوْ تَری إِذِ الظّالِمُونَ فِی غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِکَةُ باسِطُوا أَیْدِیهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْیَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ)4 .

ففی مجموع الآیات نلاحظ ان الله سبحانه و تعالی قد نسب و اسند وفاة الانفس الی الملائکة فهل هذا یعنی ان اللّه عاجز ان یقبض ارواح العباد بنفسه، فلیس هذا العمل إلّا من باب التوسیط فی شؤون مخلوقاته لا غیر.

الثانی: الاسناد فی وفاة الانفس الیه سبحانه و تعالی

1 - (اللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها وَ الَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنامِها)5 .

2 - (وَ هُوَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ بِاللَّیْلِ وَ یَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)6 .

3 - (وَ اللّهُ خَلَقَکُمْ ثُمَّ یَتَوَفّاکُمْ)7 .

ص:213

4 - (وَ لکِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ)1 .

الثالث: الاسناد فی وفاة الانفس الی ملک الموت

1 - (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ)2 .

الطائفة الثانیة: تصریح الباری بإیکال بعض الامور الی بعض مخلوقاته من غیر ان یکون ذلک تفویض عزلی تنعزل فیه قدرة الباری فان الاشیاء جمیعها قائمة بقدرته حدوثا و بقاء.

1 - (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ) .

2 - (فَإِنْ یَکْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَکَّلْنا بِها قَوْماً لَیْسُوا بِها بِکافِرِینَ)3 .

3 - (وَ ما لَنا أَلاّ نَتَوَکَّلَ عَلَی اللّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا)4 .

فهذه الوکالة من الله لیس هی عزل لقدرة الله سبحانه و تعالی، فاننا نری فی الموکل الاعتباری حینما یوکل شخصا لا ینعزل باعطاء الوکالة تماما، فکیف بالمولی و الموکل الحقیقی سبحانه و تعالی علوا کبیرا، فلیس توکیل و تفویض عزلی تنحسر فیه قدرة الباری عن الفعل الموکل فیه بل الاشیاء برمتها قائمة به تعالی، و هو قیوم علی کل شی فضلا عن افعال الاشیاء.

الطائفة الثالثة: الدالة علی توسیط بعض المخلوقات فی الخلق، و هو توسط

ص:214

الماء فی خلق کثیر من المخلوقات کالنبات و الانسان و ما شابه ذلک.

1 - (الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ)1 .

2 - (وَ هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ کُلِّ شَیْ ءٍ)2 .

3 - (وَ اللّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَسْمَعُونَ)3 .

4 - (وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِیها مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ)4 .

5 - (وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ)5 .

6 - (وَ کانَ عَرْشُهُ عَلَی الْماءِ)6 .

7 - (وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ أَ فَلا یُؤْمِنُونَ)7 .

8 - (وَ اللّهُ خَلَقَ کُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)8 .

ص:215

9 - (وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً)1 .

الطائفة الرابعة: اسناد کثیر من الافعال الی المخلوقات:

1 - (أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَیْدِینا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِکُونَ)2 .

فأسند الخلق هنا الی الید و هی القدرة المخلوقة المباشرة للمادة المخلق منها الانعام، و هی غیر الذات الالهیة.

2 - (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی * اَلَّذِی خَلَقَ فَسَوّی)3 .

و اسند الخلق هنا الی اسم الرب و هو غیر الذات الالهیة ایضا.

3 - (وَ یَبْقی وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِکْرامِ)4 .

و لیس المراد من الوجه جزء الذات کما یتوهمه المجسمة الحشویة تعالی الله عن ذلک علوا کبیرا، بل المراد منه الآیة الکبری الدالة علی عظمة الذات الالهیة، فأینما تولوا فثم وجه الله، و قد اطلق علی البیت الحرام و الکعبة القبلة أنها وجه الله فی سیاق آیات سورة البقرة التی تتحدث عن القبلة(وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ) ، و قال: (فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) .

4 - (وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِیعاً)5 . وهنا اسند تسییر الجبال و تقطیع الارض و

ص:216

تکلیم الموتی أی احیاء الموتی الی القرآن.

الطائفة الخامسة: ما عبر عنها بالملک لغیر الله مع عدم الاعتزال عن الله و قدرته و لا عن امداده و توسیطه(1).

1 - (وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً)2 .

ذکر تعالی ذلک عن آل ابراهیم و من البیّن عدم ارادة ملک الرئاسة الاجتماعیة السیاسیة، اذ لم یقع ذلک فی التاریخ، بل المراد الملک اللدنی الایتائی أی فی الملکوت، نظیر ما قاله تعالی(وَ کَذلِکَ نُرِی إِبْراهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) ، و(ادْعُهُنَّ یَأْتِینَکَ سَعْیاً) ، و(وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، و الحدیث عن اسماعیل و اسحاق و یعقوب یهدون بأمر الهی ملکوتی.

2 - (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ هَبْ لِی مُلْکاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی)3 .

3 - (وَ إِذا رَأَیْتَ ثَمَّ رَأَیْتَ نَعِیماً وَ مُلْکاً کَبِیراً)4 .

4 - (وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ)5 .

5 - (وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طالُوتَ مَلِکاً)6 .

6 - (قُلِ اللّهُمَّ مالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشاءُ)7 .

ص:217


1- (1) سند، محمد، التوسل عبادة توحیدیة، 1 جلد، سعید بن جبیر - بیروت - لبنان، چاپ: 1، 1426 ه -. ق.

7 - (وَ نادَوْا یا مالِکُ لِیَقْضِ عَلَیْنا رَبُّکَ)1 .

فوصف خازن النیران الملک الموکّل بالنار و طبقاتها بمالک.

8 - (وَ الْمَلَکُ عَلی أَرْجائِها وَ یَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّکَ فَوْقَهُمْ یَوْمَئِذٍ ثَمانِیَةٌ)2 .

الحمل بمعنی العلم لا ان القدرة الالهیة تقع مفعولة محتاجة، و العیاذ باللّه تعالی عما یقوله المجسمة الحشویة.

9 - (فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِیلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمَلائِکَةُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهِیرٌ)3 .

فجعل الظهارة والاعانة لجبرئیل وصالح المؤمنین علیا علیه السلام والملائکة مع انه تعالی قیوم علی جبرئیل وصالح المؤمنین وعلی الملائکة إلّا انا بیان لوسائط قدرته تعالی، کما قال تعالی(هُوَ الَّذِی أَیَّدَکَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِینَ)4 مع انه تعالی قال: (وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ)5 ، وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ یَنْصُرْکُمْ وَ یُثَبِّتْ أَقْدامَکُمْ)6 .

10 - (إِذْ تَسْتَغِیثُونَ رَبَّکُمْ فَاسْتَجابَ لَکُمْ أَنِّی مُمِدُّکُمْ بِأَلْفٍ مِنَ)

ص:218

(الْمَلائِکَةِ مُرْدِفِینَ)1 .

11 - (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِینَ أَ لَنْ یَکْفِیَکُمْ أَنْ یُمِدَّکُمْ رَبُّکُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُنْزَلِینَ)2 .

12 - (هذا یُمْدِدْکُمْ رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُسَوِّمِینَ)3 .

الطائفة السادسة: ما ذکر فیها نسبة الاهلاک الی نفسه سبحانه و تعالی أو الی بعض مخلوقاته

1 - (وَ لَقَدْ أَهْلَکْنا ما حَوْلَکُمْ مِنَ الْقُری وَ صَرَّفْنَا الْآیاتِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ)4 .

2 - (فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِکُوا بِالطّاغِیَةِ)5 .

3 - (وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِکُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عاتِیَةٍ)6 .

4 - (وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِیمَ بِالْبُشْری قالُوا إِنّا مُهْلِکُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْیَةِ)7 .

5 - (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَیْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّیْحَةُ وَ)

ص:219

(مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا)1 .

الطائفة السابعة: الاسناد الی الریاح فی انشاء بعض الخلق.

1 - (وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ)2 .

2 - (اللّهُ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)3 .

3 - (وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ)4 .

4 - (وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ)5 .

5 - (وَ اللّهُ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)6 .

ص:220

القاعدة التاسعة عشرة: قاعدة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی قاعدة التعایش السلمی (التقریب بین المذاهب)

ص:221

ص:222

القاعدة التاسعة عشرة: فی الفقه الاجتماعی والسیاسی قاعدة التعایش السلمی (التقریب بین المذاهب)

اشارة

من الواضح أنّ مسألة الوحدة الإسلامیّة، وبالأحری مسألة التعایش المذهبی بین المسلمین، تعدّ أمل وطموح کلّ مسلم یرید الخیر والصلاح لأبنائها؛ إذ أنّ الفرقة والعداوة والبغضاء هی عمل الشیطان، المتمثّل فی بؤر العداء ذات النزعة الاستعماریّة، التی تسعی إلی إثارة الفتن والتناحر بین أبناء الامّة الإسلامیّة، من خلال إطلاق العنان للنعرات الطائفیّة، کلّ ذلک لأجل تحقیق مآربهم ومصالحهم علی ضوء المقولة المعروفة: «فرّق تسد».

ومن هنا نجد النصوص القرآنیّة طافحة فی التأکید علی ضرورة التآلف والتآخی بین المسلمین، محذّرة فی الوقت ذاته من الفرقة والاختلاف، کما فی قوله تعالی: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ)1 .

وقوله: (وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّکُمْ فَاتَّقُونِ)2 .

ص:223

وقوله: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِینَ)1,2.

وفی هذا المسار سارت بیانات الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی التأکید علی أهمّیّة وحدة وتلاحم المسلمین وتآلفهم، وهو ما یکشف عنه ذلک الحشد المتنوّع من الروایات الواردة عنهم علیهم السلام التی جاءت مشفوعة بتحدید الآلیّات والإجراءات الکفیلة بضمان الوحدة والتعایش بین المسلمین.

ولم یقتصر الأمر علی ما ورد عنهم علیهم السلام من نصوص روائیّة فی هذا الصدد، بل بادروا علیهم السلام إلی تجسید ذلک عملیّاً من خلال سیرتهم مع المسلمین، ولعلّ أوّل بادرة فی هذا المسار هو ما قام به الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله من عملیة المؤاخاة بین المهاجرین والأنصار، وذلک منذ اللحظات الاولی من وصوله إلی المدینة المنوّرة، فی خطوة اولی لجعل الإسلام والوحدة محور حرکة المسلمین وقوّتهم.

وبهذا استطاع صلی الله علیه و آله من القضاء علی العصبیّات الجاهلیّة والنزعات المختلفة، التی کادت تمزّق وحدة الصفّ الإسلامیّ آنذاک.

وهکذا الحال بالنسبة إلی سیرة الأئمّة من أهل البیت علیهم السلام - کما هو واضح - کما نلمس ذلک بوضوح فی سیرة الإمام أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، فعلی الرغم من إقصائه من حقّه فی الخلافه، إلّاأنّه علیه السلام وحرصاً منه علی وحدة المسلمین، کان مشیراً ومعلّماً ومدبّراً وناقداً وناصحاً، ولا تأخذه فی الله لومة لائم.

ص:224

وتابع هذه المسیرة من بعده أولاده المعصومین علیهم السلام من خلال سیرتهم العملیّة فی الحفاظ علی وحدة وتلاحم المسلمین، وهی سیرة ملیئة بالشواهد فی هذا المجال والتی لا یسع المقام لاستقصائها.

فإنّهم علیهم السلام علی الرغم من قناعتهم بأحقّیّتهم بالخلافة وصواب خطّهم الفکریّ والفقهیّ، وقناعتهم بخطأ غیرهم ممّن لم یهتدوا بهداهم، فعلی الرغم من ذلک فإنّهم علیهم السلام لا یفرضون قناعاتهم علی أحد، وإنّما أخذوا فی مخاطبة العقول والتعامل مع الناس علی وفق برنامج حکیم یعتمد المحبّة والبرهان والدلیل والحکمة والموعظة الحسنة، مؤکّدین فی الوقت ذاته علی ضرورة وحدة وتلاحم المسلمین.

ومن هنا نجد کثافة النصوص الروائیّة التی سلّطت الضوء علی إعطاء تعریف للإسلام والمسلم، بحیث لا یلغی الآخرین ولا یخرجهم من دائرة الإسلام، ولا یصادر حریّة الأفکار والعقول.

یقول الإمام أبو جعفر محمد بن علیّ الباقر علیه السلام موضّحاً معنی الإسلام: «والإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذی علیه جماعة من الناس من الفِرق کلّها، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث، وجاز النکاح، واجتمعوا علی الصلاة والزکاة والصوم والحجّ، فخرجوا بذلک عن الکفر، واضیفوا إلی الإیمان»(1).

ویقول الإمام أبو عبدالله الصادق علیه السلام: «الإسلام هو الظاهر الذی علیه

ص:225


1- (1) المحاسن: 285.

الناس، شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلی الله علیه و آله، وإقامة الصلاة، وإیتاء الزکاة، وحجّ البیت، وصیام شهر رمضان» (1) .

وقال علیه السلام: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّاالله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلیه جماعة الناس»(2).

وهذه الأحادیث الشریفة والمواقف الواضحة من قِبل أهل البیت علیهم السلام تکشف بوضوح عن الموقف الحریص لأئمّة أهل البیت علیهم السلام علی وحدة المسلمین، واجتماع کلمتهم.

وعلی نفس الخطّ سار مراجع الدین الکبار من أتباع أهل البیت علیهم السلام من أجل تحقیق الوحدة والتعایش بین المسلمین.

إلّاأنّ الشیء الذی یسترعی الالتفات هو وجود بعض القواعد المهمّة، سواء فی المجال الفقهیّ أم العقائدی، لم یتعرّض لها ولم تؤخذ بنظر الاعتبار، مع أنّ لهذه القواعد دور کبیر فی رسم المعالم المهمّة فی منظومة التعایش بین المذاهب الإسلامیّة، بل بین الأدیان جمیعاً.

ومن هذا المنطلق بادر سماحة الاستاذ المدقّق الشیخ آیة الله محمّد السند حفظه الله تعالی فی محاولة لتقویم هذه المسیرة، فکانت بادرة موفّقة أشار فیها سماحة الشیخ حفظه الله تعالی إلی عدد من القواعد المهمّة التی تمثّل القاعدة التحتیّة التی ینهض علیها نظام التعایش والوحدة بین المسلمین، والتی ینبغی

ص:226


1- (1) اصول الکافی: 26/2.
2- (2) اصول الکافی: 45/2.

مراعاتها وأخذها بعین الاعتبار لکلّ العاملین والمهتمّین والساعین إلی توحید کلمة المسلمین ووحدة صفّهم. علماً أنّ هذه القواعد مبثوثة فی ثنایا الکتب الکلامیّة والأبواب الفقهیّة، إلّاأنّها لم تتقولب ولم تتأطّر بشکل قواعدی.

وقد تنوّعت هذه القواعد إلی قواعد خاصّة بنظام الوحدة، واخری خاصّة بنظام التقریب، وإلی قواعد تتعلّق بنظام الانسجام والتوافقات.

ومن الجدیر بالذکر أنّ هذا البحث جاء مشفوعاً بإعطاء نقدٍ تحلیلیٍّ والکشف عن بعض الأخطاء ونقاط الضعف التی تعتور هذه المسیرة التی رسم خطوطها العریضة أهل البیت علیهم السلام.

وممّا ینبغی الإشارة إلیه أنّ هذا البحث کان یمثّل تقریراً لعدد من الأبحاث التی تناولها سماحة الشیخ حفظه الله تعالی فی هذا المجال، استجابة لدعوات بعض الإخوة المؤمنین الذین التمسوا من سماحته وبإلحاح علی بیان بعض الملاحظات فی هذا المجال، وقد قمت - بعونه تعالی وتوفیقه - بتدوینها وترتیبها وإخراجها علی هذا الشکل الماثل بین یدی القارئ الکریم.

خطّة البحث:

انطلقت خطّة البحث بتقسیمه إلی فصول ثلاثة:

تناول الفصل الأوّل التعریف بأقسام الوحدة، وبیان القواعد الخاصّة بنظام الوحدة، والأدلّة علیها.

أمّا الفصل الثانی، فقد اضطلع ببیان نظام التقریب، والحوار والاتّحاد،

ص:227

والتعرّض لأهمّ أهداف التقریب، مع بیان أهمّ القواعد الخاصّة فی نظام التقریب.

بینما کرّس الفصل الثالث فی البحث عن نظام التنسیق والتوافقات الوقتیّة وغایاته، وامتیازه عن نظام الوحدة ونظام التقریب، مع بیان القواعد الخاصّة به.

وفی الختام أتضرّع إلی الله تعالی أن یتقبّل منّی هذا الیسیر، وأن یجعله عملًا صالحاً تقرّ به العیون.

کما أسأله تعالی أن یرفع أجر هذا العمل إلی سیّدنا ومولانا أمیر المؤمنین وسیّد الموحّدین الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام.

تمهید:

النظم القرآنیّة فی نبذ الفرقة والتنازع:

بادی ذی بدء نقول: إنّ القرآن الکریم طرح ثلاثة نظم تؤمّن فی حدّها الأدنی مسألة تجنّب ونبذ الفرقة والتنازع بین المسلمین، بل بین أتباع الدیانات السماویّة، وکذا بین مطلق المذاهب والنِّحل فی المجتمعات البشریّة، وهذه الأنظمة هی:

النظام الأوّل: نظام الوحدة.

النظام الثانی: نظام التقریب والحوار والاتّحاد.

النظام الثالث: نظام التنسیق والانسجام والتوافقات.

وسوف نلج فی إعطاء لمحة تصوّریّة لکلّ من هذه الأنظمة.

ص:228

الفصل الأول: نظام الوحدة

تعریف الوحدة:

الوحدة: هی الاصول المشترکة، سواء کانت فی المسائل العقدیّة أم فی الاسس التشریعیّة، وقد تعرف بأنّها نظام مبادئ ومنطلقات واسس.

أقسام الوحدة:

تقسّم الوحدة إلی عدّة أقسام، منها:

1 - الوحدة الفعلیّة:

وهی عبارة عن الاصول المشترکة المتوفّرة بالفعل بین المذاهب الإسلامیّة، أو بین أتباع الدیانات، أو بین المدارس البشریّة.

2 - الوحدة المنظورة المستقبلیّة:

وهی الوحدة التی یتطلّع إلیها فی دائرة أوسع من الاصول المشترکة.

3 - الوحدة فی نِحلة الإسلام:

ص:229

وهی ما یبحث فیها عن اصول مشترکة فی الملّة والنِّحلة الإسلامیّة.

4 - الوحدة الأدیانیّة:

وهی الاصول المشترکة بین أتباع الدیانات السماویّة.

5 - الوحدة الإنسانیّة:

وهی الاصول الفطریّة المشترکة بین المدارس البشریّة.

6 - الوحدة السیاسیّة:

وهی الوحدة التی تنطبق علی نظام التنسیق والانسجام والتوافقات، کما سیأتی.

القواعد الأساسیّة فی بناء نظام الوحدة

هنالک عدد من القواعد الأساسیّة المهمّة والمؤثّرة علی صعید نظام الوحدة منها:

القاعدة الاولی: ضرورة البحث والتنقیب فی التاریخ الإسلامیّ

الأدلّة علی القاعدة

الدلیل الأوّل: دراسة التاریخ جزء لا یتجزّأ عن عقیدة الإنسان

من المعلوم أنّ دراسة تاریخ الأدیان والمذاهب وتاریخ رعاتها وحماتها، بات طریقاً فطریّاً؛ لأجل الوقوف علی صحّة وحقّانیّة وسداد ذلک الدین أو المذهب.

ومن هنا نجد أنّ القرآن الکریم یعدّ سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله أحد الدلائل علی

ص:230

صدق وحقّانیّة دعوته، کما فی قوله تعالی: (قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَیْکُمْ وَ لا أَدْراکُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِیکُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ)1 ،) حیث یقول النبیّ صلی الله علیه و آله - کما یحکیه القرآن الکریم - إنّی قد عشت معکم هذا العمر الطویل واطّلعتم علی سیرتی، فهل عرفتمونی بالکذب یوماً، أم هل ادّعیت یوماً بشیء من نفسی، وهل ما جئت به من کلام معجز هو من نفسی وأنا علی ما تعرفون من الصدق...؟

وهکذا الأمر بالنسبة لرعاة المذاهب الإسلامیّة، سواء العقائدیّة أم الفقهیّة، فانّ دراسة تاریخهم وأحوالهم وسیرتهم تجاه الإسلام والحقّ، تعطی رؤیة واضحة للناقد والباحث تساهم فی تحدید موقفه تجاه منهجهم ومدی درجة اعتباره.

وعلی هذا الأساس تتّضح أهمّیّة البحث والتنقیب عن تاریخ صدر الإسلام، وما جری فیه من الأحداث؛ لأنّ الجیل الأوّل من الإسلام أصبح کلّ واحد منهم رائداً وقائداً لمناهج وتوجّهات عقائدیّة متعدّدة، فلأجل التمییز والوقوف علی أحقّیّة تلک المناهج؛ لا بدّ من دراسة تاریخ ومواقف کلّ واحد من هؤلاء لیتسنّی للمسلم أن یبنی عقیدته علی أساس البصیرة والدلائل.

ومن الواضح أنّ منهج البحث والتنقیب فی التاریخ منهج فطریّ وتربویّ أکّد علیه القرآن الکریم فی مواضع متعدّدة، کما نلمس ذلک فیما یشیر إلیه القرآن الکریم فی استعراضه للأحداث التی جرت فی صدر

ص:231

الإسلام بشکل مفصّل ودقیق، کما نلاحظ ذلک فی حدیثه عن أحوال المسلمین الذین شارکوا فی معرکة بدر فی سورة الأنفال، وفی معرکة احُد فی سورة آل عمران، وکذلک حدیثه عن أحوال المسلمین فی غزوة حنین فی سورة البراءة، وفی معرکة الخندق فی سورة الأحزاب، وغیرها.

فهذا منهج تربویّ یوصی القرآن الکریم به المسلمین؛ لأجل أن یتقیّدوا بمنهج البحث التاریخی والتنقیب عمّن یؤخذ منه الدین.

وهناک عدد وافر من الروایات النبویّة الشریفة تؤکّد علی هذا المضمون، وترشد إلی ضرورة البحث عن مواقف الأصحاب والتمیز بین المواقف وتمییز من نکص مقابل من ثبت علی الحقّ.

وعلی ضوء هذا، فکیف یتسنّی للباحث عن الحقّ والحقیقة، التعرّف علی حقیقة دینه ومذهبه من دون الوقوف علی تاریخ ذلک الدین أو المذهب؟ وما هی جذور ومناشئ صیرورته وولادته؟

وکیف یصدّق ویوثّق حَمَلة التراث ویأمنهم علی دینهم، وهو لا یعرف حالهم ولا سیرتهم ولا مواقفهم ومسالکهم؟

الدلیل الثانی: مَن أحبّ عمل قوم اشرک معهم

فقد ورد عن الرسول صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من أحبّ عمل قوم اشرک معهم، ومن أحبّ حجراً حُشر معه»(1) ، وقد وردت هذه الروایات بألفاظ متعدّدة

ص:232


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام: 628/2. بحار الأنوار: 16/29. صحیح البخاری: کتاب الأدب - باب علامة الحبّ فی الله. صحیح مسلم: کتاب البرّ والصلة - باب المرء مع مَن أحبّ.

وبطرق مستفیضة فی مصادر الفریقین.

وإطلاق الحدیث الشریف فی قوله: «مَن أحبّ عمل قوم...» شامل لکلّ قوم وإن لم یکونوا من المعاصرین لذلک العمل أو الفعل

الذی قام به جماعة أو فرد، ویمتدّ هذا الشمول إلی أعماق التاریخ منذ صدر البشریّة، بل یتّسع لما سیأتی من امم وأقوام لاحقة أنبأ القرأن الکریم عن أحوالهم.

وهذه قاعدة مهمّة وشریفة تؤکّد علی أنّ الإنسان مسؤول عن میوله النفسیّة وهواه وموقفه الفکریّ والثقافی تجاه الامم السابقة واللاحقة، وأنّ تضامنه معه، أو قطیعته لهم، هو فعل من أفعاله وأعماله التی تقع فی دائرة مسؤولیّته.

فالتضامن هو الالتقاء فی الموقف.

وهو خلاف القطیعة، فإنّها تمثّل جانب التباین فی الموقف.

وهذا هو معنی التولّی والتبرّی أو الولاء والبراءة، الذی یمثّل عنصراً تربویّاً بالغ الأهمیّة والتأثیر فی النفس الإنسانیّة تجاه الفئات والنماذج البشریّة المختلفة، سواء کانت فی الماضی أو الحاضر أو المستقبل.

إذن جانب المحبّة یضفی بتأثیره علی الإنسان وعلی صیاغة فکره ومنهجه وسیرته؛ لأنّه یعتمد علی نهج وفکر من والاه وأحبّه ومال إلیه.

ومن هنا یتّضح أنّ باب المحبّة، باب بالغ الأهمیّة، لأنّه یفتح للإنسان من صحائف الأعمال ما یتجاوز حدود عمره القصیر إلی مساحات زمنیّة

ص:233

شاسعة، ولذا یثاب بثوابهم.

إذن فلسفة بقاء المناهج والأفکار الماضیة قائمة علی أساس المحبّة والولاء.

فالقاعدة الشریفة التی أکّدتها الروایات المتظافرة، فیها بشارة من جهة، وإنذار وتحذیر من جهة اخری. فهی بشارة وحثّ علی محبّة الصالحین، وتحذیر وإنذار من محبّة الطالحین والضالّین.

وهذا المنهج القرآنی لا یرمی إلی التربیة علی الأحقاد والکراهیة، ولا یهدف إلی إشعال ضغینة أو سخیمة، بل فلسفته هی أن یتربّی الإنسان علی کیفیّة التمییز بین الموقف الصحیح؛ لیتبنّاه، وبین الموقف الفاسد لینبذه، من خلال اطّلاعه علی التاریخ.

وعلی هذا الضوء تتّضح ضرورة البحث والتنقیب عن التاریخ الإسلامیّ، لیتبیّن للمسلم مواقف وأعمال الأقوام والجماعات، لکی یتحمّل مسؤولیّة موقفه إزاء هؤلاء، من محبّة وتضامن، وولاء أو کراهة، وقطیعة أو براءة.

وقد ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی تفسیر قوله تعالی: (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِینَ) 1 قال علیه السلام: «إنّما یجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا، فقال سبحانه: (فَأَصْبَحُوا نادِمِینَ)...»2.

ص:234

وعن سماعة، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول فی قول الله: (قُلْ قَدْ جاءَکُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِی بِالْبَیِّناتِ وَ بِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)1 .

قال علیه السلام: وقد علم أنّ هؤلاء لم یقتلوا، ولکن کان هواهم مع الذین قتلوا، فسمّاهم الله قاتلین لمتابعة هواهم ورضاهم لذلک الفعل»(1).

الدلیل الثالث: قاعدة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر:

من الواضح أنّ المرتبة الاولی من قاعدة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر هی المیل والمحبّة للمعروف وإنکار المنکر فی وعاء القلب.

وعلی ضوء هذا تتّضح أهمّیّة وضرورة البحث فی التاریخ الإسلامی، وذلک أنّ المسلم - لکی یتّخذ موقفاً من المعروف والمنکر - لا بدّ أن یطّلع علی العمل، فإن کان عدلًا، فهو معروف یجب علی کلّ إنسان - بحسب قاعدة الأمر بالمعروف - أن یحبّه بقلبه ویأمر الآخرین بالأخذ به، وما کان ظلماً وجوراً یجب علی الإنسان إنکاره قلباً وینهی عن الإتیان بمثله.

وبعبارة اخری: أنّ قاعدة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لها مراتب متعدّدة، ابتداءً من مرتبة القلب، ثمّ مرتبة اللسان، ثمّ مرتبة الید.

ومن الواضح أنّ مرتبة القلب لا تختصّ بأعمال وأفعال الأحیاء، وإنّما تعمّ کلّ مساحات التاریخ، وتشمل امتدادات المستقبل، وهذا من بدائع

ص:235


1- (2) تفسیر العیّاشی: 208/1.

التشریع الإسلامی؛ لأنّ الإنسان فی مرتبة روحه وقلبه یشرف علی الدهور والأزمنة الغابرة واللاحقة.

وعلی هذا الأساس، ینبغی تمییز المعروف والمنکر فی المواقف والأعمال فی صدر الإسلام؛ لکی یقوم المسلم بأداء وظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، التی هی من أعظم فرائض الله تعالی حیث تقام بها بقیّة الفرائض.

دلیل مانعی البحث فی التاریخ الإسلامی:

من الذرائع التی تمسّک بها مانعو البحث فی التاریخ الإسلامی هو قوله تعالی: (تِلْکَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما کَسَبَتْ وَ لَکُمْ ما کَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا کانُوا یَعْمَلُونَ)1 .

وقوله تعالی: (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری ثُمَّ إِلی رَبِّکُمْ مَرْجِعُکُمْ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ)2 .

بتقریب: أنّ الآیات القرآنیّة ظاهرة فی المنع عن البحث فی تاریخ الامم السالفة، وما جری فیها من أحداث؛ لأنّها قد خلت وانقضت ومضت، وهم یتحمّلون وزر أعمالهم وأفعالهم، ولا یتحمّل من یأتی بعدهم مسؤولیّة ما کانوا یعملون؛ لأنّ الله تعالی هو الذی یقضی بینهم ویحکم علی ما فعلوه، فلا نحاسب نحن علی أعمالهم، ولسنا مطالبین بتقییمها، ولا بتعیین الصائب منها من الخاطئ، ولا الحقّ من الباطل.

ص:236

ومن هنا فالآیة توجب غلق باب البحث والتنقیب عمّا حصل فی التاریخ الإسلامی، وما قام به من کان یعیش فی تلک الحقب الزمنیّة، وغیر ذلک من المبرّرات لمنع دراسة التاریخ.

الجواب علی دلیل المانعین:

إنّ التأمّل فی الآیة الکریمة یکشف عن أنّها تدلّ علی عکس ما استدلّوا به وما استظهروه منها؛ لأنّ هذه الآیات القرآنیّة فی صدد إبطال التبعیّة والتقلید للُامم السالفة من دون فحص وتحقیق، وهذا ما یکشف عنه سیاق الآیات السابقة لها، حیث کانت فی بیان جدال أهل الکتاب مع النبیّ صلی الله علیه و آله والمسلمین وإصرارهم علی شریعتهم وما علیه أسلافهم واممهم السابقة.

وکان الجواب القرآنیّ لدحضهم وإبطال مدّعاهم هو التندید بتقلیدهم لأسلافهم من الامم السابقة التی تابعوها من دون فحص وتنقیب.

فالإنسان مطالب بالبحث عن الحجّة والتنقیب عن الأدلّة، ولا یسوغ له الاعتماد علی منهاج أسلافه من دون دلیل وحجّة؛ لأنّ ذلک لا ینفعه بل یضرّه فیما إذا خالف أمر الله تعالی.

فالآیة تشیر إلی أنّ الأجیال اللاحقة ممّن کانوا فی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله، یحرم علیهم متابعة من سلف من آباء أهل الکتاب ممّن کان علی ملّة الیهودیّة والنصرانیّة من دون فحص وتدبّر.

وعلی ضوء هذا یتّضح أنّ الآیة المبارکة ظاهرة فی ضرورة التمحیص والتنقیب والوقوف علی اصول المعرفة الحقّة.

ص:237

إذن فالآیة المبارکة فی مقام نبذ التقلید، ولزوم التحرّی والفحص، فلا یحتجّ بالامّة التی قد خلت، بل یحتجّ بالدلیل.

وعلی هذا الأساس یتّضح بطلان ما ذهب إلیه البعض من دلالة الآیة علی المنع من البحث فی التاریخ.

ومن هنا یظهر البون الواسع بین المعنی الواقعیّ والحقیقیّ الذی ترمی إلیه الآیة المبارکة، وبین المعنی المحرّف الذی ذهب إلیه مانعو البحث عن التاریخ.

أمّا قوله تعالی: (وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا کانُوا یَعْمَلُونَ) فهو فی صدد بیان ضرورة ووجوب العمل علی أساس الحجّة والدلیل والبرهان الذی قام لدیه.

أمّا الحجّة والدلیل الذی اعتمده أسلافکم، وعملوا علی أساسه، فأنتم لستم فی معرض التساؤل والمساءلة عنه، بل أنتم مسؤولون عن الدلیل والحجّة والبرهان الذی تقدّموه أنتم لا دلیل أسلافکم، ولا تُعذرون بالتقلید والاتّباع.

تداعیات وسلبیّات القول بالمنع:

هناک جملة من التداعیات والآثار السلبیّة لمقولة المنع عن البحث فی التاریخ، التی ترسم للُامم السابقة حصانة عن النقد والفحص والتفتیش والمحاسبة، وتوجب وصف ونعت وتلمیع السابقین بالنعوت الجمیلة، وإضفاء الحجّیّة لهم من دون سبر وغور فی الأدلّة، وهذا ینافی الأدلّة السابقة، مضافاً إلی منافاته لضرورة العقل القاضی بنبذ التقلید الأعمی.

ص:238

ومن هنا نجد أنّ دیدن القرآن الکریم علی استعراض أحوال الامم السابقة، الصالحة والطالحة، وما جری من شؤونهم واختلافهم منذ عهد آدم، وما جری بین هابیل وقابیل، وما فعله الفراعنة وأصحاب الاخدود، قوم عاد وثمود، ونحوهم من الامم، حیث استقصی القرآن الکریم صفائح وسجلّات أعمالهم وأفعالهم؛ کلّ ذلک لأجل أن یکون عبرة للأجیال اللاحقة، حتّی لا یقعوا مواقع الظالمین وأهل القبائح، وکذلک لأجل التأسّی بأهل الحقّ والصلاح؛ لذا قال تعالی: (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری)1 .

وقوله تعالی: (تِلْکَ الْقُری نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْبائِها)2 .

وقوله تعالی: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ)3 .

القاعدة الثانیة: حرمة دم المسلم وعِرضه وماله

وحاصل هذه القاعدة هو أنّ کلّ من تشهّد الشهادتین، کان مسلماً وحقن دمه وعرضه وماله.

هناک عدد من الأدلّة القرآنیّة والروائیّة تدلّ علی أنّ مَن تشهّد الشهادتین فقد حقن دمه وعِرضه وماله، ومن هذه الأدلّة:

الأدلّة علی القاعدة:

ص:239

الدلیل الأوّل:

قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ)1 .

وهی واضحة الدلالة علی أنّ الإسلام عبارة عن الإقرار بالشهادتین، وبها تحقن الدماء والأعراض والأموال.

من الواضح أنّ الإسلام یختلف عن الإیمان، إذ الإیمان عبارة عن الیقین الثابت فی قلوب المؤمنین، المقارن للإقرار اللّسانیّ بالشهادتین، وبذلک یتّضح أنّ الإیمان أعلی مرتبة من الإسلام.

فقد روی الکلینی عن القاسم الصیرفی، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: الإسلام یحقن به الدم، وتؤدّی به الأمانة، وتستعمل به الفروج والثواب علی الإیمان»(1).

وروی سماعة، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: أخبرنی عن الإسلام والإیمان أهما مختلفان؟

فقال: إنّ الإیمان یشارک الإسلام، والإسلام لا یشارک الإیمان.

فقلت: فصفهما لی.

فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّاالله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، وبه

ص:240


1- (2) الکافی 20/2.

حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة الناس.

والإیمان: الهدی وما یثبت فی القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والإیمان أرفع من الإسلام درجة. إنّ الإیمان یشارک الإسلام فی الظاهر، والإسلام لا یشارک الإیمان فی الباطن وإن اجتمعا فی القول والصفة»(1).

وقال الفیض الکاشانی فی تفسیر الصافی: «الإیمان تصدیق مع ثقة وطمأنینة قلب، ولم یحصل لکم، ولکن قولوا أسلمنا، فإنّ الإسلام انقیاد، ودخول فی السلم، وإظهار الشهادة، وترک المحاربة یشعر به»(2).

قال الزمخشریّ - فی تفسیر الآیة المبارکة آنفة الذکر -:

«الإیمان: هو التصدیق مع الثقة وطمأنینة النفس، والإسلام:

الدخول فی السلم، والخروج من أن یکون حرباً للمؤمنین بإظهار الشهادتین، ألا تری إلی قوله تعالی: وَ لَمَّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ، فاعلم أنّ ما یکون من الإقرار باللسان من غیر مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فیه القلب اللسان فهو إیمان»(3).

وقال القرطبی فی تفسیره: «وحقیقة الإیمان التصدیق بالقلب، وأمّا الإسلام فقبول ما أتی به النبیّ صلی الله علیه و آله فی الظاهر، وذلک یحقن الدم»(4).

وبنفس المضمون ما ورد فی(إرشاد الساری) للقسطلانی و(صفوة

ص:241


1- (1) الکافی: 21/2.
2- (2) تفیر الصافی: 55/5.
3- (3) الکشّاف: 376/4.
4- (4) الجامع لأحکام القرآن: 299/16.

التفاسیر) للصابونی(1).

وقال ابن کثیر فی تفسیره: «وقد استفید من هذه الآیة الکریمة:

أنّ الإیمان أخصّ من الإسلام، کما هو مذهب أهل السنّة والجماعة - إلی أن قال: - فدلّ هذا علی أنّ هؤلاء الأعراب المذکورین فی هذه الآیة لیسوا بمنافقین؛ وإنّما هم مسلمون لم یستحکم الإیمان فی قلوبهم، فادّعوا لأنفسهم مقاماً أعلی ممّا وصلوا إلیه، فادِّبوا فی ذلک».

ثمّ قال: «ولو کانوا منافقین لعنّفوا وفضحوا، کما ذُکر المنافقون فی سورة براءة؛ وإنّما قیل لهؤلاء تأدیباً: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ) ، أی: لم تصلوا إلی حقیقة الإیمان بعد»(2).

وقال الطبری فی تفسیره لقوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا...) : «أسلمنا: بمعنی دخلنا فی الملّة والأموال والشهادة الحقّ»(3).

وقال البیضاوی فی تفسیره: «إنّ الإسلام انقیاد ودخول فی السلم، وإظهار الشهادتین، وترک المحاربة»(4).

الدلیل الثانی:

قوله تعالی: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقی إِلَیْکُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) حیث نزلت هذه الآیة المبارکة - باتّفاق المسلمین - فی رجل من الکفّار أظهر

ص:242


1- (1) إرشاد الساری: 110/1. صفوة الصفوة: 203/3.
2- (2) تفسیر القرآن العظیم: 1607.
3- (3) جامع البیان: 166/13.
4- (4) تفسیر البیضاوی: 220/5.

الإسلام عندما غشیتهم خیول المسلمین فقتلوه.

والذی یستفاد من الآیة المبارکة أنّ من أظهر الإسلام، یحقن دمه ویکون مسلماً لا یجوز قتله، وإن لم یعلم منه الإیمان القلبیّ، فإنّ الله تعالی هو الذی یتولّی السرائر، فلا یجوز أن یقتل بحجّة أنّه لیس مؤمناً، أو لا یعلم الإیمان من ظاهره.

ولذا قال رسول الله صلی الله علیه و آله لقاتله - حینما اعتذر بأنّه نطق بالشهادتین خوفاً من السلاح -: «أفلا شققت عن قلبه»(1) ، أی لا یلزم من دخوله الإسلام لیحقن الدم والمال أن یکون مؤمناً، بل بمجرّد تشهّده بالشهادتین.

الدلیل الثالث: الروایات

هناک عدد وافر من روایات الفریقین تدلّ علی هذه القاعدة، ومن هذه الروایات:

من طرق الشیعة:

1 - صحیحة حمران بن أعین، عن الباقر علیه السلام، قال: «الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذی علیه جماعة الناس من الفرق کلّها، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث، وجاز النکاح»(2).

2 - روایة سفیان بن السمط، عن الصادق علیه السلام، قال: «الإسلام هو الظاهر الذی علیه الناس، شهادة أن لا إله إلّاالله، وأنّ محمّداً رسول الله صلی الله علیه و آله،

ص:243


1- (1) سنن أبی داوود: 595/1، الحدیث 2643.
2- (2) اصول الکافی: 26/2.

وإقام الصلاة، وأداء الزکاة، وحجّ البیت، وصیام شهر رمضان،...» (1).

3 - عن سماعة، عن الصادق علیه السلام، قال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، به حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة من الناس»(2).

4 - ما روی عن أبی عبدالله علیه السلام، حیث قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: أیّها الناس، إنّی امرت أن اقاتلکم حتّی تشهدوا أن لا إله إلّاالله، وأنّی محمّد رسول الله، فإذا فعلتم ذلک حقنتم أموالکم ودماءکم إلّا بحقّها، وکان حسابکم علی الله»(3).

5 - عن الباقر علیه السلام، قال - فی جوابه لشخص سأله عن الإیمان -: «الإیمان ما کان فی القلب، والإسلام ما کان علیه المناکح والمواریث، وتحقن به الدماء، والإیمان یشرک الإسلام، والإسلام لا یشرک الإیمان»(4).

6 - عن أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام، قال: «مَن استقبل قبلتنا، وأحلّ ذبیحتنا، وآمن بنبیّنا، وشهد شهادتنا، دخل فی دیننا، أجرینا علیه حکم القرآن وحدود الإسلام...»(5).

ص:244


1- (1) أصول الکافی: 24/2.
2- (2) اصول الکافی: 45/2.
3- (3) المحاسن: 284.
4- (4) المحاسن: 285.
5- (5) الکافی: 361/8.

ونحوها من الروایات(1).

من طرق السنّة:

1 - أخرج مسلم فی صحیحه عن أبی شیبة، قال: «بعثنا رسول الله صلی الله علیه و آله فی سریّة فصبّحنا الحرقات من جهینة، فأدرکت رجلًا فقال:

لا إله إلّاالله، فطعنته، فوقع فی نفسی من ذلک، فذکرته للنبیّ صلی الله علیه و آله، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: أقال لا إله إلّاالله وقتلته؟

قال: قلت: یا رسول الله، إنّما قالها خوفاً من السلاح.

قال صلی الله علیه و آله: أفلا شققت عن قلبه حتّی تعلم أقالها أم لا، فما زال یکرّرها حتّی تمنّیت أنّی أسلمت یومئذٍ.

قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتّی یقتله ذو البطین - یعنی اسامة -.

قال: قال رجل: ألم یقل الله: (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ لِلّهِ) (2).

فقال سعد: قد قاتلنا حتّی لا تکون فتنة، وأنت وأصحابک تریدون أن تقاتلوا حتّی تکون فتنة» (3).

2 - کذلک أخرج مسلم فی صحیحه عن المقداد بن الأسود، أنّه أخبره

ص:245


1- (1) انظر اصول الکافی: 45/2.
2- (2) الأنفال 39:8.
3- (3) صحیح مسلم: 67/1.

أنّه قال: یا رسول الله، أرأیت إن لقیت رجلًا من الکفّار فقاتلنی فضرب إحدی یدیّ بالسیف فقطعها، ثمّ لاذ منّی بشجرة فقال: أسلمت لله، أفاقتله یا رسول الله بعد أن قالها؟

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: لا تقتله.

قال: فقلت: یا رسول الله، إنّه قد قطع یدی ثمّ قال بعد أن قطعها! أفأقتله؟

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتک قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن یقول کلمته التی قال»(1).

3 - أخرج البخاری فی صحیحه عن أنس بن مالک، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و سلم: امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبیحتنا، فقد حرمت علینا دماؤهم وأموالهم إلّابحقّها، وحسابهم علی الله»(2).

وفی لفظ آخر: «قال رسول الله صلی الله علیه و سلم: امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فمن قال لا إله إلّاالله فقد عصم منّی نفسه وماله إلّا بحقّه، وحسابه علی الله»(3).

ونحو ذلک من الروایات التی وردت بهذا المضمون التی تدلّ علی أنّ

ص:246


1- (1) صحیح مسلم: 66/1.
2- (2) صحیح البخاری: 102/1 و 103.
3- (3) صحیح البخاری: 110/2 و: 5/4 و 6.

مجرّد الإقرار بالشهادتین یدخل قائلها الإسلام، ویحقن دمه وماله(1).

ویستفاد من ذلک: أنّ تحقّق الإسلام یتوقّف علی الإقرار بالشهادتین وإن کان إقراراً صوریّاً، ولم یکن معتقداً به حقیقة وقلباً.

وهذه الروایات واضحة الدلالة علی أنّ ملاک صدق الإسلام هو الشهادتین، التی بها تحقن الدماء والأعراض والأموال.

الدلیل الرابع: سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله

فهناک الکثیر من موارد سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله تکشف بوضوح هذه الحقیقة، وهی أنّه صلی الله علیه و آله کان یتعامل مع کلّ مَن تشهّد الشهادتین معاملة المسلم، وإن لم یدخل الإیمان فی قلبه، بل وإن کان صلی الله علیه و آله عالماً بعدم کونهم جمیعاً معتقدین بالإسلام حقیقة، کما فی الآیات الکثیرة النازلة فی المنافقین، کما فی سورة المنافقین وسورة البراءة والبقرة، وغیرها من السورء، ومع ذلک فکان النبیّ صلی الله علیه و آله والقرآن یتعامل معهم معاملة بقیّة المسلمین فی حقن دمهم وأموالهم وغیرها من أحکام ظاهر الإسلام، وکذلک قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا...)2 .

حیث أنکر الله تعالی علی الأعراب دعواهم الإیمان القلبیّ مع إقرارهم بالشهادتین، ولکن مع ذلک کان النبیّ صلی الله علیه و آله یعاملهم معاملة المسلمین لإظهارهم الشهادتین.

ومن هذه الموارد:

ص:247


1- (1) انظر صحیح مسلم: 38/1-40، باب تحریم قتل الکافر بعد أن قال لا إله إلّا الله.

1 - ما أخرجه ابن شهرآشوب فی مناقبه: عن ابن عبّاس، فی قوله تعالی: (وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظّالِمُ)1 : «نزلت فی ابن أبی معیط وابیّ بن خلف، وکانا توأمین فی الخلّة، فقدم عقبة من سفره وأولم جماعة الأشراف، وفیهم رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: لا آکل طعامک حتّی تقول: لا إله إلّاالله، وأنّی رسول الله، فتشهّد الشهادتین، فأکل طعامه»(1).

ومحلّ الشاهد فی هذه الروایة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله حکم بإسلام الرجل، وعامله معاملة المسلمین من الطهارة ونحوها بمجرّد إظهار الشهادتین، ولذا شرط الرسول صلی الله علیه و آله علی الرجل بأنّه لا یأکل معه إلّا بعد التشهّد بالشهادتین، فرتّب صلی الله علیه و آله أحکام الإسلام علی الشهادتین فقط.

2 - عن النعمان بن سالم: «إنّ عمرو بن أوس أخبره أنّ أباه أوساً قال: إنّا لقعود عند النبیّ صلی الله علیه و آله وهو یقصّ علینا ویذکّرنا، إذ أتاه رجل فسارّه، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: اذهبوا فاقتلوه.

فلمّا ولّی الرجل دعاه رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: هل تشهد أن لا إله إلّا الله؟

قال: نعم.

قال: اذهبوا فخلّوا سبیله، فإنّما امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فإذا فعلوا ذلک حرم علَیَّ دماؤهم وأموالهم» (2).

ص:248


1- (2) مناقب آل أبی طالب: 118.
2- (3) مسند أحمد بن حنبل: 8/4.

3 - ما تقدّم فی صحیح البخاری من قوله صلی الله علیه و آله: إنّ صیانة الدماء والأموال ونحوها من الآثار، مترتّبة علی إظهار الشهادتین، ولا یشترط فی ترتیب هذه الآثار الاعتقاد بالإسلام قلباً وحقیقة.

نعم، یشترط فی الإیمان، العقد القلبیّ، کما تقدّم.

إلی غیر ذلک من الشواهد علی السیرة المبارکة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

ما یوجب الخروج عن الإسلام:

بعد أن تبیّن أنّ الدخول فی الإسلام یتحقّق بالإقرار بالشهادتین، ینبغی بیان ما یوجب الخروج عن الإسلام.

ویتحقّق الخروج عن الإسلام بأحد الامور التالیة:

1 - إنکار أحد اصول الإسلام الأساسیّة، کالتوحید والنبوّة والمعاد، سواء کان إنکاره عن عمد أم جهل.

وأجمع المسلمون علی الحکم بکفر من أنکر هذه الاصول الثلاثة، وقد دلّت علی ذلک جملة وافرة من الآیات المبارکة.

أمّا بالنسبة إلی التوحید، فکقوله تعالی: (لَقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ یَنْتَهُوا عَمّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)1 .

ص:249

وأمّا بالنسبة إلی أصل النبوّة، فکقوله تعالی: (وَ إِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَکُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِی وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْکافِرِینَ)1 .

وأمّا بالنسبة إلی أصل المعاد، فکقوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِکَ یَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِی وَ أُولئِکَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)2 .

2 - إنکار ضروریّ من ضروریّات الإسلام، فیما إذا استلزم ذلک الإنکار، تکذیب النبیّ صلی الله علیه و آله وإنکار رسالته.

والمقصود من الضروریّ فی المقام: هو ما علم من الدین بالضرورة، بمعنی أنّ المسلم یعلم به بالبداهة لکونه مسلماً، ولا یحتاج إلی دلیل، کوجوب الصلاة والصوم والحجّ والزکاة، ونحوها.

وعلی هذا الأساس، فلو أنکر واحدة من ضروریّات الدین مع العلم بکون حکمها ضروریّاً فی الشریعة المقدّسة، وأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أتی بها، حینئذٍ یکون إنکاره موجباً للارتداد والکفر، والخروج عن الإسلام، وهو فی الحقیقة تکذیب للنبیّ صلی الله علیه و آله وإنکار لرسالته، وهذا بخلاف ما إذا لم یستلزم إنکاره للضروریّ تکذیباً للنبیّ صلی الله علیه و آله، أو إنکاراً لرسالته الخاتمة، کما إذا أنکر ضروریّاً باعتقاد عدم ثبوته فی الشریعة الإسلامیّة، وأنّه لم یأت به النبیّ صلی الله علیه و آله، فإنّ إنکاره هذا لا یرجع إلی تکذیب النبیّ صلی الله علیه و آله أو إنکار رسالته، ولا یکون

ص:250

کفراً عند المتأخّرین من کلمات علماء جملة وافرة من المذاهب الإسلامیّة.

فعلی سبیل المثال: لو کان أحد فی أوّل إسلامه، وسئل عن الربا، فأنکر حرمته باعتقاد حلّیّته، فإنّه لا یکون إنکاره موجباً لکفره وارتداده، وإن کانت حرمة الربا من ضروریّات الدین لعدم استلزام إنکاره تکذیب النبیّ صلی الله علیه و آله أو إنکار رسالته.

وقد تقرّرت قاعدة حرمة المسلم دمه وعرضه وماله المنصوص علیها بألسنة متعدّدة، منها:

1 - عن النبیّ صلی الله علیه و آله، قال: «المسلم أخو المسلم، لا یحلّ دمه ولا ماله إلّامن طیبة نفسه»(1).

2 - عن زید الشحّام، عن أبی عبدالله الصادق علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: لا یحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّابطیب نفسه»(2).

3 - عن أبی هریرة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله، قال: «کلّ المسلم علی المسلم حرام، دمه وماله وعِرضه»(3).

ونحوها من الروایات التی بلغت حدّ التواتر، وهی واضحة الدلالة علی وجوب احترام دم المسلم وعِرضه وماله.

ومن مجموع هذه الروایات یتّضح:

أنّ أدلّة حقن الدماء بالشهادتین قطعیّ لا ظنّی، ومن ثمّ فإنّ رفع الید

ص:251


1- (1) انظر وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب العِشرة، کتاب الحجّ.
2- (2) الکافی: 273/7. من لا یحضره الفقیه: 17/4.
3- (3) صحیح مسلم: 1986/4.

عن هذا الدلیل القطعی لا بدّ أن یکون بدلیل قطعیّ، فلا یسوغ رفع الید عنها بدلیل ظنّیّ، ولا یسوغ التکفیر واستباحة الدماء لکلّ من تشهّد الشهادتین، بالاعتماد علی دلیل ظنّیّ؛ وذلک لما هو مقرّر فی قواعد المنهج الفقهی الذی یبحث فی اصول فقه الأحکام أنّ العموم القطعی ذی الحکم الخطیر آبّ عن التخصیص بالدلیل الظنّی.

وبعبارة اخری: إنّ عموم الحکم بدخول الإسلام لکلّ من اعتنق الشهادتین، هذا العموم لم یقرّر بدلالة ظنّیّة بل بدلالة قطعیّة، فالحکم قطعیّ.

مضافاً إلی أنّ ملاک الحکم والمصلحة والمفسدة المترتّبة علیه هی من الخطورة بمکان، والقاعدة تقتضی فی مثل ذلک قوّة الدلیل الدالّ علی الحکم، وهذه القاعدة أساسیّة مطّردة فی نظام معرفة الأحکام الشرعیّة، أی أنّ قوّة الدلیل لا بدّ أن تتناسب مع أهمّیّة الحکم، فلا یمکن أن ینصب الشارع دلیلًا متوسّطاً - فضلًا عن دونه - علی حکم خطیر مهمّ، بل لا بدّ من توفّر الداعی لنصب وبیان أدلّة قویّة توازی قوّة وأهمیّة الحکم.

والوجه فی اعتماد هذه القاعدة هو أنّ أهمّیّة الحکم لا بدّ أن تتناسب طردیّاً مع درجة قوّة الدلیل الذی سیق علیه؛ للتناسب الطردیّ فی الأهمیّة ودرجة خطورته.

ومن ثمّ کانت الأدلّة المقامة تکویناً وشرعاً علی اصول الدین، أکثر قوّة وبیاناً ودلالة من الأدلّة التی تقام علی الفروع، وکذلک أدلّة الأرکان فی الدین بالقیاس إلی أدلّة التفاصیل.

ص:252

وعلی هذا الأساس، فإنّ عدم مراعاة هذه القاعدة فی منهاج وطریق معرفة الأحکام یؤدّی إلی الهرج والمرج فی الاستنتاج، وفی المعرفة الدینیّة، وفی طریقة التفکیر، ومن ثمّ یتسبّب فی الجرأة والاجتراء علی التکفیر واستباحة الدماء والتجاوز علی حرمات ومقدّسات الدین لمجرّد استدلال واستظهار ظنّیّ، ومن ثمّ حکم الفقهاء تبعاً للروایات أنّ الحدود تدرأ بالشبهات وذلک لخطورة حرمة الدماء فی المقاصد الشرعیّة، فلا یجترئ علیها بمجرّد إیهام ظنّیّ.

إذن درجة قدسیّة الأحکام إنّما تستعلم بحسب قوّة الدلیل وأهمّیّة غایة التشریع.

ومن ذلک نخلص إلی أنّ المجترئ علی المسلمین بتکفیرهم واستباحة دمائهم تحت ذریعة الغیرة والحمیّة الدینیّة، هو فعل فی الطرف النقیض من قوله وادّعائه الغیرة والحمیّة علی الدین؛ لأنّه بفعله هذا قد أخذ بمعول هدّام لتقویض الدین والملّة، إذ أنّ مقتضی قدسیّة الشهادتین هو الالتزام الشدید بآثارهما، لا الاستخفاف بمقتضاهما، والتعویل علی أمر ودلیل ظنّیّ وجعله الأساس فی الملّة والدین ممّا یعنی تغییر الملّة والدین من الشهادتین إلی ذلک الأصل الظنّیّ، وجعله المحور والمرکز بدل الشهادتین، وهذا من لوازم عدم مراعاة القاعدة المنهجیّة السابقة من جعل الظنّیّ فی مصاف درجة القطعی الیقینی، فإنّه یصاعد بالحکم الظنّیّ إلی مصاف الحکم القطعی الیقینی ممّا یجعله یکتسب آثار الحکم الیقینی من المرکزیّة والامومة مع أنّ الحکم الظنّیّ لیس شأنه إلّا الفرعیّة والتبعیّة. وهذا ممّا یبیّن خطورة تلک القاعدة وأنّها

ص:253

حافظة لمنظومة أحکام الدین عن الانفراط والتبدّل.

القاعدة الثالثة: ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی امیّة

وتتمحور هذه القاعدة حول ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی امیّة وبنی العبّاس الدخیلة علی دین الإسلام، سواء علی الصعید الاعتقادیّ أم علی صعید قواعد الفقه السیاسیّ والاجتماعیّ والقضائیّ، وغیره من المجالات.

والمقصود من السیرة فی صدر الإسلام هو سیرة المسلمین قبل وبعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله الجیل الأوّل من المهاجرین والأنصار.

فإنّ هناک فرقاً رئیسیّاً فی محاور وجوانب متعدّدة، یجب الترکیز علیها، وتنبیه عموم المسلمین تجاهها؛ لئلّا ینبذوا شعار سیرة الأوائل، وإن کان تلک الشعارات لم تتنجّز علی صعید الواقع بشکل حقیقیّ تامّ، إلّاأنّه علی الرغم من ذلک فهی تختلف وتتاقطع مع سیرة الأمویّین فی کثیر من المحاور المتعدّدة.

الفروق الرئیسیّة بین السیرة فی صدر الإسلام

وبین سیرة بنی امیّة:

الفارق الأوّل: فی طریق إقامة الحکم:

إنّ شعار سیرة الأوائل للخلافة کان اختیار الحاکم إمّا بالنصّ أو بالشوری، وهو یختلف ویتقاطع کثیراً مع سیرة الأمویّین الذین انتهجوا

ص:254

منهج الملکیّة الوراثیّة للحکم، للاستئثار بالسلطة، مضافاً إلی نهج الاستبداد فی ممارسة الحکم.

ومع الأسف نجد أنّ سیاسة بنی امیّة ونهجهم لا زال موجوداً بعینه وممارساً من قِبل کثیر من أنظمة الدول العربیّة منذ عهد الأمویّین إلی یومنا هذا.

الفارق الثانی: منهج النقد والرقابة للحاکم والحکم:

وهذا الأمر یعدّ من الامور التی سنّها رسول الله صلی الله علیه و آله فی عهده، حیث کان صلی الله علیه و آله یفتح الباب لاعتراض الناس ونقدهم ورقابتهم للولاة الذین ینصّبهم فی البلدان، کما یفتح المجال للشکاوی والاعتراضات التی یبدیها عموم الناس تجاه جهاز الحکم.

فعلی الرغم من عصمته صلی الله علیه و آله عن الخطأ، إلّاأنّه صلی الله علیه و آله أراد من سنّته لذلک هو معاونته ومناصرته فی مراقبة الجهاز البشری للحکم الذی یقوده وما یترتّب علیه من فوائد وثمرات مهمّة نافعة للمسلمین، من قبیل تفاعل الناس مع أنشطة الحکومة والحاکم وقیامهم بالمسؤولیّة، وکذا صیرورة عموم الناس عین مراقبة لاستقامة الذین ینتسبون إلی جهاز الحکم، وغیرها من الفوائد.

وهذه السنّة النبویّة مستمدّة من اصول قرآنیّة، کأصل الشوری والتشاور، لإدارة امورهم الخاصّة بهم دون الامور التی هی من شؤون الباری تعالی، کالنبوّة والإمامة، کما فی قوله تعالی: (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ)

ص:255

(أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ یُطِیعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِکَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ)1 ،) ونحوها من الآیات التی تشارکها فی المضمون ذاته، التی تؤکّد علی أهمّیّة مراقبة الجهاز الحاکم.

وهذا المنهج لم نجده فی سیرة بنی امیّة وبنی العبّاس.

الفارق الثالث: مشروعیّة طاعة السلطان الجائر:

من الواضح أنّ الشریعة الإسلامیّة أکّدت علی عدم جواز طاعة الحاکم الجائر، کما أشارت إلی ذلک جملة من النصوص القرآنیّة والروائیّة المتظافرة، منها:

قوله تعالی: (وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ)2 .

وقوله: (وَ تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ)3.)

وقوله: (وَ لْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)4 .

وعن رسول الله صلی الله علیه و آله، قال: «من رأی منکم سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، یعمل فی عباد الله بالإثم

ص:256

والعدوان، ثمّ لم یغیّر بقول أو فعل، کان حقیقاً علی الله أن یدخله مدخله» (1).

وقال صلی الله علیه و آله: «لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق»(2).

وهذه النصوص الشریفة تحدّد ضوابط طاعة وولایة الحاکم والوالی، والتی من أهمّها هو أن لا تتجاوز طاعة الله وطاعة رسوله، بل فی الحقیقة یستفاد من النصوص الآنفة الذکر عدم ولایة للجائر، وعدم الطاعة له.

وفی قبال هذا الأصل العظیم من قواعد الدین، أسّس بنو امیّة ما یلغی هذا الأصل، وذهبوا إلی وجوب طاعة السلطان وإن کان جائراً، متذرّعین بحجّة أنّ السلطان ظلّ الله فی الأرض.

وأنّ طاعة السلطان واجبة، والخروج علیه مروق من الدین ما لم یظهر الکفر البواح(البیّن).

وقد أخرج السیوطی عدداً من روایاتهم فی هذا المقام، منها:

1 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فمن أکرمه أکرمه الله، ومن أهانه أهانه الله».

2 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، یأوی إلیه کلّ مظلوم من عباده، فإن عدل کان له الأجر وکان علی الرعیّة الشکر، وإن جار أو حاف أو ظلم کان علیه الوزر وکان علی الرعیّة الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزکاة هلکت المواشی، وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسکنة».

ص:257


1- (1) بحار الأنوار: 382/44.
2- (2) من لا یحضره الفقیه: 621/2.

3 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، یأوی إلیه الضعیف، وبه ینتصر المظلوم، ومن أکرم سلطان الله فی الدنیا أکرمه الله یوم القیامة».

4 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فإذا دخل أحدکم بلداً لیس به سلطان فلا یقیمنّ به».

5 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فمن غشّه ضلّ، ومن نصحه اهتدی».

6 - «السلطان ظلّ الرحمن فی الأرض، یأوی إلیه کلّ مظلوم من عباده، فإن عدل کان له الأجر وعلی الرعیّة الشکر، وإن جار وحاف وظلم کان علیه الإصر وعلی الرعیّة الصبر».

7 - «السلطان العادل المتواضع ظلّ الله ورمحه فی الأرض، یرفع له عمل سبعین صدّیقاً».

وغیرها من الروایات(1).

وعلی ضوء ذلک قاموا بإلغاء وتحریم ملفّ المعارضة بکلّ درجاتها، وانتهجوا سیاسة الاستبداد، ومن ثمّ عمدوا إلی تثقیف الامّة علی الخنوع والخضوع والسبات وعدم المشارکة فی تحدید مصیرها.

وقد نجم جرّاء هذه السیاسة أمر خطیر، وهو تجییر وتوظیف علماء الدین کعلماء بلاط السلطة لخدمة سیاساتهم ومصالحهم، بدلًا من أن یکون العلماء حکّاماً علی السلاطین.

ص:258


1- (1) الجامع الصغیر: 69/2 و 70.

ومن ثمّ نتج من ذلک نهجٌ خطیر من تبعیّة بعض من یتسمّون بعلماء الدین، للحکومات والأنظمة، وفقدهم الاستقلالیّة، وهذا أمر خطیر ابتلیت به الامّة، بل هو الطامّة الکبری علی الدین؛ لأنّ العلماء بدل أن یقوموا بمهمّتهم الأساسیّة من حفظ الدین، أصبحوا یحفظون الأنظمة والحکومات ویغیّروا من الدین بما یخدم الحکّام والسلاطین الظلمة.

ومن المؤسف جدّاً هو ما نجده فی عصرنا الحاضر من تبنّی واتّباع نهج بنی امیّة، کما نلمسه من بعض علماء الدین، وتبنّیهم لمشاریع الأنظمة والحکومات فی الأقطار الإسلامیّة لأجل تمریر مخطّطاتهم وأغراضهم السیاسیّة.

ومن أهمّ مخاطر هذه السیاسة هو منح علماء الدین فی بلاط السلطة، المشروعیّة لتبعیّة الأنظمة الإسلامیّة لأعداء الإسلام فی الغرب، ولو علی حساب ثوابت ومصالح الدین الحنیف، وهذا بدوره یشکّل خطراً کبیراً، لأنّه یؤدّی إلی طمس معالم الشریعة والفرائض والواجبات التی یحیی بها الدین.

الفارق الرابع: الموالاة للمسلمین دون الکافرین:

فی الوقت الذی فتح الإسلام المجال للمسلمین للتعاطف والتواصل مع الکافرین الذین لا یتحرّکون بشکل عدوانیّ ضدّ الإسلام والمسلمین بالقتال أو الفتنة، کما فی قوله تعالی: (لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ)1 .

ص:259

إلّاأنّه من جانب آخر شدّدت الشریعة الإسلامیّة علی عدم موالاة الکافرین الذین یتحرّکون بشکل عدوانیّ علی المسلمین، وقد تظافرت النصوص القرآنیّة والروائیّة علی ذلک، کقوله تعالی: (إِنَّما یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ قاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ أَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ وَ ظاهَرُوا عَلی إِخْراجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ)1 .

وقوله: (لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ)2 .

وقوله: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ)3 .

وقوله: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّکُمْ أَوْلِیاءَ)4

الرأی الآخر فی الوحدة و التقریب، ص: 56

(تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ کَفَرُوا بِما جاءَکُمْ مِنَ الْحَقِّ)5 .

وهذه النصوص القرآنیّة تبیّن طبیعة علاقة المسلمین مع الکافرین الذین یکیدون ویخطّطون ضدّ الإسلام، فمثل هذا الصنف من الکفّار لا بدّ أن تکون علاقة المسلمین معهم قائمة علی الحذر والیقظة، ولا یجوز التحالف معهم ضدّ المسلمین، کلّ ذلک لأجل عدم الانهزام والاستسلام أمام الأعداء؛ إذ أنّ طبیعة الموالاة تقتضی النصرة والمتابعة والمودّة لأعداء الدین، مضافاً إلی ما

ص:260

تحمله فی طیّاتها من الذوبان فی هویّة الکافرین وثقافتهم علی حساب الثقافة الدینیّة؛ لأنّ ذلک یؤدّی إلی إضعاف شعار الدین، وبالتالی یتسبّب فی إضعاف ومهانة المسلمین، وسیطرة الکافرین علیهم فی کلّ المجالات، وتمزیق الصفّ الإسلامیّ الواحد، کما فی قوله تعالی: (إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفًّا کَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ)1 التی تؤکّد علی ضرورة ووجوب تراصّ صفوف المسلمین فی مواجهة الأعداء کالبنیان المرصوص الذی لا یمکن فیه الانشقاق والفرقة، لا سیّما وأنّ القتال لا ینحصر بالمواجهة العسکریّة، وإنّما هو شامل لکلّ مجالات المواجهة من الثقافیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة، ونحوها.

وکذلک قوله تعالی: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ)2 التی تؤکّد علی ضرورة تلاحم المسلمین وصمودهم وثباتهم الجماعیّ فی مواجهة الأعداء، وأنّ أساس التعامل بینهم قائم علی أساس التراحم والتعاطف، والالفة والمحبّة.

إلّاأنّ بنی امیّة وبنی العبّاس قد نهجوا منهج الموالاة مع الکافرین ضدّ المسلمین بشکل سافر وواضح فی موالاتهم لأعداء الإسلام، بل وصل الحال عند العبّاسیّین إلی قیام الخلیفة العبّاسی بإغراء المغول والتتر بالهجوم علی شمال طبرستان(شمال إیران) للإطاحة بالدولة الإسماعیلیّة(1).

ص:261


1- (3) من شواهد ذلک: انظر کتاب جوامع التاریخ للهمدانی.

وقد أوغل التتر والمغول فی سفک دماء المسلمین فی کلّ أرجاء مدن إیران، وفی ذلک الوقت قام قاضی القضاة العبّاسی فی بغداد بزیارة سرّیّة إلی المغول فی إیران لإغرائهم بالهجوم علی بغداد أیضاً.

والشیء المؤسف هو ما نلمسه بوضوح من وجود نهج بنی امیّة وبنی العبّاس لدی جملة من حکّام المسلمین فی عصرنا الراهن الذین أعلنوا موالاتهم للکافرین ضدّ المسلمین، علی الرغم من تشدید النهی القرآنی عن ذلک.

الفارق الخامس: استباحة المحرّمات:

وهذه السیاسة تبنّاها بنو امیّة بشکل ملحوظ وواضح، وهی سیاسة ترمی إلی إشاعة المنکرات والفواحش والفجور بین المسلمین، وبشکل رسمیّ معلن، ومدعوم من قِبل السلطات الحاکمة، لأجل تغطیة ممارسة الحکّام لنزواتهم وشهواتهم من دون اعتراض المسلمین، ومن دون أن یخدش ذلک بصلاحیّتهم فی الحکم.

وقد أشار إلی هذا النهج، الإمام الحسین وسیّد شباب أهل الجنّة علیه السلام حینما قال: «یزید شارب الخمور، ورأس الفجور، یدّعی الخلافة علی المسلمین، ویتآمر علیهم بغیر رضی منهم، مع قصر حلم، وقلّة علم، لا یعرف من الحقّ موطئ قدمیه، فاقسم بالله قسماً مبروراً، لجهاده علی الدین أفضل من جهاد المشرکین»(1).

وهذا النهج نجده الیوم بشکل واضح، مکرّس لدی الحکومات فی

ص:262


1- (1) اللهوف فی قتلی الطفوف: 26 و 27.

بلاد المسلمین، وهی سیاسة مدروسة من قِبل أعداء الإسلام؛ لأجل تمزیق المسلمین وإبعادهم عن دینهم الذی هو مصدر قوّتهم وعزّتهم، ومن ثمّ یفسح المجال لهم للسیطرة علی مقدّرات البلاد الإسلامیّة.

القاعدة الرابعة: مودّة أهل البیت علیهم السلام ضرورة إسلامیّة

لقد أضاء القرآن الکریم هذه الحقیقة من خلال قوله تعالی:

(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)1 الذی یصرّح بوجوب مودّة أهل البیت علیهم السلام الذین هم أصحاب الکساء والتسعة المعصومین من ذرّیّة الحسین علیهم السلام.

ومن الجدیر بالذکر أنّ مودّة أهل البیت علیهم السلام بدیهیّة ومن الضرورات الإسلامیّة، لأنّ القرآن الکریم بکلّ آیاته یعدّ من الضرورات الإسلامیّة.

فعلی أیّ تفسیر من التفاسیر التی ذکرت فی تفسیر قوله تعالی:

(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)2 ، فإنّ أصحاب الکساء والتسعة المعصومین علیهم السلام هم القدر المتیقّن من عنوان القربی للنبیّ صلی الله علیه و آله، فسواء ارید من ذلک بطون قریش أو فخوذ بنی هاشم، إذ أنّ مفاد الآیة یدلّ علی أنّ مناط المودّة هی القربی للنبیّ صلی الله علیه و آله.

ومن الواضح أنّ درجة القربی کلّما کانت أوثق وأقرب کلّما کانت المودّة أشدّ وأوثق، وکان هو القدر المتیقن به من مفاد الآیة، وعلی ذلک یکون

ص:263

أصحاب الکساء هم الدائرة المرکزیّة فی مفاد الآیة المبارکة.

مضافاً إلی أنّ القرآن الکریم قد بیّن مصادیق أهل البیت بشکل واضح، کما فی قوله تعالی: (إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)1 ، ولم یقتصر الدلیل علی مستوی النصوص القرآنیّة فحسب، بل هناک عدد وافر من الروایات الواردة من طرق الفریقین، التی تؤکّد هذا المضمون، کحدیث الثقلین، والسفینة، ونحوهما.

وقد أجمع المفسّرون علی أنّ المقصود من القربی هم أهل البیت علیهم السلام.

کما صرّح جملة من مفسّری العامّة بأنّ المراد من قربی النبیّ صلی الله علیه و آله هم علیّ وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام.

حیث أخرج الطبرانی وغیره فی تفسیر هذه الآیة بالإسناد إلی ابن عبّاس، قال: «لمّا نزلت هذه الآیة(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) قالوا: یا رسول الله، مَن قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودّتهم؟ قال صلی الله علیه و آله: علیّ وفاطمة وولداهما»(1).

وقال الهیثمی: رواه الطبرانی وفیه جماعة ضعفاء، وقد وثّقوا(2).

وأخرج ابن حنبل فی(الفضائل): عن ابن عبّاس، قال: «لمّا نزلت(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) قالوا:

ص:264


1- (2) المعجم الکبیر: 47/3.
2- (3) مجمع الزوائد: 266/9.

یا رسول الله، من قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودّتهم؟

قال: علیّ وفاطمة وابناهما»(1).

وأخرج الطبرانی بسنده عن ابن الطفیل: «أنّ الحسن(کرّم الله وجهه) قال فی خطبته:... أنا من أهل البیت الذین افترض الله مودّتهم علی کلّ مسلم، فقال لنبیّنا: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً) ، واقتراف الحسنة مودّتنا أهل البیت»(2).

وروی الحدیث، الهیثمی فی (مجمع الزوائد)، وعلّق علیه قائلًا: «رواه الطبرانی فی الأوسط والکبیر باختصار...، وأبو یعلی باختصار، والبزّار وأحمد ونحوه...، وأسناد أحمد وبعض طرق البزّار والطبرانی فی الکبیر، حسان»(3).

وأورده ابن حجر الهیتمی فی صواعقه، وقال: «وأخرج البزّار والطبرانی عن الحسن رضی الله عنه من طرق بعضها حسن»(4).

وأخرج مسلم فی صحیحه عن سعید بن جبیر: أنّه سئل عن قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی، فقال سعید بن جبیر: قربی آل محمّد علیهم السلام(5).

وممّا یشهد علی ذلک، ما أخرجه الحاکم بسنده إلی أبی هریرة، قال: «نظر

ص:265


1- (1) فضائل الصحابة: 669/2.
2- (2) المعجم الأوسط: 337/2.
3- (3) مجمع الزوائد: 146/9.
4- (4) الصواعق المحرقة: 259.
5- (5) صحیح مسلم: 1819/4.

النبیّ صلی الله علیه و آله إلی علیّ وفاطمة والحسن والحسین، فقال:

أنا حرب لمن حاربکم، وسلم لمن سالمکم».

قال الحاکم: هذا حدیث حسن، وأقرّه الذهبیّ علی ذلک فی التلخیص(1).

وقال الزمخشری: «وروی أنّها لمّا نزلت قیل: یا رسول الله، مَن قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودّتهم؟ قال: علیّ وفاطمة وابناهما.

ثمّ قال: ویدلّ علیه ما روی عن علیّ رضی الله عنه: شکوت إلی رسول الله صلی الله علیه و سلم حسد الناس لی، فقال: أما ترضی أن تکون رابع أربعة: أوّل من یدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسین، وأزواجنا عن أیماننا وشمائلنا، وذرّیتنا خلف أزواجنا.

وعن النبیّ صلی الله علیه و سلم: حرّمت الجنّة علی من ظلم أهل بیتی وآذانی فی عترتی...»(2).

وقال القرطبی: «وقیل: القربی: قرابة الرسول صلی الله علیه و سلم أی لا أسألکم أجراً إلّاأن تودّوا قرابتی وأهل بیتی کما أمر بإعظامهم ذوی القربی.

وهذا قول علیّ بن حسین، وعمرو بن شعیب، والسدّی.

وفی روایة سعید بن جبیر، عن ابن عبّاس: لمّا أنزل الله عزّ وجلّ: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) قالوا: یا رسول الله، مَن هؤلاء الذین نودّهم؟

ص:266


1- (1) المستدرک علی الصحیحین: 149/3، وقد أخرج هذا الحدیث ابن حبّان فی صحیحه: 434/15.
2- (2) الکشّاف: 1156/1.

قال: علیّ وفاطمة وأبناؤهما.

ویدلّ علیه أیضاً ما روی عن علیّ رضی الله عنه، قال: شکوت إلی النبیّ حسد الناس لی، فقال: أما ترضی أن تکون رابع أربعة: أوّل مَن یدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسین، وأزواجنا عن أیماننا وشمائلنا، وذرّیّتنا خلف أزواجنا» الخبر(1).

وقد حثّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله علی حبّهم وجعل محبّتهم دلیلًا علی محبّته صلی الله علیه و آله.

فقد روی الحاکم بإسناده إلی ابن عبّاس، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: أحبّوا الله لما یغدوکم به من نعمه، وأحبّونی لحبّ الله، وأحبّوا أهل بیتی لحبّی»(2).

وقال العینی وابن حجر فی معنی الحدیث: «أی: إنّما تحبّونهم لأنّی أحببتهم بحبّ الله تعالی لهم، وقد یکون أمراً بحبّهم؛ لأنّ محبّتهم لهم تصدیق لمحبّتهم للنبیّ صلی الله علیه و سلم»(3).

وقال القرطبی فی معرض حدیثه عن حدیث الثقلین: «وهذه الوصیّة، وهذا التأکید العظیم یقتضی وجوب احترام أهله وإبرارهم، وتوقیرهم ومحبّتهم، وجوب الفروض المؤکّدة التی لا عذر لأحد فی التخلّف عنها، هذا مع ما علم من خصوصیّتهم بالنبیّ صلی الله علیه و آله وبأنّهم جزء منه، فإنّهم اصوله التی نشأ منها، وفروعه التی نشأوا عنه کما قال: «فاطمة بضعة منّی»(4).

وقال ابن کثیر فی تفسیره: «ولا ننکر الوصایة بأهل البیت، والأمر

ص:267


1- (1) تفسیر القرطبی: 20/16.
2- (2) المستدرک: 150/3، وقال: «حدیث صحیح الإسناد»، ووافقه الذهبی. التاریخ الکبیر: 183/1.
3- (3) عمدة القارئ: 222/16. فتح الباری: 79/7.
4- (4) فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: 20/3.

بالإحسان إلیهم واحترامهم وإکرامهم، فإنّهم من ذرّیّة طاهرة من أشرف بیت وجد علی وجه الأرض، فخراً وحسباً ونسباً، ولا سیّما إذا کانوا متّبعین للسنّة النبویّة الصحیحة، الواضحة، الجلیّة، کما کان علیه سلفهم، کالعبّاس وبنیه، وعلیّ وأهل بیته وذرّیّته»(1).

فالمودّة لأهل البیت علیهم السلام تعتبر ضرورة قرآنیّة عند کلّ مسلم، ومن أنکر هذه الضرورة أنکر آیة من آیات الذکر الحکیم، الذی اتّفق المسلمون علی ضرورته وتواتره، فالإنسان مسلم وإن أنکر الدرجة العلیا من ولایة أهل البیت علیهم السلام - وهی الإمامة - ووجوب اتّباعهم وطاعتهم، إلّاأنّه لا ینکر مودّتهم ومحبّتهم التی أکّدها القرآن الکریم، فإنّه یبقی علی الإسلام ولا یکون کافراً.

نعم، الذی أنکر هذه المودّة والمحبّة التی هی ضرورة قرآنیّة وإسلامیّة، یکون کمن أنکر ضرورةً من ضروریّات الإسلام، وهو موجب للکفر فی حالة العلم بأنّه ضرورة إسلامیّة، ومن ثمّ یکون إنکاره موجباً لتکذیب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والقرآن الکریم.

إذن، مودّة ومحبّة أهل البیت علیهم السلام درجة من درجات الولایة، وهی من ضروریّات المسلمین کافّة، وضرورة قرآنیّة، وقد حثّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله المسلمین علی الالتزام بها، کما تقدّم.

وعلی هذا الأساس، فکلّ مسلم لا یؤمن بإمامة أهل البیت علیهم السلام ولم

ص:268


1- (1) تفسیر القرآن العظیم: 122/4.

ینکر مودّتهم فهو مسلم، لکنّه لیس شیعیّاً إمامیّاً اثنی عشریّاً.

إذن، أصل المودّة بالمعنی العامّ لأهل البیت علیهم السلام یعدّ من الضروریّات القرآنیّة والإسلامیّة.

هذا مضافاً إلی جملة الآیات النازلة فی فضائل ومناقب أصحاب الکساء، کآیة المباهلة، وآیة التصدّق بالخاتم، وآیة المبیت، وآیة السبق بالإیمان والهجرة، وآیة مفاضلة الإیمان والجهاد علی سقایة الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، ونحوها من الآیات والروایات الشریفة التی تدلّ بوضوح علی أنّ لعلیّ وفاطمة والحسنین علیهم السلام مقاماً وفضائل فی الدین الحنیف والشرع المبین، وأنّهم یجب أن یعظَّموا ویجلُّوا، ولهم حرمة واحترام بمقتضی تلک الفضائل وبحسب درجتها.

فالمساس بتلک الکرامة والحرمة والمکانة لهم، تمثّل تجاوزاً علی المقدّسات القرآنیّة والإسلامیّة.

وعلی هذا یجب علی جمیع المسلمین تشیید هذا الأصل وترویجه والتربیة علیه، لأنّه یکون سبباً للُالفة فیما بینهم، إذ مقتضی وجود المشترکات، هو وجود صیغة الوحدة والاتّحاد علی ضوء تلک المشترکات.

القاعدة الخامسة: ضرورة تنقیح مصادر التراث الإسلامی:

من القواعد المقرّرة فی تعالیم الدین هی قاعدة اشتراط الأمانة والعدالة فیمن یؤخذ عنه، سواء کان راویاً أو فقیهاً أو صاحب سیرة أو مفسّراً للقرآن أو محدّثاً أو حافظاً جامعاً للحدیث، أو من أرباب الجرح والتعدیل، أو تابعیّاً

ص:269

یؤثر عنه جملة من الآثار فی أبواب الدین.

وهذه القاعدة من القواعد المهمّة فی الدین، وقد قرّرها الکتاب والسنّة والعقل، فمن الکتاب قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ)1 ، وهی واضحة الدلالة فی التحذیر من الأخذ بقول الفاسق فی الموضوعات، فضلًا عن النقل لأحکام الدین، وکذا ما یبلّغه من أحکام الشریعة.

وکذا قوله تعالی: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا یُشْرِکُونَ)2 ، وهی تدلّ علی ذمّ القرآن الکریم لأحبار الیهود والنصاری الذین اشتروا بآیات الله ثمناً قلیلًا، وحرّفوا ما أنزل الله تعالی من البیّنات، وقد ذمّ الله تعالی عوامّ الیهود والنصاری لأخذهم عن علمائهم الذین باعوا دینهم بدنیاهم.

ومن الروایات الدالّة علی ذلک، قوله صلی الله علیه و آله: «کثرت علَیَّ الکذّابة...»(1).

أمّا حکم العقل والفطرة، فهما قاضیان بقبح الاعتماد علی من لا یؤمَن علی الدنیا، فضلًا عن الدین.

أمّا شرطیّة العدالة فیمن یؤخذ عنه الدین، فمن أبرز مقوّماتها الإیمان بالله ورسوله وبما جاء به من عنده تعالی والیوم الآخر، والعمل بالواجبات

ص:270


1- (3) الکافی: 62/1.

وترک المحرّمات، والأخذ بمقرّرات القرآن والسنّة.

مودّة أهل البیت علیهم السلام من جملة مقوّمات العدالة

من الواضح أنّ مودّة أهل البیت علیهم السلام وترک العداء لهم من أهمّ مقوّمات العدالة، وقد دلّ علی ذلک عدد من النصوص القرآنیّة، کقوله تعالی: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) - کما تقدّم - مضافاً إلی عدّة من النصوص القرآنیّة الدالّة بوضوح علی لزوم مدح وتعظیم وإجلال أهل البیت علیهم السلام، کما فی آیة المباهلة، التطهیر، وسورة الدهر، ونحوها، التی ترسم للمسلمین منهجاً تعلیمیّاً، وتبنی وصیّة قرآنیّة علی حبّ أهل البیت وإجلالهم.

وعلی هذا، فإنّ عدم الموالاة لأهل البیت علیهم السلام فضلًا عن العداء لهم علیهم السلام یعدّ من موجبات الفسق التی تخلّ بعدالة کلّ من یؤخذ عنه الدین، سواء کان راویاً أم غیره.

إذن من شرائط من یؤخذ عنه الدین هو مودّة أهل البیت علیهم السلام وترک العداء لهم.

وعلی هذا الأساس، تتّضح ضرورة تنقیح التراث الإسلامیّ وفق هذه القاعدة، وهی اشتراط العدالة المتقوّمة بمودّة أهل البیت علیهم السلام وترک مناوءتهم.

ومن هنا یتّضح لزوم الفحص والتنقیب عن سیرة وسلوک وموقف کلّ من یؤخذ عنه الدین - تجاه أهل البیت علیهم السلام وفضائلهم وذکرهم - ونبذ کلّ من کان متحاملًا ومبغضاً وناصباً للعداء لأهل البیت علیهم السلام، سواء فی سیرته أو أقواله وکلماته، فلا یجوز الاعتداد بمثل هؤلاء بقول أو رأی، ولا یحتجّ بهم فی

ص:271

الدین.

وعلی هذا الأساس ینبغی الاجتناب أیضاً عن کلّ من یتبنّی مقالة فاسدة تسالم المسلمون علی بطلانها، کما هو الحال فی المجسّمة والمجبّرة؛ لأنّ التبنّی لمقالة تسالم المسلمون علی فسادها، یعدّ من موجبات الفسق.

اسس نظام الوحدة الاسلامیة وضماناتها:

اشارة

لعلّ التجدید لإحیاء عدالة الدین والإصلاح فی مدرسة ونهج أهل البیت علیهم السلام سبق زمانه، فإنّ اطروحته الإصلاحیّة کانت تختلف عن اتّجاهات الإصلاح، وتیّاراته المعاصرة له، سواء الدینیّة أو القومیّة العربیّة، أو التحرّریّة الوطنیّة، فإنّ مجموع أنشطته الرائدة واتّصالاته وخطاباته، تعطی انطباعاً أنّه انفتح علی:

1 - حوار الأدیان.

2 - حوار المذاهب.

3 - حوار الدول والنُّظُم، وهی أعمدة العولمة الحدیثة، کما أنّ مبادئه التی کان ینطلق منها، هی:

1 - الصلح والأمن.

2 - الکرامة الإنسانیّة.

3 - الاصول الأخلاقیّة العامّة المشترکة فی الفطرة البشریّة.

فهناک سمة ملحوظة فی نهج مدرسة أهل البیت علیهم السلام أنّه امتاز عن بیئة

ص:272

الحرکات الإصلاحیّة الوطنیّة، والقومیّة، والعربیّة، والشیوعیّة، حیث کان یطرح محاور هی أقرب شیء من عولمة العدالة والمساواة، وودة النظام العالمی، فقد کان أسبق من زمانه، والسرّ فی ذلک هو نبع أفکاره من تسویة البشر فی العبودیّة لله تعالی.

فإذا أردنا أن ندرس هذه المعالم فی هذه المدرسة الإلهیّة التی صبغت الحرکة الإصلاحیّة، فعلینا أن نقرأ بعض المحاور المهمّة المعلمیّة الموهّلة لهذه المدرسة، للریادة فی الإصلاح، والوحدة فی افق السلام والعدل والتوحید، وذلک عبر اسس:

الأوّل: ضمان الوحدة:

ولو مع القناعة المخالفة القطعیّة التی هی فوق الاجتهاد، وذلک أنّ الکثیر من اطروحات التقریب الوحدویّة بین المذاهب والنِّحل تبنی وحدتها فی ظلّ أنّ القناعات ظنّیّة واجتهادیّة وقابلة للصواب والخطأ، أومحدودة؛ إذ أنّ هناک جدلیّة تقول بأنّه مع التعایش فلا یفتح باب الحوار، وأنّه مع الحوار لا تعایش؛ لأنّ الحوار یعدم التعایش، والتعایش یعدم الحوار. إذن الحوار مصدر تشنّج وفتنة، ومع الظنّیّة فلا تقاطع مع القناعات الاخری، فلا تضمن الوحدة الالفة بین الجماعات المختلفة لو کانت القناعات قطعیّة فی أنظار المقتنعین بها، فلم یعطوا ضمانة للوحدة والتعایش والالفة المدنیّة لو کانت القناعة غیر ظنّیّة فی رؤیة صاحب المذهب أو النِّحلة المعیّنة، وکانت یقینیّة فی تصوّره، کما أنّهم لم یعطوا البناء الرصین للوحدة والالفة التعایشیّة لو کانت تترتّب علی قناعته النجاة أو الهلاک

ص:273

الاخرویّ، ولو حسب زعمه وتصوّراته.

بینما یؤمن نهج أهل البیت علیهم السلام ویعطی الضمانة بحقن الدماء رغم ذلک، والتعایش الالفویّ المدنیّ، ولو کان الاختلاف فی البنی القطعیّة فی رؤی الأنظار وبزعم البرهان والضرورة. وهذا ما لا نجده مضموناً ومتوفّراً فی أی مذهب أو نحلة اخری؛ ذلک لأنّ الدم الإنسانیّ ولو مع اعتناقه الأباطیل، محقون عن القتل والسفک إلّامع عدوانه وإقدامه علی المواجهة المسلّحة. وأمّا الجهاد الابتدائی، فإنّه لأسلمة النظام السیاسیّ لا الإجبار علی أسلمة العقائد. أی لأسلمة النظام العادل لإنقاذ المستضعفین والمضطهدین، وأکبر شاهد علی هذه القاعدة فی ضرورة مدرسة أهل البیت علیهم السلام أنّ الأسیر لا یقتل بعد وضع الحرب أوزارها وتوقّف الاقتتال، ولو کان وثنیّاً. وهذا الحکم هو تفسیر آیات الأسیر عندهم، وهو ممّا یدلّ علی أنّ الدم الإنسانیّ ممنوع عن سفکه إلّامع عدوانه المسلّح. وهذا ما لا نجده فی المذاهب الإسلامیّة الاخری. بینما نجده فی سیرة علیّ علیه السلام مع مناوئیه أیضاً. وهذه مفارقة عظیمة فی المسار بین مدرسة أهل البیت علیهم السلام والمدارس الاخری، وهو ممّا یؤهّلها لحمل ریادة العولمة المتّحدة الإنسانیّة.

الثانی: العدالة والعدل:

فإنّ من الاسس الضروریّة التی تبتنی علیها الوحدة؛ العدل کما قالت الزهراء علیها السلام فی خطبتها: «بالعدل تنسیق القلوب»(1) ، أی أنّ القلوب

ص:274


1- (1)

لا تتناسق بالوحدة ولا تتّسق، ولا یوجد بینها نسق واحدٍ والفة إلّابالعدل، فإنّه مع الظلم لا یرجی الوئام، بل هو منشأ التشاحن والتدافع والتحارب. والغرابة ممّن یتصوّر بنحو معکوس، وأنّه لأجل الوحدة یلزم أن نفدی ونضحّی بالعدل.

إنّ التأکید علی الوحدة یسدّ الطریق علی المطالبة بالعدل والإنصاف فی الحقوق المدنیّة التعایشیّة، والحال أنّه یجب لأجل الوحدة أن نقیم العدل لا أن نغمض الطرف عنه، ولا یسوغ باسم الوحدة بین الأدیان أو المذاهب، مصادرة الحقوق الإنسانیّة، أو التهمة والطعن بالطائفیّة علی من یناشد حقوقه، أو الرمی بالتعصّب علی المطالبة بالاستحقاقات، ولا تدافع بین الوحدة والمطالبة بالعدالة بین الطوائف والمذاهب، فالوحدة مبنیّة علی العدل والعدالة، ولا تبنی علی الحیف والبخس لأحد الطرفین علی الآخر.

إذا اتّضحت أهمّیّة العدل، فلا بدّ من الالتفات إلی أنّ مدرسة أهل البیت علیهم السلام قد جعلت من العدل أصلًا، ومن اصول الدیانة، وهو مؤشّر لمدی أهمّیّته علی حذو بقیّة اصول الدین، ممّا یجعل هذا النهج هو المؤهّل لریادة الوحدة البشریّة.

والعدل ضامنٌ أساس لاستمرار الوحدة وبقائها، وقد أنبأ القرآن الکریم بهذه الخصوصیّة الریادیّة لأهل البیت علیهم السلام من أنّهم الوحیدون المؤهلّون لإقامة الوحدة البشریّة دون غیرهم، أنبأ بذلک فی ملحمة قرآنیّة فی قوله تعالی: (ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ

ص:275

مِنْکُمْ)1 ، فبیّنت الآیة أنّ أموال الأرض وثرواتها، المعبّر عنها بالفیء، هو بید الله وبید رسوله وذی القربی تدبیره وإدارة صرفه علی الطبقات المحرومة، وأنّ العلّة فی إسناد الصلاحیّة والولایة لهم، هو إقامة العدل فی الأرض لکی لا تکون ثروات الأرض دولةً متداولةً فی حکر الأغنیاء والاقطاعیّین، فالآیة تنبأ عن ملحمة، وهی أنّ العدالة لم ولن ولا تقام فی الأرض إلّاعلی ید قربی النبیّ صلی الله علیه و آله، وبالتالی فلن تکون هناک وحدة بشریّة ینعم بها البشر، إلّابأهل البیت علیهم السلام.

الثالث: تقدیس جمیع الأنبیاء علیهم السلام:

بأعلی مکانة من تقدیس أتباعهم لهم، فإنّ فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام ینزّه الأنبیاء عن الصغائر، فضلًا عن الکبائر، ولا یوجد نِحلة أو مذهب ینزّههم بهذه الدرجة، فینزّه موسی علیه السلام بأنزه ممّا ینسبه إلیه الیهود، وینزّه عیسی ومریم بأنزه ممّا ینزّههما النصاری، وهکذا الحال فی آدم، ونوح، وإبراهیم، وإسماعیل، وإسحاق، ویعقوب، ویوسف، ویحیی، وبقیّة الأنبیاء علیهم السلام، فیعظم جمیع رموز الدیانات الإلهیّة والسماویّة.

وهذا ما لا تجده فی المذاهب الإسلامیّة الاخری ولا فی أتباع الدیانات. فهذه خصیصة فریدة فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام مؤهلّة لریادتها للوحدة الأدیانیّة.

ص:276

الرابع: إنّ الوحدة لا تتمّ إلا بالمحبّة والمودّة:

وإلّا کیف یتصوّر وحدة والفة بدون محبّة ومودّة، وقد جعل القرآن محور وقطب المحبّة والمودّة هو أهل البیت علیهم السلام ومودّتهم فی قوله تعالی: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)1 ، فالقرآن یسطّر ملحمة ونبوءة أنّه لم ولن ولا تتحقّق مودّة تأتلف علیها البشریّة إلّا بمحوریّة المودّة فی أهل البیت علیهم السلام، فقال تعالی: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی، ولم یقل: «إلّا مودّة القربی»، أی جعل أجر الرسالة بحصر المودّة المرکزیّة المحوریّة فی أهل البیت علیهم السلام، فالمجیء بلفظة فِی *) یعطی مفاد الحصر أنّ الآیة فی صدد أصل افتراض مودّتهم، بل فی مورد حصر المودّة العلیا بهم.

یقول أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام فی بیان أهمّیّة مودّتهم لحصول الالفة، وبالتالی الوحدة والقوّة والتقدّم التمدّنی:

«فاعْتَبِرُوا بِحالِ وَلَدِ إِسْماعِیلَ وَبَنی إِسْحاقَ وَبَنی إِسْرائِیلَ عَلَیْهِمُ السَّلَامُ. فَما أَشَدَّ اعْتِدالَ الْأَحْوالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِباهَ الْأَمْثالِ!

تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فی حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، لَیالِیَ کَانَتِ الْأَکاسِرَةُ والْقَیاصِرَةُ أَرْباباً لَهُمْ، یَحْتازُونَهُمْ عَنْ رِیفِ الْآفاقِ، وَبَحْرِ الْعِراقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْیا، إِلَی مَنابِتِ الشِّیحِ، وَمَهافی الرِّیحِ، وَنَکَدِ الْمَعاش، فَتَرَکُوهُمْ عالَةً مَساکِینَ إِخْوانَ دَبَرٍ وَوَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ داراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لَایَأْؤونَ إِلَی جَنَاحِ دَعْوَةٍ یَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلَا إِلَی ظِلِّ أُلْفَةٍ یَعْتَمِدُونَ عَلَی عِزِّهَا. فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالْأَیْدِی

ص:277

مُخْتَلِفَةٌ، والْکَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ؛ فی بَلَاءِ أَزْلٍ، وَأَطْباقِ جَهْلٍ! مِنْ بَناتِ مَوْؤُودَةٍ، وَأَصْنامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغارَاتٍ مَشْنُونَةٍ.

فانْظُرُوا إِلَی مَواقِعِ نِعَمِ الله عَلَیْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَیْهِمْ رَسُولًا، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَی دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ؛ کَیْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَیْهِمْ جَناحَ کَرامَتِها، وَأَسالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِیمِها، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فی عَوَائِدِ بَرَکَتِها، فَأَصْبَحُوا فی نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ، وَفی خُضْرَةِ عَیْشِهَا فَکِهِینَ. قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ، فی ظِلِّ سُلْطانٍ قاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْحالُ إِلَی کَنَفِ عِزٍّ غالِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَیْهِمْ فی ذُرَی مُلْکٍ ثابِتٍ. فَهُمْ حُکّامٌ عَلَی الْعالَمِینَ، وَمُلُوکٌ فی أَطْرافِ الْأَرَضِینَ. یَمْلِکُونَ الْأُمُورَ عَلَی مَنْ کانَ یَمْلِکُها عَلَیْهِمْ، وَیُمْضُونَ الْأَحْکامَ فِیمَنْ کانَ یُمْضِیها فِیهِمْ! لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَناةٌ وَلَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفاةٌ!

أَ لَاوَإِنَّکُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَیْدِیَکُمْ مِنْ حَبْلِ الطّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَ الله الْمَضْرُوبَ عَلَیْکُمْ، بَأَحْکَامِ الْجَاهِلِیَّةِ. فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَی جَماعَةِ هذِهِ الْأُمَّةِ فِیَما عَقَدَ بَیْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتی یَنْتَقِلُونَ فی ظِلِّها، وَیَأْوُونَ إَلَی کَنَفِهَا، بِنِعْمَةِ لَایَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الَمخْلُوقِینَ لَهَا قِیمَةً، لِأَنَّها أَرْجَحُ مِنْ کُلِّ ثَمَنٍ، وَأَجَلُّ مِنْ کُلِّ خَطَرٍ.

واعْلَمُوا أَ نَّکُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْراباً، وَبَعْدَ الْمُوالَاةِ أَحْزاباً.

ما تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِیمانِ إِلَّا رَسْمَهُ»(1)) .

فهو یشیر إلی أنّ الفة الامّة لا تتمّ إلّابهم علیهم السلام وبموالاتهم،

ص:278


1- (1) نهج البلاغة: الخطبة 192. من خطبته علیه السلام المسمّاة بالقاصعة.

وإلّا فیؤول حال الامّة إلی التشتّت أحزاباً، وإلی التعرّب، وأنّ الهجرة عن التعرّب لا تتحقّق إلّابالتعلّق بمودّتهم وموالاتهم علیهم السلام.

ومن کلّ ما مرّت الإشارة الیه یتبیّن أنّه لا توجد بوتقة جامعة للوحدة، وبیئة ململمة لوحدة الصفّ الإنسانیّ أجمع، کمدرسة أهل البیت علیهم السلام، فلو أجرینا مقارنة لا بهدف التعصّب الطائفی والأدیانی، فلا نجد هذه الخصائص والاسس لإرساء صرح الوحدة فی الأدیان الاخری، لعدم اعترافها بالنبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله کما لا نجدها فی المذاهب الإسلامیّة لعدم خطورة أصل العدالة والعدل(حقوق الإنسان) لدیهم، ولعدم إمکان الملاءمة عندهم بین القناعة الضروریّة القطعیّة، وبین حقن الدماء(الکرامة الإنسانیّة والصلح والأمن)، سواء مع الملل الاخری أو مع المذاهب الإسلامیّة الاخری، وهذا بخلاف الحال فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام، وغیرها من الفوارق التی مرّت الإشارة إلیها. ومنه یتّضح أنّ الضمانة الوحیدة للوحدة، وهی العولمة الصحیحة فی النظام البشریّ لا توجد إلّافی هذه المدرسة، فلا إقامة لُاصول شعارات البشریّة العصریّة من دون هذه المدرسة، ویظهر أنّ العولمة الوحدویّة الإنسانیّة الحدیثة لا تجد بیئتها إلّافی مدرستهم علیهم السلام.

ص:279

ص:280

الفصل الثانی: فی نظام التقریب والحوار والاتحاد

اشارة

التقریب هو عملیّة فتح باب الحوار والمداولة الفکریّة بصورة مستمرّة، وعدم سدّ باب الحوار فی جمیع الظروف، لأجل توسعة دائرة الوفاق الفکریّ، وتقلیص دائرة الاختلاف والتفرّق.

وقد یعرّف التقریب أنّه نظام تقنین وترسیم للحقوق.

ومن أهمّ نتائج التقریب هو الاتّحاد، والوصول إلی محاور فکریّة مشترکة.

هل الاختلافات بین المذاهب الإسلامیّة: هی اختلافات ظنّیّة؟

من الملاحظ أنّ جملة من دعاة الوحدة الإسلامیّة من الفرق والمذاهب الإسلامیّة المختلفة، ومن باب الحرص منهم علی حقن الدماء والحفاظ علی الوحدة فیما بین المسلمین، وحذراً منهم علی عدم وقوع التکفیر بین فرق المسلمین، ذهبوا إلی أنّ کلّ الاختلافات المذهبیّة العقدیّة - فضلًا عن الأحکام الفرعیّة - مبنیّة علی اجتهادات واستنباطات ظنّیّة، وتأویلات استظهاریّة، فالمذهبیّة والتمذهب، رؤیة ظنّیّة، وفهم اجتهادیّ عند جملة من روّاد الوحدة والتقریب.

فأصل المذهبیّة عندهم مبنیّ علی الظنّ، وقد تابع آخرون هذا التنظیر والتأطیر لهذه القاعدة، وذهبوا إلی أنّ الاختلاف بین الإمام علیّ علیه السلام والطرف

ص:281

الآخر، هو اختلاف فی فهم الإسلام لیس إلّا.

وعلی أساس هذه القاعدة، قالوا: إنّ الاختلاف ما دام ظنّیّاً، فهو لا یهدّد الوحدة، بخلاف ما لو کان الاختلاف قطعیّاً بحسب قناعة المختلفین؛ إذ الاختلاف القطعیّ مستلزم للتکفیر؛ وذلک لأجل إخراج من یخالف القطعیّ عن دائرة الإسلام.

ومن ثمّ اعترض غیر واحد من المذاهب الإسلامیّة علی علماء الإمامیّة، لا سیّما من یتبنّی منهم شعار الوحدة بین المسلمین، بأنّ الدعوة إلی الوحدة والالتزام بها لا ینسجم مع القول بأنّ إمامة أهل البیت علیهم السلام من اصول الدین الاعتقادیّة، وأنّ أدلّتها لیست قطعیّة بتنصیص الوحی الإلهیّ، لأنّ ذلک یستلزم خروج بقیّة فِرق المسلمین عن الإسلام، حسب وجهة النظر الشیعیّة.

الأسباب وراء القول بأنّ: الاختلافات بین المذاهب اجتهادات ظنّیّة.

إنّ هذا التصوّر والتنظیر بقواعد نظام الدین والمذهب، وتبنّی الوحدة الإسلامیّة، ناشئ من عدم التنقیح العمیق للقواعد الدینیّة الشرعیّة المشترکة المتّفق علیها بین مذاهب المسلمین، ولعدم التفطّن لقواعد المعرفة الدینیّة المتّفق علیها بین المسلمین أیضاً.

فمن الواضح أنّه لیس کلّ اختلاف قطعیّ یترتّب علیه الحکم بکفر المخالف لذلک الأمر القطعیّ؛ لأنّ الخروج عن الإسلام إنّما یکون بإنکار الشهادتین، وإنکار الضروریّ المتّفق علیه بین المسلمین من دون شبهة فی

ص:282

البین، فإنّ هذه الضابطة متّفق علیها بین المحقّقین من علماء المذاهب الإسلامیّة، ولا یعتنی بالشذّاذ منهم، کما مرّ تنقیح ضابطة الکفر فیما سبق.

وعلی ضوء ذلک، فإنّ مجرّد الاختلاف القطعیّ، بل الیقینیّ، لا یترتّب علیه الحکم بردّة أو کفر المخالف لذلک الأمر المتیقّن، إذ لیس کلّ أمر قطعیّ أو یقینی شرطاً فی تحقّق الإسلام.

فإذا اتّضحت هذه القاعدة المهمّة، یتّضح علی ضوئها القول بأنّ الاختلافات المذهبیّة، وإن کانت مبنیّة علی قناعات قطعیّة عند کلّ أصحاب المذاهب، إلّاأنّها لا توجب هدم أساس الوحدة بین المسلمین.

ولا ربط للاختلافات القطعیّة بین المذاهب الإسلامیّة بالحکم بالإسلام وعدمه کما تقدّم، فیمکن أن یکون الاختلاف بین مذهب وآخر اختلاف قطعیّ لا ظنّی، ومع ذلک یحکم بإسلامهما معاً.

فلیس السبیل إلی إرساء الوحدة الإسلامیّة وتشییدها والمحافظة علی بنیتها، متوقّفاً علی القول بأنّ الاختلافات المذهبیّة اختلافات ظنّیّة، بل نظام الوحدة یتلاءم مع الاختلافات فی الرؤی والقناعات القطعیّة والیقینیّة.

ومن ثمّ لا تنافی بین تبنّی أیّ مذهب من المذاهب الإسلامیّة أمراً، کأصل اعتقادیّ قطعیّ یمتاز به عن المذاهب الإسلامیّة الاخری التی تتبنّی اصولًا اعتقادیّةً اخری تتبنّی قطعیّات ویقینیّات وضرورات مذهبیّة اخری تمتاز بها، فإنّ ذلک لا یصدّع الاصول الاعتقادیّة المشترکة التی یبتنی علیها ظاهر الإسلام، فکما أنّ الإمامیّة تتبنّی إمامة أهل البیت علیهم السلام کأصل اعتقادیّ،

ص:283

ففی نفس الوقت نلاحظ کذلک جملة من المذاهب الإسلامیّة الاخری أیضاً تتبنّی إمامة الشیخین وزعامة الصحابة کأصل اعتقادیّ وضرورة مذهبیّة عندهم.

لکنّ ذلک کلّه لا یستلزم تکفیر أحدهما الآخر، وذلک للاتّفاق بین المسلمین من أهل العلم والتحقیق والتحصیل من علماء المذاهب علی تقسیم الاصول الاعتقادیّة إلی اصول الدین بحسب ظاهر الإسلام، وإلی اصول الدین بحسب حقیقة الإیمان، وهو ما یعبّر عنها باصول المذهب.

فالتعدّد المذهبیّ وإن کان مبنیّاً علی اصول اعتقادیّة یقینیّة إلّاأنّ ذلک الاختلاف یحتضنه صدر الإسلام الرحب.

فهناک فرق بین الإسلام وبین الإیمان، ولذا نجد أنّ کلّ مذهب من المذاهب الإسلامیّة یشترط شروطاً خاصّة فی الإیمان تختلف عن شروط الإسلام، وقد أجمعت الفرق والمذاهب الإسلامیّة علی أنّ مناط الرضا الإلهی متقوّم بالإیمان لا الإسلام فقط.

وإلیک بعض الشواهد الدالّة علی ذلک من کلمات أعلام السنّة:

قال الشوکانی: «مدار قبول الأعمال هو الإیمان»(1).

وقال ابن عاشور: «إنّ الإیمان جعله الله شرطاً فی قبول الأعمال»(2).

وقال المناوی: «إنّ الأعمال بالنیّات وإنّ کلّ من فعل خیراً ریاءً وسمعةً،

ص:284


1- (1) فیض القدیر: 384/23.
2- (2) التحریر والتنور: 810/10.

لم یستحقّ به من الله أجراً»(1).

وفی موضع آخر قال: «إنّ العمل الصالح لا یقبل إلّامع التوحید والإیمان»(2).

إذن مناط ومیزان الرضا الإلهیّ إنّما هو بالإیمان القلبیّ، ولیس مناطه ظاهر الإسلام فقط، فالرضا الإلهی مرتبط بما یدخل القلب وما یلامسه من اعتقادات، أمّا ظاهر الإسلام فهو یحصل بمجرّد التلفّظ بالشهادتین، ولو مع عدم الاعتقاد القلبیّ، کما تقدّم.

فاللازم فی توصیات مشروع الوحدة والتقریب، هو التأکید علی أنّ قطعیّة الخلاف لا تهدم الوحدة، ولا تتناقض مع الحکم بإسلام الآخرین.

وهذه القاعدة بنّاءة ومهمّة فی مشروع الوحدة، یجب التأکید علیها والتثقیف علیها ونشرها فی أوساط عموم المسلمین، درءاً لنار التکفیر، واستباحة دماء المسلمین وأعراضهم وأموالهم، وهدر حقوقهم الدینیّة.

إذن الحرص علی الوحدة والمحافظة علیها، یتوقّف ویستدعی ترسیخ هذه القاعدة الشریفة، والإقرار علیها درءاً للفتنة بین المسلمین، وحیطة من نشوب الحروب بین المذاهب الإسلامیّة، علی عکس التنظیر الذی یذهب إلی أنّ الاختلافات بین المذاهب کلّها اختلافات ظنّیّة، فإنّ مثل هذا التنظیر لقاعدة من قواعد الدین، سوف یهدّد الوحدة الإسلامیّة، ولا یؤمّن بناءها ولا بقاءها؛ وذلک لأنّ أتباع المذاهب من علماء ونخب، من الذین توصّلوا

ص:285


1- (1) تفسیر البیضاوی: 250/1.
2- (2) فیض القدیر: 484/4.

إلی قناعات قطعیّة - بحسب رؤیتهم - لا یرون أنفسهم فیما یتبنّون من مسار مذهبیّ أنّه مسار ظنّیّ ومنهاج اجتهادیّ، فکیف یرون أنفسهم ملتزمین ببناء الوحدة حینئذٍ علی وفق مقولة أنّ المذهبیّة والتمذهب رؤیة ظنّیّة.

بل بناءً علی تلک المقولة، یلزم اندفاع أصحاب المذاهب وتحریضهم وإغرائهم إلی نشوء المعاداة والتکفیر لبعضهم البعض.

فأصحاب هذه المقولة من دعاة الوحدة، بقدر ما هم حریصون علی إرساء الوحدة، إلّاأنّهم بهذه الرؤیة قد أخفقوا فی ترسیم هذه القاعدة المهمّة من قواعد الوحدة الإسلامیّة.

بل یمکن أن تکون رؤیتهم وتقریرهم لهذه المقولة القائلة إنّ الاختلافات اجتهادیّة ظنّیّة، أن تکون من موجبات الفرقة والنزاع، بدلًا من کونها داعمة للوحدة بین المسلمین.

ومن هنا یتّضح أنّ ما قرّرناه لهذه القاعدة من أنّ الاعتقادات القطعیّة والیقینیّة لکلّ مذهب من المذاهب لا یعنی ولا تستلزم تکفیر أحدها للآخر، هو الذی یکون کفیلًا بضمان الوحدة الإسلامیّة؛ لأنّها قائمة علی أساس الواقع والحقیقة، کما تقدّم.

وعلی هذا الأساس یتّضح بطلان الکثیر من مقولات التقریب بین المذاهب التی تتّکئ فی تبنّیها للوحدة، علی المقولة القائلة بأنّ جمیع الاختلافات بین المذاهب، اختلافات ظنّیّة اجتهادیّة قابلة للصواب والخطأ؛ إذ أنّ هذه المقولة لا تضمن الوحدة والالفة بین الجماعات المختلفة؛ لأنّ جملة من الاعتقادات التی تتبنّاها

ص:286

المذاهب الإسلامیّة، هی اعتقادات قطعیّة حسب رؤیتها تعلو علی درجة الاجتهاد والظنّ فی نظر معتنقیها.

وعلی هذا الأساس یتبیّن قوّة ما بیّناه سابقاً من أنّ الضمانة الحقیقیّة للوحدة وحقن الدماء، تکمن فیما قرّرناه من القاعدة السابقة من أنّ الدخول بالإسلام بالتشهّد بالشهادتین، یحقن الدماء، علی الرغم من الإیمان بوجود الاختلافات القطعیّة.

أصالة حقن الدم الإنسانی:

وممّا ینبغی الإشارة إلیه هو أنّ القاعدة الإسلامیّة، لا سیّما عند مذهب أهل البیت علیهم السلام تقول: إنّ الدم الإنسانیّ - فضلًا عن الدم الإسلامی - ولو مع اعتناقه الأباطیل، محقون عن القتل، إلّامع عدوانه وإقدامه علی المواجهة المسلّحة.

إن قیل: کیف ذلک مع وجود الدعوة للجهاد الابتدائی عند المسلمین؟

الجواب: أنّ الحکمة من تشریع الجهاد الابتدائی هی لأجل أسلمة النظام السیاسیّ، ولیس لأجل الإجبار علی أسلمة العقائد، فالجهاد الابتدائی هو لإنقاذ المستضعفین المضطهدین المحرومین، لا إکراه الناس علی الدخول بالإسلام والإیمان، ولعلّ من أبرز الشواهد علی ذلک، هو عدم جواز قتل الأسیر بعد وضع الحرب أوزارها، ولو کان وثنیّاً، وهذا یدلّ علی أنّ الدم الإنسانی محترم، ولا یجوز سفکه إلّامع العدوان المسلّح، وهذا ما لا نجده فی المذاهب الإسلامیّة الاخری.

إذن، حصر طریق الوحدة بالقول بأنّ الاختلاف بین المذاهب ظنّیّ، هو

ص:287

فی الحقیقة سبب للإثارة والفرقة وتأجیج النزاع، أکثر من کونه موجباً لإرساء التآلف والتوحّد؛ وذلک لأنّ هذه الرؤیة لا تقدّم معالجة موضوعیّة سلیمة للواقع الراهن عند أتباع المذاهب من کون القناعات والاعتقادات قطعیّة جزمیّة، کما یراها أصحابها، وبالتالی لا یرون مثل هذا الخطاب بذلک الاطار من مقالة الوحدة علاجاً وبناءً یتوخّی بناء التعایش والالفة فی ظلّ الواقع الراهن والمعطیات القطعیّة بالتحامل علی الآخرین ممّن یخالفوهم علی إخراجهم من ربقة الإسلام.

هل الحوار یقاطع الوحدة؟

الوحدة التعایشیّة الإسلامیّة لا تتقاطع مع فتح باب الحوار ولو کان فی دائرة الاختلافات القطعیّة والمواضیع الحسّاسة المختلف فیها، فیما إذا کان الحوار بلغة هادئة متوازنة.

وعلی هذا الأساس، فلیس من الصحیح ما یردّده بعض روّاد الوحدة من ضرورة إسدال الستار علی کلّ الملفّات التی نشأ منها التعدّد والاختلاف، والسعی لطیّ تلک المباحث ورمیها فی خانة النسیان، بذریعة أنّ الخوض فی تلک المباحث، والمداولة فی تلک الامور الحاصلة فی تلک الحقب التاریخیّة، أو التنقیب عن المواقف التاریخیّة، سوف یسبّب إثارة الکراهیة والحسّاسیّة وتأجیج للصراع الداخلیّ، ولذا قالوا: خیر وسیلة لدرء الفتنة هو إخماد الحدیث عن تلک المواضیع، والترکیز علی نقاط الاشتراک؛ لأنّه وحده الذی یضمن الوحدة والالفة والتلاحم.

ص:288

إلّاأنّنا نقول: إنّ ما ذکروه وإن کان متّجهاً منطقیّاً فی جملة من بنوده، حیث أنّ طبیعة النفس الإنسانیّة کلّما ذکّرت بمناشئ الالفة ألفت، وکلّما استذکرت بشیء من مناشئ الفرقة ازدادت نفرة وتباعداً، إلّاأنّ ذلک لیس هو تمام العلاج السلیم؛ وذلک لأنّ هذه المواضیع من الاختلافات فی الاعتقاد والتبنّی، قد تنفجر فی یوم ما، ومن ثمّ یکون التغافل عنها من رأس، غیر صحیح.

وحاصل ما تقدّم: أنّ الذین تبنّوا الاختلافات بین المذاهب الإسلامیّة، کلّها اختلافات اجتهادیّة، قد انساقوا من حیث یشعرون أو لا یشعرون إلی القول بإنکار وجود ثوابت مذهبیّة خاصّة بکلّ مذهب، أی الثوابت الثابتة بدرجة الیقین من وجهة نظر کلّ مذهب.

ومن هنا نشأ عند البعض تعریف جدید للإیمان، وهو الإقرار القلبیّ بضروریّات الإسلام المشترکة بین المذاهب الإسلامیّة من دون دخل لشیء وراء تلک المشترکات.

والسبب الذی دفعهم لهذا القول هو تصوّرهم بأنّ هذا هو الطریق المؤدّی إلی الإصلاح والوحدة.

إلّاأنّ هذا القول لیس فقط لا یؤدّی إلی الإصلاح والوحدة، بل ینتج نتائج عکسیّة خطیرة تهدّد وحدة النِّحلة الإسلامیّة. والسبب فی ذلک هو أنّ مقولة البعض القائلة بأنّ الاختلافات المذهبیّة راجعة إلی اختلافات اجتهادیّة ظنّیّة، سوف تدفع بطوائف المسلمین إلی امور خطیرة، منها:

ص:289

1 - التغریر والإیهام بطوائف المسلمین، بأن یسلب کلّ طرف صفة الإسلام عن الطوائف الاخری؛ نتیجة ما تراه تلک الطائفة وما تتبنّاه من ثوابت عقائدیّة خاصّة فوق مرتبة الاجتهاد.

2 - الابتعاد عن وحدة النحلة الإسلامیّة، بإیهام أنّ الوحدة لا تتمّ إلّا بإلغاء الثوابت المذهبیّة الخاصّة.

وعلی هذا الأساس یتّضح الخلل فی الکثیر من اطروحات التقریب والوحدة التی تبتنی وحدتها علی ضوء المقولة القائلة بأنّ القناعات ظنّیّة واجتهادیّة، وقابلة للصواب والخطأ، أو محدودة.

کما أنّ هناک جدلیّة قائمة تقول بأنّه مع التعایش لا یفتح باب الحوار، أو أنّه مع الحوار لا تعایش؛ لأنّ الحوار یثیر الفتن والتشنّجات ممّا یفضی إلی تقویض أرضیّة التعایش.

إلّا أنّ الصحیح، أنّ الحوار لا یتقاطع مع التعایش إذا کان مبنیّاً علی الاسس الأخلاقیّة الصحیحة فی الحوار الهادف العلمیّ، وبعیداً عن السیاسات المبرمجة.

وبناءً علی هذا، فإنّ ضمان الوحدة والالفة بین المسلمین لا یتوقّف علی حصر الاختلاف فی القناعات الظنّیّة الاجتهادیّة، ونفی الاختلاف فی القناعات القطعیّة.

والسبب الذی دعا هؤلاء إلی الذهاب إلی مثل هذه المقولات هو عدم استطاعتهم بناء رؤیة رصینة للوحدة والالفة التعایشیّة، تتکیّف مع وجود الاختلافات فی الرؤی القطعیّة، التی یترتّب علیها أمر النجاة من الهلاک الاخرویّ بحسب قناعة کلّ مذهب أو فرقة.

ص:290

ونظیر هذا الاتّجاه ما ذهبت إلیه العلمانیّة الغربیّة من القول بأنّ السلم المدنی لا یمکن مع التوجّه الدینی، إذ الالتزام بالصبغة الدینیّة یؤدّی إلی إثارة الفتن والحروب بین أتباع الأدیان، والسبب فی ذلک هو حکم أتباع کلّ دین علی أصحاب الدیانات الاخری، بالهلاک الاخرویّ، وهذا یعنی مشروعیّة الحرب - علی حسب فهمهم - ضدّ الطرف الآخر.

والصحیح ما تقدّم من فساد وبطلان مثل هذه المقولات التی تتوهّم التلازم بین التخطئة للآخرین والقناعة بالمخالفة القطعیّة، وبین هدر الدم؛ إذ المجازاة الاخرویّة هی من صلاحیّة دیّان یوم الدین، أمّا فی دار الدنیا فهی هدنة تعایش مدنی بصبغة ونیّة مشترکة.

أهداف التقریب:

یمکن تلخیص أهداف وغایات التقریب بالنقاط التالیة:

1 - المحافظة علی الضروریّات المشترکة، والحیلولة دون تمرّد أو مصادرة أیّ فئة لتلک الضروریّات المشترکة.

2 - حرمة الدم والأموال والأعراض وما قد یعبّر عنه بالحرمة المدنیّة والتعایش السلمیّ، والانتصاف فی الحقوق المدنیّة.

3 - العدالة المدنیّة لکلّ الطوائف الإسلامیّة.

4 - اطّلاع المسلمین فیما بینهم علی متبنّیات ومعتقدات ورؤی کلّ مذهب.

5 - تعبئة الطاقات للاهتمام بالعمل من أجل حمایة المصالح الإسلامیّة المشترکة، وتظافر الجهود فی مواصلة بناء النهضة وما فیه مصلحة الإسلام.

ص:291

6 - الحرمة المدنیّة وعدم التفریط فی حقّ المواطَنة للمسلم.

7 - عدم التشنّج فی لغة الحوار، وعدم إثارة الطرف الآخر.

8 - إحیاء دَور الاستشارة والمشارکة فی الحکم، ونبذ الاستبداد.

وبعبارة اخری: یجب عدم التسلیم مع الطرف الآخر فی الامور الخاطئة.

وممّا ینبغی الإشارة إلیه فی سیاق الهدف الأوّل والخامس هو وجود هجمة غربیّة تجاه المقدّسات الإسلامیّة، ومحاولة تغییر الأحکام الإسلامیّة الثابتة والنیل من شخصیّة الرسول صلی الله علیه و آله، والطعن فی القرآن الکریم، وقد تعدّدت أسالیبهم فی ذلک، وتمکّنوا من التأثیر علی الطبقات المثقّفة من المسلمین، وتزریق الأفکار السامّة فی أذهانهم، والتشکیک والإثارات المضادّة تجاه دینهم، بل إنّهم فی صدد محاولة جادّة لتصویر الدین الإسلامیّ بالشکل الذی یشبه المسیحیّة والکنیسة، فی حصرها فی دائرة الطقوس الفردیّة والعلاقة بین الفرد وخالقه، وإنّها علاقة روحیّة لا تمتدّ إلی النظام الاجتماعیّ والسیاسیّ وبقیّة المجالات، ولو أجرینا مسحاً میدانیّاً للأحکام الدینیّة المستهدفة، والتی تعدّ من المسلّمات الإسلامیّة الثابتة عند جمیع المسلمین، لتوفّرنا علی أنّ عدداً کبیراً من هذه المحاولات هدفه طمس الأحکام الإسلامیّة، کما فی طعنهم فی الحجاب الإسلامی وعفاف المرأة، والاستهانة بالاسرة وعلائق الأرحام، وغیر ذلک من المحاولات.

وکذلک الطعن فی حرمة الربا، وفی حرمة جملة من الفواحش والمنکرات(1) ،

ص:292


1- (1) أخیراً صوّتت الجمعیّة العمومیّة بالأغلبیّة علی إلزام العالم الإسلامیّ» «بحریّة المرأة فی ممارسة الجنس، ومن دون ذلک ستعرّض الدولة المخالفة إلی عقوبات.

مضافاً إلی طعنهم بحرمة وقدسیّة القرآن، کما فی

مطالبتهم بحذف آیات الجهاد، بذریعة کون الجهاد یعدّ لوناً من ألوان الإرهاب العدوانیّ.

وکذلک من آلیّات أعداء الإسلام هو خلق طوائف وفرق ومذاهب تنتحل الإسلام، لا سیّما فی الآونة الأخیرة، کالقادیانیّة والبهائیّة التی تتبنّی إنکار جملة من ضروریّات الإسلام.

وفی ظلّ هذه الظروف، وانطلاقاً من الواجب الشرعیّ والدینیّ المشترک، یتحتّم التصدّی لهذه الهجمة الثقافیّة والحضاریّة والسیاسیّة، من خلال تنسیق وتوحید المواقف المشترکة لجمیع الفرق الإسلامیّة، والاصطفاف الفکریّ ببلورة متّفق علیها مع المطالبة بقوّة من قِبل الأنظمة الإسلامیّة باتّخاذ مواقف حازمة حیال هذه الممارسات.

أهمّ القواعد فی نظام التقریب:

القاعدة الأولی: وجود مذاهب للمسلمین فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله نموذج تعایشی موحّد

قد تجاذب الحدیث عند الباحثین عن سبب ظهور المذاهب فی دین الإسلام، وسبب منشأ هذه الظاهرة، وهل أنّ الحال فی عهد الرسول صلی الله علیه و آله بحیث کان المسلمون علی شاکلة واحدة ومنهاج واحد، ثمّ بعد وفاته صلی الله علیه و آله

ص:293

اختلفوا واجتهدوا فتعدّدت اجتهاداتهم واختلفت آرائهم، وبعد ذلک جاءت الأجیال من بعدهم فواصلت تلک الاختلافات والاجتهادات وازدادت کثرةً إلی عصرنا الحاضر؟

أمّ أنّ ظاهرة التعدّد المذهبیّ کانت فی عصر الرسالة وفی حیاة الرسول صلی الله علیه و آله؟

وإلی جانب هذا التساؤل ینبثق تساؤل آخر یتمحور ویترکّز علی بیان المراد من التعدّد فی المذاهب، وهل المراد من التعدّد هو التعدّد فی الفروع النظریّة الظنّیّة؟ أم أنّ التعدّد فی الفروع الیقینیّة، وإن لم تکن ضروریّة عند الجمیع؟

أم أنّ التعدّد فی المذهبیّة هو فی جملة من المعتقدات غیر ما اتّفق علیه؟

وإن کان التعدّد فی المعتقدات النظریّة، فهل ینحصر الاختلاف فی الظنّیّات، أم یشمل المعتقدات الیقینیّة التی لم تصل إلی درجة البدیهیّة عند الکلّ؟

وعلی أی تقدیر، لا ریب أنّ المشهود من تعدّد مذاهب المسلمین، حاصل فی الفروع، کما هو حاصل فی المعتقدات أیضاً، کالمذهب الشیعیّ الإثنی عشریّ، والمذهب المعتزلیّ، والأشعریّ، والمذهب السلفیّ، والمذهب الصوفیّ، وغیرها من المذاهب التی یؤول الخلاف فیها إلی المسائل العقدیّة.

ومن الواضح أنّ البحث فی الاختلاف العقدی لیس فی تحدید الضابطة فی الدخول فی الإسلام والاتّصاف به، وإنّما یتمرکز حول الضابطة وبین الاتّصاف بالإیمان وما به النجاة یوم القیامة.

وعلی ضوء ذلک فإنّ هذا البحث بعینه - وهو البحث عن شرائط

ص:294

الإیمان وما به النجاة یوم القیامة - لم یکن ولیداً ومتولّداً بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله، وإنّما کان فی حیاة الرسول صلی الله علیه و آله، کما تشیر إلی ذلک الآیات والروایات التی تقسّم المسلمین إلی أصناف متعدّدة، منهم المسلم غیر المؤمن، ومنهم المؤمن، ومنهم المنافق، ومنهم المستضعف، ومنهم أهل الضلال، ومنهم مرجون لأمر الله، وغیرها من الأصناف التی استعرضتها الآیات حول صفات المسلمین الذین کانوا فی عهده صلی الله علیه و آله، کما فی قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ)1 .

وقوله تعالی: (إِذا جاءَکَ الْمُنافِقُونَ)2 .

وقوله تعالی: (وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا یُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا یَتُوبُ عَلَیْهِمْ وَ اللّهُ عَلِیمٌ حَکِیمٌ)3 .

وقوله تعالی: (وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ)4 .

وقوله تعالی: (أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ یُخْرِجَ اللّهُ أَضْغانَهُمْ)5 .

ص:295

وکذا قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّکُمْ أَوْلِیاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ کَفَرُوا بِما جاءَکُمْ مِنَ الْحَقِّ یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِیّاکُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّکُمْ إِنْ کُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِی سَبِیلِی وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِی تُسِرُّونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَیْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ یَفْعَلْهُ مِنْکُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِیلِ)1 .

وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِیناً)2 .

وهناک أسماء وعناوین وصفات کثیرة ذکرتها الآیات التی تنعت وتصنّف المسلمین فی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله.

ومن الواضح أنّ هذه الآیات تشیر إلی وقائع وحوادث وقعت من قِبل بعض المسلمین فیما یرتبط بالولایة لله ورسوله صلی الله علیه و آله التی لها دور أساسیّ فیما یرتبط بالعقیدة والإیمان، وأنّ التفریط بهذه الولایة والطاعة لله وللرسول صلی الله علیه و آله یوجب الضلال، وغیر ذلک من الآیات التی تصف بعض المسلمین فی عهده صلی الله علیه و آله بأنّهم أهل ضلال.

معالجة إلتباس:

قد یقال إنّ التحذیر القرآنی للمسلمین من موالاة الکفّار بدل المسلمین إنّما هو متوجّه إلی خصوص المنافقین لا المؤمنین.

والجواب: إنّ الآیة واضحة الدلالة علی کون الخطاب موجّه إلی المؤمنین

ص:296

خاصّة لا المنافقین، کما فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا) حیث نعتت الآیة المبارکة بعض المسلمین بالضلال بعد أن کانوا مؤمنین.

وکقوله تعالی: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ * یُخادِعُونَ اللّهَ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ ما یَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ * فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ بِما کانُوا یَکْذِبُونَ)1 .

ومن الواضح أنّ وصف(الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هو وصف لبعض المسلمین(1).

وعلی هذا فإنّ ظاهرة الإیمان التی هی درجة أرفع من ظاهرة الإسلام، کانت علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله بین صفوف المسلمین، ومن ثمّ تعدّدت فئات المسلمین فی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله.

وبالتالی یصحّ، بل یتعیّن القول بأنّ المسار المذهبی کان فی عهده صلی الله علیه و آله، کما یتبیّن من ذلک أیضاً أنّ اصول الإیمان لا تستند إلی الاختلاف فی الاجتهاد والآراء وتفسیر النصوص الدینیّة، وإنّما ترجع إلی التسلیم القلبیّ بثوابت اصول الإیمان أو عدم التسلیم بها، وتکشف عن أنّ ظاهرة المذهبیّة لیس منشأها الاجتهاد فقط، وإنّما منشأها الأصلیّ هو التسلیم القلبیّ بتلک الاصول.

وبعبارة اخری: إنّ المذاهب جمیعاً متّفقة علی أنّ للإیمان اصولًا معیّنة

ص:297


1- (2) انظر: تفسیر الصنعانی: 123/3. جامع البیان: 176/1.

تزید علی صرف الإقرار اللسانی بالشهادتین، غایة الأمر أنّهم اختلفوا فی تحدید تلک الاصول وتعیینها.

وکذلک اتّفاق المذاهب الإسلامیّة علی أنّ ما به النجاة یوم القیامة یتوقّف علی الإیمان القلبیّ، لا علی الإقرار اللسانیّ فقط.

وممّا تقدّم، یتّضح أنّ البحث فی الظاهرة المذهبیّة لیس هو بحث عن الحکم بصفة الإسلام فی دار الدنیا، وإنّما هو بحث عن طریق النجاة فی الآخرة.

وبناءً علی هذا یتّضح أنّ سیرة الرسول صلی الله علیه و آله بین المسلمین قائمة علی إعطاء کافّة المسلمین حقوق المسلم التی أقرّتها الشریعة الإسلامیّة، علی الرغم من اختلافهم فی صفة الإیمان والنفاق والضلال، وغیر ذلک من الصفات.

فمع وجود مثل هذه الفوارق فی توجّهات المسلمین المذهبیّة فی عصر الرسول صلی الله علیه و آله، نجد أنّ الکلّ یعیشون فی بیئة تعایشیّة واحدة وذات وظائف مشترکة، مقابل حقوق عامّة ثابتة.

وعلی هذا الأساس، تکون سیرة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله فی المسلمین فی النظام التعایشیّ بین المسلمین، نموذجاً متّبعاً فی الأجیال اللاحقة.

کما أنّه یتبیّن ممّا مضی أنّ الظاهرة المذهبیّة رغم کون منشأها الاختلاف العقائدیّ وفی الامور الثابتة، إلّاأنّ ذلک لا یوجب عدم الاشتراک فی صفة الإسلام، وکذلک إنّ الاختلاف فی الامور الثابتة الیقینیّة لا یوجب القول بأنّ موارد الاختلاف بین المسلمین کلّها اجتهادیّة ولیست ثوابت یقینیّة.

القاعدة الثانیة: لزوم شمولیّة التقریب لکلّ الطوائف والمذاهب الإسلامیّة من

ص:298

أهمّ عوامل نجاح عملیّة التقریب بین الطوائف والمذاهب الإسلامیّة هو شمولیّتها لکلّ تلک المذاهب بلا استثناء، فلا یثمر التقریب مع إقصاء مذهب أو طائفة معیّنة.

وبعبارة اخری: إنّه من الظلم استحواذ بعض الطوائف لتمثیل الموقف الإسلامی الرسمیّ، وتهمیش وإبعاد الطوائف الاخری.

ولعلّ السبب فی ذلک یبدو واضحاً؛ وذلک لأنّ الإقصاء والإبعاد لمذهب أو طائفة عن دائرة الحوار والتقریب بین المذاهب الإسلامیّة، سوف یؤدّی بدوره إلی تکریس الفرقة والمباینة بین الطوائف الإسلامیّة، ویشکّل بذرة إشعال فتیل الفتنة، وعدم الشمولیّة والإقصاء لعدّة من الطوائف هو الذی شاهدنا فی ندوات ومؤتمرات الوحدة والتقریب.

وهذه ظاهرة سلبیّة وممارسة لا تطابق الشعارات المرفوعة والأهداف المنادی بها، کما أنّ التمثیل للجمیع لا بدّ أن یکون بنحو متناسب أو متناصف، کما أنّ الجغرافیا المذهبیّة لا بدّ أن تؤخذ بالحسبان.

القاعدة الثالثة: إنّ العدالة أساس نظام التعایش المذهبیّ.

العدالة والعدل من الاسس الضروریّة التی تمثّل القاعدة التحتیّة التی ینهض علیها نظام التعایش والالفة، کما قال تعالی: (قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا

ص:299

مُسْلِمُونَ)1 التی ترمی الإشارة إلی أنّ جمیع البشریّة، بما أنّها متساویة النسبة فی العبودیّة لله تعالی المالک للُامور؛ فلا بدّ أن تحصل التسویة والسواسیة بینهم.

وإنّ الاستعلاء والتسلّط واتّخاذ بعض البشر لبعضهم عبیداً لا یحقّق التسویة والوفاق فیما بینهم.

فلا بدّ أن یکون الجمیع متساوین، ولا امتیاز لبعضهم علی بعض ولا استثناء ولا اختصاص؛ لأنّ الأصل فی الأشیاء کلّها، أنّها خاصّة لله تعالی، وأنّ البشر متساوون فی العبودیّة له، إلّاما خصّه الله تعالی لبعض دون البعض، ولا یخفی أنّ العدل لا یقتصر علی إشباع الحاجة وتوفیر متطلّبات الناس، وإنّما هو التسویة فی جمیع الاختصاصات والموارد، ومن ثمّ لو استأثرت طائفة بنسبة عالیة من الثروات والحقوق دون الطوائف الاخری؛ فلن تستتبّ الالفة والتعایش، کما قالت الزهراء علیهاالسلام: «بالعدل تنسیق القلوب».

ولذلک یتخوّف الباحثون الاجتماعیّون من انفجار اجتماعیّ فی الشعوب الغربیّة، وتذمّر فی أوساطهم، کما تشیر إلی ذلک الاستفتاءات والدراسات التی اجریت فی هذا المجال فی الأعوام الأخیرة.

وسبب ذلک هو ما نلمسه من استئثار الأنظمة الغربیّة لموارد الثروات وحصرها فی طبقة معیّنة، علی الرغم من تلبیة تلک الأنظمة لمتطلّبات وحاجیات المعیشة لغالبیّة الشعوب بنسبة متوسّطة بالقیاس إلی الشعوب الشرقیّة.

القاعدة الرابعة: اصول واسس التعرّف علی متبنیّات ومعتقدات الآخرین:

ص:300

من أبرز ما أکّدت علیه النصوص القرآنیّة هو کیفیّة تحقیق وتکوین وتشکیل الرؤیة والحکم تجاه الجماعات والأقوام الآخرین، فیما یتعلّق بعقائدها ومتبنّیاتها الفکریّة، ولعلّ أوضح النصوص القرآنیّة التی یسلّط فیها الضوء علی کیفیّة تشکیل الرؤیة لأیّ طرف آخر، هی:

1 - قوله تعالی: (إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)1 التی نزلت فی الولید بن عقبة بن أبی معیط بعدما بعثه رسول الله صلی الله علیه و آله فی صدقات بنی المصطلق، فخرجوا یتلقّونه فرحاً به، وقد کان بین الولید وبینهم عداوة فی الجاهلیة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلی رسول الله صلی الله علیه و آله وقال إنّهم ارتدّوا ومنعوا الزکاة، فی حین أنّ الأمر لم یکن کذلک، فعزم المسلمون لغزوهم، إلّاأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله بعث إلیهم علیّاً علیه السلام لیثبّت من حالهم، فوجدهم منادین بالصلاة متهجّدین، فسلّموا إلیه علیه السلام صدقاتهم، فرجع علیه السلام، فنزلت الآیة تحذّر المسلمین من الحکم علی الآخرین من دون علم وبیّنة معتبرة، فیما یتعلّق بعقائدهم ومبانیهم الفکریّة ومعتنقهم وانتمائهم الدینیّ والمذهبیّ.

2 - قوله تعالی: (وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِیکُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ یُطِیعُکُمْ فِی کَثِیرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)2 التی تشیر إلی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله لو لم یثبّت فی الأمر - بمقتضی عصمته - وتابع رأیهم، لوقع المسلمون فی المشقّة والعنت.

3 - قوله تعالی: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا)

ص:301

(بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ)1 .

حیث تشیر الآیة المبارکة إلی ضرورة اتّخاذ منهج العدل والقسط فی الحکم بین الطوائف الإسلامیّة، ومن الواضح أنّ مثل هذا الحکم لا تکفی فیه البیّنة الشرعیّة الظنّیّة، ولو کانا شاهدین عدلین، بل لا بدّ فیها من تحقیق العلم بالحال؛ لأنّه لیس من قبیل الحکم علی قضیّة فردیّة التی یکتفی فیها بإقامة البیّنة المتمثّلة بشاهدین عدلین، وإنّما هو حکم علی جماعات وأقوام ومجامیع بشریّة، فلا ینهض الطریق الظنّیّ المعتمد فی الشؤون الفردیّة، للحکم علی قضیّة مجتمع أو قبیلة أو جماعة ذات أفراد متعدّدة.

وبعبارة اخری أنّ قوله تعالی: (فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) قاعدة فی نظام الحکم والقضاء فی شؤون الجماعات والأقوام، وأنّه لا بدّ أن یکون مبنیّاً علی التبیّن، وهو العلم لا البیّنة العادلة الظنّیّة فضلًا عن خبر الواحد.

ولعلّ السبب فی ذلک یبدو واضحاً؛ إذ أنّ الحکم فی قضیّة تتعلّق بطائفة من الناس لا یکفی فیها البیّنة التی تقام فی قضیّة فردیّة؛ وذلک لخطورة المقام؛ لأنّه یتعلّق بالجماعات والطوائف، ومن المسائل المرتبطة بالدماء الکثیرة والأعراض والأموال ونحوها، لمجامیع بشریّة متعدّدة فلا یسوغ التساهل والتهاون فی مثل هذه الأحکام.

ص:302

إذن هی النصوص القرآنیّة المبارکة تؤسّس لأمر بالغ الخطورة علی صعید تشکیل وتکوین الرؤیة حول الآخرین ومتبنّیاتهم الفکریّة والعقائدیّة.

وهذه القاعدة تؤکّد علی ضرورة لزوم تحرّی العلم وتبیّن الحال فی الحکم علی أیّ جماعة، بأیّ حکم من الأحکام، لا سیّما الأحکام التی یترتّب علیها هدر الدماء والأعراض، کالتکفیر والارتداد والتضلیل من دون علم وتبیّن الحال.

وبناءً علی هذه القاعدة، لا یسوغ الحکم علی أی طائفة من الطوائف الإسلامیّة بنسبة عقیدة أو متبنّی فکریّ إلیهم أو باعتناقهم لمقال معیّن وغیرها من الأحکام، علی أساس قول ممّن لا ینتمی إلی تلک الطائفة، أو ممّن لم یکن قوله معتمداً لدیهم، بل لا بدّ من التحقّق فیما ورد فی مصادرهم الأساسیّة، وأقوال المشهور من علمائهم، فلا یسوغ الاعتماد علی الأقوال الشاذّة والنادرة التی لا تمثّل المتبنّی الرسمیّ لهم.

وهذه ضابطة وقاعدة مهمّة، لیس من الصحیح التفریط بها وتخطّیها؛ لأنّ ذلک یفضی إلی إیجاد ذرائع وحجج تستغلّ من قِبل آخرین لإثارة الفتن والنزاعات بین المسلمین بغیة تحقیق أهداف سیاسیّة مغرضة.

وعلی هذا، فکلّ آلیّة ووسیلة لمعرفة عقائد ومتبنّیات الآخرین إذا لم تکن مقنّنة ومنضبطة بضوابط علمیّة ومنطقیّة، کمطلق الظنون وأخبار الآحاد، فإنّها سوف تؤدّی إلی الوقوع فی هذه المحاذیر وإشعال الفتن والنزاعات.

وهذه القاعدة تشمل أیضاً الحوار العلمیّ، بل تعدّ رکناً من أرکانه، فلا

ص:303

یتمّ الحیاد ولا الموضوعیّة العلمیّة إلّابالاعتماد علی أداة العلم والتبیان، لا الظنون والتظنّی، إذ لا یثمر مثل ذلک فی الوصول إلی الحقیقة.

خلاصة هذه القاعدة ما یلی:

1 - عدم جواز نسبة أیّ حکم أو متبنّی عقائدیّ أو فقهیّ أو رؤیة دینیّة، إلّامن خلال المصادر المعتبرة لدی تلک الجماعة أو المذهب.

2 - یجب اعتماد المشهور لدی کلّ جماعة وطائفة فی النسبة إلیهم.

3 - لا بدّ من الاعتماد علی العلم الیقینیّ، فلا تکفی الظنون وإن کانت معتبرة؛ لأنّ الحکم علی أیّ مذهب من القضایا ذات الشأن العامّ التی لا یعتمد فیها إلّاعلی الیقین.

القاعدة الخامسة: فی النظام السیاسیّ والمواطَنة:

هنالک ک قاعدة مهمّة حَریّة بالبحث والدراسة، تتعلّق بکیفیّة التعایش المدنیّ وحقّ المواطَنة والنظام السیاسیّ، أشارت إلیها جملة من النصوص القرآنیّة.

ومن النصوص القرآنیّة التی أضاءت هذه الحقیقة، هی قوله تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الَّذِینَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِکَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوکُمْ فِی الدِّینِ فَعَلَیْکُمُ النَّصْرُ إِلاّ عَلی قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ

ص:304

بَصِیرٌ)1 .

حیث أشارت هذه الآیة المبارکة إلی أنّ الولاء السیاسیّ، بمعنی الانتماء والعیش فی کنف نظام سیاسیّ معیّن، یتضمّن وینطوی علی تبعیّة مَن یعیش فی ذلک النظام إلی مقرّرات وسلطة ذلک النظام، وهو ما قد یعبّر عنه بالتسلیم والانقهار تحت سلطان وقدرة ذلک النظام.

والولاء السیاسیّ والانتماء والعیش فی ظلّ ذلک النظام، یقتضی وجود واجبات ووظائف فی مقابل حقوق وامتیازات.

أمّا الواجبات والوظائف العامّة تجاه ذلک النظام السیاسیّ، والتی ینبغی الالتزام بها لکلّ من یعیش فی کنف ذلک النظام، فهی من قبیل الدفاع عن الأمن العامّ للمجتمع فی ذلک النظام، ودفع الضرائب، والتقیّد بسائر مقرّرات النظام العامّ، ونحوها من الواجبات.

وأمّا الحقوق والامتیازات التی یلزم توفّرها لکلّ من یعیش تحت ظلّ ذلک النظام السیاسی، فهی من قبیل استحقاق وتوفّر الحمایة المدنیّة علی المال والنفس والعرض، والانتفاع بالخدمات المدنیّة العامّة، والاستحقاق من المال العامّ کالضمان الاجتماعیّ أو الفیء العامّ، ونحوها من الاستحقاقات.

وهذه الحقوق والواجبات التی یقرّرها النظام السیاسیّ غیر مترتّبة علی مجرّد الولاء الدینی، بمعنی عدم کفایة الانتماء إلی الدین الحنیف فی ترتّب آثار الولاء السیاسیّ بل لا بدّ من العیش تحت ظلّ النظام السیاسیّ المتقدّم.

ص:305

فلو فرضنا أنّ مسلماً کان یعیش فی بلاد ونظام الکفر، فلا تثبت له الحقوق المدنیّة التی یوفّرها النظام الإسلامیّ ما دام ولاؤه السیاسیّ تابع لنظام الکفر، إلّاإذا هاجر إلی بلاد المسلمین لیعیش تحت نظامهم.

کذلک العکس، وهو ما لو کان الکافر من أهل الکتاب أو المهادن یعیش فی بلاد المسلمین وتحت ظلّ نظامهم، بمعنی الولاء السیاسیّ، فله جملة من الحقوق المدنیّة والحمایة العامّة.

نعم، لا یثبت للکافر النصرة فی الدین والمعتقد، ولو عاش فی ظلّ النظام الإسلامیّ، کما أنّه تثبت النصرة فی الدین، أی الحمایة للمسلم الذی یعیش فی بلاد الکفر فی البعد الدینیّ، لا النصرة والحمایة فی البعد المعیشیّ المدنیّ.

وهذا ما تشیر إلیه الآیة المتقدّمة: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الَّذِینَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِکَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ) أی تثبت للمسلمین الذین هاجروا وجاهدوا... مطلق الولایة، أی الشاملة للولایة السیاسیّة المدنیّة والولایة الدینیّة.

وذلک بعد تحمّلهم لأعباء الهجرة، سیکون لهم العیش تحت کنف النظام الإسلامیّ، والقیام بالوظائف العامّة، کدفع الضریبة المالیّة وهو الجهاد بالأموال، والدفاع عن الأمن الاجتماعیّ والدینیّ، وهو الجهاد بالنفس فی سبیل الله.

وفی مقابل ما تقدّم تشیر الآیة إلی الذین لم یقوموا بما قام به اولئک المهاجرون والمجاهدون کما فی قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما)

ص:306

(لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا)1 ، أی الذین انتموا إلی هذا الدین، ولکن لم یهاجروا ویعیشوا فی بلاد المسلمین، وإنّما بقوا فی دیار الکفر، فلا یثبت لمثل هؤلاء ما یثبت للمسلمین من حقّ الحمایة وما یرافقها من امتیازات للمسلمین الذین یعیشون فی بلاد الإسلام وتحت ظلّ نظام الإسلام.

نعم، یستثنی من ذلک ما فی قوله تعالی: (وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوکُمْ فِی الدِّینِ فَعَلَیْکُمُ النَّصْرُ) ، أی یجب نصرتهم فی الدین، فیما لو اضطهدوا بسبب انتمائهم الدینیّ.

وقد ورد فی(تفسیر العیّاشی) عن زرارة، عن أبی جعفر وأبی عبدالله علیهما السلام، قال: «سألتهما عن قوله: (وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا) ، قالا: إنّ أهل مکّة لا یرثون أهل المدینة»(1).

وهذا المعنی یقرّره الشیخ الطوسی بقوله: «الولایة عقد النصرة للموافقة فی الدیانة، ثمّ أخبر تعالی عن الذین آمنوا ولم یهاجروا من مکّة إلی المدینة، فقال: (وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ) .

وقیل فی معناه قولان:

أحدهما: ولایة القرابة، نفاها عنهم لأنّهم کانوا یتوارثون بالهجرة والنصرة دون الرحم. فی قول ابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّی، وعن أبی جعفر علیه السلام: إنّهم کانوا یتوارثون المؤاخاة الاولی.

ص:307


1- (2) تفسیر العیّاشی: 27/2.

الثانی: إنّه نفی الولایة التی یکونون بها یداً واحدة فی الحلّ والعقد، فنفی عن هؤلاء ما أثبته للأوّلین حتّی یهاجروا»(1).

والحاصل: أنّ الولایة المقرّرة فی الآیة لا تختصّ بولایة المیراث، بل هی شاملة لولایة النصرة، وولایة الأمن، أی الولاء السیاسیّ.

وعلی ضوء هذا لا یرد الاعتراض بأنّ الآیة منسوخة بقوله تعالی:

(وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ)2 ؛ وذلک لأنّ النسخ لبعض مفاد الآیة لا یستلزم النسخ لجمیع مفادها، فلا یرفع الید عن بقیّة مفاد الآیة.

ویتحصّل من مفاد القاعدة لما نحن فیه من المقام أنّ الآثار والامتیازات ثابتة للشخص لأجل ولائه السیاسیّ وعیشه فی ظلّ النظام الإسلامیّ، دون من یعیش فی بلاد الکفر، فإنّه لا تثبت له تلک الامتیازات من النصرة والحمایة والأمن، والاستحقاقات من بیت المال.

وهذا المفاد من الآیة لا یتنافی مع آیة: (وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ) ؛ لأنّ مورد کلّ منهما أجنبیّ عن الآخر، فلا تکون آیة اولی الأرحام ناسخة للآیة فی المقام، بلحاظ هذا المورد، وإن کانت آیة اولی الأرحام ناسخة لمورد الوراثة فیها.

وممّا یعضد مفاد هذه القاعدة، ما تشیر إلیه آیة الذمّة، والجزیة فی أهل الکتاب من أنّهم بانضوائهم تحت النظام الإسلامیّ، یجب علی المسلمین القیام

ص:308


1- (1) التبیان: 162/5.

بجملة من الواجبات تجاههم، من قبیل حمایتهم من الاعتداء الخارجیّ، وحمایة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم من الظلم الداخلیّ، ومنحهم حریّة التدیّن وحریّة العمل والکسب ونحوها من الحقوق.

ویعضد هذه القاعدة قوله تعالی: (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِیاءَ حَتّی یُهاجِرُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِیًّا وَ لا نَصِیراً إِلاَّ الَّذِینَ یَصِلُونَ إِلی قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ أَوْ جاؤُکُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ یُقاتِلُوکُمْ أَوْ یُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَیْکُمْ فَلَقاتَلُوکُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوکُمْ فَلَمْ یُقاتِلُوکُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَیْکُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللّهُ لَکُمْ عَلَیْهِمْ سَبِیلاً)1 ، حیث قرّرت أنّ میزان الولاء السیاسیّ یتحدّد علی أساس الهجرة فی سبیل الله إلی دار الإسلام ونظامه، وکذا من یرتبط بنظام الإسلام بمیثاق، یکون تحت ظلّ ولایة النظام الإسلامیّ.

وکذلک قوله تعالی: (وَ إِنْ کانَ مِنْ قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ فَدِیَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلی أَهْلِهِ)2 .

القاعدة السادسة: لزوم إعطاء حقّ المواطَنة

للأفراد من دون تفریق:

علی ضوء ما تقدّم من مفاد هذه القاعدة التی تقول إنّ ترتّب الامتیازات والحقوق التی یوفّرها النظام الإسلامی والخدمات المدنیّة، یکون علی أساس الولاء السیاسیّ لا مجرّد الانتماء الدینی أو المذهبیّ، فعلی هذا الأساس یجب

ص:309

عدم التفریق بین أفراد المسلمین فی الاستحقاقات المدنیة فی النظام الإسلامی فی البلد الواحد، مهما کان انتماؤه المذهبیّ، فإنّ أتباع کلّ مذهب، لهم من الحقوق والاستحقاقات المدنیّة فی ذلک البلد الذی یعیشون فیه، وإن اختلف النظام السیاسیّ فی تلک الدولة فی الانتماء المذهبیّ.

حدیث الفرقة الناجیة والتعایش السلمیّ بین المسلمین:

ذهب جملة من المتطرّفین فی تفسیر حدیث الفرقة الناجیة - وهو قوله صلی الله علیه و آله: «إنّ بنی إسرائیل تفرّقوا علی إحدی وسبعین فرقة، وإنّ هذه الامّة(یعنی امّته) ستفترق علی اثنتین وسبعین فرقة، کلّها فی النار إلّا فرقة واحدة»(1) - إلی تفسیر معنی ومفاد الحدیث الشریف بتفسیر خاطئ، حیث قالوا: لمّا کان حدیث الفرقة الناجیة یفید حصر النجاة فی فرقة واحدة، وکون بقیّة الفرق الإسلامیّة الاخری علی ضلال، فإنّ ذلک یقتضی محاربة جمیع الفرق الضالّة وهدر حرمتها، ونفی صفة الإسلام عنها، وإن کانت تنتحل الإسلام وتتشهّد الشهادتین، لأنّها فرق ضالّة مصیرها إلی النّار، کما هو مقتضی تعبیر الحدیث:

«أنّها فی النار».

إلّاأنّ هذا التوهّم فاسد وباطل، وذلک للنقاط التالیة:

1 - إنّ مسائل العقیدة وقواعد الدین لا یمکن استخلاصها من دلیل واحد کآیة، أو حدیث قطعیّ الصدور من دون فهم بقیّة الأدلّة المتعلّقة بذلک

ص:310


1- (1) مجمع الزوائد: 226/6.

الموضوع؛ لأنّ الدین منظومة واحدة لا تتجزّأ وهی غیر متدافعة مع بعضها البعض، وعلی هذا، فالنظرة التجزیئیّة الاحادیّة زائغة عن الصراط القویم، وهذا ما ندّد به القرآن الکریم بقوله تعالی: (أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْکِتابِ وَ تَکْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ یَفْعَلُ ذلِکَ مِنْکُمْ إِلاّ خِزْیٌ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ یُرَدُّونَ إِلی أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ)1 .

2 - وجود اختلاف بین أحکام دار الدنیا وبین أحکام دار الآخرة

فإنّ الحکم فی دار الدنیا قائم علی ظاهر الحال - کما تقدّم - من أنّ الإقرار بالشهادتین یوجب حقن الدماء والأعراض والأموال، والحکم علی مَن تشهّد الشهادتین بالإسلام، ویحکم له ما للمسلمین وعلیه ما علیهم، وإن کان منافقاً.

وأمّا أحکام الآخرة، من النجاة من النّار، وجزاء الله وعقابه، فهی أحکام تترتّب علی اعتقاد الإنسان الباطنیّ، وما عقد علیه قلبه، وما استقرّت علیه جوانحه، وما اعتقده ضمیره؛ وذلک بحسب ما تواتر لدی المسلمین من الآیات والروایات التی سبقت الإشارة إلیها فی البحث السابق بأنّ مَن تشهّد الشهادتین دخل فی حظیرة الإسلام.

وهذا المعنی یلتقی مع الألفاظ الواردة فی حدیث الفرقة الناجیة التی نسب فیها رسول الله صلی الله علیه و آله جمیع الفرق المتفرّقة إلی امّته وهی امّة الإسلام، فی حین قصر صلی الله علیه و آله الحکم الاخرویّ من النجاة من النار، علی فرقة واحدة منها

ص:311

دون أحکام دار الدنیا.

إذن، الحدیث فی صدد الإشارة إلی الأحکام الاخرویّة دون أحکام الدنیا.

وممّا یؤکّد هذه القاعدة من التفصیل بین أحکام الآخرة وأحکام الدنیا، هو قوله تعالی: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ)1 .

فقد أطلقت الآیة الکریمة صفة الإیمان علی کلا الطائفتین المتقاتلتین رغم کون إحداهما باغیة لم تفئ إلی أمر الله، وهناک آیات اخری تؤکّد المضمون ذاته.

وهنالک فهم آخر لحدیث الفرقة الناجیة، یترکّز فیه جانب التفریط، وهو قول المرجئة القائلین بأنّ کلّ من تشهّد الشهادتین بلسانه یکون ناجیاً یوم القیامة، مع أنّ الحدیث الشریف یکشف بشکل واضح عن وجوب الفحص والبحث عن تلک الفرقة المحقّة الموعودة بالنجاة، والتمسّک بها دون بقیّة فرق المسلمین، کسلوک مرتبط بالآخرة، لأنّ مؤدّی الحدیث النبویّ هو أنّ الاختلاف الواقع لیس فی دائرة الظنون والاجتهاد المشروع الموجب للتعذیر، وإنّما الحدیث فی صدد الإشارة إلی أنّ اصول الإیمان وأرکان المعرفة من الامور القطعیّة والیقینیّة، وإن لم تکن ضروریّة عند کلّ المسلمین بسبب اختلاف وجهات النظر بین الفرق الإسلامیّة.

فحدیث الفرقة الناجیة یمثّل منهجاً مهمّاً لغایات وأهداف الوحدة، وهو الحثّ علی ضرورة البحث والتنقیب والحوار لأجل الوصول إلی الحقّ

ص:312

والهدی، وأنّ أفراد الامّة الإسلامیّة وإن اشترکوا جمیعاً بتشهّدهم للشهادتین وتعایشوا فی ظلّ أمن نظام موحد کافل لهم، إلّاأنّ ذلک بحسب ظاهر الإسلام فی النشأة الدنیویّة، أمّا النجاة فی الآخرة، فالمیزان فیها هو الإیمان - کما تقدّم -.

فهنالک صفة الإسلام تتحقّق بالإقرار باللسان وتترتّب علیه أحکام المواطنة فی دار الإسلام ونظامه، وإلی جوار صفة الإسلام توجد صفة الإیمان التی تتحقّق بالاعتقاد القلبیّ وتترتّب علیها الأحکام الاخرویّة من النجاة من النار ونحوها.

ص:313

ص:314

الفصل الثالث: نظام التنسیق والتوافقات الوقتیة

اشارة

وحاصل هذا النظام عبارة عن صیاغة مواقف سیاسیّة مشترکة ضمن آلیّات معیّنة، یمکن أن تقع فی مجالات متعدّدة کمجال السیاسة بین الدول، وفی المجالات الاجتماعیّة والاقتصادیّة ونحوها. وقد یعرف بأنّه نظام تدبیر سیاسیّ بحسب الظرف الراهن.

غایات نظام التنسیق والانسجام والتوافق:

یرمی هذا النظام إلی معالجات آنیّة وسریعة لحفظ المصالح المشترکة بین الأطراف، وتبدید النزاعات والتشنّجات الراهنة.

امتیاز نظام التنسیق عن نظام الوحدة ونظام التقریب:

یتمیّز نظام التنسیق عن نظام الوحدة ونظام التقریب فی تکفّله لمعالجة سریعة وإیجاد الحلول للأزمات الراهنة التی لا یمکن تأخیر معالجتها بالاعتماد علی نظام الوحدة أو التقریب اللذان یتطلّبان وقتاً مستغرقاً وطویلًا.

ص:315

علاقة نظام التنسیق مع نظام الوحدة والتقریب:

من الواضح أنّ نظام التنسیق والتوافقات یتّکئ أیضاً علی بعض المشترکات فی نظام الوحدة، ولا یتوقّف علی إنجازات الوحدة فی دوائرها الوسیعة.

کما لا یتوقّف هذا النظام علی نظام التقریب، بل یقع فی موازاته، فإنّ نظام التنسیق یمکن أن یوجد ویتحقّق وإن لم یکن لنظام التقریب وجود وحیاة. نعم، هناک ثمار وآلیّات مشترکة بین نظام التقریب ونظام التنسیق.

نظام التنسیق یمثّل الحدّ الأدنی للوحدة:

إنّ للوحدة حدّاً أعلی وأدنی، وهذا ما یقرّره عدد من النصوص القرآنیّة، منها:

1 - قوله تعالی: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِینَ)1 ، حیث یکشف صدر الآیة عن أنّ الحدّ الأعلی للوحدة التامّة هو الطاعة لله وللرسول، أی الانقیاد والولاء التامّ لله ورسوله.

بینما تکفّل ذیل الآیة وهو(وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) بیان الحدّ الأدنی للوحدة، وهو تحریم التنازع بین المسلمین.

ولعلّ أروع ما تضمّنته الآیة المبارکة هو أنّها جاءت مشفوعة ببیان فلسفة وحکمة وسبب حرمة التنازع، وهو أنّ التنازع یؤدّی ویفضی إلی الفشل والضعف

ص:316

وذهاب قوّة المسلمین وقدرتهم، کما هو واضح من تعبیر الآیة ب(وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ) ، أی تذهب غلّتکم وقوّتکم.

وعلی هذا الضوء، فإنّ الحدّ الأدنی من الوحدة، وهو إیجاد الحلول السریعة والآنیّة لتجنّب حصول الأزمات والنزاعات أو لتکوین موقف متّحد تجاه موضوع معیّن، سواء فیما بین المسلمین أنفسهم أم بین المسلمین وغیرهم، هو ما یسمّی بنظام التنسیق والانسجام والتوافق.

2 - قوله تعالی: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ)1 .

فقد أشار صدر الآیة المبارکة أیضاً إلی أنّ الحدّ الأعلی للوحدة، هو الاعتصام بحبل الله، بمعنی الولاء والاتّباع لله ولرسوله صلی الله علیه و آله.

أمّا ذیل الآیة فقد تصدّی لإبراز وبیان الحدّ الأدنی من الوحدة وهو تجنّب النزاع والفرقة بأیّ شکل من الأشکال، وهذا الحدّ الأدنی من الوحدة یطلق علیه اسم نظام التنسیق والانسجام والتوافق.

إذن، نظام التنسیق والانسجام والتوافق، یمثّل الحدّ الأدنی للوحدة، والتفریط به یؤدّی إلی حصول العداوة بین المسلمین، ویذهب بالنعمة العظیمة التی منّ الله تعالی بها علیهم، وهی الالفة بین القلوب، کما فی تعبیر

ص:317

الآیة ب(فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ) .

وهناک عدّة نصوص قرآنیّة اخری تشارکها فی المضمون ذاته مؤکّدة علی خطورة التجاوز والتفریط بالحدّ الأدنی للوحدة، وهو نظام التنسیق والانسجام والتوافق، کقوله: (إِذْ یُرِیکَهُمُ اللّهُ فِی مَنامِکَ قَلِیلاً وَ لَوْ أَراکَهُمْ کَثِیراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِی الْأَمْرِ)1 .

وقوله: (وَ لَقَدْ صَدَقَکُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّی إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِی الْأَمْرِ وَ عَصَیْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراکُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْکُمْ مَنْ یُرِیدُ الدُّنْیا وَ مِنْکُمْ مَنْ یُرِیدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَکُمْ عَنْهُمْ لِیَبْتَلِیَکُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْکُمْ وَ اللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ)2 ، وهی واضحة الدلالة علی توقّف أو شرطیّة عدم التنازع والفرقة فی تحقیق المسلمین للنصر.

وفی مقابل ذلک فإنّ معصیة الرسول صلی الله علیه و آله وعدم طاعته، مدعاة للتنازع فی الأمر.

فهذه الآیة المبارکة تلتقی فی التأکید مع ما تقدّم من الآیات، فی أنّ الحدّ التامّ أو الأعلی للوحدة، لا یمکن تحقیقه إلّابتمام الطاعة لله ورسوله صلی الله علیه و آله.

وبناءً علی ما تقدّم یتّضح أنّ أسباب التنازع والفرقة هو اتّباع الأهواء والمیول، والابتعاد عن الله ورسوله صلی الله علیه و آله کما فی قوله تعالی:

(وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ وَ لَوْ لا کَلِمَةٌ)

ص:318

(سَبَقَتْ مِنْ رَبِّکَ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی لَقُضِیَ بَیْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِینَ أُورِثُوا الْکِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِی شَکٍّ مِنْهُ مُرِیبٍ)1 .

وقوله تعالی: (وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ)2 .

وغیرها من الآیات التی تصرّح بأنّ أهمّ أسباب الفرقة والاختلاف هو البغض واتّباع الهوی.

بعض ممارسات حکّام المسلمین سبب للفرقة:

ممّا ینبغی التذکیر به هو أنّ من أهمّ أسباب النزاع والفرقة بین المسلمین وطوائفهم ومذاهبهم، هو ما یقوم به بعض حکّام الشعوب الإسلامیّة من السعی لإشعال فتیل الفتنة بین المسلمین وإیجاد الفرقة بینهم؛ وذلک لأنّ وحدة الصفّ بین المسلمین واتّحادهم وانسجامهم یقلق ویخیف هؤلاء الحکّام، ویهدّد عروشهم؛ إذ الانفتاح بین المسلمین والطوائف الإسلامیّة یحیی مبادئ الإسلام الأصیلة الباعثة علی قوّة المسلمین وإقامة العدالة بینهم، وفتح باب إحیاء فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر علی مصراعیها، التی من أهمّ بنودها محاسبة الحکّام ومراقبتهم وصدّهم عن الاستبداد والاستئثار بالثروات، وتحکیم قاعدة الاستشارة والشوری، ومشارکة عموم المسلمین فی الحکم.

ص:319

ومن الواضح أنّ إحیاء هذه القواعد والاصول الإسلامیّة، یهدّد مشروعیّه حکوماتهم واستمرارها، ویحدّد من إطلاق عنانها فی التصرّفات، ومن ثمّ یلجأ هؤلاء الحکّام إلی إثارة الفرقة والنزاع بین المسلمین؛ لئلّا یواجهوا بجبهة متّحدة من عموم المسلمین.

قاعدة فی بیان حقیقة المذهبیّة العقائدیّة والفقهیّة:

هناک إثارات وتساؤلات متعدّدة حیال المذهبیّة، فالشخص المعتنق للدین الإسلامیّ حین دخوله الإسلام ینقدح فی ذهنه تساؤل حول تعدّد المذاهب العقائدیّة والفقهیّة فی الدین الواحد، وهل أنّ المذهبیّة من صلب الدین، أم هی مقحمة فی الدین؟

وقد یتساءل عن الفارق بین الدین والمذهب؟

وهل أنّ الدین یشتمل علی مذاهب متعدّدة أم لا؟

وإلی جوار ما تقدّم من تساؤلات، قد یثار تساؤل آخر یتوجّه صوب بیان الفارق بین تعدّد الاجتهادات وتعدّد المذاهب؟

أو أنّ المذاهب هی نفس الاجتهادات، أم شیء آخر؟

وهل أنّ ما قام به روّاد مرحلة تأسیس المذهبیّة العقائدیّة أو الفقهیّة، هو عملیّة اجتهادیّة، أو هی عملیّة تختلف جوهریّاً عن ذلک؟

وعلی تقدیر کونها لیست اجتهادیّة، وإنّما هی شیء آخر، فهل أنّ حقیقة عملیّة تأسیس المذاهب هو فعل یرتقی إلی درجة التشریع فی الدین أم لا؟

ص:320

وقد یعبّر عنه کما فی جملة من الروایات الواردة من أهل البیت علیهم السلام ب(المنهاج) إشارة إلی قوله تعالی: (جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً)1 .

وغیر ذلک من التساؤلات التی تثار لدی المتابع والمتصفّح لعنوان الدین والشریعة والملّة والنِّحلة والمذهب والمنهاج والطریقة.

ولکی تتّضح الإجابة علی هذه التساؤلات، ینبغی إعطاء لمحة إجمالیّة تصوّریّة عامّة عن حقیقة المذهبیّة العقائدیّة والمذهبیّة الفقهیّة لدی المسلمین.

حقیقة المذهبیّة العقائدیّة عند المسلمین:

لا شکّ أنّ هناک مذاهب عقائدیّة متعدّدة فی الدین الإسلامیّ غیر المذاهب الفقهیّة، فإنّ تنوّع المسلمین إلی شیعة وسنّة، یعدّ تعدّداً مذهبیّاً عقائدیّاً، مضافاً إلی تنوّع المذاهب العقائدیّة عند الشیعة والسنّة أنفسهم، فمذهب الشیعة تعدّد إلی مذهب الإمامیّة الإثنی عشریّه، والإسماعیلیّة، والواقفیّة، والزیدیّة، والصوفیّة، وغیرها.

وهکذا الأمر بالنسبة إلی السنّة التی تنوّعت مذاهبهم العقائدیّة إلی مذاهب متعدّدة، من قبیل مذهب الأشعریّة، والمعتزلة، والسلفیّة، والمرجئة، والقدریّة، والکرامیّة، ونحوها.

إلّا أنّ الشیء الذی یسترعی الالتفات هو أنّ هناک جامعاً مشترکاً بین جمیع هذه المذاهب العقائدیّة، یلتقی فی تحدید میزان وضابطة المذهبیّة العقائدیّة.

ص:321

میزان المذهبیّة العقائدیّة:

إنّ میزان المذهبیّة العقائدیّة یتشکّل من رکائز متعدّدة، وهی:

الاولی: إنّ المسائل الاعتقادیّة مرتبطة بأفعال القلب والجوانح، لا الجوارح.

الثانیة: إنّ المسائل الاعتقادیّة ممّا یتحقّق بها الإیمان الذی به تتحقّق النجاة فی الآخرة.

وعلی هذا الأساس، فلیست کلّ مسألة اعتقادیّة مختلف فیها تشکّل مذهباً عقائدیّاً، بل المسائل التی تدخل فی تحدید دائرة المذهب العقائدی هی المسائل الاعتقادیّة التی تعدّ من أرکان الإیمان عند کلّ مذهب، لا تفاصیل العقائد.

الثالثة: المسائل الاعتقادیّة التی تتنوّع علی ضوئها المذاهب، هی من سنخ المسائل المستندة إلی أدلّة یقینیّة قطعیّة، بخلاف غیرها من المسائل الاعتقادیّة التی تستند إلی أدلّة نظریّة، سواء کانت قطعیّة أم ظنّیّة.

الرابعة: إنّ منزلة الأشخاص الذین ارتبطت أو اتّسمت بهم هذه المسائل الاعتقادیّة، هی منزلة تفوق درجة الفقهاء أو الرواة العدول بحسب ذلک المذهب.

وتصل المنزلة عند کلّ مذهب بحسبه إلی درجة الإمامة فی الدین، ومن ثمّ یتمتّع هؤلاء بقدسیّة خاصّة لدی أتباع المذهب الذی ارتبط بهم، تفوق منزلة الفقهاء والعلماء.

الخامسة: إنّ عملیّة التأصیل العقائدیّ لکلّ مذهب، لیست عملیّة اجتهادیّة

ص:322

استنباطیّة ظنّیّة تتحرّک ضمن دائرة المتغیّرات، بل هی عملیّة بناء ثوابت تمثّل أرکان الإیمان.

ولا یعنی کون هذه المسائل من الثوابت، وخروجها عن دائرة الاستنباط الظنّیّ، أنّها لیست داخلة فی دائرة الفحص العلمیّ؛ لأنّ الفحص والتحرّی العلمیّ وتحصیل العلم شامل لُاسّ الدین، وهو معرفة الخالق والإیمان به، وکذا النبوّة والرسالة والمعاد، فضلًا عن غیرها من المسائل الاخری وإن کانت یقینیّة.

فالبحث فی مسألة من المسائل ومناقشتها لا یعنی اتّکاءها علی أدلّة ظنّیّة اجتهادیّة.

وبعبارة اخری: إنّ استناد مسألة ما علی أدلّة بدیهیّة، فضلًا عن الأدلّة القطعیّة والیقینیّة، لا یعنی أنّها خارجة عن مساحة المناقشة والفحص والتحرّی العلمی عن أدلّة تلک المسألة. فالمسألة وإن کانت بدیهیّة، إلّاأنّ البحث عن أدلّتها وإثارتها یفید - علی الأقل - التنبیه وإجلاء الغموض الذی قد یعتورها ولو من بعض جهاتها.

وعلی هذا، یتبیّن أنّ دائرة الفحص العلمیّ أوسع من دائرة الاجتهاد النظری الظنّی.

حقیقة وموقعیّة عملیّة التأصیل العقائدیّ من الدین:

اشارة

عند التأمّل والتدبّر فی الدور الذی قام به الجیل الأوّل، وهم أهل البیت علیهم السلام عند أتباعهم، أو ما قام به الصحابة لدی أتباعهم أیضاً، نجد

ص:323

أنّ هذا الدور لدی أتباع کلّ طرف لا یکون اعتباره علی حدّ اعتبار الرواة للروایة، ولا یقتصر أیضاً علی حدّ اعتبار درجة مکانة الفقهاء وفتاواهم، وإنّما درجة واعتبار الدور الذی قام به هذا الجیل تتخطّی وتتجاوز درجة اعتبار الرواة والفقهاء، بحیث تکون حجّیّتهم واعتبارهم دخیلة فی حجّیّة الکتاب والسنّة، وأنّ أمانتهم علی الدین واعتبارهم لدی أتباعهم یتوقّف علیها اعتبار الکتاب والسنّة، وأنّ الخدشة فی اعتبارهم یستلزم إبطالًا للکتاب والسنّة؛ لذا کانت حجّتهم ضرورة فی الدین عند أتباعهم، ومن ثمّ لا یتقدّم علیهم أحد فیما بعدهم، ولا یسوغ الردّ علیهم بأیّ حال من الأحوال.

وعلی هذا الأساس، یتّضح أنّ ما قام به هؤلاء من دور فی الدین عند أتباعهم، هو دور فوق النقد والتخطئة وإن لم یکن دورهم لیس فوق الفحص والتحرّی والبحث. ولا یمکن تجاوزه؛ ولذا اطلق علیهم أنّهم الأئمّة فی الدین لدی أتباع کلّ فریق.

وهذا یکشف عن ضرورة وجود حلقة تتوسّط بین عموم الناس وبین الکتاب والرسول صلی الله علیه و آله.

بیان ضرورة الحلقة المتوسّطة بین الامّة وبین الکتاب والرسول صلی الله علیه و آله

ذکرت عدّة أدلّة لهذه الضرورة، نشیر إلیها باختصار:

الدلیل الأوّل: بیان ثوابت الدین:

من الواضح أنّ الکتاب والسنّة یمثّلان المصدرین الأساسیّن للشریعة، وأنّ حجّیتهما قطعیّة، ثابتة عند جمیع المسلمین، کذلک قامت الأدلّة الإعجازیّة علی

ص:324

أنّ القرآن الکریم کلام الله تعالی.

إلّاأنّ الشیء الذی ینبغی الترکیز علیه هو أنّ تلک الأدلّة الإعجازیّة، وإن کانت شاملة لکلّ آیة من القرآن الکریم، إلّاأنّ هناک مساحة واسعة من الأدلّة الإعجازیّة المتنوّعة للکتاب، غیر متیسّرة الإدراک لعموم الناس فی الأجیال اللاحقة للجیل الأوّل، بل وکذا عموم الناس فی الجیل الأوّل.

فلأجل إثبات وبیان هذا المقدار من الموارد الإعجازیّة للقرآن الکریم، الغیر المتیسّرة الفهم لعموم الناس، تحتاج لمن یقوم ببیانها ونقلها للمسلمین، کموارد أسباب النزول أو ملابسات الأحداث لنزول الآیات أو الظروف التاریخیّة والاجتماعیّة المصاحبة والمزامنة، سواء بلحاظ التدوین والکتابة، أو غیرها من الامور الکثیرة.

ومن المعلوم أنّ النقل القطعیّ لا یتحقّق إلّاعبر التواتر، وهو التظافر فی العدد الکمّی والکیفیّ، وهو أمر غیر متوفّر فی الجیل الأوّل فی کلّ الموارد والمشاهد النبویّة؛ لقلّة عدد الناقلین، ولعدم مشاهدة عدد من المسلمین یتحقّق بهم نصاب التواتر.

وهذا یعنی عدم وجود تواتر فی النقل لموارد کثیرة صدرت عن النبیّ صلی الله علیه و آله، کتفسیر وبیان لإعجاز أو مفاد آیات القرآن الکریم غیر المیسّرة الفهم لدی عموم الناس، أو لموارد إعجازیّة أو تشریعیّة صدرت منه صلی الله علیه و آله.

وعلی هذا، فتوجد موارد اخری کثیرة لم یشهدها المسلمون من النبیّ صلی الله علیه و آله بالشکل الذی یوفّر القطع فی النقل والتأدیة عن رسول الله صلی الله علیه و آله،

ص:325

وهذه الموارد تعدّ من الثوابت والضرورات الدینیّة، ولیست من المسائل الفرعیّة التی یکفی فیها الظنّ.

وبناءً علی هذا، فلا بدّ من أن یکون القائمون بالتأدیة والنقل عن رسول الله صلی الله علیه و آله لمثل هذه الثوابت، بدرجة من الصدق فی النقل تفوق اعتبار الرواة، وتفوق فی العلم درجة فقاهة الفقهاء فی الضبط العلمیّ، أی لا یحتمل فیهم الخطأ والاشتباه بنحو یوصد ویسدّ باب الشکّ والریبة.

وهذه الحلقة هی الإمامة فی الدین، التی من مهامّها تأصیل الثوابت العقائدیّة والدینیّة.

الدلیل الثانی: تحقیق وضبط العناصر الدخیلة فی ضروریّات الدین

وهذا الدلیل ینطلق من ضرورة التفسیر الأوّلی للقرآن والسنّة بحسب أسباب النزول، ومنشأ ودواعی صدور الحدیث النبویّ، ولإثبات ما کان من السیرة النبویّة، ممّا له دور مهمّ فی تحدید المعنی الابتدائی الذی تترکّز علیه المراحل الاخری من مراتب المعانی.

وضرورة هذه المرحلة تناظر مرحلة أصل ألفاظ الکتاب والسنّة؛ لأنّها بمثابة نقل الدلالات والعناصر الدخیلة فی الدلالة ممّا هو غیر ملفوظ.

ولا یخفی حجم دور هذه الدلالات فی رسم المعالم النهائیّة للمعنی.

وتحقیق وضبط هذه الملابسات الدخیلة فی ضروریّات الدین، لا بدّ أن تقوم به مجموعة مأمونة عن الخطأ فی الفهم والنقل، وإلّا سوف یتطرّق احتمال الخلاف فی ضرورات الدین وثوابت الشریعة التی اتّکأت وارتکزت

ص:326

علی تلک المعانی الابتدائیّة للآیات والأحادیث الشریفة، ویسری إلی من دونهم ممّن یتلقّون منهم الإدراک والفهم لتلک الآیات والأحادیث من تلک المجموعة.

ومن الواضح أنّ هذه المجموعة غیر بالغة عدداً تلک الکثرة التی یتحقّق فیها القطع فی النقل، من ناحیة الکمّ، وکذلک لم یصل نقل هذه المجموعة إلی درجة البداهة فی الفهم من ناحیة الکیف المستکشف من توافق الکمّ الهائل.

وعلی هذا، فلا یؤمن احتمال الخلاف، إلّامن خلال اعتبار تلک المجموعة یفوق اعتبار العدول فی النقل واعتبار الفقهاء فی الفهم والإدراک.

وبهذا تتّضح ضرورة القیام بهذه المرحلة المتوسّطیّة بین النبیّ صلی الله علیه و آله والامّة.

وهذا الدور المتمیّز فی الاعتبار والأهمّیّة إلی درجة الریادة والقیادة فی الدین، وهو ما یصطلح علیه بالإمامة فی حفظ وبناء معالم الدین.

الدلیل الثالث: القیام بدور التفصیل فی القواعد الاعتقادیّة:

من المعلوم أنّ للعقائد اصولًا ومبادئ واسس عامّة تمثّل البنیة التحتیّة لمنظومة الدین الاعتقادیّة، المتلقّاة من ظاهر الکتاب وسنّة النبیّ صلی الله علیه و آله.

وتنبثق من هذه الاصول الاعتقادیّة قواعد اخری تفصیلیّة، ذات مراتب أکثر تفصیلًا، وهذه القواعد التفصیلیّة المترامیة، قد تسالم المسلمون علی کونها من شرائط تحقّق الإیمان، وارتهان النجاة بها، رغم اختلافهم فی تعیینها وتحدیدها بحسب اختلاف مذاهبهم.

ص:327

وعلی هذا الضوء، فإنّ هذه القواعد التفصیلیّة فی مراحلها الاولی، خارجة عن دائرة الاجتهاد؛ لأنّ ما یرتهن به الإیمان والنجاة لا بدّ أن یکون فی الموضوع بدرجة الضرورة والبداهة عند أتباع کلّ مذهب.

وعلی هذا الأساس، فإنّ القیام ببیان القواعد العقائدیّة التفصیلیّة واستخراجها من الکتاب والسنّة، یفوق فی اعتبار النقل الموثوق أو الاجتهاد الاستنباطی، وهی درجة المصونیّة عن الخطأ والزلل، وهی التی یصطلح علیها بالعصمة.

وهذا هو أحد أدوار الإمامة فی الدین.

حقیقة المذهبیّة الفقهیّة:

لکی یتبیّن میزان وحقیقة المذهبیّة الفقهیّة لا بدّ من بیان الفرق بین المذهب الفقهیّ وبین الاجتهاد فی الفقه فی دائرة المذهب الواحد.

بمعنی أنّ هناک تساؤلًا یثار حول الفرق بین عملیّة الاستنباط الذی مارسه أبو حنیفة ومالک والشافعی وابن حنبل، وبین عملیّة الاستنباط التی یمارسها الفقهاء من أتباع تلک المذاهب، کفقهاء الأحناف والموالک والشوافع والحنابلة...

السبب فی سدّ باب الاجتهاد لدی أهل السنّة:

إلی جوار ما تقدّم من تساؤل، یثار تساؤل آخر یرمی إلی معرفة السرّ، والسبب فی منع وسدّ باب الاجتهاد فی عرض اجتهاد أئمّة تلک المذاهب الأربعة.

ص:328

وعلی فرض وتقدیر أنّ ما مارسه أئمّة المذاهب الأربعة من آراء فقهیّة، هی عملیّة اجتهادیّة بحتة، فعلی هذا التصوّر، فلماذا لا تخضع آراؤهم الفقهیّة للنقد الاجتهادیّ من قِبل بقیّة الفقهاء من بعدهم؟

ولماذا صارت آراؤهم الفقهیّة ثوابت فقهیّة مذهبیّة، مع کون الآراء الاجتهادیّة المستنبطة من الأدلّة الظنّیّة فی معرض التغیّر والتبدّل؟

إذ أنّ من المعلوم أنّ أدوات الإحراز والاستکشاف الظنّیّة قد تصیب وقد تخطئ، فقد یبنی علی رأی استناداً علی دلیل معیّن، ثمّ یظفر بدلیل أقوی من الأوّل، فیبدّل رأیه، وهکذا.

وعلی هذا الأساس، فإنّ السؤال الذی یضغط علی الفکر الإنسانیّ هو: لماذا عادت آراء أئمّة المذاهب الفقهیّة الأربعة ثوابت دینیّة لا یمکن تخطّیها، ولا یمکن لأیّ فقیه آخر تجاوزها ومناقشتها؟ بل یجب علیه أن یکیّف ذهنیّته ومبانیه الفقهیّة فی تبعیّة آراء أئمّة المذاهب، إلی أن صارت آراؤهم اصولًا ونصوصاً دینیّة ذات قداسة ومکانة خاصّة.

وعلی ضفاف هذا التساؤل، هناک إثارة اخری تستفهم عن السبب فی حصر المذاهب الفقهیّة فی أربعة فقط، مع وجود العشرات من الفقهاء المعاصرین لهم ممّن تبعهم بفترة وجیزة؛ کإبراهیم النخعی، وسفیان الثوری، والحکم بن عیینة، والأوزاعی، وعمر بن دینار الأثرم، والحسن البصریّ، والأصمّ وغیرهم؟

ص:329

إجابات لا تخلو من تأمّل:

قد ذکرت إجابات تبرّر سبب حصر المذاهب بالأربعة، وحاصل هذه الإجابات هو أنّ غلق باب الاجتهاد وحصر المذاهب الفقهیّة فی أربعة؛ هو لأجل الخشیة من تکثّر وانتشار المذاهب المتعدّدة بشکل غیر حاصر.

فتح باب الاجتهاد لدی مذهب الإمامیّة:

فی قبال ظاهرة سّد باب الاجتهاد وحصر المذاهب فی الأربعة خشیة تکثّر المذاهب، نجد أنّ هناک ظاهرة معاکسة اخری فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام وهو فتح باب الاجتهاد علی مدی أربعة عشر قرناً، مع وحدة المذهب الفقهیّ، ولم یستحدث أیّ مذهب فقهیّ آخر فضلًا عن تکثّرها إلی مذاهب متعدّدة، فما هی البنیة الموجودة فی منهاج أهل البیت علیهم السلام التی لا یخشی معها من فتح باب الاجتهاد، وعلی العکس فهی مفقودة فی المذاهب الاخری فیخشی من فتح باب الاجتهاد.

فهاتان الظاهرتان؛ ظاهرة سدّ باب الاجتهاد لدی السنّة، وظاهرة فتح باب الاجتهاد لدی الشیعة، تضغطان - وبإلحاح - علی الباحثین فی الوصول إلی حقیقة الأسباب الکامنة وراءهما.

موقعیّة عملیّة استنباط أئمّة المذاهب الأربعة من الدین:

بناءً علی ما تقدّم من عدم جواز تخطّی وتجاوز ما قام به أئمّة المذاهب الفقهیّة الأربعة لدی السنّة من استنباط، ولزوم اتّباعهم لکلّ من جاء بعدهم

ص:330

من الفقهاء، یتّضح أنّ الاعتبار والمکانة التی اعطیت لاستنباطات هؤلاء الأربعة، لیست بدرجة اعتبار الحجّیّة الفقهیّة المعتادة، بل حضیت باعتبار ومکانة القواعد الثابتة فی الدین والتی هی خارجة عن دائرة الاجتهاد والاستنباط، وإن اطلق علیها عملیّة استنباط واجتهاد.

وبعبارة اخری: إنّ آراء واستنباطات الأربعة، اعتبرت لدی أتباعهم بمنزلة أقوال الإمام الصادق علیه السلام وأئمّة أهل البیت علیهم السلام لدی أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام، وإن لم یصرّح معتنقو المذاهب الأربعة بما صرّحت الإمامیّة عن أئمّتهم علیهم السلام بکونهم أوصیاء فی الدین.

وهکذا الحال بالنسبة لبقیّة المذاهب الفقهیّة الإسلامیّة کالإسماعیلیّة، والزیدیّة، وغیرهم.

وهذا یعنی أنّ تلک المرحلة التی قام بها أئمّة کلّ مذهب، هی حلقة مفصلیّة ضروریّة فی بناء المنظومة الدینیّة، تتوسّط بین التشریع لمرحلة فرائض وسنن النبیّ صلی الله علیه و آله وبین مرحلة الاستنباط الظنّی الذی یقوم به المجتهدون من الفقهاء، وهی تکشف عن دور الإمامة فی التشریع الفقهیّ، بمعنی أنّها مرحلة تبیین وتفسیر توقیفی واستخراج تعبّدی للأحکام التفصیلیّة من فرائض الله وسنن نبیّه صلی الله علیه و آله.

وبهذا یتّضح أنّ هذه العملیّة التی یقوم بها أئمّة المذاهب لیست عملیّة استنباط ظنّی من الأدلّة، بل هی مرحلة ضروریّة فی التشریع لم ینکرها أیّ مذهب من مذاهب المسلمین، لإدراکهم أنّ منظومة التشریع الإسلامیّ تفرض ضرورة وجود هذه الموقعیّة من التشریع فی بناء الهیکلیّة التشریعیّة

ص:331

للرسالة الإسلامیّة.

الاستدلال القانونیّ علی ضرورة مرحلة الوصایة فی الدین:

ولتوضیح ضرورة هذه المرحلة، یمکن الاستعانة باللغة القانونیّة، حیث بات واضحاً فی علم القانون، أنّ بناء منظومة القانون، إنّما یکون علی شکل هرمیّ، بمعنی أنّه ذو مراتب وحلقات ودرجات، فقمّة الهرم القانونیّ تمثّل الاسس والمبادئ التی تنطلق منها عملیّة الانشعاب والتفریع لما دونه من مراحل وطبقات التقنین، کما هو الحال فیما نشاهده فی النظام القانونیّ السیاسیّ للدولة، حیث یبدأ باولی مراحله التی تمثّل القمّة فی الهرم القانونیّ، وهی الفقه الدستوریّ، ثمّ تلیها المرحلة الثانیة، وهی عملیّة التشریع فی المجالس النیابیّة، ثمّ المرحلة الثالثة، وهی مرحلة التشریع الوزاریّ، ثمّ المرحلة الرابعة، وهی تشریع المجالس البلدیّة.

فهذه المراحل الأربع مترتّبة ومتسلسلة بعضها علی بعض، وکلّ مرحلة متولّدة من المرحلة السابقة لها، ولا یمکن الوصول إلی المرحلة الثالثة إلّاعبر المرحلة الثانیة، کما لا یمکن الوصول إلی المرحلة الرابعة إلّابالمرور بالمرحلة الثالثة، فلا یمکن تخطّی کلّ مرحلة ما سبقها من المراحل.

ومن الواضح أنّ ترتّب هذا النظام القانونیّ بهذا الشکل، لیس من طریق الوضع البشریّ الاعتباریّ، وإنّما هی طبیعة ذاتیّة للقواعد القانونیّة، فإنّ المبادئ العامّة الکلّیّة، کأصل العدالة والحرّیّة والکرامة الإنسانیّة، والثوابت الدینیّة ونحوها، لا یمکن تطبیقها علی الموارد الجزئیّة التفصیلیّة

ص:332

مباشرة، من دون توسّط مراحل تنزیلیّة قانونیّة لتلک الثوابت العامّة، وتتکفّل المراحل المتوسّطة، الموازنة والترکیب والتنسیق بین مجموعات متعدّدة من القواعد، تلتقی وتتشابک فی مراحل وطبقات التنزّل.

بمعنی أنّ فی کلّ طبقة ومرحلة من مراحل التنزیل القانونیّ تتطلّب مراعاة ضوابط وقواعد خاصّة تقوم بدور التنسیق بین التشریعات والقواعد الخاصّة بتلک المرحلة.

وتختلف هذه القواعد والضوابط التی تقوم بدور التنسیق بین المجموعات الاخری من القواعد التشریعیّة من مرحلة إلی اخری.

فعند تنزّل مبدأ العدالة والحرّیّة فی المجالات المختلفة کالمجال السیاسیّ والاقتصادیّ والاجتماعیّ، وغیرها من المجالات، تظهر لها تداعیات متدافعة ومتزاحمة، وأیضاً نجد أنّهما - مبدأ العدالة والحرّیّة - متدافعان فی تنزّل الکرامة الإنسانیّة، وهذا یتطلّب وجود ضوابط للتنسیق بین هذه الاصول لإیجاد صیاغات تشریعیّة متوسّطة.

ولذا نجد أنّ العمل بمرحلة من مراحل القانون، وهی التشریعات الدستوریّة فی القوانین الوضعیّة، لیس من صلاحیّات الحکومة التنفیذیّة، إلّابتوسّط مراحل تشریعیّة اخری، وهو ما تقوم به المجالس النیابیّة لتنزیل وتفصیل القوانین الدستوریّة إلی صیاغات تشریعیّة أکثر تفصیلًا وأضیق دائرةً.

کما أنّ العمل فی تشریعات المجالس النیابیّة هی الاخری لیست من صلاحیّات مدیریّات وشعب الدوائر، إلّابتوسّط تشریعات اخری یقوم بها

ص:333

الوزراء ووکلاؤهم المعتمدین فی اللجان المختصّة، لتفصیل وتنزیل التشریعات النیابیّة إلی تشریعات أکثر تفصیلًا، وهکذا الأمر بالنسبة إلی العمل بالتشریعات الوزرایّة، لیس العمل بها من صلاحیّات عموم الناس إلّابتوسّط التشریعات التی فی المجالس البلدیّة الخاصّة بکلّ منطقة.

ومراعاة ترتیب هذه المراحل بعضها علی بعض لیس أمراً ارتجالیّاً واتّفاقیّاً، ولا من طریق المواضعة والتوافق التصالحیّ علی الاصطلاح، وإنّما هو أمر ذاتیّ تقتضیه کلّ طبیعة عامّة ذات مدار وسیع جدّاً، فهذه الطبیعة لا یمکن أن تأخذ طریقها إلی الموارد الجزئیّة الضیّقة المتشخّصة، إلّاعبر عناوین أضیق دائرة، مترامیة ومتعاقبة طولًا فی سلسلة التنزّل، بحیث تکون کلّ مرتبة لاحقة أضیق ممّا سبقها، إلی أن تصل إلی إمکانیّة تطبیقها علی الموارد الجزئیّة الخارجیّة.

وهذا تحلیل عقلیّ لبیان وجه الاستدلال علی ضرورة المراتب والطبقات والمراحل فی التشریع.

الأدلّة علی ضرورة عصمة الوصیّ فی الدین:

هناک عدّة أدلّة لإثبات ضرورة العصمة للوصیّ فی الدین، الذی یقوم بدور تنزیل القواعد العامّة التی هی نوع من التشریع فی الدین، فی مراحله الاولی من التشریع، ومن هذه الأدلّة:

الدلیل الأوّل: الإحاطة بالروابط والنسب بین التشریعات، یتوقّف علی العصمة اللدنیة.

ص:334

وحاصل هذا الدلیل هو أنّ الإحاطة بمبادئ التشریع الکامل - وهو التشریع الإلهیّ - بنحو تامّ ومتناسب بین النسب والتنسیق بین الروابط لتکون موافقة ومتطابقة عمّا علیه فی الواقع والحقیقة، لا یمکن، بل یستحیل تحقّقها إلّابنحو خاصّ من العلم، وهو العلم الإلهیّ اللدنیّ الذی هو أساس ومبدأ العصمة.

الدلیل الثانی: إدراک المصالح الواقعیّة، یتوقّف علی العصمة اللدنیة.

إنّ العناوین ذات الطبیعة العامّة تتنزّل وتنحدر إلی عناوین اخری وتصل إلی درجة تترامی وکأنّها عناوین متباینة لا صلة فیما بینها.

وإن هذه الرابطة والصلة بین تلک العناوین المنحدرة من العناوین العامّة، لا یمکن أن یطّلع أو یلمس طبیعة الرابطة والعلاقة فیما بینها، إلّامن زُوّد بالعلم الإلهیّ، ووقف علی حقائق تلک العناوین.

والشاهد علی ذلک هو ما نلمسه واضحاً فی مسیرة البشریّة فی التقنین للقوانین والدساتیر الوضعیّة، حیث نجدها دائمة التغیّر والتبدّل فی مبادئها واسسها العامّة، فضلًا عمّا دونها من المراحل، وهذا یکشف عن عدم الإحاطة التامّة بمنظومة الاسس والروابط والنسب بین تلک العناوین، وهو ما یطلق علیه بعدم إدراک المصالح الواقعیّة وعدم الإحاطة بها.

هذا، وما أورد فی هذه الدراسة فی نظام الوحدة والتقریب ونظام التعایش الإسلامی الإسلامی لیس إلّابادرة فی مسیرة التنقیح لمزید من القواعد المنظّمة لعلاقة المسلمین فیما بینهم وفی علاقتهم مع الملل والنحل الاخری.

ص:335

ص:336

القاعدة العشرون: قاعدة فی (شرطیة الولایة فی صحة التوبة وصحة العبادات وقبولها والتقرب)

ص:337

ص:338

القاعدة العشرون: قاعدة فی شرطیة الولایة فی صحة التوبة وصحة العبادات وقبولها والتقرب

اشارة

نرید أن نبیّن تحت هذا العنوان دور التوسّل وشرطیته فی مقامات ثلاث، وهی کالتالی:

المقام الأول: إن من شرائط التوبة وقبولها التوسّل بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

المقام الثانی: إن من شرائط قبول وصحة الإیمان(العقیدة) والعبادات مطلقاً التوسّل والتوجّه بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

المقام الثالث: إن أی توجّه إلی الحضرة الربوبیة فی صدد نیل مقام من المقامات الإلهیة أو حظوة عند الله تعالی لابدّ فیه من التوجّه بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام والتوسّل بهم.

فإن فقهاء الإمامیة وغیرهم أیضاً ذکروا أن ولایة أهل البیت علیهم السلام شرط فی تلک المقامات الثلاث، بمعنی معرفتهم والإیمان بإمامتهم.

ولیس هذا ما نرید إثباته هنا؛ إذ هو مع وضوحه خارج عن محلّ البحث.

إذن ما نرید بیانه هنا هو شرطیة التوسّل بالنبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی

ص:339

تلک المقامات الثلاث.

ولأجل اشتراک ما ادّعیناه فی المقامات الثلاث فی طبیعة الأدلّة نستعرضها ببیان واحد، یکون صالحاً لإثبات المدّعیات الثلاثة فی المقامات المذکورة.

وإلیک فیما یلی استعراض الأدلّة:

الدلیل الأول: معطیات الشهادة الثانیة:

إن المعرفة والعقیدة والإیمان الذی هو من العبادات، بل أعظم الفرائض الإلهیة؛ لأنه إذعان وإخبات وتسلیم وخضوع وانقیاد لله تعالی، وهذه المعرفة الإیمانیة للعقل والقلب هی عبادتهما وطوعانیتهما لله نوع توجّه ولقاء لله تعالی ووفود علی الحضرة الربوبیة وزلفی وقرب بتوسّط الإیمان القلبی، وهذه العبادة القلبیة العظیمة ممتنعة بلا واسطة، وذلک لعظمة الله عزّ وجلّ، فلا اکتناه ولا إحاظة ولا مماسّة ولا ملامسة ولا مواجهة جسمیة أو عقلیة أو نفسیة؛ إذ لا یُجابه الجسم إلّاما یماثله فی الجسمیة، ولا یُجابه النفس أو العقل إلّاما یماثلهما، والله تعالی منزّه عن کونه جسماً أو نفساً أو عقلًا؛ لکونها من الممکنات المحدودة بحدود الماهیة والفقر والحاجة.

إذن لابدّ من الوسیلة والواسطة فی الإیمان، الذی هو أعظم العبادات وأعظم أنواع التوجّه إلی الله تعالی، والواسطة هی الإیمان بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والإقرار بالشهادة الثانیة فی مقام الإدلاء بالشهادة التوحیدیة المقبولة عند الله تعالی، والموجبة للخروج من حظیرة الشرک إلی التوحید الإسلامی الخالص؛ لأنه أعظم آیة للحقّ سبحانه.

ص:340

وإذا کان للوسیلة هذا الدور الخطیر فی المعرفة وأن التوجّه إلیها فی المعرفة توجّهاً إلی الله تعالی، والمعرفة أعظم شأناً من سائر العبادات، فکیف لا یکون التوجّه فی عبادة البدن والنفس إلی الله تعالی بالوسیلة؟! وکیف لا یسوغ التوجّه فی الخطاب الکلامی بألفاظ الدعاء إلی الوسیلة، ویکون دعاؤها دعاء بها إلی الله تعالی؟!

ففی حاقّ وعمق عبادة الإیمان والتوجّه القلبی لابدّ من التوجّه بالنبیّ صلی الله علیه و آله للوفود علی الله عزّ وجلّ، فلا یتحقّق التوحید ولا یکون المرء مؤمناً، إلّاإذا توجّه بقلبه إلی الله تعالی بالشهادة الأولی والشهادة الثانیة، ومن ینفی أی إسم أو واسطة مع الله تعالی عند التوجّه إلیه فهو واقع فی مغبّة الشرک والوثنیة من حیث یشعر أو لا یشعر، نظیر وثنیة قریش، حیث کانوا لا یدینون الله تعالی بطاعة وولایة نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله.

وإذا کان الإیمان والمعرفة کذلک فکیف بباقی العبادات التی هی أقلّ شأناً وخطورة؟!

والحاصل: أن المعرفة والإیمان والتوحید الذی یتضمّن الدین بأجمعه لا یحصل إلّابالتوسل بآیات الله الکبری، ومزاوجة الشهادة الثانیة بالشهادة الأولی، وهذا یعنی أن أی شأن من الشؤون الدینیة کالتوبة أو العبادة أو نیل مقام من المقامات الإلهیة لا یمکن أن یتحقّق إلّابالمحافظة علی الشهادة الثانیة، والإقرار بها وبمعطیاتها وتداعیاتها ومقتضیاتها فی کافّة أصول وفروع المعارف التوحیدیة، ولا شک أن الإیمان بالشهادة الثانیة توجّه قلبی بالنبیّ الأکرم لله عزّ وجلّ، إذ الإیمان کما أسلفنا طلب للقرب والزلفی ولقاء الله

ص:341

تعالی، وهذا القرب إنما یتحقّق بتوسیط الشهادة الثانیة، وهی شهادة أن محمّداً رسول الله وولیّه وخلیفته فی أرضه.

فالإسلام یدعو إلی التوجّه بالنبیّ صلی الله علیه و آله فی الإیمان والاعتقاد وهو أفضل عبادة، فضلًا عن بقیّة العبادات الأخری، والإباء عن التوجّه فی العبادة بخاتم الأنبیاء إنکار للشهادة الثانیة، ودعوة إلی الشرک باسم التوحید، وهذا ما أخفق فیه السلفیون، حین جحدوا التوسّل بالنبی صلی الله علیه و آله، فلا تراهم یقرنون لون الشهادة الثانیة ومؤداها ومعطیاتها بلون الشهادة الأولی فی رسم بناء التوحید فی أدبیات کتبهم، فیقتصرون علی تفسیر الشهادة الأولی فی التوحید، من دون أن یهتدوا إلی کیفیة رکنیة مؤدّی الشهادة الثانیة فی أرکان التوحید، وکیفیة ضرورة الربط والارتباط بین مؤدّی کل من الشهادتین فی رسم أصل التوحید، ومنه یظهر أن التوسّل والتوجّه بالنبی صلی الله علیه و آله ضرورة ولیس مجرد خیار مشروعیة.

الدلیل الثانی: التوسّل ضرورة عقلیة:

اشارة

علی الرغم من أن هناک من أعلام السنّة من أکّد علی رجحان التوسّل ومشروعیّته، کالقاضی عیاض فی کتابه الشفا بتعریف حقوق المصطفی والسُبکی فی شفاء السقام والسیف الصقیل والسمهودی فی وفاء الوفا وتقی الدین الحصنی الشافعی فی کتابه دفع الشبه عن الرسول والرسالة وغیرهم.

إلّا أن ما نرمی إلیه فی هذه الأبحاث أبعد من ذلک؛ إذ أن الرجحان والمشروعیة لا یثبتان سوی التخییر وکون التوسّل أمراً مرغوباً فیه یجوز

ص:342

للمکلف تعاطیه وله ترکه أیضاً، وما نرید التأکید علیه هنا هو أن مبدأ التوسّل أمر ضروری یحکم العقل بلابدّیته وعدم إمکان المحیص عنه، وذلک لأن نفی الواسطة والوسیلة بین العبد وبین ربّه فی مقام التوجّه إلیه تعالی لا یخرج عن أحد فروض ثلاثة کلّها باطلة:

الأول: فرض المجابهة والمواجهة المباشرة لله تعالی حین التوجّه إلیه فی الدعاء والعبادة، وبطلان هذا الفرض واضح، إذ یلزم منه التشبیه للذات الإلهیة، وقد ثبت بطلانه فی الأبحاث العقائدیة؛ لتنافیه مع الصفات الکمالیة اللّامتناهیة لواجب الوجود.

بیان الملازمة:

إن مجابهة ومواجهة البشر العادیین المباشرة للذات الإلهیة المقدّسة إما أن تکون حسّیة جسمانیة أو نفسانیة روحیة أو عقلیة، وهذه الأقسام الثلاثة من المجابهة المباشرة هی التشبیه الباطل بعینه، وذلک لأن الارتباط المواجهة الجسمیة إنما تفرض مع ما هو جسم، لقانون التضایف بین المتجابهین، وهکذا التوجّه المواجهة الروحیة والقلبیة لما هو روح والمواجهة العقلیة لما هو عقل أیضاً، فکلّ هذه الأقسام المفروضة للمواجهة المباشرة لله تعالی لم تخرج عن دائرة التشبیه للذات المقدّسة بکونها جسماً أو روحاً أو عقلًا، وهو الشرک بعینه، لکونه موجباً لسلب واجب الوجود عن واجبیّته وکماله المطلق اللّامتناهی، ووصفه بصفات المخلوق المحدود بحدود الإمکان والماهیة والفقدان والاحتیاج والافتقار.

ص:343

وحاصل هذا الفرض هو مواجهة البشر العادیین المباشرة لله تعالی، وهو فرض التشبیه الباطل بکلّ مراتبه.

الثانی: القول بالتعطیل وعدم السبیل إلی الله تعالی ومعرفته والتوجّه إلیه، وهو باطل، لأن معرفة الله تعالی واجبة والتی هی نوع لقاء لله عزّ وجلّ وتوجّه إلیه وزلفی.

الثالث: دعوی أن الناس بأجمعهم لهم ارتباط مباشر مع الله تعالی فوق الجسم والروح والقلب والعقل بما لا یستلزم التشبیه، وهذا باطل بالوجدان، وقد رفض القرآن الکریم أیضاً الإیحاء والوحی إلی جمیع البشر واستنکر ذلک علی المشرکین، کما فی قوله تعالی: (بَلْ یُرِیدُ کُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ یُؤْتی صُحُفاً مُنَشَّرَةً)1 .

وردّ الله عزّ وجلّ فی آیات أخری علی هذه المقالة الباطلة، حیث قال: (وَ إِذا جاءَتْهُمْ آیَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّی نُؤْتی مِثْلَ ما أُوتِیَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَیُصِیبُ الَّذِینَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ وَ عَذابٌ شَدِیدٌ بِما کانُوا یَمْکُرُونَ)2 .

ومع بطلان هذه الفروض الثلاثة تکون النتیجة ضرورة الإیمان بالوسائل والوسائط والآیات، والرجال المؤهّلین للإرتباط بالله تعالی، وهم الأنبیاء والأولیاء والمصطفین، الذین اصطفاهم الله عزّ وجلّ وجعلهم وسائط بینه وبین خلقه فی کلّ ما یحتاج الخلق إلیه وفی کلّ توجّه وطلب

ص:344

ودعاء وزلفی إلی الله تعالی، سواء کان علی مستوی التوبة أو سائر العبادات أو نیل مقام من المقامات الإلهیة، ولیس ضرورة التوسیط إلّالعظمة الله عزّ وجلّ وعلوه عن التجسیم والتشبیه والتعطیل.

ثم إن آیات الله الکبری وأسمائه العظمی التی جعلها واسطة فی التوجّه إلیه هی أیضاً لا تتوجّه إلی الله عزّ وجلّ بالمباشرة ولا تجابهه إلّابذواتها، فتوجّه الوسائط أیضاً إلی الله تعالی إنما یکون بذواتها التی هی آیة لمعرفة الله عزّ وجلّ، ولا توجد أی مجابهة بالمباشرة لأیّ مخلوق من المخلوقات.

التوسّل فی کل النشآت ولأصناف المخلوقات:

والحاصل: أن الله تعالی لعظمته وعظیم صفاته لا یجابه ولا یواجه إلّا بالوسائل والآیات، ولا یستثنی من ذلک القانون وتلک السنّة الإلهیة التکوینیة أی مخلوق من المخلوقات فی کلّ شأن من شؤونه المعرفیة والعبادیة فی هذه النشأة وفی جمیع النشآت، ولذا قالت الصدّیقة فاطمة الزهراء علیهاالسلام فی مستهل خطبتها المعروفة فی هذا المجال:

«فاحمدوا الله الذی بعظمته ونوره ابتغی من فی السماوات ومن فی الأرض إلیه الوسیلة، فنحن وسیلته فی خلقه، ونحن آل رسوله، ونحن حجّة غیبه وورثة أنبیائه» (1).

وکذا قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

ص:345


1- (1) شرح نهج البلاغة/ ابن أبی الحدید: ج 16 ص 211، السقیفة وفدک/ أبو بکر الجوهری البغدادی: ص 101.

«وبعظمته ونوره ابتغی من فی السماوات والأرض من جمیع خلائقه إلیه الوسیلة» (1).

إذن قانون ومبدأ التوسّل ضرورة یدرکها العقل ویُقرّ بها، لعظمة الله تعالی، ولیس التوسّل أمراً تخییریاً ولا مشروعاً فحسب.

الدلیل الثالث: عموم طاعة الله ورسوله وأولی الأمر:

اشارة

إن ضرورة المسلمین قائمة علی أن جمیع العبادات فیها ما هو فرائض قرآنیة إلهیة ومنها ما هو سنن نبویّة، کما فی الصلاة والصیام والحجّ والزکاة والجهاد وغیرها، إذ هی فرائض إلهیة فی أصل وجوبها فی الدین، وأما تفاصیلها وأجزائها وشرائطها وأقسامها فهی سنن نبویّة وصلتنا عن طریق أمر النبیّ صلی الله علیه و آله لکلّ المسلمین بتلک التفاصیل والتشریعات الخاصة، ومن أمثلة ذلک ما ورد فی روایات الفریقین من أن الصلوات کان فرضها من الله تعالی رکعتین لکلّ صلاة وما زاد علیها فی کلّ صلاة کان من سنّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأمره وفرضه(2) وهکذا بقیّة التفصیلات والتشریعات القانونیة النبویّة ضمن الفرائض الإلهیة، وکتب الحدیث ملیئة بالأوامر النبویّة فی مجمل الأبواب الفقهیة وغیرها.

إذن فیکون الإتیان بالصلاة والزکاة والحجّ وغیرها طاعة لأمر الله وأمر رسوله صلی الله علیه و آله، ولا تُستعلم طاعة الله عزّ وجلّ من دون طاعة الرسول الأکرم فی

ص:346


1- (1) الکافی: ج 1 ص 129.
2- (2) وسائل الشیعة: أبواب القراءة فی الصلاة ب 1 ح 4، مسند أحمد: ج 6 ص 241 مسند عائشة، مجمع الزوائد/ الهیثمی: ج 2 ص 154.

أوامره ونواهیه، فهو صلی الله علیه و آله باب طاعته تعالی؛ لأنه هو الدالّ والمبیّن والناطق الرسمی عن أوامر الله عزّ وجلّ ونواهیه.

وهذا ما کنّا نُعبّر عنه بتداعیات ومقتضیات الشهادة الثانیة؛ إذ هی تستدعی الإتیان والالتزام بجملة الدین طاعة لله ورسوله.

وهذا ما تکاثرت ودلّت علیه جملة من الآیات القرآنیة، کما فی قوله تعالی: (قُلْ أَطِیعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ)1 .

وقوله تعالی: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ)2 .

ثم إن الله عزّ وجلّ حذّر المسلمین من المخالفة لأوامر الرسول الأکرم، وبیّن فی آیات عدیدة العواقب الوخیمة التی تترتب علی مخالفة النبیّ صلی الله علیه و آله فی أوامره:

کما فی قوله تعالی: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَیْنَکُمْ کَدُعاءِ بَعْضِکُمْ بَعْضاً قَدْ یَعْلَمُ اللّهُ الَّذِینَ یَتَسَلَّلُونَ مِنْکُمْ لِواذاً فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)3 .

وکذا قوله تعالی: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا)4 .

وقوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ)

ص:347

(وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)1 .

وقوله عزّ وجلّ: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَکُمْ)2 .

إلی غیر ذلک من الآیات القرآنیة التی جاءت فی ضمن السلک العام والسنّة الإلهیة الشاملة لطاعة الرسل کافّة، کما فی قوله تعالی: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ)3 ، ومن الجدیر بالإلتفات أن تتمة هذه الآیة المبارکة هو قوله عزّ وجلّ: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)4 والتی سیأتی الاستدلال بها علی شرطیة التوسّل فی المقامات الثلاث المتقدّمة.

والحاصل: أن أوامر النبیّ صلی الله علیه و آله اقترنت بأوامر الله وفرائضه فی مجمل أحکام الدین الإسلامی، وقد أکّدت الآیات القرآنیة علی وجوب اقتران طاعة الله تعالی بطاعة رسوله صلی الله علیه و آله، وهذه طاعة عامّة کطاعة الله عزّ وجلّ فی کلّ أبواب الدین برمّته بلا استثناء لأی جانب من جوانب الشریعة الإسلامیة والدین الإسلامی، ومعنی ذلک أن نیّة القربة إلی الله تعالی وطاعته فی جمیع العبادات إنما تتحقّق بتوجّه العبد إلی ربّه بطاعة نبیّه، ففی کلّ عبادة إنما یتوجّه العبد إلی الله تعالی للتقرّب إلیه بطاعته وطاعة رسوله.

ص:348

فذلکة صناعیة لأخذ التوسّل فی نیة القربة:

ولا شک أن حقیقة العبادات بالنیّة القربیّة، والنیّة القربیّة إنما تحصل بالسبب المؤدّی إلی القربة، والقربی غایة مسبّبة سببها الطاعة لأوامر لله تعالی، وطاعة الله عزّ وجلّ لا تتحقّق إلّاإذا کانت مقترنة بطاعة رسوله صلی الله علیه و آله، إذ أن النیّة التی هی روح العبادة إنما تحصل بوسیلة وواسطة طاعة النبیّ، ومن لم ینوِ القربة بهذا النحو فی العبادة تکون عبادته شرکاً بالله تعالی، لعدم التوجّه إلی الله عزّ وجلّ بأبوابه التی أمر بتوسیطها وطاعتها وامتثال العبادات انقیاداً لأوامرها.

ومن یرید أن یفصل فی صلاته وحجّه وصومه طاعة الله عن طاعة الرسول یکون علی الوثنیة الجاهلیة التی یشنؤها الله عزّ وجلّ وعبّر عنها فی قرآنه الکریم بالشرک والنجس، وطاعة کلّ من لم یأمر الله بطاعته وثن من الأوثان، بل حتی صلاته تصبح وثناً إذا کانت صادرة عن طاعة غیر من أمر الله بطاعته، وإن کان ذلک المطاع هو الهوی وتحکیم سلطان الذات علی سلطان الله عزّ وجلّ، کما فی الوثنیة القرشیة التی ذمّها القرآن الکریم.

ومن ذلک یتّضح أن أی عبادة من العبادات أو قربة من القربات أو نیل مقام من المقامات القربیة أو الفوز بحظوة عند الله تعالی لا یمکن أن تتحقّق من دون توسیط طاعة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی تلک العبادة أو ذلک المقام.

ففی مقام التقرّب والنیّة والقصد جُعلت القبلة المعنویة طاعة النبیّ صلی الله علیه و آله والتدین بولایته والخضوع له، الذی هو خضوع لله عزّ وجلّ، کخضوع الملائکة لآدم لأنه باب الله تعالی.

ص:349

هذا کلّه فی مقتضیات الشهادة الثانیة وضرورة اقترانها بالشهادة الأولی.

کذلک أکّدت الآیات القرآنیة علی ضرورة الشهادة الثالثة واقترانها بالشهادة الثانیة تبعاً للشهادة الأولی.

والشهادة الثالثة عبارة عن طاعة أولی الأمر، الذین أمر الله بطاعتهم فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِیلاً)1 ، حیث قرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله صلی الله علیه و آله.

وقد بیّن الله تبارک وتعالی فی قرآنه الکریم المراد من أولی الأمر الذین تجب طاعتهم، بعد أن بیّن تعالی المقصود من الأمر الذی هم أولیاؤه، وأنه أمر ملکوتی من عالم کن فیکون، کما فی قوله تعالی: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ)2 ، وقوله تعالی: (وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ کَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)3 ، وکذا قوله عزّ وجلّ: (وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)4 ، وقوله تعالی: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَکَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِینَ)5 ، ثم أفصحت الآیات القرآنیة عن کون الأمر عبارة عن تدبیر السماوات والأرض، قال تعالی: (یُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَی الْأَرْضِ ثُمَّ یَعْرُجُ إِلَیْهِ فِی یَوْمٍ کانَ)

ص:350

(مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)1 .

إذن أولو الأمر هم الذین یتنزّل علیهم الأمر فی لیلة القدر وفیها یفرق کلّ أمر حکیم، قال تعالی: (لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ)2 ، وقال عزّ وجلّ فی وصف لیلة القدر: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ * فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا کُنّا مُرْسِلِینَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ)3 ، ثم بیّن الله عزّ وجلّ أن شریعة النبیّ الأکرم من ذلک الأمر الحکیم الذی یفرق فی لیلة القدر، حیث قال عزّ وجلّ مخاطباً نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله: (ثُمَّ جَعَلْناکَ عَلی شَرِیعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ)4 .

وقد صرّحت آیات أخری بأن الأمر الملکوتی یتنزّل علی عباد الله من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبیاء والرسل، قال عزّ وجلّ: (یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ)5 .

وحاصل ما ذکرناه من الآیات: أن الأمر من عالم الملکوت والغیب، وأنه مرتبط بتدبیر السماوات والأرض وغیر مختصّ بالشؤون الدنیویة المادّیة،

ص:351

وأن الشرائع وهدایة الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولیاء الله الأصفیاء المجتبین ولیس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلک لارتباطه المباشر بمقام الهدایة والإیصال إلی المطلوب وهو مقام الخلافة والإمامة کما تقدم؛ ولذا قال تعالی: (وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ کانُوا بِآیاتِنا یُوقِنُونَ)1 ، والصبر والیقین للأئمة من أولی الأمر فی هذه الآیة المبارکة إشارة إلی العصمة فی مقام العلم والعمل.

ولا یوجد أولو أمر فی هذه الأمة بعد رسول الله تجب طاعتهم غیر أهل بیته صلی الله علیه و آله، الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً.

ولا یمکن اقتصار الأمر الإلهی علی السیاسة والأمور الاجتماعیة، بل هو أمر ملکوتی من عالم الغیب لهدایة الأمة وتدبیر السماوات والأرض یتنزّل فی لیلة القدر علی أولیاء الله وأصفیائه، وهؤلاء هم أوصیاء رسول الله صلی الله علیه و آله والأئمة من بعده الدالّون علی أوامره والذین أوکل لهم البیان الشرعی والقانونی للأوامر الإلهیة والنبویّة، فکما أن الدالّ علی أوامر الله ونواهیه هو النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بأمره ونهیه، کذلک الدالّ علی أوامر الرسول الأکرم ونواهیه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهیهم، فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أمر ونهی فی ضمن إطار الفرائض الإلهیة، وأولو الأمر أیضاً یأمرون وینهون فی ضمن دائرة السنن النبویّة المبارکة، بما یشبه الحالة التراتبیة فی التنزّل القانونی الوضعی فی الأدوار والصلاحیات، فهم الدالّون علی طاعة الرسول صلی الله علیه و آله کما کان هو دالّا علی طاعة ربّه.

ص:352

وبعبارة أخری: إن أصول تشریع الله تعالی وفرائضه یتبعها تشریعات النبیّ صلی الله علیه و آله تفصیلًا وبیاناً، ویتبعها تشریع أولی الأمر علی نحو التنزّل القانونی، الذی هو الفتق بعد الرتق، والتفصیل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشریعات، وهذه لغة قانونیة جعلها الله تعالی جسراً لإیصال أحکامه علی ما جری علیه البشر، کالتشریع للفقه الدستوری ثم النیابی ثم الوزاری، علی نحو التبعیة بلا منافاة، وهذا برهان قانونی علی التشریعات التی لابدّ من طاعتها، فالرتق یُفسَّر ویفتق فتقاً قانونیاً تابعاً له.

ویتجلّی ذلک المعنی أکثر إذا علمنا أن معظم بیان تشریع الشرائط والموانع وتفاصیل الأجزاء هی من تشریعات أئمة أهل البیت علیهم السلام، فلا تستعلم تلک الأمور مع ترکهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن الطاعة فی الدین بطاعة الله، وطاعة الله بطاعة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأولی الأمر، فالولیّ بعد الله تعالی رسوله صلی الله علیه و آله وبعد الرسول أولی الأمر، الذین لهم حقّ استنباط الدین وبیانه وتفصیله، قال تعالی: (وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَ إِلی أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)1 .

والذی یتّضح مما ذکرناه أن طاعة أولی الأمر علی حدّ طاعة رسول الله مقترنة بها وشاملة للدین کلّه، کما أن ولایة الله تعالی وطاعته کذلک غیر مختصّة ببعض الشؤون السیاسیة أو الاجتماعیة.

ص:353

فالإتیان بجمیع العبادات والطقوس الدینیة طاعة لأمر الله وأمر رسوله وأولی الأمر من بعده وهم أهل بیته علیهم السلام، فالعبد ینقاد ویفد علی الله تعالی ویتقرّب ویتوجّه إلیه بطاعة الرسول وطاعة أولی الأمر، وهذا یعنی أن الشهادة الثانیة والثالثة مأخوذتان واسطتین فی حاقّ عبادة الله تعالی بما فیها عبادة المعرفة، التی هی أعظم العبادات.

ومن ثمّ کان الدین عبارة عن ولایة الله وولایة الرسول وولایة أولی الأمر والطاعة لهم، قال الله تعالی: (إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ * وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ)1 .

والولایة والطاعة أصالة لله وبالتبع للنبیّ وأولی الأمر بإذن وأمر من الله تعالی، کما أخضع الله عزّ وجلّ ملائکته ومن خلق من الجنّ وغیرهم لولیّ الله وخلیفته آدم، بما هو النموذج والمصداق لخلیفة الله فی الأرض، فکلّ من یتسنّم مقام الخلافة الإلهیة لابدّ من الإنقیاد والخضوع والطاعة له.

وحیث أن التوجّه والقربة والزلفی لا تحصل إلّابالطاعة لله وللرسول، کذلک لا تحصل إلّابطاعة أولی الأمر مقترنة مع طاعة الله ورسوله، فلا یمکن قصد القربة فی العبادة ولا یحصل القرب إلی الله تعالی فی العبادات إلّابالخضوع والطاعة لولیّ الأمر والإتیان بالعبادة امتثالًا لأمره، تبعاً لأمر الله والرسول صلی الله علیه و آله، حیث یستعلم أمرهما بأمره.

ص:354

واتّضح من ذلک البیان أیضاً أن جمیع العبادات فرائض من الله تعالی وسنّة من نبیّه ومنهاج وهدی من أهل بیته علیهم السلام وعلی جمیع المستویات الاعتقادیة والعبادیة.

کذلک تبیّن أن من یعبد الله من دون التوجّه بحجّة الله وولیّه، بطاعته وامتثال أمره عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة فی مقاماتها الثلاث وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلی بعضها البعض، فلا یُصار إلی التوجّه إلی الله تعالی إلّا عن طریق آیاته وبیّناته، وهم الوسیلة إلیه فی المقامات الثلاث التی ذکرناها فی صدر البحث، بل فی الدین کلّه.

ولو کان إقحام اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وذکره والتوجّه القلبی إلیه وإلی أولی الأمر موجباً للشرک لَما قرن الله تعالی طاعته بطاعتهم، فلیس إنکار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلی التفریق بین الله ورسوله وأولی الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هی عبادة الشرک التی آمن بها إبلیس، الذی أراد أن یفرّق بین طاعة الله وطاعة خلیفته، بخلاف الملائکة أهل عبادة التوحید الذین خضعوا لله ولولیّه آدم علیه السلام.

ثم إن مورد هذه الآیة وهی آیة(أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ)1 التی حکمت بوجوب الطاعة هو الدین کلّه، فکما أن طاعة الله عزّ وجلّ فی الدین کلّه، کذلک ما اقترن بها من طاعة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وأولی الأمر من أهل بیته علیهم السلام.

ص:355

وما ورد من قوله تعالی: (إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً) لبیان أن محلّ بدن الخلیفة هو الأرض، ولکن خلافته لیست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أطوع له جمیع الملائکة فی جمیع النشآت، والشاهد علی ذلک أیضاً تقدیم الجار والمجرور(فِی الْأَرْضِ) علی الخلیفة، فالدین الذی هو معرفة الله تعالی عامّ لا یستثنی منه أحد فی جمیع النشآت، ومن ثمّ تکون جمیع المخلوفات مکلّفة بالطاعة لأولی الأمر؛ ولذا أمر الله تعالی الملائکة بالسجود بما فیهم إبلیس وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولی الأمر وولایتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سیاسی أو اجتماعی، والکلّ یبتغی إلی الله الوسیلة ویخضع لولی الله فی توجّهه إلی خالقه، والتوجّه إلی الله من دون التوجّه إلیه بطاعة نبیّه وولیّه نجس وشرک ووثنیّة قرشیة.

ونیّة القربة إذا لم تکن علی هذا المنوال فی العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآیات.

وبذلک کلّه یتمّ ما ذکرناه من شرطیة التوسّل والتوجّه فی المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلی وجوب الطاعة فی مراتبها الثلاث.

الدلیل الرابع: إقتران اسم النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته:

بأعظم العبادات:

لقد رفع الله عزّ وجلّ ذکر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وقرنه باسمه فی مجمل العبادات، التی تقع فی مصافّ أسس الدین وأرکان الإیمان، من حیث محوریتها فی المنظومة الدینیة، ونشیر فیما یلی إلی بعض تلک الشواهد فی هذا

ص:356

المجال:

الشاهد الأول: الإتیان باسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی تشهّد الصلاة، حیث إن الصلاة علی النبیّ وأهل بیته راجحة بإجماع المسلمین(1) ، وهی شرط واجب فی الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامیة، کمذهب أهل البیت علیهم السلام(2) وبعض فقهاء المذاهب الأخری(3) ، تمسّکاً بما روته عائشة من الوجوب، حیث روت عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنه قال:

«لا یقبل الله صلاة إلّابطهور والصلاة علیّ» (4).

وقد بیّن النبیّ الأکرم الصلاة علیه عندما سُئل عن کیفیّتها، فقال:

«قولوا: اللّهمّ صلِّ علی محمّد وعلی آل محمّد» (5).

کذلک یستحبّ الصلاة علی النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله وآله بعد القنوت فی الصلاة، جزم بذلک النووی تبعاً للغزالی فی المُهذّب ونسبه إلی الجمهور(6).

ولا شک أن ذکر الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام نوع دعاء لهم وتحیّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحیی والدعاء.

وهذا یعنی أن المصلّی فی صلاته التی هی الرکن الرکین فی العبادات،

ص:357


1- (1) لاحظ المجموع للنووی: ج 3 ص 460 وما بعد.
2- (2) النهایة/ الشیخ الطوسی: ص 89.
3- (3) فتح العزیز/ الرافعی: ج 3 ص 504، المجموع/ النووی: ج 3 ص 467 وغیرهم.
4- (4) سنن الدارقطنی: ج 1 ص 348.
5- (5) صحیح البخاری: ج 4 ص 118، الوسائل: أبواب الدعاء ب 36.
6- (6) المجموع: ج 3 ص 499.

والموجبة للعروج والقربان من الله تعالی، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها علی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام یتوجّه بالدعاء وإلقاء التحیّة والسلام، لکی تقبل صلاته وتوجب مزیداً من القرب إلی الله تعالی، فالصلاة التی هی من دعائم الدین مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهیة، لکی تکون صحیحة مقبولة عند الله تعالی أو موجبة لمزید القرب منه، وإذا کانت الصلاة کذلک فکیف بباقی العبادات الأخری؟!

ولو کان إقحام اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی الصلاة والتوجّه إلیهم بالقلب موجباً للشرک لما کان الأمر فیها علی هذه الحال، فالفرق بین صلاة المشرکین وصلاة الموحّدین فی أن صلاة المشرکین تفتقد لذکر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فیها، بخلاف صلاة المسلمین، حیث یقرن فیها إسم النبیّ الأکرم إلی جانب ذکر الله تعالی.

وقد قرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخری غیر الصلاة باستحباب الصلاة علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، کاستحباب الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله إذا فرغ الحاج من التلبیة فی الحجّ (1) ، واستحباب الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله عند ذبح الهدی أو الأضحیة(2) ، وقد جعلت الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله أحد أرکان الخطبة فی صلاة الجمعة(3).

کذلک من أرکان صلاة المیّت الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله وآله علیهم السلام(4) ،

ص:358


1- (1) الأم/ الشافعی: ج 2 ص 171.
2- (2) المجموع/ النووی: ج 8 ص 412.
3- (3) روضة الطالبین/ النووی: ج 1 ص 530.
4- (4) نفس المصدر: ص 640.

ویستحبّ أیضاً الصلاة علی النبیّ وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، کما نصّ علی ذلک عبد العزیز الهندی نقلًا عن النووی فی شرح الوسیط - فی کتابه الفقهی فتح المعین(1) ، إلی غیر ذلک من الموارد التی لا تحصی فی الفقه، والتی قرنت فیها جملة وافرة من العبادات باسم النبیّ المبارک صلی الله علیه و آله وأهل بیته الطاهرین، ولیس ذلک إلّاتوجّه وتوسّل بهم علیهم السلام لقبول العبادة وحصول القرب من الله تعالی، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل.

وهذا ما ورد النصّ علیه فی روایات عدیدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السنّة، حیث نصّت علی أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم یصلَّ علی النبیّ وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علی علیه السلام قال:

«الدعاء محجوب عن السماء حتی یُتبع بالصلاة علی محمّد وآله» (2) .

ومنها: ما ورد عن أبی ذرّ عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«لا یزال الدعاء محجوباً حتی یصلّی علیّ وعلی أهل بیتی» (3) .

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام قال:

«قال رسول الله صلی الله علیه و آله: صلاتکم علیّ إجابة لدعائکم وزکاة لأعمالکم»(4)) .

ومنها: ما ورد أیضاً عن الإمام الصادق علیه السلام، حیث قال:

ص:359


1- (1) فتح المعین: ج 1 ص 280.
2- (2) لسان المیزان/ ابن حجر: ج 4 ص 53، شعارأصحاب الحدیث/ ابن اسحاق الحاکم: ص 64.
3- (3) کفایة الأثر/ الخزاز القمی: ص 38.
4- (4) الأمالی/ الطوسی: ص 215.

«إن رجلًا أتی رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: یارسول الله، إنی جعلت ثلث صلاتی لک، فقال له خیراً، فقال له:

یارسول الله إنی جعلت نصف صلاتی لک، فقال له: ذاک أفضل، فقال: إنی جعلت کلّ صلاتی لک، فقال: إذن یکفیک الله عزّ وجلّ ما أهمّک من أمر دنیاک وآخرتک، فقال له رجل: أصلحک الله کیف یجعل صلاته له؟ فقال أبو عبدالله علیه السلام: لا یسأل الله عزّ وجلّ إلّابدأ بالصلاة علی محمّد وآله» (1).

ومنها: ما رواه فضالة بن عبید، حیث قال: (سمع رسول الله صلی الله علیه و آله رجلًا یدعو فی صلاته لم یمجّد الله تعالی ولم یصلِّ علی النبیّ صلی الله علیه و آله، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«عجّل هذا»، ثم دعاه فقال له أو لغیره:

«إذا صلّی أحدکم فلیبدأ بتحمید ربّه عزّ وجلّ والثناء علیه، ثم یصلّی علی النبیّ، ثم یدعو بعد بما شاء» (2) .

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدکم أن یسأل فلیبدأ بالمدحة والثناء علی الله بما هو أهله، ثم لیصلِّ علی النبیّ صلی الله علیه و آله، ثم لیسأل فإنه أجدر أن ینجح)(3)) ، قال الهیثمی فی زوائده: رواه الطبرانی ورجاله رجال الصحیح(4).

ومنها: ما عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لا تجعلونی کقدح الراکب، فإن الراکب إذا أراد أن ینطلق علّق

ص:360


1- (1) الکافی: ج 2 ص 493.
2- (2) سنن أبی داود: ج 1 ص 333 ح 1481.
3- (3) المعجم الکبیر/ الطبرانی: ج 9 ص 156.
4- (4) مجمع الزوائد: ج 10 ص 155.

معالقه، وملأ قدح ماء، فإن کانت له حاجة فی أن یتوضّأ توضّأ، وأن یشرب شرب، وإلّا أهراق، فاجعلونی فی وسط الدعاء وفی أوّله وفی آخره» (1).

ومنها: ما أخرجه القاضی عیاض عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

«کلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة علیّ صعد الدعاء»(2).

ومن الروایات التی من طرقنا أیضاً ما فی موثقة السکونی عن أبی عبدالله علیه السلام قال:

«من دعا ولم یذکر النبیّ صلی الله علیه و آله رفرف الدعاء علی رأسه، فإذا ذکر النبیّ صلی الله علیه و آله رفع الدعاء» (3).

وعن أمیر المؤمنین علیه السلام قال:

«إذا کانت لک إلی الله حاجة فابدأ بمسألة الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله ثم سل حاجتک، فإن الله أکرم من أن یُسأل حاجتین فیقضی إحداهما ویمنع الأخری»(4)) .

کذلک عن أبی عبدالله علیه السلام قال:

«إذا دعا أحدکم فلیبدأ بالصلاة علی النبیّ، فإن الصلاة علی النبیّ مقبولة، ولم یکن الله لیقبل بعض الدعاء ویردّ بعضاً» (5).

ص:361


1- (1) المصنف/ الصنعانی: ج 2 ص 216.
2- (2) الشفا بتعریف حقوق المصطفی: ج 2 ص 66.وقال ابن عطاء: للدعاء أرکان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة علی محمّد صلی الله علیه و آله.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 7 ص 93-94 ح 8829.
4- (4) نفس المصدر: ص 97 ح 8840.
5- (5) نفس المصدر: ص 96 ح 8836.

وعن الإمام الحسن بن علی العسکری عن آبائه علیهم السلام عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«إن الله سبحانه یقول: عبادی من کانت له إلیکم حاجة فسألکم بمن تحبّون أجبتم دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادی إلیّ وأکرمهم لدیّ محمّد وعلیّ حبیبی وولییّ، فمن کانت له حاجة إلیّ فلیتوسل إلیّ بهما، فإنی لا أردّ سؤال سائل یسألنی بهما وبالطیبین من عترتهما، فمن سألنی بهم فإنی لا أردّ دعاءه، وکیف أردّ دعاء من سألنی بحبیبی وصفوتی وولییّ وحجّتی وروحی ونوری وآیتی وبابی ورحمتی ووجهی ونعمتی؟ ألا وإنی خلقتهم من نور عظمتی، وجعلتهم أهل کرامتی وولایتی، فمن سألنی بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّی الاجابة، وکان ذلک حقّاً علیّ» (1).

وهذه الروایات بمجموعها والأحکام التی سبقت للصلاة علی النبیّ وآله فی الصلاة وغیرها من العبادة کاشفة عن اقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته الطاهرین بأعظم العبادات بل معظمها، وهذا یعنی أن الله عزّ وجلّ جعل تلک الأسماء المبارکة واسطة لفیضه وشرطاً حقیقیاً للتوسل إلیه فی التوبة وسائر العبادات القربیة والمقامات الإلهیة، وأن أبواب السماء مغلقة إلّاعن سبیلهم علیهم السلام وطریقهم، الذی نصبه الله تعالی مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا کلّه فی الشاهد الأوّل وهو اقتران الصلاة علی النبیّ وأهل بیته بالصلاة وغیرها من العبادات.

الشاهد الثانی: وهو کذلک اقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله المبارک بالصلاة، وذلک

ص:362


1- (1) المصدر السابق: ص 102 ح 8850.

بالإتیان به فی جزء التسلیم من الصلاة، وهو قول المصلّی: السلام علیک أیها النبیّ ورحمة الله وبرکاته، فإن التسلیم الذی هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّابإتمامه والفراغ منه جُعل شطر منه التسلیم علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فقبل إتمام الصلاة وفی حاقّها یستحبّ للمصلّی أن یسلّم علی نبیّ الإسلام باتفاق فرق المسلمین.

ولا شک أن هذا التسلیم بالکیفیة المذکورة نوع زیارة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وخطاب ونداء عن قرب ب(أیها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إلیه وبه إلی الله عزّ وجلّ؛ وذلک لأن الله تعالی عندما شرّع التسلیم والتحیّة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی الصلاة، التی شُرّعت لذکره عزّ وجلّ والتقرّب منه والعروج إلیه، فإن ذلک یعنی أن ذکر النبیّ ذکر لله تعالی ونداءه نداء للباری عزّ وجلّ، ولیس ذلک إلّالکون النبیّ صلی الله علیه و آله الآیة العظمی والوسیلة المحمودة بین الله وبین خلقه فی الصلاة، التی هی من عظیم العبادات والقربات عند الله تعالی.

إذن طبیعة الزیارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبیّ لنیل مقامات القرب فی الصلاة التی هی قربان کلّ تقی موجودة فی نفس الصلاة التی هی أکبر العبادات التوحیدیة ویمارسها الفرد المسلم فی یومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا کانت الصلاة التی هی من دعائم الدین مقرونة بذکر النبیّ صلی الله علیه و آله لنیل مقامات القرب عند الله تعالی فکیف هو الحال بباقی العبادات والقربات الأخری فی الدین؟!

وعلی هذا کیف یقال: إن ذکر غیر الله تعالی فی التوجّه إلیه عزّ وجلّ شرک؟!

ص:363

وهل هذا إلّاطمس لمعالم الشهادة الثانیة؟!

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله باسم الله عزّ وجلّ فی الأذان، الذی هو عبادة من العبادات، ویُعدّ بوابة للصلاة التی إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، کذلک فی الإقامة، حیث أن الفرد المسلم کما یشهد أن لا إله إلّاالله کذلک یشهد أن محمّداً رسول الله، ولیس ذلک إلّالکون إسم النبیّ صلی الله علیه و آله باب الله الأعظم، وأن الصلاة التی هی الرکن الرکین فی العبادات ومعراج المؤمن إلی ربّه مفتاحها وباب الولوج إلیها إسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مقروناً باسم الله تعالی.

ولو کان اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وذکره والتوجّه القلبی إلیه أثناء العبادة موجباً للشرک لما أمکن تشریع الأمر علی هذا الحال، ولما أمر الله عزّ وجلّ بالتوجّه إلیه بنبیّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التی هی من العبادات العظیمة عند الله تعالی، وأکّدت علیها الآیات القرآنیة فی مواطن عدیدة، لا یمکن أن تحصل إلّابالهجرة إلی الله ورسوله، فلکی تصحّ عبادة الهجرة لابدّ أن یتوجّه فیها إلی الله وإلی رسوله صلی الله علیه و آله.

قال الله عزّ وجلّ: (وَ مَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهاجِراً إِلَی اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ یُدْرِکْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی اللّهِ وَ کانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِیماً)1 .

والذی یتحصّل من هذه الشواهد وغیرها أن إسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله

ص:364

وکذا أهل بیته علیهم السلام إقترن باسم الله تعالی فی أعظم العبادات کالصلاة والحجّ وغیرهما، هذا فضلًا عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب فی بعض موارده کما تقدّم فی الصلاة، ومعنی ذلک شرطیة التوسّل والواسطة فی العبادات کما ادّعیناه فی بدایة البحث.

وقد أحصی بعضهم فی هذا المجال جملة من المواطن العبادیة التی تقرن باسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والصلاة علیه وعلی آله.

منها: فی التشهّد الأول والثانی فی الصلاة وآخر قنوت الصلاة وفی صلاة الجنائز وخطبة العیدین والجمعة والاستسقاء وبعد إجابة المؤذن وعند الإقامة وعند الدعاء وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلی الصفا والمروة وعند الفراغ من التلبیة وعند استلام الحجر وعند الوقوف علی قبره الشریف، وعقیب ختم القرآن الکریم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة وعند تبلیغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن یکفّر عنه وبعد الفراغ من الوضوء وفی کلّ موطن یُجتمع فیه لذکر الله، وعند طلب قضاء الحاجة وعقیب الصلوات فی سائر أجزاء الصلاة غیر التشهّد، إلی غیر ذلک من المواطن.

وقد ذکر أیضاً للصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله، فوائد کثیرة جدّاً، منها:

1 - أنها سبب لغفران الذنوب.

2 - أنها تُصاعد الدعاء إلی عند رب العالمین.

3 - أنها سبب لشفاعته صلی الله علیه و آله.

4 - أنها سبب کفایة العبد ما أهمّه.

ص:365

5 - أنها سبب لقرب العبد منه یوم القیامة.

6 - أنها سبب لقضاء الحوائج.

7 - أنها سبب لتبشیر العبد قبل موته بالجنّة.

8 - أنها سبب للنجاة من أهوال یوم القیامة.

9 - أنها سبب لتذکّر العبد ما نسیه.

10 - أنها سبب لطیب المجلس.

11 - أنها سبب لنفی الفقر.

12 - أنها سبب لنفی البخل.

13 - أنها ترمی صاحبها علی طریق الجنّة وتخطی بتارکها عن طریقها.

14 - أنها تُنجی من نتن المجلس.

15 - أنها سبب لوفور نور العبد علی الصراط.

16 - أنه یخرج بها العبد من الجفاء.

17 - أنها سبب لابقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلّی علیه بین أهل السماء والأرض.

18 - أنها سبب للبرکة فی ذات المصلّی وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

19 - أنها سبب لنیل رحمة الله له.

20 - أنها سبب لدوام محبته للرسول وزیادتها وتضاعفها.

ص:366

21 - أنها سبب لمحبّته صلی الله علیه و آله للعبد.

22 - أنها سبب لهدایة العبد وحیاة قلبه.

23 - أنها سبب لعرض اسم المصلّی وذکره عنده، إلی غیر ذلک من الفوائد والثمرات.

الدلیل الخامس: ابتغاء الوسیلة ضرورة قرآنیة:

اشارة

إن حقیقة هذا الدلیل الخامس عبارة عن مزید إیضاح وتعمیق ونظرة أدقّ لما تقدم من قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ وَ جاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ)1 .

وفی المقدّمة لابدّ من التنبیه علی أن التدبر فی الآیة الکریمة یفید أن الابتغاء المأمور به جعل متعلّقاً لکلّ من الوسیلة وذی الوسیلة وهو الله عزّ وجلّ.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلی کلّ من الوسیلة والذات الإلهیة المقدّسة، فکلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إلیه، إلّاأن القصد والتوجّه إلی الوسیلة ابتداءً هو الذی یؤدّی وینتهی بنا إلی قصد الله تعالی، فالغایة القصوی هو الله عزّ وجلّ، إلّاأن الذی یقصد ابتداءً هو الوسیلة بداعی القصد إلی منتهی الغایة والأمل وهو الله تبارک وتعالی.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ فی الآیة المبارکة یکشف عن أن

ص:367

لفظ «وابتغوا» أُسند إلی الوسیلة فقط، وأن لفظ «إلیه» مرتبط بالوسیلة، لا ب «ابتغوا»، أی أن الوسیلة هی إلیه، فالابتغاء متوجّه إلی الوسیلة فقط، وصفة الوسیلة أنها إلیه.

وبعبارة أخری:

إن فعل «وابتغوا» عمل فی لفظ «الوسیلة» کمفعول به، وأما لفظ «إلیه» فلیس متعلّقاً ب «ابتغوا» وإنما الذی یعمل فی الجار والمجرور هو لفظ «الوسیلة»؛ إذ فیها معنی المصدر والحدث، وأن التوسّل والوسیلة هو إلی الله تعالی، فالابتغاء من جهة الترکیب الإعرابی یعمل فی الوسیلة فقط ویتعلّق بها، والوسیلة تتعلّق بلفظ إلیه وتعمل فیه، وعلیه فیکون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسیلة، فهی التی یتوجّه إلیها النداء والرجاء والخطاب، وحیث أن صفتها الذاتیة أنها تؤدّی إلی الله تعالی فیکون التوجّه إلیها توجّهاً إلی الله عزّ وجلّ ونداؤها نداءً بها إلیه تعالی، وقصدها قصد بها إلیه جلّ ثناؤه، کما فی التوجّه إلی الکعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلی الله تعالی.

ومن ذلک یظهر أن مقتضی مفاد الآیة هو أن الإلتجاء وتوجیه الخطاب إنما یکون إلی الوسیلة، کقول الداعی والمتوسل: یامحمّد یانبیّ الرحمة إنی أتوجّه بک إلی الله ربی وربک لقضاء حاجتی، فیوجّه الخطاب والنداء إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ویکون ذلک منه ابتغاءً للنبیّ صلی الله علیه و آله کوسیلة إلی الله عزّ وجلّ، وإلّا فإن جعل الخطاب لله تعالی فقط من دون التوجّه إلی النبی صلی الله علیه و آله فی الخطاب کوسیلة، لا یکون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلی الوسیلة، بل ابتغاء مباشری

ص:368

لله تعالی من دون ابتغاء الوسیلة.

وعلی کلا البیانین لدلالة الآیة الشریفة تکون الآیة نصّ فی الدلالة علی الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسیلة وأنه دعاء لله تعالی.

ثم إن صیغة الأمر فی الآیة الکریمة یفید ضرورة التوسّل بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

حیث أن هذه الآیة المبارکة لیست فی مقام بیان مشروعیة التوسّل فحسب، بل الآیة المبارکة ترمی إلی بیان حتمیة ولابدّیة التوسّل، وأنه أمر تعیینیّ عینیّ، وذلک لأن المقصود من ابتغوا الوسیلة أی اقصدوها وتوجّهوا إلیها فی مقام توجّهکم إلی الله عزّ وجلّ، ومعنیّ(ابتغوا) أیضاً فی الآیة المبارکة أن هناک بُعداً بین العبد والباری تعالی وأن هناک مسافة لابدّ أن تطوی بابتغاء الوسیلة والحضور عندها، ولو کان هناک قُرباً تلقائیاً من طرف العبد إلی ربّه فلا حاجة إلی الوسیلة حینئذٍ للإقتراب من الله تعالی؛ لکونه تحصیلًا للحاصل ولا یکون معنی للوسیلة وابتغائها ولو بنحو التخییر أیضاً.

قرب الله وقرب العبد:

فالأمر بابتغاء الوسیلة وقصدها معناه أن هناک بُعداً بین العبد وبین الله تعالی، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباری عزّ وجلّ، لأن الله تعالی قریب أقرب إلی العباد من حبل الورید، کما قال تعالی ذکره: (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ)1 ، لکن العبد من طرفه یحتاج إلی الوسیلة لبُعده؛ لأن قرب الله

ص:369

تعالی إلی العبد لیس قرباً جسمانیاً جغرافیاً، لکی یکون هناک تلازم تضایفی بین العبد وربه فی القرب والبُعد، وکذا لیس من نوع القرب العقلی أو الروحیّ لیحصل التجانس أو التماثل فی القرب؛ وذلک لما تقدّم من کون الله تعالی منزّه عن التضایف والتقابل الجسمانی أو العقلی أو الروحی، لأنه تشبیه باطل مناف لعظمة ذات الباری تعالی.

إذن القرب الإلهی تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهیمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهیمن والمحیط کلّما کانت قدرته، وهیمنته وإحاطته أشدّ کلّما کان أقرب من المحاط به، وعلی العکس یکون الطرف المقابل الضعیف، فهو یزداد ضعفاً کلّما کان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، کذلک کلّما ازداد المهیمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطیّة وبُعداً عن أن یحیط بالمحیط، فالقویّ قریب محیط والضعیف بعید محاط، ویبعد کلّما ازداد القویّ قوّة وهیمنة؛ لأن الضعیف حینئذٍ بعید من حیث افتقاده للصفات والکمالات اللّامتناهیة شدّة وعدّة، التی للقویّ المحیط.

والحاصل: إن هناک نمطاً من التعاکس فی القرب والبُعد، فطرف یکون قریباً والآخر بعیداً، کلّما ازداد الباری قرباً وإحاطة من حیث الصفات کلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلی الله تعالی، وذلک من حیث التعاکس فی الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسیلة التی هی أشدّ کمالًا وأقرب إلی الباری تعالی، لکی یطوی المخلوق شیئاً من ذلک البُعد وینال درجة من درجات القرب برقیّه فی مدارج الکمال عن طریق الواسطة والوسیلة.

ص:370

والوسیلة هی الأقرب إلی الله تعالی من حیث الکمالات، إذ کلّما تکامل المخلوق فی الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبیة، وکلّما عظم المخلوق صفة وکمالًا کلّما کان أقرب من الخالق لازدیاد علمه ومعرفته بصفاته تعالی والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلّت فی المخلوق صفات الخالق أکثر عرف ذلک المخلوق بتلک الکمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجلّ؛ ولذا یکون أکمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأکثر دلالة علیه وأشدّهم آیة وعلامة ترشد إلیه وتقرّب منه؛ لأن ما یتجلّی فیه من بدیع الکمالات آیات لکمال الباری عزّ وجلّ، علی العکس من ذلک ما لو قلّت فی المخلوق الکمالات، فإنه تقلّ فیه الآیات الدالّة علی عظمة الله تعالی وقلّت بالطبع معرفته.

ومن هنا کان المخلوق الذی یتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن الله تعالی بحاجة إلی الوسیلة، التی هی أقرب صفة وکمالًا من الله عزّ وجلّ، کی تکون سبباً یقرّبه إلی ربّه.

فالوسیلة والوسائط هی أعاظم المخلوقات، وهی آیات الله وأسمائه وعلاماته الدالّة علیه، والتی یستدلّ الخلق بعظمتها علی عظمة الباری، فتزداد المعرفة ویحصل القرب بنیل الکمالات.

ولا شک أن الخطاب الوارد فی الآیة المبارکة الکاشف عن ضرورة الوسیلة بالبیان المتقدم عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإیمان أو التوجّه إلی الحضرة الإلهیة لنیل مقام أو حظوة عند الله تعالی.

ص:371

الوسیلة معنی الشفاعة:

فللعلاقة بین العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسیلة، سواء فی المعرفة والإیمان أو فی قبول التوبة أو العبادات أو نیل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام فی لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع فی الأصل بمعنی الزوج والاقتران، وهو فی المقام اقتران الذات الربوبیة بالآیات والأسماء الإلهیة.

ثم إنه سبق أن الآیات العظمی والکلمات التامّات هم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، وقد وصف الله تعالی رسوله الکریم صلی الله علیه و آله بالعظمة، وذلک فی قوله تعالی: (وَ إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ)1 ، فهم علیهم السلام الأسماء الحسنی التی أمر الله أن یُدعی بها وتاب بها علی آدم وامتحن بها إبراهیم علیه السلام لنیل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البیان الذی ذکرناه، من ضرورة الواسطة والوسیلة لعظمة الله تعالی هدی إلیه أمیر المؤمنین علیه السلام عند بیانه لقوله تعالی: (أُولئِکَ الَّذِینَ یَدْعُونَ یَبْتَغُونَ إِلی رَبِّهِمُ الْوَسِیلَةَ أَیُّهُمْ أَقْرَبُ وَ یَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ یَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّکَ کانَ مَحْذُوراً)2 .

حیث بیّن أمیر المؤمنین علیه السلام ضرورة الوسیلة، وأن اشتباه وخطأ المشرکین إنما هو فی اتخاذهم وسیلة اقتراحیة غیر مأذون بها، حیث طبّقوا الوسیلة الأعظم کمالًا علی غیر المصداق والفرد الحقیقی لها، فذمّهم الله عزّ وجلّ علی ذلک.

قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی هذا المجال:

ص:372

«فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنین، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغی من فی السماوات والأرض من جمیع خلائقه إلیه الوسیلة، بالأعمال المختلفة والأدیان المشتبهة، فکلّ محمول یحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا یستطیع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حیاة ولا نشوراً»(1)) .

فإن الأعمال المختلفة والأدیان المشتبهة ناتج اتخاذ الخلق الوسیلة إلی الله تعالی، بسبب عظمته ونوره وتعالیه عزّوجلّ.

ومن ذلک کلّه یتّضح أن من ینکر التوسّل أسوء حالًا من قریش، التی آمنت بالوسیلة وأخطأت المصداق، حیث جعلوا وسائط باقتراحهم من غیر سلطان أتاهم؛ لشعورهم بالفطرة التی خلقهم الله علیها بعظمته تعالی عن أن ینال أو یدرک بلا واسطة.

ترامی الوسائل وتعاقبها:

ثم إن الآیات الکبری تتفاوت فیما بینها، فأهل البیت علیهم السلام شفیعهم ووسیطهم إلی الله تعالی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی نیل المقامات، وبالنسبة للنبیّ ذاته فهو بذاته آیة وعلامة عظمی علی صفات الله تعالی، فتکون نفسه من حیث هی مخلوقة وفعل لله تعالی وسیلة لنفسه، نظیر ما ورد فی الروایات: (خلق الله المشیّة بنفسها ثم خلق الأشیاء بالمشیّة)(2).

فالنبیّ صلی الله علیه و آله مرآة الکمالات والصفات الإلهیة له ولغیره فی جمیع جهات الإرتباط بالله تعالی کقبول التوبة أو بقیّة العبادات أو مطلق نیل مقامات

ص:373


1- (1) الکافی: ج 1 ص 130.
2- (2) توحید الصدوق: ص 148.

القرب من الله عزّ وجلّ فهو صلی الله علیه و آله أمینه علی وحیه وعزائم أمره.

الدلیل السادس: شرطیة الاستجارة بالنبی صلی الله علیه و آله

فی طلب المغفرة:

هنا أیضاً نرید التعرّض لبیان أدقّ وأعمق ودالّ علی المطلوب فی المقام لقوله تعالی: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

لقد نصّت هذه الآیة المبارکة علی ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهی:

1 - المجیء إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

2 - ابراز الاستغفار من الله عزّ وجلّ.

3 - امضاء النبیّ صلی الله علیه و آله لذلک الاستغفار، واستغفاره للتائبین.

فهذه الآیة من ضمن مجموع الآیات التی تعرّضت لذکر شرائط التوبة، وأوّل شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه لیس إظهار الندامة من العبد أمام الله تعالی مباشرة، بل الشرط الأوّل هو المجیء إلی الحضرة النبویّة والالتجاء إلیه، واللّواذ والاستعاذة والاستجارة به صلی الله علیه و آله، فأولًا لابدّ أن یأتی العبد إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ویلوذ به، ثم بعد ذلک یُظهر الندامة والاستغفار؛ إذ الترتیب للشروط فی الآیة المبارکة ترتیب رتبی ترتیبی، حیث أخذت المراتب

ص:374

بعین الاعتبار، لا أنه ذکری فقط بقرینة العطف بالفاء.

والمجیء إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله هو عین التوجّه إلیه والتوسّل به فی قبول التوبة.

وهذه الآیة کشفت النقاب عن شرطیة التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله فی أکبر خطر مصیریّ یُحدق بالإنسان وهو الذنب والمعصیة، التی قد تؤدّی بالعبد إلی الهلاک والسقوط فی الهاویة، فی مثل هذا الأمر الخطیر جعل الله تعالی الملاذ والملجأ هو النبیّ صلی الله علیه و آله، فلابدّ من الکینونة فی الحضرة النبویة ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه صلی الله علیه و آله باب الله تعالی الذی منه یؤتی، فیکون اللّواذ بالله عزّ وجلّ باللّواذ بنبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله؛ ولذا بعد الاستجارة بالنبیّ صلی الله علیه و آله قال تعالی: («لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً».)

إذن الاستعاذة والاستجارة واللجوء إلی الله بنبیّه أُخذ شرطاً فی أخطر موقف للعبد مع ربّه وهو التوبة وغفران الذنوب.

ومن الواضح أیضاً أن الظلم المذکور فی الآیة المبارکة لیس مختصّاً بالذنوب الفردیة التی بین العبد وربّه، وإنما هو شامل للظلم الاجتماعی السیاسی أو النظام الاقتصادی المعاشی أو التعدّی علی المنظومة الحقوقیة والأخلاقیّة، ومعنی ذلک أن استعلام ومعرفة تلک الأمور الفردیة والاجتماعیة لا یمکن أن یتحقّق إلّاعن طریق الإلتجاء واللّواذ بالنبیّ صلی الله علیه و آله، فکلّ حیف أو زیغ یحصل من الفرد أو المجتمع فی تلک الأمور لابدّ من الرجوع فیها إلی الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله، وفی مقابل تعدّد أنواع الظلم یتعدّد أنواع اللجوء والتولّی والتوجّه للنبی صلی الله علیه و آله.

ص:375

ثم إن ذکر التوبة والاستغفار فی الآیة المبارکة لا لخصوصیة فیها، وإنما ذکرت بما هی عبادة من العبادات، لکونها أوبة ورجوع إلی الله تعالی واقتراب منه وقصد وتوجّه إلیه، فلیست الآیة فی ذکرها لشرطیة التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله خاصّة بالتوبة، بل هی شاملة فی ذلک لکلّ العبادات.

خصوصاً وأن التوبة هی الأوبة، من آب یؤوب، والأوبة الرجوع إلی الله تعالی، أی الاقتراب والزلفی منه عزّوجلّ، ولا شک أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفی إلی الله تعالی، فهی نوع من أنواع التوبة، وبناءً علی ذلک لا تکون التوبة عملًا منحازاً ومنفصلًا عن سائر العبادات کالصلاة والحجّ وغیرهما، بل هی عمل عام وشامل لکافّة العبادات.

کذلک التوبة نوع من أنواع الدعاء، لأنها طلب المغفرة من الله تعالی ودعاء بالغفران، فمضمون هذه الآیة المبارکة مشترک مع ما تقدم من الروایات الدالّة علی أن الدعاء وطلب العبد القرب من الله تعالی لا یرتفع إلی السماء ولا تُفتّح له الأبواب ما لم یقترن بذکر النبیّ صلی الله علیه و آله بالصلاة علی محمّد وآل محمّد، وإذا کان کذلک فإن الدعاء وطلب القرب من الله عزّ وجلّ شامل للمقامات الثلاث التی ذُکرت فی صدر البحث، وهو قبول التوبة والعبادة ونیل مقامات القرب، وهو لا یقبل إلّاباللّواذ بالنبیّ صلی الله علیه و آله والتوجّه إلیه والاستعاذة والاستجارة والتوسّل به، بالمجیء فی حضرته المبارکة.

وهذه الآیة الکریمة الدالّة علی شرطیة التوجّه التوسّل وضرورته فی جمیع المقامات لیست خاصّة بحیاة النبیّ صلی الله علیه و آله؛ إذ لیس المراد من المجیء الحضور الفیزیائی لبدن المذنب عند النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فقط، بل المجیء الفیزیائی

ص:376

والبدنی المکانی أحد المصادیق المقصودة فی الآیة المبارکة، والتعبیر بالمجیء کنائی، یراد به مطلق الاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله، والشواهد علی ذلک عدیدة، منها:

1 - إن هذه الآیة المبارکة جاءت لبیان ماهیة التوبة وشرائطها العامة، التی یشترک فیها کافّة المسلمین وفی جمیع الأزمنة، فلا یمکن أن تکون مختصّة بالفترة التی عاشها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أو بمن زامن وعایش تلک الفترة، فالمراد من المجی مطلق الارتباط بالنبیّ صلی الله علیه و آله، بالتوجّه إلیه والکینونة فی حضرته المبارکة، ثم الاتیان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون متطابق مع مفاد قوله تعالی: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) ، إذ معنی ذلک أن حضرة الأنبیاء ومحضرهم مشاعر شعّرها الله تعالی لیتقرّب بها إلیه.

ویتّضح هذا الشاهد أکثر إذا علمنا أن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بُعث رحمة للعالمین، وهذه من الرحمات العامة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله علی هذه الأمة، وغیر مختصّة بمن حضر الحضور الفیزیائی البدنی عند النبیّ صلی الله علیه و آله.

2 - إن نفس التعبیر بقوله تعالی «جاؤُکَ» یتضمّن معنی اللّواذ واللجوء والاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبی، ولیس فیه دلالة علی الاختصاص بالحضور الجسمانی.

3 - استغفار آدم علیه السلام وتوبته أیضاً کما مرّ - کانت بالمجیء للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، ولکن کان مجیئه إلیه فی أفق القلب والقصد، فقد ورد فی روایات الفریقین أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

ص:377

«لما اقترف آدم الخطیئة، قال: یاربّ أسألک بحقّ محمّد لما غفرت لی، فقال: یاآدم وکیف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: یاربّ لأنک لما خلقتنی بیدک ونفخت فیّ من روحک رفعت رأسی فرأیت علی قوائم العرش مکتوباً: لا إله إلّاالله محمّد رسول الله، فعلمت أنک لم تُضف إلی اسمک إلّاأحبّ الخلق إلیک، فقال: صدقت یاآدم إنه لأحبّ الخلق إلیّ، ادعنی بحقّه فقد غفرت لک، ولولا محمّد ما خلقتک» (1) .

وغیرها من الروایات الدالّة علی أن مجیء آدم إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ولواذه به کان بالتوجّه القلبی به إلی الله تعالی.

وفی هذه الروایة الأخیرة التی نقلناها إشارة أخری إلی اقتران اسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله باسم الله عزّ وجلّ فی أعظم عبادة وأشرف کلمة فی الإسلام، وهی کلمة التوحید.

4 - إن المسلمین فی سیرتهم منذ الصدر الأول فهموا من هذه الروایة الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنیة التی عاشها النبیّ صلی الله علیه و آله، وهذا دلیل علی عموم المعنی المستعمل فی ارتکاز أبناء اللغة، ولذا کانوا یتوجّهون إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی طلب المغفرة ویأمرون الآخرین بذلک حتی بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، والشواهد الروائیة والتاریخیة علی ذلک کثیرة جدّاً:

منها: ما أخرجه النووی عن العتبی قال: «کنت جالساً عند قبر النبیّ صلی الله علیه و آله فجاء أعرابی، فقال: السلام علیک یارسول الله، سمعت الله تعالی یقول: (وَ

ص:378


1- (1) المستدرک علی الصحیحین/ الحاکم النیسابوری: ج 2 ص 615.

لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 وقد جئتک مستغفراً من ذنبی مستشفعاً بک إلی ربّی، ثم أنشأ یقول:

یاخیر من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طیبهن القاع والأکم

نفسی الفداء لقبر أنت ساکنه فیه العفاف وفیه الجود والکرم

قال: ثم انصرف، فحملتنی عینای فرأیت النبیّ صلی الله علیه و آله فی النوم، فقال لی:

یاعتبی، إلحق الأعرابی فبشّره بأن الله تعالی قد غفر له» (1).

ومنها: ما أخرجه السیوطی عن أبی حرب الهلالیّ قال: (حجّ أعرابی، فلما جاء إلی باب مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتی دخل القبر ووقف بحذاء وجه رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال: بأبی أنت وأمی یارسول الله، جئتک مثقلًا بالذنوب والخطایا مستشفعاً بک علی ربّک، لأنه قال فی محکم کتابه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)3) وقد جئتک بأبی أنت وأمی مثقلًا بالذنوب والخطایا استشفع بک علی الله ربّک أن یغفر لی ذنوبی وأن یشفع فیّ)(2).

ومنها: ما روی عن أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام أنه قال:

ص:379


1- (2) الأذکار النوویة/ النووی: ص 206، کذلک فی تفسیر ابن کثیر: ج 1 ص 532.
2- (4) الدرّ المنثور: ج 1 ص 238.

«قدم علینا أعرابی بعد ما دفنّا رسول الله صلی الله علیه و آله بثلاثة أیام فرمی بنفسه علی قبر النبیّ صلی الله علیه و آله وحثا من ترابه علی رأسه، وقال: یارسول الله قلت فسمعنا قولک ووعیت عن الله فوعینا عنک، وکان فیما أنزل الله علیک:

(وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

وقد ظلمت نفسی وجئتک تستغفر لی، فنودی من القبر أنه غفر لک»(1) ، إلی غیر ذلک من الشواهد.

5 - إن القرآن الکریم قد دلّ علی حیاة النبی صلی الله علیه و آله عند ربّه، کما قال تعالی:

(وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلی عالِمِ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)3 بل وکذا قوله تعالی: (یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ)4 وغیرها من عشرات الآیات الدالّة علی أن النبی صلی الله علیه و آله یری ویشهد علی جمیع أعمال العباد إلی یوما لقیامة، فهو حیّ عند ربّه، کیف لا وقد دلّ القرآن علی حیاة الشهداء فی قوله تعالی: (وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ)5 ، وقد اتّفقت روایات الفریقین المتواترة أیضاً الدالّة علی حیاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، منها ما ورد

ص:380


1- (2) کنز العمال: ج 2 ص 386، سبل الهدی والرشاد/ الصالحی الشامی: ج 12 ص 390.

عن الإمام الحسن علیه السلام قال:

«إن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: حیثما کنتم فصلّوا علیّ فإن صلاتکم تبلغنی»(1)) .

وعن أنس بن مالک قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «الأنبیاء أحیاء فی قبورهم یصلّون»

قال الهیثمی: رواه أبو یعلی والبزاز ورجال أبی یعلی ثقات(2).

وقد نقل السقّاف فی کتابه الاغاثة جملة من الروایات وکلمات علماء السنّة التی ادّعی فیها الاجماع والتواتر والعلم القطعی بحیاة النبیّ الأکرم فراجع(3).

وإذا ثبت ذلک ثبت عموم الآیة المبارکة بالرجوع إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والاستغاثة به.

6 - آیات وروایات عرض الأعمال علی الرسول صلی الله علیه و آله، کما فی قوله تعالی:

(قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلی عالِمِ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)4 وهذه الآیة متطابقة ومتشاهدة مع آیة(وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ...) ، وأما الروایات فی هذا المجال فهی کثیرة جدّاً:

منها: ما عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام قال:

ص:381


1- (1) المعجم الأوسط/ الطبرانی: ج 1 ص 117.
2- (2) مجمع الزوائد: ج 8 ص 211.
3- (3) الاغاثة: ص 5-7.

«تعرض الأعمال علی رسول الله صلی الله علیه و آله کلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروها»(1).

ومنها: ما عن أبی جعفر الباقر علیه السلام قال:

«إن الأعمال تعرض علی نبیکم کلّ عشیة خمیس، فلیستحی أحدکم أن یعرض علی نبیه العمل القبیح»(2).

منها: ما ورد عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«حیاتی خیر لکم تحدّثون وتحدّث لکم، ووفاتی خیر لکم تعرض علیّ أعمالکم، فما رأیت من خیر حمدت الله علیه، وما رأیت من شرّ استغفرت لکم»، قال الهیثمی: رواه البزاز ورجاله رجال الصحیح(3).

وهذه الروایة وغیرها منسجمة المضمون مع الشرط الثالث فی الآیة التی هی محلّ البحث، حیث جاء فیها(وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ، فالتائب والمستغفر یتوجّه إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ویعرض استغفاره عنده لکی یستغفر له الرسول صلی الله علیه و آله ویشفع له عند الله تعالی فی قبول توبته، فعبادات الأمة لابدّ أن یشفع النبیّ صلی الله علیه و آله عند ربّه فی قبولها، وهو المضمون والغرض والحکمة من عرض الأعمال وأن قبولها مشروط بإمضاء النبیّ صلی الله علیه و آله وشفاعته، فکما أن آیات وروایات عرض الأعمال ذکرت أن سبب العرض هو أن یستغفر النبیّ صلی الله علیه و آله لأمته، کذلک فی الآیة المبارکة إنما یعرض العبد استغفاره فی الحضرة النبویّة

ص:382


1- (1) تفسیر البرهان: ج 3 ص 488.
2- (2) تفسیر البرهان: ج 3 ص 490.
3- (3) مجمع الزوائد: ج 9 ص 24.

لکی یستغفر له، وإذا کانت آیات وروایات العرض عامة لحال الحیاة وبعد الممات فکذلک الآیة المبارکة.

وهذا الذی ذکرناه أخیراً هو الشرط الثالث فی الآیة المبارکة وهو استغفار النبیّ صلی الله علیه و آله للمذنب الظالم لنفسه.

7 - أن الأحکام فی الآیات التی أخذ فیها الحکم مرتبطاً بالرسول صلی الله علیه و آله فی الآیات الکثیرة کلّها لا تختص بحیاة الرسول صلی الله علیه و آله کما فی قوله تعالی: (لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)1 وقوله تعالی: (أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ)2 وقوله تعالی: (ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)3 وقوله تعالی: (وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ)4 وغیرها من الآیات، فإنه لو توهم اختصاصها بحیاته صلی الله علیه و آله الدنیویة لعُطّل العمل بهذه الآیات، وتقوّضت أرکان الدین.

والذی یتحصّل من الآیة: أن المجیء إلی النبیّ صلی الله علیه و آله والتوجّه إلیه شرط فی قبول التوبة، بل کافّة العبادات ومطلق المقامات القربیة عند الله تعالی.

کما یستفاد من الآیة المبارکة أیضاً أن التوسّل والتوجّه أمر تعیینی ضروری لابدّ منه، ولیس هو أمراً تخییریاً بید العبد فعله أو ترکه.

واتضح أن التوجّه للنبیّ صلی الله علیه و آله فی تلک المقامات لیس خاصّاً بالتوجّه

ص:383

الفیزیائی البدنی، بل شامل للتوجّه القلبی أیضاً.

ثم إن المجیء إلی النبیّ والتوسّل به بمعنی الارتباط به والإنتماء إلیه بکلّ أنحاء الانتماء، کانتماء المواطنة والانتماء الأُسری والوظیفی والتنظیمی، وغیرها من أنحاء الانتماء إلی الرسالة الخاتمة والحاکمیة الإلهیة المتمثّلة بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

کذلک لابدّ أن یعلم أن الآیة الخاصّة فی المقام غیر مختصّة بالرسول الأعظم صلی الله علیه و آله، بل هی سنّة إلهیّة جاریة فی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فالآیة عامة؛ ولذا نصّت علی هذا العموم آیة عرض الأعمال، حیث شملت الذین آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله، کما نصّ علی ذلک قوله تعالی: (هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ)1 إذ هم الأمة المسلمة من ذریة إبراهیم وإسماعیل المجتباة الذین بعث فیهم النبی صلی الله علیه و آله وجعلهم الله شهداء علی الناس وأعمالهم وعقائدهم، ویدلّ علی العموم أیضاً الآیات المتقدّمة التی نصّت علی وجوب المجیء إلی إبراهیم فی الحجّ ووجوب الصلاة عند مصلّاه وهویّ القلوب إلی ذرّیته، وسیأتی من الآیات ما یدلّ علی العموم أیضاً.

إذن التوجّه إلی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی التوبة والعبادة ونیل المقامات شرط ومشارطة إلهیة لابدّ من توفّرها لنیل ما یبتغیه العبد.

ص:384

الدلیل السابع: التوسّل بالرسول صلی الله علیه و آله میثاق الأنبیاء:

اشارة

قال تعالی: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)1 ، فالمیثاق المذکور فی هذه الآیة المبارکة معناه أن هناک تعاقداً بین الله تعالی والأنبیاء علیهم السلام، والطرفان اللذان وقع علیهم المیثاق والتعاقد هما النبوّة والمقامات الغیبة التی أعطاها الله تعالی للأنبیاء فی مقابل أمر مهمّ وخطیر لابدّ أن یؤمنوا به، وهو قوله تعالی: (ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ) فالمقامات الإلهیة والمنح الربّانیة إنما تعطی للأنبیاء بشرط الإیمان بخاتمهم ونصرته، ولا شک أن الذی یکون ناصراً إنما هو تابع للمنصور والمنصور قائد له، فالأنبیاء کلّهم مأمومون والرسول الأکرم إمامهم، والأنبیاء سبقوا الناس بالإصطفاء الإلهی الخاصّ وحُبوا بالنبوّة والرسالة والمقامات الغیبیّة بتوسّط إیمانهم بولایة النبیّ صلی الله علیه و آله وتعهّدهم بنصرته ومؤازرته، وهم أسبق الناس شیعة وإسلاماً لخاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله.

الأنبیاء علی دین النبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

ومن ثمّ فإن هذه الآیة المبارکة تدلّل علی أن دین الأنبیاء بعد الایمان بالله عزّ وجلّ هو الإیمان بخاتم الأنبیاء ومشایعته ومؤازرته، فالأنبیاء کانوا علی دین النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله وهو الإسلام، بیان ذلک:

ص:385

إن قوله تعالی فی الآیة المبارکة(مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ) معناه أن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لیس تابعاً للأنبیاء، بل تابع للوحی الإلهی جملة، الذی هو فعل الله تعالی؛ ولذا لم یأمر الله عزّ وجلّ نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله بالاقتداء بالأنبیاء وإنما بالهدی الذی هم علیه، قال الله تعالی: (أُولئِکَ الَّذِینَ هَدَی اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)1 .

فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لیس علی هدی نبیّ من الأنبیاء ولیس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو علی هدی الله عزّ وجلّ، وهو أوّل المسلمین، والفاتح الأول للهدی الإلهی والدین الاسلامی الواحد هو خاتم الأنبیاء، ولم یُعبَّر عن نبیّ من الأنبیاء فی القرآن الکریم بأنه أوّل المسلیمن علی الاطلاق سوی النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله، وذلک فی قوله تعالی: (قُلْ أَ غَیْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِیًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ یُطْعِمُ وَ لا یُطْعَمُ قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ)2 وقوله تعالی: (قُلْ إِنَّ صَلاتِی وَ نُسُکِی وَ مَحْیایَ وَ مَماتِی لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ * لا شَرِیکَ لَهُ وَ بِذلِکَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِینَ)3 وقوله تعالی: (قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّینَ * وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَکُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِینَ)4 ، وأما سائر الأنبیاء فقد عُبّر عنهم فی القرآن الکریم بأنهم من المسلمین، بما فیهم أنبیاء أولی العزم، فقد حکی الله عزّ وجلّ علی لسان نوح قوله:

(فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلاّ عَلَی اللّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ

ص:386

أَکُونَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ)1 ولم یُعبَّر عنه بأنه أوّل المسلمین، ولا شک أن الدین عند الله عزّ وجلّ واحد، قال تعالی: (إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ)2 ، ولا یتقبّل من مخلوق من المخلوقات غیر الاسلام، قال تعالی: (وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ)3 ، فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أوّل المسلمین وأوّل من نطق بمیثاق التوحید والتسلیم لله عزّ وجلّ، فکان هو أفضل الأنبیاء وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له فی الدین الاسلامی، فضلًا عن غیرهم من المخلوقین، ولذا ورد فی الحدیث عن أبی عبد الله علیه السلام:

«أن بعض قریش قال لرسول الله صلی الله علیه و آله: بأی شیء سبقت الأنبیاء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إنی کنت أوّل من آمن بربّی وأوّل من أجاب حین أخذ الله میثاق النبیین (وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی) فکنت أنا أوّل نبیّ قال بلی، فسبقتهم بالإقرار بالله» (1) .

وفی الحدیث أیضاً عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی حدیثه لأصحابه قال: «فأخذ لی العهد والمیثاق علی جمیع النبیین، وهو قوله الذی أکرمنی به جلّ من قائل:

(وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)5 .

ص:387


1- (4) الکافی: ج 1، ص 441.

وقد علمتهم أن المیثاق أخذ لی علی جمیع النبیّین، وأنا الرسول الذی ختم الله بی الرسل، وهو قوله تعالی:

(رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ)1 .

فکنت والله قبلهم وبعثت بعدهم وأعطیت ما أعطوا وزادنی ربّی من فضله ما لم یعطه لأحد من خلقه غیری، فمن ذلک إنه أخذ لی المیثاق علی سائر النبیّین ولم یأخذ میثاقی لأحد، ومن ذلک ما نَبَّأ نبیّاً ولا أرسل رسولًا إلّاأمره بالإقرار بی وأن یبشّر أمته بمبعثی ورسالتی»(1).

اذن فالدین دین محمّد صلی الله علیه و آله وهو فاتح ذلک الصرح العظیم، وإن کانت الفطرة والملّة ملّة إبراهیم علیه السلام وهی غیر الدین، وکذلک للأنبیاء شرائع ومناهج مختلفة وهی غیر الدین أیضاً، وإنما هی تفصیلات وتنزّلات کلّیات ذلک الدین الحنیف وهو الإسلام، ولذا جاء فی دعاء التوجّه فی الصلاة:

«وجّهت وجهی للذی فطر السماوات والأرض حنیفاً مسلماً علی ملّة إبراهیم ودین محمّد صلی الله علیه و آله وهدی علی أمیر المؤمنین علیه السلام وما أنا من المشرکین»(2).

إذن الإسلام دین النبیّ والأنبیاء علی دینه ومن شیعته، ولذا فُسّر قوله تعالی:

(وَ إِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لَإِبْراهِیمَ)4 بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأن إبراهیم من شیعته وعلی دینه الحنیف، حیث ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

ص:388


1- (2) الهدایة الکبری/ الحسین بن حمدان الخصیبی: ص 380.
2- (3) الاحتجاج/ الطبرسی: ج 2 ص 307.

«قوله عزّ وجلّ: (وَ إِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لَإِبْراهِیمَ) ، أی إن إبراهیم علیه السلام من شیعة النبیّ صلی الله علیه و آله»(1).

وقد اختار هذا القول الکلبی وابن السائب والفرّاء(2).

فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لیس تابعاً للأنبیاء بل علی العکس، فهو علی الهدی الذی هو هدی الله تعالی، ومصدّق لما مع الأنبیاء، أی شاهد علی ما هم علیه من دینه الحنیف وبإمضائه یُصدّق ما هم علیه، أما الأنبیاء فهم یؤمنون بخاتم الأنبیاء «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» لا أنهم یؤمنون بما معه، فإیمانهم بذات النبیّ صلی الله علیه و آله، فهو صلی الله علیه و آله شاهد مطّلع مصدّق علی ما عندهم، وأما هم فیؤمنون به، وهذا یعنی أنه لا یوجد فی مقامات الأنبیاء ودرجاتهم عند الله تعالی ما هو غیب عن النبیّ صلی الله علیه و آله، وأما الذی یؤمن بذات النبیّ صلی الله علیه و آله وهم سائر الأنبیاء علیهم السلام فهو یؤمن بأمر غیبیّ، فمقام النبیّ صلی الله علیه و آله بالنسبة إلی باقی الأنبیاء غیب الغیوب، وأما مقامات سائر الأنبیاء فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مطّلع علیها ویعلمها ویشهد لهم علی صدقها، والأنبیاء فی أصل نیلهم لمقام النبوّة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبیاء قبل سائر الأرواح فی عالم الأرواح وشرطوا علی أنفسهم نصرته، ولذا فإن النبیّ صلی الله علیه و آله شفیع الکلّ، والأنبیاء لم ینالوا ما نالوا إلّابالدیانة لخاتم الأنبیاء، فهو الشفیع لقبول الأعمال، وهو باب رحمة الله العامّة(وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ)3 .

ص:389


1- (1) البرهان فی تفسیر القرآن/ هاشم البحرانی: ج 6 ص 419.
2- (2) تفسیر القرطبی: ج 15 ص 91.

ومن ذلک کلّه یتّضح أن هذه الآیة المبارکة نصّ فی المقام الثالث، وأن التوجّه إلی الله لنیل أی مقام أو قربی أو زلفی لا یتمّ إلّابالتوسل بالنبیّ صلی الله علیه و آله والتشفّع به، وبالتشفّع به یعطی للعبد أعظم الأرزاق وهو النبوّة والکتاب والحکمة، فکیف بک بسائر الأرزاق الأخری، التی لا تقاس بمقامات الأنبیاء.

ثم إن الآیة الکریمة رسمت خطورة الأمر فی ضمن تأکیدات مغلّظة، حیث جاء فیها قوله تعالی: (أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی) وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشدّدة أشهدهم الله تعالی علی ذلک، حیث قال: (فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)1 ، وهذا یعنی أن للتوسل والتوجّه دوراً مهمّاً ومحوریة رئیسیة فی رسم معالم الدین.

وإنکار التوسّل فی المسائل الدنیویة غیر الخطیرة لیس إلّاتعظیماً لصغائر الأمور وتصغیراً لما عظّمه الله عزّ وجلّ، فإن الإیمان بکون الأنبیاء لم یستحقّوا ما استحقّوه إلّابتوسلهم بالإیمان بالنبیّ صلی الله علیه و آله، وإنکار التوسّل فی بعض الأمور الدنیویّة والحاجات المعاشیة لیس له معنی إلّاالاستهانة بتلک المقامات الشامخة وتعظیم وتهویل ما لیس حقّه ذلک.

أهل البیت علیهم السلام شرکاء النبیّ صلی الله علیه و آله فی المیثاق:

ثمّ إن أهل البیت علیهم السلام یشترکون مع النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی دائرة المیثاق والدین الحنیف، الذی أخذ علی الأنبیاء الإیمان به ونصرته والدعوة إلیه، وإن کان أهل البیت علیهم السلام تابعین للنبیّ صلی الله علیه و آله وهم یتوجّهون به إلی الله تعالی، وبشفاعته

ص:390

یکونون معه صلی الله علیه و آله فی مقامه، وهو مقام الشفاعة الکبری والوسیلة العظمی.

ویدلّ علی اشتراک أهل البیت علیهم السلام مع النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی دائرة المیثاق الذی أخذ علی الأنبیاء وجوه عدیدة، وإلیک بعضها:

1 - إن نصرة الأنبیاء للرسول صلی الله علیه و آله لم تتحقّق إلی یومنا الحاضر، وهی إنما تتحقّق بالنصرة لأهل بیته عند ظهور المهدی من آل محمّد، وعند رجعة الأئمة علیهم السلام، کما نصّت علی ذلک الروایات المتضافرة، حیث جاء فیها أن عیسی علیه السلام وإدریس وغیرهما من الأنبیاء سوف یقاتلون بین یدی الإمام المهدی علیه السلام عند قیامه بدولة الحقّ والعدل، هذا من طرق الفریقین، وأما من طرقنا فقد دلّت الروایات المتضافرة أیضاً علی أن جمیع الأنبیاء والمرسلین سوف یقاتلون مع الأئمة علیهم السلام عند رجوعهم وکرّتهم فی دولتهم العالمیة المبارکة.

بل إن بعض الأنبیاء کإلیاس والخضر علیهما السلام علی القول بنبوّة الخضر علیه السلام الآن هم وزراء فی حکومة الإمام المهدی علیه السلام الخفیّة، وهی حکومة خلیفة الله فی أرضه، التی لا یمکن أن تفتقدها البشریة فی لحظة من اللحظات، وإلّا لساخت الأرض بأهلها.

ونشیر فیما یلی إلی بعض تلک الروایات التی وردت فی هذا المجال:

منها: طوائف الروایات التی دلّت علی أن المسیح عیسی بن مریم علیه السلام ینزل لنصرة المهدی علیه السلام، وإلیک فیما یلی هذه الروایة، ننقلها بطولها لارتباطها بالبحث الذی نحن فیه، قال أبو عبدالله الصادق علیه السلام:

«أتی یهودی النبیّ صلی الله علیه و آله، فقام بین یدیه یحدّ النظر إلیه، فقال: یایهودی ما

ص:391

حاجتک؟ قال: أنت أفضل أم موسی بن عمران النبیّ الذی کلّمه الله، وأنزل علیه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟

فقال له النبیّ صلی الله علیه و آله: إنه یکره للعبد أن یزکّی نفسه، ولکنّی أقول: إن آدم علیه السلام لما أصاب الخطیئة کانت توبته أن قال: اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما غفرت لی فغفرها الله له، وإن نوحاً علیه السلام لما رکب فی السفینة وخاف الغرق، قال: اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّیتنی من الغرق، فنجّاه الله منه، وإن إبراهیم علیه السلام: لما ألقی فی النار قال: اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّیتنی منها، فجعلها الله علیه برداً وسلاماً، وإن موسی علیه السلام لما ألقی عصاه أوجس فی نفسه خیفة، قال اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما آمنتنی منها، فقال الله جلّ جلاله:

(لا تَخَفْ إِنَّکَ أَنْتَ الْأَعْلی)1 .

یایهودی: إن موسی لو أدرکنی ثم لم یؤمن بی وبنبوّتی ما نفعه إیمانه شیئاً ولا نفعته نبوّته.

یایهودی ومن ذریتی المهدی إذا خرج نزل عیسی بن مریم لنصرته، فقدّمه وصلّی خلفه»(1).

وفی حدیث آخر: «فیلتفت المهدی فینظر عیسی علیه السلام فیقول لعیسی: یاابن البتول صلّ بالناس، فیقول: لک أقیمت الصلاة، فیتقدّم المهدی فیصلّی

ص:392


1- (2) الأمالی/ الصدوق: ص 288، روضة الواعظین/ النیسابوری: ص 272.

بالناس ویصلّی عیسی خلفه ویبایعه»(1).

ولا شک أن المبایعة لأجل نصرته علیه السلام لإقامة دولة الحقّ، بقرینة تتمّة الروایة حیث ورد فیها أن المسیح عیسی بن مریم علیه السلام بعد المبایعة یکون من وزراء المهدی علیه السلام ویخرج لقتال الدجال.

ومنها: الروایات التی دلّت علی أن نصرة الأنبیاء للرسول الأکرم صلی الله علیه و آله إنما تحصل بالنصرة لوصیّه أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام والقتال بین یدیه عند الکرّة والرجعة فی دولة الحقّ، وذلک نظیر ما أخرجه سعد بن عبدالله القمی عن فیض بن أبی شیبة، قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول، وتلا هذه الآیة: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ):) «لتؤمننّ برسول الله صلی الله علیه و آله ولتنصرنّ علیاً أمیر المؤمنین علیه السلام.

قال: نعم والله من لدن آدم وهلمّ جراً، فلم یبعث الله نبیّاً ولا رسولًا إلّاردّ جمیعهم إلی الدنیا حتّی یقاتلوا بین یدی علیّ بن أبی طالب علیه السلام» (2).

ومن الواضح أن نصرة أمیر المؤمنین علیه السلام نصرة لرسول الله صلی الله علیه و آله وللدین الذی جاء به.

وحاصل هذه النقطة: هو اشتراک أهل البیت علیهم السلام مع النبیّ صلی الله علیه و آله فی المیثاق الذی أخذ علی الأنبیاء، إذ أن إیفاءهم بالعهد إنما یکون بنصرتهم لأهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله.

2 - مرّ بنا أن الدین عند الله الإسلام وهو واحد لا تعدّد فیه، وأن جمیع

ص:393


1- (1) عقد الدرر/ الشافعی: ص 275.
2- (2) مختصر بصائر الدرجات/ الحسن بن سلیمان الحلّی: ص 25.

المخلوقات بما فیهم سائر الأنبیاء عجزوا عن تحمّل الدین والسبق فی فتح سبله وبلوغ مقاماته الرفیعة، سوی الذات النبویّة المبارکة التی لها الأهلیة والاستعداد لتلقّی ذلک عن الله عزّ وجلّ، فکان للنبیّ صلی الله علیه و آله الأسبقیة فی الإسلام والتسلیم لله تعالی؛ ولذا کان الدین دین محمّد صلی الله علیه و آله، إذن دین الإسلام الواحد عبارة عن تلک المقامات السامیة والنور الأعظم الذی لم یتحمّله مخلوق عن الله تعالی سوی خاتم الرسل صلی الله علیه و آله، فأسکن الله عزّ وجلّ ذلک النور فی بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه، وکان بدن النبیّ الأکرم مسکناً لذلک النور، لأنه أوّل من قال بلی عندما قال الله تعالی للبشر: (أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ) .

ومن هنا یتّضح أن المیثاق والعهد الذی أخذه الله علی أنبیائه هو الإیمان بذات الرسول صلی الله علیه و آله، والإیمان بمقامه صلی الله علیه و آله هو الدین الذی بعث به جمیع الأنبیاء، وهو بدرجاته العالیة غیب الله وسره المکنون الذی أمر الأنبیاء بالإیمان به والتسلیم له، وکان نیل مقامات النبوّة علی قدر درجة التسلیم لذلک الدین، وقد مدح الله تعالی أنبیاءه لکونهم مسلمین، قال عزّ وجلّ: (ما کانَ إِبْراهِیمُ یَهُودِیًّا وَ لا نَصْرانِیًّا وَ لکِنْ کانَ حَنِیفاً مُسْلِماً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ)1 ، وقد أمر الله تعالی أنبیاءه باتخاذ الاسلام دیناً، کما فی قوله لإبراهیم: (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِینَ)2 .

إذن الدین الواحد هو المیثاق الذی أخذ علی جمیع الأنبیاء التسلیم له

ص:394

والإیمان به ونصرته، وهو دین النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله المتمثّل برسالته ووساطته بین الله وخلقه، فهو دین الله الناطق.

وإذا کان الأمر کذلک فکلّ ما هو داخل فی دائرة الدین یکون من المیثاق الذی أخذ علی الأنبیاء الإیمان به ونصرته والتسلیم له، ومن الدین ولایة أهل البیت علیهم السلام بنصّ القرآن الکریم، وذلک فی قوله تعالی: (الْیَوْمَ یَئِسَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ دِینِکُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً)1 حیث نصّت روایات الفریقین علی أن هذا المقطع من الآیة المبارکة نزل عند تنصیب الله عزّ وجلّ أمیر المؤمنین علیه السلام لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وذلک فی واقعة الغدیر(1).

إذن الولایة والخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله من الدین الذی بعث به جمیع الأنبیاء، وقد أُکمل بتنصیب أمیر المؤمنین علیه السلام بعد حجّة الوداع مضافاً إلی أن جملة الآیات والأدلّة القائمة علی إمامة أهل البیت علیهم السلام دالّة علی أن إمامتهم وولایتهم من أصول الدین تتلو أصل النبوّة، سیما وأن الأنبیاء مخاطبون بآیات الولایة والقربی والمودّة عند رجوعهم للنصرة، فهم مأمورون بطاعة أولی الأمر والمودّة للقربی والتوجّه بهم إلی الله تعالی.

والحاصل: إنه لم یبعث نبیّ من الأنبیاء إلّابعد أن آمن وسلّم بالدین الذی هو ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته، فالولایة دین الله الذی بتسلیمه استحقّ

ص:395


1- (2) لاحظ کتاب الغدیر للأمینی وشرح إحقاق الحق، حیث تتبعا الروایات فی هذا المجال.

الأنبیاء مقام النبوّة کلّ بحسب ما بلغه من درجة التسلیم، فإن للولایة والتسلیم درجات وبحسب درجة التسلیم لکلّ نبیّ یعطی ذلک النبیّ مقام الحظوة عند الله تعالی ویستحقّ مقام النبوّة، وإذا ازدادت درجة التسلیم کان ذلک النبیّ من أولی العزم، فتفضیل الأنبیاء الوارد فی قوله تعالی: (وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلی بَعْضٍ)1 ، کذلک تفضیل الرسل، کما فی قوله تعالی: (تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ)2 ، کلّ ذلک التفضیل بحسب درجة التسلیم والتولّی لدین الله عزّ وجلّ، وذلک بالولایة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته، فالتسلیم للنبیّ وأهل بیته والإیمان بولایتهم نوع توجّه قلبی إلی الله عزّ وجلّ بهم، وهو شرط لنیل المقامات العظیمة عند الله تعالی کالنبوّة والرسالة، فضلًا عن غیرها من العبادات وقبول التوبة واستدرار الأرزاق الإلهیّة.

3 - لقد بیّن الله عزّ وجلّ حقیقة المیثاق الذی أخذه علی الأنبیاء وکیفیة إقرارهم وإیمانهم به وثباتهم علیه، کما فی قصة آدم علیه السلام، حیث جاء فیها أن الأمانة والمیثاق الذی أقرّ به آدم وتحمّله لنیل منصب الخلافة الإلهیة عبارة عن الأسماء الحیّة العاقلة الشاعرة، التی علّمها الله عزّ وجلّ آدم ولیست هی من السماوات والأرض، بل هی ملکوتها وباطنها ومحیطة بها ومهیمنة علیها، والأسماء هم الرسول صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، کما تقدّم فی الأبحاث السابقة کما نصّت علیه روایات الفریقین، وعلیه فیکون المیثاق الذی تحمّله آدم وآمن به

ص:396

ونال بواسطته مقام الخلافة هو الولایة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام.

کذلک الحال فی الکلمات التی ابتلی بها إبراهیم علیه السلام، فلما أتمّهن نال مقام الإمامة، فهذه الکلمات هی میثاق إبراهیم علیه السلام لما أتمّها وآمن بها وأسلم بواسطتها لله ربّ العالمین استحقّ مقام الإمامة الإلهیة، وسبق أیضاً أن تلک الکلمات التی ابتلی بها إبراهیم وکان إتمامها سبباً لنیل المقامات العالیة هم محمّد صلی الله علیه و آله وآله الطاهرین علیهم السلام.

إذن المیثاق عبارة عن أمتحان وابتلاء لنیل المقامات الرفیعة کالنبوّة والإمامة، والمیثاق هو ولایة أهل البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً.

نعم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أعلی مقاماً من أهل بیته علیهم السلام وهم یتوجّهون بالنبیّ صلی الله علیه و آله إلی الله عزّ وجلّ وبشفاعته ینالون درجة مقامه عند الله.

4 - إن ولایة أمیر المؤمنین علیه السلام وأهل البیت علیهم السلام ذکرت تلو ولایة النبیّ الأکرم فی جملة من آیات الطاعة والولایة، التی تقدم ذکرها، مما یدلّل علی أن ولایة المعصومین علیهم السلام من الدین الذی بعث به الأنبیاء، إذ الدین دائرته موحّدة بین الأنبیاء، والذی هو عبارة عن أصول العقائد وأصول الواجبات والمحرّمات، التی هی أرکان الفروع کأصل وجوب الصلاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فهذه کلّها من دائرة الدین لا الشریعة المختلفة من نبیّ إلی آخر، وولایة أمیر المؤمنین علیه السلام من الدین الذی بعث به جمیع الأنبیاء والرسل.

ص:397

کذلک من الآیات التی قرنت الرسول الأکرم بأهل بیته علیهم السلام آیات الفیء والخمس، کما فی قوله تعالی: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ)1 فإن الآیة المبارکة تبیّن أن أولیاء الخمس الذین لهم الولایة علی اقتصاد الدولة الإسلامیة هم الله تعالی ورسوله وذوی القربی، بقرینة الاشتراک ب(اللام) الدالّة علی ملکیة التصرف فی أموال الدولة الإسلامیة، وأما الیتامی والمساکین وابن السبیل فهم موارد مصرف الخمس؛ ولذا تغیّر التعبیر فیهم بحذف اللام.

کذلک بنفس البیان ما ورد فی قوله تعالی: (ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ)2 ، فلإقامة العدالة المالیة والاقتصادیة علی الأرض لابدّ أن تدار الأموال العامة التی ترجع إلی بلاد الإسلام بولایة الله ورسوله وذوی القربی، وهم قربی الرسول الأکرم الذین جعلت مودّتهم أجراً وعدلًا لما جاء به النبیّ الأکرم من الدین الحنیف، وذلک فی قوله تعالی: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)3 .

وهذا یکشف عن أهمیّة تولّی ذوی القربی وأن ولایتهم مفتاح لسائر أبواب الدین ومن دون التوسّل بها یخطأ الشخص ویضلّ طریق التوحید، فیقع فی مثل الجبر أو التفویض أو غیر ذلک، فلابدّ من الولوج إلی الدین عن

ص:398

الطریق والباب الذی نصبه الله عزّ وجلّ لخلقه، ولا یمکن الوقوف علی حقیقة الدین إلّا بالإمامة.

فمودّة ذوی القربی أمر عظیم إذا سَلِم سَلِمت بقیّة أصول الدین، ولا یوجد قربی للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بهذا الشأن الخطیر سوی المعصومین من أهل بیته، فولایتهم عاصمة عن الضلال وهی رکن رکین فی الدین الذی بعث به الأنبیاء کافّة.

ولا شک أن الدین عام - کما ستأتی الإشارة إلی ذلک - لا یستثنی منه أحد فی جمیع النشآت بنحو الأبد وعدم الانقطاع، ومن ثمّ یکون وجوب الطاعة والولایة مکلَّف به جمیع المخلوقات بنحو من التأبید والخلود، فخلافة وولایة أولی الأمر ووجوب طاعتهم لا تختصّ بالجنّ أو الإنس ولا بالأمور السیاسیة الدنیویة ولیس لأمدها حدّ ولا انقطاع.

وهناک أیضاً آیات أخری ستأتی لاحقاً قرنت بین النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته، مما یکشف عن أن مقامات الأنبیاء ونیل الحظوة الإلهیة لا یتم إلّابالتوسل والتوجّه بهم إلی الله تعالی، وأن تولّیهم واسطة للفیض الإلهی، ولولاهم لما بعث الأنبیاء والمرسلون، فهم الوسیلة إلی الله تعالی فی عظائم الأمور، فکیف بالقضایا الأخری التی هی أقلّ شأناً مما یرتبط بالأمور الحیاتیة والمعیشیة للناس؟!

وهذا کلّه یصلح بیاناً بذاته لتبعیة الأنبیاء جمیعاً لخاتم الأنبیاء وأهل بیته علیهم السلام مع سبقهم الزمنی علیهم.

ص:399

بیان آخر لتوسل الأنبیاء بالرسول الأکرم وأهل بیته فی نیل المقامات: النبی وأهل بیته قدوة للأنبیاء:

مما یشیر إلی کون النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام قدوة لجمیع الأنبیاء والمرسلین حتّی أولی العزم منهم، وبالتالی اتّباعهم للنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام وسیلة لبلوغهم إلی المقامات العالیة من النبوّة والرسالة والخلّة والإمامة وغیرها، مع أن النبیّ وأهل بیته متأخرین عنهم من حیث الزمان فی النشأة الأرضیة، هو ما دلّت علیه جملة من الآیات والروایات من أن الله تعالی أنبأ آدم ونوح وإبراهیم وموسی وعیسی وغیرهم من الأنبیاء والرسل بالأحوال والحوادث التی تجری علی خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، من المحن والمصائب والابتلاءات والامتحانات والشدائد وکیفیة ثباتهم علیهم السلام فیها وصبرهم ورضاهم وتسلیمهم بقضاء الله وقدره وتنمّرهم فی ذات الله، وأطلعهم علی الکمالات والمقامات الرفیعة التی یکونون علیها، مع عظیم ابتلائهم بتلک الشدائد.

وهذا ما یوجب تربیة روحیة عالیة لهم لیتحلّوا بالکمالات عند مواجهتهم للشدائد والفتن والمحن وبالتالی نیل المقامات التی حظوا بها عند الله تعالی.

وکان فیما أوحی الله عزّ وجلّ لهم عن أحوال النبیّ وأهل بیته بأنماط متعدّدة من الوحی، أی من الوحی الصوری نظیر الرؤیا أو الوحی بالإلهام والمعنی وغیرها من أنماط الوحی.

فکانت سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام تمثالًا منصوباً وشعاراً مرفوعاً لهم یحتذون ویقتدون به، ماثل أمام أعینهم طیلة مسیرة أیام نبوّتهم ورسالتهم.

ص:400

وهذا أحد معانی اقتداء الأنبیاء والمرسلین بالنبیّ وأهل بیته.

أما الآیات التی تشیر إلی هذا المعنی فهی عدیدة نشیر إلی جانب منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالی: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ)1 فإنها دالّة علی أن الله عزّ وجلّ أخبرهم عن خاتم الأنبیاء ومقاماته وأن الدین دینه وهو فاتح حصونه، ثم بعد ذلک أمرهم بالتسلیم له والإیمان به ونصرته.

2 - قوله تعالی علی لسان عیسی علیه السلام: (وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ یَأْتِی مِنْ بَعْدِی اسْمُهُ أَحْمَدُ)2 .

3 - قوله تعالی فی یهود المدینة، قُبیل ولادة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله: (وَ لَمّا جاءَهُمْ کِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ کانُوا مِنْ قَبْلُ یَسْتَفْتِحُونَ عَلَی الَّذِینَ کَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا کَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَی الْکافِرِینَ)3 ، فقد نقل المفسّرون فی ذیل هذه الآیة المبارکة أن الیهود من أهل المدینة وخیبر کانوا إذا قاتلوا من یلیهم من مشرکی العرب من الأوس والخزرج یستنصرون بالنبیّ صلی الله علیه و آله علیهم ویستفتحون به، لما یجدون من ذکره وصفاته وشمائله ومحلّ ولادته فی التوراة، وکانوا یدعون ویتوسلون بحقّه للنصرة علیهم، حیث یقولون: (اللّهم إنّا نستنصرک بحقّ النبیّ الأمیّ إلّانصرتنا علیهم).

وعن ابن عباس قال: (کانت یهود خیبر تقاتل غطفان فکلّما التقوا

ص:401

هزمت یهود خیبر، فعاذت الیهود بهذا الدعاء: اللّهم إنا نسألک بحقّ محمّد النبیّ الأمیّ الذی وعدتنا أن تخرجه لنا فی آخر الزمان إلّانصرتنا علیهم، قال: فکانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبیّ صلی الله علیه و آله کفروا به، فأنزل الله وقد کانوا یستفتحون بک یامحمّد علی الکافرین) (1).

4 - قوله تعالی فی الیهود والنصاری الذین آمنوا بالنبیّ صلی الله علیه و آله: (الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)2 .

5 - قوله تعالی فی معرفة أهل الکتاب بصفات وشمائل النبیّ صلی الله علیه و آله: (الَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ)3 .

إن هذه الأربع آیات الأخیرة صریحة فی إخبار الأنبیاء علیهم السلام أممهم بأحوال خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله وسیرته، وهذا یکشف عن أن الله تعالی أطلع أنبیاءه علی سیرة النبیّ الأعظم وما یجری علیه من المحن والشدائد.

6 - قوله تعالی علی لسان إبراهیم فی دعائه لذریّته:

ص:402


1- (1) تفسیر الطبری: ج 1 ص 324، تفسیر القرطبی: ج 2 ص 27.

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ)1 فهی دالّة علی أن إبراهیم کان مطّلعاً علی سیرة ذرّیته الطاهرة، ودعا الله عزّ وجلّ بمودّة الناس لهم وهویّ القلوب إلیهم.

هذا بالنسبة إلی الآیات المبارکة، وهی دالّة علی أن الأنبیاء علیهم السلام کانوا علی اطّلاع بالنبیّ الأکرم وأهل بیته الطاهرین وما یجری علیهم من البلایا.

أما الروایات فی هذا المجال فهی کثیرة جدّاً نشیر إلی شطر منها علی سبیل الاختصار:

1 - ما أخرجه القندوزی الحنفی فی الینابیع، عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

«یاعباد الله إن آدم علیه السلام لما رأی النور ساطعاً من صلبه، إذ کان الله تعالی نقل أشباحنا من ذروة العرش إلی ظهره، رأی النور ولم یتبیّن الأشباح، فقال: یاربّ ما هذه الأنوار؟ قال: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع العرش إلی ظهرک، ولذلک أمرت الملائکة بالسجود لک، إذ کنت وعاءً لتلک الأشباح، فقال آدم علیه السلام: یاربّ لو بیّنتها لی.

فقال الله عزّ وجلّ: انظر یاآدم إلی ذروة العرش.

فنظر آدم علیه السلام ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم علیه السلام إلی ذروة العرش، فانطبع فیه صور أنوار أشباحنا التی فی ظهره کما ینطبع وجه الانسان فی المرآة الصافیة، فرأی أشباحنا.

ص:403

فقال: ما هذه الأشباح یاربّ؟ قال الله تعالی: یاآدم هذه الأشباح أشباح أفضل خلائقی وبریّاتی، هذا محمّد وأنا المحمود فی أفعالی، شققت له اسماً من اسمی، وهذا علی وأنا العلیّ العظیم شققت له اسماً من اسمی، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائی من رحمتی یوم فصل القضاء، وفاطم أولیائی مما یبیرهم ویشینهم، شققت لها اسماً من اسمی، وهذا الحسن وهذا الحسین وأنا المحسن المجمل ومنّی الاحسان، شققت اسمیهما من اسمی.

وهؤلاء خیار خلقی وکرائم بریّتی، بهم آخذ وبهم أعطی، وبهم أعاقب وبهم أثیب، فتوسل بهم إلیّ یاآدم، وإذا دهتک داهیة فاجعلهم إلیّ شفعائک فإنی آلیت علی نفسی قسماً حقّاً لا أُخیّب لهم آملًا ولا أردّ لهم سائلًا» (1) .

فهذه الروایة صریحة فی أن الله تعالی أطلع خلیفته ونبیّه آدم علی حقائق أهل البیت علیهم السلام، لیکونوا له قدوة یقتدی بهم وشفعاء یتوسل بهم إلی الله تعالی.

2 - روی: أن آدم علیه السلام لما هبط إلی الأرض لم یرَ حواء، فصار یطوف الأرض فی طلبها، فمرّ بکربلاء فاغتمّ وضاق صدره من غیر سبب، وعثر فی الموضع الذی قُتل فیه الحسین علیه السلام حتی سال الدمّ من رجله، فرفع رأسه إلی السماء وقال:

إلهی هل حدث منّی ذنب آخر فعاقبتنی به؟ فإنی طفت جمیع الأرض وما أصابنی سوء مثل ما أصابنی فی هذه الأرض.

فأوحی الله تعالی إلیه یاآدم ما حدث منک ذنب، ولکن یقتل فی هذه

ص:404


1- (1) ینابیع المودّة لذوی القربی/ القندوزی الحنفی: ج 1 ص 289.

الأرض ولدک الحسین ظلماً، فسال دمک موافقة لدمه(1).

3 - ما أخرجه المجلسی فی البحار عن صاحب الدرّ الثمین فی تفسیر قوله تعالی: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ)2 : (أنه رأی ساق العرش وأسماء النبیّ والأئمة علیهم السلام، فلقّنه جبرئیل، قل: یاحمید بحقّ محمّد، یاعالی بحقّ علیّ یافاطر بحقّ فاطمة، یامحسن بحقّ الحسن والحسین ومنک الإحسان.

فلمّا ذکر الحسین سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: یاأخی جبرئیل فی ذکر الخامس ینکسر قلبی وتسیل عبرتی؟ قال: جبرئیل: ولدک هذا یصاب بمصیبة تصغر عندها المصائب، فقال: یاأخی وما هی؟ قال: یقتل عطشاناً غریباً وحیداً فریداً لیس له ناصر ولا معین) (2).

4 - ما أخرجه الصدوق عن علیّ بن موسی الرضا علیه السلام، قال:

«لما أمر الله تبارک وتعالی إبراهیم علیه السلام أن یذبح مکان ابنه إسماعیل الکبش الذی أنزله علیه تمنّی إبراهیم علیه السلام أن یکون یذبح ابنه إسماعیل علیه السلام بیده، وأنه لم یؤمر بذبح الکبش مکانه؛ لیرجع إلی قلبه ما یرجع إلی قلب الوالد الذی یذبح أعزّ ولده بیده فیستحقّ بذلک أرفع درجات أهل الثواب علی المصائب، فأوحی الله عزّ وجلّ إلیه: یاإبراهیم من أحبّ خلقی إلیک؟ فقال: یاربّ ما خلقت خلقاً هو أحبّ إلیّ من حبیبک محمّد صلی الله علیه و آله، فأوحی الله عزّ وجلّ إلیه: یاإبراهیم أفهو أحبّ إلیک أو نفسک؟

ص:405


1- (1) بحار الأنوار: ج 44 ص 242.
2- (3) بحار الأنوار: ج 44 ص 245.

قال: بل هو أحبّ إلیّ من نفسی، قال: فولده أحبّ إلیک أو ولدک؟ قال: بل ولده، قال: فذبح ولده ظلماً علی أیدی أعدائه أوجع لقلبک أو ذبح ولدک بیدک فی طاعتی؟ قال: یاربّ بل ذبحه علی أیدی أعدائه أوجع لقلبی، قال: یاإبراهیم فإن طائفة تزعم إنها من أمة محمّد صلی الله علیه و آله ستقتل الحسین علیه السلام إبنه من بعده ظلماً وعدواناً کما یذبح الکبش، فیستوجبون بذلک سخطی، فجزع إبراهیم علیه السلام لذلک وتوجّع قلبه وأقبل یبکی، فأوحی الله عزّ وجلّ إلیه: یاإبراهیم قد فدیت جزعک علی إبنک إسماعیل لو ذبحته بیدک بجزعک علی الحسین علیه السلام وقتله، وأوجبت لک أرفع درجات أهل الثواب علی المصائب»(1).

5 - ما أخرجه ابن قولویه فی کامل الزیارات عن أبی عبدالله علیه السلام قال:

«إن إسماعیل الذی قال الله تعالی فی کتابه:

(وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ إِسْماعِیلَ إِنَّهُ کانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ کانَ رَسُولاً نَبِیًّا)2 .

لم یکن إسماعیل ابن إبراهیم علیه السلام، بل کان نبیّاً من الأنبیاء بعثه الله إلی قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملک عن الله تبارک وتعالی فقال: إن الله بعثنی إلیک فمرنی بما شئت، فقال: لی أسوة بما یصنع بالحسین علیه السلام»(2).

وفی حدیث آخر عنه علیه السلام قال:

ص:406


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام / الصدوق: ج 2 ص 188 ب 17 ح 1.
2- (3) کامل الزیارات/ جعفر بن محمد بن قولویه: ص 137.

«ذاک إسماعیل بن حزقیل النبیّ علیه السلام، بعثه الله إلی قومه فکذّبوه فقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب الله له علیهم فوجّه إلیه اسطاطائیل ملک العذاب، فقال له: یاإسماعیل: أنا اسطاطائیل ملک العذاب، وجّهنی إلیک ربّ العزّة لأعذّب قومک بأنواع العذاب إن شئت، فقال له إسماعیل:

لا حاجة لی فی ذلک، فأوحی الله إلیه فما حاجتک یاإسماعیل؟ فقال: یاربّ إنک أخذت المیثاق لنفسک بالربوبیة ولمحمّد صلی الله علیه و آله بالنبوّة ولأوصیائه بالولایة، وأخبرت خیر خلقک بما تفعل أمته بالحسین بن علیّ علیه السلام من بعد نبیّها، وأنک وعدت الحسین علیه السلام أن تکرَّهُ إلی الدنیا حتی ینتقم بنفسه ممن فعل ذلک به، فحاجتی إلیک یاربّی أن تکرّنی إلی الدنیا حتّی أنتقم ممن فعل ذلک بی، کما تکرّ الحسین علیه السلام، فوعد الله إسماعیل بن حزقیل ذلک، فهو یکرّ مع الحسین علیه السلام»(1).

6 - عن سعد بن عبدالله القمی فی سؤاله للإمام المهدی علیه السلام فی محضر الإمام الحسن العسکری علیه السلام، حیث قال: فأخبرنی یاابن رسول الله عن تأویل «کهیعص»؟ قال علیه السلام:

«هذه الحروف من أنباء الغیب، أطلع الله علیها عبده زکریّا، ثم قصّها علی محمّد صلی الله علیه و آله، وذلک إن زکریا سأل ربّه أن یعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط علیه جبرئیل فعلّمه إیاها، فکان زکریا إذا ذکر محمّداً وعلیاً وفاطمة والحسن والحسین، سری عنه همّه، وانجلی کربه، وإذا ذکر الحسین خنقته العبرة،

ص:407


1- (1) المصدر السابق: ص 138-139.

ووقعت علیه البهرة(1) ، فقال ذات یوم: یاإلهی ما بالی إذا ذکرت

أربعاً منهم تسلّیت بأسمائهم من همومی، وإذا ذکرت الحسین تدمع عینی وتثور زفرتی؟ فأنبأه الله تعالی عن قصّته»

إلی أن قال:

«فلما سمع ذلک زکریا لم یفارق مسجده ثلاثة أیام ومنع فیها الناس من الدخول علیه، وأقبل علی البکاء والنحیب، وکانت ندبته: إلهی أتفجع خیر خلقک بولده؟

إلهی أتنزل بلوی هذه الرزیة بفنائه؟ إلهی أتلبس علیاً وفاطمة ثیاب هذه المصیبة؟ إلهی أتحلّ کربة هذه الفجیعة بساحتهما؟

ثم کان یقول: أللّهم ارزقنی ولداً تقرّ به عینی علی الکبر، واجعله وارثاً وصیّاً، واجعل محلّه منّی محلّ الحسین، فإذا رزقتنیه فافتنّی بحبّه ثم افجعنی به کما تفجع محمّداً حبیبک بولده، فرزقه الله یحیی وفجعه به» (2).

والروایات فی هذا المجال کثیرة جدّاً، وهی دالّة علی ما أردنا التنبیه علیه من تبعیة الأنبیاء لمحمّد وأهل بیته علیهم السلام، وکونهم قدوة لهم وواسطة فی بلوغ ما وصلوا إلیه من المقامات، وذلک عن طریق استعراض سیرتهم والحوادث التی جرت علیهم علیهم السلام.

آیات أخری فی اقتران أهل البیت علیهم السلام بالنبیّ صلی الله علیه و آله فی الصفات:

ص:408


1- (1) البهر: تتابع النفس وانقطاعه کما یحصل بعد الإعیاء والعدو الشدید.
2- (2) کمال الدین وتمام النعمة/ الصدوق: ص 459.

1 - قوله تعالی: (إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)1 ، حیث قرنت هذه الآیة المبارکة بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أهل بیته علیهم السلام وجعلتهم شرکاء له تابعون فی الطهارة، وهی تعنی درجة العصمة التی للرسول صلی الله علیه و آله، فهو صلی الله علیه و آله سیّد الأنبیاء ویفوق الکلّ فی درجة العصمة والطهارة، إلّا أن سنخ عصمته صلی الله علیه و آله متقاربة ومتقارنة مع سنخ العصمة التی لأهل البیت علیهم السلام، ففی الوقت الذی قرن الله تعالی بنبیّه صلی الله علیه و آله أهل بیته فی العصمة والطهارة، لم یقرن أحداً من الأنبیاء فی نمط التطهیر والعصمة الذی له صلی الله علیه و آله.

2 - قوله تعالی: (فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ)2 ، فلم یُنزَّل أحد کنفس النبیّ صلی الله علیه و آله إلّاعلیّ علیه السلام، وقرن الله تعالی بالنبیّ صلی الله علیه و آله أهل بیته علیهم السلام فی الحجّیة، فالخمسة علیهم السلام معاً حجج علی جمیع الأدیان السماویة والبشریة عموماً إلی یوم القیامة، فهم علیهم السلام شرکاء النبیّ صلی الله علیه و آله فی الرسالة؛ لأن المباهلة نوع محالفة، وفی الحلف لابدّ أن یحلف الأصیل ولا وکالة فی الحلف، وهذا یعنی أنهم علیهم السلام شرکاء فی الرسالة أصالة، ولکنهم تابعون فی ذلک للنبیّ صلی الله علیه و آله وهو سیّدهم وبشفاعته نالوا الأصالة فی الحجّیة.

والحاصل: إنَّ أهل البیت علیهم السلام مقرونون بسیّد الأنبیاء فی المقامات تبعاً

ص:409

له صلی الله علیه و آله، وهذا یعنی أن الإیمان بأهل البیت والتولّی لهم من الدین الذی أخذ علی الأنبیاء الإیمان به ونصرته لأجل نیل المقامات العالیة عند الله تعالی.

هذا تمام الکلام فی الدلیل السابع علی عموم شرطیة التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام لصحّة الإیمان وللتوبة وسائر العبادات ولنیل مقامات القرب.

الدلیل الثامن:

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ)1 .

تقدّم أن هذه الآیة المبارکة دالّة علی مبدأ التوسّل، ونشیر هنا أیضاً إلی أنها دالّة عموم شرطیة التوسّل فی التوجّه إلی الحضرة الإلهیة، فلابدّ من التوسّل بالذریّة والتوجّه بهم وصلتهم والمجیء إلیهم، وسبق کذلک أن التوجّه نوع دعاء وهو لا یرتفع ولا تفتّح له أبواب السماء إلّابالتوسل بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام وهویّ القلوب إلیهم.

ولذا کانت مودّة أهل البیت علیهم السلام أجر الرسالة الخاتمة، کما فی قوله تعالی:

(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)2 ، وقال تعالی: (قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ)3 ، مما یعنی أن مودّة أهل البیت علیهم السلام یعود نفعها للأمة جمعاء، وقال عزّ وجلّ: (قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ)

ص:410

(شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً)1 ، ومعنی ذلک أن مودّتهم علیهم السلام هی السبیل الوحید والطریق والوسیلة المنحصرة إلی الله تعالی، فهم السبیل إلیه والمسلک إلی رضوانه.

الدلیل التاسع: الاستکبار والصدّ عن آیات الله تعالی موجب لحبط الأعمال

نرید أن نتعرض هنا فی الاستدلال علی المقام بما تقدّم من قوله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُجْرِمِینَ)2 ونرید أن نضیف علی ما تقدم من بیان هذه الآیة الکریمة بما له دلالة علی المطلوب فی المقام، وذلک بالبیان التالی:

إن الآیة المبارکة تتعرّض لبعض الأحکام المترتّبة علی التکذیب بآیات الله تعالی.

والمقصود من الآیات هی الحجج الإلهیة، حیث أطلق الله عزّ وجلّ لفظ الآیة علی مریم وعیسی علیهما السلام(وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ آیَةً)3 ، وإذا کان عیسی علیه السلام لم ینل ما ناله إلّابولایته وإقراره وإیمانه بسیّد الأنبیاء فکیف بنفس النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فهو أعظم آیة لله تعالی؟ وإذا کان عیسی علیه السلام من وزراء الإمام المهدی علیه السلام وتابعاً له فی دولته، فکیف لا یکون أهل البیت علیهم السلام من أعظم آیات الله تعالی؟ خصوصاً وأن الله تعالی قرن بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أهل

ص:411

بیته علیهم السلام فی الطهارة والعصمة والحجّیة والولایة وغیرها من المقامات التی تقدّم التعرّض لها آنفاً، فلا شک أن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام المصداق البارز للآیة التی نحن بصدد بیانها، فهم علیهم السلام أوضح وأبرز وأعظم آیات الله تعالی.

والذین یکذّبون بآیات الله تعالی ویصدّون ویستکبرون عنها - کما فعل إبلیس مع آدم علیه السلام - لا تفتّح لهم أبواب السماء، فلکی تفتّح أبواب السماء لقبول الأعمال والعبادات والعقائد وجمیع المقامات، وقد قال تعالی: (إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ یَرْفَعُهُ)1 والکلم الطیب هو العقیدة، فبیّنت الآیة أن الإیمان والعقیدة لابدّ له أن یصعد فی مسیر قبوله عند الله تعالی، والصعود إلی السماء لابدّ أن تفتّح له أبواب السماء، وقد بیّنت الآیة السابقة أن مفتاح أبواب السماء هو کلّ من التصدیق بالآیات الإلهیة والخضوع لها واللُجأ إلیها وعدم الصدّ عنها، ومن أجل الرقی والعروج إلی السماء لابدّ من التوجّه إلی آیات الله تعالی واللجوء إلیها والتصدیق بها وعدم الصدّ عنها، فالآیة صریحة فی أن التوبة والعبادة وأیّ قربی أو زلفی إلی الله عزّ وجلّ تفتقر إلی تفتّح أبواب السماء وأنها لا تفتّح أبداً مع الاستکبار علی الآیات الإلهیة، فلیس الإیمان بآیات الله فحسب کافٍ فی قبول العبادات ورقی المقامات، بل لابدّ من المودّة والصلة والإقبال والتوجّه إلی الآیات والتوسّل بها إلی الله، وعدم الصدّ والإعراض والإستکبار عنها، لأن الآیة جعلت شرطین لفتح أبواب السماء ولدخول الجنّة:

ص:412

الأول: عدم التکذیب، أی التصدیق والإیمان والمعرفة بآیات الله الحجج.

والثانی: عدم الاستکبار عنها، وهذا الأمر یتضمّن شیئین:

أحدهما: عدم الاستکبار أی الخضوع والتواضع، وثانیتهما: عدم الصدّ الذی قد ضُمّن فی فعل الاستکبار بقرنیة عن، نظیر ما ذکرته الآیات فی مسبب کفر إبلیس(أَبی وَ اسْتَکْبَرَ) فالإباء هو الجحود مقابل التصدیق، والاستکبار مقابل الخضوع والاتباع.

ونظیر ذلک ما ورد فی سورة المنافقین فی قوله تعالی: (وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا یَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَیْتَهُمْ یَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ)1 وهذه الآیة الکریمة صریحة فی أن الاستغفار وقبول التوبة متوقّف علی المجیء إلی النبیّ صلی الله علیه و آله، وأن صفة المنافق الصدّ عن الآیات الإلهیة والاستکبار علیها والابتعاد عنها وعدم اللجوء واللواذ إلیها، وهذا نوع من التشاهد بین الآیات القرآنیة، فالآیة تدلّ علی أن الأوبة إلی الله تعالی والقرب إلیه لابدّ فیه من التوجّه أوّلاً إلی الحضرة النبوّیة والتوسّل والاستشفاع بالنبی صلی الله علیه و آله ثم شفاعته.

فالتوسّل خیار حصری لابدّی شرطی منحصر بالمجیء واللجوء إلی الحضرة النبویّة واللّواذ بها والاستغاثة به صلی الله علیه و آله، ثم إبداء التوبة والاستغفار وإمضاء النبیّ صلی الله علیه و آله له باستغفاره وشفاعته لهم من أجل تحقّق التوبة ومقام المغفرة وقبول العبادة التی منها عبادة التوبة.

ص:413

ونظیر هذه الآیات أیضاً قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ)1 .

ومن الشواهد أیضاً علی أن المراد من الآیات هنا هم الأنبیاء والخلفاء الأوصیاء الحجج هو التعبیر ب(کَذَّبُوا) فإنه مقابل التصدیق فیما یزعمون من مناصب وفیما لهم من دعوی، وأما الآیة الکونیة فلیس فیها تکذیب أو تصدیق، بل إنما یقع الغفلة والإعراض عنها؛ إذ لا یوجد فیها زعم أو دعوی معیّنة کی یصدق فی حقّها التصدیق أو التکذیب، فالتصدیق أو التکذیب إنما یکون للحجج الإلهیة التی تدّعی مقاماً إلهیاً وکذا فیما تبلّغه عن الله تعالی، فالمراد بالآیة والآیات فی المقام الحجج الإلهیة من الأنبیاء والرسل والأصفیاء والأوصیاء، الذین أُسندت إلیهم المقامات الإلهیة.

والحاصل: إن هذه الآیات المبارکة تبیّن أن مفتاح أبواب سماء الحضرة الربوبیة الإقرار بالحجج والآیات والتوجّه إلیها والتوسّل والتشبّث بها والإنقطاع إلیها لا عنها، وأبرز وأعظم تلک الآیات النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، فهم مفاتیح أبواب السماء فی قبول وصعود التوبة والعبادة والمعرفة والإیمان والعقیدة ونیل المقامات، فلا ترتفع أی عبادة ولا ینال مقام ولا تتحقّق التوبة مع عدم التصدیق بالآیات وصلتها ومودّتها والتوجّه إلیها والتوسّل بها، والإعراض عنها یوجب حبط الأعمال وامتناع دخولهم الجنّة فی الآخرة(وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ) (أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ) ، فشرط النجاة یوم القیامة الارتباط بالآیات الإلهیّة

ص:414

والإنتماء إلیها والتوسّل بها، لکونها قنوات غیبیّة توجب القرب إلی الله تعالی.

فالتوسل شرط فی تفتّح الأبواب لقبول وصحّة الإیمان والتوبة وقبول الأعمال وسائر المقامات.

الدلیل العاشر: خضوع الملائکة لآدم علیه السلام

کلّ خلیفة الله الباب الأعظم لملائکته

لقد سبق ذکر الآیات التی تعرّضت لقصة آدم علیه السلام وأمر الملائکة کلّهم أجمعین بالسجود له، وقلنا إن الأمر بسجود الملائکة وخضوعهم وانقیادهم لیس خاصّاً بآدم علیه السلام، لأنها معادلة دائمة فی عالم الخلقة لکلّ من یتحلّی بمقام الخلافة الإلهیة، فمن یتحلّی بهذا المقام یطوع الله عزّ وجلّ له الملائکة ویدینون بأجمعهم لله تعالی بطاعته بما فیهم کبار الملائکة المقرّبین، وهم فی کلّ ما یقومون به من أدوار عظیمة فی عالم الإمکان والکون خاضعون لولیّ الله، وهو خضوع حقیقی قائم علی أساس العلوّ الرتبیّ التکوینی لخلیفة الله تعالی، وحینئذٍ یکون الأمر بالسجود والخضوع للخلیفة شامل للأنبیاء، وخصوصاً أولی العزم منهم کنوح وإبراهیم وموسی وعیسی والرسول الأکرم وأوصیائه علیهم السلام، فالملائکة المقرّبین وغیرهم بابهم إلی الله تعالی خلیفة الله الذی یُنبئهم بالأسماء والمقامات.

ثمّ إن الآیات والروایات ذکرت أن الملائکة عندما اعترضت علی جعل خلیفة الله فی الأرض وهو من ترک الأولی الناشئ من ضیق الأفق وعدم سعة العلم - آبت وتابت إلی الله عزّ وجلّ بالسجود لآدم علیه السلام.

ص:415

إذن سنّة الله للملائکة کدین هو الإقبال علی ولیّ الله، وهو شرط أوبتهم وقبول عبادتهم وحظوتهم بالمقامات العالیة.

ففی عالم الغیب الذی هو خال عن نشأة التشریع الأرضی، ولیس خالٍ عن الدین الإلهی، کما قال تعالی: (وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ)1 ، افتقرت الملائکة إلی أن یکون بینهم وبین الله تعالی واسطة فی الخضوع والإنباء والمعرفة والعبادة والتقرّب إلی الله تعالی، فما بالک بالنشآت الأخری؟! وإذا کان آدم أبو البشر نبیّ الملائکة وقناة الإنباء والفیوضات العلمیة وغیرها علیهم من الله تعالی، وهو ولیّهم وهم طائعون له لا یتمرّدون علیه ولا ینبغی لهم ذلک، فکیف بسیّد البشر؟! ألا تکون الملائکة منقادة وطائعة له؟!

ومن هنا تکون الملائکة مشمولة بقوله تعالی: (أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ)2 من غیر اختصاص بالنشأة الأرضیّة، وهذا لوحدة الدین وشموله لجمیع المخلوقات کما سیأتی لاحقاً بیانه.

فالخلیفة نبیّ الملائکة وله مقام إنبائهم وتعلیمهم؛ لأنه مزوّد بالعلم اللّدنی الأسمائی، فهو نبیّ المعارف وإن لم یکن نبیّ شریعة للناس فی الأرض.

والحاصل: إن المقامات التکوینیّة العالیة للملائکة لا یمکن أن تنال إلّابطاعة ولیّ الله والإقبال علیه والتوجّه إلیه وبه إلی الله تعالی.

أخذ میثاق ولایة أهل البیت علیهم السلام معرفة وتوسّلًا فی جمیع النشآت علی

ص:416

أصناف المخلوقات:

الدین الذی هو عند الله الإسلام لا یختصّ بنشأة من النشآت، بل الکلّ مکلّف بالطاعة لله والإسلام له فی أصول معالم دینه، قال تعالی: (أَ فَغَیْرَ دِینِ اللّهِ یَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ کَرْهاً وَ إِلَیْهِ یُرْجَعُونَ)1 ، ولذا کان الأمر بالسجود لآدم غیر خاصّ بالملائکة، بل شامل لکل النشآت ومن هنا عمّ الأمر إبلیس، لأن دین الله عزّ وجلّ وهو التسلیم دین جمیع المخلوقات، فالملائکة أیضاً مأمورة بالتوحید لله تعالی وطاعة ولیّ الله بالسجود له، وعلی هذا فکلّ ما یبیّن فی النصوص القرآنیة بأنه من أرکان الدین فقد أخذ علی جمیع الملائکة الإیمان به، ومن تلک الأرکان تولّی خلیفة الله والطاعة له.

وإذا عرفت ذلک یتّضح لک ما ورد فی الروایات من أن ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام أُخذت من جمیع الملائکة وسائر الکائنات، وذلک لکونها من الدین غیر الخاص بنشأة من النشآت.

إذن فنبوّة خاتم الأنبیاء وولایة سیّد الأوصیاء لا تختصّ بالموجودات الأرضیة، وهذا یعنی أن الشهادة الثانیة والثالثة لم تؤخذ علی أهل هذه الدنیا فحسب، لأن الإنباء ونیل الفیوضات عموماً یحتاج إلی وجود خلیفة الله ولابدّ من التوجّه إلیه لنیل المقامات وقبول الطاعات فی جمیع النشآت؛ لأنه واسطة الله وسفیره بینه وبین خلقه فی کلّ المقامات العلمیة والتکوینیة.

ص:417

تأبید رسالة الرسول صلی الله علیه و آله ووساطته فی الوحی الإلهی لجمیع النشآت:

فمفاد الشهادة الثانیة والثالثة إقرار بالواسطة الأبدیة غیرالخاصة بالنشأة الأرضیة، وهذه هی تداعیات ومقتضیات الشهادة الثانیة والثالثة، التی لا یتمّ التوحید بدونها، ومن دونها لا یتحقّق قرب المخلوق إلی ربّه، ذلک المخلوق البعید عن مقامات الربوبیة وعظمة الصفات الإلهیة.

جحود التوسّل سنّة إبلیس فی الاستکبار:

ومن یأبی ذلک یحصل له العتوّ والاستکبار فی نفسه والتعظیم لها، مع أن نفسه صغیرة فقیرة بعیدة عن ساحة عظمة الصفات الإلهیة، فهی أی النفس - محتاجة إلی الواسطة والسفارة التی یتوجّه بها إلی الله تعالی، کما فی قوله تعالی:

(قالَ یا إِبْلِیسُ ما مَنَعَکَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِیَدَیَّ أَسْتَکْبَرْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْعالِینَ * قالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ * قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّکَ رَجِیمٌ * وَ إِنَّ عَلَیْکَ لَعْنَتِی إِلی یَوْمِ الدِّینِ)1 .

ویتّضح أیضاً أن معطیات الشهادة الثانیة والثالثة ومؤداهما مرتبطة بالمعارف الدینیّة الأبدیّة الشاملة للملائکة والجنّ والإنس والبرزخ والجنّة والنار والآخرة، فضلًا عن النشأة الأرضیة، کذلک الوساطة والشهادة الثانیة والثالثة شاملة لعالم العقول والأرواح، ولذا نجد أن مجری الفیض فی تکامل عقول علماء هذه الأمة ومستویاتها العلمیّة فی الدین هو النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل

ص:418

بیته علیهم السلام، حیث تمّ بجهودهم المبارکة تشیید المعارف الصحیحة ورفض الجبر والتفویض والتجسیم والتشبیه والتعطیل وغیرها من العقائد الفاسدة، فهم علیهم السلام وسائط الفیض وسفراء الأرواح والعقول.

وهذا بیان عقلی لمعطیات الشهادة الثانیة والشهادة الثالثة یُضاف إلی البیانات السابقة المعتمدة علی الآیات القرآنیة المبارکة.

والحاصل: إن شرطیة التوسّل فی المقامات الثلاث المذکورة تعمّ جمیع الأنبیاء والرسل وکلّ المخلوقات من الملائکة وغیرها.

ص:419

ص:420

الفصل الرابع: شبهات وردود

اشارة

الشبهة الأولی: التوسّل عبادة لغیر الله تعالی.

الشبهة الثانیة: التوسّل مناف لکلمة التوحید.

الشبهة الثالثة: التوسّل مناف للآیات القرآنیة

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هی الوسیلة.

الشبهة الخامسة: التوحید الإبراهیمی یأبی التوسّل بغیر الله.

الشبهة السادسة: التوسّل یعنی التفویض وعجز الله تعالی.

الشبهة السابعة: إیجاد المخلوقات الامکانیة کلّه ابداعیّ بلا واسطة.

شبهات وردود:

قبل الدخول فی بیان الشبهات والأجوبة التفصیلیة عنها لابدّ من التنبیه علی نقطة جدیرة بالإلتفات، وهی إننا لا نخطّئ قول أصحاب الشبهة فی تأثیر التوسّل ومدخلیته المباشرة فی العقیدة التوحیدیة، وذلک لأن فروع الدین الاعتقادیة، بل کلّ فروع الدین ترجع فی لبّها وجذرها إلی أصول الدین، فإن معنی کونها من فروع الدین أنها تنحدر وتنشعب وتتنزّل من

ص:421

الشجرة المبارکة الطیّبة لأصول الدین.

إذن فعبادة التوسّل توحیدیة، بمعنی أن لها عمقاً توحیدیاً وجذراً تنشعب منه یربطها بأصول الدین الکلّیة.

وهذا هو معنی أن التوحید لا یتمّ بکلمة(لا إله إلّاالله)، بل لابدّ من أدبیات ومعطیات الشهادة الثانیة لکی یتمّ التوحید.

والحاصل: إن المسألة لیست مرتبطة بصورة الفعل الذی یأتی به العبد، بل الأمر یعود إلی لبّ ذلک الفعل وجذره وهو التوحید، ولکن بعد أن أثبتنا ضرورة التوسّل فضلًا عن مشروعیته، بل شرطیته فی صحّة العقیدة والأعمال، یکون الأمر علی عکس ما ذکروه من أن التوسّل بغیر الله تعالی یوجب الکفر والخروج عن العقیدة التوحیدیة، بل نقول: إن ترک التوسّل والتوجّه یوجب الجحود والاستکبار والکفر والخروج عن عقیدة التوحید.

کذلک من الجدیر بالإلتفات أن ثبوت ضرورة التوسّل بآیات الله وکلماته من الأنبیاء والأولیاء والأوصیاء معناه ضرورة الإرتباط بکائن حیّ بشری یربطنا مع الحیّ القیوم، فلابدّ من استشعار ضرورة وجود نموذج بشری نرتبط به وله القدرة علی أن یکون حلقة الوصل بین الله عزّ وجلّ وبین عبیده، ولیس ذلک إلّا لعظمة الله تعالی وتنزّهه عن التشبیه والتجسیم والتعطیل.

وفی غیر هذه الصورة تکون جمیع المناسک العبادیة کمناسک الحجّ عبارة عن جمادات لا حیویة فیها، وهذا یعطی استشعاراً بأننا نعظّم أحجاراً جامدة لا حیویة فیها ولا تماسّ لها بالله الذی لا إله إلّاهو الحیّ القیوم.

ص:422

بعد هذا البیان الموجز نقول:

إن المنکرین لمشروعیة التوسّل استدلّوا علی دعواهم ببعض الأدلّة، وهی بعد بیان ما هو الحقّ فی المسألة وأن التوسّل ضرورة لابدّ منها تکون شبهات وتلبیسات لابدّ من الإجابة عنها، وهذه عمدتها:

شبهات المنکرین لجواز التوسّل:

الشبهة الأولی: التوسّل عبادة لغیر الله تعالی:
اشارة

إن الدعاء عبارة عن النداء وطلب الحاجة، ولا شک أن الدعاء عبادة للمدعو؛ لأن الدعاء فیه نوع من التوجّه والقصد والنیّة، وهذه الأمور هی روح العبادة وقوامها، ولذا ورد فی الحدیث«أن الدعاء مخ العبادة وجوهرها».

وبالتالی یکون دعاء غیر الله تعالی وندبته وطلب الحاجة منه عبادة له، وهو من أوضح أنواع الشرک فی العبادة.

ویعبّر عنه بالشرک الصریح أو الشرک الأکبر، الذی یوجب الرّدة والارتداد عن الدین والمنافاة لأولیّات الدین الاسلامی، والخروج عن المواثیق والعهود التی التزم بها الشخص بالتزامه وتشهّده الشهادتین.

مع العلم أن جمیع طقوس العبادة لا تبلغ درجة الدعاء الذی هو قوام حقیقة العبودیة، وهو نوع افتقار إلی الباری تعالی.

والحاصل: إن الدعاء والنداء وطلب الحوائج من غیر الله تعالی من

ص:423

أغلظ أنواع العبادة والتألیه للشخص المدعو، وهو عبارة عن الشرک الصریح أو الأکبر.

الجواب عن الشبهة الأولی:

کان خلاصة الشبهة هو أن الدعاء والنداء وطلب الحاجة عبادة لا تجوز لغیر الله تعالی.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح ضمناً سابقاً فی بیان ما هو الحقّ فی المسألة، وأن الدعاء بمعنی النداء، والطلب إنما یکون عبادة للمدعو إذا اعتقد الداعی أن المدعو مستقل بالقدرة غنی بالذات، وأما إذا اعتقد الداعی أن المدعو لا یستقل بالقدرة، بل یستمد القدرة من الباری تعالی وأن الحول والقدرة التی لدیه هی من الباری تعالی وأن المدعو إنما حصل علیها لمکان حظوته وقربه عند الباری وأن الداعی إنما یدعوه نظراً لقربه ووجاهته من الباری وأن تکریم الله له بالقرب والوجاهة حفاوة منه تعالی وإذن منه للاستشفاع والتوسّل والتوجّه به إلیه عزّوجلّ، فإن دعاء ذلک الغیر یعدّ حینئذٍ توجّهاً وقصداً إلی الحضرة الإلهیة، لأن قصد القریب من الحضرة الإلهیة قصد للحضرة، کما أن الصدّ والإعراض عن القریب ابتعاد عن الحضرة الإلهیة، فدعاء ذلک الغیر هو دعاء لله بآیاته العظیمة ودعاء له بأسمائه الحسنی التی یظهر بها.

وینقض أیضاً علی هذه الشبهة بطلب الحیّ الحاجة من الحیّ، مثل طلب العلاج من الطبیب، وطلب البناء من البنّاء، واصلاح الزراعة من الزرّاع، فإنه لا ریب فی عدم توقّف أحد من المسلمین، بل ولا من البشر عموماً فی

ص:424

ذلک.

ولم یقل أحد أن ذلک یوجب کفراً أو زندقة أو شرکاً، والحال إنه علی مقتضی کلامهم لابدّ أن یکون ذلک کفراً وشرکاً؛ لأن الحدّ الذی ذکروه لبیان معنی الشرک ینطبق علی نداء الحیّ للحیّ وطلب الحیّ الحاجة من الحیّ واستغاثته به، کما فی قوله تعالی: (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِی مِنْ شِیعَتِهِ)1 وکذا فی التوسّل والتشفّع وتوسیط الحیّ للحیّ، فإنه لم یدّع أحد أن ذلک من الشرک والکفر، مع أن حدّ الشرک الذی زعموه ینطبق علیه تماماً.

لا سیما وأن هذه المباحث من المباحث العقلیة التکوینیة وهی لا تقبل التخصیص، بخلاف المباحث الاعتباریة الجعلیة التی قد لا تکون مطّردة فی جمیع المصادیق.

ثم إن أصحاب هذه المقالة حاولوا أن یجیبوا عن هذا النقض بجوابین:

الأول: إن سؤال الحیّ الحاضر بما یقدر علیه والاستعانة به فی الأمور الحسّیة التی یقدر علیها لیس ذلک من الشرک، بل من الأمور العادیة الحیاتیة الجائزة بین المسلمین.

الثانی: إن الأمور العادیة والأسباب الحسّیة التی یقدر علیها المخلوق الحیّ الحاضر لیست من العبادة، بل تجوز بالنصّ والاجماع، بأن یستعین الإنسان بالإنسان الحیّ القادر فی الأمور العادیة، التی یقدر علیها کأن یستعین به أو یستغیث به فی دفع شرٍ ولده أو خادمه أو کلبه، وما أشبه ذلک،

ص:425

وکأن یستعین الانسان بالانسان الحیّ الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الأسباب الحسّیة، کالمکاتبة ونحوها فی بناء بیته أو إصلاح سیارته أو ما أشبه ذلک، ومن ذلک الاستغاثة التی جرت لأحد بنی إسرائیل عندما استغاث بموسی علیه السلام فی قوله تعالی: (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِی مِنْ شِیعَتِهِ عَلَی الَّذِی مِنْ عَدُوِّهِ)1 ، وکذا استغاثه الانسان بأصحابه فی الجهاد أو الحرب أو نحو ذلک، وأما الاستغاثة بالأموات والجنّ والملائکة والأشجار والأحجار فذلک من الشرک الأکبر، وهو من جنس عمل المشرکین الأوّلین مع آلهتهم کاللّات والعزّی وغیرهما.

دفع الجوابین: جحود التوسّل یستند إلی التفویض:

أما الجواب الأول: فالوهن فیه واضح؛ لأنه یقول الاستعانة بالانسان الحیّ القادر علی الأمور العادیة الحسّیة لیس من الشرک، وکونه حیّاً أو میّتاً لا یؤثّر فی تحقّق الغیریة مع الله عزّ وجلّ، والشرک - بحسب زعمهم - قائم بالغیریّة مع الله تعالی، والغیریّة لغة وعقلًا لا تختلف سواء جعل مصداق الغیر والغیریّة الحیّ أو المیّت، فإن أحد الأجزاء المقوّمة لحصول الشرک کما ذکروا هو ضمّ غیر الله تعالی إلیه، وهذا لا یختلف فی تحقّقه سواء کان الغیر حیّاً أو میّتاً، فالتفریق بلا فارق.

وأما ما ذکروه من التعلّق بالقادر، حیث قیّد الجواب بالقادر، فنقول فیه: إن کانت القدرة التی یعتقدها للحیّ نابعة من ذاته بلحاظ الاستقلال لا

ص:426

من إقدار الله عزّ وجلّ وتمکینه فهو الشرک الأکبر، وقد کرّ هذا المجیب علی ما فرّ منه.

وأما إن کان یعتقد أن هذه القدرة من الله تعالی ومضافة إلی المخلوق من قبل الخالق فأی فرق بین الحیّ والمیت؟! فکما قد یُقدر تعالی الحیّ یُقدر روح المیّت علی ما أقدر علیه الحیّ.

ثم إنه لا معنی للتفریق أیضاً بین الاستعانة بالأمور العادیة وغیرها، فهل إن قدرة الله تعالی تنحسر فی الأمور العادیة والحسّیة ویکون هناک ندّ فیها لقدرة الربّ عزّ وجلّ وهی قدرة الحیّ الحاضر؟! فإن هذا هو القول بالثنویة، ومعناه أنه فی الأمور غیر العادیة لابدّ من التوحید بقدرة الربّ فیها وأما فی الأمور العادیة فنؤمن بالثنویة.

وحیث أن الثنویة باطلة وشرک صریح فلابدّ من التوحید فی جمیع الأفعال الإلهیة، وأنها کلّها تستند من دون جبر إلی الباری عزّ وجلّ، من دون أی درجة من درجات التفویض، وحینئذٍ یستوی الحال فی الأمور العادیة والأمور غیر العادیة.

جحود التوسّل یستند إلی المذاهب الحسیّة المادیة:

ثم ما هو الفرق فی التوسّل فی شفاء مریض علی ید طبیب نادرة زمانة وبین التوسّل بأحد أولیاء الله تعالی فی الشفاء؟!

فإن مورد الحاجة فی هذا المثال عادی، فهل الکلام فی مورد الحاجة وأنه لابدّ أن یکون من الأمور العادیة أو فی السبب المتوسل به؟ وما هو الفرق فی

ص:427

السبب بین العادی وغیر العادی إذا کان الأمر بید الله تعالی وهو علی کلّ شیء قدیر؟!

مع أن الأدلّة الشرعیة والدراسات الحدیثة العلمیة أثبتت أن طاقات البدن البرزخی لا تقاس بطاقات بدننا المادّی وقدرته، وأن البدن البرزخی یحتوی علی طاقات هائلة تفوق قدرة أبداننا المادّیة بکثیر جدّاً، وعلیه کیف نتصور أن الحیّ قادر علی قضاء الحوائج بما لا قدرة للمیت علیه بروحه وبدنه البرزخی؟!

أضف إلی ذلک کلّه أن تقیید الاستعانة والتوسّل بالأمور الحسّیة ناشی من الایمان بأصالة الحسّ والمادّة والتنکّر للعوالم المخلوقة الأخری التی ما وراء الحسّ والمادّة، وأن کلّ ما غاب عن الحسّ ینکر، وهذا الکلام أشبه بالفلسفات المادّیة الحسّیة، التی آمنت بأضعف العوالم وأدنی المراتب الوجودیة وتنکّرت لبقیّة العوالم العلویة.

هذا بالنسبة إلی دفع الجواب الأول.

تفصیل الجاحدین للتوسّل فی الوسائط:

وأما الجواب الثانی: إن صاحب الشبهة بعد أن استشعر أن الجواب الأوّل غیر موزون من الناحیة العقلیة تشبّث بالنصّ والإجماع وأن توسّل وتشفّع الحیّ بالحیّ فی الأمور العادیة الحسّیة جائزة بالنصّ والإجماع، وأما الاستغاثة والتوسّل بالأموات فهو من جنس عمل الوثنیة.

والتمسّک بالدلیل النقلی فی المقام، سواء فی جانب الجواز أو النفی غیر

ص:428

تام من وجوه:

الأول: إن بحث الشرک بحث عقلی لا سیما فی الشرک الأکبر، فهو من أولیّات العقیدة التی للعقل فیها دور ومجال واسع، وإذا کان عقلیاً یرد علیه ما ورد فی الدفع الأول، من أن حکم العقل وانطباق حدّ الشرک علی الحیّ الحاضر والمیّت سواء.

الثانی: الاستدلال علی التحریم بأن الطلب من الأموات من جنس عمل الوثنیین، تمسّکاً بعموم دلیل التحریم، مع أن موضوعه ومصبّه ما لم یأذن به الله عزّ وجلّ، إذ سبق أن محطّ ومصبّ انکار العقیدة الوثنیة فی القرآن الکریم هو التوجّه إلی ما لم یأذن به الله تعالی ولم ینزل به سلطاناً، وکونه تحکیماً لسلطان العبید وإرادتهم علی سلطان الله وإرادته، ولم یکن المحذور فی أصل الوساطة، وسبق أیضاً أن الله علیّ حکیم، متعال عن الجسمیة والتجسیم وحکیم غیر معطّل، فلابدّ من الوسائط والحجج، والعبادة إنما تتحقّق بالطوعانیة لله تعالی وإن کان التوجّه بالفعل إلی الحجر کالتوجّه إلی الکعبة الشریفة، والشرک إنما یتحقّق بالاستکبار علی الله تعالی حتّی مع نفی الواسطة کما فی إبلیس.

الثالث: إذا کان توسیط غیر الله تعالی شرکاً، فکیف یعقل تجویزه بالنصّ؟! فإن الله عزّ وجلّ لا یأمر بالشرک.

وهذا یعنی أن توسیط الغیر بحدّ ذاته لیس شرکاً، فإذا جازت الاستغاثة بالحیّ لقیام النص والاجماع، أی الإذن الشرعی، فلا فرق إذن فی الاستغاثة بین الحیّ والمیّت ما دام المجوّز لذلک هو الإذن، إذ یتّضح أن المدار

ص:429

فی الشرک لیس علی الغیریة مع الله تعالی کما فرضه القائل، بل علی الإذن وعدمه وعلی وجود الأمر وعدمه، وقد أذن الله عزّ وجلّ بذلک فی کثیر من الآیات القرآنیة، کما تقدّم فی قصة آدم وغیرها.

الشبهة الثانیة: التوسّل خلاف کلمة التوحید:

إن التوجّه والقصد والدعاء والنداء لغیر الله عزّ وجلّ ینافی مقتضی کلمة التوحید، وهی قول(لا إله إلّاالله).

بیان ذلک:

اختلف المفسّرون فی بیان قول(لا إله إلّاالله):

فهل المراد من تلک الکلمة المبارکة التوحید فی الذات أو التوحید فی الصفات والأسماء أو التوحید فی الأفعال أو التوحید فی الخضوع والعبادة؟

وهذا الاختلاف ناشئ من الاختلاف فی تفسیر معنی الألوهیة(لا إله) وتفسیر معنی لفظة(الله).

فهل اسم الجلالة علم للذات أو هو اسم مشتقّ من التألیه؟

فإن کان مشتقّاً من التألیه وباقٍ علی المعنی الوصفیّ حینئذٍ یکون المعنیان متحدّین أو متقاربین.

وأما إذا کان لفظ الجلالة فی الأصل علماً للذات فیکون علی خلاف المعنی الأول وهو الألوهیة والتألیه فی مقطع(لا إله).

وکیفما کان؛ فإن لفظ(إله) الذی جاء فی کلمة التوحید معناه فی اللغة

ص:430

من أله یأله إذا تحیّر، ومعنی ولاه أن الخلق یولهون إلیه فی حوائجهم ویضرعون إلیه فیما یصیبهم، ویفزعون إلیه فی کلّ ما ینوبهم، کما یوله کلّ طفل إلی أمه(1).

إذاً فالمعنی اللغوی یتضمّن طلب الشیء والتوجّه نحوه.

وأما الإله فی الاصطلاح:

فقد اختلفوا فی بیان معناه؛ فبعض قال: هو بمعنی الاتجاه والقصد، وبعض آخر فسّره بالحبّ والعشق، وثالث قال: وله یأله من عبد یعبد، ورابع قال: وله یأله بمعنی اتخذه ربّاً وخالقاً، وغیر ذلک من المعانی التی ذکرت لمعنی(إله).

ولکن اتفقوا علی أن التألیه فعل المخلوق، فأله ووله إنما یحکی شأن المخلوق وهو التوحید فی العبادة، وأما توحید الذات أو الصفات أو الأفعال فإنما هو مرتبط بالواقعیة ونفس الأمر، وأن هناک ذات واجبة قیّومة غنیة الذات لها الأسماء الحسنی والکلمات التامّة وهذا کلّه غیر مرتبط بفعل المخلوقات.

ولذلک یقال إن کلمة(لا إله إلا الله) تختلف عن التعبیر ب(یامن لا هو إلّاهو)، فإن مفاد هذه العبارة غیر مرتبط بفعل العبد، بل هو إخبار عن نفی أی ذات مستقلة واجبة الوجود إلّاذات الله عزّ وجلّ.

ولکن عندما نقول: (لا إله إلا الله) فإن التألیه فیه مادّة مأخوذة من فعل العبد ولیس هو وصفاً أو معنیً قائم بذات واجب الوجود.

ومن ثم یقال إن النبیّ صلی الله علیه و آله بعث بکلمة(لا إله إلّاالله) ولم یبعث ب(یا

ص:431


1- (1) لسان العرب: ج 13 ص 467.

من لا هو إلّا هو)، إذ أن هذا توحید الذات، والبشریّة قد أقرّته واعتقدت به، وهی الآن فی خطیً متقدّمة من التوحید الأفعالی والتوحید فی العبودیة.

والخلاف فی زمن البعثة مع المشرکین لیس فی توحید الذات، بل فی توحید العبودیة وتوحید الدعاء والطلب والتوسّل والتوجّه أو فی توحید الأفعال باسنادها إلی الله عزّ وجلّ.

فالنبیّ صلی الله علیه و آله بُعث بالتوحید فی الألوهیة والعبادة والخضوع والخشیة والوله والتوجّه، فلابدّ من ترک الدعاء والتوسّل والعبادة لغیر الله تعالی، وهو ما کان علیه مشرکی العرب.

والحاصل: أن معنی الشرک الذی حاربه الاسلام بکلمة التوحید هو جعل أنداد لله تعالی یستغاث ویتوسل بهم، فالتوسل جاهلیة جدیدة استُبدلت بالجاهلیة القدیمة.

الجواب عن الشبهة الثانیة:

کان حاصل هذه الشبهة هو أن مقتضی قول: (لا إله إلّاالله) هو التوحید فی العبادة، فإذا دعی غیر الله عزّ وجلّ کان هذا نوعاً من العبادة والتألیه لغیر الله عزّ وجلّ.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح مما ذکرناه فی الدلیل العام وکذلک ما ذکرنا من الجواب علی الشبهة الأولی، وحاصله: أن التوسّل بالوسائط الإلهیة التی أمر الله عزّ وجلّ بالتوجّه إلیها هی عبادة لله تعالی وطاعة وانصیاعاً لأوامره ولیس هو عبادة للوسائط، بل قلنا إن التوسّل طوعانیة للأوامر

ص:432

الإلهیة وهو عین التوحید التام، فالتوسل مقتضی التوحید فی العبادة وجحوده وإباؤه هو الاستکبار والکفر المنافی لکلمة التوحید، ونبذ التوسّل جاهلیة إبلیس الذی أبی واستکبر وکان من الکافرین، فالتوسّل بالوسیلة المنصوبة لله تعالی هو قصد لله والصدّ عن تلک الوسیلة صدّ عن التوجّه إلیه تعالی؛ لأن المفروض أن تلک الوسیلة والآیة والکلمة هی علامة یُهتدی بها إلیه تعالی، وتفتّح بها أبواب سماء الحضرة الإلهیة، والعلامة سمة ووسم وإسم إلهی یُدعی به، بل إن قول القائل التوسّل بالله معنی مقلوب غیر صحیح، فإنّ الباری تعالی لا یجعل وسیلة إلی غیره؛ إذ لیس وراء الله منتهی ولا غایة کی یجعل هو تعالی واسطة إلیها، بل هو غایة الغایات، وإلی شموخ عظمته توسّط الوسائط ویتوسّل بالوسائل، وقد تقدّم أن الاعتقاد بضرورة الواسطة والوسیلة إلی الله تعالی هو حاقّ حقیقة تعظیم الله وتنزیهه، ولم ینکر القرآن علی المشرکین هذه العقیدة، وهی ضرورة الحاجة إلی الوسیلة بین العبید وخالقهم؛ لیقتربوا من خالقهم، لضرورة الحاجة إلی التقرّب والنجاة من البعد من جهة العبید، وإن کان الباری تعالی قریب من کل مخلوقاته علی السواء، إلّاأن مخلوقاته لیست فی القرب منه علی استواء ولا فی القرب من عظمته ونوره وعلمه وقدرته علی سواسیة، فضرورة الحاجة إلی الوسیلة والقیام بالتقرب ضرورة نابعة من العبودیة والفقر إلی الغنی المطلق، وهذا ما لم ینکره القرآن علی المشرکین، کیف وهی عین التوحید والتعظیم، بل إنما أنکر علیهم اتخاذ الوسائل والوسائط من قبل أنفسهم ومن قرائحهم ومن فرض إرادتهم فی تعیین الوسیلة علی إرادة الله، وهی من تکبّر المعبود علی العابد، فالإنکار علیهم نشأ من کونهم توسّلوا بوسائل وأسماء ما أنزل الله بها

ص:433

من سلطان، ومن ذلک یکون الجاحدون لضرورة التوسّل بالوسائط المنصوبة من قبله تعالی أشدّ جاهلیة من المشرکین؛ لأنهم لا یرجون لله وقاراً ولا تعظیماً، فیجعلون الباری تعالی منالًا تحت أیدیهم، لأن إنکار الحاجة إلی الوسیلة والوسائل هو إنکار لعظمة الله وکبریائه وعلوّ شأنه ورفعته وعزّته وجبروته وکینونته بالأفق الأعلی، فی حین قاهریته تعالی وهیمنته علی تمام مخلوقاته وأنه خبیر بصیر، إلّاأن الحال من ناحیة المخلوق تجاه الخالق هو بُعد المخلوق عن معرفة خالقه وبعده عن مقام الزلفی لباریه وکذا بعده عن حظوة الکرامة عند خالقه، وبعده عن استحقاق الإجابة والمنّ والتفضّل الإلهی، بعد کون المخلوق فی حُجب التقصیر والقصور والجهل والجهالة، مما یستحق بها الطرد لا القرب والإبعاد لا الدنو والعقوبة لا الثواب والحرمان لا الإنعام، فکل هذه الحجب المانعة عن القرب یزیلها العبد بوجاهة الوسیلة عند الربّ العظیم، لا سیّما وأن اللجوء إلی الوسیلة التی هی آیة للربّ المتعال هو لُجأ إلی الجناب الإلهی، وتعظیمها تعظیم للفعل الإلهی وزیادة خضوع للربّ بالخضوع إلی ما هو بمنزلة صفاته فی مقام الفعل فضلًا عن مقام ذات عزّه تعالی.

الشبهة الثالثة: التوسّل مخالف للآیات القرآنیة:
اشارة

حاول أصحاب هذه الشبه الاستناد إلی بعض الآیات القرآنیة، وادّعوا أنها تدلّ علی أن التوسّل والقصد لا یکون إلّالله عزّ وجلّ، وأن التوسّل بغیره شرک وإلحاد، منها الآیات التالیة:

1 - قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی)

ص:434

(أَسْمائِهِ سَیُجْزَوْنَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)1 .

فقوله تعالی: («فَادْعُوهُ بِها») معناه أنه فی مقام الدعاء والتوجّه لا یُدعی إلّا بأسماء الله عزّ وجلّ، وأما غیر الأسماء الإلهیة فیشملها قوله تعالی: («وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ») أی ینحرفون عنها إلی أسماء المخلوقات، کقول القائل: یا محمّد ویا علیّ ویا فاطمة، فإن هذا - بحسب زعمهم - انحراف وإلحاد فی أسماء الباری تعالی.

2 - قوله تعالی: (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً)2 .

3 - قوله تعالی: (وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَنْفَعُکَ وَ لا یَضُرُّکَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّکَ إِذاً مِنَ الظّالِمِینَ)3 .

4 - قوله تعالی: (ذلِکَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِیُّ الْکَبِیرُ)4 .

5 - قوله تعالی: (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّی وَ لا أُشْرِکُ بِهِ أَحَداً)5 .

هذه الآیات المبارکة لسانها واحد واستدلالهم بها قریب من الاستدلال بالآیة الأولی، حیث أن هذه الآیات القرآنیة تنهی عن أن یدعو الإنسان مع الله أحداً، أی لا یعبد مع الله مخلوقاً من المخلوقات، وإذا کان الدعاء روح

ص:435

العبادة وقوامها فسوف یکون منهیّاً عنه بمقتضی صریح هذه الآیات الکریمة؛ لکونه من الشرک الصریح.

6 - قوله تعالی: (وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ)1 .

7 - قوله تعالی: (إِنْ یَنْصُرْکُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَکُمْ وَ إِنْ یَخْذُلْکُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِی یَنْصُرُکُمْ مِنْ بَعْدِهِ)2 .

وهذا اللسان من الآیات القرآنیة یؤکّد علی أن التوجّه إلی الغیر بغیة الاستنصار به شرک ومغالاة یوجب الخذلان الإلهی.

8 - قوله تعالی: (وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَضُرُّهُمْ وَ لا یَنْفَعُهُمْ وَ یَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ)3 .

9 - قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِیاءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِیُقَرِّبُونا إِلَی اللّهِ زُلْفی)4 .

فهاتان الآیتان دلّتا علی وجوب نبذ مقالة المشرکین الذین جعلوا أصنامهم شرکاء فی الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بینهم وبین الله عزّ وجلّ، والإسلام جاء لکسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقیدة الصنمیة والوثنیة والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغیر الله تعالی، وهو ما ابتلی به مشرکو العرب، إذ لم یکن شرکهم فی ذات الله تعالی أو صفاته، بل کان

ص:436

شرکهم شرکاً فی العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فیُعلم من هذه الآیات أن التوحید فی العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدین، وهدف الرسالة الإسلامیة الخاتمة، وذلک لأن صحة الأعمال والنسک العبادیة مشروطة بصحّة العقیدة، فمن یعمل ویعبد وکان فی معتقده الدینیّ شیء من الغلو والصنمیة للأشخاص یحبط عمله کلّه، ویستدلّون لذلک بقوله تعالی: (لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَ لَتَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ)1 ، وقوله تعالی: (وَ لَوْ أَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)2 ، فصحّة العقیدة بالتوحید شرطاً فی صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حینئذٍ من نبذ کلّ ما یوجب الشرک وبطلان العقیدة، کالتشفّع والتوسّل بغیر الله تعالی.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّکهم ببعض الآیات القرآنیة التی زعموا أنها تنهی عن التوجّه والقصد إلی غیر الله عزّ وجلّ منها:

قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ)3 ، فلا یجوز التوسّل والدعاء بغیر الأسماء الحسنی التی جاءت فی قوله تعالی: (قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَیًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی)4 .

ص:437

إذن لابدّ من التوحید فی الدعاء الذی هو مخّ العبادة ولا یجوز القصد والتوجّه فی الدعاء إلی غیر الله عزّ وجلّ وأسمائه الحسنی؛ لأنه شرک وإلحاد بالأسماء الإلهیة.

الجواب الأول: حقیقة الأسماء الالهیة مستند للتوسّل:

فی البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالی:

ما هو المراد من الأسماء الإلهیة الواردة فی الآیات المبارکة؟

الاسم فی اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشیء علامته).

(قال أبو العباس: الاسم وسمة توضع علی الشیء یُعرف به، قال ابن سیدة: والاسم اللفظ الموضوع علی الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، کقولک مبتدئاً: اسم هذا کذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنویهاً بالدلالة علی المعنی) (1). إذن اسم الشیء سمته وعلامته وصفته الدالّة علیه.

والأسماء والصفات تنقسم إلی ذاتیة وفعلیة، فللّه تعالی أسماء وصفات ذاتیة هی عین ذاته غیر زائدة علیها، وله عزّ وجلّ أسماء وصفات فعلیة هی عین فعله.

فالقدرة والعلم والحیاة صفات ذاتیة یُشتقّ منها القادر والعالم والحیّ،

ص:438


1- (1) لسان العرب: ج 14 ص 401-403.

وهی أسماء ذاتیة غیر زائدة علی الذات الإلهیة المقدّسة.

والخلق والرزق والتدبیر والربوبیة والحکم والعدل وغیرها صفات فعلیة یشتقّ منها أسماء فعلیة، هی الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحکم والعدل، ولا ریب أن الأسماء الفعلیة غیر الذات ولیست عینها مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزّ وجلّ.

ولا ریب أیضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهیة هی أسماء فعلیة مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالی.

والمخلوق یکون اسماً لله عزّ وجلّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقیر له متقوّم به لیس له من نفسه شیء، دالّ بسبب افتقاره بما فیه من کمال علی کمال خالقه وباریه، فهو سمة وعلامة علی صانعه، وما فیه من عظمة وحکمة دالّة علی عظمة وحکمة الخالق؛ إذ لیس له من ذاته إلّاالفقر والاحتیاج.

الجواب الثانی: الکلمة والآیة:

إن الکلمة والآیة مع الاسم متقاربة المعنی متّحدة المضمون، فهی وإن لم تکن ألفاظاً مترادفة، إلّاأن مضمونها والمراد منها فی اللغة وفی القرآن الکریم واحد، وهو الدلالة علی الشیء والعلامّیة والمرآتیة له.

ففی لسان العرب:

(الآیة العلامة) (وأیّا آیة: وضع علامة).

وفیه أیضاً: (وقال ابن حمزة: الآیة فی القرآن کأنها العلامة التی یفضی

ص:439

منها إلی غیرها کأعلام الطریق المنصوبة للهدایة) (1).

کذلک قال فی اللسان:

(کلمات الله أی کلامه وهو صفته وصفاته) (2).

أضف إلی ذلک أن الکلمة فی حقیقتها دالّة علی مراد المتکلم وکاشفة عنه.

إذن الأسماء والآیات والکلمات فی شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها علی وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفیتها علی عظمة وقدرة وحکمة الباری عزّ وجلّ، ومن ثمّ یکون کلّ مخلوق إسماً من أسماء الله تعالی وآیة من آیاته وکلمة من کلماته، ولکن الأسماء والآیات والکلمات علی درجات فی الصغر والکبر، فکلّما کان الاسم أعظم والآیة أکبر، لما أعطیت من المقامات والکرامات الإلهیة کلّما کانت آیتیّة ذلک المخلوق وإسمیته أعظم، لا سیما المخلوق الأول وهو نور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

وقد ورد هذا الاستعمال فی القرآن الکریم فی موارد کثیرة جدّاً، منها:

1 - قوله تعالی: (وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ آیَةً)3 .

2 - قوله تعالی: (وَ الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِیها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آیَةً لِلْعالَمِینَ)4 .

ص:440


1- (1) لسان العرب: ج 4 ص 61-62.
2- (2) لسان العرب: ج 12 ص 522.

3 - قوله تعالی: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ)1 .

4 - قوله تعالی: (إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ کَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلی مَرْیَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ)2 .

5 - قوله تعالی: (هُنالِکَ دَعا زَکَرِیّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ ذُرِّیَّةً طَیِّبَةً إِنَّکَ سَمِیعُ الدُّعاءِ * فَنادَتْهُ الْمَلائِکَةُ وَ هُوَ قائِمٌ یُصَلِّی فِی الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَیِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِیًّا مِنَ الصّالِحِینَ)3 .

فقد أطلق فی هذه الآیات المبارکة علی مریم علیهاالسلام أنها آیة، وعلی عیسی علیه السلام أنه کلمة الله وآیته للعالمین.

6 - قوله تعالی: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)4 .

7 - قوله تعالی: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ)5 .

8 - قوله تعالی: (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ)

ص:441

(لِلنّاسِ إِماماً)1 .

9 - (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِکَلِماتِهِ)2 .

فإن هذه المخلوقات العظیمة عند الله عزّ وجلّ أسماء وآیات وکلمات وعلامات لله تعالی، وحینئذٍ تکون مشمولة لإطلاق قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ)3 فهذه الآیة المبارکة وغیرها، التی ذکروها للتدلیل علی مدّعاهم لا تعنی النهی عن التوجّه إلی الله عزّ وجلّ بالوسائط، بل هی توجب وتعیّن التوجّه إلی الله تعالی بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلیة.

إذن لیست الآیة المبارکة غیر صالحة للاستدلال بها علی مدّعاهم فحسب، بل هی تحکمهم وتدینهم بالإلحاد عن أسمائه وتنصّ علی ضرورة توسیط الأسماء الإلهیة والمخلوقات الوجیهة عند الله تعالی، ولابدّ من عدم الالحاد فیها والاعراض عنها فی الدعاء.

لکن لابدّ من الالتفات إلی أن النظرة إلی الوسائط لابد أن لا تکون نظرة استقلالیة وموضوعیة وبما هی هی، بل لابدّ أن تکون نظرة آلیة حرفیة آیتیّة، أی بما هی یُنظر بها إلی الله تعالی، فالتوجّه بها لا إلیها بما هی هی.

وبناء علی ذلک یکون التعاطی مع الأسماء والآیات والوسائط علی ثلاثة مناهج:

ص:442

الأول: منهج إبلیس وهو رفض وساطة الآیات والأسماء والمخلوقات الوجیهة عند الله عزّ وجلّ وإنکارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الکفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الالحاد فی تلک المخلوقات العظیمة والأسماء الإلهیة لا یمکن التوجّه والزلفی إلی الله عزّ وجلّ؛ لأنه لیس بجسم وهو حقیقة الحقائق والمقوّم لها، فلا یجابه ولا یقابل، فلابدّ من التوجّه إلی المظاهر والمجالی والآیات.

الثانی: وهو منهج المغالین الذین ینظرون إلی الأسماء الإلهیة بالنظرة الاستقلالیة وبما هی هی ویتوجّهون إلیها لا بها، وهذا أیضاً من الشرک والحجاب الذی یمنع عن معرفة الله تعالی، ولکنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه علی سبیل نجاة فیما إذا شملهم الله عزّ وجلّ بلطفه ورأوا ما وراء الآیة من الحقائق، بخلاف من أعرض عن الآیة بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآیات وتوسیطها فی الدعاء، وهذا هو التوحید التام الذی یوصل إلی معرفة الله تبارک وتعالی.

فالنظرة فی هذا المنهج إلی الأسماء الإلهیة الفعلیة من حیث هی مخلوقة للباری تعالی ومرتبطة به ومفتقرة إلیه ودالّة علیه، وأکرم المخلوقات وأعظم الآیات هم النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام؛ إذ حباهم الله عزّ وجلّ بالکرامات والمقامات التکوینیة، التی تفضل جمیع الأنبیاء والمرسلین والملائکة المقرّبین، فهم علیهم السلام الأسماء التی تعلّمها آدم وفُضل بها علی الملائکة کلّهم أجمعون، وذلک بنصّ سورة البقرة فی قوله تعالی: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی)

ص:443

(الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)1 ، حیث جاء التعبیر فیها ب(عَرَضَهُمْ) ولم یقل: عرضها، وکذا التعبیر ب(هؤُلاءِ) ولم یقل: هذه، کلّ ذلک یدلّ علی أن تلک الأسماء موجودات نوریة مخلوقة حیّة شاعرة عاقلة، أفضل من جمیع الملائکة، ولم یعلم بها الملائکة ولا یحیطون بها وهی تحیط بهم وهی أوّل ما خلق الله تعالی، فهم عباد لیس علی الله أکرم منهم، أُسند إلیهم ما لم یسند إلی غیرهم، ومکّنهم الله عزّ وجلّ ما لم یمکّن به غیرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلک الآیات التی ذکروها لنفی التوسّل تدلّ علی ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآیات الکبری، والأسماء الفعلیة الحسنی والعظمی وهم محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام - إلی الله عزّ وجلّ، والباء فی قوله تعالی: (فَادْعُوهُ بِها) للتوسیط وجعل الآیات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

«یا هشام الله مشتق من إله، وإله یقتضی مألوهاً، والاسم غیر المسمّی، فمن عبد الإسم دون المعنی فقد کفر ولم یعبد شیئاً، ومن عبد الاسم والمعنی فقد أشرک وعبد الإثنین، ومن عبد المعنی دون الإسم فذاک التوحید، أفهمت یا هشام؟ قال: قلت: زدنی، قال: لله تسعة وتسعون إسماً فلو کان الإسم هو المسمی لکان کل إسم منها إلهاً، ولکن الله معنی یُدلّ علیه بهذه الأسماء وکلّها غیره، یا هشام الخبز اسم للمأکول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار إسم للمحرق، أفهمت یا هشام فهماً تدفع به وتناضل به

ص:444

أعداءنا المتخذین مع الله عزّ وجلّ غیره، قلت: نعم، فقال: نفعک الله به وثبّتک یا هشام، قال: فوالله ما قهرنی أحد فی التوحید حتی قمت مقامی هذا»(1) ، فبیّن علیه السلام أن الإسم غیر المسمی وهو الذات الإلهیة ومغایر لها، ولو کان الاسم هو عین الذات الإلهیة لکان کل اسم إلهاً ولتکثرت الآلهة، ولکن الله ذات أحدیة واحدة یُدلّ علیه وله علامات هی هذه الأسماء المتکثرة المتعدّدة، فالأسماء آیات وعلامات وکلمات دالّة ووسیلة إلی الذات، فظهر أن قوله تعالی: («لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها»2) برهان قرآنی علی ضرورة الوسیلة، وهی الکلمات والآیات الإلهیة، بأن یدعی الله بها، فلا یُدعی الله بدونها، بل لابدّ من توسیطها فی دعاء الله، وذلک بالتوجّه بها إلیه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها کی یتوجّه منها إلی الله، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها لیتحقّق دعاء الله تعالی، وقد جعلت الآیة الإعراض عن الأسماء والکلمات والآیات الإلهیة إلحاداً ومجانبة وزیغاً عن الطریق إلی الله، ومن ثمّ قد أُکّد فی الآیة أن الأسماء الإلهیة بکثرتها الکاثرة هی برمّتها ملک لله تعالی مملوکة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهیة، وجحود وساطتها استکبار وتمرّد علی الشأن الإلهی، ومنه یعرف اتحاد الإسم والوجه وأن الأسماء هی وجه الله التی یتوجّه بها إلیه، وأن من له وجاهة ووجیه عند الله هو وجه لله یتوجّه به إلیه تعالی، فیکون إسماً وآیة وکلمة لله تعالی.

نعم بین الأسماء والکلمات والآیات درجات وتفاضل فی الدلالة علیه

ص:445


1- (1) توحید الصدوق: ص 521، أصول الکافی: ج 1 ص 89 باب معانی الأسماء واشتقاقها ح 2.

تعالی عظمة وکبراً.

وذلک لأن الاسم إذا کان من أسماء الأفعال یکون مخلوقاً لله تعالی وآیة من آیاته، فالعبادة لیست له، بل لباریه تعالی، ومن ثم یتوجّه إلیه کمرآة وآیة یُنظر بها ولا ینظر إلیها؛ ولذا تکون إسماً وعلامة، وأما إذا نظر إلی الاسم بما هو هو، فیکون حینئذٍ صنماً موجباً للشرک والکفر وهو الغلو المنهیّ عنه، ولکن هذا لا یعنی رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلک یحجب عن المسمّی أیضاً، فلا یلحد بها ولا ینظر إلیها بالاستقلال بل ینظر بها، وذلک لما بیّناه سابقاً من أنه لا تعطیل ولا تشبیه، فالالحاد فی الأسماء تعطیل للباری بعد عدم کونه جسماً یقابل أو یجابه أو یشابه مخلوقاته وهو نفی الجسمیّة، فلا محیص عن التوجّه بالأسماء، لا سیّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ، نور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، الذین بواسطتهم وصل آدم إلی ما وصل إلیه من الخلافة، عندما علّمه الله عزّ وجلّ تلک الأسماء الحیّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوریّة، التی هی أعظم آیات الباری تعالی وأفضل من جمیع الملائکة.

الکلمات التامّات:

هناک آیات عدیدة تدلّ بمعونة الروایات الواردة فیها - علی أن الکلمات التامّات والآیات الکبری لله عزّ وجلّ هم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالی: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی)

ص:446

(الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)1 ، وقد سبق تقریب الاستدلال بهذه الآیة المبارکة، وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

«إن الله تبارک وتعالی کان ولا شیء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لکلّ واحد منهم إسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحمید وسمّی النبیّ محمّداً صلی الله علیه و آله، وهو الأعلی وسمّی أمیر المؤمنین علیه السلام علیّاً، وله الأسماء الحسنی فاشتقّ منها حسناً وحسیناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه إسماً، فلمّا خلقهم جعلهم فی المیثاق، فإنهم عن یمین العرش، وخلق الملائکة من نور، فلما نظروا إلیهم عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبیح فذلک قوله:

(وَ إِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَ إِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)2 .

فلمّا خلق الله تعالی آدم صلوات الله وسلامه علیه نظر إلیهم عن یمین العرش، فقال: یاربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: یا آدم هؤلاء صفوتی وخاصّتی، خلقتهم من نور جلالی وشققت لهم إسماً من أسمائی، قال: یاربّ فبحقّک علیهم علّمنی أسماءهم، قال: یاآدم فهم عندک أمانة، سرّ من سرّی، لا یطّلع علیه غیرک إلّابإذنی، قال:

نعم یاربّ، قال: یاآدم أعطنی علی ذلک العهد، فأخذ علیه العهد، ثم علّمه أسماءهم ثم عرضهم علی الملائکة، ولم یکن علّمهم بأسمائهم، (فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ * قالُوا سُبْحانَکَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّکَ أَنْتَ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ * قالَ یا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ

ص:447

بِأَسْمائِهِمْ)1 .

علمت الملائکة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ کانت سجدتهم لآدم تفضیلًا له وعبادة لله، إذ کان ذلک بحقّ له، وأبی إبلیس الفاسق عن أمر ربّه»(1).

2 - قوله تعالی: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ) ، ویمکن تقریب دلالة الآیة إجمالًا علی کون الکلمات هی النبی وأهل بیته بما تقدّمت الإشارة من إطلاق الکلمة فی القرآن الکریم علی النبی عیسی علیه السلام بما هو حجّة لله اصطفاه علی العباد، فمنه یعرف أن الکلمة فی استعمال القرآن تطلق علی حجج الله وأصفیائه، ویشیر إلی ذلک أیضاً قوله تعالی: (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً)3 حیث تومئ الآیة إلی کون کلمة الله تعرف بالصدق والعدالة وهو وصف لحجج الله، وهذا الوصف أحری بالصدق علی سید الأنبیاء بعد صدقه علی النبی عیسی علیه السلام، وقد وردت بذلک الروایات من الفریقین کما سیأتی معتضداً ذلک بأن الأسماء التی تعلّمها آدم وشرّف بها علی الملائکة قد مرّ أنها عرّفت بضمیر الجمع للحی الشاعر العاقل وأُشیر إلیها بإسم الإشارة للجمع الحی الشاعر العاقل، مما یدلُّ علی أنها موجودات وکائنات حیّة شاعرة عاقلة، نشأتها فی غیب السماوات والأرض لعدم علم ملائکة السماوات والأرض بها، کما أُشیر إلی ذلک بقوله تعالی: (أَ لَمْ أَقُلْ

ص:448


1- (2) تفسیر فرات الکوفی: ص 56، کمال الدین وتمام النعمة: ص 14، الهدایة الکبری للخصیبی: ص 428 (واللفظ للأول).

لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ)1 ولا ریب أن أشرف الکائنات بنصوصیة الکثیر من الآیات وروایات الفریقین هو سید الأنبیاء، کما قد تبیّن أن الکلمات التی بشرفها قُبلت توبة آدم أوّلها وأسماها هو سید الأنبیاء، وحینئذٍ تُبیّن الآیات أن تلک الأسماء والکلمات حیث عبّر عنها بلفظ الجمع یقتضی أن مع سید الأنبیاء حجج آخرین لله تعالی شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب الله بهم علیه، ولا نجد القرآن الکریم یُنزّل منزلة نفس النبی أحداً من الأنبیاء والرسل، بل نزل علی بن أبی طالب منزلة نفس النبی صلی الله علیه و آله وهذه خصیصة اختصّ هو علیه السلام بها، کما لم یُشرک الله تعالی فی طهارة النبی وعصمته ونمط حجیّته وعلمه بالکتاب کلّه مع العدید من المقامات الأخری أحداً من أنبیائه ورسله، لکنه أشرک أهل بیته، وهم علی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام، کما فی آیة التطهیر والمباهلة ومسّ الکتاب من المطهرین من هذه الأمة وغیرها من الآیات النازلة فیهم.

فتبیّن أن قرین سید الأنبیاء صلی الله علیه و آله فی المراد من الکلمات والأسماء هم أهل بیته علیهم السلام.

وقد ورد فی کتب الفریقین من السنّة والشیعة أن الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب علیه هم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، فدعا الله عزّ وجلّ بواسطة الکلمات فتاب علیه.

منها: ما أخرجه الحاکم فی المستدرک عن عمر قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

ص:449

«لما اقترف آدم الخطیئة، قال: یاربّ أسألک بحقّ محمّد لمّا غفرت لی، فقال: یاآدم وکیف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: یاربّ لأنک لما خلقتنی بیدک ونفخت فیّ من روحک رفعت رأسی، فرأیت علی قوائم العرش مکتوباً لا إله إلّاالله محمّد رسول الله، فعلمت أنک لم تُضف إلی إسمک إلّاأحبّ الخلق إلیک، فقال: صدقت یاآدم إنه لأحبّ الخلق إلیّ، ادعنی بحقّه فقد غفرت لک ولولا محمّد ما خلقتک» (1) ، قال الحاکم: هذا حدیث صحیح الاسناد.

ومنها: ما أخرجه الحاکم الحسکانی فی شواهد التنزیل عن ابن عباس قال:

«سألت رسول الله صلی الله علیه و آله عن الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب علیه، قال: سأل بحقّ محمّد وعلیّ وفاطمة والحسن والحسین إلّاتبت علی فتاب علیه» (2).

ومنها: ما أخرجه السیوطی عن الإمام علی علیه السلام أنه ذکر أن الله عزّ وجلّ علّم آدم الکلمات التی تاب بها علیه وهی:

«اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانک لا إله إلّاأنت عملت سوءاً وظلمت نفسی فاغفر لی إنک أنت الغفور الرحیم.

اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانک لا إله إلّاأنت عملت

ص:450


1- (1) المستدرک: ج 2 ص 615.
2- (2) شواهد التنزیل: ج 1 ص 101.

سوءاً وظلمت نفسی فتب علیّ إنک أنت التواب الرحیم، فهؤلاء الکلمات التی تلقّی آدم» (1) .

3 - قوله تعالی: (إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ کَلِمَتُهُ)2 .

فالکلمة اطلقت علی عیسی علیه السلام، وهذا الإطلاق غیر خاص به علیه السلام، بل هو شامل لکلّ الأنبیاء لا سیما أولوا العزم منهم ولا سیما خاتم النبیین، فهو أفضل الأنبیاء وسیّدهم وأعظمهم، فلا محالة یکون هو الکلمة الأتمّ، وکذا من هم نفس النبیّ صلی الله علیه و آله وهم أهل بیته علیهم السلام.

4 - قوله تعالی: (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)3 .

فإن إبراهیم علیه السلام بلا شک کلمة وآیة من آیات الله تعالی؛ لأنه أفضل من عیسی علیه السلام، ومع ذلک امتحنه الله عزّ وجلّ بکلمات تفوقه فی المقام والمنزلة، ولمّا ثبت فی الامتحان فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة تکون الکلمات هم سید الأنبیاء صلی الله علیه و آله وآخرین غیر النبی إبراهیم والنبی عیسی وموسی وآدم علیهم السلام.

والکلمات کما جاء فی الروایات - هم خمسة أصحاب الکساء، فإبراهیم نال مقام الخلافة فی الأرض والزلفی عند الله عزّ وجلّ بالکلمات، کما أن آدم فضّل علی الملائکة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنی والآیات العظمی، وهم أهل آیة التطهیر علیهم السلام.

ص:451


1- (1) الدر المنثور: ج 1 ص 60.

وکذلک آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهیة بتوسّط علم الأسماء الحیّة العاقلة النوریّة، التی تحیط بجمیع المخلوقات، ولا یحیط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء الله عزّ وجلّ.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام، قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ما هذه الکلمات؟

قال:

«هی الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب الله علیه، وهو أنه قال:

أسألک بحقّ محمّد وعلیّ وفاطمة والحسن والحسین إلّاتبت علیّ، فتاب الله علیه إنه هو التواب الرحیم»(1).

5 - قوله تعالی: (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِکَلِماتِهِ)2 .

وقد کان المعصومون الأربعة عشر کلّهم علیهم السلام یقرأون هذه الآیة عند ولادتهم، فهم الکلمات التامات التی تمّت صدقاً وعدلًا لا مبدّل لکلماته، وقد مرّت الإشارة إلی أن نعت الکلمة بالصدق والعدالة یشیر إلی حجج الله فیما یؤدّونه عن الله وما هی علیه سیرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا کلّه بالنسبة إلی الجواب الأوّل وتفصیلاته.

ص:452


1- (1) کمال الدین وتمام النعمة: ص 358.
الجواب الثالث: الآیات القرآنیة:

1 - وهو ما جاء فی قوله تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُجْرِمِینَ)1 .

الاستکبار علی الآیات الوارد فی هذه الآیة المبارکة نظیر ما فعله إبلیس، حیث أبی واستکبر أن یسجد لآدم، فکذّب بآیة من آیات الله تعالی، وذلک عندما قال: (أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ)2 وقد استند فی تکذیبه هذا إلی القیاس الباطل وهو لا یعلم حقائق دین الله تعالی، ولا یعلم أن جانباً آخر فی آدم نوریّ یعلو علی النار هو الذی أهّله لذلک المقام، ولیس الطین إلّا وجوده النازل المادّی.

ثم إن الآیة المبارکة ذکرت أثراً آخر من آثار التکذیب بالآیات الإلهیة والاستکبار علیها، حیث قالت: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) ، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حین الدعاء والعبادة والتوجّه إلی الله عزّ وجلّ وحین إرادة الزلفی والقرب، وکذلک لتصاعد الإیمان والعقیدة، کما یشیر إلیه قوله تعالی: (إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ)3 ، فهذه الآیة المبارکة تقول إن الذین یکذّبون بآیات الله تعالی وأسمائه وکلماته ویستکبرون عنها کما فعل إبلیس لا تفتّح لهم أبواب السماء، فلا یمکنهم أن یدعوا الله أو یتقرّبوا إلیه، ولا یستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم کالصلاة والصوم والحجّ.

ص:453

والربط بین ترک الآیة والاعراض عنها والاستکبار علیها وبین عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن الله عزّ وجلّ لیس بمادّی ولا بجسم، فلا یمکن أن یقابل أو یجابه فلا زلفی إلّابالآیات والإیمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلی الله عزّ وجلّ: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها) ، وقد مرّ فی هذا الفصل وفی الفصل الثالث أن الآیات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلی سماء الحضرة الإلهیة بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلک مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآیة تتشاهد وتتطابق مع الآیة المتقدمة من قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ سَیُجْزَوْنَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)1 وأن الأسماء التی یُدعی بها فی مقام الدعاء والفوز علی الله هی الآیات التی لابدّ من الإیمان بها والخضوع والإقبال علیها والتوجّه بها إلی الحضرة السماویة.

وهذا المضمون هو ما ورد فی الروایات المتواترة من أن ولایة أهل البیت علیهم السلام شرط فی قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم علیهم السلام مقام من مقامات التوحید فی الطاعة، وهی شرط التوحید وکلمة لا إله إلّاالله، فمن لا ولایة ولا طاعة له لا یقبل الله عزّ وجلّ له عملًا، کما هو الحال فی إبلیس، حیث لم یقبل الله عزّ وجلّ أعماله، ولم یقم له وزناً وطُرد من جوار الله وقربه.

إذن من لا یذعن بالواسطة والولایة لا یقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا یکون ناجیاً یوم القیامة(وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ)

ص:454

(فِی سَمِّ الْخِیاطِ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُجْرِمِینَ) .

2 - وهو قوله تعالی: (وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِینُهُ فَأُولئِکَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما کانُوا بِآیاتِنا یَظْلِمُونَ)1 ، فهذه الآیة جاءت فی سیاق واحد مع قوله تعالی:

(وَ لَقَدْ خَلَقْناکُمْ ثُمَّ صَوَّرْناکُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ لَمْ یَکُنْ مِنَ السّاجِدِینَ * قالَ ما مَنَعَکَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ قالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ * قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما یَکُونُ لَکَ أَنْ تَتَکَبَّرَ فِیها فَاخْرُجْ إِنَّکَ مِنَ الصّاغِرِینَ)2 ، فالسیاق الواحد فی هذه الآیات دالّ علی أن ما فعله إبلیس کان إنکاراً وظلماً لآیة من آیات الله تعالی، ودالّ أیضاً علی أن ثقل المیزان والقرب وقبول الأعمال إنما یتمّ بالخضوع للآیات والإیمان بها.

ولیست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة:

3 - قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ)3 ، وتقریب الاستدلال بهذه الآیة کالتقریب الذی تقدّم فی الآیات التی سبقتها، ولا یخفی ما فی التعبیر ب(عَنْها) دون التعبیر ب(علیها) من دلالة علی الاعراض والإنکار لوساطة الآیات الإلهیة، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود فی النار.

ص:455

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هی الوسیلة
التوسّل والوسیلة حقیقة العقیدة بالنبوّة والرسالة:

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنکر لمبدأ التوسّل بتوجیه قوله تعالی:

(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ)1 ، حیث فسّروا الوسیلة فی هذه الآیة بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التی یتقرّب بها العبد إلی ربّه.

وقد ورد فی الأحادیث بأن العبد لا یتقرّب إلی الله عزّ وجلّ إلّابالطاعة والعمل الصالح، فطوعانیة العبد لربّه هی وسیلته الوحیدة، ولیس بین الله وبین خلقه قرابة وقرب إلّابالطاعة(إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ) فالجنّة یدخلها المطیع ولو کان عبداً حبشیاً والنار یدخلها العاصی ولو کان سیّداً قرشیّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

کان حصیلة الشبهة الرابعة هو تمسّکهم بقوله تعالی: (وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ) حیث فسّروا الوسیلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوی والورع وسائر العبادات، وأن طوعانیة العبد لربّه هی الوسیلة الوحیدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفی المقدّمة نحن لا ننفی کون الأعمال الصالحة وسیلة من وسائل القرب إلی الله عزّ وجلّ، ولکن نرید أن نقول هی أحد مصادیق الوسیلة ولیست الوسیلة منحصرة بها، وذلک بمقتضی نفس زعمهم من أن الوسیلة

ص:456

هی الأعمال الصالحة والطاعات، حیث أن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإیمان بالله ورسوله؛ إذ لا یقاس بالإیمان بقیّة الأعمال من الصلاة والصیام والحج وغیرها، بل إن بقیة الأعمال لا تقبل ولا یثاب علیها الإنسان إلّابالإیمان، فإذا کان الإیمان أعظمها، والإیمان هو الإیمان بالله ورسوله والیوم الآخر، بل إن الإیمان بالرسول صلی الله علیه و آله هو الهادی إلی حقیقة التوحید، فیکون الإیمان بالرسول صلی الله علیه و آله من أعظم ما یتوسّل به إلی الله عند الدعاء وعند العبادة وعند التوجّه إلی الحضرة الإلهیة، فهذا یقتضی کون الرسول صلی الله علیه و آله أعظم وسیلة، لأن الإیمان إنما حاز هذا الشرف العظیم ومکان الوساطة والوسیلیة إلی الله تعالی ببرکة تعلّق الإیمان بالنبی صلی الله علیه و آله، إذ شرف المعرفة بالمعروف الذی تعلّقت به المعرفة، کما أن شرف العلم بالمعلوم الذی تعلّق به العلم، فذات المعلوم والمعروف أشرف من العلم والمعرفة المتعلّقة بهما، ومن شرف ذات المعلوم المعروف ترشّح شرف العلم والمعرفة، فهذا یقضی بالضرورة أن أعظم الوسائل هو النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومن ثم نُعت فی القرآن الکریم بأنه رحمة للعالمین، وهذا ما أشارت إلیه الأدلّة المتضافرة من أنه صلی الله علیه و آله صاحب الوسیلة الکبری والشفاعة العظمی.

ولکی تکون الاجابة واضحة لابدّ من التأمل فی مفاد الآیة المبارکة، وذلک ضمن النقاط التالیة:

النقطة الأولی: ما هو المراد من الوسیلة؟

لقد جاء التعبیر فی الآیة الکریمة هکذا(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ) ولم یقل الله عزّ وجلّ(و ابتغوه بالوسیلة)،) ولیس ذلک إلّاللتنبیه علی أن الذی

ص:457

یُبتغی ویُقصد لطلب الحوائج هو الوسیلة، التی تکون واسطة فی الفیض بین العبد وربّه، ومعنی الآیة المبارکة وابتغوا الوسیلة إلیه، فالابتغاء والقصد والتوجّه بالوسیلة إلی الله عزّ وجلّ، ولا تتحقّق البُغیة إلی الله تعالی إلّا بالوسیلة؛ ولذا لابدّ من تحدید ما هو المراد من الوسیلة.

إن روایات الفریقین متّفقة علی أن الوسیلة مقام من المقامات المشهودة والسامیة للنبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله، وهی علی طوائف متعدّدة:

منها: الطائفة التی فسّرت الوسیلة بالمقام المحمود ومقام الشفاعة المختصّ بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، وذلک کقوله صلی الله علیه و آله: (سلوا لی الوسیلة فإنها منزلة فی الجنّة لا تنبغی إلّالعبد من عباد الله وأرجو أن أکون أنا هو، فمن سأل لی الوسیلة حلّت علیه الشفاعة)(1) ، وقد فهم بعض الشرّاح من هذا الحدیث أن المقصود من الوسیلة فیه هی الشفاعة ذاتها(2).

ولا شک أن الروایات نصّت علی أن الشفاعة هی المقام المحمود، فالشفاعة التی هی المقام المحمود لا تحلّ علی الشخص إلّابسؤال ذلک الشخص مقام الوسیلة للرسول الأکرم صلی الله علیه و آله.

ومنها: الطائفة التی یظهر منها أن مقام الوسیلة والشفاعة والمقام المحمود مناصب متعدّدة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، کقوله صلی الله علیه و آله:

«من قال حین یسمع النداء اللّهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة

ص:458


1- (1) مسند أحمد: ج 2 ص 168.
2- (2) تحفة الأحوذی/ المبارک فوری: ج 10 ص 57.

القائمة آتِ محمّداً الوسیلة والفضیلة وابعثه المقام المحمود الذی وعدته إلّاحلّت له شفاعتی یوم القیامة» (1).

وظاهر هذه الروایة تغایر المقامات الثلاثة وهی الوسیلة والمقام المحمود والشفاعة.

ومنها: الروایات التی ذکرت أن مقام الوسیلة منبر من نور ینصب للنبیّ صلی الله علیه و آله، فعن النبیّ صلی الله علیه و آله فی حدیث له مع أمیر المؤمنین علیه السلام، قال:

«إذا جمع الله الأولین والآخرین یوم القیامة وضع لی منبر بین الجنة والنار من نور، لذلک المنبر مائة مرقاة وهی الدرجة الوسیلة، ثم تحفّ بالمنبر النبیّون ثم الوصیّون ثم الصالحون ثم الشهداء، ثم یجاء إلیّ، فیقال لی: یامحمّد قم فارقه، قال: فأرقی حتی أصیر فی أعلی مرقاة من المنبر - إلی أن قال صلی الله علیه و آله ثم یقال لک: إرقَ یاعلیّ، فترقی یاأبا الحسن حتّی تصیر أسفل منّی بمرقاة، فأناولک یمینی وأقعدک علی جنبی الأیمن، وأقول: هذا الموقف الذی وعدنی ربّی أنه یعطنی فیک» (2).

وعن الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام قال:

«وفوق قبّة الرضوان منزل یقال له الوسیلة، ولیس فی الجنّة منزل یشبهه وهو منبر رسول الله صلی الله علیه و آله» (3).

ص:459


1- (1) سنن النسائی: ج 2 ص 27.
2- (2) مناقب أمیر المؤمنین علیه السلام / محمّد بن سلیمان الکوفی القاضی: ج 1 ص 200، میزان الاعتدال/ الذهبی: ج 2 ص 25.
3- (3) کتاب الغیبة/ النعمانی: ص 101.

ومنها: الروایات التی ذکرت أن مقام الوسیلة مقام حظوة وحبوة للنبیّ صلی الله علیه و آله، ویطول المقام بذکرها فلا حاجة إلی استعراضها، وبعض الروایات المتقدّمة فیها إشارة إلی ذلک.

ولا یوجد أی تنافی بین هذه الطوائف من الروایات، حیث أنها تثبت للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مقاماً خاصّاً لا یدرکه ملک مقرّب ولا نبیّ مرسل، وهذا المقام فی جهة من جهاته یسمّی بالمقام المحمود وفی أخری یسمّی بالوسیلة وفی ثالثة یسمّی بالشفاعة، وهذا أیضاً لا یتقاطع مع کون مقام الوسیلة منبر من نور؛ لأن التعبیر بذلک للدّلالة علی حظوة النبیّ صلی الله علیه و آله وحمد مقامه عند الله عزّ وجلّ فی ذلک الیوم العصیب، الذی یکون فیه کلّ الأنبیاء علی جانب عظیم من الوجل والشفقة والخشیة، والکلّ یستغیث وانفساه، والنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی تلک الحال وجیه عند الله عزّ وجلّ علی منبر من نور صاحب حظوة ومکانة دون باقی البشر، فالمنبر کنایة عن الوجاهة والقرب والزلفی والواسطة والشفاعة وأنه یتوسّط به إلی الله عزّ وجلّ ویستغاث به للنجاة من النار، فهو صاحب الشفاعة الکبری، وهو القائل:

«ادّخرت شفاعتی لأهل الکبائر من امتی» (1).

النقطة الثانیة: الرابطة بین الشفاعة والتوسّل:

قلنا فی النقطة السابقة أن المقام المحمود هو الشفاعة، کما نصّت علی

ص:460


1- (1) البدایة والنهایة/ ابن کثیر: ج 10 ص 254.

ذلک الروایات(1) ، وأشرنا أیضاً إلی أن الاستشفاع بشفاعة الشفیع والتوسّل بالوسیلة وجهان لمقام واحد، ونرید الوقوف قلیلًا عند هذه الحقیقة، فإن تفرقة المتکلمین والفقهاء بین الشفاعة والتوسّل صحیحة من جهة وخاطئة من جهة أخری، وذلک لأن التوسّل والشفاعة وجهان لحقیقة واحدة لا ینفصلان عن بعضهما البعض، فالتوسل هو فعل صاحب الحاجة عند الشفیع، والشفاعة هی فعل الشفیع بینه وبین المشفوع عنده، فإذا لاحظنا جهة العلاقة والرابطة بین طالب الشفاعة والشفیع یقال توسّل واستشفاع، وإذا لاحظنا نفس العملیة ولکن من جهة الرابطة بین الشفیع والمشفوع عنده فیقال لذات تلک العملیة شفاعة، فالوسیلة تتلوها الشفاعة والشفاعة یتلوها قضاء الحوائج وغفران الذنوب.

وإذا کان المسلمون قد أجمعوا علی ثبوت المقام المحمود والشفاعة الکبری للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فهو یستلزم اجماعاً آخر وهو جواز التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله وإن غفل شرذمة عن هذا اللازم، فإذا جازت الشفاعة من النبیّ صلی الله علیه و آله وهو فعل یقوم به بالإضافة إلی الله عزّ وجلّ فی حقّ أصحاب الحاجات فبالتالی سوف یکون التوسّل راجحاً ومشروعاً لا محالة؛ لعدم تصوّر انفکاک مشروعیة الشفاعة عن مشروعیة التوسّل؛ لأن التوسّل متعلّقه طلب الشفاعة فإذا کانت الشفاعة مشروعه کیف یکون طلب المشروع غیر مشروع؟!، بل حیث إن معتقد الشفاعة للنبی صلی الله علیه و آله دین من أسس الإیمان فلا محالة یکون التوسّل معتقد دینی من أسس الإیمان أیضاً، بل حیث کانت الضرورة قائمة

ص:461


1- (1) لاحظ مسند أحمد: ج 2 ص 478، المعجم الکبیر للطبرانی: ج 2 ص 48.

علی ثبوت مقام الشفاعة للنبی صلی الله علیه و آله فلا محالة الضرورة قائمة أیضاً علی أن التوسّل من أرکان العبادات.

فالذهاب إلی الوسیط وطلب توسیطه فی قضاء الحاجة توسّل وعمل الوسیط شفاعة، والشفع هو الضمّ، فیضمّ الوسیط جاهه إلی حاجة المتوسل فیقضیها المشفوع عنده، فالتوسّل من مقوّمات الدعاء والتوجّه للحضرة الإلهیّة.

إذن دلیل التوسّل القول بمشروعیة وضرورة الشفاعة بقول مطلق.

وبناء علی ذلک یکون عقد بابین مستقلّین للتوسل والشفاعة من المماشاة للغفلة التی وقع فیها أصحاب المقالة الجاحدة لعقیدة التوسّل، وإلّا فإن باب الشفاعة لا یمکن أن ینفک عن باب التوسّل؛ لأن التوسّل هو طلب التشفّع.

النقطة الثالثة: عموم تشریع الشفاعة:

حاول أصحاب هذه المقالة تحدید نطاق الأدلّة الدالّة علی تشریع شفاعة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، حیث قالوا تارة بأن الشفاعة فی دار الدنیا لا تجوز إلّاإذا کان النبیّ الأکرم حیّاً فی هذه الدنیا، وأما بعد وفاته فلا مشروعیة للشفاعة إلّایوم القیامة دون الشفاعة فی الدنیا أو البرزخ، وقالوا أخری بأن متعلّق الشفاعة طلب الغفران من الذنوب، ولیس طلب الحاجات الدنیویّة، کشفاء المریض وغیره.

أما المزعمة الأولی: من أن الشفاعة فی الآخرة فقط أو مع حیاة النبیّ صلی الله علیه و آله:

ص:462

فهی مبتنیة علی أن الشرک بالنصّ وعدم النصّ، مع أن الشرک من مدرکات العقل وأحکامه، وهی غیر قابلة للتخصیص، فإذا کان التشفّع شرکاً فلابدّ أن یکون کذلک فی جمیع النشآت وسواء کان النبیّ صلی الله علیه و آله موجوداً فی دار الدنیا أو بعد وفاته.

فالتفرقة لجوء منهم إلی النصّ وأن الشرک لیس له حدّ عقلی منضبط، وهو خلاف ما علیه علماء المسلمین، من أن الشرک إما بحثه عقلی أو عقلی ونقلی ولیس هو نقلیاً محضاً، هذا أولًا.

وثانیاً: مع فرض أن دلیل مشروعیة الشفاعة نقلی، فلا دلیل علی الاختصاص بیوم القیامة؛ لأن الآیة مطلقة، فقوله تعالی: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) شامل لما بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وهو صلی الله علیه و آله حیّ عند ربّه یرزق، مضافاً إلی قوله تعالی: (قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ) فالنبیّ صلی الله علیه و آله ناظر للأعمال، والآیة الکریمة مطلقة والمخاطب بها کلّ الأجیال، ولو بنی علی اختصاص الأحکام التی تعلّقت بالرسول صلی الله علیه و آله علی خصوص حیاته فی دار الدنیا ونفی شمولها لحیاته عند ربّه لاستلزم ذلک تعطیل جملة الآیات والأحکام فی الدین الحنیف، ولما قامت للدین قائمة، نظیر قوله تعالی: (ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)1 وقوله تعالی: (إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا)2 وقوله تعالی: (فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا)

ص:463

(النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)1 وغیرها من الآیات والأحکام، فعلی زعمهم الواهی لابدّ أن تُخصّ هذه الآیات بخصوص حیاته صلی الله علیه و آله فی دار الدنیا دون حیاته فی عند ربّه.

وقد وردت روایات متضافرة تنصّ علی أن الأعمال تُعرض علی رسول الله صلی الله علیه و آله کلّ یوم أو کلّ یوم خمیس أو جمعة، وأنه صلی الله علیه و آله یسمع السلام ویردّه، ویصلّی علی من یصلّی علیه.

فما ذکر من الاختصاص بیوم القیامة باطل عقلًا ونقلًا.

وأما المزعمة الثانیة: وهی أن متعلّق الشفاعة طلب الغفران لا الحاجات الدنیویة:

فالجواب عنها:

أولًا: ما ذکرناه آنفاً من اطلاق الآیة المبارکة، فإن متعلّقها شامل للمسائل الدنیویة أیضاً ولا دلیل علی التخصیص بما ذکروه.

وثانیاً: إذا صحّت المقایسة التی زعموها فإن الحاجات الدنیویة أهون علی الله تعالی من حاجات الآخرة، فکیف یعقل أن الشفاعة تنفذ فیما هو أکثر خطورة وهی الحیاة الأبدیّة، دون ما هو أقلّ خطورة وهی الحیاة الدنیویة المنقطعة؟! وکیف یکون الثانی شرکاً دون الأوّل؟!

ثم إن سیرة المسلمین وکذا الصدر الأول منهم تتنافی مع ما ذکره، حیث أثبتت کتب المسلمین کما سیأتی - توسّل المسلمین بالنبیّ الأکرم بعد وفاته

ص:464

أیضاً، وسیرتهم إلی یومنا هذا جاریة علی التوسّل فی طلب حاجاتهم الدنیویة، ولا یقتصرون فی ذلک علی طلب الحاجات الأخرویّة فقط.

وکذا لیس متعلّق الشفاعة غفران الذنوب والنجاة من النار فحسب، بل حتی فی الرقیّ فی المراتب والمقامات، فالشخص یحتاج إلی الشفاعة لعدم الأهلیة فی عمله للصعود إلی مقام أعلی، کما ورد ذلک فی توسّل الأنبیاء بسیّد الرسل صلی الله علیه و آله، بل هو صلی الله علیه و آله یشفع أیضاً للأئمة المعصومین علیهم السلام لرفع مقامهم ودرجتهم إلی مقامه ودرجته صلی الله علیه و آله.

إذن متعلّق الشفاعة وسیع یشمل النجاة من النار وغفران الذنوب ورفع المقامات وقضاء الحاجات وغیرها، فالشفاعة بإذن الله تعالی متعلّقها مطلق موارد فیض الباری عزّ وجلّ.

وثالثاً: ما ورد من وصف النبیّ موسی وعیسی علیهما السلام بأنهما وجیهان عند الله عزّ وجلّ، کما فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ آذَوْا مُوسی فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ کانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِیهاً)1 ، وکذا قوله تعالی: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ)2 ، وهذا البیان لیس خاصاً بموسی وعیسی علیهما السلام، بل هو شامل علی أقل تقدیر لأنبیاء أولی العزم، خصوصاً سیّد المرسلین وخاتمهم وأفضلهم محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته الذین أورثوا علم الکتاب کلّه، بل قد أشیر إلی ذلک فی تشریع القبلة، وأنها رغم کونها وجهاً لله تعالی

ص:465

یتّجه إلیه المصلّی فی اتجاه استقباله فی الصلاة، إلّاأن الغایة منها هی الإنقیاد والخضوع لرسول الله صلی الله علیه و آله والولایة له، وهو یؤدّی للأوبة لله تعالی، حیث قال تعالی: (وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ)1 وقال تعالی أیضاً: (فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)2 وقال تعالی: (وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ)3 ، وللتعبیر بالوجیه مدلولان التزامیان عقلی ونقلی:

أما العقلی؛ فلأن الله عزّ وجلّ منزّه عن الجسمیة والمقابلة والمجابهة المادّیة، فلابدّ من وجه یتوجّه به إلیه، فالوجیه معناه هو وجه الله الذی یتقرّب به إلیه وآیته الدالّة علیه، التی لابدّ أن تُوسّط وتُشفّع فی التوجّه.

وأما النقلی؛ فهو ما ورد من أن زکاة الوجاهة الشفاعة فی الخیرات.

إذن الشفاعة والوساطة مدلول التزامی عقلی ونقلی لمفهوم الوجاهة، فالوجیه هو الشفیع والوسیلة والواسطة بین العبد وربّه.

ومقتضی إطلاق کون الأنبیاء علیهم السلام وجهاء عند الله عزّ وجلّ هو کونهم شفعاء فی الخیرات وقضاء الحوائج الدنیویة والأخرویة، ولا تختصّ وجاهتهم وشفاعتهم بغفران الذنوب فقط.

ومعنی ذلک أیضاً أن الأنبیاء وجهاء عند الله وشفعاء فی کلّ الأزمان والأدوار، من دون اختصاص بیوم القیامة أو قبل وفاة النبیّ، وذلک لإطلاق

ص:466

الآیات الدالّة علی الوجاهة التی تلزمها الشفاعة عقلًا ونقلًا.

والحاصل:

إن الوسیلة فی الآیة التی ذکروها هو مقام الشفاعة الکبری للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، واتّضح أن الوسیلة والشفاعة وجهان لمقام واحد، واتّضح أیضاً أن الشفاعة والتوسّل رکن من أرکان الدین قائم فی الدنیا والآخرة، سواء کان النبیّ حیّاً فی دار الدنیا أو عند ربّه تعالی بعد وفاته صلی الله علیه و آله، وهکذا الشفاعة منصوبة فی دیانة الإسلام لطلب الحوائج الدنیویة وغیرها.

وممّا یبرهن علی عموم شفاعة النبی صلی الله علیه و آله لکلّ النشآت والعوالم ولعموم الأمور ما مرّ فی قوله تعالی: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)1 ، حیث مرّ فی الفصل الثالث أن الآیة تبیّن مشارطة الله ومواثقته علی النبیین فی إعطائهم مقام النبوة والرسالة والمقامات الغیبیة أنهم إنما یستأهلوها ویستحقّوها إذا آمنوا بخاتم النبیّین والتزموا بنصرته واتباعه وأقرّوا علی أنفسهم بذلک، فالآیة تبیّن أن سید الأنبیاء صاحب الوسیلة لجمیع المخلوقات، بل ولأشرف المخلوقات وهم الأنبیاء والرسل، وأنهم إنما نالوا المقامات الکبری الغیبیة من النبوّة والرسالة والحکمة بالتوسّل بذیل ولایة سید الأنبیاء وأهل بیته المعصومین، مع أن النبی صلی الله علیه و آله لم یُخلق بدنه حینذاک، وإنما خُلق نوره وأنوار أهل بیته قبل خلق السماوات والأرض وخلق الأنبیاء، کما

ص:467

أشارت إلی ذلک سورة النور والروایات من الفریقین، حسب ما تقدّم فی الفصل الثالث.

فالآیة ترصد أعظم ملحمة فی الخلقة والخلیقة لأعظم توسّل بأعظم متوسّل به لأعظم حاجة، وکفی بذلک بشارة للمؤمنین بهذا الرکن العظیم فی الدین، ونذارة للجاحدین.

وأخیراً نقول:

إذا کانت الأعمال کما قالوا تُزلف وتُقرّب العبد إلی الله عزّ وجلّ وهی فیها ما فیها من عدم الخلوص وخلطها بالصالح والطالح، فکیف ظنک بمقام سیّد الرسل صلی الله علیه و آله؟!

فالعمل موجود مخلوق وکذا النبیّ صلی الله علیه و آله، ولکن لا قیاس ولا نسبة بینهما فی الوجاهة والقرب إذا توسّل بهما العبد.

الشبهة الخامسة: التوحید الإبراهیمیّ یأبی التوسّل بغیر الله:
اشارة

وذلک ما ورد فی الحدیث أن إبراهیم علیه السلام حین ألقی فی النار(عرض له جبرئیل وهو فی الهواء، فقال: ألک حاجة؟ فقال: أما إلیک فلا وأما من الله فبلی)(1) ، (قال جبرئیل: فسل ربّک، فقال: حسبی من سؤالی علمه بحالی، فقال الله عزّ وجلّ: یانار کونی برداً وسلاماً علی إبراهیم)(2) فالنبیّ إبراهیم علیه السلام فی هذا الحدیث یحصر التوجّه فی الحاجات إلی الله عزّ وجلّ

ص:468


1- (1) تفسیر ابن کثیر: ج 3 ص 193.
2- (2) زاد المسیر/ ابن الجوزی: ج 5 ص 254.

ویرفض کلّ واسطة ولو کانت بمنزلة جبرئیل علیه السلام، وهذا هو النفس التوحیدی الصحیح من مؤسّس التوحید ومکسّر الأصنام ومجاهد الوثنیة إبراهیم علیه السلام، إذ لم یوسّط حتی جبرئیل فی طلب حاجته.

إذاً لابدّ من نفی الشرک فی الواسطة وطلب الحاجة؛ إذ لا حجاب بین الله وبین خلقه، ولم یتّخذ الله تعالی أصناماً ولا أحجاراً ولا أشخاصاً لیتوجّه بها إلیه.

الجواب عن الشبهة الخامسة:

وهو ما یتعلّق بقصة إبراهیم علیه السلام عندما أُلقی فی النار، وما جری بینه وبین جبرئیل، حیث أن جبرئیل علیه السلام تدارک إبراهیم وهو فی حال الهویّ فی النار، وهی حالة عصیبة جدّاً، ولکن مع ذلک عندما عرض جبرئیل علیه السلام علیه قضاء حاجته وتخلیصه من محنته، قال علیه السلام: (علمه بحالی یغنی عن سؤالی)، فقالوا إن نفس عدم سؤال إبراهیم علیه السلام من جبرئیل معناه أن السؤال والاستغاثة بغیر الله تعالی غیر جائزة.

الردّ الأول: إن أی حادثة من الحوادث تتضمّن دائماً ملابسات تحتفّ بها لابدّ من معرفتها؛ لمدخلیتها فی استیضاح سیاق تلک الحادثة، وفی المقام مسائلة جبرئیل علیه السلام للنبیّ إبراهیم علیه السلام من أجل امتحانه وابتلائه وتفقّد رسوخ إیمانه وطمأنینته ورباطة جأشه؛ ولذا قال له: (أما إلیک فلا) لیبیّن له أنه لیس فی مقام طلب الحاجة والخوف والهلع وإنقاذ الموقف وأنه مطمئن النفس ثابت الإیمان متوکّل علی ربّه.

ص:469

ویعزّز هذه الدعوی قول إبراهیم علیه السلام لجبرئیل علیه السلام: (علمه بحالی یغنی عن سؤالی) مع أن السؤال والدعاء مرغوب فیه ومحبّب عند الله عزّ وجلّ، وقد حثّ القرآن الکریم فی آیات عدیدة علی السؤال والدعاء وطلب قضاء الحاجة من الله تعالی، وقد توعّد الله تعالی المستکبر علی عبادته ودعائه باللسان والقول.

إذن الدعاء من الأمور المرغوب فیها والمأمور بها، ومن الواضح المتّفق علیه أن الروایة فی المقام لا ترید أن تقول أن الدعاء باللسان أمر مرجوح ومرغوب عنه، بل إن الدعاء وطلب الحاجة بالقول واللسان من الآداب الإلهیة، وقد قال الله تعالی لنبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله: (وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِی عِلْماً)1 وحاشا للنبیّ إبراهیم علیه السلام أن یخرج عن أعظم الآداب الإلهیة ولا یتقیّد بها؛ إذ الدعاء أعظم العبادات وروحها.

فهذا شاهد بیّن دامغ علی أن کلام إبراهیم علیه السلام بحسب السیاق فی مقام آخر، وهو مقام الامتحان للثبات علی الإیمان والطمأنینة به.

فأراد إبراهیم علیه السلام باکتفائه بعلم الله عزّ وجلّ بحاله أن یبیّن لجبرئیل علیه السلام أنه لیس علی وجل واضطراب، ویظهر له الثبات والحزم الذی هو علیه فی الحقیقة والواقع.

ودعاؤه علیه السلام فی خصوص ذلک الظرف والمقام قد یکون کاشفاً عن الوجل والتزلزل وعدم الطمأنینة، فهو علیه السلام لکمال ثباته وتوکّله علی الله تعالی

ص:470

أظهر ما هو علیه من رباطة الجأش والحزم وقوّة الإیمان.

فصدر الجواب وذیله فی هذا المقام الذی ذکرناه.

الردّ الثانی:

قد یقال هنا أن إبراهیم علیه السلام لم یستنجد بجبرئیل علیه السلام ولم یسأله لأنه أفضل منه، وذلک إن مقام أنبیاء أولی العزم أفضل من مقام الملائکة الذین أسجدهم وأطوعهم لآدم، وقد ورد فی روایات الفریقین أن جبرئیل علیه السلام فی مواطن عدیدة لم یتقدّم علی آدم لکونه مسجود الملائکة، ففی هذه الحالة یکون مقام السائل أرفع شأناً من مقام المسؤول، ونحن محلّ کلامنا فیما إذا کان السائل یتقرّب بواسطة المسؤول ویتوسل به إلی الله عزّ وجلّ، وإذا کان السائل أقرب مقاماً من المسؤول، فلا معنی للتوسّط والتشفّع والزلفی.

الردّ الثالث: أنه ینقض علیهم بموارد:

منها: أن الجاحدین للتوسّل یقرّون بأن الضرورة قائمة فی الدین - کما تقدّم - علی ثبوت الشفاعة الکبری لسید الأنبیاء یوم المعاد، وأنه یستشفع به صلی الله علیه و آله للنجاة الأبدیة، فإذا کان الاستشفاع شرکاً - حسب زعمهم - وخلاف منهج التوحید الذی هو ملّة إبراهیم الحنیف فکیف یسمح الباری بوقوعه یوم القیامة، ویُبشر به نبیّه، وأنه یعدّه الباری مقاماً محموداً؟!

ومنها: ما تقدّم من استشفاع آدم بسید الأنبیاء، فهل یظن بنبی الله وصفوته مجانبة طریق التوحید؟!

ص:471

الشبهة السادسة: التوسّل یعنی التفویض وعجز الله تعالی:
اشارة

قد یطرح هنا إشکال حول التوسّل بالوسائط، وهو دعوی أن الاعتقاد بالوسائط والتوسّل بها لاستدرار الفیض الإلهی قد یوجب اعتقاد العجز فی قدرة الله تعالی، ومما لاشک فیه أن الباری عزّ وجلّ واجب بالذات وغنی عن العالمین، فلابدّ من رفض الوسائط فی التوجّه إلی الله عزّ وجلّ.

وبعبارة أخری: إن السؤال والتوسّل والتوجّه إلی غیر الله تعالی یستبطن التفویض والغلو وبالتالی یؤدّی إلی الشرک؛ لأن التوسّل یتضمّن إسناد بعض الصلاحیات الإلهیة إلی الوسائل، وهو یعنی إثبات العجز إلی قدرة الباری تعالی وهو التفویض والغلو الباطل.

الجواب عن الشبهة السادسة: قصور الجاحدین للتوسّل عن معرفة التوحید فی الأفعال:

فی مقام ردّ هذه الشبهة نجیب بعدّة أجوبة:

الجواب الأول: إن الله عزّ وجلّ إذا أقدر مخلوقاً من المخلوقات علی بعض الأمور، فهو لا یعنی سلب القدرة عنه تعالی فی تلک الأمور، ولا یعنی أیضاً عزله عن صفاته التی منها الصفات التی أعزاها إلی کلماته ووسائطه، فلا تجافی ولا عزلة فی البین؛ لأن التجافی والعزلة من أحکام المادّة.

إذن الباری تعالی لا یتجافی ولا ینعزل عن القدرة التی أقدر بعض الموجودات علیها، بل هو أقدر من تلک الوسائط علی ما أقدرها علیه.

ص:472

ویقول الإمام زین العابدین علیه السلام فی هذا المقام:

«إن الله تبارک وتعالی لا یطاع باکراه ولا یعصی بغلبة ویهمل العباد فی الهلکة، ولکنه المالک لما ملّکهم، والقادر لما علیه أقدرهم» (1).

وقال أمیر المؤمنین علیه السلام فی وصفه لله عزّ وجلّ:

«لا تشبهه صورة ولا یحسّ بالحواس ولا یقاس بالقیاس، قریب فی بعده بعید فی قربه، فوق کلّ شیء ولا یقال: شیء تحته، وتحت کلّ شیء ولا یقال: شیء فوقه، أمام کلّ شیء ولا یقال له: أمام، داخل فی الأشیاء لا کشیء فی شیء داخل، وخارج من الأشیاء لا کشیء من شیء خارج، فسبحان من هو هکذا، ولا هکذا غیره، ولکلّ شیء مبتدأ» (2).

والحاصل: إن أقدار الله عزّ وجلّ وکّل عطیة إلهیة یجود بها علی مخلوقاته لیس تملیکها تملیکاً عزلیاً وبنحو التجافی، وإنما هو تملیک قیّومی إحاطی، فهو عزّ وجلّ بکلّ شیء محیط وقیّوم علی کلّ شیء، وهو المالک لما ملّکهم والقادر لما علیه أقدرهم، بل إن التملیک بعینه مخلوق من المخلوقات والمُعطی والعطیة کلّها قائمة بالله تعالی حدوثاً وبقاءً، فکیف یستقل المخلوق فی فعله وهو محتاج فی ذاته ومفتقر إلی قیومیّة الباری تعالی؟!

وهذا یعنی أن ذات المخلوق وفعله وتمکینه وتملیکه وإقداره علی بعض الأمور کلّها بحول الله وقوته، ولا یخرج عن حیطة قیومیّته، فلا مجال للتفویض

ص:473


1- (1) فقه الرضا علیه السلام / علی بن بابویه: ص 408.
2- (2) المحاسن/ البرقی: ج 1 ص 240، التوحید/ الصدوق: ص 285.

العزلی فی عالم الخلقة والامکان، ولیست الوسائط إلّامجار لفیض الله عزّ وجلّ وقدرته؛ لأجل عجز بعض القوابل عن التلقّی عن الله تعالی مباشرة.

الجاحدین للتوسّل بنوا جحودهم علی التفویض الأکبر:

الجواب الثانی: إن هذه الشبهة التی ذکروها تستبطن التفویض والغلو فی المخلوق؛ لأنها مبتنیة علی دعوی أن المخلوق مستقلّ عن خالقه فی الوجود بقاءً، وأن الله تعالی عندما ملّک وأقدر بعض الموجودات المادّیة علی بعض الأفعال الحیاتیة الیومیّة، کقدرة الشخص علی تحریک أعضائه مثلًا باختیاره، انعزلت قدرته عن تلک الأفعال، فإنهم فی شبهتهم المذکورة افترضوا أن إقدار الله عزّ وجلّ وتملیکه بعض الأفعال لبعض المخلوقات وأنها استقلال للمملوک عن المالک، کاستدرار الفیض الإلهی عن طریق الوسائط تفویض وغلو فی تلک المخلوقات، وحیث أنه مما لا ریب فیه أن الله تعالی - کما هو المشاهد حسّاً والمعلوم وجداناً - أقدر الموجودات المادّیة علی الکثیر من الأفعال التی نراها یومیاً، فإنه یقتضی اعتقادهم بمقالة المعتزلة التفویضیة المغالیة، وهی أن المخلوق محتاج إلی الخالق حدوثاً لا بقاءً، وأن الله تعالی بعد أن خلق الموجودات انعزلت قدرته عنها فی البقاء والعیاذ بالله -.

ولا فرق بین فعل وفعل من الناحیة العقلیة، فإذا کان التوسّل وجعل الوسیلة والشفاعة لبعض المخلوقات یوجب التفویض العزلی، فکذلک إقدارهم علی أفعالهم الحادثة الیومیة لابدّ أن یکون أیضاً محکوماً بقانون التفویض العزلی، وأن الله تعالی انعزل عن مخلوقاته بعد أن أوجدها وأقدرها

ص:474

وملّکها لأفعالها(1).

ولا شک أن هذا التفکیر مبنیّ علی الموازین الحسّیة المادّیة، ودعوی الفرق بین الأفعال الدنیویة الصغیرة والأفعال التدبیریة الخطیرة، کتدبیر السماوات والأرض، وإیصال فیض الله تعالی إلی الموجودات المادّیة الدانیة فی الوجود، حیث آمنوا ببطلان التفویض بجعل وسائط فی الفیض، وصحّحوا مقولة التفویض فی صغائر الأمور والأفعال المادیة الدنیویّة غیر الخطیرة.

مع أن موازین بطلان التفویض موازین عقلیة لا یفرق فیها بین الأفعال الصغیرة والخطیرة؛ لأن التفویض یوجب الشرک وهو باطل علی جمیع الأحوال.

ونحن نقول: إن المخلوق لا یستقلّ بذاته وفعله عن الباری تعالی حدوثاً وبقاءً، ولا یفعل المخلوق فعلًا أیّاً کان حجمه وخطورته إلّابإقدار الله وتمکینه وبحوله وقوته بدءاً واستدامة.

ولو کان أصحاب هذه الشبهة یرفضون فکرة التفویض مطلقاً ویوحّدون فی الخلقة حدوثاً وبقاءً لما حصلت لهم هذه الشبهة، لأن الله تعالی لا تنحسر قدرته عن المخلوق فی أصل خلقته وبعد خلقته، فهو دائماً یستمدّ وجوده وبقاءه من الفیض والمدد الإلهی، وهم أرادوا أن ینکروا التوسّل، وهو فعل من الأفعال للزوم التفویض، فوقعوا فیما هو أعظم وهو التفویض فی أصل وجود المخلوقات من حیث البقاء فضلًا عن أفعالها، مع أن الله تعالی دائم الفیض علی البریّة، والمخلوق فی کلّ آن من آنات وجوده محتاج إلی فیض

ص:475


1- (1) سند، محمد، الإمامة الإلهیة، 5 جلد، منشورات الإجتهاد - قم - ایران، چاپ: 1، 1427 ه -. ق.

باریه، لا یستقلّ عنه فی وجوده ولا ینادده فی فعله؛ إذ الباری قیّوم علی وجود المخلوق وأفعاله بنحو الأمر بین الأمرین، فلا ننفی المخلوقات وأفعالها کما فعل ذلک بعض جهلة الصوفیة، ولا نعزل قدرة الله تعالی عن مخلوقاته کما فعل المفوّضة، بل نقول کما قال الله عزّ وجلّ: (وَ ما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لکِنَّ اللّهَ رَمی)1 .

الجواب الثالث: أن الجاحدین للتوسّل حیث کانوا عبّاد المذهب الحسّی المادی من حیث یشعرون أو من حیث تشبّع نفسیاتهم وذهنهم بذلک، حیث یبنون علی أن کلّ فعل حسّی هو فعل للمخلوقات، وکلّ فعل وراء الحسّ فهو فعل لاهوتی إلهی، أو أن الأفعال الصغیرة الحجم هی فعل للمخلوقات أما الأفعال الکبیرة فهی فعل إلهی، وعلی هذا المیزان یکون إماتة الموتی لا یصح إسنادها إلی الملک الموکّل وهو عزرائیل علیه السلام، لا سیما وأن الاماتة لا تقتصر علی بنی البشر فقط، بل تشمل جمیع بنی الجنّ وجمیع النباتات، بل وجملة الملائکة، فهذه القدرة بهذا الحجم کیف تسند وتعزی إلی الملک عزرائیل؟ مع أن قدرة الله تعالی أنفذ فیما أقدر عزرائیل علیه، وکذلک میکائیل الموکّل بتقسیم الأرزاق وتدبیرها لکلّ الکائنات الحیّة علی وجه الأرض، وکذلک جبرئیل الموکّل بالبطش والنقمة الإلهیّة ونشر العلم علی الکائنات المدرکة، وإسرافیل الموکّل بالإحیاء وغیر ذلک من عظائم الأفعال، فإنه علی منطق هؤلاء الجاحدین تکون قدرة الله معزولة عن تلک الأفعال کما توهّمه هؤلاء، وأنّ هذه الأفعال هی صلاحیات إلهیّة لا تقبل الاسناد لغیر

ص:476

الله.

فتبیّن أن الضابطة فی کون الفعل إلهیّاً هو صدوره عن الفاعل بمعزل عن قدرته غیره، ومن ثمّ لا یصحّ توهّم استقلال المخلوق فی الفعل ولو کان حقیراً صغیراً؛ إذ لو استقلّ لکان فاعلًا فعلًا إلهیّاً.

الشبهة السابعة: إیجاد المخلوقات الإمکانیة کلّه ابداعیّ بلا واسطة

قالوا فی المقام لِمَ لا یکون فعل الله تعالی دائماً إبداعیاً بکن فیکون بلا أی واسطة أو وسیلة؟ وهذا من مظاهر القدرة والهیمنة الإلهیة، بخلاف القول بالأفعال غیر الابداعیة، فهی تستبطن القول بعجز الله تعالی واحتیاجه إلی الأسباب فی عملیة الخلق والایجاد.

الجواب عن الشبهة السابعة:

ویُجاب عن هذه الشبهة بنفس الجواب السابق، ونضیف إلیه بعض الأجوبة الأخری:

الجواب الأول: لا ریب أننا نشاهد فی عالم الخلقة الامکانیة أفعالًا لبعض المخلوقات بل موجودات مخلوقة غیر ابداعیة، کما نصّ علی ذلک القرآن الکریم فی آیات عدیدة کما سیأتی - وأن الله تعالی کان عرشه علی الماء، ثم خلق السماوات والأرض، ثم خلق من الأرض النباتات والزرع، ثم خلق من الطین البدن الانسانی، وخلق الجنّ من نار السموم، وخلق من الماء کلّ شیء حیّ، وغیر ذلک من المخلوقات غیر الإبداعیة، التی توجد بعملیة التولید والتوالد بین الأسباب والمسبّبات، وبناءً علی ما ذکروه من الشبهة، من

ص:477

أن کلّ فعل غیر ابداعی، فهو مستبطن للعجز والحاجة إلی الوسیلة والأسباب ویکون اسناد تلک المخلوقات غیر الابداعیة إلی الله تعالی إسناداً للعجز والحاجة إلی الله عزّ وجلّ، وإن لم نُسند تلک المخلوقات إلی الله تعالی نقع فی معضلة الشرک فی الخالقیة وهو شرک أعظم؛ لأن شطراً وافراً من المخلوقات کالموجودات المادّیة فی أصل وجودها فضلًا عن أفعالها یتمّ تخلیقها عن طریق الأسباب والوسائط لا بنحو الابداع، فإن اسندناها إلی الباری تعالی علی زعمهم - یلزم نسبة العجز إلی الخالق، وإن لم نسندها إلیه عزّ وجلّ یلزم القول بالشرک فی الخالقیة وخروج تلک الموجودات عن حیطة قدرته تعالی.

فالصحیح: إن الله تعالی خالق کلّ شیء سواء کان بالابداع أو التخلیق، والسببیّة لا توجب الشرک ولا نسبة العجز إلی الله تعالی؛ لأن المخلوق الذی یکون واسطة ووسیلة فی تخلیق بعض المخلوقات لا یخرج عن حیطة القدرة الإلهیة، فهو بتمام شراشر وجوده مفتقر إلی باریه فی الحدوث والبقاء وفی فعله وأصل وجوده، وإذا صار الماء مثلًا واسطة فی تخلیق کلّ شیء حیّ لا یعنی عجز الباری، لأن الماء بتمام وجوده مفتاق إلی خالقه ولا یستغنی فی فعله عنه، ففعل الماء فعل الله تعالی، والماء مجری الفیض وسبب إعدادیّ لخالقیة الله عزّ وجلّ.

ثم إن البارئ والمصوّر من أسماء الله تعالی، والبَرء عملیة تحویل وإیجاد وإیجاب شیء من شیء آخر، ثم بعد البرء تأتی عملیة تشکیل الصورة، وهذه کلّها دائرة الموجودات غیر الابداعیة، وهی تحت هیمنة الأسماء الإلهیة، کالبارئ والمصوّر ولا تخرج عن حیطة قدرته عزّ وجلّ.

ص:478

سبب جحود التوسّل القصور
فی معرفة کنه ذوات المسبّبات والأسباب:

الجواب الثانی: إن الاحتیاج إلی الأسباب والوسائط لیس لعجز فی الباری تبارک وتعالی، بل لعجز وعدم قابلیة فی ذات الممکن، وذلک لأن بعض الموجودات الممکنة لا یمکن أن تفرض لها شیئیة إلّابعد وجود موجودات أخری سابقة علیها، فالجسم مثلًا لا یمکن أن یخرج إلی الوجود إلّامن المادة؛ لعدم قابلیة الجسم إلّاأن یکون متقوّماً بالمادّة، والله عزّ وجلّ علی کلّ شیء قدیر، ولا شیئیة للجسم قبل المادّة لکی تتعلّق به القدرة؛ إذ اللّاشیئیة عدم وبطلان وعجز وفقدان، ولا معنی لأن تتعلق القدرة الإلهیة بالعجز والبطلان.

نعم إذا فُرض کونه شیئاً بواسطة السبب تتعلّق به القدرة حینئذٍ، فالأشیاء التی هی ذوات أسباب ذواتها متقوّمة ذاتیاً قوامیاً بنیویاً وهویة بتلک الأسباب، فنفی فرض الأسباب نفی لأصل ذواتها، فیرجع إلی التناقض، لا للعجز فی قدرة الباری تعالی، کمن یرید أن یفترض الجسم بلا أن یکون له أبعاد ممتدّة، فهؤلاء تخیّلوا أن الأسباب والوسائط منحازة عن أصل ذوات الأشیاء المخلوقة فی الدرجات المتوسّطة والنازلة من عوالم الخلقة، فیرجع جحودهم للوسائل إلی الجهل بحقائق المخلوقات، ولو کان وجود الأسباب والوسائط یعنی العجز لکانت سنّة الله تعالی فی تدبیر الخلقة بتوسّط الملائکة عجز فی الساحة الإلهیة والعیاذ بالله -، لا سیّما وأن القرآن الکریم یسند جملة

ص:479

أفعال الخلقة وعظائم الأفعال إلی الملائکة.

الجواب الثالث: وهو عبارة عن الشواهد والطوائف القرآنیة الدالّة علی وقوع التخلیق من الله تعالی عبر الوسائط من ملائکة ورسل وغیر ذلک، وأن نظام الخلقة علی نحوین: إبداعیّ وتخلیقیّ، کما قال عزّ وجلّ: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ)1 .

وإلیک بعض تلک الطوائف:

الطائفة الأولی: آیات الإماتة وتوفّی الأنفس، وقد أسند التوفّی فیها إلی الله عزّ وجلّ وإلی الملائکة وإلی ملک الموت خاصّة:

الاسناد الأول: إسناد توفّی الأنفس إلی الملائکة.

1 - قوله تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)2 .

2 - قوله تعالی: (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)3 .

3 - قوله تعالی: (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ طَیِّبِینَ یَقُولُونَ سَلامٌ عَلَیْکُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)4 .

4 - قوله تعالی: (حَتّی إِذا جاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا یُفَرِّطُونَ)5 .

ص:480

5 - قوله تعالی: (حَتّی إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا یَتَوَفَّوْنَهُمْ)1 .

6 - قوله تعالی: (لَوْ تَری إِذْ یَتَوَفَّی الَّذِینَ کَفَرُوا الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِیقِ)2 .

7 - قوله تعالی: (فَکَیْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ)3 .

8 - قوله تعالی: (وَ لَوْ تَری إِذِ الظّالِمُونَ فِی غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِکَةُ باسِطُوا أَیْدِیهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْیَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما کُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَی اللّهِ غَیْرَ الْحَقِّ وَ کُنْتُمْ عَنْ آیاتِهِ تَسْتَکْبِرُونَ)4 .

وغیر ذلک من الآیات المبارکة التی نلاحظ فی مجموعها أن الله سبحانه وتعالی قد نسب وأسند وفاة الأنفس إلی الملائکة من باب التوسیط، مع أن الممیت من أسماء الله تعالی ولا منافاة فی ذلک، ولا یلزم منه العجز؛ لأن الملک بکلّ وجوده وأفعاله قائم بالله تعالی ومفتقر إلیه حدوثاً وبقاءً.

وفی الآیات الثلاثة الأخیرة یسند الله عزّ وجلّ العذاب إلی الملائکة وفی الوقت ذاته ینسب الله عزّ وجلّ العذاب والتعذیب إلی نفسه ولا منافاة فی ذلک لما تقدم.

الاسناد الثانی: وهی الآیات التی یسند الله عزّ وجلّ فیها التوفّی إلیه مباشرة:

ص:481

1 - قوله تعالی: (اللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها وَ الَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنامِها)1 .

2 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ بِاللَّیْلِ وَ یَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)2 .

3 - قوله تعالی: (وَ اللّهُ خَلَقَکُمْ ثُمَّ یَتَوَفّاکُمْ)3 .

4 - قوله تعالی: (قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنْ کُنْتُمْ فِی شَکٍّ مِنْ دِینِی فَلا أَعْبُدُ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لکِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ)4 .

وکما أسلفنا لا تنافی بین الاسناد الأول والثانی وکذلک الثالث الآتی، وکلّ منها اسناد حقیقی، لأن الملائکة لا حول لهم ولا قوة إلّابالله تعالی.

ویدلّ علی هذه الطولیة فی الاسناد السیاق الواحد فی آیتی سورة النحل المتقدّمتین، حیث أسند فی أحدهما التوفّی إلی الله تعالی وفی الأخری إلی الملائکة.

الاسناد الثالث: إسناد التوفّی إلی ملک الموت:

قوله تعالی: (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ)5 .

فإسناد الإماتة إلی ملک الموت والرسل فی وقت واحد یعنی أن بقیّة

ص:482

الملائکة أعوان لملک الموت، تحت هیمنته وقدرته، کما جاء ذلک فی روایات الفریقین.

والحاصل: أن برنامج الإماتة لکلّ ذی روح تحت تدبیر وإدارة

ملک الموت، وهو یدیر ذلک البرنامج التکوینی عن طریق رسله وأعوانه الذین هم تحت إمرته وسلطانه وقدرته، وهو فی الوقت ذاته تحت سلطان الله عزّ وجلّ وقدرته، وافتقاره، واحتیاجه إلی الله عزّ وجلّ حدوثاً وبقاءً أشدّ من احتیاج الملائکة من أعوانه إلیه بما لا یقاس.

ومن هذا البیان یتّضح أن إسناد فعل إلی الملائکة لا یعنی عدم إسناده إلی الباری تعالی، وهکذا إسناد فعل إلی الملائکة لا یعنی عدم إسناده إلی ذات أخری شریفة تهیمن علی الملائکة، وتکون الملائکة رسلًا وأعواناً لها وتحت سلطانها، کملک الموت الذی یدبّر الملائکة بإقدار الله تعالی وتدبیره، ووراء ملک الموت مخلوقات أخری أشرف منه تدبّره وتدیر شؤون عالم الإمکان بإذن الله تعالی وهم خلفاء الله تعالی.

الطائفة الثانیة: وهی الآیات التی صرحت بإیکال بعض الأفعال والأمور التدبیریّة إلی بعض المخلوقات.

1 - قال تعالی: (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ)1 .

2 - وقال عزّ وجلّ: (فَإِنْ یَکْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَکَّلْنا بِها قَوْماً لَیْسُوا بِها)

ص:483

(بِکافِرِینَ)1 .

وهذا التوکیل المذکور فی الآیتین الکریمتین لیس علی نسق إیکال مخلوق إلی مخلوق آخر؛ لأنه فی باب الوکالات الاعتباریة والقانونیة هناک نوع من الاستقلال للوکیل عن الموکّل فی الفعل، وفیه نوع من أنواع التفویض العزلی وإن لم یکن تفویضاً واستقلالًا وانعزالًا تاماً؛ لإمکان عزله فی کلّ آن آن، وأما فی توکیل الله تعالی بعض المخلوقات فلیس هو توکیلًا وتفویضاً عزلیاً تنحسر فیه قدرة الباری عن الفعل الموکّل فیه، لأنها وکالة افتقار وتقوّم فعل الوکیل بالموکّل، فالله تعالی أقدر بعض مخلوقاته وأوکل لهم بعض الأمور بلا انعزال عمّا وکّلهم فیه، بل هو تعالی فیما أقدرهم علیه أقدر بما لا یتناهی من القدرة، لأن وجودهم فضلًا عن فعلهم متقوّم بذات الباری تعالی حدوثاً وبقاءً، وهو الحیّ القیّوم الذی به قامت السماوات والأرض.

ثم إن التوکیل الذی ورد فی سورة الأنعام توکیل لدنّی لجماعة من الانس، وهذه من التعابیر القرآنیة الدالّة علی وجود الارتباط اللّدنی بین الله تعالی ومجموعة من البشر، لم یکفروا بالله عزّ وجلّ طرفة عین.

الطائفة الثالثة: وهی الدالّة علی توسیط بعض المخلوقات فی الخلق:

1 - قوله تعالی: (الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ)2 ، فإخراج الثمرات لیس إبداعیّ بل توسیطیّ، فالباری تعالی یُخرج بواسطة الماء الثمرات، والخالق هو

ص:484

الله تعالی ولیس الماء إلّاوسیطاً فی جریان الفیض الإلهی.

2 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ کُلِّ شَیْ ءٍ)1 .

3 - قوله تعالی: (وَ اللّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَسْمَعُونَ)2 .

4 - قوله تعالی: (وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِیها مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ)3 .

وقد قرّر الحکماء وجود حیاة نباتیة، کما أکّدت ذلک العلوم المادّیة، وهذه الحیاة والإحیاء یحصل بواسطة الماء ولو إعداداً، فکیف یستعظم ذلک علی من هو أشرف من الماء وأعظم عند الله تعالی؟!

5 - قوله تعالی: (وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ)4 .

فالطهارة التی هی أمر معنوی ونوری یحصل من الله تعالی بواسطة الماء؛ لأنها لیست من الأفعال الإبداعیة بل التخلیقیة.

6 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیّامٍ)

ص:485

(وَ کانَ عَرْشُهُ عَلَی الْماءِ لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)1 .

والعرش هو القدرة الإلهیة، فقدرته تعالی علی الماء، والماء واسطة فی فیض القدرة، علی الاختلاف فی المراد من الماء فی الآیة الکریمة.

فالقوابل محدودة ونشأة الماء هی الواسطة فی تقبّل الفیوضات الإلهیة.

7 - قوله تعالی: (وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ أَ فَلا یُؤْمِنُونَ)2 .

8 - قوله تعالی: (وَ اللّهُ خَلَقَ کُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)3 .

9 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً)4 .

10 - قوله تعالی: (یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)5 .

فالروح الذی هو خلق أعظم من الملائکة سبب وواسطة إلهیة لنزول الملائکة وعروجها.

الطائفة الرابعة: إسناد الخلق والتخلیق إلی بعض المخلوقات:

1 - قوله تعالی: (أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَیْدِینا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِکُونَ)6 .

ص:486

فأُسند الخلق إلی الأیدی الإلهیة وهی القدرة، إذ لا شک أن الله تعالی لا ید جسمانیة له، فیده قدرته وتصرّفه المخلوق له الخارج عن الذات المقدّسة، وهذه الید المخلوقة تعمل وتخلق الأنعام بالمباشرة.

2 - قوله تعالی: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی * اَلَّذِی خَلَقَ فَسَوّی)1 .

فالتسبیح فی هذه الآیة الکریمة أسند إلی الإسم، و(الَّذِی) وصف للمضاف إلی الربّ وهو الاسم، فالإسم هو الذی خلق فسوّی وقدّر فهدی، والإسم غیر المسمّی قائم به ومخلوق من مخلوقاته، کما جاء ذلک فی سورة الرحمن فی قوله تعالی: (وَ یَبْقی وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِکْرامِ)2 ، فالجلال والإکرام وصف لوجه الربّ لا لنفس الربّ، وهو مخلوق من المخلوقات وآیة یتوجّه بها إلی الله عزّ وجلّ، والشاهد علی المغایرة ما جاء فی آخر سورة الرحمن، حیث جعل وصف الجلال والإکرام صفة للربّ لا للوجه، حیث قال تعالی: (تَبارَکَ اسْمُ رَبِّکَ ذِی الْجَلالِ وَ الْإِکْرامِ)3 ، ولیس المراد من الاسم والوجه فی الآیة المبارکة جزء الذات الجسمانی، کما توهّم ذلک المجسّمة والحشویة، تعالی الله عن ذلک علواً کبیراً، بل المراد منه الآیة الکبری الدالّة علی عظمة الله عزّ وجلّ والقائمة الوجود به، وقد أطلق علی البیت الحرام والکعبة أنهما وجه الله تعالی الذی یتوجّه به إلیه، کما فی قوله عزّ وجلّ: (وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ) وقال تعالی أیضاً: (فَأَیْنَما تُوَلُّوا)

ص:487

(فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) مما یدلّل علی أن البیت الحرام أحد الوجوه والآیات الکبری التی یتوجّه إلی الله عزّ وجلّ بها، وکذلک الأنبیاء، حیث أطلق علی موسی وعیسی علیهما السلام أنهما وجیهین عند الله تعالی، کما تقدّم أنهما کلمات الله وأسمائه.

3 - قوله تعالی: (وَ رَسُولاً إِلی بَنِی إِسْرائِیلَ أَنِّی قَدْ جِئْتُکُمْ بِآیَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَکْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْیِ الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُکُمْ بِما تَأْکُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ)1 .

4 - قوله تعالی: (وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِیعاً أَ فَلَمْ یَیْأَسِ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ لَوْ یَشاءُ اللّهُ لَهَدَی النّاسَ جَمِیعاً)2 ، فهنا أسند تسییر الجبال وتقطیع الأرض وتکلیم الموتی أی إحیائهم إلی القرآن الکریم.

الطائفة الخامسة: وهی التی عُبّر فیها بالمُلک، وأن الله تعالی أملک کثیراً من الأمور لمخلوقاته الشریفة من دون أن یکون هذا التملیک عزلی تفویضی، بل کلّما تلقی المخلوق من باریه فیضاً أکثر ومرتبة أعلی وأشرف فی الوجود کلّما کان أکثر فقراً إلی الله عزّ وجلّ من غیره، ومن ثم کان الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله أعبد الخلائق إلی الله تعالی، لأنه أکثرهم فقراً إلی الله عزّ وجلّ، کما أثر ذلک عنه صلی الله علیه و آله حیث کان یقول: (الفقر فخری)، وإلیک بعض تلک الآیات فی المقام:

ص:488

1 - قوله تعالی: (أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً)1 .

والملک العظیم الذی أعطی لآل إبراهیم هو الإمامة، ولم یُعبّر عن غیر الإمامة بالملک العظیم.

2 - قوله تعالی: (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ هَبْ لِی مُلْکاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی)2 .

3 - قوله تعالی: (وَ إِذا رَأَیْتَ ثَمَّ رَأَیْتَ نَعِیماً وَ مُلْکاً کَبِیراً)3 .

4 - (وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ)4 .

5 - (وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طالُوتَ مَلِکاً)5 .

6 - (قُلِ اللّهُمَّ مالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِیَدِکَ الْخَیْرُ إِنَّکَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ)6 .

والملک فی هذه الآیة لیس خاصّاً بالملک الأرضی، بل هو عامّ شامل لمطلق النشآت.

ص:489

7 - (وَ نادَوْا یا مالِکُ لِیَقْضِ عَلَیْنا رَبُّکَ)1 ، فوصف الله عزّ وجلّ خازن النیران الملک الموکّل بالنار بمالک؛ لأنه ملّکه القدرة علی تدبیر النیران.

8 - (وَ الْمَلَکُ عَلی أَرْجائِها وَ یَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّکَ فَوْقَهُمْ یَوْمَئِذٍ ثَمانِیَةٌ)2 ، والعرش هو مقام القدرة والله تعالی أقدر أربعة من الأوّلین وأربعة من الآخرین علی حمله بلا تفویض.

9 - قوله تعالی: (وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِیلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمَلائِکَةُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهِیرٌ)3 .

10 - قوله تعالی: (إِذْ تَسْتَغِیثُونَ رَبَّکُمْ فَاسْتَجابَ لَکُمْ أَنِّی مُمِدُّکُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُرْدِفِینَ)4 .

11 - (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِینَ أَ لَنْ یَکْفِیَکُمْ أَنْ یُمِدَّکُمْ رَبُّکُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُنْزَلِینَ)5 .

12 - (یُمْدِدْکُمْ رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُسَوِّمِینَ)6 .

الطائفة السادسة: ما ذکر فیها نسبة الإهلاک إلی نفسه تعالی وإلی بعض مخلوقاته.

ص:490

1 - قوله تعالی: (وَ لَقَدْ أَهْلَکْنا ما حَوْلَکُمْ مِنَ الْقُری وَ صَرَّفْنَا الْآیاتِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ)1 .

2 - (فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِکُوا بِالطّاغِیَةِ)2 .

3 - (وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِکُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عاتِیَةٍ)3 .

4 - (وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِیمَ بِالْبُشْری قالُوا إِنّا مُهْلِکُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْیَةِ)4 .

5 - (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَیْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّیْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا)5 .

الطائفة السابعة: إسناد تدبیر بعض المخلوقات عن طریق الریاح:

1 - قوله تعالی: (وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ)6 .

2 - (اللّهُ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)7 .

3 - (وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ)8 .

4 - (وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ)9 .

ص:491

5 - (وَ اللّهُ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)1 .

والحاصل: إنّ نظام الخلقة فی السنّة الإلهیّة نظام الأسباب والمسبّبات، کما نصّ علی ذلک متواتر آیات القرآن الکریم، وما ورد من روایات الفریقین

«أبی الله أن یجری الأمور إلّابأسبابها»، وذلک لأن الأمور ذواتها متقوّمة بالأسباب فی هویتها، فهم یجهلون نظام الخلقة والمخلوقات.

خاتمة فی:

أ - الروایات الواردة فی مشروعیة التوسّل والتشفّع والتبرّک:

الروایات فی هذا المجال کثیرة جدّاً، نشیر إلی بعض ما ورد منها فی الکتب السنّیة:

1 - ما أخرجه البخاری فی صحیحه عن الجعید بن عبد الرحمن قال:

(سمعت السائب بن یزید قال: ذهبت بی خالتی إلی رسول الله صلی الله علیه و آله، فقالت: یارسول الله إن ابن أختی وجع، فمسح رأسی ودعا لی بالبرکة وتوضّأ فشربت من وضوئه) (1).

2 - کذلک روی البخاری فی صحیحه عن عون بن أبی جحیفة عن أبیه قال: (رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله فی قبّة حمراء من أدم، ورأیت بلالًا أخذ وضوء رسول الله صلی الله علیه و آله ورأیت الناس یتبدّرون ذاک الوضوء، فمن أصاب منه شیئاً

ص:492


1- (2) صحیح البخاری: ج 4 کتاب المناقب، باب صفة النبی صلی الله علیه و آله ص 163.

تمسّح به، ومن لم یصب منه شیئاً أخذ من بلل ید صاحبه) (1).

3 - وأخرج مسلم فی صحیحه عن أنس قال: (لقد رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله والحلّاق یحلقه وأطاف به أصحابه، فما یریدون أن تقع شعرة إلّافی ید رجل)(2).

قال النووی فی شرحه لصحیح مسلم تعلیقاً علی مثل هذه الروایات: (وفی هذه الأحادیث بیان بروزه صلی الله علیه و آله للناس وقربه منهم... وإجابته من سأله حاجة أو تبریکاً بمسّ یده وإدخالها فی الماء کما ذکروا، وفیه التبرّک بآثار الصالحین وبیان ما کانت الصحابة علیه من التبرّک بآثاره صلی الله علیه و آله وتبرّکهم بإدخال یده الکریمة فی الآیة وتبرّکهم بشعره الکریم وإکرامهم إیاه أن یقع شیء منه إلّافی ید رجل سبق إلیه)(3).

إذن هذه الشواهد وغیرها کاشفة عن أن سیرة المسلمین منذ الصدر الأول کانت قائمة علی التبرّک بما یتصل بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، من دون ردع ونهی، وهذا دالّ علی مشروعیة ما کان یأتی به الصحابة، وقلنا أن التبرّک یجتمع مع التوسّل والاستغاثة فی ماهیة واحدة وهی التوسیط، فالتبرّک طلب البرکة ونوع توسّل واستشفاع بما یرتبط بالأولیاء والأوصیاء والحجج من أشیاء.

4 - وفی الجامع الصغیر للسیوطی: (غبار المدینة شفاء من الجذام)(4) ،

ص:493


1- (1) صحیح البخاری: ج 1 کتاب الصلاة، باب الصلاة فی الثوب الأحمر ص 92.
2- (2) صحیح مسلم: ج 7 ص 79.
3- (3) شرح مسلم: ج 15 ص 82.
4- (4) الجامع الصغیر: ج 2 ص 197.

وقال المناوی فی فیض القدیر بعد نقل مثل هذه الروایات: (قال السمهودی: قد شاهدنا من استشفی به منه وکان قد أضرّ به فنفعه جدّاً)(1).

5 - أخرج الحاکم فی المستدرک عن عثمان بن حنیف أن رجلًا ضریر البصر أتی النبیّ صلی الله علیه و آله فقال: یارسول الله علّمنی دعاءً أدعو به یردّ الله علیّ بصری، فقال له: قل:

«اللّهم إنی أسألک وأتوجّه إلیک بنبیک نبیّ الرحمة، یامحمّد إنی قد توجّهت بک إلی ربّی، اللّهم شفّعه فیّ وشفّعنی فی نفسی».

فدعا بهذا الدعاء، فقام وقد أبصر(2).

6 - روی البیهقی فی خبر صحیح إنه فی أیام عمر جاء رجل إلی قبر النبیّ صلی الله علیه و آله فقال: یامحمّد استسق لأمتک، فسقوا(3).

7 - أخرج النسائی عن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول:

«إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما یقول، وصلّوا علیّ، فإنه من صلّی علیّ صلاة صلّی الله علیه عشراً، ثم سلوا الله لی الوسیلة، فإنها منزلة فی الجنّة لا تنبغی إلّا لعبد من عباد الله، أرجو أن أکون أنا هو، فمن سأل لی الوسیلة حلّت له الشفاعة» (4).

8 - روی مسلم عن عائشة عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «ما من میّت تصلّی علیه

ص:494


1- (1) فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: ج 4 ص 526.
2- (2) المستدرک: ج 1 ص 526.
3- (3) سنن البیهقی: ج 3 ص 326.
4- (4) سنن النسائی: ج 2 ص 26.

أمة من المسلمین یبلغون مئة کلّهم یشفعون له إلّاشفّعوا فیه» (1).

9 - روی مسلم أیضاً عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «ما من رجل مسلم یموت فیقوم علی جنازته أربعون رجلًا، لا یشرکون بالله شیئاً إلّاشفّعهم الله فیه»(2).

. 10 - ما أخرجه الطبرانی وغیره عن أبی سعید الخدری، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «إذا خرج الرجل من بیته إلی الصلاة فقال: اللّهم إنی أسألک بحقّ السائلین علیک وبحقّ ممشای، فإنی لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ریاء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطک وابتغاء مرضاتک، أسألک أن تنقذنی من النار وأن تغفر لی ذنوبی، إنه لا یغفر الذنوب إلّاأنت، وکّل الله عزّ وجلّ به سبعین ألف ملک یستغفرون له، وأقبل الله تعالی علیه بوجهه حتی یقضی صلاته»(3)).

11 - کذلک ما أخرجه الطبرانی عن ابن عباس عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«من سرّه أن یوعیه الله عزّ وجلّ حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم، فلیکتب هذا الدعاء فی إناء نظیف، أو فی صحفة قواریر بعسل وزعفران وماء مطر ویشربه علی الریق، ولیصم ثلاثة أیام، ولیکن إفطاره علیه، فإنه یحفظها إن شاء الله عزّ وجلّ، ویدعو به فی أدبار صلواته المکتوبة:

اللّهمّ إنی أسألک بأنک مسؤول لم یُسأل مثلک ولا یُسأل، أسألک بحقّ محمّد رسولک ونبیّک وإبراهیم خلیلک وصفیّک وموسی کلیمک ونجیّک وعیسی کلمتک وروحک، وأسألک بصحف إبراهیم وتوراة موسی وزبور

ص:495


1- (1) صحیح مسلم: ج 3 ص 53.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) کتاب الدعاء/ الطبرانی: ص 145، مسند أحمد: ج 3 ص 21.

داود وإنجیل عیسی وفرقان محمّد صلی الله علیه و آله، وأسألک بکلّ وحی أوحیته وبکلّ حقّ قضیته وبکلّ سائل أعطیته، وأسألک بأسمائک التی دعاک بها أنبیاؤک فاستجیب لهم، وأسألک باسمک المخزون المکنون الطهر الطاهر المطهّر المبارک المقدّس الحیّ القیّوم ذی الجلال والاکرام، وأسألک باسمک الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذی ملأ الأرکان کلّها، وأسألک باسمک الذی وضعته علی السماوات فقامت، وأسألک باسمک الذی وضعته علی الأرضین فاستقرّت، وأسألک باسمک الذی وضعته علی الجبال فرست، وأسألک باسمک الذی وضعته علی اللیل فأظلم، وأسألک باسمک الذی وضعته علی النهار فاستنار، وأسألک باسمک الذی یحیی به العظام وهی رمیم، وأسألک بکتابک المنزل بالحقّ ونورک التام، أن ترزقنی حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم وتثبّتها فی قلبی، وأن تستعمل بها بدنی فی لیلی ونهاری أبداً ما أبقیتنی یاأرحم الراحمین) (1).

12 - أخرج الهیثمی فی مجمع الزوائد عن العباس عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنه قال:

«قال داود: أسألک بحقّ آبائی إبراهیم وإسحاق ویعقوب» (2).

13 - روی جمال الدین الزرندی الحنفی عن جعفر بن محمّد عن أبیه عن جدّه عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنه قال: «إذا هالک أمر فقل: اللّهم صلِّ علی محمّد وآل محمّد اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد أن تکفینی شرّ ما أخاف

ص:496


1- (1) کتاب الدعاء/ الطبرانی: ص 398.
2- (2) مجمع الزوائد: ج 8 ص 202.

وأحذر، فإنک تکفی ذلک الأمر» (1).

14 - أخرج الحاکم الحسکانی عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لما نزلت الخطیئة بآدم وأُخرج من جوار ربّ العالمین، أتاه جبرئیل فقال: یاآدم ادع ربّک، قال: یاحبیبی جبرئیل وبما أدعوه؟ قال: قل: یاربّ أسألک بحقّ الخمسة الذین تخرجهم من صلبی آخر الزمان إلّاتبت علیّ ورحمتنی، فقال: حبیبی جبرئیل سمّهم لی، قال: محمّد النبیّ وعلیّ الوصیّ وفاطمة بنت النبیّ والحسن والحسین سبطیّ النبیّ، فدعا بهم آدم فتاب الله علیه، وذلک قوله: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ) وما من عبد یدعو بها إلّااستجاب الله له» (2).

15 - وأخرج الحاکم النیسابوری فی المستدرک عن ابن عباس قال: «أوحی الله إلی عیسی علیه السلام یا عیسی آمن بمحمد وأمر من أدرکه من أمتک أن یؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش علی الماء فاضطرب فکتبت علیه لا إله إلّاالله محمد رسول الله فسکن».

قال الحاکم: هذا حدیث صحیح الاسناد ولم یخرجاه(3).

وقد تقدّمت هذه الروایة عن السیوطی فی الدرّ المنثور وغیره بألفاظ أخری فراجع، وقد جاء فیها أن سبب جعل تلک الکلمات واسطة ووسیلة

ص:497


1- (1) نظم درر السمطین: ص 49.
2- (2) شواهد التنزیل: ج 1 ص 102.
3- (3) المستدرک: ج 2 ص 615.

هو حفاوتهم وکونهم أحبّ الخلق لله عزّ وجلّ، کما تقدّم فی قول إبراهیم علیه السلام(إِنَّهُ کانَ بِی حَفِیًّا) .

ب - آراء أعلام السنّة فی التوسّل:

1 - قول مالک للمنصور العباسی الدوانیقی عندما سأله قائلًا: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلی الله علیه و آله؟: (ولِمَ تصرف وجهک عنه وهو وسیلتک ووسیلة أبیک آدم علیه السلام إلی الله تعالی یوم القیامة؟ بل استقبله واستشفع به)(1)).

2 - قال أبو بکر تقی الدین الحصنی الدمشقی الشافعی: (ومن أنکر التوسّل به والتشفّع به بعد موته وأن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادی علی نفسه أنه أسوأ حالًا من الیهود، الذین یتوسلون به قبل بروزه إلی الوجود، وأن فی قلبه نزغة هی أخبث النزغات)(2).

3 - قال الحافظ تقیّ الدین السُبکی: (ولم یزل أهل العلم ینهون العوام عن البدع فی کلّ شؤونهم ویرشدونهم إلی السنّة فی الزیارة وغیرها إذا صدرت منهم بدعة فی شیء، ولم یعدّوهم فی یوم من الأیام مشرکین بسبب الزیارة أو التوسّل، کیف وقد أنقذهم الله من الشرک وأدخل فی قلوبهم الإیمان، وأول من رماهم بالإشراک بتلک الوسیلة هو ابن تیمیة وجری خلفه من أراد استباحة أموال المسلمین ودمائهم لحاجة فی النفس)(3).

4 - ما نقله المناوی فی فیض القدیر عن السُبکی مرتضیاً له، حیث قال:

ص:498


1- (1) الشفا بتعریف حقوق المصطفی/ القاضی عیاض: ج 2 ص 41.
2- (2) دفع الشبه عن الرسول والرسالة: ص 137.
3- (3) السیف الصقیل: ص 179.

(قال السبکی: ویحسن التوسّل والاستعانة والتشفّع بالنبیّ صلی الله علیه و آله إلی ربّه، ولم ینکر ذلک أحد من السلف ولا من الخلف، حتی جاء ابن تیمیة فأنکر ذلک وعدل عن الصراط المستقیم، وابتدع ما لم یقله عالم قبله، وصار بین أهل الإسلام مثله) (1).

وهذه العبارة عن السُبکی وسابقتها تکشف عن اجماع الطوائف السنّیة علی مشروعیة التوسّل، ولم ینکر ذلک إلّاابن تیمیة ومن جاء بعده.

5 - قال السمهودی فی وفاء الوفا نقلًا عن کتاب العلل والسؤلات لعبدالله بن أحمد بن حنبل: (قال عبدالله: سألت أبی عن الرجل یمسّ منبر رسول الله صلی الله علیه و آله ویتبرک بمسّه ویقبّله ویفعل بالقبر مثل ذلک رجاء ثواب الله تعالی؟ قال: لا بأس به)(2).

6 - کذلک عن إسماعیل بن یعقوب التیمی، قال: (کان ابن المنکدر یجلس مع أصحابه وکان یصیبه الصمات، فکان یقوم کما هو ویضع خدّه علی قبر النبیّ صلی الله علیه و آله ثم یرجع، فعوتب فی ذلک، فقال: إنه لیصیبنی خطرة، فإذا وجدت ذلک استشفیت بقبر النبیّ صلی الله علیه و آله)(3).

نکتفی بهذا المقدار من الأقوال.

ص:499


1- (1) فیض القدیر: ج 2 ص 169.
2- (2) وفاء الوفا: ج 2 ص 443، کذلک فی سبل الهدی والرشاد/ الصالحی الشامی: ج 12 ص 398.
3- (3) وفاء الوفا: ج 2 ص 444.
خلاصة البحث:

1 - إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّک والتشفّی وطلب قضاء الحاجات کلّها عناوین لطبیعة واحدة، وهی ضرورة الواسطة بین العبد وربّه.

2 - إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّک بأسماء وآیات وکلمات الله وبأمر منه تعالی هو خالص التوحید ولیس شرکاً ولا کفراً، بل عدم الانصیاع لأمره تعالی بالتوجّه والتوسّل والتشفع بها لطلب القرب والزلفی إلیه تعالی هو کفر واستکبار لأنه خروج علی أمره تعالی.

3 - الذوبان وتمام الانصیاع للوسائط والوسائل لطلب الزلفی إلی الله تعالی هو عبادة لله لا للوسائط أو الوسائل لأنه ذوبان وانصیاع فی تفضیل أمر الله تعالی وهو معنی العبادة.

4 - أن التوسّل شرط شرعی فی قبول التوبة وسائر العبادات ونیل المقامات.

5 - أن التوسّل ضرورة عقلیة وتاریخیة وأدیانیة وقرآنیة وروائیة.

6 - أن الوسائط المرفوضة فی القرآن الکریم هی الوسائط المقترحة من قبل العبید دون الوسائط المنصوبة من الله عزّ وجلّ.

7 - أن من الأسباب المهمّة فی إنکار التوسّل القول بالتجسیم أو نبوءة العقل.

8 - أن الاعراض عن الآیات الإلهیة وترک التوسّل بها موجب لحبط الأعمال والخسران فی الدنیا والآخرة.

9 - لا فرق بین التوسّل والشفاعة إلّاباللحاظ.

ص:500

10 - إن التوسّل والاستغاثة والتبرّک والاستشفاء من وادٍ واحد، وهی مصادیق متعدّدة لماهیة واحدة.

11 - إنّ التوسّل توحید الله الأعظم، وهو أبلغ أنواع التعظیم والخضوع لله تعالی.

12 - إنّ جعل شیء وسیلة یتضمّن فی طیّات معناه عدم التألیه وأنّه واسطة لغیره وغیره هو الغایة، وأنما المشرکون أشرکوا لأنهم اقترحوا الوسیلة إلی الله تعالی من ملء إرادتهم وتحکیمها علی إرادة الله، فجعلوا لأنفسهم صلاحیات الألوهیة.

13 - إن الله تعالی غایة الغایات ولیس وسیلة کی یتوسّل به مباشرة، فمن یجعل الله وسیلة لغایة غیره یکون مشرکاً.

14 - إنّ التوسّل بالوسیلة هو حقیقة معتقد الشهادة الثانیة والثالثة وحقیقة النبوّة والرسالة والولایة.

15 - إنّ التوسّل من أعظم أبواب العبادات والقربات إلی الله تعالی.

ص:501

ص:502

فهرس الموضوعات

هویة الکتاب 3

المقدمة 5

القاعدة الاولی: لا یطل أو (لا یبطل) دم امرئ مسلم 11

محل القاعدة: 11

تحریر المسالة: 11

القاعدة الثانیة: فی هدر دم من هتک أو اعتدی 17

القاعدة الثالثة: قاعدة فی اللوث والتهمة 33

بعض کلمات الاصحاب والقانونیین: 33

ضابطة موضوعیة للوث: 34

آثار اللوث: 34

درجات اللوث: 35

فائدة فی حقیقة الیمین فی القضاء بالقسامة: 35

شواهد القاعدة: 36

تنظیر لهذا الحکم: 40

فوائد اللوث والتهمة: 43

القاعدة الرابعة: فی جواز التحری والفحص 47

فائدة جانبیة: 51

القاعدة الخامسة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین 67

فائدة رجالیة: 70

القاعدة السادسة: قاعدة فی باب الجنایات 75

القاعدة السابعة: قاعدة باب الجنایات 81

ص:503

شبهة معارضة ودفعها: 83

القاعدة الثامنة: فی تقدیم حق جنایة العضو 87

القاعدة التاسعة: هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا 93

عبارات الاعلام فی المسالة: 93

الاشکال علی القاعدة ودفعه: 98

القاعدة العاشرة: قاعدة فی القصاص العرفی 103

القاعدة الحادیة عشر: قاعة المثلیة فی الأطراف والأعضاء 107

القاعدة الثانیة عشرة: قاعدة فی سقوط القصاص 115

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة فی غایة القصاص 129

القاعدة الرابعة عشرة: فی قصاص الأطراف 135

تطبیق وشرح للقاعدة: 137

القاعدة الخامسة عشرة: قاعدة فی تبعیض القصاص 143

ضابطتان فی التبعیض: 145

فروع فی التبعیض: 145

التبعیض فی الجرحات: 146

القاعدة السادسة عشرة: إن الدیة فی طول القصاص 151

القاعدة السابعة عشرة: فی إجزاء الاضطراری بعض الوقت 157

القاعدة الثامنة عشرة: التوسل عبادة توحیدیة 163

توطئة: 163

تقدیم: 165

شبهة و إثارة: 176

أدلة القائلین بعدم جواز التوسل بغیر الله تعالی: 176

معنی الإله فی اللغة: 178

وجه ان من الوسائط ما هو مأمور بها من قبل الله عزّ و جل: 181

مفهوم العبادة: 185

قصة آدم علیه السلام مع إبلیس: 186

نفی الوسائط یؤول الی التجسیم: 188

الرد علی أدلة المانعین من التوسل: 191

ص:504

ملامح من التوسل فی الشعائر العبادیة: 198

موارد أخری فی التوسل: 201

موارد عقلیة علی التوسّل: 209

خاتمة فی التوسل: 210

الوسائط مظهر قدرة البارئ: 210

القاعدة التاسعة عشرة: فی الفقه الاجتماعی والسیاسی 223

خطّة البحث: 227

تمهید: 228

النظم القرآنیّة فی نبذ الفرقة والتنازع: 228

الفصل الأول: نظام الوحدة 229

تعریف الوحدة: 229

أقسام الوحدة: 229

دلیل مانعی البحث فی التاریخ الإسلامی: 236

الجواب علی دلیل المانعین: 237

تداعیات وسلبیّات القول بالمنع: 238

ما یوجب الخروج عن الإسلام: 249

الفروق الرئیسیّة بین السیرة فی صدر الإسلام 254

وبین سیرة بنی امیّة: 254

الفارق الأوّل: فی طریق إقامة الحکم: 254

الفارق الثانی: منهج النقد والرقابة للحاکم والحکم: 255

الفارق الثالث: مشروعیّة طاعة السلطان الجائر: 256

الفارق الرابع: الموالاة للمسلمین دون الکافرین: 259

الفارق الخامس: استباحة المحرّمات: 262

القاعدة الخامسة: ضرورة تنقیح مصادر التراث الإسلامی: 269

اسس نظام الوحدة الاسلامیة وضماناتها: 272

الأوّل: ضمان الوحدة: 273

الثانی: العدالة والعدل: 274

الثالث: تقدیس جمیع الأنبیاء علیهم السلام: 276

ص:505

الرابع: إنّ الوحدة لا تتمّ إلا بالمحبّة والمودّة: 277

الفصل الثانی: فی نظام التقریب والحوار والاتحاد 281

أصالة حقن الدم الإنسانی: 287

هل الحوار یقاطع الوحدة؟ 288

أهداف التقریب: 291

أهمّ القواعد فی نظام التقریب: 293

معالجة إلتباس: 296

القاعدة الخامسة: فی النظام السیاسیّ والمواطَنة: 304

حدیث الفرقة الناجیة والتعایش السلمیّ بین المسلمین: 310

الفصل الثالث: نظام التنسیق والتوافقات الوقتیة 315

غایات نظام التنسیق والانسجام والتوافق: 315

امتیاز نظام التنسیق عن نظام الوحدة ونظام التقریب: 315

علاقة نظام التنسیق مع نظام الوحدة والتقریب: 316

نظام التنسیق یمثّل الحدّ الأدنی للوحدة: 316

بعض ممارسات حکّام المسلمین سبب للفرقة: 319

قاعدة فی بیان حقیقة المذهبیّة العقائدیّة والفقهیّة: 320

حقیقة المذهبیّة العقائدیّة عند المسلمین: 321

میزان المذهبیّة العقائدیّة: 322

حقیقة وموقعیّة عملیّة التأصیل العقائدیّ من الدین: 323

الدلیل الأوّل: بیان ثوابت الدین: 324

الدلیل الثالث: القیام بدور التفصیل فی القواعد الاعتقادیّة: 327

حقیقة المذهبیّة الفقهیّة: 328

السبب فی سدّ باب الاجتهاد لدی أهل السنّة: 328

إجابات لا تخلو من تأمّل: 330

فتح باب الاجتهاد لدی مذهب الإمامیّة: 330

موقعیّة عملیّة استنباط أئمّة المذاهب الأربعة من الدین: 330

الاستدلال القانونیّ علی ضرورة مرحلة الوصایة فی الدین: 332

الأدلّة علی ضرورة عصمة الوصیّ فی الدین: 334

ص:506

القاعدة العشرون: قاعدة فی شرطیة الولایة فی صحة التوبة 339

الدلیل الأول: معطیات الشهادة الثانیة: 340

الدلیل الثانی: التوسّل ضرورة عقلیة: 342

بیان الملازمة: 343

التوسّل فی کل النشآت ولأصناف المخلوقات: 345

الدلیل الثالث: عموم طاعة الله ورسوله وأولی الأمر: 346

فذلکة صناعیة لأخذ التوسّل فی نیة القربة: 349

الدلیل الرابع: إقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته: 356

بأعظم العبادات: 356

الدلیل الخامس: ابتغاء الوسیلة ضرورة قرآنیة: 367

قرب الله وقرب العبد: 369

الوسیلة معنی الشفاعة: 372

ترامی الوسائل وتعاقبها: 373

الدلیل السادس: شرطیة الاستجارة بالنبیّ صلی الله علیه و آله 374

فی طلب المغفرة: 374

الدلیل السابع: التوسّل بالرسول صلی الله علیه و آله میثاق الأنبیاء: 385

الأنبیاء علی دین النبی الأکرم صلی الله علیه و آله: 385

أهل البیت علیهم السلام شرکاء النبیّ صلی الله علیه و آله فی المیثاق: 391

الدلیل الثامن: 410

الدلیل العاشر: خضوع الملائکة لآدم علیه السلام 415

کلّ خلیفة الله الباب الأعظم لملائکته 415

جحود التوسّل سنّة إبلیس فی الاستکبار: 418

الفصل الرابع: شبهات وردود 421

شبهات وردود: 421

شبهات المنکرین لجواز التوسّل: 423

الشبهة الأولی: التوسّل عبادة لغیر الله تعالی: 423

دفع الجوابین: جحود التوسّل یستند إلی التفویض: 426

جحود التوسّل یستند إلی المذاهب الحسیّة المادیة: 427

ص:507

تفصیل الجاحدین للتوسّل فی الوسائط: 428

الشبهة الثانیة: التوسّل خلاف کلمة التوحید: 430

الشبهة الثالثة: التوسّل مخالف للآیات القرآنیة: 434

الجواب عن الشبهة الثالثة: 437

الجواب الأول: حقیقة الأسماء الالهیة مستند للتوسّل: 438

الجواب الثانی: الکلمة والآیة: 439

الکلمات التامّات: 446

الجواب الثالث: الآیات القرآنیة: 453

ولیست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة: 455

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هی الوسیلة 456

التوسّل والوسیلة حقیقة العقیدة بالنبوّة والرسالة: 456

الجواب عن الشبهة الرابعة: 456

النقطة الأولی: ما هو المراد من الوسیلة؟ 458

النقطة الثانیة: الرابطة بین الشفاعة والتوسّل: 461

النقطة الثالثة: عموم تشریع الشفاعة: 462

الشبهة الخامسة: التوحید الإبراهیمیّ یأبی التوسّل بغیر الله: 468

الجواب عن الشبهة الخامسة: 469

الردّ الثالث: أنه ینقض علیهم بموارد: 471

الشبهة السادسة: التوسّل یعنی التفویض وعجز الله تعالی: 472

فی مقام ردّ هذه الشبهة نجیب بعدّة أجوبة: 472

الجاحدین للتوسّل بنوا جحودهم علی التفویض الأکبر: 474

الجواب عن الشبهة السابعة: 477

سبب جحود التوسّل القصور 479

فی معرفة کنه ذوات المسبّبات والأسباب: 479

الاسناد الثالث: إسناد التوفّی إلی ملک الموت: 483

خلاصة البحث: 500

فهرست إجمالی لکتاب بحوث فی القواعد الفقهیة 509

فهرس الموضوعات 503

ص:508

فهرست إجمالی لکتاب بحوث فی القواعد الفقهیة فی أجزائه الخمسة

الجزء الأول ( 18 قاعدة)، وهی:

1 - قاعدة سوق المسلمین.

2 - قاعدة التقیة.

3 - قاعدة الإمکان فی الحیض.

4 - قاعدة حرمة إهانة المقدسات.

5 - قاعدة نجاسة کل مسکر.

6 - قاعدة الأصل فی الأموال الاحتیاط.

7 - قاعدة إخبار ذی الید.

8 - قاعدة الإقرار بحق مشاع.

9 - قاعدة حق الله وحق الناس.

10 - قاعدة فی المیتة.

11 - قاعدة فی انفعال الماء القلیل.

12 - قاعدة کل کافر نجس.

13 - قاعدة الإیمان والکفر.

14 - قاعدة تکلیف الکفار بالفروع.

15 - قاعدة التبعیة.

16 - قاعدة فی عبادة الکافر والمخالف.

17 - قاعدة عموم ولایة الأرحام.

18 - قاعدة أصالة عدم التذکیة.

الجزء الثانی: ( 24 قاعدة) وهی:

19 - قاعدة (الفراش).

20 - قاعدة (یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب).

21 - قاعدة (المرأة مصدقة فی قولها علی نفسها وشؤونها).

22 - قاعدة (حرمة تلذذ غیر الزوجین).

ص:509

23 - قاعدة (فی وحدة ماهیة النکاح).

24 - قاعدة (فی تداخل العدد).

25 - قاعدة (عموم حرمة المس فی الأجنبیة).

26 - قاعدة (فی التبرج بالزینة).

27 - قاعدة (فی الفرق بین النکاح والسفاح).

28 - قاعدة (فی المال او الحق المأخوذ استمالة أو اکراها).

29 - قاعدة فی لزوم الفحص الموضوعی قبل البینة أو الیمین

30 - قاعدة: فی نظام التحکیم والصلح فی النزاعات.

31 - قاعدة (حق المرأة العشرة بالمعروف أو التسریح بإحسان).

32 - قاعدة (شرطیة الإسلام فی الولایة).

33 - قاعدة (فی عموم قاعدة ولایة الأرحام).

34 - قاعدة (فی حرمة وقوع الفتنة الشهویة).

35 - قاعدة (بطلان الإحرام ببطلان النسک).

36 - قاعدة (فی تقوّم مشروعیة التمتع بالإحرام من بُعْد).

37 - قاعدة (فی صحة النسک مع الخلل غیر العمدی فی الطواف والسعی).

38 - قاعدة (بطلان إدخال نسک فی نسک).

39 - قاعدة (لزوم الحج من قابل بفساد الحج).

40 - قاعدة (تباین أو وحدة أنواع الحج).

41 - قاعدة (دفع الأفسد بالفاسد).

42 - قاعدة (المصلحة).

الجزء الثالث ( 16 قاعدة) وهی:

43 - قاعدة العرض علی الکتاب والسنة.

44 - قاعدة العقود تابعة للقصود.

45 - قاعدة لا تبع ما لیس عندک.

46 - قاعدة عمد الصبی خطا.

47 - قاعدة لزوم العسر والحرج.

48 - قاعدة لا ضرر.

49 - قاعدة ان المتنجس ینجس.

ص:510

50 - قاعدة فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة.

51 - قاعدة شرطیة اذن الاب فی اعمال الصبی.

52 - قاعدة من ادرک المشعر فقد ادرک الحج.

53 - قاعدة الشعائر الدینیة.

54 - قاعدة توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا.

55 - قاعدة المشی الی العبادة عبادة.

56 - قاعدة رجحان الشعائر ولو مع الخوف.

57 - قاعدة عمارة مراقد الائمة فریضة هامة.

58 - قاعدة تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع.

الجزء الرابع: ( 20 قاعدة) وهی:

59 - قاعدة الاقتصاص من السب او الإهانة.

60. - قاعدة فی ثبوت القصاص بالتسبیب.

61 - قاعدة فی تداخل القصاص والدیات وعدمه.

62 - قاعدة فی القصاص بین الکفار بعضهم مع بعض.

63 - قاعدة فی القضاء بین الکفار وبین اهل الکتاب وبین اهل الخلاف.

64 - قاعدة فی اسلام او کفر ابن الزنا.

65 - قاعدة الجب.

66 - قاعدة فی ثبوت القصاص علی کل جنایة عدوانیة فی النفس او الطرف.

67 - قاعدة لا تقیة فی الدماء.

68 - قاعدة فی حرمة دم المسلم وعِرضه وماله.

69 - قاعدة فی ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام

70 - قاعدة فی مودّة أهل البیت علیهم السلام

71 - قاعدة شوری الأمّة فی نظام الحکم.

72 - قاعدة فی بناء نظام القدرة والقوّة فی الکیان والنظام الإسلامی

73 - قاعدة فی العدالة.

74 - قاعدة اشتراک الحد والقصاص فی ماهیة جامعة واحدة.

75 - قاعدة القصاص یدرء بالشبهات.

76 - قاعدة فی صلاحیات المرأة.

ص:511

77 - قاعدة فی صلاة المسافر تماما فی کل مراقد ال البیت لا خصوص الاماکن الاربعة.

78 - قاعدة الاعواض المحرمة مسقطة للضمان.

الجزء الخامس: ( 20 قاعدة) وهی:

79 - قاعدة لا یبطل دم امرئ مسلم.

80 - قاعدة فی هدر دم من هتک او اعتدی علی غیره دفعا او عقوبة.

81 - قاعدة فی اللوث والتهمة واثارها القانونیة.

82 - قاعدة فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث.

83 - قاعدة قضائیة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا.

84 - قاعدة فی باب الجنایات: (تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة).

85 - قاعدة باب الجنایات: (لا یجنی الجانی علی اکثر من نفسه).

86 - قاعدة فی (تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس)

87 - قاعدة فی هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا.

88 - قاعدة فی القصاص العرفی.

89 - قاعدة المثلیة فی الاطراف والاعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل.

90 - قاعدة فی سقوط القصاص.

91 - قاعدة فی غایة القصاص.

92 - قاعدة فی قصاص الاطراف وانها لمجرد ابانة العضو او للشین ایضا؟.

93 - قاعدة فی تبعیض القصاص فی الاطراف والجراحات.

94 - قاعدة: ان الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا.

95 - قاعدة فی باب الصلاة: (فِی إجزاء الاضطراری بَعْض الوقت).

96 - قاعدة فی فقه العقیدة: (التوسل عبادة توحیدیة).

97 - قاعدة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی: قاعدة التعایش السلمی (التقریب بین المذاهب).

98 - قاعدة فی (شرطیة الولایة فی صحة التوبة والعبادات وقبولها ونیة القربة).

ص:512

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.