فاضل موسوی، محمدجواد
التقیة فی المجتمع الاسلامی: ادلة و آثار/ محمدجواد فاضل الموسوی؛ [ل]جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة، معاونیة التحقیق. - - قم: جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة، 1430 ق. 1388.
248 ص. - - (جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة، معاونیة التحقیق؛ 148)
13000 ریال 8 - 044- 195- 964-978 : ISBN
عربی
فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیپا.
کتابنامه به صورت زیرنویس.
1. تقیه. 2. تقیه - - احادیث. 3. تقیه - - جنبه های قرآنی. الف. جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة. معاونت پژوهش. ب. عنوان.
7 ت2 ف / 5 / 226 BP 297/468
التقیة فی المجتمع الإسلامی، أدلة وآثار
المؤلف: محمدجواد فاضل الموسوی
الطبعة اولی: 1430 ق / 1388 ش
النّاشر: دار المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة
الإخراج الفنی: هادی عبدالمالکی
المطبعة: توحید السّعر: 31000 ریال عدد النسخ: 2000
حقوق الطبع محفوظة للناشر.
التوزیع:
قم، استدارة الشهداء، شارع الحجتیه، مقابل مدرسة الحجتیه، محل بیع دار المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة.
هاتف - فکس: 02517730517
قم، شارع محمد الامین، تقاطع سالاریة، قرب جامعة العلوم، محل بیع دار المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة. هاتف - فکس: 02512133146 - 02512133106
www.miup.ir , www.eshop.miup.ir
E-mail: admin@miup.ir, Root@miup.ir
ص :1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص :2
التقیة فی المجتمع الاسلامی: ادلة و آثار
محمدجواد فاضل الموسوی
ص :3
ص:4
إنّ العلم والدین والثقافة هی القواعد الأساسیة للحیاة الإنسانیة، وإنّ الحوار العلمی یقوم بتنمیة ونشر المعارف وترویج التدیّن.
ونتیجة لامتلاک المجتمع الإسلامی للغات وثقافات مختلفة، فقد تمکن من الإتیان بمذاهب فکریّة ومناهج عملیّة متنوعة، عبر التفکّر والتبادل الفکری والثقافی علی مرّ التاریخ.
إنّ النظرة الثاقبة إلی المسائل والاهتمام بالاختلافات الدقیقة، تعتبر من لوازم التفکّر والتربیة والتعمّق فی المعرفة، وعند ضمّ هذه المیزة إلی المیزات الأخلاقیة المکملة الأخری، مثل الصبر والتواضع، سوف نتمکن من الحصول علی ثقافة علمیّة سلیمة، وتتوفر لدینا إمکانیة التعایش العلمی السلمی.
ومن الجدیر بالعلماء وخبراء المسلمین، أن یعتبروا أنفسهم رواداً لهذه الحرکة، ویتجنبوا الانقیاد للمتحجّرین وأهل الجهل والهوی، علی أمل أن تکون نظرتنا إلی العلوم الدینیّة نظرة عمیقة؛ من خلال الاعتماد علی نشر ثقافة الحوار السلیم، علماً أنّ دار النشر التابعة للجامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة بصدد تحقیق هذا الهدف، من خلال اهتمامها بنشر الآثار العلمیّة.
إنّ هذا الأثر الذی یحمل عنوان: «التقیة فی المجتمع الإسلامی، أدلة وآثار» تعرّض لدراسة جوانب وأبعاد هذا الموضوع، حیث سعی المؤلف المحترم أن یقدّم أثراً مناسباً للقرّاء
ص:5
فی هذا المجال؛ وذلک من خلال عرضه لمختلف المصادر وتقدیمه الکثیر من الأدلة، ونتمنی أن یؤدی ما بذله من جهد الغرض المنشود.
کما أنّ إدارة البحوث فی الجامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة، تقدّم الشکر والتقدیر الخالص لما بذله المؤلف المحترم، وبقیة العاملین الذین قاموا بإعداد ونشر هذا الأثر.
دار المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة
معاونیة التحقیق
ص:6
کلمة الناشر 5
الإهداء 13
مقدمة 15
الباب الأول: فی تصویر البحث
1. تعریفات 21
التقیة لغة 21
التقیة شرعاً 22
تعریفها عند الإمامیة 22
وأما عند أتباع المذاهب 24
عنوان الظالم عنوان عام 24
خلاصة ما تقدم 26
کلام فی الضد 26
الإذاعة 27
المداراة لغة 27
المداهنة والموالسة والمصانعة 27
النفاق 29
الإیمان 31
تدقیق 32
2. تصویر البرهان 35
الباب الثانی: بحث أدلة التقیه عند المسلمین
ص:7
1. فی بیان حرمة الدم 39
الحدیث القدسی 39
أقوال النبی صلوات الله تعالی علیه وآله 41
أقوال الصحابة والعلماء 42
المستفاد 44
حرمة الدم من ضرورات الدین 45
2. استخدامها مع الکفار 47
اولاً: الدلیل العقلی 47
ثانیاً: الأدلة الشرعیة 48
حدیث الإکراه 51
3. استخدامها مع المسلمین 55
مقدمة 55
أولا: النبی صلی الله علیه و آله 55
ثانیاً: استخدام الصحابة وعامة أتباع المذاهب 56
لفتات 67
رجوع سریع 68
أصل حدیثین 73
من یداری ممن 93
للصحابة جمیعاً تقیة مع عمر 94
موقف لعمرو بن العاص 95
من موارد التقیة 99
محاکاة وحوار مع الأدلة 99
تحلیل حال 100
4. الإجازة بالکذب 103
مخالفة روایتی البخاری ومسلم للقرآن 105
الواقع 106
5. التقیة عندنا 107
باب التقیة 108
6. مغالطتان وجوابهما 111
المغالطة الأولی 111
المغالطة الثانیة 112
حدیث الغریب 113
مصادر الحدیث 114
ص:8
حدیث القابض علی دینه 115
أحادیث أیام الفتن 117
حدیث دعاة الضلالة 117
کما تدین تدان 119
تعقیباً علی ما تقدم 122
رجوع إشکال الکتمان علی ملقیه 122
7. نتیجة الأدلة من الناحیة الشرعیة 123
الباب الثالث: آثار التقیة
مقدمة مهمة 127
1. آثارها الاجتماعیة 131
التعایش السلمی من قبل آل البیت علیهم الصلاة والسلام 133
کراهة إضمار نیة الشر 134
2. آثارها الاقتصادیة والسیاسیة 137
الباب الرابع: تحلیل
1. موقف وتحلیل 145
المحاورة 145
خلاصة المحاورة 146
خلاصة هذه الحادثة 147
تحلیل لما ورد 147
الباب الخامس: جذور المواجهة
مقدمة 151
1. من تأریخ التشّیع 153
المقابر الجماعیة للشیعة حصة الأسد منها 157
هل من معتبر 158
2. التعامل مع الأحداث 159
الجهاد مرة ابتداءً وأخری دفاعاً 161
3. فلسفة التقیة والکتمان 163
دوافع التأکید علی التقیة بهذا النحو 164
4. البناء العظیم 167
تصحیح 167
تمییز المنشقین عن الإمامیة 168
ص:9
5. بعد التغییر فی إیران 169
الباب السادس: النتائج
1. نتائج البحث 173
النتیجة الأولی: أن الله تعالی لا یعبث 173
النتیجة الثانیة: العامل بها لیس بمنافق 174
النتیجة الثالثة: حمل النفاق علی التقیة خطأ علمی 174
بیان الخطأ الذی وقع فیه القوم 176
الأمر الثانی: کونها کل الدین أو تسعة أعشار الدین 179
الخلط فی استخدام المصطلح 179
رفع الحصانة الإسلامیة 180
من الکافر ومن المسلم ومن المنافق؟ 181
2. التقیة مشروع تکاملی لا یعطل 183
التقیة والکتمان خفاء وتخلص من الریاء 183
أقسام السر 186
القسم الأول: السر من جهة العلم أو المعرفة 186
القسم الثانی: من جهة العمل 190
القسم الثالث: ما یشمل شؤون الحیاة الأخری 190
خُلُقُ المتقین 191
عِلْمُ المتقین 202
صَبْرُ المتقین 203
أین أنت من القرآن الکریم 203
تذکر عنوان رفع الحصانة الإسلامیة 204
المرء مع من یحب 206
مقام المتقین بین الآیات الکریمة 212
مستویات التقیة 213
الکتمان والتقیة لیسا تغطیة الرأس فی التراب 215
حکم من لا یعمل بهما 216
ملحق المصادر 217
مصادر الحدیث القدسی من الفریقین 217
مصادر حدیث من قتل مسلماً أو مؤمناً 219
مصادر حادثة قتل مالک بن نویرة رضوان الله تعالی علیه 220
مصادر معرکة الجمل 221
مصادر معرکة صفین 223
ص:10
من شهد حرب صفین 224
مصادر قتل عمار رضوان الله تعالی علیه 226
مصادر قتل حجر بن عدی رضوان الله تعالی علیه 227
مصادر الحمل علی التأویل 228
مصادر مقتل محمد بن أبی بکر رضوان الله تعالی علیه 229
فی مالک الأشتر رضوان الله تعالی علیه 230
مصادر مقتل عمرو بن الحمق رضوان الله تعالی علیه 231
مصادر حادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الولید 232
مصادر حدیث یکون علیکم أئمة 233
مصادر تتحدث عن بسر بن أرطاة 233
مصادر تتحدث عن سمرة بن جندب 234
المنع من تدوین السنة تحلیل ومصادر 236
مصادر الوصیة فی آل البیت 238
مصادر نفی أبی ذر رضوان الله تعالی علیه 241
مصادر سب أمیر المؤمنین علی علیه السلام 241
مصادر تتبع الشیعة 243
مصادر حدیث البیعة لإمام 243
مصادر حدیث افتراق الأمة 244
ملاحظة مهمة 248
ص:11
ص:12
بسم الله الرحمن الرحیم الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی أشرف الخلائق أجمعین محمد وآله الطیبین الطاهرین واللعن الدائم الأبدی علی أعدائهم من الأولین والآخرین إلی رسول الله وآله صلوات ربّی علیهم أجمعین وإلی المصطفین الاْخیار جمیعاً. إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِّ یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِیماً (الأحزاب:56)
قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَکُورٌ (الشوری: من الآیة23)
نعم إلی النور الأول الذی إذا شاهدته بصیرة الإنسان وجدته فی الحقیقة أربعة عشر کنزاً... هم أنوار الهدایة والواسطة فی الفیض علی جمیع عالم الإمکان، فقال الله فیه وفیهم: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ (الأنبیاء:107) وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ (الرعد:من الآیة7)
قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلی عِبادِهِ الَّذِینَ اصْطَفی (النمل: من الآیة 59)
إلی الوالدین اللذین تعبا وأماتا جسدیهما من أجل أن أحیا أنا
وَ وَصَّیْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَیْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلی وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِی عامَیْنِ أَنِ اشْکُرْ لِی وَ لِوالِدَیْکَ إِلَیَّ الْمَصِیرُ (لقمان:14).
إلی أولی الأرحام من المؤمنین
وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ (الأنفال: من الآیة75).
وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ (الأحزاب: من الآیة6).
الأقرب فالأقرب. إلی آدم علی نبینا وآله وعلیه أفضل الصلاة والسلام.
ص:13
إلی المؤمنین العاملین الصالحات من أساتذتی وعلی رأسهم سیدنا الأستاذ وفقه الله تعالی
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ کُلِّ ذِی عِلْمٍ عَلِیمٌ (یوسف:من الآیة76)
یَرْفَعِ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ (المجادلة: من الآیة11)
إلی العلماء والشهداء الأبرار الذین یفخر کل من انتسب إلیهم ولا یفخرون بکل من انتسب إلیهم:
وَ مَنْ یُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ وَ الصِّدِّیقِینَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِینَ وَ حَسُنَ أُولئِکَ رَفِیقاً (النساء:69) وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْکِتابُ وَ جِیءَ بِالنَّبِیِّینَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِیَ بَیْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ (الزمر:69)
الشهیدین محمد باقر الصدر ومحمد محمد صادق الصدر الشیخین المجاهدین الشهیدین خزعل السودانی وعبد الجبار البصری وجمیع شهداء مدرسة آل محمد - صلوات الله تعالی علیهم - الذین ضحوا بدمائهم الزکیة، وکذلک من العلماء الشیخ حسین الحلی، وجمیع العلماء فی کل مکان وزمان.
إلی من أسدی إلی معروفاً
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَیْرٌ مِنْها (القصص: من الآیة84)
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (الرحمن:60)
إلی من نسیه أهله ومن لیس له وارث یذکره من الأولین إلی الآخرین من المؤمنین الذین یفرحون إذا ذُکِروا ولو بشیء قلیل
هُوَ الَّذِی یُصَلِّی عَلَیْکُمْ وَ مَلائِکَتُهُ لِیُخْرِجَکُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ وَ کانَ بِالْمُؤْمِنِینَ رَحِیماً (الأحزاب:43)
اَلَّذِینَ یَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ یُؤْمِنُونَ بِهِ وَ یَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِینَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ کُلَّ شَیْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِینَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِیلَکَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِیمِ (غافر:7)
بسم الله ما شاء الله
وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِی مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِی مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِی مِنْ لَدُنْکَ سُلْطاناً نَصِیراً (الاسراء:80) (اللهم صل علی محمد وآل محمد الطیبین الأطهار واجعلنا من أتباعهم)
ص:14
بسم الله والحمد لله، اللهم إنی أفتتح الثناء بحمدک وأنت مسدد للصواب بمنک وأیقنت أنک أنت أرحم الراحمین فی موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبین فی موضع النکال والنقمة وأعظم المتجبرین فی موضع الکبریاء والعظمة، اللهم إن أخذتنی بعدلک أخذتک برأفتک وعفوک ورحمتک، اللهم أنت الملک الجبار الفرد القهار، فَخَرَ من تذلل مخلصاً بین یدیک الکریمتین ترفعه وتلبسه رداء الکرامة والعزة، فعز من وقف علی باب العزیز المُعِزِّ، وذل من وقف علی أبواب الذلیل المذل.
ثم الصلاة والسلام علی أشرف الخلق وأکرمهم النور الحقّ والطریق الصدق صفاء المنهل والصراط الأمثل والأتقی الأکمل المحمود المبجل العقل الأول، الذی وصفته بأنّه أحبّ الخلق إلیک، النبی المرسل الذی قلت له: أقبل فأقبل، وأدبر فأدبر، محمد العطر الطهر المطهر وآله النجباء الأطهار الأخیار الأبرار، والسلام علی من والاهم وعرف حقّهم. جعلتهم رحمة للعالمین من الأولین والآخرین، ونحمدک کما أنعمت علینا بهم، فهم أهل طریق الاستقامة والتوفیق والسلامة وآباء العصمة والإمامة.
وأَذْکُرُ نفسه وابن عمه صاحب اللواء المنادی لیوم الحشر وبدء عالم الخلود والبقاء، وعلی الطیبة الزکیة الزهراء الطاهرة التقیة النقیة، وباقی أهل الکساء الشاکرین الحامدین الله تعالی أهل مقام الرضا منبع الوفاء وأهل العلی، وکذا التسعة الخلصاء النجباء، ومنهم إمام عصرنا القائم یوم الوقت المعلوم (عجل الله تعالی له الفرج) مقیم دولة العدل، ومن علی یدیه یأتی الحل، أمل المحرومین وقرة عین المظلومین المغصوب حقّهم علی ید السلاطین الجائرین فی دول السابقین.
ص:15
وبعد: فهذه هی الطبعة الأولی من أول کتاب یصدر لی بعد التوکل علی الله تعالی، واتوسل إلیه أن یسددنی والمؤمنین لخدمة هذا الدین، ولا یجعل علمنا وعملنا وبالاً علینا إنّه أرحم الراحمین، ذلک بتوفیق من الله العلی القدیر إنه خیر ناصر ومعین ومنقذ للمؤمنین، وهو کتاب (التقیة فی المجتمع الإسلامی أدلة وآثار) تطرقت فیه إلی شبهات المنکرین والمتسائلین، ورتبته علی شکل یستفید منه المناظرون أو من یحب أن یکون، لکثرة المصادر التی ذکرتها عند کل حادثة حادثة - وهو مهم جداً لکل مناظر، فإنّ کثرة مصادر الاستدلال علی الخصم توقعه فی حیرة لا یخرج منها - ، وکذلک للتحول من موضوع إلی آخر والعودة إلی صلب البحث، وهذا ما اعتمدته من طریقة بما یتناسب مع هذا الکتاب، وإلا فهناک بعض اللفتات لم أتطرق إلیها حفاظاً علی مسیر البحث. کل ذلک لکی یأنس ذهن القارئ هذا الأسلوب، ولکی یتقن هذا الفن الذی نحن بأمس الحاجة إلیه فی هذا الوقت.
وقرنت بین التقیة والکتمان فی بعض المواضع لإشکال تناوله الفصل الذی تحدث عن مغالطتین ألقاهما من ادعی العلم فی إحدی الفضائیات عن طریق مناظرة جرت، هناک فوجدتنی مضطراً لذلک وذکرته هنا لئلا یعتبر ذلک من المآخذ علی هذا الکتاب، وإن کانا یلتقیان بعض الشیء کما ستعلم.
وقد احتوی هذا الکتاب أموراً من مصادرها لیس لها علاقة أصلا بالکتاب، أو البحث لا من قریب ولا من بعید - وإن کانت قلیلة - لأننی استخرجتها من تلک الکتب ووجدت فیها بعض الفائدة فرأیت الإبقاء علیها لکی لا یضیع الجهد هباءً حیث کنت مضطراً لاستخراجها؛ لأنّها کانت بین الأسطر التی هی محل البحث، و الله تعالی هو المعین.
نسأل الله عز اسمه وعلا مجده أن یتقبل منا الیسیر ویعفو عن الکثیر إنه خیر مجیب، والشکر کله له تبارک وتعالی ولرسوله الأمین ولآله الغر المیامین الذین أنقذونا من الظلمات إلی النور بإذن الله العزیز الحمید.
وأخیراً أود أن أبدی ملاحظة أراها مهمة ولعلّها تنقل إلی غیر القارئ لما رأیت من أن إبلاغها فیه إبراء للذمة، فأرجو أن تقبل بقبول حسن ومن الله العون والسداد لتخلیصنا من الفتن وسوء الخلق... وهی:
إقبل الرأی الآخر، فمهما فعلت یبقی واقعاً مفروضاً لا یمکنک تغییره بالعنف، واعلم أنّه
ص:16
سیتسلط علیک من هو أعنف منک فهل ترضی ذلک لنفسک؟ وإن رضیت أنت فمن قال بأنّه یجب أن یرضی غیرک بما رضیت؟ فلا یکونن الوزغ قدوتنا فإنّه یدافع عن نفسه بقطع ذنبه الذی یبقی متحرکاً إن دهمه خطر لیشغل المداهم بالذنب ویترکه یهرب ظناً منه أن لیس هناک من أفهم منه فیبقی ملاحقاً له ویترک الذنب حتی لو بقی متحرکاً، فیقیس کل مخلوق علی عقله هو، ولا یکونن حیوان الضربان قدوتنا یخرج رائحة نتنة من جوفه إذا لحق به مخلوق، وهی وسیلة دنیئة، فأیضاً هناک من سیضع علی أنفه غطاء یقیه الرائحة فیبقی ملاحقاً له، فصاحب المبدأ یدافع عن مبدأه بالحجة لا بوسیلة دنیئة، فلنکن أسمی منه ولننظر فی قوله تعالی: وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلی کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلاً (الإسراء:70)، هذا إن کان محسوباً منهم، وإلا فهناک من هو منهم جسداً ولیس کذلک فی غیره، قال الله تعالی: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ کَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أُولئِکَ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِکَ هُمُ الْغافِلُونَ (الأعراف:179)، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَکْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً (الفرقان:44)، فإنسانیة الإنسان فی الجوهرة التی یحملها، وهی عقله ولیس کونه یمشی علی اثنتین، وإلا لکان قطیع الرجلین لیس من البشر، وکانت الدجاجة منهم، فهل رأیت دجاجة تذهب إلی السوق وتساوم وتخرج النقود وتتبضع إلی مالکها؟ تصور أنت... فإن تعجب وتضحک فالعجب ممن یرید أن یهبط إلی مستوًی أقل من مستوی الدجاجة.
محمد جواد الموسوی
ص:17
ص:18
ص:19
ص:20
لغرض تحریر لب البحث وقبل الولوج فی أبواب الکتاب وفصوله لابد للمؤمن الکریم من التعرف علی ما تعنیه کلمة التقیة، وکذلک أضدادها وما یدور حوله هذا البحث من مفاهیم.
وأوردت التعریفات بتفاصیل لزیادة الفائدة فی الموارد التی لیس لها علاقة بالموضوع وهو واضح عند المطالعة لغرض زیادة المعلومات لحاجة فی نفسی.
فأرجو من الله تعالی العون والسداد.
ورد تعریفها فی کتاب العین للفراهیدی: (1) (والتقوی فی الأصل: وقوی، فعلی، من وقیت، فلما فتحت أبدلت تاء فترکت فی تصریف الفعل، فی التقی والتقوی، والتقاة والتقیة، وإنما التقاة علی فعلة، مثل تهمة وتکأة، ولکن خففت فلین ألفها...). وقال الجوهری فی صحاحه: (2) (والتقاة: التقیة. یقال: اتقی تقیة وتقاة، مثل اتخم تخمة... وتوقی واتقی بمعنی. ووقاه الله وقایة بالکسر، أی حفظه. والوقایة والوقاء والوقاء: ما وقیت به شیئاً). وأمّا فی لسان العرب لابن منظور (3) ذکر ذلک تحت نفس المادة قال: (ووقاه: صانه. ووقاه ما یکره ووقاه: حماه منه، والتخفیف أعلی. وفی التنزیل العزیز: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِکَ الْیَوْمِ (الانسان: من الآیة11). والوقاء والوقاء والوقایة والوقایة والوقایة والواقیة: کل ما وقیت به شیئاً...).
ص:21
وعرفت فی القاموس المحیط للفیروز آبادی: (1) (وقاه وقیا ووقایة وواقیة: صانه کوقاه. والوقاء ویکسر والوقایة مثلثة: ما وقیت به. والتوقیة: الکلاءة والحفظ. واتقیت الشیء وتقیته أتقیه وأتقیه تقًی وتقیة وتقاء ککساء: حذرته، والاسم: التقوی أصله: تقیا قلبوه للفرق بین الاسم والصفة کخزیا وصدیا). وأما فی تاج العروس للزبیدی: (2) (زیاد بن نعیم (وقاه) یقیه (وقیا) بالفتح (ووقایة) بالکسر (وواقیة) علی فاعلة (صانه) وستره عن الأذی وحماه وحفظه فهو واق، ومنه قوله تعالی: وَ ما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ واقٍ (الرعد: من الآیة34) أی من دافع، وشاهد الوقایة قول البوصیری: وقایة الله أغنت عن مضاعفة... وکذلک الواقیة کل (ما وقیت به) شیئاً وقال اللحیانی: کل ذلک مصدر وقیته الشیء (والتوقیة الکلاءة والحفظ) والصیانة والحفظ (واتقیت الشیء وتقیته اتقیه واتقیه تقی) کهدی... قال الجوهری: اتقی یتقی أصله اوتقی یوتقی علی افتعل قلبت الواو یاء لانکسار ما قبلها وأبدلت منها التاء وأدغمت فلما کثر استعماله علی لفظ الافتعال توهموا ان التاء من نفس الحرف فجعلوه اتقی یتقی بفتح التاء فیهما ثم لم یجدوا له مثالاً فی کلامهم یلحقونه به فقالوا تقی یتقی مثل قضی یقضی...).
وممّا تقدم فی هذا الاستعراض یتبین معنی هذه الکلمة عند أهل اللغة الذی یمکن إجماله فی أن التقیة وقایة للنفس من الأذی.
وأما عند المشترعة (3) فقد اتفقت کلمات فقهاء أتباع مدرسة أهل البیت صلوات الله تعالی علیهم أجمعین مع کلمات غیرهم من فقهاء أتباع المذاهب، والأقوال فیها کما یلی:
عرفها الشیخ المفید فی تصحیح الإعتقاد: (4) (أنها کتمان الحق، وستر الاعتقاد، ومکاتمة المخالفین، وترک مظاهرتهم بما یعقب ضرراً فی الدین أو الدنیا). والشهید الأول فی القواعد
ص:22
والفوائد: (1) (التقیة مجاملة الناس بما یعرفون، وترک ما ینکرون، حذراً من غوائلهم). والشیخ الأنصاری فی رسالة التقیة: (2)
«هی التحفظ عن ضرر الغیر بموافقته، فی قول أو فعل مخالف الحق» ، أعلی الله تعالی مقامهم أجمعین.
وقد جاء عن صاحب مجمع البحرین الشیخ الطریحی: (3) (وقد قسم أصحابنا التقیة إلی ثلاثة أقسام: الأول حرام، وهو فی الدماء فإنه لا تقیة فیها لأنها إنما وجبت حقنا للدم فلا تکون سببا فی إباحته. والثانی مباح، وهو فی إظهار کلمة الکفر فإنه یباح الأمران، استدلالا بقصة عمار وأبویه، فإن النبی صلی الله علیه وآله صوب الفعلین معا علی ما نقل. الثالث واجب، وهو فیما عدا هذین القسمین، للدلالة علی ذلک مع إجماع الطائفة هذا مع تحقق الضرر...). وأیضاَ فیه: (4) (والتقوی فعلی کنجوی، والاصل فیه (وقوی) من وقیته: منعته، قلبت الواو تاء وکذلک تقاة والأصل وقاة، قال تعالی: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [28/3] أی اتقاء مخافة القتل... والتقیة والتقاة اسمان موضوعان موضع الاتقاء... والتوقی: التجنب).
تعلیقاً علی ما أفاده (أعلی الله تعالی مقامه) عندما نقل قول علمائنا بتقسیمها إلی أقسام منها الحرام، ولعل المراد منه - و الله تعالی العالم - أن التقیة فی حد ذاتها لا تقبل حکم الحرمة، بل یتغیر الموضوع فتکون حینئذ مداهنة أو غیرها، فالکلام فی مشروعیة التقیة، وبتعبیر آخر متی ما شرع استخدامها أُطلق علیها ذلک العنوان، وإن لم تشرع فیکون الموضوع قد تغیر حینئذ، وهذا هو الصحیح، فبارتفاع الموضوع ینتهی کل شیء، وکلامنا فی التقیة الاصطلاحیة - أی عند المشترعة- .
وعند مراجعة الروایات وفتاوی الفقهاء (أعزهم الله) تعالی بناءً علی ما جاء فی النصوص وکما ورد فی البحار: (5) عن أبی جعفر علیه السلام قال
«إنما جعلت التقیة لیحقن بها الدماء، فإذا بلغ الدم فلا تقیة» أه-... فمعناه ان التقیة فی مثل هذه المقامات منتفیة من رأس، ولیس معنی ذلک أنها باقیة ولکنها محرمة. نعم قد یقال إنه یصح ذلک عند أهل اللغة ولکن قبوله وسریانه عند المشترعة یکون علی تکلف ولا یخلو من شیء من التأمل.
ص:23
قال: السرخسی فی المبسوط (1) (والتقیة أن یقی نفسه من العقوبة، بما یظهره وإن کان یضمر خلافه). وقال الحافظ ابن حجر العسقلانی الشافعی: (هی الحذر من إظهار ما فی النفس من معتقد وغیره للغیر) وذلک فی فتح الباری. (2) وفی تفسیر المنار (3) قال رشید رضا المصری الشامی السلفی: (ما یقال أو یفعل مخالفاً للحق، لأجل توقی الضرر).
وقرأ کثیر من القراء: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً راجع النشر فی القراءات العشر (4) وتفسیر القرطبی: الجامع لأحکام القرآن. (5) منه یظهر أن کلمة (تُقاةً) هی بمعنی (التَقِیّة).
فمن یعتقد بأنّه علی الحقّ ویخشی مکر وغائلة مخالفیه ما علیه حرج أن یستخدمها لغرض حفظ نفسه وعرضه وماله من الهتک.
فظهر ممّا تقدم الاتفاق علی المصطلح الشرعی بین الشیعة وأتباع المذاهب الأخری.
قد یتصور فی شخص أو حاکم اشتهر بأنّه من المنتمین إلی التشیع (6) بشکل عام، کما هو حال قسم من المسلمین الذین یؤمنون بالإسلام دیناً ولکنهم - واقعاً - لم یترکوا موبقة لم یفعلوها، وهذا أمر لا یناقش فیه. عند ذاک یمکن تصور التقیة بشکل طبیعی، فالظالم ظالم من أی ملة تسمی بها، والظلم قبیح أینما صدر ومن أی بدر. والظالم بالنسبة لأی طائفة قبیح، بل علی أهل طائفته أشد؛ لأنّه سیشکل عبئاً علیها قبل الإضرار بأتباع غیرها.
وقد ورد عنهم علیهم أفضل الصلاة والسلام: فی الوسائل للحر العاملی، (7) عن أبی عبدالله علیه السلام فی حدیث قال: (أما إنّه ما ظفر بخیر من ظفر بالظلم، أما إنّ المظلوم یأخذ من دین الظالم أکثر ممّا
ص:24
یأخذ الظالم من مال المظلوم، ثم قال: من یفعل الشر بالناس فلا ینکر الشر إذا فُعِلَ به...) الحدیث... وکما هو واضح من الحدیث فالظالم هنا لم یخصص بفئة معینة. وعن أبی جعفر علیه السلام قال: (الظلم فی الدنیا هو الظلمات فی الآخرة). وعن علی بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:
«إن الله تعالی یقول: وعزتی وجلالی لا أجیب دعوة مظلوم دعانی فی مظلمة ظلمها ولأحد عنده مثل تلک المظلمة» . وعن زید بن علی بن الحسین عن آبائه علیهم السلام قال:
«یأخذ المظلوم من دین الظالم أکثر مما یأخذ الظالم من دنیا المظلوم» وعن جعفر بن محمد صلی الله علیه و آله قال:
«من ارتکب أحدا بظلم بعث الله من ظلمه مثله أو علی ولده أو علی عقبه من بعده» . و نقل أیضاً (1) عن جعفر بن محمد، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام :
«أعظم الخطایا اقتطاع مال امرئ مسلم بغیر حق» ... [وهنا أیضا یتضح أن مجرد الدخول تحت عنوان المسلم کاف فی عدم جواز هتک حرمة ماله فکیف بدمه وعرضه]. وعن علی علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: یقول الله تعالی:
«اشتد غضبی علی من ظلم من لا یجد ناصرا غیری» . وعن أبی جعفر علیه السلام قال: (2)
«الظلم ثلاثة ظلم یغفره الله، وظلم لا یغفره الله، وظلم لا یدعه الله، فأما الظلم الذی لا یغفره فالشرک، وأما الظلم الذی یغفره فظلم الرجل نفسه فیما بینه وبین الله، وأما الظلم الذی لا یدعه فالمداینة بین العباد» . وفی الکافی للکلینی: (3) عن یونس بن ظبیان قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله):
إن الله تعالی یقول: ویل للذین یختلون الدنیا بالدین، وویل للذین یقتلون الذین یأمرون بالقسط من الناس، وویل للذین یسیر المؤمن فیهم بالتقیة، أبیَ یغترون أم علیَّ یجترؤون، فبی حلفت لأتیحن لهم فتنة تترک الحلیم منهم حیران.
وفی وسائل الشیعة للحر العاملی: (4) عن أبی بصیر قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول:
«من أکل من مال أخیه ظلما ولم یرده إلیه، أکل جذوة من النار یوم القیامة» . وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: (5)
«العامل بالظلم والمعین له والراضی به شرکاء ثلاثتهم» . وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: (6)
«من عذر ظالما بظلمه سلط الله علیه من یظلمه، فإن دعا لم یستجب له، ولم یأجره الله علی
ص:25
ظلامته» . وعن عبدالله بن سنان قال: (1) سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:
«من أعان ظالما علی مظلوم لم یزل الله علیه ساخطا حتی ینزع من معونته» . وفی نهج البلاغة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنه قال:
«للظالم من الرجال ثلاث علامات: یظلم من فوقه بالمعصیة، ومن دونه بالغلبة ویظاهر للقوم الظلمة» . (2)
وعلی کل حال ولغرض بیان کلمات علمائنا (رحمهم الله تعالی) وعلمائهم وتوضیح ما جاء فی تعریف التقیة من قیود، أقول:
1. هناک مخالِفٌ ومخالَفٌ - کما مر آنفاً ظالِمٌ ومَظلوم - أعم من أن یکونا علی دین واحد، بل وأعم من أن یکونا علی مذهب واحد. وتوضیحاً أن المخالف - علی وزن اسم الفاعل أم المفعول - نسبی لأن کل یدعی أحقیته نعم الحق الحقیق، ومعرفته فذلک عند الله تعالی ورسوله، ومن کان علامة علی الحق من بعده صلوات الله تعالی علیه وعلیهم، وأکرر القول من یکون فهذا بحث مسکوت عنه هنا.
2. ضرر مترقب حصوله للمخالِف، من المخالَف، وفیه تعریض بعض حرماته للهتک، کالتسبب فی قتله أو إهانته کما لو کان التعرض للعرض أو المال، وقد یکون الضرر اجتماعیاً کما لو تسبب الخلاف فی هتک حرمات المجتمع والعلاقات الاجتماعیة.
3. توقی الضرر ودفعه أعم من أن یکون بالقول أو الفعل.
لصاحب مجمع البحرین قول سدید فی ضد التقیة وهو (الإذاعة)، مستفیدا من الروایات الواردة عن أئمة أهل البیت صلوات الله تعالی علیهم (کما فی الکافی للکلینی (3) فأحببت أن أفرد لهذا الضد عنواناً، وسیرد ذکر تلک الروایات فی محله إن شاء الله تعالی.
ص:26
قال فی مجمع البحرین: (1) قوله تعالی: أَذاعُوا بِهِ (83/4) أی أفشوه، من قولهم ذاع الحدیث ذیعا إذا انتشر وظهر. وأذاعه غیره: أفشاه وأظهره. ومنه الحدیث
«من أذاع علینا حدیثنا سلبه الله الایمان» أی من أفشاه وأظهره للعدو... والإذاعة ضدها: التقیة. وأما صاحب القاموس المحیط الفیروز آبادی (2) قال فیها: (ذاع الخبر یذیع، ذیعا وذیوعا وذیعوعة وذیعانا... والمذیاع، بالکسر: من لا یکتم السر. وأذاع سره، وبه: أفشاه وأظهره، أو نادی به فی الناس، والإبل، أو القوم بما فی الحوض: شربوا ما فیه...). وکذا فی تاج العروس للزبیدی. (3)
وردت المداراة فی کتب اللغة بمعنی أعم من التقیة، ففی صحاح الجوهری (4) تحت م- (دری)-ادة: (ومداراة الناس تهمز ولا تهمز، وهی المداجاة والملاینة). وفی النهایة فی غریب الحدیث لابن الاثیر (5) تحت المادة نفسها: (المداراة غیر مهموز: ملاینة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ینفروا عنک). وفی تاج العروس للزبیدی (6) قال: ( (ودارأته) مدارأة وکذا (داریته) مداراة إذا اتقیته، ... وقال الأحمر: المدارأة فی حسن الخلق والمعاشرة تهمز ولا تهمز. یقال: دارأته وداریته إذا اتقیته ولاینته)، وضدها المکاشفة (کما فی الکافی للکلینی (7) کتاب العقل والجهل ح14).
وقد تأتی تحت عناوین أخری مثل المداجاة والمدالاة والملاینة، فیکون هذا المفهوم عند أتباع المذاهب أوسع بکثیر مما هو عندنا، إلا أن إطلاق الملاینة علیها لا یخلو من منع لما قد یحصل من التداخل بینها وبین المداهنة کما سیأتی فأرجو التأمل.
ص:27
جاء فی کتاب العین للخلیل الفراهیدی: (1) (الإدهان: اللین والمصانعة، قال تعالی: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9)، أی: تلین لهم فیلینون. والمداهن: المصانع الموارب). کما جاء بعض ما تقدم فی صحاح الجوهری (2) بإضافة: (والإدهان مثله، وقال قوم: داهنت بمعنی واریت، وأدهنت بمعنی غششت). وفی القاموس المحیط للفیروز آبادی: (3) (دهن: نافق). وفی مجمع البحرین الشیخ الطریحی (4) کذلک حیث قال: (ومنه حدیث الحق لعیسی علیه السلام : قل لمن تمرد علیَّ بالعصیان، وعمل بالادهان لیتوقع عقوبتی). ومثله فی حدیث الباقر علیه السلام حیث قال:
أوحی الله تعالی إلی شعیب النبی علیه السلام : إنِّی معذب من قومک مائة ألف، أربعین ألفا من شرارهم، وستین ألفا من خیارهم، فقال: یا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخیار؟ فأوحی الله إلیه داهنوا أهل المعاصی، ولم یغضبوا لغضبی.
والادهان: النفاق وترک المناصحة والصدق. والمداهنة: المساهلة). وفی تاج العروس: (5) ((و) الموالسة شبه (المداهنة) فی الامر...). وفی کتاب العین للخلیل الفراهیدی: (6) (والموالسة: شبه المداهنة فی الأمر). وقال صاحب مختار الصحاح محمد بن عبد القادر: (7) (والدجنة بالضم الظلمة و المداجنة کالمداهنة)، وقال أیضاً: (8) والمداهنة کالمصانعة والادهان مثله کقوله تعالی: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9)، (وقال قوم داهن أی وارب وأدهن أی غش). وقد جاء فی الفروق اللغویة للعسکری: (9) (الفرق بین التقیة والمداهنة: قال الشهید الثانی - طاب ثراه - فی قواعد المداهنة فی قوله تعالی: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9). [المداهنة] معصیة، والتقیة غیر معصیة، والفرق بینهما أن الأول تعظیم غیر المستحق... أو
ص:28
لتحصیل صداقته، کمن یثنی علی ظالم بسبب ظلمه، یصوره بصورة العدل، أو مبتدع علی بدعته ویصورها بصورة الحق. والتقیة مخالطة الناس فیما یعرفون، وترک ما ینکرون حذرا من غوائلهم...). وفی النهایة فی غریب الحدیث لابن الاثیر (1) (لیخرجن ناس من قبورهم علی صورة القردة، بما داهنوا أهل المعاصی، ثم وکفوا عن علمهم وهم یستطیعون) أی قصروا ونقصوا... وعن لسان العرب لابن منظور: (2) (وفی الحدیث: أن بنی إسرائیل کانوا إذا عمل فیهم بالمعاصی نهاهم أحبارهم تعذیرا فعمهم الله بالعقاب، وذلک إذا لم یبالغوا فی نهیهم عن المعاصی، وداهنوهم ولم ینکروا أعمالهم بالمعاصی حق الإنکار، أی نهوهم نهیا قصروا فیه ولم یبالغوا... وقال أیضاً: (3) (والموالسة: الخداع... والموالسة: شبه المداهنة فی الأمر)، وقال کذلک: (4) (والمداجنة: کالمداهنة). وقال: (5) (والمداهنة والإدهان: المصانعة واللین، وقیل: المداهنة إظهار خلاف ما یضمر. والإدهان: الغش. ودهن الرجل إذا نافق قال الجوهری: والمداهنة والإدهان کالمصانعة. وفی التنزیل العزیز: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9). وقال قوم: داهنت بمعنی واریت، وأدهنت بمعنی غششت. وقال الفراء: معنی قوله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9)، ودوا لو تکفر فیکفرون، وقال فی قوله: أَ فَبِهذَا الْحَدِیثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (الواقعة:81)، أی مکذبون، ویقال: کافرون. وقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9)، ودوا لو تلین فی دینک فیلینون. وقال أبو الهیثم: الإدهان المقاربة فی الکلام والتلیین فی القول، من ذلک قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9)، أی ودوا لو تصانعهم فی الدین فیصانعوک. اللیث: الإدهان اللین. والمداهن: المصانع... وقال بعض أهل اللغة: معنی داهن وأدهن أی أظهر خلاف ما أضمر، فکأنه بین الکذب علی نفسه). وعن القاموس المحیط للفیروز آبادی: (6) (دهن: نافق، والمداهنة: إظهار خلاف ما یضمر کالإدهان والغش).
ص:29
ورد معنی النفاق فی العین الخلیل الفراهیدی: (1) (والنفاق: الخلاف والکفر، والفعل: نافق نفاقا... وللمنافق سر دونه نفق، أی سر یخرج منه إلی غیر الاسلام...). وفی غریب الحدیث عن ابن سلام: (2) (نفق کفر وقال أبو عبید: فی حدیث النبی علیه السلام فی ذکر المنافقین وما فی التنزیل من ذکرهم و[من] ذکر الکفار. فیقال: إنما سمی المنافق منافقا لأنه نافق کالیربوع، وإنما هو دخوله نافقاءه، یقال منه: قد نفق فیه ونافق وهو جحره، وله جحر آخر یقال له: القاصعاء، فإذا طلب قصع فخرج من القاصعاء، وهو یدخل فی النافقاء ویخرج من القاصعاء، أو یدخل فی القاصعاء ویخرج من النافقاء، فیقال: هکذا یفعل المنافق یدخل فی الإسلام ثم یخرج منه من غیر الوجه الذی دخل فیه. وقد یقال فی المنافق: إنما سمی منافقا للنفق وهو السرب فی الأرض، والتفسیر الأول أعجب إلیَّ).
وقال صاحب النهایة فی غریب الحدیث ابن الاثیر: (3) (نفق) قد تکرر فی الحدیث ذکر (النفاق) وما تصرف منه اسما وفعلا، وهو اسم إسلامی، لم تعرفه العرب بالمعنی المخصوص به، وهو الذی یستر کفره ویظهر إیمانه، وإن کان أصله فی اللغة معروفا. یقال: نافق ینافق منافقة ونفاقا، وهو مأخوذ من النافقاء... وقیل: هو من النفق: وهو السرب الذی یستتر فیه، لستره کفره. وفی حدیث حنظلة (نافق حنظلة) أراد أنه إذا کان عند النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم أخلص وزهد فی الدنیا، وإذا خرج عنه ترک ما کان علیه ورغب فیها، فکأنه نوع من الظاهر والباطن، ما کان یرضی أن یسامح به نفسه. وفیه (أکثر منافقی هذه الامة قراؤها)، أراد بالنفاق هاهنا الریاء لان کلیهما إظهار غیر ما فی الباطن).
وفی لسان العرب لابن منظور (4) ما یقرب منه: (والنافقاء إحدی جحرة الیربوع یکتمها ویظهر غیرها وهو موضع یرققه، فإذا أُتیَ من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أی خرج، والجمع النوافق. قال ابن بری: جحرة الیربوع سبعة: القاصعاء والنافقاء والداماء
ص:30
والراهطاء والعانقاء والحاثیاء واللغز، وهی اللغیزی أیضا. قال أبو زید: هی النافقاء والنفقاء والنفقة والرهطاء والرهطة والقصعاء والقصعة... والنفاق، بالکسر، فعل المنافق. والنفاق: الدخول فی الإسلام من وجه والخروج عنه من آخر، مشتق من نافقاء... وهو الذی یستر کفره ویظهر إیمانه... یقال: نافق ینافق منافقة ونفاقا، وهو مأخوذ من النافقاء لا من النفق وهو السرب الذی یستتر فیه لستره کفره... وکذا فی تاج العروس للزبیدی. (1)
جاء تعریف الإیمان فی کتب اللغة، فقد ذکر صاحب العین الخلیل الفراهیدی: (2) (والایمان: التصدیق نفسه، وقوله تعالی: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا (یوسف: من الآیة17)، أی: بمصدق). وکذا فی مختار الصحاح محمد بن عبد القادر: (3) (والایمان التصدیق)، والقاموس المحیط الفیروز آبادی (4) وفی الصحاح للجوهری: (5) (والایمان: التصدیق...). وفی النهایة فی غریب الحدیث لابن الاثیر: (6) أمن فی أسماء الله تعالی (المؤمن) هو الذی یصدق عباده وعده: فهو من الإیمان: التصدیق، أو یؤمنهم فی یوم القیامة من عذابه، فهو من الأمان، والأمن ضد الخوف). وفی اللسان لابن منظور: (7) والإیمان: ضد الکفر. والإیمان: بمعنی التصدیق، ضده التکذیب. یقال: آمن به قوم وکذب به قوم... (وفی التنزیل العزیز: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ کُنّا صادِقِینَ (یوسف: من الآیة17)، أی بمصدق. والإیمان: التصدیق. التهذیب: وأما الإیمان فهو مصدر آمن یؤمن إیمانا، فهو مؤمن. واتفق أهل العلم من اللغویین وغیرهم أن الإیمان معناه التصدیق. قال الله تعالی: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، (الحجرات: من الآیة14) قال: وهذا موضع یحتاج الناس إلی تفهیمه وأین ینفصل المؤمن من المسلم وأین یستویان، والإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتی به النبی صلی الله علیه و آله ، وبه یحقن الدم،
ص:31
فإن کان مع ذلک الإظهار اعتقاد وتصدیق بالقلب، فذلک الإیمان الذی یقال للموصوف به هو مؤمن مسلم، وهو المؤمن بالله ورسوله غیر مرتاب ولا شاک، وهو الذی یری أن أداء الفرائض واجب علیه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب علیه لا یدخله فی ذلک ریب فهو المؤمن وهو المسلم حقا، کما قال الله تعالی: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ یَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أُولئِکَ هُمُ الصّادِقُونَ (الحجرات:15)، أی أولئک الذین قالوا إنا مؤمنون فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشریعة واستسلم لدفع المکروه فهو فی الظاهر مسلم وباطنه غیر مصدق، فذلک الذی یقول أسلمت لأن الإیمان لا بد من أن یکون صاحبه صدیقا، لأن قولک آمنت بالله، أو قال قائل آمنت بکذا وکذا فمعناه صدقت، فأخرج الله هؤلاء من الإیمان فقال: وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ (الحجرات: من الآیة14)، أی لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذا من القتل، فالمؤمن مبطن من التصدیق مثل ما یظهر، والمسلم التام الإسلام مظهر للطاعة مؤمن بها، والمسلم الذی أظهر الإسلام تعوذا غیر مؤمن فی الحقیقة، إلا أن حکمه فی الظاهر حکم المسلمین. وقال الله تعالی حکایة عن إخوة یوسف لابیهم: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ کُنّا صادِقِینَ (یوسف: من الآیة17)، لم یختلف أهل التفسیر أن معناه ما أنت بمصدق لنا، والأصل فی الإیمان الدخول فی صدق الأمانة التی ائتمنه الله علیها، فإذا اعتقد التصدیق بقلبه کما صدق بلسانه فقد أدی الأمانة وهو مؤمن، ومن لم یعتقد التصدیق بقلبه فهو غیر مؤد للأمانة التی ائتمنه الله علیها، وهو منافق، ومن زعم أن الإیمان هو إظهار القول دون التصدیق بالقلب فإنه لا یخلو من وجهین أحدهما أن یکون منافقا ینضح عن المنافقین تأییدا لهم، أو یکون جاهلا لا یعلم ما یقول وما یقال له، أخرجه الجهل واللجاج إلی عناد الحق وترک قبول الصواب، أعاذنا الله من هذه الصفة وجعلنا ممن علم فاستعمل ما علم، أو جهل فتعلم ممن علم، وسلمنا من آفات أهل الزیغ والبدع بمنّه وکرمه... وقریب من ذلک فی تاج العروس للزبیدی. (1)
مما تقدم من عرض للتعریفات تبین ما یلی:
ص:32
1. أن بین التقیة والمداراة موافقة ولو من جهة.
2. أن التقیة فعل - أعم من القول أو الفعل بالمعنی الأخص - .
3. أنها استبطان الإیمان وأن النفاق هو استبطان الکفر.
4. عقیدة المتقی یتشرف بها ویخفیها خوفا فیظهر خلافها ولکنه مکره علی ذلک بشکل مباشر أو غیر مباشر، وعقیدة المنافق یخجل من إظهارها ویتشرف بإظهار خلافها.
5. التشابه بین التقیة والنفاق من حیث الإخفاء والإظهار فقط وفقط. ولیس من اشتراک آخر بینهما، فالتقیة جمیلة حسنة علی کل حال، دنیاً وآخرة، والنفاق قبیح علی کل حال وفیهما، کما أن الإیمان حسن فی کلیهما، ولا یمکن لعاقل أن یقول: إن أحد معانی الحسن هو القبح ولا العکس.
6. التقیة وما یقرب منها - کمادة - ممتدحة سواء أکانت مضافة کما فی قوله تعالی: لکِنِ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (آل عمران:من الآیة198)، وَ سِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَی الْجَنَّةِ زُمَراً حَتّی إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَیْکُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِینَ (الزمر:73)، أم مطلقة کقوله تعالی: زُیِّنَ لِلَّذِینَ کَفَرُوا الْحَیاةُ الدُّنْیا وَ یَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ الَّذِینَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ (البقرة:من الآیة212)، بل محبب إلیها کقوله تعالی: قُلْ أَ أُنَبِّئُکُمْ بِخَیْرٍ مِنْ ذلِکُمْ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (آل عمران:من الآیة15)، بل مأمور بها کقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:102)، أما فی غیرها کالسبیل فمطلقها منهی عنه ومضافها إلیه ممدوح کقوله تعالی: وَ أَنَّ هذا صِراطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَنْ سَبِیلِهِ ذلِکُمْ وَصّاکُمْ بِهِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام:153)، بخلافه فی النفاق وما یقرب منه، هذا مضافاً إلی ما جاء فی کتب اللغة.
فیسهل لنا الخوض فی المبادی البرهانیة کما فی الفصل التالی.
ص:33
ص:34
المشنعون علینا فی هذا الحکم الشرعی، کان همهم الوحید حمل النفاق والمداهنة والکذب علی التقیة، فقالوا (التقیة نفاق) و (التقیة مداهنة) و (التقیة خداع وکذب)، کل ذلک لتشویه صورة حَمَلَةِ هذا الفکر القویم فکر آل البیت صلوات الله تعالی علیهم أجمعین لأسباب سنذکرها فی باب من أبواب هذا الکتاب لیُعلم أن هناک قصدا من وراء هذا الفعل الخاطئ.
والصحیح أن التقیة حتی لیست ضداً لما ذکر، ولو تنزلنا وقبلنا ضدیة التقیة للنفاق والمداهنة وغیرهما دون الإذاعة فهل یصح حمل الضد علی الضد؟ أفیکون هذا الکلام صادرا من عالم یؤخذ منه الدین؟ هذا ما سیتضح لنا من البحث إن شاء الله تعالی.
وکذلک ستجد أن استخدامهم للتقیة إن لم یکن مساوٍ لما عندنا فهو أکبر من ذلک بکثیر.
وسیتضح کذلک بالحجة أنک لو اقتطعت التقیة من إطار الأحکام الشرعیة ستجدها مساویة للنفاق، والاختلاف حینه یکون لفظیاً فقط، أما لو نظرت إلیها کمفردة من مفردات باقی الأحکام الشرعیة، ستجدها خلقاً رفیعاً لا یمکن أن یتجاوزه ذو لب.
ص:35
ص:36
ص:37
ص:38
لغرض الدخول فی بحث الأدلة علینا أن نتعرف علی واحدة من أهم رکائز هذا المبدأ القرآنی - التقیة - ، وهذه الرکیزة تعتمد علی أصل مهم وهو حرمة الدم بشکل عام، ودم المسلم والمؤمن خاصة عند الله تعالی، ولذلک بدأت بها، وإلا فإن عنوان الباب یقتضی الدخول فی بحث الأدلة مباشرة، فکان هذا الفصل بحث مقدمی للفصول اللاحقة. وأتعرض فی هذا الفصل إلی أدلة حرمة المسلم من طریق العامة لا الخاصة، فإنها عندنا معلومة لا تحتاج ثمة إلی التطرق إلی أدلتها من کتبنا.
جاء فی الحدیث القدسی - وبألفاظ متعددة - من طرق العامة والخاصة: (1)
«أن من عادی ولیاً أو أهانه أوأخافه فقد بارز أو آذن الله تعالی بالمحاربة» . وقد جاء فیها أن الله تعالی یکره مساءة المؤمن، والمؤمن یکره الموت فیتردد الله تعالی فی قبض روحه. (2) وألفاظ الحدیث کما سأوردها وحذفت الأسناد اختصاراً وإلا فالمضمون واحد فلا یشکل علینا بضعف قسم منها، وهی کالآتی:-
1. من أهان لی ولیا فقد بارزنی بالعداوة، ابن آدم لن تدرک ما عندی إلا بإداء ما افترضت علیک، ولا یزال عبدی یتقرب إلیَّ بالنوافل حتی أحبه، فأکون أنا سمعه
ص:39
الذی یسمع به، وبصره الذی یبصر به، ولسانه الذی ینطق به، وقلبه الذی یعقل به، فإذا دعانی أجبته، وإذا سألنی أعطیته، وإذا استنصرنی نصرته، وأحب ما تعبد لی عبدی به النصح لی.
2. من أخاف لی ولیا فقد بارزنی بالمحاربة، إن سألنی أعطیته، وإن دعانی أجبته، وما ترددت فی شیء أنا فاعله ما ترددت فی قبض نفس عبدی المؤمن، یکره الموت وأنا أکره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادی المؤمنین لمن یشتهی الباب من العبادة فأکفه عنه لئلا یدخله عجب فیفسده ذلک، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا الغنی ولو أفقرته لأفسده، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا الفقر ولو بسطت له لأفسده ذلک، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلک، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا السقم ولو صححته لأفسده، إنی أدبر عبادی بعلمی بقلوبهم إنی علیم خبیر.
3. من آذی لی ولیا فقد استحل محاربتی، وما تقرب إلیَّ عبدی بمثل أداء الفرائض، وما یزال العبد یتقرب إلیَّ بالنوافل حتی أحبه، فإذا أحببته کنت عینه التی یبصر بها، وأذنه التی یسمع بها، ویده التی یبطش بها، ورجله التی یمشی بها، وفؤاده الذی یعقل بهف ولسانه الذی یتکلم به، إن دعانی أجبته، وإن سألنی أعطیته، وما ترددت عن شیء أنا فاعله ترددی عن وفاته، وذاک لأنه یکره الموت وأنا أکره مساءته.
4. ما تقرب إلی عبدی بمثل اداء فرائضی، وإنه لیتقرب إلیَّ بالنوافل حتی أحبه، فإذا أحببته کنت رجله التی یمشی بها، ویده التی یبطش بها، ولسانه الذی ینطق به، وقلبه الذی یعقل به، إن سألنی أعطیته، وإن دعانی أجبته.
5. من أهان لی ولیا فقد بارزنی بالمحاربة، وإنی أسرع شیء إلی نصرة أولیائی، إنی أغضب لهم کما یغضب اللیث الحرب، وما ترددت عن شیء أنا فاعله ترددی عن قبض روح عبدی المؤمن وهو یکره الموت وأکره مساءته ولا بد له منه، وما تعبدنی عبدی المؤمن بمثل الزهد فی الدنیا، وما تقرب إلیَّ عبدی المؤمن بمثل أداء ما افترضت علیه، ولا یزال عبدی یتقرب إلیَّ بالنوافل حتی أحبه، فإذا أحببته کنت له سمعا وبصرا ویدا ومؤیدا، إن سألنی أعطیته، وإن دعانی استجبت له، وإن من عبادی المؤمنین لمن سألنی من العبادة فأکفه عنه ولو أعطیته إیاه لدخله العجب وأفسده ذلک، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا الغنی ولو أفقرته لأفسده ذلک، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحة إلا الفقر ولو أغنیته لأفسده ذلک، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلک، وإن من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلک، وإنی أدبر لعبادی بعلمی بقلوبهم إنی علیم خبیر.
6. من عادی لی ولیا فقد ناصبنی بالمحاربة، وما ترددت عن شیء أنا فاعله کترددی عن موت المؤمن یکرهه وأکره مساءته، وربما سألنی ولیی المؤمن الغنی
ص:40
فاصرفه إلی الفقر ولو صرفته إلی الغنی لکان شرا له، وربما سألنی ولیی المؤمن الفقر فاصرفه إلی الغنی ولو صرفته إلی الفقر لکان شرا له.
7. وعزتی وجلالی وعلوی وبهائی وجمالی وارتفاع مکانی لا یؤثر عبد هوای علی هوی نفسه، إلا أثبت أجله عند بصره وضمنت السماء والأرض رزقه وکنت له من وراء تجارة کل تاجر.
ومما تقدم عُلم أن الله تعالی یتردد فی قبض روح المؤمن فکیف یرضی بقتله؟ عندها یتضح أنه لا بد من مخرج للمؤمن إذا تعرض للضغوط.
وردت روایات بألسن متعددة تشیر إلی حرمة المؤمن بشکل خاص والمسلم. فمنها ما جاء فی البخاری أَنَّ النَّبِیَّ صلی الله علیه و آله قَالَ:
«سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ کُفْرٌ». (1)وجاء فی التشدید علی حرمة دم المسلم والمؤمن وفی التحذیر من قتلهما بل حتی الاشتراک فی دمهما ولو بکلمة، وفی عظم حرمة المؤمن، وذلک بحسب ألسنة الروایات، من المصادر ما یقطع بأن هذا الأمر من ضرورات الدین، حتی أنه صلوات الله تعالی علیه وآله قد وصف التقاتل بین المسلمین بالکفر کما جاء فی خطبة الوداع. (2) وألسنة الأدلة کانت بهذه الألفاظ: «لو أن آدم ومن دونه من الناس اشترکوا فی دم مؤمن أکبهم الله فی النار»، «لزوال الدنیا أهون علی الله تعالی من سفک دم مسلم بغیر حق»، «من أعان علی قتل مسلم بشطر کلمة, لقی الله یوم القیامة...»، «لا یحل قتل مسلم إلا فی ثلاث خصال زان محصن...»، وقال صلوات الله تعالی علیه وآله مخاطباً الکعبة المشرفة:
«ما أعظمک وأعظم حرمتک. والذی نفس محمد بیده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منک» ، وأما فیما یخص الجنة: «حتی اذا عاینها ودنت حیل بینه وبینها بملء کف من دم رجل مسلم اهراقها ظلما سمعت هذا من نبی الله صلی الله علیه [وآله] وسلم». بل حتی أنه قد ورد فی البخاری أن: «من قتل معاهداً لم یرح رائحة الجنة»، (البخاری کتاب الجزیة والموادعة ح/2930) فکیف بالمسلم والمؤمن؟
وما ذکره روحی فداه فی حج الوداع ونقله العامة والخاصة بشأن حرمة دم وعرض ومال المسلم - وهو من تشهد الشهادتین - کاف حیث قال صلوات الله تعالی علیه وآله:
«لا ترجعوا بعدی کفارا...» ، إلا من استثنی، وکذلک.
ص:41
وأما قاله الصحابة ونقله علماؤهم ونادوا به فکثیر، أوردت منه ما یؤدی الغرض. فقد جاء فی الأمثال من الکتاب والسنة للحکیم الترمذی: (1)
فقلب المؤمن أعظم شأنا من الحرم وما فیه أعظم من الکعبة فإن کانت الکعبة بیته فهذا نوره فی خزانته وإن کانت الکعبة لا یملکها غیره فهذا القلب أیضا... .
وعن عون المعبود لمحمد آبادی: (2) «حل لک دفعه عن نفسک ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن...»، وفی التمهید لابن عبد البر (3) تکلم هناک فی حرمة دم المؤمن ونقل کلمات لابن عمر الذی ردد کلمات النبی صلی الله علیه و آله - حسب الظاهر - فی تعظیم حرمة المؤمن علی حرمة الکعبة المشرفة زادها الله تعالی فخراً، وفی تفسیر ابن کثیر: (4) «وقال سعید بن جبیر من استحل دم مسلم فکأنما استحل دماء الناس جمیعا ومن حرم دم مسلم فکأنما حرم دماء الناس جمیعا هذا قول وهو الأظهر... .» وعن تفسیر البیضاوی: (5) «فإن إبقاء ألف کافر أهون عند الله من قتل امرئ مسلم وتکریره تأکید لتعظیم الأمر وترتیب الحکم علی ما ذکر من حالهم...» (6) وفی المستصفی للغزالی: (7) «ولذلک یجب علیه ترک ما أکره علیه إذا أکره علی قتل مسلم...» وسیأتی الکلام حول هذه النقطة بالذات فلا تقیة فیما یسبب هتک حرمة مؤمن آخر ویجوز ذلک فی غیره. وعن المنثور للزرکشی: (8) «ترک ألف کافر فی الحیاة أهون من الخطأ فی سفک دم مسلم قال وقد وقع التکفیر لطوائف من المسلمین یکفر بعضها بعضا، فالأشعری یکفر المعتزلی زاعما أنه کذب...». وکذلک قالوا: (9) «فإن من استحل قتل مسلم فهو کافر».
والعجب من قول ابن الهمام: «لا بد من تقییده بأن لا یکون القتل بغیر حق أو عن تأویل واجتهاد یؤدیه إلی الحکم بحله»، وقول ابن تیمیة: «أما إذا کان الباغی مجتهدا ومتأولا ولم
ص:42
یتبین له أنه باغ بل اعتقد أنه علی الحق وإن کان مخطئا فی اعتقاده: لم تکن تسمیته باغیا موجبة لأثمه»، وقال فی محل آخر: «ومنهم من قال هذا دلیل علی أن معاویة وأصحابه بغاة وأن قتال علی لهم قتال أهل العدل لأهل البغی لکنهم بغاة متأولون لا یکفرون ولا یفسقون»، (1) واعتقد أن کل ذلک لغرض تبریر فعلة خالد بن الولید مع الصحابی الجلیل مالک بن نویرة رضوان الله تعالی علیه الذی قتله ثم نزا علی زوجه لجمالها، فقال: أبو بکر (تأول فأخطأ)، علماً أن عدداً من الصحابة شهدوا علی إسلام الرجل، وقد ترضی علیه الاسفرایینی فی مسنده (2) عند ذکره تولیة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله صدقات قومه فکیف یترضی عالم مسلم علی رجل مرتد، والظاهر - و الله تعالی العالم - أن الذی قتله اثنان: جمال زوجته التی لطالما أعجبت خالداً، والثانی امتناعه عن دفع الصدقة لا مطلقاً بل لغیر من ولاه النبی صلوات الله تعالی علیه وآله علی الأقل برأیه کما عمل غیره برأیه، فاستحل دمه الشریف تحت عنوان الردة. وللمزید لک مصادر الحادثة فی الهامش لتطلع. (3) هذا أولاً. وثانیاً: (تأول!) قسم من الصحابة فی قتال سید الموحدین بعد الرسول الکریم صلوات الله تعالی علیهم وأصحابه وأتباعه من قبل أهل الجمل فی الواقعتین الصغری التی قاتلوا فیها عامل أمیر المؤمنین الصحابی عثمان بن حنیف الأنصاری، والکبری فی قتال أمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه، (4) وقتال معاویة علیاً صلوات الله تعالی علیه فی صفین (5) التی استشهد فیها عمار بن یاسر وغیره من الصحابة وخیرة التابعین، وکذا قتله حجر بن عدی (6) وأصحابه وغیرهم من المؤمنین رضوان الله تعالی علیهم.
فما فائدة النصوص المتقدمة وما قیمتها إلا للمنع من التأول الذی یتبعه ارتکاب الهتک. وقد حمل ابن قیم الجوزیة علی التأویل أی حملة فراجع ملحق المصادر (7)... فیتضح بطلان التقیید المذکور.
ص:43
مما تقدم أن للمؤمن بشکل خاص والمسلم بشکل عام حرمة عظیمة بعظم ما جاء فی الأثر من تأکید علی ذلک، وکما ذکرت لکی لا یتخذ قتله وانتهاک حرمته محلاً للتأول والتأویل فیکون لقتله والاعتداء علی حرمته غطاء یتخذه الجبابرة ویتبعهم بذلک الرعاع والمصفقین.
ومن الجدیر بالذکر أن تعظیم حرمة المؤمن علی الکعبة ناشیء من أهمیته فی إعمار هذا البیت المعظم، وإلا فما فائدة بیت أعده الله تعالی قبلة للمؤمنین والمسلمین ومحل یقبل فیه استغفارهم إن لم یوجد المستغفر والمستقبل والمعظم له، فتعظیم هذه البنیة الطاهرة المشرفة وإظهار هذا التعظیم أساسه هذا الوجود المبارک وهو المؤمن.
ومن خلال ما تقدم یتم تصور وتصویر التقیة من کونها سلاحاً یتسلح به المؤمن لیحفظ نفسه من الظالمین والمنحرفین الذین لا یرون أی حرمة لأی مخلوق، بل حتی الخالق عز اسمه، ولا یبیح لنفسه استخدام بعض الأسالیب حتی فی الرد علی العدوان الحاصل کقطع الماء عن الطرف المقاتل وتسمیم الطعام والماء، (1) کما فعل بعض بعد سقوط البعث البائد من قتل النساء والأطفال والشیوخ والشباب وتهجیر الناس من دورهم وسرقة أموالهم، بل وتم ضرب زائری مرقد الکاظمین الشریفین من آل محمد صلوات الله تعال علیه وآله فی ذکری استشهاد الإمام موسی بن جعفر علیه السلام ، بالأسلحة الکیماویة حقداً وبثوا السم للمشاة فی الطعام کل ذلک تحت عنوان المقاومة الشریفة، کما وباعوا النساء إلی الدول العربیة لیشفوا غلیلهم فهنیئاً للأمة العربیة علی ما حاربت محمداً وآله علیهم الصلاة والسلام.
ص:44
دلیل ذلک ما جاء فی النهی الشدید فی القرآن الکریم عن قتل النفس من غیر عذر فقال تعالی: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِی الْأَرْضِ فَکَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِیعاً وَ مَنْ أَحْیاها فَکَأَنَّما أَحْیَا النّاسَ جَمِیعاً (المائدة:من الآیة32)، فالآیة الکریمة لم تقید قتل النفس المسلمة فقط بل بینت سبب حل الدم فتأمل. وکذلک حدیثه صلوات الله تعالی علیه وآله:
«لا ترجعوا بعدی ضلالاً» أو «کفارا» علی أیِّ لفظ کان.
وقد أوردت کماً کبیراً - کما ستری فی الملحق - من المصادر التی نقلت الحدیث القدسی الشریف وأقوال النبی صلوات الله تعالی علیه وآله وأقوال الفقهاء لیعلم أن حرمة دم المؤمن بل مطلق الدم من غیر حق من ضرورات الدین، وهو أمر مسلم به عند المسلمین کالصوم والصلاة، فلا یجوز ارتکاب هذه الخطیئة بأی شکل من الأشکال. وقد بینت ألفاظ الروایات حالات جواز ارتکاب القتل کالقصاص، وهی موارد معینة ولا تشمل الشبهة مطلقاً، حیث یعلم أن التأول والاجتهاد فی قتل المسلم مرفوض قطعاً، وإلا لما نزلت هذه الآیة الشریفة: إِذا ضَرَبْتُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَتَبَیَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقی إِلَیْکُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (النساء:من الآیة94)، فإما أن یکون ذلک الشخص مستحقاً أو لا، ولا توجد حالة وسط ألا وهی حالة الشبهة. فمن قاتل مسلماً أو مؤمناً مستحلاً دمه من غیر سبب حق فهو عامد، وإلا فبإمکان أی شخص یدعی عدم حرمة دم فلان وینتهی الأمر.
ثم نأتی إلی أمر آخر، حیث قال تبارک وتعالی: إِنَّ الَّذِینَ یَکْفُرُونَ بِآیاتِ اللّهِ وَ یَقْتُلُونَ النَّبِیِّینَ بِغَیْرِ حَقٍّ وَ یَقْتُلُونَ الَّذِینَ یَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ أُولئِکَ الَّذِینَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِینَ (آل عمران:22، 21)، فیطرح هذا التساؤل هل کان علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیه من الذین یأمرون بالقسط أم لا؟ وعلیه هل یجوز قتاله وقتال أصحابه وشیعته أم أن من یقاتله من: اَلَّذِینَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِینَ کائناً من کان، فالآیة صریحة ولا یوجد مخصص یستثنی خال المؤمنین ولا غیره؟ الجواب عند من لا یخاف إلا الله تعالی.
وعلی کل حال فإنهم حاولوا تبریر عملیات القتل بالتأویل، لکی یکون معذوراً وکأن الله تعالی یعمل بهذه التبریرات، ولکن یبقی أمر تجدر الإشارة إلیه من قوله تعالی: مُحَمَّدٌ
ص:45
رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ تَراهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِکَ مَثَلُهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِی الْإِنْجِیلِ کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوی عَلی سُوقِهِ یُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ الْکُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِیماً (الفتح:29)، فمن خلال رُحَماءُ بَیْنَهُمْ تعلم الفرق بین عمار وأبی ذر، وعمار ومعاویة، وعمار والذین طالب بدمهم معاویة، فافهم أنت، لا تتشبث بفعل أمیر المؤمنین علیه السلام أنه لم یتعامل مع أسراهم کممالیک وأموالهم کغنائم، لأن المقام هنا مقام تشبیه حذف منه أداة التشبیه ووجه الشبه، لأن المسلم إذا قاتله المسلم انحلت ولایة الإسلام بینهما فیکون کالکفر، نعم قد یقال بالجمع مع قوله صلوات الله تعالی علیه وآله:
«لا ترجعوا بعدی ضلالاً- أو - کفارا» ، یحمل الکفر علی معناه حقیقة لا مجازاً، ولکن یکون من قبیل الکفر الذی لا یخرج من الملة ولکنه فی الآخرة حسابه حسابه، إلا أنه یمکن حمل الثانی علی التشبیه أیضاً.
ص:46
لو خُلِّیَ کل عاقل ونفسه، وقیل له إن هناک ضرراً یحیط بک، لَتَصَرَّفَ - جزماً - تصرفاً یدفع الضرر - وإن کان محتملاً - عن نفسه علی أنه لا یعقل أن یدفع هذا الضرر بضرر أشد منه لقید العاقلیة المتقدم، وإلا فإن ما قام به عمار رضوان الله تعالی علیه من تصرف لم یکن عن دلیل نقلی اعتمد علیه فی ذلک، بل کان راجعاً إلی العقل لیس غیر، حیث وجد بأن کلمة یریدها هؤلاء یقولها باللسان وقلبه مطئن بالإیمان فی قبال نجاته من القتل أمراً لیس بشیء، وعلیه فقد تلفظ بما یریدون وحصل علی ما یرید وانتهی الأمر إلی ما أحب هو لا إلی ما أحب الکفار، لأنه ادّخر نفسه لما هو أهم فبدلاً من أن یستشهد فی ذلک الوقت أصبح دلیلاً علی الفئة التی علی الحق فی نزاع یحصل بین المسلمین فئة یقودها أمیر المؤمنین علی صلوات الله تعالی علیه وأخری یقودها معاویة بن أبی سفیان، (1) ثم استشهد أیضاً فنال المرتبتین رضوان الله تعالی علیه.
وعلی ما تقدم یکون ذلک دلیلا برأسه عند من یقبل حجیة فعل الصحابی، أو اقتداءً به لأنه رجع إلی عقله فی هذا الفعل فیکون ما ذکر کمثال.
وأما عند من لا یری ذلک ویعتمد سنة المعصوم فقط فإن إقرار النبی صلوات الله تعالی
ص:47
علیه وآله له حیث قال:
«فإن عادوا فعد...» کما جاء ذکره فی محله، (1) فإنه بضم إقرار النبی صلوات الله تعالی علیه وآله إلی ما قام به هذا الصحابی الجلیل یکفی فی المقام. نعم یبقی أمر واحد حری أن یشار إلیه وهو أنه قد یُشْکَلُ علی موقف عمار من خلال اعتذاره وإبداء ندمه إلی النبی صلوات الله تعالی علیه وآله وهذا - کما قد یشکل به - إنما ناتج عن تأنیب الضمیر. والجواب أن هذا أمر طبیعی یحصل لکل إنسان یقوم بعمل فی حال الاضطرار فیتأثم منه فیکون مجرد أمر تابع إلی الحالة النفسیة لذلک الشخص لیس غیر، فإن هناک من لا یتأثم من ارتکاب الضرورات فیراها أمرا لیس بذی أهمیة وهناک من هو بخلافه. وسیأتی فی البحث التالی عرض الجنبة الشرعیة لهذه الواقعة التی أُقِرت کتاباً وسنة إن شاء الله تعالی.
مما تجدر الإشارة إلیه أولاً وقبل الخوض فی الأدلة، أن الله تعالی أمر بها فقال: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ (الأنعام: من الآیة108)، ولا أتصور هناک عاقلاً یقول: إنما أمر بذلک حبا بهم، بل إنه معلل بقوله تعالی: فَیَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ ، وإن کان ذلک غیر مُعتَرض علیه من قبل أتباع المذاهب باعتبار أنها مع الکفار کما سیتضح، والخلاف وقع فی استخدامها مع المسلم وسیتضح مشروعیتها والأمر بها. ولو اتخذنا هذه الآیة الشریفة کمثال (2) یترشح ذلک علی النبی والأئمة الأطهار لئلا یسبهم الکفار والنواصب عدواً بغیر علم.
ثم إنه قد اتفقت کلمة المسلمین علی مشروعیة استخدامها عند الإکراه أو خوف الضرر مع الکفار علی تفصیل فی محله. وقد جاء فی ذلک قرآن کریم عندما أظهر بعضٌ من أوائل المسلمین - الصحابة - موافقة الکفار الذین فتنوهم تخلصا من التعذیب أو القتل، مما جعلهم یشعرون بالحرج من هذا الفعل الذی قاموا به. ولو رجعنا إلی تفاسیر المسلمین لوجدنا ذلک واضحا عند تعرضهم لتبیین قوله تعالی: لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً (آل عمران:من الآیة28)،
ص:48
وکذلک عند تفسیر قوله تعالی: مَنْ کَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِیمانِهِ إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ وَ لکِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ (النحل:106). ومن خلال ما عرضوا له هناک یثبت المطلوب.
ویتضح مما تقدم الإقرار من لدن الله تعالی علی ما فعلوا والترخیص لهم فی ذلک، ولم یؤنب الذین قاموا بهذه الفعلة کما أنب أحد رجال بنی أمیة - مثلا - عندما عبس بسبب وصول الأعمی إلیه. (1)
وعلی کل حال فإن هؤلاء الصحابة المتقین هم عمار بن یاسر وصهیب الرومی وجبر مولی الحضرمی. علماً أنه قد وقع فعلا ما یخشونه علی أنفسهم من هؤلاء، فکان نصیب بعض آخر القتل ک- (یاسر وسمیة) والدی عمار رضوان الله تعالی علیهم. ولو تأملنا الآیتین الشریفتین السابقتین لوجدنا فیهما تهدیداً ووعیداً لمن یتخذ الکافرین أولیاء من دون المؤمنین إلا فی حال معین هذا فی الأولی وفی الثانیة اللجوء إلی التلفظ بکلمة الکفر ظاهراً لا إیماناً من المتلفظ بها، والاستثناء فیهما منصب علی هذین الصنفین من، ولما کان حفظ نفس المؤمن وحرمته عنده تعالی أهم من الظاهر الذی یریده هؤلاء جعل للمؤمنین مخرجا ألا وهو «التقیة». عندها لا یعد من استخدمها کافراً، بل محکوم بإیمانه وذلک بما اطمأن به قلبه. ومن خلال الظروف التی نستقرؤها والمحیطة بمن استخدمها، نجد أنها مشروطة بموارد دون أخری فقد تشرع وقد لا تشرع فیرتفع الموضوع من رأس، وکل ذلک إنما هو بحسب الموارد التی لا یحفظ فیها المسلم نفسه من الکافر، وسیتضح کل مطلب فی محله إن شاء الله تعالی.
وبناء علی ما تقدم فإنها مسألة سیالة تشمل جمیع نواحی حیاة المؤمن بقیود وشرائط معینة تدخل فیها، فلذلک لم نجد لها باباً معیناً تبحث فیه، ولکنها تعتبر من القواعد الفقهیة العامة التی لها ظروفها وشرائطها المعینة فیعمل بها عند تحققها، کقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة ارتکاب أقل الضررین، والضرورات تبیح المحظورات (2).إلخ. علی أن هناک من
ص:49
الآیات الکریمة ما یساعد علی اقتناص هذا المعنی منها، کقول الله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ (البقرة: من الآیة256)، و ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ (المائدة: من الآیة6)، و یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ (البقرة: من الآیة185)، و لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (البقرة: من الآیة286)، و وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ (البقرة: من الآیة195)، و فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَیْهِ (البقرة:من الآیة173)، و فَمَنِ اضْطُرَّ فِی مَخْمَصَةٍ غَیْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ (المائدة:من الآیة3) مع ضمیمة قیاس الأولویة أو کبری آیات الأمثال، و فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ (الأنعام: من الآیة145)، و فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ (النحل:من الآیة 115). وللمزید راجع مصادر المسلمین تحت العناوین المذکورة وننقل من مصادر أتباع المذاهب ما یتیسر هنا.
وقال البخاری (1) فی کتاب الإکراه: وَقَوْلِ الله تَعَالَی: إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ وَ لکِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ وَقَالَ: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَهِیَ تَقِیَّةٌ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِینَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِیمَ کُنْتُمْ قالُوا کُنّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ إِلَی قَوْلِهِ: عَفُوًّا غَفُوراً وَقَالَ: وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْیَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ نَصِیراً فَعَذَرَ الله الْمُسْتَضْعَفِینَ (2) الَّذِینَ لَا یَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْکِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْمُکْرَهُ لَا یَکُونُ إِلَّا مُسْتَضْعَفًا غَیْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ (3) التَّقِیَّةُ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِیمَنْ یُکْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَیُطَلِّقُ لَیْسَ بِشَیْ ءٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَیْرِ وَالشَّعْبِیُّ وَالْحَسَنُ... وکذلک قال (4) فی کتاب تفسیر القرآن: (تقاة وتقیة واحدة...) انتهی... وأما النووی فإنه قال: (5) «إن کفر وقلبه مطمئن بالإیمان، ولا تبین منه زوجته ولا یحکم علیه بحکم الکفر.» هذا قول مالک والشافعی والکوفیین غیر محمد بن الحسن فإنه قال: «إذا أظهر الشرک
ص:50
کان مرتدا فی الظاهر، وفی ما بینه وبین الله تعالی علی الإسلام، وتبین منه امرأته ولا یصلی علیه إن مات ولا یرث أباه إن مات مسلما.» قال القرطبی: «وهذا قول یرده الکتاب والسنة قال تعالی: إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ (النحل: من الآیة106). وقال: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً (آل عمران:من الآیة28) ». ثم نقل کلام البخاری وقال:
«فلما سمح الله تعالی بالکفر به لمن أکره وهو أصل الشریعة ولم یؤاخذ به، حمل علیه أهل العلم» .
نقل عنه صلوات الله تعالی علیه وآله:
«رفع عن أمتی الخطأ والنسیان وما استکرهوا علیه...» ، وهو بالمعنی یساوق التقیة فالمکره - بالفتح - یأتی بما یریده المکرِه - بالکسر - فتکون روایات التقیة مفسرة - علی الأقل - لحدیث الإکراه وینتهی الأمر إلی جوازها عند تحقق موجبها. وأما المصادر التی ورد فیها هذا الحدیث ففی الهامش. (1)
ص:51
وهذا الدلیل یصلح أیضاً لاستخدامها بین المسلمین أنفسهم، ولکن قد یقال: إن المراد بالأول - أی المکرِه - غیر المسلم فقط بدلیل لفظ (أمتی) وجوابه: نعم ینحصر الثانی فی المسلم لأنه صلوات الله تعالی علیه وآله خص المرفوع عنه به، ولکن الأول - المکرِه - هنا لا یساوی الکافر وإلا لکان کل مسلم غیر معصوم کافراً لأنه قد یرتکب الإکراه ضد غیره. وهذا ما سیتضح من خلال استعراض أدلة التقیة فی محله من الفصل التالی، کما یمکن متابعة ذلک عند مراجعة باب الإکراه فی الموسوعات الفقهیة عند باقی الفرق، وکمثال علی ذلک إکراه عثمان بن عفان علی نفی أبی ذر رحمه الله إلی الربذة کما ستری فی ملحق المصادر ص241، وإکراه عمر بن الخطاب علی تشکیل الشوری وقتل من لا یرضی بالمعین هذا أولاً، وثانیاً اتفاق فقهاء المسلمین علی عدم الانحصار بالکافر - وهذا الاستدلال مبنی علی من یقبل الاتفاق أو الإجماع کدلیل -. ثم إن الإکراه المراد هنا هو غیر المشروع حتماً، وهو ما یقع من ظلم علی الثانی - المُکْرَه -..
والنتیجة أن نفس حدیث الإکراه الذی قد یطلق علیه حدیث الرفع یصلح للاستدلال من خلاله علی استخدام التقیة مع الکفار ومع المسلمین علی حد سواء، فکلما تحقق إکراهٌ أمکنت التقیة فراراَ من الأذی المحتمل، واما تقدیر حجم الضرر والأذی فهذا أمر آخر لا علاقة له بالموضوع بعد ثبوت أصل إمکان العمل بعنوان ثانوی غیر الأول. فهو إذن دلیل صریح نص فی
ص:52
إمکان وقوع التقیة عند صدور الإکراه من ظالم، نعم لا یمکن التمسک بإطلاقه من حیث الإتیان بها فی کل واقعة بل یکون مقیداً بما إذا لم یکن الإکراه یوقع فی محذور یمنع منها کارتکاب قتل نفس محترمة لحفظ نفس المکرَه. کما سیأتی إن شاء الله تعالی.
ثم إن الحدیث ورد بلفظ
«وما استکرهوا علیه» ، ولم یأت بلفظ وما أکرهوا علیه، والفرق بین اللفظین من جهتین:
الأولی: أن الإکراه فیه مباشرة من المکرِه - بالکسر - بخلافه فی الاستکراه ففیه المباشرة وغیر المباشرة.
الثانیة: أن الإستکراه فیه شدة وأذی لأن الأول یطلب من الثانی إیقاع أمر مکروه له.
(و الله تعالی أعلم ورسوله وآله صلوات الله تعالی علیه وعلیهم)
ص:53
ص:54
من خلال تتبعی للمصادر التی تحدثت عن استخدام التقیة والحث علیها مطلقاً مع المسلمین ومع غیرهم عند أتباع المذاهب، فقد جمعت منها ما یشکل عند المطلع قطعاً بأنها إن لم تکن مستخدمة علی نطاق أوسع مما هی علیه عند شیعة أهل البیت علیهم السلام، فهی لا أقل علی غرار ما نقلته کتبنا الغراء بهذا الشأن، ابتداءً من تعامل النبی صلوات الله تعالی علیه وآله بها مع الصحابة أنفسهم، ثم الصحابة بینهم ومع الأمراء وانتهاءً بعامتهم عملاً بفتاوی وأقوال علمائهم فی هذا الباب.
ومن الجدیر بالذکر أنک ستجد فی بعض الأحیان أن نفس مفردة التقیة لم تسخدم بذاتها إنما عبروا عنها بالمعنی وذلک إما بلفظ «خشیة علی نفسه» أو بلفظ «الإکراه» وما إلی ذلک... ولو أردت المزید فراجع باب الاضطرار والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وباب الإکراه فی کل باب من أبواب الفقه والعقائد فی مؤلفاتهم.
وسوف یتضح للقارئ ذلک من خلال متابعة ما سیأتی تباعاً خلال البحث.
وکان ذلک مع أحد الصحابة عندما استأذن علیه ویظهر من الروایة أن هذا الرجل لا یسلم من لسانه أحد، فما کان منه إلا أن یتقیَ شره، وقد ذکروا فی التعلیق علی هذه الروایة أن الرجل کان منافقاً، ولکن هناک من ذکر اسم الرجل المقصود وهناک من لم یورده، ولیس ذلک مهما
ص:55
بقدر ما للموقف الذی سجله النبی صلوات الله تعالی علیه وآله من أهمیة. ففی البخاری (1) هناک باب خاص بالمداراة فی کتاب الأدب قال:
أن عائشة اخبرته أنه استأذن علی النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشیرة أو بئس أخو العشیرة... فلما دخل ألان له الکلام فقلت: یا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له فی القول، فقال: أی عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من ترکه أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
ومن یتأمل فیه یجد أن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله استخدم نفس المفردة حیث قال: (اتقاء) وحیث أن الروایة جاءت فی البخاری فإنه لا مجال لإنکارها أو الرد علیها. ومن باب ذکر المصادر الأخری لتوثیق الحالة أکثر أُورِد هذا الحدیث أیضا نقلا عن سنن الترمذی، (2) وبعد ما أورده قال: (هذا حدیث حسن صحیح)، و فی سنن ابن حبان. (3) وجاء بعد ذلک فی البخاری أیضا نفس الباب:
عن عبد الله بن أبی ملیکة أن النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم أهدیت له اقبیة من دیباج مزررة بالذهب فقسمها فی أناس من أصحابه وعزل منها واحدا لمخرمة فلما جاء قال خبأت هذا لک، قال أیوب بثوبه إنه یریه إیاه وکان فی خلقه شیء (ورواه حماد بن زید عن أیوب)، وهذان الدلیلان کافیان علی جواز استخدمها مع المسلم.
أما الصحابة وغیرهم فقد استخدموها عندما کانوا یخافون بطش السلطان فهذا عبد الله بن عمر کان یستعمل التقیة مع أمراء بنی أمیة فقد روی عبد الرزاق فی المصنف (4) قال:
عن میمون بن مهران قال دخلت علی ابن عمر أنا وشیخ أکبر منی، قال: حسبت أنه قال: ابن المسیب، فسألته عن الصدقة أدفعها إلی الأمراء؟ فقال: نعم، قلت وإن اشتروا به الفهود والبیزان (الصقور)؟ قال: نعم...
وعن محمد بن راشد قال:
أخبرنی أبان قال: دخلت علی الحسن وهو متوارٍ زمان الحجاج فی بیت أبی خلیفة فقال له رجل: سألت ابن عمر هل أدفع الزکاة إلی الأمراء؟ فقال ابن عمر: ضعها فی
ص:56
الفقراء والمساکین. قال: فقال لی الحسن: ألم أقل لک إن ابن عمر کان إذا أمن الرجل قال: ضعها فی الفقراء والمساکین.
وقال الطحاوی فی مختصر اختلاف العلماء: (1) وقد روی عن ابن عمر أنه قال أدفعها إلی من غلب.
فما تقولونه فی ابن عمر نقبله فینا، فإن کانت التقیة تهمة نُفاقٍ فلتکن کذلک مع غیرنا وإلا فالحمد لله رب العالمین.
وکذلک روی صاحب المدونة الکبری (2) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «ما من کلام کان یدرأ عنی سوطین من سلطان إلا کنت متکلما به». فما هو شأن ذلک السلطان؟ أکان عبد الله بن مسعود تکلم ذلک الکلام فی ظل الحاکم المسلم أم الکافر؟ أم کان منافقاً؟
وروی البیهقی فی سننه (3) تفسیر ابن عباس لآیة مَنْ أُکْرِهَ (النحل:من الآیة106) وفیه:
فأما من أکره فتکلم بلسانه وخالفه قلبه بالإیمان لینجو بذلک من عدوه - (مطلقاً مسلماً کان أم کافراً ولم یقید) - فلا حرج علیه، إن الله سبحانه إنما یأخذ العباد بما عقدت علیه قلوبهم.
ورواه السیوطی فی الدر المنثور (4) وذکر هناک أیضا ما نذهب إلیه - نحن الإمامیة - من عدم التقیة فی الدماء فقال: «ولا یبسط یده فیقتل ولا إلی إثم فإنه لا عذر له».
ونقل روایات فی هذا الباب وفصل الکلام هناک فلیراجع المصدر.
وجاء فی مقدمة کتاب الموطأ للإمام مالک، (5) التی کانت بقلم محمد کامل حسین ما نصه:
وفی حیاة الامام مالک شاهد العالم الإسلامی تطورات خطیرة کان لها أثرها القوی فی الحیاة السیاسیة والاجتماعیة والعقلیة، ففی هذه السنوات نشطت دعوة العباسیین وتطورت هذه الدعوة إلی انقلاب الحکومة، فسقطت دولة بنی أمیة، وتولی العباسیون الأمر، وتتبعوا الأمویین ومن لاذ بهم قتلا وتعذیبا، وسقوط دولة وقیام أخری یؤدی دائما إلی لون من الاضطراب بین الناس، ویوجد فیهم شیئا من عدم الطمأنینة ومن تبلبل الافکار، فمنهم من یتخذ التقیة فیضمر غیر ما یظهر، ومنهم من یستسلم للأمر الواقع ولا یأبه بمجری الحوادث حوله، ومنهم من یقوم مع الحکومة
ص:57
الجدیدة ابتغاء التقرب والزلفی لدی أولی الأمر، ومنهم من یؤازر الحرکات التی ترمی إلی عودة الحکومة القدیمة، هذا ما نراه فی التاریخ فی کل العصور وفی کل انقلاب یحدث...) أه- ... .
ومن باب التعلیق علی هذا المقطع من المقدمة أقول: أعتقد جازما بأن هذا التقسیم الذی قام به محمد کامل حسین - المقدم للموطأ - کان ساریاً بین أتباع المذاهب الأخری ولم یکن من الشیعة من بینهم والحمد لله فإن أهل التشیع کانوا یعملون بالتقیة من الأساس وهذا التقسیم الذی کان فیه المداری والمداهن - الذی یبیع دینه بمرضاة أمراء الجور - والقسم الرابع الذی کان منتفعا من حکام بنی أمیة فیقوم بمحاربة العباسیین للرجوع إلی ذلک الحکم والسؤال المطروح أن مالکاً من أی قسم کان؟ الإجابة فی هذا المقطع من مقدمته حیث جاء دور إمامه - أعنی مالکاً - فأکمل المقدِّم قائلاً:
أما مالک نفسه فکان مضطرا إلی أن لا یسهم فی هذه الثورة مساهمة إیجابیة، ذلک أن المنصور العباسی أرسله مع من أرسل إلی بنی الحسن لیدفعوا إلیه محمدا وإبراهیم ابنی عبد الله، فلما قام محمد وإبراهیم بالثورة لم یسع مالک أن یشترک فیها وهو الذی کان رسولا لتسلمهما بالأمس، وفی الوقت نفسه کان ینقم علی المنصور جبروته وطغیانه ولهذا کان یأتیه أهل المدینة یستفتونه فی الخروج مع محمد ویقولون: إن فی أعناقهم بیعة لأبی جعفر فیقول: إنما بایعتم مکرهین ولیس علی مکره یمین. وهذه التیارات السیاسیة اضطرت الامام إلی أن یتحفظ، ولهذا وصف مالک بأنه کان أعظم الخلق مروءة وأکثرهم صمتا قلیل الکلام متحفظا بلسانه من أشد الناس مداراة للناس....
و الله لا أعلم إن کان هذا الکلام صحیحاً أم هو تلاعب بالألفاظ فإما أن یکون قد عمل بالمداراة وهی حسن خلق ومن المروءة أم کان یدعو إلی بنی أمیة عندما کان یشیر علی الناس بما أشار!! ثم ماذا کان یفعل عندما کان یرسل فی طلبه المنصور الدوانیقی وقد کان یقول للناس إن بیعتهم کانت عن إکراه ألیست هذه هی التقیة؟ وإلا فما جعل مالکاً أن یلیِّن جانبه عندما یحضر عند المنصور؟
ونسیر قدماً علی کل حال لنکمل استعراض أدلة الأخوة فی استخدام التقیة التی أخذت منهم مأخذاً عظیماً.
وأما فی تقیة أحمد بن حنبل فننقل منها ما یتیسر، حیث جاء عن الطبری فی تاریخه: (1)
«ان المأمون کتب إلی إسحاق بن ابراهیم أن یمتحن القضاة والفقهاء والمُحدثین فی
ص:58
هذه المسألة - التی هی مسألة خلق القرآن - فدعا اسحاق بن ابراهیم جملة منهم وفیهم أحمد بن حنبل، فقال له: ما تقول فی القرآن؟ قال هو کلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو کلام الله، لا أزید علیها»، وهو المعروف عنه القول بعدم خلق القرآن.
وقد نبأنا کل من الیعقوبی والجاحظ بأمره من خلال ما نقلاه من هاتین الروایتین: أما الأولی: فقد قال الیعقوبی فی تاریخه (1) عندما روی مناظرة إسحاق بن ابراهیم له فی مجلس المعتصم، وهی روایة طویلة نذکر منها محل البحث:
فقال إسحاق: هذا العلم الذی علمته نزل به علیک ملک، أو علمته من الرجال؟ قال: بل علمته من الرجال. قال: شیئاً بعد شیء أو جملة؟ قال: علمته شیئاً بعد شیء، قال: فبقی علیک شیء لم تعلمه؟ قال: بقی علی. قال: فهذا مما لم تعلمه، وقد علمکه أمیر المؤمنین. قال: فأنی أقول بقول أمیر المؤمنین. قال: فی خلق القرآن؟ قال: فی خلق القرآن. فأُشهِدَ علیه، وخلع علیه، وأطلقهُ.
وأما الثانیة: فقد قال الجاحظ رداً علی الحنابلة فی مقدمة کتاب أحمد بن حنبل والمحنة (2) نقلا عن هامش الکامل: (3)
قد کان صاحبکم هذا - أی أحمد بن حنبل - یقول: لا تقیة إلا فی دار الشرک. فلو کان ما أقر به من خلق القرآن کان منه علی وجه تقیة، فقد عملها فی دار الأسلام. وقد أکذب نفسهُ، وإن کان ما أقر به علی نحو الصحة والحقیقة فلستم منه ولیس منکم، علی إنه لم یرَ سیفاً مشهوراً، ولا ضُرب ضرباً کثیراً، ولا ضُرب الا ثلاثین سوطاً مقطوعة الثمار، مُشبعة الأطراف، حتی أفصح بالأقرار مراراً، ولا کان فی مجلس ضیق، ولا کانت حالته مؤیسة، ولا کان مُثقلاً بالحدید، ولا خُلعَ قلبه بشدة الوعید... .
ولکننا نجد أحمد علی عهد المتوکل وعند ارتفاع محنته کان یقول: (ومن زعم ان القرآن کلام الله، ووقف ولم یقل لیس بمخلوق فهو أخبث من القول الأول). (4) وقد نقل عنه فی کتاب الرد علی الجهمیة فی کتاب الدارمی (5) ولعن من یقول القرآن کلام الله ویسکت، فقال: «وقالت طائفة: القرآن کلام الله وسکتت، وهی الواقفة الملعونة».
وفی تاریخ الیعقوبی قال: (6) وکان عیسی بن موسی یقول إن له ولایة العهد بعد أبی جعفر
ص:59
فلما ورد علیه کتاب أبی جعفر بما اجتمع علیه القواد وأهل خراسان من تصییر ولایة العهد من بعده للمهدی وأشار علیه بأن یسبق إلی ذلک کتب إلیه عیسی یعظم علیه هذا الأمر ویذکر له ما فی نکث العهود ونقض الأیمان وأنه لا یأمن أن یفعل الناس هذا فی بیعته وبیعة ابنه وجرت بینهما مراسلات وقدم عیسی بغداد فوثب به الجند یوما بعد یوم وصاروا إلی بابه حتی خاف علی نفسه فلما رأی ذلک رضی وسلم فبایع المنصور بولایة العهد.
وجاءت التقیة فی المبسوط للسرخسی: (1)
فیما ذکر عن إبراهیم رحمه الله قال لی رجل: إنی أنال من رجل شیئا فیبلغه عنی فکیف أعتذر منه؟ فقال له إبراهیم: و الله ان الله لیعلم ما قلت لک من ذلک من شیء - أی أضمر فی قلبک الذی معناه أن الله لیعلم الذی قلت لک من حقک من شیء. وعن عقبة بن غرار رحمه الله قال: کنا نأتی إبراهیم رحمه الله وهو خائف من الحجاج فکنا إذا خرجنا من عنده یقول لنا ان سُئلتم عنی وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أین أنا ولا لکم علم بمکانی ولا فی أی موضع أنا واعنوا أنکم لا تدرون فی أی موضع أنا فیه قاعد أو قائم فتکونون قد صدقتم،
وذکر أیضاً:
وأتاه رجل فی الدیوان فقال: إنی اعترضت علی دابة وقد نفقت وهم یریدون یحلفوننی أنها الدابة التی اعترضت علیها فکیف أحلف فقال: ارکب دابة واعترض علیها علی بطنک راکبا ثم احلف لهم أنها الدابة التی اعترضت علیها فیفهمون الغرض وأنت تعنی اعترضت علیها علی بطنک. ویحکی عن إبراهیم رحمه الله أنه کان استأذن علیه رجل وهو لا یرید أن یأذن له رکب رشادا وأراد فرس البخت وقال لجاریته: قولی: إن الشیخ قد رکب وربما یقول لها: اضربی قدمک علی الارض وقولی لیس الشیخ هنا أی تحت قدمی.
ولا أعلم لماذا لم یتهم هؤلاء بالکذب والنفاق، واللطیف أنه علم أناساً هذا السلوک وهؤلاء أیضا علموه غیرهم تأسیاً به ولم نجد أحدا یرمی هؤلاء بالنفاق والکذب والخداع.
وأنقل لکم مما جاء فی فتح الباری لابن حجر (2) أنه قال:
المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة وضابط المداراة أن لا یکون فیها قدح فی الدین، والمداهنة المذمومة أن یکون فیها تزیین القبیح وتصویب الباطل ونحو ذلک. وقال الطبری اختلف السلف فی الأمر بالمعروف فقالت طائفة یجب مطلقا واحتجوا
ص:60
بحدیث طارق بن شهاب رفعه أفضل الجهاد کلمة حق عند سلطان جائر وبعموم قوله من رأی منکم منکرا فلیغیره بیده الحدیث... .
هنا تکلم عن شرائط الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وتعلیقاً علی ما ذکره أقول: وکیف یمکن ترک ذلک والاکتفاء بالاستنکار فی القلب فهل هذا تعطیل لهذا الفرع أم أن التقیة توجب أمراً آخر وتلغی موضوع الحکم الأولی؟ وأنصحک أن تقرأ الموسوعات الفقهیة التی تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لتعلم کیف أن التقیة أمر متأصل عند الفقهاء.
وفی عون المعبود للعظیم آبادی: (1) نقل فی جواز المداراة مع المعلن بالفسق والجائر: وعن القرطبی:
والفرق بین المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنیا لصلاح الدنیا أو هما معا وهی مباحة وربما استحبت والمداهنة ترک الدین لصلاح الدنیا والنبی صلی الله علیه [وآله] وسلم إنما بذل له من دنیاه حسن عشرته... الذین یکرمون) بصیغة المجهول من الإکرام أی یکرمهم الناس ویوقرونهم وسلم (اتقاء ألسنتهم) بالنصب مفعول له لیکرمون عنه أی لأجل اتقاء ألسنتهم... .
أه... واتصور أن المعلن بالفسق هنا من المسلمین لیس غیر فافهم.
وجاء فی سنن ابن حبان: (2)
قال أبو حاتم رضی الله عنه المداراة التی تکون صدقة للمداری هی تخلق الإنسان الأشیاء المستحسنة مع من یدفع إلی عشرته ما لم یشبها بمعصیة الله والمداهنة هی استعمال المرء الخصال التی تستحسن منه فی العشرة وقد یشوبها ما یکره... .
وهذا ما نقوله نحن أیضاً فهل تکون مداراة القوم إیمان ومداراتنا نفاق؟
وقال (3) أیضا: «ذکر الإباحة للإمام لزوم المداراة مع رعیته وإن علم من بعضهم ضد ما یوجب الحق من ذلک أخبرنا الفضل بن الحباب ثم ساق الحدیث بکامله...» .
وأکثر من هذا وذاک أنقل لکم قولا لطیفاً ذکره محمد بن الحسین الآجری فی کتابه الغرباء (4) حیث قال:
وداری أهل زمانه ولم یداهنهم وصبر علی ذلک، فهذا غریب من یأنس إلیه من العشیرة والإخوان قلیل ولا یضره ذلک فإن قال قائل: افرق لنا بین المداراة
ص:61
والمداهنة؟ قیل له: المداراة یثاب علیها العاقل، ویکون محموداً بها عند الله تعالی، وعند من عقل عن الله تعالی، هو الذی یداری جمیع الناس الذین لا بد له منهم ومن معاشرتهم، لا یبالی ما نقص من دنیاه، وما انتهک به من عرضه، بعد أن یسلم دینه، فهذا رجل کریم غریب فی زمانه. والمداهن فهو الذی لا یبالی ما نقص من دینه إذا سلمت له دنیاه، قد هان علیه ذهاب دینه وانتهاک عرضه، بعد أن تسلم له دنیاه، فهذا فعل مغرور فإذا عارضه العاقل فقال: هذا لا یجوز لک فعله قال: نداری فیکسبوا المداهنة المحرمة اسم المداراة، وهذا غلط کبیر من قائله، فاعلم ذلک؟ قال النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم:
«مداراة الناس صدقة» وقال الحسن علیه السلام :
«المؤمن یداری ولا یماری ینشر حکمة الله فإن قبل حمد الله وإن ردت حمد الله تعالی» . وقال محمد بن الحنفیة رحمه الله: «لیس بحکیم من لم یعاشر بالمعروف لمن لا من معاشرته بدا حتی یجعل الله تعالی له منه فرجا» ومخرجا قال محمد بن الحسین: «فمن کان هکذا فهو غریب».
فانظروا کیف یمتدح الرجل المداری غیر المداهن، ولکن مع ذلک عبر عنه بالغریب وهذا واقع عجیب، وهو الحق وإن أکثرهم للحق لکارهون، فهل من مخرج للمکفرین وأتباعهم من هذا الکلام؟
وقال الشعرانی فی العهود المحمدیة: (1)
قلت: والمداراة تکون بإسقاط جزء من الدنیا والمداهنة تکون بإسقاط شطر من الدین فالمداراة مستحبة، والمداهنة حرام فی حرام ومکروه فی مکروه. و الله أعلم....
وأنا اقول: بل حرام فی حرام ولیس «حرام فی حرام ومکروه فی مکروهٍ» أولاً لعدم اجتماع الحرمة والکراهة، وثانیاً لإنها إن کانت تسقط شطراً من الدین فلا خیر فیها.
ونقل المتقی الهندی فی کنز العمال (2) عن النزال بن سبرة قال:
کنا مع حذیفة فی البیت، فقال له عثمان: ما هذا الذی یبلغنی عنک؟ فقال: ما قلته، فقال عثمان: أنت أصدقهم وأبرهم، فلما خرج قلت له ألم تقل ما قلته؟ قال: بلی ولکنی أشتری دینی ببعضه مخافة أن یذهب کله.
أما قول حذیفة رضوان الله تعالی علیه:
«ولکنی أشتری دینی ببعضه» لیس معناه أنه یسقط قسما من دینه علی نحو المبادلة، وإلا فما الفائدة من ذلک وهو صاحب سر رسول الله صلوات الله تعالی علیه وآله، بل کلامه هذا یعنی أنه یشتری دینه بواسطة بعض آخر منه لما جعل به مخرجا ومتنفساً
ص:62
للمؤمن من بعض ما قد یحتاج إلیه وإلا فمع إنکاره التقیة یذهب دینه کله. وهذه الحادثة نقلها السرخسی کما سیأتی مرتین فی کتابه المبسوط ولکن أحداهما تلمیحاً وأخری تصریحاً ونقلتها أیضا باقی کتب أتباع المذاهب الإسلامیة وسیأتی ذلک ان شاء الله تعالی.
وذکر صاحب مواهب الجلیل للرعینی: (1)
وأما لو لم یقر بقبض الثمن، وقال إنما أشهدت له علی نفسی بقبضه تقیة علی نفسی لا شبه أن یصدَّق فی ذلک مع یمینه فی المعروف بالغصب... .
وفی المبسوط للسرخسی: (2)
وعن الحسن البصری رحمه الله التقیة جائزة للمؤمن إلی یوم القیامة إلا أنه کان لا یجعل فی القتل تقیة وبه نأخذ، والتقیة أن یقی نفسه من العقوبة بما أظهره وإن کان یضمر خلافه. وقد کان بعض الناس یأبی ذلک ویقول: إنه من النفاق، والصحیح أن ذلک جائز لقوله تعالی: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً واجراء کلمة الشرک علی اللسان مکرها مع طمأنینة القلب بالایمان من باب التقیة وقد بینا أن رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم رخص فیه لعمار بن یاسر رضی الله عنه الا أن هذا النوع من التقیة یجوز لغیر الانبیاء والرسل علیهم الصلاة والسلام فأما فی حق المرسلین صلوات الله علیهم أجمیعن فما کان یجوز ذلک فیما یرجع إلی أصل الدعوة إلی الدین الحق وقد جوزه بعض الروافض لعنهم الله.
أقول إلی هذا الرجل لن أرد علیک ترفعاً، ولکن ماذا تقول فی حدیث عائشة المذکور عندما استخدمها النبی صلوات الله تعالی علیه وآله وکذلک ماذا یقول عندما أمره ربه ألا یجهر بالدعوة إلی الدین الجدید عندما کانت سریة ألیست هذه تقیة؟ الجواب! ثم من قال بأننا نجوزها للأنبیاء فی تبلیغ الأحکام؟ نعم نفس التقیة حکم من الأحکام فإما أن یعمل بها فی موضع لا ضرر منه أو یبلغها.
وعلی کل حال نسأله سؤالا واحداً وهو کیف یجوز وقوع السهو والنسیان للأنبیاء علیهم السلام ولا تقبل وقوع التقیة منهم؟ علی أن کلاهما یوقع فی محاذیر نعرض لها فی محلها إن شاء الله تعالی فی أن أیهما یصح أن یقع، فأکمل قائلا: (ولکن تجویز ذلک محال لأنه یؤدی إلی أن لا یقطع القول بما هو شریعة لاحتمال أن یکون قال ذلک أو فعله تقیة والقول بهذا
ص:63
محال وقوله: إلا أنه کان لا یجعل فی القتل تقیة یعنی إذا أکره علی قتل مسلم لیس له أن یقتله لما فیه من طاعة المخلوق فی معصیة الخالق وایثار روحه علی روح من هو مثله فی الحرمة وذلک لا یجوز وبهذا یتبین عظم حرمة المؤمن لان الشرک بالله أعظم الاشیاء وزرا وأشدها تحریما قال الله تعالی: تَکادُ السَّماواتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ إلی قوله تعالی: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، ثم یباح له اجراء کلمة الکفر فی حالة الاکراه ولا یباح الاقدام علی القتل فی حالة الاکراه فیه یتبین عظم حرمة المؤمن عند الله تعالی) أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم لا یجوز سفک دم المؤمن تقیة فهل یجوز ذلک لأصحاب الجمل وصفین؟
ولنکمل مع هذا العالم الفقیه: (وهو مراد ابن عباس رضی الله عنه إنما التقیة باللسان لیس بالید یعنی القتل والتقیة باللسان هو إجراء کلمة الکفر مکرها وعن حذیفة رضی الله عنه قال: فتنة السوط أشد من فتنة السیف قالوا له: وکیف ذلک قال: إن الرجل لیضرب بالسوط حتی یرکب الخشب یعنی الذی یراد صلبه یضرب بالسوط حتی یصعد السلم وإن کان یعلم ما یراد به إذا صعد وفیه دلیل أن الإکراه کما یتحقق بالتهدید بالقتل یتحقق بالتهدید بالضرب الذی یخاف منه التلف والمراد بالفتنة العذاب قال الله تعالی: ذُوقُوا فِتْنَتَکُمْ (الذاریات: من الآیة14)، وقال الله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ (البروج:من الآیة10) - أی عذبوهم - فمعناه عذاب السوط أشد من عذاب السیف لأن الالم فی القتل بالسیف یکون فی ساعته وتوالی الألم فی الضرب بالسوط إلی أن یکون آخر الموت وقد کان حذیفة رضی الله عنه ممن یستعمل التقیة علی ما روی أنه یداری رجلا [یعنی عثمان بن عفان فقد ذکر نفس الحادثة مصرحاً باسمه کما سیأتی فی محل آخر] فقیل له: إنک منافق فقال: لا ولکنّی أشتری دینی بعضه ببعض مخافة أن یذهب کله وقد ابتلی ببعض ذلک فی زمن رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلّم علی ما روی: أن المشرکین أخذوه واستحلفوه علی أن لا ینصر رسول الله فی غزوة فلما تخلص منهم جاء إلی رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم وأخبره بذلک فقال علیه [وعلی آله] الصلاة والسلام:
«أوف لهم بعهدهم ونحن نستعین بالله علیهم».
أقول: انظروا إلی تهمة المنکرین کیف تطابقت مع تهمة الآخرین لحذیفة رضوان الله تعالی علیه حیث قیل له: (فقیل له: إنک منافق)، (فقال: لا).
إلی هنا تمّ بعض المطلوب والآن ینقل لکم قصّة مسروق مع معاویة:
ص:64
وذکر عن مسروق رحمه الله قال: بعث معاویة... بتماثیل من صفر تباع بأرض الهند فمر بها علی مسروق رحمه الله قال: و الله لو أنّی أعلم أنّه یقتلنی لغرقتها ولکنی أخاف أن یعذّبنی فیفتننی و الله لا أدری أیّ الرجلین معاویة رجل قد زین له سوء عمله أو رجل قد یئس من الآخرة فهو یتمتع فی الدنیا. وقیل: هذه تماثیل کانت أصیبت فی الغنیمة فأمر معاویة... ببیعها بأرض الهند لیتخذ بها الأسلحة والکراع للغزاة فیکون دلیلا لأبی حنفیة رحمه الله فی جواز بیع الصنم والصلیب ممن یعبده کما هو طریقة القیاس وقد استعظم ذلک مسروق رحمه الله کما هو طریق الاستحسان الذی ذهب إلیه أبو یوسف ومحمد رحمهما الله فی کراهة ذلک ومسروق من... ولکن مع هذا قول معاویة... مقدم علی قوله وقد کانوا فی المجتهدات یلحق بعضهم الوعید بالبعض کما قال علی رضی الله عنه من أراد ان یتقحم جراثیم جهنّم فلیقل فی الحدّ - یعنی بقول زید رضی الله عنه - وإنما قلنا هذا لأنه لا یظن بمسروق رحمه الله أنه قال فی معاویة ما قال عن اعتقاد وقد کان هو من کبار الصحابة رضی الله عنهم وکان کاتب الوحی وکان أمیر المؤمنین وقد أخبره رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم بالملک بعده فقال له علیه السلام یوما:
«إذا ملکت أمر أمتی فأحسن إلیهم (1)...» إلا أن نوبته کانت بعد انتهاء نوبة (2) علی رضی الله عنه ومضی مدة الخلافة فکان هو مخطئأ فی مزاحمة علی رضی الله عنه تارکا لما هو واجب علیه من الانقیاد له لا یجوز أن یقال فیه أکثر من هذا ویحکی أن أبا بکر محمد بن الفضل رحمه الله کان ینال منه فی الابتداء فرأی فی منامه کان شعرة تدلت من لسانه إلی موضع قدمه فهو یطؤها ویتألم من ذلک ویقطر الدم من لسانه فسأل المعبر عن ذلک فقال إنک تنال من واحد من کبار الصحابة... فإیاک ثم إیاک.
أقول: علی هذا فیکون من قاتل الصحابة أنه یری فی المنام وقد تدلت من أیادیه أذناب
ص:65
خنازیر مثلا بعدد من قتلهم وتقطر دما وقیحاً... ونکمل معه حیث قال: (وقد قیل فی تأویل الحدیث أیضا ان تلک التماثیل کانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد ولا بأس باتخاذ... ولکن مسروقا (1) رحمه الله کان یبالغ فی الاحتیاط فلا یجوز اتخاذ شیء من ذلک ولا بیعه ثم کان تغریق ذلک من الأمر بالمعروف عنده وقد ترک ذلک مخافة علی نفسه وفیه تبیین أنه لا بأس باستعمال التقیة وأنه یرخص له فی ترک بعض ما هو فرض عند خوف التلف علی نفسه ومقصوده من إیراد الحدیث أن یبین أن التعذیب بالسوط یتحقق فیه الإکراه کما یتحقق فی القتل لأنه قال: «لو علمت انه یقتلنی لأغرقتها ولکن أخاف أن یعذبنی فیفتننی»، فتبین بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السیف. وعن جابر بن عبد الله رضی الله عنه قال: لا جناح علیّ فی طاعة الظالم إذا أکرهنی علیها وإنما أراد بیان جواز التقیة فی إجراء کلمة الکفر إذا أکرهه المشرک علیها فالظالم هو الکافر قال الله تعالی: وَ الْکافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ (البقرة: من الآیة254) ولم یرد به طاعة الظالم فی القتل لأن الاثم علی المکره فی القتل لا یندفع بعذر الإکراه بل إذا قدم علی القتل کان آثما إثم القتل علی ما بینه و الله أعلم).
وجاء فی قصة حذیقة رضوان الله تعالی علیه مع عثمان ذکر فی مبسوطه: (2)
وذکر عن النزال بن سیدة قال جعل حذیفة یحلف لعثمان... علی أشیاء بالله ما قالها وقد سمعناه یقولها فقلنا له یا أبا عبد الله سمعناک تحلف لعثمان علی أشیاء ما قلتها وقد سمعناک قلتها فقال: ولکنی أشتری دینی بعضه ببعض مخافة أن یذهب کله، وان حذیفة رضی الله عنه من کبار الصحابة وکان بینه وبین عثمان... بعض المداراة فکان یستعمل معاریض الکلام فیما یخبره به ویحلف له علیه فلما أشکل علی السامع سأله عن ذلک فقال: ولکنّی أشتری دینی بعضه ببعض، یعنی أستعمل معاریض الکلام علی سبیل المداراة أو کأنّه کان یحلف ما قالها ویعنی ما قالها فی هذا المکان أو فی شهر کذا أو... .
أقول فإمّا أن یقبل ابن تیمیة أن التقیة مع المسلمین نفاق وأنها لا تجوز إلا مع الکفار فهذا حذیفة علیه الرحمة والرضوان استخدمها مع عثمان أو أنّها تستخدم مع المسلمین وغیرهم فهو بین خیارین لا ثالث لهما أن یحکم بالنفاق علی حذیفة أو بالکفر علی عثمان وإن لم یرض لا هذا ولا ذاک فهی من الإیمان.
ونقلت لنا أیضاً مصادر أتباع المذاهب الإسلامیّة أنّ أبا الدرداء قال: «إنا لنکشّر فی وجوه
ص:66
قوم وإن قلوبنا لتلعنهم». وهذا أمر یدعو إلی التوقف للتأمل فی واقع مجتمع ما بعد النبی صلوات الله تعالی علیه وآله، کیف وصل به الأمر الذی دعا أبا الدرداء أن یتکلم بمثل هذه الطریقة العجیبة، وإلا فما الداعی لمثل هذه النفرة التی بینهم؟ ولماذا یتصرّف الصحابة بمثل هذا التصرف مع أقرانهم، ألم یعلموا بأن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله قد استوصی بالصحابة خیراً، وأنهّم خیر من کان ومن سیکون من المسلمین؟ إلا أن یقال بأنهم قد خالفوا وصیة رسولهم فکفَّر بعضهم بعضا، کما نقل الذهبی فی کتابه الرواة الثقات المتکلم فیهم بما لا یوجب ردهم! (1). وعلی کل حال فإن المصادر التی تحدثت عن هذا الموقف لأبی الدرداء أکثر من أن ترد. فمنها ما جاء فی طبقات المحدثین بأصبهان لعبد الله بن حبان: (2) «عن أبی الدرداء قال: إنا لنکشّر فی وجوه أقوام ونضحک إلیهم وإن قلوبنا تلعنهم...». وقد ورد ذکر ما یقرب من ذلک فی مصادر غیرها. (3)
أولاً: ما هو حری أن یُلتفت إلیه أنَّ لَعْنَ الظالمین والفاسقین مسلمین أو غیرهم جائز - کما یظهر من الأدلة السابقة وعلی ما قرر فی محله من أن سُنَّةَ الصحابی أحد منابع استنباط الأحکام عند من یری ذلک، فکذلک فعل حذیفة رضوان الله تعالی علیه -. وقد مر ذکر ذلک عندما استدل أبو حنیفة علی جواز بیع لحم الخنزیر ممن یستحل أکله - کأهل الکتاب - وبیع الأصنام ممن یستحل عبادتها - کالکفار - عملا بسنة الصحابی معاویة حینما بعث من یبیعها کما مر سابقاً عند ذکر کلام السرخسی فی المبسوط (4) وهو عجیب.
ثانیاً: العمل بالتقیة من قبل أحد التابعین خوفاً من تعذیب وقتل الصحابی معاویة.
ص:67
ثالثاً: إذا خالف مسلمٌ الصحابی معاویةَ فی أمر ما فإنّه سوف یقتله أو یعذبه، من أتباع علی صلوات الله تعالی علیه کان أم من أتباع غیره.
رابعاً: علی ما جاء فی کتب القوم فی عدم عصمة أولی الأمر - هذا علی قبول قولهم (1) هذا وقبول ولایة أمر معاویة - حیث قال تعالی: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِیلاً (النساء:من الآیة59) تذییلا لما جاء فی أول هذه الآیة الشریفة عندما قال: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (النساء:من الآیة59)، فلننظر سنة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله هل جاء فیها شیء من هذا أم لا؟ قُلْ أَ رَأَیْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَکُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّهِ تَفْتَرُونَ (یونس:59)، هذا ما نسأل به السرخسی.
خامساً: وصف مسروقٌ معاویةَ بوصفین حیث قال: «و الله لا أدری أیُّ الرجلین معاویة رجل قد زُیِّن له سوء عمله أو رجل قد یئس من الآخرة فهو یتمتع فی الدنیا»، طیب فما هو حکم مسروق عندما ذکر هذا الصحابی بهذین الوصفین؟ هل یکفره المکفرون کما یکفرون الشیعة لأنهم یتعرضون لمعاویة أم لا؟ وعلی الثانی لماذا الکیل بمکیالین؟
سادساً: الحمد لله علی حب ومودة محمد وآل محمد صلوات الله تعالی علیهم.
وأمّا علی ما نقله الماردینی فی جوهره النقی (2) فإلیک هذه المقولة فتدبر:
قال: (باب رفع الیدین فی تکبیر العید) ذکر فیه حدیث ابن عمر فی الرفع عند القیام والرکوع والرفع منه ولفظه «ویرفعهما فی کل تکبیرة یکبرها قبل الرکوع» (قلت): فی سنده بقیّة وکان مدلِّسا وقال ابن حبان: لا یُحتّج به وقال أبو مسهر أحادیث بقیة غیر نقیة فکن منها علی تقیة، (3) وقال ابن عیینة: لا تسمعوا من بقیة ما کان فی سنة
ص:68
واسمعوا منه ما کان فی ثواب وغیره... .
فالتقیّة إذن کما فی الجوهر النقی أمر جمیل واحتیاط فی الدین وأخوک دینک فاحتط لدینک فلا یأتی قول من ادعی ظلماً أن التقیّة کذب.
وجاء فی المحلی لابن حزم: (1) (ویؤید هذا ما روی المروزی فی الوتر (ص133) قلنا: إنما أخبر بذلک أنس عن أمراء عصره، لا عن رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم، کما سئل عن بعض أمور الحج فأخبر بفعل النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم ثم قال: افعل کما یفعل أمراؤک. وهذا من أنس إما تقیّة، وإما رأی منه، ولا حجة فی أحد بعد رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم). أقول: جید فهو إما تقیة من أنس - الصحابی - وإما رأی، والمهم أنه یعمل بها وإلا فلا معنی للتردید، هذا اولاً ویعترف بها المؤلّف کمبدأ إسلامی وإلاّ لما جعلها تردیداً هنا لأنها ستکون ذماً لصحابی والصحابة فوق المسلمین.
وفی سبل السلام لابن حجر العسقلانی (2) ذکر الذین رفعوا الصلاة علی الآل حقدا علیهم من قبل المعادین لهم فقال:
وکنت سئلِت عنه قدیما فأجبت: أنه قد صحّ عند أهل الحدیث بلا ریب کیفیة الصلاة علی النبی صلی الله علیه و آله ، وهم رواتها، وکأنّهم حذفوها خطأ، تقیة لما کان فی الدولة الأمویة من یکره ذکرهم.
أقول: عجیب أمیر المؤمنین وأتباعه یکرهون خیر المؤمنین وهم آل محمد صلوات الله تعالی علیه وعلیهم ویرفعون الصلاة علیهم - لا حول ولا قوة إلا بالله - أین آل أمیة من قوله تعالی: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی (الشوری: من الآیة23)، ثم أین هم من حدیث مسلم وأین هم من بیان کیفیة الصلاة علیه وعلیهم صلوات الله تعالی علیه وآله؟
نعم ویکمل ابن حجر: (ثم استمر علیه عمل الناس متابعة من الآخر للأول، فلا وجه له، وبسطت هذا الجواب فی حواشی شرح العمدة بسطاً شافیاً...).
وذکر الشوکانی فی نیل الأوطار (3) حادثة أخری عن التقیة التی کان المسلمون یمارسونها فی زمن بنی أمیّة فقال:
ص:69
وقد أجمع أهل العلم علی تحریم نسبته إلی أبی سفیان، (1) وما وقع من أهل العلم فی زمان بنی أمیة فإنما هو تقیة، وذکر أهل الامهات نسبته إلی أبی سفیان فی کتبهم مع کونهم لم یألفوها إلا بعد انقراض عصر بنی أمیّة محافظة منهم علی الالفاظ التی وقعت من الرواة فی ذلک الزمان کما هو دأبهم... .
وفی الأمر بالذب عن الأعراض جاء فی کتب القوم: «ذبوا عن أعراضکم...» أو «المداراة عن العرض صدقة» وکما جاء فی کشف الخفاء للعجلونی: (2) «المداراة عن العرض صدقة. قال النجم کذا یدور علی الألسنة ولم أقف علیه بهذا اللفظ، وهو فی معنی ما وقی المرء به، ویروی حسنة بدل صدقة». وفی کنز العمال (3) عن محمد بن مطرف عن ابن المنکدر عن سعید بن المسیب عن أبی هریرة قال: قال رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم:
«ذبوا بأموالکم عن أعراضکم، قالوا یا رسول الله کیف نذب بأموالنا عن أعراضنا؟ قال: تعطون الشاعر ومن تخافون لسانه» و عن الدیلمی (8756- عن الحسین بن غلمان عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلی الله علیه و آله :
«ذبوا عن أعراضکم بأموالکم، قالوا کیف نذبُّ عن أعراضنا بأموالنا؟ قال: تعطون الشاعر ومن تخافون لسانه» . أقول هذا فی الأعراض فکیف فی الدماء؟
وفی جواز مداراة الظلمة اتقاء شرّهم ما لم یؤد ذلک إلی المداهنة و قدتکلم ابن تیمیة عن هذا الأمر فی مجموع الفتاوی: (4) «سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وکان مداراتهم فیه دفع الضرر عن المؤمن الضعیف...» وکذا فی مصادر أخری. (5) وفی الجامع لأخلاق الراوی وآداب السامع للخطیب البغدادی (6) سمعت أبا یوسف القاضی یقول «خمسة یجب علی الناس مداراتهم الملک المتسلط والقاضی المتأول...». (7) وفی شرح الزرقانی: (8) «غیبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلک مع جواز مداراتهم اتقاء لشرّهم ما لم یؤدِّ ذلک إلی المداهنة...». وفی
ص:70
الفروع لابن مفلح (1) قال: «سمعت القاضی أبا یوسف یقول خمسة تجب علی الناس مداراتهم الملک المسلط والقاضی المتأول...». أنظر إلی کتب ورسائل وفتاوی لابن تیمیة فی الفقه: (2) «سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وکان مداراتهم فیه دفع الضرر عن المؤمن الضعیف». وقال صاحب الفتوحات المکیة: (3) «ولیّاً تلقی إلیه بالمودة فإن اضطرک ضعف یقین إلی مداراتهم فدارهم من غیر أن تلقی إلیهم بمودة...». وقال: (4) «الحیرةُ من سوء عشرتهم وطلبت راحة نفسی من مقاساة مداراتهم وقبیح فعالهم وجعلت معاملتی مع ربی». وقال ابن أبی الدنیا فی قری الضیف: (5) «وربما أغنت المداراة عن المباراة».
وفی اتقاء فحش الفحاش أیضاً جاء فی مجموع الفتاوی لابن تیمیة: (6) «فی الفجرة الظلمة الذین ودعهم الناس اتقاء شرّهم وفحشهم فإنّ لهم سیما من شرّ یعرفون بها...»، وکذا فی کتب ورسائل وفتاوی ابن تیمیّة فی التفسیر: (7) «فی الفجرة الظلمة الذین و دعهم الناس اتقاء شرّهم و فحشهم فإن لهم سیما من شر یعرفون بها...» وقال کذلک: (8) «الفجرة الظلمة الذین ودعهم الناس اتقاء شرهم و فحشهم فإن لهم سیما من شر یعرفون بها وکذلک الفسقة»، لو سألناه ممن کان هؤلاء الفجرة والظلمة هل هم من المسلمین أم من غیرهم؟
وجاء کذلک «إن من شر الناس من توقاه الناس اتقاء فحشه». (9)
ص:71
وما فی معنی (التقیة دینی...) عند أتباع المذاهب، فقد جاء فی آثارهم فی قبال ما ورد عندنا فأثیرت ضد مدرسة أهل البیت الأطهار علیهم السلام صلوات الله تعالی علیهم أجمعین الزوابُع أنّه صلوات الله تعالی علیه وآله قال:
«رأس العقل بعد الإیمان بالله المداراة» وفی لفظ آخر «مداراة الناس»، أو (التودد) أو (التحبب) (إلی الناس)، ففی فیض القدیر شرح الجامع الصغیر المناوی: (1) «رأس العقل المداراة» قال ابن الأثیر غیر مهموز ملاینة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ینفروا عنک أو یؤذوک وقد یهمز، ومن ثم قیل: «اتق معاداة الرجال فإنک لا تعدم مکر حلیم أو مفاجأة لئیم وینبغی الاعتناء بمداراة العدو أکثر...». (2) ثم قال:
قال الماوردی لکن ینبغی مع تألّفه أن لا یکون له راکناً و به واثقاً بل یکون منه علی حذر ومن مکره علی تحرز فإن العداوة إذا استحکمت فی الطباع صارت طبعاً لا یستحیل وجبلة لا تزول وإنما یستکف بالتألیف إظهارها ویستدفع به إضرارها کالنار یستدفع بالماء إحراقها وإن کانت محرقةً بطبع لا یزول وجوهر لا یبید وأهل المعروف فی الدنیا هم أهل المعروف فی الآخرة. قال ابن الأثیر روی عن ابن عباس فی معناه یأتی أصحاب المعروف فی الدنیا یوم القیامة لهم معروفهم وتبقی حسناتهم جامعة فیعطونها فإن زادت سیئاته علی حسناته فیغفر له ویدخله الجنة فیجتمع لهم الإحسان إلی الناس فی الدنیا والآخرة وفیه أن المداراة محثوث علیها أی ما لم تؤد إلی ثلم دین وإزراء بمروءة کما فی الکشاف... .
وقد جاء هذا الکلام یفسر لنا هذا المعنی علی غرار ما یرونه فی ما ننقل فی موسوعاتنا الحدیثیة؟ ألیس معنی (رأس العقل بعد الإیمان بالله المداراة) علی تفسیرهم أنها أهم من النبوة والمعاد والقرآن والصیام والصلاة والزکاة؟...إلخ. (3)
وذکروا فیما ورد أن: «من عاش مداریا مات شهیدا»، و «قوا بأموالکم أعراضکم ولیصانع
ص:72
أحدکم بلسانه عن دینه». (1)
وعندها تری بأنه إذا ورد مثل هذا الحدیث بهذا الکم فی مصادرهم - هذا مما تحت یدی وإلا فمما لیس فی حیازتی وما خفی کان أکثر وأعظم و الله العالم - فلا یعتنی بما ورد فی تضعیفها فی کتب من هنا وهناک.
وجاء أیضاً: «بعثت بمداراة الناس» وعلی تفسیرهم - إن تم قبوله - «أن المداراة أهم حتی من التوحید نفسه». (2)
ونقل عنه صلوات الله تعالی علیه وآله وسلم فی الفواکه للدوانی النفراوی: (3) «أمرت بمداراة الناس کما أمرت بالفرائض فهی صدعة وفی ولما قدم أنه لا إثم فی هجران المتبدع وذی الکبائر المجاهر بها ذکر... .» وجاء فی مصادر أهل المذاهب: «المداراة عن العرض صدقة». (4)
أما الحدیث الأول فقد جاء فی کتب القوم: (5) عن أم سلمة قالت: قال: رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم:
«یکون علیکم أئمة فتعرفون حقهم وتنکرون فمن أنکر فقد نجا ومن کره فقد سلم ولکن من رضی وتابع قال فقیل: یا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا». و (عن مسلم بن قرظة وکان ابن عم عوف بن مالک قال: سمعت عوف بن مالک یقول: سمعت رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم یقول:
خیار ائمتکم من تحبونهم ویحبونکم وتصلون علیهم ویصلون علیکم وشرار ائمتکم الذین تبغضونهم ویبغضونکم وتلعنونهم ویلعنونکم قال: قلنا: یا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلک؟ قال: لا ما أقاموا الصلاة ألا ومن وُلِّیَ علیه والٍ فرآه یأتی شیئا من معصیة الله فلیکره ما یأتی من معصیة الله ولا ینزعن یدا من طاعة، و (عن زید بن وهب عن عبد الله عن النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم قال:
«إنها ستکون أثرة وفتن وأمور تنکرونها فقالوا: فما تأمر من أدرک ذلک منا یا رسول الله قال تؤدون الحق الذی علیکم وتسألون الله الذی لکم». (6)
ص:73
وأما الحدیث الثانی: فهو قوله صلوات الله تعالی علیه وآله:
«من رأی منکم منکراً»؟ أفلا یُتدبر فی أمر هذا الحدیث؟ أفلا یکون قوله صلوات الله تعالی علیه وآله (فمن لم یستطع) فیتحول إلی المرتبة الأدنی إلا عن أحد أوجه أو أسباب منها التقیّة؟
وتوهم إشکال أضعف الإیمان لا یرد عندما تَجِبُ هی بذاتها فتأمل. (1)
وفی أحکام القرآن للجصّاص 2 قال: لأن النبی صلی الله علیه و آله قال: فلیغیره بلسانه فإن لم یستطع فلیغیره بقلبه وقوله صلی الله علیه و آله فإن لم یستطع قد فهم منه أنهم إذا لم یزولوا عن المنکر فعلیه إنکاره بقلبه سواء کان فی تقیة أو لم یکن لأن قوله إن لم یستطع معناه أنه لا یمکنه إزالته بالقول فأباح له السکوت فی هذه الحال وقد روی عن ابن مسعود فی قوله تعالی علیکم أنفسکم لا یضرکم من ضلّ إذا اهتدیتم مُر بالمعروف وانهَ عن المنکر ما قبل منک فإذا لم یقبل منک فعلیک نفسک... وجاء فیه کذلک 3 فی تأویل الآیة الکریمة: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ (المائدة:من الآیة105): وهذا أیضا علی معنی الحدیث الأول فی الاقتصار علی إنکار المنکر بالقلب دون الید واللسان للتقیة والخوف علی النفس. ولعمری أن أیام عبد الملک 4 والحجاج والولید وأضرابهم کانت من الأیام التی سقط
ص:74
فیها فرض الإنکار علیهم بالقول والید لتعذر ذلک والخوف علی النفس. وقد حکی أن الحجاج لما مات قال الحسن: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإنه أتانا أخیفش أعیمش یمد بید قصیرة البنان و الله ما عرق فیها عنان فی سبیل الله عز وجل برجل جمته ویخطر فی مشیته ویصعد المنبر فیهذر حتی تفوته الصلاة لا من الله یتقی ولا من الناس یستحی فوقه الله وتحته مائة ألف أو یزیدون لا یقول له قائل الصلاة أیها الرجل ثم قال الحسن هیهات و الله حال دون ذلک السیف والسوط وقال عبد الملک بن عمیر خرج الحجاج یوم الجمعة بالهاجرة فما زال یعبر مرة عن أهل الشام یمدحهم ومرة عن أهل العراق یذمهم حتی لم نر من الشمس إلا حمرة علی شرف المسجد ثم أمر المؤذن فأذن فصلی بنا الجمعة ثم أذن فصلی بنا العصر ثم أذن فصلی بنا المغرب فجمع بین الصلوات یومئذ، فهؤلاء السلف کانوا معذورین فی ذلک الوقت فی ترک النکیر بالید واللسان، وقد کان فقهاء التابعین وقراؤهم خرجوا علیه مع ابن الأشعث إنکارا منهم لکفره وظلمه وجوره فجرت بینهم تلک الحروب المشهورة وقتل منهم من قتل ووطئهم بأهل الشام (1) حتی لم یبق أحد ینکر علیه شیئا یأتیه إلا بقلبه، وقد روی ابن مسعود فی ذلک ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن الیمان قال حدثنا أبو عبید قال حدثنا حجاج عن أبی جعفر الرازی عن الربیع بن أنس عن أبی العالیة عن عبد الله بن مسعود أنه ذکر عنده هذه الآیة: عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ (المائدة:من الآیة105) فقال:لم یجئ تأویلها بعد إن القرآن أنزل حین أنزل ومنه آی قد مضی تأویلهن قبل أن ینزلن وکان منه آی وقع تأویلهن علی عهد النبی صلی الله علیه و آله ومنه آی وقع تأویلهن بعد النبی صلی الله علیه و آله بیسیر ومنه آی یقع تأویلهن بعد الیوم ومنه آی یقع تأویلهن عند الساعة، ومنه آی یقع تأویلهن یوم الحساب من الجنة والنار، قال فما دامت قلوبکم واحدة، وأهواؤکم واحدة، ولم تلبسوا شیعا، ولم یذق بعضکم بأس بعض، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنکر، فإذا اختلفت القلوب والأهواء ولبستم شیعاً وذاق بعضکم بأس بعض، فامرأ ونفسه، عند ذلک جاء تأویل هذه الآیة قال أبو بکر یعنی عبد الله بقوله لم یجئ تأویلها بعد إن الناس فی عصره کانوا ممکنین من تغییر المنکر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجار فلم یکن أحد
ص:75
منهم معذورا فی ترک الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بالید واللسان ثم إذا جاء حال التقیة وترک القبول وغلبة الفجار سوغ السکوت فی تلک الحال مع الإنکار بالقلب وقد یسع السکوت أیضا فی الحال التی قد علم فاعل المنکر أنه یفعل محظورا ولا یمکن الإنکار بالید ویغلب فی الظن بأنه لا یقبل إذا قتل فحینئذ یسع السکوت... وکذلک قال: ودع عنک العوام فإن من ورائکم أیام الصبر فیه کقبض علی الجمر للعامل فیها مثل أجر خمسین رجلا یعملون مثل عمله قال وزادنی غیره قال یا رسول الله أجر خمسین منهم قال أجر خمسین منکم وهذه دلالة فیه علی سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا کانت الحال ما ذکر لأن ذکر تلک الحال تنبئ عن تعذر تغییر المنکر بالید واللسان لشیوع الفساد وغلبته علی العامة وفرض النهی عن المنکر فی مثل هذه الحال إنکاره بالقلب کما قال علیه السلام فلیغیره بیده فإن لم یستطع فبلسانه فإن لم یستطع فبقلبه فکذلک إذا صارت الحال إلی ما ذکر کان فرض الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بالقلب للتقیّة ولتعذر تغییره وقد یجوز إخفاء الإیمان وترک إظهاره تقیة بعد أن یکون مطمئن القلب بالإیمان قال الله تعالی إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر... وفیه أیضاً: (1) فأمر الله نبیه بالإعراض عن الذین یخوضون فی آیات الله وهی القرآن بالتکذیب وإظهار الاستخفاف إعراضاً یقتضی الإنکار علیهم وإظهار الکراهة لما یکون منهم إلی أن یترکوا ذلک ویخوضوا فی حدیث غیره وهذا یدل علی أن علینا ترک مجالسة الملحدین وسائر الکفار عند إظهارهم الکفر والشرک وما لا یجوز علی الله تعالی إذا لم یمکننا إنکاره وکنا فی تقیة من تغییره بالید أو اللسان لأن علینا اتباع النبی صلی الله علیه و آله فیما أمره الله به إلا أن تقوم الدلالة علی أنه مخصوص بشیء منه قوله تعالی: وَ إِمّا یُنْسِیَنَّکَ الشَّیْطانُ (الأنعام: من الآیة68)، المراد إن أنساک الشیطان ببعض الشغل فقعدت معهم وأنت ناس للنهی فلا شیء علیک فی تلک الحال ثم قال تعالی: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّکْری مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِینَ یعنی بعد ما تذکر نهی الله تعالی لا تقعد مع الظالمین وذلک عموم فی النهی عن مجالسة سائر الظالمین من أهل الشرک وأهل الملة لوقوع الاسم علیهم جمیعا وذلک إذا کان فی تقیة من تغییره بیده أو بلسانه بعد قیام الحجة علی الظالمین بقبح ما هم علیه فغیر جائز لأحد مجالستهم مع ترک النکیر سواء کانوا مظهرین
ص:76
فی تلک الحال للظلم والقبائح أو غیر مظهرین له لأن النهی عام عن مجالسة الظالمین لأن فی مجالستهم مختارا مع ترک النکیر دلالة علی الرضا بفعلهم.
وفی شمول الکافر وغیره ممن یسیر المؤمن فیهم بالتقیة جاء:
«بئس القوم یمشی المؤمن فیهم بالتقیة والکتمان»، (1)لا یقال إن ذلک مقید بالکافر لأنه لم یرد نص یستفاد منه ذلک.
وورد فی تاریخ الیعقوبی: (2)
وقال إن الله تعالی یقول ویل للذین یختلون الدنیا بالدین وویل للذین یقتلون الذین یأمرون بالقسط من الناس وویل للذین یسیر المؤمن فیهم بالتقیة إیای یغرون أم علی یجترئون فبی حلفت لأتیحن لهم فتنة تترک الحلیم منهم حیران.
وفی روح المعانی: (3) عن الحسن أنه قال:
«التقیة جائزة إلی یوم القیامة» ، والثانی حمل التقیة ظاهرها وکونها جائزة إنما هو علی التفصیل الذی ذکرناه. ومن الناس من أوجب نوعا من التقیة خاصا بخواص المؤمنین وهو حفظ الأسرار الإلهیّة عن الإفشاء للأغیار الموجب لمفاسد کلیة فتراهم متی سئلوا عن سر أبهموه وتکلموا بکلام لو عرض علی العامة بل علی علمائهم ما فهموه وأفرغوه بقوالب لا یفهم المراد منها إلا من حسی من کأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبیر عنبر أنفاسهم وهذا وإن ترتب علیه ضلال کثیر من الناس وانجر إلی الطعن بأولئک السادة الأکیاس حتی رمی الکثیر منهم بالزندقة وأفتی بقتلهم من سمع کلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما یترتب علی الإفشاء من المفاسد التی تعم الأرض.
وفی شرح قصیدة ابن القیم ابن قیم الجوزیة (4) ذکر الآمدی:
هو أبو الحسن علی بن علی بن محمد بن سالم الثعلبی سیف الدین ولد بآمد سنة 551 قرأ علی مشایخ بلده القراآت وحفظ کتاباً علی مذهب أحمد بن حنبل وبقی علی ذلک مدة فکان فی أول اشتغاله حنبلی المذهب انتقل إلی مذهب الشافعی ثم رحل إلی العراق وأقام فی الطلب مدة ببغداد وحصل علم الجدل والخلاف والمناظرة ثم انتقل إلی الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الکثیر وتمهر فیه ولم یکن فی زمانه أحفظ منه لهذه العلوم وصنف فی أصول الدین والمنطق
ص:77
والحکمة والخلاف وکل تصانیفه مفیدة وکان قد أخذ علوم الأوائل من نصاری الکرخ ویهودها فاتهم لذلک فی عقیدته ففر إلی مصر خوفا من الفقهاء سنة 593 وناظر بها وحاضر وأظهر تصانیف فی علوم الأوائل تعصبوا علیه فخرج من القاهرة مستخفیا (1) ثم استوطن حماة أو دمشق وتولی بها التدریس ومات فیها سنة 631.
وفی إغاثة اللهفان قال ابن قیم الجوزیة: (2)
فرواه الترمذی عنه قال: قال رسول الله [صلی الله تعالی علیه وآله]: إذا اتّخذ الفیء دوَلاً والأمانة مغنماً والزکاة مغرماً وتعلم العلم لغیر الدین وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنی صدیقه وأقصی أباه وظهرت الأصوات فی المساجد وساد القبیلة فاسقهم وکان زعیم القوم أرذلهم وأکرم الرجل مخافة شره وظهرت القینات والمعازف وشربت الخمر ولعن آخر هذه الأمة أولها فلیرتقبوا عند ذلک ریحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآیات تتابع کنظام بال قطع سلکه فتتابع قال الترمذی: هذا حدیث حسن غریب و قال رسول الله [صلی الله تعالی علیه وآله]: یمسخ قوم من هذه الأمة فی آخر الزمان قردةً وخنازیر قالوا: یا رسول الله ألیس یشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: بلی ویصومون ویصلون ویحجون قیل: فما بالهم قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقینات، فباتوا علی شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازیر وأما حدیث أبی أمامة الباهلی فهو فی مسند أحمد والترمذی عنه عن النبی قال: یبیت طائفة من أمتی علی أکل وشرب ولهو ولعب ثم یصبحون قردة وخنازیر ویبعث علی أحیاء من أحیائهم ریح فینسفهم کما نسف من کان قبلکم باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف واتخاذهم القینات... وعن علی علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم [صلی الله تعالی علیه وآله]: إذا عملت أمتی خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قیل: یا رسول الله: وما هن قال إذا کان المغنم دولاً والأمانة مغنماً والزکاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صدیقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات فی المساجد وکان زعیم القوم أرذلهم وأکرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحریر واتخذت القیان ولعن آخر هذه الآمة أولها فلیرتقبوا عند ذلک ریحاً حمراء وخسفاً ومسخاً... .
وفی الفتاوی الکبری لابن تیمیة (3) قال: وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفیان بن عیینة عن الرجل یعتذر إلی أخیه من الشیء الذی قد فعله ویحرف القول فیه لیرضیه أیأثم فی ذلک قال: ألم تسمع إلی قوله: لیس بکاذب من أصلح بین الناس فکذب فیه فإذا أصلح بینه وبین أخیه
ص:78
المسلم خیر من أن یصلح بین الناس بعضهم فی بعض وذلک أنه أراد به مرضاة الله وکراهة أذی المؤمن ویندم علی ما کان منه ویدفع شره عن نفسه ولا یرید بالکذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا لطمع شیء یصیب منهم فإنه لم یرخص فی ذلک ورخص له إذا کره موجدتهم وخاف عداوتهم. قال حذیفة: إنی أشتری دینی بعضه ببعض مخافة أن أتقدم علی ما هو أعظم منه وکره أیضا أن یتغیر قلبه علیه... .
وقال ابن تیمیة: (1) وقال أبو داود: سمعت أحمد وذکر الحیل من أصحاب الرأی (2) فقال: یحتالون لنقض سنة رسول الله صلی الله علیه وسلم مثل هذا کثیر فی کلام أهل ذلک العصر فعلم أن الرأی المذموم یندرج فیه الحیل وهو المطلوب... النبی صلی الله علیه وسلم [صلی الله تعالی علیه وآله] أول ما یفقد من الدین الأمانة وآخر ما یفقد منه الصلاة (وحدیث عن رفع الأمانة من القلوب الحدیث المشهور وقال: خیر القرون القرن الذی بعثت فیهم ثم الذین یلونهم ثم الذین یلونهم فذکر بعد قرنه قرنین أو ثلاثة ثم ذکر أن بعدهم قوما یشهدون ولا یستشهدون ویخونون ولا یؤتمنون وینذرون ولا یوفون ویظهر فیهم السمن وهذه أحادیث صحیحة مشهورة ومعلوم أن العمل بالحیل یفتح باب الخیانة والکذب فإن کثیرا من الحیل لا یتم إلا أن یتفق الرجلان علی عقد یظهر أنه ومقصودهما أمر آخر کما ذکرنا فی التملیک للوقف وکما فی الحیل الربویة وحیل المناکح وذلک الذی اتفقا علیه إن لزم الوفاء به کان العقد فاسدا وإن لم یلزم فقد جوزت الخیانة والکذب فی المعاملات ولهذا لا یطمئن القلب إلی من یستحل الحیل خوفا من مکره وإظهاره ما یبطن خلافه وفی الصحیحین عن النبی صلی الله علیه وسلم أنه قال: المؤمن من أمنه الناس علی دمائهم وأموالهم والمحتال غیر مأمون وفی حدیث ابن عمر أن النبی صلی الله علیه وسلم [صلی الله تعالی علیه وآله] قال لعبد الله بن عمر الجواب کیف بک یا عبد الله إذا بقیت فی حثالة من الناس قد مرجت وعهودهم وأمانتهم واختلفوا فصاروا هکذا وشبّک بین أصابعه قال: فکیف أفعل یا رسول الله قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنکر وتقبل علی خاصتک وتدعهم وأعوانهم وهو حدیث صحیح وهو فی بعض نسخ البخاری والحیل توجب مرج العهود والأمانات وهو قلقها
ص:79
واضطرابها فإن الرجل إذا سوغ له من یعاهد عهدا ثم لا یفی به أو أن یؤتمن علی شیء فیأخذ بعضه بنوع تأویل ارتفعت الثقة به وأمثاله ولم یؤمن فی کثیر من الأشیاء أن یکون کذلک، ومن تأمل حیل أهل الدیوان وولاة الأمور، التّی استحلوا بها المحارم، ودخلوا بها فی الغلول والخیانة، ولم یبق لهم معها عهد ولا أمانة، علم یقینا أن الاحتیال والتأویلات أوجب عظم ذلک وعلم خروج أهل الحیل... وأیضاً: (1) سئل عن رجل له زوجة فحلف أبوها أنه ما یخلیها معه وضربها وقال لها أبوها: إبریه فأبرأته وطلقها طلقة ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفاً من أبیها فهل تقع علی الزوجة الطلقة أم لا؟ فکان جوابه: أنه إن کانت أبرأته مکرهة بغیر حق لم یصح الإبراء (2)... .
وقال صاحب العقود الدریة: (3) لکن لما سبق الوعد الکریم منکم بإنفاذ فهرست مصنفات الشیخ رضی الله عنه وتأخر ذلک عنی اعتقدت أن الإضراب عن ذلک نوع تقیة أو لعذر لا یسعنی السؤال عنه فسکت عن الطلب خشیة أن یلحق أحدا ضرر والعیاذ بالله بسببی لما کان قد اشتهر من تلک الأحوال فان أنعمتم بشیء من مصنفات الشیخ رحمه الله تعالی کانت لکم الحسنة عند الله تعالی علینا... .
وفی الاستقامة (4) تحدث عن حدیث روی عن النبی ص [صلی الله تعالی علیه وآله]: إذا اتخذ المال دولاً والأمانة مغنماً والزکاة مغرماً وتفقه لغیر الدین وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنی صدیقه وأقصی أباه ورفعت الأصوات فی المساجد وأکرم الرجل مخافة شره وساد القبیلة فاسقها وکان زعیم القوم أرذلهم فلینتظروا عند ذلک ریحا حمراء وفتنا تتابع کنظام بال قطع سلکه فتتابع... .
وفی السنة لعبد الله بن أحمد: (5) عن عمر بن حماد بن أبی حنیفة قال أخبرنی أبی حماد بن أبی حنیفة قال أرسل ابن أبی لیلی إلی أبی فقال له تب مما تقول فی القرآن أنه مخلوق وإلا أقدمت علیک بما تکره قال فتابعه قلت یا أبه کیف فعلت ذا قال یا بنی خفت أن یقدم علی فأعطیت تقیة. (6)
ص:80
وفی التقیّة من السلطان راجع ما جاء فی السنن المأثورة الشافعی، (1) هذا وکل ما جاء فی کتب التاریخ تحت مادة (خوفاً وخشیة مخافة وخاف) (2) وکل ما فی هذا المعنی.
ونقلوا فی کتبهم عن علی علیه السلام (3) أنه قال: (لا دین لمن لا تقیة له)... .
وفی طبقات الحفاظ للسیوطی: (4) البزاز أبو عثمان نزیل بغداد روی عن عبد العزیز بن الماجشون وفضیل بن مرزوق ومبارک بن فضالة واللیث وخلق وعنه أحمد وابنه والبخاری وابن معین وأبو داود والذهلی والدارمی وأبو زرعة وخلق قال أحمد کان صاحب تصحیف وکان ممن أجاب فی المحنة تقیة قیل له بعد ما انصرف من المحنة ما فعلتم قال کفرنا ورجعنا. (5)
وفی تغلیق التعلیق ابن حجر: (6) أن ابن عباس أنه لم یر طلاق المکره شیئا وأما قول ابن عمر وابن الزبیر فقال البیهقی أنا أبو الحسین بن الفضل أنا عبد الله بن جعفر ثنا یعقوب بن سفیان ثنا الحمیدی ثنا سفیان سمعت عمرا یقول حدثنی ثابت الأعرج قال تزوجت أم ولد عبد الرحمن ابن زید بن الخطاب فدعانی ابنه ودعا غلامین له فربطونی وضربونی بالسیاط وقال له لتطلقها وضربونی بالسیاط وقال لتطلقها أو لنفعلن ولنفعلن وطلقها ثم سألت ابن عمر وابن الزبیر فلم یریاه شیئا رواه عبد الرزاق فی مصنفه عن عبید الله بن عمر عن ثابت نحوه وعن ابن عیینة عن یحیی بن سعید عن ثابت نحوه، وأما قول الشعبی فقال عبد الرزاق فی مصنفه عن الثوری وابن عیینة عن زکریا عن الشعبی قال إن أکرهه اللصوص فلیس بطلاق وإن أکرهه السلطان فهو جائز قال ابن عیینة یقولون إن اللص یقدم علی قتله وإن السلطان لا یقتله. (7)
وفی بغیة الطلب فی تاریخ حلب لابن العدیم: (8) قال فأما أهل البلد وأولاد المجاهدین وأولاد الغلمان وأولاد خراسان فکانوا من الأخلاق السمحة والنفوس الکریمة والهمم العالیة
ص:81
والمحبة للغریب علی ما لیس علیه أحد ولکنهم کانوا فی تقیة من هؤلاء الأوباش.
وذکر المصنفون (1) فیمن أجاب المأمون بخلق القرآن تقیة سبعة أنفس وهم محمد بن سعد کاتب الواقدی ویحیی بن معین وأبو خیثمة وأبو مسلم مستملی یزید بن هارون وإسماعیل بن داود وإسماعیل بن أبی مسعود وأحمد بن إبراهیم الدورقی. وکتب المأمون إلی إسحاق بن إبراهیم بأن یحضر الفقهاء ومشایخ الحدیث ویخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة ففعل ذلک فأجابه طائفة وامتنع آخرون فکان یحیی بن معین وغیره یقولون أجبنا خوفا من السیف. ثم کتب المأمون کتابا آخر من جنس الأول إلی إسحاق وأمره بإحضار من امتنع فأحضر جماعة منهم أحمد ابن حنبل، وبشر بن الولید الکندی، وأبو حسان الزیادی، وعلی بن أبی مقاتل، والفضل بن غانم، وعبید الله بن عمر القواریری، وعلی بن الجعد، وسجادة، والذیال بن الهیثم، وقتیبة بن سعید، وکان حینئذ ببغداد، وسعدویة الواسطی، وإسحاق بن أبی إسرائیل، وابن الهرش، وابن علیة الأکبر، ومحمد بن نوح العجلی، ویحیی بن عبد الرحمن العمری، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطیعی، ومحمد بن حاتم بن میمون، وغیرهم، وعرض، علیهم کتاب المأمون فعرضوا ووروا ولم یجیبوا ولم ینکروا، فقال لبشر بن الولید ما تقول، قال قد عرفت أمیر المؤمنین غیر مرة قال والآن فقد تجدد من أمیر المؤمنین کتاب، قال أقول کلام الله قال لم أسألک عن هذا أمخلوق هو قال ما أحسن غیر ما قلت لک وقد استعهدت أمیر المؤمنین أن لا أتکلم فیه، ثم قال لعلی بن أبی مقاتل ما تقول قال القرآن کلام الله وإن أمرنا أمیر المؤمنین بشیء سمعنا وأطعنا وأجاب أبو حسان الزیادی بنحو من ذلک ثم قال لأحمد ابن حنبل ما تقول قال کلام الله قال أمخلوق هو؟ قال هو کلام الله لا أزید علی هذا ثم امتحن الباقین وکتب بجواباتهم وقال ابن البکاء الأکبر أقول القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلک، فقال له إسحاق بن إبراهیم والمجعول مخلوق قال نعم قال فالقرآن مخلوق قال لا أقول مخلوق.
وفی طبقات الشافعیة الکبری للسبکی (2) قال فی محمد بن عبد الله بن تومرت: أبو عبد الله الملقب بالمهدی المصمودی الهرغی المغربی... کثیر الصبر علی الأذی یعرف الفقه علی
ص:82
مذهب الشافعی وینصر الکلام علی مذهب الأشعری وکان کثیر الأسفار ولا یستصحب إلا عصا ورکوة ولا یصبر عن النهی عن المنکر وأوذی بذلک مرات دخل إلی مصر وبالغ فی الإنکار فبالغوا فی أذاه وطرده وکان ربما أوهم أن به جنونا وذلک عند خشیة القتل. (1)
وفی طبقات الشافعیة الکبری کذلک: (2) فیما خرجه البخاری فی صحیحه من حدیث أبی الطفیل سمعت علیا رضی الله عنه علیه السلام یقول حدثوا الناس بما یعرفون أتحبون أن یکذب الله ورسوله، وکم مسألة نص العلماء عن عدم الإفصاح بها خشیة علی إفضاح من لا یفهمها... وکان الشافعی رضی الله عنه یذهب إلی أن القاضی یقضی بعلمه وکان لا یبوح به مخافة قضاة السوء فقد لاح لک بهذا أنه ربما وقع السکوت عن بعض العلم خشیة من الوقوع فی محذور. (3)
وفی المنتظم (من752ه-) لابن الجوزی قال: (4) ووقعت بین الحنابلة والأشاعرة فتنة عظیمة حتی تأخر الأشاعرة عن الجمعات خوفا من الحنابلة... .
وفی العبر فی خبر من غبر الذهبی: (5) سنة تسع وخمسین ومائة فیها ألح المهدی علی ولی العهد عیسی بن موسی بکل ممکن بالرغبة والرهبة فی خلع نفسه لیولی العهد لولده موسی الهادی فأجاب خوفا علی نفسه فأعطاه المهدی عشرة آلاف ألف درهم وإقطاعات.
وفی الکامل ابن الأثیر (6) قال: ذکر الاختلاف علی نجدة وقتله وولایة أبی فدیک ثم إن أصحاب نجدة اختلفوا علیه لأسباب نقموها علیه فمنها أن أبا سنان حیان بن وائل أشار علی نجدة بقتل من أجابه تقیة فشتمه نجدة فهم بالفتک به فقال له نجدة کلف الله أحدا علم الغیب قال لا قال فإنما علینا أن نحکم بالظاهر فرجع أبو سنان إلی نجدة ومنها أن عطیة بن الأسود خالف علی نجدة وسببه أن نجدة سیر سریة بحرا وسریة برا فأعطی سریة البحر أکثر من سریة البر فنازعه عطیة حتی أغضبه فشتمه نجدة فغضب علیه وألبّ الناس علیه وکلم نجدة فی رجل یشرب الخمر فی عسکره فقال هو رجل شدید النکایة علی العدو وقد استنصر
ص:83
رسول الله بالمشرکین وکتب عبد الملک إلی نجدة یدعوه إلی طاعته ویولیه.
وفی أحداث (1) تولیة ابن هبیرة العراق وخراسان نیابة عن یزید بن عبد الملک استدعی ابن هبیرة الحسن وابن سیرین والشعبی، وذلک فی سنة ثلاث ومائة فقال لهم: إن الخلیفة کتب إلیّ بأمر فأقلّده ما تقلد من ذلک الأمر فقال ابن سیرین والشعبی قولاً فیه بعض تقیة... .
وفی عجائب الآثار للجبرتی (2) قال: وقلّد إسماعیل بک مصطفی کاشف المرابط بقلعة طرافعسف بالمسافرین الذاهبین والآیبین إلی جهة قبلی فلا تمرّ علیه سفینة صاعدة أو منحدرة إلا طلبها إلیه وأمر بإخراج ما فیها وتفتیشها بحجة أخذهم الاحتیاجات للأمراء القبلیین من الثیاب وغیرها أو إرسالهم أشیاء أو دراهم لبیوتهم فان وجد بالسفینة شیئاً من ذلک نهب ما فیها من مال المسافرین والمتسببین وأخذه عن آخره، وقبض علیهم وعلی الریس وحبسهم ونکل بهم ولا یطلقهم إلا بمصلحة وان لم یجد شیئا فیه شبهة أخذ من السفینة ما اختاره وحجزهم فلا یطلقهم إلاّ بمال یأخذه منهم، وتحقق الناس فعله فصانعوه ابتداء تقیّة لشرّه وحفظاً لمالهم ومتاعهم فکان الذی یرید السفر إلی قبلی بتجارة أو متاع یذهب إلیه ببعض الوسائط ویصالحه بما یطیب به خاطره ویمرّ بسلام فلا یعرض له وکذلک الواصلون من قبلی یأتون طائعین إلی تحت القلعة ویطلع إلیه الریس والمسافرون فیصالحونه وعلم الناس هذه القاعدة واتبعوها وارتاحوا علیها فی الجملة واستعوضوا الخسارة من غلو الأثمان... .
وفی قواطع الأدلة فی الأصول لأبی المظفر السمعانی قال: (3) أن من تبین بشرع فإنه لا یستجیز کتمانه إلا عن تقیة فی بعض المواضع فأما إذا لم یکن هناک تقیة ولا خوف فإنه لا یستجیز کتمانه وإخفاءه النبی... وقال ایضاً: (4) وبه قال بعض المعتزلة واختاره أبو عبد الله البصری وقال أبو علی بن أبی هریرة إن کان وجد حکماً من بعض الصحابة وانتشر من الباقین لم یعرف له مخالف لا یکون إجماعاً وأن کان فتوی وانتشر ولم یعرف له مخالف یکون إجماعا، وعکس هذا أبو إسحاق المروزی فقال: یکون إجماعا إن کان حکما ولا یکون إجماعاً إن کان فتیاً والأصح هو القول الأول وأما من قال لیس بحجة أصلاً فاحتج فی ذلک وقال لا یمتنع
ص:84
أن یکون سکوت من سکت لتقیة أو هیبة کما روی عن ابن عباس أنه لما أظهر قوله فی مسألة العول قیل له هلا قلت فی زمان عمر رضی الله عنه قال: إنه کان رجلاً مهیباً. (1) فلا یتصور دوام السکوت من کل المجتهدین مع تکرار الواقعة فی حکم العادة ولهذا أن ابن عباس أظهر خلافه من بعد فی مسألة العول والذین یقولون لعل السکوت لتقیة أو هیبة. قلنا لیس هذا مما یدوم علی الدهر ولأن المسألة مصورة فیما إذا لم یکن تقیة ولا هیبة... .وفی کتاب التقریر والتحبیر لابن أمیر الحاج: (2) تکلم عن الإجماع هناک وتعرض للتقیة کسابقه هنا... .
وجاء فی القول المفید للشوکانی: (3) فاسأل غیره من العلماء الموجودین وهم بحمد الله فی کل صقع من بلاد الإسلام، فالله سبحانه حافظ دینه بهم وحجته قائمة علی عباده بوجودهم کتموا الحق فی بعض الأحوال، أما لتقیة مسوغة کما قال تعالی إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أو بمداهنة... . (4)
وفی ظلال القرآن لسید قطب: (5) ویرخص فقط بالتقیة لمن خاف فی بعض البلدان والأوقات ولکنها تقیة اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل قال ابن عباس رضی الله عنهما لیس التقیة بالعمل إنما التقیة باللسان فلیس من التقیة المرخص فیها أن تقوم المودة بین المؤمن وبین الکافر والکافر هو الذی لا یرضی بتحکیم کتاب الله.
أقول: قد حصل خلط هنا بین مصطلحی التقیة والمداهنة، فالثانیة هی التودد بین المؤمن والکافر من الأول إلی الثانی کقوله تعالی: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ (القلم:9)، وهذا هو المنهی عنه لا عن التقیة.
وقال ابن تیمیة: (6) والأشعری ابتلی بطائفتین طائفة تبغضه وطائفة تحبه کل منهما یکذب علیه
ص:85
ویقول إنما صنف هذه الکتب تقیةً وإظهاراً لموافقة أهل الحدیث والسنّة من الحنبلیّة وغیرهم... .
قال المغیرة لصعصعة بن صوحان: (1)
إیاک أن یبلغنی أنّک تعیب عثمان وإیّاک أن یبلغنی أنّک تظهر شیئاً من فضل علی فأنّا أعلم بذلک منک ولکن هذا السلطان قد ظهر وقد أخذنا بإظهار عیبه للناس فنحن ندع شیئا کثیرا بما أمرنا به ونذکر الشیء الذی لا نجد منه بداً ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقیّة فإن کنت ذاکراً فضله فاذکره بینک وبین أصحابک فی منازلکم سراً وأمّا علانیةً فی المسجد فإن هذا لا یحتمله الخلیفة لنا فکان یقول له نعم ثم یبلغه عنه أنه فعل ذلک فحقد علیه المغیرة فأجابه بهذا الجواب فقال له صعصعة وما أنا إلا خطیب فقط قال أجل... .
هذا هو حال الصحابة مع علی بن أبی طالب علیه السلام وأتباعه والحال هو الحال فی الوقت الحاضر!! ولکن ماذا فعل هذا الرجل لیفعل به هذه الأفاعیل؟ هل سرق أحداً؟ هل غش أحداً؟ ألا تسأل نفسک؟ لماذا کل هذا البغض والحقد؟ هل عیّن والیاَ یؤخّر الصلاة؟ أم وزع الأموال فی بنی هاشم؟ أم بدلّ حکماً؟ فکر وسل نفسک!!!! لماذا یقال بعد کل أذان: الصلاة والسلام علیک یا رسول الله وعلی آلک وأصحابک ثم یشتم علی وولده صلوات الله تعالی علیهم ویقتل أتباع الآل فی المسیب واللطیفیة وأبی غریب والزبیر والدورة وسامراء والضلوعیة والمشاهدة والأنبار وتکریت والموصل وبیجی وراوة ودیالی والمدائن والغزالیة؟ لماذا یقتل من یسمی محل تجارته باسم الزهراء؟ ویحرس من یسمیه باسم غیرها من النساء؟ لماذا یجهز هؤلاء القتلة بالأموال من الدول الإسلامیة ومؤسساتها؟ وبعد سکوت الناس ثلاث سنوات من الصبر فإذا ردوا أصبحوا میلیشیات یجب حلها؟ لماذا تفجر مساجدهم وتترک المباغی والحانات علی راحتها؟] أحکم بنفسک إن کنت منصفاً... .
وفی دلیل الطالب (2) قال: ویحرم علیها الخروج بلا إذنه ولو لموت أبیها، لکن لها أن تخرج لقضاء حوائجها حیث لم یقم بها ولا یملک منعها من کلام أبویها ولا منعهما من زیارتها ما لم یخف منهما الضرر ولا یلزمها طاعة أبویها بل طاعة زوجها أحق.
وأما قاعدة الضرورات تبیح المحظورات، فإطلاقها خیر دلیل علی إمکان التطبیق فی کل ضررٍ مرتقب. (3)
ص:86
وقال فی جامع العلوم والحکم: (1) فهذان الحدیثان محمولان علی أن یکون المانع له من الإنکار مجرد الهیبة دون الخوف المسقط للإنکار. قال سعید بن جبیر: قلت لابن عباس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنکر؟ قال: إن خفت أن یقتلک فلا، ثم عدت فقال لی مثل ذلک ثم عدت فقال لی مثل ذلک، وقال: إن کنت لابد فاعلا ففیما بینک وبینه. وقال طاوس: أتی رجل ابن عباس فقال: ألا أقوم إلی هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا تکن له فتنة، قال: أفرأیت إن أمرنی بمعصیة الله، قال: ذلک الذی ترید فکن حینئذ رجلا... وقد ذکرنا حدیث ابن مسعود الذی فیه یخلف من بعدهم خلوف فمن جاهدهم بیده فهو مؤمن الحدیث وهذا یدل علی جهاد الأمراء بالید. وقد استنکر الإمام أحمد هذا الحدیث فی روایة أبی داود وقال هو خلاف الأحادیث التی أمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فیها بالصبر علی جور الأئمة. وقد یجاب عن ذلک بأن التغییر بالید لا یستلزم القتال وقد نص علی ذلک أحمد أیضا فی روایة صالح فقال التغییر بالید لیس بالسیف والسلاح فحینئذ جهاد الأمراء بالید أن یزیل بیده ما فعلوه من المنکرات مثل أن یریق خمورهم أو یکسر آلات اللهو التی لهم أو نحو ذلک أو یبطل بیده ما أمروا به من الظلم إن کان له قدرة علی ذلک وکل ذلک جائز ولیس هو من باب قتالهم ولا من الخروج علیهم الذی ورد النهی عنه فإن هذا أکثر ما یخشی منه أن یقتله الأمراء وحده وأما الخروج علیهم بالسیف فیخشی منه الفتن التی تؤدی إلی سفک دماء المسلمین نعم إن خشی فی الإقدام علی الإنکار علی الملوک أن یؤذی أهله أو جیرانه لم ینبغ له التعرض لهم حینئذ، لما فیه من تعدی الأذی إلی غیره، کذلک قال الفضیل بن عیاض وغیره ومع هذا متی خاف علی نفسه السیف أو السوط أو الحبس أو القید أو النفی أو أخذ المال أو نحو ذلک من الأذی سقط أمرهم ونهیهم وقد نص الأئمة علی ذلک منهم مالک وأحمد وإسحاق وغیرهم قال أحمد لا یتعرض إلی السلطان فإن سیفه مسلول وقال ابن شبرمة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر کالجهاد یجب علی الواحد أن یصابر فیه الاثنین ویحرم علیه الفرار منهما ولا یجب علیه مصابرة أکثر من ذلک فإن خاف السب أو سماع الکلام السیئ لم یسقط عنه الإنکار بذلک نص علیه الإمام أحمد وإن احتمل الأذی وقوی علیه فهو أفضل
ص:87
نص علیه أحمد أیضا وقیل له ألیس قد جاء عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال: لیس للمؤمن أن یذل نفسه أی یعرضها من البلاء ما لا طاقة له به قال: لیس هذا من ذلک ویدلّ علی ما قاله ما خرجه أبو داود وابن ماجة والترمذی من حدیث أبی سعید عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم قال: أفضل الجهاد کلمةُ عدلٍ عند سلطان جائر... وخرج ابن ماجه معناه من حدیث أبی أمامة وفی مسند البزار بإسناد فیه جهالة عن أبی عبیدة بن الجراح قال: قلت یا رسول الله: أی الشهداء أکرم علی الله قال رجل قام إلی إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن المنکر فقتله. وقد روی معناه من وجوه أخری کلها فیها ضعف. وأما حدیث لا ینبغی للمؤمن أن یذلّ نفسه فإنّما یدلّ علی أنه إذا علم أنه لا یطیق الأذی ولا یصبر علیه فإنه لا یتعرض حینئذ للأمراء وهذا حق، وإنما الکلام فیمن علم من نفسه الصبر لذلک قاله الأئمة کسفیان وأحمد والفضیل بن عیاض وغیرهم وقد روی عن أحمد ما یدل علی الاکتفاء بالإنکار بالقلب قال: فی روایة أبی داود نحن نرجو إن أنکر بقلبه فقد سلم وإن أنکر بیده فهو أفضل، وهذا محمول علی أنه یخاف کما صرح بذلک فی روایة غیر واحد. وقد حکی القاضی أبو یعلی روایتین عن أحمد فی وجوب إنکار المنکر علی من یعلم أنه لا یقبل منه وصح القول بوجوبه وهذا قول أکثر العلماء وقد قیل لبعض السلف فی هذا فقال: یکون لک معذرة وهذا کما أخبر الله تعالی عن الذین أنکروا علی المعتدین فی السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: أتعظون قوماً الله مهلکهم أو معذبهم عذابا شدیدا قالوا معذرة إلی ربکم ولعلهم یتقون... الأعراف... وقد ورد ما یستدل به علی سقوط الأمر والنهی عند عدم القبول والانتفاع به ففی سنن أبی داود وابن ماجة والترمذی عن أبی ثعلبة الخشنی أنّه قیل له: کیف تقول فی هذه الآیة: علیکم أنفسکم لا یضرکم من ضل إذا اهتدیتم... المائدة قال: سألت عنها خبیرا أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنکر حتی إذا رأیتُ شحاً مطاعاً... . (1)
وقال فی جامع العلوم والحکم کذلک: (2) وفی سنن أبی داود عن عبد الله بن عمر قال بینما نحن جلوس حول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إذ ذکر الفتنة فقال: إذا رأیتم الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وکانوا هکذا وشبک أصابعه فقمت إلیه فقلت له: کیف
ص:88
أفعل عند ذلک جعلنی الله فداک؟ فقال: الزم بیتک واملک علیک لسانک وخذ بما تعرف ودع ما تنکر وعلیک بأمر خاصة نفسک ودع عنک أمر العامة... وکذلک روی عن طائفة من الصحابة فی قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ (المائدة: من الآیة105)، قالوا: لم یأت تأویلها بعد إنما تأویلها فی آخر الزمان. وعن ابن مسعود قال: إذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شیعا وذاق بعضکم بأس بعض فیأمر الإنسان حینئذ نفسه فهو حینئذ تأویل هذه الآیة وعن ابن عمر قال: هذه الآیة لأقوام یجیئون من بعدنا إن قالوا: لم یقبل منهم وقال جبیر بن نفیر عن جماعة من الصحابة قالوا: إذا رأیتُ شحّاً مطاعاً وهوی متّبعاً وإعجاب کل ذی رأی برأیه فعلیک حینئذ بنفسک لا یضرک من ضل إذا اهتدیت. وعن مکحول قال: لم یأت تأویلها بعد إذا هاب الواعظ وأنکر الموعوظ فعلیک حینئذ بنفسک لا یضرک من ضل إذا اهتدیت، وعن الحسن أنه کان إذا تلا هذه الآیة قال: یا لها من ثقة ما أوثقها ومن سعة ما أوسعها... وهذا کله قد یحمل علی أن من عجز عن الأمر بالمعروف أو خاف الضرر سقط عنه... وکلام ابن عمر یدل علی أن من علم أنه لا یقبل منه لم یجب علیه کما حکی روایة عن أحمد وکذا قال الأوزاعی مر من تری أن یقبل منک. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم فی الذی ینکر بقلبه وذلک أضعف الإیمان یدل علی أن الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر من خصال الإیمان... .
وقال فی بدائع السلک: (1) الفائدةُ الرابعة قال ابن عیشون أجاز إعطاء الرشوة إذا خاف الظلم علی نفسه وکان محقا... وقال أیضاً: (2) أنه أول من قدم الرشا فی الإسلام المغیرة بن شعبة، کان یعطی یرفا حاجب عمر بن الخطاب لیستأذن له علیه وأن یرفا هذا أول من قبلها فی الإسلام... وبرر المؤلف فعل المغیرة أنه من باب التوصل به إلی حق منع منه علی ما تقدم... . (3)
وفیه أیضاً: (4) هذا فی القول فأمّا الفعل فیه الحال فمنه ما لا خلاف فی جوازه کشرب الخمر إذا خاف علی نفسه القتل، وإن یخف إلا ما دون القتل فالصبر له أفضل، وإن لم یخف فی ذلک إلا کسجن یوم أو طرف من خفیف فلا تحل له المعصیة من أجل ذلک. وأما
ص:89
الإکراه علی القتل فلا خلاف فی لأنه إنما رخص له فیما دون القتل لیدفع بذلک قتل نفس مؤمنة وهی نفسه فأما إذا عن نفسه بنفس أخری فلا رخصة. واختلف فی الإکراه علی الزنی، فذکر عن ابن الماجشون، قال: لا رخصة فیه لأنه لا ینتشر له إلا عن إرادة فی القلب أو شهوة، وأفعال القلب تباح مع الإکراه. وقال غیره: بل یرخص فی ذلک لمن خاف القتل لأن انبعاث الشهوة عند بمنزلة انبعاث اللعاب عند مضغ الطعام وقد یجوز أکل الحرام إذا أکره علیه... .
وفی مواهب الجلیل (1) قال: وقد جوز الشارع الاستعانة بالمفسدة لا من جهة أنها مفسدة علی درء مفسدة أعم منها... السابع قال ابن فرحون أجاز بعضهم إعطاء الرشوة إذا خاف الظلم علی نفسه وکان الظلم محققا... قال ابن عیشون أجاز بعضهم إعطاء الرشوة إذا خاف الظلم علی نفسه وکان محقا وقال قبله قال أبو بکر بن أویس یحرم علی القاضی أخذ الرشوة فی الأحکام یدفع بها حقا أو یشهد بها باطلا وأما أن یدفع بها عن مالک فلا بأس... .
وفی أصول السرخسی: (2) وکذلک إباحة إتلاف مال الغیر عند تحقق الإکراه فإنه رخصة مع قیام سبب الحرمة وحکمها وکذلک إباحة الإفطار فی رمضان للمکره وإباحة الإقدام علی الجنایة علی الصید للمحرم ولهذا النوع أمثلة کثیرة والحکم فی الکل واحد له أن یرخص بالإقدام علی ما فیه رفع الهلاک عن نفسه فذلک واسع له تیسیرا من الشرع علیه وإن امتنع فهو أفضل له ولم یکن فی الامتناع عاملا فی إتلاف نفسه بل یکون متمسکاً بما هو العزیمة... .
وفی شرح الزرقانی: (3) وقد استثنی من الإنصات فی الخطبة ما إذا انتهی الخطیب إلی کل ما لم یشرع فی الخطبة مثل الدعاء للسلطان مثلا بل جزم صاحب التهذیب بأنه مکروه وقال النووی محله إذا جازف وإلا فالدعاء لولاة الأمر (4) مطلوب اه... ومحل الترک إذا لم یخف الضرر وإلا فیباح للخطیب إذا خشی علی نفسه اه- .
وفی التاج والإکلیل: (5) والإکراه علی وجوه: منها أن یکره علی إیقاع الطلاق، ومنها: أن یکره علی أن یحلف بالطلاق، وأن لا یفعل شیئا ثم یفعله طوعا، ومنها: أن یکره علی أن یحلف لیفعلن فلا یفعل، ومنها: أن یحلف بالطلاق أن لا یفعل شیئا فأکره علی فعله. ویختلف
ص:90
إذا حلف لیدخلن فحیل بینه وبین الدخول، وانظر إذا بدر بالیمین قبل أن یسألها لیذب عما خاف علیه من بدنه أو ماله، فقال مالک: یلزمه الیمین، وقال ابن الماجشون: إذا حلف بالطلاق ثلاثا من غیر یحلف وکانت یمینه خوفا من قتله أو ضربه أو أخذ ماله فأسرع بالیمین فلا شیء علیه، فإن کان لم یحلف رجاء النجاة لزمته. وقال مالک: فی لصوص استحلفوا رجلا بالحریة والطلاق أن لا یخبر بهم ثم أخبر عنهم، قال مالک: لا حنث علیه. قال ابن رشد: معناه إذا خشی علی نفسه منهم مکروها، وأما إن لم یخش فإن الیمین تلزمه إن أخبر عنهم، ویجب علیه أن یخبر عنهم ویحنث. قال ابن العربی: قال أبو حنیفة: طلاق المکره یلزم لأنه لم یعدم فیه أکثر من الرضا ولیس وجوده بشرط فی الطلاق کالهازل، وهذا قیاس باطل فإن الهازل قاصد إلی إیقاع الطلاق وراض به والمکره غیر راض ولا نیة له فی الطلاق ولکل امرئ ما نوی. ومن غریب الأمر أن علماءنا اختلفوا فی الإکراه علی الحنث فی الیمین... وقال هناک أیضاً: (1) وإن لم یحلف لم یکن علیه حرج وإن لم یکن عنده مال ولا کان مستخفیا فی داره إلا أنه یعلم مکانه أو مکان ماله فقیل له إن لم تحلف أنک ما تعلم مکانه ولا مکان ماله فعلنا بک کذا وکذا من ضرب أو سجن أو خشی ذلک علی نفسه إن لم یحلف جاز له أن یحلف أنه ما یعلم موضعه إن أرادوا قتله ولم تلزمه الیمین باتفاق لأنه فی حکم المکره علیها إذ لا خروج له عنها إلا بإباحة حرمة نفسه أو بإباحة دم غیره وذلک لا یجوز وأما... .
وفی المعین: (2) والدعاء للسلطان بخصوصه لا یسن اتفاقا إلا مع خشیة فتنة فیجب ومع عدمها لا بأس به حیث لا مجازفة فی وصفه ولا یجوز وصفه بصفة کاذبة إلا لضرورة... .
وفی حاشیة الطحطاوی علی مراقی الفلاح: (3) ولذلک یحسن أن یستخار فی النهی عن المنکر فی شخص متمرد یخشی بنهیه حصول ضرر عظیم عام أو خاص وإن جاء فی الحدیث أفضل الجهاد کلمة حق عند سلطان جائر لکن إن خشی ضرراً عاما للمسلمین فلا ینکر وإن خشی علی نفسه فله الإنکار ولکن یسقط الوجوب کذا فی العینی... .
وفی حاشیة الدسوقی: (4) نعم محل الوجوب إذا خشی ضیاعه ما لم یخف علی نفسه ضرراً
ص:91
من السلطان إذا أخذه لیخبر صاحبه به وإلا حرم علیه أخذه قوله وإلا فلا یأخذه) صرح بهذا المفهوم لأنه مفهوم غیر شرط ولأن عدم ندب أخذه لا یقتضی النهی مع أن المراد الکراهة ولیفرع علیه قوله فإن أخذه الخ قوله أی یکره له أخذه) أی لاحتیاجه للإنشاد والتعریف فیخشی أن یصل لعلم السلطان فیأخذه... .
وجاء فی تاریخ الیعقوبی (1) وغیره عند ذکر سریة بسر الذی بعثه الصحابی معاویة الذی نوبته بعد نوبة علی علیه السلام لیقتل کل من بلغ الحلم إلی الشیوخ فی المدینة بعد التحکیم فقدم المدینة وعلیها أبو أیوب الأنصاری فتنحی عنها ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال یا أهل المدینة مثل السوء لکم قریة کانت آمنة مطمئنة یأتیها رزقها رغداً من کل مکان فکفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما کانوا یصنعون ألا وإن الله قد أوقع بکم هذا لمثل وجعلکم أهله شاهت الوجوه ثم ما زال یشتمهم حتی نزل قال فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاری إلی أم سلمة زوج النبی صلوات الله تعالی علیه وآله فقال إنی قد خشیت أن أقتل وهذه بیعة ضلال قالت: أنا أعلم أنها بیعة ضلال فاذهب وبایع فإن التقیة حملت أصحاب الکهف علی أن کانوا یلبسون الصلب ویحضرون الأعیاد مع قومهم... .
وفی الفتاوی الکبری ابن تیمیة (2) قال:
قلت: هذه الفتیا کتبت هی وجوابها فی فتنة ابن القشیری لما قدم بغداد فإن ملک بغداد محمود ابن سبکتکین کان قد أمر فی مملکته بلعن أهل البدع علی المنابر فلعنوا وذکر فیهم الأشعریة وکذلک جری فی أول مملکة السلاجقة الترک وکان الذین سعوا فی إدخالهم فی اللعنة فیهم من سکان تلک البلاد من الحنفیة الکرامیة وغیرهم ومن أهل الحدیث طوائف وجواب الدامغانی جواب مطلق فیه رضی هؤلاء وهؤلاء فإنه أجاب بأنه من أقدم علی لعنة فرقة من المسلمین وتکفیرهم فقد ابتدع وفعل ما لا یجوز وهذا
ص:92
مما لا ینازع فیه أحد أنه من کان من المسلمین لا یجوز تکفیره إذ المکفر لشخص أو طائفة لا یقول إنهم من المسلمین ویکفرهم بل یقول: لیسوا بمسلمین... .
قال صاحب مدافع الفقهاء: (1)
الفقهاء ویزید بن معاویة: یروی البخاری فی کتاب المغازی أن معاویة خطب فی الناس یطلب البیعة لولده یزید من بعده فبلغ الخبر ابن عمر فدخل علی حفصة أخته فقال لها: قد کان من الأمر ما ترین. فلم یجعل لی من الأمر شیء، فقالت: الحق فإنهم ینتظرونک. وأخشی أن یکون فی احتباسک عنهم فرقة، فلم تدعه حتی ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاویة فقال: من کان یرید أن یتکلم فی هذا الأمر فلیطلع لنا قرنه. فلنحن أحق به منه ومن أبیه. قال حبیب بن مسلمة لابن عمر: فهلا أجبته؟ قال ابن عمر: فحللت حبوتی. وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منک من قاتلک وأباک علی الإسلام. فخشیت أن أقول کلمة تفرق بین الجمع وتسفک الدم وتحمل عنی غیر ذلک، فذکرت ما أعد الله فی الجنان. فقال له حبیب: حفظت وعصمت.
وقال صالح الوردانی: (2)
علمه بحقیقة معاویة ومکانته المهزوزة فی قلوب المسلمین وهو ما یتضح من قوله: أحق بهذا الأمر منک من قاتلک وأباک علی الإسلام، لم یتراجع عن بیعته ولا عن بیعة ولده یزید... وحین ثار أهل المدینة علی یزید وخلعوه وأطاحوا بوالیه فیها جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إنی سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول [نقله البخاری فی کتاب الفتن]: ینصب لکل غادر لواء یوم القیامة، وإنا قد بایعنا هذا الرجل - یزید - علی بیع الله ورسوله. وإنی لا أعلم غدرا أعظم من أن نبایع رجلا علی بیع الله ورسوله ثم ننصب له القتال، وأنی لا أعلم أحدا منکم خلعه ولا بایع فی هذا الأمر إلا کنت الفیصل بینی وبینه.
وفی المدهش قال ابن الجوزی: (3) «کان بعض الصالحین یتستر بإظهار الجنون فتبعه مرید فقال له والله ما أبرح حتی تکلمنی بشیء ینفعنی فإنی قد عرفت تسترک فسجد وجعل یقول فی سجوده اللهم سترک فمات».
جمیعنا یعلم بما جری فی أحداث وفاة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله والسقیفة ونقل لنا
ص:93
التاریخ أجزاء منها هنا وهناک فی مطاوی الکتب أنقل منها ما جاء عن ابن تیمیة فیما ذکره عمر بن الخطاب عن نفسه. فهذا عمر یداری ممن؟ من أبی بکر من أجل کلمتین یرید أن یقولهما أمام الناس فهل یحکم ابن تیمیة بالنفاق علی کل من داری؟ أم مداراة قوم کفر ونفاق ومداراة غیرهم إیمان؟ أترک الجواب إلی المنصفین فقط... .
وإلیک ما ذُکِرَ: (ولما توفی رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم کان هو الذی خطب الناس وخطب یوم السقیفة خطبة بلیغة انتفع بها الحاضرون کلهم حتی قال عمر: کنت قد زورت فی نفسی مقالة أعجبتنی أرید أن أقدمها بین یدی أبی بکر وکنت أداری منه بعض الحد فلما أردت أن أتکلم قال: أبو بکر علی رسلک فکرهت أن أغضبه فتکلم أبو بکر وکان أحلم منی وأوقر و الله ما ترک من کلمة اعجبتنی فی تزویری إلا قال فی بدیهته مثلها أو أفضل منها). (1)
ومما نقل عن هذه الواقعة التی زوّر بها عمر مقالته أنّها کانت فی لحظاتٍ شدیدةٍ علیه وعلی أتباعه نقلاً عن أنس حیث نقل ذلک ابن تیمیة فی المصدر المذکور: (وقال أنس: خطبنا أبو بکر رضی الله عنه ونحن کالثعالب فما زال یثبتنا حتی صرنا کالأسود).
والسؤال الذی یطرح نفسه أنه کیف کانوا ثعالب ثم کیف صاروا أسودا؟ ولماذا هذه الثعلبة والأسأدة؟ وعلی من کان ذلک؟ هل علی بیت فاطمة صلوات الله تعالی علیها؟ أم علی هذا البیت ومن امتنع عن البیعة؟ هذا الأمر متروک للبحث الذی سیقوم به القارئ إن کان ممن یحب أن یعرف المأساة التی حلت بهذا البیت الشریف بعد غیاب النبی الأکرم صلوات الله تعالی علیه وآله. وعلی کل حال من خلال تصریح أنس بهذا الکلام نستشفُّ أن الموقف فی ذلک الیوم من هذه الجماعة موقف مداراة لیس غیر فتأمل.
حیث نقلت لنا کتب العامة والخاصة أن طلحة بن عبید الله تکلم فی شأن تولیة أبی بکر عمرَ أمر المسلمین فقد جاء فی کتب القوم: (2) أن الصحابة قد وجهوا اللوم لأبی بکر علی تعیینه
ص:94
عمر من بعده فقالوا له - والقائل طلحة - : «و لهذا لما استخلفه أبو بکر کره خلافته طائفة حتی قال طلحة: ماذا تقول لربک إذا ولیت علینا فظا غلیظا». علی أنه لم یجرؤ أحد أن یتکلّم علیه والنطق بذلک إبان فترة حکمه... فماذا یقال عن هؤلاء الصحابة أکانوا قد لبسوا ثوب النفاق؟
ممن نقله ابن أبی الحدید فی شرحه للنهج 1 قائلاً: (عن ابن عباس، قال: تعرض عمرو بن العاص لعلی علیه السلام یوما من أیام صفین، وظن أنه یطمع منه فی غرة فیصیبه، فحمل علیه علی علیه السلام فلما کاد أن یخالطه أذری نفسه عن فرسه، ورفع ثوبه وشغر برجله، فبدت عورته، فصرف علیه السلام وجهه عنه، وقام معفراً بالتراب، هارباً علی رجلیه، معتصماً بصفوفه. فقال أهل العراق: یا أمیر المؤمنین، أفلت الرجل! فقال أتدرون من هو؟ قالوا: لا، قال: فإنه عمرو بن العاص، تلقانی بسوءته، فصرفت وجهی عنه، ورجع عمرو إلی معاویة، فقال: ما صنعت یا أبا عبد الله؟ فقال: لقینی علی فصرعنی، قال: أحمد الله وعورتک، و الله إنی لاظنک لو عرفته لما أقحمت علیه، وقال معاویة فی ذلک:
ألا لله من هفوات عمرو یعاتبنی علی ترکی برازی
فقد لاقی أبا حسن علیا فآب الوائلی مآب خازی
فلو لم یبد عورته لطارت بمهجته قوادم أی بازی
فإن تکن المنیة أخطأته فقد غنی بها أهل الحجاز!
فغضب عمرو وقال:ما أشد تعظیمک أبا تراب فی أمری هل أنا إلا رجل لقیه ابن عمه فصرعه أفتری السماء قاطرة لذلک دماً؟ قال: لا ولکنها معقبة لک خزیا.
وفی البدایة والنهایة ابن کثیر: 2 (وقد فعل ذلک علی رضی الله عنه یوم صفین مع بسر بن أبی أرطاة لما حمل علیه لیقتله أبدی له عورته فرجع عنه. وکذلک فعل عمرو بن العاص حین حمل علیه علی فی بعض أیام صفین أبدی عن عورته فرجع علی أیضا. ففی ذلک یقول الحارث بن النضر:
ص:95
أفی کل یوم فارس غیر منته وعورته وسط العجاجة بادیه
یکف لها عنه علی سنانه ویضحک منها فی الخلاء معاویه
وعن المناقب - للموفق الخوارزمی: (1) (فحمل علیه أمیر المؤمنین علی علیه السلام وعمرو لا یشعر به، فطعنه وصرعه وبدت عورته، فصرف علی علیه السلام وجهه فانسل عنه عمرو، قیل لعلی فی ذلک فقال إنه ابن العاص تلقانی بعورته فصرفت وجهی عنه. وروی أن علیاً حمل علیه بسیفه وقال: خذها یا ابن النابغة فسقط عن فرسه وأبدی عورته، فقال له علی: یا بن النابغة أنت طلیق دبرک أیام عمرک، وعذله معاویة وقال: ما هذه الفضیحة التی فضحت بها نفسک؟ فقال عمرو لمعاویة: یا أبا عبد الرحمن من یتعرض لبلاء نفسه لا طاقة لی بعلی ولا لک ولا للولید ولا لأحد من جموعنا، وان لم تصدقنی فجرب وقد دعاک مراراً إلی البراز ولا تبرز إلیه وقال عمرو فی ذلک:
یذکرنِیِ الولید شجی علی وصدر المرء یملاه الوعید
متی تذکر مشاهده قریش یطر من خوفه القلب الشدید
فاما فی اللقاء فأین منه معاویة بن حرب والولید
وعیرنی الولید بقاء لیث إذا ما زار هابته الاسود
لقیت - ولست أجهله - علیاً وقد بلت من العرق اللبود
فاطعنه ویطعننی خلاسا وماذا بعد طعنته مزید
فرمها منه یا بن أبی معیط فانت الفارس البطل النجید
واقسم لو سمعت ندا علیٍّ لطار القلب وانتفخ الورید
ولو لا قیته شقت جیوب علیک ولطمت فیک الخدود
وقال معاویة یا عمرو: ولو عرفت علیا ما أقحمت علیه. وقال معاویة فی ذلک:
ألا لله من هفوات عمرو یعاتبنی علی ترکی برازی
ص:96
فقد لاقی أباحسن علیا فآب الوائلی مآب خازی
ولو لم یبد عورته لاودی به لیث یذلل کل نازی
له کف کأن براحتیها منایا القوم تخطف خطف بازی
فان تکن المنیة أحرزته فقد عنی بها أهل الحجاز
فغضب عمرو، وقال: هل هو إلاّ رجل لقیه ابن عمه فصرعه، أتری السماء قاطرة لذلک دماً...أه؟
وکذا جاء أنّ علیاً صلوات الله تعالی علیه ارتجز قائلاً:
أنّی علی فسلونی تخبروا سیفی حسام وسنانی أزهر
منا النبی الطاهر المطهر وحمزة الخیر وصنوی جعفر
له جناح فی الجنان أخضر ذا أسد الله وفیه مفخر
هذا الهزبر وابن هند مجحر مطرد مذبذب مؤخر
فاستقبله بسر قریباً من التل فطعنه علی علیه السلام ولم یعرف أنّه بسر، فانحنی سیفه فدفعه بیده فصرعه علی وجهه وانکشفت عورته فانصرف عنه علی، فناداه الأشتر: یا أمیر المؤمنین إنّه بسر، فقال: دعه لعنه الله فحمل ابن عم بسر علی علی علیه السلام وهو یقول:
أردیت بسراً والغلام ثائره أردیت شیخاً غاب عنه ناصره
فحمل علیه الأشتر وهو یقول:
أکل یوم رجل شیخ شاغرة وعورة وسط العجاج ظاهرة
تبرزها طعنة کف واترة عمرو وبسر رمیا بالفاقرة
وطعنه الأشتر فکسر صلبه، قام بسر من ضربة علی علیه السلام وولت خیله وناداه أمیر المؤمنین علی علیه السلام : یا بسراً... معاویة کان أحق بهذا منک، فرجع بسر إلی معاویة، فقال له معاویة: ارفع طرفک فقد أدال الله عمراً منک، فقال فی ذلک النضر بن الحارث:
أفِی کل یوم فارس تندبونه له عورة وسط العجاجة بادیة
یکف بها عنه علیٌّ سنانه ویضحک منها فِی الخلاء معاویة
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه وعورة بسر مثلها فرج جاریة
ص:97
فقولا لعمرو وابن أرطأة أبصرا سبیلکما لا تلقیا اللیث ثانیة
ولا تحمدا إلا الحیا وخصاکما کما کانتا والله للنفس واقیة
فلولاهما لم تنجوا من سنانه وتلک بما فیها عن العود ناهیة
متی تلقیا الخیل المشیحة صبحة وفیها علی فاترکا الخیل ناحیة
وکونا بعیداً حیث لا تبلغ القنا وحمی الوغی إنّ التجارب کافیة
وإن کان منه بعد فِی النفس حاجة فعودا إلی ما شئتما هی ماهیة
وکان بسر بعد ذلک إذا لقی الخیل التی فیها علی علیه السلام تنحی ناحیة عنه. وفی النصائح الکافیة محمد بن عقیل. (1) وقد أشار الإمام علی علیه السلام بقوله: یمنح القوم سبته إلی مکیدة عمرو بکشف عورته فراراً من القتل، فقد ذکر المدائنی، وابن الکلبی، وغیرهما من أهل السیر أنّ علیاً کرم الله وجهه حمل علی عمرو فی بعض أیام صفین، فلما تصوّر أنّه قاتله ألقی بنفسه عن فرسه وکشف سوءته مواجهاً له علیه السلام ، فلما رأی ذلک منه غض بصره عنه، وانصرف عمرو مکشوف العورة ونجا بذلک، فصار مثلا لمن یدفع عن نفسه مکروهاً بارتکاب المذلة والعار وفیه یقول أبو فراس:
ولا خیر فِی ردِّ الردی بمذلة کما ردّها یوماً بسوءته عمرو
وروی مثل ذلک قصّة بسر بن أرطأة (2) معه کرم الله وجهه، فإنّه حمل علی بسر فسقط بسر علی قفاه، ورفع رجلیه فانکشف عورته فصرف علی علیه السلام وجهه عنه، فلمّا قام سقطت البیضة عن رأسه فصاح أصحابه: یا أمیر المؤمنین إنّه بسر بن أرطأة، فقال: ذروه لعنه الله، فلقد کان معاویة أولی بذلک منه. فضحک معاویة، وقال: لا علیک یا بسر أرفع طرفک ولا تستحی فلک بعمرو أسوة، وقد أراک الله منه ما أراه منک، فصاح فتی من أهل الشام أما تستحیون، لقد علمکم عمرو کشف الاستأه ثم أنشد: إلخ... .
وعلی کل حال فهذا الفعل لا یدخل تحت عنوان التقیة جزماً، بل حتی تحت عنوان قاعدة أخف الضررین، التی سیأتی الکلام عنها فی محله - إن شاء الله تعالی - وأوردته لیُعَلَمَ أن التقیة حکم شرعی وکشف العورات حرام.
ص:98
من موارد التقیة، عدم هدم قبور النبی (صلوات الله تعالی علیه وآله) ومن دفن معه، وإلاّ فما الفرق بین هذا القبر أو ذاک؟
ومن مواردها أنّه جرت مناظرة بین اثنین من منکری التقیة من جهة، ومع الدکتور عبد الحمید النجدی - أستاذ فی جامعة إسلامیة فی لندن، والدکتور التیجانی - باحث تحول إلی التشیع -، فی إحدی القنوات التلفزیونیة الفضائیة، حیث استدل الدکتور التیجانی بمقطع أقره الأزهر کان علی شکل قطعة فنیة - تمثیلیة - فتخلل هذا المقطع مقعطاً موسیقیاً، وما إن تمَّ تشغیل جهاز التسجیل من قبل الدکتور التیجانی، وسمع مناظراه صوت الموسیقی رفعا أیادیهما وأخذا ینادیان بحرمة سماع هذا المقطع، ولا أظن أن أحدهما یفعل هذا الفعل مع أحد حراس بیت رأس الدولة، التی ینتمی إلیها أحدهما، بل حتی مع الشرطی الذی یقف بباب الإذاعة. وکفی بذلک تقیة... مع العلم بأن رأس الدولة مسلماً من نفس مذهبه... .
من خلال التعرض لما نقلت من أدلة القوم - بشکل عام - علی المداراة والتقیة من تفسیر الآیات القرآنیة الشریفة الخاصّة بالمقام ومتون الروایات، التی نقلتها مصادرهم وسنة الصحابة، التی یعتمدونها کمنبع للاستنباط وأقوال وأفعال التابعین وأقوال الفقهاء، فالکلام الآن یقع فی البحث الدلالی من مجموع ما تقدّم من الأدلة تتضح الأمور التالیة:
أولاً: أنّهم قد جمعوا بین التقیة والمداراة، حتی کأنّه یفهم أن بینهما ترادف، وما ینفعنا فی المقام أنّ التقیة عندهم أوسع وأشمل نطاقاً ممّا نذهب نحن إلیه من الفصل بینهما، ولکلِّ عندنا دلیله الخاصّ به التأکید علی استخدام المداراة أو التقیة، وتتضح الثمرة فی کون المداراة سلوک خلقی تربوی محض لتنقیة المجتمع لو خالفها المکلف یحاسب بالعنوان الثانوی، وأمّا التقیة فمسألة فقهیة حساب المکلف المخالف لها یکون بالعنوان الأولی، وکما سیأتی، وإن اتحدا هدفاً وغایة کما سیتضح إن شاء الله تعالی.
ثانیاً: من خلال قراءة الأدلة السابقة یستشف منها موارد للاستحباب وکذا یمکن اقتناص الوجوب.
ثالثاً: عدم وجود دلیل علی کونها خاصّة باللسان، کما نقلوه عن ابن عباس، بل هی
ص:99
مترشحة علی الفعل أیضاً، وفقاً لما جاء فی الدلیل الثالث من الروایات. ولیست کذباً کما قال ابن تیمیة: (1) (والتقاة لیست بأن أکذب وأقول بلسانی ما لیس فی قلبی، فإنّ هذا نفاق...) فهذا أول الکلام، وخلاف ما جاء فی الأدلة السابقة.
رابعاً: أما البحث السندی فاعتقد أنّه لا حاجة له فی المقام بعد ورود روایة البخاری، وإنّما تکتسب الروایات الضعیفة بذلک قوة. بل قد یکون ذلک سبباً فی القطع بالصدور. ثم إنّ ما نقلته یکفی فی أنّها موضع اتفاق کافة المذاهب، فإنّ ما جاء سابقاً لیست مجرد روایات فی کتاب، إنمّا سیرة للصحابة والتابعین والفقهاء.
خامساً: ممّا تقدم لم یعثر علی المعارض لهذه الأدلة، فینتهی إلی ما وصل إلیه هذا الجمع منه بخصوصها.
سادساً: إذا وصل الحد إلی هتک حرمات المؤمنین، أو المداهنة لا تشرع التقیة أو المداراة.
وبعد هذا العرض الذی قدمته من کتب أتباع المذاهب تبین أن التقیة، التی عندهم تستخدم فی کل شیء، حتی إذا أراد أن یتکلم من کان متفقاً علیه بین مجموعة معینة أن یکون هو الخلیفة المعین من قبل، وهذا الکم الکبیر من المصادر یکفی بأنّ التقیة مشروعة عند الجمیع.
نعم إذا حصل تلاعب بالألفاظ وقیل إن التقیة غیر المداراة فلا بأس ولکن مع کل هذا یبقی أصل التعامل ینصب فی مجری واحد إذا لم نقل بتوسع عندهم، أو عندنا التقیة وعندهم المداراة فلا یشکل علی أحد دون أحد.
فی الحقیقة کلما تأملت فی ما قام به المتشددون فی إجبار الناس علی التلفظ بکلمة، فإنّهم بهذا الفعل، کما قال الله تعالی: وَ ما یَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ (البقرة:من الآیة9)، لأنّهم من سوء تفکیرهم وضحالة وسخافة عقولهم یطلبون کلمة أو فعلاً یریحون به أنفسهم؛ لأن هذا المطلوب إنّما یقوم به الشخص المعنی هو فی الظاهر فقط ولا علاقة للباطن به، ففی الحقیقة إنّ من یحارب الحق وأهله هو الذی یخدع نفسه؛ لأنّه یعلم أنّه لا یستطیع أن یدخل أعماق هذا المؤمن ویغیر من عقیدته شیئاً.
ص:100
وهذا الکلام نفسه یقال فی حق من لا یتسع صدره للآخرین، ولا یهمه مخالفة من خالف.
ومن مثل علی صلوات الله تعالی علیه؟
یا رب هذا الغسق الدجی والفلق المبتلج المضی
بین لنا عن أمرک المقضی بما نسمی ذلک الصبی
خصصتما بالولد الزکی والطاهر المنتجب الرضی
وإسمه من قاهر علی علی اشتق من العلی
ص:101
ص:102
هذا الفصل خاصّ بمسألة إجازة الکذب فی مواضع حددها الشارع المقدّس لظروف استثنائیة، ولو لم یکن ذلک ما نجا من أحد، وإنّ ذلک فی الحقیقة من ألطاف الله تعالی علینا. فقد جاء فی الأثر عنه (صلوات الله تعالی علیه وآله) کما نقل فی الفتاوی الکبری لابن تیمیة: (1) سمعت رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم یقول: (لیس الکذاب الذی یصلح بین الناس فینمی خیراً أو یقول خیراً) متفق علیه، وفی روایة لمسلم: (ولم یرخص فی شیء ممّا یقول الناس إلاّ فی ثلاث یعنی الحرب والإصلاح بین الناس، وحدیث الرجل امرأته وحدیث المرأة زوجها) (2) فی روایة له: قال الزهری: ولم أسمع یرخص فی شیء ممّا یقول الناس أنّه کذب إلاّ فی ثلاث، وعن أسماء بنت یزید بن السکن، أن النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم خطب الناس فقال:
أیّها الناس ما یحملکم علی أن تتابعوا فی الکذب کما یتتابع الفراش؟ کل الکذب یکتب علی ابن آدم إلاّ ثلاث خصال: رجل کذب أمرأته لیرضیها، ورجل کذب بین امرأین لیصلح بینهما، ورجل کذب فی خدعة حرب.
رواه الترمذی بنحوه ولفظه: (لا یحل الکذب إلا فی ثلاث) وقال: حدیث حسن ویروی - أیضاً - عن ثوبان موقوفاً ومرفوعاً: الکذب کله إثم إلاّ ما ینفع به المسلم أو دفع به عن دین فلم یرخص فیما تسمیه الناس کذباً، وإن کان صدقاً فی العبارة، ولهذا لما قال النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم: لم یکذب إبراهیم إلاّ ثلاث کذبات، قوله لسارة: أختی، وقوله: بل فعله
ص:103
کبیرهم، هذا وقوله إنی سقیم والثلاث معاریض وملاحة فإنّه قصد باللفظ ما یطابقه فی عبارته لکن لما أفهم المخاطب ما لا یطابقه سمی کذباً، ثم هذا الضرب قد ضیق فیه کما تری. یؤید هذا التفسیر ما روی مالک، عن صفوان بن سلیم: أن رجلاً قال لرسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم:
«أکذب امرأتی فقال رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم...إلخ».
وقد جاء فی مداراة الناس لابن أبی الدنیا، (1) وغیره نقلاً عن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله کان یقول:
«لا أعده کذباً، أو لا أعده کاذباً، أو لیس بالکاذب، وذکر الموارد، وممّا نقل عنه کمثال: (2) [حدثنا أحمد بن جمیل أخبرنا عبد الله بن المبارک أخبرنا یونس...عن الزهری أخبرنا حمید بن عبد الرحمن بن عوف، أن أمه وهی أم کلثوم بنت عقبة بن أبی معیط، أخبرته أنّها سمعت رسول الله یقول: «لیس الکاذب الذی یصلح بین الناس ویقول خیرا وینمی خیرا» قال ابن شهاب: «ولم أسمع یرخص فیما یقول الناس کذب إلاّ فی ثلاث: الإصلاح بین الناس، وحدیث الرجل امرأته، وحدیث المرأة زوجها. حدثنا داود بن عمرو الضبی حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عثمان بن خثیم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت یزید، أن رسول الله خطب الناس فقال:
«کل الکذب یکتب علی ابن آدم إلا ثلاث خصال رجل کذب امرأته لیرضیها ورجل کذب بین امرأین لیصلح بینهما ورجل کذب فی خدیعة الحرب...» .
وممّا تقدم یتضح أن الکذب الشرعی أخص من الکذب اللغوی، فلا ترض أن یخلطوا علیک الأمر وتستخدمهما فی معنی واحد مع الأنبیاء.
وقفة عند أبی الأنبیاء: علیه وعلی نبینا وآلهما الصلاة والسلام أنّه جاء فی معاریضه عن البخاری ومسلم وغیرهما: أنّه لم یکذب [وحاشاه من الکذب] إلاّ ثلاث کذبات، وقالوا: إن ثنتین منهن فی ذات الله، والثالثة فی سارة، وإنّها کانت معاریض، وقد کان مأموراً بها، وکانت
ص:104
منه طاعة لله، والمعاریض قد تسمی کذباً. (1) إلاّ أنّه قد تکلم فی ذلک صاحب صحیح شرح العقیدة الطحاویة حسن بن علی السقاف: (2) «وحدیث أن سیدنا إبراهیم علیه السلام کذب ثلاث کذبات، آحاد معارض للآیة، ویمکن تأویله أن ذلک فی حالة الاضطرار».
علماً أن هاتین الروایتین مخالفتان للقرآن الکریم مخالفة صریحة لا تقبل النقاش والتأویل، کما أوردها البخاری ومسلم، فکیف یصح الکتابان بعد ذلک و الله لا أعلم!!!
جاء فی البخاری (3) أنه:
لَمْ یَکْذِبْ إِبْرَاهِیمُ عَلَیْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ کَذَبَاتٍ ثِنْتَیْنِ مِنْهُنَّ فِی ذَاتِ الله تعالی قَوْلُهُ: (إِنِّی سَقِیمٌ)، وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هَذَا) وَقَالَ: بَیْنَا هُوَ ذَاتَ یَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَی عَلَی جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِیلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَیْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِی فَأَتَی سَارَةَ قَالَ یَا سَارَةُ لَیْسَ عَلَی وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَیْرِی وَغَیْرَکِ... .
فوقع فی مخالفة صریحة للآیتین الکریمتین من قوله تعالی: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ (العنکبوت:من الآیة26)، و فَأَخْرَجْنا مَنْ کانَ فِیها مِنَ الْمُؤْمِنِینَ (الذریات: 35)، فخفیتا علیه نصرة لخلیل الرحمن. وقد التفت مسلم إلی هذه المخالفة کما التفت غیره لها وهو صاحب عون المعبود محمد آبادی، (4) فأبدل مسلم لفظ (لیس علی وجه الأرض مؤمن غیری و غیرک ) بلفظ آخر
ص:105
وهو: (1) (فإنی لا أعلم فی الأرض مسلما غیری و غیراک ) . فوقع الآخر مع ذلک فی مخالفة قوله تعالی: فَأَخْرَجْنا مَنْ کانَ فِیها مِنَ الْمُؤْمِنِینَ* فَما وَجَدْنا فِیها غَیْرَ بَیْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِینَ (الذریات: 35و36) الذی خفی علیه، فأی صحیح یخالف القرآن الکریم.
ومن الطبیعی جداً یسهل الحکم علی عدم صحة الکتابین بعد معرفة الخلل، ولکن سیحاول المدافعون عن صحتیهما التبریر بأعذار واهیة، وأقول: لماذا لا یکون المدافع شجاعاً ویعترف بالخطأ؟ أیهون کتاب الله، وکذلک أحد أنبیاء أولی العزم، وخلیل الرحمن علی البخاری ومسلم وعلیک؟ علماً إنّه لم یعین أرض الطاغیة بتعیین ما، ولکنه علیه وعلی نبینا وآلهما أفضل الصلوات والسلام قال کما زعموا:
«فَإِنِّی لَا أَعْلَمُ فِی الْأَرْضِ». (2)
وما یمکن الحدیث عنه هنا أنّه إذا رُخصَّ فی الکذب أو استثنی منه موارد بعینها کما علمت، فالتقیة (3) إنما شرعت لحفظ دم المسلم وماله وعرضه، وعلی ما مرّ سابقاً من أن عنوان الظالم عنوان عام یشمل الفرد من عامة الناس، أم من الفقهاء من القضاة، أم من الحکام والسلاطین من أی طائفة من المسلمین - لأن کل من یهتک حرمات المسلم الثلاث المتقدمة من دون مسوغ فهو ظالم - جاز استخدامها حینئذٍ. ولا أتصور هدفاً نبیلاً مهماً عند الله تعالی وعند رسوله صلوات الله تعالی علیه وآله والمؤمنین أسمی من حفظ النفس والعرض والمال، وبالتالی حفظ المجتمع من التآکل، وممّا تقدم یتضح للقارئ مدی التشویه الذی تعرض له هذا المبدأ، وذلک من خلال الفهم الخاطئ مع الأسف الشدید.
هذه توریة لیس غیر، فإنّه علیه وعلی نبینا وآلهما أفضل الصلوات والسلام أخبر بواقع هذا الطاغیة لا یفهمه، فأین الکذب؟ والحقّ علینا أن نتأدب عندما نذکر أنبیاء الله تعالی ورسله و إلاّ فما هو فرقنا عن الکفرة حینئذٍ؟ وهل یتجرأ أحد أن یقول نفس الکلام مع أحد الصحابة، فما لکم کیف تحکمون؟
ص:106
ورد کل من الکتمان والتقیة والمداراة فی کتبنا، کل تحت عنوانه وبنفس درجة التأکید التی عند القوم؛ وذلک فی أمهات کتبنا للحفاظ علی المؤمن من جهة، وکذلک هذا المجتمع الذی أسسه نبی الرحمة صلی الله علیه و آله إلی أن یأتی القائم المؤمل عجل الله تعالی فرجه الشریف وجعلنا من أنصاره والمستشهدین بین یدیه لیقَوِّمَ الأود وینتهی الظلم الذی تسلط علی البشریة - إن شاء الله تعالی.
ولا أتصور أن یتطلب هذا البحث الإتیان بتلک الأدلة المذکورة فی کتبنا الغراء، فإنّ أصل الاعتراض قائم علینا من خلال اطلاع المنکرین علی أدلتنا وما ورد فیها من نصوص تحث علیها. نعم قد نحتاج إلی مرور سریع لعرض الشرائط الواجب توفرها فی متعلق التقیة وهو فی البحث الآتی.
شرائط العمل بها:
للعمل بها وضع الشارع المقدس نظاماً خاصاً بها علی نحو القاعدة الکلیة، ویبقی التطبیق وتعیین الموضوعات من واجب المکلف ووظیفته. علی أنه یمکن إجمالها بما یلحق الضرر بالنفس أو العرض أو المال، ولو أمکن التمویه علی الطرف المقابل بأن یشعره أنه یقوم بفعل یوافق ما یتبناه ذلک الطرف لم تشرع التقیة، ولتأکید ما ذکرت راجع المسائل (1) فی الرسالة العملیة ک- (منهج الصالحین للسید الشهید الثانی محمد صادق الصدر أعلی الله مقامه). وجاء فی البحار: (2) عن أبی جعفر علیه السلام قال:
«إنما جعلت التقیة لیحقن بها الدماء، فإذا بلغ الدم فلا تقیة».
ص:107
لو تصفحنا کتب الشیعة الفتوائیة - وهی التی یرجع إلیها المکلف فی عباداته ومعاملاته والتی تسمی أیضا بالرسائل العملیة - لا نجد باباً خاصاً بالتقیة، بل نجد أحکاماً معینة فی نقاط الخلاف علی شکل مسائل. (1)
ومما یؤسف له أنّ هناک من یتصور أن الشیعة یرجعون إلی فتوی تقول: التقیة دینی ودین آبائی وأجدادی)، أخذا بها من کتب الحدیث التی عندنا. والصحیح أنّ هذه الکتب یرجع إلیها علماء الشیعة فی عملیة استنباط الأحکام الشرعیة، وذلک هو الخطأ الفادح الذی ارتکبه هؤلاء؛ لأنهم یتعاملون معنا وکأننا نملک الصحیحین، وأی شخص اذا أراد فتوی معینة یرجع إلیهما ویجد ضالته هناک.
فالحق إذن أنّ علماء هذه المدرسة المبارکة - أعلی الله تعالی مقامهم - یرجعون إلی هذا الحدیث وما شابهه من قبیل الأصل الموضوع، یستفاد منه فی باب تعارض الأدلة فیما إذا کانت روایتان أو أکثر من الروایات المعتبرة بأی نحو من الاعتبار فی مسألة فقهیة أو عقائدیة إحداهما موافقة للمذهب وأخری مخالفة له مثلاً، فیتم حمل الموافقة للعامة علی التقیة أو لکی یری الظالم وقوع الخلاف بین الأتباع فیترکهم - کما سیأتی فی بحث لاحق من الروایات - للحفاظ علی أتباع الإمام صلوات الله تعالی علیه هذا.
إنّ المنهج العلمی للتعامل مع فکر قوم أو طائفة یبدأ من فهم طرقهم وأسسهم وقواعدهم التی تم الاستناد علیها فی عملیة تشیید تراثهم الفکری.
فإذا أردنا أنّ نتعامل مع أی ظاهرة فی أی مجال علینا أن نبدأ فی حوارها ومحاکاتها من الجذر، وهذا هو الحوار المبنائی أو ننظر إلی تطبیقاتها، وهذا هو الحوار البنائی، عندها یکون أساس التعامل صحیحاً. وهذا هو المنهج العلمی الذی یفترض أن یتبعه من کان یرید أن یصل إلی نتیجة صحیحة.
ومثال الحوار المبنائی المناقشة فی المنهج المتبع فی الجرح والتعدیل أو نظریة عدالة الصحابة من رأس أو فی دعوی صحة البخاری ومسلم. وأخری بنائیاً فیکون النقض متناولاً ما
ص:108
تم الوصول إلیه من نتائج، فیما لو خالف البناء المبنی، ومثاله فیما لو تم تضعیف روایة أو راوٍ علی غیر القاعدة مثلاً.
وهذا الأسلوب یفتقر إلیه بعضٌ فی الحوار، ولا أدری سبباً لذلک أهو ناشئ من قلة التدبر أم التخلیط علی الآخرین فقط؟!
ومما یؤسف أنّ هؤلاء یتعاملون مع التراث الشیعی علی أساس تعاملهم مع ما موجود عندهم من کتب أحادیث وروایة، کیف ذاک؟
وأکرر القول إنهم یتصورن أو یصورون أننا نتعامل مع کتبنا وکأنها صحیحة من الجلد إلی الجلد - البحار مثلاً أو غیره من کتب الحدیث - ویصدقون هذا التصور، ثم یبدؤون بالنقض المتوهم، فما لم یفهم هذا الجانب - أننا لا نتعامل مع موسوعاتنا تعاملهم مع موسوعاتهم - لا یکون الحوار مجدیاً معهم - أنفسهم - أما مواصلتنا الحوار لکی لا یفهم بعض أننا نقف أمام ما یتصور من إشکالات موقف المتحیر.
والصحیح أنّ باب الاجتهاد مفتوح عندنا حتی فی علم الرجال، ولا یقتصر ذلک علی بابی الفقه والأصول، فکل ما یدخل مرحلة الاستنباط تناله ید الفقیه أو العالم من حیث السند والمتن بحثاً، ولیس لأی أحد أن یأخذ فتواه من کتاب البحار أو الکافی، ومن یفعل ذلک کان عمله محکوماً بالبطلان، ومن أراد مزید اطلاع فلیبحث عن هذه المسألة فی باب التقلید من کل رسالة عملیة لفقیه أو مرجع شیعیٍّ أصولیٍّ اثنی عشری.
ص:109
ص:110
هناک مغالطتان یُتَخَیلُ أنهما من النقض علینا، ولکن بدوری سأجیب علیهما إن شاء الله تعالی بما یتیسر حلاً ونقضاً... .
قد یُدَّعی فیها أن قولنا: (التقیة دینی...)، فهذا معناه أنه لو أجبرک حاکم أو کافر أو ظالم أو غیرهم علی أکل لحم الخنزیر فیکون تفسیر الحدیث: (أکل لحم الخنزیر دینی ودین آبائی وأجدادی) وهو إشکال ضعیف.
وجوابه أنه لیس کذلک والصحیح أن الموضوع یکون:
أکل لحم الخنزیر - تقیةً أو خوفاً علی نفسی من الهلاک - (هذا هو الموضوع)، وهذا الفعل من الدین (وهو المحمول)، فالتقیة والصوم والصلاة... إلخ هی من الفروع فیکون إنکارها إنکار للدین، فتکون القضیة المتشکلة تمام موضوعها (أکل لحم الخنزیر - تقیةً أو خوفاً من الهلاک لا مطلقاً - دینی...)، ولا محذور فی ذلک کما ذکرت، فیتضح محل المغالطة أین یکون، فالموضوع فی مدعی الإشکال غیر موضوع الحکم الشرعی. وللتقریب أضرب لک مثالاً آخر فی البسکویت المصنوع علی شکل خنزیر، فلو قیل: هذا خنزیر وأکل الخنزیر حرام، فأکل هذا الخنزیر - أی المصنوع من البسکت - حرام، ومعلوم أنّ هذا لیس بخنزیر، بل هذه دمیة خنزیر.
ص:111
ویشکل أیضاً بأنّ عندنا روایة فی البحار (1) تقول: «عن سلیمان بن خالد قال:قال أبو عبد الله علیه السلام : یا سلیمان، إنکم علی دین من کتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله»، وکتمان الدین نقض للغرض وقد توعد الله من یفعل ذلک فی القرآن الکریم باللعن، حیث قال تبارک وتعالی فی (البقرة:159): إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ .
أقول: نحن لا ننکر مثل هذه الروایات کما أنه توجد غیرها، کما فی البحار. (2)
فیکون الأمر واضحاً من خلال أدنی تأمل لأولی الألباب إِنَّ فِی ذلِکَ لَذِکْری لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَی السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِیدٌ (قّ:37).
والجواب علی ذلک: أننا نمنع الکبری - فالموجبة الکلیة تنتقض بسالبة جزئیة - فنقول: من أین للمستشکل إثبات أنّ کل کتمان هو نقض للغرض؟ فهذا أول الکلام... وننقض علیه بکتمان النبی صلوات الله تعالی علیه وآله والصحابة الأوائل أول الأمر حتی جاء أمر الله تعالی بالإذاعة: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ إِنّا کَفَیْناکَ الْمُسْتَهْزِئِینَ (الحجر:95،94).
ثم إنّ الله تعالی خیّر رسوله الکریم صلوات الله تعالی علیه وآله بین الحکم بین أهل الکتاب أو الإعراض عنهم، فقال العزیز الحکیم: سَمّاعُونَ لِلْکَذِبِ أَکّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُکَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ یَضُرُّوکَ شَیْئاً وَ إِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ (المائدة:42)، وهناک أمر أخفاه النبی صلوات الله تعالی علیه وآله وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِی أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِ أَمْسِکْ عَلَیْکَ زَوْجَکَ وَ اتَّقِ اللّهَ وَ تُخْفِی فِی نَفْسِکَ مَا اللّهُ مُبْدِیهِ (الأحزاب:من الآیة37) فهل یحکم علی هذا الموقف بالکتمان؟ وبصریح عبارة إن التقیة کتمان ولکن لیس مطلقاً، بل کتمان مأمور به - أو مشرع أما درجة المشروعیة فمسکوت عنها الآن - عندها یتضح موضوع الکتمان المنهیِّ عنه. وتأیید ذلک من خلال هاتین المقدمتین، أما الأولی منهما: فإنه لا شک أن الدین إیمانٌ، وأما الثانیة: فمقتنصة من الآیة الشریفة وهی قوله تعالی: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمانَهُ
ص:112
(غافر: من الآیة28)، فیکون کتماننا من هذا القبیل لا من قبیل مصداق الآیة التی أوردها المستشکل فی المقام، ونفس هذه الآیة الشریفة تأتی نقضاً علی توهمه فتأمل.
ثم إنّ الإمام صلوات الله تعالی علیه لا یأمر أتباعه بکتمان الدین حتی بینهم، بل کان ذلک عن الظالمین والوشاة من أتباعهم لا مطلق العامة - أعنی أتباع المذاهب - ومن یراجع کتب الرجال عندنا لوجد کثیراً من العامة یروون عن الأئمة، حیث کانوا من جملة من یروی عنهم کما سیأتی فتابع.
وهو بحث وددت التطرق إلی ما جاء فی کتب المسلمین منه علی ألفاظ متعددة، أُطلِقُ علیه هذا الاسم وهو حدیث الغریب وهو کما یلی:-
1. إن الدین بدأ غریباً وسیعود غریباً.
2. إن الإسلام بدأ غریباً وسیعود غریباً.
3. إن الإیمان بدأ غریباً وسیعود غریباً.
أما دلالة الحدیث الشریف فأبینها من جهات:
الأولی: لا أحد ینکر أنّ الإسلام بدأ بالکتمان (1) ومطادرة الأعداء، وکل من شرح الحدیث فَهِم ذلک وهو أنّ الدین بدأ بالکتمان وسینتهی إلی الکتمان.
الثانیة: إنّ الکتمان یحصل مع المخالف لا أقل فی مرتبة العلم فضلاً عن المخالف فی أصل العقیدة، وکما سیتضح آخر الکتاب ولیس مع المؤالف.
الثالثة: إنّ المعنی المتقدم یؤدیه ما ورد عن الإمام الصادق علیه أفضل الصلاة والسلام سوی تغییر فی الألفاظ.
الرابعة: استخدم صلوات الله تعالی علیه وآله (السین) التی هی للمستقبل القریب لا (سوف) التی للبعید، فیعنی أن التحقق موعده قریب وبعید رحیله صلوات الله تعالی علیه وآله مباشرة، فحصل الاختلاف علی الخلافة.
ص:113
الخامسة: قوله صلوات الله تعالی علیه وآله:
«فطوبی للغرباء» أی: لمن کتم دینه، والمستشکل یرید أن ینزل اللعنة علیهم، فکلام من یتقدم ومن نصدق؟!
السادسة: تشخیص الغرباء من بین المسلمین قد عُلِمَ، وعلیه فقد أقیمت الحجة علی من عَلِمَ، والمسألة مسألة أخری وغیر متعلقة بالأهواء.
وأما بین أهل المعتقد الواحد فالکتمان بین أهل مراتب العلم کما سیتضح آخر الکتاب، وأما فوائده فمنها: المحافظة علی أرواح المؤمنین من القتل وکذلک باقی حرماتهم. ومنها: تخفیف حدة التوتر العرقی والطائفی والمرتبی لئلا یتحول المجتمع إلی غابة، ومنها: بقاء المؤمن وصاحب المبادئ فی نزاعه متخذاً جانب التعقل والخوف من الله تعالی، فلا یتصرف کما یتصرف المقابل.
الدم والعرض والمال.
ثم إنّ ما تضمنه هذا الحدیث یتفق مع البحث التالی فتابع.
ورد هذا الحدیث الذی یفید أن:
«القابض علی دینه کالقابض علی الجمر» (1)بألفاظ متعددة، ولکنها متقاربة المضمون کذلک، حیث جاء أنه: «قال النبی صلی الله علیه وسلم مروا بالمعروف وانهوا عن المنکر حتی إذا رأیتم شحاً مطاعاً، وهوی متبعا، ودنیا مؤثرة، وإعجاب کل ذی رأی برأیه، ورأیت أمراً لا ید لک به، فعلیک بخاصة نفسک، وإیاک وعوامهم، فإن وراءکم أیاماً صبر الصابر فیهن کالقابض علی الجمر، ولهذا جعل للمسلم الصادق فی هذا الوقت إذا تمسک بدینه أجر خمسین من الصحابة، ففی سنن أبی داود والترمذی من حدیث أبی ثعلبة الخشنی قال: «سألت رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم عن هذه الآیة: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ (المائدة:من الآیة105)، فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنکر حتی إذا رأیت شحا مطاعاً، وهوی متبعاً، ودنیا مؤثرة، وإعجاب کل ذی رأی برأیه، فعلیک بخاصة نفسک ودع عنک العوام، فإن من ورائکم
ص:115
أیام الصبر، الصبر فیهن مثل قبض علی الجمر، للعامل فیهن أجر خمسین رجلاً یعملون مثل عمله، قلت: یا رسول الله، أجر خمسین منهم. قال:
أجر خمسین منکم...» (1)فانظر إلی ما تحته خط وإیاک أن تنزلق فی متاهات المتعجرفین الداعین إلی القتل والقتال وهتک الحرمات، فهذا هو الکتمان الذی أمرنا به. وفی الفتن لنعیم بن حماد: (2) «ویکون الإسلام فی زمانه غریباً کما بدأ غریباً، فیومئذ المتمسک بدینه کالقابض علی الجمرة [وکخارط القتاد] وحتی یصیر من أمره أن یرسل بجاریة فی الأسواق علیها بطیطان من ذهب یعنی الخفین ومعها شرط علیها لباس لا یواریها مقبلة ومدبرة ولو تکلم فی ذلک رجل کلمة ضربت عنقه». وفی کشف الخفاء للعجلونی: (3) «یأتی علی الناس زمان یکون المؤمن أذل من شاته».
وکل ما ذکر هو عین الصواب وعین الحکمة والعقل... ولکن ماذا تفعل لمن رکز جهده لقتل الذین یدخلون المساجد ویصلون الصلوات الخمس، وترک الدول الإسلامیة (بالاسم) یشربون الخمور ویفعلون کل الموبقات، وإن کنا لا نأمر بقتل هؤلاء، ولکن انظر إلی مبدأ القتلة المجرمین کیف یسیر بالمقلوب. ولمزید اطلاع فلینظر فی المصادر المؤشرة. (4)
ومما تقدم یظهر للقارئ کیف أن المؤمن فی آخر الزمان لا یستطیع أن یأمر بالمعروف وینهی عن المنکر، فهل یوصف هذا بالکتمان الملعون صاحبه؟ فإن خالفت قول نبیک صلی الله تعالی علیه وآله: (فعلیک بخاصة نفسک ودع عنک العوام) فما هو حکمک؟ إلا أن تکتم علی نَفَسٍک وتسیر بین المسلمین بالتقیة.
ثم إنّ القابض علی الجمر یمکن أن یتصور فی حالات ثلاث، فإما أن یتحمل أو یذیع أو ینحرف (5) وکما یلی:
ص:116
1. أن یظل متمسکاً بدینه کاتماً صوته لا یبوح بعقیدته بالرغم من شدة الألم، وهذا هو الکاتم المتحمل.
2. أن ینادی بأعلی صوته من الألم فیفتضح أمره، وهذا المذیع أو المرائی.
3. أن یلقی الدین کلاً أو بعضاً تماشیاً مع التیارات وتنازلاً للآخرین، کمن یتنازل عن بعض العقائد أو جمیعها لکی یحصل علی مؤیدین.
من تابع الأحادیث التی وردت عنه صلوات الله تعالی علیه وآله تجد أوامره تنصب علی الانزواء عن الناس، وعدم الولوج فیها والصمت والعزلة وما إلی ذلک مما یفضی إلی الکتمان... فراجع کتب الحدیث فی باب الفتن.
وردت أحادیث کثیرة تتحدث عن فتن آخر الزمان، منها ما فی کنز العمال للمتقی الهندی: (1) «تکون فتن علی أبوابها دعاة إلی النار، فأن تموت وأنت عاض علی جذل شجرة خیر لک من أن تتبع أحداً منهم... ستغربلون حتی تصیروا مثل حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وخربت أماناتهم، قال قائل: فکیف بنا یا رسول الله؟ قال: تعملون بما تعرفون وتنکرون ما تنکرون بقلوبکم... ستکون بعدی فتن کقطع اللیل المظلم، یصبح الرجل مؤمناً ویمسی کافراً ویمسی مؤمناً ویصبح کافراً، قیل: کیف نصنع؟ قال: ادخلوا بیوتکم وأخملوا ذکرکم قیل: أرأیت إن دخل علی أحدنا بیته؟ قال: لیمسک بیده ولیکن عبد الله المقتول! فإنّ الرجل یکون فی فئة الإسلام فیأکل مال أخیه ویسفک دمه ویعصی ربه ویکفر بخالقه وتجب له النار... یا حذیفة، تعلّم کتاب الله واعمل بما فیه قال: یا رسول الله، هل بعد هذا الخیر من شر؟ قال: فتن علی أبوابها دعاة إلی النار، فلأن تموت وأنت عاض علی جذل خیر لک من أن تتبع أحداً منهم... یأتی علی الناس زمان لا یسلم لذی دین دینه، إلاّ من فرَّ من شاهق إلی شاهق أو من جحر إلی جحر، کالثعلب بأشباله، وذلک فی آخر الزمان إذا لم تنل المعیشة إلا بمعصیة الله،
ص:117
فإذا کان کذلک حلت العزبة، یکون فی ذلک الزمان هلاک الرجل علی یدی أبویه إن کان له أبوان، فإن لم یکن له أبوان فعلی یدی زوجته وولده، فإن لم تکن له زوجة ولا ولد فعلی ید الأقارب والجیران، یعیرونه بضیق المعیشة ویکلفونه مالا یطیق حتی یورد نفسه الموارد التی یهلک فیها... إنه سیصیب أمتی فی آخر الزمان بلاء شدید لا ینجو منه إلا رجل عرف دین الله فجاهد علیه بلسانه وبقلبه، فذلک الذی سبقت له السوابق، ورجل عرف دین الله فصدّق به... أتانی جبرئیل علیه السلام آنفا فقال: إنا لله وإنا إلیه راجعون، قلت: أجل، إنا لله وإنا إلیه راجعون، فمم ذلک یا جبرئیل؟ قال: إنّ أمتک مفتتنة بعدک بقلیل من الدهر غیر کثیر، قلت: فتنة کفر أو فتنة ضلالة؟ قال: کل ذلک سیکون، قلت: ومن أین ذاک وأنا تارک فیهم کتاب الله؟ قال: بکتاب الله یضلون، وأول ذلک من قبل قرّائهم وأمرائهم، یمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا یعطونها فیقتتلون، ویتبع القرّاء أهواء الأمراء فیمدون فی الغی ثم لا یقصرون؛ قلت: یا جبرئیل! فبم سلم من سلم منهم؟ قال: بالکف والصبر، إن أعطوا الذی لهم أخذوه وإن منعوه ترکوه». وفی الجامع للأزدی: (1) «أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن نصر بن عاصم اللیثی، عن خالد بن خالد الیشکری، قال: خرجت زمن فتحت تستر حتی قدمت الکوفة، فدخلت المسجد، فإذا أنا بحلقة فیها رجل صدع من الرجال حسن الثغر یعرف فیه أنه من رجال الحجاز، قال: فقلت من الرجل؟ قال القوم: أو ما تعرفه؟ قال: قلت: لا. قالوا: هذا حذیفة بن الیمان صاحب رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم، قال: فقعدت وحدّث القوم أنّ الناس کانوا یسألون رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم عن الخیر وکنت أسأله عن الشر، فأنکر ذلک القوم علیه، فقال لهم: إنی سأحدثکم ما أنکرتم من ذلک جاء، الإسلام حین جاء فجاء أمر لیس کأمر الجاهلیة وکنت قد أعطیت فی القرآن فهما، فکان رجال یجیئون فیسألون رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم عن الخیر، وأنا أسأله عن الشر، فقلت: یا رسول الله، أیکون بعد هذا الخیر شر کما کان قبله؟ قال: نعم. قال: قلت: فما العصمة یا رسول الله؟ قال: السیف، قلت: وهل بعد السیف بقیة؟ قال: نعم، تکون إمارة علی أقذاء وهدنة علی دخن، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم ینشأ دعاة الضلالة فإن کان لله فی الأرض
ص:118
یومئذ خلیفة جلد ظهرک وأخذ مالک فالزمه (1) وإلا فمت وأنت عاض علی جذل شجرة، قال: قلت: ثم ماذا...). ولمزید اطلاع خذ هذه المصادر. (2)
ومنه یتضح انهیار إشکال الکتمان، وذلک بمشروعیته ومشروعیة مذهب المعتقدین به منذ وفاة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله، بل ترجع دائرة الشکوک المثارة تحوم حول غیره المعتقد بعدم مشروعیته ومشروعیة التقیة.
ثم إنّ الکتمان له وجهان، الأول: ما یخجل الإنسان من إظهاره، وهو أن یظهر الإنسان شیئاً محبوباً ویخفی ما یستقبح، فهذا غیر مرضی به، قال الله تعالی: یَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَ لا یَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ یُبَیِّتُونَ ما لا یَرْضی مِنَ الْقَوْلِ وَ کانَ اللّهُ بِما یَعْمَلُونَ مُحِیطاً (النساء:108)، وأما الثانی: فهو ما بخلافه وهو أنه یستخفی من الناس ولا یستخفی من الله، فمن أراد أن ینقض علی الثانی فلیثبت أنه باطل، عندها یحق له أن یشکل کما یحب.
علی أنّ ما ورد مما تقدم من أحادیث یصلح بنفسه أن یصطف مع الأدلة المصوبة لمشروعیة التقیة، بل والکتمان فانظر وتأمل.
بناء علی هذا الفهم أقول: یمکننا نحن أن ننقض علی صاحب المغالطة الأولی بما یذهب إلیه فأقول:
کما فسرت روایاتنا فی التقیة بما مر، فنحن نفسر ما جاء من روایات مشابهة فی أبواب أخر من کتبه، فهل یقبل ذلک أحد؟ وإلا فکیف یقبل أصل الإشکال!! وعلیه سأتولی تفسیر عدة من تلک الروایات تباعاً وعلی مذاقه:
ص:119
الأول: یا أیها المستشکل یتوجه إلیک نفس السؤال فی قاعدة أخف أو أدنی الضررین، (1) فلو اضطرت امرأة إلی الزنا أو أنها تموت جوعاً أو عطشاً وتصرفت بموجب قاعدة أخف الضررین، وکما هو معلوم أن هذه القاعدة من الدین، فیکون علی ما ذهبت أنت إلیه أنّ الزنا من الدین، فهل یصح هذا التفسیر؟ الجواب حتماً کلا.
الثانی: من خلال حجیة سنة بعض الصحابة ینقض بما یلی:
- فعلة عمرو بن العاص فی حرب صفین السابق ذکرها سنة صحابی وسنة الصحابی من الدین، إذن کشف العورات من الدین.
- وکذلک فیما حصل بین الصحابة من لعن وقتال، فهذه سنة للصحابة وسنة الصحابة من الدین، فلعن الصحابة وشتمهم وقتالهم والتنکیل بهم من الدین.
- مقولة أبی بکر: (تأول فأخطأ)، فتکون هذه قاعدة فی الوصول إلی بعض أحکام الدین، والنتیجة أنّ الخطأ بعض أحکام الدین.
الثالث: جاء فی کتب المسلمین روایات عن النکاح والترغیب فیه، وکذلک فی الترغیب فی أمور أخری وقد أتیت ببعض منها کشاهد، وذلک کما ذکر فی أدناه:-
المبسوط للسرخسی: (2) «وقال صلی الله علیه [وآله] وسلم: النکاح سنتی فمن رغب عن سنتی فلیس منی، ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالی النکاح أفضل من أشکال عبادة الله فی النوافل...». وکذلک فی بدائع الصنائع لأبی بکر الکاشانی: (3) «قال النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم: (النکاح سنتی) والسنن مقدمة علی النوافل بالإجماع، ولأنه أوعد علی ترک السنة بقوله: (فمن رغب عن سنتی فلیس منی...». (4)
وجاء أیضاً فی مسند أبی یعلی: (5) «النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم قال: (من تزوج فقد أعطی نصف العبادة...».
ص:120
وفی الجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی: (1) «إن أنواع البر نصف العبادة، والنصف الآخر الدعاء...» (2) و «عمل البر کله نصف العبادة، والدعاء نصف، فإذا أراد الله تعالی بعبد خیرا انتحی قلبه للدعاء»، کنز العمال المتقی الهندی: (3) «3136- إن أنواع البر نصف العبادة، والنصف الثانی الدعاء...3137- عمل البر کله نصف العبادة» جامع البیان ابن جریر الطبری: (4) «قال: قالت لأنس: یا أبا حمزة أبلغک أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا، بل هو العبادة کلها». أحکام القرآن الجصاص (5)
«قال رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم: (عمل البر کله نصف العبادة والدعاء نصف العبادة...».
وتعلیقاً علی ما مر بحسب الفهم القاصر للدلیل:-
یکون الزواج هو کل سنة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله، فلتکن حیاتنا کلها زواج فقط وننتهی.
وثبت أن الشیخین منعا تدوین السنة وأحرقاها، فیکونا قد أحرقا الزواج، راجع المصادر التالیة فی حرق السنة والمنع من تدوینها (6) کما سیتضح.
ثم إننا نعلم بأنّ الشیء ینقسم إلی نصفین لا أربعة أو ثلاثة أنصاف، وعلی کل حال من أخذ بنصفین مما تقدم فلیترک الحج والجهاد والصوم والصلاة؛ لأن هذه عبادة وبناء علی ما تقدم من الأنصاف لیتشکل له دین واحد کل کما یحلو له وینتهی الأمر فلا تعب ولا نصب، بل کما قال أنس: علیهم أن یتفرغوا للدعاء فهو کل العبادة... .
الرابع: عن طریق حدیث إن الدین النصیحة ورد فی کتب المسلمین: (إن الدین النصیحة...)، ومما تحت یدی من المصادر ما یقارب 300 مورد یذکر فیها ذلک، أنقل منها ما جاء فی کتب ابن تیمیة وأترک الباقی حیث جاء فی: منهاج السنة النبویة (7) ومجموع الفتاوی. (8)
ص:121
وتعلیقاً علی هذا الحدیث، فإنَّ علی المسلمین أن یقفوا علی رؤوس الشوارع والأزقة لیس لهم شغل شاغل إلا تقدیم النصیحة للناس - فقط - فهی کل الدین، ولماذا یتعبون أنفسهم فی غیر ذلک.
ثم إنّه کما مر فی (ص115)، قد یقال: إن الإجازة بالکذب من الدین علی تفسیر صاحب الإیراد، والحق أنّ الموضوع لیس تاماً، بل یقال: الإجازة بالکذب بموارد الحدیث من الدین.
أرجو التدبر فی هذه الفقرة بالذات أقول: إذا کان التعامل مع النصوص بهذا الشکل فهنیئاً للأمة الإسلامیة علی مثل هذا المستشکل، فإنّه مسخ لکل شیء... فهل یقبل المسلمون هذا الأسلوب فی التعامل مع النصوص؟ فإن لم یرض المسلمون ذلک - وهو المنطق السلیم - فعلیهم أن یتدبروا... وأرجو التأمل و الله ولی التوفیق.
أما مصداق الآیة الکریمة المذکورة فهو من منع تدوین السنة النبویة المطهرة، وحرق ما تم تدوینه منها، وقد ورد عنه صلوات الله تعالی علیه وآله أنه قال:
«أم حسب امرؤ منکم وقد شبع حتی بطن وهو متکئ علی أریکته لا یظن الله تعالی حرم شیئاً إلا ما فی القرآن، ألا إنّی قد حدّثت ووعّظت بأشیاء هی مثل القرآن أو أکثر وأنه...». (1)
ومن أراد المزید فلیراجع المصادر التی تحدثت عمن منع تدوین السنة من رأس، وکذلک من أحرق ما کتب منها. (2)
ص:122
بعد هذا العرض لأدلة المسلمین التی تناولت التقیة أو المداراة نخلص إلی النتائج المترتبة علی هذا المبدأ، وأقول المبدأ بالإفراد؛ لأنه فی الحقیقة کلاهما یرجع إلی أمر واحد، وإن کان بینهما عموم وخصوص مطلق من جهة المداراة. فلو نظرنا إلی فعل النبی صلوات الله تعالی علیه وآله فی الحادثتین نظرة تحلیلیة تتضح لنا من خلالها أمور منها وکما یلی:
الأول: وهو مشروعیة هذا الفعل: حیث ذکر النبی هذا الرجل بذلک الوصف - ولا یقال: إن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله قد اغتابه - فی الأولی وفی الروایة الثانیة نراه قد خبأ للمعنیِّ شیئاً، وهذان کموقفین یدلان علی مشروعیة استخدام مثل هذا الأسلوب. وفعل النبی صلوات الله تعالی علیه وآله حجة، والقدر المتیقن منه أنّه مباح إن لم نقل بغیر ذلک.
الثانی: الغایة: وهی دفع الضرر عن النفس.
الثالث: متی تشرع: التقیة تشرع إلی حد لا یسمی هذا الفعل مداهنة.
الرابع: لا تقیة فی المواضع التالیة: إذا لزم أو تسبب ذلک فی هتک حرمة مؤمن آخر، فإنّ هدف التقیة حفظ حرمات المؤمن المضطر، فإذا وصل الأمر إلی ذلک فلا تشرع قطعاً، ومن ارتکب الهتک کان فعله حینئذ مداهنة أو غیرها ولیست تقیة، فیحرم ذلک عندها. وکذا إذا أمکن إراءة المخالف مشهداً من دون أن نغیر من الفعل الذی نقوم به، کما لو مسح ظاهر القدمین أثناء تحریکهما لوضعهما تحت مجری الماء؛ لإراءة المخالف غسلهما فیجب المسح ثم الغسل مثلاً.
ص:123
ص:124
ص:125
ص:126
بصفتی شیعی بشکل خاص وعراقی بشکل عام أتحدث عن طائفتی، وکذلک عن أبناء شعبی - کنموذج - وعن تداخله الاجتماعی الذی أجد أن من نعم الله تعالی علینا فیه أن الذی یروم الزواج - علی سبیل المثال - رجلاً کان أو امرأة فی الغالب - إلا عند بعض المتشددین (1) من الطرفین - ما یسکت عن سؤال وهو: هل فلان أو فلانة من الشیعة أم من السنة؟ نعم، قد یکون عالماً قبلُ بذلک، فإما أن یقدم أو یحجم من رأس، وهذا الأمر سبب فی حصول التداخل الذی حفظ المجتمع من حرب أهلیة تترک الدمار کما حصل فی بلدان أخری، وأراد بعض المنتفعة والأشرار زرع ذلک، وحصلت بوادر تشیر إلی حصول فتنة ولکن علی نطاق ضیق، وذلک بعد أن جرّبت القوات الأجنبیة أحد الأطراف فی حصول الحرب علی نطاق واسع ولکنها لم تفلح، وأفلحت فی استخدام طرف آخر فی زرع هذه الفتنة بالتعاون مع بعض الدول المجاورة، ولم یحصل أی رد فعل عنیف إلا بعد الاعتداء بتدمیر قبة الإمامین العسکریین ونهب ما فی المرقد الشریف من آثار.
وتلک نعمة - واقعاً - جعلتنا متسامحین من هذه الناحیة، بل قد نجد ذلک واضحاً من خلال العلاقة مع رجال الدین حتی المسیحین منهم، حیث نجد احترامهم أمر مفروغ منه، من قبل أفراد أی طائفة.
ص:127
وأؤکد علی أنه قد حاولت بعض الأنظمة وبعض الدوائر إثارة نعرة القتل والحرب الأهلیة وأرجو أن یکون الفشل نصیبها، إذ أن من أراد أن یقتل شیعیاً أو سنیاً من النساء أو الرجال فعلیه أن یفکر أولاً بقتل صهره أو زوجة ابنه وأطفاله أو أطفالها أولاً، وهکذا یتم تصور عظم المصیبة لو حصل شیء من هذا - لا سمح الله تعالی - لذا أوصی أبناء هذا الشعب أن یبقی متماسکاً ومتمسکا بهذا السلوک بالرغم من کل الخلافات العقائدیة والفکریة والمنهجیة.
فتصور أنت أیها المؤید لفکرة القتل علی الهویة شیعیاً کنت أم سنیاً أنک ستُقْتَل فی فتنة عقیمة، وما ستترکه هذه العملیة المنکرة علی بیتک أو بیت أقربائک أولاً، ثم علی غیرک ثانیاً، ثم المجتمع برمته.
ومما یلفت الانتباه أنک تری الطیبة والتسامح غیر المصنعین مرسومة علی المراجع لا لأغراض سیاسیة أو لکسب أتباع ومؤیدین، بحیث تؤثر علی عقائد المرجع فیکون مداهناً أو تکون أفکاره التقاطیة کما قد یتصور. ففرق بین مبدأ التسامح (1) وبین مبدأ (خذ ما نقد وذر ما اعتقد) وهو أسلوب واضح منه أنه سلوک لطریق الانتهازیة والالتقاطیة - ولا أرید اتهام أحد بهذا أو أمتدح حزباً معیناً، إنّما هو کلام عام، وکمثال نذکر السید الشهید الأول وبعض السالکین نهجه (قدست أرواحهم) - فإنه قد وصل بهم الحد إلی الاستشهاد من أجل المبدأ، ولو کانوا من أهل المداهنة والالتقاطیة ما اختاروا الشهادة، بل لقدموا الغالی والنفیس فداءاً للحیاة کما یفعل بعض، والواقع غیر هذا، ولکن ترکیبة المجتمع وأسلوبه الحضاری فرض علی العلماء والمفکرین والمثقفین تصرفاً معیناً، (2) فإنه لکل مقام مقال ولکل حادثة حدیث. وإذا أردنا أن نصف الاستفادة من أی تجربة بأنها التقاطیة ما نجا من هذا الوصف أحد مطلقاً إلا المعصومین - علیهم أفضل الصلاة والسلام أنبیاء أم أئمة بوجه ما - بل أصل مبدأ أخذ الفکرة وتطویرها والاستفادة من تجارب الآخرین من لوازم هذا العالم المتغیر المتطور. ووصل الحد إلی أنّ مرجعیة العراق صورها مغرضون بأنّها غیر عربیة، حتی رسموا للهیئة العلمیة فی النجف الأشرف
ص:128
طابعاً غیر عربی، (1) بل کاد الناس أنّ یصدقوا أنّ العراقیین لیس فیهم عالم أصلاً، أو یکون ولکنّه إما یستشهد أو یکون عمیلاً للنظام بحسب الاتهام والتصویر. کما وصل الحد إلی أنّ المرجع العراقی لا یستطیع تأدیة دوره فی بلده بضغوط من الحکام کی تبقی التهمة قائمة، وعلیه لم تظهر کثیر من آثار علمائنا من أمثال الشیخ المظفر وآخرون، کالشیخ حسین الحلی الذی یفخر من تتلمذ علی یدیه فی النجف الأشرف. هذا کله إذا أردت أن أتحدث بصفتی عراقی، وأما کونی شیعیاً بغض النظر عن الانتماءات الأخری، فإننی أجد فی نفس هذه الرؤیة عند حملة هذا المبدأ العظیم، فلم یقل أحد بانحصار التشیع فی قومیة دون أخری، بل ولا الإسلام، بل نجد علماءنا تعاملوا مع القضیة الفلسطینیة تعاملاً لم أر مثله حتی فی من یدعی القومیة، بالرغم من تعامل بعض قیادات هذه القضیة مع الشیعة تعاملاً طائفیاً، ولا أرید الخوض فی التفاصیل إنما کان ذلک من باب الإشارة.
ونعود إلی صلب الموضوع فأقول: إنّ الإفراط من قبل بعض المخالفین سبّب ظهور الحاجة إلی التقیة، والتفریط من قبل بعض المؤمنین سبّب ظهور الحاجة إلی الحث علیها، ونتیجة لذلک تظهر العقوبة بأن قد یکون عدم العمل بها إلقاء إلی التهلکة فتحل العقوبة.
ولکی لا یفهم بعض أنّ التسامح ناتج عن الخوف، فنحن نتشدد مع المتشدد ونتسامح مع المتسامح ولا أتصور طریقاً أفضل من الوسط، وهو التسامح وقبول الرأی الآخر وعدم التطرف (2) الذی یوصل إلی التقاتل، فالأصل التفاهم وتلاقح الأفکار؛ لکی تظهر نتیجة طیبة یستفید منها المجتمع، ولا نرید بالتسامح الذی یؤدی إلی المداهنة وترک المعتقد.
ص:129
ص:130
إنّ الإسلام دین الحیاة ومن إحدی الدعائم التی رکز علیها هذا الدین الحنیف هو الجانب التربوی للفرد والمجتمع علی حد سواء، الذی له تأثیر کبیر علی نشر السلوک القویم فی الأمة، حیث یبدأ المؤمن بتحلیة نفسه بالخلق الکریم ثم ینزل إلی المجتمع به لیکون مناراً یقتدی به.
ولنا فی رسول الله صلوات الله تعالی علیه وآله أسوة حسنة، کما جاء فی قوله تعالی: لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللّهَ وَ الْیَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَکَرَ اللّهَ کَثِیراً (الأحزاب:21)، وکذلک فی آل بیته الذین رکز علیهم مدة تبلیغه هذا الدین، حیث قال صلوات الله تعالی علیه وآله کما ورد عن مسلم: (1)
«أذکرکم الله فی أهل بیتی...» وکامتداد له من بعده، فیثبت أولاً محبوبیة التعایش بالتی هی أحسن، فإذا تطلب موقف ما البراءة فهو کما ینبغی، وضرب الله تعالی لذلک مثالاً فقال: قَدْ کانَتْ لَکُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِی إِبْراهِیمَ وَ الَّذِینَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا مِنْکُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ کَفَرْنا بِکُمْ وَ بَدا بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّی تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ (الممتحنة:من الآیة4)، وقال تعالی: لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِیهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللّهَ وَ الْیَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ یَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ (الممتحنة:6). فإذا علم مما سبق أن هذا النبی العظیم صلوات الله تعالی علیه وآله قد فعلها مع أصحاب کانوا یؤذونه: وَ مِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ... (التوبة:من الآیة61) حتی أنّهم وَ یَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ... (التوبة:من الآیة61)، بل ترک من أراد قتله کما
ص:131
حصل لیلة العقبة، فحری بالمسلم المؤمن أن یقتدی به. إلاّ أن یقال: إنّه سوف یستغل هذا الأمر من قبل بعض، فالجواب واضح، وهو أنّ الموضوعات تابعة لتشخیص المکلف، فیکون ذلک تابعا له. فإذا تم هذا فإنّ المجتمع سوف یکون صالحاً متغاضیاً إلی أن یأتی یوم تنکشف فیه الأمور بعض لبعض، فمن کان یحمل فکرة سیئة عن أصحاب ذلک المعتقد قد یتبدل الرأی فیهم أو أن یعیش المجتمع بسلام. وهنا یأتی القول الذی نقلته سابقا (ربما أغنت المداراة عن المباراة). هذا إضافة إلی استمالة الطرف المقابل رأفة به لعله یتوفق فی تقویم سلوکه أو اعتقاده بدلاً من سوء الأدب، إن کان من الطراز الذی تعامل معه النبی صلوات الله تعالی علیه أو یتوفق باتباع العقیدة الحقة - والکلام فی الکبری لا فی الصغری أی لیس الکلام فی تعیین الطائفة التی علی الحق - کبدیل عن الفکر الذی کان یحمله. وهذا فی حد ذاته جانب خلقی رفیع یدفع الفرد للتفکیر فی هذا المجتمع لإنقاذه مما هو فیه ولا أقل یحصل التعایش السلمی بین أفراده.
ولما مر فإننا نلمس لهذا المبدأ القرآنی أثراً کبیراً فی امتصاص ما یؤدی إلی البغضاء بین أفراد المجتمع الواحد، ومن ثم ما قد تفرزه حالة النفرة بینهم من تفکک حیال المجتمعات الأخری، فتکون الأمة طعمة سهلة التناول من قبل الأعداء. وهذا یتضح إذا تصورنا أنّ مجتمعاً کبیراً تتکرر فیه مثل هذه الحالة. وإلاّ فإنّ النبی صلوات الله تعالی علیه وآله قادر علی أن یؤدب المسیء من صحابته بطریق أو بآخر، کاتخاذ جانب الشدة والعقاب: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ (آل عمران:من الآیة159)، ولکنه لم یقتل حتی الذین نفرّوا ناقته کما ذکرت، ولم یقتل المنافقین لکی لا یقال:
«إنّ محمداً یقتل أصحابه». (1)لذلک نری النبی وآل البیت صلوات الله تعالی علیهم أجمعین قد سلکوا هذا النهج؛ للحفاظ علی الأمة والدین، فترک أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب أموراً أمام من لم یستجب له بعد إلقاء الحجة علیهم، وعایشهم واستخدم أسلوب إلقاء الحجة، هذا طول فترة حیاته معهم حتی جاء یوم الشوری، واشترطوا علیه أن یسیر علی نهج من کان من قبله فرفض، وکان بإمکانه قبول ذلک ثم یغیر نهجه کما فعل عثمان بن عفان
ص:132
الذی عمل باجتهاده.
المتتبع لسیرتهم صلوات الله تعالی علیهم یقف متحیراً عند أمور یحسبها هینة وهی عندهم عظیمة، لما علمهم ربهم تبارک وتعالی ونبیه الکریم صلوات الله تعالی علیه وعلیهم، وکذا العکس. حتی أننا نری تمسک قسم ببعض حجج واهیة لتثبیت أحقیّة غیرهم أو حبهم لهم عن طریق التسمیة بأسمائهم أو التزاوج مثلاً، ویرد علی هذا التوهم أنّ التسمیة - إن صحت الدعویان - لیس له علاقة بذلک مطلقاً، وإنما هم ضمن المجتمع وهذه الأمور تعتبر أمراً طبیعیاً، وإلاّ فإنّ نفس التسمیة لیست دلیلاً تاماً علی حب صاحب الاسم السابق تسمیته به، وإن کان کذلک لکان الذی یسمی ابنه باسمٍ غریب، کان محباً للمسمی السابق. وعلی کل حال فهذا علی صلوات الله تعالی علیه عفی عمن قاتله وأصحابه بعد انتهاء الحرب ولم یقم علیهم القصاص، ولنتصور أنه صلوات الله تعالی علیه نفّذ حکم القتل بحق من أمسک به فی معرکة ما، فسیأتی القوم بعد1350 عام مثلاً وسیقتلون شیعته تحت ذریعة قتله لهم، بل إنه لم یشارک بدم عثمان بن عفان وطالبوه به، والحق فإنّ ولاته وفعالهم هو الذی أعان علی قتله وقتاله، وقسم من الصحابة هم المطالبون بدمه، ولکن قلب الحقائق ألبس الحدث الإمام وأتباعه صلوات الله تعالی علیه وعلیهم، وممن ثار ضده أم المؤمنین، حیث کانت تنادی اقتلوا نعثلا فقد کفر.
جاء فی المحصول للرازی: (1)
والاختلاف بحسب الطبعات: أنّ عثمان رضی الله عنه أخّر عن عائشة رضی الله عنها بعض أرزاقها فغضبت، ثم قالت: یا عثمان، أکلت أمانتک وضیعت الرعیة وسلطت علیهم الأشرار من أهل بیتک، و الله، لولا الصلوات الخمس لمشی إلیک أقوام ذوو بصائر یذبحونک کما یذبح الجمل، فقال عثمان رضی الله عنه: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِینَ کَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ (التحریم:من الآیة10)، فکانت عائشة رضی الله عنها تحرض علیه جهدها وطاقتها وتقول: أیها الناس، هذا قمیص رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم لم یبل وقد بلیت سنته، اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا. ثم إنّ عائشة ذهبت إلی مکة فلما قضت حجها وقربت من المدینة أخبرت بقتل عثمان، فقالت: ثم ماذا؟ فقالوا: بایع الناس علی بن أبی طالب، فقالت عائشة: قتل عثمان و
ص:133
الله مظلوماً وأنا طالبة بدمه، و الله، لیوم من عثمان خیر من علی الدهر کله... . (1)
قال أبو الصلاح الحلبی فی تقریب المعارف: (2)
وذکر الطبری فی تاریخه والثقفی فی تاریخه قال: جاءت عائشة إلی عثمان، فقالت: أعطنی ما کان یعطینی أبی وعمر، قال: لا أجد له موضعاً فی الکتاب ولا فی السنة، ولکن کان أبوک وعمر یعطیانک عن طیبة أنفسهما وأنا لا أفعل، قالت: فأعطنی میراثی من رسول الله صلی الله علیه وآله، قال: أو لم تجئ فاطمة [علیها السلام] تطلب میراثها من رسول الله صلی الله علیه وآله فشهدت أنت ومالک بن أوس البصری: أنّ النبی صلی الله علیه وآله لا یورث، وأبطلت حق فاطمة علیها السلام ، وجئت تطلبینه؟ لا أفعل. وزاد الطبری: وکان عثمان متکئاً، فاستوی جالساً وقال: ستعلم فاطمة أی ابن عم لها منی الیوم، ألست وأعرابی یتوضأ ببوله شهدت عند أبیک؟ قالا جمیعاًً فی تاریخهما: فکان إذا خرج عثمان إلی الصلاة أخرجت قمیص رسول الله صلی الله علیه وآله وتنادی: إنه قد خالف صاحب هذا القمیص. وزاد الطبری یقول: هذا قمیص رسول الله صلی الله علیه وآله لم یبل وقد غیر عثمان سنته، اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا.
وأکرر إنّ قتل المسلم قصاصه معلوم، ولکن علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیهما ترک الأمر وهو الولی حینذاک؛ لئلا یأخذ القتل من أتباعه مأخذاً عظیماً منهم، ومع ذلک کله لم نسلم من الطواغیت علی مرِّ الزمان.
جاء عنهم صلوات الله تعالی علیهم ذلک وما هو إلا تربیة للمسلمین، وإلا فستکون الحیاة أشبه بغابة یأکل فیها بعض بعضاً، وإلیک النص فاقرأ وتأمل، فعن (3) الإمام أبی عبد الله علیه السلام عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، کان یقول:
من أسّر سریرة رداه الله رداها، إن خیراً فخیراً، وإن شراً فشر. وعنه علیه السلام أیضاً:
«ما من عبد یسّر خیراً إلاّ لم تذهب الأیام حتی یظهر الله له خیراً، وما من عبد یسّر شرا إلاّ لم تذهب الأیام حتی یظهر الله له شراً». وعن الإمام موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن الملکین هل یعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن یفعله، أو الحسنة؟ فقال: ریح الکنیف والطیب سواء؟! قلت: لا، قال: إن العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طیب
ص:134
الریح، فقال صاحب الیمین لصاحب الشمال: قم فإنه قد هم بالحسنة، فإذا فعلها کان لسانه قلمه وریقه مداده فأثبتها له، وإذا هم بالسیئة خرج نفسه منتن الریح، فیقول صاحب الشمال لصاحب الیمین: قف، فإنه قد هم بالسیئة، فإذا هو فعلها کان لسانه قلمه وریقه مداده فأثبتها علیه.
وفی مستدرک الوسائل للنوری: (1) «ما من عبد أسر خیراً فتذهب الأیام حتی یظهر الله له خیرا وما من عبد أسر شراً فتذهب الأیام حتی یظهر الله له شراً، وقال علیه السلام : وروی لا یقبل الله عمل عبد وهو یضمر فی قلبه علی مؤمن سوءا».
فلا تضمر الشر فإنّ له آثاراً سیئة علی نفسک، لإنک إن فعلت أتیت حراماً، وإن لم تفعل فإن کنت مصراً ولم تتمکن من فعله بُعِثْتَ علی هیئة شریرة وهی هیئة الشیطان - نعوذ بالله منه - إلا إذا حبستها عن فعله مع التمکن. فلماذا تنتن جسدک وتتلف نفسک وتحبط عملک؟ کان أحد المؤمنین إذا حصل بینه وبین بعض خللاً استغفر له فی صلاة اللیل لیتوفق صاحبه إلی التوبة ویغسل المُستَغْفِرُ قلبه من نیة الشر التی تلبست بها نفسه، فلینظر مضمر الشر إلی وجهه ونفسه کیف یکون منظره بشعاً؟ سیتمثل له الذئب والسبع وکل حیوان ضارٍ؛ لأنه لا یعرف سوی التآمر والتخطیط للقتل أو انتهاک حرمات الآخرین، ولتعلم بأنّ الشر سیکون عندک ملکة لا تسیطر بها علی فعالک فیؤثر ذلک حتی علی علاقتک مع زوجک وابنک وکل قریب، فهل هذه حیاة بالله علیک؟! فَتَعَلَّمْ... .
فنحن وإن أمرنا أئمتنا علیهم أفضل الصلاة والسلام بالتقیة إلا أنهم مع ذلک أمرونا بعدم إضمار نیة الشر لأحد؛ لأنه خلق ذمیم یوصل المتخلق به إلا الوحشیة وشرب الدماء ونشوء حالة حب القتل شیئاً فشیئاً، کما هو معلوم من اتصاف بعض به کالنواصب الذین ینقمون علی المسلمین حب آل البیت علیهم الصلاة والسلام، فیقتلونهم ویسممون طعامهم وماءهم ویشردون بهم لا لشیء إلا لحب آل البیت الأطهار.
فالتقیة مشروع غیر متکامل إذا نظرنا إلیه من زاویة واحدة، وأما من زوایا ارتباطه بکل مفاصل الدین فهو مشروع أخلاقی تربوی، وستری ذلک آخر المطاف.
فإن أشکل بلعن بعض من یستحق اللعن فجوابه واضح وصریح، من أن الدین لیس فیه
ص:135
جانب التولی فقط، بل فیه کذلک جانب التبری، بل إنه یسبق التولی وکما قال الله تعالی: فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللّهِ عندها یقال عنه: فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقی (البقرة: من الآیة256). نعم هذا التبری إذا کان لله تعالی فهو، وإلا - أی إذا کان حاصلاً بسبب الخلاف بین الطرفین - فهذا غیر مشروع؛ لأنه یتطلب قصد القربة.
وسیأتی إن شاء الله تعالی آخر الکتاب تفصیل أکثر من ذلک بکثیر أخرته لمصلحة أوفر، فتابع ذلک علی برکة الله تعالی.
ص:136
من الجدیر بالذکر أنّ للجانب الاقتصادی ارتباطاً وثیقاً بالجانب السیاسی وکلاهما لهما ارتباط بالجانب الاجتماعی. وعلیه فإذا تعرضت أی أمة إلی تهدید خارجی فإنما یکون الرد بحجم توافق أبناء تلک الأمة، وذلک عند تناسی المشاکل الداخلیة وصولاً إلی هدف أسمی. فإذا ضعفت الأمة اقتصادیا یسهل السیطرة علیها.
وواقع الأمة بعد نبیها أنها کانت مستمدة عظمتها من وجوده الشریف بین ظهرانیها، ولم تدم هذه البرکة طویلاً، بل رفعت شیئاً فشیئاً إلی الحد الذی نری علیه هذه الأمة الیوم، وما کان ذلک إلا بسبب تجاوز جادة الصواب وترک حبل الله تعالی الذی أُمِرْنا بالاعتصام به.
ومن الجدیر بالذکر أنّ الذی کان یدفع ثمن المحافظة علی هذا الکیان هم الشیعة، کما أنهم کانوا القوة التی تلجأ إلیها الأمة فی الطوارئ، ومع کل ذلک نتعرض نحن إلی ما نتعرض إلیه، وإلیه تعالی المشتکی ومنه نستمد العون ونصبر لنوفی أجور الصابرین الصادقین.
جاء ذکر هذه الحادثة التی نقلتها کتب التاریخ ونقلها عنها عبد الحلیم الجندی فی کتابه الإمام الصادق علیه السلام قال: (1)
روی الکسائی، دخلت علی الرشید فقال: هل علمت أول من سن الکتابة علی الذهب والفضة؟ قلت: عبد الملک بن مروان. قال: ما السبب؟ قلت: لا أعرف. قال: کانت القراطیس للروم وکان أکثر من بمصر علی دینهم. وکانت تطرز (أباً وابناً وروحاً) وتخرج من مصر تدور فی الآفاق. فأمر عبد العزیز - وکان عامله علی مصر - بإبطال ذلک. وأن تطرز بصورة التوحید. مشهداً الله ألا إله إلا هو. فلما وصلت
ص:137
القراطیس إلی ملک الروم کتب إلی عبدالملک: إن لم یرد هذا الطراز علی ما کان علیه فسینقش علی القراطیس شتم النبی. فاستشار عبد الملک، فلم یجد عند أحد رأیا، فاستشار الباقر [علیه أفضل الصلاة والسلام]، فقال له: لا یعظم علیک هذا الأمر من جهتین. الأولی: أنّ الله تعالی لم یکن لیطلق ما تهدد به صاحب الروم. والثانیة: أن تتهدد من یتعامل بغیر دنانیرک، فلما علم ملک الروم أنّ دنانیره سیبطل التعامل بها إن حوت شتماً، کفّ عما تهد به.
والقصة معروفة فلتراجع فی محلها حیث نقلها السید محمد کلانتر. (1)
فهذا هو الحال الذی وصلت إلیه الأمة الإسلامیة بعد تسلط بعض علی رقاب الناس، والغریب أنّهم یعرفون أنفسهم حق المعرفة بأنّ من مثل هذه المعضلات لا تحل إلا بأهلها.
وخلاصة القول إنّ الإمام الباقر صلوات الله تعالی علیه ترک ما فعله هؤلاء - متناسیاً - بأجداده، بل هم الذین رفعوا الصلاة علی الآل کما مر فی هذا الکتاب، وکان فعله هذا مداراة لحفظ الدین وأتباعه وإن کانوا بالتسمیة فقط.
ومن مثل هذه المواقف تتضح أخلاقیة هذه المدرسة العظیمة وقوتها وعلو منزلتها، فهم صلوات الله تعالی علیهم وجود واحد یسلک منهجاً واحداً.
ومن باب المثال أیضاً أود أن انقل هذا الکلام عن ابن الجوزی؛ لأنّ هناک من یقول: إنّ الفتوحات کانت لغیر علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیهما، ولکن الواقع لیس کذلک، فقد نقل: (2)
«أنه لما ولی عمر رضی الله عنه قال لعلی رضی الله عنه: اقض بین الناس وتجرد للحرب»، وکان بإمکانه أن یرفض التعامل معهم، ولکن أبت أخلاق علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیهما وکذا مدرسته أن یتصرف تصرفاً یسیء إلی الدین، وهو الذی لم یعاقب الذین هجموا علی دار الزهراء (3)صلوات الله تعالی علیها علی أقل تقدیر، اجتهادا منه للعمل بقاعدة أخفّ الضررین.
وجاء دور حکمه واشتبکت ضده سیوف القوم وحرابهم، ووقف ذلک الموقف بعد إلقاء الحجة علیهم ولم یبدؤهم بقتال، ولکنهم أصروا علی حربه إلی أن وصل الحد بمعاویة بن
ص:138
أبی سفیان إلی مصالحة ملک الروم بعد تهدید حدود دولته، وإلا فمن له الجرأة علی تهدید الدولة الإسلامیة وأمیر المؤمنین علی صلوات الله تعالی علیه کان موجوداً، ولکن انشغاله بحروب ابن هند التی أججها ضد المؤمنین خلقت هذا الجو، فاضطر ابن أبی سفیان إلی دفع ضریبة من بیت مال المسلمین. (1)
أی إسلام هذا الذی یرضی بمحاربة من قام الإسلام ببطولاته ودَعْمِ أبیه أبی طالب صلوات الله تعالی علیه للنبی الأکرم صلوات الله تعالی علیه وآله، ودفع ضریبة ممن یدعی الإسلام لمن لم یؤمن بالرسالة، بل کان هو ومن قبله قد قاتل أهل هذا الدین لکی یتفرغ لحرب وصی الرسول المبلغ لها!! واعجباً کل العجب لمن یترضی علیه ویجعل سیرته منبعاً من منابع استنباط الأحکام الشرعیة.
فموقف معاویة هذا هو الذی أحدث هذا الخلل علی حدود الدولة الإسلامیة وصیرها بهذا المحل. وما آلت إلیه الأمة الإسلامیة من تلاحق المصائب والفتن علیها کل ذلک بسبب الانشغال بعض ببعض.
والواقع الذی نعیشه نحن - المسلمین - هذه الأیام هو نتیجة ذلک الخلاف والاختلاف.
وأمثلة أخری علی مداراة أتباع مدرسة الآل الأطهار صلوات الله تعالی علیهم للأمة التی تقتلهم وتشرد بهم، ثم نراهم یقفون موقفاً مشرفاً للحاجة إلیهم، ونجدهم السباقین لکل خیر والکفؤ لحل کل معضلة، فهذه حادثة نقلها الأمینی قدست نفسه فی کتابه الغدیر (2) قال فیه: (وکان قیصر بعث إلی معاویة بعلج من علوج الروم طویل جسیم، معجباً بکمال خلقته وامتداد قامته، فعلم معاویة أنه لیس لمطاولته ومقاومته إلا قیس بن سعد بن عبادة، فإنه کان أجسم الناس وأطولهم، فقال له یوماً وعنده العلج: إذا أتیت رحلک فابعث إلیَّ بسراویلک. فعلم قیس مراده فنزعها ورمی بها إلی العلج والناس ینظرون فلبسها العلج فطالت إلی صدره، فعجب الناس وأطرق الرومی مغلوباً، ولیم قیس علی ما فعل بحضرة معاویة فأنشد یقول:
أردت لکیما یعلم الناس أنها سراویل قیس والوفود شهود
وألاّ یقولوا: غاب قیس وهذه سراویل عاد قد نمته ثمود
ص:139
وإنی من القوم الیمانین سید وما الناس إلا سید ومسود
وبز جمیع الناس أصلی ومنصبی وجسم به أعلو الرجال مدید
ورواها ابن کثیر فی البدایة والنهایة (1) بتغییر فیها ثم قال:
وفی روایة: أن ملک الروم بعث إلی معاویة برجلین من جیشه یزعم أن أحدهما أقوی الروم والآخر أطول الروم: فانظر هل فی قومک من یفوقهما فی قوة هذا وطول هذا؟ فإن کان فی قومک من یفوقهما بعثت إلیک من الأساری کذا وکذا ومن التحف کذا وکذا، وإن لم یکن فی جیشک من هو أقوی وأطول منهما فهادنِّی ثلاث سنین. فلما حضروا عند معاویة قال: من لهذا القوی؟ فقالوا: ما له إلا أحد رجلین إما محمد بن الحنفیة أو عبد الله بن الزبیر، فجیء بمحمد بن الحنفیة وهو ابن علی بن أبی طالب، فلما اجتمع الناس عند معاویة قال له معاویة: أتعلم فیم أرسلت إلیک؟ قال: لا. فذکر له أمر الرومی وشدة بأسه، فقال للرومی: إما أن تجلس لی أو أجلس لک، وتناولنی یدک أو أناولک یدی فأیّنا قدر علی أن یقیم الآخر من مکانه غلبه وإلا فقد غلب. فقال له: ماذا ترید؟ تجلس أو أجلس؟ فقال له الرومی: بل اجلس أنت. فجلس محمد بن الحنفیة وأعطی الرومی یده، فاجتهد الرومی بکل ما یقدر علیه من القوة أن یزیله من مکانه أو یحرکه لیقیمه فلم یقدر علی ذلک ولا وجد إلیه سبیلاً، فغلب الرومی عند ذلک وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غلب، ثم قام محمد بن الحنفیة فقال للرومی: اجلس لی, فجلس وأعطی محمداً یده، فما أمهله أن أقامه سریعاً ورفعه فی الهواء ثم ألقاه علی الأرض، فسّر بذلک معاویة سروراً عظیماً، ونهض قیس بن سعد فتنحی عن الناس ثم خلع سراویله وأعطاها لذلک الرومی الطویل، فبلغت إلی ثدییه وأطرافها تخط بالأرض، فاعترف الرومی بالغلب وبعث ملکهم ما کان التزمه لمعاویة.
وعلق الشیخ الأمینی أعلی الله تعالی مقامه قائلا: «یستفید القارئ من أمثال هذه الموارد من التاریخ أنّ أهل البیت علیهم السلام و شیعتهم کانوا هم المرجع لحل المشکلات من کل الوجوه، کما أنّ مولاهم أمیر المؤمنین علیه السلام کان هو المرجع الفذ فیها لدی الصدر الأول». وأقول: نعم وهکذا هم علی مر العصور وسیأتی من ذلک ذکر لموقف الشیعة فی هذا العصر إن شاء الله تعالی. علی أنه هناک من یستسخف مثل هذه الأمثلة فجوابه واضح: وهو أنه إذا کان فی مثل هذه الأمور لم یجدوا حلاً فکیف بالمعضلات؟ فتدبر... .
وأعود قائلاً: لولا الموقف السیاسی المهزوز الذی کانت علیه الأمة بسبب أصحاب
ص:140
الکراسی والمناصب لما تآکل مجد هذه الأمة العظیمة، التی بنیت بتضحیات ودماء محمد وآل محمد صلوات الله تعالی علیهم والمخلصین من اتباعهم وفعل بهم ما فعل من سخریة الأمم الأخری.
فهب یا معاویة ویا أصحاب الجمل أنّ علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیه - وحاشاه - کان قد أخذ ما لیس له هو أو جماعة من أتباعه، فهلا تصرفتم مثله وأنتم الذین هجمتم علی داره وتعرضتم لکرامة بیت النبی صلوات الله تعالی علیه وآله؟
ولا حول ولاقوة إلا بالله العلی العظیم
ص:141
ص:142
ص:143
ص:144
هناک محاورة حصلت بین عبد الله بن عباس وبین عمر بن الخطاب إبان فترة حکمه، أستفید منها ربطاً بحادثة أتصور أنّها هی التی شکلت سبباً رئیساً تاریخیة ثانیة عن أهل البیت علیهم أفضل الصلاة والسلام، ولأهمیتهما فی نظری أتطرق إلیها والحکم للقارئ المنصف.
نقلت هذه المحاورة عن مصادر المسلمین، (1) إذ قال عمر فی حدیث طویل دار بینهما:
یا بن عباس، أتدری ما منع قومکم منکم بعد محمد [صلی الله علیه وآله وسلم]؟ (قال ابن عباس): فکرهت أن أجیبه، فقلت له: إن لم أکن أدری فإنّ أمیر المؤمنین یدری، فقال عمر: کرهوا أن یجمعوا لکم النبوة والخلافة فتجحفوا علی قومکم بجحاً بجحاً، فاختارت قریش لأنفسها فأصابت ووفّق- (قال)-ت: فقلت: یا أمیر المؤمنین، إن تأذن لی فی الکلام وتمط عنی الغضب تکلمت، قال: تکل- (قال ابن عباس)-م: أمّا قولک یا أمیر المؤمنین: اختارت قریش... فقال عمر: هیهات یا بن عباس، قد کانت تبلغنِی عنک أشیاء أکره أن أقرّک علیها، فتزیل منزلتک منی... فقال عمر: بلغنی أنک تقول: إنما صرفوهاً عنا حسداً وبغیاً وظلماً... فقال عمر: هیهات هیهات، أبت و الله قلوبکم یا بنی هاشم إلا حسدا لا یزول. (قال) فقلت: مهلاً یا أمیر المؤمنین، لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا... .
ص:145
إنّ عمر بن الخطاب قد جاءته أخبار ولیس خبراً واحداً أنه یتکلم بها بین الناس: «تبلغنی عنک أشیاء أکره أن أقرّک علیها».
فأنقلها عن منهاج السنة النبویة ابن تیمیة، (1) وإن کانت منقولة فی المصادر الأخری أیضاً حیث نقل صاحب الکتاب قائلاً:
فی حدیث عمر هذا فی خطبته المشهورة الثابتة فی الصحیح، التی خطب بها مرجعه من الحج فی آخر عمره، وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم وقد رواها البخاری فی صحیحه عن ابن عباس، قال: کنت أُقریء رجالاً من المهاجرین منهم عبد الرحمن بن عوف، فبینما أنا فی منزله بمنی وهو عند عمر بن الخطاب فی آخر حجة حجها إذ رجع إلی عبد الرحمن بن عوف، فقال: لو رأیت رجلاً أتی أمیر المؤمنین الیوم، فقال: یا أمیر المؤمنین، هل لک فی فلان یقول: لو قد مات عمر لقد بایعت فلاناً، فو الله، ما کانت بیعة أبی بکر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثم قال: إنی إن شاء الله لقائم العشیة فی الناس فمحذرهم هؤلاء الذین یریدون أن یغصبوهم أمورهم، فقال عبد الرحمن: فقلت: یا أمیر المؤمنین، لا تفعل فإنّ الموسم یجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذین یغلبون علی قربک حین تقوم فی الناس، وأنا أخشی أن تقوم فتقول مقالة یطیرها عنک کل مطیر وأن لا یعوها وأن لا یضعوها علی مواضعها، فأمهل حتی تقدم المدینة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول مقالتک متمکناً فیعی أهل العلم مقالتک ویضعونها علی مواضعها، فقال عمر: أما و الله، إن شاء الله لأقومن بذلک أول مقام أقومه بالمدینة، قال ابن عباس: فقدمنا المدینة فی عقب ذی الحجة فلما کان یوم الجمعة عجلت بالرواح حین زاغت الشمس حتی أجد سعید بن زید بن عمرو بن نفیل جالساً إلی رکن المنبر، فجلست حوله تمس رکبتی رکبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأیته مقبلاً قلت لسعید بن زید بن عمرو بن نفیل: لیقولنَّ العشیة مقالة لم یقلها منذ استخلف، فأنکر علیَّ وقال: ما عسیت أن یقول ما لم یقل قبله، فجلس عمر علی المنبر فلما سکت المؤذنون قام فأثنی علی الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنّی قائل لکم مقالة قد قدر لی أن أقولها لا أدری لعلها بین یدی أجلی، فمن عقلها ووعاها فلیحّدث بها حیث انتهت به راحلته، ومن خشی أن لا یعقلها فلا أحل لأحد أن یکذب علیَّ، إن الله بعث محمداً صلی الله علیه [وآله] وسلم بالحق وأنزل علیه الکتاب فکان فیما أنزل علیه آیة الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعیناها ورجم رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم ورجمنا بعده، فأخشی إن طال بالناس زمان أن
ص:146
یقول قائل و الله، ما نجد آیة الرجم فی کتاب الله فیضلوا بترک فریضة أنزلها الله، والرجم فی کتاب الله حق علی من زنی إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البینة أو کان الحبل أو الاعتراف، ثم إنا کنا نقرأ فیما نقرأ من کتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائکم فإنه کفر بکم أن ترغبوا عن آبائکم... ثم إنه بلغنی أن قائلاً منکم یقول: و الله، لو مات عمر لبایعت فلاناً فلا یغترن امرؤ أن یقول إنما کانت بیعة أبی بکر فلتة فتمت، ألا وإنها قد کانت کذلک ولکن الله وقی شرها، ولیس فیکم من تقطع الأعناق إلیه مثل أبی بکر من بایع رجلا من غیر مشورة من المسلمین، فلا یبایع هو ولا الذی بایعه تغرة أن یقتلا... . (1)
أنّ عمر قال: «ثم إنه بلغنی أنّ قائلاً منکم یقول: و الله، لو مات عمر لبایعت فلاناً».
فمن خلال ما قاله عمر بن الخطاب فی الحادثة الأولی: «فقال عمر: هیهات یابن عباس قد کانت تبلغنی عنک أشیاء أکره أن أقرّک علیها فتزیل منزلتک منی، وقوله فی الثانیة: «ثم إنه بلغنی أنّ قائلاً منکم یقول: و الله، لو مات عمر لبایعت فلاناً فلا یغترنّ امرؤ أن یقول إنما. یتضح أنّ المتکلم هو ابن عباس. نعم، نقل صاحب المراجعات أعلی الله تعالی مقامه عن القسطلانی فی تفسیره لهذا القول (2) نقلاً عن جده البلاذری أنّ القائل هو ابن الزبیر. والواقع أنّ ابن الزبیر کان من المتشددین ضد علی صلوات الله تعالی علیه، کما صرح بذلک هو فی حرب الجمل، وقیل: هو الزبیر، وقیل، لم یصرح باسم القائل ولکن صرح باسم من سیبایع لو مات عمر، وعلی ما جمعت من قرائن یتضح أنّ القائل هو ابن عباس وأنه یرید بیعة مولی الموحدین صلوات الله تعالی علیه - ولست فی مقام اتهامه - وإنّما وکما نوّهت عنه، فإنه من باب جمع القرائن لیس غیر، وإن لم یکن هو القائل غفر الله لنا وله - و الله تعالی هو العالم.
أیاً کان المتحدث فی الحادثة الثانیة خاصة، وکل ما حصل من محاورات بین الأطراف
ص:147
المهتمة بصرف الخلافة عن أمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه التی تنقل الکلام أولاً بأول لعمر بن الخطاب، وبین الأطراف التی ترغب عنه إلی غیره، وکذلک بین الثانیة وبین عمر بن الخطاب غیر منظور فیها جانب السکوت والتقیة، فلم یجد عمر بن الخطاب بدّاً من ترتیب یصرف الأمر عن ذیه بواسطة أشخاص یتم تعیینهم لهذا الغرض، وقد نجح فعلاً هذا التیار، وبسبب ذلک دفعت الأمة الإسلامیة الثمن باهضاً نتیجة عدم التروی والتریث فی إلقاء الکلام وعدم تشخیص المقام. فلعله و الله العالم لو لم یذع أصحاب هذه المقالات ما کانوا یکنون فی صدورهم لما حصل ما حصل وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّی تَخْرُجَ إِلَیْهِمْ لَکانَ خَیْراً لَهُمْ (الحجرات: من الآیة5).
- فلا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم -
ص:148
ص:149
ص:150
ابتلی النبی الأکرم صلوات الله تعالی علیه وآله بثلاثة أنماط، وهم أعداء الله من الکفار من جهة وبزمرة المنافقین الذین تلبسوا بلباس الإسلام من جهة ثانیة، والذین فی قلوبهم مرض من جهة ثالثة، قال تعالی فی عدة مواضع من الکتاب العزیز: فَتَرَی الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ یُسارِعُونَ فِیهِمْ یَقُولُونَ نَخْشی أَنْ تُصِیبَنا دائِرَةٌ (المائدة:من الآیة52)، إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِینُهُمْ (الأنفال:من الآیة49)، وَ أَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَی رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ کافِرُونَ (التوبة:125)، لِیَجْعَلَ ما یُلْقِی الشَّیْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظّالِمِینَ لَفِی شِقاقٍ بَعِیدٍ (الحج:53)، وَ إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً (الأحزاب:12)، لَئِنْ لَمْ یَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِی الْمَدِینَةِ لَنُغْرِیَنَّکَ بِهِمْ ثُمَّ لا یُجاوِرُونَکَ فِیها إِلاّ قَلِیلاً (الأحزاب:60)، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْکَمَةٌ وَ ذُکِرَ فِیهَا الْقِتالُ رَأَیْتَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ یَنْظُرُونَ إِلَیْکَ نَظَرَ الْمَغْشِیِّ عَلَیْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلی لَهُمْ (محمد:من الآیة20) أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ یُخْرِجَ اللّهُ أَضْغانَهُمْ (محمد:29)، وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِکَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لِلَّذِینَ کَفَرُوا لِیَسْتَیْقِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ وَ یَزْدادَ الَّذِینَ آمَنُوا إِیماناً وَ لا یَرْتابَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِیَقُولَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْکافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً کَذلِکَ یُضِلُّ اللّهُ مَنْ یَشاءُ وَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ وَ ما یَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّکَ إِلاّ هُوَ وَ ما هِیَ إِلاّ ذِکْری لِلْبَشَرِ (المدثر:31)، وأما فی المنافقین فقد جاء فیه ما جاء، فعمل هؤلاء جاهدین لتدمیر الدین، ولکنهم لم یتمکنوا من النیل منه.
ص:151
ولم یقتصر ذلک علی عصر النبوة، بل امتدَّ ذلک إلی عصر الإمامة، ولکنّه فی معظم الأحیان أخذ لوناً آخر من التنوع، فلیس کل المخالفین للإمام یحکم بکفرهم فی الدنیا، ففی کثیر من الحالات کانوا یتشهدون الشهادتین إلا النواصب والغلاة والخوارج، فهؤلاء حکمهم معلوم عند جمیع طوائف المسلمین.
ففی عصر کل إمام من الأئمة صلوات الله تعالی علیهم نشاطاً ملحوظاً لتیار أو تیارات تقف بوجهه ووجه أتباعه، سواء أکان من الداخل أم الخارج أم کلاهما معاً وحتی یومنا هذا. هذه التیّارات تأخذ طابعاً دینیّاً وهو فی الحقیقة غطاء تتسّتر به، ولکن حقیقة التحرک ناشئة من دوافع سیاسیة، وذلک إما بتوجیه الناس وحثهم علی اتباع المدعین والمنحرفین أو ادعاء الإمامة لغیر أهلها وما شاکل ذلک، نعم، قد یکون التحرک بسبب انحرافات عقائدیة ولکنّها أخیراً تنجر إلی هذه النتیجة، وبالتالی تترکز مهمتها علی التعرض للتشیع، فیرمی هذا المبدأ العظیم من قِبَلِ هذه الحرکات أو بسببها بِتُهَمِ الغلو والقول بتحریف القرآن وفارسیة التشیع وانتهاج النفاق والزنا وشتم الصحابة وتکفیر المسلمین وغیر ذلک من التهم الواهیة المردودة علی أصحابها، بل إنّ معظم هذه التهم مطلقها أولی بها من غیره.
ومن خلال تلک الانحرافات - کما تقدم - توجه الضربات لهذه المدرسة الأصیلة بشکل أو بآخر من أجل إذابتها، ولکن ذلک لیس بید أحد إنما هو التشیع وهو صنیعة الله تعالی ورسوله صلوات الله تعالی علیه وآله ولابد من حفظه إن شاء الله العزیز.
ص:152
لقد عاش أهل هذه الطائفة - أئمةً وأتباعاً - ظروفاً قاسیة ومعاناة لأقسی وأشد أنواع العذاب وأحلک الأیام فی کل مکان ومرّت وجرت علیهم الویلات.
وهذا التاریخ یحدثنا بما فیه، حیث امتلأت صفحاته بنزیف من الدماء وجرائم وهتک الحرمات بین أسطره، وإن لم یکن لیبدها بشکل مرکز وعلنی، إما خجلاً من هذا الفعل المشین أو تدلیساً ممن کتبه، علی أنه ظهر أیضاً مع کل هذا وذاک کما أشرت بین الأسطر مُعَلَّلاً ذلک بحجج لا تخفی علی اللبیب. فکلما تأتی دولة تمسک دفة الحکم وتتولی زمام الأمور تقوم باستخدام هذا الأسلوب البشع الذی یأباه الدین وتأباه الإنسانیة.
وفی مثل هذه الظروف العصیبة لا اعتقد أنّ عاقلاً یأتی ویتکلم ویظهر عقیدته لمن عاداه ولا یتردد فی قتله، بل یتحیّن الفرص لذلک، فلا بد من طریق لحمایة النفس والعرض من هذه الذئاب البشریة التی لا یهمها سوی الجلوس علی الکرسی؛ لیکون خلیفة أو والیاً أو مدیراً أو مدرّساً أو موظفاً أو حتی مراقباً لصف أو لکی یشتری قمیصاً مستعملاً - وهذا هو دیدن عبدة الأحزاب والکراسی الذین یفعلون کل شیء من أجل هذه المناصب - ولو کان ذلک علی حساب انتهاک حرمات الآخرین کما حصل ویحصل. وهذا هو الواقع وما جری علی آل محمد صلوات الله تعالی علیهم وعلی شیعتهم.
وکان سلاطین الجور من بنی أمیة وبنی العباس وولاتهم وغیرهم یُقتِّلون الشیعة ویطاردونهم تحت کل حجر ومدر ومغارة، فأخافوهم وأرعبوهم وقطعت الأیدی منهم
ص:153
والأرجل، وصلبوا فی جذوع النخل، وسملت أعینهم، وطوردوا وشرّدوا ونفوا. (1) بل حدثت أهوال کثیرة حتی بعد وفاة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله، حیث هجموا علی دار الزهراء وأسقطوا جنینها، وإن شئت التفصیل راجع کتاب السید جعفر مرتضی العاملی فی کتابه مأساة الزهراء علیها السلام، وتعاملوا مع علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیهما أسوأ المعاملة.
واعتدی فی زمن أحدهم علی عمار بن یاسر بالضرب المبرح، (2) وأما أبو ذر فما کان أقل نصیباً، حیث کانت حصته بعد الأذی النفی إلی أرض الربذة. (3)
وقتال أمیر المؤمنین علی وما فعلوه بابنیه السبطین الحسن والحسین صلوات الله تعالی علیهم أجمعین کافٍ فی قیاس القتل والقتال علی شیعتهم... .
وکتب معاویة إلی الأمصار أن برئت الذمة ممن روی حدیثاً فی فضل علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیهما أو فی أهل بیته (4).
وسنّ لعن أخی رسول الله صلی الله تعالی علیه وآله، (5) بل وکما مرَّ سابقاً رفعوا الصلاة عن آل محمد صلوات الله تعالی علیهم.
کل ذلک یریدون أن یستأصلوا الشیعة فاستسهلوا فیهم کل شقوة وقسوة، واستقرؤوهم فی البلاد فطنب علیهم الخوف وأحاط بهم الهلع والرعب فی کل النواحی، بحیث لو کان
ص:154
یقذف الشیعی بالیهودیة لکان أسلم له من انتسابه إلی الأمة، (1) حتی أنّ الناس کانوا لا یتسمون باسم علی أمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه خوفاً من السفاحین.
وقد قتل بسر (2) بعد التحکیم ثلاثین الفاً عدا من أحرقهم بالنار. وأتلفت ذراری رسول الله صلوات الله تعالی علیه وآله کذلک، وبنوا علیهم الاسطوانات وقتلوهم وشرَّدوهم، بل ومنهم من أراد أن یحرقهم بالنار ولم یرحم حتی الطفل الصغیر ولا الشیخ الکبیر. وما فعله سمرة بن جندب فلیس بقلیل. (3)
وکان من أشدِّ العصور عصر زیاد وابن زیاد والحجاج، حیث قتل من الشیعة أکثر من مائة ألف، وهذا هو الذی قتل کمیل بن زیاد رضوان الله تعالی علیه عامل علی علیه السلام علی هیت فیمن قتل منهم.
وأما مصعب الذی سماهم الحسینیة، فهو الآخر تتّبع الشیعة بالکوفة وغیرها وقتلهم، وضیّق الأمر علی أهلها، وظفر بالمختار وقتله واحتز رأسه، وقطَّع أعضائه وجلس فی قصر الإمارة.
کان الشیعة یعیشون هم والأئمة صلوات الله تعالی علیهم هذه الظروف القاسیة والعصیبة.
وأفتی نوح افندی فی وجوب مقاتلة الشیعة وقتلهم ونهب أموالهم وسبی نسائهم وذراریهم، وهو معلوم من کتب التاریخ.
وکذا فعل أبو مسلم بهم، حیث کتب إلی أبی العباس یستأذنه فی قتلهم وملاحقتهم وألقوا بأطفالهم فی نهر دجلة، حتی ماتوا. إلی غیر ذلک من المآسی التی صبّها العباسیون علی المؤمنین، حتی أنه سم المأمون الرضا علیه السلام فقتله، وقد کان قتل الفضل بن سهل وجماعة من الشیعة.
ورمی الشیعة بالزندقة لیقتلوا تحت هذا الغطاء، وکان ذلک دأبهم ومن باب المثال فلیراجع القارئ ما فعله المهدی العباسی بهذا الصدد.
ولا یخفی ما فعله المتوکل العباسی بزائری مرقد الإمام الحسین صلوات الله تعالی علیه، وکذا بنفس القبر الشریف.
ص:155
وکان الجمهور یستعینون بالجند ضد الشیعة، حیث حصلت مجازر رهیبة وقتل جماعی بشکل وحشی کما فی إشعال النار فی أحیائهم السکنیة وأسواقهم، حتی قتل الکثیرون منهم کما فی سنة 363ه- من أجل إقامتهم لشعائرهم. (1)
کان أهل المدینة ثلاث طوائف شافعیة وهم الأقل، وحنفیة وهم الأکثر، وشیعة وهم السواد الأعظم، لأنّ أهل البلد کان نصفهم شیعة، وأما أهل الرستاق فلیس فیهم ألا شیعة وقلیل من الحنفیین، ولم یکن فیهم من الشافعیة أحد، فوقعت العصبیة بین السنة والشیعة فتضافر علیهم الحنفیة والشافعیة وتطاولت بینهم الحروب حتی لم یترکوا من الشیعة من یعرف، فلما أفنوهم وقعت العصبیة بین الحنفیة والشافعیة ووقعت بینهم حروب کان الظفر فی جمیعها للشافعیة، هذا مع قلة عدد الشافعیة إلا أن الله نصرهم علیهم وکان أهل الرستاق وهم حنفیة یجیئون إلی البلد بالسلاح الشاک ویساعدون أهل نحلتهم فلم یغنهم ذلک شیئاً حتی أفنوهم، فهذه المحال الخراب التی تری هی محال الشیعة والحنفیة، وبقیت هذه المحلة المعروفة بالشافعیة وهی أصغر محال الری ولم یبق من الشیعة والحنفیة إلا من یخفی مذهبه، ووجدت دورهم کلها مبنیة تحت الأرض ودروبهم التی یسلک بها إلی دورهم علی غایة الظلمة وصعوبة المسلک؛ فعلوا ذلک لکثرة ما یطرقهم من العساکر بالغارات ولولا ذلک لما بقی فیها أحد... . (2)
وقال ابن الأثیر: (3) فی هذه السنة فی المحرم قتلت الشیعة بجمیع بلاد أفریقیة، وکان سبب ذلک أن المعز بن بادیس رکب ومشی فی القیروان والناس یسلمون علیه ویدعون له، فاجتاز بجماعة فسأل عنهم فقیل هؤلاء رافضة یسبون أبا بکر وعمر، فقال رضی الله عنه: أبا بکر وعمر فانصرفت العامة من فورها إلی درب المقلی من القیروان وهی تجتمع به الشیعة فقتلوا منهم، وکان ذلک شهوة العسکر وأتباعهم طمعاً فی النهب، وانبصطت أیدی العامة فی الشیعة وأغراهم عامل القیروان وحرضهم، وسبب ذلک أنه کان قد أصلح أمور البلد فبلغه أن المعز بن بادیس یرید عزله فأراد فساده فقتل من الشیعة خلق کثیر وأحرقوا بالنار ونهبت دیارهم وقتلوا فی جمیع أفریقیة، واجتمع جماعة منهم إلی قصر المنصور قریب القیروان فتحصنوا به
ص:156
فحصرهم العامة وضیقوا علیهم فاشتد علیهم الجوع، فأقبلوا یخرجون والناس یقتلونهم حتی قتلوا عن آخرهم، ولجأ من کان منهم بالمهدیة إلی الجامع فقتلوا کلهم، وکانت الشیعة تسمی بالمغرب المشارقة نسبة إلی أبی عبد الله الشیعی وکان من المشرق وأکثر الشعراء ذکر هذه الحادثة فمن فرح مسرور ومن باک حزین.
والتاریخ المعاصر یکشف لنا ما قام به سلاطین الجور للدولة العثمانیة وکذا باقی الحکومات والدول التی بعدها، ولا أتصور أنه خاف علی الناس، حتی أن التعیین فی الدوائر الحکومیة کان یبتنی فی کثیر من الأحیان علی الأسماء، علی أنّ الظلم مستمر لحین أن یجعل الله تعالی لنا الفرج إنه جواد کریم.
وقد أطلع أهل الأرض علی جرائم صدام حسین وأتباعه من مجرمین أو مغرر بهم التی ارتکبتها أیادیهم فی دفن الموالین لآل البیت - صلوات الله تعالی علیهم - فی مقابر جماعیة، هذه الجریمة التی راح ضحیّتها النساء والأطفال، الشیوخ والشباب، وکانت أعداد ضحایا هذا النظام من مهاجرین ومهجّرین ومن الذین أعدموا أو دفنوا أحیاءً أو بعد قتلهم جماعیاً بالأسلحة التقلیدیة وکذلک بالکیمیاویة إلی الملایین، هذا من الشیعة العراقیین فقط غیر الإیرانیین والکویتیین (1) - إلا أنه لم یکن الأمر مختصاً بالشیعة من شعب الکویت الشقیقة، حیث تسرب إلی السنة کذلک - هذا غیر الذین قدموهم إلی الحیوانات المفترسة وهم أحیاء وغیر النساء التی اعتدی علیهن اغتصاباً. وکان هذا النظام یجری تجارب الأسلحة الکیماویة علی سجناء الشیعة أو یلقی بهم فی أحواض الأحماض الکیمیائیة، وکان ذلک بموافقة وتحریض الغالبیة العظمی من دول العالم.
ص:157
فلا أتصور أنّ عاقلاً یقوم بإظهار نفسه فی هذا الخضم الموحش المدلهم بین قوم لا یشتهون إلا دماء الشیعة، فلو کان ما حصل مع الشیعة حاصلاً مع غیرهم لاستخدموا کل شیء للخلاص، ولا أعتقد أننا سنجد لهم أثراً أبداً، ولولا برکات آل البیت صلوات الله تعالی علیهم أجمعین لما کان عددنا الآن کما نحن علیه. فأی دین یرضی لأتباعه الهلاک ولا یجد لهم مفزعاً ومخلصاً من التورط مع مخلوقات فاقت حیوان الغاب وحشیة. (1)
هل رجع الذی ینادی بالقومیة العربیة أو غیره ممن یرید قتل الناس إلی التاریخ وتصفّح ما فیه من فضائح؟ هل راجع سنة التشرید والقتل علی الهویة ما هی نتائجها؟ هل رأیت من قبلک کیف تسلّط علیهم من لا یرحمهم؟ أین الذین سبقوک؟ هل تقتل المؤمنین وتشرّد بهم؟
إن لم تعتبر فخذ هذه العبرة واستفد، حیث قال الله تعالی إن کنت تعرفه: قالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ اسْتَکْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّکَ یا شُعَیْبُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا مَعَکَ مِنْ قَرْیَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ کُنّا کارِهِینَ (الأعراف:88)، وَ قالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّکُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنا فَأَوْحی إِلَیْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِکَنَّ الظّالِمِینَ (إبراهیم:13)، بتعبیر بسیط أرادوا أن یخرجوا المؤمنین من الأرض، والأرض لله وأمثالک السابقون إنما یرحمون بهؤلاء المؤمنین، فقال لهم الله تعالی: اخرجوا وسوف یری هؤلاء کیف کنت أرحمهم بسبب وجودکم بینهم، فإذا خرج سبب نزول الرحمة حل سبب الغضب... فتمتع أنت حتی حین، وسوف تری من الذی سیلقی حتفه أنت أم الذی أخرجته من أرض الله تعالی التی سخرها لعباده؟ وسوف تری لمن تکون عاقبة الدار؟.
ص:158
عند تفحص تاریخ المعصومین الأربعة عشر صلوات الله تعالی علیهم أجمعین فإننا نجد أنهم تعاملوا مع الأحداث تعاملاً یثیر التساؤل واقعاً؛ لعدم إمکانیة إحاطتنا بما لدیهم وَ کَیْفَ تَصْبِرُ عَلی ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (الکهف:68). ولا شک أنّ ذلک کله کان طبقاً للمصلحة المشخصة من قبلهم، وفی الحقیقة أنا أعتقد جازماً أنّ من نعم الله تبارک وتعالی علینا أن ما تثار من تساؤلات فی أنفسنا عن سنتهم إنما هی تساؤلات استفهام لإنسان جاهل یرید التعلم منهم لا استفهام مستنکرین کبعضهم أو مبررین لأعدائهم، متخذین هذه التصرفات وردود الفعل منهم دلیلاً علی حقیة من عاداهم. فنراهم مرة یدارون فی موقف نحسبه مهماً للغایة، فکیف صدر منهم رد الفعل الکذائی دون غیره وأخری قد نحسبه هیّناً.
ولکن من خلال التفحص نجد أنّ الحاکم فی ذلک هو مصلحة الدین لا المصلحة الشخصیة، فعندما لا تتوقف مصلحة الدین إلا علی التحمل فهو ذاک، کما فی الهجوم علی دار بنت النبی صلوات الله تعالی علیهم أجمعین. فإنّ من الجلی أن الإمام صلوات الله تعالی علیه لم یکن لیتهور ویتصرف تصرفاً یکون ثمنه محق الدین کل ذلک ثأراً لما حصل. والفرق بین الشجاعة والتهور واضح، فالشجاعة ملکة نفسانیة موجودة فی المتصف بها لا یمکن أن تتخلف إلا بزوال الملکة وکذا ضده وهو الجبن، وقد تتوطن النفس علیها فتکون حالاً، وأما التهور فلیس من الشجاعة، وکذلک لیس من العقل بشیء. وهذا هو الذی لم یفهمه من استشکل علی عدم نهوض (1) علی صلوات الله تعالی علیه - وإن کان وحیداً - بوجه من تعرض
ص:159
لداره فآثر الصبر علی النهوض لما فیه من مصالح للدین، هذا وکذلک تنفیذاً لوصیة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله له بالصبر.
وأنقل من أمثلة ما تقدم من سیرة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله وتصرفه مع الأحداث مثالین، وذلک عندما ارتفع صوت الشیخین عنده فلم یتکلم ولم یغضب، لأنّ المسألة وإن کان مرجعها إلی احترام هذا الوجود المقدس ولکنه لو تکلم أو أبدی غضبه لقیل: إنه ثأر لنفسه ولیس ذلک ببعید، ولکنّ الله تعالی أنزل قرآناً بذلک، قال تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ کَجَهْرِ بَعْضِکُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُکُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (الحجرات:2) فعُلِمَ ما حصل، وإن أردت مزید اطلاع فراجع کتب التفسیر لهذه الآیة المبارکة، وجاء ذلک فی البخاری فلیطلب فی محله 1. وأخری نجده صلوات الله تعالی علیه وآله غضب عندما جاءه عمر بن الخطاب بصحیفة للیهود، فقرأها علیه صلوات الله تعالی علیه وآله: «فغضب وقال: أمتهوکون فیها یابن الخطاب، والذی نفسی بیده لقد جئتکم بها بیضاء نقیة لا تسألوهم عن شیء فیخبروکم بحق فتکذبونه». 2 وإلا فبمقتضی ما نراه نحن فإنّ الموقفین یقتضیان نفس ردود الفعل علی حساباتنا.
ولم نر النبی الأعظم صلوات الله تعالی علیه وآله قد قتل من أراد قتله لیلة العقبة وهم متلبسین بالجرم، وغیر ذلک کثیر. وهکذا جمیع الحجج الطاهرین صلوات الله تعالی علیه وعلیهم وذلک من خلال تتبع مواقفهم. فلم یتخذوا الجانب السلبی - کما یدعی - أو اتخذوا التخفی والخضوع بغطاء التقیة، ولم ینکمشوا علی حال وسلوک واحد لم یتغیر علی مدی التاریخ، بل کانت مواقفهم تتغیر وفقاً لتغیر الموضوعات، فمرة جهاد وأخری تقیة وفی کلا الحالین کانت والتعذیب والتشرید هو النصیب الأوفر، وخیر دلیل علی ذلک مواقف علی سبیل المثال لا الحصر:
ص:160
1. موقف الزهراء بعد وفاة النبی صلوات الله تعالی علیه وآله، وموقفان للإمام علی صلوات الله تعالی علیهم أجمعین فی هذه الفترة، وبعد تولیه دفة الحکم.
2. موقفان للإمام الحسن صلوات الله تعالی علیه عند تولیه الخلافة، ثم عقد الصلح. ثم الموقف الذی اتخذه الإمام الحسین وأصحابه وأهل بیته صلوات الله تعالی علیهم.
3. أما ثوراتنا فلم تقف، فثورة العشرین شارک فیها مراجع الشیعة من أی بلد، بل إنّ من علماء إیران من شارک فی ثورة العشرین، وشهداء الهیئة العلمیة فی النجف الأشرف کالشهید المرجع الدینی السید محمد باقر الصدر وغیره من العلماء، من أمثال الشیهد عارف البصری وخزعل السودانی وعبد الجبار البصری وأخیه ناظم البصری وآل المبرقع وآل دخیل وغیرهم کثیر منذ بدء عصر الغیبة الکبری، کانت هناک فترات نهدأ فیها فلا تری لنا تحرکاً ملحوظاً، وتارة تجد هناک ثورات ترتسم علی جبین التاریخ بکل فخر واعتزاز، وکله - کما تقدم - کان خاضعاً للظروف التی نعیشها فی ظل الحکام، فاختلفت المواقف بین بلد وآخر وبین زمن وآخر.
الجهاد مرة یکون ابتداً لتوسیع رقعة الدین، وأخری یکون دفاعاً عنه. ففی کلا القسمین تکلم الفقهاء فی عصر الغیبة فی جوازهما أو عدمه، ومن خلال فتوی أو إذن المجتهد الجامع للشرائط، لما فیه من مسؤولیات تترتب علیه، فقد ینکسر الجیش فینجم عنه کارثة لا تحمد عقباها، أو ینتصر ویبقی حصول مشاکل اجتماعیة واقتصادیة وغیرها أمراً محسوباً، والمعروف لدی الجمیع أنّ من نتائج الحروب وقوع أسری بید العدو کما ینجم عنه وجود معوقین وشهداء، وهؤلاء لهم أُسَرٌ وعوائل کانوا یدبرون أمرها، ومثل هذه المخلفات لا یمکن تجاهلها، وعلیه فإنّ هذا الأمر متوقف علی دراسة الجوانب السلبیة للجهاد قبل الإیجابیة کون الفقیه غیر معصوم فیمکن أن یرتکب خطأ یجر علی الأمة الویلات، فمن مهام الدین أن یوازن بین ذلک کله، وإلا فإنه لا یمکن أن یسمح لقائد أن یتسبب فی هلاک الأتباع دون تعقل للأمور. أما بخصوص الثانی فهذا هو التاریخ بین یدینا، نقرأ فیه تسطیر أروع الملاحم لثوراتنا وقوفاً بوجه المستکبرین والظالمین. ومن الملموس فی عصرنا هذا ثورة الجمعة التی فجرها السید الشهید المرجع محمد محمد صادق الصدر. وإنّ دخول المحتل
ص:161
کان مقرراً بحسب الاستقراء قبل التاریخ المعروف، وکان تأجیله متوقفاً علی قتله وقتلها ومضی فترة لنسیانها. وإنّ لمن برکات هذه الثورة تعثر الاحتلال فی اتخاذ القرارات لوقوف بعض أنصار (1) هذه الثورة البیضاء الحمراء سداً منیعاً بوجه الظلم الذی یحاک ضد هذا البلد، بالرغم من ارتکاب بعض الأخطاء، فالذین ساروا علی هذا النهج غیر معصومین ولکن علیهم أن یستفیدوا من تجارب غیرهم ویسمعوا لنصح من أحبهم ذلک خیر لهم.
ومن عظیم ما سطره الأبطال ممن أقامها کالشهید الشیخ علی الکعبی وغیره - قدست أرواحهم الطاهرة - وأتباعهم، وکأهالی مدینة الصدر المنسیة وغیرها من المدن الفقیرة الغنیة - التی تعانی من کل النواحی قبل سقوط النظام وبعده لأسباب عدیدة - فی الوقوف بوجه النظام الذی استخدم الإیرانیین الفارین المعادین للدین لقتل المؤمنین من أبنائنا، ووصل الحد بأنه لو خُیِّرَ أحد من قبل قوات الأمن بین اعتقاله أو إقامة الصلاة تنفیذاً لتوجیه السید رحمه الله تعالی بإقامتها لاختار اعتقاله، وهذا لیس مدحاً أو تمجیداً لطرف - فقد ینحرف الإنسان آخر حیاته - وهذا خیر دلیل علی الثورة، الإقدام والذوبان فی ذات الله تعالی - علی الأقل بحسب ظاهر المُقْدِم - فأرجو من الله تعالی للجمیع الثبات وحسن العاقبة وعدم الرکون إلی ما سبق من العمل لئلا یحرق.
ص:162
ولکی نبقی لما هو أهم وکما فعل عمار رضوان الله تعالی علیه، وقد علمنا أنّ حال آل محمد صلوات الله تعالی علیه وعلیهم وحال أتباعهم فی زمن لم یبعد عن زمن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله کثیراً، وقد جری علیهم ما جری وخیر مثال علی ذلک حادثة کربلاء، فقد عبرت أیّما تعبیر عن مجازاة آل البیت الأطهار وموالیهم، بل حرب الجمل وصفین، بل یوم الهجوم علی دار الزهراء، بل اتهام النبی صلوات الله تعالی علیه وآله بأنه یهجر وهو - روحی فداه - مسجی علی فراش الموت.
جاء فی علل الشرائع للشیخ الصدوق (1) عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام قال:
سألته عن مسألة فأجابنی قال: ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابنی، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابنی وأجاب صاحبی، فلما خرج الرجلان قلت: یا بن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شیعتک قدما یسألان فأجبت کل واحد منها بغیر ما أجبت به الآخر! قال: فقال: یا زرارة، إنّ هذا خیر لنا وأبقی لنا ولکم ولواجتمعتم علی أمر واحد لقصدکم الناس، ولکان أقل لبقائنا وبقائکم، قال: فقلت لأبی عبد الله علیه السلام : شیعتکم لو حملتموهم علی الأسنة أو علی النار لمضوا وهم یخرجون من عندکم مختلفین قال: فسکت فاعدت علیه ثلاث مرات فأجابنی بمثل أبیه. (2)
ص:163
وخیر دلیل علی تلک الظروف التی عاشها الأئمة، بحیث کانوا یتصرفون بهذه الدقة فی إیقاع الخلاف بین شیعتهم، ما نقله ابن حجر العسقلانی فی کتابه سبل السلام (1) فی الذین رفعوا الصلاة علی الآل حقداً علیهم. فمتابعة سلاطین الظلم والجور لآل البیت صلوات الله تعالی علیهم ولأتباعهم بلغت مبلغاً یحتم هذا التأکید علی التقیة، فهی وقایة لنا وقد جاء فی البحار: (2) «عن ثابت مولی آل جریر قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: کظم الغیظ عن العدو فی دولاتهم تقیة حزم لمن أخذ بها، وتحرز من التعرض للبلاء فی الدنیا».
وقد تبیّن من کتب المسلمین أنّ للمؤمن حرمة عظیمة ولم یخول الله تعالی لأحد أن یلقی بنفسه إلی التهلکة، فوضع لنا مخرجاً فمن کان یعتقد بأنه علی الحق أیاً کان مذهبه علی أن یتشهد الشهادتین ویکون مؤمناً بها، فقد جعل له هذا المُؤَمِّن لخلاصه وحسابه عند ربه تبارک وتعالی فعند الله تعالی تجتمع الخصوم.
من المعلوم أنّ العوامل النفسیة لها تأثیر کبیر علی تصرفات الفرد ومن ثم علی المجتمع، بشکل أنت تستطیع أن ترسم صورة للشخص من خلال ما تری من سلوکه، وأمثلته کثیرة من واقع الحیاة یمکن لأی واحد منا أن یقع علی ذلک، فالمطارد من قبل السلطات فی دولة تستطیع سلطاته النیل منه تری منه أفعالاً تختلف عما لو کان فی بلد یعیش فیه بحریة تامة.
ومن المعلوم أنّ حیاة الشیعة رافقت القتل والتشرید والتعذیب وغیر ذلک. فالأجواء والظروف التی أحاطت بهم لم تکن کالتی تمتع بها غیرهم، وبناءً علی ما تقدم کان هدف الأئمة من خلال هذا الترکیز علی التقیة خلق جو نفسی للمؤمنین من حولهم، بأن لا یظهروا أنفسهم مظهراً یدفع ثمنه حملة هذا الفکر إماماً ومأموماً قتلاً وإبادة، فإنّ الشجاعة شیء والتهور شیء آخر، وعلی المؤمن أن یدخر نفسه لیوم أشد.
وهذا فی اعتقادی تابع للزمان والمکان، فنری أنّ الإمام مرة یبرز ظاهراً بین الناس، کما حصل فی الکوفة إبان فترة ضعف الدولة الأمویة وتوالی الثورات علیها وبدء نشاط الدولة العباسیة، ثم رجع کما لو لم یکن تحرک من قبل.
ص:164
ولم یکن الإمام لیکتم کل شیء وعن کل أحد، فلو راجعنا کتب الرجال - الجرح والتعدیل - الشیعیة لوجدنا بعض الرجال الذین وصفوا بأنهم من أصحاب الأئمة ورووا عنهم صلوات الله تعالی علیهم من أتباع المذاهب - العامة - فیقال فی أحدهم عامِیٌّ روی عن الإمام، ولیس هذا فحسب، بل ووثقوهم وقبلوا روایتهم أیضاً. ومن هؤلاء (فی رجال النجاشی (1) أصرم بن حوشب البجلی عامی، ثقة، روی عن أبی عبد الله علیه السلام ، وکذلک (2) الفضیل بن عیاض بصری، ثقة، عامی، روی عن أبی عبد الله علیه السلام ، ویحیی بن سعید القطان أبو زکریا، (3) عامی، ثقة، روی عن أبی عبد الله علیه السلام - وراجع باقی کتب الرجال - کالفهرست للطوسی وخلاصة الأقوال للعلامة الحلی أعلی الله تعالی مقام علمائنا جمیعاً، وإنما أوردت ما تقدم للمثال ولیس للحصر.
فالنتیجة إذن أن الأئمة صلوات الله تعالی علیهم کانوا من خلال ذلک یبتغون تعلیم أتباعهم وترویضهم علی تحمل مصاعب الکتمان، وهو أمر لیس بهیّن واقعاً؛ لأنک تسمع من یشتم سیدک ومولاک وصی النبی الأعظم صلوات الله تعالی علیهم أجمعین وتسلم علیه وتضحک معه، وإن علم ما أنک من محبیه تعرضت للقتل هذا أمر یحتاج إلی مران ومتابعة لیکون ملکة عند المعاصرین لتلک الفترة العصیبة، ولولا هذه الفسحة لما کان للتشیع من أثر وإنما نحن ثمار تلک المجامیع التی کانت تستضعف مشرقاً ومغرباً و الله المستعان. أُولئِکَ عَلَیْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة:157)، فالسلام علیکم یا أتباع آل محمد یوم ولدتم ویوم تموتون ویوم ترجعون أو تبقون ویوم تبعثون أحیاء، علی ما دفعتم من أثمان باهضة لقاء إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی (الشوری:من الآیة23)، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ (التوبة: من الآیة111).
ومن الدوافع أیضاً مواساة الأئمة صلوات الله تعالی علیهم لأتباعهم وطرح شبهة کون التقیة نفاقاً - من أذهانهم - والتی یرمی بها المؤمنون لکی یخلعوا هذا الدرع الواقی بعد تعییرهم، فینکشف أتباع أهل البیت الأطهار أمام الآخرین فیقتلوا تحت أنواع التهم.
وبهذا النحو من التأکید وببرکته تکاثر الشیعة إلی ما نحن علیه الآن، فلم یستطع أحد أن
ص:165
یطفئ نور الله تبارک وتعالی یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ (التوبة:32).
وثمت أمر یجب ألا ننساه وقد قدمنا إلیه فی الباب الأول وهو أنّ الظالم عنوان عام، فقد یکون هناک حاکم یلبس قناع التشیع ویجور علی المسلمین وهو غیر بعید، بل هو أمر متوقع من کل غیر معصوم، وقد یکون لابساً قناع أحد المذاهب الأخری فیفعل ما فعله الأول وفی الحقیقة نجد أنّ کلاهما لا یمت إلی الدین بأی صلة، فیسیر المسلمون جمیعاً معه بالتقیة، أعاذ الله تعالی المسلمین منهما.
ص:166
من یراجع التاریخ الشیعی یجد فرقاً مالت عنه، لا أتصور خفاءها علی القراء ولو فی الجملة، فهناک الفطحیة والإسماعیلیة والنصیریة والواقفیة وغیرهم کثیر، بل نجد ذلک حتی فی تاریخنا المعاصر، حیث نسمع صیحات لهذا وذاک یدَّعون الانتساب إلی هذه المدرسة العظیمة، إلا أنه فی تصوری انتماء بالاسم فقط، نعم هناک تکفیر وإخراج من الملة والدین ولکن - ومع الأسف الشدید - من غیر تأمل کما یحصل مع قسم من الشیعة لمجرد الاختلاف فی المنهج.
وعجبت من الذین اقتدوا بمن اتهم علی بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیه بشرب الخمر، بل ادعی هذا الرجل بأنّ مسألة شرب الخمر کانت من الأمور المتأصلة فیه وفی باقی الصحابة، (1) بل یذکرون هذا الرجل بکل إجلال وتعظیم واحترام فی حین أنه لم یحترم البیت الذی تربی فیه الإمام علیه أفضل الصلاة والسلام.
والحقیقة أنّ - قسماً ولیس جمیعاً- من هؤلاء لیس لهم أیُّ علاقة بالتشیع بعد المیل عنه، فالتسمیة تطلق علیهم بعلاقة ما کان ولا یمکن قبول الانتساب بعد ذلک علیهم. کیف أنّ الأحزاب السیاسیة إذا انشق عنها فریق کان کل فریق له اتجاه وفکر یتبناه علی غیر ما کان علیه وإلا فلا یسمی منشقاً. ومثال ذلک أنّ فکر مدرسة أتباع المذاهب الإسلامیة الأربعة قائم علی أساس نظریة عدالة الصحابة وقبول خلافة من جاء بعد النبی صلوات الله تعالی علیه
ص:167
وآله، کما کان تسلسلهم من بعده، وکذلک علی أساس صحة کتابی البخاری ومسلم، فمن خرج عن ذلک ولو فی الجملة لا یرضون إطلاق اسم التسنن علیه، فکذا نحن الشیعة لا یمکن قبول دعوی کون هذه الفرق من الشیعة بتاتاً.
نعم،کان تمییز المنشقین عن أئمة أهل البیت صلوات الله تعالی علیهم إلی الإمام العسکری علیه أفضل الصلاة والسلام سهل یسیر، وأما فی زمن الغیبة فیحتاج إلی التأمل والتدبر فی أفکار ذلک الشخص أو التجمع أو الحزب أو المرجعیة، والنظر فی أهدافهم ومیولهم، وکلٌ یعرف نفسه بعد ذلک فی میوله هل نصّب لنفسه معصوماً غیر الأربعة عشر أم لا! وقد یدل علی نفسه بنفسه من خلال التشکیک بعقائد الشیعة والتعرض للأئمة والعقائد وغیر ذلک، ولا أرید أن أذکر الأسماء - عسی أن یعود إلی جادة الصواب، فلیس من ضامن لنفسه کی یتعرض لغیره و الله الموفق للخیرات -. وأما من کان من خارج التشیع فهو واضح. ولکن یبقی أمر مهم تجدر الإشارة إلیه، وهو أن هناک مدارس أخری وجدت فی قبال مدرسة التشیع لآل محمد صلوات الله تعالی علیهم أجمعین، ولکنّها تمتاز بالهدوء وقبول التعایش مع الآخرین والاعتراف بوجود هذه الطائفة کوجود مشروع قائم علی أسس ومبانٍ لا یمکن تجاهلها.
ومما یؤسف له أنّ هناک تیارات متشددة نشأت، همها التکفیر والتعرض للشیعة مرة بوجه خاص وأخری لهم وللمذاهب الأخری، ولکن بطریق مبطن ظاهره الود وباطنه العداء، ومن یراجع بعض الکتب والمؤلفات یجد البغض والعداء الحقیقیین قد ارتضعهما ضد التشیع لآل محمد صلوات الله تعالی علیهم وقد یلتمس العذر لبعض منهم، فقد یکون قد حمل فکرة خاطئة لیس لها من الواقع شیء.
ص:168
بعد التغییر الذی حصل فی إیران ثارت ثائرة دوائر الحقد علی الدین، وتحرکت أساطیلهم لشن حروب من جمیع الجهات فی نطاق حملة همجیة علی أتباع مدرسة آل محمد صلوات الله تعالی علیهم والسنة المحمدیة التی جاءتنا عنهم، حیث نسبت التهم التی طبل لها وزمر شخصیات لم یکن لها أی اسم فی الدین والتدیّن، وما کان ذلک إلا اجترار لتلک التهم التی توجهت إلینا عبر هذا التاریخ الطویل المریر، وتمّ دفع أموال طائلة لهذا الغرض، هذا فی إطار الحملة الفکریة، کل ذلک ولم یدع أحد أن هذه الدولة هی دولة العدل الإلهی ولم یقل أحد بعصمة القائم بالثورة، بل لا یرضی هو (قدس سره) أن یوصف بهذا الوصف، (1) ومع هذا ظهرت صیحات تدعی التشیع لضربه من الداخل وتمثلت هذه الحرکات بنشاطات لفلان وفلان ممن رمی الشیعة فی هذه الدولة بتهمة إنکار الإمام الحجة صلوات الله تعالی علیه وألف کتباً وخط مقالات تتضمن هذا المعنی لکی یضلل الناس، حیث توهم إنکار النص والمصیر إلی الشوری، ولکنه هو الذی تبنی إنکار الإمام الحجة صلوات الله تعالی علیه، ومشکلة صاحب هذه الأطروحة کانت ناتجة من خلافات تسربت إلی عقائده طلباً للرئاسة (2) فلما اختلف (3) معه
ص:169
انحرف عن جادة الصواب، والحقیقة فإنّ هذا ناشئ من سوء التوفیق - أعوذ بالله - فما هو ذنب الدین لتتحامل علیه وقد اختلفت مع شخص یماثلک فی عدم العصمة عن الوقوع فی الخطأ؟ وعلی کل فسأتطرق إلی ذلک فی کتاب غیر هذا إن سمح لی الوقت إن شاء الله تعالی. وقد رمی - هذا وغیره - الشیعة بالغلو بدوافع سیاسیة لا علاقة لها بالأمور العقائدیة إما ترشیحاً عن تلک الأخطاء التی سجلها عنده علی غیره أو مخالفة لهم لاستباحة حرماتهم.
وأما علی النطاق العسکری فمما لا یخفی علی عاقل فقد تم خوض حروب وتصفیات ضدنا ولم یقف إلی جانب المؤمنین المخلصین إلا الله تعالی وکفی بالله ولیاً وکفی بالله نصیراً.
وعن طریق الغزو الثقافی الغربی حاولت الدوائر المذکورة إدخال ثقافة التحلل الخلقی فی هذا المجتمع.
ولکن العنایة الإلهیة کانت بالمرصاد لجمیع محاولات التدمیر والهدم، وإن کانت هناک بعض الخسائر التی لا بد منها فی الواقع.
والنتیجة أنه اتضح مما تقدم أنّ هذا المبدأ - أعنی التقیة - کان متعرضاً للمد والجزر أن صح التعبیر، وذلک بحسب ما تقتضیه المصلحة الشرعیة. فهناک مواقف یتطلب فیها العمل بها، وهناک مواقف یتم فیها تقدیم الضحایا وإن کان الضحیة هو الإمام نفسه.
لا یمکن أن یعتبر الشیعة طبقة فیها نوع أناس یحیون تحت الظلم ویخضعون للظالمین تحت غطاء مبدأ التقیة.
وتمّ فتح باب العداء لمدرسة آل البیت صلوات الله تعالی علیهم وبأغطیة متعددة، وقد استحلت حرمات الشیعة علی أساس ذلک وطُورِدوا وعُذِّبوا وقُتِّلوا وطردوا من أعمالهم ووضائفهم عن طریق نسبة الغلو والتقیة والقول بالتحریف إلیهم وباقی التهم المثیرة للنفرة والاشمئزاز، من قبل الحرکات الهدامة المرتدیة لباس التشیع أو غیرها والتی همها الوحید إثارة الغبار.
ومما نسب إلیهم فیما یخص هذا البحث: أن التقیة تساوی النفاق.
فاتضح مما تقدم أنّ هدف التیارات المعادیة هو هدف سیاسی یتبنی إسقاط التشیع وأتباعه من بین المسلمین.
ص:170
ص:171
ص:172
من ینکر هذا المبدأ فعلیه أن یلتزم بلوازم باطلة قطعاً، وبیان ذلک أن الأمر ینتهی إلی:
العبث: وهو أن یأکل الظالمُ المظلومَ، والمؤمن سیکون اللقمة السائغة لأی متجبر یناله وینال منه متی یشاء قال تعالی: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما باطِلاً ذلِکَ ظَنُّ الَّذِینَ کَفَرُوا (صّ: من الآیة27)، وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما لاعِبِینَ (الأنبیاء:16)، أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً (المؤمنون: من الآیة115)، وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما لاعِبِینَ (الدخان:38). وکذلک عدم التفات المولی إلی إمکانیة انهیار هذا البناء الذی من أجله بعث الأنبیاء والرسل، ونصب أئمة الهدی وسخر له کل شیء. وأنه یفرط بالمؤمن من أجل ظاهر لا یساوی شیئاً وعدم الاکتراث بما فی باطنه من عقیدة خالصة. والأدلة القطعیة ترد کل ذلک - أعوذ بالله تعالی من ذلک کله.
ولما کان المؤمن هو أساس هذا البناء - وهو الدین - ومع عدم المؤمن ینتفی الدین، وکذلک لما کان بقاؤه ووجوده متعلقاً بهذه الرخصة - لأن دائرة تحرک الجائرین لا تحکمها أی قیم، فتسهل لهم عملیة فتنة المؤمنین، فقد یزل المؤمن أو یضعف إیمانه أو یقتل فی لحظة ما تحت ضغوط معینة -. وأما المؤمن فتحکمه الضوابط التی تمنعه من الرد بالمثل فی کثیر من الأحیان - حینئذ تتضح أهمیة التقیة ویأتی دورها، فأهمیتها لیست ناشئة من حیث هی تقیة، بل من حیث هی حفظ لهذا البناء المقدس، وإلا فستبقی الأرض بید الظالمین وأهل الجور والفساد وهذا خلاف الحکمة الإلهیة بالضرورة.
ص:173
ویتضح أیضاً أنها منحة من قبله تبارک وتعالی لعباده کما أجاز أکل المیتة عند المخمصة فکذلک هنا.
نعم، نحن لا ندعی إنّ هذا المبدأ خاص بالشیعة فقط، بل لیکن هذا المبدأ سیّالاً فی کل حالة یعتقد المکلف أنه علی حق فی دولة أو مجتمع ظالِمَینِ - وکما أسلفت من هو الذی علی الحق فی الواقع ونفس الأمر هذا مسکوت عنه هنا - علی أن السبب فی ظهور الشیعة فقط بالعمل بهذا الفرع هو تکالب سلاطین الجور علیهم، وهذا لا یعنی أنهم لم یستخدموها، وإلا فقد ظهر کیف استخدمها غیرهم من أتباع المذاهب من خلال ما تقدم.
کما سبق من إیراد الأدلة التی أباحت استخدام التقیة ومبدأ المداراة، فقد کان أول دلیل هو الذی جاء عن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله، فهل یجرؤ أحد علی نسبة ما اتهموا به الشیعة إلیه - وحاشا النبی - أو إلی المسلمین أو جمیعاً؟
فإن لم یجرؤ فمنشؤه إما:
1. عملاً بالتقیة، فتتوجه لهم نفس التهمة وتنطبق علیهم القاعدة التی أسسوها فیطلق علیهم وصف النفاق.
2. عدم مراعاة الدقة فی التعرض لأفکار الآخرین، فیوجب الخلل فی التدیّن واقعاً.
3. إنّ التقیة من حیث المبدأ صحیحة ولکنهم تورطوا فی تسمیتها نفاقاً.
ولغرض توضیح هذه النتیجة نحتاج إلی مقدمات:
المقدمة الأولی: جاء فی تعریف التقیة أنّها من التقوی ومن الوقایة، ومعلوم أنّ التقوی هی الإیمان والإیمان هو التقوی، والإیمان هو الدین والدین کله وقایة، فإنّه وقایة من النار ومن النجاسات ومن تسلیم المرء نفسه للهلاک اعتباطاً (وهو التقیة)، ومن أکل المحرمات (إلا فی المخمصة خوف الموت)، وهکذا یکون (الدین کله تقیة فما لهم ینکرون هذا الفرد منها).
ومن ثم فإنّ الأئمة - صلوات الله تعالی علیهم - بأسلوب الحکیم أتوا للمستمع بهذا اللفظ - الذی له أفراد متعددة - فمنها المعنی المتبادر إلی ذهن السامع. أو کما لو شکی شخص
ص:174
فقره، فتقول له: کلنا فقراء إلی الله - تعالی - ترغیباً أو مواساة، فینتهی الإشکال. ولما تقدّم قد یتحصل معنی قولهم صلوات الله تعالی علیهم مرّة التقیة کل الدین وأخری تسعة أعشاره، فکله وقایة من الفتنة عموماً أو خصوصاً فتأمل.
نعم، قد یُشکَل علی ذلک: بأنّهم صلوات الله تعالی علیهم کانوا فی مقام بیان حکم المعنی الأخص والعامل بها دون الأعم. وجوابه: إنّه لا بأس من الإتیان بالعام وإرادة العام بأفراده بضمنها الحصة الخاصة، فیکون المعنی: الدین کله تقیة فلا معنی لأن تکون حصة منها نفاق وأخری إیمان.
وإن لم تقبل هذه المقدمة کنتیجة من رأس فحینئذٍ نحتاج إلی بیان المقدمات التی تلی.
المقدمة الثانیة: وفیها أمران:
الأول: عند أهل النظر کل قضیة یجب أن یتوفر فیها رکنان الأول الموضوع والثانی المحمول. فإذا تمّ حمل العام علی الخاص من قبیل قولنا: (الأسد حیوان) فیطلق علی هذا النوع من الحمل ب- (الحمل الطبعی). وأما إذا کان العکس أی حمل الخاص علی العام من قبیل قولنا: (الحیوان إنسان) فهذا یطلق علیه ب- (الحمل الوضعی). وحیث إنّ الأول موافق للطبع سمی کذلک، وأنّ الثانِی لم یکن کذلک سمی بالوضعی. علی أن کلا الحملین صحیح ومفید علمیاً ولکل دلالته الخاصة به.
الثانی: طریقة أهل اللغة فی تألیف الجمل: فإن کل جملة تامة یجب أن یتوفر فیها رکنان الأول المسند والثانی المسند إلیه ویطلق علیهما رکنا الإسناد، ولا مانع من تقدّم أحدهما علی الآخر؛ نظراً لما یرید المتکلم إظهاره من أهمیة من خلال کلامه، وکلا الطریقین مفید وضعاً فضلاً عن ذلک دلالة أسلوب الحصر فلیراجع مفصلا فی محله، وإجمالاً وفی ما نحن فیه استخدام هذا الأسلوب بجعل أحد رکنی الإسناد منحصراً فی الآخر لبیان الأهمیة کذلک، هذا فی اللغة العربیة طبعاً وقد تتوفر هذه الخاصیة فی لغات أخری، ولکن أغلب اللغات لیس فیها جمل إسمیة، وتقتصر علی الفعلیة منها فقط علی التفصیل الذی فی محله من کون الفعل تاماً أو ناقصاً مساعداً.
المقدمة الثالثة: سبق أن تطرقنا فی الباب الخامس إلی أمر مهم فی شأن تأریخ الشیعة، وخلاصة ذلک: أنّ الأئمة صلوات الله تعالی علیهم کانوا بصدد خلق جو نفسی للموالی یتوقی من خلاله تنکیل المخالف المتجبر - وقید المتجبر یخرج المخالف المسالم.
ص:175
المقدمة الرابعة: وما تقدم فی المقدمة الثالثة لا یحصل إلا بإظهار أهمیة التقیة بمظهر تحرک المعنیین باتجاه الحفاظ علی أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وکذلک حفظ المجتمع من التآکل، وذلک عن طریق دلیل لفظی یخصها. وهذا الإظهار ستتبیّن وتتضح کیفیّته من خلال ما سیأتی لنتعرض إلی بیان الفروق بین ما تقدم من مفاهیم فی الباب الأول الفصل الأول منه وکذلک لبیان طریقة الحمل أو الإسناد بعد الاستفادة من المقدمات السابقة.
أولاً: علی ما جاء فی المقدمة الأولی لا إشکال أنّ المسألة محلولة من رأس، بأنّ التقوی إیمان وهی الدین وهما التقوی، نعم حصل تعویض لفظ بلفظ. وهذا کما ذکرت مبتنٍ علی قبول هذه المقدمة، وأما بخلافه فنحتاج إلی (ثانیاً) أدناه.
ثانیاً: بعد أن نجمع بین المقدمات الثانیة والثالثة والرابعة نصل إلی بیان أنواع الحمل، وکذلک طرق الإسناد وما هو المستفاد منها معنیً، ومنه ستتضح الفروق بین التقیة والمداراة وبین غیرهما:
التقیة والمداراة: التقیة والمداراة هما إظهار ما یعتقد المداری والمتقی بطلانه واستبطان ما یعتقد حقّیته - مع السکوت الآن فی هذا الکتاب عن قید کونه حقاً فی الواقع أم لا - ویقع ذلک فی الأقوال والأفعال.
ثم إنّ الشخص یبقی علی إیمانه ولا یمسه بسوء عند استخدامه التقیة، أی من دون تحمل أی إثم، بل قد یقع فی الإثم عند مخالفتهما.
ویصح إسناد أو حمل لفظ المتقی والمداری - تمشیاً مع اصطلاح العامة - علی المؤمن، وکذا العکس کقولنا: (المتقی مؤمن، المؤمن متقٍ)، کما یصح إطلاق الوصفین (التقیة والمداراة) علی وصف الإیمان وهو علیهما (التقیة إیمان، الإیمان تقیة) من باب الحمل الطبعی أو الوضعی أو من باب تقدیم المسند أو المسند إلیه.
ومن باب أولی یتضح عدم صحة حمل أو إسناد المداهنة والنفاق علی التقیة، فهی عکس النفاق کما سیتضح تماماً.
الإذاعة: هی الإظهار بشکل عام، فإذا کانت إظهاراً للحق فی مقام یشرِّع فیه الإخفاء تقیةً فهی ضدٌ للتقیة، أو فی مقام الکتمان فتکون ضداً له. ویصح حمل وصف الإذاعة علی المؤمن وعلی الإیمان، مقیّداً بحال کون الإذاعة مشروعة فقط، نعم قد تقع ضداً للکتمان أیضاً.
ص:176
ومما تقدّم یتضح أنه لا یصح حمل وصف الإذاعة علی شخص المتقی حال التلبس بوصف التقیة، وکذا الإسناد إلیه. وکذا ذات الوصفین أحدهما علی الآخر وله. بعبارة أخری أنه لا یصح الحمل والإسناد من حیث ارتکابهما أو من حیث هما طرداً وعکساً مطلقاً؛ لأنهما ضدان. ومن باب أولی عدم صحة ذلک مع المداهنة والنفاق، وإلا فإنه من باب حمل الإنسان علی الحجر أو العکس.
وارتکاب الإذاعة قد یوقع بالإثم ولکن لیس بالعنوان الأولی، بل لمخالفة مقام العمل بالتقیة أو الأمر بالکتمان، هذا إذا لم یرد النهی عنها، ومعه فیکون الاُثم بمخالفة النهی المشار إلیه وقد ورد.
المداهنة: أما المداهنة ومرادفاتها فهی معرفة الحق والإیمان به ومخالفته فی قول أوفعل أو فی کلیهما، وارتکابها یوقع فی الإثم بالعنوان الأولی، ولا یخرج المرتکب من دائرة الإیمان.
ویصح إطلاق المداهن علی شخص المؤمن أو المتقی لا من حیث هو متقٍ، بل من حیثیة أخری، فتقول: هذا المؤمن مداهن، ذمّاً لتصرف إدهان أوقع نفسه فیه، ولا یصح العکس (أی لا یصح قولنا: المداهن مؤمن ولا المداهن متقٍ) إلا مع اختلاف الحیثیة، وکذا لا یصح حمل وصف المداهنة علی وصف الإیمان أو التقیة من حیث هما ولا العکس.
النفاق: والنفاق هو معرفة الحق دون الإیمان به ومعرفة الباطل واعتناقه وإظهار الأول واستبطان الثانی، فیتضح أنه خلاف الإیمان، ومنه یتضح أیضاً أنه عکس التقیة تماماً؛ لأنها إخفاء الأول وإظهار الثانی بقیود ولیس دائماً.
ویصح حمل أو إسناد المداهن علی المنافق وکذا العکس (المنافق مداهن) و (المداهن منافق) ولکن مجازاً وتوسعاً من باب الذم والتشبیه.
ولا یصح إطلاق لفظ المنافق علی المؤمن أو المتقی فضلاً عن العکس، کما لا یصح حمل أحد الوصفین (التقیة أو الإیمان من جهة والنفاق من جهة أخری) علی الآخر، والمنافق أسوأ حالاً من الکافر والنفاق أشدّ من الکفر، قال تعالی: إِنَّ الْمُنافِقِینَ فِی الدَّرْکِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِیراً (النساء:145). نعم، عاملهم النبی صلوات الله تعالی علیه وآله معاملة المسلم رأفة بهم فی الدنیا، فهو مظهر اسم الرحمن، قال تبارک وتعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ (الأنبیاء:107)، وکذلک لظروف الدین الحنیف آنذاک و الله تعالی العالم بتشخیص المصلحة، وهو کذلک بإذن الله تعالی، حیث قال الله العزیز الحکیم: وَ ما کانَ
ص:177
لِرَسُولٍ أَنْ یَأْتِیَ بِآیَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ (الرعد:من الأیة38)، و لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلی صِراطِ الْعَزِیزِ الْحَمِیدِ (إبراهیم:من الآیة1)، وَ ما کانَ لَنا أَنْ نَأْتِیَکُمْ بِسُلْطانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ (إبراهیم:من الآیة11), وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ (فاطر: من الآیة32)، وَ ما کانَ لِرَسُولٍ أَنْ یَأْتِیَ بِآیَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ (غافر: من الآیة78).
المقدمة الخامسة: وفیها أمران:الأمر الأول: الفرق بین الحملین أو الإسنادین:
الأمر الثانی: الفرق بین الحملین أو طریقتِی الإسناد فی المعنی المستفاد من الأدلة:
أما الحمل أو الإسناد بالطریقة الأولی فهو معلوم؛ لأنه طبعی وذلک واضح لا یحتاج إلی بیان، فإنّ التقیة مسألة من مسائل الدین فکما أننا نقول الصلاة إیمان والزکاة مثلها فالتقیة کذلک، مثاله (الإنسان حیوان)، (الصلاة عبادتی).
وأما الحمل أو الإسناد بالطریقة الثانیة فهو تابع إلی بیان الأهمیة وکذا فی علم البلاغة من حیث التقدیم والتأخیر بین رکنی الإسناد (الدین المروءة).
ومن أراد إبطال ما قدّمناه فعلیه أن یغض النظر عن علمی المنطق والبلاغة من رأس، فإنّ من حقنا إن أردنا أن نشدد ونرکز علی أمر معین نحمله علی ما هو أعم منه، فکذا هنا عندما نقول: الإیمان الصلاة والإیمان الزکاة والدین الصلاة والدین التقیة ولا دین لمن لا تقیة أو لمن لا صلاة له وهکذا.
وأما قولهم علیهم أفضل الصلاة والسلام: (ولا دین لمن لا تقیة له) فهذا محمول علی عدة وجوه وکما یلی:-
الوجه الأول: إنّ منکرها منکر لتشریعها، ومن الواضح أنه إذا أنکر مکلف تشریعاً بعد ثبوته - والکلام فی الکبری، وأعنی بذلک مع التسلیم بتشریعها وهو صحیح - حکمه حکم من أنکر الضروری.
الوجه الثانی: إنّ من لا یعمل بها وقت وجوبها یکون ارتکاباً للمحرم، فیکون المکلف علی غرار (لایزنی المؤمن وهو مؤمن).
الوجه الثالث: إنّ من لا یعمل بها مع تشخیص الموقف ینصب النفی علی کمال الدین. (1) ونفی الکمال تکلم فیها القوم علی تفصیل فی کتبهم.
الوجه الرابع: للحث علی الأخذ بها والتشدید علی عدم ترکها حفاظاً علی أرواح المؤمنین.
ص:178
لما کانت نقاط الخلاف فی الأصول والفروع وفی الفروع عبادات ومعاملات کانت تسعة أعشار الدین أو کله فهی تابعة إما للظروف أو لترکیبة المجتمع. فمع الناصبی تکون کل الدین وأخری تسعة أعشاره، فلماذا نتمسک بحدیث کل الدین أو تسعة أعشاره فقط ونبدأ بالنقض لخلق الخلل المتوهم!!. وما سبق ذکره لیس معناه أن بین مذاهب المسلمین الأخری یوجد وفاق 100% وإلا ما تعددت، ولکن المستهدف من الخلاف هم الشیعة، وإلا فقد استخدمها أحمد ومالک عندما استهدفتهما السلطة.
وأما إنکارها فکإنکار الصوم وغیره من الضروریات کما مر فی الفرق بین الحملین، وهو الواقع لما مر من الأدلة التی أوردتها بهذا الصدد.
وأما کونها کل الدین فلأنها تبقی علینا فیبقی الدین، ومنه تکون هی الدین.
مما یؤسف له أنّ هناک إما خلط فی استخدام المصطلح أو تعمد استخدامه فی غیر موضعه؛ لغرض بثّ الفکرة الخاطئة وتثبیتها أو إذا فرضنا حمل هؤلاء القوم علی محمل حسن، فإنه استخدام المعنی اللغوی لا المصطلح الشرعی، وهذا مما یتضح من نقل أقوال بعضهم کما تری.
فقد جاء فی الجواب الصحیح لابن تیمیة: (1) «فعامة أهل الأرض مع محمد إما مؤمن به باطناً وظاهراً وهم أولیاء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون، وإما مسلمون له فی الظاهر تقیة وخوفاً من أمته وهم المنافقون».
وفی الصارم المسلول ابن تیمیة: (2) «إلی المفسدة فقال القاضی أبو یعلی وغیره وهو ممن أطلق الروایتین: التوبة غیر محکوم بصحتها بعد قدرة الإمام علیه؛ لجواز أن یکون إظهارها تقیة من الإمام والخوف من عقوبته...».
وفی مجموع الفتاوی ابن تیمیة: (3) « وَ لَمْ یَخْشَ إِلاَّ اللّهَ (التوبة:من الآیة18...) فإذا قیل الأعمال الظاهرة تکون من موجب الإیمان تارة وموجب غیره أخری کالتکلم بالشهادتین
ص:179
تارة، یکون من موجب إیمان القلب وتارة یکون تقیة کإیمان المنافقین، قال تعالی: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ (البقرة:8)»
وفی تفسیر الثعالبی: (1)
والحسن والسدی وغیرهم من المفسرین إن هذا الخدع هو أنّ الله تعالی یعطی لهذه الأمة یوم القیامة نوراً لکل إنسان مؤمن أو منافق، فیفرح المنافقون ویظنون أنهم قد نجوا، فإذا جاؤوا إلی الصراط طفیء نور کل منافق ونهض المؤمنون، فذلک قول المنافقین انظرونا نقتبس من نورکم، فذلک هو الخدع الذی یجری علی المنافقین، ثم ذکر سبحانه کسلهم فی الصلاة وتلک حال کل من یعمل کارهاً غیر معتقد فیه الصواب، بل تقیة أو مصانعة... .
وفی روح المعانی الالوسی: (2) «یحلفون أنهم مؤمنون مثلکم وَ ما هُمْ مِنْکُمْ (التوبة:من الآیة56) فی ذلک لکفر قلوبهم وَ لکِنَّهُمْ قَوْمٌ یَفْرَقُونَ (التوبة:من الآیة56) أی: یخافون منکم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشرکین فیظهرون الإسلام تقیة ویؤدونه بالأیمان الفاجرة... وفیه أیضاً: (3) «وإنما أعدوه کذلک؛ لأنهم لا ینفقونه احتساباً ورجاءً لثواب الله تعالی لیکون لهم مغنما وإنما ینفقونه تقیة». وفیه کذلک: (4) «مما لا یلیق بمقام النبوة والمانع من ذلک فیه علیه الصلاة والسلام عصمته کسائر الرسل الکرام علیهم السلام عن کتم الوحی المأمور بتبلیغه والخیانة فیه وترکه تقیة والمقصود من ذلک تحریضه».
وفی السیرة الحلبیة للحلبی: (5) «فأبی ذلک علیهم فنزل قوله تعالی: وَ أَنِ احْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ (المائدة:من الآیة49...) ومن الیهود من دخل فی الإسلام تقیه من القتل...».
بالجمع بین ما تقدّم وبین حدیث الرفع نصل إلی نتیجة مهمة وهی أنهم أرادوا محاسبتنا علی ما رفع عنا أصلاً. فهل یرضی بنفس النهج من یقوم بهذا الفعل لنفسه، وإن رضی بذلک فهل نصَّبَه الله تعالی المقیاس أم لا؟ فإذا عرف کل منا حده انتهت المشکلة. حینئذٍ نتساءل لماذا یتحول
ص:180
عنوان التقیة إلی النفاق؟ الجواب لرفع الحصانة الإسلامیة، فأولاً یبرهن علی عدم جوازها لک لأنک لست بمسلم، أو لا یجوز استخدامها مع المسلم وإلا کان المستخدم کافراً، عندها یرتفع الحاجز وتنتهی الحصانة فتستباح الحرمات. ولکن انتبه لنفسک، سوف یأتی یوم یتسلط علیک من یرفع حصانتک إما بسبب قتلک المؤمنین أو هکذا لمجرد السلطة أو الخلاف، فتستباح حرماتک فلماذا تضع نفسک هذا الموضع؟ لماذا تکفر الآخرین ثم تسمی من یکفرک (التکفیریون الجدد)؟ لماذا تضع غیرک بین خیار إما أن تصبر علی قتلک ونهب ثرواتک ومنحها إلی الفنانات والراقصات أبداً أو إذا صدر منک ردّ فعل فأنت الملیشیات یجب حلک وحلها... و الله عجیب. قل أنا أرید قتلک وأرید أن تبقی ساکتاً راضیاً بکل ما أرید.
جوابه فی قوله صلی الله تعالی علیه وآله:
«تفترق أمتی...»، (1)أخبر بدخول واحدة فی الجنة دون غیرها، فلیس لأحد أن یدعی حقیته ما لم یکن معصوماً؛ لئلا یقع فی إشکال هتک الحرم الثلاث الدم والعرض والمال، وما دمنا نؤمن بصدور هذا الحدیث فکل یری أنه علی الحق، وکل طائفة تقول بکفر غیرها، ولکن ثمت فرق بین من لا یقتل وبین من همه القتل والإبادة فأین هذه من تلک، وعلی هذا تترتب أمور منها أنّ معبود کل طائفة غیره فی الأخری؛ لأنه عند بعض له ید وعین والأخری لا تری ذلک، ونبی طائفة یبول واقفاً ویتأثر بالسحر وینطق بالکفر ویخطئ ویسهو ویصلی الظهر خمساً (2) وعند غیرها لیس کذلک، أما حکمهم فموکول إلی الله تعالی، ولکنّهم ألبوا علی الشیخ المفید (قدس) ونسوا أنفسهم. وعلی کل حال تنتفی تهمة النفاق بما ورد عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (3) «خالطوا الأبرار سراً وخالطوا الفجار جهاراً ولا تمیلوا علیهم فیظلموکم...). وهذا فعل یناقض النفاق الذی هو العکس، فمن حکم ببطلانها آمن بنقیضها فیحکم بنفاقه ویبرأ غیره من هذه التهمة فافهم وتأمل. وأما الأبرار بموازین الشرع فهم کما ستعرف صفاتهم فی الفصل التالی من الباب، ولیس من تلبس بالخلافة الإسلامیة وشرب الخمور وقتل العباد الزهّاد وسرق أموال المسلمین
ص:181
وفتح البلدان بالسیف وشوّه صورة الدین ولم یلتفت إلی قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ (البقرة:من الآیة256)؟ فالدعوة إلی الدین بالخلق القویم وإذا اعتدی علینا نرد بالمثل قال تعالی: فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ ) (البقرة :من الآیة 194 ، ولسنا بحاجة إلی فاتح یقتل آل محمد صلوات الله تعالی علیهم، بل کما أوصی الصادق علیه السلام نفراً من الکوفة (1) فقال:
أوصیکم بتقوی الله والعمل بطاعته واجتناب معاصیه، وأداء الأمانة لمن ائتمنکم، وحسن الصحبة لمن صحبتموه، وأن تکونوا لنا دعاة صامتین. فقالوا: یا بن رسول الله، وکیف ندعو إلیکم ونحن صموت؟ قال: تعلمون ما أمرناکم به من العمل بطاعة الله، وتتناهون عما نهیناکم عنه من ارتکاب محارم الله، وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنکر، ولا یطّلع الناس منکم إلا علی خیر، فإذا رأوا ما أنتم علیه قالوا: هؤلاء الفلانیة، رحم الله فلاناً، ما کان أحسن ما یؤدب أصحابه، وعلموا فضل ما کان عندنا، فسارعوا إلیه، أشهد علی أبی محمد بن علی رضوان الله علیه ورحمته وبرکاته، لقد سمعته یقول: کان أولیاؤنا وشیعتنا فیما مضی خیر من کانوا فیه، إن کان إمام مسجد فی الحی کان منهم، وإن کان مؤذن فی القبیلة کان منهم، وإن کان صاحب ودیعة کان منهم، وإن کان صاحب أمانة کان منهم، وإن کان عالم من الناس یقصدونه لدینهم ومصالح أمورهم کان منهم، فکونوا أنتم کذلک، حببونا إلی الناس، ولا تبغضونا إلیهم.
وقال علیه السلام للمفضل: (2)
«أی مفضل قل لشیعتنا: کونوا دعاة إلینا بالکفّ عن محارم الله، واجتناب معاصیه واتباع رضوانه، فإنهم إذا کانوا کذلک کان الناس إلینا مسارعین» وعن المفضل قال: «قال لی أبو عبد الله علیه السلام : إنما شیعة جعفر من کفّ لسانه، وعمل لخالقه حتی یکون کالحنیة من کثرة الصلاة، وکالصافی من الصیام، وکالأخرس من طول السکوت».
ص:182
التقیة کحکم شرعی هو مشروع تکاملی من جهات ثلاث، الأولی من جهة العلاقة مع الله تعالی، والثانیة من جهة العلاقة مع النفس، والثالثة من جهة العلاقة مع الناس، لذلک لا یمکن أن یعطل. ویستشف هذا من مجمل الشرع الإسلامی کدستور کامل ینظر إلیه بلحاظ کمالیته، فلا یمکن أن نستل هذا الحکم من الدستور ونحکم علیه بالنقص، لأنه سیکون ناقصاً فعلاً علی الأقل فی وقت ما، ولکن باجتماعه مع غیره من الأحکام - وهذا اللحاظ هو الصحیح - یحکم علیه ببقائه.
وکل ذلک یکمن فی کتم السر عن الآخرین مع التحلی بخلق ینهی عن إضمار نیة الشر - کما مر سابقاً - فضلاً عن الاعتداء، ویأمر بالنصیحة والدعاء وقضاء الحاجات للآخرین والرفق بهم والعیش معهم بسلام، وکل ما تقدم یمکن أن تجده فیما یأتی من بحوث، فتابع علی برکة الله تعالی.
الخفاء یعنی السر وهو بشکل عام یقیک السمعة والریاء والمدح والإطراء، وإلا فقد یقع الإنسان فی شراک الشرک الخفی، فإنّ ما تقدّم من أعظم المشاکل التی تواجه المؤمن، ومما یُمَکِّنُ التخلص مما ذکرت أمور منهنّ الریاضات، وهذا أمر قد یکون صعباً إن لم یکن هناک ما یدفعه نحو ذلک، فیحتاج المرتاض إلی الثانی منهنّ، وهو التوفیق والثالث منهنَّ وهو التکلیف بذلک من الله تعالی، ومع هذا کله تجد قول العزیز الحکیم تعالی: وَ ما یُؤْمِنُ أَکْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِکُونَ (یوسف:106).ومما یحث علی ذلک ما عن أبی عبد الله علیه السلام
ص:183
قال: (1) «قال الله تعالی:إنّ من أغبط أولیائی عندی عبداً مؤمناً ذا حظ من صلاح، أحسن عبادة ربه وعَبَدَ الله فی السریرة، وکان غامضاً فی الناس، فلم یشر إلیه بالأصابع، وکان رزقه کفافاً، فصبر علیه فعجلت به المنیة. فقل تراثه، وقلت بواکیه». وقال رسول الله صلی الله علیه وآله: (2)
«ثلاث منجیات، وثلاث مهلکات: فأما المنجیات: فخوف الله فی السر والعلانیة، والعدل فی الغضب والرضا والقصد فی الغنی والفقر.وأما المهلکات:فشح مطاع، وهوی متبع، وإعجاب المرء بنفسه». وعن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: (3)
«جمع خیر الدنیا والآخرة فی کتمان السر، ومصادقة الأخیار، وجمع الشر فی الإذاعة، ومؤاخاة الأشرار».
وقد علمت أول الکتاب ما جاء فی الحدیث القدسی:
وإنّ من عبادی المؤمنین لمن یشتهی الباب من العبادة فأکفه عنه لئلا یدخله عجب فیفسده ذلک وإنّ من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا الغنی ولو أفقرته لأفسده، وإنّ من عبادی المؤمنین لمن لا یصلحه إلا... إنی أدبر عبادی بعلمی بقلوبهم إنی علیم خبیر).
والآخر: «وعزتی وجلالی وعلوی وبهائی وجمالی وارتفاع مکانی لا یؤثر عبد هوای علی هوی نفسه إلا أثبت أجله عند بصره، وضمنت السماء والأرض رزقه وکنت له من وراء تجارة کل تاجر». فالله تعالی هو أعلم بما یصلح باطن المؤمن فیختار له ما یصلحه، ولو کان المؤمن یظهر کل عمل یقوم به یمتدح علیه لأصابه العجب، فیدخله الریاء لیفسد باطنه. ولو أنّ المؤمن أظهر ما عنده من علم أو عمل ظناً منه أنّ فی ذلک شجاعة بینما یکون أصله ریاء وتهور واندفاع وفتنة إلی غیره یسبب تناحر المجتمع وتحاسده وتآکله، لکان کل ذلک قربة لا إلی الله تعالی، بل لغرض آخر کحب الظهور والأخیر یؤدی إلی الهلکة أعاذنا الله تعالی منها. ثم إنّ الإیمان علی درجات کما بین أهل البیت صلوات الله تعالی علیهم أتباعهم، فعن (4) عبد العزیز القراطیسی قال:
قال لی أبو عبد الله علیه السلام : یا عبد العزیز، إنّ الإیمان عشر درجات بمنزلة السلم یصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا یقولنّ صاحب الاثنین لصاحب الواحد لست علی شیء حتی ینتهی إلی العاشر، فلا تسقط من هو دونک فیسقطک من هو فوقک، وإذا رأیت من هو أسفل منک بدرجة فارفعه إلیک برفق ولا تحملنّ علیه ما لا یطیق فتکسره، فإنّ من کسر مؤمناً فعلیه جبره.
ص:184
فالتقیة والکتمان المأمور بهما عملیة غرضها بناء الإنسان والمجتمع ظاهراً وباطناً، وهذه غایة صنع الإنسان الخلیفة: إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً (البقرة:من الآیة30). وجاء عن أبی عبدالله علیه السلام قوله: (1)
إن الله تعالی جعل الدین دولتین دولة لآدم علیه السلام ودولة لإبلیس فدولة آدم هی دولة الله تعالی، فإذا أراد الله تعالی أن یعبد علانیة أظهر دولة آدم، وإذا أراد الله أن یعبد سراً کانت دولة إبلیس، فالمذیع لما أراد الله ستره مارق من الدین... . [أی خارج عن کمال الدین - کما ذکروا تعلیقاً علی الروایة-].
ومما ورد عن أبی الصباح الکنانی (2) أن بعض البلایا تصیب الإنسان المؤمن فی الدنیا لتخلصه من تبعات السمعة والشهرة، فقال:کنت عند أبی عبد الله علیه السلام فدخل علیه شیخ ،فقال: یا أبا عبد الله، أشکو إلیک ولدی وعقوقهم وإخوانی وجفاهم عند کبر سنی، فقال أبو عبد الله علیه السلام : یا هذا، إنّ للحق دولة وللباطل دولة وکل واحد منهما فی دولة صاحبه ذلیل وإنّ أدنی ما یصیب المؤمن فی دولة الباطل العقوق من ولده والجفاء من إخوانه، وما من مؤمن یصیبه شیء من الرفاهیة فی دولة الباطل إلا ابتلی قبل موته، إما فی بدنه وإما فی ولده وإما فی ماله حتی یخلّصه الله مما اکتسب فی دولة الباطل ویوفر له حظه فی دولة الحق فاصبر وأبشر.
فیتضح أنّ کل ما یصیب المؤمن من رفاهیة وسمعة وثقل فی المجتمع یدفع ثمنه مما یصیبه لکی یصل إلی الله تعالی نقیاً، فاختر لنفسک ما ترید.
وقد ورد عنهم صلوات الله تعالی علیهم ما یحذر من الریاء والسمعة، إما عن طریق الدعاء أو النهی عن ذلک صراحة. فها هو السجاد صلوات الله تعالی علیه فی صحیفته یطلب منه تعالی أن یبعده عنهما فقال: «اللهم إنی أسألک إیماناً لا أجل له دون لقائک، أحینی ما أحییتنی علیه، وتوفنی إذا توفیتنی علیه، وابعثنی إذا بعثتنی علیه، وأبرأ قلبی من الریاء والشک، والسمعة فی دینک حتی یکون عملی خالصاً لک»، (3) و «اللهم إنی أعوذ بک من الغفلة والقسوة والعیلة والذلة والمسکنة، وأعوذ بک من الکفر والفقر، ومن وسوسة الصدر وتشتیت الأمر، وأعوذ بک من الریاء والسمعة...»، (4) و: «اللهم إنی أعوذ بک من الریاء والسمعة والکبریاء والتعظیم والخیلاء والفخر والبذخ والأشر والبطر والإعجاب بنفسی...»، (5) و: «وأعذنا من الفشل
ص:185
والکسل والعجز، والعلل والضرر، والضجر والملل، والریاء والسمعة...»، (1) و:
اللهم صل علی محمد وآل محمد واجعلنی وجمیع إخوانی بک مؤمنین، وعلی الإسلام ثابتین، ولفرائضک مؤدین، وعلی الصلوات محافظین، وللزکاة فاعلین، ولمرضاتک مبتغین، وللإخلاص مخلصین، ولک ذاکرین، ولسنة نبیک صلواتک علیه وعلی آله متبعین، ومن عذابک مشفقین، ومن عدلک خائفین، ولفضلک راجین، ومن الفزع الأکبر آمنین، وفی خلق السماوات والأرض متفکرین، ومن الذنوب والخطایا تائبین، وعن الریاء والسمعة منزهین. (2)
هذا کله فی جانب العبادة والتقرب إلی الله تعالی، ناهیک عن المضار الأخری فی باقی شؤون الحیاة من خلال الإذاعة التی فی غیر محلها، تعلمها من خلال عرض أقسام السر فتابع لاحقاً.
یمکن تصنیف السر إلی ثلاثة: الأول منهن منّ جهة العلم أو المعرفة، (3) والثانی من جهة العمل، والثالث عام وهو ما یخص صاحب السر من شؤون حیاته الأخری. أما القسمین الأولین فلله رب من الریاء وأقرانه وکما مرّ وهما عبادیان من جهة ورفق بالآخرین من جهة أخری، وأما الثالث فلمنع الوقوع فی المصائد المعدة للغافلین أو المغفلین. ویمکن أن یشمل الأخیر جمیع الأقسام، ولکن التفصیل فیه فائدة کما ستطّلع إن شاء الله تعالی.
وقد وردت فی ذلک الآیة المبارکة مبینة هذا الأمر وحثت روایات علی الکتمان، فقول الله تعالی: وَ فَوْقَ کُلِّ ذِی عِلْمٍ عَلِیمٌ (یوسف:من الآیة76)، و قال رسول الله صلی الله تعالی علیه وآله:
«نحن معاشر الأنبیاء أمرنا أن نکلم الناس علی قدر عقولهم» ، وکما جاء فی مقدمة مسلم:عن عَبْدِ اللهبْنَ مَسْعُودٍ قَالَ:
«مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِیثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا کَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً». (4)وجاء کذلک عن عائشة أنها قالت: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله]
ص:186
وَسَلَّمَ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ مَعَ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ قَوْلِ الله تَعَالَی: وَ فَوْقَ کُلِّ ذِی عِلْمٍ عَلِیمٌ ». و: «ما حدث أحد قوماً بحدیث لم تبلغه عقولهم إلا کان فتنة علیهم»، 1 ولو لم تکن التقیة إلا هنا فهو دلیل کاف علی ضرورة الکتمان والتقیة علی حد سواء، فإن الآیة والروایة بیّنتا أنّ فوق کل ذی علم هناک علیم، ولو تساووا فی العلم لما کان هناک ذو علم وعلیم، ویبقی قسم من علم العلیم الذی هو فوق الأول محجوب عنه لسبب ما، وأحد الأسباب أن یکون فتنة له فیخفی العلیم عمن تحته لمصلحته هو ومصلحة الآخرین. ولو رجعت إلی مدرسة القرآن الکریم لحکمت بنفسک، فراجع ما جری بین موسی وهو نبی من أنبیاء أولی العزم وبین العبد الصالح علی نبینا وآله وعلیهما وعلی جمیع المصطفین الأخیار أفضل الصلاة والسلام فی سورة الکهف المبارکة. وقد ذُکِرت التقیة یوماً عند الإمام علی بن الحسین علیه السلام فقال: (و الله لو علم أبو ذر ما فی قلب سلمان لقتله ولقد آخی رسول الله صلی الله علیه وآله بینهما، فما ظنکم بسائر الخلق؟ إن علم العالم صعب مستصعب لا یحتمله إلا نبی مرسل أو ملک مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإیمان قال: وإنما صار سلمان من العلماء لأنه أمرؤ منا أهل البیت علیهم السلام فلذلک نسبه إلینا. 2 وعن أبی عبد الله علیه السلام قال:
اتقوا الله علی دینکم، واحجبوا بالتقیة، فإنه لا إیمان لمن لا تقیة له، إنما أنتم فی الناس کالنحل فی الطیر، لو أنّ الطیر تعلّم ما فی جوف النحل ما بقی فیها شیء إلا أکلته، ولو أنّ الناس علموا ما فی أجوافکم أنکم تحبوننا أهل البیت لأکلوکم بألسنتهم ولنحلوکم فی السر والعلانیة، رحم الله عبداً منکم کان علی ولایتنا. 3
فهی الدرع الواقی للمؤمن، حیث قال أبو عبد الله علیه السلام :
«إنّ أبی کان یقول: ما من شیء أقر لعین أبیک من التقیة» . وزاد فیه الحسن بن محبوب، عن جمیل أیضاً قال:
«التقیة جنة المؤمن». 4وعن زید 5 قال:
ص:187
قلت لأبی عبد الله علیه السلام : نخشی أن لا نکون مؤمنین! قال: ولم ذاک؟ فقلت: وذلک أنّا لا نجد فینا من یکون أخوه عنده آثر من درهمه ودیناره ونجد الدینار والدرهم آثر عندنا من أخ قد جمع بیننا وبینه موالاة أمیر المؤمنین علیه السلام ، فقال: کلا إنکم مؤمنون ولکن لا تکملون إیمانکم حتی یخرج قائمنا فعندها یجمع الله أحلامکم فتکونون مؤمنین کاملین، ولو لم یکن فی الأرض مؤمنین کاملین إذاً لرفعنا الله إلیه وأنکرتکم الأرض وأنکرتکم السماء، بل والذی نفسی بیده إن فی الأرض فی أطرافها مؤمنین ما قدر الدنیا کلها عندهم تعدل جناح بعوضة، ولو أنّ الدنیا بجمیع ما فیها وعلیها ذهبة حمراء علی عنق أحدهم ثم سقط من عنقه ما شعر بها أی شیء کان علی عنقه ولا أی شیء سقط منه لهوانها علیهم، فهم الخفی عیشهم المنتقلة دیارهم من أرض إلی أرض الخمیصة بطونهم من الصیام، الذبلة شفاههم من التسبیح، العمش العیون من البکاء، الصفر الوجوه من السهر، فذلک سیماهم ضربه الله مثلا فی الإنجیل لهم وفی التوریة والفرقان والزبور والصحف الأولی وصفهم فقال: سِیمَاهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِکَ مَثَلُهُمْ فِی التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِی الْأِنْجِیلِ. (1)
وقدعنی بذلک صفرة وجوههم من سهر اللیل، هم البررة بالإخوان فی حال الیسر والعسر، المؤثرون علی أنفسهم فی حال العسر کذلک وصفهم الله فقال:
وَ یُؤْثِرُونَ عَلی أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ کانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، (2) فازوا والله وافلحوا، إن رأوا مؤمناً أکرموه، وإن رأوا منافقا هجروه، إذا جنهم اللیل اتخذوا أرض الله فراشاً والتراب وساداً واستقبلوا بجباههم الأرض یتضرعون إلی ربهم فی فکاک رقابهم من النار، فإذا اصبحوا اختلطوا بالناس لم یشر إلیهم بالأصابع، تنکبوا الطرق واتخذوا الماء طیباً وطهوراً، أنفسهم متعوبة وأبدانهم مکدورة والناس منهم فی راحة، فهم عند الناس شرار الخلق وعند الله خیار الخلق.
إن حدثوا لم یصدقوا وإن خطبوا لم یزوجوا، وإن شهدوا لم یعرفوا، وإن غابوا لم یفقدوا، قلوبهم خائفة وجلة من الله، ألسنتهم مسجونة وصدورهم وعاء سر الله، إن وجدوا له أهلاً نبذوه إلیه نبذاً، وإن لم یجدوا له أهلاً ألقوا علی ألسنتهم أقفالاً غیبوا مفاتیحها وجعلوا علی أفواههم أوکیة صلباً صلاب أصلب من الجبال لا ینحت منهم شیء، خزان العلم ومعدن الحلم والحکم وأتباع النبیین والصدیقین والشهداء والصالحین، أکیاس یحسبهم المنافق خرساء وعمیا وبلهاء وما بالقوم من خرس ولا عمی ولا بله، إنهم لأکیاس فصحاء حلماء حکماء أتقیاء بررة صفوة الله، أسکنتهم الخشیة لله وأعیتهم ألسنتهم خوفاً من الله وکتمانا لسره، فوا شوقاه إلی مجالستهم ومحادثتهم، ویا کرباه لفقدهم، ویا کشف کرباه لمجالستهم، اطلبوهم فإن
ص:188
وجدتموهم واقتبستم من نورهم اهتدیتم فزتم بهم فی الدنیا والآخرة هم أعزّ فی الناس من الکبریت الأحمر، حلیتهم طول السکوت بکتمان السر والصلاة و الزکاة والحج والصوم والمواساة للإخوان فی حال الیسر والعسر، فذلک حلیتهم ومحبتهم یا طوبی لهم وحسن مآب، هم وارث الفردوس خالدین فیها ومثلهم فی أهل الجنان مثل الفردوس فی الجنان، وهم المطلوبون فی النار المحبورون فی الجنان، فذلک قول أهل النار: ما لَنا لا نَری رِجالاً کُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ، (1) فهم أشرار الخلق عندهم فیرفع الله منازلهم حتی یرونهم فیکون ذلک حسرة لهم فی النار، فیقولون یا لیتنا نرد فنکون مثلهم فلقد کانوا هم الأخیار وکنا نحن الأشرار فذلک حسرة لأهل النار.
وعن أبی عبد الله علیه السلام : فی قول الله: وَ یَقْتُلُونَ الْأَنْبِیاءَ بِغَیْرِ حَقٍّ ، (2) فقال: «أما و الله ما قتلوهم بالسیف ولکن أذاعوا سرهم وأفشوا علیهم فقتلوا». وعن إسحاق بن عمار قال: «تلا أبو عبد الله علیه السلام هذه الآیة: ذلِکَ بِأَنَّهُمْ کانُوا یَکْفُرُونَ بِآیاتِ اللّهِ وَ یَقْتُلُونَ النَّبِیِّینَ بِغَیْرِ الْحَقِّ ذلِکَ بِما عَصَوْا وَ کانُوا یَعْتَدُونَ ، (3) فقال: و الله ما ضربوهم بأیدیهم ولا قتلوهم بأسیافهم ولکن سمعوا أحادیثهم فأذاعوها فأخذوا علیها، فقتلوا فصار ذلک قتلاً واعتداء ومعصیة». وعن أبی بصیر (4) قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن حدیث کثیر فقال: هل کتمت علیّ شیئاً قط؟ فبقیت أتذکر، فلما رأی ما بی قال: أما ما حدثت به أصحابک فلا بأس، إنما الإذاعة أن تحدث به غیر أصحابک». وعن الرضا علی بن موسی علیهما السلام قال: (5) «لا یکون المؤمن مؤمناً حتی یکون فیه ثلاث خصال: سنة من ربه، وسنة من نبیه، وسنة من ولیه. فأما السنة من ربه فکتمان السر، قال الله تعالی: عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً* إِلاّ مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ ، (6) وأما السنة من نبیه فمداراة الناس فإن الله تعالی أمر نبیه صلی الله علیه وآله بمداراة الناس فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ ، (7) وأما السنة من ولیه فالصبر علی البأساء والضراء یقول الله تعالی: وَ الصّابِرِینَ فِی الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِینَ الْبَأْسِ أُولئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ . (8)
ص:189
قد یشمل هذا القسم جانب المستحبات نسبة کبیرة منه، ولقد ورد فی ما یشیر إلی ذلک من الروایات کالتی حثت علی التصدق فی السر، وعن رسول الله صلوات الله تعالی علیه وآله لأبی ذر رحمه الله : (1) «یا أبا ذر، اذکر الله ذکراً خاملاً، قلت:یا رسول الله وما الذکر الخامل؟قال: الذکر الخفی». وعن أمیر المؤمنین علیه السلام : (2) «من ذکر الله تعالی فی السر فقد ذکر الله کثیراً إن المنافقین کانوا یذکرون الله علانیة ولا یذکرونه فی السر، فقال الله تعالی: یُراؤُنَ النّاسَ وَ لا یَذْکُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِیلاً ». (3) وعن أبی عبد الله عن، أبیه علیهما السلام قال: (4)
«قال رسول الله صلی الله علیه وآله:صدقة السر تطفئ غضب الرب» . وعن عمار الساباطی قال: (5) «قال لی أبو عبد الله علیه السلام : یا عمار، الصدقة و الله فی السر أفضل من الصدقة فی العلانیة، وکذلک و الله العبادة فی السر أفضل منها فی العلانیة».
وغالباً ما یکون هذا القسم فیما یخص عامة أمور الإنسان، فمن کلام لأمیر المؤمنین علیه السلام مع کمیل رحمه الله : (6)
یا کمیل، لا تطرق أبواب الظالمین للاختلاط بهم والاکتساب معهم، وإیاک أن تعظمهم وأن تشهد فی مجالسهم بما یسخط الله علیک، وإن اضطررت إلی حضورهم فداوم ذکر الله والتوکل علیه واستعذ بالله من شرورهم وأطرق عنهم وأنکر بقلبک فعلهم واجهر بتعظیم الله تسمعهم، فإنک بها تؤید وتکفی شرهم. یا کمیل؛ إنّ أحب ما تمتثله العباد إلی الله بعد الإقرار به وبأولیائه التعفف والتحمل والاصطبار. یا کمیل، لا ترِ الناس إقتارک واصبر علیه احتساباً بعز وتستر. یا کمیل، لا بأس أن تعلم أخاک سرک، ومن أخوک؟ أخوک الذی لا یخذلک عند الشدیدة ولا یقعد عنک عند الجریرة ولا یدعک حتی تسأله ولا یذرک وأمرک حتی تعلمه، فإن کان ممیلا فأصلحه... .
ص:190
وعن زید قال: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: (1) (اکتم سرک عن کل أحد ولا یخرج سرک إلی اثنین فإنه ما جاوز الواحد فهو إفشاء، وإذا دفنت فی الأرض شیئاً تودعه الأرض فلا تشهد علیها شاهداً، فإنه لا تؤدی الأرض إلیک ودیعتک أبدا.).وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: (2)
إن المشورة لا تکون إلا بحدودها فمن عرفها بحدودها وإلا کانت مضرتها علی المستشیر أکثر من منفعتها له، فأولها أن یکون الذی یشاور عاقلا، والثانیة أن یکون حراً متدینا، والثالثة أن یکون صدیقا مآخیاً، والرابعة أن تطلعه علی سرک، فیکون علمه به کعلمک بنفسک، ثم یستر ذلک ویکتمه، فإنه إذا کان عاقلاً انتفعت بمشورته، وإذا کان حراً متدیناً جهد نفسه فی النصیحة لک، وإذا کان صدیقا مآخیا کتم سرک إذا أطلعته علی سرک، وإذا أطلعته علی سرک فکان علمه به کعلمک تمت المشورة وکملت النصیحة.
وعن معاویة بن وهب عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (3)
سمعته یقول: کان أبی علیه السلام یقول: قم بالحق ولا تعرض لما فاتک واعتزل ما لا یعنیک وتجنب عدوک، واحذر صدیقک من الأقوام إلا الأمین، والأمین من خشی الله، ولا تصحب الفاجر، ولا تطلعه علی سرک ولا تأتمنه علی أمانتک واستشر فی أمورک الذین یخشون ربهم.
وقال الصادق علیه السلام : (4)
«لا تثقنَّ بأخیک کل الثقة، فإنَّ صرعة الاسترسال لن تستقال». وقال علیه السلام لبعض أصحابه:
«لا تطلع صدیقک من سرک إلا علی ما لو اطّلع علیه عدوک لم یضرک، فإنّ الصدیق قد یکون عدواً یوماً ما». وعن أبی الحسن صلوات الله علیه قال: (5)
«إن کان فی یدک هذه شیء فإن استطعت أن لا تعلم هذه فافعل; قال: وکان عنده إنسان فتذاکروا الإذاعة، فقال: احفظ لسانک تعز، ولا تمکن الناس من قیاد رقبتک فتذل...»، وما ورد فی هذه الروایة کمثال، وإلا فإنّ فی حفظ اللسان العزة عند الناس والأهم عند الله تعالی فتدخل باقی الأقسام من خلال المثال فی مصادیق هذه الروایة المبارکة.
هم أهل خُلُقٍ حسن کونهم یتحملون الذین یُکذِّبونهم ویتحاملون علیهم، بل ویقتلونهم لما
ص:191
یحملونه من عقیدة، ومع ذلک کله لا یضمرون نیة الشر إلیهم، بل ویعظونهم ویوصون بالإحسان إلیهم.
أما فی القرآن الکریم فهاک قول الله تعالی: وَ لْیَعْفُوا وَ لْیَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ یَغْفِرَ اللّهُ لَکُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ (النور:من الآیة22)، قُلْ لِلَّذِینَ آمَنُوا یَغْفِرُوا لِلَّذِینَ لا یَرْجُونَ أَیّامَ اللّهِ لِیَجْزِیَ قَوْماً بِما کانُوا یَکْسِبُونَ (الجاثیة:14). وأما سیرة أهل البیت صلوات الله تعالی علیهم أجمعین فهذا أمیر المؤمنین علی علیه السلام قد أمر أصحابه فی معارکه التی خاضها ضد من عاداه فی الجمل وصفین والنهروان أن: (1) «إیاکم أن تبدؤوا القوم بقتال حتی یبدؤوکم حتی تلقوهم فتدعونهم فتسمعون منهم، ولا یجرمنّکم شنآنهم علی قتالهم قبل دعائهم والإعذار إلیهم مرة بعد مرة...» ولما قطعوا الماء عنه وعن أصحابه ثم استردوه بالسیف لم یمنعهم الإمام منه... وفی بعض ما قال: «لا تقاتلوهم حتی یقاتلوکم وأنتم بحمد الله علی حجة، وترککم قتالهم حجة أخری، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا علی جریح ولا تکشفوا عورة ولا تمثلوا بقتیل، وإذا وصلتم إلی رحال القوم فلا تهتکوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شیئاً من أموالهم ولا تهیجوا امرأة، وإن شتمن أعراضکم وسببن أمراءکم وصلحاءکم». فلم یتعامل مع أموالهم علی أنها غنائم ولا ذراریهم علی أنها من السبی... وحتی مع الخوارج لم یحکم فیهم بإباحة أموالهم وسبیهم وسبی أعراضهم، وکان یقول لهم قبل قتالهم: إنّ لکم علینا إن لا نمنعکم مساجدنا ولا حقکم من فیئنا... و لما قتله ابن ملجم قال: إن عشت فأنا ولیّ دمی، وقال: لا تقتلوا الرجل فإن برئت فالجروح قصاص وإن مت فاقتلوه، فقال: إنک میت قال: وما یدریک قال: کان سیفی مسموماً... وعن أبی أمامة قال:«شهدت صفین فکانوا لا یجهزون علی جریح ولا یطلبون مولیاً ولا یسلبون قتیلاً». (2) وفی السیل الجرار
ص:192
للشوکانی: (1) «وأخرج أیضاً عن أبی فاختة أنّ علیاً أتی بأسیر یوم صفین فقال: تقتلنی صبراً فقال: لا أقتلک صبراً إنی أخاف الله رب العالمین ثم خلی سبیله...» وفی الباب آثار کثیرة عن علی لأنه ابتلی بقتال البغاة علی اختلاف أنواعهم... وعن ابن الصباغ المالکی (2) روی عن سفیان قال:
جاء رجل إلی علی بن الحسین علیه السلام فقال له:إن فلانا قد وقع فیک بحضوری، فقال له: انطلق بنا إلیه، فانطلق معه الرجل وهو یری أنه یستنصر لنفسه، فلما أتاه قال له: یا هذا، إن کان ما قلت فیَّ حقاً فأنا أسأل الله تعالی أن یغفره لی، وإن کان ما قلت فیَّ باطلاً فأسأل الله تعالی أن یغفره لک.
وفی صفة الصفوة لابن الجوزی: (3) «وعن سفیان قال: جاء رجل إلی علی بن الحسین صلی الله علیه و آله فقال له: إنّ فلاناً قد آذاک ووقع فیک، قال: فانطلق بنا إلیه فانطلق معه وهو یری أنه سینتصر لنفسه، فلما أتاه قال: یا هذا، إن کان ما قلت فیَّ حقاً فغفر الله لی، وإن کان ما قلت فیَّ باطلاً فغفر الله لک» وعن أبی یعقوب المدنی قال:
کان بین حسن بن حسن وبین علی بن الحسین بعض الأمر، فجاء حسن بن حسن إلی علی بن الحسین وهو مع أصحابه فی المسجد فما ترک شیئاً إلا قاله له، قال: وعلیّ ساکت فانصرف حسن، فلما کان فی اللیل أتاه فی منزله فقرع علیه بابه، فخرج إلیه فقال له علی: یا أخی، إن کنت صادقاً فیما قلت لی فغفر الله لی، وإن کنت کاذبا فغفر الله لک السلام علیکم وولی، قال: فاتبعه حسن فالتزمه من خلفه وبکی حتی رثی له ثم قال: لا جرم لا عدت فی أمر تکرهه، فقال علی: وأنت فی حل مما قلت لی.
وفیه أیضاً: (4) «وکلمه رجل فافتری علیه فقال: إن کنا کما قلت فنستغفر الله، وإن لم نکن کما قلت فغفر الله لک، فقام إلیه الرجل فقبل رأسه وقال: جعلت فداک لیس کما قلت أنا فاغفر لی قال: غفر الله لک، فقال الرجل: الله أعلم حیث یجعل رسالته». وفیه کذلک: (5)
وعن عبد الغفار بن القاسم قال: کان علی بن الحسین خارجاً من المسجد فلقیه رجل فسبه فثارت إلیه العبید والموالی، فقال علی بن الحسین: مهلاً عن الرجل ثم أقبل علی الرجل فقال: ما ستر عنک من أمرنا أکثر ألک حاجة نعنیک علیها؟ فاستحیا
ص:193
الرجل فألقی علیه خمیصة کانت علیه وأمر له بألف درهم، فکان الرجل بعد ذلک یقول:أشهد أنک من أولاد الرسول.
وکذلک: «عن رجل من ولد عمار بن یاسر قال: کان عند علی بن الحسین قوم فاستعجل خادما له بشواء کان له فی التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً وسقط السفود من یده علی بنی لعلی أسفل الدرجة فأصاب رأسه، فقتله فقال علی للغلام: أنت حرّ لم تعمده وأخذ فی جهاز ابنه». وفی نفس المصدر (1) قال: «موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی أبو الحسن الهاشمی علیهم السلام، کان یدعی العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقیامه باللیل، وکان کریماً حلیماً إذا بلغه عن رجل أنه یؤذیه بعث إلیه بمال». وحمی الإمام علی بن الحسین صلوات الله تعالی علیهما نساء بنی أمیة وذراریهم بعد أن احتمی به مروان بن الحکم یوم الحرة، ولم یفعل بن عمر ذلک، وقد علم ما فعل هؤلاء بآل محمد صلوات الله تعالی علیهم. (2)
وفی الوصیة بحسن الخلق والمعاملة برفق جاء عنهم علیهم السلام: (3)
«مَنْ عامل بالرفق غنم»، «مَنْ عامل بالعنف ندم»، «مَنْ لانت کلمته وجبت محبته»، «مَنْ ساءت سیرته سرت منیته»، «مَنْ صبر خفت محنته»، «مَنْ داری الناس سلم»، «مَنْ أحسن إلی جواره کثر خدمه». فلا یکونن أحدنا سیئ الخلق، لأن ذلک أول ما یأتی علی صاحبه بالخسران، فقد جاء عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (4) «إن سوء الخلق لیفسد العمل کما یفسد الخل العسل»، وعنهم صلوات الله تعالی علیهم:
«مَنْ أساء خلقه عذب نفسه» ، وعن الرضا عن آبائه علیهم السلام قال:
«قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إن جبرائیل الروح الأمین نزل علیَّ من عند رب العالمین فقال: یا محمد، علیک بحسن الخلق فإنه ذهب بخیر الدنیا والآخرة، ألا وإن أشبهکم بی أحسنکم خلقا». وعن الصادق عن أبیه علیهما السلام قال:
«قال علی علیه السلام لأبی أیوب، الأنصاری: یا أبا أیوب ما بلغ من کرم أخلاقک؟ قال: لا أوذی جارا فمن دونه، ولا أمنعه معروفاً أقدر علیه، ثم قال علیه السلام : ما من ذنب إلا وله توبة، وما من تائب إلا وقد تسلم له توبته، ما خلا سیئ الخلق، لا یکاد یتوب من ذنب إلا وقع فی غیره أشر منه»، وکذلک عنهم صلوات الله تعالی علیهم:
«أبی الله تعالی
ص:194
لصاحب الخلق السیئ بالتوبة، قیل: وکیف ذاک؟ قال: لأنه لا یخرج من ذنب حتی یقع فیما هو أعظم منه»، وکذلک قال رسول الله صلی الله علیه وآله:
«خصلتان لا تجتمعان فی مسلم: البخل وسوء الخلق»، وعن أبی عبد الله علیه السلام قال:
«قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی وصیته لابنه محمد بن الحنفیة: إیاک والعجب وسوء الخلق وقلة الصبر، فانه لا یستقیم لک علی هذه الخصال الثلاث صاحب، ولا یزال لک علیها من الناس مجانب، والزم نفسک التودد». (1)وعن سفیان الثوری قال: (2)
لقیت الصادق بن الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام، فقلت له: یا بن رسول الله، أوصنی فقال لی: یا سفیان، لا مروءة لکذوب، ولا أخ لملول ولا راحة لحسود، ولا سؤدد لسیئ الخلق، فقلت: یا بن رسول الله زدنی، فقال لی: یا سفیان ثق بالله تکن مؤمناً، وارض بما قسم الله لک تکن غنیاً، وأحسن مجاورة من جاورته تکن مسلماً، ولا تصحب الفاجر فیعلمک من فجوره، وشاور فی أمرک الذین یخشون الله تعالی، فقلت: یا بن رسول الله، زدنی، فقال لی: یا سفیان، من أراد عزاً بلا عشیرة وغنی بلا مال وهیبة بلا سلطان فلینقل من ذل معصیة الله إلی عز طاعته، فقلت: زدنی یا بن رسول الله، فقال لی: یا سفیان، أمرنی والدی علیه السلام بثلاث ونهانی عن ثلاث، فکان فیما قال لی: یا بنی من یصحب صاحب السوء لا یسلم، ومن یدخل مداخل السوء یتهم، ومن لا یملک لسانه یندم، ثم أنشدنی علیه السلام :
عود لسانک قول الخیر تحظ به إن اللسان لما عودت یعتاد
موکل بتقاضی ما سننت له فی الخیر والشر فانظر کیف تعتاد
وقال أبو جعفر علیه السلام :
«فی حکمة آل داود ینبغی للمسلم أن یکون مالکاً لنفسه مقبلاً علی شأنه عارفاً بأهل زمانه...»، (3)فملک النفس هو حسن الخلق ومعاملة الآخرین برفق. ومن کلام له علیه السلام مع عنوان البصری: (4) «وأما اللواتی فی الحلم: فمن قال لک: إن قلت واحدة سمعت
ص:195
عشرا فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمک فقل له: إن کنت صادقاً فیما تقول فأسأل الله أن یغفر لی، وإن کنت کاذباً فیما تقول ف- الله أسأل أن یغفر لک، ومن وعدک بالخنی [أی الفحش] فعده بالنصیحة والرعاء».
ومن حسن خلق المؤمن الحلم والتغافل لا الغفلة، قال أمیر المؤمنین علیه السلام لهمام: (1)
یا همام، المؤمن هو الکیس الفطن، بشره فی وجهه، وحزنه فی قلبه، أوسع شیء صدراً وأذل شیء نفساً، زاجر عن کل فان، حاض علی کل حسن، لا حقود ولا حسود، ولا وثاب، ولا سباب، ولا عیاب، ولا مغتاب، یکره الرفعة ویشنأ السمعة،
ص:196
طویل الغم، بعید الهم، کثیر الصمت، وقور ذکور، صبور، شکور، مغموم بفکره، مسرور بفقره، سهل الخلیقة، لیّن العریکة، رصین الوفاء، قلیل الأذی، لا متأفک ولا متهتک. إن ضحک لم یخرق، وإن غضب لم ینزق، ضحکه تبسم، واستفهامه تعلم، ومراجعته تفهم. کثیر علمه، عظیم حلمه، کثیر الرحمة، لا یبخل، ولا یعجل، ولا یضجر، ولا یبطر، ولا یحیف فی حکمه، ولا یجور فی علمه، نفسه أصلب من الصلد، ومکادحته أحلی من الشهد، لا جشع ولا هلع ولا عنف ولا صلف... .
کما أمرنا أئمتنا الأطهار صلوات الله تعالی علیهم بالتغافل مداراةً للآخرین، قال أمیرالمؤمنین علیه السلام :
ذللوا أخلاقکم بالمحاسن، وقودوها إلی المکارم وعوّدوها الحلم، واصبروا علی الإیثار علی أنفسکم فیما تحمدون عنه قلیلاً من کثیر، ولا تداقوا الناس وزنا بوزن، وعظموا أقدارکم بالتغافل عن الدنیء من الأمور، وأمسکوا رمق الضعیف بالمعونة له بجاهکم إن عجزتم عما رجاه عندکم، فلا تکونوا بحاثین عما غاب عنکم فیکثر عائبکم، وتحفظوا من الکذب فإنه من أدنی الأخلاق قدراً، وهو نوع من الفحش وضرب من الدناءة، وتکرموا بالتعامی [وروی بالتعامس أی التغافل] عن الاستقصاء... . (1)
وعن مولانا الإمام السجاد لمولانا الباقر صلوات الله علیهما:
«یا بنی، إنّ صلاح الدنیا بحذافیرها فی کلمتین: إصلاح شأن المعایش ملأ مکیال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل، لأن الإنسان لا یتغافل إلا عن شیء قد عرفه ففطن له». (2)وقال أمیر المؤمنین علیه السلام :
«أشرف خصال الکرم غفلتک عما تعلم». (3)وعنه علیه السلام قال:
«إن العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل». (4)وعنه علیه السلام :
«تغافل یحمد أمرک». (5)وکذلک عنه علیه السلام :
«أشرف أخلاق الکریم تغافله عما یعلم». (6)وعنه علیه السلام :
«من أشرف أعمال [أحوال] الکریم غفلته عما یعلم». (7)وعن الإمام علی علیه السلام :
«من لم یتغافل ولا یغض عن کثیر من الأمور تنغصت عیشته». (8)و:
«لا حلم کالتغافل، لا عقل کالتجاهل». (9)
ص:197
ومن عظیم خلق الأئمة الأطهار صلوات الله تعالی علیهم أجمعین وصیتهم أتباعهم بالنظیر فی الخلق وبالأخ فی الدین وبالأخ فی الإیمان وبقضاء حوائجهم والدعاء لهم، بالرغم مما کانوا یلقونه ممن تسمی بالإنسانیة وبالدین وبالإیمان، فأی خلق کریم هذا الذی تحلوا به وأمروا به. ففی عهد أمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه لمالک الأشتر رحمه الله لما ولاه مصر کتب له مما کتب:
...وأشعر قلبک الرحمة للرعیة والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تکوننّ علیهم سبعاً ضاریاً تغتنم أکلهم، فإنهم صنفان إما أخ لک فی الدین وإما نظیر لک فی الخلق یفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ویؤتی علی أیدیهم فی العمد والخطأ، فأعطهم من عفوک وصفحک مثل الذی تحب أن یعطیک الله من عفوه وصفحه، فإنک فوقهم ووالی الأمر علیک فوقک، و الله فوق من ولاک... . (1)
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام : (2)
«ابذل لأخیک دمک ومالک، ولعدوک عدلک وإنصافک، وللعامة بشرک وإحسانک. سلم علی الناس یسلموا علیک». وعن أبی عبد الله علیه السلام (3) قال:
«قال رسول الله صلی الله علیه وآله: (4) فطرک لأخیک المسلم وإدخالک السرور علیه، أعظم أجراً من صیامک». وعنه علیه السلام قال: (5)
«قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «ما من رجل یدعو لأخیه بظهر الغیب إلا وکل الله به ملکا یقول له: ولک مثل ما دعوت لأخیک» . وعن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: (6)
«لا تبدی الشماتة لأخیک فیرحمه الله ویصیرها بک، وقال: من شمت بمصیبة نزلت بأخیه لم یخرج من الدنیا حتی یفتتن». وعنه علیه السلام قال: (7)
حق المسلم علی المسلم أن لا یشبع ویجوع أخوه، ولا یروی ویعطش أخوه، ولا یکتسی ویعری أخوه، فما أعظم حق المسلم علی أخیه المسلم، وقال: أحب لأخیک المسلم ما تحب لنفسک، وإن احتجت فسله، وإن سألک فأعطه، لا تمله خیراً، ولا یمله لک، کن له ظهراً فإنه لک ظهر إذا غاب فاحفظه فی غیبته، وإذا شهد فزره وأجله وأکرمه فإنه منک وأنت منه، فإن کان علیک عاتباً فلا تفارقه حتی تسل
ص:198
سخیمته [تنتزع غضبه] وإن أصابه خیر فاحمد الله، وإن ابتلی فاعضده، وإن تمحل له فأعنه، وإذا قال الرجل لأخیه: أف انقطع ما بینهما من الولایة، وإذا قال له: أنت عدوی کفر أحدهما، فإذا اتهمه انماث الإیمان فی قلبه کما ینماث الملح فی الماء.
أما الإمام السجاد علیه السلام فکان یقول: (1)
«إن الملائکة إذا سمعوا المؤمن یدعو لأخیه المؤمن بظهر الغیب أو یذکره بخیر قالوا: نعم الأخ أنت لأخیک تدعو له بالخیر وهو غائب عنک وتذکره بخیر قد أعطاک الله تعالی مثلی ما سألت له وأثنی علیک مثلی ما أثنیت علیه ولک الفضل علیه...» وقال أبو أیوب الأنصاری: (2) «یا رسول الله، أوصنی واقلل لعلی أن أحفظ، قال: أوصیک بخمس: بالیأس عما فی أیدی الناس، فإنه الغنی الحاضر، وإیاک والطمع، فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاة مودع، وإیاک وما تعتذر منه، وأحب لأخیک ما تحب لنفسک». وقال الصادق علیه السلام للمفضل: (3) «أوصیک بست خصال تبلغهنّ شیعتی، قلت:وما هن یا سیدی؟ قال: أداء الأمانة إلی من ائتمنک، وأن ترضی لأخیک ما ترضی لنفسک، واعلم أن للأمور أواخر، فاحذر العواقب، وأن للأمور بغتات، فکن علی حذر، وإیاک ومرتقی جبل سهل، إذا کان المنحدر وعراً، ولا تعدنّ أخاک وعداً لیس فی یدک وفاؤه». وعن (4) المفضل، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:
«أیّما مسلم لقی مسلما فسره سره الله تعالی». وعن (5) بکر بن محمد، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:
«ما قضی مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارک وتعالی: علیَّ ثوابک ولا أرضی لک بدون الجنة». وعن (6) إسحاق بن عمار، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:
«من طاف بهذا البیت طوافاً واحدا کتب الله تعالی له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سیئة، ورفع الله له ستة آلاف درجة حتی إذا کان عند الملتزم فتح الله له سبعة أبواب من أبواب الجنة، قلت له: جعلت فداک! هذا الفضل کله فی الطواف؟ قال: نعم وأخبرک بأفضل من ذلک، قضاء حاجة المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف حتی بلغ عشراً».
ص:199
وفی النهی عن معاداة الرجال قال (1) صلی الله علیه وآله:
«ما نهیت عن شیء بعد عبادة الأوثان ما نهیت عن ملاحاة الرجال». وقال (2) أمیر المؤمنین علیه السلام لبنیه: یا بنی، إیاکم ومعاداة الرجال فإنهم لا یخلون من ضربین: من عاقل یمکر بکم، أو جاهل یعجل علیکم، والکلام ذکر والجواب أنثی، فإذا اجتمع الزوجان فلا بد من النتاج ثم أنشأ یقول:
سلیم العرض من حذر الجوابا ومن داری الرجال فقد أصابا
ومن هاب الرجال تهیَّبُوه ومن حقر الرجال فلن یهابا
وعن (3) أبی عبد الله علیه السلام قال:
«إیاکم والخصومة، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق و تکسب الضغائن». وعن (4) الولید بن صبیح قال:
«سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ما عهد إلیّ جبرئیل علیه السلام فی شیء ما عهد إلیّ فی معاداة الرجال». وقال أبو عبد الله علیه السلام :
«من زرع العداوة حصد ما بذر». وعن (5) الصادق علیه السلام قال:
«إیاک وعداوة الرجال، فإنها تورث المعرة وتبدی العورة». وعنهم صلوات الله تعالی علیهم:
«أربعة القلیل منها کثیر: النار القلیل منها کثیر: والنوم القلیل منه کثیر، والمرض القلیل منه کثیر، والعداوة القلیل منها کثیر». وعن (6) أمیر المؤمنین علیه السلام :
«من استحلی معاداة الرجال استمر معاناة القتال»، و (7)
«من سوء الاختیار مغالبة الأکفاء و معاداة الرجال» ، و (8)
«معاداة الرجال من شیم الجهال» ، وقال (9) السجاد علیه السلام :
«لا تعادینّ أحداً وإن ظننت أنه لا یضرک، ولا تزهدنّ فی صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ینفعک، فإنک لا تدری متی ترجو صدیقک، ولا تدری متی تخاف عدوک، ولا یعتذر إلیک أحد إلا قبلت عذره وإن علمت أنه کاذب».
وأخیراً لم یطرد الإمام الصادق صلوات الله تعالی علیه من کان علی غیر ملة الإسلام ویحضر بین أهل الطواف، وکلمه بلطف ولم یقل له غادر المکان فأنت رجس نجس، ولم
ص:200
یأمر بقتله أو یتآمر علیه، فعن (1) أحمد بن محسن المیثمی قال:
کنت عند أبی منصور المتطبب فقال: أخبرنی رجل من أصحابی قال: کنت أنا وابن أبی العوجاء وعبد الله بن المقفع فی المسجد الحرام، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق - وأومأ بیده إلی موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانیة إلا ذلک الشیخ الجالس - یعنی أبا عبد الله جعفر بن محمد علیهما السلام - فأما الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبی العوجاء: وکیف أوجبت هذا الاسم لهذا الشیخ دون هؤلاء؟ قال: لأنّی رأیت عنده ما لم أره عندهم، فقال له ابن أبی العوجاء: لابد من اختبار ما قلت فیه منه، قال: فقال ابن المقفع: لا تفعل فإنی أخاف أن یفسد علیک ما فی یدک، فقال: لیس ذا رأیک ولکن تخاف أن یضعف رأیک عندی فی إحلالک إیاه المحل الذی وصفت، فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت علیَّ هذا فقم إلیه وتحفظ ما استطعت من الزلل، ولا تثنی عنانک إلی استرسال فیسلمک إلی عقال وسمه مالک أو علیک؟ قال: فقام ابن أبی العوجاء وبقیت أنا وابن المقفع جالسین، فلما رجع إلینا ابن أبی العوجاء قال: ویلک یا بن المقفع، ما هذا ببشر وإن کان فی الدنیا روحانی یتجسد إذا شاء ظاهراً ویتروح إذا شاء باطناً فهو هذا، فقال له: وکیف ذلک؟ قال: جلست إلیه فلما لم یبق عنده غیری ابتدأنی، فقال: إن یکن الأمر علی ما یقول هؤلاء وهو علی ما یقولون - یعنی أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم، وإن یکن الأمر علی ما تقولون - ولیس کما تقولون - فقد استویتم وهم، فقلت له: یرحمک الله، وأی شیء نقول وأی شیء یقولون؟ ما قولی وقولهم إلا واحد، فقال: وکیف یکون قولک وقولهم واحداً؟ وهم یقولون: إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً ویدینون بأن فی السماء إلها وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب لیس فیها أحد، قال: فاغتنمتها منه، فقلت له: ما منعه إن کان الأمر کما یقولون أن یظهر لخلقه ویدعوهم إلی عبادته حتی لا یختلف منهم اثنان ولم احتجب عنهم وأرسل إلیهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه کان أقرب إلی الإیمان به؟ فقال لی: ویلک وکیف احتجب عنک من أراک قدرته فی نفسک: نشؤک ولم تکن وکبرک بعد صغرک، وقوتک بعد ضعفک وضعفک بعد قوتک، وسقمک بعد صحتک وصحتک بعد سقمک، ورضاک بعد غضبک وغضبک بعد رضاک، وحزنک بعد فرحک وفرحک بعد حزنک، وحبک بعد بغضک وبغضک بعد حبک، وعزمک بعد أناتک وأناتک بعد عزمک، وشهوتک بعد کراهتک وکراهتک بعد شهوتک، ورغبتک بعد رهبتک ورهبتک بعد رغبتک، ورجاءک بعد یأس ویأسک بعد رجائک، وخاطرک بما لم یکن فی وهمک وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنک، وما زال یعدد علیَّ قدرته التی هی فی نفسی التی لا أدفعها حتی ظننت أنه سیظهر فیما بینی وبینه... .
ص:201
عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (1)
طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعیانهم وصفاتهم: صنف یطلبه للجهل والمراء، وصنف یطلبه للاستطالة والختل، وصنف یطلبه للفقه والعقل، فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار متعرض للمقال فی أندیة الرجال بتذاکر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع وتخلی من الورع فدق الله من هذا خیشومه، وقطع منه حیزومه وصاحب الاستطالة والختل، ذو خب وملق، ویستطیل علی مثله من أشباهه، ویتواضع للأغنیاء، من دونه، فهو لحلوائهم هاضم، ولدینه حاطم، فأعمی الله علی هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره، وصاحب الفقه والعقل ذو کآبة وحزن وسهر، قد تحنک فی برنسه، وقام اللیل فی حندسه، یعمل ویخشی وجلاً داعیاً مشفقاً، مقبلاً علی شأنه، عارفاً بأهل زمانه، مستوحشاً من أوثق إخوانه، فشد الله من هذا أرکانه، وأعطاه یوم القیامة أمانه... .
وأیضاً قال علیه السلام :
«خالطوا الأبرار سراً وخالطوا الفجار جهاراً ولا تمیلوا علیهم فیظلموکم، فإنه سیأتی علیکم زمان لا ینجو فیه من ذوی الدین إلا من ظنوا أنه أبله وصبّر نفسه علی أن یقال [له]: إنه أبله لا عقل له.. . (2) وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: طوبی لعبد نومة، عرفه الله ولم یعرفه الناس، أولئک مصابیح الهدی وینابیع العلم ینجلی عنهم کل فتنة مظلمة، لیسوا بالمذاییع البذر ولا بالجفاة المرائین..». (3)وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: (4)
قال أمیر المؤمنین علیه السلام : طوبی لکل عبد نومة لا یؤبه له، یعرف الناس ولا یعرفه الناس، یعرفه الله منه برضوان، أولئک مصابیح الهدی ینجلی عنهم کل فتنة مظلمة ویفتح لهم باب کل رحمة، لیسوا بالبذر المذاییع ولا الجفاة المرائین وقال:قولوا الخیر تعرفوا به واعملوا الخیر تکونوا من أهله ولا تکونوا عجلاً مذاییع، فإن خیارکم الذین إذا نظر إلیهم ذکر الله وشرارکم المشاؤون بالنمیمة، المفرقون بین الأحبة، المبتغون للبرآء المعایب... .
عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (5)
«طوبی لعبد نومة، عرف الناس فصاحبهم ببدنه ولم یصاحبهم فی أعمالهم بقلبه، فعرفهم فی الظاهر ولم یعرفوه فی الباطن..».
ص:202
إنّ أحد رکائز الإیمان هو الصبر، وهذا أمر مفروغ منه قرآنیاً، ویبحث عنه فی محله فی علم الأخلاق، فعن أبی عبد الله علیه السلام قال:
«أمر الناس بخصلتین فضیعوهما فصاروا منهما علی غیر شیء، کثرة الصبر والکتمان». (1)عن أبی عبد الله علیه السلام فی قول الله: أُولئِکَ یُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَیْنِ بِما صَبَرُوا (القصص: من الآیة54)، قال:
«بما صبروا علی التقیة» «وَیَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّیِّئَة» قال:
«الحسنة التقیة، والإذاعة السیئة». (2)وفی قول الله: وَ لا تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّیِّئَةُ (فصلت:من الآیة34)، قال:
«الحسنة التقیة، والسیئة الإذاعة» ، وقوله: اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ (فصلت:من الآیة34)، قال:
«التی هی أحسن: التقیة» ، فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ (فصلت:من الآیة34). (3)
فتلک آیات الحث علی الصبر والعفو وترک العداوة والبغضاء قال الله تعالی: قُلْ لِلَّذِینَ آمَنُوا یَغْفِرُوا لِلَّذِینَ لا یَرْجُونَ أَیّامَ اللّهِ لِیَجْزِیَ قَوْماً بِما کانُوا یَکْسِبُونَ (الجاثیة:14)، وَ لْیَعْفُوا وَ لْیَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ یَغْفِرَ اللّهُ لَکُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ (النور: من الآیة22)، وَدَّ کَثِیرٌ مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ لَوْ یَرُدُّونَکُمْ مِنْ بَعْدِ إِیمانِکُمْ کُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّی یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ (البقرة:109)، وَ لا تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّیِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ (فصلت:34)، وَ ما یُلَقّاها إِلاَّ الَّذِینَ صَبَرُوا وَ ما یُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِیمٍ (فصلت:35)، وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِینَ یَمْشُونَ عَلَی الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (الفرقان:63)، فمهمتنا هی مهمة الأنبیاء ولیس لنا أن نقتل کما نشاء ونفرض رأینا کما نشاء، هذا مع فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی (طه:44)، ومع الکفار وغیرهم: اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ (النحل:125)، اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ نَحْنُ
ص:203
أَعْلَمُ بِما یَصِفُونَ (المؤمنون:96)، وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْکِتابِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنّا بِالَّذِی أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُکُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنکبوت:46)، لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقی لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (البقرة:256)، وقال تعالی: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ حَتّی یَسْمَعَ کَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَعْلَمُونَ (التوبة:6) هذا مع المشرکین فکیف مع من أسلم، فهب أنک متعلم فهلا علَّمت کما أُمِرتَ فتکون من العلماء العاملین؟
فإن قیل: إنّ هؤلاء الرافضة أشدُّ من الیهود والنصاری. ویقولونها ورتبوا علیها آثار الکفر مِنْ قتلٍ واعتداءٍ علی الأعراض وتشرید وتعذیب وسرقة أموال.. فقد قال لغیره رسول الله صلوات الله تعالی علیه وآله من قبل: هلاّ شققت عن قلبه؟ ولکی یتذکر هؤلاء أنقل لهم ما حصل مع زید بن حارثة وخالد بن الولید.
أما زید بن حارثة فقد قتل من قال لا إله إلا الله، فلم تنفعه صحبته ومحله من النبی صلی الله تعالی علیه وآله، ولمّا وصل خبره إلی النبی صلی الله تعالی علیه وآله أنّبه، فقال:
«إنما قالها متعوذا قال: فهلا شققت عن قلبه!! قال ما کان یعلمنی، هل قلبه إلا مضغة من لحم؟ قال: فأنت قتلته لا ما فی قلبه علمت ولا لسانه صدقت؟ ثم قال: من لک ب- (لا إله إلا الله) یوم القیامة؟ قال: فما زال یکرر ذلک علیَّ حتی وددت أن أنی أسلمت یومئذ». (1)وفی قوله صلی
ص:204
الله تعالی علیه وآله هلاّ شققت عن قلبه دلیل علی أن الحکم إنما یجری علی الظاهر وأن السرائر موکولة إلی الله تعالی. ولم یقبل قوله إنما کان ذلک مخافة السلاح والقتل.. فمن لک ب- (لا إله إلا الله) أنت یا من تقتل المسلم أیاً کنت.
وأما خالد:
فعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِیهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِیُّ صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِیدِ إِلَی بَنِی جَذِیمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَی الْإِسْلَامِ، فَلَمْ یُحْسِنُوا أَنْ یَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا یَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ یَقْتُلُ مِنْهُمْ وَیَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَی کُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِیرَهُ حَتَّی إِذَا کَانَ یَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ یَقْتُلَ کُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِیرَهُ، فَقُلْتُ: وَ الله، لَا أَقْتُلُ أَسِیرِی وَلَا یَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِی أَسِیرَهُ حَتَّی قَدِمْنَا عَلَی النَّبِیِّ صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ فَذَکَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِیُّ صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ یَدَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّی أَبْرَأُ إِلَیْکَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَیْنِ. (1)
وعاب عبد الرحمن بن عوف علی خالد ما صنع، فقال: «یا خالد، أخذت بأمر الجاهلیة قتلتهم بعمک الفاکه قاتلک الله وأعانه عمر بن الخطاب علی خالد فقال خالد أخذتهم بقتل أبیک، فقال عبد الرحمن بن عوف کذبت (2) و الله، لقد قتلت قاتل أبی بیدی وأشهدت علی قتله...»
ص:205
وقال بعض أصحاب السیر: «إنما کان وجد عمر علیه فیما صنع بمالک ابن نویرة من قتله إیاه وتزوج امرأته (1) وما کان فی نفسه قبل ذلک من أمر بنی جذیمة..»
وفی أخری مع خالد:
بَعَثَ عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ رَضِی الله عَنْه إِلَی رَسُولِ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ مِنَ الْیَمَنِ بِذُهَیْبَةٍ فِی أَدِیمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، قَالَ: فَقَسَمَهَا بَیْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَیْنَ عُیَیْنَةَ بْنِ بَدْرٍ وَأَقْرَعَ بْنِ حابِسٍ وَزَیْدِ الْخَیْلِ وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَیْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: کُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِکَ النَّبِیَّ صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ فَقَالَ أَلَا تَأْمَنُونِی وَأَنَا أَمِینُ مَنْ فِی السَّمَاءِ یَأْتِینِی خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ فَقَامَ: رَجُلٌ غَائِرُ الْعَیْنَیْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَیْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ کَثُّ اللِّحْیَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الْإِزَارِ، فَقَالَ یَا رَسُولَ الله، اتَّقِ الله، قَالَ: وَیْلَکَ، أَوَ لَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ یَتَّقِیَ الله، قَالَ: ثُمَّ وَلَّی الرَّجُلُ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِیدِ: یَا رَسُولَ الله، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ: لَا، لَعَلَّهُ أَنْ یَکُونَ یُصَلِّی، فَقَالَ خَالِدٌ: وَکَمْ مِنْ مُصَلٍّ یَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَیْسَ فِی قَلْبِهِ، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: إِنِّی لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَیْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ، فَقَالَ: إِنَّهُ یَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ یَتْلُونَ کِتَابَ الله رَطْبًا لَا یُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ یَمْرُقُونَ مِنَ الدِّینِ کَمَا یَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِیَّةِ، وَأَظُنُّهُ قَالَ: لَئِنْ أَدْرَکْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ. (2)
تابع القرآن أخی المسلم تجد أن کل إبادة جماعیة لم یتبناها أی نبی أو رسول علی نبینا وآله وعلیهم أفضل الصلاة والسلام، بل کانت من الله تعالی ینفذها الملائکة علیهم السلام... فانظر إلی نفسک وضعها حیث تشاء... .
إن کان الذی فیک محسوب من العیوب فغیره، لأنه خیر لک، وفی هذا الأمر جاء عنهم علیهم السلام: (3)
«مَنْ بصَّرَکَ عیبَک فَقَدْ نصحک» ، وکذلک:
«مَنْ نصحک فقد أنجدک» ، وکذلک: «مَنْ
ص:206
خالف النصح هلک». وجاء عنهم أیضاً علیهم السلام:
«مَنْ حذرک کمن بشرک» ، و
«مَنْ ذکرک فقد أنذرک». (1)ولکن إیاک أن تضع فی ذهنک أننی أرید منک أن تعتنق التشیع عقیدة فإنّ هذا غیر القصد، لأننی مؤمن بأن قوانین الآخرة تختلف عن قوانین الدنیا، فلیس التشیع یحتاج إلی المؤیدین، بل معتنقه محتاج إلیه، وفی الآخرة من کان مؤیدوه من القلة یفوز بالغلبة، قال الله تعالی فی الواقعة: وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ* أُولئِکَ الْمُقَرَّبُونَ* فِی جَنّاتِ النَّعِیمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِینَ* وَ قَلِیلٌ مِنَ الْآخِرِینَ ..وَ أَصْحابُ الْیَمِینِ ما أَصْحابُ الْیَمِینِ ..ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِینَ* وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِینَ* وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فیتضح أنّ المقربین وأصحاب الیمین هم القلة علی کل حال، فمن یعتقد بأنه علی حق لا یسعی للحصول علی مؤیدین، نعم یسعی للتبلیغ فتکون مهمته مهمة الأنبیاء فقط..
أقول: إیاک أن تحب أو تؤید عمل غیر المعصوم 100% وبشکل خاص ما لا تعلم منه، ففی ذلک بدء وقوع الفتن وها أنت تراها کل یوم، فقد جاء عن أبی جعفر علیه السلام قوله:
خطب أمیر المؤمنین علیه السلام الناس فقال: (2) أیها الناس، إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحکام تبتدع، یخالف فیها کلام الله، یقلد فیها رجال رجالاً، ولو أنّ الباطل خلص لم یخف علی ذی حجی، ولو أنّ الحق خلص لم یکن اختلاف، ولکن یؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فیمزجان فیجیئان معاً، فهنالک استحوذ الشیطان علی أولیائه ونجا الذین سبقت لهم من الله الحسنی.
فلماذا لا نفکر فی أن نکون ممن سبقت لهم من الله تعالی الحسنی قبل فوات الأوان؟ ففی ذلک الیوم قال تعالی: قُلْ یَوْمَ الْفَتْحِ لا یَنْفَعُ الَّذِینَ کَفَرُوا إِیمانُهُمْ وَ لا هُمْ یُنْظَرُونَ (السجدة:29)، فَلَمْ یَکُ یَنْفَعُهُمْ إِیمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِی قَدْ خَلَتْ فِی عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِکَ الْکافِرُونَ (غافر:85)... .
ص:207
ولأن المرء مع أحب هذا أولاً ولأن من تحب غیر معصوم فتحشر یوم القیامة وأنت راضٍ بقتل فلان أو اغتیاب فلان وبهتان فلان، نعم مطلوب منک حب الآخرین ولکن لیس أن تحبه هو وعمله مطلقاً من دون قید..
أما لو أحببت المعصوم مطلقاً فهذا لا غبار علیه، بل هو مطلوب؛ لأنه القدوة، ولا تقل لا یوجد معصوم، فإنک لم تصب الحق حینذاک، فقد ورد ما یدل علی العصمة فی الحدیث (1) عن حذیفة رحمه الله فی من خلال قوله:
«فإن کان لله فی الأرض یومئذ خلیفة جلد ظهرک وأخذ مالک فالزمه» ، ولک أن تحب من طلب منک المعصوم أن تحبه مطلقاً کما فی سلمان وأبی ذر وعمار وحذیفة - علیهم وعلی أمثالهم الرحمة والرضوان - لما ورد فیهم من نصوص تدل علی ذلک.
وقد ورد فی البخاری (2) کتاب الأدب عَنِ النَّبِیِّ صَلَّی الله تعالی عَلَیْهِ وآله بثلاث صیغ: الأولی:
«الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، وفی الأخری:
«جَاءَ رَجُلٌ إِلَی رَسُولِ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ فَقَالَ: یَا رَسُولَ الله، کَیْفَ تَقُولُ فِی رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ یَلْحَقْ بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، وفی الثالثة: «قِیلَ لِلنَّبِیِّ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ:
الرَّجُلُ یُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا یَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». فاللفظ الأول مطلق وأما اللفظان الآخران فمنهما تستشف من قول السائل:
«وَلَمْ یَلْحَقْ بِهِمْ» أو
«وَلَمَّا یَلْحَقْ بِهِمْ» أن المحب إما لم یلحق ولن یستطیع ذلک؛ للفارق الزمنی، وأما الثانی أنه یمکنه ولکنه لم یلحق بهم لحد الآن، فکان الجواب أنه ما دام أحب عملهم فهو معهم. ولذلک جاء فی الکتاب العزیز فی خطاب بنی إسرائیل: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِیها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ (البقرة:72)، وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَی الْکِتابَ وَ قَفَّیْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَیْنا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّناتِ وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَکُلَّما جاءَکُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوی أَنْفُسُکُمُ اسْتَکْبَرْتُمْ فَفَرِیقاً کَذَّبْتُمْ وَ فَرِیقاً تَقْتُلُونَ (البقرة:87)، وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَیْنا وَ یَکْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِیاءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (البقرة:91).
ص:208
وها هو النبی صلی الله تعالی علیه وآله قد تبرأ من فعلة خالد وأنکر علی زید فعلته، وکذلک عمر بن الخطاب أنکر علی خالد فعلتیه وکذلک عبد الرحمن بن عوف، وذکر صاحب وفیات الأعیان: (1) «عن عمر بن شبة فی أخبار البصرة، أن العباس بن عبد المطلب قال لعمر بن الخطاب: إن رسول الله [صلی الله تعالی علیه وآله] أقطعنی البحرین، فقال: ومن یشهد لک بذلک؟ قال: المغیرة بن شعبة، فأبی أن یجیز شهادته...». (2)
فهل تستطیع أن تبرأ الآن إلی الله تعالی من فعلة خالد أم لا؟ وتقبل بتعامل عمر بن الخطاب مع شهادة المغیرة؟
نعم لک أن تحب المسلم أو المؤمن وأن تضمر له ذلک وتدعوَ له، (3) وله علیک من الحقوق ما
ص:209
لو علمت لحکمت علی نفسک بالتقصیر.. ولکن الحذر الحذر من أن تحب کل عمله؛ فإنه لیس بمعصوم، والذی یؤیّد ذلک أنّ الذی علیک هو الظاهر لا الباطن، والله تعالی یعلم ما فی باطنه.
ولما کانت هناک فتن کما مرّ فی کلام أمیر المؤمنین علیه السلام ، وکذلک الحدیث الوارد عن حذیفة رحمه الله وقد یصعب التمییز بین الحق والباطل، احتجت المعصوم لیدلّک علی الصواب لئلا تطیع غیرک فی معصیة، فعن أبی عبد الله علیه السلام قال:
«من أطاع رجلاً فی معصیة فقد عبده»، (1)وجاء عن أبی بصیر (2) قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله تعالی: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ (التوبة:من الآیة31)، فقال: أما و الله، ما دعوهم إلی عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلی عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولکن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا علیهم حلالاً فعبدوهم من حیث لا یشعرون»، فلأن التابع کان قاصداً اتباع واضع تلک الأحکام والآمر بها، فرجعت عبادتهم إلیه من حیث لا یشعرون.
ص:210
فلنکفّ عن عبادة الناس من الجنة والناس، أفمن العقل عبادة الدانی وترک العالی؟!: أَ فَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ (الجاثیة:من الآیة23)، وقال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَیْکُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ (یّس:60).
وأیضاً عن أبی جعفر علیه السلام (1) قال:
«من أصغی إلی ناطق فقد عبده، فإن کان الناطق یؤدی عن الله تعالی فقد عبد الله، وإن کان الناطق یؤدی عن الشیطان فقد عبد الشیطان». ومن هذه الروایة المبارکة نجد أن مجرد الإصغاء عبادة، فکیف إذا بک ترضی أفعاله من دون تمحیص.
وعن أبی عبد الله علیه السلام فی قوله تعالی: (2)وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِیَکُونُوا لَهُمْ عِزًّا* کَلاّ سَیَکْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ یَکُونُونَ عَلَیْهِمْ ضِدًّا (مریم:82، 81)، قال علیه السلام :
«لیس العبادة هی السجود والرکوع إنما هی طاعة الرجال، من أطاع المخلوق فی معصیة الخالق فقد عبده». وعنه علیه السلام فی قول الله تعالی: (3)وَ ما یُؤْمِنُ أَکْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِکُونَ (یوسف:106)، قال علیه السلام :
«شرک طاعة ولیس شرک عبادة».
وهذا هو الحارث بن حوت أتی أمیر المؤمنین علیه السلام ، فقال:
أترانی أظن أصحاب الجمل کانوا علی ضلالة؟ فقال علیه السلام : یا حارث، إنک نظرت تحتک ولم تنظر فوقک فحرت، إنک لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه. فقال الحارث: فإنی أعتزل مع سعید بن مالک وعبد الله بن عمر، فقال علیه السلام : إن سعیداً وعبد الله بن عمر لم ینصرا الحق ولم یخذلا الباطل. (4)
فهل ترید أن تکون کذلک فهذا شأنک. لا تقل: فلان صحابی وفلان تابعی، فإنه وإن کان مقدساً عندک ولکن لیس کل مقدس معصوم أو قدوة، فلا أرید أن أکرر علیک ما مضی من القول، استفد مما مرّ به من تجارب؟ فلا تکن أنت حقل تجارب جدید، وأنا لا یهمنی أنک اتبعته أم لا، فهذا شأنک أنت وحدک، ولکن من حقک علیّ النصح لک، إنما الحق قوله تعالی: إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ (الحجرات: من الآیة13).
ص:211
لما کان المتقون یمشون بین غیرهم بالتقیة خائفین کانت درجتهم علی ما صبروا کما قال الله تعالی: تِلْکَ مِنْ أَنْباءِ الْغَیْبِ نُوحِیها إِلَیْکَ ما کُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُکَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِینَ (هود:49)، إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنّاتٍ وَ عُیُونٍ (الحجر:45)، وَ قِیلَ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّکُمْ قالُوا خَیْراً لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا فِی هذِهِ الدُّنْیا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَیْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِینَ (النحل:30)، و جَنّاتُ عَدْنٍ یَدْخُلُونَها تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِیها ما یَشاؤُنَ کَذلِکَ یَجْزِی اللّهُ الْمُتَّقِینَ (النحل:31).. وصریح آیتین من سورة مریم المبارکة فیها طرفان المتقون والمجرمون قال الله تعالی: یَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِینَ إِلَی الرَّحْمنِ وَفْداً* وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِینَ إِلی جَهَنَّمَ وِرْداً (مریم:86، 85). و کذلک: فَإِنَّما یَسَّرْناهُ بِلِسانِکَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِینَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (مریم:97)، وقال فی تعالی القصص: تِلْکَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ (83)، وفی ص: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ کَالْمُفْسِدِینَ فِی الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِینَ کَالْفُجّارِ (28)، و الله تعالی ولی المتقین: إِنَّهُمْ لَنْ یُغْنُوا عَنْکَ مِنَ اللّهِ شَیْئاً وَ إِنَّ الظّالِمِینَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ اللّهُ وَلِیُّ الْمُتَّقِینَ (الجاثیة:19)، وهم: إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی مَقامٍ أَمِینٍ (الدخان:51)، وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِینَ غَیْرَ بَعِیدٍ (قّ:31)، إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنّاتٍ وَ عُیُونٍ (الذریات:15)، إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنّاتٍ وَ نَعِیمٍ (الطور:17)، إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ (القمر:54)، إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتِ النَّعِیمِ (القلم:34)، إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی ظِلالٍ وَ عُیُونٍ (المرسلات:41)، إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ مَفازاً (النبأ:31). وغیر ما تقدم من الآیات الکریمة کثیر فارجع إلی کتاب الله تعالی وانظر فیه وتدبر..
وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إنّ الله تعالی یقول:
ویل للذین یختلون الدنیا بالدین، وویل للذین یقتلون الذین یأمرون بالقسط من الناس، وویل للذین یسیر المؤمن فیهم بالتقیة، أبی یغترون أم علی یجترئون، فبی حلفت لأتیحن لهم فتنة تترک الحلیم منهم حیران. (1)
فیتضح أنّ الله تعالی هو الذی یتبنی الدفاع عنهم، قال الله تعالی: إِنَّ اللّهَ یُدافِعُ عَنِ الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّ اللّهَ لا یُحِبُّ کُلَّ خَوّانٍ کَفُورٍ (الحج:38).
ص:212
فتعلم وتعود علی الامتثال ولا تشکک فی أحکام الله تعالی تنجو من الهلکة، و الله تعالی هو الموفق، و الله تعالی هو العالم.
هب أنّک لا تعمل بها، ولکن أین تذهب ممن سیقتل وتنتهک حرماته بسبب إذاعتک؟ فقد جاء عن أبی عبد الله علیه السلام فی قول الله تعالی: وَ یَقْتُلُونَ الْأَنْبِیاءَ بِغَیْرِ حَقٍّ (آل عمران:من الآیة112)، فقال:
«أما و الله ما قتلوهم بالسیف ولکن أذاعوا سرهم وأفشوا علیهم فقتلوا». (1)وتلا أبو عبد الله علیه السلام هذه الآیة: ذلِکَ بِأَنَّهُمْ کانُوا یَکْفُرُونَ بِآیاتِ اللّهِ وَ یَقْتُلُونَ الْأَنْبِیاءَ بِغَیْرِ حَقٍّ ذلِکَ بِما عَصَوْا وَ کانُوا یَعْتَدُونَ (آل عمران:من الآیة112). فقال:
و الله ما ضربوهم بأیدیهم ولا قتلوهم بأسیافهم ولکن سمعوا أحادیثهم فأذاعوها فأخذوا علیها فقتلوا فصار ذلک قتلاً واعتداء ومعصیة. (2)
وقال أبو عبد الله علیه السلام : إن الله عیر قوماً بالإذاعة، فقال: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ (النساء: من الآیة83) فإیاکم والإذاعة م. (3)
بحسب ما نقرأ فی القرآن الکریم نجد إنّ التقیة - شرعاً - فعل یصدر من المتقی، شرط کونها تصدر منه وهو فی حال الإیمان، وهذا یعنی أنّه علی الحقّ لا مطلقاً، وعلیه فإنّها - کفعل - لا تخرج عن وجهین: إمّا أن یتساوی فیها باطن العبد وظاهره وهذه علی مرتبتین وذلک بحسب الإضافة مرّة إلی لفظ الجلالة، کقوله تعالی: وَ لَقَدْ وَصَّیْنَا الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَ إِیّاکُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّهَ (النساء:من الآیة131)، ومرة أخری إلی اسم الرب: یا أَیُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّکُمُ (النساء: من الآیة1)، والثانی أدنی المراتب والأول أسماها، وهذا المستوی لا یتصور فیه اختلاف باطن الإنسان عن ظاهره لأن الله ربنا تعالی لا یخفی علیه شیء، قال تعالی: إِنَّ اللّهَ لا یَخْفی عَلَیْهِ شَیْ ءٌ فِی الْأَرْضِ وَ لا فِی السَّماءِ (آل عمران:5)، وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ یَعْلَمُ ما فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ یَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِی ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا یابِسٍ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ (الأنعام:59)، إِنَّ اللّهَ عالِمُ غَیْبِ السَّماواتِ
ص:213
(فاطر:من الآیة38)، إِلی رَبِّکُمْ مَرْجِعُکُمْ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ (الأنعام: من الآیة164)، وإما ألا یتساوی فیها ظاهر العبد وباطنه فلا یعقل إلاّ وجه واحد، وهو أنّه یخفی الحقّ ویظهر الباطل تلافیاً لوقوع ضرر أشد.
وهناک إخفاء بین المؤمنین أنفسهم، وهذا لا یتلازم مع إظهار الخلاف، نعم یتلازم مع الصمت وهو الکتمان کما مرّ، ویحصل عادة بین المؤمنین أنفسهم، وذلک بحسب درجات العلم والإیمان، ویمکن أن تسمی تقیة توسعاً و اعتماداً علی الروایة التی عن السجاد علیه السلام التی تحدثت عن سلمان وأبی ذر رضوان الله تعالی علیهما کما سبق فی هذا الفصل، فإذا کُتِم عن المؤمن فمن باب أولی یکتم عن غیره، وغیر المؤمن یشمل المسلم والکافر والمنافق فیدخل فی التقیة من رأس، أما أن یشمل المسلم فکقوله تعالی: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ (الحجرات: من الآیة14)، وأمّا الکافر والمنافق فمعلوم ضرورةً.
وممّا تقدم یعلم أفراد التقیة وحصصها فمنها علی مرتبة اسم الله تعالی وحصة منها علی مرتبة اسم الرب تعالی وحصة منها من العبد. أما دلیل الأنقسام علی هذه الحصص فمرة جاءت التقیة مطلقة کما فی قول الله تعالی: زُیِّنَ لِلَّذِینَ کَفَرُوا الْحَیاةُ الدُّنْیا وَ یَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ الَّذِینَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ (البقرة:من الآیة212)، قُلْ أَ أُنَبِّئُکُمْ بِخَیْرٍ مِنْ ذلِکُمْ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ (آل عمران:من الآیة15) لَیْسَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِیما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ (المائدة:93)، وأخری جاءت مضافة وکما مر إلی لفظ الجلالة أو اسم الرب. فإن قیل: إن هذا الفعل المطلق المذکور فی القرآن الکریم له حصتان فقط وکما مذکور بحسب الإضافة فمن أین لک أن تثبت الحصة الثالثة؟ وجوابه أنه لا یسع إنکار الثالثة خاصة بعد أن ورد اللفظ علی لسان النبی صلوات الله تعالی علیه وآله فی البخاری: (1) (..إن شر الناس منزلة عند الله من ترکه أو ودعه الناس اتقاء فحشه) فثبت المطلوب... و الله تعالی هو العالم بالصواب..
ص:214
ومما یتضح کذلک أن تقوی الله تعالی قبول أحکامه ومنها حکم التقیة التی هی علی مراتب کما بینته الآیة المبارکة من سورة المائدة الکریمة، قال الله تعالی: لَیْسَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِیما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ (المائدة:93) فانظر إلی مقام المتقین وانظر إلی مقام غیرهم حیث قال تعالی: یَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِینَ إِلَی الرَّحْمنِ وَفْداً* وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِینَ إِلی جَهَنَّمَ وِرْداً (مریم:86، 85)، وغیرهم من یمشی بینهم المؤمن بالتقیة.
ومنه تعلم أنهما لیسا من النفاق بل هو نقیضهما ولیسا من تغطیة الرأس أو دسه فی التراب کما یقال، بل هما عمل دؤوب ومتواصل إلا أنه فی الخفاء، وما یصدر من بعض بأن من یعمل بالتقیة فحسنی النهج والثائر حسینیه هذا کلام غیر صحیح من جهتین الأولی عدم التأدب فی مقام ذکر أحد سیدی شباب أهل الجنة، والإمام الحسن علیه السلام هو الممهد لثورة الإمام الحسین علیه السلام فهو ممن شارک فیها ولیست موافقته علی بنود الصلح إلا لحقن الدماء وهذا بحث موکول إلی محله، ومن جهة کونه مع ترکها وعدم العمل بها یوجب التشریع فافهم.
فلو اتبع هؤلاء الحق وعملوا بالتقیة لکان المجتمع الإسلامی مجتمعاً مثالیاً لا یؤکل من الخارج ولا یتآکل من الداخل، ولکن التعصب والجهل أخذا من الناس مأخذا عظیماً فترکوا حکم الله تعالی إما خجلاً لأنهم حسبوه عاراً أو عناداً لأنهم علی خلاف مع من یؤمن به تصریحاً، فحصل ما حصل ویحصل والتأریخ یعید نفسه.
وکما رأیت فإن ذلک یصب فی رافد الحلم والذی یرفع من شأنه تطبیق هذا الحکم الشرعی وإن لم یکن هناک طاقة علی حمل وتحمل أمانة ما فما فائدة الإیمان إذن؟ وأکرر القول: إنما التقیة مع عدم إضمار نیة الشر إلا خلق قویم وسعة صدر وتحمل الآخر المتشدد بالرغم من اعتقاد المظلوم بأن هذا ظالم، فهو یتقیه ولا یحقد علیه ولا یستبیح حرماته، (1) بخلافه فی النفاق یضمر الشر ویتفق مع أهله ویظهر الإیمان ویخفی الکفر وأین هذا من ذاک. ولکن الویل کل الویل ممن یظلم الآخرین ویتسلط علیهم لمجرد اختلافهم معه.
وإن کنت متقیاً کاتماً عمّن یعادیک ما تعتقد معرضاً عما یصدر عنه فیما لا یرضی الله
ص:215
تعالی متعاوناً معه فی غیره کأنه بالنسبة إلیک ولی حمیم یتحیر بک عدوک ولا یعلم کیف تعمل فلا تفضح نفسک وتکشف ظهرک لمن یرید أن ینال منه فیقضی علیک بمجرد أن تغفل، أو یتابع عملک فیهدم ما شیدت.
قد یقول قائل أفهم من خلال ما تقدّم بأنک تحکم علی کل من لا یعمل بهما فهو مراء لیس بصاحب أخلاق وغیر صبور لا یتحلی بالحلم ولا یحمل العلم.
وجوابه أن هذا اتهام لا أساس له من الصحة مطلقاً، فأنا لم أکن الصراط المستقیم ولن أکون ولم أدع ذلک ولن أدعیه إن شاء الله تعالی ، سوی أنه کل منا یشخص تکلیفه الشرعی، فیتصرف بما یراه هو مناسباً والحکم لله تعالی هو الذی یعلم ما فی الصدور، ولیس لأحد أن یوجه التهمة إلی باطن المؤمنین فیضل عن الصواب.
وهناک من یدعی بأن السید الامام الخمینی (قدس سره) رفع شعار: (لا تقیّة بعد الیوم)، وذلک مردود من خلال رسالته العملیة (رحمه الله تعالی) فراجع. (1) ولست بصدد الدفاع عنه فإنه لیس بمتهم لأقوم بذلک، ولکنی علی علم بأن أفعال المکلفین یکمل بعضها بعضاً. فالحیاة بحاجة إلی من یتصدی لأمر لا یسعنی القیام به وأقوم أنا بعمل لم یتصد له غیری وهکذا، وکل مسؤول أمام الله تعالی عن أعماله وتشخیصه للمصلحة بحسب علمه لا مطلقاً، وکلٌ منّا علیه أن یعلم تکلیفه ما هو لا أن یشغل نفسه بالتفتیش عن تکلیف الآخرین. إنما الکلام فیمن یکفر غیره ویلغیه ویحمل علیه ویشرع کما یشتهی ویقتل کما یشتهی لأنه غیر معصوم فیستحل الحرمات کما یهوی.
استغفر الله تعالی لکل مؤمن ومؤمنة وأرجو منه تعالی أن یهدی المسلمین جمیعاً إلی کل خیر، وکل الخیر هم محمد وآل محمد صلوات الله تعالی علیهم أجمعین:
وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ (الأنبیاء:107)
ذلِکَ الَّذِی یُبَشِّرُ اللّهُ عِبادَهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَکُورٌ (الشوری:23)
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ
ص:216
وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ (الحجرات:14).
ص:217
هناک نکات فی الحدیث القدسی تتبین من خلال التدبر فیه حیث ورد بألفاظ منها:
من آذی لی ولیاً فقد استحل محاربتی وما تقرب إلیَّ عبدی بمثل أداء الفرائض وما یزال العبد یتقرب إلیَ بالنوافل حتی أحبه فإذا أحببته کنت عینه التی یبصر بها وأذنه التی یسمع بها ویده التی یبطش بها ورجله التی یمشی بها وفؤاده الذی یعقل به ولسانه الذی یتکلم به... .
أما معنی هذا الحدیث الکریم من خلال قوله «کنت کذا...» فیمکن أن یتصور فیما یلی:-
قوله: «کنت عینه»: فیکون مطلعاً علی کل شیء... وأیُّ عین هذه التی یمکن أن یری بها کل شیء؟ فیکون مظهر اسم (البصیر).
قوله: (أذنه..): کذلک ولکن یکون مظهر اسم (السمیع).
قوله: (یده): مظهر اسم (القادر).
قوله: (رجله): لا یحده مکان فیمکن أن یتواجد فی أیِّ مکان فی أیِّ لحظة، هذا من جهة. ومن جهة أخری لا یکون له أثر إلا فی الخیر تبعاً للطریق الذی یسلکه وهو الصراط المستقیم.
قوله: (فؤاده الذی یعقل به): الفؤاد المادی أحد أدوات الإدراک وأما الذی للنفس فهو قوة من قواها حینها یکون کل علمه حق مظهر اسم (الحق).
قوله: (لسانه الذی ینطق به): کل قوله حق مظهر اسم (الحق).
فلا یشکل علینا مشکلٌ أنکم تقولون شعراً فی علیِّ بن أبی طالب صلوات الله تعالی علیه مضمونه أنه عین الإله أو هو عینه وما إلی ذلک، فهذا یثبت لأیِّ مؤمن بموجب هذا الحدیث
ص:218
المبارک. هذا کله ولکن کل بحسب ما یؤدی کماً ونوعاً. أما المصادر الناقلة له فهی فی الهامش. (1)
ص:219
لو تمعنت فی قول أبی بکر لعمر فی خالد: (تأوّل فأخطأ) تجد أن نفس قوله هذا مردود بنفسه لأنه یحتمل الخطأ، فهذه القاعدة لو صدرت من معصوم فلا غبار علیها وإذ لم یقل أحد بعصمة أبی بکر فقد یکون هو الآخر تأول فی إصدار هذه القاعدة فأخطأ، فلا یمکن العمل بها من رأس.. وعلی کل حال اطلع علی ما ذکروه بشأن مالک بن نویرة فی المصادر المؤشرة فتابع. (1) والجدیر بالذکر أنه هو الذی بشره النبی صلوات الله تعالی علیه وآله بالجنة، وقد وداه أبو بکر وأمر خالداً بطلاق زوجته - وإن کان الصحیح أن تبین عنه - ورد السبی والمال... . (2)
ص:221
فی مصباح الزجاجة البوصیری: (1)
وقال بعضهم کل حدیث ورد فیه الحمیراء ضعیف واستثنی من ذلک ما أخرجه الحاکم من طریق عبد الجبار ابن الورد عن عمار الذهبی عن سالم بن أبی الجعد عن أم سلمة قالت ذکر النبی صلی الله تعالی علیه وآله وسلم خروج بعض أمهات المؤمنین فضحکت عائشة فقال انظری یا حمیراء ألا تکونی أنت ثم التلفت إلی علی فقال إن ولیت من أمرها شیئا فارفق بها قال الحاکم صحیح علی شرط البخاری ومسلم.
وفی کنز العمال للمتقی الهندی: (2) «إن ولیت من أمرها شیئا فأرفق بها [یعنی عائشة]، قاله لعلی. وفی المستدرک للحاکم: (3) هذا حدیث صحیح وقال الحاکم: صحیح علی شرط الشیخین.» وفی البدء والتاریخ مطهر بن طاهر المقدسی: (4)
وکانت عائشة تؤلّب علی علی وتطعن فیه وتری أنه سینخلع وکان هواها فی طلحة فبینا هی قد أقبلت من الحج راجعة استقبلها راکب فقال ما وراءک قال قد قتل عثمان قالت کأنی أنظر إلی الناس یبایعون طلحة وأن إصبعه یحسن أیدیهم فجاء راکب آخر فقالت ما وراءک قال بایع الناس علیاً قالت واعثماناه ما قتله إلا علی وللیلة من عثمان خیر من علی الدهر کله وانصرفت إلی مکة وضربت فسطاطا فی المسجد.
وفی وفیات الأعیان لابن خلکان: (5)
وقیل وقعت بین حیین من قریش منازعة فخرجت عائشة علی بغلة تصلح بینهما فلقیها ابن أبی عتیق فقال إلی أین جعلت فداک فقالت أصلح بین هذین الحیین فقال والله ما غسلنا رؤوسنا من یوم الجمل بعد فکیف إذا قیل یوم البغل فضحکت وانصرفت.
وباقی مصادر الواقعة تجدها هنا. (6)
ص:222
ولو أردت أن تعلم من المحرض علی عثمان بن عفان فانظر فی وفی إعلام الموقعین ابن قیم الجوزیة (فلما کانت خلافة عثمان اختلفوا فی مسائل یسیرة صحب الاختلاف فیها بعض الکلام واللوم کما لام علی عثمان فی أمر المتعة وغیرها ولامه عمار بن یاسر وعائشة فی بعض مسائل قسمة الأموال والولایات). (1)
ودلیل آخر أقدمه بین یدیک وهو ما ورد علی لسان النعمان بن بشیر أحد أتباع معاویة بن أبی سفیان حیث دار بینها وبینه حوار من خلاله یتضح أنها کانت من رأس المحرضین علی عثمان.. فعن النعمان بن بشیر عن عائشة أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال لعثمان: یا عثمان إن الله تعالی لعله أن یقمصک قمیصاً فإن أرادوک علی خلعه فلا تخلعه... فلما أخبر معاویة بن أبی سفیان بذلک لم یرض إلا أن تکتبه ففعلت ومن ضمن ما ذکر قال لها: غفر الله لک یا أم المؤمنین أفلا ذکرت هذا حین جعلوا یختلفون إلیک؟ فقالت: نسیته حتی بلغ الله فیه أمره. (2) والمهم أن هذه الروایة قد صححها ابن أبی عاصم (3) علی اختلاف ألفاظها وما جاء فیها من زیادات فی بعض طرقها فراجع هناک..
والعجیب أن کل من طالب بدم عثمان هو الذی شرک فی دمه، فقد روی المدائنی (4) فی کتاب مقتل عثمان إن طلحة منع من دفنه ثلاثة أیام، وأن علیاً علیه السلام لم یبایع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أیام، وأن حکیم بن حزام أحد بنی أسد بن عبد العزی وجبیر بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدا بعلی علیه السلام علی دفنه، فأقعد طلحة لهم فی الطریق ناسا بالحجارة، فخرج به نفر یسیر من أهله وهم یریدون به حائطا بالمدینة یعرف بحش کوکب کانت الیهود تدفن فیه موتاهم، فلما صار هناک رجم سریره، وهموا بطرحه، فأرسل علی علیه السلام إلی الناس یعزم علیهم لیکفوا عنه، فکفوا، فانطلقوا به حتی دفنوه فی حش کوکب... وروی الطبری نحو ذلک، إلا أنه لم یذکر طلحة بعینه، وزاد فیه أن معاویة لما ظهر علی الناس، أمر بذلک الحائط فهدم
ص:223
حتی أفضی به إلی البقیع، وأمر الناس أن یدفنوا موتاهم حول قبره حتی اتصل ذلک بمقابر المسلمین. وروی المدائنی قال دفن عثمان بین المغرب والعتمة، ولم یشهد جنازته إلا مروان بن الحکم وابنه عثمان وثلاثة من موالیه، فرفعت أبنته صوتها تندبه، وقد جعل طلحة ناسا هناک أکمنهم کمینا، فأخذتهم الحجارة، وصاحوا: نعثل نعثل فقالوا: الحائط الحائط فدفن فی حائط هناک. وروی الواقدی قال: لما قتل عثمان تکلّموا فی دفنه، فقال طلحة: یدفن بدیر سلع... . (1)
فی معرکة صفین قال ابن قیم الجوزیة فی مدارج السالکین: (2)
وقد تقاتل أولیاء الله فی صفین بالسیوف ولما سار بعضهم إلی بعض کان یقال: سار أهل الجنة إلی أهل الجنة وکون ولی الله یرتکب المحظور والمکروه متأولا أو عاصیا لا یمنع ذلک من الإنکار علیه ولا یخرجه عن أصل ولایة الله.. .
بینما نقل فی جمهرة خطب العرب (3) خطبة الإمام علی علیه السلام فقال:
وقام الإمام علی خطیبا علی منبره یحرض الناس ویأمرهم بالمسیر إلی صفین لقتال أهل الشام، فقال سیروا إلی أعداء الله، سیروا إلی أعداء القرآن والسنن، سیروا إلی بقیة الأحزاب وقتلة المهاجرین والأنصار.. .
وکذلک فیه: (4)
خطبة عمار بن یاسر وقام عمار بن یاسر یوم صفین فقال انهضوا معی عباد الله إلی قوم یزعمون أنهم یطلبون بدم ظالم إنما قتله الصالحون المنکرون للعدوان الآمرون بالإحسان فقال هؤلاء الذین لا یبالون إذا سلمت لهم دنیاهم ولو درس هذا الدین لم قتلتموه فقلنا لأحداثه فقالوا إنه لم یحدث شیئا وذلک لأنه مکنهم من الدنیا... .
فأنت حرّ فیمن تصدّق، أتصدقّ قول أمیر المؤمنین علی علیه السلام أم غیره!.-
وللمزید حول صفین وأطرافها یمکنک التعرف أکثر من خلال قراءة المصادر التالیة. (5)
ص:224
أما من شهد مع علی علیه السلام فکان من الصحابة ألفین وثمانمائة، منهم ما لا یقل عن ثمانین أو تسعین بدریاً، مائتین وخمسین أو ما لا یقل عن مائتین ممن بایع تحت الشجرة، وما لا یقل عن مائتین وهناک من قال إنهم سبعمائة، وأربعمائة من سائر المهاجرین والأنصار، والباقی من سائر من ثبتت له مع النبی صلوات الله تعالی وآله صحبة، وشهد معه من التابعین ثلاثة شهد لهم رسول الله صلوات الله تعالی علیه وآله بالجنة وهم: أویس القرنی وزید بن صوحان وجندب الخیر، فأما أویس القرنی فقتل فی الرجالة یوم صفین وأما زید بن صوحان فقتل یوم الجمل.. وعن الأصبغ بن نباته عن علی بن أبی طالب رحمه الله أنه قال یوم صفین: من یبایعنی علی الموت فقام تسعة وتسعون رجلاً فبایعوه فقال أین التمام الذی وعدت فقام إلیه رجل من أخریات الناس محلوق الرأس علیه أطمار من صوف فبایعه فإذا هو أویس القرنی (2)
ص:225
فقاتلوا فقتلوا.. وممن کان معه صلوات الله تعالی علیه عمّار وخزیمة ذو الشهادتین (1) ولم یسل سیفه حتی استشهد عمار فجرد سیفه فقاتل حتی قتل علیه وعلی جمیع الشهداء الرحمة والرضوان. (2)
أمّا من کان مع معاویة من الأنصار فالنعمان بن بشیر ومسلمة بن مخلد، وکان معه أیضاً عمرو بن العاص والمغیرة بن شعبة وأبو هریرة الذی لم یکن مع المقاتلین وکان ملتزماً بثّ الأحادیث لأنه جهاز دعایته... .
وأمّا أهل الشام (3) ففیهم غفلة وقلة فطنة، یجهلون الدین وتاریخه ومن بناه، ولا یعرفون من ذلک إلا ما زقهم به أمیرهم، فکان یأمرهم فیطیعوا، 4 لذلک صدقوا قول عمرو بن العاص أن علیاً علیه السلام هو الذی قتل عمار بن یاسر حین أخرجه لنصرته. ومما یثیر الدهشة أن معاویة تحدّث عن أتباعه أن: «أبلغ علیاً أنی أقاتله بمائة ألف ما فیهم من یفرق بین الناقة والجمل». وفعلا هم کذلک بل لا یفرقون بین الجمعة والأربعاء إذ أنه صلی بهم الجمعة یوم الأربعاء 5 وذلک عند مسیره إلی صفین.. وقد أشار إلی هذا الأمر المقریزی 6 ولم یصرح به ولکن نقل هذا الأمر غیره بصراحة تامّة.
وعلی هذا فأنت تحکم علی ابن تیمیة عندما تعرض إلی أصحاب علی علیه السلام وأصحاب معاویة الذین أطلق علیهم العثمانیون والذین هم طلبوا بدم عثمان. 7
ص:226
قال الحسینی فی الإکمال عند الحدیث عن عمار: (2) حرف الغین أبو الغادیة الجهنی (3) واسمه یسار بن سبع وقیل غیر ذلک سکن الشام ونزل واسط عداد فی الشامیین أدرک النبی علیه السلام [صلوات الله تعالی علیه وآله] وهو غلام وسمع منه قوله لا ترجعوا بعدی کفارا یضرب بعضکم رقاب بعض وکان محباً لعثمان وهو قاتل عمار بن یسار وکان إذا استأذن علی معاویة وغیره یقول قاتل عمار بالباب یتبجح بذلک فانظر إلی العجب یروی عن النبی علیه السلام [صلوات الله تعالی علیه وآله] النهی عن القتل ثم یقتل مثل.
وجاء فی علل الحدیث لابن أبی حاتم: (4)«.. سألت أبی عن حدیث رواه هشام بن عمار عن سعید ابن یحیی اللخمی عن حسان بن دینار عن کلثوم بن جبر عن أبی الغادیة عن النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم قال قاتل عمار فی النار وهو الذی قتله».
ورد فی البخاری کتابی الصلاة والجهاد والسیر:ح/ (428، 2601) (5)، وفی مسلم کتاب الفتن ح/ (5193، 5194):
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِیزِ بْنُ مُخْتَارٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِکْرِمَةَ قَالَ لِی ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِیٍّ انْطَلِقَا إِلَی أَبِی سَعِیدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِیثِهِ فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِی
ص:227
حَائِطٍ یُصْلِحُهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَی ثُمَّ أَنْشَأَ یُحَدِّثُنَا حَتَّی أَتَی ذِکْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ کُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَیْنِ لَبِنَتَیْنِ فَرَآهُ النَّبِیُّ صَلَّی اللَّهم عَلَیْهِ وَسَلَّمَ فَیَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَیَقُولُ وَیْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِیَةُ یَدْعُوهُمْ إِلَی الْجَنَّةِ وَیَدْعُونَهُ إِلَی النَّارِ قَالَ یَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. (1)
وفی الکامل لابن الأثیر (2) نقل ما جری بین معاویة ورسل علی علیه السلام :
أما الجماعة التی دعوتم إلیها فمعنا هی وأما الطاعة لصاحبکم فإنا لا نراها لأن صاحبکم قتل خلیفتنا وفرق جماعتنا وآوی ثأرنا وصاحبکم یزعم أنه لم یقتله فنحن لا نرد علیه ذلک فلیدفع إلینا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجیبکم إلی الطاعة والجماعة فقال شبت بن ربعی أیسرک یا معاویة أن تقتل عمارا فقال وما یمنعنی من ذلک لو تمکنت من ابن سمیة لقتلته بمولی عثمان فقال شبث والذی لا إله غیره لا تصل إلی ذلک حتی تندر الهام عن الکواهل وتضیق الأرض الفضاء علیک فقال معاویة لو کان ذلک لکانت علیک أضیق وتفرق القوم عن معاویة وبعث معاویة إلی زیاد بن خصفة فخلا به وقال له یا أخا ربیعة إن علیا قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوی قتلة صاحبنا وإنی أسألک النصر علیه بعشیرتک ثم لک عهد الله ومیثاقه أنی أولیک إذا ظهرت أی المصریین أحببت فقال زیاد أما بعد فإنی علی بینة من ربی وما أنعم الله علی فلن أکون ظهیرا للمجرمین وقام فقال معاویة لعمرو بن العاص لیس نکلم رجلا منهم فیجیب.
راجع ما جاء عن حجر رضوان الله تعالی علیه فی هذه المصادر. (3)
ص:228
وقد حمل ابن قیم الجوزیة (1) علی التأویل شر حملة فقال:
فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأویل فإن محنته إمّا من المتأولین وإمّا أن یسلط علیهم الکفار بسبب ما ارتکبوا من التأویل وخالفوا ظاهر التنزیل وتعللوا بالأباطیل فما الذی أراق دماء بنی جذیمة [أی علی ید خالد بن الولید ولم یصرح باسمه ترقیعاً لرتبة الصحبة] وقد أسلموا غیر التأویل حتی رفع رسول الله صلی الله علیه وسلم یدیه وتبرأ إلی الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم! وما الذی أوجب تأخر الصحابة رضی الله عنهم یوم الحدیبیة عن موافقة رسول الله صلی الله علیه وسلم غیر التأویل حتی اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتی رجعوا عن ذلک التأویل؟ وما الذی سفک دم أمیر المؤمنین عثمان (2) ظلماً وعدواناً، وأوقع الأمة فیما
ص:229
أوقعها فیه حتی الآن غیر التأویل وما الذی سفک دم علی رضی الله عنه وابنه الحسین وأهل بیته رضی الله تعالی عنهم غیر التأویل وما الذی أراق دم عمار بن یاسر وأصحابه غیر التأویل وما الذی أرق دم ابن الزبیر وحجر بن عدی وسعید بن جبیر وغیرهم من سادات الأمة 1 غیر التأویل.
2
أمسک معاویة ابن خدیج بمحمد بن أبی بکر رضوان الله تعالی علیه فقال له: أتدری ما أصنع بک أدخلک جوف حمار ثم أحرقه علیک بالنار فقال محمد: إن فعلت بی ذلک فلطالما فعلتم ذلک بأولیاء الله وإنی لأرجو أن یجعلها علیک وعلی أولیاءک ومعاویة وعمرو ناراً تلظی کلما خبت زادها الله سعیرا فغضب منه وقتله ثم ألقاه فی جیفة حمار ثم أحرقه بالنار، فلما بلغ ذلک عائشة جزعت علیه جزعا شدیدا وقنتت فی دبر الصلاة تدعو علی معاویة وعمرو وأخذت عیال محمد إلیها فکان القاسم بن محمد بن أبی بکر فی عیالهم... ولما بلغ معاویة [بن أبی سفیان] قتله أظهر الفرح والسرور، وبلغ علیا قتله وسرور معاویة فقال: جزعنا علیه علی قدر سرورهم لا بل یزید أضعافاً... وفی حیاة الحیوان: ذکر ابن خلکان وغیره أن علی بن أبی طالب ولی محمد بن أبی بکر مصر فدخلها سنة سبع وثلاثین، وأقام بها إلی أن بعث معاویة ابن أبی سفیان عمرو بن العاص فی جیوش أهل الشام (إلی أن قال) فأمر معاویة (ابن خدیج) وکان من عسکر عمرو بن العاص فدخلوا علی (محمد) وربطوه بالحبال، وجروه علی الأرض، وأمر معاویة أن یجر فی الطریق، وأمر به أن یحرق بالنار فی جیفة (حمار). ووجد علیه علی بن أبی طالب وجداً عظیما. وقال: کان لی ربیبا وکنت أعده ولدا ولابنی أخا. وذلک لأنه علیه السلام کان قد تزوج أمه أسماء بنت عمیس بعد وفاة أبی بکر ورباه.. وما یدل علی أنه هو القاتل ما جاء فی التاریخ الصغیر (الأوسط) 3 حیث دخل معاویة علی عائشة فقالت: یا معاویة قتلت حجراً وأصحابه أما خشیت أن أخبأ لک رجلا فیقتلک بقتل أخی؟ قال لا إنی فی بیت أمان... .
ص:230
جاء فی تاریخ الطبری: (1) فخرج الاشتر من عند علی [صلوات الله تعالی علیه] فأتی رحله فتهیأ للخروج إلی مصر وأتت معاویة عیونه فأخبروه بولایة علی للأشتر فعظم ذلک علیه، وقد کان طمع فی مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها کان أشد علیه من محمد ابن أبی بکر فبعث معاویة إلی الجایستار - رجل من أهل الخراج - فقال له: ان الأشتر قد ولی مصر فان أنت کفیتنیه لم آخذ منک خراجا ما بقیت فاحتل له بما قدرت علیه فخرج الجایستار حتی أتی القلزم وأقام به وخرج الأشتر من العراق إلی مصر فلما انتهی إلی القلزم استقبله الجایستار فقال: هذا منزل وهذا طعام وعلف وأنا رجل من أهل الخراج فنزل به الأشتر فأتاه الدهقان بعلف وطعام حتی إذا طعم أتاه بشربة من عسل قد جعل فیها سما فسقاه إیاه فلما شربها مات وأقبل معاویة یقول لأهل الشام إن علیاً وجه الأشتر إلی مصرفا فادعوا الله أن یکفیکموه، قال: فکانوا کل یوم یدعون الله علی الأشتر وأقبل الذی سقاه إلی معاویة فأخبره بمهلک الأشتر فقام معاویة فی الناس خطیباً فحمد الله وأثنی علیه وقال: أما بعد فإنه کانت لعلی ابن أبی طالب یدان یمینان قطعت إحداهما یوم صفین یعنی عمار بن یاسر وقطعت الأخری الیوم یعنی الأشتر. وقال البخاری (2) فی ترجمته: بعث علی علیه السلام الأشتر أمیراً علی مصر حتی بلغ قلزم فشرب شربة من عسل فکان فیها حتفه فقال: عمرو بن العاص إن لله جنودا من عسل. وقال صاحب معرفة الثقاة (3) فیه: مالک بن الأشتر النخعی کوفی تابعی ثقة. وفی الجرح والتعدیل: (4) (910) مالک بن الحارث الأشتر النخعی روی عن علی رضی الله عنه. وفی تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر (5) نقلا عن کتاب العجلی المتقدم. مالک الأشتر النخعی کوفی تابعی ثقة... .
وقد أوردت مصادر عدة کما تقدم لتری ذکر الرجل بنفسک فهناک من یسکت وهناک
ص:231
من یشوش وهناک من یجمل کل ذلک لأنه کان من أصحاب علی صلوات الله تعالی علیه. (1)
أما أول رأس أهدی فی الإسلام فهو عمرو بن الحمق أهدی إلی معاویة بالشام ویقترن اسم هذا الصحابی الجلیل برجالات عرفوا بالتدین والولاء لمحمد وآله صلوات الله تعالی علیه وآله کمحمد بن أبی بکر ومالک الأشتر وصعصعة بن صوحان العبدی ورفاعة بن شداد ورشید الهجری وسعید بن جبیر ومیثم التمار، وارتباطهم من حیث کونهم من المنکل بهم من قبل الأمویین وأتباعهم، فهب أنهم قالوا فی قسم منهم أنهم شارکوا فی قتل عثمان ولکن لم یعطوا مبرراً واحداً تستباح به حرمات غیرهم، إلا أن أحدهم قد برر جواز قتل واحد من الصحابة مثلاً للحفاظ علی صلاح المجموع، وأما المصادر التّی تعرفک علی شخصیة هذا الصحابی والمجاهد المحتسب تجدها هنا. (2) واتهموه بأنه قد طعن عثمان تسع طعنات، والصقوا تهمة النهب والسلب بمن ثار، والواقع أنهم ثاروا لأنه تصرف بالأموال بغیر حق فکیف ینهبوه؟ وعلی کل حال مناقشة هذه الواقعة تحتاج إلی عرض خاص.
ص:232
علماً أنه من أتباع بنی أمیة وکان بیده لواء معاویة یوم صفین وکان أخوه مهاجر مع علی صلوات الله تعالی علیه وغزا عبد الرحمن الروم غیر مرة... جاء فی أعیان الشیعة السید محسن الأمین: (2)
قال ابن الأثیر فی الکامل70/3: إن سعید بن العاص والی الکوفة من قبل عثمان کان قد تنازع مع جماعة من أهل الکوفة فکتب فیهم إلی عثمان فکتب إلیه عثمان أن یلحقهم بمعاویة بالشام فتنازعوا معه فکتب إلی عثمان فیهم فأمره أن یردهم إلی سعید بن العاص بالکوفة ففعل فأطلقوا ألسنتهم فضج سعید منهم إلی عثمان فکتب إلیه أن یسیرهم إلی عبد الرحمن بن خالد بن الولید بحمص ففعل فکان فیهم الأشتر وثابت بن قیس الهمدانی وکمیل بن زیاد وزید بن صوحان وأخوه صعصعة وعمرو بن إسحاق وجندب بن زهیر وجندب بن کعب وغیرهم... .
کل ذلک بسبب میل أهل الشام إلی عبد الرحمن بن خالد، فشقّ ذلک علی معاویة وأسرّها فی نفسه. وروی: أن عبد الرحمن بن خالد کان مریضا، فدخل علیه ابن أثال النصرانی فسقاه سما، وروی الطبری وغیره أنه قد أمر معاویة ابن أثال أن یحتال فی قتله، وضمن له أن هو فعل ذلک أن یضع عنه خراجه ما عاش، وأن یولیه جبایة خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن بن خالد حمص، دس إلیه ابن أثال شربة مسمومة، فشربها فمات، وولاه معاویة خراج حمص، ووضع عنه خراجه.
وفی أعیان الشیعة السید محسن الأمین: (3)
خالد بن المهاجر بن خالد بن الولید بن المغیرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشی المخزومی. هو حفید خالد بن الولید الصحابی المشهور الذی اسلم قبل الفتح. وکان المهاجر والد خالد کما فی خزانة الأدب202/2 عن الأصفهانی فی الأغانی مع علی علیه السلام بصفین وکان خالد علی رأی أبیه هاشمی المذهب ودخل مع بنی هاشم الشعب یعنی أیام ابن الزبیر حین حصرهم فیه وأراد إحراقهم إن لم یبایعوه فأضطغن ذلک ابن الزبیر علیه یعنی حبه لبنی هاشم فألقی علیه زق خمر وصب بعضه علی رأسه وشنع علیه بأنه
ص:233
وجده ثملا من الخمر فضربه الحد وکان عمه عبد الرحمن بن خالد بن الولید مع معاویة فی صفین ولهذا کان خالد بن المهاجر أسوأ الناس رأیا فی عمه ثم أن معاویة لما أراد أن یظهر العهد لیزید قال لأهل الشام إنی قد کبرت سنی ودق عظمی واقترب اجلی وأرید أن استخلف علیکم فمن ترون فقالوا عبد الرحمن بن خالد فسکت وأضمرها ودس إلی ابن أثال الطبیب فسقاه سما فمات وبلغ ابن أخیه خالد بن المهاجر خبره وهو بمکة فقال له عروة بن الزبیر أتدع ابن أثال یفنی أوصال عمک بالشام وأنت بمکة مسبل إزارک تجره وتخطر فیه متخایلا فحمی خالد ودعا مولی له یدعی نافعا فاعلمه الخبر وقال له لا بد من قتل ابن أثال فخرجا حتی قدما دمشق وکان ابن أثال یمسی عند معاویة فجلس له فی مسجد دمشق إلی اسطوانة وجلس غلامه إلی أخری فلما حاذاه وثب إلیه خالد فقتله وثار به من کان معه فحملاً علیهم فتفرقوا حتی دخل خالد ونافع زقاقا ضیقا ففاتا القوم فبلغ معاویة الخبر فقال هذا خالد بن المهاجر اقلبوا الزقاق الذی دخل فیه فأتی به فقال له معاویة لا جزاک الله من زائر خیراً قتلت طبیبی فقال خالد قتلت المأمور وبقی الآمر فقال علیک لعنة الله والله لو کان تشهد مرة واحدة لقتلتک به أمعک نافع قال لا قال بلی والله ما اجترأت إلا به ثم أمر بطلبه فأتی به فضربه مائة سوط وحبس خالدا وألزم بنی مخزوم دیة ابن أثال اثنی عشر ألف درهم... .
ورد هذا الحدیث فی المصادر المذکورة فی الهامش فراجع. (1)
اختلف فی صحبته ونقلوا له عنه صلی الله تعالی علیه وآله فی جامع الترمذی وسنن أبی داود
ص:234
والنسائی ولذلک أثبت ابن حبان والدار قطنی وغیرهما له الصحبة، قال الواقدی: قبض رسول الله صلی الله علیه[وآله] وسلم وبسر صغیر لم یسمع منه وحکی ابن عبد البر عن احمد بن حنبل وابن معین نحو هذا وقالوا خرف فی آخر عمره... وأما أهل الشام فیقولون سمع منه صلی الله علیه وآله نقل عن ابن عبد البر فی الاستیعاب وقال سبط ابن الجوزی: «ولا أعلم أحدا من الصحابة خرف واختلط و الله أعلم إلا ما ذکر عن بسر بن أرطاة فیما تقدم علی القول بأنه صحابی»، وقال بن معین: بسر بن أرطاة رجل سوء، والبیهقی فی المعرفة: أهل المدینة ینکرون سماع بسر منه صلی الله علیه[وآله] وسلم، وقال فیه: وذلک لما اشتهر من سوء فعله فی قتال أهل الحرة وقال بعض: لا تقبل روایة من رضی ما وقع عام الحرة وکان من أعوانها. أقول: سبب ارتضائه أنه کان ضد علی علیه السلام وعلی کل حال راجع. (1) وکتعلیق علی ما ذکره أقول أیضاً: ینزهون الصحابة من الخرف ولکن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله عندهم هجر.
وللاطلاع علی أفعال بسر راجع المصادر المشار إلیها فی الهامش. (2)
نقل فی المنتظم (حتی752ه-) ابن الجوزی: (3) عن سمرة بن جندب قوله: «و الله لو أطعت الله کما
ص:235
أطعت معاویة ما عذبنی أبدا»، والظاهر أن کلامه المنقول هناک سببه أن معاویة عزله عن الإمارة..
وفی أخلاق سمرة بن جندب جاء فی الفائق للزمخشری: (1)
کانت لسمرة بن جندب عضد من نخل فی حائط رجل من الأنصار ومع الرجل أهله فکان سمرة یدخل إلی نخله فیشق علی الرجل فطلب إلیه أن یناقله فأبی فأتی النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم وذکر له ذلک فطلب إلیه رسول الله صلی الله علیه[وآله] وسلم أن یبیعه فأبی، فطلب إلیه أن یناقله فأبی قال: فهبه له ولک کذا وکذا أمرا أرغبه فیه فأبی فقال: أنت مضاره وقال للأنصاری: أذهب أنت فاقلع نخله.
وفی الخصائص الکبری السیوطی: (2)
أخرج البیهقی من طریق أبی نضرة عن أبی هریرة أن النبی قال لعشرة فی بیت من أصحابه آخرکم موتاً فی النار فیهم سمرة بن جندب قال أبو نضرة فکان سمرة آخرهم موتاً، وأخرجه من وجه آخر عن أبی هریرة... فکان إذا أراد الرجل أن یغیظ أبا هریرة یقول مات سمرة فإذا سمعه غشی علیه وصعق ثم مات أبو هریرة قبل سمرة.
ونقل صاحب مفاهیم القرآن الشیخ جعفر السبحانی:
فقد عمد سمرة بن جندب الذی أدرک عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ثم انضمّ بعد وفاته صلی الله علیه وآله وسلم إلی بلاط معاویة بالشام، عمد إلی تحریف الحقائق مقابل أموال أخذها من الجهاز الأموی، الحاقد علی أهل البیت. فقد طلب منه معاویة بإصرار أن یرقی المنبر ویکذب نزول هذه الآیة فی شأن علی علیه السلام ، ویقول للناس أنها نزلت فی حق قاتل علی: (أی عبد الرحمن بن ملجم المرادی)، ویأخذ فی مقابل هذه الأکذوبة الکبری، وهذا الاختلاق الفضیع الذی أهلک به دینه، مائة ألف درهم.
وفی مقاتل بن عطیة102: [سمرة بن جندب (عن أبی حنیفة: أقلد جمیع الصحابة ولا أستجیز خلافهم إلا ثلاثة: أنس بن مالک، أبو هریرة، سمرة بن جندب، مختصر جاء فی کتاب المؤمل لابن شامة وفی الروض النضیر فارس حسون کریم279:[ولاه معاویة فأسرف هذا السفاح فی القتل إسرافا لا حدود له. فهذا أنس بن سیرین یقول لمن سأله: هل کان سمرة قتل أحدا؟ وهل یحصی من قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زیاد علی البصرة وأتی الکوفة، فجاء وقد قتل ثمانیة آلاف من الناس (وفی روایة: من الشیعة)، فقال له - یعنی زیادا -: هل تخاف أن تکون قتلت أحدا بریئا، فرد علیه قائلا: لو قتلت إلیهم مثلهم ما خشیت... وقال أبو سوار العدوی: قتل سمرة من قومی فی غداة
ص:236
سبعة وأربعین رجلا قد جمع القرآن... وأغار سمرة بأمر معاویة علی المدینة، فهدم دورها وجعل یستعرض الناس علی التهمة والظنة، فما بلغه عن أحد یقال له: إنه ساعد علی عثمان إلا قتله... .
وفی الکامل لابن الأثیر: (1)
قال ابن سیرین قتل سمرة فی غیبة زیاد هذه ثمانیة آلاف فقال له زیاد أتخاف أن تکون قتلت بریئا فقال لو قتلت معهم مثلهم ما خشیت، وقال أبو السوار العدوی قتل سمرة من قومی فی غداة واحدة سبعة وأربعین کلهم قد جمع القرآن ورکب سمرة یوماً فلقی أوائل خیله رجلا فقتلوه فمر به سمرة وهو یتشحط فی دمه فقال ما هذا فقیل أصابه أوائل خیلک فقال إذا سمعتم بنا قد رکبنا... .
وفی فلک النجاة قال علی محمد فتح الدین الحنفی: (2)
فی النصائح الکافیة ذکر أبو جعفر الطبری بإسناده: وقد قتل (سمرة) ثمانیة آلاف من الناس، وفیه: قتل سمرة سبعة وأربعین رجلا کلهم قد جمع القرآن. قال العلامة وحید الزمان فی المشرب الوردی: ومن أقوی الشبه المؤثرة علی الإقدام لقبوله وهی کونه من مرویات سمرة الذی جد واجتهد فی الفتنة ومخالفة أمیر المؤمنین سیدنا علی بن أبی طالب، وعدوانه لا إرادة لوجه الله بل لأغراض تقدح فی عدالته (لا یسع المقام ذکرها)، وقد نقلت عنه أشیاء منکرة، ومن ثم اختلف الأئمة فی توثیق من علی مذهب سمرة ومعاویة. وقال أیضا: وفی نفسی من سمرة شیء لا أعتمد علی روایته].
وقال فی إعلام الموقعین ابن قیم الجوزیة: (3)
ومن ذلک أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذه فی العشور التی علیهم فبلغ عمر فقال قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم لعن الله الیهود حرمت علیهم الشحوم فجملوها وباعوها.
وللمزید عن سمرة راجع هذه المصادر. (4)
أما المصادر فقد استوعبها الشیخ علی الکورانی فی کتابه تدوین القرآن (5) فمن أراد مزید
ص:237
اطلاع فلیذهب هناک.
ومع ذلک هناک ملاحظاتان التی أود أن أبدیها هنا فتابع.
الملاحظة الأولی:
من خلال ما جاء فی آثار الذین منعوا من تدوین السنة أنهم منعوا من روایتها فضلاً عن تدوینها، وهو أمر مهم جداً، ففرق بین منع التدوین والسماح بالروایة وبین المنع من الروایة والتدوین، وهذا هو الکتمان بعینه.
الملاحظة الثانیة: فی مشروعیة الاستخارة علی تحریم أمر واجب:
الواقع أن ما ورد من أن عمر بن الخطاب قد جلس شهراً یستخیر الله تعالی فی هذا الأمر (1) لا یصح ولیس له أی وجه شرعی لما یأتی:
1. حدیث الأریکة الذی مر ذکره فی أصل البحث.
2.روی أبو داود فی سننه176/2، 215:
.. عن عبد الله بن عمرو، قال: کنت أکتب کل شیء أسمعه من رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم أرید حفظه، فنهتنی قریش، وقالوا أتکتب کل شیء تسمعه، و رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم بشر یتکلم فی الغضب والرضا فأمسکت عن الکتاب، فذکرت ذلک ل رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم فأومأ بإصبعه إلی فیه فقال: أکتب، فوالذی نفسی بیده ما یخرج منه إلا حق.
رواه أحمد فی مسنده192/2 بتفاوت یسیر، وروی الحاکم فی مستدرکه105/1و528/3 مثل ذلک والهیثمی فی مجمع الزوائد151/1 کذلک.
3. آیات القرآن الکریم الکثیرة التی وردت بهذا الصدد منها: وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی (النجم:3)، وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: من الآیة7)، مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَ مَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظاً (النساء:80)، وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ (آل عمران:132)، یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ (النساء: من الآیة59)، وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلی رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِینُ (المائدة:92)، وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (الأنفال: من الآیة1)، (وَأَطِیعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (الأنفال: من الآیة46)، قُلْ أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا
ص:238
اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَیْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَیْکُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِینُ (النور:54)، وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ (النور: من الآیة56)، یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَکُمْ (محمد:33)، (وَأَطِیعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (المجادلة: من الآیة13)، وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَإِنَّما عَلی رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِینُ (التغابن:12). ولا أظن عاقلاً یصدق أن الله تعالی یأتی بنبی له یرشد الناس ثم یرضی بتضییع ما بلغ به فتأمّل.
فإن قیل: إنه اجتهاد منه والمجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد رجعنا إلی إخضاع قاعدة تأول فأخطأ إلی القاعدة نفسها فتأکل نفسها بنفسها لأنها خرجت من غیر معصوم.
ثم إن الاجتهاد لو تنزلنا وقبلنا ذلک فإنه یقبل فی النص ولا یقبل فی قبال النص، ففی الحالة الثانیة یکون مصداقاً لمحو النص، وهذا أیضاً من الکتمان المنهی عنه. وفی هذه الحال یکون کل تغییر للسنة النبویة المطهرة کتماناً من تقدیم أهل الکساء إلی آخر ما قام به رسول الله صلوات الله تعالی علیه وآله.
من یدعی أن النبی صلوات الله تعالی علیه وآله لم یوصِ فقد أخطأ، فقد وردت الوصیة عن طریق حدیث مسلم، واللطیف أنه لم یقل (بأهل بیتی) بل (فی أهل بیتی) وفرق بین اللفظین کبیر وذلک من جهتین:
الجهة الأولی: علی الأول یکون معناه أنه طلب من المسلمین التلطف والاهتمام بهم ولا مانع من أن یوصی بغیرهم وأما لفظ (فی) فمعناه حصر الوصیة فیهم ولیس لغیرهم أن یدخلوا فی هذا الأمر وهو أمر الوصیة کائنة ما تکون.
الجهة الثانیة: أن التذکیر بالله والطریق الصحیح المؤدی إلیه منحصر فیهم.
النتیجة أنه صلوات الله تعالی علیه وآله لما أوصی المسلمین بالأنصار قال أوصیکم بالأنصار وبالعباس و بالنساء ولکن عندما وصل إلی لآل علیهم أفضل الصلاة والسلام أوصی فیهم ولم یکتفِ بأن یوصی لهم.
ص:239
وقد وجدت مؤیداً لما ذهبت إلیه وهو ما جاء فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید: (1) (فأما کیفیه الاحتجاج علی الأنصار، فقد ذکرها علی علیه السلام، وهی أنه لو کان صلوات الله وسلامه علیه ممن یجعل الإمامة فیهم، لأوصی إلیهم ولم یوص بهم. وإلی هذا نظر عمرو بن سعید بن العاص، وهو المسمی بالاشدق، فإن أباه لما مات خلفه غلاما، فدخل إلی معاویة فقال: إلی من أوصی بک أبوک؟ فقال: إن أبی أوصی إلیَّ ولم یوصِ بی، فاستحسن معاویة منه ذلک، فقال: إن هذا الغلام لأشدق، فسمی الأشدق.. وعن کتاب (مجلسان من إملاء النسائی): (2) أخبرنا أبو علی محمد بن یحیی المروزی ثنا شاذان بن عثمان ثنا أبی أنبا شعبة عن هشام بن زید قال: سمعت أنس بن مالک یقول: مر أبو بکر والعباس رضی الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم یبکون فقال: ما یبکیکم قالوا: ذکرنا مجلس رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم منا فدخل علی النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم وأخبره بذلک فخرج النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم وقد عصبوا علی رأسه حاشیة برد فصعد المنبر ولم یصعده بعد ذلک الیوم فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أوصیکم بالأنصار فإنهم کرشی وعیبتی وقد قضوا الذی علیهم وبقی الذی لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسیئهم). (3)
وجاء فی کنز العمال المتقی الهندی (4) عن عبد الله بن عمر قال: کتب أبو بکر الصدیق إلی عمرو بن العاص، إن رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم شاورنا فی الحرب، وعلیک به، قال: وکتب إلیه، أما بعد فقد عرفت وصیة رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم بالانصار بعد موته: إقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسیئهم. (البزار طب عق) وسنده حسن.
ص:240
کما جاء فی فیض القدیر شرح الجامع الصغیر المناوی (1) - (استوصوا) قال الطیبی: الأظهر أن السین للطلب مبالغة أی اطلبوا الوصیة من أنفسکم فی حقهم بخیر (بالأنصار خیرا)... وأخذ منه أن الخلافة لیست فیهم وإلا لأوصاهم ولم یوص لهم)، أقول: بل لأوصی لهم ولیس بهم ثم أکمل قائلاَ: (وقول ابن حجر لا دلالة فیه إذ لامانع من ذلک فیه تحامل لا یخفی)... وفی ح/ (1011) (استوصوا بالعباس) أبی الفضل ذی الرأس الجزل والقول الفصل (خیرا فإنه عمی وصنو..) بکسر فسکون (أبی) فهو أب مجازا وهو شقیق والده عبد الله بن شیبة الحمد ووصی عمه (2) من بعده کان رئیساً فی قریش قبل الإسلام، إلیه عمارة المسجد الحرام والسقایة أسر ببدر لقول المصطفی صلی الله علیه [وآله] وسلم من لقیه فلا یقتله فإنه خرج مستکرها وفادی نفسه... وإسناده ضعیف لکن یعضده ما جاء عن ابن عباس بلفظ استوصوا بعمی العباس خیرا فإنه بقیة آبائی (3) وإنما عم الرجل صنو أبیه ورواه الطبرانی وفیه کما قال الهیتمی عبد الله بن خراش ضعیف وبقیة رجاله وثقوا. وفی ح/ (1012) (استوصوا بالنساء خیراً) أی اطلبوا الوصیة والنصیحة لهم من أنفسکم أو اطلبوا الوصیة من غیرکم بهن (أو اقبلوا) وصیتی فیهن واعملوا بها وارفقوا بهن وأحسنوا عشرتهن... .
وعن عمر بن الخطاب أوصی الخلیفة من بعده ولکن (ب-) ولم یوص (ل-)..
السنن الکبری النسائی: (4) أخبرنا محمد بن منصور قال: حدثنا سفیان قال: حدثنا حصین بن عبد الرحمن قال: سمعت عمرو بن میمون یقول أوصی عمر بن الخطاب رضی الله تعالی عنه فقال: أوصی الخلیفة من بعدی بتقوی الله، وأوصیه بالمهاجرین الاولین الذین أخرجوا من دیارهم..- الآیة - أن یعرف لهم هجرتهم ویعرف لهم فضلهم، وأوصیه بالانصار الذین تبوءوا الدار والایمان من قبلهم - الآیة - أن یعرف لهم فضلهم وأن یقبل من محسنهم ویتجاوز عن مسیئهم، وأوصیه بأهل ذمة محمد صلی الله علیه [وآله] وسلم أن یوفی لهم بعدهم وأن لا یحمل علیهم
ص:241
فوق طاقتهم وأن یقاتل عدوهم من ورائهم... کما ورد ذلک فی کنز العمال المتقی الهندی... . (1)
نفی أبی ذر رضوان الله تعالی علیه إلی الربذة، (2) وکان السبب اختلافه رضوان الله تعالی علیه مع معاویة لیس علی جمع الأموال کما یصورها المدافعون عن الثانی، بل فی تحریف الآیة الکریمة: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّ کَثِیراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَیَأْکُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا یُنْفِقُونَها فِی سَبِیلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ (التوبة:34)، فإن معاویة قرأها من دون واو قوله تعالی وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ لأنه أراد أن یغیر معنی الآیة الکریمة فإنها من غیر الواو تصیر اَلَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ صفةً الأحبار والرهبان ومعها تکون عامة لیست خاصة بالمذکورین.
فأرادوا ترقیع ذلک لمعاویة فحرّفوا الکلام فقالوا: قال معاویة: هی خاصة بالمذکورین وقال أبو ذر: هی تعمهم ومن یکنز.. وألصقوا التهمة لشخصیةٍ مختلقةٍ أطلقوا علیها عبد الله بن سبأ وکان المقصود عمار بن یاسر.. للمزید راجع... .
تجد فیها النهی عن سب علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه ومصادر تذکر من کان یسبه، وتجد هذا الأمر فی مصادر قتل أصحابه وشیعته علیه السلام . 3 وأی عدالة لمن
ص:242
ص:243
سبه علیه السلام وقاتله خاصة بعد حدیث:
«سباب المسلم فسوق وقتاله کفر» کما مر فی صفحة41.
حینما أوردت المصادر التی تحدثت عن التضییق علی أهل البیت صلوات الله تعالی علیهم وکذلک علی أصحابهم وهنا علی شیعتهم لیس ذلک لکسب العطف أو المؤیدین إنما کی تکون علی علم بحقائق الأمور هذا من جهة ولارتباط هذه المسألة بأصل غایة تألیف هذا الکتاب. فانظر إلی هذه المآسی وضع نفسک مکان من وقع علیه الحیف والظلم ولیس مهماً أن تتحول من مذهب إلی آخر إنما المهم أن یتوفق الإنسان إلی الحکم بالحق فیتحول إلی صاحب بصیرة.. وعلی المنصف أن یلاحظ مسألة مهمة وهی أن من هؤلاء من کان من أهل البیت علیهم السلام أو من الصحابة أو من خیرة التابعین فافهم.. وعلی کل حال لو أردت أن تحکم علی تتبع الشیعة فلا تبعد عنک کتب المستبصرین وکما ذکرت قد تکتفی بما صنعوا بآل محمد صلوات الله تعالی علیهم أجمعین فمن باب أولی أن فعلهم بأتباعهم یکون مشابهاً إن لم یکن أسوأ.. وإلیک هذه المجموعة من المصادر. (1)
کما جاء بلفظ: من مات ولیس فی عنقه بیعة لإمام لقی الله یوم القیامة لا حجة له، أو بلفظ: ومن مات ولیس فی عنقه بیعة مات میتة جاهلیة... راجع هنا لتطلع (2) فما حکم من تخلف عن
ص:244
بیعة علی علیه السلام أو نکث؟
هذا الحدیث ورد فی کتب العامة بهذا الکم وأکثر کما ورد فی کتب الخاصة أیضاً، فلماذا یحمل السلفیون علی الشیخ المفید رحمه الله ولماذا هذا العداء الخاص له؟ وعلی کل حال راجع هذه المصادر لتتعرف. (1)
علی أنّه من الواضح أنّه لا یحق لأحد أن یحکم بخطأ غیره إلا إذا کان معصوماً، وبخلافه یحمل علی الطرفین الخطأ والصواب فلا یحقّ له أن یکون متبوعاً، و لا یحقّ له الحکم بتجاوز الحرمات الثلاث. وادعاء العصمة ما لم یکن مدعماً بدلیل أیضاً لیس بشیء، أما نحن فلا ندعی أن أئمتنا معصومون فقط، بل الدلیل قائم علی ذلک من خلال القرآن الکریم.
ص:245
وعلیه فاعلم أن هناک حادثة ثبتت فی کتاب الله تعالی، وهی حادثة المباهلة ذکرها فی کتابه العزیز، حیث قال تعالِی: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ (آل عمران: من الآیة61)، (1) هذه الآیة المبارکة نزلت فی بیان أهل النبی صلوات الله تعالی علیه وآله، واعترف ابن قیم الجوزیة (2) بأنّ له صلی الله علیه وآله وسلم عندئذٍ عدّة نساء ومع ذلک کان المقصود بقوله تعالی: نِساءَنا هی فاطمة صلوات الله تعالی علیها، وأمّا أَبْناءَنا فهما الحسنان صلوات الله تعالی علیهما السلام، وأما أنفسنا أنفسنا فهوأمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه.. والروایة علی ما جاءت فی مسلم (3) حینما أمر معاویة سعد بن أبی وقاص أن یسب علیاً صلوات الله تعالی علیه فامتنع، حیث جاء هناک:
أمر معاویة بن أبی سفیان سعداً فقال ما منعک أن تسب أبا التراب؟ فقال أمّا ما ذکرت ثلاثاً قالهن له رسول صلی الله علیه [وآله] وسلم، فلن أسبه، لأن تکون لی واحدة منهن أحب إلیَّ من حمر النعم، سمعت رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم یقول له خلَّفه فی بعض مغازیه، فقال له علی یا رسول الله خلفتنی مع النساء والصبیان، فقال له رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم أما ترضی أن تکون منی بمنزلة هارون من موسی، إلاّ أنّه لا نبوة بعدی، وسمعته یقول یوم خیبر: لأعطین الرایة رجلاً یحبّ الله ورسوله ویحبّه الله ورسوله، قال فتطاولنا لها، فقال ادعوا لی علیاً، فأتی به أرمد فبصق فی عینه ودفع الرایة إلیه، ففتح الله علیه ولما نزلت هذه الآیة: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ دعا رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم علیاً وفاطمة وحسناً وحسیناً، فقال اللهم هؤلاء أهلی.
فالروایة واضحة لا تحتاج بیاناً إلاّ إلی من أقفل قلبه.
فثبت أنّ أمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه هو نفس الرسول باتفاق جمیع أهل الملة؛ لما ورد فی الأثر فی تفسیر هذه الآیة المبارکة، ولما کان النبی صلوات الله تعالی علیه وآله لم یکن بصدد إثبات نسبه فی المباهلة، بل بصدد إثبات نبوته فالجمیع یعلم أنّه محمد بن عبد الله، ولکن الخلاف کان فی أنّه رسول الله تعالی صلوات الله تعالی علیه وآله لم یکن ذلک أمراً عشائریاً أو عرفیاً أو قبلیاً، کما یصورون، فبذلک یتضح أن کل وصف یثبت له صلی الله تعالی علیه وآله یثبت
ص:246
لأمیر المؤمنین صلوات الله تعالی علیه، إلاّ قوله تعالی: إِنَّکَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ (یّس:3)، کما ثبت من القرآن الکریم من قوله تعالی: وَ لکِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ (الأحزاب: من الآیة40) ومن روایة مسلم کما اتضح. وقد قال الله تعالی للرسول الخاتم صلوات اللهتعالی علیه وآله: فَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ إِنَّکَ عَلَی الْحَقِّ الْمُبِینِ (النمل:79)، و فَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ إِنَّکَ عَلَی الْحَقِّ الْمُبِینِ (النمل:79)، فهو علیه السلام علی الحق المبین، و فَلا یُنازِعُنَّکَ فِی الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلی رَبِّکَ إِنَّکَ لَعَلی هُدیً مُسْتَقِیمٍ (الحج:من الآیة67)، فهو أیضاً کذلک لا ینازع فی الأمر ولم یقل فی النبوة لئلا یتم التخصیص به، و إِنَّ الَّذِینَ یُبایِعُونَکَ إِنَّما یُبایِعُونَ اللّهَ یَدُ اللّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ فَمَنْ نَکَثَ فَإِنَّما یَنْکُثُ عَلی نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفی بِما عاهَدَ عَلَیْهُ اللّهَ فَسَیُؤْتِیهِ أَجْراً عَظِیماً (الفتح:10)، فهو کذلک، و وَ إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ (القلم:4)، و إِنَّکَ عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ (الزخرف: من الآیة43)، فیثبت أن أمیر المؤمنین علیه السلام هو الصراط المستقیم من بعدُ، وإذا رجعت إلی قول إبلیس علیه اللعن حیث قال فیما نقل عنه القرآن الکریم: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَکَ الْمُسْتَقِیمَ (الأعراف: من الآیة16)، عندما توفی النبی صلوات الله تعالی علیه وآله کان الصراط المستقیم أو الذی علی الصراط المستقیم هو أمیر المؤمنین علیه السلام فقعد إبلیس أزاءه وبدأ یحرف الناس عنه إلی غیره، فحصلت الفلتة ثم التعیین، ثم الشوری، ثم قامت الحروب ضده وضد من بعده لحد الآن، فلا تعجب ولا تکن ممن ینطبق علیه قوله تعالی: إِنَّکَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتی وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِینَ (النمل:80) فاسمع من أمیر المؤمنین علیه السلام کما لو أردت أن تسمع من الرسول صلوات الله تعالی علیه وآله وإلا فسوف یخصمک کل منهما: ثُمَّ إِنَّکُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ عِنْدَ رَبِّکُمْ تَخْتَصِمُونَ (الزمر:31) لانطباق الآیة الکریمة علیهما بالسواء، فمن هنا تأتی روایات البخاری حیث نقل أن رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم قال: (1)
«یرد علی الحوض رجال من أصحابی فیحلؤون [فیجلون] عنه فأقول یا ربّ أصحابی، فیقول إنّک لا علم لک بما أحدثوا بعدک إنّهم ارتدوا علی أدبارهم القهقری..» وفیه کذلک عن النبی صلی الله علیه[وآله] وسلم قال:
بینا أنا قائم فإذا زمرة حتی إذا عرفتهم خرج رجل من بینی وبینهم، فقال: هلم فقلت: أین؟ قال: إلی النار و الله، قلت: وما شأنهم، قال: إنّهم ارتدوا بعدک علی أدبارهم القهقری، ثم إذا زمرة حتی إذا عرفتهم خرج رجل من بینی وبینهم فقال: هلم، قلت: أین؟ قال: إلی النار و الله، قلت ما شأنهم قال: إنّهم ارتدوا بعدک علی أدبارهم القهقری. فلا أراه یخلص منهم إلاّ مثل همل النعم..
ص:247
وذکر أنّ النبی صلی الله علیه [وآله] وسلم خرج یوما فصلی علی أهل أحد صلاته علی المیت، ثم انصرف علی المنبر فقال: (1)
إنی فرط لکم وأنا شهید علیکم، وإنّی و الله لأنظر إلی حوضی الآن وإنّی أعطیت مفاتیح خزائن الأرض أو مفاتیح الأرض، وإنّی و الله ما أخاف علیکم أن تشرکوا بعدی ولکنی أخاف علیکم أن تنافسوا فیها..
أیّها القارئ دلنی بالله علیک علی هذا الرجل الذی یخرج من بین النبی صلوات الله تعالی علیه وآله بین الصحابة لأتبعه، فإن کان علیاً صلوات الله تعالی علیه فاتبعه خیراً لک وإلاّ فقل من هو... ؟.
انتبه لنفسک، وانظر من تبایع ولا یدخلنک هوس الشیطان، فالنبی صلوات الله تعالی علیه وآله قد بیّن ضّلال وارتداد قسم کبیر من الصحابة ولم یبین ضّلال أهل البیت: (خرج رجل من بینی وبینهم فقال: هلم، قلت: أین؟ قال: إلی النار و الله، قلت ما شأنهم قال: إنّهم ارتدوا بعدک علی أدبارهم القهقری. فلا أراه یخلص منهم إلا مثل همل النعم)، وفی روایة مسلم:
«ولما نزلت هذه الآیة: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءکم، دعا رسول الله صلی الله علیه [وآله] وسلم علیاً وفاطمة وحسناً وحسیناً، فقال اللهم هؤلاء أهلی.» ، فانظر ماذا تقدم لنفسک، واختر لنفسک من قوله تعالی: أَ فَمَنْ یَمْشِی مُکِبًّا عَلی وَجْهِهِ أَهْدی أَمَّنْ یَمْشِی سَوِیًّا عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ (الملک:22).
ولو جمعت بین الروایات التی وردت فی وجوب البیعة لإمام وروایات افتراق الأمة والروایات التی جاءت بصدّد بیان الفتن وما سیصیب المسلمین لشعرت بضرورة وجود المعصوم لیکون الدال علی الصراط، فقد تقاتل بنو أمیة وبنو العباس علی السلطة، (2) فمع من یجب أن یصطف المسلمون! أمع بنی أمیة؟ أم مع بنی العباس؟ أم یعتزلون؟ وإن اعتزلوا فهل من إمام لهم حینئذٍ أم من غیر إمام؟ فإن کان المعتزل من غیر إمام، فهذا خلاف وجوب البیعة، وإن کان مع إمام، فإن کان غیر معصوم، فکیف سیدله علی الحقّ، وهو محتاج الدلیل، وإن کان معصوماً ثبت المطلوب. فإن قیل هذه فتنة فیکون المعتزل ناجیاً بمجرد الاعتزال
ص:248
نرجع إلی حدیث ضرورة البیعة لإمام.. وقد تعمد أو اشتبه من اعتزل أو قاتل علیاً علیه السلام ، ومات إمّا محارباً إمامه أو لا إمام له، فعلی علیه السلام کما مرّ هو الذی علی الصراط المستقیم، فإنّهم لم یتبعوا أقوال النبی صلوات الله تعالی علیه وآله فی وجوب البحث عن الإمام أیام الفتن ولو کانت الطاعة لا علی التعیین لکان أهل الفتن کلهم علی الحقّ، فلکل إمام، ولکن الأحادیث نصت علی ضرورة البحث عن الإمام والمقصود هنا، الإمام الحقّ، والإمام الحقّ لا یعنی الظنی، بل الیقینی، قال الله تعالی: وَ ما یَتَّبِعُ أَکْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً (یونس: من الآیة36).
قد تشکّل کثرة المصادر عبئاً أثناء الطباعة والتحقیق فلذلک أرجو التحققَ باستخدام الاقراص. ثم إنّه قد یحصل خطأ من قبل البرنامج فی استخراج أرقام مجلدات المصادر فتنقلب مثلاً من 49 إلی 94 فأرجو المتابعة وهذا یحصل مع بعض الکتب الشیعیة فی برنامج المعجم الفقهی القدیم، وأما الاختلاف فی الطبعات فهذا ممّا یخرج عن إمکان التصرف، والبحث فی أجهزة الکومبیوتر یسهل العثور علی الهدف.
تم الکتاب بعونه تبارک وتعالی والصلاة والسلام علی محمد وآله الطیبین الطاهرین، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمین.
ص:249