اسالیب التبلیغ عندالانبیاء علیهم السلام دراسة قرآنیة

اشارة

سرشناسه:موسوی، سیدمنتظر، 1358 -

عنوان و نام پدیدآور:اسالیب التبلیغ عندالانبیاء علیهم السلام دراسة قرآنیة/ السیدمنتظر الموسوی (الجابری).

مشخصات نشر:قم: مرکزالمصطفی(ص) العالمی للترجمه والنشر، 1433 ق.= 1390.

مشخصات ظاهری:288 ص.

فروست:معاونیةالتحقیق؛ 329.

شابک:46000 ریال :978-964-195-563-4

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص. [279]- 288؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:قرآن -- تبلیغات

موضوع:پیامبران -- دعوت

موضوع:اسلام -- تبلیغات

شناسه افزوده:جامعة المصطفی(ص) العالمیة. مرکز بین المللی ترجمه و نشر المصطفی(ص)

رده بندی کنگره:BP220/2/م8الف5 1390

رده بندی دیویی:297/43

شماره کتابشناسی ملی:2581069

ص:1

اشارة

معاونیة التحقیق

إن کان هذا الجهد مؤهلاً للإهداء،فأنی أهدیه إلی الذین أوحی الله تعالی إلیهم: (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) ،إلی الذین یبلغون رسالات الله ویرشدون عباده،وإلی کلّ السائرین و الصابرین علی هذا الخط و المقتدین بهداهم.

أهدی هذا الجهد المتواضع الذی هو من فیض هدیهم المبارک،داعیاً الله عز وجلّ الرضا لی ولوالدی،وأن یمنحنی القبول ویحشرنی فی زمرتهم بحق کلّ نبی ورسول.

ص:2

أسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام دراسة قرآنیة السید منتظر الموسوی(الجابری)

ص:3

أسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام دراسة قرآنیة

المؤلف:السید منتظر الموسوی(الجابری)

الطّبعة الأول:1433ق/1390ش

النّاشر:مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی لترجمة و النشر

المطبعة:زلال کوثر السّعر:46000 ریال عدد النّسخ:2000 نسخة

حقوق الطبع محفوظة للناشر

التوزیع:

قم،استدارة الشهداء،شارع الحجتیة،معرض مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للترجمة و النشر.هاتف-الفکس:02537730517

قم،شارع محمّد الأمین،تقاطع سالاریة،معرض مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للترجمة و النشر.هاتف:2532133106 فکس:02532133146

www.pub.miu.ac.ir

ص:4

کلمة الناشر

(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْکِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) والصلوة و السلام علی النبی الأمین محمّد صلّی الله علیه و آله وآله الهداة المهدیین وعترته المنتجبین و اللعن الدائم علی أعدائهم أعداء الدین.

لقد شهدت علوم الدین مدی أربعة عشر قرناً علی طیلة تاریخها العلمی المشرف مستویً من التغیر المستمرّ فی الحرکة إلی الأمام علی صعید الثقافة و الحضارة الإسلامیة فأوجد تطوّراً منهجیاً فی العلوم الرئیسة المختصّة بالشریعة ک-:الفقه الاسلامی وعلم الکلام و الفلسفة و الأخلاق...وتبعاً لهذا الجانب ترک التطوّر انطباعا موازیاً بینا فی العلوم الأدواتیة ک-:المنطق وعلم الرجال و الحقوق....

وفی ضوء انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة المعظمّة وحدثها الداعی إلی رؤیة دینیة حدیثة فی نطاق الحکم بغضون القرن الداعی إلی الانفلات من ظلّ الدین و الأیدیولوجیة الدینیة وما یعرض فی مسرح أحداثه من تطوّر فی مسار نظریات العلاقات الدولیة أو تصاعد الأسئلة المعرفیة المتعلّقة بمفهوم الوجود ومستلزماته الشاغلة لذهن الإنسان الحاضر وکذلک ما حصل من توسّع لدی علم الوجود الإنسانی فی ظلّ الأحداث و المتغیرات المعنیة بهذا الجانب؛جعلت المفکّر الإسلامی فی أعلی مستوی من المسؤولیة أکثر ممّا سلف خاصّة فی الدول الإسلامیة التی باتت فی محاولة ضروریة لمواجهة الشعارات الخوّاء فی عصر العولمة فی ضوء التدقیق و الملاحظة و النقد البنّاء

ص:5

لاجتیاح أی فقرة یخشی أن تسبّب مشکلات فی مقتبل الأیام.

ومن هذا المنطلق یتطلّب الصعید الحوزوی النیر لضرورة الوقوف علی آخر المستجدّات الفکریة فی حقولها المتعدّدة والاستعانة بضروب من التحقیق العلمی الرصین بمعاییر عالمیة حیة لتوظَّف فی نطاق الدین و الشریعة للإجابة علی المتطلّبات العصریة و المنطلق الداعی إلی التکامل و التعالی فی ظلّ الدین و التزام نظامه فی العلم و الحیاة من جهة أخری حیث یتطلّب الأمر من الحوزة العلمیة مسؤولیة وضع حدّ لردع الجانب العولمی وتبعاته المنحطّة علی الإنسان بلحاظه العام.

و قد کانت رؤیة التصدّی لهذا الأمر فی عنایة من مؤسسی الحوزة العلمیة هذه الشجرة الطیبة الذی (أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِی السَّماءِ) ،سیما الإمام الخمینی رحمة الله الراحل وقائده المبجّل الإمام السید علی الخامنئی دام ظله الوارف فی الوقت الراهن.

و قد سعت جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة فی ضوء ما تقدم لنیل النجاح فقامت بإرساء مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للترجمة و النشر حیث تکفّل بنشر نتاج هذا الجانب العلمی الهامّ.

و إنّ هذا الدراسة أسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام دراسة قرآنیة جاءت بجهود فضیلة الأستاذ السید منتظر الموسوی(الجابری)متوافقة مع نسق الرؤیة السائدة المتّبعة و هذه الأهداف السامیة.

کما ندعو أصحاب الفضیلة والاختصاص بما لدیهم من آراء بنّاءة وخبرات علمیة ومنهجیة عصریة بالمساهمة معنا و المشارکة فی نشر علوم أهل البیت علیهم السلام.

وختاما لیس لنا إلّا تقدیم الشکر الجزیل لکافّة المساهمین الکرام بجهودهم الخاصّة بإعداد الکتاب للطباعة و النشر.

مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للترجمة و النشر

ص:6

الفهرس

المقدمة 13

مدخل البحث

المبحث الأول:تعریف الأسلوب وفرقه عن الوسیلة 21

1.الأسلوب لغةً 21

2.الأسلوب اصطلاحاً 21

3.الفرق بین الوسیلة و الأسلوب فی التبلیغ 22

المبحث الثانی:تعریف التبلیغ 25

1.التبلیغ لغةً 25

2.التبلیغ اصطلاحاً 26

3.النتیجة 28

المبحث الثالث:مفردات ذات صلة 31

1.الدعوة 31

أ)الدعوة لغة 31

ب)الدعوة اصطلاحاً 32

ج)موضوع الدعوة 33

د)الفرق بین الدعوة و التبلیغ 35

ه)الفرق بین الدعوة و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر 38

أوّلاً:اختلافهما فی المعنی 39

ص:7

ثانیاً:الاختلاف فی الترتیب الطبیعی 39

ثالثاً:اختلافهما فی میدان التطبیق 40

رابعاً:الاختلاف فی کیفیة الأداء 40

2.الإنذار 40

3.التبشیر 43

4.التزکیة 44

5.الجدل 45

6.النصح 48

الفرق بین تبلیغ الرسالة وبین النصیحة 49

7.التذکیر 50

8.الهدایة 51

9.التبیین 52

10.الإرشاد 53

المبحث الرابع:معنی النبی وفرقه عن الرسول 55

1.النبی لغة 55

2.النبی اصطلاحا 57

3.الفرق بین النبی و الرسول 58

الفصلُ الأوّل:شروط التبلیغ و المبلغ وفیه مبحثان

المبحث الأول:شروط المبلّغ 67

1.الوعی 67

2.الشجاعة 72

3.الإخلاص 75

4.الصبر 78

5.عزّة النفس 86

6.القول و العمل 92

المبحث الثانی:شروط التبلیغ 97

1.مراعاة الزمان و المکان فی التبلیغ 97

ص:8

2.معرفة فن التبلیغ 118

3.عدم التکلّف 121

4.مطابقة الحق 123

5.عدم المنّ 124

الفصلُ الثانی:بیان لأهمّ أسالیب التبلیغ

المبحث الأوّل:أهمیة الأسالیب فی التبلیغ 129

1.وعی المرحلة وتنویع الأسالیب 132

2.القرآن الکریم یهذب الأسالیب 135

المبحث الثانی:أهمّ أسالیب التبلیغ 139

1.أسلوب الحکمة 139

کلمة الحکمة ودلالتها 139

2.أسلوب الموعظة الحسنة 145

أ)فرق الموعظة عن غیرها 146

ب)الحُسن شرط فی الموعظة 146

ج)شروط أخری لتأثیر الموعظة 148

3.أسلوب الجدل 150

أ)فرق الجدل عن غیره 151

ب)فرق وتقسیم 154

ج)الجدال ممدوح ومذموم 156

د)شروط الجدال الأحسن 157

ه)أمثلة من الجدل الأحسن 159

و)الأحسن شعار المبلّغ 162

4.أسلوب اللین و اللطف 166

5.أسلوب التذکیر 174

أ)الفرق بین التذکیر و التنبیه 176

ب)الذکری تنفع المؤمنین 177

ج)نماذج من التذکیر بالنعم 178

أوّلاً:النعمة السیاسیة والاجتماعیة 178

ثانیاً:نعمة الإمداد الغیبی 179

ثالثاً:نعمة الرزق 179

ص:9

رابعاً:نعمة التفضیل علی الآخرین 179

خامساً:نعمة الوحدة 180

سادساً:نعمة القیادة 180

د)الهدف من ذکر النعم 183

6.أسلوب القصص و التاریخ 185

أ)القصة 185

أوّلاً:مفهوم القصة 185

ثانیاً:أهداف القصص القرآنی 189

ثالثاً:القصة القرآنیة ومناهج الدّعوة 192

رابعاً:نموذج من القصص القرآنی 194

خامساً:الاستهزاء بالقصص القرآنی 196

ب)التاریخ 197

النظر فی تاریخ الماضین وآثارهم 198

7.أسلوب التمثیل و التشبیه 201

أ)الهدف من ضرب الأمثال و التشبیهات 201

ب)أهمیة المثال فی التبلیغ وبیان الحقائق 202

ج)من أمثال القرآن 204

8.أسلوب المقارنة و المقایسة 206

المقارنة الواعیة بین الماضی و الحاضر 208

9.أسلوب الترکیز علی المسلّمات و المشترکات 212

رسائل النبی إلی رؤساء العالم 214

أولاً:رسالة إلی المقوقس 215

ثانیاً:رسالة إلی قیصر الروم 215

10.أسلوب التدرج 215

أمثلة التدرج 216

أوّلاً:مراحل بیان تحریم الخمر 216

ثانیاً:تحریم الرّبا 220

ثالثاً:التدرج فی نزول القرآن 221

11.أسلوب الاستفهام 225

أ)الاستفهام وإثارة العواطف 228

ب)الاستفهام وإیقاظ الضمیر 228

ص:10

ج)الاستفهام وإیقاظ العقول و الفطرة 229

12.أسلوب الحسم 231

13.أسلوب الحوار 235

شروط الحوار الناجح 236

14.أسلوب الترغیب و الترهیب 239

أصلان تربویان 241

15.أسلوب التلقین و التکرار 245

انواع التلقین 246

الفصلُ الثالث:کیفیة الاستفادة من أسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام فی إعلامنا المعاصر،وفیه مباحث

توطئة وتمهید 251

المبحث الأول:مفهوم الإعلام 255

المبحث الثانی:إحیاء الإعلام 257

المبحث الثالث:قواعد الاستفادة من أسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام 261

المبحث الرابع:إصلاح المؤسّسات الإعلامیة 271

الخاتمة 275

نتائج البحث 275

فهرس المصادر 279

ص:11

ص:12

المقدمة

الحمد لله رب العالمین, وأفضل الصلاة وأتم التسلیم علی سید الأنبیاء و المرسلین, سیدنا ونبینا وحبیب قلوبنا أبی القاسم محمد صلّی الله علیه و آله و آله الهداة المهدیین الطیبین الطاهرین علیهم السلام.

عُرِفَ التبلیغ منذ العصور الأولی للتاریخ،و قد تعددت وتنوعت أسالیبه وطرقه،وأخذت بالتطوّر و التجدد تبعاً لاختلاف الزمان و المکان،ونظم الحکم وظروف کلّ مجتمع؛فلم یخل أی عصر من العصور أو أی مجتمع إنسانی من اعتماد أسالیب خاصَّةٍ.فی التبلیغ،حتّی وصلت إلی ما هی علیه الآن،حیث أصبحت الیوم عصب الحیاة ووجه من وجوه الحضارة،وجهً معبراً عن کلّ الأفکار والاتجاهات و الظروف و النظم،فالتبلیغ؛وتنوّع أسالیبه ظاهرة اجتماعیة شقت طریقها إلی کلّ البیئات و العصور منذ کان الإنسان یحیا حیاةً بدائیة إلی الآن, حیث أصبح للتبلیغ و الإعلام-فی عصر الثورة المعلوماتیة،والسبق التکنولوجی،وسهولة الاتصالات والارتباطات-شأناً عظیماً،ووصل إلی درجة کبیرة من التأثیر،بحیث أصبح قادراً علی أن یزیف الباطل فیجعله حقاً،والحق یجعله باطلاً, فهو الیوم یعد أکبر وأخطر سلاح بید أعداء الدّین،یستخدمونه لهدم الإسلام،ومن هنا تبرز المشکلة الکبیرة التی تقع مسؤولیة معالجتها علی أولی العلم،وبالذات المبلّغین و الدعاة،إذ علیهم أن یدرکوا أهمیة التبلیغ

ص:13

والجانب الإعلامی؛خصوصاً الأسالیب الصحیحة و المؤثرة،إذ أن الأسالیب المتبعة حالیاً لیست بمستوی المواجهة ولا بمستوی الدّعوة،و قد أدت إلی تشویه وتغییر صورة الدّین و الرسالة فی کثیر من المواقع،مما یحتم علینا إعادة النظر فیها علی وجهٍ یعید للفکر الإسلامی حیویته وقوته دون أی تنازل عن أسسه ودعائمه ومبادئه.

إذاً:فأسالیب التبلیغ تعالج مشکلة التعامل مع الإنسان التی تختلف عن التعامل مع الفکرة المجرّدة،لأن الإنسان کائن متغیر متنوّع فی عواطفه وتأثراته،مما یقتضی منا التحرک معه بأسالیب متنوّعة وفی کلّ الاتجاهات التی یمکن أن تأتی منها الریاح أو تتأثر بها الأجواء.

فأسالیب التبلیغ-باعتبارها فناً من فنون الخطاب القولی وأداة من أدوات التوصیل التی لا یستغنی عنها؛وطریقاً من طرق التأثیر وإعادة صیاغة الواقع بما یتلاءم مع الحاجات المتعددة و التطلعات المشروعة-أضحت من أشرف الوظائف و المهام فی حیاة الإنسان،فهی الوظیفة و المهمة الأولی التی کُلّف بها الأنبیاء علیهم السلام،وما عداها یأتی بعدها،قال تعالی: (الَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ یَخْشَوْنَهُ وَ لا یَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ کَفی بِاللّهِ حَسِیباً) ، (1)وقال أیضاً: (وَ ما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِینُ) . (2)

من هنا صار التبلیغ-فی حدّ ذاته-والأسالیب التی اعتمدها الأنبیاء علیهم السلام من أهم وظائف العلماء و المبلغین و المرشدین و الخطباء و المحاورین؛لأنها الأداة و الطریقة التی بها یمارسون أعمالهم التبلیغیة و التثقیفیة و التربویة, وواجباتهم الدینیة التی فُرضت علیهم بحکم وظیفتهم فی مجال بث الوعی،وتصحیح المفاهیم،وتثقیف الناس وتبصیرهم بأمور دینهم ودنیاهم.

وعلیه فإذا استطاع الإنسان أن یکون مبلغاً لدین الله تعالی فهذا یعنی أنه وضع أقدامه فی

ص:14


1- (1) .الأحزاب:39.
2- (2) .العنکبوت:18.

موضعٍ سبقه فیه کلّ الأنبیاء علیهم السلام،ولذا فمن الضروری أنْ نستکشف ونبین أسالیبهم التبلیغیة ونقتدی بها،باعتبارهم معصومین عن الخطأ،و قد اعتمدوا فی تبلیغهم الأسالیب التی أمرهم الله بها،وبینها لنا القرآن الکریم،فیجب علینا الاستفادة منها واتباعهم فی ذلک،قال تعالی: (أُولئِکَ الَّذِینَ هَدَی اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْری لِلْعالَمِینَ) ، (1)وقال أیضاً: (قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی) . (2)

من هنا تتجلی أهمیة الدراسة القرآنیة لأسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی التبلیغ وأهمیة وأثر الأسلوب الإلهی فی نجاح التبلیغ،مع ضرورة القیام بهذا الدّور و المهمة المتمثلة بتثقیف المجتمع وتزوید المؤمنین و الرأی العام بالوعی لإدراک حقائق الدّین الإسلامی وأحکامه،ورد الشبهات وإظهار صورته الجمیلة التی کدرتها غیوم الکفر و الضلال.

ولهذا أصبح المبلّغ الإسلامی یشعر بالحاجة الماسة و الملحة إلی اتضاح الخط الأصیل الذی یجب أن یسیر علیه فی حیاته العملیة؛مما یدعوه إلی استنفار کلّ طاقاته الفکریة و العلمیة و العملیة من أجل أن یعرف کیف یتعامل مع الواقع بأسالیب مناسبة تنسجم مع المستوی الثقافی و الفکری فیه, فیوفق لنشر رسالة السماء بعد الوقوف علی التجارب الحیة التی عاشها الأنبیاء علیهم السلام؛من خلال استحضار ملامح شخصیاتهم الرسالیة التی تمثل النموذج الأکمل لحرکة الإنسان الرسالی فی التبلیغ،ودراسة أسالیبهم واستلهام روحیاتهم،والانتفاع بتجاربهم, ومن ثمّ ربطها بأسالیبنا المتبعة الیوم کما تترابط فی فکرة العمل نفسه؛مستمدین ذلک من الکتاب التبلیغی الأول؛والمصدر التشریعی الأصفی الذی لم یعلق به التغییر و التحریف و هو القرآن الکریم.

ورغم أن بعض العلماء قد تطرق بشکل ضمنی إلی مسألة أسالیب التبلیغ, إلا انه تبقی الحاجة الملحة لدراسة واکتشاف ذخائر التراث الدینی عبر العصور من شروط

ص:15


1- (1) .الأنعام:90.
2- (2) .یوسف:108.

وأسالیب التبلیغ و الإعلام الناجح،ومن هنا جاءت هذه المحاولة المتواضعة لاستنباط واستکشاف الأسس و القواعد و الأسالیب و الشروط و الصفات التی تنظم العملیة التبلیغیة و الإعلامیة؛وتأثر تأثیراً کبیراً فی نجاحها انطلاقاً من دراسة طبیعة تأثیر الأسلوب فی النتیجة،بعیداً عن الجانب الذّاتی الخاص فی المخاطب،فإن أسالیب الأنبیاء علیهم السلام التی ینبغی اعتمادها للوصول إلی فکر الإنسان ووجدانه تتعامل مع الأشخاص من موقع الدراسة الواعیة لکل العوامل المؤثرة فی أفکارهم ومشاعرهم،فلابد أن تؤدی إلی النتائج المرجوّة من تغییر شخصیاتهم وحیاتهم علی أساس الدّین و الإسلام.

إنّ للتبلیغ الإسلامی الحقیقی حُسنَ مداخله إلی النّفوس البشریة بأسالیبه المتعددة و المتنوعة و المشوقة و الجذّابة و المقنعة و المؤثرة،والمتصفة بصیغة المعاصرة و الصلاحیة لکل زمان ومکان،بل هی أحد خصائصه التی لم ولن یرقَ إلیها أی تبلیغ وإعلام آخر،ولهذا فبإمکاننا بعد دراستنا لأسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام أن نستفید منها فی توعیة المبلّغین وتعریفهم بالصفات و الخصائص الضّروریة التی ینبغی أن تتوفر فیهم کی تضمن تأثیرهم ونجاحهم فی أداء مهمتهم،بالإضافة إلی ذلک تحدید خطواتنا العلمیة و العملیة من خلال دراستنا للنتائج المصیریة لخطوات الأنبیاء علیهم السلام،فنأخذ منها العبرة فی طبیعتها ونتائجها،ونقوی دوافع التبلیغ و الدعوة إلی الله فی جمیع تفاصیلها،بکل جهد،وبالأسالیب الحیة التی یرید الله تعالی للإنسان-المبلّغ-من خلالها أن یعیش تاریخ وحیاة الأنبیاء علیهم السلام فیدرک الصّورة الصحیحة للسلوک؛ویتعرف علی أبعاده بطریقة موضوعیة؛وینوّع أسالیبه من أجل أن یلائم کلّ الأفکار؛ویلتقی بالحقیقة من أکثر من طریق کی یحرز النفوذ إلی عقول الناس لتکوین قناعاتهم, فإذا لم یقتنع البعض بالفکرة من خلال أسلوبٍ ما أمکنهُ أنْ یقتنع بأسلوب آخر،و إذا لم ینسجم مع بعض المواضیع أو الأمثلة،أمکنه أن یجد الانسجام فی مفهوم أو مثل آخر لیعیش الناس الوعی القرآنی فی کلّ آیة من آیاته, وفی کلّ فکرة من أفکاره؛فتحدث عندهم

ص:16

بصیرة تعید لهم صوابهم إن کانوا ضالین واتزانهم إن کانوا مضطربین،وتهدیهم فی حیرتهم إن کانوا حائرین.وتزیل عنهم الغشاوة إن کانوا لا یروا ما یجب أن یروه.

و قد نحتاج فی سبیل الوصول إلی هذا الهدف إلی إفساح المجال لجمیع أسالیب الأنبیاء علیهم السلام التی ترید صنع الشخصیة الدینیة الإسلامیة لدی کافة طبقات المجتمع من خلال الکلمة فی إطار الوعی لمعانیها وأسالیبها،ومن خلال إزالة الفجوة بین الناس وبین ما یحمله القرآن الکریم؛وذلک من خلال ربط الناس بالدین الإسلامی الحنیف.

ومن هنا یبدأ تطور مؤسساتنا الإعلامیة باعتماد أسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی التبلیغ باعتبارها اسالیباً رائدة فی هذا المجال،وباعتبار الطبیعة المتشابهة للظروف الموضوعیة هنا وهناک،فبالمقارنة مع الظروف المختلفة فی کلتا الحالتین نستطیع ترقیة مؤسساتنا الإعلامیة وإیصالها إلی المستوی المطلوب وإظهارها بأفضل مظهر وأکمل مستوی فی جمیع المجالات،وخصوصاً تقویتها فی مجال طرح الأفکار و المعلومات لتواجه حالات التشکیک و التضلیل و الإثارة بعد تسلیحها بأسالیب الأداء و الإیصال الناجح و المؤثر و المثمر.

منتظر الموسوی(الجابری)

3/رجب المرجب/1427ه

ص:17

ص:18

مدخل البحث

اشارة

ص:19

ص:20

المبحث الأوّل:تعریف الأسلوب وفرقه عن الوسیلة

1.الأسلوب لغةً

هو الطریق،والوجه،والمذهب،یقال:أنتم فی أسلوب سوءٍ،ویجمع أسالیب. (1)

والأسلوب:بالضم،الفن،یقال:أخذ فلان فی أسالیب من القول،أی:أفانینَ منهُ.

و قد سلک أسلوبه:طریقته،وکلامه علی أسالیبَ حسنة. (2)

فتحصّل لدینا أن الأسلوب فی اللغة یطلق علی جملة من المعانی هی:الطریق،والوجه،والمذهب،والفن.

2.الأسلوب اصطلاحاً

الأسلوب اصطلاحاً له عدة تعریفات:

1.الطریقة الکلامیة التی یسلکها المتکلم فی تألیف کلامه واختیار مفرداته. (3)

ص:21


1- (1) .لسان العرب:473/1؛تهذیب اللغة:435/12؛تاج العروس:71/3.
2- (2) .لسان العرب:473/1؛تاج العروس:71/3.
3- (3) .خصائص القرآن:18.

2.طریقة الإنشاء،أو طریقة اختیار الألفاظ وتألیفها للتعبیر بها عن المعانی بقصد الإیضاح و التأثیر. (1)

إذاً:فالأسلوب هو العنصر الحیوی فی تحریک الفکر و الشعور نحو الارتباط بالقناعات؛لأنه هو الذی یهیئ الجو النفسی للانسجام مع الفکرة فی خطواتها العملیة.

3.الفرق بین الوسیلة و الأسلوب فی التبلیغ

قال الراغب:

وسل:الوسیلة التوصل إلی الشیء برغبة،وهی أخص من الوصیلة لتضمنها لمعنی الرغبة،قال تعالی: (وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ) (2). (3)

وقال الطریحی:أی:القربة إلیه تعالی، (4)ابن منظور یقول:

فالوسیلة ما یتقرَّبُ به إلی الغیر،والجمع الوُسُل و الوسائل،وتوسل إلیه بوسیلة إذا تقرّب إلیه بعمل. (5)

یقول الشیخ الطوسی قدس سره:

إنّ الوسیلة هی القربة...وهی علی وزن فعیلة من قولهم توسلت إلیه،أی:تقربت إلیه،قال عنترة بن شدّاد:

إن الرجال لهم إلیک وسیلة أن یأخذوک فلجلجی وتخضبی

وقوله تعالی: (جاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ...) أمر منه بالجهاد فی دین الله؛لأنه وصلة وطریق إلی ثوابه.

ویقال لکل شیء وسیلة إلی غیره هو طریق إلیه،فمن ذلک طاعة الله،فهی طریق إلی ثوابه.

ص:22


1- (1) .«الأسلوب»،دراسة بلاغیة تحلیلیة لأصول الأسالیب الأدبیة:44.
2- (2) .المائدة:35.
3- (3) .مفردات غریب القرآن:523.
4- (4) .مجمع البحرین:491/5.
5- (5) .لسان العرب:724/11.

والدلیل علی الشیء طریق إلی العلم به،والتعرض إلی الشیء طریق إلی الوقوع فیه،واللطف طریق إلی طاعة الله،والجهاد فی سبیل الله قد یکون باللسان و الید و القلب،والسیف و القول،والکتاب. (1)

فالوسیلة التبلیغیة:هی الأداة الموصلة إلی غایة؛کاللغة مثلاً حیث إنها تُستخدَم لنقل الأفکار من المبلّغ إلی المبلّغ إلیه،فکلما کانت اللغة واضحة و العبارات و الألفاظ دقیقة،والنبرة الصوتیة ملائمة للمعنی ومؤدیة للغرض المراد،أدی التبلیغ وظیفته وأحدث التغییر المطلوب،و إن انتقاء العبارات واختیار الألفاظ من أساسیات التبلیغ،و قد تصبح الألفاظ و العبارات اللغویة عائقاً من العوائق إذا لم یراع فی صیاغتها ما یجعلها سلسة واضحة بعیدة عن التحذلق و الغرابة.

أما أسلوب التبلیغ،فهو الطریقة المقنعة و المؤثرة فی الآخرین بما یتناسب مع الحال و المقام،وعلیه فالوسیلة هی الأداة التی یظهر من خلالها الأسلوب فالأسلوب هو هیئة وصورة ومظهر الوسیلة التی تظهر وتُطرح به.

وممّا تقدم یظهر لنا ما قاله بعض الکتاب فی الفرق بینهما،حیث قال:

تنحصر الوسائل-عموماً-فی الأدوات المستخدمة لتوصیل الدعوة إلی الناس،کالوسائل المقروءة و المسموعة و المرئیة؛أما الأسالیب،فتقتصر علی أفانین الکلام وضروب البیان،کأسلوب الترغیب،والترهیب. (2)

ص:23


1- (1) .التبیان:509/3،حینما یمر بقوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ وَ جاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة:35.
2- (2) .الدعوة إلی الله تعالی:129.

ص:24

المبحث الثانی:تعریف التبلیغ

1.التبلیغ لغةً

یقول ابن فارس:

الباء و اللام و الغین:أصل واحد و هو:الوصول إلی الشیء،تقول بلغت المکان إذا وصلت إلیه. (1)

ویقول الفراهیدی:

بلغ الشیء یبلغ بلوغاً،وأبلغت إبلاغاً،وبلّغت تبلیغاً فی الرسالة ونحوها. (2)

ویقول الراغب الأصفهانی:

بلغَ،البلوغ و البلاغ؛الانتهاء إلی أقصی المقصد و المنتهی مکاناً کان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدَّرة،وربما یعبر به عن المشارفة علیه و إن لم ینته إلیه. (3)

وجاء فی حدیث الاستسقاء:

واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلی حین،البلاغ ما یتبلّغ به ویتوصل إلی الشیء المطلوب. (4)

ص:25


1- (1) .معجم مقاییس اللغة:301/1.
2- (2) .کتاب العین:422/4.
3- (3) .مفردات غریب القرآن:60.
4- (4) .لسان العرب:419/8.

وأضاف الزمخشری:

إن البلاغ بمعنی التبلیغ کالسلام بمعنی التسلیم،قال تعالی: (...وَ ما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِینُ) ، (1)والمعنی من أهل البلاغ؛أی:من المبلّغین. (2)

وقوله تعالی: (یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ) ، (3)أی أوصل إلیهم ما أنزل إلیک من ربک و إن لم تفعل فما بلغت رسالته.

إذن؛تبین أنّ کلمة >>تبلیغ»تدل،بمادتها الأصلیة،أو قل:بجذرها اللغوی علی معنی واحد،هو:الوصول إلی الشیء.وجمیع المعانی الأخری التی تدل علیها متصرّفات هذا الجذر بشیء من التغییر عن طریق الزیادة أو التضعیف،لا یخرج هذه المتصرفات عن هذا المعنی الحقیقی لها،و هو:الوصول،أو الإیصال،أو التوصیل إلی غایة مقصودة،أو حدّ مراد.

2.التبلیغ اصطلاحاً

وما قد ورد فی القرآن الکریم من لفظ:بلغ ومشتقاته یعود فی أصله إلی معنی الوصول إلی الشیء.ولذلک قال الشیخ الطوسی:

الإبلاغ:إیصال ما فیه بیان أمراً من أجل إفهامه إلی الآخرین،ومنه البلاغة التی هی إیصال المعنی إلی النفس بأحسن صورة من اللفظ. (4)

وکذلک جاء فی تفسیر نفس الآیة الشریفة أن التبلیغ معناه:

التعریف بأنواع تکالیف الله وأقسام أوامره ونواهیه. (5)

ص:26


1- (1) .النور:54.
2- (2) .الفایق فی غریب الحدیث:49/2.
3- (3) .المائدة:67.
4- (4) .التبیان فی تفسیر القرآن:438/4،فی تفسیر قوله تعالی: (أُبَلِّغُکُمْ رِسالاتِ رَبِّی) الأعراف:62.محمد, السبزواری, الجدید فی تفسیر القرآن:157/3؛الطبرسی, مجمع البیان:668/4.
5- (5) .التفسیر الکبیر:297/5؛تفسیر المنیر:257/8.

وقال الرازی:

أی:أنزل لتبلیغهم،و هو کفایة فی العظة و التذکیر،ولیعلموا بما فیه من الحجج. (1)

وفی قوله تعالی: (وَ ما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِینُ) ، (2)قال الطبرسی:

أی:لیس علیه إلّا أداء الرسالة, وبیان الشریعة،ولیس علیه الاهتداء. (3)

وکذلک: (إِنْ عَلَیْکَ إِلاَّ الْبَلاغُ) ، (4)أی:لیس علیک إلّا إیصال المعنی. (5)

وقال أبو حیان:

لما تقدم الترغیب و الترهیب،أخبر تعالی أنه کلّف رسوله بالتبلیغ،و هو توصیل الأحکام إلی أمته و هذا فیه تشدید علی إیجاب القیام بما أمر به تعالی. (6)

و قد جاءت هذه المادة(بَلَغَ)فی[ثمان وستون]آیة من القرآن الکریم،و قد اختصت[خمس وعشرون]آیة منها بتبلیغ الرسالة،وباقی الآیات الشریفة تشمل بلوغ شیء أو إبلاغه إلی مکان أو زمان أو غیرهما. (7)

إذاً:فما ورد فی القرآن الکریم من لفظ(بلغ)ومشتقاته یعود فی أصله إلی معنی الانتهاء و الوصول إلی غایة مقصودة،أو حدٍ مراد،سواء کان هذا الحد أو تلک الغایة مکاناً،أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدرة معنویاً.

نحو قوله تعالی: (وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَکُمْ حَتّی یَبْلُغَ الْهَدْیُ مَحِلَّهُ) ، (8)أی:حتی یصل الهدی المکان المخصص له،والغایة أو الهدف هنا مکانی.

ص:27


1- (1) .التفسیر الکبیر:115/7،فی قوله: (هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ) ؛تفسیر المنیر:273/13.
2- (2) .العنکبوت:18.
3- (3) .مجمع البیان:239/7.
4- (4) .الشوری:48.
5- (5) .مجمع البیان:55/9.
6- (6) .البحر المحیط:30/4،فی قوله تعالی: (وَ ما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ) .
7- (7) .المعجم فی فقه لغة القرآن:609/6.
8- (8) .البقرة:169.

ونحو قوله تعالی: (حَتّی إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِینَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ) ، (1)بمعنی:حتی إذا وصل إلی الزمن الذی یکون فیه متکاملاً عقلاً وجسداً و هو الزمن الذی یکون قد مضی من عمره أربعون سنة،والغایة کما هو واضح زمانیة.

ونحو قوله تعالی: (قالَ إِنْ سَأَلْتُکَ عَنْ شَیْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِی قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّی عُذْراً) . (2)أی:أننی قد وصلت إلی الحد الذی لا یقبل عنده عذری.هو أمر معنوی.

وغالباً ما یستعمل معنی التبلیغ فی الأمور المعنویة،ویقل فی الأمور المحسوسة نحو قولنا:أبلغت أو بَلّغت زیداً رسالة،أو فلاناً إنذاراً.

قال تبارک وتعالی: (أُبَلِّغُکُمْ رِسالاتِ رَبِّی وَ أَنْصَحُ لَکُمْ) ، (3)بمعنی:أنّنی مکلّف بأن أوصل لکم رسالات الله،وهی تعالیمه وإرشاداته.

3.النتیجة

والنتیجة التی نخلّص إلیها ممّا ذکر هی:أن لفظ التبلیغ یدل فی الاستعمال اللغوی العام،وفی الاستعمال القرآنی،علی الوصول،أو الإیصال أو توصیل شیء إلی آخر،أو إلی غایة مقصودة أو حدّ معین.

و أما تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام:

فیعنی بیانهم الرسالة الإلهیة للناس وإیصال المعارف الدینیة (4)السماویة إلیهم.و هذا من الوظائف الأساسیة لحرکة الأنبیاء و الرسل علیهم السلام وأوصیائهم فی المجتمع البشری عبر التاریخ.

و أما أسلوب التبلیغ:

فهو الأداة المعبّرة التی ننفذ من خلالها إلی نفسیة السامع لنغیر ما یجب تغییره،أو

ص:28


1- (1) .الأحقاف:15.
2- (2) .الکهف:76.
3- (3) .الأعراف:62.
4- (4) .إیصال التعالیم و الإرشادات الإسلامیة إلی الناس.

ننمی ما یجب تنمیته،ونحدث تغییراً إیجابیاً فی شخصیة السامع بتحویله من حالة الغفلة إلی الیقظة،ومن حالة اللاوعی إلی الوعی.

ولبیان ذلک نقول:إنّ الأسلوب هو الأداة التی لها وقع علی نفسیة السامع،و هو اصطناع واتخاذ طریقة للتبلیغ متعددة المداخل،بحیث تلاءم الجمهور من جهة و البیئة التی یعیش فیها من جهةٍ أخری،والموضوع المعالج من جهة ثالثة.

وبعبارة أخری:

فإنّ أسلوب التبلیغ هو إحتواء الأصول و الأسس المنطقیة و العاطفیة و النفسیة و التکتیکیة،وکل ما یؤدی للنفوذ إلی أعماق نفوس الآخرین للتأثیر الإیجابی فیها. (1)

إذاً:فأسلوب التبلیغ هو الأداء الیقظ الحذر الذی یملک دقة الملاحظة،وعمق النظرة،وصحة التشخیص،فیعالج المشاکل برفق ولین وحکمة،ولذلک حینما یتعرض أحد الکتاب لتعریف أسلوب الدعوة یقول:

إنّ أسلوب الدعوة هو فنّ الدعوة،وأسالیب الدعوة فنونها،وهی:الحکمة و الموعظة،والقوّة. (2)

ویجب علینا باعتبارنا مسلمین أن نستلهم ونأخذ أسالیبنا فی التبلیغ و الدعوة إلی الله من القرآن الکریم،حیث إنه تعالی بینها فی کتابه الکریم لأنبیائه علیهم السلام،وأمرهم أن یتخذوها فی مواجهة الطغاة،فهذا القرآن الکریم یخاطب موسی وهارون یقول تعالی: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی) . (3)ویخاطب نبینا صلّی الله علیه و آله فیقول عز وجلّ: (وَ اخْفِضْ جَناحَکَ لِمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ) . (4)

فهذه الأسالیب فی التبلیغ و المواجهة مستمدّة من الله تعالی،حیث إنّ القرآن

ص:29


1- (1) .تفسیر الأمثل:369/8.
2- (2) .مناهج الدعوة وأسالیبها:16.
3- (3) .طه:44.
4- (4) .الشعراء:215.

الکریم یظهر الخط العریض لأسلوب التبلیغ،ویبین الکیفیة التی ینبغی مواجهة الآخرین بها،کما لو کانت تتم عن طریق العنف،أو اللین و الرفق،أو الحکمة و الموعظة الحسنة،و هذا ما أشار إلیه تعالی فی قوله: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) . (1)وهناک أسالیب أخری ذکرها القرآن الکریم نقف علیها مفصلاً إن شاء الله فی فصل لاحق.

إذاً:فمن مجموع هذه التعاریف اللغویة والاصطلاحیة نستطیع أن نقول:إنّ أسلوب التبلیغ هو الطریقة المقنعة و المؤثرة فی الطرف المقابل و المتناسبة مع الحال و المقام،لتحقیق أهداف التبلیغ.

ص:30


1- (1) .النحل:125.

المبحث الثالث:مفردات ذات صلة

اشارة

بعد أن انتهینا من تعریف التبلیغ لغةً واصطلاحاً نتطرق إلی بعض المفردات التی ذُکرت فی القرآن الکریم و التی لها صلة فی معنی التبلیغ.

فقد ورد لفظ التبلیغ فی القرآن الکریم بتعبیرات ومفردات مختلفة تبعاً لاختلاف بعض الخصوصیات فیها،سنشیر إلیها تباعاً إن شاء الله.

1.الدعوة

أ)الدعوة لغة

هی النداء و الندبة والاستدعاء،فیقال:دعا الرجل دَعواً ودعاءً،ناداه،والاسم الدعوة. (1)

ودعوت فلاناً،أی:صحت به واستدعیته.

قال الأخفش:

سمعت من العرب من یقول:لو دعونا لأندعینا،أی:لأجبنا،کما تقول:لو بعثونا لانبعثنا. (2)

ص:31


1- (1) .لسان العرب:258/14-259.
2- (2) .الصحاح:2336/6؛لسان العرب:258/14.

والداعیة:صریخ القوم فی الحروب لدعائه من یستصرخه. (1)

والدعوة:الدعاء إلی الطعام و الشراب،والدعاة:قوم یدعون إلی بیعة هدی أو ضلالة وأحدهم داع. (2)

ب)الدعوة اصطلاحاً

الدعوة فی الاصطلاح الإسلامی:

إن القرآن الکریم یجعل أساس الدعوة الإسلامیة هو التوحید،کما قال الله تعالی مخاطباً لرسوله صلّی الله علیه و آله: (قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی وَ سُبْحانَ اللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکِینَ) (3). (4)

وقال الشیخ الطبرسی:

أی:أدعو إلی توحید الله،وعدله،ودینه،علی یقین،ومعرفة،وحجة قاطعة،لا علی وجه التقلید، (أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی) ،أی:أدعوکم أنا،ویدعوکم أیضاً إلیه من آمن بی ویذکر بالقرآن و الموعظة،وینهی عن معاصی الله. (5)

إذاً:فحینما تطلق کلمة الدعوة وتضاف إلی النبی صلّی الله علیه و آله،فیقال مثلاً:النبی صلّی الله علیه و آله داعیة،یراد منه:أنّه یدعو إلی التوحید ونبذ الشرک.والداعیة بصورة عامة هو:الذی یدعو إلی دین أو فکرة معینة، (6)ومن حیث اللغة قد ألحقت الهاء للمبالغة آخر المفردة.

وفی کتاب رسول الله صلّی الله علیه و آله إلی هرقل:

أدعوک بداعیة الإسلام،أی:بدعوته،وهی کلمة الشهادة التی یدعی إلیها أهل الملل الکافرة. (7)

ص:32


1- (1) .کتاب العین:221/2؛لسان العرب:259/4؛القاموس المحیط:327/4.
2- (2) .تاج العروس:127/10؛القاموس الفقهی:130؛لسان العرب:259/14؛مجمع البحرین:143/1.
3- (3) .یوسف:108.
4- (4) .المیزان فی تفسیر القرآن:292/3.
5- (5) .مجمع البیان:464/5.
6- (6) .القاموس الفقهی:130؛لسان العرب:259/14.
7- (7) .القاموس الفقهی:130؛النهایة فی غریب الحدیث:122/2.

فدعوة الأنبیاء و الرسل علیهم السلام لأقوامهم واحدة الجوهر،متشابهة الردّ و القبول،متماثلة فی الغایات و النتائج،مقرونة بالمعجزات الدالة علی صدقهم بترتیب الله تعالی وإذنه.

فقوله تعالی: (وَ داعِیاً إِلَی اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِیراً) ، (1)معناه:داعیاً إلی توحید الله وما یقرّب منه.

فالنبی صلّی الله علیه و آله داعی الأمة إلی توحید الله وطاعته،قال الله مخبراً عن الجن الذین استمعوا القرآن: (وَلَّوْا إِلی قَوْمِهِمْ مُنْذِرِینَ * یا قَوْمَنا أَجِیبُوا داعِیَ اللّهِ) (2). (3)

وقوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ...) ، (4)أی:ناداهم إلی الإسلام بالحکمة،بالمحجة التی تثبت الحق وتزیل الشبهة. (5)ولهذا یبین النبی صلّی الله علیه و آله وجه تسمیته بالداعی،فیقول:

«و أمّا الداعی،فأنی أدعو الناس إلی دین ربی عز وجلّ». (6)

ج)موضوع الدعوة

الموضوع:هو المادة التی یبنی علیها المتکلّم أو الکاتب کلامه. (7)

أما موضوع الدعوة الإسلامیة،فهو الإسلام الذی یعمل الداعیة علی تبلیغه وتعلیمه وتطبیقه. (8)ونعنی بالإسلام بمعناه الشامل للعقیدة و الشریعة و الأخلاق،الذی بلغه النبی صلّی الله علیه و آله لجمیع فئات الناس بما یناسب حال البلاغ وحال المبلّغ،لتمیزه صلّی الله علیه و آله

ص:33


1- (1) .الأحزاب:46.
2- (2) .الأحقاف:29-30.
3- (3) .لسان العرب:259/14.
4- (4) .النحل:125.
5- (5) .الجدید فی تفسیر القرآن:266/4.
6- (6) .الأختصاص:35.
7- (7) .المعجم الوسیط:1040/2.
8- (8) .حمود, الحارثی, دعوة النبی صلّی الله علیه و آله للأعراب:69.

بالحکمة، (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) . (1)

وبعبارة أشمل نستطیع أن نلخص دعوة الأنبیاء و الرسل فی أمرین:

أ.العقیدة؛ب.العمل.

وتتمثل مهمتهم فی مجال(العقیدة)فی الدعوة إلی الإیمان بالله،وصفاته الجمالیة و الجلالیة وأفعاله تعالی،بینما المقصود من(العمل)هو التکالیف و الأحکام التی یجب أن تقوم الحیاة الفردیة والاجتماعیة علی أساسها.

والمطلوب فی مجال العقیدة إنما هو العلم و الیقین،ومن المسلَّم أنه لا یکون شیء ما حجة،وبعبارة أخری:لا یتسم بالحجیة،إلّا ما یؤدی إلی هذا الأمر المطلوب. (2)

و هو أن یکون داعیة بسلوکه وأخلاقه وبما یقدر علیه،فإنّ احترام الإسلام حق علی المسلمین ألّا یهینوه أو یشو هوه بسلوکهم،فسلوک المسلم وجهة لدینه ومعتقده؛لذلک جاء عن النبی صلّی الله علیه و آله فیما یوصی به أبا ذر یقول صلّی الله علیه و آله:

>>یا أبا ذر،مثل الذی یدعو بغیر عملٍ کمثل الذی یرمی بغیر وتر». (3)

ویقول الإمام الصادق علیه السلام:

>>کونوا دعاة للناس بغیر ألسنتکم،لیروا منکم الورع والاجتهاد،والصلاة و الخیر،فإنّ ذلک داعیة». (4)

ویقول أیضاً علیه السلام فی وصیته لابن جندب:

>>یا بن جندب،رحم الله قوماً کانوا سراجاً ومناراً،کانوا دعاةً إلینا بأعمالهم،ومجهود طاقتهم». (5)

ص:34


1- (1) .البقرة:269.
2- (2) .العقیدة الإسلامیة:153.
3- (3) .مکارم الأخلاق:465؛أعلام الدین فی صفات المؤمنین:187.
4- (4) .وسائل الشیعة:76/1،الباب 16،الحدیث 2.
5- (5) .تحف العقول:221.
د)الفرق بین الدعوة و التبلیغ

بعد أن بینّا معنی الدعوة وأنها مفردة من مفردات التبلیغ،أو تعبیر آخر عن التبلیغ،نبین الآن بعض الفروق بینها-الدعوة-وبین التبلیغ علی ضوء ما توصلنا إلیه من تعریفیهما فی اللغة والاصطلاح.

أ.أنّ الدعوة:هی حس الطلب و التلطف فیه من الداعیة لدخول الناس إلی الإسلام أو التمسک به إنْ کانوا مسلمین قد ابتعدوا عن أصل الإسلام وروحه،أو بعبارة أخری نقول:

إنّ الدعوة الإسلامیة مثلاً تعنی دعوة غیر المسلم إلی الدخول فی الإسلام،ومنه سمی الجهاد الابتدائی(بجهاد الدعوة)، (1)أی:دعوة غیر المسلم إلی الدخول فی الإسلام، (2)أو ابتداء الکفار بجهادهم فی سبیل دعوتهم إلی الإیمان بالله عز وجلّ. (3)

ولذلک لما جاء نفر من الیهود إلی رسول الله صلّی الله علیه و آله فسأله أعلمهم فیما سأله،فقال:لأی شیء سمّیت محمداً وأحمد،وأبا القاسم وبشیراً ونذیراً،وداعیاً؟فقال صلّی الله علیه و آله:>>أما الداعی فإنّی أدعو الناس إلی دین ربّی عز وجلّ...». (4)

وکذلک یقول الإمام علی علیه السلام:

«لمّا أراد رسول الله صلّی الله علیه و آله أن یدعو بنی هاشم إلی الإسلام،قال لی:یا علی،اجمع لی بنی عبد المطلب حتّی أکلمهم وأبلغهم ما أمرت،ففعلت ما أمرنی به،ثمّ دعوتهم له وهم یومئذٍ أربعون رجلاً،یزیدون رجلاً أو ینقصونه،ثمّ تکلّم رسول الله صلّی الله علیه و آله فقال:یا بنی عبد المطلب،إنّی و الله ما أعلم شاباً فی العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتکم به،إنی قد جئتکم بخیر الدنیا و الآخرة،و قد أمرنی الله تعالی أن أدعوکم إلیه،فأیکم یؤازرنی علی هذا الأمر علی أن یکون أخی ووصیی وخلیفتی فیکم؟قال:فأحجم القوم عنها جمیعاً،وقلت-وأنی لأحدثهم

ص:35


1- (1) .جواهر الکلام:61/21.
2- (2) .کشف الغطاء:395/2.
3- (3) .أجوبة مسائل جار الله:64.
4- (4) .التفسیر الصافی:195/4.

سناً-أنا یا نبی الله،أکون وزیرک علیه،فأخذ برقبتی،ثمّ قال:إنّ هذا أخی ووصیی وخلیفتی فیکم،فأسمعوا له وأطیعوا،قال:فقام القوم یضحکون». (1)

إذاً،فالمراد من الدعوة هو الدعوة إلی التوحید،وعبادة الله تعالی،وترک عبادة الأوثان و الأصنام،وتدلّ علی هذا کثیر من الآیات الشریفة،وأحوال جمیع الأنبیاء علیهم السلام فکلهم قد أمروا بدعوة الناس إلی التوحید.

أما التبلیغ،فهو حسن العرض لتعالیم الإسلام أو الدین،وإرشاد الناس إلیها،وإیصال الأحکام إلی من یجهلها من المؤمنین الموحدین.

لذلک یقول الفخر الرازی:

إنّ تبلیغ الرسالة معناه:أن یعرفهم أنواع تکالیف الله وأقسام أوامره ونواهیه...وقوله: (رِسالاتِ رَبِّی) ،یدل علی أنه تعالی حمله أنواعاً کثیرة من الرسالة،وهی أقسام التکالیف من الأوامر و النواهی،وشرح مقادیر الثواب و العقاب فی الآخرة،ومقادیر الحدود و الزواجر فی الدنیا. (2)

ب.إنّ الدعوة تتقدّم علی التبلیغ فی الرتبة،بمعنی:أنّ الدعوة إلی الإسلام-أو إلی الدین بصورة عامة-تسبق تبلیغ تعالیمه.

وبعبارة أخری:التبلیغ مرحلة ثانیة تلی مرحلة الدعوة.

وللتوسّع فی هذا یمکن أن نمثّل لذلک برجل أعدّ ولیمة وجهزها للناس،فأن أوّل ما یقوم به ویفعله هو أن یدعو الناس إلیها،وبعد تلبیة الدعوة تأتی مرحلة تقدیم المائدة.

و هذا هو عین ما أشار إلیه النبی صلّی الله علیه و آله فیما ورد عنه:

>>ومثلی ومثلکم کرجل أعدّ ولیمة ودعا الناس إلیها فمن دخل أکل،ومن لم یدخل لم یأکل».

ص:36


1- (1) .تاریخ الطبری:63/1؛عبد الحسین, الأمینی, الغدیر:288/2؛الفرقان فی تفسیر القرآن:117/22؛الدر المنثور وجامع البیان ونور الثقلین و البرهان و البحار.
2- (2) .التفسیر الکبیر:297/5،عندما یفسّر قوله تعالی: (أُبَلِّغُکُمْ رِسالاتِ رَبِّی وَ أَنْصَحُ لَکُمْ) الأعراف:62.

ولذا یقول النبی صلّی الله علیه و آله:

>>بعثت داعیاً ومبلغاً ولیس إلی من الهدی شیء،وخلق إبلیس مزیناً ولیس إلیه من الضلالة شیء». (1)

فکما ترون أن النبی صلّی الله علیه و آله ذکر ورتب التبلیغ بعد ذکر الدعوة،أو کما یصف ذلک أمیر المؤمنین علیه السلام حینما یقول:

«سبحانک خالقاً ومعبوداًّ بحسن بلائک عند خلقک خلقت داراً،وجعلت فیها مأدبة،مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وأنهاراً وزروعاً وثماراً،ثمّ أرسلت داعیاً یدعوا إلیها،فلا الداعی أجابوا ولا فیما رغبت رغبوا،ولا إلی ما شوقت إلیه اشتاقوا،أقبلوا علی جیفة،قد افتضحوا بأکلها». (2)

فواضح من کلامه علیه السلام أن الخطوة الأولی هی(داعیاً یدعو إلیها)،ثمّ بعد إجابة الداعی تأتی الخطوة الثانیة،وهی تقدیم المأدبة و التعرف علی تفاصیلها والاستفادة من خیراتها.

ج.إنّ الدعوة إلی الله تعالی تحتاج إلی إذن منه تعالی لقوله تعالی: (وَ داعِیاً إِلَی اللّهِ بِإِذْنِهِ...) . (3)بخلاف التبلیغ،فلا یحتاج إلی إذن منه جلّ وعلا.

ولذا یقول الشیخ الطبرسی:

لم یقل وشاهداً بإذنه ومبشراً وعند الدعاء قال:وداعیاً بإذنه؛وذلک لأنّ من یقول عن ملک أنه ملک الدنیا لا غیره لا یحتاج فیه إلی إذن منه فإنه وصفه بما فیه،وکذلک إذا قال:من أطاعه یسعد ومن یعصیه یشقی یکون مبشراً ونذیراً،ولا یحتاج إلی إذن فی ذلک.

و أما إذا قال تعالوا إلی سماطه،وأحضروا علی خوانه،فإنّه یحتاج فیه إلی إذنه،فقال تعالی: (وَ داعِیاً إِلَی اللّهِ بِإِذْنِهِ...) . (4)

ص:37


1- (1) .إیمان أبی طالب:128.
2- (2) .نهج البلاغة:211/1.
3- (3) .الأحزاب:46.
4- (4) .تفسیر مجمع البیان:569/8،فی تفسیر قوله تعالی: (وَ داعِیاً إِلَی اللّهِ بِإِذْنِهِ...) .

و أما الداعیة غیر النبی صلّی الله علیه و آله من ولی أو إمام أو عالم،فهو مأذون من جهة النبی صلّی الله علیه و آله کما قال تعالی: (قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی...) . (1)

ویقول الشیخ المکارم:

إنّ کل أعمال النبی صلّی الله علیه و آله بإذن الله وأمره،إلّا أن الدعوة هی الوحیدة التی قیدت بإذن الله هنا؛وذلک لأن أشق أعمال الأنبیاء علیهم السلام وأهمها هی الدعوة إلی الله سبحانه،حیث یجب علیهم أن یسوقوا الناس فی طریق یخالف میولهم وشهواتهم،فیجب أن تستبطن إذن الله وأمره ونصرته فی هذه المرحلة لیتم تنفیذها. (2)

فأتضح إذاً أنّ الدعوة مما یحتاج لها إلی إذن من الله بخلاف التبلیغ،فإنه لا یحتاج إلی إذن إذا توفرت فیه الشرائط.

ومع هذه الفوارق التی ذکرتها إلّا أن التوافق و المشترکات بین الدعوة و التبلیغ أکثر وأعم ممّا أدّی إلی استعمال کل لفظ منهما مقام الآخر،وأهم هذه المشترکات هو التداخل یبن وظیفة المبلّغ ووظیفة الداعیة.

ه)الفرق بین الدعوة و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر
اشارة

قد یخیل للکثیر أن مفهوم الدعوة یتسع،أو ینطبق،علی مفهوم:الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،ویتوهموا أن المسألتین مسألة واحدة،ونحن لا ننکر أن لفظ الدعوة-بمفهومه اللغوی-یتسع للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،فإن الأمر بالمعروف یمثل الدعوة إلی فعل الخیر و السیر علی طریقه،أما النهی عن المنکر فیمثل الدعوة إلی الابتعاد عن الشر والانحراف عنه،ففی کلّ منهما دعوة للعمل الصالح إیجابا وسلباً.

ولکن الاصطلاح العام لهذه الکلمة:(الدعوة إلی الله)ضاق عنها،فلم یعد یتسع لها،

ص:38


1- (1) .یوسف:108.
2- (2) .تفسیر الأمثل:298/13،فیما یخص الآیة الکریمة: (وَ داعِیاً إِلَی اللّهِ بِإِذْنِهِ...) .

ولا تصلح-الدعوة-لاستیعاب هذا المضمون؛لأنها تمثل الحرکة التی یقوم بها الدعاة المسلمون خارج نطاق المجتمع الإسلامی من أجل إدخال الآخرین إلی الإسلام.

أما الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،فهو العمل علی تطبیق الإسلام من قبل المسلمین داخل المجتمع الإسلامی،وحمل المسلمین علی السیر فی طریق الإسلام من غیر التواء وانحراف.

إذاً:فمما لا ریب فیه أنّ ثمة فارق کبیر بین مسألة الدعوة،ومسألة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،وأهم هذه الفوارق:

أوّلاً:اختلافهما فی المعنی

إنَّ الدعوة إلی الخیر الذی هو الإسلام،تعنی:طلب الدخول فی هذا الخیر بکل جزئیاته سواء کانت عقائدیة أو تشریعیة.

أما الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر عنوانها یتعلق بالتعالیم و الأعمال و التکالیف،وهی جزء من الإسلام،کالفواحش،والکبائر،والصغائر التی أمر الله بترکها،وکالصلاة،والصوم،وصلة الرحم،والبرّ،وعمل الخیر،وغیرها مما أمر الله بإتیانها.

ثانیاً:الاختلاف فی الترتیب الطبیعی

فالدعوة إلی الإسلام-بحسب الترتیب الطبیعی المنطقی-مقدّمة علی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،بل إنّها مقدمة علی التبلیغ أیضاً،فبعد دعوة الناس للإسلام ودخولهم فیه وقبولهم له،تأتی مرحلة التبلیغ،مرحلة إیصال شرائع الإسلام وأحکامه إلی من یجهلها من المسلمین،فیتعلم المسلم ما علیه فعله،وما علیه ترکه،فإن فعل ما أمر بترکه،أو ترک ما أمر بفعله،حینئذٍ یأتی دور الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.

فالمراد إذاً:من الأمر بالمعروف هو حثّ المسلم العارف بالحکم الشرعی علی تطبیقه و العمل به،والمراد من النهی عن المنکر هو ردع المسلم عن عمل المنکر الذی یعلم أنه منکر.

ص:39

وعلیه فإنّ هناک تدرجاً عملیاً،أو مرحلیاً بین هذه الأسالیب الثلاثة یتمثل فی أن الدعوة تسبق التبلیغ،والتبلیغ یسبق الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.

ثالثاً:اختلافهما فی میدان التطبیق

إن دائرة الدعوة ومیدان العمل فیها أوسع من میدان الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر؛لأن الدعوة میدانها المجتمعات غیر الإسلامیة،و أما الأمر بالمعروف فیمدانه المجتمع الإسلامی فقط.

فلو ذهب المسلم[فی عصرنا الحاضر]إلی مجتمع یبیح شرب الخمر, فلا یمکنه أن یأمرهم أو ینهاهم،بخلافه فی المجتمع الإسلامی.

رابعاً:الاختلاف فی کیفیة الأداء

الدعوة تکون بالحکمة, و الموعظة الحسنة،والجدال الأحسن،والحوار الهادف أما الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر فیکون بالید(القوّة)إذا کان للآمر سلطان،أو اللسان،أو الهجران عن الشخص المرتکب للمنکر.

هذه أهمّ الفوارق بین الدعوة و التبلیغ وبین الدعوة و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.

2.الإنذار

هناک مفردة أخری أعدّها القرآن الکریم معنی من معانی التبلیغ،وهی:الإنذار.

والإنذار عبارة عن:الإبلاغ،ولا یکون إلّا فی التخویف،والاسم:النُذُر.

والمنذر:المعلِّم الذی یعرّف القوم بما یکون قد دهمهم من عدوٍ أو غیره, و هو المخوّف أیضاً،وأصل الإنذار الإعلام. (1)

ففی قوله تعالی: (أَنْذَرْتَهُمْ) ،أی:أعلمتهم بما تحذرهم منه ولا یکون المعلِّم منذراً

ص:40


1- (1) .لسان العرب:202/5-203.

حتی یحذر بإعلامه،فکل منذر معلّم ولا عکس،ویقال:أنذره بالأمر أعلمه وحذِّره وخوّفه فی إبلاغه.

وقوله تعالی: (وَ جاءَکُمُ النَّذِیرُ) ، (1)النذیر فعیل بمعنی المنذر،أی المخوّف،ویقال:جاءکم النذیر یعنی:الشیب. (2)

فمن معانی البلاغ قصد الإنذار،وکما قیل:

إن الإنذار:هو الإعلام و التحذیر و التخویف فی البلاغ. (3)

فکلمة بلاغ الواردة فی قوله تعالی: (هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَ لِیُنْذَرُوا بِهِ) ، (4)أو قوله تعالی: (إِنَّ فِی هذا لَبَلاغاً) ، (5)یقول فیها بعض المفسرین:أن تعبیر بلاغ قد قصد به کون القرآن أو الإنذار الذی احتواه هو بلاغ للسامعین،أو ما أمر النبی صلّی الله علیه و آله بتبلیغه. (6)

وسوف نذکر بعض آراء المفسّرین فی هذا المجال،فمثلاً یقول الشیخ الطبرسی رحمة الله:

الإنذار:معناه التخویف بوعده ووعیده،وأمثاله،وأمره ونهیه،ولیذکروا بما فیه، (7)والإنذار فی قوله تعالی: (لِتَکُونَ مِنَ الْمُنْذِرِینَ) ، (8)هو محاربة الوضع المنحرف بقوّة،والإنذار:هو التخویف مع التحذیر،فالقرآن جاء منذر قبل أن یکون مبشراً و قد جاءت بعض الآیات تحصر عمل النبی صلّی الله علیه و آله فی الإنذار. (9)

وذکر بعض المفسّرین:

ص:41


1- (1) .فاطر:37.
2- (2) .مجمع البحرین:491/3.
3- (3) .دعوة النبی للأعراب،ینقلها عن القاموس المحیط/مادة نذر:619.
4- (4) .إبراهیم:52.
5- (5) .الأنبیاء:106.
6- (6) .المعجم فی فقه لغة القرآن:604/6.
7- (7) .تفسیر مجمع البیان:611/4.
8- (8) .الشعراء:194.
9- (9) .تفسیر مجمع البیان:322/7.

إنّ الإنذار:هو بمعنی الإعلام و التحذیر عن عواقب الأمور قبل حلولها و التخویف فی الإبلاغ،وربما یستشم من قوله تعالی: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُکُمْ صاعِقَةً) ، (1)ومن قوله تعالی: (إِنّا أَنْذَرْناکُمْ عَذاباً قَرِیباً) . (2)ومن غیر ذلک ممّا یکثر ذکره فی الکتاب العزیز،إنّ الإنذار هو الإعلام،إلّا أنّ أکثر استعمالاته فی الإعلام المشفوع بالتخویف،فالمنذر منه فی هذه الآیات هی الحصة الخاصة من العذاب و العقاب،وما هو مدلول اللغة هو مطلق التخویف و التهدید. (3)

وفی قوله تعالی: (لِتَکُونَ مِنَ الْمُنْذِرِینَ) ،یدخل تحت الإنذار الدعاء إلی کلّ واجب من علم وعمل و المنع من کلّ قبیح؛لأن فی الوجهین جمیعاً یدخل الخوف من العقاب. (4)

وفی هذه الآیة الشریفة نفسها یقول السید الطباطبائی:

(لِتَکُونَ مِنَ الْمُنْذِرِینَ) أی:من الداعین إلی الله سبحانه بالتخویف من عذابه،و هو المراد بالإنذار فی عرف القرآن الکریم. (5)

و قد ورد:

جاء نفر من الیهود إلی رسول الله صلّی الله علیه و آله فسأله أعلمهم فیما سأله،فقال:لأی شیء سمیت محمد وأحمد وأبا القاسم وبشیر ونذیر وداعی؟

فقال النبی صلّی الله علیه و آله:

«أما الداعی،فإنی أدعو الناس إلی دین ربی،و أما النذیر فإنی أنذر بالنار من عصانی،و أما البشیر فإنی أبشر بالجنة من أطاعنی». (6)

إذاً:ثبت أنّ الإنذار مفردة أخری من مفردات التبلیغ ومعنی من معانیه.

ص:42


1- (1) .فصلت:13.
2- (2) .النبأ:40.
3- (3) .تفسیر القرآن الکریم:107/3.
4- (4) .التفسیر الکبیر:533/8؛المنیر:222/19.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:319/15.
6- (6) .کنز الدقائق وبحر الغرائب:406/10؛تفسیر القمی:36/2؛علل الشرائع:127/1.

3.التبشیر

التبشیر مفردة أخری من مفردات التبلیغ وأحد معانیه،فالتبشیر:یکون بالخیر و الشر،کقوله تعالی: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ) (1). (2)

والبشیر:هو المبشر الذی یبشّر القوم بأمر خیر أو شر. (3)

ولهذا یذکر بعض المفسّرین:

البشیر المخبر بالخیر،وتستعمل المادة فی الشر أیضاً،قال تعالی: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ) . (4)

وکلّ من یبشر فقد أنذر قبلها،ولیس کلّ من ینذر یبشر بعدها،حیث البشارة تخص المؤمنین،ولا تأتی إلّا بعد النذارة،لمن یتأثر بالإنذار وبینهما عموم مطلق. (5)

لذلک یقول الله سبحانه لنبیه صلّی الله علیه و آله: (وَ ما أَرْسَلْناکَ) [یا محمد] (إِلاّ مُبَشِّراً) (6)بالجنة وثواب الله لمن أطاعه،ومخوفاً لمن عصاه بعقاب الله،وقال الحسن:

ما بعث الله نبیاً قط إلّا و هو یبشر الناس إن أطاعوا الله بالمنعة فی الدنیا و الآخرة،وینذر الناس أن عصوا عذاب الله فی الآخرة.

والبشارة:الإخبار بما یظهر سروره فی بشرة الوجه،تقول:بشره تبشیراً وبشارة،وبشارة الأنبیاء علیهم السلام مضمنة بإخلاص العبادة لله تعالی. (7)

وفی جواب النبی صلّی الله علیه و آله للیهودی لما سأله عن معنی البشیر،فقال:

>>و أما البشیر،فإنی أبشر بالجنة من أطاعنی». (8)

ص:43


1- (1) .الانشقاق:24.
2- (2) .لسان العرب:61/4.
3- (3) .لسان العرب:63/4؛کتاب العین:259/6.
4- (4) .مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن:414/1.حینما یمر بقوله تعالی: (إِنّا أَرْسَلْناکَ بِالْحَقِّ بَشِیراً) البقرة:119.
5- (5) .الفرقان فی تفسیر القرآن:327/24.
6- (6) .الفرقان:56.
7- (7) .التبیان فی تفسیر القرآن:500/7.
8- (8) .کنز الدقائق وبحر الغرائب:406/10؛تفسیر القمی:365/2.

4.التزکیة

وهی معنی آخر من معانی التبلیغ،و هدف من أهداف بعثة الأنبیاء علیهم السلام.والتزکیة فی اللغة:هی الإنماء،والتطهیر و البرکة و المدح وکله قد استعمل بالقرآن الکریم. (1)

وبذلک یتلخص الهدف النهائی من بعثة الأنبیاء علیهم السلام فی دفع الإنسان علی مسیره التکاملی العلمی و العملی. (2)

وفی معنی قوله تعالی: (هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ) . (3)

قال الجبائی:

«معناه یستدعیهم إلی فعل ما یزکون به،من الإیمان و الصلاح». (4)

ویقول الفخر الرازی:

وأعلم أنّ کمال الإنسان فی أمرین:

أحدهما:أن یعرف الحق لذاته.

الثانی:أن یعرف الخیر لأجل العمل به،فإن أخلّ بشیء من هذین الأمرین لم یکن طاهراً عن الرذائل و النقائص،ولم یکن زکیاً عنها،فلما ذکر صفات الفضل و الکمال أردفها بذکر التزکیة عن الرذائل و النقائض،فقال: (وَ یُزَکِّیهِمْ...) ،ومعناها:أن ما یفعله صلّی الله علیه و آله سوی التلاوة وتعلیم الکتاب و الحکمة،حتی یکون ذلک کالسبب لطهارتهم،وتلک الأمور ما کان یفعله علیه السلام من الوعد و الإیعاد،والوعظ و التذکیر،وتکریر ذلک علیهم،ومن التشبث بأمور الدنیا إلی أن یؤمنوا ویصلحوا.فقد کان صلّی الله علیه و آله یفعل من هذا الجنس أشیاء کثیرة لیقوی بها دواعیهم إلی الإیمان،والعمل الصالح؛ولذلک مدحه تعالی بأنّه علی خلق عظیم،وأنه أوتی مکارم الأخلاق. (5)

ص:44


1- (1) .لسان العرب:358/14.
2- (2) .تفسیر الأمثل:384/1.
3- (3) .الجمعة:2.
4- (4) .التبیان فی تفسیر القرآن:467/1.
5- (5) .التفسیر الکبیر:59/2،فی هذه الآیة الشریفة: (هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ) .

فالتزکیة هی:أن یتخلّی الإنسان عن الرذائل و الخبائث،ویتحلّی بالفضائل،فهی التربیة العملیة التی لها الأثر العظیم فی مطلق التربیة و التعلیم...وللتزکیة مراتب کثیرة منها،الإرشاد المحض وإتمام الحجة. (1)

ویقول محمد السبزواری:

أی:یطهرهم من دنس العقائد الجاهلیة وأعمالها القذرة ویضرب لهم المثل بأقواله صلّی الله علیه و آله وبأفعاله وبأخلاقه الفاضلة،وشیمه الطیبة،وسماته المبارکة. (2)

وفی قوله: (یُزَکِّیهِمْ...) ،یقول الشیخ الطبرسی:

«یعرضکم لما تکونون به أزکیاء من الأمر بطاعة الله وإتباع مرضاته». (3)

ویقول الشیخ الکاشانی:

أی لیطهرکم من أدناس الجاهلیة،ویصلح أمورکم،ویعرفکم ما تکونون به أزکیاء. (4)

5.الجدل

الطریق الآخر الذی وضعه الله تعالی أمام رسوله لدعوة الناس إلی الدین هو:المناظرة و المجادلة.ولکن أیة مجادلة،المجادلة بالتی هی أحسن،التی لا تنتهی بالمراء و العداء،قال الله تعالی: (وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) . (5)یقول الراغب الأصفهانی:

الجدال:المفاوضة علی سبیل المنازعة و المغالبة. (6)

و قد جاء فی القرآن الکریم و الروایات الإسلامیة نماذج للجدل المشروع المسموح

ص:45


1- (1) .مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن:145/2.
2- (2) .الجدید فی تفسیر القرآن:183/2،فی تفسیر قوله تعالی: (هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ) ؛نقلاً عن التبیان فی تفسیر القرآن:30/2.
3- (3) .تفسیر مجمع البیان:430/1.
4- (4) .فتح الله, الکاشانی, زبدة التفاسیر:265/1.
5- (5) .النحل:125.
6- (6) .مفردات غریب القرآن:89.

به الذی لم ینته إلی خصام،وفیما یلی نشیر إلی بعضها،وهی تحدّد معاییر خاصة یستطیع المسلمون اتباعها لو أرادوا الخوض فی مناقشات ومناظرات خالیة من المراء و العداء.

قال الإمام العسکری علیه السلام عن آبائه عن الإمام الصادق علیه السلام و قد ذکر عنده الجدال فی الدین،وأن رسول الله صلّی الله علیه و آله و الأئمة علیهم السلام قد نهوا عنه،فقال الصادق علیه السلام:

>>لم ینه عنه مطلقاً لکنه نهی عن الجدال بغیر التی هی أحسن،أما تسمعون الله تعالی یقول: (وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْکِتابِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) ، (1)وقوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) (2)فالجدال بالتی هی أحسن قد قرنه العلماء بالدین،والجدال بغیر التی هی أحسن محرّم وحرّمه الله تعالی علی شیعتنا،وکیف یحرم الله الجدال جملة،و هو یقول: (وَ قالُوا لَنْ یَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ کانَ هُوداً أَوْ نَصاری) قال الله تعالی: (تِلْکَ أَمانِیُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ) ، (3)فجعل علم الصدق و الإیمان بالبرهان،وهل یؤتی بالبرهان إلّا فی الجدال بالتی هی أحسن؟»

قیل:یا بن رسول الله فما الجدال بالتی هی أحسن و التی لیست بأحسن؟قال:«أما الجدال بغیر التی هی أحسن أن تجادل مبطلاً فیورد علیک باطلاً فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالی ولکن تجحد قوله،أو تجحد حقاً یرید ذلک المبطل أن یعین به باطله فتجحد ذلک الحق مخافة أن یکون له علیک فیه حجة؛لأنّک لا تدری کیف المخلص منه،فذلک حرام علی شیعتنا أن یصیروا فتنة علی ضعفاء أخوانهم وعلی المبطلین،أما المبطلون فیجعلون ضعف الضعیف منکم إذا تعاطی مجادلته وضعفٌ فی یده حجة له علی باطله.

و أما الضعفاء منکم فتغم قلوبهم لما یرون من ضعف المحق فی ید المبطل،و أما الجدال بالتی هی أحسن:فهو ما أمر الله به نبیه أن یجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحیاءه له.

ص:46


1- (1) .العنکبوت:46.
2- (2) .النحل:125.
3- (3) .البقرة:111.

فقال الله حاکیاً عنه: (وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِیَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ) ، (1)فقال الله فی الرد علیه: (قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِکُلِّ خَلْقٍ عَلِیمٌ * اَلَّذِی جَعَلَ لَکُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) . (2)

فأراد الله من نبیه أن یجادل المبطل الذی قال:کیف یجوز أن یبعث الله هذه العظام وهی رمیم؟فقال الله تعالی: (قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِکُلِّ خَلْقٍ عَلِیمٌ) ، (3)أفیعجز من ابتدی به من لا شیء أن یعیده بعد أن یبلی؟بل ابتداؤه أصعب عندکم من أعادته،ثمّ قال: (الَّذِی جَعَلَ لَکُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) ؛إذ أکمن النار الحارة فی الشجر الأخضر الرطب یستخرجها فعرفکم أنه علی إعادة ما بلی أقدر.

ثم قال: (أَ وَ لَیْسَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلی أَنْ یَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلی وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِیمُ) ، (4)أی:إذا کان خلق السموات و الأرض أعظم وأبعد فی أوهامکم و قدرکم أن تقدروا علیه من إعادة البالی،فکیف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندکم و الأصعب لدیکم ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندکم من إعادة البالی؟!قال الصادق علیه السلام:فهذا الجدال بالتی هی أحسن لأن فیها قطع عذر الکافرین،وإزالة شبههم». (5)

یقول محمد تقی الفلسفی:

لقد بین الإمام الصادق علیه السلام هاتین الآیتین الکریمتین فی مقام الجدل المشروع و المجادلة بالتی هی أحسن،وفی کلتا المجادلتین أجیب السائل وانتهی الجدل بلا مراء وعداء. (6)

ص:47


1- (1) .یس:78.
2- (2) .یس:79 و80.
3- (3) .یس:79.
4- (4) .یس:81.
5- (5) .محمد باقر, المجلسی, بحار الأنوار:126/2.
6- (6) .البیان وفن الخطابة:201.

وهکذا یقول الشیخ مکارم الشیرازی:

إذاً:فالمجادلة بالتی هی أحسن:إشارة إلی الأدلة التی تهدف إلی إفحام المخالفین من خلال إلزامهم بما به یقبلون....فالمجادلة:تختص بتخلیة ذهن الطرف المخالف من الشبهات العالقة فیه و الأفکار المغلوطة لیکون مستعداً لتلقی الحق عند المناظرة. (1)

و هو خطاب للنبی صلّی الله علیه و آله بأن یناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عنده من الحجج،وتقدیره بالکلمة التی هی أحسن،والمعنی أقتل المشرکین واصرفهم عما هم علیه من الشرک بالرفق و السکینة ولین الجانب فی النصیحة،لیکونوا أقرب إلی الإجابة فإن الجدل:هو فتل الخصم عن مذهبه بطریق الحجاج. (2)

6.النصح

اشارة

أصل النصح:الخلوص.

والناصح:الخالص من العسل وغیره،و هو نقیض الغش،ومنه قوله تعالی: (وَ أَنْصَحُ لَکُمْ) (3). (4)

قال ابن الأثیر:

النصیحة کلمة یعبر بها عن جملة هی إرادة الخیر للمنصوح له،فلیس یمکن أن یعبر عن هذا المعنی بکلمة واحدة تجمع معناها غیرها. (5)

والنصیحة:هی إرادة الخیر للأمة وإرشادهم إلی مصالحهم خالصة لوجه الله. (6)

ص:48


1- (1) .تفسیر الأمثل:364/8.
2- (2) .تفسیر مجمع البیان:605/6.
3- (3) .الأعراف:62.
4- (4) .لسان العرب:615/2.
5- (5) .النهایة فی غریب الحدیث:63/5.
6- (6) .مولی محمد صالح, المازندرانی, شرح أصول الکافی:98/6.

فللنصح دور دائر لکل حائر تبقی حیرته لحد ما بعد ساطع البراهین الآفاقیة و الأنفسیة،وحقیقة النصح هی الإرسال إلی المصلحة مع خلوص النیة. (1)

ومعنی أن النبی صلّی الله علیه و آله ینصح لهم:

هو عضاته بالإنذار و التبشیر لیقربهم من طاعة ربهم ویبعدهم عن الاستکبار والاستنکاف عن عبودیته. (2)

وتأکیداً لهذا المعنی أوضح القرآن علی لسان بعض الأنبیاء علیهم السلام أن وظیفتهم التبلیغ و النصح؛لأن الدین النصیحة،فقال علی لسان نوح علیه السلام: (أُبَلِّغُکُمْ رِسالاتِ رَبِّی وَ أَنْصَحُ لَکُمْ) . (3)

وقال علی لسان هود علیه السلام: (أُبَلِّغُکُمْ رِسالاتِ رَبِّی وَ أَنَا لَکُمْ ناصِحٌ أَمِینٌ) . (4)

ونقرأ فی زیارة النبی صلّی الله علیه و آله:

«وأشهد أنک قد بلغت الرسالة،وأدیت الأمانة،ونصحت للأمة». (5)

وفی کتاب النبی إلی النجاشی:

«وإنی أدعوک إلی الله وحده،لا شریک له،والموالاة علی طاعته،وأن تتبعنی وتؤمن بالذی جاءنی،فإنی رسول الله،وإنی أدعوک وجنودک إلی الله عز وجلّ،و قد بلغت ونصحت،فأقبلوا نصیحتی،والسلام علی من أتبع الهدی». (6)

الفرق بین تبلیغ الرسالة وبین النصیحة

المقصود من الرسالة أمران:

الأول:تبلیغ الرسالة.

ص:49


1- (1) .الفرقان فی تفسیر القرآن:192/11.
2- (2) .المیزان فی تفسیر القرآن:175/8.
3- (3) .الاعراف:62.
4- (4) .الأعراف:68.
5- (5) .محمد, ابن المشهدی, المزار:60.
6- (6) .شرح أصول الکافی:11/6.

الثانی:تقریر النصیحة،فقال تعالی: (أُبَلِّغُکُمْ رِسالاتِ رَبِّی وَ أَنْصَحُ لَکُمْ) .

والفرق بینهما هو:

أن تبلیغ الرسالة معناه،أن یعرفهم أنواع تکالیف الله وأقسامه وأوامره ونواهیه.

و أما النصیحة،فهو أن یرغبه فی الطاعة ویحذره عن المعصیة ویسعی فی تقریر ذلک الترغیب و الترهیب لأبلغ الوجوه.

وقوله تعالی: (وَ أَنْصَحُ لَکُمْ) ،قال الفرّاء:لا تکاد العرب تقول:نصحتک إنّما تقول:نصحت لک،ویجوز أیضاً نصحتک.

قال النابغة:

نَصَحتُ بنی عوف فلمْ یتقبلوا رسولی ولم تنجحْ لدیهم رسائلی

وحقیقة النصح الإرسال إلی المصلحة مع خلوص النیة من شوائب المکروه و المعنی:إنی أبلّغ إلیکم تکالیف الله،ثمّ أرشدکم إلی الأصوب الأصلح،وأدعوکم إلی ما دعانی وأحبّ إلیکم ما أحبه لنفسی. (1)

7.التذکیر

فهو من معانی التبلیغ:

ففی قوله تعالی: (وَ ذِکْری لِلْمُؤْمِنِینَ) ، (2)قال ابن عبّاس:یرید مواعظ للمصدقین،وقال اللیث:الذکری اسم للتذکرة. (3)

وقوله تعالی: (هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ) (4)أی:هذا التذکیر و الموعظة بلاغ للناس،أی:کفایة فی الموعظة. (5)

ص:50


1- (1) .التفسیر الکبیر:297/5؛وهبة, الزحیلی, تفسیر المنیر:257/8؛تفسیر الأمثل:94/5؛التبیان فی تفسیر القرآن:444/4.
2- (2) .الأعراف:21.
3- (3) .التفسیر الکبیر:196/5.
4- (4) .إبراهیم:52.
5- (5) .التفسیر الکبیر:114/7.

فمهمّة الأنبیاء علیهم السلام هی التذکیر و الإنذار و التبشیر لتحقیق الغایة القصوی من خلق المرسل إلیهم،فقوله تعالی: (إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْری لِلْعالَمِینَ) ، (1)أی:إن تبلیغی تذکیر للناس،بل عظة للثقلین من الإنس و الجن. (2)ویقول الشیخ الکاشانی فی هذه الآیة أیضاً:

أی:التبلیغ أو القرآن،أو الغرض إلا ذکری للعالمین إلا تذکیر،وعظة لهم. (3)

فإرسال الرسل و الأنبیاء (ذِکْری) أی:تذکرة نافعة،وموعظة حسنة مؤثرة لیتعظوا ویصلحوا. (4)

8.الهدایة

الهدایة تعنی:الإبانة و الإرشاد و التوضیح.وقال أبو عمرو بن العلاء فی معنی قوله تعالی: (أَ وَ لَمْ یَهْدِ لَهُمْ) ، (5)أو لم یبین لهم. (6)

وفی لغة أهل الغور:هدیت لک،أی:بینت لک،وبها نزلت: (أَ فَلَمْ یَهْدِ لَهُمْ) (7). (8)

و سمیت العصا هادیاً؛لأن الرجل یمسکها فهی تهدیه تتقدمه،وکذلک الدلیل یسمی هادیاً؛لأنه یتقدم القوم ویتبعونه ویکون یهدیهم للطریق. (9)

وفی الحدیث:

«من هدی زقاقاً کان له مثل عتق رقبة،هو من هدایة الطریق،أی عرّف ظالاً أو ضریراً طریقه». (10)

ص:51


1- (1) .الأنعام:90.
2- (2) .الجدید فی تفسیر القرآن:62/3؛التفسیر الصافی:137/2.
3- (3) .زبدة التفاسیر:426/2؛کنز الدقائق وبحر الدقائق:390/4.
4- (4) .تفسیر مجمع البیان:320/7؛تفسیر المنیر:137/8؛الجدید فی تفسیر القرآن:118/3.
5- (5) .السجدة:26.
6- (6) .لسان العرب:354/15.
7- (7) .طه:128.
8- (8) .کتاب العین:78/4.
9- (9) .کتاب العین:78/4؛لسان العرب:375/15.
10- (10) .النهایة فی غریب الحدیث:254/5.

وفی قوله تعالی: (وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَیْناهُمْ) ، (1)أی:عرفناهم،وبینا لهم الحق ودعوناهم إلیه،فاتبعوا الضلال وترکوا الهدی وهم یعلمون.

وقوله تعالی: (وَ إِنَّکَ لَتَهْدِی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ) معناه الدلالة،ومثله قوله تعالی: (فَاهْدُوهُمْ إِلی صِراطِ الْجَحِیمِ) ،وقوله تعالی: (قُلِ اللّهُ یَهْدِی لِلْحَقِّ) ،وقوله تعالی: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ) ،وقوله تعالی: (وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) . (2)

کلّ ذلک بمعنی الدلالة،وکذا قوله تعالی: (وَ هَدَیْناهُ النَّجْدَیْنِ) ؛ (3)لأن الآیة واردة فی معرض الامتنان ولا یمن بالإیصال إلی طریق الشر.

وقوله تعالی: (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، (4)أی:یهدون إلی شرائعنا،ویقال یدعون إلی الإسلام. (5)

فالمراد بالهدایة إذاً:

«بیان الدلیل وشرحه وإیضاحه، (6)و هو معنی من معانی التبلیغ».

9.التبیین

التبیین و هو یعنی:الإیضاح،والوضوح،[یقال:]استبان الشیء،أی:ظهر،وأبَنْتَهُ،أی:أوضحته،وفلان أبین من فلان،أی أفصح منه وأوضح کلاماً.

والبیان:الإفصاح مع ذکاء.

ومنه قوله تعالی: (حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ) ، (7)أی:والکتاب البین.

ص:52


1- (1) .فصلت:17.
2- (2) .الآیات بترتیب:الشوری:52؛الصافات:23؛یونس:35؛الإسراء:9؛التوبة:115.
3- (3) .البلد:10.
4- (4) .الأنبیاء:73.
5- (5) .مجمع البحرین:473/1.
6- (6) .تفسیر المنیر:106/16.
7- (7) .الدخان:1-2.

وقیل معنی: (الْمُبِینِ) الذی أبان طرق الهدی من طرق الضلالة،وأبان کلّ ما تحتاج إلیه الأمة. (1)

ومنه حدیث آدم علیه السلام وموسی علیه السلام،أعطاک الله التوراة فیها تبیان کلّ شیء،أی:کشفه وإیضاحه.

ومعنی مبین،أی:بین الحق من الباطل،والحلال من الحرام،ومبین أن نبّوة نبینا صلّی الله علیه و آله حق. (2)

والفرق بین البیان و التبیان هو:أن البیان جعل الشیء مبیناً بدون حجة،والتبیان جعل الشیء مبیناً مع الحجة. (3)

وقوله تعالی: (یُبَیِّنُ لَکُمْ) ، (4)تعمّ تبیین کلّما یحق تبیینه من الحقّ من ظاهر أو باطن دونما استثناء. (5)

10.الإرشاد

و هو-الإرشاد-تعبیر آخر عن التبلیغ.

«فالإرشاد:الدلالة و الهدایة،ورشد فلان إذا أصاب وجه الأمر و الطریق». (6)

وإرشاد الضال:هدایته الطریق وتعریفه له،وقوله تعالی: (لَعَلَّهُمْ یَرْشُدُونَ) ، (7)أی:لعلهم یصیبون الحق ویهتدون إلیه. (8)

وأرشده الله،وأرشده إلی الأمر،ورشّده هداه،والإرشاد الهدایة،والدلالة.

ص:53


1- (1) .لسان العرب:67/13-68.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .مجمع البحرین:217/6.
4- (4) .المائدة:19.
5- (5) .الفرقان فی تفسیر القرآن:258/8.
6- (6) .کتاب العین:242/6.
7- (7) .البقرة:186.
8- (8) .مجمع البحرین:50/3.

وفی أسماء الله تعالی الرشید:

هو الذی أرشد الخلق إلی مصالحهم،أی:هداهم ودلّهم علیها.وقیل:هو الذی تنساق تدبیراته إلی غایاتها علی سبیل السداد من غیر إشارة مشیر،ولا تسدید مسدّد. (1)

ص:54


1- (1) .لسان العرب:175/3.

المبحث الرابع:معنی النبی وفرقه عن الرسول

1.النبی لغة

قال الشیخ الطوسی رحمة الله:

النبی فی العرف هو المؤدی عن الله تعالی بلا واسطة من البشر،ومعنی النبی فی اللغة یحتمل أمرین:

الأول:«المخبر واشتقاقه من الإنباء الذی هو الإخبار،ویکون علی هذا مهموز». (1)

و هذا ما أکدت علیه کتب اللغة أیضاً،حیث ذکرت أنّ النبأ مهموز:الخبر،وان لفلان نبأ أی خبراً،والفعل نبأته وأنبأته وأستنبأته،والجمع:الأنباء.

والنبی صلّی الله علیه و آله ینبئ الأنباء عن الله عز وجلّ. (2)

فقوله سبحانه وتعالی: (عَمَّ یَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِیمِ) ، (3)النبأ واحد الأنباء وهی:الأخبار.

کذلک قوله تعالی: (نَبِّئْنا بِتَأْوِیلِهِ) ، (4)أی:أخبرنا بتفسیره.

ص:55


1- (1) .الطوسی،الاقتصاد الهادی إلی طریق الرشاد:151.
2- (2) .کتاب العین:382/8؛لسان العرب:162/1،عن الفرّاء؛مجمع البحرین:404/1.
3- (3) .النبأ:1 و2.
4- (4) .یوسف:36.

وقوله تعالی: (وَ یَسْتَنْبِئُونَکَ) ، (1)أی:یستخبرونک. (2)

والهمز فی النبیء لغة ردیئة،یعنی:لقلّة استعمالها،لا لأنّ القیاس یمنع من ذلک.

ألا تری إلی قول سیدنا رسول الله صلّی الله علیه و آله و قد قیل یا نبیء الله،فقال له:

>>لا تَنْبر باسمی،فإنّما أنا نبی الله».

وفی روایة:

>>فقال لست بنبیء الله ولکن نبی الله». (3)

الثانی:أن یکون مفیداً للرفعة وعلو المنزلة واشتقاقه یکون من النباوة التی هی:الارتفاع.

ومتی أرید بهذا اللفظ علو المنزلة فلا یجوز إلّا بالتشدید بلا همز،وعلی هذا یحتمل ما ورد عن النبی صلّی الله علیه و آله >>لا تنبروا باسمی»،أی:لا تهمزوه؛لأنه أراد علو المنزلة،ولا یلزم أن یکون کلّ عال المنزلة نبیاً لأنه بالعرف صارت هذه اللفظة مختصة بمن علت منزلته،لتحمله أعباء الرسالة و القیام بأدائها. (4)

و هذا المعنی أیدته کتب اللغة أیضاً،حیث قیل:

أن النبی مشتق من النبوة و النباوة،وهی الارتفاع عن الأرض،والمعنی أنه ارتفع وأشرف علی سائر الخلق فأصله غیر الهمز. (5)

وهناک معنی آخر للنبی قد ذُکر فی کتب اللغة و هو أن النبی:

الطریق الواضح یأخذک إلی حیث ترید،وقول أوس بن حجر:

لأصبح رتما دقاق الحصی مکان النبی من الکاثب

هو ما سهل من الأرض،و هو:رمل بعینه. (6)

ص:56


1- (1) .یونس:53.
2- (2) .مجمع البحرین:404/11.
3- (3) .المصدر.
4- (4) .الاقتصاد الهادی إلی طریق الرشاد:151.
5- (5) .لسان العرب:163/1؛مجمع البحرین:404/1؛محمد, الصالحی الشامی, سبل الهدی و الرشاد:278/2.
6- (6) .کتاب العین:382/1؛لسان العرب:164/1.

2.النبی اصطلاحا

النبی:هو الإنسان المخبر و المؤدی عن الله تعالی بغیر واسطة من البشر،أعم من أن یکون له شریعة کمحمد صلّی الله علیه و آله أو لیس له شریعة کیحیی علیه السلام. (1)

وقال الشیخ المفید رحمة الله:

أن الأنبیاء سفراء الله باعتبار إبلاغهم أحکام الخالق إلی الخلائق،و هذا التبلیغ من أظهر صفات السفراء. (2)

وقال السید الطباطبائی رحمة الله:

إن النبی هو الذی یبین للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدین وفروعه علی ما اقتضته عنایة الله تعالی من هدایة الناس إلی سعادتهم. (3)

ثمّ یقول:

وأعلم أن لوازم النبوة الوحی و هو نوع تکلیم إلهی تتوقف علیه النبوة،قال تعالی: (إِنّا أَوْحَیْنا إِلَیْکَ کَما أَوْحَیْنا إِلی نُوحٍ وَ النَّبِیِّینَ مِنْ بَعْدِهِ) (4). (5)

إذاً:فالنبی مصطلح إسلامی بمعنی:إنسان ذی منزلة رفیعة عند الله یوحی إلیه،والنبوة منزلة خاصة فُضِّل النبی بها بما آتاه الله من العلم وقرب المنزلة من الله تعالی،وهی نحو تبلیغ للأحکام وقوانین مجعولة مشرعة. (6)

و هذا ما أشار إلیه أمیر المؤمنین علیه السلام فی خطبة له یذکر فیها آدم علیه السلام،حیث قال:

>>فأهبطه إلی دار البلیة وتناسل الذریة،واصطفی سبحانه من ولده أنبیاء أخذ علی الوحی میثاقهم،وعلی تبلیغ الرسالة أمانتهم،لما بدل أکثر خلقه عهد الله إلیهم،

ص:57


1- (1) .مجمع البحرین:404/1؛الاقتصاد الهادی إلی طریق الرشاد:151.
2- (2) .تصحیح اعتقادات الإمامیة:32.
3- (3) .المیزان فی تفسیر القرآن:143/2.
4- (4) .النساء:163.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:145/2.
6- (6) .المیزان فی تفسیر القرآن:150/2.

فجهلوا حقه،واتخذوا الأنداد معه،واجتالتهم الشیاطین عن معرفته،وأقتطعتهم عن عبادته،فبعث فیهم رسله،وواتر إلیهم أنبیاءه،لیستأدوهم میثاق فطرته،ویذکروهم منسی نعمته،ویحتجوا علیهم بالتبلیغ،ویثیروا لهم دفائن العقول،ویروهم آیات المقدرة». (1)

فالنبی،إذاً:هو صاحب هذه المنزلة الرفیعة،وصاحب هذه المقامات العالیة،و هو الذی یقود الناس نحو الله تعالی فی عباداتهم ومعاشهم وفی کل أمورهم،وبحثنا خاص بدراسة أسالیب تبلیغ هؤلاء الذین أشعلوا الشموع فی طریق الإنسانیة جمعاء لکی تستنیر بهداهم وتسیر بخطاهم نحو الله تعالی ونحو الکمال المطلق الذی لیس بعده کمال.

3.الفرق بین النبی و الرسول

الرسول:هو الذی ینزل علیه الوحی من قبل الله تعالی برسالة أو بکتاب،أو بصحیفة, أو أمر أو نهی،وغیر ذلک،ویکون بسبب ذلک مبلغاً عن الله تعالی إلی المرسل إلیه من عباده،وإلی المکلفین من خلقه. (2)

أو بعبارة:

ثنقل هو المبعوث من قبل الله تعالی لهدایة الإنسان وتکلیمه. (3)

ومن هذا المنطلق یکون الفرق بینه وبین النبی من جهات:

الجهة الأولی

فی لزوم وجود شریعة وعدمه،ولزوم التبلیغ وعدمه،فالنبی:

هو الإنسان المخبر عن الله تعالی بغیر واسطة أحد من البشر أعم من أن یکون له

ص:58


1- (1) .المصدر:149/2؛الإمام علی علیه السلام نهج البلاغة:23/1.
2- (2) .الأنبیاء حیاتهم-قصصهم:9.
3- (3) .مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن:143/2.

شریعة،کمحمد صلّی الله علیه و آله أو لیس له شریعة کیحیی علیه السلام،مأمور من الله تعالی بتبلیغ الأوامر و النواهی إلی قوم أم لا.

والرسول:هو الإنسان المخبر عن الله تعالی بغیر واسطة من البشر وله شریعة إما مبتدأه کآدم علیه السلام أو تکملة لما قبلها،کمحمد صلّی الله علیه و آله مأمور من الله تعالی بتبلیغ الأوامر و النواهی إلی قوم. (1)

وورد فی الروایات أن الأنبیاء علی أربعة طبقات،فعن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال:

«الأنبیاء و المرسلون علی أربع طبقات:فنبی منبأ فی نفسه لا یعدو غیرها،ونبی یری فی النوم ویسمع ولا یعاینه فی الیقظة ولم یبعث إلی أحد،وعلیه إمام مثل ما کان إبراهیم علی لوط.ونبی یری فی النوم ویسمع ویعاین الملک فی الیقظة،و قد أرسل إلی طائفة-قلّوا أو کثروا-کیونس علیه السلام،قال تعالی: (وَ أَرْسَلْناهُ إِلی مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ یَزِیدُونَ) ،قال:یزیدون ثلاثین ألفاً،وعلیه إمام و الذی یری فی نومه ویسمع ویعاین فی الیقظة،و هو إمام مثل أولی العزم،و قد کان إبراهیم نبیاً ولیس بإمام،حتی قال الله تعالی: (إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ) (2)من عبد صنماً أو وثناً لا یکون إماماً». (3)

وفی الحدیث الشریف عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

>>إن الله تبارک وتعالی اتخذ إبراهیم علیه السلام عبداً قبل أن یتخذه نبیاً،وان الله اتخذه نبیاً قبل أن یتخذه رسولاً،وان الله اتخذه رسولاً قبل أن یتخذه خلیلاً،وان الله اتخذه خلیلاً قبل أن یتخذه إماماً». (4)

وفی المروی الصحیح عن محمّد بن یحیی عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن الأحول قال:

ص:59


1- (1) .النکت الاعتقادیة:34.
2- (2) .الآیات:الصافات:147؛البقرة:124.
3- (3) .المازندرانی, شرح أصول الکافی:174/1.
4- (4) .تفسیر نور الثقلین:512/3.

سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرسول و النبی و المحدث؟قال:>>الرسول الذی یأتیه جبرائیل قبلاً، (1)فیراه ویکلمه،فهذا الرسول،و أما النبی فهو الذی یری فی منامه نحو رؤیا إبراهیم،ونحو ما کان رأی رسول الله صلّی الله علیه و آله من أسباب النبوة قبل الوحی حتی أتاه جبرائیل علیه السلام من عند الله بالرسالة،وکان محمد صلّی الله علیه و آله حین جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله یخبر بها جبرائیل علیه السلام ویکلمه بها قبلاً،و هو من الأنبیاء من جمع له النبوة ویری فی منامه ویأتیه الروح ویکلمه ویحدثه من غیر أن یکون یری فی الیقظة،و أما المحدث فهو الذی یحدث فیسمع ولا یعاین ولا یری فی منامه». (2)

والذی نفهمه من هذا الحدیث وغیره من الأحادیث المعتبرة أنه قد یجمع لشخص واحد النبوة و الرسالة و الإمامة ک:نبینا محمد صلّی الله علیه و آله وإبراهیم علیه السلام وغیرهما،فقد کان إبراهیم نبیاً،ولیس بإمام حتی قال الله تعالی: (إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ) . (3)

الجهة الثانیة

إنّ النبی یجب أن یکون من البشر،بخلاف الرسول،فقد یکون من الملائکة کجبرائیل وعزرائیل وغیرهما،[قال الله تعالی[: (قالُوا یا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّکَ لَنْ یَصِلُوا إِلَیْکَ) ، (4)قال الشیخ الطوسی:لا توصف الملائکة بأنهم أنبیاء و إن کان فیهم رسل من قبل الله تعالی. (5)

و قد یکون طیراً کهدهد سلیمان بن داود[الذی أرسله إلی ملکة سبأ]أوغیر ذلک من قبل الله أو من قبل المخلوق،[کما أشار إلی ذلک الشیخ الطوسی رحمة الله حینما تعرض للفرق بین النبی و الرسول،قال:

ص:60


1- (1) .أی عیاناً ومقابلة.
2- (2) .تفسیر نور الثقلین:551/3.
3- (3) .البقرة:124.
4- (4) .هود:81.
5- (5) .الاقتصاد الهادی إلی سبیل الرشاد:151.

إن النبی لا یکون إلّا صاحب المعجز الذی ینبئ عن الله،أی یخبر،والرسول إذا کان رسول الله فهو بهذه الصفة،و قد یکون الرسول رسولاً لغیر الله،فلا یکون بهذه الصفة (1)کما هو واضح. (2)

الجهة الثالثة

ما ذکره السید الطباطبائی:

إنّ النبی و الرسول کلیهما مرسلان إلی الناس،غیر أن النبی بعث لینبئ الناس بما عنده من نبأ الغیب لکونه خبیراً بما عند الله،والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة علی أصل نبأ النبوة کما یشعر به أمثال قوله تعالی: (وَ لِکُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِیَ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ) ، (3)وقوله تعالی: (وَ ما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً) . (4)فلازمه أن للرسول شرف الوساطة بین الله وبین عباده،وللنبی شرف العلم بالله وبما عنده. (5)

و قد وردت روایات أهل البیت علیهم السلام لتبین بعض الفوارق بین الرسول،والنبی،والمحدث.

فقد روی عن أحمد بن محمد بن أبی نصر،عن ثعلبة بن میمون،عن زُرَارة،قال:

سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عز وجلّ: (...وَ کانَ رَسُولاً نَبِیًّا) ، (6)ما الرسول؟وما النبی؟فقال:«النبی الذی یری فی منامه،ویسمع الصوت،ولا یعاین الملک،والرسول الذی یسمع الصوت،ویری فی منامه ویعاین الملک».

ص:61


1- (1) .التبیان فی تفسیر القرآن:34/4.
2- (2) .مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن:143/2؛والأنبیاء حیاتهم-قصصهم:ص9؛وأشیر إلیه فی تفسیر مجمع البیان:144/7.
3- (3) .یونس:47.
4- (4) .الإسراء:15.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:143/2،فی تفسیر قوله تعالی: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِیٍّ) .
6- (6) .مریم:51.

قلت:الإمام ما منزلته؟قال:«یسمع ولا یری،ولا یعاین الملک».ثمّ تلا هذه الآیة: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِیٍّ) (1). (2)

کذلک ما روی عن أحمد بن محمد ومحمد بن یحیی عن محمد بن الحسین،عن علی بن حسان،عن ابن فضال،عن علی بن یعقوب الهاشمی،عن مروان بن مسلم،عن برید،عن أبی جعفر وأبی عبد الله علیه السلام فی قوله عز وجلّ: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِیٍّ) ،قلت:جعلت فداک لیس هذه قراءتنا فما الرسول و النبی و المحدث؟

قال:«الرسول الذی یظهر له الملک فیکلمه،والنبی هو الذی یری فی منامه،وربّما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد،والمحدّث الذی یسمع ولا یری الصورة.

قال:قلت:أصلحک الله کیف یعلم أن الذی رأی فی النوم حقّ وأنّه من الملک؟

قال:«یوفق لذلک حتی یعرفه،لقد ختم الله بکتابکم الکتب وختم بنبیکم الأنبیاء». (3)

إذاً:فالنبوة و الرسالة مقامان،خاصّة أحدهما الرؤیا وخاصة الآخر مشاهدة ملک الوحی،وربّما اجتمع المقامان فی واحد فاجتمعت الخاصتان،وربّما کانت بنبوة من غیر رسالة،فتکون الرسالة أخصّ من النبوة مصداقاً لا مفهوماً،کما یصرّح به الحدیث الوارد عن شیخ الصدوق عن عتبة اللیثی عن أبی ذر رحمه الله،قال:

قلت:یا رسول الله کم النبیون؟قال:«مائة وأربعة وعشرون ألف نبی».قلت:کم المرسلون منهم؟قال:«ثلاثمائة وثلاثة عشر جمعاً غفیراً».قلت:من کان أوّل الأنبیاء،قال:«آدم».قلت:وکان من الأنبیاء مرسلاً،قال:«نعم خلقه الله بیده ونفخ فیه من روحه». (4)

فعبارة:کم المرسلون منهم،تدلّ علی أن الرسالة أخص من النبوة ولا عکس،وبذلک

ص:62


1- (1) .الحج:52.
2- (2) .الکافی:176/1.
3- (3) .تفسیر نور الثقلین:511/3؛الکافی:177/1.
4- (4) .الخصال:524؛معانی الأخبار:332.

یظهر الجواب عمّا اعترضه بعضهم علی دلالة قوله تعالی: (وَ لکِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ) ، (1)أنه إنما یدل علی ختم النبوة دون ختم الرسالة،مستدلاً بهذه الروایة ونظائرها.

والجواب:

أنّ النبوة أعم مصداقاً من الرسالة،وارتفاع الأعمّ یستلزم ارتفاع الأخص،ولا دلالة فی الروایات کما عرفت علی العموم من وجه بین الرسالة و النبوة،بل الروایات صریحة فی العموم المطلق. (2)

ص:63


1- (1) .الأحزاب:40.
2- (2) .المیزان فی تفسیر القرآن:147/2-148.

ص:64

الفصلُ الأول: شروط التبلیغ و المبلّغ وفیه مبحثان

اشارة

ص:65

ص:66

المبحث الأول:شروط المبلّغ

اشارة

إنّ من أهم الأرکان التی لها أثر کبیر فی نجاح التبلیغ،هو صفات المبلّغ وخصائصه الذاتیة،وما ینبغی أن یتوفر علیه من شروط وممیزات تمیزه عن الآخرین،وتزید من تأثیره و قدرته التبلیغیة،مستلهماً ذلک من القرآن الکریم وشخصیات الأنبیاء علیهم السلام.

فالمبلّغ إنّما یستطیع أن یصل إلی مشارف الموفقیة و النجاح،وأن یتبوأ مکانته الحقیقیة-کامتداد لطریق الأنبیاء و الذود عن القیم الدینیة-فیما لو توفّرت فیه الشروط العلمیة،والأخلاقیة،والعملیة التی یری الإسلام ضرورة توفرها فی الدعاة إلی طریق الله و القیم الإنسانیة و الإسلامیة.

و إذا لم یتوفّر فی المبلّغ الحد الأدنی من هذه الصفات،فإنّ جهوده التبلیغیة سوف لا تعطی أی ثمرة،بل تنعکس علیه،وعلی المجتمع بأضرار ومخاطر جمّة.

ومن أهم تلک الشروط و الصفات:

1.الوعی

الوعی لغة:هو حفظ حدیث ونحوه،ویقال فلان أوعی من فلان،أی:أحفظ وأفهم. (1)

ص:67


1- (1) .کتاب العین:272/2؛الصحاح:2525/6؛معجم مقاییس اللغة:124/6؛تاج العروس:268/20.

وزاد فی لسان العرب ومجمع البحرین:

أنه فی الحدیث:«نظر الله امرأ سمع مقالتی فوعاها،فربّ مبلّغ أوعی من سامع».وقال الأزهری:الوعی:الحافظ الکیس الفقیه العالم. (1)

وفی قوله تعالی: (وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ) ، (2)أی:وتحفظها أذن حافظة،یقال:وعیت العلم،ووعی قلبه العلم یعیه وعیاً.وقال الشاعر:

إذا لم تکن واعیاً حافظاً فجمعک للکتب لا ینفع

فمعنی:واعیة ممسکة ما یحصل فیها. (3)

و قد ورد فی الحدیث:

>>لا یعذب الله قلباً وعی القرآن»،أی:عقل القرآن إیماناً به وعملاً،فأما من حفظ ألفاظه وضیع حدوده فأنه غیر واعٍ له. (4)

و أما فی الاصطلاح:فیقول صاحب تفسیر الأمثل:

إن الإنسان تارة یسمع کلاماً ما إلّا أنه کأن لم یسمعه،وفی التعبیر السائد:یسمع بأذن ویخرج من الأخری.

وتارة أخری یسمع الکلام ویفکر فیه ویتأمله،ویجعل ما فیه خیر فی قلبه،ویعتبر الإیجابی منه مناراً یسیر علیه فی طریق حیاته و هذا ما یعبر عنه ب-(الوعی). (5)

ثمّ یقول فی موضع آخر:

وخلاصة القول أنه یجب أن تتوفر فی الخطیب أو[المبلغ]عناصر الوعی و التفکر الصحیح و المتابعة لشؤون المسلمین،لیستثمر الخطبة فی تحقیق الأهداف الإسلامیة العلیا،ویدفع المسلمین نحوها. (6)

ص:68


1- (1) .لسان العرب:396/15؛ومجمع البحرین:523/4.
2- (2) .الحاقة:12.
3- (3) .التبیان فی تفسیر القرآن:98/10.
4- (4) .مجمع البحرین:523/4؛علی ابن الطاهر, المرتضی, الأمالی:84/2.
5- (5) .تفسیر الأمثل:579/18،حینما یمرّ بقوله تعالی: (وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ) .
6- (6) .تفسیر الأمثل:344/18.

ولهذا ینبغی أن یکون المبلّغ علی مستوی کافٍ من الوعی و البصیرة،فهو الممثل للوعی الرسالی فی أعلی مستویاته،و هو الحامی و الداعم له.

فإذا أراد المبلّغ أن یؤدی وظیفته بنجاح ینبغی علیه أن یکون واعیاً لما یرید أن یتناوله ویطرحه علی الناس،ملتفتاً للغزو الثقافی و الفکری،ومتمکناً من ردّ الشبهات التی تثار من حوله،وأن یطرح مطالبه دائماً بطریقة استدلالیة علمیة مقبولة عقلیاً وعلمیاً ودینیاً،مستعیناً علی ذلک بالقرآن الکریم،وسیرة النبی صلی الله علیه وأله وأهل بیته الکرام علیهم السلام،کی یصغی الجمهور إلی قوله ویتلقوه بقبول حسن علی أساس ما یتمتع به من وعی وصلاحیة علمیة وکفاءة معرفیة.

ولو أن العلماء و المبلغین و الهادین و المرشدین شنوا حملة شاملة لتنویر أفکار عامة الناس بحیث تنال المجتمعات قسطاً من الوعی و الرشد الفکری والاجتماعی،لانتشرت رسالة السماء بأسرع وأفضل صورة ولسارت قیم الخیر و الصلاح فی مجتمعاتنا عامة.

ومن الواضح

أنه کلما ازداد مقام الإنسان من حیث العلم و الوعی و المعرفة و الإیمان،ازدادت قیمة وعمق ومنطقیة الأعمال الخیرة التی یقوم بها،بدرجة نسبة الوعی و العلم و المعرفة. (1)

ویتضح هذا المعنی أیضاً فی کثیر من الأحادیث و الروایات الشریفة،فعن النبی صلّی الله علیه و آله أنه قال:

«للعدل أربع شعب:غوص الفهم،وزهرة العلم،وشرائع الحکم،وروضة الحلم،فمن غاص الفهم فسر مجمل العلم،ومن وعی زهرة العلم عرف شرائع الحکم،ومن ورد روضة الحلم،لم یفرط فی أمره وعاش فی الناس و هو فی راحة». (2)

إذاً:فبإمکاننا بعد هذا الذی تقدم أن نعتبر أن الوعی الذی یحتاجه المبلّغ هو:

المعرفة التامة و الکاملة بالمبدأ و الهدف الذی یسعی إلیه،و هو الرشد الفکری

ص:69


1- (1) .تفسیر الأمثل:77/9.
2- (2) .کنز العمال:287/1؛معدن الجواهر:41.

والاجتماعی،الذی یمکنه من إدراک الحقائق،وفهم وتمییز ما یدور حوله من شؤون المسلمین وغیر المسلمین-من مخططات الأعداء و المغرضین-ویجعله یقضاً عارفاً بالظروف الزمانیة و المکانیة والاجتماعیة و السیاسیة التی یمر بها،وقادراً علی التعامل معها بکل تعقل وحکمة.

فالوعی صفة مشترکة بین کل المسئولین عن التبلیغ،سواء کانوا أنبیاء أو أوصیاء أو علماء أو صلحاء،لذلک یحدّثنا القرآن الکریم علی لسان نبینا الأکرم صلی الله علیه وآله: (قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی) . (1)

فالنبی صلّی الله علیه و آله،ومن یخطو علی خطاه یجب أن یکون علی مستوی عالٍ من الوعی و البصیرة التی یتمکن بها من رؤیة الحقائق وتمییز الحق من الباطل،والصحیح من الخطأ،والخیر من الشر.

یقول الشیخ الطوسی:

والبصیرة:المعرفة التی یمیز بها بین الحق و الباطل فی الدین و الدنیا،یقال:فلان علی بصیرة من أمره أی کأنه یبصر بعینه. (2)

قال تعالی: (قَدْ جاءَکُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِیَ فَعَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِحَفِیظٍ) . (3)

فالمبلغ الواعی الذی یمیز الحق ویعمل به ویهدی الناس إلیه هو أولی بالأتباع ممن هو محتاج إلی الهدایة: (أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدی) . (4)

أما المبلّغ غیر العالم،والفاقد للوعی و البصیرة،فهو یتبّع الهوی ویسیر علی غیر هدی و قد نهی الله تبارک وتعالی عن إتباعه،قال عز من قائل: (وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ) . (5)

ص:70


1- (1) .یوسف:108.
2- (2) .التبیان فی تفسیر القرآن:205/6،فی تفسیر قوله تعالی: (قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی) .
3- (3) .الأنعام:104.
4- (4) .یونس:35.
5- (5) .الجاشیة:18.

ویؤکد الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام هذا المعنی, فینهی عن التکلم بغیر علم ووعی وبصیرة فیقول علیه السلام:

>>ولا تقل ما لا تعلم؛فتتهم بأخبارک بما تعلم!». (1)

وعنه علیه السلام:

>>لا تخبر بما لم تحط به علماً». (2)

وعنه علیه السلام:

>>استصحبوا من شعلة واعظ متعظ،وأقبلوا نصیحة ناصح متیقظ،وقفوا عند ما أفادکم من التعلیم». (3)

ویخاطب همّام فیقول:

>>یا همام!المؤمن هو الکیس الفطن». (4)

حیث أنه الکیاسة و الفطنة من شروط المبلّغ المؤمن الواعی.

ویمکن أن نصوّر الوعی لدی المبلّغ فی کثیر من المجالات،ونجعله یشمل کثیراً من الموارد:

فمن موارده:التدبر فالمبلغ إذا أراد أن ینجز عملاً ما،أو یقدم علی مشروع معین،فعلیه أن یتدبر ویفکر فی نتائجه وعاقبته،فأن یک خیراً وفیه مصلحة فلیفعل وإلّا فلیترک.

قال الإمام الباقر علیه السلام:

>>إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته،فأن یک خیراً ورشداً فأتبعه وان یک غیاً فدعه». (5)

ومن أهمّ وأخطر ما یقوم به الإنسان هو وظیفة التبلیغ الدینی،لذا یجب أن یتوفر علی تدبر وتفکر واعی ودقیق.

ومن موارده:الاستقلالیة،فینبغی للمبلّغ الواعی أن لا یکون أداة وآله بید الحکومة،

ص:71


1- (1) .عیون الحکم و المواعظ:530،حدیث 9639.
2- (2) .غرر الحکم ودرر الکلم:10279.
3- (3) .عیون الحکم و المواعظ:2164/92.
4- (4) .أصول الکافی:226/2.
5- (5) .بحار الأنوار:130/77.

والأحزاب و الفئات،فهو مبلغ ومرشد،ومعلماً وهادیاً لجمیع الناس،فلا ینبغی له أن یمیل أو ینحاز لحزب أو لفئة خاصة،و هذا ما نستلهمه من حیاة المبلّغ الأعظم،نبینا الأکرم صلّی الله علیه و آله،حیث إنه علمنا علی عدم الانحیاز إلی،أی:جهة مهما کانت،فلما دخل صلّی الله علیه و آله المدینة استقبله الناس،وکانت القبائل تدعوه لتتشرف به،وکبار المدینة وأعیانها یتسابقون علی الإمساک بعنان الناقة وهدایتها إلی بیوتهم لیتشرفوا بوجود النبی صلّی الله علیه و آله فی بیوتهم.ولکن النبی صلّی الله علیه و آله لوعیه وبصیرته قال لهم:>>خلو سبیلها فأنها مأمورة». (1)

وبذلک أثبت لجمیع المسلمین وأهل المدینة عدم انحیازه لأحد.

إذاً:فالوعی و البصیرة من أوائل الشروط الضروریة و المهمة التی ینبغی أن یتّصف ویتسلح بها المبلّغ،فی جمیع المواطن و الظروف التی یمر بها.

2.الشجاعة

ومن الصفات الأخری التی یتحلّی بها المبلّغ الشجاعة و الإرادة القویة،والعزم الراسخ و المستحکم،وذلک إنما یحصل بعد الإیمان بالمبدأ و الغایة و الهدف،بل بعدما یصل المبلّغ إلی إنکار ذاته من أجل مبدئه وهدفه،والتضحیة فی سبیله بکل غالٍ ونفیس،وذلک بدافعٍ قوی من إیمانه الراسخ،جاعلاً قدوته فی هذا الطریق الملیء بالمصاعب هم الأنبیاء علیهم السلام بصورة عامة،ونبینا الأکرم صلّی الله علیه و آله بصورة خاصة،فله بهم أسوة حسنة،حیث أنهم لاقوا ما لاقوا من المصاعب و المشاکل و المحن و الآلام فی هذا الطریق ولکنهم واجهوها بکل شجاعة وإرادة وحزم.

فهذا نبینا صلّی الله علیه و آله لمّا أرادت منه قریش أن یترک تبلیغ الرسالة مقابل عوض یعطوه إیاه،تصدی لهم بکل شجاعة،وقوة جازماً غیر متزلزل ولا متردد،قائلاً:

>>والله لو وضعوا الشمس فی یمینی و القمر فی شمالی علی أن أترک هذا الأمر ما ترکته». (2)

ص:72


1- (1) .بحار الأنوار:108/19.
2- (2) .ابن أبی الحدید, المعتزلی, شرح نهج البلاغة:54/14؛أبی الفداء إسماعیل, ابن کثیر, السیرة النبویة:474/1.

فلأنه صلّی الله علیه و آله علی أتم الإیمان بمبدئه وغایته وهدفه،صار ذا شجاعة وقوة وعزم وصلابة وثبات فی کل الظروف و المواطن التی مر بها صلّی الله علیه و آله ومنها مباهلته مع نصاری نجران،فقد استعد صلّی الله علیه و آله للمباهلة مع النصاری،وقبل أن یتحمّل الهلاک،ولعنة الله إن کان من الکاذبین،وحاشاه من ذلک،وأخرج معه أعز أهله وأولاده،-وذلک لإیمانه الکبیر بأحقیة طریقه ومسلکه الذی سلکه فأنتج عنده هذه الشجاعة و القوة فی مواجهة الکفار-کما فی قوله تعالی: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ) . (1)

و قد أثمرت تلک الشجاعة و الإرادة القویة تلک الانتصارات و الفتوحات العظیمة و الکبیرة فی کل العالم.

فإذاً:الشجاعة التی ینبغی أن یتصف بها المبلّغ هی:القدرة،والجرأة فی بیان الحقائق،ومواجهة الانحرافات و الأباطیل و الشبهات و البدع بحزم وقطع تام،وبیان نهج المجرمین وأسالیبهم ومؤامراتهم،کما أمر الله عز وجلّ بذلک فقال: (وَ لِتَسْتَبِینَ سَبِیلُ الْمُجْرِمِینَ) ، (2)فیعرضها للجمیع ولا یکتمها خوفاً من المستکبرین و الطغاة و الظالمین،ولا یخشی فی ذلک أحد إلّا الله عز وجلّ: (الَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ یَخْشَوْنَهُ وَ لا یَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ) . (3)

هذا ما ینبغی أن یتحلّی به المبلّغ من الشجاعة و الإرادة القویة وإلّا فهو معرض للعنة الله،حیث قال النبی صلّی الله علیه و آله:

>>إذا ظهرت البدع فی أمتی فلیظهر العالم علمه فمن لم یفعل فعلیه لعنة الله». (4)

ص:73


1- (1) .آل عمران:61.
2- (2) .الأنعام:55.
3- (3) .الأحزاب:39.
4- (4) .أصول الکافی:54/1.

فلو داخل العالم أو المبلّغ نوع من الجبن أو التقاعس و التماهل وفقد الشجاعة علی نشر رسالته،سوف یکون مقصراً ومحاسباً ومسئولاً عن عدم القیام بوظیفته التی هی بیان الحق فی الظروف التی یحتاج فیها الناس إلی معرفة الحق،فوضیفته أن یوضّح الحق ویظهره بکلّ شجاعة وجرأة إتباعاً واقتداءً بالأنبیاء الکرام علیهم السلام.

فهذا نبی الله إبراهیم علیه السلام یحمل علی الأصنام ویقول بکل شجاعة: (وَ تَاللّهِ لَأَکِیدَنَّ أَصْنامَکُمْ) . (1)

و هذا النبی موسی علیه السلام یهدّد السامری بکل جرأة وثقة قائلاً: (وَ انْظُرْ إِلی إِلهِکَ الَّذِی ظَلْتَ عَلَیْهِ عاکِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِی الْیَمِّ نَسْفاً) . (2)

وذاک النبی سلیمان علیه السلام،یبعث رسالة إلی ملکة سبأ(بلقیس)ویأمرها بکل قوة وثبات بأن تخضع لحکم الله،وتأتی ومن معها وهم مسلمون،کما فی قوله تعالی (أَلاّ تَعْلُوا عَلَیَّ وَ أْتُونِی مُسْلِمِینَ) . (3)

لذلک یجب علی المبلّغ أن یکون صلباً ولا یهاب لومة اللائمین فی سبیل تبلیغ رسالته کما قال تعالی: (یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) . (4)

و هذا ما أکده الأنبیاء علیهم السلام فی طول مسیرتهم التبلیغیة،و قد وصّی به نبینا الأکرم صلی الله علیه وآله معاذاً حینما أرسله للتبلیغ فی بلاد الیمن،فقال:>>ولا تَخَفْ فی الله لومة لائم». (5)

بهذا المستوی من الشجاعة ینزل المبلّغ الحقیقی إلی الساحة ویظهر ما یحمله من رسالة إلی الناس ویفجر کلّ طاقاته،ویستخدم کلّ الأسالیب و الوسائل التی یملکها للوصول إلی قناعة الآخرین،فیفتح لهم أبواب الهدی،ویهیأ لهم أجواء الفلاح ویصبر،

ص:74


1- (1) .الأنبیاء:57.
2- (2) .طه:97.
3- (3) .النمل:31.
4- (4) .المائدة:54.
5- (5) .أعیان الشیعة:299/1.

ویتحمل،ویجسد أخلاق الأنبیاء علیهم السلام،لیغیر الواقع،فإذا فعل واستنفر کل طاقاته فقد قام بمسؤولیته وأدی وظیفته،فأن جنی الثمار الطیبة ولاقی القبول الحسن فنور علی نور،وأن تُؤت ثمارها رفض من قبل المعاندین و الکفار،فیقف بکل حزم وثبات ویقول لهم بقوة: (لَکُمْ دِینُکُمْ وَ لِیَ دِینِ) . (1)

3.الإخلاص

من أهم الصفات و الشروط التی ینبغی أن تکون فی المبلّغ الموفق(الإخلاص)والإخلاص کما عرفه الراغب الأصفهانی حینما یمر بقوله تعالی: (إِنَّهُ کانَ مُخْلَصاً وَ کانَ رَسُولاً نَبِیًّا) ، (2)یقول:

فحقیقة الإخلاص التبری عن کل ما دون الله. (3)

أما الشیخ الطوسی رحمة الله فحینما یمر بقوله تعالی: (وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ) ، (4)یقول:

وأصل الإخلاص إخراج کل شائب من الخبث،ومنه إخلاص الدین لله و هو توحید العبادة إلیه خالصة دون غیره. (5)

وحینما سئل سقیف عن الإخلاص قال:

تمیز العمل من العیوب کتمییز اللبن بین فرث ودم. (6)

وقیل:

أن الإخلاص أن تستوی أعمال العبد فی الظاهر و الباطن. (7)

ص:75


1- (1) .الکافرون:6.
2- (2) .مریم:51.
3- (3) .مفردات غریب القرآن:154.
4- (4) .الأعراف:29.
5- (5) .التبیان فی تفسیر القرآن:384/4.
6- (6) .الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل:416/2.
7- (7) .تفسیر مجمع البیان:410/1.

فهو السر و العامل المؤثر فی توفیق ونجاح الأنبیاء،والأئمة علیهم السلام؛لأن التبلیغ إذا لم یکن خالصاً لوجه الله سبحانه،لن یکن مؤثراً،ولن یجد سبیلاً إلی قلوب الناس،ومن ثمّ سیذهب کلامه أدراج الریاح،ولن یجنی منه أی ثمرة سوی التعب وضیاع الوقت و الجهد،لأن أقوال وأفعال المبلّغ تکون مؤثرة بقدر إخلاصه،فأن انعدام الإخلاص فلا تأثیر لفخامة الکلام وجماله وفصاحته وسبکه؛لأن المؤثر الحقیقی فی الکون و المخلوقات هو الله سبحانه وتعالی فإذا کان التبلیغ خالصاً لله فأنه سیأخذ قدرته علی التأثیر من المؤثر الحقیقی ویترک أثره فی القلوب،والقرآن الکریم یخاطب النبی صلّی الله علیه و آله بقوله تعالی: (إِنَّکَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لکِنَّ اللّهَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) . (1)

فسّر النجاح إذاً:هو الارتباط بالله الذی بیده مقالید الأمور،و هو القادر علی کل شیء،وعلیه فیجب علی المبلّغ أن یلجأ إلی القدیر الذی بیده مفاتیح کل شیء-بإخلاص تام-علی طول مسیرته التبلیغیة،ویتمثل أمر القرآن الکریم حینما قال: (ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ حُنَفاءَ وَ یُقِیمُوا الصَّلاةَ وَ یُؤْتُوا الزَّکاةَ وَ ذلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ) . (2)

فلا یکون العمل صالحاً ما لم تتجلی فیه حقیقة الإخلاص،فالهدف الإلهی یعطی لعمل الإنسان عمقاً ونورانیة خاصة،ویوجهه الوجهة الصحیحة،وعندما نفقد الإخلاص یکون العمل ذا جنبة ظاهریة حیث یشیر إلی المنافع الخاصة،ویفقد عمقه وأصالته ووجهته الصحیحة...فلو اقترن العمل بالإخلاص فسیکون عملاً ثمیناً للغایة،وبدون الإخلاص هو لا قیمة له.

فالإخلاص:هو أن تکون الدوافع الإنسانیة خالیة من أی نوع من أنواع الشوائب،ویمکن أن نسمّی الإخلاص ب-(توحید النیة)،یعنی:التفکیر بالله وبرضاه فی جمیع الأمور و الحالات. (3)

ص:76


1- (1) .القصص:56.
2- (2) .البینة:5.
3- (3) .تفسیر الأمثل:394/9.

و قد بلغ الإخلاص مرتبة کبیرة من الأهمیة فی الإسلام ممّا جعل النبی صلّی الله علیه و آله یقول فیه:

>>من أخلص لله أربعین یوماً فجر الله ینابیع الحکمة من قلبه علی لسانه». (1)

إذاً:فعلی المبلّغ:

أن یکون ناصحاً وخالصاً ومخلصاً،أی:أن لا یهدف فی حدیثه تحقیق أی هدف،أو غرضٍ،أو غایة،سوی إبلاغ وإیصال الرسالة المترتبة علیه،أی:الخیر للطرف المقابل،وذلک بکل إخلاص وخلوص نیة. (2)

کما نص الحدیث الشریف علی أهمیة ذلک حینما قال صلّی الله علیه و آله:>>الناس کلّهم هالکون إلّا العالمون،والعالمون هالکون إلّا العاملون،والعاملون هالکون إلّا المخلصون،والمخلصون علی خطر عظیم». (3)

وفی مصدر آخر أکد بصیغة أخری وهی:

>>الناس کلهم موتی إلّا العلماء،والعلماء کلهم نیام إلّا العاملون،والعاملون کلهم مفترون إلّا المخلصین،والمخلصون علی خطر عظیم». (4)

و هذا هو نهج الأنبیاء علیهم السلام،و هذا شرط،وصفة الإخلاص تلاحظ بوضوح فی شخصیاتهم العظیمة،وحیاتهم الکریمة،و قد أکّده المولی سبحانه وتعالی فیهم،ووصفهم به،فقال عز وجلّ عن کلیمه موسی علیه السلام: (وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ مُوسی إِنَّهُ کانَ مُخْلَصاً وَ کانَ رَسُولاً نَبِیًّا) . (5)

ومعناه بالکسر:

«أنه أخلص العبادة عن الشرک و الریاء،وأخلص نفسه وأسلم وجهه لله». (6)

ص:77


1- (1) .عدة الداعی ونجاح الساعی:218؛الدر المنثور:350/1.وفی مصدر آخر:«أربعین صباحاً»؛الرواشح السماویة:285.
2- (2) .مرتضی, المطهری, الملحمة الحسینیة:186/1.
3- (3) .شرح الرضی علی الکافیة:129/2.
4- (4) .تفسیر السلمی:355/1.
5- (5) .مریم:51.
6- (6) .تفسیر جوامع الجامع:457/2.

فبهذا المستوی من الإخلاص وبهکذا نفوس قویة،وشخصیات متکاملة،ودوافع إلهیة یتحدی الأنبیاء علیهم السلام الکفار و المعاندین؛لأنهم بإخلاصهم یتمکنون من حل العقد المستعصیة،ونجاة الأمة وخلاصها من الجهل و الظلم و الضلال،وهدایتها إلی الصراط المستقیم.

4.الصبر

إن الصبر من أعظم صفات المبلّغ،التی لا یستغنی عنها فی تبلیغه،فهو لابد أن یواجه من أکثر الناس الصدود و الأعراض و التکذیب،إن لم یلاقَ الأذی و العذاب والاضطهاد،فبالصبر یثبت فی تبلیغ رسالته،ولا یبالی بما یلاقیه فی سبیلها من مشقة وصعاب وآلام.

وأصل الصبر:الحبس،وکل من حبس شیئاً فقد صبره. (1)

وصبیر القوم:الذی یصبر لهم ویکون معهم فی أمورهم. (2)

أو کما قال المحقق الطوسی رحمة الله:

الصبر حبس النفس عن الجزع عند المکروه،و هو یمنع الباطن عن الاضطراب،واللسان عن الشکایة،والأعضاء عن الحرکات غیر المعتادة، (3)و هو صفة مدح،ووجه الاستعانة بالصبر[فی قوله تعالی: (وَ اسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ) ]. (4)إن فی توطین النفس علی الأمور تسهیلاً لها. (5)

وقال الراغب الأصفهانی:

الصبر حبس النفس علی ما یقتضیه العقل و الشرع،أو عما یقتضیان حبسها عنه،فالصبر لفظ عام وربما خولف بین أسماءه بحسب اختلاف مواقعه،فإنما کان حبس النفس لمصیبة سمی صبراً لا غیر،ویضاده الجزع،وان کان فی محاربة سمی شجاعة،ویضاده الجبن،وان کان فی نائبة مضجرة سمی رحب الصدر،

ص:78


1- (1) .کتاب العین:254/1.
2- (2) .کتاب العین:117/7.
3- (3) .محمد باقر, المحمودی, نهج السعادة:283/7.
4- (4) .البقرة:45.
5- (5) .التبیان فی تفسیر القرآن:33/2.

ویضاده الضجر،وان کان فی إمساک الکلام سمی کتماناً،ویضاده الإذاعة،و قد سمی الله تعالی کل ذلک صبراً،ونبه علیه بقوله: (وَ الصّابِرِینَ فِی الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِینَ الْبَأْسِ) ، (1)(وَ الصّابِرِینَ عَلی ما أَصابَهُمْ) .، (2)

(3)فالصبر المطلوب للمبلّغ هو:

القوة و الثبات فی مختلف المواقف،والقدرة علی التحکم بنفسه بإرادة إیمانیة قویة،وبعبارة أخری هو:الاستقامة فی القلب وحفظ النظام النفسانی الذی به یستقیم أمر الحیاة الإنسانیة من الاختلال وضبط الجمعیة الداخلیة من التفرق و التلاشی ونسیان التدبیر وأختباط الفکر وفساد الرأی،فالصابرون هم القائمون فی النوائب علی ساق لا تزیلهم هجمات النوائب. (4)

فیبنی بذلک قاعدة نفسیة قویة ومتماسکة ومستحکمة،تکون حصناً له أمام الانهیار و الهزیمة و الضعف البدنی و النفسی و الخارجی،فیدفعه ذلک إلی الالتزام بکل مسؤولیاته الإیمانیة و التبلیغیة.

فالمبلّغ الذی یسلک طریق الأنبیاء علیهم السلام هو وریثهم فی أخلاقهم وعلمهم ودعوتهم وتبلیغهم،فیلزمهُ أن یتحلی بالصبر مثلهم ویتخلق به وأن لا یترک موضعه التبلیغی أمام التهم و الأکاذیب التی یواجهها من الأعداء؛لأنه مأمور بالصبر: (فَاصْبِرْ کَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (5)حیث أمر الله رسوله صلّی الله علیه و آله بالصبر،فقال تعالی: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِیلاً) ، (6)أی:اصبر یا محمد علی تکذیبهم لک وکفرهم بما جئت به صبراً جمیلاً،لا جزع فیه ولا شکوی إلی غیر الله،و هذا معنی الصبر الجمیل، (7)کی ینجح تبلیغه،ویجنی ثماراً طیبة.

ص:79


1- (1) .البقرة:177.
2- (2) .الحج:35.
3- (3) .مفردات غریب القرآن:273.
4- (4) .المیزان فی تفسیر القرآن:105/11.
5- (5) .الأحقاف:35.
6- (6) .المعارج:5.
7- (7) .محمد, الشوکانی, فتح القدیر:289/5.

وقلّما کرّر القرآن موضوعاً وأکّد علیه کموضوع(الصبر)ففی سبعین موضعاً قرآنیاً تقریباً دار الحدیث عن الصبر،بینها عشرة تختص بالنبی صلی الله علیه وآله،وتاریخ العظماء ویؤکد أن أحد عوامل انتصارهم-بل أهمها-صبرهم واستقامتهم.

والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ینهزمون وینهارون،ویمکن القول أن دور هذا العامل فی تقدم الأفراد و المجتمعات یفوق دور الإمکانات و الکفاءات و الذکاء ونظائرها،من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤکدة کقوله تعالی: (إِنَّما یُوَفَّی الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَیْرِ حِسابٍ) ، (1)وفی موضع آخر یقول تعالی بعد أن ذکر الصبر أمام الحوادث: (إِنَّ ذلِکَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (2). (3)

فالصبر هو الزاد الذی لا بدّ منه لمواجهة المشاکل و المصاعب(و هو للمؤمن أمیر جنوده)فی جمیع المعارک،کما جاء عن النبی صلّی الله علیه و آله،عن ابن عبّاس قال:کنت ذات یوم ردیف رسول الله صلّی الله علیه و آله،قال:

>>ألا أعلمک خصالاً ینفعک الله بهن؟».قلت:بلی.قال:«علیک بالعلم فإن العلم خلیل المؤمن و الحلم وزیره و العقل دلیله و العمل قیمه و الرفق أبوه،واللین أخوه و الصبر أمیر جنوده». (4)

فهو ثبات النفس وعدم اضطرابها فی الشدائد و المصائب،بأن تقاوم معها،بحیث لا تخرجها عن سعة الصدر وما کانت علیه قبل ذلک من السرور و الطمأنینة،فیحبس لسانه عن الشکوی،وأعضائه عن الحرکات غیر المتعارفة. (5)

فهو من الإیمان بمنزلة الرأس من الجسد،کما قال الإمام السجاد علیه السلام:

>>الصبر من الإیمان بمنزلة الرأس من الجسد،ولا إیمان لمن لا صبر له». (6)

ص:80


1- (1) .الزمر:10.
2- (2) .لقمان:17.
3- (3) .تفسیر الأمثل:435/1.
4- (4) .الدر المنثور:66/1.
5- (5) .جامع السعادات:280/3.
6- (6) .أصول الکافی:89/2.

و قد نصت الآیات و الروایات الشریفة علی أن الأنبیاء علیهم السلام مأمورین بالصبر من قبل الله عز وجلّ،فعن حفص بن غیاث قال:قال أبو عبد الله علیه السلام:

>>یا حفص...علیک بالصبر فی جمیع أمورک،فأنّ الله عز وجلّ بعث محمداً صلّی الله علیه و آله فأمره بالصبر و الرفق،فقال: (وَ اصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِیلاً) ، (1)وقال تبارک وتعالی: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ * وَ ما یُلَقّاها إِلاَّ الَّذِینَ صَبَرُوا وَ ما یُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِیمٍ) ، (2)فصبر رسول الله صلّی الله علیه و آله حتی نالوه بالعظائم ورموه بها فضاق صدره فأنزل الله عز وجلّ علیه: (وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّکَ یَضِیقُ صَدْرُکَ بِما یَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ وَ کُنْ مِنَ السّاجِدِینَ) ، (3)ثمّ کذبوه ورموه،فحزن لذلک فأنزل الله عز وجلّ: (وَ لَقَدْ کُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِکَ فَصَبَرُوا عَلی ما کُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتّی أَتاهُمْ نَصْرُنا) ، (4)فألزم النبی صلّی الله علیه و آله نفسه الصبر فتعدوا فذکر الله تبارک وتعالی وکذبوه،فقال:قد صبرت فی نفسی وأهلی وعرضی ولا صبر لی علی ذکر إلهی فأنزل الله عز وجلّ: (فَاصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ) ، (5)فصبر النبی صلّی الله علیه و آله فی جمیع أحواله ثمّ بشر فی عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر،فقال:جلّ ثناؤه: (وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ کانُوا بِآیاتِنا یُوقِنُونَ) ، (6)فعد ذلک قال صلّی الله علیه و آله:الصبر من الإیمان کالرأس من الجسد،فشکر الله عز وجلّ ذلک له،فأنزل الله عز وجلّ: (وَ تَمَّتْ کَلِمَتُ رَبِّکَ الْحُسْنی عَلی بَنِی إِسْرائِیلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما کانَ یَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما کانُوا یَعْرِشُونَ) (7)». (8)

ص:81


1- (1) .المزمل:10.
2- (2) .فصلت:34 و35.
3- (3) .الحجرات:97 و98.
4- (4) .الأنعام:34.
5- (5) .ق:39.
6- (6) .السجدة:24.
7- (7) .الأعراف:137.
8- (8) .أصول الکافی:88/2.

نعم،فتمّت کلمة المولی سبحانه وتعالی،بفضل ما صبروا وتحملوا من أقوامهم فهذا نبینا الأکرم صلّی الله علیه و آله کان یذهب دائماً إلی قبائل العرب ویدعوهم،ولکن لم یکن یجیبه أحد،کانوا یرجمونه حتّی تسیل الدماء علی عقبیه،لکنّه لم یکن یکفّ عن عمله.

لقد فرضوا علیه الحصار الاجتماعی والاقتصادی و السیاسی،بحیث أغلقوا جمیع الأبواب و الطرق بوجهه وبوجه أتباعه،حتی مات بعضهم جوعاً،وأقعد المرض بعضهم الآخر.

لقد مرت علی النبی صلی الله علیه وآله أیام یصعب علی القلم و اللسان وصفها،فعندما جاء إلی الطائف لیدعوا الناس إلی الإسلام،لم یکتفوا بعدم إجابة دعوته،بل رموه بالحجارة حتی سال الدم من قدمیه.

لقد کانوا یحثون الجهلاء من الناس علی أن یصرخوا ویسیئوا فی کلامهم إلیه،فیضطر إلی أن یلتجئ إلی بستان ویستظل بظل شجرة،ویناجی ربه فیقول:

«اللهم إلیک أشکوا ضعف قوتی،وقلة حیلتی،و هوانی علی الناس،یا أرحم الراحمین:أنت رب المستضعفین،وأنت ربی إلی من تکلنی؟إلی بعید یتجهمنی؟أم إلی عدو ملکته أمری؟إن لم یکن بک علی غضب فلا أبالی...». (1)

کانوا یسمونه ساحراً تارة،وأخری یخاطبونه بالمجنون،کانوا یلقون التراب و الرماد علی رأسه حیناً،وحیناً یجمعون علی قتله،فیحاصرون بیته بالسیوف و الرماح.

إلّا أنه رغم تلک الظروف استمر فی صبره وصموده واستقامته،وأخیراً جنی الثمرة الطیبة لهذه الشجرة المبارکة،فقد عمّ دینه شرق العالم وغربه،لا جزیرة العرب وحدها،ویدوی الیوم صوت انتصاره صباح مساء فی کل أرجاء الدنیا،وفی قارات العالم الخمسة،و هذا هو معنی قوله تعالی مخاطباً نبیه صلی الله علیه وآله: (فَاصْبِرْ کَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، (2)و هذا هو طریق محاربة الشیاطین،وطریق الانتصار علیهم،والوصول إلی الأهداف الإلهیة السامیة. (3)

ص:82


1- (1) .تاریخ الطبری:81/2؛سیرة ابن هشام:61/2.
2- (2) .الأحقاف:35.
3- (3) .تفسیر الأمثل:307/6-308.

هکذا صبر النبی صلی الله علیه وآله وتحمل المشاق و المصاعب فنصره الله عز وجلّ وشرح صدره فقال: (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَکَ صَدْرَکَ) ، (1)فاتسع صدره الشریف لاستیعاب الکل و التعایش مع الکل برحابة صدر،حیث أنّ سعة الصدر هی أحد أهم الصفات التی تنبغی للمبلّغ وهی من جنود الصبر،و قد أتصف بها الأنبیاء علیهم السلام،بل دعوا الله أن یرزقهم إیاها.

فهذا النبی موسی علیه السلام،عندما أراد التوجه إلی فرعون لهدایته وتوعیته وتوعیة الناس وتبلیغهم رسالة الله تعالی دعا الله تعالی أن یعطیه صدراً واسعاً،وطاقة وتحملاً فقال: (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی * وَ یَسِّرْ لِی أَمْرِی) . (2)

و هذا أمیر المؤمنین علیه السلام،یقول:>>آلة الرئاسة سعة الصدر». (3)فهی آلة للرئاسة فی جمیع المجالات،وآلة وسبب فی نجاح جمیع المشاریع،والأعمال،ومن أهمها مجال التبلیغ،حیث ینبغی للمبلّغ تحمل أذی الناس،فهذا رسول الله حینما فقد رجلاً وسأل عنه،جاءه الرجل وقال:یا رسول الله إنی أردت أن آتی هذا الجبل فأخلو فیه وأتعبد،فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله:

>>المسلم الذی یخالط الناس ویصبر علی أذاهم خیر من المسلم الذی لا یخالط الناس ولا یصبر علی أذاهم». (4)

إذاً:فلا ینبغی للمبلّغ أن یکون فی صدره ضیق من عدم تجاوب الناس معه، (فَلا یَکُنْ فِی صَدْرِکَ حَرَجٌ مِنْهُ) ،أی:کن عل انشراح وسعة صدر فی التبلیغ وإرشاد الناس؛لأن ضیق الصدر من صفات أهل الضلال،قال تعالی: (وَ مَنْ یُرِدْ أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً) ،أما المؤمنون فیشرح الله صدورهم قال تعالی: (أَ فَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) . (5)

ص:83


1- (1) .الشرح:1.
2- (2) .طه:25 و26.
3- (3) .نهج البلاغة:42/4.
4- (4) .الدر المنثور:67/1.
5- (5) .الآیات بترتیب:الأعراف:2.الأنعام:125.الزمر:22.

وعلی أثر هذا الانشراح و الصبر یبدو المبلّغ المؤمن هادئاً ومنطقیاً عندما یواجه الافتراءات و التهم التی یطلقها أهل الضلال و الجهل،کالذین قالوا لنوح علیه السلام: (إِنّا لَنَراکَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ) ،فأجاب علیه السلام: (قالَ یا قَوْمِ لَیْسَ بِی ضَلالَةٌ وَ لکِنِّی رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ) . (1)

وقال قوم عاد لنبیهم هود علیه السلام: (إِنّا لَنَراکَ فِی سَفاهَةٍ وَ إِنّا لَنَظُنُّکَ مِنَ الْکاذِبِینَ) ،فقال هود علیه السلام: (یا قَوْمِ لَیْسَ بِی سَفاهَةٌ وَ لکِنِّی رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ) . (2)

فهکذا ینبغی أن یکون تعامله مع الآخرین؛لأن المبلّغ الهادف هو الذی یتسع للطرف الآخر،ویسمع الانتقادات و النقد البنّاء؛لأن عدم سماع کلام الآخر هو من صفات الکافرین الذین عمیت قلوبهم وصمت آذانهم: (وَ لَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها) ، (وَ إِذا ذُکِّرُوا لا یَذْکُرُونَ) . (3)

فالمبلغ المؤمن الناجح هو من یستمع إلی النقد و الملاحظات المهمة و المفیدة التی یذکر بها،بل ینبغی أن یعتبرها هدایا من أعز أخوانه فإن الأمیر علیه السلام یقول:

>>أحب أخوانی من أهدی عیوبی إلی». (4)

ومن آثار الصبر وسعة الصدر صفة حمیدة أخری ألا،وهی:التواضع.

فالتواضع:هو أن لا یری المبلّغ لنفسه میزة علی باقی الناس وأن یتعامل معهم کأحدهم،ویتکلم ویجیب الکل،ویحترمهم ویقدرهم کما هم یحترمونه ویقدرونه،فلما سُئل الإمام الرضا علیه السلام عن حد التواضع،قال علیه السلام:

>>أن تعطی الناس من نفسک ما تحب أن یعطوک مثله». (5)

والتواضع کما عرفه الشیخ النراقی رحمة الله،هو:

ص:84


1- (1) .الآیات بترتیب:الأعراف:60 و61.
2- (2) .الآیات بترتیب:الأعراف:66 و67.
3- (3) .الآیات بترتیب:الأعراف:179؛الصافات:13.
4- (4) .بحار الأنوار:282/74.
5- (5) .الأمالی:312.

إنکسار للنفس یمعنها من أن تری لذاتها مزیة علی الغیر،وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغیر وإکرامه.... (1)

فهو کما قال الإمام الصادق علیه السلام:>>التواضع أصل کلّ شرف نفیس ومرتبة رفیعة،ولو کان للتواضع لغة یفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما فی مخفیات العواقب». (2)

و قد اتصف الأنبیاء علیهم السلام بأعلی وأسمی صور التواضع،فها هو النبی موسی علیه السلام،یعطینا درساً فی التواضع،من خلال الاعتراف و الإقرار بکمال الآخرین،حینما قال: (وَ أَخِی هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّی لِساناً) ، (3)وقال للخضر علیه السلام: (قالَ لَهُ مُوسی هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلی أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً) .

و قد أمر الله عز وجلّ أعز خلقه،وسید بریته وحبیبه محمد صلّی الله علیه و آله بالتواضع فقال عز وجلّ: (وَ اخْفِضْ جَناحَکَ لِمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ) . (4)

وخاطب الإنسان فقال: (وَ لا تَمْشِ فِی الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّکَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) . (5)

و هذا ما أکده لقمان الحکیم علی أبنه،بأن یکون معتدلاً فی سلوکه،وأن یتکلم بلین ولا یرفع صوته:

(وَ اقْصِدْ فِی مَشْیِکَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِکَ إِنَّ أَنْکَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِیرِ) . (6)

وأخیراً أقول أن التواضع هو من أول صفات عباد الرحمن بتأکید القرآن الکریم،حیث قال تعالی: (وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِینَ یَمْشُونَ عَلَی الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا

ص:85


1- (1) .جامع السعادات:358/1.
2- (2) .المصدر:360.
3- (3) .القصص:34.
4- (4) .الشعراء:215.
5- (5) .الإسراء:37.
6- (6) .لقمان:19.

سَلاماً) ، (1)فأول صفة من صفات عباد الرحمن هی التواضع وسمو النفس،ومعاشرة الناس معاشرة حسنة طیبة،من غیر غلظة ولا قسوة ولا تکبر،و إذا أساء إلیهم الجاهل لم یقابلوه بالإساءة،وإنما بالعفو و الصفح ویقولون له:سلاماً،(من السلامة لا التسلیم)،أو یقولون قولاً سدیداً.

5.عزّة النفس

من أهم الصفات التی ینبغی للمبلّغ أن یتحصن ویتحلی بها هی:عزة النفس،وهی:

ملکة التحمل لما یرد علیه کائناً ما کان،فلا یبالی بالکرامة و الهوان،ویتساوی عنده الفقر و الیسار و الغنی و الإعسار،بل الصحة و المرض و المدح و الذم،ولا یتأثر بتقلب الأمور و الأحوال،و قد دلت الأخبار علی أن المؤمن ذو صلابة وعزة ومهابة،وکل ذلک فروع کبر النفس.قال الإمام الباقر علیه السلام:>>المؤمن أصلب من الجبل»، (2)وقال علیه السلام:>>إن الله تعالی أعطی المؤمن ثلاث خصال،العز فی الدنیا و الآخرة،والفلح فی الدنیا و الآخرة،والمهابة فی صدور الظالمین». (3)

إذاً:فهی:

کبر النفس وسموها وعلوها،بحیث تمتنع عن النزول إلی دنایا الأمور،وتبتعد کل البعد عن التملق و التزلف إلی الأغنیاء وأصحاب الثروات و الجاه والاعتبار،وأن تنفر تماماً عن التمجید و المدح لمن لا یستحق المدح و التمجید. (4)

قال تعالی: (الَّذِینَ یَتَّخِذُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ أَ یَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِیعاً) ، (5)فالمولی سبحانه وتعالی یخبر عن هؤلاء الذین یتذللون إلی الکفار و یطلبون عندهم المنفعة و القوة باتخاذهم أولیاء من دون أهل الإیمان به تعالی،ثمّ أخبر

ص:86


1- (1) .الفرقان:63.
2- (2) .بحار الأنوار:362/64.
3- (3) .المصدر:16/65؛محمد ابن بابویه, الصدوق, الخصال:72/1.
4- (4) .جامع السعادات:261/1.
5- (5) .النساء:139.

بأن العزة بأجمعها له تعالی وأن هؤلاء الذین یطلبون من جهنم العزة و المنعة،لا منعة عندهم،بل النصر و العزة و المنعة من عند الله الذی له العزة و المنعة الذی یعز من یشاء،ویذل من یشاء.

وأصل العزة الشدة،ومنه قیل للأرض الصلبة الشدیدة:عزاز،وقولهم:عز الشیء معناه صعب وجوده وأشتدّ حصوله. (1)

فعزة الإنسان منعته ورفعته و[الامتناع من استیلاء الغیر علیه]. (2)ونقیضها الذلّة وهی:[صغر النفس بالإهانة،أو بضیق المقدرة]، (3)و قد نهی عنها الله سبحانه وتعالی أشدّ النهی،فعن الإمام أبی عبد الله علیه السلام،قال:

«أن الله عز وجلّ فوّض إلی المؤمن أموره کلها ولم یفوّض إلیه أن یکون ذلیلاً أما تسمع قول الله عز وجلّ: (وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ) ، (4)فالمؤمن یکون عزیزاً ولا یکون ذلیلاً ثمّ قال:إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل یستقل منه بالمعاول و المؤمن لا یستقل من دینه شیء». (5)

وعلیه فالمبلّغ الذی یرید أن یکون عزیزاً محترماً صاحب مقام رفیع وکلام طیب یجب أن یستمد العزة من الله سبحانه وتعالی ف-: (مَنْ کانَ یُرِیدُ الْعِزَّةَ فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِیعاً إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ یَرْفَعُهُ وَ الَّذِینَ یَمْکُرُونَ السَّیِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِیدٌ وَ مَکْرُ أُولئِکَ هُوَ یَبُورُ) . (6)

ص:87


1- (1) .التبیان فی تفسیر القرآن:361/3.
2- (2) .التفسیر الکبیر:75/4؛المیزان فی تفسیر القرآن:10/3.
3- (3) .التبیان فی تفسیر القرآن:365/5.
4- (4) .المنافقون:8.
5- (5) .بحار الأنوار:16/65.بیان:الجبل یستقل منه من القلة أی ینقص ویؤخذ منه بعضه بالفأس و المعول ونحوهما،والمؤمن لا ینقص من دینه شیء بالشکوک و الشبهات.
6- (6) .فاطر:10.

فإذن المبلّغ عزیز النفس تکون همّته وهمّه تبلیغ رسالته وأداء وظیفته،فلا یمد عینه إلی ما فی أیدی الناس من الأموال وغیر ذلک،بل یتوکل فی حیاته وفی رزقه علی الله سبحانه و هو خیر رازق ومعین،فقد جاء فی الزیارة الشعبانیة:«بیدک لا بید غیرک زیادتی ونقصی». (1)

قال سید الساجدین علیه السلام:

«رأیت الخیر کله قد أجتمع فی قطع الطمع عما فی أیدی الناس،ومن لم یرجُ الناس فی شیء،وردّ أمره إلی الله تعالی فی جمیع أموره،استجاب الله تعالی له فی کل شیء». (2)

فإذا لم یلاحظ المادیات ولم یحرص علیها،لا یفرق حینئذٍ بین الغنی و الفقیر،والقوی و الضعیف،والحاکم و المحکوم،ولا یرجح فئة علی فئة،ولا شخص علی شخص،ولا یتحیز لفرقة دون فرقة،وسوف یتخذ الرأی الصائب و الموقف الحسن،من دون تأثر بالأجواء،ولا طمع بالطیبات من الأموال،والملابس،والمراکب،والأطعمة و الأشربة،وسائر الملذات،وحینئذ سیتمکن المبلّغ،-بهذه الخصال الحمیدة-من جذب جمیع الناس،والتأثیر فی جمیع الفئات،وسوقهم إلی ما یقوله وما یطرحه علیهم،کی یستمعوا وینصتوا إلی ما یقول بکل إقبال وشوق.

ولا تعنی عزة النفس التکبر-والعیاذ بالله-بل علی العکس نحن مأمورین بالتواضع و اللین فی الکلام وحسن البِشْر،فهذا أمیر المؤمنین علیه السلام یقول:

>>لیجتمع فی قلبک الافتقار إلی الناس والاستغناء عنهم،فیکون افتقارک إلیهم فی لین کلامک وحسن بشرک،ویکون استغناؤک عنهم فی نزاهة عرضک وبقاء عزک». (3)

و أما ما نُهِی المبلّغ عنه هو الدعایة لهذا وذاک،والتبلیغ عن هذه الفئة،وتلک الجهة،وبالنتیجة الابتلاء بالحمد و الثناء علی من یعطیه شیئاً،وبذم من یمنعه, فقد جاء فی دعاء مکارم الأخلاق:

ص:88


1- (1) .بحار الأنوار:97/94،باب 32،المناجاة الشعبانیة.
2- (2) .أصول الکافی:148/2.
3- (3) .أصول الکافی:149/2؛معانی الأخبار:267؛تحف العقول:ص204.

«فأفتن بحمد من أعطانی وأبتلی بذم من منعنی». (1)

ولذلک نری أن الأنبیاء علیهم السلام و المبلغین الرسالیین عبر التاریخ یعقبون بینات رسالاتهم بعدم سؤال الأجر مقابل ما یقدمون للناس من خدمة التبلیغ،مما یکمل حججهم علی المکلفین دونما إبقاء لأیة عاذرة عقلیة ولا مالیة.

قال تعالی: (فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ) ، (2)قال المفسرون:

هذا إشارة علی أنه ما أخذ منهم مالاً علی دعوتهم إلی دین الله تعالی ومتی کان الإنسان فارغاً من الطمع کان قوله أقوی تأثیراً فی القلب. (3)

وقالوا فی قوله تعالی: (قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ) ، (4)هذا تطیب لنفوسهم أن لا یتهموه بأنه جعل الدعوة ذریعة إلی نیل مال أو جاه. (5)

وقالوا فی قوله تعالی: (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (6):

أی:ثواباً علی أداء الرسالة إلیهم بدعائک إیاهم إلی الله (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) ،فالمَغْرَم إلزام الغُرْم-فی المال-علی طریق الإبذال و المَغْرم انفاق المال من غیر إبذال،وأصله المطالبة بإلحاح فمنه الغریم،لأنه یطالب بالدین بإلحاح،ومنه (إِنَّ عَذابَها کانَ غَراماً) ، (7)أی:ملحاً دائماً.

والمَغْرم لأنه یلزم من جهة المطالبة بإلحاح لا یمکن دفعه،والمُثْقَل المحمول علیه ما یشق حمله لثقله]. (8)

فهم إذن لا یسألون الناس الأجر،ولا یثقلون علیهم بمطالبتهم بالأموال،و هذا مما

ص:89


1- (1) .مفاتیح الجنان،دعاء مکارم الأخلاق.
2- (2) .یونس:72.
3- (3) .التفسیر الکبیر:285/6.
4- (4) .سبأ:47.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:389/16.
6- (6) .الطور:40؛القلم:46.
7- (7) .الفرقان:65.
8- (8) .التبیان فی تفسیر القرآن:416/9.

تتمیز به رسالات الله،ودعوات الأنبیاء علیهم السلام عن باقی الدعوات البشریة المادیة حیث لا یجد فیها المجتمع إلّا الکلفة و الغُرم الثقیل.

و قد تکررت الإشارة فی عدد کبیرة من الآیات القرآنیة، (1)إلی هذا الأمر،لا فی النبی صلّی الله علیه و آله فحسب،بل فی شأن کثیر من الأنبیاء علیهم السلام؛إذ کان من أوائل کلمات النبیین علیهم السلام قولهم لأممهم:لا نرید علی إبلاغنا الرسالة إلیکم أجراً،لئلا تبقی ذریعة للمتذرعین.

فهذا نبینا الأکرم صلّی الله علیه و آله،یقول: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً) (2)أی:لا أطلب منکم علیه-أی:التبلیغ-أو القرآن أجراً جعلاً من جهتکم،کما لم یسأل من قبلی من النبیین علیهم السلام و هذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فیه. (3)

و هذا نبی الله نوح علیه السلام قال لقومه من أجل إثبات صدقه وأحقیته: (فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلاّ عَلَی اللّهِ) ، (4)فأن تبلیغی وتحملی لمشاق الرسالة إنّما هو لله،وعلیه فأجری أیضاً من الله تعالی،ولا أکلفکم بشیء إلّا أن تؤمنوا بالله عز وجلّ.

وکما هو واضح فإن کلام النبی النوح علیه السلام هو:

درس آخر للقادة الإلهیین بأن لا یتوقعوا أی جزاء مادی ومعنوی من الناس لقاء دعوتهم وتبلغیهم،لأن هذا التوقع یوجد نوعاً من التعلق النفسی الذی یؤدی إلی عرقلة أسالیب الدّعوة الصریحة و النشاطات الحرّة،ومن الطّبیعی عن ذلک أن یقل تأثیر دعوتهم وإبلاغهم،ولهذا السبب فأن الطریق الصحیح فی الدّعوة إلی الإسلام أن یعتمد المبلّغون و الداعون فی إدارة أمورهم المعاشیة علی بیت المال فقط،-أو مواردهم الخاصة-لا بالاحتیاج إلی الناس. (5)

إذاً:فهذا معیار لمعرفة المبلّغین و القادة الصادقین من غیرهم الذین یتحینون

ص:90


1- (1) .الشعراء:164،145،127،109 و180؛هود:29 و51؛یونس:72؛سبأ:47،وغیرها.
2- (2) .الأنعام:90.
3- (3) .زبدة التفاسیر:426/2.
4- (4) .یونس:72.
5- (5) .تفسیر الأمثل:407/6.

الفرص ویهدفون إلی تأمین منافعهم المادیة فی کلّ خطوة یخطونها سواء کان بشکل مباشر أو غیر مباشر.

أما السنة و السیرة للأنبیاء علیهم السلام و المبلغین الرسالیین-علی طول خط الرسالات-قائمة علی عدم المطالبة بالأجر،ممّا یسهّل الإقبال إلیهم دونما صعوبة وتکلّف،ویزودهم بکثیر من نقاط القوّة،فمنها:

1.یضمن لهم حریتهم التامّة،واستقلالهم الشامل؛لأنّ الأعداء لن یجدوا فیهم ثغرة الطمع وحبّ الدنیا،کی یستعبدوهم من خلالها،حیث أن المال و الجاه و الثناء لا یعنی لهم شیئاً أمام وظیفتهم الرسالیة.

2.یضمن استقامتهم علی مواصلة الطریق دون تعب أو کلل،وعدم اکتراثهم بمخالفة الناس لهم،لأن الذین یتألمون لمخالفة الناس لهم وملامتهم وجراحات ألسنتهم،هم الذین یطمحون بالحصول علی منافع من الناس،أما هؤلاء فلا تردعهم لومة اللائمین،ولدغات الجاهلین،مادام الطریق إلی الله،والمثیب و المجازی هو الله.

3.عندما یحبون أو یبغضون،یوالون أو یبرئون،یقربون أو یبعدون الناس،إنما یفعلون ذلک فقط من أجل الله وفی سبیل الله،وبدافع دینی أو إنسانی،لا بدافع من العصبیة و الحقد و الضغینة،أو لعدم حصولهم علی منافع من البعض وحصولهم علیها من البعض الآخر،بل یکون میزانهم فی کلّ الأمور هو الحقّ،و هو القرب من الله فهم یستقبلون کلّ من یؤوب إلی الحقّ بکل رحابة وسرور.

هذا ولکن إذا قُدّمت للمبلّغ هدیة فلا بأس بأن یقبلها،بل هی من دواعی المحبة:تهادوا تحابوا،وقال رسول الله صلّی الله علیه و آله:

>>من أتاه شیء من هذا المال من غیر مسألة ولا استشراف،فإنّما هو رزق ساقه الله إلیه فلا یردّه». (1)

ص:91


1- (1) .جامع السعادات:94/2.

6.القول و العمل

إن من أهم الشروط التی ینبغی توفرها فی المبلّغ هو أن یحیا بما یبلّغ،ویبلغ بما یحیا،أو قل(أن یعمل بما یقول ویقول ما یعمل)فالمبلّغ الحقیقی هو الذی یسعی بکل جدٍ وجهدٍ إلی التکامل ظاهراً وباطناً،أی:یحاول بکل قوة أن لا یحصل تفاوت بین الظاهر و الباطن عنده.

لأن کل قول أو فکرة لا تجد مجالاً لتطبیقها علی صاحبها،لا تجد حسن القبول لدی الناس مهما کانت جذابة وواقعیة وضروریة للحیاة؛إذ من غیر المعقول أن نسعی إلی نشر أو إثبات فکر لم یستقر بعدُ فی وجدان صاحبه،فأن التبلیغ و النصح و الإرشاد الذی لم یتحول إلی حیاة معاشة،لا یورث نتیجة ایجابیة فی وجدان الآخرین،بل علی العکس فأن ذکر أعمال ومواقف العظماء،وروایة حکایاتهم و الدعوة إلی الاقتداء بهم،والالتزام بطریقتهم من دون القیام بتطبیق تلک الأعمال وتجسید تلک الحیاة فی الواقع العملی-للمبلّغ ذاته-یؤثر تأثیراً سلبیاً،ویشجع علی الانحراف و السقوط،حیث أن الحیاة الازدواجیة هی صفة النفاق،وخصوصاً إذا أظهر الخیر و الصلاح،وأضمر الشر و الفساد،فالمبلّغ الصادق یتنزه عن مثل هذه الأخلاق المذمومة،ولا سیما إذا کان المبلّغ من رجال الدّین،حیث أن عامة الناس تعتبره مجسداً للدین،فنفاقه فی أقواله وأفعاله یحسب نفاقاً فی الدّین نفسه،فتضطرب قلوب الناس وأفکارهم،حیث یسمعون قولاً جمیلاً ویرون معه فعلاً أو ترکاً قبیحاً،فتمتلکهم الحیرة بین هذا او ذاک،فلا یعودون یثقون بالدین وما یقوله المبلّغ بعدما فقدوا ثقتهم برجال الدّین و المبلغین.

وبالنتیجة یصل کلام هؤلاء المبلّغین إلی مسامع الناس خاویاً هامداً،وفضلاً عن أنه لا یزید فی إیمانهم بما یدعون إلیه یکون سبباً فی اجتثاث ما عندهم من إیمان،خلافاً للکلام الناتج عن ترجمة للحیاة العملیة للمبلّغ فأنه یصل إلی شغاف القلوب ویحییها وینیرها،لأنه یعبر عن توفیر واحترام المبلّغ لوظیفته ولعلمه ولشخصیته وللمجتمع.

ص:92

و هذا ما سار علیه الأنبیاء علیه السلام علی مرّ العصور،فقد بلّغوا علیهم السلام ما کانوا یعیشونه،وعاشوا ما بلغوه،التزاماً بأمر الله تعالی،حیث قال سبحانه: (أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَکُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْکِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ) ، (1)و قد أوحی تعالی إلی نبیه عیسی،أنه:

«عظ نفسک فأن اتعظت فعظ الناس،وإلّا فأستحی منی». (2)

و هذا الخطاب موجه إلی کلّ الأنبیاء علیه السلام وکل من یتولی أمر التبلیغ و الإرشاد،بأن یجسد ما یقوله بعمله کی یحرز التأثیر الایجابی فی المجتمع،فهذا الإمام الصادق علیه السلام یقول:

>>کونوا دعاة للناس بغیر ألسنتکم،لیروا منکم الورع والاجتهاد و الخیر،فأن ذلک داعیة». (3)

وقال علیه السلام:

>>کونوا دعاة للناس بأعمالکم،ولا تکونوا دعاة للناس بألسنتکم». (4)

فعلی المبلّغ الحامل لمشعل الهدایة وقیادة المجتمع أن لا یکون مصداقاً للآیة الکریمة: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) . (5)بل یبدأ أولاً وبالذات بتهذیب نفسه وتعلیمها وتطبیق کلامه علی نفسه ویکون سبّاقاً للخیرات: (فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ) ، (6)مبادراً لتجسید قوله فی الواقع الخارجی،و هذا ما حکاه تعالی عن لسان نبیه هود علیه السلام قال: (وَ ما أُرِیدُ أَنْ أُخالِفَکُمْ إِلی ما أَنْهاکُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِیدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) . (7)

ص:93


1- (1) .البقرة،44.
2- (2) .کنز العمال:795/15.الدر المنثور:28/2.
3- (3) .أصول الکافی:78/2.بیان:داعیة،أی:للمخالف إلی الدخول إلی دینکم.
4- (4) .بحار الأنوار:198/5.
5- (5) .الصف:2 و3.
6- (6) .البقرة:148.
7- (7) .هود:88.

لأن مخالفة العمل للقول ضیاع للأمة وهلاک للمجتمع کما أکد علی هذا رسول الله صلّی الله علیه و آله؛إذ یقول:

>>أن أخوف ما أخاف علی أمتی کلّ منافق علیم اللسان». (1)فالمنافق علیم اللسان هو سبب من أسباب إظلال المجتمع وانحرافه،فهذا الإمام الصادق علیه السلام یقول:

>>من لم ینسلخ من هواجسه ولم یتخلص من آفات نفسه وشهواتها،ولم یهزم الشیطان،ولم یدخل فی کنف الله تعالی وتوحیده و أمان عصمته،لا یصلح له الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر؛لأنه إذا لم یکن بهذه الصفة فکلما أظهر أمراً یکون حجّة علیه،ولا ینتفع الناس به...ویقال له یاخائن!أتطالب خلقی بما خنت به نفسک وأرخیت عنه عنانک». (2)

وعلیه فنحن الیوم بأمس الحاجة إلی المبلّغین العاملین بما یقولون-لا المجادلین و المتخاذلین-کی نحرز التأثیر الکبیر للدعوة وذلک من خلال فتح قلوب وأسماع الناس لما یقوله المبلّغ،وذلک من خلال إثبات المبلّغ لإیمانه بما یقول،وأفضل دلیل علی ذلک،هو العمل بقوله قبل غیره،کما استدل علی ذلک أمیر المؤمنین علیه السلام بقوله:

>>أیها الناس إنی و الله ما أحثکم علی طاعة إلّا وأسبقکم إلیها،ولا أنهاکم عن معصیة إلّا وأتناهی قبلکم عنها». (3)

وبهذا یکون صلاح الأمة وخیرها،وبغیره هلاک الأمة وضیاعها.فهذا رسول الله صلّی الله علیه و آله یخاطب أمیر المؤمنین علیه السلام فیقول:

>>یا علی هلاک أمتی علی یدی[کلّ]منافق علیم اللسان». (4)

ومن أروع الحکم التی قیلت فی هذا الخصوص ما نسب إلی أبی الأسود الدؤلی:

ص:94


1- (1) .کنز العمال:186/10.
2- (2) .نور الثقلین:75/1،عن مصباح الشریعة.
3- (3) .نهج البلاغة:90/2.
4- (4) .الخصال:69.

ابدأ بنفسک فأنهها عن غیها فإذا انتهت عنه فأنت حکیمُ

لا تنه عن خلق وتأتی مثله عار علیک إذا فعلت عظیمُ (1)

إذاً فکما قیل:

«من وعظ بقوله ضاع کلامه،ومن وعظ بفعله نفذت سهامه». (2)

وأحرز التأثیر و التغییر و الإصلاح و الخیر،وبهذه الصفات و الشروط-إضافة إلی الالتزام بعموم الأحکام و الأخلاق الإسلامیة-یمکن للمبلّغ أن یمارس دوره ویؤدی وظیفته بصورة صحیحة،ویمکن أیضاً أن یستخدم أسالیب التبلیغ کلها من دون أی مانع.

ص:95


1- (1) .التبیان فی تفسیر القرآن:4/3؛علی بن الحسین, الأصفهانی, الأغانی:39/11.
2- (2) .التفسیر الکبیر:48/3.

ص:96

المبحث الثانی:شروط التبلیغ

اشارة

الآن وبعد أن انتهینا من ذکر ودراسة أهم الشروط التی ینبغی أن تتوفر فی شخصیة المبلّغ،والتی لها أکبر تأثیر فی نجاح المبلّغ و التبلیغ،ننتقل إلی ذکر ودراسة أهم شروط التبلیغ التی لها مدخلیة ودور وتأثیر مباشر أو غیر مباشر علی نجاح التبلیغ،ومن أهمها:

1.مراعاة الزمان و المکان فی التبلیغ

علی المبلّغ الواعی أن یدرس الظروف التی یعیشها دراسة دقیقة،وأن یلاحظ الزمان و المکان ملاحظة جدیة،فیطلق الکلمة المناسبة فی زمانها ومکانها المناسب لها،بأسلوبها المناسب،ویأخذ بنظر الاعتبار الأولویات و الضروریات بالنسبة إلی ذلک الظرف؛لأنّ مراعاة الزمان و المکان شرط أساسی فی نجاح التبلیغ،فلا یکون التبلیغ ناجحاً متکاملاً مالم یمنح الزمان و المکان دوره الحقیقی،ولا یمکن الاطمئنان إلی النتائج مالم یستند التحرک إلی تصوّر حکیم لدور الزمان و المکان فی خطة العلم التبلیغی وآثاره فی إنجاح أداء الوظیفة المکلف بها،فإن قدرت الحرکة التبلیغیة علی المواصلة والاستمرار فی طریقها تعتمد فی کثیر من الأحیان علی مراعاة عامل الزمان و المکان ودقّة الحسابات فی هذا الخصوص،ولذلک نجد أن جمیع الأنبیاء علیهم السلام

ص:97

والأئمة علیهم السلام و العظماء و الأعلام و المجددین الذی أصلحوا أممهم،کانوا یبلغون وفق المستوی العلمی و الثقافی لأهل عصرهم،آخذین بنظر الاعتبار الظرف الزمانی و المکانی و الأسلوب المناسب له،ولهذا وقع کلامهم فی قلوب مخاطبیهم موقعاً حسناً،ووجد قبولاً وتأثیراً فی وجدانهم.

ونستطیع أن نقرر من خلال هذا الکلام أن التبلیغ الرسالی لابد أن یعیش الظرف الزمانی و المکانی علی أنه شرط أساسی وله الأثر الکبیر فی إنجاحه،وله دور مهم فی تکوین الجانب العقائدی عند الجماعة البشریة وتثبیت الأفکار فی أذهان الناس.

لو رکزنا علی عامل الزمن مثلاً،نجد أن الخطّ العام لدعوات الأنبیاء علیهم السلام کان یتسم بحرص شدید علی استثمار الزمن،باعتباره یمثل شرطاً وعنصراً من عناصر التبلیغ للرسالة،لذلک حرصوا علی الاستفادة من کلّ وحدة من وحداته،وکل لحظة من لحظاته،وبما أن فی حیاتهم وتجاربهم الدروس و العبر،حیث قال تعالی: (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) . (1)نبدأ بدراسة قیمة الزمن فی حیاتهم ومسیراتهم التبلیغیة،وکیف تعاملوا مع الزمن وحصلوا علی نتائج ایجابیة،کی نتخذهم أسوة و قدوة مثالیة.

فلو أخذنا نبی الله نوح علیه السلام کنموذج،نجد أن أبرز ما تمیزت به قصة شیخ الأنبیاء و المرسلین نوح علیهم السلام هی الفترة الزمنیة الطویلة التی استغرقتها الرسالة،والتی تمثل أطول فترة فی تاریخ الرسالات فلم یعش نبی أو رسول مثلما عاش نوح علیه السلام مع قومه یبلّغهم رسالته ویدعوهم إلی الهدی و الرشاد وعبودیة الله سبحانه وحده لا شریک له.

ولقد کان الزمن بالنسبة إلی نوح علیه السلام رصیداً مهماً فی دعوته،حیث أنه اعتمد أسالیب متجدّدة علی الدوام عندما یکتشف عدم جدوی الأسلوب السابق،وفی هذا التجدید والاستخدام المتکرّر للبدائل التبلیغیة،ما یؤکد الإحساس العمیق للزمن عند نوح علیه السلام،فلقد

ص:98


1- (1) .یوسف:111.

أراد أن یجرب کلّ الأسالیب المتاحة علی أمل أن یهدی الضالین،ولم یعتمد ویجمد علی أسلوب واحد؛لأن معنی ذلک أنه یهمل عامل الزمن ولا یتحسس قیمته العالیة.

و قد حدثنا القرآن الکریم عن تعدد الأسالیب التی اعتمدها نوح علیه السلام مع مراعاة الظرف الزمنی لکل أسلوب.

فقال تعالی: (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلی قَوْمِهِ فَقالَ یا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرُهُ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ عَذابَ یَوْمٍ عَظِیمٍ * قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراکَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ * قالَ یا قَوْمِ لَیْسَ بِی ضَلالَةٌ وَ لکِنِّی رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ * أُبَلِّغُکُمْ رِسالاتِ رَبِّی وَ أَنْصَحُ لَکُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) . (1)

وقال تعالی: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلی قَوْمِهِ إِنِّی لَکُمْ نَذِیرٌ مُبِینٌ) ،وقال أیضاً: (إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلی قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَکَ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ) وقال أیضاً: (قالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلاً وَ نَهاراً) . (2)وهکذا واصل نوح علیه السلام مسیرته الرسالیة الطویلة،رغم ما واجهه من رفض وعناد من قومه فسعی سعیاً حثیثاً وبذل جهداً کبیراً،ومضی فی تبلیغه علی أمل أن یحقق نتائج أفضل،مستثمراً کلّ وحدات الزمن وبمختلف الأسالیب،فدعاهم لیلاً ونهاراً منذراً وناصحاً ومبشراً و....

وهکذا فأن الزمن کان طوال القرون العدیدة التی عاشها نوح علیه السلام مع قومه،یمثل عنصراً ایجابیاً ورصیداً مهماً لرسالته ولدعوته،إذ أنّه مکّنه من استخدام أسالیب متعددة وبدائل جدیدة للأسالیب السابقة.

وهکذا نلاحظ خلیل الله إبراهیم علیه السلام وظّف أفضل الأزمان لنشر وتبلیغ رسالته وإیصال صوته إلی أکبر عدد ممکن من الناس ألا و هو زمان خروجه من النار التی

ص:99


1- (1) .الأعراف:59-62.
2- (2) .هود:25.نوح:1.نوح:5.

جعلها الله علیه برداً وسلاماً،فأنه حینما کسر أصنامهم إلتفت عبدت تلک الأصنام قائلین: (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظّالِمِینَ * قالُوا سَمِعْنا فَتًی یَذْکُرُهُمْ یُقالُ لَهُ إِبْراهِیمُ * قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلی أَعْیُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ یَشْهَدُونَ * قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا یا إِبْراهِیمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ) . (1)

فکما نلاحظ أن إبراهیم علیه السلام استفاد من زمان اجتماع الناس (فَأْتُوا بِهِ عَلی أَعْیُنِ النّاسِ) ،وألقی کلمته التی تفتح عقولهم علی إعادة التفکیر فی عقیدتهم فقال (بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ) ،ثمّ استشار نمرود قومه فی إبراهیم علیه السلام فقالوا له: (قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ فاعِلِینَ) ، (2)وفعلاً أجتمع کلّ الناس صغیرهم وکبیرهم،فقیرهم وغنیهم،شریفهم ووضیعهم لیشاهدوا ما یحصل لإبراهیم،فلما ألقوه فی النار،قال الله تعالی: (یا نارُ کُونِی بَرْداً وَ سَلاماً عَلی إِبْراهِیمَ) . (3)

فخرج إبراهیم علیه السلام منها ولم تؤثر فیه شیئاً،فأنبهر کلّ من حضر بهذا المشهد العظیم ووجد إبراهیم علیه السلام،أن هذا أفضل زمان لنشر وتبلیغ رسالته،وأن هذه اللحظات المهمة لا ینبغی التفریط بها فبمجرد خروجه علیه السلام من النار بادره النمرود قائلاً:

من هو ربّک،فقال له: (رَبِّیَ الَّذِی یُحْیِی وَ یُمِیتُ) ،فقال له الجبار نمرود: (قالَ أَنَا أُحْیِی وَ أُمِیتُ) .قال له إبراهیم علیه السلام...«کیف تحیی وتمیت؟»فقال له نمرود أعمد إلی رجلین ممّن قد وجب علیهما القتل فأعفوا عن أحدهما وأطلقه،وأقتل الآخر فیکون قد أحییت وأمت،فقال له إبراهیم علیه السلام:أن کنت صادقاً فأحیی الذی قتلته،ثمّ قال له إبراهیم علیه السلام:دع هذا (فَإِنَّ اللّهَ یَأْتِی بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِی کَفَرَ) ، (4)قال الله سبحانه: (أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِی حَاجَّ

ص:100


1- (1) .الأنبیاء:59-63.
2- (2) .الأنبیاء:68.
3- (3) .الأنبیاء:69.
4- (4) .البقرة:258.

إِبْراهِیمَ فِی رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْکَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ رَبِّیَ الَّذِی یُحْیِی وَ یُمِیتُ قالَ أَنَا أُحْیِی وَ أُمِیتُ قالَ إِبْراهِیمُ فَإِنَّ اللّهَ یَأْتِی بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِی کَفَرَ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ) (1)والمروی أن هذه المحاجّة بعد إلقاء إبراهیم فی النار وعدم تضرره بها وخروجه منها سالماً مستنیراً بنور الله تعال مهدیاً قویاً بالله لا یخاف أحداً من الخلق بعد أن لبس ثوب العز و النصر و الهیبة العظیمة. (2)

فلم یترک هذا الزمن المهم و الحساس أن یذهب سُدی،بل جعله عاملاً مساعداً لإطلاق کلمته ولتبلیغ رسالته،کی تلاقی تأثیراً وقبولاً کبیراً عند من حضره فی ذلک المشهد العظیم....

و إنْ لاحظنا نبی الله یعقوب علیه السلام سنجده قد بلَغ من حرصه علی استثمار أفضل زمن لإبلاغ دعوته أنه فی لحظات حیاته الأخیرة،وفی حالة الاحتضار یسعی لتبلیغ وتثبیت رسالته،قال تعالی: (أَمْ کُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ یَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِیهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِی) . (3)

فلما اجتمع إلیه بنوه الأثنی عشر وهم الأسباط بادرهم بسؤال یبدی لهم فیه رغبته الأخیرة فی التعرف إلی سلوکهم المستقبلی الذی بدأه وخطه أبوه النبی إبراهیم علیه السلام و هو التوحید و الإسلام،ویؤکّد تحمله واستمراره لمسؤولیته التبلیغیة الرسالیة،واستثمار آخر لحظة من لحظات حیاته لإیصالها إلی الناس کافة.

فالنبی یعقوب علیه السلام فی هذا الزمن الحساس،والمشهد المؤلم, وساعات الفراق والاحتضار،لا یوصی بأهل،ولا بیوت وأملاک،ولا أموال،ولا یشغل بَالَهُ أی شیء إلّا وظیفته التبلیغیة،فلا تشغله عنها سکرات الموت،بل هی تشغله عمّا سواها،وهی المتمثلة بسؤاله الحاسم (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِی) ،هل تتراجعون عن الخط المستقیم لتتبعوا مجتمعاتکم الوثنیة،أم تستمرّون فی السیر علیه لتُدِیمُوا ما کان علیه أبائکم وأجدادکم من الأنبیاء علیهم السلام؟

ص:101


1- (1) .البقرة:258.
2- (2) .الأنبیاء حیاتهم-قصصهم:98؛ابن کثیر, قصص الأنبیاء:180/1.
3- (3) .البقرة:133.

فکان الجواب حاسماً أیضا ویبعث الاطمئنان فی نفسه لیموت و هو قریر العین،باستمرار الخط الرسالی فی التوحید الخالص و الإسلام الحقیقی من بعده،حیث قال: (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَکَ وَ إِلهَ آبائِکَ إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) . (1)

وهکذا وظف نبی الله یعقوب علیه السلام تلک الفترة الزمنیة المهمة لصالح تبلیغ رسالته.

فللزمن-إذن-أهمیة وأثر کبیر فی إنجاح التبلیغ إذا کان بینهما انسجام وتناسب،فنلاحظ مثلاً النبی یوسف علیه السلام حینما ألقی فی السجن،لم یقف متفرجاً إزاء حرکة الزمن،بل جعل علیه السلام من فترة السجن زمناً حیاً معطاءً مثمراً،من خلال إدراکه وتعامله مع الظرف الذی یعیش فیه.

ومن خلال قناعته بأن الرسالة هی تکلیف ومهمة ملازمة لشخصیته،وأن الزمن عنصر وشرط رئیسی فی نجاح تبلیغ الرسالة،أما الظرف الذی یعیشه فمهما کان قاسیاً أو قهریاً فأنه لا یشغله عن أداء تکلیفه و القیام بمهمته ولا یقید حرکته الرسالیة التی یمکن أن تمتد علی کلّ زاویة،وأن تعلن فی کلّ ظرف،باستخدام الأسلوب و الأداء المناسب.

والمتأمل فی قصّة النبی یوسف علیه السلام یلاحظ الدقة و الحکمة فی استثمار الزمن فی السجن،وتحقیق نجاحات کبیرة بسبب توظیف هذه الفترة الزمنیة لصالح نشر رسالته.

فأنه علیه السلام حینما أدخل علی السجن،دخل معه فتیان أحدهما رئیس الخبازین عند الملک عزیز مصر و الآخر رئیس سقاته لتهمة الخیانة،و قد تقدّما إلی یوسف بعد العلم بمکانته العلمیة بتأویل الرؤیا وأخبراه أن أحدهما رأی فی منامه أنه یأخذ العنقود من العنب ویعصره فی کأس الملک ورؤیة الآخر أن فوق رأسه طبق من الخبز و الطیر تأکل منه،وکان طلبهما منه تأویل ما رأیا فی منامهما،وعند ذلک-وعند رؤیته من یصغی لکلامه ویثق بمقاله-أخذ یکشف لهما عن حقیقة أمره ومعتقده وأنه علی دین

ص:102


1- (1) .البقرة:133.

آباءه إبراهیم وإسماعیل وإسحاق ویعقوب علیهم السلام وعلی ملتهم وأنه من أهل التوحید و الإیمان بالواحد الأحد الفرد الصمد،و أنّ إلهه هو إله آباءه الطاهرین و هو الله المبدع لهذا الخلق و هو المحیی و الممیت،و هو علی کلّ شیء قدیر.

فأراد یوسف علیه السلام منهما الإیمان بالله العلی القدیر فدعاهما إلی ذلک وأرشدهما إلی الطریق القویم کما هی طریقة الأنبیاء علیهم السلام و الأوصیاء علیهم السلام من هدایة الخلق ونصحه وخصهما حیث رغبا إلیه واحتاجاه فی مسألتهما،فکان بیانه هذا تعلیلاً لما لمّح إلیه من مکانته وتمهیداً للدعوة وإظهارا إلی أنه من أهل بیت النبوة،ولتقوی رغبتهما فی الاستماع إلیه و الوثوق بقوله،ثمّ توجه إلیهما سائلاً لهما: (أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَیْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ) . (1)

وکانت الغایة له علیه السلام الإعلام بدینه و الدعوة إلیه و قد قدره الله تعالی علی ذلک, وعلی تعبیر الرؤیا وتأویلها،ثمّ أعلمهما أنه لا یأتیهما طعام یرزقانه إلّا ونبأهما بتأویله قبل أن یأتیهما, وأن ذلک مما علمه الله تعالی إیاه, وأنه لا یعبد سواه ویکفر بکل معبود غیره, و هو سبحانه الآمر أن لا یعبد الناس رباً سواه, وأن ذلک هو الدّین القویم, وأن جهلة الناس لا یعلمون.

ثم إنه یعتبر تبلیغه ونصحه للخلق واجبا علیه ولذلک أجاب طلبهما بقوله: (یا صاحِبَیِ السِّجْنِ أَمّا أَحَدُکُما فَیَسْقِی رَبَّهُ خَمْراً) و هو الناجی: (وَ أَمَّا الْآخَرُ فَیُصْلَبُ فَتَأْکُلُ الطَّیْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِیَ الْأَمْرُ الَّذِی فِیهِ تَسْتَفْتِیانِ) (2). (3)

فهکذا اغتنم یوسف علیه السلام الفرصة فی بث ما عنده من أسرار التوحید و الدعوة إلی

ص:103


1- (1) .یوسف:39.
2- (2) .یوسف:41.
3- (3) .الأنبیاء حیاتهم-قصصهم:148.

ربّه سبحانه وتعالی وتبلیغ رسالته،وبالتالی جنی ثمار طیبة بسبب استثماره لهذه الفترة الزمنیة العصیبة.

وکذلک فی حیاة کلیم الله موسی علیه السلام-التی تعتبر من التجارب التبلیغیة الرسالیة المهمة-نجد أن الزمن کانت له قیمة رسالیة عالیة طوال الفترة التی عاشها مع قومه وعانا فیها الکثیر من المصاعب و المحن.

فقد استثمر علیه السلام الشرائط الزمانیة-المناسبة لتبلیغ رسالته-أفضل استثمار،بل کان یسعی لتوفیرها الإستفادة منها،فلما دخل علی فرعون وألقی عصاه فانقلبت ثعبان عظیم،قالوا له: (فَلَنَأْتِیَنَّکَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَیْنَنا وَ بَیْنَکَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَکاناً سُویً * قالَ مَوْعِدُکُمْ یَوْمُ الزِّینَةِ وَ أَنْ یُحْشَرَ النّاسُ ضُحًی * فَتَوَلّی فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ کَیْدَهُ ثُمَّ أَتی * قالَ لَهُمْ مُوسی وَیْلَکُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَی اللّهِ کَذِباً فَیُسْحِتَکُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَری) . (1)

فقال لهم موسی علیه السلام: (مَوْعِدُکُمْ یَوْمُ الزِّینَةِ) ،و هو(یوم عید کان لهم...وقال الفراء: (یَوْمُ الزِّینَةِ) یوم شرف کانوا یتزینون بها، (2)فهو من أکبر أیام مصر وأعظمها بهجة وسرور من قدیم الزمان. (3)

فاختیاره علیه السلام لهذا الیوم المهم یدل علی حکمته واهتمامه بالشرط الزمانی الذی یرید أن یبلغ فیه رسالته فأنّ(تعیین یوم الزینة یقتضی إطلاع الکل علی ما سیقع فتعیینه إنما یلیق بالمُحِق الذی یعرف أن الید له لا المُبطِل الذی یعرف أنه لیس معه إلّا التلبیس،فحینما قال علیه السلام موعدکم یوم الزینة،وأوعدهم ذلک الیوم لیکون علو کلمة الله وظهور دینه وکبت الکافر وزهوق الباطل علی رؤوس الأشهاد فی المجمع العام

ص:104


1- (1) .طه:58-61.
2- (2) .التبیان فی تفسیر القرآن:181.
3- (3) .تاج العروس:268/18.

لیکثر المحدّث بذلک الأمر العجیب فی کلّ بَدْوٍ وحَضَر ویشیع فی جمیع أهل الوبر و المدر،قال القاضی:إنه عین الیوم بقوله:(یوم الزینة)ثمّ عین من الیوم وقتاً معیناً بقوله: (وَ أَنْ یُحْشَرَ النّاسُ ضُحًی) . (1)

وفعلاً حینما جاء یوم الزینة وحشر الناس،وأصطفّ السحرة،وهُیئت الأجواء للمناظرة و المحاججة تقدم کلیم الله علیه السلام،مخاطباً جموعهم: (قالَ لَهُمْ مُوسی وَیْلَکُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَی اللّهِ کَذِباً فَیُسْحِتَکُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَری) . (2)

و هذا القول من موسی علیه السلام موعظة لهم وإنذار أن یفتروا علی الله الکذب...فالظاهر أن المراد بافتراء الکذب علی الله الاعتقاد بأصول الوثنیة کإلوهیة الآلهة وشفاعتها ورجوع تدبیر العالم إلیها...،ویظهر من تفریع قوله (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَیْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوی) ، (3)علی ما فی الآیة السابقة من قوله: (قالَ لَهُمْ مُوسی وَیْلَکُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَی اللّهِ کَذِباً فَیُسْحِتَکُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَری) .

أن التنازع والاختلاف إنما ظهر بینهم عن موعظة وعظهم بها موسی فأثّرت فیهم بعض أثرها،ومن شأنها ذلک إذ لیست إلّا کلمة حق ما فیها مغمض وکان محصلها:أن لا علم لکم بما تدّعونه من إلوهیة الآلهة وشفاعتها فنسبتکم الشرکاء و الشفعاء إلی الله افتراء علیه و قد خاب من أفتری،و هذا برهان واضح لا سِتر علیه ولا غبار.

ویظهر من قوله الآتی الحاکی لقول السحرة: (إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِیَغْفِرَ لَنا خَطایانا وَ ما أَکْرَهْتَنا عَلَیْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّهُ خَیْرٌ وَ أَبْقی) (4)أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بین السحرة ومنهم. (5)

ص:105


1- (1) .التفسیر الکبیر:72/22 و73.
2- (2) .طه:61.
3- (3) .طه:62.
4- (4) .طه:73.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:175/41.

وبهذا الاختیار المناسب من قبل موسی علیه السلام للزمان المناسب و هو یوم الزینة،کیوم للمناظرة و المحاججة و المقابلة آتی أکله،وظهر أثره فی الناس وفی صفوف السحرة و الفراعنة.

وهکذا أخذ إقرار-روح الله عیسی بن مریم علیه السلام-بالعبودیة لله،وکلامه فی المهد أثراً کبیراً من بنی إسرائیل؛لأنّه حدث فی شرائط زمانیة مناسبة ومتناسقة معه تماماً،وذلک عندما جاءت به أمه العذراء مریم ودخلت محرابها،فجاء إلیها بنو إسرائیل وزکریا معهم فقالوا لها: (یا مَرْیَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَیْئاً فَرِیًّا* یا أُخْتَ هارُونَ ما کانَ أَبُوکِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما کانَتْ أُمُّکِ بَغِیًّا) . (1)

وکان قصدهم وغرضهم توبیخها وتعییرها،و قد رموها بالفاحشة ونسبوا إلیها الزنا،ثمّ قالوا لها من أین لک هذا المولود الذی جئتنا به؟فأشارت إلی ولدها عیسی علیه السلام و هو مقمّط فی المهد،فقالوا لها:کیف نکلّم من کان فی المهد صبیاً؟فأنطق الله تعالی روحه عیسی علیه السلام فقال: (قالَ إِنِّی عَبْدُ اللّهِ آتانِیَ الْکِتابَ وَ جَعَلَنِی نَبِیًّا * جَعَلَنِی مُبارَکاً أَیْنَ ما کُنْتُ وَ أَوْصانِی بِالصَّلاةِ وَ الزَّکاةِ ما دُمْتُ حَیًّا * بَرًّا بِوالِدَتِی وَ لَمْ یَجْعَلْنِی جَبّاراً شَقِیًّا * اَلسَّلامُ عَلَیَّ یَوْمَ وُلِدْتُ وَ یَوْمَ أَمُوتُ وَ یَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا) . (2)

فأقرّ علیه السلام بالعبودیة لله تعالی وبین التوحید،وتلک المعانی العظیمة فی ذلک الزمن الحساس و المهم،فأثّر أثره الکبیر،ولو قال هذا الکلام فی ظرف و زمان آخر لما أثّر کهذا الأثر فی هذا الزمن.

أما فی قصة أصحاب الکهف علیهم السلام،فنلتقی مع نموذج جدید حول القیمة الزمنیة للتجربة الرسالیة،فقد کانت فترة خروج أصحاب الکهف من کهفهم،زماناً مناسباً

ص:106


1- (1) .مریم:28.
2- (2) .مریم:30-33.

لتبلیغ التوحید و العقیدة،وفعلاً أکدّوا بخروجهم وجود الله و قدرته علی إحیاء الموتی،وأکدوا وجود المعاد ویوم القیامة،قال تعالی: (وَ کَذلِکَ أَعْثَرْنا عَلَیْهِمْ لِیَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَیْبَ فِیها...) ، (1)فصاروا بذلک آیة علی طول التاریخ،وأصبحوا معلماً رسالیاً یستوحی منه العاملون و المبلّغون الصبر و الثبات فی مواجهة عقبات الطریق وتحدیات الواقع.

وأفضل درس یمکن أن یستفیده الدعاة و المبلّغین من قصة أصحاب الکهف هو أن الکلمة الصادقة و الموقف الحقّ قد یتوقف تأثیره علی حصوله وإطلاقه فی زمانه المناسب له،و هذا واضح جلی فی المسیرة التبلیغیة لهؤلاء الفتیة،فإنهم طالما دعوا قومهم إلی الإیمان بالله تعالی و الیوم الآخر،لکنّهم لم یؤثروا فیهم کما أثروا-فیهم-فی هذا الظرف المناسب لتبلیغ رسالتهم-هو زمان ولحظة خروجهم من الکهف بعد تلک المدّة الطویلة-وبذلک سلّم الناس بقدرة الله عز وجلّ وإعجازه فی خلقه ورعایته لعباده المؤمنین العاملین.

أما متابعة حیاة نبینا الأعظم صلّی الله علیه و آله،فتعطینا صورة مثالیة عن التعامل مع الزمن فی کلّ مجال من مجالات حیاته الشریفة.

فالرسول صلّی الله علیه و آله الذی یمثّل الأسوة و القدوة لکلّ المبلّغین و الإصلاحیین،کان تعامله مع الوقت وأجزاء الزمن هو النموذج الأعلی لأسلوب استثمار المبلّغ لعامل الزمن فی کلّ أجزاء حیاته الشریفة.

ابتداءاً من نزول القرآن الکریم علی قلبه الشریف،فقد أنزل الله سبحانه وتعالی القرآن علی قلب حبیبه محمّد صلّی الله علیه و آله بعد اختیار الزمن المناسب لذلک ألّا و هو لیلة القدر: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ) ، (2)فاختیار هذا المقطع الزمانی لإنزال القرآن الکریم

ص:107


1- (1) .الکهف:21.
2- (2) .القدر:1.

یزید فی أهمیته؛لأنّ لیلة القدر هی أفضل ظرف زمانی، (1)شهر رمضان المبارک،شهر ضیافة الله،فحمل صلّی الله علیه و آله هذا الکتاب المقدس وبلّغه للناس قطعاً قطعاً فی مدة ثلاث وعشرین سنةً وحسب اختلاف الشرائط الزمانیة و المکانیة وتفاوتها فتدرج فی تبلیغه فی مکّة و المدینة،فی اللیل و النهار،والحضر و السفر،فی الحرب و السلم،فی یوم العسرة وفی یوم الغلبة،ویوم الأمن ویوم الخوف،لإلقاء المعارف الإلهیة،وتعلیم الأخلاق الفاضلة وتقنین الأحکام الدینیة فی جمیع أبواب الحاجة،وبمختلف الظروف.

فقد اختار النبی الأعظم صلّی الله علیه و آله الأسلوب السرّی فی تبلیغ رسالته-أی:بادئ الأمر-من أجل تکوین قاعدة مؤمنة تحمل الإسلام بقوّة قبل أن تنطلق فی مواجهة المحیط الکافر،لِمَا قد یترتب علی ذلک من ردّة فعل عنیفة تواجه الدّعوة وتنهی الرسالة وتقوض البناء الجدید،و هذا ما جعل رسول الله صلّی الله علیه و آله یحرص علی کتمان أمره ویوصی أصحابه بالکتمان،ولکن حینما شعرت قریش بالواقع الخطیر الذی یقوم به النبی صلّی الله علیه و آله وأصحابه ممّا شکل ضغطاً نفسیاً وفکریاً علیها تحفّزت لمواجهته.

و قد وجد النبی صلّی الله علیه و آله أن انکشاف أمر الرسالة أفقد المرحلة طابعها الأساس ولم یعد من الصحیح اعتماد السریة فی العمل التبلیغی فی هذا الظرف،فقرر صلّی الله علیه و آله أن یجهر بدعوته فی عمل علنی سلمی،حیث یسعی هو وأصحابه لهدایة الناس علی أساس التوحید وإنقاذهم من شراک الجاهلیة و الظلال،من دون اعتماد أی سلوک عنیف حتّی وان تعرضوا للاضطهاد و الأذی من قبل المشرکین.

قال تعالی: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ) (2)نزلت هذه الآیة بعد بعثة

ص:108


1- (1) .وأفضل لیلة،بنص القرآن الکریم،قال تعالی: (لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وتقع فی أفضل ظرف زمانی،هو شهر رمضان المبارک،شهر ضیافة الله،الذی قال فیه رسول الله صلّی الله علیه و آله:«شهر هو عند الله من أفضل الشهور».
2- (2) .الحجر:94.

الرسول صلّی الله علیه و آله بثلاث سنوات،و هذا یدل علی أن الأرضیة و الظروف و الزمان مناسب لإعلان الدّعوة و التبلیغ: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) بدون صِدام ومجابهة ومقابلة مع المشرکین: (وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ) .

وفی الفترة التی کان کفار قریش،یصدون النبی صلّی الله علیه و آله عن العمل التبلیغی فی مکّة:

کان رسول الله صلّی الله علیه و آله یعرض نفسه فی المواسم-إذا کانت-علی قبائل العرب،یدعوهم إلی الله وإلی نصرته ویخبرهم أنه نبی مرسل،ویسألهم أن یصدّقوه ویمنعوه حتّی یبین عن الله ما بعثه به. (1)

وکان صلّی الله علیه و آله یواعد ویلتقی مع مریدی الإسلام،والراغبین بمعرفته،فی أزمان وأیام مهمّة کأیام الحج و التشریق،یقول الطبری:

ثم أن مصعب بن عمیر،رجع إلی مکة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمین إلی الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرک،حتّی قدموا مکة؛فواعدوا رسول الله صلّی الله علیه و آله العقبة من أوسط أیام التشریق، (2)حین أراد الله بهم ما أراد من کرامته،والنصر لنبیه صلّی الله علیه و آله وإعزاز الإسلام وأهله،وإذلال الشرک وأهله. (3)

وکان رسول الله صلّی الله علیه و آله یستفید من الأشهر الحرام لتبلیغ رسالته،لاعتقاد الکفار بحرمة القتال وسفک الدماء فی الأشهر الحرم:

فکان تحریم الأشهر الأربعة هو الدّین المستقیم دین إبراهیم وإسماعیل،وکانت العرب قد تمسّکت به وراثة منهما،وکانوا یعظمون الأشهر الحرم ویحرمون القتال فیها حتّی لو لقی الرجل قاتل أبیه أو أخیه لم یهجه. (4)

ص:109


1- (1) .تاریخ الطبری:254/2.
2- (2) .أیام التشریق:هی ثلاثة أیام بعد عید الأضحی؛لأن لحوم الأضاحی تشرّق فیها.
3- (3) .تاریخ الطبری:263/2.
4- (4) .الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل:188/2.تفسیر مجمع البیان:291/7.

فأستثمر النبی صلّی الله علیه و آله هذه الفترة الزمنیة فی تبلیغ رسالته،فکان یحضر فی الأسواق مثل عکاظ،محنة،ذی المجاز،ویقف علی مرتفع،ثمّ یدعوا الناس إلی الإسلام،وتوحید الله سبحانه وتعالی.

وهکذا بقی النبی صلّی الله علیه و آله یختار أفضل الأزمنة المناسبة لتبلیغ رسالته حتّی قوی المسلمین وجاء الأمر بالبراءة من المشرکین فأختار صلّی الله علیه و آله أفضل زمن وأعظم یوم من الحج لذلک و هو(یوم عرفة) (1)فاجتمع فیه جمیع المسلمین لإعلان البراءة وإلغاء العهود مع المشرکین: (وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَی النّاسِ یَوْمَ الْحَجِّ الْأَکْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِیءٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ وَ رَسُولُهُ) . (2)

وبقی هذا النبی العظیم صلّی الله علیه و آله مستمرّاً علی هذا الأسلوب و الطریقة إلی آخر حیاته الشریفة،فلمّا أراد ختم رسالته العظیمة انتخب الزمان الذی یکثر فیه حضور الناس من کلّ جانب ومکان،کی یبلغ القول الحقّ أسماع أکبر عدد من الناس،ویعمّ التوفیق و الهدی الکثیرین.

فکان ذلک الیوم هو:الثامن عشر من ذی الحجّة، (3)یوم رجوع الحجیج من مکّة،فکان هذا الزمن ممیزاً جداً حیث کان الحضور فیه عظیم جداً ومتنوع-أی:کان المسلمون من جمیع البلاد الإسلامیة-فکان بإمکان النبی صلّی الله علیه و آله أو یوصل صوته ونداءه إلی أکبر عدد من الناس وإلی مختلف البلدان،فجاءه النداء: (یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ

ص:110


1- (1) .روی عن النبی صلّی الله علیه و آله صل أنّه حج الأکبر،هو یوم عرفة.وفی روایة أخری سمّی الحج الأکبر؛لأنّه حج فیه المشرکون و المسلمون ولم یحجّ بعدها مشرک.وفی روایة مجاهد وشعبة أنه:جمیع أیام الحج. انظر:التبیان فی تفسیر القرآن:171/5.
2- (2) .التوبة:3.الأذان الإعلام،تقول:آذننی فلان کذا فأذنت،أی:أعلمنی فعلمت،وقال بعضهم:معناه النداء الذی یسمع بالإذن.التبیان فی تفسیر القرآن:171/5.
3- (3) .محمد, المفید, المقنعة:203.

إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ) ، (1)فصنع له صلّی الله علیه و آله منبراً من أحداج الإبل فارتقی علیها وقال: (الْیَوْمَ یَئِسَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ دِینِکُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً) . (2)

فأهم بحث وأوضح شیء ظاهر فی هذه الآیة یترکز فی کلمة (الْیَوْمَ) الواردة فیها،الیوم وما أدراک ما ذلک الیوم!الذی اجتمعت فیه أربعة أمور من أهم الأمور الأساسیة و المصیریة،وهی:

1. (یَئِسَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ دِینِکُمْ) .

2. (أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ) .

3. (وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی) .

4. (وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً) .

فهذا یدلّ علی تعظیم ذلک الیوم و هو-یوم غدیر خم-لاشتماله علی خیر عظیم من یئس الکفار من دینکم وإکمال الدّین وإتمام النعمة بتنصیب الإمام علی علیه السلام خلیفة من بعد النبی صلّی الله علیه و آله ورضوان الله تعالی عن المسلمین فی موقفهم هذا،فهو:

«یوم عید عظیم بما أظهره الله تعالی من حجّته وأبانه من خلافة وصی نبیه صلّی الله علیه و آله وأوجبه من العهد فی رقاب بریته». (3)

و قد روی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«إن رسول الله صلّی الله علیه و آله وقف بمنی حین قضی مناسکه فی حجّة الوداع،فقال:أیها الناس،اسمعوا ما أقول لکم واعقلوه فأنی لا أدری لعلّی لا ألقاکم فی هذا الموقف بعد عامنا هذا،ثمّ قال:أی یوم أعظم حرمة؟قالوا:هذا الیوم.قال:فأی

ص:111


1- (1) .المائدة:67.
2- (2) .المائدة:3.
3- (3) .محمد, المفید, مسار الشیعة:39.

شهر أعظم حرمة؟قالوا:هذا الشهر.قال:فأی بلدة أعظم حرمة؟قالوا:هذه البلدة.قال:فإنّ دمائکم وأموالکم علیکم حرام کحرمة یومکم هذا فی شهرکم هذا فی بلدکم هذا إلی یوم تلقونه فیسألکم عن أعمالکم،ألا هل بلّغت؟قالوا:نعم.قال:اللّهُمَّ اشهد, ألا ومن کانت عنده أمانة فلیؤدها إلی من ائتمنه علیها،فإنّه لا یحلّ له دم امرء مسلم ولا ماله إلّا بطیبة نفسه فلا تظلموا أنفسکم ولا ترجعوا بعدی کفّاراً». (1)

وهکذا استطاع جمیع الأنبیاء علیهم السلام أن یستثمروا العامل الزمنی فی عملهم التبلیغی ویجنوا أطیب الثمار،ویحصلوا علی أفضل النتائج،فعلی المبلّغ أن یقتدی بهم ویستثمر أفضل الأزمنة لتبلیغه کشهر محرم الحرام،وشهر رمضان المبارک،وأیام الحجّ،والمسیرات،وأیام الحزن و الفرح،والمناسبات المهمّة،فإذا کان الکلام یتوافق معها یکون أکثر تأثیراً من غیرها إذا لم یکن متناسباً معها.

هذه دراسة مقتضبة لشروط ودور الزمان فی التبلیغ،ولا یتسع لنا المجال لو أردنا أن نستعرض کلّ الأمثلة القرآنیة للشرائط الزمانیة التبلیغیة،ونکتفی بما ذکرناه من النماذج المشرقة.

أما لو لاحظنا دور المکان فی التبلیغ

نجدّ أنّ تأثیر التبلیغ یتضاعف فیما لو حصل فی مکانه المناسب له،و قد لاحظ الأنبیاء علیهم السلام هذا الشرط المهم و الأساسی فی نجاح التبلیغ،فمارسوا أدوارهم التبلیغیة فی أماکنها المناسبة.

فهذا خلیل الله إبراهیم علیه السلام لما دعا قومه إلی عبادة الله وتوحیده فلم یستجیبوا له وأذاقوه الأمرین ورموه فی النار،عزم علی الرحیل وقال: (وَ قالَ إِنِّی ذاهِبٌ إِلی رَبِّی سَیَهْدِینِ) . (2)

ص:112


1- (1) .من لا یحضره الفقیه:93/4.
2- (2) .الصافات:99.

ومضی إبراهیم علیه السلام مرتحلاً عن وطنه ومسقط رأسه ومقر آبائه إلی دار غربة لم یعرف أحداً فیها ولم یدعوه أحد من أهلها:

«فمضی حتّی خرج من سلطان نمرود ودخل فی سلطان رجل من الأقباط یقال له عُرارة». (1)

وبدأ تجربة جدیدة من تجارب التبلیغ و الدعوة،فی مکان وموقع جدید قد یکتشف فیه ساحة ممیزة یملک فیها حریة الحرکة لما یرید قوله وفعله.فأظهر ما یحمله من دین وأخلاق وحسن التعامل فأثر فی الجمیع حتّی قال له الملک القبطی:

أشهد أنّ إلهک لرفیع حلیم کریم وأنّک ترغبنی فی دینک. (2)

وهکذا نبی الله یوسف علیه السلام حینما قرروا إلقائه فی السجن: (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآیاتِ لَیَسْجُنُنَّهُ حَتّی حِینٍ) . (3)

فلما أدخل إلی السجن وجده مکاناً مناسباً للتبلیغ لا سیما أن السجناء یتمیزون بقلوب رقیقة منکسرة،وقابلیة مضاعفة لاستماع الأحادیث التبلیغیة،ولذا قام علیه السلام بالتبلیغ عن وحدانیة الله بکلّ طمأنینة وثقة وبشکل تفصیلی،وبأسلوب رائع،حیث قال: (یا صاحِبَیِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَیْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ * ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِیّاهُ ذلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ) . (4)

وهکذا حول السجن إلی ساحة للتبلیغ،حیث إنّه یملک الحریة الکاملة فی الحدیث و التعبیر عما یحمله من فکر وعقیدة،ویملک إمکانیة التأثیر فی الآخرین،ممّا لا یملکه

ص:113


1- (1) .الأنبیاء حیاتهم-قصصهم:100.
2- (2) .الأنبیاء حیاتهم-قصصهم:101.
3- (3) .یوسف:35.
4- (4) .یوسف:39-40.

فی مکان آخر،مما فرض علیه القیام بواجبه ونشر رسالته.

و أما نبینا الأعظم صلّی الله علیه و آله،فقد أمر أصحابه فی السنة الخامسة للبعثة أن یهاجروا إلی أرض الحبشة،وأن یتخذوها مقراً لنشر رسالتهم،وفعلاً کانت هذه الهجرة تطوّراً هائلاً فی مسیرة الرسالة ونقلة هامة فی تاریخ الإسلام،حیث نظرت قریش إلی أن رسالة محمّد صلّی الله علیه و آله تجاوزت حدود مکّة و الجزیرة،وامتدت إلی ساحات و أماکن أخری،کما أنّها وجدت فی الهجرة تعبیراً میدانیاً متحدیاً لوجودها السیاسی السلطوی فی مجتمع الجزیرة.

فکان لوجودهم فی الحبشة الأثر الکبیر علی أهلها-وهم نصاری-،فلما سمعوا ما تلوه علیهم من القرآن الکریم فاضت عیونهم من الدمع،وجاء منهم اثنان وثلاثون رجلاً مع جعفر بن أبی طالب وقت قدومه إلی النبی صلّی الله علیه و آله فوجدوه فی المسجد فجلسوا إلیه وکلموه وسألوه،فلما فرغوا من أسألتهم،دعاهم رسول الله صلّی الله علیه و آله إلی الله عز وجلّ و الی الإسلام وتلا علیهم القرآن، (1)یقول سعید بن جبیر:

«فلما قرأ علیهم نبی الإسلام سورة(یس)دمعت عیونهم شوقاً وأسلموا».

«واستجابوا لله وآمنوا بالنبی وصدّقوه وعرفوا منه ما کان یوصف لهم فی کتابهم من أمره». (2)

فنزل فیهم قوله تعالی: (الَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ یُؤْمِنُونَ * وَ إِذا یُتْلی عَلَیْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنّا کُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِینَ * أُولئِکَ یُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَیْنِ بِما صَبَرُوا وَ یَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّیِّئَةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ) (3)وبهذا استطاعوا أن یقطفوا من هذا المکان الجدید ثماراً طیبة.

وکذلک کانت هجرة النبی صلّی الله علیه و آله إلی یثرب بعد ما لم یکن بإمکانه البقاء فی مکّة

ص:114


1- (1) .تفسیر مجمع البیان:445/7.
2- (2) .تفسیر الأمثل:593/9،نقلاً عن:تفسیر فی ظلال القرآن:357/6.
3- (3) .القصص:52-53.

بسبب الضغوط التی واجهها من المشرکین،مما أفقده القدرة علی الاستمرار فی التبلیغ بهذا المکان المقدس،فهاجر إلی مکان جدید إلی یثرب،فأتخذها قاعدة انطلاق جدیدة لرسالته الإسلامیة،فکانت هجرته صلّی الله علیه و آله،تطوّراً کبیراً ونقلة تاریخیة فی مسار الرسالة الإسلامیة و الخط الفاصل بین الإسلام الدّعوة, و الإسلام و الدولة.

إذ بدأت عملیة بناء المجتمع الإسلامی و الدولة الإسلامیة بعدما ترکزت السنوات الثلاثة عشر من عمر الإسلام علی بناء الفرد المسلم،وتعمیق وجوده الإیمانی و الفکری و المبدئی.

إذاً:فتوفر هذا الشرط المکانی المهم ساهم فی إنجاح الحرکة التبلیغیة الکبیرة للنبی صلّی الله علیه و آله وکان سبباً فی استحکام الإسلام ووصوله إلی شتی بقاع العالم.

و قد نهج أهل البیت علیهم السلام نهج جدهم المصطفی صلّی الله علیه و آله فی أداء التبلیغ بشروطه وظروفه المناسبة،فهذا الإمام الصادق علیه السلام مثلاً نجده یقف علی أرض عرفات لیخاطب جمهور الحجج بأعلی صوته:

>>أیها الناس،إنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله کان الإمام ثمّ کان علی بن أبی طالب،ثمّ الحسن،ثمّ الحسین،ثمّ علی بن الحسین،ثمّ محمد بن علی،ثمّ, فینادی ثلاث مرات لمن بین یدیه،وعن یمنه،وعن یساره،ومن خلفه اثنی عشر صوتاً». (1)

و قد أوصی الإمام الباقر علیه السلام أن یقیموا مجلس العزاء علی أبی عبد الله الحسین علیه السلام فی منی ویتحدّثوا خلاله عن جرائم الحکومات الظالمة بحقّ الإمام وأهل بیته علیهم السلام. (2)

إذاً:فینبغی للمبلّغ أن یختار المکان المناسب لما یرید تبلیغه،فمثلاً لو أراد أن یعظ الناس ویذکرهم بالآخرة ویحثهم علی عبادة الله،فإن المکان المناسب لذلک هو المسجد.فقد ورد فی الحدیث الشریف عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال:

ص:115


1- (1) .أصول الکافی:466/4.
2- (2) .ناسخ التواریخ:326/7.

>>من اختلف إلی المسجد،أصاب أحدی ثمان:أخاً مستفاد فی الله،أو علماً مستطرفاً،أو آیة محکمة،أو رحمة منتظرة،أو کلمة تردّه عن ردی،أو یسمع کلمة تدلّ علی هدی،أو یترک ذنباً خشیة أو حیاء». (1)

وهکذا باقی الأماکن،کجبهات الحرب وصفوف القوات المسلحة،ومجالس التأبین و العزاء،وهی مجالس الذکر و الموعظة وتحضرها عادة طبقات المجتمع المختلفة،والمراکز العلمیة نظیر الجامعات و المدارس العلیا و الثانویات و...،والمعامل،والمستشفیات و المراکز الصحیة،والدوائر الحکومیة.و...،فینبغی أن یکون الکلام متناسباً مع المکان الذی یلقی فیه کی یکون مؤثراً ومنتجاً نتاجاً حسناً.

وعموماً فبما أن مستوی العقل و الإیمان و الحالات الروحیة لدی الناس متفاوتة ومختلفة باختلاف الزمان و المکان و الظروف العامّة و الخاصة،المحیطة بهم،فیستدعی ذلک أن یراعی المبلّغ مقتضی الحال،ویتعامل تعاملاً خاصاً مناسباً للظرف الزمانی و المکانی،والبناء و المستوی الثقافی و الروحی للمنطقة التی یبلغ فیها،وأن ینزل بمنازل المخاطبین ویراعی مستوی کلّ طبقة منهم فیکلمهم بقدر عقولهم،و هذه هی أخلاق وأسلوب الأنبیاء علیهم السلام.فهذا رسول الله صلّی الله علیه و آله،یقول:

«إنّا معاشر الأنبیاء أمرنا أن نکلم الناس علی قدر عقولهم». (2)

فبنی وبین صلّی الله علیه و آله لنا قاعدة مهمّة فی التبلیغ و الإرشاد لا یمکن تجاوزها،و هذا المنهج و الأسلوب هو أسلوب القرآن الکریم فمع أنه کلام الله عز وجلّ،لکن عندما نزل وخاطب عقول البشر راعی مستوی إدراکهم،فکأنه یخاطب کلّ إنسان بمستواه،فمهما کان المستوی الفکری و الثقافی للقارئ یجد أن القرآن یخاطبه،و هذه هی الطریقة الإلهیة فی التعامل ومخاطبة الأمم،یقول تعالی: (لِکُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَکاً هُمْ ناسِکُوهُ) (3).

ص:116


1- (1) .تهذیب الأحکام:249/3.
2- (2) .أصول الکافی:23/1؛تحف العقول:37.
3- (3) .الحج:67.

فیخبرنا تعالی أنّه جعل لکل قوم منسکاً هم عاملون به،أی:شریعة،ومتعبداً،ومنهاجاً صالحاً،یتلاءم مع مقتضیات الزمان و المکان،ومع سنة التدریج و التطور ونضوج العقل البشری،فأنزل التّوراة علی موسی علیه السلام بنحو من الشدة،لعلاج التّمسک بالمادة،ثمّ أنزل الإنجیل متمماً لحکم ا لتوراة مع علاج الروح وإشاعة المحبة،والعنایة بجوهر الدّین،لا بمجرد المظاهر و الشکلیات و الطقوس،ثمّ أنزل القرآن حینما نضج العقل البشری،لإرساء معالم دستور الحقّ،والجمع بین العنایة بالمادة و الروح،والترکیز علی معاییر العلم،واستخدام العقل،فکان أول دین یضع أسس الحضارة الإنسانیة الشاملة.

وکان تشریعه وسطاً بین الشرائع،وکانت هذه الأدیان صالحة للزمان الذی جاءت فیه. (1)

وهکذا کان أهل البیت علیهم السلام،یراعون-فی تبلیغهم-الظرف و الحالة العامّة التی یعیشونها،فهذا أمیر المؤمنین علیه السلام حینما غصبت منه الخلافة وجد أن الظرف و الحالة التی یعیشها المسلمون غیر مناسبة لأی کلام أو تحرکّ،حیث أن مصلحة الإسلام, و الخوف علیه من الأخطار الداخلیة و الخارجیة یقتضی السکوت وعدم التحرک،ومن هذا المنطلق فلزم السکوت و الجلوس فی بیته،إلّا انه وبعد انقضاء حادثة السقیفة حینما جاءه أبو سفیان ومن معه،ممّن یریدون الفتنة،وعرضوا علیه البیعة،نطق بالحکمة وأورد خطبة تفقأ عین الفتنة،فقال:

«أیها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة،وعرّجوا عن طریق المناظرة وضعوا تیجان المفاخرة،أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح،هذا ماء آجن ولقمة یغص بها آکلها ومجتنی الثمرة لغیر وقت إیناعها کالزارع بغیر أرضه». (2)

فالذی لا یراعی الأحوال و الظروف و الشرائط الزمانیة و المکانیة فی عمله وتبلیغه هو کالذی یجتنی الثمرة لغیر وقت إیناعها،فهو لا یستفید منها شیئاً،

ص:117


1- (1) .تفسیر المنیر:296/17.
2- (2) .نهج البلاغة:40/1.

کالزارع بغیر أرضه،فلیس بإمکانه أن یبقی فی تلک الأرض ویرعی زرعه وسقیه،فلا یجنی إذاً من زرعه شیئاً،فإذا أراد أن یجنی ثمراً طیباً علیه أن یراعی الحکمة المعروفة:لکلّ مقام مقالٍ.

2.معرفة فن التبلیغ

لکل عمل فنه وتقنیته الخاصة به،ومن دون هذه التقنیة و الفنّ لا یمکن الخوض فی أی فرع من فروع العلم ولا أی جهة من جهات العمل.

ولذلک،فإن معرفة فن التبلیغ أحد الشروط التی لا یمکن أن نتجاوزها،بل هی فی مقدّمة شروط التبلیغ،فبمقدار إیماننا بالتبلیغ فی أنّه ضروری،نؤمن بضرورة فن التبلیغ وأنه ضرورة أیضاً.

إنّ المبلّغ یسعی إلی إحداث هزة نفسیة لدی المخاطب تعید له صوابه إن کان ضالاً،واتزانه إن کان مضطرباً،وتهدیه فی حیرته إن کان حائراً،وتزیل عنه الغشاوة إن کان لا یری ما یجب أن یراه،فالتأثیر الإیجابی هو الذی یستهدفه المبلّغ وإلّا فَقَدَ التبلیغ قیمته ومشروعیه،لکن هذا التأثیر لیس میسراً للجمیع حتّی ولو کانوا متساوین فی القدرات و المعلومات؛لذلک اعتبر فن التبلیغ فناً من فنون العمل التربوی،ومهارة من مهارات حسن الخطاب،لا تقلّ أهمیة عن نفس المادّة التبلیغیة إن لم تکن أهم.

فهو فن من فنون تلقین المعرفّة وطریقة من طرق تحریک الوعی لدی المتلقی؛ولهذا یجب أن یتجاوز المبلّغ الطریقة المتبعة فی الوظیفة الإخباریة العادیة إلی الطریقة التأثیریة, التی تجعل الإنسان یتمتع بما یسمع،ویفهم ما یلقی علیه،وینتفع بما یفهم،ویغیر سلوکه ومواقفه عن اقتناع،فالمبلغ المتفنّن هو الذی ینتقی الأحداث المهمة و المثیرة،والموضوعات المرتبطة باحتیاجات واهتمامات الناس،ویتخیر الألفاظ

ص:118

والأسالیب التی لها وقع علی نفسیة السامع،بحیث تستطیع أن تنقل المعنی نقلاً أمیناً ومؤثراً،یقول أمیر المؤمنین علیه السلام:«ربّ کلام أنفذ من سهام». (1)

ویتطلّب فنّ التبلیغ أن یجتهد المبلّغ فی اصطناع طریقة للتبلیغ متعدّدة المداخل،وتلاءم مستویات الجمهور من جهة،والبیئة التی یعیش فیها من جهة أخری،والموضوع المعالج من جهة ثالثة.

فالمبلّغ الماهر هو الذی یستطیع تجمیل کلامه بلطائف الفنّ وتصویره للمستمع بشکل یسحر لبّه وینفذ إلی أعماقه،فعن النبی صلّی الله علیه و آله:«إن من الشعر لحکمة و إن من البیان لسحر». (2)

فإن إحدی القضایا التی أکّد علیها القرآن الکریم فی مجال أسلوب وطریقة التبلیغ هی کلمة(البلاغ المبین)،أی:الإبلاغ الواضح و النیر،...وبساطة الموضوع،وسلاسته،وعدم احتواءه علی أی شائبة،بحیث یصبح فی متناول فهم الناس فیستوعبونه بسهولة کاملة.

فالکلام المغلق،والمعقّد و المغلّف بغلاف من الکلمات والاصطلاحات الکثیرة و الذی یطالب الناس ویقول لهم بأنّه لا مقدرة لکم علی إدراک الأمور إلّا بعد سنوات الدرس الطویلة،کلام غیر موجود فی قاموس تبلیغ الرسل و الأنبیاء.

فلقد کان الأنبیاء علیهم السلام یشرحون المفاهیم بشکل بسیط،وواضح،بحیث یفهمها أکبر العلماء ویستفیدون منها فی نفس الوقت الذی یستفید منها أقلّ الناس معرفة بالعلم و العلوم،علی الأقل فی حدّ إمکانیاتهم،ومدی سعة استیعابهم الذهنی للأمور و المفاهیم. (3)

لأن المهم فی التبلیغ هو حسن فهم المخاطبین للبلاغ،و هذا یقتضی أن یکون البلاغ واضحاً بیناً دون أی غموض أو إشکال ما أمکن،فالخطاب لا بدّ أن یکون

ص:119


1- (1) .المازندرانی, شرح أصول الکافی:34/10.
2- (2) .من لا یحضره الفقیه:379/4.
3- (3) .الملحمة الحسینیة:184/1.

بأسلوب یفهمه کلّ مستوی من المستویات وبکل سهولة ویسر،و هذا هو الفنّ الذی یمیز بین المبلّغ الناجح وبین غیره،فلو أخذنا علی سبیل المثال مبلغین أو أستاذین أو معلمین،یتمتعان بنفس المستوی العلمی و الثقافی ویشترکان فی جمیع الشروط،لکن وجدنا أحدهما موفقاً وناجحاً ومؤثراً ویحظی بمستمعین ومریدین أکثر من غیره،فسبب هذا یعود إلی الطریقة و الأسلوب و الفن و المنهج المتبع عند أحدهم دون الآخر،فعلی سبیل المثال إذا أراد المبلّغ هدایة شخص ما فلا ینبغی شرح فضل النوافل المستحبة للکافر الذی یرید الدخول فی الإسلام،بل إثبات أصل الدّین الإسلامی،ویفهم له الأسس الإیمانیة فهماً ملائماً لمنطقه العقلی وبأسلوب علمی.

هذا،ومن جملة الأمور التی تضمن لکلام المبلّغ التأثیر المطلوب هو تلوین التعبیر الذی یستخدمه بالنغمة الملائمة للمعنی،لأنّ التنغیم جزء من العناصر المحدّدة لمعنی الکلمة أو الجملة،فالقراءة الرتیبة لنص معین أو لبیت شعری،أو لحکمة من الحکم أو سرد قصة لها مغزی معین لا تؤثر فی السامع،ولا تؤدّی ما یراد منها.

ومن هنا،فطریقة الأداء من:رفع وخفضه،وتکرار الأداء واختیار،النبرة الملائمة و الإشارات المصاحبة، (1)تندرج ضمن الجوانب الفنیة التی بها یکون التبلیغ فناً من فنون القول وأداة من أدوات التأثیر التی یحتاج إلیها کلّ من یمارس فعلاً تبلیغیاً أو تربویاً أو توجیهیاً؛لأنّ تحریک وعی الجماهیر لیس عملیة بسیطة ولا متاحة لکلّ أحد،

ص:120


1- (1) .کرفع النبی صلّی الله علیه و آله ید الإمام علیه السلام فی موقعة غدیر خم،حینما أراد أن یعرف للمسلمین وینص علی ولایته ویبلغها لهم،أوکرفع الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام صوته عندما یرید ترغیب الناس فی الجهاد وقوله:«الجهاد الجهاد عباد الله»،أو هدوئه عندما یرید التحدّث عن الشهداء،وبکاءه وضربه علی لحیته:ثمّ ضرب بیده علی لحیته الشریفة الکریمة فأطال البکاء،ثمّ قال:«أوه علی إخوانی الذی تلوا القرآن فأحکموا...».نهج البلاغة:109/2.

ولکنّها لیست مستعصیة علی کلّ أحد إلّا علی من کان جاهلاً بوظیفة اللغة وخصائص التعبیر وأساسیات التبلیغ،والأمر هنا لیس عملاً بسیطاً لأن التبلیغ فی أساسه مرتبط بالمخاطبین و الحالة التی یکونون علیها،والمخاطبون هنا لیسوا فئة واحدة،ولیست مستویاتهم وظروفهم واحدة أیضاً،ولذا لابد أن یراعی المبلّغ کلّ الظروف و الشروط کما ویراعی الحالة النفسیة التی یکونون علیها،ویلتزم بکل فنیات التبلّیغ کی یؤدّی التبلیغ وظیفة،وینتج ثمرته،ویحقق الخطاب رسالته.

3.عدم التکلّف

من أهمّ شروط نجاح التبلّیغ أن یکون خالیاً عن التکلف،والتکلف هو:اسم لما یفعل بمشقة أو تصنع أو تشبع،ولذلک صار التکلف علی ضربین:

محمود:و هو ما یتحراه الإنسان لیتوصل به إلی أن یصیر الفعل الذی یتعاطاه سهلاً علیه ویصیر کلفاً به ومحباً له،وبهذا النظر یستعمل التکلیف فی تکلف العبادات.

والثانی:مذموم و هو ما یتحراه الإنسان مراءاةً وإیاه عنی بقوله تعالی: (قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَکَلِّفِینَ) ، (1)وقول النبی صلّی الله علیه و آله:

>>أنا وأتقیاء أمتی براء من التکلف». (2)

یقول السید الطباطبائی فی تفسیر قوله تعالی: (ما أَنَا مِنَ الْمُتَکَلِّفِینَ) :

أی:من أهل التکلف و هو التصنّع و التحلّی بما لیس له. (3)

فنبینا صلّی الله علیه و آله وکلّ الأنبیاء علیهم السلام کانوا منزهین عن التکلف و التصنع،ولذلک لم یکن کلامهم ثقیلاً علی الناس،وکان یستقبل بقبول حسن،أما المتکلفین فقد سلطت الأحادیث الشریفة الضوء علیهم وبینت صفاتهم،فقد ورد فی الحدیث

ص:121


1- (1) .ص:86.
2- (2) .مفردات غریب القرآن:439.
3- (3) .المیزان فی تفسیر القرآن:228/17.

الشریف عن النبی صلّی الله علیه و آله قال:«للمتکلف ثلاث علامات:ینازع من فوقه،ویتعاطی مالا ینال،ویقول مالا یعلم». (1)

وروی عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

>>المتکلّف مخطئ وان أصاب،والمتکلّف لا یستجلب فی عاقبة أمره إلّا الهوان،وفی الوقت إلّا التعب و العناء و الشقاء،والمتکلّف ظاهره ریاء وباطنه نفاق،وهما جناحان بهما یطیر المتکلّف،ولیس فی الجملة من أخلاق الصالحین،ولا من شعار المتقین التکلّف فی أی باب،کما قال الله تعالی لنبیه: (قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَکَلِّفِینَ)» .

فأتضح من خلال هذه الروایات الشریفة:

أن المتکلّفین خارجون عن جادّة الحقّ و العدالة،والصدق و الأمانة،وأنهم لا یرون الحقائق أمام أعینهم،ویتشبثون بالأوهام و الخیال،ینبئون بأمور لیسوا علی اطلاع بها،ویتدخلون بأمور لا یعرفونها،لهم ظاهر وباطن،وحضورهم وغیابهم متضاد،یتعبون أنفسهم ویجهدونها،ولکنهم لا یحصدون سوی الخیبة و الخسران،أما المتقون و الصالحون،فأنهم مطهرون من هذه الصفة ومنزهون عنها. (2)

و هذه من صفات التبلیغ لدی کلّ الأنبیاء علیهم السلام و المبلغین الصادقین،و قد افتخر بها نبینا الأعظم صلّی الله علیه و آله فهو:لم یکن متکلّفاً متقولاً ولا متخرّصاً ما لم یؤمر به من عند ربّه،فهو مبلّغ وحی الله بأمانة متناهیة دون زیادة ولا نقص. (3)

و قد روی عن الصحابی الجلیل عبد الله بن مسعود قال:

یا أیها الناس من علم شیئاً فلیقل به،ومن لم یعلم فلیقل:الله اعلم،فأن من العلم أن یقول الرجل لما لا یعلم:الله اعلم،فأن الله عز وجلّ قال لنبیکم صلّی الله علیه و آله:

ص:122


1- (1) .الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل:385/3؛تفسیر جوامع الجامع:206/3.
2- (2) .تفسیر الأمثل:567/1.
3- (3) .تفسیر المنیر:236/23.

(قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَکَلِّفِینَ) . (1)

إذاً:فینبغی أن یتحلی المبلّغ بالصدق و الوضوح ویتمیز ویمیز تبلیغه بعدم التکلّف و التصنّع،لیکون له أثر بالغ فی نفوس الناس.

4.مطابقة الحق

ومن أهمّ الشروط الأساسیة فی التبلیغ کونه مطابقاً للحق؛لأنّ المبلّغ إذا أراد أن یقضی علی الباطل فیجب علیه أن یأتی بالحق: (وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ کانَ زَهُوقاً) ، (2)ولربّ أمّة بقیت غائرة فی مستنقع الغی و الظلم و الظلال مئات السنین لکنّها تحررت عندما جاءها مصلح یحمل رایة الحقّ.

و هذا ما یریده الله تعالی من المبلّغ المؤمن،أن ینطلق فی تبلیغه من موقع التحدید الدقیق للفکرة الإسلامیة الحقّة،فلا یدخل فیها شیء من أفکار الباطل لیقربها إلی الناس الذین قد لا یرغبون فی الحقّ إذا لم یکن ممزوجاً بالباطل.

فالتبلیغ بمجرّد أن یتزحزح عن الحقّ سوف یکون ضلالاً وإضلالاً: (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ) . (3)ومن المؤکّد أن الضلال و الباطل لا یستطیع مجابهة ومقاومة الحقّ،فأنّ الغلبة دائماً لحجة الحقّ علی الباطل،و قد تسلح به-الحقّ-جمیع الأنبیاء علیهم السلام فی مسیراتهم التبلیغیة،فهذا الإمام السجاد علیه السلام حینما سئُل عن جمیع شرائع الدّین أجاب:

>>قول الحقّ و الحکم بالعدل و الوفاء بالعهد». (4)

ص:123


1- (1) .تفسیر مجمع البیان:380/2؛تاریخ الإسلام:225/1؛المعجم الکبیر:215/9.
2- (2) .الإسراء:81.
3- (3) .یونس:32.
4- (4) .میزان الحکمة:50/5.

فمدی تأثیر المبلّغ المتمسّک بالحقّ ووصوله إلی غایته وهدفه أمر مؤکّد،ولا غبار علیه،فهو أحسن الحدیث و الصادع به مجاهد،کما قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

>>إن دین الله لا یعرف بالرجال،بل بآیة الحقّ،فأعرف الحقّ تعرف أهله،یا حارث إن الحقّ أحسن الحدیث،والصادع به مجاهد...». (1)

5.عدم المنّ

ویشترط فی نجاح التبلیغ وتأثیره أن لا یکون فیه منّة،و قد نُهی النبی صلّی الله علیه و آله عن الجنوح إلی المنّة علی الناس،قال تعالی: (وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَکْثِرُ) . (2)

و قد قیل فی تفسیر المنّ:«هو المنّة بالقول وذلک أن یمنن به ویستکثره». (3)

وقیل:

لا تمنن علی الناس بما تعلمهم من أمر الدّین،والوحی کالمستکثر لذلک الإنعام،فأنک إنما فعلت ذلک بأمر الله،فلا منّة لک علیهم ولهذا قال تعالی: (وَ لِرَبِّکَ فَاصْبِرْ) . (4)

وقیل:«أی لا تمنن علی أصحابک وغیرهم بتبلیغ الوحی،وقیامک بالإنذار...». (5)

وعلی هذا الأساس فلا ینبغی للمبلّغ أن یشعر الناس بالمن علیهم عندما یتحمل أعباء التبلیغ،ومشاق الطریق،فیحسس الناس بأن ما أعطاه إیاهم کثیر...بل لابد من إشعارهم بأن ذلک کله یمثل مسؤولیته التی حمله الله إیاها،وهی نعمة من الله علیه،فینبغی شکرها بهدایة کلّ من یحتاج الهدایة و الرعایة و العنایة،وبهذا لا یبقی هناک معنی للمن،مادام ذلک هبة من الله سبحانه وتعالی.

ص:124


1- (1) .بحار الأنوار:120/68.
2- (2) .المدثر:6.
3- (3) .مفردات غریب القرآن:474؛تاج العروس:193/30.
4- (4) .المدثر:7؛التفسیر الکبیر:193/3.
5- (5) .تفسیر المنیر:221/29؛المیزان فی تفسیر القرآن:82/20.

إذاً:فالمن لا ینبغی إلّا لله عز وجلّ: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ) ،أما أنت کنبی أو کمبلّغ لیس لک المنّ علیهم استکثاراً لما تبلّغ من رسالات ربّک،وکذلک لیس لهم المنّ علیک أن آمنوا بالله: (یَمُنُّونَ عَلَیْکَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَیَّ إِسْلامَکُمْ بَلِ اللّهُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَداکُمْ لِلْإِیمانِ) ،فالمنّ علی الناس من خصوصیات الله،ولا ینبغی لأحد من عباده أن یقوم بأعماله،و قد قال تعالی: (وَ لکِنَّ اللّهَ یَمُنُّ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) . (1)

وأخیراً إذا توفّرت هذه الشروط فی التبلیغ و المبلّغ یمکن أن تؤثّر الأسالیب المتبعة فی التبلیغ،ویکون تبلیغاً ناجحاً ومؤثراً وموفقاً.

ص:125


1- (1) .الآیات بترتیب:آل عمران:164.الحجرات:17.إبراهیم:11.

ص:126

الفصلُ الثانی: بیان لأهمّ أسالیب التبلیغ

اشارة

ص:127

ص:128

المبحث الأوّل:أهمیة الأسالیب فی التبلیغ

اشارة

إنّ للأسالیب صلة وثیقة بکلّ جوانب حیاتنا،فهی تعدّ لازم من لوازمها التی لا تنفصل عنها،بل تسیر معها فی کلّ مجالاتها،وتبدأ مع بدایة وجود کلّ حقیقة؛لأنها الإطار الذی تعیش فیه،والصورة التی تبرز بها.

ولا تختلف الحقیقة-فی حاجتها إلی الأسلوب-بین أن تتمثل فی وجودنا الحسی الخارجی،وبین أن تتمثل فی وجودنا الفکری الذهنی؛لأن الأسلوب لیس شیئاً منفصلاً عن وجودها،ولهذا فباستطاعتنا أن نتلمس الأسلوب فی کلّ وجه من وجوه الحیاة،وفی کلّ مجال من مجالاتها دونما شک.

فقد نشاهد بستاناً،یحوی فی أرضه شتی الألوان و الأصناف من الأشجار و الأزهار،فلا نستمتع به ولا ننجذب إلیه،وإنما نمر به مروراً عابراً،کما یمر الإنسان بأی منظر عادی...ولکنّا قد نمرّ ببستان آخر لا یختلف عنه فی طبیعة ما یحویه،وفی وحدة الموقع فیستلفت نظرنا،ویستوقفنا،ونحس بالجمال فی کلّ جانب من جوانبه،ونستمتع بکل مشهد من مشاهده.

و قد ندخل إلی مکتبة تحتوی علی مجموعة من الکتب القیمة،لکنها لا تشدنا إلی مطالعتها،والاستفادة منها،بینما ندخل إلی مکتبة أخری تحوی هذه الکتب

ص:129

نفسها،ولکنها تشدنا وتجذبنا إلیها،بغیة الإقبال علی مطالعة بعض کتبها والاستفادة منها.

قد نلتقی بالکثیر من هذه النماذج فی حیاتنا،فنحسّ بإحساس مختلف مع کلّ واحد منها،و قد لا نلتفت إلی منشأ هذا الاختلاف،ولا نتوصّل إلی حقیقته،ولکن بعد التدقیق و التدبر ندرک أن السّر هو فی الطریقة و الأسلوب المتبع فی کلّ منهما،ففی البستان مثلاً نجد أن الأسلوب و الطریقة المتبعة فی تنسیقه وتنظیمه تحببه إلی النفس وتکسبه رونقاً وروعة وجاذبیة خاصة.

وفی المکتبة نجد أن طریقة تصنیف وتنسیق الکتب وتقسیمها الدقیق وتناسقها مع بعض،إضافة إلی انتظام کتب کلّ قسم مع بعضها أعطاها تلک المیزة و الجمالیة و الجذابیة.

وهکذا نجد أثر الأسلوب المناسب فی المجالات الفکریة،والعلمیة،والاستدلالیة،فإنه:

لا یکفی الاستدلال القوی المتین للنفوذ إلی قلوب الآخرین واکتسابهم بالکلام الحقّ،فأن أسلوب التعامل مع الطرف الآخر،وطریقة البحث و المناظرة تترک أعمق الأثر فی هذه المرحلة.

فکثیر ما یتفق أن یوجد أناس مطلعون ولهم ید طولی فی البحوث العلمیة الدقیقة إلّا أنهم قلما یوفقون للنفوذ إلی قلوب الآخرین،بسبب عدم معرفتهم بکیفیة المجادلة بالتی هی أحسن،[وعدم اختیارهم للأسلوب المناسب،والأداء الجید،لما یبلغونه ویطرحونه].

وبتعبیر آخر:فأن النفوذ إلی مرحلة الوعی-فی المخاطب-غیر کافٍ وحده،بل ینبغی الدخول إلی مرحلة عدم الوعی،الذی یمثل القسم الأکبر لروح الإنسان أیضاً. (1)

ص:130


1- (1) .تفسیر الأمثل:423/12.

فأن الإنسان لیس فکراً وعقلاً صرفاً کی یستسلم أمام قدرة الاستدلال،بل علاوة علی ذلک،فأن مجموعة من العواطف و الأحاسیس التی تشکّل جانباً مهماً من روحه مطویة فی وجوده،والتی یجب إشباعها بشکل صحیح ومعقول. (1)

وذلک من خلال اختیار دقیق لأنجح الأسالیب وأفضل طرق الأداء،باعتبار أن لها الأثر الکبیر فی تقبل فکرة معینة،من شخص ورفضها من آخر؛لأنّ السعی إلی طرح أی فکرة أو نظریة وإدخالها إلی قلوب الآخرین،یعتمد علی أسلوب عرضها،وطریقة أدائها.

لأن أحد شروط نجاح أی عمل تکمن فی اختیار وانتخاب الطریقة و الأسلوب الصحیح؛ (2)ولأنّ قضیة التبلیغ بمعناها الواقعی و الصحیح،تعنی:نقل وإیصال الرسالة إلی الناس،أی توعیة الناس بالرسالة وإقناعهم بها وجذبهم إلیها،وإبلاغ أی رسالة یحتاج إلی أسلوب ومنهج صحیح.

فبالأسلوب الصحیح وحده یمکن للتبلیغ أن یکون ناجحاً وموفقاً،ولو حصل أن اختار الإنسان الأسلوب المعاکس،فأنه لیس فقط لا یحصل علی نتیجة ایجابیة من العمل،بل أنه سیجنی حتماً نتیجة معاکسة تماماً.... (3)

ولذلک،یتعین علی المبلّغ الذی یرید أن ینطق بلسان الأنبیاء علیهم السلام،ویتکلّم مثلهم،ویحمل رسالتهم وینهج طریقهم،علیه حقاً أن یختار ویستخدم أسالیب مناسبة وفاعلة ومؤثرة،تتوافق مع الأهداف النبیلة التی یسعی لتحقیقها،ویتجنب الأسالیب العقیمة وغیر المثمرة.

ومن هنا،لا بدّ لنا من دراسة أفضل الأسالیب الفنیة للخصائص الفکریة و الروحیة من أجل تحقیق الاتّصال الحقیقی بالآخرین،وبکل هدوء ومرونة وانسجام؛لأن

ص:131


1- (1) .تفسیر الأمثل:446/13.
2- (2) .الملحمة الحسینیة:182/1.
3- (3) .المصدر:184.

الأسلوب هو العنصر الحیوی فی تحریک الفکر و الشعور،نحو الارتباط بالقناعات الرسالیة؛لأنه هو الذی یهیئ الجو النفسی للتناسق مع الفکرة فی خطوتها العملیة،و هو الذی یقود الجماهیر بحکمة للتفکر فی مضمونها.

وبما أنّ التبلیغ هو أحد أهمّ الحقائق التی تعیش فی حیاتنا،وتشغل تفکیرنا،فیجب أن یأخذ مرکزه الطّبیعی اللائق و المناسب له،فی واقعنا الذی نعیشه،وفی أزمنة الصراع التی نعانیها.

إذاً:فلا بدّ أن یتمثل تبلیغنا فی أسلوب یعبّر عنه،ویمیز معالمه،ویبلور حقیقته،فی مقابل التبلیغات الأخری المتبلورة فی مجالات الصراع.

وذلک هو الذی یفرض حاجتنا الملحّة إلی البحث عن أسالیب التبلیغ،وعن النماذج التطبیقیة التی تتمثل فیها روحه،وتتجلّی معها أصالته ومرونته وجذابیته.

1.وعی المرحلة وتنویع الأسالیب

وممّا یجدر ذکره هنا فی هذا السیاق هو:موضوع الوعی،و هو من الأمور الضّروریة و اللازمة التی نحتاجها فی عملیة اختیار أسالیب التبلیغ.

وما نهدف إلیه فی هذا البحث و هذه الدراسة القرآنیة هو-إضافة إلی تقویة دوافع التبلیغ-توعیة المبلّغ وتعریفه بأهم الخصائص و الأسالیب و الطرق المؤثرة فی نجاحه فی أداء مهمته،والقیام بوظیفته.

فالمبلّغ الناجح هو القادر علی صنع الشخصیة الإسلامیة،وذلک من خلال ما یحمله من وعی یستطیع أن یحرک به الکلمة فی اتجاه الموقف،ویدفع الموقف نحو الهدف الأخیر،و هو الإیمان بالله تعالی.

وسوف یبقی القرآن الکریم فی آیاته الشریفة عنصراً أساسیاً من عناصر التوعیة

ص:132

والتذکیر علی مدی الأبد،فی مجالات التبلیغ و التحدی،لیکون حجّة وشاهداً علینا أمام الله سبحانه وتعالی.

فتجده-مثلاً-یخاطب المسلمین عن طریق النبی صلّی الله علیه و آله فیقول سبحانه وتعالی: (وَ لَنْ تَرْضی عَنْکَ الْیَهُودُ وَ لاَ النَّصاری حَتّی تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ، (1)ویرید سبحانه وتعالی بذلک أن یقدم للمسلمین الوعی العمیق للواقع الذی یحیط بهم،لیکونوا علی معرفة عمیقة شاملة لما حولهم،مما یجعلهم دقیقین فی اختیار أسلوب خطابهم مع هؤلاء المخاطبین،وذلک من خلال الوعی العمیق لکل جزئیات القضیة.

ونجد أن الأنبیاء علیهم السلام و المبلغین یعتمدون فی مسیرتهم التبلیغیة أسالیب مختلفة فیما بینها تماماً،ومنشأ ذلک هو وعیهم لتلک المرحلة،أو ذلک الظرف الذی یمارسون فیه التبلیغ،فحینما یکون المبلّغ واعیاً لمرحلته ولزمانه،ومکانه ومخاطبیه،سوف یغیر أسلوبه بتغیرها واختلافها،ولکن هذا التغیر و التنوع فی الأسالیب حینما یکون بسبب وعی المبلّغ لما حوله،سوف یؤدّی إلی نتیجة واحدة،وهدف واحد و هو توعیة الناس،وإیصالهم إلی غایتهم،حیث إنّه اعتمد الوعی فی حرکته نحو هدفه وغایته.

ومن الطّبیعی،جداً أن أسلوب خطاب الناس و التعامل معهم إذا انطلق من موقع الدراسة الواعیة لکلّ العوامل المؤثرة فی أفکارهم ومشاعرهم،فأنه لا بدّ أن یؤدی النتائج المرجّوة.

و أما تنویع الأسالیب

إن التعامل مع الإنسان یختلف عن التعامل مع الفکرة المجرّدة؛لأنّ الإنسان کائن متغیر متنوّع فی عواطفه وتأثراته،ممّا یقتضی منا التحرک معه فی کلّ الاتجاهات و التیارات التی یمکن أن تجرفه،أو یتأثر بها.

ص:133


1- (1) .البقرة:120.

ولهذا،جاء القرآن الکریم لیواجه حاجة الإنسان إلی التنوع فی مسیرته فی هذه الحیاة،فأراده أن یتحرک من خلال المنهج السائر علی خطّ الفکر و التجربة،وهداه إلی الآفاق التی یمکن لها توسیع نظرته،وإلی المواقع التی یمکن لها أن تغنی تجربته،وإلی المواقف التی یمکن أن تحدّد له طریقه وترکّز له هدفه.

فقال تعالی فی کتابه الکریم: (وَ کَذلِکَ نُصَرِّفُ الْآیاتِ وَ لِیَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَیِّنَهُ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ) ، (1)وقال تعالی: (کَذلِکَ نُصَرِّفُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَشْکُرُونَ) . (2)

وقال الشیخ الطریحی:

أن معنی قوله (نُصَرِّفُ الْآیاتِ) أی:نکرّرها تارةً من جهة المقدمات العقلیة،وتارة من جهة الترغیب و الترهیب،وتارة من جهة التنبیه و التذکیر بأحوال المتقدمین. (3)

وجاء فی اللغة،عن أبی عبید قال:

صرف الکلام تزیینه و الزیادة فیه وإنما سمی بذلک لأنه إذا زُین صرف الأسماع إلی استماعه. (4)

وقال المفسّرون فی تفسیر قوله تعالی: (کَذلِکَ نُصَرِّفُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَشْکُرُونَ) وما یماثلها من الآیات:

توجیه الشّیء فی جهتین فصاعداً،والمعنی أنه تعالی یبین لهم آیة بعد آیة،وحجة بعد أخری،ویضرب مثلاً بعد مثل.... (5)

فیصرف سبحانه وتعالی وینوّع الأسالیب ویکثّر الوجوه،ویبین الحقائق

ص:134


1- (1) .الأنعام:15.
2- (2) .الأعراف:58.
3- (3) .مجمع البحرین:604/2.
4- (4) .مجمع مقاییس اللغة:343/3.
5- (5) .التبیان فی تفسیر القرآن:433/4؛التفسیر الأصفی:338/1؛تفسیر مقاتل بن سلیمان:347/1؛الطبری, جامع البیان:258/7.

بالوسائل و الأسالیب المتنوعة،من رفق وعنف وتذکیر وإنذار وتمثیل وقصة وغیرها،لکی یلاءم کلّ الأفکار،ویلتقی بالحقیقة بأکثر من طریق،فیکون أکثر إدراکاً،وأعمق تأثیراً،وأشد تصدیقاً؛لأنه إذا لم یقتنع البعض بالفکرة من خلال أسلوب،اقتنع بأسلوب آخر،و إذا لم یتّسق مع بعض المفاهیم أو الأمثلة،أمکنه أن یتّسق مع مفهوم أو مثل آخر،لیعیش الناس الوعی القرآنی فی کلّ آیة من آیاته،وفی کلّ فکرة من أفکاره.

2.القرآن الکریم یهذب الأسالیب

إنّ فی نقل الکلام من أسلوب إلی أسلوب آخر تطریة واستدرار للسامع،وتجدید لنشاطه وصیانة لخاطره من الملل و الضجر،بدوام الأسلوب الواحد علی سمعه،وکما قیل:

لا یصلح النفس إن کانت مصرفة إلّا التنقل من حال إلی حال

قاله حازم فی منهاج البلغاء. (1)

فتنقل المبلّغ بین الأسالیب وتنویعه فی ذلک یفتح عقول ونفوس الجماهیر إلی الاستماع وینفی عنهم الملل الذی یفقد التبلیغ حلاوته،ویعدم فائدته.

ولهذا،فقد هذَّب القرآن الکریم أسالیب التبلیغ وألفاظه،ورسمها للمبلّغین من بعد الأنبیاء و الرسل علیهم السلام لکی یحاولوا أن یبنوا عقیدة الناس،ویخططوا لهم تفکیرهم،ویوصلوهم إلی غایتهم،وهی الإیمان بالله سبحانه وتعالی ورضوانه.

ومن هنا،کثرت محاکاة الشعراء و الخطباء،والمبلغین و الکتاب لعبارات القرآن الکریم فی أسالیبه وألفاظه واغترافهم من معینه الصافی.

فصحیح أنّ القرآن الکریم:

ص:135


1- (1) .البرهان فی علوم القرآن:314/3؛الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل:63/1؛فتح القدیر:22/1.

منزل بلسان العرب ولکن بأسلوب بهرهم وأعجزهم،و إن کان من جنس ما یعرفون من الکلام. (1)

ولذلک خلّد القرآن الکریم صور البیان الرائع و الأسالیب البدیعة و المؤثرة.

فقد أتی القرآن الکریم بکثیر من القصص المشوقة للعبرة و الذکری کقصص الأنبیاء علیهم السلام وبعض الملوک،ممّا حمل الباحثین علی دراسة تاریخ الأمم البائدة،فجعل التاریخ العربی ذا فنون وشعب کثیرة العدد و المباحث،وهکذا أحیا القرآن الکریم فنوناً کثیرة وأسالیب جدیدة کأسلوب القصة،والتاریخ و الحکمة و الموعظة،والجدل و المثل،و...ممّا جعل الباحثین و المبلّغین یحتذون حذوه فی أسالیبه ومناهجه وصیاغته فی الحجج وسوقه الآراء.

ولذا،تجد نبینا الأکرم صلّی الله علیه و آله کان واعظاً وخطیباً،ومجیباً ومفسّراً للرؤیا و الأحلام،یقصّ القصص ویضرب الأمثال،و هو فی هذا کلّه لا یمل حدیثه ولا یستثقَل مجلسه.

فنجده صلّی الله علیه و آله استخدم الأسلوب البیانی و البرهانی و العرفانی،ووثّق ذلک بشهادة الواقع وتاریخ الأمم السابقة،ووظف لذلک القصّة و الحوار،والمناظرة و المناقشة،والمثل،و....

ولذا،یرید الله تعالی لنا أن نعیش تاریخ الأنبیاء علیهم السلام و الرسالات،کی نعرف طبیعة الأطروحات التی قدموها،وطبیعة الأسالیب التی استعملوها فی مواجهة الفئات المتمرّدة علی الرسالات،فمتی ما درسنا وعشنا حیاة الأنبیاء علیهم السلام ورسالاتهم تعرفنا علی طبیعة ما کان یطرحه الأنبیاء علیهم السلام المتقدمون،وماذا کان یطرحه الأنبیاء المتأخرون؟وما هی الأسالیب التی انطلقوا بها إلی الناس؟مستلهمین ذلک من القرآن الکریم الذی یعتبر هو المصدر الصافی الذی لم یعلق به التغییر و التحریف؟و هو کتاب التبلیغ و الهدایة الشامل:

ص:136


1- (1) .سلیمان, الظاهر العاملی, القادیانیة:222.

الذی بین الطریقة و الأسلوب و المنهج الواجب إتباعه فی التبلیغ؛أما بواسطة آیاته مباشرة،أو عن طریق أحادیث الأنبیاء علیهم السلام،وعلی ألسنتهم. (1)

وعلی ضوء هذا،فستکون دراستنا القرآنیة فی هذا الفصل مخصصة للتعرف علی الطرق و المسالک و الفنون التبلیغیة المتنوّعة و المتغیرة بتغیر المراحل و الظروف،والتابعة لوعی المبلّغ لذلک التغیر والاختلاف،الذی یحدّد طبیعة العلاقة والارتباط بین المبلّغ-صاحب الرسالة-وبین مخاطبیه وجمهوره.

ص:137


1- (1) .الملحمة الحسینیة:184/1.

ص:138

المبحث الثانی:أهمّ أسالیب التبلیغ

1.أسلوب الحکمة

اشارة

إنّ القرآن الکریم بین فی آیاته الکریمة الرکائز الأساسیة لطرق وأسالیب التبلیغ،التی ینبغی علی المبلّغین التحصن بها عند مواجهة المخالفین،والسیر علیها،وانتهاج نهجها،ومن تلک الآیات الکریمة هی قوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) . (1)

حیث بین تعالی-فی هذه الآیة الشریفة-ثلاثة من أهم أسالیب التبلیغ التی ینبغی اعتمادها من قبل المبلّغین،وأولها أسلوب الحکمة،ثمّ الموعظة الحسنة،ثمّ الجدال بالتی هی أحسن.

کلمة الحکمة ودلالتها

أخضع اللغویون کلمة الحکمة لعدّة معان:

ص:139


1- (1) .النحل:125.

فقال بعضهم:«إن مرجعها إلی:العدل و العلم و الحلم». (1)

وقال بعضهم إنها:عبارة عن معرفة أفضل الأشیاء بأفضل العلوم،فیقال لمن یحسن دقائق الصناعات ویتقنها:حکیم. (2)

وحینما یتطرّق اللغویون بقوله تعالی: (یُؤْتِی الْحِکْمَةَ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً وَ ما یَذَّکَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (3)یقولون:إن الحکمة تُطلق علی:

طاعة الله،والفقه فی الدّین و العمل به،والفهم و الخشیة،والورع و الإصابة،والتفکر فی أمر الله وإتباعه. (4)

وقال مجاهد:

هی العقل،والعفة،والإصابة فی القول،وقال زید بن أسلم:الحکمة العقل فی دین الله،وقال الضحاک:الحکمة القرآن،وقال قتادة:الفهم.

قلت-[أی:]النحاس-و هذه الأقوال متفقة،وأصل الحکمة ما یمتنع به من السفه،فقیل للعلم حکمة لأنه به یمتنع،وبه یعلم الامتناع من السفه،و هو کلّ فعل قبیح،وکذا القرآن،والعقل و الفهم. (5)

و أمّا المفسّرون:

قال الشیخ الطوسی فی تفسیر قوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) :

أمر الله تعالی نبیه محمد صلّی الله علیه و آله أن یدعو عباده المکلّفین بالحکمة،و هو:أن یدعوهم إلی أفعالهم الحسنة التی لها مدخل فی استحقاق المدح و الثواب علیها،لأنّ القبائح یزجر عنها،ولا یدعو إلیها،والمباح لا یدعو إلی فعله؛لأنه عبث،وإنما یدعو إلی ما هو واجب أو ندب؛لأنّه یستحق بفعله المدح و الثواب،

ص:140


1- (1) .کتاب العین:66/3.
2- (2) .النهایة فی غریب الحدیث:419/1.
3- (3) .البقرة:269.
4- (4) .تاج العروس:161/16.
5- (5) .معانی القرآن:297/1.

والحکمة هی:المعرفة بمراتب الأفعال فی الحسن و القبح و الصلاح و الفساد.

وقیل لها الحکمة؛لأنها بمنزلة المانع من الفساد،وما لا ینبغی أن یختار. (1)

وقال الشیخ الطبرسی:

أی:القرآن...وسمی القرآن حکمة؛لأنه یتضمن الأمر بالحسن و النهی عن القبیح. (2)

وقال الزمخشری:«الحکمة هی المقالة المحکمة الصحیحة وهی الدلیل الموضح للحق المزیل للشبهة». (3)

ویقول الفخر الرازی:

وأعلم أنّ الحکمة هی الإصابة فی القول و العمل،ولا یسمی حکیماً إلّا من اجتمع له الأمران.وقیل:أصلها من أحکمت الشّیء،أی:رددته،فکأن الحکمة هی التی تردّ عن الجهل و الخطأ،وذلک أنما یکون بما ذکرنا من الإصابة فی القول و الفعل،ووضع کلّ شیء فی موضعه. (4)

وکانت هذه إلماعة لبعض أقوال اللغویین و المفسّرین،و قد حاولَتْ أن تفسّر وتبین معنی الحکمة،فقالوا هی:(العدل)،(الحلم)،و(النبوة)،و(ما یمنع من الجهل)،(وما یمنع من الفساد)،(وکلّ کلام موافق للحقّ)،و(وضع الشّیء فی موضعه)،و(صواب الأمر وسداده)،و(معرفة الأشیاء بأفضل العلوم)وغیر ذلک.

والذی یبدو لنا-من خلال ما تقدّم-حول مفهوم کلمة الحکمة:أنها تعبیر عن طبیعة أسلوب التبلیغ وضرورة اتصافه بالحکمة،وسلوکه طریقها.

فالآیة الکریمة تحاول إرشاد المبلّغین إلی طریقة التبلیغ العملیة فی هدایة الناس،وإرشادهم وکسب أکبر عدد ممکن منهم إلی صف الدّین و العقیدة،وتشیر إلی أن

ص:141


1- (1) .التبیان فی تفسیر القرآن:440/6.
2- (2) .تفسیر مجمع البیان:605/6.
3- (3) .الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل:435/2.
4- (4) .التفسیر الکبیر:59/2.

الحقیقة المجرّدة العاریة،والواقع البسیط المجرّد لا یمکن إلقاؤهما إلی الناس دون مقدّمات،ودون ملاحظة للظروف ودراسة لجوّ العمل ومجالاته.

فالإنسان الحکیم هو الإنسان المزوّد بمعانی الحکمة،ممّا یساعده علی إعطاء الرأی الصائب،ویمنح خطواته وأعماله صفة الترکیز وعدم الانحراف والاهتزاز،ویجعلها فی محلّها،و هذا یلتقی مع مفهوم:(وضع الشّیء فی موضعه).

وعلی ضوء ذلک،یمکننا إطلاق هذه الصفة علی العالم و العادل،والحکیم و النبی:لأن اشتمال الإنسان علی المبادئ،وهی:العلم و العدل،والحلم و النبوة،تساعد علی أن یضع الأشیاء فی مواضعها،ففی العلم عندما یبحث ویفکر،وفی الحلم عندما یعفو ویسامح،وفی العدل عندما یقضی ویحکم،وفی النبوّة عندما یدعو ویبلّغ،فهی السیر فی الطریقة الواقعیة للعمل-أی:ملاحظة الواقع الخارجی للمجتمع الذی تعیش فیه-ودراسة ظروفه العقلیة و الفکریة و النفسیة والاجتماعیة،ووضع کلّ ذلک فی الحساب قبل بدایة العمل.

إذاً:فالحکمة فی التبلیغ هی:أن لا یتّخذ المبلّغ أسلوبا واحداً فی عمله التبلیغی،بل لا بدّ أن یختلف حسب الواقع الذی یعیشه المبلّغ،فأنه من الواضح أن الدّعوة لن تکون فعّالة إذا حاولت أن تساوی بین الجاهل و العالم أو-المثقف-فی الفکرة التی تلقی علیهم،والأسلوب الذی یتبّع معهم،فأن الأدوات التعبیریة و المخزون الفکری الذی یملکه کلّ منهما،یختلف عما یملکه الآخر،وأیضاً فقد تقتضی بعض المواقف الجوّ الحماسی والاندفاعی الصرف،بینما یقتضی بعضها الآخر،الجو الهادئ المتزن.

و قد نحتاج فی بعض الحالات إلی عرض الفکرة باختصار وذکر خطوطها الرئیسیة،وفی حالات أخری نحتاج إلی عرض الفکرة بکامل تفاصیلها.

فأن الحکمة:

ص:142

تقتضی أن یبدأ المتکلم بما هو أخصّ،فأن اکتفی به المخاطب فذاک،ولم یحتج إلی نعت،وإلّا زاد علیه من النعت ما یزداد به المخاطب معرفة. (1)

والخلاصة أن الحکمة هی:

وضع الشّیء فی موضعه،أو صواب الأمر وسداده،إلّا أن مبادئها تختلف کما أن مجالاتها تتعدد،فهی لیست أمراً بسیطاً یتعلّمه الإنسان ویمارسه،کما یتعلّم أیة صنعة أو حرفة ویمارسها،بل هو أمر معقد یحتاج إلی معایشة للقضایا و الحوادث و الأفکار،واطلاع واسع علی دقائقها،وخصائصها ومداخلها ومخارجها،ومن هنا کان قوله تعالی فی الحدیث عن الحکمة (یُؤْتِی الْحِکْمَةَ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً) . (2)

وقال الإمام الصادق علیه السلام:

>>الحکمة ضیاء المعرفة،ومیزان التقوی،وثمرة الصدق،ولو قلت:ما أنعم الله علی عبد بنعمة أعظم وأنعم وأجزل وأرفع وأبهی من الحکمة للقلب،قال تعالی (یُؤْتِی الْحِکْمَةَ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً) ،أی:لا یعلم ما أودعت وهیأت فی الحکمة إلّا من استخلصته لنفسی وخصصته بها...». (3)

وکانت الحکمة من المنح الإلهیة العظیمة التی امتن الله بها علی عباده وأنبیائه علیهم السلام ففی حدیثه تعالی عن نبیه داود علیه السلام قال تعالی: (وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْکَ وَ الْحِکْمَةَ) ، (4)وفی حدیثه تعالی عن آل إبراهیم قال تعالی: (أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً) ، (5)وهکذا فی حدیثه تعالی عن لقمان،حیث قال تعالی: (وَ لَقَدْ آتَیْنا لُقْمانَ الْحِکْمَةَ أَنِ اشْکُرْ لِلّهِ وَ مَنْ یَشْکُرْ فَإِنَّما یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ

ص:143


1- (1) .شرح الرضی علی الکافیة:314/2.
2- (2) .البقرة:269.
3- (3) .مصباح الشریعة:198.
4- (4) .البقرة:251.
5- (5) .النساء:54.

اَللّهَ غَنِیٌّ حَمِیدٌ) ، (1)وقال تعالی: (وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ) . (2)

ویلاحظ فی کلامه تعالی عن آل إبراهیم أنه قرن الحکمة بالکتاب،وفی هذه دلالة علی أنّها ترقی إلی مستوی الکتاب فی السمو و الرفعة کما یلاحظ ذلک فی کثیر من الآیات.

ولذلک،نجد أنّه تعالی نسبها-الحکمة-إلی ذاته المقدّسة کما أنه نسب القرآن الکریم إلی نفسه،فقال تعالی: (وَ کانَ اللّهُ عَزِیزاً حَکِیماً) (3)أی:

«أنه غالباً مصدر أفعاله وأقواله علی أسلوب الحکمة». (4)

ومن الأمثلة علی ذلک،قوله تعالی (یَسْئَلُونَکَ ما ذا یُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَیْرٍ فَلِلْوالِدَیْنِ وَ الْأَقْرَبِینَ وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِیمٌ) . (5)

قال العلامة الطباطبائی:

الآیة واقعة علی أسلوب الحکمة،فأنهم أنما سألوا عن جنس ما ینفقونه ونوعه،وکان هذا السؤال کاللغو لمکان ظهور ما یقع به الإنفاق و هو المال علی أقسامه،وکان الأحق بالسؤال أنما هو من ینفق له،صرف الجواب إلی التعرض بحاله وبیان أنواعه لیکون تنبیهاً لهم بحق السؤال،والذی ذکروه وجه بلیغ غیر أنهم ترکوا شیئاً،و هو أن الآیة مع ذلک متعرضة لبیان جنس ما ینفقونه،فأنها تعرضت لذلک:أوّلاً بقولها:من خیر،إجمالا،وثانیاً بقولها: (وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِیمٌ) ،ففی الآیة دلالة علی أن الذی ینفق به هو المال کائناً ما کان،من قلیل أو کثیر،وان ذلک فعل خیر و الله به علیم،لکنهم کان علیهم أن یسألوا عمن ینفقون لهم ویعرفوه،وهم الوالدان و الأقربون و الیتامی و المساکین وابن السبیل. (6)

ص:144


1- (1) .لقمان:12.
2- (2) .ص:20.
3- (3) .النساء:158.
4- (4) .فتح القدیر:51/5.
5- (5) .البقرة:215.
6- (6) .المیزان فی تفسیر القرآن:160/2.

إذاً:وفی نهایة المطاف نستطیع أن نضع أیدینا علی أسلوب من أسالیب التبلیغ الذی شرّعه الله تعالی فی القرآن ورسمه للأنبیاء علیهم السلام وللمبلّغین من بعدهم.

2.أسلوب الموعظة الحسنة

اشارة

الموعظة الحسنة هی الأسلوب الآخر الذی أمر الله تعالی أنبیاءه علیهم السلام بإتباعه فی طریق التبلیغ،وحدده تعالی منهجاً لإبلاغ دین الحقّ و الدعوة إلیه،وذلک لما للموعظة الحسنة من أثر دقیق وفاعل علی عاطفة الإنسان وأحاسیسه،وتوجیه مختَلَف طبقات الناس نحو الحقّ.

والموعظة هی:

التذکیر بالخیر مما یرق له القلب، (1)أو هی:زجر مقترن بتخویف، (2)أو نصح وتذکیر بالعواقب. (3)

هذا عند اللغویین،و أمّا المفسّرون فلا یختلف تعریفهم للموعظة عن تعاریف اللغویین کثیراً.

فمثلاً قال الشیخ الطوسی فی الموعظة هی:

ما یدعو بالرغبة،والرهبة إلی الحسنة بدلاً عن السیئة. (4)وفی موقع آخر یقول الموعظة الحسنة هی:الوعظ الحسن و هو الصرف عن القبیح علی وجه الترغیب فی ترکه و التزهید فی فعله،وفی ذلک تلیین القلوب بما یوجب الخشوع. (5)

وقال العلامة الطباطبائی:

ص:145


1- (1) .کتاب العین:228/2.
2- (2) .مفردات غریب القرآن:527.
3- (3) .الصحاح:118/3؛مجمع البحرین:522/4.
4- (4) .التبیان فی تفسیر القرآن:599/2؛تفسیر مجمع البیان:396/2.
5- (5) .المصدر:440/6.

هی البیان الذی تلین به النفس ویرق له القلب،لما فیه من صلاح حال السامع من الغبر و العبر وجمیل الثناء ومحمود الأثر ونحو ذلک. (1)

أ)فرق الموعظة عن غیرها

قال الفخر الرازی:

ولا بدّ من الفرق بین البیان وبین الهدی وبین الموعظة؛لأن العطف یقتضی المغایرة،فنقول فیه وجهان:

الأوّل:أن البیان هو الدلالة التی تفید إزالة الشبهة بعد أن کانت الشبهة حاصلة،فالفرق أن البیان عام فی أی معنی کان،و أما الهدی فهو بیان لطریق الرشد لیسلک دون طریق الغی،و أما الموعظة فهی الکلام الذی یفید الزجر عما لا ینبغی فی طریق الدّین،فالحاصل أن البیان جنس تحته نوعان:أحدهما:الکلام الهادی إلی ما ینبغی فی الدّین و هو الهدی.

الثانی:الکلام الزاجر عما لا ینبغی فی الدّین و هو الموعظة.... (2)

وقالوا فی الفرق بین الحکمة و الموعظة الحسنة:

إن (بِالْحِکْمَةِ) تستثمر البعد العقلی للإنسان، (وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) تتعامل مع البعد العاطفی له. (3)

ب)الحُسن شرط فی الموعظة

وفی ضوء ما تقدّم،نص إلی النقطة الجدیرة بالملاحظة وهی:أن الله تبارک وتعالی أمر أنبیاءه علیهم السلام فی دعوة الناس بالموعظة الحسنة حینما قال تعالی (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) (4)بمعنی:

ص:146


1- (1) .المیزان فی تفسیر القرآن:371/12.
2- (2) .التفسیر الکبیر:371/3.فی تفسیر قوله تعالی: (هذا بَیانٌ لِلنّاسِ وَ هُدیً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِینَ) آل عمران:138.
3- (3) .تفسیر الأمثل:364/8.
4- (4) .البیان وفن الخطابة:197.

الموعظة الخالیة من أی نقص أو عیب،فهی القادرة علی إدخال الناس فی دین الله وهدایتهم إلی الصراط المستقیم،وأحاطتهم بهالة الإنسانیة،و قد أفلح رسول الله صلّی الله علیه و آله فی دعوته فی ظل مواعظه الحسنة.

فإذا أراد المبلّغ الإسلامی الذی یتّبع خطی رسول الله صلّی الله علیه و آله أن یدعو الناس إلی الطریق الحقّ بواسطة الموعظة،فعلیه أن یتکلّم بما أمر به الله ویتّبع سلوک رسول الله صلّی الله علیه و آله،وأن تکون مواعظه حسنة خالصة لیتمکّن من أن یترک أثراً طیباً فی مستمعه ویهدیه إلی الصراط المستقیم و هو طریق الحقّ الذی لا عوج فیه.

ویقول العلامة الطباطبائی،فی خصوص تقیید الموعظة بالحسنة:

ولعل ما فی ذیل الآیة من التعلیل بقوله: (إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) , یوضح وجه التقیید،فمعناه أنّه سبحانه أعلم بحال أهل الضلال فی دینه الحقّ،و هو أعلم بحال المهتدین فیه،فهو یعلم أن الذی ینفع فی هذا السبیل هو الحکمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن،لا غیرُ.

ومن هنا،یظهر أن حُسن الموعظة إنّما هو من حیث حُسن أثره فی الحقّ الذی یراد به بأن یکون الواعظ نفسه متعظاً بما یعظ ویستعمل فیها من الخلق الحَسن ما یزید فی وقوعها من قلب السامع موقع القبول،فیرق القلب ویقشعر به الجلد ویعیه السمع ویخشع له البصر. (1)

وقال آخر:

إن تقیید (الْمَوْعِظَةِ) بقید (الْحَسَنَةِ) لعلّه إشارة إلی أن النصیحة و الموعظة أنّما تؤدی فعلها علی الطرف المقابل إذا خلیت من أی خشونة،أو استعلاء وتحقیر،التی تثیر فیه حس العناد و اللجاجة وما شابه ذلک.

فکم من موعظة أعطت عکس ما کان یؤمل بها بسبب أسلوب طرحها الذی یشعر الطرف المقابل بالحقارة والاهانة؟کأن تکون الموعظة أمام الآخرین ومقرونة بالتحقیر،أو یستشم منها رائحة الاستعلاء فی الواعظ،فتأخذ الطرف المقابل العزة بالإثم،ولا یتجاوب مع تلک الموعظة.

وهکذا یترتب الأثر الایجابی العمیق للموعظة إذا کانت (الْحَسَنَةِ) . (2)

ص:147


1- (1) .المیزان فی تفسیر القرآن:372/12.
2- (2) .تفسیر الأمثل:365/8.
ج)شروط أخری لتأثیر الموعظة

لقد خلق الله الإنسان بشکل جعله یتأثر بالإیحاء الخارجی ویتقبله،سواء أکان هذا الإیحاء صالحاً نافعاً له أو مضراً به،والموعظة هی نوع من الإیحاء الذی یلقیه الواعظ فی المستمع. (1)

والموعظة ذات تأثیر کبیر فی تغییر أفکار الناس،وتبدیل بناءهم العقائدی و الفکری،لذلک جعلها الله أحد أهم طرق وأسالیب التبلیغ،وجعل لها-لکی تؤثّر-شروطاً وضوابط،ومن أهمّها:

أولاً:أن یتوفّر فی فحوی کلام الواعظ عنصر التوعیة و التنبیه. (2)

قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی أحد وصایاه:«الموعظة کهف لمن وعاها». (3)ومن هذا المنطلق نحن مأمورون بالالتزام بالموعظة الحسنة و الکلمة الطیبة إذا أدرکناها حتّی،و إن لم یعمل بها صاحبها،یقول الإمام الباقر علیه السلام:«خذوا الکلمة الطیبة ممن قالها و إن لم یعمل بها». (4)

ثانیاً:أن یقرن الواعظ موعظته الحسنة بالإخلاص:

قال الإمام الصادق علیه السلام:

>>أحسن الموعظة ما لا تجاوز القول حدّ الصدق،والفعل حدّ الإخلاص،فأن مثل الواعظ و المتعظ کالیقظان و الراقد فمن استیقظ عن رقدة غفلته ومخالفته ومعاصیه صلح أن یوقظ غیره من ذلک الرقاد...». (5)

فالواعظ المؤمن الذی یتحدّث بنیة مخلصة،هدفه هدایة الناس إلی الصراط المستقیم بالموعظة الحسنة وتأمین السعادة لهم،هذا المبلّغ الواعظ یترک-ممّا لا لبس فیه-أثراً فی نفوس المنزهین عن العناد من مستمعیه ویهدیهم إلی سبیل الفلاح

ص:148


1- (1) .البیان وفن الخطابة:196.
2- (2) .البیان وفن الخطابة:198.
3- (3) .من لا یحضره الفقیه:390/4.
4- (4) .بحار الأنوار:159/110.
5- (5) .مصباح الشریعة:160.

والصلاح؛لأنّ الموعظة الحسنة هی أفضل هدیة کما قیل:(نعم الهدیة الموعظة)، (1)یقدّمها الإنسان المؤمن لأخیه المؤمن.

ثالثاً:الاقتصاد فی الموعظة:

ومن الأمور التی ینبغی علی المبلّغ أن یهتمّ بها فی الموعظة،وذلک عندما یرید تحذیر الناس من المعصیة و الرذیلة،فلکی تکون مؤثّرة تؤثر فی المستمعین،قادرة علی إیقاظ الغافلین،متمکنة من إحیاء القلوب المیتة،أن یبدأ الحدیث بذکر یوم القیامة وجزائه و العقاب الإلهی،ویورد بعض الآیات و الأحادیث التی تناسب البحث.وللتوضیح اذکر ما قاله وما وعظ به مؤمن من آل فرعون قومه حینما خاطبهم بأسلوب زاخر بالمرارة و العاطفة،ومملوء بالموعظة و النصیحة،یبصرهم بالحیاة وفنائها،والآخرة وخلودها،وذلک ما حکاه الله فی قوله تعالی (وَ قالَ الَّذِی آمَنَ یا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِکُمْ سَبِیلَ الرَّشادِ) (2):

و هو الإیمان بالله, وتوحیده, وإخلاص العبادة له, و الإقرار بموسی علیه السلام،وقال لهم أیضاً علی وجه الوعظ لهم و الزجر عن المعاصی (یا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَیاةُ الدُّنْیا مَتاعٌ) ،یعنی:انتفاع قلیل،ثمّ یزول بأجمعه،ویبقی وزره وآثامه: (وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِیَ دارُ الْقَرارِ) (3)أی:دار المقام. (4)

هکذا ینبغی للمبلّغ أن یشرحها للمستمع ویوضح معانیها له ویدعوه إلی التدبر فیها ویشجعه علی ذلک،عندها یستطیع الواعظ أن یؤثر فی المستمع النقی السریرة ویردعه عن ارتکاب المعاصی.

ولکن الأمر الجدیر بالذکر والاهتمام هنا هو أن یتجنب المبلّغ الإسهاب فی الکلام

ص:149


1- (1) .عیون الحکم و المواعظ:31.
2- (2) .غافر:38.
3- (3) .غافر:39.
4- (4) .التبیان فی تفسیر القرآن:79/9 وسمیت دار قرار لاستقرار الجنة بأهلها واستقرار النار بأهلها.

والموعظة،وذکر العذاب و النار؛لأنه یؤدی إلی یأس المستمع وقنوطه،و قد جاءت الکثیر من الروایات بهذا الشأن:

فعن الإمام علی علیه السلام أنه قال:

>>الفقیه کلّ الفقیه من لم یقنّط الناس من رحمة الله،ولم یؤیسهم من روح الله،ولم یؤمّنهم من مکر الله». (1)

إذاً:یجب الاقتصاد فی الموعظة،و هو علی قسمین:

الأوّل:الاقتصاد فی عددها،وکثرتها،فلا یکثر من المواعظ،فیتحول تبلیغه کلّه إلی مواعظ،وإنما یتخول الناس بها بین الفینة و الفینة،حتّی یشتاق الناس إلیه ولا یملون حدیثه،کما جاء عن النبی صلّی الله علیه و آله:

>>أنه کان یتخوّل أصحابه بالموعظة کراهیة السآمة علیهم». (2)

الثانی:الاقتصاد فی وقتها،فتکون الموعظة قصداً عدلاً،فإن کثرة الکلام ینسی بعضَهُ بعضاً،فینبغی البعد عن الثرثرة وتجنب الحشو وتکرار الأفکار،وإطالة المقدّمات،والاسترسال فی سرد الأدلة و التفاصیل المملة ممّا یفقد الموعظة الکثیر من فوائدها وآثارها الایجابیة.

إذاً:فالموعظة الحسنة هی طریقة من طرق التبلیغ،وأسلوب فی الدّعوة،یحببها ولا ینفّر عنها،ویقرّب إلیها ولا یبعّد عنها،وییسرها ولا یعسّرها،و هو الأسلوب الذی یشعر المخاطَب أن دّور المخاطِب معه دّور الرفیق به،الباحث عمّا ینفعه ویسعده،الناصح له،کما قیل:«إنّ الموعظة نصیحة شافیة». (3)

3.أسلوب الجدل

اشارة

الطریق و الأسلوب الثالث الذی وضعه الله تبارک وتعالی أمام الأنبیاء علیهم السلام و المبلغین،

ص:150


1- (1) .بحار الأنوار:56/2.
2- (2) .بدر الدین, العینی, عمدة القارئ:299/22.
3- (3) .عیون الحکم و المواعظ:31.

لتبلیغ الرسالة و الدین هو الجدل بالتی هی أحسن،وذلک حسب الترتیب فی قوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) . (1)

والجدل هو:

المفاوضة علی سبیل المنازعة و المغالبة وأصله جدلت الحبل،أی أحکمت فتله....ومنه الجدال فکأن المتجادلین یفتل کلّ واحد الآخر عن رأیه،وقیل الأصل فی الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه علی الجدالة وهی الأرض الصلبة. (2)

و قد یکون هذا الصراع عسکریاً،أو فکریاً،أو علمیاً،أو عقائدیاً،فیسعی الإنسان المجادل إلی إظهار واثبات حجته ورأیه،کما قیل أنّ:«الجدل هو مقابلة الحجّة بالحجة». (3)

أ)فرق الجدل عن غیره

وقال الشیخ الطبرسی:

الفرق بین الحجاج و الجدال،أن الحجاج یتضمّن أما حجّة،أو شبهة فی صورة الحجّة،والجدال هو فتل الخصم إلی المذهب بحجة،أو شبهة،أو إیهام فی الحقیقة؛لأنّ أصله من الجدل و هو شدّة الفتل،والحجة فی البیان الذی شهد بصحة المقال،و هو و الدلالة بمعنی واحد. (4)

ص:151


1- (1) .النحل:125.
2- (2) .مفردات غریب القرآن:89.
3- (3) .مجمع البحرین:351/1؛النهایة فی غریب الحدیث:248/1.
4- (4) .تفسیر مجمع البیان:315/2،فی تفسیر قوله تعالی: (یا أَهْلَ الْکِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِی إِبْراهِیمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِیلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِیما لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِیما لَیْسَ لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللّهُ یَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) آل عمران:65-66.

فرق الجدل عن قسیمیه الحکمة و الموعظة الحسنة:

وقال الفخر الرازی فی تفسیر قوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) :

اعلم أنه تعالی لما أمر محمد صلّی الله علیه و آله بأتباع إبراهیم علیه السلام بین الشّیء الذی أمر بمتابعته فیه،فقال: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ) .

واعلم انّه تعالی أمر رسوله صلّی الله علیه و آله أن یدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهی الحکمة،والموعظة الحسنة،والمجادلة بالطریق الأحسن،و قد ذکر الله تعالی هذا الجدل فی آیة أخری،فقال: (وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْکِتابِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) ، (1)ولما ذکر الله تعالی هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها علی بعضٍ،وجب أن تکون طرقاً متغایرة متباینة،وما رأیتُ للمفسّرین فیه کلاماً ملخصاً یتّسم بالدقة.

وأعلم:أنّ الدّعوة إلی المذهب لا بدّ وأن تکون مبنیة علی حجّة وبینة،والمقصود من ذکر الحجّة،إما تقریر هذا المذهب وذلک الاعتقاد فی قلوب المستمعین،و إما أن یکون القصد إلزام الخصم وإفحامه.

أما القسم الأوّل:فینقسم أیضاً إلی قسمین:لأنّ الحجّة إما أن تکون حجّة حقیقیة یقینیة قطعیة مبرأة عن احتمال النقیض،و إما أن لا تکون کذلک،بل تکون حجّة تفید الظنّ الظاهر و الإقناع الکامل،فظهر بهذا التقسیم انحصار الحجج فی هذه الأقسام الثلاثة.

أوّلها:الحجّة القطعیة المفیدة للعقائد الیقینیة،وذلک هو المسمّی بالحکمة،و هذه أشرف الدرجات وأعلی المقامات،وهی التی قال الله فی صفتها: (وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً) . (2)

ص:152


1- (1) .العنکبوت:46.
2- (2) .البقرة:269.

وثانیها:الأمارات الظنّیة و الدلائل الاقناعیة،وهی:الموعظة الحسنة.

وثالثها:الدلائل التی یکون المقصود من ذکرها إلزام الخصوم وإفحامهم،وذلک هو الجدل،ثمّ هذا الجدل علی قسمین:

القسم الأوّل:أن یکون دلیلاً مرکباً من مقدمات مسلمة فی المشهور عند الجمهور،أو من مقدمات مسلمة عند ذلک القائل،و هذا الجدل هو الجدل الواقع علی الوجه الأحسن.

القسم الثانی:أن یکون ذلک الدلیل مرکباً من مقدمات باطلة فاسدة إلّا أن قائلها یحاول ترویجها علی المستمعین بالسفاهة و الشغب،والحیل الباطلة،والطرق الفاسدة،و هذا القسم لا یلیق بأهل الفضل وإنما اللائق بهم هو القسم الأوّل،وذلک هو المراد بقوله تعالی: (وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) .

فثبت بما ذکرنا انحصار الدلائل و الحجج فی هذه الأقسام الثلاثة المذکورة فی هذه الآیة.

إذا عرفت هذا،فنقول:أهل العلم ثلاث طوائف:الکاملون الطالبون للمعارف الحقیقیة و العلوم الیقینیة،والحدیث مع هؤلاء لا تمکن إلّا بالدلائل القطعیة الیقینیة،وهی:الحکمة.

والقسم الثانی:الذی تغلب علی طباعهم المشاغبة و المخاصمة لا طلب المعرفة الحقیقیة و العلوم الیقینیة،والمکالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التی تفید الإفحام و الإلزام،و هذان القسمان هما الطرفان.

فالأول:هو طرف الکمال.

والثانی:هو طرف النقصان.

و أما القسم الثالث:فهو الواسطة،وهم الذین ما بلغوا فی الکمال إلی حدّ الحکماء المحققین،وفی النقصان و الرذالة إلی حدّ المشاغبین المخاصمین،بل هم أقوام بقوا علی الفطرة الأصلیة و السلامة الخلقیة،وما بلغوا إلی درجة الاستعداد لفهم الدلائل

ص:153

الیقینیة و المعارف الحکمیة،والمکالمة مع هؤلاء لا تمکن إلّا بالموعظة الحسنة،وأدناها المجادلة،وأعلی مراتب الخلائق الحکماء المحققون،وأوسطهم عامة الخلق،وهم أرباب السلامة وفیهم الکثرة و الغلبة). (1)

ب)فرق وتقسیم

جاء فی تفسیر الأمثل تحت عنوان:الجدال من وجهة النظر القرآنیة.

أن الجدال, و المراء موضوعان وردا کثیراً فی الآیات القرآنیة،وفی الأحادیث و الروایات الإسلامیة أیضاً.

وکتوطئة للبحث ینبغی أوّلاً أن نمیز أقسام الجدال:

الجدال الإیجابی و الجدال السلبی وما هو المقصود من کلّ واحد منهما،وعلائم کلّ واحد منهما،وأخیراً:أضرار الجدال السلبی،وکذلک عوامل الغلبة فی الجدال الإیجابی.

وفی هذا الصدد سنتناول البحث ضمن العناوین الآتیة:

أوّلاً:مفهوم الجدال و المراء:

الجدال،والمراء،والخصام ثلاث مفردات متقاربة من حیث المعنی،وفی نفس الوقت یوجد ثمة اختلاف بینها.

الجدال،یعنی فی الأصل اللغوی:لفّ الحبل،ثمّ أخذ یطلق بعد ذلک علی لفّ الطرف المقابل و النقاش الذی یتضمّن الغلبة.

والمراء،علی وزن:حجاب،ونعنی:الکلام فی شیء ما،فیه مریة أو شکّ.

أما الخصومة و المخاصمة،فتعنی فی الأصل:إمساک شخصین کلّ منهما للآخر من جانبه،ثمّ أطلقت بعد ذلک علی التشاجر اللفظی و الأخذ و الرّد فی الکلام،وکما یقول العلامة المجلسی:

ص:154


1- (1) .التفسیر الکبیر:138/2 و139؛المیزان فی تفسیر القرآن:373/12.

إنّ الجدال و المراء أکثر ما یستخدمان فی القضایا العلمیة،فی حین تستخدم المخاصمة فی الأمور و المعاملات الدنیویة....

وقالوا أیضاً فی الفرق بینهما:أن الجدال فی القضایا العلمیة،والمراء أعمّ من ذلک.

وقالوا أخیراً:أن المراء ذو طابع دفاعی فی قبال هجوم الخصم،بینما الجدال أعمّ من الدفاع و الهجوم. (1)

ثانیاً:الجدال السلبی و الإیجابی:

یظهر من الآیات القرآنیة أنّ للفظ الجدال معان:واسعة،ویشمل کلّ أنواع الحدیث و الکلام الحاصل بین الطّرفین،سواء کان ایجابیاً أم سلبیاً،ففی الآیة(125)من سورة النحل نقرأ أمر الخالق تبارک وتعالی لرسوله صلّی الله علیه و آله فی قوله تعالی: (وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) ،ونقرأ عن إبراهیم علیه السلام: (فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِیمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْری یُجادِلُنا فِی قَوْمِ لُوطٍ) (2)تشیر إلی النّوع الإیجابی من المجادلة.

ولکن أغلب الإشارات القرآنیة حول المجادلة تشیر إلی النّوع السلبی منها،کما نری ذلک واضحاً فی سورة غافر،التی نحن بصددها،حیث أشارت إلی المجادلة بمعناها السلبی خمس مرّات،قوله تعالی: (ما یُجادِلُ فِی آیاتِ اللّهِ إِلاَّ الَّذِینَ کَفَرُوا فَلا یَغْرُرْکَ تَقَلُّبُهُمْ فِی الْبِلادِ) (3)وکذلک الآیات 5،و35،و56،و69 وفی کلّ الأحوال یتبین أن البحث و الکلام والاستدلال و المناقشة لأقوال الآخرین،إذا کان لإحقاق الحق وإبانة الطریق وإرشاد الجاهل،فهو عمل مطلوب یستحق التقدیر،و قد یندرج أحیاناً فی الواجبات. (4)

ص:155


1- (1) .قال أمیر المؤمنین علیه السلام:«إیاکم و المراء و الخصومة فأنهما یمرضان القلوب علی الإخوان،وینبت علیهما النفاق».(الکافی:300/2)قال الراغب:الامتراء و الممارات المحاجة فیما فیه مریة،وهی التردد فی الأمر.(مفردات غریب القرآن:149)
2- (2) .هود:74.
3- (3) .غافر:4.
4- (4) .تفسیر الأمثل:188/15-189.
ج)الجدال ممدوح ومذموم

قال الفخر الرازی:

من الناس من عاب الاستدلال و البحث و النظر و الجدال وأحتج بوجوه:

أحدها:أنه تعالی قال: (وَ لا جِدالَ فِی الْحَجِّ) (1)و هذا یقتضی نفی جمیع أنواع الجدال،ولو کان الجدال فی الدّین طاعة وسبیلاً إلی معرفة الله تعالی لما نهی عنه فی الحج،بل علی ذلک التقدیر کان الاشتغال بالجدال فی الحج ضمّ طاعة إلی طاعة فکان أولی فی الترغیب فیه.

وثانیها:قوله تعالی: (وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَیْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَکَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) . (2)

عابهم کونهم من أهل الجدل،وذلک یدل علی أن الجدل مذموم.

وثالثها:قوله تعالی: (وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ) (3)نهی عن المنازعة.

و أما جمهور المتکلّمین،فأنهم قالوا:الجدال فی الدّین طاعة عظیمة،واحتجوا علیه بقوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) ،وبقوله تعالی حکایة عن الکفار أنهم قالوا لنوح: (قالُوا یا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَکْثَرْتَ جِدالَنا) (4)ومعلوم أنه ما کان ذلک الجدال إلّا لتقریر أصول الدّین.

إذا ثبت هذا فنقول:

لا بدّ من التوفیق بین هذه النصوص،فنحمل الجدل المذموم علی الجدل فی تقریر الباطل،وطلب المال و الجاه،والجدل الممدوح علی الجدل فی تقریر الحقّ ودعوة الخلق إلی سبیل الله،والذبّ عن دین الله تعالی. (5)

ص:156


1- (1) .البقرة:197.
2- (2) .الزخرف:58.
3- (3) .الأنفال:46.
4- (4) .النحل:125،هود:32.
5- (5) .التفسیر الکبیر:183/5.
د)شروط الجدال الأحسن

إن من الضروری علی المبلّغ أن یکسب الآخرین من الخصوم و المعاندین إلی الإیمان برسالته،ویقربهم إلی عقیدته،لا أن یحطمهم ویغلبهم،فلیست مهمّة المبلّغ هی مهمّة من ینشد الغلبة علی خصمه لإشباع نزوعه إلی التفوق وإحساسه بالعظمة،بل هی مهمّة الإنسان الذی یمارس إنسانیته بإعانة خصمه علی التحرّر من رواسب کفره وظلاله،والأخذ بیده نحو الصلاح.

ولهذا کان الجدل بالتی هی أحسن هو الأسلوب و الطریقة المثلی للوصول إلی ذلک الهدف وبلوغ تلکم الغایة،ولذا نلاحظ أن طرق الجدل التی تعتمد التماس نقاط ضعف الآخر واستغلالها فی توجیه الضربات المتلاحقة إلیه،بأسلوب عنیف لا یحترم ذات الآخر وفکره،ولا تملک أن تقدم للعقیدة-أی:عقیدة کانت-مؤمناً یعیش الإیمان بروحه وعقله؛وذلک لأنّ هذه الطرق تطعن کبریاء الإنسان وکرامته فی الصمیم وتوحی له بأنه یقف موقف المغلوب فی فکره وعقیدته،وموقف المهزوم فی میدان الصراع،ومن الطّبیعی جداً أن یتغلب کبریاء الإنسان وعناده فی کثیر من الأحیان،علی رغبته فی الوصول إلی الحقّ،وهنا لا یمکن للموقف أن یقدم لنا سوی مزید من المناقشات اللفظیة و الهامشیة التی لا تقدم ولا تؤخر شیئاً فی الموضوع.

ومن هنا،نجد أنه لا بدّ من أسلوب وطریقة-فی الجدل-تشعر المخاطب بأنه رفیق فی رحلة الوصول إلی الحقّ،وأنه محترم فی ذاته وتفکیره،حینئذٍ لا تقف الکبریاء عقبة فی الطریق؛لأن الإنسان لا یشعر فی هذا الجو بالذل،والانکسار،والخسران،وإنما یشعر-بدلاً من ذلک-بالعزة و الکرامة؛لأنه علی طریق کشف الحقیقة و الوصول إلی سبیل أفضل،دون أن یکون فی البین مهزوم ومنتصر،أو غالب ومغلوب،و إنّما هو الهدف المشترک و السبیل الوحید.

ومن هنا نقول:لکی یؤثر الطرف المجادل معنویاً علی الطرف الآخر،علیه الاستفادة من الأسالیب الآتیة التی أشار إلیها القرآن الکریم بشکل جمیل،وهی:

ص:157

1.ینبغی عدم الإصرار علی الطرف المقابل بقبول الکلام علی أنه هو الحقّ،بل علی المجادل إذا استطاع أن یجعل الطرف المقابل یعتقد بأنه هو الذی توصل إلی هذه النتیجة،و هذا الأسلوب سیکون أکثر تأثیراً،وبعبارة أخری:من المفید للطرف المقابل أن یعتقد أن النتیجة أو الفکرة نابعة من أعماقه،وهی جزء من روحه،کی یتمسک بها أکثر ویذعن لها بشکل کامل.

و قد یکون هذا الأمر هو سرّ ذکر القرآن للحقائق المهمّة کالتوحید ونفی الشرک،وغیر ذلک علی شکل استفهام،کما أنه سبحانه وتعالی بعد أن ینتهی من استعراض وذکر أدلة التوحید یقول: (أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ) . (1)

2.یجب الامتناع عن کلّ ما یثیر صفة العناد و اللجاجة لدی الطرف الآخر؛إذ یقول القرآن الکریم: (وَ لا تَسُبُّوا الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ کَذلِکَ زَیَّنّا لِکُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلی رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَیُنَبِّئُهُمْ بِما کانُوا یَعْمَلُونَ) ، (2)کی لا یصر هؤلاء علی عنادهم ویهینوا الخالق جلّ وعلا بتفاهة کلامهم.

3.یجب مراعاة منتهی الإیضاح فی النقاش مع أی شخص،أو أی مجموعة،کی یشعر الطرف المقابل بأن المتحدث إلیه یبغی حقاً توضیح الحقائق لا غیر،فعندما یتحدث القرآن عن مساوئ الخمر و القمار،فهو لا یتجاهل المنافع الثانویة المادیة والاقتصادیة،التی یمکن أن یحصل علیها البعض منهما،فیقول تعالی: (قُلْ فِیهِما إِثْمٌ کَبِیرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَکْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) (3)إن هذا الطراز من الحدیث یحمل آثاراً إیجابیة کبیرة علی المستمع.

4.یجب عدم الردّ بالمثل حیال المساوئ و الأحقاد التی قد تطفح من الخصم،بل

ص:158


1- (1) .النمل:62.
2- (2) .الأنعام:108.
3- (3) .البقرة:219.

سلوک طریق الرأفة و الحب و العفو ما استطاع الإنسان إلی ذلک سبیلاً؛إذ إنّ الردّ بهذا الأسلوب الودود یؤثر کثیراً فی تلیین قلوب الأعداء المعاندین،کما یقول القرآن الکریم ویحثّ علی ذلک: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ) . (1)

والخلاصة:

إنّنا عندما ندقق فی أسلوب نقاشات الأنبیاء علیهم السلام مع الأعداء و الظالمین و الجبّارین،کما یعکسها القرآن الکریم،أو کما تعکسها تلک المناظرات العقائدیة بین رسول الله صلّی الله علیه و آله[والأنبیاء علیهم السلام]وبین أعدائهم وخصومهم،ننتهی إلی دروس تربویة فی هذا المجال تطوی فی تضاعیفها أدق الأسالیب و الوسائل النفسیة و الفنیة التی تسهل النفوذ إلی أعماق الآخرین. (2)

ه)أمثلة من الجدل الأحسن

فی التاریخ و الروایات الإسلامیة آثار کثیرة وقیمة عن مناظرات وجدال الأنبیاء علیهم السلام مع المعارضین،و قد قام العلامة الشیخ الطبرسی بجمع بعضها فی کتابه:الاحتجاج،وممّا جاء فیه:

قال أبو محمّد العسکری:قال الصادق علیه السلام:>>و أما الجدال بالتی هی أحسن فهو ما أمر الله تعالی به نبیه أن یجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحیاءه له،فقال الله حاکیاً عنه: (وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِیَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ) (3)فقال الله فی الردّ علیه: (قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِکُلِّ خَلْقٍ عَلِیمٌ* اَلَّذِی جَعَلَ لَکُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (4)فأراد الله من نبیه أن یجادل المبطل الذی قال:کیف یجوز أن یبعث هذه العظام وهی رمیم؟قال: (قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) .

ص:159


1- (1) .فصلت:34.
2- (2) .تفسیر الأمثل:194/15 و195.
3- (3) .یس:78.
4- (4) .یس:79 و80.

أفیعجز من أبتدأ به لا من شیء،أن یعیده بعد أن یبلی؟!

بل ابتداؤه أصعب عندکم من إعادته!ثمّ قال: (الَّذِی جَعَلَ لَکُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) ،أی:إذا أکمن النار الحارة فی الشجر الأخضر الرطب،ثمّ یستخرجها،فعرّفکم أنهم علی أعادة من بلی أقدر.

ثمّ قال: (أَ وَ لَیْسَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلی أَنْ یَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلی وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِیمُ) ، (1)أی:إذا کان خلق السموات و الأرض أعظم وأبعد فی أوهامکم و قدرکم أن تقدروا علیه من إعادة البالی،فکیف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندکم و الأصعب لدیکم،ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندکم من إعادة البالی؟!

قال الصادق علیه السلام:

«فهذا الجدال بالتی هی أحسن؛لأن فیها قطع عذر الکافرین،وإزالة شبههم.

و أما الجدال بغیر التی هی أحسن،فإن تجحد حقاً لا یمکنک أن تفرق بینه وبین باطل من تجادله وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحقّ،فهذا هو المحرّم؛لأنک مثله جحد هو حقاً،وجحدت أنت حقاً آخر».

قال أبو محمد علیه السلام:«فقام إلیه رجل آخر،فقال:یا ابن رسول الله،أفجادل رسول الله؟».قال الإمام الصادق علیه السلام:

>>مهما ظننت برسول الله صلّی الله علیه و آله من شیء،فلا تظننّ به مخالفة الله تعالی،ألیس الله قد قال: (وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) (قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِکُلِّ خَلْقٍ عَلِیمٌ) (2)لمن ضرب الله مثلاً؟!أفتظن أن رسول الله صلّی الله علیه و آله خالف ما أمر الله بن،فلم یجادل بما أمره الله به،ولم یخبر عن أمر الله بما أمره أن یخبر به»؟!. (3)

و قد روی عن الإمام الصادق علیه السلام أنه ذکرنا عنده الجدال فی الدّین،وأن رسول الله صلّی الله علیه و آله و الأئمّة علیهم السلام قد نهو عنه،فقال علیه السلام:>>لم ینه عنه مطلقاً،ولکنه نهی عن الجدال بغیر التی هی أحسن،أما تسمعون الله عز وجلّ یقول (وَ لا تُجادِلُوا

ص:160


1- (1) .یس:81.
2- (2) .یس:69.
3- (3) .الاحتجاج:14/1.

أَهْلَ الْکِتابِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) وقوله تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ)» .

فالجدال بالتی هی أحسن قد قرنه العلماء بالدین،والجدال بغیر التی هی أحسن محرّم،حرّمه الله تعالی علی شیعتنا،وکیف یحرم الله الجدال جملة،و هو یقول: (وَ قالُوا لَنْ یَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ کانَ هُوداً أَوْ نَصاری) (1)وقال الله تعالی: (تِلْکَ أَمانِیُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ) ، (2)فجعل علم الصدق و الإیمان بالبرهان،وهل یؤتی بالبرهان إلّا بالجدال بالتی هی أحسن». (3)

إشکال وردّ:

ذکر بعضهم،أن المجادلة بالتی هی أحسن لیست من الدّعوة فی شیء،بل الغرض منها شیء آخر مغایر لها و هو الإلزام و الإفحام.

قال:ولذلک لم یعطف الجدال فی الآیة علی ما تقدمه بل غیر السیاق وقیل: (وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) . (4)

وفیه:

غفلة عن حقیقة القیاس الجدلی،فالإفحام وان کان غایة للقیاس الجدلی،لکنه لیس غایة دائمیة،فکثیراً ما یتألف قیاس من مقدّمات مقبولة أو مسلّمة وخاصة فی الأمور العملیة و العلوم غیر الیقینیة،کالفقه و الأصول،والأخلاق،والفنون الأدبیة ولا یراد به الإلزام و الإفحام.

علی أن فی الإلزام و الإفحام دعوة کما أن فی الموعظة دعوة و إن اختلفت صورتها باختلاف الطرق،نعم تغییر السیاق لما فی الجدال من معنی المنازعة و المغالبة. (5)

ص:161


1- (1) .البقرة:111.
2- (2) .البقرة:111.
3- (3) .بحار الأنوار:125/2.
4- (4) .التفسیر الکبیر:140/20.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:374/12.

إذاً:

فالحکمة،والموعظة الحسنة،والمجادلة بالتی هی أحسن من طرق التکلیم و المفاوضة،فقد أمر بالدعوة بأحد هذه الأمور،فهی من أنحاء الدّعوة وطرقها.... (1)

و)الأحسن شعار المبلّغ

إنّ الدّعوة إلی سلوک الأسلوب و الطریقة الأحسن فی مقام الجدل و الصراع الفکری،لیست بدعاً من القرآن الکریم،ولیست دعوة تقتصر علی بعض المجالات دون بعض،بل هی دعوة قرآنیة تخاطب کلّ مجال من مجالات الصراع فی الحیاة وتتصل بکل علاقة من علاقات الإنسان بأخیه الإنسان،فنحن نشاهد هذه الدّعوة بوضوح فی قوله تعالی: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ) وقوله تعالی: (وَ إِذا حُیِّیتُمْ بِتَحِیَّةٍ فَحَیُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللّهَ کانَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ حَسِیباً) وقوله تعالی: (وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ مِنْ رَبِّکُمْ) وقوله تعالی: (وَ قُلْ لِعِبادِی یَقُولُوا الَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّیْطانَ یَنْزَغُ بَیْنَهُمْ إِنَّ الشَّیْطانَ کانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِیناً) . (2)

و قد جاء فی بعض التفاسیر:

معناه،قل لعبادی:یقل بعضهم لبعض أحسن ما یقال،مثل رحمک الله ویغفر الله لک. (3)

وجاء فی بعضها:

المقالة و الکلمة التی هی أحسن من سائر المقالات و الکلمات،وهی فی الاعتقادات کلمة الشهادتین،وفی الاجتماعیات کلمة الإصلاح،وهکذا.... (4)

ص:162


1- (1) .المصدر:371.
2- (2) .الآیات بترتیب:فصلت:34؛النساء:86؛الزمر:55؛الإسراء:53.
3- (3) .التبیان فی تفسیر القرآن:490/6.
4- (4) .تقریب القرآن إلی الأذهان:320/3.

وجاء فی تفسیر الأحسن:

الأحسن من حیث المحتوی و البیان،والأحسن من حیث التلازم بین الدلیل ومکارم الأخلاق و الأسالیب الإنسانیة،ولکن لماذا یستعمل هذا الأسلوب مع المعارضین؟

الجواب:إذا ترک الناس القول الأحسن وأتبعوا الخشونة فی الکلام و المجادلة ف- (إِنَّ الشَّیْطانَ یَنْزَغُ بَیْنَهُمْ) ویثیر بینهم الفتنة و الفساد،فلا تنسوا: (إِنَّ الشَّیْطانَ کانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِیناً) .

ثانیاً:کلمة(عبادی)خطاب للمؤمنین،حیث تعلمهم الآیة أسلوب النقاش مع الأعداء،فقد یحدث فی بعض الأحیان أن یتعامل المؤمنون الجدد بخشونة مع معارضی عقیدتهم ویقولون لهم بأنهم من أهل النار و العذاب،وأنهم ضالون،ویعتبرون أنفسهم من الناجین،قد یکون هذا الموقف سبباً فی أن یقف المعارضون موقفاً سلبیاً إزاء دعوة الرسول صلّی الله علیه و آله. (1)

إذاً:هذه هی الفائدة من الأمر باعتماد الأحسن،وهی ما نبّه علیها تعالی بقوله: (إِنَّ الشَّیْطانَ یَنْزَغُ بَیْنَهُمْ) ،جامعاً للفریقین،أی متی صارت الحجّة مرّة ممزوجة بالبذاءة صارت سبباً لثوران الفتنة. (2)

فهی ممّا یقضی علی دواعی الفتنة،ویجنّبنا التباغض و التباعد،لأنه هو السبیل لترکیز المجتمع فی علاقاته العملیة،علی أساس الألفة و المحبة و الخیر و الرحمة،ولأبعاده عن التناحر والاختلاف و التباغض و التحاقد؛لأنّ الشیطان قد یدخل فی خلفیات الکلمة وفی مدالیلها،وفی ایحائاتها وحساسیاتها،لیثیر العداوة و البغضاء بین الناس.

فالأحسن هو الطریق الذی سار علیه جمیع الأنبیاء علیهم السلام یقول السید الطباطبائی:

کان تمهید لقوله تعالی: (وَ آتَیْنا داوُدَ زَبُوراً) ، (3)والجملة تذکر فضل داود علیه السلام بکتابه الذی هو زبور وفیه أحسن الکلمات فی تسبیحه وحمده تعالی،وفیه

ص:163


1- (1) .تفسیر الأمثل:29/9.
2- (2) .التفسیر الکبیر:355/7.
3- (3) .الإسراء:155.

تحریض للمؤمنین أن یرغبوا فی أحسن القول ویتأدبوا بالأدب الجمیل فی المحاورة و الکلام. (1)

ومن الجمیل فی هذا الصدد ما جاء فی تفسیر الأمثل،فی تفسیر قوله تعالی: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) ،حیث قال:(تشیر هذه الآیة إلی فلسفة وعمق هذا البرنامج[اختیار الأحسن]فی تعبیر قصیر،فتقول:إن هذا التعامل سیقود إلی (فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ) . (2)

إن ما یبینه القرآن هنا مضافاً إلی ما یشبهه فی الآیة 96 من سورة المؤمنین فی قوله تعالی: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) ،یعتبر من أهم وأبرز أسالیب الدّعوة،خصوصاً حیال الأعداء و الجهلاء و المعاندین،ویؤید ذلک آخر ما توصلت إلیه البحوث و الدراسات فی علم النفس؛لأن کلّ من یقوم بالسیئة ینتظر الرد بالمثل،خاصة أولئک الذین هم من هذا النمط،وأحیاناً یکون جواب السیئة الواحدة عدة سیئات.

أما عندما یری المسیء أن من أساء إلیه لا یرد السیئة بالسیئة وحسب،وإنما یقابلها بالحسنة،عندها سیحدث التغییر فی وجوده،وسیؤثر ذلک علی ضمیره بشدة فیوقظه،وستحدث ثورة فی أعماقه،سیخجل ویحس بالحقارة وینظر بعین التقدیر و الإکبار إلی من أساء إلیه.

وهنا ستزول الأحقاد و العداوات من الداخل وتترک مکانها للحب و المودّة.

ومن الضروری،أن نشیر هنا إلی أن هذا الأمر لا یمثّل قانوناً دائماً،و إنّما هو صفة غالبة؛لأن هناک أقلیة تحاول أن تسیء الاستفادة من هذا الأسلوب،فما لم ینزل بها ما تستحق من عقاب فأنها لا تترک أعمالها الخاطئة.

ص:164


1- (1) .المیزان فی تفسیر القرآن:120/13،فی تفسیر قوله تعالی: (وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلی بَعْضٍ) الإسراء:155.
2- (2) .فصلت:34.

ولکن فی نفس الوقت الذی نستخدم العقوبة و الشدّة ضد هذه الأقلیة،علینا أن لا نغفل عن أن القانون المتحکم بالأکثریة هو قانون: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) .

لذلک رأینا أن رسول الإسلام صلّی الله علیه و آله،والقادة من أئمة أهل البیت علیهم السلام کانوا یستفیدون دائماً من هذا الأسلوب القرآنی العظیم،ففی فتح مکّة مثلاً کان الأعداء-وحتّی الأصدقاء-ینتظرون أن تسفک الدماء،وتؤخذ الثارات من الکفّار و المشرکین و المنافقین الذین أذاقوا المؤمنین ألوان الأذی و العذاب فی مکّة وخارجها،من هنا رفع بعض قادة الفتح شعار:الیوم یوم الملحمة،الیوم تستحلّ الحرمة،الیوم أذلّ الله قریشاً. (1)

لکن ما کان من رسول الله صلّی الله علیه و آله وتنفیذاً لأخلاقیة: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) آلا أن عفا عن الجمیع وأطلق کلمته المشهورة:>>اذهبوا فأنتم الطلقاء». (2)

ثمّ أمر صلّی الله علیه و آله أن یستبدل الشعار الانتقامی بشعار آخر یفیض إحسانا وکرماً و هو:

>>الیوم یوم المرحمة،الیوم أعز الله فیه قریشاً». (3)

لقد أحدث هذا الموقف النبوی الکریم عاصفة فی أرض مشرکی مکّة،حتّی أنه-علی حدّ وصف کتاب الله تعالی: (وَ رَأَیْتَ النّاسَ یَدْخُلُونَ فِی دِینِ اللّهِ أَفْواجاً) (4). (5)

إذاً:فاختیار التی هی أحسن شعار کلّ المبلّغین السائرین علی نهج الأنبیاء علیهم السلام،حیث أنه:جامع یشمل الأسالیب و الطرق الصحیحة،والمناسبة للتباحث،أجمع،سواء کان ذلک فی الألفاظ،أو المحتوی،وسواء کان فی طریقة الکلام،أو الحرکات و الإشارات المصاحبة له.

فعلی هذا،یکون مفهوم الجملة المتقدمة[التی هی أحسن]:أن ألفاظکم ینبغی أن

ص:165


1- (1) .السیرة الحلبیة:22/3.
2- (2) .الکامل فی التاریخ:252/2.
3- (3) .السیرة الحلبیة:22/3.
4- (4) .النصر:2.
5- (5) .تفسیر الأمثل:406/15 و407.

تکون بطریقة مؤدبة،والکلام ذا مودّة،والمحتوی مستدلاً،وصوتکم هادئاً غیر خشن،ولا متجاوزاً لحدود الأخلاق،أو لهتک الحرمة.وکذلک بالنسبة لحرکات الأیدی و العیون و الحواجب التی تکمل البیان،ینبغی أن تکون هذه الحرکات ضمن هذه الطریقة المؤدبة...وکم هو جمیل هذا التعبیر القرآنی؛إذ أوجز عالماً من المعانی الدقیقة فی جملة قصیرة؟

کلّ هذه الأمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش و البحث لیس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر،بل الهدف أن یکون الکلام نافذاً فی القلب،وفی أعماق الطرف الآخر....وخیر السبل للوصول إلی هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآنی. (1)

وعلی ضوء هذا،نجد أن سلوک الأسلوب الأحسن فی مجالات التبلیغ،هو جزء من الأسلوب العام للسلوک الإنسانی الذی شرعه الإسلام فی الحیاة الاجتماعیة،وبشّر أتباعه وحاملیه بقوله تعالی: (فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) . (2)

4.أسلوب اللین و اللطف

من أهمّ الأسالیب التی ینبغی أن یتسلح بها المبلّغ هو أسلوب الرفق و اللین و اللطف و المحبة مع مخاطبیه؛لأنّ التبلیغ الممزوج بالعاطفة و الرأفة و اللین و المحبّة للناس هو أسلوب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام علی مرّ العصور.

فلا بدّ لنا هنا من دراسة أفضل أسالیب اللطف و اللین من أجل تحقیق اتصال هادئ وموفق،ینفذ إلی القلوب بمرونة؛لأن الأسلوب هو العنصر الحیوی فی تحریک الفکر و الشعور،نحو الارتباط بالقناعات الرسالیة ولهذا القرآن الکریم یدعو المبلّغین أن یلتزموا أسلوب اللین و التلطف فی الکلام،واختیار أفضل الکلمات فی أسلوب التخاطب،و هذا ما أمر الله تعالی به نبیه موسی علیه السلام حینما أمره بالذهاب إلی فرعون،

ص:166


1- (1) .تفسیر الأمثل:1414/12.
2- (2) .الزمر:17 و18.

ودعوته إلی طریق الحقّ،فقال تعالی: (اذْهَبا إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی) ، (1)فالقول اللین:«هو القول الذی لا خشونة فیه». (2)

وجاء فی التفسیر:

أن المراد بقوله تعالی: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً) ،المنع من أن یکلماه بخشونة وعنف و هو من أوجب آداب الدّعوة. (3)

سؤالان:

یقول الفخر الرازی فی قوله تعالی: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً) :

فیه سؤالان:السؤال الأوّل:لم أمر الله تعالی موسی علیه السلام باللین مع الکافر الجاحد؟

والجواب:إن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم فی الوعظ أن یزدادوا عتواً وتکبراً،والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زیادة الضرر؛فلهذا أمر الله تعالی بالرفق.

السؤال الثانی:کیف کان ذلک الکلام اللین؟

ذکروا فیه وجوهاً:

أحدها:ما حکا الله تعالی بعضه فقال: (فَقُلْ هَلْ لَکَ إِلی أَنْ تَزَکّی* وَ أَهْدِیَکَ إِلی رَبِّکَ فَتَخْشی) ، (4)وذکر أیضاً فی هذه السورة بعض ذلک،فقال: (فَأْتِیاهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّکَ...) إلی قوله: (وَ السَّلامُ عَلی مَنِ اتَّبَعَ الْهُدی) . (5)

وثانیها:أن تَعِدّاه شباباً لا یهرم بعده،وملکاً لا ینزع منه إلّا بالموت،ویبقی له لذة المطعم و المشرب،والمنکح إلی حین موته.

وثالثها:کنّیاه و هو من ذوی الکنی الثلاث،أبو العباس،وأبو الولید،وأبو مرّة.[و هذا مروی عن إمامنا الکاظم علیهم السلام یقول فی تفسیر قوله تعالی: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً

ص:167


1- (1) .طه:43 و44.
2- (2) .تفسیر المنیر:220/16.
3- (3) .المیزان فی تفسیر القرآن:155/14.
4- (4) .النازعات:18 و19.
5- (5) .طه:47.

لَیِّناً) :أی کنّیاه. (1)ومن الواضح أن المناداة بالکنیة عند العرب هو احترام وتکریم لشخصیة المنادی.]

ورابعها:حکی عن عمرو بن دینار قال:

بلغنی أن فرعون عمّر أربعمائة سنة وتسع سنین،فقال له موسی علیه السلام:«إن أطعتنی عمرت مثل ما عمرت فإذا مت فلک الجنة»...واعلم أنّ أحوال القلب ثلاثة:

أحدها:الإصرار علی الحقّ.

وثانیها:الإصرار علی الباطل.

وثالثها:التوقّف فی الأمرین.

و أنّ فرعون کان مصراً علی الباطل و هذا القسم أردأ الأقسام،فقال تعالی: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی) فیرجع من إنکاره إلی الإقرار بالحق،وان لم ینتقل من الإنکار إلی الإقرار لکنه یحصل فی قلبه الخوف فیترک الإنکار،و إن کان لا ینتقل من الإنکار إلی الإقرار فأن هذا خیر من الإصرار علی الإنکار. (2)

وفیه (قَوْلاً لَیِّناً) دلالة علی وجوب الرفق فی الدّعاء إلی الله،وفی الأمر بالمعروف،والنهی عن المنکر،لیکون أسرع إلی القبول،وأبعد من النفور. (3)

إذاً:هکذا راح موسی علیه السلام إلی فرعون لکی یدعوه بلین ورفق ولطف،وأسلوب جمیل مرغب فی القبول و الطاعة:

فابتدأ أسلوب دعوته بالهدایة العاطفیة،ثمّ تدرج إلی الهدایة العقلیة و المنطقیة حتّی أری فرعون الآیة الکبری،و قد بین لنا القرآن الکریم أفضل طرق الدّعوة و الإرشاد،حیث ینبغی إحاطة من یراد هدایته بالرعایة و العطف،وتحسیسه بحسن نیة الداعی أو المرشد،ومن ثمّ تأتی مرحلة الدلیل المنطقی و الحوار العلمی. (4)

ومن روائع أسلوب اللین:

ص:168


1- (1) .بحار الأنوار:134/13.
2- (2) .التفسیر الکبیر:52/8 و53.
3- (3) .زبدة التفاسیر:242/4.
4- (4) .تفسیر الأمثل:383/19.

ومن أروع ما یدخل تحت أسلوب اللین و اللطف هو أن:

یدعو المبلّغ مخاطبیه بما یثیر فیهم الرغبة فی الإصغاء إلیه،ویلین قلوبهم ویفتحها لسماع قوله،کأن ینادیهم برابطة الأبوة فیقول له: (یا أَبَتِ) أو ینادیه أو ینادیهم برابطة أخوة النسب،قال تعالی عن إبراهیم علیه السلام فی مخاطبته لأبیه و هو یدعوه إلی الإیمان ونبذ عبادة غیر الله: (وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ إِبْراهِیمَ إِنَّهُ کانَ صِدِّیقاً نَبِیًّا * إِذْ قالَ لِأَبِیهِ یا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا یَسْمَعُ وَ لا یُبْصِرُ وَ لا یُغْنِی عَنْکَ شَیْئاً * یا أَبَتِ إِنِّی قَدْ جاءَنِی مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ یَأْتِکَ فَاتَّبِعْنِی أَهْدِکَ صِراطاً سَوِیًّا * یا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّیْطانَ إِنَّ الشَّیْطانَ کانَ لِلرَّحْمنِ عَصِیًّا * یا أَبَتِ إِنِّی أَخافُ أَنْ یَمَسَّکَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَکُونَ لِلشَّیْطانِ وَلِیًّا) . (1)

ووجه الدلالة فی سیاق هذه الآیات المبارکة،هو أن إبراهیم علیه السلام حین أراد أن ینصح أباه،ویعظه ویدعوه إلی الإیمان بالله وعبادته وحده،تلطف معه بالقول مع المجادلة معه برفق ولین وأدب،ودعوته إلی الحقّ مترفقاً به،متلطفاً معه،فلم یصف أباه بالجهل المفرط،ولا نفسه بالعلم الفائق،ولکنه قال:إن معی طائفة من العلم وشیئاً منه لیس معک،وذلک علم الدلالة علی الطریق السوی الموصل إلی الله تعالی ورضوانه وثوابه،فاتبعنی ولا تستنکف من متابعتی ففیها الخیر و النجاة لک.... (2)

کما أن إبراهیم علیه السلام کان یخاطبه بکلمة (یا أَبَتِ) وظلّ یکرّر هذه الکلمة فی کلّ عبارة یوجهها إلیه،زیادة فی التلطف مع أبیه وزیادة فی لین القول معه.

وکذلک کان رسل الله یخاطبون أقوامهم بعبارة:(یا قومی و إبراز علاقته-النبی صلّی الله علیه و آله-بهم حینما یصف نفسه،ویصفه القرآن الکریم بأنه (أَخُوهُمْ) ،قال تعالی عن هود علیه السلام: (وَ إِلی عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ یا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ) ، (3)أی:وأرسلنا إلی عادٍ (أَخاهُمْ هُوداً) أی:أخاهم فی النسب؛لأنه منهم فی قول النسابین.

ص:169


1- (1) .مریم:41-45.
2- (2) .الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل:19/3.
3- (3) .الأعراف:65.

وقیل:الناس کلهم أخوة فی النسب؛لأنهم ولد آدم وحواء. (1)ثمّ فی مخاطبة هود لهم بکلمة (یا قَوْمِ) نوع من التلطف و اللین بالقول؛لأن هذا النداء أدعی إلی استجابتهم و الی تحسیسهم بأن الذی یخاطبهم هو واحد منهم فی النسب،وأنه لذلک یرید الخیر لهم. (2)

ومن طریف ذلک ما وصی الله تعالی به نبیه موسی علیه السلام وهارون حیث قال تعالی: (فَأْتِیاهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّکَ) ، (3)والجمیل هنا أنهما بدلاً أن یقولا:(ربنا)فأنهما قالا: (رَبِّکَ) لیثیروا عواطف فرعون وإحساساته تجاه هذه النقطة بأن له رباً،وأنهما رسولاه،ویکونان قد أفهماه بصورة ضمنیة أن ادعاء الربوبیة لا یصح من أی أحد،فهی مختصة بالله. (4)

وکذلک فی قوله تعالی: (وَ إِذا سَأَلَکَ عِبادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌ أُجِیبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْیَسْتَجِیبُوا لِی وَ لْیُؤْمِنُوا بِی لَعَلَّهُمْ یَرْشُدُونَ) (5):

ففیه أحسن بیان لما أشتمل علیه من المضمون،وأرق أسلوب وأجمله،فقد وضع أساسه علی التکلم وحده دون الغیبة ونحوها،وفیه دلالة علی کمال العنایة بالأمر،ثمّ قوله: (عِبادِی) ولم یقل:الناس وما أشبهه یزید فی هذه العنایة،ثمّ حذف الواسطة فی الجواب حیث قال: (فَإِنِّی قَرِیبٌ) ولم یقل:فقل إنه قریب.... (6)

و أما نبینا الأکرم صلّی الله علیه و آله:

لقد أعد الله سبحانه وتعالی نبینا الأکرم محمد صلّی الله علیه و آله إعدادا طیباً یتناسب مع مهمّة الرسالة وسیاسة التبلیغ،وصلاح الناس،وترغیبهم فی الإسلام،وذلک بتلیین قلب النبی صلّی الله علیه و آله وغرس خصلة الرحمة فی قلبه،ومشاورة أصحابه،ومحبته الخیر لهم،

ص:170


1- (1) .جمال الدین, القاسمی, محاسن التأویل:167/7.
2- (2) .د.عبد الکریم, زیدان, المستفاد من قصص القرآن:52.
3- (3) .طه:47.
4- (4) .تفسیر الأمثل:7/10.
5- (5) .البقرة:186.
6- (6) .المیزان فی تفسیر القرآن:30/2.

وإظهاره بالدعاء والاستغفار لهم،والعفو عنهم و التوکل علی الله وطلب المعونة و النصر منه سبحانه وتعالی.

فقال تعالی واصفاً أیاه: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ) . (1)

فکما هو واضح أن هذه الآیة الشریفة تشیر إلی واحدة من المزایا الأخلاقیة لنبینا صلّی الله علیه و آله،ألاّ وهی اللین مع الناس و الرحمة بهم،وخلوّه من الفظاظة و الخشونة.

فبین سبحانه وتعالی أن مساهلة النبی صلّی الله علیه و آله إیاهم ومجاوزته عنهم من رحمته تعالی،حیث جعله لین العطف حسن الخلق، (فَبِما رَحْمَةٍ) أی فبرحمة، (مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ) معناه أن لینک لهم مما یوجب دخولهم فی الدّین؛لأنک تأتیهم مع سماحة أخلاقک،وکرم سجیتک،بالحجج و البراهین. (وَ لَوْ کُنْتَ) یا محمد، (فَظًّا) ،أی:جافیاً سیء،[أو کریه]الخلق، (2)(غَلِیظَ الْقَلْبِ) أی:قاسی الفؤاد غیر ذی رحمة ولا رأفة: (لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ) أی:لتفرق أصحابک عنک ونفرّوا منک.

وقیل:

إنّما جمع بین الفظاظة و الغلظة وان کانتا متقاربتین[حیث کلتاهما یشیر إلی معنی واحدة و هو الخشونة،إلّا أن الغالب استعمال الأولی فی الخشونة الکلامیة،واستعمال الثّانیة فی الخشونة العملیة و السلوکیة] (3)فنفی الجفاء عن لسانه،والقسوة عن قلبه، (فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما بینک وبینهم. (4)

ص:171


1- (1) .آل عمران:159.
2- (2) .مفردات غریب القرآن:382.
3- (3) .تفسیر الأمثل:747/2.
4- (4) .وقیل فی الفرق بینهما:الفظ،وغلیظ القلب،أن الفظ:هو الذی یکون سیء الخلق.وغلیظ القلب:هو الذی لا یتأثر قلبه عن شیء،فقد لا یکون الإنسان سیء الخلق،ولا یؤذی أحداً،ولکنه لا یرق لهم ولا یرحمهم،فظهر الفرق من هذا الوجه.انظر:التفسیر الکبیر:407/3.

وفی الآیة أیضاً ترغیب للمؤمنین فی العفو عن المسیء،ونهیهم عن الفظاظة فی القول و الغلظة و الجفاء فی الفعل،وفیها أیضاً دلالة علی أن ما نقوله فی اللطف؛لأنه سبحانه نبه علی أنه لولا رحمته لم یقع اللین و التواضع ولو لم یکن کذلک لما أجابوه،فبین أن الأمور المنفرة منفیة عنه وعن سائر الأنبیاء علیهم السلام ومن یجری مجراهم فی أنه حجّة علی الخلق. (1)

إضافة إلی ذلک فأن:

فی هذه الآیة إشارة صریحة إلی إحدی أهم الصفات التی یجب توفرها فی أیة قیادة،ألا وهی العفو و اللین تجاه المتخلفین التائبین،والعصاة النادمین،والمتمردین العائدین،ومن البدیهی أن الذی یتصدی للقیادة،لو خُلّی عن هذه الخصلة الهامّة،وأفتقر إلی روح السماحة،وأفتقد صفة اللین،وعامل من حوله بالخشونة و العنف و الفظاظة فسرعان ما یواجه الهزیمة،وسرعان ما تصاب مشاریعه وبرامجه بنکسات ماحقة،تُبِدّدْ جهوده،وتُذَرِّی مساعیه أدراج الریاح؛إذ یتفرق الناس من حوله،فلا یمکنه القیام بمهام القیادة ومسؤولیاتها الجسیمة. (2)

إذاً:فلا بدّ أن یتحلّی المبلّغ الرسالی بما یریده الإسلام من سمات فی حرکة المبلّغ أو الداعیة،فتتعمق فی داخل ذاته رحمة ومحبة،ولطف ولین،ورأفة علی الناس،ووعیاً للظروف الموضوعیة المحیطة بهم،لیکون التعامل معهم من موقع الفهم الواعی لمشاکلّهم الحقیقیة ولنوازعهم الذّاتیة،فتتحرّک الرحمة فی نفس المبلّغ و الداعیة،فی ممارسته لأسلوب رسالته،فی دراسة کلّ المؤثرات،فیما یختاره من الکلمات اللطیفة و الأسالیب الحکیمة،لتصل الدّعوة إلی قلوب الناس فی الوقت الذی تصل فیه إلی عقولهم؛لأنّ قیمة الرسالة فی حرکة الشخصیة الإسلامیة،تتمثّل فی تحولها إلی وعی للفکرة فی عمق الذّات،والانتظام مع کلّ آفاقها وأفکارها.

ص:172


1- (1) .تفسیر مجمع البیان:869/2.
2- (2) .تفسیر الأمثل:748/2.

وهکذا کان رسول الله صلّی الله علیه و آله فی أسلوب رسالته،الذی یمثّل أسلوب شخصیته فی خُلقه العظیم وقلبه الکبیر،فأستطاع من خلال ذلک أن یدخل الرسالة إلی کلّ قلب وأن یطلق صوتها فی کلّ فم،وأن یحرک شریعته فی قلب کلّ مساحة من مساحات الحیاة....و هذا هو أحد أسرار نجاح المبلّغ فی تبلیغه،فلیس أن یستسلم لنوازعه الذّاتیة لیفرضها علی التبلیغ،بل ینبغی له أن یصوغ شخصیته صیاغة إسلامیة،تنبع من روح الإسلام وخلقه،کما تتحرّک مع فکره،ویترک مزاجه الشخصی لأجواء الفردیة التی تبتعد عن جو التبلیغ و العمل.

سؤال وجواب:

قد یسأل البعض:ألا یجرّنا اللین إلی التنازل عن مبادئ الرسالة؟

والجواب:إنّ اللّین فی الکلام لا یعنی الابتعاد عن الخطّ الأصیل للرسالة،ولا تنازل عن مبادئها الأساسیة،بل یعنی مواجهة الإنسان بالفکرة و الطریقة التی لا تثیر حساسیته وعدوانیته،وذلک بالأسلوب الذی جَرَت علیه الآیات الشریفة ومسیرة الأنبیاء علیهم السلام،و هذا هو معنی القول اللین،ألاّ تتنازل عن الفکرة بکلّ عناصرها الحیة،ولکن بشرط أن تعالجها بالأسلوب الذی یجعلها تدخل الفکر،والروح،والشعور من أوسع أبوابه.

ولذلک نقول إن:

اللین و الرفق إنما یجوز إذا لم یفض إلی إهمال حق من حقوق الله،أما إذا أدی إلی ذلک لم یجز،قال تعالی: (یا أَیُّهَا النَّبِیُّ جاهِدِ الْکُفّارَ وَ الْمُنافِقِینَ وَ اغْلُظْ عَلَیْهِمْ) (1)وقال للمؤمنین فی إقامة حدّ الزنا: (وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ) . (2)

وهاهنا دقیقة أخری:

وهی أنه تعالی منعه من الغلظة فی هذه الآیة (...وَ لَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا

ص:173


1- (1) .التوبة:73.
2- (2) .النّور:2.

مِنْ حَوْلِکَ) ، (1)وأمره بالغلظة فی قوله تعالی: (وَ اغْلُظْ عَلَیْهِمْ) , فههنا نهاه عن الغلظة علی المؤمنین،وهناک أمره بالغلظة مع الکافرین،فهو کقوله تعالی: (أَذِلَّةٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَی الْکافِرِینَ) . (2)وقوله: (أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ) . (3)

وتحقیق القول فیه،أن طرفی الإفراط و التفریط مذمومان،والفضیلة فی الوسط،فورود الأمر بالتغلیط تارة،وأخری بالنهی عنه،إنما کان لأجل أن یتباعد عن الإفراط و التفریط،فیبقی علی الوسط الذی هو الصراط المستقیم،فلهذا السّر مدح الله الوسط فقال تعالی: (وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (4). (5)

إذاً:فعلی المبلّغ أن یتمرس ویتمرن علی اللیونة فی الکلام حتّی تصبح فیه هذه السمة ملکة نفسیة،ویتطبع علی التلطف فی الحدیث حتّی لا یستطیع بعده معاکسة هذه الصفة إلا بعسر.

یقول الإمام علی علیه السلام:>>عوّد لسانک لین الکلام». (6)

ومن جمیل وصایاه هی ما وصّی به ابنه الإمام الحسن علیه السلام،حیث قال علیه السلام:

>>ولن لمن غالظک فأنه یوشک أن یلین لک». (7)

5.أسلوب التذکیر

اشارة

ثمّ من أهم الأسالیب التی ینبغی للمبلّغ اعتمادها هو أسلوب التذکیر؛وذلک لما له من استعادة الذکریات واستیحاء العبر فیها،و هو من أفضل أسالیب وطرق التربیة و التبلیغ

ص:174


1- (1) .آل عمران:159.
2- (2) .المائدة:54.
3- (3) .الفتح:29.
4- (4) .البقرة:143.
5- (5) .التفسیر الکبیر:408/3.
6- (6) .غرر الحکم ودرر الکلم:334.
7- (7) .بحار الأنوار:168/74.

التی اعتمدها الأنبیاء علیهم السلام و القرآن الکریم،فهو یذکّر بالنعم العامّة تارة کالصحة،والحیاة،والعمل،والإیمان...والنعم الخاصة تارة أخری کالعین،والفم،والعقل...وهکذا مئات بل ما لا یحصی من النعم،وذلک لکی تبقی عظمة الله حیة فی قلوب الناس فیندفعوا ذاتیاً لامتثال أوامره تعالی وترک نواهیه عز وجلّ.

والذکر،کما یقول الراغب:

تارة یقال ویراد به هیئة للنفس بها یمکن للإنسان أن یحفظ ما یقتنیه من المعرفة،و هو کالحفظ ألا أن الحفظ یقال اعتباراً بإحرازه،والذکر یقال اعتباراً باستحضاره،وتارة یقال لحضور الشّیء القلب أو القول.

ولذلک قیل الذکر ذکران:

ذکر بالقلب،وذکر باللسان،وکل واحد منهما ضربان،ذکر عن نسیان،وذکر لا عن نسیان،بل عن إدامة الحفظ.

وفی اللغة کلّ قول یقال له:ذکر،فمن الذکر باللسان قوله تعالی: (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَیْکُمْ کِتاباً فِیهِ ذِکْرُکُمْ) ،وقوله تعالی: (وَ هذا ذِکْرٌ مُبارَکٌ أَنْزَلْناهُ) ،وقوله تعالی: (هذا ذِکْرُ مَنْ مَعِیَ وَ ذِکْرُ مَنْ قَبْلِی) ،وقوله تعالی: (أَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ الذِّکْرُ مِنْ بَیْنِنا) ،أی القرآن،وقوله تعالی: (ص وَ الْقُرْآنِ ذِی الذِّکْرِ) ،وقوله تعالی: (وَ إِنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ وَ لِقَوْمِکَ) ....ومن الذکر عن النسیان قوله تعالی: (فَإِنِّی نَسِیتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِیهُ إِلاَّ الشَّیْطانُ أَنْ أَذْکُرَهُ) ،ومن الذکر بالقلب و اللسان معاً قوله تعالی: (فَاذْکُرُوا اللّهَ کَذِکْرِکُمْ آباءَکُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِکْراً) ،وقوله تعالی: (فَاذْکُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْکُرُوهُ کَما هَداکُمْ) . (1)

وقوله تعالی: (أَ وَ لا یَذْکُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) ، (2)أی:أوّلاً یذکر الجاحد للبعث أوّل خلقه فیستدلّ بذلک علی إعادته.

ص:175


1- (1) .الآیات بترتیب:الأنبیاء:10؛الأنبیاء:50.الأنبیاء:24؛.ص:8؛ص:1؛الزخرف:44؛الکهف:63.البقرة:200؛البقرة:198.
2- (2) .مریم:67.

والذکری:کثرة الذکر،و هو أبلغ من الذکر،قال تعالی: (رَحْمَةً مِنّا وَ ذِکْری لِأُولِی الْأَلْبابِ) (1)وقوله تعالی: (فَإِنَّ الذِّکْری تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِینَ) . (2)

والتذکرة:ما یتذکر به الشّیء و هو أعمّ من الدلالة و الأمارة،قال تعالی: (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْکِرَةِ مُعْرِضِینَ) ،وقوله تعالی: (کَلاّ إِنَّهُ تَذْکِرَةٌ) ،أی القرآن،وذکرته کذا قال تعالی: (وَ ذَکِّرْهُمْ بِأَیّامِ اللّهِ) ،وقوله تعالی: (فَتُذَکِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْری) ، (3)قیل معناه تعید ذکره.

قال بعض العلماء فی الفرق بین قوله تعالی: (فَاذْکُرُونِی أَذْکُرْکُمْ) ، (4)وبین قوله تعالی: (اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ) ، (5)أن قوله اذکرونی مخاطبة لأصحاب النبی صلّی الله علیه و آله الذین حصل لهم فضل قوة بمعرفته تعالی فأمرهم بأن یذکروه بغیر واسطة،وقوله تعالی: (اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ) ،مخاطبة لبنی إسرائیل الذین لم یعرفوا الله إلّا بآلائه،فأمرهم أن یتبصروا نعمته فیتوصلوا بها إلی معرفته. (6)

أ)الفرق بین التذکیر و التنبیه

وجاء فی الفرق بین التذکیر و التنبیه:

إن قولک ذکر الشّیء یقتضی أنه کان عالماً به ثمّ نسیه فردّه إلی ذکره ببعض الأسباب وذلک أن الذکر هو العلم الحادث بعد النسیان علی ما ذکرنا،ویجوز أن ینبه الرجل علی شیء لم یعرفه قط،ألا تری أن الله تعالی ینبه علی معرفته بالزلازل،والصواعق،وفهم من لم یعرفه البتة فیکون ذلک تنبیهاً له کما یکون تنبیهاً لغیره،ولا یجوز أن یذکره ما لم یعلمه قط. (7)

وقال الطبرسی فی قوله تعالی:

ص:176


1- (1) .ص:43.
2- (2) .الذاریات:55.
3- (3) .الآیات بترتیب:المدثر:49؛المدثر:54؛إبراهیم:5؛البقرة:282.
4- (4) .البقرة:152.
5- (5) .البقرة:40.
6- (6) .مفردات غریب القرآن:179-180.
7- (7) .العسکری, الفروق اللغویة:121 و122.

(إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْری لِلْعالَمِینَ) ، (1)أی:تذکیراً للعالمین بما یلزمهم إتیانه واجتنابه. (2)وجاء فی الفرقان فی معنی (إِلاّ ذِکْری) قال:ذکری لهم عن غفوتهم فطریاً،وعقلیاً،فأن مواد الهدی مرتکزة فی الفطر و العقول،ولا یعنی بعث الرسول کأصل إلّا >>ذکری>> لمن استغفلوا عن دلائل الإیمان،ایقاضاً لأصول الهدی،ثمّ الفروع تتبناها واردة علی قضایا الفطر و العقول. (3)

ب)الذکری تنفع المؤمنین

لقد خصّص الله عز وجلّ نفع التذکیر بالمؤمنین حین قال تعالی: (وَ ذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْری تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِینَ) ، (4)وتخصیص الذکری بالمؤمنین دلیل علی أن الإنذار یعمّهم وغیرهم،فالمعنی:أنزل إلیک الکتاب لتنذر به الناس،و هو ذکری للمؤمنین خاصة؛لأنهم یتذکرون بالآیات،والمعارف الإلهیة المذکورة فیها مقام ربهم،فیزید بذلک إیمانهم وتقر بها أعینهم،أما عامة الناس فأن هذا الکتاب یؤثر فیهم أثر الإنذار بما یشتمل علیه من ذکر سخط الله وعقابه للظالمین فی الدار الآخرة،وفی الدنیا بعذاب الاستئصال کما تشرحه قصص الامم السالفة. (5)

یقول الفخر الرازی:

فإن قیل:لِمَ قید هذه الذکری بالمؤمنین؟قلنا:هو نظیر قوله تعالی: (هُدیً لِلْمُتَّقِینَ) . (6)

والبحث العقلی فیه أن النّفوس البشریة علی قسمین:نفوس بلیدة جاهلیة بعیدة عن عالم الغیب غریقة فی طلب اللذات الجسمانیة و الشهوات الجسدانیة،ونفوس شریفة مشرقة بالانوار الإلهیة مستعدّة بالحوادث الروحانیة،فبعثة الأنبیاء

ص:177


1- (1) .الأنعام:90.
2- (2) .تفسیر مجمع البیان:513/4.
3- (3) .الفرقان فی تفسیر القرآن:11/22.
4- (4) .الذاریات:55.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:8/8؛تفسیر مجمع البیان:513/4،ومعنی التذکیر أن یأخذ فی الذکر شیئاً بعد شیء مثل التفقه و التعلم.(المصدر:611).
6- (6) .البقرة:2.

والرسل علیهم السلام فی حق القسم الأوّل إنذار وتخویف،فأنهم لما غرقوا فی نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلی موقظ یوقظهم،وإلی منبه ینبههم.

و أما فی حق القسم الثانی فتذکیر وتنبیه؛وذلک لأنّ هذه النّفوس بمقتضی جواهرها الأصلیة مستعدّة للانجذاب إلی عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدیة،إلّا أنه ربّما غشیها غَواش من عالم الجسم فیعرض لها نوع ذهول وغفلة،فإذا سمعت دعوة الأنبیاء وأتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالی تذکرت مرکزها وأبصرت منشأها،واشتاقت إلی ما حصل هناک من الروح،والراحة و الریحان،فثبت أنه تعالی أنما أنزل هذا الکتاب علی رسوله لیکون إنذارا فی حقّ طائفة وذکری فی حقّ طائفة أخری. (1)

وهنا یأتی سؤال:کیف ینتفع المؤمنون من الذکری؟

والجواب یحتمل وجوه:

أحدها:أن یراد قوّة یقینهم کما قال تعالی: (لِیَزْدادُوا إِیماناً) ، (2)وقال تعالی: (فَأَمَّا الَّذِینَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِیماناً) ، (3)وقال تعالی: (زادَهُمْ هُدیً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ) . (4)

ثانیها:تنفع المؤمنین الذین بعدک،فکأنک إذا أکثرت التذکیر بالتکریر نقل عنک ذلک بالتواتر،فینتفع به من یجیء بعدک من المؤمنین.

ثالثها:هو أن الذکری إن أفاد إیمان کافر فقد نفع مؤمناً؛لأنه صار مؤمناً،وان لم یفد یوجد حسنة ویزاد فی حسنة المؤمنین فینتفعوا. (5)

ج)نماذج من التذکیر بالنعم
أوّلاً:النعمة السیاسیة والاجتماعیة

نستطیع أن نشاهد النعمة السیاسیة والاجتماعیة فی قول الله تعالی: (وَ اذْکُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِیلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِی الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَکُمُ النّاسُ فَآواکُمْ وَ أَیَّدَکُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَکُمْ مِنَ

ص:178


1- (1) .التفسیر الکبیر:196/5.
2- (2) .الفتح:4.
3- (3) .التوبة:124.
4- (4) .محمد:17.
5- (5) .المیزان فی تفسیر القرآن:385/18.

اَلطَّیِّباتِ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) ،وأیضاً قوله تعالی: (وَ لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) ، (1)وقوله تعالی: (وَ اذْکُرُوا إِذْ جَعَلَکُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَکُمْ فِی الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُیُوتاً فَاذْکُرُوا آلاءَ اللّهِ) . (2)

ولتکون الذکری اساساً للتفکیر العملی الواعی الذی یدفعکم للسیر فی نهجه القویم وخطّه المستقیم،کتعبیر عن شکره،لما أولاکم من النعم السیاسیة والاجتماعیة.

ثانیاً:نعمة الإمداد الغیبی

وتتجلی هذه النعمة العظیمة فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اذْکُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ جاءَتْکُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَیْهِمْ رِیحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) . (3)

ثالثاً:نعمة الرزق

نلاحظ هذه النعمة بوضوح فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا النّاسُ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَیْرُ اللّهِ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ) . (4)

وکذلک نلاحظ ذلک فی قوله تعالی: (قُلْ مَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ یَمْلِکُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَ یُخْرِجُ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِّ وَ مَنْ یُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ) . (5)

رابعاً:نعمة التفضیل علی الآخرین

بإمکاننا أن نقف علی هذه النعمة الإلهیة فی قوله تعالی: (یا بَنِی إِسْرائِیلَ اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ

ص:179


1- (1) .الأنفال:26؛آل عمران:123.
2- (2) .الأعراف:74.
3- (3) .الأحزاب:9.
4- (4) .فاطر:3.
5- (5) .یونس:31.

اَلَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ وَ أَنِّی فَضَّلْتُکُمْ عَلَی الْعالَمِینَ) . (1)

وکما هو واضح أن الله تعالی حینما یذکّر الناس بنعمة التفضیل علی الآخرین،یرید تعالی أن یعمق فی نفوسهم الشعور بمسؤولیتهم الکبیرة المتمثّلة بالسیر علی خطّ ونهج الأنبیاء علیهم السلام.

خامساً:نعمة الوحدة

هذه النعمة الإلهیة من أهم النعم التی أنعم الله بها علی المؤمنین،حیث أنها مصدر من مصادر قوتهم وعظمتهم،ولذلک أشار الله تعالی إلیها فی کثیر من الآیات الشریفة،مثلاً قوله تعالی: (وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً...) . (2)

نشاهد فی هذه الآیة الکریمة کیف یذکر المولی عز وجلّ بالنعمة العظمی التی أنعم بها علی المؤمنین،وهی نعمة الوحدة و التجمع بعد التفرق،والألفة بعد العداوة و الخصام،وقتل بعضهم بعضاً،وتسلط القوی علی الضعیف،فجعلهم أخوة فی الإیمان،فقال تعالی: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) . (3)

فصاروا کالبدن الواحد،وکالبنیان المرصوص،بعدما کانوا یغورون فی الکفر و الشرک،والإشراف علی حافة النار و الهلاک بسبب الشرک و الوثنیة،فصاروا عندها سادة البشر وأساتذة العالم،وأنقذهم الله بالإسلام من الدمار و الهلاک و التشتت و التفرق.

سادساً:نعمة القیادة

وتتجلّی هذه النعمة تماماً بقوله تعالی: (یا قَوْمِ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ جَعَلَ فِیکُمْ أَنْبِیاءَ) (4)وجاء فی التفسیر:

ص:180


1- (1) .البقرة:47.
2- (2) .آل عمران:103.
3- (3) .الحجرات:10.
4- (4) .المائدة:20.

جاءت هذه الآیات لتثیر لدی الیهود دافع التوجه إلی الحقّ و السعی لمعرفته أولاً،وإیقاظ ضمائرهم حیال الأخطاء و الآثام التی ارتکبوها ثانیاً،ولکی تحفزهم إلی السعی لتلافی أخطائهم و التعویض عنها،ویذکرهم القرآن فی الآیة الأولی بما قاله النبی موسی علیه السلام لأصحابه حیث یقول: (وَ إِذْ قالَ مُوسی لِقَوْمِهِ یا قَوْمِ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ جَعَلَ فِیکُمْ أَنْبِیاءَ) .

ولا یخفی أن عبارة: (نِعْمَتَ اللّهِ) تشمل جمیع الأنعُم الإلهیة،لکن الآیة استطردت فبینت ثلاثاً من أهمّ هذه النعم وهی:

أولها:نعمة ظهور الأنبیاء علیهم السلام وقادة کثیرین بین الیهود،والتی تعتبر أکبر نعمة وهبها الله لهم،فتقول الآیة: (إِذْ جَعَلَ فِیکُمْ أَنْبِیاءَ) , و قد نقل أن فی زمن موسی بن عمران علیه السلام وحده کان یوجد بین الیهود سبعون نبیاً،وأن السبعین رجلاً الذین ذهبوا مع موسی علیه السلام إلی جبل الطور کانوا کلّهم بمنزلة الأنبیاء.

وفی ظلّ هذه النعمة-نعمة وجود الأنبیاء-نجا الیهود من هاویة الشریک و الوثنیة وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات و الأوهام و القبائح و الخبائث،لذلک أصبحت هذه النعمة اکبر النعم المعنویة التی أنعم الله بها علی بنی إسرائیل. (1)

هذا وتوجد فی طیات القرآن الکریم إشارة أخری إلی هذه النعمة العظیمة،کقوله تعالی: (أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَکُمْ ذِکْرٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَلی رَجُلٍ مِنْکُمْ لِیُنْذِرَکُمْ وَ اذْکُرُوا إِذْ جَعَلَکُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَکُمْ فِی الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْکُرُوا آلاءَ اللّهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ) . (2)

وکذلک قوله تعالی: (وَ اذْکُرُوا إِذْ جَعَلَکُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَکُمْ فِی الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُیُوتاً فَاذْکُرُوا آلاءَ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدِینَ) . (3)

فیقول تعالی: (فَاذْکُرُوا آلاءَ اللّهِ) ونعمائه وعظمته (لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ) من خلال هذه الذکری التی تنیر قلوبکم،وتبصرکم بکلّ خیر ورحمة وإیمان،حیث أن الذکری

ص:181


1- (1) .تفسیر الأمثل:660/3.
2- (2) .الأعراف:69.
3- (3) .الأعراف:74.

عنصر مهم وعامل من عوامل الوعی الذی یستثیر فیهم العناصر الطیبة الأصیلة التی یمکن أن تجعل منهم أناس طیبین،تنبض قلوبهم بالرحمة،وتعیش حیاتهم للمسؤولیة،وتتحرک خطواتهم-من خلال الوعی و التذکر-فی اتجاه الله وکل خیر.

هذا من ناحیة،ومن ناحیة أخری نجد أن الله سبحانه وتعالی یأمر أنبیاءه علیهم السلام أن یذکّروا بأیامه تعالی التی داولها بین الناس بما فیها من خیر و أمان،وعذاب وانتقام،کی یعوها ویتعظوا بها،ومن ذلک قوله تعالی: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسی بِآیاتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَکَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ وَ ذَکِّرْهُمْ بِأَیّامِ اللّهِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِکُلِّ صَبّارٍ شَکُورٍ) ، (1)فنجد أن نبی الله موسی علیه السلام:

یذکّر قومه أیام الله فی الأمم الماضیة ممّن فنیت أشخاصهم وخمدت أنفاسهم وعفت آثارهم وانقطعت أخبارهم،فلا یعلمهم بحقیقة حالهم تفصیلاً إلّا الله کقوم نوح وعاد وثمود و الذین من بعدهم. (2)

فمن هذا التذکیر نستلهم العظة و العبرة،کما جاء فی التفسیر:

أنه یمکننا أن نستفید من الآیة الکریمة عدة أمور:

1.علی الناس الاعتبار و الإیقاظ بأیام الله تعالی-أی:الوقائع العظیمة التی وقعت فیها-وتذکر نعم الله علیهم.

وذلک جمع بین الترغیب و الترهیب و الوعد و الوعید،فالترغیب و الوعد:أن یذکّرهم النبی موسی علیه السلام أو غیره ما أنعم الله علیهم وعلی من قبلهم ممن آمن بالرسل،فی سائر ما سلف من الأیام.

والترهیب و الوعید:أن یذکّرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممّن کذّب الرسل،ممن سلف من الأمم فیما سلف من الأیام،مثل ما نزل بعاد وثمود وغیرهم من العذاب،لیرغبوا فی الوعد فیصدّقوا،ویحذروا من الوعید فیترکوا التکذیب.

2.إن فی ذلک التذکیر و التنبیه دلائل لمن کان صباراً شکوراً.

ففی حالة المحنة و البلیة یصبر،وفی حالة المنحة و العطیة یشکر. (3)

ص:182


1- (1) .إبراهیم:5.
2- (2) .المیزان فی تفسیر القرآن:22/2.
3- (3) .تفسیر المنیر:212/13.
د)الهدف من ذکر النعم

لا بدّ فی نهایة هذا البحث-التذکیر-أن نَذْکُر الهدف الإلهی من ذکر نعمه الکبیرة علینا،وما هی الغایة من تکرار التذکیر بها،فنقول:

لا حاجة للتنبیه علی أن ذکر النعم الإلهیة الواردة فی القرآن الکریم لا یقصد منها إلقاء المنّة أو کسب الوجاهة وما شابه ذلک،فشأن الباری أجل وأسمی من ذلک،و هو الغنی ولا غنی سواه ولکن ذکرها جاء ضمن أسلوب تربوی مبرمج یهدف لإیصال الإنسان إلی أرقی درجات الکمال الممکنة من الناحیتین المادیة و المعنویة.

وأقوی دلیل علی ذلک ما جاء فی أواخر کثیر من الآیات....من عبارات و التی تصبّ-مع کثرتها وتنوعها-فی نفس الاتجاه التربوی المطلوب.

فبعد ذکر نعمة تسخیر البحار،فی قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْکُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِیًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْیَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَی الْفُلْکَ مَواخِرَ فِیهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) (1)یقول تعالی: (وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) .

وبعد أن قام بتبیین نعمة الجبال و الأنهار و السبل،کما فی قوله تعالی: (وَ أَلْقی فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ) ، (2)یقول تعالی: (لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ) .

وبعد تبیین أعظم النعم المعنویة،نعمة نزول القرآن،فی قوله تعالی: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلی جَبَلٍ لَرَأَیْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ) (3)یقول تعالی: (لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ) .

وبعد ذکر نعمة آلات المعرفة الإلهیة السمع و البصر و الفؤاد فی قوله تعالی: (وَ اللّهُ أَخْرَجَکُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِکُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئاً وَ جَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) ، (4)یقول تعالی: (لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) .

ص:183


1- (1) .النحل:14.
2- (2) .النحل:15.
3- (3) .الحشر:21.
4- (4) .النحل:78.

وبعد الإشارة إلی إکمال النعمة الإلهیة فی قوله تعالی: (وَ اللّهُ جَعَلَ لَکُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَکُمْ مِنَ الْجِبالِ أَکْناناً وَ جَعَلَ لَکُمْ سَرابِیلَ تَقِیکُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِیلَ تَقِیکُمْ بَأْسَکُمْ کَذلِکَ یُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُمْ لَعَلَّکُمْ تُسْلِمُونَ) (1)یقول تعالی: (لَعَلَّکُمْ تُسْلِمُونَ) .

وبعد ذکر جملة أمور فی مجال العدل و الإحسان ومحاربة الفحشاء و المنکر و الظلم،فی قوله تعالی: (إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ) . (2)یقول تعالی: (لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ) .

ویقول تعالی بعد نعمة النصر،فی قوله تعالی: (وَ لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) ، (3)یقول تعالی: (لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) .

والحقیقة أن القرآن الکریم قد أشار إلی خمسة أهداف ممّا ذکر فی الموارد أعلاه،وهی:

1.الهدایة؛2.التسلیم للحق؛3.الشکر؛4.التفکر؛5.التذکّر.

ومما لا شک فیه أن الأهداف الخمسة مترابطة فیما بینها ترابطاً وثیقاً فالإنسان یبدأ بالتفکر،و إذا نسی تذکّر،ثمّ یتحرک فیه حسن الشکر لواهب النعم علیه،فیفتح الطریق إلیه لیهتدی،وأخیراً یسلم لأوامر مولاه،وعلیه فالأهداف الخمسة حلقات مترابطة فی طریق التکامل،و إذا سلک السالک ضمن الضوابط المعطاة لحصل علی نتائج مثمرة وعالیة،وثمة ملاحظة،هی أن ذکر النعم الإلهیة بشکلیها الجمعی و الفردی إنما یراد بها بناء الإنسان الکامل. (4)

إذاً:یجب علی المبلّغ أن یلتزم بأسلوب التذکیر فی تبلیغه،لیتذکر من یتذکر،ویرتدع عن غیه وإعراضه من شاء أن یرتدع.

ص:184


1- (1) .النحل:81.
2- (2) .النحل:90.
3- (3) .آل عمران:123.
4- (4) .تفسیر الأمثل:372/8.

قال تعالی: (فَذَکِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّکْری * سَیَذَّکَّرُ مَنْ یَخْشی * وَ یَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَی * اَلَّذِی یَصْلَی النّارَ الْکُبْری * ثُمَّ لا یَمُوتُ فِیها وَ لا یَحْیی) . (1)

فالتذکیر واجب رسالی لا یسقط القیام به وتأدیته و إن تفاقمت أخطار المُعْرِضِین وازدحمت حشودهم وتزایدت قواهم المادیة وأحقادهم،بل هو الأسلوب الناجح-لو استعمل بدقّة وذکاء-فی تفتیت قوی الباطل وتمزیق شملهم وتغییر معادلات أعدادهم وقواهم.

6.أسلوب القصص و التاریخ

اشارة

إنّ أسلوب القصّة من أهمّ الأسالیب التی استخدمها الأنبیاء علیهم السلام فی مجال التبلیغ و الدعوة إلی الله،فخاطبوا بها کلاً من العقل و الشعور الإنسانی،فهی من أروع ما یعین علی الإقناع،ویقرب الغرض إلی الأذهان،ویوضح المعنی المطلوب،وأصبحت القصّة فی العصور الأخیرة أدباً وفناً قائماً برأسه،یستعین بها دعاة الأفکار الحدیثة،لتلقین العامّة وإقناعهم وان کانت من وضع الخیال،والسّر أن فی طبیعة الإنسان غریزة حبّ الاستماع إلی القصّة فیلتذ بها؛وذلک لإشباع غریزة حب الاطّلاع،أو لغیر ذلک من غرائزه،و قد یعتبرها شاهداً أو دلیلاً باعتبارها تجربة واقعیة.

و قد جاءت القصص بصورة متسقة بدیعة فی سور القرآن الکریم علی وجه من الشمولیة له من الدلالات الموحیة ما یحفّز الناظر فی کتاب ا لله وحیاة الأنبیاء علیهم السلام إلی دراستها دراسة واعیة مستوعبة....

أ)القصة
أوّلاً:مفهوم القصة

قبل الدخول فی التفاصیل لابد من الإشارة إلی معنی القصة.

ص:185


1- (1) .الأعلی:9-13.

القصة فی اللغة:

تتبع الأثر،یقال:قصصت الشّیء إذا تتبعت أثره شیئاً بعد شیء،قال تعالی: (فَارْتَدّا عَلی آثارِهِما قَصَصاً) ، (1)وقوله تعالی: (وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّیهِ) ، (2)وترد بمعنی:البیان و الخبر.ولذا یقال:القصص:الأخبار المتتابعة.قال تعالی: (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) ، (فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) ، (وَ قَصَّ عَلَیْهِ الْقَصَصَ) ، (نَقُصُّ عَلَیْکَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَیْهِمْ بِعِلْمٍ) ، (یَقُصُّ عَلی بَنِی إِسْرائِیلَ) ، (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) . (3)

علی أن لکلّ من:القصّة و النبأ،والخبر،والمثل،مفاهیم مختلفة فی السیاق القرآنی،ربما تداخلت مدلولاتها،وأهم ما یمیز بینها عنصری:الزمن بین المضی والاستقبال،ثمّ الواقعیة و التحقق.... (4)

وفی الحقیقة کثیراً ما یرد النبأ بمعنی القصص،کما فی قوله تعالی: (وَ کُلاًّ نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَکَ) ، (5)وقوله تعالی: (نَتْلُوا عَلَیْکَ مِنْ نَبَإِ مُوسی وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) . (6)

وللقصة مفهوم عصری مؤداه أنّها:

حکایة نثریة طویلة تستمدّ من الخیال أو الواقع أو منهما،وتبنی علی قواعد معینة من الفنّ الکتابی. (7)

أما القصّة فی المفهوم القرآنی،فلها من الخصائص و السمات العامّة ما تتمیز به عن القصص التی هی من وضع البشر.

ص:186


1- (1) .الکهف:64.
2- (2) .القصص:11.
3- (3) .مفردات غریب القرآن:404.لسان العرب:74/7.
4- (4) .انظر مادة الخبر،والنبأ،والمثل،فی مفردات الراغب.
5- (5) .هود:120.
6- (6) .القصص:3.
7- (7) .المعجم الوسیط:903/2.

ولقد درس الباحثون القصّة القرآنیة من جوانبها المختلفة،الجانب اللغوی البلاغی،والجانب الفنی التصویری،والجانب النفسی-أی:السیکولوجی-والجانب التاریخی....

و هذه الجوانب وغیرها تنضوی جمیعاً تحت المفهوم الدعوی الاشمل للقصّة فی کتاب الله،وتمثل وجهاً من وجوه الإعجاز القرآنی.

و قد حوی القصص القرآنی فی أطوائه جوانب عدیدة فی:العقیدة،والشریعة،والتاریخ،والسنن الرّبانیة،ومختلف العلوم وشتّی المعارف،ممّا تتطلبه الحیاة الإنسانیة المثلی،وتنهض علیه الحضارات الراقیة وتقیم علیه دعائمها وعناصر ازدهارها ونمائها.

والإنسان اجتماعی الطّبع،توحشه الوحدة ویستأنس بالجماعة،ولقد أعطی الذاکرة التی تعی الأحداث ومجریاتها،وتحتفظ بالکثیر المفید من صور الحیاة ومشاهد الطبیعة،ثمّ منح العقل الممیز الذی یستلهم العبر ویستخرج العلل ویقیس الأمور بأشباهها،ویصل-بهدایة الرسالات السّماویة-إلی تجنب سبل الشر و الفساد....

ولئن کان الإنسان علی هذا النمط الفرید فی مواهبه و قدراته وسجایاه،لم یکن غریباً أن یشتمل الکتاب العزیز علی القصص التی تستجیب لحاجات هذا المخلوق المکرّم،الفطریة،والعاطفیة،والعقلیة،وتستثیر فیه کوامن الحسّ لیصل إلی معرفة سر الحیاة،والهدف من الوجود من هذه الأرض،والی أین المصیر بعد الموت....

والذی یتأمّل من القصص القرآنی بوعی وتدبر یقف خاشعاً أمام کلام الله العلیم الخبیر،و هو یقص أخبار الدعاة من المرسلین وأتباعهم،ویبسط الأسالیب التی استخدموها و الوسائل التی انتقوها لمختلف حالات المدعوین،ویعرض فی أسلوب معجز کیف وصلوا إلی تحقیق أهداف الدّعوة من أقرب الطرق وبأیسر السبل،کلّ ذلک عبر الأحقاب المتطاولة لتاریخ البشریة،وأنت إذا أجَلْتَ بصیرتک فی القصص القرآنی،وقفت علی جلال الموضوع،وکمال العرض،واتساق الترکیب....

ومن أهم دلائل اهتمام القرآن بأسلوب القصّة فی تبلیغ الدّعوة:

ص:187

أ.ورودها منسوبة إلی ربّ العزة و الجلال فی قوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْکَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، (1)وقوله تعالی: (کَذلِکَ نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) ، (2)وقوله تعالی: (إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ یَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَیْرُ الْفاصِلِینَ) . (3)

ب.أمر الله سبحانه نبیه أن یقصّ علی الناس ما أُوحی إلیه،کما فی قوله عز وجلّ،بعد أن ذکر طرفاً من أخبار بنی إسرائیل: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ) ، (4)أی:قصص الذین کفروا وکذبوا أنبیاءهم. (5)

ومن هنا جعل بعض العلماء القصص من مرادفات کلمة:(الدّعوة)ومثلها الوعظ،والإرشاد،والتبلیغ،والبیان؛إذ أمر بها إمام المرسلین و قدوة الداعین محمّد صلّی الله علیه و آله.

ج.القصّة مَعْلم بارز من معالم القرآن الکریم لتوضیح الحقائق وتبیین السبل،کما فی سورة النمل: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَقُصُّ عَلی بَنِی إِسْرائِیلَ أَکْثَرَ الَّذِی هُمْ فِیهِ یَخْتَلِفُونَ) . (6)

د.القصّ-بالمفهوم العام-کان من مهمات الرسل علیهم السلام،ولذا قال تعالی: (یا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ یَأْتِکُمْ رُسُلٌ مِنْکُمْ یَقُصُّونَ عَلَیْکُمْ آیاتِی وَ یُنْذِرُونَکُمْ لِقاءَ یَوْمِکُمْ هذا) ، (7)وقال تعالی: (یا بَنِی آدَمَ إِمّا یَأْتِیَنَّکُمْ رُسُلٌ مِنْکُمْ یَقُصُّونَ عَلَیْکُمْ آیاتِی فَمَنِ اتَّقی وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ) . (8)

ه.حیاة الأنبیاء علیهم السلام-والقصص وتصویرها-فی موضع القدوة و الأسوة،ولقد أمر

ص:188


1- (1) .یوسف:3.
2- (2) .طه:99.
3- (3) .الأنعام:57.
4- (4) .الأعراف:176.
5- (5) .زاد المسیر:291/3.
6- (6) .النمل:76.
7- (7) .الأنعام:130.
8- (8) .الأعراف:35.

الله خاتم المرسلین بالاقتداء بهم،بعد أن سرد طرفاً من أخبارهم فقال تعالی: (أُولئِکَ الَّذِینَ هَدَی اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (1). (2)

وأحداث القصص القرآنی تدور فی محیط الدّعوة إلی الله،وإلی تحریر العقیدة وتصفیتها من العبودیة لغیر الله،وتوجیهها إلی عبادة الإله الواحد الخالق ربّ العالمین،ولذلک کانت دعوات الأنبیاء هی الشخصیة الغالبة فی قصص القرآن. (3)

وهنا یکمن الفرق بین القصص القرآنی وغیره من القصص.

حیث یختلف القصص القرآنی عن غیره من القصص فی ناحیة أساسیة هی:ناحیة الهدف و الغرض الذی جاء من أجله؛ذلک لأنّ القرآن الکریم لم یتناول القصّة؛لأنها عمل(فنّی)مستقل فی موضوعه وطریقة التعبیر فیه،کما أنّه لم یأتِ بالقصة من أجل التحدّث عن أخبار الماضین وتسجیل حیاتهم وشؤونها فحسب-کما یفعل المؤرّخون-وإنما کان عرض القصّة فی القرآن الکریم مساهمة فی الأسالیب العدیدة التی سلکها لتحقیق أهدافه وأغراضه الدینیة،التی جاء بها الکتاب الکریم،وبعث الأنبیاء علیهم السلام من أجلها،بل یمکن أن نقول:إنّ القصّة هی من أهمّ هذه الأسالیب.

فالقرآن الکریم رسالة دینیة قبل کلّ شیء تهدف بصورة أساسیة إلی عملیة التغییر الاجتماعی بجوانبها المختلفة؛لذا فلا بدّ لنا-حین نرید أن ندرس القصّة القرآنیة-أن نضع أمامنا هذا الهدف القرآنی العام لنتعرف من خلاله علی الأسلوب الذی اتبعه القرآن الکریم فی عرضه القصّة القرآنیة مساهمة منه فی تحقیق هذا الهدف.

ثانیاً:أهداف القصص القرآنی

لقد وردت القصّة فی القرآن الکریم لتساهم فی عملیة الکمال الإنسانی بجوانبها

ص:189


1- (1) .الأنعام:90.
2- (2) .الدّعوة إلی الله تعالی:143 و144.
3- (3) .عبد الکریم, الخطیب, القصص القرآنی:43،بتصرف طفیف.

المتعدّدة فهی-بالإضافة إلی تحقیق أسس الدّعوة،من توحید الله،وتصحیح المفاهیم الخاطئة حول الإلوهیة و الربوبیة،والنبوة ومتعلقاتها،وتقریر البعث و النشور،والحساب و الجزاء،وإقامة شرع الله بین الناس-ترمی إلی أهداف خاصة،تعنی بالمبلغین و الدعاة و المدعوین،ثمّ الإنسانیة جمعاء.

و قد جَمَعَت آیتان فی کتاب الله أهداف القصص فی القرآن الکریم،نوّهت الأولی عن أهداف وخصائص قصص المرسلین،وأوضحت الأخری أهداف القصص بوجه عام،قال تعالی: (وَ کُلاًّ نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَکَ وَ جاءَکَ فِی هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِکْری لِلْمُؤْمِنِینَ) ، (1)وقال بعد قصّة یوسف علیه السلام و المجتمع المصری آنذاک: (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری وَ لکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ) ، (2)والآیتان مکیتان تتحدد منهما أهداف القصّة, وهی:

1.الدلالة علی صدق رسول الله صلّی الله علیه و آله:وأن ما جاء به کلام الله،وکان هذا من أکبر أهداف القصص،لا سیما الغیبیة منها،کما قال تعالی: (وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِیِّ إِذْ قَضَیْنا إِلی مُوسَی الْأَمْرَ وَ ما کُنْتَ مِنَ الشّاهِدِینَ * وَ لکِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَیْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما کُنْتَ ثاوِیاً فِی أَهْلِ مَدْیَنَ تَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِنا وَ لکِنّا کُنّا مُرْسِلِینَ * وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَیْنا وَ لکِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِیرٍ مِنْ قَبْلِکَ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ) . (3)

2.التثبیت:وما أحوج[المبلّغین]والدعاة إلیه،وما أجداه،و قد تولّاه ربّ العزة و الجلال،وقال أبو حیان فی قوله تعالی: (وَ کُلاًّ نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَکَ) : (4)

ص:190


1- (1) .هود:120.
2- (2) .یوسف:111.
3- (3) .القصص:45 و46.
4- (4) .هود:120.

أی:نقوّی ونثبت الفؤاد،هو بما جری للأنبیاء علیهم السلام ولأتباعهم المؤمنین،وما لقوا من مکذبیهم من الأذی،ففی هذا کله أسوة بهم؛إذ المشارکة فی الأمور الصعبة تهون ما یلق الإنسان من الأذی،ثمّ الإعلام بما جری علی مکذبیهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب...فیه طمأنینة للنفس وتأنس بأن یصیب الله من کذب الرسول صلّی الله علیه و آله بالعذاب کما جری لمکذبی الرسل،والتثبیت هنا شامل للدعاة کلهم و هو مبثوث فی قصص الرسل کلهم،یوحی بذلک لفظ[کُلاً]علی اعتبار أنّه مفعول به أو بدل أو خبر أو نکرة،فعلی أی وجه حمل أدّی من الشمولیة ما ذکرنا. (1)

وکان تکرار القصّة الواحدة فی سور مختلفة بصور متنوعة تسلیة لرسول الله صلّی الله علیه و آله وللدعاة من بعده.

3.العبرة:وهی الدلالة التی یعبر عنها بالعلم، (2)وهی المقصد الأسمی لقصص القرآن،ولیس ینتفع به إلّا أولو الألباب.

والعبرة کی تتحقّق علی أتّم وجوهها تستلزم:

أ.الحذر من الوقوع فیما وقع فیه المکذبون.

ب.الانتفاع من دراسة الأحداث بوعی،وتلافی السلبیات و الحرص علی الإیجابیات.

ج.استنباط الحکم و الأسالیب الواردة فی القصّة و التفریع علیها وفق متطلبات العصر،وکل هذا یحتویه قصص القرآن: (وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِیهِ مُزْدَجَرٌ) . (3)

4.إقامة المجتمع المسلم،و هو کذلک من أهداف القرآن العظیم،و قد وردت عوامل بناء شخصیة الإنسان مفصلة فی القرآن المجید نظریاً،وفی قصصه تطبیقیاً،قال تعالی: (...وَ تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ) ، (4)وأنّها لأرقی العوامل التی عرفها الإنسان وأصدقها

ص:191


1- (1) .الصحاح:274/5.
2- (2) .الصحاح:356/5.
3- (3) .القمر:4.
4- (4) .یوسف:111.

وأبقاها لقوله عز وجلّ: (هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ) ، (1)وقوله: (وَ جاءَکَ فِی هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِکْری لِلْمُؤْمِنِینَ) . (2)

ولقد کانت قصص القرآن من روافد تصحیح المفاهیم فی الإلوهیة،والنبوة،والبعث،وتکوین فکرة صحیحة،وتصوّر مستقیم عن الحیاة الدنیا و الآخرة.

وثمّة أهداف أخری سوی ما تقدّم کتعلیم أدب الحوار،وأدب الدّعوة،وعرض وتحلیل أمراض أولی الأهواء و النزعات المنحرفة،وأسالیب تربیة الأمم و الأفراد و الدعاة....

وعلی العموم،فالقصّة فی القرآن جاءت:

لأجل الموعظة والاعتبار،لا لبیان التاریخ،ولا للحمل علی الاعتقاد بجزئیات الأخبار عن الغابرین،وإنّه لیحکی من عقائدهم الحقّ و الباطل،ومن تقالیدهم الصادق و الکاذب،ومن عاداتهم النافع و الضار،لأجل الموعظة والاعتبار،فحکایة القرآن لا تعدّوا موضع العبرة،ولا تتجاوز مواطن الهدایة،ولا بدّ أن یأتی فی العبارة أو السیاق وأسلوب النظم ما یدل علی استحسان الحسن واستهجان القبیح. (3)

إذاً:نجد أن القصّة القرآنیة تکاد تستوعب فی مضمونها وهدفها وأسلوبها جمیع الأغراض الرئیسیة التی جاء من أجلها القرآن الکریم.

ثالثاً:القصة القرآنیة ومناهج الدّعوة

تخاطب مناهج الدّعوة الإنسان بکیانه کله،عواطفه،وأحاسیسه،ومشاعره،وعقله،ومدارکه،وفطرته....

وموقع القصّة القرآنیة من هذه المناهج موقع هام ذو أثر کبیر؛ذلک لأنّه القصّة تخاطب کیان الإنسان مخاطبة المناهج إیاه.

ص:192


1- (1) .الأعراف:52.
2- (2) .هود:120.
3- (3) .تفسیر المنار:399/1؛الدّعوة إلی الله:158-160.

ثمّ إن کانت القصّة ألصق بالمنهج العاطفی حتّی عُدت من روافده وأسالیبه؛فذاک لأنها تعتمد علی أسلوب الحکایة التی تتضمن أشخاصاً وحواراً أو مشکلة ثمّ حلاً،فلیس ثمّ ما هو علی وتیرة واحدة،بل تجد الأسلوب الخبری ینقلب فجأة إلی إنشائی و العکس،ویرد نهی واستفهام،ثمّ تمنی وترج فتعجب....وکلّ أولئک یجعل النفس تستشرف فتتهیأ لمعرفة النتائج ومترتبات الأمور،ومن ثمّ تعی فتستبصر.

هذا من جانب الأسلوب وتلونه وتنوع العرض واختلاف المؤثرات.

والقصّة إضافة إلی هذا تصویر لمجتمع ما بکل خصائصه ومکوناته وخلجاته وتصوراته....وهی بعد ذلک مخاطبة لمجتمع آخر یحمل نفس الملامح و السمات و الطبائع،ویتجه نفس الاتجاهات(فالمماثلة)و(التطابق)نقطة إلتقاء بین المجتمعین وان فصل بینهما بون تاریخی،ولذا قال تعالی: (وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَیْکُمْ آیاتٍ مُبَیِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِکُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِینَ) ، (1)ومثلاً،أی:شبهاً من حالهم بحالکم أیها المکذبون. (2)

إذاً:فأسلوب القصّة هو أسلوب الإبلاغ غیر المباشر،أو قل مخاطبه مجموعة بهدف إسماع غیرها من باب إیاک أعنی واسمعی یا جارة،فقد روی عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

>>نزل القرآن بأیاک أعنی وأسمعی یا جارة». (3)

وعلیه،فمن الطّبیعی أن یؤثر أسلوب القصّة تأثیراً کبیراً فی المجتمع،بحیث أن کثیر من الناس قد یرسم طریقه علی وفقها،بسبب ما تثیره فیه من وعی وإحساس

ص:193


1- (1) .النّور:34.
2- (2) .زاد المسیر:39/6؛الدّعوة إلی الله تعالی:154.
3- (3) .أصول الکافی:631/2.

خاص فی معرفة الحقّ و الخیر وأهله،وتشخیص الباطل و الشر وأهله،و هذا ما نصت علیه کثیر من الآیات الشریفة،کقوله تعالی: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْکَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) ، (1)وقوله تعالی: (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) ، (2)وقوله تعالی: (إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ یَقُصُّ الْحَقَّ) . (3)

رابعاً:نموذج من القصص القرآنی

قصة الملکة بلقیس:

وکانت فی تاریخ القرآن ألوان من القصص المثیرة المحرّکة لمشاعر الإیمان،والتی تعدّ من حوافز العقیدة،لصلتها المباشرة بالفیض الإلهی،والإرادة الربانیة،وأحداث قصة الملکة بلقیس مثلٌ یحتذی من الدبلوماسیة الرشیدة،وإعمال الفکر و الأناة،والظفر بتحقیق النتائج السلمیة،وصون البشریة من إراقة الدماء،وحفظ الأنفس؛لأن البعد عن الأهواء و الشهوات وعن الغطرسة یؤدّی إلی اتخاذ موقف الحکمة و السداد.

و قد قال تعالی واصفاً قصة بلقیس مع سلیمان علیه السلام: (قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ کِتابٌ کَرِیمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ * أَلاّ تَعْلُوا عَلَیَّ وَ أْتُونِی مُسْلِمِینَ * قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِی فِی أَمْرِی ما کُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّی تَشْهَدُونِ * قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِیدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَیْکِ فَانْظُرِی ما ذا تَأْمُرِینَ * قالَتْ إِنَّ الْمُلُوکَ إِذا دَخَلُوا قَرْیَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ کَذلِکَ یَفْعَلُونَ * وَ إِنِّی مُرْسِلَةٌ إِلَیْهِمْ بِهَدِیَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ یَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمّا جاءَ سُلَیْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِیَ اللّهُ خَیْرٌ مِمّا آتاکُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِیَّتِکُمْ تَفْرَحُونَ * اِرْجِعْ إِلَیْهِمْ فَلَنَأْتِیَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ) ، (4)ارجع أیها المبعوث إلیهم بهدیتهم،فأننا سنأتیهم بجنود أشداء لا طاقة لهم بقتالهم،ولنخرجنهم

ص:194


1- (1) .الکهف:13.
2- (2) .آل عمران:62.
3- (3) .الأنعام:57.
4- (4) .النمل:29-37 وفی سورة النمل قصص خمسة من الأنبیاء علیهم السلام تمثل ثلثی السورة تقریباً.

من بلدتهم أذلّة،وهم مهانون مدحورون أن لم یأتوا مسلمین منقادین لربّ العالمین.

إسلام بلقیس وزیارتها لسلیمان علیه السلام:

حینما ردّ سلیمان علیه السلام هدّیة بلقیس،أدرکت أنّه نبی مرسل من الله،ولیس ملکاً طامعاً بالسلطة و النفوذ وجمع الأموال،فبادرت لإعلان إسلامها،وقبولها دعوة سلیمان علیه السلام،فأقبلت إلیه مع حرسها،معظّمة سلیمان،متابعة له فی الإسلام،فأعلن سلیمان بهجته وسروره بقدوم بلقیس وأشراف قومها،ثمّ بادر إلی الاستعانة بالجنّ لرفده بأخبارهم وأحوال وفدهم.وکان إحضار سریرها من الیمن إلی بلاد الشام معجزة نبویة باهرة،تدل علی صدق نبوة سلیمان علیه السلام،وتأیید الله له،ممّا أدهش بلقیس وتأکدت مصداقیة النبوة،وصحة الموقف الذی اتخذته،قال الله تعالی واصفاً هذا الحدث العظیم فی تاریخ الدعوات إلی الله تعالی: (قالَ یا أَیُّهَا الْمَلَؤُا أَیُّکُمْ یَأْتِینِی بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ یَأْتُونِی مُسْلِمِینَ * قالَ عِفْرِیتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِکَ وَ إِنِّی عَلَیْهِ لَقَوِیٌّ أَمِینٌ * قالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتابِ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّی لِیَبْلُوَنِی أَ أَشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ وَ مَنْ شَکَرَ فَإِنَّما یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ * قالَ نَکِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِی أَمْ تَکُونُ مِنَ الَّذِینَ لا یَهْتَدُونَ * فَلَمّا جاءَتْ قِیلَ أَ هکَذا عَرْشُکِ قالَتْ کَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِینَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ کُنّا مُسْلِمِینَ * وَ صَدَّها ما کانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنَّها کانَتْ مِنْ قَوْمٍ کافِرِینَ * قِیلَ لَهَا ادْخُلِی الصَّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ کَشَفَتْ عَنْ ساقَیْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِیرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ) ، (1)هکذا استغاثت أوّلاً برّبها بالاعتراف بالظلم؛إذ لم تعبد الله من بدء أو من حین رأت هذه الآیات،ثمّ شهدت بالإسلام لله مع سلیمان.

ونلاحظ فی قوله تعالی: (وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمانَ لِلّهِ) , التفات بالنسبة إلیه تعالی من الخطاب إلی الغیبة ووجه الانتقال من إجمال الإیمان بالله.إذ قالت:

ص:195


1- (1) .النمل:38-44.

(رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی) ،إلی التوحید الصریح فإنها تشهد أنّ إسلامها لله مع سلیمان،فهو علی نهج إسلام سلیمان و هو التوحید،ثمّ تؤکد التصریح بتوصیفه تعالی برب العالمین،فلا رب غیره تعالی لشیء من العالمین،و هو توحید الربوبیة المستلزم لتوحید العبادة الذی لا یقول به مشرک. (1)

والذی یلفت النظر فی هذه القصّة وغیرها من القصص القرآنی أنها احتوت علی کثیر من الدروس،والمفاهیم،والعلوم،والعبر،وهی أعمق تأثیراً وأدعی للإستجابة و الإذعان،فهی بذلک أحسن القصص قال تعالی: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْکَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَیْنا إِلَیْکَ هذَا الْقُرْآنَ...) ، (2)ولذلک حدثت محاولات کثیرة للقضاء علی القصص القرآنی،وإبعاد الناس عن الاستماع إلیه،ومن تلک المحاولات....

خامساً:الاستهزاء بالقصص القرآنی

کان البعض یحاول حرف الناس عن القصص القرآنی،بأتباع أسلوب الاستهزاء بالقصص القرآنی،فنزل قوله تعالی: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَ یَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِکَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ) ، (3)وقال بعض المفسّرین:

أنّ الآیة نزلت فی النظر بن الحارث،فقد کان تاجر یسافر إلی إیران،وکان یحدث قریش بقصص الإیرانیین وأحادیثهم،وکان یقول:إذا کان محمد یحدثکم بقصص عاد وثمود فإنی أحدثکم بقصص رستم،وأسفندیار،وأخبار کسری،وسلاطین العجم،فکانوا یجتمعون حوله ویترکون استماع القرآن،ف (لَهْوَ الْحَدِیثِ) قد یکون المراد منه القصص الخرافیة و الأساطیر التی تؤدّی إلی انحراف الناس عن الصراط المستقیم. (4)

ص:196


1- (1) .المیزان فی تفسیر القرآن:367/15؛التفسیر الوسیط:1873/2-1876.
2- (2) .یوسف:3.
3- (3) .لقمان:6.
4- (4) .تفسیر الأمثل:13/13.

بهذا الأسلوب کان یستهزئ بقصص القرآن ولکن سرعان ما تبددت جهودهم وخاب سعیهم وکانت العاقبة للمتقین.

وفی نهایة المطاف لا بدّ من قول أن الذی یعْتَبِر فی القصص هم أصحاب العقول و البصائر،وفی هذا قال تعالی: (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ) . (1)

فهی مرآة یستطیعون من خلالها أن یروا عوامل النصر و الهزیمة،الهناء و الحرمان،السعادة و الشقاء،العز و الذلة،والخلاصة کل ما له قیمة فی حیاة الإنسان،وما لیس له قیمة.

وهی مرآة لکل تجارب المجتمعات السابقة و الرجال العظام،ومرآة نشاهد فیها ذلک العمر القصیر للإنسان کیف یطول بمقدار عمر کلّ البشر،ولکن أولی الألباب وذوی البصائر فقط باستطاعتهم أن یشاهدوا العبر فی صفحة المرآة العجیبة هذه. (2)

ب)التاریخ
اشارة

فی کثیر من الأحیان یستخدم الأنبیاء علیهم السلام أسلوب التذکیر و الدعوة إلی النظر فی التاریخ،وضرورة التسلح بمنظار تاریخی،یکشف القوانین الاجتماعیة التی وضعها الله للحیاة،ومنها أن الحقّ ینتصر،وأن رسالات الله ما هی إلّا توضیحات لتلک السنن،فیدعوهم للإیمان علی هذا الأساس وبهذا الأسلوب لیفکّروا ویتأملوا ویقتنعوا،فیهتدی بها المتقون،ویتخذون منها،عبراً نافعة لأنفسهم.

ولذلک یذکرنا القرآن الکریم بهذه الحقائق علی هذا الأسلوب فیقول تعالی: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِکُمْ سُنَنٌ فَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانْظُروا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ * هذا بَیانٌ لِلنّاسِ وَ هُدیً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِینَ) . (3)

ص:197


1- (1) .یوسف:111.
2- (2) .تفسیر الأمثل:320/7.
3- (3) .آل عمران:137 و138.

السُّنَنُ جمع:سنّة،وهی:الطریقة المجعولة لیقتدی بها،ومن ذلک سنّة رسول الله صلّی الله علیه و آله قال سلیمان بن قبة:

أن الأولی بالطف من آل هاشم تأسوا فسنّوا للکرام التأسیا

وأصل السنة:الاستمرار فی جهة،یقال:سنّ الماء إذا صبّه.والسنان لاستمرار الطعن به،والسنن استمرار الطریقة و العاقبة). (1)

النظر فی تاریخ الماضین وآثارهم

یعتبر القرآن الکریم ربط الماضی بالحاضر،والحاضر بالماضی أمر ضروری لفهم الحقائق؛لأنّ الارتباط بین هذین الزمانین-الماضی و الحاضر-یکشف عن مسؤولیة الأجیال القادمة،ویوقفها علی واجبها،ولهذا قال سبحانه: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِکُمْ سُنَنٌ فَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانْظُروا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ) ؛وذلک لأنّ للتاریخ أهمیة حیویة عند کل أمّة من الأمم؛لأن التاریخ یعکس الخصوصیات الأخلاقیة و الأعمال الصالحة وغیر الصالحة،والأفکار التی کانت سائدة فی الأجیال السابقة،کما یکشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها،ونجاحها و فشلها فی العصور الغابرة المختلفة.

ومجمل القول:أن التاریخ مرآة الحیاة الروحیة و المعنویة للمجتمعات البشریة،و هو لذلک خیر مرشد محذر للأجیال القادمة.

ولهذا نجد القرآن الکریم یدعو المسلمین إلی السیر فی الأرض،والنظر بإمعان وتدبر فی آثار الأمم و الشعوب التی سادت ثمّ بادت؛إذ یقول: (فَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانْظُروا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ) ،إنّ آثار الماضی خیر عبرة للقادمین،وبالنظر فیها والاعتبار بها یمکن للناس أن یعرفوا المسیر الصحیح للسلوک و الحیاة.

إنّ الآثار المتبقیة فی مختلف بلدان العالم من الأمم و العهود السابقة ما هی-فی الحقیقة-إلّا وثائق التاریخ الحیة و الناطقة،بل هی قادرة علی أن تُعطینا

ص:198


1- (1) .تفسیر مجمع البیان:841/2.

من الحقائق و الأسرار أکثر ممّا یعطینا التاریخ المدوّن.

أجل،إنّ خرائب قصور الطغاة وبقایا آثار عظیمة مثل الأهرام،وبرج بابل،وقصور کسری،وآثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ،ومئات من نظائرها الأخری من هذه الآثار المنتشرة فی شتی أنحاء هذا الکوکب تنطوی-رغم صمتها-علی ألف حدیث وحدیث،وألف کلمة وکلمة.

ولقد لخصّ أحد الأدباء هذه الحقیقة فی بیت شعری؛إذ قال:

إنّ آثارنا تدلّ علینا فانظروا بعدنا إلی الآثار

إنّ مطالعة سطر واحد من هذه التواریخ الحیة الناطقة تعادل-فی الحقیقة-مطالعة کتاب ضخم فی مجال التاریخ،و أنّ ما تبعثه تلک المطالعة فی النفس و الروح البشریة لا یقاس به شیء مهما عظم أمره؛ذلک لأننا عندما نقف أمام آثار الماضین تتمثل أمامنا تلک الآثار،وکأنّها قد استعادت حیاتها،ودبّ فیها الروح،وکأنّ العظام النخرة قد خرجت من تحت الأرض حیة،وکأن کلّ شیء قد عاد إلی سیرته الأولی،وکأنّ جمیع الأشیاء تنطق وتتحدّث،ثمّ إذا أعدنا النظر وجدناها صامته میتة منسیة،و هذه المقایسة بین هاتین الحالتین ترینا غباء أولئک المستبدون الذین یرتکبون آلاف الجرائم،وأفظع الجنایات للوصول إلی الشهوات العابرة،واللذائذ الخاطفة.

ولهذا یحثّ ا لقرآن المسلمین علی السیر فی الأرض،والنظر إلی آثار الماضین المدفونة تحت التراب أو الباقیة تحت الأرض بأمّ أعینهم،وأن یتخذوا من کلّ ذلک العظة و العبرة وما أکثر العبر.

و هذا هو ما یسمیه القرآن الکریم بالسیر فی الأرض،والذی تأمر به الآیات العدیدة ومن ذلک قوله تعالی: (قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِینَ) ، (1)وقوله

ص:199


1- (1) .النمل:69.

تعالی: (أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَتَکُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ یَعْقِلُونَ بِها) ، (1)وقوله تعالی: (قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانْظُرُوا کَیْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ، (2)وغیرها من الآیات الشریفة.

إنّ هذه الآیة تقول بأنّ السیر فی الأرض و النظر فی آثار الماضین یفتح العقول و العیون،وینیر القلوب و الأفئدة،ویخلص الإنسان من الجمود و الرکود.

و قد أشار الإمام علی أمیر المؤمنین علیه السلام إلی هذه الحقیقة فی کلمات وخطب عدیدة منها قوله علیه السلام:

فاعتبروا بما أصاب الأمم المستکبرین من قبلکم من بأس الله وصولاته،ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوی خدودهم،ومصارع جنوبهم واستعیذوا بالله من لواقع الکبر کما تستعیذونه من طوارق الدهر....

واحذروا!مانزل بالأمم قبلکم من المثلات بسوء الأفعال،وذمیم الأعمال،فتذکروا فی الخیر و الشر أحوالهم،واحذروا!أن تکونوا أمثالهم فإذا تفکرتم فی تفاوت حالیهم فألزموا کل أمر لزمت الغرّة به شأنهم وزاحت الأعداء لهم عنهم،ومدت العافیة به علیهم،وانقادت النعمة له معهم،ووصلت الکرامة علیه حبلهم من الأجتناب للفرقة و اللزوم للمآلفة و التحاض علیها،والتواصی بها،واجتنبوا کلّ أمر کسر فقرتهم وأوهن منتهم،من تضاغن القلوب،وتشاحن الصدور وتدابر النفوس،وتخاذل الأیدی.... (3)

ومن کلّ هذا نعرف أن القرآن الکریم یضع التاریخ فی موضعه التربوی الذی یستطیع الإنسان من خلاله أن یعرف الأسس التی کانت ترتکز علیها حرکته،والقوانین الطبیعیة التی تحکم أحداثه وظواهره فی المحاولات الاجتماعیة و السیاسیة و الحربیة....وبذلک لا یعود التاریخ قصّة للمتعة و اللهو وقتل أوقات الفراغ؛لأنّ الله جعل حرکته مظهراً لفکره فی مفرداته وأسلوبه وحرکته فی الواقع.

ص:200


1- (1) .الحج:46.
2- (2) .العنکبوت:20.
3- (3) .نهج البلاغة:خطبة:192؛تفسیر الأمثل:703/2-706.

7.أسلوب التمثیل و التشبیه

اشارة

إنّ أسلوب ضرب المثل و التشبیه من أهمّ الأسالیب التی یتمکن المبلّغ من خلالها أن یقرب الموضوع إلی ذهن المستمع ویصّور له هدفه،فضرب المثل أسلوبا حیاً من أسالیب تمثل الفکرة بطریقة حیة موحیة؛لأنّ الناس یتمثلون المحسوسات أکثر مما یتمثلون المعقولات،الأمر الذی یجعل تشبیه مدلول المعقول بالمحسوس سبیلاً لتقدیم المعقول إلی الذهن.و هذا ما درج القرآن علی استعماله فی تقدیم أکثر من فکرة فی أکثر من موقع،بأوضح الأسالیب وأقربها إلی الوعی،بهدف إیصالها:

فما أکثر المواضیع و المفاهیم المشکلة و المعقدة التی لا یمکن حلها کما هو مطلوب بطول الکلام،والشرح و التوضیح،إلّا أنها تتضح للمستمع تماماً حتّی لا یبقی فیها مجال للغموض و الإبهام بمثال واحد فقط. (1)

وضرب المثل:

هو من ضرب الدارهم،و هو ذکر شیء أثره یظهر فی غیره،قال تعالی: (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً) ، (وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) ، (ضَرَبَ لَکُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِکُمْ) ، (2)والتمثیل أکثر من التشبیه؛لأن کل تمثیل تشبیه،ولیس کلّ تشبیه تمثیل. (3)

أ)الهدف من ضرب الأمثال و التشبیهات

یهدف المثل القرآنی إلی إیصال الإنسان إلی ساحة الخیر من خلال ربطه بصور الخیر،وسوق خیاله إلی صور الخیر فیستمرّ تحریکها مع واقعه الحی،و هو ما نجده فی الآیات الشریفة،قال تعالی: (وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) .... (4)

ص:201


1- (1) .البیان وفن الخطابة:214.
2- (2) .مفردات غریب القرآن:295.
3- (3) .المصدر:445.
4- (4) .العنکبوت:43.

أی:هذا المثل ونظائره نجیء به لتقریب ما هو بعید عن الإفهام،ولمعرفة قبح ما هم علیه من الأوثان،وحسن معرفة الله وتوحیده: (وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) ،المتدبرون فی حقائق الأشیاء علی ما ینبغی،فإن الأمثال و التشبیهات دلائل وطرق إلی المعانی المحتجبة لإبرازها وکشف أسرارها حیث أنها بغیر الأمثال لا تبرز ولا تظهر ولا تتصور من غیر العالم و الجهلة لا یصلون إلی فهمها. (1)

وجاء فی التفسیر:

إن الأمثال و التشبیهات،وبخاصة تشبیه المعقول بالمحسوس،فیها ذکری وعظة وعبرة،وإفهام وإیقاظ للمشاعر و الضمائر،ولفت الأنظار،وشدّ الانتباه إلیه. (2)

إذاً:فأسلوب ضرب المثل من الأسالیب العامّة التی یتداولها المبلّغون فی الإقناع،والهدایة،والإرشاد،والتوجیه للناس.

ب)أهمیة المثال فی التبلیغ وبیان الحقائق

لمعرفة أهمیة أسلوب التمثیل فی التبلیغ لا بدّ من التعرف علیه عند العقلاء،یقول الرازی:

أعلم أنّ ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة فی العقول ویدل علیه وجوه:

أحدها:إطباق العرب و العجم علی ذلک أما العرب فذلک مشهور عندهم و قد تمثلوا بأحقر الأشیاء[فقالوا]فی التمثیل فی الذباب:أجرأ من الذباب و...،و أما العجم فیدل علیه کتاب کلیله ودمنه،وأمثاله.

وثانیها:أن ضرب الأمثال فی أنجیل عیسی علیه السلام بالأشیاء المستحقرة،قال:لا تثیروا الزنابیر فتلدغکم ولا تخاطبوا السفهاء فیشتموکم،فظهر أن الله تعالی ضرب الأمثال بهذه الأشیاء الحقیرة؛و أما العقل،فلأن من طبع الخیال المحاکاة و التشبه فإذا ذکر المعنی وحده أدرکه العقل ولکن مع منازعة الخیال،و إذا ذکر معه الشبه أدرکه العقل مع معاونة الخیال،ولا شک أن الثانی یکون أکمل وأیضاً فنحن نری الإنسان یذکر معنی ولا یلوح له کما ینبغی فإذا ذکر المثال اتضح

ص:202


1- (1) .الجدید فی تفسیر القرآن:332/5.
2- (2) .المنیر:247/13.

وصار مبیناً مکشوفاً،و إن کان التمثیل یفید زیادة البیان و الوضوح،وجب ذکره فی الکتاب الذی لا یراد منه إلّا الإیضاح و البیان. (1)

وجاء فی التفسیر:

إنّ الأمثلة المناسبة لها دور حساس:وعظیم فی التوضیح والاقتناع و الإفهام.المثال المناسب قد یقرب طریق الفهم إلی الأذهان بحیث نستعیض به عن الاقتحام فی الاستدلالات الفلسفیة المعقدة،وأهم من ذلک،نحن لا نستطیع أن نستغنی عن الأمثلة المناسبة فی تعمیم ونشر الموضوعات العلمیة الصعبة بین عامة الناس،ولا یمکننا أن ننکر دور المثال فی إسکات الأفراد المعاندین اللجوجین المتعنتین.

علی کلّ حال،تشبیه المعقول ب-المحسوس أحد الطرق المؤثرة فی تفهیم المسائل العقلیة،علی أن یکون المثال مناسباً،وإلّا،فهو مضلّ وخطر. (2)

قد أشکل علی ضرب الأمثال فی القرآن الکریم بالأمور البسیطة:

قال الکافرون کیف یضرب خالق الأرض و السموات الأمثال بالهوام و الحشرات،کالبعوض و الذباب و العنکبوت؟ (3)

والرد یأتی من نفس القرآن الکریم،بقوله تعالی: (وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) . (4)

فأهمیة المثال وظرافته لا تکمن فی کبره وصغره،بل تظهر أهمیته فی انطباق المثال علی المقصود،فقد یکون صغر الشیء الممثل به أکبر نقطة فی قوته. (5)

فلیس الکبیر أولی بأن یضرب مثلاً کالفیل و البعیر،إذا کان الألیق بحال الممثل له تمثیله بالحقیر کالذباب و العنکبوت.

فإذا کان المراد تقبیح عبادة الکفرة للأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن

ص:203


1- (1) .التفسیر الکبیر:362/1 و363.
2- (2) .تفسیر الأمثل:137/1.
3- (3) .التفسیر الکبیر:58/9.
4- (4) .العنکبوت:43.
5- (5) .تفسیر الأمثل:397/12.

صلح أن یضرب المثل بالذباب فی عدم اقتدارهم علی دفع المضرّة عنهم،وفی بیت العنکبوت فی وهن عقائدهم الباطلة،وضعف أصولهم الفاسدة وفی هذا المقام کلما کان المضروب به المثل أضعف کان المثل أقوی وأحکم. (1)

ولکن تلک الأمثال التی ضربها الحق تعالی للناس تحتاج إلی فکر یتعرف طبیعتها،والی عقل یکتشف آفاقها،لتتسع الفکرة فی وعی الإنسان،لیرتفع إلی مواطن السمو فی رحاب العقیدة الصافیة، (وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) ،الذین یبتعدون عن الفهم السطحی الساذج للقضایا،وینفذون إلی عمقها،فیفهمون منها مالا یفهمه العامة من الناس،الذین یأخذون منها شیئاً ویأخذ أهل العلم منها أشیاء کثیرة.

و هذه حقیقة بلاغیة من أسالیب التعبیر الفنی فی اللغة العربیة،فإن کل شخص یأخذ المعنی من الخصائص التی تتصل بدائرة ثقافته:

فالأمثال المضروبة فی القرآن الکریم عامة تقرع أسماع عامة الناس،لکن الإشراف علی حقیقة معانیها ولب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن یعقل حقائق الأمور ولا یتجمد علی ظواهرها و الدلیل علی هذا المعنی قوله تعالی: (وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) دون أن یقول:وما یؤمن بها أو ما فی معناه. (2)

ج)من أمثال القرآن

اعتمد القرآن الکریم فی کثیر من الحالات-لتقریب الحقائق إلی الأذهان وخصوصاً المعنویة-علی أسلوب التمثیل و التشبیه،وذلک التمثیل و التشبیه المقصود بشیء محسوس ومقبول لدی المستمعین،فمثلاً حینما أراد تعالی أن یبین حالة أفول الإنسان وسیره نحو الموت مثّل له وشبّهه بحیاة النبات،فقال تعالی: (وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَیاةِ الدُّنْیا کَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِیماً تَذْرُوهُ الرِّیاحُ وَ کانَ

ص:204


1- (1) .تفسیر ملاّ صدرا:195/2.
2- (2) .المیزان فی تفسیر القرآن:132/16.

اَللّهُ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ مُقْتَدِراً) ، (1)فهذا المثل القرآنی:

«ضُرِب لتمثیل الحیاة الدنیا بما یقارنها من الزینة السریعة الزوال».

والهشیم فعیل بمعنی مفعول من الهشم،و هو علی ما قال الراغب کسر الشیء الرخوة کالنبات،وذرا یذرو ذرواً أی فرق،وقیل:أی جاء به وذهب.

والمعنی:واضرب لهؤلاء المتولّهین بزینة الدنیا المعرضین عن ذکر ربهم مثل الحیاة الدنیا کماء أنزلناه من السماء و هو المطر فاختلط به نبات الأرض فرف نضارة وبهجة،وظهر بأجمل حلیة،فصار بعد ذلک هشیماً مکسراً متقطعاً تعبث به الریاح تفرقه وتجی به وتذهب وکان الله علی کل شیء مقتدراً. (2)

نعم فهکذا یصور القرآن حیاة الإنسان ویشبهها بحیاة النبات؛فإن دورة حیاة النّبات وموته تتکرّر أمام أعیننا فی کل سنة مرّة،فإذا کان عمر الإنسان(60)سنة،فإن هذا المشهد یتکرّر(60)مرة.

فلو ذهبنا فی الربیع إلی البساتین و المزارع نشاهد تلک المناظر الجمیلة التی یدل کل ما فیها علی الحیاة،ولکن لو ذهبنا فی الخریف إلی نفس تلک الأماکن فسوف نری الموت قد نشب أظفاره فی کلّ مکان،وهکذا مثل حیاة الإنسان،کما مثلها وشبهها القرآن الکریم من أجل توضیح الصورة،وتحویلها فی وعی الإنسان إلی حالة حسیة وجدانیة،وذلک خلال تحریک تفاصیل الفکرة مع حرکة تفاصیل الصورة فی الواقع الخارجی.

وهکذا لما أراد المولی سبحانه وتعالی أن یشجّع الناس ویحفزهم علی الإنفاق فی سبیل الله،وأراد أن یبین لهم ما فی هذا الأنفاق من برکة ونماء،وشبه لهم ذلک بحبة الحنطة التی یزرعها الفلاح فتنبت سبع سنابل،وکلّ سنبلة تحتوی علی مائة حبة أو أکثر،أی:أنّ الحبّة الواحدة تضاعفت إلی(700)حبة،قال تعالی: (مَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ

ص:205


1- (1) .الکهف:45.
2- (2) .المیزان فی تفسیر القرآن:318/13.

أَمْوالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ کَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِی کُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ یُضاعِفُ لِمَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ) . (1)

وکذلک نبینا الأکرم صلّی الله علیه و آله حینما أراد أن یبین للناس موقع أهل بیته علیهم السلام من الدین،والهدایة إلی الحقّ شبههم بسفینة نوح علیه السلام التی انحصرت النجاة فیها یؤمئذ،فقال صلّی الله علیه و آله:

>>مثل أهل بیتی مثل سفینة نوح من رکبها نجا ومن تخلف عنها غرق». (2)

وهکذا فی الحدیث المروی عن ابن مسعود قال:

خط النبی صلّی الله علیه و آله خطاً مربعاً،وخط خطاً فی الوسط خارجاً منه،وخط خططاً صغاراً إلی هذا الذی فی الوسط من جانبه الذی فی الوسط وقال صلّی الله علیه و آله:>>هذا الإنسان،و هذا أجله محیط به-أو قد أحاط به-و هذا الذی هو خارج أمله،و هذه الخطط الصغار الأعراض فأن أخطأه هذا نهشه هذا وأن أخطأه هذا نهشه هذا». (3)

وکذلک قوله صلّی الله علیه و آله فی مجال التربیة:

>>مثل المؤمنین فی توادهم وتراحمهم وتعاطفهم کمثل الجسد إذا اشتکی منه عضو تداعی له سائر الجسد بالسهر و الحمی». (4)

فیکشف هذا التمثیل عن أسمی درجات الارتباط و التعاضد فی المجتمع الإسلامی.

8.أسلوب المقارنة و المقایسة

اشارة

أسلوب المقارنة و المقایسة من أهمّ الأسالیب التوضیحیة الأقناعیة،التی تکشف عن الحقیقة وتبین القیم،ولذلک ینبغی للمبلّغ أن یتسلح به،فإذا أراد أن یذکر شیء أو شخص أو حالة معینة-ینبغی-أن یذکر(ضدّه)حتی یتبین الحسن من القبیح،والخیر من الشر،والحق من الباطل....

ص:206


1- (1) .البقرة:261.
2- (2) .الحدائق الناظرة:360/9.
3- (3) .صحیح البخاری:171/7.
4- (4) .صحیح مسلم:20/8.

فالمقارنة هی اجتماع شیئین فی معنی معین وتمییز الفرق بینهما،قال الراغب:

قرن:الاقتران کالازدواج فی کونه اجتماع شیئین أو أشیاء فی معنی من المعانی،قال تعالی: (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِکَةُ مُقْتَرِنِینَ) ، (1)یقال قرنت البعیر بالبعیر جمعت بینهما. (2)

أو کما جاء فی تاج العروس:

قارن الشیء مقارنة وقرآناً:أقترن به وصاحبه،وقارنته قراناً صاحبته. (3)

فالمقارنة إذاً هی:أجراء موازنة بین شیئین أو شخصین أو أشیاء أو أشخاصّ.

کما جاء فی المعجم الوسیط:

قارن الشیء بالشی:وازن به،وقارن بین الشیئین أو الأشیاء وازن بینها ویقال الأدب المقارن أو التشریع المقارن وهی محدثة. (4)

وفی عصرنا الحاضر أصبح أسلوب المقارنة من الأسالیب المتبعة لمعرفة الأفضل من الأشیاء و الأشخاص و الفنون و العلوم.

فالأشیاء تعرف بنظائرها،وتتمیز بأضدادها،قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

>>وأعلموا أنکم لن تعرفوا الرشد حتی تعرفوا الذی ترکه،ولن تأخذوا بمیثاق الکتاب حتی تعرفوا الذی نقضّه،ولن تمسکوا به حتی تعرفوا الذی نبذه». (5)

فیمکن من خلال استخدام أسلوب المقارنة فی جمیع القضایا الدینیة والاجتماعیة،والاقتصادیة،والثقافیة،وغیرها-فمثلاً عندما یذکر العدل وحسنه یذکر مقابلة الجور وقبحه،وعندما یذکر فوائد ومحاسن الصدق و الأمانة و الوفاء یذکر مقابلة أضرار ومساوئ الکذب و الخیانة و الغدر،وعندما یرید أن یدافع عن أحد ویحمده یذکر

ص:207


1- (1) .الزخرف:53.
2- (2) .مفردات الراغب القرآن:401.
3- (3) .تاج العروس:450/18.
4- (4) .المعجم الوسیط:730.
5- (5) .نهج البلاغة،خطبة 147.

محاسنه،ثمّ یذکر مقابلة مساؤئ أعدائه،و إذا أراد أن یرغّب فی العمل الصالح فمن المستحسن أن یذکر نتیجة ذلک العمل وعاقبته،ثمّ یذکر ما یقابله،و قد استعمل القرآن الکریم هذا الأسلوب مراراً وتکراراً فی آیات عدیدة.

منها قوله تعالی: (فَأَمّا مَنْ أَعْطی وَ اتَّقی * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنی * فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْری * وَ أَمّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنی * وَ کَذَّبَ بِالْحُسْنی * فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْعُسْری) . (1)

وقوله تعالی: (فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ * وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ) ، (2)وکذلک قوله تعالی: (قُلْ هَلْ یَسْتَوِی الْأَعْمی وَ الْبَصِیرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِی الظُّلُماتُ وَ النُّورُ) (3)وقوله تعالی: (أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَیْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ) . (4)

المقارنة الواعیة بین الماضی و الحاضر

بإمکان المبلّغ أن یوصل رسالته و الفکرة التی یحملها من خلال المقارنة بین الماضی و الحاضر،کأن یقارن-مثلاً-بین حالة الناس قبل ظهور الإسلام وبعده،فیقارن بین الحیاة التی کانوا یحیونها،حیث کانت علاقاتهم خاضعة للعوامل الذاتیة المنطلقة من المصالح و الأنانیات و النوازع الشریرة،التی تؤدّی بالإنسان إلی أن یعیش روح العداوة و البغضاء تجاه إخوانه إذا اصطدمت مصالحه بمصالحهم،أو مشاعره بمشاعرهم،فیتحرّک نحو التقاتل و التباغض،و....وبین الحیاة التی یعیشونها بعد الإسلام،حیث بدئوا یشعرون بالرابطة الوثیقة التی تحکم علاقاتهم الروحیة والاجتماعیة من خلال العقیدة الواحدة و المصالح المشترکة،والهدف الواحد،والمسیرة الواحدة،و هذا ما بینه القرآن الکریم بقوله تعالی: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ

ص:208


1- (1) .اللیل:5-10.
2- (2) .الزلزلة:7 و8.
3- (3) .الرعد:16.
4- (4) .یوسف:39.

عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ) . (1)

قال المفسّرون: (فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ) :

أی فی عصر جاهلیتکم حیث کان الغزو و القتل و السلب و النزاع الدائم فجمع قلوبکم علی ما أنعم به علیکم من الإسلام وعلی نبی الرحمة و المحبة محمد صلّی الله علیه و آله: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) ؛إذ جمع الله بینکم بالأخوة فیه، (وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها) (2)فی جاهلیتکم التی کانت تؤدی بکم إلی النار لولا تخلیص الله لکم منها بأن منّ علیکم بدینه ونبیه وکتابه: (کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ) ، (3)أی:مثل[هذه المقارنة و المقایسة و]هذا البیان الذی تلاه علیکم فهو یظهر لکم الدلائل و الحجج الساطعة حتی تهتدوا إلی طریق الحق و الثواب. (4)

وقال الشیخ الطوسی:

معناه ما کان بین الأوس و الخزرج من الحروب التی تطاولت مائة وعشرین سنة إلی أن ألف بین قلوبهم بالإسلام،وزالت الأحقاد. (5)

إذاً:فالآیة الکریمة تدعوا الواعین من الأمّة إلی الدخول فی عملیة مقارنة واعیة بین علاقات الماضی و الحاضر،لیعرفوا النتائج الإیجابیة و السلبیة،فیعمقّوا الإیجابیات التی تفرضها العلاقات الجدیدة،ویخففوا السلبیات المتحرکة فی حیاتهم من خلال علاقات الماضی....هذا ما أراده الله تعالی للأمّة أن تعیه جیداً لتفهم أن الحالة الماضیة کانت تضع المجتمع علی حافة الهاویة التی تشتعل وتتأجج بالنار التی

ص:209


1- (1) .آل عمران:103.
2- (2) .آل عمران:103.
3- (3) .آل عمران:103.
4- (4) .إرشاد الأذهان فی تفسیر القرآن:68/1.
5- (5) .التبیان فی تفسیر القرآن:546/2.

تحرقهم فی الدنیا و الآخرة،وأن المسیرة الجدیدة فی خطة العقیدة الجدیدة تعتبر عملیة إنقاذ من ذلک کله،لیعیش الناس روحیة الأخوة فی علاقاتهم،والسعادة فی مصیرهم وآخرتهم.

وجاء فی معنی قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ هاجَرُوا فِی اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِی الدُّنْیا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَکْبَرُ لَوْ کانُوا یَعْلَمُونَ) . (1)

إنّ القرآن الکریم یستخدم أسلوب المقایسة و المقارنة کأهمّ أسلوب للتربیة و التوجیه،فما یرید الله أن یعرضه للناس یطرح معه ما یقابله لتتشخص الفروق ویستوعب الناس معناه بشکل أکثر وضوحاً.

فنری فی الآیات السابقة الحدیث عن المشرکین ومنکری یوم القیامة فی قوله تعالی: (وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَیْمانِهِمْ لا یَبْعَثُ اللّهُ مَنْ یَمُوتُ بَلی وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ) ، (2)وینقل الحدیث فی الآیات مورد البحث إلی المهاجرین المخلصین،لیقارن بین المجموعتین ویبین طبیعتهما.

فیقول تعالی: (وَ الَّذِینَ هاجَرُوا فِی اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِی الدُّنْیا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَکْبَرُ لَوْ کانُوا یَعْلَمُونَ) . (3)

وکذلک فی قوله تعالی: (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّکْرَ وَ خَشِیَ الرَّحْمنَ بِالْغَیْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ کَرِیمٍ) . (4)

کان الحدیث فی الآیات السابقة عن مجموعة لا تملک أی استعداد لتقبل الإنذارات الإلهیة ویتساوی عندهم الإنذار وعدمه،أما هذه الآیات فتتحدث عن فئة أخری هی علی النقیض من تلک الفئة،وذلک لکی یتضح المطلب بالمقارنة بین الفئتین کما هو أسلوب القرآن. (5)

ص:210


1- (1) .النحل:41.
2- (2) .النحل:38.
3- (3) .تفسیر الأمثل:193/8.
4- (4) .یس:11.
5- (5) .تفسیر الأمثل:140/14.

وفی قوله تعالی: (هذا ذِکْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ * مُتَّکِئِینَ فِیها یَدْعُونَ فِیها بِفاکِهَةٍ کَثِیرَةٍ وَ شَرابٍ * وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ * هذا ما تُوعَدُونَ لِیَوْمِ الْحِسابِ * إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) : (1)

آیات هذه السورة انتقلت بنا إلی شکل آخر من الحدیث؛إذ أخذت تقارن بین المتقین و العصاة المتجبّرین،وتشرح مصیر کل منها یوم القیامة.... (2)

ثمّ یقول تعالی: (هذا وَ إِنَّ لِلطّاغِینَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ یَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ * هذا فَلْیَذُوقُوهُ حَمِیمٌ وَ غَسّاقٌ * وَ آخَرُ مِنْ شَکْلِهِ أَزْواجٌ * هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَکُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النّارِ * قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِکُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ * قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِی النّارِ) . (3)

الآیات السابقة استعرضت النعم السبعة وغیرها من النعم التی یغدقها الباری عز وجلّ علی عباده المتقین؛أما آیات بحثنا فإنّها تستخدم أسلوب المقارنة الذی کثیراً ما استخدمه القرآن الکریم،لتوضح المصیر المشئوم و العقوبات المختلفة التی ستنال الطغاة و العاصین،وفی هذا قال تعالی: (هذا وَ إِنَّ لِلطّاغِینَ لَشَرَّ مَآبٍ *[فالمتقون لهم (حُسْنُ مَآبٍ) ولهؤلاء العاصین الطغاة (لَشَرَّ مَآبٍ) ]). (4)

وهکذا فی قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أَنْ یَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَی اللّهِ لَهُمُ الْبُشْری فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِکَ الَّذِینَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِکَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ * أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَیْهِ کَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِی النّارِ * لکِنِ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِیَّةٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللّهِ لا یُخْلِفُ اللّهُ الْمِیعادَ) . (5)

استخدم القرآن الکریم مرة أخری أسلوب المقارنة فی هذه الآیات،إذ قارن بین

ص:211


1- (1) .ص:49-54.
2- (2) .تفسیر الأمثل:535/14.
3- (3) .ص:55-61.
4- (4) .تفسیر الأمثل:543/4.
5- (5) .الزمر:17-20.

عباد الله الحقیقیین و المشرکین المعاندین الذین لا مصیر لهم سوی نار جهنم. (1)

فالهدف هو إثارة هذا النموذج-أصحاب النار-فی مقابل النموذج الآخر،و هو-عباد الله-الآمن الذی استطاع بتقواه أن یدفع عن نفسه العذاب بعمله المتحرک فی خط إیمانه،لیعیش الإنسان-دائماً-فی هاجس المقارنة بین هؤلاء وهؤلاء،کعنصر أساس من عناصر التصوّر الواعی للمستقبل الذی یحدد للإنسان موقفه فی الحاضر.

9.أسلوب الترکیز علی المسلّمات و المشترکات

اشارة

فی الحقیقة أسلوب الترکیز علی الحقائق المسلمة و النقاط المشترکة هو من الأسالیب المستمدّة من المنهج العام للأسلوب الإسلامی الذی یؤکّد علی نقاط اللقاء فی رحلة الوصول إلی الحقیقة،ولا یؤکّد علی نقاط الخلاف إلّا فی نهایة المطاف.

وعلیه،فلا بدّ للمبلّغین و الدعاة إلی الله فی حرکتهم نحو الهدف الکبیر،أن یتلمسوا المجالات المتفقة و المشترکة فی العقیدة و الأسلوب و الحیاة التی تربط المسلم بالآخرین وتربطهم به،لتقربهم إلیه،ولتوحی لهم بأن هناک مرحلة من الطریق یمکن أن تمثل وحدة السبل،وذلک کفیل بإلغاء الکثیر من التعقیدات،وتجمید الکثیر من الحساسیات،وتقریب الکثیر من الأفکار....

فیمکن للمبلّغ أن یتحرک بهذا الأسلوب ویمارسه مع اختلاف الأدیان الموجودة فی الساحة الدینیة،واختلاف المذاهب التی تعیش فی الساحة الإسلامیة،واختلاف المبادئ و الأفکار السیاسیة والاجتماعیة و الفلسفیة فی الساحة الفکریة العامة،لیصل إلی النتائج الحاسمة بأفضل طریق وأروع أسلوب....

و قد أمر القرآن الکریم بذلک من خلال قوله تعالی: (قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ

ص:212


1- (1) .تفسیر الأمثل:47/15.

دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ) ، (1)یقول الفخر الرازی إنّ:

القرآن الکریم عدل فی هذا المقام إلی الکلام المبنی علی رعایة الإنصاف،وترک المجادلة،وطلب الإفحام و الإلزام،ومما یدل علیه،أنه خاطبهم هاهنا بقوله تعالی: (یا أَهْلَ الْکِتابِ) و هذا الاسم من أحسن الأسماء وأکمل الألقاب،حیث جعلهم أهلاً لکتاب الله،ونظیره،ما یقال لحافظ القرآن یا حامل کتاب الله،وللمفسر یا مفسر کلام الله،فأن هذا اللقب یدلّ علی أنّ قائله أراد المبالغة فی تعظیم المخاطب وفی تطییب قلبه؛وذلک إنّما یقال عند نزول الإنسان مع خصمه عن طریقة اللجاجة إلی طریقة طلب الأنصاف.

أما قوله تعالی: (إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا) فالمعنی:هلموا إلی کلمة فیها إنصاف من بعضنا البعض،لا میل فیه لأحد علی صاحبه،والسواء هو العدل و الإنصاف؛وذلک لأن حقیقة الإنصاف،إعطاء النصف،فأن الواجب فی العقول ترک الظلم علی النفس وعلی الغیر،وذلک لا یحصل إلّا بإعطاء النصف،فإذا أنصف وترک ظلمه أعطاه النصف فقد سوی بین نفسه وبین غیره وحصل الاعتدال،و إذا ظلم وأخذ أکثر مما أعطی زال الاعتدال فلما کان من لوازم العدل و الأنصاف التسویة جعل لفظ التسویة عبارة عن العدل.

ثمّ قال الزجاج: (سَواءٍ) نعت للکلمة یرید:ذات سواء،فعلی هذا قوله (کَلِمَةٍ سَواءٍ) ،أی:کلمة عادلة مستقیمة مستویة،فإذا آمنا بها نحن وأنتم کنا علی السواء والاستقامة. (2)

فالمبلغ هنا یتّجه:

إلی النقاط المشترکة بین الإسلام وأهل الکتاب،وبهذا یعلمنا القرآن درساً،مفاده:أنکم إذا لم توفقوا فی حمل الآخرین علی التعاون معکم فی جمیع أهدافکم،فلا ینبغی أن یقعد بکم الیأس عن العمل،بل اسعوا لإقناعهم بالتعاون معکم فی تحقیق الأهداف المشترکة بینکم،کقاعدة للانطلاق إلی تحقیق سائر

ص:213


1- (1) .آل عمران:64.
2- (2) .التفسیر الکبیر:251/3 و252.

أهدافکم المقدسة (قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً) .

والملفت للنظر أن الآیة الشریفة تؤکد موضوع التوحید فی ثلاث تعابیر مختلفة،فأولاً ذکرت (أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ) ،وفی الجملة الثانیة (وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً) ،وفی المرة الثالثة قالت: (وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ) . (1)

فهی تدعو إلی اللقاء علی قاعدة وأرضیة فکریة عقیدیة مشترکة نلتزمها معاً،وعلی أساس واقعی للتفاهم،وعلی وحدة المبدأ من دون الدخول فی التفاصیل التی تثیر النزاع فی الجزئیات هنا وهناک؛لأنّ القضایا المسلّمة لدی کلّ فریق یمکن أن تتدخل لتحسم الخلاف فی القضایا المتنازع فیها،فهی تدعونا إلی (إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا) ،فنحن نؤمن بالوحدانیة کما تؤمنون،وبذلک نلتقی معاً فی نطاق عبادة الله الواحد فلا نشرک فی العقیدة ولا نشرک فی العبادة.

قال تعالی: (وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْکِتابِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنّا بِالَّذِی أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُکُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) . (2)

وهکذا کان رسول الله صلّی الله علیه و آله فی رحلة التبلیغ و الدعوة،وهکذا خاطب العالم.

رسائل النبی إلی رؤساء العالم
اشارة

لقد ورد فی التاریخ:عندما استقر الإسلام نسبیاً فی أرض الحجاز،أرسل رسول الله صلّی الله علیه و آله رسائل إلی عدد من کبار رؤساء العالم فی ذلک العصر،وفی بعض هذه الرسائل استند إلی هذه الآیة الداعیة إلی التوحید-المبدأ المشترک بین الأدیان السماویة-ولأهمیة الموضوع ندرج بعضاً من تلک الرسائل:

ص:214


1- (1) .تفسیر الأمثل:537/2.
2- (2) .العنکبوت:46.
أولاً:رسالة إلی المقوقس

(1)

بسم الله الرحمن الرحیم،من محمد بن عبد الله،إلی المقوقس عظیم القبط،سلام علی من اتبع الهدی،أما بعد فإنی أدعوک بدعایة الإسلام،أسلم تسلم،یؤتک الله أجرک مرتین،فإن تولیت فإنّما علیک إثم القبط: (2)(قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ) . (3)

ثانیاً:رسالة إلی قیصر الروم

بسم الله الرحمن الرحیم،من محمّد بن عبد الله إلی هرقل عظیم الروم،سلام علی من اتبع الهدی،أما بعد،فإنی أدعوک بدعایة الإسلام،أسلم تسلم یؤتک الله أجرک مرتین،فإن تولیت فإنما علیک إثم الأریسیین: (4)(قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ) . (5)

10.أسلوب التدرج

اشارة

نهج القرآن الکریم و الأنبیاء علیهم السلام أسلوب التدرج فی عملیة الإصلاح،والقضاء علی الانحرافات و المنکرات الموجودة فی الأمة،و هو أفضل أسلوب للقضاء علی تلک العادات والانحرافات المستحکمة فی المجتمعات.

والتدرج،وکما قال الراغب درج:

الدرجة نحو المنزلة،لکن یقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد

ص:215


1- (1) .المقوقس:حاکم مصر قبل هرقل ملک الروم،وکان نصرانیاً.
2- (2) .الأقباط:أقوام کانت تقطن مصر.
3- (3) .مکاتیب الرسول:97/1.
4- (4) .الأریسیون:هم العنصر الروحی و العمال.
5- (5) .تاریخ مدینة دمشق:93/2.

علی البسیط کدرجة السطح و السلم،ویقال:فلان یتدرّج فی کذا،أی:یتصعد فیه درجة درجة. (1)

و هذا ما أعتمده الأنبیاء علیهم السلام و القرآن الکریم،فقد:

جاءت الشریعة الإسلامیة الغرّاء محققة لمصالح الناس،متمشیة مع تطاول الزمن،صالحة لکل زمان ومکان،وکان من رحمة الله تبارک وتعالی بعباده أن سنّ لهم سنّة التدرج فی الأحکام،لتبقی النفس علی أتم الاستعداد لتقبل تلک التکالیف الشرعیة،فلا تشعر بملل أو ضجر،لا تحس بمشقةٍ أو شدة،ولتظلّ الشریعة الغرّاء-کما أرادها الله-شریعة سمحة سهلة،ولا عسر فیها،ولا تعقید،ولا شطط فیها،ولا إرهاق.... (2)

وحکمة التدرج معجزة من معجزات القرآن و الإسلام،فإذا کان علماء النفس و الطب و الصحة یبنون معالجاتهم للأمراض و المشکلات متدرجین فی ذلک ومراعین استعداد الإنسان وظروفه،فالإسلام سبق العلم الحدیث بما یزید علی أربعة عشر قرناً فی معالجة النفس البشریة من أمراضها.... (3)

أمثلة التدرج
اشارة

لو تتبعنا سیرة الأنبیاء علیهم السلام و القرآن الکریم نجد أمثلة کثیرة وواضحة علی اعتمادهم أسلوب التدرج فی إصلاح المجتمع،ومن تلک الأمثلة:

أوّلاً:مراحل بیان تحریم الخمر

إنّ الإسلام استخدم لتطبیق الکثیر من أحکامه أسلوب التغییر التدریجی-،فلیس هناک من سبیل لتطهیر المجتمع من جذور مفسدة اجتماعیة،أو خلقیة متجذرة فی أعماق المجتمع واقتلاعها من الجذور أفضل من هذا الأسلوب،وأجدی من

ص:216


1- (1) .غریب مفرادت القرآن:167.
2- (2) .تفسیر آیات الأحکام:109/1.
3- (3) .د.بسام, الصباغ, الدعوة و الدعاة بین الواقع و الهدف:60.

هذا الطریق،و هو أن یهیأ الأفراد تدریجاً،ثمّ یتم الإعلان عن الحکم النهائی. (1)

ومن الأمور المتأصّلة بالمجتمع هی شرب الخمر،لذلک عالجها القرآن تدریجاً:

ویستفاد من بعض الروایات،أنه حتی بعد تحریم الخمر فأن الإقلاع عنها کان شاقاً علی بعض المسلمین،حتی قالوا:(ما حرّم علینا شیء أشدّ من الخمر). (2)

ومن الواضح أنّ الإسلام لو أراد أن یحارب هذا البلاء الکبیر الشامل بغیر أن یأخذ الأوضاع النفسیة والاجتماعیة بنظر الاعتبار لتعذر الأمر وشق تطبیق التحریم،لذلک اتخذ أسلوب التدرّج فی بیان واثبات الحرمة, بهدف إعداد الأفکار و الأذهان و النفوس للابتعاد عن هذه الآفة, واستئصالها من جذورها،جاء فی الکافی و التهذیب بإسنادهما عن أبی جعفر-محمد الباقر علیه السلام:

>>ما بعث الله نبیاً قط إلّا وفی علم الله أنه إذا أکمل دینه کان فیه تحریم الخمر،ولم تزل الخمر حراماً و إنّما ینقلون من خصلة إلی خصلة،ولو حمل ذلک علیهم حملة لقطع بهم دون الدین،قال:وقال أبو جعفر علیه السلام:لیس أحد أرفق من الله عز وجلّ،فمن رفقه تبارک وتعالی،أنه نقلهم من خصلة إلی خصلة،ولو حمل علیهم حملة لهلکوا». (3)

فهی العادة التی کانت قد تأصلت فی نفوسهم،وعروقهم،ففی أول الأمر وردت إشارات فی الآیات المکیة تستقبح شرب الخمر،کما فی قوله تعالی: (وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِیلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَکَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ) . (4)

فهنا،تعنی:الشراب المسکر الذی کانوا یستخرجونه من التَّمْر و العنب،قد وضع حیال الرزق الحسن،فاعتبره شراباً غیر طیب بخلاف الرزق الحسن،إلّا أن تلک العادة الخبیثة-عادة معاقرة الخمرة-کانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإشارات،ثمّ أن

ص:217


1- (1) .تفسیر الأمثل:245/3.
2- (2) .الدر المنثور:315/2.
3- (3) .الکافی:395/6.
4- (4) .النحل:67.

الخمر کانت تؤلف جانباً من دخلهم الاقتصادی؛لذلک عندما هاجر المسلمون إلی المدینة وأسسوا أولی الحکومات الإسلامیة،نزلت آیة ثانیة أشد فی تحریم الخمر من الأولی،لکی تهیأ الأذهان أکثر إلی التحریم النهائی،تلک الآیة هی قوله تعالی: (یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ قُلْ فِیهِما إِثْمٌ کَبِیرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَکْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما...) ، (1)فهاهنا إشارة إلی منافع الخمر الاقتصادیة لبعض المجتمعات،کالمجتمع الجاهلی،مصحوبة بإشارة إلی أخطارها الکبیرة ومضارها التی تفوق کثیراً منافعها الاقتصادیة.

ثمّ یقول تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُکاری حَتّی تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ...) ، (2)یأمر الله المسلمین أمراً صریحاً بأن لا یقیموا الصلاة وهم سکاری حتی یدرکوا ما یقولونه أمام الله.

واضح أن هذا لم یکن یعنی أن شرب الخمر فی غیر الصلاة جائز،بل هی مسألة التدرج فی تحریم الخمر مرحلة مرحلة-أی:أن هذه الآیة کأنها تلتزم الصمت ولا تقول شیئاً صراحة فی غیر مواقع الصلاة.

إنّ تقدم المسلمین فی التعرف علی أحکام الإسلام واستعدادهم الفکری لاستئصال هذه المفسدة الاجتماعیة الکبیرة التی کانت متعمقة فی نفوسهم،أصبحا سبباً فی نزول آیة صریحة تماماً فی تحریم الخمر حتی سدت الطریق أمام الذین کانوا یتصیدون الأعذار و المسوغات،و هذه الآیة هی موضوع البحث.وهی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ) (3)وان ما یلفت النظر أنّ تحریم الخمرة یعبّر عنه فی هذه الآیة بصورة متنوعة:

ص:218


1- (1) .البقرة:219.
2- (2) .النساء:43.
3- (3) .المائدة:90.

1.الآیة تبدأ بمخاطبة المؤمنین:یا أیها الذین آمنوا أی إن عدم الصدع بهذا الأمر لا ینسجم مع روح الإیمان.

2.استعمال (إِنَّمَا) التی تعنی الحصر و التوکید.

3.وضعت الخمر و القمار إلی جانب الأنصاب،وهی قطع أحجار لا صورة لها کانت تُتّخذ کالأصنام، (1)للدلالة علی أنّ الخمر و القمار لا یقلان ضرراً عن عبادة الأصنام،ولهذا جاء فی الحدیث الشریف أن رسول الله صلّی الله علیه و آله قال:>>شارب الخمر کعابد الوثن». (2)

4.الخمر،والقمار،وعبادة الأصنام،والأستقسام بالأزلام(ضرب من الیانصیب)کلها قد أعتبرها القرآن رجساً وخبثاً (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ) .

فهذه الأعمال القبیحة تعدّ کلها من أعمال الشیطان،أی:من عمل الشیطان.

5.وأخیراً یصدر الأمر القاطع الواجب الأتباع:فاجتنبوه،ولابد من التنویه بأن تعبیر فاجتنبوه،مفهوماً أبعد،إذ أن الاجتناب یعنی الابتعاد والانفصال وعدم الاقتراب،مما یکون أشد وأقطع من مجرد النهی عن شرب الخمر.

6.وفی الختام یقول سبحانه و تعالی إنّ ذلک: (لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ) ،أی:لا فلاح لکم بغیر ذلک.

7.وفی الآیة التالیة لها یعدد بعضاً من أضرار الخمر و القمار،التی یرید الشیطان أن یوقعها بهم: (إِنَّما یُرِیدُ الشَّیْطانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِی الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ وَ یَصُدَّکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ) . (3)

8.وفی ختام هذه الآیة یتقدم باستفهام تقریری:فهل أنتم منتهون؟أی:بعد هذا التوکید و التوضیح،ثمة مکان لخلق المبرّرات أو للشک و التردد فی تجنب هذین الإثمین الکبیرین؟

ص:219


1- (1) .تفسیر الأمثل:141/4.
2- (2) .تفسیر نور الثقلین:69/1.
3- (3) .المائدة:91.

9.فی الآیة الثالثة التی تؤکد هذا الحکم،یأمر الله تعالی المسلمین بقوله: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا) .ثمّ یتوعد المخالفین بالعقاب،وأن مهمّة رسول الله هی الإبلاغ: (فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلی رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِینُ) (1). (2)

ثانیاً:تحریم الرّبا

ومن الأمثلة القرآنیة الأخری الدالّة علی أسلوب التدرج هی تحریم الربا فی مراحل:

معروف أن أسلوب القرآن فی مکافحة الانحرافات الاجتماعیة المتجذرة فی حیاة الناس یعتمد معالجة الأمور خطوة فخطوة،فهو أولاً یهیئ الأرضیة المناسبة،ویطلع الرأی العام علی مفاسد ما یطلب محاربته ومکافحته،ثمّ بعد أن تتهیأ النفوس لتقبل التحریم النهائی یعلن عن التحریم فی صیغته الثانویة النهائیة[وینتج هذا الأسلوب خاصة إذا کان ذلک الأمر الفاسد مما استشری فی المجتمع،وکانت رقعة انتشاره واسعة.

و قد کان هذا الأمر مبعثاً للکثیر من المآسی الاجتماعیة،ولهذا استخدم القرآن فی تحریم هذه الفعلة النکراء أسلوب المراحل،فحرم الربا فی مراحل أربع:

1.یکتفی بتوجیه نصح أخلاقی حول الربا؛إذ قال تعالی: (وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ رِباً لِیَرْبُوَا فِی أَمْوالِ النّاسِ فَلا یَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ زَکاةٍ تُرِیدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) . (3)

بهذا الأسلوب یکشف عن خطأ الذین یتصورون أنّه الربا یزید من ثروتهم،فی حین أن أعطاء الزکاة و الأنفاق فی سبیل الله هو الذی یضاعف الثروة حقیقة.

2.یشیر ضمن انتقاد عادات الیهود وتقالیدهم الخاطئة الفاسدة إلی الربا کعادة سیئة من تلک العادات؛إذ یقول تعالی: (وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَکْلِهِمْ أَمْوالَ

ص:220


1- (1) .المائدة:92.
2- (2) .تفسیر الأمثل:139/4؛المیزان فی تفسیر القرآن:117/6.
3- (3) .الروم:39.

اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْکافِرِینَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِیماً) . (1)

3.یذکر فی الآیة الحاضرة،قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَأْکُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ) (2)حکم التحریم بصراحة،ولکنه یکتفی بالإشارة إلی نوع واحد من أنواع الربا،و هو النوع الشدید و الفاحش منه فقط.

4.وأخیراً أعلنَ فی قوله تعالی: (الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبا لا یَقُومُونَ إِلاّ کَما یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهی فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ ... فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَکُمْ رُؤُسُ أَمْوالِکُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ) ، (3)عن المنع الشامل و الشدید عن جمیع أنواع الربا،واعتباره بمنزلة إعلان الحرب علی الله سبحانه وتعالی. (4)

ثالثاً:التدرج فی نزول القرآن

ومن الأمثلة اللطیفة و العمیقة الأخری التی ترد هو النزول التدریجی للقرآن الکریم, ومن ذلک ما ورد فی قوله تعالی: (وَ قالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَیْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً کَذلِکَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَکَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِیلاً) ، (5)صحیح أنه کان للقرآن نزولان طبقاً للروایات،بل لظاهر بعض الآیات:

أحدهما:نزول دفعی،و هو یعنی:نزول بالمرّة فی لیلة القدر علی قلب النبی صلّی الله علیه و آله.

والآخر:نزول تدریجی،هو یعنی:نزول القرآن فی ثلاث وعشرین سنة.

ص:221


1- (1) .النساء:161.
2- (2) .آل عمران:130.
3- (3) .البقرة:الآیة 275 و الآیة 279.
4- (4) .تفسیر الأمثل:687/2-688.
5- (5) .الفرقان:32.

ولکن بلا شک أن النزول المعترف به الذی کان النبی و الناس یتفاعلون معه دائماً هو:النزول التدریجی للقرآن.و هذا النزول بالذات صار سبباً استفهامات الأعداء،لماذا لم ینزل القرآن مرة واحدة ویجعل دفعة واحدة بین أیدی الناس،حتی یکونوا أکثر إطلاعا وتفهماً،فلا یبقی مکان للشک و الریبة.

ولکن-کما رأینا-فان القرآن أجابهم جواباً قصیرا وجامعاً وبلیغاً من خلال جملة: (کَذلِکَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَکَ) ،فکلما تأملنا فیها أکثر تتجلی آثار النزول التدریجی للقرآن أوضح.

1.لا شکّ أن التشریعات إذا کانت تتنزل بشکل تدریجی تبعاً للحاجات،ویکون لکل مسألة شاهد ومصداق عینی،فستکون مؤثرة جداً من ناحیة(تلقِّی الوحی)وکذلک(إبلاغ الناس).

و قد أکّدت مبادئ التربیة فی محلّها أن الشخص الذی یراد تربیته ینبغی أن یؤخذ بیده خطوة خطوة،فینظم له لکل یوم برنامج،علیه أن یسلکه من المرحلة الأدنی التی شرعها منها إلی المراحل الأعلی و البرامج التی تتدرج بهذه الکیفیة تکون أکثر مقبولیة وأعمق أثراً.

2.أن هؤلاء المعترضین غافلون أساساً عن أن القرآن لیس کتاب عادی یبحث فی موضوع أو علم معین،بل هو منهج حیاتی للأمة التی تغیرت به،واستلهمت منه فی جمیع أبعاد الحیاة ولا تزال.

فکثیر من آیات القرآن الکریم نزلت فی مناسبات تأریخیة،مثل معرکة:بدر وأُحد،والأحزاب وحُنین،وبذلک سُنّت التشریعات والاستنتاجات من هذه الحوادث،وتری هل یصح أن تُکْتَب هذه مرّة واحدة وتُعرَض علی الناس؟

بعبارة أخری:أن القرآن الکریم عبارة عن مجموعة من أوامر ونواهٍ،أحکام وقوانین،تاریخ وموعظة،ومجموعة من الخطط ذات المدی الطویل أو القصیر فی مواجهة الأحداث التی کانت تبرز أمام مسیر الأمة الإسلامیة،کتاب-کهذا-یبین

ص:222

وینفذ جمیع مناهجه حتی قوانینه الکلیة عن طریق الحضور فی میادین حیاة الأمة،لا یمکن أن ینَظّم ویدَوّن دُفعة واحدة.

لأن هذا من قبیل أن یقوم قائد عظیم بکتابة ونشر جمیع بیاناته وإعلاناته وأوامره ونواهیه-التی یصدرها فی المناسبات المختلفة-دفعة واحدة من أجل تسییر الثورة،تری هل یعتبر هذا العمل عقلائیاً؟

3.لا شک،أنه إذا کان مقرر لمناهج الإسلام أن تنزل جمیعها دفعة واحدة،فقد کان من اللازم أن تطبق دفعة واحدة أیضاً؛لأن النزول بدون تطبیق یفقد النزول قیمته،ومن المعلوم أن تطبیق جمیع المناهج أعمّ من العبادات کالزکاة،والجهاد،ورعایة جمیع الواجبات،والامتناع عن المحرمات دفعة واحدة عمل ثقیل جداً قد یؤدّی إلی فرار فئة کبیرة من الإسلام،وبهذا یتبین أن النزول التدریجی وبالتالی التطبیق التدریجی أفضل،لاعتبارات وجهات کثیرة.

وبعبارة أخری:أنّ أی واحد من هذه التشریعات فی صورة النزول التدریجی سیتم هضمه واستیعابه بصورة جیدة،وفی حالة تعرضه لبعض الاستفهامات یمکن طرحها و الإجابة عنها. (1)

و إذا أردنا أن نطلق الآیة فی حرکیة التبلیغ و العمل فی سبیل الله،فنستطیع استبدال تدریجیة النزول للآیات بتدریجیة تحریک الآیات فی مواقع العمل و الجهاد وفی منطلقات الدعوة بطریقة دقیقة،نوزع فیها الآیات علی المسیرة،فتکون هذه الآیة فی نقطة هنا،ونقطة هناک،وتکون هذه السورة فی هذه المرحلة،وتلک السورة فی المرحلة الأخری،لیکون القرآن ثقافة الأمة فی کل مواقع السیر،حتی یعرفوا الفکرة فی مواقع الحرکة،فلا تبتعد المسیرة عن آفاق الإسلام فی فکره وشریعته.

وهناک أمثلة کثیرة فی القرآن الکریم ومنها ماجاء،بعد السؤال و الجواب فی قوله

ص:223


1- (1) .تفسیر الأمثل:247/11-248.

تعالی: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِیها إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَیَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَکَّرُونَ) ، (1)جاءت عبارة أفلا تذکرون،وبعد السؤال الثانی وإجابته،فی قوله تعالی: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِیمِ * سَیَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ) . (2)

جاءت عبارة: (أَ فَلا تَتَّقُونَ) ،وبعد السؤال الثالث وإجابته فی قوله تعالی: (قُلْ مَنْ بِیَدِهِ مَلَکُوتُ کُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُوَ یُجِیرُ وَ لا یُجارُ عَلَیْهِ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَیَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ فَأَنّی تُسْحَرُونَ) . (3)

جاءت عبارة: (فَأَنّی تُسْحَرُونَ) ،و هذه عبارات تنبیه شدیدة للکفار واستنکار لما هم علیه من باطل بشکل متدرج ومرحلة بعد أخری،و هو أسلوب متعارف ینسجم مع الأسالیب المعروفة فی التعلیم و التربیة المنطقیة،فإذا احتاج المربّی إلی إدانة شخص،یبدأ أولاً بتنبیهه بلطف،ثمّ بحزم،وبعد ذلک یعنفه!. (4)

و قد استخدم هذا الأسلوب کلّ الأنبیاء علیهم السلام فی مسیراتهم التبلیغیة،ولو أردنا ذکر کل الأمثلة و النماذج لطال بنا المقام،فقد استخدمه الخلیل إبراهیم علیه السلام مع قومه وأبیه،فیخاطب أبیه أولاً ب-: (لِمَ تَعْبُدُ) ،ثمّ یقول: (فَاتَّبِعْنِی) ،ثمّ یقول (لا تَعْبُدِ) ،ثمّ یقول(إنی أخشی أن تکون للشیطان ولیا)وهکذا فی بیان ربوبیة الله تدرَّج من الکوکب و النجم،إلی القمر،إلی الشمس،إلی ربوبیة الله،وهکذا،الحال بالنسبة إلی الکلیم موسی علیه السلام مع فرعون وبنی إسرائیل،وهکذا:

أوصی النبی صلّی الله علیه و آله أصحابه بالتدرج مع المدعوین فی دعوتهم إلی الإسلام،فحین أرسل معاذ بن جبل إلی الیمن داعیاً ووالیاً وقاضیاً أوصاه قائلا:>>إنک ستأتی قوماً أهل کتاب فأدعهم إلی شهادة أن لا إله إلّا الله،وأنی رسول الله فان هم

ص:224


1- (1) .المؤمنون:84 و85.
2- (2) .المؤمنون:86 و87.
3- (3) .المؤمنون:88 و89.
4- (4) .تفسیر الأمثل:495/10.

أطاعوا لذلک فأعلمهم أن الله افترض علیهم خمس صلوات فی کل یوم ولیلة،فأن هم أطاعوا لذلک فأعلمهم أن الله افترض علیهم صدقة تؤخذ من أغنیائهم فترد فی فقرائهم،فأن هم أطاعوا لذلک فإیاک وکرائم أموالهم،واتق دعوة المظلوم فأنها لیس بینها وبین الله حجاب»،فعلّم الرسول صلّی الله علیه و آله معاذاً أن یبدأ من العقیدة؛لأن العقیدة تدفع صاحبها إلی العبادات من صلاة وزکاة..ولو استعرضنا الکثیر من عادات الجاهلیة لوجدنا أن الإسلام لم یحرمها دفعة واحدة. (1)

إذاً:فعلی المبلّغ أن یفقه أسلوب التدرج بأن یتدرج مع المدعوین،بإقامة الدلائل،وإلقاء الحجج،وأن یجعله شعاراً له،تأسیاً واقتداءاً وأتباعاً للأنبیاء علیهم السلام وللقرآن الکریم.

11.أسلوب الاستفهام

اشارة

من الأسالیب التبلیغیة المهمة هو أسلوب الاستفهام و السؤال و الجواب.

الاستفهام:یسأل به عن جنس ذات الشیء ونوعه،وعن جنس صفات الشیء ونوعه،و قد یسأل به عن الأشخاص و الأعیان فی غیر الناطقین. (2)

ومن هذا المنطلق نجد أنّ القرآن الکریم یثیر الکثیر من المسائل علی صورة:السؤال والاستفهام،لینتزع جوابه من داخل فکر المخاطب،فهو أسلوب تربوی قرآنی مؤثر.فهناک کثیر من المسائل و الحقائق المتعلقة و المرتبطة بالقضایا الدینیة،أو الاخلاقیة،أو الاجتماعیة،یطرحها القرآن الکریم فی قالب التساؤل والاستفهام تارکاً للسامع أن یختار هو بمعونة من فکره،وانطلاقاً من تحلیله وتقویمه.

إنّ لهذا الأسلوب الذی لا بدّ أن نسمیه بالأسلوب التربوی غیر المباشر أثرا بالغاً فی تحقیق الأهداف المرجوة من البرامج التربویة وتأثیرها فیمن یراد توجیههم وتربیتهم؛وذلک

ص:225


1- (1) .الدعوة و الدعاة بین الواقع و الهدف:61 و62.
2- (2) .مفردات غریب القرآن:479.

لأنّ الإنسان-فی الأغلب-یهتم أکثر بما توصل إلیه بنفسه من النتائج و الأفکار و الآراء وما انتهی إلیه بفکره من التفاسیر و التحالیل فی القضایا المختلفة،فإذا طُرحت علیه قضیة بصورة قطعیة وصبغة جازمة،قاومها أحیاناً،ولعلّه ینظر إلیها کما ینظر إلی أی فکرة غریبة،ولکن عندما یطرح علیه الأمر فی صورة التساؤل الذی یطلب منه الجواب علیه حسب قناعته الشخصیة،ثمّ یسمع ذلک الجواب من قُرارة فؤاده،فأنه لا یسعه حینئذٍ أن یقاوم هذا الجواب ویعادیه،بل ینظر إلیه نظر العارف به،ولن تعود لدیه-حینئذ-تلک الفکرة الغریبة البعیدة،بل تکون الفکرة القریبة إلی قلبه،المأنوسة إلی فؤاده،إنّ هذا الأسلوب من التوجیه و الإرشاد مؤثراً غایة التأثیر،من هذا المنطلق استفاد القرآن الکریم من هذا الأسلوب التربوی الرائع المؤثر فی مواضع عدیدة،منها قوله تعالی: (أَ فَمَنْ کانَ مُؤْمِناً کَمَنْ کانَ فاسِقاً لا یَسْتَوُونَ) ، (1)وقوله تعالی: (قُلْ هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ) ، (2)وقوله تعالی: (قُلْ هَلْ یَسْتَوِی الْأَعْمی وَ الْبَصِیرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِی الظُّلُماتُ وَ النُّورُ) . (3)

وکذلک قوله تعالی: (وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَی اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِی مِنَ الْمُسْلِمِینَ) ، (4)وقال تعالی حاکیاً عن خلیله إبراهیم: (قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَنْفَعُکُمْ شَیْئاً وَ لا یَضُرُّکُمْ * أُفٍّ لَکُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ) ، (5)(لما تفو هوا بقولهم: (ما هؤُلاءِ یَنْطِقُونَ) وسمعه إبراهیم علیه السلام لم یشتغل بالدفاع فلم یکن قاصداً لذلک من أول،بل استفاد من کلامهم لدعوته الحقة فخصمهم بلازم قولهم وأتم الحجة علیهم فی کون أصنامهم غیر مستحقة للعبادة أی غیر آلهة.

ص:226


1- (1) .السجدة:18.
2- (2) .الزمر:9.
3- (3) .الرعد:16.
4- (4) .فصلت:33.
5- (5) .الأنبیاء:66 و67.

فما حصل تفریع قوله: (قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَنْفَعُکُمْ شَیْئاً وَ لا یَضُرُّکُمْ) , إن لازم کونهم لا ینطقون أن لا یعلموا شیئاً ولا یقدرون علی شیء،ولازم ذلک أن لا ینفعوکم شیئاً ولا یضروکم،ولازم ذلک أن تکون عبادتهم لغواً؛إذ العبادة إما لرجاء خیر أو لخوف شرّ،ولیس عندهم شیء من ذلک فلیسوا بآلهة.

فأجابهم نبی الله إبراهیم علیه السلام جواباً أفحمهم،وجعلهم فی دوّامة من حیرة لم یجدوا منها مخرجاً قال: (قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ) (1)، (2)لقد هزت کلمات النبی إبراهیم علیه السلام الوثنیین وأیقظت ضمائرهم النائمة الغافلة،وأزاح الرماد عن شعلة النار فأضاءها،وأنار فطرتهم التوحیدیة من خلف حجب التعصب و الجهل،فی لحظة سریعة استیقظوا من هذا النوم العمیق ورجعوا إلی فطرتهم ووجدانهم،[و]کما یقول القرآن: (فَرَجَعُوا إِلی أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّکُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ) . (3)

فقد ظلمتم أنفسکم ومجتمعکم الذی تنتمون إلیه،وکذلک ساحة الله واهب النعم المقدسة. (4)

ویوجد هناک استفهام إنکاری،کما فی قوله تعالی: (أَ نُلْزِمُکُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها کارِهُونَ) ، (5)و هو استفهام بمعنی الإنکار. (6)

وقوله تعالی: (أَمْ لَکُمْ کِتابٌ فِیهِ تَدْرُسُونَ) ، (7)و (أَمْ لَکُمْ أَیْمانٌ عَلَیْنا بالِغَةٌ إِلی یَوْمِ الْقِیامَةِ) ، (8)وقوله تعالی: (أَ فِی اللّهِ شَکٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) . (9)

ص:227


1- (1) .الأنبیاء:63.
2- (2) .المیزان فی تفسیر القرآن:301/14.
3- (3) .الأنبیاء:64.
4- (4) .تفسیر الأمثل:192/10.
5- (5) .هود:28.
6- (6) .تفسیر المنیر:59/12.
7- (7) .القلم:37.
8- (8) .القلم:39.
9- (9) .إبراهیم:10.

و قد استخدم الأنبیاء و القرآن الکریم أسلوب الاستفهام بعدّة طرق،ومن تلک الطرق و الأبواب،یمکن الإشارة إلی الموارد الآتیة:

أ)الاستفهام وإثارة العواطف

لقد استعمل القرآن الکریم إثارة العواطف عن طریق أسلوب الاستفهام لتربیة البشر فقال تعالی: (أَ یُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَنْ یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً فَکَرِهْتُمُوهُ) . (1)

ولکی یجنّب[الإنسان]الإنفاق رئاءً ومنّةً یستفید القرآن الکریم من عاطفة الإنسان تجاه الأطفال الصغار و الضعاف،حیث یقول تعالی: (أَ یَوَدُّ أَحَدُکُمْ أَنْ تَکُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِیلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِیها مِنْ کُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْکِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّیَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِیهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمُ الْآیاتِ لَعَلَّکُمْ تَتَفَکَّرُونَ) . (2)

إنّ هذا المعنی یبین حالة العجز،والطفولة،والضعف،والاحتراق،والفقر وهی مما یثیر العواطف. (3)

ب)الاستفهام وإیقاظ الضمیر

یؤمن الإنسان ببعض القضایا بصورة فطریة وطبیعیة دون أی تلقین أو تبلیغ،و قد أشار الله تعالی إلی هذه الحقیقة فی أواخر کثیر من الآیات بقوله: (وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ؛لذا فإن علی المبلّغ أن یستمد من ضمیر الناس واعتقاداتهم الباطنیة قال تعالی: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ) ؛ (4)لأن وجدانهم لا یسمح لهم بأن یجیبوا بغیر ذلک کما قال تعالی: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَیَقُولُنَّ اللّهُ) . (5)

ص:228


1- (1) .الحجرات:12.
2- (2) .البقرة:266.
3- (3) .القرآن و التبلیغ:170.
4- (4) .العنکبوت:61.
5- (5) .العنکبوت:63.

لاحظوا هذه الآیة الشریفة وکیف أن الله سبحانه یدعوا الوجدان الإنسانی إلی الحکم: (وَ کَیْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضی بَعْضُکُمْ إِلی بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْکُمْ مِیثاقاً غَلِیظاً) ، (1)أی:هلا تجعلون وجدانکم حاکماً لیعترف بأنّ هذا عمل مذموم. (2)

ج)الاستفهام وإیقاظ العقول و الفطرة

العقلاء من کل مجتمع هم أهل الفکر ویبحثون عن الدلیل المنطقی و العقلی فی کل ظاهرة،و قد بین القرآن الکریم طریقة العقلاء....ودعا الناس إلی التفکر،قال تعالی: (أَ فَرَأَیْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ) ، (3)(أَ فَرَأَیْتُمُ الْماءَ الَّذِی تَشْرَبُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (4)(أَ فَرَأَیْتُمُ النّارَ الَّتِی تُورُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) ، (5)نعم یسأل القرآن الکریم أصحاب العقول بآیات کثیرة لکی یوقعهم علی المحک إذ لا مفر عن الإجابة بالإیجاب،فیسأل الله عز وجلّ عباده فیقول: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ) ، (6)أی هل من الممکن عقلاً أن یخلق موجود غیر الله عز وجلّ هذا الکون العظیم؟فمن قال:نعم فإنه لا یملک عقلاً سلیماً،ویسأل عن النبوة: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) ، (7)ویسأل عن المعاد: (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً وَ أَنَّکُمْ إِلَیْنا لا تُرْجَعُونَ) ، (8)(أَ فَعَیِینا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) ، (9)ویسأل عن الإمامة: (أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی) ، (10)و أما نبی الله لوط علیه السلام فإنه خاطب

ص:229


1- (1) .النساء:21.
2- (2) .القرآن و التبلیغ:ص172.
3- (3) .الواقعة:63 و64.
4- (4) .الواقعة:68 و69.
5- (5) .الواقعة:71 و72.
6- (6) .النمل:60.
7- (7) .الطور:32.
8- (8) .المؤمنون:115.
9- (9) .ق:15.
10- (10) .یونس:35.

قومه الذین اعتادوا العمل الجنسی الشنیع: (وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَکُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِینَ) . (1)

أی:أن هذا العمل لو کان عقلائیاً لفعلته مجموعة إنسانیة واحدة قبلکم علی الأقل.

إن بعض القضایا ینبغی إبلاغها علی شکل سؤال یتوجه إلی الفطرة الإنسانیة،وذلک بأن یقال:أن الفطرة الإنسانیة لو لم تکن میتة فأن الحکم صحیح یقیناً. (2)

ومن أمثلة ذلک ما خاطب به یوسف صاحبی السجن،لیثیر تفکیرهم وتأملهم فقال لهم: (أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَیْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ) . (3)

وهناک استفهام توبیخی فی خطاب إبراهیم لقومه،قال: (أُفٍّ لَکُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ) ، (4)إلّا أنه لم یلح فی توبیخهم وتقریعهم لئلا یلجوا فی عنادهم. (5)

ویوجد هناک استفهام تقریری-لأخذ الإقرار من المقابل-و هو کما ورد فی قوله تعالی: (قُلْ لِمَنْ ما فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلّهِ کَتَبَ عَلی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَیَجْمَعَنَّکُمْ إِلی یَوْمِ الْقِیامَةِ لا رَیْبَ فِیهِ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ) . (6)

فبالإشارة إلی مبدأ التوحید یواصل القول عن المعاد بطریقة رائعة،هی طریقة السؤال و الجواب،والسائل و المجیب کلاهما واحد،و هو من الأسالیب الأدبیة الجمیلة،یتکون الاستدلال هنا علی المعاد من مقدمتین:

أوّلاً:یقول: (قُلْ لِمَنْ ما فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) .ثمّ یقول مباشرة:أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم (قُلْ لِلّهِ) فبموجب هذه المقدّمة یکون کلّ عالم الوجود ملکاً لله وبیده وتدبیره.

ص:230


1- (1) .الأعراف:80.
2- (2) .القرآن و التبلیغ:186 و187.
3- (3) .یوسف:39.
4- (4) .الأنبیاء:67.
5- (5) .تفسیر الأمثل:193.
6- (6) .الأنعام:12.

ثانیاً:إنّ الله هو وحده مصدر کلّ رحمة و هو الذی أوجب علی نفسه الرحمة،أیمکن لرب هذا شأنه أن یقطع سلسلة حیاة البشر نهائیاً بالموت فیوقف التکامل واستمرار الحیاة؟

[بل]هذه الرحمة نفسها توجب أن یرتدی الإنسان لباس حیاة جدیدة بعد موته فی عالم أوسع،لذلک یقول بعد هاتین المقدمتین: (لَیَجْمَعَنَّکُمْ إِلی یَوْمِ الْقِیامَةِ لا رَیْبَ فِیهِ) ،إن الآیة تبدأ بالاستفهام التقریری الذی یراد به انتزاع الإقرار من السامع،ولما کان هذا الأمر مسلماً به بالفطرة،کما کان المشرکون یسلمون بأنّ مالک عالم الوجود لیس الأصنام،بل الله،فإنّ الجواب یرد مباشرة،و هذا أسلوب جمیل فی عرض مختلف المسائل.

وهکذا نجد إبراهیم علیه السلام لما أراد أن یدعو أباه دعاه بأسلوب الاستفهام فقال: (یا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا یَسْمَعُ وَ لا یُبْصِرُ وَ لا یُغْنِی عَنْکَ شَیْئاً) ، (1)فقد رأی أباه یعبد الأصنام التی یعبدها قومه،فأراد أن یثیر التساؤل فی تفکیر أبیه،وذلک بأن یطرح علیه الجانب اللامعقول فی هذه العبادة بطریقة بسیطة لا تکلف الإنسان بذل أی جهد من أجل اکتشاف انحرافها عقیدیاً،فحاول أن یهز جمود الموقف عنده،بطریقة الصدمة و الإثارة،من خلال أسلوب الاستفهام.

وبهذا الأسلوب البین یعرف المبلّغ کیفیة الدخول إلی مختلف الأبواب و الأفکار،وکذلک کیفیة الحدیث عنها،وتوجیه الحوار إلیها،وذلک من خلال المفردات التی تثیر الاهتمام البالغ حیث تدعو إلی إثارة کثیر من علامات الاستفهام حول الرکائز التی ترتکز علیها هذه الأمور؛إذ قد لا یکون من الضروری-دائماً-أن نثیر القضایا بشکل مباشر.

12.أسلوب الحسم

الحسم فی اللغة کما عرفه الخلیل:

ص:231


1- (1) .مریم:42.

أن تحسم عرقاً فتکویه لئلاّ یسیل دمه،وحسمت الأمر أی،قطعته حتی لم یظفر منه شیء،ومنه سمی السیف حساماً؛لأنه یحسم العدو عما یرید،أی یمنعه. (1)

أوکما جاء فی معجم مقاییس اللغة:

أنه قطع الشیء عن آخره،فالحسم القطع،ولذلک یقال احسم عنک هذا الأمر أی اقطعه وأکفه نفسک. (2)

و هو من أسالیب التبلیغ غیر المباشر الذی استخدمه الأنبیاء علیهم السلام من خلال إعلان مواقفهم الواضحة و القاطعة مقابل مواقف الرافضین لدعوتهم،و هذا الأسلوب هو أفضل أسلوب لمواجهة الکفر المتعنّت المتصلّب الذی لا یقبل حواراً بتاتاً،ولا یتحرّک فی موقف فکر،ولا یستجیب لترغیب الله،ولا یخاف من ترهیبه.فمن واجب المبلّغ هنا أن لا یضعف ولا ییأس،ولا یشعر بالإحباط و السقوط،بل یزیده ذلک إصرارا علی العمل،وتصمیماً علی الاستمرار فی خطّ التبلیغ و الدعوة إلی الله تعالی.

فکثیر من الأحیان یکون الموقف بحاجة إلی صدمة إعلانیة قویة،یقف فیها المبلّغ لیعلن موقفه الذاتی فی عملیة الاختیار،لیصدم بذلک تردّد المتردّدین وعناد المعاندین،فیکن هذا الأسلوب أکثر فاعلیة وتأثیره من أسلوب الحوار وغیره من الأسالیب التی یکون فیها ارتباط وأخذ ورد من کلا الطرفین؛لأنه یتمثل فی عرض الفکرة،بعیداً عن ردّ الفعل تجاه الآخرین،ممّا یعطی له شیء من القوة،وکثیر من الحریة فی الحدیث عن التفاصیل،فهو أسلوب من أسالیب التأثیر النفسی القوی الذی یوحی لهم أنّه لن یتّخذ غیر هذا الموقف،فلا یفکروا بأن هناک اهتزاز فی قرار الموقف،ممّا یدعوهم إلی إعادة تفکیرهم بما طرحه علیهم من تعالیم الدعوة.

وهناک أمثلة کثیرة فی القرآن الکریم تبین هذا الأسلوب بوضوح:

ص:232


1- (1) .کتاب العین:153/3.
2- (2) .معجم مقاییس اللغة:57/2.

منها قوله تعالی: (وَ إِنْ کَذَّبُوکَ فَقُلْ لِی عَمَلِی وَ لَکُمْ عَمَلُکُمْ أَنْتُمْ بَرِیئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِیءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ) . (1)

فقد علّمت[هذه الآیة]النبی صلّی الله علیه و آله طریقة جدیدة فی المواجهة،فقالت: (وَ إِنْ کَذَّبُوکَ...) .

إن لإعلان الترفع وعدم الاهتمام هذا،والمقترن بالاعتماد و الإیمان القاطع بالمذهب،أثراً نفسیاً خاصاً،وبالذات علی المنکرین المعاندین،فهو یفهمهم بعدم وجود أی إجبار وإصرار علی قبولهم الدعوة الإسلامیة،بل إنهم بعدم تسلیمهم أمام الحق سیحرمون أنفسهم،ولا یضرون إلّا أنفسهم و قد ورد نظیر هذا التعبیر فی آیات أخری من القرآن،کما نقرأ فی سورة الکافرون: (لَکُمْ دِینُکُمْ وَ لِیَ دِینِ) ، (2)من هذا البیان یتضح أن محتوی مثل هذه الآیات لا ینافی مطلقاً الأمر بالتبلیغ...بل أن هذا نوع من المواجهة المنطقیة عن طریق عدم الاکتراث لهؤلاء الأشخاص المعاندین. (3)

ومنها قوله تعالی: (قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَکُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِوَکِیلٍ * وَ اتَّبِعْ ما یُوحی إِلَیْکَ وَ اصْبِرْ حَتّی یَحْکُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَیْرُ الْحاکِمِینَ) . (4)

هاتان الآیتان قرار نهائی حاسم،خاطب الله بهما جمیع الناس و الجنّ إلی یوم القیامة أبد الدهر،والمعنی الواضح منهما،قل أیها الرسول للناس قاطبة،من حضر ومن یأتی،قد جاءکم الحق المبین من ربکم،یبین حقیقة هذا الدین،وکمال هذه الشریعة،علی لسان رجل منکم،بلسان عربی مبین،فأمر الله تعالی رسوله محمد صلّی الله علیه و آله أن یخبر الناس أن الذی جاءهم به من عند الله تعالی هو الحق الذی لا شک،ولا شبهة،ولا ریب فیه،والحق هو القرآن و الشرع الذی جاء

ص:233


1- (1) .یونس:41.
2- (2) .الکافرون:6.
3- (3) .تفسیر الأمثل:364/6 و365.
4- (4) .یونس:108-109.

به محمد صلّی الله علیه و آله من عند ربه،فمن اهتدی أی اتبع الحق وأذعن له،وصدق بالقرآن ورسول الله،فإنما یهتدی لنفسه ویسعی لها،أی یعد نفع عمله وثواب اهتداءه وإتباعه علی ذاته،ویجد خیر رشده فی مصیره وآخرته؛لأنه یوجب لها رحمة الله ویدفع عذابه.

ومن ضلّ،أی حاد عن طریق الحق،ولم ینظر بعین الحقیقة،وحاد عن منهج الله،وکفر بربّه عز وجلّ،فإنما یضلّ علی نفسه أی:یرجع وبال عمله علیه.

ثمّ یؤکد القرآن عنصر الإرادة،والاختیار وترک الإجبار فی قوله تعالی لرسوله: (وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِوَکِیلٍ) . (1)

ومنها قوله تعالی: (قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّینَ * وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَکُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِینَ) ، (2)[فیهما]:

نحو رجوع إلی قوله تعالی: (إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّینَ) ، (3)بداعی أن لا یؤیسهم من نفسه،فلا یطمعوا فیه أن یترک دعوتهم ویوافقهم علی الإشراک بالله. (4)

فلا بدّ إذاً:أن یرتکز التبلیغ و التربیة الإسلامیة علی قاعدة الإصرار والالتزام بالخط المستقیم وعدم الانحراف عنه لقاء أی عرض للتنازل من أیة جهة کانت،وعلیه ینبغی أن تکون الدعوة الإسلامیة متحرکة فی خطّ الثوابت الاعتقادیة و المصیریة بکلّ استقامة وثبات.

هکذا یرید الله تعالی للمبلّغ أن ینطلق من قاعدة المبدأ الذی لا یحتمل مساومة،أو مجاملة،او تنازلاً: (قُلْ إِنَّ هُدَی اللّهِ هُوَ الْهُدی وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِینَ) ، (5)فهی حالة من الاقتحام لنفوس المعاندین،وهی الصراحة فی الإعلان عن الحق و الهدی،والإیحاء

ص:234


1- (1) .التفسیر الوسیط:1017/2 و1018.
2- (2) .الزمر:11 و12.
3- (3) .الزمر:2.
4- (4) .المیزان فی تفسیر القرآن:247/17.
5- (5) .الأنعام:71.

إلی الآخرین بأنّه لا مجال لطریق غیر طریق الله،ولا هدی غیر هدی الله الذی یجب أن یتبع وحده،لیعرفوا أن الموقف حاسم لا مجال فیه للتراجع وللتنازل مهما کلف الأمر: (قُلْ یا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلی مَکانَتِکُمْ إِنِّی عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَکُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إِنَّهُ لا یُفْلِحُ الظّالِمُونَ) ، (1)وقال تعالی: (قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنْ کُنْتُمْ فِی شَکٍّ مِنْ دِینِی فَلا أَعْبُدُ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لکِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ) . (2)

13.أسلوب الحوار

اشارة

إنّ أسلوب الحوار-الیوم-هو من أهم الأسالیب الموصلة إلی نقطة الیقین فیما یسمع أو یقرأ أو کلیهما معاً.

والحوار،کما یعرّفه الراغب هو من:

الحور التردّد إما بالذات و إما بالفکر.وحار الماء فی الغدیر تردد فیه،والقوم فی حوار فی تردد،والمحاورة و الحوار المرداة فی الکلام،ومنه التحاور قال الله تعالی: (وَ اللّهُ یَسْمَعُ تَحاوُرَکُما) (3). (4)

و قد بدا أسلوب الحوار بیناً فی المسیرة التبلیغیة للأنبیاء علیهم السلام،أما فی القرآن الکریم فأن:

عنصر الحوار واضح العبارة بادی القسمات،ووروده شائع مطرّد فی[القرآن الکریم]،ویغلب مجیئه متصدراً بکلمة:(قال)أو مشتقاتها من الجمع أو التثنیة أو التذکیر أو التأنیث،و هذا من شأنه أن یجعل الحوار حاضراً یشد الانتباه ویرهف الحسن ویدعو إلی متابعة الأحداث. (5)

ص:235


1- (1) .الأنعام:135.
2- (2) .یونس:104.
3- (3) .المجادلة:1
4- (4) .مفردات غریب القرآن:135.
5- (5) .الدعوة إلی الله تعالی:148.
شروط الحوار الناجح

و قد ذکر المفسّرون شروطاً وأصولاً وقواعد لطریقة البحث،وأسلوب الحوار الناجح, ومنها ما ذکروه بعد قوله تعالی: (قُلْ مَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللّهُ وَ إِنّا أَوْ إِیّاکُمْ لَعَلی هُدیً أَوْ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ * قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ * قُلْ یَجْمَعُ بَیْنَنا رَبُّنا ثُمَّ یَفْتَحُ بَیْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِیمُ) ، (1)حیث قالوا:

کثیر ما یلاحظ أفراد وفضلاء علی مستوی من العلم و المعرفة،لا یمکنهم النفوذ إلی أفکار الآخرین،لعدم اطلاعهم علی الفنون الخاصة بالبحث والاستدلال،وعدم رعایتهم للجوانب النفسیة،علی العکس من البعض الآخر الذین لیسوا علی وفرة من العلم،إلّا أنهم موفقین من ناحیة جذب القلوب وتسخیرها و النفوذ فی أفکار الآخرین.

والعلة الأساسیة فی ذلک هی أن طریقة البحث،وأسلوب التعامل مع الطرف المقابل یجب أن تکون مقرونة بأصول وقواعد تتسق مع الخلق و الروح،فلا تستثار الجوانب السلبیة فی الطرف المقابل،کی لا یندفع إلی العناد و الإصرار؛إذ أن مراعاة الجانب النفسی ستؤدی إلی إیقاظ وجدانه وإثارة روح البحث عن الحقیقة وأحیائها فیه.

والمهمّ هنا،أن نعلم أن الإنسان لیس فکراً وعقلاً صرفاً کی یستسلم أمام قدرة الاستدلال،بل علاوة علی ذلک فأن مجموعة من العواطف و الأحاسیس التی تشکل جانباً مهماً من روحه مطویة فی وجوده،والتی یجب إشباعها بشکل صحیح ومعقول.

والقرآن الکریم علمنا کیفیة مزج البحوث المنطقیة بالأصول الأخلاقیة فی المحاورة،حتی تنفذ إلی أرواح الآخرین.

شرط التأثیر و النفوذ فی روح الطرف المقابل هو إحساس الطرف المقابل بأنّ المتحدّث یتحلّی بالصفات التالیة:

1.الإیمان بما یقول،وما یقوله صادر من أعماقه.

ص:236


1- (1) .سبأ:24-26.

2.هدفه من البحث طلب الحق،ولیس التفوق و التعالی.

3.لا یقتصد تحقیر الطرف المقابل،وإعلاء شأن نفسه.

4.لیس له مصلحة شخصیة فیما یقول،بل إنما یقول نابع من الإخلاص.

5.یکُنُّ الاحترام للطرف المقابل،لذا فعلیه أن یستخدم الأدب و الرقة فی تعبیراته.

6.لا یرید إثارة العناد لدی الطرف المقابل،ویکتفی بالبحث فی موضوع ما بالمقدار الکافی،دون الإصرار علی إثبات أن الحق إلی جانبه،لیعرض حدیثه.

7.منصف لا یفرط بالإنصاف أبداً،حتی وأن لم یراع الطرف المقابل هذه الأصول.

8.لا یقصد تحمیل الآخرین أفکاره،بل یرغب فی إیجاد الدافع لدی الآخرین حتی یوصلهم إلی الحقیقة بمنتهی الحریة.

الدقة المتناهیة فی هذه الآیات،وأسلوب تعامل الرسول صلّی الله علیه و آله-بأمر الله-مع المخالفین،المقترن بکثیر من اللفتات الجمیلة،تعتبر دلیلاً حیاً علی ما ذکرناه،فهو أحیاناً یصل إلی حد لا یشیر بدقة إلی المهتدین أو المضلین فی أحد الفریقین،بل یقول: (وَ إِنّا أَوْ إِیّاکُمْ لَعَلی هُدیً أَوْ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ) ،حتی یثیر فی الذهن التساؤل عن علامات الهدی أو الضلال فی أی الفریقین،أو یقول: (قُلْ یَجْمَعُ بَیْنَنا رَبُّنا ثُمَّ یَفْتَحُ بَیْنَنا بِالْحَقِّ) . (1)

ومن أروع المحاورات التی یمکن الإشارة إلیها،هو ما حاور به شیخ الأنبیاء علیهم السلام نوح علیه السلام قومه،حیث استوعبت کلّ مظاهر الأدب و اللطف.و قد تناول العلامة الطباطبائی هذا الموضوع فی وصفه لأخلاق الأنبیاء علیهم السلام فقال:رعایتهم الأدب عن ربهم فیما حاورا قومهم،و هذا أیضاً باب واسع و هو ملحق بالأدب فی الثناء علی الله سبحانه،و هو من جهة أخری من أبواب التبلیغ العملی الذی لا یقْصُر أو یزِید أثراً علی التبلیغ القولی.

و قد ورد فی القرآن الکریم الکثیر،من هذا القبیل ومنه فی محاورة جرت بین نوح وقومه: (قالُوا یا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَکْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ کُنْتَ مِنَ الصّادِقِینَ * قالَ إِنَّما یَأْتِیکُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِینَ * وَ لا یَنْفَعُکُمْ نُصْحِی إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَکُمْ

ص:237


1- (1) .تفسیر الأمثل:446/13 و447.

إِنْ کانَ اللّهُ یُرِیدُ أَنْ یُغْوِیَکُمْ هُوَ رَبُّکُمْ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ) ، (1)ینفی علیه السلام عن نفسه ما نسبوا إلیه من إتیان الآیة لیعجزوه به،وینسبه إلی ربه ویبالغ فی الأدب بقوله: (إِنْ شاءَ) ثمّ بقوله: (وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِینَ) أی:الله،ولذلک نسبه إلیه تعالی بلفظ (اللّهُ) دون لفظ(ربی)؛لأنّ الله هو الذی ینتهی إلیه کل جمال وجلال،ولم یکتفِ بنفی القدرة علی إتیان الآیة عن نفسه وإثباته حتی ثناه بنفی نفع نصحه لهم إن لم یرد الله أن ینتفعوا به،فأکمل بذلک نفی القدرة عن نفسه وإثباته لربه،وعلل ذلک بقوله: (هُوَ رَبُّکُمْ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ) .

فهذه محاورة غاصة بالأدب الجمیل فی جَنب الله سبحانه حاور بها نوح علیه السلام الطغاة من قومه محاجاً لهم،و هو أوّل نبی من الأنبیاء علیهم السلام فتح باب الاحتجاج فی الدعوة إلی التوحید،وانتهض علی الوثنیة علی ما یذکره القرآن الشریف.

و هذا أوسع هذه الأبواب مسرحاً لنظر الباحث فی أدب الأنبیاء علیهم السلام یعثر علی لطائف من سیرتهم المملوءة أدباً وکمالاً،و قد حکا الله تعالی فی کلامه محاورات کثیرة عن:هود وصالح وإبراهیم،وموسی وشعیب،ویوسف وسلیمان،وعیسی ومحمد صلّی الله علیه و آله وغیرهم من الأنبیاء علیهم السلام فی حالات مختلفة ک:الشدة و الرخاء،والحرب و السلم،والإعلان و الإسرار،والتبشیر و الإنذار،وغیر ذلک. (2)

ومن أروع المحاورات المثیرة تلک التی دارت بین أبی الأنبیاء علیهم السلام إبراهیم الخلیل وبین أبیه وقومه،حین استخدم أسلوب المحاورة لإثارة عقولهم وتفکیرهم لیتبینوا عجز الأصنام و الأوثان وعدم قدرتها علی إجابة دعوتهم،وعدم قدرتها علی النفع و الضر،لعله یوقظ عقولهم الغافلة لعلها تری الحق فتهتدی إلیه وتمضی فی طریق الرشاد،ثمّ یعقّب علی ذلک ببیان صفات الإله الحق الجدیر بالعبادة،والتوجه إلیه سبحانه بقضاء ما یحتاجه العباد.وبذلک یقول الحق،تبارک وتعالی: (وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِیمَ * إِذْ قالَ لِأَبِیهِ وَ قَوْمِهِ

ص:238


1- (1) .هود:32-34.
2- (2) .سنن النبی:79.

ما تَعْبُدُونَ * قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاکِفِینَ * قالَ هَلْ یَسْمَعُونَکُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ یَنْفَعُونَکُمْ أَوْ یَضُرُّونَ * قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا کَذلِکَ یَفْعَلُونَ * قالَ أَ فَرَأَیْتُمْ ما کُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِی إِلاّ رَبَّ الْعالَمِینَ * اَلَّذِی خَلَقَنِی فَهُوَ یَهْدِینِ * وَ الَّذِی هُوَ یُطْعِمُنِی وَ یَسْقِینِ * وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفِینِ * وَ الَّذِی یُمِیتُنِی ثُمَّ یُحْیِینِ) . (1)

وکذلک قوله تعالی: (أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِی حَاجَّ إِبْراهِیمَ فِی رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْکَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ رَبِّیَ الَّذِی یُحْیِی وَ یُمِیتُ قالَ أَنَا أُحْیِی وَ أُمِیتُ قالَ إِبْراهِیمُ فَإِنَّ اللّهَ یَأْتِی بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِی کَفَرَ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ) ، (2)وبهذا الأسلوب من المحاورة و المُحاجّة یمکن أن تصل فکرة النبی أو المبلّغ إلی قلوب أکثر الناس وتؤثّر فیهم.

14.أسلوب الترغیب و الترهیب

اشارة

للأنبیاء علیهم السلام طریقتان وأسلوبان فی تربیة وتعلیم البشر:

أحدهما:الترهیب و الإنذار و التخویف من عدم تحمل المسؤولیة الملقاة علیهم.

والثانیة:الترغیب و التبشیر وبعث الرجاء و الأمل فی نفوسهم،لکی یفتحوا قلوبهم وعقولهم لاستیعاب وفهم الرسالة السماویة الإلهیة.

و قد قال الراغب الأصفهانی:

الرغبة و الرغب و الرغبی السعة فی الأداة قال تعالی: (وَ یَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً) (3)فإذا قیل:رغب فیه وإلیه یقتضی الحرص علیه.قال تعالی: (إِنّا إِلَی اللّهِ راغِبُونَ) (4). (5)

ورغبه:أعطاه ما رغب،قال ساعده بن جویة:

ص:239


1- (1) .الشعراء:69-81.
2- (2) .البقرة:258.
3- (3) .الأنبیاء:90
4- (4) .التوبة:59.
5- (5) .مفردات غریب القرآن:198.

لقلت لدهری أنه هو غزوتی وإنی و إن رغبتنی غیر فاعل (1)

أما الترهیب من:رهب،الرهبة و الرهب مخافة مع تحرز واضطراب،قال تعالی: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) ، (2)قال تعالی: (رَغَباً وَ رَهَباً) ،وقال تعالی: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ) ، (3)وقوله تعالی (وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ) ، (4)أی:حملوهم علی أن یرهبوا (وَ إِیّایَ فَارْهَبُونِ) ، (5)أی:فخافون. (6)

وفی الحدیث:

>>لا تجتمع الرغبة و الرهبة فی قلب إلّا وجبت له الجنة». (7)

ومن هذا المنطلق أکدّ القرآن الکریم علی سببهما وهما التبشیر و الإنذار فی کثیر من الآیات الشریفة،وفی هذا قال تعالی: (کِتابٌ فُصِّلَتْ آیاتُهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ * بَشِیراً وَ نَذِیراً فَأَعْرَضَ أَکْثَرُهُمْ فَهُمْ لا یَسْمَعُونَ) ، (8)فهذا الکتاب بشیراً للصالحین نذیراً للمجرمین:بشیراً أو نذیراً إلّا أن أکثرهم: (فَأَعْرَضَ أَکْثَرُهُمْ فَهُمْ لا یَسْمَعُونَ) .

فهاتان الصفتان تکشفان عن عمق التأثیر التربوی للقرآن الکریم،عن طریق أسلوب الإنذار،والوعید و التهدید و الترغیب،فآیة تقوم بتشویق الصالحین و المحسنین،بحیث أن النفس الإنسانیة تکاد تطیر وتتماوج فی أشواق الملکوت و الرحمة،وأحیاناً تقوم آیة بالتهدید و الإنذار بشکل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد.

ص:240


1- (1) .لسان العرب:422/1.
2- (2) .الحشر:13.
3- (3) .الأنفال:60.
4- (4) .الأعراف:116
5- (5) .البقرة:40.
6- (6) .مفردات غریب القرآن:204.
7- (7) .من لا یحضره الفقیه:135/1.
8- (8) .فصلت:3 و4.

إنّ هذین الأصلین التربویین:الترغیب و التهدید[هما]متلازمان فی الآیات القرآنیة ومترابطان فی أسلوبه. (1)

أصلان تربویان

البشارة و الإنذار،أو التشجیع و التهدید،من أهم الأصول اللازمة للتربیة وللحرکة الاجتماعیة.

ینبغی أنْ یلقی الفرد تشجیعاً علی أعماله الصالحة،وتوبیخاً علی أعماله الطالحة،کی یواصل مسیره الأول،ویرتدع عن ارتیاد المسیر الثانی.

ثمّ یقول:(التشجیع)وحده لا یکفی لدفع الفرد و المجتمع علی طریق التکامل؛لأن الإنسان سوف یکون مطمئناً من عدم الخطر فی حالة ارتکاب المعاصی،وهکذا من یعتقد أن التربیة ینبغی أن تقوم علی أساس التخویف و التأنیب لا غیر.

الفریقان المذکوران خاطئان فی فهم الإنسان؛حیث أن الإنسان یتجاذبه کل من الخوف و الرجاء،حب الذات وکره الفناء،تحصیل المنفعة ودفع الضرر،وهل یمکن لموجود یحمل فی ذاته هذین البعدین أن یربی وفق بعد واحد؟

والتعادل ضروری وفق هذین الجانبین،فلو تجاوز التشجیع حدّه لأدّی إلی التجرؤ و الغفلة،ولو تعدّی التخویف حدّه لبعث علی الیأس و القنوط وانطفأ شعلة الشوق و التحرک فی النفوس.

ممّا سبق نفهم سبب اقتران البشارة بالإنذار أو البشیر،ب-النذیر فی القرآن الکریم،فتارة تقدّم کلمة البشیر علی النذیر کالآیة التی نحن بصددها: (مُبَشِّراً وَ نَذِیراً) ،وتارة تقدم کلمة النذیر کقوله تعالی: (إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِیرٌ وَ بَشِیرٌ) ، (2)وأکثر الآیات القرآنیة فی هذا المورد تتقدم فیه صفة البشیر،ولعل ذلک یعود إلی أن رحمة الله من حیث المجموع سابقة علی غضبه:یا من سبقت رحمته غضبه. (3)

ولکن لا ینبغی غض الطرف عن کون الإنذار من أوائل الأوامر الربانیة

ص:241


1- (1) .تفسیر الأمثل:349/15 و350.
2- (2) .الأعراف:188.
3- (3) .تفسیر الأمثل:358/1.

الموجهة إلی الأنبیاء علیهم السلام بدلیل عبارة: (أَنْ أَنْذِرُوا) [فی قوله تعالی: (یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ) ؛ (1)]لأن طبیعة الإنذار أن یعقبه انتباه فنهوض وحرکة،صحیح أن الإنسان طالب للمنفعة ودافع للضرر،ولکن التجربة أظهرت أن للترغیب أثر بالغ لمن یتملک أسس وشرائط قبول الهدایة،أما من أعمت بصیرتهم ملهیات الحیاة الدنیا فلا ینفع معهم إلّا التهدید و الوعید). (2)

و قد أتضح الأسلوبان فی دعوة إبراهیم الخلیل علیه السلام لأبیه،قال تعالی: (وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ إِبْراهِیمَ إِنَّهُ کانَ صِدِّیقاً نَبِیًّا * إِذْ قالَ لِأَبِیهِ یا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا یَسْمَعُ وَ لا یُبْصِرُ وَ لا یُغْنِی عَنْکَ شَیْئاً * یا أَبَتِ إِنِّی قَدْ جاءَنِی مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ یَأْتِکَ فَاتَّبِعْنِی أَهْدِکَ صِراطاً سَوِیًّا * یا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّیْطانَ إِنَّ الشَّیْطانَ کانَ لِلرَّحْمنِ عَصِیًّا * یا أَبَتِ إِنِّی أَخافُ أَنْ یَمَسَّکَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَکُونَ لِلشَّیْطانِ وَلِیًّا) . (3)

وهنا نری[أنّ]إبراهیم علیه السلام قد استعمل المنهج العاطفی فی دعوته لأبیه وأسلوب الموعظة الحسنة فی شکلی الترغیب و الترهیب،فالترغیب فی قوله: (فَاتَّبِعْنِی أَهْدِکَ صِراطاً سَوِیًّا) ،والترهیب فی قوله: (إِنِّی أَخافُ أَنْ یَمَسَّکَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَکُونَ لِلشَّیْطانِ وَلِیًّا) . (4)

نعم،هکذا نجد القرآن یربی الأمة،فتارة ینذرهم ویخوفهم کی یفتح قلوبهم لتلقی الإیمان فیقول تعالی: (أَ فَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلی نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِکْرِ اللّهِ أُولئِکَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ * اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ کِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِیَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِینَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلی ذِکْرِ اللّهِ ذلِکَ هُدَی اللّهِ یَهْدِی بِهِ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) . (5)فیعیشون الخوف من العذاب حین

ص:242


1- (1) .النحل:2.
2- (2) .تفسیر الأمثل:130/8.
3- (3) .مریم:41-45.
4- (4) .تاریخ الدعوة:46.
5- (5) .الزمر:22 و23.

یعیشون آیات القرآن التی تتحدث عن عظمة الله،فیستشعرون الرهبة منه فی حالة عصیانه أو التمرد علیه،ویتفاعل هذا الخوف فی الحسّ فیشبه القشعریرة التی تُصیب الجلد،فیما توحی به من الحالة النفسیة القَلِقَة أمام تهاویل عذاب الله،ورهبة الوقوف بین یدیه،وتتحول المسألة بعد ذلک إلی فکر یتأمّل،وروح تنطلق وتطوف فی رحاب الحق؛لأن الخوف یثیر الشعور بالمسؤولیة الذی یخرج الإنسان به عن أجواء اللامبالاة الفکریة،وبذلک یحصل علی طمأنینة الفکر،وهدوء الروح الذی جری التعبیر عنه بالصورة الحسیة، (ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلی ذِکْرِ اللّهِ) ، (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُکُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ) . (1)

وتارة أخری یبشرهم ویرغبهم ویبعث فی قلوبهم الأمل،فیقول تعالی: (وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً کَبِیراً) . (2)

وهی إشارة إلی أن مسألة تبشیر النبی صلّی الله علیه و آله لا یحد الثواب الإلهی بمقدار أعمال المؤمنین الصالحة،بل أن الله سبحانه یفیض علیهم من فضله بحیث تضطرب المعادلة بین العمل و الجزاء تماماً کما تشهد بذلک الآیات القرآنیة،فتقول فی موضع: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، (3)وتقول فی موضع آخر: (مَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ کَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِی کُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ یُضاعِفُ لِمَنْ یَشاءُ) . (4)

و قد تذهب إلی أبعد من ذلک،فتقول: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِیَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْیُنٍ) ، (5)وبهذا یفهم فأن أبعاد الفضل الإلهی الکبیر أوسع وأسمی ممّا یخطر فی التصور و الأوهام. (6)

ص:243


1- (1) .فصلت:13.
2- (2) .الأحزاب:47.
3- (3) .الأنعام:160.
4- (4) .البقرة:261.
5- (5) .السجدة:17.
6- (6) .تفسیر الأمثل:300/13.

ومنه الترغیب وبعث الأمل فی قلوب العباد الذین أسرفوا علی أنفسهم،قال تعالی:

(قُلْ یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلی أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ) . (1)

ویلاحظ أنّ الآیة الکریمة قد فتحت الأبواب أمام المذنبین وأعطتهم الأمل؛لأن الهدف الرئیسی من کل هذه الأمور هو التربیة و الهدایة،ولیس الانتقام و العنف،فبلهجة مملوءة باللطف و المحبة یفتح الباری أبواب رحمته أمام الجمیع ویصْدِر أوامر العفو عنهم،عندما یقول: (قُلْ یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا) .

إنّ التدقیق فی عبارات هذه الآیة یبین أنها من أکثر آیات القرآن التی تُعطی الأمل للمذنبین،فشمولیتها وسعتها وصلت إلی درجة قال بشأنها،أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب علیه السلام:>>ما فی القرآن آیة أوسع من (یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا)» والدلیل علی ذلک واضح من وجوه:

1.التعبیر ب- (یا عِبادِیَ) هی بدایة لطف الباری عز وجلّ.

2.التعبیر ب- (أَسْرَفُوا) بدلاً من(الظلم و الذنب و الجریمة)هو لطف آخر.

3.التعبیر ب- (عَلی أَنْفُسِهِمْ) بین أن ذنوب الإنسان تعود کلّها علیه،و هذا التعبیر هو علامة أخری من علامات محبة الله لعباده،و هو یشبه خطاب الأب الحریص لولده،عندما یقول:لا تظلم نفسک أکثر من هذا!

4.التعبیر ب- (لا تَقْنَطُوا) مع الأخذ بنظر الاعتبار أن(القنوط)،یعنی:الیأس من الخیر،فهذا دلیل علی أن المذنبین یجب أن لا یقنطوا من اللطف الإلهی بتاتاً.

5.عبارة (مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ) التی وردت بعد عبارة (لا تَقْنَطُوا) تأکید آخر علی هذا الخیر و المحبة.

ص:244


1- (1) .الزمر:53.

6.عندما نصل إلی عبارة (إِنَّ اللّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ) التی بدأت بتاکید،وکلمة (الذُّنُوبَ) التی جمعت بالألف و اللام تشمل کلّ الذنوب من دون أی استثناء،فان الکلام یصل إلی أوجه عندما تتلاطم أمواج بحر الرحمة الإلهیة.

7.أن ورود کلمة (جَمِیعاً) کتأکید آخر للتأکید السابق یوصل الإنسان إلی أقصی درجات الأمل.

8 و 9.وصف الباری عز وجلّ ب- (الْغَفُورُ الرَّحِیمُ) فی آخر الآیة،وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة علی الأمل،فلا یبقی عند الإنسان أدنی شعور بالیأس أو فقدان الأمل.

نعم،لهذا السبب فإنّ الآیة المذکورة أعلاه من أوسع وأشمل آیات القرآن المجید،حیث تُعطی الأمل بغفران کل أنواع الذنوب،ولهذا السبب فأنها تبعث الأمل فی النفوس أکثر من بقیة الآیات القرآنیة،وحقاً فأن الذی لا نهایة لبحر لطفه،وشعاع فیضه غیر محدود،لا یتوقّع منه أقلّ من ذلک. (1)

15.أسلوب التلقین و التکرار

اشارة

من الأسالیب التبلیغیة و التربویة التی أعتمدها الأنبیاء علیهم السلام هو أسلوب التلقین و التکرار.

والتلقین هو:التفهیم یقال:

لقننی فلان تلقیناً،أی:فهمنی کلاماً ولقنته وتلقنتهُ، (2)ولقنته تلقیناً فهمته، (3)وفی حدیث الهجرة:>>ویبیت عندها عبد الله بن أبی بکر و هو شاب ثقف لقن»أی فهم حسن التلقن لما یسمعهُ. (4)

وکذلک علی المبلّغ أن یکرر دعوته ویرکز علیها فی بدایة کلامه ووسطه ونهایته،

ص:245


1- (1) .تفسیر الأمثل:117/15 و118.
2- (2) .کتاب العین:162/5.
3- (3) .معجم مقاییس اللغة:260/5.
4- (4) .النهایة فی غریب الحدیث:266/4.

فیقوم بعملیة الإیحاء المستمر وهی العملیة التی یتکرّر بها المعنی نفسه بعبارات مختلفة،وبطریقة فعّالة ومؤثرة تجنباً للإملال وقصداً إلی تعمیق التوعیة بالمعنی المقصود منه.

أنواع التلقین

1.تلقین قولی:و هو تکرار لفظ ما مثل:(لا إله إلّا الله)و(الصلاة)،حیث أوصی بهما کثیراً.

2.تلقین عملی:(و هو تکرار عمل ما کما نقرأ فی الروایة:«إن لم تکن حلیماً فتحلّم». (1)وروی عن الإمام الصادق علیه السلام:

>>من کان کفنه فی بیته لم یکتب من الغافلین،وکان مأجوراً کلما نظر إلیه». (2)

فرؤیة الکفن هی تلقین بأن الموت حقّ.

وروی عن النبی صلّی الله علیه و آله أنه قال:

>>لا تلقنوا[أولادکم]الکذب فتکذبوا؛فإن بنی یعقوب لم یعلموا أن الذئب یأکل الإنسان حتی لقنهم أبوهم». (3)

إذاً:اللازم هو تلقین وتکرار الحق و الخیر و القضایا الأخلاقیة،والقضایا التی هی مورد الابتلاء والاعتبار فی المجتمع؛لأنه ثلة قلیلة من الناس من یدرک الحق ویؤمن به من خلال أوّل بیان:(کسحرة فرعون)،أما الأغلبیة فتحتاج إلی بیان وتلقین وتکرار بصور متنوعة ومختلفة،کی ینفذ إلی قلوبهم وعقولهم،ولذلک رکز القرآن الکریم علی هذا الأسلوب وعلی سبیل المثال:تکررت قصة النبی موسی[136]مرّة وبنی إسرائیل[34]مرّة وأن أکثر من[900]آیة تتحدّث عن حیاة موسی وقومه.

ص:246


1- (1) .نهج البلاغة:کلمة 207؛القرآن و التبلیغ:184.
2- (2) .أصول الکافی:256/3.
3- (3) .بحارالأنوار:221/12.

وقضیة عدم الغفلة عن الله و الحضور بین یدیه-مثلاً-تکرّرت حوالی[100]مرة وبتعابیر مختلفة نورِد هنا نماذج منها:

قوله تعالی: (وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ) ، (1)وقوله تعالی: (وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ) ، (2)وقوله تعالی: (وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ) ، (3)وقوله تعالی: (إِنَّ رَبَّکَ لَبِالْمِرْصادِ) ، (4)وقوله تعالی: (یَعْلَمُ ما بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ) ، (5)وقوله تعالی: (وَ یَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ) . (6)

و قد تکرر قوله تعالی: (فَبِأَیِّ آلاءِ رَبِّکُما تُکَذِّبانِ) ،31 مرة،وقوله تعالی: (فَوَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ) 11 مرة،وقوله تعالی: (فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِیعُونِ) ،7 مرّات،وقوله تعالی: (وَ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلاّ عَلی رَبِّ الْعالَمِینَ) ،[5]مرّات،وهکذا تکرار قوله تعالی: (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ... وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ...) الآیتان تکرران معنی واحد،وهکذا ولا أنتم عابدون ما أعبد،تکررّت أیضا لماذا؟

ومن هنا قد ذهب بعضهم إلی:

أن الهدف من التکرار التأکید وبث الیأس فی قلوب المشرکین،وفصل المسیرة الإسلامیة بشکل کامل من مسیرتهم،وتثبیت فکرة عدم إمکان المهادنة بین التوحید و الشرک. (7)

فالتلقین و التکرار هذا هو لنفوذ المضمون إلی أعماق الروح....فمن اللازم التکرار فی إبلاغ کلام الله وأوامره علی شکل متواصل إلی عباده،ولهذا کثر المرسلون من قبل الله سبحانه توخیاً لهذا الغرض. (8)

ص:247


1- (1) .البقرة:74.
2- (2) .الحدید:4.
3- (3) .المجادلة:11.
4- (4) .الفجر:14.
5- (5) .طه:110.
6- (6) .التغابن:4.
7- (7) .تفسیر الأمثل:510/20.
8- (8) .القرآن و التبلیغ:232.

قال تعالی: (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) . (1)وقال تعالی: (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَیْهِمُ اثْنَیْنِ فَکَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) . (2)

هذه أهمّ أسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام علماّ أن هناک بعض الأسالیب الأخری التی ممکن أن نعتبرها ضمن ما ذکر من أسالیب،کأسلوب ذکر العلة و السبب و الحکمة،سواء کان ذکر العلل فی التکوین،أو فی التشریع،أو فی الحوادث و الوقائع،وکأسلوب التفصیل بعد الإجمال،غیرهما ممّا یمکن للقارئ أن یتلمسه بین ثنایا ما ذکر.

ص:248


1- (1) .المؤمنون:44.
2- (2) .یس:14.

الفصلُ الثالث: یفیة الاستفادة من أسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام فی إعلامنا المعاصر وفیه مباحث

اشارة

ص:249

ص:250

توطئة وتمهید

فی هذا المستوی من البحث،وبعد أن درسنا أهم أسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام حصلنا علی فائدة عظیمة،وهی:أننا نستطیع أن نحدد الطریقة و الأسلوب الذی یمکن بواسطته تبلیغ المجتمعات المعاصرة،خاصة ونحن علی اطلاع واسع بأسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام فیکون هذا الجهد-إن استطعنا أن ننقله إلی الواقع العملی-قد وفر لنا کثیراً من الجهد و الزمن و المال؛لأننا استطعنا بهذا العمل أن نوظّف الطرق و الأسالیب التی أستخدمها الأنبیاء علیهم السلام لتبلیغ رسالة السماء إلی مجتمعاتهم فی تبلیغ مجتمعاتنا المعاصرة.

فقد،قدم لنا الأنبیاء علیهم السلام خیر قدوة وأسوة فی تنفیذ واستخدام هذه الأسالیب والالتزام بها مما یعتبر سبباً مهما وعاملاً مؤثراً لأتساع الدین وانتشاره،فعلینا أن نقتدی بالأنبیاء علیهم السلام ونکون مصداقاً واضحاً لقوله تعالی: (لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، (1)وقوله تعالی: (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ؛ (2)لأنّ أعمال الأنبیاء علیهم السلام وأحادیثهم وخطبهم وأسالیبهم هی أکبر مصدر للعلم و الثقافة،فهی النموذج المثالی و قد بلغتنا-عن طریق القرآن الکریم-فی أرقی وأوثق صورة،فهی أوسع ثروة تحوی المواد المهمّة التی

ص:251


1- (1) .الأحزاب:21.
2- (2) .الأنعام:90.

تُغطی احتیاجات العالم الإسلامی،فی جمیع المجالات لنشر وتبلیغ الدعوة،وشرح تعالیم الدین.

فعلینا الاعتماد علی أسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی تبلیغنا،وذلک لما یترکه من أثر عمیق فی النفوس،حیث لایوجد فی أی وسیلة وأسلوب إعلامی آخر.فعندما نُفَهِّم الإسلام لجیلنا الحاضر،فالحاجة ماسة إلی الاقتداء بأسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام وإرشادهم ولیس إلی الأسلوب الفلسفی لبرجسون وباسکال،وأفلاطون ودیکارت،بل نحن بحاجة إلی إعلام یقوم علی أسالیب الإعلام التی جاءت فی القرآن الکریم،لخدمة القضایا و المصالح الإسلامیة.

إنّ الإعلام فی الإسلام یحمل أمانة الدعوة إلی الحق وحُسن تبلیغه وامتلاک الحجة و التحلی بالحکمة،والأخلاق و الصواب فی العمل،فتبرز أهمیته فی المحافظة علی حاضر الأمة ومستقبلها،وتحقیق رسالتها الخالدة فی الحیاة،ورد الغزو الفکری و الثقافی عنها،ودحض تیارات الهدم و الأفک و العصیان،وحلقات التآمر و البغی،وأسالیب الإغواء من التلبیس و التدلیس،للنیل من هذه الأمّة وتاریخها وعقیدتها ورموز حضارتها،لتحقیق أغراض ومطامع خسیسة للمبشرین و المستشرقین و الشعوبیة و الغلاة،تعبر عن الحِقد و الجفاء و الغدر،وإخفاء الحق،وعبادة النفس،وحب الجاه و الردّة،والتحریف؛إذ أن النفوس الضعیفة من هنا وهناک تنساق لهذه التیارات بلا رویة وتبصُّر،بل فی عمی وإصرار کأنها أدوات صماء جامدة.

فکان الإعلام الوسیلة المهمة فی تزوید الناس بالأخبار الصادقة،والآراء السدیدة،والحقائق الواضحة،بشکل فنی جمیل فی ضوء الإسلام وآدابه وأخلاقه وعقیدته ومنهجه وفکره،وذلک عن طریق وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو المرئیة،و قد أرسی القرآن الکریم معالم الإعلام الصالح فی الدعوة و البیان و البلاغ و الإرشاد،ورکز علی العقل و الفطرة الإنسانیة،واستخدم الأسلوب البیانی و البرهانی و العرفانی،ووثق ذلک بشهادة الواقع وتاریخ الأمم السابقة،ووظف لذلک القصّة و الحوار و المناظرة و المناقشة و المثل،ثمّ العواقب التی أفضت إلیها المقدمات کشواهد علی صدق المعالجة و الدعوة.قال تعالی: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، (1)فجاء الخطاب القرآنی ثمرة للإحاطة بحال

ص:252


1- (1) .ص:67 و68.

المخاطب من کل جانب،فاهتم بفن صیاغة الکلمة،وفنّ اختیار الکلمة المناسبة،وفن اختیار الوقت المناسب،وأخذ بمبدأ التدرج فی التربیة وبناء اللبنات الفکریة و التشریعیة،وبذلک خاطب القرآن الإنسان کلّه،بعقله وعواطفه وفطرته ومصلحته ومقاصده وتاریخه ومصیره،بما یوقظ وعیه بشکل عام.

وجاءت السنة النبویة للتأکید علی البیان الإعلامی الشامل للسلوک الأمثل و العبادة الخالصة،والمعالجة السدیدة للأحداث و الظروف و المواقف الحرجة،والأعم للحق" بصدق کامل وإخلاص تام،فیه العبر و النتائج و العظات،قال تعالی: (قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی) ، (1)و قد استعمل الرسول جمیع وسائل الإعلام المتاحة له،کالوفود،والخطب،والرسائل،والقصیدة الشعریة،والغزوات،والاتصال الشخصی،و هو یخاطب کل فئة بحسب دینها وفکرها ومکانتها فی المجتمع بأسلوب اللین[والحکمة و الموعظة الحسنة و التدرج و التذکیر وباقی الأسالیب،حسب ما تقتضیه الحکمة].ووضوح المقصد،وسلاسة العبارة وقوة المنطق وتأثیر المعنی.

فالقول و اللفظ إذاً:هو الوسیلة الأصلیة فی الإعلام الإسلامی،فلا بدّ أن یکون القول واضحاً بیناً،مفهوماً واضحاً غایة الوضوح،مع التأکید علی استعمال الألفاظ الشرعیة،وهی محدَّدة المعنی واضحة المفهوم،بعیداً عن التکلف و التنطع و الثرثرة و التفیهق،ویتصف بروح النصح الشفیق المخلص المتواضع،بقصد التشویق و الحمل علی الطاعة،لا المداهنة و النفاق وإخفاء الحقّ أو تحسین الباطل أو الرضی به،بل یطهرهم من نوازع الجهل و الهوی و النفور و التقلید المذموم،قال تعالی: (وَ ما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِینُ) . (2)

وأن لا یتجاهل الإعلام قضایا الأمّة المصیریة ورسالتها الخالدة،ویرکز علی سفاسف الأمور وتفاهة المادة،بل یتجرد عن المادة التی تفسد الفرد و الأسرة و المجتمع،والذوق الجمیل و الفن الرفیع و الخصائص الإنسانیة النبیلة،فإن العمل الإعلامی الذی لا تحکمه عقیدة واضحة وغایات نبیلة وأهداف سامیة،ولا یلتزم

ص:253


1- (1) .یوسف:108.
2- (2) .النور:54.

بالأصول و الآداب،ولا یحافظ علی الثوابت،لن یکتب له النجاح،فهو یتحول إلی معاول للهدم بدلاً من أن یکون أدوات للبناء،ومن ثمّ لن تفلح الأمة أبداً. (1)

وفی هذا قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:

>>نظر الله أمرءاً سمع منّا شیئاً فبلغه کما سمع،فرب مبلِّغ أوعی من سامع». (2)

وقال أیضاً صلّی الله علیه و آله:>>خیار أمتی من دعا إلی الله تعالی،وحبب عباده إلیه». (3)

ومجمل القول:إنّه یمکن أن نستفید من أسالیب التبلیغ المتوفّر عند الأنبیاء علیهم السلام وأن نُطبقهما علی إعلامنا المعاصر.

ص:254


1- (1) .د.صباح عبد الوهاب, أخلاقیة الإعلام الإسلامی:27.
2- (2) .سنن الترمذی:142/4.
3- (3) .الجامع الصغیر:615/1.

المبحث الأول:مفهوم الإعلام

قال الراغب:

أعلمه وعلمته فی الأصل واحد إلّا أن الإعلام اختص بما کان بإخبار سریع،والتعلیم اختصّ بما یکون بتکریر وتکثیر حتی یحصل منه أثر فی نفس المتعلّم. (1)

والفرق بین الإعلام و الإخبار،کما قال الشیخ الطبرسی:الفرق بینهما أن الإعلام قد یکون بخلق العلم الضروری فی القلب،کما خلق الله سبحانه من کمال العقل و العلم بالمشاهدات،و قد یکون بنص الأدلّة علی الشیء.

والإخبار:هو إظهار الخبر،علم به أو لم یعلم،ولا یکون مخبراً بما یحدثه من العلم فی القلب کما یکون معلماً بذلک. (2)

والإعلام الإسلامی:هو عملیة الاتصال التی تمثل جمیع أنشطة الإعلام فی المجتمع الإسلامی،وتؤدی جمیع وظائفه المثلی:الإخباریة و الإرشادیة...،علی المستوی الوطنی و العالمی...،علی أن تلتزم بالإسلام فی کلّ أهدافها ووسائلها،وفیما یصدر عنها من رسائل ومواد إعلامیة.

فالإعلام الإسلامی:هو أسلوب الحدیث لتبلیغ رسالة الإسلام،ویدخل فی

ص:255


1- (1) .مفردات غریب القرآن:343.
2- (2) .الفروق اللغویة:59.

مضمونه البشارة و النذارة،والأمر بالمعروف و النهی عن المنکر فالتبشیر إعلام بالخیر،والإنذار إعلام بالخطر.

وبعبارة أخری:أن الإعلام الإسلامی بیان الحق وتزیینه للناس بکل الطرق و الأسالیب و الوسائل العلمیة المشروعة،والإعلام الإسلامی قبل کلّ شیء أداة الدعوة لبلوغ هدفها،فهو إعلام ذو مبادئ أخلاقیة مستمدة من دین الإسلام،و هو إعلام واضح صریح عفیف الأسلوب،نظیف الوسیلة،شریف القصد عنوانه الصدق وغایته الحق.

ص:256

المبحث الثانی:إحیاء الإعلام

إذا کان الإعلام فی عصرنا الحاضر،یعدّ من أقوی محاور الصراع بین المجتمعات الإسلامیة،فأن ذلک نتیجة لما له من تأثیر بالغ فی الغزو الفکری،وتَورید المعتقدات سواء کانت سیاسیة أم دینیة أم اجتماعیة،وصار لذلک علماً له قواعده الراسخة،واتجاهاته الواضحة،ووسائله المتعددة.

ومن هنا تظهر أهمیة الإعلام وتتضح مکانته فی حیاة الناس،لا سیما فی ظاهرة الاتصال بین الفرد و الشعوب،وهی ظاهرة قدیمة،قال تعالی: (یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ) ، (1)وأعتبر الإعلام فی عصرنا هذا لتغییر الشعوب وصبغتها بالصبغة التی ترید حتّی أطلق علیه عصر الإعلام؛لا لأنّ الإعلام ظاهرة جدیدة فی تاریخ البشریة،لا بل لأنّ التکتیک الحدیث فی الإعلام المعاصر قد بلغ غایات بعیدة جداً فی سعة الأفق وعمق الأثر وقوّة التوجیه.

وکلّما کان السلاح الإعلامی أکثر تأثیراً وفاعلیة کانت المسؤولیة المترتبة علی حمله أخطر وأشد،ولأهمیته ومکانته جُعل من أهم وظائف الأنبیاء علیهم السلام.ونحن الیوم

ص:257


1- (1) .الحجرات:13.

مسئوولون عن إحیاء أسالیبه التی استخدمها الأنبیاء علیهم السلام فی حیاتهم الإعلامیة و التبلیغیة،فینبغی توجیه الإعلام فی الدول الإسلامیة نحو الأصالة و الذاتیة النابعة من قیم الإسلام ومبادئه،وتنقیة الإعلام إلی جانب التعلیم من المؤثرات الغربیة العلمانیة الإلحادیة.

حیث إن الإعلام الناجح یعدّ شاهداً علی العصر الذی یعیش فیه،و هو مرآة تعکس ما یدور فی مجتمع من المجتمعات بما ینقله من وسائل واقعیة وأخری خیالیة تقدم للجماهیر فلسفة الحیاة وأنماطها بما تزخر به من قیم ومبادئ ومعاییر واتجاهات.

فعلی المسلمین،وبالذات العلماء و المبلغین و الدعاة أن یدرکوا أهمیة الجانب الإعلامی،وأن یتدارکوا أحوالهم؛لأن عالمیة الرسالة تقتضی عالمیة الخطاب،وعالمیة الخطاب لا تبلغ مرادها المطلوب:ما لم تکن عندنا القدرة علی فهم العالم بعقائده وثقافاته وتاریخه،ومشکلاته وتطلعاته....ومعرفة الأسالیب و الوسائل الإعلامیة الحدیثة واستخدامها إلی خدمة قضایا أمتنا،ونشر عقیدتنا وفکرنا فنحولها إلی الوجهة الصحیحة لتخدم الأهداف النبیلة.

وأساس کلّ هذا،الفهم و التعرّف علی أسس ومنطلقات وقواعد الإعلام فی الإسلام،وتبیین أهمیته وأهدافه...و هذا ما سنسلط علیه الضوء....،فأن الحاجة ماسة وملحة إلی إعلام یقوم علی أسالیب الإعلام التی جاءت فی القرآن الکریم وسیرة الأنبیاء علیهم السلام و الحاجة متزایدة إلی استنبات وإحیاء الطاقات المبدعة و المو هوبة فی عالمنا،فإن إعلامنا الإسلامی بحاجة إلی إحیاء لا إلی إنشاء،فیمکننا إحیاءه وإنعاشه فی کلّ مجالات الحیاة،ویمکن أن یتدّخل فی کل قضیة من القضایا بالدور الملائم و المناسب،ومن المجالات التی یمکن أن یتدخل ویحیا بها الإعلام:

1.إحیاءه فی المجالات العقائدیة:وذلک بإبلاغها للناس صافیة نقیة،وترسیخها فی نفوس المدعوین،ورد الشبهات التی تثار من قبل المناوئین لصد الآخرین عن الوصول إلیها،والاعتقاد بها.

ص:258

2.إحیاءه فی المجالات الثقافیة:وذلک من أجل تعمیم الوعی و الفهم،والمجالات التعلیمیة للتفقه و المعرفة،والمجالات التربویة من أجل إیجاد الفرد الصالح السوی.

3.إحیاءه فی المجالات الاجتماعیة:الرامیة إلی تماسک المجتمع وترابطه،وترسیخ معانی الأخوّة و المحبة و الإیثار فیه،وغرس روح التعاون علی البر و التقوی فیما بینه،وتبدأ أهدافه الإصلاحیة بالفرد،ثمّ الأسرة،ثمّ المجتمع،ثمّ الحکم فی آن واحد.

4.إحیاءه فی المجالات الاقتصادیة:الرامیة إلی تحسین أوضاع الأمة فی الکسب و الإنفاق وترشیدها فی الأخذ و العطاء،والحمایة من الغشّ والاحتکار،والتحذیر من النهب والاستغلال،والمحاربة للربا وأکل الحرام،وعرض أفضل الطرق وأیسرها للتجارة وإدارة الأموال دون أن توجد فی الأمة ضیقاً وعنتاً،أو تسبب للدولة أزمة وخنقّاً.

5.إحیاءه فی المجالات السیاسیة:للتوجیه و الإرشاد،والنصح و المشورة،والتسدید و الإصلاح،وتوثیق العلاقات وتنسیقها بین الحاکم و الأمة علی أساس من العدل و الطاعة والالتزام،والرعایة لمصالح الأمّة،والمحافظة علی أمنها وحریتها،هذا فی الداخل،وتنظیم العلاقات الدولیة وتنظیم مسارها سلماً وحرباً،وصداقةً ومعاهدةً و....

6.إحیاءه فی المجالات العسکریة الجهادیة:للتوعیة والاستنفار ورفع الروح المعنویة فی صفوف المجاهدین،وللحرب النفسیة فی الأعداء المحاربین،ثمّ لکشف المخططات وفضح المؤامرات،وللإسهام فی التعبئة العامة و الإعداد الشامل من الناحیة الفکریة و المعنویة و الروح القتالیة...

7.إحیاءه فی المجالات الترفیهیة:للتسلیة و الترویح،ولتجدید النشاط وأداء الواجبات و القیام بالمسؤولیات،کما أنها أیضاً للتدریب علی معانی القوة ووسائل الجهاد فی سبیل الله،و هذه من ممیزات وخصائص اللهو و الترفیه الإسلامی؛لأنه لهو یریح القلب ویدخل السرور و المرح علی النفس،وفی نفس الوقت یتعلم منه الجد و النشاط فی العبادات،ولذلک کان الترفیه فی الإعلام الإسلامی منضبطاً بکونه لا

ص:259

یتنافی مع الآداب وحسن الأخلاق،ولا یتحول إلی عادة فی کل صباح ومساء،ولکن کما فی الحدیث الشریف:>>ساعة وساعة»، (1)روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام:>>أنّ القلوب تملّ کما تملّ الأبدان،فابتغوا لها طرائف الحکمة»، (2)وعنه أیضاً علیه السلام:>>روحوا القلوب،فأنها إذا أکرهت عمیت». (3)

هذه جملة من المجالات التی یمکن أن یحیی فیها الإعلام الإسلامی ویحقق غایاته النهائیة فی نشر وتعمیم الخیر و الإیمان فی شتی بقاع الأرض للدنیا و الآخرة.

إذاً:فشروط وأسالیب التبلیغ و الإعلام الصحیح موجودة فی تراثنا،لا کما یتصوّر البعض بأن هذه الشروط و الأسالیب و الفنون فی الإعلام و التربیة هی من المبتکرات الحدیثة التی ابتکرها الغرب وأخذناها منهم،بل هو موجودة فی تراثنا وکتبنا وسیرة أنبیائنا علیهم السلام،وتدخل فی جمیع المجالات وتنظم جمیع شؤون الحیاة،لکنّها تحتاج إلی إحیاء وإنعاش ولذا لا بدّ أن یبذل جهد کبیر فی سبیل إحیاء کل ما أُمیت أو یسعَی لأماتته ممّا جاء فی تراثنا،فإذا أحیی وأصِّل وبُین المنهج و الأسلوب و الفنّ الصحیح فی التبلیغ و الإعلام،وأُثبتت قواعده واتضحت أمِنّا علیه من التحریف و التأویل البعید الشاذ،وأمِنّا علیه من أن تتلاعب به الأهواء وشهوات الافتتان أو شهوات الاغتراب،وبهذا یکون کل شیء واضح بیناً محصناً تجاه کلّ دخیل وغریب،سائغاً للعاملین.

ص:260


1- (1) .المعجم الکبیر:11/4.
2- (2) .نهج البلاغة:20/4.انساب الأشراف:135.
3- (3) .المهذب البارع:173/3.

المبحث الثالث:قواعد الاستفادة من أسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام

ما یزال الاهتمام بتأصیل قواعد الإعلام وأصوله وممارساته من وجهة النظر الإسلامیة محدوداً متناثراً،والمطلوب:أن یتصاعد الاهتمام العلمی بالإعلام الإسلامی تأصیلاً لقواعده وحثّاً علی الالتزام بضوابطه.فیجب علینا اتخاذ الطریق الصحیح،وذلک عبر التوصل إلی منهج علمی وقواعد صحیحة وواضحة یتم علی أساسها التخطیط لإعلامنا الإسلامی....

والحقیقة أنّ الحاجة إلی مثل هذا المنهج و هذه القواعد أضحت الیوم أکثر أهمیة و الحاحاً من أی وقت مضی،ومن هنا فنحن الیوم بأمس الحاجة إلی الاستفادة من القرآن الکریم و الأنبیاء علیهم السلام ومنهجهم فی العملیة التبلیغیة الإعلامیة التغییریة الإصلاحیة،من أجل تغییر وإصلاح أحوال المسلمین وسوقهم باتجاه الإسلام و الخیر،وتعمیق الجذور و العلاقات و النظم الإسلامیة فی المجتمع الإسلامی،وإشاعة النور و الهدی فیه بدلاً من الظلام و الضلال.

ولا شکّ أننا یمکننا أن نستفید من أسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام فی تبلیغنا وإعلامنا المعاصر،وذلک لیس بالشی الغریب بعد أن کانت هناک کثیر من الروابط و المشترکات بین مجتمعاتنا المعاصرة وبین تلک المجتمعات الغابرة،فأن الإله واحد،والدین واحد-و هو الإسلام-والأنبیاء علیهم السلام یعیشون-أیضا-وحدة الأهداف و الغایات و الوسائل و الأسالیب....والإنسان هو الإنسان فی کل زمان فی نوازعه ومیوله....فی مشاعره وأحاسیسه،فلن

ص:261

یختلف الخطّ العام للأسلوب الحکیم الذی ینفذ إلی تلک المشاعر و الأحاسیس،ویطمأن من تلکم النزعات و المیول،بل تختلف کیفیاته وأشکاله ووسائله تبعاً للتطور الفکری و العقلی والاجتماعی و الثقافی،حسب التطور الزمنی.

ویمکن أن نعرض هنا بعض القواعد المهمّة التی توضح کیفیة الاستفادة من أسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی إعلامنا وتبلیغنا المعاصر وهی کالآتی:

القاعدة الأولی:المعرفة التامة بأسالیب الأنبیاء علیهم السلام التی اعتمدوها فی مسیراتهم التبلیغیة،وبیانها وتوضیحها وبلورتها بصورة مرتبة وجلیة ومنظمة وشاملة ومستوعبة لکل أسلوب من الأسالیب،و قد تعرضنا لها فی بحوث سابقة.

القاعدة الثانیة:المعرفة التامة بکیفیة استخدام الأنبیاء علیهم السلام لکل أسلوب من الأسالیب وبشرائطه الزمانیة و المکانیة،والإحاطة الشاملة بکل الشرائط و الظروف الأخری التی ینبغی أن تتوفّر حین استخدام أی أسلوب ما.

فمثلاً:نکون علی علم بأن الأنبیاء علیهم السلام فی أی ظرف وبأی شرائط استخدموا أسلوب اللین؟وبأیها استخدموا أسلوب الموعظة أو التذکیر؟وهکذا،ینبغی معرفة خصوصیات وظروف استخدام کلّ أسلوب من الأسالیب.

القاعدة الثالثة:وهی عبارة عن المعرفة التامة و الإدراک الواسع و الکبیر-من المبلّغ أو الإعلامی-للعصر الذی یعیش فیه،وفهم معانیه،وتفسیراته،ووارداته،وأن ینجح فی ذلک ویتواءم معها،فإذا انحسرنا داخل قشورنا،واستغرقنا فی الانزواء و العالم یسیر سابل الزمام،فلا یکون لنا أی دور فی هذه الحیاة وحُسِبنَا فی عداد الموتی.

إذاً:فلا بدّ من الإحاطة بالعصر وبمستوی المخاطب الاجتماعی،وبناءه الثقافی،فمبلغینا و المنشغلین بالإعلام فی عصرنا الحاضر بحاجة ماسة إلی متابعة ما وصل إلیه العصر من علوم وفنون وتطوّر،وبخلافه یضَلُّ تبلیغهم وإعلامهم تبلیغاً واعلاماً خاصاً لا

ص:262

یشمل،ولا یسع الناس عامة؛إذ لا یمکن من یجهل ثقافة عصره ومدی فهمه وأسلوب خطابه أن یفهم إنسان عصره شیئاً.

القاعدة الرابعة:المحاولة و السعی و التأکید علی الربط و المقارنة بین کلّ ظرف وشرط زمانی أو مکانی أو أی شرط آخر نعیشه فی حیاتنا المعاصرة بشبیهه ومثیله فی زمان الأنبیاء علیهم السلام ومعرفة ودراسة الطریقة و الأسلوب الذی استخدمه الأنبیاء علیهم السلام فی معالجة تلک الظواهر و الحالات الاجتماعیة وغیرها فی تلک المرحلة وفی زمانهم, وتطبیق تلک الحالة المشخصة وطریقة وأسلوب معالجتها علی الواقع المعاش فی هذا العصر،فأن الأیام و الأحداث تتکرّر عل مرّ العصور،والتاریخ یعید نفسه؛لأنّ حرکة التاریخ محکومة بسنن تاریخیة ثابتة جعلها الله تعالی مسیطرة عل حرکة الإنسان وحاکمة علیها،وعلی طور خطّ حرکة البشریة لهذه الحالات وأستهدف معالجتها وتغییرها وإصلاحها.

القاعدة الخامسة:توعیة وتعریف الناس بمدرسة الأنبیاء علیهم السلام ومناهجهم وأسالیبهم،والترکیز علی إیقاظ ضمائر المخاطبین وفطرتهم،ثمّ العمل بما ینبغی وما من شأنه أن یدفعهم نحو التفکیر و التأمل.

فینبغی أن تکون أول رسالة تنقل إلی الجماهیر،هی أنّ منهج التکامل الإنسانی هو المنهج الذی بعثه الله تعالی مع الأنبیاء علیهم السلام،و هو لا یقتصر علی المصالح المعنویة و الأخرویة،بل یضمن أیضاً مصالحه المادیة و الدنیویة،وفی حالة تحقق المجتمع الإنسانی الذی کان ینشده الأنبیاء علیهم السلام،یعیش المرء أطیب حیاة فی الدنیا و الآخرة.

القاعدة السادسة:السعی الحثیث،وبذل الجهد الکبیر،والإصرار علی تطبیق،واستخدام،وتجسید شروط وأسالیب تبلیغ الأنبیاء علیهم السلام فی التبلیغ و الإعلام،وتهیئة الأجواء الملائمة لتحقیق أرکانه-التبلیغ-الأخلاقیة و العلمیة و العملیة،فی هذه المهمة العظیمة-مهمّة الأنبیاء علیهم السلام و التی یسمیها القرآن الکریم(تبلیغ رسالات الله)فعلی المبلّغ أن یتعمّد ویصر علی امتثال واعتماد أسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی تبلیغه،وعرض

ص:263

بحوثه وموضوعاته التبلیغیة و الإعلامیة،ویسلسلها حسب أهمیتها،وعلیه أن یعلم ماذا یجب علیه أن یطرحه،وبأی أسلوب یبینه للناس،ومن أین یبتدئ بالکلام،وما هی الجهة التی یسوق فیها مسار البحث.

القاعدة السابعة:تشخیص أسس الواقع المنحرف وطرح البدائل الصالحة،وأهم نقطة یجب التأکید علیها هی ما أکدّ علیها جمیع الأنبیاء علیهم السلام،وتصدرت دعواتهم وتبلیغهم،ألا وهی:التوحید وعبادة الله،حیث یعجز النبی أو المبلّغ عن الوصول إلی أی هدف من أهدافه أو أی غایة من غایاته بسواها،فالتوحید هو الأصل و الأساس و الجذر الأول الذی ینبغی علاجه فإذا عولج أصبح النهج السلیم لعلاج جمیع الأعراض و الظواهر التی لا تعدو کونها نتائج له،و هذه هی من أهم القواعد و الخصائص فی الحرکات الرسالیة.

قال تعالی حکایة عن نبیه نوح علیه السلام: (قالَ یا قَوْمِ إِنِّی لَکُمْ نَذِیرٌ مُبِینٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِیعُونِ) ، (1)فبعد أن شخص المرض والانحراف و هو الشرک أعطی البدائل و الدواء و هو عبادة الله و التقوی و الطاعة،ونستطیع القول:أن عبادة الله بدیل للأصول المنحرفة،والتقوی بدیل للفروع الخاطئة،والطاعة للقیادة الرسالیة من أجل إصلاح الممارسات الیومیة السلبیة.وبهذا یعرف الناس بعد هدم واقعهم أنهم یسیرون إلی الأمام،حیث أن البدائل المطروحة هی کفوءة وواضحة وکافیة لاستبدالها بواقعهم.

وعلیه فما نشهده الیوم من البحوث النفسیة المتعدّدة و الدراسات الکثیرة حول وسائل وأسالیب التأثیر علی الآخرین،یعتبر شیئاً تافهاً فی مقابل عظمة المنهج القرآنی،خصوصاً وأن البحوث هذه عادةً ما تتعامل مع ظواهر الإنسان وتستهدف الکسب السریع العاجل ولو من خلال التمویه و الخداع،ولکن البرنامج القرآنی یخوض فی أعماق النفس البشریة،ویؤسس قواعد تأثیره علی مضمون الإیمان و التقوی.

ص:264


1- (1) .نوح:2 و3.

إذاً:فالجدیر بنا الیوم أن نلتزم ببرنامج دیننا،ونعمد إلی نشر رسالتنا فی عالم متلهف إلی قیم السماء.

ولا بدّ لنا هنا من ذکر بعض النماذج التطبیقیة لبعض أسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی عصرنا الحاضر لنستخلص منها النتیجة النهائیة و الحاسمة،التی تطبع أسالیبنا بالطابع القرآنی النبوی الواقعی:

1.أسلوب الحکمة:فلا بدّ لنا من اعتماد الحکمة فی تبلیغنا وإعلامنا الحاضر،وأن نفهمها الفهم الصحیح،ونضع الأمور فی مواضعها،فالحکمة قد تقتضی اللین تارة کما فی دعوة موسی علیه السلام لفرعون،قال تعالی: (اذْهَبا إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً) ، (1)و قد تقتضی الشدّة تارةً أخری،کما فی قوله تعالی حکایة عن موسی علیه السلام أیضاً: (وَ إِنِّی لَأَظُنُّکَ یا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) ، (2)وکذلک بالنسبة لنبینا صلّی الله علیه و آله،فتارة یقول لقریش:>>الیوم یوم المرحمة،الیوم أعز الله فیه قریشاً». (3)

وتارة یواجه مشرکی قریش بما یکرهون حین أشتدّ شرّهم،وأخذوا یثیرون الفتن و الشبهات،فقال صلّی الله علیه و آله لأبی خلف[حین استفهم بصورة إنکار،عن إمکان إحیاء العظام وهی رمیم]:

«یحیی الله هذا, ثمّ یمیتک, ثمّ یبعثک فی الآخرة ویدخلک النار». (4)

و إذا أردنا أن نمثل لاتخاذ أسلوب الحکمة وتطبیقها فی عصرنا الحاضر فمن مصادیق الحکمة أن نجمع بین البرامج الجذابة و البرامج التی قد یحصل للإنسان منها الملل و الضجر،کالجمع بین الأحکام و الکمبیوتر،والقرآن و الخیاطة مثلاً،أو قبل بثّ برنامج سینمائی ممتع أو مسرحیة،یستغل المبلّغ الفرصة المناسبة ویبین رسالته وهدفه

ص:265


1- (1) .طه:43 و44.
2- (2) .الإسراء:102.
3- (3) .السیرة الحلبیة:22/3.
4- (4) .تفسیر مقاتل بن سلیمان:230/3.

من خلال(10-15)دقیقة،فیمکننا طرح ما یجری من الخلافات فی ساحتنا الإسلامیة،کما فی الخلافات بین السنة و الشیعة.

فقد لا یکون من الحکمة أنّ نبادر إلی طرح قضایا الاختلاف و النزاع بینهما فی بدایة اللقاء و الحوار،سواء ما یتعلق منهما بتفاصیل العقیدة أو بموضوع الخلافة أو بمفردات الشریعة،بل علینا أن نعمل علی طرح موارد الوفاق،أو ما تقتضیه الحکمة؛لأننا إذا اتبعنا الأسلوب الأول،فأننا نوحی إلی الطرف الآخر بأن الموقف هو موقف صراع یبحث فیه کل طرف عن أدواته التی یحارب بها الطرف الآخر،أو عن الکلمات و المواقف التی یحاول أن یسجل من خلالها نقطة علی حساب الفریق الثانی،فتکون الروح التی تحکم الساحة هی روح المعرکة الحادة.

أما إذا اتبعنا الأسلوب الآخر بأن آثرنا القضایا المتعلقة بأسس العقیدة و الشریعة،وأکدنا علیها فی استعراض شامل یستوعب أکثر هذه الجوانب،فأننا سوف نعیش الجو الروحی الإسلامی الواقعی،والأجواء الحمیمّة التی تثیر المشاعر الإنسانیة بالعاطفة....ممّا یحقق للموقف مزیداً من المرونة و الشعور بالمسؤولیة،فیساعد علی الوصول إلی القناعة الموحدة أو المتقاربة؛لأنّ هذا الأسلوب یجعل القضیة سائرة فی الاتجاه الفکری الذی یلاحق أدوات الفکر وروحیاته وأسالیبه،ولا یجعلها سائرة فی الاتجاه الانفعالی الذی یعتمد علی عناصر الإثارة فی المشاعر و الأفکار و الکلمات....وبذلک نبتعد عن أجواء التعصب الذی یتجمد فیه الإنسان أمام قناعاته الخاصّة،ولا یتحرّک خطوة واحدة إلی الأمام فی مجال التبلیغ و الإعلام،ومجالات اللقاء مع الآخرین،فیبقی متقوقع علی مواقعه الفکریة و العملیة،بروح متزمتة حاقدة.

إذاً:فیمکننا من خلال اعتمادنا أسلوب الحکمة أن نصل إلی نتائج کبیرة،وتحصیل قناعات نهائیة تضمن لنا النجاح فی وظیفتنا التبلیغیة.

2.الحوار و المناقشة:إنّ الحوار و النقاش و التفاهم هو سبیل وسیط للوصول إلی نقطة الیقین فیما یسمع أو یقرأ أو کلیهما معاً.

ص:266

إنّ الإعلام الیوم یمر بمرحلة جدیدة فی عناوینها،وتفصیل مضامینها،وعروض موادها المرئیة و المسموعة و المقروءة،وهی مرحلة تدعو المشاهد إجباراً أن یکون طرفاً متحاوراً معها،ولو من خلال حوار الذات الإنسانیة مع الأحداث التی تحتاج إلی امتلاک ملکة البصیرة قبل البصر.

ومن هنا یمکننا أن نوظّف الحوار فی إعلامنا المعاصر،ونوصل من خلاله رسالتنا إلی کل العالم،علی شرط أن یکون مقدموا البرامج الحواریة،ما کان منها سیاسی أو ثقافی أو اجتماعی علی خلفیات ثقافیة وإلمام کامل ببرنامجهم الحواری،لا أن یتحول الحوار إلی سؤال وجواب،وبذلک یفقد البرنامج صفة الحوار الحرّ المفتوح،الذی یشبع رغبة المشاهد،من خلال إشباع الموضوع المطروح للحوار و المناقشة.

3.الحسم:نحن الیوم بحاجة إلی تطبیق أسلوب الحسم،والتأکید علی عقیدتنا وثوابتنا فی مواقع خاصّة،وخصوصاً حینما نسمع بعض الکلمات و الأفکار التی تثار أمام عامّة الناس من خلال ما یطرحه الکفر والانحراف من مبادئ،کالشیوعیة،والاشتراکیة،والدیمقراطیة،وغیرها من المبادئ الفلسفیة،والاقتصادیة،والسیاسیة،فیحاولون الإیحاء للمسلمین البسطاء بالتقاء الإسلام بها وانتماءه إلیها فی مفاهیمه وتشریعاته من أجل أن یضلّلوهم ویسدّوا علیهم طریق الاعتراض و المناقشة،أو یحرّضوهم-بصورة غیر مباشرة-علی تغییر مضمون دینهم وإسلامهم بما یتناسب مع هذه المبادئ.

من بعض مظاهر ذلک،أنّ بعض المبلّغین أو الإعلامیین قال:إنّ الإسلام دیمقراطی،حین قال قائل الکفر:أنّه استبدادی.

وقال:إنّ الإسلام لا یهاجم أحداً ولا یفتح بلداً،حین قال قائل الکفر:أنّه انتشر بالسیف،وقال:إنّ التعدّد رخصة لا تباح إلّا لضرورة،حین قال قائل الکفر:إنّه ظَلَم المرأة.

وقال الزائغ:إنّ الیهود و النصاری مؤمنون ولهم فی الجنة نصیب،حین قال الزندیق:إنّ الإسلام یلغی الآخر ولا یعترف به.

ص:267

إذاً فنحن بحاجة إلی تطبیق أسلوب الحسم و الإصرار علی عقیدتنا ومبادئنا فی کثیر من الحالات،فنقف بوضوح ودون مداهنة ونقول کما فی قوله تعالی: (قُلْ یا أَیُّهَا الْکافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) . (1)

4.المقارنة:یمکننا استعمال أسلوب المقارنة حالیاً حینما نقارن بین الشعوب الکافرة و الشعوب المؤمنة وحالاتها وأخلاقها وانسجامها،وأن نقارن مثلاً بین الشعوب التی تسعی للحرب و القتال،وبین الشعوب الآمنة و التی تطلب السلام،وهکذا یمکننا أن نوصل کثیر ممّا عندنا وممّا نحمله من رسائل بهذه الطریقة و هذا الأسلوب،و هو أسلوب المقارنة.

5.بیان المشترکات:فیمکننا دعوة المشرکین أو أهل الکتاب إلی ما نحن متفقون علیه قال تعالی: (قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ...) ، (2)فنرکّز علی المشترکات بیننا ومن أهمّها عبادة الله،فالمولی سبحانه وتعالی لا یرضی عمّن یتعامل بسوء مع من یذکره،ولا ممّن یقطع الصلة ممّن ارتبطوا به،ولو بکلمة التوحید وحدها.

وفی الحقیقة إنّ مدی ارتباط المبلّغ بالله سبحانه یتبین ممّا یمدّه من عری العلاقة مع کلّ من له ارتباط بالله،فمقیاس علاقتنا مع مخاطبینا هو نسبة علاقتهم بالله سبحانه،والمبلّغون و الإعلامیون و المرشدون ینبغی أن یراعوا هذا الأمر أکثر من غیرهم،فیدعون الناس لا إلی مشربهم الخاصّ بل إلی الله إذا کان المدعو کتابی أو إلی الإسلام-إذا کان المدعوین من مذاهب مختلفة-ولعل انبساط هذا الشعور،وتأکید و الإصرار علی هذا الأسلوب هو أهمّ عامل فی دفع الجماعات و المشارب المختلفة إلی الاتحاد وجعلهم کالجسد الواحد.

6.التدرّج:فبإمکاننا الیوم اعتماد أسلوب التدرّج فی فرض قانون أو أمر معین،أو

ص:268


1- (1) .الکافرون:1 و2.
2- (2) .آل عمران:64.

علاج ومنع أمر مستشری فی المجتمع کمنع التدخین أو غیره من الأمور التی تصعب معالجتها ومنعها مباشرة،فعلینا الاستفادة من أسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی کیفیة معالجة أمثالها فی عصورهم،کمعالجة الإسلام لشرب الخمر وانتشار الربا باعتماد أسلوب التدرج فی ذلک.

هذه نماذج ممّا یمکننا استفادته من أسالیب الأنبیاء علیهم السلام فی تبلیغنا وإعلامنا المعاصر،علماً أن بإمکاننا الاستفادة من جمیع الأسالیب الأخری،کالتذکیر،والتمثیل و التشبیه،والاحتجاج،والجدل،والاستفهام،والترغیب و الترهیب،والتذکیر،والتلقین،وتطبیق کل أسالیب الأنبیاء علیهم السلام.

ص:269

ص:270

المبحث الرابع:إصلاح المؤسّسات الإعلامیة

إنّ میدان الإصلاح و التغییر الواقعی یتمّ عبر الإسهام الإیجابی فی إصلاح أوضاع المؤسسات الإعلامیة القائمة فی العالم الإسلامی،بأن یبدأ الإصلاح الواقعی من محاولة إیجاد قنوات التواصل و التعاون بین المهتمّین بشؤون التبلیغ و الإعلام و الإرشاد الإسلامی.

قد مضی زمان کان التبلیغ و الإعلام فیه قائم علی جهود فردیة،واجتهادات شخصیة،أثمرت خیراً أحیاناً،وخلّفت شرور فی أحیان أخری،أمّا فی زماننا هذا فلابدّ أن یتوفّر التخطیط للتبلیغ و الإعلام علی هیئات ورجال،وبحوث ودراسات؛حتی ندرک من سبقنا ونصلح ما أفسد غیرنا،أما التخبّط والارتجال و الفوضی،فلا تصلح لزمان قد صارت فیه لغة الأرقام و الإحصائیات هی المعوّل علیها فی کلّ شیء،فالإعلام الیوم یعدّ علماً له قواعده وأصوله،والممارسة العملیة لم تُعدّ کافیة للتقدّم فی المسیرة الإعلامیة من صحافة مکتوبة ومرئیة ومسموعة،وسینما وإعلان ودعایة...إنّ معظم دول العالم قد أنشأت معاهداً ومراکزاً جامعیة للتخصّص فی دراسة علوم الإعلام وفنونه.

و إذا قرأنا فی تاریخ الإعلام وتطوّر وسائله وأسالیبه سنفهم لم وصف هذا العصر بعصر المعلومات و المعلوماتیة،ویمکننا القول أنّ الأقویاء هم الذین یمتلکون الإعلام،ویسیطرون علی قنوات الاتصال التی ینتقل الإعلام من خلالها إلی الجماهیر الواسعة فتتأثر به ویؤثر بها.

ص:271

و قد أدرک أعداؤنا من الیهود الصهاینة،وقوی الاستکبار و الضلال،قوّة وتأثیر سلاح الإعلام علی الرأی العام و الدعایة السیاسیة،ممّا دفع بالمنظمّات الصهیونیة إلی امتلاک أهمّ وأکبر المؤسسات الإعلامیة فی العالم،لتحقیق استراتیجیها فی العالم،وتشویه صورة المسلمین أمام الرأی العام العالمی،فحصرت ملکیة هذه الوسائل،سواء فی داخل إسرائیل أو خارجها بمؤسّسات وتنظیمات تلتزم تنفیذ سیاستها علی تحقیق مآربها،ولکسب المزید من الرأی العام العالمی لتأیید إسرائیل من جهة،وتشویه صورة المسلمین من جهة أخری.

وهکذا الأمریکیون و الغرب بصورة عامّة،فقد سخّروا مؤسّساتهم ووسائلهم الإعلامیة المتعددة،وأسالیبهم الإخباریة المختلفة لخدمة أهدافهم،وتعزیز سیطرتهم،وفرض نفوذهم وسلطتهم علی شعوبنا الإسلامیة،الغنیة بالثروات و الخیرات،وکسب الرأی العام لذلک من خلال التضلیل الإعلامی،فاتّخذ الأمریکیون-مثلاً-محطّات بعینها،وضیفتها تبرّر حروبها علی العالم بسلاسة المنطق،وتنوّع الأسالیب،خاصة وأنّها تقدّم تحت شعارات جذّابة مثل الدیمقراطیة،وإحلال السلام،وتمکین الإنسان من نیل حقوقه التی افترستها الأنظمة الشمولیة القمعیة،هکذا یسعون ویعملون لتضلیل الناس،ومن هنا تعظم مسؤولیتنا فی تحمل مهام المواجهة التبلیغیة و الإعلامیة،ونشر ما نحمله من رسالة إلی العالم،ولا نبخس المصلحین الغیاری جهودهم فی المحافظة علی سمّو وارتقاء أمّتهم وحفظ مستقبلها من الضیاع،ولکن نجدها بدایات متواضعة،واجتهادات بسیطة لا تمکنهم من الاضطلاع بمهامّ تبلیغیة إعلامیة أکثر تأثیراً،وأوسع انتشاراً،وعلیه فلابد من التوجه إلی الجهد الجماعی،والعمل المؤسّساتی الذی یعد الیوم رکناً بالغ الأهمیة فی أکثر مرافق الحیاة العامة،فمن الصعب العثور علی جهود فردیة ناجحة ومثمرة ومؤثّرة إلّا فی حالات قلیلة ونادرة،فالعلوم لم تعد بذلک الحجم الذی یمکن لفرد واحد استیعابها وحل معضلاتها،والحیاة السیاسیة والاجتماعیة بلغت من التعقید و التداخل حدّاً،یجعل الفرد نقطة أمام بحر عظیم من الأحداث و الوقائع المتلاحقة و المتلاطمة.

ویقوم هذا الجهد الجماعی علی مبدأ الاستشارة،وعلی مبدأ تبادل الأفکار و الآراء،وقلع

ص:272

جذور الاحتکار والاستبداد العلمیین و العملیین،و هو ما من شأنه عادة ترشید الأفکار وتحسین الأداء ودیمومة التکَیف و التفاعل،وتجوید الإنتاج ورفع مستوی الوعی العام و العقل الجمعی.

ویؤید هذا ویشهد له کثیر من النصوص القرآنیة و الروائیة،وکذلک الوقائع التاریخیة،سیما ما جری فی التجربة النبویة الرائدة فی المدینة المنورة.

وعلیه فحینذٍ یمکننا أن نوجّه خطاب موحد نخاطب به الغرب و الشرق ونوضح فیه عظمة الإسلام وسماحته،ونطرحه بأقوی ما یمکن عن طریق المحاضرات،والندوات،واللقاءات،والمنشورات و الدعایات،فی الصحف و الکراسات،والإذاعات،وعلی شبکة الإنترنت و الفضائیات لما تتمتع به من سعة فی الانتشار و التأثیر خاصة لدی الجماهیر فی المجتمعات النامیة،وتسخیر الجهود من مال ورجال،وخبرات ووقت،وقبل ذلک التخطیط المناسب لتنفیذ ذلک فی کل أنحاء العالم،وعلی کافّة المستویات.

ولابدّ من أن نشیر هنا إلی ضرورة بقاء المؤسّسات و القائمین علیها علی الأهداف و الغایات الإسلامیة الحقّة،وأن لا تتحوّل إلی دکاکین،وأن لا یکون المال غایة بعد أن کان وسیلة؛کما نشاهده فی کثیر من المؤسّسات الدینیة التی انطلق أصحابها من موقع الفکرة الرسالیة فی البدایة،حتی إذا اندمجوا فیها وعاشوا فی الأجواء المادیة التی تفرضها العلاقات والالتزامات،تحولوا إلی أشخاص جامدین لا یملکون أیة حیویة،روحیة فی هذا المجال،بل ربّما تبدأ العقلیة الفردیة الضیقة فی التحکم بطبیعة المؤسّسات وخطواتها العملیة،فتتحول إلی شیء یخص الشخص أو الجهة،فیما یفرضه المزاج أو تدعو إلیه المصلحة الخاصة،و قد یحدث فی هذا الجو أن یبدأ الصراع بین مؤسّسة وأخری من خلال تعارض المصالح الفردیة للقائمین علیها،أو لتصادم الخطوط التی یسیر علیها هذا أو ذاک،وبذلک تصبح المؤسّسات الدینیة خطراً علی العمل الدینی بما تثیره من أجواء الحقد و البغضاء و التنافس الفردی علی الأطماع والامتیازات،وبما تتحرک فیه من أسالیب وشعارات تستخدم القیم الدینیة للمحافظة علی أطماع الدنیا وشهواتها،وربما کان السرّ فی ذلک هو الابتعاد عن الله و الأنبیاء علیهم السلام والاستغراق فی ظلمات الذات.

ص:273

ص:274

الخاتمة

اشارة

وأظنّ أن هذه المحاولة قد استطاعت أن ترسم وتبین-إلی حد ما-أسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام،کما ربما تکون قد نجحت فی أن تلقی بعض الضوء علی بعض النماذج التطبیقیة لهذه الأسالیب التبلیغیة.

وهکذا استطعنا أن نتعرف علی ما ینبغی أن یتحلّی به المبلّغ, وعلی الشرائط اللازمة للتبلیغ الناجح؛وتعرّفنا علی أنّ الأسلوب هو جزء من العمل و هو خاضع للحکم الشرعی،ومن هنا فنحن المسلمین،لا نستطیع أن نسیر مع سیاسة اللّف و الدوران التی یتبعها الکثیرون،أو الأکثریة من مبلّغی المبادئ الکافرة الضالّة؛لأنها لا تنسجم مع رسالة السماء،ومبادئ الإسلام ونظافة وسائله،وأهدافه،وأسالیبه،و إنّما هی الصراحة فی الفکرة،والصدق فی القول و العمل،والإخلاص لله...والاستقامة فی الطریق...طریق السیر و العمل فی سبیل الله...الذی حدّده الله فی کتابه...وجسده الأنبیاء علیهم السلام فی مسیراتهم،فلا لبس علیه ولا غموض ولا التواء ولا انحراف.

نتائج البحث

یمکننا تحدید ما توصلنا إلیه فی هذا الکتاب ضمن نقاط:

ص:275

1.توصلنا إلی أنّ عرض ونشر الصورة الإسلامیة و الرسالة الإلهیة واجب العلماء و المفکرین و المبلّغین و الإعلامیین المسلمین،و أنّ التبلیغ الإسلامی یقوم علی أساس من القرآن الکریم و الأخلاق و الشروط الصحیحة،وأسالیب الأنبیاء علیهم السلام التی تشکّل محوراً مشترکاً لکلّ المبلّغین و الإعلامیین الساعین نحو قیام معرفة وثقافة سلیمة.

2.التأکید علی العناصر الثقافیة الغنیة للحضارة الإسلامیة القرآنیة،وتقویة عناصر الهویة الواحدة للأمة الإسلامیة،والسعی لوحدتها،وتقویة قدرة الجیل الشابّ المتطلّع إلی التعرّف إلی هویته المستقلّة.

3.تعرّفنا علی الصورة المغرضة و المشوّهة التظلیلیة المعروضة عن الإسلام و المنهج الإلهی،واستبدلناها بالصورة الواقعیة و الإنسانیة للتعلیمات الإلهیة،التی تتطلّب التعاون بین وکالات الأنباء،ووسائل التبلیغ و الإعلام المسموعة و المرئیة و المقروءة و العمل الجادّ لإیجاد شبکات إسلامیة مستقلّة لتحقیق هذا الغرض.

4.العمل علی الاستفادة الصحیحة و الأخلاقیة من تقنیة المعلومات والاتصالات الحدیثة،والتخطیط للاستفادة منها فی مجال التربیة و التعلیم العام و الجامعی للأقطار الإسلامیة،وتوفیر الأرضیة الصالحة للاستفادة العلمیة و الإعلامیة السلیمة من الإنترنت.

5.یستطیع الکتّاب و المحقّقون،والفنّانون و الشعراء،أن یساهموا فی رفع مستوی الوعی و المعرفة لدی جیل الشباب المسلم عبر عرض النماذج الإسلامیة الدینیة الثقافیة الرائعة،وإنتاج الآثار الغنیة بشتّی أنواعها،وینبغی أن یزامن تطور التخطیط التأکید علی الأصالة.

6.أنّ من واجب العلماء و المفکرین و المبلّغین و الإعلامیین المسلمین الیوم بذل أقصی الجهود للتوعیة بالتحدّیات الفکریة فی العالم من قبیل:العولمة،والتخلف الاقتصادی،والعلمانیة،وحقوق الإنسان و الموقف من الإرهاب،والسیادة الشعبیة فی أطار القیم الدینیة،والتعریف بأسالیب العمل و التبلیغ الإسلامی تجاهها،و إن اتساع التعاون الفکری وإقامة المؤتمرات،والاجتماعات الدولیة یمکنها تسریع وتعمیق الحرکة التبلیغیة للفکر

ص:276

الإسلامی،وترک الأثر الکبیر فی التفهّم الأوسع لرسالة الإسلام العالمیة.

7.إن الحوار بین الثقافات و التواصل الفکری بین الأدیان،والتقریب بین المذاهب الإسلامیة یعدّ تحرکاً واعداً یسهم فی تحقیق العالمیة الدینیة الإنسانیة)ویفضح التحرّک المتمحور حول ادعاء صراع الحضارات،وإحیاء الحروب باسم الدین و النزاعات الطائفیة فیرفع الستار،ویضع النقاط علی الحروف.

هذا مجمل ما توصلنا إلیه،ولا أحسب أنّه کل شیء فی سبیل التغییر الواقعی العملی،فإن القضیة أخطر من أن تعالج من الجانب النظری و الفکری فحسب...وإنما هی فی حاجة إلی المعالجة العملیة الواعیة الدائبة التی تعیش الحذر و الحکمة و الترقّب بکل جوانبها ووسائلها وأسالیبها...فهی دائماً تلاحق خطی العاملین وتراقبها،فتحسّ بالعثرات،وتدرک الأخطاء التی تقع والانحرافات التی تحدث،لتنبّه وتشیر وتوجه،فتقی العثرة،وتصلح الأخطاء،وتصحح الانحراف.

وما أقترحه وأودّ أن نتوصّل إلیه،هو دراسة موسّعة لحیاة المبلّغین بعد نبینا صلّی الله علیه و آله أعلام الهدی وأهل بیته علیهم السلام فإنّهم عاشوا مختلف الظروف وفی مختلف الأزمنة و الأمکنة،فیمکن للباحث أن یجد فی حیاتهم العملیة و العلمیة التبلیغیة مختلف الأسالیب المهمّة،التی استخدموها فی مختلف الظروف و الشرائط،فحیاتهم علیهم السلام غنیة فی کلّ ما نحتاجه وفیها کلّ معالم الخیر و الصلاح.

وفی النهایة لابد للعاملین فی سبیل الله،إزاء هذه المجالات التی تحدّدها طبیعة الزمان و المکان و الأشخاص و الظروف و الشرائط من ملاحظة ما تقتضیه الحکمة فی کلّ مجال...ومراقبة الله فی کلّ أسلوب یتّبعونه،وکلّ حرکة یتحرکونها؛فإنّه لا یمکن بأی حال من الأحوال أن یکون الأسلوب العملی للإسلام منحرفاً عن مبادئ الإسلام التی تفرض نظافة الوسیلة إلی جانب نظافة الغایة،وإلّا فإنّ الله لا یمکن أن یطاع من حیث یعصی.

ص:277

قال تعالی: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ) ، (1)وقال تعالی: (قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی) ، (2)وقال تعالی: (فَلِذلِکَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ کَما أُمِرْتَ) ، (3)وقال عز وجلّ: (وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَی اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِی مِنَ الْمُسْلِمِینَ) . (4)

وبعد،فهذه أسالیب التبلیغ عند الأنبیاء علیهم السلام مستلهمة من القرآن الکریم،وتلک هی الشروط و الظروف التی ینبغی أن تتوفّر فی سبیل نجاح التبلیغ....

و قد حاولنا-جهد الإمکان-إیضاح الفکرة وجلائها،فإنّ قُدّر لنا النجاح فیما حاولناه،فهو غایة ما نتمناه وإلّا فحسبنا من عملنا هذا أن ینال رضا الله تعالی،وأن یرسم بعض الخطوط ویشقّ الدرب للآخرین...والله من وراء القصد،و هو حسبنا ونعم الوکیل،وله الحمد أوّلاً وآخراً إنّه ولی التوفیق.

ص:278


1- (1) .النحل:125.
2- (2) .یوسف:108.
3- (3) .الشوری:15.
4- (4) .فصلت:33.

فهرس المصادر

القرآن الکریم.

1.أجوبة مسائل جار الله،شرف الدّین،السید عبد الحسین،مطبعة العرفان،صیدا،الطبعة الثّانیة, 1373ه.

2.أخلاقیة الإعلام الإسلامی, عبد الوهاب،د.صباح،دار الإیمان, دمشق, 1421ه.

3.إرشاد الأذهان فی تفسیر القرآن،السبزواری،محمد بن حبیب الله،دار التعارف للمطبوعات،بیروت،الطبعة الأولی, 1419ه.

4.أعلام الدّین فی صفات المؤمنین،الدیلمی،الحسن بن أبی الحسن،تحقیق ونشر:مؤسسة آل البیت علیهم السلام لأحیاء التراث،قم،1414ه.

5.أعیان الشیعة, الأمین،السید محسن،تحقیق وتخریج:حسن الأمین،دار التعارف للمطبوعات،بیروت،الطبعة الأولی.

6.آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن،البلاغی،محمد جواد،مکتبة الوجدانی،قم،الطبعة الثّانیة.

7.الاحتجاج, الطبرسی, احمد بن علی, تحقیق:محمد باقر الخرسان, دار النعمان للطباعة و النشر, النجف الاشرف, 1386ه, 1966م.

8.الاختصاص،المفید،محمد بن محمد بن النعمان،مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین فی الحوزة العلمیة،قم،الطبعة السادسة, 1418ه.

ص:279

9.الأسلوب،الشائب،أحمد،دراسة بلاغیة تحلیلیة لأصول الأسالیب الأدبیة دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع, بیروت, 1422ه.

10.الأصفی فی تفسیر القران, الفیض الکاشانی, محمد محسن, تحقیق:محمد حسین درایتی, محمد رضا نعمتی, مکتب الإعلام الإسلامی, مرکز النشر, قم, 1418ه.

11.الأغانی, الأصفهانی،علی بن الحسین أبی الفرج, تحقیق:لجنة من الأدباء بإشراف عبد الستار احمد الفراج, دار الثقافة, بیروت, 1410ه/1990م.

12.الاقتصاد الهادی إلی طریق الرشاد،الطوسی،محمد بن الحسن،تحقیق:حسن سعید, مکتب جامع جهلستون،1400ه.

13.الأمالی،الصدوق،محمد بن علی بن الحسین بن بابویه،تحقیق:قسم الدراسات الإسلامیة،مؤسسة البعثة،قم،مرکز الطباعة و النشر فی مؤسسة البعثة،الطبعة الأولی, 1417ه.

14.الأمالی،المرتضی،علی ابن الطاهر،تحقیق:السید محمد بدر الدّین النعمانی الحلبی،منشورات مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی،الطبعة الأولی, 1325ه.

15.الأمثل فی تفسیر کتاب الله المُنزل،مکارم الشیرازی،ناصر،مدرسة الإمام علی بن أبی طالب،الطبعة الأولی, 1421ه.

16.الأنبیاء علیهم السلام حیاتهم-قصصهم،الحسنی العاملی،عبد الصاحب،مؤسسة الاعلمی للمطبوعات،بیروت،لبنان،الطبعة الثّانیة, 1423ه/2002م.

17.البرهان فی علوم القرآن،الزرکشی،بدر الدّین محمد بن عبد الله،تحقیق:ابو الفضل إبراهیم, دار إحیاء الکتب العربیة،الطبعة الأولی, 1376ه/1957م.

18.البیان وفن الخطابة،فلسفی،محمد تقی،مؤسسة البعثة للطباعة و النشر و التوزیع،بیروت،الطبعة الأولی, 1412ه/1992م.

19.التبیان فی تفسیر القرآن،الطوسی،محمد بن الحسن،تحقیق:احمد حبیب قیصر العاملی, مکتبة الإعلام الإسلامی،دار إحیاء التراث العربی،الطبعة الأولی,1409ه.

20.التفسیر الصافی, الفیض الکاشانی, محسن, مکتبة الصدر, طهران, 1416ه.

21.التفسیر الکبیر،الرازی،فخر الدّین محمد بن عمر بن الحسین, دار الکتب العلمیة،بیروت،الطبعة الثّانیة, 1425ه/2004م.

22.التفسیر الوسیط،الزحیلی،وهبة بن مصطفی،دار الفکر،دمشق،الطبعة الأولی, 1422ه.

ص:280

23.الجامع الصغیر, السیوطی, جلال الدین عبد الرحمان, دار الفکر للطباعة و النشر،بیروت, الطبعة الأولی, 1401ه/1981م.

24.الجدید فی تفسیر القرآن, السبزواری،محمد بن حبیب الله،دار التعارف للمطبوعات،بیروت،الطبعة الأولی, 1406ه.

25.الحدائق الناظرة, البحرانی, یوسف, مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین, قم, 1363ه.

26.الخصال،الصدوق،محمد بن علی بن الحسین بن بابویه،تحقیق:علی أکبر الغفاری،منشورات جماعة المدرسین فی الحوزة العلمیة،قم،1403ه.

27.الدر المنثور،السیوطی،جلال الدّین عبد الرحمان،دار المعرفة للطباعة و النشر،بیروت.

28.الدّعوة إلی الله تعالی،آل نواب،د.عبد الرب،دار القلم،دمشق،الدار الشامیة،بیروت،الطبعة الأولی, 1410ه.

29.الدّعوة و الدعاة بین الواقع و الهدف،الصباغ،د.بسام, دار الإیمان،دمشق،الطبعة الأولی, 1420 ه/2000م.

30.الرواشح السماویة،الاسترآبادی،محمد باقر،تحقیق:غلام حسین قیصیره ها،نعمة الله الجلیلی،دار الحدیث للطباعة و النشر،قم،الطبعة الأولی, 1422ه.

31.السیرة الحلبیة, الحلبی, علی ابن إبراهیم, دار المعرفة, بیروت, 1400ه.

32.السیرة النبویة،ابن کثیر،أبی الفداء إسماعیل،تحقیق:مصطفی عبد الواحد،دار المعرفة،بیروت،الطبعة الأولی, 1396ه/1971م.

33.الصحاح،الجوهری،إسماعیل بن حماد،تحقیق:احمد عبد الغفور عطار, دار العلم للملایین،بیروت،الطبعة الرّابعة, 1407ه/1987م.

34.العقیدة الإسلامیة علی ضوء مدرسة أهل البیت،السبحانی،جعفر،تحقیق وترجمة:جعفر الهادی, مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام،الطبعة الأولی, 1419ه/1998م.

35.الغدیر،الامینی،عبد الحسین،دار الکتاب العربی،بیروت،الطبعة الرّابعة, 1398ه/1977م.

36.الفایق فی غریب الحدیث،الزمخشری،جار الله, دار الکتب العلمیة،بیروت،الطبعة الأولی, 1417ه/1996م.

37.الفرقان فی تفسیر القرآن،الصادقی الطهرانی،محمد،انتشارات الثقافة الإسلامیة،الطبعة الثّانیة, 1365ه.ش.

ص:281

38.الفروق اللغویة،العسکری،أبو الهلال،تحقیق ونشر:مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین, قم،الطبعة الأولی, 1412ه.

39.القادیانیة،الظاهر العاملی،سلیمان،الغدیر للدراسات و النشر،بیروت،الطبعة الأولی,1420ه/1999م.

40.القاموس الفقهی،أبو حبیب،د.سعدی،دار الفکر،دمشق،الطبعة الثّانیة, 1408ه/1988م.

41.القاموس المحیط, الفیروز آبادی،نصر الهورینی،دار عالم الکتاب, الریاض, الطبعة الأولی, 1417ه.

42.القرآن و التبلیغ،قراءتی،محسن،مؤسسة النشر الإسلامی،قم،الطبعة الثّانیة, 1417ه.

43.القصص القرآنی فی منطوقه ومفهومه،الخطیب،عبد الکریم،دار المعرفة, بیروت, الطبعة الأولی, 1395ه.

44.الکافی،الکلینی،محمد بن یعقوب،تحقیق:علی اکبر غفاری،دار الکتب الإسلامیة،آخوندی،الطبعة الثّانیة, 1389ه.

45.الکامل فی التاریخ, ابن الأثیر, عز الدین علی بن أبی الکرم, دار صادر للطباعة و النشر, بیروت, 1386ه/1966م.

46.الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل،الزمخشری،جار الله،شرکة مکتبة ومطبعة مصطفی البابی الحلبی وأولاده،مصر،الطبعة الأخیرة, 1385ه/1966م.

47.المزار،ابن المشهدی،محمد،تحقیق:جواد القیومی الأصفهانی, نشر القیومی, قم،الطبعة الأولی,1419ه.

48.المستفاد من قصص القرآن،زیدان،د.عبد الکریم،مؤسسة الرسالة،بیروت،الطبعة الأولی, 1418ه/1997م.

49.المعجم الکبیر،الطبرانی،سلیمان بن أحمد،تحقیق:حمدی عبد المجید السلفی،دار إحیاء التراث العربی،الطبعة الثّانیة،1404ه.

50.المعجم الوسیط،أنیس،د.إبراهیم،دار الفکر،1410ه.

51.المعجم فی فقه لغة القرآن،الخراسانی،محمد واعظ زادة،مؤسسة الطّبع و النشر التابعة للآستانة الرضویة المقدّسة،الطبعة الأولی, 1419ه.[تم إعداد المعجم فی قسم القرآن فی مجمع البحوث الإسلامیة،بإشراف الخراسانی].

ص:282

52.المقنعة, المفید, محمد بن محمد بن النعمان, تحقیق ونشر:مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجامعة المدرسین, قم, الطبعة الثانیة, 1410ه.

53.الملحمة الحسینیة،المطهری،مرتضی،المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة،قم, الطبعة الثّالثة, 1413ه/1992م.

54.المهذب البارع, الحلی, جمال الدین احمد ابن محمد, تحقیق:مجتبی العراقی, مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجامعة المدرسین, قم, 1407ه.

55.المیزان فی تفسیر القرآن،الطباطبائی،محمد حسین, مؤسسة الاعلمی للمطبوعات،بیروت،الطبعة الأولی المحققة, 1417ه/1997م.

56.النکت الاعتقادیة،المفید،محمد بن محمد بن النعمان،تحقیق:رضا المختاری, دار المفید للطباعة و النشر و التوزیع،بیروت،الطبعة الثّانیة, 1414ه/1993م.

57.النهایة فی غریب الحدیث،ابن الأثیر،المبارک بن محمد،تحقیق:طاهر احمد الزاوی, محمود محمد, مؤسسة اسماعیلیان للطباعة و النشر و التوزیع،قم،الطبعة الرّابعة, 1364ه.

58.انساب الإشراف, البلاذری, احمد ابن یحیی, تحقیق:محمد باقر المحمودی, مؤسسة الاعلمی للمطبوعات, بیروت, الطبعة الأولی, 1394ه/1974م.

59.إیمان أبی طالب وسیرته،الامینی،عبد الحسین،دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع, 1403ه/1983م.

60.بحار الأنوار،المجلسی،محمد باقر،مؤسسة الوفاء،بیروت،الطبعة الثّانیة المصحّحة, 1403ه.

61.تاج العروس،الزبیدی،محب الدّین،تحقیق:علی شیری،دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع،بیروت،1414ه/1994م.

62.تاریخ الإسلام،الذهبی،محمد بن أحمد بن عثمان،تحقیق:د.عمر عبد السلام تدمری،دار الکتاب العربی،بیروت،الطبعة الأولی, 1407ه.1987م.

63.تاریخ الدّعوة،الجویشی،د.محمد إبراهیم،دار العلم وللثقافة, القاهرة،الطبعة الأولی, 1420ه/1999م.

64.تاریخ الطبری،الطبری،محمد بن جریر،تحقیق:نخبة من العلماء،مؤسسة الاعلمی للمطبوعات،بیروت،لبنان،الطبعة الرّابعة, 1403ه/1983م.

65.تاریخ مدینة دمشق, ابن عساکر, علی ابن الحسن, تحقیق:علی شیری, دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع, بیروت, 1415ه.

ص:283

66.تحف العقول،الحرانی،الحسین بن علی بن الحسین،تحقیق:علی اکبر الغفاری،مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین،قم،الطبعة الثّانیة, 1404ه.

67.تخریج الأحادیث و الآثار،الزیعلی،عثمان ابن علی،تحقیق:عبد الله بن عبد الرحمن السعد, دار ابن خزیمة،الطبعة الأولی, 1414ه.

68.تصحیح اعتقادات الإمامیة،المفید،محمد بن محمد بن النعمان،تحقیق:حسین درکاهی, دار المفید للطباعة و النشر و التوزیع،بیروت،الطبعة الثّانیة, 1414ه/1993م.

69.تفسیر البحر المحیط،أبی حیان الأندلسی،محمد بن یوسف،تحقیق:عادل احمد عبد الموجود, علی محمد معوض, دار الکتب العلمیة،بیروت،الطبعة الأولی, 1422ه/2001م.

70.تفسیر السلمی،السلمی،یوسف ابن یحیی, تحقیق:سید عمران،دار الکتب العلمیة،بیروت،الطبعة الأولی, 1421ه/2001م.

71.تفسیر القاسمی المسمّی محاسن التأویل, القاسمی, محمد جمال الدین, تصحیح وتخریج وتعلیق محمد فؤاد عبد الباقی, دار إحیاء التراث العربی, القاهرة,1376ه/1957م.

72.تفسیر القران الحکیم الشهیر بتفسیر المنار, محمد رشید رضا, مطبعة المنار, القاهرة, 1346ه/1353ش.

73.تفسیر القرآن الکریم،الخمینی،مصطفی،تحقیق ونشر:مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی،الطبعة الأولی, 1418ه.

74.تفسیر المنیر،الزحیلی،وهبة بن مصطفی،دار الفکر المعاصر،الطبعة الأولی, 1418ه.

75.تفسیر جوامع الجامع،الطبرسی،الفضل ابن الحسن،تحقیق ونشر:مؤسسة النشر الاسلامی لجماعة المدرسین،قم،الطبعة الأولی, 1418ه.

76.تفسیر علیّ ابن إبراهیم القمی،القمی،علی ابن إبراهیم،تحقیق:طیب الموسوی الجزائری, دار الکتاب،قم،الطبعة الرّابعة, 1367ه.ش.

77.تفسیر مجمع البیان, الطبرسی،الفضل بن الحسن،تحقیق:لجنة من العلماء, دار المعرفة،بیروت،الطبعة الأولی, 1406 ه.

78.تفسیر مقاتل بن سلیمان،ابن سلیمان،مقاتل،تحقیق:احمد فرید, دار إحیاء التراث،بیروت،الطبعة الأولی, 1423ه.

79.تفسیر ملا صدرا،صدر المتألهین, محمد بن إبراهیم،بیدار،قم،الطبعة الثّانیة, 1366ه.ش.

ص:284

80.تفسیر نور الثقلین،الحویزی،عبد علی بن جمعة،تحقیق:هاشم الرسولی المحلاتی, مؤسسة اسماعیلیان،قم،الطبعة الرّابعة, 1415ه.

81.تقریب القرآن إلی الأذهان،الشیرازی،محمد،دار العلوم للطباعة و النشر،بیروت،الطبعة الأولی, 1424 ه.

82.تهذیب الأحکام،الطوسی،محمد بن الحسن،تحقیق:حسن الخرسان،محمد الآخوندی،دار الکتب الإسلامیة،الطبعة الرّابعة, 1365 ه ش.

83.تهذیب اللغة, الأزهری،محمد بن احمد, تحقیق عبد السلام هارون, دار إحیاء التراث العربی, بیروت, الطبعة الأولی, 1421ه/2002م.

84.جامع البیان،الطبری،محمد بن جریر،تحقیق:صدقی جمیل العطار, دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع،بیروت،1415ه/1995م.

85.جامع السعادات،النراقی،محمد مهدی،تعلیق وتصحیح السید محمد کلانتر،جامعة النجف الدینیة،الطبعة الثّالثة, 1383ه/1963م.

86.جواهر الکلام،الجواهری،محمد حسن،دار الکتب الإسلامیة،الطبعة الثّانیة, 1365ه ش.

87.خصائص القرآن،الرومی،د.فهد،الطبعة الرابعة, 1409ه.

88.دعوة النبیّ للأعراب الموضوع الوسیلة الاسلوب, الحارثی،حمود بن جابر،دار المسلم, الطبعة الأولی, 1419ه/1998م.

89.روائع البیان فی تفسیر آیات الأحکام, الصابونی،محمد علی،عالم الکتب, بیروت, الطبعة الثانیة, 1406ه.

90.زاد المسیر،ابن الجوزی،جمال الدّین،تحقیق:محمد عبد الرحمن عبد الله, دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع،الطبعة الأولی, 1407ه/1987م.

91.زبدة التفاسیر،الکاشانی،ملا فتح الله،مؤسسة المعارف الإسلامیة،الطبعة الأولی, 1423ه.

92.سبل الهدی و الرشاد،الصالحی الشامی،محمد بن یوسف،تحقیق:عادل احمد عبد الموجود-علی محمد معوض, دار الکتب العلمیة،بیروت،الطبعة الأولی, 1414ه/1993م.

93.سنن الترمذی, الترمذی, محمد ابن عیسی, تحقیق:عبد الوهاب عبد اللطیف, دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع, بیروت, الطبعة الثانیة, 1403ه, 1983م.

94.سنن النبی صلّی الله علیه و آله،الطباطبائی،محمد حسین،تحقیق:محمد هادی الفقهی, مؤسسة النشر الإسلامی،قم،1419ه.

ص:285

95.سیرة ابن هشام, المطلبی،محمد بن إسحاق بن یسار،تحقیق:محمد محیی الدّین عبد الحمید،مکتبة محمد علی صبیح وأولاده،1383ه.

96.شرح أصول الکافی،المازندرانی،مولی محمد صالح،تحقیق:المیرزا أبو الحسن الشعرانی،دار إحیاء التراث العربی للطباعة و النشر و التوزیع،بیروت،الطبعة الأولی, 1421ه/2000م.

97.شرح الرضی علی الکافیة, الاسترآبادی،رضی الدّین،تحقیق:یوسف حسن،مؤسسة الصادق،طهران،الطبعة الجدیدة المصحّحة, 1395ه, 1975م.

98.شرح نهج البلاغة،المعتزلی،ابن أبی الحدید،تحقیق:محمد أبو الفضل إبراهیم،دار إحیاء الکتب العربیة،الطبعة الأولی, 1378ه.

99.صحیح البخاری, البخاری, محمد بن إسماعیل, دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع, 1401ه/1981م.

100.صحیح مسلم, النیسابوری, مسلم ابن الحجاج, دار الفکر, بیروت.

101.عدّة الداعی ونجاح الساعی،الحلی،أحمد بن فهد،تحقیق:احمد الموحدی القمی،مکتبة الوجدانی،قم.

102.علل الشرائع،الصدوق،محمد بن علی بن الحسین بن بابویه،تحقیق:محمد صادق بحر العلوم, منشورات المکتبة الحیدریة،النجف الاشرف،1385ه/1961م.

103.عمدة القارئ, العینی, بدر الدین ابن محمود, دار إحیاء التراث العربی, بیروت,

104.عیون الحکم و المواعظ،اللیثی،علی بن محمد،تحقیق:حسین الحسینی البیرجندی،دار الحدیث،الطبعة الأولی.

105.غرر الحکم ودرر الکلم, الآمدی التمیمی, عبد الواحد, تصحیح وإشراف حسین الاعلمی, مؤسسة الاعلمی للمطبوعات,بیروت,الطبعة الأولی, 1407ه/1987م.

106.غرر الفوائد المجموعة،القرشی،یحیی بن علی،تحقیق:محمد خرشافی،دار الکتب العلمیة،بیروت،الطبعة الأولی, 1417ه/1996م.

107.فتح القدیر،الشوکانی،محمد بن علی بن محمد،عالم الکتب،الطبعة الاولی, 1347ه.

108.فی ظلال القران, سید قطب, دار احیاء التراث العربی, بیروت, 1386ه/1967م.

109.قصص الأنبیاء علیهم السلام،ابن کثیر, أبی الفداء إسماعیل, تحقیق:مصطفی عبد الواحد, دارالکتب الحدیثة, مصر, الطبعة الأولی, 1388ه/1968م.

ص:286

110.کتاب العین،الفراهیدی،الخلیل بن أحمد،تحقیق:د.مهدی المخزومی, د.إبراهیم السامرائی, مؤسسة دار الهجرة،الطبعة الثّانیة, 1409ه.

111.کشف الغطاء،کاشف الغطاء،جعفر،تحقیق:مکتب الإعلام الإسلامی, خراسان, دفتر التبلیغات الإسلامی،الطبعة الأولی, 1422ه.

112.کنز الدقائق وبحر الغرائب،القمی المشهدی،محمد بن محمد رضا،مؤسسة الطّبع و النشر،وزراة الإرشاد،طهران،الطبعة الأولی, 1366ه.ش.

113.کنز العمال،المتقی الهندی،علاء الدّین،تحقیق:بکری حیانی صفوة السقا،مؤسسة الرسالة،بیروت،لبنان،1409ه/1989م.

114.لسان العرب،ابن منظور،جمال الدّین محمد،أدب الحوزة،قم،1405ه.

115.مجمع البحرین،الطریحی،فخر الدّین،تحقیق:أحمد الحسینی،مکتبة نشر الثقافة الإسلامیة،الطبعة الثّانیة, 1408ه.

116.مسار الشیعة،المفید،محمد بن محمد بن النعمان،تحقیق:الشیخ مهدی نجف،دار المفید،بیروت،الطبعة الثّانیة, 1414ه/1993م.

117.مصباح الشریعة،الإمام الصادق علیه السلام،جعفر بن محمد،مؤسسة الاعلمی للمطبوعات،بیروت،الطبعة الأولی, 1400ه/1980م.

118.معانی الأخبار،الصدوق،محمد بن علی بن الحسین بن بابویه،تحقیق:علی اکبر الغفاری،مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین،قم،1379ه.

119.معانی القرآن،النحاس،أبی جعفر،تحقیق:محمد علی الصابونی, جامعة أم القری،المملکة العربیة السعودیة،الطبعة الأولی, 1409ه.

120.معجم مقاییس اللغة،ابو الحسین زکریا،أحمد بن فارس،تحقیق:عبد السلام محمد هارون،مکتبة الإعلام الإسلامی،1404ه.

121.معدن الجواهر،أبو الفتح الکراجکی،محمد بن علی،تحقیق:احمد الحسینی،مهر استوار،قم،الطبعة الثّانیة, 1394ه.

122.مفاتیح الجنان،القمی،عباس،مؤسسة الاعلمی للمطبوعات،بیروت،الطبعة الأولی, 1423ه/2003م.

123.مفردات غریب القرآن،الراغب الأصفهانی،الحسین بن محمد،دفتر نشر الکتاب،الطبعة الثّانیة, 1404ه.

ص:287

124.مکاتب الرسول صلّی الله علیه و آله،الأحمدی المیانجی،علی،دار الحدیث،الطبعة الأولی, 1998م.

125.مکارم الأخلاق،الطبرسی،رضی الدّین الحسن ابن الفضل،منشورات الشریف الرضی،الطبعة السادسة, 1392ه/1972م.

126.من لا یحضره الفقیه،الصدوق،محمد بن علی بن الحسین بن بابویه،تحقیق:علی أکبر غفاری،جامعة المدرسین،قم،الطبعة الثّانیة, 1404ه.

127.مناهج الدّعوة وأسالیبها, جریشة،د.علی،دار الفکر للطباعة و النشر و التوزیع, بیروت, 1420ه.

128.مواهب الرحمان فی تفسیر القرآن،السبزواری،عبد الأعلی،الآداب،النجف الاشرف،1404ه.

129.میزان الحکمة،الریشهری،محمد،تحقیق:دار الحدیث،دار الحدیث،الطبعة الأولی, 1416ه.

130.ناسخ التواریخ،سبهر, محمد تقی, المکتبة الإسلامیة, إیران, الطبعة الثانیة, 1363ش.

131.نهج البلاغة،أمیر المؤمنین علیه السلام،علی بن أبی طالب،تحقیق:محمد عبده، دار المعرفة،بیروت.

132.نهج السعادة،المحمودی،محمد باقر،مؤسسة الاعلمی للمطبوعات،بیروت, 1337-1377.

133.وسائل الشیعة،الحر العاملی،محمد بن الحسن،تحقیق ونشر:مؤسسة آل البیت علیهم السلام لأحیاء التراث،قم،الطبعة الثّانیة, 1414ه.

ص:288

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

ص:

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.