المناظر الناظره فی احکام العتره الطاهره : کتاب الطهاره - المجلد 1

اشارة

سرشناسه : علوی گرگانی، سیدمحمدعلی، 1317 -

عنوان قراردادی : شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام .برگزیده .شرح

عنوان و نام پدیدآور : المناظر الناظره فی احکام العتره الطاهره : کتاب الطهاره/ لمولفه محمدعلی العلوی الحسینی.

مشخصات نشر : قم : فقیه اهل بیت (ع)، 1395.

مشخصات ظاهری : 10ج.

شابک : 1500000 ریال: دوره:978-600-8363-14-9 ؛ ج.1:978-600-8363-04-0 ؛ ج.2:978-600-8363-05-7 ؛ ج.3:978-600-8363-06-4 ؛ ج.4:978-600-8363-07-1 ؛ ج.5:978-600-8363-08-8 ؛ ج.6:978-600-8363-09-5 ؛ ج.7:978-600-8363-10-1 ؛ ج.8:978-600-8363-11-8 ؛ ج.9:978-600-8363-12-5 ؛ ج.10:978-600-8363-13-2

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام محقق حلی

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : محقق حلی، جعفربن حسن، 602 - 676ق . شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 7ق.

موضوع : *Islamic law, Ja'fari -- 13th century

موضوع : طهارت (فقه)

موضوع : *Taharat (Islamic law)

شناسه افزوده : محقق حلی، جعفربن حسن، 602 - 676ق . شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام. شرح

رده بندی کنگره : BP182/م3ش4023716 1395

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : 4223362

ص: 1

اشاره

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

وبه نستعین

الحمد للّه ربّ العالمین ، والصلاة والسلام علی خیر خلقه وأشرف بریّته محمّد وآله الطیّبین الطاهرین ، لا سیّما بقیّة اللّه فی الأرضین وحجّته علی العالمین ، واللعنة علی أعدائهم أجمعین إلی قیام یوم الدِّین .

أما بعد : _ فهذا جزء مبارک من المباحث الفقهیة من دراسات مرحلة الخارج حیث قد جعلنا تعلیقتنا وبیان مستنبطاتنا علی متن کتاب المحقّق الأوّل _ أعلی اللّه مقامه الشریف _ المسمّی ب_ «شرائع الإسلام» لسهولة تناوله وکثرة التعلیقات علیه من فقهائنا رضوان اللّه علیهم أجمعین . ونسأل اللّه تبارک وتعالی التوفیق والسداد ، والهدایة إلی طریق الخیر والرشاد ، ونعوذ به من الزلل فی الأقدام ، والاعوجاج فی الافهام «وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبادِه وَیُرْسِلُ عَلَیکُم حَفَطَةً» . ونسأله بحق أولیائه المقربین ، لا سیما بقیة اللّه فی الأرضین ، أن یحفظنا وینصرنا ویوفّقنا لبلوغ ما هو الحقّ والرضا عنده ، وأن لا یجعل الدنیا أکبر همّنا ولا مبلغ علمنا ، ولا یسلط علینا من لا یرحمنا ، بجاه محمّد وآله الطاهرین ، صلوات اللّه علیه وعلیهم أجمعین ، آمین یا رب العالمین .

وقد کان تاریخ الشروع یوم الأربعاء لخمس مضین من شهر ذی الحجّة الحرام ، سنة ألف وأربعمائة وأربعة للهجرة النبویّة الشریفة .

بید الأقل

محمّد علی العلوی الحسینی الگرگانی

ص:6

کتاب الطهارة

قال المحقّق قدس سره : الطهارة اسم للوضوء أو الغسل أو التیمّم علی وجه له تأثیر فی استباحة الصلاة .(1)

(1) الطهارة فی اللغة هی النظافة والنزاهة ، ویطلق علیها فی الفارسیة ب «پاکیزگی و پاکی» ، ویقابلها «القذارة» ، وهی بمعنی النجاسة ، المعبّر عنها فی الفارسیة ب «پلیدی» ، والتی ینفر عنها طبع الإنسان ویعرض عنها کما فی «القاموس» و«الطرار» و«المنجد» وغیرها من المعاجم اللغویة . الطهارة مصدر ، وهی أحد المصادر الثلاثة من طَهُر (بضم العین) أو طَهَر (یفتحها) ، والمصدران الآخران هما : طهر وطهور ، ویطلق علی الأوّل اسم المصدر أیضا کما فی «الجواهر» . فثبت من قول أهل اللّغة ، أن الطهارة فی استعمالها الحقیقی : النظافة والنزاهة مطلقا ، وإن استعملت اللّفظة کثیرا فی لسان أهل الشرع والعرف فی خصوص الطهارة عن الحدث ، بل لقد کثر استعمالها فی ذلک بحیث توهم البعض کونها منحصرة فی معنی الطهارة عن الحدث .

وعلی هذا لابدّ من ملاحظة حال الاستعمالین : وهل هو حقیقة فی کلیهما ؟ أو حقیقة فی الطهارة عن الخبث فقط ، ومجاز فی غیرها ؟

أو تکون حقیقة مستعملة فی القدر المشترک بینهما ، بحیث یکون الاشتراک معنویا لا لفظیا ، کما هو الحال فی الأوّل ؟

تعریف الطهارة

فیه وجوه وأقوال ، أولاها الثانی ، لوضوح أنّه لم یکن للطهارة بالمعنی الثانی قبل جعل الشارع المقدّس وتشریعه لها ، عینٌ ولا أثر ، والشارع المقدّس استعملها مجازا ، وکثر الاستعمال فی ذلک بحیث لا یبعد دعوی صیرورته حقیقة متشرعة فی المعنی الثانی فی غیر زمان الشارع لو لم نسلم الحقیقة الشرعیة فی

ص:7

مثل تلک الألفاظ . وأمّا کونها حقیقة فی المعنیین ، فقد ظهر ممّا ذکرنا فساده ، لعدم کون المعنی الثانی عند أهل اللغة معهودا حتی یوضع علیه اللّفظ ، کما لا یخفی . فلو استعمل فیه فقط ، أو فی القدر المشترک ، کان مجازا أو منقولاً ، کما ادّعاه البعض ، کالهمدانی فی «مصباح الفقیه» فی الأوّل منهما .

وإن کان الثانی أولی عند صاحب «الجواهر» قدس سره دون أن یشیر إلی أنّه کان مجازا فیه أو لم یکن .

فإذا بلغ الکلام إلی هنا ، فلا بأس من الإشارة إلی الوجوه أو الأقوال الموجودة ، فنقول :

الأوّل : وهو الذی ذهب إلیه کثیر من الأصحاب ، أنّ الطهارة فی لسان الشرع وإطلاقاته ضد النجاسة بمعناها المتعارف عند المتشرِّعة .

الثانی : أنّ المراد منهما أعمّ مما سبق ، بأن تشمل الطهارة ما ذکر ومن الأثر الشرعی الحاصل من الوضوء وغیره ، یعنی النظافة المعنویة الموجبة لإباحة الصلاة .

الثالث : أنّ المراد خصوص الآثار الشرعیة المترتّبة علی الوضوء وغیره بل کثیرا ما یراد من استعمالات أهل الشرع لهذا اللفظ ، خصوص هذه الأفعال : أی الوضوء والغسل والتیمّم ، بحیث صار حقیقة فی ذلک عندهم .

الرابع : أنها اسم لهذه الأفعال لا مطلقا ، بل إذا کان لها تأثیرا فی إباحة الصلاة ، کما تری ذلک فی کلام المصنف ، والمحقّق فعلیه یلزم أن لا تشمل لمثل وضوء الحائض ، والجنب ، والأغسال المندوبة علی المشهور ، والتیمّم للنوم ، وإن استعمل فیها علی الظاهر ، کان من باب تسمیة المسبب باسم سببه ، أی تکون هذه الأمور سببا للاستباحة .

والخامس : أن تکون الطهارة اسما منقولاً لخصوص الطهارة المبیحة للصلاة .

وهذا هو المستفاد من ظاهر کلام صاحب «المصباح» . فعلیه یلزم أن یکون

ص:8

المعنی الأوّل مهجورا ، بل قد یقرّر فی محلّه بأنّ أثر النقل کون الاستعمال فی المعنی المنقول عنه مجازا . ولا یخفی أنّ الثانی من هذه الوجوه یتصوّر علی وجهین :

تارةً تستعمل فی الأعمّ ، أی القدر المشترک والجامع ، فیمّسی مشترکا معنویا .

وأخری : تستعمل فیه ، بمعنی تعدّد الاستعمال حقیقة حتی یکون مشترکا لفظیّا .

والأوّل هو مختار العلاّمة والشهید الثانی ، وبعض شرّاح الألفیة .

والثانی هو المستفاد من ظاهر کلام المحقّق قدس سره کما فی «مفتاح الکرامة» .

هذا إذا ثبت وتحقّق القول بأحد الاُمور السابقة ، ولم یحصل الشک فی تعیین أحد المصادیق السابقة من الأدلّة الموجودة عند کلّ من یدّعی وجها من الوجوه . وأمّا لو شککنا فی ذلک ، ولم نقف علی حقیقة معنی الطهارة واستعمالها فی إحدی المعانی المذکورة ، فلابدّ حینئذ من الرجوع إلی الأصل الجاری فی مثل هذه الأمور . والظاهر أنّ کون المعنی الأوّل ، هو الحقیقی اللغوی الأوّلی ممّا لا إشکال فیه ، ولعلّه ممّا تسالم علیه الجمیع ، کما یشهد مراجعة کتب أهل اللغة . کما لا إشکال فی وقوع استعمال لفظ الطهارة فی غیر المعنی الأوّل أی المعنی الثانی ، وهو الطهارة بمعنی الوضوء وغیره بأیّ وجه من الوجوه المذکورة ، وإنمّا الإشکال والکلام فی أنّ الاستعمال فی غیر المعنی الأوّل هل هو حقیقیٌ أم مجازی ؟

والظاهر عندنا کونه مجازا لغویا ، وانْ یعدّ حقیقة شرعیة إذا استعمل فی الثانی ، لو سلّمنا بوجودها فی مثل هذه الألفاظ ، کما یظهر من کلام البعض ، أو حقیقة متشرّعة بنحو المنقول ، أو مجازا مشهورا إنْ لم نقل بوجود الحقیقة الشرعیة . وذلک لصعوبة إثبات کون الاستعمال فی الوجه الثانی یکون علی نحو الوضع والحقیقة اللغوی ، والأصل عدمه عند حصول الشک ، کما ان الأصل عدم النقل عن المعنی الأوّل إلی المعنی الثانی ، أی الطهارة بمعنی هذه الأفعال بما لها من الأثر المعنوی .

ص:9

فثبت ممّا ذکرنا أن أحسن الوجوه ، هو القول بکون الاستعمال فی غیر المعنی الأوّل مجازا لغویا ، سواء کان بنحو الحقیقة الشرعیة _ لو قیل بها _ أو بنحو الحقیقة المتشرعة ، لو لم نقل بها _ کما هو الظاهر _ واللّه أعلم .

تنبیه : ظهر ممّا ذکر أنّ ما یقابل الطهارة فی اللغة ، هو القذارة والنجاسة ، والقذارة هی ما کانت النفوس متنفِّرة عنها کالبول والعذرة وأمثال ذلک وهی تنقسم إلی قسمین ، کما هو الحال فی الطهارة ، إذ القذارة تنقسم إلی خبثیّة وحدثیّة .

والأولی منهما : قد تکون ذاتیّة ، أی بنفسها قذرة ونجسة کالبول والعذرة ، والمنی ، وإن کان المنقول عن بعض العامة ، وهو الشافعی القول بطهارة المنی ، حیث استدل بأن القول بنجاسته منشأ تکون الإنسان توجب نجاسة نفس الإنسان ، لکنه غفل عن کون الاستحالة تعدّ من المطهّرات کما سیأتی فی محلّه إن شاء اللّه تعالی .

وقد تکون عرضیة ، أی تعرض لها القذارة بواسطة الملاقاة مع القذر ومنها سمیت بالعرضیة .

هذا کله فی القذارة بمعنی الخبث ، المصطلح علیه عند المتأخرین ، والمشهور منهم بالنجاسة الجسمانیة .

والثانیة : وهی القذارة الحَدَثیة ، وهی نجاسة باطنیّة بحیث إذا ابتلی بها المکلف بواسطة تحقّق شیء من أسبابها کالبول والمنی وغیرها من الأحداث ، حصل له قذارة معنویة ، یمتنع معها التقرب إلی اللّه بإتیان الصلاة والصوم ، إلاّ فی بعض الموارد الخاصة علی احتمال مثل الفاقد للطهورین .

ثمّ إنّ الحدث ینقسم إلی قسمین :

الحدث الأکبر : الحاصل من تحقّق الجنابة والحیض والنفاس .

والحدث الأصغر : الحاصل من خروج البول والریح ونظائرهما .

ص:10

فبذلک ظهر أنّ إزالة کل واحد من القسمین _ سواءً الحدث الأکبر أو الأصغر _ بماله من الشرائط تسمی طهارة .

کیفیّتة تقابل الطهارة و القذارة

ثمّ إنّه بناءً ذکرناه یثبت أنّ الطهارة تنقسم إلی قسمین : طهارة خبیثة وطهارة حدثیة ، وهو المستفاد من الآیة النازلة فی غزوة بدر ، وهی قوله تعالی : «وإذ یُغشِّکُمُ النّعاسُ أَمَنةً منه ویُنزِّلُ عَلَکُم مِنَ السَّماءِ ماءً لیُطَّهرکُم به ویُذْهِبَ عنکم رِجْزَ الشَّیطان وَلِیَرْبِط علی قُلُوبِکُم ویُثّبِتَ بهِ الأقدام»(1) ، حیث نزلت فیما کان المؤمنون قد نزلوا فی أرض رخوة رملیة فی أرض متربة صلبة فاستوحش المؤمنون لرخاوة موضع أقدامهم دون الکفار ، فأرسل اللّه علی المؤمنین النعاس _ أی النوم الخفیف _ فأحسوا الأمن من الخصم أو من اللّه ، فصاروا مجنبین محدثین فأنزل اللّه علیهم الماء _ أی المطر _ من السماء _ أی العلو والارتفاع _ لیطهروا من الخبث والحدث ، أو لیطهروا باتیان الغسل فقط .

«لیُطَهِرَّکُم به» أی عن الخبث بسبب نزول الماء ، «ویُذْهِبَ عنکم رِجْزَ الشَّیطان»أی الجنابة بواسطته ، هذا بحسب الطهارة من القسمین «وَلِیَرْبِط علی قُلُوبِکُم» أی برفع الاستیحاش من رخاوة أرضهم وصلابة أرض خصمهم ، حیث صارت القضیة معکوسة ، إذ صَلبت أرض الرمل وتلبدت بنزول المطر علیها ، ورخوت أرض التراب وصارت طینا ووحلت ، ولذا قال تعالی : «ویُثّبِتَ بهِ الأقدام» .

وتوهم کونها فی خصوص المطر واضح الردّ والبطلان ، لعدم خصوصیة فیه ، فیلغی ذلک قطعا ، کما تلغی خصوصیة کونها نازلة فی غزوة بدر ، للقطع بعدم الخصوصیة فی المورد ، کما قیل الاعتبار بعموم الوارد لا بخصوص المورد ، وهو


1- سورة الأنفال : آیة 10 .

ص:11

واضح ، فلفظ الطهارة یراد منه إمّا خصوص رافع الحدث _ کما احتمله فی «مجمع البیان» و«المیزان» أو هو مع الخبث _ کما هو الظاهر _ أو علی ما أحتمله البروجردی قدس سره هو خصوص الخبث والحدث ، المستفاد من قوله «ویُذْهِبَ عنکم رِجْزَ الشَّیطان» ، والآیة مشتملة لأمور تشریعیة من الطهارة ، وتکوینیة من تثبیت الأقدام ، وإذهاب الوسوسة عنهم .

تذییل : قد عرفت فی صدر البحث أن الطهارة متقابل للقذارة ، لکن السؤال أنّه هل التقابل بینهما من باب تقابل الضدین کالسواد والبیاض ، أو التقابل بنحو الإیجاب والسلب ، أو تقابل العدم والملکة _ کما عن الشیخ الأنصاری فی الطهارة _ للطهارة الحدثیة بل الخبیة أیضا ؟

وبعبارة اُخری: هل الطهارة والقذارة أمران وجودیان ؟ أو وجودی وعدمی بالایجاب والسلب ؟ أو وجودی وعدمی بالملکة ؟

والحق الموافق للتحقیق هو التفصیل بین الطهارتین الخبثیة والحدثیة ، إذ الطهارة فی الخبث هی عبارة عن إزالته ورفعه ، فهی أمر عدمی والقذارة حینئذ تکون أمرا وجودیا ، هذا بخلاف الطهارة الحدیثة حیث أن الطهارة فیها أمر وجودی ، لأنها عبارة عن حالة متحققة من الوضوء والغسل والتیمّم ، یمکن معها الدخول فی العبادة ، أو یحصل الکمال المشروط بها ، الحاصلة مع قصد القربة وکان الأمر موجودا فی الروح لا الجسم والجسد . والشاهد علی کون الطهارة الحدثیة أمرا وجودیا ، الحدیث المصحح لابن أبی عمیر عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : «إذا سمّیت فی الوضوء طَهُر جسدک کلّه ، وإذا لم تُسمّ لم یطهر من جسدک إلاّ ما مَرّ علیه الماء»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الوضوء، الحدیث 5 .

ص:12

ولا یتوهّم أنّ الحدیث صریح فی خلاف ما ذکر ، لأنّه قد ذکر الطهارة للجسد لا الروح ، لأنّه واضح الرد ، لمعلومیة عدم سرایة الماء فی الوضوء إلی جمیع البدن ، فلیس ذلک إلاّ من جهة ملاحظة عالم الروح الشامل للجسد والجسم وهو واضح ، کما لا یخلو من الدلالة علی ما ذکرنا من کون الطهارة أمرا وجودیا ، الحدیث المشهور علی ألسنة الفقهاء بأنّ : «الوضوء علی الوضوء نور علی نور» ، کما نقله الصدوق قدس سره عن الصادق علیه السلام (1) ، خلافا للشیخ حیث جعل الطهارة عن الحدث فی التقابل کالطهارة عن الخبث ، وکالموت والتذکیة من الاعدام المقابلة للملکات .

تحقیق کلام المحّقق فی تعریف الطهارة

نعم یحتمل أن تکون الاحداث أیضا من الاُمور الوجودیة ، أی أنّه یتحقّق القذارة المعنویة بواسطة تحقّق أحد الأسباب الموجوبة لها ، فیستلزم حینئذ کون التقابل علی هذا التقدیر بین الطهارة والقذارة فی الحدث هو التقابل بین الضدین ، وهو غیر بعید . ولکن الأظهر هو الأوّل ، واللّه العالم .

کما یمکن استظهار ذلک اجمالاً عن مثل خبر محمّد بن سنان الوارد فی «علل الشرائع»(2) عن الرضا علیه السلام فمیا کتبه إلیه وأجاب علیه السلام عنه بقوله : «علّة غُسل الجنابة للنظافة وتطهیر الإنسان نفسه ممّا أصابه أذاه _ وتطهیر سائر جسده _ » الحدیث ، وخبر الفضل بن شاذان(3) .

وهاهنا نرجع إلی أصل التعریف الذی ذکره المصنف بقوله : «الطهارة : اسم للوضوء أو الغسل أو التیمّم علی وجهٍ له تأثیرٌ فی استباحة الصلاة» . والظاهر أنّه


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الوضوء، الحدیث 8 .
2- علل الشرائع : الباب 195 ص266 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 9 .

ص:13

أراد من ذلک بیان الطهارة الشرعیة ، التی قد عرفت کونها حقیقة شرعیة أو متشرعة فی الطهارة عن الحدث ، فلا یشمل الطهارة عن الخبث ، مع أنّه لا یبعد صحّة إطلاق الطهارة شرعا علی ذلک أیضا فلابدّ من دخول هذا القسم فی التعریف .

ثمّ إنّه قد ذکر قدس سره بأنّها اسم للثلاثة ، إشارة إلی أنّ التعریف لفظی لا حقیقی ، کما هو الظاهر فی مثل هذه الاُمور ، التی اعتبرها الشارع ولاحظها فسماها طهارة ، کغیرها من العناوین الشرعیة .

ثمّ فی ذکر القید : بأنّ (له تأثیرٌ فی استباحة الصلاة) اشکالٌ :

أوّلاً : أنّه موجب لخروج بعض أفراد الثلاثة ، مثل وضوء الحائض والجنب ، حیث لا تباح به الصلاة ، بل وکذا الوضوء التجدیدی ، لأنّ الإنسان بعد التوضوء یصیر متطهرا ، ویکون دخول الصلاة مباحا له ، فلا معنی لحصول الاستباحة له ثانیا ، لأنّه تحصیل للحاصل ، وهو محال . إلاّ أن یراد من التأثیر الأعم من الفعلیة ، کما فی أنواع الوضوء المتعارفة أو الشأنیة ، کما فی التجدیدی لولا الوضوء السابق علیه ، ووضوء الحائض والجنب لولا الحیض والجنابة ، کما احتمل ذلک صاحب «کشف اللثام» فی معرض تعلیقه علی کلام العلاّمة فی «القواعد» وهو غیر بعیدٍ ، إلاّ أنّ العبارة قاصرة عن ذلک کما لا یخفی .

وثانیا : أن ذکر خصوص الصلاة موجب لخروج بعض ما لا یکون کذلک ، مثل وضوء الجُنب للنوم ، والحائض للجلوس فی مصلاّها وأمثال ذلک .

ولو سلّمنا بدفع الإشکال لذکر خصوص الصلاة دون الطواف بکونه للمثال ولا خصوصیة فیها ، کان الأولی أن یذکر لفظ العبادة فی مکان الصلاة لتشمل جمیع الأفراد . کما أنّ الأولی أن یضاف إلیها أنّ له تأثیرٌ للاستباحة فی دخول العبادة ، أو حصول الکمال بها ، لیشمل مثل وضوء الجنب والحائض ، حیث یحصل لهما الکمال المخصوص بذلک . الأحسن فی تعریف الطهارة

ص:14

فإن قلت : وضوؤها _ أی الحائض _ لیس بطهارة ، کما یشهد بذلک صحیحة محمّد بن مسلم : قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض تطهر یوم الجمعة وتذکر اللّه ؟ قال : أمّا الطُّهر فلا ، ولکنّها تتوضأ فی وقت الصلاة»(1) .

فلا وجه لإدخال ذلک فی عنوان الطهارة ، فهکذا یکون فی الجنب لوحدة ملاکهما وهو وجود المانع عن حصول الطهارة .

قلت : إنّ الاُمور نسبیة ، والطهارة بالنسبة للحائض تتصوّر هکذا : أی الفرق بین من لم تتوضأ منهنّ ومن توضأت واضح ، ولو کان للجلوس ، فالطهارة النسبیة حاصلة لها بذلک المعنی ، أی صار الجلوس لها فی مصلاّها مع هذه الحالة مطلوبا للشارع . وهکذا الحال فی وضوء الجنب للنوم وغیره .

نعم ، لیست بطهارة حقیقیة بمعنی المبیحة لإتیان العبادة فعلاً ، کما هو المراد من النفی الوارد فی الحدیث ، لأنّ الأئمّة علیهم السلام کانوا فی صدد تعلیم الناس وتفهیمهم بأنّ الحائض لا تطهر بالوضوء کسائر الناس ، ولذلک قال علیه السلام : «أمّا الطُّهر فلا) .

فالأحسن والأولی فی تعریف الطهارة ما نذهب إلیه ، لأنّه أقلّ إشکالاً من سائر التعاریف ، وهو : «أنّ الطهارة شرعا عبارة عن الغسل بالماء ، أو المسح بما یصح أن یتیمّم به علی وجهٍ له تأثیر فی استباحة الدخول فی العبادة ، أو فی حصول الکمال المشروطین بهما ولو بالقوّة» .

وهو وإن لم یخل من إشکال من جهة شموله لبعض أجزاء الوضوء والغسل ، قبل حصول أرکانه وشرائطه ، مثل النیة ، لأنّه یصدق أنّه طهارة بالقوة ، أی عند فرض تحقّق مجرد النیة وقبل الفراغ وقبل وجود سائر أجزائه فإنّه لا یصدق


1- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الحیض ، الحدیث 4 .

ص:15

علیه الوضوء شرعا .

ولکنه مع ذلک کلّه خالٍ من سائر الإشکالات الکثیرة الواردة علی سائر التعاریف .

فالطهارة علی هذا التعریف تشمل الطهارة بکلا قسمیها من الخبث والحدث ، کما تشمل جمیع الأقسام الثلاثة من الوضوء والغسل والتیمّم کما لا یخفی .

وکما أنّ التعریف یشمل الثلاثة الغیر المتعارفة أی وضوء الحائض والجنب والتیمّم ، کذلک إن قلنا بجواز إتیان التیمّم مکان الوضوء والغسل . وهذا التعریف قریبٌ ممّا ذکره العلاّمة فی «القواعد» مع زیادة لیست فی تعریفه ، واللّه أعلم بالصواب .

مسألة فرعیة مستتبعة : ذکر فی «الجواهر» ما مضمونه : أنّ ذکر الاستباحة فی کلام المصنّف قدس سره کان فی مقابل الحرمة التشریعیة ، ویقتضی منه عدم حصول الطهارة للصبی الممیّز ، وذلک أما لأنّ عباداته تمرینیة ، أو لم تحصل منه الطهارة الشرعیة _ کما فی وضوء الحائض _ بأن تکون الشرعیة من الصبی والحائض أعم من کونها طهارة . ثمّ ذکر احتمالاً آخر ، وهو أنّ المراد من الاستباحة هی الصحّة ، فتحصل الطهارة للصبی أیضا .

انقسام کلّ من الطهارات الثلاث الی واجب و ندب

ولکنّ الحقّ علی ما حققّناه کون وضوء الحائض وأمثاله یعدّ من الطهارة الشرعیة ، لأنّ الطهارة بالنسبة إلی حال کل أحد متناسب مع ملاحظة فقد هذا المقدار من الطهارة منه ، ولذلک نشهد الفرق _ وجدانا _ بین الحائض التی قد توضأت والتی لم تتوضأ ، وهکذا فی الجنب وهذا هو الذی قد رغب الشارع باتیانه للحصول علی تلک المراتب الکمالیة ، فعلیه یمکن أن یکون الوضوء _ بل مطلق الطهارة المتحقّقة من الممیّز _ من هذا القبیل ، فیصدق علیه أنّه قد أتی بوضوء اُجیز له الدخول به فی العبادة بالنسبة إلی حاله ، فعلی مسلکنا تصح العبارة علی نحوین :

أحدهما:أن یکون المرادمن الاستباحة هیالصحّة ،کما احتمله صاحب«الجواهر» قدس سره

ص:16

وکل واحد منها ینقسم إلی واجب وندب ، فالواجب من الوضوء ما کان لصلاة واجبة ، أو طواف واجب ، أو لمسّ کتابة القرآن إنْ وجب.(1) الوضوء

ثانیهما : أن تکون طهارته متناسبة مع شأنه ، وتکون شرعیة کما هو الحقّ إن قلنا به . نعم لو قلنا بأنّ عبادات الصبی تمرینیة محضة ، فیوجب الخروج عن مورد العبارة . والتحقیق فی أنّ عباداته شرعیة أو تمرینیة موکول إلی محلّه ، وقد بحثنا عنها فی التعلیق علی المسألة الرابعة من مسائل نجاسة عرق الجنب من الحرام فی «العروة الوثقی» .

(1) ولا تطلق باقی الأحکام ، من الحرمة والکراهة والإباحة علیه إلاّ علی نحو من الاعتبار ، کما قد یقال بأنّ الوضوء من الماء المغصوب حرام ، حیث أنّه واضح فی التسامح ، إذ المراد هو التصرف فی الماء المغصوب ولو کان فی ضمن أمر عبادی مثل الوضوء ، والحال کذلک فی بقیة الإطلاقات . والظاهر أن ذکر الصلاة کان من جهة کون وجوبها بالأصل ، وفی الطواف بواسطة دلیل التنزیل ، بقوله علیه السلام : «الطواف بالبیت صلاةٌ» . وفی مسّ کتابة القرآن بالعَرَض ، من جهة عروض عارض ٍ موجب للمس .

ثمّ قد یُنسب الخلاف إلی البعض فی أنّ الوضوء هل واجب شرعی غیری أو یکون واجبا نفسیا ؟

والأوّل هو مورد قبول علمائنا ، بل قیل إنّ علیه الإجماع ، کما نقله الشهید الثانی رحمه الله . نعم قد نُسب الخلاف إلی الشهید الأوّل فی «الذکری» بالعبارة المشهورة منه حیث أنّه بعد أن ذکر الکلام فی الغسل بالنسبة إلی الوجوب النفسی والغیری ، قال : «وربما قیل بطروّ الخلاف فی کلّ الطهارات ، لأنّ الحکمة ظاهرة فی شرعیتها مستقلة» ، وفی «الجواهر» یظهر للمتأمِّل کون هذا القول لغیرنا ،

ص:17

ولعلّه أراد ذلک من جهة ذکر الاستحسان بأن الحکمة ظاهرة . . . إلی آخره . حیث یفهم أنّ ذلک صدر عن غیرنا ، إذ أنّ فقهائنا رضوان اللّه علیهم لا یستدلون بالاستحسانات ولکن فی کلامه غموض . انقسام کلّ من الطهارت الثلاث الی واجب و ندب

اقول: وکیف کان ، فقد نسب فی «القواعد» الثانی إلی بعض العامة ، لکن لم نعثر علی مستند لقوله برغم تتبعنا وفحصنا فی «مفتاح الکرامة» و«مصباح الهدی» . فبلغ الکلام بذلک إلی أن ندّعی الإجماع عند أعیان فقهاء الشیعة والعامة علی وجوب الوضوء وجوبا شرعیا غیریا شرطیا ، ولیس نفسیا ، کما ادُّعی أو احتمل . والذی یدل علی کونه واجبا شرعیا غیریا لا نفسیا ، مما قیل أو یمکن أن یقال اُمور :

الأوّل : الوجوب المستفاد من قوله تعالی : «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُم وَأیدِیَکُم» . . . الآیة(1) ، حیث تدل بمفهوم الشرط الذی هو حجة ، علی کون وجوب الصلة عند وجوب شرطها .

ولا یقال : هو أعمّ من کونها واجبة لأنّها قد تکون نافلة ، فیستفاد من الآیة الوجوب الشرطی لا التکلیفی ، أی إنّ من أراد الإتیان بالصلاة کان شرطها تحصیل الوضوء ، وأما کونه واجبا نفسیا أو غیریا ، أو مستحبا نفسیا أو عدم کونه شیئا من ذلک ، فلابدّ من استفادته من دلیلٍ آخر غیر هذه الآیة .

لأنّا نقول : لو لم نقل بما أجاب به صاحب «الجواهر» من العهدیة الذهنیة للصلاة الواجبة من لفظ الصلاة ، فلا تشمل النافلة ، بل قلنا بالتعمیم لکلا قسمهما ، لکن نقول لا إشکال فی استفادة أنّ الصلاة لم تتحقق إلاّ بالوضوء ، فإذا کانت الصلاة واجبة فمن الضروری أن یکون وضوءها أیضا واجبا ، لأنّه لا یعقل


1- سورة المائدة : آیة 6 .

ص:18

أن تکون الصلاة واجبة بوجوب مطلق _ کما علیه الضرورة الدینیة ، للقطع بفساد احتمال کونها وجبا مشروطا کالحجّ بالنسبة إلی الاستطاعة _ ووضوءها غیر واجب . نعم یمکن أن یقال حینئذ إنّ الواجب للوضوء لیس شرعیا ، بل هو عقلی کما قاله صاحب «الکفایة» فی الواجب التعبدی ، وذلک لحکم العقل بأن الصلاة الواجبة لا تتحقق إلاّ به ، فیحکم بوجوب إتیان شرائطها ومنها الوضوء ، فلیس هذا إلاّ وجوبا عقلیا لا غیریا کما هو المطلوب .

ولکن الانصاف _ علی ما یشهد به العرف _ أن المستفاد من الآیة هو بیان حکم الوضوء للصلاة الواجبة من جهتین ، من الحکم الشرطی والشرعی ، غایة الأمر تکون فی النافلة من جهة واحدة ، وهی بحسب الأدلّة الخارجیة یکون حکما شرطیا فقد لا وجوبا شرعیا . مضافا إلی أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة وجوبا شرعیا لا عقلیا فقط ، علی ما فی بحث الواجب التعبدی من «الکفایة» ، کان الوضوء أیضا واجبا غیریا لا نفسیا .

وما توهمه صاحب «مفتاح الکرامة» ، وتبعه علیه صاحب «الجواهر» ، بل زاد علیها فی «المفتاح» من احتمال عدم الوجوب ، عند عدم الشرط بلحاظ شرطه ، فلا ینافی وجوبه لکونه واجبا نفسیا ، ومن احتمال عدم حجیّة المفهوم فی المقام ، لوجود فائدة التنبیه علی شرطیة الوضوء للصلاة ، ومن احتمال أن یکون المفهوم أنّه عند عدم القیام لا وجوب للوضوء ، ولو فی بعض الأحیان ، کما لو کان متطهِّرا ، وأمثال ذلک ، فلا ینافی وجوبه عند فقد الطهارة .

کلّها مدفوعة ، بکون ذلک خلافا بالاستظهارات العرفیة عن مثل تلک القضایا الشرطیة ، فلا نطیل الحدیث بذکر الأجوبة عن کلّ واحد واحد .

هذا مضافا إلی الاجماعات المنقولة ، بل لا یبعد التحصیل له ، کما یظهر لمن تتبع کلام القوم ، بل وهکذا بحسب القاعدة ، من جهة سیرة المتشرعة ، إذ لم یعهد

ص:19

منذ زمن النبی صلی الله علیه و آله ، والصحابة والتابعین ، مع شدة اعتنائهم لمثل هذه الأمور الحکم بلزوم استمرار الوضوء وتحصیله متعاقبا للحدث ، مع وجود الظنّ بالوفاة ، بل حتی مع القطع بالموت . ومضافا إلی إمکان استفادة عدم الوجوب بالأولویة القطعیة ، بمعنی أنّه إذا استظهرنا فی الغسل للجنابة والحیض وغیرهما ، کون الوجوب وجوبا غیریا لا نفسیا ، مع کونه طهارة عن الحدث الأکبر ، فعدم وجوب الطهارة عن الحدث الأصغر یکون بطریق أولی ، مع إمکان استفادة ذلک أیضا من حکم الفقهاء بعدم الوجوب فی التیمّم قطعا ، وذلک من جهة البدلیة وعموم منزلتها فیقتضی عدم الوجوب فی الوضوء أیضا .

الوضوءات المندوبة

هذا کله ، مضافا إلی أنّه لو لم نُسلّم استفادة الوجوب الشرطی الشرعی الغیری من الآیة المذکورة ، ولم نقل بوجوب مقدّمة الواجب ، فلیس لنا طریقٌ لاثبات وجوب شرعی غیری ، فضلاً عن وجوب النفسی للوضوء من مثل هذه الآیة ، لإمکان دعوی دلالتها علی جهة شرطیة الوضوء للصلاة ، أی لا یمکن الإتیان بها إلاّ معه ، المستلزم بحسب حکم العقل بلزوم إتیان الشرط من جهة وجوب الصلاة ، وأنّی لک بإثبات وجوب شرعی غیری للوضوء لأجل الصلاة وغیرها ، إلاّ أن الانصاف بحسب الاستظهار العرفی من الآیة أنّ المفهوم منها ومن نظائرها هو الوجوب الغیری الشرعی ، مضافا إلی وجوب المقدّمة فی مقدّمة الواجب إن قلنا به .

(1) فظهر ممّا ذکرنا عدم وجوب دلیل مقنع تام علی إثبات الوجوب للوضوء بالوجوب النفسی ، فحینئذٍ لا محیص لنا إذا رأینا فی حدیث من ذکر لفظ الوجوب علی الطهارة أو علی الوضوء ، إلاّ من حمله علی معنی آخر ، مثل اللزوم والثبوت وغیره ، وهو کما تری فی مثل صحیح زید الشحام ، وعبد الرحمان بن الحجاج عن الصادق علیه السلام : «إنّ علیّا علیه السلام کان یقول : مَنْ وجد طعم النوم قاعدا

ص:20

والمندوب ما عداه(1)

أو قائما فقد وجب علیه الوضوء»(1) .

وصحیح زرارة فی حدیث : «فإذا نامت العین والاُذن والقلب فقد وجب علیه الوضوء»(2) .

وغیر ذلک من الأخبار ، حیث تحمل علی العهد الذهنی فی الوضوء ، من جهة بیان وجوبه لإتیان الصلاة لا وجوبه لنفسه ، أو یحمل علی معنی الثبوت واللزوم بواسطة حدوث الحدث . ولا یمکن رفع الید عن مثل تلک الأدلّة بواسطة هذه الأخبار ، مع عدم کون هذه المحامل بعیدة أیضا ، کما لا یخفی ، کما وردت هذه التعابیر فی أمثال ما نحن فیه ، کما فی الأمر بغسل الأوانی والثیاب المتنجسات ، مع أنّه لم یقل أحد بالوجوب فیها أصلاً ، وهذا واضح .

(1) أی ما عدا الوضوء المأتی به لأمرٍ واجب یکون مندوبا ، وهو علی قسمین :

قسمٌ : یستحب له الوضوء ، أی تکون الغایة المستحبة موجبة لاستحباب الوضوء ، وأمثلته کثیرة مثل الوضوء لقراءة القرآن ، والصلاة المندوبة ، والطواف المندوب ، ولدخول المساجد ، وغیر ذلک ، وربما یُعدّ إلی العشرین .

وآخر: یستحب منه الوضوء ، أی إذا صدر منه عملٌ یستحب ویندب أن یقدم علی الوضوء ، کالضحک فی الصلاة ، والظلم ، واکثار انشاء الشعر الباطل ، وخروج الودی وغیر ذلک وهو أیضا قد یعد إلی قریب العشرین .

ثمّ یکون الوضوء تارة رافعا للحدث ، وآخر محصِّلاً للکمال مع الحدث أو بدونه .

بقی البحث عن مسائل مندوبات الوضوء وهی کثیرة وقد تعرض لذکرها


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ، الحدیث 8 _ 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، الحدیث 1 .

ص:21

صاحب «الجواهر» فنترکها إلاّ بعض ما یهمنا من مسائلها حیث نذکرها فی ضمن مسائل وهی :

المسألة الأولی : لا یخفی علیک أنّ بعض ما ذکر من الوضوءات المستحبة ، لم یکن علیه دلیل معتبر ، فهل یثبت الاستحباب بمجرد قول بعض أصحابنا بوجود نص معتبر علیه _ کما هو الحال فی «الذکری» ، فانه بعد ما یحصی الوضوءات المندوبة ، یقول : کل ذلک للنص _ أم لا یثبت إلاّ بدلیل من الحدیث وغیره کالدلیل الاجتهادی أو الأصل الفقهی ؟

والذی یظهر من صاحب «المدارک» قدس سره هو الثانی ، فإنه بعدما یذکر أقسام المندوبات من الوضوء ، یقول : «وقد ورد بجمیع ذلک روایات إلاّ أن فی کثیر منها قصورا من حیث السند ، وما قیل من أن أدلّة السنن یتسامح فیها بما لا یتسامح فی غیرها فمنظور فیه ، لأن الاستحباب حکمٌ شرعی فیتوقف علی الدلیل الشرعی کسائر الأحکام» ، انتهی .

ولکن فی «الجواهر» و«المصباح» قد اختار الأوّل بکفایة إرسال «الذکری» فی إثبات استحباب الوضوء ، بل قد ردّ صاحب «المصباح» علی «المدارک» بقوله : «بأن أدلّة التسامح الواردة فی مثل ذلک بقوله صلی الله علیه و آله : «مَنْ بلغه ثوابٌ علی عملٍ فعمله التماس ذلک الثواب اوتیه ، وإن لم یکن الأمر کما بلغه» کافیةٌ فی إثبات استحباب کلّ ما ورد فیه روایة ، ولو لم یکن فیها شرائط الحجّیة ، مضافا إلی شهادة العقل لحسن إتیان ما یحتمل کونه محبوبا للّه تعالی ، وإنْ لم یثبت بذلک العنوان المخصوص وکونه مستحبا شرعا حتی یترتب علیه آثار الاستحباب ، ثمّ مثَّل ذلک بقوله : بأنّه لو قلنا أن کلّ غسل مستحب مثلاً یرفع أثر الجنابة ، فوردت روایة ضعیفة دالة علی استحباب غسل خاص ، فلا یترتب علیه ذلک الأثر ، لأن الغسل بهذا العنوان لم یثبت استحبابه حتی یترتب علیه کل الآثار» ، انتهی

ص:22

ملخص ما فی «المصباح» .

نیّة الغایات المترتّبة علی الوضوء

ولکن الانصاف مع التأمل فی أخبار «من بلغ . .» یفهم أن الحق مع صاحب «المدارک» لو لم نقل بامکان الجمع بین العَلَمین ، وکان رجوع النزاع بینهما لفظیا .

وتوضیح ذلک : أن ظاهر قوله علیه السلام فی حدیث عمران : «مَنْ بلغه ثواب من اللّه علی عمل فعمله التماسا لذلک الثواب اوتیه»(1) أنّه کان من باب التفضیل ، أی لا یخیبه اللّه فی رجائه ، حیث قد أتی طمعا بذلک الثواب ، وأما صیرورة العمل بذلک البلوغ محبوبا واقعا ، فیصیر مستحبا شرعیا فغیر معلوم ، بل دعوی عدم استفادة المرغوبیة بین ذلک التعبیر ، بحیث یرغب الناس فی الإتیان بالعمل إذا صارت الحال کذلک فغیر بعیدة ، إلاّ أن یستظهر ذلک من جهة أنّه إذا کان اللّه عز وجل کریما علی الإطلاق ، حتی أنّه یعطی عبادة الثواب بهذه الصورة ، کان من مناسبة الحکم والموضوع من حسن تحصیل الثواب والحسنات ، أنّ للعباد أن یحصلوا ولو کان کذلک ، فله وجه جید لا یخلو من لطافة . بل قد یمکن أن یدعی ان المقصود من الاستحباب فی کلام صاحب «الجواهر» و«المصباح» أیضا هو المحبوبیة بما قد ذکرنا ، حیث أنّ صاحب «المدارک» قدس سره أیضا لعله لا یمنع عن ذلک المقدار ، ولذا صرح صاحب «المصباح» بعد ترتب الآثار المترتبة علی العنوان المخصوص ، فلیس هذا إلاّ لما مرّ ذکره . إلاّ أنّه خلاف ظاهر کلام «المصباح» بحسب ما أورده من الکلام ، واللّه الهادی إلی سواء السبیل .

المسألة الثانیة : لا یخفی علیک أنّ الغایات المترتبة علی الوضوء قد تکون کلها واجبة ، وقد تکون کلها مندوبة ، وقد تکون مرکبة منها .

ثمّ فی مقام القصد أیضا ینقسم إلی ثلاثة أقسام :


1- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات الحدیث 7 .

ص:23

فتارة : یقصد تمام الغایات المتعددة المتحدة وصفا من حیث الوجوب .

واُخری : مثلها من حیث الندب .

وثالثة : مختلفة منها .

وهذا کله إذا فرضنا تعدد الغایات لا وحدتها ، وإلاّ تکون الأقسام أزید من ذلک .

ولا إشکال فی صحّة الوضوء والإتیان به لکل غایة واجبة ، إذا قصدها ولو لم تکن تلک الغایة بالخصوص مقصودة ، بل قصد غایة اُخری واجبة ، نعم لو أراد تحصیل الثواب المخصوص المربوط بغایة خاصة ، فلا یحصل علیه إلاّ أن یقصد بها بخصوصها ، لأن الثواب من أثر الامتثال ، ولا امتثال للأمر إلاّ أن یقصد الأمر المتعلق لتلک الغایة المترشح منه إلی مقدمته ، وهو الوضوء علی الوجوب المقدمی الغیری إن قلنا بوجوبها ، أو تعلق نفس الأمر بأمر شرعی غیری للوضوء ، حتی یکون واجبا للغیر إن لم نقل بوجوب المقدّمة ، وسلّمنا تعلق الأمر بخصوصه ، وإلاّ یکون واجبا غیریا عقلیا لا شرعیا کما عرفت احتماله .

وکیف کان ، فلا إشکال فی صحته لکل غایة واجبة فی الفرض المزبور ، لکونه امتثالاً منبعثا عن الأمر الوجودی ، وإنْ کان متعلقا بفرد آخر غیر ما قصده ، کما هو کذلک أیضا فی الغایات المتعددة المندوبة ، لما عرفت من الوجه مضافا إلی وجود الأولویة القطعیة ، بمعنی أنّه إذا فرضنا الصحّة والامتثال فی الأمر الوجوبی مع شدة الاهتمام به ، ففی الأمر الندبی یکون بطریق أولی ، وهو واضح .

وبقی الإشکال فیما لو تفاوتت الغایة المترتبة من الوجوب والندب ، مثلاً لو ترتبت فی الوضوء غایة واجبة کالصلاة الیومیة ، وغایة مندوبة کصلاة النافلة ، فقد یکون المکلف فی مقام الامتثال ویقصد کلتا الجهتین ، أی الغایة الواجبة والمندوبة ، فحینئذٍ لا إشکال فی صحّة الوضوء والإتیان به لصلاة واجبة ومندوبة .

ولکن یبقی سؤال وهو هل یمکن الجمع بین الأمرین المتفاوتین من الوجوب

ص:24

والندب ، أو لیس هنا إلاّ أمر وجوبی لعدم مورد للندبی عند وجود أمر وجوبی ، کما ادعاهُ بعض ؟

وآخر یقصد خصوص غایة واجبة ولکن رتب علی الوضوء جهة مندوبة ، بلا ترتب أثر للوجوب ، وأتی بنافلة ابتداء بلا نظر إلی إتیان الفریضة .

وثالثا : یکون عکس ذلک ، بأن قصد الغایة المندوبة فأتی بالفریضة بلا توجه للنافلة ، فهل یصح مثل ذلک الوضوء ؟

والسؤال فی هذا المورد ، خصوصا فی الاخیر یکون عن أمرین :

أحدها : ما عرفت من صحّة وجود الأمر الندبی مع وجود الأمر الوجوبی ، أو لا یمکن تأثیره وتحققه مع أمر وجوبی .

ثانیها : علی فرض تسلیم وجوده ، أو إمکان تأثیره ولو بملاکه ، فهل یصح الوضوء حتی لاتیان الفریضة ، ولو لم یقصد الغایة الواجبة منه ، لوجود أصل المحبوبیة فی ذلک ، ولو فی ضمن الأمر الندبی ، أم لابدّ من قصد الغایة الواجبة فی صحّة الإتیان بالفریضة ؟ فی «الجواهر» أن الاقوال ستة :

قول : صحّة الوضوء مطلقا ، ویجوز الإتیان بالفریضة فی الفرض المذکور ، وقد نسب إلی المحقّق أنّه مال إلیه ، بل عن بعض أنّه الظاهر من الأصحاب ، کما ادعی علیه الإجماع من آخر .

قول فی مقابله : وهو عدم ارتفاع الحدث به مطلقا ، کما نُقل ذلک عن الشیخ الطوسی قدس سره فی جواب المسائل الحلبیات .

قول : بصحته أیضا ، إلاّ إذا نوی الوضوء مطلقا ، أی بلا نظر إلی غایته أصلاً ، فحینئذ لا یصح هذا کما فی «المنتهی» .

قول : بصحته لما یستحب له الوضوء لا لأجل الطهارة کقرائة القرآن ، بخلاف ما استحب لا للطهارة عن الحدث بل لتحصیل الکمال کالتجدیدی ، کما علیه

ص:25

العلاّمة فی «التذکرة» .

قول : بصحته ان کان استحبابه للحدث ، وکان من قصده الکمال ، فلو أتی لا لرفع الحدث کالتجدیدی ، أو أتی بقصد رفع الحدث ، ولکن لم یقصد الکمال فلا ، هذا کما علیه العلاّمة فی «النهایة» .

قول : بالصحة فی الصلاتین ، وهما ما لو أتی بالوضوء لما یکون الطهارة مکملة له ، أو قصد الکون علی الطهارة ، وإلاّ فلا یصح ، هذا کما علیه الشهید فی «الذکری» .

ونحن نزید علیها قولاً سابعا : وهو التفصیل بین ما لو أتی بذلک بنحو الخطأ فی التطبیق ، أو مع العمد حتی مالو قصد غایة مخصوصة مندوبة دون اُخری واجبة ، وأتی بواجب لم یقصد غایته أصلاً ، إذا لم یقیده بأنه لو کان أمر الواجب موجودا لم یأت به فیصح ، وبین صورة التقیید بما قد عرفت تفسیره ، فلا یصح هذا ، کما علیه السیّد فی «العروة» والحکیم فی «تعلیقته» علیها ، و«مصباح الهدی» فی هذه المسألة ، وهی مالو أتی بالوضوء التجدیدی ، بزعم أن له الأمر الندبی بذلک ، فظهر محدثا بالاصغر وکان الوضوء علیه واجبا .

ولکن الأقوی عندنا هو الصحّة عن کل فرض من الفروض ، حتی فی صورة التقیید ، ان فرضنا تحقّق قصد القربة منه له فی ذلک ، وکان الوضوء رافعا للحدث ، إنْ کان محدثا . فلا بأس بذکر تحقیقه حتی یتضح الحال بتأیید من اللّه العزیز المتعال ، فنقول :

لا یذهب علیک أنّ المتوضی ء فی الواقع تارة قد یکون محدثا وملتفتا إلیه ، واخری لا یکون کذلک .

فعلی الأوّل : لا إشکال فی أن الشارع جعل هذا العمل _ أی الغسلتان والمسحتان مع قصد القربة ولو بملاک محبوبیته الذاتیة لو قیل بها _ موجبا لرفع

ص:26

الحدث ، ولو لم یکن من الأمر المخصوص المتوجه إلی العمل ، کما یشیر إلیه فی الخبر المروی عن الفضل بن شاذان کما فی «علل الشرایع» ، و «عیون الأخبار» علی ما نقله صاحب «وسائل الشیعة» عن الرضا علیه السلام قال : «إنّما أمر بالوضوء وبدی ء به لأنْ یکون العبد ظاهرا إذا قام بین یدی الجبار عند مناجاته إیّاه مطیعا له فیما أمره نقیا من الأدناس والنجاسة» الحدیث(1) .

من حیث أنّ الوضوء إذا تحقّق ، یکون رافعا للحدث والنجاسة المعنویة بأیّ موجب وغایة حصل ، فلو نوی إحدی الموجبات معینا من المندوبات یحصل منه رفع الحدث لو کان ، فاذا ارتفع یصح منه الدخول فی الصلاة ، کما أنّه لو نوی أصل رفع الحدث من مجموع موجباته ، فهو أیضا یکفی فی رفعه وتحقّق الطهارة ، ویصح له الدخول فیها ، لوضوح أنّه لا یتعدّد الحدث بتعدد موجباته ، بل إذا تحقّق بأحد الأسباب تدریجا أو بمجموعها إذا تحقّقت دفعة واحدة _ لعدم تعقل تأثیر کلّ سبب مستقلاًّ فی تحقّقه ، بل لابدّ أن یکون المؤثّر فیه أمرا وحدانیا وهو الجامع بین الأسباب ، کما هو کذلک فی أسباب حصول القتل ، إذا فرضنا قابلیة کل سبب للتأثیر مستقلاً _ فیرتفع باتیان الوضوء المطلوب بأی غایة حصل .

کما أنّ التحقیق المطابق للحق هو عدم لزوم النیة لرفع الحدث فی حصول الرفع ، بل یکفی فی تحققه وجود الغسلتین والمسحتین مع قصد القربة ، فبعد وضوح هاتین المقدمتین ، فلا مانع فی البین عن صحّة هذا الوضوء ، وجواز الدخول به فی الصلاة ولو کانت فریضة ، إلاّ توهم أنّه إذا لم یقصد الأمر المتوجه إلی الصلاة ، الموجب لوجوب الوضوء بوجوب غیری _ علی حسب الاحتمالات المذکورة فی محلها ، مع فرض وجود هذا الأمر والجهة اللزومیة


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 9 .

ص:27

بسبب الملاک فی الواقع _ فکیف یصح الإتیان بالفریضة ؟

قلنا : إنّ قصد امتثال الأمر والتوجه ، إنّما یعتبر فی حصول الثواب من هذا الطریق ، أی لو لم یقصده لم یحصل امتثال ذلک بالخصوص وما لم یتحقّق الامتثال لم یستحق المثوبة من تلک الناحیة ، وان حصل له الثواب والامتثال من قصد الأمر الندبی وملاکه المفروض وجوده هنا .

فبلغ أوان أن یقال : کیف یمکن الجمع بین الملاکین ؟ فهل یصح أن تکون جهة وجوب الوضوء وجهة ندبه مجتمعتین فی محل واحد ، مع أنّ بین الاحکام بعضها مع البعض نسبة التضاد کما قیل ، فکیف یمکن الاجتماع ؟ فلابد حینئذ من الالتزام بوجود احدی الجهتین ، وحیث کان المتحقق فی عالم القصد هو الندب دون الوجوب ، فلا وجه لبقاء وجود ملاک الوجوب والحکم بصحته .

اللهم إلاّ أن یقال : بأن المورد من قبیل موارد اجتماع الأمر والنهی من جهة تعدد العنوان ، وقلنا بکفایة تعدد الجهة فی رفع مجذور التضاد ، وقلنا فی ذلک بامکان الاجتماع وجواز ذلک ، کما هو الظاهر المستفاد من السیّد قدس سره فی «العروة» فی تلک المسألة . ولکن الذی یقوی فی النفس ، کما علیه الحکیم قدس سره فی «المستمسک» والآملی فی «مصباح الهدی» هو عدم وجود التضاد بین الوجوب والاستحباب ، وإمکان اجتماع ملاکهما ، لأنّ الوجوب لیس إلاّ طلب للفعل مع المنع من الترک ، المنتزع من الطلب الشدید ، والندب هو هذا الطلب للفعل مع جواز ترکه من ناحیة ، فجهة الاقتضاء فی کل منهما هی الطلب ، وبینهما کمال الملائمة ، ولا تنافی بین ذلک أصلاً ، وأما الفصل هو المنع من الترک فی الوجوب وجواز الترک من طرف الندب ، فهو أیضا مما لا یزاحم بینهما ، لان المنع من الترک له اقتضاء من ناحیته حیث أنّه یمنع عن ترکه ویحکم علی تارکه باستحقاق العقاب عند ذلک من جهة ملاک وجوبه . بخلاف جواز الترک من ناحیة

ص:28

الاستحباب ، حیث أنّه لا اقتضاء له بأن یحکم بالترک ، بل یکون مفاده الترخیص وعدم المنع من ناحیة نفسه ، وهذا لا ینافی ممنوعیته من جهة عروض عارض آخر ، وهو الوجوب فی المقام ، کما هو کذلک لو کانت تلک الغایة المندوبة متعلقا للنذر والعهد ، حیث أنّه یصیر حینئذ واجبا ولا یجوز ترکه ، ولکنه لا مانع من أن یکون بنفسه مستحبا . بل زعم بعض المحققین وهو آیة اللّه الخمینی _ کما هو الحق عندنا أیضا _ : أنّه لا یتحقّق الامتثال بالامر الوجوبی للنذر إلاّ أن ینوی فی الوضوء فی الفرض المزبور ، ماهو المتعلق للامر الندبی الذی وقع موردا للوفاء بالنذر ، ولیس هذا إلاّ من جهة وجود ملاک الاستحباب فیه ، وهکذا یکون فی المقام .

فعلی ما ذکرنا یصح القول باجتماع الملاکین هاهنا ، ولو قلنا فی بحث اجتماع الأمر والنهی بالامتناع ، وعدم کفایة تعدد الجهة فی رفع الاستحالة .

وان أبیت عن التحقیق الذی ذکرناه هناک ، ذکرنا فی المقام وسلمنا وجود التضاد بین الوجوب والاستحباب ، واستحالة اجتماعهما فی مورد واحد ، فهل یکفی فی رفع استحالته هنا وجود تعدد الجهة والعنوان _ کما قیل بذلک فی مثل الصلاة والغصب _ حتی یرتفع المحذور فی المقام بذلک ، أم لا یکفی فیما نحن فیه ، وان کان صحیحا فی مثل المثال ؟

والحق هو الثانی ، لوضوح الفرق بین الممثل والممثل به ، اذ قد تعلق کل حکم بعنوان نفسه بلا توجه إلی الآخر ، غایة الأمر أنّه قد اضطر المکلف فی مقام الامتثال فی حصول الاتحاد فی الخارج بین العنوانین ، مثل : صل ولا تغصب ، فوقع المکلف فی مورد قد تنجّز علیه التکلیف المتعلق بالعنوانین ، فحینئذ قد یمکن أن یقال بأنه ترتفع الاستحالة بینهما من جهة کفایة تعدد الجهة فی رفع التضاد بینهما .

هذا بخلاف المقام ، اذ متعلق العنوانین من الوجوب والاستحباب یکون فی

ص:29

موضوع واحد ، وهو الوضوء ، کأن یقول : «توضأ لقراءة القرآن وتوضأ لصلاة الفریضة» ، حیثُ یکون مرکز الأمرین فی کلا الموردین هو الوضوء ، فعلی فرض التضاد بین الحکمین یوجب هاهنا استحالة اجتماع الضدین فی محل واحد .

نعم یمکن أن یفرض فی المقام ما یوجب رفع الاستحالة بتعدد الجهة ، فیما إذا فرض تعلق النذر بالوضوء الندبی ، کالوضوء لتلاوة القرآن إذا وقع محلاً للنذر ، فمثله حینئذ کمثل الصلاة والغصب ، فیأتی فیه ما یأتی فی الممثل به . ولکن نحن قد استرحنا من ذلک بالتحقیق الذی ذکرنا .

فتبین من جمیع ما ذکرنا اُمور :

الأوّل : _ صحّة الوضوء الذی قصد غایته المندوبة للدخول فیما شرطه الطهارة ، سواء کان المشروط بها أمرا واجبا کصلاة الفریضة ، أو مندوبا کالنافلة ، أو أتی بذلک الوضوء بأمرٍ کان کماله مشروطا بالوضوء کما فی تلاوة القرآن ودخول المساجد ، حیث یتحقّق ذلک الکمال ، ولو کان قد قصد فی الوضوء غیرهما من الأمور المندوبة ، لأن الغرض حصول الطهارة بذلک ، فعند تلاوة القرآن ودخول المسجد یکون هو متطهرا وحاصلاً للطهارة ، فما نحن فیه لا یکون فاقدا لشیء من رفع الحدث وقصد القربة المعتبرین فی الوضوء ، حتی یحکم بعدم جواز الدخول به فی الفریضة .

الثانی : _ ان تحصیل الثواب من کل أمر موقوف علی صدق امتثال ذلک الأمر ، فعلیه ، یلزم أن یکون الثواب مترتبا علی الغایات التی قد قصدها ، بلا فرق بین غایة الوجوب أو الندب ، کما قد عرفت وجهه فلا نعید .

الثالث : _ ان رفع الحدث لا یحتاج إلی نیة بخصوصه ، بل یتحقّق ولو لم یکن ملتفتا إلیه ، سواء کان موجب الحدث متحدا أو متعددا ، کما أن تعدد موجباته لا یوجب تعدد الحدث ، بل کان التعدد فیه عند حصول صورة التدریجی بلا أثر ،

ص:30

ویکون الحدث متحققا بأول وجود من موجبه وغیره یکحون موجبا تقدیریا أی لو کان متطهرا لکان موجبا لا فعلیا ، وإن کان حصول المتعدد دفعیا ، فالموجب حقیقة هو الجامع فیهما کما قد عرفت فلا نعید .

الرابع : _ قد عرفت إمکان تحقیق الملاکین ووجودهما من الوجوب والندب هاهنا ، ولو لم نقل بامکان ذلک فی اجتماع الأمر والنهی من حیث کونه ممتنعا ، ولم نقل بکفایة تعدد الجهة فی رفع الاستحالة ، لما قد عرفت من عدم وجود التضاد بین الوجوب والاستحباب من جهة الطلب وقیده بما لا نعیده .

وقد عرفت أیضا أنّه لو لم نسلّم ذلک ، فلا یکون المورد من قبیل اجتماع الأمر والنهی ، حتی یکفی تعدد الجهة فی رفع الاستحالة وهذا هو الذی ذهب إلیه الحکیم قدس سره فی «المستمسک» والآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» ، خلافا للسید قدس سره فی «العروة» ، بل قد یستظهر من صاحب «الجواهر» قدس سره أیضا ما ذکرناه ، وإن کان یحتمل اختیاره لما اختاره السیّد من إمکان اجتماع جهة الوجوب والاستحباب .

ونحن نزید فی ذلک ونقول : بل یمکن أن یحکم بالصحة بناءاً علی ما حققناه ، حتی فی الصورة التی فرضت بأن کن الموجب لاتیان الوضوء غایته المندوبة ، ولکن کان علی نحو التقیید ، بحیث لو توجه أن المورد کان من مصادیق موجبات الوجوب لم یأت بهذا الوضوء فعلاً ، لما قد عرف من حصول رفع الحدث بذلک ، ووجود قصد القربة کما علیه الفقیه الهمدانی قدس سره فی «المصباح» .

ولکن الأحوط فی هذه الصورة عدم الاکتفاء بذلک ، لوجود الشبهة من جهة قصد القربة ، إذ المفروض أنّه یقصد التقرب إلی اللّه عند فرضٍ دون غیره ، ولعله لذلک قد أفتی السیّد قدس سره وتبعه الحکیم والآملی بعدم الصحّة ، فتأمل .

فی الاستحباب النفسی للوضوء و عدمه

فظهر مما ذکرنا حکم صورة عدم الالتفات _ وهو القسم الثانی _ أی من لم یکن متوجها بکونه محدثا ، بل زعم خلافه من صحّة الدخول فی الفریضة حتی

ص:31

بذلک الوضوء الذی لم یقصد به حین العمل رفع الحدث ، مثل الوضوء التجدیدی ، والوضوء المجامع للحدث الأکبر ، والوضوء للقیء والرعاف ، إذا ظهر بعد الوضوء فساد الوضوء الذی کان قبله ، وبان له أنّه کان محدثا بالحدث الأصغر ، لان المفروض تحقّق رفع الحدث بذلک ، لعدم إمکان اجتماعهما ، لما قد حققناه بأن تقابلهما أما علی نحو تقابل الإیجاب والسلب فیکونان متناقضین ، أو تقابل التضاد فیکونان متضادین ، فالقول بعدم تحقّق الوضوء مع إیجاد أفعاله مع النیة خارجا واضح الفساد . کما أنّ القول بوجود الحدث بعد الوضوء أفسد ، ولذا لم یقل أحدٌ بعدم جواز مس کتابة القرآن ، وإتیان الصلاة المندوبة مع هذا الوضوء ، مع أنّه لا خلاف فی کونهما مشروطین بالطهارة أیضا ، وإن لم تحصل الطهارة به ، فلم یجوز المس ، فاذا حصلت الطهارة فیجوز الدخول فی الفریضة أیضا ، إذ لا فرق بین الفریضة وغیرها من حیث شرطیة الطهارة ، مضافا إلی إمکان الاستظهار لذلک من حدیث الجعفریات : «قال : أخبرنا محمّد ، حدّثنی موسی ، حدّثنا أبی ، عن أبیه ، عن جدّه جعفر بن محمّد ، عن أبیه ، عن جدّه : أنّ علی بن أبی طالب کان یتوضأ لکلّ صلاة ویقرأ «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» . . . الآیة»(1) . ومثله حدیث القطب الراوندی قدس سره (2) .

توضیح ذلک : أنّه یظهر من هاتین الروایتین محبوبیة الوضوء لکلّ صلاة ، فاذا توضأ للصلاة بتخیل کونه متوضا أولاً فبان الخلاف فلا إشکال فی صحّته ، لأنّه علی کل حال أوقع الوضوء وأوجده لاتیان الصلاة غایة الأمر أن الفرق ببینهما أنّه لو کان ملتفتا بعدم کونه متوضأ أتی به للصلاة وجوبا ، إن کانت واجبة ومندوبا إن


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب أحکام الوضوء، الحدیث 1 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب أحکام الوضوء الحدیث 4 .

ص:32

کانت مندوبة ، وحیث کان غیر متلفت فیأتی بالوضوء للصلاة أیضا مندوبة من جهة امتثال الأمر التجدیدی ، فهو أیضا للصلاة ، فلم لا یصح ؟ فاذا فرض صحّة الدخول فی الفرض المذکور بالخصوص _ أی ما أتی به للصلاة بذلک الاستدلال _ فیتم فی غیر الفرض المذکور ، وهو کما إذا توضأ لا لخصوص الصلاة بل للکون علی الطهارة مثلاً ، بعد القول بالفصل ، یعنی کل من قال بالکفایة فی الأوّل یقول بها فی الثانی ، ومن لم یذهب إلی الکفایة فی الثانی لم یذهب إلیها فی الأوّل أیضا ، ولم نشاهد من أحد التفصیل بین الفرضین .

فثبت من ذلک کله إمکان الاکتفاء بذلک الوضوء حتی للفریضة أیضا ، کما لا یخفی ، وهکذا یکون فی غیر التحدیدی من الضوءات التی أتی بها لغیر الطهارة .

وأما ما استدل به فی «الجواهر» بما دل علی کون الوضوء التجدیدی کان لجبران الخلل فی الوضوء الأوّل ، فله وجهٌ وجیه ، ولکن لم نجد فی الخبر ما یشیر إلی ذلک أصلاً ، حتی یستدل به علی المطلب بکون مشروعیته لذلک . فراجع وتتبع لعلک تجد ما لم نجد ، وقد قیل إنّ عدم الوجد أن لا یدل علی عدم الوجود ، واللّه یهدی من یشاء إلی سبیل الرشاد .

المسألة الثالثة : لا یخفی علیک وقوع الخلاف بین الفقهاء فی أنّ الوضوء هل هو مستحبٌ بنفسه وبذاته أو لا ؟ کما وقع الخلاف فی تفسیره أیضا ، لأنّه قد یفسر بالوضوء المستحبی علی الوضوء للکون علی الطهارة ، وآخر یفسره بما کان نفس الفعل وهما الغسلتان والمسحتان راجحا بذاته بلا توجه إلی الکون علی الطهارة أو غیره من الغایات .

ولکن الحق _ وفاقا لأهل التحقیق ، بل قد ادّعی علیه الإجماع ، کما عن الطباطبائی ، بل ولا خلاف فیه کما فی «کشف اللثام» _ هو کون الوضوء بالمعنی الأوّل مستحبا قطعا ، إمّا من جهة کونه احدی الغایات _ کما ادُّعی _ أو کونه من

ص:33

آثار الوضوء بالمعنی الثانی ، وکیف کان فلابد أن یتوجه الإشکال إلی المعنی الثانی منهما ، فحینئذ یقال : هل الوضوء بنفسه راجحٌ مع قطع النظر عن قصد الکون علی الطهارة _ کما علیه السیّد قدس سره فی «العروة» من عدم الاستبعاد ، والحکیم وغیرهما _ أو غیر راجح ، بل قد یدعی حرمته وبطلانه کما یظهر من الشیخ الانصاری قدس سره والآملی وغیرهما کما یشیر إلیه ظاهر کلام الفاضلین والشهید فی «الذکری» بقولهم : «لو نوی الُمحْدِث بالأصغر وضوءا مطلقا مقابلاً للوضوء للغایات حتی الکون علی الطهارة کان باطلاً» . حیث فهم منه الشیخ کون المراد بنفسه راجحا ، بلا ملاحظة غایة من الغایات ، ولذا حکم بالبطلان وأنّه حرام لکونه تشریعا .

وقد تمسک کل فریق لاثبات مرامه بوجوهٍ ، لا بأس بالتعرض لها ، وبیان ما هو الواصل إلیه نظرنا القاصر ، واللّه هو المعین ، فنقول :

استدل للاول بعدة أخبار : مثل الحدیث القدسی الذی رواه الدیلمی قدس سره فی «الارشاد» : «من أحدث ولم یتوضا فقد جفانی» . ومثل المرسلة المرویة فی «الفقیه» بقوله : «الوضوء علی الوضوء نور علی نور»(1) . ومکاتبة أمیر المؤمنین علیه السلام لمحمد بن أبی بکر لمّا ولاّه مصر : «الوضوء نصف الإیمان»(2) . وقول الصادق علیه السلام فی خبر السکونی : «الوضوء شطر الإیمان»(3) . ومثل قوله علیه السلام فی حدیث سعد : «إنّ الوضوء بعد الطهور عشر حسنات»(4) .

حیث یفهم من مجموع هذه الأخبار کون نفس الوضوء مطلوبا ومرغوبا ، لا


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الوضوء، الحدیث 8 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب أحکام الوضوء الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الوضوء ،الحدیث 3 .

ص:34

للکون علی الطهارة ، ولیس الوضوء إلاّ الغسلتان والمسحتان ، فهو المطلوب .

وأجاب القائلون بالقول الثانی : بأن المراد من الوضوء فی هذه الأخبار هو مامعناه الکون علی الطهارة ، ولذلک تری هذه الأخبار مذیلة بذیل یکون قرینة علی کون المراد من الصدر هو الطهارة ، لما تری من تذییل الخبر الأوّل : بأنه لو توضأ ولم یغسل فقد جفانی ، حیث یدلی علی أنّ المطلوب هو رفع الحدث ، وتحصیل الطهارة ، لا نفس العمل ، وهکذا ذیل الخبر الثانی : حیث کان فی «تطهّروا» ، الظاهر کون هو المراد من الصدر .

مضافا من الانصراف إلی الکون علی الطهارة من الأخبار المطلقة ، فیحمل علیه کما أطلق ، وهو واضح . هذا فضلاً عن إمکان الاستدلال لذلک بالتعلیل الوارد من ثامن الأئمّة علیهم السلام فی خبر «العلل»(1) بقوله : «وإنّما أمر بالوضوء وبدء به لأن یکون العبد طاهرا إذا قام بین یدی الجبار» ، حیث یفهم منه کون تمام المقصود هو الکون علی الطهارة ، لا نفس العمل ، کما لا یخفی .

بل قد استدل لذلک بقوله تعالی : «إنّ اللّه یحبُ التَّوابینَ وَیُحبُّ المُتَطهرین»(2)، وبقوله تعالی : «فیه رجالٌ یُحبُّونء أن یَتَطهروا وَاللّه ُ یُحبُّ المُتَطهرین»(3) .

ولکن یمکن الخدشة فیهما ، بأن ظاهر التطهیر فی الآیتین هو الطهارة من الذنوب والرذائل النفسانیة ، وذلک بمناسبة الحکم والموضوع ، کما یفهم ذلک من تصدر ما بالتوابین فی الأولی ، والمحبة للطهارة باکتساب الفضائل فی الثانیة .

اللهم إلاّ أن یقال : إنّ انطباق الکبری علی بعض الأفراد لا یوجب الانحصار ،


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 9 .
2- سورة البقرة : آیة 222 .
3- سورة التوبة : آیة 107 .

ص:35

فکأنّ الآیة فی صدد بیان أنّ اللّه تعالی کما یُحبُّ التوابین یحب المتطهرین بأی نوع من الطهارة ، فیشمل بإطلاقه جمیع أفرادها من الطهارة الحدثیة والخبثیة والصفات الرذیلة النفسانیة ، فعلی ذلک یتمّ الاستدلال ، فتکون الآیتان جاریتان مجری التعلیل ، فکأنه جواب عن السؤال : بأنّ طلب الطهارة وإظهار المحبّة لها هل هو ممدوح أم لا ؟ فیجاب نعم ، لأنّ اللّه تعالی یحبّ المتطهِّرین ، فإطلاقه شامل لجمیع أفرادها .

کما یؤیّد ذلک الأخبار الدالّة علی استحباب التسمیة فی الوضوء وهی : «بسم اللّه وباللّه اللّهم اجعلنی مِنَ التوابین واجْعلنی من المتطهِّرین» .

بل قد استدل أیضا للقول الثانی بما ورد فی «أمالی الصدوق» قدس سره عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «یا أنس أکثر من الطهور یزد اللّه فی عمرک ، وإنْ استطعتَ أن تکون باللیل والنهار علی طهارة فافعل ، فإنّک إذا مت علی طهارة مت شهیدا»(1).

فحینئذ لا یبعد إمکان الاستدال بما عن «النوادر» للراوندی عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «کان أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله إذا باتوا توضؤا أو تیمّموا ، مخافة أن تدرکهم الساعة _ أی ساعة الموت _ فیفوتهم ثواب الشهادة من جهة فقد الطهارة» ، حیث یفهم منه مطلوبیة أصل الطهارة ، کما لا یخفی .

والإنصاف أن یقال : إنّه إنْ فرضنا بأنّ الوضوء بذاته رافع للحدث ومحصل للطهارة ، ولا یحتاج رفع الحدث الحاصل منه إلی القصد کما هو الحقّ الموافق للتحقیق ، فحینئذ لا یمکن التفکیک بین الغسلتین والمسحتین فی الخارج مع قصد القربة ، ووجود الطهارة برفع الحدث ، فیکون ذلک من الأسباب التولیدیة


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الوضوء، الحدیث 3 .

ص:36

القهریة ، سواء کان ملتفتا إلی حصول أثره أم لا .

وحیث کان الأمر کذلک فلا یبعد أن یقال إنّ المطلوب الأولی للشارع هو حصول الطهارة للعبد ، کما تری حسن الاستدلال لذلک فی کلام الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام ، إلاّ إنّه لما کان ذلک أثر اللزوم وغیر المنفک عن الغسلتین والمسحتین مع قصد القربة لذا قد یعبر فی الأخبار بما یدلّ علی حسن التوضئ وذلک لقوله علیه السلام : «الوضوء نور علی نور وهو شطر الإیمان أو نصف الإیمان» . فلهذا لا یبعد دعوی محبوبیة العمل من جهة محبوبیة حصول الطهارة ، من باب محبوبیّة المقدّمة بواسطة ذیها ، فلا یمکن فرض حصول العمل مع قصد القربة ، ولا یحصل معه الطهارة ، حتی یقال إنّه مضافا إلی عدم کونه مستحبّا کان حراما تشریعیا کما فی کلام الشیخ الأنصاری قدس سره .

وجوب الغُسل نفسی أم غیری؟

فثبت من ذلک أنّ العمل مستحبٌ أی محبوب بواسطة محبوبیّة الأثر المترتب علیه وغیر المنفّک عنه ، وهو الطهارة ، فحینئذٍ ینتج صحّة ما قاله الحکیم قدس سره أنّه لو أتی بالوضوء غافلاً عن قصد الکون علی الطهارة بداعی محبوبیة العمل کان ومستحبا ، ولعله هو مراد صاحب «مصباح الفقیه» فالاستحباب للوضوء بذلک المعنی أمرٌ مقبول ووجیه .

نعم ، یشکل ذلک لمن زعم : أنّ رفع الحدث لا یتحقّق إلاّ بالنیّة ، لأنّه حینئذ إن لم یقصد من العمل الکون علی الطهارة ، لم یتحقّق رفع الحدث ، فاستحباب نفس العمل حینئذٍ لا وجه له ، لأنّ المفروض عدم ترتب أثر علی العمل خارجا ، واستفاد محبوبیة نفس الغسلتین والمسحتین مع قصد القربة ، ولو مع عدم ترتّب أثر علیه من تلک الأخبار ، مشکل جدّا .

ص:37

والواجب من الغسل ما کان لأحد الأمور الثلاثة ، أو لدخول المساجد أو لقراءة العزائم إنْ وجبا (1).

(1) لا یخفی أنّ الظاهر من کلام المصنّف _ کما علیه عددٌ من الفقهاء کما عن الحلّی والمحقّق والکرکی ، والشهیدین بل أکثر المتأخرین ، کما فی «جامع المقاصد» بل هو المشهور مطلقا کما فی «الحدائق» _ کون وجوب الغَسل من الجنابة والحیض والنفاس وغیرها غیریا لا نفسیا ، خلافا لعدد آخر من الفقهاء ، حیث ذهبوا إلی الوجوب النفسی ، کما نسب ذلک لابن شهر آشوب ، وابن حمزة فی «الوسیلة» والعلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» و«المختلف» والراوندی والأردبیلی ، وصاحب «المدارک» و«الذخیرة» و«الکفایة» وغیرهم .

نعم قد نسب التوقّف فی ذلک أیضا إلی المحقّق المذکور فی مبحث الغسل ، کما فی «مفتاح الکرامة» و«القواعد» و«التذکرة» و«النهایة» للعلاّمة ، بل هو ظاهر الأردبیلی فی «آیات الأحکام» ، ومولانا المجلسی علی ما نقل عنه ، فصارت الأقوال حینئذٍ ثلاثة ، فلا بأس بالاشارة إلی وجوه التی استدلّ بها کل قوم ولو بما یمکن الاستشهاد لهم ، وإن لم یتمسکوا به ولم یشیروا إلیه ، وثمّ نسوق البحث إلی کلّ غسل مستقلاً ، حتّی ینظهر فی أدلته فی الجملة ، وإن کان یمکن أن نوکل بعض مباحثها إلی المحلّ المناسب لکلّ غسل ، فنقول وباللّه الاستعانة :

أمّا غُسل الجنابة : فقد تمسّک واستدلّ أو یمکن أن یستدلّ لوجوبه النفسی بأمور :

الأوّل : بالآیة وهی قوله تعالی : «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُم . . .

ص:38

وإن کنتم جُنُبا فاطَّهروا»(1) بکون الواو للاستئناف ، فصارت جملة مستقلّة ، أو عاطفة عطفا علی جملة شرطیة «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة» ، فحینئذ تدلّ علی وجوب تحصیل الطهارة عند حصول الجنابة ، سواء ترتبت علیه غایة من الغایات الواجبة أو لا .

هذا ، ولکنه مخدوش أولاً : بأنّ التصدیر بقوله تعالی : «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة» یفهم منه العرف أنّ تحصیل الطهارة کان لأجل الصلاة ، کما أنّ ذیلها أیضا الذی کان مربوطا بالتیمم متعلق بکلا الأمرین من الضوء والغسل ، ولا إشکال فی کون الوضوء للصلاة وکذلک یکون الغسل والتیمّم ، لوحدة السیاق ، لوضوح عدم المتانة فی جعل الجملة المعترضة المستقلّة للغسل فی وسط الآیة بین الضوء والتیمّم المفروض کونهما متعلِّقین للصلاة فتکون قوله : «وإنْ کُنتم»عطفا علی «فَاغْسِلوا» لا علی قوله «إذا قُمتم»حتی لا تدل علی المطلوب ، خلافا لصاحب «مستند الشیعة» حیث ذکر الاحتمالین ولم یعیّن أحدهما ، فراجع .

فحینئذ لو لم نقل بدلالة الآیة علی الوجوب الغیری الشرطی للغسل ، کما هو الظاهر ، غایته دلالتها علی أصل الشرطیة ، بأنّ الصلاة شرطها هو الطهارة من الجنابة أیضا ، فیکون ساکتا عن حکم نفس الغسل من الوجوب والاستحباب ، بل یکون فی ذلک تابعا لحکم الصلاة ، کما قلنا ذلک فی الوضوء أیضا .

لکنّه مخدوشٌ بأنّه لو لم نقل بوحدة السیاق ، وما سیأتی من المؤیّدات علی الوجوب الغیری ، لما کان لذکر دلالته علی بیان الشرطیة وجه ، لأنّها جملة مستقلّة ، وظهور الأمر فی الوجوب النفسی واضح .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا آیة اُخری واردة فی الجنابة ، وهو قوله تعالی : «یا أیّها


1- سورة المائدة : آیة 6 .

ص:39

الّذینَ آمَنُوا لا تَقْربُوا الصَّلاة وأنتُم سُکاری حتّی تَعْلَموا ما تَقُولُون ولا جُنُبا إلاّ عابری سبیل حَتّی تَغْتَسلوا»(1) حیث تکون دلالتها علی کون الجنابة مانعة من الدخول فی الصلاة وشرطها الغسل ، أی باعتبار کون المشی إلی مواضع الصلاة هی المساجد ، أی لا تتوجّهوا مع الجنابة إلی المساجد للصلاة ، إلاّ أنْ تکونوا عابرین أو مجتازین ، هذا هو أحد المعنیین .

والآخر : أن یکون المراد بأنّ الدخول فی الصلاة من شرطها الغسل عن الجنابة ، إلاّ أن یکون مسافرا لا یقدر علی ذلک ، حیث أنّه یتیمّم حینئذٍ فیکون المراد من قوله : «عابری سبیل» أی یکون مسافرا .

وفی «مجمع البیان» أن الأوّل أقوی ، لأن معنی الثانی یوجب التکرار فی ذیل الآیة من بیان حکم التیمّم .

ولکن الظاهر اقوائیة الثانی ، لأنّه لم یتعرض بصدرها حکم وجوب التیمّم ، بل کان متعرّضا لجهة عدم وجوب الغسل فقط ، وأمّا کون وظیفته التیمّم أوّلاً ؟ فهو مستفاد من ذیلها فلا یکون تکرار .

وکیف کان ، فدلالتها علی کون وجوب الغُسل للصلاة واضحة _ کما أنّ الدلالة فی الآیة الاولی کانت أوضح _ فاستفاد الوجوب النفسی من الآیتین _ کما احتمله بعض ویظهر من کلماتهم _ مشکلٌ جدا .

بل قد یؤیّد بما ورد فی ذیل الآیة الواردة فی سورة المائدة وهی قوله تعالی : «ما یُریدُ اللّه َ لِیجْعَلَ علیکم مِنْ حرجٍ ولکن یُرید لیطهِّرکمُ» الآیة ، لوضوح أنّ الحکم بالوجوب النفسی _ حتی بنحو الموسع _ کان أصعب ، خصوصا مع احتماله الفوت بحصول الموت فی کل ساعة ، وهذا بخلاف ما لو کان مستحبا فی


1- سورة النساء : آیة 43 .

ص:40

نفسه وبذاته ویجب لغایة واجبة فهو أسهل بمراتب من الوجوب النفسی .

الثانی : مما استدل به للوجوب النفسی بطوائف من الأخبار :

طائفة منها : تدل علی ذلک ، لما یشمل اطلاف لفظ الواجب أو الوجوب أو الفریضة علی غسل الجنابة ، کما تری ذلک فی مثل ما روی عن أبی الحسن موسی ابن جعفر علیه السلام فی حدیث قال : «غُسل الجنابة فریضة»(1) .

ومثله خبر سماعة عن الصادق علیه السلام : «غسل الجنابة واجب ، وغسل الحائض إذا طهرت واجب ، وغسل المستحاضة واجب . . .»(2) الحدیث .

ومثله حدیث مرسل یونس عن بعض رجاله عن الصادق علیه السلام قال : «الغسل فی سبعة عشر موطنا ، منها الفرض ثلاثة» . فقلت : جُعلتُ فداک ما الفرض منها ؟ قال : «غسل الجنابة ، وغسل من مس میتا ، والغسل للاحرام»(3) حیث دل ظاهر الخبرین علی وجوب الغسل نفسیا لا غیریا ، کما هو واضح .

وطائفة اُخری من الأخبار : ما تمسّکوا بکون الغسل یترتب علی التقاء الختانین ، أو علی الإنزال ، أو علی الدخول أو الجنابة ، وذلک مثل خبر محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال : «سألته متی یجب الغسل علی الرجل والمرأة ؟» فقال : «إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم»(4) . وحدیث ابن بزیع عن الرضا علیه السلام فی حدیثٍ : «متی یجب الغسل ؟ فقال : إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل» الحدیث(5) .


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:41

وخبر عبید اللّه الحلبی قال : «سألت أبا عبداللّه عن المفخذ علیه غسلٌ ؟ قال : نعم إذا أنزل»(1) .

وأمثال ذلک کثیرة فی الأخبار .

وجه الدلالة : أنّه قد علق وجوب الغسل علی هذه الاُمور ، بلا اشارة إلی جهة اخری یکون الغسل شرطا لها ، فظهر أنّ وجوبه نفسی .

وطائفة اخری : هی الأخبار الدالّة علی تغسیل المیّت جُنبا ، بل وجوب نیة غسل الجنابة له أیضا ، لخروج المنی عنه بالموت ، فیفهم من ذلک وجوب الغُسل ولو لم یترتب علیه شیء من الغایات ، کما هو کذلک فی المیّت ، کما فی خبر عبدالرحمن بن حمّاد ، قال : سألت أبا ابراهیم علیه السلام : «عن المیّت لم یُغسَّل غُسل الجنابة فذکر حدیثا فیه : فاذا مات سالت منه النطفة بعینها ، یعنی التی خلق منها ، فمِنْ ثمَّ صار المیّت یُغسّل غُسل الجنابة»(2) .

ونظیر ذلک کثیر فی ذلک الباب ، فلا نذکره خوفا من الاطالة .

وجه الاستدلال : أنّه له لم یکن واجبا نفسیا ، یحکم بتغسیل المیّت ، ولم یکن حکمه إلاّ من جهة ان الجنابة موجبة لوجوب الغسل ، ولو لم یکن الغیر علیه واجبا کما هو کذلک فی المیّت .

بل وخبر عیص ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یموت وهو جنب ؟ قال : یغسل من الجنابة ثمّ یُغسَّل بعد غُسل المیّت»(3) .

وغیره من الأخبار الواردة فی هذا الباب من الحکم باتیان غسل الجنابة ، غایة


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 .

ص:42

الأمر کفایة غسل واحد عن الغسلین من غسل الجنابة وغسل المیّت ، بل یکفی أکثر من ذلک من الحیض والنفاس أیضا ، کما لا یخفی لمن راجع الأخبار .

بل قد یستدل بصحیح عبدالرحمن بن أبی عبداللّه ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام : الرجل یواقع أهله أینام علی ذلک ؟ قال : اللّه یتوفی الأنفس فی منامها ولا یدری ما یطرقه من البلیّة ، إذا فرغ فلیغتسل»(1) الحدیث .

وجه الاستدلال : أنّه لو لم یکن واجبا نفسیا لما یحکم بذلک ، فحیثُ أمر بالغسل خوفا من درک الموت وهو جنبٌ ، یفهم منه الوجوب النفسی .

الثالث : حکم الفقهاء بوجوب إتیان الغسل قبل وقت الواجب الموقت کالصوم ، من أن الواجب الذی هو ذو المقدّمة مالم یدخل الوقت لم یجب ، فکیف یکون وجوب مقدمته وهو الغسل قبله ؟ فلیس هذا إلاّ من جهة کونه واجبا نفسیا . بل قد استدل الحکیم قدس سره بخبر معاذ أیضا حیث سأل الصادق علیه السلام : «بالدین الذی لا یقبل اللّه غیره من العباد ؟ فأجاب علیه السلام وعدّ امورا منها : والغُسل من الجنابة»(2) .

هذه جملة ما استدل بها فی الوجوب النفسی للغسل من الجنابة .

ولکن الانصاف عدم تمامیة شیء منها لاثبات الوجوب النفسی قطعا ، فلابد من الترعض لکلّ واحد منها بالخصوص ومناقشتها . فنقول وباللّه الاستعانة :

أما الجواب عن الطائفة الأولی من الأخبار فیمکن أن یقال :

أولاً : إطلاق الفریضة علی غسل الجنابة ، کان باعتبار ان وجوبه قد ذکر فی القرآن ، إذ قد یطلق الفریضة علی ذلک وما قابله هو وجوب السُّنة ، أی کان


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب مقدّمة العبادات، الحدیث 38 .

ص:43

وجوبه قد بلغنا بواسطة سنته صلی الله علیه و آله لا عن طریق القرآن ، کما یشهد لذلک خبر حسین بن النضر الأرمنی قال : «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن القوم یکونون فی السفر ، فیموت منهم میتٌ ومعهم جنبٌ ، ومعهم ماءٌ قلیل قدر ما یکفی أحدهما ، أیهما یبدء به ؟ قال : یغسل الجنب ویترک المیّت ، لأنّ هذا فریضة وهذا سنة»(1) .

وفی «وسائل الشیعة» فی ذیله : المراد بالسنة ما علم وجوبه من جهة السنة ، وبالفرض ما علم وجوبه من القرآن ، کما عن الشیخ الطوسی فی ذیل حدیث سعد بن أبی خلف(2) فیحمل الفریضة فی المورد علی ذلک لا بمعنی الوجوب النفسی .

لا یقال : کیف یمکن أن یحمل علیه ، مع ملاحظة انضمام غسل الحیض والاستحاضة مع غسل الجنابة فی الأخبار ، مع عدم وجودهما فی القرآن مثل غسل الجنابة .

لأنا نقول : أما غسل الحیض فقد أتی حکمه فی القرآن بقوله تعالی : «یَسْألُونَکَ عن المَحِیض قُل هو أذیً فاعْتزلوا النساء فی المحیض فلا تَقْربُوهن حَتّی یَطْهُرن فإذا تَطهَّرن فأتُوهُنَّ مِن حیثُ أمَرَکُم اللّه» الآیة(3) .

وجه الاستدلال: هو النهی عن المقاربة حتی یطهرنّ ، بناء علی معنی الغسل لا النقاء فقط ، فینضم ذلک مع وجوب المجامعة فی کلّ أربعة أشهر ، فینتج وجوب الغسل علیها عند حصول المقاربة ، وهو المطلوب .

وأمّا غُسل الاستحاضة الذی یکون فی صورة کثرتها ، لا یبعد أن تکون هی


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 11 .
3- سورة البقرة : آیة 222 .

ص:44

مرتبة ضعیفة للحیض ، کما یشعر بذلک مادّة اشتقاقها ، حیث تکون مأخوذة من مادّة الحیض ، فعلیه یدخل فی الآیة بعمومها بنحو الإجمال ، فعلیه یمکن أن یکون المراد من الوجوب فی بعض الأخبار هو هذا المعنی ، بقرینة تلک الأخبار ، مضافا إلی عدم وجود إطلاق الفریضة علیهما حتی نحتاج إلی تأویل .

وثانیا : إنّه لا یمکن إرادة الوجوب النفسی فی غسل الجنابة ، لاقترانه بمثل غسل الحیض والاستحاضة ، حیث قد ادعی فی «الجواهر» الإجماع _ بکلا قسمیه من المحصل والمقول _ علی عدم الوجوب النفسی فی المحیض ، ففی الاستحاضة یکون بطریق أولی ، فکیف یمکن الافتراق بین جزئین من جملة واحدة ، من الحکم بالوجوب النفسی فی واحد دون الآخر ، وهو واضح .

هذا بخلاف ما لو حمل علی الوجوب الغیری ، حیث یصح فی تمام الأقسام من الجنابة والحیض والاستحاضة ، کما لا یخفی .

وسنزید توضیحا لهذا الإشکال انضمام غسل مس المیّت والاحرام فی مرسلة یونس إلی غسل الجنابة ، مع القطع بعدم وجوب غسل الاحرام حتی فی الحجّ الواجب ، کما هو واضح ، فلابد له من تأویل آخر .

وثالثا : یمکن أن یکون إطلاق الوجوب علیه محمولاً علی العهد الذهنی فی الخارج ، من کونه شرطا لمثل الصلاة ، کما قلنا بمثل ذلک فی الوضوء ، فیساعد ذلک علی الوجوب الغیری لا النفسی ، أو کان الوجوب والواجب بمعناه اللغوی ، وهو الثبوت واللزوم ، لا الوجوب الاصطلاحی الفقهی کما أشرنا إلیه فی باب الوضوء .

وهذا الجواب یمکن اسراءه إلی الطائفة الثانیة من الأخبار ، حیث أنّ الغسل قد تعلق علی الادخال أو الانزال أو غیرهما ، فالحکم بالوجوب کان بمعنی الثبوت أو اللزوم ، أی ثبت ذلک بهذه الأسباب ، کما یثبت لذلک بالنسبة إلی المهر والرجم الموجودان فی خبر محمّد بن مسلم ، أی قد ثبت المهر والرجم ان کان

ص:45

الدخول مع الاجنبیة . فضلاً عن أنّ هذه الأخبار هی فی صدد بیان أصل إثبات حکم الغسل بهذه الأمور ، أما کون وجوبه نفسیا أو غیریا فخارج عن لسان الدلیل ، أی أن الدلیل لیس فی صدد بیانه کما هو واضح لمن أنصف وتأمل فیها .

أما الجواب عن الطائفة الثالثة من الأخبار : هو أنّ الخطاب فی ذلک متوجه إلی الغاسل والولی لا إلی المیّت الجُنُب ، حتی یستفاد مه الوجوب النفسی لعروض الجنابة علی من عرض له ذلک ، فلا منافاة بین أن یکون التغسیل للمیّت الجنب واجبا علی الغاسل دون من کان جنباً حیّاً ، کما هو مفروض البحث .

مضافا إلی أنّه کیف ینتقل التکلیف بوجوب غسل الجنابة بوجوب نفسی من المیّت إلی الغیر ، بل هو وجوب مستقلٌ علی حده متوجه إلی الغاسل .

مضافا إلی أنّه لم یفتِ أحد من الفقهاء فی ذلک بوجوب غَسل المیّت غسلاً آخر بعنوان الجنابة ، بل یکفی غسله الذی کان واجبا لکل میت عن ذلک .

وأما کون علة وجوب تغسیله بهذه الجهة ، کما أشیر إلیها فی بعض الأخبار ، وهو أمر آخر ، لإمکان أن یکون بواسطة أنّه عرج إلی لقاء اللّه فأراد اللّه تعالی طهارته عن کل دنس وقذارة ، وهو غیر مرتبط بالجنب الحی ، الذی لا یقصد ذلک ، لعدم کون فی وقت واجب شرطه الطهارة ، ولا فی حال یرید لقاءه تعالی ، فلا یبعد القول حینئذٍ بحسن ذلک ومحبوبیته بنحو الاستحباب ، لا الوجوب النفسی .

کما أنّه یمکن الجواب عن صحیح عبد الرحمن : بأنه لم یسمع عن أحد من الفقهاء الحکم بوجوب غسل الجنابة بعد الفراغ ، فلا یکون معمولاً به عند الأصحاب ، ولکن ذلک لا ینافی حمله علی الاستحباب ومطلوبیة الغسل بنفسه ، کما قد یشعر ذلک بیان التعلیل الوارد بقوله : «لا یدری ما یطرقه من البلیّة» ، حیث یستظهر منه کون ذلک ترغیبا وتحریکا علی استعجال ذلک ، فهو مما لا یُنکر کما لا یخفی .

ص:46

کما یشهد خلافه فی صحیحتی سعید الأعرج ، وسماعة(1) حیث أجاز تأخییر الغسل إلی بعد النوم وعند الیقظة ، فراجعهما .

وأمّا الجواب عن الدلیل الثالث فلأنّا نقول : وجوب الغسل فیما قبل وقت الواجب فی مثل غسل المستحاضة الصائمة لصوم غدها ، حیث یجب قبل دخول وقت الصوم وهو طلوع الفجر ، یمکن أن یکون بأحد من الأمور الأربعة :

إمّا علی نحو ما قاله صاحب «الفصول» فی الواجب المعلق من کون الوجوب حالیا والواجب استقبالیا ، فیترشح من ذلک الوجوب وجوبٌ لتلک المقدّمة .

أو یقال : بکون وجوبه بواسطة حکم العقل بذلک ، لأنّه یحکم فیما یعلم تقویت الواجب لو لم تحصل مقدمته قبل دخوله بوجوب إتیان المقدّمة قبل الوقت .

أو یقال : بما احتمله صاحب «الکفایة» قدس سره بأنه إذا علمنا من دلیل الخارج وجوب إتیان هذه المقدّمة قبل الوقت ، فیکشف بطریق إلانّ بأن وجوب فی هذا المورد بخصوصه یکون واجبا غیریا شرعیا ، بوجوبٍ حالی ، لاستحالة وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها .

أو یقال : بما احتمله صاحب «الکفایة» _ علی ما أظنّ _ وهو منسوب إلی صاحب «المدارک» قدس سره بکون الوجوب فی ذلک وجوبا نفسیا ، کأنه هو واجب برزخی بین وجوب الواجب النفسی الذی یقول به القائل ، وبین الوجوب الغیری .

فمع وجود إحدی هذه الاحتمالات ، لا وجه للحمل علی کون وجوب الغسل قبل الوقت واجبا نفسیا ، کما لا یخفی . هذا تمام الکلام فی أدلّة الوجوب النفسی .

والآن نشرع فی بیان أدلّة من ذهب إلی کون وجوبه غیریا وهذا کما هو المشهور بل عن «السرائر» دعوی اجماع المحققین من الأصحاب علیه ، وعن


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 _ 6 .

ص:47

«الذکری» نسبته إلی ظاهر الأصحاب ، وعن المحقّق أنّ علیه فتوی الأصحاب .

فمن الأدلّة : الآیتان اللّتان قد عرفت دلالتهما علی الوجوب الغیری ، لا سیما الآیة المذکورة فی سورة النساء ، حیثُ لا یرد علیها ما أورده الآملی قدس سره علی الآیة الأولی من عدم دلالتها علی الوجوب الغیری ، ولا تنفی الوجوب النفسی ، لما قد عرفت دلالة الثانیة علی کون وجوبه للصلاة واضحة ، فبضمیمة عدم دلیل یدل علی الوجوب النفسی ینتج انحصار الوجوب فی الوجوب الغیری ، کما یساعده الاعتبار أیضا .

ومنها : خبر زرارة عن الصادق علیه السلام : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، ولا صلاة إلاّ بطهور»(1) .

حیث یظهر منه _ بناءاً علی شمول إطلاق لفظ الطهور للغسل أیضا ، بل قف یکون شموله بالأولویة ، لأنّه إذا وجب تحصیل الطهارة عن الحدث الأصغر فی الوقت للصلاة فعن الحدث الأکبر یکون بطریق أولی _ أنّ وجوب الغسل والوضوء یکون بواسطة وجوب الصلاة ونظائرها ، کما یدل علیه ذیله .

فبانضمام ما ذکرنا آنفا من عدم الدلیل علی الوجوب النفسی ، یتم الاستدلال کما لا یخفی . بل لولا ذیله لأمکن القول بأنه یدل علی وجوب الطهور بعد دخول الوقت دون قبله ، بدون التعرض لغیریته ، فیمکن عدّه نفسیأ ، لکنه مدفوع بوجهین :

الأوّل : علی هذا التقدیر یلزم التفصیل فی الوجوب النفسی بکونه کذلک فی الوقت دون غیره ، وهو مخالف للاجماع المرکب ، لأن الفقهاء بین قائل بالوجوب النفسی مطلقا وعدمه مطلقا فلا قائل بالتفصیل .

الثانی : بناء علیه یشمل الطهور للوضوء قطعا ، مع أنّه لا قائل بالوجوب


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:48

النفسی فیه فی الوقت وخارجه .

فالقول بالجوب النفسی یکون غیر معمول به عند الأصحاب ، بخلاف حمله علی الوجوب الغیری ، إذ هو خال عن الإشکال .

ومنها : خبر عبد اللّه بن یحیی الکاهلی قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة یجامعها الرجل فتحیض وهی فی المغتسل فتغتسل أم لا ؟ قال : قد جاءها ما یفسد الصلاة فلا تغتسل»(1) .

فان النهی عن الاغتسال معللاّ بأنه جاءها ما یفسد الصلاة ، یدل علی ارتباط الغسل بالصلاة ، وذلک لوضوح أنّه لو لا الارتباط لما حسن التعلیل بذلک بل قد علل بأمر آخره . فما أورده الآملی قدس سره من إمکان أن یکون المنع عن اغتسال الحائض ، لعدم تمکنها منه لحدث الحائض لا لکون وجوب الغسل علیها غیریا ، غیر وارد . لأنّه علی أی تقدیر یدل علی عدم الوجوب النفسی فی حال الحیض ، ولو لعلة وجود حدث الحیض .

ونحن نضیف إلیه عدم الوجوب النفسی لغیر حال الحیض أیضا ، لعدم القول بالفصل فی الوجوب النفسی بین حال الحیض وغیره ، فیتم المطلوب .

فتوهم أنّ النهی یدل علی عدم الجواز مدفوعٌ ، بأنّ النهی المتعقب للأمر یفید الجواز ، کما یکون کذلک للأمر المتعقب للنهی ، فیفهم أنّه یجوز علیها الإتیان بغسل الجنابة فی حال الحیض أیضا کما یجوز لها ترکه ، کما یدل علی ذلک خبر عمار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : سألته عن المرأة یواقعها زوجها ثمّ تحیض قبل أن تغتسل ؟ قال : «إن شاءت أن تغتسل فعلت ، وإن لم تفعل فلیس


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:49

علیها شیء ، فإذا طهرت اغتسلت غسلاً واحدا للحیض والجنابة»(1) .

مع أنّه علی ما ذکره الآملی یلزم کون النهی إرشادیا ، فکأنّه أراد من النهی بأنّه لا تقدر علی الإتیان ، فینافی ما قد عرفت صراحة خبر عمّار علی الإمکان والجواز .

ومنها : الأخبار الکثیرة التی وردت لبیان وجوب غسل الجنابة للصوم قبل الوقت بحیث لو ترک الغسل متعمدا من غیر عذر وجب علیه قضاء الصوم ، کما تری فی أخبار الباب 15 من أبواب ما یمسک عنه الصائم فی «وسائل الشیعة» .

بل قد یستفاد الوجوب الغیری من صراحة بعض الأخبار ، من الحکم بالغسل ثمّ الصلاة والصوم ، کما فی خبر ابن رئاب ، قال : سئل أبو عبداللّه وأنا حاضر ، عن الرجل یجنب باللیل فی شهر رمضان فینام ولا یغتسل حتی یصبح ؟ قال : «لا بأس یغتسل ویصلی ویصوم»(2) .

ومثله خبر إسماعیل بن عیسی فی حدیثٍ عن الرضا علیه السلام : عن رجل أصابته جنابة فی شهر رمضان . . . إلی أن قال : «یغتسل إذا جاءه ثمّ یصلی»(3) .

حیث حکم بعد المجیء إلی الماء بالغسل ثمّ أمر بالصلاة .

والحاصل : إنّ الأخبار الدالّة علی الوجوب متواترة ، ولذلک تری القول بالوجوب الغیری حتی عمن قال بالوجوب النفسی فی غسل الجنابة ، کما ادعاه الآملی قدس سره وصاحب «الجواهر» . بل قد عرفت أنّه موافق للأصل إذا فرض وجوب للغیر المشروط بالغسل ، وترددنا أن وجوبه غیری فقط ، أو هو مع الوجوب النفسی ، فالأصل یقتضی الغیری ، لأنّه القدر المتیقن ، کما أن أصل


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من ما یسمک عنه الصائم، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من ما یسمک عنه الصائم، الحدیث 2 .

ص:50

البراءة یقتضی نفی أصل الوجوب لو لم یکن الغیر المشروط به واجبا ، کما إذا کان فی خارج الوقت . هذا کله بعد فرض عدم وجود إطلاق یقتضی أصل الوجوب ، کما هو المفروض فی المقام ، فهذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ان الوجوب فی غسل الجنابة غیری ، ولیس له وجوب نفسی . ولا یخفی علیک أن القائل بالوجوب النفسی ملتزم به مع الوجوب الغیری ، أی لا ینفی شرطیة غسل الجنابة للصلاة والصوم ، کما تدل علی ذلک مراجعة کلماتهم فی هذا الباب ، ولکن قد عرفت عدم تمامیة أدلّة الوجوب النفسی ، فلایبقی حینئذ إلاّ الوجوب الغیری وهذا هو المدعی المطلوب فی غسل الجنابة .

بقیّة الأغسال الواجبة

وأما غسل الحیض والنفاس والاستحاضة : فلا إشکال فی وجوب الأغسال الثلاثة للصلاة والصوم ، فتکون واجبا غیریا ، وإن لم یتعرض القدماء من الفقهاء لشرطیة غسل الحیض والنفاس للصوم ، ولکنه هو المستفاد من الأخبار قطعا وسیأتی توضیح ذلک بعد إن شاء اللّه تعالی . والظاهر الموافق للمهشور _ بل کاد أن یکون اجماعا ، لعدم مشاهدة الخلاف فی ذلک ، إلاّ عن العلاّمة فی «المنتهی» واحتمال القوة فی ذلک عن صاحب «المدارک» _ کون غسل الحیض واجبا غیریا فقط ، لا غیریا ونفسیا کما ادّعاه العلاّمة ، فاحتمال وجود الخلاف فیه کما عن «الذکری» بعید وضعیف . بل قد ادّعی فی «المصابیح» نفی الخلاف فیه ، بل الإجماع قائم کما عن المحقّق الثانی والشهیدین والعلاّمة فی «نهایة الاحکام» علی الوجوب الغیری فقط ، ومثله غسل النفاس لوجود الإجماع علی الاشتراک بینهما فی کثیر من الاحکام ، فإذا ثبت الإجماع علی عدم وجوبه فی الحیض فالنفاس یکون کذلک بطریق أولی .

مضافا إلی عدم وجود قائل بالوجوب النفسی فی النفاس والمستحاضة ،

ص:51

فدعوی الإجماع علی عدم الوجوب النفسی فیهما یکون بلا إشکال ، فالأولی صرف الکلام عن ذلک وعدم الاطالة فیه ، وإحالة تفصیل الکلام فی کون الغُسل فی الحیض شرطا فی تمام الخمسة المذکورة فی کلام المصنف ، أو یکفی النقاء عن الدم فی مثل الدخول فی المساجد وقراءة العزائم _ کما ذکر احتماله فی «المدارک» عن بعضٍ وقواه ، غایته جعل قول المشهور هو الأقرب إلی محلّه ، وخلاصته قوة کلام المصنف کما علیه المشهور لو لم یکن اجماعیا .

وأما غُسل مسّ المیّت : فنبحث عنه من خلال عدة أمور :

الأمر الأوّل : فی وجوبه : لا إشکال فی کونه واجبا ، کما علیه المشهور ، بل کاد أن یکون اجماعیا ، کما ادعی ذلک الشیخ قدس سره فی «الخلاف» ، ولم یخالف فی وجوبه إلاّ السیّد المرتضی قدس سره . نعم نسب الوقف إلی «الوسیلة» و«المراسم» ، ولکن الشیخ الانصاری قدس سره قد نقل عبارة «الوسیلة» بحیث تدل علی الوجوب . وکیف کان ، فإن حکم الوجوب مسلّم بین الفقهاء قدیما وحدیثا ، فلا یحتاج إلی مزید بیان .

الأمر الثانی : أن الوجوب فیه هل هو نفسی أو غیری ؟

والظاهر هو الثانی ، کما علیه المشهور ، بل لم یعرف فیه خلاف إلاّ عن صاحب «المدارک» قدس سره حیث قد توقف فیه ، واحتمل أن یکون وجوبه نفسیا کغسل الجمعة والاحرام عند من أوجبهما . ثمّ قال : نعم إن ثبت کون المس ناقضا للوضوء اتجه وجوبه للامور الثلاثة ، إلاّ أنّه غیر واضح ، انتهی .

وفی «الجواهر» قال : قد تبعه فی ذلک بعض متأخری المتأخرین . ثمّ قال: مؤیدا له وهو صحیح الحلبی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل رجل أمّ قوما فصلی به رکعة ثمّ مات . قال : یقدّمون رجلاً آخر ویعتدون بالرکعة ، ویطرحون

ص:52

المیّت خلفهم ویغتسل من مسّه»(1) .

وإن أشکل فی دلالته ، من عدم صراحته ، وإمکان أن یکون الاغتسال مندوبا ، لکون المیّت حینئذٍ لم یبرد جسمه . إلاّ أن الانصاف عدم دلالته رأسا علی فرض المسألة ، إذ لیس المراد من طرحهم للمیّت خلفهم ، هو مسّهم له حتی یتمّ ما قاله صاحب «الجواهر» ، بل المراد هو أن یترکوا المیّت ، ویستمرّوا فی صلاتهم ، غایة الأمر لمّا کان مقتضی المقام السؤال عن حکم مسّه ؟ قال : یغتسل ، فلا ینافی أن یکون بمعنی الوجوب إذا کان باردا ، کما لا ینافی أن یکون مسه ناقضا للوضوء إنْ قلنا به ، فحمل الاغتسال _ فیه _ مع کونه الجملة فعلیة وظاهرة فی الوجوب _ علی الاستحباب کما فعله فی غایة الضعف ، کما هو واضح لمن تأمّل .

کما یؤیّد ما ذکرنا ما فی الخبر الذی رواه الطبرسی فی «الاحتجاج» وهو مطابق لمضمون الخبر السابق و هو: فی حدیثٍ عن صاحب الأمر _ عجل اللّه فرجه _ خرج إلی محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحمیری ، حیث کتب إلیه : «روی لنا العالم علیه السلام أنّه سُئل عن إمام قوم یُصلّی بهم بعض صلاتهم ، وحدثت علیه حادثة ، کیف یعمل مَنْ خلفه ؟ فقال : یؤخر ، ویتقدم بعضهم ، ویتم صلاتهم ، ویغتسل مَنْ مسّه.

التوقیع: لیس علی من مسّه إلاّ غَسل الید ، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تتم صلاته عن القوم»(2) .

حیث أنّ الإمام علیه السلام بین کلام العالم (أی موسی بن جعفر علیه السلام ) من أنّ المراد من یغتسل مَنْ مسه هو غسل الید لا الغسل المتعارف ، وذلک لعله لما احتمله صاحب «الجواهر» هو کون بدنه حارا ، کما هو المتعارف فی المیّت حین موته


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجماعة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب غسل المس، الحدیث 4 .

ص:53

حیث لا یکون باردا ، فلا یجب علی الماس الغُسل . وأما غَسل الید یمکن أن لا یکون واجبا ، فیکون المعنی هکذا : إنْ أراد الماس أن یفعل شیئا لیس علی الماس إلاّ غسل الید لنفرة الطبع عن ملامسة الحیّ یده مع المیّت ، فلا یکون مرتبطا بما نحن بصدده ، کما لا یخفی .

وأما الاستدلال علی کونه واجبا غیریا ، مضافا إلی دعوی الإجماع فبأمور :

الأوّل : أصالة البراءة عن الوجوب فی الوقت قبل فعل ما یشترط فیه الطهارة أو بعده ، أو کان قبل الوقت ، کما عرفت مثله فی مبحث غسل الجنابة .

وثانیا : أصالة الاشتغال والاحتیاط ، لاحتمال عدم رفع التکلیف بالنسبة إلی المشروط به لو أتی به بغیر هذا الغسل ، فالشُّغل الیقینی یقتضی فراغه یقینا ، وهو یکون باتیان الغُسل بعنوان الوجوب الغیری ، أو أن الوجوب الغیری هو المتیقّن ، فلابد من الفراغ منه باتیانه کذلک .

وثالثا : بالمحکی عن «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام : «وإنْ نسیتَ الغُسل وذکرته بعد ما صلیت ، فاغتسل وأعد صلاتک»(1) .

حیث یفهم منه کون الغُسل المتحقق من المس واجبا للصلاة .

ولیس عندنا دلیلٌ صریح علی کونه شرطا إلاّ هذا الحدیث ، لأنّ الأخبار مع کثرتها فی هذا الباب جاءت لأصل وجوب الغسل ، ولا صراحة فیها علی کونها للصلاة . فبانضمام هذا الحدیث ، مع الخبرین فی بیان العلّة لغُسل مسّ المیّت ، مثل روایتی الفضل بن شاذان ومحمّد بن سنان عن الرضا علیه السلام : «إنّما أُمر من یغسّل المیّت بالغُسل لعلّة الطهارة مما أصابه من نضح المیّت ، لأن المیّت إذا


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب غسل المس، الحدیث 1 .

ص:54

خرجت منه الروح بقی أکثر آفته»(1) .

وزیادة فی الثانیة وهی : «فلذلک یتطهر منه ویطهر» .

ویفهم منهما أنّ المس موجبٌ لحصول قذارة معنویة فی بدن الماس ، لا ترتفع إلاّ بالغسل خاصة ، أو هو مع الوضوء لو اشترطناه معه ، کما أنّه کذلک یفهم من الأمر بالغسل للثوب والبدن الملاقی للنجاسة ، أنّ الغُسل یصیر واجبا للصلاة المشروط بالطهارة ، هکذا یکون فی المقام أی یفهم من قبیل هذا السیاق کون الوجوب غیریا .

ورابعا : ممّا فی خبر زرارة عن الصادق علیه السلام : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ولا صلاة إلاّ بطهور»(2) .

حیث أنّه بالمفهوم یدلّ علی عدم وجوب إحداث الطهور قبل الوقت للمکلف ، بل یعدّ الملاک وجوب إحداث الطهور بأیّ قسم منه حین دخول الوقت ، ولیس ذلک إلاّ للصلاة ، کما یشیر إلیه ذیله بقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» .

خامسا : بخبر شهاب بن عبد ربه ، قال : سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب یغسّل المیّت ، أو من غَسّل میتا له أن یأتی أهله ثمّ یغتسل ؟ فقال : سواء ، لا بأس بذلک ، إذا کان جنبا غسل یده وتوضأ ، وغسل المیّت وهو جنب ، وإنْ غسل میّتا توضأ ثمّ أتی أهله ، ویجزیه غسلٌ واحد لهما»(3) .

حیث یدل علی أنّ الوضوء لمن مس المیّت موجب لتخفیف الحدث ، کما أنّ الوضوء بعد الجنابة قبل غسل المیّت موجب لتخفیف حدث الجنابة ، فیستظهر


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب غسل المس، الحدیث 11 _ 12 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:55

منه أنّ مس المیّت مستلزمٌ للحدث ، وإلاّ لم یکن للحکم بالوضوء _ ولو استحبابا _ قبل الجنابة وجه ، فدلالته علی حدثیة المس واضحة ، غایة الأمر یستفاد من الحکم بالغسل للمس ، أنّ حدثیته تکون أشدّ . لأنّه لو کان بالأقلّ لارتفع بالوضوء المزیل للحدث الأصغر ، وحیث قد حکم بالغسل بعد الوضوء والجنابة بغسل واحد لهما ، یفهم أنّ الحدث المتولد من المس یکون بالأشدّ ، کما لا یخفی .

سادسا : بالسیرة المستمرة المستقرّة فی تمام الأمصار وجمیع الأعصار من أهل الشرع ، علی عدم فعل شیء ممّا یشترط فیه الطهارة _ کالصلاة والطواف _ إلاّ بعد غسل المس ، حیث یفهم أنّهم یعاملون معه معاملة المحدث فی عدم الإتیان بالصلاة ، إلاّ بعد رفعه بالغسل ، وهو واضح .

لکنّها مخدوشة بأنّه متولّدة من فتاوی الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین ، ولیس ذلک بنفسه دلیلاً ، کما کان کذلک فی مثل باب المعاملات ، حیث کانت الأمر ثابتة عند العقلاء الذین کانوا فی عصر الشارع والمعصوم ، ولم یثبت صدور الردع ، فحینئذٍ یکون تقریر الشارع موجبا لحجیّتها ، وهو واضح .

فما فی «الجواهر» من التمسّک بها لا یخلو من إشکال .

سابعا : ربما یتمسک لاثبات کونه واجبا غیریا _ کما فی «المصابیح» وغیره _ بمرسلة ابن أبی عمیر ، عن رجل ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : «کل غسل قبله وضوء ، إلاّ غسل الجنابة»(1) . وخبر حمّاد بن عثمان أو غیره عن الصادق علیه السلام قال : «فی کلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة»(2) .

وجه الدلالة : أنّه قد حکم بالوضوء فی کلّ غسل ، فیظهر منه تحقیق الحدث


1- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:56

حیث یرتفع بالضوء مع الغسل ، ومنه مسّ المیّت ، فإذا تحقّق الحدث فیکون المس ناقضا للوضوء ، فیجب رفعه عند إرادة الصلاة ، ولیس ذلک إلاّ بالغسل بالوضوء _ لو لم نقل بکفایة الغسل عن الوضوء _ وهذا هو المطلوب .

وهکذا یمکن تقویة استدلال من تمسّک بالخبرین ، بخبرین آخرین وهما :

أحدهما : فی «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام : «الوضوء فی کلّ غسل ما خلا غسل الجنابة ، لأن غسل الجنابة فریضة تجزیه عن الفرض الثانی ، ولا تجزیه سائر الأغسال عن الوضوء ، لأنّ الغسل سُنّة والوضوء فریضة ، ولا تجزی سُنّة عن فرض ، وغُسل الجنابة والوضوء فریضّتان ، فإذا اجتمعا فأکبرهما یجزی عن أصغرهما ، وإذا اغتسلت بغیر جنانبة فابدأ بالوضوء ثمّ اغتسل ، ولا یجزیک الغسل عن الوضوء ، فإن اغتسلت ونسیت الوضوء ، فتوضأ وأعد الصلاة»(1) .

ومثله خبر الصدوق فی «الهدایة» ، إلاّ أنّ فیه زیادة وهی : «وغسل الحیض فریضة»(2) . ولیس فیه حکم إعادة الصلاة فی صورة نسیان الوضوء .

ومثله خبر آخر مرویٌ فی «فقه الرضا» : «إذا اغتسلت غسل المیّت ، فتوضّأ ثمّ اغتسل کغسلک من الجنابة ، وإن نسیت الغسل فذکرته بعدما صلیت ، فاغتسل وأعد صلاتک»(3) .

والثانی : «غوالی اللئالی» عن النبی صلی الله علیه و آله : «کلّ غسل لابدّ فیه من الوضوء إلاّ مع الجنابة»(4) .

کفایة غسل مسّ المیّت عن الوضوء و عدمها

بل صرّح فی «الجواهر» بأنه یدل علی شرطیة غسل المس للصلاة ، حتی ولو


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب غسل الأموات، الحدیث 1 .
4- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:57

کان وجوبه لها أیضا غیریأ ، کما فی ذیل حدیث «فقه الرضا» ، أی خبره الثانی المذکور هنا بقوله : «وإن نسیت الغسل فذکرته . . . إلی آخر» ، حیث أنّه یحکم بوجوب إعادة الصلاة حینئذٍ .

هذه جملة من الأخبار المتمسّک بها للدلالة علی کون الغسل واجبا غیریا .

الأمر الثالث : فی أنّ المس ناقض للوضوء أم لا ؟ وهل یجب مع الغسل للمس وضوء للصلاة أم لا ؟ ویتصور الافتراق فیما بینهما بأن یکون ناقضا للطهارة والوضوء ولکن یکفیه غسله ، کما یمکن القول بلزوم الوضوء مع الغسل وعدم کفایته عنه .وأمّا إنْ قلنا بعدم ناقضیته فمعناه کون وجوب غسل المس تعبدیا ، فلا معنی حینئذٍ للحکم بوجوب الوضوء مع الغسل للصلاة أصلاً .

والمشهور بین المتقدمین والمتأخرین ، بل المعاصرین ومن قاربهم ، هو الحکم بعدم کفایة غسل المس عن الوضوء غایة الأمر أنّ بعضهم یفتی بذلک جزما کالمتقدمین ، مثل السیّد قدس سره فی «العروة» والعلاّمة البروجردی والاصطهباناتی ، والآملی ، والمیرزا عبد الهادی الشیرازی ، حیث یظهر منهم کون المس ناقضا . بل فی «مصباح الهدی» : کل ما یجوب الحدث الأکبر فهو موجب للأصغر أیضا ، کما یشعر بذلک کلام الحکیم قدس سره فی «المستمسک» . وبعضهم یحکم بالاحتیاط _ کأکثر من عاصرناه _ وجوبا أو استحبابا ، حیث یفهم منهم وجود الشهبة عندهم فی الناقضیة للوضوء ، ومن أراد الاستزادة فلیراجع .

والذی یمکن أن یستدل به علی ذلک ، أوّلاً : هو الخبر الذی مرّ ذکره عن «فقه الرضا» بکلا فردیه ، مضافا إلی صراحته بعد کفایة الغسل عن الوضوء ، کما کان هذا الکلام منقولاً عن الصدوق قدس سره فی «الهدایة» ، الموجب لحصول الاطمئنان فی الجملة ، کما ذکره «مصباح الفقیه» فی باب عدم کفایة غسل الحیض عن الوضوء بأن أفتی علی طبق مذهب مثل الصدوق رضوان اللّه علیهم نقلاً عن

ص:58

صاحب «الحدائق» . ودلالته عن الناقضیة من جهة الحکم بلزوم الإعادة للصلاة عند نسیان الوضوء واضحة ، وتوهم ضعف سند حدیث «فقه الرضا» مخدوش بأمور :

أوّلاً : بأنّه معتبر عند کثیر من الأصحاب ، بل قد اعتبروه من الأخبار القویة وهذا هو المترائی من الأستاذ الأکبر البهبهائی قدس سره ، وصاحب «الحدائق» والنراقی والفاضل الهندی والمجلسیین . وبعضهم یتمسّک بأخباره عند عدم وجود خبر معارض له أقوی منه ، وکان منجبرا بالشهرة وعمل الأصحاب وفی المقام تری أنّ الخبر لا معارض له ، کما قاله الشیخ الأنصاری قدس سره ، وصاحب «المستدرک» وصاحب «الجواهر» ، بل وکثیر من الفقهاء المعاصرین . فالقول برد الخبر بدعوی مجهولیة مؤلفه ، أو دعوی کونه هو کتاب «الشریعة» لعلی بن بابویه الذیکتبه لابنه الصدوق ، واشتبه عنوان علی بن موسی الذی هو اسم لوالد الصدوق بالامام علی بن موسی الرضا علیه السلام ، لانصراف الاسم المطلق إلی أبرز مصادیقه فی غایة الضعف ، وقد ذکر المحدث النوری شرطه فی خاتمة المستدرک فراجعه(1) .

وأمّا کون نص الخبر منقول عن علی بن موسی الرضا علیه السلام أو منه ومن بعض أصحابه ، کما حقّقه صاحب «المستدرک» ففیه کلامٌ . وکیف کان فإنّ اعتباره فی الجملة مسلمٌ عند الفقهاء .

وثانیا : أنّ الخبرین هاهنا سالمان من وجود معارض فی خصوص هذا الحکم ، وهو الوضوء للصلاة فی خصوص غسل المس ولزوم الإعادة عند النسیان ، وإن کان فی جهة کون الوضوء قبل الغسل موردا للمعارضة ، لدلالة عدّة أخبار علی عدم لزوم کون الوضوء قبل الغسل بل ولا بعده ، وصریح بکفایته عن الوضوء ، سواء کان قبله أو بعده ، کما فی خبر عمّار الساباطی حیث قال : «سُئل


1- المستدرک: ج 3 ص 336 ط حجریّة.

ص:59

أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل إذا اغتسل من جنابة أو یوم جمعة أو یوم عید هل علیه الوضوء قبل ذلک أو بعده ؟ فقال : لا لیس علیه قبل ولا بعد قد أجزاه الغسل ، والمرأة مثل ذلک إذا اغتسلت من حیض أو غیر ذلک فلیس علیها الوضوء ولا قبل ولا بعد ، قد أجزاها الغسل»(1) .

حیث یتوهّم التعارض مع أصل الوضوء ، لأنّه یحکم بکفایة الغسل عنه ، فعمومه شامل لمثل غسل المس .

لکنّه مدفوع ، بأنّه لا عموم فیه علی نحو یشمل ذلک ، لأنّه قد صرح بالأغسال التی تکفی عن الوضوء ، لو قلنا بالکفایة فی مثل الجنابة والجمعة والعید ، کما صرّح للمرأة أیضا فیالحیض ولفظ ذلک یمکن أن یکون متعلقا للحیض وسائر الأغسال المتعلِّقة بالمرأة ، مثل النفاس والاستحاضة ، فلا یشمل غسل مس المیّت ، فلا تعارض بینهما .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ ثبوت «الکفایة» عن الوضوء فیما نحن فیه _ لو قلنا بالکفایة فی مثل غسل الجمعة والعید الذی کان مستحبّا _ یکون بطریق أولی ، لأنّه یکون واجبا غیریا ، فهو أولی بذلک .

ونقول : هذا صحیح ، لو لم یکن لنا نصٌ بالخصوص علی عدم الکفایة ، کما تری فی مثل الخبر المنقول فی «فقه الرضا» ، فعلیه لا مورد للتمسّک بالأولویّة ، کما لا یخفی . ولکن لا یمکن العمل بخصوصیة لزوم کون الوضوء قبل الغسل بل یکفی بعده ، ویُحمل علی کونه أفضل فردیة ، من وجوه :

الأوّل : من عدم وجود قید قبل الغسل فی الخبر الآخر من «فقه الرضا» وإن کان ظاهر الترتیب فی الکلام بل وجود لفظ (ثمّ) یقتضی کون الوضوء قبل


1- وسائل الشیعة : الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:60

الغسل ، لکنّه لیس فیه إلاّ الظهور بخلاف خبره الأوّل حیث صرّح بذلک بقوله : «فابدأ بالوضوء» .

الثانی : إنّه قد حکم فی صورة نسیان الوضوء والإتیان بالصلاة ، بتحصیل الوضوء للصلاة وإعادتها ، حیث یظهر من ذلک أنّ قبلیة الوضوء من الغسل لا یکون شرطا لا فی الغسل وفی الوضوء ، وإلاّ لکان اللازم إعادة أصل الغسل ثمّ الوضوء بعده ، فیفهم من ذلک أنّ المقصود هو تحصیل الطهارة بالوضوء ، غایة الأمر أنّ تحصیله قبل الغسل أحسن .

اللّهم إلاّ أن یقال : وجوب قبلیّته ذکری لا واقعی ، بل قد یشیر الخبر الثانی المروی فی «الفقیه» بعدم اعتبار القبلیة ، حیث یحکم فی صورة إتیان الصلاة مع نسیان غسل مس المیّت باتیان الغسل وإعادة الصلاة ، بلا إشارة إلی لزوم الوضوء حینئذ قبله ، إذ لا یخلو الأمر حینئذٍ أمّا أنّه قد أتی بالوضوء من قبل وصلّی بدون الغسل ، فلازمه وقوع الغسل حینئذٍ بعد الوضوء ، إلاّ أنّه قد فصّل بالصلاة بینهما ، ولذا حکم بالبطلان ، فیفهم عدم شرطیة کونه الغسل بعده بلا فصل شیء فی صحّة الوضوء الواقع قبله ، وإلاّ لکان اللازم إعادة الوضوء أیضا .

أو لم یأت بالوضوء قبله ، کما إذا نسی الغسل ، وإن کان هذا بعیدا . فدلالته علی عدم اعتبار القبلیة یکون أوضح ، بل یدلّ حینئذ علی عدم اعتبار أصل الوضوء ، ولکن عرفت بُعد احتماله .

الثالث : یوجب أن یکون غیر معمول به عند الأصحاب ، لأنّهم بین قائل بعدم أصل الوضوء ، وقائل باعتباره مطلقا ، وأمّا لزوم اعتباره قبل الغسل فلم نجد من صرح بذلک من الأصحاب ، کما هو واضح لمن راجع کلامهم .

وثانیا : هو ما عرفت من حسنة شهاب بن عبد ربه عن ابن هاشم(1) حیث دلّ


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:61

الحکم بالوضوء بعد المسّ للإتیان بالأهل أنّه تخفیف للحدث کوضوء الجنب للنوم ، مضافا إلی دلالته علی کون المس موجبا للحدث الأکبر لا الأصغر ، لوجهین :

أحدهما : أنّه لو کان للأصغر ، لکان الوضوء وحده کافیا ، ولا حاجة للحکم بالغسل مع أنّه حکم به .

الثانی : من الحکم باجزاء غسل واحد منهما ، حیث یفهم منه أنّ حدثیّته تکون کحدثیة الجنابة ، من جهة لزوم الغسل ، وهو یغتسل للجنابة والمس لاتیان ما یعدّ مشروطا بالطهارة ، وهو واضح .

والثالث : یمکن الاستفادة لذلک من الخبرین المذکورین سابقا ، وهما مرسلة ابن أبی عمیر ، وحمّاد بن عثمان(1) ، حیث ورد فی الأوّل منهما شرطیة کلّ غسل قبله الوضوء إلاّ الجنابة ، وفی الثانی : «فی کلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة» ، حیث یفهم منهما کون ما یوجب الغسل وهو الحدث الأکبر موجبا لحدوث الأصغر ، فلا یزول الأصغر بعد تحقّقه إلاّ بالوضوء فی غیر غسل الجنابة ، حیث أنّه یکفی عنه .

فما یتوهّم _ کما فی «مستند الشیعة» _ بأنّ ذلک مستلزم لتخصیص الأکثر ، لعدم کون الأغسال المسنونة کذلک ، أی بنفسها لا تقتضی الوضوء ، فلو کان الشخص متطهِّرا بالوضوء قبله لا یوجب حصول أسباب الغسل المستحب إتیان الوضوء ثانیا قبل الغسل أو بعده ، فتخصیصه بغیر الأغسال المسنونة لیس بأولی من الحکم بعد لزوم الوضوء أصلاً ، حتی فی مس المیّت فلا یکون ناقضا .

ومدفوع ، بأن العرف یفهم من سیاق هذه العبارة _ خصوصا مع ذیله المشتمل علی الاستثناء للجنابة _ أن المقصود من الغُسل فی الصدر لیس إلاّ ما یوجب الحدثیة ، لا کلّ غسل ولو کان مسنونا غیر موجب للحدث .


1- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 _ 2 .

ص:62

فبذلک یصح أن یقال : کأنه یرید أن یقول بأنّ کلّ حدث کبیر یجب الوضوء معه للصلاة إلاّ الجنابة ، فیشمل ذلک بعمومه مس المیّت أیضا إذا ثبت بأدلّة غسله بأنّه حدث أکبر ، کما هو الظاهر .

ما یجب له غسل مسّ المیّت

مع أنّه یمکن أن یقال : بأن الأمر دائر بین ورود أحد القیدین ، أمّا من جهة حفظ عموم الاستغراق لکلّ غسل من الواجب والمندوب ، وإضافة قید أنّه لو کان غیر متوضئ یرفع الید عن لزوم الوضوء ، کما ذهب إلیه صاحب المستند قدس سره .

أو القول بتقیید الغسل بالواجب ، بلا تصرّف فی إطلاق حال الشخص ، أی یجب الوضوء مع کلّ غسل واجب، ولو کان متوضیا قبله، فیکون الإطلاق حینئذٍ محفوظا.

ولیس القول بالتقیید علی النحو الأوّل ، بأولی من التقیید علی النحو الثانی .

والإشکال من جهة ذکر قبلیة الوضوء للغسل المذکور فی مرسلة أبی عمیر قد عرفت جوابه فیما قبل . مضافا إلی معارضته بإطلاق خبر حماد بن عثمان ، وإن أمکن التقیّد به لولا ما ذکرنا سابقا من الشواهد علی عدم وجوب قبلیة الوضوء .

مع أنّه یمکن أن یقال بالتصرف فی الهیئة ، مع فرض وجود الشواهد والقرائن علی إطلاق وجود الوضوء ، فیحمل الحکم بقبلیة الوضوء علی الأفضلیة ، کما یقال فی قولنا : (أعتق رقبة) مع ملاحظة دلیل (اعتق رقبة مؤمنة) ، وإن کان أعمال التقیید فی المادّة لولا الشواهد أولی . فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ المس ناقض للطهارة ، وموجب لتحقّق الحدث الأکبر ، ولابدّ فی رفعه من الغُسل والوضوء ، وإن کان إتیان الوضوء قبل الغسل أفضل وأوفق بدلالة الأخبار جمیعها ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

وممّا ذکرنا یظهر حکم مسألة أخری ، وهی : أنّه لا یکون غسل المس والوضوء ضرورین للصلاة فحسب _ کما یظهر ذلک من النراقی فی «المستند» _ بل لازم وضروری لکل ما یکون الطهارة عن الحدث الأصغر فیه شرطا ، مثل

ص:63

الطواف ومس القرآن وأمّا دخول المسجدین ، والمکث فی المساجد ، وقراءة سور العزائم لا یکون مشروطا بالطهارة ، فیجوز لماس المیّت إتیان هذه الأمور قبل غسل المس والوضوء .

لا یقال : بأنّ المستفاد من البحوث السابقة والتحقیقات الآنفة ، کون المس مشتملاً علی الحدثین الأصغر والأکبر ، فمع تحقّق الحدث الأکبر ، کیف یجوز الإتیان بالغایات المذکورة بلا غسل ، کما لا یجوز تلک الغایات للجنب والحائض قبل الغسل ؟!

لأنّا نقول : لم تثبت الملازمة شرعا بین وجود الحدث الأکبر والمنع عن الإتیان بهذه الأمور ، إذ من الممکن التفکیک بینهما کما تری ذلک فی مثل المستحاضة الکثیرة التی وجب علیها الغسل والوضوء معا ، فمع کونها محدثة بالحدثین قطعا _ لو لم نقل بأنّها أشد حدثا عمّا فیما نحن فیه لما تری من وجوب الوضوء لکلّ صلاة فقد _ ذهب جماعة من الفقهاء کصاحب «المدارک» و«الذخیرة» و«شرح المفاتیح» و«کشف الغطاء» و«الجواهر» _ قدس اللّه أسرارهم _ إلی جواز الإتیان بتلک الغایات للمستحاضة ، قبل الإتیان بوظیفتها من الغسل والوضوء وتغییر القطنة ، وإن کان المشهور علی خلافهم . فیفهم من ذلک إمکان دعوی التفکیک وعدم الملازمة .

ونحن نقول بذلک فی المقام ، بأنّه إذا ثبت عدم الملازمة ، فلابدّ فی إثبات المنع مع إقامة دلیل من طرف الشرع ، خصوصا لمثل هذه الأمور التی کانت موردا للابتلاء کثیرا ، ومحلاًّ للاهتام ، مع ذلک لیس فی الأخبار والآثار المرویّة فی ذلک عین ولا أثر ، فیفهم جواز الإتیان إلاّ ما نص علی خلافه ، أو یفهم منه ذلک أو عند حصول الشک فی حرمة إیجاد هذه الأمور بلا غسل ، فحینئذ یمکن الرجوع إلی أصالة البراءة أیضا ، لأنّه حینئذ یعدّ من موارد الشک فی التکلیف

ص:64

وقد یجب إذا بقی لطلوع الفجر من یومٍ یجبُ صومه بقدر ما یغتسل الجنب(1)

وأنّه هل یجب الغسل لمثل هذه الاُمور أم لا ؟ فالأصل یقتضی عدمه ، ولذلک ذهب المشهور من الفقهاء قدیما وحدیثا إلی ذلک ، بل فی «السرائر» دعوی الإجماع علیه ، خلافا لظاهر إطلاق «الشرائع» و«القواعد» بل قد ادّعی علیه الإجماع ، لکنّه غیر ثابت .

والحق هو ما ذکرناه ، وفاقا للمتأخِّرین والمعاصرین ، وإن کان الأولی تحصیل الطهارة لذلک أیضا ، وهو واضح لا سترة .

(1) بلا فرق بین کون وجوب الصوم لذلک الیوم مضیّقا أو موسعا ، فیصحّ نیّة الوجوب للغسل ، إنْ أثبتنا عدم تحقّق الصوم مع الجنابة ، غایته وجوبه من تلک الجهة کوجوب الصوم . ثمّ لا خصوصیة فی غسل الجنابة لمماثلته مع الحیض والنفاس ، فلعلّه کان من باب التشابه کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه تعالی . والقول بوجوب الغسل لذلک ، وعدم جواز تأخیره عنه ، هو المشهور من المتقدمین والمتأخرین ، بل قد ادّعی الإجماع علیه ، بل فی «الجواهر» أنّ علیه الإجماع محصّلاً ، بل فی «الریاض» دعوی تواتر الأخبار الدالّة علیه . وممّن ذهب إلیه السیّد فی «الانتصار» وهو منقول عن «الخلاف» و«السرائر» و«الوسیلة» و«الغنیة» ، و«کشف الرموز» و«حواشی التحریر» و«الریاض» و«المقاصد العلیة» و«کشف اللثام» وفی «المعتبر» و«المنتهی» و«التذکرة» نسبته إلی علمائنا ، وفی «کنز العرفان» إلی أصحابنا وفی «المهذب البارع» أنّ القول بخلاف ذلک منقرض ، إلی غیر ذلک من الأقوال . خلافا للصدوقین فی «المقنع» للثانی منهما ، والسیّد میر الداماد فی «شرح النجاة» أو «الرسالة الرضاعیة» والأردبیلی فی «آیات الاحکام» و«شرح الإرشاد» والکاشانی فی «المعتصم» ،

ص:65

حیث ذهبوا إلی عدم وجوب ذلک قبل الطلوع .

وجوب غسل الجنابة قبل الفجر من یوم یجب صومه

والذی تمسک به القوم للأوّل ، أو یمکن أن یتمسّک عدة أمور :

الأمر الأوّل : الإجماع المذکور لو لم یکن محصّلاً کما فی «الجواهر» ، ولا أقلّ من الشهرة العظیمة من المتقدمین والمتأخرین ، بل لم نجد خلافا من متأخِّری المتأخِّرین من المعاصرین وغیرهم ، وکأنّه صار عندهم من ثوابت الفقه ، وهو واضح .

الأمر الثانی : عدة أخبار تدل علی ذلک ، بحیث تبلغ فی الکثرة حدّ الاستفاضة لو لم نقل بکونها متواترة ، کما ادّعاه صاحب «الریاض» ، فبعضها صریحة وبعضها ظاهرة فی الحکم ، کما أنّ بعضها صحیح وبعضها موثّق . ففی موثّق أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل أجنب فی شهر رمضان باللیل ، ثمّ ترک الغسل متعمدا حتی أصبح ؟ قال : یعتق رقبة أو یصوم شهرین متتابعین أو یطعم ستین مسکینا» الحدیث(1) .

واحتمال کون الکفّارة لثبوت المعصیة ، لا لإثبات القضاء الملازم للبطلان ، مندفعٌ بما قد عرفت دعواه من الملازمة ، هذا کما فی «المصباح» .

ولکنّنا نقول : لو لم نقل بالملازمة ، ولم یثبت القضاء بذلک أصلاً ، وحکمنا بصحة صومه ، لکن دلالته علی المعصیة کافیة لإثبات المدعی من وجوب تحصیل الغسل ، لأن ثبوت المعصیة لیس إلاّ لذلک ، وهو بقاءه علی الجنابة بلا غسل إلی أن أصبح ، فثبت المطلوب .

لکنه مخدوش ، بأنه یقتضی کون الغسل واجبا نفسیا ، وهو خلاف المطلوب ، إذ الأمر الغیری لا یترتب علیه العصیان إلاّ بواسطة ترک الغیر ، المفروض انتفاءه علی الفرض . فالحقّ هو ما ذهب إلیه الآملی قدس سره من لزوم ثبوت الملازمة بین


1- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عن الصائم، الحدیث 2 .

ص:66

الکفارة والقضاء الملازم للبطلان . ولا یبعد استفادة ثبوت الملازمة بینهما من الأخبار الواردة فی تضاعیف مفطرات الصوم ، کما تری فی مثل خبر سماعة :

قال : «سألته عن رجل أتی أهله فی شهر رمضان متعمدا ؟ قال : عتق رقبة أو اطعام ستین مسکینا أو صوم شهرین متتابعین ، وقضاء ذلک الیوم ، ومِنْ أین له مثل ذلک الیوم»(1) .

ومثله خبر المشرقی ، عن أبی الحسن علیه السلام فی حدیث فکتب : «من أفطر یوما من شهر رمضان متعمدا فعلیه عتق رقبة مؤمنة ویصوم صوما بدل یوم»(2) .

وممّا یدلّ علی قول المشهور ، وثبوت الملازمة المذکورة ، خبر سلیمان ابن جعفر (حفص) المروزی عن الفقیه علیه السلام قال : «إذا أجنب الرجل فی شهر رمضان بلیل ، ولا یغتسل حتی یصبح ، فعلیه صوم شهرین متتابعین مع صوم ذلک الیوم ، ولا یدرک فضل یومه»(3) .

وهذا أیضا یمکن أن یخدش فیه ، بأنّه لا صراحة بل لا ظهور فی وجوب القضاء ، لامکان أن یکون المراد من قوله : «مع صوم ذلک الیوم» هو وجوب حفظ الصوم والامساک ولا یبطل بذلک ، غایته فَعَل حراما ولا یدرک فضله .

اللّهم إلاّ أن یکون بطلان الصوم بذلک معلوما من الخارج وهو أوّل الکلام فی المقام ، کما هو واضح . ثمّ یثبت الحکم المذکور بواسطة ثبوت الملازمة من دلیل خارج ، کما عرفته ، فیثبت وجوب القضاء علیه ، فیدل علی المطلوب ، کما لا یخفی .

الأمر الثالث : ولدلالة بعض الأخبار التی تدلّ علی المطلوب نحو الأولویّة ، یعنی إذا کان البقاء علی الجنابة نوما موجبا للبطلان وبثوت الکفارة ، ففی صورة


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 11 .
3- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .

ص:67

العمد والیقظة یکون بطریق أولی ، وهو مثل خبر عبد الحمید عن بعض موالیه فی حدیث : «فمن أجنب فی شهر رمضان ، فنام حتی یصبح ، فعلیه عتق رقبة أو اطعام ستّین مسکینا وقضاء ذلک الیوم ، ویتمّ صیامه ولن یدرکه أبدا»(1) .

فدلالته علی کلا الأمرین واضحة ، ولکن لا یدل علی بطلان الصوم ، لأنّه حکم بإتمام صیامه .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّه لیس بصوم حقیقة ، بل لعلّه یکون عقوبة من حیث الحکم بالإمساک وإلاّ فلا وجه للحکم بوجوب الاداء والقضاء کلیهما اجماعا ، إلاّ علی نحو ما ذکرناه ، کما یکون مثل ذلک فی الحج أیضا .

وصحیح الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «فی رجل احتلم أوّل اللیل ، أو أصاب أهله ، ثمّ نام متعمِّدا فی شهر رمضان حتی أصبح ؟ قال : یتم صومه ذللک ، ثمّ یقضیه إذا أفطر من شهر رمضان ، ویستغفر ربه»(2) .

حیث یدلّ بالصراحة علی القضاء فی صورة التعمّد بالترک للغسل فی اللیل حتی أصبح . واحتمال دخالة النوم فی ذلک الحکم لا التعمّد فی الترک فی غایة الضعف . والکلام فی تمامیة صوم ذلک الیوم کما فی سابقه . نعم ظاهر الحدیث انحصار الحکم بخصوص شهر رمضان لا غیره .

ومثله صحیح أبی نصر البزنطی ، عن أبی الحسن علیه السلام قال : «سألته عن رجل أصاب من أهله فی شهر رمضان ، أو أصابته جنابة ثمّ ینام حتی یصبح متعمِّدا ؟ قال : یتمّ ذلک الیوم وعلیه قضاءه»(3) .

الأمر الرابع : أنّه یمکن استظهار ذلک ، من الحکم بالبطلان ، فی صورة البقاء


1- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 4 .

ص:68

علی الجنابة إلی الفجر فی قضاء شهر رمضان ، بسبب الأخبار الواردة فی ذلک الباب ، مثل الصحیح المروی عن ابن سنان ، وهو عبداللّه : «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یقضی شهر رمضان ، فیجنب من أوّل اللیل ولا یغتسل ، حتی یجیء آخر اللیل ، وهو یری أنّ الفجر قد طلع ؟ قال : لا یصوم ذلک الیوم ویصوم غیره»(1) .

وغیرها من الروایات الدالّة بظاهرها من جهة النهی عن صوم ذلک الیوم علی بطلانه ، حیث یفهم منها أنّه لیس إلاّ من جهة البقاء علی الجنابة متعمِّدا إلی الفجر ، فیستفاد من ذلک أنّ بقاء تلک الحالة مناف مع طبیعة الصوم الواجب مطلقا ، أو لا أقلّ فی مثل شهر رمضان وقضائه ، کما هو المذکور صراحة فی الأخبار .

فإن قلت : لعل هناک فرق بین أداء الصوم وقضائه من شهر رمضان من حیث الوقت ، لأنّه مضیق بوقته ، ولا یجوز التأخیر عنه ، بخلاف القضاء فهو أولی بالحکم بالصحّة من القضاء الذی یکون موسّعا غالبا ، فبذلک یظهر إمکان القول بالتفریق بینهما فی البطلان وعدمه .

قلت أولاً : ظاهر إطلاق بعض الأخبار وشمولها ، حتی صورة ما لو صار القضاء مضیقا ، لو لم نقل بذلک للاطلاق فی الجمیع ، لدعوی إمکان ظهور لفظة (صم غدا) مثلاً علی التوسع ، وهو کما فی خبر سماعة ابن مهران فی حدیثٍ ، قال : «قلت : إذا کان ذلک من الرجل وهو یقضی رمضان ؟ قال : فلیأکل یومه ذلک ، ولیقض فإنّه لا یشبه رمضان شیء من الشهور»(2) .

حیث أنّه لا یدل إلاّ علی وجود التنافی بین البقاء علی الجنابة ، مع صحّة


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .

ص:69

الصوم حتی إذا صار مضیقا . واحتمال ظهور لفظة (ولیقض) علی بقاء الوقت وسعته ، مندفعٌ بامکان أن یکون المراد من القضاء هو الأعم ولو بعد هذه السنة ، لا أن یکون المراد خصوص القضاء قبل رمضان عام آخر حتی ینافی ما ذکرناه .

وثانیا : یستفاد ذلک من التعلیل الوارد فی ذیل خبر سماعة ، من عدم تشابه رمضان مع بقیة الشهور ، وأنّ الحکم بالبطلان یکون فی صورة الاداء أولی من القضاء بظهور هذا التعبیر من عظم هذا الشهر المنتسب إلی اللّه سبحانه وتعالی فإذا سلمنا ذلک _ أی منافاته مع قضائه _ فأدائه یکون بطریق أولی . مضافا إلی إمکان استفادة ذلک من الحکم بالقضاء علی مَنْ نسی غسل الجنابة من الأخبار ، کخبر إبراهیم بن میمون وغیره(1) . وهذا المقدار کاف فی إثبات ذلک المطلب .

مضافا إلی عدم صراحة الخلاف فی أصل المسألة ممّن أشرنا إلیه من الفقهاء ، وعدم قوّة استدلالهم من الأدلّة التی تمسّکوا بها ، کما سنذکره إن شاء اللّه ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه . فحینئذٍ نشرع فی ذکر أدلّة من یقول بصحة الصوم فی الفرض المذکور ، أی البقاء علی الجنابة إلی طلوع الفجر من شهر رمضان .

فممّا استدل به الآیتان الواردتان فی الصوم وهما فی الحقیقة تعدّان آیة واحدة ، وهما قوله تعالی : «أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَةَ الصِّیام الرَّفَثُ إلی نسائکم» وقوله تعالی «فالآنَ باشِرُوهنَّ وابتَغُوا ما کَتَب اللّه ُ لَکُم وکُلُوا واشْرَبُوا حتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمْ الخَیطُ الأبیض من الخیط الأسود من الفَجر»(2) . بناءً علی شمول الغایة بقوله : «حَتّی یَتَبین» للمباشرة أیضا ، ولا تکون متعلِّقة بخصوص الأکل والشرب ، فعلیه تفید الآیتان _ صدرا وذیلاً _ بإطلاقهما جواز مباشرة النساء فی


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
2- سورة البقرة : آیة 186 .

ص:70

تمام الأجزاء من اللیل حتی الجزء الأخیر منه المتّصل بالفجر ، بحیثُ لا یبقی منه وقت للغسل أیضا .

هذا لکنّه مخدوش أولاً : بأنّ الجواز کذلک بملاحظة الحکم أولی ، وهذا لا ینافی الحکم بلزوم وقوع الغُسل قبل الفجر ، لأنّ النظر فی الحکم بالجواز إنّما کان بملاحظة أصل الموضوع ، مع الغضّ عن أنّ بعض موارده من جهة بعض المقدّمات الخارجیة تحتاج إلی فترة زمنیة کما هو الحال فی الأکل والشرب أیضا ، فإن الحکم بجواز الأکل فی اللیل کلّه لا ینافی کون المکلف علی حال لا یقدر من الأکل إلاّ بقدر من الوقت ، بحیث لو أتی فی آخر جزء من اللیل مع تلک الحالة لوقع أکله أو بعض آثره المبطلة ما بعد طلوع الفجر ، فإنّه یجب علیه ترک أکله قبل ذلک بواسطة الأدلّة الدالّة علی مبطلیة الأکل بعد الفجر ، حتی بمفاد حکم الغایة المستفاد من سیاق الکلام أیضا .

ثانیا : أنّ الآیتان لیستا بصدد بیان الحکم إلاّ من جهة أصل الجواز ، کما هو کذلک فی مثل نظائرها ، خصوصا فی الآیة الأولی ، وخاصة إذا لاحظنا أنّ شأن نزولها کان لأجل المنع عن المباشرة فی اللیل أوّلاً ثمّ أجیز وأحلّ بعد ذلک ، حیث یؤیّد ما ذکرناه ، فلا یجوز ملاحظة إطلاق الآیة فی تلک الجهة قطعا .

مضافا إلی الإشکال فی الآیة الثانیة من جهة احتمال کون الغایة راجعة إلی الجملة الأخیرة ، لا إلی المجموع ، کما ادعاه الآملی قدس سره فی «المصباح» .

وثالثا : لو سلمنا إطلاق الآیتین للجواز حتی للجزء الأخیر من اللیل ، فنقیّده بذلک بواسطة الأخبار الخاصة الکثیرة ، الّتی قد بلغت فی الکثرة إلی حد الاستفاضة _ لو لم نقل بالتواتر _ والإجماعات المدّعاة من الفقهاء علی بطلان الصوم لو بقی علی الجنابة مصبحا ، کما لا یخفی بمثل ما نقید غیرها من الإطلاقات .

وممّا استدلّ به أیضا علی الصحّة : الأخبار الواردة فی ذلک ، مضافا إلی

ص:71

الأصل ، وهو البراءة عن الوجوب والشرطیة للغسل لصحّة الصوم ، ومنها صحیح حبیب الخثعمی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یصلّی صلاة اللیل فی شهر رمضان ، ثمّ یجنب ، ثمّ یؤخِّر الغُسل متعمِّدا حتی یطلع الفجر»(1) .

الخبر المنقول فی «المقنع» عن حمّاد بن عثمان : «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فی شهر رمضان من أوّل اللّیل وأخَّر الغسل حتی یطلع الفجر ؟ فقال : کان رسول صلی الله علیه و آله یجامع نسائه من أوّل اللیل ثمّ یوخّر الغسل حتی یطلع الفجر ، ولا أقول کما یقول هؤلاء الأقشاب یقضی یوما مکانه»(2) .

فیمکن أن تکون قوله علیه السلام : «کان رسول . . .» إلی قوله «هؤلاء الأقشاب» مقولة قول هؤلاء العامة ، فترجع جملة «یقضی یوما مکان» إلی موضوع السؤال وکان هذا صحیحا .

أو یمکن أن یکون المراد من «هؤلاء الأقشاب» هم الخاصة تقیةً فأراد علیه السلام الطعن فی الخاصة فتکون جملة «یقضی یوما» مقولة قول الخاصة المطعونة ظاهرا ، فصارت الجملة واردة مورد التقیة ، واحتمال الأوّل أولی ، واللّه العالم .

وصحیح عیص بن القاسم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فی شهر رمضان فی أوّل اللیل ، فأخّر الغُسل حتی طلع الفجر ؟ فقال : یتم صومه ولا قضاء علیه»(3) .

وخبر سلیمان بن أبی زینبة ، قال : «کتبتُ إلی أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام أسأله عن رجلٍ أجنب فی شهر رمضان من أوّل اللیل ، فأخّر الغُسل


1- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 4 .

ص:72

حتی طلع الفجر ؟ فکتب إلیَّ بخطّه أعرفه مع مصارف : یغتسل من جنابته ویتمّ صومه ولا شیء علیه»(1) .

وخبر إسماعیل بن عیسی ، قال : «سألت الرضا علیه السلام عن رجل أصابته جنابة فی شهر رمضان ، فنام عمدا حتی یصبح أی شیء علیه ؟ قال : لا یضر هذا ، ولا یفطر ولا یبالی ، فإنّ أبی علیه السلام قال : قالت عائشة إنّ رسول صلی الله علیه و آله أصبح جنبا من جماعٍ غیر احتلام . قال : لا یفطر ولا یبالی» الحدیث(2) .

نعم قد تمسک الآملی قدس سره فی سیاق هذه الأخبار بخبر أبی سعید القماط : «أنّه سئل أبو عبداللّه علیه السلام عمّن أجنب فی شهر رمضان فی أوّل اللیل ، فنام حتی أصبح ؟ قال : لا شیء علیه ، وذلک أنّ جنابته کانت فی وقت حلال»(3) . ولم یذکره أحد غیره ، ولعلّه لإمکان الفرق بکونه واردا فی مورد النوم متعمِّدا مع الجنابة ، فلم یوجب البطلان ، بخلاف من کان فی حال الیقظة وأصبح عامدا جنبا .

اللهم إلاّ أن یکون مقصوده التمسّک بذیله المذکور علی صور التعلیل ، بأنه حیث وقعت الجنابة فی وقتٍ حلالٍ فلا یضر ، فعمومیته تشمل المقام أیضا .

لکنه لا یخلو عن تعسف کما لا یخفی .

هذه جملة من النصوص الدالّة بظاهرها _ لولا التأویل _ علی مختاراتهم . ولا یخفی علی المتأمل ضعف تمام هذه الأدلّة ، مع ملاحظة تلک الأخبار ولابدّ فیها من اعمال ضرب من التأویل .

فأمّا الجواب عن الأصل : فلوضوح أنّه لا مورد له مع وجود الأخبار الصریحة


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .

ص:73

فی وجوب الغسل قبل الفجر ، وعدم جواز التأخیر حتی یصبح ، وهو واضح .

وأمّا الأخبار : فحملها علی التقیّة هو الأقرب ، وفی بعضها قرینة علی ذلک من نقل الإمام علیه السلام عن أبیه عن عائشة ، والحال أنّه بعید جدا عن شأن الإمام علیه السلام مثل ذلک ، وذکر لفظ (کان) الظاهر استمراریة عمل رسول اللّه صلی الله علیه و آله إذ یعدّ مبعدا آخر لا یعقل منه صلی الله علیه و آله فی شهر اللّه الأکبر أن یبقی بحال الجنابة إلی الفجر ، حتی بعد طلوعه ، وتأخیره صلاة الصبح عن أوّل وقته .

وأمّا الإشکال بوجوب صلاة اللیل علیه صلی الله علیه و آله وأنّه لا یتناسب مع بقائه جنبا ، لاستلزامه لترک ما هو الواجب علیه .

فمندفع ، بما ذکر فی خبر الخثعمی من احتمال کون الجنابة واقعة بعد صلاة اللیل ، کما صرح فی هذا الخبر بذلک ، فلا یوجب حینئذٍ ترک الواجب .

وقرینة اُخری فی بعضها ، وهی الإشارة إلی قول العامّة ، بقوله علیه السلام : «لا أقول کما یقول هؤلاء الأقشاب یقضی یوما مکانه» . هذا فضلاً عن أنّ مسلک العامّة أیضا کذلک من الحکم بالصحّة فی الفرض وهو أولی من سائر التأویلات التی لا تخلو عن غرابة فی الجملة ، من احتمال کون الحکم المذکور فی هذه الأخبار منسوخا أو من خصائص النبی صلی الله علیه و آله کما احتملها صاحب «وسائل الشیعة» قدس سره ، أو الحمل علی صورة العذر ، أو علی غیر صورة العمد ، أو علی الاستفهام الانکاری والتعجب ، فکأنه یقال : هل یمکن أن یکون کذلک أو التأخیر إلی قریب الفجر قبل طلوعه ، أو الفجر الکاذب الأوّل لا الثانی الصادق . مع عدم مساعدته مع بعضها ، حیث قد صرح فیه بلفظ الصبح کما فی خبر إسماعیل : «قالت عائشة : إنّ رسول اللّه أصبح جنبا» فحمله علی الصبح الکاذب حملٌ علی ما هو غیر متعارف فی الاستعمال ، کما لا یخفی .

فثبت أن أحسن الوجوه هو الحمل علی التقیة ، ولا یکون مع ذهاب العامّة إلی

ص:74

ذلک حملاً بعیدا . هذا مضافا إلی عدم القطع بصحّة استناد الحکم بالصحة حزما إلی الصدوقین وغیرهما ، کما ذکره صاحب «الجواهر» والحکیم فی «المستمسک» . وهکذا ثبت _ بعد ما ذکرناه _ وضوح الحکم فی المقام ، أنّه یجب الغسل قبل دخول الوقت قطعا ، ولا یجوز تأخیره إلی طلوع الفجر ، واللّه العالم .

هاهنا عدة فروع وهی :

الفرع الأوّل : هل یلحق الحیض والنفاس بالجنابة أم لا ؟ المشهور علی الأوّل ، کما عن کتاب «الطهارة» للشیخ الانصاری قدس سره ، بل حُکی عن «المقاصد العلیة» نفی الخلاف فیه ، ولکن کتب القدماء خالیة من ذکر هذا الشرط ، ونقله صاحب «الجواهر» عن «المصابیح» سوی ابن عقیل ، ولذلک ذهب صاحب «المدارک» والأردبیلی ومحکی «النهایة» إلی عدم الالتحاق ، ونُسب إلی «جمل» السیّد و«مبسوط» الشیخ قدس سره أیضا کما فی «المصباح» ، بل استظهره «کاشف اللثام» عن العلاّمة فی «القواعد» من جهة التقیید بالجُنب فقط . فعلی هذا ، لا یبعد أن یکون هذا هو المراد من التقیید فی کلام «الشرائع» أیضا ، لو لم یحمل علی التمثیل . بل نقل فی «کشف اللثام» التردد عن العلاّمة والمحقّق فی «المنتهی» و«المعتبر» ، خلافا للعلاّمة فی «المختلف» و«التذکرة» و«التحریر» . وکیف کان ، الأقوی عندنا الالحاق ، کما علیه المتأخرون والمعاصرون لوجوه وهی :

الأوّل : دلالة موثّق أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إنْ طهرتْ بلیلٍ من حیضها ، ثمّ توانت أن تغتسل فی رمضان ، حتّی أصبحت ، علیها قضاء ذلک الیوم»(1) .

فهی تدل علی وجوب القضاء ، فیدل علی البطلان وهذا الخبر هو العمدة فی المقام .

واحتمال ضعف سنده بواسطة علی بن حسن بن فضال ، وعلی بن أسباط ،


1- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب ما یسمک عنه الصائم، الحدیث 1 .

ص:75

حیث ورد فی حقّهما غمزٌ ، وأنّ روایتهما غیر صحیحة .

مندفع ، بوقوع التوثیق من المشهور ، إذ شهدوا علیهما بالتوثیق کما فی «کشف اللثام» فی هذا المقام ، وتمسّکوا به ، مضافا إلی الأمر الوارد من الأخذ بروایات ابن فضال بقوله علیه السلام : «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» ، کما فی «المستمسک» ، هذا فضلاً عن أنّه منجبرٌ بعمل الأصحاب من الاعتماد تصریحا أو تلویحا .

الثانی : ممّا فی «الجواهر» من الغلبة بمشارکة الحیض مع الجنابة فی کثیر من الأحکام ، بل قد یُدّعی الأولویة بواسطة بعض الأخبار بأنّ الحیض یکون أعظم الوارد فیمن حاض بعد الجنابة ، فإذا کان البقاء علی الجنابة متعمِّدا موجبا للبطلان ، فالحیض یکون بطریق أولی ، بل وهکذا أنّ الحیض إذا وقع ولو بغیر اختیار موجبٌ لبطلان الصوم ، بخلاف الجنابة ، کما أنّه لو احتلم فی یوم رمضان مثلاً حیث لا یوجب البطلان ، فکیون الحیض أشدّ حالاً من الجنابة ، کما فی «مصباح الهدی» . أو بما فی «کشف اللثام» من وجود التنافی بین طبیعة الحیض مع الصوم کالجنابة معه فیوجب الإلحاق .

ولکن قد استشکل علیه فی «کشف اللثام» قائلاً : بأنّه ممنوع . وفی «المصباح» بأنه لا یخفی من الغرابة بأن الأشدّیة إنّما کانت بالنسبة إلی نفس الحیض ، لا ما هو یبقی أثره بعد زوال نفسها ، والکلام إنما هو فی الثانی لا الأوّل .

ولکن الإنصاف شمول الحدیث الدال علی أنّه أعظم لأثره الباقی بعد انقطاع الدم ، لان المفروض کونها محدثة بعده أیضا ، ولذا یجب الغسل عنه للصلاة والصیام لمن أراد الإتیان بهما . مضافا إلی أنّه لو لم نقل أنّه أعظم ، فلا أقل من التساوی . فما ذکره «کاشف اللثام» من المنع لا یخلو عن منع ، فالتمسّک بهذا الوجه من الدلیل لا یخلو عن وجه .

ص:76

الثالث : تمسکا بالأصل فی وجه ، سیما أنّ جعل الکف عنه داخلاً فی ماهیة الصوم ، کما فی «الجواهر» ولعلّ المراد أنّ جعل الصوم عنوانا محصلاً عن الترک والکف والإعراض ، مع انضمام النیّة ، فصار کالطهارة علی قول ، فحینئذ إذا شکّ فی شرطیة شیء أو جزئیته ، یرجع شکّه إلی الشکّ فی المحصِّل والمحصَّل ، فالأصل فیه هو الاشتغال لا البراءة ، وهذا بخلاف ما لو جعل الصوم هو نفس التروک لا أمرا محصلاً عنه ، فحینئذٍ یرجع الشک إلی الشک فی التکلیف ، فالمرجع هو البراءة لا الاشتغال ، ولولا ذلک لما بقی للأصل المذکور المقتضی للاشتغال وجها ، فتأمل .

الفرع الثانی : هل یلحق النفاس بالحیض أم لا ؟ الأقوی هو الأوّل ، للقاعدة المجمع علیها من مشارکته مع الحیض فی الأحکام ، بل قد یدعی فی المقام _ أی الصوم _ الإجماع ، أی من قال بوجوب غُسل الحیض للصوم ، قال به بالنسبة إلی غسل النفاس أیضا . مضافا إلی إمکان دعوی الاتّحاد موضوعا لا حکما ، لأنّ دم النفاس هو دم الحیض ، إلاّ أنّه احتبس لتکون الولد . فالحکم واضح ، لا کلام فیه ، ولم نشهد مخالفا فیه .

الفرع الثالث : هل یلحق به غُسل مسّ المیّت أم لا ؟ الأقوی عدم الالتحاق ، بل هو المسلم بین الأصحاب ، ولم ینقل خلاف إلاّ دلالة کلام والد الصدوق قدس سره فی الالحاق ، من جهة الحکم بالبطلان فی صورة النسیان للغسل للصلاة والصیام . ولکن فی «الجواهر» : لعلّه وهمٌ من الناقل ، لکونه کذلک فی النسخ ، مضافا إلی أنّ الصدوق یفتی عادة علی طبق نص «فقه الرضا» والأخبار ، والحال أنّه لیس فیهما من ذلک أثرا .

قضاء شهر رمضان کأدائه فی مسألة البقاء علی الجنابة و...

مضافا إلی ما عرفت من وجود السیرة المستمرّة إلی زمام المعصوم علیه السلام من وقوع المسّ فی أیام شهر رمضان ، ولم ینبّهوا الناس من ضرورة لزوم الغسل عنه

ص:77

لو وقع فی اللیل ، حذرا من إبطال الصوم ، مع أنّه لو قیل وکان لاشتهر وبان .

فثبت القطع بعدم اشتراط صحّة الصوم به ، مضافا إلی وجود الأصل أیضا هو البراءة من شرطیة ذلک ، وهو واضح .

النوع الرابع : الظاهر إلحاق قضاء صوم رمضان فی ذلک الحکم بالأداء ، أی البقاء علی الجنابة ، بل الحیض والنفاس موجب لبطلان صوم ذلک الیوم ، کما هو المشهور المنصور ، کما ادّعی ، ویدل علیه أمور :

الأمر الأوّل : الروایات الخاصة الواردة فی قضاء صوم شهر رمضان ، وهذه الأخبار التی سنتعرض لها ، وإن کانت واردة فی الجنابة ، إلاّ أنّه قد عرفت بأنّ الحیض والنفاس لو لم یکن أعظم ، فلا أقل من التساوی فلا نعید ، فإذا أثبتنا الحکم فی الجنابة فیثبت فی غیرها أیضا .

وممّا یدلّ علی ذلک صحیح عبد اللّه بن سنان :

«أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یقضی شهر رمضان ، فیجنب من أوّل اللیل ولا یغتسل حتی یجیء آخر اللیل ، وهو یری أنّ الفجر قد طلع ؟ قال : لا یصوم ذلک الیوم ویصوم غیره»(1) .

وخبر ابن سنان ، یعنی عبداللّه ، قال : «کتب أبی إلی أبی عبداللّه علیه السلام وکان یقضی شهر رمضان ، وقال : إنّی أصبحتُ بالغسل ، وأصابتنی جنابة ، فلم أغتسل حتی طلع الفجر ؟ فأجابه علیه السلام : لا تصم هذا الیوم وصم غدا»(2) .

فهو یدلّ علی المطلوب إمّا بالمنطوق إنْ کان منتبها إلی الصبح ، أو بالأولویة إن کان قد نام وأصبح .


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 2 .

ص:78

وذیل موثّق سماعة بن مهران فی حدیثٍ : «فقلت : إذا کان ذلک من الرجل ، وهو یقضی رمضان ؟ قال : فلیأکل یومه ذلک ولیقض ، فانه لا یشبه رمضان شیء من الشهور»(1) . حیث ان صدره وارد فیمن أصابته جنابة فی جوف اللیل فی رمضان فنام ، وقد علم بها ، ولم یستیقظ حتی أدرکه الفجر .

فی الجواب عمّایرد علی وجوب الغسل قبل الفجر

ویفهم الحکم المزبور بنحو الأولویة فیمن ترک الغسل متعمِّدا إلی أن یطلع الفجر ، بلا نوم أصلاً ، لامکان أن یکون النوم لمن أراد الاغتسال بعد الانتباه ولکن لم یستیقظ . مضافا إلی ظاهر التعلیل ، حیث أنّه یمکن ارجاعه إلی وجوب الاتمام لصوم ذلک الیوم فی الأداء دون القضاء ، کما احتمله الآملی فی «مصباح الهدی» . أو یکون المراد بیان حکم البطلان لذلک الصوم ، حتی یکون فی صدد بیان امتیاز شهر رمضان وقضائه عن سائر الشهور . فعلیه لا تخلو الروایة عن دلالة عدم منافاة الجنابة مثلاً لصیام غیر رمضان أداءً وقضاءً .

الأمر الثانی : أنّ الظاهر أنّ القضاء لیس إلاّ نفس الواجب ، إلاّ أنّه قد أتی به فی خارج الوقت ، ولذلک لابدّ له من الشرائط ورفع الموانع بکل ما یکون فی أدائه وإلاّ لولاه لما کان لنا فی القضاء بالخصوص لکلّ من الشرائط ودفع الموانع دلیل ، لا سیما إنْ جعلنا الأمر فی الأداء علی نحو تعدّد المطلوب ، فعلیه لا یکون القضاء إلاّ نفس ذلک الواجب المأمور به فی الوقت ، إلاّ أنّه وقع فی خارجه ، فالادلة الواردة فی الأداء إذا فرضنا قصور أیدینا عن دلیل فی باب القضاء _ کافیة فی إثبات المطلب ، کما لا یخفی علی المتأمل . مضافا إلی إمکان دعوی قیام الشهرة العظیمة من المتقدمین والمتأخرین والمعاصرین ، بل لم نجد من صرّح بنقل خلاف من أحد . نعم قد نقل التردد عن «المنتهی» والمیل إلی العدم عن


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .

ص:79

«المعتبر» ، کما عن «المستمسک» ، فصارت المسألة قریبة من الاتفاق فی ذلک ، فلیجعل ذلک ثالث الأدلّة . بل قد یدعی إمکان الاستظهار عن مجموع الأخبار الواردة فی هذه المسألة وأشباهها ، أنّ الجنابة ونظائرها من الأحداث منافیة کلّها مع ماهیة الصوم ، سواء کان واجبا أو مندوبا ، وسواء کان معینا أو غیر معین ، وسواء کان شهر رمضان أو غیره ، أداءً أو قضاءً ، إلاّ ما ثبت بالدلیل الخروج من ذلک ، کما ادّعی فی المندوب بواسطة وجود بعض الأخبار الخاصّة منه .

ولیست هذه الدعوی ببعیدة ، ولا أقلّ من حسن الاحتیاط ، فإنّه حسن علی کل حال ، لا سیما فی الواجب منه _ أی الصوم _ فلا یترک ، وتفصیل الکلام فیه موکول إلی محلّه إن شاء اللّه .

الفرع الخامس : إذا عرفت وجوب غسل الجنابة والحیض والنفاس لأجل الصوم الواجب ، وکان شرطا فی صحته ، ولم نجوّز وقوعه فیما بعد طلوع الفجر _ کما علیه المقدس الأردبیلی قدس سره وغیره _ بل لابدّ من إتیانه قبل الطلوع ، فحینئذٍ یقع الإشکال فی أنّ الصوم حیث لا یکون واجبا إلاّ من أوّل وقت الطلوع ، ولا یجب قبله ، فکیف یمکن تحقّق وجوب الغُسل الذی هو مقدّمة للصوم قبل وجود وجوب الصوم ، إلاّ یعدّ هذا من باب لزوم تقدم المعلول علی العلّة الذی ثبت محالیة ؟ فکیف التخلص عن ذلک ؟

قلنا : الأقوال فیه کثیرة ومضطربة ، فقد استخلص بعضٌ مثل ابن إدریس الحلی ومن تبعه بجعل الوجوب المتعلّق به وجوبا نفسیا ، فلا ینافی کونه واجبا قبل الصوم .

ویرد علیه : أنّه یلزم أن یکون وجوبه غیر منوط بآخر الوقت ، کما یظهر ذلک من کلام المحقّق فی «الشرائع» بقوله : «یجب قبل طلوع الفجر لیوم یجب صومه بقدر ما یغتسل الجنب ، بل لو أراد الإتیان فی الیوم الذی کان قبله کان واجبا

ص:80

أیضا» وهو واضحٌ مع عدم وجود دلیل علی ذلک ، کما عرفت تفصیله سابقا فلا نعید ، هذا أحد الأقوال .

وقولٌ بکونه واجبا غیریّا شرعیّا بوجوب المتعلق علی الصوم ، إلاّ أن وجوبه مطلق حالی والواجب استقبالی ، والزمان یکون ظرفا للواجب لا الوجوب ، فیصیر هذا هو الواجب المعلّق ، کما ذکره صاحب «الفصول» ، لا الواجب المشروط الذی کان وجوبه أیضا مشروطا ، فیترشّح من ذلک الوجوب المطلق وجوبٌ لتلک المقدّمة قبل وقت الواجب ، وهذا هو الظاهر من کلام صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» مع فرق بینهما من جهة أنّ صاحب «الجواهر» یجعل الغُسل قریبا بوقت الصوم شرطا لصحّته ، فهو واجب بذلک الوجوب لا مطلق الغسل الواقع قبله بوقت وسیع ، خلافا للفقیه والهمدانی فإنّه یحکم بما یقتضی لازم کلامهما من کون الغُسل فی وقت وسیع أیضا واجبا غیریا ، ولذا استشهد بعدم جواز النوم فی أوّل اللیل لمن یعلم عدم الانتباه فیصبح جنبا . فی الجواب عمّایرد علی وجوب الغسل قبل الفجر

وقول بکونه واجبا نفسیا تهیئیا وهو ما اختاره صاحب «المدارک» قدس سره فی وجوب التعلّم للأحکام الشرعیة قبل البلوغ ، أو قبل وقت الواجب ، حتی یکون متهیّئا بایقاع الواجب صحیحا فی الوقت ، وهکذا الأمر فی المقام .

فعلیه لا یکون الغسل واجبا إلاّ فی آخر الوقت الذی یصدق علیه النهی عرفا ، کما لا یخفی .

وقولٌ بکونه واجبا شرعیا غیریا ، بحیث یستفاد من الأدلّة وجوبه کذلک ، أی قبل دخول الوقت الواجب ، فعلیه یکونو أیضا مستفادا من الدلیل مستقلاً لا من نفس دلیل وجوب ذی المقدّمة ، فعلیه یکون أیضا واجبا مضیّقا لا موسعا . وهذا هو الظاهر من کلام صاحب «الکفایة» فی الأصول .

وقولٌ بأن یکون وجوبه وجوبا عقلیا عقلائیا ، إذ العقل والعقلاء إذا فهموا

ص:81

ولصوم المستحاضة إذا غمس دمها القطنة(1)

الملازمة بین ترکه فی ذلک وبین ترک الواجب وتفویته ، کما أوجبوا تحصیلاً لمصلحة الواجب اتیانه قبل الوقت ، وإنْ کان الفرض قصور دلیل وجوب الصوم عن شموله للإشکال المقدم ، وهو تقدم المعلوم علی علته ، فلا یبعد القول بأحد الوجهین الأخیرین ، لو لم نسلّم بما ذکره صاحب «الجواهر» وغیره .

وقولٌ _ وهو أضعفها _ بأن یکون العلم باتیان الواجب فی محلّه ، وعدم إمکان استدراکه إلاّ باتیانه قبله موجبا لصیرورته واجبا ، وهذا لا محصل له ، إلاّ أن یرجع إلی ما ذکرناه ، وهو غیر مرتبط بالعلم بذلک ، کما لا یخفی .

(1) ظاهر کلام المصنف هو الإطلاق من جهة السیلان وعدمه ، فیشمل کلامه المستحاضة الکثیرة والمتوسطة .

قیل : الذی لا غسل فیه قطعا ، هی القلیلة ، وهو مسلّم بین الفقهاء ، کما لا إشکال فی وجوبه فی الکثیرة ، بل قد ادّعی علیه الإجماع ، وإنّما الخلاف فی المتوسطة ، حیث أنّ الظاهر من کلام المحقّق وغیره هو الوجوب ، بل قد ادّعی صاحب «حواشی التحریر» و«منهج السداد» و«الروض» علیه الإجماع ، مع التصریح بالتعمیم ، بل علیه الفقهاء المتأخرین والمعاصرین . وتفصیل الکلام وتحقیقه موکول إلی محلّه .

وما استدل فی «الجواهر» من صحیح علی بن مهزیار _ حیث ورد فیه السؤال عمن ترک ما تعمل المستحاضة من الغسل لکلّ صلاتین ؟ فأجاب الإمام علیه السلام بقضاء الصلاة دون الصوم ، وعلّل بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یأمر فاطمة والمؤمنات من نساءه بذلک(1) _ إنّما یکون مورد السؤال صورة الکثرة ، وساکت عن صورة


1- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .

ص:82

والواجب من التیمّم ، ما کان لصلاةٍ واجبة عند تضییق وقتها ، وللجُنب فی أحد المسجدین لیخرج به.(1)

التیمّم الواجب للغیر

غیرها ، فلا ینافیه . بناءً علی هذا لنا دلیل علی إثبات الحکم للمتوسطة ، فالمرجع هو الأصل ، لو لم یکن عندنا نص . اللّهم إلاّ أن یکون الإجماع المنقول ، أو الشهرة العظیمة ، موجبا لحصول الظنّ أو الاطمئنان بوجوب الغسل ، فلا یعتمد علی الأصل . ولا یسع المقام أن یبحث أزید من هذا .

ثمّ لا إشکال فی توقف صحّة الصوم علی غُسل الفجر ، وإن کان الغُسل بعد الفجر قبل الصلاة وکان سببه متقدِّما قبل الطلوع ، وهذا اتفاقی وکأنّه لا خلاف فیه .

وأمّا توقّفه علی الأغسال الفجریة والنهاریة معا فمحل خلاف ، ذهب المشهور _ کما نسب إلی «المدارک» _ کما علیه العلاّمة والشهید وجماعة ، ولکن العلاّمة فی «النهایة» احتمل توقفه علی الفجر فقط .

وأمّا توقّفه علی مطلق الأغسال من النهاریة واللیلیة المستقبلة ، وإن اقتضت إطلاقات کلامهم إلاّ أنّه صرح بعضهم علی خلافه ، فإثباته موکول إلی محلّه .

(1) ظاهر إطلاق الماتن قدس سره یشمل تام افراد التیمّم للصلاة الواجبة ، سواء کان بدلاً عن الوضوء أو الغسل ، وسواء کان الغسل عن الجنابة ، أو الحیض أو النفاس ، أو المس . والحکم الثابتٌ ومجمعٌ علیه ، اجماعا محصلاً ومنقولاً من الکتاب والسنة . نعم قد خرج عن ظاهر کلامه الطواف ، ومس کتابة القرآن ، وقراءة العزائم انْ وجبا ، والصوم للغُسل خاصة ، کما صرح بالخروج العلاّمة فی «المنتهی» کما نقله والده الفخر ، بل قد صرح بذلک صاحب «المدارک» للأخیر أیضأ ، لأنّه لابدّ له من نوع خاص من الطهارة ، فبدلیة التیمّم عنه تحتاج إلی دلیل خاص ، وحیث لم یکن فالمرجع الأصل ، بخلاف ما کان شرطه الطهارة المطلقة

ص:83

من الحدث الأکبر والأصغر ، فیصح بدلیته عنه . کما أنّ الظاهر من کلام العلاّمة دعوی الرجوع إلی الأصل ، فیما لا دلیل بالخصوص للموارد المذکورة ، ولا تکون الأدلّة واردة إلاّ فی خصوص الصلاة .

هذا ولکن الأقوی _ کما علیه الشیخ فی «المبسوط» و«الدروس» ، وجماعة کثیرة من القدماء ، بل المتأخِّرین والمعاصرین _ کون التیمّم بدلاً عن الطهارة المائیة مطلقا بجمیع أقسامها . ویدلّ علی ذلک _ مضافا إلی ذهاب أکثر القدماء والمتأخِّرین _ مشروعیة التیمّم لکل ما یجب له الطهارة المائیة ویبیحه عند تعذرها ، کما عن الشیخ فی «المبسوط» و«الجمل والعقود» و«المصباح» و«المعتبر» و«الشرائع» و«الجامع» و«المنتهی» و«التذکرة» و«القواعد» و«البیان» و«الروضة» والکرکی ، بل فی «المعتبر» علیه اجماع فقهاء الإسلام ، وفیه نقل الإجماع عن الفاضل أیضا ، بل فی موضع من «الحدائق» دعوی الشهرة ، وفی آخر منه أنّ علیه الأصحاب ، وفی «التذکرة» نفی الخلاف عن استباحته للمسّ والتلاوة .

مضافا إلی روایة «فقه الرضا» بقوله : «والتیمّم غسل المضطر ووضوءه» ، المنجبر ضعفه بعمل الأصحاب ، حیث أنّ من یجب علیه شرط الطهارة المائیة مضطر ، فیدخل تحت العموم فی الخبر .

فی کون التیمّم بدلا عن الطهارة المائیّة

ومضافا إلی استفادة ذلک من الآیتین الواردتین فی ذلک ، الأولی قوله تعالی : «وَلاَ جُبُنا إلاّ عَابِری سَبیل حَتّی تَغْتَسِلُوا وإنْ کُنتُم مَرْضی أو عَلی سَفَرٍ أو جَاءَ أحدٌ مِنکُم مِنَ الغَائط أو لا مَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا ماءً فَتَیمّموا صَعِیدا طیّبا » الآیة(1) . بناء علی أحد المعنیین ، وعلیه الخبر بکون المراد من


1- سورة النساء : آیة 43 .

ص:84

«عابری سبیل» هو الاجتیاز عن المسجد ، فلا یجوز إقامة الصلاة فیه إلاّ أن یکون متیمّما فیجوز .

بل أولی منها من جهة الدلالة من حیث إشعار التعلیل بالطهارة ، وهی الآیة الثانی قوله تعالی : «وإنْ کُنتم جُنُباً فاطَّهروا وإنْ کُنتُم مَرْضی أو عَلی سَفَرٍ أو جَاءَ أحدٌ مِنکُم مِنَ الغَائط أو لا مَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا ماءً فَتَیمّموا صَعِیدا طیّبا فَامْسَحُوا بوجُوهِکُم وَأیدِیکُم منه ما یریدُ اللّه لیَجْعَلَ علَیْکُم مِنْ حَرَجٍ ولکن یُریدُ لیطَّهرکُم»الآیة(1) . حیث تفید أنّ الطهارة فی حال الاضطرار لیس إلاّ التیمّم ، فلا یکون مورده وهو الصلاة فی کلتا الآیتین مخصصا ، فالعبرة بعموم التعلیل لا بخصوص المورد .

کما تفید الأخبار المستفیضة الواردة فی إثبات البدلیة للتیمّم عن الطهارة المائیة ، وکون التراب بمنزلة الماء ، وإنْ شئت تفصیل ذلک فانظر إلی خبر حمّاد بن عثمان ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل لا یجد الماء یتیمم لکل صلاة ؟ فقال : لا هو بمنزلة الماء»(2) .

وخبر زرارة عن الصادق علیه السلام : «فی رجل یتیمّم ؟ قال : یجزیه ذلک إلی أن یجد الماء»(3) .

وخبر السکونی عن الصادق علیه السلام عن جدّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : «یا أبا ذرّ یکفیک الصَّعید عشر سنین»(4) .


1- سورة المائدة : آیة 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 7 .

ص:85

وخبر زرارة فی حدیثٍ عن الباقر علیه السلام قال : «فإنّ التیمّم أحد الطهورین»(1) .

وخبر محمّد بن مسلم ، فی حدیث : «ولا ینقضها» ، لمکان أنّه دخلها وهو علی طهر بتیمّم(2) .

وخبر محمّد بن مسلم أیضا عن الصادق علیه السلام ، قال : «سمعته یقول : إذا لم تجد ماءً وأردت التیمّم ، فأخّر التیمّم إلی آخر الوقت ، فإن فاتک الماء لم تفتک الأرض»(3).

وحدیث محمّد بن حمران عن جمیل بن دراج ، جمیعا عن الصادق علیه السلام : «إن اللّه جعل التراب طهورا ، کما جعل الماء طهورا»(4) .

وخبر محمّد بن مسلم عن الصادق علیه السلام قال : «إنّ رب الماء هو رب الصعید ، فقد فعل أحد الطهورین»(5) .

حیث تری دلالة الکلّ علی ما ادعیناه ، فیوجب حصول القطع ، ولا أقلّ من حصول الاطمئنان علی صحّة ما ادعیناه ، من کفایة التیمّم بدلا عن الماء ، فی کلّ ما یجب فیه الطهارة المائیة .

مضافا إلی إمکان دعوی الأولویة _ کما فی «مستند الشیعة» _ فإنّه إذا کفی للصلاة التی هی من أعظم العبادات ، ففی غیرها یکون بطریق أولی .

ومضافا إلی ملاحظة الأخبار الواردة فی التیمّم لذوی الأعذار ، وکلّ ذلک یزیل التردّد عن الفقیه إن شاء اللّه ، فالمسألة واضحة وللّه الحمد .

ومن ذلک یظهر فرعان آخران وهما :


1- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب التیمّم، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب التیمّم، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب التیمّم، الحدیث 6 .

ص:86

الفرع الأوّل : ما فی المتن من إیجاب التیمّم للجنب فی أحد المسجدین ، لیخرج به ، لما قد عرفت من الأدلّة السابقة منضما إلی حصول الإجماع القطعی ، بل وعدم الخلاف _ إلاّ عن ابن حمزة ، حیث حکم بالاستحباب علی وجوبه للمحتلم فی المسجدین ، بل مطلق الجنب فیهما ، کما علیه ظاهر المحقّق فی المتن و«الجامع» و«القواعد» ، بل قد یُدعّی الإطلاق حتی لمن دخل جنبا عمدا أو سهوا فیهما ، مع کون حصول الجنابة فی غیرهما ، کما یظهر ذلک من «الارشاد» و«الدروس» و«البیان» وغیرها . وفی المورد نص خاص ، فقد ورد الحکم المذکور فی صحیح ومرفوع أبی حمزة ، عن أبی جعفر علیه السلام : «إذا کان الرجل نائما فی المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله فاحتلم ، فأصابته جنابة ، فلیتیمّم ولا یمر فی المسجد إلاّ متیمّما» الحدیث(1) . إذ یدلان علی وجوبه ولذلک ذکره المحقّق بالخصوص ، فلعلّه شاهد دلیلاً آخرا علی أنّه یجب التیمّم فی غیر الصلاة والجنب فی المسجد . ولکن قد عرفت ضعفه ، فإشکال الشهید فی «المسالک» علیه فی ذیل قوله : «المندوب ما عداه» یکون واردا خلافا ل_ «کشف اللثام» حیث یحمله علی ما یکون واجبا بذاته وبالأصالة .

الفرع الثانی : ما فی المتن أیضا حیث قال بعد ذلک بقوله : «والمندوب ما عداه» إذ قد عرفت من التحقیق الذی ذکرناه عموم البدلیة لکلّ ما یستحب له الطهارة المائیة ، وإنّه یمکن أن یجعل التیمّم موضوعه عند تعذرها ، إذ التراب بدل الماء وبمنزلته ، حتی فی الوضوء التجدیدی ، وما لا یکون رافعا للحدث کوضوء الحائض والجنب وغیرهما ، کما سیأتی تفصیله فی موضعه إن شاء اللّه .


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 _ 6 .

ص:87

وقد تجب الطهارة بنذر وشبهه(1)

من العهد والیمین ، ولابدّ من تحصیل الشرط المعتبر فی کلّ واحد منهما ، مثل الرجحان فی متعلّق النذر وأمثال ذلک ، فحینئذ لا بأس بالإشارة إلی بعض (1) الفروع المتفرعة علی هذه المسألة ، تبعا لصاحب «الجواهر» قدس سره و«کاشف اللثام» وغیرهما ، فنقول :

الفرع الأوّل : لو نذر طهارة غیر مشروعة ، فلا یصح کالطهارة المتکررة لغسل الجنابة ، أو قصد الوضوء معه لا بقصد التجدیدی ، إنْ قلنا بجواز الوضوء مع حصول الطهارة بغسل الجنابة . لکنّه مشکل فلا یجوز مطلقا أو التیمّم مع عدم تعذّر الطهارة المائیة وأمثال ذلک .

فروع تتعلّق بوجوب الطهارة بالنذر و شبهه

ووجه البطلان واضح ، إذ یعدّ فاقدا لشرط النذر وهو رجحان المتعلّق ، لأنّ الطهارة فیما ذکرنا من الأمثلة محرّمة بالحرمة التشریعیة . وزاد فی «الجواهر» إلاّ أن یقصد فی نذره إتیان صورة ذلک لینعقد ، وتظهر ثمرته فی ثبوت الکفارة لدی المخالفة ، لأنّه لا یخلو عن إشکال ، لأنّ المعتبر فی النذر إحراز رجحان المتعلق ، لا عدم إحراز المرجوحیة حتی یجتمع مع الشک فی الرجحان أیضا ، ففی الفرض لو لم نقل بعدم رجحانه قطعا ، فلا أقل من الشکّ ، فدعوی القطع براجحیة إتیان الصورة بلا قصدٍ لأحد الأمور الواقعیة تکون عهدتها علی مدعیها .

الفرع الثانی : لو أطلق النذر للطهارة ، ولم یعین فردا منها ، فالظاهر صحّة إتیان أحدهما ، أی الأمور الثلاثة لو لم یکن للاطلاق حینئذٍ منصرفا إلی أحدها بخصوصه ، کما لا صحّة لدعواه للوضوء ، بلا فرق فی ذلک بین ثبوت الحقیقة الشرعیة وغیره . نعم ، غایته عند ثبوتها لا یبعد أن یحمل علیها ، لولا انصرافها إلی غیرها .

واستشکل فی «الجواهر» فیصورة عدم الانصراف ، وعدم قصد عموم

ص:88

الاشتراک ، والقول بأن لفظ (الطهارة) مشترکٌ لفظی ، بعد ذکر احتمال الصحّة والتخییر فی انتخاب أحد الأفراد .

لکنا لم نعرف للاشکال وجها ، فأیُّ فرقٍ بین أخذ لفظ (الطهارة) مشترکا لفظیا ، وبین أخذ لفظ کان له ثلاثة أفراد حقیقةً عند الشرع ، کما لو نذر الإتیان بکفارة افطار صوم شهر رمضان ، وقلنا بعدم القرینة بین أفرادها ، وکونه مخیرا بینها ، فلا إشکال فی تخییره بین أفراد حقیقة واحدة کعتق رقبة مثلاً بین افرادها ، فالأقوی الصحّة والتخییر بین الأفراد .

مضافا إلی إمکان التمسّک بعموم وجوب الوفاء بالنذر فی رفع شرطیة التعیین ، ولو فی الجملة ، کما لا یخفی .

الفرع الثالث : أنّه لا یذهب علیک أنّ النذر من جهة سعة وقت الوفاء وضیقه منوط بکیفیّة نذر الناذر ، فإنْ ضیقه بوقت خاص یُضیّق ، وإلاّ فمطلق ویکون ممتثلاً فی أی وقت أتی به . نعم لابدّ أن یجعل وقتا یکون قادرا للامتثال فیه ، فلو لم یکن کذلک ، بأن جعله فی وقت یمتنع الامتثال فیه شرعا ، مع العلم بذلک ، فلا ینعقد أصلاّ ، کما لو نذر إتیان الطهارة الشرعیة الرافعة للحدث _ مثل غسل الحیض فی حال عدم انقطاع دم الحیض _ لما عرفت من عدم صحّته للتشریع المحرم ، فإن لم یعلم ، ثمّ ظهر عدم تمکنه ، کشف عن فساده ، لانکشاف عدم القدرة ، المعتبرة قطعا . وأما لو کان قادرا لتحصلیها فی ذلک الوقت مثلاً مع الواسطة ، کما لو نذر الطهارة الرافعة للحدث فی ساعة کذا ، وکان متطهّرا ، فهل یجب علیه نقضها وتحصیل الطهارة المنذورة أم لا ؟

ففی العروة فی مسألة الأولی من أقسام الوضوء المنذور ، حَکَم بوجوب النقض أوّلاً ، ثمّ أشکل وتأمّل فی صحّة إطلاقه ، ولعلّه کان من جهة أنّه تارةً یقصد بذلک تحصیل الطهارة ، مثل الوضوء الرافع لکل صلاة إنْ کان محدثا ،

ص:89

فلازمه أن یکون من قبیل الاستطاعة للحج من الواجب المشروط ، أی کان وجوبه مشروطا بتحقق الحدث ، فلا یجب تحصیله .

وإن أُخذ علی نحو الواجب المطلق ، بحیث یشمل ما لو کان متطهّرا ، فالحکم بالصحة حینئذٍ مشکل ، لعدم الرجحان فی نقضها ، وإن کان أصل الطهارة بعد النقض راجحا إلاّ أنّه حیث کان المنذور ملازما حینئذ لإیجاد أمر غیر راجح ، فصحّته مشکل ، کما علیه الآملی فی «المصباح» ، والحکیم قدس سره فی «المستمسک» ، والبروجردی قدس سره وغیرهم ، کما هو الحال بالنسبة إلی من نذر التیمّم کذلک ، لا یکون موجبا لوجوب إراقة الماء حتی یتعذّر فیصحّ التیمّم ، أو نذر الغُسل للجنابة ، فإنّه لا یجب علیه اجناب نفسه حتی یغتسل ، وأمثال ذلک .

الفرع الرابع : لو نذر وضوءا تجدیدیا لکلّ صلاة فریضة وجب ، ویلزم الکفارة فقط عند المخالفة ، لا بطلان الصلاة ، لأنّ المفروض وجود الطهارة المبیحة بالطهارة الأولی .

نعم ، قد یشکل وجوب الوضوء ثانیا ، فیما لو صلّی هذه الصلاة ثانیةً بالجماعة ، لأنّ المفروض تحقّق ما هو الفریضة فی الوقت مع الوضوء التجدیدی النذری ، فلا تتکرّر ، بلا فرق بین أن تکون الصلاة المعادة مستحبّة والأولی فریضة ، أو تکون أحدهما لا بعینها فریضة .

ولکن احتمل صاحب «کشف اللثام» وتبعه صاحب «الجواهر» وجوب الوضوء للجماعة أیضا ، علی الفرض الثانی ، لأنّها صارت فریضة ، ولو من جهة کونها وسیلة لتحصیل ما هو الواقع المردد فی الفریضة .

نعم ، لو استظهرنا من حدیث : (إنّ اللّه یختار أحبهما إلیه) کون الثانیة فریضة احتسابا لا الأولی ، فلا إشکال حینئذٍ فی وجوب وضوء آخر لها أیضا لکونها فریضة .

نعم فی «الجواهر» أنّه یشمل صورة النذر للطهارة ، حتی مثل الوضوء

ص:90

الصوری ، کوضوء الجُنب والحائض ، ثمّ احتمل العدم وقوّاه ، أمّا من جهة کون الوضوء حقیقة فی غیره ، أو للانصراف إلی غیره ، وإن کان حقیقة فیه .

ولکن الحقّ عدم الأجزاء بالصوری فی مطلق الطهارات ، لو لم یقصد الناذر عمومیته لمثله ، وذلک للانصراف المذکور . کما أنّ الظاهر عدم الاجتزاء عند الإطلاق بالطهارة المنذورة بالتجدیدی من الوضوء ، بواسطة انصراف الإطلاق إلی المحصل رفع الحدث لا التجدیدی وإن اخترنا سابقا صدق الطهارة بالنسبة إلی کلّ من التجدیدی والصور¨ أیضا .

وفی المقام فروع اُخری متناسبة مع إعادة الصلاة وتکرارها قد ذکرها صاحب «الجواهر» قدس سره تبعا ل_ «کاشف اللثام» ولکن ترکناها ووکلنا بحثها إلی محلّها إن شاء اللّه تعالی .

* * *

ص:91

تعریف الماء المطلق و المضاف

البحث فی المیاه

أقول: مجموع أبحاث هذا الکتاب یعتمد علی أربعة أرکان ، والأربعة المذکورة عبارة عن : العبادات ، والأحکام ، والعقود ، والإیقاعات .

ووجه الحصر هو أنّ الأمور : أمّا أن تکون من الضروریة الدینیة ، أو من الدنیویة .

فالأول : هو العبادات .

والثانی : قد لا یحتاج فی تحقیقه إلی الصیغة واللفظ ، أو یحتاج إلیها .

فالأول : هو الأحکام من الحدود والدیات والقصاص والمیراث .

والثانی : قد یحتاج إلی الصیغة من الطرفین ، فهو العقود کالبیع وغیره .

ومنه ما یکفی من طرف واحد فهو الایقاعات ، کالطلاق والعتاق .

وجمیع أبحاث الفقه ینقسم إلی هذه الأقسام الأربعة . ولذلک بنی المصنّف کتابه علیها . وإذا عرفت ذلک فنقول : قال المصنّف قدس سره :

ص:92

الرکن الأوّل: فی المیاه ، وفیه أطراف :

الأوّل : فی الماء المطلق ، وهو : کل ما یستحق إطلاق اسم الماء علیه من غیر إضافة .(1) تعریف الماء المطلق و المضاف

(1) اعلم أنّه لما کان الماء منشأ حیاة کلّ شیء حیث یعدّ الماء أصل کلّ شیء کما أشیر إلیه فی قوله تعالی : «وَجَعَلْنا مِنَ الماء کُلّ شیء حَیّ أفلا یؤمنون»(1) . وبما أنّه منشأ لتحقق الحیاة فی العبادة إذا کانت مصبوغة بصبغة زبانیة ، أی منضّمة إلی قصد القربة إلی اللّه ، ومنه یحصل التطهر عن جمیع الرذائل الظاهریة والباطنیة ، قدّم المصنّف بحثه علی سائر المباحث ، وجعل بحثه فیه من جهات متعدِّدة وأطراف عدیدة ، ولذلک قال المصنّف : «وفیه أطراف» :

الأوّل : فی الماء المطلق ، وقد عرّفه بما عرفت ، وأورد علیه بشمول التعریف ما یوجب الدور ، لأنّ المعرف (بالکسر) مشتمل علی لفظ الإطلاق الموجود فی المعرَّف (بالفتح) ، المقصود تعریفه ، ومعلوم أنّ معرفة الشیء إذا کان متوقِّفا علی معرفة الآخر فإنّه یوجب الدور .

وأُجیب عنه بأنّ مقصود المصنّف مجرّد کشف معنی الاسم ، وإبدال اللفظ المجهول بلفظ معلوم فلا دور ، ولعلّه أراد بیان أنّه لیس بتعریف حقیقی حتی یرد علیه ذلک بل هو شرح للاسم ، لأنّه من أوضح المفاهیم العرفیة ، ولا یحتاج إلی البیان .

مضافا إلی إمکان أن یقال : بأنّ الإطلاق لیس مأخوذا فی حقیقة تعریفه ، بل أخذ ذلک لذکر الامتیاز عمّا یشابه ذلک فی الاستعمالات ، وأراد من ذلک تعیین ما هو المقصود منه ، فلا محیص عن الاستفادة من قبیل هذه الألفاظ .


1- سورة الأنبیاء : آیة 30 .

ص:93

ثمّ لا یخفی علیک أنّ الإضافة الملحقة بلفظ الماء متفاوتة ، لأنّ المضاف قد یکون معتصرا من الأجسام ، کماء الرمّان والعنب وأمثال ذلک ، أی فی الحقیقة لیس بماء ، بل یصح سلبه عنه عند العرف ، ولذلک لا یستعمل إلاّ مع الإضافة ، بحیث لو ذُکر لفظ الماء بلا ذکر جهة الإضافة ، کما لو قیل : «جئنی بماء» واُرید منه ذلک حقیقة ، لخطّاءه أهل العرف واللغة لأنّه خارج عنه حقیقة معناه .

نعم یصح إطلاق لفظ الماء علیه بنوع من العنایة ، کأن یرید من الماء ما یکون مائعا سائلاً رقیقا ، وبه یستعمل علیه بما لا یصح استعماله علی الدهن کذلک .

وقد یکون ممتزجا کالماء الذی صار مالحا بالملح وموحلاً بالتراب ، وأمثال ذلک ، حیث أنّه فی الحقیقة ماء ، إلاّ أنّه یمکن أن یبلغ فی زیادة إضافته إلی مرتبة لا یصدق علیه ذلک العنوان ، ومن هنا یظهر ویتحقّق الفرد المشکوک من المصادیق .

وقد تکون الإضافة غیر داخلة فی حقیقة الماء ، بل تکون من الأمور الخارجیة والممیزة عن أنواع الماء وأقسامه ، باعتبار ما یؤخذ منه ویضاف إلیه ، کاضافته إلی البحر والبئر وأمثال ذلک ، فلا إشکال فی إطلاق اللفظ علی هذا القسم من الإضافة حیث أنّه ماء مطلق حیقیة ، بخلاف الإضافة الموجودة فی السابقین . وأما جعل المتصاعد من الابخرة من أفراد الماء المضاف ، قبل تبدل البخار إلی المقطر ، حیث یصیر ماءاً _ إنْ کان بخارا _ أو غیره ان کان من غیره _ کالبول وأمثاله _ کما عن الآملی قدس سره فلا یخلو من إشکال ، إذا العرف لا یساعده ، کما اعترف به أیضا فی آخر کلامه . فالماء حقیقة عبارة عمّا لا یحتاج إلی انضمام قید إلیه ، بل کان استعماله بلا زیادة شیء ، مفهوما عند العرف ومتبادرا منه افراده ، وهو واضح .

فدعوی صاحب «دلیل العروة» کون إطلاق الماء علی قسمیه من المطلق والمضاف بنحو الحقیقة علی نحو القدر المشترک المعنوی بإطلاق ، لا یخلو عن

ص:94

وکله طاهرٌ مزیلٌ للحدث والخبث(1)

ضعف ، لما قد عرفت من التفصیل فی المضاف . نعم ، ما یکون من قبیل القسم الثالث منه ، أو بعض أفراد القسم الثانی ، فهو صحیح ، إذ لیس إلاّ نفس الماء .

ثمّ ما ذکرناه إنّما یکون فیما لو علم صدق عنوان الماء ومفهومه علیه وعلم أیضا أنّه مصداقه . وأما لو شک ، ففی الأوّل لو کان منشأ الشک عروض عارضٍ خارجی علیه ، مع صدق العنوان علیه قطعا قبل العروض ، فإن أجرینا الاستصحاب فی مثل تلک الالفاظ العرفیة ، فلا إشکال فی جریانه والحکم بترتّب الآثار علیه . وهکذا فی الشک فی المصداق ، أی فی الشبهة الموضوعیة لا المفهومیة ، بلا فرق فی کون الحالة السابقة أمرا وجودیا _ کما عرفت _ أو عدمیا أی عدم المائیة .

الماء طاهر و مطّهر

وأما ان لم یکن مقطوعا سابقا أو کان ولم نقل بجریان الاستصحاب فیه ، فحینئذ فما لم یشترط فی جواز استعماله إحراز عنوان المائیة فیجوز مثل استعماله للشرب مثلاً وأمثال ذلک ، لاصالة البرائة ، وهی جاریة فی کلا قسمی الشک فیه .

وإنْ أخذ إحراز العنوان شرطا ، کان مقتضی الأصل هو أصالة الاشتغال کما لا یخفی ، ویتوافق هذا الأصل مع استصحاب بقاء الحدث والخبث الذی کان شرط زواله هو التطهیر بالماء المعلوم أنّه ماء .

(1) وأمّا کون الماء طاهرا ومطهِّرا ، فیدلّ علیه الأدلّة الأربعة من الکتاب والسنة والإجماع والعقل ، بل هو من الضروریات فی الدِّین من تلک الجهة ، ومن مطهریته للغیر کما فی «الجواهر» ردّا علی مذهب سعید بن المسیب حیث لم یجوّز الوضوء بماء البحر ، لکونه إنکارا للضرورة . کما أنّ الإجماع بکلا قسمیه

ص:95

من المحصّل والمنقول موجودٌ فی المقام ، بل لم نعرف مخالفا فیه إلاّ عمّن لا یعبأ به . فبقی حینئذ دلالة الکتاب والسنة :

أمّا الأوّل : فالآیتان ، الاُولی منهما قوله تعالی : «إذْ یُغشّیکُمُ النُّعاسُ أمَنةً وَیُنزّل علیکم مِنَ السَّماء ماءً لُیطهرکم به وَیُذهب عَنکم رِجْز الشّیطان» الآیة(1) . علی ما عرفت فی تفسیرها من الاحتمالین فی أوائل بحث الطهارة ، وعلمت أن المراد من التطهیر ، إمّا خصوص الطهارة من الخبث ، والمراد من الرجز هو الحدث ، أو کان المراد من التطهیر هو ما یشمل الخبث والحدث کلاهما ، وکان المراد من الرجز هو الوسوسة الشیطانیة .

وعلی کلّ تقدیر ، إذا ثبت مطهریة الماء للآخر _ خبثا أو هو مع الحدث فإنّه یثبت طهارته بالملازمة العرفیة ، من جهة أنّ فاقد الشیء کیف یکون معطیا ؟! أو بالملازمة الشرعیة المستفادة من الآیة .

واحتمال خصوصیة المورد من جهة نزول الآیة أثناء غزوة بدر ، أو فی کونه فی خصوص المطر ، ساقطة بالاجماع ، کما لا یخفی .

مضافا إلی ما فی «الجواهر» من إمکان دعوی کون المراد من السماء بلحاظ أنّه کان جمیع الماء من السماء ، کما تری ذلک فی قوله تعالی : «وأنزَلْنا مِنَ السَّماء ماءُ بقدر فأسکناه فی الأرض» الآیة(2) .

الثانی : قوله تعالی : «وأنزلنا مِنَ السَّماء ماء طهورا»(3) . ودلالتها علی المقصود موقوفة علی معرفة صیغة «طهور» علی وزن فعول ، فنقول : إنّ هذه


1- سورة الانفال : آیة 11 .
2- سورة المؤمنون : آیة 18 .
3- سورة الفرقان : آیة 48 .

ص:96

الصیغة من جهة التصور والاحتمال علی أربعة صور ، وذهب إلی کل منها ذاهب فی الجملة :

دلالة الکتاب علی أنّ الماء طاهر و مطهّر

الأولی : أن یکون المراد منه هو «اسم الفاعل» ، بأن یکون (الطهور) بمعنی الطاهر ، إذ الطاهر غیر متعد ، والطهور کذلک وعلیه عدّة من اللغویین کما فی «الجواهر» فراجع .

الثانیة : أن یکون (الطهور) بمعنی المصدر ، فهو یدعی من جهة کیفیة حرکة مادته بفتح الطاء وآخر بضمه ، بل قد قیل بأن المصدر لا یکون إلاّ بالثانی ، کما أن اسم الآلة یکون بالأول ، فیکون حینئذ حمل الطهور علی الماء نظیر حمل (عدل) علی (زید) من جهة کثرة المبالغة فی طهارته ، فیکون حملاً ادعائیا أو مجازیا .

لکنه مردود بعدم وجود حمل هاهنا ، بل جیء به علی نحو الوصفیة بقوله : «ماء طهورا» .

الثالثة : أن یکون بمعنی المبالغة «کالغفور والودود» فحینئذ قد یدعی بأن الطهارة أیضا من المفاهیم المشککة ، وتکون فیه الشدة والضعف کما ادعاه بعض ، ومثّل له بالوضوء بالماء المشمس والآجن ، حیث یکون مکروها ، بخلاف الماء المطلق البارد الغیر الموصوف بذلک ، وإن کان مثاله لا یخلو عن إشکال ، فیکون معنی المبالغة حینئذٍ متصورة فیه من جهة شدّة الطهارة وزیادتها .

وآخر یدعی أنّها تکون مثل الملکیة والزوجیة من الأحکام الوضعیة حیث لا تتصور فیها الزیادة والنقیصة ، بل أمرها دائر بین الوجود والعدم کما هو الأقوی عندنا ، فحینئذ لا معنی للمبالغة إلاّ من جهة التکرار فی مطهریته للأشیاء .

وصحّة الاستعمال کذلک فی معنی المبالغة لا یخلو عن مسامحة .

نعم قد استعمل لفظ المبالغة فی الآیة(1) ، بصورة أطهر ، حیث أنّه ظاهر فی


1- سورة الأحزاب: آیة 53 .

ص:97

وجود المراتب فیه ، لکنّه وارد بالنسبة إلی حال القلب والروح لا الطهارة بلحاظ الحدث والخبث ، فراجع الآیات .

الرابعة : أن یکون بمعنی اسم الالة کفطور وسحور ، أی آلة ما یفطر ویسحر به ، فهاهنا آلة الطهارة ، کما ورد ذلک فی اللّغة أیضا ، وانْ أردت تفصیلها فراجع «الجواهر» .

دلالة السنّة علی أنّ الماء طاهر و مطهّر

والذی یختلج بالبال واللّه عالم بحقیقة الحال ، هو أن یقال : إنّ هذا اللفظ استعمل فی الآیة الثانیة فی أحد أمرین :

اما أن یکون بالمعنی الأوّل ، أی أنزلنا من السماء ماء طاهرا ، بلا نظر إلی کونه مطهرا ، وتکون الآیة حینئذ فی مقام الامتنان . وهذا لا ینافی ما ذکرنا ، لأنّ فی طهارة الماء أیضا امتنانا ، کما یشهد بذلک الدعاء الوراد فی حق من شاهد ماءً لتحصیل الوضوء یستحب أن یقرأ : «الحمد للّه الذی جَعَل الماء طَهُورا ولم یجعله نَجسا» ، حیث یحتمل أن یکون العطف تفسیریا وتوضیحیا لما سبق ، أی جعل الماء طاهرا غیر نجس .

واحتمال المطهریة فی هذا اللفظ علی هذا المعنی لا یخلو عن تعسف ، کما لا یخفی .

وأما کون الماء مطهرا أیضا فیستفاد من الآیة الأولی فی قوله تعالی : «وأنزَلْنا مِنَ السّماء ماءً لِیُطهرکم به» . فعلی هذا الاحتمال ، یکون المتحقق بانضمام الآیتین معا ، هو إثبات کون الماء طاهرا فی نفسه ومطهرا لغیره ، مضافا إلی ما عرفت من ثبوت الملازمة العرفیة أو الشرعیة فی إثبات الأمرین فی نفس الآیة الأولی .

بل نقول بأنّ الأخبار الکثیرة وردت فی استعمال الطهور فی الشرع بمعنی المطهریة للغیر أیضا ، وبأنه مجاز منقول شرعی ، ونذکر لذلک بعض ما یدل علیه من الأخبار :

فمنها : الحدیث النبوی صلی الله علیه و آله : «جُعِلَتْ لی الأرضُ مسجدا وطهورا ، وأیّما

ص:98

رجل مِنْ اُمتی أراد الصلاة فلم یجد ماءً ووجد الأرض لقد جُعِلتْ له مسجدا وطهورا»(1) .

وقوله علیه السلام : «أطل فانّه طهورٌ»(2) .

وقول الصادق علیه السلام : «کان بنو إسرائیل إذا أصابتهم قطرة من بول قرضوا لحومهم بالمقاریض ، وقد وسّع اللّه علیهم بماءٍ من السماء والأرض ، وجعل لکم الماء طهورا»(3) .

وبناء علی ذلک یمکن أن یکون المراد من (الطهور) فی قوله تعالی : «وَسَقاهُم رَبّهم شَرابا طهورا »(4) هو الطاهر ، لا بمعنی المنظف ، بالتأویل الذی ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره بأنّ أهل الجنة یشربون الماء والشراب ، فیخرج بذلک عرقا من مسام أبدانهم دفعا لما أکلوا ، فإنّ هذا أبعد ما قد یخطر إلیه ذهن الإنسان .

أو یراد من (الطهور) المعنی الواقع ، أی آل الطهارة ، أی ما یتطهّر به ، کما قوّاه الحکیم فی «المستمسک» ، والحلّی فی «دلیل العروة» ، بل قد یظهر تسلیمه فی «الجواهر» لأحد الاحتمالین الذی اختارهما .

والإشکال فیه أنّه قد ورد وصفا للماء والشراب فی الآیتین ، والحال أنّ اسم الآلة یکون جامدا .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ الجمود علی اللفظ فیما لم یکن نفس اللفظ مسوقا لحال الوصفیة بخلاف ما نحن فیه ، یقتضی ذلک أی تکون بحالة الوصفیة آلة ، أی جعلنا الماء ما یتطهّر به .

الفرق بین الحدث و الخبث


1- وسائل الشیعة الباب 7 من أبواب التیمّم، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 32 من أبواب آداب الحمام، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
4- سورة الإنسان : آیة 21 .

ص:99

ولکن الإنصاف قوّة الاحتمال الأوّل .

هذا کلّه فی ما دلّ علی طاهریة الماء ومطهریّته من الکتاب .

أما السنة : مضافا إلی ما عرفت من الأخبار مثل خبر بنی إسرائیل وغیره ، یمکن الاستدلال علی طاهریة الماء بصراحة حدیث حمّاد بن عثمان عن الصادق علیه السلام قال : «الماء کلّه طاهر ، حتّی یعلم أنّه قذر»(1) .

ومثله مرسلة الصدوق ، عن الصادق علیه السلام : «کل ماء طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر»(2) .

وحدیث محمّد بن حمران ، وجمیل بن دراج عن الصادق علیه السلام قال : «إن اللّه جعل التراب طهورا کما جعل الماء طهورا»(3) .

حیث یحتمل أن یکون المراد هو الطاهریة أو هو مع المطهریة .

وحدیث الذی رواه المحقّق فی «المعتبر» قال ، قال علیه السلام : «خَلَق اللّه الماء طهورا ولا ینجسه شیء»(4) .

مضافا إلی الأخبار الکثیرة التی وردت آمرة لتطهیر الأوانی والثیاب بقوله : «اغسل بالماء» ، حیث یفهم طهارة الماء ومطهریته .

کما یدل علی مطهریته أیضا حدیث الصادق علیه السلام مرسلاً بقوله : «الماء یطهر ولا یطهر»(5) .

ومثله فی التعبیر حدیث السکونی ، عن الصادق علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله :


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
5- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:100

«الماء یطهر ولا یطهر»(1) .

فالمسألة واضحة والحمد اللّه ولا تحتاج إلی مزید بیان .

ثمّ إنّه قیل فی معنی الحدث والخبث ، بأن الحدث ما لایدرک والخبث ما یدرک .

وقیل بأنّ ما یحتاج فی رفعه إلی النیة هو الأوّل ، وما لا یحتاج إلیها هو الثانی .

وإن أشکل علیهما فی «المسالک» وقال : بأنّهما غیر تام ، لأنّه یمکن أن یجاب علی الأوّل بإمکان درک حالة الحدث أیضا فی الجنابة والحیض ، حیث تشمئز النفس بعد عروض الحالة وتحس بنقاهة خاصة ، فهو ربما أولی بالدرک من الثانی .

ویمکن النقض للثانی أیضا ، بمثل بعض الطهارات التی لا تکون مع النیّة رافعة أیضا کالتیمّم مثلاً ، حیث لا یرفع الحدث مع اعتبار النیّة فیه لکنّه مبیح للصلاة ، وهکذا فی وضوء الجنب والحائض .

تطهیر الماء للمایعات المضافة و عدمه

اللّهم إلاّ أن یجاب : بأنّه رافع أیضا بالنسبة إلی منعه عن الدخول فیالصلاة مثلاً ، أو حصول المترتّبة الکاملة للنوم مع الجنابة والحیض بالوضوء ، فیرفع تلک الحضاضة . ولکنّه لا یخلو عن تکلف .

والأولی أن یقال فی جهة الفرق بینهما : أنّ الحدث حالة نفسانیة تحصل _ کغیرها من الأمور الباطنیة _ بواسطة وجود أحد أسبابه الظاهریة من البول والمنی والدم ، فهو من باب تسمیة المسبب باسم السبب الذی یناسب معناه اللغوی أیضا ، من جهة کونه متحققا بعد ما لم یکن قد حدث أی حدث وتحقّق تلک الحالة أو البول بعد ما لم تکونا . هذا بخلاف الخبث ، فانه من الاُمور الظاهریة التی یتنفر الطبع عنه کنفس البول والمنی وغیرهما من النجاسات ، حیث تکون طهارتها تارةً بزوالها ظاهرا ، واُخری بأزید من ذلک ، کتکرّر الغَسل


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:101

اللازم فی البول أو التعفیر ، أو التکرار اللازم فی الولوغ حیث یزیلها واقعا ، وهذا هو الفرق بینهما ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

بقی هنا شیء ، وهو أنّه إذا ثبت طاهریة الماء المطلق ومطهریته ، فهل تکون مطهریته مخصوصا بالأحداث والأخباث خاصة ، أو یکون له العمومیة والشمول حیث لمثل المایعات المضافة المتنجسة کماء الورد المتنجس ، وماء العنب والرمان إذا تنجسا ، بحیث تحصل طهارتها للاتصال بالماء المطلق ، بحث لو شککنا فی مصداق یرجع إلی عموم من الحکم بالتطهیر ؟

ظاهر العلاّمة هو الحکم بالثانی ، أی الحکم بالطهارة فیالفرض المذکور لمجرّد الاتصال بالماء الکثیر ، ولو لم یخرج عن حال الإضافة .

وظاهر الشیخ الأنصاری قدس سره فی کتاب «الطهارة» وصاحب «مصباح الهدی» والحکیم والسیّد فی «العروة» وغیرهم قدس اللّه أسرارهم هوالأوّل ، إذ لا دلیل علی العموم إلاّ حدیث السکونی ، کما أشار إلیه الشیخ قدس سره عن الصادق علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : «الماء یطهر ولا یطهر»(1) .

ومثله فی اللفظ حدیث مسعدة بن الیسع(2) کما تمسک به الآملی .

وکذا مثله حدیث الصدوق فی «الفقیه»(3) ، وزاد علیه الآملی فی «المصباح» حدیث الکاهل ، عن رجل عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «کل شیء یراه ماء المطهر فقد طهر»(4) . حیث یدل علی عمومیة المطهریة لکل شیء .

ونحن نزید علی ذلک إمکان الاستفادة من حدیث بنی إسرائیل ، وهو خبر بن


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:102

داود بن فرقد ، عن الصادق علیه السلام بقوله : «وقد وسّع اللّه علیکم ما وسّع ما بین السماء والأرض ، وجعل لکم الماء طهورا»(1) بناء علی کون الطهور هنا بمعنی المطهر ، کما أشرنا إلیه آنفا .

تقسیم الماء باعتبار وقوع النجاسة فیه

ولکن قد أشکل ویمکن أن یقال فی جمیع ما ذکر بأنّه لا یخلو عن مناقشة :

فأما حدیث السکونی وأمثاله فی التعبیر ، وخبر داود بن فرقد ، فقد وردت فی مقام بیان أصل الطهارة والمطهریة ، فی قبال السلب الکلّی المطلق ، بقرینة ذیله الوارد فیه : «ولا یطهر» ، بل وهکذا اللفظ فی خبر بنی إسرائیل بمناسبة المورد من ذکر حالهم ، والتوسّع فی هذه الأمة من تلک الجهة ، وهذا لا ینافی أنْ یکون التطهیر بالماء مخصوصا لبعض الأشیاء دون بعض کما لا یکون متعرّضا لکیفیة التطهیر . نعم قد یمکن استفادة هذه الجهة من الفهم العرفی إنْ سُلّم دلالته علی عمومیة مطهریته ، لکنه قد عرفت خلافه . فلم یبق هاهنا إلاّ خبر الکاهلی ، الذیکان أتّمها دلالة ، خصوصا مع وجود لفظ (کل) ، لصراحته فی استغراق .

ولکن یرد علیه أولاً : کونه مرسلاً ، من جهة عدم معلومیة الرجل الذی نقل عنه الکاهلی .

وثانیا : اعراض المشهور عنه بل الأصحاب ، کما فی «المصباح» بأن ظاهر الأصحاب عدم طهره بالاتصال ، فحینئذ یکون استصحاب حالة النجاسة التی کانت فیه قبل الاتصال محکّم .

فما اختاره العلاّمة ، بل استوجهه فی «الجواهر» بعد الاستبعاد ، لا یخلو عن إشکال .


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:103

وباعتبار وقوع النجاسة فیه ، ینقسم إلی : جارٍ ومحقونٍ وماء بئر(1)

أقسام المیاه وأحکامه

أمّا الجاری فلا ینجس إلاّ باستیلاء النجاسة علی أحد أوصافه(2)

(1) واعلم أنّ هذا التقسیم الثلاثی انما یکون بالنظر إلی ملاقاة الماء المطلق للنجس ، اذ قد یکون کالجاری ، فلا یتنجس إلاّ بالتغیّر بأحد الأوصاف للنجاسة ، أو کالمحقوق من تنجسه بهإذا کان أقل من من الکر ، أو کماء البئر الذی وقع فیه التردد من لزوم الکُرّیة أم لا ، وإلاّ فإنّ أقسام الماء أکثر من ذلک ، إذ ینضم إلیها الماء الذی له مادّة کالنابع من الأرض بعد حفرها ، والماء الجاری الذائب من الثلوج ، والنابع عن المادّة بحالة ارشح الذی یُسمّی النزیز ، والثمد المجتمع منه تحت الرمل ، وماء الحمام ، ولعلّه یکون من هذا القبیل الماء المتعارف الذی یضخ فی الأنابیب . وسیظهر حکم کلّ واحد من تلک الأقسام الثلاثة المذکورة إن شاء اللّه .

(2) والکلام فیه یقع من جهتین :

فی تعریف الماء الجاری

تارة : فی موضوعه .

واُخری : فی حکمه . وسیلحق به فیضمن البحث عن هاتین الجهتین ما کان کالجاری ، فنقول وباللّه الاستعانة :

أما موضوعه : فتارةً یلاحظ فیه قول اللغویین ، واُخری قول الفقهاء والمجتهدین رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

أمّا أهل اللغة : فقد عرّفوه کما فی «مصباح المنیر» و«مجمع البحرین» وغیرهما بأنّه : (المتدافع فی انحدار واستواء ، وما کان سائلاً علی الأرض) ، کما اشیر إلیه فی الکتب نقلاً عن أهل اللغة ، کما فی «الجواهر» و«طهارة» الشیخ الانصاری وغیرهما . کما أنّ العرف العام یری ویعدّ الجاری فوق الأرض کالنهر ، أو تحتها کالقنوات أنّه جاریا ، وهو واضح ولا کلام فیه .

ص:104

وأما الفقهاء : فقد وقع الخلاف فی تعریفه بینهم إلی أربعة أقوال :

القول الأوّل : یعتبر فیه : الجریان فقط ، سواءً کان له نبع ومادّة أم لا ، کما استظهره «الجواهر» عن بعض العبائر ، حیث اکتفوا فی تحدیده بالجریان فقط .

القول الثانی : یعتبر فیه وجود النبع سواء جری أم لا ، کما صرح به الشهید الثانی فی «المسالک» ، وعللّ فیه وجه إطلاق لفظ الجاری مع ظهوره فی الجریان ، أنّه کان إمّا من باب التغلیب ، أو من الحقیقة العرفیة خاصة .

والقول الثالث : باعتبار السیلان والنبع ، کما علیه المشهور من المتقدمین والمتأخرین .

والقول الرابع : باعتبار الجریان مع أحد الأمرین ، أمّا المادّة ولو لم یکن نابعا فی بعض مصادیقه ، کالجاری من الثلوج الذائبة فی موسم معیّن ومدّة متعارفة ، أم مع النبع کما هو کذلک غالبا ، بل هو الحقیقة فیه أوّلاً .

والأقوی هو الأخیر ، کما علیه صاحب «مستند الشیعة» ونسب فی «المصباح» الرضوی إلی بعض السادة من أساتیذه ، ومال هو إلیه قدس سره فی صورة الصدق العرفی عن الماء الذائب الجاری کما نحن نقول به کذلک ، وإلاّ یصعب فی بعض أفراده ، کما لو فرض قلّة الماء الخارج من ذوبان الثلوج المذابة بحیث لا یساعد علیه العرف فی إطلاق الجاری علیه ، هذا بخلاف ما یکون فی بعض الأنهار الجاریة التی تستمد ماءها من ذوبان الثلوج المتراکمة علی الجبال الرواسی لا من تحت الأرض ، فإخراج مثل هذه الأنهار عن عنوان الجاری عرفا ولغة مشکل جدا .

فعلی هذا ، یظهر فساد توهم النقض بالماء المجتمع فی الأوانی إذا صب ماؤها فی الأرض وجری ، کما عن الشیخ وغیره ، لوضوح أنّه لا یطلق علی مثل هذا الجاری عنوان ذی المادّة الجاری ، ولا النابع الجاری عرفا کما لا یخفی . فکل ما

ص:105

لا یکون کذلک ، إمّا ملحقٌ بالمحقون حکما أوالبئر کذلک ، وإن لم یکن منهما موضوعا .

فإذا ثبت هذا ، ظهر أنّ الماء الراکد _ الغدران والحیاض والثمد والیعون التی لها مادّة ، ولم تجر علی الأرض ، والماء الجاری من الرشیح الذی یقال له النزیز کما فی «الجواهر» _ ان لم یطلق علیه الجاری ، یکون من حیث الحکم ملحقا بالماء المحقون ، فینجس بالملاقاة إذا کان أقلّ من الکر ولم یکن له دفع ، أو بماء البئر من جهة التردد فی تنجسه وعدم کما سیظهر ان شاء اللّه تعالی ، إن لم نقل فی القسمین الأخیرین کونهما ملحقین بالجاری حکما ، وإن لم یکونا منه موضوعا . کما یمکن الاستظهار لذلک من الخبر الوارد فی ماء الحمام ، وهو حدیث عبدالرحمن بن أبی نجران ، عن داود بن سرحان قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام ما تقول فی ماء الحمام ؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاری»(1) .

وأظهر منه من حیث الدلالة ، فی کون وجود المادّة مستلزما لذلک الحکم هو خبر بکر بن حبیب ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «ماء الحمام لا بأس إذا کانت له مادّة»(2) .

بل قد یستفاد من کلام صاحب «الجواهر» أنّهما ملحقان بالجاری ، وهو الأقوی إن صدق الاتصال بالمادّة عرفا ، أی إذا لم یکن الرشیح بقدر یضرّ عن العرف فی صدق الاتصال .

ومن هنا ثبت حکم ماء النافورة إذا فرض له الاتصال بالمادة ولو کان رشیحا ، کما هو الحال فی بعض حیاض الحمامات ، فحینئذ یکون محکوما بحکم الماء الجاری ، ولا ینجس ، ما لم یتغیّر بأحد أوصاف النجاسة .


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:106

وهاهنا فرعان :

الفرع الأوّل : لو شک فی ماء أنّه هل یعدّ جاریا موضوعا أو حکما ، سواء کان لشبهة مفهومیة أو مصداقیة ، فهل یقتضی العموم أو الأصل الطهارة والمطهریة أم لا یقتضی شیئا منهما ، بل ینجس بالملاقاة إذا کان أقلّ من الکرّ بلا دفع ، أو یُفصَّل بین الطهارة والمطهریة بالإثبات فیالأوّل والنفیفیالثانی ؟وجوه :

فإن کان له حالة سابقة متیقنة من وصف الجریان ، أو الطهارة والمطهریة ، الذی کان من حالات ذلک الوصف ، فیستصحب فی ناحیة الموضوع إلی أن یعلم الخلاف .

بل وهکذا لو علم أنّه کان مطهّرا قطعا بالملاقاة ، ولم یعلم جهته الخاصة أنّه کان بواسطة کونه جاریا أو بحکمه کالعیون ، أو کونه کرا والآن یشکُ فی بقائه ، فیستصحب ویحکم بمطهریته . کما یحکم بالنجاسة إذا کانت حالته السابقة معلومة بالقلّة وعدم الجریان ، وإن لم تکن له حالة سابقة متیقنة کذلک .

ففی «الجواهر» ما یظهر منه الرضا بما قیل فی ذلک من الحکم بالطهارة والمطهریة ، بدلالة عموم کون المیاه کذلک إذا لم یتغیر ، واعتبار الکریة انما کان فیغیر المیاه الجاریة وماله مادّة ، مضافا إلی وجود قاعدة الطهارة ، مع فرض الشک فی حکمه ، للشکل فی اندراجه فی الموضوع الذی ینجس بالملاقاة .

هذا خلاصة ما قیل فی المقام .

عاصمیّة الماء الجاری و ما هو بمنزلته

أقول : العجب منه أنّه کیف صرّح بذلک هنا ، مع ما عرفت منه سابقا وآنفا أنّه لیس لنا دلیل عام یدل علی کون مطلق الماء مطهرا ، حتی یُرجع إلیه عند الشک ، فکیف ارتضی بذلک ، فاثبات المطهریة فی الافراد المشکوکة لابدّ له من دلیل خاص یدل علی ذلک ، إلاّ أن یحرز دخوله تحت عنوان خاص من العناوین المطهرة . نعم ، قد نقول بطهارة الماء بعد الملاقاة ، وهل هو طاهر أو یتنجس بالملاقاة ؟ فیمکن الحکم بالطهارة بدلالة استصحاب الطهارة ، کما أنّ استصحاب

ص:107

النجاسة فی المتنجس یقتضی بقاء النجاسة أیضا بعد التطهیر بذلک الماء ، نظیر تحصیل الطهارة عن الخبث بواسطة الماء المشکوک الطهارة ، حیث قد مثّل الشیخ الأنصاری فی «الرسائل» وحکم بطهارة الموضع المقتضی لطهارة الماء ، وحکم ببقاء الحدث المقتضی لنجاسته بالاستصحابین ولا مانع منه لأنّه یکون بالملازمة کما فی الحکم الظاهری کما لا یخفی ، فهکذا یکون فی المقام .

اللّهم إلاّ أن یدعی أنّ العرف لا یساعد علی التشکیک فیما نحن فیه ، بین الحکم ببقاء الطهارة للماء ، وبین مطهریته فیقال بعدم التطهیر ، بل إذا ثبتت طهارته فیثبت مطهریته فی الفرض ، لأنّ عاصمیته لا تکون إلاّ بواسطة کونه جاریا أو بمنزلته ، فاذا ثبت ذلک بواسطة الأصل والقاعدة فقد ثبت مطهریته أیضا .

لکنه لا یخلو عن إشکال لأنّه لابدّ فی إثبات مطهریته من إحراز أحد العناوین الذی یثبت بذلک هذه الجهة ، هو غیر محرزٍ هنا بالأصل والقاعدة کما لا یخفی ، وإن کان الأحوط الاجتناب عن مثل ذلک الماء الملاقی للنجس ، إذا کان أقل من الکر .

الفرع الثانی : لو جری البئر بعد ما تنجس بالملاقاة مثلاً وقلنا به ، أو کان محقونا أقل من الکر وتنجس ثمّ جری ، ففی کلا القسمین هل یستلزم نفس تحقّق الجریان علی الأرض لطهارتهما ، أم لابدّ من زوال تمام ذلک الماء ، وحدوث ماء آخر لکی تحصل الطهارة ؟

أو قلنا فی البئر بالتفصیل إن جری وذهب الماء بقدر ما یتطهر بالنزح فالباقی منه طاهر ، وإلاّ فلا .

والأقوی عندنا هو الأوّل فی کلیهما ، کما فی «الجواهر» لما عرفت عند الاستظهار من الأخبار بأنّ الجریان والاتصال بالمادة یکفی من الحکم بطهارته ومطهریته ، إذا لم یکن متصفا بأحد الأوصاف للنجاسة .

وأما الکلام فی المقام الثانی : وهو حکم الماء الجاری وما بمنزلته وحکمه ،

ص:108

فنقول ومن اللّه الاستعانة :

قد وقع الخلاف فی عاصمیة الماء الجاری ، إذا لاقی نجسا أو متنجسا من اعتبار کونه بمقدار الکرّ بحیث لو کان أقل منه یتنجس ، إن لم یکن متغیرا بالنجاسة _ هذا کما علیه العلاّمة ومن تبعه _ أم لا یعتبر ذلک ، بل ما لم یتغیر بأحد الأوصاف الثلاثة ، لا یحکم بالنجاسة کما علیه المشهور . والأخیر هو الأقوی عندنا ، بل قد ادعی علیه الإجماع ، وإن نوقش فیه فی نجاسة الماء فی جمیع الموارد بالتغیر ، لمخالفته فی ماء الاستنجاء فانه طاهر ، وهو کما تری ، لعموم قول النبی صلی الله علیه و آله والصادق علیه السلام _ کما فی «الجواهر» _ فی الخبر الذی رواه صاحب «وسائل الشیعة» نقلاً عن المحقّق فی «المعتبر» وعن ابن إدریس فی «السرائر» مرسلاً ، بقوله : «خلق اللّه الماء طهورا ، لا ینجّسه شیء ، إلاّ ما غیّر لونه أو طعمه أو ریحه»(1) . والخبر مروی عن النبی صلی الله علیه و آله فی مصادر العامة ، فقد روی ابن ماجة فی «السنن» کتاب الطهار ، باب الحیاض ، من حدیث أبی امامة الباهلی ، عن النبی صلی الله علیه و آله قال : «إنّ الماء لا یُنجّسه إلاّ ما غلب علی ریحه وطعمه ولونه» .

ورواه الطبرانی فی «الأوسط» و«الکبیر» أیضا ، کما فی «مجمع الزوائد» ، وأخرجه البیهقی فی «الطبقات الکبری»(2) .

ورواه الدار قطنی فی «السنن» من حدیث ثوبان ، عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال : «الماء طهور إلاّ ما غلب علی ریحه أو علی طعمه» کما فی «الجامع الکبیر» .

فالخبر مروی فی مصادر الفریقین ، بل فی «السرائر» : أنّه من المتفق علی روایته ، عن ابن أبی عقیل أنّه متواتر عن الصادق علیه السلام بل عن «الذخیرة» أنّه قد


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
2- الطبقات الکبری : 1 / 259 .

ص:109

عملت الاُمّة بمدلوه وقبلوه ، حیث یشمل الماء الجاری وما بحکمه فیخرج منه خصوص الماء القلیل ، لما سیأتی من انفعاله بالملاقاة مع النجس .

وهکذا یمکن التمسّک بحدیث «دعائم الاسلام» عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال :

«فی الماء الجاری ، یمر بالجیف والعذرة والدم ، یتوضأ ویشرب ، ولیس ینجّسه شیء ، ما لم یتغیر أوصافه طعمه ولونه وریحه»(1) .

بل وهکذا بخبر «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام : «کل غدیر فیه من الماء أکثر من کرّ لا ینجّسه ما یقع فیه من النجاسات ، إلاّ أن یکون فیه الجیف ، فتغیر لونه وطعمه ورائحته ، فإن غیّرته لم تشرب منه ، ولم تطهر»(2) .

وعن «دعائم الإسلام» عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن غدیرٍ فیه جیفة ؟

فقال : «إن کان الماء قاهرا لا یوجد فیه ریحها فتوضأ»(3) .

وحدیثه الآخر عنه علیه السلام قال : «إذا مرّ الجُنب بالماء وفیه الجیفة أو المیتة ، فإن کان قد تغیّر لذلک طعمه أو ریحه أو لونه ، فلا یشرب منه ولا یتوضأ ولا یطهر منه»(4) .

وحدیثه الآخر عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : «لیس ینجس الماء شیء»(5) .

فانه یدل علی الماء ومطهریته ، وعدم انفعاله بالملاقاة ، للملازمة بین عدم انفعاله ومطهریته خارجا ، لأن النجاسة مسریة مع الرطوبة ، إلاّ إذا لاقی ما یطهره وهو المطلوب .

وما تری من التفکیک بین عدم الانفعال بالملاقاة وعدم مطهریته فی مشکوک


1- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
3- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
4- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
5- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:110

الجریان _ کما ذکرناه سابقا _ فهو إنّما یکون فی مرتبة الحکم الظاهری ، بواسطة الأصل المقتضی لذلک ظاهرا ، بخلاف الواقع فانه محکومٌ بأحد الحکمین علی الیقین ، کما لا یخفی .

ویدل علی ذلک أیضا خبر حریز بن عبداللّه ، عن الصادق علیه السلام قال : «کلما غلب الماء علی ریح الجیفة فتوضأ من الماء واشرب ، فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطعم ، فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(1) .

فعمومه یشمل جمیع أقسام المیاه منها الجاری ، إلاّ القلیل لدلالة دلیله علی انفعاله .

وخبر أبی بصیر عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن الماء النقیع تبول فیه الدواب ؟ فقال : «إنْ تغیّر الماء فلا تتوضأ منه ، وإنْ لم تغیّره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(2) .

بناء علی عموم الدواب ، حتی یشمل غیر مأکول اللحم ، کما یدل علیه ذیله من تشبیه الدم به ، وإلاّ لکان منعه من جهة اضافته .

وخبر العلاء بن الفضیل ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحیاض یبال فیها ؟

قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(3) .

بناء علی شمول البول لغیر المأکول ، وکان قد اتفق البول فیها .

وخبر محمّد بن إسماعیل ، عن الرضا علیه السلام قال : «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر ریحه أو طعمه فیُنزح حتّی یذهب الریح ویطیب طعمه ، لأنّ له مادّة»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 36 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:111

حیث یکون التعلیل إمّا راجعا لخصوص الصدر وهو عدم افساده ، ویکون واسعا ، أو إلی الذیل فقط ، وهو النزح إلی أن یذهب التغیر ، أو إلی کلیهما .

فالأوّل أولی ، ثمّ الأخیر ، خلافا لمن ذهب إلی الثانی فقط ، وأسقطه عن الاستدلال ، مع أنّه خلاف ظاهر کلامه ، لأنّ الظاهر رجوعه إلی مجموع جملة المستثنی منه والمستثنی ، فیدل بعمومه للمقام أیضا .

ومثله _ بلا ذکر التعلیل _ خبرٌ آخر لمحمد بن إسماعیل بن بزیع ، عن الرضا علیه السلام قال : «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر»(1) .

وبالمفهوم من أحد الطرفین ، امّا من جهة الإنفعال ، کما فی خبر سماعة عن الصادق علیه السلام قال : «سألته عن الرجل یمر بالماء ، وفیه دابة میتة قد أنتنت ؟ قال : إذا کان النتن الغالب علی الماء فلا تتوضأ ولا تشرب»(2) . یکون بمفهومه عدم الانفعال ، إنْ لم یکن النتن غالبا .

أو من جهة الانفعال بما فی خبر الصدوق ، قال : «سأل الصادق علیه السلام عن غدیر فیه جیفة ؟ فقال : إن کان الماء قاهرا لها لا یوجد الریح فیه بتوضأ واغتسل»(3) .

یکون مفهومه عدم التوضأ إنْ کان الماء مقهورا من حیث الریح . بل قد یستأنس لذلک ، لو لم نقل بدلالته ، کما تمسک به المحقّق الخوانساری فی «جامع المدارک» .

وکذلک خبر داوود بن سرحان ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ما تقول فی ماء الحمام ؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاری»(4) . حیث یستظهر منه أنّ الجریان فی الماء له خصوصیة من جهة عدمانفعاله ، حیث یُنّزل ماء الحمام علیه .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 13 .
4- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:112

واحتمال اهماله من جهة التنزیل من حیث عدم الانفعال وغیره ، واضح الدفع ، لما یفهم ذلک من سیاق هذه الألفاظ . نعم ، یشکل من جهة عدم دلالته ، بأنّ ما هو المعتبر فی الماء الجاری المنزّل علیه هل هو الکر أولاً ؟ کما عن الآملی قدس سره فی «المصباح» ولکنه لا یخلو عن اشعار بعدم الانفعال ، لأنّ الغالب ظهوره فی وجود الماء الجاری الغیر المنفعل فی الخارج بحیث ینصرف إلیه ، وکونه هوالمتبادر إلی الاذهان ، غیر بعید ، فلا یفید الاستدلال علی المطلوب ، کما زعمه الخوانساری رحمه الله .

ومثله حدیث «فقه الرضا» بقوله : «ماء الحمام سبیله سبیل الماء الجاری ، إذا کانت له مادّة»(1) . ویرجع القید إلی صدره .

بل قد یستدل لذلک من جهتین : من الحکم بالانفعال بالتغیّر وعدمه بعدمه ، بصحیح شهاب بن عبد ربه . قال : «أتیتُ أبا عبداللّه علیه السلام أسأله ، فابتدأنی ، فقال : إنْ شئت فاسئل یاشهاب ، وإنْ شئت أخبرناک بما جئت له . قلت : أخبرنی . قال : جئت تسألنی عن الغدیر ، تکون فی جانبه الجیفة أتوضأ منه أو لا ؟ قال : نعم . قال : توضأ من الجانب الآخر ، إلاّ أن یغلب الماء الریح فینتن . وجئت تسأل عن الماء الراکد من الکُرّ فما لم یکن فیه تغیر أو ریح غالبة . قلت : فما التغیر ؟ قال : الصُّفرة فتوضأ منه ، وکلما غلب کثرة الماء فهو طاهر»(2) . حیث یدل بمنطوقه ، وعموم ذیله ، علی طهارة الماء مع فرض ملاقاته النجاسة ، المستفادة من مفاد الحدیث.

وحدیث الجعفریات ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبیه ، عن علی علیه السلام ، قال : «الماء الجاری لا ینجسه شیء»(3) .


1- مستدرک وسائل الشیعة الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
3- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:113

وحدیث «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام قال : «اعلموا أنّ کل ماء جار لا ینجسه شیء»(1) .

وحدیث ابن أبی یعفور عن الصادق علیه السلام قال : «قلت : أخبرنی عن ماء الحمام یغتسل منه الجنب والصبی والیهودی والنصرانی والمجوسی ؟ فقال : إنّ ماء الحمام کماء النهر یطهر بعضه بعضا»(2) .

فدلالته علی المقصود _ وهو مطهریة الماء الجاری ، ولو لم یکن کرا _ قویة ، وإنْ أبیت فلا أقل من التأیید .

وقد أورد علیه بایراداتٍ غیر واضحة :

أولاً : بأنّ الظاهر منه هو إثبات طهارته ، وعدم انفعال الماء بورود النجاسة فیه کالیهودی وغیره ، أی لا ینفعل بها ، لا المطهریة وهو دفع القذارة .

وفیه : قد عرفت منّا سابقا بأنه إذا لم ینفعل الماء بالنجاسة ، فیلازم المطهریة ، لعدم الانفکال واقعا بین کونه طاهرا بالملاقاة مع النجس وکونه رافعا لها ، فإذا فرض أنّ ماء الحمام إذا لم ینفعل بالملاقاة لأنّه یعصم بعضه بعضا کماء النهر ، فیطهر النجاسة الواردة علیه قهرا ، فیما یمکن التطهیر فیه ، ویزول النجاسة به ، بخلاف ما لو کانت النجاسة عینیة ذاتیة کالیهودی والنصرانی ، فانه خارج عن البحث ، لعدم امکن تحصیل الطهارة فیها إلاّ بکلمة الإخلاص ، مضافا إلی إمکان عدم ورودهم فیه بل کان بمثل الدفع من کون الماء المأخوذ منه متصلاً بمادة ، کما فی زماننا هذا کما یشیر إلیه فی الحدیث الوراد فی «فقه الرضا» الذی مرّ ذکره بقوله : «إذا کانت له مادّة» .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:114

وثانیا : بأن الظاهر من لفظ النهر هو الماء الواسع الملازم للکثرة المتساویة للکر أو أزید ، فلا یشمل ما دونه حتی یدل علی المطلوب .

هذا کما عن الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة» بقوله : «بناء علی شموله للصغیر» واستجوده الحکیم فی «المستمسک» وبذلک یُسقطه عن الاستدال ، بل وهکذا المحقّق الهمدانی فی «المصباح» یدعی الانصراف عن الصغار ، بل شموله للنهر الصغیر خلاف للظاهر ، کما ادعاه الآملی فی «مصباح الهدی» .

هذا ، وفیه أنّ هذا الإشکال وإن کان لا یخلو عن قوة بملاحظة ظهور لفظ (النهر) فی اللغة ، کما فی «المنجد» وغیره فی ذلک ، خلافا ل_ «مجمع البحرین» من اطلاقه ، بقوله : «هو الماء الجاری المتّسع مقابل الساقیة المساوق للنهر الکبیر الذی یکون خارجا عن حد الکر» ، إلاّ أنّه مع لحاظ مناسبة الحکم للموضوع ، للممثّل والممثل علیه _ کما عن «مصباح الفقیه» _ هو افهام أنّ ماء الحماء له اعتصام ، فلا ینجس بالملاقاة من جهة وجود المادّة ، کما لا ینجس النهر ویطهر بواسطة اعتصامه ، وهذه الدعوی لا تکون بعیدة .

فاحتمال إثبات المقصود من طریق الاولویة القطعیة _ أی إذا فرض کون الماء مطهرا ورافعا للنجاسة ، فعدم انفعاله بالدفع یکون بطریق أولی لأنّ الدفع أیسر وأهون من الرفع _ مدفوعٌ ، بأنه لیس المقصود إلاّ دعوی ظهور الحدیث لإفادة اعتصام المائین ، سواء کان بالرفع أو الدفع ، لا اثباته بالأولویة حتّی یقال لا معنی لاجراء ذلک فی الأمور التعبدیة .

مضافا إلی إمکان ان یقال : إنّ المطهر بعضه بعضا یشمل للرفع بالنسبة إلی الماء المتغیر ، والدفع بالنسبة إلی سائر المیاه ، فهکذا یکون بالنظر إلی الید المتنجسة مثلاً ، أی رفع بالنسبة إلیها ودفع بالنسبة إلی الماء ، کما لا یخفی .

وحدیث محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یصیبه

ص:115

البول ؟ قال : اغسله فی المرکن مرتین ، فان غسلته فی ماء جار فمرة واحدة»(1) .

حیث دلالته علی عاصمیة الماء الجاری بالملاقاة ، وعدم انفعاله ، بل ومطهریته للنجاسة واضحة ، لاسیما إذا شرطنا فی مطهریته الماء القلیل وروده علی النجاسة دون العکس ، فدلالته علی عدم الانفعال عکس ما لو کان الماء القلیل بورود النجاسة علیه تکون أقوی ، وهکذا لو اعتبرنا التعدد فی غیر المعتصم .

ودعوی ابتناء الاستدلال علیهما کما فی «المستمسک» غیر واضح ، کما علیه المحقّق الهمدانی .

أو دعوی انصراف الماء الجاری إلی ما هو أکثر من الکر لا أقل غیر واضحة ، مع ملاحظة کثرة الصغار ، لو لم نقل أکثر ، خصوصا إذا فرضنا فی اعتبار عاصمیة الکر تساوی سطح الماء لا مطلقا فحینئذ تکون الدعوی المذکورة غریبة جدا .

مضافا إلی إمکان الاستدلال بخبر سماعة بقوله : «سألته عن الماء الجاری یبال فیه ؟ قال : لا بأس به»(2) . بناء علی فرض کون السؤال عن حال الماء لا عن حکم البول فیه فیکون أیضا دلیلاً علی عدم الانفعال بالملاقاة .

هذه جملة الأخبار التی یمکن أن یستدل ، أو یؤتی بها ، تأییدا علی عدم انفعال الماء الجاری .

مضافا إلی إمکان الاستفادة _ ولو استیناسا _ من أبواب مختلفة فی إثبات المطلوب ، ومن هنا فإنه یکفی خبر ابن بزیع بتعلیله ، وحدیث التنزیل ، والنهر والتغسیل فی الماء الجاری ، مع أخبار واردة فی «دعائم الاسلام» و«فقه الرضا» ومن الرواندی وغیرهم .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:116

والذی یمکن أن یستدل به العلاّمة لاثبات الکریة فی الماء الجاری ، عموم الأدلّة الدالّة علی انفعال الماء بالملاقاة مع النجاسة ، إذا لم یکن کرا ، فیکون الدلیل بالمنطوق دالاً علیه ، بل وهکذا بالمفهوم من خبر محمّد بن مسلم وأمثاله فی قوله : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(1) . حیث یفید المفهوم فی القضیة الشرطیة المعتبر عند القوم دون غیره الانفعال فی الماء الذی لم یکن قدر کر مطلقا ، حتی إذا کان جاریا .

هذا ، لکنه مدفوع ، أمّا عن الأوّل :

أولاً : بأن تلک الأدلّة واردة فی الموارد الخاصة مثل الحیاض والغدران ، ولا عموم لها حتی تشمل لمثل الجاری ، وتحقیق ذلک موکول إلی محلّه .

وثانیا : لو سلّمنا شمول عمومه لمثل الجاری ، فإن غایة دلالته الظهور وهو حجة فیما لم یعارض بما هو أظهر ، والأخبار التی تفید عدم انفعال الماء الجاری مع کثرتها ، تکون دلالتها أظهر من ذلک العموم ، لما قد عرفت من شمول بعضها لذکر التعلیل للحکم ، فبذلک یحکم بالتخصیص للعموم .

ولو أبیتم عن جمیع ذلک ، فنهایة الأمر حدوث التعارض بینهما والتساقط فیکون المرجع حینئذ عموم ما یدل علی الطهارة ، ولو کان من جهة الحکم بعد الانفعال للماء الجاری ، فتثبت المطهریة حینئذ له للملازمة العرفیة الشرعیة بین طاهریته ومطهریته ، وإلاّ فالمرجع إلی مقتضی الاُصول العملیة من قاعدة الطهارة أو استصحابها ، إنْ کانت له حالة سابقة متیقنة للطهارة ، فحینئذ لا یمکن إثبات مطهریته بالملازمة ، لعدم حجیة مثبتات الاصول .

اللهم إلاّ أن یُدّعی أنّه لا یثبت ذلک بالأصل حتی یکون مثبتا ، إذ الأصل لا


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:117

یثبت إلاّ الطهارة فقط ، فثبتت الملازمة بینهما وبین المطهریة من لسان الأدلّة المختلفة فی الموارد المتشتة .

وأما الثانی : فنجیب عند أولاً : بالمنع عن کون الشرط هو العلّة المنحصرة فی القضایا الشرطیة ، حتی یستفاد منه ان الذی یوجب الطهارة بکلا معنییها لیس إلاّ الکر ، بل یمکن أن یکون شیئا شیء آخر .

وثانیا : لو لم نقل بکون القضیة الشرطیة هنا علی نحو القضیة الشرطیة المتحققة للوجود ، نظیر قولنا : «إنْ رزقت ولدا فاختنه» ، حیث لا مفهوم لها حینئذ ، وسیأتی الکلام عند محلّه إن شاء اللّه .

وثالثا : لو سّلمنا کون القضیة الشرطیة لها مفهوم ، وأنّ الشرط هو العلّة المنحصرة المقتضیة للمفوم حینئذ فمع تسلیم تمام ذلک والتسلیم بعموم المفهوم الشامل للماء الجاری ، برغم کل ذلک فلا تکون دلالته أقوی من دلالة عموم المنطوق الوارد فی الأدلّة السابقة ، فإذا فرضنا التخصیص فی المنطوق ، فإجراءه فی عموم المفهوم یکون بطریق أولی لاظهریة أدلّة الطهارة لمساق التعلیل الموجود فیها .

ورابعا : لو أغمضنا عن جمیع ذلک ، فإنّ غایته وقوع التعارض بین عموم المفهوم ودلالة تلک الأدلّة ، فی عدم انفعال الماء الجاری ولو کان قلیلاً وتکون النسبة حینئذ عموم من وجه ، فالتعارض یکون فی صورة ما لو کان الماء الجاری أقل من الکر ، فالمرجع حینئذ یکون إلی عموم اجتهادی آخر لو کان ، وإلاّ فالأصل العملی کما عرفت ، لا الحکم باشتراط الکُرّیة جزما والانفعال إذا کان أقل منه ، کما علیه العلاّمة وغیره .

مضافا إلی إمکان أن یقال : إنّه لا یکون مثل تلک الأدلّة المثبتة للطهارة وعدم الانفعال للماء الجاری ، وذلک لخصوصیة الجریان ، والدلیل الوارد فی اشتراط

ص:118

الکرّیة فی الاعتصام إلاّ مثل تعدد الشرط واتحاد الجزاء ، نظیر قوله : «إذا خفی الأذان فقصّر» و«إذا خفیت الجدران فقصر» حیث یکون المراد هو کفایة وجود أحد الشرطین لترتّب الجزاء ، لا لزوم الجمع أو التعارض بینهما ، وسیأتی تحقیق الکلام فی محلّه إن شاء اللّه .

فینتج فی المقام أنّه یعتبر فی الاعتصام والتطهیر أحد الأمرین أو الاُمور ، وهو الکریة أو الجریان أو غیرهما ، کما سیأتی بعد ذلک .

إذا عرفت ماحققناه ، تعرف فساد دعوی أن االأدلّة الواردة فی الماء الدالّة علی الانفعال بالملاقاة ، تکون اقتضائیا ، بخلاف ما ورد ف¨ی الماء الجاری حیث لا یکون مقتضیا ، إلاّ عدم انفعاله بالملاقاة ، وأما کونه مطهرا فلا اقتضاء له ومعلوم أنّه لا تعارض بین الاقتضاء واللا اقتضاء ، فیقدم الحکم بعد وقوع التطهیر بالماء الجاری . وذلک لوضوح أنّ مقتضی لسان تلک الأدلّة ، هو المطهریة ، فضلاً عن الطهارة ، فالتعارض إنْ تحقّق کان بین الاقتضائیین ، وقد عرفت تحقیقه فلا نعید .

وهل مراد العلاّمة ومن تعبعه ، من اعتبار الکریة فی الماء الجاری ، اعتبارها فی الماء الخارج عن المادّة ، أو فی المجموع منه ومن المادّة ، أو فی خصوص المادّة وحدها ؟ الذی یظهر ممن یحکی عنه فی «المنتهی» هو الإطلاق فی اعتبار الکریة فی الجاری ، بلا تصریح لأحد الأمور الثلاثة ، ولکن الذی استظهره العلماء هو الأوّل ، أو الثانی کما احتمله الحکیم قدس سره ، والمحقّق الهمدانی ، بخلاف الحلی فی «دلیل العروة» .

أما الاحتمال الثالث إن لم نقل بلحوق الثانی به _ کما فی «دلیل العروة» فلا قائل به بین الفقهاء ، بل استظهر الحلّی فی ذیل کلامه عدم اعتباره من القوم .

نعم ، یمکن استفادته من کلام الشیخ الأعظم قدس سره من جهة استنباطه وذلک بصورة الاحتمال ، عن حدیث التنزیل لماء الحمام بمنزلة الماء الجاری من لزوم

ص:119

الکریة فی مادّة الجاری ، کما یعتبر ذلک فی مادّة الحمام وذلک من جهة المماثلة ، ولذلک أشکل علیه المحققّ الهمدانی قدس سره بأنّه قلَّ ما یتّفق وجود الکریة فی المادّة بحیث تکون اجزاءه متّصلة بعضها مع البعض بنحو المتعارف ، فکیف یمکن القول باعتبارها مضافا إلی عدم تحقّق إحراز ذلک ولو کان فی الواقع کرا .

ولکن قد تأمل صاحب «دلیل العروة» فی عدم اعتبار الکریة فی المجموع أو المادّة وحدها ، وقد استغرب القول بالتطهیر بالماء الجاری الذی لو اتفق بانقطاعه عن المادّة أقل من الکر ولم یکن مجموع ما فی المادّة الذی خرج مع ما فی الخارج بقدر الکر ، إذا لا وجه له إلاّ أن یدعی الخصوصیة فی ذلک .

ثمّ نقض بوجود ذلک فی ماء المطر ، حیث یکون املاء بعد انقطاع القطرات قلیلاً بخلاف الحال اتصاله ، فلو اتفق قطعه قبل أن یبلغ المجموع کرا ، فأجب بأنّه یکون علی خلاف القاعدة ، فنرتکبه لوقوعه فی النص بخلاف المقام ، ورد ما أجابه الحکیم قدس سره من أنّه لو اعتبر الکریة فی المادّة ، لسقطت فائدة الحکم بالطهارة بوجود المادّة ، لأنّ الغالب عدم إحراز الکثرة فی المادّة ، وأنّ سقوط الفائدة إنما یکون إذا لم تکن الغلبة فی المادّة کثرتها ، وإحلال أنّه کذلک.

ونحن نقول : کم فرقٌ بین دعوی المحقّق الهمدانی من کون الغالب عدم کریة المادّة بنحو المتعارف ، وبین دعواه من کون الغالب فی المادّة کریتها ؟!

ولکن الانصاف أن یقال : بأنّ الحکم فی المقام هو الحکم بالطهارة والمطهریة فی الماء النابع عن المادّة ، إذا کان یصدق علیه الجاری أو ما بحکمه ، حتی إذا اتفق قطعه بعد التطهیر بما إذا لم یکن الماء الخارج وما لحق به عن المادّة کرا ، وذلک من جهة شمول الأدلّة السابقة لمثل ذلک ، وعدم ورود أمر من الإمام علیه السلام فی مورد بلزوم ملاحظة أنّه هل یقطع الماء عن المادّة أم لا ؟ وهل یکون المجموع بمقدار کر أم لا ؟ بل المتعارف فی الخارج عدم إحراز کونه کرا ، کما هو

ص:120

المقتضی لعموم التعلیل وشبهه ، بقوله : «لأنّ له مادّة» أو «إذاکانت له مادّة» وأمثال ذلک .

بعبارة اُخری : نقول فی الماء الجاری ، المفروض _ کما قاله الحلی فی ماء المطر _ کما أنّه یکون بواسطة دلالة النص علیه ، هکذا یکون فی المقام فإن الحکم یستفاد من النص الوارد فیه ، کما لا یخفی .

وإن أبیت ما قلناه ، فلابد فی الفرض المزبور إذا لاقی نجسا وکان سطح الماء مع المادّة مساویا وأقل من الکر ، هوالحکم بالطهارة للماء من جهة استصحاب الطهارة وقاعدتها ، مضافا إلی جریان استصحاب الموضوع ، وهو الجریان قبل القطع بخلاف ما بعده ، والنجاسة للمتنجس بواسطة استصحابها ، ولم نقل بالملازمة المذکورة حینئذ _ کما هو الأحوط _ لأن الملازمة لم یشر إلیها أحد من الفقهاء ، ولم یظهر من کلماتهم ، کما لا یخفی .

وکیف کان ، فقد ظهر من جمیع ما ذکرنا طهارة الماء الجاری ومطهریته ، ولو کان أقل من الکر ، إلاّ أن یتغیر أوصافه بالنجس ، ریحا أو طعما أو لونا ، فحینئذ ینجس کما أشار إلیه المصنف قدس سره فی عبارته بقوله : «لا ینجس إلاّ باستیلاء النجاسة علی أحد أوصافه» ، وبناء علی هذا فلابد من البحث فیه ضمن عدّة اُمور :

الأمر الأوّل : هل یعتبر حدوث الاوصاف الثلاثة المذکورة فقط ، أو یکون مطلقا ولوکان بالحرارة والبرودة والثخانة وغیرها ؟ الأقوی هو الأوّل ، فانه مضافا إلی دعوی الإجماع علیه _ کما عن «مصباح الفقیه» نقلاً عن بعض _ یدل علیه الأخبار الکثیرة التی کادت أن تکون متواترة ، وکان بعضها صحیحا وجمیعها تتضمن الثلاثة معا أو منفصلاً بعضها عن بعض ، فبذلک یقید الخبر المطلق فی التغیر _ إن وجد فی بعض الأخبار مطلقا _ مع إمکان دعوی الانصراف فیها ، بناء علی کونها أظهر الافراد .

ص:121

وحمل الأخبار المشتملة علی الثلاثة علی المثال ، یعدّ خلافا للظاهر ، لأن فی المثال بحسب النوع یکتفی بفرد أو بفردین لا بالثلاثة کا هو کذلک فی أخبار کثیرة ، نشیر إلیها إن شاء اللّه تعالی ، لاسیما مع ملاحظة الحصر المستفاد من النفی والاستثناء بکونه هو الملاک فی الحکم بالنجاسة لا غیره ، وذلک واضح لا غبار فیه . کما لا یعتنی إلی ما قیل باعتبار غیر اللون من الأوصاف ، لوقوعه فی الخبر الصحیح بخلافه ، لما ستعرف من وجود اللون فیه ، مثل صحیح شهاب .

الأمر الثانی : هل یعتبر أن یکون التغیر بوصف عین النجس من الثلاثة _ کما علیه صاحب «الجواهر» والحکیم ؟ أو یکون الاستناد إلی النجس ولو لم یتصف الماء بأحد أوصاف النجس ؟ بل حتی لو اتصف بصفة ثالثة غیر وصفی الماء والنجس یصیر نجسا ، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره والمحقّق الآملی ، أوّلاً یعتبر شیء منهما ، بل إذا حصل التغیر بالملاقاة _ ولو لم یستند إلاّ من جهة اخری ولو منضما إلی النجس _ یصیر نجسا ؟

وبعبارة اخری : یکفی فی حصول النجاسة کونها علة ناقصة فی ذلک .

والذی یظهر من أخبار الباب هو الثانی ، کما تری فی الحدیث الوارد بقوله : «خلق اللّه الماء طهورا لا ینجسه شیء إلاّ ما غیر لونه أو طعمه أو ریحه»(1) . لوضوح أن المراد من الشیء والموصول ، هو عین النجس ، لا الأعم منه والمتنجس ، لأن الظاهر _ بقرینة السیاق _ کون المراد ما هو نجسٌ بالذات لا بالعرض کالمتنجس ، فبذلک یفهم أن فاعل التغیر کان هو النجس فقط لا شیء آخر ، ولا هو مع الآخر ، کما لا یخفی .

ومثله فی الدلالة خبر حریز ، عن الصادق علیه السلام حیث قال : «کلما غلب الماء


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .

ص:122

علی ریح الجیفة ، فتوضأ من الماء واشرب ، فإذا تغیر الماء وتغیر الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(1) . حیث اسند التغیّر إلی النجس ، وبقرینة المقابلة من غلبة الماء علی ریح الجیفة یفهم کون الریح المغلوب مستندا إلی نفس الجیفة .

کما أنّه یشتمل علی الوصفین من الثلاثة وهما الریح والطعم .

کما لا یحتمل شمول لفظ التغییر باللون ، بدعوی إمکان حصول ذلک من الانفساخ فیه ، لکنه ضعیف .

کما ان احتمال کون التغیّر المطلق الوارد فی قوله : «إذا تغیر الماء» مطلق الأوصاف ، حتی غیر الثلاثة أضعف ، لامکان أن یکون العطف بعده تفسیریا ، فیکون المراد من التغیر هو التغیر فی الطعم فقط ، أو المراد تغیّره فی الریح أیضا بقرینة ذکره فی الصدر ، واللّه العالم .

وهکذا مثله خبر أبی بصیر فی حدیثً قال : قال الصادق علیه السلام : «إنْ تغیر الماء فلا تتوضأ منه ، وإن لم یغیره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(2) . لظهور لفظ (الأبوال) الواقع فی السؤال والجواب کون التغیر من جهة الطعم واللون لا مطلقا ، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره خصوصا أنّ ذکر الدم فی ذیله تکون قرینة اُخری للتقیید ، بل لا یبعد عدم الإطلاق من أوّل الأمر للانصراف إلیه بدوا ، کما لا یخفی .

ولا فرق فیما ذکرنا کون المراد من الدواب خصوص الأنعام التی کانت أبوالها طاهرة ، حتّی یکون المنع عن الوضوء بالماء المخلوط بها ، لصیرورته مضافا لا نجسا ، أو الأعم حتی یشمل غیر المأکول فیکون نجسا ، لما عرفت من وجود


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:123

لفظ (الدم) الظاهر فی النجس ، وهو یکفی للاستدال .

ویدل علیه أیضا خبر علاء بن الفضیل ، فی حدیثٍ قال : «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(1) . فإنه صریحٌ فی خصوص اللون .

وضعف سنده بمحمد بن سنان من عدم توثیقه فی الرجال مدفوع ، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره وذلک لرواته الأجلاّء ممّن لا یروون إلاّ عن الثقات کصفوان بن یحیی عنه ، مضافا إلی انجباره بالاجماعات المستفیضة والشهرة المتحققة وعمل الأصحاب .

وکذلک یدل علیه صحیح ابن بزیع عن الرضا علیه السلام بقوله : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر ریحه أو طعمه ، فینزح حتی یذهب الریح ویطیب طعمه ، لأن له مادّة»(2) . فبذکره لمصادیق التغیر من حیث الطعم والریح یقید خبره الآخر(3) الذی ورد فیه عنوان التغیّر مطلقا .

والخبر الآخر الذی یدل علی ذلک هو صحیح شهاب بن عبد ربه فی حدیثٍ قال : «توضأ من الجانب الآخر ، إلاّ أن یغلب الماء الریح فینتن ، وجئت تسأل عن الماء الراکد من الکر مما لم یکن فیه تغیر أو ریح غالبة ؟ فقلت : فما التغیر ؟ قال : الصفرة ، فتوضأ منه ، وکلما غلب کثرة الماء فهو طاهر»(4) ، حیث أنّه یشمل علی الریح واللون ، بل یکون هذا مفسرا ومبینا بأن التغیر إذا أطلق بلا قید ، کان المراد هو التغیر فی اللون ، فهذا یکون شارحا للتغیر الوارد فی خبر ابن بزیع وخبر حریز اللذین مرّ ذکرهما .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .
4- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .

ص:124

کما یدل علی المطلوب خبر سماعة ، فی حدیثٍ : «إذا کان النتن الغالب علی الماء ، فلا تتوضأ ولا تشرب»(1) .

مضافا إلی ما عرفت من الخبر الوارد فی «دعائم الإسلام» المشتمل علی الأوصاف الثلاثة فی واحد منهما ، وعلی الریح فی الآخر .

فمع کثرة الأدلّة وتواترها ، بل وشمولها للَّون أیضا ، لا یبقی شک للفقیه فی أنّ حدوث التغیر فی الماء بأحد تلک الاوصاف یکون منجسا لا غیرها من سائر الاوصاف ، وإلاّ لکان علی الإمام علیه السلام الاشارة إلیها فی مورد من الموارد مع کثرتها ، مع کون المقام مقام حاجة والبیان .

کما أنّ الظاهر المستفاد من الأخبار کون التغیر مستندا إلی النجاسة ، أی کانت النجاسة هی العلّة التامة فی التأثیر والتغیر ، ولو لم یکن بوصف النجس أیضا ، کما لو أوجب خلط الدم فی الماء تغیّر الماء وتکونه بلون الأصفر .

والاستناد لوصف النجس فی بعض الأخبار _ کما فی خبری حریز وعلاء ابن الفضیل _ یکون منجهة الغلبة من الخارج ، لا سیما فی مثل الجیفة من الریح .

کما أنّه یشهد للدلالة علی کون التغیّر ملحوظا بالنسبة إلی الماء صرحة الأخبار الواردة من النبوی وابن بزیع و«دعائم الاسلام» حول الاوصاف الثلاثة ، واضافتها إلی الماء لا النجاسة ، وهو واضح لا یحتاج إلی مزید بیان .

ثمّ إنّه هل یعتبر فی الحکم بالنجاسة بالتغیّر ، أن یکون حسیّا مطلقا ، کما یظهر من «الجواهر» ومصنفات غیره من الفقهاء ، کما فی «العروة» وکلمات جماعة من المحشین .

أو یکون ولو تقدیریا مطلقا ، کما عن العلاّمة وولده الفخر وجمع من الفقهاء .

أو التفصیل بین ما یکون مستندا إلیه ولو بعد الملاقاة ، _ أی ولو لم یکن حین


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:125

الملاقاة حسیا فعلیا _ فیحکم بالنجاسة ، وبین ما لا یکون کذلک فلا ، کما عن الحکیم قدس سره فی «المستمسک» .

أو التفصیل فیما بین افراد التقدیر أیضا ، بأن یکون فی بعضه محکوما بالنجاسة _ کما لو وجد الوصف فی شخص الماء بحیث صار مانعا عن تحقّق التغیر بذلک المقدار من النجس مع أنّه لو لا ذلک لتأثر کما لو احمّر الماء بطاهر ، ثمّ اختلط مع الدم ولم یظهر فیه أثر بواسطة إیجاد المانع فیه وهو الاحمرار ، بحیث لو لم یکن ذلک فیه لکان متغیرا بوصف الدم _ وهوم محکوم بالنجاسة .

هذا بخلاف ما لو کان لون الماء بحسب خلقته الأصلیة من نوعه أو صفته کذلک ، حیث لا یکون الملاک فی نجاسته إلاّ التغیر الحسی ، کما فی ماءالنفط ، وماء بعض المعادن ، حیث یعدّ متلونا بلون تلک المادّة بحسب خلقته الأصلیة الصنفیة .

وکیف کان ، إنّ الملاک فی التغیّر هو الاوصاف الثابتة فی الماء بحسب الخلقة الأصلیة لنوعه أو صنفه ، لا لشخصه العارضة ، لأنّ الظاهر من الأخبار اعتبار التغیر الحاصل فی لون الماء المستند إلی ذاتا لا بالعرض ، هذا کما علیه المحقّق الخوانساری قدس سره فی «المشارق» کما نقل عنه الشیخ الأعظم قدس سره ، بل یظهر من الشیخ أسد اللّه التستری قدس سره ، کما هوالمستفاد من ظاهر بعض کلماته وان استشعر الخلاف عن بعضها الآخر ، فلیتأمل .

وقد وافقنا فی المصادیق مع البروجردی والشاهرودی کما هو مذکور فی حاشیة «العروة» فی ذیل المسألة .

نعم ، لا یعتبر ذلک فی النجاسة أی لو حدث بعض ما یؤثّر فی شدة ریح المیتة مثلاً أو ضعفها بحیث لا یضر فی صدق الاستناد إلیه عرفا ، ولو کان بسبب جعله فی موضع سبّب المنع عن التأثیر ، کالثلاجة المتعارفة فی عصرنا حیث یوضع فیها اللحم وغیره فانه لولاها لتغیر لون اللحم وغیره وهکذا فی الماء فإنه لو

ص:126

أضیف إلیه ما یمنع عن تغیّر لونه ، ولکن لم یضر عرفا صدق الاستناد إلی تاما کان منجسا للماء ، وإن کانت الأوصاف فی بعض هذه الأمور عرضیة ، کما لا یخفی ، لعدم أخذ الوصف بحسب الذات الاصلیة للنجاسة ، أی لم یضف إلیه إلاّ فی بعض الأخبار ، وقد عرفت کونه لأجل الغلبة ، فیشمل إطلاق بعض الأخبار لمثل الفروض المذکورة ، کما لا یخفی .

فبناءاً علی ما ذکرنا ، یظهر تفاوت الحکم بین المائین کانا فی حوضین وکانا أزید من الکر ، وکان أحدهما من ماء البئر حیث یکون أقل استعدادا لقبول الانفعال بملاقاة النجاسة لونا أو طعما أو ریحا بمقدار من النجس ، عن الماء الآخر الذی کان من الجاری ، أو لا یتغیر بذلک المقدار لشدة استعداده ، فیحکم بالنجاسة فی الأوّل منهما دون الثانی ، لکون التفاوت فی الانفعال وعدمه تکون مستندا لأمر ذاتی للماء موجود فی کلیهما .

هذا بخلاف ما لو فرض ماء فی حوضین ، ولکن کان قد أضیف لأحدهما مقدارا من العطر فصار معطرا ، ولذلک لم یتأثر بما وقع فیه من الجیفة ، بخلاف الماء الآخر حیث انفعل بذلک المقدار ، فإنه یحکم بالنجاسة فیهما ، لأن المانع فی الماء المعطر کان مانعا عارضیا لا ذاتیا نظیر الاحمرار بالذات إذا اختلط مع الدم ، کما مثّله السیّد قدس سره فی «العروة» حیث حکم بالطهارة ، کما هو الحق ، خلافا للعلاّمة البروجردی والشاهرودی حیث حکما بالنجاسة منها .

ولکن لا ینقضی تعجبی منهما ، أنّه کیف حکما بالنجاسة مطلقا فی المثال الأوّل والثالث ، ولم یحکما بها فیما لو وقعت المیتة فی الماء المتعفن أصلاً ، بحیث لو لم یکن نتنا لغیّرته ، أو الدم المختلط بالماء الأحمر بالذات بحیث لم تغیره بواسطة وجود اللون فیه .

نعم ، یصح الإشکال إذا کانا ذلک بعلاج کما عرفت ، فلا نعید .

ص:127

فقد ظهر مما ذکرنا عدم تمامیة کلام صاحب «الجواهر» قدس سره من کون الحسی هو القدر المتیقن ، ومن أنّ الطعم للنجس غیر معلوم مثلاً ، وذلک لامکان الاستظهار من بعض أفراد التقدیر لمساعدة فهم العرف بذلک ، کما عرفت ، ولأنّ الطعم المتغیر لم یستند إلی النجس ، حتی یقال بما قاله بل کان مستندا إلی الماء وعلمنا طهارته ، ولذا ورد فی خبر ابن بزیع اشتراط أن یکون ذهاب الریح وطیب الطعم مستندا إلی الماء ، فهو أمر صحیح کما لا یخفی .

* * *

فی تغیّر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بمجاورة النجس

بحث حول حصول النجاسة بالتغیر بالمجاورة وعدمه

هل یعتبر فی الحکم بالنجاسة للماء المتغیر _ الجاری أو الکثیر _ من الملاقاة بشرط وجود عین النجاسة أو یکفی فی ذلک حصول التغیر للماء بسبب تلک النجاسة ولو بالمجاورة دون الملاقاة .

والذی یمکن أن یتوهم لکفایة الثانی هو أن یقال :

إنّ المستفاد من الأخبار کفایة کون التغیّر مستندا إلی النجاسة کیف اتفق ، سواء لاقی معها أم لا ، فحینئذ لو جاورت المیتة الماء فصار الماء جائفا ، فلیس ذلک إلاّ بواسطة هذه النجاسة ، ولو من جهة المجاورة ، حیث انتقلت ریحها إلیه ، وکان ذلک سببا لحصول التغیر .

هذا ، ولکنه مخدوش لوضوح أن ظاهر لسان الأخبار من النبوی وخبر ابن بزیع وخبر «دعائم الاسلام» من قوله : «لا ینجسه شیء» ، هو کون ذلک مع الملاقاة للشیء النجس عرفا ، إذ لا یتبادر عند العرف إلاّ هذا المعنی ، فبذلک یفهم کون المراد أن یکون التغیّر مستندا إلیه بالملاقاة لا بالمجاورة .

ولو سلّمنا کون ألفاظ الأخبار مطلقة ولا دلالة فیها بالخصوص ، فانه نقول انّ

ص:128

صراحة بعض الأخبار الواردة فی الباب ، مثل خبر علاء بن الفضیل ، وخبر أبی بصیر ، وخبر سماعة ، بقوله : «کذلک الدم إذا سال فی الماء» ، وقوله : «فی الحیاض یبال فیها» ، وقوله فی الثالث : «یمر بالماء وفیه دابة میتة» وأمثال ذلک فإنها تقید إطلاق الأخبار السابقة . مضافا إلی اعراض الأصحاب عنه فی المجاورة ، بل فی «الجواهر» ادعی الإجماع علی عدم التنجس بالتغیّر بالمجاورة ، ونحن أیضا لم نجد من ذهب إلی النجاسة من القدماء والمتأخرین والمعاصرین ، فهو مقطوع به عند الأصحاب .

وإذا عرفت ما ذکرنا ، فإن المقام یقتضی بعض الفروع المتفرعة علیه :

الفرع الأوّل : ما لو کان التغیّر مستندا إلی الملاقاة والمجاورة معا .

فتارة : یکون علی نحو العلّة التامة فی کل منهما ، أی لولا الآخر لکان ذلک کافیا فی التغیّر ، کما لو فرض وقوع جزء من المیتة فی الماء ، وبقی جزءها الآخر خارجا عنه ، وکان التغیّر مستندا إلی الجزء الداخل فی الماء والخارج عنه بنحو العلّة التامة ، فلا إشکال حینئذٍ فی نجاسته ، لاستکمال جمیع الشروط اللازمة فی التنجیس ، من الاستناد ، والملاقاة ، وحصول التغیر ، کما هو واضح لا کلام فیه .

وأخری : یکون الداخل بنحو العلّة التامة دون الخارج ، فهو واضح للحکم بالنجاسة لجمیع ما عرفت ، فلا نعید .

وثالثة : أن یکون عکس ذلک ، فقد ذکر الآملی قدس سره فی «المصباح» وجهین :

تارة : الحکم بالنجاسة من جهة صدق الاستناد والتغیّر المستند ، والملاقاة ، وهو کاف فی ذلک .

واخری : عدمه ، لأنّ الملاک _ مضافا إلی جمیع ذلک _ لزوم کون الاستناد إلی الداخل بنحو العلّة التامة ، وهو مفقود فی المقام .

لکنه رحمه الله اختار الأوّل ، والأقوی عندنا هو الثانی ، أی الحکم بالطهارة وعدم

ص:129

النجاسة ، وإنْ کان الاحتیاط لا یخلو عن وجه ، کما علیه الگلپایگانی والاصطهباناتی وغیرهما ، وکما أن مقتضی استصحاب الطهارة وقاعدتها ، هو الحکم بالطهارة فی کل مورد شک فیها ، کما لا یخفی ، فما حکم فی «العروة» فی المسألة الخامسة عشرة بالنتنجس بنحو الإطلاق ، لا یخلو عن إشکال .

ومن ذلک یظهر الحکم ، فیما لو کان بعض الأجزاء الصغیرة للمیتة فی الماء ، وکان التغیّر مستندا إلی الأجزاء الخارجة بنحو العلّة التامة _ حیث ادعی الحکیم قدس سره انصراف الاطلاقاتعن ذلک المورد _ لأنّه أیضا أحد مصادیق ما عرفت فی السابق حکمه .

الفرع الثانی : هل یعتبر فی الحکم بنجاسة المتغیر ، أن یکون بملاقاة عین النجاسة ووصفها ، فلا یکفی التغیّر بالمتنجس مطلقا ، ولو تغیّرت بوصف النجاسة لکن کانت أجزاء النجاسة موجودة مستهلکة فی المتنجس ودون عینها حتی یکون تغییره للماء الملاقی له منجسا له فلا یتنجس ؟

الأخیر هو الظاهر من کلام صاحب «الجواهر» قدس سره ، لأنّه استظهر من الأخبار لزوم وجود عین النجاسة فی التغیّر المنجس ، وفی مقابله القول بالنجاسة للماء ، بسبب حصول التغیر ، ولو بوصف المتنجس ، وإن لم تکن عین النجاسة موجودة فیه ، وهذا هو القول الثانی الذی نسب للشیخ فی «المبسوط» و«الخلاف» والمحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التحریر» .

وقد وقع الکلام فی صحّة کلامهم ، وصحّة الانتساب الیهم .

أو یقال بالنجاسة ، إذا کان الملاقی المتغیّر بسبب تلاقیه مع المتنجس المتغیّر حاملاً لأوصاف النجس ، ولو لم تکن أجزاؤها فیه ، بخلاف ما لو تغیّر بأوصاف غیر النجس ، بل اتّصف بوصف المتنجس مثلاً أو غیره ، فإنه لا ینجس .

هذا هوالذی ذهب إلیه الشیخ الانصاری ، والسیّد فی «العروة» والحلی فی

ص:130

«دلیل العروة» ، والمحقّق الآملی فی «المصباح» قدس اللّه أسرارهم .

أو یقال : بأنّ الملاک هو الصدق العرفی ، بأن یکون التغیر مستندا إلی عین النجس ، ولو کانت فی المتنجس ، وذلک لا یصدق إلاّ فیما إذا کانت أجزاء النجس موجودة ی المتنجس الملاقی ، ولو کانت مستهلکة علی نحو لا یضر بالصدق العرفی ، سواء کان التغیّر حینئذ فی الماء الملاقی له علی نحو وصف النجس أو غیره ، فانّه حینئذ محکوم بالنجاسة . هذا بخلاف مالو لم یکن کذلک .

ولو فرض وجود وصف النجس فی الماء الملاقی له ، کما لو صار الماء متنجسا بواسطة الجیفة ، وصار جائفا ، فصب ذلک الماء الکذائی بدون وجود عین النجس فی المتنجس علی الماء الملاقی له ، فصار الماء الثانی أیضا منتنا ومتعفنا بعفونة الجیفة ، فلا یکون هذا الماء الأخیر نجسا ، کما علیه ظاهر کلام العلاّمة البروجردی والگلپایگانی . وهذا هو الحق عندنا ، وان کان الاحوط الاجتناب عنه أیضا ، لأنّک قد عرفت ظهور الأخبار وصراحتها فی کون ملاک التنجّس هو التغیّر ، المستند عرفا إلی عین النجس وهذه الأخبار مثل خبر علاء وأبی بصیر والقماط والمذکور فی «فقه الرضا» وغیرها ، مما لا شبهة فیها من الصراحة بأن المناط هو التغیّر بعین النجس وکونه مستندا إلیه ، فبذلک نقید إطلاقات الخبر النبوی وابن بزیع و«دعائم الاسلام» _ لو سلّم العموم والإطلاق فیها _ بواسطة کلمة ما الموصول او لفظ (الشیء) للنجس والمتنجس ، بأن یقال کأنه أراد بیان أن ما هو قابل للتنجیس فی غیر الماء ینجس فیه بالتغیّر ، فهو کما یشمل النجس المتنجس أیضا .

وکیف کان ، فاستفادة إطلاق الحکم من الأخبار بنجاسة الماء الثانی الملاقی مع المتنجس الأوّل الحامل لوصف النجس کالریح بدون وجود أجزاء النجاسة فیه فی غایة الإشکال .

ص:131

نعم ، قد یستدل لاثبات النجاسة لذلک الماء ، بأن المتغیر المتنجس إذا اختلط مع الماء الطاهر مع حفظ تغیّره ، فحینئذ قد یقال بصیرورة الماء الثانی أیضا متنجسا ، وهو المطلوب ، وإلاّ یلزم حصول أحد الأمرین المقطوع بفساده اجماعا ، وهما :

إمّا القول بصیرورة المتنجس المتغیّر مع تغیره طاهرا وهو مقطوع العدم والفساد اجماعا .

فی ما لوانقطع الماء الجاری بعضه عن بعض بسبب التغیّر بالنجس

أو القول ببقاء کل ماء بحکمه من الطهارة والنجاسة ، فهو أیضا خلاف الإجماع ، لقیامه علی عدم إمکان اشتمال ماء واحد ، صار بالاتصال واحدا شخصیا ، علی حکمین متضادین من الطهارة والنجاسة ، لأن المفروض عدم تمیّز کل منهما بحدوده ، اذ التغیّر کان بالریح لا اللون حتی یمکن التمیز بینهما فی الخارج ، فلا محیص الاّ القول بالنجاسة .

هذا ، ولکن الحلی قدس سره فی «دلیل العروة» قد أجاب عنه ، بأن مقتضی استصحاب طهارة الماء هو الطهارة ، واستصحاب نجاسة الماء هو النجاسة ، فمع ملاحظة ذلک الإجماع فی الماء الواحد ، یوجب التعارض بینهما ، فیسقط ویکون المرجع قاعدة الطهارة .

هذا ، ولکنه مخدوش بأنه لا شک فی نجاسته لماء المتغیر مع بقاء تغیّره ، وحینئذ لا حاجة للاستصحاب حتی یوجب التعارض .

نعم ، الشک موجود فی الماء الطاهر ، باعتبار ملاقاته مع هذا المتغیر المتنجس ، لو للاستظهار الطهارة من الأدلّة السابقة ، کما لا یخفی ، وان یمکن هذا الاستدلال فی الجملة ، إلاّ أنّه یوجب الحکم بالاجتناب فی هذه الصورة من باب الاحتیاط أیضا ، واللّه العالم .

الفرع الثالث : إذا فرض انقطاع الماء الجاری بعضه عن بعض ، بواسطة

ص:132

ویطهر بکثرة الماء الطاهر علیه متدافعا حتی یزول تغیّره(1)

کیفیّة تطهیر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بعد زوال التغیّر

حصول التغیّر فی حجم الماء عرضا وعمقا ، فما حکم المائین الواقعین فی حافتی المتغیر ؟

فنقول : یجب أن نبحث تارة عن الماء الواقع فی طریق المادّة ، والظاهر طهارته ، وإن کان أقل من الکر ، منفردا أو مع المادّة ، وسواء کان واقعا فی سطح واحد متساو ، أو کان هو فی طرف العلو ، وکلّ ذلک لما عرفت من کون المادّة بنفسها عاصمة للماء ، فلا نعید .

وأخری : فی الماء المقابل ، فانه طاهر أیضا لو کان بمقدار کر ، بخلاف مالو کان أقل منه ، فانه ینجس بذلک ، ولو کان فی سطح غیر متساو مع المتغیر ، لأنّ المفروض وقوع المتغیر فی طرف العلو ، کما هو المتعارف .

فما احتمله صاحب «الجواهر» فی صدق عنوان الجاری علی هذا الماء المتصل مع المتغیر ، بالماء المقابل فی طرف المادّة ، وأنّه یمکن الفصل بینهما فی الحکم ، وأنّه عند الشک یمکن الرجوع إلی قاعدة الطهارة فی غایة الضعف ، لوضوح أنّه فی العرف کان بمنزلة الحائل بینهما ، ولزوم اتصاله بالماء الطاهر لا المتنجس ، وهو واضح لا کلام فیه .

(1) لا إشکال فی عدم عود الطهارة للماء الذی زال تغیّره بنفسه ومن دون ان یتصل بماء عاصم من الکر أو المادّة أو المطر ، لوضوح أنّ الزوال العارض للمتغیر لا یعدّ من المطهرات شرعا ، کما لا یخفی . إلاّ أنّ الإشکال فیما لو کان متصلاً بالمادة کما فی الجاری وما بحکمه ، فحینئذ هل یکفی مجرّد الاتصال مقارنة مع الزوال مطلقا ، أم لابدّ من الامتزاج بینهما ، بحیث لا یکون زوال تغیّره مع الاتصال بها غیر کاف فی طهارته مطلقا ، أو یُفصّل فیما بین ذی المادّة من کفایة الزوال مع

ص:133

الاتصال ، بخلاف غیره کالکر مثلاً ، إذ لابدّ فیه مضافا إلیه من الامتزاج أیضا ، وجوهٌ وأقوال :

وقد نسب الاحتمال الأوّل إلی المتقدّمین ، بل قد قیل أنّه لم یسمع ذلک عن المتقدمین عن المحقّق الأوّل فی «المعتبر» کما علیه شارح «الروضة» أیضا .

بل قد نسب إلی المشهور تارةً ، وإلی الأشهر أُخری ، وقد نسب الثانی أیضا إلی المشهور ، کما عن الشیخ الأنصاری فی «کتاب الطهارة» .

وقول بالتفصیل فیما بین الجاری وما حکمه من المطر وغیره ، من عدم الاعتبار ، وفی غیرهما من الکر من اعتبار الامتزاج .

وقد یحتمل قول رابع : وهو التفصیل بین الجاری وماء الحمام ، من اشتراط الامتزاج فیهما ، وبین غیرهما من عدم الاعتبار _ عکس الثالث _ .

ونسب هذا القول إلی ظاهر «المنتهی» و«النهایة» و«التحریر» و«الموجز» وشرحه .

أمّا وجه عدم اعتبار الامتزاج _ : مضافا إلی التمسّک بالاُصول العملیة ، من أصالة عدم الاعتبار المستند الأصالة العدم الأزلی _ لو قلنا باعتباره _ وأصالة البراءة من الاشتراط وضعا وتکلیفا ، من جهة وجوب الاجتناب ، وأصالة الطهارة _ هی الأدلّة الواردة فی ذلک ، وهو صحیحة ابن بزیع ، قال علیه السلام : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر ریحه أو طعمه ، فینزح حتی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ له مادّة»(1) . بأن تکون العلّة متعلِّقة بلفظ (فینزح) أی وجوب النزح فی صورة التغیّر إنّما کان بلحاظ وجود المادّة . أو یکون متعلقا بالجملة الثانیة والاولی ، وهی واسعیة ماء البئر معا ، فیفید أیضا ما ذکرنا من عدم لزوم الامتزاج .

بل یمکن أن یقال : بأنّ الحکمة المقتضیة لذکر العلّة بعد الجملتین ، هی إمکان


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:134

رجوع ذلک إلی کل من الدفع والرفع المستفاد من الصدر والذیل ، بحیث یفهم منه عاصمیة ماءه بواسطة المادّة فی کلیهما ، فمع ضمیمة عمومیة التعلیل حتی لغیر مورد البئر یثبت المطلوب ، وهو کفایة الاتصال بالمادّة مع زوال التغیّر .

واحتمال رجوع العلّة إلی جهة ذهاب التغیّیر بالنزح ، کأنّه قیل کیف یزول تغیّره بالنزح ، فأجاب علیه السلام : «لأنّ له مادّة» . کیفیّة تطهیر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بعد زوال التغیّر

مدفوعٌ بأنّه أمر عرفی وخارج عن وظیفة الإمام علیه السلام ، بخلاف الحال فی الاحتمال الأوّل ، حیث أنّه کان فی مورد بیان الاحکام الذی یعدّ وظیفته ، کما لا یخفی . نعم ، قد یحتمل أیضا أن یکون الملاک فی الحکم بالنزح ، هو حصول الامتزاج به ، لحدوث تجدد الماء فیه واختلاطه مع التغیر ، فیوجب الطهارة .

إلاّ أنّه مع ملاحظة اهمیة ذلک ، وأنّه کان الامتزاج حقیقة شرطا فی تطهیر المتغیر ، لکان علی الأئمّة علیهم السلام بیانه فی موارد عدیدة وبعبارات صریحة ، فبذلک یوجب الظنّ القویّ بعدم اعتباره .

وقد تمسّک أیضا بمعتبرة ابن أبی یعفور فی حدیثٍ ، قال علیه السلام : «إنّ ماء الحمام کماء النهر یُطهّر بعضه بعضا»(1) . بناءً علی کونه فی مورد الرفع ، أی کما أنّ ماء النهر یطهر بعض ماءه المتغیر بزوال تغیّره _ مع العلم بأنّ نفس الزوال بلا اتصال بالمادّة أو الکثرة لا یکون مطهّرا _ فکذلک فی المقام ، فیتمّ المطلوب .

قلنا : وإنْ کان ظاهر العبارة هو الرفع ، لأنّ التطهیر لا یستعمل الاّ فی الرفع ، إلاّ أنّه بملاحظة وروده فی مورد الدفع ، الواقع فی صدر الحدیث ، من دخول الیهودی والنصرانی وغیرهم من الافراد المحکوم بنجاستهم فی الحمام ، یسئل عن حال تنجس الماء بهم ؟ فأجاب علیه السلام عنه وشبّه ماء الحمام بماء النهر ، أی کما


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:135

أنّه لا ینفعل بالنجاسة الحاصلة لبعضه بل قد یطهر ، هکذا یکون ماء الحمام أیضا ، فاحتمال اختصاصه بالرفع کاحتمال اختصاصه بالدفع ضعیف جدا .

نعم ، قد یرد علیه : أنّه لیس فی مقام بیان التطهیر ، حتی یفهم من اطلاقه عدم اعتبار الامتزاج .

کما یؤیّد هذا أنّه لو ورد دلیل آخر یدل علی اشتراط الامتزاج ، لما کان منافیا ومعارضا مع هذا الدلیل ، حتی یوجب تقیّده أو لزوم إهماله . فبذلک یسقط عن الاستدلال . ومثل هذا الإشکال یرد أیضا علی مثل العمومات الموجودة فی النبوی المشهور وهی : «خلق اللّه الماء طهورا لا ینجسه شیء» . وهکذا عموم قوله صلی الله علیه و آله : «الماء یطهر ولا یطهر» . وأمثال ذلک ، فلیس لنا دلیل علی عدم الاعتبار أوفی وأمتن من حدیث ابن بزیع ، کما هو واضح .

فمن جمیع ما ذکرنا ، یظهر وجهان آخران للقولین الآخرین لأنّ من ذهب إلی اعتبار الامتزاج قد تمسک بحکومة استصحاب نجاسة المتغیّر مالم یقم دلیلٌ اجتهادی علی خلافه ، ولیس هو إلاّ خبر ابن بزیع ، فزعم أنّه لا یدل الاّ علی الاعتبار ، لإرجاع العلّة إلی جهة زوال التغیّر ، کما عرفت ، أو یکون راجعا إلی صدر الحدیث فقط ، فهو الدفع لیس الاّ ، فلا یشمل لصورة الرفع ، کما أنّ تلک الاُصول السابقة غیر قابلة للمعارضة مع الاستصحاب لتقدمه علی تلک الاُصول .

مضافا إلی إمکان جریان قاعدة الاشتغال هاهنا ، لکونه شکّا فی المحصِّل والمحصَّل ، لأنّ الذی وجب تحصیله علینا کانت الطهارة وهی مشکوکة مع ذلک الماء . هذا ، کما فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره .

فنحن نقول : هذا صحیح إذا فرضنا حصول الطهارة من الخبث أو الحدث فیه ، بخلاف مالو شک فی حصول الطهارة فی نفسه بزوال تغیّره بلا جهة الامتزاج ، فلا أصل هاهنا إلاّ الاستصحاب ، کما لا یخفی .

فی عاصمیّة ماء الحمّام اذا کان له مادّه

ص:136

ویلحق بحکمه ماء الحمام إذا کان له مادّة(1)

کما أنّ من ذهب إلی التفصیل فیما بین ذی المادّة _ بعدم الاعتبار _ وبین غیره بالاعتبار ، بأنّ ذلک کان علی خلاف القاعدة ، فیکتفی علی موضع الیقین ، وهو الذی کان فی مورد النص فلا یسری إلی غیره ، فانه علی هذا التقدیر یلزم الحکم باعتبار الامتزاج فی مثل ماء الکر ، بخلاف الجاری والبئر وما بحکمهما .

فالاقوی عندنا هو عدم الاعتبار ، وان کان الاحوط اعتباره ، بلا فرق فی ذلک بین ذی المادّة وغیره ، لوضوح أنّه لا خصوصیة فی المادّة إلاّ من جهة عاصمیتها ، فهی موجودة فی الکر أیضا ، وإن کان مورد الاحتیاط فی مثل الکر أقوی ، لما قد عرفت من احتمال جریان قاعدة القدر المتیقن فیه دون الجاری وما بحکمه ، کما لا یخفی .

(1) الظاهر من کلام المصنّف هو إلحاقه بالجاری مطلقا _ أی سواء کان ما فی الحیاص کرا ، أو هو مع ما فی المادّة ، أو لم یکن کذلک أصلاً _ فکأنّ الحمام له خصوصیة فی الاعتصام إذا کان له مادّة . وذهب إلی ذلک صریحا صاحب «الجواهر» قدس سره تبعا للمحقّق وصاحب «المستند» وبعض آخر من المتأخِّرین . بل هو مقتضی إطلاق فتاوی المتقدمین ، کما فی «کشف اللثام» . ولم یتعرض أحد منهم الاّ من شذ وندر فی طرفی الاثبات أو النفی ، خلافا لأکثر المتأخِّرین ، وبل وجلّ المعاصرین من المحشِّین علی «العروة» من اعتبار الکریة ، إمّا فی المادّة وحدها کما عن بعض ، أو المجموع مع ما فی الحیاض کرا ، کما عن السیّد فی «العروة» وکلّ من علّق علیها علی ما حقّقناه ، وهذا هو الأقوی عندنا .

فلنا هاهنا دعویان :

الدعوی الاُولی : کون ماء الحمام بمنزلة الجاری ، إذا کانت له مادّة ، وقد قام

ص:137

علیه الإجماع تحصیلاً ونقلاً ، بل لم نعرف خلاف ذلک من أحد ، لما دلّت علیه الأخبار الکثیرة بحیث صارت مستفیضة ، وبعضها صحیحا ومعتبرا وبعضها الآخر منجبرا بعمل الأصحاب ومصححا بنقل أصحاب الإجماع عنه مطلقا ، کصفوان بن یحیی وداود بن سرحان حیث قالا : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ماتقول فی ماء الحمام ؟ قال : بمنزلة الماء الجاری»(1) .

وخبر قرب الاسناد ، عن اسماعیل بن جابر ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام قال : «ابتدانی فقال : ماء الحمام لا ینجسه شیء»(2) .

وخبر ابن أبی یعفور فی حدیثٍ : «إنّ ماء الحمام کماء النهر یطهر بعضه بعضا»(3) .

وخبر الهاشمی ، قال : «سُئل عن الرجال یقومون علی الحوض فی الحمام ، لا أعرف الیهودی من النصرانی ، ولا الجُنب من غیر الجُنب ؟ فقال : تغتسل منه ولا یغتسل من ماء آخر فانه طهور»(4) .

هذه جملة أخبار مطلقة غیر مقیّدة بقید المادّة . خلافا لعدة أخبار دالة علی التقیید ، کما فی خبر بکر بن حبیب عن أبی جعفر علیه السلام قال : «ماء الحمام لا بأس به إذا کان له مادّة»(5) .

وخبر «فقه الرضا» علیه السلام : «إنّ ماء الحمام سبیله سبیل الماء الجاری إذا کان له مادّة»(6) .


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
5- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
6- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:138

فقد یقال بتقیید تلک الإطلاقات بهاتین الروایتین ، فلازمه أن ماء الحمام _ أی الماء الموجود فی الحیاض الصغار _ إذا کان أقل من الکر _ کما هو کذلک بحسب المعهود المتعارف _ واتصل بالمادة یکون عاصما دون غیره . فبناء علی ذلک یفهم ان المراد من ماء الحمام لیس الماء الموجود فی الخزانة والاحواض الکبیرة ، بل المراد منه ماء الحیاض الصغار فیحمل الأخبار المطلقة علیه أیضا .

نعم ، قد یشکل بعدم إمکان التقیید لضعف هذین الخبرین سندا ، لجهالة بکر بن حبیب ، وعدم توثیقه فی کتب الرجال ، کما ادّعاه صاحب «المدارک» ، ویشهد له عدم ورود توثیق له فی کتاب «جامع الرواة» ، وعدم ثبوت الاعتبار لکتاب «فقه الرضا» لوقوع الخلاف فیه .

لکنه مدفوع ، أوّلاً : بما عن الأوّل بإمکان أن یکون المراد من بکر بن حبیب هو بکر بن محمّد بن حبیب کما عن «طهارة» الشیخ الانصاری ، وهو من أجلّة علماء الإمامیة ، وقد وثّقه الکشی والعلاّمة فی «الخلاصة» وغیرهما .

لکنه مخدوش ، کما ذکر فی «جامع الرواة» وتبعه «المستمسک» بأن بکر بن محمّد هو أبو عثمان المازنی المتوفی سنة مأتین وثمانیة وأربعین ، فلا یقارب زمانه بحیث یمکنه ان یروی عن أبی جعفر الباقر علیه السلام أو یروی عنه منصور بن حازم ، إلاّ أنّه وقع فی سلسلة سنده صفوان بن یحیی الذی یعدّ من أصحاب الإجماع ، فیکون معتبرا .

وثانیا : إنّه لو سلّمنا ضعفه ، لکنه منجبرٌ بعمل الأصحاب ، بل کما فی «حبل المتین» لشیخنا البهائی أنّ الأصحاب تلقوا روایته بالقبول ، وبذلک نجیب عن الخبر الثانی أیضا . مضافا إلی ما عرفت منّا سابقا من اعتبار کتاب «فقه الرضا» خصوصا إذا وافق مع فتاوی الأصحاب ، کما لا یخفی . فالتقیید للإطلاقات بهما یعدّ من المسلّمات ، ولا إشکال فیه .

ص:139

الدعوی الثانیة : بأنّه هل یعتبر کون المادّة بنفسها کرّا _ کما ادّعاه المشهور أو الأکثر ، کما فی «مصباح الهدی» _ أو یکفی کریّة مجموع المادّة وما فی الحیاض والمجری ، کما عن السیّد قدس سره فی «العروة» ، بل وأکثر المتأخّرین والمحشّین «للعروة» ، أو لا یعتبر شیئا منهما ، بل یکفی نفس الاتصال بالمادة ، ولو لم یکن المجموع بمقدار الکرّ ، فضلاً عن خصوص المادّة ، بلا فرق بین کون سطح المادّة مساویا لسطح ما فی الحیاض ، أم لا ، وسواء کان فی الدفع أو الرفع ؟

هذا هو الظاهر من إطلاق کلام المحقّق فی «الشرائع» ، بل صریح «المعتبر» و«الحدائق» ، وهو الظاهر من «السرائر» ، کما عن صاحب «الجواهر» ، بل قد اختاره صاحب «الجواهر» وقوّاه ، وإنْ احتاط فی آخر کلامه ، وذهب إلی اعتبار الکریة . وقد فصلّ بعض بین الرفع والدفع ، فی اعتبار الکریة فی المادّة وحدها فی الأوّل وفی المجموع فی الثانی .

هذه هی الاقوال فی المسألة . والأقوی عندنا هو القول الثانی فی غیر الرفع ، وفیه یعتبر کریة غیر المتغیر منه ومن الموجود فی المادّة وغیره من المجری ، بلا فرق بین استواء سطحهما وعدمه . نعم ، قد یشکل فیما لو کان سطح المائین مختلفین ، وکان المجموع من الماء العالی والسافل کرا ، فحینئذ هل یتقوی السافل بالعالی بلحاظ الاتصال به فی دفع النجاسة أم لا ، کما کان کذلک فی المتساویین أم لا یتقوی ، لعدم کفایة هذا الاتصال ، مع فرض کون السافل أقلّ من الکر ؟ الظاهر _ کما هو المتبادر _ کون الملاک صدق الوحدة العرفیة بذلک الاتصال ، حتی یحکم بالعاصمیة ، والاّ فإنّه یصعب الحکم . فلابد من الرجوع إلی أصل البحث ، وهو إثبات ما ادعیناه من بین الاقوال ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

إنّ الذی یتمسّک به لإثبات العاصمیة لماء الحمام ، إذا کان له مادّة مطلقا ، ولو کان أقل من الکر ، هو إطلاقات الأدلّة من الحکم بالطهارة بلا تقیید إلی جهة لزوم

ص:140

الکریة للمادة ، نظیر الإطلاق الموجود فی الماء الجاری کما عرفت تحقیقه .

هذا ، ولکنه مخدوش بوجوه :

أوّلاً : إمکان منع دعوی الإطلاق للفظ (المادّة) هنا ، کما فی إطلاق لفظ ماء الحمام علی نحو القضیة الحقیقیة ، لوضوح ان هذه الالفاظ فی مثل تلک الاُمور ، ناظرة إلی ما هو المعهود والمتعارف فی الخارج فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، ومن المعلوم ان المتعارف کان وجود أکرار من الماء فی الخزانة ، وفرض کونها أقلّ من الکر فی غایة الندرة ، لان صاحب الحمام بحسب المتعارف کان یمنع عن نقصان الماء فی المخزن ، خصوصا مع ملاحظة سعة سطح الخزانة ونشر الماء فی ذلک السطح فانه إذا کان بمقدار کر فإنّه یقلّ ویضعف نزوله فی الأنابیب ، ولذلک کانوا یجرون الماء الحادث والجدید فیها ، فمع ملاحظة ذلک لا یبقی لذلک اللفظ وهو (المادّة) إطلاق بحیث یشمل ما هو الأقلّ من الکر ، لوجود الانصراف عنه ، فبذلک یظهر الفرق فیما بین لفظ (المادّة) هنا من عدم الإطلاق ، وبین لفظها فی الجاری من وجود الإطلاق ، لعدم انصرافه فی ذلک إلی ما هو المتعارف علی نحو القضیة الخارجیّة ، بل کانت علی نحو القضیة الحقیقیّة ، بخلاف المقام کما عرفت .

ثانیا : إمکان استفادة الکثرة من بعض الأخبار ، کما یشهد لذلک الخبر الذی رواه ابن أبی یعفور ، بقوله : «ان ماء الحمام کماء النهر یطهر بعضه بعضا» .

حیث یفهم أنّ الإمام علیه السلام أراد رفع الشبهة والوسوسة عمّن کان یظن أنّه ینجس بملاقاته بالنجاسة ، ببیان أنّه لیس کذلک ، لأنّ ماء الحمام کثیر کماء النهر ، الذی قد عرفت فی السابق اطلاقه للماء الکثیر من الجاری لا مطلقا ، فکما ان کثرة ماء النهر تمنع عن الانفعال ، هکذا یکون ماء الحمام .

لا یقال : بأنّ ماء الحمام _ علی ما استظهر بواسطة قرینة المادّة _ لا یطلق الاّ علی الماء الموجود فی الحیاض الصغار ، وهو لیس بکثیر ، فکیف یقاس بماء النهر الکثیر ؟

ص:141

ولو مازجه طاهر فغیّره ، أو تغیّر مِنْ قِبل نفسه ، لم یخرج عن کونه مطهرا ، ما دام إطلاق اسم الماء باقیا علیه(1)

لأنّا نقول : وإن کان المراد من ماء الحمام ، هو ما فی الحیاض ، الاّ أنّ کثرته کانت بواسطة اتّصاله بالمادة الکثیرة ، فکأنّه علیه السلام أراد التنبیه لذلک ، بأنّه بسبب هذا الاتصال کان کثیرا فلا ینفعل ، وهو واضح .

ثالثا : مع ملاحظة هذه الأخبار فإنّه لا یخطر ببال الفقیه بأن یکون الحمام له خصوصیة تعبدیة فی قبال سائر المیاه من الکر والجاری والمطر والبئر ، بل لیس المنظور فی التنزیلات الواردة فی الأخبار من کونه بمنزلة الجاری ، الاّ افهام أنّه لیس له خصوصیة معینّة ، بل کان وجه عاصمیته هو کثرته المساوقة مع کریته ، کما لا یخفی .

فبناء علی هذا ، نتمشی فی کلّ ما یتعلق به إلی ما تقتضیه القاعدة ، وهو لیس الاّ الحکم بکفایة کونه کرا ، ولو فی المجموع ، إذا کان فی مورد الدفع ، وکان سطح المائین متساویا ، أو کون المادّة بنفسها ، أو هی مع المجری أو معهما وبعض ما فی الحیاض بمقدار کر ، ولو فی حین السیلان ، فلا یکفی کریة المجموع مع الماء المتغیر ، کما لا یخفی ، بلا فرق فی ذلک _ أی العاصمیة _ بین تساوی سطحهما وغیره ، إلاّ من جهة الإشکال فی المتبقی منه فی الحیاض إذا اختلف سطحهما ، کما عرفت فی ابتداء البحث ، واللّه أعلم بحقیقة الحال .

وأما مسألة اشتراط الامتزاج فی تطهیر المتغیر هنا ، فانّه بمنزلة المتغیر فی الکر من قوة الاشتراط لا المتغیر فی الجاری ، لما قد عرفت من عدم الإطلاق فی المادّة هنا دون المادّة فی الجاری .

(1) لا فرق فی هذا الحکم بین الجاری وغیره ، إنّما ذکره هنا لمناسبة بیان

ص:142

حال التغیّر قبله ، کما لا خلاف ظاهرا منا فی ذلک ، وإن أوهم الخلاف فیما نسبه «الذکری» إلی المشهور ، بل وعبارة «المقنعة» و«المبسوط» ، لکن الظاهر إرادة غیر المقام ، ولذلک ادعی الإجماع فی «الغنیة» و«المنتهی» وغیرهما .

نعم ، قد حکی الإشکال والاحتیاط فی التطهیر بالمیاه المتغیرة عن صاحب «المشارق» ولعله أراد دلالة إطلاق بعض الأخبار علی ذلک ، وهو کما فی خبر أبی بصیر ، عن الصادق علیه السلام : «أنّه سأل عن الماء النقیع تبول فیه الدواب ؟ فقال : إن تغیّر الماء فلا تتوضأ منه ، وانْ لم تغیره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(1) .

فی تغیّر الماء بغیر النجس

وخبر «فقه الرضا» : عن الرضا علیه السلام : «کلّ ماء مضاف أو مضاف إلیه فلا یجوز التطهیر به ، ویجوز شربه مثل ماء الورد وماء القرع ومیاه الریاحین والعصیر والخل ، ومثل ماء الباقلی ، وماء الزعفران ، وماء الخلوق وغیره ممّا یشبههما ، وکلّ ذلک لا یجوز استعمالها إلاّ الماء القراح وإلاّ التراب»(2) .

والنبوی المنقول عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «خلق الماء طهورا لا ینجسه شیء إلاّ ما غیر لونه أو طعمه أو رائحته»(3) .

لکن فی جمیع ذلک إشکال :

أمّا فی الخبر الأوّل ، فلما قد عرفت منا سابقا من کون المراد من الدّواب : بقرینة ذیله وهو الدم _ هو نجس العین ، فتکون أبوالها نجسا أیضا . أو یراد مطلق الدواب ، فیشمل بول مأکول اللحم . أو یراد خصوص المأکول . فحینئذ یمکن أن


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .

ص:143

وأمّا المحقون ، فما کان منه دون الکرّ ، فإنّه ینجس بملاقاته النجاسة

یکون وجه عدم الجواز هو صیرورة الماء بذلک مضافا ، نظیر ما یدخل الشیاة الکثیرة فی الماء ، وتقع فضلتها فی الماء ، فلا یمکن رفع الید عن تلک الأدلّة بواسطة ذلک کما لا یخفی .

کما ان حدیث «فقه الرضا» ، لو سلّمنا دلالته علی المنع من استفادة الماء المتغیر للتطهیر ، لا یمکن الفتوی علی طبقه ، لأن العمل علی ذلک موقوفٌ علی عدم اعراض الأصحاب عنه ، مع أنّک قد عرفت اعراضهم لضعف سنده فلا یجوز الاعتماد علیه .

کما أنّ المراد من الشیء فی الحدیث الثالث أیضا بقرینة السیاق من لفظ «لا ینجسه» ، هو الشی النجس ، لا مطلق الأشیاء ، فعلیه یکون المراد من الموصول أیضا هو الشیء النجس .

ولو سلّمنا کون الظاهر هو مطلق الأشیاء ، لکنه یحمل علی ما ذکرنا حذرا من الوقوع فی مخالفة الأصحاب والإجماع ، کما هو واضح .

(1) هل الماء المحقون _ أی المحبوس _ إذا کان أقلّ من الکر ولو جاریا وسائلاً بدون وجود المادّة ، ینفعل بمجرد ملاقاته مع النجاسة والمتنجس أم لا ، أو تفصیل بین النجس فینفعل بملاقاته بخلاف المتنجس ؟

فی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجس و المتنجّس

والذی ذهب إلیه جمیع الأصحاب من المتقدمین والمتأخرین هو الأوّل ، بل الإجماع بکلا قسمیه من المحصل والمنقول قائم علیه ، بل لم نعرف خلافا فی ذلک ، إلاّ من ابن أبی عقیل الملقب بالعمّانی ، ومعلومٌ أنّ خلافه لا یوجب الوهن فی الإجماع ، لأنّه علی ما نقله العلاّمة البروجردی قدس سره (کان فی بلدة یسکن فی عمّان ولم یکن عنده الکتب الأربعة ، ولم یکن علی علمٍ بجمیع الأخبار الصادرة

ص:144

عن الأئمّة علیهم السلام ). والمحدّث الکاشانی والفتّونی حیث ذهبا إلی أن الماء القلیل ، لا ینفعل إلاّ بالتغیّر کالکر والجاری ، کما أنّه نُقل عن المحقّق الخراسانی قدس سره علی ما حکاه الحکیم قدس سره فی «المستمسک» التفصیل بین النجس وأنّه ینفعل بالماء القلیل بخلاف المتنجس فانه لا ینفعل به ، إلاّ إذا تغیر بأحد الأوصاف الثلاثة .

والتحقیق الموافق للأقوال ، وعمل الأصحاب ، هو القول الأوّل ، کما تدل علیه أخبار کثیرة ، بحیث بلغت فی کثرتها حد التواتر ، بل قیل تبلغ إلی مأتی حدیث ، علی ما نقله صاحب «الریاض» ، أو إلی ثلاثمائة علی ما نقله العلاّمة الطباطبائی أثناء درسه ، بل قلّ ما تتفق فی مسألة فقهیة تکون لها روایات کثیرة مثلما ورد فی الماء القلیل کما لا یخفی ، فحینئذ الأولی تقدیم الأخبار الصحاح من بینها الموجودة هاهنا ، الدالّة علی الانفعال ، سواء کان بالمنطوق أو المفهوم ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

منها : صحیحة محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «سُئل عن الماء تبول فیه الدواب وتلغ فیه الکلاب ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان الماء قد کر لم ینجسه شیء»(1) . حیث أنّ دلالته متوقفة علی ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة ، فحینئذ لا فرق بین کون المفهوم علی نحو الإیجاب الکلّی فیصیر معناه أنّ الماء القلیل ینجسه کل شیء ، کما علیه صاحب «هدایة المسترشدین» فی مفهوم السلب الکلّی ، خلافا للشیخ الأنصاری قدس سره ، وبین کونه بنحو الإیجاب الجزئی ، أی ینجسّه شیء ، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره ، لأنّ المقصود هو إثبات نجاسة الماء القلیل فی الجملة ، وإن وجدت التفاوت بین المفهومین ، من جهة إمکان عدم شمول المتنجس فی الثانی دون النجس ، إذ هو القدر المتیقن فی ذلک ، کما


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:145

سیأتی بحثه ان شاء اللّه . فی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجس و المتنجّس

نعم ، یمکن أن یقال بعدم وجود المفهوم هاهنا ، لامکان أن یکون الشرط هنا علی نحو القضیة الشرطیة المحققة للموضوع ، نظیر ما لو قیل : (إن رکب الأمیر فخذ رکابه) و(إنْ رزقت ولدا فاختنه) ، بأن یکون المراد هنا هو الاشارة إلی ما هو الموجود فی الخارج ، فکأنه قیل : (هذا الماء الموجود قدر کر لم ینجسه شیء) ، الموضوع لا وجوده بغیر کر .

نعم ، لو کان اللفظ الوارد هکذا : (الماء إذا بلغ قدر کر حکمه کذا) فله مفهوم ، لأنّ البلوغ یُفهم وجود الموضوع ، وحصول تدرج مراتب الماء حتی یبلغ قدر الکر ، ومثل هذا التعبیر غیر موجود فی الأخبار ، وانما ورد فی کلمات العلماء ، کما تری فی کلام صاحب «دلیل العروة» وغیره .

هذا ، ولکن الإنصاف _ مع ملاحظة مورد السؤال فی الحدیث حیث سُئل عن الماء الذی تبول فیه الدواب . . . إلی آخره _ افادة المفهوم مع الشرطیة فی ذیله ، حیث فهم السائل مطلبه وأخذ جوابه وعرف بأنّ الملاک فی الحکم بالطهارة والنحاسة هو الکریة وعدمها ، لعدم تناسب الابهام فی جواب ذلک السائل للامام علیه السلام ، فعلی هذا کان القول بالمفهوم للقضیة هو أقوی عندنا .

والظاهر کون المفهوم علی نحو الإیجاب الجزئی ، أی غیر الکرّ ینجسه شیء ، لا الإیجاب الکلّی حتی یفید أنّه ینجسه کل شیء ، وهذا هو منشأ الاختلاف الشدید فیما بین العَلَمین ، الشیخ محمّد تقی صاحب «الهدایة» القائل بالاول ، والشیخ الانصاری القائل بالثانی .

ومثله دون الصدر الذی فیه السؤال ، صحیح معاویة بن عمار(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:146

والکلام فیه کما فی سابقه .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، فی حدیثٍ عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «وسألته عن خنزیر یشرب من اناء کیف یصنع به ؟ قال : یغسل سبع مرات»(1) . فان دلالته علی نجاسة ماء الإناء بملاقاته مع الخنزیر واضحة .

ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن الکلب یشرب من الإناء ؟ قال : اغسل الإناء»(2) . فلا یکون وجه الحکم بالغسل إلاّ من جهة انفعال الماء القلیل بذلک ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما ، تطأ العذرة ثمّ تدخل فی الماء ، یتوضأ منه للصلاة ؟ قال : لا، إلاّ أن یکون الماء کثیرا قدر کر من ماء»(3) .

واحتمال کون الحکم مختصا للوضوء فقط دون غیره من سائر الاستعمالات بعید جدا ، بل ودلالته علی المطلوب أوضح من المفهوم الواقع فی الخبرین الاولین ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الماء الذی لا ینجسه شیء ؟ فقال : الکر» الخبر(4) .

فمفهومه یدل علی انفعال القلیل ، ولو علی نحو الإیجاب الجزئی .

ومنها : صحیح لأبی بصیر : قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحیاض التی ما بین مکّة إلی المدینة تردها السباع ، وتلغ فیها الکلاب ، وتشرب منها الحمیر ،


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:147

ویغتسل فیها الجنب ویتوضأ منها ؟ قال : وکم قدر الماء ؟ قال : إلی نصف الساق وإلی الرکبة . فقال : توضأ منه»(1) .

فی الروایة قرینتان تدلان علی کون ماء الحیاض أکثر من قدر الکر ، فلذلک جوّز التوضوء منه ، وهما :

أحدهما : کون الحیاض الکذائیة الواقعة فی طریق المسافرین فی المراکز المعدة لهم ، علی نحو المذکور ، کما فی الحدیث ، یفهم منه أنّه کثیر ، اذ لیس من شأن القلیل وقوعه کذلک .

وثانیهما : من سؤال الإمام علیه السلام عن قدره ، وجواب السائل بحدیه من نصف الساق إلی الرکبة ، وکون ذلک فی الحوض ، یوجب الاطمئنان بکونه کثیرا فلا ینفعل لأجل ذلک ، وهو واضح .

ومنها : صحیحة البزنطی قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الرجل یُدخل یده فی الإناء وهی قذرة ؟ قال : یکفی ء الإناء»(2) .

قال فی القاموس : «کفاءه کمنعه : کبّه وقَلَبه کأکفاه» .

فی «وسائل الشیعة» : المراد اراقة مائه ، وهو کنایة عن التنجیس .

فإنّ المراد من القذارة هو مطلق النجاسة ، لا خصوص ما ینفره الطبع ، ولو لم یکن نجسا ، فإنّ الأمر بالاکفاء لیس إلاّ من جهة انفعال الماء الموجود فی الإناء ، المساوق لقلته ، کما هو واضح .

ومنها : صحیحة شهاب بن عبد ربه عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل الجنب یسهو فیغمس یده فی الإناء قبل أن یغسلها ؟ أنّه لا بأس إذا لم یکن أصاب یده


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:148

شیء»(1) ، فإنّ المراد بالشیء ، بقرینة السیاق هو النجاسة ، فعلی هذا یدل علی المطلوب بالمفهوم ، بأنّه إذا کانت فی یده شیء ففیه بأس ، وهذا لا یکون إلاّ من جهة الانفعال .

ومنها : صحیحة أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الجنب یحمل الرکوة أو التور (والتور إناء صغیر من زخرف) فیدخل اصبعه فیه ؟ قال : إن کانت یده قذرة فاهرقه ، وإن کان لم یصبها قذر فلیغتسل منه ، هذا ممّا قال اللّه تعالی : «ما جُعِلَ عَلَیکُم فی الدّین مِنْ حَرَج» »(2) .

التوهّم بأنّ استدلال الإمام بآیة نفی الحرج ، قد یفهم أنّه کان فی مقام بیان حکم الضرورة والاضطرار ، فکأنه أراد بیان ان الحکم باهراق الماء القلیل عند إصابته الید کان لمقام الضرورة .

مدفوع بأن المقصود من الاستدلال بالآیة هو عنوان مجموع العمل ، أی یحکم بالاهراق والإتیان بالتیمم مثلاً ، لان اللّه قد مَنّ علی العباد برفع الحرج عنهم ، فمقتضاه تجویز التیمّم فی مثل ذلک ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، عن أخیه أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلک الدم قطعا صغارا فأصاب اناءه ، هل یصلح له الوضوء منه ؟ فقال : ان لم یکن شیئا یستبین فی الماء فلا بأس ، وان کان شیئا بیّنا فلا تتوضأ منه . قال : وسألته عن رجل رعف وهو یتوضأ فتقطر قطرة فی اناءه هل یصلح الوضوء منه ؟ قال : لا»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
3- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:149

فهو بصدره وذیله یدل علی المطلوب ، غایة الأمر دلالة ذیله أوضح ، لما قد احتمل بعض _ کما سیأتی ان شاء اللّه _ من الفرق فی الانفعال فی القلیل بین ما یکون النجس فیه بیّنا فینجس ، وإلاّ فلا ینجس بواسطة هذا الخبر ، فسیأتی جوابه فی محلّه .

ثمّ توهّم أنّ لفظ الصلاح وعدمه ظاهر فی الاستحباب والکراهة ، ضعیف فی الغایة ، لکثرة استعماله فی الوجوب والحرمة ، بل هو المتعارف عند عرف الناس .

ومنها : مصحّحة إسماعیل بن جابر ، عن صفوان بن یحیی _ علی روایة الشیخ دون الصدوق حیث أرسله ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام الماء الذی لا ینجسه شیء ؟ قال : ذراعان عمقه فی ذراع وشبر وسعة (سعته)(1) دلالته تکون بالمفهوم کما عرفت فی نظائره فلا نعید ، فراجع حتی یستبین لک الأمر .

ومنها : صحیحة الفضل أبی العباس البقباق ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخیل والبغال والوحش والسباع ، فلم أترک شیئا إلاّ سألته عنه ؟ فقال : لا بأس به ، حتّی انتهیت إلی الکلب . فقال : رجسٌ نجس ، لا تتوضأ بفضله ، واصبب ذلک الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(2) . وقد ورد ذیل الحدیث فی باب آخر(3) .

فان الحکم باهراق الماء الذی لاقاه الکلب بواسطة شربه ، والحکم بعدم التوضیء عن سؤره وفضله ، لا یکون إلاّ فی الماء القلیل لانفعاله ، لأنّه یصدق ذلک العنوان علیه ، لا ما هو قدر کر . مضافا إلی ظهور الأمر بتغسیله بالتراب فیه


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .

ص:150

أیضا ، فکله یکون من جهة حصول الانفعال بشربه ، وهذا هو المطلوب .

ومنها : صحیحة شهاب بن عبد ربه قال : «أتیتُ أبا عبداللّه علیه السلام أسأله فابتدانی ، فقال : إنْ شئت فاسأل یا شهاب ، وإنْ شئتَ أخبرناک بما جئت به ؟ قال : قلت له : أخبرنی جُعلت فداک . قال : جئتَ تسألنی عن الجنب یسهو فیغمر یده فی الماء ، قبل أن یغسلها ؟ قلت : نعم . قال : إذا لم یکن أصاب یده شیء فلا بأس»(1) الحدیث . فان المراد ب(الشیء) کما عرفت ، هو النجاسة ، فبالمفهوم یدل علی المطلوب .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام ، قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیه أو مستنقع ، أیغتسل منه للجنابة ، أو یتوضأ منه للصلاة ، إذا کان لا یجد غیره ، والماء لا یبلغ صاعا للجنابة ، ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق ، فکیف یصنع ، وهو یتخوف أن تکون السباع قد شربت منه ؟ فقال : إن کانت یده نظیفة ، فلیأخذ کفا من الماء بید واحدة فلینضحه خلفه» ، الحدیث(2) .

فدلالته تکون بالمفهوم ، لوضوح أنّ المراد من النظافة فی قبال القذارة ، والساقیة والمستنقع یکون الماء فیها قلیلاً عادةً فینفعل بالملاقاة .

ومنها : صحیحة زرارة ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «ألا أحکی لکم وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ فقلنا : بلی ، فدعا بقعب فیه شیء من ماء فوضعه بین یدیه ثمّ حسر عن ذراعیه ثمّ غمس فیه کفه الیمنی ثم قال : هکذا إذا کانت الکف طاهرة» الحدیث(3) . وجه الدلالة یکون بالمفهوم .


1- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الوضوء، الحدیث 2 .

ص:151

هذه کلّها من الصحاح أو شبهها ، وقد بلغ عددها ستة عشر روایة ، جمیعها تدلّ بالمنطوق أو المفهوم علی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجاسة .

وأمّا الأخبار الواردة فی ذلک من غیر الصحاح وشبهها ، فکثیرة جدّا ، وذکرها تفصیلاً یوجب الملال ، فلا بأس بذکر بعض ما تکون دلالته أظهر وأبین ، فنقول:

منها : حسنة زرارة عن إبراهیم بن هاشم ومضمرته ، قال : «قلت : کیف یغتسل الجنب ؟ فقال : ان لم یکن أصاب کفه شیء غمسها فی الماء» الحدیث(1) . فالشیء کما عرفت هو النجاسة لمناسبة المورد ، کما لا یخفی . کما أن الظاهر کون الماء أقلّ من الکر صحةً للسؤال ، لأنّ الکر لا وجه له فی السؤال عن ذلک ، لکن الظاهر کون السؤال عن کیفیة الغسل ، کما یدل علیه الجواب ، غایة الأمر ذکر الإمام هذا الشرط تفضلاً .

ومنها : موثقة سماعة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل یده فی الإناء ، فلا بأس إذا لم یکن أصاب یده شیء من المنی»(2) . فتدل بالمفهوم علی البأس ، إذا کانت یده ملوثة بالمنی ، کما هو واضح .

ومنها : خبر عمار الساباطی ، أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام : «عن رجل یجد فی أناءه فأرة ، وقد توضأ من ذلک الإناء مرارا ، أو اغتسل منه ، أو غسل ثیابه ، وقد کانت الفأرة متسلخة ؟ فقال : ان کان رآها فی الإناء قبل أن یغتسل أو یتوضأ أو یغسل ثیابه ، ثمّ یفعل ذلک بعد ما رآها فی الإناء ، فعلیه أن یغسل ثیابه ویغسل کل ما أصابه ذلک الماء ، ویعید الوضوء والصلاة» الحدیث(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:152

فدلالته علی نجاسة الماء القلیل بذلک واضحة ، ولذلک حکم بلزوم غسل الثیاب وغسل کل ما أصابه .

ومنها : خبر عمار بن موسی ، عن الصادق علیه السلام قال : «سُئل عما تشرب منه الحمامة ؟ فقال : کل ما أُکل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب . وعن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب ؟ فقال : کل شیء من الطیر یتوضأ مما یشرب منه ، إلاّ أن تری فی منقاره دما ، فان رأیت فی منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(1) .

فان عدم تجویز الوضوء مما یشرب ، إذا کان فی منقاره دما ، لیس إلاّ من جهة الانفعال ، وهو لا یکون إلاّ فی غیر الکر وأشباهه لوضوح عدم انفعاله . ومثله فی الدلالة خبرین آخرین(2) واردین فی الاسئار ، فلا نطیل بذکرهما فراجع «وسائل الشیعة» .

بل ومثلهما فی الدلالة مرسل الصدوق أیضا(3) ، فلاحظه حتی تری صدق المقال والانتساب .

ومنها : خبرا سماعة وعمّار الساباطی(4) من الحکم باهراق المائین فی الإنائین المردّدین فی وقوع النجاسة فی أحدهما ولزوم الإتیان بالتیمّم ، فانظر متن أحد الحدیثین ، وهو هکذا : عن الساباطی ، عن الصادق علیه السلام فی حدیث ، قال : «سئل عن رجل معه إناءان فیهما ماء وقع فی أحدهما قذر ، لا یدری أیّهما هو ، وحضرت الصلاة ، ولیس یقدر علی الماء غیرهما ؟ قال : یهریقهما جمیعا ویتیمّم» . فلولا انفعال الماء القلیل لما کان للحکم المذکور وجه ، فدلالته علی المطلوب فی غایة المتانة .


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الاسئار، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 _ 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 _ 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الاسئار، الحدیث 3 _ 4 .

ص:153

ومنها : حسنة زرارة علی ما فی «الجواهر» ، ومضمرته ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «إذا کان الماء أکثر من روایة ، لم ینجسه شیء ، تفسّخ فیه أو لم یتفسخ ، إلاّ أن یجی ء له ریح تغلب علی ریح الماء»(1) .

هذا بناء علی کون الروایة بمقدار الکرّ ، فحینئذ یدل علی کون الانفعال وعدمه علی کون الماء قدر الکر وعدمه ، فبالمفهوم یدل علی المطلوب .

ومنها : موثق أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لیس بفضل السنور بأس أن یتوضّأ منه ویشرب ، ولا یشرب سؤر الکلب إلاّ أن یکون حوضا کبیرا یستقی منه»(2) .

فان الحکم بالبأس للکلب ، لا یکون إلاّ من جهة نجاسة الماء بمباشرته ، ویکون الاستثناء بلحاظ کون ذلک المقدار حدّ الکر وأزید منه ، ولذلک قیّد الإمام علیه السلام الحوض بالکبیر .

فی ما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل

ومنها : خبر معاویة بن شریح ، قال : «سئل عذاقر أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده ، من سؤر السنور والشاة والبقرة والبعیر والحمار والفرس والبغل والسباع ، یشرب منه أو یتوضأ منه ؟ فقال : نعم ، اشرب منه وتوضأ منه . قال : قلت له الکلب ؟ قال : لا . قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا ، واللّه إنّه نجس ، لا واللّه إنّه نجس»(3) .

فإنّ النهی عن سؤر الکلب إذا کان ماءا ، بقرینة الشرب والوضوء لیس إلاّ من جهة الانفعال .

والأخبار الدالّة علی ذلک کثیرة جدا ، فی أبواب مختلفة من الفقه ، وان أردنا ذکرها تفصیلاً فانه توجب الاطالة بما لا ضرورة فیه ، ولقد استقصی عدة منها


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من الاسئار، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من الاسئار، الحدیث 6 .

ص:154

صاحب «الجواهر» فی کتابه ، شکر اللّه مساعیه الجمیلة .

وإذا عرفت ولاحظت تلک الأخبار من الصحاح وغیرها ، دلالتها جمیعا بالمنطوق أو المفهوم علی انفعال الماء القلیل بالملاقاة ، فهل یبقی للمتفقة _ فضلاً عن الفقیه _ شکٌ وریب فی ذلک ، والعهدة علی مدعیه .

نعم ، یبقی هنا ملاحظة عدة أخبار تدل علی خلاف ما ادعیناه ، وملاحظة کیفیة الجمع والتوفیق مع تلک الطائفة من الأخبار ولابدّ من التعرض لذلک حینئذ ، فقد استدل للقول الآخر _ وهو عدم الانفعال مطلقا _ بأمور :

أوّلاً : بعدة أخبار ، تدل بظاهرها علی خلاف ما عرفت ، وهی فی الجملة کثیرة .

منها : عمومات طهارة الماء ، مثل النبوی المشهور : «خلق اللّه الماء طهورا ولا ینجسه شیء إلاّ أن یتغیر»(1) .

حیث یدل بالاطلاق بأن الحکم فی المستثنی منه والمستثنی کان لکل ماء فیشمل القلیل أیضا .

ومنها : نبوی آخر منقول عن الصادق علیه السلام بواسطة السکونی : «الماء یطهر ولا یطهر»(2) . وجه دلالته کما فی سابقه . فیما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل

والجواب عنهما : لو سلّمنا دلالتهما بالاطلاق علی ذلک ، لا سیما الحدیث الأوّل ، فغایته افادة الإطلاق وهو یتقید بتلک الأخبار ، ولا یوجب التقیید والتخصیص بالاکثر الاستهجان لکثرة ما بقی تحته .

مضافا إلی الإشکال فی الثانی ، بما قد عرفت سابقا منانه لیس فی صدد بیان الإطلاق من هذه الجهة من ان الماء بأی قسم منه کان کذا ، کما لا إطلاق له من


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:155

جهة کیفیة التطهیر ، فالتمسک به کان أفحش وهنا من الأوّل ، کما لا یخفی .

ونظیره التمسّک باطلاقات طهارة الماء الواردة فی الآیات الکریمة .

وما قد قیل فی الجواب عن خبر السکونی : بأنه لا یدل علی عدم انفعال القلیل ، لامکان أن یکون حال الماء القلیل المنفعل حال ماء المتغیر ، أی لا یتطهر إلاّ بالاستهلاک .

فغیر تام ، لأنّ القائل یدعی الإطلاق فی أصل الشمول ، بأن یکون حکم ماء القلیل حکم ماء الکر مثلاً ، فلا ینفعل أصلاً إلاّ بالتغیر ، فلا یحتاج أن تصل النوبة إلی مقام تطهیره ، حتی یقال لا یحصل إلاّ بالاستهلاک .

ومنها : صحیح حریز بن عبداللّه ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «کلما غلب الماء ریح الجیفة ، فتوضأ من الماء واشرب ، فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطعم فلا تتوضأ ولا تشرب»(1) .

ومنها : خبر أبی بصیر ، عن الصادق علیه السلام : «أنّه سأل عن الماء النقیع تبول فیه الدواب ؟ فقال : إنْ تغیر الماء فلا تتوضأ منه ، وإن لم تغیره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(2) . وأمثال ذلک من الأخبار الظاهرة فی کون تمام الملاک فی الطهارة وعدمها هو التغیر وعدمه مطلقا ، حتی فی الماء القلیل . ومثلهما خبر أبی خالد القماط(3) ، وغیرها ، کما نقله صاحب «الجواهر» .

والجواب عنهما : _ مضافا إلی عدم استبعاد دعوی ظهورهما ، لا سیما الخبر الثانی فی الماء الکثیر کما یظهر من لفظ : (النقیع تبول فیه الدواب) بصیغة الجمع _ أنّه یکون صرف إطلاق یشمل المورد ، فلا بأس بالتقیید بواسطة تلک الأخبار


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:156

الدالّة علی انفعال ماء القلیل ، کما لا یخفی .

ومنها : حنسة محمّد بن میسر ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل الجنب ینتهی إلی الماء القلیل فی الطریق ، ویرید أن یغتسل منه ، ولیس معه اناء یغرف به ، ویداه قذرتان ؟ قال : یضع یده ثمّ یتوضأ ثمّ یغتسل ، هذا مما قال اللّه تعالی : «ما جعل علیکم فی الدین من حرج» »(1) .

بناء علی کون المراد من القلیل أقل من کر ، والقذارة هی النجاسة لا الوساخة ، والوضوء هو الاصطلاحی منه لا التطهیر والتنظیف ، کما قد یستعمل ، فحینئذ یدل علی مسلک سلاّر ومن تبعه ، ولعله أحسن دلیل من الأدلّة المؤیدة بقوله هذا .

وقد اجیب عنه بأجوبة لا تخلو من مناقشة ، مثل حمل القلیل علی القلیل العرفی ، الصادق علی الکر أو أزید . أو کون المراد من (القذارة) هو الوساخة وأمثال ذلک . بل الأولی أن یقال : إنّه محمولٌ علی التقیة ، لأنّه قد قیل _ کما عن «المصباح» _ إنّه قد حکم کثیر من العامة علی ذلک عند الاضطرار ، کما قد یؤیّد ذلک انضمام الوضوء مع غُسل الجنابة ، حیث یساعد ذلک مع مذهبهم لا مذهبنا ، وهو غیر مستنکر ان کان المراد من الوضوء ما هو المصطلح شرعا .

وانْ کان المراد منه هو التنظیف فلا یشاهد فیه أصلاً .

کما قد یحتمل أن یکون المراد ، بیان إمکان تحصیل الوضوء والغسل ، بلا ارتباط بمورد الحدیث ، من حصول الجنابة حتی یفهم منه لزوم الجمع بین الوضوء والغسل ، فخرج عن مسلکنا ، لاسیما علی النسخة التی وردت بلفظ (الواو) لا (ثمّ) ، کما هو الحال فی بعض النسخ . فیما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل

ولکن الانصاف عدم ثبوت الحقیقة الشرعیة فی لفظ القلیل ، بل المراد منه هو


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:157

القلیل العرفی ، فهو مطلق ویشمل ما لو کان أزید من الکر ، لاسیما مع فرض کونها فی الفلاة والصحاری . فاحتمال اختصاصه بما هو أزید من الکر فقط غیر وجیه . فحینئذ قد یحتمل أن یکون الاستدلال بآیة نفی الحرج تأییدا علی المراد من القلیل هو ما دون الکر ، لأنّه المناسب بذلک الاستدلال ، وأنّه أرید بذلک حال الاضطرار والضرورة ، فیرجع إلی دلالته علی عدم انفعال القلیل عند الضرورة والاضطرار ، کما استوجه هذا الاحتمال صاحب «مصباح الهدی» ، والمحقّق الهمدانی قدس سره . فلا محیص حینئذ:

إما من القول بالحمل علی التقیة _ کما احتمله صاحب «وسائل الشیعة» وغیره _ أو طرح الحدیث رأسا ، لمخالفته مع تلک الأخبار الکثیرة ، ومعارضته مع أخبار تدل بالخصوص علی نجاسة الماء القلیل حتی فی حال الضرورة ، نظیر خبری الاهراق للماء المردد ولزوم تحصیل التیمّم ، کما عرفت .

أو یقال بالاطلاق للقلیل ، فیشمل صورة الأقل من الکر ، إلاّ أنّه یقید بواسطة تلک الأخبار ، فیخص مورده بعد ذلک بصورة الکر وأزید ، وان کان یبعده الاستدلال بالآیة .

إلاّ أن یقال _ علی ما قاله المحقّق الخوئی فی «التنقیح» : بأنه أراد أنّ عدم تجویز الغسل والوضوء عن مثل تلک المیاه فی الفلاة ، موجب للحرج ، والحال أنّه قال تعالی : «ما جعل علیکم فی الدین من حرج» وفیه ما لایخفی من الغرابة ، واللّه العالم .

ومنها : خبر أبی مریم الأنصاری ، قال : «کنت مع أبی عبداللّه علیه السلام فی حائطٍ له ، فحضرت الصلاة ، فنزح دلوا للوضوء من راکی له ، فخرج علیه قطعة عذرة یابسة ، فاکفأ رأسه وتوضأ بالباقی»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:158

وحمله علی کون الدلو علی مقدار کر بعیدٌ غایته ، لعدم إمکان حمله ورفعه من البئر کما لا یخفی . کما یبعد حمل لفظ «الباقی» علی باقی ماء البئر ، لأن الظاهر من اکفاء رأسه ، هو عدم قلب جمیع الماء ، فیکون الباقی بقرینة ذلک باقی ماء الدلو لا البئر . مضافا إلی ظهوره کون التوضئ بالباقی بلا واسطة ، مع أنّه لو کان المراد منه هو باقی ماء البئر فالظاهر منه عدم امکانه إلاّ بالنزح المجدد المقدر ، فهو خلاف الظاهر ، کما هو واضح .

کما یبعد حمل لفظ (العذرة) علی عذرة مأکول اللحم ، إلاّ أنّه لیس غرابته بمثل سابقه لما قد یستعمل العذرة للمأکور أیضا ، کما قد جُمع فی مثل قوله : «لا بأس ببیع العذرة» مع دلیل (ثمن العذرة سحتٌ) فی باب المکاسب ، بنحو الحمل علی القدر المتیقن فی کل منهما ، وهو المأکول للأول وغیره للثانی ، فحمله علی ذلک بحسب مقتضی الجمع ، مع تلک الأخبار یخرجه عن الغربة ، وان کان لا یخلو عن مخالفة طاهرة فی الجملة .

مضافا إلی الإشکال فی سنده ، من جهة التردد فی البشیر الراوی ، بین کونه موثوقا وغیره ، فلا یقدر المقاومة مع تلک الأخبار .

مضافا إلی بُعد ذلک من جهة شأن الإمام علیه السلام من شدة الاهتمام للوضوء من ذلک الماء الذی ینفر منه الطبع ، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ونعم ما ذکره ، بل قد یعارضه مرسل علی بن حدید ، عن بعض أصحابنا ، قال : «کنت مع أبی عبداللّه علیه السلام فی طریق مکة ، فصرنا إلی بئر فاستقی غلام أبی عبداللّه علیه السلام دلوا ، فخرج فیه فأرتان . فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ارقه ، فاسقی آخر ، فخرج فیه فأرة . فقال أبو عبداللّه علیه السلام : ارقه . قال : فاستقی الثالث ، فلم یخرج فیه شیء . فقال : صبّه فی الإناء ، فصبه فی الإناء»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 14 .

ص:159

فإنّ الأمر بالإهراق لا یکون إلاّ للنجاسة ، لبعد احتمال کون الفأرة غیر میّتة فیه ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة زرارة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر ، یستقی به الماء من البئر ، هل یتوضأ منه ذلک الماء ؟ قال : لا بأس»(1) .

فدلالته علی عدم الانفعال انما یکون من جهة تقاطر الماء عنه إلی ماء الدلو ، فمع ذلک حَکَم بجواز التوضئ ، کما لا یخفی .

وقد اجیب عنه أولاً : من إمکان أن یکون وجه السؤال من جهة توهم حرمة استعمال ما یکون نجس العین مثل الکلب ، ولو لغیر ما یشترط فیه الطهارة ، فأجاب إنّه لا بأس به ، ولا یضرّ بعمله العبادی وهو الوضوء ، فلا یکون حینئذ مرتبطا بما نحن نبحث عن ، وإن لم یدل علی جواز أصل الاستعمال أیضا ، کما استدلّ به بعض لإمکان أن یکون الجواب ناظرا إلی صحّة الوضوء ، لعدم اتّحاده مع الحرام ، حتی یستلزم البطلان .

وثانیا : من إمکان أن یکون وجه عدم البأس ، من جهة أنّه لم یعلم تماس الشعر للماء ، حتی یُفرض التقاطر ، فکأنّه أراد بیان أنّه متی لا یعلم الملاقاة فلا إشکال فی طهارته . ولا أقلّ من اطلاقه ، فیقید بما إذا لم یعلم ، ما إذا علم بالملاقاة ، فیحکم بالنجاسة حینئذ بواسطة تلک الأخبار .

وثالثا : لعلّه کان من جهة کون الشعر ممّا لا تحلّه الحیاة ، فلا یدخل تحت حکم أجزاء نجس العین ، کما قاله السیّد المرتضی قدس سره ، مستدلاً بهذه الصحیحة ، فحینئذ لا یعارض بما ذکرنا ، کما لا یخفی .

رابعا : من إمکان الحمل علی التقیّة ، لأنّ الحنفیة والمالکیة ذهبا إلی طهارة


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:160

الکلب والخنزیر بتمام أجزاءهما من الشعر والوبر والوصف ، غایة الأمر حَکَم الحنفیة بذلک إذا کان الکلب حیّا ، فحملُ الحدیث علی التقیة بوجود شخص منهم فی المجلس أمر غیر بعید ، فلا یمکن رفع الید عن هذا الخبر بما ذکرنا من الأخبار والإجماعات ، وهو واضح .

ومنها : روایة زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «قلت له : راویة من ماء سقطت فیه فأرة أو جرد أو صعوبة میتة ؟ قال : إذا تفسخ فیها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها ، وان کانت غیر متفسخ فاشرب منه وتوضأ ، واطرح المیتة إذا أخرجتها طریة ، وکذلک الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلک من أوعیة الماء»(1) .

دلالته واضحة ، خصوصا بملاحظة ذیله من الحاق سائر الأوعیة بالراویة . لکنه مخدوش ، أولاً : بضعف سنده من جهة علی بن حدید ، حیث ضعّفه الشیخ الطوسی فی رجاله ، وإن قیل بعد تضعیفه فی بعض الموارد ، بل قیل إنّه یظهر من «الکافی» أیضا تضعیفه ، والمعروف أنّه کان فطحی المذهب .

وکیف کان ، لو لم نقل بضعفه ، لکن لم یوثّقه أحد أیضا ، حتی یعتمد علیه .

وثانیا : إنّه مشتمل علی تفصیل لا یلتزم به الخصم أیضا ، وهو الفرق بین التفسخ وعدمه فی الراویة وغیرها ، مع أنّ ابن أبی عقیل لم یذهب إلیه . کما فی «التنقیح» وغیره .

ولکن یمکن دفعه: بأنّ التفسخ والانتشار فی الأوانی الصغیرة ، موجبا لحصول التغیّر ، ولو من جهة رائحته نوعا ، فکأنه أراد التفصیل فیما بین حصول التغیّر بالانفساخ وعدمه ، فهو موافق لرأی ابن أبی عقیل . نعم ، لو فرضت الراویة بمقدار الکر _ کما نقله فی حاشیة «التنقیح» ، بل واحتمله صاحب


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .

ص:161

«وسائل الشیعة» _ فاحتمال حصول التغیّر بالانفساخ بمثل الفأرة بعید جدا .

وثالثا : بأنّه مع ملاحظة ذیله ، حیث جعل الملاک فی عدم التنجیس زیادته عن الراویة بقوله : «إنْ کان أکثر من راویة ، فلا ینجسه شیء ، تفسّخ أو لم یتفسخ»(1) . کما أن ملاحظة صدره یفید أنّ الملاک فی عدم الانفعال مطلقا من جهة کونه أزید من راویة ، أو یحدها مع عدم الانفساخ ، بخلاف ما لو کان أقل من راویة فینفعل ، فهو لا یساعد مع مذهب ابن أبی عقیل ، إذ لم یلتزم بهذا التفصیل أحدٌ خصوصا مع ملاحظة زیادة کلمة (سائر الأوعیة) إلی الروایة ، کما لا یخفی .

مضافا لما قد عرفت من ضعف سنده ، فلا یمکن رفع الید عن تلک الأخبار مع کثرتها وشهرتها بهذا الخبر .

هذه جملة الأخبار العامة والخاصة ، التی قد تمسک بها المحدّث الکاشانی وغیره للدلالة علی مذهبه فی القول بعدم انفعال الماء القلیل ، وان أمکن وجد ان أکثر من ذلک فی الدلالة أو التأیید ، إلاّ أنّه قابل للتوجیه والجمع مع الأدلّة السابقة ، کما لا یخفی ، نظیر الأخبار المفصلة بین الضرورة فی عدم الانفعال وعدمها بالانفعال ، التی کانت علی خلاف مسلک الخصم أیضا .

مضافا إلی معارضتها فی خصوص موردها ، بما هو أقوی منها ، مثل خبر اهراق الماء والتیمّم ، کما هو واضح .

والان تصل النوبة لذکر وجوه اُخر التی اُقیمت دلیلاً أو تأییدا لذلک المذهب ، والجواب عنها إن شاء اللّه ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

فمنها : وهی العمدة ، أنّ الماء القلیل إن انفعل بالملاقاة ، فلا یمکن تطهیر النجس فیه أصلاً ، لأنّه بمحض التلاقی ینجس الجزء الملاقی وغیره من الأجزاء


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .

ص:162

المستعلیة ، التی لا دخل لها فی تطهیره ، مضافا إلی أنّه یتنجس أیضا باتّصاله مع ذلک الجزء المتنجس بالملاقاة ، وهکذا الجزء الثالث والرابع وهلم جرا ، فمن ذلک یظهر عدم إمکان الحکم بطهارة ماء الاستنجاء بواسطة ذلک .

ولو قیل : إنّه ینجس بالانفصال ، ویطهر الموضع .

فهو بعید غایته ، وذلک لانه کیف یمکن أن یکون الانفصال دخیلاً فی تحقیق الطهارة للموضع والنجاسة للغسالة .

هذا ، ولکن یمکن الجواب عنه :

اولا : بامکان القول بالفرق بین ورد النجاسة علی الماء ، فإنّه ینجّسه ، وبین وروده علیها فلا ینجس ، ولذلک حکم بطهارة الماء للنجس ، وإن کان فی صحّته وعدمه بحث یوکل إلی محلّه .

ثانیا : لو سلّمنا عدم الفرق بینهما أیضا ، فیمکن أن یلتزم بأنّ اندفاع الماء من العلوّ موجبٌ لإزالة النجاسة عن الشیء ، کما تری ذلک فی تصرّف العرف فی إزالة بعض العوالق عن الید وغیره ، من إزالتها بواسطة بعض المزیلات کالنفط ، حیث یَحمل المایع ذلک الوسخ بنفسه مع تحقّق التطهیر والتنظیف فی الید ، فهکذا یفرض فی الشرع أیضا .

مضافا إلی أنّ الماء لا یکون حاله أهون من الأحجار التی تستعمل للاستنجاء ، حیث یطهر الموضع وتحمل نفسها النجس وینجس .

ثالثا : لو سلّمنا الإشکال من حصول النجاسة للماء هاهنا بحکم أولی ، فلا مانع بأن یکون الشارع قد استثنی فی هذه الموارد ، من باب رفع الحرج وتخصیص الحکم الأوّلی فی هذه الموارد ، کما قلنا بالتخصیص فی ماء الاستنجاء أیضا ، إلاّ إذا کان حاملاً لعین النجاسة ، فلا بعد للالتزام بنجاسة الغسالة مثلاً بالانفصال ، وحصول الطهارة للموضع بذلک .

ص:163

رابعا : ان الحکم بکون الجزء الملاقی نجسا ، إنّما کان بملاقاته لعین النجاسة ، واما سائر اجزاءه العالیة من الماء _ مضافا إلی ما عرفت من کون العلو والدفع مانعا عن السرایة والنجاسة _ فإنّه نقول بأنّ الحکم بنجاستها منوط بإثبات کون التلاقی مع الشیء المتنجس _ وهو الجزء الأوّل من الماء _ منجسا أیضا ، مع إمکان المنع فی ذلک ، فلا یکون الإشکال علی إطلاقه بصحیح .

ومن ذلک یظهر الجواب عن وجه آخر ، قد ذُکر تأییدا لهذا القول لو انفعل الماء القلیل بالملاقاة ، وهی : فإنّه یلزم الحکم بنجاسة المیاه الموجودة فی کلّ من مکة والمدینة فی عصر النبی صلی الله علیه و آله التی کانت قلیلة قطعا ، لأنّ مباشرة الأفراد الکثیرین من المسافرین غیر المجتنبین عن النجاسة _ لعدم اطّلاعهم علی المسائل الشرعیة _ یوجب الحکم بالنجاسة لجمیع المیاة ، فلیس هذا إلاّ موجبا للحکم بالوساوس ، هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم الانفعال .

وجه الظهور هو ما عرفت ، بأنّ ذلک مبنیٌ علی کون الملاقی للمتنجس منجسا أیضا ، وإلاّ لما یوجب نجاسة المیاه ، لأنّ أغلب أنواع المباشرة إنّما تقع بالمتنجّسات لا الأعیان النجسة ، کما لا یخفی .

مضافا إلی أنّه لولا امتنان الشارع فی الحکم باصالة الطهارة فی کلّ ما لم یعلم النجاسة والقذارة ، لوجب أن نقول بعدم الانفعال فی المیاه القلیلة ، فماذا یقول الخصم لمباشرة النجاسة بواسطة الصبیان والمجانین ، أو ممّن لا یبالی بالطهارة والنجاسة من المؤمنین لسائر المایعات المضافة والأطعمة ، حیث لا إشکال فی تنجسها بالملاقاة ؟ فلا محیض إلاّ عمّا ذکرنا من ورود التسهیل عن الشارع من الحکم بالطهارة ما لم یحصل العلم بالخلاف ، وهذا هو المطلوب .

ومنها : أنّ ما یدلّ علی الانفعال کان بالمفهوم ، وما یدلّ علی خلافه کان بالمنطوق ، وهو مقدَّم علی الأوّل .

ص:164

فجوابه واضح ، أوّلاً : بما قد عرفت من وجود الدلیل علیه منطوقا ومفهوما ، ومن أراد التأکّد فلیراجع .

وثانیا : لو سلّمنا ذلک ، فلا نُسلّم کون المنطوق _ ولو کان أضعف ظهورا عن المفهوم _ مقدَّما علیه ، وإن کان أقوی ، مضافا إلی قوّة المفهوم من جهة کثرة الأخبار وشهرتها ، کما لا یخفی علی من لاحظ الآثار .

ومنها : وجود الاختلاف فی بیان مقدار الکر من جهة الوزن والمساحة ، من کونه سبعة وعشرین شبرا ، أو ستة وثلاثین ، أو اثنین وأربعین إلاّ ثمن الشبر ، فان جمیعها یدل علی استحباب ذلک ، نظیر الحمل علی الاستحباب فی الاختلاف الموجود فی مقدار النزح لماء البئر .

هذا ، لکنّه مخدوش بأنّه لا وجه لذلک ، بل یؤخذ بالقدر المتیقّن ، ویحکم بالنسبة إلی غیره علی الاستحباب ، لا أن یرفع الید عن کلّ ما یدلّ علی الانفعال .

وغیر ذلک من الوجوه التی قد ذکر تفصیلها صاحب «الجواهر» قدس سره ، تبعا للسید المهدی الذی صنّف رسالة مستقلة فی هذا البحث والمسألة فلا نطیل الکلام فی المورد والمقام أکثر من هذا فی بیان امتیاز حکم المیاه بالنسبة إلی الوضوء والغسل عن غیرها ووجود خصوصیة زائدة فیها من جهة صرفها فی أمر عبادی ، ولذلک یحکم بالاجتناب لا من حیث النجاسة ، أو من إمکان حمل هذه الأخبار علی الکراهة أو الاستحباب ، وغیر ذلک من الوجوه وعلی من أراد الاطلاع علیها ، فلیراجع المطولات من الفقه .

أما القول الثالث : وهو التفصیل بین النجس والمتنجس ، بأن قیل بانفعال الماء القلیل بملاقاته مع الأوّل دون الثانی .

فأوّل من أبدع هذا الاحتمال هو المحدّث الکاشانی قدس سره ، برغم أنّه لم یکن مختاره من جهة وجود الإجماع علی خلافه . ولکن اختاره _ علی ما نقله

ص:165

الحکم قدس سره فی «المستمسک» _ المحقّق الخراسانی قدس سره صاحب «الکفایة» ، وتبعه _ علی ما نقله الخوئی فی «التنقیح» _ المحقّق الاصفهانی قدس سره .

ومجموع ما تمسک به لهذا القول ، هو عبارة عن دعوی عدم شمول الإجماع الموجب للقطع للمتنجس ، لکونه دلیلاً لبیا ، فیکتفی فیه بالقدر المتیقن وهو النجس . کما أنّ شمول الأدلّة العامة ، والأخبار المطلقة للمتنجس مشکل ، لانّ ظاهر القضیة الشرطیة فی قوله : «الماء إذا کان قدر کر لا ینجسه شیء» ، هو سلب العموم ، وتعلیقه لا تعلیق کل فرد من أفراده العام وهو الماء ، حتی یستفاد منه نجاسة القلیل بکلّ شیء ، فیکون مفهوم السلب الکلّی هو الإیجاب الکلّی ، بل کان مفهومه هو الإیجاب الجزئی ، فیکون معناه أنّ القلیل ینجس بعین نجسة ولو بفرد منها ، غایته بانضمام عدم القول بالفصل بین أفراد النجس ، یوجب العموم لکلّ عین نجسة ، فهو القدر المتیقن ، فأمّا شموله للمتنجس فلا .

بل لو شک فی الشمول وعدمه ، فالمرجع حینئذٍ هو عموم قوله : «خلق اللّه الماء طهورا لا ینجسه شیء» . هذا بالنسبة إلی الأخبار العامة .

وأمّا الخاصّة ، فیقال : إنّ الإطلاق للشیء بحیث یشمل المتنجس ممنوع ، بل القدر المتیقّن ، لولا دعوی ظهور بعضها مثل خبر أبی بصیر ، عنهم علیهم السلام ، قال : «إذا أدخلتَ یدک فی الإناء قبل أن تغسلها ، لا بأس إلاّ أن یکون أصابها قذر أو بول أو جنابة ، فان أدخلت یدک فی الماء ، وفیها شیء من ذلک فاهرق ذلک الماء»(1) .

دعوی کون الشیء هو البول والجنابة المعهودان بالذکر ، لا المطلق من النجس وغیره ، بل هو عین النجس فقط ، فلا داعی علی حمله علی المطلق . فعلی هذا یکون التفصیل بینهما أولی . فضلاً عن وجود استصحاب الطهارة بعد


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:166

الملاقاة مع المتنجس وقاعدتها ، کما لا یخفی .

بل قد یؤیّد ذلک بالخبر الدالّ علی لزوم الغسل للبول فی المرکن بمرّتین ، وفی الجاری بمرّة واحدة ، وهو معتبرة محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یصیبه البول ؟ قال : اغسله فی المرکن مرّتین ، فإن غسلته فی ماء جار فمرّة واحدة»(1) .

قال الجواهری : المرکن : الإجانة التی تُغسل فیها الثیاب .

حیث استند إلیها المحدث الکاشانی قدس سره فی الاستدلال علی التفصیل ، علی ماحکاه المحقّق الآملی قدس سره فی «المصباح» ولعلّه أراد أنّه بعد غسله مرّة واحدة فی المرکن ، الذی هو أقلّ من الکر ، صار ملاقیا مع المتنجس ، فلو صار متنجِّسا بذلک کیف یجوز غسله به ثانیا ، فیدلّ علی عدم انفعاله به ؟

ونحن نزید علیه من إمکان الاستدلال أو التأیید بخبر «قرب الاسناد» و«المسائل» عن علی بن جعفر علیه السلام ، قال : «وسألته عن جُنبٍ أصابت یده من جنابة ، فمسحه بخرقة ، ثمّ أدخل یده فی غسله قبل أن یغسلها ، هل یجزیه أن یغتسل من ذلک الماء ؟ قال : إن وجد ماءً غیره فلا یجزیه أن یغتسل ، وإن لم یجد غیره أجزأه»(2) .

ووجهه أنّ النهی عن الاغتسال به عند وجدان الماء ، لعلّه کان من جهة أنّه أراد عدم استعمال الماء الذی أصاب بالخبث لرفع الحدث من الأکبر والأصغر ، لصیرورته بذلک متنجّسا ، مع عدم کونه ملاقیا إلاّ بالمتنجس ، بقرینة مسح یده بالخرقة ، کما یشهد لذلک تجویزه لصورة عدم الوجدان ، لوضوح أنّه لو کان


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- البحار الانوار : ج 18 باب نجاسة البول والمنی الحدیث1 .

ص:167

متنجسا بذلک فلم یکن الاضطرار والضرورة مطهرا له ، کما لا یخفی .

هذا غایة ما یمکن الإقامة علی الاستدلال أو التأیید لذلک القول .

ولکن کلّها مخدوشة ، وقد اُجیب عنها ونحن أیضا نتصدی للجواب عنها بإرادة اللّه تعالی وتأییده ، فنقول :

أمّا الجواب عن الإجماع : فلا إشکال فی وجوده هاهنا بأقسامه الثلاثة من المحصّل والمنقول والمرکب .

فأمّا الأوّل : فواضح ، لعدم مشاهدة الخلاف فی القول بالانفعال ، إلاّ من ابن أبی عقیل المشهور نسبه والمعروف حاله ، ومن بعض متأخِّری المتأخِّرین الذین لا یضرّ خلافهم بالإجماع .

کما أنّ وجود الثانی أیضا واضح لما تری من کثرة نقل الإجماع فی المقام عن الفقهاء الکبار رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

کما أنّ الثالث قد ادّعاه المحدِّث الکاشانی نفسه حسب ما نقله المحقّق الآملی قدس سره من القول بالتفصیل بین النجس والمتنجس ، خلافا للطائفتین ، لأنّ القائلین بالانفعال یقولون به مطلقا ، کما أنّ القائلین بعدمه أیضا یقولون کذلک .

وثانیا : الأخذ بالقدر المتیقّن صحیحٌ ، فیما إذا لم یصرّح المجمعون بعدم الفرق بالتعمیم بین النجس والمتنجس ، مع أنّ الفحص فی کلماتهم ینتج القطع للفقیه علی ما ادّعیناه .

وأمّا الجواب عن الأدلّة العامة والأخبار المطلقة ، فهو :

أوّلاً : وقوع الخلاف فی أنّ مفهوم القضیة الشرطیة إذا وقعت بصورة النکرة فی سیاق النفی ، هل یکون علی نحو الإیجاب الکلّی أو علی نحو الإیجاب الجزئی ؟

المشهور وقوع الخلاف بین العلمین من الشیخ الأعظم قدس سره والشیخ محمّد تقی صاحب «الحاشیة» ، وإن کان قد ذهب الأکثر إلی الثانی ، کما هو الأقوی عندنا

ص:168

أیضا بحسب المرتکز العرفی فی المحاورات ، کما لو قیل : «إذا جائنی زید فلم یدعو للضیافة أحدا» ، فلیس مفهومه إلاّ أنّه إذا لم یجئنی زید فلا مانع من دعوة من یشاء ولو بفرد أو فردین ، لا أن یکون مفهومه لزوم دعوة کلّ أحدٍ ، ولو فرض فی مورد یمکن دعوتهم جمیعا إذا کان الافراد محصورین من أوّل الأمر .

إلاّ أنّه قد ذهب إلیه جماعة تبعا لعلماء المعانی والبیان ، حیث یقولون بأن المفهوم یتبع المنطوق فی السعة والضیق ، وقد مال إلیه صاحب «الجواهر» ، وإنْ تأمّل أخیرا ، بل قد صرّح الحلّی فی «دلیل العروة» بصحّته ، هذا أوّلاً .

وثانیا : لو سلّمنا ذلک ، فلا نسلّمه فی المقام ، لوقوع القضیة الشرطیة فی مورد کان موضع السؤال فیه عن کل فرد فرد من أفراد العام کما هو الحال فی خبر محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «وسُئل عن الماء تبول فی الدواب وتلغ فیه الکلاب ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(1) .

فإنّ جواب الإمام یکون علی نحو القضیة الشرطیّة السالبة الکلّیة بتبع سؤال السائل عن أفراد من المیاه ولو علی نحو الإطلاق ، بحیث یشمل الحکم ما لو حدث فی کلّ ماء علی حاله ما هو المذکور فی الخبر ، کما یشمل ما لو کان فی ماء واحد شاملاً لجهات ثلاث ، یوجب کون المقام فی المفهوم ، إثبات الحکم الجزئی بفرد فرد من الأفراد ، أی کلّ ماءٍ یقع فیه ما سُئِلَ عنه ، إذا لم یکن کرّا ینجّسه شیء ، وهذا هو المطلوب .

وأمّا الجواب عن الأخبار الخاصّة : بأنّ الأخذ بالقدر المتیقّن والحمل علیه إنّما یکون إذا کان فی مقام التخاطب ، لا فی کلّ مورد من الإطلاقات ، وإلاّ لم یبق لنا إطلاق أصلاً ، لأنّ کلّ إطلاق لا أقلّ من انطباقه علی بعض الافراد علی نحو


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:169

الیقین ، لکن الالتزام بذلک کما تری . کما أنّ دعوی الإطلاق فی قوله علیه السلام : «إن کان أدخلت یدک فی الماء ففیها شیء من ذلک» ، الواقع فی خبر أبی بصیر السابق ، وإن کان لا یخلو عن بُعد فی الجملة ، إلاّ أنّه مع ملاحظة العموم الموجود فی مرجع الإشارة ، بکون البول فی الید ، قد یکون بعینه وآخر أثره ، کما هو الأکثر وقوعا ، یوجب رفع الاستبعاد المذکور ، کما لا یخفی .

کما أنّه یجیب عن مثل خبر محمّد بن مسلم الدالّ علی الحکم بلزوم الغسل مرّتین فی المرکن ، بناءً علی عدم کون المرکن بقدر الکرّ کما هو الظاهر ، أوّلاً : بأنّه کیف فرض الثوب الذی أصابه البول متنجّساً ، حتّی یحتمل عدم انفعال الماء القلیل به ، إذ من الممکن أن یکون نفس رطوبة البول موجودة غایته الإطلاق الشامل لکلا فردیه .

فنقول : کیف یصحّ فیما إذا کانت عین البول موجودة ، الغسل فی المرکن مرّتین مع فرض وجود الماء القلیل فیه ، حیث یوجب فی أوّل ملاقاته سرایة نجاسته إلی الماء حتّی علی مذاق الخصم ، لتحقّق الملاقاة مع النجاسة العینیّة ، کما لایخفی .

وثانیاً : من إمکان أن یکون المراد هو الغسل للثوب مع ظرفه معاً ، أی یصیب الماء القلیل حتّی یسری فیصیر کلاهما طاهراً ، فحینئذٍ لا یکون الأمثل سائر التطهیرات بالماء القلیل ، مع اشتماله للدفع فیظهر ، ولو لاقی نجساً فضلاً عن المتنجّس . هذا کما احتمله فی «الجواهر» فراجع .

وثالثاً : الأقوی عندنا هو أن یکون حرف (فی) فی قوله (فی المرکن) بمعنی الباء ، کما یکثر ذلک فی استعمالات العرب ، کما نقله صاحب «معجم النحو»(1) ،


1- معجم النحو : 267 .

ص:170

وذلک إلی شهرة مثل هذا الاستعمال واستشهد علی ذلک بشعر زید الخیل :

ویرکب یوم الروع منّا فوارس یصیرون فی طعن الأباهر والکلی

حیث استعمل (فی) بمعنی الباء .

فعلی هذا یکون فی المقام بحذف المضاف ، وهو الماء ، أی اغسله بماء المرکن مرّتین ، وإن غسلته فی ماء جار فمرّة واحدة ، ویکون المرکن ، حینئذٍ من باب المثال لاستعماله کثیراً فی غسل الثیاب .

کما أنّ الماء الجاری لا خصوصیّة فیه ، بل یکون من باب المثال أیضاً حیث یتّحد حکمه مع حکم الکرّ والمطر أیضاً ، کما لا یخفی .

بل قد یستأنس لما ذکرنا ، ما ورد فی النصّ من قوله : «اغسله مرّتین» ولم یقل «إن غسلته فی المرکن مرّتین» وهذا بخلاف الجاری ، ولعلّ علی وجه الفرق هو فرض ورود النجاسة علی الجاری وعکسه فی المرکن ، فحینئذٍ لا یکون الحدیث مخالفاً لکلام المجمعین .

فی تفصیل المحقّق الخوئی (ره)فی انفعال الماء القلیل

کما أنّ خبر علیّ بن جعفر _ مضافاً علی اشتماله لما یکون مخالفاً للخصم من التفصیل بین الوجدان وعدمه _ مجملٌ أیضاً لأنّه یحتمل أن یکون وجه المنع هو کونه مستعملاً للخبث ، فهکذا یحتمل أن یکون بلحاظ تنجّسه بملاقاته مع المتنجّس ولو فی خصوص حال الوجدان فیلحق حال غیر الوجدان به ، بضمیمة عدم القول بالفصل ، فترفع الید عن دلالة فقرته الثانیة بذلک ، فمع وجود الإجمال والاحتمال یبطل الاستدلال ، کما لا یخفی . فلم یبق من الأدلّة إلاّ الاستصحاب والقاعدة ، وهما غیر قادران علی مقاومة الأخبار الکثیرة المطلقة الدالّة علی حصول التنجّس بالملاقاة مطلقاً ، سواء کان بالنجس أو بالمتنجّس .

بقی تفصیل ثان فی المقام ، فنقول :

إذا سلّمنا الإطلاقات المذکورة ، وعمّمنا المفهوم فی القضیّة الشرطیّة لکلّ فرد

ص:171

من أفراد الماء ، سواء لاقی نجساً أو متنجِّساً ، فلا یبقی وجه حینئذٍ للتفصیل الصادر عن المحقّق الخوئی فی تقریراته «التنقیح» ، فی المتنجّس بلا واسطة من الانفعال ، أی إذا لاقی الماء القلیل للمتنجّس الملاقی مع النجس فإنّه یوجب الانفعال ، بخلاف المتنجّس مع الواسطة ، أی کان الماء ملاقیاً للمتنجّس الذی یتنجّس بملاقاة المتنجّس لا النجس ، حیث تخیّل عدم النجاسة ، وأنّه لولا الإجماع لذهب إلیه ، ولا مانع عنه إلاّ فی موردین :

أحدهما : الخبران الواردان فی الکلب وهما صحیح العبّاس البقباق حیث ورد فیه قوله : «رجس نجسٌ لا تتوضّأ بفضله»(1) ، الحدیث .

وصحیح معاویة بن شریح ، حیث ورد فیه قوله : «قلت له الکلب ؟ قال : لا ، قلت : ألیس هو بسبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس ، ذکره مرّتین»(2) .

فأجاب عن الأوّل بعدم اشتماله علی التعلیل ، وعدم صدق الرجس علی المتنجّس بالواسطة . والعجب أنّه مثّل لذلک بأنّه لا یقال لرجل عالم هاشمی تنجّس بدنه أنّه رجس ، ولم أقف علی مدخلیة کونه عالماً هاشمیّاً فی عدم صدق ذلک ، لأنّه من الواضح أنّه لو أطلق الرجس کان بلحاظ تنجّس بدنه لا لشخصه حتّی یُستنکر . بل یضیف أنّه لو اُرید الإصرار علیه لوجب الالتزام باختصاصه لخصوص الکلب ، مع أنّ لازمه القول بلزوم التعفیر فی کلّ ما لاقی المتنجّس بالکلب ، وهو کما تری .

والثانی : وإن کان مشتملاً علی التعلیل ، إلاّ أنّه مردود بضعف خبر معاویة بن شریح ، وأمّا خبر زرارة فی حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وفیه أنّه قال : «هکذا إذا کانت الکفّ طاهرة»(3) حیث یفید بالإطلاق فی طرف المفهوم من عدم کونه


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاسئار ،، الحدیث 4 _ 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاسئار ،، الحدیث 4 _ 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الوضوء ،، الحدیث 2 .

ص:172

متنجّساً ولو بالواسطة .

فأجاب عنه بأنّه مجمل أیضاً ، لإمکان أن یکون الوجه فی الاشتراط هو أن لا یکون مستعملاً فی رفع الخبث ، حتّی علی القول بطهارته ، هذا ملخّص کلامه . فی تفصیل المحقّق الطوسی (ره) فی انفعال الماء القلیل

ولکن قد عرفت من کفایة الإجماع والأدلّة السابقة فی ذلک ، مضافاً إلی أنّ الحکم بکون الکلب رجساً فی الخبرین المذکورین لیس من جهة بیان أنّه هل ینجس المتنجّس أیضاً أم لا ، حتّی یقال فی الماء القلیل بما ذکره . کما أنّ إطلاق خبر زرارة فی لزوم کون الکفّ طاهرة ، یکفی فی ردّ الاحتمال المذکور ، لأنّ احتمال کون وجه المنع من جهة کونه مستعملاً للخبث ، لا یوجب أن یطلق بلفظ الطهارة ، کما لایخفی .فالأولی صرف الکلام عن ذلک والاکتفاء بما ذکرناه ، واللّه الهادی إلی سواء السبیل .

وقد حان الوقت أن نذکر تفصیلاً آخر فی المقام ، وهو القول الخامس المنقول عن الشیخ الطوسی قدس سره فی «الاستبصار» _ بل فی «دلیل العروة» نسبته إلی المحقّق فی «الشرائع» ، بل قد نسب «غایة المراد» هذا القول إلی أکثر الناس ، وفی صحّة نسبته کلام _ وهو التفصیل بین انفعال الماء القلیل إذا أصابه الدم بما یدرکه الطرف ، بخلاف ما لم یدرکه ولم یستبین ، فإنّه طاهر .

وقد استدلّ لذلک بصحیح علیّ بن جعفر ، عن أخیه أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن رجلٍ رعف فامتخط فصار بعض ذلک الدم قطعاً صغاراً ، فأصاب إنائه ، هل یصلح له الوضوء منه ؟ فقال : إنْ یکن شیئاً یستبین فی الماء فلا بأس ، وإن کان شیئاً بیّناً فلاتتوضّأ منه . قال : وسألته عن رجل رعف وهو یتوضّأ فتقطر قطرة فی إنائه هل یصلح الوضوء منه ؟ قال : لا»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق ،، الحدیث 1 .

ص:173

وجه الدلالة واضح من حیث وجود التفصیل بین الاستبانة وعدمه ، فی الحکم بالطهارة وعدمها ، والذی قیل فیه من الاحتمالات والأقوال ثلاثة :

الأوّل : قول بالتفصیل بین الصورتین المذکورتین ، فهو المنقول عن الشیخ الطوسی قدس سره ، ومن عرفت .

الثانی : وقول بأن یکون مورد الحدیث صورة ما لو کان الشکّ من جهة التردّد بین إصابته الدم للماء الواقع فی الإناء أو فی خارج الإناء ، الخارج عن محلّ الابتلاء ، فالحکم بالطهارة یکون مطابقاً للقاعدة ، لکون الشکّ حینئذٍ فی التکلیف ، لعدم تنجیزه للدم الواقع فی الخارج علی احتمال .

وهذا هو ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری قدس سره ، کما نسبه إلیه فی «التنقیح» ، بل قد یظهر صحّة احتماله عن صاحب «الجواهر» ، حیث جعل ذلک الاحتمال بأن یکون المراد هو الشکّ بالإصابة أصلاً مقدّماً علی احتمال الشیخ الطوسی قدس سره إنْ أراد طرف الآخر من الشکّ هو الخارج ، وإلاّ یصیر موافقاً للقول الثالث الذی یأتی بعد ذلک .

الثالث : القول بأن یکون المراد هو العلم بالإصابة للإناء قطعاً ، ولکن شکّ فی إصابته للماء ، فحینئذٍ یکون الشکّ فی الماء بدویاً ، فالمرجع هو البراءة . وهذا هو الذی احتمله صاحب «وسائل الشیعة» وشیخ الشریعة الاصفهانی قدس سره ، علی ما فی «النقیح» .

والأقوی عندنا هو هذا الاحتمال ، لأنّ الإمام علیه السلام أراد بیان أنّه لا یجوز رفع الید عن الیقین بطهارة الماء بسبب الشکّ بالإصابة ، إلی أن یعلم بذلک بعد استبانة الدم فی الماء ، وهنا یقع معنی الاستصحاب أی لا تنقض الیقین بالشکّ بل انقضه بیقین آخر ، فعلی هذا التقدیر لا حاجة لارتکاب التجویز فی إرادة الماء من الإناء ، کما یلزمه علی مذهب الشیخین . مضافاً إلی ضعف احتمال الشیخ الأنصاری لو قلنا بأنّ السائل قد فرض مقطوعیة إصابة الإناء ، فحینئذٍ لو قصد

ص:174

منه للزم القول بما ذهب إلیه الشیخ الطوسی لا محالة لعدم إمکان فرض طهارة الماء المصیب له الدم إلاّ بما قاله ، کما لا یخفی ، بخلاف ما لو ذهبنا إلی ما احتملناه فهو صحیح بلا إشکال . مضافاً إلی أنّ الشیخ الأنصاری فی «طهارته» جعل احتمال الشیخ الطوسی أظهر ممّا مختاره .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا ما ورد فی ذیل الخبر ، حیث یسأل السائل بعده عن حکم تقطر قطرة فی حال الوضوء ، فیفهم أنّه کان فرض السؤال عن صورة العلم بالإصابة ، لا أن تکون خصوصیّة القطرة بکبرها موضوعاً للحکم بالنجاسة .

کما أنّ الظاهر أنّه لا خصوصیّة للوضوء فی الحکم ، بل إنّما ذکر ذلک لمناسبة الحکم والموضوع ، وهو تجویز استفادة الماء للوضوء وعدمه ، کما لایخفی .

ومن هنا یظهر ضعف الاحتمال الذی ذکره الحکیم قدس سره بأن لا یصدق عرفاً علی القطع الدم الصغار التی لا یدرکها الطرف أنّه دم ، نظیر أجزاء الماء المنتشرة فی البخار ، حیث لا یطلق علیه الماء ، فحینئذٍ یمکن أن یکون وجه حکم الإمام بالطهارة من تلک الحیثیّة . لأنّه من الواضح أنّه خلاف ما فرض فی الحدیث من کونه دماً ، ولهذا أطلق السائل علیه عنوان الدم ، وقال : «فصار بعض ذلک الدم قطعاً صغاراً» ، ولیس المقام مورداً للاستحالة والانقلاب حتّی یصحّ ذلک ، کما هو الحال فی الماء المستحیل إلی البخار ، وأمثال ذلک .

وأمّا تعلیل الشیخ الطوسی قدس سره فی «المبسوط» بأنّ الدم الذی لا یدرکه الطرف ، ممّا لا یمکن التحرّز منه ، وأنّه معفو عنه . فقد اُجیب أنّه غیر صحیح ، کما عن الشیخ قدس سره ، والمحقّق الهمدانی قدس سره .

ولکن یحتمل أن یکون مراد الشیخ أنّ الدم الذی لا یدرکه الطرف ، إذا وقع علی شیء ، ولم یعلم ولم یظهر ، فلابدّ من القول بعفوه إذا کان فی الواقع موجوداً ولم یعلم به ، لعدم إمکان التحرّز عن مثل هذه النجاسات فی بعض الأوقات ، لا

ص:175

أن یکون حینئذٍ مخالفاً للمشهور فی أصل الحکم ، فکأنّه أراد بذلک بیان عدم إمکان حصول العلم بالملاقاة للماء ، حتّی یُقال إنّه نجس ، فیکون مرجع رأی الشیخ ما ذهب إلیه المشهور ، وهذا غیر بعید ، کما لا یخفی .

وهنا تفصیلٌ آخر عن السیّد المرتضی وابن إدریس وتبعهما جماعة من متأخِّری المتأخِّرین ، وهو الانفعال إذا کانت النجاسة واردة علی الماء دون العکس . والذی یدّعیه هؤلاء العَلَمین هو أنّه لولاه للزم أن لا یمکن التطهیر بالماء القلیل ، لأنّه بالملاقاة ینفعل ، فکیف یتمّ التطهیر بالمتنجّس ، کما هو صریح استدلال السیّد قدس سره .

هذا ، ولکن الإنصاف أنّ الدلیل أخصّ من المدّعی ، لإمکان القول بالتخصیص فی هذه الموارد ، کما هو کذلک فی ماء الاستنجاء وماء المطر _ بشروط وهما محلّ وفاق _ وماء الحمّام والغسالة _ وهو محلّ خلاف _ فلا یوجب ذلک ، القولَ بعدم الانفعال مطلقاً ، کما قد اعتذر السیّد لاحقاً عن فتواه بقوله : (والذی یقوی فی النفس ، قبل أن یقع التأمّل لذلک ، هو صحّة ما ذهب إلیه الشافعی من الفرق بین الورودین) . بل قد یظهر من السیّد نفسه خلافه من فتاویه الاُخری ، وهو علی ما نقله العلاّمة رحمه الله فی «التحریر» فی مسألة الماء المستعمل فی رفع الحدث الأصغر والأکبر ، أنّه یجوز أن یجمع الإنسان وضوءه من الحدث ، أو غسله من الجنابة ، فی إناءٍ نظیف ویتوضّأ ویغتسل به مرّة اُخری ، بعد أن لا یکون علی بدنه شیء من النجاسة ، فإنّ اشتراط النظافة للإناء ظاهرٌ فی أنّه لو لم یکن کذلک لتنجّس الماء .

وأمّا قید أن لا یکون علی بدنه شیء من النجاسة ، فهو وإنْ احتمل کونه لتنجّس الماء ، إلاّ أنّه یمکن أن یکون من جهة أنّ الماء المستعمل لرفع الخبث ، لا یجوز استعماله لرفع الحدثین ، کما هو المشهور ، وعلیه الإجماع . کما نُقل مثله

ص:176

عن الحلّی أیضاً ، من أنّه اشترط نظافة الإناء أیضاً . بل عن «التذکرة» و«الذکری» : أنّ کلام السیّد والحلّی کان فی خصوص التطهیر لا مطلقاً ، والأخبار الواردة فی الماء القلیل وإن کانت فی مقام بیان صورة ورود النجاسة علی الماء ، إلاّ أنّ العرف إذا لاحظها _ کما فی نظائرها من المایعات المضافة والجوامد _ یفهم أنّ الملاک فی الانفعال وعدمه ، هو الملاقاة ولا یقبل التفصیل بین الورودین .

نعم ، قد تمسّک لذلک القول بالخبر المرویّ عن عمر بن یزید ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أغتسل فی مغتسل یُبال فیه ، ویغتسل من الجنابة ، فیقع فی الإناء ماء ینزو من الأرض ؟ فقال : لا بأس»(1) . حیث أنّ الحکم بعدم البأس لماء النزو ، مع وقوعه علی الأرض النجسة ، لیس إلاّ لعدم الانفعال .

لکنّه مخدوش ، أوّلاً : بضعف سنده بمعلّی بن محمّد ، وإنْ قیل باعتباره بوقوعه فی أسانید «کامل الزیارات» لابن قولویه .

وثانیاً : إنّ کون النزو من مکان النجس غیر معلوم ، لاحتمال أن یکون من الموضع الطاهر ، لعدم القطع بنجاسة جمیع المکان . مضافاً إلی أنّه لیس المراد من قوله : «مغتسل یُبال فیه» أنّ المکان کان مُعدّاً لذلک ، بل المراد أنّه إذا بال فیه أیضاً ، فهل یوجب النزو منه نجاسة الإناء ؟ فقد یمکن أن یکون الماء المستعمل للحدث قد طهّر المکان من البول قبل ذلک ، کما لایخفی .

مضافاً إلی أنّه لا یعلم إصابته للماء ، بل تردّد الأمر فیه بین أن یکون مصیباً للإناء _ فهو خارج عن محلّ الابتلاء _ أو الماء _ فهو یرجع إلی الشکّ فی التکلیف وهو البراءة _ .

فی تفصیل السیّد المرتضی (ره) فی انفعال الماء القلیل

اقول: ولنا فی ردّ کلام السیّد ومن تبعه وجوهٌ کثیرةٌ تدلّ جمیعها علی الانفعال


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 7 .

ص:177

مطلقاًو فلا بأس بالإشارة إلیها .

منها : الإجماعات المستفیضة _ التی ادّعاها الحلّی _ والأخبار علی نجاسة غسالة ماء الحمّام ، مع کون الماء وارداً فیها ، وقد علّل فی أخبارها بأنّ الیهودی والنصرانی والناصبی یغتسلون فیه .

ومنها : انّه یلزم طهارة الماء المنفعل ، إذا وقع علیه الماء القلیل الطاهر ، مع أنّه لا خلاف فی عدم تطهیره بذلک .

ومنها : خبر الأحول ، أنّه قال لأبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «الرجل یستنجی ، فیقع ثوبه فی الماء الذی استنجی به ؟ فقال : لا بأس . فسکت ، فقال : أوَتدری لماذا صار لا بأس به ؟ قال : قلت : لا واللّه ، فقال : إنّ الماء أکثر من القذر»(1) .

حیث أنّ الإمام علیه السلام قد جعل العلّة کثرة ورود الماء علی القذر ، مع أنّه لو کان الماء الوارد علی النجاسة غیر منفعل ، للزم أن یجعله تعلیلاً للکلام ، کما لایخفی .

ومنها : ما ورد فی لزوم غَسل إناء الخمر ، ومن ثمّ صبّ الماء فیه کما فی خبر عمّار بن موسی عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال : «سألته عن الإبریق وغیره ، یکون فیه خمراً أیصلح أن یکون فیه ماءً ؟ قال : إذا غُسل فلا بأس . وقال : فی قدحٍ أو إناء یشرب فیه الخمر ؟ قال : تغسله ثلاث مرّات . وسئل : أیجزیه أن یصبّ فیه الماء ؟ قال : لا یجزیه ، حتّی یدلکه بیده ویغسله ثلاث مرّات»(2) .

فدلالته واضحة لا سترة فیها ، إذ لو کان الماء الوارد مطهّراً بنفسه ، فلِمَ أجاز صبّ الماء فیه بعد الغسل .

ومنها : خبر محمّد بن مسلم(3) وهو حدیث المرکن ، حیث کان فیه : «اغسله


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 51 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:178

فی المرکن مرّتین» ، بناءً علی کون «فی» بمعنی الباء ، ویکون المضاف وهو الماء محذوفاً ، فیدلّ علی المطلوب ، حیث أنّه أمر بلزوم الغَسل المرّتین فی البول ، فإنّه لولا انفعال الماء بالملاقاة فی المرحلة الاُولی ، وعدم صیرورته منفعلاً ، کان اللازم حصول الطهارة له ، لاستبعاد القول بالتفکیک بین طهارة الماء وبین عدم حصول التطهیر به .

مضافاً إلی أنّه جواب للخصم من عدم وجود دلیل یدلّ علی ورود الماء علی النجاسة ، إذ هو علی ما ذکرنا ، یکون کذلک ، کما لایخفی .

وغیر ذلک من الأدلّة التی تدلّ علی کون الماء القلیل ینفعل بالملاقاة ، سواء کان وارداً أو مورداً ،

فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس

کما تدلّ هذه الأدلّة علی الانفعال ، بلا فرق بین استقرار الماء القلیل فی النجاسة وعدمه ، کما تری هذا التفصیل علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی «طهارته» عن بعض الفحول ، حیث ذهب إلی الانفعال بالاستقرار ، فینجس الماء القلیل الوارد فی الماء المنفعل القلیل ، ولا یطهّره للاستقرار ، هذا بخلاف وقوع الماء القلیل علی الثوب النجس للتطهیر ، فإنّه لا ینفعل لعدم الاستقرار .

فأجاب عنه الشیخ : بأنّ الاستقرار فی الجملة أیضاً موجودٌ هاهنا ، والامتناع عن حصول الانفعال بذلک المقدار من الاستقرار یعدّ دعوی بلا دلیل .

ولکن نحن نقول : بأنّ الأدلّة تکفی فی الجواب عنه ، إذ بإطلاقها تشمل صورة عدم الاستقرار أیضاً .

نعم ، لو قصد بعض الفحول من عدم الاستقرار ، الاستثناء فی صورة التطهیر عن حکم الانفعال بواسطة أدلّة حصول التطهیر بذلک ، ووجود الدفع لورود الماء علی النجس ، کما هو المتعارف فعلاً فی إزالة الأشیاء القذرة بمسح الموضع أو غمسه ببعض المزیلات النفطیة أو الکیمیاویة ، فله وجه وجیه ، لکنّه أمر

ص:179

ویطهر بإلقاء کُرّ علیه فما زاد دفعة ، ولا یطهر بإتمامه کُرّاً علی الأظهر (1).

علی حده ، لوضوح أنّه خارج حکماً لا موضوعاً ، لشمول إطلاق الأدلّة لمثله أیضاً ، کما لا یخفی .

وربما کان یقصد السیّد قدس سره هذا المعنی ، فلا یکون مخالفاً لما ذهب إلیه المشهور .

وممّا یؤیّد ذلک أنّ «کاشف اللثام» جعل کلام السیّد وابن إدریس فی المورد مؤیّداً لما ذهب إلیه العلاّمة فی «القواعد» من قوله : «ینبغی فی الغسل ورود الماء علی النجس ، فلو عکس نجس الماء» حیث قال فی شرحه _ کما فی «الناصریات» و«السرائر» _ : (لیقوی علی إزالة النجاسة ویطهّرها . . . . وإنّما لا ینفعل مع الورود للحرج والإجماع) . انتهی . فهو کما تری یعضد ما ادّعیناه من حمل کلام السیّد ومن تبعه ، واللّه أعلم بحقیقة الأحوال .

(1) والکلام فیه یقع من جهات :

الجهة الاُولی : فی لزوم الإلقاء ، الظاهر فی کون المطهر مستعلیاً ، وعدم لزومه ، بل یکفی ولو کان مساویاً ، أو یکون سافلاً علی صورة تأتی الإشارة إلیها ؟ فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس

الثانیة : فی لزوم کون الملقی _ باسم المفعول _ کرّاً ، أو لابدّ من کونه أزید من الکرّ حتّی یطهر ؟

الثالثة : فی لزوم کون الإلقاء بالدفعة ، أو یکفی بالتدریج والدفعات ، بل یکفی ما لو اتّصل بالکرّ ، ثمّ انقطع بدون ورود جمیع الکرّ فیه ؟

والذی یظهر من کلام المصنّف هو اعتبار الإلقاء وذلک بمقدار الکر دفعة .

وتحقیق الکلام فیه ، وإثبات ما هو الحقّ یتوقّف علی تعیین المبنی فی مسألة الامتزاج ، وهکذا مسألة تقوّی السافل بالعالی ، فمن ذهب إلی اعتبار الامتزاج فی التطهیر ، وتقوّی السافل المتنجّس بالعالی ، فلا وجه لأن یشترط الإلقاء ، لأنّه

ص:180

مع فرض وجود الإلقاء إن لم یمتزج بذلک ، فلا یطهر ، فالأولی عنده حصول شرطه ، وهو الامتزاج ، بأی طریق اتّفق ، ولو بعلاج مصنوعی کالید والخشب مثلاً ، إلاّ أن یکون مراده من هذا التعبیر بیان لزوم الامتزاج ، فکأنّه أراد إفهام أنّه بالإلقاء یحصل هذا الشرط .

لکنّه مخدوش ، أوّلاً : إذ لا یتوقّف حصول الامتزاج علی مجرّد الإلقاء ، لإمکان کثرة الماء المتنجّس ، وکونه أزید من الماء الطاهر ، وحینئذٍ لا یحصل الامتزاج بالإلقاء لجمیع الماء ، إلاّ أن لا نعتبر الامتزاج للجمیع ، بل نقول بکفایة حصول الامتزاج فی تطهیر الماء المتنجّس ولو فی بعض الماء ، وحینئذٍ لا داعی لإتیان لفظ یوجب ذلک .

وثانیاً : لم نعرف مصدر هذا القید الوارد فی کلامه ، وإن کان الظاهر من کلام المصنّف _ فی بحث الماء المتغیّر ، التدافع وهنا الإلقاء والدفعة _ هو اعتبار الامتزاج ، وبرغم ذلک فإن لم نعرف مصدر هذا القید الوارد فی کلامه ، من لا یعتبر الممازجة ولا یقول بإلقاء الکر دفعة ، هو المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» .

کما أنّ من لم یشترط الامتزاج ، ولم یقل بتقوّی السافل بالعالی ، بل یذهب إلی لزوم تساوی سطح المائین ، فإنّ علیه أن یقول بلزوم الإلقاء حتّی یکون بواسطة حصول التساوی للمائین من جهة السطح وصدق الوحدة بعد الإلقاء مطهراً ، فما لم یصل إلی هذه المرتبة لم یحصل الطهارة .

قلنا : بأنّ اشتراط الامتزاج _ خصوصاً إذا قلنا باعتباره لجمیع الماء _ مغنٍ عن هذا القید ، إذ لا امتزاج مع الجمیع إلاّ مع تساوی السطح وصیرورة المائین ماءً واحداً ، کما لا یخفی . وأمّا لو لم یشترط ، کما هو المفروض ، فیمکن اعتبار الإلقاء ، لحصول التساوی بذلک ، إلاّ أنّه لا ینحصر به ، بل لو حصل اتّصال بین المائین فی الحوضین وتساوی سطحهما کان بینهما حاجباً فرفع الحاجب ،

ص:181

وصارا ماءً واحداً ، فإنّه یصدق علیه العنوان وتحصل الطهارة بذلک ، من دون حاجة للإلقاء أصلاً کما لا یخفی .

مع أنّه لو کان العالی أزید من کر ، فحصل الامتزاج ببعضه ، وبقی العالی بعد حصول الامتزاج علی کریته فهو مطهر قطعاً . وأمّا لو لم یتغیّر الامتزاج _ کما قوّینا عدم اعتباره ، واستفدناه من أخبار الباب من صحیحة ابن بزیع ، وقلنا بتقوّی السافل المنفعل بالعالی العاصم _ فلا إشکال فی عدم اعتبار الإلقاء ، بل یعدّ الاتّصال کافیاً للطهارة .

الجهة الثانیة : فی أنّه هل یعتبر فی الماء العاصم أن یکون أزید من الکرّ أو یکفی ذلک ؟ لأنّه مقدار من الماء إذا أصاب المتنجّس ینفعل مقدار سطح جدار الماء الطاهر بالملاقاة ، فإذا کان الباقی بعد ذلک کرّاً فیعصمه وإلاّ فلا ، وإنْ کان المجموع کرّاً ،

فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس

ولکنّه مخدوش أوّلاً : من جهة أنّه لا یعقل أن یتنجّس سطح جدار الماء الطاهر ، بل الأمر عکس ذلک ، إذ المفروض کون المجموع کرّاً وعاصماً ، کما أنّ الید المتنجّس إذا لاقته تطهر ، فهکذا الماء المتنجّس ، والالتزام بالتأثیر من جانب المتنجّس دون المعتصم أمر عجیب ، والحال أنّ المعتصم أولی بالرعایة والتقدّم .

وثانیاً : ولو سلّم ذلک فإنّه لابدّ من الالتزام بالزیادة علی الکرّ فی جمیع الموارد التی اُرید تطهیر النجس بالکر ، إذ بالملاقاة ینفعل مقدار من الماء المماس للنجس ، فبذلک ینقص عن الکر ، واللازم باطل قطعاً ، لمنافاته مع أخبار الکر الدالّة بقوله : «الماء إذا کان قدر کر لا ینجسه شیء» فالملزوم مثله .

فالحقّ کفایة مقدار الکر لتطهیر الماء المتنجّس ، وإن کان المتنجّس سافلاً ولم یتحقّق الإلقاء بل حصل الاتّصال بینهما .

الجهة الثالثة : وهو اعتبار الدفعة الموجودة فی کلام المصنّف قدس سره والعلاّمة

ص:182

والشهید فی «التذکرة» و«الدروس» ، وإنْ نقل صاحب «المدارک» عن العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» من حصول الطهارة بالتواصل بین الغدیرین ، إذا کان أحدهما کراً ، حیث یفید عدم اعتبار الدفعة .

ولکن یمکن الدفاع عن کلام العلاّمة بأنّه یلتزم باعتبار الدفعة عند اختلاف سطح المائین ، وکون المطهر عالیاً لا مطلقاً حتّی فی صورة التساوی .

وکیف کان فقد نسب الشهید فی «الروضة» اعتبار الدفعة إلی المشهور بین المتأخِّرین . فالأولی حینئذٍ صرف الکلام فی الوجوه التی ذکرت ، لاعتبار الدفعة ولو إجمالاً .

فالأوّل : أن یکون الوجه فی اعتبارها هو حصول الامتزاج ، الذی هو شرط فیه کما صرّح بذلک المحقّق الخوانساری فی «حاشیة الروضة» .

وفیه : أنّه قد عرفت من الإشکال فی بحث الإلقاء عدم صحّته من وجهین :

أوّلاً : من عدم کلیّته فی تمام الموارد ، ولعدم الملازمة بین الدفعة والامتزاج إنْ اعتبرنا الممازجة فی جمیع الماء ، ومن حصول الشرط ولو بمعنی الدفعة لو التقی بالممازجة ، ولو فی الجملة .

وثانیاً : قد عرفت أنّ المحقّق الثانی مع عدم قوله بشرطیة الممازجة ، ذهب إلی ضرورة الإلقاء والدفعة .

الثانی : أن یکون الاعتبار بلحاظ التحرّز عن صورة اختلاف سطح الماء الطاهر مع الماء المتنجّس ، حیث أنّه لابدّ من الدفعة فی ذلک ، ولا یکفی مجرّد الاتّصال .

وفیه أوّلاً : هذا لا یصحّ إلاّ علی القول بعدم تقوّی السافل المتنجّس بالعالی المعتصم ، مع أنّ الحقّ خلافه .

وثانیاً : إنّه یصحّ علی فرض لزوم الممازجة ، وإلاّ فإنّ من لا یعتبر ذلک ویقول بالتقوّی المذکور ، فإنّه لا یحتاج إلی اعتبار الدفعة . مضافاً إلی أنّه کیف یستثنی

ص:183

صورة تساوی سطح المائین ، فإنّه لا معنی له إلاّ بالاتّصال لمن یقول بکفایته ، دون من یقول بالامتزاج لمن یذهب إلی الممازجة ، وذلک واضح .

الثالث : أن یکون الوجه فی اعتبارها ، هو وجود نصّ فیه وتصریح فی الأصحاب کما ادّعاه المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» ، وأورد علیه صاحب «المدارک» بأنّا لم نقف علی نصّ ، ولم نطّلع علی أحد یدّعیه وینقله ، أمّا تصریح الأصحاب إذا لم یکن مستنده نصّ فلیس بحجّة ، لکن أورد صاحب «الجواهر» قدس سره علی «المدارک» بقوله : إنّ عدم الوجدان لا یدلّ علی عدم الوجود ، إذ یعدّ المحقّق بمنزلة الإرسال ، ویجبره عمل الأصحاب .

هذا ، ولکن الإنصاف کما علیه المحقّق الآملی قدس سره فی «المصباح» : أنّ الإرسال لا یثبت إلاّ بوجود نصّ بألفاظه مرسلاً ، لا ما یدّعی وجوده دون نصّ ثابت .

ولکن أقول : إنّ دعواه لا یخلو عن مسامحة ، لأنّه إذا وجد عین النصّ ، ووجدنا عمل الأصحاب بحیث یوافق ذلک فهو ینجبر ، ولعلّه من جهة إمکان کشف ذلک عن الاستناد فی الجملة ، إذا لم یکن فی ذلک نصّ غیره .

نعم ، إشکاله بأنّ شهرة القدماء هی الجابرة لا المتأخِّرین ، فی غایة المتانة ، وأمّا تحسینه لتوجیه المحقّق الهمدانی للنصّ ، بکون المراد هو النصّ الوارد فی ماء الحمّام ، فمّما لا وجه له ، لوضوح عدم استفادة اعتبار الدفعة فی ماء الحمّام ، إذ لا یکون الماء الموجود فی المادّة مندفعاً علی ماء الحیاض أصلاً ، بل یکون وروده عادةً تدریجیّاً ، کما لا یخفی .

فالأظهر عدم وجود نصّ إلاّ ما اُستفید من القواعد المتداولة بین الفقهاء .

الرابع : کون وجه الاعتبار ، هو الإجماع علی حصول التطهیر بها ، إذ مع الشکّ فی حصول الطهارة بدون الدفعة ، یکون المرجع استصحاب النجاسة والاحتیاط .

وأورد علیه الشیخ الأعظم قدس سره بأنّ حصول الطهارة بدون الممازجة لم یکن

ص:184

إجماعیّاً ، بل الإجماع قائم علیها .

وقد أورد المحقّق الآملی قدس سره علی الشیخ الأعظم ، بإمکان الجواب للخصم بأنّ حصول الدفعة بدون الامتزاج أیضاً لیس بإجماعی فی الطهارة .

وفیه : أنّ الشیخ لم یقصد حصول الدفعة بلا امتزاج ، بل مقصوده أنّ مجرّد حصول الدفعة _ کما اشترطه المستدلّ فی کلامه _ لا یثبت الإجماع علی الطهارة ، إلاّ أن ینضمّ إلیه الامتزاج أیضاً ، فحینئذٍ یحصل الإجماع علی الطهارة ، لأنّه القدر المتیقّن من توافق کلمات القوم ، کما لا یخفی .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم العثور علی دلیل یدلّ علی حکم وجوب الإلقاء دفعة ، ولذلک تری عدم التمسّک بهذه التعابیر فی استدلالات المتأخّرین وفتاویهم .

اقول: والذی یخطر بالبال ، هو القول بکفایة الاتّصال ، وصدق الوحدة العرفیّة ، بلا فرق بین تساوی المائین سطحاً أو اختلافهما ، وبلا فرق بین إلقاء الکر علیه دفعة أو تدریجاً ، مثل اتّصال الحیاض الصغار بالکر والمخزن بواسطة الأنابیب ، کما هو المتعارف فی زماننا هذا ، بحیث یصدق عرفاً اتّصاله بالکر ، فإنّه یطهر لولا وجود المانع فی الماء القلیل من التغیّر مثلاً .

وقد یمکن الاستدلال علیه بأخبار ماء الحمّام حیث ینزّل بمنزلة الجاری ، إذا کانت له مادّة ، ومن الواضح أنّه لا خصوصیّة للحمّام بحیث لو حصل الاتّصال فی غرفة تسمّی بالحمّام لحکم بطهارة الماء فیها وإن لم یکن فی البیت الکذائی فلا ، حتّی یکون الحکم فی الحمّام أمراً تعبّدیاً ، إذ هو بعید جدّاً . فحینئذٍ لا إشکال فی أنّ کیفیّة التطهیر فی الحیاض الصغار لا یکون إلاّ بالاتّصال بما فی المادّة بواسطة الأنابیب أو بواسطة السواقی الصغیرة ، فهکذا یکون فی غیر الحمّام من نظائره . والمحکم فی مثل هذه الموارد هو العرف حیث یری الاتّصال . فعلی هذا التقدیر ، صارت الأقسام کلّها داخلة فی حکم المسألة من ورود الکرّ علی القلیل ، أو

ص:185

ورود القلیل علی الکر ، أو کان بین سطحیهما تساویاً ، أو برفع الحاجب بینهما وحصول الاتّصال . إلاّ أنّه یعتبر فی ورود القلیل علی الکر أن یکون علی نحو تصدق فیه الوحدة العرفیة مع الماء العاصم ، لأنّه إذا لم یکن کذلک ، وکان النجس عالیاً واندفع إلی الأسفل فإنّ العالی لا یطهّر السافل حینئذٍ ، لأنّ بالتدافع لا یمکن حصول السرایة والاعتصام . نعم ، إذا صدق علی المائین وحدة عرفیة فإنّه یحکم بالطهارة . فما أفتی به السیّد قدس سره فی المسألة الثالثة بعدم طهارة المتنجّس باتّصاله مع الأسفل وإن کان کراً صحیح ، ومن هنا وافقه أغلب المعلّقین والمحشّین لکتابه . فظهر من ذلک أنّه لو کان الماء المتنجّس فی العلو والطاهر فی الأسفل وکان بینهما مانع ثمّ اندفع العالی علی السافل فإنّه یطهر بالاتّصال لصدق الوحدة العرفیة بینهما ، إذ لا یساعده العرف بأن یحکم فی ماء واحد بحکمین مختلفین من الطهارة والنجاسة .

فی تتمیم الماء المتنجّس کرّا

فثبت بذلک أنّ إطلاق کلام السیّد قدس سره لیس بجیّد ، بل لابدّ أن یقیّد بأنّ العالی لا یطهر بوروده علی الأسفل إذا لم یصدق الوحدة العرفیة بینهما ، وإلاّ یطهّره .

کما ظهر ممّا ذکرنا حکم ما لو کان الماء الطاهر فی الأسفل ولکنّه اختلط مع النجس نتیجة لتدفّقه علیه کالنافورة ، فإنّه یوجب تطهیره إذا صدق بذلک الوحدة العرفیّة ، وإلاّ فیصعب الحکم بطهارته فی بدایة الأمر وابتداء اتّصاله ، خاصّة إذا کان الاندفاع والدفق عبر انبوب دقیق لا یتدفّق منه الماء إلاّ نزراً یسیراً .

کما ظهر أنّ اتّصال الماء النجس العالی مع الماء الطاهر الواقع فی الأسفل بصورة النبعان یطهره ، إذا کان النبع من مادّة کمادّة الجاری ، فلا وجه لتقیّدها بالکریة ، لما قد عرفت منّا فی محلّها من عدم کریتها فی الجاری ، وهکذا یکون فی المقام خلافاً للعلاّمة هناک ، حیث اعتبر الکریة ، وأمّا إذا لم یکن النبع إلاّ عن مادّة محدودة لا طبیعیّة ، فلا إشکال فی حصول التطهیر بها مع وجود الکریة فیها ، وإلاّ فلا أثر لها .

ص:186

ولا یطهر بإتمامه کرّاً علی الأظهر (1).

(1) والأقوال فیها ثلاثة :

الأوّل : النجاسة مطلقاً ، کما علیه المشهور ، لاسیّما المتأخّرین منهم ، بل لم نجد خلافاً من المعاصرین ، فلاحظ کلام السیّد قدس سره فی «العروة» ومن علّق علیها .

الثانی : عدم النجاسة مطلقاً ، وهو صریح کلام الحلّی وابن إدریس ، وظاهر إطلاق جماعة .

الثالث : التفصیل بین الطهارة ، إذا کان المتمّم بالکر ظاهراً ، والنجاسة إذا کان نجساً ، وهذا هو الظاهر من کلام السیّد المرتضی ، وابن حمزة فی «الوسیلة» ، بل قد نسب إلی الشیخ فی «المبسوط» . فی تتمیم الماء المتنجّس کرّا

ثمّ لا یخفی أنّ المتمّم کراً مشتمل علی أقسام :

إذ قد یکون کلا المائین المتواصلین نجساً ، أو أحدهما نجساً والآخر طاهراً ، فهو أیضاً علی قسمین بلحاظ المتمّم والمتمَّم ، کما أنّ فرض المتمّم مثلاً قد یکون ماءً طاهراً أو متنجّساً ، أو عیناً نجساً ، کما قد یکون ماءً مطلقاً ، وآخر ماءً مضافاً ، بشرط أن یخرج عن إضافته بعد الدخول فی المتمّم (بالفتح) .

هذه فروض المسألة ، وهی بجمیعها مشترکة فی الاستدلال والمناقشة إلاّ ما شذّ وندر ، ولذلک نتعرّض للاستدلال علی جمیعها باستدلال واحد ، وإن کان فی بعضها زیادة کلام نذکره فی محلّه .

فلنتعرّض أوّلاً لأدلّة من یقول بعدم الانفعال ، والجواب عن أدلّتهم ، وبه یظهر الجواب عن القول بالتفصیل ، فیثبت المطلوب وهو النجاسة ، فنقول:

قد استدلّ ، أو یمکن أن یستدلّ علی عدم الانفعال مطلقاً ، أو بالتفصیل بوجوه :

الوجه الأوّل : الخبر المرسل النبوی ، کما نقله الحلّی فی «السرائر» بقوله : (هذا

ص:187

ممّا نقله المخالف والمؤالف ، وهو قوله صلی الله علیه و آله : «إذا بلغ الماء کراً لم یحمل خبثاً _ أو لم یحمل نجاسة » _ کما فی «المبسوط» . الظاهر أنّ بلوغ مقدار الکر موجب لعدم الانفعال ، بلا فرق بین الدفع والرفع ، وینجبر ضعف سنده بالشهرة) .

الوجه الثانی : العمومات والإطلاقات الموجودة مثل قوله صلی الله علیه و آله : «خلق اللّه الماء طهوراً لم ینجسه شیء» .

أو قوله : «الماء یطهِّر ولا یطهر» ، حیث أنّ إطلاقهما یشمل طهارة الجمیع ، إلاّ ما خرج مثل الماء القلیل الذی لم یتمّم بالکریة .

الوجه الثالث : دعوی السیّد المرتضی ، والشیخ فی «المبسوط» الإجماع علی طهارة الماء الذی کانت فیه النجاسة ثمّ بلغ الکر ، ولم یعلم أیّهما تقدّم علی الآخر ، فلولا الحکم بطهارة الماء المتمّم بالطهارة کراً لما یحصل الإجماع علی طاهریّته .

الوجه الرابع : دعوی الملازمة بین الدفع والرفع فی الکریة ، أی کلّما کان الکر دافعاً عن النجاسة فهکذا یکون رافعاً أیضاً للنجاسة الموجودة ، والمفروض أنّ الدفع هنا ثابت ومسلّم ، فکذلک یکون الرفع أیضاً .

الوجه الخامس : بعد التنزّل عن جمیع ما ذکرنا ، نقول : إنّ مقتضی استصحاب نجاسة الماء المتمِّم (بالکسر) مثلاً هو نجاسة جمیع الماء ، ومقتضی استصحاب طهارة الماء المتمَّم (بالفتح) هو طهارة الجمیع ، فیتعارضان ، وهکذا عکسه خصوصاً مع ملاحظة الإجماع القائم علی عدم إمکان کون الماء الواحد مشتملاً لحکمین من الطهارة والنجاسة ، فنرجع إمّا إلی العمومات الفوقانیة الواردة کما أشرنا إلیه ، أو إلی العمومات التی استدلّ بها المحقّق الخوئی فی «التنقیح» مستفیداً من الأخبار الفارقة بین ما إذا تغیّر الماء بالطعم والریح فینجس ، وإلاّ فلا ، والذی قد خرج منه بالخصوص الماء القلیل غیر المتمّم کرّاً ، فیبقی الباقی تحته .

أو إلی قاعدة الطهارة من قوله : «کلّ شیءٍ لک طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» .

ص:188

بل وهکذا فیما إذا کان الماءان المتواصلان نجسین أیضاً ، وصارا کراً ، إذ یجری استصحاب النجاسة فی کلا الطرفین ، فیحکم بالنجاسة حتّی بعد الاتّصال وصیرورته کرّاً .

إلاّ أنّ دلیل الکریة یدفعهما ، فیحکم بالطهارة من جهة ومن جهة قاعدة الطهارة .

هذا ویمکن المناقشة فی جمیعها :

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ النصّ الذی ادّعاه لم یوجد فی جوامعنا الروائیة بهذا التعبیر أصلاً ، إلاّ ما عرفت سابقاً من التعبیر بأنّ (الماء إذا کان قدر کر لم ینجسه شیء) أو (لا ینجّسه شیء) ، بل لم ینقل من العامّة العمل علی طبقه ، إلاّ عن ابن حی وهو زیدی منقطع المذهب ، کما ادّعاه المحقّق قدس سره فی «المعتبر» ، والعجب من الحلّی رحمه الله العمل بذلک الخبر ، مع أنّ مبناه عدم حجّیة الخبر الواحد .

وثانیاً : لو سلّمنا ورود الحدیث ، وجبره بالشهرة ، مع القطع بخلافه ، وبرغم ذلک فإنّنا نقول بعدم دلالته علی المطلوب أصلاً ، لأنّ ظاهر قوله لم یحمل هو تجدّد الفعل لا ما هو الحاصل فی السابق ، أی یدلّ علی الدفع فقط دون الرفع ، أو هو مع الدفع ، مع عدم إمکان الجمع بینهما بلحاظ واحد وکلام فارد ، لأنّ الرفع یکون فیما فرض وجود النجاسة قبله ، بخلاف الدفع حیث یمنع عن الوجود ، فکیف یمکن الجمع بین ما هو الموجود وما هو المعدوم ، إلاّ أن یستعمل فی لفظ مشترک معنوی ، أی یستعمل فی معنی جامع ، والمفروض انتفاءه هنا .

وتوهّم أنّ معنی (لم یحمل خبثاً) هو أنّه لا یتّصف کما نقل عن المحقّق الخوئی فی «التنقیح» ، مضافاً إلی کونه خلاف الظاهر ، أنّه لا یرفع الإشکال والمحذور إذا لاحظنا ما ذکرناه سابقاً . فصار الحدیث من حیث الدلالة ، کصحیح زرارة الوارد فیه : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(1) مختصّاً بصورة الدفع .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:189

نعم یمکن أن یکون حکم الرفع مستفاداً من أدلّة خاصّة ، وفی موارد مخصوصة .

وأمّا الوجه الثانی : فلما قد عرفت منّا کراراً تبعاً للشیخ الأکبر قدس سره وغیره ، عدم کون الإطلاقات فی صدد بیان هذه الجهة ، ولا کیفیّة التطهیر ، کما نرد بذلک عن ما ذکره الخوئی من العمومات بأنّ الظاهر من تلک الأحادیث بیان أنّ التغییر موجب للنجاسة ، وأمّا کونه علّة منحصرة فقط دون غیره ، حتّی یفهم منه العموم ، ویخرج منه ما دلّ الدلیل بخصوصه علی انفعاله فلا .

وأمّا الوجه الثالث : ففیه أنّه یمکن أن یکون دعوی الإجماع علی طهارة الماء المشکوک بالملاقاة للنجاسة والکریة تقدّماً وتأخّراً لوجهین آخرین :

أحدهما : ما ذکره المحقّق الآملی قدس سره هو أنّ وجه الحکم بالطهارة کان من جهة استصحاب عدم الملاقاة للنجاسة إلی زمان الکریة .

لا یقال : إنّه معارض مع استصحاب عدم بلوغه کراً إلی زمان الملاقاة .

لأنّه یقال : بأنّ الأثر الذی یُراد ترتّبه علیه ، هو انفعال الماء الذی لایترتّب علی عدم بلوغ الماء کرّاً إلی زمان الملاقاة ، الذی هو أمر عدمی ، بل إنّما یترتّب علی کون الملاقاة وقعت قبل بلوغ الکریة ، وهو لا یمکن إحرازه بأصالة عدم بلوغ الماء کراً إلی زمان الملاقاة ، إلاّ علی القول بالأصل المثبت ، من باب عدم انفکاک عدم الکریة حین الملاقاة عن وقوع الملاقاة حین القلّة ، انتهی کلامه .

فتکون الطهارة حینئذٍ من جهة ذلک الأصل .

ثانیهما : ملاحظة تعارض استصحاب عدم کلّ مع وجود الآخر ، کما هو کذلک فی الأصل الجاری بین الحادثین الذی نجهل تاریخ تقدّمهما وتأخّرهما ، فبالتعارض یسقط ، فیکون المرجع قاعدة الطهارة ، فلا ارتباط بما ذکره المستدلّ من عدم انفعال المتمّم الطاهر للمتنجّس ، وهو واضح .

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّا نقول لا مثبت لهذه الدعوی أصلاً ، نعم یمکن استفادة

ص:190

ذلک من الأدلّة الواردة فی الموارد المختلفة ، وأمّا دعوی إمکان دلالة مثل الحدثین وأمثالهما علی الملازمة بینهما ، فهو ممّا لا دلیل علیه .

مضافاً إلی ما عرفت من عدم إمکانه من دالّ واحد بعنوانین .

مضافاً إلی عدم وجود دلیل یشمل صورة الدفع فی المقام أی المتمّم کراً ، کما لایخفی .

وأمّا الوجه الخامس : فإنّه أوّلاً : مبنیٌّ علی صحّة دعوی الإجماع المذکور ، مع أنّه فی غیر صورة وحدة المائین من جهة الامتزاج والاستهلاک باطل قطعاً .

أمّا صحّة الأوّل : لأنّه بالامتزاج یتداخل کلّ جزء مع آخر ، فلا یصحّ دعوی اختلاف الماء من جهة الحکم من الطهارة والنجاسة ، فدعوی عدم استنکاره عن «الجواهر» بعیدة جدّاً ، إذ لا یقبل الذوق السلیم بأن یحصل الغسل لمن اغتسل فیه مع حصول النجاسة لبدنه .

وأمّا بطلانه فی غیرها ، لما قد عرفت من ذهاب السیّد قدس سره إلی عدم نجاسة الماء الوارد علی النجاسة ، بل ما عرفت من ذهاب العمّانی قدس سره إلی عدم انفعال الماء القلیل ، کاشف عن عدم وجود الإجماع هاهنا .

هذا ، مع أنّه یمکن أن یُقال بوجود ذلک فی الماء المتغیّر الذی کان متّصلاً بالکر ، ولم یذهب التغیّر بعد فی ناحیة أصلاً ، فإنّ الماء کان واحداً مع وجود الاختلاف فی الحکم من الطهارة والنجاسة .

وثانیاً : عدم وجود التعارض هاهنا ، لأنّ استصحاب النجاسة فی الماء المتّصف بذلک _ سواء کان متمِّماً أو متمَّماً _ یقتضی نجاسة جمیع الماء حتّی الطاهر منه ، لأنّ مقتضی بقاء النجاسة تنجّس ما یلاقیه ، إذا کان قلیلاً ، وهذا بخلاف استصحاب الطهارة فی الآخر ، حیث لا یقتضی طهارة جمیع الماء ، ولا یکون ذلک أثره .

ص:191

نعم ، هو أثر حصول الکریة ، بانضمام الطاهر للنجس ، فإثبات الطهارة بواسطة الکریة به لا یکون إلاّ أصلاً مثبتاً ، فحینئذٍ لا یکون الأصل الجاری هنا إلاّ استصحاب النجاسة ، بلا وجود معارض له ، فهو یؤیّد قول المشهور .

هذا ، مضافاً إلی أنّ الملاقاة هنا تکون علّة لمعلولین ، وهو التنجیس والکریة .

واحتمال أن یکون أحدهما مقدّماً علی الآخر ، حتّی یکون طولیّاً ، کما احتمله بعض ، یعنی بأن تکون الملاقاة موجباً للتنجیس ابتداءاً ، ثمّ تحصل الکریة ، لا یخلو عن إشکال ، لأنّ الظاهر کما أنّ الاتّصال بین المائین موجب لحصول النجاسة ، هکذا موجب لحصول الکریة ، إلاّ أن یشترط فی الکریة من الامتزاج وصدق الوحدة وأمثال ذلک ، فحینئذٍ قد یمکن حصول الترتّب والتعقّب بین النجاسة والکریة .

فعلی المختار من کونهما فی عرض واحد ، فمع ذلک نقول : أنّه یحکم فی المورد بالنجاسة ، لأنّ المحمول لابدّ أن یکون بعد فرض وجود الموضوع ، فی قوله : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجّسه شیء» ، فحینئذٍ یشترط فی عدم حصول الانفعال لزوم تقدّم الکریة علی الملاقاة للنجاسة ، وهو هنا مفقود ، ولذلک یکون قول المشهور هو الأقوی .

مضافاً إلی وجود إطلاقات دلیل انفعال الماء القلیل بالملاقاة ، الشامل لجمیع هذه الأقسام ، وقد خرج عنه خصوص ما اُحرز کونه کراً فلاقی بعده النجاسة ، ویبقی الباقی تحته .

فی حکم الماء المشکوک کرّیّتة

بل قد استدلّ علی القول المشهور ، بالأخبار الواردة فی نجاسة غسالة ماء الحمّام ، مثل حدیث ابن أبی یعفور ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ ، قال : «وإیّاک أن تغتسل من غسالة الحمّام ، فإنّ فیها تجتمع غسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی ، والناصب لنا أهل البیت فهو شرّهم ، فإنّ اللّه تبارک وتعالی لم یخلق

ص:192

وما کان منه کراً فصاعداً لا ینجس ، إلاّ أن تغیّر النجاسة أحد أوصافه (1).

ماء الکرّ وأحکامه

خلقاً أنجس من الکلب ، والناصب لنا أهل البیت لأنجس منه»(1) .

ومن الواضح أنّه لو کان الماء الذی بلغ الکر وصار طاهراً فلا وجه للمنع عن الاغتسال بتلک الغسالة ، إلاّ لکونها نجسة ، کما یشعر بذلک التعلیل بنجاسة الناصبی .

اللّهم إلاّ أن یقال : لعلّ منعه کان من جهة منع الماء المستعمل للخبث فی استعمال الحدث ؟

لکنّه مع ملاحظة التعلیل بعید جدّاً ، ولذلک لم یشر إلیه أحد من المستدلّین بهذا الحدیث ، کما یستبعد احتمال کون الماء المجتمع أقلّ من الکر .

فبعد هذه الأدلّة ، وتضعیف أدلّة القائلین بالطهارة بما قد عرفت ، لا یبقی حینئذٍ وجه للقول بالتفصیل فیما بین کون المتمّم طاهراً أو نجساً ، غایة الأمر کان الأمر بالثانی من جهة أوضح ، کما هو واضح لا خفاء فیه .

(1) وأمّا حکم عدم تنجّس الکر بالنجاسة ، فهو أمر مسلّم ومتّفق علیه بین العلماء ، وعلیه الإجماع بکلا قسمیه ، بل قد یدلّ علیه صریح أخبار الباب فإنّ بعضها معتبرة مثل خبر محمّد بن مسلم ، فی حدیث : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(2) . وغیر ذلک من الأخبار ، فهذا لا کلام فیه .

کما أنّ ظاهر کلام المحقّق ، هو کون النجاسة إذا کانت سبباً لحصول التغیّر یوجب النجاسة دون المتنجّس ، إلاّ أن یرید الاستناد إلی النجس ولو مع الواسطة ، لکنّه بعید عن ظاهر الکلام .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:193

والحکم بعدم انفعال الکر بالملاقاة ، قد عرفت أنّه إجماعی ، ولا خلاف فیه إلاّ عن المفید وسلاّر ، حیث یوهم ظاهر کلامهما خلافه ، إلاّ انّه غیر معلوم ، إذ لعلّهما أرادا ماء الحیاض والأوانی ، فطهارة الکر بعد الملاقاة ومطهریّته ثابتٌ ولا تردید فیه . وإنّما الکلام فی الماء الذی شکّ فی کریته ، فهل یحکم بالانفعال بالملاقاة _ کما علیه الشیخ الأنصاری قدس سره ، وتبعه بعضهم _ أم لا ینفعل به فیکون طاهراً ، أو لا یکون مطهّراً للخبث الواقع فیه ، بخلاف ما لو استعمل علی نحو الماء القلیل فیکون مطهّراً بخلاف الحدث فإنّه مطهّر له ، لکونه طاهراً ، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره ، وتبعه السیّد فی «العروة» فی المسألة السابعة وإن اختلط استحباباً بالاجتناب ، وأکثر المحشّین موافق لما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره ؟ فلا بأس بالإشارة إلی أدلّة الانفعال المستفادة من کلام الشیخ وغیره ، والجواب عنهما ، حتّی یظهر الحقّ إن شاء اللّه تعالی .

وقد استدلّ علی الانفعال بوجوه وهما :

الوجه الأوّل : أن یثبت الانفعال من قاعدة المقتضی والمانع .

تقریب الاستدلال علی ما ذکره الشیخ قدس سره : ظاهر النصّ والفتوی کون الکریة مانعة عن نجاسة الماء ، أمّا النصّ فلأنّ المستفاد من الصحیح المشهور : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء» هو أنّ الکریة علّة لعدم التنجّس ، ولا نعنی بالمانع إلاّ ما یلزم من وجوه العدم ، فمقتضی بعض الأدلّة مثل قوله : «خلق اللّه الماء طهوراً لا ینجسه شیء» ، وأن یفید أنّ العلّة شرطاً فی النجاسة للماء ، علی أنّ القلیل قد خرج عن عمومه ، فلابدّ من إحرازها فی الحکم ، فعند الشکّ فیها لابدّ من الرجوع إلی العمومات ، إلاّ انّه لمّا کانت أخبار الکر دالّة علی کونه مانعاً ، ونفس الملاقاة سبباً ، بل هذه الأخبار بنفسها دالّة علی هذا المعنی ، حیث أنّ الخارج منها هی القلّة ، وهی أمر عدمی باعتبار ، فعلیها یرجع الأمر فی النهایة إلی

ص:194

مانعیّة الکثرة التی هی مفاد الأخبار الکثیرة ، فکان اللازم تقیید الماء فی هذه الأخبار بالکثرة ، وجعل الکثرة جزءاً داخلاً فی موضوع الماء المحکوم بعدم الانفعال ، فتلک العمومات لیست من قبیل ما کان عنوان العام مقتضیاً للحکم ، وعنوان المخصّص مانعاً .

هذا کلّه مضافاً إلی ما دلّ بعمومه علی انفعال الماء ، خرج منه الکر ، مثل قوله : فی الماء الذی دخلته الدجاجة الواطئة للعذرة ، أنّه لا یجوز التوضئ منه ، إلاّ أن یکون کثیراً قدر کر من الماء ، الواقع فی خبر علیّ بن جعفر عن أخیه(1) .

وقوله : (فیما شرب منه الکلب إلاّ أن یکون حوضاً کبیراً یستقی منه(2) الواقع فی حدیث أبی بصیر . فإنّ ظاهرهما کون الملاقاة للنجاسة سبباً لمنع الاستعمال ، وأنّ الکریة عاصمة . ومن هنا یظهر أنّه لابدّ من الرجوع إلی أصالة الانفعال عند الشکّ فی الکریة شطراً أو شرطاً )، انتهی کلامه .

وفی کلامه قدس سره إشکال من جهة الکبری والصغری ، من عدم تمامیّة أصل القاعدة ، إذ لا نسلم کونها قاعدة عقلائیة ، کما ذهب إلی ما ادّعیناه نفس الشیخ الأکبر قدس سره فی الاُصول علی ما حُکی عنه . ثمّ علی تقدیر صحّتها لا تکون منطبقة علی ما نحن فیه .

فأمّا الدعوی الاُولی : فلأنّ خلاصة الکلام فیها هو أن یُقال : إنّ وجه تأثیر المقتضی فی الکر هو لوجود المقتضی (بالفتح) لیس إلاّ من جهة تأثیر العلّة فی وجود المعلول ، ومن المعلوم أنّه لیست العلّة هنا هی المقتضی فقط ، إذ لیس البحث فی العلّة البسیطة ، بل الکلام فی العلّة المرکّبة ، لأنّ المفروض أنّه متی کان


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:195

المقتضی له شرطاً فإنّه یفید عدم وجود المانع ، فإذا کانت العلّة أمراً مرکّباً من هذه الاُمور ، أی من وجود المقتضی ووجود الشرط وعدم المانع ، فیرجع الکلام إلی أنّ إحراز وجود المعلول موقوفٌ علی إحراز تمام أجزاء العلّة ، من المقتضی ووجود الشرط وفقد المانع ، ولو بالعلم ، أو العلمی ، أو بأصل معتبر عند العقلاء ، فما دام لم یحرز عدم المانع ، لا تؤثّر العلّة فی وجود المعلول ، کما لا یؤثّر فیه إذا شکّ فی وجود الشرط ، أو شکّ فی وجود المقتضی . وهذا لیس معناه کون عدم المانع مؤثّراً فی تأثیر العلّة حتّی یقال : بأنّه کیف یمکن تأثیر العدم فی الأمر الوجودی وهو العلّة ، بل المقصود أنّ العلّة لا یمکن أن تؤثّر إلاّ فی ظرف وجود الشرط وفقد المانع ، هذا کلّه فی أصل القاعدة .

وأمّا الدعوی الثانیة : فلو سلّمنا تمامیّة القاعدة ، فهی لا تنطبق علی المورد ، لأنّ مستند هذا الکلام مبنیٌّ علی کون المستفاد من الأدلّة هو أنّ الکریة أمر وجودی ویکون مانعاً عن النجاسة ، والقلّة أمرٌ عدمیّ فیحکم بانفعال الماء ما دام لم یحرز المانع ، فیکون التقابل بین العلّة والکریة التقابل بین الوجود والعدم ، وإن لم یصرّح أنّه تقابل الإیجاب والسلب أو العدم والملکة ، والظاهر هو الثانی ، لو قلنا بما ذهب إلیه الشیخ لإمکان صیرورة القلیل کراً شأناً ، لکنّه مخدوش من أصله ، لأنّ الحقّ هو کون القلّة والکریة کلیهما أمران وجودیان ، کما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» تبعاً لصاحب «الحدائق» قدس سره ، وقد اعترف الشیخ أیضاً بذلک ، فعلی هذا کما أنّ الحکم بعدم الانفعال متوقّف علی إحراز عنوان الکریة ، کما ادّعاه الشیخ ، هکذا یکون فی طرف الانفعال ، فیکون الحکم به منوطاً بإحراز القلّة ، فلا ترجیح لأحدهما علی الآخر ، فیکون التقابل بینهما هو التضادّ ، فالحکم بالانفعال ما لم یحرز الکریة خالٍ عن الدلیل علی ما حقّقناه ، لأنّه لم یثبت القلّة أیضاً المتوقّف علیه حکم الانفعال أیضاً ، وهذا واضح لا غبار علیه .

ص:196

الوجه الثانی : هو التمسّک بالعمومات ، بأن یقال : إنّ مقتضاها انفعال الماء کلّه إلاّ ما خرج عنه بإحراز الکریة أو غیرها من المیاه العاصمة ، فإذا شکّ فی فرد أنّه کر أم لا ، فالمرجع إلی عموم أدلّة الانفعال بالملاقاة ، المستفاد من الخبرین السابقین .

هذا ، وفیه أنّ التمسّک بتلک العمومات فی الشبهة الموضوعیة ، یکون من باب التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة لنفس العام ، وهو ممنوع کما لایخفی .

وأمّا إنْ کان الشکّ فی الشبهة الحکمیّة من جهة الشبهة فی مفهوم الکر أو شرائطه ، من الامتزاج وتساوی السطوح وغیرهما ، فحینئذٍ وإنْ کان ذلک من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص لا العام ، والحقّ الموافق للتحقیق جریانه وجوازه ، إلاّ أنّه سیأتی عن قریب أنّه لیس لنا عموم کذلک یدلّ علی نجاسة کلّ ماء إلاّ ما أحرز فیه الکریة ، فانتظروا إنّی معکم من المنتظرین .

الوجه الثالث : هو التمسّک بالأصل ، وهو أصالة عدم الکریة ، لأنّه یشک فی أنّه هل وجدت الکریة لهذا الماء أم لا ؟ فالأصل العدم ، فیترتّب علیه الانفعال بالملاقاة ، إذ هو أثر شرعی مترتّب علیه ، فلازمه ثبوت الانفعال ، لأنّ الملاقاة حصلت مع الذی لم یکن کرّاً . هذا ،

وفیه أوّلاً : إنّه إن اُرید من أصالة العدم ، هو العدم المحمولی ، أی العدم الأزلی الذی هو مفاد لیس التامّة ، فإنّه وإن کان له حالة سابقة عدمیّة ، إلاّ أنّه بالاستصحاب وإثبات عدم الکریة لهذا الماء _ الذی کان عدمه نعتیّاً ، أی مفاد لیس الناقصة _ یکون أصلاً مثبتاً ، إذ هذه الملازمة تثبت بحکم العقل ، ولا یکون الاستصحاب بالنسبة إلی تلک الآثار بحجّة .

وإن اُرید استصحاب نفس العدم النعتی ، أی عدم الکریة لهذا الماء ، فهو وإن کان یثبت هذا الحکم ، إلاّ انّه غیر جار ، لاختلال أحد أرکانه ، وهو عدم العلم بالحالة السابقة ، لأنّه لم یکن هذا الماء موجوداً فی زمان یعلم بعدم کریته ، حتّی

ص:197

یشک فیه فی الحال حتّی یستصحب .

وثانیاً : إنّه لا یبعد أن یُقال بأنّ الکریة لیست من الأوصاف والحالات الواردة علی الماء ، حتّی یستصحب عدمها ، بل الکریة عبارة عن وجود السعة لطبیعة الماء ، فعلی هذا التقدیر لا وجه لاستصحاب العدم النعتی ، فیکون الاستصحاب حینئذٍ منحصراً فی استصحاب العدم الأزلی ، فإجراءه وإثبات عدم وجود الکر فی الماء الموجود فی المکان مثبت ، کما لایخفی .

الوجه الرابع : وهو الذی ذکره المحقّق النائینی قدس سره وجماعة ، وهو أنّه إذا علّق حکم فی دلیل علی عنوان وجودی ، لابدّ فی إثبات ذلک الحکم عند العرف بحسب الدلالة الالتزامیة العرفیّة من إحراز ذلک العنوان ، وذلک لیس بمعنی أنّ الموضوع فی الحکم فی لسان الدلیل أُخذ علی نحو الإحراز جزءاً للموضوع أو تمامه ، ولا بمعنی وجود الملازمة بین ثبوت الحکم الواقعی مع الثبوت فی الحکم الظاهری أیضاً ، بل أنّ العرف یفهم من تعلیق الحکم علی عنوان وجودی هذا الوجه ، کما فی قوله : «لا یحلّ مال امری ءٍ مسلم إلاّ بطیب نفسه» ، حیث یفهم أنّ الملاک فی جواز التصرّف فی مال الغیر هو إحراز رضا صاحبه ، وهکذا فی حلّیة أکل اللحوم ، حیث قد عُلّقت حلّیتها علی عنوان التذکیة فی قوله تعالی : «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ . . . وَمَا أَکَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَکَّیْتُمْ»(1) . فلابدّ من إحرازها ، وإنْ کان الإحراز طریقاً إلیه عند العرف ، إلاّ أنّه لابدّ من تحصیله ، فهکذا یکون فی المقام ، إذ الحکم بعدم الانفعال فی قوله : «لم یُنجسه شیء» قد عُلّق علی ما کان قدر کر ، فلابدّ من تحصیل ذلک بالإحراز ، فما لم یحرز لم یحکم بالطهارة .


1- سورة المائدة : الآیة 3 .

ص:198

یرد علیه بوجهین :

الأوّل : إنّه یلزم علی ذلک أنّه لو لاقی النجاسة الماء المشکوک کریته ، یحکم بنجاسته ، ولو کان فی الواقع کراً ، مع أنّه لیس کذلک قطعاً ، فیفهم أنّ الکریة وعدمه فی الانفعال وعدمه أمر واقعی لا إحرازی .

ولا ینتقض بمثل التذکیة والأصل فیها ، لأنّ المشکوک فیها هو عدم التذکیة ، فیلزم الحکم بعدمها عند الشکّ فیها ، هذا بخلاف ما نحن فیه حیث أنّ الأصل عند الشکّ هنا هو الطهارة لا النجاسة ، کما لا یخفی .

کما لا یستبعد دعوی کون وجه صحّة الطلاق عند العدلین هو العدالة المحرزة لا الواقعیّة ، کما لا یبعد دعوی أن تکون الحلیّة للتصرّف فی مال الغیر هو واقع الرضا ، لا ما علم أنّه کذلک ، کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی أوّل بحث الفضولی من بیع «المکاسب» .

هل یعتبر تساوی السطح فی عاصمیّة الکرّیة؟

والثانی : إنّا لا نضایق عن کون ثبوت الطهارة فی هذا الدلیل بقوله : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء ، معلّقاً علی ثبوت الکریة ، ولکنّه لا ینافی إثبات الطهارة للماء المشکوک أیضاً من دلیل آخر ، وهو قاعدة الطهارة مثلاً ، أو استصحاب الطهارة ، وأمّا کون الوصف المعلّق علیه فی ذلک الدلیل هو العلّة المنحصرة فی الحکم بالطهارة ، فممنوع جدّاً ».

لا یقال : لا وجه لذکر الکرّیة للحکم بالطهارة حینئذٍ .

لأنّا نقول : بإمکان أن یکون لشدّة الاهتمام بافهام أنّ الکرّیة تکون من أحد الأفراد العاصمة عن الانفعال ، کما لا یخفی .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ ما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره وغیره من المتأخّرین والمعاصرین حقّ وصحیح ، وهو طهارة الماء المشکوک کریته بملاقاة النجاسة ، وعدم کونه مطهّراً للخبث ، لعدم إحراز ما یوجب التطهیر تطهیره عن

ص:199

الخبث ، علی نحو الماء القلیل ، أی بصورة الدفع . وهکذا رفع الحدث ، فإنّه یجوز لأنّ شرطه طهارة الماء ، وهو موجود ومحرز بالأصل أو بالقاعدة علی المفروض .

نعم ، استصحاب بقاء الخبث یوجب الحکم ببقاء النجاسة للمغسول به ، کما أنّ استصحاب طهارة الماء المغسول به یحکم بطهارته ، وهو غیر مستنکف لإجراء کلّ أصل ظاهری علی طبق مقتضاه ، ونظائره موجودة فی الموارد الکثیرة المشابهة لما نحن فیه .

وإن ثبت الدلیل علی ما ادّعیناه ، فنقول : إنّ منطوق قوله : «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء» ، هو ثبوت العاصمیّة للماء الکرّ ، فیکون مفهومه عدم ثبوت العاصمیّة لماء هو أقلّ من کرّ ، سواء اُحرز عدم الکریة أو شکّ فیها فإنّه لا یکون عاصماً عن الانفعال قطعاً ، إلاّ أنّ التمسّک بعموم هذا المفهوم لإثبات الانفعال المشکوک یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة له ، وهو غیر جائز ، فهذا یرجع إلی عموم قوله : «خَلَق اللّه الماء طهوراً لم یُنجّسه شیء» ، حیث یشمل بالإطلاق اللفظی صورة المشکوک ، فیحکم بالطهارة لذلک الماء ، فما لم یحرز القلّة یمکن التمسّک به علی إثبات الطهارة .

مضافاً إلی ما قد عرفت من استصحاب الطهارة أو قاعدتها ، کما عرفت توضیحها فلا نعید .

فحینئذٍ قد یُقال : لو اغتسل المُحْدِث الذی کان بدنه نجساً ، بمثل ذلک الماء کان غسله صحیحاً ، ولکن یبقی بدنه علی نجاسته ، لأنّ الماء کان طاهراً فیوجب صحّة غسله ، ولم یکن مطهّراً فتبقی نجاسته .

لکنّه لا یخلو عن إشکال ، لأنّ شرط حصول الغُسل ، هو الطهارة للبدن حال الغُسل ، فإذا فُرض بقاء نجاسة البدن حال الغسل فحینئذٍ لا یمکن تحصیل الغسل مع ذلک الوصف . نعم ، صحّة الغسل والوضوء مسلّم ، إذا کان البدن طاهراً ، کما هو

ص:200

واضح لا یحتاج إلی ذکره .

ثمّ یأتی البحث عن أنّ الکرّیة هل هی عاصمة فی صورة تساوی سطح الماء المجتمع ، أو عاصمیّته مطلقاً ، أی سواء کان متساویاً أو مختلفاً ، وسواء کان الاختلاف علی نحو الإنحدار أو التسنم أو التسریح ؟ فلا بأس بالإشارة إلی هذه الصور منفردة بعضها عن بعض ، وبیان حکم کلّ واحد منها ، مستقلاًّ . فنقول :

الصورة الاُولی : هی ما لو کان سطح الماء مساویاً ، فلا إشکال فی عاصمیّة الکرّ حینئذٍ ، ولا خلاف لأحدٍ من الفقهاء إلاّ عن صاحب «المعالم» ، والشیخ المفید فی «المقنعة» وسلار فی «المراسم» ، حیث حکموا بنجاسة الحیاض والأوانی وإن کان کثیراً بمقدار کر ، والظاهر أنّهم حکموا بذلک بملاحظة الأخبار الدالّة علی أنّ الماء الموجود فی الحیاض والأوانی ینفعل بالملاقاة .

لکن الإنصاف أنّ ملاحظة لسان تلک الأدلّة ولفظ (الإناء) الواردة حیث لا یستعمل غالباً إلاّ فیما هو أقلّ من الکرّ ، یفید أنّه لا ینبغی الإشکال فی کون المراد غیر ما هو مقدار الکرّ ، کما لا یخفی علی المتأمِّل .

وکیف کان ، فهذا هو القدر المتیقّن من الأدلّة الدالّة علی عاصمیّة الکرّ ، فلایمکن الخروج عن مثل ذلک فی أدلّة الکرّ .

الصورة الثانیة : هی ما کان الاختلاف علی نحو الانحدار ، بحیث کان شبیهاً بالمتساوی ، فإنّ حکمها أیضاً کحکم الصورة الأولی من جهة صدق الوحدة العرفیّة فی ذلک ، وشمول الأدلّة المذکورة أیضاً ، کما لا یخفی .

الصورة الثالثة : هی ما لو کان الاختلاف علی نحو التسنّم أو التسریح ، نظیر الماء المنحدر عن المیزاب أو الجدول القائم ، مع عدم کون کلّ واحد من العالی والسافل کرّاً علی حدة . ففی تقوّی کلّ منهما بالآخر مطلقاً ، أو عدمه مطلقاً ، أو التفصیل بین السافل بتقوّیه بالعالی بخلاف العکس ، أو التفصیل فیما بین صدق

ص:201

الوحدة العرفیة فیما بینهما فیتحقّق بکلیهما ، وما لا یصدق الوحدة العرفیة فلا ، ولو کان سطح الماء مساویاً ، وجوه وأقوال :

فقد ذهب الشهید الأوّل قدس سره فی «الدروس» ، والشهید الثانی فی «الروض» ، وصاحب «المدارک» إلی الأوّل علی حسب ظاهر کلامهم .

واستدلّوا بإطلاق حدیث الکر من قوله علیه السلام : «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء ، لکلتا الحالتین من الاختلاف ، بل وهکذا إطلاق کلمات الأصحاب ، وفتاویهم ، حیث لم یقیّدوا الکریة بلزوم استواء سطوح الماء ».

هذا ، ولکن یشکل ما ذکروه من عدم الإطلاق لذلک الدلیل ، بحیث یشمل ما لو یصدق علیه الوحدة العرفیة ، نظیر ما مثّلوه بما إذا کان ماء فی إبریق علی منارة وکان تحت الإبریق ثقباً ضعیفاً اتّصل بماء واقع فی الحوض تحته ، فإنّ مجموع هذه المیاه الموجودة فی الإبریق ، وما فی الثقب ، وفی الطریق ، والحوض لا یکون واحداً عرفاً ، وإن کان متّصلاً بعضها مع بعض ، فلا إشکال فی انصراف الدلیل عن مثله .

کما أنّ دعوی إطلاق کلمات الأصحاب لا یخلو عن إشکال ، لأنّهم بین من لم یتعرّض لصورة المسألة أصلاً ، وبین من صرّح بعدم الکفایة ، کما ستعرف ، إنْ شاء اللّه .

وذهبَ غیرُ واحدٍ إلی الثانی ، وهو المحکیّ عن بعض کلمات العلاّمة والشهید وصریح المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» ، حیث قال ما خلاصته : إنّ اشتراط الکرّیة إنّما کان مع عدم تساوی سطوح الماء ، وإلاّ یصدق کون المجموع کرّاً ، ویکفی بذلک.

واستدلّ لهم تارةً : بقاعدة أصالة الانفعال بملاقاة النجاسة ، إلاّ ما خرج ، للشکّ فی صدق العنوان مضافاً إلی عدم شمول إطلاق حدیث الکرّ لذلک أیضاً .

واُخری : بما ورد فی لزوم کون ماء الحمّام عن مادّة ، حیث أنّه ینصرف _ ولو

ص:202

بحکم الغلبة _ إلی ما کانت کرّاً ، ومفهومه عدم الاعتصام إذا لم یکن المجموع کرّاً ، فإذا ثبت عدم الاعتصام فیه ، ففی غیره یکون بالإجماع والأولویّة ، لأنّ الحمّام أولی بالتسهیل من غیره .

وثالثة : بأنّ قوله : «ماء الحمّام لا ینجّسه شیء إذا کانت له مادّة» ، یفهم منه أنّ المادّة هی العلّة للاعتصام ، لأنّها تکون علی حدّ الکرّ ، فلازمه عدم الاعتصام إذا کانت أقلّ من کرّ ، فیکون الماء القلیل الواقع فی الحیاض مع المادّة منفعلاً ، فیتعدّی منه إلی غیره ، یعنی کلّ قلیل له مادّة کرّ لا ینفعل ، وما لا یکون کذلک ینفعل ، ولو کان المجموع دون المادّة کرّاً .

وفیه ما لا یخفی ، أمّا عن الأوّل : فمن عدم أصل یقتضی الانفعال فی کلّ ماء حتّی یشمل لمثل ذلک .

وأمّا عن الثانی : فبأنّ ماء الحمّام _ قد عرفت سابقاً _ إنّما یکون بحسب کونها فی الخارج شاملاً للکر أو أزید منه ، وأمّا اعتبار الکریة فی أصل المادّة فغیر معلوم ، فمن ذلک یظهر الجواب عن الثالث أیضاً .

وذهب جمعٌ من المحقّقین إلی التفصیل وهو الوجه الثالث ، وهو تقوّی السافل بالعالی دون العکس ، وهو المنسوب إلی «التذکرة» وکثیر من المتأخِّرین والمعاصرین من المحشّین علی «العروة» ، وکان ذلک من جهة صدق الاتّحاد فی السافل مع العالی .

هذا ، وفی «الجواهر» أنّه لا معنی للفرق فی صدق الاتّحاد وعدمه عرفاً بین الصورتین .

فأجاب الشیخ الأعظم قدس سره بأنّ المراد هو الفرق بینهما من جهة الحکم لا الموضوع ، حتّی یقال بعدم صحّة ذلک . وادّعی صاحب «مصباح الفقیه» أنّه لا استبعاد فی دعوی صدق الوحدة فی طرفٍ دون آخر موضوعاً لا حکماً ، لأنّه

ص:203

لیس أمراً عقلیّاً حتّی یکون مستحیلاً .

ولکن الإنصاف أنّ ما ذکره صاحب «المصباح» لا یخلو عن مسامحة ، لأنّ العرف إذا شاهد صدق الوحدة مع هذا الاختلاف من جهة العالی والسافل ، فلا یفرّق بین العالی والسافل فی ذلک ، وإنْ لم یصدق الوحدة بواسطة الاختلاف المذکور ، فالفرق بین صورتیه مشکلٌ کما لا یخفی .

والحقّ الموافق للتحقیق هو القول الرابع ، من التفصیل بین صدق الوحدة وعدمه ، فی الانفعال وعدمه ، وذلک لوضوح أنّ الدلیل الوارد بأنّ «الماء إذا کان قدر کرّ لم ینجّسه شیء» موجّهٌ إلی العرف ، فإذا صدق عرفاً بأنّ مختلفی السطح یعدّ ماءً واحداً من جهة أنّ الوحدة الاتّصالیة مساوقة للوحدة الشخصیّة ، کذلک یکون بالنسبة إلی طرفیه بلا تفاوت أصلاً عرفاً فإنّه یثبت الحکم ویترتّب علیه الأثر ، کما لا یخفی .

وعلی هذا ، فربّ ماء یکون متساوی السطح ، ولیس عند العرف موضوعاً لصدق الوحدة ، کما لو کان الماء واقعاً فی الحوضین فی سطح واحد ، لکن کان الاتّصال بینهما بثقب صغیر ، یصعب صدق الوحدة علیه ، فحینئذٍ لا یکون عاصماً ومعتصماً .

کما أنّه ربّ ماء یکون فی سطوح مختلفة ، مع اتّصال بعضه ببعض علی نحو تصدق الوحدة ، نظیر ما لو کان الماء فی ظرف مستطیل بحیث یصدق لأعلاه مع أسفله أنّه ماء واحد ، وکان المجموع کرّاً ، فحینئذٍ یعدّ الماء معتصماً .

نعم ، یختلف الحکم من جهة النجاسة بالملاقاة فیما بین العالی والسافل ، حیث أنّه إذا لاقی عالیه یوجب نجاسة السافل دون العکس ، وذلک من جهة أنّ الحکم بالنجاسة کان من جهة السرایة ، ولا یتحقّق إلاّ من طرف العالی دون السافل ، وهذا غیر مرتبط بمسألة الاعتصام الذی کان محلّ الکلام ، لأنّ الملاقاة فی النجاسة مستلزمٌ للسرایة ، وهو لا یجتمع مع الدفع فی اختلاف سطح الماء ، فلا یُقاس ذلک بالاعتصام ، کما لا یخفی .

ص:204

ویطهر بإلقاء کرّ علیه فکرّ حتّی یزول التغیّر ، ولا یطهر بزواله من نفسه ، ولا بتصفیق الریاح ، ولا بوقوع أجسام طاهرة فیه تُزیل عنه التغیّر (1).

(1) فإنّ الکرّ المتغیّر الذی صار نجساً بذلک ، إذا اُرید إزالة النجاسة عنه لابدّ أن یکون بواسطة أحد الأفراد المعتصمة عن الانفعال ، وهی إلقاء الکرّ الطاهر علیه ، أو الاتّصال بالجاری ، أو المطر . ولعلّ ذکر (الکرّ) دون غیره فی کلام المصنّف کان من باب المثال ، لا لخصوصیّة فیه ، فعلی هذا التقدیر ، لو فرض تغییر جزء من ماء الحوض الذی هو بمقدار الکرّ دون جزء آخر منه هو أقلّ من الکرّ فحینئذٍ لو تمّمه من الماء القلیل ، فإنّه لا یوجب حصول الطهارة له ، لأنّ المفروض کونه نجساً بواسطة الماء المتغیِّر ، فصیرورته کرّاً لا یوجب طهارته ، حتّی یطهر الماء المتغیّر .

نعم ، إنْ کان کرّاً أو أزید فیوجب طهارة المتغیّر بعد زوال تغیّره بذلک ، کما لایخفی .

فی کیفیّة تطهیر الکرّ المتغیّر بالنجّس

فثبت ممّا ذکرنا أنّ زوال التغیّر بنفسه أو بعلاج غیر ما ذکر ، لا یوجب الطهارة ، وهذا ممّا لا خلاف فیه ، إلاّ عن «الجامع» للقاضی یحیی بن سعید حیث یقول بطهارته بزواله بنفسه ، وعن «نهایة» العلاّمة التردّد فیه ، مع أنّ المحکی عن «المنتهی» حکایة القول بطهارته بمجرّد زوال تغیّره عن الشافعی وأحمد ، من غیر نسبة إلی أحد من أصحابنا .

وفی «المدارک» و«المعتبر» : أنّه یقول بذلک کلّ من ذهب إلی طهارة المتمّم کرّاً ، لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

نعم ، إنْ کان دلیلهم هی المرسلة المشهورة : «إذا بلغ الماء کرّاً لم یحمل خبثاً» ، فحسنٌ ، حیث یکون ذلک دلیلاً لکلا الفرعین السابقین ، ولکن لعلّهم تمسّکوا فی

ص:205

المقام بإطلاقات النصوص لا بالمرسل فقط ، فلا ملازمة بینهما حینئذٍ ، کما لایخفی .

وقد استدلّ للطهارة بوجوه ثلاثة :

أحدها : کون عنوان النجاسة معلّقاً علی عنوان التغیّر حدوثاً وبقاءً ، فکما أنّ التغیّر یعدّ علّة لحدوث النجاسة یکون علّة لبقائها أیضاً ، فإذا زال طهر من عند نفسه ، فدلیل «إذا تغیّر فلا تتوضّأ ولا تشرب» الواقع فی خبری حریز وأبی بصیر(1) یدلاّن علی جواز الوضوء والشرب ، إذا زال تغیّره .

هذا ، لکنّه مدفوع بأنّ الظاهر کون هذه الأوصاف من العلّة المحدثة لعروض النجاسة لا المبقیّة ، لوضوح أنّ النجاسة والطهارة کالملکیّة والزوجیّة والرقیة ، إذا وجدت تبقی إلی أن یزیلها الرافع ، فیکون التغیّر علّة لحدوثها فقط ، کما هو واضح .

ثانیها : قد تمسّکوا بإطلاق المرسل النبوی : «الماء إذا بلغ کرّاً لم یحمل خبثاً»(2) ، حیث یشمل إطلاقه الأحوالی من حال التغیّر وعدمه ، فخرج التغیّر بحسب أدلّته فیبقی الباقی تحته ، وذلک لا یوجب التخصیص الافرادی ، بل یوجب التخصیص الأحوالی ، کما هو واضح .

فیجیب عنه أوّلاً : عدم شمول الحدیث لمثل الرفع ، بل شامل للدفع فقط نظیر الخبر الآخر القریب منه .

وثانیاً : إنّ إطلاق مثل هذه الأدلّة _ کما سیأتی فی توضیحه قریباً _ بالنسبة إلی الأحوال مشکل جدّاً .

ثالثها : قد تمسّکوا بحدیث ابن بزیع عن الرضا علیه السلام : «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه ، فینزح حتّی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 _ 3 .
2- علی ما نقله ابن إدریس الحلّی فی «السرائر» .

ص:206

له مادّة»(1) . بناءً علی أنّ لفظ «حتّی» للتعلیل لا الانتهاء والغایة ، فیکون المعنی : إنّ النزح کان لأجل حصول ذهاب الریح المطلوب لحصول الطهارة ، فحینئذٍ یحصل ذلک ولو من قبل نفسه .

والجواب عنه : إنّ الظاهر کون (حتّی) للانتهاء والغایة لا التعلیل ، کما احتمله الشیخ البهائی قدس سره ، وسیأتی توضیحه . مضافاً إلی أصالة الطهارة ، ولعلّ المراد قاعدة الطهارة لا استصحابها ، کما لایخفی .

والجواب : أنّه محکوم باستصحاب النجاسة ، الذی سیأتی توضیحه .

هذا تمام ما یمکن الاستدلال للطهارة .

وأمّا القول المشهور ، وهو النجاسة ، فیمکن الاستدلال له بوجوه :

الوجه الأوّل : التمسّک باستصحاب النجاسة ، لأنّه بعد زوال التغیّر یشکّ فی نجاسته وعدمه ، والأصل بقاءها .

لا یقال : إنّه غیر جار هنا ، لعدم اتّحاد الموضوع فی المستصحب ، لأنّ الموضوع فی السابق کان هو کان هو المتغیّر ، والآن زال التغیّر عنه ، فلا یجری فیه الاستصحاب .

لأنّا نقول : یشترط فی الاستصحاب وحدة الموضوع عرفاً لا علی نحو الدقّة العقلیة ، فلا إشکال فی عدم الجریان لتعدّد الموضوع ، کما أنّه إذا لوحظ الموضوع بحسب فهم العرف من لسان الدلیل ، فإنّه حینئذٍ یمکن جریان الاستصحاب إنْ أخذ التغیّر تارةً فی لسان الدلیل علی نحو الشرط ، بأن یقال : الماء إذا تغیّر ینجس ، حیث یمکن القول بکون الموضوع هو الماء ، أمّا التغیّر فیعدّ من أحواله .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:207

واُخری علی نحو الموضوع ، کما لو قیل : المتغیّر نجس ، فإنّه حینئذٍ یمکن عدم جریانه ، لأنّه إذا خرج عن التغیّر فقد تغیّر الموضوع ، فلا یجری فیه الاستصحاب . هذا ، بخلاف ما لو کان المناط فی وحدة الموضوع والمستصحب هو فهم العرف ، وارتکازهم فحینئذٍ إذا أطلق العرف ورأی الموضوع واحداً برغم تبدّل بعض الصفات فإنّه لا إشکال فی جریان الاستصحاب ، وهذا هو المختار فی باب الاستصحاب ، وما نحن فیه یکون من هذا القبیل ، کما لا یخفی .

لا یقال : الاستصحاب هنا غیر جار ، لأنّ الشکّ فی المقتضی ، راجع فی الواقع إلی أنّه هل التغیّر یعدّ موجباً للنجاسة دائماً ، حتّی مع زوال التغیّر ، أو أنّه جعل مقیّداً ، أی إذا کان التغیّر موجوداً فهو موجب للنجاسة ، بخلاف ما لو زال فلا اقتضاء له حینئذٍ ؟

لأنّا نقول ؛ أوّلاً : إنّه مبتن علی عدم جریان الاستصحاب مع الشکّ فی المقتضی ، والتحقیق فی ذلک موکول إلی محلّه فی الاُصول .

وثانیاً : لو سلّمنا ذلک ، فلا یرد هذا الإشکال هنا ، لأنّ تصنیف النجاسة والطهارة کالملکیّة والزوجیّة من الاُمور التی إذا تحقّقت فلا تزول إلاّ برافع ، نظیر ما لو لاقی النجس شیئاً وأدّی إلی تنجیس الملاقی فإنّه لا ترتفع نجاسته إلاّ برافع خارجی ، وهکذا فی المقام ، فلو سلّمنا عروض الشکّ فی البقاء وعدمه ، فلا إشکال فی جریان الاستصحاب هنا من جهة الشکّ فی عروض الرافع ، لا فی المقتضی ، یعنی یشکّ فی أنّ زوال التغیّر مع بقاء وصف الکرّیة ، هل هو موجب لحصول الطهارة أم لا ؟ فیستصحب النجاسة بلا إشکال .

کما أنّ الإشکال فی جریان الاستصحاب بأنّه یجری فی الأحکام الکلّیة فی حین أنّه غیر جار _ کما ذکره المحقّق الخوئی فی «التنقیح» _ مخدوش من أصله ، والبحث عن حقیقته موکول إلی محلّه فی الاُصول .

ص:208

فثبت من جمیع ما ذکرنا صحّة جریان الاستصحاب هنا ، لولا وجود دلیل اجتهادی جار فی المقام ، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

الوجه الثانی : إنّ النجاسة قد وردت بوارد وهو التغیّر ، فلا یزول إلاّ بوارد آخر ، وهو الماء المعتصم کالکریة وأمثالها .

هذا ، ولکن هذا بالاستحسان أشبه ، وبالتأیید ألیق ، کما قاله صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» ، فلا یحتاج إلی إطالة کلام فی ذلک .

الوجه الثالث : صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع(1) عن الرضا علیه السلام حیث أنّ الظاهر کون کلمة (حتّی) فیها للانتهاء لا التعلیل ، لأنّ الثانی یستعمل فیما لایمکن استمرار ما قبلها لما بعدها ، کما فی قولنا : «أسلم حتّی تَسلم» حیث لایمکن استمرار الإسلام بدون استمرار السلامة ، هذا بخلاف ما لو کانت للغایة ، فإنّه یصحّ الاستمرار لما قبلها بلا استمرار بعدها ، کما فی المقام ، حیث یمکن استمرار النزح بلا تحقّق الذهاب ، فجعلها للغایة أولی من جعلها للتعلیل .

فعلی هذا یکون النزح بواسطة حصول الذهاب ، لأنّ وجود المادّة یوجب نشر الماء فیه ، فالنتیجة یُحصِّل الذهاب ، فیفهم أنّه کان بواسطة دخول ماء من المادّة فیه ، وهو عاصمٌ ، فبدونه لا تحصل الطهارة ، کما لایخفی .

الوجه الرابع : الإطلاق الاحوالی فی خبری حریز وأبی بصیر(2) ، وابن بزیع بقوله : «فإذا تغیّر فلا تتوضّأ ولا تشرب» ، أو قوله : «إلاّ أن یتغیّر ریحه وطعمه» فإنّه یدلّ علی أنّه موجب للنجاسة ، سواء زال أم لا ، نظیر إطلاقه فی أنّه أشرقت علیه الشمس أم لا ؟


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:209

والکرّ ألف ومائتا رطل بالعراقی علی الأظهر (1).

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة ذلک ، لأنّ ظاهر الدلیل هو إثبات النجاسة عند وجود هذا الوصف ، وأمّا دلالته علی البقاء حتّی لما بعد الزوال فلا ، لاسیّما هذا الوصف الذی وقع فی طول الوصف الموجود ، وهو التغیّر ، بخلاف الحالات الواقعة فی عروض ذلک الوصف ، مثل إشراق الشمس وعدمه ، وبالنسبة إلی البرودة والحرارة وأمثال ذلک .

(1) إنّ البحث یقع من جهات متعدِّدة :

تارةً : من حیث المقدار ، هل هو ذلک ، أو أقلّ منه وهو ستّمائة رطل کما فی بعض الأخبار ؟

فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

واُخری : فی بیان المراد من الرطل ، هل هو العراقی أو المدنی أو المکّی ؟

وثالثة : فی بیان مقدار نفس الرطل من حیث الوزن ؟

وأمّا الکلام فی الجهة الاُولی : فبعد مراجعة الأخبار یظهر أنّ المذکور فیها _ سواء کانت بالصراحة أو غیرها _ یکون علی أنواع ، ففی بعضها صریح بکون الکرّ هو المذکور فی کلام المصنّف ، وکما فیما رواه الشیخ صحیحاً عن ابن أبی عمیر ، ومرسلاً عن عدّةٍ بقوله : عن بعض أصحابنا عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «الکرّ من الماء الذی لا ینجسه شیء ألف ومأتا رطل»(1) .

وهو من جهة الاسناد معتبرة علی المشهور ، و من جهة أنّ مراسیل ابن أبی عمیر کمسانیده ، خلافاً للخوئی ، لأنّه قال قد شوهد نقله عن غیر موثوق ولو للاشتباه والخطأ فی الاعتقاد ، وهو لا یخلو عن مسامحة ومناقشة ، والحقّ مع


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:210

المشهور ، إذ الاحتمال المذکور یجری فی حقّ جمیع من الرواة کما لایخفی ، مضافاً إلی کون ذلک مقتضی عنوان أصحاب الإجماع ، والتصحیح بهم .

وأمّا من جهة الدلالة ، فواضح أنّه یدلّ بالصراحة علی مقدار الکرّ ، وهو ألف ومأتا رطل ، دون الإشارة إلی نوعیّة الرطل .

وفی بعض آخر : یدلّ علی خلاف ذلک ، وهو کما فی الصحیح المروی عن محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث : «إنّ الکرّ ستمائة رطل» الحدیث(1) .

وصدره ، فی حدیثٍ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له : الغدیر فیه ماء مجتمع تبول فیه الدواب وتلغ فیه الکلاب ، ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان قدر کرّ لم ینجسه شیء»(2) . فسنده ودلالته من حیث المقدار تامّان لا کلام فیها . فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

ومثله فی الدلالة خبر آخر لابن أبی عمیر ، قال : «روی لی عن أبی عبداللّه ابن المغیرة یرفعه إلی أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّ الکرّ ستّمائة رطل»(3) .

ثمّ إنّه لا إشکال فی إطلاق الرطل علی الرطل العراقی فی بعض الأخبار ، کما فی خبر الکلبی النسّابة فی حدیثٍ قال : «فقلت : وکم کان یسع الشن ماء ؟ فقال : ما بین الأربعین إلی الثمانین إلی ما فوق ذلک . فقلت : بأیّ الأرطال ؟ فقال : أرطال مکیال العراق»(4) .

کما أطلق الرطل علی المدنی والمکّی ، علی ما هو الشائع المعروف فی ألسنة الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین ، ویقولون بأنّ مقدار المدنی یکون أزید من العراقی بثلث ، والمکّی یکون أزید منه بضعف ، فعلی هذا التقدیر یکون ألف


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:211

ومأتا رطل عراقی ، مساویاً لستّمائة مکّی وتسعمائة مدنی ، فالأولی ملاحظة الأخبار بعضها مع بعض مع غضّ النظر عن کلمات الفقهاء ، ومقتضی الجمع یفید کون المراد من الرطل فی خبر ابن أبی عمیر هو العراقی ، وفی خبر محمّد بن مسلم هو المکّی ، إن کان ضعف العراقی ، لأنّه ورد فی خبر علیّ بن جعفر ، عن أخیه علیه السلام قال : «سألته عن جرّة ماء فیه ألف رطل ، وقع فیه أوقیة بول ، هل یصلح شربه أو الوضوء منه ؟ قال : لا یصلح»(1) .

فالخبر ینهی عن الوضوء والشرب عن ماء کان مقداره ألف رطل ، وحمله علی صورة التغیّر _ یعنی أنّه متنجّس من جهة التغییر بعد بلوغه ذلک المقدار _ بعید ، کما یستبعد أن یکون المراد من عدم الصلاح الکراهة . فیدلّ علی نجاسة الماء ألف رطل ، إذا وقع فیه أوقیة من البول ، فإنّ المراد وإن کان هو العراقی ، والمراد من خبر ابن أبی عمیر هو العراقی أیضاً فلا تعارض بینهما ، بل بینهما کمال الملائمة . کما لا یتعارض مع خبر محمّد بن مسلم إنْ کان المراد منه هو الرطل المکّی ، الذی قد عرفت اشتهار کونه ضعف العراقی ، إذ تکون حینئذٍ ستّمائة رطل مکّی مساویة مع ألف ومأتا رطل عراقی ، فهذا الجمع عرفی ، وموافق لدلالة الأخبار وفتاوی الفقهاء لأنّ المشهور منهم من المتقدِّمین وجمیع المتأخِّرین ذهبوا إلی ذلک ، خلافاً للسیّد المرتضی والصدوقین ، حیث حملوا خبر ابن أبی عمیر علی الرطل المدنی بحیث یکون مقداره _ بناءً علی الرطل العراقی _ هو ألف وتسعمائة رطل ، لما قد عرفت کونه أزید من العراقی بثلث ، کما یدلّ علی هذه الزیادة مکاتبة جعفر بن إبراهیم بن محمّد الهمدانی ، قال : «کتبتُ إلی أبی الحسن علیه السلام علی ید أبی : جعلتُ فداک إنّ أصحابنا اختلفوا فی


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 16 .

ص:212

الصاع ، بعضهم یقول الفطرة بصاع المدنی ، وبعضهم یقول بصاع العراقی ؟ قال : فکتب إلی : الصاع بستّة أرطال المدنی ، وتسعة أرطال العراقی ، قال : وأخبرنی أنّه یکون بالوزن ألفاً ومأتا وسبعین وزنة»(1) .

والوزنة بالکسر تعنی الدرهم ، فیکون الرطل العراقی پالذی هو تسع المجموع مائة وثلاثین درهماً ، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه تعالی .

ومثله فی بیان المقدار خبر علیّ بن بلال ، قال : «کتبتُ إلی الرجل علیه السلام أسأله عن الفطرة ، وکم تدفع ؟ قال : فکتب علیه السلام : ستّة أرطال من تمر بالمدنی ، وذلک تسعة أرطال بالبغدادی»(2) . فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

فبناءً علی ما ذهبوا إلیه یقع التعارض بین خبر علیّ بن جعفر الدالّ علی نجاسته بألف رطل ، وبین خبر محمّد بن مسلم بالطهارة للأزید من ستمائة ، فیدور الأمر حینئذٍ بین طرح أحدهما رأساً ، أو رفع الید عن ذلک المحمل ، والحمل علی أحد معانی المشترک اللفظی ، الذی یطابق معنی الآخر ، فلا إشکال فی تقدّم الثانی وأولویته ، کما لا یخفی .

نعم ، لا یتعارض حینئذٍ مع خبر ابن أبی عمیر ، لأنّهما متوافقان فی الحکم بالنجاسة مع الألف ، سواءً کان عراقیّاً أو مدنیّاً أو مکّیاً ، کمنا یقع التعارض بین خبری محمّد بن مسلم ، وعلیّ بن جعفر بالأولویّة ، ولو اُرید بالرطل فیهما المکّی ، وذلک واضح لا خفاء فیه ، لأنّه أزید من المدنی بثلث أیضاً .

هذا کلّه مضافاً إلی موافقة الجمع الأوّل لفتاوی الفقهاء ، بلا مخالفة للإجماع القطعی ، هذا بخلاف سائر المحامل ، فإنّه لو حمل الأخبار من حیث العمل علی


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب زکاة الفطرة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب زکاة الفطرة، الحدیث 2 .

ص:213

طبق خبر محمّد بن مسلم ، وهو ستّمائة رطل ، وحمل الرطل علی العراقی أو علی المدنی ، فیطرح خبر ابن أبی عمیر لما هو ألف ومأتا رطل ، فیلزم کونه مخالفاً للإجماع فی الأوّل ، ومخالفاً للمشهور فی الثانی ، وإن کان یقرب لما ذکره السیّد المرتضی والصدوقان ، وما احتمله شیخنا البهائی .

کما أنّ حمل خبر ابن أبی عمیر فی ألف ومأتا رطل علی المکّی ، أو علی المدنی یوجب مخالفة الإجماع أیضاً ، بناءً علی هذا الأولی فی الاستدلال هو حمل خبر محمّد بن مسلم علی المکّی ، وخبر ابن أبی عمیر علی العراقی ، ویوافق العمل علی طبق کلّ الأخبار ، لیصحّ علی ذلک حکم النجاسة الواقع فی خبر علیّ بن جعفر ، بواسطة ألف رطل ، بأن یکون المراد هو العراقی منه لا المدنی والمکّی .

وأمّا توجیه کون الرطل عراقیّاً فی خبر ابن أبی عمیر ، لکونه کان عراقیّاً ، وفی محمّد بن مسلم مکّیاً لکونه من طائفة بنی ثقیف وهم أهل الطائف ، فکأنّ الجواب کان علی طبق عرف السائل ، کما فی «الجواهر» لا یخلو عن استیناس ، ولکنّه لا یعدّ دلیلاً یمکن الاستدلال به ، لمشاهدة خلافه أیضاً فی بعض الأخبار ، مثلاً کان زرارة من أهل العراق وبرغم ذلک أجابه الإمام علیه السلام ، بقوله : «إنّ الوضوء بمدّ والغسل بصاع ، والمد رطل ونصف ، والصاع ستّة أرطال»(1) .

ومن الواضح أنّ ستّة أرطال مساویة للصاع المدنی لا العراقی ، لأنّه تسعة أرطال . فدخالة جنسیة السائل فی الجواب لا تعدّ قاعدة کلّیة فی جمیع الأجوبة ، مضافاً إلی إمکان الإشکال بأنّ الملاک فی الکلام هو عرف المتکلِّم لا المخاطب ، إلاّ أن یعلم أنّه لم یفهم فیفهمه بعرفه .


1- وسائل الشیعة : الباب 50 من أبواب الوضوء، الحدیث 1 .

ص:214

فمن جمیع ما ذکرنا فی الجهة الاُولی ، ظهر الکلام فی الجهة الثانیة ، وأنّ المراد من الرطل هو العراقی فی خبر الألف لابن أبی عمیر ، والمکّی فی خبر الستّمائة لما قد عرفت من موافقة المشهور ، وعدم مخالفته للإجماع المقطوع به بین الأصحاب . فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

هذا کلّه مضافاً إلی أنّ ما ذکرناه هو المناسب لما سیأتی من تحدید الکر بالمساحة ، سواء قلنا بثلاثة أشبار فی مثلها ، حتّی یکون الجمع سبعة وعشرین شبراً ، أو القول الآخر وهو ستّة وثلاثین ، أو أربعون شبراً ، بل فی «التنقیح» : نحن وزناه مکرّراً ، فبلغ مقدارهما علی ما یوافق بالمساحة لثلاثة أشبار .

هذا بخلاف ما لو قیل بکون المراد من الستّمائة هو العراقی ، فإنّه یوجب کونه أقلّ من تلک المقادیر بکثیر . نعم ، قد یتوافق مع قول الراوندی بأنّ ملاحظة الکرّ من حیث المساحة تفید أنّها عشرة أشبار ونصف ، کما لا یساعد مع تلک المقادیر حمل خبر الألف علی المدنی أو المکّی ، فهذا واضح بحمد اللّه .

وأمّا الکلام فی الجهة الثالثة : وهی فی بیان مقدار کلّ من الرطل العراقی والمدنی والمکّی ، فنقول : قد عرفت من مطاوی ما ذکرنا ، ومن مکاتبة جعفر بن إبراهیم تفصیلاً أنّ الرطل المدنی أزید من العراقی بثلث ، وظهر أنّ الصاع المدنی یکون تسعة أرطال بالعراقی ، وأنّه من جهة الدرهم تعادل ألف ومائة وسبعین درهماً ، فإذا قسّمناه علی التسع یصیر کلّ رطل عراقی معادلاً لمائة وثلاثین درهماً . هذا هو الصحیح کما علیه «الجواهر» والشیخ الأنصاری ، والمشهور .

فما ذکره العلاّمة فی زکاة الغلاّت فی «المنتهی» و«التحریر» بأنّ الرطل العراقی عبارة عن مائة وثمانیة وعشرین درهماً وأربعة أسباع الدرهم ، تبعاً لبعض أهل اللغة ، مثل «مجمع البحرین» و«المصباح المنیر» ؛ لیس بوجیه :

أوّلاً : لمخالفته مع کلامه قدس سره فی هذه المسألة فی «المنتهی» وفی زکاة الفطرة

ص:215

فی الثانی ، والمختار هو ما ذهب إلیه المشهور .

وثانیاً : لأنّه لا یمکن رفع الید عن دلالة صریح الخبر ، وکلمات الأصحاب بواسطة بعض قول اللغویّین ، مع احتمال أن یکون المقدار فی زمانه کان کذلک ، لکنّه بعید جدّاً .

والدرهم عبارة عن نصف المثقال شرعی وخمسه ، فکلّ عشرة دراهم تعادل سبعة مثاقیل شرعیة ، والمثقال الشرعی یعادل ثلاثة أرباع المثقال الصیرفی ، فکلّ مثقال صیرفی یعادل مثقالاً شرعیّاً وثلث .

والحاصل ممّا ذکرنا : أنّ کلّ رطل عراقی یعادل واحداً وتسعین مثقالاً شرعیّاً وثمانیة وستّون وربع المثقال الصیرفی ، فالکرّ علی رأی المشهور یعادل مئة وتسعة آلاف ومأتین مثقالاً شرعیّاً ، وبالمثاقیل الصیرفیة یبلغ إحدی وثمانین ألف وتسعمائة مثقالاً . وبالمنّ التبریزی المتعارف فی بلاد إیران فی زماننا هذا ، حیث حیث کلّ مَنّ یعادل تسعمائة وأربعین مثقالاً صیرفیّاً ، فیبلغ الکرّ بالمنّ مائة وثمان وعشرون إلاّ عشرین مثقالاً صیرفیّاً . وبالکیلو یکون الکرّ معادلاً لثلاثمائة وثلاث وثمانین کیلو وتسعمائة وستّة غرامات .

هذا تمام الکلام فی مقدار الکرّ ، علی حسب الموازین المتعارفة فی هذا الزمان . فنحن نوافق مسلک المشهور الذی قد ادّعی الإجماع علیه فی الفقه ، بل قیل أنّه لا خلاف فیه وإنْ خالف فیه السیّد المرتضی والصدوقان حیث ذهبا إلی تحدید الکرّ بألف ومأتا رطل بالمدنی لا العراقی ، لکن عرفت ضعفه وأنّه لا شاهد له من الأخبار ، وأمّا التمسّک بالاُصول هنا کما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره والشیخ قدس سره فی «طهارته» فمّما لا ضرورة لذکره ، لما قد عرفت تفصیل المناقشة فیه فی مشکوک الکریة فلا نعید ، ومن أراد الاطتلاع علیه ومعرفة الخلاف الواقع بین العَلمین المذکورین ، فلیرجع إلی محلّه .

ص:216

أو ما کان کلّ واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصفاً ، ویستوی فی ذلک میاه الغدران والحیاض والأوانی علی الأظهر (1).

فی مقدار الکرّ بحسب المساحة

(1) فإذا تبیّن مقدار الکرّ من جهة الکم المنفصل وهو الوزن ، وعرفت موافقتنا لمذهب المصنّف والمشهور ، فلنرجع إلی بیان مقداره بحسب الکم المتّصل ، وهو المساحة ، فنقول : الأقوال فی المسألة _ علی ما تتبّعناه من المتقدِّمین والمتأخِّرین _ ثمانیة :

الأوّل : وهو المشهور أو الأشهر _ علی ما ذکره المحقّق الهمدانی ، بل قد ادّعی علیه الإجماع فی «مصباح الفقیه» واختاره صاحب «الجواهر» والشیخ فی «طهارته» وصاحب «مصباح الفقیه» والسیّد فی «العروة» والعلاّمة البروجردی وکثیر من المتأخِّرین قدّس اللّه أسرارهم ، کما سیظهر لک إن شاء اللّه کونه أقوی عندنا _ ثلاث وأربعون شبراً إلاّ ثُمن شبر .

الثانی : کون الکرّ سبعة وعشرین شبراً ، وهو مختار العلاّمة والشهید والمحقّق النائینی والمحقّق الأردبیلی تبعاً للقمیّین _ وهما الصدوقان _ وقد نسب إلی البهائی ، بل هو مختار الحکیم والمحقّق الخوئی قدس سره ، بجعل المقدار الناتج من حاصل ضرب ثلاثة أشبار فی ثلاثة أشبار فی مثله من العمق بلا زیادة نصف ، والملاحظ زیادة التحدید علی القول السابق فی تمام أبعاده الثلاثة .

الثالث : کونه ستّة وثلاثین شبراً ، وهو الذی اختاره صاحب «المدارک» ، ومال إلیه المحقّق فی «المعتبر» من جعل المساحة ثلاثة أشبار طولاً وعرضاً فی أربعة عمقاً ، فحینئذٍ یبلغ مکسره ستّة وثلاثین .

ورابع : کونه ثلاثة وثلاثین شبراً وخمسة أثمان الشبر ونصف الثمن ، وهو من الأقوال المستحدثة عند المتأخّرین ، ذهب إلیه الحلّی قدس سره فی «دلیل العروة» من

ص:217

العمل علی ثلاثة أشبار ونصف عرضاً فی ثلاثة أشبار ونصف عمقاً علی نحو المستدیرة ، بتقریب قد تحمله من الضروب فی الدائرة .

الخامس : کونه مائة شبر ، کما ذهب إلیه ابن الجنید ، أی ما کان مکسره ومضربه ذلک ، ولم یوافقه أحد من الفقهاء بعده .

السادس : کونه بمساحة عشرة أشبار ونصف ، وهذا هو قول الراوندی قدس سره ، ولعلّه یوافق المشهور ومسلکهم ، علی احتمال سیجیء بیانه إن شاء اللّه .

السابع : قول بالتخییر بین العمل بکلّ واحد من الروایات الواردة فی الکرّ بحسب المساحة ، وهو الذی اختاره السیّد ابن طاووس قدس سره ولم یوافقه علیه أحد .

الثامن : هو أن یقال إنّ الکرّ ما کان من الماء بمقدار من الکثرة لو وقع شیء فی وسطه لم یتحرّک طرفاه ، وهو الذی اختاره الشلمغانی ، والمعروف عند الإمامیّة فساد مذهب الشلمغانی وآراءه .

هذا ما وجدناه من الأقوال ، فلنشرع حینئذٍ بذکر أدلّة المسألة .

أمّا مدرک المشهور ومستندهم ، فقد استدلّ بخبرین :

أحدهما : خبر حسن بن صالح الثوری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا کان الماء فی الرکی کرّاً لم ینجسه شیء ، وقلت : وکم الکرّ ؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف عمقاً فی ثلاثة أشبار ونصف عرضاً»(1) . فی مقدار الکرّ بحسب المساحة

هذا علی ما نقله «الکافی» والشیخ فی «التهذیب» ، ولکن فی «الاستبصار» زیادة فی الخبر بقوله : «ثلاثة أشبار ونصف طولها فی ثلاثة أشبار ونصف عمقها . . . إلی آخره» ، فعلی النسخة الثانیة تکون دلالته علی المطلب واضحاً من ضرب أحدهما فی الآخر بحیث یبلغ مضربه اثنی عشر شبراً مع ربع شبر ، ثمّ


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .

ص:218

یضرب ذلک الحاصل فی ثلاثة أشبار ونصف ، فیبلغ ثلاثة وأربعین شبراً إلاّ ثُمن شبر .

وقد أورد علی الاستدلال بهذا الخبر من جهات :

الجهة الاُولی : أنّه قد اعترض علیه فی «التنقیح» من حیث السند بضعف الحسن بن صالح ، ولعلّ وجهه کونه علی مذهب الزیدیة علی ما فی «جامع الرواة» ، وکان من أصحاب الباقر علیه السلام ، نقلاً عن «خلاصة» العلاّمة .

وفیه أوّلاً : إنّه کان من فقهائهم وأجلاّئهم ، کما عن العلاّمة البروجردی قدس سره ، بل قد نقل عن بعض الثقات المقاربین لعصره توثیقه ، فلا أقلّ کون تکون الروایة موثّقة کما عن «مصباح الفقیه» لا ضعیفة .

وثانیاً : لو سلّمنا ضعفها ، فینجبر بعمل الأصحاب والشهرة ، لأنّه معمولٌ بها کما فی «مصباح الفقیه» . هذا ولکنّه غیر معلوم ، لأنّه یشتمل علی الرکی ، فیمکن أن لا یکون عملهم إلاّ بروایة أبی بصیر الآتیة ، اللّهم إلاّ أن یقال _ کما هو المستفاد من کلام «الجواهر» قدس سره _ : أنّه مع الإجماع علی عدم عملهم بعنوان الکریة والدوران والرکی _ أی البئر _ لعدم اشتراط الکریة فیه ، فیحمل الخبر علی غیر المدور فیکون معمولاً به ، هذا ، لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

الجهة الثانیة : من جهة اضطراب المتن والدلالة ، لما قد عرفت من اختلاف الشیخ من حیث الزیادة فی «الاستبصار» المشتمل علی الأبعاد الثلاثة ، بخلاف نسخة «الکافی» و«التهذیب» ، فیوجب الإجمال والتردّد فیسقطه عن درجة الاعتبار .

وقد اُجیب عنه أوّلاً ، کما فی «التنقیح» : قد اُشیر إلی هذه الزیادة نقلاً عن نسخة وردت ذکرها فی الطبعة الأخیرة من «وسائل الشیعة» نقلاً عن «الکافی» و«التهذیب» . فی مقدار الکرّ بحسب المساحة

لکنّه غیر مسموع ، لأنّه قد نقلت هذه الزیادة عن «الاستبصار» عن جمیع

ص:219

الفقهاء المعاصرین ، وعن صاحب «الجواهر» والشیخ وغیرهم ممّن سبقهما ، فلو کان الأمر کما ذکر ، لکان المفروض وجود نسخة «وسائل الشیعة» المشتملة علی هذه الزیادة ، نقلاً عن «الکافی» و«التهذیب» عند أحدهم .

کما لا یبعد أیضاً ما نقل عن ابن المشهدی فی هامش «الاستبصار» أنّ الروایة غیر مشتملة علی تلک الزیادة فی النسخة المخطوطة لأنّه ینقل أنّه یمتلک نسخة من «الاستبصار» قد صحّحها والده ولیس فیها هذه الزیادة المدّعاة .

ولکن قد عرفت وجود هذه الزیادة فی جمیع نسخ «الاستبصار» المتداولة .

وثانیاً : ولو سلّمنا هذا ولکنّه لا یضرّ بالاستدلال ، لأنّ الأمر یدور حینئذٍ بین کون الزیادة فی «الاستبصار» صدرت خطاءً أو کانت النقیصة فی «الکافی والتهذیب» خطاءً ، فلا إشکال فی تقدّم أصالة عدم الزیادة علی أصالة عدم النقیصة ، لأنّ النقص کثیراً ما یتّفق فی النسّاخ ، کما هو الحال فی هذه الأزمنة فی أکثر الموارد ، بخلاف الزیادة فإنّ وقوعها فی غایة الندرة ، فحینئذٍ یکون الاعتبار علی ما فی نسخة «الاستبصار» .

نعم ، قد یرد الإشکال من جهة أنّ الکلینی رحمه الله قد اشتهر أنّه أضبط من الشیخ الطوسی رحمه الله فی کتابیه «الاستبصار» و«التهذیب» هذا أوّلاً .

وثانیاً : إنّ تدوین «الاستبصار» متأخّرٌ عن «التهذیب» ، بل قد أخذ أصله منه ، فحینئذٍ إذا لم تکن الزیادة فی أصله موجودة ، فلا معنی لوقوعها فی فرعه ، فغایته الإجمال والاضطراب ، وسقوطه عن الدلالة ، هذا کما فی «مصباح الهدی» للمحقّق الآملی قدس سره .

هذا ، ولکن برغم جمیع ذلک ، فأصالة عدم الزیادة فی مثل نقل الشیخ قدس سره تکون محکمة لما ذکروا ، وإن أمکن الاستیناس للخطأ من أنّ تصوّر مشابهته ذِکْر العرض والعمق لذکر الأبعاد الثلاثة أوجب توهّمه بذکر الثلاثة .

ص:220

لکن هذا بعید غایته عن مثل الشیخ قدس سره .

وکیف کان ، لا یخلو عن کلام وإشکال ، ولو فی الجملة ، بأن یزیل عن النفس الاطمئنان القوی فی الاستدلال به ، إلاّ بمعونة بعض الوجوه والمحتملات ، کما لا یخفی .

وثالثاً : لو سلّمنا سقوط الزیادة ، فإنّه یمکن الاستدلال به من جهة کون المراد من العرض هو السِّعة ، حتّی یشمل کلا البُعدین ، نظیر العرض فی قوله تعالی : «عَرْضُهَا کَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ»(1) .

الجهة الثالثة : اشتماله علی قرینة توجب عدم إمکان العمل علی طبقه ، هی لفظ (الکرکی) وهو بمعنی البئر ، الذی تکون فوهته مدوّرة . مضافاً لاشتماله علی ما لا یفتی به أحد إلاّ من شذ ، وهو لزوم کون عدم انفعال ماء البئر لأجل اشتماله لمقدار الکر ، مع أنّ الأصحاب یقولون بعاصمیّته من جهة المادّة لا من جهة الکریة کما فی الروایة . هذا ، مع أنّ لفظ (الکر) بحسب أصله مأخوذٌ عن مکیال العراق ، وهو کان مدوّراً ، فیؤیّد موافقته الکر أیضاً .

ولکن قد اُجیب عنه أوّلاً : بإمکان الحمل _ بانضمام إجماع الأصحاب من عدم العمل علی طبقه مجرّد کونه دائریّاً _ علی غیره ، لأنّه یلزم أن یکون مقداره بحسب المضرب فی المدور من ضرب بعدین منه ، لعدم وجود طول وعرض فیه حینئذٍ ، وهو ثلاثة وثلاثین شبراً وخمسة أثمان الشبر ونصف ثُمن الشبر .

وقد أورد هذا الاحتمال العلاّمة الأکبر البهبهانی فی حاشیته علی «المدارک» تبعاً للمجلسی ، واختاره من حیث الفتوی فی زماننا هذا المحقّق الحلّی کما عرفت فی نقل الأقوال .

ولکن یورد علیه أنّه لا قائل به من أصحابنا غیره ، ففی «الجواهر» أنّه لابدّ


1- سورة الحدید : آیة 21 .

ص:221

حینئذٍ من تعمیم الخبر من صورة المدور إلی غیره ، من الربع الذی کان له أبعاد ثلاثة ، حتّی یوافق مضربه ما قاله المشهور .

وثانیاً : من المحتمل أن یکون الخبر مشتملاً علی حکمین :

أحدهما : کون الرکی طهارته منوطةً بصورة کونها کرّاً ، ثمّ حینما سأل السائل عن مقدار الکرّ أجاب علیه السلام عن تحدیده باعتبار المساحة من جهة المکعب علی مثل المربّع ، فکأنّه أراد علیه السلام بیان أنّ اللاّزم فی ماء البئر وجود هذا المقدار من الماء ، لا أن یکون التقدیر بذلک ملحوظاً بلحاظ البئر المدور ، حتّی یلزم أن یکون قدره أقلّ ممّا حدّده المشهور .

کما أنّه اُجیب عن الإشکال الثانی : بأنّ البئر وإن لم یشترط فی طهارته الکرّیة لأنّ له مادّة ، کما فی خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع بقوله : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء لأنّ له مادّة» ، إلاّ أنّه لم یرد ذکر لهذا الشرط فی ظاهر الخبر ، بل کأنّه أخبر عن أنّ البئر إذا کان مشتملاً علی مقدار الکرّ فلا ینجسه شیء مطلقاً ، سواء کان له مادّة أم لا ، کما أنّ البئر إذا کانت له مادّة لم ینجسه شیء سواء کان بلغ مقدار الکر أم لا ، نظیر قوله : «إذا خفی الأذان فقصّر» و«إذا خفیت الجدران فقصّر» .

بناءً علی هذا یدلّ مع ملاحظتها کفایة حصول أحد الأمرین فی تحقّق الطهارة . مضافاً إلی ما قیل بأنّ سقوط الخبر عن الاستدلال ، فی فقرة خاصّة ، هو البئر من عدم اعتبار لزوم الکریة فیها ، لا یوجب سقوطها ، بل یستدلّ به بالنسبة إلی بیان مقدار الکر .

هذا ، لکنّه یصحّ إن سلّمنا ما ذکره ، بأن یکون الخبر مشتملاً علی أمرین وجهتین ، وإلاّ فلا یمکن التفکیک بینهما ، لأنّ المفروض أنّه قدر الکرّ علی ما یخالف قول المشهور ، أی بحسب سعة البئر الذی لا یشتمل علی الأبعاد الثلاثة .

اللّهم إلاّ أن یلتزم بما قد ذکره صاحب «الجواهر» من حمله _ بواسطة إجماع

ص:222

الأصحاب _ علی ما یوافقه ، أو ما احتملنا من عدم کون الرکی مدوراً وتابعاً ، کما احتمله صاحب «وسائل الشیعة» بل کان علی مثل بعض الغدران الصغیرة التی یحفرونها فی المنازل لحفظ المیاه ، وقد فسّره فی «المنجد» الرکی بالحوض ، فلا یبعد أن یکون الرکی هنا غیر ما هو المعهود فی الذهن ، حتّی لا یساعد قول المشهور . ولکنّه لا یخلو عن تأمّل فی الجملة .

وکیف کان ، الاستدلال بهذا الحدیث لا یخلو عن مناقشة وکلام وإشکال فی الجملة ، إلاّ مع بعض التوجیهات ممّا لا یقبله العقل ابتداءً ، کما لا یخفی ، إلاّ أن نقول بالتفکیک بین صدره وذیله ، وأنّ المراد من العرض هو السعة فیوافق المشهور ، وأمّا کون الدلیل علیه خبر آخر وهو حدیث أبی بصیر بقوله : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الکرّ من الماء ، کم یکون قدره ؟ قال : إذا کان الماء ثلاثة أشبار ونصف فی مثله ، ثلاثة أشبار ونصف فی عمقه فی الأرض فذلک الکرّ من الماء»(1) ، فقد أورد علیه من جهة السند من جهات ثلاثة :

تارة : من ضعفه بواسطة کون الراوی الوسیط هو أحمد بن محمّد بن یحیی ، وهو مجهول الحال ، کما ذکره صاحب «المدارک» ، وشیخنا البهائی علی ما قیل .

وقد اُجیب عنه : کما فی «الحدائق» ، بأنّ هذا الإشکال یرد علی سند الشیخ فی «التهذیب» حیث قد نقل عن أحمد بن محمّد بن یحیی ، بخلاف سند «الکلینی» رحمه الله فإنّه صحیح ، لأنّه قد روی _ کما فی «وسائل الشیعة» _ عن محمّد بن یحیی ، عن أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عیسی ، عن ابن مسکان ، عن أبی بصیر ، والظاهر أنّ أحمد بن محمّد هو أحمد بن محمّد عیسی _ لروایة محمّد بن یحیی عنه ، وروایته أیضاً عن عثمان بن عیسی ، وهو ثقة جلیل القدر _ لا أحمد


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:223

ابن محمّد بن یحیی الضعیف ، کما فی «التهذیب» .

ویؤیّد أنّ المراد هو أحمد بن محمّد بن عیسی ، لا یحیی کما فی نسخ «التهذیب» ، أنّ العلاّمة لم یطعن فی الروایة ، إلاّ من جهة ابن عثمان وأبی بصیر کما سیأتی . مضافاً إلی بُعد زمان أحمد بن محمّد بن یحیی عن عثمان بن عیسی بکثیر ، کما فی «جامع الرواة» ، فلا یمکن أن یروی عن عثمان بن عیسی لأنّه لیس من طبقته .

وکیف کان ، فالحدیث لا یکون ضعیفاً من جهة أحمد بن محمّد بن یحیی ، بما قد عرفت من طریق «الکلینی» وکذلک «الاستبصار» الذی یتّحد سنده مع سند الکلینی .

واُخری : ضعفه من جهة عثمان بن عیسی ، الذی کان واقفیّاً .

لکنّه أیضاً مخدوش ، بأنّ الشیخ قدس سره نقل فی «عدّة الاُصول» الإجماع علی العمل بروایته ، بل روی عن الکلینی أنّه عدّد جماعةً وقال أنّه ممّن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم . وأیضاً نُقل أنّه تاب ورجع من الوقف . مضافاً إلی أنّه ثقة برغم وقفه ، وهو کاف فی الأخذ بخبره ، إلاّ علی مسلک صاحب «المدارک» ، حیث یعتبر فی العمل کون الراوی إمامیّاً .

هذا مضافاً إلی أنّه یؤیّد توثیقه بنقل ابن قولویه عنه فی أسانید «کامل الزیارات» . فالإشکال من هذه الجهة أیضاً مدفوع کما لا یخفی .

وثالثاً : من جهة أبی بصیر ، لأنّه مشترک بین لیث المرادی أبو البختری ویحیی بن القاسم الأسدی . وأمّا احتمال کونه یوسف بن الحارث فمحلّ تأمّل ، لأنّه کان من أصحاب الباقر علیه السلام ولم یرو عن الصادق علیه السلام لعدم ذکره فی «جامع الرواة» من أصحابه وروایته عنه . فإذا تردّد بینهما بأن یکون هو اللیث المعتبر _ بل قد قیل أنّه من أصحاب الإجماع فیکون موثّقاً قطعاً _ أو یحیی بن القاسم الواقفی الذی وقع الکلام فیه ، فإذا لم یُعلم أحدها علی الیقین فلا یمکن الاعتماد علیه .

ص:224

هذا ، ولکنّه مخدوش بأنّ الظاهر کونه هو اللیث ، کما ذکره صاحب «الجواهر» لأنّ ابن مسکان یکثر النقل عنه ، والمراد من ابن مسکان غالباً هو عبداللّه بن مسکان الذی کان من أصحاب الإجماع ، فهو أمر آخر یوجب توثیقه ، ولو لم یکن لیثاً ، ولذلک لم یطعن العلاّمة فی «المنتهی» بضعف سند الحدیث ، إلاّ أنّه من جهة عثمان بن عیسی . مضافاً إلی أنّ الاستاذ الأکبر البهبهانی فی حاشیة «المدارک» جعل کلّ من یُسمّی ب_ أبی بصیر موثّقاً وإن تعدّدوا ، وإن نقل عن الخوئی فی تقریره ، فی ذیل کلامه بأنّه قد رجع عن عقیدته .

وکیف کان ، فضعف السند لا یعبأ به . مضافاً إلی انجباره بعمل الأصحاب قطعاً ، لأنّ دلالته علی ما اختاره کان أوضح وأصحّ من خبر حسن بن صالح .

وأمّا الإشکال من جهة الدلالة : فإنّ قوله «فی مثله» یحتمل أن یرجع إلی المقدار الواقع فیما قبله من ثلاثة أشبار ونصف ، حتّی یفهم منه البعدان ، وثلاثة أشبار ونصف فی عمقه حتّی یکون متمِّماً لأبعاده الثلاثة ، وهکذا یحتمل أن یکون فی مثله متعلِّقاً لما بعده من ثلاثة أشبار ونصف ، أی بأن یکون العدد المذکور بعده بیاناً لمثله ، وفی عمقه یکون حالاً لثلاثة وأشبار ونصف أو صفة لذلک ، فحینئذٍ لا یتعرّض إلاّ لبُعدین من العرض ، أی السعة والعمق ، فینطبق مع الدائرة ، فیبلغ مضربه حینئذٍ 65/23 شبراً .

وقال الخوئی : بأنّ هذا الاحتمال متعیّن ، لأنّ الاحتمال الأوّل یوجب التکلّف من وجهین :

أحدهما : هو الحذف فی متعلّق (مثله) من جهة المقدار .

والثانی : تقدیر کلمة (فی) بعد لفظ (مثله) ، فغایته الإجمال والاحتمال ، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، کما فی «مصباح الهدی» .

هذا ، ولکن الإنصاف عدم الإجمال والاحتمال ، وظهوره فی الاحتمال الأوّل

ص:225

کما احتمله الشیخ البهائی قدس سره ، لأنّ العرف یفهم من هذه التعابیر أنّ ثلاثة أشبار ونصف فی مثله هو فرض هذا المقدار فی طرفی السطح المسمّی بالعرض والطول اصطلاحاً ، لأنّه فی الحقیقة لا طول فی المربع ، بل هو فی المستطیل ، ولعلّه لذلک یحمل کلمة (العرض) فی القرآن والأخبار علی السِّعة لا علی العرض فی مقابل الطول ، ومن هنا جعل بعضٌ الفارق بین الطول والعرض بأنّ ما یلاحظ تقدیره وحدّه أوّلاً هو الطول وما یلیه هو العرض .

وبناءً علی ذلک لا تقدیر حینئذٍ حتّی یرجع ضمیر (مثله) إلی المقدار المستفاد من العدد المذکور فیما قبله ، والتفوّه بذلک من قبل القائل عجیب ، لأنّه یکون من قبیل رجوع الضمیر فی قوله تعالی : «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَی»(1) إلی العدل المستفاد من اعدلوا ، وهذا أمر مطابق للقواعد العربیّة ، ولیس کالتقدیر فی سائر الموارد ، بل هو إرجاع معنوی فی الضمیر . بل إنّ حسن التعبیر فی المقام یقتضی کذلک ، حذراً من التکرار ، إذ یفهم المعنی بعبارة موجزة واضحة ، وفی غایة الفصاحة والبلاغة . کما أنّ إشکاله فی حذف حرف (فی) لما بعد (مثله) ، ممّا لا وقع فیه ، لأنّه یفهم ذلک بمناسبة المقام .

مع إمکان أن یُقال به أیضاً ، بأنّه لو سلّمنا کون ذکر المقدار بعد (مثله) متعلِّقاً وبیاناً للمثل لا للعمق ، فمع ذلک نقول بأنّه تعرض للطول والعرض بالصراحة ، وللعمق بالإشارة ، من جهة عدم ذکر متعلّق العمق من حیث المقدار ، فیفهم أنّ المقصود هو القدر المذکور فیما قبله ، وهذا أمر عرفی ، والتقدیر لمثل ذلک أمرٌ حسن ، فبناءً علی ذلک تکون دلالة خبر أبی بصیر علی تحدید الکرّ فی ثلاثة أشبار ونصف فی الأبعاد الثلاثة عندنا واضحة جدّاً .


1- سورة المائدة : آیة 8 .

ص:226

ودعوی الإجمال کما فی «مصباح الهدی» ، أو الظهور فی الدائرة من تعرض البعدین فقط من السطح والعمق ، کما فی «التنقیح» و«المستمسک» وغیرهما لایخلو عن مسامحة ومناقشة ، فنحن نوافق المشهور فی ذلک ، وهو أیضاً الموافق للاحتیاط .

ودعوی أنّه یزید عن الکر بمقدار الوزن ، وهو ألف ومأتا رطل ، مدفوعة ، أوّلاً : باختلاف النقل فی الوزن ، من أنّه قد یبلغ مقدار سبعة وعشرین شبراً کما نقله الحکیم قدس سره عن بعض الأفاضل ، وهو منقول عن جماعة فی ماء النجف الأشرف أنّه بلغ مقدار ثمانیة وعشرین شبراً ، ونقل عن المجلسی فی «مرآة العقول» أنّه یساوی ثلاثة وثلاثین شبراً تقریباً ، ونُقل عن المحدّث الاسترآبادی بأنّه یساوی ستّة وثلاثین شبراً تقریباً ، فمع وجود هذه الاختلافات ، کیف یمکن الاعتماد علی ذلک ؟!

وثانیاً : یمکن أن یقال : بأنّ الشارع قد لاحظ جانب الاحتیاط رعایة للناس ، وجعل المقدار الزائد ملاکاً للکرّ ، بحسب المساحة ، للعلم بتحصیل ما هو المقدار فی الکرّ من حیث الوزن ، لأنّ أغلب الناس یتسامحون فی اُمور دینهم ، فجعل الشارع ما هو المتیقّن فی حصول الکرّ میزاناً للتطهیر ، مع معلومیّة اختلاف أشبار الناس بعضهم مع بعض ، فاحتاط فی ذلک بحیث یدخل من کان شبره قصیراً بالقیاس إلی غیره فی الجملة .

مضافاً إلی إمکان أن یکون الاحتیاط من جهة اختلاف وزن المیاه ثقلاً وخفّةً ، فجعل الأکثر ملاکاً للعلم بالحصول فی جمیع الموارد ، فهذا هو الأقوی عندنا .

وقد جعل صاحب «الجواهر» الخبر المرسل المروی فی «المقنع» للصدوق قدس سره من المؤیّدات _ قال : «روی أنّ الکرّ ذراعان وشبر ، فی ذراعین وشبر ، بناءً علی کون المراد من الذراع هنا عظم الذراع ، وهو یزید عن الشبر

ص:227

یسیراً ، فیکون فی عشرة ونصف» . هذا ، وقد تبعه فی ذلک صاحب «وسائل الشیعة» فی ذیل خبر المقنع(1) ، فیوافق حینئذٍ مفاد خبر أبی بصیر .

لکن الإنصاف أنّه لا یخلو عن تکلّف ، أوّلاً : لکونه خلاف اصطلاح الذراع عند الفقهاء والعرف ، حیث یستعمل فی مجموع العظم مع الأصابع .

وثانیاً : من عدم تعرّضه للأبعاد الثلاثة .

اللّهم إلاّ أنْ یقال إنّه یحمل علی هذا ، لعدم مطابقته مع أحد الأقوال السابقة ، ویوجب کونه خلاف الإجماع ، فیکون هذا أحسن المحامل ، فهو وجه وجیه مانع عن طرح الخبر رأساً ، کما لا یخفی .

وأمّا الأخبار التی اُشیر فیها إلی الحاویات الموجودة فی الخارج کالحُبّ والقُلّة والجَرّة وغیرها ، فلا تتعارض مع ما اخترناه ، وإن ادّعی بعضهم أنّه قد یوافق من حیث الوزن بما یقرب لقول القمیّین من سبعة وعشرین شبراً .

لأنّ ذلک أوّلاً : فی مثل خبر عبداللّه بن المغیرة ، عن بعض أصحابنا عن الصادق علیه السلام ، قال : «الکرّ من الماء نحو حبی» . هذا وأشار إلی حُبّ من تلک الحباب التی کانت بالمدینة(2) ، وأشار إلی جهة خارجیّة فلا یکون له إطلاق ، إلاّ ما هو الموجود فی الخارج ، فکما یمکن أن یکون موافقاً لما ذکروه ، هکذا یمکن خلافه بأن یکون مساعداً لما اخترناه .

وثانیاً : لما ورد فی الخبر کما فی وسائل الشیعة فی ذیل خبر آخر لعبداللّه بن المغیرة عن بعض أصحابه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا کان الماء قدر قُلتین


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:228

لم ینجّسه شیء ، والقُلّتان جَرّتان»(1) .

عن المحقّق فی «المعتبر» : أنّه نقل عن ابن الجنید أنّه قال : الکُرّ قلّتان ، ویبلغ وزنة ألف ومأتا رطل . فحینئذٍ لا ینافی ما ذکرنا ، لأنّ غایة ذلک رجوعه إلی مقدار الکرّ بحسب الوزن ، فیرجع إلی ما عرفت من الجمع بین الوزن والمساحة من الاختلاف .

نعم ، ما یکون مخالفاً لما اخترناه لاختیارنا من موافقة المشهور عدّة أخبار ، هی مستند لسائر الأقوال ، فلا بأس بالإشارة إلیها والجواب عنها .

منها : خبر الکلینی ، عن محمّد بن یحیی ، عن أحمد بن محمّد ، عن البرقی ، عن ابن سنان ، عن إسماعیل بن جابر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الماء الذی لا ینجسه شیء ؟ قال : کر . قلت : وما الکرّ ؟ قال : ثلاثة أشبار فی ثلاثة أشبار»(2) . وقد نقل عن الشیخ بطریقین آخرین کما فی «وسائل الشیعة» .

فهذا الخبر وإنْ کان فی دلالته فی الجملة إبهام ، لعدم تعرّضه للأبعاد الثلاثة ، فیمکن حمله علی الدائرة ، بأن یکون المراد فی ثلاثة أشبار هی السعة ، وفی آخر هو العمق ، فیبلغ حینئذٍ من حیث المساحة من جهة مضربه إلی 19 / 21 إحدی وعشرون شبراً وکسر من الشبر ، لکنّه خلاف الإجماع قطعاً ، إذ لم یقل بذلک أحد من الفقهاء . قد حمل علی الأبعاد الثلاثة ، لما قیل بأنّه من المعمول عند العرف ذکر طرفی الأبعاد فی المکعّبات ، ویُقال إنّه أربع فی أربع ، أو خمسة فی خمسة ، حیث یقصد به الأبعاد الثلاثة ، والعجب عمّن یدّعی هذا کالخوئی والحکیم ، کیف لا یدّعی ذلک فی مثل خبر أبی بصیر ، فلا یحمله علی المربعات ،


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:229

بل قد تکلّفوا أنفسهم بأن فرضوه فی الدائرة کما عرفت .

وکیف کان ، فلا یبعد لما ذکرنا صحّة حمله علی ما عرفت ، فحینئذٍ لا یبقی الإشکال فیه إلاّ من جهة السند ، لما قیل إنّه منقولٌ عن البرقی عن ابن سنان ، وهو مردّد بین محمّد بن سنان الضعیف وعبداللّه بن سنان الثقة ، فعلی هذا لا یمکن الاستدلال به .

هذا ، وإن ذکر صاحب «الجواهر» وجوهاً مؤیّدة لکونه هو محمّد بن سنان نقلاً عن البهبهانی قدس سره فی «حاشیة المدارک» ، مضافاً إلی استبعاد أن ینقل البرقی عن عبداللّه بن سنان بالمشافهة خصوص هذا الحدیث ، إلاّ أنّه وثّقه اعتماداً علی توثیق الاستاذ الأکبر اعتماداً علی نقل المفید فی «الإرشاد» . ثمّ قال : إنّه کان لحسن ظنّه به ، ثمّ یضیف وللبحث فیه مقام آخر . خلافاً لما ذهب إلیه الآخرون _ مثل الشیخ البهائی _ حیث نفی الاستبعاد کونه هو عبداللّه بن سنان .

وکیف کان ، قد ذهب بعض مثل المحقّق الخوئی إلی صحّة خبره من جهة توثیقه لمحمّد بن سنان . فالأولی رفع الید عن ذلک ، والرجوع إلی أمر آخر فی ردّ هذا الحدیث ولیس ذلک إلاّ من جهة کونه مخالفاً للمشهور وفتاوی الأصحاب ، وإن ذهب إلیه جمعٌ کثیر فی الجملة کما عرفت فی صدر المسألة .

وثانیاً : صراحة الخبرین السابقین فی لزوم زیادة النصف علی الثلاثة ، فیدور الأمر بین هاتین الطائفتین من الزیادة سهواً أو خطأً أو النقیصة کذلک ، فأصالة عدم الخطأ فی الزیادة أولی من أصالة عدم الخطأ فی النقیصة ، کما لایخفی .

بل قد یمکن أن یجعل المذکور فی الخبر الثانی من الموهنات لخبر إسماعیل بن جابر خلاف ما نقله عن الإمام أوّلاً .

هذا کما فی خبر الشیخ قدس سره بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی ، عن أیّوب بن نوح ، عن صفوان عن إسماعیل بن جابر ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الماء

ص:230

الذی لا ینجسه شیء ؟ قال : ذراعان عمقه فی ذراع وشبر وسعة (سعته)»(1) .

بما أنّ سنده کان أصحّ من خبره الأوّل ، فقد أفتی به السیّد فی «المدارک» والمحقّق فی «المعتبر» ، لولا مخالفته لعمل الأصحاب علی ما نقل عن الأوّل ، فیدلّ بمضمونه بما یختلف من حیث المساحة بما کان مذکوراً فی الخبر السابق ، وإن أتعب نفسه الخوئی لإرجاعه إلی الأوّل غایة الاتعاب ، وارتکب فیه خلاف الظاهر ، حیث جعل الابعاد فی الأوّل بنحو المکعّب المربّع وفی الثانی بنحو الحجم المدوّر مع الإغماض عن حدوث اختلاف یسیر فی کون القطر ثلث المحیط بشیء یسیر بحیث یتسامح فی ذلک ، أی القطر تکون نسبته تسعة من اثنین وعشرین ، حیث ینقص عن الثلث بیسیر ، ولکنّه یأخذ ملاک المضروب وهو الثلث ، ثمّ یضرب نصف القطر وهو واحد ونصف الشبر فی نصف المحیط الذی هو تسعة فیکون أربعة ونصف شبر ، فیصیر المجموع سبعة أشبار إلاّ ربع شبر ، ثمّ یضربه فی أربع أشبار الحاصل من ذراعین ، فیبلغ ستّة وعشرین شبراً ، فیکون معادلاً مع الوارد فی الحدیث الآخر مع فرض المکعب المربع حاصل ضرب ثلاثة فی ثلاثة وتحصل تسعة فیضرب ثلاثة فیحصل سبعة وعشرین .

ولکنّه مخدوش جدّاً لا یقبله الذوق السلیم ، أوّلاً : بأنّ التسامح فی مقدار من نسبة نصف القطر مع نصف المحیط غیر صحیح ولا یمکن التسامح فیه لأنّ حاصل ضرب الأعشار بعضها فی البعض یکون کبیراً ممّا لا یعقل التسامح فیه ، یعنی یبلغ مضربه فی الفرض المذکور وهو من ضرب نصف نصف القطر فی نصف المحیط أکثر من سبعة أشبار ، فلو ضرب فی أربعة أشبار التی عبارة عن ذراعین ، بلا زیادة علی مبناه فیصیر المجموع أزید من ثمانیة وعشرین شبراً فی الجملة ،


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:231

فهو ممّا لا یقول به أحدٌ من الفقهاء ، فیخالف ما کان فی خبره الآخر ، کما لایخفی .

وثانیاً : کیف فرّق بین الخبرین من جهة بیان الأبعاد ، ولیس ما یمکن أن یتخیّل فی وجه الفرق إلاّ وجود لفظ (السعة) فی الثانی وهل هو لفظ یستعمل علی سطح المحیط بلا إشارة فیه لخصوصیّة الدائرة أو المربع ؟!

اللّهم إلاّ أن یُقال إنّه یرید الحمل علی ذلک بمقتضی الجمع بین الخبرین ، فلذلک یحمل کلّ علی ما یقابل الآخر من جهة السعة فی الدائرة من المدور والمربّع ، فمع ذلک لا یرتفع الإشکال الأوّل ، کما لا یخفی .

فثبت الاختلاف فی خبری إسماعیل بن جابر من جهة الملاک فی المساحة ، وهذا یوجب الاستبعاد أن یکون قد نقل إسماعیل مرّتین عن الإمام بنحوین مختلفین ، بحیث یکون المقدار فی الأوّل سبعة وعشرین شبراً فی المربع وفی الدائری ، وفی الثانی یصیر ستّة وثلاثین فی المربّع وأزید من ثمانیة وعشرین فی الدائری . فهذا وهن آخر لذلک القول _ وهو قول القمیّین _ من سبعة وعشرین ، کما یکون وهناً لقول صاحب «المدارک» أیضاً ولعلّه لأجل هذا الاختلاف الفاحش فی خبر فارد وراوٍ واحد أعرض الأصحاب عن خبری إسماعیل بن جابر .

فإذا عرفت هذا یظهر الجواب عن الخبر المرسل الذی رواه الصدوق فی «المجالس» ، قال : «روی أنّ الکرّ هو ما یکون ثلاثة أشبار طولاً فی ثلاثة أشبار عرضاً فی ثلاثة أشبار عمقاً»(1) .

لإمکان أن یکون المدرک هو خبر إسماعیل بن جابر ، وأنّه استفاد منه ذلک ، مضافاً إلی مخالفته لما روی فی «المقنع» بحسب الظاهر ، وإن أمکن الجمع بینهما بحمل ذلک علی خلاف فی لفظ (الذراع) کما عرفت فلا نعیده .


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:232

وأمّا ماء البئر ، فإنّه ینجس بتغیّره بالنجاسة إجماعاً ، وهل ینجس بالملاقاة ؟ فیه تردّد ، والأظهر التنجیس (1).

ماء البئر وأحکامه

فإذا ظهر بطلان القول الثانی الذی کان قد ذهب إلیه کثیر من المتقدِّمین والمتأخِّرین والمعاصرین ، فبطلان سائر الأقوال من جهة عدم وجود دلیل علی ما ذهبوا إلیه واضح ، لا یحتاج إلی إطالة الکلام فی کلّ واحد منها .

وأمّا حکم اختلاف المقدار من حیث الوزن مع المساحة بتفاوت فاحش ، فیمکن الرجوع إلی ما قلناه مفصّلاً من کفایة وجود أحد التقریرین فی الحکم بالطهارة ، وکان التقدیر تحقیقیّاً لا تخمینیّاً وتقریبیّاً کما احتمله بعض .

کما لا نذهب إلی ما صدر عن صاحب «الجواهر» من نسبة صدور الخطأ من الإمام علیه السلام ، بل أجری اللّه الحکم علیه کذلک ، فنحن نعتقد خلافه فی حقّ الأئمّة أرواحنا وأرواح العالمین لهم الفداء لأنّ علمهم مقتبس من نور اللّه العلیّ العظیم ، فلا نطیل البحث فی ذلک ، بل هو موکول إلی محلّه .

ثمّ لا فرق فی حکم ماء الکرّ من الحیاض والغدران والأوانی ، لإطلاق الأدلّة ، وعدم خصوصیّة فی الوعاء المشتمل للماء ، فما نسب خلافه إلی المفید وسلار _ لو صحّت النسبة _ ممّا لا دلیل علیه ، هذا فضلاً عن إعراض جُلّ الأصحاب لولا الکلّ عنه .

(1) فأمّا نجاسة ماء البئر بالتغیّر بأحد أوصاف النجاسة ، من اللون والطعم والریح ، واضحٌ لا سترة فیه لما قد عرفت من الأدلّة السابقة لجمیع أقسام المیاه ، بکون التغیّر علّة لحدوث النجاسة .

فی تعریف ماء البئر و حکمه

وأمّا نجاسته بالملاقاة بدون التغیّر ، فیقع البحث فیه من خلال اُمور ثلاثة :

تارة : من جهة موضوع ماء البئر .

ص:233

واُخری : من جهة حکمه من الطهارة والنجاسة .

وثالثة : من جهة الشکّ فیه بکونه ماء البئر أو لا ؟ أی الشکّ فی مصداق ماء البئر حتّی تشمله الأدلّة .

أمّا الأمر الأوّل : والظاهر أنّ لفظ (البئر) یکون من الأسماء الواضحة عند العرف حیث یصدق علی حفر خاصّ صادق علیه ذلک ولو لم یکن فیه ماء أصلاً ، وهذا ممّا لا خلاف فیه . إنّما الکلام وقع من جهة العناوین الموجودة فی الأخبار ، من عنوان ماء البئر ، کما فی خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع (ماء البئر واسع لا یفسده شیء) وأمثال ذلک ، فهذا إمّا حقیقة شرعیّة أو حقیقة عرفیّة ، وأنّه هل أخذ فیها جهة خاصّة عند الشرع ، وصارت بمنزلة حقیقة متشرّعة أم لا ؟

وقد نقل عن الشهید أنّه : مجمع ماء نابع لا یتعدّاها غالباً ، ولا یخرج عن مسمّاها عرفاً . وکیف کان ، لا إشکال بل ولا خلاف فی کون ماء البئر إذا کان مشتملاً علی الماء النابع من تحت الأرض دون أن یجری یصدق علیه أنّه ماء البئر قطعاً ، بل هو القدر المتیقّن من مصادیقه ، وهو واضح .

کما لا إشکال ظاهراً فی صدقه أیضاً ، فیما إذا کان مثله إلاّ أنّه قد جری خارج البئر ، سواء کان من تحت الأرض _ کما فی بعض القنوات _ أو جری فی وجه الأرض _ کما هو کذلک فی بعض الآبار وفی بعض الأمصار وخلال بعض المواسم کالشتاء ، کما لا یخفی .

وأمّا القسم الثالث : هو ما لو لم یکن نابعاً أصلاً ولو قلیلاً ، ولکن اشتمل علی حفرة ودخل فیها الماء وجری عنها کما فی بعض الآبار الواقعة فی طریق القنوات لتصفیة الماء ، فصدق ماء البئر علیه حینئذٍ مشکل جدّاً . کما لا إشکال فی عدم صدق العنوان إذا کان الماء مجتمعاً فی الحفیرة من الماء النازل من المطر أو بالآلات وأمثال ذلک ، بدون النبع دون أن یکون نابعاً من البئر نفسه فإنّه حینئذٍ لا

ص:234

إشکال فی عدم ترتیب آثار ماء البئر الوارد فی لسان الشرع علیه ، فلا إشکال فی شرطیّة الکرّ لمطهریّته ، لأنّه داخل تحت المیاه المتعارفة . کما لا یبعد دعوی صدق ماء البئر إذا کان الماء المجتمع فیه ناتجاً من ذوبان الثلج یصدق علیه عرفاً أنّه ماء البئر . هذا هو الذی یخطر ببالی ، واللّه أعلم بحقائق الاُمور .

فی ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر

وأمّا الأمر الثانی : وهو حکم ماء البئر ، فقد اختلف فیه علی أقوال :

بالانفعال مطلقاً ، کما علیه المشهور من القدماء .

أو عدمه مطلقاً ، کما علیه جمیع المتأخّرین ، بل جُلّ المعاصرین .

وقول بالتفصیل بین الکرّ وعدمه ، بالانفعال فی الثانی دون الأوّل ، کما علیه حسن بن محمّد البصیروی .

ثمّ علی قول المتأخّرین من عدم الانفعال فإنّهم یقولون باستحباب المنزوحات خلافاً للشیخ فی «التهذیب» والعلاّمة فی «المنتهی» فإنّهما برغم عدم ذهابهما إلی الانفعال ، یقولان بوجوب المنزوحات تعبّداً .

فقد استدلّ من ذهب إلی الانفعال بعدّة اُمور :

الأوّل : بالأخبار المطلقة الواردة فی باب 8 من الماء المطلق من «وسائل الشیعة» فإنّ الإطلاقات تدلّ علی نجاسة الماء بالملاقاة مطلقاً ، خرج منها ما علم الکریة فیه فمنها ماء البئر .

ثانیاً ؛ بمنطوق عدّة أخبار دالّة علی ذلک بالخصوص ، منها خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع ، قال : «کتبتُ إلی رجل أسأله أن یسأل أبا الحسن الرضا علیه السلام عن البئر ، تکون فی المنزل للوضوء ، فیقطر فیه قطرات من البول أو دم ، أو یسقط فیها شیء من عذرة کالبقرة ونحوها ، ما الذی یطهّرها ، حتّی یحلّ الوضوء منها للصلاة ؟ فوقع علیه السلام بخطّه فی کتابی : ینزح دلاء منها»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 21 .

ص:235

حیث وقّع فی السؤال عمّا یطهّرها فیفهم منه أنّه کان نجساً بذلک فی ذهن السائل ، وقد قرّره الإمام علیه السلام فی ذلک ، ولم یردعه عنه .

ومنها : صحیح علی بن یقطین ، عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن البئر تقع فیها الحمامة والدجاجة أو الکلب أو الهرّة ؟ فقال : یجزیک أن تنزح منها دلاء ، فانّ ذلک یطهّرها إنْ شاء اللّه تعالی»(1) .

فهو أوضح من سابقه ، لوقوع لفظ التطهیر فی کلام الإمام علیه السلام .

ومنها : خبر حسن ، عن زرارة عن إبراهیم بن هاشم ، ومحمّد بن مسلم وأبی بصیر کلّهم ، قالوا : «قلنا له : بئر یتوضّأ منها ، یجری البول قریباً منها أینجّسها ؟

قال : فقال : إن کانت البئر فی أعلی الوادی ، والوادی یجری فیه البول من تحتها ، فکان بینهما قدر ثلاث أذرع أو أربعة أذرع لم ینجس ذلک شیء ، وإن کان أقلّ من ذلک نجّسها . قال : وإن کانت البئر أسفل الوادی ویمرّ الماء علیها وکان بین البئر وبینه تسعة (سعة) أذرع لم ینجّسها ، وما کان أقلّ من ذلک فلا یتوضّأ منه»(2) .

فإنّ التصریح بالنجاسة فیما کان أقلّ من ثلاث أو أربع أذرع فی الأوّل ، کما أنّه إذا کان أقلّ من تسعة ، قال إنّه (لم یتوضّأ) ، یفهم منه حکم النجاسة ، کما لایخفی. فی ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر

ومنها : خبر عبداللّه بن یعفور ، وعنبسة بن مصعب ، جمیعاً عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا أتیت البئر وأنت جنب ، فلم تجد دلواً ولا شیئاً تغرف به ، فتیمّم بالصعید ، فإنّ رب الماء هو ربّ الصعید ، ولا تقع فی البئر ولا تفسد علی القوم مائهم»(3) .

حیث یدلّ علی أنّ دخول الجنب فیه موجب للإفساد والنجاسة ، فلذلک


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب التیمّم، الحدیث 2 .

ص:236

حکم علیه السلام بالتیمّم فی هذا المورد ، لغلبة نجاسة الجنب ، ولو بموضع إنزال المنی .

وثالثاً : ما یدلّ بمفهومه _ کما تمسّک به الخوئی فی «التنقیح» وقبله الشیخ الأنصاری _ خبر أبی بصیر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عمّا یقع فی الآبار ؟ فقال : أمّا الفأرة وأشباهها فینزح منها سبع دلاء ، إلاّ أن یتغیّر الماء ، فینزح حتّی یطیب ، فإن سقط فیها کلبٌ فقدرت أن تنزح ماءها فافعل ، وکلّ شیء وقع فی البئر لیس له دمٌ مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلک فلا بأس»(1) .

حیث یدلّ بالمفهوم بأنّ ما له دم ونفس سائلة فیه بأس . بل یدلّ بالمنطوق علی النجاسة ، فی قوله بالنسبة إلی الکلب من لزوم النزح للجمیع لدی القدرة ، خصوصاً إذا لاحظنا صیغة الأمر بقوله «فافعل» .

بل قد استدلّ الشیخ الأنصاری قدس سره بموثّقة عمّار الساباطی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ طویل ، قال : «وسُئل عن بئر یقع فیها کلب أو فأرة أو خنزیر ؟

قال : تنزف کلّها . ثمّ قال أبو عبداللّه علیه السلام : فإن غلب علیه الماء فینزف یوماً إلی اللیل ، یقام علیها قوم یتراوحون اثنین اثنین فینزحون یوماً إلی اللیل وقد طهرت»(2) .

حیث یدلّ ذیلها من حصول الطهارة بنزح الجمیع ، أو بالتراوح فی یوم إلی اللیل ، أنّه قد تنجّس بالملاقاة .

هذا مضافاً إلی نقل الإجماع بالنجاسة _ کما عن «مصریات» المحقّق الأوّل ، ونفی الخلاف عن «السرائر» ، وأنّه من دین الإمامیّة کما عن الآملی ، وعلیه فتوی الفقهاء ، من زمان النبیّ صلی الله علیه و آله إلی زماننا هذا ، کما عن «کاشف الرموز» وذهاب کثیر من القدماء کالصدوقین والمشایخ الثلاثة وأتباعهم والحلّی وابن سعید


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:237

والمحقّق والفاضل فی بعض کتبه ، والشهیدین و«الاقتصاد» و«الغنیة» وظاهر التهذیبین . هذا غایة ما یمکن الاستدلال به لذلک ، ووجدناه فی مصنّفات أصحابنا .

ولکن یمکن الجواب عنه _ کما ذکره ممّن تقدّمنا ، مع إضافات منّا لم ترد فی کلمات أصحابنا _ فنقول ومن اللّه الاستعانة :

فأمّا الجواب عن الأخبار المطلقة للنجاسة : فقد عرفت منّا سابقاً عدم وجود دلیل صریح أو ظهور ، فی کون الملاقاة للنجاسة موجباً لنجاسة جمیع المیاه کلّها إلاّ ما خرج ، خلافاً للشیخ الأنصاری قدس سره حیث ذهب إلیه ، وأفتی فی مسألة الماء المشکوک الکرّیة ، لأنّ نوع تلک الأخبار صادرة بالنسبة إلی موارد معیّنة کالأوانی وغیرها ، فلا نعید ولا نُطیل بذکرها .

فالعمدة هو الجواب عن الأخبار الخاصّة . فی ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر

فأمّا خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع ، فنقول أوّلاً :

إنّ ذکر الدلاء بصورة الإطلاق ، بلا بیان المقدار ، مع اختلاف ما ذکر فی صدره من النجاسة وغیرها نظیر البعرة ، کما فی بعض النسخ من إطلاق العذرة علیها ، وفی بعض آخر من غیرها کالبعرة للبعیر ، وکیف کان فإنّ البعرة هی فضلة البعیر ، وهی طاهرة ، إلاّ إذا کان جلاّلاً أو موطوءً ، وإرادتهما هنا لا یخلو عن بُعد . فلا محیص إلاّ أن یکون ذکر النزح بنحو الإطلاق ، إمّا من جهة أنّه أراد إفهام ما یمکن التطهیر به ، دون ملاحظة المقدّر والمقدار وإن شئت ذلک فاطلب من موضع آخر .

أو إرادة أنّ النزح واجب فی الجملة ، خصوصاً مع ملاحظة استعمال صیغة الجمع (الدلاء) فیکون أقلّه ثلاثة ، فلابدّ منه ، وأمّا الزائد عنه فوجوبه غیر معلوم .

هذان الوجهان مضافاً إلی بُعدهما عن فهم السائل فی سؤاله ، یکون خلاف الإجماع ، لأنّه لا یفتی بذلک أحد من الفقهاء .

وثانیاً : إنّ الکلینی قدس سره فی «الکافی» نقل هذا الحدیث ، ثمّ ذیّله بخبر آخر عن

ص:238

محمّد بن إسماعیل بن بزیع الذی هو صریحٌ فی طهارة ماء البئر وذلک بقوله : «لا یفسده شیء» ، فکأنّه أراد إفهام السائل بأنّ البئر لا ینجس بذلک ، بل کان النزح للتنزیه ورفع استقذار الطبع . مضافاً إلی أنّ إمکان احتمال وجود التقیّة فی المکاتبة ، أزید من غیرها ، فلا یبعد أن یکون کذلک ، لکونه موافقاً للعامّة ، کما لایخفی .

وأمّا الجواب عن الخبر الصحیح لعلیّ بن یقطین ، مضافاً إلی ما عرفت من إطلاق النزح ، فهو إمّا أن یکون مجمل ومبهم ، أو یکون علی خلاف الإجماع ، علی ما عرفت أنّه قد جمع فی الحکم بین الکلب النجس العین مع الحمامة والدجاجة ، فهما وإن کانتا نجستین أیضاً بلحاظ کونهما میتة ، إلاّ أنّه یکون فی مراتب النجاسة اختلاف فی الشدّة والضعف ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : یعارض ما ورد فی الکلب مع موثّقة عمّار الذی قد عرفت دلالته علی وجوب النزح للماء کلّه إن قدر ، وإلاّ بالتراوح ، فکیف الجمع بینه وبین الخبر المذکور ؟

لایقال : یمکن أن یکون بنحو الإطلاق والتقیید ، بأن یکون النزح بالدلاء مثلاً بحیث یبلغ بالنزح للماء کلّه .

لأنّا نقول : هذا خلاف لظاهر قوله : (ینزح دلاء) من حیث کون الماء باقیاً بعد نزح دلاء ، فلا یشمل لمثل المفروض ، فلا إطلاق له حینئذٍ حتّی یقیّد بذلک ، کما لا یخفی .

مضافاً إلی إمکان التأیید بلفظ (یجزیک) من الخطاب مع ذیله بقوله : «یطهّرها إن شاء اللّه» حیث یفید أنّه لا یکون إلاّ أمراً استحبابیّاً لا إیجابیّاً ، واللّه العالم .

وأمّا الجواب عن حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم وأبی بصیر ، فإنّ دلالته علی النجاسة لدی الملاقاة وإن کان لا یخلو عن قوّة کما قاله الشیخ الأنصاری قدس سره ووافق الإنصاف إلاّ أنّه یمکن أن یقال : بأنّ الشارع جعل هذه المقادیر أمارة طریقیّة لعدم وصول البول إلیه ، فکأنّه لو کان أقلّ من ذلک فربما یتّصل ویسری ، فلا یبعد کون النجاسة حینئذٍ لا لمجرّد الملاقاة بل من جهة حصول التغیّر نوعاً

ص:239

بحسب استعداد البالوعة من البول والغائط وسرایة المیاه النتنة إلی الماء الخالص الزلال فی البئر ، فبذلک ینجس قطعاً ، لأجل ذلک بیّن الإمام ما یوجب الخلاص عن السرایة والاختلاط وحینئذٍ یکون الخبر معارضاً لما نحن فیه وبصدده کما لایخفی . فی ما یدلّ علی عدم انفعال ماء البئر

وأمّا الجواب عن خبر عبداللّه بن یعفور ، فدلالته علی عکس المطلوب للخصم أوضح من دلالته علی النجاسة ، کما التفت إلی ذلک الشیخ الأنصاری وغیره ، لوضوح أنّه لو کان الإفساد هنا بمعنی النجاسة ، لکان الأولی فی التعلیل فی وجوب التیمّم هو هذا ، أی یصیر نجساً بذلک ، مع أنّه لم یذکره ولم یشر إلیه أصلاً ، بل علّل (أنّ رب الماء هو رب الصعید) .

مضافاً إلی أنّه لم یفرض کون الجنب نجساً أیضاً ، فلابدّ من فرض عدم طهارته ، مضافاً إلی عدم حسن إسناد الإفساد إلی القوم ، بل لابدّ أن یکون مسنداً إلی نفسه من النجاسة مثلاً ، مع إمکان کون البئر لخصوص الجنب ، لکونه فی منزله ولم یکن لعامّة الناس ، کما هو واضح .

فیظهر من جمیع ذلک أنّه کان فی مقام بیان استقذار الطبع بمثل هذا الماء المستعمل فی الحدث الأکبر ، أو لإثارة الوحل فی البئر أو غیر ذلک من الوجوه ، ولذلک یستفاد منه أنّه لو أراد الغَسل بماء البئر کان جائزاً ، لأنّه رفع الید عن الحکم بالغسل لملاحظة هذه الاُمور ، ولهذا قلنا بأنّ دلالته علی الطهارة أوضح .

وأمّا الجواب عن خبر أبی بصیر ، فهو وإن کان ظهوره فی النجاسة لا یخلو عن قوّة کما ذهب إلیه الشیخ ، إلاّ أنّه یمکن أن یقال مضافاً إلی ما عرفت من خبر علیّ بن یقطین من الحکم بنزح دلاء فی الکلب ، إنّه یقع فیه الإشکال من جهة السند أیضاً ، بما عرفت سابقاً فی ابن سنان المطلق حیث لا یعلم أنّه عبداللّه أو محمّد ، وإنْ قوّینا کونه هو الأوّل ، لنقل ابن مسکان عنه غالباً فراجع ، فلا أقلّ من رفع المعارضة مع الأخبار الکثیرة الدالّة علی الطهارة من الحمل علی الاستحباب ،

ص:240

وکأنّ المراد من البأس المستفاد من المفهوم هو من جهة نفرة الطبع وما لا تقبله الطبائع ، مضافاً إلی موافقته للعامّة أیضاً .

ومن ذلک یظهر الجواب عن موثّقة عمّار الساباطی أیضاً ، من الجمع بین الفأرة والکلب من وحدة الحکم ، فهو خلاف الإجماع إلاّ أن یحمل بالنسبة إلی الفأرة إلی التغییّر للماء ، وهذا مضافاً إلی بعده ، لا یتناسب مع وحدة السیاق فی الخبر بین أفراده من التغییر فی الفأرة دون غیرها ، کما لایخفی . إلاّ أن یفرض التغیّر فی الجمیع ، کما حمله الشیخ ، فیعارض مع ما عرفت من خبر أبی بصیر من لزوم نزح الجمیع للکلب مع القدرة . وحمله علی التغیّر فیه أیضاً بعید ، لأنّه قد فرض التغیّر قبله فی الفأرة ، فیظهر أنّه أراد فی الکلب من الإطلاق کما لایخفی .

هذا مضافاً إلی أنّ إطلاقات الأخبار فی انفعال ماء البئر بالملاقاة یخالف مع صریح خبر حسن بن صالح فی الرکی ، وأنّه إذا کان کرّاً لم ینجسه شیء(1) .

هذا کلّه هو الجواب من الأخبار الخاصّة الواردة فی نجاسة ماء البئر بالملاقاة .

ونزید علی ذلک کلّه وجود القرائن والشواهد علی أنّ النزح فیها للندب لا للوجوب ، وهی وجود الاختلاف الفاحش فی مقادیره فی عنوان واحد ، حیث لا یمکن حمله علی مراتب التأکید ، کما هو الحال فی مثل الکلب والفأرة .

کما أنّ الإجماع المدّعی عن القدماء علی النجاسة لا یضرّنا ، ولا یمنعنا من الحکم بعدم الانفعال ، لوضوح أنّ حکم أولئک متّخذ من تلک الأحادیث ، ونقطع بعدم وجود دلیل آخر یکون قد بلغهم ولم یصلنا حتّی یکون کاشفاً عن وجود قول المعصوم ، ومن المعلوم عدم حجّیة الإجماع المدرکی ، مضافاً إلی وجود أخبار صحیحة أکثر وأزید وأصرح ممّا عرفت ، دالّة علی عدم الانفعال ، فضلاً


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .

ص:241

عن ذهاب کثیر من الفقهاء من القدماء وغیرهم علی خلافهم کما لا یخفی .

والآن نذکر أدلّة الرأی الآخر وهو الحکم بطهارة ماء البئر ، وإنْ کان أقلّ من کر إذا کانت له مادّة ، وهی : فی ما یدلّ علی عدم انفعال ماء البئر

وجود أخبار کثیرة منها الصحیح ومنها الموثّق ، والضعیف فیها قلیل ، کما أنّ دلالتها علی الطهارة أصرح من تلک الأخبار الدالّة علی النجاسة .

فمنها : صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع المشتمل علی جهات متعدّدة ، دالّة علی الطهارة وهی : عن الرضا علیه السلام ، قال : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه فینزح ، حتّی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ له مادّة»(1) .

فدلالتها من جهات ، عدیدة منها لفظ (الواسع) ، و(عدم الإفساد) و(التغیّر) ، الظاهر جمیعها فی انحصار تحقیق النجاسة به دون غیره فیما إذا کان له مادّة .

فما قیل ودوّن فی الکتب من أنّ المراد من (الواسعة) هو الکثرة ، والمراد من (عدم الإفساد) هو ما لا یمکن الانتفاع به ، إلاّ أن ینزح الجمیع ، خلافاً لصورة عدم التغیّر ، حیث یکون فساده بما یرفع بنزح ما عدا الجمیع ، کما فی «الاستبصار» للشیخ قدس سره ، وکون المراد من التعلیل قیداً لحصول الطهارة بالنزح ، لا لعدم تحقّق الانفعال ، وغیرها من التأویلات البعیدة ، غیر مقبول ، بل کان الأولی أن نذهب إلی طرح الخبر رأساً دون أن نعلن عن هذه الإیرادات البعیدة .

ولذلک أعرضنا عن ذکر تفصیلها ، ومن أراد الاطّلاع علیها فلیراجع ویلاحظ مصادرها .

ومنها : صحیحة علیّ بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن بئر ماء وقع فیها زنبیل من عذرة رطبة أو یابسة ، أو زنبیل من سرقین ، أیصلح


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:242

الوضوء منها ؟ قال : لا بأس»(1) . فدلالته علی الطهارة واضحة .

وما ذکر فیها من احتمال کون العذرة غیر عذرة الإنسان ، أو کان الذی أصابه الماء الزنبیل دون ما فیه من العذرة ، فی غایة الضعف والسخافة ، خصوصاً مع تقابل السرقین للعذرة ، فضلاً عن انصراف العذرة لفضلات الإنسان ، کما فی «غریب الحدیث» لابن الأثیر ، وأنّه تکفینا دلالة ترک الاستفعال فی الإطلاق فی ذلک ، کما یجری هذا المعنی فی الإصابة لنفس العذرة أیضاً ، وذلک واضح لاسیما مع ملاحظة شأن السائل الذی هو علیّ بن جعفر الذی یعدّ من الفقهاء .

ومنها : صحیحة معاویة بن عمّار ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سمعت یقول : لا یغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ، ممّا وقع فی البئر ، إلاّ أن ینتّن ، فإن انتّن غَسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر»(2) .

فإنّ إطلاقه یشمل جمیع أقسام النجاسات والحیوانات ، وحیث علّق الإمام حکم غسل الشرب وإعادة الصلاة علی التغیّر ، وهو المطلوب .

ومنها : صحیحته الاُخری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الفأرة تقع فی البئر فیتوضّأ الرجل منها ویصلّی ، وهو لا یعلم ، أیعید الصلاة ویغسل ثوبه ؟

فقال : لا یعید الصلاة ولا یغسل ثوبه»(3) .

وقد احتمل الآملی عدم دلالته علی المطلوب ، لإمکان أن یکون وجه عدم الإعادة عدم العلم بالنجاسة حال الصلاة ، وذلک لا ینافی کون الماء نجساً بوقوع الفأرة فیه .


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .

ص:243

هذا ، ولکن صحّة هذا الاحتمال مبنیٌّ علی کون عدم العلم هنا بمعنی الجهل بوقوع الفأرة فی البئر ، وأمّا لو کان المراد منه السهو حال التوضّئ ، یعنی کان عالماً بوقوعها فیه ، إلاّ أنّه قد سها وغفل حال التوضئ ، فحینئذٍ یدلّ علی المطلوب . لکن حمل عدم العلم علی ذلک المعنی ، لا یخلو عن مسامحة فی الجملة ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : ما احتمله الآملی صحیح بالنسبة إلی عدم إعادة الصلاة ، وأمّا حکمه بعد ذلک بعدم غسل الثوب یفهم منه صریحاً دلالته علی المطلوب ، لوضوح أنّ الطهارة والنجاسة الخبثیة لا یتبعان العلم والجهل ، کما لا یخفی ، فدلالته علی عدم النجاسة واضحة ، إلاّ أن یحمل علی ما سیأتی بیانه .

ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام : «سأله عن البئر تقع فیها المیتة ؟ فقال : إن کان لها ریح ینزح منها عشرون دلواً»(1) .

وقد تمسّک به صاحب «الجواهر» قدس سره ، لکنّه لا یخلو عن خفاء ، لإمکان أن یکون المفهوم أنّه إنْ لم یکن لها ریح لا یلزم النزح هذا المقدار ، وأمّا کونه طاهراً بلا نزح أصلاً فلا . کما أنّه یمکن الإشکال فیه من جهة منطوقه ، من حیث کون دلالته علی لزوم النزح _ فیما إذا کان لها ریح ، الذی هو أعمّ من أن یوجب حصول الریح فی الماء أم لا _ تکون أقوی ، فیحتمل أن یکون لزوم النزح أمراً تعبّدیاً ، کما یحتمل أن یکون من جهة تحصیل الطهارة بذلک ، فیکون دلیلاً علی الخصم ، فالأولی رفع الید عن هذا الخبر فی المقام .

ومنها : موثّقة أو صحیحة علی ما قیل) أبان بن عثمان ، عن الصادق علیه السلام قال :


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:244

«سئل عن الفأرة تقع فی البئر لا یعلم بها إلاّ بعد أن یتوضّأ منها ، أیعاد الوضوء ؟

فقال : لا»(1) .

فحکمه بعدم لزوم إعادة الوضوء لیس إلاّ من جهة طهارة الماء .

إلاّ أنّ احتمال کون الحکم بعدم الإعادة من جهة إمکان أن یکون الوقوع بعد التوضّی ، فحیثُ لا یعلم ، فالأصل یقتضی ذلک غیر بعید ، لأنّ أصالة عدم الوقوع إلی حین وضوءه یحکم بصحّة الوضوء ، لأنّه من أثره .

لا یقال : یتعارض مع أصالة عدم تحقّق الوضوء إلی زمان الوقوع ، لأنّه لا أثر شرعی بلا واسطة له ، إلاّ بنحو الأصل المثبت ، یعنی أن یکون أثر عدم التوضّی إلی حین الوقوع ، کون الماء نجساً حال الوضوء ، أمر یقف علیه العقل ، ولا یکون أثراً شرعیّاً لنفس عدم التوضّی بلا واسطة کما لا یخفی ، وإن کان الإنصاف یفید ظهوره فی کون عدم العلم متعلِّقاً للوقوع بعد التوضّی ، وأنّه وقع فیه قبله ، لا أنّه تعلّق العلم بأصل الوقوع بلا ملاحظة کون الوقوع قبل التوضّی أو بعده ، کما هو المفروض فیما قبله .

ونظیر هذه المناقشة تأتی فی الخبر القادم وهو موثّقة أبی بصیر ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : بئر یستقی منها ویتوضّأ به وغسل منها الثیاب ویعجن به ، ثمّ علم أنّه کان فیها میّت ؟ قال : لا بأس ولا یغسل منه الثوب ولا تعاد منه الصلاة»(2).

وما ذکرنا من الاحتمالین یکون جاریاً فی صحیحة معاویة بن عمّار الذی سیأتی ذکرها .

ومنها : موثّقة أبی اُسامة وأبی یوسف یعقوب بن میثم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ،


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:245

قال : «إذا وقع فی البئر الطیر والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء . قلنا : فما تقول فی صلاتنا ووضوءنا وما أصاب ثیابنا ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

فهی وإن تشتمل علی الحکم بالنزح فیوهم النجاسة ، إلاّ أنّ الحکم بعدم البأس یرفع الإجمال ، فیفهم أنّ النزح لیس إلاّ استحباباً أو أمراً تعبّدیّاً ایجابیّاً ، کما احتمله الشیخ .

ومنها : خبر محمّد بن القاسم ، عن أبی الحسن علیه السلام : «فی البئر یکون بینها وبین الکنیف خمسة أذرع أو أقلّ أو أکثر یتوضّأ منها ؟ قال : لیس یکره من قرب أو بُعد ، یتوضّأ منها ویغتسل ما لم یتغیّر الماء»(2) .

فدلالته واضحة من جواز التوضوء والاغتسال إلی أن یتغیّر ، فیفهم عدم تنجّسه بقربه من الکنیف ، کما لا یخفی .

ومنها : مرسلة علیّ بن حدید ، عن بعض أصحابنا ، قال : «کنتُ مع أبی عبداللّه علیه السلام فی طریق مکّة ، فصرنا إلی بئر ، فاستقی غلام أبی عبداللّه علیه السلام دلواً فخرج فیه فأرتان . فقال أبو عبداللّه علیه السلام : أرقه ، فاستقی آخر ، فخرج فیه فأرة .

فقال علیه السلام : أرقه . قال : فاستقی الثالث ، فلم یخرج فیه شیء . فقال علیه السلام : صبه فی الإناء ، فصبّه فی الإناء»(3) .

فإنّ قبول الإمام للدلو الثالث ، وأمره بصبّه فی الإناء ، یدلّ علی عدم تنجّس ماء البئر بذلک ، وإلاّ کان الأولی أن یأمر بالنزح بالمقدار المفروض فی المورد ، وهو واضح .

ومنها : مرسلة الصدوق ، عن مسعدة _ علی ما نقله الشیخ الأنصاری قدس سره _ عن الصادق علیه السلام : «إنّه کان فی المدینة بئر وسط مزبلة ، فکانت الریح تهب وتلقی فیها


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 ، 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 ، 4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 ، 4 .

ص:246

القذر ، وکان النبیّ صلی الله علیه و آله یتوضّأ منها»(1) .

هذا بناءً علی کون القذر هی عذرة الإنسان ، أو لا أقلّ من التعمیم حتّی یشملها ، وأمّا احتمال خصوص عذرة المأکول لا یخلو عن مناقشة ، کما هو واضح . مع أنّ القذر قد یُراد منه مطلق الزبالة ، لا ما هو النجس وغیره من العذرة .

ومنها : عدّة أخبار لا تخلو عن إشعار علی المطلوب ، وإن لم یمکن الاستدلال بها فمنها خبر زرارة قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن جلد الخنزیر یجعل دلواً یستقی به الماء ؟ قال : لا بأس»(2) .

بناءً علی أن یکون السؤال عن الماء الذی یقع فیه الجلد ، وکون المراد من متعلّق الماء ، بحسب ظهور لفظ الاستقاء نوعاً ، هو البئر ، وأنّ وجه السؤال کان عن حکمه من الطهارة والنجاسة ، لا من حیث استعمال جلد نجس العین ، لما قد قیل فی حرمته ، فلذلک لا یمکن الاستدلال به .

وخبر آخر لزرارة ، قال : «عن أبی عبداللّه علیه السلام : سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر ، یستقی به الماء من البئر ، هل یتوضّأ من ذلک الماء ؟ قال : لا بأس»(3) .

بناءً علی کون المراد من السؤال هو ملاقاة الحبل للماء الذی فی البئر .

وأمّا لو کان المراد منه هو احتمال وقوع القطرة فی ماء الدلو ، أو من جهة احتمال حرمة استعمال شعر الخنزیر ، فإنّ الخبر حینئذٍ لا یرتبط بما نحن نبحث عنه .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 20 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 16 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:247

وخبر عمّار ، قال : «سئل أبو عبداللّه علیه السلام عن البئر یقع فیها زبیل عذرة یابسة أو رطبة ؟ فقال : لا بأس إذا کان فیها ماء کثیر»(1) .

فدلالته مبنیّة علی عدم کون المراد من الکثرة هو الکرّ وما زاد ، بل یشمل ما هو الأقلّ منه ، وهو لا یخلو عن بُعد . فی مایؤیّد عدم انفعال ماء البئر

وخبر أبی عیینة ، فی حدیث : «سُئل عن الصادق علیه السلام عن الفأرة تقع فی البئر ، فلا یعلم بها أحد إلاّ بعد أن یتوضّأ منها ، أیعید وضوءه وصلاته ویغسل ما أصابه ؟

فقال : لا ، قد استعمل أهل الدار ورشوا» .

وفی روایة اُخری : «قد استقی منها أهل الدار ورشوا»(2) .

فهو لا یخلو عن الدلالة ، من جهة أنّه لو کان ماء البئر قد تنجّس بواسطة الملاقاة ، فلابدّ من القطع بالطهارة بواسطة النزح ، إلاّ أنّه قد حُمل علی ما یتحقّق النزح من أهل الدار نوعاً ، فیفهم أنّ النزح کان أمراً مطلوباً ، فلا ینافی حمله علی الاستحباب ، وهو ربما یقع بواسطة أهل الدار .

هذه جملة من الأخبار التی استدلّ بها علی المطلوب .

هذا ، کلّه مضافاً إلی إمکان استفادة التأیید للطهارة بعدّة وجوه قد ذکرت ، مثل قاعدة نفی الحرج ، کما ادّعاه شیخ المشایخ الشیخ جعفر کاشف الغطاء ، وادّعی أنّ الحکم بالنجاسة موجب للحرج العظیم خاصّة لأهل البادیة والناس الذین تتوقّف حیاتهم علی ماء البئر وکثیراً ما یقع فیها شیء نجس ، ووافقه المحقّق الهمدانی والشیخ الأنصاری ، وصاحب الجواهر قدس سرهم .

وقد أشکل علیه المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» ، فقال : «لکن الإنصاف عدم سلامته عن الخدشة ، لما حقّقناه فی غیر المقام ، أنّ الحرج الذی


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 15 ، 13 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 15 ، 13 .

ص:248

یصحّ للفقیه أن یستدلّ بقاعدته ، هو الحرج الشخصی ، الذی یستدلّ بقاعدته لرفع الحکم الثابت لولاه ، وأمّا الحرج النوعی الذی هو المناط فی مقام جعل الأحکام ، فهو ممّا یکون بنظر الجاعل لا الفقیه المستنبط للمجعول ».

وبعبارة أوضح : هو واسطة فی الثبوت ، ولیس طریقاً للإثبات ، وبعد أن ثبت بالدلیل جعل الشارع حکماً بمناطه یتبع ، لکنّه یحتاج إلی دلیل فی مقام الإثبات ، کما فی باب السواک ، ولیس هو بنفسه دلیلاً فی مقام الإثبات ، فلایمکن بالحرج لجعل ما یلزم الحرج من عدم جعله ما یلزم الحرج من جعله . انتهی کلامه ، رفع مقامه .

ولکن الإنصاف فی خلافه ، وعدم تمامیّة ما أتعب نفسه فیه ، لأنّه إن أراد بذلک نفی تحقّق الحرج العظیم نوعاً للناس ، خصوصاً فی البلاد والقری التی لا ماء لها إلاّ من البئر ، فیکفیه رجوع وجدانه الشریف ، وملاحظة الحال بدلاً عن الجواب .

وإنْ أراد التسلیم لذلک ، إلاّ أنّه یدّعی عدم رفع الحکم فهی دعوی بلا دلیل ، لوضوح أنّه إذا فرض کون الحرج الشخصی موجباً لرفع الحکم _ مع أنّه قد یکون خلافاً ، کما نری من مسامحة الناس فی الاُمور الشخصیة فی بعض الموارد ، برغم ذلک قد مَنَّ الشارع علیهم وجعل رفع الحکم بیده _ فمثل هذا الحرج النوعی الموجب لاختلال نظام الناس فی بعض الموارد ، لو لم یکن فی المقام کذلک ، کان ألیق للمراعاة ، فلایبعد أن یجعل ذلک ، مع ملاحظة الأخبار موجباً لاطمئنان النفس علی الحکم بطهارة ماء البئر ، حیث مَنَّ اللّه تعالی علی العباد بذلک وحکم بالطهارة ، ولو کان أقلّ من الکرّ ، لأنّ تحصیله والعلم بحدوده من حیث الوزن والمساحة بالنسبة إلی الآبار یعدّ من الاُمور الصعبة نوعاً ، وإن أمکن تحصیله بالتخمین فی الجملة فی بعض الموارد .

کما قد یؤیّد ذلک ، أنّه کیف یمکن القول بأنّ ماء الکرّ إذا کان فی وجه الأرض عُدّ طاهراً ومطهّراً ، أمّا إذا وجد نفس الماء فی باطن الأرض فإنّه لا یکون له ذلک

ص:249

الأثر ، وهذا أمرٌ عجیب بأن تؤثّر الفوقیّة والتحتیّة للماء المحدود بالکرّ فی الطهارة والنجاسة . فیما لوشکّ فی صدق عنوان ماء البئر

لا یقال : نحن بإمکاننا إعادة السؤال علیک فی الماء الأقلّ من الکرّ وأنّه کیف یکون طاهراً ومطهّراً إذا کانت تحت الأرض ، بخلاف ما لو کان فوقها ؟

لأنّا نقول : إنّا لم نقل بطهارة الماء القلیل إذا کان فی البئر وتحت الأرض مطلقاً ، بل إذا کان له مادّة نابعة ومتّصلاً بها ، فهو المائز بین الحالتین ، وهو أمر غیر بعید ، کما حکمنا بذلک فی ماء الحمّام أیضاً بالنسبة إلی الحیاض الصغار ، کما لایخفی .

مضافاً إلی وجود قاعدة الطهارة واستصحابها ، وعمومات الأدلّة لو عمّمنا دلالتها ، والإجماع ، وغیر ذلک من الوجوه ، ولا أقلّ من جواز وإمکان الرجوع إلیها عند التعارض بین أدلّة الطائفتین ، وعدم إمکان إثبات الترجیح لأحدهما ، حیث تکون الاُمور المذکورة هی المرجع .

فالأقوی عندنا هو الحکم بطهارة ماء البئر ، سواء کان کرّاً أم لا ، خصوصاً مع ملاحظة اختلاف الأخبار فی مقدار النزح ، حتّی فی عنوان واحد ، مع انضمام الاختلاف الفاحش فی مقدار الدلاء المنزوحة من جهة الحجم ، وعدم التعرّض لذلک ، ونظائر ذلک یوجب القطع بما ذکرناه ، لاسیما فی الکر من الآبار ، لأنّه المتیقّن من الأخبار المطلقة مثل قوله علیه السلام : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء» ، بناءً علی أنّ الوسعة هی الکثرة الشرعیّة ، أی الکرّ فیدخل فی مضمون الخبر لو لم نقل بتعمیمه للکثرة العرفیة الشاملة للأقلّ من الکرّ ، فیکون هذا هو المراد من الکثرة الواردة فی خبر عمّار ، کما عرفت تفصیله .

مضافاً إلی شمول إطلاقات أدلّة الکرّ لمثل ماء البئر أیضاً ، وعدم تمامیّة الأخبار الدالّة علی النجاسة فی ماء البئر للتخصیص ، مع کفایة صراحة خبر حسن بن صالح الثوری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا کان الماء فی الرکی کرّاً لم

ص:250

ینجسه شیء» الحدیث(1) .

فی عدم نجاسته إذا کان بمقدار کرّ . فحینئذٍ لا یبقی للفقیه شکّ فی طهارة وعدم انفعال هذا القسم قطعاً ، مع ما عرفت من دلالة الأخبار علی أصل عدم الانفعال فی مطلق ماء البئر ، إذا کان له مادّة ، وهذا ممّا علیه الفتوی ، فما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره من التردید من الذهاب إلی التفصیل المذکور _ لولا إعراض الأصحاب عنه _ لا یخلو عن ضعف ومناقشة واللّه العالم بحقائق الاُمور .

هذا فضلاً عن دلالة خبر «فقه الرضا» : «وکلّ بئر عمقها ثلاثة أشبار ونصف فی مثلها ، فسبیلها سبیل الجاری ، إلاّ أن یتغیّر لونها أو طعمها أو ریحها»(2) .

وأمّا الأمر الثالث : وهو الکلام فی صورة الشکّ فی صدق عنوان ماء البئر الموجود فی الأدلّة ، لأجل الشکّ فی مفهومه ، أو الشک فی مصداقه .

یعنی تارةً : یکون الشکّ فی أنّه هل یعتبر جریان الماء فیه بحیث یکون کالنبع حتماً ، أو یکفی ولو کان رشحاً ، فالشکّ یکون من باب الشکّ فی المفهوم .

فی استحباب النزح عند ملاقاة البئر للنجاسة

واُخری : لو سلّمنا اعتبار النبع ، وعدم کفایة الرشح فی صدقه ، ولکن یشکّ فی أنّ الماء الموجود فی البئر یعدّ من أیّ قسم منها ، فهو من باب الشکّ فی المصداق . وکیف کان ، فهل الحکم حینئذٍ من حیث القاعدة والأصل هو الطهارة أو النجاسة أم لا ؟ فلا بأس بالإشارة علی مقتضی کلّ مسلک من المسالک ، فنقول :

علی القول بالانفعال فی ماء البئر مطلقاً ، قد یکون الماء الموجود فی الخارج معلوم الکریة ، واُخری معلوم القلّة ، وثالثة مردّداً بینهما .

فعلی الأوّل : لا إشکال فی شمول إطلاق دلیل الکریة علیه ، فخروجه عنه


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .
2- المستدرک : الباب 13 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:251

مشکوکٌ سواء کان بالمفهوم أو بالمصداق ، إذ التمسّک بأدلّة انفعال ماء البئر لمثله یکون تمسّکاً بالعام فی الشبهة المصداقیّة له .

أمّا من جهة الشبهة المفهومیّة أو الفردیّة ، فلا یبقی هنا إلاّ الحکم بالطهارة من جهة کریته ، مضافاً إلی قاعدة الطهارة واستصحابها .

وعلی الثانی : لا إشکال فی نجاسته ، لعدم دلیل یقتضی عاصمیّته ، إذ المفروض عدم شمول دلیل الکر له ، وعدم اقتضاء أدلّة ماء البئر إلاّ الانفعال ، کما هو مقتضی قلّته أیضاً ، فلا یبقی حینئذٍ مورد للتمسّک بالقاعدة أو الاستصحاب ، کما لایخفی .

وعلی الثالث : یکون هذا من قبیل المیاه التی یشکّ فی کریتها ، وقد عرفت منّا سابقاً الحکم بالطهارة بنفسه بعد الملاقاة ، بواسطة استصحاب الطهارة وقاعدتها ، ولکن لا یکون مطهّراً ، لعدم دلیل یقتضی ذلک ، إلاّ بالملازمة العرفیة بینهما ، وهی غیر ثابتة فی مثل ذلک ، بلا فرق فی ما ذکرنا من الأحکام فی الأقسام الثلاثة من کون الشکّ فی المفهوم أو المصداق .

وأمّا علی القول بعدم انفعال ماء البئر مطلقاً ، ففی صورة معلوم الکریة یحکم بالطهارة والمطهّریة قطعاً ، لوجود دلیل الکرّ ، وشموله له قطعاً ، مع احتمال شمول دلیل ماء البئر له أیضاً ، کما هو واضح .

وأمّا فی صورة معلوم القلّة ، فلا إشکال فی عدم شمول دلیل الکریة له ، وأمّا دلیل ماء البئر الذی کان مشکوکاً _ مفهوماً أو مصداقاً _ فإنّه لا یمکن التمسّک به من جهة کونه شکّاً فی مصداقه ، فیکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة ، فحیث کان المورد من الشکّ فی الانفعال وعدمه من جهة احتمال کونه ماء بئر ، فلا ینفعل بالملاقاة ، فیمکن التمسّک فیه بقاعدة الطهارة واستصحابها ، فیحکم بطهارته .

ص:252

وأمّا إثبات مطهّریته فلا ، لعدم وجود دلیل یقتضی ذلک ، فیکون من قبیل الماء المشکوک الکریة ، ومن ذلک یظهر حکم مشکوک الکریة والقلّة هنا ، لأنّه یکون احتمال عدم انفعاله من وجود ملاکین من کونه ماء بئر ، علی احتمال ، وکرّاً علی احتمال آخر ، فالحکم فیه کما فی سابقه ، کما لایخفی ، بلا فرق فی جمیع ذلک بین کون الشکّ فی المفهوم أو فی المصداق .

وإذا عرفت ذلک علی المسلکین ، یظهر لک الحکم بکلا طرفیه علی مسلک التفصیل بین الکرّ وعدمه ، فلا نذکره خوفاً من الإطالة ، فعلیک بالتأمّل تجده واضحاً .

وأمّا مسألة النزح : فعلی القول بعدم الانفعال مطلقاً کما قوّیناه ، فهل هو واجب نفسی تعبّدی ، وإن لم یکن دخیلاً فی مطهّریته ، کما علیه الشیخ الطوسی فی کتبه ، ویظهر من العلاّمة أیضاً فی «المنتهی» ، أو یکون واجباً شرطیّاً فی الطهارة ، أو لم یکن واجباً أصلاً ، بل هو أمر مستحب شرعی کما هو المشهور ، لوضوح أنّ الوجوب الشرطی یرجع مقتضاه إلی الحکم بالنجاسة بدون النزح ؟ فهو قد عرفت جوابه فلا نعید .

وأمّا الوجوب النفسی التعبّدی ، فهو فی غایة البُعد ، لأنّه لیس أمراً عبادیّاً یقتضی ذلک ، حتی فیما لو لم یرد الاستفادة من ماء البئر ، وإن حکم بذلک عند إرادة الاستفادة من البئر ، فهو مضافاً إلی مخالفته لمقتضی إطلاق أدلّته ، أنّه لا یفید مع الاختلاف الموجود فی المقادیر المعیّنة فی الأخبار ، إذ لا یمکن إحالة الناس فیی أمر واجب إلی ما هو مختلف فیه بحسب المقدار والحدّ ، فتمام ذلک یؤیّد کون الحکم استحبابیّاً ، کما لا یخفی ، هذا فضلاً عن أنّه شرطی لا نفسی ، یعنی یستحبّ النزح لمن أراد استعماله ، سواء کان استعماله فی أمر عبادی مثل الوضوء والغسل ، أو توصّلی کتطهیر الموضع من الخبث .

فی کیفیّة تطهیر البئر

ص:253

وإذا تغیّر أحد أوصاف مائها بالنجاسة ، قیل ینزح حتّی یزول التغیّر ، وقیل ینزح جمیع مائها، فإن تعذّر لغزارته تراوح علیها أربعة رجال ، وهی الأولی(1).

فعلی هذا ظهر أنّ المقدرات الواردة فی المنزوحات ، بل التراوح أو نزح الجمیع فیما لا نصّ فیه ، أو فیه النصّ کذلک ، تعدّ جمیعها مستحبّةً ، ولاینبغی ترکها فیما اُرید استعماله من ماء البئر .

فحیث اخترنا الاستحباب فی جمیع ذلک ، فلنصرف الکلام عن تعرّض کلّ واحد واحد منها فی المقام ، خوفاً من الإطالة ، خاصّة إذا لاحظنا قلّة أهمّیة هذا البحث فی هذه الأزمنة وضرورة توجیه اهتمامنا إلی ما یهمّ المجتمع الإسلامی .

بناءً علی ما ذکرنا وتبعاً للمتأخّرین من الفقهاء کالسیّد فی «العروة الوثقی» ، ومن تبعه من المحشّین من الفقهاء والمعاصرین ، نطرح من مباحث ماء البئر الکثیرة ، مسألة حصول التغیّر فیه بالنجاسة وکیفیّة تطهیره ، کما تعرّض لها السیّد قدس سره فی «العروة» بقوله :

(1) إذا عرفت حکم ماء البئر الملاقی للنجس من دون التغیّر ، وأنّه لا ینفعل کما حقّقناه بحمد اللّه ، تصل النوبة الآن إلی ما لو حصل له التغیّر بأحد أوصاف النجس کلّه أو بعضه ، فلا إشکال فی تنجّسه بالنسبة إلی المتغیّر ، إلاّ أنّ الکلام والإشکال وقع فی کیفیّة تطهیره ، علی أقوال ووجوه ، تبلغ إلی أزید من سبعة أو ثمانیة وهی :

الأوّل : تحصل الطهارة بنفس الزوال ، ولو لم ینزح منه شیئاً ، ولم یتجدّد من المادّة ماء ، بحیث لو زال تغیّره من عند نفسه من دون وقوع المطر فیه أو ماء آخر فهو یطهر ، لأنّ له مادّة متّصلة وهی عاصمة له . وهذا هو الذی ذهب إلیه صاحب «الجواهر» بقوله : «إذ لعلّ الاتصال بها کاف ، فتأمّل جیّداً» ، وصریح کلام

ص:254

الشهید قدس سره ومن تبعه کالحکیم والخوئی والآملی فی «مصباح الهدی» ، ولعلّه الأقوی ، وإن کان الاحتیاط فی خصوص البئر ، عدم ترک النزح للزوال فی المورد ، لوجه سیأتی عن قریب فی محلّه إن شاء اللّه . فیکیفیّة تطهیر البئر

الثانی : لابدّ من تطهیره بنزح الجمیع ، ولو لم یمکن فبالتراوح بأربعة رجال . وهذا هو مختار المصنّف ، بل نسبه فی «کشف اللثام» إلی القائلین بالنجاسة ، عدا المفید وابن زهرة وابن إدریس والبرّاج ، بل عن الصدوقین وسلاّر وابن حمزة .

الثالث : وهو المتوسّط بینها ، وهو لزوم النزح إلی أن یحصل الزوال ، ولو بنزح بعض الماء . وهذا هو الذی یظهر من المحقّق النراقی والشیخ الأنصاری قدس سره ، والمحقّق الهمدانی ، بل عن العلاّمة البروجردی من الحکم بالاحتیاط به ، وقد عرفت منّا أنّه موافق للاحتیاط ، فلا بأس حینئذٍ بالإشارة إلی الأخبار ثمّ نتعرّض لبقیّة الأقوال إن شاء اللّه تعالی .

فنقول : أصحّ الأخبار سنداً ودلالةً واستناداً هو صحیح محمّد بن إسماعیل بن بزیع ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه ، فینزح حتّی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ له مادّة»(1) .

وقد عرفت التحقیق منّا تفصیلاً فی بحث الماء الجاری المتغیّر ، من عموم التعلیل ، بکون المادّة بنفسها عاصمة ، وعدم کون النزح هنا أمراً تعبّدیاً صرفاً ، بل إنّما کان بواسطة رفع التغیّر به ، فیکون هو أیضاً أحد أسبابه المتعارفة السهلة ، إذ بحسب النوع لا یحصل الزوال سریعاً إلاّ بذلک ، فلأجله تذکر بهذا الطریق ، وهو أمر عرفی ارتکازی ، فاحتمال التعبّد بالنزح فقط ، بحیث لا یفید فی تطهیره بإلقاء الکرّ علیه أو المطر ، بعید غایته ، کما أنّ احتمال الخصوصیّة فی النزح ، لإتیان ماء


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 _ 7 .

ص:255

جدید فیه ، بحیث لایکون الزوال الحاصل من عند نفسه بواسطة اتّصاله مع المادّة کافیاً ، أیضاً بعید ، وإن لم یبلغ بعده کسابقه ، کما لا یبعد القول به احتیاطاً ، مع التوجّه ملاحظة أخبار کثیرة واردة فی خصوص ماء البئر ، وإن لم نقل بتلک الجهة فی غیر ماء البئر ممّا له مادّة ، کماء الحمّام مثلاً ، حیث یکون زواله باتّصاله به ، وکذلک فی المتغیّر فی الکرّ إذا کان باقی الماء غیر المتغیّر کرّاً أیضاً ،

فحینئذٍ نتعرّض للأخبار الکثیرة الواردة فی النزح .

فمنها : موثّق سماعة فی حدیث ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الفأرة تقع فی البئر أو الطیر . . . ، إلی قوله فی جوابه علیه السلام : وإنْ أنتّن حتّی یوجد النتن فی الماء ، نزحت البئر حتّی یذهب النتن من الماء»(1) .

ومنها : صحیح زید الشحّام ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الفأرة والسنور والدجاجة والکلب والطیر ؟ قال : فإذا لم یتفسّخ أو یتغیّر طعم الماء فیکفیک خمس دلاء ، وإن تغیّر الماء فخذ منه حتّی یذهب الریح»(2) .

ومنها : خبر زرارة قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : بئر قطرت فیها قطرة دم أو خمر ؟ قال علیه السلام : فی حدیثٍ : فإن غلب الریح نزحت حتّی تطیب»(3) .

ومنها : صحیح معاویة بن عمّار ، قال : «سمعته یقول : لا یغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع فی البئر إلاّ أن ینتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر»(4) .

ولیس فیه ذکر (حتّی یذهب) حتّی یحمل کون النزح طریقاً منحصراً إلی تحقّق الزوال سریعاً ، فیحتمل فی مثل هذا الخبر من اعتبار کون الزوال حاصلاً من


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .

ص:256

النزح الموجب غالباً لخروج ماء جدید فیه ، وهذا لا ینافی کون المطهر له أیضاً شیئاً آخراً بدلیله مثل المطر الوارد فی الحدیث بقوله : «کلّ ما یراه المطر فهو طاهر» إن دلّ علی ذلک ، أو الکرّ بمقتضی خبره بقوله : «لم ینجّسه شیء» ، حیث یفهم منه رفع النجاسة أیضاً . هذا ، بخلاف ما لو لاقی ماء البئر شیئاً من تلک الاُمور ، بلا تحقّق الزوال بنفسه بواسطة اتّصاله بالمادّة ، فهو وإن اقتضی إطلاق التعلیل فی صحیحة ابن بزیع طهارته أیضاً ، إلاّ أنّه بملاحظة مثل الخبر الذی ذکر لا یبعد القول بالاحتیاط ، کما علیه العلاّمة البروجردی .

لا یقال : وهناک بعض الأخبار تدلّ علی لزوم نزح الجمیع ، کما فی خبر أبی خدیجة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سُئل عن الفأرة تقع فی البئر ؟ قال : إذا ماتت ولم تنتن فأربعین دلواً ، وإذا انتفخت فیه أو نتنت نزح الماء کلّه»(1) .

فعلی ما ذکرتم یحتمل کون الحکم هو نزح الجمیع ، لا أن یزول التغیّر .

لأنّا نقول : إنّه مشتمل علی ما لم یفت به أحدٌ من الأصحاب من أربعین دلواً فی الفأرة ، ولذا یحمل علی الاستحباب کما ذکره صاحب «وسائل الشیعة» نقلاً عن الشیخ الطوسی ، فلعلّه کان قرینة لحمل ذیله أیضاً علی الاستحباب والأفضلیة .

کما أنّه یمکن أن یکون فی مورد لا یزول إلاّ بنزح الجمیع ، لقلّة ماءه ، بکون الألف واللام فی البئر للعهد الخارجی ، کما هو غیر بعید ، بل یشعر بذلک خبر منهال ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : العقرب تخرج من البئر میّتة ؟ قال : استق منها عشرة دلاء ، قال : قلت : فغیرها من الجیف ؟ قال : الجیف کلّها سواء ، إلاّ جیفة قد اخیفت ، فإن کانت جیفة قد اخیفت فاستق منها مأة دلو ، فإن غلب علیها الریح بعد مأة دلو فانزحها کلّها»(2) .

فی فروعات نزح البئر


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:257

فظهر ممّا ذکرنا إمکان الفرق بین القول بلزوم النزح لحصول ماء جدید بواسطة الأخبار ، وبین نزح الجمیع فی بعض تلک الأخبار ، کما لا یخفی .

والظاهر أنّ النزح لا یکون تعبّداً صرفاً ، بل لحصول ماء جدید ، فیکفی ولو بدون النزح ، کما لو نبع الماء الجدید فی فصل الربیع ، حتّی امتلأ البئر ، فیکفی فی طهارته إذا زال تغیّره بذلک .

وممّا یدلّ علی النزح للزوال ، موثّق أبی بصیر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عمّا یقع فی الآبار ؟ فقال : أمّا الفأرة وأشباهها فینزح مها سبع دلاء ، إلاّ أن یتغیّر الماء فینزح حتّی یطیب»(1) .

ومنها : مرسلة الصدوق فی «المقنع» ، بعد قوله : «وإنْ وقعت فی البئر قطرة دم . . . . وإن تغیّر الریح فانزح حتّی یطیب»(2) .

ومنها : خبر «فقه الرضا» : «فإن تغیّرت نزحت حتّی تطیب»(3) .

ومثله الخبران المنقولان عن «فقه الرضا» فی «المستدرک» .

فهذه جملة من الأخبار قد عثرت علیها ، واشتملت علی لزوم النزح عند حصول التغیّر ، أی یکون شرط التطهیر هو هکذا ، فالحکم بالنزح احتیاطاً لا یخلو عن قوّة ، وإلاّ لولاها کان ما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره من قبلُ قویّاً ، واللّه العالم .

هذا کلّه بناءً علی المختار ، ومن وافقنا فی عدم انفعال ماء البئر بالملاقاة فقط بدون حصول التغیّر .


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
3- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:258

والرابع من الأقوال : هو وجوب نزح أکثر الأمرین من المقدّر ، وما یزول به التغیّر من غیر المنصوص بنزح الجمیع ، وأمّا فیه وفیما لا نصّ فیه ، فیجب نزح الجمیع إن لم یتعذّر ، وإلاّ فبالتراوح ، کما علیه ابن زهرة وابن إدریس والعلاّمة فی «المختلف» ، والشهید الثانی فی «الروضة» ، واختاره صاحب «الجواهر» بمقتضی الجمع بین الأدلّة .

الخامس : نزح ما یزیل التغیّر أوّلاً ، ثمّ نزح المقدّر تماماً ، إنْ کانت النجاسة ممّا لها مقدّر ، وإلاّ فالجمع ، فإن تعذّر فبالتراوح .

السادس : الاکتفاء بأکثر فیما له مقدّر ، وفی غیر المنصوص یرجع إلی زوال التغیّر .

السابع : وجوب نزح الجمیع ، ولعلّه المشهور بین القائلین بالتنجّس .

ثمّ القائلون بذلک انقسموا إلی قسمین عند تعذّره :

فبعضهم یقول : عند تعذّر نزح الجمیع فبالتراوح .

وآخرون : إلی زوال التغیّر .

وثالثةً : بمراعاة أکثر الأمرین .

فصارت الأقوال حینئذٍ ثمانیة بل تسعة ، وبما أنّ مسألة طهارة البئر واضحة عند المتأخّرین فی غیر صورة التغیّر ، ووضوح لزوم زواله عند حصوله بأیّ جهة اتّفقت ، ولم نقل بوجوب تعبّدی لخصوص النزح ، بل إنْ عُدّ واجباً کان طریقاً متعارفاً لتحصیل الطهارة ، غایة الأمر لایبعد القول بوجوبه ، لو لم یخرج الماء الجدید ، إلاّ به کما هو کذلک نوعاً .

وأمّا لو فرض تحقّق زواله بواسطة نبعان ماء جدید فیه ، حتّی بلغ الماء لکثرته إلی فم البئر ، کما فی بعض الفصول ، فبواسطته زال تغیّره ، فلایبعد القول بطهارته ، فبناءً علی هذا ، تطهر فروع کثیرة نذکرها إجمالاً .

الفرع الأوّل : إنّه لا اعتبار فی ملاحظة کیفیّة الدلو من الصغیر وغیره ، أو من

ص:259

لزومه أوّلاً ، لما قد عرفت من عدم الخصوصیّة لذلک ، بل المناط إیجاد عملٍ یوجب خروج ماء جدید ، ولو کان بواسطة المکائن المتعارفة فی زماننا ، بل وقد عرفت کفایة خروجه بنفسه بمقتضی الفصول ، فضلاً عن خروجه بعلاج ، وهو واضح . فیفروعات نزح البئر

الفرع الثانی : وممّا ذکرنا ظهر حکم طهارة الآلآت بعد زوال تغیّره ، بل وهکذا حواشی البئر وما یلاقیها بالملازمة ، نظیر ما یقال بذلک فی صیرورة الخمر خلاًّ ، بل فی ذهاب ثلثی العصیر العنبی فی الغلیان وأمثال ذلک فی الشرع ، لأنّه ثبت ذلک بالملازمة القهریة ، وإلاّ لما أمکن التطهیر أصلاً ، وصار الحکم بالتطهیر بواسطة النزح لغواً .

والمراد من طهارة الآلآت ، هو طهارة الجدار الخارجی منها المتّصلة بماء البئر فی الدفعة الأخیرة المطهّرة للماء ، فإنّه لوم کان نجساً ومنجساً _ خصوصاً لمن یقول بالانفعال _ وجب لغویة النزح ،

الفرع الثالث : ظهر ممّا ذکرنا عدم إضرار وقوع قطرات المنفصلة عن ماء الدلو حتّی الماء الأخیر منه ، لما قد عرفت من عدم إمکان التفکیک بینهما عرفاً ، وإلاّ لکان علیهم علیهم السلام البیان ، فهو واضح لا خفاء فیه ، حتّی یحتاج إلی مزید کلام .

الفرع الرابع : عدم لزوم کون النزح والتراوح عن نیّة أو کفّ من إنسان ، بل الملاک حصول النزح ولو من غیر ذی شعور ، کما قد یتّفق فی زماننا هذا من الآلآت والمکائن الکهربائیة إذا تحرّکت بنفسها وأخرجت الماء من البئر ، حتّی زال به التغیّر ، فلا إشکال فی حصول الطهارة به ، کما لایخفی .

الفرع الخامس : یظهر من تضاعیف کلماتنا ومشابهة الأدلّة بعضها مع بعض ، حکم ما لو تغیّر بعض ماء البئر ، حیث أنّه یطهر بالنزح الموجب للزوال قطعاً ، بل لا یبعد القول بحصول طهارته بزواله بنفسه ، إذا کان الماء غیر المتغیّر الباقی فی البئر بمقدار الکرّ ، فالحکم بطهارته هاهنا بنفسه وبزواله أقوی من صورة الزوال

ص:260

وإذا حکم بنجاسة الماء ، لم یجز استعماله فی الطهارة مطلقاً ، ولا فی الأکل ولا فی الشرب ، إلاّ عند الضرورة(1).

فی حکم استعمال الماء المتنجّس

للمتغیّر بواسطة الاتّصال بالمادّة ، لأنّ دلیل الکرّ یشمل صورة ما نحن فیه قطعاً ، واحتمال تخصیص دلیل البئر له ضعیف جدّاً ، مضافاً إلی ما عرفت من وجود دلیل مخصوص للبئر علی نحو الإطلاق ، کما فی مرسلة علیّ بن حدید ، فلا نعید .

(1) ولا إشکال فی کون المراد من عدم الجواز هو الحرمة ، فی مثل الأکل والشرب ، کما یجوز فی حال الضرورة بلا إشکال . کما أنّ المراد من الإطلاق ، هو ما یقابل الطرف الآخر ، أی کون عدم جوازه فی الطهارة حال الضرورة وغیرها . وإنّما الکلام والإشکال وقع فی القسم الأوّل ، وهو استعماله فی الطهارة من الحدث والخبث ؟ والظاهر عدم الإشکال فی عدم حرمة استعماله فی الطهارة عن الخبث ، لأنّه مع علمه بالنجاسة لا أثر فی استعماله لو لم یکن مزیداً فی نجاسته ، وإن أراد التشریع فی ذلک ، أی الاعتقاد بکونه غیر نجس ، لو أدّی إلی ذلک اجتهاده فهو أمر آخر غیر مرتبط بجهة الاستعمال .

لکن لو سلّمنا حرمته علی الفرض فی تسلیم صدق التشریع فی ذلک کان من جهة بناءه واعتقاده ، فلا خصوصیّة للاستعمال إلاّ کونه مظهراً لذلک ، کما لایخفی ، فتکون حرمته من جهة إدخال ما لیس من الدِّین فی الدِّین .

وأمّا الطهارة عن الحدث ، فالظاهر أیضاً عدم حرمته من جهة الاستعمال ، إلاّ من حیث التشریع إذا کان بعمله قاصداً التشریع المحرّم ، فلا یرتبط ذلک بجهة کون استعمال بنفسه حراماً ، لوضوح أنّ النهی عن استعمال الماء النجس للوضوء والغسل کان شرطیّاً للطهارة ومانعیّاً عن النجاسة ، یعنی تکون الأوامر والنواهی فی أمثال ذلک إرشاداً إلی عدم إمکان ذلک للطهارة بدون الشرط ، وأمّا کون العمل

ص:261

ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر ، وجب الامتناع منهما ، وإنْ لم یجد غیر مائهما یتیمّم(1).

بنفسه حراماً ولو لم یقصد التشریع ففی غایة الإشکال ، فما ذکره صاحب «کشف اللثام» بقوله : «إنّ استعماله فی صورة الطهارة أو الإزالة مع اعتقاد أنّهما لا یحصلان به لا إثم فیه ، ولیس استعمالاً له فیهما، انتهی ».

فما أورد علیه صاحب «الجواهر» قدس سره من عدم تأثیر الاعتقاد فی ذلک فی غیر محلّه .

ولا یخفی علیک أنّ هذا البحث لا ینحصر فی مسألة ماء البئر إذا صار نجساً ، بل یکون لمطلق ما یکون استعماله فی الطهارة ممنوعاً بواسطة نجاسته أو غصبیّته أو غیر ذلک ، من حیث حرمته من تلک الحیثیّة ، لا من جهة کونه مال الغیر ، ولا من حیث کون النهی عن العبادات دالاًّ علی الفساد قطعاً ، إذ الجهات فی البحث والکلام متفاوتة ، کما لا یخفی .

هذا جملة الکلام التی أردنا ذکرها فی بحث ماء البئر .

(1) ولا یخفی علیک أنّ هذه المسألة مشتملة علی شقوق کثیرة وفروع عدیدة ، ولا بأس بالتعرّض لها بما فیها من الضروب والأقسام لکثرة الفائدة المترتّبة علیها ، فأقول وباللّه الاستعانة :

فی الانائین المشتبهین بالنجاسة

إنّ المسألة تارةً : یبحث فیها من جهة وجوب الاجتناب عن المشتبهین بالنجاسة ، بحسب القاعدة ، بواسطة دلیل وجوب الاجتناب عنها ، واُخری : عن لزوم التیمّم حینئذٍ ، وعدم جواز استعمال أی واحد منهما .

وأمّا الکلام فی الأمر الأوّل : فقد وقع الخلاف فیه بین الفقهاء ، بل الأصولیّین أیضاً ، فی أنّ الحکم والقاعدة فی الشبهة المحصورة هل هو وجوب الموافقة القطعیّة ، أو حرمة المخالفة القطعیّة ، أو یکفی ویجوز المخالفة الاحتمالیة ، بل

ص:262

المخالفة القطعیّة تدریجاً بعد الاتّفاق منهم علی حرمة المخالفة القطعیّة دفعة ؟

والذی ذهب إلیه الأکثر _ بل قد ادّعی علیه الإجماع فی بعض الموارد کما فی المقام ، حیث ادّعاه المحقّق فی «المعتبر» والشیخ فی «الخلاف» وغیرهما فی «الغنیة» و«التذکرة» و«نهایة الاحکام» ، بل بغیر خلاف کما فی «السرائر» ، ولقد استدلّ علیه بوجوه کثیرة _ هو وجوب الموافقة القطعیّة کما علیه جمیع المتأخِّرین والمعاصرین علی ما ببالی . والذی استدلّ علیه أو یمکن أن یستدلّ _ وإن لم یذکره أحد _ هو أن یقال : إنّ المشتبهة المردّد بین الإنائین للنجاسة مثلاً :

تارةً : یفرض کون کلّ واحد من الإنائین معلوم الحال فی السابق .

واُخری : غیر معلوم .

فعلی الأوّل ، قد یعلم طهارتهما سابقاً والآن یعلم بنقض أحدهما غیر معیّن .

وآخر یکون عکس ذلک ، أی یعلم بنجاستهما سابقاً ، والآن یعلم بنقض أحدهما غیر معیّن .

وثالثاً : لا یعلم شیئاً .

کما أنّ المشتبه بالنسبة إلی الحالة السابقة ، ثمّ الاشتباه قد یکون ذاتیّاً ، کما لا یعلم من الأوّل وقوع النجاسة فی أحدهما .

أو عرضیّاً ، أی کان یعلم ابتداءً النجس والطاهر ، وقد اختلط سهواً بینهما ، ولا مایز حتّی یمیّز أحدهما عن الآخر .

وفی جمیع هذه التقادیر ، الحکم هو وجوب الاجتناب عن کلیهما ، وتحصیل الموافقة القطعیّة للتکلیف ، غایة الأمر یکون فی بعض الموارد مؤیّداً بأمور متعدّدة لذلک دون بعض آخر ، لولا یکون فی بعض الموارد الأصول علی خلاف مقتضاه ، کما سیأتی تفصیله إن شاء اللّه تعالی .

قد یقال فی وجهه کما عن المحقّق فی «المعتبر» : بأنّ الیقین بالطهارة معارض

ص:263

بیقین النجاسة ، ولا رجحان فیتحقّق المنع . وقد أوضحه صاحب «الجواهر» بقوله ما هو ملخّصه : (أنّ جریان الاستصحاب والعمومات فی کلّ منهما معارض بجریانه فی الآخر ، والعمل به فیهما مقطوع بعدمه ، والقول بتخییر المکلّف فی واحد منهما لا دلیل علیه ، لأنّه لیس کتعارض الروایات ، والقول بجواز استعمالها تدریجاً ربما یوجب القطع بعدمه ، ولذلک لم یلتزم به المخالف فی المقام) ، انتهی .

لا یقال : إنّ مقتضی تعارض الاستصحابین فیما إذا کانت حالته السابقة معلومة فی أحدهما بالطهارة والآخر بالنجاسة ، والآن اشتبه فیهما أو فی کلیهما هو التساقط ، فیرجع حینئذٍ إلی قاعدة الطهارة ، بقوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» ، فلا یقتضی المقام الحکم بالمنع بعد التعارض ».

لأنّا نقول : إن ثبت من ذلک أنّ النجاسة لا یجب عنها الاجتناب موضوعاً إلاّ بعد العلم التفصیلی بنجاسته ، یعنی إنْ اُرید أنّه لا یکون النجس نجساً إلاّ بعد العلم التفصیلی به ، فهو _ مضافاً إلی کونه خلاف الوجدان ، لوضوح أنّ النجاسة أمر واقعی یوجب تنفّر الطبع عنه کما حقّقناه فی أوّل بحث الطهارة ، ولیس ممّا یکون العلم التفصیلی موجباً لتحقّقه _ إنّه مستحیل لاستلزامه الدور وتوقّف الشیء علی نفسه ، لعدم النجاسة قبل العلم ولا علم قبل النجاسة .

وإن اُرید من جهة أنّ الحکم أی وجوب الاجتناب عنه لا یکون إلاّ بعد العلم التفصیلی ، فهو دعوی بلا دلیل ، ومخالفٌ لحکم العقل ، لأنّنا نشاهد من العقلاء دائماً أنّهم یحکمون بالاجتناب عن ما یوجب الخطر ، سواء علموا بعلم تفصیلی بذلک أو بعلم إجمالی ، کما لو رأی حیوانین یعلم إجمالاً أنّ أحدهما مفترس یهجم علیه ویقتله فلا إشکال فی أنّ علیه أن یحذر منه ویفرّ ، ولیس علیه التوقّف حتّی یعلم تفصیلاً أنّ أیّهما یکون متّصفاً بهذه الخصلة ، بل وهکذا الحال فی سائر الأوامر والنواهی العرفیّة . فحینئذٍ لا یبعد دعوی کون المورد من أفراد حکم

ص:264

المغیّی فی قاعدة الطهارة ، یعنی أنّه محکوم بالنجاسة إمّا واقعاً أو حکماً ، لو لم یکن کذلک موضوعاً .

هذا ، مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا جریانهما ، فلو جری فی واحد منهما دون الآخر ، فإن کان ذلک معیّناً فهو ترجیح بلا مرجّح ، وإن کان لا بعینه لا أثر له خارجاً ، لأنّ طهارة أحدهما کان معلوماً قبل ذلک ، ولا یفید فی مقام الاستعمال ، وإن کان المراد هو التخییر الشرعی فهو غیر ثابت ، والعقلی إنّما یکون فی ما لا مندوحة فیه ، فی المورد الذی فیه الاحتیاط ، وإن جری فی کلّ واحد منهما ، فهو موجب للتناقض فی لسان الشرع ، بأن یقول أحدهما نجس قطعاً ویجب الاجتناب عنه بمقتضی العلم الإجمالی ، مع قوله إنّهما معاً طاهران لا یجب الاجتناب عنهما .

وبعبارة اُخری : لا تجتمع السالبة الجزئیة مع الموجبة الکلّیة ، لأنّ معنی کون أحدهما نجس هو وجوب الاجتناب وعدم جواز استعمال أحدهما ، ومعنی أنّ کلیهما طاهران أی استعمل إن شئت کلّ واحد منهما ، وهذا تناقض ، فلا یبقی هنا وجه للحکم بجواز الاستعمال لأحدهما أو کلیهما من هذه الحیثیّة .

فإن قلت : نتمسّک فی جواز استعمال أحدهما بالبراءة الشرعیّة من قوله : «رفع ما لا یعلمون» .

توضیح ذلک : إنّه لا إشکال فی کون الاستعمال لکلیهما لا یجامع مع العلم بالنجاسة ، فلابدّ من ترک استعمال أحدهما لذلک ، فنشکّ بعد ترک استعمال أحدهما إنّه هل یجب الاجتناب عن الآخر أیضاً أم لا ؟

فنقول : إنّ دلیل الرفع (رفع ما لا یعلمون) ، یحکم بجواز استعماله ، ولیس معنی الجواز هاهنا إلاّ الطهارة .

قلت : أوّلاً فی أیّ الفردین یجری ؟ فإن جری فی الفرد المعیّن لزوماً ، فإنّ

ص:265

المفروض انتفاءه ، لأنّه لا وجه للحکم بذلک تعییناً تکلیفیّاً ، إذ هو حکم بلا دلیل .

وإن کان فی واحد منهما تخییراً ، ففیه مضافاً إلی ما عرفت فی التخییر ، فلا دلیل شرعی هاهنا بالتخییر . اللّهم إلاّ أن یُقال بالتخییر العقلی فی ذلک ، فهل یوجب ذلک أن یتعیّن النجاسة شرعاً لواحد منهما إذا انتخب ، أو یجوز له التعویض والتبدیل تارةً بهذا واُخری بذاک ؟

فإن اُرید الأوّل ، فیسئل عن دلیله ، فلم یتعیّن بحیث لا یجوز الحکم بالطهارة إلاّ فیه ، ومن المعلوم انتفاء الدلیل فی ذلک .

وإن اُرید الثانی ، فیلزم أن یکون الشیء الواحد فی حالة واحدة بلا تغیّر له فی الخارج تارةً محکوماً بالطهارة واُخری بالنجاسة ، وهذا یؤدّی إلی حدوث فقد جدید لم یقل به أحد من الفقهاء ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : إنّه لا یمکن إجراء البراءة لا شرعاً ولا عقلاً فی المورد ، لوضوح أنّ العلم الإجمالی من أقوی الأدلّة والحجج علی لزوم الاجتناب ، فلا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، کما لا یجری حدیث ما لا یعلمون ، لأنّه علم وحجّة ، کما لایخفی .

وثالثاً : لو سلّمنا جریانهما وأغمضنا النظر عمّا ذکرنا ، فیلزم الإشکال الوارد فی التعارض للاستصحابین ، لأنّ کلّ واحد من الإنائین یمکن دخوله تحت قاعدة البراءة فیتعارضان ، والالتزام بجریانها فی أحدهما دون الآخر لیس له ما یعیّنه مع قابلیة طبع الدلیل للشمول وهذا ، لیس بأولی من الالتزام بعدم جریانها فی موارد العلم الإجمالی کما هو المعمول بین الأصحاب .

هذا کلّه لو اُرید من البراءة البراءة الجاریة المنطبقة علی کلّ واحد من الإنائین .

وإن اُرید من البراءة ، البراءة من حیث أصل الحکم ، یعنی أنّ دلیل الشارع یقوله یجب الاجتناب عن النجس فهل یشمل صورة المشتبه کذلک فیکون التکلیف باقیاً ، أو لا یشمل إلاّ خصوص ما یعلم النجاسة بخصوصها ، فالأصل

ص:266

البراءة من وجود التکلیف فی هذه الموارد .

وفیه أوّلاً : إنّ المرجع فی مثل ذلک هو إطلاق الدلیل الاجتهادی ، وملاحظة أنّه هل له إطلاق حتّی یشمل موارد الشبهة والشکّ أم لا ولزوم الرجوع إلی أصل البراءة ؟

وثانیاً : إنّه محکوم بدلیل الاستصحاب ، فیما إذا کان الاشتباه عارضاً بل مطلقاً ، لأنّ البحث فی أصل التکلیف بلا نظر إلی العوارض الخارجیّة .

فیکون تقریر الموضوع هکذا : إنّه بملاحظة دلیل وجوب الاجتناب عن النجس یلزمه هذا التکلیف فیما إذا کان المتعلّق معلوماً ، فیشکّ عند عروض الاشتباه فی أنّه هل التکلیف بعده باقیاً أم لا ؟ وحینئذٍ دلیل (لا تنقض الیقین بالشکّ) یحکم بالبقاء ، وهو مقدّم علی أصل البراءة ، إمّا وروداً أو حکومة کما حقّق فی محلّه .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّه لا یمکن التمسّک لإثبات الطهارة لأحدهما بدلیل البراءة ، ولا غیرها من قاعدة الطهارة واستصحابها للتعارض وغیره .

قد یقال : فی وجه وجوب الاجتناب عن کلیهما ، ما ذکره العلاّمة فی «المختلف» بأنّ اجتناب النجس واجب ، ولا یتمّ إلاّ باجتنابهما ، وما لا یتمّ الواجب إلاّ به واجب ، انتهی کلامه .

وهذا الاستدلال مبنیّ أوّلاً : علی تسلیم وجود الإطلاق لدلیل وجوب الاجتناب بحیث یشمل حتّی صورة الشبهة والشکّ ، کما لایبعد صحّته .

وثانیاً : علی تسلیم کون مقدّمة الواجب واجبة ، فیکون المورد حینئذٍ من ذلک ، لأنّ ترک کلّ فرد منه یعدّ مقدّمة لترک تحقّق المعصیة والمخالفة لوجوب الاجتناب . فیالانائین المشتبهین بالنجاسة

وثالثاً : وعلی عدم وجدان دلیل یدلّ علی الجواز لأحدهما ، کما ادّعی أو احتمل نقله صاحب «الجواهر» قدس سره عن المحقّق الأردبیلی قدس سره ، وإلاّ لما یبقی لدلیل مقدّمة الوماجب مورد .

ص:267

فإذا ثبتت هذه الاُمور الثلاثة کان ما ذکره من الاستدلال تامّاً .

وقد أشکل الفاضل النراقی قدس سره فی «المستند» علی العلاّمة قدس سره بأنّا نمنع من کون الواجب هو الاجتناب عن النجس مطلقاً ، بل الثابت هو وجوب الاجتناب ما یعلم أنّه نجس عن استعمال نجس النجس وهو یحصل باجتنابهما معاً ، أی لزوم مراعاة الترک فی کلیهما بصورة المعیة کما هو المفروض ، وإن لم یجتنب عن کلّ منهما بدلاً .

هذا ، لکنّه لا یخلو عن مناقشة لأنّه لا إشکال فی أنّه إذا علم بوجود النجس فی البین ، فقد شغل ذمّته بالتکلیف ، وهو وجوب الاجتناب عنه ، فمقتضی شغل الذمّة تعیینیّاً _ بحسب حکم العقل _ هو البراءة عنه تعیینیّاً ، أی لابدّ من تحصیل المؤمّن عن العقوبة عند حصول المخالفة واقعاً لدی ارتکابه ، ومن المعلوم انتفاءه ، لأنّه إن خالف واستعمل أحدهما وصادف الواقع النجس ، فإنّه یحسن عقلاً عقابه فلا یقبل الاعتذار منه بعدم العلم تفصیلاً بالنجاسة بخصوصه أو بالمجموع . ولعلّ هذا هو مراد الشیخ الطوسی قدس سره فیما قاله فی «الخلاف» کما نقله الشیخ فی کتاب «الطهارة» بأنّه متیقّن بالنجاسة فی أحدهما ولا یؤمن من الإقدام علی استعماله .

وبعبارة اُخری : إنّ العقل یحکم بقبح الإقدام علی ما لا یؤمن من العقوبة والمفسدة ، کما یقبح فیما یقطع فیه بذلک . فلیس ما یتصوّر فیه المؤمّن إلاّ أصل البراءة _ بما قد عرفت تقریرها وجوابها _ أو قاعدة الطهارة _ وقد علمت الردّ علیها _ أو استصحابها _ فقد مضت شبهتهما فلا نعید .

وبالجملة لا نسلّم دعوی کون حرمة المخالفة القطعیّة ولا وجوب الموافقة القطعیّة محقّقة وثابتة ، بل الحقّ الحریّ بالتصدیق عند العقل والوجدان هو وجوب الموافقة القطعیّة للتکلیف ، إلاّ فیما یلزم العسر والحرج ، أو الضرر من

ص:268

العوارض والعناوین الثانویة ، أو إذا دلّ دلیل بالخصوص علی عدم وجوب الموافقة القطعیة ، وکفایة الاحتمالیة ، کما هو الحال فی أطراف الشبهة الغیر المحصورة ، لأحد من الوجهین المذکورین . کما أنّ إشکاله أیضاً علی کلام المحقّق بما هو لفظه : «فبأنّ مورد یقین النجاسة أحدهما لا بعینه ، ومورد الطهارة کلّ منهما معیّناً لا بدلاً ، فاختلف المحلّ ، فلا یتحقّق التعارض ، مع أنّ أصالة الطهارة الشرعیّة عن المعارض خالیة) انتهی کلامه ». فیالانائین المشتبهین بالنجاسة

فی غیر محلّه ، لأنّه من العجب أنّه کیف أخذ الیقین بالنجاسة بالنسبة لما یعلم وقوعها فی البین ، وأمّا فی طرف الطهارة فإنّ قاعدة الطهارة جاریة فی کلّ واحد من الطرفین ، مع أنّ التعارض لابدّ أن یلاحظ فی کلّ منهما مع ما هو مسانخة ، وهو أن یقال : کما أنّ المکلّف یعلم بوجود النجاسة واقعاً فی أحدهما ، غیر معلوم عنده فی واحد معیّن خارجاً بلا رجحان لأحدهما علی الآخر ، فکما أنّ مقتضی الشکّ فی خصوص کلّ طرف موجب لجریان قاعدة الطهارة فی کلّ منهما ، یوجب وقوع التعارض بینهما بالعرض ، أی مع ملاحظة العلم الإجمالی بوجود النجس فی البین ، بحیث لو لم یکن هذا العلم موجوداً لجری الأصل الشرعی بالطهارة فی کلّ واحد بلا تعارض ویحکم بطهارتهما . کما أنّ هذا العلم الإجمالی موجبٌ لإیجاد التعارض بین الاستصحابین أیضاً ، إذا کانت حالتهما السابقة هی الطهارة أو النجاسة .

فمّما ذکرنا ظهر الجواب عن کلامه الثانی ، من خلوّ الأصل الشرعی الحاکم بالطهارة هنا عن وجود المعارض ، کما هو واضح .

فتلخّص من جمیع ما ذکرنا أنّ الحقّ الموافق للتحقیق ، هو مختار المشهور لو لم نقل بوجود الإجماع ، کما هو کذلک عند المتأخّرین من وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة فی العلم الإجمالی ، ولا اختصاص بالمورد فقط ، بل

ص:269

هو جار فی کلّ مورد إلاّ فیما یفرضه عنوان یوجب خروجه عن هذا الحکم ، أو یقوم الدلیل علی جواز ترک الامتثال فی أحدهما . والوجه فی ذلک هو الشمول الثابت فی إطلاق الخطابات الواردة فی تلک الموارد لها ، یعنی إطلاق خطاب (اجتنب عنا لنجس) یشمل صورة الشبهة المحصورة ، کما یشمل صورة العلم التفصیلی بالنجس .

لا یقال : إنّه یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة وهو غیر جائز ، لأنّه لم یحرز فی کلّ منهما أنّه نجس حتّی یشمله الدلیل .

لأنّا نقول : إنّما یلزم ذلک لو أردنا إثبات النجاسة لکلّ واحد من الإنائین ، بأن یقال إنّ کلّ واحد منهما نجس ، فیجب اجتنابه ، فحینئذٍ یرد علیه الإشکال المذکور ، بخلاف ما لو قلنا بأنّ مقتضی خطاب (اجتنب عن النجس) بحسب حکم العقل والعقلاء ، هو الاحتراز عن کلّ واحد منهما لتحصیل الاجتناب عن النجس الواقعی فی البین ، ولو یعلم إجمالاً بطهارة أحدهما ، وکونه باقیاً علی حاله من الطهارة .

وبعبارة اُخری : إنّه یجب علیه ترتیب آثار النجاسة وأحکامها من الاجتناب والاحتراز ، لا ما یکون اعتباره نجساً واقعاً .

وتظهر الثمرة فیما لو نذر علی نفسه أنّه لو وضع یده علی نجس علیه أن یتصدّق ، ففی المقام لو وضع یده علی واحد معیّن منهما فقط ، فحینئذٍ یمکن القول بعدم وجوب العمل بالنذر ، لأنّه لم یحرز حینئذٍ تحقّق وجود الشرط حتّی یجب علیه المشروط ، مع أنّه لو کان هذا الواحد نجساً واقعاً بمقتضی دلیل (اجتنب) کان اللازم علیه فی الفرض المذکور وجوب الصدقة . فیالانائین المشتبهین بالنجاسة

ثمّ لا یخفی حکم العقل أیضاً بوجوب تحصیل الموافقة القطعیة للتکلیف ، کما یحکم بحرمة المخالفة القطعیّة للتکلیف ، بما قد عرفت بأنّ الشغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی .

ص:270

وقد عرفت من جمیع ما ذکرناه وحقّقناه عدم وجود مانع عن تنجّز هذین الحکمین من الشرع والعقل ، ودفع کلّ ما یتوهّم مانعیّته من الاستصحاب وقاعدة الطهارة والبراءة وأمثال ذلک . فظهر أنّ الحکم بالاجتناب فی المقام _ کما علیه جلّ الأصحاب _ هو علی وفق مقتضی القاعدة . مضافاً إلی ما سیأتی من وجود دلیل شرعی بالخصوص فی المقام وغیره ، یوافق ما حقّقناه ، وهاهنا فروع عدیدة ینبغی ذکرها لتضمّنها فوائد فقهیّة وهی :

الفرع الأوّل : لا یذهب علیک أنّه بعد الفراغ عن کون وجوب الموافقة القطعیّة واجب عقلاً وشرعاً ، بحسب مقتضی القاعدة الأوّلیة ، فقد وقع الخلاف بین الأعلام فی أنّه هل یجوز عقلاً وشرعاً تجویز المخالفة الاحتمالیة بارتکاب الخلاف فی أحد طرفی العلم الإجمالی ، وجعل الفرد الآخر بدلاً عن الواقع ومورداً للامتثال ، کما علیه الشیخ الأنصاری قدس سره فی «الرسالة» والمحقّق النائینی والآملی ، أم لا یجوز کما علیه جماعة اُخری ؟

أقول : برغم أنّ مجال البحث عنه هو الأصول لکن لابأس بالبحث عنه هنا .

یتبادر إلی ذهنی فعلاً هو عدم وجود محذور عقلی فیه ، لو صرّح الشارع بذلک ، فحینئذٍ لا یخلو الحال من وقوع أحد الأمرین :

إمّا أن یکون ما ارتکبه مصادفاً لما یجوز ، فوقع الامتثال حقیقةً فی ترک المخالفة للتکلیف الموجود فی البین .

أو یکون بخلافه ، یعنی صادف الواقع من النجس ، أو ترک الواجب وفعل الحرام ، فیما یکون المشتبهة هو أحدهما .

فیکون معنی تجویز الشارع هو تخصیص عموم الدلیل ، وتقیید إطلاق (اجتنب) لمصلحة موجودة من جهة رفع الشبهة أو إیجاد التسهیل للأمّة وأمثال ذلک ، وهو غیر مستنکر ، کما تری فی مثل أطراف الشبهة الغیر المحصورة ، أو ما

ص:271

یکون أحد الأطراف خارجاً عن مورد الابتلاء ، فیجوز ارتکاب أحد الأطراف مع إمکان مصادفته ، أو فی موارد جریان قاعدة التجاوز والفراغ مع إمکان أن یکون إجرائهما مستلزماً لترک ما هو الواجب واقعاً ، أو فعل ما هو حرام کذلک ، هذا بحسب الثبوت .

وأمّا بحسب مقام الإثبات لابدّ من إحراز وجود دلیل شرعی بالخصوص ، أو عروض عنوان علی أحد الطرفین المستلزم دخوله تحت القاعدة المقتضیة لتجویز ترک الامتثال ، کما قد یوجب عروض ذلک العنوان _ مثل الضرر والحرج _ تجویز ترک الامتثال فی المعلوم بالتفصیل للأحکام کما لایخفی .

هذا تمام الکلام فی حکم الشبهة المحصورة من حیث مقتضی القاعدة من دون اختصاص بمقام دون مقام .

وأمّا الکلام من جهة وجود الدلیل الخاصّ فی المورد ، وهو الماء النجس المشتبه مع الطاهر ، کما فی المتن _ وأراد استعماله للشرب أو للطهارة عن الحدث والخبث ؟ فلا إشکال فی عدم جوازه بمقتضی القاعدة ، إلاّ أنّ الدلیل بالخصوص لکن ورد فی الحکم بالتیمّم ولزوم إهراقهما ، وهو خبر موثّقة سماعة ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل معه إناءان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قدر لا یدری أیّهما هو ، ولیس یقدر علی ماء غیره ؟ قال : یهرقهما جمیعاً ویتیمّم»(1).

وخبر موثّقة عمّار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ قال : «سئل عن رجل معه إناءان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قذر لایدری أیّهما هو ، وحضرت الصلاة ، لیس یقدر علی ماء غیرهما ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(2) ».

وفی «المعتبر» نسبهما إلی عمل الأصحاب ، بل فی «المنتهی» : إنّ الأصحاب


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 ، 14 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 ، 14 .

ص:272

تلقّوا هذین الحدیثین بالقبول ، بل یظهر من جمیع الفقهاء المعاصرین والمتأخِّرین الإفتاء علی طبق الحدیثین بالحکم بالتیمّم ، ولعلّه کان لاعتمادهم علی هذین الحدیثین ، وإلاّ فإنّ الاحتیاط فی المقام یقتضی تحصیل الطهارة المائیة فی الجملة ، کما سیظهر لک إن شاء اللّه .

فظهر من مقتضی هذین الحدیثین أنّ الشارع لم یجوّز المخالفة والموافقة الاحتمالیة ، وإلاّ لما حکم بالتیمّم وجوّر الارتکاب فی أحدهما .

هذا ، ولکنّه یمکن أن یناقش فیه بأنّ الحکم بذلک فی مثل المقام لیس إلاّ من جهة أنّه لو أجاز تحصیل الطهارة بأحدهما ، فمع ذلک لا یمکن القطع بحصول الفراغ الیقینی عمّا هو الواجب ، وهو الصلاة بالنظر إلی مقتضی الاُصول الجاریة هنا ، کما سیتبیّن لک تفصیل البحث فیه .

وکیف کان ، لا یکون الخبران هاهنا دلیلاً علی عدم جواز ارتکاب المشتبهین المحصورین ، من جعل الأوّل للنجس الواقعی واحداً منهما لولا إشکال آخر من لزوم الترجیح بلا مرجّح وأمثال ذلک من الاُمور التی یمکن إجراءها فی المقام ، ومضی بحثها .

وحیث بلغ البحث إلی هنا ، لا بأس بصرف الکلام مفصّلاً فی موضوع الإنائین المشتبهین من جهة الحکم بإراقتهما ، ولزوم بالتیمّم کما علیه الفتوی ، وبیان الفروض التی یمکن أن یتصوّر فیها ، بعد الفراغ عن قلّة الماء الموجود فی الإنائین لا کریته ، کما یؤمی إلی ذلک التعبیر بالإناء الظاهر غالباً بما یکون أقلّ من الکرّ ، فحینئذٍ نقول : المسألة مشتملة لوجوه شتّی :

الوجه الأوّل : أن یفرض جواز استعمال أحدهما لتحصیل الطهارة المائیة عن الحدث ، فهل یمکن الالتزام به من جهة القاعدة والاُصول ، والحکم بالفراغ عن التکلیف بالصلاة المأتی بها بمثل هذه الطهارة ، أم لابدّ من تحصیل الطهارة

ص:273

الترابیة ، وعدم جواز الاکتفاء بالمائیة فقط ؟

والظاهر _ کما هو الأقوی _ هو الثانی ، لأنّ تحصیل الطهارة عن أحدهما _ مضافاً إلی ما عرفت من الإشکالات الواردة علیه ، من عدم کونه مشتملاً علی المرجّح ، حتّی یخرجه عن محذور الترجیح بلا مرجّح ، وعدم جریان استصحاب الطهارة وقاعدتها وأصالة البراءة الشرعیّة والعقلیّة ، لما قد علمت من کون جمیعها لها ما یعارضها بمثلها فی موردها ، ومضافاً إلی الإغماض عمّا سیأتی من احتمال کون الأمر بالإهراق لهما ، الشامل لذلک الإناء أیضاً ، موجب لحرمة استعماله ذاتاً ، کما احتمله بعض ، حتّی یصیر النهی المتعلِّق بتحصیل الطهارة الحدثیة ، المشتملة علی قصد القربة حینئذٍ موجباً لبطلانها ، لمنافاته مع قصد القربة ، إذ النهی المتعلّق بالعبادات موجب للفساد _ لا یوجب القطع بالفراغ الیقینی من الأمر المتعلّق للصلاة الواجبة ، لأنّ الماء المشتبه إذا لم یقدر الحکم بطهارته من جهة الاُصول من الاستصحاب وقاعدة الطهارة ، فحینئذٍ وإن لم یمکن الحکم بنجاسة البدن أیضاً بتحصیل الطهارة بماء واحد لوجود استصحاب طهارة البدن عن النجاسة المحتملة بلا تعارض ، إلاّ إنّه لا یمکن تحصیل الفراغ القطعی عن الصلاة ، بل مقتضی استصحاب عدم الإتیان بالطهارة الحدثیة ، وقاعدة الاشتغال بالصلاة هو عدم الکفایة ، کما لا یخفی .

فهذا الفرض واضح لا کلام فیه ، ولذلک لم یلتزم به أحد من الفقهاء علی ما فحصنا عنه . ویتفرّع علیه أنّه لو توضّأ من أحدهما لوضوء تجدیدی ، کان صحیحاً ، ویجوز له الدخول فی الصلاة مع ذلک ، لعدم القطع بنجاسة بدنه ، بل قد عرفت خلافه بالأصل .

الوجه الثانی: أن یفرض إتیان الطهارة عن کلا المائین ، بأن یتوضّئ من کلیهما.

فهو أیضاً تارةً : بأن یغسل أعضاءه بعد التوضّؤ بالماء الثانی ابتداءً ، ثمّ التوضّؤ بعده .

ص:274

واُخری أن لا یفعل ذلک ، بل یتوضّأ من کلیهما بلا تغسیل .

وقد یتوهّم الفرق بینهما : بأنّ الأوّل کان وضوءه حاصلاً ، ویجوز له الإتیان بالصلاة ، لأنّه إذا فرض التوضّئ بالماء الأوّل ، وکان نجساً مثلاً ، فبعد تغسیله ابتداءً بالماء الثانی فقد حصلت الطهارة ، فصار التوضّئ بالماء الثانی صحیحاً ورافعاً للحدث ، وإن فرض کون الماء الأوّل طاهراً فقد حصلت الطهارة عن الحدث به ، سواء توضّأ بالثانی أو لا .

وعلی کلّ حال قد حصل له الیقین بتحقّق الطهارة ، إمّا بالماء الأوّل أو الثانی .

هذا بخلاف ما لو لم یغسل بالماء الثانی ، حیث أنّه علی فرض کون الماء الأوّل نجساً ، فإنّ لازمه نجاسة الأعضاء ، فحینئذٍ لو توضّأ بالثانی بلا تغسیل ، یلزم بطلان الوضوء ، فلا یقطع بحصول الطهارة له .

ولکنّه فاسد ومندفع ، لأنّه قد یفرض هذه المسألة کون النهی الوارد فی الخبرین _ المستفاد من الأمر بإهراق الإنائین _ دلیلاً علی أنّ التوضّؤ منهما کان حراماً ذاتیاً ، نظیر حرمة صوم العیدین من الفطر والأضحی ، والصلاة للحائض ، واُخری یستفاد أنّه کان إرشادیّاً ، إلاّ أن یقصد بالعمل التشریع فیحرم له من هذه الحیثیّة ، لا أن یکون نفس العمل بذاته حراماً .

فعلی الأوّل لا إشکال فی بطلان کلا وضوئیه ، بلا فرق بین الصورتین ، ولا تحصل له الطهارة من الحدث قطعاً ، حتّی لو توضّأ من أحدهما ، لأنّه قد فعل حراماً ، فلا یمکن قصد التقرّب به ، فلا تصل النوبة إلی ملاحظة حاله بالنسبة إلی العلم الإجمالی بالنجاسة ، فیزید بناءً علی هذا إشکال آخر للوجه الأوّل _ مضافاً لما قد عرفت من عدم القطع بالفراغ _ هو کون أصل الوضوء باطلٌ حینئذٍ ، من جهة النهی إنْ کان کلاهما حراماً ، ومحتمل الحرمة والبطلان إنْ کانت الحرمة مرتبطة بالنجس فی البین ، لا استعمال کلّ واحد منهما .

ص:275

وإن فرضنا عدم حرمته ذاتاً ، بل دلالة النهی علی الإرشاد کما هو الأقوی ، وإن کان ظاهر جملة «یهریقهما» حیث کانت خبریة فی مقام الإنشاء هو الأوّل وقوّاه صاحب «الجواهر» إلاّ أنّه قال بعده ، وإن کان للنظر فیه مجال .

وکیف کان ، فنقول حینئذٍ : لا فرق بین الصورتین من حیث المقصود ، وإن کان یتفاوت بینهما فی الجملة ، کما سیتّضح لک إن شاء اللّه تعالی .

لأنّه وإن لم یکن هذا الفرض مثل الصورة الاُولی من کون الاستعمال حراماً ذاتاً ، ومن کون أمره دائراً بین الإتیان بالتکرار ، وفعل حرام لتحصیل الواجب ، وهو تحصیل الطهارة المائیة للصلاة ، وبین ترک التکرار والاستعمال حتی یترک فعل الحرام ، إلاّ إنّه یترک الواجب حینئذٍ وهو الإتیان بالطهارة المائیة ، فیدور أمره حینئذٍ بین فعل الحرام أو ترک الواجب ، وحیث أنّ الشارع قد جعل للواجب بدل شرعاً ، وهو الطهارة الترابیة _ بخلاف الحرام _ فحینئذٍ یقدّم ما لیس له بدل علی ما له بدل ، فیحکم حینئذٍ بوجوب التیمّم ، ویکون الخبرین واردین علی طبق القاعدة حینئذٍ ، ولا فرق فی ذلک بین تغسیل الأعضاء بالماء الثانی أو لا ، کما لایخفی ، ولا یکون وجه تقدّم ترک الاستعمال أیضاً من باب ترجیح جانب الحرمة علی الواجب ، کما توهّمه بعض علی ما فی «الجواهر» ، بل لما عرفت من الوجه المذکور .

بل کان وجه عدم الفرق فی الصورة الثانیة أیضاً ، هو من جهة أنّه إذا لاقی الماء الثانی بجسمه _ ولو بعنوان التغسیل _ یقطع حینئذٍ بحدوث النجاسة وتحقّقها فی جسمه أمّا بواسطة الماء الأوّل أوالثانی ، لأنّ التطهیر بالماء القلیل لا یکون إلاّ بعد انفصال غسالته عن المحلّ ، فقبل ذلک قطع بالنجاسة ، فیشکّ فی رفعها بعد ذلک بالماء الثانی الذی غَسل به ، لإمکان أن یکون هو نجساً دون الأوّل ، فیستصحب النجاسة ، فلا یقطع بمزیل یقینی للنجاسة الخبثیة ، وإن کان القطع بحصول الطهارة

ص:276

الحدثیّة هاهنا حاصلاً ، لأنّ الوضوء الصحیح إمّا هو حاصلٌ بواسطة الماء الأوّل إنْ کان طاهراً ، وإن تنجّس بدنه بعد ذلک بالماء الثانی ، أو کان الماا الثانی طاهراً ، فقد غَسل أعضائه ثمّ توضّأ به ، فکان طاهراً ووضوءه صحیحاً ، وهذا هو وجه الفرق بین صورة التغسیل ابتداءً وعدمه ، من حیث تحقّق الوضوء بذلک الفرض ، بخلاف ما لو لم یغسل الأعضاء ، إذ بوضوءه بالماء الثانی الطاهر یوجب نجاسة الماء بملاقاته مع نجاسة جسمه لو کان الماء الأوّل نجساً .

لکن لا فرق بینهما من جهة المقصود ، وهو عدم إمکان الإتیان بالصلاة بعد التوضّی ء منهما علی کلا التقدیرین ، إمّا لعدم حصول الطهارة عن الحدث لو لم یغسل ابتداءً ، وإمّا من جهة فقدان الطهارة عن الخبث ، بمقتضی استصحاب نجاسته المقطوعة الحصول ، والشکّ فی مزیلها ، کما عرفت توضیحها .

لا یقال : إنّه إذا فرض حصول الطهارة الحدثیة علی فرض التغسیل بالماء الثانی ، فیکون هذا من الموارد التی یمکن تحصیل الطهارة المائیة فلا یجوز معه التیمّم ، فلم یحکم حینئذٍ بالتیمّم دون الوضوء ؟

لأنّا نقول : لما قد عرفت من أنّه إذا دار الأمر بین ترک واجب لا بدل له ، وبین ترک واجب آخر له بدل ، فلا إشکال فی تقدّم الثانی علی الأوّل ، والمفروض کون المقام من هذا القبیل ، لأنّ ترک الطهارة الحدثیة له بدل وهو التیمّم ، وهذا بخلاف ترک الطهارة الخبثیة ، حیث لا بدل له فیحکم بتقدّمه علیه ، فیحکم بالتیمّم حفظاً للطهارة عن الخبث ، ومثله الفتوی فی مسألة دوران الأمر فی ماء قلیل ، فإنّه لا یکفی إلاّ بتحصیل إحدی الطهارتین ، فیحکم باستعماله للطهارة عن الخبث ، ویتیمّم بدل الطهارة المائیة عن الحدث ، ولا یکون ذلک إلاّ لما ذکرنا .

وفی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره ما یستظهر منه وجه لفرق آخر بین صورتی التغسیل وعدمه ، وهو : إنّه لو لم یغسل بالماء الثانی ، لوجب عدم إمکان جریان

ص:277

استصحاب النجاسة حینئذٍ لوجهین :

الأوّل : لأنّه إنّما یجری فیما إذا کان المستصحب مشکوک البقاء فی المورد ، لا فیما إذا تردّد بین مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع ، وهاهنا یکون کذلک ، لأنّه إن کان الماء الأوّل نجساً ، فقد قطع بالارتفاع بواسطة استعمال الماء الثانی ، وإن کان الثانی نجساً کان مقطوع البقاء ، فلا یبقی بعدهما زمان یکون فیه المستصحب مشکوک البقاء .

وثانیاً : إنّه معارض مع استصحاب الطهارة لموضع الوضوء ، لأنّه إن کان النجس هو الثانی فیقطع بحصول الطهارة للموضع بواسطة الماء الأوّل ، وإن کان الأوّل نجساً فیقطع حصولها بواسطة استعمال الثانی ، لأنّ المفروض طهارته ، فیظهر بذلک طهارة المواضع وبقاءها وعند الشکّ یستصحب الطهارة .

ولکنّه یعارض مع استصحاب النجاسة ، فیقول بعده یمکن فرض الکلام فی محلّ یسلم عن کلتا المناقشتین ، مثل فرض صورة حصول التغسیل بالماء الثانی ، فراجع إلی کلامه(1) .

وفی کلامه قدس سره نظر ، فأمّا عن الأوّل : فلأنّ المورد من قبیل القسم الثانی من أقسام الاستصحاب الکلّی ، لأنّه بملاقاة یده مع الماء الثانی فی الآن الأوّل وقبل انفصال الغسالة ، یقطع بحصول النجاسة ، مثل القطع بوجود الحیوان فی الدار ، فبعد الانفصال یشکّ فی بقاء النجاسة المتیقّن تحقّقها ، لأنّه إن کانت ثابتة بالماء الأوّل ، فقد ارتفعت قطعاً ، کما یقال هناک إنْ کان الحیوان هو البقة فقد هلک قطعاً ، وإنْ کان تحقّقها بالثانیة فقد کانت ثابتة فعلاً قطعاً ، کما یقال هناک إن کان الحیوان هو الفیل کان باقیاً فلا إشکال فی جریان استصحاب النجاسة ، فإذا کان


1- «مصباح الهدی» : ج1 / ص272 .

ص:278

استصحاب بقاء النجاسة فی تلک الحال موجوداً فی صورة التغسیل ، کما قال به الآملی قدس سره ، ففی عدم التغسیل بالماء الثانی یکون الحکم ببقاء الاستصحاب للنجاسة أولی ، لأنّ مجرّد الوضوء بالماء القلیل الثانی لا یکون مطهّراً ، إنْ کانت الأعضاء نجسة بالماء الأوّل ، إلاّ أنْ یکون بنحو التغسیل ، فهو رجوع إلی الفرض الأوّل والحال أنّه خلاف المفروض ، بل کان الحکم ببقاء النجاسة بالاستصحاب هنا أولی من صورة التغسیل ، لعدم عروض ما یوجب الشکّ فی زوال النجاسة ، إنْ تحقّقت بالماء الأوّل ، بخلاف صورة التغسیل .

فإشکاله قدس سره فی جریان الاستصحاب فی صورة عدم التغسیل من جهة کون المورد من حیث المستصحب فاقدٌ لوصف الشکّ فی البقاء ، بل أمر النجاسة دائر بین مقطوع الارتفاع _ إن کان الماء الأوّل نجساً _ أو مقطوع البقاء _ إن کان الثانی نجساً _ لا یخلو عن إشکال ، لوضوح کونه حینئذٍ نظیر القسم الثانی من أقسام الاستصحاب الکلّی کما عرفت توضیحه .

وأمّا عن الثانی : فلأنّا لم نفهم کیف استصحب طهارة مواضع الوضوء وجعله معارضاً مع استصحاب النجاسة ؟! لما قد عرفت أنّه فی الآن الأوّل من الملاقاة بالماء الثانی _ سواء کان بالتغسیل أو غیره _ یقطع بحدوث النجاسة للملاقاة بالماء الأوّل ، أمّا من جهة عدم ثبوت الطهارة لعدم انفصال الغسالة فی التغسیل ، أو دائماً لعدم تغسیل حتّی یحتمل طهره بالانفصال ، أو بالماء الثانی ، فکیف جعل أحد طرفی الاحتمال طهارة مواضع الوضوء بواسطة الماء الثانی القلیل ، خصوصاً فی صورة عدم التغسیل کما هو المفروض من کلامه .

فثبت أنّ استصحاب النجاسة یجری بلا معارض ، کما أنّه قد ثبت ممّا ذکرنا ، أنّ استصحاب النجاسة فی صورة عدم التغسیل أولی من صورة التغسیل ، لعدم وجود ما یزیل النجاسة فی الأوّل ، بخلاف الثانی وهو التغسیل وإن کان

ص:279

مشکوکاً ، للشکّ فی نجاسة ماءه وطهارته .

ثمّ إنّه قدس سره نقل عن بعض المحقّقین الذین عاصرهم قولهم بإمکان القطع بزوال النجاسة ، بأنّ المکلّف إذا فعل غسلین أو وضوئین ، فقد قطع بزوال النجاسة الحاصلة من ملاقاته مع المائین ، وذلک أنّه إذا توضّأ بالماء الأوّل ، ثمّ غسله بالماء الثانی وتوضأ ، فهنا یوجب الحکم ببقاء النجاسة من جهة جریان الاستصحاب ، ثمّ بعد التوضئ بالماء یغسل یده بالماء الأوّل ، فحینئذٍ یقطع بزوال النجاسة الحاصلة إمّا عن الماء الأوّل فترتفع بالتغسیل بالماء الثانی ، أو الحاصلة من الماء الثانی فترتفع بالماء الأوّل عند التغسیل .

واحتمال حدوث النجاسة ثانیةً بواسطة احتمال نجاسة الماء الأوّل ، وإنْ کان موجوداً ، لکنّه مدفوع لأنّه مجرّد شکّ ، فالمرجع حینئذٍ هو قاعدة الطهارة .

هذا ، وأُجیب عنه بما لا یخلو عن قوّة ، بأنّ النجاسة السابقة المقطوعة الحدوث ، المردّدة بین الماء الثانی قد زال بعد ذلک ، أی بعد حصول التغسیل بانفصال الماء الأوّل عن محلّ الید ، لأنّ النجاسة المستصحبة کانت باقیة إلی حین ملاقاة المحلّ للماء الأوّل وقبل انفصال الغسالة ، فلا یأتی هذا الحکم المستفاد من الاستصحاب بعد حصول التغسیل قطعاً ، لکن النجاسة المقطوعة الحاصلة والحادثة حین ملاقاة الید مع الماء الأوّل ، المردّد بین کون الماء الثانی نجساً أو هذا الماء ، لم یُقطع بزواله بعد التغسیل ، لعدم العلم بطهارة هذا الماء ، فیستصحب بقاء هذه النجاسة ، فلا مزیل له حینئذٍ ، کما لا یخفی ، فتأمّل حتّی لا یشتبه علیک الأمر .

الثالث من الوجوه : هو أن فرض فرض التوضّئ من کلا الإنائین ، وتغسیل الأعضاء بالماء الثانی والتوضّئ بعده ، ثمّ أداء الصلاة بعد کلّ وضوء فإنّه بعد تحقّق الصلاتین یقطع بوقوع صلاة صحیحة مع الطهارة عن الحدث والخبث منه ،

ص:280

لأنّه إمّا أن یکون الماء الأوّل طاهراً ، فقد صلّی به . أو الثانی فقد تطهّر به أوّلاً ثمّ توضّأ وصلّی ، ویکون قد أتی بطهارة حادثة عن کلیهما وصلّی ، فلا إشکال فی حصول الاحتیاط بذلک . ولأجل ذلک فقد أفتی بعض _ کالآملی _ بهذا الوجه ، مع التیمّم أیضاً من جهة مراعاة الاحتیاط .

هذا وإن کان الأمر کذلک فی صورة الإمکان ، وکفایة الماء للتغسیل لا مطلقاً ، کما قد یتّفق بما لا یقدر ذلک ، وأمره دائر بین الوضوئین بهما فقط وبین ترکهما والتیمّم ، إلاّ أنّه یبقی حکم استصحاب النجاسة المقطوعة ، حال ملاقاة الماء الثانی بالید قبل الانفصال ، لو قلنا بنجاسته کذلک ، فیستصحب بعد تمام الغسل ، لأنّه یشکّ فی طهارة الماء الثانی وعدمها ، فاستصحاب النجاسة یحکم بها ظاهراً ، فصلاته الثانیة یکون قد أتی بها مع هذه النجاسة التی کانت مقتضیة لذلک الأصل ، وإن کان فی نفس الأمر والواقع یعلم إجمالاً بفراغ ذمّته ، وهذا نظیر الصلاة إلی أربع جهات عند اشتباه القبلة ، حیث أنّ مقتضی أصالة عدم کون هذه الجهة بخصوصها قبلة ، عدم صحّة إتیان الصلاة إلی جهتها ، إلاّ انّه بعد الإتیان بها إلی الجهات الأربع یقطع بوقوع الصلاة ، إمّا إلی عین القبلة أو إلی جهتها فی أقلّ من مقدار ربع الدائرة ، فیقطع بحصول الفراغ .

هذا ، فعلیه یمکن القول بأنّ استصحاب النجاسة یوجب عدم جواز الإتیان بالصلاة فی غیر المورد من الصلاة الیومیّة ، فلعلّ الإمام علیه السلام لاحظ مشکلة المصلّی من إمکان عدم تحصیل الماء لتحصیل الطهارة عن الخبث ، حکم بالتیمّم . مضافاً إلی أنّ الحکم بالتفصیل فی النجاسة ، بین الصلاة الثانیة فی المقام _ من جواز الإتیان بها _ وبین الصلاة الآتیة _ من عدم جواز الإتیان بها _ لا یخلو عن بُعد ، لعدم قائل بمثل هذا التفصیل فی النجاسة . فالأولی بعد کون مقتضی القاعدة هو الاجتناب عن کلا الإنائین _ کما هو مقتضی دلالة الخبرین المقبولین _

ص:281

هو الحکم بکفایة التیمّم ، ورفع الید عن استعمالهما ، کما علیه الأصحاب ، واللّه تعالی هو العالم بحقائق الاُمور .

هذا کلّه فی حکم الصلاة مع الطهارة عن الحدث .

الفرع الثانی : وهو فی غیرها من الأکل والشرب ، من لزوم الطهارة عن الخبث فقط ، فلا إشکال فی کون مقتضی الأصل والقاعدة ، هو الاجتناب عن کلیهما ، لأنّ قوله : «اجتنب عن النجس» یقتضی ترکهما ، کما هو ظاهر إطلاق کلام المصنّف أیضاً ، حیث قال أوّلاً : «وجب الامتناع منهما» ، ثمّ أضاف بعده : «وإن لم یجد غیر مائهما تیمّم» ، حیث یشمل صورة الشرب وغیره . مع إمکان الاستفادة _ فی الجملة _ من دلالة الخبرین علی أنّ الصلاة مع أهمّیتها ولزوم تحصیل الطهارة عن الحدث لها ، إذا حکم بجواز ترکهما _ لو لم نقل بوجوب الترک کما احتمله بعض _ ففی غیرها یکون الجواز بطریق أولی .

نعم ، قد یمکن فرضه فی صورة احتمال وجوب استعمال المائین فی التغسیل ، وذلک إذا کان الماء الثانی کافیاً ، کما لو نذر قراءة القرآن مع الطهارة الحدثیّة ، فحدث له هذا الحادث ، فلا یبعد حینئذٍ الحکم بوجوب تحصیل الطهارة ، لأنّه حینئذٍ قد عرفت أنّه یحصل القطع بالطهارة بالتوضّئ بهما مع التغسیل ، إلاّ إنّه یحکم بنجاسة أعضائه ظاهراً بحکم الاستصحاب ، ومعلوم أنّ الطهارة عن النجاسة الخبثیّة لیس بشرط فی قراءة القرآن ، وإن کان الإشکال من جهة حصول النجاسة للبدن ظاهراً متحقّقاً ومانعاً للصلاة الآتیة ، إلاّ إنّه ینطبق علیه عنوان الاضطرار حینئذٍ فی وقته ، فیصلّی معه لو لم یکن قد حان وقت الصلاة ولم یأت بها ، وإلاّ لم یکن الحکم بوجوب التیمّم حینئذٍ ببعید ، لکونه داخلاً تحت إطلاق الخبرین . مع إمکان احتمال القول بجواز التیمّم فی الصورة الاُولی أیضاً ، بدعوی عدم استبعاد القول بإطلاق الحدثین من حیث الملاک

ص:282

والمناط ، لمثل وجوب الطهارة عن الحدث لقراءة القرآن ولو عرضاً ، واللّه العالم .

الفرع الثالث : حکم تطهیر النجس بواسطة هذین المائین ، فقد اختلفوا فیه علی ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : وهو محتمل «النهایة» للعلاّمة ، علی ما نسبه إلیه فی «مفتاح الکرامة» ، من تجوز التطهیر بواحد منهما ، من غیر احتیاج إلی التکرار ، من جهة إطلاق دلیل : «اغسل ثوبک بالماء من بول ما لا یؤکل لحمه» الذی یشمل لمثل ذلک ، خرج منه خصوص ما علم نجاسته ، وبذلک یرتفع حکم استصحاب بقاء النجاسة .

لکنّه مخدوش من جهة عدم وجود إطلاق لتلک الأدلّة من هذه الجهة ، لأنّها فی صدد بیان لزوم التطهیر بالماء الطاهر ، فتحصیل هذا القید لازم . أمّا جوازه لمطلق المیاه ، حتّی المشکوک منه فمحلّ تأمّل ، فمقتضی الاستصحاب خلافه کما هو واضح .

القول الثانی : هو تکرار التطهیر من کلیهما فی صورة الإمکان ، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره ، والعلاّمة الطباطبائی . لأنّه إن کان الماء الأوّل نجساً فلا یؤثّر فی تنجیسه ، لأنّ المتنجّس لا یتنجّس ، فالماء الثانی یطهّره . وإن کان الماء الأوّل طاهراً ، فقد حصلت الطهارة عن النجس الأوّل قطعاً ، أمّا صیرورته نجساً بالثانی فهو أمرٌ مشکوک فیه ، فمقتضی استصحاب الطهارة المتیقّنة الحاصلة ، هی الطهارة .

هذا ، لکنّه ضعیف أیضاً ، لأنّه إن اُرید الحکم باستصحاب الطهارة المطلقة ، الکلّی مع صرف النظر عن خصوصیّة کلّ طرف ، فهو معارض مع استصحاب النجاسة الکلّیة المتحقّقة فی البین قطعاً إمّا بقاءً للسابقة أو حادثاً بواسطة الماء الثانی .

وإن اُرید استصحاب الطهارة لخصوص کلّ فرد بواسطة احتمال طهارته ، فهو غیر مفید ، لکونه من قبیل استصحاب حکم الفرد المردّد ، فهو غیر جار قطعاً .

فلا یبقی هنا إلاّ اختیار القول الثالث .

ص:283

القول الثالث : وهو الاجتناب عن کلیهما ، لما قد عرفت فی باب الطهارة عن الحدث للصلاة ، من جریان استصحاب النجاسة المتیقّنة الحاصلة حین ملاقاة الماء الثانی قبل الانفصال ، إذا قلنا بنجاسة الماء قبل انفصال الغسالة ، وکانت الطهارة مشکوکة الحصول ، نظیر استصحاب الحیوان الموجود فی الدار ، کما عرفت تفصیله فلا نعیده . وهذا هو الأقوی ، کما اختاره المحقّق الآملی قدس سره .

الفرع الرابع : هو ما لو خرج أحد طرفی العلم الإجمالی عن حکم تنجّز التکلیف ، إمّا بخروجه عن مورد الابتلاء ، وإمّا بالاضطرار ، فهل یوجب ذلک جواز المخالفة للتکلیف فی الطرف الآخر ، الذی لم یبتل به أم لا ؟

وتحدید الحکم فی هذا المقام ، متفرّع علی تحدید مورده :

لأنّه تارةً : یکون الخروج عن مورد الابتلاء ، أو تعلّق الاضطرار به قبل تحقّق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما .

واُخری : یکون الخروج مع تحقّق العلم مقارناً له ، بلا تقدّم وتأخّر .

وثالثة : متأخراً عنه .

والظاهر عدم الإشکال فی جواز ترک التکلیف فی الطرف الآخر فی القسمین الأوّلین ، لأنّه لم یتحقّق زمان یتنجّز العلم الإجمالی فیه لکلا طرفیه حتّی یحکم ببقاءه . ومن المعلوم أنّ من شروط تأثیر العلم الإجمالی فی تنجّز التکلیف ، هو إمکان البعث أو زجر المکلّف نحو التکلیف إذا تعلّق بأحد الطرفین ، مع أنّه من الواضح عدم إمکانه فی الفرضین المذکورین ، إذا کان مورد التکلیف خارجاً عن مورد الابتلاء ، أو تعلّق به الاضطرار ، فکیف یمکن حینئذٍ تأثیر العلم الإجمالی المتحقّق بعده فی تأثیر التنجیز للتکلیف ؟ وهو واضح .

مضافاً إلی أنّه یعدّ شکّاً فی أصل التکلیف بالنسبة إلی الطرف الآخر ، فتجری فیه أصالة البراءة الشرعیّة والعقلیّة . کما لا إشکال فی تنجّز التکلیف فی الطرف

ص:284

الآخر ، إذا کان الخروج أو الاضطرار حادثاً بعد العلم الإجمالی ، لوضوح أنّ العلم قد تنجّز وأثّر فیما قبل ذلک . ومعلوم أنّه لیس عدم الخروج شرطاً فی صحّة التکلیف شرعاً ، وإن کان کذلک عقلاً ، وإلاّ لأمکن القول بإمکان إسقاط حکم العلم الإجمالی عن التأثیر بإراقة أحد الإنائین ، کما قاله «کشف اللثام» نقضاً وردّاً علی بعض العامّة ، من تجویز ترک التکلیف فی الآخر حینئذٍ ، وإنْ أشکل علیه صاحب «الجواهر» قدس سره بإمکان الفرق بین الموردین ، بما لا یخلو عن مسامحة ومناقشة ، لأنّه لا تفاوت بین صورتی الاختیار فی الإراقة وعدمه ، من حیث الملاک فی سقوط العلم الإمالی عن التأثیر فی التنجّز للثانی بعد ذلک کما هو مراد الناقض وإن فرضنا صحّة العقوبة بذلک .

کما لا فرق بین وجوب الموافقة التکلیفیّة وحرمة المخالفة الاحتمالیّة ، فی أطراف الشبهة المحصورة ، بین أحد الیومین ، فإنّه کما یجب علیه الصوم قبل الإتیان بواحد منهما ، فهکذا یجب الإتیان بالآخر إذا أتی بواحد منهما ، أی لایسقط العلم الإجمالی عن مقتضاه بمجرّد الإتیان بواحد منهما ، کما لایخفی ، ولذلک لم نشاهد مخالفاً من أصحابنا فی هذه المسألة _ کما نقله صاحب «الجواهر» ، ویدلّ علی أنّ الحکم کان مقطوعاً به عند الأصحاب .

فی ملاقی احد الانائین المشتبهین

الفرع الخامس : لا یذهب علیک أنّ الحکم التکلیفی ، وهو وجوب الاجتناب عنالنجس ، یمکن تعلّقه بکلّ واحد من المشتبهین ، من باب المقدّمة العلمیّة لتحصیل الموافقة القطعیّة للتکلیف الواقعی ، فیکون التکلیف متوجِّهاً ظاهراً إلی کلّ واحد منهما . وهذا بخلاف الحکم الوضعی ، وهو النجاسة ، فإنّه لا یمکن تعلّقه بغیر ما هو الواقع فی البین . فعلی هذا لایمکن الحکم فی الملاقی (بالکسر) لأحد المشتبهین بالنجاسة ، لکون النجاسة مشکوکة ، ولکن یمکن الحکم بوجوب الاجتناب إنْ تمّ الدلیل علیه . وحینئذٍ لا بأس بصرف الکلام فی بیان حکم

ص:285

الملاقی ، فی أنّه هل یحکم بوجوب الاجتناب عنه أم لا ؟ فنقول ومن اللّه الاستعانة :

لا إشکال ولا خلاف ظاهراً فی وجوب الاجتناب عنه ، إذا فرض ملاقاته لکلّ واحد من المشتبهین للقطع بملاقاته مع النجس فی البین ، وهو واضح لا خفاء فیه . کما لا إشکال فی نجاسته أیضاً ووجوب الاجتناب عنه ، فیما لو فرض ملاقاة فرد ثالث فی قباله لاقی مع الطرف الآخر فصار ملاقیاً للمشتبهین ، فیجب الاجتناب عنهما ، کما یجب الاجتناب عن المشتبهین الأصلیّین ، لتحقّق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما قطعاً ، کما فی أصلهما ، بلا فرق فی ذلک بین الوجوه المقصودة الآتیة . ولم أجد من خالف فی الحکمین المذکورین . وإنّما الکلام والإشکال فیما إذا لاقی أحد طرفی المشتبهین معیّناً أو غیر معیّن ، فهل یجب الاجتناب عن الملاقی مطلقاً ، _ کما نقل ذلک عن العلاّمة فی «المنتهی» ، وصحّت نسبته إلی السیّد أبو المکارم ابن زهرة من استدلاله بقوله تعالی : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(1) ، وصاحب «الحدائق» کما نقله الشیخ الأنصاری قدس سره _ أو طهارته مطلقاً _ . ولم أرَ من صرّح بالإطلاق ، وإن أمکن استفادته فی الجملة من صاحب «الجواهر» قدس سره ، ولکن صحّة الاستناد لا تخلو عن تأمّل _ أو القول بالتفصیل ، بما سنوضّح لک إن شاء اللّه تعالی ؟ ولا یخفی أنّ لنا هنا اُموراً ثلاثة :

الأوّل : العلم الإجمالی بنجاسة أحد المشتبهین .

والثانی : هو نفس الملاقاة الواقعة مع أحدهما المعیّن .

والثالث : هو العلم بالملاقاة . فیملاقی احد الانائین المشتبهین

فحینئذٍ تارةً یفرض جمیع الوجوه الثلاثة مع وجود الملاقی (بالفتح) ، واُخری مع فقده .


1- سورة المدّثر : آیة 5 .

ص:286

وأمّا صورة وجود الملاقی (بالفتح) ، مع وجود العلم الإجمالی والملاقاة والعلم بها :

فتارةً : یفرض تقدّم العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما علی الملاقاة والعلم بها .

واُخری : یکون العلم الإجمالی مقروناً مع الملاقاة والعلم بها .

وثالثة : یکون العلم الإجمالی متأخِّراً عنهما ، مع کون متعلّقه أی النجاسة متقدِّماً علیهما کما تأتی هذه الصور فی فرض فقدان الملاقی أیضاً .

فالآن نفرض ما لو کان الملاقی (بالفتح) موجوداً وکان العلم الصورة الاُولی : کون النجاسة مقدّمةً علی الملاقاة والعلم بها . فهو مورد الکلام والنقض والإبرام ، والبحث عنها تبیّن حکم وجوه اُخری فی ضمنه ، فنقول :

القائل بوجوب الاجتناب عن الملاقی ، تارةً یتمسّک بالآیة المذکورة ، ففیه :

أوّلاً : إنّها تدلّ علی وجوب الهجر عن النجس ، لا عن مشکوکه ، فالاستناد بها لمشکوکه یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة ، وهو غیر جائز .

وثانیاً : إنّها تحکم بوجوب الاجتناب عن النجس ، لا المتنجّس ، لوضوح أنّ الملاقی کان متنجّساً لا نجساً ، علی تقدیر ثبوت النجاسة فی الملاقی فی الواقع .

وثالثاً : قد عرفت أنّه لا یمکن إطلاق الحکم الوضعی ، کالنجاسة للمشکوک ، أی لا یکون وصف النجاسة إلاّ لما کان فی الواقع نجساً ، نعم یحکم بوجوب الاجتناب تکلیفاً ، ویصحّ ولو مع الشکّ ، إذا کان فی أطراف الشبهة المحصورة ، فالآیة غیر شاملة لما نحن فیه .

واُخری : یتمسّک بالدلالة الالتزامیّة بأن یقول : إنّ دلیل وجوب الاجتناب أو ما یحکم بالنجاسة إنّما یشمل بالمطابقة لخصوص النجس ، إلاّ انّه یشمل بدلالة الالتزام والسرایة للمتنجّس ، بأنّه لو لاقاه شیء یوجب سرایته وتنجّسه فیجب الاجتناب عنه أیضاً .

ص:287

وفیه : إنّه لا إشکال فی صدق السرایة للملاقی بذلک النجس ، إن کان نجساً فی الواقع ، لکن إثبات أنّه متی وجب الاجتناب عن النجس یجب الاجتناب عن متنجّسه مشکل جدّاً ، لإمکان التفکیک بین کون النجس واجب الاجتناب دون المتنجّس . مضافاً إلی ما عرفت من عدم إمکان الحکم بالنجاسة حتّی للملاقی المشکوک ، حتّی یوجب القطع بالسرایة ، وإن وجدت السرایة علی تقدیر کون نجاسة الملاقی .

وثالثة : قد یتمسّک لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی بواسطة العلم الإجمالی ، بکون أحدهما نجساً یفید وجوب الاجتناب عنهما ، فیلزم وجوب الاجتناب عن ملاقیهما أیضاً ، ولو کان فی طرف واحد . فعلیه قد یتمشّی فی الحکم بوجوب تحصیل الموافقة القطعیة للتکلیف فی أطراف الشبهة المحصورة ، بما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری قدس سره ، ووافقه علی ذلک المحقّق الخوئی فی أصل الدلیل من کون الملاک فی الحکم بالتنجیز ووجوب الموافقة هو تحقیق التعارض بین الاُصول الجاریة فی الأطراف وتساقطهما ، فلا محیص إلاّ من الاحتیاط والاجتناب عن کلا الطرفین .

أو یتمشّی بمسلک المحقّق الخراسانی قدس سره فی «الکفایة» من کون الملاک فی وجوب الاجتناب هو علیّة العلم الإجمالی بذلک ، بلا فرق بین کون الاُصول الجاریة فی الأطراف ، ساقطة بالتعارض ، أو لا ، لأنّ العلم الإجمالیی بالاجتناب لا یمکن الجمع بینه وبین الترخیص فی الاستعمال للطرفین أو أحدهما ، لحصول التناقض بذلک .

فعلی المسلک الأوّل ، لابدّ أن یقال فی المورد بطهارة الملاقی ، وعدم وجوب الاجتناب عنه ، لأنّ الاُصول الجاریة من استصحاب الطهارة أو استصحاب النجاسة _ فیما کانت حالتهما السابقة معلومة _ طهارة أو نجاسة _ أو قاعدة

ص:288

الطهارة أو البراءة فی کلّ واحد من الطرفین من الملاقی وصاحبه ، متعارضة فیتساقطان . وحیث کان الشکّ فی نجاسة الملاقی وعدمها مسبّباً عن الشکّ سببیّة الملاقاة للنجاسة ، فبعد تساقط الاُصول الجاریة فی السبب _ وهو الملاقی _ بواسطة التعارض ، یبقی الأصل الجاری فی المسبّب _ وهو الملاقی من استصحاب الطهارة أو قاعدتها _ سالماً من المعارض ومجاریاً ، فیحکم بعدم وجوب الاجتناب عنه .

ولا یفرّق الشیخ قدس سره ومن تبعه کصاحب «مصباح الفقیه» وغیره ، بین صورة تقدّم العلم الإجمالی بالنجاسة علی الملاقاة ، والعلم بها ، أو تقارنه ، أو کون العلم بالنجاسة بصورته الکاشف متأخّراً عن الملاقاة ، والمنکشف هو النجاسة کان متقدّماً ، وإلاّ لو کان المنکشف وهو النجاسة أیضاً متأخّرة عن الملاقاة لما استلزم نجاسة الملاقی قطعاً ، لکون الملاقی حین الملاقاة کان طاهراً ، کما هو واضح .

نعم ذهب الشیخ قدس سره ومن تبعه _ بناءً علی مسلکه بوجوب الاجتناب عن الملاقی دون الملاقی ، فیما إذا فرض کون الملاقی حین تحقّق العلم بالنجاسة لأحد الإنائین مثلاً مفقوداً ، فحینئذٍ یتحقّق العلم الإجمالیی بنجاسة الملاقی ، أو الطرف الآخر ، فعلیه یجب الاجتناب عن الملاقی ، کما یجب الاجتناب عن الطرف الآخر ، لوقوع المعارضة بین الاُصول الجاریة فی الملاقی مع الاُصول الجاریة فی الطرف الآخر ، فلا محیص إلاّ عن الاجتناب عن کلیهما ، فیما إذا فرض حدوث أصل النجاسة المشکوکة قبل الملاقاة ، ولکن علمه بذلک کان بعد فقدان الملاقی .

وأمّا علی مسلک المحقّق الخراسانی قدس سره والمسلک الثانی ، حیث أنّه یقول بعلّیة للعلم الإجمالی للتنجّز ، فإنّه فرض للمسألة أنحاء ثلاثة فی صورة وجود الملاقی .

لأنّه تارةً یحکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی وصاحبه دون الملاقی ، وهذا

ص:289

فیما إذا کان العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی (بالفتح) مع صاحبه متقدِّماً علی العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف الآخر ، وبما أنّ العلم الإجمالی لا یتنجّز إلاّ إذا أمکن الحکم بتنجّز کلّ واحد من طرفیه لو کان التکلیف فیه ، بخلاف ما لو کان فی مورد وکان المعلوم فی ذلک الطرف ، فإنّه لا یمکن الحکم بالتنجیز ، ولو بلحاظ وجود التنجیز بالعلم الإجمالی الآخر ، کما فی المقام ، لأنّ الطرف الآخر قد تنجّز الحکم فیه من جهة کونه طرفاً للعلم الإجمالی للنجاسة ، أو الملاقی (بالفتح) ، فلا یمکن أن یقع متعلّقاً للعلم الإجمالی الثانی الموجود بینه وبین الملاقی (بالکسر) ، فحیث لا یتنجّز العلم بالنسبة إلیه ، یلزم جریان استصحاب الطهارة أو قاعدتهاو لو لم یکن الاستصحاب موجوداً وجاریاً فی الملاقی بلا إشکال فیحکم بطهارته ، لأنّ نجاسته کانت مستحدثة ، ولیست هی النجاسة الموجودة فی الملاقی حتّی یقال إنّهما واحد .

واُخری : یحکم بوجوب الاجتناب من الملاقی (بالکسر) والطرف الآخر دون الملاقی . وهو فیما لو فرض تقدّم حدوث العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی _ وهو الید مثلاً _ التی قد لاقت مع ماء الإناء أو الطرف الآخر _ وهو ماء الإناء الذی یکون طرفاً للملاقی _ علی حدوث علم إجمالی بین نجاسة أحد الإنائین ، المسمّی أحدهما بالملاقی والآخر بالطرف ، فننقل هذا الکلام بعینه هاهنا _ عکساً _ أی بالنسبة إلی الملاقی ، إذ الطرف الآخر قد تنجّز العلم بالنسبة إلیه بواسطة العلم الإجمالی الواقع بینه وبین الملاقی ، فلا یمکن تعلّق التنجیز بواسطة العلم الإجمالی بینه وبین الملاقی ، فیصیر استصحاب الطهارة أو قاعدتها جاریة فی الملاقی بلا معارض ، کما لایخفی .

وثالثة : الحکم بوجوب الاجتناب عن الثلاثة ، وهو فیما لو تقارن حدوث العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما مع العلم بالملاقاة .

ص:290

فإنّه حینئذٍ یتعلّق العلم فی طرف بالملاقی والملاقی کلیهما ، وفی طرف آخر بصاحب الملاقی وهو الطرف الآخر ، ولذلک یجب الاجتناب عنها .

هذا حاصل کلام المحقّق الخراسانی قدس سره .

لکن یرد علیه : أنّه إذا کانت النجاسة المتعلّقة بالملاقی متولّدة عن نجاسة الملاقی ، فلا فرق فی ذلک بین کون العلم متعلِّقاً بهما معاً أو متعاقباً ، لأنّ نجاسة الشیء الثانی متأخّرة عن الشیء الأوّل ، فحینئذٍ یکون الأصل الجاری فی الملاقی معارضاً مع الأصل الجاری فی الطرف الآخر . وقد عرفت أنّ العلم الإجمالی لا ینافی ترخیص الشارع لأحد الطرفین ، لو کان قد ورد فیه دلیلاً ، فالشیء المشتبه ملاقاته للمتنجّس ، الجاری فیه الأصل غیر المعارض ، یکون الترخیص فیه جائزاً بطریق أولی . فحیث کان العلم الإجمالی بالنجاسة لأحدهما بحسب التکلیف مقدّماً رتبةً علی العلم الإجمالی المتولّد منه _ وهو العلم الإجمالی المتعلّق بالملاقی والطرف الآخر _ وإن کان متأخّراً زماناً ، بأن تحقّق العلم بنجاسة الملاقی والطرف الآخر أولا ، ثمّ علم بنجاسة أحدهما ، وعلم أنّ نجاسة الملاقی _ لو حدثت _ یکون من جهة نجاسة الملاقی وبسبب الملاقاة .

ولذلک یحکم بتقدّم مقتضی ذلک العلم الإجمالی المتقدّم ، علی ما یقتضیه العلم الإجمالی الثانی رتبةً ، المتقدّم زماناً ، فیصیر ذلک أیضاً مثل الصورة الاُولی من الأنحاء الثلاثة التی ذکرها . فإذا کان الأمر فی هذه الصورة کذلک ، ففی التقارن یکون بطریق أولی .

والسرّ فی ذلک أنّ الملاک فی التقدّم والتأخّر ، إنّما یکون هو الواقع المنکشف من النجاسة فی العلم الإجمالی المتقدِّم رتبةً ، والملاقاة فی العلم الإجمالی المتأخّر رتبةً والمتقدّم زماناً ، فما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی غیر وجیه عندنا . کما أنّ ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری قدس سره من التفصیل فی الاجتناب عن الملاقی

ص:291

وعدمه من صورة بقاء الملاقی وصاحبه ، وتحقّق العلم الإجمالی بالنجاسة والملاقاة _ حیث لا یجب الاحتراز عنه _ وبین ما لو کانت الملاقاة قبل العلم الإجمالی بالنجاسة ، ثمّ فُقد الملاقی ، ثمّ علم بنجاسة أحدهما من الملاقی المفقود وصاحبه ، حیث یجب الاجتناب عن الملاقی حینئذٍ وصاحب الملاقی ، لا یخلو عن إشکال وتأمّل . لأنّ الثابت فی علم الاُصول أنّ الاستصحاب أو الاُصول والقواعد الشرعیّة ، مثل قاعدة الطهارة والحلیّة ، إذا کانت لها أثر فی بقاء المستصحب ، أو الشیء المتعلّق لتلک القاعدة ، یکون کافیاً فی صحّتها وجواز إجرائها ، وإن لم یکن لهما أثر فی الحدوث ، هذا أوّلاً .

فی ما لو اشتبه أحد الانائین المشتبهین مع اناء ثالث

وثانیاً : لا یحتاج لترتّب أثر الأصل من بقاء مورد الأصل ، بل لو تلف محلّه ، وکان لجریان الأصل فی ذلک التلف أثراً شرعیّاً ، فحینئذٍ یصحّ جریان الأصل ، ویترتّب علیه أثره ، کما لو فرض العلم بملاقاة یده لشیء ، أو توضّأ من ماء إناء من دون التفات إلی حاله من الطهارة والنجاسة ثمّ بعد إراقته شکّ فی طهارته ونجاسته ، وکان للماء حالة متیقّنة وهی الطهارة ، فلا إشکال فی إجراء الاستصحاب فیه والحکم بترتیب أثره حینئذٍ وهو عدم لزوم إعادة الوضوء ، وطهارة الأعضاء وأمثال ذلک . وهکذا الحکم فی المقام ، لأنّ أثر إجراء الأصل من الطهارة استصحاباً أو القاعدة أوا لبراءة ، هو تحقّق التعارض فی مورده مع الأصل الجاری فی قباله من الطرف الآخر ، فیوجب التساقط ، فیکون أثر الحکم بطهارة ملاقیه بواسطة أصله الجاری فیه بلا معارض ، کما لا یخفی .

فظهر حینئذٍ وجود أثر للمستصحب والأصل وهو البقاء ، وهذا کاف فی صحّته .

نعم ، قد أفتی السیّد محمّد رضا الگلپایگانی فی حاشیته علی «العروة» ، وبعض آخر بلزوم الاجتناب عن الملاقی إن کان الملاقی محکوماً بالنجاسة بالاستصحاب لمعلومیّة حالته السابقة بالنجاسة . ولعلّه ظنّ أنّ أثر

ص:292

الاستصحاب ، وإن کان هو نجاسة ماء الإناء _ المسمّی بالملاقی الساقط بالمعارضة _ إلاّ أنّ سقوط أثره بالمعارضة فی خصوص مجراه مثلاً لا یوجب عدم ترتّب أثره الآخر الذی لا معارض له ، وهو نجاسة الملاقی ، ولذلک حکم بنجاسة الملاقی فی هذا المورد .

ولکن یمکن الجواب عنه : بأنّ الحکم بنجاسة الملاقی یکون من آثار الأصل الجاری فیه ، فإذا کان الأصل جاریاً وباقیاً فیه ، فللحکم ببقاء أثره وجه .

وأمّا إذا لم یجر الأصل فیه بواسطة المعارضة ، کما إذا لم یکن فی مورده أصل أصلاً ، فلا وجه لترتیب أثره الذی هو فرع لنفس الأصل . فالأقوی عندنا بحسب القاعدة ، طهارة الملاقی فی جمیع الصور ، کما هو ظاهر إطلاق صاحب «الجواهر» وبعض آخر ، وإن کان الحکم بالاجتناب عن الملاقی احتیاطاً فی الصورتین المذکورتین _ أحدهما ما فی کلام الشیخ من فقدان الملاقی ، وثانیهما ما فی کلام الگلپایگانی من استصحاب نجاسة الملاقی _ لا یخلو عن قوّة ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

الفرع السادس : لو اشتبه أحد المشتبهین من الإنائین مع إناء ثالث ، فهل یجب الاجتناب عن الثالث کما یجب عنهما أم لا ؟ فعلی القول بعدم التعدّی عن مورد النصّ ، یکون وجوب الاجتناب عن الثالث مبنیّاً علی أنّ وجوب الاجتناب عن المتنجّس المشتبه ، یکون کوجوب الاجتناب عن النجس المشتبهة واجباً ، بمعنی أنّه یجب الاجتناب عنه لما یشترط فیه الطهارة ،

النهی المستفاد من الأمر بالاراقة تحریمی ذاتی أو تشریعی؟

لکنّه لا یخلو عن تأمّل ، کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره .

وأمّا علی القول بالتعدّی _ کما هو الحقّ ، لما قد عرفت موافقته للقاعدة ، ومن تنجّز العلم الإجمالی علی جمیع الأطراف ، ما لم یبلغ مرتبة الشبهة الغیر المحصورة _ فلا إشکال فی وجوب الاجتناب عنه أیضاً ، کما یجب عن

ص:293

الآخرین ، فیتیمّم عند الانحصار ، کما لایخفی .

الفرع السابع : لو اشتبه الإنائین بالإطلاق والإضافة ، فلا إشکال فی لزوم تحصیل الطهارة عن الحدث بهما ، لحصول القطع بها حینئذٍ ، لأنّ أحدهما لا إشکال فی کونه مطلقاً ، ووجوب التمییز فی کونه بعینه مطلقاً غیر لازم .

کما لا إشکال فی حصول الطهارة عن الخبث إذا تطهّر بالماء القلیل متعاقباً ومتدافعاً ، ولا یحتاج حینئذٍ إلی أن یتیمّم أصلاً ، إلاّ علی القول بلزوم التعیّن ، فحیث لا یمکن فیتعلّق التکلیف بالتیمّم .

لکنّه ضعیف جدّاً ، ومن هنا یظهر حکم ما لو أراق ماء أحد الإنائین فی هذا الفرض ، فحینئذٍ لا یجوز الاکتفاء بالتوضئ بالماء الباقی ، المشکوک کونه مطلقاً أو مضافاً ، لأنّ استصحاب بقاء الحدث بعد التوضئ ، یوجب الحکم بوجوب التیمّم أیضاً ، للقطع بکونه مخاطباً بأحد الخطابین من الطهارة المائیة أو الترابیة ، فیجب وجوباً بالعلم الإجمالی .

فما ذکره صاحب «المدارک» من عدم الوجه فی الجمع بین الطهارتین ، لأنّه إنْ کان الشرط کون الماء معلوم الإطلاق ، حتّی یجوز التوضئ ، فلازمه عدم جواز الوضوء ، بل یتیمّم حینئذٍ فقط . وإن کان المشروط هو عدم کونه معلوم الإضافة ، فلازمه جواز التوضّؤ فی المورد .

لا یخلو عن إشکال ، لأنّه یحتمل أن یکون الشرط هو إطلاق الماء واقعاً ، فهذا الاحتمال یوجب الحکم بالتوضئ ، وحیث أنّ الاکتفاء به لا یوجب القطع بالطهارة ، فلذلک یجب التیمّم أیضاً جمعاً بین الخطابین المحتملین بالعلم الإجمالی . کما یظهر الجواب عن کلام المحقّق الخوئی ، من الحکم بوجوب التیمّم فقط ، بمقتضی استصحاب بقاء الحدث فی صورة التوضئ ، لما قد عرفت من أنّ الاستصحاب یجری فی طرف التیمّم أیضاً .

ص:294

الفرع الثامن : هل النهی الوارد المستفاد من أمر الإمام علیه السلام بالإراقة هو نهی تحریمی ذاتی أو تشریعی ؟

وبعبارة اُخری : هل وجوب الإراقة وجوب تعبّدی صرف ، أو یکون وجوبها کنایة عن ترک الاستعمال ، أو أنّه وجوب شرطی ، أی یجب الإراقة للتیمّم وبدونه لا یقطع بوظیفته ، لاحتمال کونه واجد الماء ، فلا یکتفی بالتیمّم حینئذٍ ؟

الظاهر کون الوجوب علی النحو الثانی ، وإن کان الثالث أیضاً لا یخلو عن قوّة ، لو لم یعارضه رجحان شیء آخر ، من اضطرار لزوم الماء لرفع العطش وغیره.

فی ملاک المحصور و غیر المحصور

ولکن الحکم بالوجوب لا یخلو عن إشکال ، فما ذهب إلیه من الوجوب کما عن «المقنعة» و«النهایة» والصدوقین ، لا یخلو عن کلام .

ثمّ لا یذهب علیک أنّه علی القول بالحرمة الذاتیة ، تکون نتیجتها عدم صحّة الطهارة من الحدث ، لعدم تمشّی قصد القربة منه لو أتی بواحد منهما . نعم ، تصحّ الطهارة عن الخبث مع الإثم ، لکونه حراماً ، کما تصحّ الطهارة عن الحدث لو أتی بواحد منهما أو کلیهما نسیاناً أو اعتقاداً بالطهارة ، فإنّه تتحقّق الطهارة ، لولا سائر الإشکالات السابقة التی قد ذکرناها مفصّلاً فلا نُعید .

هذا ، بخلاف ما لو قلنا بالحرمة التشریعیّة ، فإنّه حینئذٍ لا یکون الإشکال فی الطهارة من الحدث والخبث ، إلاّ ما عرفت سابقاً من مقتضیات الاُصول .

والأقوی عندنا عدم کونه حراماً ذاتیّاً ، بل لو حرم کان تشریعیّاً ، ولا یوجب فساد العمل ، لأنّ الحرمة تکون باعتبار انطباقه خارجاً علی ذلک العمل ، وهو واضح لا خفاء فیه ، لا أن یکون نفس العمل حراماً حتّی یوجب فساده .

الفرع التاسع : ما قیل فی الفروع السابقة إنّما یکون فی المشتبه الذی کان محصوراً ، حیث کان العلم الإجمالی فیه منجّزاً ، فلو فرض المشتبه فی غیر المحصور ، فلا یجب الاجتناب عنه ، ولا یتنجّز العلم الإجمالی بواسطة وجود

ص:295

بعض الموانع من العسر والحرج فی بعض الموارد ، أو الخروج عن موضع الابتلاء فی بعض آخر وأمثال ذلک .

وحیث کان حکم وجوب الاجتناب عن النجس المشتبه وعدمه دائراً مدار تشخیص المحصور وغیره ، فلا بأس بالإشارة إلی وجوه متصوّرة فی معناه خارجاً ، والأقوال الموجودة فیها بعد وضوح مفهومهما .

والحقّ _ کما علیه المحقّق الآملی وجماعة اُخری من الفقهاء _ أنّ مرجع تشخیصه هو العرف ، فکلّ ما صدق عندهم أنّه محصور ، فیحکم فیه بالاجتناب قطعاً ، کما لا یجب الاجتناب عنه فیما لو ثبت عندهم أنّه غیر محصور .

أمّا لو شکّ فی بعض المصادیق أنّه معدود فی الشبهات المحصورة أو عدمها ، فالظاهر هو الوجوب أیضاً ، وذلک بمقتضی العلم الإجمالی ، والشکّ فی حصول الموانع ، والأصل عدمها .

ثمّ إنّ ما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی معناه ، هو الأقوی إنْ کان کلامه غیر ما ذکرنا ، لاحتمال أن یکون متّحداً بما قلنا _ کما قیل _ وهو کون الملاک فی غیر المحصور ، أن یکون احتمال وجود الحرام أو النجس فی الأفراد ضعیفاً عند العقلاء بحیث لا یعتنون به ، فالمحصور هو ما کان بخلاف ذلک .

فهنا خمسة أقوال لا بأس بالإشارة إلیها وهی :

القول الأوّل: أنّ المحصور ما کان عدّه وإحصاءه غیر مشکل ، بخلاف قرینه وبدیله .

وهذا هو الذی یظهر من الشهید الثانی والمیسی وصاحب «المدارک» ، وفی بعض وأضاف بعضهم إلی التعریف قیّد المدّة أی یصیب عدّة فی مدّة قصیرة .

القول الثانی : أنّ غیر المحصور ما یؤدّی إلی ترک جمیع الأفراد کترک الواجب ، أو ترک عمل نظیر ترک الصلاة فی الأمکنة المشکوکة ، أو ترک أکل لحم

ص:296

الشاة لاحتمال کونها أحدها الموطوءة .

وهذا هو الذی یظهر من «کاشف اللثام» ، واستصوبه صاحب «مفتاح الکرامة» .

القول الثالث : أن تکون الکثرة بحیث لو أراد المکلّف الإتیان بها لم یتمکّن عادةً من إتیانها ، ویکون علی نحو بحیث یبقی بعض الأفراد خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ولذلک لا یتنجّز علیه العلم .

هذا هو المنقول عن المحقّق النائینی قدس سره .

القول الرابع : الإحالة إلی العرف ، إلاّ أن یکون وجودات کلّ واحد من الأفراد منحازاً ومستقلاًّ عن الآخر ، بأن یکون علی نحو یمکن الجمع بینهما نظیر قطرة بجوار القطرات ، وحبّة من الحنطة بجنب أطنان من الحنطة ، حیث یکون محصوراً حینئذٍ .

فی تعریف الماء المضاف و أقسامه

هذا هو المنقول عن المحقّق الشیخ ضیاء الدِّین العراقی .

القول الخامس : أنّه إذا کانت الأطراف والأفراد علی نحو لا یمکن ملاحظتها إلاّ تحت عنوان إجمالی مثل (شاة قریة) أو (شیاة هذا الراعی) واشتبه فی حرمة أحدها فهو غیر محصور ، وأمّا إذا لم یکن کذلک بل یمکن ملاحظته علی نحو غیر مجمل فهو معدود فی المحصور .

هذا هو الذی ذکره صاحب «مصباح الفقیه» مستفیداً من صاحب «الحدائق» قدس سره .

هذه هی الأقوال التی وجدناها بعد الفحص فی مظانّها ، وقد عرفت أنّ الأقوی ما ذکرناه .

وهذا تمام الکلام فی الشبهة المحصورة فیما یقتضیه المقام ، وسیأتی تتمّة له فیما ناسب طرحه إن شاء اللّه تعالی .

ص:297

الثانی : فی المضاف

وهو کلّ ماء اعتصر من جسم ، أو مزج به مزجاً یسلبه إطلاق الاسم(1).

الماء المضاف وأحکامه

(1) ولا یخفی علیک أنّ المصنّف رحمه الله لم یُدخل الماء المقطّر المتصاعد فی المضاف ، ولعلّه أدرجه فی المطلق ، وإن کان من الماء المضاف کماء الورد إذا صعد وصار مقطراً .

لکنّه بعید جدّاً ، إذ لا یساعده دلیله المذکور فی ذیل کلامه بقوله : «فی المزج ما یسلبه إطلاق الاسم» ، لوضوح أنّه لا خصوصیّة فی المزج ، لصحّة إطلاق صحّة السلب .

فی ما لو شکّ فیصدق الاطلاق و الاضافة

ومن الواضح عرفاً عدم صحّة إطلاق الماء بلا قید علی الماء المقطّر _ بلا إشکال _ ولا علی المتبدّل بالتقطیر ظاهراً ، وإن سلّم المحقّق الخوئی علی ما فی «التنقیح» صحّة إطلاق الماء علی الثانی ، وتأمّل المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباحه» ، وحکم بالاحتیاط .

کما أشکل وتأمّل الحکیم قدس سره فی «المستمسک» فی إطلاق عدم صحّة الانطباق مطلقاً وفی جمیع الأفراد .

ولعلّ المصنّف أراد إدخاله تحت أفراد المضاف ، کما یشعر بذلک ما عرفت من ذیل کلامه .

وکیف کان لا إشکال فیی کون الماء المضاف علی أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : المعتصر من الأجسام ، وهو الفرد المجازی من لفظ الماء ، لأنّ إطلاق الماء علیه لا یکون إلاّ من جهة المشابهة المخصوصة لا مطلق التشابه ، ولذلک لا یطلق لفظ (الماء) علی الدهن والدبس المائعین .

کما یکون کذلک مجازاً فی القسم الثانی منها وهو المتقطّر منه ، لوضوح أنّ

ص:298

صحّة إطلاقه علیه ، کان بواسطة علاقة ما کان أو یکون أو ما یؤل إلیه ، من جهة أنّه سوف یصیر مشابهاً للماء المطلق ، بحیث کان انطباق إطلاق الماء المطلق علیه أشدّ من القسم الأوّل ، ولذلک تری ذهاب بعض الفقهاء إلیه .

وأمّا القسم الثالث : وهو الماء الممتزج بالشیء ، الذی کان إطلاق الماء علیه حقیقة ، لوجود أجزاء الماء فیه واقعاً ، حتّی بعد المزج کماء الملح وماء التراب ونظائرهما .

فثبت ممّا ذکرنا اُمور ثلاثة :

الأمر الأوّل : إطلاق الماء علی الأقسام الثلاثة یکون من باب الإطلاق الحقیقی أو المجازی ، لا من باب الاشتراک اللفظی ، _ کما یظهر عن بعض علی حسب ما نقله الآملی فی «مصباحه» .

فالمقسم فی کلام الفقهاء ، بأنّ الماء علی قسمین : مطلق ومضاف ، یکون المراد هو الأعمّ من الحقیقة والمجاز ، کما لایخفی علی المتأمِّل _ .

ولا علی الاشتراک المعنوی ، کما یظهر من الحلّی فی «دلیل العروة» فارجع .

الأمر الثانی : إنّ الملاک فی صحّة إطلاق الماء ، هل من جهة کون صحّة إطلاق استعمال الماء علیه بلا قید _ کما فی «مصباح الفقیه» للهمدانی قدس سره _ أو من جهة عدم صحّة سلب اسم الماء المطلق عنه ، کما هو موجود فی کلام کثیر من الفقهاء ؟

الأمر الثالث : أنّ الماء المقطّر أیضاً یعدّ عند العرف من أقسام المضاف ، وذلک من جهة صحّة إطلاق اسم ماء المطلق علیه ، ولکنّه أخفی من غیره .

فدعوی کونه من الماء المطلق _ کما عن الخوئی _ لا یخلو عن إشکال ، سیما قبل تقطیره بالماء المقطّر .

ثمّ لو شککنا فی مورد من جهة صدق الإطلاق والإنطباق ، فلابدّ من الرجوع حینئذٍ إلی الاُصول العملیّة من الموضوعیّة والحکمیّة ، لأنّه لو کان له حالة سابقة

ص:299

من الإضافة أو الإطلاق ، فتستصحب تلک الحالة إلی أن یعلم الخلاف .

یعنی لو کان مطلقاً فاختلط بالتراب ، إلی أن صار مشکوکاً ، فالمرجع حینئذٍ استصحاب إطلاقه .

فی حکم الماء المضاف

کما أنّه لو کان وحلاً ، فاختلط بالماء المطلق ، إلی أن صار مشکوکاً ، فالمرجع استصحاب حالته السابقة .

هذا إذا لم تکن الشبهة مفهومیّة ، وإلاّ لا یجوز ، لأنّه یعدّ حینئذٍ نظیر التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة ، لأنّ المفهوم المردّد یکون نظیر الفرد المردّد ، لایجوز التمسّک بإطلاقه اللفظی المستفاد من ذلک المفهوم ، وهکذا فی استصحابه ، بل المرجع حینئذٍ هو الرجوع إلی الاستصحاب الحکمی ، أو سائر الاُصول الجاریة فی المورد من البراءة والاشتغال .

کما أنّها تکون المرجع فی کلّ مورد لیس فیه أصل موضوعی ، ولو من جهة عدم العلم بالحالة السابقة للشیء المشکوک ، وتفصیل الکلام موکول إلی محلّه .

هذا إذا کان منشأ الشکّ من جهة صدق العرفی للمشکوک ، بأنّه یکون من قبیل الماء المطلق أو الماء ؟ کما هو الملاک فی التشخیص لا أمر آخر من الکثرة والقلّة فی الخلیط ، بأنّه إذا کان الخلیط کثیراً أو أکثر من الماء فهو مضاف وإلاّ مطلق ، ومع التساوی یحکم بجواز الاستعمال للتطهیر ، کما عن الشیخ الطوسی قدس سره فی «المبسوط» ، أو المنع والاحتیاط کما عن القاضی ، تمسّکاً بقاعدة الاحتیاط .

لما قد عرفت بأنّ المعیار فی التشخیص هو العرف ، کما هو کذلک فیما لو فرض اختلاطه بمسلوب الصفات من الماء المضاف ، من دون ضرورة لفرض کونه واجداً للصفات ، کما یظهر عن العلاّمة قدس سره .

بل قد صرّح بلزوم ملاحظة الحدّ الوسط من الصفات ، لا حالته السابقة قبل السلب ، لأنّه لا دلیل علی ما ادّعاه ، ولم یأت بشیء یستفاد منه ذلک ، کما ذکره

ص:300

وهو طاهر ، لکن لا یزیل حدثاً إجماعاً ، ولا خبثاً علی الأظهر(1).

الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» .

والحالة الاُخری هی العدول عنه ، ولا یحتاج إلی مزید بیان .

(1) وما ذکرناه فی البحث السابق یشتمل علی ثلاث حالات ومسائل :

أحدها : طهارة نفسه ، أی یعدّ المضاف طاهراً ، هذا إذا کان المضاف إلیه طاهراً ، لوضوح نجاسته فی غیره ، نظیر الماء المتّخذ من لحم الکلب أو من الشیء المتنجّس ، فیکفی فی ثبوت طهارته قاعدة الطهارة ، لقوله علیه السلام : «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر»(1) ، فی حدیث مصدق بن صدقة عن عمّار ، واستصحاب الطهارة ، لطهارته قبل ذلک فیستصحب .

فی عدم رافعیّة الماء المضاف للحدث

مضافاً إلی دلالة الأصل الأوّلی وهو الطهارة فی غیر ما ثبت نجاسته بالدلیل ، لاسیّما إن قیل بکون النجاسة أمراً عارضیّاً والطهارة تعدّ رفعها ، فالمسألة واضحة لا تحتاج إلی دلیل ، بعد قیام الإجماع علیها .

ثانیها : کون المضاف غیر رافع للحدث الأصغر والأکبر ، وما فی حکمهما من الأحداث الموجبة لاستحباب التوضئ والاغتسال ، کالسلس والمستحاضة .

بل ولا یکفی لما یوجب کمالاً ، لحصول الطهارة بعد الطهارة ، نظیر الوضوء علی الوضوء ، وأمثال ذلک ، بلا فرق بین حالتی الاختیار والاضطرار .

والمسألة إجماعیة ولا خلاف فیها ، إلاّ عن الصدوقین ، بل قد نسب للکاشانی فی الوضوء وغسل الجنابة فی خصوص ماء الورد ، بلا فرق بین الحالتین المذکورتین ، خلافاً لابن أبی عقیل المعروف بالعُمّانی حیث أجاز التوضّئ بماء


1- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4 .

ص:301

الورد وماء الزعفران فی خصوص حالة الاضطرار ، وإن کان لا یبعد احتمال أن یکون ذکره لماء الورد والزعفران من باب المثال کما فی «التنقیح» .

فقد استدلّوا علی عدم رافعیّته بأُمور :

الأمر الأوّل : دعوی الإجماع علیه سابقاً ولاحقاً ، خصوصاً من مثل الشیخ بقوله فی ردّ ما استدلّوا به : «إنّه خبر شاذ أجمعت العصابة علی ترک العمل بظاهره» ، وکفی بذلک موهناً کما فی «المستمسک» .

وإن أشکل علیه لکونه مدرکیّاً ، لا یکشف عن قول الإمام علیه السلام کما فی «التنقیح» ، إلاّ أنّه یوجب الوهن فی الدلیل ، لأنّه یفهمنا بعدم ذهاب الکلّ غیرهم إلی العمل بما استدلّوا ، کما سیأتی إن شاء اللّه ، فهو کاف لإثبات المطلوب ولو لم یکن الإجماع بنفسه دلیلاً مستقلاًّ .

مع إمکان الإشکال فی أصل الدعوی هاهنا ، لو لم نقل فی غیر هذا المورد .

الأمر الثانی : الآیة الواردة فی التیمّم وهی قوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدا طَیِّبا»(1) .

حیث أنّ لفظ (الماء) إمّا موضوع لخصوص المطلق ، أو یکون منصرفاً إلیه ، فحینئذٍ یکون المعنی : ولم تجدوا ماءً مطلقاً فیجب التیمّم ، سواء کان المضاف موجوداً أو لا ، فیستفاد من الحصر عدم کفایته .

وقد یتمسّک بقوله تعالی : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» ، باعتبار أنّ الغسل لا یکون إلاّ بالماء المطلق ، لکنّه مخدوش بأنّ إطلاق الغسل لغیر الماء من سائر المایعات کالنفط والبنزین فی زماننا هذا شایع ، وإن کان انصرافه البدوی مختصٌّ بالماء المطلق ، فالاستدلال بآیة التیمّم هو الأولی .


1- سورة النساء : آیة 43 ، سورة المائدة : آیة 6 .

ص:302

الأمر الثالث : بالسنّة ، وهی الأخبار الواردة الناهیة عن التوضّئ باللبن ، حتّی فی حال الضرورة ، ففی غیره یکون بطریق أولی ، وهو خبر أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یکون معه اللبن أیتوضّأ منها للصلاة ؟ قال : لا ، إنّما هو الماء والصعید»(1) .

وخبر عبداللّه بن المغیرة ، عن أحدهما علیه السلام : «قال : إذا کان الرجل لا یقدر علی الماء وهو یقدر علی اللبن ، فلا یتوضّأ باللبن ، إنّما هو الماء أو التیمّم» الحدیث(2) .

وقد استدلّ بها بوجهین : فیعدم رافعیّة الماء المضاف للحدث

أحدهما : یکون اللبن من أفراد المضاف ، فإذا لم یجز التوضّئ منه حتّی فی حال الضرورة ، فغیره من المضاف أیضاً کذلک .

مضافاً إلی عدم الفرق بینهما وهو مقتضی عدم القول بالفصل إثباتاً ونفیاً .

وفیه : أنّ صدق انطباق عنوان المضاف علی اللبن لا یخلو عن تأمّل ، إذ هو نظیر الدهن والدبس وأمثالهما ، حیث لا یطلق علیها عرفاً ماء مضاف ، بل یفهم من الحدیثین عدم جواز التوضّئ من تلک المایعات حتّی فی حال الضرورة .

ثانیهما : من ذیل الحدیثین ، من کلمة الحصر فی التوضّئ علی الماء والصعید ، ومن الواضح أنّ لفظ الماء بإطلاقه یراد به الماء المطلق قطعاً ، وضعاً أو انصرافاً ، کما هو الأقوی ، وفاقاً للشیخ الأنصاری فی «طهارته» .

کما أنّ إطلاق لفظ الوضوء فی حدیث عبداللّه بن المغیرة ، بلا إضافة کونه للصلاة ، یوجب عدم جواز التوضّئ بأیّ قسم من أقسام الوضوء ، سواء کان لرفع الحدث ، أو للاستباحة ، أو لتحصیل المرتبة والکمال ، فیکون ذکر الصلاة فی خبر أبی بصیر من باب ذکر الفرد الأجلی .


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المضاف ،، الحدیث 1 _ 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المضاف ،، الحدیث 1 _ 2 .

ص:303

ومن هنا یفهم عدم جواز الاغتسال أیضاً ، مضافاً إلی أنّ کلمة (التیمّم) الواردة فی آیة الوضوء(1) واردة فی ذیل کلّ من الوضوء والغسل ، وقد علّق بلفظ الفاء ، بقوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدا طَیِّبا» ، علی الوضوء والغسل کلیهما ، بقوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» ، وقوله تعالی : «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا» ، فلا یبعد أن یفهم من ذیل الحدیثین اشتراکهما فی هذه الحیثیّة ، من عدم تحقّقهما إلاّ بالماء والتراب .

کما أنّ القول بعدم الفصل أیضاً قد یکون متمِّماً للاستدلال ، لأنّه لم یشاهد من أحد من الفقهاء أن فصل بین الجواز وعدمه فی الوضوء والغسل ، إلاّ ما عرفت من الصدوقین ، والمحدّث الکاشانی علی نقل المحقّق الآملی ، ولکنّه خلاف ما نسبه الآخرون إلیهم من عدم التفصیل بینهما ، بل یحکمون بالجواز بماء الورد فی کلیهما ، کما ذکرناه فی أوّل البحث .

مع إمکان دعوی الأولویّة القطعیّة بحسب الظاهر ، ببیان أنّ رفع الحدث الأصغر إذا لم یجز إلاّ بالماء والتراب دون اللبن وأمثاله ، فالحدث الأکبر یکون بطریق أولی ، وإن کان ذلک لا یکون بقوّة الدلیلین السابقین علیه ، فتأمّل .

وما تری من التمسّک بقوله تعالی : «وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا»(2) والأخبار المشتملة علی کفایة الماء للغسل ونظائره _ کما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره وناقش فیهما _ لا یخلو عن مناقشة ، لأنّ الظاهر عدم کون هذه الأدلّة فی مقام إفهام هذه العناوین ، بل المقصود فیها ، وفی کلّ واحد منها ، غیر ما أردناه فی المقام .


1- سورة المائدة : الآیة 6 .
2- سورة الفرقان: آیة 48.

ص:304

فتأمّل حتّی یظهر لک الحال وصدق المقال ، بعون اللّه القادر المتعال .

الأمر الرابع : یمکن الاستدلال بالاستصحاب ، وقاعدة الشکّ فی الشرط ، کما فی «الجواهر» .

بیان ذلک : أنّه لو فرض عدم وجود دلیل إطلاقی یمکن التمسّک به للجواز ، فحینئذٍ بعد تحصیل الطهارة مع أحد أفراد میاه المضاف ، یشکّ فی أنّ الحدث المقطوع الوجود من الأصغر والأکبر هل ارتفع بواسطة ذلک الوضوء والغسل أم لا ؟ فیعدم رافعیّة الماء المضاف للخبث

فالاستصحاب یحکم بالبقاء .

کما أنّ مقتضی دلیل الشرطیّة ، فی أدلّة اشتراط تحصیل الطهارة للصلاة ، تقتضی تحصیل القطع ولو بالحجّة الشرعیّة ، لوجود الشرط عند إرادة دخول الصلاة ، فمع الشکّ فی تحصیله _ کما فی المقام _ لا یحصل القطع بالفراغ من التکلیف المتوجّه للصلاة مثلاً ، وهو واضح .

فمع تمامیّة هذه الأدلّة ، لا یبقی للذهاب إلی ما اختاره الصدوقان والکاشانی وجه ، إلاّ ملاحظة وجود خبر ، وهو الذی رواه سهل بن زیاد ، عن محمّد بن عیسی ، عن یونس ، عن أبی الحسن الکاظم علیه السلام ، قال : «قلت له : الرجل یغتسل بماء الورد ویتوضّأ به للصلاة ؟ قال : لا بأس بذلک»(1) .

ولکن لایعتمد علیه من جهات :

أوّلاً : بما ذکره الشیخ قدس سره فی «التهذیب» بأنّه خبر شاذ وإن تکرّر وروده فی الکتب والاُصول ، فإنّما أصله عن یونس عن أبی الحسن علیه السلام ولم یروه غیره ، وقد أجمعت العصابة علی ترک العمل بظاهره ، انتهی .

بل قال علی ما نقله صاحب «وسائل الشیعة» عنه : یحتمل أن یکون المراد من


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:305

ماء الورد هو الماء الذی وقع فیه الورد ، فإنّ ذلک یسمّی بماء ورد ، وإن لم یکن معتصراً منه ، انتهی کلامه .

أو یکون المراد هو الورد (بالکسر) أی الماء الذی یدخل فیه الدواب ، فیصیر ذلک مظنّة للسؤال ، فهل یجوز التوضّی ء والاغتسال منه أم لا ؟ وهذه المحامل أحسن وأوجه من الحمل علی التقیّة ، أو الحمل علی خلاف ظاهر لفظ الوضوء من کونه للتنظیف وأمثال ذلک کما توهّم .

مضافاً إلی ضعف الحدیث من حیث السند بسهل بن زیاد الآدمی .

کما أنّ یونس بن یعقوب الذی عدّه الشیخ الطوسی من أصحاب الکاظم علیه السلام فهو واقفی وقیل إنّه فطحی ، کما فی «جامع الرواة» .

فمع هذه الإیرادات کیف تطمئن النفس للفتوی علی طبقه ؟

فما ذکره المشهور قویّ جدّاً .

وأمّا عدم الفرق بین الاضطرار وغیره ، للإطلاق الموجود فی الأدلّة ، خصوصاً مع المنع عند عدم القدرة الوارد فی خبری أبی بصیر وعبداللّه بن المغیرة .

فما ذهب إلیه العمانی قدس سره من التجویز فی حال الضرورة ، بلحاظ مقتضی قاعدة المیسور لا یخلو عن إشکال ، کما أنّ التمسّک بالخبر الوارد فی الوضوء بماء النبیذ عن عبداللّه بن المغیرة(1) متروک ومؤوّل ، کما سیأتی .

ثالثهما : فی أنّ الماء المضاف لا یرفع به الخبث ، کما هو الأظهر عند المصنّف قدس سره وثابت عند المشهور شهرة عظیمة کادت تبلغ حدّ الإجماع ، کما فی «الجواهر» ، بل یمکن دعوی الإجماع علیه أیضاً لما ثبت من أنّه لا یضرّ بالإجماع المخالف المعلوم النسب ، وهنا من هذا القبیل ، لعدم وجود مخالف فی


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:306

المسألة إلاّ المفید والسیّد المرتضی وصاحب «المفاتیح» وهو المحدّث الکاشانی علی احتمال ، لأنّه یقول : بأنّ التطهیر غیر موقوف علی الغسل بالماء ، بل یتحقّق بنفس إزالة النجاسة فی غیر ما ثبت من الدلیل لزوم غسله ، نظیر الثیاب والبدن ، وأمّا غیرها من الأجسام الصیقلیّة کالزجاج وغیره تکون طهارته بزوال عین نجاسته ، کما هو الحال فی نجاسة ظاهر أبدان الحیوانات والبواطن کالأنف والفم والاُذن .

فعلیه یکون هذا علی خلاف مسلک الشیخ المفید قدس سره والسیّد المرتضی قدس سره ، ولذلک قال الشیخ کاشف الغطاء فی «شرح القواعد» بأنّه قد أتی بفتوی غریبة ممّا لم یفت بذلک أحد .

فی ما یمکن أن ستدلّ به لجواز التهیر بالمضاف

فعلی مسلکه لا یکون التطهیر منحصراً فقط بالماء المطلق والمضاف ، بل یکون بالأعمّ منهما ومن إزالة العین ، بأیّ وجه اتّفق .

هذا ، بخلاف کلام العَلَمین فإنّهما یقولان بلزوم الغسل ، إلاّ أنّه مطلق ، فیشمل الماء المضاف ، بل مطلق المایعات .

نعم ، لو قیل فی وجه کلامهما أنّهما أرادا بأنّ الملاک فی التطهیر هی مجرّد الإزالة ، فهی تحصل بالمضاف وسائر المایعات أیضاً ، فلازمه انطباق قولهما مع قول المحدّث الکاشانی قدس سره .

وکیف کان ، فنبتدئ أوّلاً بذکر أدلّتهم علی الجواز ، ثمّ نتعرّض لکلام المشهور إن شاء اللّه ، فنقول :

قد ادّعی السیّد قدس سره قیام الإجماع علی دعواه ، مع أنّه لم نشاهد من أحد إلاّ ممّن عرفت موافقته .

هذا نظیر دعوی شیخنا المفید قدس سره ، وجود روایات من الأئمّة علیهم السلام بذلک ، ولهذا أورد علیه المحقّق فی «المعتبر» وطالبه بروایة صحیحة وصریحة دالّة علی ذلک .

ص:307

أمّا إجماع السیّد ، فقد قیل فی حقّه بکون المراد من الإجماع ، هو أنّ الحکم بالجواز کان مطابقاً للأصل والقاعدة أی البراءة .

توضیح ذلک : أنّ الشیء إذا لاقی نجساً ، فیلزم تطهیره ، ولا تحصل الطهارة إلاّ بالغسل أو الإزالة علی احتمال ، فحینئذٍ بعد تحقّق الغسل أو الإزالة یشکّ بأنّه هل یکون التکلیف أزید من ذلک _ أی لابدّ فی الغسل کونه بالماء المطلق _ أو یتحقّق ولو بالمضاف ؟

فالأصل البراءة من الزائد ، وهکذا یقرّر فی طرف الإزالة فلا نتکرّر .

کما یمکن إجراء هذا الأصل فی طرف الصلاة من جهة کون الشرط هو مطلق الغسل ، أو الغسل الخاص ، وهو کونه مع الماء ، فمقتضی البراءة عن الشرطیّة کفایة مطلق الغسل .

وهذا الحکم لم یکن من جهة المعنی المتعارف فی ألسنة الفقهاء ، من ذهاب عدد کبیر منهم إلیه ، کما ذهب إلیه السیّد قدس سره فی کثیر من استعمالاته .

وعلی کلّ حال ، یمکن الاستدلال لما ذهب إلیه العَلَمان بعدّة اُمور :

الأمر الأوّل : الاستدلال بالإطلاقات الواردة فی النجاسات ، من الأمر بالغسل عن النجس ، حیث أنّ الغسل یتحقّق ولو کان بالمضاف ، أو سائر المایعات ولذلک تری أنّ الناس یغسلون أیدیهم بالنفط والبنزین وغیرهما من المزیلات الکیمیاویّة ، مع عدم کونها مضافاً ، فضلاً عن مثل ماء الجلاب ، لاسیّما إذا فقدت عنه الصفات ، وإطلاقات الغسل تکون بملاحظة العادة .

الأمر الثانی : الآیة الواردة فی القرآن من الحکم بالتطهیر فی قوله تعالی : «وَثِیَابَکَ فَطَهِّرْ»(1) وهو مطلقٌ یشمل کلّ ما یزیل النجاسة ، ولو کان المزیل


1- سورة المدّثر : آیة 4 .

ص:308

ماءً مضافاً .

فی الجواب عمّا یمکن أن یستدلّ به لجواز التطهیر بالمضاف

الأمر الثالث : الأخبار الخاصّة الدالّة علی ذلک ، وهی مثل خبر غیاث بن إبراهیم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن أبیه ، عن علیّ علیه السلام ، قال : «لا بأس أن یغسل الدم بالبصاق»(1) .

وصحیح حکم بن حکیم ابن أخی خلاّد الصیرفی :

أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام ، فقال له : أبول فلا اُصیب الماء ، وقد أصاب یدی شیء من البول ، فأمسحه بالحائط وبالتراب ، ثمّ تعرق یدی فأمسح (فأمسّ) به وجهی أو بعض جسدی أو یُصیب ثوبی ؟

قال : لا بأس به)(2) .

حیث یدلّ علی إمکان تطهیر الشیء المتنجّس بغیر الماء مطلق من البصاق والحائط والتراب ، فلو کان الغسل بالماء المطلق لازماً ومعتبراً لما اقتصر علی ما ورد ذکره فی الحدیثین .

الأمر الرابع : هو الإجماع الذی ادّعاه السیّد ، وقد عرفت کونه بمعنی الأصل ، فهو یکون دلیلاً علی حده ، مضافاً إلی ما نقله صاحب «الجواهر» عن السیّد ، من مشاهدة إزالة النجاسة عن الثوب بغیر الماء ، وبأنّه لو کان الأمر کما یقولون ، لوجب المنع من غسل الثوب بماء الکبریت والنفط ، وحیث کان جائزاً علمنا عدم الاشتراط بالعادة ، وأنّ المراد بالغسل ما یتناوله اسمه حقیقة .

هذا جمیع ما یمکن أن یستدلّ به تأییداً للسیّد والمفید .

ولکن جمیعها مخدوشة :


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:309

فأمّا الوجه الأوّل : فإنّ صدق الغسل علی غیر ما یکون بالماء أمرٌ مقبول عندنا ، کما أشرنا إلیه سابقاً ، إلاّ أنّ هذه الإطلاقات مقیّدة بالأخبار الخاصّة الواردة فی انحصار الغسل فی تطهیر النجاسات بالماء ، فی غیر ما نصّ فیه علی حصول التطهیر به بخصوصه ، نظیر الأرض والشمس والأحجار ، مثل خبر برید بن معاویة ، عن أبی جعفر علیه السلام : «إنّه یجزی من الغائط المسح بالأحجار ، ولا یجزی من البول إلاّ الماء»(1) .

ومثل الخبر الوارد فی الولوغ ، وهو حدیث فضل أبی العبّاس ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «أنّه سأله عن الکلب ؟ فقال : رجس نجس لا یتوضّأ بفضله ، واصبب ذلک الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ، ثمّ بالماء»(2) .

وأمثال ذلک الواردة فی الموارد المختلفة ، والتی لو تتبّع الفقیه فإنّه یقف علی المزید منها .

مضافاً إلی إمکان دعوی الانصراف فی إطلاقات الغسل ، إلی الغسل بالماء ، کما هو مراد کثیر من الأخبار ، إذا لم یتحیّر السائل والمخاطب فی مورد من الموارد من الأمر بالغسل ، بأنّ المقصود هو الغسل بالماء المطلق أو غیره ، وهو واضح لا خفاء فیه .

وأمّا الوجه الثانی : فإنّ الأمر بالتطهیر مطلق ، إلاّ أنّه لیس بصدد بیان أنّه بماذا یحصل التطهیر حتّی یستفاد ویستنبط من إطلاقه جوازه ، ولو بالإزالة فقط ، بل هو محالٌ إلی ما هو المعیّن فی الشریعة من مواردها .

هذا ، لو لم نقل بکون المراد من التطهیر ، الکنایة عن تطهیر النفس عن الرذائل


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .

ص:310

النفسانیة والصفات الخبیثة ، ولم نقل بأنّ ما ورد فی بعض الأخبار کنایة وإشارة إلی تشمیر الثیاب وتقصیرها عن إطالتها ، حتّی لا تجر علی الأرض ، وغیرهما من الاحتمالات البعیدة عن مساق الکلام فی المقام .

وأمّا الوجه الثالث : فبأنّ صدق ماء المضاف علی مثل البصاق مشکلٌ ، حتّی یوجب أن یکون دلیلاً للسیّد والمفید .

نعم ، یصحّ ذلک لما ذهب إلیه الکاشانی من کفایة زوال العین فی التطهیر ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو سلّمنا صدقه علیه ، فهو یکون فی خصوص الدم والبصاق ، وذلک لعلّه لوجود خصوصیّة فی البواطن ، کما هو الحال فی باطن الأنف والاُذن ، ولو من جهة رفع الحرج والعسر لو أمر بتطهیره ، فذلک لا یوجب الحکم بوقوع التطهیر بالبصاق للدم ولو کان فی الخارج .

مضافاً إلی انحصاره لخصوص الدم فقط ، ولا یمکن التعدّی عنه ، لیتعیّن الحصر فیه فی خبره الآخر وهو المروی عن غیاث ، عن الصادق علیه السلام ، عن أبیه علیه السلام ، قال : «لا یغسل بالبصاق (بالبزاق) غیر الدم»(1) .

فیکون الدلیل حینئذٍ أخصّ من المدّعی ، من حیث البصاقیة والدمویة ، لإنحصار الدلیل فی إثبات خصوص هذین العنوانین لا مطلقاً .

وأمّا الإشکال فی سنده من ناحیة غیاث ، بکونه بُتَری المذهب وضعیفٌ فی روایته غیر معمول بها ، کما فی «الجواهر» و«المعتبر» و«الحدائق» ، فمخدوش من جهة توثیق النجاشی له ، وهو کاف فی وثاقته ، ولو کان بُتریاً والبُتریّة فرقة کانت تدعو الناس إلی ولایة علیّ علیه السلام ، ویخلطونها مع ولایة أبی بکر وعمر ، وکانوا یبغضون عثمان وطلحة والزبیر کما فی «مجمع البحرین» .


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:311

وأمّا خبر حکم بن حکیم ، فلا إشکال فی سنده ، وإنّما الإشکال فی مخالفته لعمل الأصحاب ، بل جمیع علماء المسلمین ، لأنّ مطهریة الأحجار أو التراب للبول والغائط تختصّ بالمخرجین لا مطلقاً ، فلابدّ من طرحه أو تأویله ، مضافاً إلی أنّه لا یدلّ علی تحقّق طهارة الید بالمسح ، بل غایته عدم تنجّس الوجه بعد مسح الید علی الحائط بملاقاة یده ، فهو لو کان معمولاً به ، کان من الأدلّة الدالّة علی عدم منجّسیة المتنجّس .

وأمّا الوجه الرابع : فإنّه مخدوش أیضاً ، لوضوح أنّ المورد لیس من مواضع إجراء البراءة فی قید الزائد من لزوم کون الماء مطلقاً ، کما لاتجری البراءة فی مقام الشکّ فی شرطیّة التطهیر بالماء من الإطلاق ، لأنّ المقام یکون من باب السبب والمسبّب ، حیث أنّنا مأمورون بتحصیل الطهارة عن النجاسة للصلاة ، فمع فقد الإطلاق ، نشکّ فی حصول الشرط _ وهو الطهارة _ فمقتضی القاعدة هو الاشتغال لا البراءة .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم تمامیّة أدلّة من جوّز التطهیر بالماء المضاف للخبث ، فنرجع إلی أدلّة المشهور ، وممّا استدلّوا به فی المقام ، قوله تعالی : «وَیُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِیُطَهِّرَکُمْ»(1) ، وما فی الآیات من وکلمة الماء الواردة فی الآیة یستفاد منها الطهارة ، حیث یفهم منها کونه فی مقام الامتنان وحصر التطهیر بالماء .

ممّایستدلّ به أیضا لعدم جواز التطهیر بالمضاف

ولا إشکال فی کون المراد من الماء هو الماء المطلق ، لا المضاف ، ولا مطلق المایعات .

لکنّه مخدوش ، کما علیه فی «الجواهر» ، بما قد عرفت منّا سابقاً فی قوله


1- سورة الأنفال : آیة 11 .

ص:312

تعالی : «وَثِیَابَکَ فَطَهِّرْ» ، بعدم کون الإطلاق فی هذه المطلقات حجّة ، لعدم ورودها فی مورد الإطلاق من تلک الحیثیّة ، وأنّه لا ینافی ذلک کون الأرض والشمس تعدّان أیضاً من المطهّرات .

ومن الأخبار _ مضافاً إلی ما عرفت من الأخبار الدالّة علی انصراف مادّة الغسل الموجودة فی الأخبار العامّة مثل خبر زرارة (وأمّا البول فإنّه لابدّ من غسله)(1) إلی الغسل بالماء ، لأنّه المتبادر عند العرف _ ورود أخبارٍ فی موارد خاصّة تدلّ علی لزوم کون التطهیر بالماء المطلق فقط دون غیره ، وهی :

خبر برید بن معاویة ، عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال فی حدیث : «ولایجزی من البول إلاّ الماء»(2) .

وخبر الفضل أبی العبّاس ، فی حدیثٍ : «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الکلب ، فقال : رجس نجس لا یتوضّأ بفضله ، واصبب ذلک الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(3) .

من انحصار الغسل بالماء فقط ، خصوصاً فی الأوّل ، ففی غیر البول والکلب أیضاً کذلک ، بانضمام عدم القول بالفصل .

والخبر الوارد فی الصلاة مع الثوب النجس إذا لم یجد ماءاً ، مع أنّه لو أمکن التطهیر بغیره فلابدّ من ذکره عقیب فرضه عدم الوجدان ، وکما فی مثل خبر علیّبن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ قال : «إنْ وجد ماءاً غسله ، وإن لم یجد ماءاً صلّی فیه ، ولم یصلِّ عریاناً»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 1 _ 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 1 _ 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب النجاسات، الحدیث 5 .

ص:313

ومثله خبر محمّد بن علی الحلبی ، فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «فإذا وجد الماء غسله»(1) .

ومثله خبر عمّار الساباطی عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ ، قال : «یتمّم ویُصلّی ، فإذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصلاة»(2) .

فبهذه الأخبار الخاصّة ، نقیّد الأخبار المطلقة الآمرة بالغسل بصورة الإطلاق ، بلا ذکر لفظ (الماء) فیها ، لو لم نقل ظهور مادّة (الغسل) علی الغَسل بالماء ، کما عرفت کونه منصرفاً إلیه لدی الإطلاق .

فمع وجود هذه الأدلّة ، والشهرة العظیمة ، والقاعدة والأصل ، لا یبقی للقول بکفایة غیر الماء من المایعات المضافة وجه .

بلا فرق فی ذلک بین صورتی الاختبار والاضطرار ، خلافاً لابن أبی عقیل ، حسب ما نُسب إلیه هنا أیضاً علی ما فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره ، وخلافاً لصاحب «الجواهر» وغیره ، حیث ینسبون مخالفة العمّانی فی التطهیر للحدث لا الخبث کما یتّضح لک بالمراجعة .

وکیف کان ، لعلّ وجه کلامه _ مضافاً إلی ما عرفت من جریان قاعدة المیسور ، لأنّه إذا لم یکن الماء مع وصف الإطلاق مقدوراً ، فلابدّ من الاکتفاء بأقلّه ، وهو أصل الماء ولو کان مضافاً ، ویصدق الغسل والماء علی المضاف أیضاً _ دلالة خبر عبداللّه بن المغیرة ، عن أحدهما علیه السلام فی حدیثٍ : «فإنْ لم یقدر علی الماء ، وکان نبیذ فإنّی سمعتُ حریزاً یذکر فی حدیثٍ أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قد توضّأ بنبیذ ، ولم یقدر علی الماء»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 _ 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 _ 8 .

ص:314

هذا ولکنّه باطل لوجوه عدیدة وهی :

فی الجواب عن تفصیل العمّانی فیالماء المضاف

أوّلاً : بدعوی الشیخ إجماع العصابة علی عدم جواز الوضوء بالنبیذ .

وثانیاً : بالأخبار الکثیرة الدالّة علی لزوم وقوع التطهیر _ بکلا قسمیه _ بالماء المطلق لا مطلقاً .

وثالثاً : بمنع کون قاعدة المیسور جاریة هنا ، لأنّا ندّعی بأنّ إطلاق لفظ الماء لیس إلاّ خصوص الماء المطلق لا بصورة التقیید ، أی کون الماء عبارة عن أصل الماء والإطلاق قیده الزائد ، حتّی یدخل تحت القاعدة .

ورابعاً : إمکان وجود التقیّة فی الحدیث ، من کیفیّة نقل الحدیث حیث أسند الإمام روایة الفعل إلی حریز ولم ینقله هو علیه السلام مباشرة .

وخامساً : من إمکان أن لا یکون المراد من النبیذ هو المسکر ، لوضوح أنّه نجس ، فکیف یمکن التطهیر به ، مضافاً إلی عدم صدق المضاف علیه ، کما لایخفی .

بل المراد هو الماء المطلق الذی توضع فیه تمرات حفظاً عن فساده ، بحیث لا یُخرج الماء عن الإطلاق .

کما یشعر بذلک ، وأنّ الماء یبقی علی إطلاقه برغم وضع التمرات فیه حدیث محمّد بن علی بنالحسین ، قال : «لا بأس بالوضوء بالنبیذ ، لأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قد توضّأ به ، وکان ذلک ماءً قد نبذت فیه تمرات ، وکان صافیاً فوقها فتوضّأ به»(1) .

ولذلک یجوز شربه والتطهیر به ، کما یومئ إلی ذلک خبر الکلبی النسّابة حیث فصل بین النبیذین ، وأجاز الشرب والتوضّی ء بالذی کان مطلقاً بخلاف ما کان خمراً ومنتناً ، حیث یقول بأنّه حرام لا یجوز شربه ، فراجع الحدیث(2) .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف .

ص:315

ویجوز استعماله فیما عدا ذلک ، ومتی لاقته النجاسة نجس قلیله وکثیره ، ولم یجز استعماله فی أکل ولا شرب (1).

فثبت أنّ الحقّ مع المشهور فی کلا الموردین ، من الطهارة ، ومن عدم الجواز مع المضاف مطلقاً ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

(1)إذا عرفت من المباحث السابقة طهارة الماء المضاف ، فلا بأس حینئذٍ باستعماله فی غیر الطهارة ، یعنی یجوز أکله وشربه وسائر الاستعمالات المترتّبة علی الأشیاء الطاهرة .

فی انفعال المضاف بملاقاة النجس

کما لا یجوز استعماله کذلک فیما إذا تنجّس بالملاقاة نظیر سائر المتنجّسات ، کما هو واضح أیضاً ولا کلام فیه .

نعم ، الذی ینبغی أن یبحث فیه اُمور ثلاثة ، وهی :

إنّه ینجس بالملاقاة ، ومن دون الفرق بین قلیله وکثیره ، وکون الملاقاة بأیّ صورة وقعت من العالی أو المساوی أو السافل ینجس أو بتفصیل بین الصور .

فالأمر الأوّل : قیام الإجماع علیه منقولاً بل تحصیلاً لعدم وجدان المخالف ، بل کان هو العمدة فی المسألة ، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» ، و«مستند الشیعة» وغیرهما من المستدلّین من المتأخِّرین ، ولم یعلم ولم یسمع خلافه من أحد ، مع أنّه لو کان لبان .

کما أنّ مقتضی میعانیته وسیلانیّته ذلک ، إذ به یفرق بین الجوامد والمایعات ، حیث لا ینفعل فی الجوامد إلاّ ما یلاقیه ، لعدم وجود الرطوبة المستلزمة للسرایة ، بخلاف المایعات حیث تسری النجاسة إلی جمیعها .

فبذلک یظهر إمکان الاستدلال بتنجّس المضاف بالملاقاة ، من الأخبار الدالّة علی نجاسة المایعات ، ولو لم یصدق علیه عنوان المضاف لوحدة الملاک بینهما وهو المیعانیّة .

ص:316

فما یتوهّم من تضعیف هذا الاستدلال بکونه مخصوصاً بالمایعات ، فی غیر محلّه .

فحان الأوان لأن نذکر الأدلّة الدالّة علی ذلک ، والذی استدلّ به ، أو یمکن أن یستدلّ ، عدّة أخبار دالّة علی ذلک بالصراحة أو بالملازمة ، مثل خبر السکونی ، عن جعفر ، عن أبیه علیهماالسلام : «إنّ علیّاً سُئل عن قدر طبخت ، وإذا فی القدر فأرة ؟

قال : یهرق مرقها ویغسل اللحم ویؤکل»(1) .

فإنّ المرق وهو المضاف یحکم بنجاسته وذلک لدلالة الحکم بالإهراق وتطهیر اللحم .

فی انفعال المضاف بملاقاة النجس

وخبر زکریا بن آدم ، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهرق المرق أو یطعمه أهل الذمّة أو الکلب ، واللحم اغسله وکُله» الحدیث(2) .

وخبر محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن آنیة أهل الذمّة والمجوس ؟ فقال : لا تأکلوا فی آنیتهم ، ولا من طعامهم الذی یطبخون ، ولا فی آنیتهم التی یشربون فیها الخمر»(3) .

حیث یدلّ بالملازمة أنّ کلّما تکون فی أوانیهم _ حتّی من المضاف _ ینجس بنجاسة آنیتهم ، وإلاّ لما کان للنهی عن الأکل وغیره وجه .

وإطلاق خبر معاویة بن شریح ، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ : «إنّه سُئل عن سؤر الکلب یشرب منه ویتوضّأ ؟ قال : لا ، قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس ، لا واللّه إنّه نجس»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 6 .

ص:317

فإنّ السؤر یشمل ما لو کان مضافاً مثل المرق وماء العنب والرمّان ، کما لایخفی .

ومثله خبر الفضل أبی العبّاس ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن فضل الهرّة والشاة إلی قوله : فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه . فقال : لا بأس به ، حتّی انتهیت إلی الکلب ، فقال : رجس نجس» الحدیث(1) .

وکذلک یستفاد من أخبار سائر المایعات کما عرفت ، وهی مثل خبر عمّار الساباطی ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلک یموت فی البئر والزیت والسمن ؟ قال : کلّ ما لیس له دم فلا بأس»(2) .

وخبر زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا وقعت الفأرة فی السمن فماتت ، فإن کان جامداً فالقها وما یلیها ، وکلّ ما بقی ، وإن کان ذائباً فلا تأکله واستصبح به ، والزیت مثل ذلک»(3) .

وأمّا الأمر الثانی : وهو عدم الفرق بین الکثیر والقلیل ، فدلیله إطلاقات معاقد الإجماعات ، حیث لم یصرّح من الفقهاء المتقدّمین بالتفصیل بینهما .

نعم ، قد خطر هذا الإشکال عن بعض المتأخِّرین ، بل قد أفتی بعضهم بعدم نجاسة المضاف إذا کان کثیراً ، کما یظهر ذلک من الحکیم قدس سره فی «المستمسک» .

ولکن الإنصاف عدم اطمئنان النفس للحکم بعدم الانفعال ، لو لم نقل خلافه .

أمّا الدلیل المقتضی والمانع کما سلک به الشیخ الأنصاری فیه وفی نظائره ، بأنّ المیعان والذوبان له اقتضاء للانفعال فی کلّ مایع من المطلق والمضاف ، وسائر المایعات ، فخرج بواسطة الأدلّة الواردة فی الماء الکثیر المطلق إذا کان قدر کرّ


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:318

عن تحت هذه القاعدة حیث حکم بالطهارة فیه ، فیبقی الباقی فیها ومنه المقام .

ولکن قد مضی منّا سابقاً فی محلّه عدم تمامیّة ذلک ، فراجع .

فی انفعال المضاف بملاقاة النجس

وأمّا بواسطة إطلاق الأخبار السابقة ، من ترک التفصیل فی الحکم بالإهراق للمرق ، لاسیما إطلاق صیغة النهی فی مثل خبر محمّد بن مسلم(1) ، عن الأکل والشرب من آنیة المجوس ، وإن کانت الغلبة فی القلیل ، إلاّ أنّ غلبة الأفراد لا توجب الانصراف ، بل الملاک هو غلبة استعمال اللفظ فی موضوع ، مثلاً إذا قیل : (أکرم العلماء) فإنّ مجرّد کثرة الفقهاء من جهة الأفراد لا یوجب الانصراف الذی یمنع عن إفادة وجوب إکرام غیره ، بل تکون أصالة الإطلاق محفوظة .

هذا بخلاف الغلبة فی الاستعمال خارجاً ، نظیر الصلاة فی معنی الهیئة الخاصّة من العبادة ، حیث أنّه بالغلبة فی الاستعمال فیها صارت بمنزلة الحقیقة ، بحیث لا یخطر عند ذکر لفظة الصلاة معنی الدعاء فی الذهن أصلاً .

فما نحن فیه أیضاً هکذا إذ تکون غالب موارد الاستفادة واستعمالات الأوانی ونظائرها فی القلیل ، إلاّ أنّه لا یوجب هذا الانصراف عن الأخذ بالإطلاق الذی هو مقتضی کلّ دلیل ابتداءً .

مضافاً إلی ظهور خبر زکریا بن آدم(2) ، حیث صرّح بکون اللحم والمرق کثیراً ، ولا یأبی الکثرة أن تبلغ الکرّ أو أزید ، لاسیما لو لاحظنا الطعام الذی یعدّه شیوخ العشائر والزعماء حیث کانوا یعدّون محلاًّ ویسمّونه ب_ (المضیف) لاستقبال ضیوفهم ویطبخون الطعام فی توانی وقدور کبیرة قد تزید مرقه علی الکرّ . کما یشاهد من اطّلع علی عاداتهم ومفاخرتهم فی ذلک .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8 .

ص:319

وأمّا بواسطة أنّ الحکم بأنّ القلیل منفعل دون الکثیر ، یعدّ إحالة بأمر مجهول بل غیر مقدور ، لعدم معلومیّة المقدار المعیّن الذی ینفعل ، ثمّ کیف یظهر حصول الانفعال من مقداره فی الکثیر ، لأنّه إن قیل بعدم انفعاله أصلاً فهو مخالف للأدلّة المتقدِّمة ، وإن عیّن له حدّ فبکم یکون الحدّ من شبر أو أزید ؟ وما هو الدلیل علی هذا المقدار ؟ ففی الکلّ إشکال .

هذا کما فی «التنقیح» .

لکنّه مخدوش ، بأنّ من حکم بعدم الانفعال فی الکثیر ، یقول بعدم انفعال جمیعه لا فی مقدار منه ، حتّی یقع فی محذور السؤال عن حده .

وما ذکر بأنّه خلاف الأدلّة السابقة ، فمرجعه إلی کون الدلیل هو ما ذکر فی السابق ، فلیس هو دلیلاً مستقلاًّ فی المسألة ، کما لایخفی .

وکیف کان ، فالحکم بالانفعال فی الکثیر لا یخلو عن قوّة ، فحینئذٍ یکون النفط والبنزین فی زماننا هذا من المایعات التی تنفعل بالملاقاة ولو کان ألف کر أو أزید ، کما علیه السیّد قدس سره فی «العروة» ، والشیخ فی «کتاب الطهارة» ، بل هو ممّا تسالم فیه الأصحاب ، کما فی «الجواهر» ، واللّه هو العالم .

وأمّا الأمر الثالث : وهو کون الملاقاة التی توجب الانفعال هل التی من طرف العلوّ أو المساوی أو الأسفل مع الدفع والجریان أو عدمه أم لا ؟

لا إشکال ولا خلاف فی الحکم بالانفعال ، إذا کان التلاقی والاتّصال من طرف العلوّ أو من المساوی .

وإنّما الإشکال یرد فیما إذا کانت الملاقاة فی طرف السافل ، فیما إذا لم یصدق علیه الوحدة ، نظیر ما إذا کان المایع فی القارورة فوقعت النجاسة من أسفله وکان ثابتاً ، فلا إشکال فی صدق الوحدة الموجبة للانفعال بواسطة السرایة .

بل المقصود ما کان للمضاف علوّ علی النجس المساوق للدفع أو أقلّ من ذلک

ص:320

کالتسنّم والتسریع ، فهل توجب الملاقاة الانفعال أم لا ؟

فالأقوال فیهما ثلاثة :

فی تطهیر المضاف المتنجّس

قول : بعدم الانفعال مطلقاً ، أی سواء کان له جریان أم لا ، هذا کما یظهر من «المدارک» و«جامع المقاصد» وغیره من المتأخِّرین .

وقول : بالتردّد ، کما نقله صاحب «المستند» عن فقیه من الفقهاء .

وقول : بالتفصیل فیما إذا کان جاریاً فلا یسری ، ولا ینجّس فوقه ، وإلاّ ینجس ، وهذا کما علیه السیّد بحر العلوم والسیّد فی «العروة» وکثیر من المتأخِّرین .

وهذا هو الحقّ عندنا ، لوضوح أنّ العرف لا یساعد رأی من یقول بالانفعال للعالی إذا لاقی أسفله النجاسة ، وکان له دفع أیضاً ، إذ الدفع والجریان یمنعان الانفعال عرفاً ، ولهذا لو صبّ الجُلاب من إبریق علی ید کافر ، فلا وجه للحکم بنجاسة ما فی الآنیة بواسطة تماس أسفل الجلاب مع النجاسة ، لأنّ الدفع والجریان موجبان لرفع السرایة عرفاً ، کما لایخفی .

فلا فرق فی ذلک بین کون الدفع من العالی إلی السافل _ کما هو الأغلب _ أو کان بالعکس ، مع قدرة خارجیّة نظیر النافورة إذا لاقی مع النجاسة ، فإنّه لا یوجب انفعال سافله ، لوحدة الملاک بینهما ، کما لایخفی .

تتمیم : واعلم أنّ المصنّف قدس سره لم یتعرّض لکیفیّة تطهیر المضاف المتنجّس أو مطلق المایعات إذا لم یصدق علیه الإضافة کالدهن والدبس واللبن ، فلابأس بالإشارة إلیه وبیان حکمه ، کما ذکره الفقهاء رضوان اللّه علیهم أجمعین فی المقام .

فالأولی حینئذٍ الإشارة إلی ما فی «العروة» ، قال فی مسألة 6 : «المضاف النجس یطهر بالتصعید کما مرّ ، وبالاستهلاک فی الکرّ أو الجاری» .

ولا یخفی علیک أنّ ما ذهب إلیه ، هو المشهور بین الفقهاء ، ودلیلهم علی هذا الحکم هو :

ص:321

الأوّل : القطع بعدم حصول الامتزاج الحقیقی فی جمیع أجزاء الماء مع أجزاء المضاف بتمامها غایة الامتزاج ، فلابدّ من الالتزام بأحد الأمرین ، إمّا القول بطهارة المضاف بذلک فهو المطلوب ، أو نجاسة المعتصم ، وهو مخالف لأدلّة اعتصام الکرّ والجاری .

الثانی : استفادة الطهارة من الأدلّة الواردة فی وقوع الدم والبول فی الماء ، والحکم بطهارته لو لم تتغیّر أحد أوصاف الماء الثلاثة ، نظیر الأخبار الواردة فی أبواب مختلفة(1) .

إذ من المعلوم أنّ هذه النجاسات توجب إضافة الأجزاء المجاورة لها ولو بنحو یسیر ، بل ربما توجب صیرورة بعض أجزاء الماء مضافة ، وبرغم ذلک المطلق حکم الشارع بطهارته ، فلا یکون ذلک إلاّ من جهة الاستهلاک .

الثالث : من جهة انطباق عنوان ماء المطلق مع کثرته علیه ، فإذا صدق علیه مع الامتزاج وتلاشی أجزاء الإضافة ، فلِمَ لا یصدق علیه عنوان الإطلاق ، فیصیر حینئذٍ مثل الماء القلیل المنفعل حیث یطهر بملاقاته مع الکرّ خصوصاً مع الامتزاج .

واحتمال لزوم کون الامتزاج مع الکثیر فی حال صدق الإطلاق علی الإضافة قبل الامتزاج ، وهو غیر حاصل . فیتطهیر المضاف المتنجّس

مدفوع ، بأنّه خلاف الإجماع علی طهارة الماء الممتزج ، ولو لم یصدق علیه فعلاً الماء المطلق ، لأنّ الأجزاء المتلاشیة فی المطلق محکوم بالطهارة ، ولو لم یصدق علیه الإطلاق ، إلاّ بعد حصول الامتزاج ، کما تری کونه کذلک فی مثل النجاسات الواردة فی الماء الکثیر المطلق .


1- مثل ما فی باب 3 وباب 5 وباب 9 من أبواب الماء المطلق من وسائل الشیعة، الحدیث 3_ 7 وحدیث 6 ، وحدیث 14 علی الترتیب .

ص:322

مضافاً إلی أنّه لا وجه للحکم بالنجاسة ، لأنّه إن اُرید به الدلیل الوارد بکون الدم الوارد فی المضاف مثلاً صار متنجّساً بإضافته ، وأنّه محکوم بالنجاسة ، فإنّه نقول : بأنّ المفروض زوال ذلک العنوان ، إذ لا یصدق حینئذٍ علیه أنّه مضاف أو دم ، فإذا لم یشمله عنوان الدلیل ، فلا یبقی لنا للحکم بالنجاسة دلیل إلاّ الاستصحاب ، فهو أیضاً غیر جار هنا ، لأنّه منوط ببقاء الموضوع ، والمفروض عدم بقاءه عرفاً ، وإن کانت أجزاءه باقیة بالدقّة العقلیة ، إلاّ أنّ بناء الاستصحاب لا یکون إلاّ بالبقاء المسامحی العرفی ، کما هو مذکور فی محلّه .

فلو سلّمنا عدم شمول أدلّة الماء المطلقة الحاکمة بالطهارة علی المقام ، وشککنا فی طهارته ونجاسته ، فلا إشکال فی جریان قاعدة الطهارة هاهنا ، فیحکم بالطهارة ، بعد تعارض استصحاب الطهارة للماء المطلق والنجاسة للمضاف وتساقطهما ، وبعد تسلیم عدم إمکان الجمع بین الحکمین فی ماء واحد ، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون الماء المتبدّل عن الإضافة إلی الإطلاق متغیِّراً بأحد الأوصاف من الرائحة والطعم واللون ، أو لم یتغیّر إن لم نقل _ کما علیه المشهور بنجاسة الماء المتغیّر بأحد أوصاف المتنجّس _ .

نعم ، إن قلنا بخروجه عن الاعتصام بهذا التصوّر ، فیلزم الانفعال حینئذٍ ، کما لایخفی .

کما لا فرق بین حصول الاستهلاک بواسطة الکرّ والجاری أو غیرهما من ماء المطر والبئر .

ولعلّ الاقتصار علیهما کان من باب المثال ، کما اعترف به الخوئی فی «التنقیح» .

أو کان من جهة کون الغالب فی الخارج هو تحقّق الاستهلاک بهما ، وقلّ ما یتّفق ، لاسیّما بالأخیر ، کما هو واضح ، هذا کلّه ما ذهب إلیه المشهور ، خلافاً للشیخ قدس سره فی «المبسوط» من الحکم بالطهارة بالاختلاط بالکثیر ، مشروطاً بعدم سلب اسم الإطلاق عن المطلق ، وعدم تغیّر أحد أوصافه ، ولزوم کون الکثیر

ص:323

أزید من الکرّ ، وفی بعض نسخه : (وإن غیّر أحد أوصافه) .

ومنشأ الاختلاف هو اشتراط الزیادة عن الکرّ ، مع عدم ذکر المشهور لهذا القید .

کما أنّ التغیّر بأحد الأوصاف إذا کان بوصف المتنجّس لا یؤثّر ، إذا لم نقل بالنجاسة مع هذا التغیّر ، کما هو المشهور المنسوب إلیهم علی الظاهر ، إذ لعلّه بتغیّره بذلک یخرج عن الإطلاق ، فلا یکون مطهّراً .

لکنّه غیر محتاج إلیه ، لخروج هذا الفرد بقید عدم سلب اسم الإطلاق عنه ، فمع الاختلاف فی النسخ لا ضرورة فی البحث عنه .

وأمّا إضافة قید (زیادته علی الکرّ) ، فالظاهر عدم لزومه ، کما لا نقول به فی مثل تطهیر الماء القلیل المتنجّس بالماء ، لأنّه إن اُرید بذلک أنّه بعد وقوع المضاف المتنجّس فیه یوجب تنجّس مقدار من الماء بالاتصال والمجاورة معه ، فهو أیضاً موجود فی الماء القلیل المتنجّس ، مع أنّه لم یلتزم به أحد من الفقهاء فیه .

وإن اُرید أنّه یصیر بالملاقاة مع المضاف مضافاً فی بعض الماء ، فیخرج عن الکریة فلا یعتصم .

قلنا : بأنّه خلاف الفرض ، لأنّا قد فرضنا عدم سلب الاسم عنه ، ولا فرق فی ذلک بین البعض والکلّ إاذ کان قد بلغ حدّ الکرّ .

نعم ، إذا کان أزید من الکرّ ، وعلم بعدم سلب الاسم عن مقدار الکرّ _ وإن سلب مقداره _ فلا یقدح فی طهارته مطلقاً ، حیث أنّ الجمیع متّفقون علیه .

نعم ، والذی ینبغی أن یُنسب إلیه مخالفته للمشهور ، هو العلاّمة ، حیث ذهب إلی طهارة الماء المضاف ، بل مطلق المضاف _ مثل المایعات _ لمطلق الاتّصال مع الکرّ ، بدون إضافة قید الاستهلاک ، وقد استدلّ تأییداً لکلامه بخبر السکونی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الماء یطهر ولا یطهر»(1) ، ومثله


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:324

خبر مسعدة بن الیسع ، عن علیّ علیه السلام .

وبمرسلة الکاهلی ، عن الصادق علیه السلام فی حدیث : «کلّ شیء یراه ماء المطر فقد طهر»(1) .

وقد اُجیب عنهما هذه الأخبار لم تکن فی صدد بیان کیفیّة التطهیر ، بل هی فی مقام مطهریّة ماء المطر .

مع أنّه یلزم _ لو عمل بإطلاقهما _ الحکم بالطهارة وحصول التطهیر بهما کیف اتّفق ، ولو حصل الاتّصال فی أحد طرفی جسم الجامد الذی کان مجموعه نجساً بالماء أو المطر ، ولم یصل الماء إلی طرفه الآخر کما فی «التنقیح» .

ولکنّه باطل قطعاً ، إذ لم تدلّ الأخبار إلاّ علی المراد ، هو التطهیر المغروس فی الأذهان من حصول الاختلاط الموجب للاستهلاک لا مطلقاً ، کما هو دعوی الخصم .

وبهذا الجواب نردّ علی الجزء المرسل الذی استدلّ به العلاّمة فی «المختلف» ، نقلاً عن بعض علماء الشیعة من أنّه کان بالمدینة رجل یدخل إلی أبی جعفر محمّد بن علیّ علیه السلام وکان فی طریقه ماء فیه القذارة والجیف ، کان یأمر غلامه بحمل کوز من الماء یغسل به رجله إذا أصابه من ذاک الماء ، فأبصر به یوماً أبو جعفر علیه السلام فقال له : إنّ هذا لا یصیب شیئاً إلاّ طهّره ، فلا تعد إلی غسل رجلک ، فلا بأس حینئذٍ بتوضیح المقال فی المقام بعد الاستعانة باللّه الملک العلاّم ، فنقول :

بأنّ البحث تارةً یفرض فی الماء المضاف المتنجّس ، مثل ماء العنب والرمّان ونظائرهما .

واُخری ؛ فی مطلق المایعات ، مثل الدهن والعسل والدبس واللبن وأشباهها .

فأمّا القسم الأوّل ، فله أقسام متعدِّدة :


1- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:325

قسم : هو ما لو وقع الماء المضاف فی المطلق کان موجباً للاستهلاک فیه ، بحیث یصیر الماء کلّه مطلقاً ، ویصدق علیه ذلک العنوان فعلاً بدون حصول تغیّر فی الماء بعد ذلک .

وهذا لا إشکال فی طهارته ، وقد عرفت الأدلّة الدالّة علی الطهارة فلا نعیدها .

قسم آخر : وهو عکس ذلک ، بأن صار الماء المطلق بعد وقوع المضاف فیه وقبل استهلاکه فیه ماءً مضافاً ، بحیث یصدق علیه عنوان المضاف فعلاً ، فهو _ لو سلّم إمکان حصوله قبل الاستهلاک ، ووصول أجزاء المضاف إلی تمام أجزاء الماء المطلق ، ولو فی الجملة _ محکوم بالنجاسة ، أی یکون جمیع الماء محکوماً بها إذا لم یکن بین الملاقاة وتبدّله إلی المضاف فصلاً زمانیّاً ، مع أنّه مشکل جدّاً ، فلازم الإشکال هو الحکم بنجاسة الماء المضاف ، ما دام کونه مضافاً ، وطهارة الماء المطلق ما دام مطلقاً ، إذا قلنا بعدم طهارة الماء المضاف المتّصل مع المعتصم قبل الاستهلاک ، کما علیه المشهور ، خلافاً للعلاّمة حیث یقول بحصول الطهارة بمحض الملاقاة .

فحینئذٍ إذا استهلک ، وصار کلّ الماء مضافاً ، أو بدون الاستهلاک ، فیوجب نجاسة جمیع الماء ، لأنّه ما دام الباقی مطلقاً لم یجعل المضاف طاهراً ، حتّی یجعل الجمیع مضافاً ، بحیث یکون الملاقی (بالکسر) للمضاف المتنجّس نجساً قطعاً .

ولعلّه بذلک یستفاد من کلمات الفقهاء نجاسة الجمیع فی هذا الفرض ، بدون ذکر هذا التفصیل .

قسم آخر : وهو ثالث الأقسام ، وهو أن یکون الاستهلاک والإضافة للجمیع حاصلاً دفعة واحدة .

فعن السیّد قدس سره فی المسألة السابعة من «العروة» : «وإن حصل الاستهلاک والإضافة دفعة ، لا یخلو الحکم بعدم تنجّسه عن وجه ، لکنّه مشکل» .

ص:326

خلافاً للبروجردی قدس سره من الحکم بنجاسة الجمیع لو فرض إمکان ذلک .

ولکنّه یمتنع حصول ذلک کما اختاره أیضاً الشاهرودی قدس سره فی تعلیقته علی «العروة» ، والخوئی ، بل أکثر أصحاب التعالیق ، إلاّ الآملی حیث یختار کلام السیّد قدس سره .

والحقّ هو النجاسة إن فرض الإمکان ، وإلاّ فإنّه أمر مستحیل ، إذ لا یمکن عقلاً أن تصل تمام أجزاء المضاف إلی أجزاء المطلق دفعة واحدة حتّی یستهلک ، ویصیر المجموع مضافاً ، فمع فرض الإمکان _ ووحدة زمان وقوع الحادثین وهو الاستهلاک والإضافة ، فإنّ الملاک فی تطهیر المضاف بالاستهلاک فی الماء المطلق ، إنّما یکون إذا حصل الاستهلاک والملاقاة بالماء المطلق قبل حصول الإضافة فیه زماناً ، فتقدّم الاستهلاک علی الإضافة عقلاً ورتبةً یکون من باب تقدّم العلّة علی المعلول وهو غیر مقبول فی الفقه ، لأنّ مبانی الفقاهة مبنیّة علی المسامحات العرفیّة لا علی الدقّة العقلیّة ، کما لایخفی .

ومن جمیع ما ذکرنا ظهر حکم قسم الرابع أیضاً : وهو ما لو صار الماء المطلق مضافاً بعد فترة من الملاقاة والاستهلاک ، أی کان حال الاستهلاک وبعده مطلقاً ثمّ صار بعید ذلک مضافاً ، فهو طاهر بلا إشکال ، لأنّه حال الاستهلاک کان مطلقاً ، فیشمله دلیل الإطلاق ، وأدلّة الاعتصام بلا إشکال .

هذا کلّه مبنیّ علی کلام المشهور ، من لزوم الاستهلاک فی تطهیره .

وأمّا علی القول الذی ذکره العلاّمة قدس سره بکفایة الاتّصال فی تطهیره ، المؤیّد بتلک الأخبار المذکورة ، لاسیما إطلاق مرسلة الکاهلی _ الذی کان معمولاً به عند الأصحاب فی محلّه ، الموجب لرفع ضعفه بالإرسال _ الدالّة علی طهارة ما یصیبه المطر ، الشامل بعمومه للماء المضاف قطعاً .

ولا ینافی ذلک ما لو قام دلیل علی شرطیة شیء لشیء خاص ، مثل العصر فی بعض الأجسام إنْ اعتبرناه ، حیث یحکم بشأنیة ماء المطر للتطهیر ، فلو لم ینضمّ

ص:327

دلیل آخر لإثبات شرط آخر ، فیؤثّر فی فعلیّته ، وإلاّ یبقی فی مرحلة الشأنیة ، نظیر لزوم التعفیر فی ولوغ الکلب للإناء ، فهذا غیر ضار فی دلالته وعمومه .

منضمّاً إلی أنّ الماء المضاف یکون کالماء المطلق سیّالاً ، وتوجب السرایة لجمیع الماء ، ولذلک یحکم بنجاسته جمیعاً بمحض ملاقاة جزء منه للنجاسة ، فلازم ذلک طهارته أیضاً مع الاتّصال بالکر دون حاجة إلی الاستهلاک .

نعم ، الاستدلال بحدیث «الماء یطهر ولا یطهر» ، تأییداً للعلاّمة غیر تامّ ، حیث لا یکون فیه عمومٌ مثل الحدیث السابق ، ومن جهة أنّه لا یکون فی مقام الإطلاق حتّی فی مرحلة کیفیّة التطهیر فلا یمکن الاستدلال به ، کما لا یجوز الاستدلال بمرسلة العلاّمة ، لأنّها فضلاً عن إرساله وعدم انجباره بعمل الأصحاب بخصوصه ، فهی من حیث الدلالة أیضاً غیر تامّة ، حیث لا یعلم مقدار المشار إلیه من الماء وهل هو بقدر إطلاق قوله : الکرّ أو أنقص ؟

مع إمکان کونه جاریاً مثلاً ، حیث کان مجملاً من تلک الجهة فلا یمکن الاستدلال به .

نعم لو ثبت حجّیته ، لأمکن القول بأنّ إطلاق قوله : «أنّه لا یصیب شیئاً إلاّ طهّره» ، یشمل جمیع أفراد المیاه ، کما یشمل إطلاق (الشیء) لجمیع أقسامه ، فکلّ ما قام الدلیل علی عدم مطهّریته من المیاه _ کالماء القلیل _ یخرج عن إطلاقه وعمومهو فیبقی الباقی تحته ، فیشمل جمیع ما یکون عاصماً ، فبإطلاق لفظ (الشیء) الشامل للمضاف یتمّ المطلوب .

ولکن قد عرفت الإشکال فی سنده ، فلا یبقی فی المقام علی الحکم بطهارة الماء المضاف إلاّ مرسلة الکاهلی ودلیل السرایة .

اللّهم إلاّ أن یقال إنّه محفوف بالقرینة من العذرة والجیفة ، لکونه ماءاً عاصماً ، فلا یشمل القلیل ، لأنّه ینجس بهما .

ص:328

هذا کلّه صحیح ، لولا قیام الدلیل علی عدم قابلیة المضاف للتطهیر فی حال کونه مضافاً متنجِّساً ، والدلیل القائم هو المستفاد من الأخبار الواردة فی المرق المتنجّس ، من الحکم بالإهراق بدون الإشارة إلی إمکان تطهیره ولو بوقوع المطر علیه مثلاً ، أو مع أنّه یمکن أنّه کان بالإمکان التنبیه علی أنّه بالاتّصال مع الکرّ یطهر ، مع کونه المقام مقتضیاً لذلک ، من جهة المنع عن الإهراق المساوق للإسراف إن کان المفروض تطهیره بذلک ، برغم ذلک نری أنّ الإمام أمر بالإهراق کما ورد فی خبر السکونی ، عن جعفر ، عن أبیه علیه السلام : «إنّ علیّاً علیه السلام سُئل عن قدر طبخت وإذاً فی القدر فأرة ؟ قال : یهرق مرقها ویغسل اللحم ویؤکل»(1) .

وخبر زکریا بن آدم ، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهرق المرق أو یطعمه أهل الذمّة أو الکلب ، واللحم اغسله وکله» الحدیث(2) ، وغیرهما من الأخبار الناهیة عن استعمال آنیة أهل الذمّة والمجوس وطعامهم ، لنجاستهم ، حیث یفهم فیها الإشعار علی الحکم ، کما لایخفی .

ویؤیّد ما ذکرنا ، حکم الإمام بغسل اللحم وأکله ، حیث یکون بلحاظ عدم تحقّق الإسراف ، فلو کان المضاف قابلاً للتطهیر ، کان علی الإمام علیه السلام البیان لوجود المقتضی والحاجة . فیتطهیر غیر الماء من المایعات المتنجّسة

بل لولا دلالة الأدلّة السابقة علی طهارة المضاف المستهلک فی المطلق ، بما قد عرفت بما لا مزید علیه ، لکان ینبغی القول بعدم تحقّق الطهارة والتطهیر فی المضاف ومطلقاً ، حتّی مع الاستهلاک ، إلاّ انّه حیث یکون الاستهلاک بمعنی اعدام


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8 .

ص:329

المضاف بحسب عنوان العرف ، فکأنّه لا یکون القول بتطهیره کذلک مخالفاً لتلک الأخبار ، کما لا یخفی ، هذا کلّه فی القسم الأوّل .

وأمّا القسم الثانی : وهو سائر المائعات ، کالدهن المتنجّس والدبس واللبن ونظائرها ، فهو أیضاً وإن کان مشترکاً مع القسم الأوّل فی کثیر من المباحث السابقة ، إلاّ أنّه یزید علیه من جهتین :

الجهة الاُولی : من جهة عدم تحقّق الاستهلاک فی بعض أقسامه کالدهن المتنجّس ، لأنّه لا یقبل الاستهلاک المعهود فی المضاف فیه ، لأنّ طبیعة الدهن تقتضی عدم تقبّله للماء وانّه لا یذوب فیه ولا یختلط معه وإن غلی بالحرارة ، کما هو الحال فی الدهن الموجود فی المرق ، فما کان حاله کذلک ، قد یقال بعدم إمکان تطهیره أصلاً ، فلا محیص فیه إلاّ الإهراق أو الاستصباح به ، کما اُشیر إلیه فی خبر زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «إذا وقعت الفأرة فی السمن فماتت فإن کان جامداً فالقها وما یلیها ، وکُلْ ما بقی ، وإن کان ذائباً فلا تأکله واستصبح به ، والزیت مثل ذلک»(1) .

هذا بخلاف مثل اللبن والدبس ، حیث لا یکونان مثل الدهن ، فیمکن فرض التطهیر فیهما ونظائرهما بالاستهلاک .

الجهة الثانیة : یقع البحث فی تطهیر المایعات وظروفها ، من جهة أنّه قد یقال بعدم سرایة النجاسة إلی سائر المواضع البعیدة عن النجس ، لعدم تحقّق السرایة فی مثل الدهن ،

فی تطهیر غیر الماء من المایعات المتنجّسة

وهذا خلاف الوجدان ، ولذلک تری صدور الحکم بنجاسة الجمیع ، إذا اتّصل بعض أطرافه بالنجاسة ، فإذا فرض وجود السرایة للمایعات أیضاً کالماء ،


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:330

فلازمه الحکم بطهارة الجمیع ، إذا اتّصل طرفها مع الکرّ ، نظیر اتّصال الماء القلیل بالکثیر ، فکیف یحکم بعدم طهارته إلاّ بالاستهلاک ؟

کما أنّ مقتضی طهارتها هو طهارة الظروف والأوانی الحاویة لها أیضاً ، کما یطهر ظرف الماء القلیل المتنجّس أیضاً معه .

فما ذکره صاحب «مصباح الهدی» قدس سره بقوله : «إن سلّمنا طهارة المظروف المایع بالاتّصال الکثیر ، ولکن لا یوجب طهارة ظرفها ، فلازمه کون ذلک طهارتها موقوفة علی حال اتّصالها بالکثیر ، فإذا انقطع یصیر کلّه نجساً بواسطة نجاسة ظرفه ، وهو نظیر الماء القلیل الموجود فی الظرف الذی کان من جلد المیتة ، حیث یوجب نجاسة الماء القلیل بعد قطع الاتّصال عن الکثیر ، إلاّ أن یقم دلیل یدلّ علی حصول طهارة الظرف مع مظروفه ، کما ورد ذلک فی أدوات الغسل فی غُسل المیّت ، حیث یحکم بالطهارة بالتبع ، ولولا قیام الدلیل علی ذلک بالخصوص لأمکن الاعتماد فی ذلک بالأدلّة العامّة کما لایخفی فی غیر محلّه ، لأنّه إذا سلّمنا کون الاتّصال مطهّراً للمایعات أیضاً نظیر مطهّریته للماء القلیل ، فکما یطهر المظروف بذلک الاتّصال فلابدّ من القول بطهارة ظرفه أیضاً ، وإلاّ لکان الحکم بالطهارة للمایعات لغواً ، لأنّه کما أنّ أجزاء المضاف المتنجّس المتّصل بالکثیر یوجب طهارة بقیّة أجزاءه مع کونه مضافاً طاهراً ، فهکذا یکون للظروف أیضاً ، کما یحکم بطهارة ظرف العصیر العنبی بواسطة طهارة العصیر بالغلیان ، وهکذا الخمر إذا صار خلاًّ ، وکذلک آلات المنزوحات فی البئر ، إنْ قلنا بنجاسة ماء البئر بالملاقاة للنجاسة» .

ولکن أصل الإشکال هو المستفاد من الأخبار الواردة فی نجاسة المایعات من الحکم بالإهراق ، حیث یفهم أنّه غیر قابل للتطهیر ، وإلاّ لکان المقتضی ذکره ،

ص:331

ولو مزج طاهره بالمطلق ، اعتبر فی رفع الحدث به إطلاق الاسم علیه (1).

وهو کما فی خبر زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام (1) . الذی ورد فیه الحکم بصرفه للاستصباح ، والنهی عن الأکل .

ولا یخفی أنّ الدهن إن کان قابلاً للتطهیر ، فیحکم باستعماله للاستصباح الذی یعدّ بمنزلة الإهراق والإتلاف کما لایخفی .

مضافاً إلی إمکان الاستفادة من فحوی الأدلّة الواردة فی لزوم إهراق المرق برغم صدق الماء المضاف علیه ، ففیما نحن فیه الذی لا یصدق ذلک ، یکون بطریق أولی .

فهذه الأدلّة الواردة فی المضاف والمایعات من الحکم بالإهراق والاستصباح ، تکون حاکمة علی إطلاق قوله : «کلّ ما یراه المطر فقد طهر» فی مرسلة الکاهلی ، لأنّها ناظرة إلی ذلک قطعاً ، فحکم الفقهاء بتطهیرها بالاستهلاک ، لیس إلاّ من جهة اعدام صورته النوعیة ، فیصیر مطلقاً فیما إذا أمکن ، کما فی غیر الدهن فیحکم بالطهارة .

لکنّه تعبیر مسامحی ، لأنّه لیس موجوداً حتّی یقال إنّه طاهر ، إذ الطهارة والنجاسة تصدقان فیما کان المحلّ قابلاً لهما فإذا کان المحلّ فاقداً للقابلیة فإنّ صدق الحکم لا یکون إلاّ بالمسامحة العرفیة . واللّه العالم .

(1) فما دام لم یخرج عن اسم الإطلاق ، یجوز التطهیر بالمضاف الطاهر الواقع فی المطلق ، بکلا قسمیه ، أی الطهارة من الحدث والخبث ، وإن لم یستهلک استهلاکاً حقیقیّاً ، لما قد عرفت بأنّه عرفی لا عقلی .

فی حکم الماء المشّمس


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:332

ویکره الطهارة بماء أسخن بالشمس فی الآنیة ، وبماء اُسخن بالنار فی غسل الأموات (1).

نعم ، قد علمت بأنّه یکون فی غیر مثل الدهن ، حیث لا یعقل المزج فی أجزاءه ، تتقبّل طبیعته الماء فی نفسه ، ولذلک تری بأنّ الید إذا صارت متلطّخة به لا یقبل الماء بل یجمع فی مواضع متعدّدة ، وهذا واضح ، ولذا قد أشکل بعض الفقهاء فی الوضوء والاغتسال إذا کان البدن قد أصابه الدهن ، لعدم وصول الماء إلی البشرة ، إذ هو یکون مانعاً عن الوصول إلیها .

(1) هنا مسألتان :

المسألة الاُولی : ثبوت کراهة استعمال الماء المسخّن بالشمس للطهارة فی الحدث ، کما فی «المعتبر» و«النافع» و«القواعد» و«الإرشاد» و«التحریر» وغیرها من المتأخِّرین کالسیّد فی «العروة» والفقهاء الذین علّقوا علی «العروة» ، بل فی «الذخیرة» أنّه مشهور بین الأصحاب .

بل فی «الخلاف» نقل الإجماع علی کراهة الوضوء به .

وفی «السرائر» : أنّه مکروه فی الطهارتین فحسب .

الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

والأصل فی ذلک _ مضافاً إلی نقل الإجماع بل وتحصیله لعدم مشاهدة الخلاف عن أحد من المتقدِّمین والمتأخّرین _ هو خبر إبراهیم بن عبدالحمید ، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال : «دخل رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی عائشة وقد وضعت قمقمتها فی الشمس ، فقال : یا حمیراء ما هذا ؟ قالت : اغسل رأسی وجسدی . قال : لا تعودی فإنّه یورث البرص»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:333

والحدیث الوارد فی «علل الشرائع» عن السکونی ، عن جعفر علیه السلام ، عن أبیه ، عن آبائه ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الماء الذی تسخنه الشمس ، لا تتوضؤا به ، ولا تغتسلوا به ، ولا تعجنوا به ، فإنّه یورث البرص»(1) .

وخبر إسماعیل بن أبی زیاد ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الماء الذی تسخنه الشمس لا تتوضّوا به ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به ، فإنّه یورث البرص»(2) .

والنهی الوارد فی هذه الأخبار یحمل علی الکراهة لوجود خبر مخالف لذلک ، مثل خبر محمّد بن سنان ، عن بعض أصحابنا ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ الإنسان بالماء الذی یوضع بالشمس»(3) .

فإنّه یحکم بعدم البأس فی التوضّی ء به ، فیوجب التصرّف فی هیئة النهی فی تلک الأخبار .

مضافاً إلی التعلیل الموجود فی الخبرین الأولین ، فیفهم أنّ الحکمة فی ذلک هو إمکان تحقّق البرص .

مضافاً إلی الإجماع علی عدم الحرمة ، مع ضعف الأخبار الدالّة علی الکراهة ، فغایتها الکراهة لا الحرمة للتسامح فی الأدلّة .

واحتمال عدم الکراهة بالمرّة أو بالمرّتین ، لإمکان أن یکون قوله (لا تعوّدی) _ مشدّداً _ أی لا تجعلیها عادة ، فلا ینافی عدم الکراهة فیما لو اتّفقت مرّة أو أکثر .

یکون خلاف الظاهر جدّاً ، خصوصاً مع إطلاق النهی الظاهر فی مکروهیّته ولو لمرّة واحدة .

نعم ، أصل الکراهة للماء المشمس _ لولا الإجماع علیها _ محلّ تأمّل ، لظهور


1- الباب 194، الحدیث 2 ص266 .
2- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 _ 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 _ 3 .

ص:334

النهی فی الحرمة ، وإمکان الجمع بین خبر محمّد بن سنان وغیره ، علی أنّ الوضع فی الشمس یکون أعمّ من التسخین .

هاهنا فروع :

الفرع الأوّل : هل الکراهة مختصّة بالآنیة _ کما حُکی الإجماع عن «التذکرة» و«نهایة الاحکام» علی عدم الکراهة فی غیرها _ أم لا ؟

فإن تمّ الإجماع فهو ، وإلاّ فمقتضی خبری «علل الشرائع» وإسماعیل بن أبی زیاد ، هو العموم لغیر الآنیة ، بخلاف خبر إبراهیم حیث أنّه صریح فی الآنیة .

بل مقتضی التعلیل الموجود فی تمام الأخبار _ حتّی خبر إبراهیم _ هو الإطلاق ، وهذا هو الأقوی کما عرفت .

الفرع الثانی : وممّا ذکرنا ظهر حکم عدم اختصاصها للماء القلیل ، بل یشمل کلّ ماء أسخنته الشمس ، مثل الماء المجتمع فی البرک والمصانع والأنهار والحیاض ، کما هو المستفاد من الخبرین المذکورین ، ومن التعلیل الوارد فی جمیعها. الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

نعم ، ظهور خبر إبراهیم کان فی الماء القلیل ، لأنّه المنصرف إلیه ، لظهور کلمة (القمقمة) فی الآنیة الصغیرة المخصوصة ، فإلغاء الخصوصیّة عن مثله لا یکون إلاّ بما هو قریب منه لا إلی غیرها من الأنهار .

وکیف کان ، لو سلّمنا عدم الاختصاص بالآنیة ، فمثل ذلک داخل تحت الحکم ، کما لا یخفی .

الفرع الثالث : ظاهر «الخلاف» و«السرائر» لزوم القصد فی تحقّق الکراهة بالماء الساخن ، خلافاً «للمهذّب» و«النهایة» وغیرهما من الحکم بالکراهة مطلقاً ، وهذا هو الأقوی بملاحظة التعلیل الوارد ، حیث أنّ البرص أثر یترتّب علی الماء المتّصف بکذا ، ولا معنی أن یکون القصد موجباً له ، بخلاف صورة عدم القصد .

ص:335

فما ذکره صاحب «المصباح» بکون ظاهر خبر إبراهیم علی وجود القصد مخدوش ، بأن وضع القمقمة فی الشمس وإن کان ظاهراً فی القصد ، إلاّ أنّ ذکر التعلیل فی ذیله یرفع هذا الظهور فی دخالته فی الحکم .

الفرع الرابع : الظاهر المستفاد من التعلیل ، هو عدم اختصاص الحکم بخصوص التوضّی _ کما فی «الخلاف» _ أو الطهارتین فقط ، _ کما فی «السرائر» _ أو هما ومع العجین _ کما فی «الذکری» _ لما قد عرفت من ظهور التعلیل فی أنّ استفادة هذا الماء بما یوجب مباشرته للبدن ، ولو کان لرفع الأخباث ، لها تأثیر فی الإصابة بالبرص .

نعم ، لا یستلزم الکراهة إنْ لم یباشر بشرة البدن ، کما لو استفاد منه فی تطهیر الألبسة وإزالة الخبائث نظیر وسائل الشیعة الکهربائیة المتداولة فی عصرنا هذا فلا کراهیة فیه .

فدعوی الاختصاص بما قد ذکر مشکل جدّاً .

کما ظهر ضعف القول بکراهة مطلق الاستعمال ، ولو لم یباشر البدن ، کما عن «النهایة» و«المهذّب» و«الجامع» إن لم یکن مقصودهم صورة المباشرة ، کما هو المتعارف عند الاستعمال .

کما لا فرق فی الکراهة بین أقسام الوضوء والغسل .

الفرع الخامس : الظاهر أنّ ملاک الحکم بالکراهة ، هو حصول السخونة بالشمس ، سواء کان ذلک فی مدّة طویلة _ کما فی البلاد المعتدلة أو الباردة _ أو فی المدّة القصیرة _ کما فی البلاد الحارّة _ .

کما أنّ ظاهر الأخبار کون الملاک بالسخونة هی المنسوبة إلی الشمس بلا واسطة ، لا ما یسخن بواسطة سخونة الآنیة ، بأن لم یتوجّه حرارة الشمس للماء مستقیماً ، بل یتوجّه إلی الإناء أوّلاً فیسخن ، ثمّ یسخن الماء بواسطته ، فإنّه غیر

ص:336

مکروه بحسب الظاهر ، وإن کان ظاهر خبر إبراهیم الوارد فیه حکمة (القمقمة) وهی الآنیة الصغیرة المعدّة لحمل الماء فی السفر والتی تحتوی علی ماء قلیل یکفی لشخص واحد ، فإذا صار مثل هذا الماء المسخون بالشمس مکروهاً ، فلازمه ثبوت الکراهة لکلّ ماء مسخون بها ، ولو بواسطة سخونة الآنیة .

هذا إن کان المراد من (القمقمة) ما هی المتعارف بأیدینا فی زماننا .

وإن اُرید منها ما فی «مجمع البحرین» و«المنجد» من أنّها وعاء من النحاس ویسخن فیه الماء ، فلا یبعد أن تکون نوعاً من القدر المکشوف الرأس ، فلا یستبعد أن تکون کراهته بواسطة إصابة أشعّة الشمس إلیه بلا واسطة ، فلا یمکن حینئذٍ الاستدلال بمثله أیضاً . الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

فبعد تسلیم ما ذکرنا ، حیث یکون المستفاد من ظهور إسناد الفعل إلی الشمس ، مع کون الحکمة هو خوف البرص الحاصل فیما کان مستنداً إلی أشعّة الشمس هو عموم الحکم بلا فرق فی اختلاف الخصوصیّة الخارجیّة .

فلا یعتنی بالاستحسانات المذکورة فی «المنتهی» من ضعف تأثیر الشمس فی البلاد المعتدلة ، أو بأنّ الحدید والرصاص نتیجة لأثر أشعّة الشمس یحصل فیهما ریحٌ نتن ، بخلاف ما یشبه الذهب والفضّة فإنّهما لصفائهما لا یوجدان حدوث ما یحذر من حدوثه .

لما قد عرفت الملاک وظهور إطلاق الأخبار ، فی کون المناط هو التسخین بالشمس ، بأی صورة اتّفقت ، کما لایخفی .

نعم ، لا یتحقّق الکراهة ولو مع إصابة أشعة الشمس للماء مدّة طویلة ، إذا لم توجب الإصابة سخونة الماء لبرودة الهواء أو الماء .

فمن ذلک ظهر أنّ التسخین الحاصل عن طریق الآنیة التی کانت فی الشمس ثمّ وضع فیها الماء وسخن ، لا توجب الکراهة بطریق أولی ، لعدم استناد التسخین

ص:337

إلی الشمس مباشرةً ، وإن أطلق عرفاً علی هذا الماء بأنّه مسخّنٌ بالشمس ، لکن بما أنّ التسخین لم یکن مستنداً لحرارة الشمس فلا کراهة فی استعمال هذا الماء .

والعجب من صاحب «مستند الشیعة» من إطلاق الکراهة ، حتّی إذا حصلت الحرارة والتسخین بالمقاربة بها ، من دون إشراق الشمس علیه ، وهو بعید جدّاً .

الفرع السادس : هل الکراهة مختصّة بحال السخونة _ کما لا یبعد فی الجملة _ أو تکون ثابتة حتّی بعد زوال الوصف ، کما استظهرها جماعة کثیرة کصاحب «الجواهر» وغیره ممّن سبقه کالعلاّمة فی «المنتهی» ، واحتمله فی «التذکرة» ، وقطع به فی «الذکری» ، للاستصحاب عند الشکّ ، فضلاً عن إطلاق الروایتان الشاملتان لهذه الصورة ، لأنّه یصدق علیه بأنّ الشمس قد سخنه .

وأمّا کون المشتقّ حقیقة فی الأعمّ من بقاء المبدأ فیه فغیر معلوم ، لأنّ ذلک إنّما یکون فی المستقّات الخالیة عن الزمان ، فتحقیق الکلام فیه موکول إلی محلّه .

الفرع السابع : الظاهر عدم الفرق فی الکراهة بین صدور الفعل مرّة أو مرّتین أو أزید من ذلک ، خلافاً لصاحب «الحدائق» حیث ذهب إلی أنّ الکراهة مترتّبة علی المداومة لا المرّة والمرّتین ، خصوصاً إذا قلنا إنّ ضبط الحدیث یکون (تعوّدی) بالتشدید ، فیکون المعنی هو لا تجعلیها عادةً لک ، فلا ینافی وقوعها مرّة أو مرّتین .

لکنّه خلاف ظهور التعلیل ، والإطلاق الموجود فی الأخبار ، خصوصاً إذا لاحظنا الخبرین الأوّلیّن .

کما لا فرق فی التکرّر فی ماء واحد وفی آنیة واحدة ، أو التکرّر الحاصل باختلاف الأوانی ، لأنّ الملاک هو الاستعمال فی وحدة کلّ عمل وفعل ، فإذا أدخل یده مرّات عدیدة فی آنیة واحدة واستعمل ماءها لمرّات عدیدة لم یرتکب مخالفات عدیدة بل تحتسب کراهة واحدة .

ص:338

الفرع الثامن : هل الکراهة تختصّ فیما إذا کان للمستعمل ماء آخر یمکن استعماله أو هی مطلقة وتشمل حتّی صورة الانحصار .

المشهور _ کما عن «المستند» _ هو عدم الکراهة فی الثانی ، حیث یقول بأنّ الأکثر حکموا بزوال الکراهة عند الانحصار ، خلافاً للآخرین خصوصاً مثل الشهید فی «الروض» وجماعة من المتأخِّرین منهم صاحب «المستند» و«مصباح الهدی» ، خلافاً «لمصباح الفقیه» حیث لم یجوّز الجمع بین الحکمین ، بل یظهر الإشکال فیه أیضاً من الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» .

والتحقیق : حیث أنّه کان المورد من الموارد التی تعلّقت الکراهة علی عنوان کلّی للاستعمال مطلقاً ، علی حسب ما اخترناه ، أی سواء کان للطهارة أم لا ، کما أنّ الأمر بالوضوء تعلّق بکلّی سواء کان منحصراً فیه أم لا ، فیصیر ذلک من قبیل اجتماع الأمر والنهی ، لا من قبیل الصوم فی یوم عاشوراء حیث لا یکون له بدل ، والنهی قد تعلّق بنفس الصوم ، کالصلاة فی الحمّام إلاّ أنّ لها بدل بخلاف الصوم . الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

فعلی هذا تکون النسبة فی المقام هی العموم والخصوص من وجه ، إذ النهی تعلّق بمطلق الاستعمال لا خصوص الطهارة ، کما أنّ الأمر بالوضوء تعلّق بالتوضی ء بالماء ، سواء کان ساخناً بالشمس أم لا ، مع انحصار الماء وعدمه حیث اجتمع فی الخارج عنوانا ، فمن کان مبناه فی الاُصول کفایة تعدّد الجهة والعنوان فی ذلک ، فیذهب إلی الجواز فی المقام ، ومن کان مبناه فی الاُصول امتناع ذلک ، فلازمه الامتناع هنا ، فلا محیص إلاّ القول بالوجوب فقط ، دون الکراهة فی الانحصار .

ولکن مع ذلک یقول فی «مصباح الهدی» بأنّ هاهنا أیضاً مثل الاجتماع ، لأنّ المرجوحیّة کانت بلحاظ الخصوصیّة الفردیة ، والراجحیّة کانت بلحاظ الطبیعة الأصلیة ، فالحقّ حینئذٍ یکون مع الشهید قدس سره ، هذا محصّل کلامه .

ص:339

ولکن الإنصاف أن یقال : بأنّ ظاهر التعلیل بکونه یورث البرص ، یقتضی عدم الفرق بین الانحصار وعدمه ، وانّ الأمر یعدّ من الاُمور الخارجیّة التکوینیّة ، حیث یصیر البرص من باشر استعمال هذا الماء ، سواء کان قد انحصر ماءه أم لا .

اللّهمّ إلاّ أن تکون الجملة تفید الحکمة لا العلّة ، کما هو الأقوی ، فتکون قد انحصر ماءه مختصّة بصورة عدم الانحصار .

ولکن بعد التأمّل فی معنی الکراهة _ وهو عنوان طلب الترک ومرجوحیّة الترک _ نفهم أنّه لا یمکن تحقّقه فی صورة الانحصار الذی أوجب الإتیان ، خصوصاً فیما إذا لم یکن الانحصار معلولاً لفعل المکلّف ، بل حصل من غیر اختیاره ، فحینئذٍ لا معنی للقول برجحان الترک ، بل یعدّ الفعل راجحاً مع المنع من الترک ، وهو معنی الوجوب .

نعم ، قد یصحّ من جهة إمکان انطباق العنوانین ، من جهة سوء اختیاره ، فیکون مثوباً من حیث أصل الطبیعة ، ومبغوضاً بنوع الکراهة من حیث إیجاد هذا الفرد ، ففی ذلک لا یبعد القول بصحّة ما اختاره الشهید قدس سره .

ولکن فی الحقیقة لم یجتمع مرکز العنوانین فی محلّ واحد هنا ، بل کان فی الحقیقة أحد الحکمین متعلِّقاً بأصل الوضوء الواجب للصلاة فی الانحصار ، والآخر بسوء اختیاره بإرادته ، فیستحقّ الثواب والعقاب ، کما هو الحال فی تصرّفات الموالی العرفیة والعبید ، فإنّه إذا أمره مولاه بإتیان الماء ، وکانت أفراد المیاه متعدّدة ، فإنّ أمره الوجوبی للإتیان بالماء یقتضی تطبیقه علی الأفراد المطلوبة مثل المیاه الباردة .

وأمّا إذا انحصر الماء فی الماء الحار ، وأراد المولی ذلک بإرادة جدّیة ، فلابدّ من إتیانه وإن کرهه بطبعه ، ولکن لا یمکنه أن یعاتب عبده ویقول : لِمَ أسقیتنی ماءً حارّاً ، لأنّ أمره اقتضی ذلک ولم یکن بسوء اختیار العبد .

ص:340

وأمّا إذا فعل ذلک باختیاره ، بأن أراق الماء البارد بعمد ، فلم یبق له إلاّ الماء الحار ، فحینئذٍ یحقّ للمولی أن یأمره بإتیان الماء الحار لرفع عطشه وبرغم ذلک یستحقّ العتاب ب_ : «لِمَ فعلت کذا» حتّی اضطررت إلی استعمال الماء الحار ، فهذا أمر وجدانی یقبله الذوق السلیم .

فعلی هذا ، لا یبعد القول بالتفصیل بین الصورتین ، إن لم نجوّز اجتماع الأمر والنهی فی عنوان واحد خارجاً ، وإن کان متعدِّداً جهة .

فعلی ما ذکرنا لم تتغیّر الکراهة عن المعنی المصطلح فیها ، حتّی یرد علیه بأنّه کیف یمکن انصراف الکراهة المطلقة المتعلِّقة بالماء المشمس فی بعض أفراده _ وهو الانحصار _ وحملها علی قلّة الثواب ، وفی غیر المعنی المصطلح علیها ؟ کما أورد ذلک صاحب «مصباح الفقیه» فی کتابه .

إلاّ أنّ حقیقة الإشکال هی فی عدم إمکان ورود الأمر الوجودی مع النهی التحریمی أو التنزیهی فی مقام الإرادة والکراهة الاستعمالیة ، أی لا یمکن الجمع بین قولی المولی : (ائت) و(لا تأت) ، وإن کان الجمع فی مقام الجد ممکناً ، کما عرفت ، أی یستحقّ الثواب لأنّه امتثل الأمر حقیقة ، کما یستحقّ العتاب والعقاب ، لأنّه قد تخلّف عمّا کان المطلوب منه ترکه جدّاً ، وإن لم یمکنه الإظهار لمزاحمته مع الأهمّ.

فالمسألة لا تخلو عن إشکال جدّاً ، کما اعترف الشیخ الأنصاری قدس سره بذلک ، فتأمّل.

حکم الماء المسخّن بالنار

المسألة الثانیة : فی کراهة غسل المیّت بالماء المسخن بالنار .

ولا خلاف فیه ، بل فی «الخلاف» : إجماع الفرقة وأخبارهم .

کما أنّ عبارة المصنّف صریحة فی کون الکراهة فی خصوص الغسل دون مقدّماته ، من تطهیر بدن المیّت وأمثال ذلک ، إلاّ أن یکون المراد هو الأعمّ من الغُسل ، حتّی یشمل مقدّماته ، لکنّه بعید ، أو یحتمل أن یکون بفتح الغین ، فیکون

ص:341

المراد هو الأعمّ من الغُسل بالضمّ ، فحینئذٍ لا یمکن دعوی الإجماع لوجود الخلاف فیه حینئذٍ .

وإن کان صاحب «المدارک» قد ادّعی الإجماع علی عدم الکراهة فیما إذا کان علی بدن المیّت نجاسة لا یرفعها إلاّ الماء الحارّ ، کما حکاه عن «المنتهی» ، فلازمه الکراهة فی صورة عدم کون الموضوع کذلک .

وسیجیء إن شاء اللّه الأخبار التی یستفاد منها الإطلاق ، وأنّه لا وجه للانحصار بخصوص الغُسل (بالضمّ) .

وقد حان أوان أن نذکر الأحادیث الدالّة علی الحکم المذکور ویدلّ علیه روایات ، منها :

صحیح زرارة ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «لا یسخن الماء للمیّت»(1) .

وفی «الجواهر» زیادة قوله : «لا یعجل له النار» ، لکنّها مفقودة فی «وسائل الشیعة» فی هذا الباب وفی الباب 7 من أبواب الماء المضاف .

ومرسلة عبداللّه بن المغیرة ، عن الباقر والصادق علیهماالسلام ، قالا : «لا یقرب المیّت ماءً حمیماً»(2) .

وخبر یعقوب بن یزید ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا یسخن للمیّت الماء ، ولا تعجل له النار ، ولا یحنّط بمسک»(3) .

ومرسلة الصدوق ، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : لا یسخن الماء للمیّت»(4) .

وفی حدیث آخر : «إلاّ أن یکون شتاءً بارداً فتوقی المیّت ممّا تُوقی منه نفسک»(5) .


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 _ 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 _ 4 .
5- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:342

والحدیث الوارد فی «فقه الرضا» کما فی «المستدرک» ، عن الرضا علیه السلام : «لا تسخن له الماء إلاّ أن یکون ماءً بارداً جدّاً ، فتوقی المیّت ممّا توقی منه نفسک ، ولا یکون الماء حارّاً شدید الحرارة ، ولیکن فاتراً»(1) .

والظاهر من هذه الأخبار هو النهی التحریمی ، لولا قیام الإجماع بکلا قسمیه علی الکراهة .

حکم الماء المسخّن بالنار لسائر الاستعمالات

وفی «مصباح الفقیه» ، قال : «لعلّ الکراهة کانت من جهة کون الماء الحار مستلزماً للتطیر والتشاؤم ، ولذلک حکم بالکراهة ، إذ حرمة المیّت تقتضی الاحتراز عن صیرورة الماء حارّاً من النار ، کما أشار إلیه قوله علیه السلام : (ولا تعجل علیه بالنار)» .

ولکن لا نقف علی وجه وجیه مقبول لما ذکره .

نعم ، لا یبعد أن یکون الحکم الکراهة من جهة التعریض علی العامّة ، حیث یجعلون حرارة الماء شعاراً لأنفسهم ، فیکون الرشد فی خلافهم ، کما ورد فی بعض الأخبار ، فهو أمر حسن قابل للقبول ، فلذلک یستحسن کلام الإمام علیه السلام بعدم التعجیل للنار ، کما أنّهم یعجّلون موتاهم .

وکیف کان ، لا إشکال ولا خلاف فی ثبوت أصل الکراهة دون الحرمة ، کما لا إشکال فی کون الکراهة فی غسله قطعاً ، بل مقتضی إطلاق الأخبار _ حیث لم یذکر فی واحد منها خصوص الغسل _ یوجب الظنّ القوی بکون الحکم عامّاً لمطلق غَسله (بالفتح) لا خصوص غُسله (بالضمّ) .

کما لا یبعد القول بعدم الکراهة ، فیما إذا اضطرّ إلی ذلک ، سواء کان الاضطرار من ناحیة الغاسل أو من ناحیة المیّت ، کما یومی إلیهما فی الجملة ذکر الوقایة للمیّت .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:343

کما تراعی لنفس الغاسل ، وإن کان ظهوره للمیّت أکثر ، ولذلک تری «المهذب» قد استثنی صورة تلیین الأعضاء والأصابع ، فکأنّه جعل الحاجة فی طرف المیّت مطلقاً ، سواء کان من جهة برودة الماء أو من جهة لینة الأعضاء .

ولکن الاستظهار العرفی یساعد تعلّق الاستثناء فی الاضطرار بالغاسل ، لأنّه ألیق بالرعایة لخوف الضرر علیه من برودة الماء ، وان تجب ملاحظة حال المیّت للزوم احترامه ، کما ذکره الشیخ فی «الطهارة» استحساناً .

بل فی «الجواهر» : أنّه لو توقّف دفع الضرر عن الغاسل الذی کان الفعل واجباً علیه ، وکذلک إزالة النجاسة علی التسخین ، ارتفعت منه الکراهة حینئذٍ ، فیظهر منه عدم جواز الجمع بین الکراهة والوجوب ، وملاحظة الاضطرار فی کلّ واحد من الغاسل والمیّت .

وأمّا کراهة استعمال الماء المسخّن بالنار لغیر غَسل الأموات ، من التوضی ء ، وغسل الأحیاء وسائر الاستعمالات ، فمّما لا دلیل علیه .

ودعوی دلالة صحیح محمّد بن مسلم الوارد فیه قوله : «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل تصیبه الجنابة فی أرض باردة ، ولا یجد الماء ، وعسی أن یکون الماء جامداً ؟ فقال : یغتسل علی ما کان . إلی أن قال : وذکر أبو عبداللّه علیه السلام : أنّه اضطرّ إلیه وهو مریض ، فأتوه به مسخّناً فاغتسل ، وقال : لابدّ من الغسل»(1) .

حکم الاستشفاء بالعیون الحارّة و استعمالها

ودعوی دلالته علی الکراهة من جهة فرض الاضطرار فی الجواز ، مدفوع ، بأنّ الاضطرار إنّما کان من جهة الغُسل لا من الحرارة فی الماء ، إلاّ أنّ التسخین کان من جهة مرضه ، وأمّا کونه ممنوعاً ولو بالکراهة فغیر معلوم ، کما قاله فی


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:344

«الجواهر» ، بل ولم یعلم من أحد الحکم بالکراهة فیه .

والظاهر عدم الفرق بین کون التسخین بالنار أو غیرها ، لظهور بعض الأخبار فی ذلک ، حیث عبّر بعدم تقریب الماء الحمیم إلی المیّت ، أو التعبیر بعدم تسخین الماء ، فیشمل ما یکون مسخّناً بالشمس أو بغیرها .

لکن الوارد فی کلمات القوم هو خصوص التسخین بالنار ، دون غیرهاو کما فی عبارة المصنّف ، بل الوارد فی بعض الأخبار التصریح بالنار فقط کما هو واضح ، ولعلّ مفاد دعوی الإجماع أیضاً کذلک .

وفی «الجواهر» : لعلّهم اکتفوا فی الکراهة للمشمس ، بما قد عرفت فی الفرع السابق ، فأورد علی نفسه أنّه مخصوص لغُسل الأموات ، مع أنّ المستفاد من الفرع السابق هو مطلق الاستعمال من جهة التعلیل .

ثمّ استدرک بقوله : نعم یکره للمستعمل المباشر بنفسه .

هذا ، لکنّه مخدوشٌ بأنّ الکراهة کانت للمستعمل بنفسه ، لظهور التعلیل فی کونه موجباً للبرص ، حیث لا یصدق ذلک إلاّ علی الغاسل دون المیّت .

أمّا لو فرضنا عدم مباشرة الغاسل لذلک الماء ، فهل التغسیل به للمیّت أیضاً مکروه أم لا ؟

فغیر معلوم ، إذ لابدّ فی إثباته من إقامة الدلیل ، کما لایخفی .

ثمّ إنّه یکره الاستشفاء بالحماة _ وهی العیون الحارّة التی تکون فی الجبال ، وتتصاعد منها عادةً رائحة الکبریت _ من جهة التعلیل الوارد فی الأخبار بأنّها مشابهة للحمیم والجهنّم ، وقد صرّح بهذا ابن إدریس ، وهو المنقول عن ابن بابویه کما فی «المنتهی» و«المعتبر» .

بل قد صرّح بذلک صاحب «الجواهر» والشیخ فی «طهارته» وکذلک فی «مصباح الفقیه» .

ص:345

الماء المستعمل فی غسل الأخباث نجسٌ، سواء تغیّر بالنجاسة أو لم یتغیّر(1).

والأخبار واردة فی الباب 12 من أبواب المضاف ومضمون جمیعها متقاربة ومتشابهة ، فنذکر واحداً منها ، وهو خبر مسعدة بن صدقة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الاستشفاء بالحمات ، وهی العیون الحارّة التی تکون فی الجبال ، التی توجد فیها رائحة الکبریت ، فإنّها من فوج جهنّم»(1) .

ومثله خبر 1 ، 2 ، 4 من هذا الباب أیضاً فراجع .

وأمّا الوضوء ، أو سائر الاستعمالات من ذلک الماء ، فلا کراهة فیه ، مضافاً إلی عدم وجدان دلیل بالخصوص ، یمکن استظهاره کمرسلة الصدوق ، قال : «أمّا ماء الحمات فإنّ النبیّ صلی الله علیه و آله إنّما نهی أن یستشفی منها ولم ینه عن الوضوء بها ، قال : وهی المیاه الحارّة التی تکون فی الجبال یُشمّ منها رائحة الکبریت»(2) . فإذا جاز الاستعمال فی الوضوء الذی هو أمر عبادی مهمّ فإنّ فی غیره یجوز الاستعمالات بطریق أولی ، ولذلک صرّح صاحب «الجواهر» بذلک بقوله : «ولا یکره غیر ذلک» .

کما صرّح ابن إدریس بذلک أیضاً .

حکم غسالة الخبث

نعم ، شمول الکراهة لغسل الأموات غیر بعید ، لما ذکرنا من ظهور بعض الأخبار فی العموم ، کما یشعر بذلک بقوله : (فوج من جهنّم) حیث یناسب مع عدم استعماله للمیّت ، بأن لا یُعجّل له النار ، کما ورد التصریح به فی بعض الأخبار .

فالالتزام بذلک لیس ببعید ، وهو الهادی إلی سبیل الرشاد ، فنسأل اللّه التوفیق والسداد ، والحمد للّه من الآن إلی یوم المعاد .

(1) بلا فرق بین کونه مستعملاً فی النجاسة الحُکمیة _ کبدن الکافر إذا أسلم وأراد تطهیره بالماء _ أو النجاسة العینیّة . کما لا فرق بین کونه منفصلاً بالعصر أو


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 _ 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 _ 1 .

ص:346

بنفسه . کما لا فرق بین المتغیّر وغیره ، کما صرّح به المصنّف ، خلافاً لقوله السابق حیث کان بالإطلاق .

والأقوال فی ماء الغسالة کثیرة ، وغایتها ستّة ، بل «الجواهر» یوصلها إلی عشرة ، والعمدة منها ثلاثة ، لو لم نقل کونها اثنین وهی :

الأوّل : القول بالنجاسة مطلقاً ، کما هو المشهور بین المتأخِّرین بل المعاصرین ، ومن قارب عصرنا کالعلاّمة فی جمیع کتبه ، والشهیدین ، والمحقّق الأوّل فی «الشرائع» و«المعتبر» ، و«الإصباح» ، وظاهر «المقنع» ، و«کاشف اللثام» ، والشیخ الأنصاری ، والنراقی ، والمحقّق الهمدانی ، والبروجردی ، وفاقاً للسیّد فی «العروة» _ لغیر المزیل لعین النجاسة احتیاطاً وجوبیّاً _ والشاهرودی ، والخمینی ، والحکیم .

ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

بل ادّعی العلاّمة الإجماع فی الماء المستعمل فی الخبث والحائض ، إذا کان بدنها نجساً بنجاسة عینیّة ، کما فی «المنتهی» و«التحریر» .

والثانی : القول بالطهارة مطلقاً ، کما نسب صاحب «المعالم» إلی جماعة من المتقدِّمین ، منهم الشیخ فی «المبسوط» ، وابن حمزة ، والبصروی ، والمحقّق الثانی ، فی بعض فوائده ، والقاضی .

بل فی «إیضاح القواعد» أنّه الأشهر بین المتقدّمین ، ویشعر به کلام الصدوق ، ویمیل إلیه فی «الذکری» و«المدارک» ، کما فی «المستند» .

القول الثالث : هو القول بالتفصیل بین الغسلة التی تتعقّبها الطهارة _ کالأخیرة فی المتعدّدة نظیر البول ، والأولی فی غیره من الطهارة _ وبین ما لا تتعقّبها الطهارة کالغسلة الاُولی فی المتعدّد فهو نجس .

صرّح بذلک المحقّق الخوئی والگلپایگانی وفاقاً للنراقی الأوّل والآملی .

والأقوی هو القول بالنجاسة مطلقاً ویدلّ علیه الأدلّة عموماً وخصوصاً .

ص:347

فأمّا العموم : هو الأخبار الواردة التی تقدّم ذکرها ، الدالّة علی نجاسة الماء القلیل بالملاقاة مع النجس ، بلا فرق بین کونه وارداً علی النجس أو موروداً ، وإن کان أکثرها فی قسم ورود النجاسة علی الماء ، ومنها : الخبر الوارد فی الکرّ ، حیث یدلّ بالمفهوم علی نجاسة الماء إذا لم یکن کرّاً مثل صحیح محمّد بن مسلم(1) ونظائره .

وتوهّم أنّ الاستدلال علی ذلک موقوفٌ علی کون المفهوم مثل منطوقه عامّاً لکلّ من أقسام المیاه غیر الکرّ ، بحیث یشمل حتّی الماء القلیل مدفوع .

مع إمکان دعوی خلافه ، لأنّ نقیض السلب الکلّی (وهو لم ینجّسه شیء) یکون إیجاباً جزئیّاً أی (هو ینجسه شیء) لکنّه أی ماء ، فهو غیر معلوم ، لإمکان أن یکون الماء القلیل هو المورود لا الوارد ، فلا یستفاد منه نجاسة الماء القلیل بالملاقاة مطلقاً .

مضافاً إلی أنّ عموم المنطوق قد اُستفید من (الشیء) النکرة الواقعة فی تلو النفی ، المفقود ذلک فی طرف المفهوم ، فلا عموم له حتّی یستفاد منه حکم النجاسة للماء القلیل ، إذا کان وارداً علی النجس ، هذا غایة ما یمکن أن یُقال فی دفع الاستدلال عن مثل هذا الحدیث .

لکنّه مخدوش ، أوّلاً : بأنّ النزاع المعروف بین العَلَمین وهما الشیخ الأنصاری قدس سره _ من القول بکون المفهوم هو الإیجاب الکلّی ، نظیر المنطوق فی الکلّیة وهو السلب الکلّی _ والشیخ محمّد تقی صاحب «الحاشیة» _ من کون مفهوم السلب الکلّی هو الإیجاب الجزئی ، لأنّ نقیض ذلک یکون الجزئی لا الکلّی _ إنّما کان فیما إذا کان المقصود هو التمسّک بالعموم الافرادی للفظ الماء ،


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:348

کما کان کذلک فی لفظ (الشیء) المراد منه النجس ، مع أنّ المورد لیس إلاّ من جهة التمسّک بالعموم الاحوالی للفظ (الماء) ، من جهة حالتی الملاقاة من الورود . ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

توضیح ذلک : أنّ الماء إذا لاقی نجساً یتنجّس عرفاً بواسطة السرایة والملاقاة ، بلا فرق بین کونه وارداً علی النجس أو مورداً ، فخرج من ذلک الماء الذی له مانع من الانفعال ، وهو مثل الکریة أو الجریان وغیرهما ، فیبقی الباقی تحته ، فلیس لنا عموم افرادی حتّی یرد هذان القولان من النزاع هاهنا .

وثانیاً : أنّ النزاع المذکور لو سلّم جریانه ، کان فی لفظ (الشیء) من جهة کونه نکرة فی طرف المنطوق ، وموجباً للعموم إذا وقع تلو النفی ، وهذا بخلاف المقام ، حیث أنّه اُرید استفادة العموم من جهة الملاقاة الواقعة للماء مع النجس ، حیث لا یفرق العرف فی ذلک بین حالتی الملاقاة .

فالاستدلال بالمفهوم من جهة هذا الحدیث یکون وجیهاً .

مضافاً إلی وجود أخبار کثیرة دالّة علی نجاسة الماء القلیل بالملاقاة ، مثل صحیح البزنطی ، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام : عن الرجل یدخل یده فی الإناء وهی قذرة ؟ قال : یُکفی ء الإناء»(1) .

وموثّقة سماعة ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل یده فی الإناء فلا بأس إذا لم یکن أصاب یده شیء من المنی»(2) .

واحتمال الفرق بین صورتی کون الملاقاة بقصد الغَسل فیکون طاهراً ، وبین عدم قصد الغسل فیکون نجساً .

ضعیفٌ للقطع بعدم توقّف صدق الغسل علی قصده عرفاً وإجماعاً ، ولذلک یحصل الغسل فی الکرّ ولو لم یقصد الغسل .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 و 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 و 9 .

ص:349

فثبت من ذلک أنّ عموم أدلّة انفعال الماء القلیل تشمل المقام قطعاً .

وقد استدلّ الشیخ الأنصاری قدس سره بقاعدة جواز رفع الحدث بالماء الطاهر ، ولکن قد ثبت بالإجماع عدم جواز استعمال هذا الماء المستعمل فی غسل الأخباث فی رفع الحدث ، کما ادّعاه فی «المعتبر» و«المنتهی» ، وبالنصّ الوارد فیه مثل خبر عبداللّه بن سنان ، عن الصادق علیه السلام قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل ، فقال : الماء الذی یغسل به الثوب أو یغتسل به الرجل من الجنابة لا یجوز أن یتوضّأ منه ، وأشباهه ، وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به»(1) .

فإنّه یفهم عکس النقیض وأنّه لیس إلاّ من جهة نجاسته ، وخروج الماء المستعمل للحدث الأکبر علی القول به ، وماء الاستنجاء .

ولکن مثل هذا لا یقدح فی العمومات اللفظیة ، یعنی برغم أنّ الماءان المذکوران کانا طاهرین ، فإنّه لم یجز استعمالها فی رفع الحدث ، فلا یدلّ ما ادّعاه علی ثبوت الملازمة .

فأجاب أنّ خروجهما کان بالدلیل ، فلا یضرّ بثبوت الملازمة .

ولکن الإنصاف عدم ثبوت الملازمة ، مع وجود أفراد خارجة عن ذلک ، حیث یفهمنا أنّه یمکن أن یکون الوجه فی الامتناع من الاستعمال ، وجود جهات اُخری غیر النجاسة ، کما لا یبعد دعواه عند التأمّل ، ولعلّه لذلک لم یتمسّک الفقهاء الذین تأخّروا عنه ، بل وأعرضوا عنه فی استدلالهم ، هذا کلّه فی الأدلّة العامّة الدالّة علی النجاسة .

وأمّا الأدلّة الخاصّة : الدالّة علی نجاسة ماء الغسالة ، فهی عدّة أخبار :


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:350

منها : خبر العیص بن القاسم المروی فی «الخلاف» و«المعتبر» و«المنتهی» و«الذکری» و«وسائل الشیعة» ، قال : «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فیه وضوء ؟ ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

فقال : إن کان من بول أو قذر فیغسل ما أصابه(1) . وفی «الخلاف» زیادة فی الخبر وهی : «وإن کان من وضوء الصلاة فلا بأس» .

حیث یدلّ علی أنّ الغسالة من البول المغسول أو القذر ، إذا أصاب شیئاً یغسل ، فلقیس ذلک إلاّ لنجاستهما .

ومن المعلوم أنّه لا خصوصیّة فی البول والقذر ، بل یکون مطلق النجس حکمه هکذا .

کما یؤیّد ما قلنا الزیادة الواردة فی ذیل الخبر ، من الحکم بعدم البأس ، إذا کان ماء الغسالة طاهراً ، کماء الوضوء للصلاة .

وفیه : والإشکال فیه تارةً : فی أصله وسنده ، کما فی «المعالم» من جهة أنّ الخبر لم یذکر فی الکتب الأربعة المتداولة .

ومن جهة کونه مضمراً أیضاً حیث لم یذکر المرویّ عنه فی متن الحدیث .

واُخری : فی دلالته ، من إمکان أن یکون المراد ، القطرة من عین البول ، لا الماء الذی فیه بول .

أو کون المراد وجود نفس البول والقذر فی الطشت ، فلا یشمل ما لو لم یکن کذلک ، کما هو المقصود لإثبات النجاسة للغسالة ، کما لایخفی .

ویرد علیه ، أمّا عن الأوّل : مضافاً إلی عدم إضرار الإرسال والإضمار فی حجّیته ، إذا کان موثوق الصدور ، ومنجبراً بالشهرة المتحقّقة بین المتأخّرین ، أنّه یمکن أن یکون قد أخذه الشیخ الطوسی قدس سره بسنده عن الحسن عن العیض


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 14 .

ص:351

عن کتابه بطریقة الوجادة .

وأمّا إضماره فإنّه یمکن أن یکون نتیجة تقطیع الأخبار وتبویبه إلی أبواب ، فاستهجن تکرار المروی عنه فی کلّ قطعة رواها فی کلّ باب ، مضافاً إلی جلالة شأن العیص والشیخ قدس سره وبُعدهما عن احتمال الکذب علی الإمام علیه السلام عن أن یجعل الحدیث . فالسند تامّ ولا تردید فیه .

وأمّا عن الدلالة : «مضافاً إلی منافاته مع إطلاقه ، حیث لم یفصل بین وجود عین البول والقذارة فیه ، فإطلاقه یشمل ما لو لم یکن موجوداً فیه ، لأنّ الغالب فی البول جفافه بعد فترة وتکون نجاسته حینئذٍ حکمیة ، فلیس له عین حتّی یحمل علیه ، کما لا یخفی ».

فما ذکره الآملی من أنّه إذا جاء الاحتمال فإنّه یصادم الظهور ، فلایجوز التمسّک به .

یکون فی غیر محلّه ، لظهوره فی الإطلاق حقیقةً ، لاسیما مع ملاحظة تأیید ذیل الحدیث من الحکم بالجواز فی غیرهما کما لایخفی .

فهذا الحدیث یعدّ من الأدلّة الخاصّة الواردة فی المقام ، کما سیتّضح لک الحال إن شاء اللّه تعالی .

ومنها : موثّقة عمّار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سئل عن الکوز والإناء یکون قذراً کیف یغسل ، وکم مرّة یغسل ؟ قال : یغسلا ثلاث مرّات ، یُصبّ فیه الماء ، فیحرّک فیه ، ثمّ یفرغ منه ، ثمّ یُصبّ فیه ماء آخر ، فیحرّک فیه ، ثمّ یفرّغ ذلک الماء ، ثمّ یُصبّ فیه ماء آخر ، فیُحرّک فیه ، ثمّ یفرغ منه وقد طهر) الحدیث»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 53 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:352

وجه الاستدلال : أنّه لو لم یکن ماء الغسالة نجساً ، فلم یکن للحکم بالصبّ وجه ، فلیس ذلک إلاّ من جهة النجاسة . واحتمال أن یکون تفریغ الإناء من جهة توقّف صدق الغسل علیه لا من جهة نجاسته . ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

مدفوعٌ ، بأنّه لو کان ذلک معتبراً فی صدق الغسل ، للزم أن یکون الحکم کذلک فی الغسل بالمطر والجاری ، مع أنّه لا إشکال فی صدق الغسل بمحض الاتّصال بهما ، ولو لم یفرغ الماء عن الإناء ، ولیس هذا إلاّ من جهة عدم توقّف صدق الغسل علی الإفراغ .

هذا ، کما عن الشیخ الأنصاری قدس سره والمحقّق الهمدانی وغیرهما .

ولکن فی النفس من هذا الجواب شیء ، لأنّ الغسل لا یصدق إلاّ إذا بلغ جمیع جوانب الإناء فی کلّ مرّة حتّی ما اشتمل علیه الماء ، فکما أنّه لو لم یفرغ الماء الموجود فی الإناء من الغسلة الاُولی والثانیة لم تتحقّق تعدّد الغسلة لموضع کان الماء المستعمل فیه ، فهکذا یکون الأمر فی الغسلة الثالثة .

والنقض بالغسلة بالماء المعتصم یکون فی غیر محلّه ، لأنّ الملاک فی الغسلة فی المعتصم ، لیس هو ذهاب الماء عن موضع النجس ، بل الغسل یکون صادقاً ، فیما لو استوعب الماء جمیع جوانب الإناء أو مرّ علیها الماء المعتصم ، ولذلک تری أنّ التعدّد فیه أیضاً لا یکون إلاّ بتکرّر هذا الاستیعاب أو الإمرار ثمّ إفراغ الإناء منه ، ثمّ صبّ الماء علیه مرّة اُخری أو إجراءه فیها بحیث یصل إلی جمیع أجزاءه وجوانبه .

فعلی هذا التقدیر لا یبعد أن یکون وجوب تفریغ الماء فی المرّة الثالثة لإیجاد تعدّد الغسلة لثلاث مرّات ، بمثل ما لزم الإفراغ فی المرّة الاُولی والثانیة أیضاً .

مضافاً إلی إمکان أن یکون وجه وجوب الإفراغ ، هو عدم کفایة استعمال الماء المستعمل فی غسل الخبائث فی غسل الخبث والتطهیر بعده ، إذ لو لم یفرغ

ص:353

الماء ، عُدّ تطهیر الإناء بالنسبة إلی ما وقع فیه ذلک الماء تطهیراً بالماء المستعمل ، وهو غیر جائز ولذلک حکم بالإفراغ .

فعلی ما ذکرنا ، لا یمکن الاستدلال بهذا الحدیث علی نجاسة الغسالة ، لإمکان أن تکون الغسالة طاهرة .

إلاّ أنّه حیث یجب تحقّق الغسل للإناء ثلاث مرّات _ لصراحة دلالة الحدیث ، بقوله : (یغسل ثلاث مرّات) حیث الجملة الخبریة تکون فی مقام الإنشاء _ ولما عرفت من عدم تحقّق الغسلات ثلاثاً فی الماء القلیل فی الإناا بالنسبة إلی کلّ أطرافه وجوانبه إلاّ بإفراغ الماء المستعمل کاملاً ، حکم بالإفراغ ، وهو أمر صحیح وجدانی وعرفی .

فبناءً علیه لا نحتاج فی ردّ الاستدلال به ، بما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی الماء الباقی بعد الغسلة الثالثة ، من أنّ العرف تستقذرها وتشمأز من شربها ورفع الخبث بها ، إذ هو لا یوجب الحکم بلزوم الإفراغ فیه ، کما أوجب ذلک فیما سبقه .

وهکذا سقط الحدیث عن الاستدلال عندنا ، واللّه العالم .

ومنها : خبر عبداللّه بن سنان المتقدِّم ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل ، فقال : الماء الذی یغسل به الثوب أو یغتسل به الرجل من الجنابة لا یجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه» الحدیث(1) .

والاستدلال به مبنیٌّ علی کون المراد من النهی عن الوضوء هو مطلق التنظیف ، أی لایجوز أن یتطهّر ویتنظّف بالغسالة ، وأمّا رفع الحدث بها فإنّ الخبر لا یشیر إلیه إذ أنّ عدم جواز رفع الخبث بها لا یستلزم الحکم بالنجاسة ، کما فی ماء الاستنجاء فإنّه برغم کونه طاهراً لا یجوز رفع الحدث به .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:354

ولکنّه مخدوش من وجوه : ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

أوّلاً : من جهة سنده ، لوقوع أحمد بن هلال فی سنده ، وهو منسوب تارةً إلی النصب ، واُخری إلی الغلوّ ، بل ورد الذمّ فیه عن سیّدنا العسکری علیه السلام .

بل عن «جامع الرواة» نقلاً عن «خلاصة» العلاّمة : أنّ روایته غیر مقبولة عندی ، وإن توقّف فیه ابن الغضائری ، إلاّ فیما یرویه عن حسن بن محبوب ، أو ابن أبی عمیر من «نوادره» .

والخبر المستدلّ به فی المقام منقول بسنده عن حسن بن المحبوب .

وکیف کان ، ففی سنده کلام لو لم نقل بضعفه .

وثانیاً : من جهة الدلالة ، لما قد عرفت من أنّ غسل الثوب لا یلازم مع النجاسة خارجاً ، لإمکان أن یکون الغسل للنظافة کما هو الغالب ، فیمکن أن یکون النهی عن الوضوء ، بمعنی رفع الحدث لا التنظیف ، فکان نهیه من جهة قداسته للوضوء والغُسل ، وإن لم تکن الغُسالة نجسة ، کما ورد هذا النهی فی حقّ ماء الاستنجاء مع کونه طاهراً .

کما أنّ تقابله فی ذیل الخبر بقوله :

«وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به» .

لا یدلّ علی کون المراد بالجملة السابقة ، هو النجاسة ، بل المراد الإشارة إلی کون المغسول به الثوب وسخاً ، بخلاف ما لو کان مستعملاً فی غسل الوجه والید مع نظافته ونظافة إناءه ، فیجوز استعماله لعدم منافاته مع قداسة الوضوء ، کما کان فی الأوّل ، وهو واضح .

وثالثاً : کون المراد من التوضی ء منه هو التنظیف هاهنا خلاف الظاهر ، فلا یکون المراد منه هو النهی عن استعمال ذلک فی رفع الخبث کما قیل ، حتّی

ص:355

یستفاد منه کونه من جهة نجاسته .

مع إمکان دعوی أنّ ممنوعیّة الاستعمال لرفع الخبث لا یلازم کونه نجساً ، لأنّه لازم أعمّ لإمکان کونه طاهراً ، فمع ذلک لا یجوز ، کما لا یبعد القول بذلک فی ماء الاستنجاء .

وتفصیل الکلام موکول إلی محلّه .

فقد ظهر ممّا ذکرنا سقوط هذا الخبر أیضاً عن الاستدلال للنجاسة .

ومنها : قد استدلّ بالأخبار الواردة فی النهی عن الاغتسال بغُسالة الحمّام ، مثل خبر حمزة بن أحمد ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام قال : «سألته ، أو سأله غیری عن الحمّام ؟ قال : ادخله بمئزر ، وغُضّ بصرک ، ولا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها ماء الحمّام ، فإنّه یسیل فیها ما یغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البیت ، وهو شرّهم»(1) .

ومثله مرسلة علیّ بن الحکم ، عن أبی الحسن علیه السلام فی حدیثٍ ، أنّه قال : «لا تغتسل من غُسالة ماء الحمّام ، فإنّه یغتسل فیه من الزنا ، ویغتسل فیه ولد الزنا ، والناصب لنا أهل البیت وهو شرّهم»(2) . ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

وخبر عبداللّه بن یعفور ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «وإیّاک أن تغتسل من غُسالة الحمّام ففیها تجتمع غسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی والناصب لنا أهل البیت ، فهو شرّهم ، فإنّ اللّه تبارک وتعالی لم یخلق أنجس من الکلب ، وأنّ الناصب لنا أهل البیت لأنجس منه»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .

ص:356

وجه الاستدلال : هو أنّ النهی عن ذلک لیس إلاّ من جهة نجاسة الغسالة التی یخرج من بدن النجس ، وهو المطلوب وإلاّ لم یکن للنهی عن ذلک وجه ، خصوصاً مع ملاحظة غسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی والناصبی ، حیث یعدّون من الأنجاس ، فغسالتهم تکون نجسة قطعاً ، کما لایخفی .

ولکن یمکن الخدشة فیها ، أوّلاً : بمعارضتها مع بعض الأخبار الدالّة علی نفی البأس بإصابة ثوبه غسالة الحمّام ، وهو کما فی مرسلة أبی یحیی الواسطی ، عن بعض أصحابنا ، عن أبی الحسن الماضی علیه السلام قال : «سُئل عن مجتمع الماء فی الحمّام من غسالة الناس یُصیب الثوب ؟ قال : لا بأس»(1) .

ولکن الإنصاف أنّ المراد من هذه الغسالة ، لیست هی المجتمعة فی البئر کما کان فی تلک الأخبار ، بل المقصود منها النضح عن ماء الغسالة فی نفس الحمّام الذی یستفید منه الناس ، _ سواء کان الغاسل یهودیّاً أو غیره _ فیترشّح علی الثوب کما لا یعلم حینئذٍ کون بدن الإنسان نجساً ، فیحکم بالطهارة .

هذا ، بخلاف الماء المجتمع فی البئر ، حیث تفید القرائن القطعیّة علی دخول الماء النجس فیه من الیهودی والنصرانی والمجنب ، فلذلک حکم بأنّ فیه بأس ، ولزوم الاجتناب منه ، فلا تعارض بین الحکم بالنجاسة فیه دون المجتمع فی الحمّام ، کما لا یخفی .

کما أنّ جواب المحقّق الآملی عن الخبر الدالّ علی الطهارة ونفی البأس عن الماء المجتمع فی البئر والمشتمل علی الکرّ والأکرار ، فی غیر محلّه ، مع ملاحظة قلّة المیاه فی تلک العصور ، خاصّة أنّهم کانوا عادةً یغرفون من الحیاض الصغار ، ویصبّون علی أنفسهم وأبدانهم ، وکانوا یتناوبون هذا العمل بحیث لایمکن فرض


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 9 .

ص:357

وتصوّر امتلاء الحیاض الصغار وصیرورته وبلوغه قدر الکرّ ، فمع وجود النجاسة لا یمکن الحکم بطهارته .

نعم ، لو تحقّق الاتّصال مع الکرّ ، فإنّه یعتصم بعد إفراغ ما فیه من الماء ، لکن أمر آخر قلیل الاتّفاق ، کما هو واضح .

وثانیاً : وهو العمدة ، اشتمال الأخبار الناهیة علی ما یوجب أن لا یکون المقصود من النهی النجاسة ، بل یکون من جهة أمر عرفی صریح فی الاجتناب عن مثل هذه المیاه الخبیثة ، وإن لم تکن نجسة ، کما یشهد لذلک ذکر الاغتسال عن الزنا وولد الزنا ، مع عدم کونهما نجسین ، بل وفی بعض منها ذکر الجُنُب ، فإنّه وإن أمکن ملاحظة نجاسة أبدانهم من حیث القذارة ، إلاّ أنّ التعلیل بکونه ولد الزنا یفید أنّه إرشاد إلی أمر عقلائی وهو تنفّر الطبائع البشریة عن الاغتسال بذلک ، خصوصاً مع العدول فی التعلیل بالنجاسة إلی ما ذکر فی الأخبار ، إیماءٌ علی عدم نجاستها ، وإلاّ کان الأولی التعلیل بالنجاسة .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا ما یستفاد من خبر محمّد بن علی بن جعفر ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتسل فیه ، فأصابه الجذام ، فلا یلومنّ إلاّ نفسه . فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاء من العین ؟ فقال : کذبوا یغتسل فیه الجنب من الحرام ، والزانی ، والناصب الذی هو شرّهما ، وکلّ من خلق اللّه ، ثمّ یکون فیه شفاء من العین ؟»(1) .

بأنّ إیراد الاُمور المذکورة کان لأجل إثارة النفرة فی النفوس ، حیث یفهم بأنّ الملاک للنهی ، کان من تلک الجهات المذکورة فیه ، فتکون إشارة إلی أمر یتعلّق بصحّة الإنسان ، فدلالتها علی نجاسة کلّ الحمام مشکل جدّاً .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:358

هذا کلّه فی الأدلّة الدالّة علی النجاسة عموماً وخصوصاً .

وقد اُضیف إلی ذلک دعوی الإجماع من العلاّمة فی «التحریر» و«المنتهی» علی نجاسة غسالة غُسل الجنب والحائض ، إذا کان بدنهما نجساً بنجاسة عینیّة .

ففی «الجواهر» : أنّ دعواه الإجماع یختصّ بمن استعمل الماء فی إزالة عین النجاسة عن جسمه ، ومن هنا فلا یثبت نجاسة مطلق الغسالة والماء المستعمل فی رفع الأخباث ، ولو کانت حُکمیة کالبول الجاف أو الغسلة الثانیة فیه ولو کان رطباً.

الجواب عمّا یتوهّم معارضته للقول بنجاسة الغسالة

هذا ، ولکن نحن نقول بأنّ الإجماع إذا کان قائماً علی نجاسة هذا القسم من الغسالة ، ویثبت ذلک به ، فنستدلّ بتنقیح المناط أنّه لیس إلاّ من جهة ملاقاة الماء القلیل للنجس ، حیث یوجب النجاسة ، فأیّ فرق فی ذلک بین الملاقاة مع عین النجاسة ، أو مع ما کان نجساً حقیقة شرعاً إلاّ أنّه لا عین له ، لو سلّمنا عدم تنجیس المتنجّس للطاهر ، مع وجود الإشکال فیه أیضاً ، فضلاً عن الملاقاة مع النجاسة الحُکمیة .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ أحسن الأدلّة فی المقام ، هو دلیل الملاقاة ، وخبر العیص المؤیّد بالإجماع مع تنقیح المناط ، کما عرفت .

فبقی هنا ملاحظة ما یتوهّم المعارضة مع القول بالنجاسة ، والجواب عنه ، وهی عدّة اُمور ، وقد أنهاها فی «الجواهر» إلی أربعة عشر وجهاً ، من الأدلّة والتأییدات التی لا ضرورة للتعرّض لها ، إلاّ لما هو المهمّ لنا ، فنقول :

منها : المنع عن شمول عموم أدلّة انفعال الماء القلیل بالملاقاة للمقام ، إمّا بدعوی المنع بناءً علی أصالة العموم والإطلاق ، کما ادّعاه صاحب «الجواهر» ، أو بدعوی انصرافها عن الملاقاة الموجبة للطهارة کما ادّعاه آخرون .

والجواب عنه : أنّه قد ظهر ممّا ذکرنا سابقاً ، من أنّ البحث فی نجاسة الغسالة وعدمها إنّما یکون بعد الفراغ عن تنجّس الماء القلیل بالملاقاة ، وإن لم یکن

ص:359

المبنی ذلک ، ووافقنا العمّانی فی رأیه من عدم تنجّس القلیل بالملاقاة .

أو قلنا بما قاله السیّد المرتضی قدس سره من عدم نجاسته إذا کان الماء وارداً علی النجس ، فلا إشکال حینئذٍ فی طهارته .

فإذا ثبت ذلک ، فلا وجه لدعوی عدم الإطلاق والعموم لتلک الأدلّة للمقام ، إلاّ أن یخرج المقام بدلیل خارج ، وهذا أمر آخر .

ومنها : أن یُدّعی وجود المانع العقلی لشمول المقام ، بعد التسلیم لمقتضاه ، لأنّه من المحال أن یکون المتأثّر بالنجاسة بواسطة الملاقاة ، موجباً لتطهیر المتنجّس من الأشیاء ، إذ المفروض هو الحکم بطهارة الثوب والبدن عن النجاسة بعد الغسل بهذا الماء المتنجّس ، وهو غیر ممکن عقلاً وشرعاً .

هذا کما علیه السیّد المرتضی ، وارتضاه الحلّی و«کاشف الالتباس» .

وفیه أوّلاً : من المعلوم بأنّ الطهارة والنجاسة تعدّان من الأحکام الشرعیّة ، ولیستا من الاُمور التکوینیّة العقلیّة ، حتّی یصیر مثل المورد من المحالات .

وما اشتهر عند بعض بأنّ المانع الشرعی یکون کالمانع العقلی باطل من أساسه ، لما تری إنْ شاء اللّه من وجود نظائر کثیرة من الخلاف لذلک فی الأحکام الشرعیّة ، فهی تعدّ من الاُمور الاعتباریة واعتبارها تکون بید معتبرها وله أن یعتبرها کیف یشاء ، وتأثیر الشیء فی ضدّه ونقیضه تعدّ من المحالات إنّما فی الاُمور التکوینیّة العقلیّة لا الشرعیّة ، فالطهارة الشرعیّة لم تحصل من نفس الماء فقط ، بل منه ومن حکم الشارع لذلک ، ولهذا تری بأنّ بعض الأشیاء وإن یعدّ أولی وأفضل للنظافة والتطهیر من الماء ، ولکن الشارع لم یحکم بمطهّریته ، فلا یقال بأنّه مطهّر ، فلیس هذا إلاّ من جهة تلک الحیثیّة ، فلا منافاة بین قول الشارع بطهارة المحلّ بذلک الغسل ، وصیرورة الماء نجساً به ، کما عرفت وجود نظائره فی الشرع ، کتطهیر محلّ الغائط بالأحجار ، حیث ینجس الحجر ، ولکن یطهر

ص:360

المحل ، وتطهیر باطن الخفّ والرجل .

وهکذا فی الماء القلیل المتنجّس إذا صار کرّاً بماء نجس آخر ، علی القول بطهارته فی المتمّم کرّاً ، وهو واضح .

ففی تمام هذه الموارد ، کانت العلّة هی ما عرفت ، کما لایخفی .

وثانیاً : إنّ تأثیر الماء فی المحلّ وجعله طاهراً ، وتأثیر المحلّ فیه وصیرورته نجساً ، لیس من قبیل تأثیر الشیء فی ضدّه أو نقیضه ، لوضوح أنّ هذا التأثیر تعدّ من الآثار العادیة حال للمرکّبات فی الطبیعة الخارجیة وذلک من جهة الفعل والانفعال کما هو المشاهد فی غیر الماء من السوائل المزیلة ، کالبنزین والنفط وغیرهما من المزیلات فی زماننا هذا ، التی تستعمل عادةً لتنظیف الأوساخ فتنتقل الوساخة من الید مثلاً إلی المادّة المزیلة وتؤثّر فیها فی صیرورتها کدرة فیحصل التأثیر والتأثّر هنا . وهذا بخلاف ما نحن فیه فإنّ الحالة التی تحصل حین التطهیر لم تشابه ما ذکرناه فی المزیلات ، خلافاً للشیخ رحمه الله حیث یقول بأنّ الحالة الحاصلة تکون من جهة صدق الملاقاة من الطرفین ، فلا بأس بنقل کلامه ، قال : «وأمّا قاعدة نجاسة الملاقی للنجس ، فلا ریب فی شمولها لکلّ من الماء والمحلّ ، إذ اللازم من نجاسة الماء بالمحلّ نجاسة المحلّ بالماء ، لحصول الملاقاة من الطرفین ، فالتزام عدم نجاسة الماء وإلاّ ینجس المحلّ ولم یطهّره ، لیس بأولی من التزام عدم نجاسة المحلّ به ، بل الأوّل أبعد ، لأنّ ما تأثّر من الشیء لا یؤثّر فیه ذلک الأثر . نعم ، لا یبعد أن یؤثّر فیه خلافه بنقل ما فیه إلی نفسه» ، انتهی کلامه .

فإنّه وإن کان یدلّ علی ما ذکرناه ، ولکن الظاهر أنّه أراد أن یجیب الخصم بجواب نقضی ، ولذلک عدل عنه واستدرک کلامه بقوله : نعم ، فکأنّه أراد بیان أنّ المحل الذی قد أثّر النجس فیه ، لا یمکن تأثیر ذلک الأثر _ وهو النجاسة _ فیه

ص:361

ثانیاً ، بخلاف ما یقابله من الماء ، حیث أنّه ینقل النجاسة بنفسه ، فتزول النجاسة عن المحلّ ، وهو أمر ممکن ، کما لایخفی .

فلنرجع إلی أصل الکلام ، فنقول : نعم ، إن کان الماء متنجِّساً قبل ذلک وسابقاً علیه ، وقلنا بتأثیره فی طهارة المحلّ ، یصیر حینئذٍ من قبیل تأثیر الشیء فی ضدّه أو نقیضه . ولکن ظهر ممّا ذکرنا فساد دعوی عدم الإمکان الشرعی عن شمول أدلّة الملاقاة هاهنا ، وترتیب أثر الطهارة ، لأنّه إذا لم یکن الالتزام بذلک ممنوعاً عقلاً ، فعدم امتناعه شرعاً مع وجود عموم لفظی فی أدلّة الانفعال ، وشمولها لمثل المقام بالإطلاق ، یکون بطریق أولی .

إلاّ أن یقوم دلیل مخصّص شرعی ، یدلّ علی طهارة ذلک الشیء ، کما ورد ذلک فی ماء الاستنجاء ، فإنّه یعتبر حکماً شرعیّاً تعبّدیّاً خرج عن العموم بنصّ خاصّ ، وهو مفقود فیما نحن فیه ، ولذا یعمل علی طبق عمومات الانفعال کما هو المطلوب .

ومنها : لزوم العسر والحرج ، فی الالتزام بنجاسة الغسالة ، لأنّ التحرّز عنها یوجب حرجاً شدیداً ، لاسیّما مع ملاحظة جریان الماء إلی غیر محلّ النجاسة وبالنسبة إلی المتقاطر والمقدار المتخلّف ، بل الصعوبة فی تعیین حدود المتقاطر بالانفصال والمتخلّف ، فی ملاک الطهارة والنجاسة .

هذا ، فضلاً عن أنّه یمکن دعوی انتساب المتحرّز عن تمام ماء الغسالة _ حتّی عمّا یتقاطر عن الوجه واللحیة وأمثال ذلک _ إلی الجنون ، وخارجاً عن سلک شریعة سیّد المرسلین ، کما فی «الجواهر» . ولکن نرد علیه بجوابین نقضاً وحلاًّ .

فأمّا النقض ، فنقول : ما تقول فی مثل الغسالة المزیلة للنجاسة ، التی قد قبلت بنجاستهما ؟ فلو کان صدور الفعل بنفسه مستهجنا ، فإنّه لا فرق فی ذلک بین قلّته وکثرته ، مع أنّه لا استهجان فی الاجتناب عنها أصلاً ، بل العرف عادةً یجتنبون عنها بحسب طبعهم وینفرون منها .

ص:362

وأمّا الحلّ : إن اُرید بالحرج الحرج النوعی ، فنقول : إن کان فی مقام الجعل والتشریع فلا ارتباط بنا ، فلابدّ ذلک عند ثبوته فی المقام من ملاحظة الجاعل لذلک ، والمنع عنه بالتذکّر والتنبّه ، وأنّی لکم بإثبات ذلک فی مقام الثبوت والواقع ، إذ لا دلیل إثباتی له فیه ، کما لایخفی .

وإن اُرید بالحرج الحرج الشخصی ، فهو موقوف علی ثبوته فی کلّ محل ولکلّ شخص ، وهو رافع لتکلیفه بلا إشکال ، من دون حاجة إلی الحکم بالطهارة فی جمیع الموارد .

وهکذا ثبت أنّ ما قیل فی المقام لا یسمن ولا یُغنی من جوع .

وأمّا بیان حدود ذلک فی الطهارة والنجاسة ، فهو ممّا یظهر من ملاحظة فهم العرف أیضاً ، إذ کلّ مورد یصدق علیه الانفصال فی حال الغسل ، فهو محکوم بالنجاسة ، وکلّ ما ینفصل بعد ذلک ، ولو کان بحال التقاطر فإنّه محکوم بالطهارة ، فما یتخلّف عن الید والوجه والثوب ، أو القطرات المتّصلة التی تصیر منفصلة بعد تمامیّة الغسل ، تعدّ طاهرة .

هذا ، بخلاف المیاه التی خرجت فی حال الغسل عن محلّ النجاسة ، وصارت منفصلة فهی نجسة ، ولا یلزم من ذلک محذورٌ أصلاً لا شرعاً ولا عرفاً ، بناءً علیه لا توجب هذه الاستدلالات الواهیة رفع الید عن القواعد والاُصول ، مع أنّها مذکورة فی «الجواهر» وعلیه أکثر الفحول کالمحقّق والشهید وغیرهما .

ومنها : الأخبار العدیدة التی تمسّک بها لإثبات طهارة الغسالة ، فلا بأس بالإشارة إلیها والجواب عنها ، وهی :

خبر الأحول ، أنّه قال لأبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «الرجل یستنجی ، فیقع ثوبه فی الماء الذی استنجی به ؟ فقال : لا بأس ، فسکت . فقال : أوَتدری لِمَ صار

ص:363

لا بأس به ؟ قال : قلت : لا واللّه . فقال : إنّ الماء أکثر من القذر»(1) .

وجه الاستدلال : أنّ الظاهر کون الحکم بالطهارة لیس من جهة وجود خصوصیّة فیه ، بل کان بملاک طهارة مطلق الغسالة ، فمنها ماء الاستنجاء ، لاسیما مع ملاحظة التعلیل حیث أراد إفهام اطراد الحکم والتعدّی لغیر ماء الاستنجاء أیضاً .

حکم ماء الاستنجاء

ومن المعلوم أنّ الأکثریة لیست من جهة کم الماء ، إذ لا مدخلیة فیه ، بل کان من جهة استهلاک القذارة فی الماء ، فیفیدان کلّ ما کان کذلک _ ولو فی غیر ماء الاستنجاء _ یکون حکمه الطهارة .

وفیه أوّلاً : نحن نتکلّم مع من یقول بنجاسة الماء القلیل بالملاقاة ، وإلاّ لما احتجنا للاستدلال علی الطهارة من التمسّک بهذه الأخبار إذ أنّ أصل الطهارة أمرٌ مفروغ منها فی کلّ المیاه القلیلة ، فبعد ذلک لابدّ للقائل بالطهارة لماء الاستنجاء :

إمّا القول بالتخصیص فی عموم دلیل انفعال الماء القلیل ، بأن لا یکون مثل هذه المیاه القلیلة المستعملة فی الاخباث نجسة ، فلازمه طهارة کلّ الغسالة المزیلة .

أو القول بالتخصیص بالنسبة إلی عموم نجاسة الغسالة ، التی کانت داخلة تحت عموم الانفعال ، فی الماء القلیل ، فلازمه حینئذٍ طهارة ماء الاستنجاء فقط .

ولا تردید فی أنّ الثانی أولی ، لأنّ أمره دائر بین التخصیص والخروج لأفراد کثیرة من عموم العام کما فی الأوّل ، أو التخصیص بالأفراد القلیلة من عموم العام ، ومن المعلوم أنّ أصالة الظهور فی عموم العام ما لم یعارضه ظهور أقوی هو المقدّم ، فیحکم بالتخصیص بالأقلّ ، وهو الثانی .

مضافاً إلی لزوم تعدّد التخصیص عرضاً فی الأوّل دون الثانی ، لأنّه إن اُرید


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:364

تخصیص عموم دلیل الانفعال ، فلابدّ من تخصیص الأدلّة الواردة فی نجاسة خصوص الغسالة أیضاً ، لأنّها بالخصوص تحکم بالنجاسة ، فیکون حینئذٍ فی المورد تخصیصان فی عرض واحد .

هذا بخلاف ما لو لم یخصّص عموم دلیل الانفعال بواسطة دلیل طهارة ماء الاستنجاء مباشرة ، بل ما هو یتخصّص به یکون عموم نجاسة ماء الغسالة ، فبعد تخصیصه بذلک ، یوجب تخصیص عموم أدلّة الانفعال طولاً لا عرضاً ، فلایبعد القول بأهونیة الثانی وأسهلیّته عن الأوّل ، ویتقدّم علیه .

وثانیاً : إنّ التعلیل المذکور لا یمکن أن یعتمد علی ظهوره وعمومه ، لأنّ التعلیل یوجب اطّراد الحکم لجمیع ما یکون مثله أی سواء کان أکثر کمّاً أو کیفاً من جهة الاستهلاک ، فلازمه شمول لمثل کلّ ماء قلیل لاقی نجساً أو لغیر التطهیر ، مع أنّ الخصم لا یلتزم به قطعاً ، فیلزم حینئذٍ لغویة عموم دلیل انفعال الماء القلیل إذا لاقی نجساً ، إذ قلّ ما یوجد مورد لا یکون فیه الماء کثیراً ، أو أکثر من النجس ، فیلزم تخصیصه بما إذا کان الماء أقلّ ، وهذا یوجب تخصیص الأکثر وهو مستهجن ، لقلّة الأفراد الباقیة تحت العام .

فبناءً علیه لابدّ من التصرّف فی التعلیل ، من جهة تحدید عمومه ، فحینئذٍ لِمَ لا یحدّد لخصوص مثل ماء الاستنجاء ، حتّی یکون ارتکاب خلاف الظاهر للأدلّة أقلّ من الفرض الآخر من تحدیده بالغسالة مطلقاً ، حیث تکون مخالفته للظاهر أکثر من سابقه .

ثالثاً : إمکان الاستیناس من نص الحدیث بکون الحکم مخصوصاً لماء الاستنجاء فقط ، من جهة ابتداء الإمام بالسؤال عن السائل عن سبب تعلیله وعلّته ، فإنّ إتیان کلمة (صار) مشعر بانتقال الحکم وتبدیله وصیرورته خلاف ما هو المتعارف فی غیره ، وغیر ذلک من الإیماءات والإشارات اللطیفة

ص:365

الموجودة فی کلام الإمام علیه السلام .

ومنها : الخبر الوارد فی غسالة ماء الحمّام ، وهو مرسلة الواسطی(1) الذی قد تقدّم ذکره ، من نفی البأس عمّا یصیب الثوب من الماء المجتمع فی الحمّام .

وجه الاستدلال : هو عدم الانفکاک غالباً عن النجاسة العینیّة أو الحُکمیّة فی الحمّامات الواقعة فی البلاد الکبیرة من جهة وجود الیهودی والنصرانی فیها ، فمع ذلک کلّه حَکم الإمام بطهارة المجتمع من غسالة الناس ، بقوله : لا بأس .

هذا ، ویرد علیه أوّلاً : أنّ الالتزام بإطلاق هذا الحدیث یلزم القول بطهارة الغسالة ، حتّی إذا کانت مزیلة لعین النجاسة أیضاً ، مع أنّ القائل لا یقول به ، لأنّه قد عرفت موافقته لنجاسة غُسالة الغَسلة المزیلة للإجماع القائم . فلا محیص للخصم أیضاً من التصرّف فی الحدیث بالتأویل أو التخصیص أو الحمل علی ما لا یعارض ذلک ، فلیس التخصیص بذلک أولی من الحمل علی ما لا یکون خلافاً للظاهر ، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

وثانیاً : قد احتمل الشیخ الأنصاری قدس سره إرادة صورة اتّصال الماء المجتمع بالمادّة ، کما یشهد به روایة حنّان ، قال : «سمعت رجلاً یقول لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی أدخل الحمّام فی السحر ، وفیه الجنب وغیر ذلک ، فأقوم وأغتسل فیتضح علی بعدما أفرغ من من مائهم ؟ قال : ألیس هو جار ؟ قلت : بلی ، قال : لا بأس»(2) .

فکأنّه أراد بیان أنّه إذا کان ماء الحمّام له مادّة ، یکفی فی الحکم بطهارة الماء ، لأنّه قد یکون متّصلاً بالمادّة کما هو المشاهد من امتلاء الحیاض الصغار عادةً وسیلان الماء من أطرافها فیوجب الجریان والاتّصال فیطهّر بعضه بعضاً .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 8 .

ص:366

کما یؤیّده أیضاً حدیث ابن أبی یعفور ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قلت : أخبرنی عن ماء الحمّام ، یغتسل منه الجنب والصبی والیهودی والنصرانی والمجوسی ؟

فقال : إنّ ماء الحمّام کماء النهر یطهّر بعضه بعضاً»(1) .

فیکون المراد ، هو أنّه لو فرض نجاسة بعض الماء بواسطة اتّصاله مع بدن النجس ودخوله فی المجتمع ، أو جریانه علی الأرض لکن بما أنّ للماء مادّة متّصلة بها فهو یوجب التطهیر .

فبعد هذا التوجیه یمکن أن یکون المراد من حدیث المروی عن بکر بن حبیب ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «ماء الحمّام لا بأس به إذا کانت له مادّة»(2) .

هو الإطلاق لماء الحمّام ، لشموله لماء الحیاض الصغار الموضوعة لأخذ المیاه منها ، والماء الخارج بعد الغسل والتطهیر أیضاً ، فیشمل الغسالة المنضوحة بما ذکرنا .

فحینئذٍ لا تکون هذه الأخبار فی صدد بیان کون غسالة النجس طاهرة أم لا ، کما هو المقصود فیما نحن فیه .

وثالثاً : نذهب إلی ما ذکرنا فی ذیل حدیث الواسطی سابقاً من صحّة نفی البأس فی الماء المجتمع وذلک من جهة عدم العلم بنجاسة من یغتسل فیه ، ویحصل الشکّ فی کون هذا الماء هل هو من غسالة النجس أو لا ؟ فقاعدة الطهارة تحکم بطهارته ، کما هو مختار الشیخ الأنصاری قدس سره .

بناءً علیه فإنّ المسألة وإن کانت خلافیة من حیث النجاسة والطهارة ، لکن الخبر یصیر دلیلاً علی الطهارة ، فلا تکون هذه الروایة من الأدلّة الدالّة علی طهارة


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:367

مطلق الغسالة ، کما هو المقصود فی البحث .

وهذان الخبران الواردان فی الاستنجاء والحمّام کانا عمدة مستند القائلین بالطهارة ، وقد ثبت عدم تمامیّهما ، واللّه العالم .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یصیبه البول ؟ قال : اغسله فی المرکن مرّتین ، فإن غسلته فی ماء حار فمرّة واحدة»(1) .

قال الجوهری : المرکن : الإجانة التی تغتسل فیها الثیاب .

وجه الاستدلال : أنّه لو کانت الغسالة نجسة ، فیلزم نجاسة المرکن ، فلا یطهر بالغسلة الثانیة ، خصوصاً مع ملاحظة عدم إحاطة الماء فی المرّة الثانیة بالثوب بمثل ما أحاطت الأولی به .

هذا بخلاف ما لو کانت الغسالة طاهرة ، فتطهّره الغسلة الثانیة .

وقد أُجیب عنه أوّلاً : بإمکان الالتزام بنجاسة الماء فی المرکن بواسطة نجاسة الثوب ، إلاّ أنّه یطهر فی الغسلة الثانیة ، بتبع طهارة الثوب ، نظیر الساجة التی یغتسل علیها المیّت ، ومثل ید الغاسل .

أمّا الخبر فلیس بصدد بیان طهارة الغسالة ونجاستها ، بل إنّما فی صدد بیان الفرق بین الماء القلیل والماء الجاری ، من لزوم التعدّد فیه دون الثانی ، کما عن الشیخ الآملی .

وثانیاً : من إمکان الالتزام بطهارة الثوب بذلک ، وإن کان الماء الباقی بعد التطهیر فی المرکن بنفسه نجساً یجب الاحتراز عنه ، نظیر طهارة الإناء الکبیر المأخوذ منه الماء ، مع کون الماء فی کلّ غسلة نجساً ، کما عرفت سابقاً .

هذا ، کما عن الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:368

وثالثاً : لیس المراد بأن یکون المرکن مملوءاً من الماء ، ثمّ یوضع فیه الثوب النجس ، بل المراد عکس ذلک بأن یکون الثوب فی المرکن ویُصبّ علیه الماء القلیل ثمّ إخراجه عنه وعصره ، وإفراغ الماء من المرکن ، وهو کما عن الحلّی فی «دلیل العروة» .

ویحتمل أن یکون حرف «فی» فی الجملة الاُولی ، بمعنی «مع» ، کما هو مقتضی القواعد النحویة المستفادة من قوله تعالی : «قَالَ ادْخُلُوا فِی أُمَمٍ»(1) ، أی مع اُمم .

فیکون المراد فی المقام ، اغسله مع ماء المرکن مرّتین ، وفی الماء الجاری مرّة واحدة ، فحینئذٍ یناسب مع صبّ الماء علی النجس ، کما اُشیر إلیه فی بعض الأخبار فی الماء القلیل ، مثل خبر حسین بن أبی العلاء ، فی حدیثٍ ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الصبی یبول علی الثوب ؟ قال : تصبّ علیه الماء قلیلاً ثمّ تعصره»(2) .

فحینئذٍ لا یکون منافیاً لما ذهبنا إلیه من نجاسة الغسالة .

وکیف کان ، لا یعدّ الحدیث مخالفاً ومعارضاً لما قلنا ، کما لایخفی .

مع أنّ الخصم أیضاً لابدّ له من ارتکاب خلاف الظاهر بالنسبة إلی الغسالة فی الغسلة الثانیة ، لأنّ غسالة الغسلة الاُولی کانت غسالة الغسلة المزیلة ، وقد عرفت موافقة الخصم لنجاستها ، فحینئذٍ لا تطهر الغسلة الثانیة للغسالة ، إلاّ بعد الالتزام بطهارة المرکن والماء مع الغسلة الثانیة قهراً ، وإن کان لاقی النجاسة الموجودة فی الإناء والمرکن دون الصبّ ، مع أنّ الالتزام بطهارة الماء مع الملاقاة


1- سورة الأعراف : آیة 37 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:369

بدون الصبّ ، یکون خلافاً للمرتکز والأدلّة ، فهو خلاف للظاهر أیضاً ، کما هو واضح .

ومنها : خبر صبّ الماء علی الثوب الذی بال فیه الصبی ، وهو خبر الحسین بن أبی العلاء الذی مرّ ذکره قبل قلیل .

ومثله خبر الحلبی ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن بول الصبی ؟ قال : تصبّ علیه الماء» الحدیث(1) .

وجه الاستدلال : هو أنّه یدلّ علی طهارة الغسالة ، وإلاّ کان اللازم الحکم بلزوم الانفصال لخروج ماء النجس .

وفیه : أنّ الوارد فی الخبر هو یحکم بالصبّ المستلزم لذهاب الماء عنه ، وزوال النجاسة ، فلاینافی عدم طهارة الغسالة بذلک ، ولهذا حکم بالعصر فی الخبر الأوّل ، وهو لا ینافی نجاستها ، کما لا یخفی ، وإن کان الثوب یصیر طاهراً بواسطته .

وأضعف منه التمسّک للدلالة علی الطهارة بالخبر الذی رواه أبو هریرة(2) ، وناقش ضعفه المحقّق فی «المعتبر» فی سنده ، والخبر رواه البخاری فی صحیحه ، عن أبی هریرة ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «أنّه أمر بتطهیر المسجد من بول الأعرابی ، بصبّ ذنوب من الماء علیه»(3) .

والذنوب : أصغر من القِربة .

حیث استدلّ الشیخ الطوسی علی أنّ الغسالة لو کانت نجسة ، للزم تنجیس سائر المسجد بصبّ الماء علیه .

وجه الضعف : مضافاً إلی ما ضعّفه المحقّق کما عرفت ، فإنّها قضیة فی واقعة ،


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 52 من أبواب النجاسات، الحدیث 4 .
3- صحیح البخاری : ج1 ص45 .

ص:370

لعلّه کان من قبیل تطهیر الأرض برشّ الماء علیه وتجفیفه بالشمس ، لا من جهة تطهیره بالماء .

ومنها : خبر عمر بن یزید ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أغتسل فی مغتسل یُبال فیه ویُغتسل من الجنابة ، فیقع فی الإناء ما ینزو من الأرض ؟

فقال : لا بأس به»(1) .

وقد أجاب الحکیم قدس سره عنه بأنّه _ مضافاً لضعف سنده _ أنّه لا دلالة علی استقرار النجاسة فی الماء الذی ینزو ، حتّی یصیر نجساً ، فالتعدّی إلی ما نحن فیه وهو المستقرّ غیر ظاهر .

وفیه : أنّ أدلّة الانفعال الدالّة علی الحکم بالنجاسة عامّة تشمل کلتا الصورتین ، فما ذکره لا یخلو عن تأمّل .

کما قد أجاب عنه الحلّی بقوله : لعلّه من جهة أنّ إصابة القطرة الأرض المتنجّسة ، کانت من قبیل الشبهة المحصورة ، ولم یعلم کون القطرة من المحلّ النجس ، فلعلّها لاقت الأرض الطاهرة .

ثمّ قال : مضافاً إلی عدم اشتمال الروایة علی وجود الغسالة ، بل الموجود هو البول ، وغسالة الجنابة بتخیّل السائل کونهما نجساً .

وفیه : لا إشکال فی أنّ الترکیز فی السؤال کان من حیث الغسالة ومن جهة إصابتها الأرض المتلطّخة بالنجاسة ، لا السؤال عن نفس الغسالة التی تنزو فی الإناء وهل هی نجسة أم لا ؟ ولا من حیث إصابة نفس البول ، کما هو واضح .

بل الظاهر کون عدول السائل عن إصابة القطرات لماء الإناء إلی ما ینزو من الأرض ، یفهم خلاف استدلال القوم ، لأنّه یستفاد أن عدم نجاسة الغسالة کان


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 7 .

ص:371

أمراً ثابتاً عند السائل حیث لم یسأل عنها .

غایة الأمر ، قد تخیّل صیرورة الغسالة نجسة بإصابتها الأرض الکذائیة ، فأجاب علیه السلام بأنّه لا بأس به . إمّا من جهة أنّ المتنجّس لا ینجس _ کما علیه بعض _ أو من جهة أنّه لم یعلم إصابته بما أصاب به البول ، أو ماء غسالة الجنب ، فتکون حینئذٍ قاعدة الطهارة محکمة .

ولعلّ وجه مفروغیّة عدم النجاسة للغسالة ، کانت من جهة أنّه لا یعلم کون الغاسل نجساً _ أی لم یفرض نفسه کذلک _ کما یحتمل کون موضوع نجاسة الغسالة فی صورة نجاسة بدنه مفروغاً عنه عنده نهایة الأمر ، فالمسألة من تلک الحیثیّة ساکتة ، لا یجوز التمسّک بها کما أراد الخصم .

مضافاً إلی إمکان دعوی حصول التطهیر للأرض المتنجّسة بالبول وغسالة الجنب ، بتطهیر موضع البول فی ذلک المحلّ ، وطهارة الجسم من آثار المنی الموجب لتطهیر الأرض بذلک بالغَسل مرّة أو مرّتین ، ومن ثمّ لا نعلم بوجود منجس علی الأرض وعند الشکّ نرجع إلی قاعدة الطهارة ، واللّه العالم .

ومنها : روایة إبراهیم بن عبد الحمید(1) فی إصابة الثوب بالبول ، حیث أمر الإمام بالنضح لما یصیبه البول من الثوب ، ولیس هذا الأمر إلاّ من جهة طهارة الغسالة ، وإلاّ لما أفاد النضح فیه شیئاً .

فأُجیب عنه : أنّه تطهیرٌ صوری تعبّدی ، ولیس من جهة نجاسته حتّی یستفاد طهارته .

هذا غایة ما یتوهّم الاستدلال به لطهارة الغسالة ، وقد عرفت عدم تمامیّتها .

فالأقوی عندنا ، هو نجاسة الغسالة مطلقاً ، سواء کانت للغسلة المزیلة للعین


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .

ص:372

أو لم تکن ، وسواء تغیّرت أو لم تتغیّر . واللّه العالم .

هاهنا فرعان فقهیّان :

فی حکم استعمال الغسالة علی القول بطهارتها

الفرع الأوّل : أنّه لو قلنا بنجاسة الغُسالة کما اخترناها ، فلا إشکال فی عدم جواز استعمالها فی رفع الحدث والخبث .

والاحتمالات الثلاث التی ذکرها صاحب «الجواهر» للماء المتخلّف علی الثوب والبدن : بأنّه هل یجوز رفع الحدث والخبث به مطلقاً ؟

أو تکون طهارته مفروضة دون المطهّریة ، لأنّه بمقتضی قاعدة العسر والحرج حُکم بالطهارة ، فیکتفی بقدر الضرورة وهو الطهارة بخلاف الطهوریّة أم لا ؟

أو التفصیل بین الحدث _ بعدم الجواز _ والخبث بالجواز .

فإنّ جمیعها یمکن فرضها وتصویرها ، لکنّها قلیلة الوقوع ، خصوصاً فی الأجسام الصیقلیة .

ولکن إذا أمکن تحصیل الماء بعصر الثوب ، فحینئذٍ لا إشکال عندنا فی طهارته بمقتضی الأدلّة ، فیجوز التطهیر به مطلقاً ، کما کان طاهراً حقیقة ، کما لایخفی .

إنّما الکلام والإشکال فی القول بطهارة الغسالة مطلقاً ، أو المتعقّبة للطهارة ، فهل هو طاهر ومطهّرٌ ، أو طاهر ولکنّه مطهّر للخبث فقط دون الحدث ، أو طاهر بلا طهور مطلقاً سواءٌ للحدث والخبث ؟

ذهب إلی کلّ واحد منهما جماعة .

فقد اختار الأوّل صاحب «الحدائق» والأردبیلی والخوئی .

والثانی الشیخ الأنصاری قدس سره ، والمحقّق الهمدانی ، والحکیم ، والحلّی .

والثالث صاحب «الجواهر» قدس سره .

والحقّ _ الموافق للاحتیاط _ هو مختار الشیخ ، أی القول الثانی ، لأنّه بالنسبة إلی رفع الحدث یقال بعدم الجواز من جهة الإجماع المدّعی الصادر من الفحول ،

ص:373

کالمحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی» ، وصاحب «الذخیرة» و«المعالم» ، وقد اعتمد علیه فحول المتأخِّرین کالشیخ الأنصاری وأکثر المعاصرین .

ومن دلالة خبر عبداللّه بن سنان الذی تقدّم ذکره(1) من النهی من التوضّؤ بما یغسل به الثوب ، أو یغتسل به الجنب ، وإن نوقش فی سنده من جهة أحمد بن هلال ، وقد مضی شرحه . کما نوقش دلالته أیضاً ، من احتمال أن یکون النهی بواسطة قداسة الوضوء والغسل مثلاً .

ولکن لا ینافی أن یکون النهی تحریمیّاً أیضاً ، بحسب ظهور النهی فیه ، ولعلّه لذلک أفتی الشیخ وغیره بعدم جواز رفع الحدث به ، کما هو مقتضی الاحتیاط ، بل هو مقتضی استصحاب بقاء الحدث أیضاً ، لأنّه بعد التوضی ء والاغتسال یشکّ فی حصول الطهارة من جهة النهی ، فالأصل یقتضی عدمها .

هذا کلّه بالنسبة إلی رفع الحدث بواسطة ماء الغسالة الطاهرة .

وأمّا بالنسبة إلی رفع الخبث بذلک :

فالظاهر هو الجواز ، للإطلاقات الدالّة علی أنّ الماء الطاهر مطهّر أیضاً .

ودعوی انصرافها لمثل غیر هذا الفرد ، غیر مسموعة ، لعدم وجود شاهد علیها.

فی حکم ملاقی الغسالة علی القول بنجاستها

وتوهّم المنع من خبر عمّار الساباطی الذی قد تقدّم شرحه وذکر شرطه(2) ، حیث أمر الإمام بإفراغ الماء من الإناء ثلاث مرّات ، ولم یکن ذلک إلاّ للمنع عن استعماله ثانیاً فی الغسل ، ولو بصبّه فی الإناء مرّة ثانیة وثالثة ، أو بتحریکه فی الإماء مرّتین بعد الأولی .

مدفوع ، بأنّ إرادة إدارة الماء فی نفس الإناء لا یساعد مع تعدّد الغسلة ، إذ


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة : الباب 53 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:374

الغسل المتعدّد لا یتحقّق إلاّ بالإفراغ .

وإن اُرید إفراغه وجمعه فی الخارج ثمّ صبّه ثانیاً ، فهو أمر غیر متعارف عند الناس ، فلم یکون الحدیث ناظراً للمنع عن هذا ، فنعمل فی ذلک علی طبق القاعدة ، وهی التمسّک بالإطلاقات ، وبها یندفع الاستصحاب الذی ادّعاه صاحب «الجواهر» من بقاء الخبث بعد التطهیر به .

فالأحوط عدم جواز رفع الحدث بالغسالة ، وإنْ قلنا بطهارتها ، بخلاف رفع الخبث ، فإنّه یجوز .

ولکن قد عرفت مختارنا فی الغسالة من الحکم بالنجاسة مطلقاً .

الفرع الثانی : حیث اخترنا نجاسة الغسالة ، فهل نجاستها تکون نظیر نجاسة الشیء قبل الغسل ، فیکون حینئذٍ حکم الملاقی مع تلک الغسالة ، حکم ملاقی تلک النجاسة مع وحدة الغسل وتعدّده ، فلازم ذلک أنّ الغسالة البولیة لابدّ لملاقیها التعدّد ، ولو کانت الغسالة من الغسلة الأخیرة کما کان کذلک فی الاُولی أیضاً ؟

أو تکون نجاستها کنجاسة المحلّ بعد تلک الغسالة ، فلازم ذلک أنّه إذا کانت الملاقاة مع غسالة الغسلة الاُولی ، فیجب فی الملاقی غسلة واحدة ، وإن کانت من الغسلة الثانیة فلا تجب غسلة أصلاً ، فتکون النتیجة التفصیل بین غسالة البول مثلاً وغیرها ، حیث أنّه یجب الحکم بنجاستها إذا کانت من الغسلة المتعدّدة أو الاُولی ، وبین غیر البول ، أو غیر الغسلة الأولی من البول بطهارتها حینئذٍ ، لأنّ المحلّ بعد الغسلة الثانیة صار طاهراً .

وثالثة : أن یقال بکون حکمها حکم مطلق النجاسات ، من وجوب الوحدة _ علی قول _ والتعدّد علی قول آخر أم لا ؟

وهذا هو الأقوی ، کما علیه أکثر الفقهاء ، _ کصاحب «الجواهر» _ بجعله أقوی ، وإن قوی وجه الأوّل أیضاً _ وصاحب «مصباح الفقیه» حیث جعله أقوی ،

ص:375

وإنْ کان الأشبه عنده هو الأوّل ، وجماعة من المعاصرین وممّن قارب عصرنا کصاحب «العروة» والبروجردی ، والخوئی ، والحکیم ، والخمینی ، خلافاً للشاهرودی ، والاصطهباناتی ، والگلپایگانی ، حیث یقولون بوجوب الاحتیاط والتعدّد فی غسالة الغسلة الاُولی من البول .

وقد استدلّوا علی ذلک _ مضافاً إلی قیام الإجماع _ بعدم صدق عنوان الولوغ لو سال لعاب الکلب فی إناء فلا یجب التعفیر فکذلک لا یصدق ذلک العنوان لغسالة الماء الذی یستعمله فی تطهیر الولوغ ، ولهذا لا یجب فیه التعفیر ، فکذلک لا یجب فیه التعدّد ، إذا کان من غسالة الغسلة البولیة ، إذ لا یطلق علیها أنّه تنجّس بالبول ، حتّی تشملها الأدلّة الواردة فی ملاقی البول .

فإن قلت : بأنّ ذلک مشتمل لأجزاء البول وعینه ، فیصدق أنّه تنجّس بنفس البول ، کما لو لاقاه مع نفس البول ، فیجب فیه التعدّد ، بخلاف الولوغ فإنّه حکم شرعی مستقلّ ، تابع لتحقّق ذلک فی المورد شرعاً .

هذا کما فی «الجواهر» . فیحکم ملاقی الغسالة علی القول بنجاستها

قلت : أوّلاً : قد عرفت سابقاً أنّه غالباً ما یکون البول قد جفّ بعد فترة قصیرة فتکون نجاسة موضعه نجاسة حکمیة .

فإن قلنا بالتفصیل بین صورة الجفاف _ من عدم وجوب التعدّد ولو فی غسالة الغسلة الاُولی _ وصورة ما لو کان رطباً _ من وجوب التعدّد فیه _ فهو مردود بالإجماع المرکّب ، إذ لا قائل من الفقهاء بهذا التفصیل ، کما لایخفی .

وثانیاً : لا یقال إنّ الغسالة تنجس لکن لا لملاقاتها للبول بل لملاقاتها مع المتنجّس .

لکنّه لا یخلو عن تأمّل ، لأنّها تکون جزءً من أجزاء ما لاقی بولاً ، فکأنّها بنفسها لاقت ، کما لایخفی .

هذا فضلاً عن أنّه تشمل إطلاقات النجاسة لمثل الغسالة .

ص:376

«فی حکم ماء الاستنجاء من الطهارة وغیرها»

عدا ماءالاستنجاء، فإنّه طاهر مالم یتغیّر بالنجاسة أوتلاقیه نجاسة من الخارج(1).

وبعبارة اُخری : إنّ أدلّة انفعال الماء القلیل تثبت النجاسة لها ، وأمّا کونها مثل البول من لزوم التعدّد فلا . فلیس لنا طریق لإثبات حکم التعدّد إلاّ بإحراز شمول أدلّة البول لها ، وقد عرفت خلافه .

فإذا ثبت تطابق نجاستها وضرورتها کنجاسة سائر المتنجّسات ، فتشملها حینئذٍ أدلّة التطهیر ، الشاملة لتطهیر سائر المتنجّسات من کفایة غسلة واحدة مثلاً لو قلنا بها ، أو لزوم التعدّد إنْ قلنا به .

فبذلک یندفع حکم استصحاب بقاء النجاسة بعد الغسلة الاُولی لملاقی الغسالة ، إذ هو أصل فیما لا یکون فی مورده دلیل اجتهادی .

نعم، لو لم یکن ما ذکرنا من الأدلّة تامّاً، لکان الاستصحاب مقدّماً علی قاعدة الطهارة.

مضافاً إلی إمکان التمسّک لکفایة الوحدة فی غسلتها بإطلاق حدیث عیص بن القاسم(1) _ لو أغمضنا النظر عن الإشکال الوارد فی سنده ودلالته کما عرفت تفصیله ، فلا نعید ، _ حیث حکم بلزوم غسل ما أصاب من ماء طشتٍ کانت فیه غسالة البول أو القذر .

(1) ولا یخفی علیک أنّ الحکم بعدم البأس فیه ، وعدم تنجیس ما یلاقیه قد قام الإجماع علیه تحصیلاً ومنقولاً ، نصّاً وظاهراً ، علی لسان جملة علمائنا ، بل علیه نصوص مستفیضة ومعتبرة ومقبولة عند الأصحاب ، فلا بأس حینئذٍ


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 14 .

ص:377

بالإشارة إلیها من ذکر النصوص ومقدار دلالتها ، فنقول :

منها : مرسلة یونس بن عبد الرحمن ، عن رجلٍ ، عن الغیر (فی «المستمسک» : عن الغزار) أو عن الأحول ، أنّه قال لأبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیث : «الرجل یستنجی ، فیقع ثوبه فی الماء الذی استنجی فیه ؟ فقال : لا بأس ، فسکت . فقال : أوتدری لِمَ صار لا بأس به ؟ قال : قلت : لا واللّه . فقال : إنّ الماء أکثر من القذر»(1) .

فی حکم ماء الاستنجاء

فإنّه یدلّ علی عدم البأس فی ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء . والظاهر عدم خصوصیّة للثوب فی ذلک ، فکذلک یکون الحکم للبدن وغیره ، فإنّه یکون من باب إلغاء الخصوصیّة . کما فی الرجل یشکّ بین الثلاث والأربع لغیره من المرأة .

بل ذکر عدم البأس فی الثوب ، مع کونه فی الإصابة أقلّ ، ففی مثل البدن الذی تکون الإصابة ووقع النضح علیه أکثر یکون عدم البأس بطریق أولی .

وقد قیل : بأنّ هذا الحدیث _ کما فی «المستمسک» _ أقوی دلیل علی الطهارة مع نفی البأس ، لاشتماله علی التعلیل ، لأنّه لو لم یکن مشتملاً علیه لأمکن القول بکون المراد من نفی البأس هو العفو عن النجاسة ، نظیر العفو عن الأقلّ من الدرهم من الدم فی الصلاة ، لرفع العسر والحرج ، من جهة کثرة الابتلاء فی کلّ الأوقات ، فمع ملاحظة التعلیل یکون ظهوره فی الطهارة قویّاً .

إلاّ أنّ الإشکال وهو أنّ التعلیل فی کلّ مورد یوجب تعمیم الحکم لغیر مورد النصّ أیضاً ، فکأنّه أراد إفهام أنّ کلّ مورد یکون الماء فیه أکثر من القذر حکمه کذا. فیحکم ماء الاستنجاء

مع أنّک قد عرفت فی الغسالة القلیلة من الحکم بنجاستها ، مع أنّ نوعها یکون ماءها أکثر ، فمع خروج کثیر من الموارد من أفراد الماء القلیل ، وانحصاره فی


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:378

خصوص ماء الاستنجاء ، یوجب استهجان التعلیل ، إذ لم یحکم بمقتضی عموم التعلیل فی غیر مورد النصّ .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ مورد التعلیل لا ینحصر فی خصوص الماء القلیل ، حتّی یوجب ذلک ، بل لابدّ أن یقتضی إطلاقه شمول الحکم لجمیع الموارد التی تکون المیاه فیها کثیرة ، وأکثر من القذارة کالکرّ والجاری والمطر ، أمّا القلیل فقد خرج بمقتضی أدلّة عموم إنفعال الماء القلیل _ وهو فی غیر ماء الاستنجاء للنصّ _ فیبقی الباقی تحت عموم التعلیل ، فلا استهجان لبقاء أفراد کثیرة تحته .

فحینئذٍ دعوی ظهور عدم البأس بنفسه علی الطهارة عند العرف ، خصوصاً مع ملاحظة ما یترتّب علیه من الآثار ، من الدخول فی الصلاة مع هذا الثوب المتلطّخ وإصابة الید وغیر ذلک ، یفهمنا علی نحو القطع بکون المراد من نفی البأس هو الطهارة ، لا خصوص العفو فی المورد ، وإلاّ کان علی الإمام علیه السلام البیان فی المقام للحاجة إلیه ، کما أنّه یستفاد النجاسة من لفظ (البأس) الواردة فی هذه الموارد بمناسبته الحکم مع الموضوع .

والإشکال فی سندها بإرسالها ، وعدم تلقّی مرسلات یونس بن عبد الرحمن _ الذی کان من أصحاب الإجماع _ بالقبول عند القوم _ کابن أبی عمیر_ خصوصاً مع مجهولیّة (الغیر) أو (الغزار) غیر ضائر هاهنا ، للقطع بعمل الأصحاب بها ، ولو من جهة عدم البأس ، بمعنی العفو عن نجاسته ، خصوصاً إذا استظهرنا الطهارة من غیرهما من أخبار الباب .

نعم ، لو لم تدلّ تلک الأخبار إلاّ علی العفو ، واُرید إثبات الطهارة منها بالخصوص فی قبال القول الآخر ، فإنّه لا یخلو عن تأمّل .

إلاّ أنّ الشهرة العظیمة المتحقِّقة فی طرف الطهارة ، یوجب اطمئنان النفس علی العمل بمقتضاه ، وهی جابرة لضعف سندها ، کما لایخفی .

ص:379

ومنها : صحیح محمّد بن النعمان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له : أستنجی ثمّ یقع ثوبی فیه وأنا جنب ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

فإنّه مضافاً إلی اشتماله علی (عدم البأس) لماء الاستنجاء ، یدلّ علی عدم البأس إذا کان رأس الذکر ملوّثاً بالمنی .

وأمّا احتمال أن یکون ذکر الجنابة لبیان شرح حاله بحسب المتعارف ، من دون عنایة بخصوص الجنابة .

أو احتمال کون توهّم دخالة القذارة المعنویة من الجنابة فی تنجّس الماء .

أو احتمال کون الاستنجاء فیه لخصوص المنی فقط ، دون البول والغائط ، _ کما احتمله بعض علی ما نقله صاحب «الحدائق» ، والأوّل قویّاً کما فی «مصباح الهدی» ، أو الثانی علی ما نُقل .

هذه الاحتمالات ضعیفة عندنا ، ولا استبعاد عند العرف أن یکون منشأ الاحتمال والسؤال هو بیان أهمّیة الأمر فی وجود نجاسة المنی دون البول والغائط ، خصوصاً مع ملاحظة استحباب استبراء المنی بالبول ، حیث توجب شدّة هذا الاحتمال .

فیکون الخبر دلیلاً علی طهارة ماء الاستنجاء ، وإن کان مع البول نجاسة اُخری تخرج عادةً من المجری ، ولا یبعد الالتزام به ، کما سیأتی إن شاء اللّه .

فوجه الاستدلال به فی المقام ، هو ما عرفت من الاستظهار العرفی من کلمة (عدم البأس) مضافاً إلی الملازمة بین الطهارة وبین عدم البأس لملاقیه ، کما کانت الملازمة ثابتة فی البأس بالملاقاة مع النجاسة . واحتمال کون نفی البأس من جهة التخصیص لأدلّة منجّسیة المتنجّس ، کما احتمله بعضٌ . فیحکم ماء الاستنجاء


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:380

بعید جدّاً ، بل المراد هو الطهارة ، والتخصیص لعموم أدلّة الماء القلیل ، وإن کانت من جهة رفع الحرج من المکلّف ، واللّه العالم .

ومنها : صحیح عبد الکریم بن عتبة الهاشمی ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یقع ثوبه علی الماء الذی استنجی به ، أینجّس ذلک ثوبه ؟ قال : لا»(1) .

فإنّ السؤال عن تنجیسه لیس إلاّ من جهة أنّه توهّم کون غسالة ماء الاستنجاء تکون نجسة مثل سائر الغسالات من النجاسة ، من جهة أنّ انضمام قاعدة السرایة ، إلی قاعدة منجسّیة کلّ متنجّس مع الرطوبة ، توجب نجاسة الثوب .

فأجاب علیه السلام بقوله : لا ، فالنفی لیس لخصوص أنّه نجس لکنّه غیر منجس ، بل النفی متعلّق بأصل الموضوع ، أی لا یکون نجساً حتّی یوجب بمقتضی القاعدة سرایة النجاسة .

فاحتمال کون نفی البأس بلحاظ نجاسة الثوب ، أی کان نجساً لکنّه معفوّاً ، أو نفی البأس صدر من جهة ماء الاستنجاء ، أی أنّه نجس إلاّ أنّه لا یوجب تنجیس للملاقی ، تو صدر نفی البأس بلحاظ العفو عن نفس ماء الاستنجاء وأنّه نجس لکنّه معفو ، خلاف للظاهر جدّاً .

مع أنّ الحکم بالنجاسة ، مع عدم ترتیب شیء من آثار النجاسة علیه لا یخلو عن بشاعة ، کما هو واضحٌ لمن کان له أدنی تأمّل .

فدلالة هذه الأخبار علی الطهارة ، مع اشتمال کلّ لخصوصیّة موضحة لما قلناه ، قویّة جدّاً .

ومنها : مصحّح ابن أبی عمیر ، عن ابن اُذینة ، عن الأحول _ یعنی محمّد بن النعمان _ قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أخرج من الخلاء ، فأستنجی بالماء ، فیقع


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .

ص:381

ثوبی فی ذلک الماء الذی استنجیت به ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

وفیما رواه الصدوق عن محمّد بن النعمان مثله ، وزاد : (لیس علیک شیء) .

طریقة الاستدلال به کسابقه ، مع زیادة وهی أنّ الحکم بالطهارة من الماء الذی وقع فی الکنیف الذی یکون نجساً عادةً ، _ أی أرض الکنیف الذی یحکم العلماء فیها بتقدّم حکم الظاهر وهو النجاسة عن الأصل وهو الطهارة من جهة الإطلاق وترک الاستفصال _ فمن ذلک یفهم توسعة الشارع فی أمر النجاسة والطهارة . وهذا هو معنی الخبر المنقول بأنّ الشریعة سهلة سمحة .

بل دلالته علی الطهارة تقوی من غیرها إذا لاحظنا الزیادة الواردة فی ذیلها علی ما نقلها الصدوق بقوله : (لیس علیک شیء) حیث یفید أنّه لا یتوجّه إلیه حکم من أحکام النجاسة أصلاً . مایشترط لطهارة ماء الاستنجاء

ومنها : مرسلة الکاهلی ، عن رجل ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «أمرّ فی الطریق ، فیسیل علیَّ المیزاب فی أوقاتٍ أعلم أنّ الناس یتوضّؤون ؟

قال : لیس به بأس ، لا تسأل عنه»(2) .

فی «وسائل الشیعة» : أنّ المراد من الوَضوء الاستنجاء . ولعلّ وجه هذا المعنی هو من جهة أنّ السائل لم یسأل عنه لو کان یعلم کونه ماء الوضوء المتعارف ، إذ لیس هو بنجس أصلاً ، حتّی یتوهّم ویوجب السؤال ، ولم یحتمل أحد نجاسته ، فلا یکون مراده من سؤاله إلاّ من جهة احتمال کونه ماء الاستنجاء ، کما کان الأمر متعارفاً فی تلک الأزمنة من التبوّل والاستنجاء علی أسطح الدور ، وبرغم ذلک حکم بنفی البأس ، فهو وإن کان یحتمل أن یکون حکمه بالطهارة من باب القاعدة


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .

ص:382

فی باب الطهارة ، لعدم العلم التفصیلی کون الجاری من المیزاب هو ماء الاستنجاء ، _ وإن یعلم إجمالاً _ إلاّ أنّه یحتمل أن یکون مراد الإمام من الحکم بطهارته ، من جهة کون الماء والاستنجاء طاهراً ، کما لایخفی .

بل لعلّ وجه إعراض الأصحاب عن هذا الحدیث من جهة إجماله فی جهة الحکم ، من کونه للقاعدة أو للاستنجاء .

فثبت من جمیع الأخبار _ إذا لاحظنا بعضها مع بعض _ کون المراد من نفی البأس هو الطهارة ، فلا یلزم حینئذٍ إلاّ تخصیص عموم أدلّة انفعال الماء القلیل بملاقاته النجس ، وتخصیص ما دلّ بالخصوص علی نجاسة غسالة الماء القلیل ، حیث یشمل عمومه لماء الاستنجاء .

فحینئذٍ یبقی دلالة الأدلّة الدالّة علی أنّ کلّ متنجّس ینجس ، وهکذا عموم أدلّة عدم جواز أکل المتنجّس بالملاقاة وشربه ، وعدم جواز حمله فی الصلاة والطواف ، وعدم جواز استعماله فی رفع الخبث باقیاً ، بخلاف صورة الحکم بالنجاسة .

فإذا دار الأمر بین أحد الأمرین ، کان الأوّل أولی ، لقلّة التخصیص أوّلاً ، وعدم ترتیب جمیع آثار أدلّة انفعال الماء القلیل هنا _ لو سلّمنا کونه نجساً معفوّاً_ ثانیاً .

فعلی أیّ حال ، یکون التخصیص بالنسبة إلی بعض آثاره ، مثل عدم تنجیسه بالملاقاة ، وارداً علی عموم أدلّة الانفعال بالنسبة إلی ماء الاستنجاء .

هذا تمام الکلام فی طهارة ماء الاستنجاء .

فالحکم بطهارته عندنا قویّ .

فإذا عرفت الحکم بطهارته ، یتفرّع علیه فروع کثیرة ، لا بأس بصرف الکلام إلیها :

الفرع الأوّل : یشترط فی طهارته عدم تغیّره بأحد أوصاف النجاسة ، کما صرّح به المصنّف ، بل علیه المشهور ، بل عن بعضهم أنّه إجماعی ، بل عن الشیخ الأکبر أنّ العمدة فی الدلیل هو الإجماع ، بل لم نجد خلافاً من أحد من المتقدِّمین والمتأخِّرین .

ص:383

فبعد ثبوت الإجماع ، یمکن أن یستدلّ لنجاسة المتغیّر من الاستنجاء ، بعدّة اُمور : مایشترط لطهارة ماء الاستنجاء

أحدها : دعوی انصراف أخبار الاستنجاء عن مثل المتغیّر ، أی لا إطلاق لها فی ذلک .

هذا ، لکنّه لا یخلو عن منع ، لعدم ذکر التفصیل فیها ، مع أنّه قد یتّفق _ ولو نادراً _ خصوصاً إذا کان الماء قلیلاً متدرّجاً فی الصبّ ، ولکن الإنصاف الإشکال فی وقوعه خارجاً .

ولعلّه لذلک علّل فی خبر الأحول بکثرة الماء علی القذر ، بحسب المتعارف فی الاستنجاء ، وإلاّ کان الإطلاق شاملاً له .

ثانیها : الاستفادة من مفهوم التعلیل المذکور ، لأنّ کثرة الماء لا خصوصیّة فیها إلاّ من جهة وجود الملازمة بین الکثرة واستهلاک النجاسة فیه ، فیکون مفهومه أنّه لو کانت القذارة کثیرة ففیه بأس .

فهذا وجه قویّ لو عملنا بذلک الخبر ، کما قد یشاهد عمل الأصحاب به والاستناد إلیه ، لأنّ التعلیل کما أنّه یکون معمّماً للحکم ، من حیث المنطوق ، بحسب استظهار العرف ، هکذا یکون مخصّصاً فی طرف مفهومه ، فإذا قیل : «لا تأکل الرمّان لأنّه حامض» یفهم منه أنّه لو لم یکن حامضاً جاز أکله .

ولعلّه لذلک استدلّ به الشیخ الأعظم ، والحکیم ، وغیرهما ، کما لایخفی .

ثالثها : فحوی الأدلّة نصّاً وفتوی من نجاسة ماء الکرّ ، والجاری ، والمطر ، وماء البئر ، إذا تغیّر ، فماء الاستنجاء _ الذی یکون قلیلاً _ ینجس بطریق أولی .

والإطلاقات الواردة الدالّة علی طهارته ، غیر ناظرة إلی تلک الصورة ، لأنّها قد عرفت ندرة تحقّقها ، خلافاً لمن زعم کثرة وقوعها فی أوّل صبّ الماء علی الغائط مثلاً ، مع أنّه محلّ تأمّل ، إذ یحمل عین النجاسة مع نفسه ، وأمّا تغیّره بأحد أوصافه بعید جدّاً .

ص:384

رابعها : لو سلّمنا شمول إطلاقات المورد لصورة التغیّر ، فمقتضی ذلک هو الطهارة ، سواء کان متغیّراً أم لا .

ومقتضی إطلاقات أدلّة نجاسة الماء المتغیّر هو نجاسته ، سواء کان ماء الاستنجاء أو غیره ، فیتعارضان بالعموم والخصوص من وجه ، ومورد الاجتماع یکون محلّ التعارض بینهما ، فیقدّم حینئذٍ أخبار نجاسة المتغیّر من جهة رجحانها .

مضافاً إلی کونها آبیة عن التخصیص ، بحسب لسان أدلّتها ، فتکون دلالة تلک الأدلّة علی العموم وضعیّاً وبدلالة أداة العموم کما فی صحیح حریز بن عبداللّه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «کلّما غلب الماء علی ریح الجیفة ، فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطعم ، فلا تتوضّأ منه ولا تشرب»(1) .

وخبر محمّد بن إسماعیل ، عن الرضا علیه السلام ، قال : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه» الحدیث(2) .

حیث أنّ فیه إشعار ، مع أنّ ماء البئر کان واسعاً لا یفسده شیء ، لأنّ له مادّة ، کمنا وقع فی ذیله وبرغم ذلک ینجسه التغیّر ، فغیره _ مثل ماء الاستنجاء _ یکون تنجّسه بطریق أولی .

ورجحانها بقیام الإجماع علی وفقه ، فهو أیضاً تعدّ من المرجّحات الخارجیّة الموجبة لتقدیم أحد الخبرین المتعارضین ، _ کما قرّر فی الاُصول _ بعد فقد المرجّحات الداخلیة . مایشترط لطهارة ماء الاستنجاء

فنجاسة الماء المتغیّر من الاستنجاء أمرٌ ثابت ومسلّم عندنا .

ولا فرق فی ذلک بین تغیّر الماء فی أوّل الصبّ أو بعده ، إلاّ أنّه مع استمرار صبّ الماء یتطهّر .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 _ 12 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 _ 12 .

ص:385

واحتمال أنّه بعدما تنجّس الماء بالتغیّر ابتداءً ، فهی نجاسة خارجیة موجبة لتنجیس أطراف المخرج ونفسه ، فیستلزم صیرورة ماء الاستنجاء نجساً ، کما ذکره الشیخ الأکبر قدس سره ، فإذا وقع علی الأرض یوجب نجاستها ، وتنجیس کلّ ماء وقع بعده ، لکونه ماء استنجاء مشتمل علی نجاسة خارجیّة .

غیرُ وجیه ، لما قد عرفت من ندرته ، وعدم وقوعه إلاّ فی موارد نادرة ، خلافاً للشیخ حیث ادّعی وقوعها غالباً .

نعم ، لا یبعد وقوعه مع عدم یبوسة المزاج ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو سلّمنا غالبیة ذلک ، فمع هذا قد أطلقوا الحکم بطهارته من دون تنبیه علیه مع کثرة ابتلاء الناس .

فالحکم بنجاسته إذا تغیّر یکون فی غایة البُعد .

وإن حُمل الإطلاقات علی صورة عدم التغیّر ، فیساعد مع ندرته کما احتملناه ولکن لا یساعد مع فرض الغالبیة ، لاستلزامه الحمل علی الفرد النادر _ وهو ما لو لم یتغیّر _ وهو بعیدٌ جدّاً ، کما اعترف بذلک الشیخ الأعظم قدس سره ، ومن هنا التزم بطهارة المحلّ ، ونجاسة الماء المتغیّر الباقی بتغیّره بعد وقوعه علی الأرض ، وهو واضح لمن تأمّل فی الأدلّة .

الفرع الثانی : أن لا تلاقیه نجاسة من خارج ، کما صرّح به المصنّف وغیره ، بل لم أعرف ولم نجد خلافاً من أحد من الفقهاء ، ولم ینسب ذلک لأحدهم .

والظاهر انقطاع هذا الاستثناء ، لوضوح عدم صدق الماء المستعمل فی هذه النجاسة کونه ماء استنجاء ، کما لایخفی .

نعم ، قد یقع البحث فی أنّ :

الأجسام الطاهرة التی لاقت موضع النجس من مخرج البول والغائط ، فصارت متنجِّسة .

ص:386

أو الأشیاء النجسة الخارجة مع أحد الأخبثین من البول والغائط .

بل ویمکن ذکر مثال للقسمین ، کخروج الوذی والودی حال البول أو قبله ، وکان أثره باقیاً ، أو بعده قبل تطهیره مثالاً للطاهر .

أو خروج المنی أو الدم مع البول أو قبله أو بعده مثالاً للنجس . وهکذا فی الغائط من خروج الدود أو بعض الأشیاء الطاهرة معه أو بعده ، قبل تطهیره .

أو الدم قبله أو معه ، أو بعده قبل التطهیر .

هل هذه الاُمور الحادثة توجب رفع الطهارة عن ماء الاستنجاء أم لا ؟

قد یفهم التردید بدواً من کلام صاحب «الجواهر» فی الأجسام الطاهرة ، وإن اختار نجاسته معها بعد ذلک .

بل قد نقول بإمکان استفادة طهارة ماء الاستنجاء ، حتّی مع خروج شیء من النجس مع أحد الأخبثین ، من صحیح محمّد بن النعمان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له : أستنجی ثمّ یقع ثوبی فیه ، وأنا جنب ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

بناءً علی الاحتمال الذی قوّیناه من قوله : «أنا جنب» ، بأنّه أراد کون ذکره ملوّثة بالمنی مثلاً ، وبرغم ذلک أجاب بأنّه لابأس به .

بل قد یؤیّد ذلک بالإطلاق الموجود فی الأخبار ، من الطهارة لماء الاستنجاء من دون تفصیل بما إذا لم یکن ملوّثاً بمثل المنی الذی یتعارف تواجده فی أطراف الذکر حالة الجنابة وبعدها .

ولکن الإنصاف عدم الاعتماد علی مثل هذا الاحتمال ، لأنّه قد عرفت بأنّ حکم طهارة ماء الاستنجاء ، إنْ قلنا بأنّه موافق للأصل والقاعدة ، یعنی حکمنا بطهارة غسالة المتنجس مطلقاً ، فحینئذٍ یمکن الاستدلال فی هذه الموارد ، بعد


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:387

صدق عنوان ماء الاستنجاء أو غیره علیها ، أنّه طاهر ، لعدم الفرق بین العنوانین فی الحکم بالطهارة ، فلا وجه لهذا البحث أصلاً .

وأمّا إذا فرضنا نجاسة ماء الغسالة ، فقد خرج ماء الاستنجاء عن شمول الأصل ، فلابدّ حینئذٍ من الاقتصار فیما خالف الأصل علی موضع الیقین ، فکلّ ما اُحرز أنّه یصدق علیه ماء الاستنجاء ، ویشمله إطلاق دلیله قطعاً ، فهو داخل فی الطهارة .

وأمّا إذا شکّ فی أصل صدق العنوان ، أو أحرزنا الصدق والانطباق ، ولکن حصل الشکّ فی إطلاقه من جهة احتمال الانصراف عنه ، فلا یشمله حکم الطهارة ، بل یدخل تحت الأصل العام وهو الحکم بالنجاسة .

فعلی هذا المبنی نذکر صوراً متعدّدة فی هذه المسألة :

تارةً : یفرض أن یکون الخارج عن المخرجین نجساً غیر البول والغائط ، فلا إشکال حینئذٍ کون الماء المستعمل لا یصدق علیه عنوان ماء الاستنجاء ، کما إذا خرج الدم منهما ، فحکمه واضح ، من الحکم بالنجاسة ، لأنّه خارج موضوعاً عن الاستنجاء .

واُخری : یفرض ملاقاة المَخرج ، قبل خروج أحد الأخبثین ، بإحدی النجاسات غیر العذرة الخارجة عن البطن ثمّ إذا لاقی أحدهما مع ذلک النجس أو المتنجّس ، فإنّ الماء المستعمل فی تطهیره وإن یصدق علیه الاستنجاء ، إلاّ أنّ الأخبار منصرفة عنه قطعاً ، لوضوح أنّها فی صدد بیان طهارة أصل ماء الاستنجاء المستعمل فی إزالة العذرة ، لا ما إذا عرضه عارض ، ولیس هو أمراً متعارفاً حتّی یشمله الإطلاق ، فلا محیص إلاّ الدخول تحت الأصل من الحکم بالنجاسة .

ومن ذلک یظهر حکم صورة ثالثة : هی ما لو لاقی مع إحدی النجاسات بعد الخروج وقبل الانفصال عن المخرج ، لاشتراکهما فی أصل الاستدلال ، کما هو کذلک إذا لاقی الماء المستعمل مع إحدی النجاسات .

رابعة : ما إذا خرج مع البول أو الغائط شیء، قد یکون طاهراً وقد یکون نجساً.

فی الماء المستعمل لتطهیر مخرج البول

ص:388

فأمّا إذا کان طاهراً _ کالدود والحصاة وشیء غیر منهضم من أجزاء الأطعمة _ وخرج مع الغائط أو بعده ، أو الودی والمذی والوذی مع البول أو بعده قبل تطهیره ، فالظاهر طهارة غسالته لعدم إحراز صدق العنوان ، وعدم المانع عن شمول إطلاقات الأدلّة ، کما علیه المحقّق الآملی قدس سره ، والسیّد فی «العروة» ، والبروجردی ، إلاّ الشیخ الأعظم حیث ادّعی شمول إطلاق عبارة المصنّف من عدم إصابته بنجسٍ من خارجٍ بمفهومه لذلک .

لکنّه مخدوش ، من حیث شمول إطلاقه أوّلاً ، وأصل الحکم ثانیاً ، ولذلک ذهب إلی الحکم بالطهارة المشهور من المتأخِّرین .

وأمّا إذا کان الخارج مع البول أو الغائط شیئاً نجساً ، کالدم والمنی ، أو خرج بعدهما قبل التطهیر ، بحیث یصدق أنّه خرج حین التخلّی ، أو کان خارجاً قبله کالمنی ، حیث یکون بحسب النوع کذلک .

فهو أیضاً قد یکون خروجه مع البول أو الغائط مستهلکاً ، بحیث لا یصدق علیه إلاّ البول والغائط ، کالأجزاء الصغیرة من الدم ، فلا یبعد صدق الاستنجاء معه ، وشمول إطلاقاته علیه ، فیحکم بطهارته ، کما علیه السیّد قدس سره فی «العروة» ، والخوئی ، والگلپایگانی والشاهرودی ، والآملی ، وغیرهم .

خلافاً للبروجردی ، والحکیم ، والخمینی ، وصاحب «الجواهر» قدس سرهم ، والشیخ الأعظم قدس سره .

وجه الإشکال فیه : هو عدم تعارف هذا الأمر فلا یشمله الإطلاق وتکون الأخبار منصرفة عنه ، لأنّ الأمزجة الصحیحة خالیة عن خروج أمثاله .

نعم ، لو تمسّکنا علی الطهارة بصحیح محمّد بن النعمان بناءً علی إحدی الاحتمالات فی قوله : (أنا جُنُب) من کونه متنجّساً بالمنیّ حین البول ، وقلنا إنّ الإمام قد حکم فی هذا الفرض بأنّه لا بأس ، لکان الحکم بالطهارة هنا _ فیما إذا

ص:389

کان النجس خرج مع أحد الأخبثین _ بطریق أولی .

إلاّ أنّه مجرّد احتمال إلی جانب ما عرفت من سائر الاحتمالات ، فلیس له ظهور عرفی فیه ، حتّی یمکن الاستدلال به ، خصوصاً مع ملاحظة کون الأصل الأوّلی هو النجاسة ، کما لایخفی .

فالحکم بالاحتیاط لا یخلو عن قوّة .

فإذا کان هذا هو حال المستهلک ، ففی غیر المستهلک یجب الحکم بالنجاسة قطعاً ، کما علیه أکثر من ذهب إلی طهارته فی الفرض السابق .

خلاصة الکلام : مختارنا فی جمیع الفروض ، أنّ الأقوی نجاسة ماء الاستنجاء المستعمل فیما کان الخارج من المخرجین نجساً ، غیر البول والغائط .

أو لاقی أحد الأخبثین ، أو مخرجهما قبل خروجهما ، أو بعد خروجهما قبل الانفصال نجساً ، أو خرج معهما نجساً غیر مستهلک ، خلافاً للمستهلک ، فالأحوط الاجتناب عنه أیضاً ، بخلاف ما لو خرج معهما شیء طاهر ، فالأقوی طهارة ماءه . فیالماء المستعمل لتطهیر مخرج البول

الفرع الثالث : فی أنّ الماء المستعمل فی غسل البول هل هو کالمستعمل فی الغائط ، فیکون محکوماً بالطهارة أم لا ؟

وجهان ، بل فیه قولان :

من جهة أنّ مادّة الاستنجاء مشتقّ من النجو ، وهو مخصوص لمخرج الغائط ، ویطلق علیه فقط ، فلا یکون محکوماً بحکمه ، لأنّ النجو فی الأصل بمعنی المکان المنخفض ، وقد سُمّی به الغائط لوقوعه غالباً فی المنخفض من الأرض ، تسمیة للحال باسم المحلّ ، ولا یبعد أن یکون إطلاق النجو باعتبار مخرج الغائط ، حیث یکون فی أسفل البدن ومستورٌ بالالیتین ، فجاءت التسمیة من باب تسمیة الحال باسم محلّ الخروج ، بعکس ما یُقال جری المیزاب ، حیث نسب

ص:390

الاستناد إلی المحلّ باعتبار الماء الجاری فیه .

ویشهد علی إطلاق هذا اللفظ لکلا الموردین فی لسان الفتاوی والأخبار خبر نشیط بن صالح ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته کم یجزی من الماء فی الاستنجاء من البول ؟ فقال : مثل ما علی الحشفة من البلل»(1) .

وصحیح زرارة ، قال : «کان یستنجی من البول ثلاث مرّات»(2) الحدیث .

وصحیح عبد الملک بن عمرو ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول ثمّ یستنجی ، ثمّ یجد بعد ذلک بللاً ؟ قال : إذا بال فخرط ما بین المقعدة والاُنثیین ثلاث مرّات ، وغَمز ما بینهما ثمّ استنجی ، فإنْ سال حتّی یبلغ الساق فلا یُبالی»(3) .

وقد صرّح بعضٌ بعدم الفرق بینهما _ کما علیه الأکثر _ وأطلق آخرون ، مضافاً إلی إمکان دعوی وجود الملازمة بین خروج الغائط وخروج البول ، لو لم تکن الملازمة موجودة فی عکسها .

وبرغم ذلک فقد دلّت الأخبار الواردة فی الاستنجاء علی طهارته ، من دون ذکر تفصیل بین البول والغائط ، وهذا یوجب حصول الاطمئنان للفقیه من الاشتراک بینهما فی الحکم .

وهذا هو الأقوی .

کما یستفاد عدم الفرق ، من عموم تعلیل أنّ الماء أکثر من القذر .

کما لا فرق فی طهارته بین کون ماء الاستنجاء فی الغسلة الاُولی للبول ، أو الغسلة الثانیة ، لعموم التعلیل ، خلافاً للشیخ فی «الخلاف» من الحکم بالنجاسة فی الاُولی ولا وجه له .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 5 _ 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 5 _ 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 2 .

ص:391

کما لا فرق بین کون خروج البول والغائط من المخرجین الطبیعیّین ، أو من غیرهما ، إذا کان معتاداً بذلک _ یعنی کان مخرجه المتعارف مسدوداً ، وکان له طریق آخر بحسب عادته الطبیعیّة من الخلقة _ لشمول إطلاق الأدلّة لمثل ذلک أیضاً .

نعم ، فیما لا یکون معتاداً ، کما قد یصیب بمرض فیفتح له فتحة اُخری أو ثقباً لخروج البول والغائط ، فالحکم بطهارة استنجاءه حینئذٍ مشکلٌ جدّاً ، لانصراف إطلاقات الأخبار عن مثله ، کما لا یخفی .

کما لا فرق أیضاً بین أن یلوّث البول والغائط أطراف مخرجه لکن لم یتجاوز عن حدّ المتعارف ، حتّی یوجب عدم شمول الإطلاقات ، أو لم یزد عنه ، لأنّ هذه الاُمور تتّفق ببعض مراتبها فی الخارج بما لا یکون خارجاً عن المتعارف ، فإطلاق الأدلّة یشمله .

بخلاف ما إذا خرج عنه ، فیکون الدلیل حینئذٍ منصرفاً عنه فلا یشمله ، فیحکم بنجاسته .

کما لا فرق بین سبق الید بالنجاسة قبل صبّ الماء أو عکسه ، لأنّه لو کان سبق الماء معتبراًقبل ملاقاة الید مع النجاسة ، کان اللازم علی الإمام التنبیه علیه ، فترک الاستفصال یوجب الحکم بذلک ، کما علیه الأکثر .

وإن احتاط بعضهم فی صورة تقدّم ملاقاة الید مع النجاسة .

نعم ، لو لاقت یده مع أحد الأخبثین حین الاستنجاء ، وأعرض ثمّ بدی له ذلک ، لایبعد الحکم بطهارة استنجاءه ، إن لم یفصل بینهما مدّة موجبة للانصراف فی شمول الأدلّة ، وإلاّ فإنّه یحکم بنجاسته ، واللّه العالم .

کما لا فرق _ بناءً علی طهارة ماء الاستنجاء _ بالنسبة إلی المستنجی ومایتعلّق به ، وبین غیره ، کما لو لاقی ثوب غیره مع ذلک الماء ، فلابدّ حینئذٍ من الحکم بالطهارة ، مضافاً إلی عموم التعلیل ، حیث یفهم منه عموم الحکم .

فی استعمال ماء الاستنجاء فیرفع الحدث

ص:392

هذا بخلاف ما لو التزمنا بالعفو عن نجاسته ، فیمکن دعوی اختصاصه بالمستنجی فقط ، وفی حال الاستنجاء ، وذلک بمقتضی قاعدة رفع العسر والحرج أو غیر ذلک من الأدلّة .

فالمدّعی لعموم العفو لکلّ أحد ، بل فی کلّ حال ، مطالبٌ بالدلیل .

کما أنّه لا فرق _ بناءً علی ما سلکناه من الطهارة _ بین الحکم بطهارة ملاقیه أو غیره ، من جواز استعماله فی بعض الاُمور کالشرب مثلاً ، إذا لم یکن فیه عین النجاسة ، إلاّ أن یکون حراماً ، لکونه من الخبائث .

هذا ، بخلاف صورة العفو عن نجاسته ، فیمکن دعوی اختصاصه بحالات معیّنة وخاصّة مثل عدم بأس ما یلاقیه فقط دون سائر الاستعمالات من الأکل والشرب وغیرهما .

فهذه جملة الفروق بین القولین ، حیث قد یوجّه فی بعضها اختیار القول بالطهارة کما اخترناه ، وعلیه الأکثر ، بل المشهور ، کما عرفت فلا نعید .

الفرع الرابع: فی بیان حکم جواز رفع الخبث والحدث بماء الاستنجاء وعدمه.

فبناءً علی القول بنجاسته المعفوّة ، فلا إشکال ظاهراً فی عدم الجواز فیهما ، لانحصار المعفوّ لخصوص ما یدلّ علیه الدلیل .

وقد عرفت أنّ من ادّعی العموم فی العفو ، یُطالب بالدلیل ولیس له ذلک .

وأمّا علی القول بالطهارة ، الظاهر جواز رفع الخبث به حینئذٍ ، کسائر المیاه المستعملة القلیلة ، کما هو مقتضی القاعدة بحسب حال الطهارة .

وهذا ممّا لا إشکال فیه ، ولم یعرف فیه خلاف من الفقهاء .

وإنّما الکلام والإشکال یکون فی رفع الحدث الأکبر والأصغر به ، فلا نمتلک علیه دلیلٌ إلاّ الإجماع المدّعی به عن العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» ، و«المدارک» و«الذخیرة» و«المعالم» ، حیث تلقّاه بعض المتأخّرین کالحکیم

ص:393

وصاحب «الجواهر» وغیرهما بالقبول .

والروایة عن عبداللّه بن سنان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل . فقال : الماء الذی یغسل به الثوب ، أو یغتسل به الرجل من الجنابة ، لایجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه ، وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به»(1) .

فإنّ مقتضی هذین الدلیلین ، عدم جواز استعماله لرفع الحدث ، فإنّ الحدیث وإن کان مصرّحاً لخصوص الوضوء ، إلاّ أنّ غیره یلحق به إمّا من جهة کونه وأشباهه متعلِّقاً بالوضوء ، فیکون الغُسل بأقسامه داخلاً فیه .

وإمّا من جهة الأولویّة ، لأنّه إذا سلّمنا عدم الجواز فی الحدث الأصغر ، فالأکبر یکون بطریق أولی .

وأمّا اسلوب الاستدلال به ، هو أن یقال : بأنّ کلمة (أشباهه) یکون مربوطاً ومتعلِّقاً بقوله : (یغسل به الثوب) ، أی لا یکون هذا الحکم مخصوصاً بالثوب النجس ، بل یکون أشباهه ممّا یکون نجساً ویُغسل ، حکمه کذلک ، ومنه الاستنجاء ، لأنّ ماءه یغسل النجس .

لا یقال : لِمَ فرض الثوب نجساً ، حتّی یوجب إلحاق الاستنجاء به بقوله : أشباهه» ، إذ یمکن أن لا یکون الثوب نجساً ، فلا یلحق مثل الاستنجاء به حینئذٍ ، لحصول المفارقة بینهما بذلک ؟

لأنّا نقول : لابدّ أن یکون المراد منه ، هو الثوب النجس ، بقرینة تقابله مع غُسل الجنابة ، حیث یفهم أنّ النهی فیه لیس من جهة نجاسة بدن الجنب ، وإلاّ کان داخلاً فی أشباه الثوب النجس ، فلا وجه لذکره .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:394

بل یکون منعه ، من حیث کونه مستعملاً فی غسل الجنابة ورفع الحدث ، فیصحّ حینئذٍ دلالة الجملتین علی أمرین :

أحدهما : عدم جواز استعمال الماء المستعمل فی رفع الخبث ، لرفع الحدث .

وثانیهما : عدم جواز استعمال الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر لرفع الحدث ، فیدخل فی المطلب الأوّل نماء الاستنجاء ، وهو المطلوب .

هذا کلّه من جهة دلالة الحدیث .

وأمّا سنده : فقد عرفت شرحه مفصّلاً فی السابق ، من إمکان الاعتماد علیه لکونه موثوق الصدور .

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة شیء منهما بالنسبة إلی ماء الاستنجاء ، ولو سلّمنا ذلک فی مطلق ماء المستعمل للنجس فی غیره .

فأمّا الإجماع : فمحصّله غیر حاصل ، لما تری من ذهاب جمع من الفقهاء بالصراحة إلی الجواز ، کصاحب «الحدائق» والمحقّق الأردبیلی فی «شرح الإرشاد» ، و«مستند الشیعة» للنراقی ، والخوئی ، بل قد قرّب ذلک صاحب «مصباح الفقیه» ، وقد تأمّل الشیخ الأکبر قدس سره فی عدم الجواز .

بل فی «الجواهر» علی إشکال .

فمع مخالفة هذه الفحول ، کیف یحصل الإجماع حینئذٍ ؟

وأمّا المنقول منه فغیر مفید هنا ، وإنْ سلّمناه فی الغسالة لسائر النجاسات ، لما قد عرفت من الحکم بالنجاسة فیها بخلاف ماء الاستنجاء ، حیث أنّه طاهر ، فلعلّ حکم المُجمعین بعدم الجواز کان بلحاظ حکمهم بنجاسة الغسالة المستعملة فی رفع الخبث ، کما أنّ المانعین فی المقام أیضاً سلکوا هذا المسلک .

وهکذا ظهر عدم ثبوت الإجماع فی المقام .

بل لعلّ المجمعین لو قالوا هناک بطهارة الماء المستعمل للخبث ، لما ذهبوا إلی

ص:395

عدم جواز استعماله فی رفع الحدث ، فإسراء ذلک الإجماع المدّعی هناک إلی الذی کان طاهراً لا یخلو من وهن ، کما لا یخفی ، فإثبات حجّیته هنا أیضاً مشکل جدّاً.

فی الغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات

وأمّا وجه عدم تمامیّة الحدیث فی المورد فهو من جهة إمکان أن یکون المقصود من النهی عن استعمال الماء المستعمل فی الثوب ، باعتبار قذارة ماءه وتلوّثه فی مقابل قداسة عمل الوضوء الذی یعدّ أمراً عبادیّاً ، فلذلک نهی عنه ، کما کان کذلک فی غسل الجنابة أیضاً ، لو لم نقل بکونه نجساً غالباً .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ، ذیل الحدیث حیث یجوّز استعمال الماء المستعمل فی التوضّی ء بالنسبة إلی الوجه والید ، إذا کان الوجه والید والشیء الذی وقع الماء فیه نظیفاً ، فیکون ذلک دلیلاً علی ردّ بعض العامّة _ حیث یزعمون أنّ کلّ ماء مستعمل لا یجوز _ ومؤیّداً لما ورد فی صدر الحدیث بقوله : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل» ، أی فیما إذا استعمل فی شیء نظیف .

فحینئذٍ ، لا تنافی بین صدره وذیله .

فعلی هذا التقدیر ، وإن أمکن دخول ماء الاستنجاء فیه أیضاً بالأولویّة أو بجملة (وأشباهه) ، لکن لا علی الطریقة التی استدلّ بها سائر الفقهاء ، من کون الماء مستعملاً فی النجاسة ولذلک لا یجوز ، بل لما ذکرنا من وجه التفاوت فی الاستدلال ، إنّما یکون من حیث أنّه لو قلنا بما ذهب إلیه المستدلّ لأورد علیه :

أوّلاً : بأنّ الحکم بعدم الجواز فی الثوب النجس ، یمکن أن یکون من جهة نجاسة غسالته ، بخلاف ماء الاستنجاء ، حیث أنّه طاهر فلا یجری فیه هذا الحکم .

وثانیاً : إنّه یمکن أن یُقال بکون النهی هنا تنزیهی لا تحریمی ، لما ذکرناه ، لکنّه لا یمکن الاستدلال به فی صورة نجاسة الثوب ، لأنّ النهی حینئذٍ یکون تحریمیّاً قطعاً ، کما لایخفی .

مع أنّه لو سلّمنا کون المفروض فی السؤال هو الثوب النجس ، کما أصرّ علیه

ص:396

صاحب «مصباح الفقیه» فیه وفی غسل الجنابة ، خلافاً للسیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع الفقهیّة» حیث یقول ، بقرینة تقابله مع الثوب کون المفروض فیه خصوص استعماله فی رفع الحدث الأکبر ، لا للنجاسة وإلاّ لا خصوصیّة فی الجنابة بذکرها ، مع ذلک نقول بإمکان عدم شمول الحدیث لموردنا ، مع فرض کون ماء الاستنجاء طاهراً ، نظیر سائر المیاه المتعارفة .

نعم ، لو قیل إنّه نجس معفوّ عنه _ کما علیه بعض _ فللحکم بعدم الجواز فیه وجه .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم شمول الإجماع للمقام .

أمّا الحدیث فیشمله علی احتمال ، لکنّه یمکن أن یکون النهی حینئذٍ تنزیهیّاً لا تحریمیّاً ، أمّا مع احتمالکون النهی تحریمیّاً إلاّ أنّه غیر شامل له ، فما ذهب اخلیه بعض الفحول لا یخلو عن قوّة ، وإن کان الأحوط الاجتناب عنه .

فالأقوی جواز رفع الخبث بماء الاستنجاء ، بل وکذا رفع الحدث به ، وإن کان الأحوط الاجتناب عنه فی الثانی ، فیجوز حینئذٍ استعماله فی الوضوء والغسل المندوبین أیضاً ، مثل الرافعین للحدث ، وإلاّ فیشکل فیهما أیضاً ، کما فی الرافعین .

الفرع الخامس : فیما لو شکّ فی غُسالةٍ بأنّها هل غسالة سائر النجاسات حتّی تکون نجساً أو هی غسالة الاستنجاء حتّی تکون طاهرة .

ففیه فروض لا بأس بالإشارة إلیها ، لأنّ الشکّ الحاصل فیه :

تارة : یفرض من جهة الشبهة فی مفهوم الاستنجاء أو شرائطه ، کما لو کان الماء غسالة البول ، وشککنا فی کون المستعمل فیه هل هو استنجاء أم لا ، ولم نستظهر من أدلّته کونه ماء استنجاء ؟

فلا إشکال حینئذٍ من لزوم الرجوع إلی عموم أدلّة انفعال الماء القلیل بالملاقاة للنجس ، والحکم بنجاسته ، لأنّ التمسّک بالعام هنا لیس من التمسّک بالشبهة المصداقیّة ، بل المرجع عند إجمال الدلیل المخصّص هو عموم العام ، کما قُرّر فی الاُصول . فیالغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات

ص:397

والظاهر من کلام السیّد فی «العروة» _ فی المسألة السابقة _ وغیره من الفقهاء غیر هذه الصورة ، وإلیک نصّ کلامه ، یقول : «إذا شکّ فی ماء أنّه غسالة الاستنجاء أو غسالة سائر النجاسات ، یحکم علیه بالطهارة ، وإنْ کان الأحوط الاجتناب» .

واُخری : أن یکون لنا ماء مقطوع العنوان ، وأنّه غسالة سائر النجاسات ، وماء آخر یکون مقطوع العنوان حیث نقطع بأنّه ماء الاستنجاء ، فنشکّ فی ماء ثالث قد وجد من أحدهما ، ولکن لا یعلم من أیّهما حصل فإن کان من الأوّل یکون نجساً قطعاً ، وإن کان من الثانی ، یکون طاهراً قطعاً ؟

قد یقال : بأنّ الأصل عدم کونه من الماء المستعمل فی النجس ، لأنّه کان قبل ملاقاته مع النجاسة _ بأیّ قسم منها _ طاهراً قطعاً ، فبعد الملاقاة نشکّ فی ملاقاته مع نجس یوجب تنجیسه ، فالأصل عدمه ، فلازمه الطهارة .

لا یقال : بأنّه أصل مثبتٌ لأنّه اُرید بذلک الأصل إثبات کون الملاقاة مع الآخر وهو ماء الاستنجاء ، فکان طاهراً ، وهذا یعدّ من اللوازم العقلیّة للأصل الجاری فی طرف غسالة النجس .

توضیح ذلک : إذا دار الأمر بین کون الملاقاة بأحدهما ، فإنّه ینتفی أحدهما المعیّن بأصل العدم ، فیتعیّن الآخر کما لایخفی ، وهذا أصل مثبت فلا یکون حجّة .

لأنّه نقول : لا نحتاج لإثبات طهارة هذا الماء الثالث ، من إثبات ملاقاته مع الطرف الآخر ، حتّی یقال إنّه أصل مثبت لکونه لازماً عقلیّاً لذلک الأصل ، بل یکفی فی الحکم بطهارته إثبات عدم ملاقاته مع النجس المسری ، سواء کان إحرازه بالوجدان _ کما فی غیر ما نحن فیه _ أو بالأصل کما فی المقام ، حیث یکون الأصل عدم ملاقاته معه ، فیکون محکوماً بالطهارة .

هذا ، ولکن الإشکال کان فیه من جهة اُخری ، وهو کون الأصل الجاری فی طرف غسالة النجس معارضاً مع أصل عدم الملاقاة لماء الاستنجاء أیضاً ، لأنّ ع

ص:398

دم الملاقاة کان ثابتاً علیه أیضاً قبل ذلک ، فتجری أصالة العدم فی کلّ منهما ، فیوجب التعارض بینهما فیتساقطان ، فالمرجع حینئذٍ یکون قاعدة الطهارة ، لقوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» واستصحابها .

ولعلّ وجه حکم السیّد قدس سره بالطهارة فی الغسالة المشکوکة هو ما ذکرنا ، وأراد بالفرع هذا القسم أیضاً ، وکان وجه احتیاطه من جهة ما قد ذکر فی بعض تعلیقات «العروة» ، من أنّ ملاقاة الماء مع النجاسة کان قطعیّاً ، فأدلّة انفعال الماء القلیل یشمله بعمومها ، إلاّ ما خرج عنه بواسطة إحراز عنوان الاستنجاء ، کما ورد فی الدلیل ، فحیث لم یُحرز الاستنجاء هنا ، فیحکم بالنجاسة ، لأنّ أصل الملاقاة کان بالوجدان ، وکونه غیر الاستنجاء یکون بناءً علی أصالة العدم ، لأنّه کان قبل ذلک غیر مستنجی به ، فنشکّ فی تحقّقه بالملاقاة ، فالأصل عدمه ، فیوجب الحکم بنجاسته ، لأنّ العام بعد التخصیص یکون من باب سلب الخاص ، یعنی بعد تخصیص (أکرم العلماء) ب_ (لا تکرم الفسّاق) یصیر متعلّق وجوب الإکرام العالم الذی لیس بفاسق ، لا العالم العادل أی العالم المتّصف بکونه غیر فاسق .

وهذا هو الذی ذهب إلیه أغلب المحشّین علی «العروة» ، وإن سلک بعض للحکم بالنجاسة مسالک اُخر ، کما عن الشیخ الأکبر قدس سره فی باب مشکوک الکریة ، حیث استدلّ بوجود المقتضی وفقد المانع ، وبما أنّه لم نحرز المانع نحکم بالنجاسة .

وکما عن المحقّق النائینی قدس سره من أنّ الترخیص الواقع علی العنوان وجودی أو العدمی الخارج عن عموم العام ، لابدّ من إحرازه ، فما دام لم یُحرز یکون المرجع عموم العام ، فیحکم هاهنا بالنجاسة أیضاً .

وکما عن السیّد صاحب «العروة» ، حیث جوّز التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة للمخصّص ، حیث یکون لازم مسلکه هنا هو الحکم بالنجاسة جزماً لا احتیاطاً . فیالغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات

ص:399

فهذه أقسام متصوّرة للحکم بالنجاسة للماء المشکوک .

ومن أنکر تعنون العام لعنوان من العناوین سواء کان وجودیّاً أو عدمیّاً ، وذهب إلی أنّ العام بعد التخصیص یصیر قسماً آخر غیر الخاصّ ، کما کان الخاص کذلک ، فحینئذٍ یکون الفرد المشکوک مردّداً فیما بین الفردین ، ولا یمکن الأخذ بأحدهما للتعارض بالآخر ، ومن اعتمد علی هذا علیه الرجوع أمّا إلی استصحاب الطهارة الموجودة قبل الملاقاة ، أو إلی قاعدة الطهارة .

وهذا هو الذی ذهب إلیه المحقّق الحلّی فی «دلیل العروة» ، وکلّ من أفتی بالطهارة فی تعلیقته علی «العروة» علی احتمال .

ولکن الذی یساعد علیه نظرنا فعلاً من جهة ملاحظة فهم العرف ، هو اختیار الوجه الأوّل من وجوه النجاسة ، کما علیه المحقّق الحکیم والآملی والخوئی ، وکلّ من اختار هذا المسلک فی العام المخصّص .

فالأولی هو الحکم بالنجاسة ، فلا یبقی مع وجود دلیل اجتهادی دال علی النجس ، مجال لجریان الاستصحاب والقاعدة الحاکمین بالطهارة .

وثالثة : یفرض الشکّ فی طهارة الغسالة ، من جهة أنّه لم یعلم هل تحقّق بصورة الاستنجاء أم لا ؟

کما لو فرض مثلاً عدم صدق الاستنجاء علی الماء المستعمل فی البول ، فیشکّ حینئذٍ فی الماء المستعمل واغسالة ، وهل هو غسالة البول حتّی یکون نجساً ، أو الغائط فیکون طاهراً ؟

فالکلام فیه من حیث الحکم یکون مثل الکلام فی سابقه ، إذ ملاقاته مع النجاسة قطعی بالوجدان ، وکونه مستعملاً فی الاستنجاء مشکوک ، فالأصل عدمه ، فیتحقّق العنوان المرکّب المتعلّق للحکم بالنجس ، أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل ، والأصل العدمی هنا لا نقصد به الأصل العدم الأزلی

ص:400

فی حکم الماء المستعمل فی الوضوء

(فی حکم ماء المستعمل فی الوضوء)

والمستعمل فی الوضوء طاهر ومطهّر (1).

_ کنفی قرشیّة المرأة حتّی یناقش فی موضوعه _ بل هو أصل عدمی نعتی بمفاد کان الناقصة ، لوجود الماء فی زمان لم یکن مستعملاً أصلاً ، فالآن یشکّ فی وجوده مستعملاً فی الاستنجاء ، فالأصل عدمه ، فیحکم بالنجاسة حینئذٍ .

ولعلّ هذا هو المراد من نصّ کلام «العروة» ، إذ عبارته قابلة للحمل علی أحد المحملین الآخرین ، کما لا یخفی علی المتأمِّل البارع .

هذا علی القول بالطهارة لماء الاستنجاء .

وأمّا علی القول بنجاسته ، وکونه معفوّاً ، فالحکم بنجاسته ، وعدم کونه معفوّاً عنه فی المشکوک یکون بطریق أولی ، لعدم جریان استصحاب الطهارة وقاعدتها حینئذٍ ، فالمسألة واضحة لا تحتاج إلی مزید بیان .

فالماء المشکوک بین کونه ماء الاستنجاء أو غیره محکومٌ بالنجاسة ظاهراً .

(1) اعلم أنّ الماء المستعمل علی أقسام :

تارةً : یکون مستعملاً فی رفع الخبث ، وقد عرفت حکمه فی قسمیه ، من النجاسة فی غسالة غیر الاستنجاء ، والطهارة فیه .

واُخری : یکون مستعملاً فی رفع الحدث .

وثالثة : یکون مستعملاً فی تحصیل الطهارة المعنویّة ، ولو بالنسبة ، من دون رفع للحدث .

ففی الأوّل: قد یکون رافعاً للحدث الأصغر فقط ، أو للأکبر فقط ، أو منضمّاً معاً.

وفی الثانی : قد یکون رافعاً لتکلیف وجوبی أو لتکلیف ندبی ، وقد یکون

ص:401

مبیحاً ، وقد لا یکون ، سواء کان بصورة الوضوء أو بصورة الغُسل .

فلا بأس بالإشارة إلی جمیع هذه الصور مع الإشارة إلی کلام المصنّف قدس سره ، فنقول : أمّا الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع لا انفراداً ولا منضمّاً ، _ کما سیأتی المراد منه إن شاء اللّه _ فلا إشکال فی أنّه طاهر ، وعلیه إجماع المسلمین کالوضوء التجدیدی والصوری ، أو الوضوء الندبی للغایات المستحبّة ، إذا لم نقل بکونه رافعاً للحدث .

بل وهکذا الماء المستعمل فی الأغسال المندوبة غیر الرافعة ، لدلالة أدلّة طهارة الماء بإطلاقها ما یصلح للحکم بطهارته ، وهو واضح .

وأمّا مطهّریته من الحدث الأصغر أو الأکبر أو الجنب ، فلولا وجود دلیل علی العدم ، کان مقتضی الإطلاقات الأوّلیة هو الجواز ، فلابدّ من إقامة دلیل علی الخلاف ولو علی الکراهة مثلاً .

وقد نسب للمفید قدس سره استحباب التنزّه عن الماء المستعمل فی الطهارة المندوبة من الغُسل والوضوء المندوبین ، بل المستعمل فی الغَسل (بالفتح) المستحبّ ، کما فی استحباب غسل الید لأکل الطعام .

هذا ، کما فی «التنقیح» ، بخلاف ما عن «الجواهر» نقلاً عن الشهید فی «الذکری» وعن المفید من استحباب التنزّه عن الماء ، فی خصوص المستعمل فی الوضوء ، من دون ذکر کونه رافعاً أو غیر رافع . فیحکم الماء المستعمل فیالوضوء

لکن ما نقل الشیخ الأعظم عن «المقنعة» موافق للسابق .

وکیف کان ، فقد أورد علیه الأصحاب بعدم الدلیل علی ما ادّعیاه کما فی «الجواهر» وغیره .

ونُقل عن شیخنا البهائی قدس سره فی «الحبل المتین» ردّه علی الأصحاب وإقامة الدلیل تأییداً للمفید قدس سره بقوله أنّه یکفی فی ذلک دلالة خبر محمّد بن علی بن

ص:402

جعفر ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام فی حدیثٍ ، قال : «من اغتسل فیه فأصابه الجذام ، فلا یلومنّ إلاّ نفسه»(1) .

فإنّ إطلاق الغُسل یشمل الواجب والمندوب .

ثمّ قال الشیخ البهائی : والعجب من الأصحاب کیف لم یلتفتوا ولم ینتبهوا لهذا الحدیث .

وأجابه صاحب «الحدائق» : بأنّ ذیل الحدیث قرینة علی کون المراد من ماء الغُسل فی الصدر هو ماء الحمّام ، إذ ورد فی ذیله قوله :

فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاء من العین ؟

فقال : کذبوا ، یغتسل فیه الجنب من الحرام ، والزانی ، والناصب الذی هو شرّهما وکلّ مَنْ خلق اللّه ، ثمّ یکون فیه شفاء من العین ؟

ثمّ طعن رحمه الله علیه ، وقال : هذا من الآفات الحاصلة والناتجة من تقطیع الأحادیث والتفریق بین أجزاء الحدیث الواحد ، انتهی محصّل کلامه .

وفی «التنقیح» : أنّه یمکن دعوی عدم منافاة ذیله بکونه حکماً مستقلاًّ لا یضرّ بإطلاق الصدر ، فیدلّ علی الحکم ، أعمّ من کونه ماء حمّام مثلاً أو غیره ، فیکون دلیلاً لقول المفید .

لکن یمکن أن یکون وجه ردّ الأصحاب بعدم الدلیل ، کون الخبر فی مقام إرشاد للناس إلی لزوم مراعاة حفظ الصحّة بالاحتراز عن الماء الذی یکون حاله کذلک من اغتسال الجنب وغیره من المذکورین فی الحدیث ، الموجب لحصول الأمراض عند عدم الاحتراز منه ، فیکون ذلک من قبیل الإرشاد إلی سائر الاُمور الواردة فی الأخبار الإرشادیة التی تترتّب الفائدة علی العمل بها مثل استحباب


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:403

الجلوس فی اللیل لشرب الماء وأمثال ذلک ، لا یکون الأمر ولا النهی فیها مولویّاً حتّی یکون مستحبّاً أو مکروهاً .

فثبت أنّ الحقّ مع الأصحاب ، القائلین بعدم الدلیل علی ما ذهب إلیه المفید قدس سره ، انتهی خلاصة کلامه .

هذا ، ولکن الإنصاف إمکان الاستفادة من مثل هذا الحدیث للدلالة علی استحباب التنزّه تبعاً للمفید ، _ علی ما فی «التنقیح» _ والشهید والشیخ البهائی بالتقریب الذی نذکره ، وهو أن یقال :

بعد ملاحظة ما هو المتعارف فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، حیث کانوا یغتسلون فی الماء القلیل الموجود فی الحیاض المتّصلة بالمادّة ، کما اُشیر إلیه فی عدد من الأخبار الواردة فی ماء الحمّام بقوله : «إذا کانت له مادّة» ، أنّه لیس المراد من قوله : «قد اغتسل فیه» الماء الکثیر الموجود فی الخزینة التی هی عبارة عن أحواض کبیرة کانوا یغتسلون فیها سابقاً .

فعلی هذا ، وإن کان مورد النهی المستفاد من الجملة الشرطیة ، هو خصوص الغسل لا الوضوء ، إلاّ أنّه یفهم من تعلیق الجزاء بقوله : «فأصابه الجذام» ، أنّ المقصود هو أفضلیة عدم الاستعمال وحُسن التحرّز عنه تنقیحاً للمناط .

فعلی هذا ، یصحّ دعوی شمول الإطلاق للغسل والوضوء حتّی الغسل (بالفتح) ، بلا فرق بین الواجب والمندوب .

فینضمّ إلیه بأنّ اختصاص ذیل الحدیث لماء الحمّام لا ینافی حکم صدره ، لکن لا لما ذکره الخوئی من کونهما حکمین مستقلّین ، بل من جهة أن یقال أنّه لا خصوصیة لماء الحمّام قطعاً إذ المقصود هو کون الماء مستعملاً بهذه الکیفیّة ، ولو کان کذلک فی خارج الحمّام .

نعم ، ذکر الحمّام کان من جهة وجود الشأنیة لذلک فی الحمّام دون غیره .

ص:404

فعلیه نقول : إنّ ما ادّعاه فی «التنقیح» من کون الحکم إرشادیاً لا مولویّاً ، ففی غایة البُعد ، إذ فیه :

أوّلاً : یلزم أن لا یکون لنا حکماً مستحبّاً أو مکروهاً ، فی کلّ مورد یحتمل أن یکون الأمر أو النهی فیه لمصلحة أو مفسدة دنیویة .

وثانیاً : أنّه لا إشکال فی کون جمیع أحکام الشرع أن یکون کذلک ، فإنّا لا نلمس أی منافاة بین کون الحکم مشتملاً علی المنافع الدنیویة وبرغم ذلک یکون مشتملاً علی المصالح الأخرویّة أیضاً ، من أمثال أمر المولی ونهیه ، وترتیب الثواب علیه .

فصدور مثل هذا الکلام من جنابه عجیب ، وأعجب منه إلحاق مثل شرب الماء فی اللیل قائماً وأمثال ذلک إلیه ، إذ بذلک یوجب تعطیل کثیر من أحکام المستحبّات والمکروهات .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم استبعاد الحکم باستحباب التنزّه لولا قیام الإجماع علی خلافه .

وحیث کان الحکم فی الکراهة والاستحباب أسهل من سائر الأحکام ، فحقیق أن یصرف الکلام عنه .

وظهر أنّ الأقوی هو الحکم باستحباب التنزّه مطلقاً ، لا فی خصوص الوضوء ، کما فی «الجواهر» ، وإن کان إثبات حکم الماء المستعمل فی الغُسل من هذا الحدیث ، مع وجود شبهة التعلیل فیه مشکل جدّاً ، مضافاً إلی إمکان إثبات الجواز _ فیما سیأتی _ للوضوء .

فالأقوی استحباب التنزّه عن الماء المستعمل فی الغُسل والغَسل فی الطهارة ، وأمّا إثباته فی المستعمل فی الوضوء ، فإنّه مشکل ، کما أنّ الحکم بکون الأحنس الاجتناب عنه أشکل .

ص:405

وأمّا القسم الثانی : وهو الماء المستعمل فی الوضوء الرافع للحدث بانفراده ، فلا إشکال فی طهارته ، بل هو ضروری المذهب ، خلافاً لأبی حنیفة _ حیث ذهب إلی نجاسته بنجاسة مغلظة ، حتّی أنّه منع الصلاة فی الثوب الذی أصابه بمقدار أکثر من الدرهم _ وأبی یوسف ، حیث یقول بنجاسته نجاسة خفیفة ، ولکن یجوز الصلاة فی الثوب المذکور .

ویدلّ علی طهارته الأصل ، والإجماع ، وإطلاقات الأدلّة الدالّة علی طهارة الماء حتّی بعد استعماله فی رفع الحدث ، کما تقتضی تلک الإطلاقات أیضاً مطهّریته عن الخبث والحدث من الأصغر والأکبر ، کما کان یقتضیه الأصل والإجماع .

بل قد یدلّ علیه ذیل روایة عبداللّه بن سنان ، مع إطلاق صدرها ، حیث تشمله قطعاً وهی عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل . . . إلی قوله : وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به ، فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذ غیره ویتوضّأ به»(1) .

وفی «الروائع الفقهیّة» : إنّ ظهور الصدر فی کون المراد من المستعمل ، هو کونه مستعملاً فی الوضوء بالخصوص لا بالإطلاق واضح ، لأنّ أمثال هذه الجملة ، مثل قوله : «لا تستنجی بالأحجار المستعملة ولا تتیمّم بالتراب المستعمل» ظاهرة فی الاستعمال فی الجهة المذکورة فی الکلام ، فهکذا یکون فی المقام ، فکأنّ المراد هو کونه مستعملاً فی الوضوء .

لا یخلو عن وجه فی الجملة ، إلاّ أنّه لا یساعد مع قوله التفصیل الذی یذکره الإمام علیه السلام من النهی عن المستعمل فی غَسل الثوب وغُسل الجنابة ، من جهة إبهام الإطلاق فیما وقع قبله ، لأنّه إذا فرض کونه ظاهراً فیه بالخصوص ، فلا وجه


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:406

للإیهام حینئذٍ أصلاً .

کما أنّ قوله وقول کلّ مَنْ قال بمقالته کالآملی والخوئی ، بأنّ ذیل الحدیث یدلّ علی الجواز لا یخلو عن مناقشة .

لأنّ الذیل محفوف بما یظهر منه کونه مستعملاً للغسل لا الوضوء الاصطلاحی ، وهو قوله : «یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف» فإنّ دلالته علی التطهیر بمعنی الغسل والتوضّی ء اللغوی أظهر . خصوصاً إذا قلنا بکون النظافة کانت فی قبال القذارة والوساخة لا النجاسة ، کما احتملناه سابقاً .

لکن الإنصاف دلالة صدره بإطلاقه علی الجواز فی المقام ، أقوی عندنا ، خاصّة إذا لاحظنا ورود الخبر فی مقام الردّ علی العامّة حیث لا یجوّزون التوضّی بالماء المستعمل ، فیکون من باب ذکر الإطلاق وإرادة أحد أفراده ، لأنّه قد خرج عنه بالتنصیص ما یستعمل فی غسل الثوب تحریماً أو تنزیهاً ، کما احتملناه ، وهکذا فی غُسل الجنابة أیضاً کما عرفت .

وبعد تنصیصه بالجواز فی خصوص الغسل مع النظافة یبقی الفرد الباقی تحت الإطلاق وهو الوضوء فقط ، فالحدیث بحسب صدره دالّ علی ما ذکره السیّد الاصفهانی قدس سره ، وهو الأقوی .

وقد استدلّ لذلک أیضاً بصحیح زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «کان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أخذ ما یسقط من وضوءه فیتوضّؤون به»(1) .

بل ذهب النراقی فی «مستند الشیعة» إلی اختیار استحباب التوضّی ء بالماء المستعمل فی الوضوء ، تمسّکاً بهذا الحدیث .

ولکن یرد علیه باختصاص الحکم به دون غیره .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:407

والظاهر أنّ دلالته علی الجواز غیر بعیدة ، لأنّه إن کان أصل ذلک ممنوعاً کان من وظیفته علیه السلام البیان کما فعل روحی له الفداء فی غیر هذا المورد من النهی عمّا لا یکون جائزاً .

واحتمال اختصاص الجواز به صلی الله علیه و آله بعیدٌ للغایة ، لأنّ المقام کان یقتضی بیان عدمه فی غیره ، وتنبیه الناس به ، فعدم ذکره دلیلٌ علی الجواز ، کما لایخفی .

وأمّا استفادة الاستحباب من ذلک لغیره صلی الله علیه و آله غیر معلوم ، لو لم یکن معلوم العدم .

ثمّ ، لا یخفی علیک أنّ مضمون حدیث زرارة قد رواه الصدوق فی «الفقیه» وهو حدیث صحیح بشهادة الصدوق نفسه فی دیباجة کتابه بأنّه لا یروی فیها إلاّ عن ثقة ویعتمد علیها فی فتواه ، وإلیک نصّ الحدیث برقم 20 فی الصفحة الرابعة من «من لا یحضره الفقیه» أبواب المیاه ، هذا نصّه : «وسُئل أبو الحسن موسی بن جعفر علیهماالسلام عن مجتمع الماء فی الحمّام من غسالة الناس ، یصیب الثوب منه ؟ فقال : لا بأس به ، ولا بأس بالوضوء بالمستعمل ، وکان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أخذ الناس ما یسقط من وضوءه فیتوضّؤا به» .

وهذا الحدیث مصدرٌ بجملة : (ولا بأس بالوضوء المستعمل) فإنّها تؤیّد بأنّ عمل الناس من أخذ ماء وَضوء النبیّ صلی الله علیه و آله لم یکن مختصّاً به فقط ، لأنّه قد استشهد بهذه القضیة بقوله : «لا بأس . . .» .

مضافاً إلی کون الاستشهاد بقضیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله یفهم کون المراد من إطلاق قوله : «لا بأس بالوضوء بالمستعمل» هو المستعمل فی الوَضوء ، فیکون هذا الخبر قرینة علی خبر عبداللّه بن سنان فی إرادة هذا المعنی من تلک الفقرة ، واللّه العالم .

فإذا ثبت جواز رفع الخبث والحدث مطلقاً مع الماء المستعمل فی الوضوء الرافع ، فغیر الرافع منه یکون بطریق أولی .

فهذا هو السبب فی دعوانا الإشکال فی غیر الرافع ، ردّاً علی المفید والشهید

ص:408

فی «الذکری» فی خصوص الوضوء ، فلم یثبت لنا دلیل علی استحباب الترک أیضاً .

فالأقوی جواز استعمال الماء المستعمل فی الوضوء _ رافعاً کان أو غیره _ فی رفع الخبث والحدث الأصغر والأکبر ، بمقتضی دلالة الأدلّة .

ومن هنا یظهر حکم القسم الثالث وهو المستعمل فی الوضوء المنضمّ مع الغسل فی رفع الحدث ، کالوضوء فی غیر غُسل الجنابة من الحدث الأکبر من الحیض والنفاس والاستحاضة ، بناءً علی القول بکون الرافع هو الغسل والوضوء معاً ، لا انفراداً بالغسل فقط .

هذا مضافاً إلی إمکان الاستفادة من إطلاق أدلّة الجواز المذکورة آنفاً ، حیث یشمل لمثل ذلک .

بل إمکان دعوی الأولویّة الظنّیة إن لم تکن قطعیّة ، بأنّه إذا کان رافعاً للحدث بانفراده ، وبرغم ذلک لا مانع فیه عن استعماله ثانیاً ، فصورة الانضمام تکون بطریق أولی ، لکونه أضعف .

وإن أمکن الإشکال فیه ، من جهة کونه مستعملاً فیما کان الحدث فیه أکبر لا أصغر ، ولذلک یکون إحراز الأولویّة هاهنا صعب .

کما أنّه یمکن دعوی انصراف إطلاق الأدلّة الدالّة علی المنع ، عن المستعمل فی الحدث الأکبر الکذائی ، عن مثل هذا الوضوء ، وإن اعترف صاحب «الجواهر» فی کتابه «شرح النجاة» ونفی البعد عن شمول النزاع للمورد علی ما حُکی عنه ، لأنّ المفروض کون رفع الحدث الأکبر منوطاً بالغسل والوضوء .

بل یظهر عن الشیخ الأعظم ، دعوی الإجماع علی الجواز فی جمیع أقسام الوضوء فی کتاب «الطهارة» ، سواء کان رافعاً أم غیر رافع ، وسواء کان مع الانضمام أو الانفراد ، کما هو کذلک بحسب لسان الأدلّة کما عرفت ، فلا نعید .

ومن هنا ظهر جواز سائر أقسام الماء المستعمل فی الوضوء ، کما لو کان

ص:409

مستعملاً فی الوضوء المنذور ، أو المحلوف علیه ، أو غیره من المندوبات والواجبات ، لأنّ جمیعها التی تعدّ أهون من الوضوء تکون رافعة ، فإذا أجزنا فی المستعمل فیه لاستعماله ثانیاً فی رفع الخبث والحدث مطلقاً ، فغیره جائز قطعاً .

کما لا فرق فی الجواز بین أن یستعمله شخص المتوضّی ء ثانیاً ، أو غیره .

وتوهّم الفرق ، لاشتمال ذیل حدیث عبداللّه بن سنان علی قوله : «فلا بأس» الدالّ علی جواز أن یأخذ غیره فیتوضّأ به ، فلایشمل ما کان مستعملاً بنفسه ثانیاً ، مخدوش :

أوّلاً : بالقطع بعدم الفرق بینهما ، لعدم خصوصیّة لذلک فی الحکم ، وکان المقصود إفهام الحکم بحسب الغالب .

وثانیاً : أنّه مخالف للإجماع المرکّب ، لعدم وجود قول بالتفصیل أصلاً ، وهو واضح .

کما لا فرق فی الجواز أیضاً بین أن یستعمله فی رفع الحدث الأصغر أو الحدث الأکبر ، لما قد عرفت فی صدر المسألة بأنّ مقتضی إطلاقات الأدلّة هو الجواز ، إلاّ أن یقوم دلیل علی المنع ، فحیث لم یکن موجوداً فیعمل بتلک الإطلاقات .

فی طهارة الماء المستعمل فی الحدث الأکبر

وإنْ کانت الأدلّة المجوّزة الخاصّة ، من خبری ابن سنان وزرارة وغیرها ساکنة عن حکم استعماله فی الحدث الأکبر ، فضلاً عن وجود الإجماع علی الجواز ، إذ لم یعرف قائل بعدم الجواز ، مع إمکان دعوی صدق واجد الماء لمن کان یمتلک مثل هذا الماء المستعمل فی الوضوء ، وهو قادرٌ علی الاغتسال به فی الأغسال الواجبة مع ضیق الوقت ، فلابدّ له الغسل حینئذٍ ، والحکم بلزوم الاکتفاء بالتیمّم هنا مشکل جدّاً .

ولو جمع بین التیمّم والغسل کان أحسن وأوفق بالاحتیاط کما لایخفی .

هذا تمام الکلام فی الماء المستعمل فی الوضوء بأقسامه وأحکامه .

ص:410

وما استعمل فی الحدث الأکبر طاهر ، وهل یرفع به الحدث ثانیاً ؟ فیه تردّد ، والأحوط المنع (1).

وأمّا الماء المستعمل فی الحدث الأکبر وأحکامه فسیأتی البحث عنه فی المسألة القادمة .

(1) والبحث فیه یقع من جهات أربعة ، بل خمسة :

تارةً : فی أصل طهارته .

واُخری : فی مطهّریته من الخبث .

وثالثة : فی مطهّریته عن الحدث الأصغر .

ورابعة : فی مطهّریته عن الحدث الأکبر .

وخامسة : ویلحق بذلک بحثٌ فی جواز استعماله فی الأغسال والوضوءات غیر الرافعة وعدمه .

فی مطّهریة الماء المستعمل فی الحدث الاکبر عن الخبث

فلا بأس بالإشارة إلی کلّ واحد منهما علی حدة .

فأمّا الأوّل : فلا إشکال فی طهارته فیما لو کان بدن المغتسل طاهراً عن النجاسة النفسیّة والحکمیّة ، بلا فرق بین کون الغسل بنفسه رافعاً _ کما فی الجنابة _ أو مع الوضوء _ کما فیما عدا الجنابة من الأغسال فی الاحداث علی احتمال _ . وبلا فرق بین کون الماء کثیراً معتصماً ، _ کالکرّ والجاری والمطر _ أو قلیلاً .

ویدلّ علی طهارته اُمور :

الأوّل : الإجماع ، وهو بقسمیه قائم علیه ، ولا یعرف فیه خلاف أصلاً .

والثانی : الإطلاقات الواردة فی طهارة الماء ، حیث تشمل بإطلاقها لما بعد الاستعمال ، إذا لم یلاق نجساً ، واستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

والثالث : وجود استصحاب الطهارة أیضاً ، لو شکّ فی طهارته بعد الغسل ، لأنّه

ص:411

کان قبله طاهراً ، فیشکّ بالاستعمال فی نجاسته ، فمقتضی «لا تنقض» هو الحکم ببقاء طهارته .

والرابع : وجود قاعدة الطهارة بقوله : «کلّ شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه نجس» ، حیث یشمل المقام . هذا کلّه مع إمکان استفادة الطهارة من بعض الأخبار علی احتمال ، وإن لم یکن منعتبراً ، وهو کما فی الخبر المنقول فی «عوالی اللئالی» ، عن ابن عبّاس ، قال : «اغتسلَ بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ ، فأراد رسول اللّه أن یتوضّأ منها ، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنتُ جنبة ؟

فقال صلی الله علیه و آله : الماء لا یجنب»(1) .

الجفنة ، والجفان : قصاع کبار واحدها جفنة ، ککلاب وکلبة ، ویجمع أیضاً علی الجَفَنات (بالتحریک) ، کما فی «مجمع البحرین» .

ویستفاد من الخبر أنّها کانت قد اغتسلت من إناء کبیر .

واحتمال کون ماءه علی مقدار الکرّ بعید غایته ، بل کانت الجفنة مثل الأوانی المتعارفة استعمالها الآن والتی تسمّی بالفارسیة : (سطل ، ولگن) أو أکبر منها ، فیظهر منه طهارة الماء .

فالمسألة واضحة لا تحتاج إلی مزید بیان .

وأمّا الثانی : لاشکّ فی مطهّریته من الخبث ، إذ مضافاً إلی وجود الأصل من الاستصحاب ، حیث کان قبل الاستعمال مطهّراً عنه قطعاً ، فبعده کذلک ، لدلالة قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» فإنّه یدلّ علی ذلک إطلاقات الأدلّة الشاملة لمطهّریة الماء المطلق حتّی بعد استعماله فی الحدث الأکبر ، إلاّ ما ثبت وقام دلیل علی المنع ، وهو مفقود فی المقام .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، الحدیث 2 .

ص:412

وکذلک الإجماع بکلا قسمیه ، لو لم نعتبر ما نقله «الذکری» عن «الخلاف» خلافاً .

جاء فی «مصباح الهدی» : «جوّز الشیخ والمحقّق إزالة النجاسة به ، لطهارته ، ولبقاء قوّة إزالته الخبث ، وإن ذهبت قوّة رفع الحدث .

وقیل : لا ، لأنّ قوّته استوفیت فالتحق بالمضاف» ، انتهی کلامه .

وقد تمسّک بعض المتأخّرین بهذه الجملة وجعلها مدرکاً للاعتراض علی مثل صاحب «الحدائق» والعلاّمة وفخر المحقّقین ، حیث ادّعوا الإجماع ونفی الخلاف فیه .

فی الوضوء بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر

وإنْ تفطّن صاحب «المعالم» إلی ذلک وصرّح بکلام لا یبعد قوّته ، بأن یکون المقصود هو بعض المخالفین الذین یساعد هذا التعلیل مع مذاقهم دون أصحابنا ، إذ الخاصّة لم یعتمدوا فی إثبات الأحکام علی هذه الأوهام .

فدعوی الإجماع قویّة جدّاً .

إلاّ أنّه یظهر من کلام بعض الفقهاء ، مثل المفید فی «المقنعة» ، علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة»(1) :

ولا ینبغی أن یرتمس الجنب فی الماء الراکد ، فإنّه إنْ کان قلیلاً أفسده ، ولم یطهر ، وإن کان کثیراً خالف السنّة بالاغتسال فیه ، ولا بأس بارتماسه فی الماء الجاری واغتساله فیه) انتهی .

ونجاسة الماء القلیل باستعماله فی الاغتسال محتملٌ ، لإمکان أن یکون مقصوده صورة نجاسة بدنه ، کما هو الغالب ، خصوصاً فی مثل تلک الأزمنة ، فلا یکون حینئذٍ مخالفاً .

وکذلک فی کلام ابن حمزة فی «الوسیلة» والشیخ فی «المبسوط» فی الماء


1- کتاب الطهارة : ص58 .

ص:413

المستعمل إذا تمّ کرّاً ، معلّلاً فی رفع المنع _ خصوصاً فی «المبسوط» _ بأنّه لا یحمل خبثاً .

هذا علی ما نقله الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» .

مع احتمال أن یکون المراد من المستعمل ، هو المستعمل فی الخبث لا مطلقاً ، حتّی یشمل مثل ما نحن فیه .

وکیف کان ، فما ذهب إلیه الأکثر من دعوی الإجماع فی المقام قویٌّ ، لعدم دلیل یمنع عن ذلک ، إلاّ إمکان الاستفادة من خبر عبداللّه بن سنان(1) ، من النهی عن التوضّی بالماء الذی یغتسل به الرجل من الجنابة ، علی أن یکون المراد هو مطلق التطهیر ، لإطلاق التوضّی ء علی ماء الاستنجاء کثیراً ، وعدم ثبوت حقیقة شرعیّة فی غیر لفظ (الوضوء) من سائر مشتقّاته ، علی ما نقله الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» ، فإنّه رحمه الله وإن ناقش فیه بأنّ الإنصاف مع ملاحظة صدرها وذیلها کونه مستعملاً فی غیر رفع الخبث .

إلاّ أنّا نقول : قد نضیف إلی ما ذکره قدس سره من إمکان کونه بلحاظ نجاسته ، لما قد عرفت من کون الغالب فی ذلک العصر هو نجاسة أبدانهم من الجنابة ، بل لعلّه کذلک فی زماننا أیضاً ، کما لایخفی .

وکیف کان ، فدعوی عدم التردید فی مطهّریته من الخبث ثابت ، واللّه العالم .

وأمّا الکلام فی القسم الثالث : فی أنّ المستعمل فی الحدث الأکبر هل یجوز استعماله فی رفع الحدث الأصغر أم لا ؟

ولا یخفی علیک أنّ الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین ، لم یفصّلوا بینهما فی الجواز والمنع والتردّد وغیرها ، وإن کان مقتضی استدلال بعضهم _ کالآملی _


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:414

هو التفصیل ، من الجواز فی الغسل دون الوضوء ، لکنّه قد استوحش فی مقام الاختیار والفتوی من بیان التفصیل .

فمع ذلک نذکر کلام ودلیل کلّ واحد منهم مستقلاًّ فی مقام الاستدلال ، حتّی یتّضح لنا الأمر فی هذه المسألة العویصة .

فنقول ومن اللّه الاستعانة :

والأقوال فی مسألة الوضوء ، علی ما حقّقناه أربعة :

قول : بالجواز وعلیه کثیر من الفقهاء ، من المتقدِّمین مثل صاحب «السرائر» والسیّد المرتضی ، وسلار ، وابن زهرة وابن سعید ، بل ومن المتوسّطین والمتأخّرین کما فی «القواعد» و«المنتهی» و«التحریر» و«المختلف» و«الذکری» و«المدارک» وإلیه ذهب الشهید الثانی ، وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» ، والشیخ الأعظم ، والسیّد فی «العروة» ، والخوئی ، والخمینی والحکیم ، والگلپایگانی وغیرهم .

وقول : بالمنع وعلیه من القدماء جمعٌ کبیر ، بل قیل إنّه المشهور بینهم کالمفید ، والشیخ الطوسی ، والصدوقین ، وابن حمزة وابن البرّاج من القدماء ، والنراقی ، والسیّد الاصفهانی ، والآملی ، والبروجردی ، والشاهرودی ، وغیرهم من المنع ، ولو من جهة مراعاة الاحتیاط الوجوبی ، فراجع کتبهم .

وقول ثالث : وهو التوقّف والتردّد ، مع تأیید المنع بالاحتیاط ، فهو کما عن المصنّف هنا وفی «المعتبر» .

وقول رابع : هو التفصیل بین صورة الاضطرار من الجواز ، والمنع فی غیره ، وهذا هو المنقول عن الشیخ قدس سره فی «المبسوط» .

إذا عرفت الأقوال فی المسألة ، فالبحث فیها یکون :

تارةً : من جهة مقتضی الأصل العملی ، المسمّی بالدلیل الفقاهتی .

ص:415

واُخری : من جهة مقتضی الدلیل الاجتهادی .

فالأوّل : لا إشکال فی کون مقتضی الأصل _ وهو الاستصحاب _ مطهّریته من الحدث الأصغر ، لأنّه مقتضی الحکم بالإبقاء لما بعد استعماله فی رفع الحدث الأکبر ، بدلیل قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» ، فیحکم بحصول الطهارة فیه .

فإن قلت : بعد التوضّی ء بمثل هذا الماء ، یشکّ فی أنّه هل ارتفع به الحدث أم لا ؟ فمقتضی استصحاب بقاء الحدث هو الحکم بالبقاء .

قلت : إنّ هذا الأصل محکوم بالاستصحاب الأوّل ، لأنّ الشکّ فی بقاء الحدث بعد التوضّی ء کان مسبّباً عن الشکّ فی جواز استعمال ذلک الماء ، فإذا حکم بجوازه بمقتضی الاستصحاب ، فیرتفع بذلک الشکّ فی بقاء الحدث لکونه مسبّباً عنه ، والأصل الجاری فی السبب رافعٌ للشکّ الموجود فی المسبّب .

هذا فضلاً عن وجود الإطلاقات الدالّة علی الجواز ، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه مفصّلاً .

فحیث قد عرفت أنّ مقتضی القاعدة الأوّلیة من الإطلاقات والأصل هو الجواز ، مضافاً إلی وجود دلیل خاصّ علیه أیضاً ، فلابدّ من تجسّس دلیل المنع ، فإن ثبت ذلک ، فبواسطته یخصّص عموم الأدلّة المجوّزة عموماً ، ویعارض الأدلّة الخاصّة خصوصاً ، وإلاّ فإنّ القاعدة تقتضی الحکم بمقتضی أدلّة الجواز ، کما لایخفی .

فالمانعون قد استدلّوا علی ذلک بخبر عبداللّه بن سنان ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل ، وقال : الماء الذی یغسل به الثوب ، أو یغتسل به الرجل من الجنابة ، لا یجوز أن یتوضّأ منه ، وأشباهه ، وأمّا الذی یتوضّأ به الرجل فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:416

فالخبر صریح فی دلالته علی منع الوضوء من جهة النهی بقوله : «لا یجوز أن یتوضّأ منه» .

وقد أورد علیه بإیرادات عدیدة وهی :

أوّلاً : من المناقضة بین صدره وذیله ، لأنّه بصدره أجاز التوضّی ء بالماء المستعمل مطلقاً ، فیشمل مثل هذا الماء أیضاً ، وذیله ینفیه .

وثانیاً : یمکن أن یکون المنع عن التوضّی ء بالماء المستعمل فی الجنابة ، من جهة نجاسة البدن ، الموجب لتنجّس الماء ، لا لکونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، حتّی یدلّ علی المنع المفروض فی المسألة .

وثالثاً : یحتمل کون النهی من جهة أنّه یمکن أن یکون القول بذلک بقرینة غسل الثوب ، حیث لا یکون غالباً نجساً ، فمع ذلک نهی عن التوضّی ء بغسالته المستعملة فی إزالة القذارة والأوساخ ، فیکون المراد من المستعمل فی الجنابة غیر النجس ، فیکون دالاًّ علی الکراهة لا الحرمة ، حتّی یستفاد منه المنع .

ورابعاً : بأنّ الحکم بالمنع عن التوضّی ء بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر موافق للعامّة ، بخلاف القول بالجواز ، فکأنّه یحتمل أن یکون وارداً مورد التقیة ، کما فی «الجواهر» .

هذا کلّه فی دلالة الحدیث .

کما أنّه یرد علیه أیضاً من جهة سنده لوجود أحمد بن هلال العبرتائی فیه ، وهو مرمی تارةً بالغلوّ ، وبالنصب اُخری ، بل علی قول الشیخ الأعظم فی «الطهارة» : بأنّ البُعد بین المذهبین یشهد بأنّه لا مذهب له أصلاً .

بل نقل عن سعد بن عبداللّه قوله : إنّا ما رأینا ولا سمعنا بمتشیّع رجع من تشیّعه إلی النصب إلاّ أحمد بن هلال .

بل ورد فی شأنه عن مولانا العسکری علیه السلام طعناً شدیداً ، فلا بأس بذکر

ص:417

الحدیث مفصّلاً علی ما فی «تنقیح المقال»(1) للممقانی ، نقلاً عن «رجال الکشی» فیما نقله عن القاسم بن العلاء ، أنّه خرج إلیه : «قد کان أمرنا نفذ إلیک فی المقفع بن هلال ، لا رحمه اللّه بما قد علمت ، لم یزل _ لا غفر اللّه له ذنبه ، ولا أقاله عثرته _ یداخل فی أمرنا بلا إذن منّا ، ولا رضی ، یستبدّ برأیه ، فیتحامی من ذنوب لا یمضی من أمرنا إیّاه إلاّ بما یهواه ویرید ، أرداه اللّه بذلک فی نار جهنّم ، فبصرنا علیه حتّی بتر اللّه بدعوتنا عمره ، وکنّا قد عرّفنا خبره قوماً من موالینا فی أیّامه لا رحمه اللّه ، وأمرناهم بإلقاء ذلک إلی الخاصّ من موالینا ، ونحن نبرأ إلی اللّه من ابن هلال لا رحمه اللّه ومن لا یبرأ منه ، واعلم الإسحاقی سلّمه اللّه وأهل بیته بما أعلمناک من حال هذا العاصی» ، انتهی موضع الحاجة» .

وأمّا الجواب عنها : فنبدأ أوّلاً بجواب الإشکال عن سنده ، فنقول :

إنّ ورود الطعن من العسکری علیه السلام فی حقّه مقبولٌ ، إلاّ أنّه لا یضرّ فی صحّة ما نقل عنه قبل إعوجاجه وانحرافه ، لاسیما مع ملاحظة نقل القمّیین مثل الصدوقین وابن الولید وسعد بن عبداللّه عنه ، مع کثرة تتبّعهم وشدّة احتیاطهم فی حال الرواة والنقل عنهم .

ولیس المقصود من ذلک وثاقة الرجل من جمیع الجهات ، بل المقصود أنّه إذا نقل الحدیث عن مثل هذا الرجل یفهم أنّه کان موثّقاً عندهم ، سواء کان هذا الاطمئنان حاصلاً لهم من وثاقته أو من القرائن الخارجیّة أو المحفوفة ، خصوصاً إذا کان منقولاً عن طریق الحسن بن محبوب ، حیث حُکی عن ابن الغضائری _ الطاعن فی کثیر من یطمئن علیه غیره _ أنّ الأصحاب لم یعتمدوا روایته إلاّ ما یرویه عن «مشیخة» ابن محبوب و«نوادر» ابن أبی عمیر ، حتّی أنّه قد حُکی عن


1- تنقیح المقال : 1 / 99 .

ص:418

السیّد میرداماد أنّ ما یرویه ابن هلال عن الکتابین کان ملحقاً بالصحاح ، بل کان الشیخ الأنصاری قدس سره أیضاً فیمن یقول بأنّ لروایته قرائن تکاد تلحقها بالصحاح .

بل عن الوحید البهبهانی فی «الحاشیة علی المدارک» الاعتماد علیه .

فیما أشکل المحقّق الخوئی فیه ، وبسط الکلام ، وأتعب نفسه فی ذلک ، لکن فی غیر محلّه ، لأنّه فضلاً عن رجوعه عمّا قاله أوّلاً من التضعیف ، کما نقل ذلک مقرّره فی ذیل «التنقیح» لوجود أحمد بن هلال فی سلسلة «کامل الزیارات» وغیر ذلک من المرجّحات ، التی کانت عنده مقبولة ، وقبول أکثر المتأخِّرین ذلک الخبر ، واعتمادهم علیه فی فتاواهم بالإفتاء ببعض مضامینه ، فلا یبقی حینئذٍ للشکّ والتردید فی اعتبار السند مجال .

فما ذکره بعضٌ کالمحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی» ومن تبعهما ، من الطعن فی سنده لا یعتنی به .

فالحدیث من حیث السند متلقاة بالقبول والاعتبار ، وقابل للتمسّک به فی مقام الاستدلال والاختیار .

وأمّا الجواب عن الإشکال فی دلالته : فأمّا عن المناقضة بین الصدر والذیل ، فلما عرفت أنّ المراد من (المستعمل) فی الصدر إمّا أن یکون خصوص الوضوء ، کما علیه السیّد فی «الروائع الفقهیّة» ، فیکون نفی البأس لخصوص المستعمل فی الوضوء ، والبأس فی الذیل للمستعمل فی الغَسل فلا مزاحمة بینهما حتّی یکون متناقضاً .

وأمّا أن یکون مطلقاً ، إلاّ أنّه أراد خصوص الوضوء بإخراج أفراده فرداً فرداً ، فیبقی المستعمل فی الوضوء تحت عموم نفی البأس ، والمستعمل فی الغَسل (بالفتح) فی (الشیء النظیف) المذکور بالخصوص فی ذیله ، والبأس یکون متعلِّقاً بالفردین ، وهما المستعمل فی غَسل الثوب وغُسل الجنابة ، فلا مناقضة فیه أیضاً .

ص:419

فالإشکال مندفع جدّاً .

کما أنّ الإشکال بأنّه موافق للعامّة _ الواقع فی رابع الإشکالات _ غیر وارد ، لأنّهم یقولون بالمنع فی جمیع أفسام الاستعمال ، خصوصاً فی الوضوء ، بخلاف ما هو مضمون الحدیث ، حیث یکون المنع فی خصوص ما استعمل فی رفع الخبث والحدث الأکبر ، ولم یعهد هذا القول من أحد من العامّة .

فأصالة الجهة جاریة هنا ، یعنی أنّ الأصل یقتضی عدم کونه صادراً علی نحو التقیّة ، حتّی لا یکون حجّة ، کما لایخفی .

فبقی من الإشکالات الأربعة إشکالان :

أحدهما : کون النهی بلحاظ نجاسة الماء ، لملاقاته مع نجاسة البدن غالباً ، فلایکون النهی حینئذٍ من حیث کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر .

فأُجیب عنه : بأنّه وإن کانت الغلبة نجاسة البدن ، إلاّ أنّ الظاهر کون الحکم هنا حیثیّاً ، أی یکون النهی من حیث أنّه مستعمل فی الحدث الأکبر ، وهذا لا ینافی انضمام جهة اُخری ، مثل کونه ملاقیاً مع النجاسة أیضاً ، ومستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، فیکون النهی مطلقاً وإن لم یکن منضمّاً إلی هاتین الجهتین .

مضافاً إلی کونه معطوفاً بما استعمل فی غَسل الثوب ، الذی کان المفروض فیه النجاسة ، فلو کان المقصود فی المعطوف علیه ، هو فرض النجاسة أیضاً ، للزم أن یکون العطف عطفاً تفسیریّاً من باب عطف الخاص علی العام ، وهو بعید غایة البُعد ، کما فی «مصباح الهدی»(1) .

ونحن نزید علی الجواب عن الإشکال : بأنّه لو سلّمنا کون المفروض فی غسل الثوب کونه نجساً ، مع إمکان الإشکال فیه کما سیأتی ، لکنّه لا نُسلّم کون


1- مصباح الهدی : ص200 .

ص:420

الغالب فی الجنب النجاسة ، لأنّه من الواضح أنّه قل ما یتّفق بأن یغتسل الرجل من الجنابة مع اتّحاد غُسله مع غسله للنجاسة من حیث إجراء الماء ، بل کثیراً ما یبدأ المجنب أوّلاً بغسل العورة والبدن عن النجاسة ، ثمّ یغتسل للجنابة ، کما یشهد لذلک ما وقع فی بعض الأخبار من الحکم بغسل الفرج مع الماء مستقلاًّ ثمّ الغُسل للجنابة ، وکما ورد فیی خبر محمّد بن مسلم(1) ، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن غُسل الجنابة ؟ فقال : تبدأ بکفّیک فغتسلهما ، ثمّ تغسل فرجک ، ثمّ تصبّ علی رأسک ثلاثاً ، ثمّ تصبّ علی سائر جسدک مرّتین ، فما جری علیه الماء فقد طَهُر» .

وخبر زرارة ، قال : «قلت : کیف یغتسل الجنب ؟ فقال : إنْ لم یکن أصاب کفّه شیء غمسها فی الماء ، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ، ثمّ صبّ علی رأسه ثلاث أکف» الحدیث(2) .

وغیر ذلک من أخبار هذا الباب .

فالغلبة المذکورة فی کلام أکثرهم ممنوعة جدّاً ، خصوصاً مع ملاحظة قلّة الماء ، حیث ربما یوجب انفعال الماء قطعاً ، فإیجاد الغَسل والغُسل مع هذا الماء دفعة واحدة یکون فی غایة الإشکال .

ولو سلّمناه فإنّه یکون فی مثل الماء المتّصل بالکرّ کما فی الأنابیب المتداولة فی زماننا . فعلیه یعلم أنّ النهی عن التوضّی ء بذلک ، لا یکون إلاّ من جهة کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر کما لا یخفی ، فیکون هذا دلیلاً للمانعین .

وأمّا مع تسلیم کون الغالب من استعمال الماء فی غُسل الجنابة هو نجاسة بدنهم ، وقلنا بکون الغسالة فی رفع الخبث نجساً _ کما علیه الأکثر ، ونحن أیضاً


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:421

قد اخترناه سابقاً _ فحینئذٍ یمکن أن یکون النهی فی الفقرة الثانیة من جهة إفهام السائل بأنّ المستعمل فی رفع الخبث یعدّ نجساً .

وکذلک یمکن أن یکون الإفهام أنّ الاستعمال فی رفع الحدث الأکبر مانع عن استعماله فی الوضوء .

فلا إشکال حینئذٍ فی کون الثانی أولی ، فراراً عن لغویة تکرار الحکم ، إذا فرض کون الثوب أیضاً نجساً ، ولعدم خصوصیّة لغسل الجنابة حینئذٍ فی الذکر بالخصوص .

هذا بخلاف ما لو قلنا بالاحتمال الثانی ، فإنّه یکون حینئذٍ حکماً مستقلاًّ غیر ما ذکره فی الثوب ، إذ الخبر فی هاتین الفقرتین حینئذٍ یکون مشتملاً علی حکمین ، وهما عدم جواز التوضّی ء من المستعمل فی النجاسة ، المفهوم من الفقرة الاُولی ، وعدم جواز التوضّی ء فی المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

ومن هنا ظهر فساد کلام الآملی من أنّه لو کان المقصود من النهی باعتبار نجاسة البدن للزم أن یکون العطف من باب عطف الخاص علی العام ، وذلک لأنّه لا عموم فی الأوّل حتّی یکون الثانی بالنسبة إلیه خاصّاً ، بل یکون من باب عطف فرد علی فرد آخر ، وهو غیر وجیه للفصیح ، لاسیما من مثل الإمام روحی له الفداء ، الذی یعدّ إمام الفصحاء ، إلاّ فی بعض الموارد لوجود مصلحة فی تکراره أو لأجل التمثیل ، کما لا یخفی .

وثانیهما : کون النهی فیه تنزیهیّاً ، بقرینة غَسل الثوب ، لعدم کونه غالباً نجساً ، فیکون النهی عن التوضّی ء بما استعمل فیه لکونه مستعملاً فی إزالة الأوساخ والقذارات ، فیکون حینئذٍ هو قرینة علی کون النهی عن التوضّی ء فی الماء المستعمل فی غسل الجنابة أیضاً تنزیهیّاً ، فیساعد ذلک ما عرفت من عدم غلبة نجاسة بدن الجنب حین الاغتسال ، فلا ینافی ذلک کون التوضّی ء عن الماء

ص:422

المستعمل فی کلا قسمیه مع نجاستهما غیر جائز ، لثبوت النجاسة فیه أیضاً .

بل قد یؤیّد هذا الاحتمال ما وقع فی آخر الحدیث _ من تجویز التوضی ء فی ماء یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف _ بما قد عرفت منّا سابقاً بقرینة تصریح الغسل بالخصوص فی الوجه والید ، مع کفایة فهم ذلک من لفظ (التوضی) ، لو کان المقصود منه هو الوضوء الاصطلاحی ، وإضافته إلی لفظ (النظافة) کون المراد هو مطلق التطهیر والتنظیف ، أی یجوز الوضوء بماء استعمل فی شیء نظیف ، أی لا کراهة فیه کما کانت فی سابقیه .

فعلی هذا التقدیر لا یکون الحدیث حینئذٍ دلیلاً للمانعین ، لأنّهم أرادوا إثبات المنع بمعنی عدم الجواز لا الکراهة .

هذا ، ولکنّه قد نوقش فیه _ کما فی «مصباح الهدی» ، و«المستمسک» و«مصباح الفقیه» بأنّ هذا الاحتمال ضعیف للغایة ، إذ لیس علیه دلیل أصلاً ، مع ظهور قوله : «الماء الذی یغسل به الثوب» ، فی کون غسله لإزالة خبثه ، کیف ولو جاز حمله علی الغسل لإزالة الأوساخ من غیر دلیل ، فلیحمل علی الغسل وإن لم یکن عن وسخ ، فلا یبقی معه محلٌّ للحمل علی الکراهة .

وهذا الحمل أوفق من حیث الجمود علی ظاهر اللفظ ، إذ لیس فیه ما یوجب الحمل علی إزالة الوسخ ، انتهی کلامه فی «مصباح الهدی»(1) .

ولکن الإنصاف عدم تمامیة هذه المناقشة ، لأنّ الدلیل هو ما عرفت من عدم وجود الغلبة فی نجاسة الثوب فی الخارج ، فحمله علی خصوص النجس منه لا یخلو عن بشاعة ، لکونه فرداً نادراً بالنسبة إلی سائر أفراد الثیاب القذرة ، کما لایخفی .

وأمّا جعل الحمل علی مطلق الغسل _ ولو من غیر وسخ _ أوفق وأولی ، حتّی


1- مصباح الهدی : ص199 .

ص:423

لا یکون النهی تنزیهیّاً فغیر وجیه ، لأنّ المناسبة بین الحکم والموضوع یوجب کون النهی حینئذٍ لوجود خصوصیّة فی الماء المستعمل عند العرف حیث ینهاه .

وأمّا فیما لم یکن فیه شیء أصلاً ، کما لو کان الثوب طاهراً أو نظیفاً ، وبرغم ذلک ینهی عنه ، فإنّه مضافاً لعدم مساعدته مع ما هو المذکور فی الذیل ، بإلقاء الخصوصیّة عن الوجه والید ، والشیء الذی هو کنایة عن الإناء أنّه لا یکون عند العرف والعقلاء فی استعماله نفرة حتّی یستلزم النهی عنه ولو تنزیهیّاً ، فأیّ خصوصیّة أجود وأحسن من ذلک! .

ولکن الحقّ الذی ینبغی أن لا نغفل عنه ، هو أنّ حمل النهی فی قوله : «لایجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه» علی النهی الکراهتی هنا بعید غایته ، وإن لم یکن کذلک فی بعض الموارد ، وذلک لأنّ حمل النهی علی الکراهة فی سائر الموارد ، یکون بالتصرّف فی ظهور الهیئة وصرفها عمّا هو الظاهر فیها ، وهی الحرمة ، وهذا بخلاف ما نحن فیه ، حیث أنّ مادّة الجواز إذا وقع عقیب النهی ، یکون ظهوره فی الحرمة أقوی ، فحمله علی الکراهة بعید جدّاً ، فعلی هذا لابدّ من الحمل علی أحد أمرین :

إمّا القول بحرمة التوضّی ء من الماء المستعمل فی غسل الثوب الوسخ غیر النجس ، وفی غُسل الجنابة من دون نجاسة البدن أیضاً .

وأمّا القول بالحرمة فیهما مع فرض نجاستهما .

فحیث کان الحکم بالحرمة فی الاحتمال الأوّل فی المستعمل فی الثوب خلاف الإجماع ، وإن لم یکن فی الثانی کذلک ، إلاّ أنّ القول به لا یساعد مع وحدة السیاق ، فلابدّ من حمله علی الاحتمال الثانی ، حیث لا یکون حینئذٍ خلاف الإجماع لوجود القائل به ، بل ادّعی الإجماع علی عدم جواز التوضّی ء من الماء المتنجّس ، إنْ قلنا بنجاسة الغسالة .

ص:424

وهکذا لا یکون خلاف فی التوضّی ء بالماء المستعمل فی رفع الخبث .

فتعیّن الحمل علی الاحتمال الثانی حیث یوجب حفظ النهی فی ظهوره وهو الحرمة ، وإن کان هذا الحمل بعید أیضاً ، من جهة قلّة مورد نجاسة الثوب والبدن ، فلذلک تری أنّ کثیراً من الفقهاء لم یقیموا علی فتواهم بالمنع دلیلاً یوجب الاطمئنان علی الفتوی بالمنع أو الجواز جزماً ، کما لا یخفی .

نعم ، قد یمکن الاستدلال علی جواز الوضوء بالماء المستعمل بخبر الوارد فی «عوالی اللئالی»(1) ، عن ابن عبّاس ، قال : «اغتسل بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ ، فأراد رسول اللّه أن یتوضّأ منها ، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنت جنباً .

فقال صلی الله علیه و آله : إنّ الماء لا یجنب» .

والظاهر أنّ اغتسال بعض أزواج النبی کان فی داخل الجفنة ، وهی القصعة الکبیرة ، لا أخذ الماء منها والاغتسال فی خارجها ، کما یؤیّد ذلک إخبارهنّ له صلی الله علیه و آله بذلک ، حیث یفهم أنّه لو کان لتوهّم عدم جواز التوضی ء بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر وإلاّ لما کان لتوهّمها بالنسبة إلی أخذ الماء منه وجهاً وجیهاً ، کما لایخفی .

وإنْ جعل بعض المحقّقین _ کالآملی قدس سره _ هذا الاحتمال مؤیّداً للجواز أیضاً ، من جهة لسان تعلیله صلی الله علیه و آله : «بأنّ الماء لا یجنب» .

ولکن یرد علیه من جهتین :

الجهة الاُولی : فی سنده ، لکونه مرسلاً ، ومنقولاً عن کتاب «عوالی اللئالی» _ والصحیح بالعین المهملة لا المعجمة کما عن «المستدرک» _ لابن أبی جمهور الاحسائی ، واسمه محمّد بن علی بن إبراهیم ابن أبی جمهور الاحسائی .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 6 من الماء المستعمل من المیاه، الحدیث 2 .

ص:425

والکلام وقع فیه أوّلاً فی شخصه ، وهو وإن کان عالماً متکلِّماً جامعاً للمعقول والمنقول ، إلاّ أنّه متّهم بالتصوّف ، وکان مفرطاً فیه کما نقله «المستدرک» عن صاحب «روضات الجنات» ، وقد وثّقه النوری فی «المستدرک» ، والمحدّث الجزائری ، حیث ألّف کتاباً سمّاه ب_ «الجواهر الغوالی فی شرح عوالی اللئالی» ، فراجع «المستدرک» .

وثانیاً : فی کتابه من جهة خلطه الأخبار بین غثّها وسمینها ، وصحیحها وسقیمها ، کما نقل ذلک فی «الروضات» عن الشیخ الحُرّ العاملی فی «وسائل الشیعة» .

بل وهکذا صاحب «الریاض» و«اللؤلؤة» والمجلسی فی «البحار» .

بل عن صاحب «الحدائق» : عدم الاعتماد بأخبار کتابه عند الأصحاب ، فالاعتماد علیه حینئذٍ منفرداً بنحو الدلیل والاستدلال لا التأیید والإکمال ، لا یخلو عن تأمّل خصوصاً مع إرساله ، ولو سلّمنا وثاقة الرجل بنفسه ، کما هو واضح لا خفاء فیه .

فی الاغتسال بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر

الجهة الثانیة : فی دلالته :

أوّلاً : لیس فیه بأنّه صلی الله علیه و آله قد توضّأ فیه أم لا ، حتّی یکون فعله _ مضافاً إلی قوله _ مؤیّداً للجواز ، فلعلّه لم یتوضی ء بعد ذلک ، ولو لأجل الکراهة مثلاً ، لو لم نقل بالحرمة .

ثانیاً : وإن استبعدنا سابقاً کون الجفنة کبیرة تسع بقدر الکرّ ، إلاّ أنّه لا ینفی الاحتمال ، فإذا احتملنا کونه کرّاً ، فلا یکون حینئذٍ مفیداً لما نحن بصدده .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ، کون الجفنة کبیرة بحیث کنّ قادرات علی الاغتسال فیها ، فاحتمال استیعابه بمقدار الکرّ لیس ببعید غایته ، کما لایخفی .

فالاعتماد علی هذا الحدیث علی حدّه ، لولا دلیل آخر ، مع وجود احتمال المنع من خبر ابن سنان _ کما عرفت _ فی غایة الإشکال ، بلا فرق فی المنع من الوضوء بین أقسامه .

ص:426

فالأحوط عدم جواز التوضی ء بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر مطلقاً .

وأمّا الکلام فی القسم الرابع : وهو استعمال الماء الذی استعمل سابقاً فی رفع الحدث الأکبر ، فی رفع الحدث الأکبر مرّة اُخری .

ففیه أیضاً مثل الوضوء من جهة اختلاف الأقوال علی أربعة : من الجواز مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتوقّف مع تأیید المنع بالاحتیاط ، والتفصیل بین حال الضرورة بالجواز وعدمها بالمنع .

وقد عرفت أنّ الفقهاء لم یفرقوا فی الحکم جوازاً ومنعاً وتفصیلاً بین الوضوء والغسل ، إلاّ أنّنا بحثنا عن کلّ واحد منها علی حدة .

فالآن نشرع فی بیان حکم الغسل بالماء الذی استعمل فی رفع الحدث الأکبر ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

قد استدلّ المانعون علی المنع بمقبولة عبداللّه بن سنان التی مرّت ، باحتمال أن یکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی الضمیر المجرور فی (منه) ، فیکون الخبر معنی حینئذٍ : أنّ الماء الذی یغسل به الثوب وأشباهه ، من بدن النجس ، والجسم النجس ، وما یغتسل به الجنب وأشباهه ، من بدن النجس ، والجسم النجس ، وما یغتسل به الجنب وأشباهه من المستعمل فی الحیض والنفاس والاستحاضة ، لا یجوز الوضوء منه ، فحینئذٍ لا یکون الخبر دالاًّ علی المنع بالنسبة إلی الغسل ، لکنّه داخل فیه بأحد الأمرین :

أمّا بالإجماع المرکّب ، لأنّ القائل بالتفصیل بین الوضوء _ بعدم الجواز _ والغسل بالجواز ، غیر موجود بین الأصحاب .

أو یلحق بالوضوء بطریق الأولویّة ، لأنّه إذا مُنع من استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر لرفع الحدث الأصغر ، ففی رفع الحدث الأکبر یکون منعه بطریق أولی .

ص:427

هذا کما فی «الروائع الفقهیّة» للسیّد قدس سره .

ولکن هذا الوجه لإثبات المنع فی الغسل قابل لورود إشکالات علیه :

أوّلاً : من جهة القاعدة النحویة الثابتة والمتّفق علیها بین النحاة ، من عدم جواز العطف علی الضمیر المجرور ، من دون إعادة الجار ، فلا یقال : «مررت به وزید» ، بل یقال : (وبزید) فلا یصحّ نسبة اللحن إلی الإمام علیه السلام .

والعجب من صاحب «مصباح الهدی» مع وقوفه علی هذا الإشکال ، فمع ذلک یقول بکونه أظهر بحسب العرف وأنّه لا ینافی کونه خلافاً للقاعدة! .

وثانیاً : من الإشکال فی الإجماع ، بإمکان القول فیه بأنّه عدمن القول بالفصل ، لا قولٌ بعدم الفصل ، حتّی لا یجوز الذهاب إلی خلافهم ، وإن کان هذا لا یخلو من إشکال .

وثالثاً : من إمکان الإشکال فی أصل الأولویّة ، کما فی «مصباح الهدی» ، بأن لا یکون الوضوء جائزاً ، بخلاف الغسل فیکون جائزاً ، وإن کان هذا المنع لا یخلو عن تأمّل .

فمع ورود هذه الإشکالات _ ولو علی نحو الاحتمال _ یستلزم أن نختار فی فقه الحدیث معناً یدلّ علی المنع فی الغسل أیضاً من دون ورود إشکال فیه ، وهو أن یکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی المصدر المشتقّ من (أن یتوضّأ) ومرفوعاً لکونه فی محلّ الفاعل لجملة لا یجوز ، فیکون التقدیر هکذا : «لایجوز الوضوء وأشباهه _ وهو الغسل _ عن مثل الماء المذکور فی الصدر» .

فیکون الخبر سالماً عن اللحن والمخالفة للقواعد العربیّة ، کما یسلم حکم منع الغسل عنه أیضاً عمّا ورد فی الاحتمال الأوّل .

فإن قلت : فعلیه لا یشمل الحدیث ، الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر ، عند غُسل الجنابة مثل الحیض والنفاس ، بخلاف ما لو رجع کلمة (أشباهه) إلی

ص:428

غُسل الجنابة ، فإنّه یدخل مثل هذه المیاه فی الحکم .

وتوهّم دخول غیر غسل الجنابة فی حکم غسل الجنابة من جهة المشابهة فی الحدثیة مشکل .

کما أنّ دعوی وحدة حکمهما فی ذلک عند الفقهاء أشکل .

فهذا یوجب تقویة الاحتمال الأوّل علی الثانی ، هذا کما فی «التنقیح» .

قلت : لا موجب لأن نفسّر الحدیث بما یخالف القواعد العربیة لکن نحصل علی حکم عام یشمل کلّ الأحداث الکبیرة ، بل القاعدة تقتضی التعبّد بظهور الخبر بما هو فصیح بقدر ما یدلّ علیه ، فإن أمکن القطع بإلغاء الخصوصیّة عن المورد وإلحاق غیره إلیه لحکمنا به ، وإلاّ یکتفی بالحکم فی خصوص المورد ، خصوصاً فیما إذا کان المنع علی خلاف الأصل ، حیث یقتضی الاکتفاء علی القدر المتیقّن فیه ، وهو المستعمل فی غُسل الجنابة ، لو لنم نقل بالتعمیم من باب مناسبة الحکم والموضوع .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الاحتمال الثانی أقوی .

فإن فرغنا من إثبات الحکم بالمنع فی الوضوء ، کان الغسل مثله أیضاً بلحاظ ورود النهی التحریمی لوجود لفظ (لا یجوز) ، ومن حکم الجواز ، بلحاظ عدم غلبة نجاسة الثوب والبدن فی الجنب ، ولذک حکمنا بالاحتیاط بالمنع فی الوضوء ، وکذلک فی الغسل .

مع ما عرفت من إمکان دعوی الأولویّة ، بل وجود الإجماع المرکّب هنا أیضاً ، کما لایخفی .

وقد استدلّ للمنع بعدّة أخبار لا بأس بذکرها والإشارة إلیها ، وملاحظة دلالتها :

فمنها : صحیح عبداللّه بن مسکان(1) قال : «حدّثنی صاحبٌ لی ثقة أنّه سأل


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:429

أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینتهی إلی الماء القلیل فی الطریق ، فیرید أن یغتسل ، ولیس معه إناء ، والماء فی وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله فی الماء کیف یصنع ؟ قال : ینضح بکفّ بین یدیه وکفّاً من خلفه وکفّاً عن یمینه وکفّاً عن شماله ، ثمّ یغتسل» .

بیان دلالة الحدیث : هو تقریر الإمام علیه السلام لما هو المرتکز فی ذهن السائل من ممنوعیّة ورود (غَسله فی الماء) أو (غُسله فی الماء) _ وهو الماء المستعمل فی الغُسل کما فی «الوافی» _ إلی الوهدة ، _ وهی بمعنی المنخفض من الأرض _ .

هذا ، ولقد وقع الفقهاء فی غسر من فهم فقرات هذا الحدیث ، ووجّهوها بتوجیهات کثیرة لا یخلو بعضها عن تعسّفات باردة ، فلا بأس بذکرها ثمّ ذکر مختارنا فیها .

قیل : بأنّ المراد من قوله : «ینضح بکف بین یدیه ، وکفّاً من خلفه . . .» هو رشّ الأرض بجوانبها الأربعة ، لتجتمع أجزائها ، فیمنع عن انحدار الماء إلی الوهدة .

فأورد علیه فی «السرائر» بأنّ هذا لا یلتفت إلیه ، لأنّ الأرض إذا تبلّلت یوجب ازدیاد وسرعة من کونها جافّة انحدار الماء .

لکنّه یندفع بإمکان أن یقال : بأنّ مقصود القائل هو جعله طیناً بحیث تمنع عن رجوع الماء إلیه ، لا الرشّ الموجب لرطوبة الأرض ونداها الموجب لسرعة الرجوع .

وقیل : کما عن الشیخ الأعظم قدس سره ، بأن یکون المراد منها هو بلّ الجسد کذلک حتّی یوجب تسهیل البدن لقبول الماء بأقلّ من ذلک ، ممّا لا یوجب زائدة الرجوع إلی الماء القلیل .

فأُجیب عنه _ کما فی «مصباح الهدی» _ بأنّه مضافاً إلی بُعده ، کان الأولی أن یذکر کلمة (علی خلفه وأمامه) ، لا کلمة (عن وبین یدیه) الظاهرة فی الجوانب من الأرض .

ص:430

ونحن نردّه بما یأتی إن شاء اللّه من بیان هذه الفقرة من الحدیث بما قد یساعد هذا الاحتمال ، فانتظر ذلک .

وقیل : _ کما عن «المصباح» للآملی _ : بأنّ هذا الأمر بالرشّ کان من جهة خشیة السائل من نجاسة أطراف الوهدة ، وخوفه من رجوع الماء المتنجّس إلی الوهدة ، الموجبة لانفعال الماء ، فأراد الإمام علیه السلام بهذا العمل تطهیر الأطراف بالنضح علیها ، لکی لا ینفعل الماء الذی فی الوحدة بورود غسلة علیه ، ثمّ إنّه استدلّ بخبر الکاهلی الوارد فی الوضوء مثله .

وهو بعید جدّاً ، لوضوح أنّه کیف یتطهّر مع هذا المقدار من الماء الذی هو کفٌّ من الماء لمثل الأرض التی یحتاج فی تطهیرها _ نوعاً _ لماء کثیر عادةً ، إلاّ أن تکون صلبة ، فتأمّل .

ثمّ إنّه من أیّ طریق استفید کون الأرض نجسة ، مع عدم وجود ما یدلّ علی ذلک فی الخبر ، کما لایخفی .

وهذا الإشکال یرد أیضاً علی الخبر الذی ذکره ، وهو حدیث الکاهلی(1) ، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام ، یقول : إذا أتیت ماء وفیه قلة ، فانضح عن یمینک وعن یسارک وبین یدیک وتوضّأ» .

وقیل : کما عن «الروائع الفقهیّة» ، واحتمله الخوئی ، بأنّ رشّ الجوانب الأربع من الأرض لعلّه کان من آداب الغسل والوضوء ، لورود ذلک فی أخبار اُخر ، ولعلّ حکمته کانت من جهة کون هذه الأرض فی معرض ملاقاة النجاسة لتردّد بعض الحیوانات النجسة فیها ، فکان النضح لأجل ذلک .

وقیل : یحتمل أن یکون المحذور عند السائل ، هو اختلاط الماء بالتراب ،


1- الوافی : باب الماء القلیل المشتبه ورفع الحدث به، الحدیث 1 ص13 .

ص:431

وسوقه فی الماء ، فیوجب صیرورة الماء وحلاً وهذا یحصل إذا لم تکن الأرض رطبة ، فأمر الإمام علیه السلام بعلاج ذلک ، بهذا الطریق حتّی لا یدخل التراب فیه .

لکنّه بعید غایته ، بل هو أبعد الوجوه .

فالأولی أن یقال : بأنّ هذا الخبر یشابه فی دلالته خبراً آخر وهو صحیح علیّ بن جعفر(1) ، فی حدیثٍ ، قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیة أو مستنقع أیغتسل فیه للجنابة . . . . وهو یتخوّف أن یکون السباع قد شربت منه ؟

فقال : إن کانت یده نظیفة ، فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة ، فلینضحه خلفه ، وکفّاً أمامه ، وکفّاً عن یمینه ، وکفّاً عن شماله ، فإن خشی أن لا یکفیه ، غَسَل رأسه ثلاث مرّات ، ثمّ مسح جلده بیده ، فإنّ ذلک یجزیه »، الحدیث .

قال صاحب «الوافی» فی ذیله : (والثابت : خوفه من ورود وارد علیه ممّا أفسده ، من کلبٍ ونحوه من السباع ، المقتضی لوسوسة قلبه ، وریبة فی طهارته ، فأشار علیه السلام أوّلاً بما یزیل عن قلبه الریب فی نجاسته الموهومة ، بل لوهم رجوع الغسالة إلیه ، بنضح بعضه علی أطراف ساقیة المستنقع لتطیب بقیّته ، ولیجوز أن تکون القطرات الواردة علیه إنّما وردت من الأطراف المنضوحة دون البدن» ، انتهی موضع الحاجة من کلامه .

فظاهر کلامه رحمه الله ، أنّه أراد بیان احتمالین : نضح الماء للأطراف حتّی یوجب التطهیر ، کما أشار إلیه بقوله : «لتطیب بقیّته» أی الماء الراجع إلیه ، فیخرج الرجل عن الوسوسة ، لأنّه قد طهّره بذلک ، فکانت الکفّ کنایة عن إلقاء الماء علیه کذلک .

فهذا المعنی یشابه ما اختاره الآملی قدس سره .

والعجب منه أنّه نقل کلام «الوافی» ، ثمّ قال فی ذیله : بعد استبعاده مع ما فی


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:432

الأوّل _ یعنی هذا المعنی والوجه _ منهما من أنّه قدس سره لم یبیّن کیف یصیر نضح بعض الماء علی الجوانب الأربع موجباً لتطیب بقیّته ، مع أنّه نفسه قدس سره قد اختار هذا المعنی ، حیث قد عرفت منّا تضعیفه ، فکأنّه لم یفهم من کلامه ما ذکرنا .

والاحتمال الآخر وهو الأفصل والأجود أن یکون ذلک العمل لإیجاد الشبهة فی نفس المغتسل أو المتوضی ء ، کما فی حدیث وارد فی الوضوء بأنّه لو رأی رجوع الماء _ فی الجملة _ علی الماء الواقع فی الساقیة أو الوهدة یظنّ أنّه من ذلک الماء المنضوح فی الجوانب ، لا نفس الماء المستعمل ، حتّی یوجب حدوث وسوسة فی نفسه ولو من حیث الکراهة .

بناءً علی هذا لا یکون الأمر فی الخبر لأجل نجاسة الأطراف ، حتّی یرد ما قلناه من عدم دلالة متن الحدیث فی بعض الأخبار ، کالخبر الوارد فی الوضوء ، أو الوارد فی المقام علی نجاسة الأطراف بالسباع وغیرها ، هذا فضلاً عن وجود قاعدة الطهارة فی مثل هذه الموارد ، وملاحظة شدّة مخالفة الأئمّة لعمل الوسواس ، فکیف یصحّ إسناد عمل إلیهم علیهم السلام یؤیّد ویزید فی هذه الصفة ؟!

کما یقال إنّ اشتمال حدیث علیّ بن جعفر علی هذه الفقرة ، مع ذکر الغَسل بأن یبلّ جسده بعده ، بقوله : «فإن خشی أن لا یکفیه ، غَسل رأسه ثلاث مرّات ثمّ مسح جلده بیده» الحدیث .

یفهم أنّ المراد من الفقرة المعهودة ، هو بلّ الجسد کما ذکره .

بل واحتمله الشیخ الأعظم قدس سره وهو احتمالٌ لیس ببعید .

هذا ما خطر ببالنا ، واللّه العالم .

وکیف کان ، فدلالة الحدیث علی عدم جواز الغسل مع الماء المستعمل فی الحدث الأکبر مخدوشة من جهات عدیدة ، وإن کان بعضها ضعیفاً :

أوّلاً : من إمکان دعوی الإجمال ، من حیث الجهة المانعة التی دعت السائل

ص:433

إلی السؤال ، هل هی کانت من حیث کون الماء مستعملٌ .

أو کان من جهة کونه حاملاً للتراب ، وصیرورته فاسداً من حیث صیرورته وحلاً ، هذا کما فی «الروائع» .

أو لعلّ المحذور عنده مثلاً ، هو نجاسة الأطراف ، الموجبة لرجوع الماء إلیها ونجاسة ماء الوهدة ، کما علیه الآملی قدس سره .

فإذا صار الحدیث قابلاً لورود هذه الاحتمالات ، یصیر مجملاً ، ولا یمکن الاعتماد علیه فی الفتوی .

هذا ، وإنْ کان لا یخلو عن بُعد ، کما ذکرنا .

وثانیاً : عدم علمنا بأنّ تقریر الإمام علیه السلام لما توهّمه السائل من المنع ، هل هو کان باعتبار رجوع الماء المستعمل إلیها ، الموجب لحرمة الغسل والاغتسال به ، کما هو المقصود .

أو کان باعتبار الکراهة من الاغتسال بمثل هذا الماء ، فیکون مجملاً من هذه الجهة ، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ، وإنْ استبعده صاحب «مصباح الهدی» ، من جهة أنّ هذا العلاج لرفع الکراهة مثلاً ، مع بُعد کون الکراهة باعثة للسؤال عن ذلک .

وثالثاً : أنّ لزوم التعبّد بهذا الحدیث یعدّ أمراً مخالفاً لفتوی جمیع الأصحاب ، لأنّ دخول النضحات والرشحات فی الماء الذی یستعمل به للغَسل ، لایوجب صیرورة الماء متّصفاً بوصف الاستعمال المانع ، فیما إذا کان أقلّ من ذلک ، فضلاً عن مثل ماء الوهدة الذی کان فی الجملة کثیراً ، فلابدّ حینئذٍ من الحمل علی الکراهة .

مضافاً إلی عدم اشتماله علی کون الغَسل للجنابة ، إلاّ أن یکون هو المراد بواسطة الغلبة الموجودة فی الخارج ، مع أنّه لو کان غیره ممنوعاً ، ففیه یکون المنع بطریق أولی . فسقط الحدیث عن الاستدلال .

ص:434

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم(1) عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن ماء الحمّام ؟ فقال : ادخله بأزار ، ولا تغتسل من ماء آخر ، إلاّ أن یکون فیهم (فیه) جنبٌ أو یکثر أهله ، فلا یدری فیهم جنب أم لا» .

وجه الاستدلال : هو المنع من الاغتسال بالماء الذی اغتسل به الجنب قطعاً ، أو احتمالاً ، فلیس وجه المنع إلاّ من جهة نجاسة الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر ، إن سلم غلبة النجاسة فی الجنب ، وإلاّ لکان من جهة کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، وهذا هو المطلوب .

وقد استشکل علیه بوجوه :

أوّلاً : بما نقل عن صاحب «المعالم» بأنّ الاستثناء عن النهی ، بقوله : «لا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن یکون فیه جنبٌ» لا یوجب إلاّ نفی الحرمة ، لا إثبات وجوب الاغتسال عن الماء الآخر ، إذا کان فیه الجنب ، حتّی یثبت حرمة الاغتسال بذلک الماء .

وفیه ، وإن نوقش فی کلامه بما لا یخلو عن إشکال ، کما عن صاحب «الحدائق» ، من أنّ مقتضی الاستثناء عن النفی ، هو الإثبات ، وعن الإثبات هو النفی ، کما قاله نجم الأئمّة ، فلازمه کون الاستثناء عن الحرمة هو الوجوب ، أی یجب الاغتسال بماء آخر إذا کان فیه الجنب .

ووجه الإشکال هو المذکور فی القواعد العربیّة بأنّ الاستثناء لایوجب إلاّ نفی حکم المستثنی منه ، لا إثبات حکمٍ مضاد للمستثنی ، إلاّ أن یعلم من دلیل خارج خصوصیّة حکم معه ، فمعنی الاستثناء هو أنّ الحرمة لیست ثابتة بعد ذلک أی وجود الجنب فیه ، فحینئذٍ یکون حکم المستثنی من وجوب الاغتسال من ماء


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:435

آخر أو إباحته ، غیر مستفاد من ذلک لأحد الوجهین .

نعم ، یثبت أصل الجواز المطلق ، فلابدّ من تعیین فصله ، وإثباته بدلیل آخر یدلّ علی ذلک .

إلاّ أنّ الإشکال _ کما أشار إلیه المحقّق الهمدانی _ هو عدم کون النهی هنا فی قوله : «لا یغتسل من ماء آخر» نهیاً تحریمیّاً ولا تنزیهیّاً حتّی نحتاج إلی ما ذکره صاحب «المعالم» قدس سره ، بل الظاهر کون النهی إرشادیّاً ، کما هو المتعارف عند العرف بالنهی بذلک لنفی اللزوم ، أی لا یلزم أن یغتسل بماء آخر إلاّ إذا کان فی الماء جنباً ، أو یحتمل وجوده فیه ، وذلک لوضوح أنّ الغسل من ماء آخر لم یکن بحرامٍ قطعاً ، حتّی مع عدم وجود الجنب فیه ، حتّی یکون الاستثناء دلیلاً علی عدم الحرمة .

فعلی هذا التقریر یوجب أن یکون المعنی ، أنّه إذا کان فیه الجنب ، یلزم الاغتسال من ماء آخر ، فیرجع حینئذٍ إلی ما ذکره المستدلّ فیکون دلیلاً للمنع ، کما لایخفی .

وثانیاً : ما المراد من الذی کان قبل الاستثناء من النهی عن الاغتسال بماء آخر إذا کان فیه الجنب ؟

إذا کان المراد هو ماء الخزّان ، فهو خلاف المتعارف لسیرة المسلمین لعدم کون الغسل فیها متعارفاً أصلاً ، هذا أوّلاً .

ومن عدم معهودیّة المنع للاغتسال فیه به ، أو لغیره من النصّ والفتوی ، ثانیاً ، سواء کان بدن الجنب نجساً أم لا ، لکونه أزید من الکرّ بمراتب ، فهو أوضح من أن یخفی .

فما حمله الحکیم قدس سره علیه لا یخلو عن إشکال ، حتّی بالنسبة إلی الکراهة أیضاً.

وإن کان المراد هو الماء المجتمع عن غسالات الحمّام _ کما اختاره الخوئی

ص:436

فی «التنقیح» _ بأن یکون النهی متوجِّهاً إلی الاغتسال عنها، إلاّ إذا کان فی الحمّام جنبٌ، أو یحتمل وجوده فیه، فیجوز حینئذٍ الاغتسال عنها، فحینئذٍ یدلّ الحدیث علی أنّ المتعارف فی ذلک الزمان، کان الاغتسال بذلک الماء فنهی عنه الشارع، إلاّ فیما استثنی عنه .

ففیه أنّه مخدوش :

أوّلاً : بالمنع عن التعارف بالاغتسال بذلک الماء، وإن کان قد یتّفق ذلک کما یشهد لذلک احتمالاً سؤال بعض السائلین عن حکم هذا الماء، بأنّه هل هو طاهر أم لا ؟ مثل خبر حمزة بن أحمد(1) ، عن أبی الحسن الأوّل ، قال : «سألته أو سأله غیری عن الحمّام ؟ قال : ادخله بمئزر ، وغُضّ بصرک ، ولا تغتسل من البئر التی تجتمع فیها ماء الحمّام ، فإنّه یسیل فیها ما یغتسل فیه الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البیت ، وهو شرّهم» .

بل ومن النهی الوارد عن الاغتسال منه ، الذی یساعد علی عدم مراعاتهم لذلک واغتسالهم فیه ، کما هو کذلک عند الأعراب .

وأمّا إثبات کونه کان متعارفاً عندهم بشهادة هذه الأخبار کما قاله الخوئی فی «التنقیح» ، فإنّه لا یخلو عن تأمّل ، لإمکان مساعدة الأخبار مع حدوثه نادراً أو قلیلاً .

وأمّا الخبر الدال علی المنع هو موثّقة ابن أبی یعفور(2) ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إیّاک أن تغتسل من غسالة الحمّام ، ففیها تجتمع غسالة الیهودی» _ الحدیث .

وأمثال ذلک .

وثانیاً : إنّ الاستثناء عن ذلک النهی ، وإثبات الجواز _ ولو إباحةً _ أی ولو برفع


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:437

الکراهة عن الاغتسال بهذا الماء ، فیما إذا کان فی الحمّام جنباً ، أو یحتمل کونه کذلک ، یکون فی غایة السخافة ، لوضوح أنّ هذا الماء یعدّ أخبث وأخسّ من ماء الحیاض المتعارف أخذ الماء منها والاغتسال به ، فلازمه احتمال وقوع الرشحات فیه مثلاً ، ولو من جهة نجاسته وهو غیر ممنوع لاتّصاله بالمادّة ، فکیف لم یجوّز الاغتسال به وأجاز الاغتسال بمثل هذا الماء القذر الذی تتنفّر عنه النفوس المتعارفة .

والعجب من المحقّق المذکور ، کیف أتعب نفسه لإثبات ذلک ، وسعی لجمع الشواهد والقرائن علیه ؟

أمّا إذا کان المراد من الماء ، هو ماء الحیاض الصغار الموجودة فی الحمّامات ، فإنّ المحقّق الهمدانی قدس سره أثبت أنّ هذا هو المراد من متعلّق الحکم فی الاغتسال ، فیما إذا کان فیه الجنب .

فهذا الاحتمال ، بملاحظة تعارف عمل الناس من الاغتسال به یعدّ وجهاً وجیهاً غایة الوجاهة ، إلاّ أنّ الإشکال فی أنّه لماذا منع عن الاغتسال بعد فرض وجود الجنب فیه ، مع أنّه لم یتعارف دخول الناس فی الحیاض لصغرها عادةً ، کما لایخفی . بل طریقة الاستفادة منه کانت محصورة بأخذ الماء منه للغسل ، فحینئذٍ لا یکون الماء مستعملاً للحدث حتّی یکون ممنوعاً من استعماله ثانیاً .

مضافاً إلی کونه متّصلاً بالمادّة ، فلا یوجب انفعاله حینئذٍ ، لا من حیث الخبثیة ولا الحدثیة ، کما لا یخفی .

فعلی هذا یعدّ توجبه المنع ولو علی الکراهة غیر معلوم ، کما لایخفی .

والذی ینبغی أن یقال : أنّ المراد من (ماء آخر) لیس ماءً خارجاً عن ماء الحمّام ، کما یفهم من کلام بعض ، بل یحتمل أن یکون المقصود ، غیر الماء الذی کان حوله الجنب ، أو یکثر من الناس فی الحیاض الصغار ، لأنّ المتعارف فی

ص:438

الحمّامات تعدّد الحیاض الصغار ، فعلیه یمکن أن یکون النهی هنا بالمعنی الذی ذکرناه ، من توهّم السائل بلزوم الاغتسال بغیر الماء الذی یغتسل منه الجنب ، حیث ینضح منه إلی البدن الآخر ، فیدخل الماء المستعمل فی الحدث _ بل فی الخبث أحیاناً _ فی ماء المغتسل ، ولذلک أرشده الإمام علیه السلام بأنّه لا یکون الغسل بالماء الآخر محبوباً ، إلاّ فیما إذا علم أنّه جنب یغتسل ، أو یحتمل من جهة وجود الجنب بحسب النوع فی الأفراد الکثیرة ، یعنی إذا کان الأمر بهذه الکیفیّة یعدّ الغسل بماء آخر واقع فی الحوض الصغیر أحسن وأرجح .

فحینئذٍ لا ینافی الرجحان کون وجود الجنب محتملاً فی الافراد ، فیکون ذکر ذلک قرینة علی کون ارتکاب الغسل مع وجود الجنب _ ولو محتملاً _ مرجوحاً ، فهو أمر مقبول غیر مستنکر لدی العقلاء .

وثالثاً : بأنّه کیف جمع بین کون وجود الجنب معلوماً ومشکوکاً ؟ مع أنّه لا إشکال أنّه لو سلّمنا ممنوعیّة الماء المستعمل فی الحدث ، أنّه إنّما کان فی معلومه أو مظنونه بالظنّ المعتبر ، لا ما إذا کان مشکوکاً .

مع کون مقتضی الأصل هو عدم کونه مستعملاً فی رفع الحدث .

فهذا أیضاً دلیل آخر علی عدم کون النهی للتحریم ، وإلاّ لما جمع بینهما .

قلنا : قد عرفت صحّة هذا الجمع وحسنه بما استفدناه من بیان الرجحان فی الماء القلیل ، بأن یغتسل من ماء غیر مشتبه فیه ، فلا یکون حینئذٍ هذا الخبر من أدلّة المانعین ، بمعنی التحریم وعدم الجواز .

هذا کلّه مع أنّه لیس فیه من الجنابة عینٌ ولا أثر .

وکون حکم ماء المستعمل فی مطلق الغسل ، ولو لغیر الرافع ، کحکم الماء المستعمل فی الرافع ، فی المنع عنه ، ولو بالنضح ، بعید غایته .

فهذا الخبر مع صحّة سنده ، ساقط عن الاستدلال من جهة الدلالة ، وکنّا فی

ص:439

ذلک موافقین للشیخ الأعظم قدس سره والمحقّق الهمدانی ، وغیرهما من الأعلام رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم(1) ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «سُئل عن الماء ، تبول فیه الدواب ، وتلغ فیه الکلاب ، ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء» .

حیث یدلّ بالمفهوم علی أنّ الماء الذی یغتسل به الجنب ، إن لم یکن بقدر کرّ ، لا یجوز استعماله فی غُسل الجنابة وغیره .

هذا ، والخبر من حیث السند صحیح ، وأمّا من حیث الدلالة وإن کان بظاهره یدلّ علی تمامیّتها .

لکنّه مخدوش من وجهین :

لأنّه وإن کانت دلالته تامّة علی الجواز فی الکرّ ، ردّاً علی العامّة حیث یعتقدون بأنّ الماء ینجس إذا استعمل فی غسل الجنابة ولو کان کرّاً ، فأجاب علیه السلام : بأنّ الکرّ لا ینفعل بوجه أصلاً .

إلاّ أنّه فی دلالته علی عدم الجواز فی صورة عدم بلوغه کرّاً بالنسبة إلی ما یغتسل للجنابة إجمالٌ :

أوّلاً : بأنّه لا یعلم بأنّ وجه المنع هل کان بلحاظ کونه مستعملاً فی رفع الحدث ، حتّی یکون دالاًّ للمطلوب ، أو بلحاظ کون الماء المستعمل فی الجنابة منفعلاً بنجاسة بدن الجنب ولو کان من جهة غسله قبل الاغتسال ؟

وعلی أیّ حال ، یجتمع فی مجمع لم یبلغ کرّاً فیکون نجساً .

بل یحتمل کون الاحتمال الثانی أولی من جهة انضمام ذلک مع ولوغ الکلاب ،


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:440

حیث یفهم کون مورد السؤال من حیث النجاسة والطهارة ، لا من حیث کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر أم لا .

وثانیاً : یکون ذیله قرینة علی کون مفروض سؤال السائل هو النجاسة والطهارة لا غیرها ، لما أجابه علیه السلام بأنّ الماء إذا بلغ قدر کرّ لم ینجسه شیء .

هذا ، مضافاً إلی إمکان کون المراد من فرض السؤال هو صورة جمع الأقسام الثلاثة ، بأن یکون الواو للعطف والجمع لا لبیان التنویع بأن یکون کلّ واحد منها مورداً للسؤال علی حده .

فحینئذٍ عدم الجواز فی الفرض المذکور یفید النجاسة قطعاً ، کما لایخفی .

ومنها : خبر حمزة بن أحمد(1) فقد مرّ ذکره بالتفصیل فلا نعیده .

وجه الدلالة : بناءً علی کون النهی عن الاغتسال من غسالة الحمّام الذی هو من غسالة الجنب والزنا والناصبی ، فیدلّ علی أنّ النهی کان بلحاظ أنّه مستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

لکنّه مخدوش بما قد عرفت من ضعف سنده ، وأنّه بقرینة اقترانه مع الناصبی الذی حکم بنجاسته ، یفهم أنّه کان وجه السؤال بلحاظ نجاسته وطهارته لا بما کان بصدده .

مضافاً إلی أنّ ولد الزنا لم یکن نجساً ، والقول بنجاسته ضعیف غایته ، وإن احتمله بعض تمسّکاً بمثل هذا الخبر ، وخبر ابن أبی یعفور(2) ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها غسالة الحمّام ، فإنّ فیها غسالة ولد الزنا ، وهو لا یطهر إلی سبعة آباء» ، الحدیث .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:441

إلاّ أنّ هذا الخبر بخلاف قوله أدلّ ، لوضوح أنّ ذلک کنایة عند العرف من التأثیرات البعیدة الناتجة من عدم طهارة مولده ، فحینئذٍ مع انضمام ذلک یوجب کون المقصود هو غیر النجاسة والطهارة ، خلافاً لانضمام الناصبی ، فلا بأس أن یکون النهی عن الاغتسال محمولاً علی الجامع بین الحرمة والکراهة ، نظیر ما یقال فی قوله علیه السلام : «اغتسل للجمعة والجنابة» من استعمال الأمر فی مطلق الرجحان والطلب لیشمل الجمعة ، منضمّاً مع جواز الترک ندباً ، وفی الجنابة مع المنع من الترک وجوباً ، فهکذا یقال هنا : بأنّ النهی استعمل فی مطلق رجحان الترک ، ففی مثل الماء المستعمل فی الناصبی یکون منضمّاً مع فصله هو المنع من الفعل فیکون حراماً ، وفی مثل غسالة ولد الزنا ، وغسالة الجنابة یکون منضمّاً مع فصله ، وهو جواز الفعل ، فیوجب الکراهة .

أو یکون فی غسالة الجنابة مجملاً بین الاحتمالین .

فعلی أیّ حال یسقط عن الاستدلال .

مضافاً إلی إمکان أن یکون بلحاظ اجتماع هذه المیاه التی کانت نجسة ، فیکفی فی نجاسة الباقی إذا لم یکن کرّاً أو متّصلاً بالکرّ ، وإلاّ یکون محمولاً علی الکراهة قطعاً ، لأنّه لو قیل بالحرمة فیها ، فإنّه یوجب کونه مخالفاً للإجماع ، کما لایخفی .

هذه جملة من الأخبار التی استدلّ بها المانعون ، وقد عرفت بأنّ أتمّها فی الدلالة ، هو معتبرة عبداللّه بن سنان مع وجود الإشکال فی دلالته فی الجملة .

وأمّا بقیّة الأخبار ، فلا تکون دلالتها علی النهی التحریمی تامّة ، مضافاً إلی ضعف سند بعضها ، فأصبحت النتیجة هی الحکم بالمنع احتیاطاً ، حتّی نلاحظ الأخبار الواردة فی الجواز وکیفیّة معارضتها مع هذه الأخبار المانعة .

فنقول : استدلّ المجوّزون بعدّة أخبار ، قیل إنّها تدلّ علی جواز الاغتسال

ص:442

بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

فمنها : صحیح محمّد بن مسلم(1) قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الحمّام یغتسل فیه الجنب وغیره ، أغتسل من ماءه ؟ قال : نعم لا بأس أن یغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فیه ثمّ جئت فغسلت رجلی ، وما غسلتهما إلاّ ممّا لزق بهما من التراب» .

وجه الدلالة ظاهرة إذ یجوز الغسل من الماء الذی اغتسل منه الجنب ، ولذلک جعل الحکیم قدس سره فی «مستمسکه» هذا الخبر معارضاً للخبر الدالّ علی المنع الوارد عن محمّد بن مسلم ، الذی قد عرفت توضیحه قبل ذلک .

مضافاً إلی دلالة الأصل علی الجواز ، بل ودلالة الإطلاقات الأوّلیة من مطهّریة الماء حتّی عن الحدث الأکبر ، ولو بعد استعماله فی غسل الجنابة ، کما هو واضح لا خفاء فیه .

لکنّه مخدوش ، بعدم ارتباطه لما نحن بصدده من وجهین :

أوّلاً : من إمکان أن یکون وجه سؤال السائل عن حکم ماء الغسل ، باعتبار حال نجاسته وطهارته ، بأنّه هل ینجس الماء بذلک _ لإمکان نجاسة بدن الجنب ، ولو باعتبار حاله قبل الاشتغال بالغسل _ أم لا ؟ فأجاب علیه السلام بأنّه طاهر لا یوجب ذلک نجاسته .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ملاحظة مضمرة أبی الحسن الهاشمی(2) ، قال : «سئل عن الرجال یقومون علی الحوض فی الحمّام ، لا أعرف الیهودی من النصرانی ، ولا الجنب من غیر الجنب ؟ قال : تغتسل منه ولا تغتسل من ماء آخر ، فإنّه طهور» .


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:443

حیث أنّه یفهم من کیفیّة سؤال السائل ، وجوب الإمام ، أنّ جهة السؤال کانت من حیث النجاسة والطهارة ، فعلی هذا التقدیر لا یکون الخبر مرتبطاً بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر، حتّی یکون حکم الإمام علیه السلام بالجواز بذلک الاعتبار.

وثانیاً : من إمکان أن یقال بأنّ الماء الذی یُسئل عنه ، إمّا هو الماء الموجود فی الخزّان کما یساعده ملاحظة کلمة (فی) من جهة القواعد النحویة بقوله : «یغتسل فیه الجنب» ، وهکذا قول الإمام علیه السلام : «ولقد اغتسلت فیه» فحینئذٍ یکون الحکم بالجواز مطابقاً للقاعدة فی الماء الکثیر ، حتّی وإن کان مستعملاً فی الحدث الأکبر ، لعدم وجود قائل بالمنع فیه ، غایته الکراهة ، وهو بعید جدّاً ، لعروض العسر والمشقّة لمن أراد أن لا یرتکب الکراهة فی ذلک ، کما لایخفی .

أو یکون المراد ماء الحیاض الصغار ، بأن یأخذ الجنب من حوله الماء للغسل ، فالحکم بالجواز أیضاً غیر مرتبط بما نحن فیه وبصدده ، لعدم کون ماءه مستعملاً فی رفع الحدث ، حتّی یوجب توهّم ممنوعیّته .

فاحتمال کون المراد من السؤال هو الاغتسال من غسالة الجنب _ کما یظهر ذلک من الحکیم قدس سره _ بعید غایته ، فلا یکون هذا الحدیث معارضاً لتلک الأدلّة .

کما أنّ الأصل والإطلاقات غیر قادرة علی المعارضة مع تلک الأدلّة لکونها دلیلاً اجتهادیاً ودلیلاً خاصّاً ومقیّداً للإطلاقات ، وهو واضح لمن کان له أدنی تأمّل .

ومنها : صحیح علی بن جعفر ، عن أخیه أبی الحسن الأوّل(1) ، قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیة أو مستنقع ، أیغتسل منه للجنابة أو یتوضّأ للصلاة ، إذا کان لا یجد غیره ، والماء لا یبلغ صاعاً للجنابة ولا مدّاً للوضوء ، وهو متفرّق کیف یصنع ، وهو یتخوّف أن تکون السباع قد شربت منه ؟


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:444

فقال : إن کانت یده نظیفة ، فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة فلینضحه خلفه ، وکفّاً أمامه ، وکفّاً عن یمینه ، وکفّاً عن شماله ، فإن خشی أن لا یکفیه ، غَسل رأسه ثلاث مرّات ، ثمّ مسح جلده بیده ، فإنّ ذلک یجزیه ، وإن کان الوضوء غَسل وجهه ومسح یده علی ذراعیه ورأسه ورجلیه ، وإن کان الماء متفرّقاً فقدر أن یجمعه ، وإلاّ اغتسل من هذا ، ومن هذا ، وإن کان فی مکان واحد وهو قلیل ، لا یکفیه لغسله ، فلا علیه أن یغتسل ویرجع الماء فیه فإنّ ذلک یجزیه» .

قد استدلّ به علی جواز الاغتسال بالماء الراجع إلی الساقیة أو المستنقع ، مع کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، ویعدّ الخبر من جهة السند صحیحاً ومنقولاً بطرق متعدّدة معتبرة ، فبذلک ترفع الید عن تلک الأخبار المانعة ، مع ما عرفت من کثرة ورود الإشکالات علیها والتوجیهات البعیدة .

وهذا أحسن خبر یدلّ علی الحکم سنداً ودلالةً ، کما لایخفی .

والتحقیق فی ذلک موقوف علی تقدیم بیان فقه الحدیث ، فنقول ومن اللّه عزّوجلّ نستمد العون والهدایة :

فإنّ السائل قد یکون قصد من السؤال بحسب ظاهر الخبر جهات شتّی وهی :

تارةً : من حیث حکم ماء الساقیة والمستنقع ، للغسل والوضوء عند عدم وجدان ماء آخر .

واُخری : من عدم کفایة المدّ والصاع من الماء لإتیان الوضوء وآدابه المستحبّة .

وثالثة : من جهة تفرّق الماء وعدم کونه فی مکان واحد .

ورابعة : من جهة خوف نجاسة الماء بواسطة احتمال ورود السباع فیه للشرب وتنجیسه ، من جهة کونها نجس العین ، أو من جهة غیره کالبول .

وأمّا جواب الإمام علیه السلام ، فبعد التأمّل فیه ، یرجع إلی کلّ ما فی سؤال السائل ، مع زیادة ، والجواب مشتمل علی بیان خمسة أحکام :

ص:445

الأوّل : بیان رفع التوهّم عن النجاسة بواسطة النضح علی الجوانب الأربع ، علی احتمالٍ ، کما عرفت تفصیل هذه الفقرة فی خبر عبداللّه بن مسکان .

إمّا للمنع عن انحدار الماء إلی الساقیة ، أو من جهة إیجاد الشبهة من کون الماء الراجع هو المنضوخ مثلاً لا المغسول به .

الثانی : بیان حکم قلّة الماء عن مقدار یکفی لإتیان المندوبات وذلک بکفایة غسل رأسه ثلاث مرّات ، للاستحباب ، ثمّ مسح جلده بیده .

أو لعلّ المراد من غسل رأسه ثلاث مرّات لتلافی نقصان الماء ، حتّی یستطیع إیصاله لبقیّة الأعضاء ولو بالمسح بیده المبلّلة علی جلده ، وهو الأقوی .

ومنه یفهم ضمناً تجویز الغسل من الماء الراکد فی الساقیة أو المستنقع .

الثالث : یظهر منه حکم جواز الوضوء أیضاً ، ومن إمکان تحصیله منه ولو بالمسح علی ذراعیه فی صورة قلّة الماء ، فلا یُقدم علی فعل التیمّم .

الرابع : حکم تفرّق الماء ، بأنّه إن قدر من الجمع بین موارده فیجمعه فی مکان واحد ، حتّی یغتسل فی موضع واحد ، وإلاّ یجوز له الغسل بالتفریق وبماءین وذلک بأن یغسل مقدار منه بماء ، والآخر من ماء آخر إلی أن یتمّ الغسل ، ولا یضرّ الانفصال فی صحّة غُسله .

الخامس : وهو المقصود فیما نحن فیه ، وهو بیان حکم الماء إذا کان قلیلاً لا یکفیه لغسله علی النحو المذکور فی القسم الثانی ، فحَکم أنّه یجوز له أن یغتسل من الماء القلیل ، ویُرجع الماء الباقی إلی الموجود فی الساقیة ، ثمّ یأخذه ثانیاً إلی أن یتمّ الغسل بذلک ، فلازمه جواز الاغتسال بالماء المستعمل فی رفع الحدث ، وهو المطلوب .

ولقد أورد علیه ، تارةً : أنّه وإن کان الخبر ظاهرٌ فی تجویز ذلک ، إلاّ أنّه یختصّ بحال الضرورة والإضطرار ، لما قد فرض فیه من عدم کفایة الماء للغسل بنحو

ص:446

المتعارف ، ولو بنحو التدهین .

فما توهّمه بعض من وجود المناقضة بین فرضه بعدم الکفایة للغسل ، وبین حُکمه بالغسل ولو بالرجوع ، لا یخلو عن مسامحة .

فلا یستفاد منه جواز ذلک ، حتّی مع الاختیار ، ووجود الماء خارجاً کما هو المقصود ، لإمکان أن یکون ذلک من قبیل ما هو المعروف بین الفقهاء من أنّ الضرورات تبیح المحظورات ، کما لایخفی .

لکنّه مندفع ، بأنّه إن کان المورد من موارد الضرورة ، فلِمَ لم یحکم بالغَسل علی نحو التدهین الذی یوجب عادةً تقلیل صرف الماء ممّا ذکره بمراتب ، فیفهم أنّه لیس فی مقام بیان حال الضرورة ، فلو أمکن إثبات دلالة الحدیث مع ما ادّعاه المستدلّ ، فإنّه یکون دلیلاً علی الجواز فی حال الاختیار أیضاً .

واُخری : بأنّه خارج عن محلّ النزاع ، لأنّه إنّما فرض ممزوجیّة الماء الوارد الذی استعمل فیه الغسل ، مع الماء الراکد فی الساقیة ، خصوصاً إذا کان الراجع قلیلاً موجباً للاستهلاک فی الماء الثابت ، فلا یعدّ ذلک الماء ماءً مستعملاً فی رفع الحدث ، حتّی لا یجوز استعماله ثانیاً فی الغسل .

وبناءً علیه یکون حکم هذا الماء الراجع ، حکم الماء المنضوح حین الغسل فی الإناء ، حیث ورد التصریح فی الحدیث بنفی البأس عنه ، کما تری ذلک فی صحیح(1) الفضیل بن یسار ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل الجنب یغتسل فینضح من الماء فی الإناء ؟ فقال : لا بأس ، ما جُعِل علیکم فی الدِّین من حرج» .

وصحیح شهاب بن عبد ربه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «فی الجنب یغتسل فیقطر الماء عن جسده فی الإناء ، فینضح الماء من الأرض فیصیر فی


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .

ص:447

الإناء ؟ إنّه لا بأس بهذا کلّه»(1) .

بل لا یخلو استدلال الإمام بآیة الحرج فی الماء المنضوح ، عن إشعار بأنّ وقوع هذا المقدار من المستعمل فی الماء الباقی ، لا یوجب الإشکال ، فیکون ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّه من الواضح أنّ المواظبة علی عدم وقوع المنضوح فی الماء ، لیس إلاّ من قبیل العسر والحرج الشدیدین حتّی تصدق الضرورة والاضطرار فی ترکه ، فیفهم منه أنّ المراد من الحَرَج هو الحرج العرفی ، وهذا المعنی موجود فیما نحن فیه ، بالنسبة إلی رجوع الماء إلی الساقیة ثمّ الاغتسال به ، کما لایخفی .

فعلی هذا ، لا یمکن استفادة جواز الغسل بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر مطلقاً من هذا الخبر ، حتّی فیما لو لم یختلط مع ماء آخر ، غیر مستعمل فی رفعه ، کما هو المقصود ، لمن ذهب إلی الجواز .

وثالثة : علی فرض تسلیم دلالته علی الجواز ، نقول مورد الحدیث إنّما هو فیما إذا استعمل الماء المستعمل فی غسل بعض الأعضاء لبعض آخر قبل تمامیّة الغسل ، کما لا یبعد قبوله من حیث الاعتبار أیضاً ، لأنّ مقتضی الجمود علی عنوان (المستعمل فی رفع الحدث) ، هو أن یکون الماء مجتمعاً عن تمام الغسل فی محلّ واحد من إناء وغیره ، فأراد هو أو غیره الاغتسال بذلک الماء ، فتشمله حینئذٍ أدلّة المنع ، مثل خبر عبداللّه بن سنان ، الظاهر فیما یغتسل به الجنب المندرج فی خبر المنع ، فلا یشمل ما لو کان مستعملاً فی مقدارٍ من الغسل .

ویؤیّد ذلک ما لو فرض استعماله فی غسل بعض الأعضاء بنیّة الغسل ، ثمّ انصرف فی الأثناء ، فلا یکون استعماله مثل هذا الماء للوضوء أو الغسل ممنوعاً ، لعدم صدق کونه مستعملاً فی رفع الحدث ، فهکذا الأمر فی المقام .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 6 .

ص:448

فعلی هذا ، یظهر أنّه لا معارضة بین حدیث الجواز وحدیث المنع ، حتّی نرفع الید من أحدهما من جهة بعض المرجّحات الدلالیة ، إلاّ أن یدّعی دلالة کلّ واحد منهما علی الإطلاق فی البعض والکلّ منعاً وجوازاً ، لکنّه مشکل جدّاً .

فأصبحت النتیجة أنّ أدلّة المنع باقیة علی حالها بما ذکرناه من أدلّة الجواز ، فلابدّ من التأمّل فی دلالة الأخبار القادمة إن شاء اللّه .

فعلی ما ذکرنا إنّ قبول أحد الإشکالین الأخیرین ، بل کلیهما ، أولی ممّا قیل فی الجمع بینه وبین دلیل المنع ، تارةً : بحمل حدیث الجواز علی المغتسل نفسه ، إذا أراد الغَسل به ثانیاً ، فیجوز له ذلک ، بخلاف غیره فلا یجوز له لدلالة دلیل المنع .

والوجه هو أهونیّته ، أنّه من الواضح عدم إحراز خصوصیّة فارقة موجبة للحکم بذلک إلزاماً ، مع صدق العنوان علی کلیهما .

واُخری بحمل الجواز ، علی من لم یقصد الاغتسال حین الغسل بذلک الماء ، أو حمله علی الکراهة .

لما قد عرفت من عدم وجود ما یوجب الحمل علی أحد هذین الوجهین مع التمکّن ، إلی ما لا یلزم الحمل علی خلاف الظاهر ، کما لایخفی ، فتأمّل .

فقد ظهر من خلال کلماتنا ، وجه القائلین بالتفصیل بین حال الضرورة _ من الجواز _ وبین الاختیار من المنع ، کما هو الظاهر من الصدوق فی «الفقیه» ، والشیخ الطوسی فی مقام التعرّض للجمع بین الأخبار لا الفتوی ، لأنّهما لاحظا واعتمدا أوّلاً علی ظاهر هذا الحدیث ، والجمع بینه مع الأخبار المانعة بذلک التفصیل .

ولکن قد عرفت عدم وجود المعارضة بینهما حتّی یحتاج إلی مثل هذا الجمع .

ومنها : ما نقله المحقّق الهمدانی فی «المصباح» ، عن «أمالی الطوسی» وهو حدیث میمونة(1) ، قالت : «اجتنبت أنا ورسول اللّه صلی الله علیه و آله فاغتسلت من جفنة ،


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الاسئار، الحدیث 6 .

ص:449

وفضلت فیها فضلة ، فجاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله یغتسل منها ، فقلت : یارسول اللّه إنّها فضلة منّی ، أو قالت : اغتسلت ؟! فقال صلی الله علیه و آله : لیس الماء جنابة» .

وتمسّک الهمدانی قدس سره مع التفاته إلی أنّ ظاهره فی الفضلة ، حیث یفهم أنّه لم تکن قد اغتسلت فی الجفنة ، بل کانت قد أخذها منها للاستعمال فی الغسل ، إلاّ أنّه رحمه الله یستدلّ بالتعلیل الوارد فی الخبر المشعر بأنّ الماء لا یتأثّر بذلک .

هذا ، ولکنّه لا یخلو عن مناقشة :

أوّلاً : من جهة سنده حیث أنّه خبر مرسل .

وثانیاً : إنّ قوله : «اغتسلت من جفنةٍ» حیث أتت بأداة «من» لا «فی» ظاهر فی کون الاغتسال قد وقع خارج الجفنة لا فیها ، خلافاً لما هو الموجود فی خبر ابن عبّاس کما قد تقدّم .

مضافاً إلی ما ذکرنا فی الجفنة من عدم استبعاد کونها بقدر الکرّ ، فحینئذٍ یکون التعلیل وارداً موردکون الغسل فی خارجه ، فکأنّه أراد صلی الله علیه و آله إفهامها بأنّ الماء لم یتأثّر بذلک حال کونه کرّاً ، فلا ینافی تأثیره بالدخول فیه ، وإذا لم یکن کرّاً فدلالتها علی الجواز مشکل جدّاً .

ومنها : خبر محمّد بن علی بن جعفر(1) ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتُسل فیه ، فأصابه الجذام ، فلا یلومنّ إلاّ نفسه ، فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون فیه شفاءٌ من العین ؟

فقال : کذبوا ، یغتسل فیه الجنب من الحرام ، والزانی ، والناصب الذی هو شرّهما» الحدیث .

وهو بظاهره وإن کان یدلّ ولو بالإشعار علی جواز الاغتسال بما یغتسل فیه


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:450

الجنب ، وإلاّ لما کان الغسل صحیحاً ، حتی یترتّب علیه الأثر من إصابة الجذام .

إلاّ أنّه یمکن أن یناقش فیه ، بأنّه لا یبعد أن یکون المقصود مذمّة الغسل فی ماء الخزّان الذی یغتسل فیه جمیع الأفراد ، فیکون وجه حکمه من حیث بیان حفظ الصحّة ، أی لا یصلح الغسل بمثل هذه المیاه ، لإمکان تعرّض المغتسل لبعض الأمراض والعاهات ، کما قد منع الأطبّاء فی زماننا هذا من الاستعمال کذلک ، ولو کان من جهة کونه مرجوحاً ، فعلیه لا یکون الخبر دخیلاً فی ما نحن بصدده ، من عدم المنع عن استعمال الماء المستعمل فی الحدث للغسل .

هذه جملة من الأخبار التی استدلّ بها ، أو یمکن الاستدلال بها للمسألة ، وعرفت عدم تمامیّة شیء منها للدلالة علی الجواز ، حتّی یتعارض مع الأخبار المانعة ، فیکون الحکم بالمنع موافقاً للاحتیاط .

نعم ، إثبات منع استعمال الماء المستعمل فی الغسل غیر الرافع فی الأغسال المندوبة والواجبة عرضاً مشکل جدّاً ، لقصور الأدلّة عن شموله .

ویلحق بذلک قسم خامس : وهو أنّه هل یجوز استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر فی الوضوءات المندوبة غیر الرافعة ، وفی الأغسال الاُخر من المندوبات، أو الأغسال الواجبة عرضاً _ کالمنذور والمحلوف علیه منهما _ أم لا؟ فیتنبیهات الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر

الظاهر _ کما عرفت منّا سابقاً فی بحث الماء المستعمل فی الحدث الأصغر والاستنجاء _ أنّ الأدلّة المتکّفلة لبیان حکم الوضوء والغسل الرافعین من الشرائط والموانع إلاّ ما خرج بالدلیل ، ولذلک تری بأنّ نواقض الوضوء والغسل الرافع تکون نواقضاً لسائر الوضوءات والأغسال ، فإذا منعنا تحصیل الوضوء والغسل بمثل هذه المیاه ، فلا یبعد الحکم بالمنع فی مثل تلک الوضوءات والأغسال المندوبة والواجبة عرضاً .

مضافاً لاشتمال بعض الأدلّة علی ما یفهم منه التعمیم ، نظیر ما فی خبر محمّد

ص:451

بن علیّ بن جعفر(1) بقوله علیه السلام : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتسل فیه فأصابه الجذام . . الحدیث» .

وصحیح محمّد بن مسلم(2) فیحدیثٍ : «ولا تغتسل من ماء آخر» ، فلیس فیه عنوان غُسل الجنابة .

مضافاً إلی إمکان تعمیم لفظ (التوضّی) وأشباهه ، الموجود فی خبر عبداللّه بن سنان(3) لتلک الوضوءات والأغسال کما لایخفی .

کما لا فرق فی المستعمل فی الحدث الأکبر بین أقسامه من الحیض والنفاس والاستحاضة ، بتنقیح المناط عن خصوصیّة الجنابة ، ولفظ (أشباهه) ، _ علی احتمالٍ _ فی خبرابن سنان ، إلی عدم وجود القول بالتفصیل .

فالأحوط عدم جواز التوضی ء والاغتسال بجمیع أقسامه ، بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر مطلقاً .

وینبغی التنبیه علی اُمور :

الأوّل : إنّه علی القول بعدم جواز الاستفادة من الماء المستعمل فی غسل الجنابة الصحیح، فهل یکون المستعمل فیالغسل الفاسد کالمستعمل فی الصحیح أو لا ؟ وجهان :

من صدق اغتسال الجنب منه فلا یجوز .

ومن أنّ العبرة هو رفع الحدث بذلک ، کما هو المستظهر من کلمات الأصحاب ، حیث جعل بعضهم العنوان فی کلامه المستعمل فی رفع الحدث .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:452

بل یمکن دعوی ظهور خبر عبداللّه بن سنان ، بقوله : «أو یغتسل به الجنب» فی الغسل الصحیح ، فلا یشمل الفاسد .

وهذا هو الأقوی ، وإن توقّف الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» حیث لم یختر أحد الوجهین بعد نقلهما ، الظاهر فی التوقّف .

الثانی : هل یعتبر فی صدق المستعمل الانفصال عن البدن مع تمامیّة الغسل ، أو یکفی فیه تمامیة الغسل ، ولو لم یکن الماء منفصلاً عن بدن المغتسل ؟

الظاهر أنّ الانفصال عن بدنه وعدمه لا خصوصیّة فیهما فی حکم المسألة ، إذ ربما یمکن أن یکون الماء غیر منفصل عن بدنه ، مع ذلک لایجوز الاغتسال منه ، لصدق عنوان کونه مستعملاً فی رفع الحدث ، وهو کما لو ارتمس فی الماء الذی کان أقلّ من الکرّ بمقدار یسیر ، ونوی الغسل خارج الماء وغمس فیه ، فحینئذٍ بالرمس قبل الخروج یصدق علی ذلک الماء أنّه مستعمل ، فلایجوز لغیره أن ینوی الغسل فیه واستعماله .

کما لایجوز لنفس المغتسل أن ینوی غسلاً واجباً آخر بنفس الماء الذی ارتمس فیه للغسل الذی هو أقلّ من الکرّ ، إلاّ أن یُشکل صدق الاستعمال بمثل هذا المقدار من الماء الذی هو أقلّ من الکرّ عند العرف ، کما لا یکون مطلق الانفصال موجباً للمنع ، کما لو فرض استعمال الماء فی غسل بعض أعضاءه ونوی ذلک ثمّ أراد بعده غسل بقیّة الأعضاء باستعماله ثانیاً للباقی ، فالظاهر من المبنی الذی اخترناه واستظهرناه ، من کون الملاک فی المنع هو صدق کون الماء مستعملاً فی رفع الحدث ، وذلک لا یصدق إلاّ بعد الإتمام .

مضافاً إلی أنّ العرف یری مجموع هذا الاستعمال من أوّل الغسل إلی آخره ، استعمالاً واحداً ، کما ذکره الشیخ الأعظم ، ونعم ما ذکره ، فلا یصدق لما یأخذه ثانیاً ویستعمله أنّه استعمالاً ثانیاً ، حتّی یکون ممنوعاً ، فیجوز الغسل به ، سواء

ص:453

کان لنفس المغتسل أو غیره .

فعلی هذا یظهر أنّ الغسل بالماء المستعمل فی غسل بعض الأعضاء ، مع قصد الغسل قبل إتمامه ، لایوجب المنع عن استعماله ثانیاً لنفس المغتسل ، لعدم صدق کونه مستعملاً فی الغسل ، إلاّ بعد إتمام الغسل ، کما قد استظهر ذلک من صحیح علی بن جعفر(1) ، علی احتمال .

فمجرّد الانفصال من دون صدق تمامیّة الغسل ، لا یضرّ فی جواز الاستعمال .

بل قد عرفت أیضاً ظهور خبر ابن سنان علی الغسل الرافع للحدث الحاصل من الغُسل التام لا خصوص غسل بعض الأعضاء ، فلازم ما ذکرنا هو جواز الغسل بالماء المستعمل فی غسل الجنابة ، إذا وقع فی أثنائه الحدث الموجب لبطلانه ، لأنّ ما استعمله لم یکن رافعاً ، حتّی یمنع عن الاغتسال به ، خلافاً للسیّد الاصفهانی قدس سره حیث حکم بالمنع من وجهین :

أوّلاً : صدق کونه مستعملاً فی غُسل الجنابة إذا استعمله بذلک القصد ولو لم یتمّ .

ثانیاً : من جهة أنّ الألفاظ الشرعیّة _ منها الغُسل _ موضوعة للأعمّ من الصحیح ، لا لخصوص الصحیح فقط ، حتّی لا یصدق الغسل هنا إذا فرض فساده . کما فی «الروائع»(2) .

نعم ، غایة ما یرد علی ما اخترناه ، هو أن یقال : إنّ الماء إذا انفصل عن أعضاء الجنب حین الغسل ، واجتمع فی أمکنة متعدّدة ، فلا یصدق علی کلّ واحد من الماء المصبوب منفرداً أنّه مستعمل ، لکونه مست عملاً فی بعض الأعضاء فیمکن الاغتسال بالماء المستقلّ فی مکان واحد علی حدة .


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- الروائع الفقهیة : ص98 .

ص:454

فتطبیق العنوان وهو المستعملیّة ، علی خصوص الماء الأخیر لأنّه یصدق علیه ذلک دون غیره ، أو تطبیق العنوان علی جمیع أجزاء المیاه الواقعة فی الأمکنة المتعدّدة ، أو عدم انطباق العنوان علی أحد من المیاه _ لأنّ کلّ واحد إذا لوحظ مستقلاًّ کان مستعملاً فی الجزء من الغسل لا الکلّ _ وجوهٌ أقواها هو الثانی .

إلاّ أنّه یبعده القول بأنّه کیف یتعلّق علیه العنوان بعد حدوث فاصل زمانی إلی أن یتمّ الغسل ؟

وبعبارة اُخری : کان الاستعمال منه جائزاً حتّی إن أتمّ الغسل فصار ممنوعاً ، فلازمه صیرورة الماء بعد الانفصال ذا حکمین ، وهمنا الجواز قبل التمامیّة ، والمنع بعد التمامیّة ، وهو بعیدٌ جدّاً .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّه کان ممنوعاً واقعاً ، إذا کان فی الواقع ینضمّ إلیه بقیّة الغسل وهو لا یعلم ، فبعد الإتمام ینکشف المنع للجمیع من أوّل الأمر ، وإلاّ فلا .

وهو لا یخلو من وجه ، فعلیه یلزم المنع من استعمال الماء المستعمل فی بعض الأعضاء من جهة احتمال الانضمام .

نعم ، لو تجرّی واغتسل ولم یتمّ الغسل ، لا تبعد الصحّة ، لولا الإشکال من جهة قصد القربة .

فظهر من جمیع ما ذکرنا الجواب عن الوجهین المذکورین فی کلام السیّد ، لأنّا لا نسلّم صدق عنوان الغسل بالماء المستعمل فی بعض الأعضاء ، إذا لم ینضمّ إلیه غسل بقیّة الأعضاء ، نعم یصدق ذلک بعد الانضمام .

کما ظهر أیضاً أنّ ذلک الاستظهار عن خبر علیّ بن جعفر ، وخبر ابن سنان لایکون مربوطاً بباب وضع الألفاظ الشرعیّة بکونها للأعمّ أو الأخصّ ، وهو الصحیح لأنّه استظهار من لسان الدلیل ، لا من جهة صدق عنوان الغسل ، حتّی یقال إنّه موضوع للأعمّ من الصحیح .

ص:455

فتأمّل ، فیما ذکرنا ، فإنّه دقیق ، وبالتأمّل فیه حقیق .

والحاصل : أنّ الماء المستعمل فی غسل بعض الأعضاء یکون له صور متفاوتة ، لأنّه یکون :

تارةً : غیر منفصل عن بدن المغتسل ، وأراد إجراءه علی سائر الأعضاء .

فلا إشکال فی جوازه ، وعدم صدق الماء المستعمل الممنوع علیه ، وإلاّ للزم القول بوجوب استعمال ماء جدید لکلّ عضو من الأعضاء ، وهذا مخالف للأدلّة والفتوی ، وهو واضح لا غبار علیه .

واُخری : ما یکون مستعملاً فی البعض _ مثل الرقبة والرأس _ وانفصل الماء بعد الغسل ، ولکن لم یوفّق الغاسل بإتمام غسله لعروض مبطل له ، وهذا قد عرفت فیه أنّه لا یبعد القول بجواز الاغتسال به لنفس المغتسل ولغیره ، لعدم صدق العنوان علیه عندنا ، وإن کان قد منعه السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع الفقهیّة» ، وتوقّف فیه الشیخ الأعظم فی «طهارته» .

وثالثة : مثل الصورة الثانیة لکنّه استطاع الإتمام بعد ذلک .

فهو قد یلاحظ حاله قبل تمامیّة الغسل ، والآخر بعده .

وأمّا علی الأوّل : فصدق العنوان علیه معلّقٌ علی الشرط المتأخّر ، فلو قیل بالمنع لا یکون إلاّ من جهة احتمال تحقّق شرطه ، کما هو الظاهر عند العرف ، فکأنّه لم یحرز عدم کونه مستعملاً ، إلاّ بمثل الأصل ، وجریانه هنا لا یخلو عن إشکال ، لأنّ المفروض وجود هیئة اتّصالیة یوجب جریان استصحاب البقاء .

نعم ، تجری أصالة عدم الانضمام ، فیما إذا حصل انفصال بین غسل الأعضاء وشکّ فی إتیان بعض آخر بعده ، فیحکم بالأصل بعده ، من جهة إمکان وقوع الحدث فیالأثناء واختلال الاتّصال المعتبر فیه .

وکیف کان ، فلو قلنا بالجواز واغتسل ، ثمّ انکشف الانضمام بعضه مع بعض ،

ص:456

فلابدّ من إعادته .

کما أنّه إذا قلنا بالمنع وتجرّی وأتی به ، ثمّ انکشف عدم الانضمام ، فیجوز الاکتفاء به ، لو لم یکن الإشکال وارداً من جهة عدم تمشّی قصد القربة مع العلم بالمنع .

ولا فرق فی هذه الصورة منعاً وجوازاً للمغتسل نفسه أو غیره .

کما لا فرق فی نفس المغتسل بین أن یصرفه فی بقیّة هذا الغسل أو لغُسل آخر ، لاشتراک الملاک فی الجمیع ، کما لایخفی .

کما لا فرق بین القول بطهارة کلّ عضو بغسله ، أو بطهارته بعد تمام الغسل ، کما فیالوضوء .

نعم فی الأوّل المنع أوضح .

وأمّا حکم الثانی وهو کونه بعد إتمام الغسل ، فلا إشکال فی ممنوعیّته حینئذٍ للمغتسل وغیره ، لأنّه القدر المتیقّن من الماء المستعمل ، سواء کان ماء مجموع الغسل أو ماء بعض أعضاءه الذی کان قد غسله لأجل رفع الحدث ، کما هو واضح .

ولا فرق فیما ذکرنا من الوجوه والصور ، بین کونه قد استعمل الماء فی الغسل الترتیبی أو الارتماسی ، إذا کان فی الماء القلیل .

تذهیب وتفریع : واعلم أنّ الجُنبین إذا ارتمسا فی الماء القلیل ، بقصد الغُسل ، دفعة واحدة ، یرتفع حدثهما ، وکان صحیحاً ، لعدم صدق عوان الماء المستعمل حین غسلهما علیه .

هذا إذا لم یعلم التقدّم والتأخّر ، بل قد علم تقارنهما .

وأمّا لو علم تقدّم أحدهما علی الآخر ثمّ اشتبه ، فهو أیضاً یکون صحیحاً عن کلیهما ، لأنّ الأصل الجاری فی کلّ واحد منهما یحکم بصحّته ، من جهة عدم تأخّره عن الآخر ، وإلاّ یکون معارضاً بالأصل الجاری للطرف الآخر ، لأنّ متعلّق العلم الإجمالی منحصرٌ فی شخصین ، ولا یکون العلم حینئذٍ منجزاً لأحدهما ،

ص:457

ولا یکون الأصل معارضاً بالآخر ، فیحکم بالصحّة لکلّ منهما .

نعم ، لو اقتدی أحدهما بالآخر ، فیحکم ببطلان صلاة المأموم ، لعلمه ببطلان صلاته تفصیلاً ، إمّا بواسطة بطلان صلاة الإمام لبطلان غسله ، أو بطلان غسل نفسه ، فیصیر کواجدی المنی فیالثوب المشترک .

ولا یفید القول بصحّة عمل کلّ عند نفسه ، وکون اقتداءه بالصلاة الصحیحة عند الإمام . لما قد عرفت کون الإشکال من جهة علمه تفصیلاً ببطلان صلاته ، بتحقّق أحد الأمرین . نعم ، صلاة الإمام محکومٌ بالصحّة من جهة ما ذکرنا فی الحالة السابقة ، فلیتأمّل .

الثالث : إن قلنا بالمنع عن استعمال الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر _ کما هو المختار احتیاطاً _ فهل یکون الماء المستعمل فی الحدث المشکوک ، کالمستعمل فی الحدث المتیقّن أم لا ؟ وجوه وصور :

تارةً : یکون الحدث المشکوک منفیاً بالأصل التعبّدی ، مثل استصحاب الطهارة _ لیقینه بحالته السابقة من الطهارة ، أو کان فی مورد لا یکون الأصل الجاری فی حقّه معارضاً بالمثل ، لعدم تنجّز العلم الإجمالی فی حقّه ، نظیر ما عرفت فی الفرع السابق ، کواجدی المنی فی الثوب المشترک ، فلا إشکال حینئذٍ فی جواز استعمال هذا الماء المستعمل فی الحدث المشکوک ، لأنّ مقتضی الأصل عدم کون الماء مستعملاً فی الحدث ، وهو واضح .

واُخری : أن یکون الماء مستعملاً فی الحدث الذی کان مقتضی الاحتیاط ، هو لزوم الغسل لا إثبات الحدثیّة واقعاً ، نظیر من یعلم بوجود الجنابة ، ولا یعلم تقدّم أحدهما علی الآخر ، وحکمنا حینئذٍ بوجوب الغسل له ثانیاً بمقتضی الاحتیاط ، فحینئذٍ هل یجوز له استعمال مثل هذا الماء أم لا ؟ وجهان :

من عموم مطهریة الماء للحدث ، الشامل لما نحن فیه ، وعدم القطع بما یزیل

ص:458

هذا العنوان ، واحتمال وجود المزیل له حینئذٍ ، یقتضی الأصل عدمه .

ومن أنّ الاحتیاط کما یحکم بأنّه ممنوعٌ لدخول الصلاة لاحتمال محدثیّته ، وعدم القطع بزواله ، فیکون محدثاً تعبّداً ، أی بواسطة العلم الإجمالی المقتضی للاحتیاط ، فکذلک یحکم بالممنوعیّة بالنسبة إلی ماءه لکونه مستعملاً .

وهذا هو مختار صاحب «الحدائق» علی ما حُکی عنه ، لأنّ الأحکام تترتّب علی الظاهر لا علی نفس الأمر والواقع ، وبناءً علیه فهو محدث ظاهراً بمقتضی الاحتیاط ، فیکون الماء مستعملاً فی الحدث الظاهری ، فیکون ممنوعاً .

ولکن الأقوی هو الأوّل ، لأنّه حتّی لو سلّمنا بوجوب الغسل علیه ثانیاً _ بمقتضی الاحتیاط _ للصلاة ، ولکن لا نُسلّم کون مقتضی ذلک ترتیب جمیع آثار المستعمل علیه ، مع کون الأصل الجاری فی طرفه _ وهی عدم کونه مستعملاً فی الحدث _ یکون بلا معارض ، فإثبات المنع هاهنا یکون فی غایة الإشکال .

وما ادّعاه صاحب «الحدائق» قدس سره لا یخلو عن إشکال ، لوضوح أنّ الأحکام الشرعیة مترتّب علی الواقع لا علی الظاهر ، غایة الأمر قد یکون الآثار المترتّبة علی الظاهر بواسطة وجود الاُصول المحرزة ، أو بواسطة تنجز العلم الإجمالی ، کما هو مقرّر تفصیلاً فی محلّه .

مضافاً إلی إمکان الاستظهار من خبر عبداللّه بن سنان ، کونه مستعملاً فی الحدث الواقعی ، أو کان بمنزلة الواقعی تعبّداً ، بواسطة الاُصول المحرزة الملحق بالحدث الیقینی ، کما لایخفی ، وفاقاً للآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» فی الحکم بالجواز ، کما قلنا .

ثالثة : ما یکون مستعملاً فی الحدث المحرز بالأصل _ کاستصحاب الحدث _ فحینئذٍ لا یبعد القول بالمنع عن الماء المستعمل فیه ، لأنّه حینئذٍ وإن لم یکن محدثاً وجداناً وحقیقةً إلاّ أنّه حیث کان یصدق علیه أنّه محدث تعبّداً ، فیحکم بعدم الجواز للماء المستعمل فیه ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

ص:459

والمستعمل فی الوضوء طاهرٌ ومطهّرٌ(1)

طهارة الماء المستعمل فیالوضوء

(1) الماء المستعمل علی أقسام: إذ تارةً یکون مستعملاً فی رفع الخبث، وقد عرفت حکمه فی قسمیه، من النجاسة فی غُسالة غیر الإستنجاء، والطّهارة فیه .

واُخری یکون مستعملاً فی رفع الحَدَث .

وثالثةً: یکون مستعملاً فی تحصیل الطهارة المعنویّة، ولو نسبیّاً من دون رفع للحدث.

ففی الأوّل منهما: قد یکون رافعاً للحدث الأصغر فقط، أو للأکبر فقط، أو لهما .

وفی الثانی: قد یکون رافعاً لتکلیفٍ وجوبی، أو لتکلیف ندبی ، وقد یکون مبیحاً، وقد لا یکون ، سواء کان بصورة الوضوء أو بصورة الغسل .

فلا بأس بالإشارة إلی جمیع هذه الصور، مع المزج بکلام المصنّف قدس سره .

وأمّا الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع، لا إنفراداً ولا منضمّاً، کما سیأتی المراد منه إن شاء اللّه، فلا إشکال فی أنّه طاهرٌ، وعلیه إجماع المسلمین، وهو کالوضوء التجدیدی والصُّوری (والوضوء الندبی للغایات المستحبّة، إذا لم نقل بکونه رافعاً للحدث ، بل وهکذا الماء المستعمل فی الأغسال المندوبة غیر الرافع) لدلالة أدلّة طهارة الماء بإطلاقها، وعدم ما یصلح للحکم بنجاسته، وهو واضحٌ .

وأمّا مطهّریّته من الحدث الأصغر، أو الأکبر، أو الخبث: فلولا وجود دلیلٍ علی العدم، کان مقتضی الإطلاقات الأوّلیة هو الجواز، فلابدّ من إقامة دلیلٍ علی الخلاف ولو مع الکراهة، مثلاً .

وقد نُسب للشیخ المفید قدس سره استحباب التنزّه، عن الماء المستعمل فی الطّهارة المندوبة، من الغُسل والوضوء المندوبین، بل المستعمل فی الغَسل (بالفتح) المستحب کاستحبابه فی الید لأکل الطعام .

هذا، کما فی «التنقیح» بخلاف ما عن صاحب «الجواهر» قدس سره نقلاً عن الشهید

ص:460

گفی «الذکری» والمفید، هو استحباب التنزّه فی الماء المستعمل فی الوضوء خاصة من دون ذکر کونه رافعاً أو غیر رافع ، بل نَقل الشیخ الأعظم عن صاحب «المقنعة» أنّه موافق للسابق .

وکیف کان، فقد أورد علیه الأصحاب، بعدم الدلیل علی ما أدّعیاه، کما فی «الجواهر» وغیره ، ونُقل عن شیخنا البهائی قدس سره فی «الحبل المتین» ردّ الأصحاب، وإقامة الدلیل تأییداً للمفید قدس سره ، بأنّه یکفی فی ذلک دلالة خبر محمّد بن علی بن جعفر عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، فی حدیث، قال : «مَنْ إغتسل من الماء الذی قد اغتسل فیه، فأصابه الجذام، فلا یلُومنّ إلاّ نفسه »(1) الحدیث .

فإنّ إطلاق الغَسل یشمل الواجب والمندوب .

ثمّ قال الشیخ البهائی : والعجبُ من الأصحاب، کیف لم یلتفتوا، ولم ینتبهوا إلی هذا الحدیث؟!

فأجابه صاحب «الحدائق»: بأنّ ذیل الحدیث، قرینةٌ علی کون المراد من ماء الغسل فی الصَّدر هو ماء الحمّام، إذ جاء فی ذیله، فقلت لأبی الحسن علیه السلام : «إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاءٌ من العین .

فقال : کذبوا یغتسل فیه الجُنُب من الحرام، والزّانی، والنّاصب: الّذی هو شرّهما، وکلّ من خلق اللّه ، ثمّ یکون فیه شفاءٌ من العین» .

ثمّ طعن رحمه الله وقال : هذا من الآفات التی تحصل من تقطیع الحدیث، انتهی محصّل کلامه .

وفی «التنقیح»: أنّه یمکن دعوی عدم منافاة ذیله، بکونه حکماً مستقلاًّ مع إطلاق الصدر، فیدلّ علی الحکم سواءٌ فی ماء الحمّام أو غیره، فیکون دلیلاً لقول


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2.

ص:461

المفید رحمه الله ، إلاّ أنّه یمکن أن یکون وجه ردّ الأصحاب بعدم الدلیل، کون الخبر فی مقام الإرشاد للنّاس، من جهة مراعاة حفظ الصحّة، بالاحتراز عن الماء الذی یکون حاله کذلک، من اغتسال الجنب وأضرابه، الذی یؤدّی إلی تفشّی الأمراض، عند عدم الاحتراز منه، فیکون ذلک من قبیل الإرشاد إلی سائر الاُمور التی تترتّب الفائدة علی العمل بها مثل شرب الماء قاعداً فی اللیل، وأمثال ذلک، حیث لا یکون الأمر والنهی مولویّاً، حتّی یکون مستحبّاً أو مکروهاً.

فثبت أنّ الحقّ مع الأصحاب، القائلین بعدم الدلیل علی ما ذهب إلیه المفید قدس سره ، انتهی ملخّص کلامه .

هذا ، ولکنّ الإنصاف إمکان الاستفادة من مثل الحدیث، لإستحباب التنزّه تبعاً للمفید رحمه الله علی ما فی «التنقیح» والشهید، والشیخ البهائی، بالتقریب الذی نذکره، وهو أن یقال، _ بعد ملاحظة ما کان متعارفاً فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، حیث کانوا یغتسلون بالماء القلیل فی الحیاض المتّصلة بالخزّانات کما اُشیر إلیه فی عددٍ من أخبار ماء الحمّام، بقوله : «إذا کانت له مادّة» _ أنّه لیس المراد من قوله : «قد اغتسل فیه» _ الماء الکثیر الّذی فی المخزن، کما کان متعارفاً فی قدیم الزمان من الغسل فی الأحواض الکبیرة. طهارة الماء المستعمل فیالوضوء

فعلی هذا وإن کان مورد النهی المستفاد من الجملة الشرطیّة، هو خصوص الغسل لا الوضوء، إلاّ أنّه یُفهم من تعلیق الجزاء بقوله : فأصابه الجُذام أنّ المقصود هو عدم استعماله، والتحرّز عنه، تنقیحاً للمناط ، فعلی هذا، یصحّ دعوی الإطلاق للغُسل والوضوء، حتّی الغَسل (بالفتح)، بلا فرقٍ بین الواجب والمندوب، کما لایخفی .

ونضیف إلیه، بأنّ کون ذیل الحدیث لماء الحمّام، لا یُنافی حکم صدره، لا لما ذکره الخوئی فقط، من کونهما حکمین مستقلّین _ بل مضافاً إلی إمکان ذلک _ هو أن یُقال : لا ریب أنّه لا خصوصیّة لماء الحمّام قطعاً إذ المقصود هو کون الماء

ص:462

مستعملاً بهذه الکیفیّة، ولو کان خارج الحمّام .

نعم ، ذِکْرُ الحمّام کان من جهة وجود الشأنیّة لذلک فی الحمّام، دون غیره .

فعلیه نقول : إنّ ما ادّعاه فی «التنقیح» من کون الحکم إرشادیّاً لا مولویّاً، فی غایة البُعد، إذ فیه أوّلاً ، یلزم أنْ لا یکون لنا حکمٌ کراهتی أو استحبابی، فی کلّ موردٍ یحتمل أن یکون الأمر أو النهی فیه لمصلحةٍ أو مفسدة دنیویّة .

وثانیاً : أنّه لا إشکال فی کون جمیع أحکام الشرع أن تکون کذلک ، فإنّا لا نری أیّ منافاة بین کون الحکم مشتملاً علی المنافع الدنیویّة، والمصالح الاُخرویّة من أمثال أمر المولی ونهیه وترتّب الثّواب علیه.

هذا الکلام من جنابه عجیبٌ، وأعجبُ منه إلحاق مثل شرب الماء فی اللیل قائماً وأمثال ذلک إلیه، إذ بذلک یوجب تعطیل کثیرٍ من أحکام المستحبّات والمکروهات.

فثبت من جمیع ما ذکرنا، عدم استبعاد الحکم باستحباب التنزّه، لولا قیام الإجماع علی خلافه ، وحیثُ کان الحکم فی الکراهة والإستحباب أهون من سائر الأحکام، فحقیقٌ أن یُصرف عنه .

وهکذا ظهر أنّ الأقوی هو الحکم باستحباب التنزّه مطلقاً، لا فی خصوص الوضوء، کما فی «الجواهر»، وإنْ کان إثبات تساوی حکم الماء المستعمل فیالوضوء مع حکم المستعمل فی الغسل من هذا الحدیث _ مع وجود شّبهة التعلیل فیه _ مشکلٌ جدّاً ، مضافاً إلی إمکان إثبات الجواز، فیما سیأتی للوضوء .

والحاصل أنّ استحباب التنزّه عن الماء المستعمل فی الغُسل والغَسْل فی الطهارة، وإثباته فی المستعمل فی الوضوء مشکلٌ، کما أنّ الأحسن الاجتناب عنه أشکل.

وأمّا القسم الثانی: وهو الماء المستعمل فی الوضوء، الرافع للحدث بإنفراده،

ص:463

فلا إشکال فی طهارته، بل هو ضروری المذهب، خلافاً لأبی حنیفة، حیثُ ذهب إلی نجاسته بنجاسته مغلّظة، حتّی أنّه منع الصّلاة فی الثوب الذی أصابه بمقدارٍ أکثر من الدرهم، وأبی یوسف حیث یقول بنجاسته نجاسةً خفیفة، ویجوزُ الصَّلاة فی الثوب المذکور ،

الماء المستعمل فیالوضوء الرافع للحدث

فیدلّ علی طهارته: الدلیل، والإجماع وإطلاقات الأدلّة علی طهارة الماء حتّی بعد استعماله فی رفع الحدث، کما تقتضی تلک الإطلاقات أیضاً مطهّریته عن الخبث والحدث، ومن الأصغر والأکبر، کما یقتضیه الأصل والإجماع .

بل قد یدلّ علیه ذیل روایة عبداللّه بن سنان، مع إطلاق صدره حیث یشمله قطعاً وهو: عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن تتوضّأ بالماء المستعمل... إلی قوله : وأمّا الذی یتوضّأ الرَّجُل به، فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیفٍ، فلا بأس أن یأخذ غیره ویتوضّأ به»(1) .

وفی «الروائع الفقهیّة»: أنّ ظهور الصدر فی کون المراد من المستعمل، هو کونه مستعملاً فی الوضوء بالخصوص لا بالإطلاق، واضحٌ، لأنّ أمثال هذه الجملة، مثل قوله : «لاتستنجی بالأحجار المستعملة، ولا تتیمّم بالتراب المستعمل» ، ظاهرةٌ فی الإستعمال فی الجهة المذکورة فی الکلام، فهکذا یکون فی المقام، فکأنّ المراد هو کونه مستعملاً فی الوضوء ، وقوله لا یخلو عن وجهٍ فی الجملة، إلاّ أنّه لا یساعد مع قوله : بأنّ التفصیل الذی یذکره الإمام علیه السلام من النهی عن المستعمل فی غَسل الثّوب، وغُسل الجنابة، کان من جهة إیهام الإطلاق فیما وقع قبله.

لأنّه إذا کان یقصد ظهوره فیه بالخصوص، فلا وجه للإیهام حینئذٍ أصلاً .


1- وسائل الشیعة: الباب 13، الحدیث 9.

ص:464

کما أنّ قوله : وکلّ مَنْ قال بمقالته، کالآملی والخوئی، بأنّ ذیل الحدیث یدلّ علی الجواز.

لا یخلو عن مناقشة ؛ لأنّ الذیل محفوفٌ بما یظهر من کونه مستعملاً للغَسل لا الوضوء الاصطلاحی، وهو قوله: «یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف»، حیثُ إنّ ظهوره یکون فی التطهیر بمعنی الغَسْل والتوضّی اللّغوی، خصوصاً إذا قلنا بکون النظافة کانت فی قبال القذارة لا النّجاسة، کما احتملناه سابقاً .

ولکنّ الإنصاف، أنّ دلالة صدره بإطلاقه علی الجواز فی المقام قویٌّ عندنا، لأنّه وارد فی مقام الردّ علی العامّة الذین لا یجوّزون الوضوء بالماء المستعمل، فیکون من باب ذکر الإطلاق وإرادة أحد أفراده، لأنّه قد خرج عنه بالتنصیص لما یستعمل فی غَسل الثّوب تحریمیاً أو تنزیهیّاً، کما احتملناه.

وهکذا فی غُسل الجنابة أیضاً، کما عرفت، وتنصیصه بالجواز فی خصوص الغَسل للنظافة ، فبقی الفرد فی تحت الإطلاق هو الوضوء فقط، فکأنّ الحدیث بحسب صدره دالٌّ إمّا علی ما ذکره السیّد الاصفهانی قدس سره أو بما قرّرناه وقویّناه.

وقد استدلّ لذلک أیضاً بصحیح زرارة: عن أحدهما علیهماالسلام : قال : «کان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أُخذ ما یسقط من وَضوئه فیتوضّئون به»(1).

بل فی «مستند الشیعة» للنراقی قدس سره اختیار استحباب التوضّی بالماء المستعمل فی الوضوء، تمسّکاً بهذا الحدیث.

فیردّه بعدم کونه للتعمیم لغیره، فتدبّر .

والظاهر أنّ دلالته علی الجواز غیرُ بعیدٍ، لأنّه إن کان أصل ذلک ممنوعاً، کان علی الإمام علیه السلام البیان، کما فعل _ روحی له الفداء _ فی غیر هذا المورد، من النهی


1- وسائل الشیعة: الباب الأوّل، الحدیث 8.

ص:465

عن ما لا یکون جائزاً، کما هو شأنه ، واحتمال اختصاص الجواز به صلی الله علیه و آله بعیدٌ فی الغایة ؛ لأنّ المقام یقتضی بیان عدمه فی غیره، وتنبیهه النّاس علیه؛ فعدم ذکره دلیلٌ علی الجواز کما لایخفی ، وأمّا استفادة الإستحباب من ذلک لغیره صلی الله علیه و آله غیرُ معلومٍ، إن لم یکن معلومٍ العدم .

ثمّ لا یخفی علیک، أنّ مضمون حدیث زرارة قد نقله الصَّدوق رحمه الله جزماً عن الإمام علیه السلام ویعدّ الخبر معتبراً عنده لتصریحه فی بدایة کتاب «من لا یحضره الفقیه» بأنّه یفتی علی طبق الاخبار التی أوردها فی الکتاب وإلیک نصّ الخبر: وسُئل أبو الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، عن مجتمع الماء فی الحمّام، عن غُسالة النّاس، یُصیب الثّوب منه ؟ فقال : لا بأس به، ولا بأس بالوضوء بالمستعمل، وکان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أخذ النّاس ما یسقط من وضوئه فیتوضّئوا به»(1) .

وقوله علیه السلام فی صدر الخبر: «ولا بأس بالوضوء بالمستعمل»، فإنّها تؤیّد بأنّ عمل النّاس مِنْ أخذ وَضوء النبیّ صلی الله علیه و آله ، لا یختصُّ به فقط، لأنّه ورد فی مقام الاستشهاد به فیما نحن فیه، وذلک بقوله : لا بأس... إلی آخره ، مضافاً إلی کون الاستشهاد بقضیة رسول اللّه یفهم منه کون المراد من إطلاق «لا بأس بالوضوء بالمستعمل» هو المستعمل فی الوضوء، فیکون هذا الخبر قرینة ومفسّرة لخبر عبداللّه بن سنان فی إرادة هذا المعنی، واللّه العالم .

فإذا ثبت جواز رفع الخبث والحدث مطلقاً، بالماء المستعمل فی الوضوء الرافع، فغیر الرافع منه یکون بطریق أولی.

فهذا هو السبب فی دعوانا الإشکال فی غیر الرافع، ردّاً علی الشهید فی «الذکری»، والمفید فی خصوص الوضوء، إذ لم یثبت لنا دلیل علی استحباب الترک أیضاً .


1- الفقیه: 4 / ح20.

ص:466

فنتیجة البحث الأقوی جواز استعمال الماء المستعمل فی الوضوء _ رافعاً کان أو غیره _ فی رفع الخبث والحدث الأصغر والأکبر بمقتضی دلالة الأدلّة.

وقوله إشارةٌ إلی القسم الثالث: وهو المستعمل فی الوضوء المنضمّ مع الغُسل، فی رفع الحدث کالوضوء، فی غیر الجنابة، من الحَدَث الأکبر، من الحیض والنفاس والاستحاضة، بناءً علی القول بکون الرافع هو الغسل والوضوء معاً لا بالغسل وحده .

وذلک _ مضافاً إلی إمکان الاستفادة من إطلاق أدلّة الجواز المذکورة آنفاً، حیث یشمل لمثل ذلک ، بل إمکان دعوی الأولویّة الظنّیة علی أقلّ تقدیر، لو لم تکن قطعیّة، بأنّه إذا کان رافعاً للحدث بإنفراده، فإنّه لایکون مانعاً عن استعماله ثانیاً ، فصورة الانضمام یکون بطریق أولی لکونه أضعف، وإن أمکن الإشکال فیه من جهة أنّه استعمل فیما کان الحدث فیه أکبراً لا أصغر، ولذلک فإنّه یصعب إحراز الأولویّة هاهنا _ .

إنّه یمکن دعوی انصراف إطلاق الأدلّة الدالّة علی المنع، عن المستعمل فی الحدث الأکبر عن مثل هذا الوضوء، وإن ذهب صاحب «الجواهر» قدس سره فی کتاب «شرح النجاة»، علی ما حکی عنه إلی نفی البُعد عن شمول النزاع للمقام، مستدلاًّ بأنّ المفروض کون رفع الحدث الأکبر منوطاً بهما _ أی الغسل والوضوء _ .

بل یظهر من الشیخ الأعظم دعوی الإجماع علی الجواز فی جمیع أقسام الوضوء فی کتاب «الطهارة» سواء کان رافعاً أم غیر رافع، وسواء کان مع الإنضمام أو الانفراد، کما هو کذلک بحسب لسان الأدلّة، کما عرفت فلا نعید .

من هنا ظهر حکم سائر أقسام الماء المستعمل فی الوضوء، مثل ما لو کان

ص:467

مستعملاً فی الوضوء المنذور، أو المحلوف علیه، أو غیره من المندوبات والواجبات، لأنّ جمیعها تعدّ أهون من الوضوء الرافع ، فإذا أجزنا فی المستعمل فیه استعماله ثانیاً فی رفع الخبث والحدث مطلقاً، فغیره جائزٌ بالأولویّة القطعیّة.

کما لا فرق فی الجواز، بین أن یستعمله شخص المتوضّی أوّلاً مرّة اُخری، أو یستعمل غیره .

وتوهّم الفرق، لاشتمال ذیل حدیث عبداللّه بن سنان ذلک، بقوله : «فلا بأس أن یأخذ غیره فیتوضّأ به»، فلا یشمل ما کان مستعملاً بنفسه ثانیاً .

مخدوشٌ ؛ أوّلاً : بالقطع بعدم الفرق بینهما، لعدم خصوصیّة لذلک فی الحکم، وکأنّ المقصود إفهام الحکم به بحسب الغالب .

وثانیاً : هو مخالفٌ للإجماع المرکّب، لعدم وجود قول بالتفصیل أصلاً ، وهو واضح .

وأیضاً لا فرق فی الجواز بین أن یستعمله فی رفع الحَدَث الأصغر، أو الحَدَث الأکبر، لما قد عرفت فی صدر المسألة، بأنّ مقتضی إطلاقات الأدلّة هو الجواز ، إلاّ أن یقوم دلیلٌ علی المنع، وحیث لم یکن موجوداً فیعمل بتلک الإطلاقات، وإن کانت الأدلّة المجوّزة الخاصّة، من خبری ابن سنان وزرارة وغیرهما، ساکتةً عن حکم استعماله فی الحدث الأکبر ، مضافاً إلی وجود الإجماع علی الجواز، إذ لم یعرف قائل بعدم الجواز، مع إمکان دعوی صدق واجد الماء، لمن کان عنده هذا الماء المستعمل فی الوضوء وإمکان الاغتسال به فی الأغسال الواجبة، حین ضیق الوقت، فلابدّ علیه أن یغتسل حینئذٍ، والحکم بکفایة مجرّد التیمّم هنا مشکلٌ جدّاً، ولو جمع بین التیمّم والغسل کان أحسن وأوفق بالاحتیاط، کما لا یخفی .

هذا تمام الکلام فی الماء المستعمل فی الوضوء، بأقسامه، وأحکامه .

ص:468

وما استعمل فی الحدث الأکبر طاهرٌ، وهل یرفع به الحدث ثانیاً؟ فیه تردّدٌ، والأحوط المنع (1).

(1) والبحثُ فیه یقعُ من جهاتٍ أربعة، بل خمسة : تارةً فی أصل طهارته .

مطهّریّة الماء المستعمل فیالحدث الأکبر عن الخبث

واُخری: فی مطهّریته من الخَبَث .

وثالثة: فی مطهّریته عن الحدث الأصغر .

ورابعة: عن الحدث الأکبر .

ویلحقُ بذلک بحثٌ فی جواز استعماله فی الأغسال والوضوءات غیر الرافع وعدمه، فلا بأس بالإشارة إلی کلّ واحدٍ منها علی حدة .

فأمّا الأوّل : فلا إشکال فیما لو کان بدن المُغتسل طاهراً عن النجاسة العینیّة والحکمیّة کونه طاهراً، بلا فرقٍ بین کون الغُسل بنفسه رافعاً کما فی الجنابة، أو مع الوضوء، کما فی ما عدا الجنابة من الأغسال فی الأحداث، علی احتمالٍ، وبلا فرق بین کون الماء کثیراً معتصماً کماء الکرّ والجاری والمطر، أو قلیلاً .

ویدلّ علی طهارته أمور :

الأوّل : الإجماع بقسمیه قائم علیه، ولا یُعرف فیه خلاف أصلاً .

الثانی : الإطلاقات الواردة فی طهارة الماء، حیثُ تشمل بإطلاقها لما بعد الإستعمال، إذا لم یلاق نجساً، واستُعمِل فی رفع الحدث الأکبر .

الثالث : استصحاب الطّهارة، فلو شکّ فی طهارته بعد الغُسل، لأنّه کان قبله طاهراً فیشکُّ بالإستعمال فی نجاسته ، فمقتضی (لا تَنقُض) هو الحُکم ببقاء طهارته .

ص:469

الرابع : وجود قاعدة الطّهارة من قوله علیه السلام : «کُلّ شَیء طاهرٌ حَتّی تَعلَم أنّه نجس»، حیث أنّه أیضاً یشمل المقام.

هذا کلّه، مع إمکان احتمال استفادة الطهارة من بعض الأخبار غیر المعتبرة مثل خبر «عوالی اللآلی» المرویّ عن ابن عبّاس، قال : «اغتسل بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ، فأراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یتوضّأ منها، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنت جنبة، فقال صلی الله علیه و آله : الماء لا یجنب»(1)، الجفنة والجِفان، قصاع کبار واحدها جفنة، ککلاب وکلبة، ویُجمع أیضاً علی الجفَنَات (بالتحریک) کما فی «مجمع البحرین» .

فکانت قد اغتسلت من إناء کبیر ، واحتمال کون ماءه بمقدار الکرّ بعیدٌ غایته، بل کانت هی بسعة الأوانی المعمولة بأیدینا الآن والتی تُسمّی بالفارسیّة (سطل ولگن ) أو أکبر منهما؛ فیظهر منه طهارة الماء .

فالمسألة واضحةٌ، لا تحتاج إلی مزید بیان .

والثانی: وأمّا مطهّریته من الخبث :

مضافاً إلی وجود أصل الإستصحاب، إذ کان قبل الاستعمال مطهّراً له قطعاً، فبعده کذلک، لأنّه لا یُنتقضُ الیقین بالشکّ.

وکذلک شمول إطلاقات الأدلّة لمطهّریة الماء المطلق، حتّی بعد استعماله فی الحدث الأکثر، إلاّ ما ثبت دلیل علی المنع، وهو غیر موجود.

والإجماع بکلا قسمیه _ لو لم نعدّ ما نَقَله «الذکری» من الخلاف خِلافاً _ وکلامه علی ما فی «مصباح الهُدی» هکذا: جوّز الشیخ والمحقّق إزالة النجاسة به لطهارته، ولبقاء قوّة إزالته الخبث، وإنْ ذهب قوّة رفعه الحدث. وقیل: لا، لأنّ قوّته


1- مستدرک وسائل الشیعة: الباب الثانی، الماء المستعمل، الحدیث 6.

ص:470

استوفیت فالتحق بالمضاف . انتهی کلامه .

وقد جعل بعض المتأخّرین کلامه مدرکاً للإعتراض، مثل صاحب «الحدائق»، والعلاّمة، وفخر المحقّقین، حیث ادّعوا الإجماع ونفی الخلاف فیه، وإن تفطّن صاحب المعالم، وصرّح بکلامٍ لا یبعد قوّته، وهو أن یکون المقصود بعض المخالفین، کما یساعد هذا التعلیل استدلالاتهم الواهیة إذ الخاصة لا یستدلّون فی إثبات الأحکام بهذه الأوهام .

فدعوی الإجماع قویّ جدّاً ، إلاّ أنّه یظهر من کلام بعض الفقهاء، مثل المفید رحمه الله فی «المقنعة» علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة»(1) أنّه : «لاینبغی أن یرتمس الجُنُب فی الماء الراکد، فإنّه إنْ کان قلیلاً أفسده، ولم یطهر به، وإنْ کان کثیراً خالف السنّة بالإغتسال فیه، ولا بأس بارتماسه فی الماء الجاری، واغتساله فیه »، احتمال نجاسة الماء القلیل باستعماله فی الإغتسال، لإمکان أن یکون مقصوده صورة نجاسة بدنه، کما هو الغالب، خصوصاً فی مثل تلک الأزمنة، فلا یکون حینئذٍ مخالفاً .

وکذلک فی کلام ابن حمزة فی «الوسیلة» والشیخ فی «المبسوط» فی الماء المستعمل إذا تُمّم کرّاً، معلّلاً فی رفع المنع _ خصوصاً فی «المبسوط» _ بأنّه لا یحمل خبثاً .

هذا، علی نقل الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»، مع احتمال أن یکون المراد من المُستَعمل، هو المستَعملُ فی الخبث لا مطلقاً، حتّی یشمل لمثل ما نحن فیه .

وکیف کان، فما ذهب إلیه الأکثر من دعوی الإجماع فی المقام قویّ، لعدم دلیلٍ یمنع عن ذلک، إلاّ إذا ذهبنا إلی مانعیة خبر عبداللّه بن سنان فی النهی عن


1- کتاب الطهارة: ص58.

ص:471

التوضّی عن الماء الذی یَغتسل به الرجل من الجنابة(1)، علی أن یکون المراد هو مطلق التطهیر لإطلاق التوضّی علی ماء الاستنجاء کثیراً، وعدم ثبوت حقیقة شرعیّة فی غیر لفظ الوضوء من سائر مشتقّاته، علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة»(2) فإنّه رحمه الله ناقش فیه وقال بأنّ الإنصاف _ مع ملاحظة صدرها وذیلها کونه مستعملاً فی غیر رفع الخبث _ .

إلاّ إنّا نقول : قد یضافُ إلی ما ذکره قدس سره من إمکان کونه بلحاظ نجاسته، لما قد عرفت من کون الغالب فی ذلک العصر هو نجاسة بدنهم بالجنابة، بل لعلّه کان کذلک فی زماننا أیضاً کما لایخفی .

وکیف کان، فدعوی مطهّریّته من الخبث یکون أمرٌ ثابتٌ ولا إشکال فیه، واللّه العالم .

وأمّا الکلام فی القسم الثالث: فی أنّ المستعمل فی الحدث الأکبر، هل یجوز استعماله فی رفع الحدث الأصغر أم لا ؟

ولا یخفی أنّ الفقهاء رضوان اللّه علیهم أجمعین لم یفصّلوا فی الحکم بالجواز والمنع والتردّد وغیرها بینهما، وإنْ کان مقتضی استدلال بعضهم _ کالآملی _ هو التفصیل بأنْ جوّز الغَسل دون الوضوء، إلاّ أنّه قد استوحش فی مقام الاختیار والفتوی من بیان التفصیل ، ونحن نستعرض کلّ واحد منهما فی مقام الإستدلال وذکر الدلیل مستقلاًّ، حتّی یتّضح لنا الأمر فی هذه المسألة العویصة، بعنایة من اللّه تبارک وتعالی، وما توفیقی إلاّ باللّه، علیه توکّلت وإلیه أُنیب.

فنقول ومن اللّه الإستعانة : الأقوال فی المسألة علی ما حقّقناه أربعة : قولٌ بالجواز، وهو مختار کثیرٍ من الفقهاء، من المتقدّمین مثل: «السرائر»، والسیّد


1- وسائل الشیعة: باب 13 الماء المضاف، الحدیث 9.
2- کتاب الطهارة: ص59.

ص:472

المرتضی، وسلاّر، وابنی زهرة، وسعید ، بل ومن المتوسّطین والمتأخّرین: «کالقواعد» و«المنتهی» و«التحریر» و«المختَلف» و«الذکری» و«المدارک»، والشهید الثانی، وصاحب «الجواهر»، و«مصباح الفقیه»، والشیخ الأعظم، والسیّد فی «العروة»، والخوئی والخمینی والحکیم والگلپایگانی، وغیرهم .

استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر فی الوضوء

وقول بالمنع، کما علیه جماعة کثیرةٌ من القدماء _ بل قیل: إنّه المشهور بینهم _ مثل: المفید، والشیخ الطوسی، والصدوقین، وابنی حمزة، والبرّاج، ومثل النراقی، والسیّد الإصفهانی، والآملی، والبروجردی، والشاهرودی وغیرهم، من المتأخّرین الذین قالوا بالمنع وإن علّلوه بالاحتیاط الوجوبی، فراجع کتبهم .

وقول ثالث، وهو التوقّف والتردّد من تأیید المنع بالاحتیاط، کما عن المصنّف هنا وفی «المعتبر» .

وقول رابع هو التفصیل بین صورتی الضَّرورة من الجواز، والمنع فی غیرها، وهذا هو المنقول عن الشیخ قدس سره فی «المبسوط» .

إذا عرفت الأقوال فی المسألة فلابدّ البحث فیها :

تارةً: من جهة مقتضی الأصل العملی، المسمّی بالدلیل الفقاهتی .

واُخری: من جهة مقتضی الدلیل الاجتهادی .

فالأوّل: لا إشکال فی کون مقتضی أصل الاستصحاب، مطهّریته من الحدث الأصغر، لأنّه مقتضی الحکم بالإبقاء لما بعد استعماله فی رفع الحدث الأکبر، بدلیل (لا تَنقُض الیقین بالشکّ)، فیحکم بحصول الطهّارة به .

فإن قلت : بعد التوضّی بمثل هذا الماء، یشکُّ فی أنّه هل رُفِع الحدث به أم لا ؟ فمقتضی استصحاب بقاء الحدث، هو الحکم بالبقاء ؟!

قلت : بأنّ هذا الدلیل محکومٌ باستصحاب سابق، لأنّ الشکّ فی بقاء الحدث بعد التوضّی، کان مُسبّباً عن الشکّ فی جواز استعمال ذلک الماء، فإذا حکم

ص:473

بجوازه بمقتضی الإستصحاب، یکون قد رفع بذلک الشکّ فی بقاء الحدث، لکونه مُسبّباً، ومعلوم أنّ الأصل الجاری فی السبب رافع للشکّ الموجود فی المسبّب .

هذا، فضلاً عن وجود الإطلاقات الدالّة علی الجواز، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه تعالی بالتفصیل.

فحیث قد عرفت أنّ مقتضی القاعدة الأوّلیة، من الإطلاقات والأصل، هو الجواز، مضافاً إلی وجود دلیل خاصّ علیه أیضاً، فلابدّ من تجسّس دلیل المنع، فإنْ ثبت ذلک، فبواسطته یُخصَّص عموم الأدلّة المجوّزة عموماً، ویعارض الأدلّة الخاصّة خصوصاً، وإلاّ یجب العمل بمقتضی أدلّة الجواز، کما لایخفی .

فالمانعون قد استدلّوا علی ذلک بخبر عبداللّه بن سنان: «عن الصّادق علیه السلام قال : لا بأس بأن یُتوضّأ بالماء المستعمل ، وقال : الماء الذی یُغسل به الثوب، أو یَغتسل به الرجل من الجنابة، لا یجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه . وأمّا الذی یتوضّأ به الرجل، فیغسلُ به وجهه ویده فی شیء نظیف، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به »(1).

فدلالته علی المنع من الوضوء یکون من جهة النهی فی قوله : لا یجوز أن یتوضّأ منه .

وقد أورد علیه:

أوّلاً : من المناقضة بین صدره وذیله، لأنّه بصدره أجاز التوضّی بالماء المستعمل مطلقاً، فیشمل مثل هذا الماء، ولکن ذیله ینهاه .

وثانیاً : یمکن أن یکون المنع عن التوضّی بالماء المستعمل فی الجنابة، لأجل نجاسة البدن، الموجب لتنجّس الماء، لا لکونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر،


1- وسائل الشیعة: الباب 13 الماء المضاف، الحدیث 9.

ص:474

حتّی یدلّ علی المنع المفروض فی المسألة .

وثالثاً : یحتمل أن یکون النهی تنزیهیّاً، من جهة احتمال أن یکون القول بذلک بقرینة غسل الثوب، حیثُ لا یکون غالباً نجساً، وبرغم ذلک نهی عن التوضّی بغسالته المستعملة فی إزالة الوسخ، فیکون المراد من المستعمل فی الجنابة غیر النجس، فیکون دالاًّ علی الکراهة لا الحرمة، حتّی یستفاد منه المنع .

ورابعاً : الحکم بالمنع عن التوضّی بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر موافق لمذاهب العامّة بخلاف القول بالجواز، فکأنّه یحتمل أن یکون وارداً مورد التقیّة، کما فی «الجواهر».

هذا کلّه فی دلالة الحدیث.

کما أنّه یرد علیه أیضاً من جهة سنده بأحمد بن هلال، وهو مرمیٌّ تارةً بالغلوّ ، واُخری بأنّه لا مذهب له أصلاً کما صرّح به الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» ، بل نُقل عن سعد بن عبداللّه الأشعری قوله: إنّا ما رأینا ولا سمعنا بمتشیّعٍ رَجَع من تشیّعه إلی النصب، إلاّ أحمد بن هلال .

بل ورد فی شأنه عن مولانا العسکری علیه السلام طعناً شدیداً، فلا بأس بذکر الحدیث مفصّلاً علی ما فی «تنقیح المقال»(1) للمامقانی نقلاً عن الکَّشی، فیما نقله عن القاسم بن العلاء أنّه خرج إلیه : «قد کان أمرنا نفذ إلیک فی المتصنّع بن هلال لا رحمه اللّه بما قد علمت لم یزل لا غفر اللّه له ذنبه ولا أقاله عثرته یداخل فی أمرنا بلا إذن منّا ولا رضی یستبدّ برأیه فیتحامی من ذنوب لا یمضی من أمرنا إیّاه إلاّ بما یهواه ویرید أرداه اللّه بذلک فی نار جهنّم فصبرنا علیه حتّی بتر اللّه بدعوتنا عمره وکنّا قد عرّفنا خبره قوماً من موالینا فی أیّامه لا رحمه اللّه


1- تنقیح المقال: ج1 / 99.

ص:475

وأمرناهم بإلقاء ذلک إلی الخاصّ من موالینا ونحن نبرأ إلی اللّه من ابن هلال لا رحمه اللّه ومن لا یبرأ منه واعلم الإسحاقی سلّمه اللّه وأهل بیته بما أعلمناک من حال هذا الفاجر» انتهی موضع الحاجة .استعمال الماء المستعمل فیالحدث الأکبر فیالوضوء

وأمّا الجواب عنها: فنبدأ أوّلاً بجواب الإشکال عن سنده، فنقول : ورود الطّعن عن العسکری علیه السلام فی حقّه لا یضرّ بقبول ما نقل عنه قبل إنحرافه، لاسیّما مع ملاحظة نقل القُمیّین مثل الصدوقین، وابن الولید، وسعید بن عبداللّه عنه، مع کثرة دقّتهم فی حال الرّواة. ولا نقصد بهذا وثاقة الرجل من جمیع الجهات، بل نقصد أنّه یُفهم من نقل الحدیث عن مثل هذا الرجل، أنّه کان موثوق الصدور عندهم، سواء کان هذا الاطمئنان حاصلاً لهم من وثاقته، أو من القرائن الخارجیّة أو المحفوفة ، خصوصاً إذا کان منقولاً عن الحسن بن محبوب، حیثُ حَکی عن ابن الغضائری _ الطّاعن فی کثیرٍ ممّن یطمئن به غیره _ أنّ الأصحاب قد اعتمدوا علی روایته، إلاّ ما یرویه عن شیخه ابن محبوب، وعن «نوادر» ابن أبی عمیر، حتّی أنّه حُکی عن السیّد میرداماد أنّ ما یرویه ابن هلال عن الکتابین ملحقٌ بالصِّحاح ، بل کان الشیخ الأنصاری قدس سره أیضاً ممّن یعتقد بأنّ لروایته قرائن تکاد تلحقها بالصِّحاح ، بل عن الوحید البهبهانی فی «حاشیة المدارک» هو الاعتماد علیه، فما أشکل المحقّق الخوئی فیه، وبسط فی حقّه الکلام، وأتعب نفسه علیه، کان فی غیر محلّه ؛ لأنّه _ مضافاً إلی أنّه یعدّ رجوعاً عمّا حقّقه من التضعیف فیما بعد ذلک، کما نقله مقرّره فی ذیل «التنقیح» _ مع وجود أحمد بن هلال فی سلسلة رواة «کامل الزیارات»، وغیر ذلک من المرجّحات المعتبرة عنده، وقبول أکثر المتأخّرین ذلک الخبر، واعتمادهم علیه فی فتاویهم، بل الإفتاء ببعض مضامینه، فلا یبقی حینئذٍ للشکّ والتردید فی اعتبار السند مجال .

فما ذکره بعضٌ، کالمحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی»، ومَنْ تبعهما من

ص:476

الطّعن فی سنده لا یُعتنی به ، فالحدیث من حیث السند متلقّاة بالقبول والاعتبار، وقابل للتمسّک به فی مقام الإستدلال والاختیار .

وأمّا الجواب عن الإشکال فی دلالته: فأمّا عن المناقضة بین الصَّدر والذیل، فلما عرفت أنّ المراد من المستعمل فی الصدر ؛ إمّا یکون خصوص الوضوء _ کما علیه السیّد فی «الروائع الفقهیّة» _ فیکون نفی البأس لخصوص المستعمل فی الوضوء، والبأس فی الذیل للمستعمل فی الغُسل، فلا تعارض بینهما حتّی یکون متناقضاً .

وإمّا یکون مطلقاً، إلاّ أنّه اُرید خصوص الوضوء بإخراج أفراده فرداً فرداً، فیبقی تحت عموم نفی البأس مجرّد المستعمل فی الوضوء، والمستعمل فی الغَسل (بالفتح) فی الشیء النظیف المذکور بالخصوص فی ذیله _ ویختصّ البأس بفردین وهما: المستعمل فی غَسل الثوب، وغُسل الجنابة، فلا مناقضة فیه أیضاً ، وهکذا یندفع هذا الإشکال أیضاً .

کما أنّ الإشکال بأنّه موافق للعامّة، المذکور فی الإیراد الرابع غیر وارد، لأنّهم یقولون بالمنع فی جمیع أقسام المستعمل، خصوصاً فی الوضوء، بخلاف ما هو مضمون الحدیث حیث یفید المنع فی خصوص ما استُعمِل فی رفع الخَبَث والحدث الأکبر، ولم نَعهد هذا القول من أحدٍ من العامّة ، فأصالة الجهة غیر جاریة هنا، أی أنّ الأصل یقتضی عدم کونه صادراً علی نحو التقیّة، حتّی لا یکون حجّة، کما لایخفی .

فبقی الآن من الإیرادات الأربعة إشکالان :

أحدهما : کون النهی بلحاظ نجاسة الماء، بسبب ملاقاته مع نجاسة البدن غالباً فلا یکون النهی حینئذٍ لأجل کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر .

فأُجیب عنه : بأنّه وإن کان الغلبة مع نجاسة البدن، إلاّ أنّ الظاهر کون الحکم

ص:477

هنا حیثیّاً، أی یکون النهی من حیث أنّه مستعملٌ فی الحدث الأکبر، وذلک لا ینافی انضمام جهة أُخری إلیه مثل کونه قد لاقی النجاسة أیضاً وکونه مستعملاً فی رفع الخبث الأکبر أیضاً، فیکون النهی مطلقاً ولو لم یکن منضمّاً إلی هاتین الجهتین .

هذا، مضافاً إلی کونه معطوفاً بما استعمل فی غسل الثوب، الذی کان المفروض فیه نجاسته، فلو کان المقصود فی المعطوف علیه هو فرض النجاسة أیضاً، لزم أن یکون العطف تفسیریّاً ومن باب عطف الخاصّ علی العامّ، وهو بعیدٌ غایة البُعد کما هو مذکورٌ فی «مصباح الهدی»(1).

ونحن نزید علی الجواب عن الإشکال: بأنّه لو سلّمنا کون المفروض فی غَسل الثوب کونه نجساً _ مع إمکان الإشکال فیه کما سیأتی _ لکنّه لا نُسلّم کون الغالب فی الجُنُب النجاسة، إذ من الواضح أنّه قلّ ما یتّفق بأن یغتسل الرجل من الجنابة، ویتزامن غُسله ویتّحد مع إزالة النجاسة من بدنه، بل من عادة الناس أن یغسلوا النجاسة أوّلاً ثمّ یشرعوا فی الغُسل ثانیاً، کما یشهد لذلک ما ورد فی بعض الأخبار من الحُکم بغَسْل الفَرْج مع الماء ثمّ الغُسل للجنابة أوّلاً مثل ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام : قال : سألته عن غُسل الجنابة.

فقال : تبدأ بکفّیک فتغسلهما، ثمّ تغسل فرجک، ثمّ تصبّ علی رأسک ثلاثاً، ثمّ تصبّ علی سائر جسدک مرّتین، فما جری علیه الماء فقد طهر»(2) .

وخبر زرارة قال : «قلت : کیف یغتسل الجنب ؟ فقال : إن لم یکن أصاب کفّه شیء غمسها فی الماء، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غُرف، ثمّ صبّ علی رأسه ثلاث أکفّ . .»(3) الحدیث .


1- مصباح الهُدی: ص200.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 الجنابة، الحدیث 26.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من الجنابة، الحدیث 26.

ص:478

وغیر ذلک من أخبار هذا الباب .

فالغلبة المذکورة فی کلام أکثرهم ممنوعةٌ جدّاً، خصوصاً مع ملاحظة قلّة الماء فی تلک الأزمنة، حیث یوجب انفعال الماء قطعاً، فإیجاد الغُسل والغَسْل مع هذا الماء دفعةً واحدةً یعدّ فی غایة الندرة.

ولو سلّمناه فی مثل الماء المتّصل بالکرّ، کما فی ماء الأنابیب المتعارفة فی زماننا هذا .

فعلیه یُعلم أنّ النهی عن التوضّی بذلک، لا یکون إلاّ من جهة کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر کما لا یخفی، فیکون هذا دلیلاً للمانعین .

وأمّا مع قبول کون الغالب فی المستعمل فی غُسل الجنابة هو نجاسة بدنهم، والقول بکون الغسالة فی رفع الخبث نجساً _ کما علیه الأکثر وکان مختارنا سابقاً _ فحینئذٍ یمکن أن یکون النهی _ فی الفقرة الثانیة _ من جهة إفهام السائل بأنّ المستعمل فی رفع الخبث یعدّ نجساً ومانعاً، وأیضاً یمکن أن یکون لإفهام أنّ الاستعمال فی رفع الحدث الأکبر یعدّ مانعاً عن التوضّی أیضاً، فلا إشکال حینئذٍ فی أولویّة الاحتمال الثانی وذلک فراراً عن لغویّة تکرار الحکم، إذا فرض کون الثوب أیضاً نجساً، ولعدم خصوصیّة غُسل الجنابة حینئذٍ فی الذکر بالخصوص.

هذا، بخلاف ما لو قلنا بالإحتمال الثانی، فإنّه یکون حینئذٍ حکماً مستقلاًّ غیر ما ذکره فی الثوب، إذ الخبر حینئذٍ فی هاتین الفقرتین مشتملٌ علی حکمین، وهما عدم التوضّی من المستعمل فی النجاسة المستفاد من الفقرة الاُولی، وعدم التوضّی من المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

ومن هنا ظهر فساد کلام الآملی القائل بأنّه : لو کان المنظور، هو باعتبار نجاسة البدن قد نهی عنه، یلزم أن یکون العطف من باب عطف الخاصّ علی العامّ.

وذلک لأنّه لا عموم فی الأوّل حتّی یکون الثانی بالنسبة إلیه خاصّاً، بل یکون

ص:479

من باب عطف فردٍ علی فرد آخر، وهو غیر وجیه صدوره من الفصیح _ لاسیّما فی مثل الإمام روحی له الفداء، حیثُ کان إمام الفصحاء _ ، إلاّ فی بعض الموارد الذی تقتضی المصلحة تکراره وهو مفقودٌ فی المثال، کما لا یخفی .

وثانیها : کون النهی فیه تنزیهیّاً، بقرینة غَسْل الثوب، لعدم کونه غالباً نجساً، فیکون النهی عن التوضّی بما استعمل فیه، لکونه مستعملاً فی إزالة الوسخ والقذارة، فیکون حینئذٍ قرینة علی کون النهی عن التوضّی بالماء المستعمل فی غُسل الجنابة أیضاً تنزیهیّاً.

ویشهد علی ذلک ما عرفت من عدم غلبة نجاسة بدن الجُنُب حین الإغتسال، فلا ینافی ذلک أن یکون التوضّی بالماء المستعمل فی کلا قسمیه مع نجاستهما، غیر جائز، لثبوت النجاسة فیه أیضاً .

بل قد یؤیّد هذا الاحتمال، ما وقع فی آخر الحدیث، من تجویز التوضّی بماءٍ یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف، بما قد عرفت منّا سابقاً بقرینة تصریح الغَسْل بالخصوص فی الوجه والید، مع کفایة فهم ذلک من لفظ «التوضّی» لو کان الوضوء به هو الوضوء الاصطلاحی، وإضافة لفظ النظافة کون المراد هو مطلق التطهیر والتنظیف، أی یجوز الوضوء بماءٍ استعمل فی شیء نظیف، وأنّه لا کراهة فیه، کما کانت فی سابقیه .

فعلی هذا التقدیر، لا یکون الحدیث حینئذٍ دلیلاً یفید المانعین، لأنّهم أرادوا إثبات المنع، بمعنی عدم الجواز لا الکراهة .

هذا، ولکنّه قد نوقش فیه _ کما فی «مصباح الهدی»، و«المستمسک» و«مصباح الفقیه» _ بأنّ هذا الاحتمال ضعیفٌ غایته، إذ لیس علیه دلیلٌ أصلاً، مع ظهور قوله: «الماء الذی یغسل به الثوب» فی کون غَسله لإزالة خبثه، کیفَ ولو جاز حمله علی الغسل لإزالة وسخه من غیر دلیلٍ، فلیُحمل علی الغَسل وإن لم

ص:480

یکن عن وسخ، فلا یبقی معه مجالٌ للحمل علی الکراهة.

وهذا الحمل أوفق مع ملاحظة الجمود علی اللفظ، إذ لیس فیه ما یوجب الحمل علی إزالة الوسخ .

انتهی کلامه فی «مصباح الهدی»(1).

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة هذه المناقشة، لأنّ الدلیل هو الذی سبق ذکره من عدم وجود الغلبة فی نجاسة الثوب فی الخارج، فحمله علی خصوص النجس منه لا یخلو عن بشاعة، لکونه فرداً نادراً بالنسبة إلی سائر أفراد الثیاب ذات الحامل للقذارة والوساخة، کما لایخفی .

وأمّا جعل الحمل علی مطلق الغَسْل _ ولو من غیر وسخ _ أوفق وأولی، حتّی لا یکون النهی تنزیهیّاً . استعمال الماء المستعمل فیالحدث الأکبر فیالوضوء

فغیرُ وجیهٍ، لأنّ المناسبة بین الحکم والموضوع توجب کون النهی حینئذٍ لوجود خصوصیّة فی الماء المستعمل عند العرف حیث ینهی عنه .

وأمّا فیما إذا لم یکن فیه شیء أصلاً _ کما لو کان الثوب طاهراً ونظیفاً _ وبرغم ذلک نهی عنه، فإنّه _ فضلاً عن عدم مساعدته مع ما هو المذکور فی الذیل بإلقاء الخصوصیّة عن الوجه والید والشیء الذی هو کنایة عن الظرف _ لا یکون عند العرف والعقلاء حزازة وکراهیة من استعماله حتّی یستلزم النهی عنه، ولو تنزیهیّاً ، فأیّ خصوصیّة أجود وأحسن من ذلک، کما لا یخفی .

ولکن الحقّ الذی ینبغی أن نراعیه، هو أنّ حمل النهی _ فی قوله : «لایجوز أن یتوضّأ منه»، وأشباهه _ علی النهی الکراهتی هنا بعیدٌ غایته، وإن لم یکن کذلک فی بعض الموارد ، وذلک لأنّ حمل النهی علی الکراهة فی سائر الموارد یکون


1- مصباح الهدی: ص199.

ص:481

بالتصرّف فی ظهور الهیئة، مِنْ صَرفها عمّا هو الظاهر فیها وهو الحرمة ، وما نحن فیه یختلف عنه حیث أنّ مادّة الجواز إذا وقع عقیب النهی یکون ظهوره فی الحرمة أقوی، فحمله علی الکراهة بعیدٌ جدّاً .

فعلی هذا لابدّ من اختیار أحد الحملین ؛ إمّا القول بحرمة التوضّی بالماء المستعمل فی الثوب الوسخ الطاهر، وغُسل الجنابة حینما یکون البدن طاهراً.

أو القول بالحرمة فیهما مع فرض نجاستهما .

فحیثُ کان الحکم فی الاحتمال الأوّل _ فی المستعمل فی الثوب _ بالحرمة خلاف الإجماع، وإن لم یکن فی الثانی کذلک ، إلاّ أنّ القول به لا یساعده وحدة السیاق ، فلابدّ من حمله علی الاحتمال الثانی، حیث لا یکون حینئذٍ خلاف الإجماع لوجود القائل ، بل الإجماعُ قائم علی عدم جواز التوضّی بالماء المتنجّس إن قلنا بنجاسة الغُسالة ، بل لا یکون خلاف الإجماع إن قلنا بطهارة الغُسالة أیضاً، لما قد عرفت من ثبوت القول بالحکم بالمنع عن التوضّی بالماء المستعمل فی رفع الخبث ، فراجع .

فیتعیّن الحمل حینئذٍ علی الاحتمال الثانی، ویُحفظ النهی فی ظهوره وهو الحرمة، وإن کان هذا الحمل بعیدٌ أیضاً من جهة قلّة موارد نجاسة الثوب والبدن، فلذلک تری أنّ کثیراً من الفقهاء لم یفتوا بالمنع صریحاً ، بل احتاطوا فی المورد بالاحتیاط الوجوبی، لعدم وضوح دلیل المنع _ من حیث الدلالة _ بما یوجب اطمئنان الفقیه بحیث یلزمه علی الفتوی بالمنع أو الجواز جزماً، کما لایخفی .

نعم ، قد یمکن الإستدلال علی جواز فی الوضوء بالماء المستعمل بخبر «غوالی اللئالی» المروی عن ابن عبّاس، قال : «اغتسل بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ، فأراد رسول اللّه أن یتوضّأ منها ، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنت جُنُباً .

ص:482

فقال صلی الله علیه و آله : إنّ الماء لا یُجنب»(1) .

والظّاهر أنّ اغتسال بعض أزواج النبی صلی الله علیه و آله کان فی جفنةٍ، وهی القصعة الکبیرة، لا الأخذ منها والاغتسال بماءها فی خارجها، کما یؤیّد ذلک إخبار بعض الأزواج له صلی الله علیه و آله ذلک، حیثُ یفهم أنّه کان لتوهّم عدم جواز التوضّی بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر، ولولاه لما صحَّ توهمه بالنسبة إلی أخذ الماء منها وجهاً وجیهاً، کما لا یخفی، وإنْ جعل بعض المحقّقین وهو _ الآملی قدس سره _ هذا الاحتمال مؤیّداً للجواز أیضاً، معتمداً علی تعلیله صلی الله علیه و آله «بأنّ الماء لا یُجنب» _ والإشکال فیه یکون من جهتین : الجهة الاُولی: فی سند الخبر والکتاب المنقول فیه.

الأوّل : فی سنده، لکونه مرسلاً، ومنقولاً عن کتاب «غوالی اللآلی»(2) لأبی أبی جمهور الأحسائی، وهو محمّد بن علی بن إبراهیم بن أبی جمهور الاحسائی ، ویقع الکلام وقع فیه أوّلاً : من جهة شخصه، فهو وإن کان عالماً متکلِّماً جامعاً للمعقول والمنقول، إلاّ أنّه متّهم بالتصوّف، وکان مفرطاً فیه، کما نقله النوری فی «المستدرک» عن صاحب «روضات الجنّات» ، وإن وثّقه النوری فی «المستدرک»(3)، والمحدّث الجزائری، حیث ألّف کتاباً سمّاه ب _ «الجواهر الغوالی فی شرح عوالی اللآلی» فراجع.

الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر

الثانی : فی کتابه، من جهة خلطه فی الأخبار بین غثّها وسمینها، وصحیحها وسقیمها، کما نقل ذلک فی «الروضات» عن الشیخ الحرّ العاملی فی «وسائل الشیعة» ، بل کذلک صاحب «الریاض» و«اللؤلؤة» والمجلسی فی «البحار» ، بل


1- مستدرک وسائل الشیعة: الباب 2 الماء المستعمل، الحدیث 6.
2- الصحیح بالعین المهملة لا المعجمة، کما عن «مستدرک وسائل الشیعة» ج3 / 364.
3- مستدرک وسائل الشیعة: 3 / 363.

ص:483

عن صاحب «الحدائق» عدم الاعتماد بأخبار کتابه عند الأصحاب .

فالإعتماد علیه حینئذٍ منفرداً بنحو الدلیل والاستدلال، لا التأیید والإستشهاد لا یخلو عن تأمّل، خصوصاً مع إرساله، وإن ذهبنا إلی وثاقة الرجل بنفسه، کما هو واضح لا خفاء فیه .

وثانیها : فی دلالته أوّلاً ؛ أنّه لیس فیه أنّه قد توضّأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله منه أم لا حتّی یدلّ علی فعله ، مضافاً إلی أنّ قوله یؤیّد الجواز، فلعلّه لم یتوضّئ بعد ذلک منها، ولو کان لأجل الکراهة مثلاً لو لم نقل بالحرمة.

ثانیاً : قد استبعدنا سابقاً کون الجفنة کبیرة علی مقدار الکرّ، إلاّ أنّه لا ینفی الاحتمال فإذا احتملنا کونه کرّاً، فلا یکون حینئذٍ مفیداً لما نحن بصدده .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال کون الإناء کبیراً بحیث یمکن فیه الاغتسال، فاحتمال استعماله علی قدر الکرّ لیس ببعید غایته، کما لایخفی ، فالإعتماد علی هذا الحدیث علی حدة _ لولا دلیل آخرٍ، مع وجود احتمال المنع من خبر ابن سنان کما عرفت _ فی غایة الإشکال، بلا فرق فی المنع بین أقسام الوضوء.

فالأحوط عدم جواز التوضّی بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر مطلقاً.

وأمّا الکلام فی التقسیم الرابع: وهو استعمال ماء المستعمل فی رفع الحَدَث الأکبر فی رفع الحدث الأکبر أیضاً.

ففیه أیضاً: مثل الوضوء من جهة الأقوال، بکونها أربعة: بین الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتوقّف مع تأیید المنع بالاحتیاط، والتفصیل بین حال الضرورة بالجواز وعدمها بالمنع.

وقد عرفت أنّ الفقهاء لم یُفرّقوا فی الحکم جوازاً ومنعاً وتفصیلاً، بین الوضوء والغُسل، ولکنّا قد بسطنا البحث فی کلّ واحد منهما علی حدة.

فالآن نشرع ببیان حکم الغُسل بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر .

ص:484

فنقول ومن اللّه الاستعانة : قد استدلّ المانعون علی المنع بمقبولة عبداللّه بن سنان السابقة، باحتمال أن یکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی الضمیر المجرور فی (منه)، فیکون الخبر حینئذٍ معناه أنّ الماء الذی یُغسل به الثوب وأشباهه، من بدن النجس، والجسم النجس، وما یغتسل به الجُنُب وأشباهه، من المستعمل فی الحیض والنفاس والإستحاضة، لا یجوزُ الوضوء منه ، فحینئذٍ لا یکون الخبر دالاًّ علی المنع بالنسبة إلی الغسل، إلاّ أنّه داخل فی أحد الأمرین: أمّا بالإجماع المرکّب، لعدم وجود قائل بالتفصیل بین الوضوء بعدم الجواز، والغُسل بالجواز فی أصحابنا.

أو یلحق بالوضوء بطریق الأولویّة، لأنّه إذا دلّ علی المنع من استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر لرفع حدث الأصغر، ففی رفع حدث الأکبر یکون منعه بطریق أولی، هذا کما فی «الروائع الفقهیة» للسیّد قدس سره .

ولکن هذا الوجه لإثبات المنع فی الغُسل، قابلٌ لأن یرد علیها إشکالات:

أوّلاً : من جهة مخالفته لقاعدة نحویّة متّفق علیها بین النحاة، من عدم جواز العطف علی الضمیر المجرور من دون إعادة الجارّ ، فلا یقال : مررت به وزید ، بل یقال : وبزیدٍ، فلا یصحّ نسبة اللّحن إلی الإمام علیه السلام ، فالعجب من صاحب «مصباح الهدی» أنّه برغم تنبّهه لهذا الإشکال فهو یذهب إلی أظهریته بحسب العرف وأنّه لاینافی کونه خلافاً للقاعدة !

وثانیاً : من الإشکال فی الإجماع، بإمکان القول فیه بأنّه عدم القول بالفصل، لا قولٌ بعدم الفصل، حتّی لا یجوز الذهاب إلی خلافهم، وإن کان هذا لا یخلو من إشکال .

وثالثاً : من إمکان الإشکال فی أصل الأولویّة، کما فی «مصباح الهدی»، بأن لا یکون الوضوء جائزاً دون الغسل فیکون جائزاً، وإن کان هذا المنع لا یخلو عن تأمّل .

فمع ورود هذه الإشکالات _ ولو احتمالاً _ یستلزم أن نختار فی فقه الحدیث

ص:485

بما یدلّ علی منع الغُسل أیضاً، من دون ورود إشکال فیه، وهو أن تکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی المصدر المشتقّ من (أن یتوضّأ) بالرفع، لکونه فی محلّ الفاعل لجملة (لا یجوز)، فیکون التقدیر هکذا لا یجوز الوضوء وأشباهه _ وهو الغسل _ عن مثل الماء المذکور فی الصدر، فحینئذٍ یکون الخبر بعیداً عن اللحن، کما یسلم حکم منع الغسل عنه أیضاً عن الإیراد الأوّل .

فإن قلت : فعلیه لا یشمل الحدیث للماء المستعمل فی رفع حدث الأکبر، مثل الحیض والنفاس بل تختصّ بغُسل الجنابة، بخلاف ما لو رجع (أشباهه) إلی غُسل الجنابة، فإنّه یدخل مثل هذه المیاه فی الحکم .

وتوهّم دخول غیر غسل الجنابة فی حکم غُسل الجنابة من جهة تشابه الجمیع فی عنوان الحدث مشکلٌ.

کما أنّ دعوی وحدة حکمهما فی ذلک عند الفقهاء ، أشکل، فهذا یوجب تقویته احتمال الأوّل وترجیحه علی الثانی، کما فی «التنقیح» .

قلت : لا ضرورة لأجل تحصیل حکم عمومی أن نقدم علی ارتکاب مخالفات للقواعد النحویة المتعارفة ، بل القاعدة تقتضی التعبّد بظهور الخبر بمقتضی قواعد الفصاحة، وبقدر ما یدلّ علیه، فإن أمکن القطع بإلغاء الخصوصیّة عن المورد، وإلحاق غیره إلیه فهو، وإلاّ یکتفی فی الحکم بخصوص المورد، خصوصاً فیما إذا کان المنع علی خلاف الأصل، حیث یقتضی الحکم الاکتفاء بالقدر المتیقّن منه، وهو المستعمل فی غُسل الجنابة، لو لم نقل بالتعمیم من باب مناسبة الحکم والموضوع.

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الاحتمال الثانی أقوی . ونکون قد أثبتنا ممنوعیّة استعماله فی الوضوء وکذلک الغُسل.

إلاّ أنّه قد عرفت ورود الإشکال من جهة وقوع المعارضة بین حکم المنع _ بلحاظ النهی من کونه تحریمیّاً لوجود لفظة (لا یجوز) ، وبین حکم الجواز _

ص:486

بلحاظ عدم غلبة نجاسة الثوب والبدن فی الجنب _ ولذلک حکمنا بالإحتیاط بالمنع فی الوضوء، وکذلک فی الغسل أیضاً .

مع ما عرفت من إمکان دعوی الأولویّة هنا، بل وجود الإجماع المرکّب أیضاً کما لایخفی .

وقد استدلّ للمنع بعدد من الأخبار، لا بأس بذکرها والإشارة إلیها، وملاحظة کیفیّتها .

فمنها: خبر صحیح عبداللّه بن مسکان.

قال : «حدّثنی صاحب لی ثقة أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینتهی إلی الماء القلیل فی الطریق، فیرید أن یغتسل، ولیس معه إناء والماء فی وهدة، فإن هو اغتسل رجع غِسْله(1) فی الماء کیف یصنع ؟

قال : ینضح بکفّ بین یدیه وکفّاً من خلفه وکفّاً عن یمینه وکفّاً عن شماله ثمّ یغتسل»(2) .

وجه الاستدلال بهذا الحدیث، هو تقریر الإمام علیه السلام لفهم السائل من ممنوعیّة وروده إلی الوهدة _ بمعنی المنخفض من الأرض _ فلو لم یکن ذلک ممنوعاً، فلِمَ لم یصحّح الإمام فهمه؟

هذا، ولقد ذهب الفقهاء فی فهم فقرات هذا الحدیث إلی توجیهات کثیرة، لایخلو بعضها عن تعسّفات باردة _ فلا بأس بذکرها، ثمّ ذکر مختارنا فیه .

قیل : بأنّ المراد من قوله : «ینضح بکفّ بین یدیه وکفّاً من خلفه... إلی آخره» هو رشّ الأرض بجوانبها الأربعة، لتجتمع أجزائها، فیمنع عن انحدار الماء إلی الوهادة .


1- فی «الوافی»: غِسل الماء (بکسر الغین) أو غُسل الماء (بضمّها)، وهو الماء المستعمل فی الغُسل.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:487

فأورد علیه فی «السرائر»: بأنّ هذا لا یلتفت إلیه، لأنّ الأرض إذا ندّت یوجب انحدار الماء أزید وأسرع من جفافها .

لکنّه یندفع بإمکان أن یقال : بأنّ مقصود القائل هو جعله طیناً، بحیث یصیر کجدارٍ وحجاب مانع عن رجوع الماء إلیه، لا الرشّ بالماء الموجب لرطوبة الأرض ونداها الموجب لسرعة الرجوع .

وقیل : کما عن الشیخ الأعظم قدس سره ، بأن یکون المراد منه بلّ الجسد کذلک، حتّی یوجب تسهیل البدن للغَسل وقبوله الماء بأقلّ المقدار، ممّا لا یوجب زائده الرجوع إلی الماء القلیل .

فأُجیب عنه _ کما فی «مصباح الهدی» _ : بأنّه مضافاً إلی بُعده، کان الأولی أن یذکر بکلمة (علی خلفه وأمامه)، لا کلمة (عن) (وبین یدیه) ، الظاهرة فی الجوانب من الأرض.

ونحن نردّه بما یأتی إن شاء اللّه، من بیان هذه الجملة فی حدیثٍ ممّا قد یساعد هذا الاحتمال ، فانتظر .

وقیل: کما عن «المصباح» للآملی، بأنّ هذا العمل کان من جهة خشیة السائل من نجاسة أطراف الوهدة، وخوفه برجوع الماء المتنجّس إلی الوهادة، الموجب لانفعال الماء، فأراد الإمام علیه السلام بهذا العمل تطهیر الأطراف بالنضح علیها، لکی لا ینفعل الماء الذی فی الوهدة بورود غُسله علیه، فنتمسّک فیه بخبر الکاهلی الوارد فی الوضوء مثله .

وهو بعیدٌ جدّاً، لوضوح أنّه کیف یمکن تطهیر الأرض بکفّ من الماء، ومعلومٌ أنّه نحتاج عادةً لتطهیرها إلی قدر کبیر من الماء. إلاّ أن تکون صلبة، وفیها تأمّل .

ثمّ إنّه من أیّ طریق استفید کون الأرض نجساً، مع عدم وجود ما یدلّ علی ذلک فی الخبر، کما لایخفی .

ص:488

ونفس هذا الإیراد یرد علی الخبر الآخر الذی تمسّک به أخیراً وهو حدیث الکاهلی: قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إذا أتیت ماء وفیه قلّة، فانضح عن یمینک وعن یسارک وبین یدیک وتوضّأ»(1) کما لایخفی .

وقیل: کما عن «الروائع الفقهیّة»، واحتمله الخوئی، بأن یکون رشّ الجوانب الأربع من الأرض: من آداب الغسل والوضوء، لورود ذلک فیهما فی أخبار أُخر ، ولعلّه حکمة ذلک أنّ هذه الأرض کانت معرضةً لملاقاة النجاسة وشرب أیّ حیوان منه، فکان النضح واقعاً لهذا المعنی .

وقیل : یحتمل أن یکون المحذور عند السائل هو اختلاط الماء بالتراب، وصیرورة الماء وحلاً، وکان النضح مانعاً عنه، فأمر الإمام علیه السلام بعلاج ذلک بهذا الطریق حتّی لا یدخل التراب فیه.

لکنّه بعید غایته، بل هو أبعد الوجوه .

والأولی من الوجوه المذکورة أن یقال: _ کما عن «الوافی»(2) _ إنّ لنا خبراً آخر مماثلاً له الذی یأتی تفصیله وهو من الأخبار المستدلّ بها، وهو صحیح علیّ بن جعفر: فی حدیثٍ قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیة أو مستنقع أیغتسل منه للجنابة ... إلی قوله : وهو یتخوّف أن یکون السباع قد شربت منه ؟ فقال : إن کانت یده نظیفة، فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة، فلینضحه خلفه وکفّاً أمامه وکفّاً عن یمینه وکفّاً عن شماله، فإن خشی أن لا یکفیه غَسَل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلد بیده فإنّ ذلک یجزیه»(3) الحدیث.


1- وسائل الشیعة: أبواب الماء القلیل، الحدیث 13.
2- الوافی: کتاب الطهارة / ص12.
3- وسائل الشیعة: الباب الأوّل من أبواب الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:489

وقال فی ذیله : والثالث: الخوف من ورود وارد علیه ممّا أفسده من کلبٍ ونحوه من السباع، المقتضی لوسوسة قلبه، وریبه فی طهارته، فأشار علیه السلام أوّلاً بما یزیل عن قلبه الریب فی نجاسته الموهومة ، بل توهّم رجوع الغُسالة إلیه بنضح بعضه علی أطراف الساقیة والمستنقع، لتطیب بقیّته، ولیجوّز أن تکون القطرات الواردة علیه، إنّما وردت من الأطراف المنضوحة دون البدن .

انتهی موضع الحاجة من کلامه .

فظاهر کلامه رحمه الله أنّه أراد بیان احتمالین:

الاحتمال الأوّل: وهو نضح الماء للأطراف حتّی یوجب التطهیر، کما أشار إلیه بقوله : تطیّب بقیّته، أی الماء الراجع إلیه، فیخرج الرجل عن الوسوسة، لأنّه قد طهّره بذلک، فکانت الکفّ کنایة عن إلقاء الماء علیه کذلک، فهذا المعنی مطابق لاختیار الآملی قدس سره ، والتعجّب منه أنّه ذکر کلام «الوافی» بهذا الوجه .

ثمّ قال فی ذیله، بعد استبعاده منهما هذا المعنی والوجه: أنّه قدس سره لم یُبیّن کیف یصیر نضح بعض الماء علی الجوانب الأربع، موجباً لتطیّب بقیّته ، مع أنّ نفسه الشریفة قد اختار هذا المعنی، حیثُ قد عرفت منّا تضعیفه، فکأنّه لم یفهم من کلامه ما ذکرناه .

والاحتمال الآخر: الأحسن والأجود أن یکون ذلک العمل لإیجاد الشبهة فی نفس المغتسل أو المتوضّی، کما فی حدیث الوارد فی التوضّی، بأنّه لو کان قد رأی رجوع ماء فی الجملة علی الماء الواقع فی الساقیة أو الوهدة، کان من ذلک الماء المنضوح فی الجوانب، لا نفس الماء المستعمل، حتّی یوجب الإشکال ولو من حیث الکراهة، فحینئذٍ لا یکون قد لاحظ فیه نجاسة الأطراف، حتّی یرد ما قلناه من عدم دلالة متن الحدیث فی بعض الأخبار، کالخبر الوارد فی الوضوء، أو الوارد فی المقام علی تنجیس الأطراف بالسباع وغیرها، هذا فضلاً عن جریان

ص:490

قاعدة الطهارة فی مثل هذه الموارد، وأنّ الأئمّة علیهم السلام کانوا یشدّدون النکیر علی من کان قد ابتُلی بالوسوسة، فکیف یصحّ اسناد عمل إلیهم علیهم السلام توجب زیادة الوسوسة فیهم.

کما یقال: إنّ اشتمال حدیث علیّ بن جعفر علی هذه الفقرة مع ذکر الغسل بأن یبلل جسده أوّلاً ثمّ : «فإن خشی أن لا یکفیه غَسَل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بیده» الحدیث ، لا یبعد أن یفهم منه أنّ المراد من الفقرة المعهودة هو بلّ الجسد کما ذکره واحتمله الشیخ الأعظم قدس سره .

هذا ما خطر ببالنا ، والعلم عند اللّه والرسول وأُولی الأمر منهم علیهم السلام .

وکیف کان، فدلالة الحدیث علی عدم جواز الغُسل مع الماء المستعمل فی الحدث الأکبر مخدوشة من جهات _ وإن کان بعضها ضعیفاً _ :

أوّلاً: من إمکان دعوی الإجمال، من حیث أنّ الجهة المانعة التی دعت السائل إلی السؤال هل هی کانت من جهة کون الماء المستعمل بما أنّه مستعمل مانعاً، أو کان من جهة کونه حاملاً للتراب وصیرورة الماء فاسداً بعد تحوّله إلی الوحل _ کما فی «الروائع»؟ _ ونزید فیه ثالثاً وهو کون المحذور عنده لعلّه نجاسة الأطراف الناشئة من رجوع ماء الوهدة النجسة کما علیه الآملی قدس سره ؟

فإذا صار الأمر مردّداً بین هذه الاحتمالات، یصیر مجملاً ولا یمکن الاعتماد علیه فی الفتوی .

هذا، وإن کان هذا لا یخلو عن بُعد کما ذکرنا .

وثانیاً : إنّ تقریر الإمام علیه السلام لما توهّمه السائل من المنع، لا یکون معلوماً هل هو کان باعتبار أنّ رجوع الماء المستعمل موجباً لحرمة الغسل والاغتسال به، کما هو المقصود أو کان باعتبار کراهة الإغتسال بمثل هذا الماء، فیکون مجملاً من هذه الجهة کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ، وإن استبعده صاحب «مصباح الهدی» وذهب إلی أنّ الحکم لعلّه لأجل العلاج ولرفع الکراهة، مع بُعد کون الکراهة

ص:491

باعثة لسؤال السائل عن ذلک .

وثالثاً : یلزم التعبّد بهذا الحدیث الالتزام بما یخالف فتوی جمیع الأصحاب، لأنّ دخول النضحات والرشحات فی الماء الذی یستعمل للغسل، لا یوجب صیرورة الماء متّصفاً بوصف الإستعمال المانع، فیما إذا کان أقلّ من ذلک، فضلاً عن مثل ماء الوهدة الذی یکون کثیراً عادةً ، فلابدّ حینئذٍ من الحمل علی الکراهة .

مضافاً إلی عدم اشتماله علی کون الغَسل للجنابة، إلاّ أن یکون هو المراد بواسطة الغلبة الموجودة فی الخارج، مع أنّه لو کان غیره ممنوعاً ففیه یکون بطریق أولی.

فسقط الحدیث عن الاستدلال .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم عن أحدهما علیه السلام : «قال : سألته عن ماء الحمّام؟ فقال : ادخله بإزار ولا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن یکون فیهم (فیه) جنبٌ، أو یکثر أهله فلا یُدری فیهم جنبٌ أم لا»(1) .

وجه الاستدلال به، هو المنع عن الإغتسال بالماء الذی اغتسل به الجُنُب قطعاً أو احتمالاً، فلیس وجه المنع إلاّ من جهة نجاسة الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر، إن سُلّم غلبة النجاسة فی الجنب، وإلاّ لکان من جهة کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر، وهذا هو المطلوب .

وقد أشکل علیه بوجوه :

أوّلاً : نُقل عن صاحب «المعالم» بأنّ الإستثناء عن النهی بقوله : «لا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن یکون فیه جُنُبٌ»، لا یوجب إلاّ نفی الحرمة، لا إثبات وجوب الاغتسال عن الماء الآخر إذا کان فیه الجُنُب، حتّی یثبت حرمة الإغتسال بذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 5 الماء المطلق، الحدیث 7.

ص:492

الماء ، کما لا یخفی .

وفیه : وإن نوقش فی کلامه بما لا یخلو عن إشکالٍ، وهو کما عن صاحب «الحدائق» من أنّ مقتضی الإستثناء عن النفی هو الإثبات، وعن الإثبات هو النفی، کما هو کلام نجم الأئمّة، فلازمه کون الإستثناء عن الحرمة یقتضی الوجوب، أی یجب الاغتسال بماءٍ آخر إذا کان فیه الجُنب .

وجه الإشکال: مخالفته لمقتضی قواعد العربیة من أنّ الاستثناء لا یوجب إلاّ نفی حکم المستثنی منه، لا إثبات حکمٍ مضادٍّ للمستثنی، إلاّ أن یُعلم من دلیلٍ خارج خصوصیّة حکمٍ معه، فمعنی الإستثناء هو أنّ الحرمة لیست ثابتة بعد ذلک، أی وجود الجنب فیه ، فحینئذٍ یکون حکم المستثنی من وجوب الاغتسال من ماء آخر أو إباحته، غیرُ مستفادٍ من ذلک لأحد الوجهین ، نعم یثبتُ أصل الجواز المطلق، فلابدّ من تعیین انفصاله عن الإثبات بدلیل آخر یدلّ علی ذلک .

إلاّ أنّ الإشکال _ کما أشار إلیه المحقّق الهمدانی _ هو عدم کون النهی فی قوله : «لا یغتسل من ماء آخر»، نهیاً تحریمیّاً وتنزیهیّاً، حتّی نحتاج إلی ما ذکره صاحب «المعالم» قدس سره ، بل الظاهر کون النهی إرشادیّاً، کما هو المتعارف عند العرف ومع هذا النهی ننفی اللزوم، ویفید أنّه لا یلزم أن یغتسل بماء آخر، إلاّ إذا کان فی ماء الحمّام جُنُباً أو یحتمل وجوده فیه، وذلک لوضوح أنّ الغسل من ماءٍ آخر لم یکن حراماً قطعاً، حتّی مع عدم وجود الجُنُب فیه، حتّی یکون الاستثناء دلیلاً علی عدم الحرمة .

فعلی هذا التقریر یوجب أن یکون المعنی، أنّه إذا کان فیه الجُنُب یلزم الإغتسال من ماء آخر، فیرجع حینئذٍ إلی ما ذکره المستدلّ، ویکون دلیلاً علی المنع کما لایخفی .

وثانیاً : ما هو المراد من الماء الذی کان قبل الإستثناء من النهی للاغتسال بماءٍ

ص:493

آخر إذا کان فیه الجُنُب؟ فإن کان المراد ماء الخزّان ، فهو مخالف لمتعارف سیرة صدر الإسلام، لعدم کون الغسل فیها مرسوماً أصلاً.

فضلاً عن عدم معهودیّة المنع للاغتسال فیه له أو لغیره من النصّ، سواء کان بدن الجنب نجساً أم لا لکونه أزید من الکرّ بمراتب، فهو أوضح من أن یخفی.

فما حمله الحکیم قدس سره علیه لا یخلو عن إشکال، حتّی بالنسبة إلی الکراهة أیضاً .

وإن کان المراد هو الماء المجتمع من غسالات الحمّام _ کما اختاره الخوئی فی «التنقیح» _ فإنّ النهی یکون متوجِّهاً إلی الاغتسال المتعارف، إلاّ إذا کان فی الحمّام جُنُب، أو یحتمل وجوده فیه، فیجوز حینئذٍ الإغتسال فیها ، ویدلّ الحدیث بأنّ المتعارف فی ذاک الزمان هو الاغتسال بذلک الماء، فنهاه الشارع عنه، إلاّ فیما استثنی عنه .

ففیه: أنّه مخدوشٌ أوّلاً بالمنع کون المعمول هو الاغتسال بذلک الماء، وإن کان قد یتّفق، کما یشهد لذلک إجمالاً سؤال بعض السائلین عن حکم هذا الماء، بأنّه هل هو طاهرٌ أم لا، مثل خبر حمزة بن أحمد عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام : قال : «سألته أو سأله غیری عن الحمّام. قال : ادخله بمئزر، غضّ بصرک ولا تغتسل من البئر التی تجتمع فیها ماء الحمّام، فإنّه یسیل فیها ما یغتسل فیه الجُنُب، وولد الزنا، والنّاصب لنا أهل البیت، وهو شرّهم»(1).

بل ومن النهی الوارد عن الاغتسال فیه، الذی یفید کونهم غیر متوجّهین لذلک، وکانوا قد یغتسلون فیه مثل الأعراب.

وأمّا إثبات کونه متعارفاً لدیهم _ کما استشهد بهذه الأخبار الخوئی فی «التنقیح» _ لا یخلو من تأمّل، لإمکان مساعدة الأخبار مع الاتّفاق أیضاً دون


1- وسائل الشیعة: الباب 1 الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:494

التعارف والاستمرار.

وأمّا الخبر الدالّ علی المنع هو موثّقة ابن أبی یعفور عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إیّاک أن تغتسل من غُسالة الحمّام، ففیها تجتمع غسالة الیهودی»(1) الحدیث، وأمثال ذلک .

وثانیاً : أنّ الاستثناء عن ذلک النهی، وإثبات الجواز ولو بإثبات الإباحة، أی ولو برفع الکراهة عن الاغتسال بهذا الماء، فیما إذا کان فی الحمّام جُنُباً أو یُحتمل وجوده، فی غایة السخافة، لوضوح أنّ هذا الماء یعتبر أقذر وأخسّ من ماء الحیاض التی تعارف أخذ الماء منها والاغتسال به، فلازمه احتمال النجاسة من جهة وقوع الرشحات فیه، ولکن مثل هذا الماء غیر ممنوع لاتّصاله بالمادّة، فکیف لم یجز الاغتسال به مع أنّه قد أجاز الاغتسال بمثل هذا الماء القذر الذی تشمأزّ منه النفوس؟!

والعجب من المحقّق المذکور أنّه أتعب نفسه لإثبات ذلک.

بقی احتمال آخر وهو أنّه إذا کان المراد من الماء هو ماء الحیاض الصغار الموجودة فی الحمّامات السابقة، فإنّ المحقّق الهمدانی قدس سره أراد إثبات کون هذا هو المراد من متعلّق الحکم فی الاغتسال، فیما إذا کان فیه الجُنُب .

فهذا الاحتمال _ وإن کان بالنظر إلی کونه هو المعمول من الاغتسال به _ وإن کان وجیهاً غایة الوجاهة ، إلاّ أنّ الإشکال ما یتبادر إلی الذهن أنّه کیف منع عن الاغتسال بعدما فرض وجود الجنب فیها؟ مع أنّه لم یکن دخول الرجال فیها للغسل متعارضاً لملاحظة صغر الحیاض عادةً کما لا یخفی ، فانحصرت طریقة الاستفادة فیها بأخذ الماء منه للغسل، فحینئذٍ لا یکون الماء مستعملاً لإزالة


1- وسائل الشیعة: الباب 4 ماء المضاف، الحدیث 11.

ص:495

الحدث حتّی یکون ممنوعاً من استعماله ثانیاً، مضافاً إلی کونه متّصلاً بالمادّة، فلا یوجب انفعاله حینئذٍ، لا من حیث الخبثیّة ولا الحدثیّة، کما لایخفی ، فعلی هذا یعدّ وجه المنع _ ولو علی نحو الکراهة _ غیر معلومٍ ، کما لا یخفی .

والذی ینبغی أن یقال : إنّ المراد من (ماء آخر) لیس ماءاً خارجاً عن ماء الحمّام، کما یفهم من کلام البعض ، بل یحتمل أن یکون المقصود غیر ماء الحیاض الصغار الذی قد تجمع حوله الجُنُب أو الناس، لأنّ المرسوم فی الحمّامات تعدّد حیاض الصغار، فعلیه یمکن أن یکون النهی هنا بالمعنی الذی ذکرنا: من توهّم السائل لزوم الإغتسال بماء آخر غیر الماء الذی یغتسل منه الجنب، حیث ینتضح منه إلی بدن غیره فیدخل الماء المستعمل فی الحدث _ بل فی الخبث أحیاناً _ فی عنوان الماء المغتسل، ولذلک أرشده الإمام علیه السلام بأنّه لا یکون الغسل بالماء الآخر مرغوباً فیه، أن یکون النهی فیما إذا علم أن جُنباً یغتسل منه.

أو یُحتمل، من جهة وجود الأضرار الکثیرة فی الجنب بحسب النوع، یعنی إذا کان الوضع بهذه الکیفیّة، کان الغسل عن ماء آخر واقع فی الحوض الصغیرأحسن وأرجح ، فحینئذٍ لا ینافی الرجحان وجود الجنب محتملاً فی الأفراد، فیکون ذکر ذلک قرینةً علی أنّ إتیان الغسل مع وجود الجنب ولو محتملاً، فهو أمر مقبولٌ غیر مستنکر عند العقلاء .

وثالثاً: بأنّه کیف جَمَع بین کون وجود الجنب معلوماً ومشکوکاً، علی أنّه لو سلّمنا کون ممنوعیّة الماء المستعمل فی الحدث إنّما کان فی معلومه أو مظنونه بالظنّ المعتبر، لا ما إذا کان مشکوکاً، وبرغم ذلک لا تردید فی أنّ مقتضی الأصل هو عدم کونه مستعملاً فی رفع الحدث، فهذا أیضاً دلیل آخر علی عدم کون النهی للتحریم، وإلاّ لما جمع بینهما .

قلنا : قد عرفت صحّة هذا الجمع وحُسنه من الطریق الذی استفدناه عند بیان

ص:496

طریق الراجح فی الماء القلیل، بأن یغتسل من ماءٍ من غیر شبهة فی ذلک، فلا یکون حینئذٍ هذا الخبر من أدلّة المانعین، بمعنی التحریم وعدم الجواز.

هذا فضلاً عن أنّه لیس فیه من الجنابة عینٌ ولا أثر، وکون حکم ماء المستعمل فی مطلق الغسل _ ولو لغیر الرافع _ کحکم ماء المستعمل فی الرافع، فی المنع عنه _ ولو بالنضح _ بعید غایته.

فهذا الخبر مع صحّة سنده ساقطٌ عن الاستدلال، من جهة الدلالة، کما وافقنا فی ذلک الشیخ الأعظم قدس سره والمحقّق الهمدانی، وغیرهما من أصحابنا رضوان اللّه علیهم أجمعین .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام . «وسُئل عن الماء تبول فیه الدوابّ، وتلُغ فیه الکلاب، ویغتسل فیه الجنب؟ قال : إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء»(1).

حیث یفید مفهومه أنّ الماء الذی یغتسل فیه الجنب إن لم یکن بقدر کرّ لا یجوز استعماله فی غُسل الجنابة وغیره .

هذا والخبر من حیث السند صحیحٌ، وکذلک من حیث الدلالة الابتدائیة.

لکنّه مخدوش من جهتین :

الأولی: لأنّه وإن کان فی دلالته علی الجواز فی الکرّ ظاهر فی أنّه ردٌّ علی العامّة، حیث یعتقدون بأنّ الماء ینجس إذا استعمل فی غُسل الجنابة ولو کان کرّاً ، فأجاب علیه السلام : بأنّ الکرّ لا ینفعل بوجه أصلاً .

إلاّ أنّه فی دلالته علی عدم الجواز فی صورة عدم بلوغه کرّاً، بالنسبة إلی ما یغتسل للجنابة مجملٌ ، أوّلاً : بأنّه لا یُعلم بأنّ وجه المنع کان بلحاظ کونه


1- وسائل الشیعة: الباب 1 الماء المطلق، الحدیث 9.

ص:497

مستعملاً فی رفع الحدث، حتّی یکون دالاًّ للمطلوب، أو بلحاظ کون الماء المستعمل فی الجنابة منفعلاً بنجاسة بدن الجنب ولو کان من غَسْله قبل الإغتسال، وعلی أیّ حال یجتمع فی مجتمع لم یبلغ کرّاً فیکون نجساً ، وإن علی احتمال، کان الاحتمال الثانی أولی خاصّة إذا لاحظنا انضمام ذلک مع ولوغ الکلاب، حیث یفهم أنّ مورد السؤال کان من حیث النجاسة والطهارة، لا من حیث کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر .

الثانیة : یکون ذیله قرینة علی کون مفروض سؤال السائل هو النجاسة والطهارة لا غیرها، ولذا أجابه علیه السلام : «بأنّ الماء إذا کان قدر کرّ لم ینجّسه شیء» .

هذا مضافاً إلی إمکان کون المراد من فرض السؤال هو صورة جمع الأقسام الثلاثة، فیکون الواو للعطف والجمع، لا لبیان التفریع وکون کلّ واحد منهما مورداً للسؤال علی حدة ، فحینئذٍ یکون عدم الجواز _ فی الفرض المذکور _ لنجاسته قطعاً ، کما لایخفی .

ومنها : روایة حمزة بن أحمد(1) وقد سبق ذکره فی ص37 فلا نعید.

وجه الدلالة: بناءً علی کون النهی عن الاغتسال من ماء غسالة الحمّام، کان لکلّ واحد من غسالة الجنب والزنا والناصبی، فیدلّ کون النهی بلحاظ أنّه مستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

هذا، لکنّه مخدوش بما قد عرفت من ضعف سنده، وأنّه بقرینة اقترانه مع الناصبی، الذی حکم بنجاسته، یُفهم أنّه کان وجه السؤال بلحاظ نجاسته وطهارته، لا بما کنّا بصدده .

مضافاً إلی أنّ ولد الزنا لم یکن نجساً ، والقول بنجاسته ضعیف غایته، وإن


1- وسائل الشیعة: الباب الأوّل، من أبواب الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:498

احتمله بعض فقهائنا تمسّکاً بمثل هذا الخبر .

منها: خبر ابن أبی یعفور عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «لا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها غسالة الحمّام، فإنّ فیها غسالة ولد الزناء، وهو لا یطهر إلی سبعة آباء»(1) الحدیث .

إلاّ أنّ هذا الخبر یفید خلاف ما قاله، وهو أدلّ علی عدم صحّة قوله، لوضوح أنّه کان کنایة عند العرف من عدم طهارة مولده، وتأثیر ذلک فیه .

فحینئذٍ انضمام ذلک یوجب کون المقصود هو غیر النجاسة والطهارة، خلافاً لانضمام الناصبی، فلا بأس أن یکون النهی عن الاغتسال محمولاً علی الجامع بین الحرمة والکراهة، نظیر ما یقال فی قوله علیه السلام : «اغتسل للجمعة والجنابة» من استعمال الأمر فی مطلق الرجحان والطلب، حتّی یکون فی الجمعة منضمّاً مع جواز الترک ندبیاً، وفی الجنابة مع المنع من الترک وجوبیّاً، وکذلک یقال هاهنا: بأنّ النهی استعمل فی مطلق رجحان الترک، ففی مثل الماء المستعمل من الناصبی، یکون مع فصله هو المنع من الفعل، فیکون حراماً، وفی مثل غسالة ولد الزنا وغسالة الجنابة یفید مع فصله _ وهو جواز الفعل _ الکراهة، أو یکون فی غسالة الجنابة مجملاً بین الاحتمالین وفی کلّ الأحوال یسقط عن الاستدلال .

مضافاً إلی إمکان أن یکون بلحاظ اجتماع هذه المیاه التی کانت بعضها نجساً، فیکفی فی نجاسة الباقی إذا لم یکن کُرّاً ومتّصلاً بالکرّ ، وإلاّ یکون محمولاً علی الکراهة قطعاً،لأنّه لو قیل بالحرمة حتّی فیهما، یوجب کونه مخالفاً للإجماع، کما لا یخفی .

هذه جملة الأخبار التی استدلّ بها المانعون، وقد عرفت بأنّ أتمّها فی الدلالة


1- وسائل الشیعة: الباب 4 الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:499

هو معتبرة عبداللّه بن سنان، مع وجود الإشکال فی دلالته فی الجملة ، وأمّا بقیّة الأخبار فلا تتمّ دلالتها علی النهی التحریمی، فضلاً عن ضعف سند بعضها.

فأصبحت النتیجة فعلاً هو الحکم بالمنع احتیاطاً، حتّی نلاحظ الأخبار الواردة فی الجواز، وکیفیّة معارضتها مع تلک الأخبار المانعة .

فنقول : استدلّ المجوّزون بعدّة أخبار تدلّ علی جواز الإغتسال بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

فمنها : صحیح محمّد بن مسلم: قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الحمّام یغتسل فیه الجنب وغیره اغتسل من مائه ؟ قال : نعم ، لا بأس أن یغتسل منه الجنب، ولقد اغتسلت فیه ثمّ جئت فغسلت رجلی وما غسلتهما إلاّ ممّا لزق بهما من التراب»(1) .

وجه الدلالة ظاهر، إذ یجوز الغسل من ماءه الذی اغتسل منه الجنب، ولذلک جعل الحکیم قدس سره فی «المستمسک» هذا الخبر ممّا یعارض الخبر الذی رواه محمّد بن مسلم الدالّ علی المنع، وعرفت توضیحه قبل ذلک .

مضافاً إلی وجود الدلیل علی الجواز، بل وإطلاقات الأوّلیة من مطهّریة الماء حتّی عن الحدث الأکبر، ولو بعد استعماله فی غسل الجنابة، کما هو واضح لا خفاء فیه .

لکنّه مخدوشٌ بعدم ارتباطه لما نحن بصدده من وجهین :

أوّلاً : من إمکان أن یکون وجه سؤال السائل، عن حکم ماء الغُسل باعتبار حال نجاسته وطهارته، بأنّه هل یتنجّس الماء بذلک _ لإمکان نجاسة بدن الجنب ولو باعتبار حال قبل الاشتغال بالغُسل _ أم لا؟ فأجاب علیه السلام بأنّه طاهر، لایوجب


1- وسائل الشیعة: الباب 2 الماء المطلق، الحدیث 7.

ص:500

ذلک نجاسته.

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ملاحظة مضمرة أبی الحسن الهاشمی: قال : «سُئل عن الرجال یقومون علی الحوض فی الحمّام، لا أعرف الیهودی من النصرانی، ولا الجُنب من غیر الجنب ؟

قال : تغتسل منه، ولا تغتسل من ماءٍ آخر فإنّه طهور»(1).

حیث أنّه یُفهم من کیفیّة سؤال السائل وجواب الإمام، أنّ جهة السؤال کانت من حیث النجاسة والطهارة.

فعلی هذا التقدیر لا یکون الخبر مرتبطاً بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر، حتّی یکون حکم الإمام علیه السلام بالجواز بذلک الاعتبار .

وثانیاً : من إمکان أن یُقال بأنّ الماء الذی یسأل عنه، إمّا هو الماء فی الخزانة، کما یساعده بلحاظ کلمة (فی) من جهة القواعد النحویة، بقوله : «یغتسل فیه الجنب»، وهکذا قول الإمام علیه السلام : «ولقد اغتسلت فیه» فحینئذٍ یکون الحکم بالجواز مطابقاً للقواعد فی الماء الکثیر حتّی بالنسبة إلی کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر، لعدم وجود قائل بالمنع فیه، غایته الکراهة، وهو بعیدٌ جدّاً، لعروض العسر والمشقّة لمن أراد أن لا یرتکب الکراهة فی ذلک، کما لا یخفی .

أو یکون المراد ماء الحیاض الصغار، بأن یکون الجنب بالقرب منه، ویأخذ الماء منه للغسل، فالحکم بالجواز أیضاً غیر مرتبط بما نحن بصدده، لعدم کون ماءه مستعملاً فی رفع الحدث حتّی یوجب توهّم ممنوعیة .

فاحتمال کون المراد من السؤال، هو الاغتسال عن غُسالة الجنب _ کما یظهر ذلک من الحکیم قدس سره _ بعید غایته، فلا یکون هذا الحدیث معارضاً لتلک الأدلّة، کما


1- وسائل الشیعة: الباب 6 الماء المطلق، الحدیث 7.

ص:501

لایتمکّن الأصل والاطلاقات من المعارضة مع تلک الأدلّة، لکونها دلیلاً اجتهادیّاً ودلیلاً خاصّاً ومقیّداً للإطلاقات، وهو واضح لمن کان له أدنی تأمّل .

ومنها : صحیح علیّ بن جعفر عن أخیه أبی الحسن الأوّل.

قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیةٍ أو مستنقعٍ، أیغتسل منه للجنابة، أو یتوضّأ للصلاة، إذا کان لا یجد غیره، والماء لا یبلغ صاعاً للجنابة ولا مدّاً للوضوء، وهو متفرّقٌ کیف یصنع، وهو یتخوّف أن یکون السباع قد شربت منه ؟ فقال : إنّ کانت یده نظیفة فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة، فلینضحه خلفه، وکفّاً أمامه، وکفّاً عن یمینه، وکفّاً عن شماله، فإنْ خشی أن لا یکفیه غَسل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بیده، فإنّ ذلک یُجزیه، وإن کان الوضوء، غَسل وجهه، ومسح یده علی ذراعیه ورأسه ورجلیه، وإن کان الماء متفرّقاً فقدر أن یجمعه، وإلاّ اغتسل من هذا ومن هذا، وإن کان فی مکان واحد وهو قلیلٌ لا یکفیه لغسله، فلا علیه أن یغتسل ویرجع الماء فیه فإنّ ذلک یجزیه»(1) .

وقد استدلّ به لجواز الاغتسال بالماء الراجع إلی الساقیة والمستنقع، مع کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر.

والخبر من جهة السند یعدّ صححیاً ومنقولاً بطرق متعدّدة معتبرة، فبذلک نرفع الید عن تلک الأخبار المانعة، مع ما عرفت من کثرة ورود الإشکال فیها، والتوجیهات البعیدة، وهذا أصحّ وأتمّ خبر یدلّ علی ذلک سنداً ودلالةً، کما لایخفی .

والتحقیق فی ذلک موقوف علی تقدیم بیان فقه الحدیث، ونستمدّ من اللّه عزّوجلّ الهدایة إلی ما هو الحقّ المصاب، اللائق لاُولی الألباب، فنقول: إنّ السائل قد کان یقصد من السؤال _ بحسب ظاهر الخبر _ جهات شتّی ؛ تارةً : من


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:502

حیث حکم ماء الساقیة والمستنقع للغسل والوضوء، عند عدم وجدان ماء آخر .

واُخری : من حکم مستحبّات الغُسل والوضوء عند عدم کفایة الماء الذی لم یبلغ الصاع والمدّ .

وثالثة : من جهة تفرّق الماء، وعدم کونه فی مکان واحد .

ورابعة: من جهة خوف نجاسة الماء، بواسطة احتمال ورود السباع فیه لشرب الماء، وتنجیسه من جهة کونها نجسة العین، أو من جهة البول وغیره .

وأمّا جواب الإمام علیه السلام فبعد التأمّل فیه یرجع إلی کلّ ما فی سؤال السائل مع زیاداتٍ.

والجواب مشتمل علی بیان خمسة أحکام :

الأوّل : بیان رفع توهّم النجاسة بواسطة النضح علی الجوانب الأربع علی احتمال کما عرفت تفصیل تلک الفقرة فی خبر عبداللّه بن مسکان ، أمّا للمنع عن انحدار الماء إلی الساقیة، أو من جهة إیجاد الشبهة من کون الماء الراجع لعلّه المنضوح لا المغسول به .

الثانی : بیان حکم قلّة الماء عن مقدار یکفی للعمل بالمستحبّات من کفایة غسل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بیده، أو کان المراد من غسل رأسه ثلاث مرّات لزیادة الماء حتّی یساعده لإیصال الماء إلی بقیّة الأعضاء ولو بالمسح بیده علی جلده، وهذا هو الأقوی، ومنه یفهم ضمناً تجویز الغسل من ذلک الماء الراکد فی الساقیة والمستنقع .

الثالث : یظهر منه حکم جواز الوضوء أیضاً، ومن إمکان تحصیله منه ولو بالمسح علی ذراعیه، فی صورة قلّة الماء، فلا یتوجّه إلی التیمّم .

الرابع : حکم تفرّق الماء، بأنّه إن قدر من الجمع بین موارده فیجمعه فی مکان واحد حتّی یغتسل فی موضع واحد، وإلاّ یجوز له الغسل، بأن یجعل مقداراً منه من ماء والآخر من ماء آخر، إلی أن یتمّ الغسل، ومعلومٌ أنّه لا یضرّ الانفصال فی

ص:503

عمل الغسل فی صحّته .

الخامس : وهو المقصود فیما نحن فیه، وهو بیان حکم الماء إذا کان قلیلاً لا یکفیه لغسله علی النحو المذکور فی القسم الثانی، فحَکَم أنّه یجوز علیه أن یغتسل من الماء القلیل، ویرجع الماء من الماء الموجود فی الساقیة، ثمّ یأخذه ثانیاً إلی أن یتمّ الغسل بذلک، فلازمه جواز الاغتسال بالماء المستعمل فی رفع الحدث، وهو المطلوب .

ولقد أورد علیه:

تارةً : أنّه وإن کان ظهوره فی تجویز ذلک ، إلاّ أنّه کان فی حال الضرورة والاضطرار، لما قد فرض فیه عدم کفایة الماء للغَسل بنحو المتعارف لا ولو بنحو التدهین ، فما توهّمه بعضٌ من وجود المناقضة بین فرضه بعدم الکفایة للغسل وبین حکمه بالغسل، ولو بالرجوع ، لا یخلو عن تسامحٍ.

فلا یستفاد منه جواز ذلک، حتّی مع الاختیار ووجود الماء خارجاً، کما هو المقصود، لإمکان أن یکون ذلک من قبیل ما هو المعروف بین الفقهاء من أنّ «الضرورات تبیح المحظورات»، کما لا یخفی .

لکنّه مندفعٌ، بأنّه إن کان المورد من موارد الضرورة، فلِمَ لم یحکم بصورة التدهین الذی کان مصرفه للماء أقلّ ممّا ذکره بمراتب، فیفهم أنّه لیس فی مقام بیان حال الضرورة، فلو أمکن إثبات دلالة الحدیث علی ما ادّعاه المستدلّ، یکون دلیلاً علی الجواز فی حال الاختیار أیضاً .

وأُخری: بأنّه خارج عن محلّ النزاع، لأنّه إنّما فرض ممزوجیّة الماء الوارد الذی استعمل فی الغسل مع الماء الراکد فی الساقیة، خصوصاً إذا کان الراجع قلیلاً موجباً للاستهلاک فی الماء الثابت، فلا یعدّ ذلک الماء ماءً مستعملاً فی رفع الحدث، حتّی لا یجوز استعماله ثانیاً فی الغسل، فعلیه یکون حُکم هذا الماء

ص:504

الراجع، حُکم الماء المنضوح حین الغسل فی الإناء، حیثُ قد جاء فی الحدیث صریحاً بنفی البأس عنه، کما تری ذلک فی صحیح الفضیل بن یسار عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل الجُنُب فینضح من الماء فی الإناء ؟ فقال : لا بأس، ما جُعِل علیکم فی الدِّین من حرج»(1) .

وصحیح شهاب ابن عبد ربّه عن أبی عبداللّه علیه السلام : أنّه قال: «فی الجُنب یغتسل فیقطر الماء عن جسده فی الإناء، فینضح الماء من الأرض، فیصیر فی الإناء، أنّه لا بأس بهذا کلّه»(2) .

بل قد یمکن أن یکون استدلال الإمام بآیة الحرج فی الماء المنضوح إشعاراً بأنّ وقوع هذا المقدار من المستعمل فی الماء الباقی، لا یوجب الإشکال، فیکون ما نحن فیه من هذا القبیل، لأنّه من الواضح أنّ مراقبة عدم وقوع المنضوح فی الماء لیس إلاّ من قبیل العُسر والحرج الشدیدین، حتّی یصدق الضرورة والاضطرار فی ترکه، فیفهم منه أنّ المراد من الحرج هو الحرج العرفی، وهذا المعنی موجود فیما نحن فیه بالنسبة إلی رجوع الماء إلی الساقیة، لإدامة تحصیل الغسل، کما لا یخفی .

فعلی هذا لا یمکن استفادة جواز الغُسل بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر مطلقاً، حتّی فیما لو لم یختلط مع ماءٍ آخر غیر مستعملٍ فی رفعه، عن مثل هذا الحدیث، کما هو المقصود لمن ذهب إلی الجواز .

وثالثة: علی فرض تسلیم دلالته علی الجواز ، نقول : مورد الحدیث إنّما کان فیما إذا استعمل الماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء لبعض آخر، قبل تمامیّة


1- وسائل الشیعة: الباب 5، الماء المضاف، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 6، الماء المضاف، الحدیث 9.

ص:505

الغُسل، کما لا یبعد قبوله من حیث الاعتبار أیضاً، لأنّ مقتضی الجمود علی عنوان المستعمل فی رفع الحدث، هو أن یکون الماء مجتمعاً عن تمام الغسل فی محلّ واحد من إناءٍ وغیره، فأراد الآخر _ أو نفسه _ الاغتسال من الماء، فیشمله أدلّة المنع، مثل خبر عبداللّه بن سنان، کما هو الظاهر من قوله علیه السلام : «من بما یغتسل به الجُنب» المندرج فی خبر المنع، فلا یشمل ما لو کان مستعملاً فی غَسل بعض الأجزاء.

ویؤیّد ذلک، ما لو فُرض استعماله فی غسل بعض الأعضاء فی الأثناء بنیّة مجرّد الغَسل، فلا یکون استعمال مثل هذا الماء للوضوء أو الغسل ممنوعاً، لعدم صدق کونه مستعملاً فی رفع الحدث، وکذلک فی المقام ، فعلی هذا یظهر أنّه لا معارضة بین حدیث الجواز وحدیث المنع، حتّی یرفع الید عن أحدهما بواسطة بعض المرجّحات الدلالیة ، إلاّ أن یُدّعی دلالة کلّ واحد منهما علی الإطلاق فی البعض والکلّ منعاً وجوازاً، لکنّه مشکلٌ جدّاً .

فأصبحت النتیجة أنّ أدلّة المنع باقیة علی حالها، لغایة ما نذکر بقیّة أدلّة الجواز، فلابدّ التأمّل فی دلالة ما یذکر بعد ذلک، إن شاء اللّه تعالی .

وعلی ما ذکرنا من قبول أحد الإشکالین الأخیرین بل کلیهما، کان أولی من بعض ما ذکر من الجمع بینه وبین دلیل المنع ؛ تارةً : بحمل حدیث الجواز علی المغتسل نفسه، إذا أراد اغتساله ثانیاً فیجوز، بخلاف غیره فلا یجوز لدلیل المنع ، والوجه فی أهونیته أنّه من الواضح عدم إحراز خصوصیّة فارقة موجبة للحکم بذلک إلزاماً، مع صدق العنوانین فی کلیهما .

واُخری: بحمل خبر الجواز علی من لم یقصد الاغتسال حین الغسل أوّلاً بذلک الماء ، أو حمله علی الکراهة، لما قد عرفت عدم وجود ما یوجب الحمل علی أحد هذین الوجهین، مع التمکّن إلی ما لا یلزم الحمل علی خلاف الظاهر،

ص:506

کما لایخفی ، فتأمّل .

فقد ظهر من مطاوی کلماتنا، وجه القائلین بالتفصیل بین حالتی الضرورة من الجواز، والاختیار من المنع، کما هو الظاهر من الصَّدوق فی «الفقیه»، والشیخ الطوسی فی مقام التعرّض للجمع بین الأخبار لا الفتوی، لأنّهما لاحظا واعتمدا علی ظاهر مثل هذا الحدیث بعد جمعه مع الأخبار المانعة التفصیل الذی مرّ ذکره، ولکن قد عرفت عدم المعارضة بینهما حتّی یحتاج إلی مثل هذا الجمع .

ومنها : ما نقله المحقّق الهمدانی فی «المصباح»(1) عن «الأمالی» للشیخ الطوسی ، عن میمونة: قالت : «اجتنبتُ فاغتسلت من جفنةٍ وفضلت فیها فضلة، فجاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فاغتسل منها رسول اللّه. قلت : یارسول اللّه إنّها فضلة منّی (أو قالت : اغتسلت)؟! فقال صلی الله علیه و آله : لیس للماء جنابة» .

وتمسّک قدس سره _ مع التفاته بکون ظاهر فی الفضلة، حیث یفهم أنّه لم تکن قد اغتسلت فی الجفنة، بل کانت قد أخذتها للاستعمال فی الغُسل _ واستدل به بلسان التعلیل، حیث یُشعر بأنّ الماء لا یتأثّر بذلک.

هذا، ولکنّه لا یخلو عن مناقشة، أوّلاً: من جهة سنده، حیث یعدّ الخبر مرسلاً ، وثانیاً : أنّ قوله : «اغتسلت من جفنة» حیث أتت بکلمة (من) لا الظاهر فی أنّ الاغتسال کان خارجاً من الجفنة لا فیها، خلافاً لما هو الموجود فی خبر ابن عبّاس المتقدِّم ذکره.

مضافاً إلی ما ذکرنا فی الجفنة، من عدم استبعاد کونها بقدر الکرّ، فحینئذٍ یکون التعلیل وارداً مورد کون الغسل فی خارجه، فکأنّه صلی الله علیه و آله أراد إفهامها بأنّ الماء لم یتأثّر بذلک حال کونه کرّاً، فلا ینافی تأثیره بالدخول فیه إذا لم یکن کرّاً، فدلالتها


1- مصباح الفقیه: ص70، وسائل الشیعة: الباب 6 ، الحدیث 7.

ص:507

علی الجواز مشکل جدّاً .

ومنها : صحیح محمّد بن علی جعفر عن أبی الحسن الرضا علیه السلام .

فی حدیث، قال : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتُسِل فیه، فأصابه الجذام فلا یلومنّ إلاّ نفسه . فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاء من العین . فقال : کذبوا، یغتسل فیه الجنب من الحرام، والزانی، والنّاصب الذی هو شرّهما»(1) الحدیث .

وهو بظاهره _ وإن کان یدلّ ولو بالإشعار _ علی جواز الاغتسال بما یغتسل فیه الجنب، وإلاّ لما کان الغسل صحیحاً، حتّی یترتّب علیه الأثر من إصابة الجذام ، إلاّ أنّه یمکن المناقشة فیه بأنّه لا یبعد أن یکون المقصود مذمّة الغُسل فی ماء الخزانة الذی یغتسل فیه جمیع الأفراد، فیکون وجه حُکمه من حیث بیان حفظ الصحّة، أی لا یصلح الغسل بمثل هذه المیاه، لإمکان عروض بعض العوارض، کما قد منع الأطبّاء فی زماننا هذا عن استعمال مثل هذا الماء، ولو کان من جهة کونه مرجوحاً، فعلیه لا یکون الخبر دخیلاً فی ما نحن بصدده، من عدم المنع عن استعمال الماء المستعمل فی الحدث، فی الغُسل .

هذه جملة الأخبار التی استدلّ بها، أو یمکن الاستدلال بها للمسألة، وعرفت عدم تمامیّة شیء منها للدلالة علی الجواز، حتّی یتعارض مع الأخبار المانعة، فیکون الحکم بالمنع موافقاً للاحتیاط .

نعم إثبات المنع عن الماء المستعمل فی الغُسل غیر الرافع من الواجب بالعَرَض والمنذور مشکلٌ جدّاً، لقصور الأدلّة عن شموله .

فیلحق بذلک قسم خامس، وهو: أنّه هل یجوز استعمال ماء المستعمل فی


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:508

الحدث الأکبر، فی الوضوءات المندوبة غیر الرافع، وفی الأغسال الاُخر من المندوبات، أو الواجب بالعرض _ منهما کالمنذور والمحلوف علیه _ أم لا ؟

والظاهر _ کما عرفت منّا سابقاً فی بحث الماء المستعمل فی الحدث الأصغر والإستنجاء _ أنّ الأدلّة المتکفّلة لبیان حکم الوضوء والغُسل الندبی، محمولةٌ علی ما هو المتعارف فی الوضوء والغُسل الرافعین من الشرائط والموانع، إلاّ ما خرج بالدلیل، ولذلک تری بأنّ نواقض الوضوء، والغُسل الرافع تکون نواقضاً لسائر الوضوءات والأغسال، فإذا منعنا تحصیل الوضوء والغُسل من مثل هذه المیاه، فلا یبعد الحکم بالمنع فی مثل تلک الوضوءات والأغسال .

مضافاً إلی اشتمال بعض الأدلّة علی ما یفهم منه التعمیم، نظیر ما کان فی خبر محمّد بن علی بن جعفر عنه علیه السلام : «مَنْ اغتسل من الماء الذی قد اغتُسِل فیه فأصابه الجذام ...»(1) الحدیث .

وصحیح محمّد بن مسلم: فی حدیث: «ولا تغتسل من ماء آخر»(2).

فلیس فیه عنوان غُسل الجنابة .

مضافاً إلی إمکان التعمیم فی لفظ (التوضّی) وأشباهه الموجودة فی خبر عبداللّه بن سنان(3) لتلک الوضوءات والأغسال کما لا یخفی.

کما لا فرق فی المستعمل فی الحدث الأکبر بین أقسامه من الحیض والنفاس والاستحاضة من باب تنقیح المناط عن خصوصیة الجنابة، ولفظ (أشباهه) علی احتمال فی خبر ابن سنان ، مضافاً إلی عدم وجود القول بالتفصیل ، فافهم .

فالأحوط عدم جواز التوضّی والاغتسال بجمیع أقسامها بالماء المستعمل فی


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الماء المضاف، الحدیث 110.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، الماء المضاف، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 13، الماء المضاف، الحدیث 13.

ص:509

رفع الحدث الأکبر مطلقاً.

وینبغی التنبیه علی أُمور :

تنبیهات استعمال الماء المستعمل فی الغسل

الأوّل : أنّه علی القول بعدم جواز الاستفادة عن الماء المستعمل فی غُسل الجنابة التامّ، فهل یکون المستعمل فی الغُسل الفاسد کالمستعمل فی الصحیح التامّ أم لا ؟ وجهان : من صدق اغتسال الجنب منه فلایجوز .

ومن أنّ العبرة هو رفع الحدث بذلک، کما هو المستظهر عن کلمات الأصحاب، حیث جعلوا العنوان فی کلامهم هو المستعمل فی رفع الحدث ، بل یمکن دعوی ظهور خبر عبداللّه بن سنان بقوله : «أو یغتسل به الجُنُب» فی الغسل الصحیح دون الفاسد.»

وهذا هو الأقوی، وإن توقّف الشیخ الأنصاری قدس سره فی طهارته، حیث لم یختر أحد الوجهین بعد نقلهما الظاهر منه فی التوقّف .

الثانی : هل یعتبر فی صدق المستعمل، هو الانفصال عن البدن، مع تمامیّة الغُسل، أو یکفی فیه تمامیّة الغُسل ولو لم یکن الماء منفصلاً عن بدن المغتسل ؟

والظاهر أنّ الانفصال عن البدن وعدمه لا خصوصیّة فیه فی حکم المسألة، إذ ربّما یمکن أن یکون الماء غیر منفصل عن بدنه، وبرغم ذلک لا یجوز الاغتسال منه، لصدق عنوان کونه مستعملاً فی رفع الحدث، وهو کما لو ارتمس فی الماء الذی کان قلیلاً عن مقدار الکرّ بیسیر، ونوی الغُسل خارج الماء، وغمس جسده فیه ، فحینئذٍ بالرمس قبل الخروج یصدق علی ذلک الماء أنّه مستعملٌ، فلا یجوز للآخر أن ینوی الغُسل واستعمال هذا الماء، کما لا یجوز لنفس المغتسل أن ینوی غُسلاً واجباً آخر تحت الماء الذی ارتمس فیه فی غُسله السابق.

إلاّ أن یُشکل صدق الاستعمال بمثل هذا المقدار من الماء _ الذی کان قلیلاً عن الکرّ بقلیل _ لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

ص:510

کما لا یکون مطلق الانفصال موجباً للمنع، کما لو فُرض أنّه استعمل الماء فی بعض الأعضاء مع النیّة غسلاً، فمع ذلک أراد تغسیل بقیّة الأعضاء من هذا الماء متّصلاً ببدنه أو منفصلاً عنه بأن أراد استعماله ثانیاً للباقی .

فالظاهر من المبنی الذی اخترناه واستظهرناه، من کون الملاک صدق کون الماء مستعملاً فی رفع الحدث، وذلک لا یصدق إلاّ بعد الإتمام ، فلا یجوز.

مضافاً إلی أنّ العرف یری مجموع هذا الاستعمال _ من أوّل الغسل إلی آخره _ استعمالاً واحداً، کما ذکره الشیخ الأعظم _ ونِعم ما ذکره _ فلا یصدق لما یأخذه ثانیاً ویستعمله، أنّه استعمال آخر حتی یکون ممنوعاً، فیجوز الغُسل به، سواء کان لنفس المغتسل أو لغیره .

فعلی هذا یظهر أنّ الغُسل بالماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء _ مع قصد الغسل _ قبل تمامه لا یوجب المنع عن استعماله ثانیاً لنفس المُغتسل، لعدم صدق کونه مستعملاً فی الغُسل إلاّ بعد تمام الغسل، کما قد استظهرنا احتمال ذلک من صحیح علیّ بن جعفر(1)، فمجرّد الانفصال دون صدق تمامیّة الغُسل لا یضرّ بجواز الاستعمال ، بل قد عرفت أیضاً ظهور خبر ابن سنان علی الغُسل الرافع للحدث الحاصل بالإتمام، لا خصوص غَسل بعض الأعضاء ، فلازم ما ذکرنا هو جواز الغُسل من الماء المستعمل فی غُسل الجنابة، إذا وقع فی أثنائه الحدث الموجب لبطلانه، لأنّ ما استعمله لم یکن رافعاً حتّی یمنع عن الاغتسال به ، خلافاً للسیّد الاصفهانی قدس سره حیث حکم بالمنع من وجهین : أوّلاً : لصدق کونه مستعملاً فی غُسل الجنابة، إذا استعمله بذلک القصد، ولو لم یتمّ .

وثانیاً : من جهة أنّ الألفاظ الشرعیّة _ منها الغُسل _ موضوعة للأعمّ من


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:511

الصحیح، ولا تختصّ بالصحیح حتّی لا یصدق الغُسل هنا إذا فرض فساده ، انتهی کلامه(1).

نعم ، غایة الإشکال _ علی ما اخترناه _ هو أن یقال: إنّ الماء إذا انفصل عن أعضاء الجنب حین الغُسل، وقع فی أمکنة متعدّدة، ففی کلّ واحد من الماء المصبوب منفرداً لا یصدق أنّه مستعملٌ، لکونه مستعملاً فی بعض الأعضاء ، وأمّا فی الماء المتجمع أخیراً فی مکان واحد الذی تمّ به الغُسل هل ینطبق العنوان _ وهو المستعملیّة علی خصوص الماء الأخیر فقط _ لأنّه یصدق علیه ذلک دون غیره، أو ینطبق العنوان علی جمیع أجزاء المیاه الواقعة فی الأمکنة المتعدِّدة ، أو لا ینطبق علی أیّ واحدٍ منها العنوان أصلاً، لأنّ کلّ واحد إذا لوحظ مستقلاًّ کان مستعملاً فی الجزء من الغسل لا الکلّ ؟

وجوهٌ أقواها هو الثانی.

إلاّ أنّه یستبعده أنّه کیف یتعلّق علیه العنوان بعد فصل زمان حتّی یتمّ الغسل ؟

وبعبارة اُخری: کان الاستعمال منه جائزاً إلی أن یتمّ الغسل، وحینذاک یصیر ممنوعاً، فلازمه صیرورة الماء بعد الانفصال ذا حکمین، وهو الجواز قبل التمامیة، والمنع بعد التمامیة، وهذا بعید جدّاً .

اللّهمّ إلاّ أن یقال : إنّه کان ممنوع واقعاً، إذا کان فی الواقع ینضمّ إلیه بقیّة الغَسل ، وهو لا یعلم، فبعد الإتمام ینکشف المنع للجمیع من أوّل الأمر، وإلاّ فلا ، وهو لا یخلو عن وجه، فعلیه یلزم المنع من استعمال الماء المستعمل فی بعض الأعضاء من جهة احتمال الانضمام .

نعم ، لو تجرّی واغتسل ولم یتمّ الغسل لا یبعد الصحّة، لولا الإشکال من جهة


1- الروائع الفقهیّة: ص98.

ص:512

قصد القربة .

فظهر من جمیع ما ذکرنا، الجواب عن الوجهین المذکورین فی کلام السیّد قدس سره ، لأنّا لا نسلّم صدق عنوان الغُسل بالماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء، إذا لم ینضمّ إلیه بقیّة الأعضاء .

نعم ، یصدق ذلک بعد الانضمام، کما ظهر أیضاً أنّ ذلک الاستظهار من خبر علی بن جعفر، وخبر ابن سنان، أجنبی عن باب وضع الألفاظ الشرعیّة الموضوعة للأعمّ أو للأخصّ _ وهو الصحیح مثلاً _ ، لأنّه استظهار من لسان الدلیل، لا من جهة صدق عنوان الغَسل، حتّی یقال إنّه موضوع للأعمّ من الصحیح.

فتأمّل فیما ذکرناه، فإنّه دقیق، وبالتأمّل فیه حقیق .

والحاصل : أنّ الماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء یکون له صور متفاوتة ، لأنّه یکون تارةً: غیر منفصلٍ عن بدن المغتسل وکان ینوی سحبه إلی سائر الأعضاء، فلا إشکال فی جوازه، وعدم صدق ماء المستعمل الممنوع علیه، وإلاّ لزم القول بوجوب استعمال ماء جدید لکلّ عضو من الأعضاء، وهذا مخالف للأدلّة والفتاوی، وهو واضح لا سُترة فیه .

وأُخری: ما یکون مستعملاً فی البعض _ مثل الرقبة والرأس _ ثمّ انفصل الماء بعد الغسل، ولکن لم یوفّق الغاسل بإتمام غَسله لعروض مبطل له، فهو قد عرفت أنّه لا یبعد القول بجواز الاغتسال به لنفس المغتسل ولغیره، لعدم صدق العنوان علیه عندنا، وإن کان قد منعه السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع الفقهیة»، وتوقّف الشیخ الأعظم فی طهارته .

وثالثة: نفس الفرض السابق لکنّه تمکّن من إتمام غسله بعد ذلک، فتارةً نلاحظ حاله قبل الإتمام، واُخری بعده.

أمّا علی الأوّل، فصدق العنوان علیه معلّق علی الشرط المتأخّر، فلو قیل

ص:513

بالمنع، لا یکون إلاّ من جهة احتمال تحقّق شرطه، کما هو الظاهر عند العرف، فکأنّه لم یحرز عدم کونه مستعملاً إلاّ بإجراء الأصل، وجریانه هنا لا یخلو عن إشکال، لأنّ المفروض وجود هیئة اتّصالیة الموجب لاستصحاب البقاء . نعم ، یجری أصالة عدم الانضمام، فیما إذا حصل فتورٌ بین غسل الأعضاء، وشکّ فی إتیان بعض آخر بعده، فیحکم الأصل بعدمه من جهة إمکان وقوع الحدث فی الأثناء واختلال الاتّصال المعتبر .

وکیف کان، فلو قلنا بالجواز واغتسل، ثمّ کشف انضمام بعضه مع بعض، فلابدّ من إعادته ، کما أنّه إذا قلنا بالمنع وتجرّی، وأتی به، ثمّ انکشف عدم الانضمام، فیجوز الاکتفاء به، لو لم یکن الإشکال وارداً من جهة عدم تمشّی قصد القربة مع علمه بالمنع .

ولا فرق فی هذه الصورة منعاً وجوازاً للمغتسل نفسه وغیره، کما لا فرق فی نفس المغتسل، بین أن یصرفه فی بقیّة هذا الغسل أو لغُسلٍ آخر، لاشتراک الملاک فی الجمیع کما لا یخفی .

کما لافرق بین القول بطهارة کلّ عضو بغسله أو بطهارته بعد تمام الغسل کما فی الوضوء .

نعم ، المنعُ فی الأوّل أوضح .

وأمّا حکم الثانی وهو کونه بعد إتمام الغسل، فلا إشکال فی ممنوعیّته حینئذٍ للمغتسل وغیره، لأنّه القدر المتیقّن من ماء المستعمل، سواء کان ماء مجموع الغَسل أو ماء بعض أعضائه الذی کان غَسله رافعاً للحدث، کما هو واضح .

ولا فرق فیما ذکرنا من الوجوه والصور، بین کون المستعمل استعمله فی الغُسل الترتیبی أو الارتماسی، إذا کان فی الماء القلیل .

*** تنبیهات استعمال الماء المستعمل فی الغسل

ص:514

تذنیبٌ وتفریعٌ: اعلم أنّ الجنبین إذا ارتمسا فی الماء القلیل بقصد الغُسل دفعة واحدة، یرتفع حدثهما، وکان غُسله صحیحاً، لعدم صدق ماء المستعمل فی حال الغُسل علیهما، ولا یعلم التقدّم والتأخّر، بل قد یعلم تقارنهما .

وأمّا لو علم تقدّم أحدهما علی الآخر واشتبه، فهو أیضاً یعدّ صحیحاً من کلیهما، لأنّ الأصل الجاری فی کلّ واحد منهما یحکم بصحّته من جهة عدم تأخّره عن الآخر ، ولولاه لکان معارضاً بالأصل فی الطرف الآخر، لأنّ متعلّق العلم الإجمالی یکون علی شخصین، ولا یکون العلم حینئذٍ منجزاً لأحدهما، ولا یکون الأصل معارضاً بالآخر، فیحکم بالصحّة علی کلّ منهما .

نعم ، لو اقتدی أحدهما بالآخر، فیحکم ببطلان صلاة المأموم، لعلمه ببطلان صلاته تفصیلاً، امّا بواسطة بطلان صلاة الإمام، لبطلان غسله، أو بطلان غسل نفسه، فیصیر کواجدی المنی فی الثوب المشترک.

ولا یکفی هنا القول بصحّة عمل کلّ واحد فی نفسه، فیلزم کون اقتدائه فی الصلاة الصحیحة مع الإمام، لما قد عرفت أنّ الإشکال من جهة علمه تفصیلاً ببطلان صلاته بتحقّق أحد الأمرین .

نعم ، صلاة الإمام یکون محکوماً بالصحّة بواسطة ما ذکرنا فی سابقه ، فلیتأمّل .

الثالث : فإن قلنا بالمنع عن استعمال ماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر _ کما هو المختار احتیاطاً _ فهل یکون الماء المستعمل فی الحدث المشکوک، کالمستعمل فی الحدث المتیقّن أم لا ؟ وجوهٌ:

تارةً: یکون الحدث المشکوک منتفیّاً بأصلٍ تعبّدی، مثل استصحاب الطهارة لیقینه بحالته السابقة من الطهارة، أو کان فی مورد لا یکون الأصل الجاری فی حقّه معارضاً بمثله لعدم تنجّز العلم الإجمالی فی حقّه، نظیر ما عرفت فی الفرع السابق _ کواجدی المنی فی الثوب المشترک _ فلا إشکال حینئذٍ فی جواز

ص:515

استعمال مثل هذا الماء المستعمل فی مثل الحدث المشکوک، لأنّ مقتضی الأصل عدم کون الماء مستعملاً فی الحدث، وهو واضح .

وأُخری: یکون الماء مستعملاً فی الحَدَث الذی، کان مقتضی الاحتیاط هو لزوم الغَسل لا إثبات الحدث واقعاً، نظیر مَنْ یعلم بوجود الجنابة والغُسل، ولا یعلم تقدّم أحدهما علی الآخر، فقد حکمنا حینئذٍ بوجوب الغُسل له ثانیاً، بمقتضی الاحتیاط ، فحینئذٍ هل یجوز استعمال مثل هذا الماء وجهان: من عموم مطهّریة الماء للحدث الشامل لما نحن فیه، وعدم القطع بما یزیل هذا العنوان، واحتمال وجود المزیل له حینئذٍ، یقتضی الأصل عدمه.

ومن أنّ الاحتیاط کما یحکم بأنّه ممنوعٌ له الدخول فی الصلاة، لاحتمال کونه محدثاً، وعدم القطع بزواله، فیکون محدثاً تعبّداً _ أی بواسطة العلم الإجمالی المقتضی للاحتیاط _ فکذلک یحکم بالممنوعیّة بالنسبة إلی ماءه، لکونه مستعملاً.

وهذا هو مختار صاحب «الحدائق» علی ما حُکی عنه، لأنّ الأحکام مترتّبة علی الظاهر لا علی نفس الأمر والواقع، فإنّه محدِثٌ ظاهراً بمقتضی الاحتیاط، فیکون الماء مستعملاً فی الحَدَث الظاهری، فیعدّ استعماله ممنوعاً .

ولکن الأقوی هو الأوّل، لأنّه لو سلّمنا بوجوب الغسل علیه ثانیاً _ بمقتضی الاحتیاط _ للصلاة، ولکن لا نُسلّم کون مقتضی ذلک ترتب جمیع آثار الماء المستعمل علیه، هذا فضلاً عن أنّ الأصل فی طرفه، من عدم کونه مستعملاً فی الحدث، یکون بلا معارض، فإثبات المنع هاهنا یکون فی غایة الإشکال .

وما ادّعاه صاحب «الحدائق» قدس سره لا یخلو عن إشکال، لوضوح أنّ الأحکام الشرعیّة مترتّبة علی الواقع لا علی الظاهر، غایة الأمر قد یکون الآثار المترتّبة علی الظاهر بواسطة وجود الأصول المحرزة، أو بواسطة تنجّز العلم الإجمالی، کما هو مقرّر تفصیلاً فی محلّه .

ص:516

هذا فضلاً عن إمکان الإستظهار من خبر عبداللّه بن سنان، کونه مستعملاً فی الحَدَث الواقعی، أو ما کان بمنزلة الواقعی تعبّداً، بواسطة الاُصول المحرزة الملحق بالحدث الیقینی، کما لا یخفی ، وفاقاً للآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» بالحکم بالجواز کما قلنا .

ثالثة: ما یکون مستعملاً فی الحدث ال _ مُحرَز بالأصل _ کاستصحاب الحدث مثلاً _ فحینئذٍ لا یبعد القول بالمنع عن الماء المستعمل فیه، لأنّه حینئذٍ، وإن لم یکن محدثاً وجداناً، إلاّ أنّه حیث کان محدثاً تعبّداً، فیحکم بعدم جواز استعمال للماء المستعمل فیه، واللّه العالم بحقائق الأحکام .

***

إلی هنا تمّ بحث ما یتعلّق بالماء المستعمل الذی أردنا ذکره، ونحمد اللّه علی توفیقه إیّانا لإتمامه، ونسأل اللّه التوفیق فی فهم حقیقة الأحکام الشرعیّة الإلهیّة، وأن یهدینا إلی سبیل الحقّ والصّواب، بجاه محمّد وآله الأنجاب، علیه وعلیهم صلوات اللّه الملک الوهّاب، إلی یوم الحساب .

***

ص:517

«القول فی الأسئار»

الثالث فی الأسئار:

وهی کلّها طاهرة، عدا سؤر الکلب، والخنزیر، والکافر، وفی سؤر المسوخ تردّد، والطهارة أظهر (1).

(1) ولا یذهب علیک أنّ الاسئار جمع ل _ (سؤر)، الذی کان منه السائر، ومعناه فی اللّغة بمعنی البقیّة والباقی، واستعمال لفظ (السائر) فی الجمیع، کما یستعمل بذلک بین الخواصّ، یعدّ من الأغلاط والأوهام المشهورة .

ففی «المغرب»: السؤر هو بقیّة الماء التی یُبقیها الشارب فی الإناء أو الحوض، أو البقیّة بعد الشرب، کما عن الجوهری ، أو البقیّة من کلّ شیء کما عن «القاموس» ، بل عن الأزهری: اتفاق أهل اللغة علی أنّ سائر الشیء باقیه، قلیلاً أو کثیراً.

ما کان من الاسئار نجساً و حراماً

هذا کلّه بحسب اللغة . وأمّا فی اصطلاح الفقهاء رضوان اللّه علیهم أجمعین _ کما عن الشهید، ومن تأخّر عنه ، بل قد نُسب إلی ظاهر غیر واحدٍ منهم _ أنّه ماءٌ قلیل لاقی جسم حیوانٍ، سواء کان بالفمّ أو سائر أعضائه .

والظاهر أنّهم لم یریدوا جعل اصطلاح خاصّ لذلک فی قبال أهل اللغة ، بل قصدهم بیان ما هو الموضوع لترتّب الأحکام المستنبطة عن الأخبار، ونحن نقتفی أثرهم، فلا بأس لبیان عدّة أُمور فی هذا المقام، فنقول :

الأمر الأوّل : أنّ وجه ذکر الفقهاء ذلک فی قبال الماء المطلق والمضاف، لعلّه

ص:518

کان من جهة احتمال اختصاصه بحکم لا یکون فیهما، وهو الحکم بالمنع عن سؤر ما لا یؤکل لحمه، بالکراهة _ کما عن المشهور _ والتحریم کما عن الحلّی وغیره _ کما لایخفی .

ثمّ إنّهم أخذوا فی کلامهم خصوص ماء القلیل، مع أنّ المقتضی للحکم بالطهارة والنجاسة، من حیث مباشرة بدن الحیوان معه، هو اسراء الحکم وتعمیمه إلی سائر المایعات، بل مطلق ما کان رطباً من الأجسام، ولو کان من الطعام، کما أطلق علیه السؤر لذلک فی بعض الأخبار، کما سیجیء أیضاً .

الأمر الثانی : هو التعمیم من جهة مباشرة الفمّ إلی غیره، وإن کان مقتضی الجمود علی اللفظ یوجب الاختصاص ، والمستفاد من الأخبار فی کتب الأصحاب _ هو التعمیم کما صرّح بذلک شیخنا المفید قدّس اللّه سرّه فی «المقنعة» بقوله : «إنّ اسئار الکفّار هو ما فَضُل فی الأوانی ممّا شربوا منه، وتوضّأوا به، أو مسّوه بأیدیهم وأجسادهم» انتهی کلامه علی ما فی «الجواهر»، والحلّی فی «السرائر»، و«الذکری»، و«المسالک» و«الروض» و«المهذّب» وغیرها _ هذا بخلاف الأخبار الواردة فی هذا الباب حیثُ یستفاد منها خصوص مباشر الفم .

فإنْ قلنا بکون السؤر بحسب معناه فی اللغة والعرف هو هذا _ وإن عمّمنا معنی اللفظ لغیر الفمّ بحسبهما _ فتشمل الأخبار لغیره، إلاّ أنّ المتبادر من اللفظ هو خصوص الفضلة المستعمل فی الفمّ ، ولعلّ وجه التعمیم فی کلمات الفقهاء، إنّما هو من خلطٍ وقع فیما بینهم بین أصل حکم الطهارة والنجاسة _ حیث لا تتفاوت بین ملاقاته مع الفمّ أو غیره _ وبین حکم الکراهة أو التحریم فی خصوص فضلة الفمّ فی المأکل والمشرب، لا علاقة لها بالنجاسة والطهارة، وهذا هو المقصود فی السؤر الوارد فی الأخبار، بخلاف ما کان فی فتاوی الفقهاء، حیث أن مقصودهم هو الأعمّ .

ص:519

الأمر الثالث : یستفاد من فتاوی الأصحاب _ بل من مضامین الأخبار، ظهوراً أو تلویحاً _ اعتبار کون الماء قلیلاً، بخلاف سائر المایعات، حیثُ لا فرق فیهما بین القلیل والکثیر ، وأمّا الماء الکثیر فلم یلتزموا فیه بما التزموا فی القلیل ، ولکن الإنصاف أن یقال : بأنّ استظهار القلّة کان من جهة کون الغالب بحسب المتعارف فی الخارج هو القلّة، سواء کان فی الماء وغیره من المائعات والأطعمة، وإلاّ لیس فی الأخبار ما یدلّ علی ذلک صراحة ، بل یدلّ خبر أبی بصیر(1) علی خلافه، کما لایقتضی معناه اللغوی ، بل قد عرفت من الأزهری خلافه صریحاً .

غایة الأمر، حیثما قد عرفت بأنّ رأی الفقهاء ناظرٌ إلی الاُمور من حیث النجاسة والطهارة مضافاً إلی الکراهة، فلذلک التزموا فی الماء بالقلّة، بمعنی الأقلّ من الکرّ، لأنّه لا ینفعل بالملاقاة لأصل النجاسة مثلاً ، فیکون عدم انفعاله من هذه الجهة بطریق أولی .

إذا عرفت هذه الاُمور فی المسألة، فلا بأس أن نرجع إلی أصل المسألة وملاحظة الأخبار فی دلالتها لذلک .

فنقول : الاسئار من حیث الحکم التکلیفی تکون علی أربعة أقسام : نجس وحرام ، طاهر ومباح ، طاهر ومکروه ، طاهر ومندوب .

فالأوّل: هو سؤر نجس العین کالکلب والخنزیر والکافر، فإنّه نجس واستعماله حرام، لما علیه الإجماع المحصَّل والمنقول ، بل دلالة صریح الأخبار کما هو مقتضی قاعدة الملازمة بین نجاسة الشیء ونجاسة ملاقیه إذا کان رطباً، کما حقّق فی محلّه .

فیدلّ علی ذلک صحیح العبّاس البقباق فی حدیثٍ: «سئل عن الصادق علیه السلام


1- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 1.

ص:520

سؤر الحیوانات... : فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه ؟ فقال : لا بأس به حتّی انتهیت إلی الکلب. فقال : رجس نجس لا تتوضّأ بفضله، واصبب ذلک الماء»(1) الحدیث .

وصحیح محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : «سألته عن الکلب یَشرب من الإناء ؟ قال : اغسل الإناء»(2) ، الحدیث .

وصحیح معاویة بن شریح فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «قال : قلت له : الکلب قال : لا ، قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس، لا واللّه إنّه نجس»(3) .

وموثّقة أبی بصیر عن الصادق علیه السلام فی حدیث : «ولا یشرب سؤر الکلب، إلاّ أن یکون حوضاً کبیراً یُستقی منه»(4) .

فهو کما تلاحظ من مفهوم الاستثناء یشمل ماء الکثیر، إلاّ أن یکون استثناءً من موضوع السؤر لا من حکمه .

ومثل الکلب حکم الخنزیر أیضاً ، فإنّه مضافاً إلی نجاسته العینیّة یدل علیها خبر علیّ بن جعفر عن موسی بن جعفر علیهماالسلام فی حدیث: «قال : وسألته عن خنزیر شرب من إناء کیف یصنع ؟ قال : یغسل سبع مرّات»(5) .

وکذلک الکافر _ مضافاً إلی ما عرفت من دلالة بعض الأخبار فی النهی عن سؤر الیهودی والنصرانی، الذی سیأتی الکلام فی نجاستهما، ففی غیرهما من المشرکین یکون بطریق أولی، لنجاستهم کما یدلّ قوله تعالی : «إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلاَ یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»(6) _ للخبر الذی یدلّ علی النهی، هو خبر


1- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، الاسئار، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 6، الاسئار، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 1.
6- سورة التوبة (9) : 27 .

ص:521

حسن سعید الأعرج عن إبراهیم بن هاشم قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن سؤر الیهودی والنصرانی؟ فقال : لا»(1).

فالمسألة فی هذه الثلاثة واضحة لا کلام فیها، کما لا یخفی ، مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک للکافر، من جواب الإمام علیه السلام فی خبر معاویة بن شریح بقوله : «لا واللّه إنّه نجس»، حیث یفهم أنّ الحکم فی صورة ثبوت النجاسة واضح، من جهة ثبوت النجاسة أیضاً لما یلاقیه .

ووقوع الخلاف فی سؤر الیهودی والنصرانی ، لم یکن من جهة سؤرهما، بل الاختلاف نشأ من حیث حکم نفسهما من جهة النجاسة والطهارة، وأنّه هل هما نجسان أم لا؟، کما وقع الاختلاف فی الأخبار أیضاً .

وأمّا القسم الثانی: هو ما کان سؤره طاهراً ومباحاً، فهو عبارة عن سؤر ما یؤکل لحمه، کالبقر والغنم.

ما کان من الاسئار طاهراً و مکروهاً

ویمکن الاستدلال علی ذلک بأصل الطهارة واستصحاب الطهارة الموجود قبل أن یمسّ الحیوان الماء، وکذلک بأصالة حلّیة کلّ شیء کان مباحاً بالذات والأصالة فیستصحب حین الشکّ ، وکذلک الإجماع المحصّل والمنقول، بل لم یشاهد الخلاف فی حکمه من أحد .

أمّا الأخبار الواردة بالخصوص، فمنها خبر معاویة بن شریح السابق ، وصحیح البقباق، من التصریح باسمهما، ونفی البأس عنهما، وإطلاق موثّقة عمّار عن الصادق علیه السلام : «عن ماء یشرب منه الحمامة؟ فقال : کلّما یؤکل لحمه فتوضّأ من سؤره واشرب»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 ، الاسئار، الحدیث 4.

ص:522

ومثله موثّقته الاُخری(1) ، وکذلک خبر سماعة.

فحکم المسألة واضحٌ ولا خلاف فیها من حیث الفتوی والأخبار، وقد ورد ذکر الإبل والبقر والغنم فی جوابه علیه السلام فی خبر سماعة، وحَکَم بعدم البأس فیها وهکذا خبری جمیل بن درّاج(2) وعبداللّه بن سنان.

وأمّا القسم الثالث: هو ما کان سؤره طاهر ومکروه، فهو علی أقسام:

منها : کما علیه الأکثر، هو سؤر ما لا یؤکل لحمه مثل السباع، بل وهکذا منها ما یکون أکل لحمه مکروهاً، مثل الخیل البغال والحمیر ، وإن خالف ابن إدریس وحَکَم بنجاسة ما یمکن التحرّز عنه من حیوان الحضر غیر المأکول، بل عن «المبسوط» المنع عن الاستعمال، ولعلّ مقصوده النجاسة کما فی «السرائر» أو غیر ذلک، فیعدّ هذا حکماً تعبّدیاً صرفاً ولا علاقة له بالنجاسة _ کما احتمله الشیخ الأنصاریّ _ فیکون قولاً مستقلاًّ آخراً، لکنّه بعید کما عن بعض .

فالحقّ مع المشهور، ویدلّ علی ذلک بعد الأصل والقاعدة _ التی قد عرفتها سابقاً _ بل دلالة خبری شریح والبقباق من التصریح بعدم البأس فی الهرّة والوحش والسباع ، بل ظهور حدیث البقباق بقوله : «فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه»، فمع ذلک حکم الإمام علیه السلام بعدم البأس، الظاهر فی شموله لجمیع الوحوش والطیور والسباع، غیر ما یکون نجس العین، حیث أنّه یکون خارجاً بالدلیل، کما هو واضح .

بل قد یمکن الاستدلال بمضمون تعلیل خبر أبی الصباح عن الصادق علیه السلام : «قال : کان علیّ علیه السلام یقول : لا تدع فضل السنور أن تتوضّأ منه، إنّما هو سبع»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 4.

ص:523

وصحیح محمّد بن مسلم فی حدیثٍ: «وعن السنّور؟ قال : لا بأس أن تتوضّأ من فضلها إنّما هی من السباع »(1).

حیث یفهم بأنّ ما یکون سبعاً _ من أیّ قسم کان _ یجوز شرب ما فضل منه والتوضّی منه، لوجود الملازمة بینهما، المستفاد من بعض الأخبار، مثل موثّقة عمّار السابقة حیث جمع بین الشرب والوضوء .

مضافاً إلی ورود الروایة فی خصوص الهرّة والفأرة، من جواز الشرب والتوضئ بفضلهما، کما فی صحیح زرارة عن الصادق علیه السلام : «قال: فی کتاب علیّ : إنّ الهرّ سبعٌ ولا بأس بسؤره، وإنّی لأستحیی من اللّه تعالی أن أدع طعاماً لأنّ الهرّ أکل منه»(2) .

وموثّق إسحاق بن عمّار عن الصادق علیه السلام : «قال : إنّ أبا جعفر علیه السلام کان یقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء، أن یشرب منه ویتوضّأ منه»(3) .

وخبر الصدوق قال : «قال الصادق علیه السلام : إنّی لا أمتنع من طعامٍ طعم منه السنّور، ولا من شرابٍ شَرب منه»(4) .

فمع دلالة هذه الأخبار عموماً وخصوصاً علی الجواز، لا یبقی حینئذٍ للحکم بالمنع التحریمی _ کما عن الحلّی _ وجه .

نعم ، قد استدلّ علی ذلک بمفهوم ذیل موثّقة عمّار وخبر الصدوق وقد ذکرناهما، حیث ورد فیهما قوله: «کلّ ما یؤکل لحمه أو أُکل لحمه فلیتوضّأ من سؤره واشرب» «أو یتوضّأ منه ویُشرب» .


1- وسائل الشیعة: الباب 3، الاسئار، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 2.

ص:524

بل قد استدلّ بمفهوم الوصف فی صحیح عبداللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام : «قال : لا بأس أن تتوضّأ ممّا شرب منه ما یؤکل لحمه»(1).

حیث دلّ علی البأس فی سؤر ما لا یؤکل لحمه بمفهوم الوصف، أو کون القضیّة مفیدة لمعنی الشرط، من وجود الفاء فی خبر المبتدأ .

وقد أُجیب عنه تارةً _ کما عن الآملی _ بسقوط هذه الأخبار عن الحُجّیة، بواسطة إعراض الأصحاب عنه، بناءً علی مبناه رحمه الله بأن ترک علی الأصحاب مع صحّة سند الخبر موجب لزیادة الوهن فیه .

هذا، ولکنّه لا یخلو عن مناقشة فی المقام، وإن کان کبراه مقبولاً فی غیره، إذ لعلّ الأصحاب ترکوا العمل لأجل عدم حجّیة مفهوم الوصف، وعدم حجّیة مفهوم الشرط المستفاد ضمنیّاً من وجود الفاء فی خبر المبتدأ، أو لعلل أُخری سیأتی فی الأجوبة، فالاخبار باقیة علی دلالتها، وقابلة للتمسّک بها سنداً ، کما لایخفی .

وثانیاً : کما عن صاحب المعالم جواباً عن العلاّمة فی «مختلف الشیعة»، حیث قال علی ما نقله الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره فی کتاب «الطهارة» : بأنّ مقتضی مفهوم القضیة الموجبة الکلّیة، هو سلب الجزئی، یعنی یکفی أن یفید ما لا یؤکل لحمه حرمة البعض لا کلّه، فحینئذٍ یکون سؤر بعض ما لا یؤکل لحمه حراماً، وهذا نظیر ما ذکر فی مفهوم قوله: «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء» حیث یفید نجاسة بعض المیاه لا جمیعها.

فعلی هذا التقدیر، یتمّ قول ابن إدریس الذی ذهب إلی منع سؤر بعض ما لا یؤکل لحمه، وهو ما یمکن التحرّز عنه بخلاف بعض آخر، وهو ما کان أهلیّاً ولا یمکن التحرّز عنه مثل الهرّة والفأرة.


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 5.

ص:525

فأجاب عنه صاحب المعالم فی «الطهارة»: بأن فرض حجّیة المفهوم، یقتضی کون الحکم الثابت للمنطوق منفیّاً فی غیر محلّ الموضوع المتّصف فی محلّ النطق .

وبعبارة أُخری أعنی کلمة (ما) فی قوله : «کلّ ما» _ هو الحیوان، والقید المعتبر فیه وصفاً أو شرطاً: هو کونه مأکول اللحم، فصار الموضوع مأکول اللحم من کلّ حیوان، والحکم الثابت له هو جواز الوضوء والشرب من سؤره، هذا فی المنطوق .

وأمّا فی المفهوم فإنّه عبارة عن انتفاء هذا القید _ وهو کونه مأکول اللحم وصفاً أو شرطاً _ فینتفی حکمه الثابت، وهو جواز الوضوء والشرب، فیفید أنّ غیر المأکول من کلّ حیوان ینتفی عنه حکم الجواز، فیقتضی ثبوت المنع عن سؤر کلّ حیوان لا یؤکل لحمه، سواء کان قد فقد الوصف وصار غیر مأکول بواسطة ذاته، أو بالعرض، مثل کونه جلاّلاً أو موطوءاً وإلی ذلک اختار الشیخ الأعظم قدس سره بکون أثر المفهوم هو هذا الذی ذکرناه، ولولاه لوجد عندنا غیر مأکولٍ یجوز الوضوء بسؤره، فلم یکن حینئذٍ أکل اللحم سبباً منحصراً فی الجواز، لقیام غیره مقامه.

ومنع دلالة الجملة الشرطیّة علی انحصار السبب، یکون معناه إنکار المفهوم بعینه، وهذا ما اختاره المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» .

هذا، ولکنّ الإنصاف عدم تمامیّة ذلک، کما مرّ تفصیل ذلک فی باب الکرّ فی النزاع بین العَلَمین _ الشیخ الأنصاری، والشیخ محمّد تقی صاحب «هدایة المسترشدین» _ واخترنا مسلک صاحب «الحاشیة» من أنّ مفهوم الموجبة الکلّیة، هو نفی الإیجاب بالسلب والکلّی بالجزئی، لأنّ نقیض کلّ شیء رفعه، لأنّه من الواضح عند عرف العقلاء أنّه إذا قیل: «إذا جاء الأمر أکرم کلّ أحد فی المجلس»، فیکون مفهومه أنّه إذ لم یجیء فلا یکون إکرام کلّ أحد واجباً، بل یجوز ترکه لبعض الأفراد، فنفی وجوب إکرام الکلّ یناسب مع وجوب إکرام

ص:526

البعض، ویساعد علی عدم وجوب الإکرام لأحدٍ أصلاً، لا أن یکون معناه نفی الوجوب عن الکلّ قطعاً، بمعنی السلب الکلّی بالخصوص، کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره ، فلازم ما ذکرناه هو تأیید کلام صاحب «السرائر» قدس سره من الحُکم بعدم جواز سؤر بعض غیر مأکول اللحم، کما لایخفی .

وثالثاً : استفادة ما ذهب إلیه الحلّی، بأن یکون مفهومی الوصف أو الشرط علی نحو ترتّب الخبر بواسطة الفاء علی المبتدأ حجّة، مع أنّه لیس کذلک ، أمّا من جهة عدم حجّیة مفهوم الوصف، خصوصاً فی المفهوم غیر المعتمد علی الموصوف، أی کان الموصوف مع نفس الوصف متعلّقاً للحکم ، لأنّه قد یقال تارة : «أکرم العالم» فحینئذٍ لا یکون معتمداً ، ویقال أُخری : «أکرم الرجل العالم»، حیث یکون الوصف معتمداً علی الموصوف _ فإنّ حجیّة مفهوم الوصف فی الثانی أولی من الأوّل .

وفی «مصباح الهدی» یستشعر من کلامه کون المقام من القسم الأوّل، لکنّ الإنصاف أنّه من القسم الثانی، إذ ما هو متعلّق الحکم کلمة (ما) وهی عبارة عن الحیوان حیث وصفه بأنّه مأکول اللحم .

أو من جهة عدم حجیّة مفهوم الشرط وإن کان حجّة عند کثیرین، لکنه فی الشرط الذی کانت الجملة مشتملة علی أداة الشرط ، وأمّا وجود الفاء فی الخبر، وهذا یقتضی ترتب الخبر علی المقدار المفید لإثبات الحکم، لوجود الموضوع فی المنطوق فقط، نحو ترتّب المعلول علی العلّة، أمّا کونها علّة منحصرة حتّی یوجب المفهوم فلا .

ورابعاً : أنّه لو سلّمنا وجود المفهوم هنا، فلیس الحکم المستفاد هنا إلاّ بالمفهوم ، هذا بخلاف الأخبار الکثیرة الدالّة علی الجواز لسؤر مطلق غیر المأکول، وکانت بعضها صحاحاً ودالاً بالمنطوق، فلا إشکال فی تقدّمه علیه من جهة الظهور والحجّیة، لئلاّ یلزم تخصیص الأکثر منها .

ص:527

وخامساً : أنّ الأخبار المجوّزة هنا مشتملة علی بیان علّة الجواز، لکون ذی السؤر طاهراً، کما علّل فی أخبار سؤر النجس بکون ذیه نجساً، حیث یکون عموم التعلیل آبیاً عن التخصیص فی بعض أقسام ما لا یؤکل لحمه، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره فی «طهارته» .

وسادساً : من جهة ضعف هذه الأخبار بالإرسال _ کما عن «الفقیه» _ وغایته کون الأخبار موثّقة کما فی خبری عمّار، وهذا بخلاف تلک الأخبار النی قد عرفت صحّة کثیر منها کما لا یخفی .

وسابعاً : فلو سلّمنا دلالة هذه الأخبار، وأغمضنا عن تمام الأجوبة المذکورة، فإنّه نقول : إنّ ما اختاره الحلّی من الجواز الخاص بما لا یمکن التحرّز عنه ممّا لا دلیل علیه، فإن قصد التمسّک بمثل عموم هذه الأخبار من حیث المفهوم، فلابدّ من الالتزام بالمنع فی کلّ ما لا یؤکل لحمه، إلاّ ما خرج بالدلیل، خصوصاً، سواء کان التحرّز منه سهلاً أم لا ، فعلیه یلزم دخول السباع والوحوش _ التی کانت جامعة لکثیرٍ من الأفراد _ فی صحیح البقباق وغیره .

اللّهمّ إلاّ أن یکون مقصوده إثبات ذلک من جهة الجمع بین الأخبار المانعة بالمفهوم عموماً، وما یدلّ علی رفع الحکم بما یوجب العسر والحرج، فیکون التحرّز من سؤر السنور والفأرة مثلاً من هذا القبیل، فلذلک یرفع الید عنه بالنسبة إلیهما وما شابههما ، ولکن إثبات دونه خرط القتاد، لوضوح عدم وجود العُسر والحرج علی نحو یسوّغ ذلک کما وجد فی سائر الموارد، فالالتزام بذلک مشکل جدّاً .

فالحقّ مع المشهور من الحمل علی الکراهة، بدلالة مفهوم هذه الأخبار، کما یشهد لذلک الجمع مرسلة الوشّاء عمّن ذکره، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال: لأنّه کان یکره سؤر کلّ شیء لا یؤکل لحمه»(1) إن سلّمنا تداول لفظ الکراهة فی المکروه


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 5.

ص:528

فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، وإلاّ لکان هذا الخبر دلیلاً علی کلام الحلّی لا شاهد جمع کما ذکره الآملی قدس سره ، کما لا یخفی ، هذا کلّه بالنسبة إلی ما لا یؤکل لحمه .

وأمّا حکم کراهة سؤر ما یکون لحمه مکروهاً، کالخیل والبغال والحمیر، فنؤخر البحث عنه متابعة للمصنّف ، فلذلک نتابع البحث علی ما فی «الشرائع»، فقد ذکر المصنّف بعد حکم نجس العین حکم المسوخ، وتردّد فی حکم سؤره، لکنّه اختار الطهارة بعده، فلا بأس بذکر أدلّته تفصیلاً .

أقول: وقع الخلاف بین الفقهاء فی طهارة سؤرها ونجاسته، وعن ابن الجنید الحکم بطهارة سؤر ما لا یؤکل لحمه إلاّ المسوخ، فاحتمل صاحب «المعالم» کون استثناءه بلحاظ أنّ مختاره نجاسة المسوخ، فحَکَم بنجاسة سؤره، لا الحکم بنجاسة ذات السؤر ولعابها، کما حَکی العلاّمة والمحقّق نجاسة مجرّد لعابها عن بعض الأصحاب ، بل قد حَکی المحقّق فی «المعتبر» عن الشیخ القول بنجاسة المسوخ، ونسب العلاّمة فی «المختلف» نجاستها إلی سلاّر وابن حمزة .

وکیف کان، فالظاهر عدم الخلاف فی طهارة سؤرها، إن قلنا بطهارتها وطهارة لعابها، فمنشأ الخلاف فی طهارة سؤرها هو من جهة الاختلاف فی نجاستها وطهارتها بنفسها أو بلعابها .

وحیث کان المشهور بین الأصحاب هو الحکم بطهارتها وطهارة لعابها، فلذلک حکموا بطهارة سؤرها، کما هو الأقوی إن قلنا بطهارتها، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه فی باب النجاسات .

ولکن لا یخفی علیک کراهة سؤره، لما قد عرفت من کونها ممّا لا یؤکل لحمه _ کالقردة وأمثال ذلک _ فیدخل تحت حکم الکراهة، بمقتضی الجمع بین الأخبار المانعة مفهوماً ومنطوقاً _ کخبر الوشاء _ وبین الأخبار المجوّزة کثیراً، فیشمل بعمومها مثل المسوخ أیضاً ، مضافاً إلی إمکان إثبات الکراهة من باب

ص:529

ومن عدا الخوارج والغلاة من أصناف المسلمین طاهر الجسد والسؤر (1).

ویکره سؤر الجلاّل، وسؤر ما أکل الجیف، إذا خلا موضع الملاقاة من عین النجاسة (2).

التسامح فی أدلّة السنن، إن عمّمنا دلیل التسامح، و «من بَلَغ» إلی الکراهة أیضاً، ولم یکن نخصّصه بباب المندوبات، کما یوهمه نزول أخبارها فیها .

(1) قد عرفت منّا سابقاً أنّ کلّ ما یکون نجاسته العینیّة ثابتاً بالأدلّة، فسئوره بل کلّ ما لاقی جسمه مع الرطوبة محکوم بالنجاسة، وذلک بمقتضی قاعدة الملازمة العرفیّة فی السرایة، وهذا غیر مختصّ بباب الاسئار، فحینئذٍ یکون البحث فی طهارة سؤره ونجاسته من تفرّعات نجاسته ذلک وطهارته، فحیث اعتقد المصنّف وغیره نجاسة الغلاة والنواصب _ منها الخوارج _ فیکون سؤرهما أیضاً نجساً ، کما أنّ سائر الفرق من أصناف المسلمین _ من الحنفیّة والشافعیة والمالکیة والحنبلیّة وغیرها _ حیث کانوا طاهرین، فیعدّ سئورهم وما لاقی جسدهم طاهراً .

فی سؤر الجلاّل و آکل الجیف

وأمّا من جهة الکراهة وعدمها فی سؤرهم، فیدخل کلٌّ فی موضوعه من کراهة سؤر ما لا یؤکل لحمه الشامل لهم أیضاً، کما یشمل للمؤمن أیضاً، إلاّ أنّه خارج بالدلیل، فیکون سؤرهم مکروهاً بلا فرق بین کونهم مأمونین أو متّهمین بعدم المبالاة .

(2) ولا یخفی علیک أنّ من أقسام ما الطاهر المکروه، سؤر الجلاّل وهو الحیوان الذی یتغذّی من عین النجاسة، من عذرة الإنسان کما هو القدر المتیقّن منه، وإن عمّم بعض لمطلق عین النجاسة، أو ما تنجّس بعذرة الإنسان وتغذّی منه .

والکلام فی سعة المفهوم وضیقه موکولٌ إلی محلّه، کما أنّ الظاهر کون المراد

ص:530

هو المأکول منه لا غیره . والذی ینبغی بحثه هنا هو بیان حکم کراهة سؤره وطهارته، أو الحکم بنجاسته وحرمته .

فقد وقع الخلاف فی ذلک، فعن المرتضی وابن الجنید و«مبسوط» الشیخ استثناءه من السؤر الذی یباح استعماله، ویقتضی ظاهر کلامهم الحکم بنجاسة سؤره مع طهارة عینه .

وقد استدلّ أیضاً لنجاسة سؤره، بأنّ رطوبة أفواهها تنشأ من نجاسة ما تأکله وهو عذرة الإنسان، فیوجب نجاسة سؤره .

ولا یخفی ما فیه، لأنّه إن اُرید أنّ لعابه نجسٌ، لکونه قد أکل النجاسة، فیکون المنع حینئذٍ للتنجّس الساری إلی الماء لا بما أنّه سؤر .

وإن کان بلحاظ کون لعابه طاهراً، مع ذلک یحکم بنجاسة سؤره، فهو ما لا دلیل علیه، کما عن صاحب «المعالم» أیضاً، إذ لا ملازمة بین أکل النجاسة ونجاسة اللعاب، کما لا ملازمة بین أکله النجاسة وعدم نجاسة ما یلاقی جسده مع الرطوبة، إذ حرمة أکل لحمه بواسطة الجلل، لا یوجب الحکم بترتیب آثار النجاسة علی ظاهر بدنه، کما لا یخفی .

فحینئذٍ إن قلنا بطهارة بدنه _ کما حقّق بحثه فی محلّه _ فإنّ لعابه وسؤره یعدّ طاهراً أیضاً، کما علیه المصنّف ، بل المشهور، ویدلّ علی طهارته إطلاق بعض الأخبار، من الحکم بعدم البأس بسؤر الحیوان المأکول أو غیر المأکول، من غیر تفصیل بین الجلاّل وغیره، کما فی عموم خبر عمّار عن الصادق علیه السلام : «کلّ شیء من الطیر یتوضّأ بما یشرب منه»(1) الحدیث .

حیث أنّ عمومه الاستغراقی یشمله .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 4.

ص:531

واحتمال خروج ذلک عن العموم لکونه فرداً نادراً، مدفوع، أوّلاً : بما لا یجری فی مثل هذا العموم، الذی کان بأداة دالّة وضعاً علی الشمول .

وثانیاً : عدم ندرته فی مثل الفأرة الموجودة فی الکنیف حیث یتغذّون عذرة الإنسان، وبرغم ذلک فی سؤرهم کلامٌ، إذا لم یکن علی أفواههم عین النجاسة ، کما لا یخفی .

إلاّ أن یُقال: أنّه لا صدق (الجلاّل) لمثل هذه الحیوانات، لأنّ ظاهر هذا العنوان اختصاصه للحیوان المأکول إذا تغذّی بالعذرة، لا مثل الفأرة والسنور، حیث لا یکون الجلل علیهما صادقاً . فصدق الندرة لمثل الدجاجة والحمامة محلّ إشکال، فیشمله الدلیل أیضاً کما لا یخفی، فما مثّله صاحب «الجواهر» قدس سره بالغیر لا یخلو عن مسامحة .

وأمّا من جهة الحکم بالکراهة وعدمه، فقد یمکن أن یقال بکراهته من جهة کونه غیر مأکول اللحم، فیدخل تحت تلک الأخبار التی قد عرفت دلالتها علی المنع عن سؤره بواسطة المفهوم أو المنطوق کما فی خبر الوشاء، وبالتسامح فی أدلّة السنن، بأن یکون الإطلاق من جهة کونه غیر مأکول اللحم شاملاً لما هو کذلک، أصلیّاً کان أو عارضیّاً، مثل الجلاّل، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره والآملی.

ولکنّه لا یخلو عن إشکال ؛ لإمکان أن یقال : إنّ الظاهر من تلک الأدلّة، هو ما کان غیر مأکول اللحم بالأصالة لا بالعرض فی مدّةٍ، إذ تلک الأدلّة ساکتة عن حکم العوارض، نظیر ما لو ورد فی کلام الإمام علیه السلام : بأنّ لحم الغنم حلالٌ، فان قوله علیه السلام لا یکون ناظراً إلی حلّیة لحم مطلق الغنم وان کان مغصوباً، لأنّ النظر فی أمثال ذلک إلی طبیعة الحکم الأوّلی من حیث هو هو، لا من حیث ما یعرض علیه من العوارض، فإثبات الکراهة فیه مشکل .

إلاّ أن یقال: إنّ الشهرة متحقّقة بین الأصحاب علی الکراهة، فیکفی ذلک فی

ص:532

إثبات کراهته من جهة التسامح فی أدلّة السنن، کما عرفت ، فلعلّه لذلک حکم المصنّف قدس سره بکراهته، کما لا یخفی .

وأمّا سؤر آکل الجیف، حیث حکم المصنّف بکراهته، بلا فرق بین کونه مأکول اللحم _ کما قد یتّفق فی الدجاجة والبطّ وغیرهما _ أو غیر المأکول _ کما هو الغالب _ فتکون الکراهة فیه من وجهین .

تارةً: لکونه غیر مأکول .

واُخری: لهذا الوصف ، ولابدّ له من اقامة دلیل علیه، مع أنّه لم نجد فی الأخبار لذلک عیناً ولا أثراً، کما هو الحال کذلک فی سؤر الجلاّل أیضاً ، ولعلّه لذلک أسقطه المتأخّرین هذا القسم عن باب المکروهات، إذ لیس فی «العروة» ولا فی تعلیقاتها من ذلک أثرٌ ولا خبرٌ ، وإن أمکن الاعتراض علیهم فی التفریق بینهما مع اشتراکهما فی عدم وجود دلیل فیهما بالخصوص .

نعم ، قد یمکن ذکر وجه الفرق، بأنّه قد استدلّ بعضٌ لکراهة سؤر الجلاّل بصحیح هشام بن سالم عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : لا تأکلوا لحوم الجلاّلة، فإن أصابک من عَرَقها فاغسله»(1) .

بتقریب أن یُقال : إذا کان عَرقها نجساً _ کما یستفاد من هذا الخبر _ فربّما یمکن تأثّر فمه وبدنه بالعرق أیضاً _ رطباً کان جافّاً _ فلذلک حکموا بالکراهة، کما نقله صاحب «الجواهر» عن حاشیة «وسائل الشیعة» ، بل قد ادّعی الإجماع علی وحدة حکم العرق والسؤر فی الجلاّل ، ولذا ذکر العلماء حکم کراهة سؤر الجلاّل هذا بخلاف آکل الجیف، حیث لیس فیه دلیل أصلاً.

فإن کان استدلالهم بمثل هذا الخبر، فالحکم بالطهارة والکراهة لا یخلو عن


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 6.

ص:533

إشکال لأنّ الخبر دالٌ علی النجاسة .

نعم ، یعهد عن الشیخ الأعظم قدس سره أنّه قد تمسّک لکراهة سؤر الجلاّل وآکل الجیف بفحوی صحیح العیص بن القاسم الوارد فی سؤر الحائض: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن سؤر الحائض. فقال : لا تتوضاء منه، وتوضأ من سؤر الجنب إذا کانت مأمونة»(1) الحدیث.

فمن اشتراطه بکونها مأمونة، یفهم أنّ سؤر الجلاّل وآکل الجیف غیر مأمونین، ونحن نبحث عن خبر یفید مثل هذا فی المقام وهو خبر علیّ بن یقطین عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ بفضل الحائض؟ قال : إذا کانت مأمونة فلا بأس»(2) ، حیث یفهم من مفهومه وجود البأس إذا لم تکن مأمونة، فلا فرق فی ذلک بین الحائض وغیرهما من الجلاّل وآکل الجیف ، فعلی هذا لم یبق وجهُ للفرق بینهما فی الذکر وعدمه لدی المتأخّرین .

اللّهمّ إلاّ أن یقال؛ بناءً علی الأخذ بفحوی مثل هذا المفهوم وغیره، یلزم سرایة الحکم إلی کلّ متّهم بعدم المأمونیّة، لا خصوص هذین الفردین، کما قالوا فی ذیل کلامهم: کراهة سؤر کلّ متّهم .

وکیف کان، فلا وجه للفرق إلاّ من جهة الخروج عن شُبهة الخلاف، فی مثل آکل الجیف وسؤر الجلاّل، من باب التسامح فی أدلّة السنن، وتعمیمه للکراهة أیضاً ، فحینئذٍ صار لذکرهما مستقلاًّ وجه دون للتفصیل فیهما من الذکر وعدمه، کما هو عند بعض المتأخّرین، فلیتأمّل .

تتمیمٌ: لا یخفی علیک أنّ القید الموجود فی کلام المصنّف، من خلوّ موضع


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، الاسئار، الحدیث 8.

ص:534

الملاقاة من عین النجاسة، لا یبعد أن یرجع إلی کلّ من الجلاّل وآکل الجیف، کما هو المساعد لشأنهما، لا أن یکون قیداً للأخیر فقط .

ووجه ذکر القید إنّما هو من جهة أنّه إذا کان فی موضع الملاقاة عین النجاسة، أو ما کان عیناً متنجّساً، فإنّه یوجب تنجّس سؤره حینئذٍ قطعاً، بدلالة قاعدة تنجیس المنجّسات، وهذا واضح لا کلام فیه، والحکم بالنجاسة إذا لاقی السؤر عین النجاسة أو عین المتنجّس .

إنّما الکلام والخلاف وقع فیما إذا لم یکن موضع ملاقاتهما عیناً من النجاسة وغیرها ، ولکن کان ملاقاة فمهما أو بدنهما بالنجاسة ثابتة، ثمّ بعده شرب الماء مثلاً من دون وجود عین فی ما لاقاه ، فحینئذٍ هل یحکم بطهارة ما یلاقیه مطلقاً، سواء زالت بعد أکل النجس ثمّ شرب، أو کانت باقیة وشرب أم لا؟ وسواء علم بولوغ فمه بالماء الکثیر أو لم یعلم، بل ولو یعلم عدمه أم لا؟

والمشهور من المتقدِّمین والمتأخِّرین هو الحکم بالطهارة ، بل ولا یعلم خلاف إلاّ عن العلاّمة فی «النهایة» حیث الحکم بالنجاسة فی الفرض المذکور مشروطاً بعدم الزوال بعد الأکل أو الشرب، بخلاف ما لو زالت واحتمل ولوغه فی الماء المعتصم _ من الکرّ أو الجاری أو المطر _ فحینئذٍ یکون طاهراً .

بل وهکذا نقل عن «الموجز» لابن فهد دون «مهذّبه»، فوافق فیه المشهور .

وقد نسب صاحب «الحدائق» النجاسة إلی قیل، والشیخ الأعظم إلی بعض مشایخه فیما لو لم یعلم الولوغ بالماء المعتصم، ولو علم الغیبوبة ولم یعرف قائله .

نعم ، ذهب الأردبیلی قدس سره فی «مجمع البرهان» إلی إن رفع النجاسة المحقّقة حینئذٍ مع العلم بوجوده مشکل، إلاّ أن یزول بالعلم بالرفع ، هذا کلّه بحسب الأقوال .

وأمّا الکلام بحسب الإثبات والاستنباط من القواعد والأدلّة فنقول وعلی اللّه التکلان : لابدّ أن یلاحظ فی ذلک من وجهین :

ص:535

تارةً : بحسب مقتضی القواعد .

واُخری : بحسب الأدلّة الدالّة فی المقام .

فأمّا الأوّل: فلا إشکال فی أنّ المورد یجری فیه خمسة قواعد، ومقتضاها إثبات القول بالنجاسة لما یلاقیه: کما علیه الأردبیلی قدس سره ، وهذه القواعد هی: قاعدة الحکم بتنجّس جسد الحیوان عند ملاقاته مع النجس أو المتنجّس، من جهة قاعدة تنجیس النجاسات لما یلاقیها مطلقاً، ولو کان الملاقی جسم حیوان .

وقاعدة تنجیس المتنجّس، للطاهر، ولو کان من جسد الحیوان، فیحکم بنجاسة ما یلاقیه .

وقاعدة عدم زوال نجاسة المتنجّس، بمجرّد زوال عین النجاسة، ولو کان عن جسم الحیوان .

وقاعدة استصحاب نجاسة المتنجّس عند الشکّ فی بقائها، ولو کان مورد الشکّ فی جسم الحیوان .

وقاعدة حکومة هذا الاستصحاب علی استصحاب طهارة ملاقیه، إذا لاقی شیء طاهر لما یشکّ فی بقاء نجاسته، وجمیع هذه القواعد ثابتة فی محلّها مع أدلّتها، فمقتضی الجمع بینها هاهنا هو الکم بنجاسة سؤر الجلاّل وآکل الجیف فی جمیع الصور، إلاّ ما إذا علم رفع النجاسة بالمطهّر الخارجی، من ماء معتصمٍ کالکرّ والجاری، هذا کلّه بحسب القواعد .

وأمّا الثانی: أی البحث عن مفاد الأدلّة، واستنباط الحکم من مضامین الأخبار الواردة فی موارد مختلفة ، بل ومن السیرة المستمرّة بین المتشرّعة المنتهیة إلی زمان الأئمّة علیهم السلام ، بل نفس تصرفاتهم علیهم السلام فی بعض الموارد خلاف ما یقتضیه القواعد، یوجب حصول القطع والاطمئنان للفقیه علی الفتوی بخلاف ما ذکرناه، کما ستعرف تفصیله إن شاء اللّه .

ص:536

وقد استدلّ المشهور بعدّة أخبار فی موارد مختلفة وهی :

منها : ما ورد فیما یلاقیه منقار الحمامة والدجاجة، من التفصیل بین صورة معلومیّة الدم فی الماء، فیحکم بالنجاسة، وعدمها فیحکم بالطهارة، الشاملة حتّی ما لو علم عدم ولوغه مع المطهّر الشرعی فضلاً عن الشکّ والاحتمال، وهو کما فی موثّقة عمّار بن موسی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث: «فقال علیه السلام : کلّ شیء من الطیر یتوضّأ ممّا یشرب منه إلاّ أن تری فی منقاره دماً، فإن رأیت فی منقاره دماً فلا تتوضّأ منه ولا تشرب»(1) .

بل فی «وسائل الشیعة» نقلاً عن الشیخ، بإسناده عن محمّد بن یعقوب بزیادة.

وهی: «وسئل عن ماء شربت منه الدجاجة ؟ قال : إن کان فی منقارها قذر لم یتوضّأ منه ولم یشرب، وإن لم یعلم أنّ فی منقارها قذراً توضّأ منه واشرب» .

وفی «الجواهر» اعترض بعدم وجود هذه الزیادة فی النسخة الموجودة ، ولکنّ الظاهر هو وجود هذه الزیادة فی «الفقیه» للصدوق، کما رواه «الوافی» عنها. وهکذا تکون الزیادة ثابتة. ومعها تکون الدلالة أوضح، لصراحتها بأنّ عدم العلم بذلک کاف فی الحکم بالطهارة، ولذلک أجاز التوضّی والشرب منه حینئذٍ .

واحتمال أنّ عدم رؤیة الدم فی منقاره، کان بلحاظ القطع بملاقاة منقاره للماء المعتصم، أو احتماله فحکم بالطهارة، فلا یشمل ما لو علم عدم ولوغه مطهّر أصلاً .

مدفوع أوّلاً : بما لا ملازمة بین عدم وجود الدم فی المنقار، مع العلم بملاقاة منقاره للمعتصم ولو شرب الماء، لإمکان أن یکون إطلاق الروایة یشمل ما لو أکل من جیفةٍ أو دمٍ، ولم یکن فی منقاره شیء، فشرب من الماء، فیحکم حینئذٍ بطهارة بدلالة ظهور الخبر، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 4.

ص:537

وثانیاً : أنّ فی هذا الاحتمال، یقتضی حکومة قاعدة استصحاب النجاسة علی أصالة الطهارة الحکم بنجاسته، وبرغم ذلک حکم بالطهارة خلافاً للاستصحاب، فلیس إلاّ من جهة کون الحکم خلاف ما یتمشّی فی غیر المقام، فالمسألة واضحة .

ومنها : صحیح علیّ بن محمّد جعفر عن أخیه علیه السلام فی حدیث قال : «سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها تطأ العذرة ثمّ تطأ الثوب أیغسل ؟

قال : إن کان استبان من أثره شیء فاغسله، وإلاّ فلا بأس»(1) . فإنّ ترک الاستفصال من رطوبة العذرة والرِجل ویبوستهما، یوجب الاطمئنان علی عدم تنجّس ما یلاقیه بذلک، إلاّ أن یکون أثره معلوماً، فحینئذٍ ینجّسه ، فحمله علی خصوص صورة یبوسة العذرة أو الرِجْل الحامل لها أو کلیها ، مضافاً إلی غرابته، لا یعقل صدور مثل هذا السؤال عن مثل علیّ بن جعفر رحمه الله مع جلالة شأنه، فإطلاقه یکون قویّاً جدّاً .

کما أنّ حمله علی صورة طهارة رِجْله بماءٍ معتصم _ علماً أو احتمالاً _ الموجب لحصول طهارة موضع الملاقاة فیکون قد وطأ الثوب مع الطهارة، بعیدٌ بلحاظ حال السؤال عن مثله .

ومنها : صحیحه الآخر.

فی حدیث، قال : «وسألته عن فأرة وقعت فی حُبّ دهن، وأخرجت قبل أن تموت أیبیعه من مسلم ؟ قال : نعم ویدهن منه»(2) .

فإنّ الحکم بجواز بیعه والتدهین به، لیس إلاّ من جهة طهارته، مع أنّه لا إشکال فی نجاسة الفأرة من حیث دم الولادة، وخروج المنی حین السفاد، ونجاسته،


1- وسائل الشیعة: الباب 3، النجاسات، الحدیث 37.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 9.

ص:538

فخرج البول والخرء أو دم الجرح، وبرغم ذلک ذلک حکم بطهارته، من حیث أنّ لوازم الحکم یوجب اطمئنان الفقیه بما ذکرنا .

واحتمال حصول الطهارة بوروده فی الماء المعتصم، وحصول الطهارة، مقطوع العدم هاهنا، خصوصاً فی مثل الفأرة، من جهة کثرة فضلاتها وتوالی فضلاتها.

کما أنّ احتمال عدم ملاقاة موضع البول والفضلة للدهن، وأمثال ذلک من المحامل، ممّا لا یقبله الذوق السلیم .

فالأصحّ هو القول بعدم حصول النجاسة بذلک، ولو بالقطع بعدم حصول المطهّرات لجسدها .

ومنها : الأخبار الواردة فی سؤر الهرّة والفأرة، من التجویز فی الأکل والشرب، خصوصاً مع ملاحظة کلام علیّ علیه السلام من الاستحیاء من اللّه بترک ما أکل من الهرّة، الکاشف عن استمراره علی ذلک عند المصادفة، وکذلک صحیح زرارة عن الصادق علیه السلام : «قال : فی کتاب علیّ علیه السلام أنّ الهرّ سبع، ولا بأس بسؤره وإنّی لأستحیی من اللّه أن أدع طعاماً ، لأنّ الهرّ أکل منه»(1) .

ومثله مرسلة الصدوق: قال الصادق علیه السلام : «إنّی لا أمتنع من طعام طعم منه السنّور، ولا من شراب شرب منه»(2).

حیث یدلّ علی دوام عملهم علیهم السلام مع سؤره معاملة الشیء الطاهر وقد عرفت وجه الاستدلال فی أشباهها واستبعاد محاملها .

واحتمال کون الحکم بنفی البأس من حیث الطهارة الذاتیّة، لا من جهة نجاسته العرضیّة، فلا ینافی طهارته مع کونها نجساً بالعرض .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 2.

ص:539

مدفوع : بأنّ عدم البأس یکون بالنظر إلی نجاسته الذاتیة والعرضیة معاً، لعدم إمکان إنفکاکها حین ولادتها عن النجاسة العرفیّة، وهو واضح .

بل وأتمّ منه فی الدلالة من حیث کون معاملتهم علیهم السلام معاملة الطاهر، هو مضمون الخبر الذی نقله صاحب «مستند الشیعة» عن «نوادر» الراوندی: قال علیّ علیه السلام : «بینا رسول اللّه صلی الله علیه و آله یتوضّأ إذ لاذ به هرّة البیت، وعرف رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه عطشان فأصغی إلیه الإناء حتّی شرب منه وتوضّأ بفضله»(1) .

فإنّ فعلهم علیهم السلام کقولهم حجّة، لاسیّما فی مثل الوضوء الذی هو عمل قُربی عبادی ، ولو کان فی فم السنّور شبهة النجاسة لما فعل صلی الله علیه و آله وتوضّأ بفضله قطعاً، فهذا یوجب القطع بطهارة فمه .

مضافاً إلی أنّ الاقدام بغسل فمّ الحیوانات وتطهیرها فی بعض الموارد، ما یکون من سؤره، یعدّ فاعله من المجانین، ولا أقلّ من انتسابه إلی الوسوسة.

إذا عرفت هذا، فیدور الأمر حینئذٍ بین: القول بعدم نجاسة بدن الحیوانات بالملاقاة لعین النجاسة، وإن حُکم بنجاسة ما یلاقی نجاسة بدنها، کان التنجیس من حیث نفس النجس لا جسده المتنجّس .

والقول بتنجّس بدنه أیضاً کسائر الأجسام، إلاّ أن یکون التلاقی بنفس النجس، فهو ینجس به لا ببدنها المتنجّسة .

ففیه وجهان، بل قولان .

والذی یظهر من من مجموع الاستدلال الشیخ الأعظم هو تقویة الثانی، إذ استدلّ بأنّ التأثیر والتأثّر فی الأجسام مع النجاسة المشتملة علی الرطوبة أمر مسلّم عند الشرع، ولیس غیر ذلک معهوداً ، بخلاف ما لو قلنا بانفعال بدن


1- مستند الشیعة: ج1/ص 21.

ص:540

الحیوانات ، ولکنّه یطهر بالزوال، فإنّه أمر معهود فی الشرع کثیراً، مثل مطهّریة الشمس والأرض والإستحالة ، بل قد یؤیّد بذهاب کثیر من الفقهاء _ مثل السیّد المرتضی رحمه الله _ إلی طهارة کلّ جسم صیقل بذهاب عین النجس ، بل فی کلام الشیخ فی «التهذیب» و«الاستبصار» فی عظم المیتة إذا مضت علیه السنة، ولاقت وهی رطبة لا یجب غسله، فهو وإن کان ضعیفاً، إلاّ أنّه ذکر للاستئناس .

بل وجزم جماعة بذلک مثل الشهیدین والمحقّق الثانی فی «الجعفریّة» وشارحها، و«الموجز» وشارحه، من أنّهم عدّوا من المطهّرات العشرة زوال العین .

بل نحن نزید بأنّ مثل هذا التعبیر موجود فی کلام المتأخّرین أیضاً کالسیّد فی «العروة» وشراحها فی تعلیقتهم ، مضافاً إلی کون الزوال یعدّ مطهّراً فی البواطن، وغیر ذلک ممّا یوجب تقویة هذا الاحتمال .

أمّا صاحب «الجواهر» و«مصباح الهدی» و«الروائع الفقهیّة» للسیّد الاصفهانی وغیرهم ذهبوا إلی تقویت الحکم الأوّل، بأنّ بدن الحیوان لا ینفعل بالملاقاة، وما یوجب نجاسة الملاقی کان هو عین النجاسة والمتنجّس الموجود فی بدنه مع السرایة بالرطوبة .

والذی یمکن أن یُقال : أنّه لا إشکال فی لزوم المخالفة لإحدی القواعد الخمسة المذکورة بعضها، کما أنّه لا إشکال فی حسن عدم التخصیص فی القواعد فهما أمکن ، کما أنّه لو دار الأمر بین تخصیصٍ أکثر أو أقلّ کان الثانی أولی، عملاً بما یقتضیه القواعد ممّا یقبله العرف والعقلاء، إلاّ ما خرج بالدلیل قطعاً، فلا محیص فیه إلاّ بالمخالفة .

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : لابدّ أن ینظر المسألة من جهتین .

تارةً : من حیث ظهور الأخبار الدالّة علی ذلک، بأنّ المستفاد منها ظاهراً هل هو القول الأوّل أو الثانی ؟

ص:541

وأُخری : ملاحظة ما ذکرناه آنفاً ومراعاته .

وأمّا ملاحظة دلالة الأخبار، حیث إنّه لیس فیها إشارة ولا ظهور لفظی علی کون زوال عین النجاسة فی الحیوان من المطهّرات ، بل لو استفید کان من قبیل ما ذکرنا فی الاسئار، وفی وقوع الفأرة فی الدهن وخروجها حیّةً، حیث یستفاد منها ومن أمثالها طهارة بدنها بالملازمة .

لکن اللازم هاهنا یکون أعمّ من کون الزوال مطهّراً أو لم یکن بدن الحیوان منفعلاً أصلاً، حتّی یحتاج إلی التطهیر بالزوال أو غیره، فإثبات الأوّل بخصوصه مشکل، فلا سبیل لنا إلاّ أن نرجع إلی ظهورات الأخبار وملاحظة أنّها هل تدلّ علی عدم انفعال بدنه بالملاقاة أو لا .

فقد قیل بدلالة مثل مفاد صحیح علی بن جعفر، حیث حکم بوجوب غسل الثوب عند استبانة العَذَرة فی الثوب بواسطة رِجْل الحیوان، فإن کان الرِجْل متنجّساً بالعذرة الرطبة، فلا وجه لتعلیق الحکم علی استبانة العذرة، بل یکفی کون الرِجْل مرطوباً ومنفعلاً بالنجاسة، فیوجب نجاسة الثوب، فیکشف منه عدم انفعال بدنه بها .

بل وهکذا مضمون خبر عمّار فی قوله : «فإن رأیت فی منقاره دماً فلا تتوضّأ منه ولا تشرب» لاسیّما مع ملاحظة ذیله علی ما فی بعض النسخ: «فإن لم یعلم فی منقاره قذراً فتوضّأ منه واشرب» ، حیث جعل حکم النجاسة وعدمه علی وجود نفس العین علی المنقار، مع أنّه لو کان الملاک هو ملاقاته مع النجس ولو متنجّساً،وکان بدنه کذلک، فلا یحتاج إلی وجود القذر، بل یکفی کون الملاقاة مع الرطوبة بنفس المنقار الذی کان منفعلاً إلاّ أن یقال باحتمال طهارته حینئذٍ بالزوال .

أقول : قد عرفت من عدم وجود دلیل یدلّ بخصوصیة علی ذلک، إلاّ أن یستفاد من هذه الأخبار ذلک، فیدور الاحتمال بین أحد الأمرین .

ص:542

إمّا القول بعدم الانفعال أصلاً، أو القول بالانفعال، وحصول الطهارة بالزوال.

وسیأتی إن شاء اللّه بأنّ الأوّل أولی .

نعم ، قد یشکل الإستدلال بمثل هذه الأخبار، لعدم الانفعال، بناءً علی ما اختاره بعض فی المتنجّسات بأنّها لا ینجّس الطاهر إذا کانت خالیة عن عین النجس، کما احتمله صاحب «مصباح الفقیه» فی باب السرایة، فعلی هذا استفادة طهارة بدن الحیوان بالملاقاة بمثل الاسئار، ووقوع الفأرة فی الدهن، وأمثال ذلک مشکل، لا مکان التفصیل بین کون جسدها منجساً فلا یجوز اتّخاذ جلده ثوباً للصلاة، ولکن لا ینجس الماء ونظائره، فلعلّ حکم الإمام بالنجاسة بوجوب عین النجاسة کان بملاک ذلک.

والتحقیق فی هذه المسألة موکول إلی محلّه، فمن لم یذهب إلی ذلک، فله اختیار أحد الأمرین، من عدم الانفعال، أو انفعاله وطهارته بالزوال .

والذی یقرب إلی الذهن هو کون الأوّل أولی، لما قد عرفت من حسن قلّة التخصیص ومطلوبیّته، والأوّل کذلک بخلاف الثانی .

توضیح: ذلک أنّه لو قلنا بعدم حصول الانفعال أصلاً فی جسد الحیوان _ کما لا ینفعل بواطن الإنسان بالملاقاة _ لا یلزم منه إلاّ التخصیص فی قاعدة ثابتة وهی أنّ الملاقاة مع عین النجاسة المرطوبة منجّسة، فیلزم به باللابدّیة بواسطة تلک الأخبار ، فحینئذٍ لا یلزم تخصیصاً فی قاعدة منجسیّة المتنجّسات، وقاعدة عدم زوال النجاسة بزوال عینها ، وقاعدة استصحاب النجاسة عند الشکّ فیطهارته ، وقاعدة حکومة استصحاب النجاسة الوارد فیه علی استصحاب طهارة الملاقی .

هذا بخلاف ما لو قلنا بتنجّس بدن الحیوان من عین النجاسة ، فمع ذلک یحکم بطهارة سؤره، إذا لم یکن فی فمه ومنقاره عین النجاسة، فلا محیص إلاّ القول بتخصیص عدم زوال النجاسة بزوال عینها، بدون مطهّرٍ آخر، المستلزم لعدم

ص:543

مورد لما یدلّ علی بقاء نجاسته السابقة المشکوکة البقاء، حیث یحکم بنجاسته استصحاباً، وهکذا یلزم التخصیص فی عدم منجّسیة المتنجّس للشیء الطاهر، إن لم یکن محکوماً بالطهارة بزوال العین ، بل کان محکوماً بتنجّسه مع عدم سرایته إلی شیء آخر، فلازمه حینئذٍ عدم حکومة استصحاب نجاسته لاستصحاب طهارة ملاقیه، فیکون التخصیص فیه وارداً أیضاً .

فتکون النتیجة هی: بأنّ القول بعدم تنجّس بدنه بملاقاته مع عین النجاسة _ کما قلناه _ أولی ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

وتظهر الثمرة فیما بین القولین فی عدّة أُمور :

الأوّل : فی عدم جواز إتیان الصلاة جلد الحیوان قبل تطهیره، إذا علم نجاسته بعین النجس، وحکمنا بنجاسة غیر مسریة، هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم تحمّله للنجاسة، فیجوز الصلاة فیه أیضاً، أو طهارته بزوالها، فلا تکون ثمرة فی القولین لأنّه علی کلا القولین یجوز الصلاة فیه . نعم بین القولین وقول من لا یقول بتنجّس المتنجّس .

الثانی : فیما لو شکّ فی بقاء عین النجاسة، فإنّه یحکم بنجاسة ملاقیه، بناءً علی تنجّس جسد الحیوان بالنجاسة، لاستصحاب نجاسته المترتّب علیه نجاسة ملاقیه من دون واسطة، هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم انفعاله، فإنّ جریان استصحاب النجس علی الحیوان لا یثبت ملاقاة الشیء لعین النجس، إلاّ بالأصل المثبت، إذ ملاقاته مع الجسد الذی کان علیه النجس، یفید إثبات نجاسة الملاقی هذه الثمرة المذکورة فی «الجواهر» .

هذا، لکنّه مخدوش بأنّ الحکم بنجاسة الملاقی فی الفرض الأوّل، وهو تنجیسه بالنجاسة صحیح، إذا لم نقل بعدم منجّسیة المتنجّسات، وإلاّ کانت الثمرة بلا فائدة، لأنّ بقاء النجاسة للجسم بالاستصحاب لا أثر له لإثبات حکم النجاسة

ص:544

للملاقی، کما لا یخفی .

فضلاً عن إمکان دعوی کون الواسطة فی إثبات النجاسة للملاقی، المستلزم لثبوت عین النجاسة خفیّةً .

الثالث : قد ذکر _ أنّه کما عن «مصباح الهدی» _ إذا لاقی شیء طاهر جسم حیوان مصاحباً مع النجاسة العینیّة، بحیث لا یلاقی ذلک الشیء تلک النجاسة ، بل الملاقاة کانت مختصّة بجسم الحیوان، الذی کان علیه النجاسة، فإنّه ینجّس الملاقی بناءً علی تنجیسه بملاقاة النجاسة، لأنّ طهره حینئذٍ إنّما بزوال النجاسة عنه المفروض عدمه ، ولا ینجّس بناءً علی عدم تنجّسه بها .

ثمّ قال : وإن کان وقوعه بعیداً .

ولکنّ الإنصاف بعد الدقّة، عدم إمکان وقوع ذلک خارجاً، لأنّ المفروض کان علیه عین النجاسة، فإذا لاقی ذلک الجسم _ ولو من تحته _ فما لم یصل إلی موضع فیه النجاسة _ ولو برطوبته _ لا یکون نجساً، لأنّ المفروض طهارته أمّا من سابقه أو من زوال النجاسة عنه، فإذا وصل الشیء الطاهر إلی ما یکون عین النجس فیه، فإنّه یکون الجسم أیضاً متنجّساً، إلاّ أنّه لاقی نفس العین أیضاً .

وبالجملة، ملاقاة الجسم مع وصف کونه متنجّساً، مع بقاء العین علیه، دون الملاقاة مع العین، غیرُ ممکنٍ عادة، لا صرف استبعاد محض، کما ذکره ، هذا أوّلاً .

فی سؤر الحائض التی لا تؤمن

وثانیاً : هذه الثمرة صحیحة بناءً علی قبول کون المتنجّس منجّساً، وإلاّ لما کان التلاقی مع الجسم المتنجّس موجباً للنجاسة للملاقی أصلاً، سواء کان الجسم متنجّساً أم لا . فکیف کان فالمسألة لا یخلو عن ثمرة فقهیّة فی الجملة .

فالحقّ مع المشهور، من طهارة سؤر الجلاّل، وآکل الجیف مطلقاً، إذا خلا موضع التلاقی عن عین النجاسة والمتنجّس، وکان سؤرهما مکروهاً لا نجساً وحراماً، کما عن بعض.

ص:545

والحائض التی لا تؤمن(1)

(1) ولا یخفی علیک أنّ الشیخ فی «المبسوط» والسیّد المرتضی کما فی «المصباح» حکما بکراهة سؤرها مطلقاً، من دون تقیید، خلافاً للمشهور، حیث حکموا مقیّداً ، تارةً : بما فی المتن کما هو الموجود فی الأخبار، وجعله فی «المدارک» و«التنقیح» أولی ممّا هو مذکور فی الکلمات .

وأُخری بقید المتّهمة، لأنّ غیر المأمونة قد تجتمع مع التهمة ، واُخری مع المجهولة .

وإنْ أورد علیهما فی «طهارة» الشیخ الأعظم، و«الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» بأنّ المتبادر عرفاً من غیر مأمونة هو المتّهمة، وإن کان بحسب القاعدة موافقاً لما علیه «المدارک» .

ولکن الإنصاف أن یقال : إن ذهبنا إلی لزوم الجمود علی ما فی الأخبار، فلابدّ أن یجعل الموضوع فی عدم الکراهة أو شدّتهما _ علی ما سیأتی _ معلّقاً علی أمر وجودی، وهو کونها مأمونة _ کما فی صحیح عیص _ أو إذا کانت تغسل یدیها، بأن تکون عبارة أُخری عن المأمونة _ کما فی خبر رفاعة _ فلازم ذلک وجود الکراهة أو شدّتها، إذا لم تتحقّق هذا العنوان الوجودی، فیساعد مع إحراز عدمه، أو لم تکن الحال مکشوفة ، فحینئذٍ ما اتّخذه المصنّف قدس سره فی المتن بالفعل المنفی، لا یخلو عن مسامحة .

وإن بنینا علی ما هو المتسامح عند العرف، من استعمال کلّ من المتّهمة وغیر المأمونة مکان الآخر، ولا عدم اعمال الدقّة فی مثل تلک العنوانین، لاسیّما فی مثل هذین الأمرین _ أی الکراهة والاستحباب _ حیث کان طبعهما علی الخفّة والتساهل، کما یشهد علی ذلک أدلّة التسامح والسنن ، فلا یبعد أن یکون الحقّ مع الشیخ، ومن سلک مسلکه، فیرجع الکلام إلی أنّ المکروه أو شدّته کان لمن

ص:546

ینسب إلی الاتّهام من الحائض وغیرها، کما یناسب ذلک مع الاعتبار، بل مع الأخبار الواردة لاستحباب التنزّه عمّن لا یتنزّه، الواقعة فی أخبار (باب الأطعمة والأشربة) .

وأمّا بیان موضوع الکراهة فی الحائض، بالنظر إلی الأخبار من الکراهة المطلقة _ کما علیه الشیخ الطوسی والسیّد فی «المصباح» _ أو المقیّدة _ کما علیه المشهور بأن لا یکون فی غیر المتّهمة _ أو الکراهة المطلقة فی الحائض وشدّتها فی المتّهمة _ کما علیه جمع من المتأخّرین، کما عن الحکیم فی «مستمسکه» والآملی فی «مصباحه» والخوئی فی «تنقیحه» وغیرهم ، وهذا هو الأقوی بحسب مقتضی الجمع بین الأخبار _ فنقول: فی عدد من الروایات قد أطلق فیها الکراهة، المستفاد منها ذلک بواسطة النهی عن التوضّی بسؤرها، کما فی خبر عنبسة عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : اشرب من سؤر الحائض ولا تتوض منه»(1) .

وصحیح حسین بن أبی الع ء: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض یشرب من سؤرها . قال : نعم ولا تتوض منه»(2) .

وصحیح ابن أبی یعفور: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام أیتوضّأ الرجل من فضل المرأة ؟ قال : إذا کانت تعرف الوضوء، ولا تتوضّأ من سؤر الحائض»(3) .

والمراد من الوضوء، هو الاستنجاء (بفتح الواو) لا الوَضوء الإصطلاحی، لعدم ارتباط عرفانه بالمقصود، کما علیه «الوافی» والشیخ الأعظم ، بل یمکن أن یکون


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 8
3- وسائل الشیعة: الباب 3، الاسئار، الحدیث 8

ص:547

المراد هو الوضوء المعروف، فکأنّ المراد من عرفانه کنایة عن کونها متعبّدة بالشرع، فتعرف الوضوء، وتراعی النجاسة والطهارة، فلا بأس حینئذٍ بسؤرها .

فعلیه، حینئذٍ یکون الخبر کنایة عن المأمونیّة، إلاّ أنّها تثبت فی مطلق المرأة، فیناسب مع أخبار إثبات الکراهة لمطلق المتّهم فی الجملة، وبالنسبة إلی الحائض بالخصوص یعدّ من الأخبار المطلقة ، کما لا یخفی .

وخبر علیّ بن جعفر فی کتابه عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن الحائض؟ قال : تشرب من سؤرها، ولا تتوضّأ منه» (1).

وخبر عنبسة بن مصعب عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سؤر الحائض تشرب منه ولا توضّأ»(2) .

ولا یبعد أن یکون هذا متّحداً مع الخبر الأوّل، غایته أنّه منقول بطریقین عن صفوان بن یحیی عن منصور بن حازم عن عنبسة .

وخبر أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته، هل یتوضّأ من فضل وضوء الحائض ؟ قال : لا»(3) .

وخبر أبی هلال قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : المرأة الطامث أشربُ من فضل شرابها، ولا أحبّ أن أتوضّأ منه»(4) .

هذه الأخبار المطلقة، حیث کان أکثرها صحیحاً وبعضها الآخر معتبراً فی الجملة یوجب الظنّ القویّ للفقیه، بل الاطمئنان علی وجوب الکراهة المطلقة، خصوصاً مع ملاحظة ظهور النهی فی الحرمة، لاسیّما لو لاحظنا خبر أبی بصیر


1- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 8
2- وسائل الشیعة: الباب 6، الاسئار، الحدیث 8
3- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 8
4- وسائل الشیعة: الباب 8، الاسئار، الحدیث 8

ص:548

حیث أعاد السؤال عن التوضی بسؤرها بقوله: لا .

ولذلک أوهم کلام الصدوق فی «المقنع» من ذکر متن الخبر ب _ : تتوضّأ، وهکذا الشیخ فی «التهذیب» و«الاستبصار» ب _ : لا یجوز إلی الحرمة .

إلاّ أنّ الاتّفاق قائم علی الکراهة، کما لا یبعد تأییده بما فی خبر أبی هلال بقوله علیه السلام : «لا أحبّ أن أتوضّأ منه » الظاهر فی کون النهی فی الأخبار محمولاً علی الکراهة لا الحرمة. فمع ذلک کلّه کان بعض الأخبار وارداً علی نحو التقیید . مثل خبر علیّ بن یقطین عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ بفضل الحائض؟ قال : إذا کانت مأمونة فلا بأس»(1) .

وخبر رفاعة منها عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : إنّ سؤر الحائض لا بأس أن تتوضّا منه، إذا کانت تغسل یدیها»(2) بأن کان المراد منه هو المأمونیة وأنّه کنایة عنها .

وصحیح عیص بن القاسم: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن سؤر الحائض؟ فقال : لا توضّأ منه، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا کانت مأمونة ثمّ تغسل یدیها قبل أن تدخلها الإناء وقد کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یغتسل هو وعائشة فی إناء واحد، ویغتسلان جمیعاً»(3) .

هذا بحسب نقل الکلینی من النهی عن التوضّی بسؤر الحائض، خلافاً للشیخ الطوسی فی نسخة «التهذیب» و«الاستبصار» من عدم ذکر کلمة (لا)، فیکون أمراً للتفصی عن سؤرها، فیکون الخبر بناءً علی نقل الکلینی بالنهی، ورجوع القید بخصوص الحائض فقط دون الجنب، لإفراد فعل کانت وتأنیثها وتأنیث


1- وسائل الشیعة: الباب 5، الاسئار، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 8.
3- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 7.

ص:549

صیغة المفعول بقوله : مأمونة ، لاسیّما مع قرینة ذیلها، بقوله : «ثمّ تغسل یدیها» الراجع إلی الحائض لا الجنب، کما یساعده الاعتبار تلوث یدها حین تبدیل القطنة، فیشهد ذلک کون المراد من السؤر هاهنا غیر ما هو المصطلح من فضل الماء، بل المراد هو الماء الملاقی جسدها، بقرینة ذکر غُسل عائشة مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله من إناء واحد .

فعلی ما ذکرنا من التوجیهات علی نسخة «الکافی»، تکون النتیجة هی النتیجة أنّ التوضّی من سؤر الحائض منهیّ عنه، ولو کانت مأمونة أیضاً وافادة النهی مع عدم الائتمان یکون بطریق أولی .

إلاّ أنّ ما ذکرنا لا یساعد مع ذکر غُسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مع عائشة، مع أنّ اطلاقه یشمل کون غُسل عائشة کان للحیض ، وإن کان لا یبعد ذکر الاقتران کون المراد من غسلهما هو الجنابة ، فحینئذٍ یناسب ذلک ذکره مع الجنابة، التی أجاز الوضوء من سؤره، الشامل بإطلاقه للرجل والمرأة .

إلاّ أنّ هذا الاحتمال وإن کان حسناً فی نفسه، إلاّ أنّه لا یدفع الإطلاق الشامل لغسل الحیض أیضاً .

هذا کلّه إن جعلنا الجُنب مطلقاً یشمل الرجل أیضاً .

ولکنّ الانصاف یقتضی جعل الجنب هنا للمرأة فقط لا الرجل، بقرینة وحدة السیاق مع سؤر الحائض، ومضافاً إلی إمکان رجوع فعل (کانت) إلیه بتأنیثها، فیکون معنی الخبر هکذا : لا تتوضّأ من سؤر الحایض مطلقاً، من دون تقیید، بخلاف المرأة المجنبة حیث یجوز التوضّی من سؤرها إذا کانت مأمونة، ثمّ استشهد لذلک بفعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وعائشة للجنابة لا لحیضها، فیکون الخبر حینئذٍ من الأخبار المطلقة الدالة علی النهی فی سؤر الحائض لا المقیّدة، کما توهّمه بعض ،فحینئذٍ یحکم بتقدّم نقل «الکافی»علی«التهذیب» و«الاستبصار»،

ص:550

لأنّ الکلینی یعدّ أضبط منهما ، أوّلاً .

وثانیاً : من دوران الأمر بین احتمال النقیصة أو الزیادة، تکون أصالة عدم الزیادة مقدّمة علی اصالة عدم النقیصة، لأنّ کثیراً ما یتّفق الخطأ فی النقیصة، ویبعد وقوع الخطأ بالزیادة، کما لا یخفی .

مضافاً إلی استبعاد الأمر بالتوضّی من سؤر الحائض، علی نسخة الشیخ، من دون تقیید بالمأمونیة، وإن کان الأمر هنا فی مقام توهّم الحظر، المستفاد منه الجواز، أی یجوز التوضّی منه من دون تقیید، لأنّ ثبوت الفعل یوجب رجوعه إلی خصوص الجنب ، ولکن لا یبعد إرجاع القید إلی کلّ من الحائض والجنب، بأن یکون الضمیر الموجود فی الفعل راجعاً إلی المرأة بجنبها الشاملة لکلا فردیها، أی إذا کانت المرأة مأمونة، وإن کان هذا الاحتمال لا یخلو عن بُعد، بحسب ما هو المتعارف من القواعد الأدبیّة .

وملاحظة هذه الإشکالات، یوجب الحکم بتقدیم ما هو المنقول فی «الکافی»، والحکم بالکراهة المطلقة لسؤر الحائض، سواء کانت مأمونة أو لا .

غایة الأمر یشتدّ کراهتها فی ما إذا کانت غیر مأمونة، لوجود الملاکین من الکراهة من الحیض وعدم الائتمان ، کما هو الأقرب، مع وجود الأخبار الکثیرة المطلقة الآبیة باستفاضتها وصحّة بعضها عن التقیید بخصوص المأمونیة .

کما یقرّب هذا الاحتمال أیضاً إمکان استعمال شبه التعلیل بالتنصیص، بأنّ احدی الملاکات فی الکراهة عدم المأمونیّة، أی کون الشخص متّهماً بعدم المبالاة، سواء کان هما حائضاً أو جنباً، کما منصوصین، أو غیرهما من سائر أفراد المکلّفین وغیرهم .

کما یؤیّد ذلک الأخبار الواردة فی استحباب الابتعاد عمّن لا یتنزّه فی باب الأطعمة والأشربة، لاحظ عن ذلک کتب الأحادیث.

ص:551

فثبت وجه إلحاق النفساء والمستحاضة إلیهما بما قد عرفت ، بقی هنا ما یظهر منه عدم الکراهة والبأس فی المأمونة، من المفهوم فی خبر علیّ بن یقطین، بقوله : «إذا کانت مأمونة فلا بأس» ، بکون الکراهة مختصّة لغیر المأمونة.

وهکذا صحیح رفاعة مِنْ نفی البأس إذا تغسل یدیها، أی لا کراهة حینئذٍ من التوضّی بمائها .

امّا الأوّل بضعف سنده، لأنّ طریق الشیخ إلی علیّ بن الحسن بن فضّال یکون بواسطة علیّ بن محمّد بن الزبیر، وهو لم یوثّقه أصحاب الرجال، فلا یقاوم صحیح عیص وغیره کما عرفت .

وأمّا الثانی وإن کان سنده صحیحاً ومعتبراً، إلاّ أنّه لا تنافی بین الحکم بالکراهة الحقیقیّة المستفاد من «لا أحبّ» الموجود فی خبر أبی هلال، مع عدم البأس فیه الموجود فی خبر رفاعة.

هذا فضلاً عن أنّ «تغسل یدیها» کنایة عن المأمونیّة لا أضیق منه، کما لا یبعد أن یکون کذلک، واللّه العالم بحقیقة الأمر .

تذنیبٌ

هل تشمل الکراهة الوضوء والغسل، بل سائر الاستعمالات، ولو لم یکن عبادیّاً أم لا ؟

فمع ملاحظة إلی مفاد الأخبار لا یکون حکم الکراهة إلاّ فی خصوص الوضوء، فشمولها لغیره مشکلٌ .

نعم ، یمکن دخول الغُسل فی الحکم، وکونه کالوضوء علی احتمال فی صحیح عیص، هو أن یرجع فعل «إذا کانت» إلی جنس المرأة، الشاملة للحائض والجنب، فکان عمل رسول اللّه مع عائشة فی الاغتسال من جهة مأمونیّتها مثلاً، فیفهم من مفهوم من الجملة الشرطیة أنّه إذا لم تکن مأمونة ففیها بأس، حتّی من

ص:552

حیث الغسل أیضاً ، مضافاً إلی استقرابه بکونه عملاً عبادیّاً، کالوضوء أو أهمّ منه ، مضافاً إلی استحباب التنزّه عمّن لا یتنزّه الشامل لمثله .

نعم ، إثبات الکراهة مطلقاً، حتّی للمأمونة مشکل، خصوصاً لغیر الغُسل من سائر الاستعمالات، مع صراحة الأخبار فی الجواز فی مثل الشرب ، إلاّ عن الوحید البهبهانی حیث ادّعی الاتّفاق علی عدم الانحصار فی الحکم بالکراهة لخصوص الوضوء .

فنقول حینئذٍ إثبات مطلق الکراهة لسؤرها، لجمیع الاستعمالات _ غیر الوضوء، من غیر الإجماع: مع وجود دلیل التسامح فی الأدلّة الشاملة للکراهة _ مشکل جدّاً لعدم دلالة دلیل ظاهر علیه کما لا یخفی .

فالأقوی عندنا ثبوت الکراهة لسئور الحائض مطلقاً، وفی غیر المأمونة منها أشدّ، کما ثبتت الکراهة لغیرها أیضاً من النفساء والمستحاضة، بل وفی کلّ متّهم فی الوضوء قطعاً، وفی غیره علی إشکال.

***

هذا تمام الکلام فی الجزء الأول . ونحمد اللّه علی ما وفّقنا لإتمامه؛ ونسأله تعالی التوفیق فی فهم حقیقة الأحکام الشرعیّة الإلهیّة ، وأن یهدینا إلی سبیل الحقّ والصواب ، بجاه محمّد وآله الأنجاب ، علیه وعلیهم صلوات اللّه إلی یوم الحساب ، إنّه سمیعٌ مجیب .

ص:553

الفهرست

الفهرست

تعریف الطهارة••• 6

کیفیّتة تقابل الطهارة و القذارة••• 10

تحقیق کلام المحّقق فی تعریف الطهارة••• 12

انقسام کلّ من الطهارات الثلاث الی واجب و ندب••• 15

الموضوءات المندوبة••• 19

نیّة الغایات المترتّبة علی الوضوء••• 22

الاستحباب النفسی للوضوء و عدمه••• 30

وجوب الغُسل نفسی أم غیری؟••• 36

وجوب غسل الجنابة نفسی أم غیری؟••• 37

وجوب غسل مسّ المیّت نفسی أم غیری؟••• 49

بقیّة الأغسال الواجبة••• 50

کفایة غسل مسّ المیّت عن الوضوء و عدمها••• 56

ما یجب له غسل مسّ المیّت••• 62

وجوب غسل الجنابة قبل الفجر من یوم یجب صومه••• 65

کأدائه قضاء شهر رمضان فی مسألة البقاء علی الجنابة••• 76

فی الجواب عمّایرد علی وجوب الغسل قبل الفجر••• 78

التیمّم الواجب للغیر••• 82

کون التیمّم بدلا عن الطهارة المائیّة••• 83

ص:554

فروع تتعلّق بوجوب الطهارة بالنذر و شبهه••• 87

تعریف الماء المطلق و المضاف••• 91

مطهّریة الماء••• 94

الماء طاهر و مطّهر••• 94

دلالة الکتاب علی أنّ الماء طاهر و مطهّر••• 96

دلالة السنّة علی أنّ الماء طاهر و مطهّر••• 97

الفرق بین الحدث و الخبث••• 98

تطهیر الماء للمایعات المضافة و عدمه••• 100

تقسیم الماء باعتبار وقوع النجاسة فیه••• 102

أقسام المیاه وأحکامه••• 103

فی تعریف الماء الجاری••• 103

عاصمیّة الماء الجاری و ما هو بمنزلته••• 106

فی تغیّر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بمجاورة النجس••• 127

فیما لوانقطع الماء الجاری بعضه عن بعض بسبب التغیّر بالنجس••• 131

کیفیّة تطهیر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بعد زوال التغیّر••• 132

فی عاصمیّة ماء الحمّام اذا کان له مادّه••• 135

فی تغیّر الماء بغیر النجس••• 142

فی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجس و المتنجّس••• 143

فیما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل••• 153

تفصیل المحقّق الخوئی (ره)فی انفعال الماء القلیل••• 170

فی تفصیل السیّد المرتضی (ره) فی انفعال الماء القلیل••• 175

فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس••• 178

ص:555

ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس••• 181

فی تتمیم الماء المتنجّس کرّا••• 185

حکم الماء المشکوک کرّیّتة••• 191

ماء الکرّ وأحکامه••• 192

اعتبار تساوی السطح فی عاصمیّة الکرّیة••• 198

کیفیّة تطهیر الکرّ المتغیّر بالنجّس••• 204

مقدار الکرّ بحسب الموازین••• 209

مقدار الکرّ بحسب المساحة••• 216

ماء البئر وأحکامه••• 232

تعریف ماء البئر و حکمه••• 232

ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر••• 234

استحباب النزح عند ملاقاة البئر للنجاسة••• 250

کیفیّة تطهیر البئر••• 252

فروعات نزح البئر••• 256

حکم استعمال الماء المتنجّس••• 260

فیالانائین المشتبهین بالنجاسة••• 261

ملاقی أحد الانائین المشتبهین••• 284

لو اشتبه أحد الانائین المشتبهین مع اناء ثالث••• 291

النهی المستفاد من الأمر بالاراقة تحریمی ذاتی أو تشریعی؟••• 292

ملاک المحصور و غیر المحصور••• 294

تعریف الماء المضاف و أقسامه••• 296

الماء المضاف وأحکامه••• 297

ص:556

الشک فیصدق الاطلاق و الاضافة••• 297

حکم الماء المضاف••• 299

عدم رافعیّة الماء المضاف للحدث••• 300

ما یمکن أن یستدلّ به لجواز التطهیر بالمضاف••• 306

الجواب عمّا یمکن أن یستدلّ به لجواز التطهیر بالمضاف••• 308

مّایستدلّ به لعدم جواز التطهیر بالمضاف••• 311

الجواب عن تفصیل العمّانی فیالماء المضاف••• 314

انفعال المضاف بملاقاة النجس••• 315

فیانفعال المضاف بملاقاة النجس••• 316

انفعال المضاف بملاقاة النجس••• 318

تطهیر المضاف المتنجّس••• 320

تطهیر غیر الماء من المایعات المتنجّسة••• 329

حکم الماء المشّمس••• 331

الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس••• 332

حکم الماء المسخّن بالنار••• 340

حکم الماء المسخّن بالنار لسائر الاستعمالات••• 342

حکم الاستشفاء بالعیون الحارّة و استعمالها••• 343

حکم غسالة الخبث••• 345

ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا••• 346

الجواب عمّا یتوهّم معارضته للقول بنجاسة الغسالة••• 358

حکم ماء الاستنجاء••• 363

حکم استعمال الغسالة علی القول بطهارتها••• 372

ص:557

حکم ملاقی الغسالة علی القول بنجاستها••• 373

حکم ماء الاستنجاء••• 377

الماء المستعمل لتطهیر مخرج البول••• 387

استعمال ماء الاستنجاء فیرفع الحدث••• 391

الغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات••• 395

حکم الماء المستعمل فیالوضوء••• 400

طهارة الماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 409

مطّهریة الماء المستعمل فیالحدث الاکبر عن الخبث••• 410

الخلاف فیه الوضوء بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 412

الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 425

طهارة الماء المستعمل فیالوضوء••• 459

الماء المستعمل فیالوضوء الرافع للحدث••• 463

مطهّریّة الماء المستعمل فیالحدث الأکبر عن الخبث••• 468

استعمال الماء المستعمل فیالحدث الأکبر فیالوضوء••• 472

الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 482

تنبیهات استعمال الماء المستعمل فی الغسل••• 509

الاسئار النجسّة والمحرّمة••• 517

الاسئار الطاهرة والمکروهة••• 521

سؤر الجلاّل و آکل الجیف••• 529

سؤر الحائض التی لا تؤمن••• 544

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.