بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحيمْ
زهير بن القين
ص: 1
العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. شعبة التحقيق.
زهير بن القين / تأليف شعبة التحقيق في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة. - كربلاء: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، 1430ق. = 2009م.
79 ص. – (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 39)
المصادر في الحاشية.
1. زهير بن القين البجلي، - 61ق. – نقد وتفسير. 2 . زهير بن القين البجلي، - 61ق. فضائل – أحاديث. 3 . الحسين بن علی (ع)، الإمام الثالث، 4 – 61ق. – أصحاب. ألف. عنوان.
2ع 9ز / 4 / 42 BP
تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر
ص: 2
زهير بن القين
تأليف
شعبة التحقيق
في قسم الشؤون الفكرية والثقافية
في العتبة الحسينية المقدسة
الطبعة الأولي
1430ه- - 2009م
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة
للعتبة الحسينية المقدسة
العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة
قسم الشؤون الفكرية والثقافية - هاتف: 326499
Web: www.imamhussain-lib.com
E-mail: info@imamhussain-lib.com
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، رب الشهداء والصديقين، والصلاة والسلام علی أشرف الخلق أجمعين، محمد وآله الطاهرين، سادة الشهداء أجمعين، واللعنة الدائمة الأبدية علی ظالميهم وقاتليهم وجاحدي حقهم من الأولين والآخرين.
وبعد: الجود صفة أخلاقية جميلة، بل هي من أمّات الأخلاق، فأن يعطي الإنسان مما يملك، ابتغاء وجه الله عز وجل، وفي سبيل مبدأ سامٍ، إنما يعبر عن نفس كبيرة تضمها هذه الجوانح، والقضية طردية، فكلما زادت قيمة المُعطي، والمبدأ الذي لأجله أُعطي، كلما زاد الثواب والأجر، إلی أن يصل الأمر ذروته، وهو الجود بالنفس، فيبلغ هذا الإنسان أعلی مدارج الفضل والكمال، فعن النبي صلي الله عليه و آله و سلم: «فوق كل برٍ برٌ حتی يقتل الرجل في سبيل الله عز وجل، فإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه بر...»(1).
وقد قيل قديماً: (والجود بالنفس أقصی غاية الجود)(2).
ص: 5
أما إذا كانت التضحية بالنفس لأجل حفظ خليفة الله وحجته علی خلقه، فهنا تحار العقول، وتقف الأقلام، وتخرس الألسن، فأنّی لها أن تصف هذا الإنسان الذي ضحّي بوجوده من أجل وجود الإمام.
جادوا بأنفسهم أمام إمامهم *** والجود بالنفس النفيسة أجود(1)
وممن خاض هذا المضمار المقدس - فحاز السبق علی الخلائق - زهير بن القين البجلي - رضوان الله عليه -، فقد بلغ شأواً بعيداً، لا يلحقه فيه لاحق، فباع نفسه لله عز وجل واشتری الله منه(2)، فمن أراد شمةً من عطره، ورحيقاً من رضاب سيرته المختوم، فليطالع هذه الوريقات، التي تعكس نفساً أبية، وهمة عالية لا تطاولها الجبال الشُم.
ونرجو من الباري عز وجل أن يتقبل منا هذا القليل، ويجعله ذخيرة ليوم المعاد، إنه مجيب الدعوات.
شعبة التحقيق
17جمادي الآخرة لسنة 1430ه-
الموافق 11/6/2009م
ص: 6
اسمٌ يضيء سماء الطف، تألقا وجمالا, له صدی يفتح القلوب ويريح النفوس.
فلطالما تسابق شيعة أهل البيت، في التسمية بهذا الاسم، والتبرك به، والاقتداء بصاحبه، والتزود من رحيق تراثه، وأمجاده وبطولاته، ومازالوا.
فأصحاب الأقلام الحرة، والضمائر الحية، والأنامل البيضاء الطاهرة، لا تملك إلا أن تنحني إجلالاً وإكباراً، عندما تخط في السطور اسمه، لما له من بطولات، ومواقف مشرّفة.
لقد اتفق أصحاب السير والتاريخ، ومن كلا المدرستين، من المحققين، قديماً وحديثاً، علی اسم هذا البطل العظيم.
قال أبو مخنف: زهير بن القين، من بني عمرو بن يشكر بن بجيلة(1).
ص: 7
وفي الإرشاد: زهير بن القين البجلي(1).
وقال محسن الأمين: زهير بن القين بن قيس الأنماري البجلي(2)(3).
وبعد التتبع، لكتب الماضين والمتأخرين، من الباحثين في السِيَر والرجال، لم نجد من ذكر اسماً آخر له.
إن أسماء الشهداء والأبطال، تظل علی ثغر الدهر والزمان، تشع نوراً يضيء النفوس، وكلما مضي الدهر عليها ازدادت إشراقاً وأصالة، وبخاصة في نفوس محبيها.
إن لصاحب هذا الاسم صوراً رُسمت في ذاكرة الأجيال، منها الهيام والذوبان في محبوبه، والتسليم الكامل لما يأمره به، وإيقاظ الضمائر في اتباع الحق.
ص: 8
إن العظماء والأبطال، مفخرة وسمة بارزة تبتهج بها الأمم والشعوب. فالعشيرة، لها دورٌ كبير في صقل شخصية أفرادها، والعمل علی إبراز أكابر شخصياتها.
وعشيرة زهير بن القين، يشار لها بالبنان، في المفاخر والكرم والشهامة والسمعة الطيبة، حيث تنسب إلی بجيلة، وهي فخر النساء في زمانها، لذا نبين نسبه وعشيرته، في شيء من الإيجاز:
قال السمعاني: البَجَلي، بفتح الباء المنقوطة بواحدة والجيم, هذه النسبة إلی قبيلة بجيلة، وهو ابن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث، أخي الأسد بن الغوث.
وقيل: إن بجيلة اسم أمهم، وهي من سعد العشيرة وأختها باهلة، ولدتا قبيلتين عظيمتين، نزلت بالكوفة(1).
قال العيني: البجلي في كهلان، بفتح الجيم، ينسب إلی بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة بن مالك، وهو مذحج.
كانت عند أنمار بن أراش بن الغوث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان فَوِلْدُهُ منها، وهم: عبقر والغوث وجهينة، ينسبون إليها(2).
ص: 9
قال ابن عبد ربه: إن بجيلة امرأة، وهي: ابنة صعب بن سعد العشيرة، ولدت لأنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث، أو للغوث بن أنمار ابن أراش بن عمرو بن الغوث، فنسب ولدها إليها(1).
وقال الزركلي: أنمار بن أراش بن عمرو، من كهلان: جد جاهلي قديم، من نسله بنو (خثعم) و(بجيلة) و(عبقر) و(علقمة)، وفي النسابين من يقول: هو أنمار بن نزار بن معد، من عدنان.
وكان بعض بنيه في تهامة الحجاز، ثم تحولوا إلی سراة عسير، بين اليمن(2) والحجاز.
ص: 10
ودخل بعضهم الأندلس، فكان منهم مشاهير(1).
إذن نستنتج أنها عشيرة مرموقة،وصاحبة تاريخ كبير، ولها جذور في اليمن والحجاز، وبعد مجيء الإسلام، وتمصير الكوفة(2)، أصبح
ص: 11
موطنها الرئيس فيها، ومحل سكناها، ونسب لها كثير من الأبطال، والرموز والشعراء والشخصيات البارزة.
أما بالنسبة لأسرته، فزوجته، هي: دلهم بنت عمرو(1)، أو ديلم بنت عمرو(2). وهي إحدي النساء العربيات، اللائي نشأن علی مبادئ الأصالة العربية والإسلامية، في العفة والطهارة.
فهي مثال المرأة التي تبعث في نفوس الرجال، الروح القتالية والغيرة والنخوة، والتضحية في سبيل نصرة الحق، وما قولها لزوجها - عندما التحق بركب الإمام الحسين - صلوات الله عليه - وعزم علی الشهادة -:(كان الله عونا ومعينا، خار الله لك، أسالك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين عليه السلام)(3)، إلا دليل علی طهارة منبتها ونقاء سريرتها وحبها لآل رسول الله، ورسوخها في الدفاع عنهم ونصرتهم.
فكانت متيمة بحب العترة الطاهرة، تُسبّح شفتاها بحروف أسمائهم المقدسة، وإليك الشاهد: فقد قالت لغلام لها - يقال له شجرة -: انطلق فكفّن مولاك، قال: فجئت فرأيت حسيناً ملقی، فقلت: أكفن مولاي، وأدع حسيناً! فكفنت حسينا، ثم رجعت، وقلت ذلك لها، فقالت:
ص: 12
أحسنت، وأعطتني كفناً آخر، وقالت: انطلق فكفن مولاك، ففعلت(1).
وذكر المؤرخون أن لزهير، ابن عم اسمه سلمان بن مضارب بن قيس البجلي، استشهد مع الإمام الحسين - صلوات الله عليه -(2).
عندما يمر أصحاب السير والتاريخ، بسيرة هذا الفدائي الفذ، يؤكدون بأنه من سكنة الكوفة.
قال السماوي: نازلاً فيهم بالكوفة(3).
إلا أَننا لم نعثر، علی تاريخ ولادته، وأين حدثت، فاستنتجنا ذلك من بعض القرائن:
1 - بما أنه شارك في معركة بلنجر(4)، والتي حدثت سنة 32ه-، بين المسلمين والترك، ووصل إلی ذلك المكان النائي، بعد معارك كثيرة وطويلة، فمقتضي الحال أن يكون عمره ثلاثين سنة تقريباً.
ص: 13
2 - وبما أَنه استشهد في واقعة الطف، والتي حدثت في سنة 61ه-، فيكون عمره عند استشهاده، نحو ستين سنة تقريباً.
لذا تكون ولادته، بعد هجرة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم إلی المدينة المنورة.
أما القرائن الدالة، علی مكان ولادته، ونشأته، فقد ذكرت كتب الأنساب والرجال، أن عشيرته كانت تقطن بين الحجاز واليمن، وبعد أن مصرت الكوفة، وأصبحت قاعدة لانطلاق الجيوش الإسلامية سنة15ه-،أو سنة 17ه- استوطن الكوفة، مع أهله، وعشيرته (بجيلة).
فأسهمت الكوفة - بشكل لا يدعو إلی الشك - في صنع هذا البجلي العظيم، والسيف البتار، والفارس الكمي. وعاش عصر الرسول صلي الله عليه و آله و سلم, وعصر أمير المؤمنين والإمامين الحسن والحسين صلوات الله عليهم.
وشارك في حروب المسلمين - كما أشرنا سابقاً -، وتحرير الإنسانية من الذل، والاستبداد والظلم. وكان شريفاً في قومه ووجيهاً، وصاحب مواقف مشرِّفة، خصوصاً في ساحات الوغي، واصطكاك الأسنة، فكان يأخذ الأرواح والرؤوس معاً، ولذلك جعله الإمام الحسين - صلوات الله عليه - قائداً علی ميمنة جيشه يوم عاشوراء.
ص: 14
ففي الإرشاد: وأصبح الحسين بن علي عليهما السلام ، فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر(1) في ميسرة أصحابه، وأعطي رايته العباس أخاه... الحديث(2).
وكان محترماً بين الأصحاب، مقدماً عندهم.
فعندما أكمل الإمام الحسين - صلوات الله وسلامه عليه - حواره مع أصحابه، قام زهير بن القين البجلي، فقال لأصحابه: تتكلمون أم أتكلم؟. قالوا: لا بل تكلم، فحمد الله، وأثني عليه... الحديث(3).
أما مكانته العظيمة، بين أهل الكوفة - سواءً المخالف أو المؤالف - فقد دل عليها ما ذكر في الإرشاد: برز يسار مولي زياد بن أبي سفيان(4)،
ص: 15
وبرز إليه عبد الله بن عمير(1)، فقال له يسار: من أنت؟ فانتسب له، فقال: لست أعرفك، ليخرج إلی زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر... الحديث(2).
إن لهذا البطل البارز، والشهيد المقدام، مكانة مرموقة علی مر العصور.
لقد أثنی المعصومون - صلوات الله عليهم -، علی أصحاب الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، ومنهم هذا الفارس الهمام.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (كان الحسين عليه السلام مع أمه تحمله، فأخذه النبي 2، وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك.
قالت فاطمة الزهراء عليها السلام: يا أبه، أي شي ء تقول؟ قال: يا بنتاه ذكرت (ما يصيبه) بعدي وبعدك، من الأذي والظلم، والغدر والبغي،
ص: 16
وهو يومئذ في عصبة، كأنهم نجوم السماء، يتهادون إلی القتل، وكأني أنظر إلی معسكرهم، وإلي موضع رحالهم وتربتهم.
قالت: يا أبه، وأني هذا الموضع الذي تصف؟ قال: موضع يقال له كربلاء(1)، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلي الأمة، يخرج عليهم شرار أمتي.
ص: 17
ولو أن أحدهم يشفع له من في السماوات والأرضين، ما شفعوا فيه، و هم المخلدون في النار.
قالت: يا أبه، فيقتل؟.
قال: نعم يا بنتاه، وما قتل قتلته أحد كان قبله، وتبكيه السماوات والأرضون، والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي علی الأرض متنفس، ويأتيه قوم من محبينا، ليس في الأرض أعلم بالله، ولا أقوم بحقنا منهم، وليس علی ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غدا، أعرفهم إذا وردوا علی بسيماهم، وكل أهل دين يطلبون أئمتهم، وهم يطلبونا ولا يطلبون غيرنا، وهم قوام الأرض، وبهم ينزل الغيث.
فقالت فاطمة الزهراء عليها السلام: يا أبه، إنّا لله وبكت...)(1) الحديث.
وعن هرثمة بن سليم(2)، قال: غزونا مع علی عليه السلام صفين، فلما
ص: 18
نزل بكربلاء صلي بنا، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها، ثم قال: (واها لك يا تربة، ليحشرن منك قوم، يدخلون الجنة بغير حساب)(1).
ولما بقي الإمام الحسين - صلوات الله عليه - وحيداً يوم عاشوراء نادی: «يا مسلم بن عقيل(2)، ويا هاني بن عروة(3)، ويا حبيب بن
ص: 19
مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا يزيد بن مظاهر، ويا فلان، ويا فلان، يا أبطال الصفا، ويا فرسان الهيجا، ما لي أناديكم فلا تجيبون، وأدعوكم فلا تسمعون، أنتم نيام، أرجوكم تنتبهون، أم حالت مودتكم عن إمامكم فلا تنصرونه، هذه نساء الرسول، لفقدكم قد علاهن النحول، فقوموا عن نومتكم أيها الكرام، وادفعوا عن حرم الرسول، الطغاة اللئام، ولكن صرعكم - والله - ريب المنون، وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلا لما كنتم عن نصرتي تقصرون، ولا عن دعوتي تحجبون، فها نحن عليكم مفتجعون، وبكم لاحقون، فإنا لله وإنا إليه راجعون» (1).
وعندما خطب زهير بن القين - رضوان الله عليه - بأهل الكوفة، وحثهم علی نصرة الإمام الحسين - صلوات الله عليه - وخذلان طغاة بني أمية، وبالغ في النصيحة، ناداه رجل، فقال له: إن أبا عبد الله يقول لك: «أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه، وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت، لو نفع النصح والإبلاغ»(2).
وقد ورد ذكره، في الزيارة الرجبية، وزيارة الناحية.
ففي الإقبال: خرج من الناحية سنة اثنتين وخمسين ومائتين، علی يد الشيخ محمد بن غالب الأصفهاني، حين وفاة أبي رحمه الله، وكنت
ص: 20
حديث السن، وكتبت أستأذن، في زيارة مولاي أبي عبد الله عليه السلام، و زيارة الشهداء - رضوان الله عليهم - فخرج إلی منه: «بسم الله الرحمن الرحيم، إذا أردت زيارة الشهداء رضوان الله عليهم، فقف عند رجلي الحسين عليه السلام - وهو قبر علی بن الحسين عليهما السلام -، فاستقبل القبلة بوجهك، فإن هناك حومة الشهداء عليهم السلام وأومئ وأشر إلی علی بن الحسين عليهما السلام وقل: السلام عليك يا أول قتيل، من نسل خير سليل، من سلالة إبراهيم الخليل، صلي الله عليك وعلي أبيك، إذ قال فيك:
قتل الله قوما قتلوك يا بني، ما أجرأهم علی الرحمن، وعلي انتهاك حرمة الرسول... السلام علی زهير بن القين البجلي، القائل للحسين عليه السلام - وقد أذن له في الانصراف --: لا والله لا يكون ذلك أبدا، أترك ابن رسول الله أسيرا في يد الأعداء وأنجو، لا أراني الله ذلك اليوم،... » (1) الحديث.
وفي زيارة الإمام الحسين عليه السلام الرجبية: «... السلام علی زهير بن القين... » (2) الحديث.
ص: 21
أما من كتب في الرجال من المحققين وأصحاب 6الأقلام الصادقة والأذواق الرفيعة، فمنهم من وصفه مع الأصحاب بالأبطال والفرسان الشجعان، والمضحين بأنفسهم من أجل رفع راية الإسلام ونصرة إمام الحق والذود عنه وعن أهله. فنذكر بعض الأقلام التي وشّحت كتبها ثناءً ومدحاً لهذا البطل الشريف.
عن جبلة المكية، قالت: سمعت ميثماً التمار(1) - قدس الله روحه - يقول: والله لتقتلن هذه الأمة ابن نبيها، في المحرم لعشر مضين منه... قال ميثم: يا جبلة، اعلمي أن الحسين بن علی عليهما السلام سيد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه علی سائر الشهداء درجة(2).
ص: 22
قال ابن داوود: زهير بن القين، قتل بكربلاء، عظيم الشأن(1).
وقال السماوي: كان زهير رجلاً شريفاً في قومه، نازلاً فيهم بالكوفة، شجاعاً، له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن مشهودة(2).
وقال عبد المجيد الشيرازي: تقدم زهير فجعل يقاتل قتالاً شديداً لم يُرَ مثله قط, ولم يسمع بشبهه(3).
وقال محمد مهدي شمس الدين: شخصية بارزة في المجتمع الكوفي(4).
وقال باقر شريف القرشي: لقد كان زهير يحمل في قلبه إيمانا وثباتاً, ووعيا مشرقا, فالتحق بموكب العترة الطاهرة, وصار من أَصلب المدافعين عنها, ومن أَلمع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام, ففداه بروحه واستشهد في سبيل قضيته العادلة التي تحمل هدي الإسلام ودوافع الإيمان(5).
قال جواد محدثي: من وجهاء الكوفة، وكان له يوم عاشوراء شرف القتال إلی جانب الحسين بن علي عليه السلام، وقد أبدی شجاعة منقطعة
ص: 23
النظير في سوح الوغي(1).
وقال الآصفي: كان زهير بن القين متحرراً من أَسر المال والعيال, فلم يعيقاه عن الحركة مع الحسين عليه السلام للوفود علی الله(2).
وقال أبو مصعب البصري: وأخلص(زهير) في الدفاع عن سبيل الله حتی مضي شهيداً, شاهداً علی المنحرفين القتلة(3).
وقال حسن طراد: أحد الأبطال المتخرجين من معهد كربلاء ومدرسة عاشوراء، وهو زهير بن القين... قلب عامر بالإيمان، ونفس مطمئنة لمصيرها، وروح طاهرة مشتاقة إلی لقاء ربها، فهو مضافاً إلی بلاغته الرائعة - حيث أفاد مطالب سامية ذات مرامٍ بعيدة - فقد عبّر عن قوة ولائه للإمام وعمق وعيه للموالاة(4).
قال الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن الحارث بن عبد المطلب(5) - من قصيدة طويلة - يرثي زيدا، ويرثي الإمام الحسين صلوات
ص: 24
الله عليه، وأصحابه في الطف:
كلما حدثوا بأرض نقيقا *** ضمنونا السجون أو سيرونا
أشخصونا إلی المدينة أسري *** لا كفاهم ربي الذي يحذرونا
خلفوا أحمد المطهر فينا *** بالذي لا يحب، واستضعفونا
ثم ردوا أبا عميرٍ وردوا *** لي رشيدا(1) وميثما(2) والذينا:
قتلوا بالطفوف يوم حسين *** من بني هاشم، وردوا حسينا
ص: 25
أين عمرو(1)؟ وأين بشر(2)؟ وقتلی *** معهم بالعراء ما يدفنونا
أرجعوا عامرا(3) وردوا زهيرا(4) *** ثم عثمان(5)، فارجعوا عازمينا
ص: 26
وارجعوا الحر(1) وابن قين وقوما *** قتلوا حين جاوزوا صفينا
وارجعوا هانئا و ردوا إلينا *** مسلما والرواع في آخرينا
ثم ردوا زيدا(2) إلينا وردوا *** كل من قد قتلتم أجمعينا
لن تردوهم إلينا ولسنا *** منكم غير ذلكم قابلينا(3)
ص: 27
وفي مثير الأحزان: قال عبيد الله بن عمرو البذائي، ينعي بعض أصحاب الإمام الحسين صلوات الله عليه:
سعيد بن عبد الله(1) لا تنسينه *** ولا الحر إذ آسي زهيراً علی قسر
فلو وقفت صم الجبال مكانهم *** لمارت علی سهل ودكت علی وعر
فمن قائم يستعرض النبل وجهه *** ومن مقدم يلقي الأسنة بالصدر(2) 0
وفي كتاب (ليلة عاشوراء في الحديث والأدب): قال الشيخ نزار سنبل، عن لسان زهير:
قد وددت الممات ألفاً وكانت *** لغة القتل للحسين وقاءا
إنَّ روحي علی يدي وأمشي؟ *** حاش لله أن أروم بقاءا
إنها النعمة الكبيرة تنصب *** لألقي لها الفؤاد إناءا
فرحة النفس أن تروح فداءاً *** لحسين فترتدي الأضواءا(3)
ص: 28
وقال الشيخ هادي آل كاشف الغطاء، في مقبولته الحسينية:
وقام بعد مسلم زهير *** وكلهم يؤمل فيه الخير
قال وددت لو قتلت ألفا *** ويدفع الله بذاك الحتفا
عنك وعن فتيانك الأبرار *** ذوي الإبا والعز والفخار(1)
وقال السيد محسن الأمين العاملي:
يتسابقون إلی المنون كأنها *** رأي العيان الغادة الرعبوب
ولهم شجاعة ضيغم ذي لبدة *** ضار وعود في الحروب صليب
منهم زهير زاهر الأفعال يت- *** -لوه برير(2) ومسلم وحبيب (3)
ص: 29
إن شخصية الإنسان الرسالي، تعتمد علی عدة عوامل مهمة، منها:
العوامل الوراثية السليمة، والتغذية الصحية والروحية، والتربية الأخلاقية الدينية الحكيمة، وعوامل أخري تدخل في بناء شخصية المؤمن المتألقة.
فهذه العوامل، تسهم إسهاماً فاعلا، في صناعة الشخصية الرسالية العظيمة.
لذا تري أن معارك الشرف والمبادئ التي يخوضها الرساليون، يبقي أثرها الكبير والفعال والمستمر، علی مدي الدهر.
فهم يضحون بنعيم الدنيا الزائل، في سبيل نصرة الحق، والوصول إلی النعيم الدائم، من خلال الصبر والتصبر، وتحمل المشاق والمآسي، والظلامات والقهر، والتقتيل والتهجير.
لقد كان زهير معروفاً في قومه، وبين أهل الكوفة من المسلمين وغيرهم، بالأخلاق الحسنة والشجاعة العظيمة، والفصاحة والمنطق والحوار.
ص: 30
فقد وقف هذا العاشق علی ساحل بحر جود مولاه، مستذكراً، فانجلت أمامه صور أنوار الكون، وسجايا البطولة، والكرم والإيثار، والشهامة العلوية.
وقف يتأمل في صور الماضي وحاضره، وما سيؤول إليه الحال.
إن الهداية واتباع الحق، ونصرة المظلوم، ولو كان علی حساب المال، والأهل والمكانة المرموقة،لا تأتي من فراغ، بل تأتي لصاحب الفطرة الصافية والروح الشفافة، ومَن ولد مِن رحم طاهر وصلب مطهر.
فكان زهير صاحب بصيرة ودراية، فيما سيؤول إليه. وقد وقف في لحظة سماعه كلام الإمام عليه السلام، يستذكر الكلمات والرسائل، في إرشيف ذاكرته، من أقوال وأحاديث في حق أهل البيت - صلوات الله عليهم -، من حديث سلمان المحمدي(1) - رضوان الله تعالي عليه -، في الواقعة
ص: 31
المعروفة، وغيره من الأحاديث النيرة.
ان الفطرة، التي كان يمتلكها، والعزم علی نصرة الإمام عليه السلام، - الخليفة الحقيقي والشرعي -، وترك كل ما يملك من جاه، ونفوذ، وثروة، خلّدت هذا القمر المضيء، والسيف الصارم.
لقد نظر إلی الأفق البعيد، فرأي أن سيوف هؤلاء الأحرار، ستقض مضاجع الظالمين، أنّي ومتي كانوا.
ووجدهم دروعاً، تحتمي بهم الأجيال، في الشدائد والملمات، ومناراً يضيء درب المهتدين، وطالبي الحق.
ص: 32
لابد في البدء - لكي نكون منصفين ونحن بصدد رد هذه الفرية - أن نعرف تاريخ العثمانية، لكي يتضح معني أن يكون الشخص عثمانياً. فعندما وصلت فترة حكم عثمان(1) إلی ما وصلت إليه، من تسليط بني أمية علی رقاب المسلمين ومقدراتهم واستفحال الظلم والاضطهاد، انتفظ المسلمون علی عثمان فقتلوه، فآلت الخلافة الظاهرية إلی أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - فاشمأزت نفوس قوم كعائشة(2) وطلحة(3)
ص: 33
ومروان (1) وغيرهم، حسداً وبغضاً لأمير المؤمنين - صلوات الله عليه -، فلم يجدوا ذريعة لتأليب الناس عليه غير أن يطالبوه بدم عثمان، وهم يعلمون قبل غيرهم أنه بريء من ذلك، وأنهم هم من قتلوا عثمان(2)، فكانوا السبب الذي أدي إلی اندلاع حرب الجمل(3) والإرهاصات التي حدثت بعدها.
ص: 35
فالعثمانية - إذاً - بدأت بعد مقتل عثمان، ومضمونها القول بأفضلية عثمان علی أمير المؤمنين - صلوات الله عليه -، وتحميله مسؤولية دم عثمان، وإعلان الحرب عليه، وهذا هو بالضبط ما يراد عندما يقال للشخص (عثماني).
أما ما نحن بصدده من أن زهيراً كان عثمانياً، فالظاهر أن أقدم مصدر تاريخي ذكر ذلك، هو تاريخ الطبري (224ه- - 310ه-)، وأنساب الأشراف، للبلاذري المتوفي سنة 279ه-.
فقد روی الطبري حوار زهير وحبيب مع جيش ابن سعد(1)، وكان من ضمن هذا الحوار: (قال عزرة: يازهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنما كنت عثمانياً! .
ص: 36
قال زهير: أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم؟ أما والله ما كتبت إليه كتاباً قط، ولا أرسلت إليه رسولاً قط، ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه...)(1).
وروي البلاذري قائلاً:
(قالوا: وكان زهير بن القين البجلي بمكة(2)، وكان عثمانياً، فانصرف من مكة متعجلاً، فضمه الطريق وحسيناً، فكان يسايره ولا ينازله، ينزل الحسين في ناحية وزهير في ناحية، فأرسل الحسين إليه في إتيانه، فأمرته امرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبي!...)(3).
ص: 37
وروي الدينوري المتوفي سنة 282ه-، أن زهيراً أبي أن يذهب إلی لقاء الإمام الحسين - صلوات الله عليه - حين استدعاه في زرود(1):
(فأبی أن يلقاه)(2).
وروي الطبري أيضاً كراهية زهير النزول مع الإمام الحسين - صلوات الله عليه - في نفس منازله في الطريق، عن أبي مخنف عن السدي عن رجل من بني فزارة:
(كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين! فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل...)(3).
فهذا كل ما رواه الطبري والبلاذري في عثمانيته، وفي كراهيته لقاء الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، والنزول معه فضلاً عن الدينوري.
ص: 38
وهذا عندنا مردود، وذلك للأسباب الآتية:
1- في رواية الطبري الأولي، كان جواب زهير لعزرة:أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم؟ وهو يدل علی أنه من أهل هذا البيت الطاهر قلباً وقالباً، بل يدل جوابه أيضاً علی نفي ضمني لعثمانيته مطلقاً في الماضي والحاضر، ثم أن سكوت عزرة عن الجواب دليل علی تراجعه عن هذه التهمة.
أما عبارة زهير: أما والله ما كتبت إليه كتاباً قط... الخ، فأراد بها التعريض بعزرة، لأنه ممن كتب للإمام الحسين - صلوات الله عليه - بالقدوم ووعده بالنصرة، ثم غدر وجاء مع جيش بني أمية لقتال الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، فكلام زهير كان من باب (إياك أعني واسمعي ياجارة)(1)(2).
2 - أما رواية البلاذري فلا يعتمد عليها، لأنه أسندها ب-(قالوا)، فهي ساقطة في قانون الرواة، فضلاً عن أن مضمونها متناقض، وذلك لأنه ذكر عن زهير مسايرته - وسيأتي الكلام عن
ص: 39
ذلك - للإمام الحسين - صلوات الله عليه - وعدم نزوله معه، لكراهته ذلك، وأنه أبي ملاقاة الإمام، ويذكر أيضاً أنه خرج من مكة متعجلاً، فكيف كان زهير لا يحب النزول مع الإمام، وكارهاً للقائه ثم يخرج من مكة متعجلاً!؟ وهو يعلم أن الإمام الحسين - صلوات الله عليه - أمامه في الطريق، وأنه إن تعجل في المسير فسيلتقي بالإمام عاجلاً أو آجلاً، إلاّ أن نقول أنه كان يتعمد اللحاق بالإمام، ليلتحق بركبه المقدس، وهو ما نرجحه، وأن الرواية قد دُسَّ فيها لتشويه صورة زهير الناصعة.
3 - أما رواية الطبري الثانية، فضعيفة السند، لمجهولية الفزاري، فضلاً عن عدم استقامة متنها مع الحقيقة التاريخية والجغرافية.فلو كان زهير قد خرج من مكة بعد انتهاء الحج مباشرةً - أي في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة - فسيكون الفارق الزمني بينه وبين الإمام الحسين - صلوات الله عليه - خمسة أيام علی الأقل، فكيف يصح ما في متن الرواية: (كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين...)، الدال - حسب الظاهر - أنهم سايروا الإمام من مكة!؟ خصوصاً إذا علمنا أن الإمام كان مجداً ومسرعاً في سيره نحو العراق(1)
ص: 40
كما ذكر المؤرخون(1).
علماً أن الطبري يذكر في تاريخه، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمل الأسديين(2):
ص: 41
(قالا: لما قضينا حجنا، لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق، لننظر ما يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا تُرقل بنا ناقتانا مسرعين، حتی لحقناه بزرود...)(1).
فإذا كانا قد خرجا بعد الحج مسرعين، ولم يلحقا بالإمام إلا في زرود، فكيف ساير زهير الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، وقد خرج بعد الحج!؟ (2).
ومما يجدر الإشارة إليه، أن الطبري - نفسه - ذكر في تاريخه: أن زهير بن القين البجلي، لقي الحسين - وكان حاجاً -،فأقبل معه.
والرواية واضحة وصريحة في عدم كراهة زهير للقاء الإمام الحسين - صلوات الله عليه -.
4 - إن من المؤرخين من روی قصة لقاء الإمام الحسين - صلوات الله عليه - مع زهير دون أن يرد في روايته أي ذكر لعثمانيته، وحث زوجته علی هذا اللقاء، أو امتناع زهير من لقاء الإمام عليه السلام(3).
فقد ذكر المؤرخ ابن أعثم الكوفي (توفي سنة 314ه-) - المعاصر لكل من الطبري والبلاذري والدينوري - قصة هذا اللقاء، قائلاً: (ثم
ص: 42
مضي الحسين فلقيه زهير بن القين، فدعاه الحسين إلی نصرته، فأجابه لذلك، وحمل إليه فسطاطه، وطلق امرأته، وصرفها إلی أهلها، وقال لأصحابه: إني كنت غزوت بلنجر مع سلمان الفارسي، فلما فتح علينا اشتد سرورنا بالفتح، فقال لنا سلمان: لقد فرحتم بما أفاء الله عليكم؟.
قلنا: نعم.
قال: فإذا أدركتم شباب آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم منكم بما أصبتم اليوم. فأنا استودعكم الله تعالي. ثم ما زال مع الحسين حتی قتل)(1)(2).
بل ان من المؤرخين من ذكر أن زهيراً كان يتسمع أخبار الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، فلما سمع بقيامه تلقاه وكان معه، فقد ذكر البكري الأندلسي (توفي 487ه-):
(قال زهير بن القين البجلي: غزوت بلنجر وشهدت فتحها، فسمعت سلمان الفارسي - رضي الله عنه - يقول: أفرحتم بفتح الله لكم؟ فإذا أدركتم شباب آل محمد، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم.
ص: 43
فلما سمع زهير بخروج الحسين بن علي تلقاه، فكان في جملته، وقتل معه بكربلاء)(1).
إذن أيصح أن نقول: إنّ زهيراً كان عثمانياً!؟.
5 - إن التأمل في أقوال زهير بن القين وزوجته، يكشف عن أنهما كانا يعرفان حق أهل البيت - صلوات الله عليهم - ويودانهم، فقول زهير لزوجته:
(وقد عزمت علی صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي)(2).
وقولها له: (كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين عليه السلام)(3).
أو قوله لها: (فإني قد وطنت نفسي علی الموت مع الحسينعليه السلام)(4)، وقوله لأصحابه: (من أحب منكم الشهادة فليقم)(5)، وإخباره إياهم بحديث سلمان الفارسي: (إذا أدركتم شباب آل محمد
ص: 44
فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم...)(1)، وقوله لأصحابه: (من أحب منكم أن يتبعني وإلا فهو آخر العهد)(2).
فمما تقدم نعلم أن زهيراً وزوجته - رضوان الله عليهما -، كانا يعلمان بشهادة الإمام الحسين - صلوات الله عليه - وبكل من معه، وقبل أن يأتي خبر مقتل مسلم وهاني - رضوان الله عليهما -، وقبل أن تلوح في الأفق مظاهر الخذلان، وهذه المعرفة لم تكن بنت وقتها، إنما كانت سابقة علی ذلك، وهي تدل علی عميق معرفتهما بأهل البيت - صلوات الله عليهم - وأخبارهم، وتدل كذلك أنهما كانا ينتظران قيام الإمام الحسين - صلوات الله عليه -(3).
6 - روی المؤرخ الفاضل الدربندي - قدس سره - إحدي وقائع يوم عاشوراء، التي تدل علی عظيم منزلة زهير عند أهل البيت - صلوات الله عليهم - وقربه منهم، واطلاعه منذ سنين علی أخبارهم الخاصة، التي لا يطلع عليها إلاّ خواصّهم، وإليك الرواية: (قيل: أتي زهير إلی عبد الله بن جعفر بن عقيل(4) قبل أن يقتل فقال له: يا أخي
ص: 45
ناولني الراية! فقال له عبد الله: أو فيّ قصور عن حملها؟ قال: لا، ولكن لي بها حاجة، قال: فدفعها إليه، وأخذها زهير وأتي فجأة العباس بن علی عليهما السلام ، وقال: يا ابن أمير المؤمنين، أريد أن أحدثك بحديث وعيته، فقال: حدّث، فقد حلا وقت الحديث، حدث ولا حرج عليك، فإنما تروي لنا متواتر الإسناد. فقال له: إعلم يا أبا الفضل، أن أباك أمير المؤمنين عليه السلام، لما أراد أن يتزوج بأمك أم البنين(1)، بعث إلی
ص: 46
أخيه عقيل(1) - فكان عارفاً بأنساب العرب - فقال له: يا أخي، أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة، لكي أصيب منها ولدا يكون شجاعاً وعضداً، ينصر ولدي هذا - وأشار إلی الحسين عليه السلام - ليواسيه في طف كربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن أخوانك(2).
7 - لم يذكر التاريخ أن له موقفاً - ولو واحداً - معادياً لأهل البيت - صلوات الله عليهم -، أو موقفاً مؤيداً لعثمان، لكي نستدل به علی عثمانيته المزعومة.
8 - قول الإمام الحسين - صلوات الله عليه -: «...إني لا أعلم أصحاباً أوفي ولا خيراً من أصحابي... » (3) وهذا قول عام وشامل لكل
ص: 47
الأصحاب، وهو دليل علی نظافة تاريخه ونصاعته، فقد جعله الإمام الحسين - صلوات الله عليه - بمصاف حبيب وأضرابه من الأصحاب، ومعلومٌ من هو حبيب.
9 - عندما يسلم الإمام المهدي - عجل الله فرجه الشريف -، علی الأصحاب بأسمائهم في زيارة الناحية المقدسة، خص بعضهم بذكر مواقفهم أيضاً، ومن ضمنهم زهير، وهذا دليل علی علو شأنه، الذي لم يأتِ من فراغ.
10 - من ينصت إلی أراجيز زهير عندما برز للقتال - وستأتي لاحقا -، سيعلم يقينا لا مجال للشك فيه، أن زهيراً يعتقد بفضل أهل البيت - صلوات الله عليهم - منذ زمن بعيد، وأنّ النَفَسَ العلوي يطفح من أراجيزه، وأن هذه المعرفة لم تكن وليدة الساعة.
11 - نحن نعلم أن التاريخ كُتب بيد أعداء أهل البيت - صلوات الله عليهم -، ومَنْ ثَمّ فإنّ أهل هذا البيت الطاهر - علی جلالتهم وعظمتهم - لم يسلموا من طعنهم، فمن المحال أن ينصفوا أحداً يُشم منه رائحة التشيع، فما بالك بزهير، فنحن لا نتوقع منهم أن يمدحوا زهيراً، وإن مدحوه فلابد أن يدسوا السم بالعسل! وادعاء عثمانية زهير هو من هذا السم.
ص: 48
لاشك ولا ريب في علاقة زهير - رضوان الله عليه -، بالإمام الحسين - صلوات الله عليه -، فعندما سمع بتوجه الإمام إلی العراق، أكمل حجه وخرج من مكة متعجلا، وانضم للإمام الحسين - صلوات الله عليه -، مع رحله.
فيالها من رفقة عظيمة! يتمناها كل عظيم وصاحب مبادئ عالية، بقي اسمه - علی أثرها - علی شفاه الأحرار والثوار، وأنشودة الأجيال، في رفع الهمم وإيقاظ الضمائر، وأما في الآخرة، فلا يوازيهم أحد، من أصحاب الأنبياء والأولياء والصالحين.
وقد ذكره الطوسي، في أصحاب أبي عبد الله الحسين بن علی عليهما السلام (1).
إن لهذا الفدائي الشجاع، والبطل المقدام، لغة واضحة، وسليقة وفصاحة في الكلام، وبلاغة وقدرة علی تمثيل المواقف، بعبارات قصيرة، ذات معني كبير.
ص: 49
وبما أنه كان وجيهاً في قومه، فمن المنطقي أن يكون له أسلوب جذاب ومقنع، في جذب مسامع الآخرين، والتأثير بأفكارهم، وتهيئة مسامعهم له.
كان يری في الإمام الحسين صلوات الله عليه، شخص رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، والمبادئ التي جاء من أجلها، لإحياء كلمة التوحيد، وتخليص البشر من ذل العبودية، والانغماس في الرذائل، وهتك الحرمات، وسفك الدماء.
لقد جنَّد نفسه ووطّنها، من أجل إحياء شعائر الإسلام، التي أصبحت علی شفا هاوية الضياع، والتحريف والتزوير والتغيير.
وللأسف الشديد، إننا لم نجد له - خلال بحثنا في كتب السير والتاريخ - أي حوارات، أو أقوال قبل واقعة الطف(1).
وأعتقد أن تلف الكتب، التي تتحدث بصورة أعمق، في تاريخ
ص: 50
المعارك والشخصيات، عن كثب، وسرقتها فضلاً عن التزوير والتحريف، كان لها الأثر الكبير في هذا الفراغ.
لذا اعتمدنا علی محاوراته وأقواله، وخطبه وأراجيزه، في واقعة الطف الخالدة والمباركة.
ونحن نذكر هذه الكلمات الصادرة منه، مع شيء من التعمق، وتسليط الضوء عليها كذكري، ونبراسٍ للأجيال.
فعندما التحق بركب الإمام الحسين عليه السلام، خاطب أهله وأصحابه مستبشراً فرحاً -- كما ورد في الإرشاد -: من أحب منكم أن يتبعني، وإلا فهو آخر العهد، إني سأحدثكم حديثاً، إنا غزونا البحر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي رضي الله عنه: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم شباب آل محمد، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم مما أصبتم اليوم من الغنائم. فأما أنا فأستودعكم الله(1).
فنستخلص من خطابه هذا أموراً، منها:
أنه كان ينتظر الالتحاق بهذه الأنوار القدسية، والتي قد بشر بها الرسول صلي الله عليه و آله و سلم والإمام علی - صلوات الله عليه -، وبعض أصحابهما،
ص: 51
كسلمان الفارسي - رضوان الله تعالي عليه - وغيره، وبعد ذهابهما - صلوات الله عليهما -، والثلة المؤمنة، وتظاهر الزمان، بالفتن، والظلم، والحيف، علی آل محمد - صلوات الله عليهم -، وبالرغم من كبر سنه إلا انه لم يفقد الأمل في الشهادة مع هذه العصبة، المؤمنة الوفية، والمضحية بكل شيء.
وهكذا يكون موقف النفوس المؤمنة، التي ترسّخ الإيمان في أعماق قلوبها، وكُشِفَتْ الحجب عنها.
وعندما نتمعن في كلامٍ آخر له، ولكن هذه المرة مع الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، نری انه مُلِئ من قرنه إلی قدمه، إيماناً، وعشقاً، وهواناً، في جنب الله، وحمل روحاً هائمة، في سبحات رحمة الله، وجلاله وكماله.
وبما أنه يعلم علم اليقين بأن الحياة زائلة، والفناء هو مصيرها، والموت أمر محتوم، إلاّ انه افترض - جدلاً-، بأن الحياة لو دامت مع الظالمين والطغاة، ولن يناله مكروه، وعاش خالداً، في مقابل الشهادة مع الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، فإن نصرة إمامه، والشهادة بين يديه، هي أولي - عنده - من الخلود مع هؤلاء البغاة الأوباش.
فكان بطلنا زهير - رضوان الله عليه - في أعلي درجات اليقين، والإخلاص والوفاء، والإيمان المطلق بما رسمه له حبيبه، ومخلّصه من
ص: 52
رجس العتاة المردة، أولاد البغاة، الهاتكين لجهة الإسلام العظيم، وستره.
فكأن أنفاسه تصعد وتنزل، من خلال أنفاس أبي الأحرار، الإمام الحسين - صلوات الله عليه -.
فصارت الدنيا عنده، أهون من جناح بعوضة، والشهادة أحلي من العسل، في سبيل ولي الله وصفيه، وحجته علی أرضه وسمائه، ومخلّصه من أدران الدنيا الدنية.
ففي اللهوف: بعدما خطب الإمام الحسين - صلوات الله عليه - في (ذي حسم)(1) بأصحابه، فقام زهير بن القين وقال: قد سمعنا هداك الله يا بن رسول الله مقالتك، والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين، لآثرنا النهوض معك، علی الإقامة(2).
وفي أثناء المسير، قام الحر وجيشه، بمضايقة الإمام عليه السلام وأهله وصحبه، فقال له زهير بن القين: يا بن رسول الله، إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من تري، ما لا قبل لنا به.
ص: 53
فقال له الإمام الحسين - صلوات الله عليه -: «ما كنت لأبدأهم بالقتال».
فقال له زهير بن القين: سِرْ بنا إلی هذه القرية، حتی ننزلها، فإنها حصينة، وهي علی شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا، من قتال من يجيء من بعدهم....)(1)(2) الحديث.
كان تواقاً لقتال الظالمين والمنحرفين، وبالوسائل كافة والتي تضمن سلامة الإمام، وحفظه من شر السلطة الغاشمة.
فقد كان متحمساً، بطلاً، مقداماً، وعسكرياً من الطراز الأول، خبيراً بساحات الوغي. كان كالبركان المتفجر، تتطاير منه الحمم، لتحرق جحور الضلالة، والعهر، والفجور.
فأخبره الإمام - صلوات الله عليه - بأمرٍ هام وهو، أنه لن يبدأهم بالقتال، بل سينصحهم، ويستخدم كل الوسائل، والطرق السلمية، لهدايتهم، لأن الإمام دال علی الخير، ورحمة للعالمين، كجده المصطفيصلي الله عليه و آله و سلم، وصاحب حركة إصلاحية، فلما استنفد جميع الوسائل السلمية، اضطروه للقتال، الذي بدأوه.
ص: 54
وفي حوار آخر أخبره الإمام الحسين - صلوات الله عليه - بمقتله، وقطع رأسه الشريف، وأنه سيطاف به في البلدان، حتی يصل إلی يزيد(1) الخمّار، السكّير - لعنة الله عليه -، وأخبره باسم حامل الرأس الشريف.
فأصبح مستودع سر الإمام، وخازن علمه - كما حصل مع بعض الأصحاب،كحبيب ونافع(2) -، فليس هيناً ذلك السر، وهو سفك الدم الطاهر، لإمام الخلق، وسبط النبي صلي الله عليه و آله و سلم، وسيد شباب أهل الجنة.
ص: 55
ففي دلائل الإمامة: حدثنا إبراهيم بن سعد، وكان مع زهير بن القين، حين صحب الحسين - صلوات الله عليه -، كما أخبر، قال: قال الحسين - صلوات الله عليه - له: «يا زهير، اعلم أن هاهنا مشهدي، ويحمل هذا - وأشار إلی رأسه - من جسدي، زحر بن قيس(1)، فيدخل به علی يزيد، يرجو نواله فلا يعطيه شيئاً» (2).
أما في ليلة العاشر، عندما جمع الإمام الحسين - صلوات الله عليه - أصحابه، وأذن لهم بالانصراف، حيث أوضح لهم، أن السلطة الظالمة تطلبه وحده، وإن ظفروا به، ذهلوا عمن سواه.
فأجاب الأصحاب - ومن ضمنهم هذا الحسام البجلي - بكلام مدوي - ما زال صداه إلی يومنا - شق سبات الليل، وأماط اللثام عن جوهرهم، فسطّر هذا الجندي، الذائب في عشق سيده ومولاه، أروع صور الفداء، دفاعاً عن الإمام الحسين - صلوات الله عليه -.
ص: 56
ففي الإرشاد: وقام زهير بن القين البجلي -- رحمة الله عليه - فقال: والله لوددت أني قتلت، ثم نشرت، ثم قتلت، حتی أُقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالي يدفع بذلك، القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان، من أهل بيتك(1).
فكشف الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، عن أبصار أنصاره - ومن ضمنهم زهير- فرأوا منازلهم، ودرجاتهم في الجنة(2).
فلم يشعروا بألم السيوف والحديد(3)، لعشقهم وتجردهم، ووصولهم إلی حالة التسامي. فلما استشهدوا كان في استقبالهم، رسل الله وأنبياؤه، وأوصياؤهم، يتقدمهم خاتمهم وسيدهم، نبي الرحمة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ووصيه، وصاحب حوضه، وشفيع الناس يوم المحشر، أمير المؤمنين صلوات الله عليه، والشهداء والصالحون(4).
لقد أعاد هؤلاء الأفذاذ الروح لدين الله، وصححوا مساره، وقطعوا كل يد، عبثت وحرّفت، هذا الدين العظيم.
ص: 57
ثم نتدرج في أقواله، ونمرّ علی أعظم حواراته وخطبه.
فهي أكثر دلالة علی ولائه العلوي، وتعمقاً في عشقه لآل بيت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
فهي تُظهر لنا معرفته وتمسكه بآل محمد صلي الله عليه و آله و سلم.
فيري في الإمام الحسين عليه السلام الامتداد الحقيقي للرسول الأعظمصلي الله عليه و آله و سلم.
وبيّن في خطبته، الضلال والانحراف الكبيرين في الأمة، وكيف حُرّفت القوانين، وهتكت الستور، وكيف أصبح الحق طريد الباطل.
وحاول إرشاد معسكر الضلال، إلی طريق الحق، ورفع الغشاوة عن أبصارهم، فذكّرهم بأن - الإمام الحسين صلوات الله عليه - الذي عزمتم علی قتله، هو ابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، وهو أحق بأن تنصروه، وتطيعوه.
فقد كان زهير - رضوان الله تعالي عليه - عارفاً بفاطمة الزهراء - صلوات الله عليها -، ومكانتها عند الله عزوجل، وعند النبي وأهل البيت - صلوات الله عليهم -، مجسداً لهذه المعرفة علی أرض الواقع.
أما ابن زياد فهو ابن مرجانة(1)، وهي من يعرف المسلمون،
ص: 58
تاريخها الأسود، ووضاعتها.
لقد بيّن بالأدلة والبراهين، ماذا فعل معاوية، ومن بعده يزيد بالإسلام والمسلمين، وكيف أن عمّالهم في البلدان - كزياد(1) وولده عبيد
ص: 59
الله - سلبوا الحريات وهتكوا الحرمات، ونشروا الرعب، وقتلوا الناس، خصوصاً شيعة أهل البيت - صلوات الله عليهم -، وكيف صلبوهم علی جذوع النخل، ومثلّوا بهم كل تمثيل.
لقد فعل يزيد كل ما هو محرم وقبيح، مما يترفع عنه الوضيع قبل الشريف.
ثم بيّن زهير - رضوان الله تعالي عليه -، أن خذلان الحق، ونصرة الباطل، سيصب البلاء عليهم صباً.
هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فهو الخزي والعار والخسران، والخلود في نار جهنم، وبئس المصير.
فعندما أراد زهير بن القين - رضوان الله عليه -، مخاطبة جيش يزيد بن معاوية - لعنهما الله -، وإقامة الحجة عليهم، ليرعووا عن غيهم.
خرج علی فرس له فنادي: يا أهل الكوفة، نذارِ لكم من عذاب الله! نذار عباد الله! ولد فاطمة أحق بالود، والنصر، من ولد سمية(1)، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم.
أيها الناس، انه ما أصبح علی ظهر الأرض، ابن بنت نبي إلا الحسين، فلا يعين أحد علی قتله - ولو بكلمة - إلا نغصه الله الدنيا،
ص: 60
وعذابه أشد عذاب الآخرة(1).
وفي تاريخ الطبري: قال أبو مخنف: فحدثني علی بن حنظلة بن أسعد الشامي، عن رجل من قومه - شهد مقتل الحسين حين قتل - يقال له كثير بن عبد الله الشعبي(2)، قال: لما زحفنا قبل الحسين، خرج إلينا زهير بن القين، علی فرس - له - ذنوب، شاك في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقاً علی المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتی الآن إخوة، وعلي دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف، انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم، بذرية نبيه محمد صلي الله عليه و آله و سلم، لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلی نصرهم، وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما، إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم، وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم علی جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم
ص: 61
وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه(1)، وهانئ بن عروة وأشباهه.
قال: فسبوه، وأثنوا علی عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح، حتی نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه، إلی الأمير عبيد الله سلماً.
فقال لهم: عباد الله، إن ولد فاطمة رضوان الله عليها، أحق بالود والنصر، من ابن سمية، فإن لم تنصروهم، فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلوا بين هذا الرجل، وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري ان يزيد ليرضي من طاعتكم، بدون قتل الحسين. قال: فرماه شمر بن ذي
ص: 62
الجوشن(1) بسهم، وقال: أُسكت أَسكَت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال له زهير: يا ابن البوال علی عقبيه، ما إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة، والعذاب الأليم.
فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.
قال: أفبالموت تخوفني؟! فوالله للموت معه، أحب إلی من الخلد معكم.
قال: ثم أقبل علی الناس، رافعاً صوته، فقال: عباد الله لا يغرنكم من دينكم، هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمد صلي الله عليه و آله و سلم قوما، أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم، وذب عن حريمهم(2).
ص: 63
الشهادة هي: أن يُقتل المؤمن مُحقاً، وفي سبيل مبدأ سامٍ، كأن يدافع عن دينه، أو أرضه، أو أهله، أو عِرضه، وقد أطلقت الشريعة الإسلامية درجة الشهادة علی موارد عديدة أخري، كموت المرأة عند الولادة، أو موت الإنسان ببعض الأمراض المعينة، وغيرها كثير، إلاّ أن أصدق مصداق للشهادة، هو أن يُقتل الإنسان تحت راية المعصوم - صلوات الله عليه -، ودفاعاً عنه، فهو السبيل الواضح إلی الله عز وجل، فهذه الشهادة هي أعلي مراتب البر، وقد حازها زهير بن القين - رضي الله عنه -.
إن الدراسة والتحليل العميقين، لمحاورات زهير مع الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، أو مع الأصحاب، أو في أثناء المبارزة، وعند التحام الأسنّة, إنما تنم، عن شخص قد ذاب في حُب إمامهِ، وأصبح لا يری السعادة العظمي إلاّ في الموت دونه.
فقد قاتل تحت راية الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، مدافعاً عنه، بكل ما أُوتي من قوة، فهو الوصي الشرعي، والإمام والخليفة المنصوص عليه من الله عز وجل،وعلي لسان النبي صلي الله عليه و آله و سلم، وأمير المؤمنين، والإمام الحسن - صلوات الله عليهما - من بعدهم، ولمّا كان زهير عارفاً، بهذه المنزلة، لإمام زمانه، بذل نفسه ودمه في سبيله، وحاز السعادة الأبدية.
ص: 64
لقد كان فدائياً واستشهادياً,وواحداً من هذه الصفوة، من أنصار أبي عبد الله الحسين - صلوات الله عليه -، الذين لم ولن تمرّ مواقفهم سريعة علی البشرية، بل سيبقي صداها أمد الدهر، يصُكُّ أسماع الظالمين، ويستنهض همم المظلومين والأحرار.
فوصلت درجة الإيمان، عند زهير إلی مرحلة اليقين المطلق بالإمام الحسين - صلوات الله عليه -، فراح يقاتل ويضرب، باستبسال عظيم في جموع الأعداء, ويزداد إقداماً وقوة، ولم يكن في قتاله، من طلاّب النصر علی الأعداء, فما أبعد النصر، عن قومٍ يقاتلون في قلّة العدد، وخذلان الناصر! إنما كان مدافعاً عن إمام زمانه، متعجلاً بالجنة، والفوز بالخلد، والسعادة الأبدية, فهو المنتهي والمصير.
لقد وقف في صبيحة ذلك اليوم، علی تلال الطف, فألقي علی الأملاك والأفلاك والأرض والسماء, دروساً مع الأصحاب، أذهلت أُولي العقول والألباب.
لقد خاض الحرب، كأنه شعلة، بل نور التمع في سماء الطف، وغدا يسجل في آفاق الكون سطور الخلود، لأنه بذل نفسه في سبيل المبدأ، ومن أجل الكرامة.
وقد ذكر أهل السير والمقاتل، أنه ارتعدت فرائص القوم، عندما برز زهير للقتال، وارتعبت قلوبهم، لشجاعته، ولم يُرَ مثله، ولم يُسمع
ص: 65
بشبهه من الأصحاب، وأخذ يحمل علی جموعهم، وقد أكثر من قتلاهم، حتی ضجّوا، وتقهقروا ولاذوا بالفرار أمامه.
فقالوا في استبساله: فقاتل زهير والحر بن يزيد قتالاً شديداً, فكان إذا شدَّ أحدهما، فإن استلحم، شد الآخر حتی يخلّصه، ففعلا ذلك ساعة(1).
أما أراجيزه، فتعبّر عن إيمان مطلق بالإمام الحسين عليه السلام، وأنّه صائر إلی جنة الخلد، مع الأولياء والصابرين، وفي درجة أعلي عليين.
فغاية أمله، أن تدركه الشهادة بين يدي الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، وأن تتقطع أوصاله، فداءً له.
كان زهير وحده جيشاً فدائياً، مستأسداً لنصرة إمامه، استلهم قدرته الجهادية، من عشقه وإخلاصه له.
فكان لأراجيزه، صديً مدوٍّ في الطف، أفصحت عن أهدافه ومطالبه.
وفي الأمالي: برز زهير بن القين البجلي، وهو يقول مخاطباً الحسين عليه السلام:
اليوم نلقي جدك النبيا *** وحسنا والمرتضی عليا
ص: 66
فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، ثم صرع وهو يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين *** أذبكم بالسيف عن حسين(1)
أما ابن شهر آشوب، فقد قال في المناقب: ثم برز زهير بن القين البجلي، وهو يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين *** أذودكم بالسيف عن حسين
إن حسينا أحدُ السبطين *** من عترة البر التقيّ الزين
فقتل مائة وعشرين رجلاً، قتله كثير بن عبد الله الشعبي، ومهاجر ابن أوس(2)(3).
وفي البحار: خرج زهير بن القين - رضي الله عنه -، وهو يرتجز ويقول:
أنا زهير وأنا ابن القين *** أذودكم بالسيف عن حسين
إن حسيناً أحد السبطين *** من عترة البر التقيّ الزين
ذاك رسول الله غير المين *** أضربكم ولا أری من شين
ياليت نفسي قسمت قسمين
ص: 67
وقال محمد بن أبي طالب: فقاتل حتی قتل مائة وعشرين رجلا، فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي، ومهاجر بن أوس التميمي، فقتلاه فقال الحسين عليه السلام - حين صرع زهير -: «لا يبعدك الله يا زهير، ولعن قاتلك، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير» (1).
وفي تاريخ الطبري: قاتل زهير بن القين قتالاً شديداً، وأخذ يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين *** أذودهم بالسيف عن حسين
قال: وأخذ يضرب علی منكب الحسين، ويقول:
أقدم هديت هادياً مهديا *** فاليوم تلقی جدك النبيا
وحسنا والمرتضی عليا *** وذا الجناحين الفتی الكمّيا(2)
ص: 68
وأسد الله الشهيد الحيّا(1)
قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه(2).
وفي ينابيع المودة: فبرز (زهير) وهو يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين *** وفي يميني مرهف الحدين
أذب بالسيف عن الحسين *** ابن علی طاهر الجدين
ثم حمل عليهم، فقتل منهم عشرين فارساً، ثم أقبل إلی الحسينعليه السلام، فصلي بالجماعة، ثم قال: يا قومي هذه الجنة قد فتحت أبوابها، وأبيحت أثمارها، وهذا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم والشهداء، يتوقعون
ص: 69
قدومنا، فحاموا عن دين الله، واحفظوا حرم ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. ثم برز، وهو يقول:
أقدم حسين اليوم تلقي أحمدا *** ثم أباك الطاهر المؤيدا
والحسن المسموم ذاك الأمجدا *** وذا الجناحين حليف الشهدا
وحمزة الليث الهمام الأسعدا *** في جنة الفردوس عاشوا سعدا
ولم يزل يقاتل، حتی قتل من الأعداء نيفاً وخمسين فارساً، ثم قتل(1).
وبعد مقتله - رضي الله عنه - قُطع رأسه، وطيف به مع رؤوس أهل البيت والأصحاب بالبلدان. وعندما أُرجع إلی جسده الشريف، تم دفنه مع الشهداء، عند قدمي الإمام الحسينعليه السلام، مما يلي قبر علی بن الحسين - عليهما السلام -.
فسلام عليه يتري آناء الليل وأطراف النهار، وألفُ تحية إجلال وتقدير، ِلما قدّمه من أجل الإمام الحسين - صلوات الله عليه -، والإسلام والإنسانية، من بطولات وتضحيات. وسيظل زهير - رضوان الله عليه - أنشودة علی ثغر الزمان، ومعصماً يشد أزر الثائرين والأحرار.
ص: 70
1. إبصار العين في أنصار الحسين، محمد السماوي، تحقيق: الشيخ محمد جعفر الطبسي / الأولي، 1419م - نشر مركز الدراسات الإسلامية.
2. الإرشاد، محمد بن محمد بن النعمان (الشيخ المفيد) / الأولي، 1413ه- - نشر المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد - قم.
3. الأعلام، خير الدين الزركلي / الخامسة، 1980م -- نشر دار العلم للملايين -- بيروت.
4. أعيان الشيعة، محسن الأمين، تحقيق وتخريج: حسن الأمين / نشر دار التعارف للمطبوعات -- بيروت.
5. إقبال الأعمال، علی بن موسي بن طاووس الحلي / الثانية، 1367ه-. ش، دار الكتب الإسلامية - طهران.
6. الأمالي، محمد بن علی بن الحسين القمي (الشيخ الصدوق) / الرابعة، 1404ه- - الناشر المكتبة الإسلامية - قم.
7. الأمويون وثورة الإمام الحسين، أبو مصعب البصري، الأولي، 1422ه- - الناشر مؤسسة الفكر الإسلامي - هولندا.
ص: 71
8. الأنباه علی قبائل الرواة، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، تحقيق: إبراهيم الأبياري/ الأولي، 1985م - طبع ونشر دار الكتاب العربي - بيروت.
9. الأنساب، عبد الكريم السمعاني، تقديم وتعليق: عبد الله عمر البارودي/ الأولي، 1988م - دار الجنان للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت.
10. أنصار الحسين عليه السلام، محمد مهدي شمس الدين/الثانية، 1401ه- - الدار الإسلامية.
11. بحار الأنوار، محمد باقر بن محمد تقي المجلسي / الرابعة، 1404ه- - الناشر مؤسسة الوفاء - بيروت.
12. البداية والنهاية، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي / 1408ه- - دار إحياء التراث العربي - بيروت.
13. تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء/ الرابعة، 1983م - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
14. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر اليعقوبي، دار صادر -- بيروت.
15. تفسير فرات، فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي / الأولي، 1410ه- - مؤسسة الطبع والنشر في وزارة الإرشاد الإسلامي.
16. حياة الإمام الحسين عليه السلام، باقر شريف القرشي /الأولي، 1429ه- - العتبة الحسينية المقدسة - كربلاء.
ص: 72
17. دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري/ 1383ه- - دار الذخائر للمطبوعات - قم.
18. ذخيرة الدارين، عبد المجيد بن محمد الشيرازي / الأولي، 1379ه- - الناشر مركز الدراسات الإسلامية.
19. رجال ابن داود، تقي الدين الحسن بن علی بن داود الحلي / 1383ه- -- مؤسسة النشر في جامعة طهران.
20. رجال الطوسي، الطوسي/ الأولي،1415ه- - مؤسسة النشر الإسلامي - قم.
21. روضة الواعظين، محمد بن الحسن الفتال النيشابوري / 1386ه- - دار الرضي للنشر - قم.
22. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم / الأولي، 1959م - نشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسي البابي الحلبي.
23. عمدة القارئ، العيني/ نشر: دار إحياء التراث العربي.
24. فتح الباري، شهاب الدين بن حجر العسقلاني/ الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر.
25. في رحاب عاشوراء، محمد مهدي الآصفي / الأولي، 1419ه- - نشر مؤسسة الفقاهة.
26. كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، تحقيق: الشيخ جواد القيومي / الأولي، 1417ه- - نشر مؤسسة الفقاهة.
ص: 73
27.اللهوف، علی بن طاووس الحلي / 1348ه-.ش -- دار العالم (جهان) -- طهران.
28. مثير الأحزان، جعفر بن محمد بن نما الحلي / الثانية، 1406ه- - الناشر مدرسة الإمام المهدي عجل الله فرجه - قم.
29. معجم البلدان، ياقوت الحموي / 1979م، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
30. مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي / 1967م - منشورات المكتبة العلمية - بغداد.
31. مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، محمد بن شهر آشوب المازندراني / 1379ه- - مؤسسة العلامة للنشر - قم.
32. موسوعة عاشوراء، جواد محدثي / الأولي، 1418ه- - دار الرسول الأكرم.
33. وتنفس صبح الحسين، محمد نعمة السماوي/ الثانية، 1425ه- - دار المرتضي - بيروت.
34. وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري /الثانية، 1382ه- - المؤسسة العربية الحديثة للطباعة والنشر - القاهرة.
35. ينابيع المودة، سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي / الأولي، 1416ه- - دار الأسوة للطباعة والنشر.
ص: 74
اسمه ولقبه.......... 7
نسبه وعشيرته.......... 9
ولادته ونشأته.......... 13
أقوال المعصومين -- صلوات الله عليهم أجمعين -- فيه.......... 16
أَقوال العلماء و الباحثين والشعراء فيه (رضوان الله عليه).......... 22
أحواله وشخصيته.......... 30
وقفة مع المؤرخين وفرية (.. كان عثمانياً...).......... 33
صحبته للإمام «صلوات الله عليه» 49
محاوراته وخطبه.......... 49
استشهاده وأحاديث في مصرعه.......... 64
المصادر.......... 71
ص: 75
ص: 76
صدر لقسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة
عکس
ص: 77
عکس
ص: 78
عکس
ص: 79