تنقیح الاصول المجلد 3

اشارة

سرشناسه:تقوی اشتهاردی، حسین، - 1304

عنوان و نام پدیدآور:تنقیح الاصول: تقریر ابحاث الاستاذ الاعظم... روح الله الموسوی الامام الخمینی قدس سره/ تالیف حسین التقوی الاشتهاردی

مشخصات نشر:تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1378.

مشخصات ظاهری:ج 4

شابک:964-335-146-7(ج.1) ؛ 964-335-147-5(ج.2) ؛ 964-335-148-3(ج.3) ؛ 964-335-149-1(ج.4)

یادداشت:عربی

یادداشت:ج. 4 - 1 (اول: 1418ق = 1376): بهای هر جلد متفاوت

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279

شناسه افزوده:موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده بندی کنگره:BP159/8/ت7ت9 1378

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 78-12310

ص: 1

اشارة

تنقیح الاصول الجزء الثانی

تقریر ابحاث الاستاذ الاعظم و العلامة الافخم

آیة اللَّه العظمی السید روح اللَّه الموسوی

الامام الخمینی قدس سره

تألیف

آیة اللَّه الشیخ حسین التقوی الاشتهاردی

مؤسسة تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی قدس سره

ص: 2

هویة الکتاب

* اسم الکتاب: ... تنقیح الأصول/ ج 3*

* المؤلف: ... حسین التقوی الإشتهاردی*

* تحقیق و نشر: ... مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی قدس سره*

* سنة الطبع: ... خرداد 1377- صفر المظفر 1419*

* الطبعة: ... الاولی*

* المطبعة: ... مطبعة مؤسسة العروج*

* الکمیة: ... 3000 نسخة*

* السعر: ...*

جمیع الحقوق محفوظة و مسجّلة

لمؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی قدس سره

ص: 3

ص: 4

ص: 5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

الحمد للَّه ربِّ العالمین، و الصلاة و السلام علی سیّدنا خاتم الأنبیاء و المرسلین محمّدٍ- صلّی اللَّه علیه و آله أجمعین- و لعنة اللَّه علی أعدائهم أجمعین.

و بعدُ:

فهذه من إفادات مولانا الأفخم و استاذنا الأعظم آیة اللَّه العظمی الحاجّ آغا روح اللَّه الموسوی الخُمینی- أدام اللَّه أیّام إفاداته و إفاضاته- بذلتُ جهدی لضبطها- بدون زیادة أو نقصان- کما أفاده؛ لیستفید منها الطالب، و یکون ذخراً لیوم فقری و فاقتی. و به أستعین:

قال الشیخ الأعظم قدس سره فی «الفرائد»: اعلم أنّ المکلَّف إذا التفت إلی حکمٍ شرعیٍّ: إمّا أن یحصل له القطع أو الظنّ أو الشکّ.

ثمّ بیَّن أقسام الشکّ و مجاری الاصول العملیّة(1).

و عدل المحقِّق صاحب الکفایة قدس سره عن تثلیث الأقسام، و قال:

إنّ البالغ الذی وُضع علیه القلم إذا التفت إلی حکمٍ شرعیٍّ فعلیٍّ واقعیٍّ أو ظاهریّ: فإمّا أن یحصل له القطع أو لا.


1- فرائد الاصول: 2.

ص: 6

ثمّ بیّن أقسام الشکّ و مجاری الاصول(1).

و إنّما عدل عمّا صنعه الشیخ قدس سره لتداخل الأقسام بعضها فی بعض فیما صنعه، فإنّ الظنّ إن قام دلیل شرعیّ علی اعتباره فهو داخل فی القطع، و إلّا فهو داخل فی الشکّ، و یجری علیه أحکامه، و لعدم اختصاص متعلّق القطع بالأحکام الواقعیّة فقط.

ثمّ قال: و إن أبیت إلّا عن تثلیث الأقسام فالأولی أن یقال: إنّ المکلّف: إمّا أن یحصل له القطع أو لا، و علی الثانی: إمّا أن یقوم عنده طریق معتبر أو لا ... إلی آخر ما ذکره قدس سره(2).

و یرد علی کلا الطریقین: أنّه إن ارید بالقطع القطع التفصیلی فقط، فلا یلتزمان 0 بذلک؛ لوقوع البحث عن أحکام العلم الإجمالی فی هذا الباب، و إن ارید به الأعمّ من القطع التفصیلی و الإجمالی یرد علیه: أنّه لا یُناسبه- حینئذٍ- جَعْلُ باب الانسداد علی الحکومة فی قبال باب القطع؛ لوضوح أنّ من مقدّمات باب الانسداد العلمَ الإجمالی بوجود التکالیف، غایة الأمر أنّه لا یجب الإتیان بجمیع أطراف العلم الإجمالی للزوم العُسْر و الحرج المنفیین. و کذلک لا یُناسبه جعل باب الاشتغال باباً علی حدة فیما لو تعلّق القطع بالحکم، لا الحجّة، فإنّه من أقسام القطع الإجمالی، فی قبال باب القطع و کذلک موارد التخییر فی غیر موارد دوران الأمر بین المحذورین، فإنّ المناسب- حینئذٍ- ذکر هذه المباحث فی باب القطع.

و لا محیص عن هذه الإشکالات إلّا بالالتزام: بأنّ المقصود من ذکر هذه الأقسام فی صدر الکتاب هو بیان ما یُبحث عنه فی الکتاب إجمالًا، لا تحقیق بیان مجاری الاصول العملیّة و غیرها، کما ذکره المحقّق المیرزا النائینی قدس سره(3).


1- کفایة الاصول: 296.
2- کفایة الاصول: 296- 297.
3- أجود التقریرات 2: 3.

ص: 7

لکن لا یخفی ما فیه، فإنّهما 0 فی ذلک بصدد بیان التحقیق فی مجاری الاصول؛ و لذلک قیّدوا الحالة السابقة فی مجری الاستصحاب بالملحوظة.

فالأولی أن یُجعل القطعُ الأعمَّ من التفصیلی و الإجمالی، و إدخال المباحث الثلاثة المتقدّمة آنفاً فی باب القطع، و یقال فی التقسیم: إنّ المکلَّف إذا التفت إلی حکمٍ شرعیٍّ: إمّا أن یحصل له القطع أو لا، و یُراد من متعلّق القطع خصوص الحکم الواقعی.

و علی الثانی: إمّا أن یحصل له الظنّ الذی قام علی اعتباره دلیل أو لا. ثمّ یعقَّب ببیان مجاری الاصول، و أنّ مجری البراءة هو الشکّ فی التکلیف مع عدم الحالة السابقة، و کذلک موارد التخییر فی صورة دوران الأمر بین المحذورین، و مجری الاستصحاب هو الشکّ فی التکلیف مع وجود الحالة السابقة، و نذکر المباحث الثلاثة المتقدّمة آنفاً فی باب القطع.

و هذا الکتاب یشتمل علی أبوابٍ و فصول:

ص: 8

ص: 9

المطلب السادس الأمارات المعتبرة عقلًا و شرعاً

اشارة

ص: 10

ص: 11

الباب الأوّل فی القطع و فیه فصول:

اشارة

ص: 12

ص: 13

الفصل الأوّل فی أنّ مسألة القطع لیس من المسائل الکلامیّة

لأنّ موضوع علم الکلام هو الوجود(1)، و البحث عن الحُسْن و القُبْح فی علم الکلام إنّما هو بالنسبة إلیه تعالی؛ بمعنی أنّه لا یصدر منه إلّا الحَسَن، و یمتنع صدور القبیح منه تعالی.

و لیس البحث عن مطلق الحُسْن و القُبْح من المباحث الکلامیّة، فلا ریب فی أنّ هذا البحث من المباحث الاصولیّة؛ لما عرفت من أنّ مسائل کلّ علم: عبارة عن جملة من القضایا المتناسبة المتّحدة سنخاً، و هذه المبحث- أیضاً- من سنخها؛ لوقوع نتیجتها کبری لاستنباط الأحکام الشرعیّة، أو لأجل أنّ الموضوع لعلم الاصول هو الحجّة فی الفقه، و هو کذلک.


1- انظر شوارق الإلهام: 7- 8.

ص: 14

الفصل الثانی فی صحّة إطلاق الحجّة علی القطع

إنّ ما ذکروه: من عدم إطلاق الحجّة علی القطع، بخلاف الظنّ، و أنّ الحجّة:

عبارة عن الوسط لإثبات حکم، و الظنّ کذلک؛ لأنّه یمکن أن یقال: «هذا مظنون الخمریّة، و کلّ مظنون الخمریّة حرام، فهذا حرام»، بخلاف القطع، فلا یقال فی الکبری: «و کلّ مقطوع الخمریّة حرام»؛ لأنّ الحرمة متعلّقة بنفس الخمر الواقعی، لا العلم به، فیقال: «هذا خمر، و کلّ خمر حرام، فهذا حرام»(1).

فیه: أنّ الحرمة فی صورة الظنّ- أیضاً- متعلّقة بالخمر الواقعی، لا بمظنون الخمریّة، فعلی هذا یرد الإشکال فی إطلاق الحجّة علی الظنّ أیضاً.

و الحلّ: أنّ الحجّة لیست عبارة عن الوسط، فإنّ الحجّة فی اصطلاح الاصولیّین: هو ما یحتجّ به، و یقع به الاحتجاج بین الموالی و العبید(2)، و لا فرق بین القطع و الظنّ المعتبر فی إطلاق الحجّة علیهما بهذا المعنی، فإنّ القطع- أیضاً ممّا یحتجّ به بین الموالی و العبید، أو أنّه عذر للعبید عند الموالی.


1- انظر فرائد الاصول: 2 سطر 12.
2- انظر نهایة الأفکار 3: 80.

ص: 15

الفصل الثالث فی أنّ بعض الخطابات لا تعمّ غیر المجتهدین

لا ریب و لا شبهة فی أنّ جمیع المکلّفین مأمورون بالعمل بالأحکام الشرعیّة المستفادة من الخطابات الصادرة من الشارع المقدّس، کما أنّه لا ریب فی أنّ استفادة الأحکام الشرعیّة و استنباطها من مدارکها مختصّ بالمجتهدین و لا حظَّ للعوامّ فی ذلک، و مع ذلک اختلفوا: فی أنّ الخطابات الصادرة من الشارع، مثل:

(لا تنقض الیقین أبداً بالشکّ)

(1)، هل هی متوجِّهة إلی خصوص المجتهدین، أو أنّها تعمّ جمیع المکلّفین، و أنّ کلّهم مخاطبون بها، لکن حیث إنّ العوامّ لا یتمکّنون من الاستنباط و الفحص عن الأدلّة و المعارضات و نحو ذلک، فالمجتهدون ینوبون عنهم فی ذلک(2). و لکن النتیجة تعمّ جمیع المکلّفین؟

لکن الحقّ: هو الأوّل؛ فإنّه لا معنی لنیابة المجتهدین عنهم، و لم تقع تلک النیابة و الاستنابة إلی الآن فی الخارج، بل المخاطب بها هم المجتهدون فقط، القادرون علی الاستنباط، و لکن الحکم الشرعی الذی یستنبطه المجتهد حکم کلّیّ یشترک فیه عامّة المکلّفین.


1- تهذیب الأحکام 1: 8/ 11، وسائل الشیعة 1: 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.
2- انظر فرائد الاصول: 440، کفایة الاصول: 533- 534.

ص: 16

الفصل الرابع فی المراد من وجوب متابعة القطع

إنّهم ذکروا: أنّه لا ریب فی وجوب متابعة القطع و لزوم الحرکة علی طبقه(1):

فإن أرادوا أنّه یجب العمل بنفس القطع من حیث إنّه صفة خاصّة، فإنّه مع حصول القطع بشی ء یتحقّق أمران:

الأوّل: الصفة النفسانیّة القائمة بنفس القاطع.

الثانی: ما تعلّق به القطع من الموضوعات الخارجیّة أو الأحکام الشرعیّة.

فإن ارید من ذلک: وجوب العمل علی نفس صفة القطع وجوباً عقلیّاً أو شرعیّاً، فلا معنی له، إذ لا معنی للعمل بصفة القطع لعدم قبولها ذلک.

و إن ارید العمل بالمقطوع- أی الذی تعلّق به القطع- و مرجعه إلی وجوب طاعة المولی و عدم مخالفته، فهو من المسائل الکلامیّة لا ارتباط لها بما نحن فیه؛ لأنّه لیس من أحکام القطع و مسائله حتّی یبحث عنه فی الاصول، بل اللازم ذکره فیه هو أنّ القطع حجّة بنفسه لا بجعل جاعل.

و العجب من المحقّق المیرزا النائینی قدس سره حیث ذکر أنّ المراد بالقطع فی قولهم: «یجب العمل بالقطع» هو المقطوع؛ لأنّ طریقیّة القطع ذاتیّة(2)، فإنّ دلیله هذا لا یُناسب مُدّعاه، و لا ارتباط له به، إلّا أن یُوجَّه: بأنّ المراد أنّ القاطع حیث لا یری إلّا المقطوع، و لا یحتمل الخلاف حین القطع: یلزمه العمل به.


1- فرائد الاصول: 2 سطر 11، کفایة الاصول: 297.
2- فوائد الاصول 3: 6.

ص: 17

الفصل الخامس حجیّة القطع و طریقیّته

إنّهم ذکروا- أیضاً- أنّ کاشفیّة القطع و حجّیّته غیر قابلة للجعل؛ لأنّ کاشفیّته و حجّیته من ذاتیّاته، أو عین ذاته، أو من لوازم ذاته، و الذاتیّات و کذلک لوازم الذات غیر قابلة للجعل التألیفی(1).

أقول: لا یخفی ما فی ذلک، فإنّ طریقیّة القطع و کذلک حجّیّته لیست عین ذاته، و لا من ذاتیّاته، و لا من لوازم ذاته؛ لا الذاتی فی باب الإیساغوجی، و لا فی باب البرهان؛ أی ما لا ینفکّ عنه(2)، فیشمل لوازم الماهیّة، أمّا کاشفیّته و طریقیّته فلأنّها لو کانت کذلک لما تخلّف عن الواقع، و لما وقع الجهل المرکَّب أبداً(3)، مع وقوعه کثیراً. نعم القطع طریق إلی الواقع و کاشف عنه، و لا یحتمل خلافه حین القطع، فهو کاشف عند القاطع حین القطع، و الذاتی لا یمکن أن یکون ذاتیّاً بالنسبة إلی شخص دون شخص، بل الذاتی ذاتیّ دائماً و بالنسبة إلی الکلّ.

مضافاً إلی أنّ ما لیس مجعولًا- بالجعل التألیفی، و لا بالجعل البسیط المستقلّ- من اللوازم، هو لوازم الماهیّة، لا مطلق اللازم، فإنّ لوازم الوجود لیست کذلک، فإنّ الإشراق من لوازم وجود الشمس، لیس مجعولًا بجعل ماهیّة الشمس،


1- انظر فرائد الاصول: 2 سطر 12، کفایة الاصول: 297، فوائد الاصول 3: 6.
2- شرح المنظومة( قسم المنطق): 30 سطر 9.
3- یمکن الإشکال علیه: بأنّه فی صورة عدم مطابقته للواقع لیس هو قطعاً فی الواقع، و ینکشف عدمه فی الواقع، فالمراد هو العلم الحقیقی و الواقعی، و هو لا ینفکّ عن الکاشفیّة حینئذٍ. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 18

بل هو معلول لوجودها فی الخارج.

فوجه عدم مجعولیّة طریقیّة القطع: هو أنّ المراد بالجعل: إمّا الجعل التکوینی، فهو خارج عن البحث، و إمّا الجعل التشریعی، فلا معنی له؛ لأنّه إن طابق الواقع فهو طریق إلیه و کاشف عنه، و لا أثر لجعل الشارع له و لا وجه له، فلا معنی لجعل الطریقیّة له، و لا فائدة فیه، فإنّ جعل الطریقیّة له مثل جعل الطریقیّة للشکّ فی أنّه لا یفید فائدة، و کذلک جعل الظنّ طریقاً تامّاً بعد ما لم یکن کذلک.

هذا بالنسبة إلی طریقیّته و کاشفیّته عن الواقع.

و أمّا حجّیّته فهی- أیضاً- لیست من ذاتیّات القطع، بل هی من أحکامه العقلائیّة التی یُحتجّ بها بین الموالی و العبید.

ثمّ إنّه ذکر المحقّق الخراسانی فی «الکفایة»: أنّه بذلک- أی بأنّ الطریقیّة من لوازم ذاته، لا بجعل جاعل- انقدح امتناع المنع عن تأثیره- أیضاً- مع أنّه یلزم منه اجتماع الضدّین اعتقاداً مطلقاً و حقیقة فی صورة الإصابة(1).

أقول: قد تقدّم فی مباحث الألفاظ: أنّ ما هو المعروف بین الاصولیّین، و المفروغ عنه بینهم من التضادّ بین الأحکام(2)، غیرُ صحیح؛ لأنّ الضدّین أمران وجودیّان(3)، و الوجوب و الحرمة و غیرهما هی من الامور الاعتباریّة المنتزعة عن البعث و الزجر، و امتناعُ المنع عن العمل بالقطع إنّما هو لأجل ما تقدّم من أنّ تشخّص الإرادة بالمراد، و أنّه یستحیل تعلُّق إرادتین للبعث و الزجر أو البعث و الزجر بشی ء واحد، مضافاً إلی لزوم لَغْویّة الحکم الأوّل لو نهی عن العمل بالقطع، و أنّه یلزم نقض الغرض، کما لا یخفی.


1- کفایة الاصول: 297.
2- قوانین الاصول 1: 142 سطر 14، کفایة الاصول: 193، فوائد الاصول 2: 437.
3- الأسفار 2: 112.

ص: 19

الفصل السادس فی مراتب الحکم

ذکر المحقّق فی «الکفایة»- أیضاً- أنّ للتکلیف مراتب أربعاً:

الاولی: مرتبة الاقتضاء؛ و هی مرتبة لحاظ المصالح و المفاسد.

الثانیة: مرتبة الإنشاء؛ أی مرتبة الأمر و النهی.

الثالثة: مرتبة الفعلیّة؛ و هی مرتبة إعلام المکلَّفین و إبلاغهم بالتکالیف المجعولة.

الرابعة: مرتبة التنجّز، و تتحقّق بعد علم المکلَّف بها و معرفته لها(1).

لکن لا یخفی ما فیه، فإنّ مرتبة الاقتضاء لیست من مراتب الحکم؛ لأنّه لیس فی هذه المرتبة حکم أصلًا، و لعلّ منشأ عدّ هذه من مراتب الحکم هو ما ذکره الفلاسفة من وجود المعلول فی مرتبة العلّة(2)، و لذا قال أرسطو(3): إنّ العقل نفسٌ ساکن، و النفس عقل متحرّک، و إنّ العلّة حدّ تامّ للمعلول، و المعلول حدّ ناقص للعلّة، فالحکم المعلول للمصالح و المفاسد متحقّق فی مرتبتهما، و لکنّه لا یتمّ فیما نحن فیه، فإنّ المعلول إنّما یوجد فی مرتبة العلّة بنحو ما ذُکر فی العلّة الفاعلیّة، لا العلّة الغائیّة، و المصالح و المفاسد لیست علّة فاعلیّة یصدر عنها الحکم، بل الحکم إنّما یصدر عن الحاکم، و المصالح و المفاسد غایة لذلک.


1- کفایة الاصول: 297، حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 36 سطر 4.
2- الأسفار 2: 212 و 394.
3- انظر أثولوجیا أفلوطین عند العرب: 136، 196.

ص: 20

و أمّا مرتبة التنجّز فهی- أیضاً- لیست من مراتب الحکم، فإنّ علم المکلّف و جهله لا یوجبان تغیُّراً فی الحکم و مزید حالةٍ فیه؛ لتکون مرتبة اخری غیر المرتبة التی قبلها، بل العلم و الجهل ممّا لهما دَخْل فی معذوریّة المکلّف و عدمها عند المخالفة، فلیس للحکم إلّا مرتبتان:

مرتبة الإنشاء: مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1)، و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(2)، و نحوهما ممّا له مُقیّدات و مُخصِّصات تُذکر تدریجاً، و استُعمل اللفظ فی جمیع العقود بالإرادة الاستعمالیّة، لکنّه غیر مُراد بالإرادة الجدّیّة، و لیست هذه أحکاماً فعلیّة، و کما فی الأحکام الصادرة من الشارع المقدّس، لکن لم یأمر بإبلاغها لمصالح فیه، کنجاسة أهل الخلاف، کما ذکره صاحب الحدائق(3)، أو لمکان مفسدةٍ فی إبلاغها.

و مرتبة الفعلیّة: کوجوب الصلاة و نحوها.


1- المائدة( 5): 1.
2- البقرة( 2): 275.
3- الحدائق الناضرة 5: 177.

ص: 21

الفصل السابع مبحث التجرّی

الأمر الأوّل: هل البحث عن التجرّی من المباحث الاصولیّة أم لا؟
اشارة

لا بدّ أوّلًا: من بیان أنّه من المسائل الاصولیّة أولا؟

فنقول: إنّه لیس من المسائل الاصولیّة؛ لأنّ البحث فیه: إمّا عن حسن عقوبة المتجرّی من اللَّه تعالی أو قبحه، فهو- حینئذٍ- من المسائل الکلامیّة.

و إمّا عن حرمته و عدمها، فهو- حینئذٍ- من المسائل الفقهیّة.

و المناط فی المسألة الاصولیّة: هو وقوع نتیجتها کبری القیاس فی مقام استنباط الأحکام الفرعیّة، أو وقوعها حجّة فی الفقه، و هی لیست کذلک.

و قد یقال فی وجه جعله من المسائل الاصولیّة: إنّ البحث فیه إنّما هو عن قبح التجرّی و عدمه، لکنّه لقاعدة الملازمة بین حکم العقل و الشرع یستتبع حرمته شرعاً، و حینئذٍ فنتیجة إثبات قبحه تقع فی طریق الاستنباط، و لیس المراد من المسألة الاصولیّة إلّا ذلک(1).


1- انظر حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 12- 13.

ص: 22

و فیه أوّلًا: أنّ قاعدة الملازمة بین حکم العقل و الشرع- علی فرض تسلیمها- إنّما هی فی سلسلة العلل و المعلولات و مقام المصالح و المفاسد، فإنّها فی مثل قبح الظلم عقلًا صحیحة، و أنّه یستلزم حرمته شرعاً، و أمّا فی مثل وجوب الصلاة و حرمة الخمر فلا:

فلأنّه یستلزم التسلسل و استحقاق العاصی بارتکاب محرّم واحد عقوبات غیر متناهیة؛ حیث إنّه لو خالف المکلّف حکماً وجوبیّاً- کترک جواب السلام- فالعقل یحکم بقبح ذلک؛ لأنّه مخالفة لحکم المولی، و هی قبیحة عقلًا، و هو یستتبع حکماً شرعیّاً بحرمته لقاعدة الملازمة، و هذا الحکم الشرعی الثابت بقاعدة الملازمة یقبح مخالفته عقلًا، فیستتبع حرمته شرعاً ... و هکذا إلی غیر النهایة، فیلزم استحقاقه لعقوبات غیر متناهیة و عصیانات کذلک بارتکاب ذنبٍ واحد، و هو محال.

و ثانیاً: لو أغمضنا عن ذلک کلّه، لکن المسألة الاصولیّة: إنّما هی ما تقع نتیجتها کبری فی الاستنباط، کالبحث عن حجّیّة خبر الواحد، أو البحث عن الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها، و أمّا ما لیس کذلک- بل تقع نتیجته صُغری القیاس للاستنباط- فلا، و ما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ البحثَ فی قبح التجرّی و عدمه- حینئذٍ- بحثٌ عن الملزوم للحکم الشرعی، نظیر البحث فی أنّ هذا مقدّمة للواجب أولا، فإنّه من المبادئ التصدیقیّة للُاصول.

نعم البحث فی نفس الملازمة بین قبح شی ءٍ عقلًا و حرمته شرعاً کذلک مسألة اصولیة، لکن مسألة التجری لیست کذلک. و أسوأ حالًا من هذا الوجه و التقریر ما قیل فی وجه أنّها من المسائل الاصولیّة: إنّ البحث فی مسألة التجرّی إنّما هو فی أنّه هل لأدلّة الأحکام- مثل: «حُرّم علیکم الخمر»- إطلاق یشمل ما لو عُلم بأنّ مائعاً خمر مع عدم کونه خمراً فی الواقع؟ فحینئذٍ فهو من المسائل الاصولیّة؛ لأنّ

ص: 23

البحث عن إطلاق الدلیل و عدمه منها(1).

إذ لا یخفی ما فیه؛ لأنّ البحث عن حجّیة الإطلاق و عدمه و إن کان من المسائل الاصولیّة، و أمّا البحث عن وجود الإطلاق للدّلیل و تحقُّقه، کما فی المقام فهو بحث صغرویّ و قد عرفت أنّ مثله لا یُعدّ من المسائل الاصولیّة.

فتلخّص: أنّ مبحث التجرّی خارج عن مسائل هذا العلم.

و هل یمکن عدّه من المسائل الفقهیّة؟ بأن یقال: إنّ البحث فیه إنّما هو فی أنّه هل یحرم مقطوع الخمریّة فقد یقال بعدم إمکان ذلک؛ لوجهین:

أحدهما: ما أفاده فی «الکفایة» و حاصله: أنّه یعتبر فی متعلَّق الحکم الشرعی قدرة المکلّف علیه، و المقطوع الخمریّة لیس کذلک، فإنّ القاطع غافل عن قطعه؛ لأنّه آلة و طریق إلی الواقع، و ما به ینظر، لا ما فیه ینظر، فالقاطع لا یرید المقطوع إلّا بعنوانه الأوّلی الاستقلالی، لا بعنوانه الطاری الآلی، فهو خارج عن تحت اختیاره، و کذلک مصادفة قطعه للواقع، فإنّها لیست تحت اختیاره و قدرته، فلا یمکن تعلّق الحکم بمعلوم الخمریّة؛ أی بهذا العنوان الطاری(2).

الثانی: ما أفاده المحقّق المیرزا النائینی قدس سره و ملخّصه: أنّه لو تعلّق حکم تحریمیّ بعنوان معلوم الخمریّة، فهو یستلزم اجتماع المثلین فی نظر القاطع دائماً، و هو محال؛ و ذلک لتعلّق النهی أوّلًا بالخمر بعنوانه الأوّلی، و تعلّق النهی ثانیاً به بما أنّه مقطوع، و حیث إنّ القاطع لا یحتمل مخالفة قطعه للواقع یتحقّق فی نظره اجتماع المِثْلین- أی التحریمین- و إن أمکن مخالفة قطعه للواقع واقعاً و عدم خمریّته واقعاً؛


1- انظر ما قرّره المحقّق النائینی فی فوائد الاصول 3: 37- 39 و قد احتمل أن یکون ذلک هو مراد الشیخ الأنصاری فی تصویره للوجه العقلی فی استحقاق المتجرّی للعقوبة. فرائد الاصول: 5 سطر 3.
2- کفایة الاصول: 299.

ص: 24

لمکان العموم من وجه بین عنوان «الخمر» و بین عنوان «مقطوع الخمریّة»، لکن یکفی فی الاستحالة لزوم اجتماع المِثْلین فی نظر القاطع.

مضافاً إلی أنّ النهی الثانی لا زاجریّة له، فهو لغْوٌ فإنّ القاطع: إمّا مُطیع للنهی الأوّل أو لا، و علی کلا التقدیرین لا أثر للنهی الثانی(1). انتهی ملخّصه.

و فی کلا الوجهین نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّا نری بالوجدان أنّه یصدر من المکلّف هذا الشرب الذی یقطع بأنّه شُرْب الخمر بالاختیار و القصد، فلیس خارجاً عن اختیاره و قدرته.

و ثانیاً: فلأنّ القاطع الغافل عن قطعه غالباً لا یمتنع علیه الالتفات إلی قطعه حین القطع، بل یمکنه ذلک، و هو کافٍ فی صحّة توجُّه التکالیف و الخطاب إلیه، نظیر قصد الإقامة عشرة أیّام للمسافر، فإنّ الحکم بوجوب القصر متعلّق بهذا القصد، لا الإقامة الواقعیّة عشراً مع أنّ هذا القصد و الإرادة مغفول عنه غالباً.

و الحاصل: أنّ القطع و القصد إنّما یمتنع تعلُّق التکلیف بهما مع الغفلة عنهما بالکلّیّة؛ بحیث یمتنع الالتفات و التوجّه إلیهما، و أمّا مع الإمکان فلا.

و أمّا الوجه الثانی: فهو- أیضاً- ممنوع، فإنّه قدس سره مع اعترافه: بأنّ کلّ واحد من النهیین متعلّق بعنوان غیر ما تعلّق به الآخر کیف یستلزم ذلک اجتماع المِثْلین فی نظر القاطع؟! و إنّما یستلزم ذلک لو تعلّقا بعنوان واحد لا بعنوانین؛ و إن فُرض تصادقهما دائماً فی الخارج علی واحد، فضلًا عمّا إذا افترقا فیه فی بعض الموارد.

و أمّا ما ذکره: من لزوم لَغْویّة النهی الثانی، فهو- أیضاً- ممنوع، فإنّه مع وجود النهیین یلزمهما عقوبتان، فربّما لا ینزجر شخص عن نهی واحد و عقوبة واحدة یتحمّلها، و ینزجر بتکرار النهی و تعدُّد العقوبة.

و مع ذلک کلّه یمتنع جعلها من المسائل الفقهیّة؛ لاستحالة تعلُّق الحرمة


1- فوائد الاصول 3: 45- 46.

ص: 25

بمقطوع الخمریّة- مثلًا- لما ذکرناه آنفاً من استلزامه التسلسل المستحیل، و أنّه لو تعلّقت الحرمة- مثلًا- بمقطوع الحرمة فالحرمة الثانیة- أیضاً- مقطوع الحرمة، فیتعلّق به النهی، فیصیر حراماً، و هو- أیضاً- مقطوع الحرمة، فیتعلّق به النهی ...

و هکذا إلی غیر النهایة، فیلزم وجود تکالیف غیر متناهیة، و عقوبات کذلک، فیما إذا قطع بخمریّة مائع، و هو مستحیل، فلا یمکن جعل هذه المسألة من المسائل الفقهیّة، فلا محیص عن جعلها عقلیّة محضة.

توضیح ذلک: أنّه لو قلنا بحرمة مقطوع الخمریّة شرعاً، فلا بدّ لها من ملاک متحقّق فی صورة مصادفة القطع للواقع- أیضاً- مثل هتک حرمة المولی، و لا یمکن اختصاص هذا الملاک بما إذا لم یُصادف الواقع، کعنوان عدم المصادفة له، فإنّه غیر محتمل، فإنّ عکسه أولی بذلک، و حینئذٍ لو تعلّق الحرمة بالمقطوع حرمته بهذا الملاک فهذه الحرمة- أیضاً- مقطوعة، فیتعلّق بها نهی آخر؛ لوجود الملاک المذکور فیها- أیضاً- فتصیر حراماً مقطوعاً به، فیتعلّق به نهی ثالث ... و هکذا هلمّ جرّاً، فتلزم نواهٍ غیر متناهیة فیما إذا خالف و أتی و ارتکب منهیّاً عنه مرّة واحدة، و یلزمه عقوبات کذلک، و هو محال، فلا بدّ من ملاحظة حکم العقل فی التجرّی، و أنّه قبیح عقلًا أو لا.

و تحقیق الحال فی المقام: یحتاج إلی بیان أنّ العقاب فی صورة العصیان الحقیقی علامَ یترتّب؟ و بیان ما به الاشتراک بینه و بین التجرّی؛ أی صورة عدم إصابة القطع للواقع، و ما به الامتیاز بینهما، فنقول:

فی صورة العصیان الحقیقی- أی إصابة قطعه للواقع- امور:

الأوّل: قبح الفعل الخارجی فی الموارد التی یُدرک العقل قبحه کالظلم، لا فی مثل صوم یومی الأضحی و الفطر، فإنّ العقل لا یدرک قبحه.

الثانی: قبح مخالفة المولی.

ص: 26

الثالث: الجرأة علی المولی.

الرابع: تفویت الغرض.

و لا ریب فی أنّ التجرّی یمتاز عن المعصیة فی الأمر الأوّل و الثانی و الرابع، فلیس فیه قبح الفعل الخارجی، و لا مخالفة المولی، و لا تفویت غرضه، و إنّما یشترک معه فی الأمر الثالث، و لا ریب فی أنّ العقوبة فی صورة العصیان الحقیقی لیست مترتّبة علی الجرأة علی المولی، بل إمّا علی مخالفته أو تفویت غرضه، و الحقّ هو الأوّل، و حینئذٍ فلیس فی صورة التجرّی ما یترتّب علیه العقاب؛ لعدم تحقّق المخالفة فیه و لا تفویت الغرض و لیس فیه إلّا الجرأة علی المولی، و هی لا تستتبع العقوبة. نعم توجب إیجاد ظلمة و کدورة معنویة فی النفس، و تزید تلک الظلمة و الکدورة تدریجاً بصدور التجرّی منه متکرّراً، حتّی أنّها ربّما توجب عدم قابلیته للشفاعة، و تمنع عن نیلها؛ بناءً علی تجسُّم الأعمال و ظهور الملکات بصورة الحیوانات، إلّا أن یصفو بالشدائد التی تصیبه فی عالم البرزخ أو القیامة.

و أمّا ما ذکر المحقِّق العراقی من أنّ العقوبة مترتّبة علی ما هو الجامع بین صورتی التجرّی و العصیان الحقیقی، و هو الجرأة علی المولی، ففی صورة العصیان الحقیقی- أیضاً- إنّما تترتّب العقوبة علی الجرأة علی المولی؛ لوجودها فیه- أیضاً- إلّا أنّ الجرأة فیها أطول و أدوم من الجرأة علیه فی صورة التجرّی(1)، فهو للفرار عن إشکال یرد علی ما اختاره من ترتُّب العقوبة علی الجرأة علی المولی، و هو أنّه یلزمه استحقاق عقوبتین فی صورة العصیان؛ لوجود التجرّی فیها- أیضاً- مضافاً إلی مخالفة المولی، و هو خلاف الضرورة، فما ذکره إنّما هو لدفع هذا الإشکال.

کما أنّ ما ذکره صاحب الفصول قدس سره من تداخل العقوبتین فی صورة العصیان


1- نهایة الأفکار 3: 35- 36.

ص: 27

الحقیقی(1)، إنّما هو لدفع هذا الإشکال- أیضاً- الوارد علیه.

ثمّ علی فرض قُبح التجرّی هل یسری قبحه إلی الفعل الخارجی الصادر منه أولا؟ فلا بدّ من ملاحظة ما یصدق علی الفعل الصادر منه فی الخارج، و ینطبق علیه بالذات أو بالعرض من العناوین، حتّی یتّضح الحال فی المقام.

فنقول: إنّ ما یصدق علی الفعل الصادر من المتجرّی هو شرب الماء فیما لو قطع بأنّ مائعاً خمر، فبان أنّه ماءٌ، و کذلک یصدق علیه الطغیان علی المولی و هتک حرمته فی بعض الموارد، و لکن لا یصدق علیه التجرّی؛ لأنّه من الصفات النفسانیّة القائمة بالنفس، فلا یمکن صدقه علی الفعل الخارجی، غایة الأمر أنّ له إضافة إلی الخارج، و هو کاشف عنه، فلا ینطبق علی الخارج؛ لیصیر الفعل الخارجی قبیحاً، و لا معنی لخروج الواقع عمّا هو علیه بذلک، و لیس هنا وصف ملازم للتجرّی دائماً ینطبق علی الفعل الخارجی لیتّصف بالقُبح؛ لما عرفت من أنّ الطغیان و هتک حرمة المولی ربّما لا یتحقّقان بالتجرّی.

الأمر الثانی: إنّ المناط فی صحة العقوبة هو صدور الفعل عن إرادة و اختیار
اشارة

ثمّ إنّه قال فی «الکفایة» فی المقام ما حاصله: إنّ العقاب و الثواب یترتّبان علی العزم علی المعصیة و الإطاعة.

ثم استشکل علیه: بأنّ الإرادة و العزم لیسا بالاختیار و إلّا لتسلسل.

و أجاب عن ذلک:

تارة: بأنّها و إن کانت کذلک، إلّا أنّ بعض مبادیها- غالباً- بالاختیار؛ للتمکّن من عدمه بالتأمّل فیما یترتّب علیه من تبعة العقوبة و اللّوم و المذمّة.


1- الفصول الغرویة: 87 سطر 34.

ص: 28

و اخری: بأنّه یمکن أن یقال: إنّ حسن العقوبة و المؤاخذة إنّما هو لأجل بُعده عن سیِّده بتجرّیه علیه، کما کان من تبعته بالعصیان فی صورة المصادفة، فکما أنّه یوجب البُعد عنه، کذلک لا غَرْوَ فی أن یوجب حسنَ العقوبة، فإنّه و إن لم یکن باختیاره إلّا أنّه بسوء سریرته و خبث باطنه؛ بحسب نقصانه و اقتضاء استعداده ذاتاً و إمکاناً، و إذا آل الأمر إلیه یرتفع الإشکال، و ینقطع السؤال؛ فإنّ الذاتیّات ضروریّة الثبوت للذات، و بذلک ینقطع السؤال عن أنّه لِمَ اختار الکافرُ و العاصی الکفرَ و العصیان، و المؤمنُ الإطاعةَ؟ فإنّه یساوق السؤال عن أنّ الحمار لِمَ صار حماراً لا ناطقاً، و الإنسان ناطقاً؟

و بالجملة: تفاوت أفراد الإنسان- فی البعد عنه تعالی و القرب منه- سبب لاختلافهم فی استحقاق الجنّة و النار، و موجب لتفاوتهم فی نیل الشفاعة و عدمه، و تفاوتهم فی ذلک بالآخرة یکون ذاتیّاً، و الذاتیُّ لا یُعلّل.

إن قلت: فلا فائدة فی بعث الرُّسُل و إنزال الکُتُب و الوعظ و الإنذار.

قلت: ذلک لینتفع به من حَسُنت سریرته، و طابت نفسه؛ لتکمل به نفسه، و یخلص مع ربّه انسه «ما کُنَّا لِنَهْتَدِیَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ»(1)، و یکون حجّة علی من ساءت سریرته، و خبثت طینته «لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَ یَحْیی مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ»(2)(3). انتهی.

أقول: قد تقدَّم البحث فی ذلک مُستقصی فی باب الأوامر، لکن لا بأس بالإشارة إلی بعض ما یلزم ذکره هنا؛ لیتّضح الخَلَل الواقع فی کلامه قدس سره و من ذلک:

بیان ما هو موضوع صحّة العقوبة؟ و علی أیّ شی ء تصحّ؟


1- الأعراف( 7): 43.
2- الأنفال( 8): 42.
3- کفایة الاصول: 298- 301.

ص: 29

فنقول: قد استشکل فی المقام علی اختیاریّة الأفعال الصادرة من المکلَّفین:

بأنّ الفعل الاختیاری هو ما کان مسبوقاً بالإرادة و الاختیار، فننقل الکلام إلی هذه الإرادة و الاختیار، فیقال: إنّها لا یمکن أن تکون بالاختیار؛ للزوم کونها مسبوقةً بإرادة اخری، و ننقل الکلام إلیها .. و هکذا، فإمّا أن تتسلسل، و هو محال، أو تنتهی إلی إرادة أزلیّة، فیلزم الجبر، و حینئذٍ فلا تصحّ العقوبة علی الفعل الصادر من المکلَّف(1).

أقول: قبل الخوض فی إقامة البرهان علی اختیاریّة الأفعال لا بدّ من الرجوع إلی الوجدان و حکم العقل و العقلاء فی المقام، ثمّ إقامة البرهان علیه فنقول لا ریب فی أنّ موضوع صحّة العقوبة عند العقل و العقلاء فی جمیع الأعصار و الأمصار هو صدور الفعل عن المکلَّف بالإرادة و الاختیار، لا بالإکراه و الاضطرار، مثل حرکة ید المرتعش بدون الالتفات و التوجّه إلی نفس الإرادة و مبادیها؛ و أنّها بالاختیار أولا.

و بالجملة: موضوع صحّة العقوبة هو صدور الفعل بالاختیار فقط، لا اختیاریّته مع مبادیه، و إلّا فلو فرض أنّه کذلک فلا بدّ أن یقع بجمیع مبادیه بالاختیار، و لا وجه للتفصیل- حینئذٍ- بین المبادی؛ و أنّ المعتبر صدور الفعل مع بعض مبادیه بالاختیار دون البعض الآخر منها، و من المبادی وجود الفاعل، بل وجود الأفلاک، بل وجود الباری تعالی الموجد لکلّ شی ءٍ، فکما أنّ الخطور و التصدیق بالفائدة من مبادی الفعل، کذلک هذه المذکورات، و لا ریب فی أنّها خارجة عن تحت اختیار المکلَّف، و لا یمکن الالتزام بأنّ موضوعها هو اختیاریّة الفعل مع جمیع مبادیه، و لا وجه للتفکیک بین بعضها و بعضها الآخر، فتعیّن أنّ المعتبر هو صدور الفعل عن إرادة و اختیار؛ أ لا تری أنّ الإنسان قد یشتاق إلی الفعل غایة الاشتیاق و مع ذلک لا یریده، و قد یکرهه غایة الکراهة و مع ذلک یریده، و هذا دلیل علی أنّ اختیاره لیس


1- نفس المصدر.

ص: 30

بالاضطرار، فقد یرید الشی ء اختیاراً، و قد لا یریده کذلک.

و أمّا البرهان علی ذلک: فهو أنّه لا ریب فی أنّ علمه تعالی عین ذاته، و کذلک قدرته و إرادته، خلافاً للحشویّة؛ حیث إنّهم ذهبوا إلی أنّ إرادته تعالی زائدة عن ذاته(1) لبعض روایاتٍ ظاهرها ذلک(2)، لکنّ البراهین الکثیرة القاطعة قائمة علی خلاف ذلک و علی بطلان مذهبهم، و أنّ إرادته تعالی- کعلمه و قدرته- عینُ ذاته، و لیس المقام مقام ذکرها، لکن نذکر واحداً منها:

و هو أنّه لو کانت إرادته زائدة عن ذاته تعالی، لزم أن یُتصوَّر وجود الأکمل منه تعالی و النقص فی وجوده، و هو محال:

أمّا الأوّل: فلأنّه لو فرض أنّ فی العالم موجوداً علمه و إرادته عین ذاته و فی مرتبة ذاته، فهو أکمل من الذی لیس علمه و إرادته عین ذاته و فی مرتبتها، بل زائداً علی ذاته، فیلزم أن یکون هو المبدأ.

و أمّا الثانی: فلأنّه لو فرض أنّ مرتبة الذات خالیة عنها یلزم الترکیب، المستلزم للإمکان الذی هو نقص فی ذاته؛ و ذلک لأنّ للذات جهةَ فعلیّةٍ و جهةَ قوّةٍ و استعداد لقبولها، و حامل القوّة و الاستعداد هو الهیولی، فیلزم ترکُّب ذاته من الهیولی و الصورة، فیلزم الترکیب فی ذاته تعالی، و المرکّب محتاج إلی أجزائه، و المحتاج ممکن، و الإمکان نقص، و هو محال. و هاتان الاستحالتان ناشئتان عن فرض زیادة الإرادة علی الذات، فیلزم القول بأنّ إرادته و قدرته عین ذاته، و لا محیص عنه، و لا یُنافی ذلک بساطته، و لیس معنی القدرة صحّة الفعل و الترک، بل معناها: إن شاءَ فعل، و إن لم یشأ لم یفعل؛ و لو بمشیّةٍ أزلیّة.

و أمّا الآیات و الروایات: منها أحکامیّة تتضمّن الأحکام الإلهیّة، و هی مُنزّلة


1- المطالب العالیة 3: 179.
2- الکافی 1: 85/ 1.

ص: 31

علی الأفهام العُرفیة.

و منها الواردة فی المبدأ تعالی و أوصافه، مثل: «وَ جاءَ رَبُّکَ وَ الْمَلَکُ صَفًّا صَفًّا»(1) و «الرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی»(2)،

و فی الصحیح أنّه تعالی قال: (ما تردّدتُ فی شی ءٍ أنا فاعله کتردّدی فی قبض روح عبدی المؤمن)

(3)، و أمثال ذلک، فلا یمکن تنزیلها علی الفهم العرفی و الاعتماد و الأخذ بظاهرها؛ لاستلزامها المحال، فلا بدّ من تفسیرها بمبادٍ عقلیّة و تأویلها أو ردّ علمها إلی أهلها.

و من ذلک ما ورد: من أنّ علمه تعالی عینُ ذاته(4)، و لکنّه أراد بعد ما لم یُرِدْ، فإنّ مقتضی ظاهرها وقوع ذاته المقدّسة مَعرض الحوادث، و یلزم منه ما ذکرنا من المحذور المحال، بل الأفعال صادرة منه تعالی بإرادة هی عین ذاته و فی مرتبتها، و عن علم و شعور هو عین ذاته، و بقدرة هی عین ذاته، لا بإرادة زائدة عن ذاته؛ لینقل الکلام إلیها، فنقول: إنّ إرادة النفس بوجه بعید غایة البعد هکذا، فإنّ للنفس نحوین من الفعل:

أحدهما: ما یصدر منها بوسائط الآلات، مثل شرب الماء، فإنّه یتحقّق بتحریک العضلات و بسط الید و قبضها مثلًا.

و ثانیهما: ما یصدر منها بلا واسطة آلة، بل النفس خلّاقة له بلا واسطة و بالاختیار، و هذا مثل إیجادها للصور الذهنیّة و الخیالیّة أو إیجادها التفاصیل فی


1- الفجر( 89): 22.
2- طه( 20): 5.
3- الکافی 2: 192/ 6.
4- الأسفار 6: 133، المنظومة( قسم الفلسفة): 159. و قد وردت أحادیث تؤکّد صحّة هذا الکلام من قبیل \iُ قول أمیر المؤمنین علیه السلام فی الخطبة الاولی من نهج البلاغة( و کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه لشهادة کلّ صفة أنّها غیر الموصوف ...)\E نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 69.

ص: 32

قوّة الخیال، مع وجود ملکاتها فی النفس.

و بالجملة: للنفس أفعال تصدر عنها بلا واسطة آلة، و إلّا فلو کان صدور جمیع الأفعال منها بالآلة و الواسطة لتسلسلت الآلات و الوسائط، فالنفس ترید شیئاً بذاتها بالاختیار بدون مسبوقیّة تلک الإرادة بإرادة اخری؛ لیلزم التسلسل أو الانتهاء إلی إرادة أزلیّة؛ کی یُقال بعدم صحّة العقوبة، و أنّ الإرادة لیست بالاختیار؛ فإنّ اختیاریّة کلّ فعلٍ إنّما هی بالاختیار، و لیست اختیاریّة الاختیار باختیارٍ آخر، بل بنفسه و ذاته.

نعم یصحّ إسناد هذا الفعل الصادر من المکلّف إلی اللَّه تعالی باعتبار أنّه تعالی موجده، و هذا معنی «الأمر بین الأمرین».

فاتّضح بذلک: فساد ما ذکروه من الشبهة فی المقام، فالمناط فی صحّة العقوبة هو صدور الفعل عن إرادة و اختیار فقط.

فما یظهر من «الکفایة»- من ترتُّب استحقاق العقوبة علی العزم و الجزم(1)، کما یظهر من موضع منها- فهو غیر مستقیم.

و أمّا ما أجاب به عن التسلسل أوّلًا: بأنّه یکفی فی اختیاریّة الإرادة اختیاریّةُ بعض مبادیها، فهو لا یدفع ذلک الإشکال؛ لأنّه ینقل الکلام إلی ذلک البعض، و یلزم التسلسل.

و أمّا ما ذکره: من أنّ استحقاق العقوبة إنّما هو لأجل البعد عن المولی بتجرّیه.

ففیه: أنّه إن أراد من القرب و البعد التکوینیّین منهما فإنّ للوجود أفراداً متفاوتة من جهة النقص و الکمال، فوجود الباری تعالی أکمل أفراده، و بعضها و إن لا یبلغ فی الکمال إلیه تعالی، بل لا یمکن قیاس وجوده تعالی مع وجود سائر الأفراد،


1- کفایة الاصول: 298.

ص: 33

لکن بعضها أتمّ و أکمل من بعض آخر، کوجود خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله و سلم و هکذا إلی أن یبلغ إلی وجود أمثالنا و وجود الحیوانات و النباتات و الجمادات، فإنّ النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم قریب منه تعالی؛ بمعنی أنّه الأکمل و الأتمّ من سائر أفراد الموجودات من حیث الصفات الحمیدة و الکمالات، و لکن وجود أمثالنا و وجود الحیوانات و غیرها بعید عنه تعالی؛ لفقدانه الکمالات و الصفات الحمیدة، و هذا القرب و البعد تکوینیّان، فلا ریب فی أنّه قدس سره لا یلتزم بأنّ العقوبة تترتّب علی هذا البعد، فلا بدّ أن یرید منهما القرب و البعد الاعتباریّین؛ أی المنزلة و الجاه، کما یقال: فلان قریب من السلطان؛ بمعنی أنّ له المنزلة عنده بإطاعته له، و فلان بعید عنه؛ یعنی لیس له عنده منزلة و جاه؛ لعدم طاعته له، و لا ریب فی أنّ هذا القرب و البعد اعتباریّان منتزعان عن الطاعة و المعصیة؛ فإن أطاع المولی و لم یعصِهِ یحصل له القرب و المنزلة عنده، و إن عصاه و خالفه یلزمه البعد و عدم المنزلة لدیه، و لیس هذا القرب و البعد ذاتیّین؛ کی لا یُعلّلا، و ینقطعَ السؤال «بِمَ» و «لِمَ».

لکن التحقیق کما عرفت: أنّ استحقاق العقوبة إنّما یترتّب علی المخالفة العمدیّة و ما ذکره فی الحاشیة: من أنّه کیف لا؟! و الحال أنّه لا یمکن أن تترتّب العقوبة علی المخالفة العمدیّة؛ لأنّها غیر اختیاریّة لعدم تعلُّق العمد بالمخالفة العمدیّة(1).

فیه: أنّ استحقاق العقوبة یترتّب علی المخالفة إذا صدرت عن عمد و قصد، لا علیها مع العمد؛ بأن یکون العمد جزء موضوعها، و قد عرفت أنّ اختیاریّة الفعل إنّما هو بالعمد و الاختیار و أمّا اختیاریّة العمد و الاختیار فلیس بهما.


1- کفایة الاصول: 300/ الهامش 2.

ص: 34

بحث استطرادی حول الطلب و الإرادة

و أمّا ما ذکره هنا و فی باب الطلب و الإرادة: من أنّ السعادة و الشقاوة و الخبث الباطنی من ذاتیّات الإنسان، و الذاتی لا یُعلَّل(1) فهو- أیضاً- فاسد.

و توضیح الفساد یحتاج إلی تقدیم امور:

الأمر الأوّل: أنّ المفاهیم فی العالَم علی ثلاثة أقسام:

قسم یحکی عن حقیقة، مثل مفهوم الوجود، فإنّه حاکٍ عن حقیقته.

و قسم یحکی عمّا لیس له حقیقة، مثل مفهوم العدم.

و قسم لا یحکی عن ذا و لا ذاک، مثل مفاهیم الماهیّات، کمفهوم الإنسان.

الأمر الثانی: المحمول فی کلّ قضیّة: إمّا ضروریّ الثبوت لموضوعها، و لا ینفکّ عنه، و إمّا ممتنع الثبوت له، و إمّا ممکن الثبوت له، و لا تخلو قضیّة من القضایا عن إحدی هذه الجهات، و الحصر عقلیّ لا رابع لها، و القضایا و الجهات المذکورة فی المنطق من شعب هذه الثلاث.

الأمر الثالث: کلّ ما هو ضروریّ لشی ء لا یُعلّل؛ لأنّه ذاتیّ له، و لا یمکن أن تناله ید الجعل، إلّا أنّه فی ضروریّ الوجود لأجل أنّه فوق الجعل و أجلّ من أن تناله ید الجاعل، و فی ضروریّ العدم لأجل أنّه دون الجعل و أدون من أن تناله ید الجاعل، و کلّ ما یمکن ثبوته لشی ء فهو معلَّل فی الواقع، محتاج إلی الجعل، فمناط الافتقار إلی الجعل هو الإمکان الذی هو عین الفقر إلی العلّة، و الوجوب عین الاستغناء عن العلّة.

إذا عرفت هذه الامور فنقول: لو لاحظنا صفحة الوجود نعلم أنّه لیس فی عالم الکون ما وجوده ضروریّ الثبوت له؛ بدون الاحتیاج إلی العلّة و الجعل، إلّا


1- کفایة الاصول: 89- 90.

ص: 35

وجود واجب الوجود تعالی، فإنّ الوجود ضروریّ الثبوت له تعالی، و فوق أن تناله ید الجعل و لا یحتاج إلی العلّة، فإنّه عین التحقّق، و أمّا سائر الموجودات- غیر الحقّ تعالی- فلیس فیها ما وجوده ضروریّ الثبوت له، بمعنی استغنائها عن العلّة و الجعل، و إلّا لکان شریکاً له تعالی، و البرهان القاطع قائم علی استحالته، فثبت أنّ الوجود الذی هو ضروریّ الثبوت للذات، و مستغنٍ عن العلّة و الجعل، هو وجود واجب الوجود فقط لیس إلّا، و أنّ وجود سائر الموجودات ممکن الثبوت لذواتها؛ یحتاج إلی العلّة و الجعل، و أمّا الماهیّات فذاتها و ذاتیّاتها و لوازم ذاتها ضروریة الثبوت لها؛ بمعنی أنّ ثبوتها لها لا یحتاج إلی الجعل المستقلّ، بل هی مجعولة بجعلها، فهی لا تُعلّل، لکنّها ذاتها مع ذاتیّاتها و لوازم ذاتها امور اعتباریة.

و حینئذٍ فإن أراد قدس سره أنّ السعادة و الشقاوة من ذاتیّات ماهیّة الإنسان أو لوازم ذاتها، و مع ذلک هما منشآن للآثار من الطاعة و المعصیة و القرب و البعد، فقد عرفت أنّ الماهیّة و ذاتیّاتها و لوازم ذاتها، و إن لم تکن مجعولة بجعلٍ مستقلّ، لکنها امور اعتباریّة لا یمکن أن تصیر منشأً للآثار.

و إن أراد أنّهما من سِنْخ الوجود، و نحو من أنحائه، و ضروریّا الثبوت للإنسان، فهو یستلزم أن یوجد فی عالم الکون ما هو وجود ضروریّ لذاته سوی الحقّ تعالی، و تقدّم أنّ البراهین القاطعة قائمة علی امتناع ذلک، و أنّه تعالی واحد لا شریک له.

و إن أراد أنّ السعادة و الشقاوة من لوازم الوجود للإنسان لا لماهیّته، ففیه:

أوّلًا: أنّ لوازم الوجود معلَّلات، و عللها هی ملزوماتها، فلا یصحّ ما ذکره: من أنّه لا تعلّل ذلک، و لا یُناسبه أیضاً.

و ثانیاً: لا یمکن الالتزام بذلک، فإنّ لوازم الوجود دائمة اللزوم له؛ لا تنفکّ عنه أصلًا کالحرارة للنار، و لو کانت السعادة و الشقاوة کذلک، لَلَزم أن یصدر الحسن من

ص: 36

السعید و القبیح عن الشقیّ دائماً حتّی فی حال النوم، فیلزم أن یکون الشقیّ مُتجرِّیاً و عاصیاً دائماً، و السعید مطیعاً کذلک، و لا یصدر من السعید القبیح أصلًا، مع أنّا نری بالعیان خلافه.

فالحق: أنّ السعادة و الشقاوة أمران اعتباریّان منتزعان عن الأفعال الصادرة من المکلّف، و أنّ المکلّف الصادر منه الأفعال الحسنة الحمیدة بإرادته و اختیاره یُطلق علیه السعید، و الصادر منه الأفعال الذمیمة القبیحة کذلک یطلق علیه الشقیّ، و هو معنی

(السعیدُ سعیدٌ فی بطن امّه، و الشقیُّ شقیٌّ فی بطن امّه)

(1)، فإنّا لو علمنا أنّ الحمل فی بطن امّه إذا تولّد و بلغ، یصدر منه الأفعال الحسنة الحمیدة أو الذمیمة القبیحة، علمنا أنّه سعید أو شقیّ.


1- التوحید: 356/ 3، فی المصدر تقدیم و تأخیر.

ص: 37

الفصل الثامن فی أقسام القطع و أحکامها

اشارة

متعلّق القطع: إمّا حکم أو موضوع ذو حکم أو غیر ذی حکم، و هو طریق إلی متعلّقه، و قد یؤخذ موضوعاً لحکم، و لا إشکال فی أنّ الأوّل حجّة مطلقاً، بخلاف الثانی، فإنّه تابع للدلیل الذی أخذه موضوعاً للحکم، فقد یدلّ علی موضوعیّته بنحو الإطلاق، و قد یقیَّد فی لسان الدلیل بحصوله من سبب خاصّ أو من شخص خاصّ، و هذا ممّا لا کلام فیه.

و إنّما الکلام فیما یتصوّر من الأقسام للقطع الموضوعی:

فنقول: إنّ العلم من الصفات الحقیقیّة ذات الإضافة، و هو ظاهر بنفسه مُظهر لغیره، فمن جهة الحقیقة هو صفة قائمة بنفس القاطع من حیث قیام الصورة بنفسه، و الإضافة إلی هذه الصورة إشراقیة، و هذه الصورة معلومة بالذات، و لها إضافة إلی الخارج إضافة عَرَضیّة، و یسمّی الخارج بالمعلوم بالعَرَض، و هذه الجهة هی کاشفیّته عن الواقع، و الکشف: إمّا تامّ و إمّا ناقص و إمّا مطلق، فهنا ثلاثة أشیاء:

الأوّل: العلم من حیث إنّه صفة خاصّة قائمة بنفس القاطع مع قطع النظر عن

ص: 38

کشفه عن الواقع.

الثانی: کشفه عن الواقع.

الثالث: کشفه التامّ عن الواقع، فإنّ للکشف مرتبتین: إحداهما التامّة، مثل کشف القطع عنه، و ثانیتهما الناقصة، مثل کاشفیّة الأمارات عنه.

فللحاکم أن یجعل القطع بإحدی هذه الجهات موضوعاً لحکمه؛ بأن یأخذه- من حیث إنّه صفة خاصّة- فی موضوع حکمه، و أن یأخذه بما أنّه کاشف تامّ عن الواقع فی موضوع حکمه، و أن یأخذه بما أنّه کاشف بنحو الإطلاق، فهذه أقسام ثلاثة.

و علی أیّ تقدیر: إمّا أن یؤخذ تمام الموضوع للحکم؛ سواء صادف الواقع أم لا، أو جزء الموضوع، فالأقسام ستّة.

ثمّ إنّه قد یؤخذ تمام الموضوع أو جزء الموضوع لحکمٍ مماثلٍ لحکم متعلّقه، أو مضادٍّ له، أو مخالف:

فالأوّل: مثل أن یقول: «إذا قطعت بوجوب الصلاة یجب علیک الصلاة»، فهناک وجوبان تعلّق أحدهما بالصلاة، و ثانیهما بالصلاة المقطوع بها بأحد الأنحاء المتقدّمة.

و الثانی: مثل أن یقول: «الخمر المقطوع الخمریّة مکروه، أو مباح».

و الثالث: مثل أن یقول: «إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب علیک التصدُّق».

ثمّ إنّه هل یمکن القسم الأوّل و الثانی؛ أی أخذه فی موضوع حکمٍ مماثلٍ أو مضادٍّ لحکم متعلَّقه أو لا یمکن؟

ذهب فی «الکفایة» إلی الثانی؛ حیث قیّد الحکم الذی اخذ القطع فی موضوعه بعدم کونه مماثلًا أو مضادّاً لحکم متعلَّقه، و علّله باستلزامه اجتماع المِثْلین

ص: 39

أو الضدّین، و هو محال(1).

و لکنّ الحقّ: هو الأوّل فیما إذا کان القطع تمام الموضوع؛ و ذلک لأنّ موضوع حکم المتعلَّق هو عنوان الخمر أو الصلاة، و موضوع الحکم المماثل أو المضادّ هو القطع بهما، و هما عنوانان متغایران، لکن بینهما عموم من وجه، و لا یستلزم ذلک اجتماع المِثلین أو الضدّین فی موضوع واحد؛ لتعدّد العنوانین فی عالم العنوانیّة، و أمّا فی الخارج فهما و إن تصادقا فی مورد الاجتماع، لکن الخارج لیس متعلَّقاً للحکم، کما تقدّم بیانه فی باب اجتماع الأمر و النهی.

نعم لو جُعل القطع جزء الموضوع فالحقّ هو الثانی، فإنّه لا یمکن حرمة طبیعة الخمر و حرمة الطبیعة المقیَّدة بالقطع بها أو حلّیّتها؛ لأنّ المقیّد عین المطلق بزیادة قید إلیها، و لیسا عنوانین متغایرین علی وجه الطریقیّة.

ثمّ إنّه قد یظهر من کلام بعض الأعاظم- و هو المحقّق المیرزا النائینی علی ما فی التقریرات-: أنّه لا یمکن أخذه تمام الموضوع علی وجه الطریقیّة؛ لأنّ أخذه تمام الموضوع کذلک یستدعی عدم لحاظ الواقع وذی الصورة بوجهٍ من الوجوه، و أخذُهُ علی وجه الطریقیّة لحاظُهُ و لحاظ ذی الصورة(2).

و بعبارة اخری: أخذه علی وجه الطریقیّة یستدعی لحاظه آلیّاً، و أخذه تمام الموضوع یستدعی لحاظه استقلالیّاً، و الجمع بین اللحاظین ممتنع.

و لکنّه من الأعاجیب؛ لما فیه:

أوّلًا: النقض بما لو اخذ کذلک جزء الموضوع، مع أنّه قدس سره لم یذهب إلی امتناعه.

و ثانیاً: بالحلّ بأنّ امتناع لحاظ القطع آلیّاً و استقلالیّاً معاً، إنّما هو بالنسبة إلی


1- کفایة الاصول: 303.
2- انظر أجود التقریرات 2: 17- 18.

ص: 40

نفس القاطع حین القطع، و أمّا بالنسبة إلی شخص آخر غیر قاطع فلا امتناع له، و ما نحن فیه کذلک، فإنّ الحاکم یُلاحظ قطع القاطع بوصف الکاشفیّة، و یجعله موضوعاً لحکمٍ من الأحکام؛ أ لا تری أنّه عُلِّق وجوب الإتمام علی من قصد الإقامة عشراً، لا الإقامة واقعاً، مع أنّ القصد آلة للحاظ المقصود، و قد جعله تمام الموضوع للحکم، فعلی ما ذکره یلزم أن یمتنع ذلک.

ثمّ إنّه هل یمکن أخذه موضوعاً بالنسبة إلی نفس الحکم الذی تعلّق به العلم و شخصه، أولا؟

لا ریب فی إمکانه فی بعض الفروض، و هو ما لو فرض صدور أحکام إنشائیّة لا فعلیّة من المولی، ثمّ أمر المجتهد بالاستنباط و الاجتهاد و علّق الوجوب العقلی- مثلًا- علی ما إذا قطع به الذی صدر منه إنشاءً، و حینئذٍ تصیر الأحکام الفعلیّة تابعة لآراء المجتهدین، و هذا و إن یرجع إلی التصویب، لکنّه ممکن، و لیس بممتنع، لکنّه تصویب باطل.

و إنّما الإشکال فیما لو اخذ العلم بالحکم الفعلی موضوعاً لشخص هذا الحکم؛ لاستلزامه الدور الواضح؛ فإنّ العلم بالحکم- حینئذٍ- موقوف علی وجود الحکم الفعلی قبله، و الفرض أنّ وجوده موقوف علی العلم به، و هو محال.

و تُفُصِّی عن الإشکال بوجهین:

الأوّل: ما ذکره المحقّق المیرزا النائینی قدس سره و هو ما تفصّی به عن الإشکال فی مسألة الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام، و هو أنّه یمکن تصحیحه بنحو نتیجة التقیید.

توضیح ذلک:

أنّ العلم بالحکم لمّا کان من الانقسامات اللاحقة للحکم، فلا یمکن فیه الإطلاق و التقیید اللحاظی؛ لاستلزامه الدور المذکور، فإنّه لا یمکن أخذ العلم- و کلّ

ص: 41

ما هو من الانقسامات اللاحقة للمتعلَّق- قیداً- جزءاً أو شرطاً أو مانعاً- فی مرتبة الجعل، و إذا امتنع التقیید امتنع الإطلاق أیضاً؛ لأنّ التقابل بینهما هو تقابل العدم و الملکة، و لکن الإهمال الثبوتی- أیضاً- غیر معقول، بل لا بدّ فیه إمّا من نتیجة الإطلاق أو من نتیجة التقیید، فإنّ الملاک الذی اقتضی تشریع الحکم إمّا أن یکون محفوظاً فی حالة العلم فقط، فلا بدّ من نتیجة التقیید، أو فی کلتا حالتی العلم و الجهل، فلا بدّ من نتیجة الإطلاق، و حیث یمتنع تکفّل الجعل الأوّلی لذلک و بیانه، فلا بدّ من جعلٍ آخر یُستفاد منه نتیجة الإطلاق أو التقیید، و هو المصطلح علیه بمتمِّم الجعل.

و قد ادّعی تواتر الأدلّة علی اشتراک الأحکام بالنسبة إلی العالم و الجاهل(1)، و نحن لم نعثر علی تلک الأدلّة سوی بعض الأخبار الآحاد- التی ذکرها صاحب الحدائق فی مقدّمات کتابه(2)- إلّا أنّ الظاهر قیام الإجماع- بل الضرورة- علی ذلک، و یستفاد من تلک الأدلّة نتیجة الإطلاق، و أنّ الحکم مطلق بالنسبة إلی العالم و الجاهل، لکن تلک الأدلّة عامّة صالحة للتخصیص، و قد خُصِّصت فی غیر مورد، کما فی مورد الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام؛ حیث قام الدلیل علی نتیجة التقیید، و اختصاص الحکم فیهما بالعالم فقط، فقد اخذ العلم شرطاً فی ثبوت الحکم واقعاً، و کما یصحّ ذلک یصحّ أخذ العلم بالحکم من وجه خاصّ و سبب خاصّ مانعاً عن ثبوت الحکم، کما فی باب القیاس؛ حیث قام الدلیل علی أنّه لا عبرة بالعلم الحاصل منه، مثل روایة «أبان» فی دِیَة الأصابع(3)، و کذلک تقیید العلم بحصوله من الکتاب


1- فرائد الاصول: 27 سطر 10.
2- الحدائق الناضرة 1: 78.
3- الکافی 7: 299/ 6، تهذیب الأحکام 10: 184/ 719، وسائل الشیعة 19: 268، کتاب الدیات، أبواب دیات الأعضاء، الباب 44، الحدیث 1.

ص: 42

و السُّنّة، لا من مثل الرمل و الجفر، فإنّه یمکن کلّ ذلک بنتیجة التقیید(1). انتهی ملخّصاً.

أقول: بعد تسلیم امتناع الإهمال الثبوتی فی الأحکام، کما اعترف قدس سره به هل الحکم فی الواقع و نفس الأمر یتعلّق بالمطلق اللحاظی أو بالمقیّد؟ فلو فرض وجود مناط الحکم فی المقیّد، فلا یمکن تعلُّقه بغیره ممّا لیس فیه هذا المناط، و لا یمکن تقیید متعلَّقه بالعلم بالحکم؛ لاستلزامه الدور المحال. هذا فی مقام الجعل و التشریع.

نعم، یمکن ذلک فی الانقسامات اللاحقة للحکم فی مقام الثبوت، نظیر قصد الأمر و نحوه.

و ثانیاً: ما ذکره من أنّه إذا لم یمکن التقیید لم یمکن الإطلاق- أیضاً- لمکان تقابل الملکة بینهما، فهو مُسلّم، لکن الحکم فی العدم و الملکة بما ذکره، إنّما هو فیما إذا کان عدم قبوله للتقیید لعدم إمکانه ذاتاً، کتقیید زیدٍ بفردٍ دون فرد، فإنّه لا یقبل هذا التقیید، فلا یصحّ إطلاقه اللحاظی، أمّا لو کان عدم إمکان التقیید لأجل محذور آخر و علل اخری، مع صلاحیّته لذلک ذاتاً، فلا نُسلّم عدم إمکان الإطلاق فیه، کما فیما نحن فیه، فإنّ عدم إمکان أخذ العلم قیداً للحکم إنّما هو لأجل لزوم الدور، لا لعدم القابلیّة الذاتیّة.

و الحاصل: أنّ التقیید و إن کان یحتاج إلی اللّحاظ، لکن الإطلاق لا یحتاج إلی اللّحاظ، و حینئذٍ فعدم إمکان الإطلاق إنّما هو فیما إذا امتنع التقیید ذاتاً، و أمّا لو کان عدم إمکان التقیید لا لعدم قبوله له ذاتاً، بل لأجل لزوم محذور آخر، مع قبوله شأناً و ذاتاً، کما فی ما نحن فیه، فلا نُسلِّم عدم إمکان الإطلاق فیه، و لذلک یتمسّکون بالإطلاق فی أدلّة التکالیف و الأحکام بالنسبة إلی العالم و الجاهل.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ التفصّی عن الإشکال فی مسألتی الجهر و الإخفات و القصر


1- فوائد الاصول 3: 11- 14.

ص: 43

و الإتمام، لیس بما ذکره من نتیجة التقیید، بل لوجوه اخر مذکورة فی محلّها.

منها: أنّ ذلک من قبیل تقبُّل الناقص بدل الکامل.

و منها: شمول حدیث

(لا تُعاد)

(1) لصورة العمد أیضاً، و أنّ الأرکان الخمسة مُجزیة و إنْ ترک سائر الواجبات، و استحقّ العقوبة- أیضاً- لعدم إمکان تدارک المصلحة ثانیاً فرضاً.

و أمّا العلم الحاصل من القیاس و منع العمل به، فلیس لأجل أنّه مانع عن ثبوت الأحکام به، بل لأجل قصور عقول البشر عن الاطّلاع علی الأحکام الواقعیّة، و کذلک الاستحسانات، و لذا

ورد فی الخبر أنّه علیه السلام قال لأبی حنیفة: (أ تزعم أنّک تقیس؟) قال: نعم، فقال علیه السلام: (البول أشدّ نجاسةً أو المنیّ؟) قال: البول، فقال علیه السلام:

(فلِمَ لا یوجب البول الغسل و یوجبه المنیّ)

(2).

و أمّا ما ذکره: من تقیید العلم بعدم حصوله من الرمل و الجفر و نحوهما، ففیه:

أنّ العلم طریق إلی الواقع، و حجّة مطلقاً من أیّ سبب حصل.

الوجه الثانی للتفصّی عن الإشکال: ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره حیث قال ما حاصله:

إنّه یمکن دفع الإشکال بنتیجة التقیید، لکن لا بمتمِّم الجعل- کما ذکره بعضهم- بل بوجه آخر اطّلعنا علیه: و هو أنّ العلم بالحکم و إن لم یمکن أخذه فی لسان الدلیل فی موضوعه، لکن الحکم متعلّق- فی الواقع فی مرتبة متقدّمة علی الحکم تقدّم الموضوع علی الحکم- بحصّة ملازمة للعلم بالحکم فی المرتبة المتأخّرة،


1- تهذیب الأحکام 2: 152/ 597، وسائل الشیعة 4: 934، کتاب الصلاة، أبواب الرکوع، الباب 10، الحدیث 5.
2- علل الشرائع: 89/ 5، وسائل الشیعة 18: 30، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 6، الحدیث 27.

ص: 44

فالحرمة- مثلًا- متعلّقة بحصّة متقدّمة من طبیعة الخمر تقدّم الموضوع علی حکمه، توأمة مع العلم بالحرمة فی المرتبة المتأخّرة، فیمکن أخذ العلم بالحکم فی موضوعه بهذا النحو، و إن لم یمکن أخذه کذلک فی لسان الدلیل، و من هذا القبیل الأعراض بالنسبة إلی معروضاتها- کالبیاض اللاحق للجسم- فإنّها تعرض علی حصّة متقدِّمة علی العارض، ملازمة معه فی مرتبة متأخّرة، و لذلک تکون العلّة متقدّمة علی المعلول فی الرتبة، مع أنّها مع المعلول زماناً(1). انتهی ملخّص کلامه.

أقول: الحصّة- فی الاصطلاح-: عبارة عن الطبیعة المقیّدة بقید، کما قال المحقّق السبزواری قدس سره فی المنظومة:

و الحصّةُ الکلّی مقیّداً یجی تقیّدٌ جزءٌ و قیدٌ خارجی(2)

فالطبیعة من حیث هی لیس فیها الحصّة، بل الحصّة تحصل بتقییدها بقید، کتقیید طبیعة الإنسان بالأبیضیّة، فیتحقّق به حصّة من الإنسان، و حینئذٍ فلا یمکن حصول الحصّة فی المقام بدون تقیید الخمر بمعلوم الخمریّة مثلًا؛ لما عرفت من أنّ الطبیعة بدون التقیید، لیس فیها حصّة فی نفس الأمر؛ حتی یتعلّق الحکم بها فی الواقع.

و إن أراد أنّه و إن لم یمکن تقیید الخمر بالعلم بالحرمة، و جعله موضوعاً لها فی لسان الدلیل، و لکنّه متعلِّق بهذه الحصّة واقعاً.

ففیه: أنّه إذا تعلّق الحکم بموضوع مقیّد بالعلم واقعاً و فی مقام الثبوت، فلا بدّ أن یتحقّق الحکم قبل نفسه؛ حتّی یتعلّق العلم به، فیبقی الإشکال بحاله.

و أمّا الأعراض فهی تعرض علی نفس الطبیعة، لا علی الحصّة، فالبیاض- مثلًا- یعرض علی طبیعة الجسم، لا علی حصّة من الجسم ملازمة للبیاض توجد


1- نهایة الأفکار 3: 15- 16.
2- شرح المنظومة( قسم الفلسفة): 27.

ص: 45

فی مرتبة متأخّرة عن عروض ذلک، و لا أقلّ أنّها فی مرتبة عروض هذا العارض، و أمّا ما ذکره: من تقدُّم العلّة علی المعلول مرتبة، فلا ارتباط له بالمقام، فإنّ العلّة قد تکون بسیطة من جمیع الجهات، فلا یتصوّر فیها الحصّة.

و التحقیق فی المقام: التفصیل بین ما إذا اخذ القطع تمام الموضوع؛ سواء صادف الواقع أم لا، و بین ما إذا اخذ جزء الموضوع؛ بأن یجعل الموضوع هو القطع بالحرمة- مثلًا- إذا صادف الواقع، و تسلیم لزوم الدَّور فیه، دون الأوّل، فإنّه إذا جعل الموضوع هو القطع بها- بجعل القطع جزء الموضوع، و الجزء الآخر نفس الحرمة- یلزم الدور؛ لأنّ الحکم- حینئذٍ- یتوقّف علی القطع بها توقّف الحکم علی موضوعه، و القطع بها موقوف علی وجودها واقعاً؛ لأنّ المراد منه هو المصادف للواقع، و هو دور واضح، بخلاف ما إذا جعل القطع تمام الموضوع، فإنّ الحکم- حینئذٍ- و إن کان یتوقّف علی القطع توقّف الحکم علی موضوعه، لکنّ القطع به لا یتوقّف علی ثبوته فی نفس الأمر، فإنّه کثیراً ما یحصل القطع بشی ء، و یکون جهلًا مرکّباً، و المفروض أنّ القطع تمام الموضوع، یترتّب علیه الحکم سواء صادف الواقع أم لا.

ص: 46

الفصل التاسع فی قیام الأمارات و الاصول مقام القطع

اشارة

هل تقوم الأمارات و الاصول بمقتضی أدلّتها مقام القطع مطلقاً- سواء کان طریقیّاً محضاً، أو موضوعیّاً بأقسامه- أو لا مطلقاً أو التفصیل بین الطریقیّ المحض، فتقوم مقامه، دون غیره من الأقسام، أو التفصیل بین الطریقی و الموضوعی الذی اخذ موضوعاً بما أنّه کاشف عن الواقع و طریق إلیه، فتقوم مقامهما، بخلاف غیرهما من الأقسام؟ أقوال.

و لا بدّ من البحث هنا فی مقامین:

أحدهما: فی إمکان قیام الأمارات و الاصول بمقتضی أدلّتها مقامه ذاتاً و عقلًا.

ثانیهما: فی وقوع ذلک فی أدلّة الأمارات الشرعیّة بعد الفراغ عن إثبات إمکانه ذاتاً و عقلًا.

فی إمکان قیام الأمارات و الاصول مقام القطع

أمّا المقام الأوّل: فلا إشکال فی إمکان قیامها مقام الطریقی المحض، و إنّما

ص: 47

الکلام فی إمکان قیامها مقام القطع الموضوعی الذی اخذ فیه بما أنّه کاشف عن الواقع، فإنّه ربّما یقال بعدم إمکانه بمقتضی نفس أدلّتها لوجهین:

الوجه الأوّل: ما ذکره فی «الکفایة»، و حاصله:

أنّ ذلک ممتنع؛ لاستلزامه الجمع بین اللحاظین الآلی و الاستقلالی، و هو محال، فإنّ تنزیل المؤدّی منزلة الواقع یحتاج إلی لحاظ الظنّ و القطع آلیّاً، و تنزیل الظنّ منزلة القطع یحتاج إلی لحاظهما استقلالیّاً، و الجمع بینهما فی لحاظٍ واحد مستحیل(1). انتهی.

أقول: و کأنّ أصل الإشکال عندهم مُسلَّم و مفروغ عنه؛ أی لزوم اجتماع اللحاظین و امتناعه، و أنّه لا مفرّ عنه.

فأجابوا عنه: تارةً بأنّه لیس فیه إلّا تنزیل واحد، و هو تنزیل مؤدّی الأمارة منزلة المقطوع، و لکن یلزمه عرفاً تنزیل الظنّ منزلة القطع. ذکره فی «الحاشیة علی الفرائد»(2).

و اخری: بأنّه لیس فیه إلّا تنزیل الظنّ منزلة القطع و لحاظهما آلیّاً، و یلزمه تنزیل المظنون منزلة الواقع(3).

و لکن لا یخفی فساد أصل الإشکال:

أمّا أوّلًا: فلأنّا لا نُسلِّم عدم إمکان الجمع بین اللحاظین، فإنّه قد یتوجّه القاطع بشی ءٍ- ککونه قاطعاً بجلوسه فی المسجد- إلی قطعه بذلک، مع توجُّهه إلی کونه فیه، کما نجده بالوجدان.

و یدلّ علی ذلک: تعلیق الحکم بوجوب التمام علی المسافر القاصد


1- کفایة الاصول: 304.
2- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 8- 9.
3- انظر نهایة الدرایة 2: 17 سطر 19.

ص: 48

للإقامة عشرةَ أیّام، فإنّ القصد کالقطع فیما ذُکر و قد تعلّق الحکم به، مع امتناع تعلّق الحکم بما یمتنع الالتفات إلیه، و السرّ فیه إمکان الالتفات إلی قصد الإقامة، و کذلک القطع، فإنّه یمکن توجُّه القاطع إلی قطعه. نعم نفس القطع غالباً مغفول عنه بالنسبة للقاطع.

و ثانیاً: سلّمنا ذلک، لکنّه إنّما یصحّ بالنسبة إلی نفس القاطع و أمّا بالنسبة إلی شخص آخر غیر القاطع کالحاکم، فلا إشکال فی إمکان لحاظه قَطْع الغیر- بما هو قطع و بما هو کاشف عن الواقع فی عرض واحد- فیعلّق حکمه به، فالملحوظان الآلی و الاستقلالی یجتمعان فی نظر الحاکم معاً بلحاظٍ واحد.

الوجه الثانی: أیضاً ذکره فی «الکفایة» إشکالًا علی ما أجاب به عن امتناع اللحاظین فی «الحاشیة علی الفرائد»: من أنّه لیس فی الأمارات إلّا تنزیل واحد، و هو تنزیل المؤدّی منزلة الواقع، فیُفهم منه بالملازمة العُرفیّة تنزیل الظنّ منزلة العلم(1)، و حاصل الإشکال الذی ذکره فی «الکفایة» علی ذلک:

هو أنّه یستلزم الدَّور؛ و ذلک لأنّ تنزیل المؤدّی منزلة الواقع متوقّف علی تنزیل الظنّ منزلة القطع بالملازمة المذکورة؛ لأنّ المفروض عدم دلیل أو أصل یُحرَز به ذلک؛ لأنّ التنزیل إنّما یصحّ إذا ترتّب علیه أثر شرعیّ، و الأثر فیما نحن فیه- و هو الحکم الواقعی- متعلِّق بجزءین: أحدهما القطع، و الثانی المقطوع به موقوف علی تنزیل الظنّ منزلة القطع فی عرض ذلک التنزیل؛ لیترتّب علیه الأثر، و إلّا فبدون إحراز الجزء الآخر للموضوع لیس هنا أثر شرعیّ یترتّب علی التنزیل، و المفروض أنّ تنزیل الظنّ منزلة القطع موقوف علی تنزیل المظنون منزلة الواقع، و هو دور(2). انتهی.


1- حاشیة فرائد الاصول، المحقّق الخراسانی: 9 سطر 7.
2- کفایة الاصول: 306- 307.

ص: 49

أقول: اعتبار ترتُّب الأثر الشرعی فی صحّة التنزیل، إنّما هو لأجل دفع محذور اللَّغْویَة، و إلّا فلا دلیل لفظیّ یدلّ علی ذلک، و حینئذٍ نقول: لا یُعتبر فی الأثر المترتِّب علیه فعلیّة التأثیر، بل المعتبر هو ترتّب ما یُدفع به محذور اللَّغْویّة و إن لم یکن الأثر فعلیّاً، و حینئذٍ فیکفی فی صحّة تنزیل المظنون منزلة المعلوم إحرازُ جزء الموضوع للأثر؛ لیصیر فعلیّاً بعد إحراز الجزء الآخر- کما فی ما نحن فیه- فلا یتوقّف تنزیل المظنون منزلة المعلوم علی تنزیل الظنّ منزلة العلم بالملازمة العرفیّة بین التنزیلین.

فتلخّص: أنّه لا محذور عقلیّ فی قیام الأمارات و الاصول مقام القطع بأقسامه.

و إنّما الکلام فی المقام الثانی: و هو أنّه هل هو واقع فی أدلّة الأمارات و الاصول أو لا؟

فذهب المیرزا النائینی قدس سره إلی أنّ ذلک واضح فیها فی القطع الطریقی المحض، و فیما اخذ موضوعاً بما أنّه کاشف عن الواقع، لا فیما اخذ موضوعاً بما أنّه صفة خاصّة، و ملخص ما أفاده فی بیان ذلک هو:

أنّ فی هذا القطع ثلاث جهات:

الجهة الاولی: القطع بما أنّه صفة خاصّة قائمة بالنفس.

الثانیة: کشفه عن الواقع و طریقیّته إلی الواقع.

الثالثة: الجری العملی علی طبقه و الحرکة إلی الإتیان و العمل علی وفقه.

ثمّ إنّ المجعول فی باب الأمارات و الطرق هی الجهة الثانیة- علی ما هو الحقّ عندنا- و فی باب الاصول المُحرزة هی الجهة الثالثة، فکأنّ الشارع جعل الأمارات طریقاً تامّاً بعد ما کان لها الطریقیّة الناقصة، فتمّم کشفها و جعلها مُحرِزاً للواقع کالقطع.

ص: 50

و منه یظهر: أنّ حکومة الأمارات علی الأحکام الواقعیّة حکومة ظاهریّة، و هی عبارة عمّا یوجب التوسعة و التضییق فی إحراز الواقع، و أنّ إحرازه لا یختصّ بالقطع فقط، بل یمکن إحرازه بالأمارات أیضاً، لا حکومة واقعیّة، و هی ما یوجب التوسعة و التضییق فی الواقع مثل:

(الطواف بالبیت صلاة)

(1)، و لیس فی الحکومة الظاهریّة توسعة و تضییق فی الواقع، إلّا بناءً علی بعض الوجوه لجعل المؤدّی الذی یرجع إلی التصویب.

و الحاصل: أنّ حکومة الأمارات علی الأحکام الواقعیّة ظاهریّة و فی طولها و فی طریق إحرازها، و المجعول فیها نفس المُحرِزیّة للواقع لدی من قامت الأمارة عنده، کما فی صورة العلم، و المفروض أنّ الأثر مترتِّب علی الواقع المُحرَز، فإنّ ذلک من لوازم أخذ العلم موضوعاً من حیث الکاشفیّة، و بنفس دلیل الأمارات یحرز الواقع، فتقوم مقامه بلا التماس دلیل آخر، و ترکیب الموضوع من الواقع و الإحراز لیس علی حدّ الموضوع المرکّب من الأجزاء العرضیّة، کالصلاة التی یحتاج إلی إحراز کلٍّ منها إلی المحرِز الوجدانی أو التعبُّدی، فإنّه بنفس إحراز ذلک الشی ء یتحقّق کلا جزءی الموضوع، و لا یفتقر إلی إحرازین أو تعبُّدین(2). انتهی.

أقول: لا بدّ أوّلًا من ملاحظة أدلّة الأمارات و الاصول، و أنّها هل تدلّ علی تنزیل الظنّ منزلة القطع، و أنّ إحراز الواقع أوّلًا و بالذات إنّما هو بالقطع، و إحرازه بالأمارات إنّما هو بواسطة قیامها مقام القطع و تنزیلها منزلته أو أنّه لیس فیها ما یدلّ علی ذلک؟


1- عوالی اللآلی 1: 214/ 70، مستدرک الوسائل 9: 410، کتاب الحج، أبواب الطواف، الباب 38، الحدیث 2.
2- فوائد الاصول 3: 16- 22.

ص: 51

فی قیام الأمارات مقام القطع

فالعمدة منها هو خبر الواحد، و لا ریب فی أنّه لیس فی الأخبار التی استُدلّ بها علی حجّیّة خبر الواحد ما یدلّ علی تنزیله منزلة القطع؛ فإنّ منها:

قوله علیه السلام:

(العمری و ابنه ثقتان، فما أدّیا إلیک عنّی فعنّی یُؤدّیان)

(1).

و قوله- للسائل: أنّه ربّما احتجنا أن نسأل عن شی ءٍ، فمن نسأل؟-: (علیک بالأسدی) یعنی أبا بصیر(2).

و قوله علیه السلام:

(علیک بهذا الجالس)

؛ مشیراً إلی زُرارة(3).

و قوله علیه السلام: بعد قول السائل: أ فیونُس بن عبد الرحمن ثقة آخُذُ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی؟ فقال: (نعم)

(4).

إلی غیر ذلک من الروایات الواردة فی هذا الباب.

و لا یخفی أنّ مفادها هو توثیق الراوی لیس إلّا، و لیس مفادها تأسیس الحکم بحجّیّة خبر الواحد، بل یظهر منها: أنّ لزوم العمل بخبر الثقة کان مفروغاً عنه بینهم، و إنّما السؤال فیها عن وثاقة الراوی.


1- الکافی 1: 265/ 1، وسائل الشیعة 18: 99، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 4.
2- اختیار معرفة الرجال 1: 400/ 291، وسائل الشیعة 18: 103، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 15.
3- اختیار معرفة الرجال 1: 347/ 216، وسائل الشیعة 18: 104، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 19.
4- اختیار معرفة الرجال 2: 784/ 935، وسائل الشیعة 18: 107، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 33.

ص: 52

و الحاصل: أنّ العمدة فی أدلّة حجّیّة خبر الواحد هو بناء العقلاء علیه فی أفعالهم، و أنّ الشارع- أیضاً- أمضی هذا البناء و أنفذه، و لم یردعهم عنه؛ أ فتزعم أنّ ذلک منهم علیهم السلام تأسیس للحکم بحجّیّة خبر الواحد، و أنّه لم یکن حجّة عند العقلاء و لم یکن بنائهم علی العمل به، بل یقتصرون فی أعمالهم علی الاعتماد علی القطع فقط؟! حاشا و کلّا، فإذا ثبت أنّ الدلیل علی حجّیّة خبر الواحد هو بناء العقلاء علی ذلک، فهل عملهم علیه بعد تنزیلهم له منزلة القطع أوّلًا، ثمّ العمل علی طبقه، و أنّ إحراز الواقع عندهم أوّلًا و بالذات إنّما هو بالقطع، و إحرازه بالأمارات لقیامها مقامه و تنزیلها منزلته؟ لا ریب فی أنّه لیس کذلک، بل عملهم به إنّما هو لأجل أنّه إحدی الطرق و الکواشف عن الواقع فی عرض القطع و فی قباله، کما یشهد به الوجدان، و نراه بالعیان.

و العجب منه قدس سره مع اعترافه: بأنّ الدلیل علی حجّیّة خبر الواحد لیس إلّا بناء العقلاء علیه(1)، ذهب إلی حکومته علی الأحکام الواقعیّة حکومة ظاهریّة(2)، مع أنّ الحکومة تفتقر إلی اللسان؛ لیکون ناظراً إلی دلیل آخر و شارحاً له، و لیس لبناء العقلاء لسان کذلک، فما أفاده من أنّ حجّیّة خبر الواحد عبارة عن جعل المؤدّی، أو جعل الحجّیّة و الطریقیّة، و نحو ذلک، فلیس فی أدلّة الأمارات ما یدلّ علی ذلک أصلًا.

هذا کلّه بالنسبة إلی خبر الواحد، و منه یظهر الحال فی حجّیّة قول اللُّغَوی، و ظاهر الکتاب، و أصالة الصحّة فی فعل الغیر، فإنّ الدلیل علی جمیع ذلک هو بناء العقلاء لیس إلّا، و لیس حجّیّتها تأسیساً من الشارع.

ثمّ إنّ ما أفاده: من تقسیم الحکومة إلی الظاهریّة و الواقعیّة غیر مستقیم أیضاً؛


1- فوائد الاصول 3: 194.
2- انظر فوائد الاصول 3: 19- 20.

ص: 53

لأنّ التقسیم إنّما یصحّ فی شی ء قابل للتقیید، و بتقییده بقید یحصل له قسم، و بقید آخر قسم آخر، و الحکومة لیست کذلک، فإنّها دائماً- عبارةً عن کون أحد الدلیلین ناظراً بمدلوله اللفظی إلی دلیل آخر و مفسِّراً له، یوجب التوسعة أو التضییق فی الآخر، و لیس لها إلّا قسم واحد. نعم، قد یتحقّق الحکومة فی الأحکام الظاهریّة، کحکومة الأمارات بعضها علی بعض، مثل

(الطواف بالبیت صلاة)

(1)، و هذا لا یوجب انقسامها إلی قسمین، و إلّا کثرت الأقسام، فإنّها إمّا فی باب الطهارات، و إمّا فی باب الصلاة، أو الحجّ ... إلی غیر ذلک.

مضافاً إلی أنّ الحکم المتعلِّق بالمقطوع الخمریّة حکم واقعیّ، فعلی ما ذکره قدس سره لا بدّ أن یُعدّ قیام الأمارات مقامه حکومة واقعیّة لا ظاهریّة. هذا کلّه فی الأمارات.

فی قیام الاصول مقام القطع

و أمّا الاصول المُحرِزة: کالاستصحاب و قاعدة الید و قاعدة الفراغ و أصالة الصحّة فی فعل الغیر، فلیس فی أدلّتها تنزیلُها منزلة القطع، و قیامُها مقامه بالمعنی الذی قدّمناه فی الأمارات.

أمّا الاستصحاب: فلأنّ الدلیل علیه قوله علیه السلام:

(لا تنقض الیقین أبداً بالشکّ)

(2) و ما یقرب منه، و لیس فیه تنزیل الشکّ منزلة الیقین و الأمر به، و لا الحکم بإبقاء نفس الیقین فی ظرف الشکّ تعبُّداً و جعل الشکّ بمنزلة الیقین، بل مفاده التعبُّد بالجری العملی علی طبقه.


1- تقدّم تخریجه قریباً.
2- تهذیب الأحکام 1: 8/ 11، وسائل الشیعة 1: 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.

ص: 54

و أمّا قاعدة التجاوز و الفراغ: فالکلام فیها- أیضاً- کما فی الاستصحاب، فإنّ الدلیل علیها روایة

زرارة عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (إذا خرجتَ من شی ء، و دخلتَ فی غیره، فشکّک لیس بشی ء)

(1)، و مثل قوله علیه السلام:

(کلُّ ما مضی من صلاتک و طهورک، فذکرته تذکُّراً، فأمضه ...)

(2) و أمثال ذلک، و لیس فی شی ءٍ منها ما یدلّ علی تنزیل القاعدة منزلة القطع، لکنّها ممّا یُحرَز بها الواقع فی قِبال القطع الطریقی، فلو فرض تعلُّق الحکم بالواقع، کأن یقول: «الرکوع جزء للصلاة»، فإحرازه یتحقّق بالقطع بالإتیان به، و قد یُحرَز تحقُّقه بقاعدة الفراغ، و کذلک لو فُرض أخذ العلم فی موضوعه بما أنّه طریق إلی الواقع، فإنّها- أیضاً- من مصادیق ذلک الموضوع، و أمّا لو اخذ القطع فی موضوعه بما أنّه صفة خاصّة أو کاشف تامّ، فلا تقوم مقامه قاعدة الفراغ لو شکّ فیه.

و أمّا قاعدة الید: فهی- أیضاً- کذلک لیس فی أدلّتها ما یدلّ علی قیامِها مقام القطع مطلقاً، و تنزیلها منزلته بالمعنی المتقدّم، فإنّ من الروایات الواردة فیها

روایة یونس بن یعقوب عن أبی عبد اللَّه علیه السلام فی امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة: (ما کان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما کان من متاع الرجال و النساء فهو بینهما، و من استولی علی شی ء منه فهو له)

(3)، و روایة حفص بن غیاث الدالّة علی الحکم بالملکیّة علی ما فی ید المسلمین، و أنّه لو لا ذلک لما قام للمسلمین سوق(4)،


1- تهذیب الأحکام 2: 352/ 1459، وسائل الشیعة 5: 336، کتاب الصلاة، أبواب الخلل فی الصلاة، الباب 23، الحدیث 1.
2- تهذیب الأحکام 1: 364/ 1104، وسائل الشیعة 1: 331، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 6.
3- تهذیب الأحکام 9: 302/ 1079، وسائل الشیعة 17: 525، کتاب الفرائض و المواریث، أبواب میراث الأزواج، الباب 8، الحدیث 3.
4- الکافی 7: 387/ 1، وسائل الشیعة 18: 215، کتاب القضاء، أبواب کیفیة الحکم و أحکام الدعوی، الباب 25، الحدیث 2.

ص: 55

و نظائرها.

فتلخّص: أنّه لا یقوم شی ء من الأمارات و الاصول مقام القطع و أنّها قطع تعبّدیّ؛ لعدم الدلیل علی ذلک، کما عرفت.

فالحقّ: أنّ الأمارات و الاصول حجّة فی عرض القطع، لا أنّ الطریق- أوّلًا و بالذات- منحصر بالقطع، و طریقیّة الأمارات و حجّیّة الاصول من جهة أنّها منزَّلة مَنْزلة القطع، و أنّها طریق تعبُّدی إلی الواقع، فهی حجّة یُحرز بها الواقع فی حیالها، و لا فرق فی ذلک بین القطع الطریقی المحض و بین الموضوعی بما أنّه طریق و أحد الکواشف، فإنّ الاصول المُحرِزة و الأمارات- أیضاً- من الکواشف و من مصادیق ذلک.

و أمّا القطع الموضوعی- بما أنّه صفة خاصّة، أو بما أنّه کاشف تامّ- فلیست الأمارات و الاصول فی مورده حجّة أصلًا و أبداً؛ سواء اخذ القطع تمام الموضوع أو جزء الموضوع.

ثمّ علی فرض قیام الأمارات و الاصول مقام القطع الموضوعی، لا فرق فیه بین ما اخذ فیه بما أنّه صفة أو بما أنّه کاشف، و لا وجه للتفصیل بینهما. هذا کلّه فی القطع و أقسامه.

و أمّا الظنّ فهو- أیضاً- إمّا طریق محض، أو یؤخذ فی موضوع حکم بما أنّه صفة خاصّة أو بما أنّه کاشف، و علی أیّ حال قد یجعل تمام الموضوع أو جزءه، و علی أیّ تقدیر: إمّا أن یدلّ دلیل علی اعتباره شرعاً أو لا، ثمّ إنّه قد یُؤخذ فی موضوع حکم متعلّقه أو المماثل له أو المضادّ أو المخالف له.

و استشکل فی المقام: بأنّه لا یمکن أخذه موضوعاً لما یماثل حکم متعلّقه أو یضادّه:

ص: 56

تارةً: باستلزامه اجتماع المِثْلین فی الأوّل و الضدّین فی الثانی(1).

و اخری: بعدم انقداح الإرادة و الکراهة أو إرادتین مستقلّتین متعلّقتین بشی ء واحد(2).

و ثالثة: باستلزامه التکلیف بالمحال فیما اخذ موضوعاً لما یضادّ حکم متعلّقه(3).

و رابعة: بلزوم لَغْویّة الحکم الثانی فی المماثل؛ لأنّ المکلَّف إن انبعث بالحکم الأوّل، فلا باعثیّة و لا محرّکیّة للحکم الثانی له، و لا أثر له، و إلّا فالثانی- أیضاً- کذلک(4).

و خامسة: أنّه یستلزم اجتماع المصلحة و المفسدة فی شی ء واحد فیما اخذ فیما یضادّکم حکم متعلّقه(5).

و الجواب عن ذلک ما تقدّم فی باب القطع: من اختلاف عنوانی المتعلّقین، فإنّ عنوان الخمر غیر عنوان الظنّ المضاف إلی الخمر؛ بجعل الإضافة جزء الموضوع و المضاف إلیه خارجاً؛ بأن یُجعل الظنّ تمام الموضوع، فإنّ بینهما عموماً من وجه؛ لتصادقهما فی صورة الإصابة، و تفارقهما فی صورتی حصول الظنّ به مع عدم کونه خمراً فی الواقع، و فی عدم حصول الظنّ مع کونه خمراً فی الواقع، و الأحکام- أیضاً- متعلِّقة بالعناوین لا بالخارج، فأحد الحکمین متعلِّق بعنوان الخمر، و الآخر بعنوان الظنّ بالخمریّة، و مع اختلاف متعلَّقهما لا یلزم اجتماع المِثْلین- و لا الضدَّین و لا المصلحة و المفسدة- فی موضوع واحد، و لا یمتنع انقداح الإرادة بأحدهما


1- نهایة الأفکار 3: 27- 28.
2- نهایة الدرایة 2: 24 و 25.
3- أجود التقریرات 2: 19.
4- فوائد الاصول 3: 34 و 36.
5- یأتی البحث عنه فی جواب الشیخ الأعظم رحمه الله عن شبهة ابن قبة.

ص: 57

و الکراهة فی الآخر و إن تصادقا فی بعض المصادیق، و یصیر ذا مفسدة و مصلحة باعتبار العنوانین.

و أمّا الإشکال: بأنّه أمر بالمحال، فیدفعه: بأنّ کلّ واحد منهما فی نفسه ممکن، فهو لیس کالأمر بالطیران إلی السماء؛ کی یقال: إنّه ممتنع. نعم قد یتّفق عدم إمکان امتثالهما فی صورة التصادق علی واحد، لکنّه- حینئذٍ- مثل باب التزاحم، فیجب الأخذ بالأهمّ، و مع عدمه فالتخییر.

نعم الإشکال وارد فیما إذا اخذ الظنّ جزء الموضوع؛ بأن یجعل الموضوع هو الظنّ بالخمریّة مع کونه خمراً فی الواقع، فإنّه- حینئذٍ- لا یمکن أن یکون حکمُ الخمرِ الحرمةَ و حکمُ المظنونِ الخمریّةِ الحلّیّةَ، أو حرمةً اخری؛ لعدم إمکان تعلُّق حکمین مشتملین علی مصلحتین أو مصلحة و مفسدة: أحدهما متعلّق بالطبیعة، و الثانی بالطبیعة المقیَّدة، کما تقدّم نظیره فی القطع.

ثمّ إنّه فصّل المحقّق المیرزا النائینی قدس سره بین الظنّ المعتبر و الغیر المعتبر، و أنّه لا یمکن أن یؤخذ الظنّ المعتبر موضوعاً لحکم مماثل لحکم متعلَّقه، و إمکانه فی الظنّ الغیر المعتبر بعد اشتراکهما فی عدم إمکان أخذه موضوعاً لما یضادّ حکم متعلّقه.

و ملخّص ما ذکره فی بیان ذلک: هو أنّه لو لم یکن الظنّ حجّة شرعیّة فلا مانع من أخذه موضوعاً لما یُماثل حکم متعلّقه، غایة الأمر أنّه فی صورة مصادفة الظنّ یتأکّد الحکمان، و یتولّد منهما حکم آکد، کما هو الشأن فی اجتماع عنوانین علی موضوع واحد، بخلاف الظنّ الذی هو حجّة شرعیّة، فإنّه لا یمکن ذلک لوجهین:

الأوّل: فلأنّ الواقع فی طریق إحراز الشی ء لیس من طوارئ ذلک الشی ء، فإذا کان حکم الخمر فی الواقع الحرمة، فلا یمکن أن یوجب إحراز تلک الحرمة

ص: 58

حکماً آخر علی الخمر المُحرَزة.

الثانی: أنّه یلزم لَغْویّة الحکم الثانی؛ لعدم صلاحیّته لباعثیّة العبد و محرّکیّته، فإنّ الانبعاث یحصل بنفس إحراز الحکم الواقعی المجعول علی الخمر، فلا معنی لجعل حکم آخر علی ذلک المحرز.

ثمّ عدل عن ذلک فی الفذلکة التی ذکرها بعد ذلک؛ حیث قال ما حاصله: إنّه لا یمکن أخذ الظنّ موضوعاً للحکم المماثل أیضاً؛ لأنّ جعله لذلک یساوق اعتباره و حجّیّته، و المفروض عدم اعتباره(1). انتهی ملخّصاً.

أقول: لو تعدّد متعلَّقا الحکمین فی الظنّ الغیر المعتبر، فهو لا یستلزم اجتماع المِثْلین، و لیس أحدهما مؤکِّداً للآخر، فإنّهما حکمان مستقلّان متعلِّقان بموضوعین، و إلّا فلا یمکن ذلک حتی یؤکَّد أحدهما بالآخر.

و أمّا ما ذکره من لزوم اللَّغْویّة، فقد أجاب هو قدس سره عنه بإمکان التأکید.

و أمّا ما ذکره: من أنّ الواقع فی طریق إحراز الشی ء ... الخ، فیرد علیه:

أوّلًا النقض: بالظنّ الغیر المعتبر، فإنّه لا فرق بینهما فی ذلک.

و ثانیاً بالحلّ: بأنّ الظنّ بالحکم لیس من الانقسامات اللاحقة للحکم و فی مرتبة متأخّرة عنه؛ حتی یقال: إنّه مستحیل.

و أمّا ما ذکره فی الفذلکة، ففیه: أنّ أخذ الظنّ فی الموضوع عبارة عن تصوّره کذلک، و هو لا یلازم جعل حجّیّته و اعتباره، کما لا یخفی.


1- فوائد الاصول 3: 33- 36.

ص: 59

الفصل العاشر فی الموافقة الالتزامیّة

اشارة

قال فی «الکفایة» هل تنجُّز التکلیف بالقطع، کما یقتضی موافقته عملًا، یقتضی موافقته التزاماً و التسلیم له اعتقاداً و انقیاداً، کما هو اللازم فی الاصول الدینیّة و الامور الاعتقادیّة؛ بحیث کان له امتثالان و طاعتان: إحداهما بحسب القلب و الجنان، و الاخری بحسب العمل بالأرکان، فیستحقّ العقوبة علی عدم الموافقة التزاماً و لو مع الموافقة عملًا أولا، ثمّ اختار الثانی بشهادة الوجدان الحاکم فی باب الإطاعة و العصیان بذلک(1)، و ذکر ذلک غیره(2) أیضاً.

و قبل الخوض فی هذا البحث لا بدّ من بیان ما أهملوه و غفلوا عنه فی المقام:

و هو أنّه هل یمکن تعلُّق حکم بالانقیاد و التسلیم القلبی فی مقام الثبوت، أولا؛ لخروجه عن تحت القدرة و الاختیار؟

و توضیحه یتوقّف علی رسم مقدّمات:
اشارة

1- کفایة الاصول: 308.
2- نهایة الدرایة 2: 26 سطر 13، نهایة الأفکار 3: 53- 54.

ص: 60

المقدّمة الاولی:

أنّ الأحکام علی قسمین:

أحدهما: ما یتعلّق بالعمل الجوانحی، المطلوب فیها الاعتقاد و عقد القلب و الانقیاد.

ثانیهما: ما یتعلّق بالعمل الجوارحی، المطلوب منها العمل بالأرکان فی الخارج.

و الاولی منها: إمّا عقلیّة محضة، و لا سبیل للنقل إلیها، و طریقُ إثباتها: إمّا البرهان الدقیق العقلی، مثل إثبات وجود الباری- تعالی و تقدّست أسماؤه- و أنّ لهذه المصنوعات و المخلوقات صانعاً و خالقاً، و کذا توحیده و نفی الشریک عنه.

و إمّا ثابتة بالضرورة من الدین أو المذهب، مثل أصل وجود الجنّة و النار و الحساب و نحوها و بعض خصوصیّاتها، و إمّا بالآیات الصریحة و الأخبار المتواترة أو المفیدة للقطع و الیقین.

و أمّا القسم الثانی: أی الأحکام المطلوب منها العمل الجوارحی، فطریق إثبات بعضها الضرورة من الدین أو المذهب، و بعضها بالإجماع القطعی أو الأخبار المتواترة و الأخبار المعتبرة و الآیات القرآنیّة.

المقدّمة الثانیة:

أنّ الخوف و الرجاء و نحوهما من الکیفیّات و الأحوال العارضة للنفس، منها ما لیست تحت القدرة و الاختیار؛ بحیث یمکن للنفس إیجادها متی شاءت و إعدامها کذلک، بل هی تابعة لمبادیها الکامنة فی صُقع النفس، و تدور مدارها وجوداً و عدماً، فلا یمکن للنفس إیجاد الخوف فی ذاتها مع عدم وجود مبادیه فیها، و لا یمکن لها إعدامه مع وجود مبادیه فیها، نعم یمکن إیجاد نفس مبادیه بالتأمّل و التدبُّر.

المقدّمة الثالثة:

هل الانقیاد و التسلیم القلبی بوجوب الواجبات و حرمة المحرَّمات، و کذلک ما تقدّم من الأحکام المطلوب منها الانقیاد و الاعتقاد، من

ص: 61

الأفعال الاختیاریّة للنفس؛ بحیث تتمکّن من إیجادها و إیجاد ما یضادّها؛ بأن تنقاد و تعتقد وجوب ما علمت حرمته أو بالعکس، أو أنّ ذلک لیس من أفعالها الاختیاریّة، بل تدور مدار مبادیها الکامنة فی النفس وجوداً و عدماً، نظیر الخوف و الرجاء و نحوهما؟

فذهب سیّد مشایخنا- السیّد علی الفشارکی- إلی إمکان ذلک، و حاصل ما استدلّ به علی ذلک:

هو أنّه کما یمکن التجزُّم الذی هو المناط فی کذب القضایا- کما أنّ المناط فی الصدق الجزم بما أخبر به- فکذلک الالتزام و الانقیاد بما لیس مأموراً به- مثلًا- فکما یمکن تکلُّف الجزم بشی ء مع عدمه، فکذلک فیما نحن فیه(1). انتهی.

و فیه: أنّ هذا أوّل الکلام، و لیس المناط فی صدق القضایا و کذبها الجزم و التجزّم، بل المناط فیهما إلقاء المخاطب فیما هو الواقع أو خلافه، مع استعمال مفردات القضیّة فی معناها الحقیقی، و لذا لو أخبره بنحو الاحتمال و التردید لم یکن کذباً؛ لأنّه لم یُلقِهِ و لم یُوقعه فی خلاف الواقع.

و استدلّ بعض المحقّقین من المحشّین- الشیخ محمد حسین الأصفهانی قدس سره- علی ذلک بما حاصله:

أنّ الالتزام الباطنی لیس من مقولة الکیف النفسانی؛ لأنّ المفروض أنّه من أفعال النفس، و لا من مقولة الفعل؛ لأنّها عبارة عن الحالة الحاصلة للشی ء عند تأثیره التدریجی فی غیره، کالتسخین للنار، فی قبال الحالة الحاصلة من التأثّر التدریجی، و الالتزام الباطنی لیس کذلک؛ لأنّه لیس هنا شیئان لأحدهما حالة التأثیر التدریجی و للآخر حالة التأثر التدریجی، بل الفعل القلبی ضرب من الوجود النوری، و الوجود فی مقابل المقولات، و هذا الفعل قائم بالنفس قیاماً صدوریّاً.


1- انظر ما نقله عنه فی درر الفوائد: 70.

ص: 62

و بالجملة: الأفعال القلبیّة امور یُدرکها الوجدان، فإنّ الإنسان کثیراً ما یعلم بأهلیّة المنصوب من قِبَل من له النصب، لکنّه لا ینقاد له قلباً، و لا یُقِرّ به باطناً؛ لخباثة نفسه أو لجهة اخری، و إن کان فی مقام العمل یتحرّک بحرکته خوفاً من سطوته، و هکذا حال کثیر من الکفّار بالنسبة إلی نبیّنا صلی الله علیه و آله و سلم حیث إنّهم مع علمهم بحقیّته- کما نطق به القرآن- لم ینقادوا له قلباً، و لم یُقرّوا به باطناً، و لو کان ملاک الإیمان الحقیقی نفس العلم التصدیقی، لزم کونهم مؤمنین حقیقة، أو جعل الإیمان- الذی هو أکمل الکمالات- مجرّد الإقرار باللسان، و کلاهما ممّا لا یمکن الالتزام به(1).

أقول: أمّا ما ذکره: من أنّ الالتزام الباطنی من أفعال النفس، فهو مجرّد دعوی یمکن دعوی خلافه.

و أمّا ما ذکره من أنّه ضربٌ من الوجود النُّوری ... إلی آخره.

ففیه: أنّه إمّا وجود مطلق لا ماهیّة له، أو وجود محدود له ماهیّة أصیلة فی قِبال الانتزاعیّات، لا سبیل إلی الأوّل، فلا بدّ من أن یکون من الموجودات المحدودة له ماهیّة أصیلة، و کلُّ ما له ماهیّة فهو داخل تحت إحدی المقولات لیس خارجاً عنها.

و أمّا ما ذکره من أنّ الإنسان کثیراً ما یعلم بأهلیّة المنصوب ... إلی آخره.

ففیه: أنّه لو علم الإنسان بنبوّة شخصٍ من قِبَل اللَّه تعالی علماً قطعیّاً، امتنع الالتزام القلبی بعدم نبوّته، و أنّه لیس منصوباً من قِبَله تعالی. نعم یمکن توهُّم ذلک و مجرّد تصوُّره، لکنّه غیر الانقیاد القلبی و الموافقة و خلافهما.

و أمّا حال کثیر من الکفّار بالنسبة إلی نبیّنا صلی الله علیه و آله و سلم فإنّهم مع علمهم بحقیقته و نبوّته و نصبه من قِبَل اللَّه تعالی، یجحدون نُبوّته لفظاً و لساناً و بالبناء العملی، و إلّا


1- نهایة الدرایة 2: 26 سطر 7.

ص: 63

فمع العلم المذکور یمتنع الالتزام القلبی بعدم نبوّته و عدم نصبه من قِبَل اللَّه تعالی، و هو غیر الجَحْد اللفظی الذی ینشأ من العداوة الکامنة فی نفوسهم له صلی الله علیه و آله و سلم حیث إنّ العلم ذو مراتب متفاوتة، فإنّ علم الأنبیاء بوجوده تعالی- و کذلک المعصومین- فی مرتبةٍ کأنّهم یرونه تعالی حاضراً و ناظراً، و العصمة مُعلَّلة بهذا العلم، بخلاف العلوم الحاصلة لنا، فإنّه و إن لم یمکن الالتزام بخلافها- أیضاً- إلّا أنّه قد یُخالفه عملنا، و کذلک قد یَجحد لفظاً و لساناً قال تعالی: «وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا»(1)، فالمراد منها ما ذکرناه، و لا إشکال فی إمکان ذلک، لکن لا ارتباط له بالمقام.

و التحقیق: أنّ الانقیاد و الموافقة الالتزامیّة من الحالات النفسانیّة التی تدور مدار مبادیها، و هی العلم وجوداً و عدماً، و لا یمکن وجودُها و تحقّقها مع عدم مبادیها، و عدمها مع وجودها، کما أنّه کذلک فی التکوینیّات، فکما أنّه لو علم تفصیلًا بأنّ هذا زید لم یمکن الالتزام بأنّه لیس بزید قلباً، و کذلک لو علم إجمالًا بأنّ هذا أو ذاک زید، فلا یمکن له الالتزام القلبی بأنّه لیس واحداً منهما، فکذلک فی الأحکام.

ثمّ إنّه هل یکون من قِبَل لزوم الالتزام مانع عن جریان الاصول فی أطراف العلم الإجمالی؛ علی فرض جریانها فیها مع قطع النظر عن هذه الجهة، أو أنّ جریان الاصول رافع لوجوب الموافقة الالتزامیّة، أو أنّه لا ارتباط لأحدهما بالآخر؟ وجوه:

و الحقّ: هو الأخیر؛ و ذلک لأنّه کما أنّ المفروض أنّه لا مانع من جعل حکمٍ واقعیٍّ لشی ءٍ بعنوانه الواقعی الأوّلی، و جعل حکمٍ ظاهریّ له بعنوان أنّه مشکوک الحکم أو مجهوله، و لا تنافی بین القطع بالحکم الواقعی إجمالًا و بین القطع بالحکم الظاهری، فکذلک لا تنافی بین لزوم الموافقة الالتزامیّة بالحکم الواقعی، و بین


1- النمل( 27): 14.

ص: 64

جریان الاصول فی أطراف العلم الإجمالی، بل بین الالتزام بالحکم الواقعی و بین الالتزام بالحکم الظاهری أیضاً.

ص: 65

الفصل الحادی عشر فی أحکام العلم الإجمالی

اشارة

و قد عرفت أنّ المناسب البحث عن جمیع مباحث العلم الإجمالی فی هذا الباب، و جعل باب الاشتغال مُمحّضاً للبحث عن إطلاق الأدلّة، و أنّه هل لها إطلاق یشمل صورة الشکّ و الجهل بالحکم، أو أنّها تختصّ بصورة العلم به تفصیلًا، و البحث عن الحجّة الإجمالیّة.

و علی أیّ تقدیر فهنا مسائل:
المسألة الاولی: فی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیّة

هل العلم الإجمالی کالعلم التفصیلی فی حرمة المخالفة القطعیّة، أو أنّه فرق بینهما من هذه الجهة، و أنّه کالشکّ البدوی، و لا یحرم مخالفته القطعیّة؟

فیمکن أن یقال فی تقریب الثانی: إنّه یعتبر فی استحقاق العقوبة العلم التفصیلی بحرمة الشی ء تفصیلًا حین ارتکابه، کما هو مقتضی حکم العقل الحاکم فی باب استحقاق العقوبة و المثوبة استقلالًا، و حینئذٍ فمع ارتکاب أطراف العلم

ص: 66

الإجمالی تدریجاً لا یعلم بحرمة کلّ واحد من الأطراف حین ارتکابه تفصیلًا.

نعم بعد ارتکاب جمیع الأطراف یحصل له العلم بارتکابه المحرّم الواقعی، و العقل لا یستقلّ بالحکم بالعقوبة علی من یعلم بعد الارتکاب أنّه فعل محرّماً قبل ذلک من دون أن یعلم به حین الارتکاب(1).

بل یمکن أن یقال: بعدم استحقاقه العقوبة لو ارتکب جمیع الأطراف دفعة واحدة أیضاً؛ لأنّ کلّ واحد منها غیر معلوم الحرمة، و المجموع لا حکم له، و لکن لا یخفی فساده؛ لشهادة الوجدان بعدم الفرق بین العلم التفصیلی و الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیّة، کما لو علم إجمالًا بأنّ أحد الشخصین ابن المولی فقتلهما، فإنّه لا ریب فی استحقاقه العقوبة عقلًا، کما لو علم به تفصیلًا، و لا یُعذر فی ذلک أصلًا.

فتلخّص: أنّ العلم الإجمالی لیس کالشکّ البدوی، بل هو کالعلم التفصیلی فی حرمة المخالفة القطعیّة العملیّة، و أنّه علّة تامّة لها.

المسألة الثانیة: فی وجوب موافقة القطعیّة و عدمه
اشارة

بعد ما ثبت أنّه لیس کالشکّ البدوی، فهل هو علّة تامّة بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، کما أنّه کذلک بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة؛ بحیث لا یمکن للمولی أن یحکم بخلافه، أو أنّه مقتضٍ لها؛ بمعنی أنّه یقتضی وجوبها لو لا المانع الشرعی أو العقلی، و مع عدمه تجب الموافقة القطعیّة، فهو مقتضٍ لوجوبها یمکن منعه، و أمّا بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة فهو علّة تامّة لا یمکن منعه، أو أنّه لیس علّة تامّة بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، و لا مقتضیاً لها و إن حرمت المخالفة القطعیّة؟ وجوه:

ذهب المحقّق الخراسانی قدس سره فی «الکفایة» إلی أنّه مقتضٍ بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة و المخالفة القطعیّة کلتیهما؛ بمعنی أنّه منجِّز للتکلیف لو لا المانع


1- انظر فوائد الاصول 3: 75.

ص: 67

الشرعی أو العقلی، و استدلّ علیه بوجهین:

أحدهما: أنّه لمّا کانت مرتبة الحکم الظاهری معه محفوظة، و لیس الواقع منکشفاً تمام الانکشاف، أمکن الإذن من الشارع بمخالفته احتمالًا- بل قطعاً- فی کلّ واحدٍ من الطرفین، و احتمالُ جواز الإذن فی بعض الأطراف دون بعضٍ- بأن یکون العلم الإجمالی مُقتضیاً بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة و علّةً تامّة بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة- ضعیف جدّاً؛ ضرورة أنّ احتمال ثبوت المتناقضین کالقطع بثبوتهما فی الاستحالة.

ثانیهما: النقض بموارد ثبوته فی الشبهة الغیر المحصورة، بل الشبهات البدویّة أیضاً، فإنّه کما أمکن الإذن من الشارع فی اقتحام جمیع الأطراف فی الشبهة الغیر المحصورة مع العلم الإجمالی بالتکلیف، فکذلک فیما نحن فیه، و کذلک فی الشبهات البدویّة، فإنّ الإذن القطعی و الترخیص فی الارتکاب مناقض لاحتمال الحرمة.

و الحاصل: أنّه لا تفاوت بین ما نحن فیه و بین الشبهات الغیر المحصورة- بل الشبهات البدویّة- فی أنّه لو کان العلم الإجمالی بثبوت التکلیف علّةً تامّة لوجوب الموافقة و حرمة المخالفة القطعیّتین العملیّتین؛ بحیث یضادّه الترخیص فی الاقتحام، لکانت الشبهة البَدْویّة و الشبهة الغیر المحصورة کذلک، فما هو الجواب و البیان فیهما لدفع التضادّ، هو الجواب و البیان فیما نحن فیه(1). انتهی.

أقول: المفروض فی المقام تعلُّق العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی، لا التکلیف الشأنی؛ لأنّ المفروض أنّ هذا العلم طریق إلی الواقع، و لیس مثل الشکّ البَدْوی، و لأنّ المفروض أنّه لا فرق بینه و بین العلم التفصیلی، إلّا فی أنّ متعلّق العلم الإجمالی مردّد بین أزید من واحد، و إلّا فهو کالعلم التفصیلی متعلّق بحکم فعلیّ،


1- کفایة الاصول: 313- 314.

ص: 68

و أنّ المولی أراده فعلًا إرادةً حتمیّة، فالعالم بالإجمال یری الواقع حکماً فعلیّاً منکشفاً لدیه، غایة الأمر أنّ متعلّق علمه مردّد بین أمرین، و معه کیف یمکن الإذن و الترخیص فی الفعل و الترک من الشارع ثبوتاً؟! و لا فرق فی ذلک بین کونه علّة تامّة أو مقتضیاً، فالکلام فی إمکان الترخیص ثبوتاً، و لا تصل النوبة إلی کیفیّة تنجیزه، و أنّه هل هو بنحو الاقتضاء، أو العلّیّة التامّة؟

و الحاصل: أنّه یمتنع الترخیص من المولی فعلًا مع العلم بإرادته أو الزجر عنه فعلًا.

و أمّا الشبهة البدویّة: فمع الإذن فی الاقتحام لا بدّ أن یرفع المولی یده عن الحکم الواقعی فعلًا علی تقدیر ثبوته و کونه شأنیّاً، و مع العلم بالترخیص الفعلی لا یحتمل فعلیّة الحکم الواقعی علی تقدیر ثبوته.

و هکذا الکلام فی الشبهة الغیر المحصورة، فإنّ الإذن فی أکل الجُبُن، مع العلم الإجمالی بوجود المیتة فی أحد أفراده الموجودة فی البلد، معناه رفع الید عن الحکم الواقعی المعلوم إجمالًا علی فرض أنّه النجس فی الواقع، و أنّه حکم شأنیّ.

فتلخّص: أنّه فرق بین ما نحن فیه و بین الشبهة البدویّة و الغیر المحصورة، و أنّ المفروض تعلّق العلم الإجمالی فیما نحن فیه بتکلیفٍ فعلیٍّ واقعیٍّ مردّد بین الأطراف، و معه لا یمکن منع الشارع من العمل به، کما فی العلم التفصیلی، و أنّه لا فرق بین الموافقة العملیّة القطعیّة و المخالفة القطعیّة فی أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لهما.

و ممّا ذکرنا یظهر ما فی التفصیل الذی ذهب إلیه المحقّق المیرزا النائینی قدس سره

بین الموافقة القطعیّة و المخالفة القطعیّة، و أنّه مقتضٍ بالنسبة إلی الاولی، و علّة تامّة بالنسبة إلی الثانیة.

و حاصل ما أفاده فی وجه ذلک: هو أنّ المعلوم بالإجمال لا یزید علی

ص: 69

التکلیف المعلوم بالتفصیل، و هو لا ینحصر امتثاله بالقطع الوجدانی، بل یکفی التعبُّد الشرعی فیه، کموارد قاعدة الفراغ و التجاوز و غیر ذلک من الاصول المجعولة فی وادی الفراغ، فإن کان هذا حال العلم التفصیلی فالعلم الإجمالی أولی منه فی ذلک؛ لأنّ الواقع لم ینکشف فیه تمام الانکشاف، فیجوز للشارع الترخیص فی بعض الأطراف، و الاکتفاء عن الواقع بترک الآخر(1).

أقول: قد عرفت أنّ المفروض أنّ العلم الإجمالی قد تعلّق بالحکم الفعلی، و أنّ المولی أراده فعلًا إرادة حتمیّة، و مع ذلک کیف یمکن الترخیص فی ارتکاب بعض الأطراف؟! و هل هذا إلّا التناقض، و أمّا جریان قاعدة الفراغ و نحوها فی موارد العلم التفصیلی بالتکلیف، فلا بدّ فیه من التصرّف فی المعلوم؛ بمعنی رفع الید عن الواقع، و إلّا فلو عُلم أنّ الواجب هو الإتیان بعشرة أجزاء من الصلاة بالفعل، و أنّ الشارع أرادها إرادة حتمیّة فعلًا، فلا یُعقل الإذن فی ترک بعضها.

فإن قلت: قد تقدّم فی باب اجتماع الأمر و النهی: أنّ کلّ واحد منهما متعلّق بعنوان غیر ما تعلّق به الآخر، و فرّعتم علیه جواز الاجتماع، فلیکن ما نحن فیه- أیضاً- من هذا القبیل، فإنّ متعلَّق الحکم الواقعی هو الشی ء بعنوانه الأوّلی الواقعی، و متعلَّق الترخیص هو بعنوان أنّه مشکوک کالخمر و الخمر المشکوک الخمریّة، و بینهما عموم من وجه قد یتصادقان فی واحد، لکن یکفی فی رفع التضادّ بینهما اختلاف متعلَّقهما.

قلت: فیه أوّلًا: أنّ البحث فی المقام عقلیّ و لیس دائراً حول متعلّقات الأحکام، بل الکلام فی أنّه مع العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی، هل یمکن الترخیص فی مخالفته أو لا؟ و قد بیّنّا عدم إمکانه.

أضِفْ إلی ذلک: أنّ الأمر فی باب الاجتماع متعلّق بنفس الطبیعة من دون


1- فوائد الاصول 4: 34.

ص: 70

التفات الآمر إلی الأفراد؛ و إن اتّحد بعض مصادیقها مع بعض مصادیق الطبیعة المنهیّ عنها، و کذلک النهی، و ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ المفروض أنّ الحکم الواقعی متعلِّق بالخمر بعنوانه الواقعی، و أنّ الترخیص إنّما هو فی ارتکاب مشکوک الخمریّة، و الآمر حین الترخیص ناظر إلی الخمر بعنوانها الأوّلی الواقعی، فلا یمکن- مع حرمته واقعاً- الترخیص فی ارتکابه.

المسألة الثالثة: فی کفایة الامتثال الإجمالی مع إمکان التفصیلی

هل یکفی الامتثال الإجمالی؛ بالإتیان بأطراف المعلوم بالإجمال، مع التمکّن من الامتثال التفصیلی، أو لا؟

و قبل الشروع فی البحث لا بدّ أوّلًا من بیان محطّ البحث و محلّ النزاع، فنقول: محطّ البحث إنّما هو فی القطع الطریقی المحض الذی هو کالقطع التفصیلی الطریقی المحض من غیر فرق بینهما فی ذلک إلّا بالإجمال و التفصیل، و حینئذٍ یقع البحث فی أنّه: هل یکفی الامتثال الإجمالی- مع التمکّن من الامتثال التفصیلی- بالإتیان بجمیع الأطراف، و لا یقدح الإجمال فی متعلّق التکلیف، أو أنّ التردید و الإجمال فیه قادح فی تحقّق الامتثال حینه؟

و منه یظهر الإشکال فی ما حکاه المحقّق العراقی قدس سره عن بعضهم حیث ذکر هنا من الأدلّة لعدم الکفایة اشتراطَ نیّة الوجه أو التمییز أو احتماله، بل ذکر: أنّ هذا عمدة الإشکالات و أهمّها؛ لعدم تحقّق قصد الوجه معه، و عدم جریان البراءة العقلیّة لأجل احتمال اعتبار قصد الوجه، فلا یحکم العقل بعدم اعتباره، و لا یمکن التمسُّک بالإطلاق- أیضاً- فیه(1). انتهی ملخّص کلامه قدس سره.

و ذلک لما عرفت من أنَّ البحث فی باب القطع ممحّض فی قدح الإجمال


1- نهایة الأفکار 3: 50.

ص: 71

- فی متعلّق التکلیف- فی تحقُّق الامتثال و عدمه، فإنّه المناسب لباب القطع، و لا البحث فی اعتبار نیّة الوجه و عدمه، فإنّه بحث فقهیّ لا ارتباط له بالمقام- أی باب القطع- و کذلک جریان البراءة و عدمه، فإنّه مربوط بباب البراءة و الاشتغال، و کذلک البحث فی الإطلاق و عدمه فإنّه مربوط بباب المطلق و المقیّد، و کذلک القطع الموضوعی، فالبحث هنا ممحّض فی أنّه هل یکفی الامتثال الإجمالی أو لا، مع قطع النظر عن اعتبار قصد الوجه و التمییز؟

فنقول: لا إشکال فی کفایته فی التوصُّلیّات، و إنّما الکلام فی العبادات، فاستُدلّ علی عدم کفایته فیها بوجهین:

الأوّل: أنّه لعب و عبث بأمر المولی، فإنّه لو علم إرادته لشی ء إجمالًا، لکنّه لا یعلم به تفصیلًا، فأتی العبد بجمیع ما یحتمل إرادته من الامور المتضادّة و المتخالفة، فلا ریب فی أنّه یُعدّ مستهزئاً بالمولی لا ممتثلًا(1).

فیه: أنّ ذلک مغالطة فی المثال، فإنّه لو علم بأنّ المولی عطشان، و أنّه أراد الإتیان بالماء، و لکنه لا یعلم أنّه أراده من هذا الإناء أو ذاک، فأتاه العبد بالإناءین، فلا ریب فی تحسین ذلک عرفاً، و عدّه ممتثلًا لإرادة المولی، لا لاعباً و عابثاً فی أمره، و المفروض أنّ الداعی له علی ذلک هو الامتثال و إطاعة المولی حقیقة، لا الاستهزاء و السخریة بالمولی، بل یمکن أن یقال- کما فی «الکفایة»-: إنّه لو کان قاصداً للامتثال فی أصل العمل، و لاعباً فی کیفیّته(2)، کما لو فعل الصلاة فی مکان غیر متعارف؛ لیضحک الناس، لکن داعیه إلی أصل الإتیان هو امتثال أمره، فلا إشکال فیه علی ما اخترناه من عدم قدح الضمائم المحرّمة فی النیّة، فضلًا عن المباحة و الراجحة.


1- فرائد الاصول: 299 سطر 21.
2- انظر کفایة الاصول: 316.

ص: 72

الثانی من الوجهین: ما ذکره بعض الأعاظم- المحقّق النائینی- و حاصله:

أنّ للامتثال و الإطاعة عند العقل أربع مراتب:

الاولی: الامتثال التفصیلی؛ سواء کان بالعلم الوجدانی أم بالطرق و الأمارات، فإنّ الامتثال بالظنون الخاصّة فی حکم الامتثال الوجدانی.

الثانیة: الامتثال العلمی الإجمالی فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

الثالثة: الامتثال الظنّی؛ سواء فی ذلک الظنّ الذی لم یقم دلیل علی اعتباره، أم کان هو دلیل الانسداد.

الرابعة: الامتثال الاحتمالی، کما فی الشبهات البدویّة و المقرونة بالعلم الإجمالی عند تعذّر الامتثال العلمی الإجمالی أو الظنّی، و لا إشکال فی أنّه لا تصل النوبة إلی الامتثال الاحتمالی إلّا بعد تعذُّر الامتثال الظنّی، و لا تصل النوبة إلی الامتثال الظنّی إلّا بعد تعذُّر الامتثال العلمی الإجمالی.

و إنّما الإشکال فی المرتبتین الأوّلتین: فقیل: إنّهما فی عرض واحد، و قیل بتقدیم مرتبة الامتثال التفصیلی مع الإمکان علی الامتثال الإجمالی، و هو الأقوی فیما إذا استلزم تکرار العمل، فإنّ حقیقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولی؛ بحیث یکون الداعی له نحو العمل هو تعلّق الأمر به و انطباق المأمور به علیه، و هذا المعنی لا یتحقّق فی الامتثال الإجمالی، فإنّ الداعی له نحو العمل بکلّ واحد من فردی التردید، لیس إلّا احتمال تعلّق الأمر به، فإنّه لا یعلم انطباق المأمور به علیه بالخصوص، نعم بعد الإتیان بکلا فردی التردید یعلم بتحقّق ما ینطبق علیه المأمور به، لکن الانبعاث لیس عن بعث المولی، فلیس هو إطاعة حقیقیّة؛ لما عرفت من أنّه یُعتبر فی حقیقتها أن یکون الانبعاث عن البعث.

فإن قلت: فی صورة الامتثال الاحتمالی- أیضاً- الباعث نحو العمل هو الأمر المحتمل، فلا بدّ أن یُعدّ إطاعة.

ص: 73

قلت: لا یمکن ذلک؛ لأنّه لو کان للداعی جزءان: أحدهما الأمر، و ثانیهما احتماله، فلا بدّ من إحراز کلا الجزءین؛ حتی یتحقّق الانبعاث، و مع إحراز الجزء الأوّل- و هو الأمر- لا یبقی الجزء الثانی بل ینتفی؛ لتحقّق القطع بالآخر.

و إن قلت: إذا قطع بالأمر، فانبعث منه، فانکشف خطاؤه و عدم إصابة قطعه للواقع، فلیس هذا الانبعاث عن البعث الواقعی؛ لأنّ المفروض عدمه مع تحقّق الانبعاث فی الفرض، فلیس الباعثُ و الداعی للانبعاث فی صورة القطع- أیضاً- الأمرَ الواقعی، نظیر ما لو قطع بوجود الأسد الذی یُخاف منه، فإنّ الخوف مسبّب عن العلم بالأسد، لا نفس الأسد؛ فإنّ کثیراً ما یوجد الأسد مع عدم العلم به، و لا یحصل الخوف، و کثیراً ما یحصل الخوف مع العلم بالأسد مع خطاء علمه.

قلت: لیس کذلک، فإنّ القاطع حیث یری الواقع، و ینکشف لدیه، یکون الباعث له هو نفس الواقع، أمّا فی صورة مصادفة القطع للواقع فواضح، و أمّا فی صورة عدم المصادفة فالباعث له- أیضاً- توهُّم الواقع و تخیُّله، و قضیّة الخوف- أیضاً- کذلک، فإنّ الذی یُخاف منه هو الأسد أو توهّمه، لا العلم به(1). انتهی.

أقول: أمّا ما ذکره: من عدم الإشکال فی عدم کفایة الامتثال الاحتمالی، ففیه:

أنّه قدس سره توهّم أنّ المراد بالامتثال الاحتمالی: هو أن یأتی بأحد أطراف العلم الإجمالی حسب، و یکتفی به مطلقاً، لکن لیس المراد منه ذلک، بل المراد من الامتثال الاحتمالی: هو ما إذا أتی به باحتمال أنّه المأمور به، فانکشف بعد الفراغ أنّه هو المأمور به، فمُدّعی کفایته یقول بعدم لزوم الإتیان بسائر الأطراف، لا أنّه یدّعی کفایته مطلقاً؛ سواء انکشف الخلاف أم لا.

و الحقّ هو کفایته؛ أ لا تری أنّه لو ظنّ أو احتمل التکلیف لشبهة بدویّة، فأتی


1- فوائد الاصول 3: 69- 73.

ص: 74

به لاحتمال التکلیف أو ظنّه، فبدا له أنّه المأمور به واقعاً، فإنّه لا ریب فی کفایته و عدم وجوب إعادته.

و أمّا ما أفاده فی بیان عدم کفایة الامتثال الإجمالی، فنقول: هنا مطالب:

الأوّل: الکلام فی الکبری الکلّیّة التی ذکرها، و هی أنّ حقیقة الإطاعة هو الانبعاث عن البعث الحقیقی.

الثانی: أنّه هل یعتبر فی تحقّق الامتثال قصد الإطاعة أو لا؟

الثالث: فی کیفیّة تحقّق الامتثال الإجمالی.

أمّا الأوّل: ففیه أنّا قد نری بالعیان أنّه قد ینبعث المکلّف إلی الامتثال؛ باحتمال التکلیف فی الشبهة البدویّة، فیصادف الاحتمال الواقع، فإنّه لا ریب فی صدق الامتثال علیه، و أنّه أطاع المولی، و لا یجب علیه الإتیان به ثانیاً بعد الانکشاف، بل یمکن أن یقال: بأنّه أولی بأن یعدّ مطیعاً و ممتثلًا ممّن امتثل مع العلم بالتکلیف.

أضف إلی ذلک: أنّ الداعیَ لبعض المکلّفین للإتیان بالمکلّف به و عبادته تعالی، هو استحقاقه تعالی للإطاعة، و لبعضٍ آخر الخوفُ من النار، و لبعضٍ ثالث الرجاءُ و الطمع فی المثوبة و نِعم اللَّه تعالی فی الجنان، فالداعی لهم لیس هو الأمر الواقعی، فلیس مجرّد الأمر و البعث باعثاً للعبد نحو الفعل.

ثمّ علی فرض تسلیم ذلک، و أنّ الإطاعة لا تتحقّق إلّا مع العلم بالبعث، لکن الداعی و الباعث علی الإتیان بأطراف العلم الإجمالی و الامتثال الإجمالی، هو التکلیف المعلوم الواقعی إجمالًا، فإنّه یأتی بکلّ واحد من الأطراف بداعی امتثال ذلک التکلیف المعلوم واقعاً.

مضافاً إلی أنّا لا نُسلّم لزوم قصد الطاعة فی تحقّق الامتثال، و کذلک قصد

ص: 75

الأمر، بل تقدّم فی مسألة التزاحم أنّه لا یحتاج فی تحقّق الامتثال إلی وجود الأمر و تعلّقه بالطبیعة، بل یکفی الحسن الذاتی لو لم نقل بالترتّب فی قبال شیخنا البهائی قدس سره(1) فلا یصحّ ما ذکره فی المقام.

هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بالقطع.


1- انظر زبدة الاصول: 99 سطر 2.

ص: 76

ص: 77

الباب الثانی فی الظنّ و الکلام فیه یقع فی مقامین

اشارة

:

ص: 78

ص: 79

المقام الأوّل فی إمکان التعبّد بالظنّ و عدمه

فی شبهة «ابن قبة»
اشارة

فقد نُسب إلی «ابن قِبة» امتناع التعبّد بالظنّ(1)، و قد جُعل القول بإمکانه فی قباله، لکنه لیس مقابلًا لقوله، فإنّه استدلّ لذلک بوجهین:

الأوّل: دعوی الإجماع علی بطلانه، کما یأتی تفصیله.

الثانی: أنّه موجب لتحلیل الحرام و تحریم الحلال؛ أی اجتماع الضدّین أو المِثلین(2) و نحو ذلک، فإنّ مفاد الدلیل الثانی هو عدم إمکانه، لکن مفاد الدلیل الأوّل هو عدم جوازه فلیس مجرّد إثبات الإمکان قولًا مقابلًا لقول «ابن قبة»، بل القول المقابل له أوسع من ذلک، مثل إثبات الجواز، لا الإمکان فقط، و علی أیّ تقدیر یمکن أن یُراد بالإمکانِ الإمکانُ الذاتی، فإنّه یمکن أن یذهب أحد إلی الامتناع الذاتی فی المقام؛ من حیث إنّه یلزم من التعبُّد بالأمارات- و جعل حکمٍ مماثلٍ


1- نقله عنه فی فرائد الاصول: 24 سطر 20.
2- نفس المصدر.

ص: 80

للحکم الواقعی- اجتماعُ المِثْلین، و فی جعل حکمٍ مضادٍّ له اجتماعُ الضدّین، و هما ممتنعان ذاتاً.

و أمّا ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره من استلزام جعلها و التعبّد بها لاجتماع المِثلین أو الضدّین، فالامتناع وقوعیّ، و هو ما یلزم من وقوعه محال(1)، فهو إنّما یصحّ لو قلنا بجعل الحجّیّة فی الأمارات، و إلّا فبناء علی القول بجعل المؤدّی فالامتناع ذاتیّ.

و بالجملة: لو قلنا بجعل المؤدّی فی اعتبار الأمارات، فالإمکان ذاتیّ فی مقابل الامتناع الذاتی، و لو قلنا بجعل الحجّیّة و استلزام هذا الجعل لجعل حکمٍ مُماثلٍ أو مضادٍّ، فالإمکان وقوعیّ فی قبال الامتناع الوقوعی.

و یمکن أن یراد بالإمکان الاحتمالُ العقلی؛ أی احتمال الإمکان و الامتناع، و هو المراد من الإمکان فیما ذکره الشیخ الرئیس: کلُّ ما قرع سمعک من غرائب الأوهام فذرْهُ فی بُقعة الإمکان حتّی یذدک عنه قائم البرهان(2).

فإنّ مراده: أنّه لا تحکم بامتناع شی ء، و لا تبادر إلی إنکاره إذا سمعته و لا بإمکانه، حتّی یقوم البرهان علی أحد الطرفین: الإمکان أو الامتناع.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه إن ارید من الإمکان أحد المعنیین الأوّلین- أی الإمکان الذاتی و الوقوعی- فلا بدّ من إقامة الدلیل و البرهان علیه، و لا یکفی مجرّد إبطال ما تمسّک به القائل بالامتناع.

و إن ارید منه المعنی الثالث- و هو احتمال الإمکان و الامتناع- فیکفی فیه إثبات بطلان ما تمسّک به القائل بالامتناع و بطلان دلیله، و لا یفتقر إلی إثباته و إقامة الدلیل و البرهان علیه.


1- نهایة الأفکار 3: 56.
2- الإشارات و التنبیهات 3: 418.

ص: 81

و حینئذٍ إذا قام الدلیل فی الشریعة علی حجّیّة خبر الواحد- مثلًا- یلزم تصدیقه و عدم ردّه، بخلاف ما لو قام الدلیل علی امتناعه، فإنّه- حینئذٍ- لا بدّ من تأویل ما ورد فی الشریعة علی التعبّد بإحدی الأمارات.

و الحقّ: أنّه یکفی الإمکان بالمعنی الثالث فی المقام، فیکفی فی إثباته قیام الدلیل علی حجّیّة بعض الظنون.

و قال المحقّق المیرزا النائینی قدس سره: إنّ المراد بالإمکان فی المقام الإمکانُ التشریعی؛ یعنی أنّه هل یلزم من التعبّد بالأمارات محذور فی عالم التشریع من تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة أو غیر ذلک من المحاذیر؟ و لیس المراد منه الإمکان التکوینی؛ بحیث یلزم من التعبّد بالأمارات محذور فی عالم التکوین، فإنّه لا یتوهّم ذلک فی المقام(1). انتهی.

و فیه: أنّه إن أراد أنّ الإمکان مجعول شرعیّ کجعل الأحکام الشرعیّة، فهو کما تری.

و إن أراد أنّ الإمکان باعتبار متعلّقه علی قسمین- تکوینیّ و تشریعیّ، فإن کان متعلّقه أمراً تکوینیّاً فتکوینیّ، و إن کان تشریعیّاً فهو تشریعیّ.

ففیه أوّلًا: أنّ ذلک لیس مناط التقسیم، و إلّا لزادت الأقسام إلی ما لا نهایة لها، فإنّه یمکن أن یقال: الإمکان: إمّا ملکیّ أو ملکوتی، إنسانیّ أو حیوانیّ ... إلی غیر ذلک باعتبار اختلاف متعلّقه.

و ثانیاً: لیس متعلّق الإمکان و الامتناع- فیما نحن فیه- أمراً تشریعیّاً، فإنّ امتناع اجتماع المِثلین أو الضدّین أو اجتماع المصلحة و المفسدة لیس تشریعیّاً، بل تکوینی.

ثمّ إنّه استدلّ «ابنُ قِبة» علی ما ذهب إلیه بوجهین:
اشارة

1- فوائد الاصول 3: 88.

ص: 82

الوجه الأوّل:

أنّه لو جاز التعبّد بالأمارات و الظنّ فی الإخبار عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم لجاز ذلک فی الإخبار عن اللَّه تعالی، و التالی باطل بالإجماع، و المقدّم مثله(1).

أقول: إن أراد أنّ المناط فی إمکان ذلک و عدمه هو نفس الإخبار بما هو إخبار، و لا دخْل للمُخبِر و لا للمُخبَر عنه فی ذلک، فإذا قام الإجماع علی بطلان التعبُّد بالإخبار عن اللَّه تعالی بما هو إخبار، فیشمل ذلک الإخبار عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم لعدم دَخْل المُخبَر عنه فی ذلک، و إنّ حکم الأمثال فی ما یجوز و ما لا یجوز سواء.

ففیه: أنّ مرجع ذلک إلی الاستدلال لعدم حجّیّة خبر الواحد- مثلًا- بالإجماع، نظیر استدلال السیّد قدس سره علیه به(2)، و سیأتی ما فی الاستدلال بالإجماع فی هذه المسألة؛ لذهاب جمٍّ غفیر إلی ما هو خلاف الإجماع، بل ادّعی الإجماع علی خلافه.

و إن أراد أنّه حیث قام الإجماع علی بطلان التعبُّد بالإخبار عن اللَّه تعالی، فالإخبار عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم أیضاً کذلک للملازمة بینهما.

ففیه: أنّه إن أراد بالملازمةِ الملازمةَ الشرعیّة، و أنّها ممّا قام علیها الإجماع، فمرجعه- أیضاً- إلی الاستدلال لعدم حجّیّة الأمارات بالإجماع، و سیأتی الکلام فیه.

و إن أراد منها الملازمة التکوینیّة فلا بدّ من إقامة البرهان و الدلیل علیها، مضافاً إلی أنّه فرق بین الإخبار عن اللَّه تعالی و بینه عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم من وجهین:

الأوّل: أنّ بطلان التعبّد فی الإخبار عن اللَّه تعالی إنّما هو لأجل لزوم الاختلال فی الشریعة؛ حیث إنّه یلزم منه قبول دعوی کلّ من أخبر عن اللَّه تعالی


1- نقله عنه فی فرائد الاصول: 24 سطر 20.
2- رسائل السیّد المرتضی 1: 24- 25.

ص: 83

بشی ء، و إنّا نری أنّه- مع سدّ هذا الباب فی الشریعة- قد ادّعی جمع کثیر من الملاحدة ذلک، فکیف إذا جوّزنا ذلک فی الشریعة؟! بخلاف الإخبار عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم فإنّه تحت قاعدة و ضابطة لا یمکن لکلّ أحد ادعاؤه و الإخبار عنه بلا واسطة.

الثانی: أنّ بطلان الإخبار عن اللَّه تعالی إنّما هو للعلم بعدم استناده إلی الحسّ لامتناعه، فلا بدّ أن یکون بواسطة مثل جبرئیل أو سماع صوت أوجده اللَّه تعالی، کما کلّم به موسی علیه السلام لکن کیف یمکن تشخیص تلک الواسطة و معرفة أنّه جبرئیل أو الصوت المذکور، فإنّه ربّما یکون من الشیطان أو من الجنّ؟!

و الحاصل: أنّه لا یمکن الوثوق و الاطمئنان بذلک لیقبل خبره، بخلاف الإخبار عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم.

الوجه الثانی:

أنّ التعبّد بالظنّ موجب لتحلیل الحرام و تحریم الحلال، و أنّ التعبّد به: إمّا مستلزم للمحذور فی ملاکات الأحکام- و هو لزوم اجتماع المصلحة و المفسدة، أو تفویت المصلحة، أو الإلقاء فی المفسدة- فی صورة عدم إصابة الأمارة للواقع، أو المحذور فی مقدّمات الخطاب، و هو لزوم اجتماع الإرادة و الکراهة فی صورة الإصابة، أو فی نفس الخطاب، و هو طلب الضدّین، و کذلک یلزم اجتماع الضدّین فی صورة الإصابة، أو اجتماع المثلین(1).

أقول: لا بدّ من البحث هنا فی صورتین:

الاولی: علی فرض حجّیّة الأمارات من باب الطریقیّة إلی الواقع محضاً، کما هو الحقّ و الواقع.

الثانیة: علی فرض حجّیّتها من باب السببیّة و الموضوعیّة.

أمّا الصورة الاولی: فالکلام فیها: إمّا فی صورة فرض انفتاح باب العلم


1- انظر فرائد الاصول: 24 سطر 22.

ص: 84

بالأحکام، و إمّا فی صورة فرض انسداده.

فقد یقال- و القائل هو المیرزا النائینی و المحقق العراقی 0-: إنّ ما ذکره «ابن قِبة» من المحذور- أی محذور الإلقاء فی المفسدة فی التعبُّد بالظنّ علی تقدیر عدم إصابتها للواقع- إنّما یستقیم إذا کان باب العلم بالأحکام مفتوحاً، و فیما إذا أمکن الوصول إلی الأحکام الواقعیّة، کما فی أعصار الأئمة علیهم السلام حیث إنّه یمکن السؤال منهم- حینئذٍ- بلا واسطة، فإنّه لو تعبّد الشارع بالظنّ مع ذلک، فإنّه ربّما یوجب ذلک الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة لو لم تصادف الأمارة الواقع.

و أمّا لو فرض انسداد باب العلم و عدم إمکان الوصول إلی الأحکام الواقعیّة فلا یلزم هذا المحذور، بل لا بدّ من التعبّد بالأمارات، فإنّ المکلّف- حینئذٍ- لا یتمکّن من استیفاء المصالح إلّا بذلک الطریق؛ لعدم إمکان الاحتیاط التامّ و عدم بناء الشریعة المقدّسة علیه، فالمقدارُ الذی تصیبه الأمارة خیرٌ حصل من قِبَل التعبُّد بها، و لو کان مورد الإصابة أقلّ قلیل یفوت هو- أیضاً- علی تقدیر عدم التعبّد بها، فلا یلزم من التعبُّد بها فی زمن الانسداد إلّا الخیر و الصلاح(1). انتهی.

و فیه: أنّ المحذور باقٍ فی صورة انسداد باب العلم- أیضاً- و لا فرق فیه بین حالَی الانفتاح و الانسداد؛ و ذلک لأنّه مع العلم الإجمالی بجعل الشارع تکالیفَ واقعیّة فلو لم یتعبّد بالظنّ یحتاط المکلّف و یأتی بجمیع المحتملات، فیدرک مصلحة الواقع، و الإشکال باستلزامه العسر و الحرج کلام آخر، مع أنّه یمکن منعه، و علی فرض عدم إمکان الاحتیاط التامّ، فلا أقلّ من إمکان الإتیان بالمظنونات و المشکوکات و ترک الموهومات، و حینئذٍ فالتعبُّد بخصوص المظنونات تفویت للمصلحة أو إلقاء فی المفسدة الواقعتین فی صورة عدم الإصابة، و لا یتحقّقان مع عدم التعبُّد به، فکأنّهما 0 فرضا الکلام فی مورد جریان البراءة لولاه لعدم العلم


1- فوائد الاصول 3: 90، نهایة الأفکار 3: 59- 60.

ص: 85

الإجمالی.

فتلخّص: أنّ الإشکال لا یختصّ بحال الانفتاح، بل یرد حال الانسداد أیضاً.

و أجاب بعض المتأخّرین عن استدلاله: بأنّ الشارع حیث یری الواقع، و ینکشف لدیه، و یری أنّ الأمارات إمّا أغلب مصادفة للواقع من العلوم الحاصلة للمکلّف للواقع- لأجل أنّ أکثرها فی نظره جهل مرکّب- أو مساویة لها، فتعبّدنا بها، و لا یلزم منه- حینئذٍ- المحذور المذکور(1).

أقول: و یرد علیه: أنّه إن أراد ذلک فی حال الانفتاح، و أراد من العلوم التی تکون الأمارات عنده أغلب مصادفةً للواقع منها أو مساویاً لها العلومُ التفصیلیّة فقط، فلا ریب أنّه غیر صحیح؛ لأنّ الأمارات- حینئذٍ- لیست أقرب إلی الواقع من العلم الحاصل للمکلّف من جواب الإمام علیه السلام علی سؤاله و لا مساویاً له بالضرورة، فإنّ المفروض أنّ المکلَّف متمکِّن من السؤال عن الإمام عن الأحکام الواقعیّة، و یمکن له تحصیل القطع بذلک، بخلاف التعبّد بالأمارات؛ بأن یعتمد علی قول زُرارة و محمّد بن مسلم- مثلًا- فإنّه یُحتمل فیه من الخطاء و الاشتباه ما لا یُحتمل ذلک من السماع من الإمام علیه السلام.

و إن أراد ذلک حال الانسداد: فإن أراد من العلم المذکور خصوص العلم التفصیلی فلا ریب فی نُدرته جدّاً.

و إن أراد الأعمّ منه و من الإجمالی، فلا ریب فی أنّ الاحتیاط بالإتیان بأطرافه أقرب إلی الواقع من الأمارات، و علی تقدیر عدم إمکان الاحتیاط التامّ فلا أقلّ من إمکان الاحتیاط الناقص؛ أی بما أمکن من العمل بالمظنونات و المشکوکات و ترک الموهومات؛ فإنّ ذلک أقرب إلی الواقع- أیضاً- من التعبّد بخصوص المظنونات، کما لا یخفی، فیلزم من التعبّد بالأمارات الإلقاء فی المفسدة و خلاف


1- انظر فوائد الاصول 3: 90- 91.

ص: 86

الواقع کثیراً.

فإن قلت: إنّ الاحتیاط إنّما یتحقّق بملاحظة الأخبار الواصلة إلینا، و ذلک لعدم انقداح کثیر من الاحتمالات التی تضمّنتها الأخبار من الأحکام الشرعیّة فی الأذهان مع قطع النظر عن الأخبار، و لا ریب فی أنّه لو لم یتعبّد الشارع بالأمارات، لم یکن للرواة داعٍ إلی نقلها و ضبطها و تدوین کتب الأخبار و الاصول التی بأیدینا، فالتعبُّد بالأمارات إنّما یلزم لیتمکّن المکلّف فی حال الانسداد من الاحتیاط.

قلت: یکفی فی دفع المحذور أمرُ الشارع للرواة و تکلیفهم علی ضبط الأخبار و تدوینها، و إلزام المکلَّفین علی ملاحظتها و الرجوع إلیها و مطالعتها(1)؛ بدون أن یوجب علیهم العمل علی مضامینها، و لا یحتاج إلی التعبّد بالأمارات حینئذٍ و العمل بها.

التحقیق فی الجواب عن «ابن قِبة» بالنسبة إلی الأمارات

إنّه لا محیص من التعبّد بالأمارات، و یجب علی الشارع أن یتعبّد بها فی حالی الانفتاح و الانسداد؛ لأنّه یلزم من عدمه و تکلیف الشارع للمکلّفین بتحصیل العلم بالأحکام الواقعیّة مفسدة عظیمة لا یمکن تحمّلها و الالتزام بها.

أمّا فی حال الانفتاح- کما فی أعصار الأئمة علیهم السلام فلأنّه لو کُلّف المکلَّفون بتحصیل القطع بالأحکام بالسؤال منهم علیهم السلام و عدم الاعتماد علی الأمارات- مثل خبر زرارة- یلزمهم الازدحام و الاجتماع علی أبواب بیوتهم علیهم السلام، و یصیر ذلک سبباً لإعمال حکّام الجور و المعاندین لهم عداواتهم و سدّ أبوابهم، فینسدّ حینئذٍ فیض باب السؤال و بیان الأحکام منهم، فتضمحلّ الشریعة رأساً، و یوجب ذلک الخوف علی أنفسهم و أنفس المؤمنین.


1- الکافی 1: 41، باب فضل الکتابة و التمسک بالکتب.

ص: 87

و الحاصل: کان الأمر فی حال الانفتاح دائراً بین وصول عدّة قلیلة من المؤمنین فی بعض الأوقات إلی المصالح الواقعیّة و الأحکام النفس الأمریّة؛ بتکلیفهم بالسؤال عنهم بلا واسطة و حصول القطع بها، ثمّ سدّ باب الشریعة بذلک، و بقاء المسلمین فی وادی الضلالة و ظلمة الجهالة إلی یوم القیامة، و بین عدم وصولهم إلی بعض المصالح الواقعیّة؛ بجعل الأمارات و التعبُّد بها، و بقاء أصل الشریعة، و إرشاد جمیع المسلمین إلی الصراط المستقیم و طریق الهدایة بسبب الأخبارِ، و عدمِ تکلیف عدّة قلیلة من المسلمین الموجودین فی أعصار الأئمّة علیهم السلام بتحصیل القطع بها بالسؤال عنهم علیهم السلام.

و لا ریب فی أنّ العقل یحکم بتّاً و جزماً بلزوم التعبّد من الشارع بالأمارات، و لیس المراد من التعبّد بها جعلها حجّة- أی إنشاء حجّیّتها- بل یکفی إمضاء الشارع طریقة العقلاء علی العمل بها و عدم ردعهم عنه. هذا فی حال الانفتاح.

و أمّا فی زمان الانسداد و عدم التمکّن من السؤال منهم علیهم السلام فإن فُرض ذلک فی عصرهم علیهم السلام فلأنّه لو امر أهل خراسان و نظائرهم فی البلاد البعیدة عنهم علیهم السلام بتحصیل العلم بالأحکام؛ بشدّ الرحال و تحمُّل المشاقّ و الذهاب إلیهم؛ لیسألوا منهم علیهم السلام عن مسألة، لأدّی ذلک إلی اختلال نظامهم و أمر معاشهم، و یصیر ذلک سبباً لخروجهم عن الدین و الشریعة رأساً.

و أمّا لو فرض ذلک فی زمان الغَیبة- مثل زماننا هذا- فلو لم یتعبّد الشارع بالعمل بالأمارات، و کلَّفهم بتحصیل العلم و الاحتیاط بجمیع أطراف العلم الإجمالی، أدّی ذلک إلی الاختلال فی النظام و الخروج عن الدین، فإنّا نری بالعیان- مع عدم إلزامهم علیهم السلام المکلفین بالاحتیاط، و مع أنّ الشریعة سمحة سهلة- أنّ قلیلًا من المسلمین ملتزمون بالأحکام عاملون بها، و یتدیّنون بدین الإسلام حقیقة؛ قال

ص: 88

تعالی: «وَ قَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ»(1)، فکیف مع إلزامهم بالاحتیاط فی جمیع أبواب الفقه من العبادات و المعاملات و غیرها؟!

و الحاصل: أنّه یترتّب علی عدم التعبّد بالأمارات مفاسد کثیرة لا یمکن الالتزام بها فی جمیع الحالات، فاللازم علی الشارع المقدّس هو التعبُّد بها؛ لئلّا تقع هذه المفاسد، و قد تقدّم أنّه یکفی فی المقام الإمکان بمعنی الاحتمال، و لا یفتقر الإمکان بهذا المعنی إلی الإثبات و إقامة الدلیل و البرهان علیه، و هذا من دون لزوم أقربیّة الأمارات إلی الواقع من العلوم الحاصلة للمکلّفین، و لا تساویهما فی ذلک.

جواب الشیخ الأعظم قدس سره عن شبهة «ابن قبة» بناءً علی السببیة

ثمّ إنّ الشیخ الأعظم قدس سره تصدّی لدفع الإشکال؛ بناءً علی أنّ حجّیّة الأمارات علی السببیّة، و الالتزام بالمصلحة التدارکیة و تبعه المیرزا النائینی قدس سره و حاصل ما ذکراه بعد الجواب عنه بناء علی الطریقیة هو:

أنّه و إن أبیت ذلک کلّه، و قلت: إنّ فی التعبّد بالأمارة تفویتاً للمصلحة، فلنا أن نلتزم بالسببیّة علی وجهٍ تُتدارک المصلحة الفائتة علی اصول المخطّئة؛ من دون أن یلزم التصویب الباطل.

و تفصیل ذلک: هو أنّ سببیّة الأمارة لحدوث المصلحة تُتصوّر علی وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّها سبب لحدوث مصلحةٍ فی المؤدّی تستتبع الحکم علی المؤدّی، و أنّ ما وراء المؤدّی لیس حکماً فی حقّ من قامت عنده الأمارة، و حینئذٍ فالأحکام الواقعیّة مختصّة بالعالم بها، و لیس فی حقّ الجاهل بها سوی مؤدّیات الطرق و الأمارات، و حینئذٍ فالأحکام الواقعیّة تابعة لآراء المجتهدین، و هذا هو التصویب


1- سبأ( 34): 13.

ص: 89

الأشعری(1)، الذی قامت الضرورة علی خلافه، و قد ادُّعی تواتر الأخبار علی ثبوت الأحکام الواقعیّة المشترکة بین العالم و الجاهل.

الثانی: أنّ الأمارة سبب لحدوث مصلحة فی المؤدّی أقوی من مصلحة الواقع، و أنّ الحکم الفعلی عند من قامت لدیه الأمارة هو المؤدّی، و لکن فی الواقع أحکام یشترک فیها العالم و الجاهل علی طبق المصالح و المفاسد النفس الأمریّة، إلّا أنّ قیام الأمارة علی الخلاف من قبیل الطوارئ و العوارض و العناوین الثانویّة اللّاحقة للموضوعات الأوّلیّة المغیّرة لجهة حسنها و قبحها.

و هذا الوجه هو التصویب المعتزلی(2)، و یتلو الوجه السابق فی الفساد و البطلان؛ لانعقاد الإجماع علی أنّ قیام الأمارة لا تغیّر الواقع عمّا هو علیه بوجهٍ من الوجوه.

الثالث: أنّ قیام الأمارة سبب لحدوث مصلحة فی السلوک؛ یعنی سلوک الطریق و العمل به علی أنّه هو الواقع، و تطبیق العمل علی مؤدّاها و ترتیب الآثار الواقعیّة علیه، و بهذا المصلحة السلوکیّة یُتدارک ما فات من المصلحة الواقعیّة بسبب قیام الأمارة علی خلافه(3). انتهی حاصل کلامهما 0.

أقول: لیس المراد من السلوک و العمل بالطریق هو الالتزام القلبی قطعاً، بل المراد منه البناء العملی علیه و الإتیان بمؤدّی الأمارة بما هو مؤدّی الأمارة، و من حیث الاعتماد علی قول زرارة- مثلًا- و خبره، و لا ریب فی أنّ الإتیان بمؤدّی الأمارة عین المأتیّ به وجوداً و إن تغایرا مفهوماً، فلو ترتّب علی الإتیان بالمأمور به مصلحة أقوی من مصلحة الواقع؛ بحیث یُتدارک بها مصلحة الواقع الفائتة أو تُجبر مفسدته،


1- المحصول 2: 503.
2- المحصول 2: 503.
3- فرائد الاصول: 26- 27، فوائد الاصول 3: 94- 96.

ص: 90

و ینقلب الحکم الواقعی؛ لأنّه- حینئذٍ- مغلوب للحکم الذی هو مؤدّی الأمارة، و أنّ الحکم الفعلی هو ما أدّت إلیه الأمارة، فهو عین ما نُسب إلی المعتزلی من التصویب الباطل، الذی قام الإجماع و ادُّعی تواتر الأخبار علی خلافه.

و ثانیاً: لیس للشارع جعل مستقلّ فی الأمارات، بل معنی حجّیّة الأمارات شرعاً هو إمضاء الشارع لطریقة العقلاء و بنائهم علی العمل بها، و لیس حجّیّتها شرعاً إلّا بما هی حجّة عند العقلاء، و لا ریب فی أنّ بناء العقلاء علیها لیس إلّا لمجرّد أنّها طریق إلی الواقع و کاشفة عنه، لا لأجل ترتُّب مصلحة علی سلوکها و نفس العمل بها، فلا یناسب ما أفاداه هنا ما ذکراه- فی أنّ وجه حجّیّتها هو بناء العقلاء علیها- مع أنّ کثیراً من رواة أخبارنا من النواصب أو الواقفیّة الذین بعضهم من النواصب بالنسبة إلی الأئمة الذین هم بعد من وقفوا علیه علیه السلام لکنّهم موثَّقون من حیث الصدق و الکذب، و أیّ معنیً لترتّب المصلحة علی الاعتماد علی أخبار هؤلاء و الاعتناء بهم.

و ثالثاً: لو کان الأمر کذلک فلا بدّ و أن یُلتزم به فی الإخبار عن غیر الأحکام الشرعیّة من المطالب الدنیویّة، مع أنّهما لا یلتزمان بذلک.

و رابعاً: لو تمّ ذلک لجری فی جمیع الأمارات، حتّی الدالّة علی الاستحباب أو الکراهة أو إباحة شی ء، فلا بدّ أن یجب العمل بها، فلا یوجد المباح و المستحبّ- حینئذٍ و یحرم العمل علی الأمارة الدالّة علی کراهیّة شی ء؛ لترتّب مصلحة مُلزمة علی سلوک الأمارات کلّها أو مفسدة کذلک.

هذا کلّه بالنسبة إلی لزوم اجتماع المصلحة و المفسدة.

و أمّا إشکال لزوم اجتماع الضدّین من التعبُّد بالأمارات، فتوضیحه: أنّه إن کان حکم صلاة الجمعة واقعاً هو الحرمة، و قامت الأمارة علی وجوبها أو استحبابها أو غیرهما من الأحکام، یلزم اجتماع الوجوب و الحرمة فی صلاة الجمعة واقعاً أو

ص: 91

اجتماع الوجوب و الاستحباب ... و هکذا، و هو اجتماع الضدّین فی موضوع واحد؛ لتضادّ الأحکام الخمسة، و هو ناشٍ عن التعبّد بالأمارات.

و فیه: أنّ الضدّین أمران وجودیّان غیر متضایفین، یتعاقبان علی موضوع واحد، و لا یجتمعان، بینهما غایة الخلاف(1).

و لا ریب فی أنّ الوجوب و الحرمة و غیرهما من الأحکام الشرعیّة، امور اعتباریّة منتزعة عن البعث و الزجر، اللذین یُنشئهما الحاکم بهیئة الأمر أو النهی الموضوعتین لذلک، و هذا الأمر الاعتباری له إضافة اعتباریّة إلی المأمور به، و إضافة اعتباریّة إلی الآمر، مع أنّ الضدّین أمران وجودیّان حقیقیّان، کما عرفت، و الأحکام لیست کذلک، و لا بدّ من حلولهما فی موضوع واحد متعاقباً، و لیس الوجوب و الحرمة و غیرهما حالّین فی المتعلّق، بل لهما نحو إضافة اعتباریّة إلیه، کما عرفت.

فما قیل: من أنّ الأحکام متضادّة بأسرها(2)، غیرُ مستقیم؛ أ لا تری أنّه قد یأمر الأب ابنه بشی ء، و تنهاه الامّ عنه فی زمان واحد، فیصیر واجباً و محرّماً، فلو کان بین الأحکام تضادٌّ لما أمکن ذلک، کما لا یمکن اجتماع السواد و البیاض فی موضوع واحد و إن تعدّد موجدهما، فهذا الإشکال- أیضاً- لیس بشی ء.

و إنّما المهمّ من الإشکالات المذکورة هو لزوم اجتماع الإرادتین اللّتین تعلّقت إحداهما بالحکم الواقعی، و ثانیتهما بالحکم الظاهری.

بیان ذلک: أنّه لو فُرض أنّ لصلاة الجمعة حکماً من الأحکام کالحرمة، فتتعلّق إرادة المولی بترکه، و هذه الإرادة تُنافی الترخیص فی العمل بالأمارة التی قد تُؤدّی إلی وجوبها أو استحبابها أو غیرهما، و کذلک تُنافی إمضاء الشارع بناء العقلاء و طریقتهم علی العمل بها و السکوت و عدم الردع عنه، و کذلک جعلها طریقاً و کاشفاً،


1- الأسفار 2: 112- 113.
2- قوانین الاصول 1: 142، کفایة الاصول: 193.

ص: 92

فإنّه علی أیّ تقدیر من التقادیر المذکورة تلزم الاستحالة، و هی إرادة الحکم الواقعی و إرادة ما یُنافیه من مُؤدّی الأمارة.

و من هذا التقریر للإشکال یظهر ما فی الأجوبة التی ذکرها القوم عن ذلک الإشکال:

مثل ما أجاب به المحقّق العراقی قدس سره: من أنّ هذا الإشکال إنّما یرد علی القول بحجّیّة الأمارات علی السببیّة، و أمّا بناءً علی القول بالطریقیّة فلا إشکال؛ لعدم حکمٍ ظاهریٍّ حینئذٍ(1).

و مثل ما أجاب به المیرزا النائینی قدس سره: من أنّ المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیّة و الکاشفیّة لها، لا الحکم الشرعی الظاهری حتّی یُنافی الحکم الواقعی(2).

و مثل ما فی «الکفایة» من أنّ المجعول- بناء علی السببیّة- حکم طریقیّ، و هو لا یُنافی الواقعی(3)؛ و ذلک لما عرفت من أنّ تعلّق الإرادة الحتمیّة بصلاة الجمعة، یُنافی الإذن فی العمل بالأمارات التی قد تؤدّی إلی خلاف الواقع بأیّ نحوٍ کان؛ بجعل الحجّیّة، أو الکاشفیّة، أو جعل حکمٍ طریقیّ، أو إمضاء طریقة العقلاء، و غیر ذلک من الأنحاء، فاللّازم فی دفع الإشکال المذکور الجواب عنه بنحوٍ لا یلزم منه التصویب؛ أی مع حفظ ثبوت الأحکام الواقعیّة المشترکة بین العالم و الجاهل.

فالتحقیق أن یقال فی الجواب عنه: إنّه لا ریب فی أنّ الشارع جعل لکلّ شی ءٍ و فعلٍ حکماً واقعیّاً متعلّقاً بالموضوع بعنوانه الواقعی، و یشترک فیه العالم و الجاهل، و لا یمکن تقییدها بالعالم بها؛ لاستلزامه الدور المحال کما تقدّم، و تلک الأحکام لا تصلح و لا یمکن أن تکون باعثة بنفسها للمکلّف نحو الفعل، و لا تصلح للداعویّة


1- نهایة الأفکار 3: 67.
2- فوائد الاصول 3: 108.
3- کفایة الاصول: 319.

ص: 93

بوجودها النفس الأمری بدون الطریق إلیها من العلم و غیره، مع اشتراکها بین العالم و الجاهل، و یمتنع تقییدها بالعلم کما عرفت، و حینئذٍ ففی حال انسداد باب العلم بالتکلیف یدور الأمر بین إهمال المکلَّفین و ترکهم کالبهائم غیر مکلّفین، إلّا فی مواضع نادرة یحصل العلم فیها بالتکلیف، أو إیجاب الاحتیاط علیهم فی موارد الشبهات، أو جعل الأمارات التی هی طریق إلی الواقع.

لا سبیل إلی الأوّل و الثانی:

أمّا الأوّل: فواضح.

و أمّا الثانی: فلأنّه یستلزم مفسدة عظیمة، و هی خروج الناس عن الدین و عدم التزامهم بالأحکام الشرعیّة؛ لو وجب علیهم الاحتیاط التامّ أو الناقص بالتجزّی فی الاحتیاط؛ أی الإتیان بالشبهات التی یحتمل الوجوب فیها و ترک ما یحتمل الحرمة مهما أمکن، فإنّ ذلک متعذِّر أو متعسِّر، و فیه ضرر و مشقّة عظیمة لا تُتحمّل، بل یوجب الاختلال فی نظامهم و امور معاشهم، و هذا ممّا لا شبهة فیه، فتعیّن الثالث- أی جعل الأمارات- أو إمضاء بناء العقلاء علی العمل بها، فإنّها و إن کانت قد تؤدّی إلی خلاف الواقع، لکن حیث إنّ الأمر دائر بین وقوع المفسدة العظیمة، التی تصیر سبباً لإهمال جمیع الأحکام، و بین جعلِ التعبُّد بالأمارات، و الإغماضِ عن الحکم الواقعی فی بعض الموارد التی لا تُصادف الأمارةُ الواقع، و رفع الید و صرف النظر عنه مع وجوده واقعاً و عدم تغیُّره عمّا هو علیه، لکن لم یُرِده الشارع فعلًا لأجل الاضطرار إلی ذلک و عدم المحیص عنه، و حینئذٍ فالأحکام الواقعیّة فی مورد الأمارات المؤدّیة إلی خلاف الواقع محفوظة، لکنّها شأنیّة لا فعلیّة، فإنّ ذلک لازم جعل الأمارات، فإنّ الشارع المقدّس- مع التفاته و علمه بأنّه قد تؤدّی الأمارة إلی خلاف الواقع حین جعلها- لا بدّ من إغماضه عن الأحکام الواقعیّة التی لا تصیبها الأمارة، و هذا بخلاف الصور التی یُعذر العبد فیها، کما فی صورة

ص: 94

الغفلة و النسیان و النوم و غیر ذلک من الأعذار، فإنّ الأحکام الواقعیّة فی هذه الموارد فعلیّة لم یرفع الشارع یده عنها؛ لعدم الالتفات حین الجعل إلی هذه الموارد فی الموالی العرفیّة، و ما ذکرناه غیر التصویب المعتزلی، فإنّ التصویب المعتزلی: عبارة عن انقلاب الحکم الواقعی و تبدُّله إلی مؤدّی الأمارة، و انعدامه بعد قیام الأمارة علی خلافه، و هو لا یتحقّق إلّا بالقول بالسببیّة فی جعل الأمارات، و لا نقول نحن بانقلاب الحکم الواقعی إلی مؤدّی الأمارة المخالفة، بل نقول ببقائه علی ما هو علیه، لکنّه شأنیّ لا فعلیّ، و لم یُرِدْه الشارع فعلًا من المکلّف لمصلحة، و هذا الذی ذکرناه من دون أن یکون هناک مصلحة قائمة بالأمارة تتدارک بها مصلحة الواقع. هذا کلّه بالنسبة إلی الأمارات.

فی الجواب عن «ابن قبّة» بالنسبة إلی الاصول العملیة

و أمّا الاصول المُحرِزة و الغیر المُحرِزة: فتقریر دفع الإشکال فیها یقرب ممّا ذکرناه فی الأمارات، فإنّه مع عدم قاعدة الفراغ و التجاوز یلزم مفسدة عظیمة لا یمکن تحمُّلها، فإنّه قلّما یتّفق لإنسان أن یخرج من صلاته أو من الوقت، و یتیقّن الإتیان بجمیع ما یُعتبر فی الصلاة، بل إذا لاحظنا الصلوات المأتیّ بها سابقاً فی السنوات الماضیة، فالغالب عدم حصول الیقین بالإتیان بتمام أجزائها و مراعاة شرائطها تامّة و عدم الإخلال بها سهواً و نسیاناً و ما یُفسدها، فلو لا اعتبار قاعدة الفراغ شرعاً کان علیه أن یأتی بها- أی بکلّ ما یشکّ فیه- أداءً و قضاءً، و هذا عسر شدید و حرج عظیم لا یتحمّلهما أکثر الناس، و حینئذٍ فمع تشریع الاصول دفعاً للحرج و الضرر و الخروج عن الدین بعدم التزام المکلّفین بالأحکام الشرعیّة، مع علم الشارع بأنّها قد تخالف الواقع لا بدّ أن یرفع الید عن الحکم الواقعی، و یغمض النظر عنه فی موارد مخالفتها للواقع و عدم إرادته له فعلًا، مع الترخیص فی العمل

ص: 95

بالأمارات و الاصول، مع وجود الحکم الواقعی و تحقُّقه و ثبوته لجمیع المکلّفین، لکنّه لیس بفعلیّ، بل شأنیّ حینئذٍ.

و أمّا ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره: من أنّا لا نعقل لشأنیّة الحکم معنیً إلّا إنشاءه، فإنّ الشارع أنشأ الأحکام الواقعیّة علی الموضوعات الواقعیّة بجمیع قیودها و شرائطها بنحو القضیّة الحقیقیّة، کما ذکرناه فی الواجب المشروط فمتی تحقّق الموضوع یصیر حکمه فعلیّاً، و مع عدم تحقّقه لیس هنا حکم شأنیّ غیر فعلیّ، فکما لا یتصوّر للفعلیّة معنیً غیر ذلک، کذلک لا معنی للشأنیّة مع عدم تحقّق الموضوع.

ففیه: أنّ ما ذکره یستلزم عدم جواز التمسّک بالإطلاقات فی شی ء من الموارد؛ لأنّ معنی الأخذ بالإطلاق هو أنّ المتکلّم من حیث إنّه فاعل مختار جعل موضوع حکمه نفس الطبیعة، و مع الشکّ فی دَخْل قید فیه یحکم بعدمها، و إلّا لزم علیه البیان، و حیث إنّه لم یقیّد الموضوع بهذا القید یحکم بعدم دخله، و متی ظفرنا بقید له بعد جعل أصل الحکم، تبقی أصالة الإطلاق بالنسبة إلی غیر هذا القید جاریة، فإنّ المتعارف هو جعل القوانین الکلّیّة أوّلًا علی نفس الطبیعة بالإرادة الاستعمالیّة، لکن یمکن أن یکون الموضوع بحسب إرادته الجدّیّة- بحسب اللُّبّ- هو الطبیعة المقیّدة، لکن ما دام لم یُبیّن القیود یحکم بموافقتها للإرادة الاستعمالیّة، و مع بیان بعض القیود یحکم بموافقتها بالنسبة إلی قیود اخر مشکوکة، و هذا البیان لا یجری بناءً علی ما ذکره، فإنّه لو جعل موضوع حکمه الطبیعة بجمیع قیودها و شرائطها أوّلًا، فإذا شکّ فی دخالة قید لا یمکن أن یقال: إنّ الحاکم من حیث إنّه فاعل مختار جَعَل موضوعَ حکمه نفس الطبیعة؛ لأنّه جعل موضوع حکمه الطبیعة بجمیع قیودها من الأوّل، فیحتمل أخذه هذا القید- أیضاً- و لا نعلم به، فلا یمکن التمسُّک بالإطلاق- حینئذٍ- لنفیه، مضافاً إلی أنّه لا معنی- حینئذٍ- للتخصیص و التقیید.

ص: 96

و ثانیاً: ما ذکره بعد ذلک: من أنّ الحکم الواقعی: إمّا مقیّد بعدم قیام الأمارة علی خلافه، أو مطلق، فعلی الأوّل یلزم التصویب، و علی الثانی یلزم المنافاة بین الحکم الواقعی و الظاهری.

فیه: أنّا نختار الشِّقّ الأخیر، و لا یلزم التنافی بین الحکمین و الإرادتین؛ لما ذکرناه فی الجواب عن الإشکال.

ثمّ إنّه أطال المیرزا النائینی قدس سره الکلامَ فی مقام الجواب عن الإشکال ما حاصله:

أنّ التحقیق فی الجواب أن یقال: إنّ الموارد التی تُوهِّم وقوع التضادّ فیها بین الأحکام الواقعیّة و الظاهریّة علی أنحاء ثلاثة:

أحدها: موارد قیام الطرق و الأمارات.

و ثانیها: موارد مخالفة الاصول المُحرَزة للواقع.

و ثالثها: موارد تخلُّف الاصول الغیر المحرزة عن الواقع.

و التفصّی عن الإشکال یختلف بحسب اختلاف المجعول فی هذه الموارد الثلاثة، و یختصّ کلّ منها بجواب یخصّه، فنقول:

أمّا فی باب الطرق و الأمارات: فلیس المجعول فیها حکماً تکلیفیّاً؛ حتّی یتوهّم التضادّ بینه و بین الأحکام الواقعیّة؛ بناءً علی ما هو الحقّ عندنا: من أنّ الحجّیّة و الطریقیّة من الأحکام المتأصّلة بالجعل، و ممّا تنالها ید الجعل و الرفع ابتداءً و لو إمضاءً؛ لما تقدّمت الإشارة إلیه من أنّه لیس فیما بأیدینا من الطرق و الأمارات ممّا لا یعتمد علیها العقلاء فی مُحاوراتهم و إثبات مقاصدهم، بل هی عندهم کالعلم؛ لا یعتنون باحتمال مخالفتها للواقع، و لیس اعتمادهم علیها من باب الاحتیاط؛ لأنّه ربّما یکون طرف الاحتمال تلف النفوس و الأموال، فإنّ الاحتیاط- حینئذٍ- إنّما هو بعدم الاعتماد علیها.

ص: 97

و الحاصل: أنّ الأمارات عندهم علم فی عالَم التشریع، کالعلم فی عالَم التکوین.

و إذ قد عرفت أنّ المجعول فی باب الطرق و الأمارات نفس الطریقیّة و الوسطیّة فی الإثبات، ظهر لک أنّه لیس فی باب الطرق و الأمارات حکم حتّی یُنافی الواقع؛ لیقع إشکال التضادّ و التصویب، بل لیس حال الأمارة المخالفة إلّا کحال العلم المخالف، فلیس فی البین إلّا الحکم الواقعی فقط مطلقاً؛ سواء أصاب الواقع أو أخطأ، فإنّه عند الإصابة المؤدّی هو الحکم الواقعی، کالعلم الموافق یوجب تنجیز الواقع، و عند الخطاء یوجب المعذوریّة و عدم صحّة المؤاخذة علیه کالعلم المخالف(1). انتهی ملخّص کلامه قدس سره.

و فیه أوّلًا: أنّه لیس فی الطرق و الأمارات جعلٌ أبداً و أصلًا، لا للطریقیّة و الحجّیّة و لا لغیرها، لا من الشارع و لا من العقلاء؛ لأنّ مبنی حجّیّة الأمارات هو بناء العقلاء و استقرار سیرتهم علیها، و تبعهم الشارع- أیضاً- و أمضاه؛ بمعنی أنّه سکت و لم یردع عنه، مع أنّ ذلک بمرأی و منظره، لا أنّه جعل الحجّیّة و الطریقیّة لها، و لیس بناء العقلاء علی جعل حجّیّتها أوّلًا، ثمّ العمل بها، کما هو واضح، فلیس فی الأمارات جعلٌ أصلًا و أبداً.

و ثانیاً: علی فرض تحقُّق الجعل فیها فالمجعول هو الحکم التکلیفی، لا الحجّیّة و الطریقیّة؛ لعدم الدلیل علی ذلک إلّا الروایات الواردة فی مقام الأمر بأخذ الشرائع و تلقّی الأحکام من مثل یونس بن عبد الرحمن(2) و زرارة(3) و زکریّا بن


1- فوائد الاصول 3: 103- 108.
2- اختیار معرفة الرجال 2: 779/ 910، وسائل الشیعة 18: 107، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 33- 35.
3- اختیار معرفة الرجال 1: 347/ 216، وسائل الشیعة 18: 104، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 19.

ص: 98

آدم(1) و أمثالهم، المستفاد منها إیجاب العمل بقولهم و أخبارهم، فتنزع من هذا الإیجاب الشرعی الحجّیّةُ و الوسطیّة، و لا یکفی فی المقام إثبات جعل الوسطیّة و الطریقیّة ما لم یدلّ الدلیل علی وقوعه فی الشریعة المقدّسة.

و ثالثاً: سلّمنا ذلک، لکن إشکال «ابن قِبة»- و هو لزوم تحلیل الحرام و تحریم الحلال- باقٍ بحاله، و لا یُدفع بذلک؛ لما ذکرنا فی تقریب الإشکال: من أنّ جعل حجّیّة الخبر الذی قد یؤدّی إلی مخالفة الواقع، یُضادّ الحکم الواقعی.

و أمّا ما ذکره: من قیاس الأمارات بالعلم، ففیه: أنّ طریقیّة العلم و العمل علی طبقه تکوینیّةٌ، لیست بجعل الشارع حتّی یلزم التضادّ فی صورة المخالفة، بخلاف الأمارات لو قلنا بأنّها مجعولة أو أذِنَ الشارع فی العمل بها.

ثمّ إنّه قدس سره قال: و أمّا الاصول المُحرِزة: فالأمر فیها أشکل من الأمارات، فإنّها فاقدة للطریقیّة؛ لأخذ الشکّ فی موضوعها، و الشکّ لیس فیه جهة إراءة و کشف عن الواقع؛ حتّی یقال: إنّ المجعول فیها هو تتمیم الکشف، فلا بدّ أن یکون فی مواردها حکم شرعی مجعول، فیلزم التضادّ بینه و بین الحکم الواقعی فی صورة مخالفة الأصل للواقع، و لکن الخطب فی الاصول التنزیلیّة سهل؛ لأنّ المجعول فیها هو البناء العملی علی أحد طرفی الشکّ علی أنّه هو الواقع، و إلغاء الطرف الآخر و جعله کالعدم، فالمجعول فیها لیس أمراً مغایراً للواقع، کما یُرشد إلیه ما فی بعض الأخبار الواردة فی قاعدة التجاوز کقوله علیه السلام:

(بلی قد رکعت)

(2)، فلو کان الواقع هو المؤدّی فهو، و إلّا فالجری العملی واقع فی غیر محلّه من دون أن یتعلّق بالمؤدّی حکم علی خلاف ما هو علیه.


1- اختیار معرفة الرجال 2: 858/ 1112، وسائل الشیعة 18: 106، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 27.
2- تهذیب الأحکام 2: 151/ 592، وسائل الشیعة 4: 936، کتاب الصلاة، أبواب الرکوع، الباب 13، الحدیث 3.

ص: 99

و بالجملة: الهوهویّة التی بنی علیها الشیخ الأعظم قدس سره فی باب الأمارات و نحن أبطلناها هی المجعولة فی باب الاصول التنزیلیّة.

و الحاصل: أنّه لیس فی الاصول التنزیلیّة حکم مخالف للواقع، بل لو فرض أنّ المجعول فیها البناء العملی علی أنّ المؤدّی هو الواقع، فلیس ما وراء الواقع حکم آخر حتّی یناقضه و یضادّه(1). انتهی.

و فیه أوّلًا: أنّ البناء العملی و الجری علی طبق الاصول أمر تکوینیّ لا یتعلّق به جعل من الشارع؛ لأنّه عبارة عن فعل المکلّف.

و إن أراد به إیجاب العمل علی طبقها فهو کرٌّ علی ما فرّ منه؛ لورود الإشکال المذکور علیه.

و ثانیاً: سلّمنا أنّ المجعول فیها هو البناء العملی، لکن عرفت عدم اندفاع الإشکال بذلک؛ لأنّ جعل البناء العملی و الإذن فی العمل بالأُصول التی قد تؤدّی إلی خلاف الواقع، لا یمکن اجتماعه مع إرادة الواقع بنحو الحتم، فإشکال «ابن قبة» لا یندفع إلّا بما ذکرناه.

ثمّ قال قدس سره: و أمّا الاصول الغیر المُحرِزة: کأصالة الاحتیاط و البراءة و الحِلّ، فالأمر فیها أشکل من الجمیع، فإنّ المجعول فیها لیس هو الهوهویّة و الجری العملی علی أنّه هو الواقع، بل مجرّد البناء علی أحد طرفی الشکّ من دون إلغاء الطرف الآخر و البناء علی عدمه، بل مع حفظ الشکّ یحکم علی أحد طرفیه بالوضع أو الرفع، فالحرمةُ المجعولة فی أصالة الاحتیاط و الحلّیّةُ المجعولة فی أصالة الحلّ تناقضا الحلّیّة و الحرمة الواقعیّتین علی تقدیر مخالفة الأصل للواقع، فإنّ المنعَ عن الاقتحام فی أصالة الاحتیاط و الترخیصَ فیه فی أصالة الحلّ و البراءة یُنافیان الجواز فی الأوّل و المنع فی الثانی.


1- فوائد الاصول 3: 110- 112.

ص: 100

و قد تصدّی بعض الأعلام لدفع غائلة التضادّ بین الحکمین باختلاف الرتبة، فإنّ رتبة الحکم الظاهری رتبة الشکّ فی الحکم الواقعی، و الشکّ فیه متأخّر فی الرتبة من نفس وجوده، و حینئذٍ فالحکم الظاهری فی طول الحکم الواقعی، و لا تضادّ بینهما؛ لاعتبار وحدة الرتبة فی التناقض و التضادّ(1).

و لکن هذا التوهّم فاسد، فإنّ الحکم الظاهری و إن لم یکن فی رتبة الحکم الواقعی، لکن الحکم الواقعی متحقِّق فی رتبة الحکم الظاهری؛ لانحفاظ الحکم الواقعی فی رتبة الشکّ فیه و لو بنتیجة الإطلاق، فیجتمع الحکمان المتضادّان فی رتبة الشکّ، فهذا لا یرفع غائلة التضادّ بینهما إلّا بضمّ مُقدّمةٍ اخری إلی ذلک، و هی أنّ الأحکام الواقعیّة بوجوداتها النفس الأمریّة لا تصلح للداعویّة، و قاصرة عن أن تکون محرّکة للعبد نحو امتثالها فی صورة الشکّ فی وجودها، فإنّ الحکم لا یتکفّل لبیان أزمنة وجوده التی منها زمان الشکّ فیه، و إن کان محفوظاً فی ذلک الحال علی تقدیر وجوده الواقعی، إلّا أنّ انحفاظه فی ذلک الحال غیر کونه بنفسه مبیِّناً لوجوده فیه، بل لا بدّ فی ذلک الحال من مبیِّنٍ آخر و جعلٍ ثانویّ یتکفّل لبیان أزمنة وجوده، التی منها زمان الشکّ فیه، و هذا الجعل الثانوی من متمّمات الجعل الأوّلی، و یتّحد الجعلان فی صورة وجود الحکم الواقعی فی زمان الشکّ، و لا یخفی أنّ مُتمّمات الجعل علی أقسام، و ما نحن فیه قسم منه إذا کان الحکم الواقعی علی وجه یقتضی المتمّم فی زمان الشکّ فیه، و إلّا فقد لا یقتضی الحکم جعل المتمّم فی زمان الشکّ.

توضیح ذلک: أنّ للشکّ فی الحکم الواقعی اعتبارین:

أحدهما: کونه من الحالات و الطوارئ اللّاحقة للحکم الواقعی أو موضوعه، کحالة العلم و الظنّ، و هو بهذا الاعتبار لا یمکن أخذه موضوعاً لحکمٍ یُضادّ الحکم الواقعی؛ لانحفاظ الحکم الواقعی لدیه.


1- انظر الرسائل الفشارکیة: 20- 22.

ص: 101

و ثانیهما: اعتبار کونه موجباً للحیرة فی الواقع و عدم کونه موصلًا إلیه و منجِّزاً له، و هو بهذا الاعتبار یمکن أخذه موضوعاً لما هو متمّم للجعل، و منجّزاً للواقع و موصلًا إلیه، کما أنّه یمکن أخذه لما هو مؤمِّن عن الواقع؛ حسب اختلاف الملاکات النفس الأمریّة و مناطات الأحکام الشرعیّة، فلو کانت مصلحة الواقع مُبهمة فی نظر الشارع لزمه جعل المتمّم، کاحترام المؤمن و حفظ نفسه، فإنّه لأهمّیّته من مصلحة إراقة دم الکافر فی نظر الشارع، اقتضی تشریع حکمٍ ظاهریٍّ طریقیٍّ بوجوب الاحتیاط فی موارد الشکّ؛ حفظاً للحمی و تحرُّزاً عن الوقوع فی مفسدة قتل المؤمن، و هذا الحکم الطریقی فی طول الحکم الواقعی ناشٍ عن أهمیّة المصلحة الواقعیّة، و لذا کان الخطاب بالاحتیاط نفسیّاً، مع أنّ المقصود منه عدم الوقوع فی مخالفة الواقع، إلّا أنّ هذا لا یقتضی کون خطابه مقدّمیّاً؛ لأنّ الخطاب المقدّمی هو ما لا مصلحة فیه أصلًا، و الاحتیاط لیس کذلک، فهو واجب نفسیّ للغیر، لا بالغیر، و لذا یترتّب العقاب علی مخالفة الاحتیاط عند ترکه و أدائه إلی مخالفة الواقع، لا علی مخالفة الواقع؛ لقبح العقاب علیه مع عدم العلم به.

فإن قلت: إنّ ذلک یقتضی صحّة العقوبة علی مخالفة الاحتیاط؛ سواء صادف الواقع أم لا؛ لأنّ المفروض أنّه واجب نفسیّ و إن کان الغرض منه الوُصلة إلی الأحکام الواقعیّة، لکن تخلُّف الغرض لا یوجب سقوط الخطاب، فلو خالف المکلَّف الاحتیاط، و أقدم علی قتل المشتبه، و صادف کونه مهدور الدم فاللازم استحقاقه للعقوبة.

قلت: فرق بین علّة التشریع و علل الأحکام و التی لا یضرّ تخلّفها، و لا یدور الحکم مدارها، هو الأوّلی؛ لأنّها حکمة لتشریع الأحکام، فیمکن أن یکون تحقّق الحکم فی موردٍ علّةً لتشریع حکمٍ کلّیّ، و لو فی مورد عدمها و أمّا علّة الحکم فالحکم یدور مدارها، و لا یمکن أن یتخلّف عنها، و لا إشکال فی أنّ الحکم بوجوب

ص: 102

حفظ نفس المؤمن علّة للحکم بالاحتیاط؛ لأنّ أهمّیّة ذلک أوجبت الاحتیاط، فلا یمکن أن یبقی وجوب الاحتیاط فی مورد الشکّ؛ مع عدم کون المشکوک ممّا یجب حفظ نفسه.

و من ذلک یظهر: أنّه لا مُضادّة بین إیجاب الاحتیاط و بین الحکم الواقعی، فإنّ المشتبه إن کان ممّا یجب حفظ نفسه واقعاً، فوجوب الاحتیاط یتّحد مع الوجوب الواقعی، و هو هو، و إن لم یکن المشتبه ممّا یجب حفظ نفسه، فلا یجب الاحتیاط؛ لانتفاء علّته، و إنّما یتخیّل المکلَّف وجوبه؛ لعدم علمه بحال المشتبه.

هذا کلّه إذا کانت مصلحة الواقع تقتضی جعل المتمِّم من إیجاب الاحتیاط، و إن لم تکن المصلحة الواقعیّة بتلک المثابة من الأهمیّة؛ بحیث یلزم للشارع توبیخُه علی تشریعه و إسناده إلی المولی ما لا یعلم أنّه منه، فإنّ ذلک تصرّف فی سلطنته أو بلسان الوضع، کقوله علیه السلام:

(کلّ شی ء لک حلال ...)

(1)، فإنّ المراد من الرفع فی

(رُفع ما لا یعلمون)

لیس رفع التکلیف عن موطنه؛ حتی یلزم التناقض، بل رفع التکلیف عمّا یستتبعه من التبعات و إیجاب الاحتیاط، فالرخصة المستفادة من قوله علیه السلام:

(رفع ما لا یعلمون)

(2)، نظیر الرُّخصة المستفادة من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، فکما أنّ الرُّخصة التی تُستفاد من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، لا تُنافی الحکم الواقعی و لا تضادّه، کذلک الرُّخصة المستفادة من قوله علیه السلام:

(رُفع ما لا یعلمون)

. و السرّ فی ذلک: أنّ هذه الرُّخصة فی طول الحکم الواقعی؛ لأنّها فی عرض المنع و الحرمة المستفادة من إیجاب الاحتیاط، و قد عرفت أن إیجاب الاحتیاط فی


1- الکافی 6: 339/ 2، وسائل الشیعة 17: 91، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 2.
2- الخصال: 417/ 9، التوحید: 353/ 24، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

ص: 103

طول الواقع و متفرّع علیه، فما هو فی عرضه فهو فی طول الواقع- أیضاً- و إلّا یلزم أن یکون ما فی طول الشی ء فی عرضه(1). انتهی.

أقول: فی کلامه مواقع للنّظر:

أمّا أوّلًا: فلأنّ الجمع بین صدر کلامه و ذیله مشکل؛ لأنّه ذکر أوّلًا: أنّ وجوب الاحتیاط مجعول شرعیّ، و من متمّمات الجعل، و هو یُنافی ما ذکره فی ذیل کلامه: من أنّ وجوب الاحتیاط للتحفّظ علی الواقع و لأهمّیّته، فإنّ هذا هو حکم العقل بلزوم الاحتیاط، لا أنّه مجعول شرعیّ.

و ثانیاً: أنّ ما ذکره: من أنّ وجوب الاحتیاط من المجعولات الشرعیّة، و من متمّمات الجعل الأوّلی، غیرُ مستقیم؛ لأنّ الاحتیاط إنّما یلزم لحفظ الواقع لأهمیّته، و هو بحکم العقل لا الشرع.

و ثالثاً: ما ذکره: من أنّ وجوب الاحتیاط نفسیّ، فاسد؛ مع تصریحه: بأنّ المقصود منه عدم الوقوع فی مخالفة الواقع، و أنّ أهمیّة مصلحة الواقع سبب لوجوبه، فإنّ مقتضی ذلک أنّ وجوبه مقدّمیّ لا نفسیّ.

و رابعاً: ما ذکره: من ترتُّب العقوبة علی مخالفة هذا الاحتیاط، فیه: أنّه بعد ما فُرض أنّ إیجابه للتحفّظ عن الواقع و عدم مخالفته، لا وجه لترتّب العقوبة علیه؛ أی علی ترکه، بل علی مخالفة الواقع علی فرض وجود التکلیف واقعاً.

و خامساً: ما ذکره: من أنّ علّة وجوب الاحتیاط هو الحکم الواقعی، فالعلم بوجوب الاحتیاط- حینئذٍ- متوقّف علی العلم بوجود الحکم الواقعی، فمع الشکّ فی وجود الحکم الواقعی یُشکّ فی وجوب الاحتیاط أیضاً؛ لأنّه معلول له، و الشکّ فی وجود العلّة موجب للشکّ فی وجود المعلول، فلا بدّ إمّا من جریان البراءة فیه، أو القول بتتمیم الجعل، و ینقل الکلام إلیه ... و هکذا.


1- فوائد الاصول 3: 112- 119.

ص: 104

و سادساً: علی فرض الإغماض عن جمیع ما ذکرناه من الإشکالات: لا یدفع ما أفاده إشکال «ابن قِبة»؛ و هو لزوم تحلیل الحرام و تحریم الحلال؛ لأنّ إیجاب الاحتیاط یُنافی الترخیص الواقعی، فلو کان الحکم الواقعی هی الإباحة فمعناها ترخیص الفعل و الترک، و هو یُضادّ وجوب الاحتیاط و المنع من الترک.

و سابعاً: ما ذکره: من الفرق بین التحیّر و الشکّ، و بین غیره یرد علیه: أنّ الحکم الواقعی مطلق غیر مقیّد بشی ء فهو متعلّق بنفس الطبیعة؛ بناءً علی ما اخترناه، أو بنتیجة الإطلاق؛ بناءً علی ما اختاره، و علی أیّ تقدیر فهو موجود و متحقّق فی جمیع الحالات و الطوارئ، و منها حال التحیّر و الشکّ فالرُّخصة فی حال الشکّ تضادّه و تنافیه.

و ثامناً: ما ذکره: من أنّ إیجاب الاحتیاط فی طول الواقع، لأنّه فی عرض الرخصة التی هی فی طول الواقع فما هو فی عرضه فهو فی طول الواقع.

یرد علیه: أنّ ذلک إنّما یصحّ فی التقدّم و التأخّر الزمانیّین، و أمّا التقدّم و التأخّر الرتبیّان فلا؛ لما قُرِّر فی محلّه: من أنّ التقدّم و التأخّر الرتبیّین تابعان لملاکهما، فمع وجود ملاکهما فی مورد یتحقّقان، کالعلّة فإنّها متقدّمة فی الرُّتبة علی معلولها؛ لوجود ملاک التقدّم الرُّتبی، و هی العلّیّة و المعلولیّة، و أمّا مع عدم وجود ملاکهما فلا، و أمّا ما یُقارن العلّة فلیس متقدّماً فی الرتبة علی معلولها؛ لعدم وجود الملاک فیهما.

و قال المحقّق العراقی قدس سره فی الجواب عن إشکال «ابن قبة»
اشارة

فی مقام الجمع بین الحکم الظاهری و الواقعی ما حاصله:

إنّ لکلّ واحدٍ من اجتماع المِثلین و الضدّین و تفویت المصلحة و الإلقاء فی المفسدة فی حالی الانفتاح و الانسداد، جواباً یخصّه، و إنّ الإشکالات إنّما تتوجّه بناءً علی السببیّة و الموضوعیّة فی حجّیّة الأمارات، و أمّا بناءً علی الطریقیّة فلا

ص: 105

إشکال أصلًا؛ لعدم جعل حکمٍ فی مؤدّی الأمارات، و کذلک لا یتوجّه الإشکالات فی زمان الانسداد حتّی بناءً علی السببیّة، فالإشکالات إنّما تتوجّه- بناءً علی السببیّة فی حجّیّة الأمارات- فی حال الانفتاح فقط،

و مهّد لذلک أربع مقدّمات:
المقدمة الاولی:

لا شبهة فی أنّ الأحکام بحقائقها الراجعة إلی الاقتضاء و التخییر فی مقام عروضها لا تقوم بنفس الطبائع؛ لأنّها من حیث هی لیست إلّا هی؛ لا مطلوبة و لا مقصودة، و لا بالخارج؛ لأنّه تحصیل للحاصل، و لا بالعناوین بما أنّها ذهنیّة، بل هی قائمة بالعناوین الذهنیّة بلحاظها خارجاً و وحدتها معه بحسب التصوّر، و إن کانت غیره بحسب النظر التصدیقی، مع وقوف الحکم علی نفس العنوان و عدم سرایته بتوسُّطه إلی نفس المُعنون الخارجی.

المقدمة الثانیة:
اشارة

کما یُنتزع من وجود واحد عنوانان عرضیّان، کذلک یمکن أن یُنتزع عنه عنوانان طولیّان؛ علی وجه یکون أحد العنوانین فی طول الحکم المتعلّق بالعنوان الآخر، و فی هذا القسم: تارة تکون طولیّة العنوان من جهة طولیّة الوصف المأخوذ فی أحد العنوانین؛ بلا طولیّة فی طرف الذات المعروضة للوصف، کما فی الخمر و الخمر المشکوک حکمها؛ حیث إنّ تأخّر العنوان الثانی عن الأوّل بلحاظ أخذ صفة المشکوکیّة فیه، و إلّا فنفس الذات فی الموضعین محفوظة فی مرتبة واحدة، غیر أنّها تُلحظ: تارةً مجرّدةً عن الوصف، و اخری موصوفة، و ثالثة تکون طولیّة العنوانین حتّی من جهة الذات المحفوظة فیهما، المستلزمة لاعتبار الذات فی رتبتین: تارة فی الرتبة السابقة علی الوصف التی هی رتبة معروضیّتها له، و اخری فی الرتبة اللّاحقة للوصف، نظیر الذات المعروضة للأمر، و الذات المعلولة لدعوته المنتزع منها عنوان الإطاعة، و من هذا الباب کلّ وصف ینوط به الحکم القائم بالذات، کما فی القضایا الشرطیّة الطلبیّة، فإنّه لا بدّ من فرض وجود الوصف قائماً بموصوفه، و الحکم فی هذا الظرف علی نفس الذات الملحوظة فی الرُّتبة المتأخّرة

ص: 106

عن الوصف بلا أخذ الوصف قیداً لهذا الموضوع، و من هذا القبیل صفة المشکوکیّة؛ بناءً علی أنّها من الجهات التعلیلیّة للأحکام الظاهریّة، لا من الجهات التقییدیّة المأخوذة فی ناحیة موضوعاتها، کما هو الظاهر من أدلّتها؛ حیث إنّ المستفاد منها هو أخذ صفة المشکوکیّة علی نحو الشرطیّة لنفس الأحکام الظاهریّة، لا علی نحو القیدیّة لموضوعها، و إنّ شربَ التتن- مثلًا- لأنّه مشکوک الحلّ و الحرمة- حلالٌ؛ لأنّ الحلّیّة مترتّبة علیه بعنوان أنّه مشکوک، و لازم ذلک- علی ما عرفت- اعتبار الذات فی رتبتین: تارة فی الرُّتبة السابقة علی الوصف، و اخری فی الرُّتبة اللاحقة له. و بذلک یختلف موضوع الحکم الواقعی و الظاهری بحسب الرُّتبة؛ بحیث لا یکاد یتصوّر المجمع لهما فی عالم عروض الحکم، و بعد ما کان العنوانان طولیّین و وقوف الحکم علی نفس العنوان- کما ذکرناه فی المقدّمة الاولی- یختلف معروضا الحکمین، و مع اختلافهما لا مانع من الجمع بینهما بعروض الإرادة علی أحدهما، و الکراهة علی الآخر(1). انتهی.

أقول: أمّا ما ذکره فی المقدّمة الاولی:

من أنّه لو تعلّق الحکم بعنوانٍ فهو لا یسری إلی عنوانٍ آخر، فهو صحیح، لکن ما ذکره من تعلُّقه بالعنوان الذهنی- الذی هو عین الخارج بحسب التصوّر- فهو غیر صحیح:

أمّا أوّلًا: فلأنّ الأحکام متعلّقة بنفس الطبائع المجرّدة لیوجدها المکلّف فی الخارج، و هذا ممّا یشهد به وجدان کلّ أحد.

و أمّا قولهم: أنّ الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی، فلا یُنافی ذلک؛ لأنّ معناه أنّ الطبیعة، کطبیعة الإنسان فی مرتبة ذاتها، لیست إلّا الإنسان، لا أنّه لا یتعلّق بها الحبّ و البغض و الإرادة و الکراهة.

و ثانیاً: لو لوحظ المُتصوَّر أنّه عین الخارج و اتّحادُه معه، فهو تصدیق لا


1- نهایة الأفکار 3: 59- 62 و 67.

ص: 107

تصوُّر؛ لأنّه- حینئذٍ- عبارة عن الهوهویّة، و هی تصدیق، و لا یمکن التصدیق بتعدّدهما مع ذلک.

و إن أراد أنّه فی حال تصوُّره عین الخارج تتعلّق إرادته به، مع الغفلة عن التصدیق بعدمه، فلا یندفع به محذور اجتماع الضدّین فی نظر الآمر.

و أمّا المقدّمة الثانیة ففیها:

أوّلًا: أنّ ما ذکره فیها غیر مُسلّم فی باب الأوامر، فإنّ الأمر لیس من الأعراض اللاحقة للموضوعات، بل له إضافة اعتباریّة إلی المتعلّق فهو المأمور به.

و ثانیاً: ما ذکره من داعویّة الأمر للعبد نحو إیجاد الطبیعة و محرّکیّته له: إن أراد المحرّکیّة الخارجیّة و العلّیّة فهو ممنوع؛ لأنّ حرکة العبد نحو الفعل له مبادئ کامنة فی نفس العبد؛ من الخوف من العقوبة و رجاء المثوبة و نحوهما، و لیس الأمر علّة لذلک.

و إن أراد به المحرّکیّة الإیقاعیّة و الداعویّة الإنشائیة فهو مسلّم، لکن لا یقتضی ذلک تقدّم الأمر علی الطبیعة فی الرُّتبة.

و ثالثاً: ما ذکره: من أنّ القضیّة الشرطیّة الطلبیّة من هذا القبیل، فهو- أیضاً- ممنوع، فإنّ الشرط و إن کان علّةً للحکم و متقدِّماً علیه فی الرتبة، إلّا أنّه لیس علّة للذات کی تتأخّر الذات عنه رتبة بحسب الاعتبار.

و رابعاً: ما ذکره فیما نحن فیه من أنّ الشکّ بمنزلة الأوصاف التی انیطت بها الأحکام فهو- أیضاً- غیر صحیح، فإنّ غایة ما یُستفاد من مثل حدیث الرفع هو أنّ حکم الشکّ هو الحلّیّة، و حینئذٍ فموضوعها هو الشکّ، لا أنّ له جهة تعلیلیّة لها.

و خامساً: ما أفاده: من أنّه لو کان للشکّ جهة تقییدیّة لما اندفع الإشکال.

فیه: أنّه علی فرض کون الشکّ قیداً للموضوع فهو أدفع للإشکال؛ لأنّ متعلّق الحکم الواقعی- حینئذٍ- هو العنوان الواقعی کالخمر، و متعلّق الحکم

ص: 108

الظاهری عنوان المشکوک خمریّته، و بین العنوانین عموم من وجه، و إنّما لم نجعل ذلک وجهاً للجمع بین الحکم الظاهری و الواقعی لجهة اخری: هی أنّه یلزم منه الترخیص فی مخالفة الحکم الواقعی فی صورة مخالفة الأصل للواقع.

و بالجملة: الأحکام متعلِّقة بنفس الطبائع، و الحکم المتعلّق بعنوان لا یسری إلی عنوان آخر، و حینئذٍ فیمکن أن یتعلّق حکم بطبیعة، و حکم آخر بهذه الطبیعة المقیّدة بقید، کما تقدّم تفصیل ذلک فی مسألة اجتماع الأمر و النهی، لکن لا یمکن ذلک فیما نحن فیه من جهة أنّ الحاکم فی الحکم الثانی الظاهری ناظر إلی الأحکام الأوّلیّة الواقعیّة عند الحکم و الجعل.

فتلخّص: أنّ الإشکال لا یندفع بما ذکره قدس سره سواء قلنا بالطریقیّة فی حجّیّة الأمارات أو الموضوعیّة، و الذی یدفعه هو ما ذکرناه، و قد أشار إلیه هو قدس سره فی ذیل کلامه.

المقدّمة الثالثة:

التی ذکرها المحقّق العراقی قدس سره أنّه لا شبهة فی أنّ لوجود المراد و تحقُّقه فی الخارج مقدّمات اختیاریّة من قِبَل المأمور، نظیر الستر و الطَّهور بالنسبة إلی الصلاة، و مقدّمات اختیاریّة من قِبَل الآمر، کخطابه الموجب لعلم المأمور بإرادته الباعث علی إیجاده، و خطابه الآخر فی طول ذلک عند جهل المأمور بالخطاب الأوّل و إرادة المکلّف المنبعثة عن دعوة الخطاب، و لا شبهة فی أنّ الإرادة التشریعیّة التی تتضمّنها الخطاب المتعلّق بعنوان الذات، إنّما تقتضی حفظ وجود المتعلَّق من قِبَل خصوص المقدّمات المحفوظة فی المرتبة السابقة علی تلک الإرادة، و هی المقدّمات الاختیاریّة المتمشّیة من قِبل المأمور، سوی إرادته المنبعثة عن دعوة الخطاب، کالستر و الطهارة.

و أمّا المقدّمات المحفوظة فی الرُّتبة المتأخّرة عن تلک الإرادة- کنفس الخطاب و کالخطاب الآخر فی صورة جهل المکلّف، مثل إیجاب الاحتیاط و کإرادة

ص: 109

العبد- فلا تقتضی تلک الإرادة حفظها، بل لا بدّ أن تتعلّق بها إرادة اخری فی طول إرادة الذات(1).

المقدّمة الرابعة:
اشارة

لا شُبهة فی اختلاف مراتب الاهتمام بحفظ المرام بالنسبة إلی المقدّمات المتأخّرة المتمشّیة من قِبَل الآمر حسب اختلاف المصالح و المفاسد الواقعیّة فی الأهمّیّة، فإنّ المصلحة فی الشی ء قد تکون بمرتبة من الأهمّیة تقتضی تصدّی المولی لحفظه فی جمیع المراتب المتأخّرة، و قد تکون دونها؛ بحیث لا تقتضی إلّا حفظ وجود الشی ء من قِبَل خطابه الأوّل.

ففی الصورة الاولی: لا شبهة فی أنّه لا بدّ للمرید للحکم من کونه بصدد حفظ مرامه فی أیّة مرتبة من المراتب؛ بحیث لو لم یتحقّق من قِبَل خطابه الواقعی لجهل المأمور به، یجب علیه الاهتمام بحفظه فی المراتب المتأخّرة؛ بتوجیه خطاب آخر إلی المأمور فی ظرف جهله و لو بمثل إیجاب الاحتیاط.

و أمّا فی الثانیة: فلازمه جواز الاکتفاء فی حفظه بمجرّد خطابه الواقعی فی المرتبة الاولی، فإذا فرض عدم علم المأمور بخطابه لا یلزم علیه توجیه خطاب آخر إلیه فی المراتب المتأخّرة، بل له السکوت و إیکال المأمور إلی حکم عقله بالبراءة، بل یجوز له- حینئذٍ- فی هذه المرتبة إنشاء خلافه؛ بلا احتیاج إلی وجود مصلحة جابرة له أو مزاحمة، بل یکفی- حینئذٍ- أدنی مصلحة فی إنشاء الخلاف.

هذا کلّه فی مقام الثبوت.

و أمّا مقام الإثبات: فلا طریق لإحراز کیفیّة المصالح الواقعیّة و مراتب الاهتمام بها إلّا الخطابات، و لا یستکشف من قِبَل کلّ خطاب إلّا المصلحة بمقدار استعداده للحفظ، و لا یشمل إطلاق کلّ خطاب المراتب المتأخّرة عن نفسه، و الخطابات الواقعیّة- أیضاً- کذلک؛ لا یُستکشف منها إلّا بمقدار استعدادها للحفظ،


1- نهایة الأفکار 3: 63- 65.

ص: 110

فإذا فرض عدم وصولها إلی المکلّف مطلقاً، فلا یلزم علی المولی أن یتصدّی لحفظ مرامه فی المراتب المتأخّرة بمثل إیجاب الاحتیاط، بل له السکوت، و لیس قبیحاً علیه من حیث نقض الغرض أو تفویت المصلحة، بل له إنشاء خلافه بجعل الطرق المؤدّیة إلی الخلاف(1). انتهی.

أقول: ما ذکره فی المقدّمة الثالثة

هو ما ذکر المحقّق المیرزا النائینی قدس سره من أنّ الأحکام الواقعیّة بنفسها لا تصلح للداعویّة فی حال الجهل و الشکّ، و لا بدّ من العلم بها حتّی تدعو المکلّف نحو الفعل، فیحتاج إلی متمِّم الجعل.

لکن ما ذکره فی المقدّمة الرابعة:

من أنّ الإرادة التشریعیّة لا تقتضی حفظ إرادة المکلّف.

فیه: أنّ إرادة المکلّف هی إحدی المقدّمات الوجودیّة للمأمور به، فبناءً علی ما اختاره فی باب وجوب المقدّمة من تعلُّق إرادة تبعیّة لأصل الإرادة المتعلّقة بالمأمور به بالمقدّمة، فلا ریب فی أنّ الإرادة التشریعیّة- حینئذٍ- متکفّلة لإیجاب إرادة المکلّف- أیضاً- لأنّها إحدی المقدّمات.

و أمّا ما ذکره: من أنّ الإرادة التشریعیّة لا یمکن أن تکون حافظة للخطاب الأوّل الصادر منه، بل لا بدّ من إرادة اخری.

فیه: أنّه إن أراد أنّها لا تکفی فی تحقّق الخطاب، و أنّه یحتاج إلی إرادة اخری.

ففیه: أنّه بعد ما رأی المولی وجود مصلحة فی حکم کحلّیّة العقود و أرادها، و قال: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) فهو إیجاد للخطاب بهذه الإرادة التشریعیّة، و لا یفتقر إلی إرادة اخری.


1- نهایة الأفکار 3: 65- 66.
2- المائدة( 5): 1.

ص: 111

و إن أراد أنّها لا تکفی فی حفظ بقاء الخطاب، لا فی أصل وجوده، فلا بدّ فی إبقائه من إرادة اخری.

ففیه: أیضاً أنّه لا معنی لحفظ بقاء الخطاب؛ لأنّه أمر تصرُّمیّ و إبقاؤه عبارة عن جعله غیر متصرّم، و لا یُعقل ذلک.

و أمّا ما ذکره: من أنّه قد تکون المصلحة الواقعیّة بمرتبة لا تقتضی إلّا حفظ وجود الشی ء من قبل خطابه الأوّل لا حفظه فی المراتب المتأخّرة.

ففیه: أنّه إن أراد أنّها موجودة فی صورة العلم فقط، و لیس فی صورة الشکّ و الجهل مصلحة و لا مفسدة أصلًا، فهو تصویب محال.

و إن أراد أنّها موجودة، لکن لا بمثابة من الأهمیّة المقتضیة لجعل وجوب الاحتیاط، فمرجعه إلی ما ذکرناه و اخترناه فی الجواب عن الإشکال: من أنّه قد یرفع المولی یده عن الأحکام الواقعیّة، و یُغمض النظر عنها مع وجودها؛ بجعل الطرق و الأمارات لمصلحة أهمّ من مصالحها.

و أمّا ما أفاده: من أنّه لا طریق لنا فی مقام الإثبات لإحراز کیفیّة المصالح الواقعیّة ... الخ.

ففیه: أنّ إطلاق الخطابات الأوّلیّة کافٍ فی إثبات أنّ المصلحة الواقعیّة ممّا تقتضی حفظ الواقع فی جمیع المراتب.

و نقل الاستاذ الحائری عن استاذه السیّد محمد الفشارکی فی المقام أجوبة ثلاثة، یرجع ثانیها إلی ما اخترناه، و قد تقدّم تفصیله، و أمّا الأوّل منها فهو لا یخلو عن الإشکال؛ حیث قال:

إنّه لا تنافی بین الحکمین إذا کان الملحوظ فی موضوع الآخر الشکّ فی الأوّل.

و توضیحه: أنّه لا إشکال فی أنّ الأحکام لا تتعلّق ابتداءً بالموضوعات

ص: 112

الخارجیّة، بل إنّما تتعلّق بالمفاهیم المتصوّرة فی الذهن، لکن لا من حیث إنّها فی الذهن، بل من حیث إنّها حاکیة عن الخارج، فالشی ء ما لم یتصوّر فی الذهن لا یتّصف بالمحبوبیّة و المبغوضیّة.

ثمّ إنّ المفهوم المتصوّر: تارة هو مطلوب بنحو الإطلاق، و اخری علی نحو التقیید. و الثانی إمّا لعدم المقتضی إلّا فی ذلک المقیّد، و إمّا لوجود المانع.

مثلًا: عتق الرقبة قد یکون مطلوباً بنحو الإطلاق، و قد یتعلّق الغرض بعتق الرقبة المؤمنة، فالمطلوب هو المقیّد خاصّة، و قد یتحقّق الغرض فی المطلق، إلّا أنّ عتق الرقبة الکافرة یُنافی غرضه الآخر، و لهذا یُقیّد الرقبة بالمؤمنة فی الحکم بعتقها، فتقیید المطلق فی هذا القسم الأخیر إنّما هو من جهة الکسر و الانکسار، لا لضیق دائرة المقتضی، و ذلک موقوف علی تصوّر العنوان المطلوب أوّلًا مع العنوان الآخر المتّحد معه فی الوجود المُخرِج له عن المطلوبیّة الفعلیّة، فلو فرضنا عنوانین غیر مجتمعین فی الذهن؛ بحیث لو تُعقِّل أحدهما لم یمکن تعقُّل الآخر، فلا یُعقل تحقّق الکسر و الانکسار بین جهتیهما، فاللازم من ذلک أنّه متی تُصوّر العنوان الذی فیه جهة المبغوضیّة فهو مبغوض کذلک؛ لعدم تعقُّل منافیه، کما هو المفروض، و العنوان المتعلَّق للأحکام الواقعیّة مع العنوان المتعلَّق للأحکام الظاهریّة، ممّا لا یجتمعان فی الوجود الذهنی أبداً، فإنّ صلاة الجمعة- التی هی موضوع الحکم الواقعی- لا یمکن لحاظها مع اتّصافها بکون حکمها الواقعی مشکوکاً؛ لأنّ وصف الشکّ ممّا یعرض الموضوع بعد تحقُّق الحکم، و الأوصاف المتأخّرة عن الحکم لا یمکن إدراجها فی موضوعه، فلو فرضنا أنّ صلاة الجمعة فی کلّ حال أو وصفٍ یُتصوّر معها فی هذه الرتبة، مطلوبةٌ بلا منافٍ و مزاحم، فإرادة المرید تتعلّق بها فعلًا، و بعد تعلُّق الإرادة بها تتّصف بأوصاف اخر لم تتّصف بها قبل الحکم، مثل أن تصیر معلومة الحکم تارةً، و مجهولة الحکم اخری، فلو فرضنا بعد اتّصاف الموضوع بأنّه مشکوک الحکم

ص: 113

بتحقّق جهة المبغوضیّة فیه، فیصیر مبغوضاً بهذه الملاحظة، و لا تزاحمها جهة المطلوبیّة الملحوظة فی ذاته؛ لأنّ الموضوع فی تلک الملاحظة لم یکن مُتعقَّلًا فعلًا.

فإن قلت: العنوان الآخر و إن لم یکن متعقَّلًا فی مرتبة تعقُّل الذات، و لکن الذات ملحوظة فی مرتبة تعقُّل العنوان الآخر، فعند ملاحظة العنوان المتأخّر یجتمع العنوانان فی اللحاظ، فلا تعقل المبغوضیّة فی الرتبة الثانیة مع محبوبیّة الذات.

قلت: تصوُّر ما هو موضوع للحکم الواقعی الأوّلی مبنیّ علی قطع النظر عن الحکم؛ لأنّ المفروض أنّه موضوع للحکم، فیلزم أن یکون تصوره مجرّداً عن الحکم، و تصوّره بعنوان أنّه مشکوک الحکم لا بدّ و أن یکون بلحاظ الحکم، و لا یمکن الجمع بین لحاظ التجرّد عن الحکم و لحاظ ثبوته(1). انتهی.

و فیه أوّلًا: أنّ ما یظهر منه- و هو المتسالم علیه بین الأصحاب- من تأخّر عنوان مشکوکیّة الحکم و عنوان معلومیّته عن نفس الحکم، ممنوع: أما فی المشکوکیّة، فإنّه لو تأخّرت المشکوکیّة عن الحکم اقتضی ذلک وجود الحکم؛ لوضوح أنّه لا معنی لتأخّر شی ء عن شی ء مع عدم وجود المتأخّر عنه، فیلزم أن یکون مشکوکُ الحکم معلومَ الحکم، و هو کما تری، و هذا الذی ذکرناه لا یُنافی تعلُّق الأحکام بعنوان الشکّ، فإنّه لا یمتنع أن یلاحظ المولی عنوان الشکّ الحاصل للمکلّف، فیحکم علیه بحکم، لکن لا یستلزم ذلک تأخّر عنوان الشکّ عن الحکم.

و ثانیاً: علی فرض تأخّر الشکّ عن الحکم رتبةً لا یمتنع اجتماع ما هو متقدّم مع ما هو متأخّر بحسب الرُّتبة فی اللحاظ، کیف؟! و العلّة متقدّمة علی معلولها فی الرتبة، مع أنّهما متضایفان لا ینفکّ لحاظ أحدهما بوصف العلّیّة عن لحاظ الآخر بوصف المعلولیّة.

و ثالثاً: ما ذکره من فرض وجود المفسدة فی القید، لا یخلو: إمّا أن یکون


1- درر الفوائد: 351- 353.

ص: 114

لأصل الطبیعة حکم، فیلزم التضادّ، أولا، فیلزم التصویب؛ لعدم إمکان الإهمال ثبوتاً، و لو فُرض غفلة حاکمٍ عن الحکم الواقعی حین جعل الحکم الظاهری، یبقی الإشکال بالنسبة إلی الحاکم الملتفت إلیه.

و رابعاً: ما ذکره فی جواب الإشکال: من أنّه لا یمکن الجمع بین لحاظ التجرّد عن الحکم و لحاظ ثبوته، ففیه: أنّه إن أراد بالتجرّد الطبیعة بشرط لا فهو و إن یصحِّح ما ذکره، إلّا أنّه یستلزم التصویب؛ لأنّ مرجعه إلی قصر الحکم علی صورة العلم به.

و إن أراد به الطبیعة لا بشرط- أی الطبیعة المطلقة- فهی تجتمع مع کلّ قید و شرط، حتّی قید الشکّ فی الحکم، و حینئذٍ فذات الطبیعة ملحوظة فی مرتبة العنوان المتأخّر، فیلزم اجتماع الحکمین، فیبقی الإشکال بحاله. هذا تمام الکلام فی المقام الأوّل؛ أی إمکان التعبّد بالأمارات و الاصول.

ص: 115

المقام الثانی فی وقوع التعبّد بالأمارات و عدمه فی الشریعة المقدّسة

المقدّمة فی تأسیس الأصل
اشارة

فنقول قال الشیخ الأعظم قدس سره: إنّ الأصل حرمة العمل بالأمارات إذا کان متعبِّداً بها، و ملتزماً بأنّ مؤدّاها حکم شرعیّ مجعول من الشارع، أو فیما لزم منه طرح أصلٍ دلّ الدلیل علی وجوب العمل به، لا فیما إذا عمل بها رجاء إدراک الواقع؛ بدون الالتزام القلبی و الباطنی علی أنّه من الشارع، و لا یلزم منه طرح أصلٍ یجب العمل به شرعاً(1).

و قال فی «الکفایة»: الأصلُ فیما لا یُعلم اعتباره شرعاً، و لم یُحرز التعبُّد به واقعاً، عدمُ حجّیّته عند الإصابة، و عدم الاحتجاج عند المخاصمة، و عدم معذوریّة


1- انظر فرائد الاصول: 31 سطر 6.

ص: 116

العبد عند المخالفة(1). انتهی.

أقول: لا بدّ أوّلًا: من تحقیق الحال فیما ذکره الشیخ قدس سره.

فنقول: استدلّ الشیخ قدس سره علی ذلک بالأدلّة الأربعة(2):

أمّا الکتاب العزیز: فقوله تعالی: «آللَّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللَّهِ تَفْتَرُونَ»(3)، و لکنّها لا تدلّ علی حرمة الالتزام الباطنی و عقد القلب علی أنّ ما لا یعلم أنّه منه تعالی علی أنّه من الشریعة المقدّسة، فإنّ الافتراء عبارة عن الکذب العظیم، و هو غیر عقد القلب المذکور. نعم تدلّ علی حرمة الانتساب إلی اللَّه تعالی قولًا.

و أمّا ما ذکره فی «الکفایة»، و تبعه المیرزا النائینی 0(4): من أنّه علی فرض عدم شمول الآیة لما نحن فیه موضوعاً تشمله حکماً؛ حیث جعل الافتراء فی قبال الإذن، فیعلم من ذلک أنّ کلّ ما لم یؤذن به من الشارع فهو حرام.

ففیه: أنّ المراد من الإذن هو الإذن الواقعی، و الآیة نزلت فی حقّ جماعة حرّموا علی أنفسهم بعض الأشیاء، و نسبوا ذلک إلی اللَّه تعالی، فعاتبهم اللَّه: بأنّ اللَّه أذن لکم فی ذلک، أم ینسبون ذلک إلیه تعالی کذباً و افتراءً(5)؟! و هذا غیر ما نحن فیه المفروض فیه الشکّ فی الإذن الواقعی.

و أمّا الروایات: فمنها ما لا ارتباط له بالمقام مثل قوله علیه السلام:

(رجل قضی بالحقّ و هو لا یعلم)

(6)، و نحو ذلک من الروایات المربوطة بباب القضاء و الفتوی


1- کفایة الاصول: 322.
2- فرائد الاصول: 30 سطر 22.
3- یونس( 10): 59.
4- فوائد الاصول 3: 119- 120.
5- انظر التبیان 5: 397- 398، مجمع البیان 5- 6: 179.
6- الکافی 7: 407/ 1، الفقیه 3: 3/ 1، وسائل الشیعة 18: 11، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 4، الحدیث 6.

ص: 117

ممّن لیس أهلًا لهما، فإنّها فی مقام بیان حرمة القضاء و الإفتاء ممّن لیس أهلًا لهما.

نعم فی بعض الروایات ما یدلّ علی تحریم الانتساب إلیه تعالی ما لا یعلم(1) کما فی بعض الآیات، مثل «وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَی اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»*(2) و غیرها.

و أمّا حکم العقل: فإنّما هو فیما یمکن، و قد عرفت فی باب القطع أنّ الالتزام القلبی و عقد القلب علی شی ء مع الشکّ أو العلم بخلافه غیر معقول و ممتنع، و غیر قابل لأن یتعلّق به حکم، و العقل إنّما یحکم بقبح الکذب علیه تعالی قولًا- أیضاً- و إسنادِ ما لا یعلم إلی اللَّه تعالی أو عَلم خلافه.

و أمّا الإجماع الذی ادّعاه الفرید البهبهانی قدس سره فی بعض رسائله: من أنّ عدم الجواز بدیهیّ عند العوامّ، فضلًا عن الخواصّ و الأعلام(3)، فإنّه فیما اسند إلیه تعالی کذباً بالقول، لا عقد القلب و الالتزام الباطنی علی شی ء علی أنّه منه تعالی، مع أنّه لا یخفی ما فی الاستدلال لتأسیس الأصل بالکتاب و السنّة کما سیجی ء، و کذا ما فی التمسُّک بالاستصحاب فی هذا المقام.

و أمّا ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره من حرمة العمل بالظنّ إذا استلزم طرح أصل یجب العمل به کالاستصحاب(4) فهو- أیضاً- لا یخلو عن الإشکال؛ و ذلک لأنّ المحرّم هو مخالفة الواقع، لا مخالفة الأصل من حیث هو، فإنّه لو فرض مخالفة الأصل للواقع فی نفس الأمر، کما إذا کان الحکم الواقعی لصلاة الجمعة الحرمة، و مقتضی الاستصحاب هو الوجوب، فقامت أمارة ظنّیّة علی حرمتها، فعمل بها و ترک صلاة الجمعة، فهو لا یستحقّ العقوبة لأجل مخالفته للاستصحاب؛ لعدم


1- الکافی 1: 34/ 6.
2- البقرة( 2): 169.
3- نقله عنه فی فرائد الاصول: 31 سطر 1.
4- نفس المصدر سطر 9.

ص: 118

مخالفته للواقع، نعم بناءً علی القول باستحقاق المتجرّی للعقوبة یترتّب العقاب علیه، لکنه غیر حرمة مخالفة الأصل و ترتّب العقاب علیها، فإنّه ممنوع.

و الحاصل: أنّ الحرمة فی الفرض لیست لمخالفة الأصل، بل لمخالفة الواقع أو التجرّی.

ثمّ إنّه هل الصحیح فی تأسیس الأصل هو ما ذکره الشیخ قدس سره أو ما ذکره المحقّق الخراسانی فی «الکفایة»: من أنّ الأصل عدم حجّیّة ما شُکّ فی اعتباره شرعاً؟

و الحقّ: أنّ ما ذکره الشیخ قدس سره غیر مستقیم، إلّا أن یرید ما ذکره المحقّق صاحب الکفایة؛ للملازمة بین حرمة التعبّد بالظنّ و عدم حجّیّته، و کذلک بین جواز التعبُّد بالظنّ و حجّیّته، و حینئذٍ فتأسیس الأصل کذلک إنّما هو لأجل أنّ الأحکام الوضعیّة غیر قابلة للجعل عنده قدس سره و أنّ المجعول هو الأحکام التکلیفیّة و ینتزع منها الأحکام الوضعیّة.

و أورد صاحب الکفایة علی ذلک: بالنقض بالظنّ علی الحکومة، فإنّه حجّة علی الفرض مع حرمة الإسناد إلیه تعالی، فلا ملازمة بین حرمة التعبّد بالظنّ و عدم حجّیّته(1).

و أورد المحقّق العراقی قدس سره نقضین آخرین:

أحدهما: النقض بالشبهات البدویّة قبل الفحص، فإنّه یحرم العمل بالظنّ- حینئذٍ- مع أنّه لا یستلزم عدم الحجّیّة، بل الشکّ- حینئذٍ- حجّة؛ لجریان البراءة العقلیة، أی قبح العقاب بلا بیان.

الثانی: النقض بما إذا جعل الشارع وجوب الاحتیاط فی مورد الشکّ، فإنّه


1- کفایة الاصول: 323.

ص: 119

یحرم الاستناد إلیه تعالی، مع أنّ الاحتیاط حجّة(1).

لکن الإنصاف: أنّ هذه النقوض غیر واردة: علی ما ذکره قدس سره: أمّا ما ذکره فی «الکفایة» فلأنّ الظنّ فی الفرض الذی ذکره لیس حجّةً، بل الحجّة هو العلم الإجمالی بوجود الأحکام فی الشریعة؛ بناءً علی أنّه من مقدّمات دلیل الانسداد، کما صنعه قدس سره أ لا تری أنّه لو قلنا بوجوب الاحتیاط التامّ أو الناقص و التجزّی فی الاحتیاط؛ بالإتیان بالمظنونات و المشکوکات و ترک الموهومات، لا ینتج مقدّمات دلیل الانسداد حجّیّة الظنّ، و لیس إلّا لأجل أنّ الحجّة هو العلم الإجمالی بوجود تکالیف فی الشریعة المقدّسة، و مقتضاه الإتیان بجمیع الأطراف، أو بما أمکن منها.

و الحاصل: أنّ الحجّة هو العلم فی الفرض المزبور. نعم لو بنینا علی أنّ المقدّمة الاولی للانسداد هو الإجماع علی عدم إهمال الشارع للمکلّفین، لا العلم الإجمالی بوجود التکالیف- کما هو الحقّ- فلما ذکره قدس سره وجه، لکنّه لا یصحّ علی المبنی المذکور.

و أمّا النقض الأوّل الذی أورده المحقّق العراقی: فلأنّ حرمة العمل بالظنّ- حینئذٍ- إنّما هو لأجل أنّ المکلّف یحتاج فی مورد الشکّ إلی المؤمِّن مع عدم جریان البراءة العقلیّة التی هی المؤمِّن قبل الفحص؛ لأنّ موضوعها عدم البیان و المراد به البیان بالنحو المتعارف، لا الواصل إلی المکلّف بنفسه قبل أن یتفحّص، فما لم یتفحّص فی الکتب الأربعة عن الأخبار لا یحرز عنده عدم البیان، الذی هو موضوع حکم العقل بقبح العقاب.

و هکذا الکلام فی النقض الثانی، فإنّ حرمة العمل بالظنّ فی صورة وجوب الاحتیاط إنّما هو لعدم المؤمِّن من العقوبة مع جعل وجوب الاحتیاط.

هذا، و لکن مع ذلک کلّه لا دلیل علی ما ذکره الشیخ قدس سره من استلزام حرمة


1- نهایة الأفکار 3: 80- 81.

ص: 120

التعبّد بالظنّ لعدم حجّیّته، فإنّه مجرّد دعوی لا دلیل علیها.

فالتحقیق هو ما ذکره فی «الکفایة» فی بیان تأسیس الأصل: من أنّا نجزم بعدم حجّیّة ما لم یثبت حجّیّته؛ لکفایة الشکّ فی ذلک فی القطع بعدم الحجّیّة؛ فإنّه مع الشکّ فی حجّیّة شی ء لا یصحّ احتجاج المولی علی العبد و بالعکس.

نعم قد یمکن احتجاج المولی علی العبد علی الواقع فیما إذا بیّنه بطرق متعارفة، لکن قصّر المکلّف و لم یتفحّص عنه.

ثمّ إنّه قال فی «الفرائد»: و قد یقرّر الأصل هنا بوجوه:

منها: أنّ الأصل عدم الحجّیّة و عدم التعبّد و إیجاب العمل به.

و أورد علیه: بأنّ الأصل و إن کان کذلک، إلّا أنّه لا یترتّب علی مقتضاه شی ء، فإنّه یکفی فی موضوع حرمة العمل بالظنّ عدم العلم بورود التعبّد به من غیر حاجة إلی إحراز عدم ورود التعبّد به؛ لیحتاج إلی ذلک الأصل.

و الحاصل: إنّما یحتاج إلی هذا الأصل إذا ترتّب الأثر علی الواقع، و أمّا إذا ترتّب علی المشکوک فإنّه یترتّب علیه بمجرّد الشکّ، نظیر قاعدة الاشتغال الحاکمة بوجوب تحصیل الیقین بالفراغ، فإنّه لا یفتقر فی إجرائها إلی أصالة عدم فراغ الذمّة، و إثباتهم بل یکفی فیها عدم العلم بالفراغ(1).

و أورد علیه صاحب الکفایة فی «الحاشیة علی الفرائد»: بوجهین:

الأوّل: أنّ الاحتیاج إلی ترتّب الأثر الشرعی فی الاستصحاب إنّما هو فی الاستصحابات الموضوعیّة الخارجیّة، لا فی مثل الحجّیّة و حرمة العمل بالظنّ من الأحکام التکلیفیّة و الوضعیّة التی تنالها ید الجعل، فإنّه لا یحتاج إلی ترتّب الأثر الشرعی علیها(2).


1- فرائد الاصول: 31 سطر 15.
2- لا یخفی أنّ هذا الإشکال إنّما یرد علی الشیخ قدس سره إذا کان نظره: هو أنّ عدم جریان الاستصحاب فیه إنّما هو لعدم ترتّب أثر شرعیّ علیه، لکن الظاهر- بل صریح کلامه- أنّ نظره غیر ذلک، و هو أنّ الاستصحاب المذکور لغو؛ لعدم الافتقار إلی اثبات حرمة التعبّد به بالاستصحاب لتحققها بدونه؛ سواء ترتّب علیه الأثر أم لا. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 121

الثانی: أنّه قد یترتّب الأثر الشرعی علی کلّ واحد من الواقع و الشکّ فیه، و حینئذٍ فالمورد صالح لجریان الاستصحاب و القاعدة المضروبة لحکم هذا الشکّ معاً، إلّا أنّ الاستصحاب مقدّم علی القاعدة لحکومته علیها، کما فی حکم الطهارة المترتّبة علی الواقع و علی الشکّ فیه، فإنّه و إن کان قابلًا لکلّ واحد منهما، لکن الاستصحاب مقدّم علیها لحکومته علیها(1).

و أطال المیرزا النائینی قدس سره(2) الکلام فی المقام؛ ردّاً علی صاحب الکفایة و تأییداً للشیخ الأعظم قدس سره و المحقّق العراقی(3) تأییداً لصاحب الکفایة و ردّاً علی الشیخ.

أقول: وقع خلطٌ فی کلمات الأعاظم المذکورین- قدّست أسرارهم- فی المقام لا بدّ من توضیحه، و هو أنّ هنا عناوین ثلاثة:

الأوّل: عنوان القول بغیر علم، فإنّه محرّم عقلًا و نقلًا بالآیات(4) و الروایات(5).

الثانی: عنوان التشریع، لا بمعنی الالتزام الباطنی بکون شی ء من الشرع مع أنّه لیس منه؛ لما عرفت من عدم قابلیّة ذلک لأن یتعلّق به حکم من الأحکام، بل بمعنی الإدخال فی الدین ما لیس منه، و جعله حکماً مع أنّه لیس من الدین، أو


1- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 43 سطر 13.
2- فوائد الاصول 3: 127- 132.
3- نهایة الأفکار 3: 81- 82.
4- الأعراف( 7): 33.
5- وسائل الشیعة 18: 9، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 4.

ص: 122

إخراج ما هو من الدین منه.

الثالث: عنوان الکذب، فإنّه- أیضاً- محرّم، و عنوان التشریع و إن ینطبق علی الکذب واقعاً، إلّا أنّه أشدّ حرمة و عقوبة من الکذب.

ثمّ إنّ العنوان الأوّل لیس له واقع قد یصیبه المکلّف و قد لا یصیبه، بل واقعه هو هذا العنوان فمع تحقّقه تترتّب علیه الحرمة، لا مع عدمه، بخلاف العنوان الثانی- أی التشریع- فإنّه قد یُدخل المکلّف شیئاً فی الدین باعتقاده أنّه لیس منه ثم ینکشف أنّه من الدین واقعاً، و قد یطابق اعتقاده الواقع، و هکذا عنوان الکذب و الحرمة مترتبان علی عنوان التشریع الواقعی و الکذب الواقعی؛ بحیث لو شرّع أو کذب باعتقاده، فبان خلاف اعتقاده، لا تترتّب علیهما الحرمة و العقوبة لعدم تحقّقهما واقعاً. نعم علی القول بحرمة التجرّی فهما محرّمان من تلک الجهة، و حینئذٍ فلو لم یعلم المکلَّف بشی ء أنّه من الدین أو لا، لکنّه مسبوق بعدم کونه من الدین، فباستصحاب عدمه یثبت أنّه لیس من الدین، فیترتّب علیه حرمة جعله من الدین، کما لو علم بأنّه لیس من الدین.

هذا إذا قلنا بقیام الاستصحاب مقام القطع الموضوعی، مع أنّه یمکن أن یقال بعدم ابتنائه علی ذلک، فإنّ المراد من العلم بأنّه لیس من الدین فی التشریع هو قیام الحجّة علی أنّه لیس منه، أی الأعمّ من العلم و سائر الأمارات و الاصول المعتبرة.

و الحاصل: أنّهم- قدّست أسرارهم- توهّموا: أنّ هنا حکماً واحداً یترتّب علی المشکوک و علی الواقع، لکن لیس کذلک، فإنّ للتشریع بالمعنی المذکور حکماً غیر ما یترتّب علی القول بغیر علم، الذی هو عبارة عن الشکّ، فإنّ له حرمة اخری، و کذلک الکذب، و حینئذٍ فلو لم یعلم بأنّ شیئاً هو من الدین أو لا، جری فیه استصحاب عدم حجّیّة الأمارة، أو عدم وقوع التعبُّد، فإدخاله فی الدین تشریع محرّم، و هو غیر القول بغیر العلم، و لیس هذا الاستصحاب مثبتاً، فإنّه مثل

ص: 123

استصحاب بقاء خمریّة مائع، فیترتّب علیه حرمة شربه.

فتلخّص: أنّ مورد جریان الاستصحاب غیر مورد القاعدة المضروبة لحکم الشکّ، و لکن الإشکال فی صحّة التمسّک بالاستصحاب فی المقام کالتمسّک بظاهر الکتاب و الأخبار؛ حیث إنّ المفروض أنّا فی مقام تأسیس الأصل الأوّلی للتعبّد بالظنّ، و فرض عدم ثبوت حجّیّة شی ء من الظواهر و غیرها من الظنون فعلًا.

و لا بدّ من صرف الکلام إلی ما خرج- أو قیل بخروجه- عن هذا الأصل، و هو امور:

ص: 124

الأمر الأوّل حجیّة ظواهر الألفاظ
اشارة

فنقول: صحّة احتجاج العبد علی المولی أو بالعکس یتوقّف علی امور:

الأوّل: صدور الکلام الذی یحتجّ به من المولی.

الثانی: تعیین ظهوره.

الثالث: إثبات إرادته لهذا الظهور.

الرابع: توافق الإرادة الجدّیّة مع الاستعمالیّة.

أمّا الأوّل: فالبحث فیه: إمّا فی أنّ الراوی الذی نسبه إلی المولی ثقة أو لا، و إمّا فی حجّیّة قول الثقة، و المتکفّل للأوّل هو علم الرجال، و للثانی علم الاصول أی مسألة حجّیّة خبر الواحد.

و أمّا الثانی: فالمتکفّل لبیانه و إثباته هو التبادر و عدم صحّة السلب أو الرجوع إلی أهل اللغة.

و أمّا الثالث و الرابع: و هو أنّ ظاهر اللفظ مراد للمولی استعمالًا، فلیس الوجه فی إثباته أصالة الظهور، أو أصالة الحقیقة، أو أصالة عدم القرینة، أو أصالة

ص: 125

الإطلاق، و نحو ذلک ممّا ذکروه فی المقام؛ و ذلک لما عرفت سابقاً فی باب الحقیقة و المجاز: أنّ اللفظ فی المجازات لا یستعمل فی غیر الموضوع له، بل هو مستعمل فی معناه الموضوع له، لکن بادّعاء أنّه الموضوع له و تقدّم أنّ حسن المجازات إنّما هو لذلک، و إلّا فمجرّد استعمال «أسد» فی «زید» لا حسن فیه.

و علی أیّ تقدیر فتخصیص العامّ و تقیید المطلق لیس مجازاً بأیّ معنیً ارید منه؛ لأنّ لفظ العامّ و المطلق لم یستعملا فی الخاصّ و المقیّد حتی یصیرا مجازاً، بل هما مستعملان فی معناهما العامّ و المطلق بالإرادة الاستعمالیّة، لکن بعد الظفر بالمخصِّص و المقیِّد یستکشف عدم توافق الإرادة الجدّیّة مع الاستعمالیّة بالنسبة إلی الخاصّ و المقیّد.

و الحاصل: أنّ ما ذکروه فی المقام: من التمسّک بأصالة الظهور، کما ذهب إلیه المحقّق صاحب الکفایة قدس سره(1) و اختاره شیخنا الحائری قدس سره(2) فی أواخر عمره الشریف، أو بأصالة عدم القرینة، کما ذهب إلیه الشیخ الأعظم قدس سره(3) أو بأصالة عدم التخصیص أو التقیید فی باب العمومات و المطلقات، کما ذهب إلیه المحقّق العراقی قدس سره(4) فی المقام، غیر صحیح؛ لأنّ الدافع للشکوک المتصوّرة فی المقام لیس واحد ممّا ذکروه؛ لأنّ الشکّ: إمّا فی أنّه هل صدر الکلام من المولی مع الالتفات و القصد، أو أنّه صدر منه غفلة و سهواً؟ فالدافع لهذا الشکّ أصل خاصّ عقلائیّ، و هو أصالة عدم الغفلة و السهو؛ لعدم اعتناء العقلاء بهذا الشکّ، و إمّا فی أنّه هل صدر منه لغرض، أو أنّه صدر عنه عبثاً و لعباً؟ فإنّ بناءهم مستقرّ علی الحمل علی أنّه لغرض


1- کفایة الاصول: 323- 324.
2- درر الفوائد: 361.
3- فرائد الاصول: 34 سطر 2.
4- نهایة الأفکار 3: 85- 86 و قد تمسّک بذلک إلی جانب تمسّکه بأصالة عدم القرینة.

ص: 126

لا عَبَثاً، و إمّا فی أنّه هل صدر منه لتفهیم المخاطب أو لا؟ فهو- أیضاً- کذلک إذا خاطبه المولی بلا واسطة.

و أمّا إذا أخبر عنه بواسطة أو وسائط، کالأخبار التی بأیدینا من الأئمّة الأطهار علیهم السلام فإنّ هذه الاحتمالات متصوّرة بالنسبة إلی الراوی الأوّل للثانی، کإخبار زرارة لحریز، فالدافع للشکوک المذکورة فیها هو الاصول العقلائیّة المذکورة- أیضاً- بعینها.

و أمّا احتمال تعمّده الکذب فی النقل فیدفعه وثاقة الراوی و عدالته کما هو المفروض.

و أمّا احتمال أن یکون هناک قرینة حالیّة أو مقالیّة صارفة للظهور، و احتفاف الکلام بها، و لم یبیّنها الراوی عمداً، فهو- أیضاً- کذلک، و أمّا احتمال عدم بیانها سهواً و غفلةً فهو مدفوع بأصالة عدم السهو و الخطاء.

و هکذا الکلام بالنسبة إلی الوسائط التی بعد الواسطة الاولی، و حینئذٍ فلا مورد لجریان أصالة الحقیقة أو أصالتی الظهور و عدم القرینة.

مع أنّه لا معنی لأصالة الظهور؛ لأنّ الأصل لا بدّ أن یضاف إلی الجملة لا المفرد، فإن ارید بها أصالة تحقّق الظهور فالمفروض أنّه ظاهر فیه بالوجدان.

و إن ارید منها أصالة حجّیّته فهو مصادرة.

و إن ارید منها أصالة صدور هذا الظاهر فمرجعه إلی حجّیّة خبر الواحد.

و العجب من المحقّق العراقی(1) حیث إنّه اعترف: بأنّ العامّ المخصَّص و المطلق المقیَّد مستعملان فی العموم و الإطلاق بالإرادة الاستعمالیّة، إذ علی ما ذکره قدس سره فدافع احتمال التخصیص و التقیید هو أصالة تطابق الجدّ و الاستعمال، لا أصالة العموم و الإطلاق، أو أصالة عدم التخصیص و التقیید، أو أصالتا الحقیقة


1- نهایة الأفکار 2: 513- 514.

ص: 127

و الظهور.

فتلخّص: أنّه لا مورد للُاصول التی ذکرها الأعاظم المتقدّم ذکرهم قدس سرهم(1).

ثمّ إنّ فی المقام خلافین:

أحدهما: ما نُسب إلی الأخباریّین: من عدم حجّیّة ظواهر الکتاب(2).

و الثانی: ما نُسب إلی المحقّق القمی رحمه الله من عدم حجّیّته بالنسبة إلی من لم یقصد إفهامه(3).

فنقول: لا ریب و لا إشکال فی حجّیّة الظواهر مطلقاً؛ سواء حصل منها الظنّ أم لا، و سواء قام الظنّ الغیر المعتبر علی خلافه أم لا؛ لاستقرار سیرة العقلاء علی الأخذ بالظواهر و التمسُّک بها فی جمیع الأعصار و الأمصار فی الدعاوی و الأقاریر و الوصایا و المکاتبات، و یحتجّون بها؛ بحیث لا یقبل الاعتذار بعدم حجّیّة الظواهر؛ إمّا لإفادتها الظنّ النوعی لهم، أو لأجل اختلال نظامهم مع عدم العمل بها، أو لغیر ذلک، و لا یهمّ لنا بیان منشأ هذا البناء منهم.

التفصیل بین مَن قصد إفهامه و غیره

و أمّا ما ذکره المحقّق القمی قدس سره من التفصیل بین من قُصد إفهامه و غیره، فوجّهه الشیخ قدس سره: بأنّ الظهور اللفظی لیس حجّة إلّا لإفادته الظنّ النوعی، فإن کان المخاطب ممّن قُصد إفهامه وجب علیه إلقاء الکلام علی نحوٍ لا یقع المخاطب معه فی خلاف الواقع؛ بحیث لو فرض وقوعه فی خلافه فهو إمّا لغفلة منه فی التوجّه


1- لو احتملنا اعتماد المتکلّم علی قرینة منفصلة عن العام لم تصل إلینا، لا لأجل الغفلة و النسیان أو العمد، بل لأُمور خارجیّة، فالظاهر أنّه لا دافع لهذا الاحتمال إلّا أصالة عدم القرینة. المقرّر حفظه اللَّه.
2- هدایة الأبرار: 162.
3- قوانین الاصول 1: 398 سطر 22.

ص: 128

و الالتفات إلی ما اکتنف به الکلام الملقی إلیه، و إمّا لغفلة المتکلِّم عن إلقاء الکلام علی وجه یفی بالمراد، و من المعلوم: أنّ احتمال الغفلة من المتکلّم أو المخاطب احتمال مرجوح فی نفسه، مع انعقاد الإجماع من العقلاء علی عدم الاعتناء باحتمال الغفلة من المتکلّم و المخاطب، بل فی جمیع امورهم و أعمالهم و أفعالهم.

و أمّا إذا لم یکن الشخص ممّن قُصد إفهامه فلا ینحصر سبب وقوعه فی خلاف المقصود فی الغفلة، فإنّا إذا لم نجد فی آیة أو روایة ما یصرف الکلام عن ظاهره، لکن احتملنا أنّه قد فهم المخاطب مراد المتکلّم من قرینةٍ قد خَفِیت علینا، فلیس هذا الاحتمال لأجل غفلة المتکلّم أو منّا؛ إذ لا یجب علی المتکلِّم إلّا نصب القرینة لمن یقصد إفهامه، مع أنّ عدم تحقّق الغفلة من المتکلِّم فی محلّ الکلام مفروغ عنه لعصمته، و لیس اختفاء القرینة لغفلتنا و مسبَّباً عن عدم التفاتنا، بل لدواعٍ اخر خارجة عن اختیار المتکلِّم و المکلّف، فلیس هنا ما یوجب بنفسه الظنّ بالمراد، و لیس احتمالُ وجودِ قرینةٍ لم تصل إلینا قد خفیت علینا- حتی بعد البحثِ و الفحص- أمراً مرجوحاً؛ إذ کثیر من الامور قد اختفت علینا، بل لا یبعد دعوی العلم بأنّ ما اختفی علینا من الأخبار و القرائن أکثر ممّا ظفرنا به و اطّلعنا علیه، مع أنّا لو سلّمنا حصول الظنّ بانتفاء القرائن المتّصلة، لکن القرائن الحالیّة و ما اعتمد علیه المتکلّم؛ من الامور العقلیّة و النقلیّة المنفصلة- الکلّیّة و الجزئیّة- المعلومة للمخاطب، لیست ممّا یحصل لنا الظنّ بانتفائها و لو بعد الفحص و الیأس(1). انتهی.

أقول: لا بدّ علیه قدس سره(2) من إثبات أمرین لیترتّب علیهما عدم حجّیّة ظواهر الکتاب إلّا من طریق الانسداد:

أحدهما: إثبات أنّ الأخبار الصادرة منهم علیهم السلام لم یقصد بها إفهام المکلّفین


1- فرائد الاصول: 41 سطر 3.
2- أی المحقّق القمیّ قدس سره. المقرّر.

ص: 129

المتأخّرین عن زمان صدورها، و هو الصُّغری نعم الشکّ فی ذلک کافٍ فی إثبات ذلک.

الثانی: إثبات أنّها لیست حجّة بالنسبة إلی من لم یقصد إفهامه، و هو الکبری للقیاس.

فلو ثبت أنّ الأخبار و الآیات ممّا قصد فیها إفهام جمیع المکلّفین أو منع الکبری المذکورة للقیاس و فرض إثبات حجّیّة ظواهرها بالنسبة إلی جمیع المکلّفین فلا یتمّ دعواه و مطلوبه.

أمّا الکبری: ففیها أوّلًا: ما تقدّم من إطباق جمیع العقلاء و العلماء علی الاحتجاج بظواهر الألفاظ فی جمیع محاوراتهم من غیر فرق بین المقصود إفهامه و بین غیره، و الشارع- أیضاً- منهم، و تبعهم فیه، و أمضی بناءهم.

و ثانیاً: فلأنّه قدس سره أوّل من اختار هذا القول و لم یسبقه فی ذلک أحد قبله، فلو کان ذا صحیحا لما سلک العلماء و العقلاء قبله خلافه، و أمّا دعوی العلم الإجمالی بوجود قرائن حالیّة أو مقالیّة بین المتکلّم و المخاطب و لم تصل إلینا، فهی دعوی جُزافیّة، و نحن لا نُسلِّم العلم الإجمالی المذکور بعد الفحص التامّ عنها و الظفر ببعضها.

و أمّا الصُّغری المذکورة فهی- أیضاً- ممنوعة، کما یظهر ذلک لمن لاحظ الأخبار المذکورة فی أبواب القضاء من الوسائل، مثل

روایة «محمّد بن مسلم»(1) قال علیه السلام فیها: (من حفظ من شیعتنا أربعین حدیثاً بعثه اللَّه- عزّ و جلّ- یوم القیامة فقیهاً عالماً)

، و هذا الخبر متواتر عنهم علیهم السلام و فی بعضها(2):

(ینتفعون بها)

، و ظاهر


1- وسائل الشیعة 18: 54، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 8، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة 18: 66 و 70، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 8، الحدیث 54 و 72.

ص: 130

ذلک إنّما هو لتعلیم الغیر و العمل بها.

و مثل ما روی من أمرهم لشیعتهم بحفظ الکتب المضبوط فیها الأخبار، مثل

ما روی المفضل بن عمر(1) قال: قال لی أبو عبد اللَّه علیه السلام: (اکتبْ و بثّ علمک فی إخوانک، فإن متّ فأورثْ کتبک بینک، فإنّه یأتی علی الناس زمان هرج لا یأنسون فیه إلّا بکتبهم)

، و مثل

ما عن محمّد بن الحسن بن أبی خالد شینولة(2) قال: قلت لأبی جعفر الثانی: جعلتُ فداک إنّ مشایخنا رووا عن أبی جعفر و أبی عبد اللَّه علیهما السلام و کانت التقیّة شدیدة، فکتموا کتبهم، فلم تروِ عنهم، فلمّا ماتوا صارت تلک الکتب إلینا، فقال: (حدّثوا بها، فإنّها حقّ)

، و غیر ذلک من الأخبار التی یُستفاد منها: أنّ جمیع المکلّفین مقصودون بالإفهام من الأخبار الصادرة عنهم، فما اختاره قدس سره غیر صحیح.

و أمّا ما ذکره الأخباریّون: فما تمسّکوا به لمذهبهم امور ضعیفة واهیة لا ینبغی التعرّض لها بعد ما عرفت من عدم الشبهة و الارتیاب فی حجّیّة الظواهر مطلقاً من غیر فرق بین ظواهر الکتاب المجید و غیره.

فی دعوی تحریف القرآن و ردّها

و أمّا دعوی تحریف القرآن فهی ناشئة عن بعض أخبارٍ تنتهی إلی بعض الغلاة و الضعفاء یدلّ بعضها علی أنّهم أسقطوا من الکتاب ثلثیه: ثلثاً فی مدح أهل البیت علیهم السلام و ثُلُثاً فی ذمّ الخلفاء، و بقی ثُلُثه(3)، أو أنّه قد سقط من بین قوله «وَ إِنْ


1- الکافی 1: 42/ 11، وسائل الشیعة 18: 56، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 8، الحدیث 18.
2- الکافی 1: 42/ 15، وسائل الشیعة 18: 58، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 8، الحدیث 27.
3- انظر تفسیر البرهان 1: 21/ 7.

ص: 131

خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِی الْیَتامی فَانْکِحُوا ما طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ»(1) الآیة- أکثرُ من ثُلُث القرآن(2)، و أنّه کان اسم علیّ علیه السلام مذکوراً فی بعض الآیات، مثل: «یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ»(3) و غیرها(4)، أو أنّ بعضاً من القرآن(5)، مع أنّا نقطع بأنّ هذا القرآن هو الذی نزل علی قلب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم بدون زیادةٍ و لا نقصان، و هو الذی کان فی زمان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم بید المسلمین، و یقرءونه و یحفظونه. و کیف یمکن تحریف القرآن فی ذلک العصر مع شدّة تعصّب المسلمین الرؤساء منهم و غیره و کمال حفظهم له و کثیر منهم کانوا حافظین له عن ظهر القلب مع صلابتهم فی أمثال ذلک.

و ممّا یدلّ علی ذلک: أنّه لم یذکر ذلک علیٌّ و لا فاطمة علیهما السلام فی جملة مطاعنهما و الاحتجاج علی الشیخین، مع أنّه من أهمّ المطاعن لو کان واقعاً.

و أمّا ما ذکروه: من أنّ اسم علی علیه السلام کان مذکوراً فی القرآن فی کثیر من الآیات، کالآیة الشریفة المتقدّمة.

ففیه: أنّه لو کان کذلک فلِمَ یخاف صلی الله علیه و آله و سلم من تبلیغ ذلک مع التصریح به فی القرآن الذی بید المسلمین؟!

و أمّا ما ذکروه: من إسقاط ثُلُثی القرآن، فهو من المطالب الواهیة، و الأغلاط


1- النساء( 4): 3.
2- الاحتجاج 1: 598.
3- المائدة( 5): 67.
4- الأحزاب( 33): 5.
5- ذُکر فی مواضع کثیرة من البحار بأنّ لفاطمة علیها السلام مصحفاً و ذلک کما فی الجزء 25، ص 116 الروایة الاولی و کما فی الجزء 26، ص 18 الروایة الاولی و غیر ذلک فی مواضع اخری من البحار إلّا أنّی لم أعثر علی ما یدلّ علی أنّ مصحفها أو بعض مصحفها من القرآن. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 132

الواضحة، کما اتّضح ذلک ممّا ذکرناه.

و أمّا ما نُقل: من أنّ بعض مصحف فاطمة علیها السلام من القرآن، فهو معارَض بها فی بعض الأخبار(1) من أنّه لیس فی مصحفها علیها السلام حرفٌ من القرآن، فهو أیضاً من الأغلاط الواضحة.

و ذکر بعضهم(2) سورة سمّاها بسورة النور، و هی تنادی بأنّها لیست من سنخ القرآن، بل من مجعولات البشر؛ لخلوّها عن الفصاحة و البلاغة و خروجها عن نظم القرآن المجید و عدم مشابهتها بکلام اللَّه تعالی کما لا یخفی ذلک علی من لاحظها.

و أمّا ما ذکره أمیر المؤمنین علیه السلام فی نهج البلاغة من قوله: أنّی جمعت القرآن مع جمیع تأویلاته و تنزیلاته، فأبوا أن یقبلوه منّی(3)، فلا یدلّ علی ما ذهبوا إلیه أیضاً، بل یدلّ علی خلافه.

و أمّا الأمر الثانی- الذی ذکرنا أنّه لا بدّ من إثباته فی صحّة مدّعی المحقّق القمی رحمه الله فی عدم حجیّة ظواهر الکتاب إلّا من طریق الانسداد- فقد تقدّم بعض الکلام فیما یتشخّص به من التبادر و صحّة السلب فی مباحث الألفاظ، و منه قول اللُّغوی، و اختلفوا فی حجّیّة قوله و عدمه(4):

فی حجّیّة قول اللُّغوی

و الدلیل علی الحجّیّة: هو بناء العقلاء کلّهم علی الرجوع فی کلّ أمر إلی أهل الخبرة فی ذلک الأمر فی کلّ عصر و زمان، کما یرجع فی تقویم البناء و الدار إلی


1- الکافی 1: 185 انظر باب ذکر الصحیفة و الجفر و الجامعة ....
2- انظر بحر الفوائد: 101 سطر 8.
3- انظر الاحتجاج 1: 607. و لم نعثر علیه فی نهج البلاغة.
4- الذریعة إلی اصول الشریعة 1: 13، فرائد الاصول: 46 سطر 10، کفایة الاصول: 330، نهایة الأفکار 3: 94.

ص: 133

البارع و أهل الخبرة فی صنعة البناء، و هکذا قول اللُّغوی.

و لکن للقائل بعدم حجّیّته أن یقول: إنّ اللُّغویّین لیسوا من أهل خبرة ذلک و تمییز الحقائق عن المجازات، بل اللُّغویّون یذکرون موارد الاستعمالات، و هی أعمّ من الحقیقة و المجاز.

و التحقیق أن یقال: إنّ حجّیّة بناء العقلاء إنّما هی فیما أمضاه الشارع، و هو موقوف علی استقرار ذلک البناء فی زمانهم علیهم السلام لیکون عدم ردعهم إیّاهم عن هذا البناء و الطریقة إمضاءً لها، و لم یثبت بناء العقلاء فی زمانهم علیهم السلام علی الرجوع إلی أهل اللّغة، و الشکّ فی ذلک و احتمال حدوث هذه الطریقة- علی فرض تسلیمها- کافٍ فی عدم حجّیّته؛ للعلم بعدم إمضاء الشارع لها مع تأخّرها عن زمانه و بناء العقلاء- بنحو الکلّیّة- علی الرجوع فی کلّ أمر و فنّ إلی أهل الخبرة فی ذلک الفنّ لا یکفی فیما نحن فیه لو لم یُعلم بناؤهم علی ذلک فی خصوص الرجوع إلی اللُّغویّین.

و الحاصل: أنّ المقصود إثبات حجّیّة قول اللُّغوی تعبّداً بدون اعتبار حصول الظنّ منه، بل و لو مع الظنّ الغیر المعتبر علی خلافه، مثل حجّیّة خبر الواحد، و هو یفتقر إلی إثبات استقرار بناء العقلاء علی الرجوع إلیهم فی زمن الشارع و عدم ردعهم عنه، علی نحو بنائهم علی حجّیّة خبر الواحد و العمل به أو أصالة الصحّة فی فعل الغیر، و لم یثبت ذلک فیما نحن فیه لو لم نقل بثبوت عدمه؛ حیث إنّ الظاهر أنّ هذه الطریقة حادثة لم تکن فی زمان الشارع. نعم لو حصل من الرجوع إلی قول اللُّغوی الوثوق و الاطمئنان فی ظهور الألفاظ، صحّ الاعتماد علیه لأجل ذلک، کما یحصل فی أغلب الموارد، لکنّه غیر حجّیّة قول اللُّغوی بالمعنی المتقدّم.

ص: 134

فی اختلاف القراءات

و أمّا قضیّة تواتر القراءات التی تعرّضوا له فی المقام: فإن ارید التواتر من القرّاء فلا یفید فائدة.

و إن ارید تواترها عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم فهو ممنوع، فإنّ التمسّک لذلک بما ورد من تجویز النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم للقراءة بأیّ نحوٍ کان، إلّا إذا بدّل آیة الرحمة بآیة العذاب أو بالعکس، و یتفرّع علیه جواز القراءة «ببسم الصمد الرءوف» و نحو ذلک بدل «بسم اللَّه»، فهو کما تری؛ ممّا لا یمکن الالتزام به، و کذلک ما فی بعض الروایات من نزول القرآن علی سبعة أحرف(1)، فإنّه معارَض بالأخبار الدالّة علی أنّه واحد نزل من عند الواحد(2).

مضافاً إلی أنّهم اختلفوا فی معنی نزوله علی سبعة أحرف علی ما یقرب من أربعین قولًا(3).

و أمّا قضیّة جواز القراءة: فالحقّ أنّه یتعیّن القراءة بما فی أیدینا من القرآن، الذی أخذه المسلمون یداً بید و صدراً بصدر عن آبائهم خلفاً عن سلف، و هو الذی قامت علیه الضرورة القطعیّة؛ مثل ضروریّة کون صلاة المغرب ثلاث رکعات، و لذا تری أنّ الموجود منه فی جمیع الأعصار و الأمصار هو هذا القرآن بعینه إلی زمان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم حتّی من کانت قراءته عنده علی خلافه، فالدلیل علی تعیّن القراءة بهذا القرآن هو ما ذکرناه من الضرورة و التی یتحقّق التواتر من أحد أعشارها، و أنّه لا یجوز القراءة بغیر ذلک من القراءات، فإنّه لا یُعبأ بها؛ لاعتمادهم


1- مسند أحمد بن حنبل 2: 300، الدر المنثور 2: 6.
2- الکافی 2: 461/ 12 و 13.
3- التبیان 1: 7- 8.

ص: 135

فیها علی الاستحسانات أو الاجتهادات اللغویّة و النحویّة، مع أنّ اختلافهم فیها قد یؤدّی إلی الاختلاف فی المعنی مثل «یَطْهُرْنَ»- بالتخفیف(1)- مع «یَطَّهَّرْنَ»- بالتشدید(2)- و لیس الدلیلُ علی ما ذکرنا الروایاتِ؛ کی یقال بتجویز القراءة ب «مالک» و «ملک» أو «کُفُواً» بالهمزة و الواو، فإنّه لا یجوز القراءة ب «ملک» أو بالهمزة فی «کُفُواً»؛ لأنّهما لیسا فی القرآن.


1- التبیان 2: 219، مجمع البیان 2: 561.
2- نفس المصدر.

ص: 136

الأمر الثانی فی الإجماع المنقول
اشارة

ممّا قیل بخروجه عن أصالة حرمة التعبّد بالظنّ بالخصوص: الإجماع المنقول بخبر الواحد(1)، و لیس المراد من خروجه بالخصوص هو الخروج فی قبال خروج خبر الواحد، بل المراد أنّه من الظنون التی قام دلیل خاصّ- غیر دلیل الانسداد- علی حجّیّته؛ و لو لأجل شمول الأدلّة الدالّة علی حجّیّة خبر الواحد.

و قبل الخوض فی البحث عنه و بیان ما هو الحقّ المختار لا بدّ من تقدیم امور:

الأمر الأوّل: أنّ الإجماع فی اصطلاح الخاصّة غیره فی اصطلاح العامّة موضوعاً و مناطاً، فإنّ الإجماع عندهم: عبارة عن اجتماع امّة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم علی شی ء، کما عرّفه الغزالی(2)، أو اجتماع أهل الحلّ و العقد من امّته صلی الله علیه و آله و سلم کما عن الفخر الرازی(3)، أو اجتماع المجتهدین کما فسّره الحاجبی(4).


1- معالم الدین: 182، المحصول 2: 73.
2- المستصفی 1: 181.
3- المحصول 2: 3.
4- شرح العضدی( لمختصر المنتهی لابن الحاجب) 1: 122.

ص: 137

و لعلّ وجه عدول الفخر و الحاجبی عن تعریف الغزالی، هو أنّه حیث کان مستند الخلافة عندهم هو الإجماع، و کان یرد علی تعریف الغزالی بعدم اجتماع امّة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم علی خلافة أبی بکر؛ لمخالفة علیّ بن أبی طالب علیه السلام و ابن عبّاس و سلمان و عدّة اخری من المسلمین، عدل عنه الفخر إلی تعریفه بأنّه عبارة عن اجتماع أهل الحلّ و العقد منهم- أی السیاسیون- لا مطلق الامّة و جمیعها.

و علی أیّ تقدیر فالإجماع عندهم هو ذلک الاتّفاق الخاص و أنّ المناط فی حجّیّته هو نفس الاتّفاق فی قبال الأدلّة الثلاثة، و استدلّوا علیه: بأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم قال:

(لا تجتمع امّتی علی خطاء)

(1) و ببعض الأخبار الاخر(2).

و أمّا الإجماع عند الإمامیّة- رضوان اللَّه تعالی علیهم- فهو بنفسه لیس حجّة مستقلّة فی قبال الأدلّة الثلاثة، بل الحجّة هی السُّنّة، غایة الأمر أنّ الطریق إلیها: إمّا خبر الواحد، و إمّا الإجماع الکاشف عن السُّنّة، فالإجماع عندنا حجّة إذا کشف عن قول المعصوم علیه السلام أو عن دلیل معتبر، فإنّ المعصومین علیهم السلام هم أهل الحلّ و العقد الذین امرنا بتلقّی الأحکام منهم؛ بمقتضی حدیث الثقلین المتواتر عند الفریقین(3)، و لا ملازمة بین وجوب أخذ الأحکام منهم علیهم السلام و بین مسألة الخلافة، فلو فرض عدم تسلیم واحد لخلافتهم علیهم السلام فهو مأمور بأخذ الأحکام منهم للحدیث القطعی المذکور، و لهذا قال فی المعتبر: لو اجتمع اثنان أحدهما الإمام فهو حجّة(4).

و بالجملة: فحجّیّة الإجماع عندنا إنّما هی لکشفه عن قول المعصوم؛ لقاعدة


1- الدرر المنتثرة: 180.
2- راجع المحصول 2: 37- 39.
3- انظر إحقاق الحق 4: 436- 443، بحار الأنوار 4: 104 و 5: 21، المستدرک علی الصحیحین 3: 109- 110.
4- المعتبر: 6 سطر 22. و فی نسخة المقرّر« الغنیة»؛ فانظر الغنیة، ضمن الجوامع الفقهیة: 478 سطر 8.

ص: 138

اللُّطف أو غیرها، و إلّا فالإجماع من حیث هو لیس حجّة عندنا، و السرّ فی تسمیة ذلک إجماعاً: هو التحفُّظ علی ما جرت به السیرة فی قبال العامّة.

الأمر الثانی: أنّه سیجی ء أنّ الدلیل التامّ علی حجّیّة أخبار الآحاد هو استقرار بناء العقلاء علی العمل بها، و أمّا الآیات و الروایات التی استدلّ بها- علیها علی فرض تمامیّتها- فهی إرشاد إلی ذلک و إمضاء لطریقتهم، و حیث إنّ بناء العقلاء دلیل لبّیّ، لا بدّ من إحرازه بنحو القطع ببنائهم علیها و اتکالهم علیها، فمع عدم إحراز بنائهم علی عملهم بها، أو عدم إحراز إمضاء الشارع لبنائهم، فهو لا یصلح دلیلًا علی حجّیّتها.

و الأخبار مختلفة باعتبار اختلاف المُخبَر به، فإنّ المُخبَر به: إمّا أمر محسوس بنحو المتعارف، مثل: سماع زرارة لقول الإمام علیه السلام و إمّا محسوس، لکن لا بالنحو المتعارف؛ لکونه من الغرائب، کرؤیة الجنّ و نحو ذلک من النوادر.

و إمّا غیر محسوس، لکن له مبادٍ محسوسة، و ذلک مثل الشجاعة و ملکة العدالة و السخاوة و نحوها.

و إمّا غیر محسوس له مبادٍ محسوسة، لکنها بعیدة عن الحسّ مثل الاجتهاد.

لا إشکال فی حجّیّة خبر الواحد فی القسم الأوّل و الثالث، و أمّا الثانی و الرابع فلیس بناء العقلاء علی القبول بمجرّد إخبار الواحد؛ لقرب احتمال الاشتباه و قوّته و لو فرض ثقة المخبِر؛ لاحتمال التباس الأمر علیه و تصویر صورة الجنّ فی ذهنه بسبب بعض التخیُّلات، و من هذا القبیل أخبار رؤیة ولیّ العصر- عجّل اللَّه تعالی فرجه- فإنّه مع ورود الروایات فی تکذیب مدّعی ذلک(1) کیف یمکن تشخیص المدّعی لکون من رآه هو الحجّة- عجّل اللَّه تعالی فرجه- ابتداءً؟! و لا یخفی علی من لاحظ الکتب المعتبرة المنقول فیها حکایات کثیرة فی غایة الکثرة المشتملة


1- کتاب الغیبة، الشیخ الطوسی: 395.

ص: 139

علی وصول بعض الأعاظم من العلماء و تشرّفه لخدمته و استفادتهم منه علیه السلام بحیث لا یمکن إنکار جمیعها، و الأخبار الدالّة علی تکذیب رؤیته منزَّلة علی دعوی رؤیته بدعوی نیابته الخاصّة من قبله علیه السلام کنیابة الحسین بن روح و غیره من النوّاب الأربعة. و علی فرض ثقته یزول الوثوق بنفس هذه الدعوی إذا صدرت منه مکرّراً، (و علی فرض عدم زوال الوثوق منه) فباب الاشتباه و الخطاء مفتوح، و لا دافع له؛ لقوّة هذا الاحتمال، و عدم بناء العقلاء علی ترتیب الأثر علیه بمجرّد الإخبار به.

ملاک حجیّة الإجماع

الثالث من الامور: أنّه اختلف مشارب الأعلام فی مدرک حجّیّة الإجماع المحصَّل الذی هو أحد الأدلّة الأربعة:

فقیل: إنّ الوجه فی حجّیّته هو دخول المعصوم علیه السلام بشخصه فی المجمعین(1).

و نُسب إلی شیخ الطائفة: أنّ الوجه فی حجّیّته هو قاعدة اللطف؛ أی إذا اجتمع العلماء کلّهم علی حکم من الأحکام، فلو کان مخالفاً للواقع وجب علی الإمام علیه السلام إلقاء الخلاف بینهم من باب وجوب اللطف علیه(2).

و قیل: إنّ المدرک فی حجّیّته هو کشفه عن فتوی المعصوم علیه السلام و رأیه(3). و هذا أقرب الوجوه عندی.

أمّا الوجه الأوّل: فهو بعید حتی فی زمان الغیبة الصغری؛ و ذلک لأنّه علیه السلام لم یکن یحضر المجالس، و یتکلّم مع کلّ أحد بحیث یراه الناس و یعرفونه، بل کان


1- الذریعة إلی اصول الشریعة 2: 605.
2- انظر عدّة الاصول: 246- 247.
3- قرّره فی نهایة الأفکار 3: 97.

ص: 140

ذلک مقصوراً علی بعض الخواص، و علی فرض إخبار أحد هذا النحو من الإجماع لا یُقبل منه، و لا یترتّب علیه أثر؛ لما عرفت من أنّ بناءَ العقلاء- الذی هو العُمدة فی الدلیل علی حجّیّة خبر الواحد- دلیلٌ لُبّیّ لا بدّ من إحراز تحقّقه فی کلّ موضع یستدلّ به، و قد عرفت أنّه لیس بناء العقلاء علی القبول و ترتیب الأثر فیما لو کان المُخبَر به من الغرائب و إن کان محسوساً؛ لقوّة احتمال الخطاء و الاشتباه فیه، فإنّه کیف یمکنه معرفة أنّ ما رآه هو الإمام علیه السلام لعدم رؤیته له قبل ذلک، فاحتمال الخطاء فیه قویّ، و لیس بناء العقلاء علی أصالة عدم الخطأ فی أمثال ذلک.

و أمّا قاعدة اللطف: فهی بمکان من الضعف؛ لعدم قیام دلیل علی وجوب إلقاء الخلاف علی الإمام بنحو ما ذکره قدس سره.

و أمّا الکشف عن دلیل معتبر فهو- أیضاً- ضعیف؛ لأنّه لو کان فتوی مثل الشیخ قدس سره و أمثاله لأجل وجود روایة معتبرة دالّة علیها، لَذکروها فی کتب الأخبار مثل سائر الأخبار. فبقی الأخیر، و هو الحقّ.

توضیحه: أنّ حجّیّة الإجماع إنّما هی لأجل أنّه یکشف عن فتوی المعصوم علیه السلام و رأیه، و هو فیما إذا لم یکن علی وفقه دلیل أو أصل أو دعوی إجماع علی خلافه، فإنّ أصحاب الأئمة کانوا یُفتون، کما کانوا یُحدِّثون الأخبار، و لیس الإفتاء منحصراً فی المتأخّرین عن زمانهم، و لذا أمروا بعض أصحابهم بالإفتاء للناس و قال علیه السلام:

(إنّی احبّ أن أری مثلک یُفتی الناس)

(1)، و بیّنوا علاج تعارض الأخبار، فإذا أجمع الفقهاء- الذین هم بطانتهم- علی حکم من الأحکام، و لیس هناک أصل أو دلیل یُحتمل اعتمادهم علیه، یُستکشف منه بنحو القطع أنّ ذلک فتوی المعصوم علیه السلام أخذه الفقهاء منهم علیهم السلام و وصل إلینا یداً بید و صدراً بصدر.

و الفرق بین هذا و بین القسم الثالث واضح؛ حیث إنّ المستکشَف فی هذا


1- الفهرست، الشیخ الطوسی: 17، باب أبان.

ص: 141

القسم حکم من الأحکام الواقعیّة، بخلاف القسم الثالث، فإنّ المستکشَف فیه من الإجماع هو دلیل الحکم الواقعی، لا نفس الحکم الواقعی.

و أیضاً یمکن أن یورد علی القسم الثالث: بأنّه علی فرض کشفه عن دلیل معتبر عندهم؛ لأجل عدم احتمال إفتاء الشیخ قدس سره و أمثاله بدون دلیل و مدرک، لکن لا یُستکشف بذلک تمامیّة دلالته عندنا؛ لاحتمال اجتهادهم ذلک من روایة لو وصلت إلی المتأخّرین لم یتمّ دلالتها عندهم، و أدّی نظرهم إلی خلاف نظرهم، کما وقع ذلک فی کثیر من الاستنباطات، مثل: انفعال ماء البئر بمجرّد ملاقاة النجس عند القدماء(1)؛ للروایات(2) الواردة فی ذلک، و لکنْ المتأخّرون(3) فهموا منها خلاف ذلک.

و بالجملة: المستکشف بالإجماع علی هذا الوجه هو وجود الدلیل المعتبر، لا تمامیّة دلالته؛ لعدم حجّیّة اجتهادهم لنا، اللّهم إلّا أن یُضمّ إلی ذلک التقییدُ: بأنّه لو وصل إلینا لفهمنا منه ما فهموه منه، لکن لا دلیل علیه، فإنّ الثابت به أصل وجود الدلیل، لا دلالته.

و أمّا ما ذکره فی أوّل المبسوط: من أنّ المضبوط فی کتب الفقهاء هو متون الأخبار و صریح ألفاظها حتی أنّه لو غیّر لفظ مسألة، عبّر عن معناها بغیر اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منه، و لم یعتمدوا علیها، و أنّها لم تکن مبوّبة مرتّبة، حتی أنّ مخالفینا کانوا یستحقرون فقه أصحابنا الإمامیّة و لقلّة الفروع و المسائل، و یقولون:

إنّهم أهل حشوٍ و نقص، و أنّ من لا یعمل بالقیاس و الاجتهاد لا طریق له إلی التفریعات و کثرة الفروع، و هذا جهل منهم بمذهبنا و لو لاحظوا أخبارنا و فقهنا لعلموا أنّ جُلّ ما ذکروه من المسائل موجود فیها، و کنت علی قدیم الوقت و حدیثه متشوّق


1- المقنعة: 64، المبسوط 1: 11، الوسیلة: 74، السرائر 1: 69.
2- وسائل الشیعة 1: 131- 143، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15- 22.
3- القواعد 1: 5 سطر 6، التنقیح الرائع 1: 44.

ص: 142

النفس إلی عمل کتاب مشتمل علی ذلک، و تتوق نفسی إلیه، فیقطعنی عن ذلک الحوادثُ و القواطع، و تُضعِف نیّتی- أیضاً- عنه رغبةُ هذه الطائفة عنه و ترکُ عنایتهم به لما ذکرناه(1).

ففیه: أنّ جمیع الکتب المدوّنة قبل زمان الشیخ قدس سره مثل کتاب «الوسیلة» لمحمّد بن علی بن حمزة الذی تُوفّی قبل ولادة الشیخ قدس سره بثلاث سنین، و کذلک الکتب التی ألّفها المعاصرون له، مع أنّهم أقدم منه، کالسیّد فی «الانتصار» و «الناصریات»، و «المراسم» لسلّار و نحوهم، فإنّها لیست کذلک، و إنّ الفتاوی المذکورة فیها لیست متون الأخبار، بل هی من نتائج الأفکار و الاجتهادات؛ لاختلاف عبائرهم فی تلک الکتب، و استدلالات السیّد قدس سره فی الکتابین بالدقائق الأدبیّة، ک «الشرائع» للمحقّق قدس سره لکنّها أقلّ فروعاً من «الشرائع».

نعم یمکن أن یقال: إنّ «مُقنعة» المفید و «مُقنع» الصدوق أو بعضاً آخر من کتب القدماء کذلک تقریباً، لا أنّ جمیع الکتب الفقهیّة المدوّنة فی ذلک العصر کذلک.

إذا عرفت ما ذکرنا نقول: قد تقدّم أنّ الإجماع الدخولی بنحو نقل المسبّب لا دلیل علیه؛ لعدم إحراز بناء العقلاء علی العمل بأخبار الآحاد فی مثل ذلک، و کذلک بناءً علی قاعدة اللطف.

و أمّا بنحو نقل السبب فالألفاظ الدالّة علی تعداد المجمعین مختلفة من هذه الحیثیّة، فإنّه قد یقال: «إنّه لا خلاف بین العلماء فی کذا»، و قد یقال: «اتّفق العلماء علی کذا»، و قد یقال: «أجمع العلماء» و الأخیر أوهن من الأوَّلَین؛ لأنّه کثیراً ما یُراد منه الدلیل المعتبر، کما صرّح بذلک السیّد أبو المکارم(2) و الشیخ قدس سره(3) و لا یحتمل


1- المبسوط 1: 1- 2.
2- الغنیة، ضمن الجوامع الفقهیّة: 480 سطر 28.
3- عُدّة الاصول: 233 سطر 12.

ص: 143

ذلک فی لفظ «اتّفق العلماء» أو «أنّه لا خلاف بینهم».

و علی أیّ تقدیر یثبت بنقل ذلک فتوی جماعة یدلّ علیها اللفظ، فإذا فرض دلالة لفظ «اتّفق العلماء» أو «أنّه لا خلاف بینهم» علی فتوی عشرین من العلماء، یثبت بذلک هذا النقل أی فتوی عشرین منهم تعبُّداً؛ لأدلّة حجّیّة خبر الواحد، کما لو رأیناها فی کتبهم أو سمعناها منهم، و حینئذٍ فإمّا أن یستلزم الاطّلاعُ علی فتوی هذه العدّة الحدس القطعی برأی الإمام علیه السلام و فتواه، فهو حجّة من حیث المسبّب، أو وجود دلیل معتبر- بناء علی ما ذکروه- فهو کما لو عثر بنفسه علی فتاواهم. و إمّا أن لا یستلزم ذلک.

لأنّه علی الفرض الأوّل: یشمله- بحسب السبب- أدلّةُ حجّیّة خبر الواحد، و المفروض أنّه ملازم للمسبّب بنحو القطع، فیثبت ذلک؛ لأنّ مُثبتات الأمارات حجّة.

و أمّا علی الفرض الثانی: فإمّا أن یوجد مع المنقول إلیه من القرائن؛ بحیث لو انضمّت إلی المقدار الذی أخبر به المخبر الواحد، أفاد القطع برأی المعصوم، أو بالدلیل المعتبر، فکذلک.

و إذا لم توجد تلک القرائن المذکورة، فمجرّد ثبوت فتوی جماعةٍ من العلماء لیس حجّة بدون استکشاف رأی المعصوم بالملازمة.

و ممّا ذکرنا: یظهر الحال فی المتواتر المنقول بخبر الواحد، فإنّ الکلام فیه هو الکلام فی الإجماع المنقول بخبر الواحد طابق النعل بالنعل.

ص: 144

الأمر الثالث فی الشهرة

الثالث ممّا تُوهِّم(1) خروجه بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بالظنّ الشهرة الفتوائیّة لا الروائیّة، لکن الظاهر إرادة کلتیهما. و التفصیل موکول إلی محلّه.

و علی أیّ تقدیر: إن ارید بها الشهرة الکاشفة عن رأی المعصوم علیه السلام بالحدس القطعی، فإنّه لو اتّفق الفقهاء- إلّا الشاذ النادر- فی مسألة من المسائل یحصل الحدس منه بنحو القطع عن رأی المعصوم علیه السلام مع عدم وجود دلیل أو أصل فیها یعتمد علیهما، أو کان علی خلافِ فتواهم مع رعایة الفقهاء کمال الاحتیاط فی مقام الفتوی، و عدم إفتائهم بلا حجّة و مدرک معتبر، فلا إشکال فی حجّیتها- حینئذٍ- فإنّها بعینها هو الإجماع الذی یُحدس منه بنحو القطع برأی الإمام علیه السلام.

و إن ارید حجّیّة الشهرة بنفسها فی قبال الأدلّة الأربعة بدون اعتبار کشفها عن رأی المعصوم علیه السلام فهی ممنوعة، و لا أظنّ أن یقول بحجّیّتها أحد.


1- انظر فرائد الاصول 65 سطر 8.

ص: 145

و فی الاستدلال لها بذیل آیة التفقّه(1) ما لا یخفی، و کذلک الاستدلال لها بأدلّة حجّیّة خبر الواحد؛ لأنّ الظنّ الحاصل من الشهرة أقوی من الظنّ الحاصل من خبر الواحد، فإنّه ممنوع؛ لأنّ حجّیّة خبر الواحد لیس لأجل إفادته الظنّ، و کذلک الاستدلال لذلک بمرفوعة زرارة(2)، فإنّها لا تصلح للاستناد إلیها؛ لأنّها فی غایة الضعف من حیث السند.

نعم یمکن الاستدلال لها

بمقبولة عمر بن حنظلة، التی رواها المشایخ الثلاثة؛ بإسنادهم عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد اللَّه علیه السلام عن رجلین من أصحابنا، یکون بینهما منازعة فی دَین أو میراث، فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة، أ یحلّ ذلک؟

قال علیه السلام: (من تحاکم إلیهم فی حقٍّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت، و ما یحکم له فإنّما یأخذه سُحتاً و إن کان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذ بحکم الطاغوت، و إنّما أمر اللَّه أن یُکفر به؛ قال اللَّه تعالی: «یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ»(3)).

قلت: فکیف یصنعان؟

قال علیه السلام: (ینظران من کان منکم قد روی حدیثنا، و نظر فی حلالنا و حرامنا، و عرف أحکامنا، فلیرضوا به حکماً؛ فإنّی قد جعلتُهُ علیکم حاکماً فإذا حکم بحکمنا، فلم یُقبل منه، فإنّما بحکم اللَّه استخفّ، و علینا قد ردّ، و الرادُّ علینا الرادُّ علی اللَّه، و هو علی حدّ الشرک باللَّه).


1- التوبة( 9): 122، و هی آیة النفر:\i« فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا ...»\E.
2- عوالی اللآلی 4: 133/ 229، مستدرک الوسائل 17: 303، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 2.
3- النساء( 4): 60.

ص: 146

قلت: فإن کان کلّ رجل یختار رجلًا من أصحابنا، فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقّهما، فاختلفا فیما حکما، و کلاهما اختلفا فی حدیثکم؟

قال: (الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما فی الحدیث و أورعهما، و لا یُلتفت إلی ما حکم به الآخر).

قلت: إنّهما عدلان مرضیّان عند أصحابنا؛ لا یفضل واحد منهما علی الآخر؟

قال: (ینظر ما کان من روایتهم عنّا فی ذلک الذی حکما به، المُجمَعَ علیه بین أصحابک، فیؤخذ به من حکمهما، و یترک الشاذّ الذی لیس بمشهور عند أصحابک، فإنّ المُجمَع علیه لا ریب فیه، و إنّما الامور ثلاثة: أمر بیِّن رشده فیتّبع، و أمر بیِّن غیّه فیجتنب، و أمر مُشکل یردّ حکمه إلی اللَّه، قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم:

حلال بیّن، و حرام بیّن، و شبهات بین ذلک، فمن ترک الشبهات نجا من المحرّمات، و من أخذ بالشبهات وقع فی المحرّمات، و هلک من حیث لا یعلم).

قال قلت: فإن کان الخبران عنکم مشهورین، قد رواهما الثقات عنکم؟

قال: (ینظر ما وافق حکمه حکم الکتاب و السُّنّة، و خالف العامّة، فیؤخذ به، و یُترک ما خالف الکتاب و السُّنّة، و وافق العامّة)

(1). الحدیث.

فنقول: ظاهر صدر الروایة إلی قوله:

(و لا یلتفت إلی ما یحکم به الآخر)

أنّه مربوط بباب القضاء و الحکومة، و لا ارتباط له بباب التعارض، و أنّ الأصدقیّة فی الحدیث و الأفقهیّة و الأورعیّة إنّما هی فی ترجیح حاکم علی آخر، لا فی ترجیح روایة علی اخری، و المرجِّح فی باب تعارض الخبرین منحصر فی مخالفة الکتاب و موافقة العامّة لا غیر، و لیست الأصدقیّة و نحوها ممّا ذکر فی صدر الروایة من مرجّحات الخبر، و کذلک الشهرة الفتوائیّة؛ لأنّ الترجیح إنّما هو فی الخبرین اللَّذین


1- الکافی 1: 54/ 10، الفقیه 3: 5/ 2، تهذیب الأحکام 6: 301/ 845، وسائل الشیعة 18: 75، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 1.

ص: 147

کلاهما حجّة، و الخبر المخالف للمشهور لیس بحجّة.

و ممّا یشهد لما ذکرناه: أنّهم لم یذکروا روایتی موسی بن أکیل(1) و داود بن الحصین(2)، المتضمّنتین لتقدیم الأفقه و الأورع و الأعدل من الحَکَمین المختلفین فی باب التعارض، مع ذکرهم روایات(3) اخر تدلّ علی ترجیح ما یُخالف العامّة و یوافق الکتاب فیه، فیعلم من ذلک أنّ هذه الأوصاف لیست من مرجّحات أحد الخبرین، بل الحکمین، نظیر الأصبح وجهاً فی تقدیم أحد الإمامین للجماعة.

و قوله علیه السلام:

(ینظر إلی ما کان من روایتهم عنّا المُجمع علیه)

، فالظاهر أنّ المراد تقدیم ما هو الأشهر بحسب الفتوی؛ یعنی الروایة التی أفتی المشهور بمضمونها، فإنّ المتبادر من هذه الجملة هو ذلک، لا الشهرة الروائیّة و لو مع فتوی المشهور علی خلافها.

و یدلّ علیه: قوله:

(فإنّ المُجمَع علیه لا ریب فیه)

، فإنّ الذی یصحّ نفی الریب عنه هو الخبر الذی أفتی المشهور علی طبقه، لا الخبر الذی رواه المشهور، لکن فتواهم علی خلافه، فإنّه لا یصحّ نفی الریب عنه، فإنّ فیه کلّ الریب.

و کذلک قوله علیه السلام:

(إنّما الامور ثلاثة ...)

الخ، فإنّ الخبر الذی رواه المشهور مع کون فتواهم علی خلافه، هو بیّن الغیّ أو مشتبه، بخلاف الخبر الذی تطابقه فتوی المشهور، فإنّه بیّن الرشد، و مخالفه بیّن الغیّ، و کذلک الحلال البیّن و الحرام البیّن إنّما هو فی المشهور بحسب الفتوی، لا مجرّد الشهرة بحسب الروایة، فإنّه مشکل


1- تهذیب الأحکام 6: 301/ 844، وسائل الشیعة 18: 88، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 45.
2- تهذیب الأحکام 6: 301/ 843، وسائل الشیعة 18: 80، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 20.
3- الکافی 1: 55/ 1- 4، وسائل الشیعة 18: 84- 86، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 29- 35.

ص: 148

و مشتبه.

و أمّا قوله علیه السلام:

(فإن کان الخبران عنکم مشهورین ...)

الخ، ففیه احتمالان:

الأوّل: أن یکون قد انتقل الإمام من الحکم المذکور إلی حکم تعارض الخبرین.

الثانی: أنّ المقصود هی الشهرة فی الفتوی؛ حیث إنّا و إن لم نُسلِّم ما تقدّم من الشیخ قدس سره فی أوّل المبسوط من أنّ الکتب التی دوّنها القدماء هی متون الروایات المأثورة عن الأئمة علیهم السلام و أنّهم ذکروها بصورة الفتوی، لکن القدر المسلّم هو أنّه لم تکن الکتب المدوّنة فی عصر الأئمّة علیهم السلام کتب الفتوی مجرّدةً، بل کانوا یذکرون الروایات- التی تلقّوها عن الأئمّة علیهم السلام التی عملوا بها- بحذف الإسناد، و حینئذٍ فالمراد من شهرة الخبرین معاً هی الخبران اللّذان هما مبنی فتوی ناقلهما بمضمونهما، فمرجعه إلی الشهرة الفتوائیة، فهذه الروایة تدلّ علی أنّ الشهرة الفتوائیة التی تکشف عن رأی المعصوم علیه السلام حجّة، بل لا تفتقر حجّیّة هذه الشهرة إلی هذه الروایة، فإنّ دلیلها معها، و أیضاً قوله:

(فإنّ المجمَع علیه ...)

إلخ، کبری کلّیّة عقلائیّة، لا أنّه تأسیس لحجّیّة الشهرة.

و أمّا الشهرة التی لا تکشف عن رأی المعصوم علیه السلام بالحدس القطعی، فلا تدلّ الروایة علی حجّیّتها.

نعم بناءً علی ما ذکره بعض الأعاظم، و استظهروه من الروایة- من أنّ المراد منها هی الشهرة الروائیة(1)- لا یبعد دلالة الروایة علی حجّیّة الشهرة فی الفتوی أیضاً؛ حیث إنّه لا بدّ- حینئذٍ- من تصرّف و تأویل فی الروایة بأن یقال: إنّ المراد من قوله علیه السلام:

(فإنّ المُجمَع علیه لا ریب فیه)

أنّه یجب التعبُّد بما هو المشهور من حیث أنّه مشهور و أنّه لا ریب فیه تعبّداً، و لزم التعبّد و الأخذ به.


1- کفایة الاصول: 336، فوائد الاصول 3: 153، نهایة الأفکار 3: 100.

ص: 149

و أمّا ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره من الإشکال علی الروایة من أنّه لا یصلح حمل قوله علیه السلام:

(لا ریب فیه)

علی عدم الریب بقول مطلق، بل لا بدّ أن یُراد منه بالإضافة إلی ما یُقابله، و هذا یوجب خروج التعلیل عن کونه کبری کلّیّة؛ لأنّه یعتبر فی الکبری الکلّیّة صحّة التکلیف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إلیها، کما یقال: «کلّ مسکر حرام»، و لا یصحّ أن یقال: یجب الأخذ بکلّ ما لا ریب فیه بالإضافة إلی ما یُقابله؛ لأنّه- حینئذٍ- یلزم الأخذ بکلّ راجح بالنسبة إلی غیره، و بأقوی الشهرتین، و بالظنّ المطلق، و غیر ذلک من التوالی الفاسدة التی لا یمکن الالتزام بها، فالتعلیل أجنبیّ عن أن یکون من الکبری الکلّیّة التی یصحّ التعدّی عن موردها، فلا تعمّ الشهرة الفتوائیّة، بل هی تختصّ بالشهرة الروائیة(1).

ففیه: أنّه لیس المراد بعدم الریب هو عدم الریب الإضافی، بل المراد عدم الریب العرفی العقلائی، و حینئذٍ فلا تلزم التوالی الفاسدة التی ذکرها.


1- فوائد الاصول 3: 154- 155.

ص: 150

الأمر الرابع الخبر الواحد
اشارة

الرابع ممّا خرج عن أصالة حرمة التعبّد بالظنّ، و قام الدلیل علی حجّیّته بالخصوص، خبرُ الواحد، و اختلف العلماء فی حجّیّته و عدمها علی قولین:

فذهب جماعة(1): إلی عدم حجّیّته، و ادّعی بعضهم الإجماع علیه، و أنّ العمل بأخبار الآحاد عند الأصحاب مثل القیاس فی بطلانه(2).

و ذهب الأکثر(3) إلی حجّیّته.


1- الذریعة إلی اصول الشریعة 2: 528- 529، الغنیة، ضمن الجوامع الفقهیة: 475 سطر 14، السرائر 1: 50.
2- رسائل الشریف المرتضی 3: 309، و 1: 24.
3- عدّة الاصول: 51 سطر 11، مبادئ الوصول: 203، معالم الدین: 188 سطر 3، الوافیة، الفاضل التونی: 159، کفایة الاصول: 337.

ص: 151

الفصل الأوّل أدلّة عدم حجّیّة خبر الواحد
اشارة

و استدلّ الأوّلون بالأدلّة الأربعة:

فمن الکتاب: قوله تعالی: «إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»(1)، و قوله تعالی: «وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»(2)، و قوله تعالی فی ذیل آیة النبأ: «أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ»(3)؛ حیث إنّ خبر الواحد لا یفید إلّا الظنّ، و العمل به عمل بغیر علم و عمل بجهالة، فتشمله الآیات المذکورة.

و التحقیق فی الجواب: أنّ الاستدلال بها مستلزم للمحال، و أنّه یلزم من الاستدلال بها عدم صحّة الاستدلال بها؛ و ذلک لأنّ قوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی».

و غیره- کالقضیّة الحقیقیّة- یشمل جمیع أفراد الظنون، و منها ظواهر هذه الآیات، فلا یصحّ الاستدلال بها.

فإن قلت: یمکن أن یقال بخروج الظنّ الحاصل من هذه الآیات عن عمومها أو إطلاقها؛ تخلّصاً عن الإشکال و فراراً عن لزوم الاستحالة المذکورة، و تبقی سائر أقسام الظنون- التی منها خبر الواحد- تحتها.

قلت: لا ینحصر طریق التخلّص عن الاستحالة بما ذکرتَ، بل یمکن


1- النجم( 53): 28.
2- الإسراء( 17): 36.
3- الحجرات( 49): 6.

ص: 152

التخلُّص عنها بالقول بخروج بعض الظنون- الذی قام الدلیل الخاصّ علی حجّیّته، مثل الظواهر و خبر الواحد- عن مفاد الآیات.

فالتخلّص عن الإشکال: إنّما هو فی أنّ الآیات لا تشمل مثل الظواهر و خبر الواحد و أصالة الصحّة فی فعل الغیر و نحوها، التی استقرّ بناء العقلاء فی جمیع الأعصار و الأمصار علی العمل بها، و بقاءُ نظامهم و امور معاشهم و سوقهم مبنیٌّ علی ذلک، و لا یعتنون باحتمال الخلاف فیها، فإنّهم کثیراً ما یشترون من السوق ما یحتاجون إلیه، و لا یخطر ببالهم احتمال کونه سرقة، و لیس ذلک إلّا لأجل أنّ الید أمارة علی الملکیّة، مع أنّها لا تفید إلّا الظنّ.

و یشهد لذلک: أنّه لم تتغیّر عاداتهم و بناؤهم علی ذلک بعد نزول هذه الآیات، و لم یختلّ سوقهم و سائر ما بنوا علیه؛ من العمل بخبر الواحد و أصالة الصحّة فی فعل الغیر و نحوهما من الظنون، بل استمرّوا علی العمل بهذه الظنون الخاصّة کما کانوا یعملون بها قبل نزول هذه الآیات، و لیس ذلک إلّا لعدم تبادر هذه و أمثالها من الظنّ و غیر العلم الذی اخذ فی موضوع هذه الآیات.

و ما أجاب به عنها بعض: بأنّها راجعة إلی الاصول الاعتقادیّة، لا الفروع الفقهیّة(1).

فیه: أنّه و إن صحّ فی مثل قوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً» بقرینة سیاقها، لکنّه لا یصحّ فی مثل قوله تعالی: «وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» و نحوه ممّا یعمّ الظنّ فی الفروع لو لم نقل باختصاصها بها.

ثمّ إنّه ذکر المحقّق الخراسانی و الاستاذ الحائری 0 فی مقام الجواب عن الاستدلال بالآیات: أنّ الدلیل علی حجّیّة خبر الواحد: إمّا الروایات، و إمّا السیرة العقلائیّة:


1- کفایة الاصول: 339، فوائد الاصول 3: 160.

ص: 153

أمّا الروایات فهی حاکمة علی هذه الآیات؛ لأنّ هذه الآیات لا تُعیِّن موضوعها؛ و أنّ هذا ظنّ دون ذاک، و مقتضی الروایات هو إلغاء احتمال الخلاف فی خبر الواحد و جعله عِلْماً فی عالم التشریع.

و أمّا السیرة العقلائیّة فیمکن ورودها علی الآیات، و لا أقلّ من حکومتها علیها(1).

و زاد المیرزا النائینی قدس سره أنّه لا یمکن أن یقال: إنّ هذه الآیات رادعة عن السیرة العقلائیّة؛ لاستلزامه الدور؛ لأنّ الردع بها یتوقّف علی عدم مخصِّصیّة السیرة للآیات، و هو موقوف علی ردع الآیات عنها، و هو محال(2). انتهی ملخّصاً.

أقول: و فیما ذکروه إشکال؛ لأنّ الأخبار الواردة فی حجّیّة خبر الواحد هی مثل

(العَمری و ابنُهُ ثقتان؛ فما أدّیا الیک عنّی فعنّی یؤدّیان)

(3) و نحوها التی هی فی مقام توثیق بعض الرواة- کما تقدّمت إلیه الإشارة- لا فی مقام إیجاب العمل بأخبار الآحاد.

سلّمنا ذلک، لکنّها معارَضَة بالآیات و مخصِّصة لها، لا أنّها حاکمة علیها؛ لأنّ الحکومة: عبارة عن أن یکون أحد الدلیلین ناظراً إلی الدلیل الآخر و مفسِّراً له، و لیس لسان هذه الأخبار أنّ خبر الواحد علمٌ تعبّداً؛ لتکون حاکمة علی الآیات.

و أمّا السیرة العقلائیّة فلا نُسلّم ورودها علی الآیات- أیضاً- و لا حکومتها:

لأنّ الورود: عبارة عن خروج شی ء عن موضوع دلیل حقیقةً تعبّداً، کما لو قیل: «لا تقفُ ما لیس لک فیه حجّة»- کما لا تبعد إرادة ذلک من العلم فی الآیة


1- انظر حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 72 سطر 3، و درر الفوائد: 393- 394.
2- فوائد الاصول 3: 161- 162.
3- الکافی 1: 265/ 1، وسائل الشیعة 18: 99، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 4.

ص: 154

الشریفة- و دلّ دلیل آخر علی حجّیّة خبر الواحد تعبّداً، فإنّ الدلیل الثانی- حینئذٍ- وارد علی الأوّل؛ حیث إنّه أخرج خبر الواحد عن موضوع الأوّل بجعله حجّةً واقعاً تعبّداً، و السیرة المذکورة لیست کذلک بالنسبة إلی الآیات.

و أمّا الحکومة فقد عرفت أنّها تحتاج إلی اللسان و الشرح و التفسیر لفظاً للدلیل الآخر، و السیرة من الامور اللُّبّیّة التی لا لسان لها، فإنّهم اعترفوا بأنّ المراد من الظنّ و عدم العلم المأخوذ فی موضوع الآیات هما الاصطلاحیّان، و حینئذٍ فلا یتحقّق هناک ورود و لا حکومة.

و أمّا ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره من لزوم الدور ففیه: أنّ عدم مخصّصیّة السیرة للآیات و إن یتوقّف علی ردع الآیات عنها، لکن ردع الآیات عنها لا یتوقّف علی عدم تخصیصها لها، فإنّ الآیات المذکورة قطعیّة السند، و لها ظاهر مستقلّ فی الدلالة لا تحتاج فی دلالتها إلی شی ء، فالحقّ فی الجواب هو ما ذکرناه من انصراف الآیات عن مثل هذه الظنون بالتفصیل المتقدّم، أو تخصیص الآیات بأدلّة حجّیّة خبر الواحد.

و یمکن الجواب بوجهین آخرین تکون أدلّة حجّیّة خبر الواحد واردة علی الآیات المذکورة بناءً علیهما:

أحدهما: أنّه لیس المراد من العلم فی قوله

«لا تقفُ ما لَیْسَ لکَ بِهِ عِلْم»

هو العلم الوجدانی القطعی، بل المراد منه الحجّة، فمعناه: لا تقفُ ما لیس لک به حجّة؛ و ذلک لأنّه لو کان الواجب فی الشریعة هو اتّباع العلم الوجدانی، یلزم منه إهمال کثیر من أحکام الشریعة بل أکثرها؛ لأنّه قلّما توجد مسألة من المسائل الفرعیّة یحصل القطع بها بالخبر المتواتر و نحوه ممّا یفید العلم، بل أکثرها ثبت بأخبار الآحاد، و لا یمکن إیجاب تحصیل العلم بها، و کذلک أجزاء الصلاة و شرائطها و نحوها من العبادات.

ص: 155

و القول بالتخصیص- أیضاً- غیر صحیح؛ لأنّه تخصیص مستهجن، فلا محیص إلّا أن یُراد منها الحجّة، و حینئذٍ فالأدلّة الدالّة علی حجّیّة خبر الواحد واردة علی الآیات الدالّة علی النهی عن العمل بغیر العلم- أی الحجّة- و هو معنی الورود.

ثانیهما: أن یُراد من العلمِ فی الآیات العلمُ الوجدانی، و أخبار الآحاد و إن کانت ظنّیّة السند، لکنّها قطعیّة الحجّیّة؛ بمعنی أنّها یُحتجّ بها عند المخاصمة و اللجاج بین الموالی و العبید قطعاً، و لا یعذر العبد لو ترک العمل بخبر الثقة معتذراً بأنّه ظنّیّ، و کذلک المولی.

و الحاصل: أنّ حجّیّتها معلومة مقطوع بها(1)؛ لأنّ مستندها هو العلم لا الظنّ، و حینئذٍ فهی واردة علی الآیات.

و أمّا الأخبار التی استدلّوا بها علی المنع عن العمل بأخبار الآحاد فهی علی طوائف:

منها: ما وردت فی ترجیح أحد الخبرین المتعارضین، و هی عدّة أخبار غیر مربوطة بالمقام، مثل مقبولة عمر بن حنظلة(2).

و منها: الأخبار الدالّة علی طرح الخبر المخالف للکتاب، مثل خبر السکونی


1- و یمکن الإشکال علی ذلک: بأنّ العلم بحجّیّتها موقوف علی العلم بعدم ردع الشارع عن العمل بالظنّ. و بعبارة اخری: من مبادئ حصول العلم بحجّیّة أخبار الآحاد العلم بعدم رادعیّة الآیات عن السیرة العقلائیّة، و مع احتمال ذلک لا یحصل العلم بالحجّیّة؛ لأنّ مجرّد استقرار السیرة العقلائیّة علی العمل بأخبار الآحاد غیر کافٍ فی حجّیّتها، بل لا بدّ من العلم بإمضاء الشارع لها و عدم ردعه عنها، فمع احتمال الردع عنها بالآیات المذکورة لا یحصل العلم بالحجّیّة. المقرّر حفظه اللَّه.
2- الکافی 1: 54/ 10، وسائل الشیعة 18: 75، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 1.

ص: 156

و هشام بن الحکم و جمیل بن درّاج(1).

و منها: الأخبار الدالّة علی النهی عن العمل بما لا یُوافق کتاب اللَّه کخبری أیوب بن راشد و أیوب بن الحرّ و غیرهما(2).

و منها: الأخبار الدالّة علی حرمة العمل بما لیس علیه شاهد أو شاهدان من کتاب اللَّه(3).

و منها: الأخبار الناهیة عن العمل بخبر الواحد من غیر علم، مثل مکاتبة محمّد بن عبد اللَّه بن جعفر الحمیری(4)، و مثل

خبر بصائر الدرجات عن داود بن فرقد، قال: کتبتُ إلیه عن العلم المنقول عن آبائک و أجدادک قد اختلفوا علینا فیه، کیف العمل به علی اختلافه ...؟

فکتب علیه السلام بخطّه: (ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، و ما لم تعلموا فردّوه إلینا)

(5) إلی غیر ذلک من الأخبار المذکورة فی الباب المذکور.

أقول: و لیعلم أنّه لا یصحّ الاستدلال لحجّیّة أخبار الآحاد و لا لعدم حجّیّتها بأخبار الآحاد إلّا مع تواتر الخبر، و لا تواتر لفظیّ فی الباب و لا معنویّ؛ لاختلاف تلک الأخبار لفظاً و معنیً؛ لما عرفت من أنّها علی طوائف، بل المتواتر من الأخبار قلیل جدّاً؛ لأنّه یشترط فی التواتر بلوغ جمیع طبقات الرواة فی سند الروایة حدّاً


1- الکافی 1: 55 و 56/ 1 و 5، وسائل الشیعة 18: 78 و 79 و 84 و 86، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 10 و 15 و 29 و 35.
2- الکافی 1: 55/ 3 و 4، وسائل الشیعة 18: 78 و 79، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 12 و 14.
3- الکافی 1: 55/ 2 و 2: 176/ 4، وسائل الشیعة 18: 78 و 80، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 11 و 18.
4- الاحتجاج 2: 568/ 355، وسائل الشیعة 18: 87، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 39.
5- بصائر الدرجات: 524/ 26.

ص: 157

یمتنع تواطؤهم علی الکذب، و یفید العلم بالصدور و علی فرض تحقّق هذا الشرط قبل المشایخ الثلاثة- رضوان اللَّه تعالی علیهم- فی طبقات الرواة فی بعض الأخبار لم یتحقّق فی طبقتهم، فإنّ نقل مثل الکلینی و الصدوق و الشیخ- رحمهم اللَّه- أو جمیعهم أخباراً متواترة لا یفیدنا القطع بذلک؛ لأنّه متواتر منقول بخبر الواحد، فهو نقل التواتر، لا التواتر بالوجدان، غایة الأمر أنّا متعبّدون بالقبول منهم- قدّست أسرارهم- لکنّه لا یُفید العلم؛ لاحتمال الخطاء و الاشتباه و النسیان منهم، مضافاً إلی أنّ کثیراً من الأخبار المذکورة فی الکتب الأربعة بطرق متعدّدة، خبرُ واحدٍ؛ لانتهاء سند جمیعها إلی راوٍ واحد، مثل ابن أبی عمیر و نحوه.

نعم یمکن دعوی التواتر الإجمالی فیما نحن فیه؛ بمعنی أنّا نعلم إجمالًا بصدور بعض من الطوائف المذکورة المختلفة، و حینئذٍ فیصحّ التمسُّک بأخصّها مضموناً، و هو الخبر الدالّ علی طرح المخالف لکتاب اللَّه، فإنّه ینطبق علیه جمیع العناوین المذکورة فیها، و حینئذٍ نقول فی معنی المخالفة لکتاب اللَّه احتمالات:

الأوّل: أن یُراد منها خصوص المخالفة بنحو التباین لا غیر.

الثانی: أن یُراد منها الأعمّ منها و من المخالفة بنحو العموم من وجه.

الثالث: أن یُراد منها الأعمّ منهما و من المخالفة بنحو العموم و الخصوص المطلق أو الإطلاق و التقیید.

لا إشکال فی فساد الأخیر و العلم بأنّه لیس المراد منها ذلک المعنی الأعمّ؛ لقوله تعالی: «وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً»(1)؛ حیث دلّ علی أنّه لیس فی القرآن اختلاف لأنّه من عند اللَّه، مع کثرة وجود المخالفة فیه بنحو العموم و الخصوص المطلق و الإطلاق و التقیید، فعُلم من ذلک أنّه لا یُعدّ ذلک


1- النساء( 4): 82.

ص: 158

مخالفة؛ لنفیه تعالی المخالفة فیه مع وجود مثل: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا»(1).

فالتحقیق: أنّه و إن تصدق المخالفة بین العموم و الخصوص و المطلق و المقیّد فی المحاورات العرفیّة و الکتب المصنَّفة، لکنّه لا یُعدّ ذلک مخالفة فی مقام جعل القوانین الکلّیّة، فإنّ المرسوم المتعارف فی ذلک المقام هو جعل القوانین الکلّیّة أوّلًا، ثمّ الإتیان بالمخصِّصات و المقیِّدات تدریجاً بحسب المصالح المقتضیة لذلک، و لا یُعدّ ذلک مخالفة فیه، و لهذا یلزم فی تعریف التعارض بین الخبرین التقیید بکون ذلک التعارض فی مقام جعل القوانین.

و الشاهد علی ما ذکرناه: صدور أخبار کثیرة من الأئمّة المعصومین علیهم السلام مع أنّها أخصّ من بعض العمومات الواقعة فی الکتاب المجید، أو مقیِّدة لإطلاقاتها الواقعة فیه، بل قلّما توجد آیة فی کتاب اللَّه تعالی إلّا و قد خُصِّصت أو قُیِّدت بالأخبار، فلا ریب فی عدم شمول عنوان المخالفة للمخالفة بنحو العموم و الخصوص المطلقین أو بنحو الإطلاق و التقیید، و القدر المتیقّن منها هی المخالفة بنحو التباین الکلّی، و یحتمل شموله للمخالفة بنحو العموم من وجه أیضاً.

و أمّا الإشکال علیه: بأنّه لا یصحّ حمل المخالفة علی المخالفة بنحو التباین؛ لعدم صدور الأخبار المباینة للکتاب من الکذّابین؛ لعدم قبولها منهم(2).

ففیه: أنّ غرض الکذّابین و مقصودهم من الدسّ فی الأخبار الصادرة منهم علیهم السلام: إمّا صَرْف الناس عنهم، و إزالة اعتقادهم و التباس أمرهم عند المسلمین أو إزالة اعتقادهم بالکتب المشتملة علی أخبارهم علیهم السلام لئلّا یتمسّکوا بها، و هذا المقصود أهمّ المقاصد عندهم، و الغرضُ من جعل الأخبار المکذوبة المباینة لکتاب


1- البقرة( 2): 275.
2- انظر فوائد الاصول 3: 163.

ص: 159

اللَّه تعالی، نظیر ما نقل فی بعض هذه الأخبار(1) من قرار الأرض علی قرن ثور، و الثور علی ظهر حوت، و نحوها من الأخبار الواضحة الفساد.

مضافاً إلی أنّ العمل بالخبر الذی علیه شاهد أو شاهدان من الکتاب لیس عملًا بالخبر، بل هو عمل بالکتاب، فلا بدّ من حمل هذه الأخبار علی باب التعارض.

و کذلک یحتمل أن یُراد من عدم الموافقة لکتاب اللَّه- کما فی طائفة اخری من الروایات المشار إلیها- هی المخالِفة له، کما هو المتبادِر من مثل قولنا: «فلانٌ لا یُوافقنا فی کذا»، فإنّ المقصود أنّه مخالف.

فتلخّص: أنّ الاستدلال بالأخبار لعدم حجّیّة أخبار الآحاد فاسد، کالاستدلال له بالإجماع المنقول.

الفصل الثانی أدلّة حجیّة الخبر الواحد
اشارة

و أمّا القائلون بحجّیّة خبر الواحد فاستدلّوا علیها بالأدلّة الأربعة(2):

الدلیل الأوّل: الکتاب
آیة النبأ
اشارة

فمن الکتاب: قوله تعالی فی سورة الحجرات: «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ


1- انظر الکافی 8: 75/ 55، و بحار الأنوار 10: 12/ 7.
2- فرائد الاصول: 71.

ص: 160

فَتَبَیَّنُوا»(1) و استدلّ بها بوجوه:

الأوّل: بمفهوم الشرط: فإنّ تعلیق وجوب التبیُّن فیها علی مجی ء الفاسق بالنبإ، یقتضی انتفاء الوجوب عند عدم مجی ء الفاسق بالنبإ، فلو جاء عادل بنبإ فإمّا أن یجب ردّه بدون التبیّن و هو باطل؛ لأنّه یلزم أن یکون العادل أسوأ حالًا من الفاسق، و إمّا أن یُقبل منه بدون التبیُّن، و هو المطلوب(2).

الثانی: من جهة مفهوم الوصف: بأن یقال: ظاهر الآیة أنّ العلّة لوجوب التبیُّن هو وصف الفسق للمخبِر، لا وصف أنّه خبر واحد، و إلّا کان الأولی أن یُعلّل وجوب التبیُّن به؛ لأنّه ذاتیّ، و أسبق رتبةً من وصف الفسق(3).

الثالث: أنّ الظاهر من الآیة أنّ العلّة لوجوب التبیُّن هو وصف فسق الجائی بالنبإ للمناسبة العرفیّة بینهما، بخلاف خبر الواحد فإنّه لا تناسب بینه و بین وجوب التبیّن(4).

هذه خلاصة الوجوه التی استدلّوا بهذا علی حجّیّة خبر العادل.

أقول: لا بدّ أوّلًا من ملاحظة معنی الآیة و ما یستفاد منها؛ لیظهر الحال فی صحّة الاستدلال بها و سُقمه، فنقول:

الظاهر بل المتبادر أن قوله تعالی: «فَتَبَیَّنُوا» لیس هو جواب الشرط؛ لأنّ معناه: فتثبّتوا و تفحّصوا، و استظهِروا الواقع عند مجی ء الفاسق بالنبإ، و اتّبعوا علمکم، و لا تتّکلوا علی خبر الفاسق، و حینئذٍ فالعمل بالعلم لا بالخبر، فهو کنایة عن الجواب، و الجواب الحقیقی هو النهی عن الاعتناء بنبإ الفاسق، فکنّی عنه بقوله:


1- الحجرات( 49): 6.
2- انظر معالم الدین: 190 سطر 7، الوافیة: 162- 163.
3- انظر المحصول 2: 179، فرائد الاصول: 71، فوائد الاصول 3: 165- 166.
4- المحصول 2: 179.

ص: 161

«فَتَبَیَّنُوا» و حینئذٍ فعلی فرض ثبوت المفهوم لها لا تدلّ علی جواز التعبّد بخبر الواحد مستقلّاً، و حینئذٍ فیمکن أن یعتبر فی جواز العمل بخبر الواحد شروط اخر؛ و أنّ خبر العادل جزء الموضوع للتعبُّد به.

و الحاصل: أنّ الآیةَ الشریفة- علی فرض ثبوت المفهوم للجملة الشرطیّة أو الوصفیّة- ساکتةٌ عن جواز العمل بخبر الواحد العادل مستقلّاً؛ و أنّ خبر العادل تمام الموضوع لجواز التعبّد به.

فی الإشکالات علی التمسّک بالآیة
اشارة

ثمّ إنّه اورد فی المقام إشکالات: بعضها یختصّ بآیة النبأ، و بعضها یعمّ سائر الآیات و الأدلّة:

أمّا الأوّل [یختصّ بآیة النبأ]:

فاورد علی الاستدلال بها بوجوه:

الأوّل: أنّه علی فرض تسلیم ثبوت المفهوم للشرطیّة، لیس لهذه الآیة مفهوم؛ لأنّها سیقت لبیان تحقّق الموضوع.

توضیحه: أنّ الشرطیّة إنّما تفید المفهوم إذا کان هناک موضوع و شرط و جزاء، و یمکن انفکاک کلٍّ منها عن الآخر، مثل: «إن جاءک زید فأکرمه»؛ حیث إنّه یمکن انفکاک المجی ء عن زید و انفکاک وجوب الإکرام عنهما، فتدلّ- حینئذٍ- بالمفهوم علی عدم وجوب إکرامه علی فرض عدم مجیئه، و ما نحن فیه لیس من هذا القبیل، فإنّ الشرط فیه محقِّق للموضوع، و لا ینفکّ عنه، نظیر قولنا: «إن رُزقتَ ولداً فاختِنْهُ»، و لا یفید مثله مفهوماً.

هذا خلاصة ما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره(1) و قال: هو ممّا لا یمکن الذبّ عنه(2).


1- فرائد الاصول: 72 سطر 6.
2- نفس المصدر: سطر 1.

ص: 162

و قال المحقّق العراقی: لا شبهة فی أنّ استخراج المفهوم من القضایا یحتاج إلی تجرید ما هو الموضوع- المذکور فیها فی طرف المفهوم- من القیود التی استُخرج المفهوم من جهتها، فإنّه علی فرض عدم تجریده عنه لم یبقَ مجال لاستخراج المفهوم منه؛ لأنّه من السالبة بانتفاء الموضوع.

و حینئذٍ نقول: المحتملات المتصوّرة فی الشرطیّة فی الآیة الشریفة ثلاثة:

منها: أنّ الشرط فیها نفس المجی ء خاصّة مجرّداً عن متعلّقاته، و علیه یتمّ ما أفاده الشیخ قدس سره من انحصار المفهوم منها بالسالبة بانتفاء الموضوع.

و منها: أنّ الشرط هو المجی ء مع متعلّقاته، و لازمه کون الموضوع نفس النبأ مجرّداً عن إضافته إلی الفاسق، لا النبأ الخاصّ، کما فی الفرض السابق علیه، فللآیة مفهومان: أحدهما السالبة بانتفاء الموضوع، و ثانیهما السالبة بانتفاء المحمول؛ لأنّ عدم مجی ء الفاسق بالنبإ یعمّ مجی ء العادل به، فلا یلزم من عدم الشرط انتفاء الموضوع الذی یُتبیّن عنه بقول مطلق، حتّی ینحصر المفهوم بالسالبة بانتفاء الموضوع.

و منها: أنّ الشرط عبارة عن الربط الحاصل بین المجی ء و الفاسق، الذی هو مفاد کان الناقصة، و الموضوع هو النبأ المتحقّق، و لازمه هو الاقتصار فی التجرید علی خصوص ما هو المجعول شرطاً؛ أعنی النسبة الحاصلة بین المجی ء و الفاسق، و بعد حفظ قید المجی ء فی ناحیة الموضوع فی ناحیة المفهوم بجعله عبارة عن النبأ المجی ء به، و إناطة سنخ الحکم بکون الجائی به هو الفاسق، ینحصر المفهوم فیه بالسالبة بانتفاء المحمول؛ لأنّ عدم مجی ء الفاسق بالنبإ- بعد تحقّق أصل النبأ و المجی ء- یلازم کون الجائی به عادلًا. هذا بحسب مقام التصوّر.

و أمّا بحسب التصدیق فالأخیر- و هو الذی ذکره فی «الکفایة»(1)- فی غایة


1- کفایة الاصول: 340.

ص: 163

البعد، و یتلوه فی البعد الوجه الأوّل الذی اختاره الشیخ قدس سره(1) فیتعیّن الثانی، و حینئذٍ فالآیة بمفهومها تدلّ علی حجّیّة خبر العدل(2). انتهی ملخّصه.

و قال المیرزا النائینی قدس سره: إنّه یمکن استظهار أنّ الموضوع فی الآیة مطلق النبأ، و الشرط هو مجی ء الفاسق به من مورد نزول الآیة(3)، فإنّ موردها إخبار الولید بارتداد بنی المصطلق، فقد اجتمع فی إخباره عنوانان: عنوان الخبر الواحد، و عنوان کون المُخبِر فاسقاً، و الآیة الشریفة وردت لإفادة کبری کلّیّة؛ لتمییز الأخبار التی یجب التبیُّن عنها عن الأخبار التی لا یجب التبیُّن عنها، و قد عُلّق وجوب التبیُّن فیها علی کون المخبر فاسقاً، فالشرط هو کون المخبر فاسقاً، و بانتفائه ینتفی وجوب التبیُّن(4). انتهی.

و کنت أظنّ سابقاً صحّة الاستدلال بالآیة فی المقام ببیان آخر قریب ممّا ذکر: و هو أنّ بعض العناوین له مصداقان: أحدهما الحقیقی الذاتی، و الثانی العرضی مثل الأبیض، و مصداقه الذاتی الحقیقی البیاض، و مصداقه العرضی الجسم الذی عَرَضه البیاض، و المتبادر منه عرفاً هو هذا المصداق العرضی. هذا فی العناوین الوجودیّة.

و هکذا العناوین العدمیّة، مثل: عدم مجی ء الفاسق بالنبإ، فإنّ له مصداقاً حقیقیّاً، و هو عدم مجی ء الخبر أصلًا، و مصداقاً عرضیّاً الذی یطلق علیه المصدوق علیه، و هو خبر العادل، فتدلّ الآیة بحسب المفهوم علی انتفاء وجوب التبیُّن فی المصداقین و هو المطلوب.


1- فرائد الاصول: 72 سطر 6.
2- نهایة الأفکار 3: 111- 112.
3- أسباب النزول: 277- 278، التبیان 9: 343، مجمع البیان 9: 198.
4- فوائد الاصول 3: 169.

ص: 164

و لکن الإنصاف: أنّ شیئاً من هذه التقریبات لا یُسمن و لا یُغنی من جوع؛ و ذلک لأنّه لا بدّ من عرْض الآیة علی العرف و العقلاء، و أنّهم هل یفهمون منها ما ذکروه فی محاوراتهم أو لا؟ و لا وجه لإعمال بعض المطالب العقلیّة الدقیقة فی استفادة المفهوم، و المفهوم العرفی منها: هو أنّه متی تحقّق نبأ الفاسق بشی ء یجب التبیُّن فیه، لا فی مطلق النبأ، و هذا بعینه مثل: «إن رزقت ولداً فاختِنْه» فی أنّ الشرط فیه سیق لبیان تحقّق الموضوع.

و أمّا ما ذکره فی «الکفایة» فهو غیر متبادِر من الآیة عرفاً، و کذلک ما ذکره المحقّق العراقی، و ما ذکرناه سابقاً، فإنّه لیس لعدم مجی ء الفاسق بالنبإ إلّا مصداق واحد، و هو نفس عدمه الخارجی، و لیس خبر العادل مصداقاً له أصلًا.

و أمّا ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره ففیه: أنّه لا ریب فی أنّ الآیة الشریفة مسوقة لإفادة کبری کلّیّة، لکن الکبری التی یُستفاد منها هو وجوب التبیُّن عند إخبار الفاسق، و لا تدلّ علی أزید من ذلک.

و أمّا ما ذکره من ضمّ مورد الآیة إلیها، فلا دَخْل له فی دلالة الآیة علی ما ذکره.

فالحقّ: هو ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره: من أنّ هذا الإشکال ممّا لا یمکن الذبّ عنه.

الثانی من الإشکالات علی التمسُّک بالآیة فی المقام: هو أنّ مفهومها- علی تقدیر تسلیمه- معارَض بعموم التعلیل فی ذیلها، و هو قوله تعالی: «أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ»(1) الآیة.

توضیح ذلک: أنّ العلّة قد تُخصّص الحکم، و قد تُعَمِّمُهُ، و قد تُخصِّص من جهة، و تعمّم من جهة اخری، مثل: «لا تأکل الرمّان لأنّه حامض»، و حینئذٍ نقول: إنّ


1- الحجرات( 49): 6.

ص: 165

المراد بالجهالة فی ذیل الآیة عدم العلم بمطابقة المُخبَر به للواقع، و هو مشترک بین خبری العادل و الفاسق، فعموم التعلیل یقتضی وجوب التبیُّن فی خبر العادل- أیضاً- فیقع التعارض بینه و بین المفهوم و الترجیح لعموم التعلیل؛ لأنّه أقوی ظهوراً من ظهور الشرطیّة فی المفهوم.

و ما یقال: من أنّ النسبة بینهما هو العموم و الخصوص المطلق، فإنّ المفهوم مختصّ بخبر العادل الغیر المفید للعلم؛ لأنّ الخبر المفید للعلم خارج عن المنطوق و المفهوم معاً؛ إذ الموضوع فی القضیّة هو الخبر القابل لأن یُتبیّن عنه، و هو ما لا یفید العلم، فالمفهوم خاصّ بخبر العدل الذی لا یفید العلم، و التعلیل عامّ لکلّ ما لا یفید العلم، فیخصّص عموم التعلیل بالمفهوم.

فضعیف جدّاً علی ما قرّره بعض الأعاظم؛ بقوله: فإنّ لحاظ النسبة بین المفهوم و التعلیل فرع ثبوت المفهوم للقضیّة الشرطیّة، و المدّعی: هو أنّ عموم التعلیل مانع عن انعقاد الظهور للقضیّة فی المفهوم، فلیس لها- حینئذٍ- ظهور فی المفهوم حتی یُخصَّص عموم التعلیل به، و هذا لا یُنافی ما ذکروه: من جواز تخصیص العامّ بالمفهوم المخالف، فإنّ ذلک إنّما هو فیما إذا انفصل العامّ عن القضیّة التی تتضمّن المفهوم، و لم یکن العامّ علّة لما تضمّنته القضیة من الحکم، و ما نحن فیه لیس کذلک.

ثمّ أضاف بأنّ مقتضی الإنصاف أنّه لا وقع لأصل الإشکال و ذلک:

أوّلًا: بأنّا لا نُسلِّم کون الجهالة فی الآیة الشریفة بمعنی عدم العلم، بل هی بمعنی السفاهة، و ما لا ینبغی صدوره من العاقل، و لیس العمل بخبر العادل سفاهة لا ینبغی صدوره من العاقل، و الإشکال مبنیّ علی أن یراد من الجهالة عدم العلم.

فإن قلت: لو لم یصحّ الاعتماد علی خبر الفاسق، فکیف اعتمدت الصحابة علی خبر الولید الفاسق، و أرادوا تجهیز الجیش لقتال بنی المصطلق؟

ص: 166

قلت: ربّما یرکن و یعتمد الشخص علی من لا ینبغی الرکون و الاعتماد علیه؛ غفلةً أو لاعتقاد عدالة المخبر، فنزلت الآیة لتنبیههم علی غفلتهم أو اشتباههم فی الاعتقاد بعدالته.

و ثانیاً: علی فرض إرادة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع من الجهالة، لکن عموم التعلیل لا یعارض المفهوم، بل المفهوم حاکم علی العموم؛ لأنّه یقتضی إلغاء احتمال مخالفة خبر العدل للواقع، فیصیر علماً فی عالم التشریع، فلا یشمله التعلیل الناهی عن العمل بما وراء العلم، و لا تعارض بین الحاکم و المحکوم.

فإن قلت: إنّ ذلک کلّه فرع ثبوت المفهوم للقضیّة الشرطیّة، و المدّعی هو أنّ عموم التعلیل و اتّصاله بها یمنع عن انعقاد الظهور لها فی المفهوم.

قلت: المانع من ثبوت المفهوم لیس إلّا توهُّم منافاته لعموم التعلیل، و أنّ عمومه یقتضی عدم المفهوم للقضیّة، و إلّا فظهورها الأوّلی فی المفهوم ممّا لا سبیل إلی إنکاره(1). انتهی.

أقول: الظاهر من سیاق الآیة: أنّها فی مقام إیجاب التبیُّن و الحکم بوجوبه و تحصیل العلم بالواقع فی موردها.

توضیحه: أنّ الإخبار علی قسمین:

أحدهما: ما یکون المُخبَر به من الامور الخطیرة العظیمة المهمّة، و یترتّب علیه آثار مهمّة و توالٍ خطیرة، کما فی مورد الآیة؛ حیث إنّ المُخبَر به فیها ارتدادُ بنی المصطلق، فإنّه- علی فرض کذبه مع تجهیز الجیوش إلیهم و قتالهم- یوجب الندامة و الضرر العظیم بذلک.

و ثانیهما: ما لیس کذلک، و لا یترتّب علی المُخبَر به- علی فرض کذبه- مثل الضرر المذکور و الندامة المزبورة، و حینئذٍ نقول: إنّ مفاد الآیة أنّه لو جاء الفاسق


1- انظر فوائد الاصول 3: 170- 173.

ص: 167

بنبإ- و هو الخبر العظیم المهمّ، کما فسّره به فی مجمع البیان(1) إمّا لإفادة التنوین ذلک، أو لأجل أنّ مادّة النبأ تفید ذلک، و الفرق بینها و بین مادّة الخبر إنّما هو بذلک، و لذا سُمّی النبیّ نبیّاً؛ لأنّه یُنبئ عن أمر عظیم مهمّ، و لم یُسمّ مخبراً- وجب الاستعلام و تحقیق المطلب و تحصیل العلم به؛ لأنّه من الامور المهمّة التی یترتّب علی کذبه مفاسد کثیرة عظیمة من قتل الأنفس و تلف الأموال و الندامة بإصابة القوم بجهالة، و حینئذٍ فالتبیّن بمعناه، و کذلک الجهالة بمعنی عدم العلم، و لا وجه لتفسیرها بمعنی: السفاهة و ما لا ینبغی صدوره من العاقل.

و الحاصل: أنّ الآیة الشریفة فی مقام الحکم بوجوب تحصیل العلم بالواقع؛ فیما یترتّب علی المُخبَر به فی الخبر الواحد آثار خطیرة مهمّة کثیرة، و وجوبِ التبیُّن و الردعِ عن العمل فیه بغیر علم بمجرّد إخبار الواحد، و بناء العقلاء- أیضاً- لیس علی العمل بخبر الواحد فی الامور الخطیرة، مثل مورد الآیة من غیر فرق فیه بین خبر العادل و الفاسق.

فإن قلت: فعلی ما ذکرت من عدم الفرق بین العادل و الفاسق فی ذلک، فما السرّ فی ذکر خصوص نبأ الفاسق فی الآیة؟

قلت: لعلّ ذلک للتنبیه علی فسق الولید لغفلتهم أو عدم علمهم بذلک.

و أمّا ما ذکره بعض الأعاظم- فیما تقدّم- من حکومة المفهوم علی التعلیل، فقد تقدّم منّا مراراً: أنّ الحکومة تحتاج إلی اللسان و دلالة اللفظ، و أنّ ثبوت المفهوم فی الآیة متوقّف علی حکومته علی التعلیل، و الحکومة المذکورة متوقّفة علی ثبوت المفهوم، المتوقّف علی الحکومة المذکورة، فیلزم الدور، فالإشکال السابق باقٍ بحاله لا دافع له.


1- مجمع البیان 9: 199.

ص: 168

الثالث من الإشکالات علی التمسّک بالآیة: و هنا إشکال آخر یرد علی الاستدلال بالآیة لم أره فی کلامهم: و هو أنّ الوجه فی ثبوت المفهوم للقضیّة الشرطیّة، هو کون الشرط علّة منحصرة أو تمام الموضوع المنحصر للجزاء، کما تقدّم فی باب المفاهیم، و هو إنّما یُسلّم فیما إذا لم یذکر المتکلّم علّة اخری للجزاء غیر الشرط، فلو قال: «إنْ جاءک زید فأکرمه؛ لأنّه عالم» فهو لا یدلّ علی عدم وجوب إکرامه علی فرض عدم مجیئه، و الآیة من هذا القبیل، فإنّه تعالی علّل وجوب التبیّن فیها ب «أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ»، و لعلّ لوجوب التبین علّة اخری تعمّ خبر العادل أیضاً، و حینئذٍ فکیف یُستفاد من الشرط العلّیّةُ المنحصرة لیفید المفهوم؟! و قد تقدّم فی باب المفاهیم: أنّ القولَ بوضع الجملة الشرطیّة للعلّیّة المنحصرة أو تمام الموضوع المنحصر للجزاء، فی غایة الوهن، و کذا القول بالانصراف و التبادر، أو أنّ الظاهر من جعل المتکلّم للجزاء شرطاً و عدم ذکر البدل له هو أنّه علّة منحصرة، و علی أیّ تقدیر فالإطلاق إنّما هو فیما إذا لم یکن هناک بیان، و مع ذکر المتکلّم فی الشرطیّة ما یصلح للبیانیّة لا یصحّ الأخذ بالإطلاق، و الآیة الشریفة کذلک، فإنّ قوله تعالی: «أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» یصلح لذلک، فلا یصحّ الأخذ بالإطلاق، فلا مفهوم لها حینئذٍ.

و هذا الإشکال ممّا لا یمکن الذبّ عنه أیضاً.

الرابع من الإشکالات علی التمسّک بالآیة: هو أنّ مفهوم الآیة غیر معمول به فی مورده؛ لأنّه من الموضوعات الخارجیّة التی یعتبر فیها التعدُّد، و إخبارُ الولید بارتداد الطائفة کذلک، فلا بدّ من طرح المفهوم، و لا یجوز إخراج المورد.

و أجاب عنه الشیخ الأعظم قدس سره: بأنّ لزوم إخراج المورد ممنوع بالنسبة إلی المفهوم؛ لأنّ المورد داخل فی منطوق الآیة لا فی مفهومها، بل المفهوم یشمل هذا المورد بعمومه أو إطلاقه، فیمکن تقییده بالنسبة إلی الموضوعات الخارجیّة بما إذا

ص: 169

تعدّد المخبر العادل(1).

و أجاب عنه المیرزا النائینی قدس سره بما یقرب من ذلک، و قال: لا ملازمة بین المنطوق و المفهوم من حیث المورد، حتّی إذا کان المنطوق فی مورد خاصّ یلزم أن یکون المفهوم- أیضاً- فی ذلک المورد، بل القدر اللّازم هو اتّحاد موضوعیهما(2). انتهی.

أقول: لا ریب فی أنّ ما یترتّب علی العمل بخبر الواحد الفاسق بدون التبیّن فی مورد الآیة- من الندامة و اللوم بإصابة القوم بجهالة- مترتّب علی العمل بخبر العادل- أیضاً- لما عرفت من عدم بناء العقلاء- أیضاً- علی العمل بمجرّد إخبار العادل فی الامور المهمّة و عزائمها و عِظامها، و حینئذٍ نقول: إنّ الآیة نزلت فی هذا المورد الخاصّ، و تدلّ علی عدمِ جواز العمل بخبر الفاسق بدون التبیُّن، و جوازِ العمل بخبر العادل فی هذا المورد، فالأمر دائر بین لزوم إخراج المورد المستهجن و بین طرح المفهوم، فهذا الإشکال- أیضاً- ممّا لا یمکن الذبّ عنه.

أمّا الثانی: و هی الإشکالات التی لا تختصّ بآیة النبأ، بل تعمّ جمیع الأدلّة التی استدلّ بها علی حجّیّة خبر الواحد:
اشارة

فمنها: أنّها- علی فرض دلالتها علی حجّیّة أخبار الآحاد- معارَضة بالآیات الناهیة عن العمل بالظنّ أو غیر العلم، و المرجع بعد التعارض إلی أصالة حرمة العمل بالظنّ أو عدم حجّیّته(3).

و أجابوا عنه: بأنّ أدلّة حجّیّة خبر الواحد أخصّ من الآیات الناهیة عن


1- انظر فرائد الاصول: 76 سطر 21.
2- فوائد الاصول 3: 174.
3- انظر عدّة الاصول: 43 سطر 18، المحصول 2: 192- 193، الوافیة، الفاضل التونی: 164- 165.

ص: 170

العمل بغیر العلم، فیخصّص عمومها بها(1).

و الأولی فی الجواب: أن یقال بالتخصیص بالنسبة إلی قوله تعالی: «وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»(2)، و اختصاص قوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»*(3) باصول الاعتقادات، و لا یصحّ الجواب عنها بتخصیصها لإبائها عن التخصیص.

و بالجملة: الآیة الاولی و إن تشمل الفروع أو تختصّ بها، لکنّها غیر آبیة عن التخصیص، بل قابلة له، و الآیة الثانیة آبیة عن التخصیص، لکنّها تختصّ باصول العقائد، کما عرفت سابقاً.

و منها: أنّه یلزم من حجّیّة أخبار الآحاد عدم حجّیّتها، و ما یلزم من وجوده عدمه فهو محال، فتستحیل حجّیّتها؛ و ذلک لأنّ من أخبار الآحاد إخبار السیّد قدس سره الإجماع علی عدم حجّیّة خبر الواحد عند الأصحاب، و أنّ العمل به عندهم باطل کالقیاس(4)، فیشمله أدلّة حجّیّة خبر الواحد، و مفاده عدم حجّیّة أخبار الآحاد(5).

و الجواب الصحیح عنه هو ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره: من أنّ أدلّة حجّیّة خبر الواحد إنّما تشمل الأخبار المستندة إلی الحسّ، و الإجماع المنقول لیس کذلک، فإنّه مستند إلی الحدس برأی الإمام، فلا یشمله أدلّة حجّیّة خبر الواحد(6).

و قد تقدّم فی مسألة الإجماع المنقول بخبر الواحد: أنّه إنّما یثبت به أقوال


1- انظر الوافیة، الفاضل التونی: 165، فرائد الاصول: 74 سطر 3.
2- الإسراء( 17): 36.
3- النجم( 53): 28.
4- رسائل السیّد المرتضی 1: 24- 25 و 3: 309.
5- انظر فرائد الاصول: 74 سطر 14، و فوائد الاصول 3: 177.
6- فرائد الاصول: 74 سطر 16.

ص: 171

عدّة من العلماء الذین یشملهم لفظ الحاکی للإجماع، و أنّه إذا ضممنا إلیه القرائن و أقوال عدّة اخری من العلماء التی ظفرنا بها، و حصل من مجموع ذلک الحدس القطعی برأی المعصوم علیه السلام فهو حجّة، و لا یمکن ذلک فیما نحن فیه مع نقل الشیخ الإجماعَ علی حجّیّة خبر الثقة.

و أجابوا عنه أیضاً: بأنّه لا یمکن دخول خبر السیّد تحت أدلّة حجّیّة خبر الواحد؛ لأنّ دخوله مستلزم لخروجه، و ما یستلزم من دخوله خروجه محال، فدخوله محال.

بیان ذلک: أنّ إخبار السیّد الإجماع علی عدم حجّیّة أخبار الآحاد، لو لم یشمل نفسه بالدلالة اللفظیّة یشمله بنحو القضیّة الحقیقیّة أو الطبیعیّة، و مقتضاه عدم حجّیّة نفسه(1).

أقول: و لأحد أن یقول: إنّ الاستحالة المذکورة ناشئة من شموله لإخبار نفسه، فللتخلّص و الفرار عنها نقول بعدم شموله لنفسه، فیبقی شموله لسائر أخبار الآحاد بلا لزوم محذور الاستحالة.

کما أنّه لقائل أن یقول فی قباله- من جانب القائلین بحجّیّة أخبار الآحاد-:

إنّ الاستحالة إنّما نشأت من شمول أدلّة حجّیّة خبر الواحد لإخبار السیّد بالإجماع المذکور، فللتخلّص عن الاستحالة نقول بعدم شمولها لخبر السیّد، فیبقی شمولها لسائر أخبار الآحاد بلا إشکال و لا محذور.

و بالجملة: الاستحالة إنّما نشأت عن إطلاق أدلّة حجّیّة خبر الواحد الشامل لخبر السیّد، فإذا قُیّدت بغیر خبر السیّد قدس سره ترتفع الاستحالة.

و أجابوا عن أصل الإشکال أیضاً: بأنّ الأمر دائر بین دخول خبر السیّد قدس سره


1- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 63 سطر 6.

ص: 172

تحت أدلّة حجّیّة خبر الواحد و خروج سائر أخبار الآحاد عنها، و بین العکس، و لا ریب فی أنّ العکس هو المتعیِّن، لا لمجرّد قبح انتهاء التخصیص إلی أن یبقی واحد، بل لأنّ المقصود من الکلام ینحصر فی بیان عدم حجّیّة خبر الواحد العادل، و لا ریب فی أنّ التعبیر عن هذا المقصود بما یدلّ علی حجّیة خبر الواحد، قبیح فی الغایة، و فضیح إلی النهایة، و من قبیل الأکل من القفاء(1).

و أجاب صاحب الکفایة فی الحاشیة عن ذلک: بأنّه من الممکن جدّاً أن یُراد من الآیة: هو حجّیّة خبر العادل واقعاً مطلقاً إلی زمان إخبار السیّد بعدم حجّیّته، کما هو قضیّة ظهورها من دون أن یُزاحمه شی ء قبله و عدم حجّیّته بعده(2). انتهی.

أقول: یرد علیه: أنّ معقد إجماع السیّد قدس سره- هو إجماع الأصحاب من لدن بعث النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم إلی یوم القیامة، و معه لا یستقیم ما ذکره قدس سره.

ثمّ إنّه أورد علی ما ذکره بقوله: لکنّ الإجماع قائم علی عدم الفصل بین ما قبل زمان السیّد و ما بعده، و أنّ خبر الواحد لو کان حجّة علی الأوّلین فهو حجّة علی الآخرین، و إلّا فلیس حجّة علی الأوّلین أیضاً، و علیه فإنّه و إن لم یکن الالتزام بذلک واقعاً، إلّا أنّه لا بأس بالقول بأنّ الخبر حجّة مطلقاً واقعاً، کما هو کذلک ظاهراً قبل زمان السیّد، و یلتزم بعدم حجّیّته مطلقاً ظاهراً بعد زمان السیّد، فلا یستلزم ذلک قبحاً(3). انتهی.

و فیه ما لا یخفی، فإنّ المفروض- حینئذٍ- أنّ الحجّیّة مقطوعة معلومة، و معه کیف یمکن القول بأنّ عدم الحجّیّة حکم ظاهریّ؟!

و أجاب المحقّق العراقی قدس سره عن أصل الإشکال:

1- انظر فرائد الاصول: 74 سطر 21.
2- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 63 سطر 4.
3- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 63 سطر 15.

ص: 173

أوّلًا: بأنّ الآیة و نحوها فی مقام جعل حجّیّة الخبر الواحد، و لا یمکن شمولها لخبر السیّد قدس سره لأنّ الآیة و نحوها إنّما تجعل الحجّیّة فیما إذا شکّ فی الحجّیّة، فهی إنّما تشمل خبر السیّد إذا کان مشکوک الحجّیّة، و الشکّ فی حجّیّة خبر السیّد و عدمها ملازم للشکّ فی مضمون الآیة؛ أی فی حجّیّة خبر الواحد، و الشکّ فی مضمون الآیة متأخّر عنها بحسب الرتبة، و لا یمکن شمول الآیة لما هو متأخّر عنها رتبةً(1). انتهی ملخّص کلامه قدس سره.

و فیه أوّلًا: أنّ مفاد الآیة و نحوها هو إیجاب العمل بخبر الواحد العادل و حرمته فی خبر الفاسق، لا جعل الحجّیّة بالنسبة إلی خبر العادل و عدم الحجّیّة لخبر الفاسق، فإنّ المجعول هو منشأ انتزاعهما، فینتزع من الوجوب الحجّیّة، و من الحرمة عدم الحجّیّة.

و ثانیاً: سلّمنا أنّها فی مقام جعل الحجیّة و اللاحجّیّة، لکنّها إنّما تجعل الحجّیّة لخبر الواحد إذا شُکّ فیها؛ لأنّه مع العلم بالحجیّة لا معنی لجعلها، و کذلک لو علم بعدم الحجّیّة لخبر الواحد یستحیل جعل الحجّیّة له فالحجّیّة إنّما یصحّ جعلها إذا کانت مشکوکة فإذا شکّ فی حجیّة خبر السیّد یشمله إطلاق أدلّة حجّیة خبر الواحد.

و أمّا ما أشار إلیه هنا، و تقدّم منه و من غیره سابقاً: من أنّ الشکّ فی شی ء متأخّر عن ذلک الشی ء رتبة، فقد تقدّم فساده، مع أنّ الشکّ فی حجّیّة خبر السیّد قدس سره لیس متأخّراً عن مضمون الآیة؛ لتحقّق هذا الشکّ قبل نزول الآیة، فکیف یتأخّر عنه(2)؟!


1- نهایة الأفکار 3: 118- 119.
2- و لا یخفی أنّه لم یکن خبر السیّد قبل نزول الآیة؛ فکیف یتحقّق الشکّ فیه؟! اللّهمّ إلّا أن یرید- دام ظلّه- مفاده، لا نفسه. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 174

ثمّ إنّه قدس سره ذکر جواباً ثانیاً: و هو أنّ الأمر فی المقام دائر بین التخصیص و التخصُّص؛ لأنّه إن کان خبر السیّد داخلًا فی الآیة و أمثالها، و سائرُ أخبار الآحاد خارجاً لزم التخصیص، و إن کان خبر السیّد خارجاً عن أدلّة الحجّیّة، و سائر الأخبار داخلًا، لزم التخصُّص، و إذا دار الأمر بینهما فالتخصّص أولی.

بیان ذلک: أنّه إن کان خبر السیّد داخلًا تحت أدلّة الحجّیّة فلا یمکن دخول سائر الأخبار تحتها، فیلزم تخصیصها به، و إن کان سائر الأخبار داخلًا فنعلم- حینئذٍ- بحجّیّتها و مقتضی العلم بحجّیّتها هو العلم بعدم حجّیّة خبر السیّد و مقتضاه خروجه عن تحت أدلّة الحجّیّة و عدم شمولها له تخصّصاً(1).

و منها: أی الإشکالات التی أوردوها علی أدلّة حجّیّة خبر الواحد: عدم شمولها للإخبار بواسطة أو وسائط، کإخبار الشیخ، عن المفید، عن الصفّار، عن العسکری علیه السلام.

و یمکن تقریب الإشکال بوجوه:
اشارة

الأوّل: دعوی انصراف الأدلّة عن الإخبار مع الواسطة، و یمکن تقریره: بأنّ الأدلّة منصرفة إلی الإخبار الوجدانیة، مثل خبر الشیخ فقط، و منصرفة عن الأخبار الثابتة بالتعبّد بقول الشیخ قدس سره کخبر المفید و الصدوق و الصفّار(2).

و یمکن منع دعوی الانصراف:

أوّلًا: بأنّ کلّ واسطة من الوسائط إنّما تُخبر عن المُخبِر السابق علیها بلا واسطة، فالشیخ یخبر عن المفید بلا واسطة، و المفید- أیضاً- یُخبر عن الصدوق بلا واسطة، و هکذا.


1- نهایة الأفکار 3: 119.
2- انظر فرائد الاصول: 75 سطر 1.

ص: 175

مضافاً إلی أنّا نقطع بوجود ملاک الحجّیّة فی الأخبار مع الوسائط أیضاً.

و یمکن تقریر الانصراف بوجهٍ آخر لا یرد فیه ما اورد علی الأوّل: و هو أنّ العُمدة فی أدلّة حجّیّة أخبار الآحاد هو استقرار بناء العقلاء علی ذلک، و بناؤهم إنّما هو علی العمل بالأخبار بلا واسطة أو مع وسائط قلیلة إلی عشرة مثلًا، و أمّا مع کثرة عدد الوسائط بالغة أربعین واسطة- مثلًا- کما هو کذلک من زماننا هذا إلی عصر الأئمة علیهم السلام فلیس بناؤهم علی العمل بها.

و یمکن الجواب عنه أیضاً: بأنّ الوسائط فی أخبارنا المرویّة عن الأئمة علیهم السلام لیست بهذه الکثرة، بل لا تزید فی کثیر منها عن أربع أو خمس، و بلوغها إلی ثمانیة أو تسعة فی غایة الندرة؛ و ذلک لأنّ الوسائط فیها هی التعداد المذکور فی الکتب الأربعة المدوّنة فی عصر المشایخ الثلاثة رضوان اللَّه تعالی علیهم.

و أمّا من عصر المشایخ إلی زماننا فلا یحتاج إلی الواسطة؛ لأنّا نقطع بأنّ کتب الأخبار الأربعة للمشایخ الثلاثة، کما نقطع بأنّ الفرائد- مثلًا- للشیخ الأنصاری- أعلی اللَّه مقامه- و ثبوت ذلک بالتواتر، لا بأخبار الآحاد.

الثانی من الوجوه: أنّه لا بدّ من تحقّق الموضوع قبل الحکم، و أخبار الوسائط لیست کذلک، فإنّ خبر المفید و الصفّار إنّما یثبتان بوجوب تصدیق الشیخ قدس سره فی إخباره عمّن حدّثه، مع أنّه لا بدّ من تحقّق الموضوع فی رتبة سابقة علی الحکم(1).

الثالث: أنّه یلزم إثبات الموضوع بالحکم بالنسبة إلی الوسائط، فإنّ أخبارهم لیست مُحرزةً بالوجدان، فإنّ المحرَز بالوجدان هو خبر الشیخ فقط، لا الوسائط، بل یُراد إثباتها بالتعبّد و الحکم بوجوب تصدیق العادل، فیلزم أن یکون الحکم بوجوب تصدیق العادل مثبتاً لموضوع نفسه، و هو أخبار الوسائط، التی هی موضوع الحکم


1- انظر نهایة الأفکار 3: 121.

ص: 176

بوجوب التصدیق، و هو محال؛ لأنّه لا بدّ من تحقّق الموضوع فی مرتبة سابقة عن الحکم، ثمّ یتعلّق الحکم به، و ما نحن فیه لیس کذلک(1).

الرابع من الوجوه الذی یصعب الذبّ عنه: أنّه یعتبر فی التعبّد فی الموضوعات الخارجیّة ترتّب أثر شرعیّ علیها، و إلّا فنفس الموضوعات الخارجیّة مع عدم ترتّب أثر شرعی علیها، غیر قابلة لأن یتصرّف فیها الشارع بالجعل و الرفع، فالتعبّد فیها إنّما هو بلحاظ آثارها الشرعیّة، و لیس فی الأخبار مع الواسطة أثر شرعیّ یترتّب علیها.

و أمّا الحکم بوجوب تصدیق العادل: فإن ارید منه الوجوب القلبی و الالتزام و الاعتقاد الباطنی، فقد تقدّم أنّه غیر قابل لأن یتعلّق به حکم من الأحکام؛ لأنّ الاعتقاد بشی ء له مبادٍ خاصّة یوجد بوجودها، و لا یمکن تحقّقه مع عدمها، و أنّه لیس تحت الإرادة و الاختیار حتّی یتعلّق به حکم من الأحکام.

مضافاً إلی أنّا لم نجد ما یدلّ علی هذا الحکم- أی وجوب التصدیق القلبی للعادل- فی خبره من الأدلّة الشرعیّة(2).

و أجاب الشیخ الأعظم قدس سره عن الوجه الثالث:

أوّلًا: بالنقض بالإقرار بالإقرار الثابت بالإجماع؛ حیث إنّه یثبت بالحکم بنفوذ الإقرار الإقرارُ السابق الموضوعُ للحکم بنفوذه.

و ثانیاً: بأنّ هذا الإشکال مبنیّ علی أنّ مفاد الآیة إیجاب العمل الذی هو منشأ الانتزاع للحجّیّة، و أمّا بناءً علی أنّ المراد منها جعل الکاشفیّة و الطریقیّة بتتمیم کشفها، فلا یرد هذا الإشکال.


1- انظر حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 64، فوائد الاصول 3: 178- 179، نهایة الأفکار 3: 121.
2- انظر فرائد الاصول: 75 سطر 12.

ص: 177

و بعبارة اخری: إنّ هذا الإشکال إنّما یتّجه إذا کان الحکم موجداً لموضوعه واقعاً؛ بأن یتحقّق و یوجد الموضوع فی نفس الأمر بالتعبّد بعد ما لم یکن، و أمّا إذا فرض کشف الحکم عن موضوع کان موجوداً قبل الکشف واقعاً فلا، و ما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ الشارع المقدّس جعل الکاشفیّة و الطریقیّة لخبر الشیخ قدس سره فهو یکشف عن قول المفید، و خبر المفید کاشف و طریق إلی خبر الصدوق ... و هکذا، و حینئذٍ فلا یکون الحکم موجداً لموضوعه، بل هو کاشف عن وجوده قبله فی نفس الأمر، فلا یلزم الاستحالة.

و ثالثاً: بأنّ أخبار الوسائط و إن کان خارجاً عن موضوع ذلک الحکم العامّ، لکن من المعلوم أنّ هذا الخروج مستند إلی قصور العبارة و عدم قابلیّتها لشموله، لا للفرق بینه و بین غیره فی نظر المتکلّم، بل یشمله بنحو القضیّة الطبیعیّة- أی:

الحقیقیّة- لا الطبیعیّة المصطلحة(1). انتهی.

و علی مدار هذه الأجوبة یدور ما ذکره المیرزا النائینی(2) و المحقّق العراقی(3) 0 و لکن لا بدّ من ملاحظة مفاد الآیة؛ و أنّه هل هو ما ذکروه أو لا؟ فنقول: لا ریب فی أنّ مفهوم الآیة علی فرض ثبوته- کما هو المفروض- لیس هو جعل الکاشفیّة و الطریقیّة لخبر العادل، بل مفادها عدم وجوب التبیُّن فی العمل بخبر الواحد العادل، و حرمة العمل بخبر الفاسق بدون التبیُّن، و إیجاب العمل بخبر العادل، لا جعل الطریقیّة و الکاشفیّة له بتتمیم الجعل.

سلّمنا ذلک، لکن قد عرفت أنّه یشترط فی التعبّد بالموضوعات- کما فی استصحابها- ترتُّب أثرٍ شرعیٍّ علیها، و لا أثر کذلک لها فی هذا التعبّد، و لا یمکن مع


1- فرائد الاصول: 75- 76.
2- فوائد الاصول 3: 179.
3- نهایة الأفکار 3: 122- 123.

ص: 178

إفادتها لجعل الطریقیّة و الکاشفیّة إفادتُها إیجاب تصدیق العادل معاً، فإنّها لا تدلّ إلّا علی أحد الأمرین: إمّا جعل الکاشفیّة و الطریقیّة، و إمّا إیجاب تصدیق العادل، فعلی فرض کون مفادها جعل الکاشفیّة للخبر لا تفید إیجاب تصدیق العادل؛ حتی یقال:

إنّ ذلک أثر شرعیّ لها.

و عُمدة الإشکالات فی نظر القوم اثنان:

أحدهما: إشکال لزوم إیجاد الحکم لموضوع نفسه، و هو محال.

ثانیهما: عدم ترتُّب الأثر الشرعی علی التعبّد بخبر الشیخ و المفید 0 و غیرهما.

و أجاب المیرزا النائینی و المحقّق العراقی عن الأوّل: بأنّ الذی هو غیر معقول هو إثباتُ الحکم لموضوع شخص هذا الحکم، لا إیجاد موضوعٍ لحکم آخر، فإنّ هذا بمکان من الإمکان، و ما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ خبر المفید إنّما یثبت بوجوب تصدیق الشیخ قدس سره فی إخباره عن المفید الذی فرضنا أنّه محرز بالوجدان، و إذا ثبت خبر المفید بوجوب التصدیق یعرض علیه وجوب التصدیق، و من وجوب تصدیق المفید یثبت خبر الصدوق، فیعرض علیه وجوب التصدیق ... و هکذا إلی أن ینتهی إلی أوّل سلسلة الوسائط، فکلُّ حکم لموضوعٍ مُثبتٌ لموضوع آخر یترتّب علیه حکم آخر، فهنا موضوعات متعدّدة لأحکام متعدّدة من سنخ واحد، و تعدّد الأحکام نشأ من انحلال قضیّة «صدّق العادل» إلی أحکام متعدّدة حسب تعدّد موضوعاتها، و حینئذٍ فلا یلزم المحذور المذکور.

و أجاب عن الثانی: بأنّ دلیل الاعتبار و إن کان بحسب الصورة قضیّة واحدة، إلّا أنّه ینحلّ إلی قضایا متعدّدة الملحوظ فیها طبیعة الأثر، فإذا فرضنا أنّ سلسلة سند الروایات تنتهی بالأخَرة إلی الروایة الحاکیة لقول الإمام علیه السلام فدلیل التعبُّد ینحلّ إلی قضایا متعدّدة حسب تعدُّد الأشخاص الواقعین فی السلسلة، و لکلٍّ منهم أثر

ص: 179

یخصّه غیر الأثر المترتّب علی الآخر، و تکون کلّ قضیّة حاکمة علی غیرها، فإنّ المُخبَر به بخبر الصفّار الحاکی لقول العسکری علیه السلام فی مبدأ السلسلة، لمّا کان حکماً شرعیّاً بمقتضی أدلّة حجّیّة خبر العادل، فوجوب تصدیق الصفّار من الآثار الشرعیّة المترتّبة علی خبر الصفّار، فالصدوق الحاکی لقول الصفّار قد حکی موضوعاً ذا أثر شرعیّ، فیعمّ دلیل الاعتبار قول الصدوق، فیجب تصدیقه فی إخبار الصفّار له، فوجوب التصدیق أثر شرعیّ ترتّب علی قول الصدوق.

ثمّ إنّ المفید الحاکی لقول الصدوق قد حکی موضوعاً ذا أثرٍ شرعیّ، فیجب تصدیقه أیضاً ... و هکذا إلی أن ینتهی إلی قول الشیخ المحرَز بالوجدان، فکلّ لاحق یُخبر عن موضوع سابق ذی أثرٍ شرعیّ، غایته أنّ الآثار من سنخٍ واحد، و لا محذور فی ذلک إذا انتهت الآثار إلی أثرٍ مغایر، و هو وجوب الشی ء أو حرمته(1). انتهی.

أقول: قد تقدّم أنّه لیس مفادُ الآیة- علی تقدیر ثبوت المفهوم لها- إلغاءَ احتمال الخلاف فی خبر الواحد و جعله علْماً فی عالم التشریع و تتمیم کشفه، بل لیس مفادها إلّا إیجاب العمل بخبر الواحد، و علی فرض ذلک لیس فیها حکومة؛ لما عرفت من أنّ الحکومة تحتاج إلی اللفظ و اللسان.

سلّمنا ذلک، لکن جعل الکاشفیّة لموضوع یحتاج إلی أثرٍ شرعیّ؛ لیکون الجعل بلحاظه، و یمکن تصویره بوجوهٍ کلّها مخدوشة:

الأوّل: ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره و المحقّق العراقی قدس سره: من أنّه یکفی ترتّب الأثر علیه و لو بألف واسطة، و لا یفتقر إلی ترتّب أثرٍ شرعیٍّ مستقلٍّ بلا واسطة، بل یکفی کون کلِّ واحد من خبر الشیخ و الصدوق و المفید جزء الموضوع للأثر و هو


1- فوائد الاصول 3: 179- 183، نهایة الأفکار 3: 123- 124.

ص: 180

قول الإمام العسکری علیه السلام(1).

و فیه: أنّه لیس للوجوب أو الحرمة- مثلًا- إلّا موضوع واحد، و هو صلاة الجمعة- مثلًا- فصلاة الجمعة تمام الموضوع لحکمها بلا دَخْل شی ءٍ آخر فی موضوعیّتها له، و لذلک یثبت لها؛ سواء نقل الشیخ أو المفید 0 ذلک أم لا.

الثانی: ما ذکره شیخنا الحائری قدس سره فی الدرر: و هو أنّ وجوب تصدیق العادل فیما أخبر به لیس من قبیل الحکم المجعول للشکّ تعبُّداً، بل مفاد الحکم هنا جعل الخبر- من حیث إنّه مفید للظنّ النوعی- طریقاً إلی الواقع، فعلی هذا لو أخبر العادل بشی ء ملازم لشی ءٍ له أثر شرعاً أو عقلًا أو عادةً، نأخذ به و نرتِّب علی لازم المُخبَر به الأثر الشرعی المرتَّب علیه.

و السرّ فی ذلک: أنّ الطریق إلی أحد المتلازمین طریق إلی الآخر و إن لم یلتفت المخبِر إلی الملازمة، فحینئذٍ نقول: یکفی فی حجّیّة خبر العادل انتهاؤه إلی أثر شرعیّ(2).

و فیه: أنّه لا ملازمة شرعیّة و لا عقلیّة و لا عادیّة بین خبر الشیخ و بین خبر المفید 0 مثلًا: أمّا الملازمة الشرعیّة فتابعة للدلیل علیها، و لیس فیما نحن فیه دلیل یدلّ علیها، و أمّا آیة النبأ و نحوها فلا تدلّ إلّا علی إیجاب العمل أو جعل الطریقیّة؛ بناء علی ما ذکره بعض، و لیس فیها دلالة علی الملازمة المذکورة. و أمّا انتفاء الملازمة العقلیة و العادیة فواضح.

الثالث: أن یقال: إنّ الأثر العملی فی المقام هو جواز التقوُّل ب «قال المفید» بعد إخبار الشیخ: بأنّه قال المفید، فیترتّب علی خبر الشیخ هذا الأثر الشرعی ...


1- انظر فوائد الاصول 3: 181، و نهایة الأفکار 3: 124.
2- درر الفوائد: 388.

ص: 181

و هکذا.

و فیه: أنّه صحیح، لکن خبر المفید من الموضوعات الخارجیّة التی یفتقر فی إثباتها إلی البیّنة، و لا یکفی مجرّد خبر العدل الواحد- و هو الشیخ قدس سره فی إثباته(1).

فإن قلت: الافتقار إلی البیّنة إنّما هو فی الموضوعات الصِّرفة التی لا یترتّب علیها أثر أصلًا، و أمّا الموضوعات التی تنتهی إلی ترتّب الأثر الشرعی علیها فلا یحتاج فیها إلی البیِّنة.

و بعبارة اخری: الموضوعات المحکیّة المنتهیة إلی ما یترتّب علیه الأثر الشرعی، لا تحتاج فی إثباتها إلی البیِّنة، و ما نحن فیه من هذا القبیل.

قلت: هذا إنّما یصحّ إذا کان المحکیّ قول الإمام علیه السلام و المفروض فیما نحن فیه أنّ المحکیّ بخبر الشیخ هو قول المفید، و هو لیس أثراً شرعیّاً، و أمّا قول الإمام و إنشاء الحکم فلیس مقولًا لقول الشیخ، و لذا قد لا تجب صلاة الجمعة واقعاً، و مع ذلک یصدق الشیخ فی إخباره عن المفید إذا حدّثه المفید بذلک.

ثمّ إنّ ما ذکروه: من کفایة ترتُّب الأثر علی قول الصفّار الحاکی عن قول الإمام علیه السلام فی مبدأ السلسلة.

فیه: بعد الغضّ عن أنّه یحکی قول الإمام علیه السلام لا نفس الحکم الشرعی، فلا یترتّب الحکم الشرعی علی خبر الصفّار أیضاً، أنّه لم یثبت خبر الصفّار إلّا بخبر الشیخ عن المفید عن الصدوق عنه، فلا بدّ أوّلًا من إثبات صحّة التعبّد بخبر الشیخ و مَنْ بعده حتی یثبت خبر الصفّار، و بدون إثبات خبر الشیخ و مَنْ بعده کیف یمکن


1- أقول إذا کان لموضوع أثر شرعی صحّ التعبّد به بلحاظ ذلک الأثر کما فی استصحابه و لا یفتقر حینئذٍ إلی تعدّد الشاهد علیه و المفروض ثبوت الحکم الشرعی علی خبر الشیخ و هو جواز التقوّل ب« قال المفید» و هکذا، و لا یخفی عدم استقامة جواب الإشکال الآتی بقوله إن قلت حینئذٍ. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 182

إثبات خبر الصفّار؟! فإنّه لیس محرَزاً بالوجدان- کما هو المفروض- فلا یُفید مجرّد ترتّب الأثر علی خبر الصفّار و لیس لخبر الشیخ أثر شرعیّ یصح التعبّد بلحاظه؛ حتّی یثبت به إخبار مَن بعده، و قد تقدّم: أنّ وجوب التصدیق لا یمکن أن یکون أثراً له؛ لأنّه إن ارید به الالتزام الباطنی و العقد القلبی فهو ممتنع، و إن ارید به وجوب التصدیق القولی- أی: القول بأنّ الشیخ قدس سره صادق فی إخباره- فلیس هو المقصود.

مضافاً إلی عدم الدلیل علیه إلّا ذیل آیة الاذن(1) التی هی- أیضاً- لا تدلّ علی ذلک.

و إن ارید به وجوب التصدیق العملی، فلیس لوجوب التصدیق عمل، و لا یتعلّق به العمل.

هذا کلّه- إشکالًا و جواباً- إنّما هو بحسب النظر العقلی و الدقائق العقلیّة التی ذکرها القوم، و اقتفینا أثرهم فیها.

و التحقیق فی الجواب عن جمیع الإشکالات: أنّه لا بدّ من عرض الآیة علی العرف و العقلاء، فإنّ فهمهم هو المتّبع، أمّا الإشکال الأوّل- و هی دعوی الانصراف- فهی غیر بعیدة بالدقّة العقلیّة، لا بحسب المتفاهم العرفی، فإنّ العرف و العقلاء لا یرون فرقاً بین الخبر بلا واسطة و بینه مع الواسطة؛ بعد فرض دلالة الآیة بحسب المفهوم علی حجّیّة خبر الواحد، فإنّه إذا قال المولی لعبده: «إذا أخبرک العادل بقدوم الضیف فهیِّئ له الطعام و مقدّمات إکرامه و ضیافته»، فأخبره عادل عن عادل آخر بقدوم الضیف، فإنّ العقلاء لا یتأمّلون فی لزوم تهیئة مقدّمات الضیافة علی العبد؛ بإعمال الدقائق العقلیّة المتقدّمة فی شمول أمرِ المولی و قولِهِ لهذا النحو من الأخبار،


1- التوبة( 9): 61.

ص: 183

بل لا فرق عندهم بین الإخبار بلا واسطة و بینه مع الواسطة فی شمول الدلیل لهما.

و السرّ فی ذلک: أنّهم لا یفهمون من الإخبار مع الوسائط إلّا نقل قول الإمام علیه السلام و الوسائط- عندهم و فی نظرهم- طریقٌ محض لیست منظوراً فیها، و لیس لها موضوعیّة عندهم، فتأمّل جیّداً.

آیة النَّفر

و من الآیات التی استدلّ بها علی حجّیّة أخبار الآحاد قوله تعالی: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»(1):

ذهب الشیخ الأعظم قدس سره(2) و جماعة(3) إلی عدم دلالة الآیة علی حجّیّة خبر الواحد.

و ذهب المیرزا النائینی قدس سره إلی دلالتها علیها، و مهّد لذلک مقدّمات:

الاولی: أنّ کلمة «لعلّ» مهما تستعمل، تدلّ علی أنّ ما یتلوها من العلل الغائیّة لما قبلها؛ من غیر فرقٍ فی ذلک بین التکوینیّات و التشریعیّات، و من غیر فرق فیما یتلوها بین الأفعال الاختیاریّة و بین غیرها، فإن کان ما قبلها واجباً فما یتلوها- أیضاً- واجب، و إن کان مُستحبّاً فهو مستحبّ.

الثانیة: المراد من الجمع فی قوله تعالی: «لِیَتَفَقَّهُوا» و قوله: «وَ لِیُنْذِرُوا» و قوله: «یَحْذَرُونَ»، هو الجمع الاستغراقی الأفرادی، لا المجموعی الارتباطی؛ لوضوح أنّ المکلّف بالتفقّه هو کلّ فرد من أفراد الطائفة، لا مجموعهم، کما أنّ المراد


1- التوبة( 9): 122.
2- فرائد الاصول: 79- 80.
3- کفایة الاصول: 343، درر الفوائد: 390- 391.

ص: 184

إنذار کلّ فرد منهم، لا المجموع.

الثالثة: لیس المراد من الحذر مجرّد الخوف و الحذر العقلی، بل المراد منه هو الحذر الخارجی، الذی یحصل بالعمل بقول المنذِر و تصدیق قوله و الجری علی ما یقتضیه من الحرکة و السکون، و لیس المراد الحذر عند حصول العلم من قول المنذر، بل مقتضی الإطلاق و العموم الاستغراقی فی قوله تعالی: «لِیُنْذِرُوا» هو وجوب الحذر مطلقاً؛ سواء حصل العلم من قول المنذر أم لا، غایته أنّه یجب تقیید إطلاقه بصورة عدالة المنذر؛ لقیام الدلیل علی عدم وجوب العمل بقول الفاسق، کما هو منطوق آیة النبأ، و بعد العلم بهذه الامور لا أظنّ أحداً یشکل فی دلالة الآیة الشریفة علی حجّیّة خبر الواحد(1). انتهی.

أقول: فی الآیة الشریفة احتمالات:

الأوّل من الاحتمالات: أن یُراد منها: هلّا خرج من کلّ طائفة فرقة إلی جهاد الأعداء، و تبقی جماعة اخری عند النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم.

و یؤیّد ذلک امور:

الأوّل: أنّ قبلها قوله تعالی: «ما کانَ لِأَهْلِ الْمَدِینَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ یَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ»(2)، فإنّ هذه الآیة نزلت- علی ما نُقل عن أبی جعفر الباقر علیه السلام(3)- حین ما کان المؤمنون عدّة قلیلة، و کانوا مأمورین بالجهاد قاطبة، و قوله تعالی: «وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً»(4) نزلت بعد کثرتهم و ازدیادهم فهی ناسخة للُاولی، و حینئذٍ فالتحضیض المستفاد من کلمة «لو لا» إنّما


1- فوائد الاصول 3: 185- 187.
2- التوبة( 9): 120.
3- انظر التبیان 5: 323، و مجمع البیان 5: 126.
4- التوبة( 9): 122.

ص: 185

هو علی عدم تفرّقهم فرقتین.

الثانی: أنّ الآیة واقعة فی سیاق الآیات التی وردت فی الجهاد.

الثالث: استعمال مادّة «النَّفْر» فإنّه یستعمل فی النَّفْر إلی الجهاد غالباً فی الکتاب المجید.

الرابع: مناسبة معنی «النَّفْر» لغةً لذلک، فإنّ معناه ما یُرادف فی الفارسیة ب «جهیدن»، کما فی قوله تعالی: «کَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ»(1)، و أصله الفزع، و هو یُناسب الخروج إلی الجهاد.

الخامس: أنّها نزلت فی المؤمنین؛ حیث حلفوا علی عدم التخلّف عن غزوة یغزوها رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم و لا سَرِیّة؛ حیث إنّه صلی الله علیه و آله و سلم إذا خرج إلی الجهاد لا یتخلّف عنه إلّا المنافقون، فأنزل اللَّه وحیاً و أخبر عیوب المنافقین، و بیّن نفاقهم(2)، و علی هذا الاحتمال ففی قوله: «وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ»(3) احتمالان:

أحدهما: أنّ المراد: لتتفقّه الفرقة الباقیة مع النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم یتعلّمون الأحکام و الآداب منه صلی الله علیه و آله و سلم فإذا رجعت الطائفة النافرة ینذرونهم ببیان ما نزل من الآیات فی غیابهم، و یُعلّمونهم السُّنن و الفرائض التی تلقّوها منه صلی الله علیه و آله و سلم.

و ثانیهما: أنّ المراد: لیتفقّه الفرقة النافرة فی الدین؛ بما رأت من آیات اللَّه، و حصل لهم بذلک بصیرة فی الدین بظهور المسلمین و غلبتهم مع قلّتهم علی المشرکین و نصرتهم علی أعدائهم، و لینذروا قومهم من الکفّار و المنافقین بنصرة اللَّه المسلمین و تأییده لهم، و یخبروهم بذلک.

الثانی من الاحتمالات فی الآیة الشریفة: هو أنّ قوله تعالی: «وَ ما کانَ


1- المدّثّر( 74): 50- 51.
2- مجمع البیان 5: 125- 126.
3- التوبة( 9): 122.

ص: 186

الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً»(1) لیس إنشاءً، بل إخباراً عن أنّ وضع المؤمنین کذلک؛ لا یمکنهم معه النفر جمیعاً من الأطراف إلی المدینة؛ لتعلّم الأحکام و تلقّیها من النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم فهلّا نفر من کلّ فرقة طائفة؛ لعدم إمکان نَفْرهم جمیعاً إلی المدینة لتعلُّم الأحکام «وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ».

الثالث من الاحتمالات: أنّ قوله تعالی: «وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ» إنشاء: بأنّه لیس لهم ذلک، و أنّه لا بدّ من نَفْر طائفة من کلّ فرقة، و حینئذٍ ففی قوله تعالی:

«لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ» ثلاثة احتمالات:

أحدها: أنّ المراد التفقّه فی خصوص المسائل الفرعیّة.

ثانیها: أنّ المراد التفقّه فی خصوص اصول العقائد.

ثالثها: الأعمّ منهما.

و الاستدلال بالآیة الشریفة علی حجّیّة خبر الواحد، متوقّف علی الاحتمال الثانی من الاحتمالات المتقدّمة آنفاً فی معنی «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ»، مع إرادة التفقّه فی خصوص المسائل الفرعیّة، و أمّا لو ارید منه خصوص اصول الاعتقادات فلا؛ لعدم حجّیّة خبر الواحد فیها قطعاً، و کذلک لو ارید منه الأعمّ منها و من الفروع، اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّها- حینئذٍ- و إن دلّت علی حجّیّة أخبار الآحاد مطلقاً، لکن تُخصَّص بغیر اصول العقائد بحکم العقل بعدم حجّیّة خبر الواحد فیها.

لکن هنا إشکال آخر: و هو أنّ المراد من التفقُّه تعلُّم الأحکام الشرعیّة عن اجتهاد، فتدلّ علی حجّیّة خبر الواحد المجتهد الفقیه فیما ینقله، و لا تدلّ علی حجّیّة خبر الواحد فی صورة مجرّد نقل الروایة مع عدم کون المخبر فقیهاً و مجتهداً، کما هو المطلوب.


1- التوبة( 9): 122.

ص: 187

و أیضاً تدلّ الآیة الشریفة: علی حجّیّة الخبر المشتمل علی الإنذار و المتضمّن للتخویف لا مطلقاً، فلا تدلّ علی حجیّة مجرّد نقل رأی الإمام علیه السلام مثل وجوب التسبیحات الأربعة فی الرکعتین الأخیرتین ثلاثاً، فإنّ الإنذار إنّما یتحقّق بالإخبار: بأنّ العمل الفلانی یوجب العذاب و الدخول أو الخلود فی الجحیم، فهذه الآیة فی مقام بیان وظائف الوعّاظ و المنذِرین، لا فیما هو المطلوب.

ثمّ إنّ مفاد الآیة: هو وجوب التفقّه علی کل واحد من الطوائف و وجوب إنذارهم لقومهم عند رجوعهم رجاءً لحذرهم لکن لیس فی الآیة دلالة علی وجوب القبول منهم بمجرّد إخبار عدلٍ واحد بحکم من الأحکام، و لیس فی الآیة إلّا مجرّد احتمال ترتُّب الحذر تکویناً بسبب حصول مبادیه من الإنذار، و هذا غیر وجوب قبول الخبر و العمل علی طبقه، فلعلّ أصل العمل کان مشروطاً بحصول العلم: إمّا لوثوقهم بالمخبر أو فحصهم عمّا أخبر به و العمل به بعد حصول العلم من الخارج، و إمّا لأجل أنّه لیس فی الآیة إلّا إنذار الطائفة لقومهم، و ظاهره إنذار جمیع الطائفة للقوم، و حینئذٍ فالآیة أجنبیّة عمّا نحن فیه.

مع أنّ الظاهر من بعض الأخبار أنّ الآیة راجعة إلی وجوب معرفة الإمام إذا حدثت للإمام الذی قبله حادثة،

مثل ما رواه الکُلینی فی باب «ما یجب علی الناس عند مضیّ الإمام» عن صحیحة یعقوب بن شعیب قال: قلت لأبی عبد اللَّه علیه السلام إذا حدث علی الإمام حدث، کیف یصنع الناس؟

قال: (أین قول اللَّه عزّ و جلّ: «فَلَوْ لا نَفَرَ» الآیة؟! قال: هم فی عذر ما داموا فی الطلب، و هؤلاء الذین ینتظرونهم فی عذر حتی یرجع إلیهم أصحابهم)

(1).

و مثل صحیحة عبد الأعلی قال: سألت أبا عبد اللَّه علیه السلام عن قول العامّة: إنّ


1- الکافی 1: 309/ 1.

ص: 188

رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم قال: (من مات و لیس له إمام مات میتةً جاهلیّة).

فقال: (الحقّ و اللَّه).

قلت: فإنّ إماماً هلک و رجل بخراسان لا یعلم من وصیّه لم یسعه ذلک؟

قال: (لا یسعه؛ إنّ الإمام إذا هلک وقعت حجّة وصیّه علی من هو معه فی البلد، و حقّ النَّفْر علی من لیس بحضرته إذا بلغهم إنّ اللَّه عزّ و جلّ یقول: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ»

الآیة)(1) ... إلی غیر ذلک من الأخبار.

و حینئذٍ ففی دلالة الآیة علی حجّیّة خبر الواحد وجوه من الإشکالات.

و ممّا ذکرنا یظهر ما فی کلام المیرزا النائینی قدس سره فإنّ ما ذکره فی الأمر الأوّل من القاعدة الکلّیّة- من أنّ ما بعد «لعلّ» غایة لما قبلها، فتجب حیث یجب- غیرُ مسلّم فی جمیع الموارد:

منها: «فَلَعَلَّکَ باخِعٌ نَفْسَکَ عَلی آثارِهِمْ إِنْ لَمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفاً»(2)، و کذلک ما ذکره من إطلاق الآیة الشامل لجمیع أقسام الخبر، و تأیید ذلک بأنّ الجمع فی «لیتفقّهوا» و «لینذروا» استغراقیّ، فإنّ الاستغراق إنّما هو فی الأفراد، و الإطلاق فی الحالات، و أحدهما غیر مربوط بالآخر، فالإطلاق فی الآیة ممنوع، و قد عرفت أنّه لیس فی الآیة ما یدلّ علی وجوب القبول بمجرّد إخبار العدل الواحد بحکم من الأحکام الشرعیّة، و لیس فیها إلّا احتمال ترتُّب الحذر علی إنذارهم تکویناً، و هو کافٍ فی عدم لزوم لَغْویّة الإنذار مع عدم حجّیّة خبر الواحد أیضاً.

و أمّا ما قیل: من أنّ المقدّمة تابعة لذی المقدّمة فی السعة و الضیق و الوجوب


1- الکافی 1: 309/ 2.
2- الکهف( 18): 6.

ص: 189

و الاستحباب(1)، فهو واضح الفساد.

ثمّ إنّه لا ینبغی التعرّض لسائر الآیات التی استدلّوا بها فی المقام، مثل آیة الکتمان(2) و نحوها؛ لوضوح عدم دلالتها علی المطلق، فهی بالإعراض عنها أحری.

الدلیل الثانی: الأخبار

و أمّا الکلام فی الأخبار التی استدلّوا بها علی حجّیّة خبر الواحد:

فقد تقدّم أنّها علی طوائف: منها الواردة فی علاج تعارض الأخبار، و منها ما ورد فی مقام توثیق بعض الرواة الآمرة بأخذ الأحکام من بعضهم مثل قوله علیه السلام:

(العَمْری و ابنه ثقتان فما أدّیا إلیک عنّی فعنّی یؤدّیان)

(3) و غیر ذلک.

و لا یخفی أنّه لا دلالة لها علی حجّیّة خبر الواحد بمعنی إنشاء حجّیّته، نعم یُستفاد منها أنّ حجّیّة خبر الثقة کان مفروغاً عنها، کروایات علاج التعارض، فإنّ المفروض فیها أنّ الکبری الکلّیّة- و هی حجّیّة خبر الثقة- مسلّمة و مفروغ عنها، و کذا، ورد منها فی سائر أبواب الفقه فإنّه یظهر منه مفروغیّة تلک الکبری الکلّیّة، مثل خبر عروة البارقی؛ حیث أخبر بما فعله، و صدّقه النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم و قال صلی الله علیه و آله و سلم:

(بارک اللَّه لک فی صفقة یمینک)

(4). لکن قد تقدّم: أنّ الاستدلال بها متوقّف علی ثبوت تواترها، و لیست متواترة لفظاً و لا معنیً، لکن هنا کلام ذکره صاحب الکفایة،


1- انظر کفایة الاصول: 125، 142.
2- البقرة( 2): 159.
3- الکافی 1: 265/ 1، وسائل الشیعة 18: 99، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 4.
4- عوالی اللآلی 3: 205/ 36، مستدرک الوسائل 13: 245، کتاب التجارة، أبواب عقد البیع و شروطه، الباب 18، الحدیث 1.

ص: 190

و تبعه شیخنا الحائری 0: و هو أنّها و إن لم تکن متواترة لفظاً و لا معنیً، و لکنّها متواترة إجمالًا؛ و للعلم بصدور بعضها منهم علیهم السلام و مقتضاه حجّیّة ما هو أخصّ مضموناً من الجمیع، کالخبر الذی جمیع وسائطه مزکًّی بعدلین و کان عالی السند، و إذا دلّ من بین الأخبار ما هو کذلک علی حجّیّة خبر مطلق الثقة، أ یثبت به حجّیّة مطلق خبر الثقة(1).

و فیه أوّلًا: أنّا لا نُسلّم وجود خبر من هذه الأخبار ما هو کذلک؛ أی خبر عالی السند؛ و جمیع وسائطه مزکًّی بعدلین، و قد دلّ علی حجّیّة خبر مطلق الثقة.

و ثانیاً: لا نُسلّم التواتر الإجمالی المذکور رأساً؛ و ذلک لما عرفت: من أنّه یشترط فی التواتر مطلقاً بلوغ کل مرتبة من مراتب الروایة فی سلسلة سندها حدّاً یمتنع عادة تواطؤهم علی الکذب، و علی فرض کون مَن قَبل المشایخ الثلاثة إلی الإمام علیه السلام کذلک، ففی مرتبتهم لیس کذلک، فإنّ مجرّد نقل الکلینی- مثلًا- تواتر خبر أو الشیخ رحمه الله أو الصدوق قدس سره أو جمیعهم، لا یعدّ تواتراً بل هو نقل له بخبر الواحد و هو لا یفید العلم لاحتمال الخطاء و الاشتباه فی مرتبتهم؛ لعدم بلوغه حدّ التواتر فیها.

فانقدح بذلک: أنّه قلّما یوجد خبر فی جمیع أبواب الفقه یجتمع فیه شرائط التواتر، و حینئذٍ فالاستدلال بالأخبار لحجّیّة الأخبار غیر مستقیم.

الدلیل الثالث: الإجماع

و أمّا الاستدلال بالإجماع القولی(2) فهو موهون فی المقام جدّاً مع نقل


1- کفایة الاصول: 347، و درر الفوائد: 392.
2- عُدّة الاصول: 51 سطر 11.

ص: 191

السیّد قدس سره الإجماع علی عدم الحجّیّة(1)، مضافاً إلی وضوح استناد القائلین بالحجیّة إلی مثل آیة النبأ و نحوها، و یتلوه فی الضعف الاستناد فی المقام إلی سیرة المتشرّعة بما هم متشرّعة.

الدلیل الرابع: بناء العقلاء

فالعمدة فی حجّیّة أخبار الآحاد هو بناء العقلاء فی جمیع الأعصار و الأمصار علی العمل بخبر الثقة فی جمیع امورهم، و هو ممّا لا ریب فیه و لا إشکال، و أنّ عملهم هذا مستقرّ علی ذلک بما هم عقلاء، لا بما هم متشرّعة و مسلمون، بل هو کذلک قبل الإسلام، و کان هذا بمرأی و منظر من الشارع المقدّس و الأئمّة علیهم السلام و لم یردعوا عنه، کما سیجی ء، بل شارکوهم فی هذا البناء و العمل، و لا ریب فی أنّ بناءهم إنّما هو علی العمل بخبر مطلق الثقة.

و علی فرض ارتیاب أحد من عملهم علی ذلک بهذه السعة؛ بتوهّم أنّ بناء العقلاء دلیل لبّیّ لا بدّ من الأخذ بالقدر المتیقّن منه، نقول: یمکن علی هذا الفرض- أیضاً- إثبات حجّیّة خبر مطلق الثقة، نظیر ما تقدّم من المحقّق الخراسانی؛ و ذلک لأنّه لا ریب فی أنّ القدر المتیقّن من بنائهم هو العمل بالخبر الذی جمیع وسائطه متّفق علیه فی الوثاقة بین العلماء؛ بحیث لم یکن لأحد من العلماء غمز و طعن فی واحد من وسائطه، فإذا کان فی الأخبار ما هو کذلک، و قد دلّ علی حجّیّة خبر مطلق الثقة، یثبت المطلوب، و فی الأخبار یوجد ما هو کذلک، مثل ما رواه محمّد بن یعقوب عن محمّد بن عبد اللَّه الحمیری و محمّد بن یحیی العطّار القمی جمیعاً عن عبد اللَّه بن جعفر الحمیری إلی العبّاس القمی عن أحمد بن إسحاق عن أبی الحسن


1- رسائل الشریف المرتضی 3: 309.

ص: 192

الثالث قال: سألته و قلت: من اعامل، و عمّن آخذ، و قول من أقبل؟ فقال له:

(العمری ثقتی، فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی، فاسمع له و أطع، فإنّه الثقة المأمون)

(1)، فإنّ الرواة الواقعین فی سلسلة سند هذه الروایة ممّا اتّفق علی توثیقهم العلماء، و لا غمزَ لأحدٍ فیهم، و لا ریب أنّ القدر المتیقّن من بناء العقلاء هو العمل بمثل هذا الخبر، الدالّ علی أنّ حجّیّة خبر مطلق الثقة مفروغ عنه من حیث التعلیل بقوله علیه السلام:

(فإنّه الثقة المأمون)

، فلا یرد علیه: أنّ هذا الخبر یدلّ علی حجّیة خبر خاصّ، و هو الثقة عند الإمام علیه السلام بقوله علیه السلام:

(العمری ثقتی)

(2)؛ و ذلک لأنّ التعلیل المذکور فیها یدلّ علی مفروغیّة حجّیّة خبر مطلق الثقة، فهو نظیر: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مُسکر».

فإن قلت: فلِمَ أنکرتم علی المحقّق الخراسانی فی دعواه التواتر الإجمالی و وجودَ خبرٍ هو أخصّ الأخبار المذکورة، المعلوم إجمالًا صدور بعضها؛ بناء علی تسلیم التواتر الإجمالی، فإنّ الروایة المذکورة کذلک، و قد دلّت علی حجّیّة خبر مطلق الثقة؟

قلت: و ذلک لأجل أنّه علی فرض ثبوت التواتر الإجمالی بین هذه الأخبار لا بدّ أن یؤخذ بناء علی ما ذکر بأخصّها مضموناً، و أخصّها کذلک بین الأخبار هو مثل الروایة التی سأل الراوی فیها من الإمام علیه السلام: عمّن آخذ معالم دینی؟ فقال مشیراً إلی زرارة:

(فعلیک بهذا الجالس)

(3)، فإنّ غایة ما یدلّ هذه الروایة هو اعتبار


1- الکافی 1: 265/ 1، وسائل الشیعة 18: 100، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 4.
2- و فی الاستدلال بهذه الروایة نظر، فإنّه علیه السلام علّل بقوله: \iُ( فإنّه ثقتی)\E بإضافة الثقة إلی نفسه الشریفة، لا أنّه ثقة، فإنّ الثانی نظیر« لأنّه مسکر». المقرّر حفظه اللَّه.
3- اختیار معرفة الرجال 1: 347/ 216، وسائل الشیعة 18: 104، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 19.

ص: 193

مثل روایة زرارة من الفقهاء بلا واسطة، و لا تدلّ علی اعتبار خبر مطلق الثقة و لو لم یکن فقیهاً، أو مع الوسائط الکثیرة، و لا یدلّ علی حجّیّة مطلق خبر الثقة.

و هذا بخلاف ما إذا أخذنا بالقدر المتیقّن من بناء العقلاء، فإنّه لا ریب فی أنّ القدر المتیقّن هو بناؤهم علی العمل بما تقدّم من الروایة، و هی موجودة بین الأخبار، دالّة علی حجّیّة خبر مطلق الثقة.

ثمّ إنّ المراد من بناء العقلاء: هو بناؤهم علی العمل بخبر الواحد فی مقام الاحتجاج و المخاصمة بین الموالی و العبید، فإنّه لا شبهة فی احتجاج المولی علی العبد و بالعکس بخبر الواحد، و لا یسمع الاعتذار بعدم حصول الظنّ له منه أو وجود الظنّ بالخلاف.

فلا یرد فی المقام: أنّا لا نُسلّم بناء العقلاء علی العمل بخبر الواحد مطلقاً، و أنّ عملهم علی العمل بخبر الثقة إنّما هو فی موارد شخصیّة و امور جزئیّة خاصّة بهم، لا فی مقام الاحتجاج.

فإنّک عرفت أنّه لا ریب فی احتجاجهم به و استنادهم إلیه فی مقام الاحتجاج أیضاً.

فلا بدّ من صرف عنان الکلام فی أنّه هل یوجد من الآیات و الروایات ما یصلح للرادعیّة عن هذا البناء العقلائی أو لا؟ فنقول:

إنّ ما یمکن أن یقال: إنّه صالح لذلک، هی الآیات الناهیة عن العمل بالظنّ(1) و بما وراء العلم(2).


1- النجم( 53): 28، و هی قوله تعالی\i« وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»\E.
2- الإسراء( 17): 36، و هی قوله تعالی\i« وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»\E.

ص: 194

و لکن لا یخفی أنّها لا تصلح لذلک، لا لما أفاده المحقّق الخراسانی(1) و غیره(2): من اختصاصها باصول العقائد؛ لأنّه بالنسبة إلی قوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»* صحیح بقرینة سیاقها من الآیات التی قبلها، لکنّه لا یصحّ بالنسبة إلی قوله تعالی: «وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»؛ لما تقدّم من أنّها لو لم تختصّ بالفروع لم تختصّ بالأُصول، بل تعمّهما، بل لأجل أنّه لا یمکن أن یرید من الظنّ فیها أی فی الآیات الظنّ الاصطلاحی، و کذلک عدم العلم؛ لأنّه لو ارید ذلک یلزم من التمسُّکُ بها عدمُ التمسّک بها؛ حیث إنّها و إن کانت قطعیّة السند، لکنّها ظنّیّة الدلالة، و لیست نصّاً فی ذلک.

لا یقال: نعم، و لکن استقرّت سیرة العقلاء علی العمل بالظواهر.

لأنّا نقول: استقرّت طریقة العقلاء علی العمل بخبر الواحد أیضاً، فلا یمکن أن یُراد بالظنّ فیها الظنُّ الاصطلاحی، و کذلک العلم، فلا بدّ أن یُراد النهی عن اتّباع غیر الحجّة، و حینئذٍ فخبر الواحد خارج عن تحت هذا العموم بالورود، کما تقدّم سابقاً، و لا یتبادر منها هذا الظنون فی أذهان المسلمین- أیضاً- و لذا لم یختلّ بنزول هذه الآیات أسواقُهم و نظامهم، مع استقرار بنائهم فیها علی العمل بخبر الواحد و نظائره من الأمارات الظنّیّة، مثل الید و أصالة الصحّة فی فعل الغیر، و لم یسأل النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم أحدٌ بعد نزول هذه الآیات عن تکلیفهم و وظائفهم بالنسبة إلی العمل بمثل هذه الظنون، و لیس ذلک کلّه إلّا لأجل عدم انسباق مثل هذه الظنون من الآیات إلی أذهانهم.

ثمّ إنّه ذکر المحقّق الخراسانی قدس سره هنا إشکالًا فی رادعیّة الآیات: بأنّ رادعیّتها


1- کفایة الاصول: 348.
2- فوائد الاصول 3: 160، نهایة الأفکار 3: 103.

ص: 195

دوریّة؛ لأنّها متوقّفة علی عدم مخصّصیّة السیرة لها، و عدمها موقوف علی ردعها عنها، و إلّا لخُصِّصت الآیات بها، أو تقیّد إطلاقُها بها.

ثمّ استشکل بلزوم الدور فی العکس أیضاً، و أجاب عنه بما ذکره فی «الکفایة»، فراجع(1).

و ذکر فی الحاشیة: أنّه علی فرض عدم إمکان إثبات الرادعیّة و لا عدم الرادعیّة؛ للزوم الدور فی کلا الطرفین، أمکن التمسُّک باستصحاب السیرة العقلائیّة بین المسلمین فی أوّل زمان البعثة إلی زمان نزول الآیات الناهیة، فإنّها لم تنزل فی عام البعثة، بل بعد مُضِیّ سنوات من زمان البعثة، و لا ریب فی أنّ بناء المسلمین علی العمل بأخبار الآحاد من زمان البعثة إلی زمان نزول الآیات، و لم یردع عنه الشارع، فیستصحب ذلک بعد نزول الآیات المذکورة(2). انتهی.

أقول: یرد علیه:

أوّلًا: أنّ ذلک یحتاج إلی إثبات عمل المسلمین علی أخبار الآحاد فیما بین زمان البعثة و بین نزول الآیات؛ کی یقال: إنّ عدم ردع الشارع عنه إمضاءٌ لطریقتهم، لکن أنّی له قدس سره بإثباته، فإنّهم- حینئذٍ- لم یفتقروا إلی العمل بأخبار الآحاد فی أحکامهم الشرعیّة مع حضور النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم و قلّة عدد المسلمین، و لأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم کان یبیّن لهم الأحکام الشرعیّة بنفسه الشریفة، نعم بعد انتشار الإسلام و مُضیّ سنوات من البعثة و کثرة عدد المسلمین، ربّما کانوا یحتاجون إلی العمل بأخبار الآحاد فی الأحکام الشرعیّة؛ لأجل عدم إمکان سؤال جمیعهم منه صلی الله علیه و آله و سلم.

و بالجملة: الاستصحاب المذکور یتوقّف علی إثبات استقرار بناء المسلمین


1- کفایة الاصول: 348- 349.
2- کفایة الاصول: 349 الهامش 1.

ص: 196

قبل نزول الآیات علی العمل بخبر الواحد فی الأحکام الشرعیّة و إمضاء النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم ذلک، و لیس بثابت، بل یمکن دعوی ثبوت خلافه.

و ثانیاً: إن أراد بالاستصحاب المذکور الاستصحاب العقلائی فهو قدس سره ینکره، و نحن- أیضاً- ننکره.

و إن أراد به الاستصحاب الشرعی فلیس الدلیل علیه إلّا خبراً أو خبرین لزرارة(1)، و لا دلالة لسائر الأخبار المذکورة فی باب الاستصحاب علیه، و المفروض أنّا فی مقام إثبات حجّیّة خبر الواحد، فلا یصحّ التمسُّک لذلک بالاستصحاب الثابت حجّیّته بخبر الواحد، و لا ینبغی التعرض بعد إثبات حجّیّة خبر الثقة لمبحث الانسداد و لا لمقدّماته، فإنّ باب العلم و إن کان منسدّاً، لکن باب العلمیّ لیس منسدّاً- أی خبر الثقة- فإنّ جُلّ الأحکام مستفاد من أخبار الآحاد عن الأئمة الأطهار صلوات اللَّه علیهم أجمعین، و لعنة اللَّه علی أعدائهم أجمعین، و الحمد للَّه ربّ العالمین.


1- تهذیب الأحکام 1: 8/ 11 و 421/ 1335، وسائل الشیعة 1: 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1، و 2: 1061، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 41، الحدیث 1.

ص: 197

الباب الثالث فی البراءة و الاشتغال

اشارة

ص: 198

ص: 199

الفصل الأوّل ترتیب مباحث الاصول

اختلف القوم فی بیان مجاری الاصول العملیّة و تقسیمها(1)، و التحقیق فیه أن یقال: إنّ المکلّف إذا التفت إلی الحکم الشرعی الواقعی فإمّا أن یحصل له القطع به تفصیلًا، أو إجمالًا کأن یقطع بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر مثلًا.

و إمّا أن یحصل له القطع بقیام الأمارة علی الحکم الواقعی: إمّا تفصیلًا کالقطع بقیام الأمارة علی وجوب صلاة الجمعة، أو إجمالًا کما لو قطع بقیام الأمارة إمّا علی وجوب صلاة الظهر أو صلاة الجمعة.

و إمّا أن لا یحصل له القطع؛ لا بالحکم الواقعی، و لا بالأمارة علیه؛ لا إجمالًا، و لا تفصیلًا. و حینئذٍ فإمّا أن تقوم هناک حجّة علی الواقع، کما لو فرض لشکّه حالة سابقة ملحوظة، و إمّا أن لا تقوم هناک حجّة علی الواقع، کما فیما لیس لشکّه حالة سابقة ملحوظة، فالأوّل مجری الاستصحاب، و هو حجّة علی الواقع، و الثانی مجری البراءة.


1- فرائد الاصول: 2 سطر 6، کفایة الاصول: 296، فوائد الاصول 3: 4- 5.

ص: 200

و انقدح بذلک: أنّ بعض مباحث الاشتغال داخل فی مباحث القطع، و هو العلم الإجمالی بالحکم الواقعی من غیر فرق بین الشبهة المحصورة و الغیر المحصورة، و لا وجه للبحث عنه فی باب آخر، و لا معنی لاحتمال الرُّخصة فیه فی بعض الأطراف، فإنّ الاحتمال المذکور ممّا لا یمکن اجتماعه مع العلم الإجمالی بالحکم الواقعی الفعلی کما لا یخفی.

کما أنّ بعض مباحث الاشتغال داخل فی مبحث الظنّ و الأمارات، مثل ما إذا تعلّق العلم الإجمالی بقیام أمارة معتبرة علی الحکم الواقعی، فلا وجه لجعل باب الاشتغال باباً علی حِدَة.

و أمّا البحث فی دوران الأمر بین المحذورین فلا ینبغی أن یُجعل له بابٌ مستقلّ علی الانفراد، و سیأتی الکلام فیه فی ضمن المباحث الآتیة.

و أمّا مبحث التعادل و الترجیح فهو من متعلّقات مبحث الأمارات.

فتلخّص: أنّ أبواب المباحث فی الکتاب أربعة:

الاوّل: باب القطع.

الثانی: باب الأمارات و الظنّ.

الثالث: باب البراءة.

الرابع: باب الاستصحاب.

و لا بدّ من مراعاة هذا الترتیب بحسب العمل- أیضاً- فإنّ القطع متی حصل لا بدّ من العمل علی وفقه، و لا تصل النوبة معه إلی العمل بالأمارات، و الأمارات مقدَّمة بحسب العمل علی الاستصحاب، ثمّ البراءة، فمباحثها متأخّرة عن الجمیع، و ذلک فی القطع واضح؛ لانتفاء موضوع الأمارات و الاصول معه، و إنّما الکلام فی غیره من المراتب، و هی تقدُّم العمل بالأمارات علی الاستصحاب، و الاستصحاب علی البراءة.

ص: 201

الفصل الثانی وجه تقدیم الأمارات علی الاصول

و یختلف ذلک باختلاف الأدلّة الدالّة علی حجّیّة خبر الواحد و سائر الأمارات من بناء العقلاء أو الأدلّة الشرعیّة، و کذلک فی أنّ وجه حجّیّة الاستصحاب هو بناء العقلاء أو الأخبار الدالّة علیه، و کذلک البراءة، فإنّه یختلف الحال فی البراءة العقلیّة و الشرعیّة، فلا بدّ من ملاحظة کلٍّ منهما مع الآخر فی کلّ واحد من الفروض المذکورة:

فنقول: أمّا الکلام فی تقدیم الأمارات علی الاستصحاب فهو إنّ القول: بأنّ الدلیل علی حجّیّة الاستصحاب هو بناء العقلاء علیه، ضعیفٌ جدّاً، فلا نتعرّض للبحث فی هذا الفرض، فلا بدّ من البحث عن ذلک بناء علی أنّ الوجه فی حجّیّة الاستصحاب هو الأخبار الدالّة علیها کقوله علیه السلام:

(لا ینقض الیقین أبداً بالشکّ)

(1)، و فی هذه العبارة احتمالات:


1- تهذیب الأحکام 1: 8/ 11، وسائل الشیعة 1: 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.

ص: 202

أحدها: أنّ المراد بالیقین هو الیقین الوجدانی الجازم، و المراد بالشکّ هو المتساوی الطّرفین.

و ثانیها: أنّ المراد بالشکّ الأعمّ من المتساوی الطرفین و غیر المتساوی کما هو الظاهر، فإنّ الشکّ عبارة عن عدم العلم.

و أمّا الظنّ و الوهم فهما اصطلاحان علمیّان، و یؤیّده جعل الشکّ فی الروایة فی قبال الیقین، و قوله علیه السلام:

(و لکن تنقضه بیقین آخر)

، و المراد بالیقین الیقین الوجدانی الجازم.

و ثالثها: أن یراد من الیقین الحجّة، و من الشکّ اللّاحجّة، فالمعنی: لا تنقض الحجّة باللّاحجّة.

أمّا الاحتمال الأوّل: فهو ضعیف جدّاً؛ لما عرفت من أنّ الشکّ عبارة عن عدم العلم الشامل للظنّ و الوهم، فإنّهما اصطلاحان علمیّان حادثان، فیبقی الاحتمالان الآخران:

أمّا علی الاحتمال الثانی: ففی تقدیم الأمارات علی الاستصحاب إشکال؛ حیث إنّ اعتبار الأمارات: إمّا لأجل بناء العقلاء علی العمل بها- کالعمل بالظواهر و خبر الثقة- مع إمضاء الشارع له، علی ما هو الحقّ و التحقیق، و إمّا لدلالة الأخبار علی اعتبارها.

و علی أیّ تقدیر فهی إنّما تقدّم علی الاستصحاب إذا کان لسان دلیل اعتبارها جعلُها علماً فی عالم التشریع، فإنّها- حینئذٍ- حاکمة علی الاستصحاب، و یصیر نقضُ الیقین بها نقضاً بالیقین تعبُّداً.

لکن لسان دلیلها لیس کذلک، فإنّه لیس بناء العقلاء علی العمل بها من باب أنّها علم کما عرفت سابقاً، و کذلک بناء علی أنّ الدلیل علی حجّیّتها الأخبار.

ص: 203

نعم، لو قلنا بدلالة مفهوم آیة النبأ(1) علی حجّیّتها، و أنّ مفهومها: أنّه لا یجب التبیُّن فی خبر العادل؛ لأنّه مبیَّن فی نفسه، فذلک توسعة فی الیقین المأخوذ فی أخبار الاستصحاب، و لکنّه تقدیر علی تقدیر.

و الحقّ: أنّ تقدیم الأمارات علی الاستصحاب فی غایة الإشکال بناءً علی هذا الوجه؛ لما عرفت من أنّ تقدیمها و حکومتها علی الاستصحاب مبنیٌّ علی دلالة دلیلها علی أنّها علم تعبّداً و فی عالم التشریع، و لیس کذلک.

و أمّا بناءً علی الاحتمال الثالث: فتقدُّم الأمارات علی الاستصحاب واضح، و هذا الاحتمال هو المتعیِّن، و یؤیّده امور:

منها: الأخبار الصحاح الثلاثة لزرارة، و فی أحدها قوله:

(و إلّا فإنّه علی یقین من وضوئه، و لا ینقض الیقین أبداً بالشکّ)

(2)؛ إذ لیس المرادُ من الیقین بالوضوء الیقینَ الجازم الوجدانی، فإنّه فی غایة النُّدرة، فإنّ الغالب احتمال وقوع خلل فی الوضوء بعده، فالحکم بصحّته و أنّه علی وضوء إنّما هو لأجل قاعدة الفراغ.

و فی صحیحته الاخری:

(و إذا لم یدرِ فی ثلاث هو أو فی أربع، و قد أحرز الثلاث، قام فأضاف إلیها اخری، و لا شی ء علیه، و لا ینقض الیقینَ بالشکّ، و لا یُدخِل الشکّ فی الیقین، و لا یخلط أحدَهما بالآخر ...)

(3) إلخ، فإنّ المراد بالیقین: إمّا الیقین بالإتیان بالثلاث، أو الیقین بعدم الإتیان بالرکعة الرابعة قبل ذلک، و علی أیّ تقدیر فالمراد به الأعمّ من الیقین الوجدانی و غیره.

و فی صحیحته الثالثة:

قلت له: أصاب ثوبی دمُ رُعاف أو شی ء من منیّ ...


1- الحجرات( 49): 6.
2- تهذیب الأحکام 1: 8/ 11، وسائل الشیعة 1: 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.
3- الکافی 3: 351/ 3، وسائل الشیعة 5: 321، کتاب الطهارة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 10، الحدیث 3.

ص: 204

إلی أن قال:

قلت: فإن ظننتُ أنّه قد أصابه و لم أتیقّن ذلک، فنظرت فلم أرَ شیئاً، ثمّ صلّیت، فرأیت فیه؟

قال: (تغسله و لا تعید الصلاة).

قلت: لِمَ ذاک؟

قال: (لأنّک کنت علی یقین من طهارتک، ثم شککت، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبداً)

(1)، فإنّه لیس المراد من الطهارة الطهارة الظاهریّة؛ لعدم افتقارها إلی الاستصحاب، فإنّه مع الشکّ فی الطهارة یحکم بها بنفس قاعدة الطهارة، بل المراد هی الطهارة الواقعیّة، و لیس المراد من الطهارة الواقعیّة هو الیقین الوجدانی بها، بل المراد هو الأعمّ منه و ممّا ثبت بالأمارات لقلّة الیقین الحقیقی الوجدانی بالطهارة، کما لا یخفی.

و یشهد لما ذکرنا أیضاً:

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن إسماعیل بن مرّار، عن یونس عن معاویة بن وهب، قلت لأبی عبد اللَّه علیه السلام:

الرجل یکون فی داره، ثمّ یغیب عنها ثلاثین سنة، و یدع فیها عیاله، ثمّ یأتینا هلاکه، و نحن لا ندری ما أحدث فی داره، و لا ندری ما أحدث له من الولد إلّا أنّا لا نعلم أنّه أحدث فی داره شیئاً و لا حدث له ولد، و لا تُقسّم هذه الدار علی ورثته الذین ترک فی الدار حتی یشهد شاهدا عدلٍ: أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات و ترکها میراثاً بین فلان و فلان، أَ وَ نشهد علی هذا؟ قال: (نعم)

(2) الحدیث.


1- تهذیب الأحکام 1: 421/ 1335، وسائل الشیعة 2: 1061، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 41، الحدیث 1.
2- الکافی 7: 387/ 4، وسائل الشیعة 18: 246، کتاب الشهادات، أبواب الشهادات، الباب 17، الحدیث 2.

ص: 205

حیث دلّ علی جواز الشهادة باستصحاب کون المال له، و لا ریب فی أنّه لم یکن متیقّناً بأنّ المال له، و لا ببقائه علی ملکه، بل الحکم فی الابتداء- أیضاً- بأنّه ماله، إنّما هو لأجل قاعدة الید و نحوها، لا بالقطع الحقیقی.

و یؤیّد ما ذکرنا- أیضاً- الاعتبار العرفی، فإنّ المراد بالیقین عند العرف و العقلاء هو الأعمّ من العلم الوجدانی و ما ثبت بالأمارات.

و منه یظهر: اندفاع الإشکال فی جریان استصحاب ما ثبت سابقاً بالأمارات المعتبرة من الأحکام و الموضوعات، مع أنّ المأخوذ فی روایات الاستصحاب هو الیقین السابق؛ لقوله علیه السلام:

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

، فإنّهم اختلفوا فی هذا المقام، فاختار کلٌّ مهرباً من الإشکال، و لعلّ الشیخ الأعظم قدس سره فی فُسحة من هذا الإشکال؛ حیث ذهب إلی أنّ المراد بالیقین هو المتیقَّن(1)، و کذلک المحقّق الخراسانی قدس سره حیث ذهب إلی أنّ مفاد الأخبار جعل الملازمة بین القضیّة المتیقّنة و المشکوکة(2).

و تخلّص بعض آخر- المیرزا النائینی قدس سره-: بأنّ الأمارات علم عند العقلاء فی عالم التشریع، فیشمله الیقین فی

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

(3).

و هذا الإشکال لو کان متوجّهاً اختلّ باب الاستصحاب فی الفقه، و لکنّه مندفع بما ذکرناه و استظهرناه من أخبار الاستصحاب: من أنّ المراد من الیقین هو الحجّة و من الشکّ عدمها، فالمعنی لا تنقض الحجّة باللّاحجّة.

و حینئذٍ فلو قام خبر الواحد أو غیره من الأمارات المعتبرة علی خلاف الحالة السابقة و نُقض الیقینُ بها، فلیس هو نقض الیقین بالشکّ، بل هو نقض للیقین بالیقین بالمعنی المذکور، و حینئذٍ فأدلّة الأمارات واردة علی الاستصحاب.


1- فرائد الاصول: 336 سطر 16.
2- کفایة الاصول: 460- 461.
3- فوائد الاصول 4: 409.

ص: 206

و أمّا تقدّم الأمارات علی البراءة العقلیّة فهو- أیضاً- بنحو الورود بل التخصّص؛ حیث إنّ الأمارات- عقلائیّةً أو شرعیةً- بیان ینتفی بها موضوع حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان.

و أمّا البراءة الشرعیّة المستندة إلی مثل حدیث الرفع(1)، فقد تقدّم أنّه لیس المراد من العلم فی

(ما لا یعلمون)

و نحوه العلم الوجدانی، بل المراد منه و نحوه من الإطلاقات الشرعیّة هو الحجّة الأعمّ من العلم الوجدانی و الأمارات، کما لا یخفی علی المتتبِّع.

و حینئذٍ فمعنی حدیث الرفع: أنّه رُفع ما لم یقم الحجّة و الأمارات علی ثبوته من التکالیف، فالأمارات حینئذٍ حاکمة علی البراءة الشرعیّة أیضاً.

و أمّا تقدُّم الاستصحاب علی البراءة النقلیّة، فلما عرفت من أنّ المراد من العلم فی

(ما لا یعلمون)

و نحوه هو الحجّة، و الاستصحاب حجّة.

و أمّا تقدُّم الاستصحاب علی البراءة العقلیّة، فلأنّ الاستصحاب بیان ینتفی به موضوع حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، و تفصیل الکلام فی هذا المقام موکول إلی محلّه و هو باب الاستصحاب.

ثمّ لیعلم أنّ المقصود هنا البحث عن الشبهة الحکمیّة؛ أی فیما اشتبه حکمه الکلّی الذی هو بحث اصولیّ، و أمّا البحث عن الشبهة الموضوعیّة فهو خارج عن هذا المبحث، فإنّ البحث فیها فقهیّ لا اصولیّ.

ثمّ إنّ الشیخ الأعظم قدس سره فصّل الکلام فی کلّ واحدة من الشبهة التحریمیّة و الوجوبیّة و الموضوعیّة، و کلّ واحدة منها: إمّا لفقدان النصّ أو إجماله أو تعارض


1- الخصال: 417/ 9، التوحید: 353/ 24، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

ص: 207

النصّین ... إلی غیر ذلک من الأقسام(1).

و لکن الأولی ما صنعه المحقّق الخراسانی فی «الکفایة»(2) من البحث عنها جملةً واحدة؛ لوحدة المناط فی جمیع أقسامها، و إن کان لکلّ واحد من الأقسام خصوصیّة تختصّ به، لکن لا ینبغی انفراد البحث فی کلّ واحد منها علی حدة، غایة الأمر أنّ البحث مع الأخباریّین إنّما هو فی الشبهة التحریمیّة فقط.


1- فرائد الاصول: 192- 193.
2- کفایة الاصول: 385.

ص: 208

الفصل الثالث

أدلّة القول بالبراءة فی الشبهات الحکمیة
اشارة

فنقول: استدلّ الاصولیّون للبراءة- فیما لو شکّ فی حکم کلّیّ تکلیفیّ- بآیات:

الدلیل الأوّل: الآیات
اشارة

منها: قوله تعالی: «وَ ما کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولًا»(1)، لا إشکال فی دلالة الآیة علی البراءة بأبلغ وجه؛ و ذلک لأنّ الظاهر أنّ الآیة راجعة إلی یوم القیامة، و أنّ المراد بالعذاب فیها هو العذاب الاخروی؛ لورودها فی سیاق الآیات المربوطة بیوم القیامة، و هی قوله تعالی: «وَ کُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِی عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ کِتاباً یَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ کِتابَکَ کَفی بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسِیباً* مَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری


1- الإسراء( 17): 15.

ص: 209

* وَ ما کُنَّا مُعَذِّبِینَ ...»(1) الآیة، فمعنی الآیة: أنّه لیس من عدلنا و شأننا و دأبنا أن نُعذِّب أحداً یوم القیامة، إلّا بعد إتمام الحجّة علیه بإرسال الرسل و بیان الأحکام، فلیس للرسول موضوعیّة للعذاب إلّا من جهة الرسالة و بیان الأحکام و إتمام الحجّة، فهو کنایة عن البیان، فتدلّ علی أنّه تعالی لا یعذِّب أحداً إلّا بعد البیان یبعث الرُّسل و إتمام الحجّة، و کذلک بعد بعث الرسل و البیان و لکن لم یصل بعدُ إلی المکلّف؛ لأجل بعد المسافة بینهما بدون تقصیر من المکلّف، و کذلک لو کان عدم الوصول لأجل مرور الدهور و الأعوام، أو لأجل الموانع و الأسباب العادیّة لا عن تقصیر من المکلّف، بل لو فرض أنّه بذل جهده، و استفرغ وسعه، و تفحص عن الدلیل بمقدار طاقته، و لم یظفر بالدلیل، فإنّه یصدق علیه عدم البیان فیه أیضاً.

ثمّ علی فرض کون المراد من العذاب هو العذاب الدنیوی بالنسبة إلی الامم الماضیة یستفاد منها بنحو الأولویّة- أنّه تعالی إذا لم یعذِّب أحداً بالعذاب الدنیوی بدون البیان مع أنّه أخفّ من العذاب الاخروی- عدم تعذیبه تعالی بالعذاب الاخروی بدون البیان أیضاً.

فلا إشکال فی دلالة هذه الآیة علی البراءة لو شکّ فی التکلیف و لم یقم علیه دلیل و بیان، و لا فرق فی ذلک بین الشبهة الوجوبیّة و التحریمیّة، و لا بین صورة فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّین؛ لاشتراک الکلّ فی عدم وجود البیان الذی عُلّق علیه العذاب، و کذلک الشبهة الموضوعیّة، فإنّ الحکم الکلّی- مثل: حرمة شرب الخمر فی الشبهة الموضوعیّة- و إن کان معلوماً، لکن حیث إنّه ینحلّ عرفاً لا عقلًا إلی نواهٍ متعدِّدة بعدد موضوعاتها، فإذا شکّ فی مائع أنّه خمر أو خلّ فقد شکّ فی حکمه.

و ممّا ذکرناه من البیان فی معنی الآیة ظهر: اندفاع الإشکالات التی أوردوها


1- الإسراء( 17): 13- 15.

ص: 210

علی الاستدلال بها:

منها: ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره: من أنّ المراد بالعذاب فیها هو العذاب الدنیوی، و لا تعرّض فیها لحکم الشکّ فی التکلیف، فالآیة أجنبیّة عمّا نحن فیه(1)؛ و ذلک لما عرفت من أنّ المراد من العذاب فیها هو العذاب الاخروی بقرینة السیاق، و علی فرض إرادة العذاب الدنیوی یُستفاد منها المطلوب عرفاً بنحو الأولویّة، فالآیة متعرّضة لحکم الشکّ فی الحکم الکلّی.

و منها: ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره: من أنّ ظاهر الآیة الإخبار بوقوع التعذیب سابقاً بعد بعث الرسل، فتختصّ بالعذاب الدنیوی الواقع فی الامم السابقة(2).

و فیه: أنّه لا دلالة فی الإخبار لوقوع العذاب فی الامم السابقة علی ما ذکره من الاختصاص بذلک الماضی، فإنّ قوله تعالی قبل ذلک: «أَلْزَمْناهُ»- أیضاً- فعل ماضٍ، مع أنّه لا ریب فی أنّ المقصود وقوع ذلک یوم القیامة.

و منها: أنّ المنفیّ فی الآیة الشریفة هی فعلیّة التعذیب، و هو أعمّ من نفی الاستحقاق الذی هو المطلوب و الخلاف بین الاصولی و الأخباری(3).

و فیه: أنّ نفی فعلیّة التعذیب کافٍ فی إثبات مطلب الاصولی؛ من جواز ارتکاب الشبهة؛ لدلالة الآیة علی عدم ترتّب العذاب علیه.

و أمّا استحقاق العذاب و عدمه فهو بحث عقلیّ آخر غیر مربوط بما نحن فیه.

نعم، یرد علی الاستدلال بها ما أورده المحقّق العراقی: و هو أنّ غایة ما تدلّ الآیة الشریفة هو جواز ارتکاب الشبهة مع عدم البیان فیها من الشارع، فلو أقام الأخباری دلیلًا من الآیات و الأخبار علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات


1- فوائد الاصول 3: 333- 334.
2- فرائد الاصول: 193 سطر 24.
3- انظر الفصول الغرویة: 353 سطر 7.

ص: 211

التحریمیّة، فهو بیان و حاکم علی الآیة و مقدّم علیها(1)، و لکن سیجی ء الکلام فی ذلک، و أنّه لیس فی الآیات و الروایات ما یدلّ علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات، و أنّه لا ینحصر دلیل الاصولی فی هذه الآیة.

و من الآیات التی استدلّ بها للبراءة قوله تعالی: «لا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها»(2). و الکلام فیها یقع فی مقامین:

أحدهما: فی بیان الاحتمالات الممکنة المتصوّرة فی مقام الثبوت.

و ثانیهما: بیان ما هو الظاهر منها فی مقام الإثبات.

أمّا الأوّل: فیتصوّر فیها وجوه:

الأوّل: أنّ المراد من الموصول وصلته أی ما آتاها هو التکلیف الواصل إلی المکلّف بالنحو المتعارف، و أنّ المراد من «لا یُکلِّف اللَّه» هو التکلیف الاصطلاحی و حینئذٍ فإمّا أن یراد من کلا التکلیفین: الفعلی منهما، أو الإنشائی منهما، أو یراد من الأوّل الإنشائی، و من الثانی الفعلی، أو بالعکس، فالاحتمالات علی هذا الوجه أربعة، و کلّها ممتنعة إلّا الأخیر.

أمّا الاحتمال الأوّل: فلاستلزامه الدور؛ لأنّ مرجعه إلی أنّ تکلیف اللَّه الفعلی موقوف علی وصول التکلیف الفعلی إلی المکلّف، ففعلیّة التکلیف متوقِّفة علی فعلیّته.

و کذلک الاحتمال الثالث، فإنّ مفاده أنّ إنشاء اللَّه التکلیفَ متوقّف علی وصول التکلیف الفعلی، و لا ریب فی أنّ فعلیّته متوقّفة علی إنشائه.

و هکذا بناءً علی الاحتمال الثانی، فإنّ مرجعه إلی أنّ إنشاء اللَّه التکلیف متوقِّف علی وصول التکلیف الإنشائی، و هو- أیضاً- دور.


1- نهایة الأفکار 3: 206.
2- الطلاق( 65): 7.

ص: 212

و أمّا الاحتمال الرابع: فهو ممکن؛ لأنّ مفاد الآیة بناءً علیه: هو أنّ تکلیف اللَّه الفعلی متوقّف علی وصول التکالیف الإنشائیّة إلی المکلَّف، ففعلیّة التکلیف متوقّفة علی وصول التکلیف الإنشائی إلی المکلّف، و لا یتوقّف إنشاؤه علی فعلیّته لیلزم الدور، و لهذا قلنا: إنّ ما ذکره المصوِّبة- من أنّ أحکام اللَّه تعالی تابعة لآراء المجتهدین بهذا المعنی- غیر مستحیل، فإنّه لا استحالة فی صیرورة التکلیف فعلیّاً إذا أدّی نظر المجتهد إلی ما هو المُنشأ من التکلیف، و إنشاء اللَّه التکالیفَ إنّما هو لأجل أن یجتهد المستنبطون و یتفحّصوا عنها؛ لتصیر فعلیّةً بعد وصول آرائهم إلیها، و لیس ذلک دوراً.

نعم، الإجماع و ضرورة المذهب قائمان علی خلافه و بطلانه.

الثانی من الوجوه المحتملة فی الآیة الشریفة: أنّ المراد من قوله تعالی:

«لا یُکَلِّفُ اللَّهُ» معناه اللُّغوی؛ أی الکُلْفة و المشقّة، لا الاصطلاحی، و المراد من الموصول وصلته هو التکلیف الاصطلاحی الواصل إلی المکلّفین، و أنّه فی مقام بیان عدم وجوب الاحتیاط؛ لأنّه لو وجب الاحتیاط فی الشبهات البدویّة یصدق: أنّه تعالی أوقع عباده فی الکُلْفة و المشقّة من قِبَل التکالیف الأوّلیّة الغیر الواصلة إلیهم، مع أنّ معنی الآیة علی هذا الوجه: أنّه تعالی لا یوقع نفساً فی الکُلْفة و المشقّة إلّا من قِبَل التکالیف الأوّلیّة الواصلة إلی المکلّفین.

و لا یرد علیه ما أورده المحقّق العراقی: من أنّ إیجاب الاحتیاط تکلیف واصل إلی المکلّف بدلیله، فلا تدلّ الآیة علی نفیه(1).

و کذلک الإشکال(2): بأنّ الآیة لا تدلّ علی أنّه تعالی لا یُوقع الناس فی الکُلفة و المشقّة إلّا بعد إرسال الرسل و إنزال الکتب و بیانهم الأحکام، فلا تدلّ علی


1- انظر نهایة الأفکار 3: 204.
2- نفس المصدر.

ص: 213

عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهات البدویّة، و أنّ الآیة- حینئذٍ- من قبیل

(اسکتوا عمّا سکت اللَّه عنه)

(1).

فإنّ فیه ما لا یخفی، فإنّ مرجع مفاد الآیة علی ما ذکره هو أنّ اللَّه تعالی ساکت عمّا سکت عنه، و لا معنی له.

الثالث من الوجوه المحتملة فی معنی الآیة الشریفة: أنّ المراد من الموصول المالُ بقرینة السیاق، و أنّ الإیتاء بمعنی الإعطاء.

الرابع من الوجوه: أنّ المراد من الموصول الفعل، و من الصلة الإقدار، و المعنی لا یکلّف اللَّه نفساً فعلًا إلّا إذا أقدرها علیه، فالمراد نفی التکلیف بغیر المقدور، و المراد من القدرة إمّا القدرة العقلیّة، أو العرفیّة؛ بمعنی عدم استلزامه العسر و الحرج.

هذه هی الاحتمالات المتصوّرة فی الآیة فی مقام الثبوت.

و ذکر الشیخ الأعظم قدس سره: أنّ الاستدلال بها علی البراءة متوقّف علی أنّ المراد من الموصول التکلیف بالخصوص أو الأعمّ منه و من المال أو الفعل(2).

و أورد علی الأوّل: بأنّه یُنافی مورد الآیة، و علی الثانی: بأنّه ممتنع؛ لاستلزامه استعمال الموصول فی معنیین لا جامع قریب بینهما؛ إذ لا جامع بین تعلُّق التکلیف بنفس الحکم و بین تعلّقه بالفعل المحکوم علیه(3).

و یقال فی توضیح ما ذکره قدس سره: إنّ إرادة الأعمّ یستلزم استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد فی الموصول و الصلة و تعلّق الصلة بالموصول:

أمّا فی الموصول فظاهر؛ لأنّه- حینئذٍ- مستعمل فی المال و التکلیف، أو الفعل و التکلیف.


1- عوالی اللآلی 3: 166/ 61.
2- فرائد الاصول: 193 سطر 14.
3- نفس المصدر: سطر 15.

ص: 214

و أمّا فی الصلة فلأنّ إیتاء التکلیف معناه الوصول، و إیتاء المال معناه الإعطاء، و إیتاء الفعل معناه الإقدار علیه.

و منه یظهر: اختلاف کیفیّة تعلّق الصلة بالموصول باختلاف ما یُراد من الموصول، و لا جامع قریب بین هذه المعانی حتّی یستعمل اللفظ فیه(1). انتهی.

و تفصّی المحقّق العراقی قدس سره عن الإشکال: بأنّه یمکن أن یستعمل الموصول فی معناه المبهم- مثل الشی ء- و استفادة الخصوصیّات من دوالّ اخر، و کذلک الصلة، فإنّ الإیتاء معنیً واحد، غایة الأمر أنّه یختلف باختلاف ما یضاف إلیه: فإن اضیف إلی المال فمعناه الإعطاء، و إن اضیف إلی الفعل فمعناه الإقدار، و إن اضیف إلی التکلیف فمعناه الإیصال، و إذا أمکن ذلک فی الموصول و الصلة فالأمر فی النسبة بینهما سهل؛ لأنّها تابعة(2). انتهی ملخّص کلامه.

أقول: و یرد علیه: أنّه إن ارید من الموصول التکلیف فهو مفعول مطلق، و إن ارید منه المال أو الفعل فهو مفعول به، و کیفیّة تعلّق الفعل بالمفعول المطلق تُغایر کیفیّة تعلّقه بالمفعول به، فإنّ المفعول به لا بدّ أن یکون مفروض الوجود لیحکم بوقوع الفعل علیه، و لا بدّ أن لا یعتبر ذلک فی المفعول المطلق، فإنّه عبارة عن نفس الفعل یوجد بوجوده، و هذان المعنیان یمتنع اجتماعهما معاً و لو فی ضمن معنیً عامّ، فما ذکره فی دفع الإشکال غیر صحیح.

و أجاب المیرزا النائینی قدس سره عن الإشکال: بأنّه یمکن أن یراد من الموصول الأعمّ من التکلیف و موضوعه، و أنّ إیتاء کلّ شی ء بحسبه، و لا یلزم أن یراد من الموصول الأعمّ من المفعول به و المفعول المطلق، بل یُراد منه خصوص المفعول به، فإنّه یمکن جعل المفعول المطلق مفعولًا به بنحو من العنایة، فإنّ التکلیف باعتبار


1- نهایة الأفکار 3: 201- 202.
2- نفس المصدر.

ص: 215

ما له من المعنی الاسم المصدری یصحّ تعلّق التکلیف به، و إن کان هو باعتبار ما له من المعنی المصدری لا یصحّ تعلّق التکلیف به(1). انتهی.

و یرد علیه أیضاً:

أوّلًا: أنّ الفرق بین المصدر و بین اسم المصدر إنّما هو بمجرّد الاعتبار، و إلّا فهما شی ء واحد حقیقة، فالحدث إن اعتبرت و لوحظت حیثیّة صدوره من فاعلٍ ما فهو المصدر و إن اعتبرت ذاته و طبیعته لا من حیثیّة صدوره فهو اسم المصدر، و مجرّد الفرق بینهما فی الاعتبار لا یدفع إشکال لزوم اجتماع اللحاظین مع أنّهما شی ء واحد حقیقةً.

و ثانیاً: أنّ مرتبة اسم المصدر متأخّرة عن مرتبة المصدر؛ حیث إنّ اسم المصدر عبارة عمّا حصل من المصدر و معه کیف یمکن اعتباره فی مرتبة المصدر؟! فإنّه لا یمکن اعتبار ما هو متأخّر عن شی ء رتبةً معه فیها.

و أجاب المحقّق العراقی عن الإشکال ثانیاً: بأنّ إرادة الحکم من الموصول إنّما یقتضی کونه المفعول المطلق لو ارید من التکلیف فی الآیة الحکم، و أمّا لو فرض أنّه بمعناه اللغوی- أعنی الکُلفة و المشقّة- فلا یتعیّن ذلک، فإنّه من الممکن- حینئذٍ- جعل الموصول عبارة عن المفعول به أو المفعول النشوی- المعبّر عنه بالمفعول منه- و إرجاع النسبة إلی نسبة واحدة، فالمعنی- حینئذٍ- أنّه تعالی لا یوقع عباده فی کُلفة إلّا من قِبَل حکم أعلمه إیّاهم و أوصله إلیهم بخطابه(2). انتهی.

هذا کلّه بحسب مقام التصوّر و الثبوت.

و أمّا الثانی:- بحسب مقام الإثبات و الاستظهار فذکر المحقّق العراقی قدس سره: أنّه بعد إمکان إرادة الأعمّ من الحکم و المال و الفعل- و لو بنحو تعدّد الدال و المدلول- أمکن


1- فوائد الاصول 3: 332- 333.
2- نهایة الأفکار 3: 203.

ص: 216

التمسّک علی مطلوب القائل بالبراءة و عدم وجوب الاحتیاط عند الشکّ بإطلاق الآیة(1). انتهی.

و فیه: أنّ الأخذ بالإطلاق إنّما یصحّ فیما إذا کان للّفظ الصادر من المتکلّم ظهور عرفاً و لغةً، و استعمل اللفظ فیه بالإرادة الاستعمالیّة، و شکّ فی تطابق الإرادة الجدّیّة لها باحتمال وجود قید لم یذکره المتکلّم، و ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّک قد عرفت أنّ فی الآیة احتمالات مردّدة بینها، و لیس لفظها ظاهراً فی جمیعها حتی یتمسّک بإطلاقها.

و الحقّ: أنّ الآیة الشریفة فی مقام إفادة کبری کلّیّة، و مع ذلک لیس المقام مقام التمسّک بإطلاقها لما نحن فیه؛ لدوران الأمر بین الاحتمالات المتقدّمة.

و لکنّ التحقیق: أنّ الآیة فی مقام بیان نفی التکلیف بغیر المقدور، فهی مُساوقة لقوله تعالی: «لا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها»(2).

و یدلّ علی ذلک: استشهاد الإمام فی روایة عبد الأعلی(3) لعدم وجوب المعرفة علی الناس بدون البیان من اللَّه تعالی بکلتا الآیتین، فیظهر منه اتّحاد مفادهما، و حینئذٍ فلا دلالة لهذه الآیة الشریفة علی البراءة کسائر الآیات التی استدلّ بها لها.

الدلیل الثانی: الأخبار
اشارة

فالأولی ذکر الأخبار التی استدلّ بها للبراءة:


1- نهایة الأفکار 3: 203.
2- البقرة( 2): 286.
3- الکافی 1: 125/ 5.

ص: 217

حدیث الرفع
اشارة

ذکره فی الوسائل

عن محمّد بن علیّ بن الحسین(1)، و فی التوحید(2) و الخصال(3) عن أحمد بن محمّد بن یحیی، عن سعد بن عبد اللَّه، عن یعقوب بن یزید، عن حمّاد بن عیسی، عن حریز بن عبد اللَّه، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم: رُفع عن امّتی تسعة أشیاء: الخطأ، و النسیان، و ما اکرِهوا علیه، و ما لا یعلمون، و ما لا یُطیقون، و ما اضطُرّوا إلیه، و الحسد، و الطیرة، و التفکّر فی الوسوسة فی الخلق ما لم ینطقوا بشفة).

و هذه الروایة صحیحة؛ لأنّ أحمد بن محمّد بن یحیی و إن کان محلّ الکلام، إلّا أنّه وثّقه العلّامة و المجلسی 0(4) و لا إشکال فی وثاقته بلحاظ روایاته الکثیرة فی أبواب الفقه.

توضیح الکلام فی فقه الروایة

إنّه فرق بین الرفع و الدفع، فإنّ الدفع إنّما یُستعمل فی مورد یکون مقتضی الشی ء موجوداً محقَّقاً، و لکن لم یوجد المقتضی- بالفتح- بعدُ.

فمعنی الدفع: الممانعة عن تأثیر المقتضی- بالکسر- مع وجوده فی إیجاد المقتضی- بالفتح- فیقال: إنّه قد دُفع.

بخلاف الرفع، فإنّه إنّما یُستعمل فیما لو تحقّق المقتضی- بالفتح- و وجد،


1- وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.
2- التوحید: 353/ 24.
3- الخصال: 417/ 9.
4- انظر تنقیح المقال 1: 95.

ص: 218

فالرفع إنّما هو بالنسبة إلی الأمر الموجود الثابت قبل الرفع، و هذا الفرق بینهما ممّا لا ریب فیه.

و حینئذٍ فقد یتوهّم: أنّ الرفع فی الروایة مستعمل فی معنی الدفع فی جمیع الامور التسعة؛ لأنّ المرفوع: إمّا هو المؤاخذة، أو جمیع الآثار؛ أو أظهر الآثار، و علی أیّ تقدیر فهی لیست متحقّقة موجودة حتی یصدق علیها الرفع، بل هو بمعنی الدفع بنحو من العنایة و التجوّز.

و ذکر المیرزا النائینی قدس سره: أنّه یستعمل الرفع فیها باعتبار البقاء؛ لأنّ بقاء الشی ء کحدوثه یفتقر إلی العلّة و إفاضة الوجود علیه- أیضاً- من المبدأ الفیّاض فی کلّ آنٍ، فالرفعُ فی مرتبة وروده علی الشی ء دفعٌ حقیقة باعتبار علّة البقاء، و رفعٌ باعتبار الوجود السابق، فاستعمال الرفع فی مقام الدفع لا یفتقر إلی علاقة المجاز، بل لا یحتاج إلی العنایة أصلًا، بل لیس هو خلاف ما یقتضیه ظاهر اللفظ(1). انتهی.

و أنت خبیر بالخلط الواقع فی کلامه قدس سره حیث إنّ مفهومی الرفع و الدفع مفهومان متغایران، و علی فرض الإغماض عمّا ذکره من صدق الرفع فی مقام الدفع و صحّة استعماله فیه باعتبار علّة البقاء، فهما متصادقان علی موضوع واحد بالاعتبارین المذکورین فی کلامه، و هذا غیر کون الرفع بمعنی الدفع، نظیر تصادق الناطق و الضاحک علی شی ء واحد، مع أنّ مفهوم أحدهما غیر مفهوم الآخر.

و ذکر المحقّق العراقی قدس سره فی المقام: أنّه لا یعتبر فی صدق الرفع و صحّة إطلاقه و استعماله وجود المرفوع حقیقة، بل یکفی فیه وجوده عنایة و ادّعاءً و لو باعتبار وجود مقتضیه، فإنّ وجود المقتضی للشی ء وجود هذا الشی ء فی اعتبار العقلاء و نظرهم، و أنّهم یرونه موجوداً بوجود مقتضیه، فیرتّبون علیه أثره(2). انتهی.


1- فوائد الاصول 3: 337.
2- نهایة الأفکار 3: 209.

ص: 219

و هذا الذی ذکره قدس سره أقرب ممّا أفاده المیرزا النائینی قدس سره لکن ببالی أنّه ذکر فی موضع آخر من کلامه: أنّ الرفع- أیضاً- ادّعائی(1)، و حینئذٍ فإن أراد ادّعاء وجود المرفوع و ادّعاء الرفع مع عدمهما حقیقة، فهو شطط من الکلام.

بحث عن متعلّق الرفع
اشارة

و التحقیق فی المقام أن یقال: إنّ الرفع متعلِّق بنفس الامور التسعة المذکورة فی الحدیث، و إنّ استعمال الرفع فیها مع وجود النسیان و الخطاء و غیرهما، إنّما بادّعاء عدمها؛ مع وجودها حقیقةً لعدم المؤاخذة علیها أو لعدم ترتّب جمیع الآثار أو أظهر الآثار علیها علی الاختلاف، فالنسیان- مثلًا- و إن کان موجوداً حقیقة، لکن ادّعی عدمه لأجل عدم ترتّب آثاره، فهو مثل

(یا أشباه الرجال و لا رجال)

(2)؛ حیث إنّ نفی الرجولیّة إنّما هو باعتبار ثبوت ما هو من أوصاف الرجال لهم، و لا یحتاج- حینئذٍ- إلی تقدیر شی ء فی الکلام؛ لا لما ذکره المیرزا النائینی قدس سره: من أنّ الرفع التشریعی کالنفی التشریعی لیس إخباراً عن أمر واقع، بل إنشاء لحکم یکون وجوده التشریعی بنفس الرفع و النفی، کقوله علیه السلام:

(لا ضرر و لا ضرار)

(3).

و بالجملة: هذا الخبر بظاهره إنّما هو فی مقام تشریع الأحکام و إنشائها، لا فی مقام الإخبار عن رفع المذکورات أو نفیها حتی یحتاج إلی تقدیر(4). انتهی.

فإنّه یرد علیه:

أوّلًا: أنّ حدیث الرفع و أمثاله لیس إنشاءً، بل هو إخبارٌ؛ لأنّه لیس من


1- نهایة الأفکار 3: 211.
2- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 123، من خطبة له علیه السلام فی الجهاد.
3- تهذیب الأحکام 7: 146/ 651، سنن ابن ماجة 2: 784/ 2340 و 2341.
4- فوائد الاصول 3: 342- 343.

ص: 220

وظیفته صلی الله علیه و آله و سلم و کذلک الأئمّة علیهم السلام تشریع الأحکام، فإنّ المشرِّع و المنشئ للأحکام هو اللَّه تعالی.

نعم فی بعض الأخبار: أنّ اللَّه تعالی فوّض تشریع بعض الأحکام إلی النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم و هی المسمّاة بفرض النبیّ(1)، و هو محلّ الکلام بین الأعلام، و یمکن تأویلها بما لا یُنافی ما ذکرناه، و کیف کان فلیس قوله صلی الله علیه و آله و سلم:

(رفع عن امّتی ...)

تشریعاً للرفع و إنشاءً له، بل هو و نظائره إخبار عن إنشاء اللَّه تعالی للأحکام.

و ثانیاً: سلّمنا أنّ ذلک إنشاء لا إخبار، لکن الجملة الخبریّة لم تستعمل فی إنشاء الحکم، بل الجملة الخبریّة فی مقام الإنشاء إنّما تستعمل فی الإخبار بداعی إفهام إنشاء الرفع، کما فی قوله علیه السلام فی روایة زرارة:

(یعید الصلاة)

(2)، أو لا یعیدها، و کما تقول لولدک: «الولدُ الصالح من یفعل کذا»، فإنّه إخبار بداعی إنشاء بعثه إلی الفعل، فکذلک ما نحن فیه، فلا بدّ فیه من عنایة و رعایة المصحّح لاستعمال کذلک.

و ثالثاً: سلّمنا استعمال الجملة الخبریّة فیه فی الإنشاء، و أنّ معنی

(رُفع عن امّتی ...)

هو إنشاء رفع التسعة، لکن إنشاء رفعها تشریعاً مع ثبوتها و وجودها تکویناً، یفتقر إلی المصحِّح و العنایة، و المصحِّحُ لرفعها: إمّا عدمُ ترتّب المؤاخذة علیها، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره(3) أو عدم ترتّب جمیع الآثار أو أظهرها، لکن لا یصحّ ادّعاء الرفع لأجل عدم ترتّب المؤاخذة علیها فقط، أو عدم ترتّب أظهر الآثار فقط مع ترتّب سائرها، إلّا بادّعاء ثانویّ، و هو ادّعاء حصر آثارها فی هذا الأثر المنفی،


1- الکافی 1: 208/ 4.
2- الکافی 3: 350/ 3، و تهذیب الأحکام 2: 192/ 759، و وسائل الشیعة 5: 300، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 1، الحدیث 6.
3- فرائد الاصول: 195 سطر 21.

ص: 221

فبانتفائه یصحّ دعوی الرفع؛ أ لا تری أنّه لو فُرِض أنّ آثار الرجولیّة عشرة، و أظهرها الشجاعة، فبمجرّد انتفائها لا تصحّ دعوی انتفاء الرجولیّة إلّا بانضمام دعوی ثانیة بحصر آثار الرجولیّة فی الشجاعة، فبانتفائها- حینئذٍ- تصحّ دعوی نفی الرجولیّة، و ما نحن فیه- أیضاً- کذلک؛ إنّما تصحّ دعوی رفع السهو و النسیان بلحاظ عدم ترتّب المؤاخذة أو عدم ترتّب أظهر الآثار، إذا انضمّ إلیها ادّعاء آخر بانحصار جمیع آثار السهو و النسیان بذلک المنفیّ، و إلّا فلا یصحّ ادّعاء الرفع بمجرّد انتفاء بعض الآثار، بخلاف ما لو انتفت جمیع الآثار، فإنّ الرفع بلحاظ انتفاء جمیعها لا یفتقر إلّا إلی ادّعاء واحد، و هو ادّعاء رفع النسیان بلحاظ انتفاء جمیع آثاره، و إذا دار الأمر بین ما یحتاج إلی ادّعاء واحد و بین ما یفتقر إلی ادّعاءین، فلا ریب فی أنّ الأوّل أخفّ مئونة.

و أمّا ما یمکن الاعتماد علیه هنا فهو روایتان: إحداهما قرینة علی أنّ الرفع إنّما هو بلحاظ نفی خصوص المؤاخذة، و ثانیتهما قرینة علی أنّه لیس بلحاظ نفی خصوصها.

أمّا الاولی: فهی

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن الحسین بن محمّد، عن معلّی بن محمّد، عن أبی داود المسترق قال: حدّثنی عمرو بن مروان قال: سمعت أبا عبد اللَّه علیه السلام یقول: (قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم: رُفع عن امّتی أربع خصال: خطائها، و نسیانها، و ما اکرهوا علیه، و ما لم یُطیقوا؛ و ذلک قول اللَّه عزّ و جلّ: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ»، و قوله تعالی: «إِلَّا مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ»)

(1)، فإنّ استشهاده صلی الله علیه و آله و سلم بالآیتین قرینة علی أنّ المرفوع هو خصوص المؤاخذة فقط، کما فی الآیة الشریفة.


1- الکافی 2: 335/ 1.

ص: 222

و أمّا الثانیة: فهی

روایة المحاسن، عن أبیه، عن صفوان بن یحیی، عن أبی الحسن و أحمد بن محمّد بن أبی نصر جمیعاً، عن أبی الحسن علیه السلام قال: سألته عن الرجل یستکره علی الیمین، فیحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما یملک، أ یلزمه ذلک؟

فقال علیه السلام: (لا، قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم: وضع عن امّتی ما اکرهوا علیه و ما لم یطیقوا و ما أخطئوا)

(1)، الخبر.

و فیها احتمالان:

الأوّل: أنّ المراد أنّ الرجل یُستحلَف علی أن یعتق عبده، و یطلّق زوجته، و یتصدّق بأمواله بعد ذلک، فهل یلزمه العتق و الطلاق و الصدقة؟ قال: لا.

و الظاهر من قوله: «أ یلزمه ذلک؟» هو هذا الاحتمال.

الثانی: أنّ المراد ما هو المتعارف بین العامّة: من الحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما یملک، و أنّ السؤال إنّما هو عن وقوع الطلاق و العتق و الصدقة بذلک الحلف، قال علیه السلام: (لا).

و ربّما یؤیّد هذا الاحتمال تعارف ذلک بین العامّة و عدم ذکر العلماء الاحتمال الأوّل.

و علی أیّ تقدیر فهذه الروایة تدلّ علی أنّ المرفوع لیس هذه الامور بلحاظ نفی خصوص المؤاخذة.

و ذکر المحقّق الخراسانی فی الحاشیة علی الفرائد: أنّ ما یظهر من الخبر لا یُنافی تقدیر خصوص المؤاخذة مع تعمیمها إلی ما یترتّب علیها بالواسطة، کما فی الطلاق و الصدقة و العتاق، فإنّها مستتبعة إیّاها بواسطة ما یلزمها من حرمة وطی المطلّقة و مطلق التصرّف و الصدقة و العتق.

و بالجملة: لو کان المقدّر هو خصوص المؤاخذة الناشئة من قِبَلها بلا واسطة


1- المحاسن: 339/ 124.

ص: 223

أو معها، لا یُنافیه ظاهر الخبر أصلًا، فوجب تقدیر جمیع الآثار(1). انتهی.

و فیه ما لا یخفی، نعم یورد علی ما ذکرناه من عدم الاحتیاج إلی الادّعاءین علی فرض کون الرفع بلحاظ انتفاء جمیع الآثار، بخلاف ما لو کان لأجل انتفاء خصوص المؤاخذة أو أظهر الآثار؛ لاحتیاجه- حینئذٍ- إلی ادّعاءین: بأنّه علی فرض کون الرفع بلحاظ جمیع الآثار الشرعیّة- أیضاً- یحتاج إلی ادّعاءین؛ و ذلک لعدم انتفاء الآثار الغیر الشرعیّة المترتّبة علی النسیان و غیره من المذکورات فی الخبر، فیفتقر إلی ادّعاء انحصار آثار النسیان- مثلًا- فی الآثار الشرعیّة، و بانتفائها- حینئذٍ- یصحّ ادّعاء رفعه، و لا یصحّ الرفع بانتفاء الآثار الشرعیّة بدون الادّعاء الثانی.

و لکنّه مدفوع: بأنّ دعوی الرفع فی الخبر إنّما هی فی عالم التشریع لا مطلقاً، و حینئذٍ فیصحّ ادّعاء الرفع فی عالم التشریع بلحاظ عدم الآثار الشرعیّة من دون افتقارٍ إلی ادّعاء حصر الآثار فی الآثار الشرعیّة.

و اورد علیه- أیضاً-: بأنّ للخطاء و النسیان نحوین من الآثار:

أحدهما: الذی موضوعه نفس الخطاء و النسیان، کوجوب الدِّیة بقتل الخطاء، و وجوب سجدتی السهو لنسیان التشهّد أو إحدی السجدتین.

و ثانیهما: ما لیس موضوعه نفسهما، بل ما أخطأ فیه و المنسیَّ، و القسم الأوّل لا یُرفع بحدیث الرفع قطعاً، فادّعاء رفعهما بانتفاء القسم الثانی من آثارهما لا یستقیم إلّا بضمیمة ادّعاء آخر، و هو ادّعاء حصر الآثار فی المنتفیة، فیصحّ- حینئذٍ- ادّعاء الرفع.

و أیضاً الرفع بالنسبة إلیهما متعلّق بنفس الخطاء و النسیان، و فی «ما اضطُرّوا إلیه» و أخواته متعلِّق بالعنوان الواقعی الذی اشیر إلیه ب «ما اضطُرّوا إلیه» و فی الثلاثة


1- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 116 سطر 1.

ص: 224

الأخیرة- و هی الحسد، و الطیرة، و التفکّر فی الوسوسة فی الخلق- بنحو آخر، فیلزم الاختلاف فی سیاق الحدیث الشریف.

و اعترف المحقّق الخراسانی و العراقی 0 بالإشکال، و أجابا عنه: بأنّ المرفوع فی الکلّ هو العنوان الواقعی بقرینة الأربعة المذکورة(1).

و هو لیس بشی ء. و التحقیق فی الجواب: هو أنّ المتبادر عرفاً من رفع الخطاء و النسیان هو أنّ المرفوع هو ما أخطئوا فیه و المنسیّ، کما هو المتبادر منهما فی المحاورات العرفیّة، مع عدم التفاتهم إلی نفس عنوان الخطاء و النسیان، و حینئذٍ فالرفع فیهما علی نسق الرفع فی «ما لا یعلمون» و أخواته، و أنّ المرفوع هو العنوان الذی یتعلّق به الخطاء و النسیان و الاضطرار باعتبار الآثار المترتّبة علیه، لا آثار النسیان و الخطاء.

و بالجملة: عنوان الخطاء و النسیان اخذا مرآتین إلی ما یتعلّقان به، و لیس نفس الخطاء و النسیان منظوراً فیهما للمتکلّم، و لا متبادران عند المخاطب، و حینئذٍ فیندفع الإشکالان المذکوران کلاهما.

و یدلّ علی ذلک: أنّه علیه السلام عبّر فی روایة اخری(2) ب

(ما أخطئوا به)

، و أنّه لم یتعرّض أحد من المفسّرین فی قوله تعالی: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا ...»(3) الآیة، لذلک.

فإن قلت: فعلی هذا فما السرّ فی التعبیر فی الحدیث الشریف بالخطاء و النسیان، و فی «ما لا یعلمون» و أخواته بالموصول؟

قلت: لعلّه اتّباعاً لکلام اللَّه تعالی؛ حیث قال: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ


1- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 115 سطر 13، نهایة الأفکار 3: 210.
2- لم نعثر علیه فی مجامعنا الروائیّة.
3- البقرة( 2): 286.

ص: 225

أَخْطَأْنا»، و قوله تعالی: «ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ»(1)، و قوله: «إِلَّا مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ»(2) و أمّا الثلاثة الأخیرة فحیث إنّها منظورٌ فیها، و لیست مرآة للحاظ شی ء آخر، فلهذا نُسب الرفع إلی نفسها بلحاظ آثارها.

ثمّ إن أبیت ما ذکرناه من أنّ الرفع متعلِّق بنفس هذه العناوین ادّعاءً بلحاظ انتفاء آثارها، و قلتَ: إنّه لا بدّ من تقدیر فی الکلام هو المرفوع مع عدم الاحتیاج إلیه کما عرفت.

نقول: المصحِّح لاستعمال اللفظ علی هذا الفرض- أیضاً- فی غیر الثلاثة الأخیرة هو أنّ الأحکام الشرعیّة المجعولة قانوناً تشمل بالإرادة الاستعمالیّة و تعمّ جمیع أفراد المکلّفین، مثل قوله تعالی: «السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما»(3)، فإنّه- بحسب جعل القانون و الإرادة الاستعمالیّة- یشمل الناسی و المُخطِئ و المُکرَه و غیرهم، و کذلک سائر الأحکام المجعولة فی الشریعة، و مفاد الحدیث- حینئذٍ- رفع جمیع الآثار، أو أظهر الآثار، أو المؤاخذة- علی الاختلاف فی هذه المذکورات- فهو تخصیص لأدلّة الأحکام الأوّلیّة المجعولة قانوناً، فإنّ التخصیص و النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحکم.

و أمّا فی الثلاثة الأخیرة فإطلاق الرفع فیها- مع عدم جعل حکم لها أصلًا فی الشریعة المقدَّسة- إنّما هو بلحاظ ما لها من الأحکام فی الشرائع السابقة، فإنّها لم تکن مقیَّدة بمدّة معیَّنة، بل هی- أیضاً- کانت مجعولة علی العناوین الکلّیّة، مثل «یا أَیُّهَا النَّاسُ»*(4) و نحوه، فهی بعد بعث نبیّنا صلی الله علیه و آله و سلم باقیة ما لم ینسخ، و لم یردع


1- البقرة( 2): 286.
2- النحل( 16): 106.
3- المائدة( 5): 38.
4- البقرة( 2): 21، النساء( 4): 1، الحج( 22): 1.

ص: 226

عنها الإسلام، و لم یتبدّل بحکم آخر، کحرمة الخمر، فإنّها کانت ثابتة قبل الإسلام، و أمضاها الإسلام- أیضاً- و لا یحتاج فی مثله إلی جعل مستقلّ فی الشریعة المقدّسة، و هذه الثلاثة ممّا رفع حکمها الثابت فی الشرائع السابقة فی الإسلام، فالرفع فیها إنّما هو بلحاظ تلک الأحکام السابقة.

ثمّ إنّ هنا اموراً لا بدّ من التنبیه علیها:
الأمر الأوّل: فی أنّ حدیث الرفع امتنانیٌ

أنّ حدیث الرفع ظاهر فی أنّه فی مقام الامتنان علی الامّة بقوله صلی الله علیه و آله و سلم:

(رُفع عن امّتی ...)

، و حینئذٍ فلا یصحّ التمسُّک به فی موارد:

منها: مورد حکم العقل بالرفع، کما لو قلنا بجریان البراءة العقلیّة فیما لا یعلمون؛ یعنی فی الشبهات البدویّة و قبح العقاب بلا بیان عقلًا، و کذلک الناسی الغافل عن الحکم رأساً، و فیما لو لم یقدر المکلّف علی فعل المکلَّف به، کالطیران إلی السماء، فإنّ الحکم التکلیفی منفیّ فی هذه الموارد عقلًا و لا یختصّ بالأُمّة المرحومة، و لیس فی رفعه بالنسبة إلیهم مِنَّة.

نعم یمکن أن یُقال: المرفوع فی

(ما لا یعلمون)

هو إیجاب الاحتیاط شرعاً؛ لعدم حکم العقل بعدمه.

و منها: ما لو استلزم الرفع صیرورة المکلّفون مطلق العنان فی بعض الموارد، کما لو کان الإکراه أو الاضطرار بسوء اختیاره، مثل ما لو علم أنّه لو شارک بعض الناس فی مجالسهم، أو دخل فی مکان کذا، یُکره أو یُضطرّ إلی شرب الخمر أو القمار أو محرّم آخر، فإنّ حدیث الرفع لا یشمل و لا یعمّ هذا القسم من الإکراه و الاضطرار، الناشئ عن سوء اختیار المکلّف، و قد عرفت غیر مرّة أنّ الأحکام الشرعیّة فعلیّة بالنسبة إلی جمیع المکلّفین حتی المعذورین، غایة الأمر أنّ العذر

ص: 227

مانع عن المؤاخذة علیها، و لا یُعاقبون علیها، و هو فیما لم یکن العذر بسوء الاختیار.

و منها: ما لو استلزم رفعُ المؤاخذة أو جمیعِ الآثار الإضرارَ بالغیر، فإنّ حدیث الرفع لیس ناظراً إلی خصوص الأشخاص، بل متوجّه إلی الامّة، و الرفع فی مورد یستلزم الإضرار بالغیر لیس مِنَّة علی الامّة، و مع أنّ الحدیث وارد فی مقام الامتنان فلا یعمّ هذا المورد.

و منها: الأحکام الوضعیّة، فلو فرض اضطراره إلی أکل مال الغیر أو اکره علی ذلک، کما لو استلزم ترکه العسر و الحرج الشدیدین اللذین لا یُتحمّلان عادةً و إن لم یبلغا إلی حدّ تلف النفس، فإنّ حدیث الرفع و إن یرفع الحکم التکلیفی- أی الحرمة- حینئذٍ، لکن لا یرفع الحرمة الوضعیّة- أی الضمان- فیجوز أکله، و یضمن مثله أو قیمته.

و یمکن التفصیل بین المِثْلی و القِیمی بأن یقال: إنّ الحدیث یرفع حرمة التصرّف فی مال الغیر فی المِثْلی مع ضمانه لمثله، و لا یرفع حرمته فی القِیمی مع الضمان لقیمته؛ حیث إنّ الغرض فی المِثْلی لا یتعلّق بنفس العین، بل بمالیّته و مثله، و لا یلزم من رفع حرمة التصرّف فیه مع الضمان لمثله خلافُ الامتنان، بخلاف القیمی، فإنّه کثیراً ما یتعلّق غرض المالک بعین خاصّة، کدابّة خاصّة تعلّق غرضه بها بخصوصها، و لا یتدارک بفوتها، فإنّ الحکم بجواز التصرّف فیها مع ضمانة لقیمتها خلاف الامتنان، فلا یعمّه حدیث الرفع؛ لأنّه فی مقام الامتنان.

الأمر الثانی: فی شمول الحدیث للُامور العدمیّة

هل یختصّ الحدیث برفع الأمر الوجودی، أو أنّه یعمّ الأمر العدمی أیضاً، فلو نذر أن یشرب من ماء دجلة، فاکره علی ترکه أو ترک ما یُعتبر وجوده فی الصلاة جزءاً نسیاناً، فهل یشمله حدیث الرفع؛ بأن یرفع حرمة الحَنث أو الکفّارة فی الأوّل،

ص: 228

أو جزئیّة شی ء أو شرطیّته فی الثانی؟ و یشمله حدیث الرفع کما یشمل الأمر الوجودی أولا؟ وجهان.

فذهب المیرزا النائینی قدس سره: إلی أنّه لا یشمله، و أنّه لا یرفع العدم؛ لأنّ شأن الحدیث تنزیل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزیل المعدوم منزلة الموجود؛ لأنّ تنزیل المعدوم منزلة الموجود وضعٌ لا رفع، و المفروض أنّ المکلّف ترک الفعل عن إکراه أو نسیان، فلم یصدر منه أمر وجودیّ قابل للرفع.

و الحاصل: أنّه فرق بین الوضع و الرفع، فإنّ الوضع یتعلّق بالمعدوم، فیجعله بمنزلة الموجود، و الرفع یتعلّق بالموجود، فیجعله بمنزلة المعدوم، و حدیث الرفع لا یشمل الوضع(1).

و أورد علیه المحقّق العراقی قدس سره: بأنّ المرفوع فی الحدیث هو موضوعیّة الشی ء للحکم و الأثر، و إخراج الشی ء عن موضوعیّته للحکم؛ سواء کان ذلک الشی ء أمراً وجودیّاً أو عدمیّاً، فما ذکره صحیح فی نفسه، لکن لا یضرّ بما نحن فیه؛ لأنّ المرفوع فی الجمیع أمر وجودیّ لا عدمیّ(2). انتهی.

و فیه نظر؛ لأنّ الرفع فی الحدیث الشریف قد تعلّق بنفس الخطأ و النسیان، فالمرفوع هو ذلک، غایة الأمر أنّه رفعٌ ادّعائیّ یحتاج إلی المصحِّح- کما تقدّم- لا رفع موضوعیّتهما للحکم، و إلّا فلو تعلّق الرفع بموضوعیّتهما فالرفع فی الحدیث حقیقیّ لا ادّعائی، و هو قدس سره معترف بأنّه ادّعائیّ.

و لکن ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره من اختصاص الحدیث برفع الأمر الوجودی، أیضاً غیرُ صحیح:

أمّا أوّلًا: فلما تقدّم من أنّ هذا الرفع ادّعائیّ یصحّحه انتفاء جمیع الآثار،


1- فوائد الاصول 3: 352- 353.
2- نهایة الأفکار 3: 219.

ص: 229

و لا فرق فیه بین المرفوع الوجودی و العدمی، و لیس رفع العدم عبارة عن الوضع حتّی لا یشمله الحدیث.

و ثانیاً: أنّ الموضوع للأثر لیس هو العدم المطلق، بل عدم خاصّ، فله نحو من الوجود الإضافی(1).

و ثالثاً: أنّ الحاکم إذا حکم بحکم علی العدم لا بدّ أن یلاحظه و یتصوّره أوّلًا، ثمّ یحکم علیه، و هذا اللحاظ نحو وجودٍ له، فیکون وجودیّاً.

و رابعاً: أنّ المرفوع هو عنوان «ما لا یعلمون» أو «ما اضطُرّوا إلیه» و نحوه بنحو الکلّیّ، و الموصول إشارة إجمالیة إلی الأفراد و منطبق علیها، و لیس مستعمَلًا فی الأفراد الخارجیّة؛ بحیث تکون منظوراً إلیها بخصوصها، و عنوان «ما اضطُرّوا إلیه» و «ما لا یعلمون» و نحوهما- المنطبق علی الموجود و المعدوم- هو المرفوع، لا خصوص المعدوم.

فانقدح من ذلک: أنّه لا مانع من شمول حدیث الرفع للُامور العدمیّة- أیضاً- بنحو ما ذکرناه، نعم فی مسألة نسیان الأجزاء أو شرائط الصلاة کلام آخر لعلّه یأتی إن شاء اللَّه تعالی.

الأمر الثالث: فی شمول الحدیث للموضوعات الخارجیة و الشبهات الحکمیة

أنّ «ما لا یعلمون» الذی هو محلّ الاستدلال فی المقام هل یختصّ بالموضوعات الخارجیّة، أو أنّه مختصّ بالشبهات الحکمیّة، أو أنّه یعمّهما؟ وجوه.


1- و هذا منافٍ لما تقدّم منه- دام ظلّه- مراراً من أنّ العدم- سواء المطلق منه، أو المضاف، أو العدم و الملکة- لا حظّ له من الوجود أصلًا، و أنّ الوجود إنّما هو للمضاف إلیه أو الملکة. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 230

فذکر الشیخ الأعظم(1) و المحقّق الخراسانی 0(2) أنّه مختصّ بالموضوعات الخارجیّة؛ لوجوه:

الأوّل: أنّه بعد ما فرض أنّ المقدّر هو خصوص المؤاخذة لا بدّ أن یُراد من الموصول فی «ما لا یعلمون» هو خصوص الموضوعات؛ لأنّه لا معنی للمؤاخذة علی نفس الحکم(3).

الثانی: أنّه لا ریب فی أنّ المراد من «ما اضطُرّوا إلیه» و أخواته هو الموضوع الخارجی- أی فعل المکلّف- لعدم معقولیّة الإکراه و الاضطرار علی نفس الحکم، فهو قرینة علی أنّ المراد من «ما لا یعلمون»- أیضاً- هو الموضوعات(4).

الثالث: ما ذکره فی «الکفایة» من أنّ إسناد الرفع إلی الموضوعات إسناد إلی غیر ما هو له، و إسناده إلی الأحکام إسناد إلی ما هو له، و حیث إنّ إسناده فی غیر «ما لا یعلمون» إسناده إلی غیر ما هو له- أی الموضوعات- فمقتضی وحدة السیاق أنّه فی «ما لا یعلمون»- أیضاً- کذلک، و لا یمکن إرادتهما معاً؛ لاستلزامه استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد فی استعمال واحد، و هو محال(5).

أقول: أمّا الوجه الأوّل: فهو مبنیّ علی لزوم التقدیر، و أنّ المقدّر هو خصوص المؤاخذة، و حیث إنّک قد عرفت عدم الاحتیاج فی الحدیث إلی التقدیر، و أنّ الرفع فیه ادّعائیّ لا حقیقیّ، فلا وجه لما ذکراه، و لا موقع له.

و أمّا الوجه الثانی: فالتحقیق فی الجواب عنه ما ذکره شیخنا الحائری قدس سره:

و هو أنّ مقتضی وحدة السیاق هو إرادة الأعمّ- من الموضوعات و الأحکام- من


1- فرائد الاصول: 195 سطر 15.
2- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 114 سطر 21.
3- فرائد الاصول: 195 سطر 16.
4- انظر فرائد الاصول: 195 سطر 21.
5- کفایة الاصول: 387.

ص: 231

الموصول فی «ما لا یعلمون»؛ لأنّ عدم تحقّق الإکراه و الاضطرار فی الأحکام و عدم تصوُّره، لا یوجب تخصیص «ما لا یعلمون» بالموضوعات، و لیس هو مقتضی السیاق، فإنّ عموم الموصول و عدمه إنّما هو بملاحظة سعة متعلّقه و ضیقه، فقوله:

(ما اضطُرّوا إلیه)

یعنی کلّ ما اضطرّ إلیه المکلّف فی الخارج، غایة الأمر أنّه لا یتصوّر الاضطرار و لا یتحقق بالنسبة إلی الأحکام، فمقتضی وحدة السیاق هو أن یُراد من الموصول فی «ما لا یعلمون» کلّ فردٍ فردٍ من هذا العنوان؛ أ لا تری أنّه لو قیل: «کلّ ما یؤکل و ما یُری» لا یوجب انحصارُ أفراد الأوّل فی الخارج ببعض الأشیاء تخصیصَ الثانی- أیضاً بذلک(1)؟!.

أضف إلی ذلک: أنّ المرفوع فی الحدیث هو عنوان «ما اضطُرّوا إلیه»، و الموصول فی «ما لا یعلمون»- أیضاً- کذلک؛ ینطبق علی جمیع أفراد الجهل؛ من غیر فرق فی ذلک بین الأحکام و الموضوعات، و لیس الموصول مستعمَلًا فی الأفراد حتی لا یمکن الجمع بینهما، فمنشأ الاشتباه: هو عدم الفرق بین استعمال اللفظ فی شی ء و بین انطباق المستعمل فیه علیه، و الموصول فی الحدیث لیس مستعملًا فی الأفراد الخارجیّة- کما ذکرناه آنفاً- بل هو مستعمل فی معناه المبهم؛ سواء اخذ فیه الإشارة أم لا، و هو منطبق علی الأفراد طبعاً.

و هذا الاشتباه صار منشأً لما ذکروه من أنّ الخاصّ و المقیّد أظهر دلالة علی مدلولهما من العامّ و المطلق، مع أنّ کلّ واحد من مفردات ألفاظ قولنا: «أکرم کلّ عالم، و لا تکرم العالم الفاسق» مستعمل فی معناه الموضوع له مادّة و هیئةً، فإنّ مادّة الإکرام فی «أکرم» هی التی فی «لا تکرم»، و هیئة الأمر لا تفید إلّا البعث، کما أنّ هیئة النهی لا تفید إلّا الزجر، و العالم- أیضاً- مستعمل فی معناه فی کلیهما، و الفاسق- أیضاً- مستعمل فی معناه، فلیس فی الخاصّ ما یوجب أظهریّته من العامّ، و هکذا


1- درر الفوائد: 441.

ص: 232

الکلام فی المطلق و المقیّد و منشأ الاشتباه هو کثرة أفراد العامّ بالنسبة إلی أفراد الخاصّ، فالعامّ مستعمل فی مفهومه کالعلماء، کما أنّ الخاصّ- مثل العلماء الفسّاق- أیضاً مستعمل فی مفهومه، غایة الأمر أنّ العامّ منطبق علی أفراد کثیرة، و الخاصّ علی أفراد أقلّ بالنسبة إلی أفراد العامّ، فیتوهّم من ذلک أظهریّة الخاصّ من العامّ.

و أمّا الوجه الذی ذکره فی «الکفایة»: فإمّا أن یرید ممّا ذکر- من أنّ إسناد الرفع إلی الحکم إسناد إلی ما هو له- أنّ الحکم مرفوع واقعاً و حقیقة بالنسبة إلی الشاکّ، فلیس له حکم أصلًا، فلا أظنّ أن یلتزم هو قدس سره به.

و إن أراد رفعه ادّعاءً، لا حقیقة و واقعاً، بل مسامحة باعتبار انتفاء آثاره، فهو إسناد إلی غیر ما هو له، و لیس إسناد الرفع إلیه بهذا النحو إسناداً إلی ما هو له؛ حتّی یخالف السیاق، فما أفاده فی هذا الوجه غیر مستقیم.

و ذهب بعضهم إلی اختصاص «ما لا یعلمون» بالشبهات الحکمیّة لوجهین:

الوجه الأوّل: ما ذکره المیرزا النائینی فی مقام الجواب عن الوجه الثانی و الثالث اللذین ذکروهما لاختصاص حدیث الرفع بالموضوعات، و هو أنّ المرفوع فی جمیع هذه الأشیاء التسعة هو الحکم الشرعی، و إضافة الرفع فی غیر «ما لا یعلمون» إلی الأفعال الخارجیّة، إنّما هو لأجل أنّ الإکراه و الاضطرار و نحوهما إنّما تعرض الأفعال، لا الأحکام کما ذکر، و إلّا فالمرفوع فیها هو الحکم الشرعی، کما أنّ المرفوع فی «ما لا یعلمون»- أیضاً- هو الحکم الشرعی- و هو المراد من الموصول- و مجرّد اختلاف منشأ الجهل- و أنّه فی الشبهات الحکمیّة إجمال النصّ أو فقدانه أو تعارض النصّین، و فی الشبهات الموضوعیّة اختلاطُ الامور الخارجیّة- لا یوجب الاختلاف فیما اسند إلیه الرفع(1). انتهی.


1- فوائد الاصول 3: 345.

ص: 233

و ذکر المحقّق العراقی قدس سره(1) ذلک فی الجواب عن الوجه الثانی.

أقول: إنّ ما أفاداه فی المقام لا ارتباط له بما ذکروه، فضلًا عن أن یکون جواباً عن الوجهین؛ و ذلک لأنّ وحدة السیاق إنّما هی فی مقام الاستعمال و الإرادة الاستعمالیة، و لا ریب فی أنّ الرفع اسند بحسب الاستعمال فی «ما اضطُرّوا إلیه» و «ما استُکرِهوا علیه» إلی الموضوع الخارجی، و هو فعل المکلّف لا غیر، غایة الأمر أنّ المرفوع بحسب الجدّ و اللُّبّ هو الحکم و الأثر، و کونه بحسب الجدّ کذلک غیر مربوط بقضیّة السیاق الذی ذکراه؛ لما عرفت من أنّ قضیّة السیاق إنّما هی فی الإرادة الاستعمالیة، و حاصل ما ذکروه: هو أنّه کما أنّ الموصول فی «ما استُکرهوا» و أخواته مستعمل فی رفع الموضوعات الخارجیّة بحسب الإرادة الاستعمالیّة، و اسند الرفع إلیهما، فمقتضی السیاق استعماله فی «ما لا یعلمون»- أیضاً- کذلک، و لا یدفع ذلک ما أفاداه: من أنّ المرفوع بحسب الجدّ هو الحکم فی الجمیع.

و أجاب المحقّق العراقی عن الوجهین الأخیرین لاختصاص «ما لا یعلمون» بالموضوعات: بأنّا لا نُسلِّم وحدة السیاق أوّلًا، و یشهد له إسناد الرفع فی الثلاثة الأخیرة إلیها، و هی لیست من الأفعال.

و ثانیاً: علی فرض وحدة السیاق فهی تقتضی أن یُراد من «ما لا یعلمون» خصوص الحکم التکلیفی، لا الموضوع الخارجی؛ لأنّ مقتضی إسناد الرفع إلی ما یتعلّق به الاضطرار أو الإکراه- أوّلًا و بالذات حقیقةً- هو إسناده فی «ما لا یعلمون»- أیضاً- إلی ما یتعلّق به الجهل أوّلًا و بالذات، و هو الحکم، فإنّه المجهول حقیقةً و بالذات، لا شرب المائع المردّد بین الخمر و الخلّ، فإنّ الشرب لیس مجهولًا إلّا بسبب إضافته إلی الموضوع الخارجی المجهول أوّلًا و بالذات، و هو المائع، فمقتضی


1- نهایة الأفکار 3: 216- 217.

ص: 234

وحدة السیاق هو أن یُراد من «ما لا یعلمون» هو خصوص الحکم(1). انتهی.

و یرد علیه:

أوّلًا: بأنّ الحسد و الطِّیَرة و الوسوسة و إن لم تکن من الأفعال الجوارحیّة، لکنّها من الأفعال الجوانحیّة، و لذا یحرم بعض أقسام الحسد، و هکذا الطِّیَرة و الوسوسة، لو لا حدیث الرفع.

و ثانیاً: أنّ الفعل الخارجی- کشرب المائع المردّد بین الخمر و الخلّ- و إن لم یتّصف بالمجهولیّة استقلالًا، بل بتبع مجهولیّة ما یُضاف إلیه، لکن اتّصافه بالمجهولیّة لیس بالعرض- بل هو متّصف بالمجهولیّة حقیقة بتبع اتّصاف المائع الخارجی بالمجهولیّة، و ذلک کالنور و الجسم المتنوّر به، فإنّ الجسم المتنوّر و إن لم یتّصف بذلک استقلالًا، لکنّه متنوّر حقیقةً بسبب النور و بتبعه، و هکذا ما نحن فیه، فالجهل بالمائع الخارجی واسطة لثبوت الجهل للشرب حقیقة، لا أنّه واسطة فی العروض.

الوجه الثانی- لبیان اختصاص الرفع فی «ما لا یعلمون» بالشبهات الحکمیّة- ما أفاده بعض الأعاظم: و هو أنّ المشکوک فی الشبهات الموضوعیّة لیس هو الحکم؛ لأنّ الحکم الکلّی فیها معلوم متعلّق بالطبیعة، و الاشتباه فیها إنّما هو لاختلاط الامور الخارجیّة، و کالاشتباه الواقع بین الإناءین- مثلًا- و لیس للأفراد الخارجیّة حکم شرعیّ حتّی یتعلّق به الرفع، و حینئذٍ فالرفع فی «ما لا یعلمون» مختصّ بالشبهات الحکمیّة(2). انتهی.

و یرد علیه النقض أوّلًا: ب «ما اضطُروا إلیه» و «ما استُکرهوا علیه»، فإنّه لا ریب فی أنّ المراد بالموصول فیهما هو الموضوع الخارجی.

و ثانیاً: بالحلّ بأنّ الرفع لیس متعلِّقاً برفع خصوص المائع المردّد الخارجی


1- نهایة الأفکار 3: 216.
2- نفس المصدر.

ص: 235

حتّی یورد علیه بعدم ثبوت حکم له، بل حدیث الرفع مثل قاعدة الطهارة و الحِلّ، متعلّق بنفس العناوین، فهو حاکم علی الأدلّة المتکفّلة لبیان الأحکام الأوّلیة الواقعیّة، فکما أنّ مفاد قاعدة الطهارة و أمثالها جعلُ حکمٍ ظاهریّ فی الموارد المشکوکة، کذلک حدیث الرفع، و أنّ مفاده: أنّ البیع و الطلاق و نحوهما علی قسمین: قسم یقع بالإکراه أو الاضطرار، و هذا القسم لا أثر و لا حکم له، و قسم یقع بالاختیار، فتترتّب علیه الآثار، فهو حاکم علی مثل «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(1) و نحوه.

و «ما لا یعلمون»- أیضاً- کذلک، فالرفع فیه متعلّق بعنوان «ما لا یُعلم» المنطبق علی الأحکام و الموضوعات معاً، و مفاده بالنسبة إلی الموضوعات تخصیص الحکم بحرمة الخمر بما إذا عُلم أنّه خمر.

نعم فرق بین الموضوعات و الأحکام من حیث إنّه لا یمکن تقیید الأدلّة- المتکفّلة للأحکام الواقعیّة الأوّلیّة- بغیر الجاهل، و أنّ معنی الرفع بالنسبة إلیها عدم فعلیّتها، کما ذکره فی «الکفایة»(2)، أو معنیً آخر؛ بحیث لا ینافی ثبوت الأحکام الواقعیّة المشترکة بین العالم و الجاهل، و هذا التقیید ممکن بالنسبة إلی الموضوعات، فإنّه یمکن تقیید حرمة الخمر بما إذا عُلم أنّه خمر، لکن حیث إنّه لم یقُلْ به أحد نحن- أیضاً- نقتفی آثارهم لذلک، لا لأجل استحالته.

و ثالثاً: بالتزام انحلال الأحکام عرفاً و تعدّدها بتعدّد موضوعاتها، فإنّ العرف یری أنّ لکلّ فرد من أفراد الخمر حکماً مستقلّاً من الحرمة تختصّ به، لا الانحلال الخطابی الذی أنکرناه سابقاً.

فظهر بذلک: أنّه لا وجه لتخصیص «ما لا یعلمون» بالشبهات الحکمیّة، کما أنّه لا وجه لتخصیصه بالشبهات الموضوعیّة، بل یعمّهما.


1- البقرة( 2): 275.
2- کفایة الاصول: 386.

ص: 236

التعرّض لباقی فقرات حدیث الرفع
اشارة

ثمّ إنّه لا بدّ من التعرّض و البحث فی خصوص کلّ واحد من الامور التسعة المذکورة فی الروایة، و تفصیل الکلام فی کلّ واحد منها:

عنوان «النسیان»
اشارة

فمنها النسیان: و هو قد یتعلّق بالحکم الشرعی الاستقلالی، و قد یتعلّق بالحکم الضمنی، و قد یتعلّق بالحکم الوضعی، مثل الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة، أو العربیّة و الماضویّة فی العقد.

و قد یتعلّق بالموضوع الخارجی: إمّا بنفس الموضوع، کما لو نسی الإتیان بالصلاة، و إمّا بجزئه أو شرطه أو مانعه، کما لو نسی السورة أو الطهارة أو أوجد المانع نسیاناً.

أمّا نسیان الحکم: فقد تقدّمت الإشارة إلی أنّه فی صورة الغفلة عن الحکم رأساً رفعه عقلیّ؛ بمعنی رفع المؤاخذة عنه، و أنّه لا یختصّ ذلک بهذه الامّة، فلا بدّ فی تصحیح الحکم برفعه شرعاً فی خصوص الامّة المرحومة امتناناً علیهم، أن یفرض ذلک فیما لا یحکم العقل بقبح المؤاخذة علیه، کما فی النسیان الناشئ عن المسامحة و قلّة المبالاة و ترک التحفّظ و تقصیر المکلّف، فإنّه یصحّ- حینئذٍ- ادّعاء رفعه شرعاً بانتفاء الآثار المترتّبة علیه فی الشرائع السابقة من المؤاخذة و إیجاب التحفّظ.

و أمّا النسیان المتعلِّق بالجزء و الشرط و غیرهما، فلا بدّ من البحث فیه فی مقامین:

الأوّل: فی شمول حدیث الرفع لجمیع الأقسام أو بعضها أو عدم شموله.

ص: 237

الثانی: فی الإجزاء بعد فرض شمول الحدیث لجمیع الأقسام.

و هذان المقامان ممّا وقع الخلط بینهما فی کلام المیرزا النائینی(1) و المحقّق العراقی 0(2) و لکن لا بدّ من التفکیک بینهما فنقول:

أمّا المقام الأوّل: فذهب المیرزا النائینی قدس سره إلی شمول الحدیث لما إذا نسی الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة و ما إذا نسی المانع، دون ما إذا نسی الجزء أو الشرط لوجوه:

الأوّل: ما تقدّم من أنّ الحدیث لا یشمل رفع الامور العدمیّة؛ لأنّ رفع العدم وضع، و الحدیث لا یتکفّل الوضع، و المفروض أنّه لم یأتِ بالجزء أو الشرط، و خُلوّ صفحة الوجود عنهما.

الثانی: أنّ الآثار المترتّبة علی الجزء و الشرط لیست إلّا الإجزاء و صحّة الصلاة و العبادة، و هما من الآثار العقلیّة له لا الشرعیّة، و یحتاج الرفع التشریعی إلی الأثر الشرعی.

الثالث: أنّه مع الغضّ عن ذلک لا یمکن أن یقال: إنّ رفع السورة المنسیّة إنّما هو بلحاظ رفع أثر الإجزاء و الصحّة، فإنّ ذلک یقتضی عدم الإجزاء و فساد العبادة، و هو یُنافی الامتنان، و یُنتج عکس المقصود، فإنّ المقصود من التمسُّک بحدیث الرفع تصحیح العبادة لا فسادها.

أقول: قد تقدّم الجواب عمّا ذکره فی وجه اختصاص الحدیث برفع الامور الوجودیّة و عدم شموله للُامور العدمیّة، و نقول- أیضاً-: إنّ متعلّق النسیان فی الفرض هو وجود السورة أو الشرط لا عدمهما، و الرفع هنا ادّعائیّ، و لا إشکال فی صحّة ادّعاء رفع المنسیّ، و هو الجزء و الشرط بلحاظ الجزئیّة و الشرطیّة، و لم یتعلّق


1- فوائد الاصول 3: 353.
2- نهایة الأفکار 3: 218.

ص: 238

بالأمر العدمی، و قد عرفت أنّ الرفع فی الحدیث متعلّق بکلّ واحد من العناوین الکلّیّة- و منها عنوان النسیان- لا الأفراد الخارجیّة منها التی تنطبق علیها هذه العناوین، و حینئذٍ فیندفع جمیع الوجوه التی ذکرها قدس سره فإنّ ادّعاء رفع السورة بلحاظ جزئیّتها عند النسیان تقتضی الإجزاء و الصحّة، فلا ینتج خلاف المقصود و الامتنان، و الجزئیّةُ و الشرطیّة- أیضاً- من الآثار الشرعیّة.

نعم هنا إشکال آخر: و هو أنّ الجزئیّة و الشرطیّة من العناوین المنتزعة عن الأمر المتعلّق بالصلاة المرکّبة من أجزاء عشرة- مثلًا- فینتزع منه جزئیّة کلّ واحد من الأجزاء، و رفع الجزئیّة و الشرطیّة لا یصحّ إلّا برفع منشأ انتزاعها، و هو الأمر الکلّی المتعلّق بالمرکّب، و مقتضی رفعه عدم الصحّة و الإجزاء، و هو خلاف المقصود و الامتنان.

و لکنّه مندفع:

أمّا أوّلًا: فلأنّ التحقیق أنّ الجزئیّة و الشرطیّة من الأحکام الوضعیّة التی هی مجعولة مستقلّاً، و لیست من الامور المنتزعة.

و ثانیاً: أنّ حدیث الرفع لیس إلّا مثل حدیث

(لا تُعاد ...)

(1) و أدلّة نفی العسر و الحرج(2)؛ فی حکومة کلّ واحد منها علی الأدلّة المتکفّلة لبیان الأحکام الأوّلیّة، و تخصیص الأمر الصلاتی المتعلّق بعشرة أجزاء مثلًا بغیر الناسی للجزء أو الشرط، و مقتضاه صحّة الصلاة و إجزاؤها مع نسیانه.

و أمّا الکلام فی المقام الثانی: و هو إجزاء الصلاة المأتیّ بها المفروض نسیان جزئها أو شرطها:


1- الفقیه 1: 181/ 17، وسائل الشیعة 3: 227، کتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحدیث 1.
2- البقرة( 2): 185، الحج( 22): 78.

ص: 239

فقال المیرزا النائینی و المحقّق العراقی 0: إنّ النسیان لو لم یستوعب جمیع الوقت، و تذکّر قبل خروج الوقت، فلا یقتضی حدیث الرفع عدم وجوب الإعادة بعد التذکّر و إِجزاء المأتیّ به؛ لأنّ حدیث الرفع لا یدلّ إلّا علی رفع جزئیّة المنسیّ ما دام النسیان، و أمّا بعد التذکّر فلا یدلّ علیه، فمقتضی عدم إتیانه بالمرکّب التامّ بعد التذکّر، و بقاء المصلحة الواقعیّة التامّة الداعیة إلی المرکّب التامّ الغیر المستوفاة، هو حدوث التکلیفِ بالإعادة و الأمرِ بالمرکّب التامّ جدیداً(1). انتهی.

و ممّا ذکرنا ظهر ما فیه؛ حیث عرفت أنّ مقتضی حکومة الحدیث علی الأدلّة الأوّلیّة المتکفّلة للأحکام الواقعیّة هو الإجزاء و عدم وجوب الإعادة فی الفرض، و لیس هنا أمران تعلّق أحدهما بعشرة أجزاء بالنسبة إلی الذاکر، و بتسعة أجزاء بالنسبة إلی الناسی، بل لیس فیه إلّا أمر واحد، و هو «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ»(2) لجمیع المکلّفین، و یدلّ حدیث الرفع علی أنّ جزئیّة المنسیّ ساقطة بالنسیان، و مقتضی سقوطها عن الجزئیّة، هو کفایة الإتیان بسائر الأجزاء و عدم وجوب الإعادة بعد التذکّر، و إلّا فلیس لجمیع المکلّفین- القادرین و العاجزین و الذاکرین و الناسین و غیرهم- إلّا أمر واحد متعلّق بطبیعة الصلاة، و کلّ یمتثل ذلک الأمر.

نعم لو نسی الإتیان بأصل الصلاة فحدیث الرفع إنّما یرفع المؤاخذة علیه، و لا یرفع وجوب الإتیان بها فی الوقت و وجوب قضائها خارج الوقت بعد التذکّر؛ لعدم إتیانه بشی ء حتی یحکم بإجزائه؛ لأنّ المفروض أنّه ترکها بالکلّیّة.

و ظهر ممّا ذکرنا- أیضاً- ما فی کلام المیرزا النائینی قدس سره: من أنّه کما لو نسی أصل الصلاة لا یقتضی حدیث الرفع الإجزاء، و عدمَ وجوب الإتیان بها فی بقیّة


1- فوائد الاصول 3: 355، و نهایة الأفکار 3: 221.
2- الإسراء( 17): 78.

ص: 240

الوقت بعد التذکّر، کذلک لو ترک جزءاً منها(1).

و ذلک لما عرفت من الفرق بینهما، فإنّه لم یأتِ فی الأوّل بشی ءٍ حتی یحکم بالإجزاء، بخلاف الثانی، فإنّ المفروض أنّه أتی بالصلاة، لکن نسی جزءاً منها أو أکثر غیر الأرکان؛ بحیث یصدق علیها الصلاة.

و قال المحقّق العراقی فی باب الاشتغال: إنّ المکلّف لم یترک طبیعة الحمد- مثلًا- نسیاناً حتّی یقتضی حدیث الرفع الإجزاء، بل المفروض أنّه نسی فرداً منها، و لا یقتضی نسیانُه الإجزاء(2).

و فیه: أنّه لا ریب فی أنّ الناسی إنّما نسی طبیعة الحمد، لا فرداً منها.

و أمّا ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره: من أنّه إن کان المدرک لصحّة الصلاة الفاقدة لجزء أو شرط نسیاناً هو حدیث الرفع، لزم صحّة الصلاة بمجرّد نسیان الجزء أو الشرط مطلقاً من غیر فرق بین الأرکان و غیرها؛ لعدم إمکان استفادة التفصیل بینهما من حدیث الرفع.

و یؤیّد ذلک: أنّه لم یُعهد من الفقهاء التمسُّک بحدیث الرفع لصحّة الصلاة و غیرها من سائر المرکّبات، بل المتمسَّک به لها هو خبر (لا تعاد) المفصِّل بین الأرکان و غیرها من الأجزاء و الشرائط(3).

ففیه: أنّه لیس حدیث الرفع ممّا لا یقبل التخصیص، و لیس المراد التمسّک بحدیث الرفع لصحّة الصلاة مع نسیان مطلق الأجزاء و الشرائط بدون استثناء و تخصیص، فإنّه عامّ یمکن تخصیصه بغیر الأرکان بحدیث

(لا تعاد ...)

، بل خبر (لا تعاد)- أیضاً- مخصَّص بغیر تکبیرة الإحرام.


1- فوائد الاصول 4: 226.
2- نهایة الأفکار 3: 429.
3- فوائد الاصول 3: 355.

ص: 241

و أمّا ما ذکره: من عدم معهودیّة التمسّک بحدیث الرفع فی المقام من الفقهاء.

ففیه: أنّه تمسّک السیّد المرتضی قدس سره فی مسألة نسیان السلام بحدیث الرفع، و حکم بکلّیّة ذلک فی الأحکام(1)- علی ما ببالی- و کذلک السیّد أبو المکارم ابن زهرة(2) و العلّامة(3) و المقدّس الأردبیلی(4)- قدّست أسرارهم- هذا کلّه فی العبادات.

النسیان فی المعاملات

و أمّا المعاملات: فإن کان المنسیّ أصل إیقاع المعاملة- کالعقد و الطلاق و غیرهما من الأسباب الشرعیّة- فلا ریب فی أنّه مثل نسیان أصل العبادة؛ فی أنّه لم یأتِ بشی ءٍ حتّی یُحکم بالإجزاء، و یشمله حدیث الرفع، فلا یحکم بحصول المسبّبات.

و إن نسی جزءها أو شرطها مع إیقاع أصل المعاملة، فإن کان ذلک الجزء أو الشرط المنسیّان من مقوّمات المعاملة عرفاً، فلا یشمله حدیث الرفع- أیضاً- و ذلک کالقصد المعتبر فی المعاملة و الطلاق و النکاح و نحوهما، فإنّه مع عدم القصد إلیها لا تتحقّق المعاملة عرفاً.

و أمّا الجزء و الشرط الشرعیّان کالعربیّة و الماضویّة، فقال المیرزا النائینی قدس سره أیضاً: إنّه لا یشمله حدیث الرفع؛ لعدم شموله للُامور العدمیّة، و المفروض أنّه ترک الجزء أو الشرط(5).


1- المسائل الناصریات، ضمن الجوامع الفقهیة: 235 مسألة 94 سطر 27.
2- الغنیة، ضمن الجوامع الفقهیة: 504 سطر 13.
3- انظر منتهی المطلب 1: 413 سطر 33.
4- مجمع الفائدة و البرهان 3: 133.
5- فوائد الاصول 3: 356- 357.

ص: 242

و قد تقدّم الجواب عنه، و اختاره المحقّق العراقی- أیضاً- و قال فی وجهه: إنّ حدیث الرفع إنّما یشمل ما فی رفعه امتنان علی الامّة، و لیس فی رفع الجزئیّة و الشرطیّة فی المقام منّة؛ یعنی فی تنزیل العقد الفارسی منزلة العربی مثلًا(1).

أقول: إذا نکح أحدٌ امرأةً، و نسی العربیّة المعتبرة فی العقد، و تذکّر بعد مدّة مدیدة أنّه أخلّ بالعربیّة فی العقد نسیاناً، فلا ریب فی أنّ فی رفع اعتبار العربیة- فی الفرض- امتناناً، و الحکم بعدم الرفع خلاف المنّة، و کذلک لو اشتری داراً أو عقاراً، و فرض أنّه زادت قیمته السوقیّة عن ثمنه الذی اشتراه به، و استوفی المشتری نماءات کثیرة منه، فإنّ الحکم برفع اعتبار العربیّة امتنان قطعاً، و الحکم بعدم شمول حدیث الرفع له، و فسادِ المعاملة- و إرجاع العین المشتراة مع جمیع منافعها المستوفاة، و أخذ الثمن الذی اشتراها به- خلاف المنّة و إضرار بالمشتری.

عنوان «الاضطرار»

و من العناوین المذکورة فی الحدیث «ما اضطُرّوا إلیه»: و الاضطرار: إمّا إلی ترک الواجب، أو ارتکاب محرّم تکلیفیّ، فلا ریب فی أنّه مشمول للحدیث، و إمّا إلی إیقاع معاملة، أو ترک جزء منها، أو شرط لها، کالطلاق بدون حضور العدلین، ففیه تفصیل: فإنّه إن اضطُرّ إلی بیع داره- مثلًا- لمصلحة له فی ذلک، کالاحتیاج إلی ثمنها لسدّ جوعه أو معالجة مرضه و حفظ نفسه، فلا ریب فی عدم شمول الحدیث له؛ لأنّ الحکمَ بعدم صحّة هذا البیع خلافُ الامتنان، و کذلک لو اضطُرّ إلی دفع ثمنها إلی سلطان جائر یخاف منه علی نفسه لو لم یدفعه، فاضطُرّ إلی بیعها لتحصیل ما یدفع إلیه.

و أمّا لو اضطُرّ إلی هبة داره منه أو عقاره فهو مشمول للحدیث؛ لأنّ الحکم


1- نهایة الأفکار 3: 221.

ص: 243

بفساد تلک الهبة لیس خلاف المنّة، بل هو عین الامتنان، فإنّه ربّما یتمکّن هذا الشخص من أخذ ماله منه، فیأخذه منه قهراً علیه.

و إن تعلّق الاضطرار بترک جزء من أجزاء العبادة أو شرطها، فلا یشمله حدیث الرفع، لا لما ذکره المیرزا النائینی قدس سره: من أنّ الترک أمر عدمیّ لا یشمله الحدیث(1)؛ لما عرفت من عدم استقامته، بل لأنّ الرفع الشرعی إنّما یصحّ إذا ترتّبت أثر شرعیّ علی الموضوع، و لا أثر شرعیّ لترک السورة- مثلًا- اضطراراً.

و أمّا الجزئیّة و الشرطیّة فهما مترتّبان علی وجود الجزء و الشرط، لا علی ترکهما، و بهذا یُفرّق بین ما نحن فیه و بین نسیان الجزء أو الشرط الذی قلنا بشمول حدیث الرفع له، فإنّ النسیان هناک متعلّق بوجود الجزء و الشرط المنسیّین، و لهما أثر شرعیّ؛ أی الجزئیّة و الشرطیّة، فیصحّ ادّعاء الرفع فیه بلحاظ انتفاء الجزئیّة و الشرطیّة، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ الاضطرار لم یتعلّق بالأمر الوجودی؛ أی وجود الجزء و الشرط، بل بترکهما؛ لأنّ المفروض أنّه اضطُرّ إلی ترکهما، و لیس لترکهما أثر شرعیّ یصحّ ادّعاء الرفع بلحاظ انتفائه.

و أمّا وجوب إعادة الصلاة فلیس أثراً شرعیّاً لترک الجزاء أو الشرط، بل العقل حاکم بوجوب الإعادة علی من لم یأتِ بالمأمور به الجامع لجمیع أجزائه و شرائطه و بقاء أمره.

و ظهر بما ذکرنا ما فی کلام المحقّق العراقی قدس سره حیث ذهب إلی شمول الحدیث له باعتبار وجوب الإعادة؛ لأنّه مع ترک الجزء أو الشرط لم یأتِ بالمأمور به، فالأمر الصلاتی باقٍ بعدُ یجب امتثاله بالإعادة(2)؛ و ذلک لما عرفت من أنّ وجوب الإعادة حکم عقلیّ، لا شرعیّ.


1- فوائد الاصول 3: 353.
2- انظر نهایة الأفکار 3: 223.

ص: 244

و لو اضطُرّ إلی إیجاد المانع، کالتکتّف و قول «آمین»، شمله حدیث الرفع.

عنوان «ما لا یطیقون»

و من العناوین المذکورة فی الروایة «ما لا یطیقون»، فما لا یُطاق: إمّا موضوع لحکمٍ نفسیٍّ مستقلٍّ، کالصوم و الحجّ إذا عجز المکلّف عنهما، فلا إشکال فی شمول حدیث الرفع له، فهو مرفوع باعتبار ما لهما من الحکم الشرعیّ، و هو الوجوب، و کذلک لو کان متعلّق عدم الطاقة الإتیان بجزء أو شرط، کالقراءة و القیام و نحوهما فی الصلاة، فإنّه یشمله الحدیث باعتبار انتفاء الجزئیّة و الشرطیّة اللتین هما من الآثار الشرعیّة، و ربّما یؤدّی عدم الطاقة علی فعل جزء أو شرط و نحوهما إلی الاضطرار إلی فعل ضدّه، فیشمله الحدیث بعنوان «ما اضطُرّوا إلیه»، کما إذا لم یقدر المحرِم علی المشی تحت السماء لحرّ الشمس، فإنّه یُضطرّ إلی التظلیل، فیتمسّک ب «ما اضطُرّوا إلیه»، و کما إذا لم یتمکّن من السکون، فإنّه یُضطرّ إلی الحرکة؛ أی إلی ضدّه، و بالعکس.

عنوان «الإکراه»
اشارة

و من العناوین المذکورة فی الحدیث «ما استکرهوا علیه»: و الإکراه قد یتعلّق بفعل محرّم، أو ترک واجب، أو بمعاملة من المعاملات، أو بکیفیّة خاصّة منها، أو فی العبادات، کالصلاة متکتّفاً، أو مع ترک السورة، أو ترک جزء معاملة أو شرطها، ففی عبارة تقریرات مباحث المحقّق العراقی قدس سره: أنّ الإکراه إنّما یختص المعاملات بالمعنی الأخصّ خاصّة، و أنّه لا یشمل العبادات؛ باعتبار أنّه لم یُعهد من أحد من الفقهاء التمسُّک فی الإکراه علی عبادة أو جزئها بحدیث رفع الإکراه؛ لعدم إناطة العبادات بالرضا، بخلاف المعاملات؛ لاعتبار التراضی فیها الذی یُنافیه الإکراه علی

ص: 245

المعاملة ینتفی شرطها الذی هو التراضی(1). انتهی.

أقول: الظاهر أنّ تقیید المعاملات بالمعنی الأخصّ اشتباه وقع من النسّاخ، و لا ینبغی نسبة ذلک إلی مثله قدس سره و لا یلتزم به المقرّر- أیضاً- و کیف یمکن الالتزام بعدم شمول الحدیث لمثل الطلاق و النکاح و العتق إذا وقعت عن إکراه مع استشهاد الإمام علیه السلام فی صحیحة البزنطی بالحدیث بالنسبة إلی الطلاق و العتاق و الصدقة إذا وقعت عن إکراه؟! و هی عنه، عن أبی الحسن علیه السلام قال: سألته عن الرجل یُستکره علی الیمین، فیحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما یملک، أ یلزمه ذلک؟ فقال: (لا)، ثمّ قال:

(قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم: وُضع عن امّتی ما اکرهوا علیه، و ما لم یطیقوا، و ما أخطئوا)

(2).

و کذا استشهاد الإمام بالنسبة إلی خصوص الیمین إذا وقع عن إکراه بالحدیث

فیما رواه محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن موسی بن سعدان، عن عبد اللَّه بن القاسم، عن عبد اللَّه بن سنان، قال: قال أبو عبد اللَّه علیه السلام:

(لا یمین فی غضب، و لا فی قطیعة رحم و لا فی جبر و لا فی إکراه).

قال قلت: أصلحک اللَّه فما الفرق بین الإکراه و الجبر؟

قال: (الجبر من السلطان، و یکون الإکراه من الزوجة و الامّ و الأب، و لیس ذلک بشی ء)

(3).

و بالجملة: لا ریب فی شمول الحدیث للمعاملات بالمعنی الأعمّ؛ أی ما سوی العبادات بالمعنی الأخصّ.


1- نهایة الأفکار 3: 224.
2- المحاسن: 339/ 124، وسائل الشیعة 16: 173، کتاب الأیمان، الباب 16، الحدیث 6.
3- الکافی 7: 442/ 16، وسائل الشیعة 16: 172، کتاب الأیمان، الباب 16، الحدیث 1.

ص: 246

حدّ الإکراه المرفوع

و أمّا الإکراه فی الأحکام فلا ریب فی عدم شموله لها فی بعض الموارد، کما إذا لزم من العمل المکره علیه هدم أساس الدین، کما لو اکره عالم متنفّذ علی تصنیف کتاب فی الردّ علی الإسلام و المذهب أو القرآن و نظائر ذلک، فإنّه لا یجوز ارتکاب ذلک بالإکراه و لو أدّی ترکه إلی قتله، و التقیّة- أیضاً- کذلک، فإنّها إنّما تشرع إذا لم تستلزم الفسادَ فی الدین، کما قُیِّدت بذلک فی بعض الأخبار(1).

نعم الإکراه علی ما لا یوجب الفساد فی الدین و الإخلال فی شریعة سیّد المرسلین صلی الله علیه و آله و سلم و نحوه، کما لو اکره علی شرب الخمر و نحوه، فیشمله الحدیث.

و لکن لو خُیِّر بین شرب الخمر و بین الحبس و دخول السجن- مثلًا- فلا یشمله حدیث الرفع فإنّه لیس إکراهاً علی شرب الخمر، بل هو مضطرّ إلی الدخول فی السجن.

و أمّا الإکراه المتعلِّق بترک جزء العبادة أو ترک شرطها أو إیجاد المانع علی فرض إتیانه بالصلاة- لا علی أصل العبادة- فإن کان ذلک فی سعة الوقت فلا یشمله الحدیث؛ لعدم صدق الإکراه- حینئذٍ- علی أصل الإتیان بها مع إمکان تأخیرها عن أوّل الوقت، و المفروض أنّه لیس مُکرهاً علی الإتیان بأصل العبادة کذلک، بل علی ترک جزئها أو شرطها أو إیجاد المانع علی تقدیر الإتیان بها.

و أمّا فی ضیق الوقت فیصدق علی أنّه مکره علی ترک الجزء أو الشرط أو إیجاد المانع؛ لعدم إمکان تأخیرها فی المفروض، و کذلک لو اکره علی أصل الإتیان بالعبادة بدون الجزء أو الشرط و لو فی سعة الوقت.


1- الکافی 2: 134/ 1، وسائل الشیعة 11: 469، کتاب الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، أبواب الأمر و النهی و ما یناسبهما، الباب 25، الحدیث 6.

ص: 247

نعم یرد علی ترک الجزء أو الشرط إکراهاً: أنّه لا یترتّب علیه أثر شرعیّ، و أنّه لا معنی للرفع فی الموضوعات إلّا بلحاظ الآثار الشرعیّة کما تقدّم ذلک فی صورة الاضطرار علیهما.

و أمّا الإکراه علی ترک الجزء أو الشرط فی المعاملات: فإن کان مضطرّاً إلی تلک المعاملة بالفعل لمعاشه؛ بحیث یوجب ترکها الاختلال فیه یشمله حدیث الرفع؛ لصدق الإکراه علیها- حینئذٍ- عرفاً، و أمّا إذا لم یوجب تأخیرها عن ذلک الوقت ضرراً و اختلالًا فی معاشه؛ لعدم الاضطرار إلیها فوراً، فلا یشمله حدیث الرفع؛ لعدم صدق الإکراه- حینئذٍ- عرفاً.

ثمّ إنّه جعل المیرزا النائینی قدس سره المسبّبات علی قسمین: ثانیهما ما نقله عن الشیخ الأعظم قدس سره(1) و هی الامور الواقعیّة التی کشف عنها الشارع، کالطهارة و النجاسة الخبثیّة و و إن ضعّفنا ذلک فی محلّه، لکن علی فرض ذلک فهو ممّا لا تناله ید الوضع و الرفع التشریعی؛ لأنّها من الامور التکوینیّة، نعم یصحّ رفعها بلحاظ ما لها من الآثار الشرعیّة.

و لا یُتوهّم أنّ ذلک مستلزم لعدم وجوب الغسل علی من اکره علی الجنابة و عدم وجوب التطهیر علی من اکره علی تنجیس بدنه؛ لأنّ الجنابة المکره علیها یصحّ رفعها باعتبار ما لها من الأثر الشرعی، و هو وجوب الغسل، و کذلک النجاسة بالنسبة إلی وجوب التطهیر؛ لأنّ الغسل و التطهیر أمران وجودیّان قد أمر الشارع بهما عقیب الجنابة و النجاسة مطلقاً من غیر فرق بین الاختیاریّة منهما أو الغیر الاختیاریّة(2). انتهی.

أقول: و لا یخفی ما فی هذا الجواب عن الإشکال الذی أورده علی نفسه،


1- فرائد الاصول: 351 سطر 18.
2- فوائد الاصول 3: 357- 359.

ص: 248

فإنّه لا ریب فی أنّهما أمران وجودیّان، و لا یُنافی ذلک کونهما من الآثار الشرعیّة، فإن أراد قدس سره أنّ حدیث الرفع لا یشمل ذلک، فلا ریب فی أنّه لا مانع من شموله له و لجمیع الموضوعات التی تترتّب علیها الآثار الشرعیّة؛ إذا طرأ علیها أحد هذه العناوین.

و إن أراد أنّ الحدیث مخصَّص فمرجعه إلی قیام دلیل خاصّ علی عدم الرفع فیهما.

و حلّ الإشکال: أنّ غسل الجنابة و تطهیر البدن عن النجاسة لیسا واجبین نفسیّین، بل هما مستحبّان نفسیّان، التی یجوز ترکهما اختیاراً، و المکلّف مختار فی الإتیان بهما و عدمه، و لا یصحّ الرفع التشریعی بلحاظ الآثار المستحبّة؛ لأنّ رفع المستحبّ معناه رفع التخییر، و هو خلاف الامتنان.

و أمّا وجوبهما للصلاة و نحوها فلا بدّ من ملاحظة أنّه مکره أو مضطرّ إلی فعل العبادة المشروط بهما أولا، فعلی الأوّل یجری فیه ما تقدّم من التفصیل بین سعة الوقت و ضیقه المتقدّم ذکره آنفاً.

هذا خلاصة البحث و الکلام فی حدیث الرفع، و قد عرفت أنّه صحیح سنداً و تامّ دلالةً.

و أمّا الأخبار الاخر التی استدلّ بها للبراءة فهی إمّا ضعیفة السند أو الدلالة أو معاً:

حدیث الحجب

فمن الاولی:

ما عن أحمد بن محمّد بن یحیی، عن أبیه، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبی الحسن زکریّا بن یحیی(1)،


1- خ ل: محمّد. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 249

عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)

(1) و زکریّا بن یحیی مشترک بین الثقة و الضعیف، و لکن دلالة هذا الخبر علی البراءة تامّة؛ حیث إنّ مقتضی مناسبة الحکم و الموضوع، و نسبةِ الرفع إلی «ما حجب اللَّه علمه عن العباد»، هو أنّ الأحکام التی بیّنها الشارع تعالی، و جعلها للعباد، و لکن حجب بعضها عن بعضهم، لکن لا لتقصیر منهم، بل لأمر خارج عن اختیارهم، فهی مرفوعة عنهم، فإنّها التی یصحّ رفعها، لا الأحکام التی حجبها اللَّه تعالی عن جمیع العباد؛ و لم یبیِّنها أصلًا حتّی للنبیّ صلی الله علیه و آله و سلم بل سکت عنها، کما اختاره الشیخ قدس سره(2) لوضوح أنّه لا معنی للرفع عمّا سکت اللَّه عنه و لم یبیِّنه أصلًا.

فانقدح بذلک: ما فی الإشکال الذی ذکره قدس سره علی دلالة الخبر: أنّه من قبیل

(إنّ اللَّه ... و سکت عن أشیاء ...)

(3) الحدیث، و أنّه لا دلالة له علی ما نحن فیه.

فإن قلت: نسبة الحجب إلیه تعالی تقتضی إرادة هذا المعنی الذی ذکره قدس سره لا ما ذکرتَه.

قلت: لیس کذلک، فإنّ إسناد الأفعال التی لیست تحت اختیار العباد فی الکتاب و السُّنّة إلیه تعالی غیر عزیز، مثل «یُضِلُّ مَنْ یَشاءُ وَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ»*(4) و لا إشکال فی صحّة إسناد الحجب إلیه تعالی فیما نحن فیه أیضاً.

و ذکر المحقّق العراقی قدس سره فی المقام: و لعل هذا الخبر أدلّ علی البراءة من حدیث الرفع؛ حیث إنّه قیل باختصاص حدیث الرفع بالموضوعات الخارجیّة و إن


1- التوحید: 413/ 9، وسائل الشیعة 18: 119، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 28.
2- فرائد الاصول: 199 سطر 10.
3- الفقیه 4: 53/ 15، وسائل الشیعة 18: 129، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 61.
4- النحل( 16): 93.

ص: 250

ضعّفناه فیما تقدّم، و لکن لا یحتمل ذلک فی حدیث الحجب، بل هو مختصّ بالأحکام الشرعیّة؛ حیث إنّها هی التی وضْعُها و رفْعُها بید الشارع، و یصحّ إسنادها إلیه تعالی، بخلاف الموضوعات الخارجیّة.

ثمّ ذکر: أنّ الأحکام علی ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما لم یبیِّنها اللَّه تعالی أصلًا، و لم یُعْلِمها النبیَّ صلی الله علیه و آله و سلم أیضاً بالوحی، و هو ما سکت اللَّه عنه.

الثانی: ما أعلمها اللَّهُ النبیَّ بالوحی إلیه، و لکن لم یؤمر بتبلیغها للناس، أو امر بعدمه.

الثالث: ما أوحی اللَّه إلی نبیّه و أمره بتبلیغها للناس، و هی الأحکام التی بأیدینا.

و کما أنّ هذا القسم من الأحکام فعلیّة، کذلک القسم الثانی منها، فإنّ المراد من فعلیّة التکلیف هو صیرورته محفوظاً من ناحیة الخطاب، و القسم الثانی- أیضاً- کذلک، بخلاف القسم الأوّل، فإنّها أحکام إنشائیّة لا فعلیّة.

و حینئذٍ نقول: إنّ حدیث الحَجْب لا یختصّ بالقسم الأوّل- کما ذکره الشیخ قدس سره- بل یشمل القسم الثانی أیضاً، و حینئذٍ یثبت حکمه للقسم الثالث؛ لأنّه لا فصل بینهما.

ثمّ ذکر: أنّه یمکن أن یقال: إنّ المقصود من الحدیث هو أنّ الأحکام التی بیّنها اللَّه تعالی، و لکن حجب علمها؛ لبعض الامور الخارجیّة ... إلی آخر ما اخترناه أوّلًا(1). انتهی.

أقول: و فیه أوّلًا: لا یخفی التهافت بین صدر کلامه و ذیله؛ حیث إنّه قدس سره ذکر أوّلًا اختصاص الحدیث بالأحکام و عدم شموله للموضوعات، و مقتضی ما ذکره


1- نهایة الأفکار 3: 226- 227.

ص: 251

أخیراً- و اخترناه أیضاً- هو شمول الحدیث للموضوعات الخارجیّة- أیضاً- فإنّ مقتضی ما ذکره- و اخترناه فی ذیل کلامه- هو شمول الخبر لما بیّنه اللَّه تعالی، و لکن لم تصل إلی المکلّفین لأجل آفة سماویّة، کما لو کانت مضبوطة فی کتاب فاحرق أو أتلفه السیل، و لا ریب أنّ الحرق و إتلاف السیل من الموضوعات الخارجیّة، و قضیة ذلک عدم اختصاص الحدیث بالأحکام خاصّة.

و ثانیاً: ما ذکره من أنّ معنی فعلیّة الحکم محفوظیّته من ناحیة الخطاب، فیه:

أنّ الملاک فی فعلیّة التکلیف و الحکم هو وقوعه مورد الإجراء بین المکلّفین، لا ما ذکره، فکلّ حکم امر النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم بتبلیغه و إجرائه بین الناس فهو فعلیّ، و ما لیس کذلک فهو إنشائی و إن اوحی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم فقط، فالقسم الثانی الذی ذکره من الأحکام الإنشائیّة، لا الفعلیّة.

و ثالثاً: ما ذکره من عدم الفصل بین القسمین الأخیرین: إن أراد قیام الإجماع علیه، ففیه: أنّه لم یتعرّض لذلک أحد من الفقهاء غیره، فضلًا عن تحقّق الإجماع علیه، و إن أراد عدم الفصل بینهما عقلًا، فهو ممنوع؛ للفرق بینهما؛ لأنّه من الممکن أن یکون للقسم الأوّل منهما حکم یخصّه، و لا یتأتّی هو فی الثانی.

حدیث السعة

و من الأخبار التی استُدلّ بها للبراءة: قوله علیه السلام:

(الناس فی سعة ما لا یعلمون)

(1)، و هذا الخبر لم نظفر بسنده.

نعم

روی محمّد بن یعقوب، عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن النوفلی، عن السکونی، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام: (أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام سُئل عن سُفرة وجدت فی


1- عوالی اللآلی 1: 424/ 109، مستدرک الوسائل 18: 20، کتاب الحدود، أبواب مقدمات الحدود، الباب 12، الحدیث 4.

ص: 252

الطریق مطروحة؛ کثیر لحمها و خبزها و بیضها و جبنها، و فیها سکّین.

فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: یُقوَّم ما فیها، ثمّ یُؤکل؛ لأنّه یفسد، و لیس له بقاء، فإن جاء طالبها غَرِموا له الثمن.

قیل: یا أمیر المؤمنین لا یُدری سُفرة مسلم أو سُفرة مجوسیّ، فقال علیه السلام:

هم فی سعة حتی یعلموا)

(1).

لکنّه غیر الخبر المذکور، لکن لا إشکال فی تمامیّة دلالته علی المطلوب؛ سواء جعل لفظ «ما» موصولة أو ظرفیّة، فإنّ معناه علی الأوّل: الناس فی سعة الذی لا یعلمونه، و لیسوا فی الضیق، و علی الثانی معناه: الناس فی سعة ما داموا لا یعلمون، و علی کلا التقدیرین یثبت المطلوب.

و أورد علیه الشیخ قدس سره بأنّه علی فرض تمامیّة دلالته فهو لا ینافی مقالة الأخباری و أدلّتهم علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة البدویّة؛ لورود أدلّتهم علی هذا الخبر؛ حیث ینتفی موضوع الحکم بالسعة بالدلیل القائم علی وجوب الاحتیاط، فإنّ الأخباری- أیضاً- یدّعی العلم بوجوب الاحتیاط.

و بالجملة: إنّ الحکم بالسعة فی هذا الخبر مُغیّا بالعلم، و الأخباری یدّعی العلم بوجوب الاحتیاط، فلا تعارض بینهما(2).

و قال المحقّق الخراسانی قدس سره: إنّ ذلک- أی عدم المعارضة بینهما- مبنیّ علی أن یکون وجوب الاحتیاط نفسیّاً، فإنّ وقوعهم فی ضیق الاحتیاط إنّما هو بعد العلم بوجوبه، و حینئذٍ فلا تعارض بینهما.

و أمّا بناء علی القول بأنّ وجوب الاحتیاط طریقیّ لئلّا یقعوا فی مخالفة


1- الکافی 6: 297/ 2، وسائل الشیعة 2: 1073، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 50، الحدیث 11.
2- فرائد الاصول: 199 سطر 14.

ص: 253

الواقع أحیاناً، فأدلّة الاحتیاط تعارض هذا الخبر؛ حیث إنّ هذا الخبر یدلّ علی السعة فیما لم یعلم الواقع، و أدلّة الاحتیاط تدلّ علی الضیق فیما لم یعلم الواقع فیتعارضان(1). انتهی ملخّصه.

أقول: یمکن أن یقال: إنّه- بناء علی أنّ وجوب الاحتیاط نفسیّ- أیضاً یتعارض هذا الخبر مع أدلّة الاحتیاط؛ حیث إنّ هذا الخبر یدلّ علی السعة فیما لا یعلم، و أدلّة الاحتیاط تدلّ علی الضیق فیه و وجوبه فیما لا یعلم، و هل هذا إلّا التعارض؟!

فإن قلت: نعم، و لکن الحیثیّتان مختلفتان: ففی مورد الجهل بالواقع من حیث صفة الجهل بالواقع فالمکلّف فی سعة، و من حیث إنّه ذو مفسدة یجب الاحتیاط، و لا تنافی بینهما مع اختلاف الحیثیّتین، نظیر أنّ الغنم- من حیث هی- حلال، و من حیث إنّها موطوءة حرام، فباختلاف الحیثیّتین یندفع إشکال التعارض بینهما.

قلت: هذا إنّما یصحّ لو أمکن انفکاک کلّ واحدة من الحیثیّتین عن الاخری کما فی مثال الغنم و الحیوان الموطوء، فإنّ الحلّیّة متعلِّقة بالغنم، و الحرمة بالغنم الموطوءة، و کل واحد منهما ینفکّ عن الآخر، بخلاف ما نحن فیه، فإنّه لا تنفکّ إحدی الحیثیّتین عن الاخری أبداً، و- حینئذٍ- فلا یجوز للإمام أو الفقیه أن یقول فی الجواب عن السؤال عن وجوب الاحتیاط فی مجهول الحکم: الناس فی سعة من حیث الجهل، و لکنّهم فی ضیق من حیث وجود المفسدة فیه، فإنّ السؤال إنّما هو للجری العملی علی طبق الجواب، و هذا الجواب غیر قابل لأن یقع مورد العمل.

ثمّ إنّه قد یقال: إنّ المراد بالعلم فی

(الناس فی سعة ما لا یعلمون)

هو الحجّة، و الأدلّة القائمة الدالّة علی وجوب الاحتیاط حجّة، و حینئذٍ فأدلّة الاحتیاط


1- کفایة الاصول: 389.

ص: 254

حاکمة علی هذا الخبر(1).

و فیه: أنّا و إن قلنا سابقاً: إنّ المراد بالعلم فی الکتاب و السُنّة غالباً هو الحجّة، لکن المراد من الحجّة هو مثل أخبار الآحاد و الظواهر و نحوهما ممّا یعدّ علماً عند العقلاء، لا مثل أدلّة الاحتیاط التی هی للتحفّظ علی الواقع، فإنّه لیس حجّةً علی الواقع، و لذا لا یجوز الفتوی بالحرمة فی موردٍ دلّ الدلیل علی وجوب الاحتیاط.

و بالجملة: المراد من الحجّة- التی یعبّر عنها بالعلم- ما هو طریق إلی الواقع، و الاحتیاط لیس طریقاً إلی الواقع، و إطلاق الطریقیّة علیه أحیاناً إنّما هو من باب ضیق الخناق.

خبر عبد الصمد بن بشیر

و من الأخبار المستدلّ بها للبراءة

ما رواه الشیخ قدس سره بإسناده عن موسی بن القاسم، عن عبد الصمد بن بشیر، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام فی حدیث: إنّ رجلًا أعجمیّاً دخل المسجد یُلبّی و علیه قمیصه، فقال لأبی عبد اللَّه علیه السلام: إنّی کنت رجلًا أعمل بیدی، و اجتمعت لی نفقة، فحیث أحجّ لم أسأل أحداً عن شی ء، و أفتَونی هؤلاء: أن أشقّ قمیصی و أنزعه من قِبَل رِجلی، و أنّ حجّی فاسد، و أنّ علیّ بَدَنة.

فقال علیه السلام له: (متی لبست قمیصک؛ أ بعد ما لبّیت، أم قبل؟).

قال: قبل أن البّی.

قال: (فأخرجه من رأسک، فإنّه لیس علیک بدنة، و لیس علیک الحجّ من قابل؛ أیّ رجل رکب أمراً بجهالة فلا شی ء علیه، طف بالبیت)

(2) الخبر.


1- انظر نهایة الأفکار 3: 228.
2- تهذیب الأحکام 5: 72/ 239، وسائل الشیعة 9: 125، کتاب الحج، أبواب تروک الإحرام، الباب 45، الحدیث 3.

ص: 255

و محلّ الاستدلال قوله علیه السلام:

(أیُّ رجل ...)

. و استشکل علیه الشیخ الأعظم قدس سره: بأنّ الروایة و نظائرها مثل قولک: «فلان عمل کذا بجهالة» هو باعتقاده الصواب و الغفلة عن الواقع أی الجهل المرکّب، فلا تعمّ صورة الشکّ و التردید فی أنّ فعله مطابق للواقع أو لا(1).

أضف إلی ما ذکره قدس سره: أنّ موردها- أیضاً- ذلک، فإنّ الظاهر أنّ الرجل المذکور الأعجمی کان غافلًا عن ذلک.

ثمّ قال: و یؤیّده: أنّ تعمیم الجهالة إلی صورة التردید یُحْوِج الکلام إلی التخصیص بالشاکّ الغیر المقصّر، و سیاقه یأبی عن التخصیص، فتأمّل.

أقول: أمّا ما ذکره أوّلًا ففیه: أنّا لا نسلّم أنّ مقتضی الترکیب المذکور هو ما ذکره قدس سره فإنّ الجهالة لفظٌ یشمل أقسام الجهل کلّها حتّی الشاکّ المتردّد، کما یشهد لذلک قوله تعالی: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَی اللَّهِ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ یَتُوبُونَ»(2) الآیة، فإنّه لا ریب فی أنّ الجهالة فی الآیة لا تختصّ بالجهل المرکّب؛ أی مع الغفلة عن الواقع، و کذلک قوله تعالی فی ذیل آیة النبأ: «أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ»(3) فإنّها- أیضاً- تعمّ الشاکّ المتردّد، و لا تختصّ بالغافل، فإنّ من المخاطبین فیها النبیَّ صلی الله علیه و آله و سلم و لا تتصوّر الغفلة منه صلی الله علیه و آله و سلم.

و بالجملة: لفظ الجهالة لا تختصّ بالجهل المرکّب الغافل.

و أمّا ما ذکرنا: من أنّ مورد الآیة هو الجهل المرکّب، ففیه: أنّ المورد لیس مخصِّصاً بعد ما فُرض أنّ الکلام مَسوق لإفادة کبری کلّیّة، فإنّ قوله علیه السلام:

(أیُّ رجل


1- فرائد الاصول: 199 سطر 18.
2- النساء( 4): 17.
3- الحجرات( 49): 6.

ص: 256

رکب أمراً بجهالة ...)

کبری کلّیّة عامّة، نظیر قوله علیه السلام:

(لا ینقض الیقین بالشکّ)

(1)، مع أنّ مورده خصوص الوضوء و الخفقة و الخفقتین، فکما أنّ ذلک لا یضرّ بالکبری الکلّیّة، کذلک فیما نحن فیه.

و یؤیّد ذلک أیضاً:

روایة خالد بن محمّد الأصمّ، قال: دخل رجل المسجد الحرام و هو محرم، فدخل فی الطواف و علیه قمیص و کساء، فأقبل الناس علیه یشقّون قمیصه، و کان صلباً، فرآه أبو عبد اللَّه علیه السلام و هم یعالجون قمیصه یشقّونه ... إلی أن قال: فقال علیه السلام: (انزعه من رأسک؛ لیس ینزع هذا من رجلیه؛ إنّما جهل)

(2)، فإنّ الظاهر أنّ قوله:

(إنّما جهل)

إنّما هو لأجل أنّه من مصادیق الکلّیّة المذکورة.

و کذلک

روایة زرارة، قال: سألته عن مُحرم غشی امرأته و هی مُحرمة؟

فقال علیه السلام: (إن کانا جاهلین استغفرا ربَّهما، و مضیا علی حجّهما، و لیس علیهما شی ء)

(3).

و بالجملة: هذه الروایة مثل

(الناس فی سعة ما لا یعلمون)

فی إفادتها حکماً کلّیّاً و دلالتها علی البراءة.

و أمّا ما ذکره من إباء الروایة عن التخصیص، فهو- أیضاً- ممنوع، بل هی بخصوصها مخصَّصة بغیر الصید من تروک الإحرام- علی ما ببالی- و الآبی عن التخصیص إنّما هو مثل قوله علیه السلام:

(ما خالف قول ربّنا لم أقله)

(4) أو

(اضربوا به


1- الکافی 3: 351/ 3، وسائل الشیعة 5: 321، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 10، الحدیث 3.
2- الکافی 4: 348/ 2، وسائل الشیعة 9: 126، کتاب الحج، أبواب تروک الإحرام، الباب 45، الحدیث 4.
3- الکافی 4: 373/ 1، وسائل الشیعة 9: 253، کتاب الحج، أبواب کفارات الاستمتاع، الباب 2، الحدیث 1.
4- انظر الکافی 1: 56/ 5، وسائل الشیعة 18: 79، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 15، مع اختلاف یسیر.

ص: 257

عرض الحائط)

(1) و نحوه.

فتلخّص: أنّ الروایة صحیحة سنداً و تامّة دلالةً علی البراءة.

روایة عبد الأعلی بن أعین

و ممّا استدلّ به للبراءة: ما رواه محمّد بن یعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن الحجّال، عن ثعلبة بن میمون، عن عبد الأعلی بن أعین، قال: سألت أبا عبد اللَّه علیه السلام: من لم یعرف شیئاً هل علیه شی ء؟ قال: (لا)(2)، و دلالتها علی المطلوب تتوقّف علی قراءة «لم یُعرَّف» بصیغة المجهول من باب التفعیل، کما یُناسبه عنوان الباب و الروایات المذکورة فیه، کما احتمل ذلک، فإنّ الظاهر أنّه لیس المراد عدم إعلامه و تعریفه شیئاً من الأشیاء أصلًا، کما یقتضیه وقوع النکرة فی سیاق النفی، و لیس المراد السؤال عن الأعجمی الذی لم یقرع سمعَهُ شی ء من المعارف و الأحکام، کبعض أهل البادیة، بل الظاهر أنّ المراد السؤال عن الذی لم یعرّف بعض الأحکام؛ و لیست مختصّة بالأُصول- أیضاً- لأنّ احتیاج الأحکام الفرعیّة إلی البیان أکثر من الاحتیاج إلیه فی اصول العقائد و المعارف؛ لقیام الأدلّة العقلیّة و البراهین القطعیّة فی بعض اصول العقائد، کوجود الباری تعالی.

و «من» الموصولة- أیضاً- ظاهرة فی أنّ المراد من لم یعرّف من أفراد المکلّفین لا جمیع أفرادهم حتی یکون من قبیل «اسکتوا عمّا سکت اللَّه عنه»(3).

و أمّا إذا قُرئ «من لم یَعْرِف» بصیغة المعلوم من الثلاثی المجرّد، فلا دلالة لها


1- التبیان 1: 5 المقدّمة، مجمع البیان 1: 81 المقدّمة، الفن الثالث.
2- الکافی 1: 125/ 2.
3- انظر الخلاف 1: 117، مسألة 59.

ص: 258

علی المطلوب؛ لأنّها- حینئذٍ- مسوقة لبیان حکم الشخص الذی لم یعرف شیئاً من الأحکام- الاصول الاعتقادیّة و الفرعیّة- کبعض أهل البادیة، و لیست ناظرة إلی بیان حکمِ مَنْ جَهِل حکماً من الأحکام التکلیفیّة حتی یستدلّ بها لما نحن فیه.

و من هنا یظهر ما فی کلام المحقّق العراقی قدس سره حیث ذکر: أنّ الروایة تشمل من لم یَعرف شیئاً من الأحکام بنحو العموم، فیجری حکمها فیما لو جهل بعض الأحکام- أیضاً- بعدم القول بالفصل(1)؛ لما عرفت من أنّ الروایة لیست ناظرة إلی هذه الصورة.

روایة ابن الطیّار

و ممّا استدلّ به فی المقام:

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی و غیره، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن الحسین بن سعید، عن ابن أبی عمیر عن جمیل بن درّاج، عن ابن الطیّار، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (إنّ اللَّه احتجّ علی الناس بما آتاهم و عرّفهم)

(2).

و روی- أیضاً- عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن علیّ بن الحَکَم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطیَّار، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال:

قال لی: (اکتب)، فأملی علیّ:

(إنّ من قولنا: إنّ اللَّه یحتجّ علی العباد بما آتاهم و عرّفهم، ثم أرسل إلیهم رسولًا، و أنزل علیهم الکتاب، فأمر فیه و نهی، أمر فیه بالصلاة و الصیام، فنام رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم عن الصلاة، فقال: أنا انیمک و أنا اوقظک، فإذا قمت فصلّ؛ لیعلموا إذا أصابهم ذلک کیف یصنعون، لیس کما یقولون إذا نام عنها هلک، و کذلک الصیام


1- نهایة الأفکار 3: 228- 230.
2- الکافی 1: 124/ 1.

ص: 259

أنا امرضک، و أنا اصحّک، فإذا شفیتُک فاقضِهِ).

ثمّ قال أبو عبد اللَّه علیه السلام: (و کذلک إذا نظرت فی جمیع الأشیاء لم تجد أحداً فی ضیق، و لم تجد أحداً إلّا و للَّه علیه الحجّة، و للَّه فیه المشیّة، و لا أقول: إنّهم ما شاءوا صنعوا).

ثمّ قال: (إنّ اللَّه یهدی و یضلّ)، و قال: (و ما امروا إلّا بدون سعتهم، و کلّ شی ء امر الناس به فهم یَسَعُون له، و کلّ شی ء لا یَسَعُون له فهو موضوع عنهم، و لکن الناس لا خیر فیهم. ثمّ تلا علیه السلام: «لَیْسَ عَلَی الضُّعَفاءِ ...»

(1))(2).

و الظاهر اتّحاد الروایتین؛ نقَلَ ابنُ الطیّار الجملة الاولی منها لجمیل بن درّاج، و نَقلَ جمیعها لأبان الأحمر، و أمّا اختلاف التعبیر فی ألفاظ الجملة الاولی بمثل «احتجّ» و «یحتجّ»، فهو لأجل النقل بالمعنی الذی یدلّ بعض الأخبار علی جوازه إذا لم یکن مغیِّراً للمعنی.

فنقول: أمّا الجملة الاولی فیحتمل مع قطع النظر عن الجملة التی بعدها أن یراد بها الإقدار و إعطاء القوّة، و من التعریف هو بیان الأحکام و إعلام التکالیف، و حینئذٍ فالمراد بالبیان: إمّا هو البیان الکلّی للمکلّفین فی الکتاب المجید و الأخبار عن النبیّ و الأئمّة الأطهار؛ بحیث لا یُنافیه عدم وصول بعضها إلی بعض.

أو أنّ المراد من البیان هو بالنسبة إلی کلّ فرد و لم یطّلع علیها بعد الفحص و الاجتهاد، فإنّه یصدق علیه عدم التعریف و البیان، و حینئذٍ تدلّ الروایة علی أنّ اللَّه لا یحتجّ علیه، بخلافه علی الأوّل، و لکن الظاهر هو الاحتمال الثانی بقرینة الجملة التی بعدها- و هی ما آتاهم- فإنّه لا یحتمل فیها إلّا الإقدار و إعطاء القوّة بالنسبة إلی کلّ فرد من الأفراد لا مجموعهم، و الإیتاء و إن فسّره الأصحاب بوصول التکلیف فی


1- التوبة( 9): 91.
2- الکافی 1: 126/ 4.

ص: 260

قوله تعالی: «لا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها»(1)، لکن تقدّم أنّه قد فسّر فی بعض الأخبار بالإقدار و إعطاء القوّة و حینئذٍ فمفادها مساوٍ لقوله تعالی: «لا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» فإنّ الظاهر أنّ المراد بالإیتاء فی هذه الآیة- أیضاً- ذلک، و حینئذٍ فإطلاق الآیة یشمل اصول العقائد و الأحکام الفرعیة؛ و إن تُمسّک بها فی اصول العقائد.

و أمّا المعرفة فهی غیر العلم، فإنّه لا یعتبر فی تحقّق العلم الاطّلاع علی خصوصیّات المعلوم، بخلاف المعرفة، فیمکن حصول العلم من الأدلّة العقلیّة علی وجود الصانع للعالم و عدم حصول المعرفة به تعالی، و علی أیّ تقدیر یمکن التمسُّک بهذه الروایة علی البراءة مع قطع النظر عن الجمل التی بعدها.

لکن یشکل علی ما ذکرناه- من أنّ المراد من التعریف هو تعریف الأحکام- قوله علیه السلام:

(ثمّ أرسل إلیهم رسولًا ...)

إلخ، و حینئذٍ فیحتمل أن یرید بالإیتاء الإقدار و إعطاء القوّة، و من التعریف فطرة اللَّه التی فطر الناس علیها، و علیه فالروایة أجنبیّة عن ما نحن فیه.

لکن یُبعّد هذا الاحتمال أنّ ظاهر الروایة- بملاحظة ذکر «ثمّ» العاطفة التی هی للانفصال- أنّ اللَّه تعالی احتجّ علی العباد بعد الإقدار و إعطاء الفطرة، ثمّ أرسل رسولًا بعد الاحتجاج، و أنزل الکتاب، و هو غیر مستقیم.

و أیضاً لا مناسبة بینه و بین الفقرات التی بعدها، و حینئذٍ فیحتمل أن یکون «ثَمّ»- بفتح الثاء- أی من ثَمّ و لأجل ذلک أرسل إلیهم رسولًا، و أنّ المراد بالإیتاء و التعریف ما یشمل بیان الأحکام- أیضاً- و یصیر المعنی- حینئذٍ- أنّ اللَّه یحتجّ علی العباد بما أقدرهم و بیّن الأحکام لهم، و من أجل ذلک أرسل رسولًا و أنزل الکتاب، و یحتمل أنّ المراد من الجملة الاولی هو أنّ مشیّة اللَّه و عادته الأزلیّة جرت


1- الطلاق( 65): 7.

ص: 261

علی ذلک؛ أی علی عدم الاحتجاج إلّا بالإقدار و بیان الأحکام، و معه فلفظة «ثُمّ» علی ظاهرها؛ أی العاطفة؛ للفصل بین سُنّة اللَّه الأزلیّة و بین إرسال الرسل و إنزال الکتب.

و یؤیّده تحقّق المناسبة بین هذه الجملة و الفقرات التی بعدها فی الروایة- حینئذٍ- کما لا یخفی، و حینئذٍ فتدلّ الروایة علی البراءة.

و أمّا ما أورده الشیخ الأعظم: من أنّه لا تنافی بین هذه الروایة و بین أدلّة الاحتیاط؛ لورود أدلّة الاحتیاط علیها؛ حیث إنّ الأخباری یدّعی البیان و التعریف بقیام الأدلّة الدالّة علی وجوب الاحتیاط(1).

ففیه: أنّه لا ریب فی أنّ المرادَ من قوله علیه السلام:

(عرّفهم)

بیانُ الحکم الواقعی بخصوصه، و لا یُعلم الحکم الواقعی بخصوصه فی مورد الاحتیاط- أی الشکّ- و لو دلّ الدلیل علی وجوب الاحتیاط فهو معارض لهذه الروایة؛ حیث تدلّ علی أنّه لا یَحتجّ علی العباد فیما لم یعرّفهم الحکم الواقعی، و فی مورد الاحتیاط لیس کذلک، و أدلّة الاحتیاط تدلّ علی الاحتجاج به، و هل هذا إلّا التعارض؟!

روایة إبراهیم بن عمر

و ممّا استدلّ به للبراءة قوله علیه السلام:

(إنّ صنع اللَّه عجیب، إلّا أنّه لا یحتجّ علیکم إلّا بما عرّفکم من نفسه)

(2)، فإنّ ذکر أداة الاستثناء إنّما هو لأجل إفادة أنّ صنع اللَّه و إن کان عجیباً، مثل خلق السماوات و الأرض و غیرهما، لکن لا یصدر منه ما هو غیر معقول، کالاحتجاج بدون البیان.

و أمّا احتمال إرادة تعریف اللَّه نفسه و ذاته المقدّسة؛ لقوله:

(من نفسه)


1- فرائد الاصول: 199 سطر 20.
2- الکافی 1: 68/ 3( مع اختلاف).

ص: 262

ففیه: أنّ المراد بقوله:

(من نفسه)

أی: مِن قِبَل نفسه و من ناحیتها، لا تعریف اللَّه ذاته حتّی یختصّ باصول العقائد.

و ممّا یمکن الاستدلال به فی المقام

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن ابن فضال عن ثعلبة بن میمون، عن حمزة بن محمّد الطیار، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام فی قول اللَّه عزّ و جلّ: «وَ ما کانَ اللَّهُ لِیُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّی یُبَیِّنَ لَهُمْ ما یَتَّقُونَ»، قال: حتی یعرّفهم ما یرضیه و ما یُسخطه، و قال: «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها» قال: بیّن لها ما تأتی و ما تترک، و قال: «إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمَّا شاکِراً وَ إِمَّا کَفُوراً» قال: عرّفناه، إمّا آخذ و إمّا تارک، و عن قوله: «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَیْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمی عَلَی الْهُدی» قال: عرّفناهم فَاسْتَحَبُّوا الْعَمی عَلَی الْهُدی و هم یعرفون(1).

مرسلة الصدوق

و ممّا یمکن الاستدلال به

مرسلة الصدوق: قال: قال الصادق علیه السلام: (کلّ شی ء مطلق حتّی یرد فیه نهی)

(2)، و یمکن الاعتماد علیها مع إرسالها؛ لأنّ إرسال الصدوق قدس سره علی قسمین:

أحدهما: ما عبّر فیه بقوله: «و رُوی عن الصادق»، فهذا ممّا لا یعتمد علیه لصدقه مع ضعف الراوی.

و ثانیهما: ما عَبّر فیه بقوله: «قال الصادق»، کما فی هذه الروایة، فإنّه یُعتمد علیه، فإنّ إرساله و إسناده إلی الإمام علیه السلام لا یقع من مثله إلّا مع ثقة الراوی و اعتماده


1- الکافی 1: 124/ 3.
2- الفقیه 1: 208/ 937، وسائل الشیعة 18: 127، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 60.

ص: 263

علیه، فیصحّ الاستناد و الاعتماد علیه.

و أمّا فقه الروایة: ففیها بحسب التصوّر العقلی احتمالات تبلغ تسعة؛ لأنّ المراد من قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء مطلق)

هو عدم الحرج، لا الحکم بالإباحة.

أو المراد الفتوی بالإباحة بمعنی جعل الشارع حکم الإباحة فیه، و هو- أیضاً علی قسمین:

أحدهما: أنّ المراد جعل الإباحة الواقعیّة للأشیاء بعناوینها الواقعیّة.

و ثانیهما: الأعمّ منها و من الإباحة الظاهریّة؛ أی التی جعلت للأشیاء بعناوینها الثانویّة؛ أی بعنوان أنّها مشکوکة الحکم الواقعی.

فهذه احتمالات ثلاثة.

و فی قوله علیه السلام:

(حتّی یرد فیه نهی)

- أیضاً- ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أنّ المراد من الورود الصدور واقعاً؛ أی النهی الواقعی.

الثانی: الأعمّ من الصدور الواقعی و الظاهری.

الثالث: أنّ المراد وصول النهی إلی المکلّف.

و یحصل من ضرب هذه الثلاثة فی الاحتمالات الثلاثة الاولی تسعة احتمالات.

هذا بحسب التصوّر العقلی، و هل هی ممکنة کلّها أو لا؟ ذهب بعض الأعاظم- و هو المحقّق الأصفهانی- إلی عدم إمکان احتمالین منها:

أحدهما: إرادة الإباحة الواقعیّة و إرادة النهی الواقعی من الورود؛ و ذلک لأنّ المفروض أنّ الإباحة الشرعیّة الواقعیّة ناشئة عن لا اقتضائیّة الموضوع للحرمة، فلا یعقل ورود حرمة فی موضوعها، فإنّ النهی إنّما یُتصوّر فیما له اقتضاء لها، فیلزم الخلف من فرض لا اقتضائیّة الموضوع لها.

لا یقال: إنّ لااقتضائیّته من حیث ذاته لا تنافی عروض عنوان علیه یقتضی

ص: 264

الحرمة.

لأنّا نقول: نعم، لکنّه خارج عن الفرض، فإنّ الذی یرد فیه نهی هو ذلک العنوان الذی له اقتضاء الحرمة، لا أنّ النهی یرد فی مورد الإباحة، و فرق بینهما، فإنّ الماء- مثلًا- مباح، و الغصب حرام، و انطباق عنوان الغصب علی الماء لا یقتضی صدق ورود النهی علی الماء المغصوب بعنوانه.

هذا إذا ارید ما هو ظاهر الخبر: من أنّ الإباحة مغیّاة بورود النهی فی موردها.

و أمّا إذا ارید من ورود النهی تحدید الموضوع و تقییده، و أنّ المراد أنّ ما لم یرد فیه نهی فهو مباح، و أنّ ما ورد فیه نهی فهو لیس بمباح، فهو:

إن کان بمعنی المعرِّفیّة فلا محالة یکون حمل الخبر علیه حملًا علی ما هو کالبدیهی الذی لا یناسب شأن الإمام علیه السلام.

و إن کان بمعنی تقیید موضوع أحد الضدّین بعدم الضدّ الآخر حدوثاً أو بقاءً فهو غیر معقول؛ لأنّ عدم الضدّ لیس شرطاً لوجود ضدّه لا حدوثاً و لا بقاءً(1). انتهی.

أقول: یمکن جعل الإباحة فی مقامٍ فیه اقتضاء الحرمة؛ لمنع مانع عن تأثیر مقتضی الحرمة و الحکم بها، و حینئذٍ فیصحّ الحکم بإباحته ابتداءً، و لا یلزم نَشْو الإباحة الشرعیّة دائماً عن لا اقتضائیّة الموضوع، بل یمکن جعل الإباحة فی مورد فیه اقتضاء الحرمة و النهی، و لکن یمنع مانع عن النهی عنه فعلًا، فإنّ الأحکام الشرعیّة لم تصدر دفعة واحدة؛ لاستلزامه الفساد، بل صدرت تدریجاً فی مدّة مدیدة مع ما فی موضوعاتها من اقتضاء الحرمة ابتداءً و فی ظرف الحکم بالإباحة، و النسخ الواقع فی الأحکام من هذا القبیل، فما ذکره قدس سره أوّلًا غیر مستقیم.


1- نهایة الدرایة 2: 187 سطر 7.

ص: 265

و أمّا ما ذکره فی ذیل کلامه قدس سره فیمکن الالتزام بأنّ قوله علیه السلام:

(حتّی یرد فیه نهی)

تحدید للموضوع بنحو المعرّفیّة.

قوله رحمه الله: یصیر الکلام ما هو کالبدیهی.

فیه: أنّه إنّما یصحّ و یصیر الکلام کالبدیهی إذا ارید بالإباحة عدم الحرج لا الحکم بالإباحة و جعلها شرعاً، فإنّ عدم ورود النهی لا یستلزم الإباحة الشرعیّة، کما أنّه یمکن الالتزام بأنّه بمعنی تقیید الموضوع.

قوله رحمه الله: یلزم اشتراط أحد الضدّین بعدم الآخر.

فیه: أنّه قد تقدّم: أنّه لا تضادّ بین الأحکام؛ لأنّها من الامور الاعتباریة، و التضادّ إنّما یتحقّق فی التکوینیّات لا الاعتباریّات، و هو قدس سره أیضاً معترف بذلک، فلا یستلزم ما ذکره اشتراط أحد الضدّین بعدم الضدّ الآخر.

الثانی من الاحتمالین اللذین ذکر قدس سره أنّهما غیر ممکنین هو أن یُراد بالإباحة الإباحة الشرعیّة الظاهریّة مع إرادة ورود النهی واقعاً لوجوه:

الأوّل: أنّ الإباحة الظاهریّة- التی موضوعها المشکوک- لا یُعقل أن تُجعل مُغیّاة بالنهی الواقعی، و لا محدّدة و لا مقیّدة بعدم صدور النهی الواقعی، و إلّا لزم تخلُّف الحکم عن موضوعه التامّ؛ لأنّ صدور النهی واقعاً ممّا یجامع الشکّ، فمع فرض أنّ الموضوع- و هو المشکوک- متحقّق یرتفع حکمه بصدور النهی الواقعی المجامع للشکّ.

الثانی: أنّ الإباحة من حیث إنّها مُغیّاة بصدور النهی واقعاً، و محدَّدة بعدم صدوره واقعاً، و الغایة أو القید مشکوک الحصول، فلا محالة تحتاج فعلیة الإباحة إلی أصالة عدم صدوره، و سیجی ء- إن شاء اللَّه- أنّ الأصل: إمّا هو کافٍ لإثبات الإباحة و لو مع هذا الخبر، فالدلیل علیها هو ذلک الأصل، و إمّا هو غیر کافٍ له، و أردنا ترتیب مضمون الخبر علیه تعبُّداً، و لا یصحّ الاستدلال به ما لم ینضمّ إلیه

ص: 266

الأصل المزبور.

الثالث: أنّ ظاهر الخبر جعل ورود النهی غایة رافعة للإباحة الظاهریّة المفروضة، و مقتضی فرض عدم الحرمة إلّا بقاءً هو عدم الحرمة حدوثاً، و مقتضاه عدم الشکّ فی الحلّیّة و الحرمة من أوّل الأمر، فما معنی جعل الإباحة الظاهریّة المبعوثة بالشکّ فی الحلّیّة و الحرمة فی فرض عدم الحرمة إلّا بقاءً؟!

فإن قلت: هذا إذا کان المراد صدور النهی من اللَّه تعالی، و أمّا إذا ارید صدور النهی من النبیّ أو الوصیّ علیهما السلام فیفید أنّ الحرمة الواقعیّة الموحی بها أو الملهم بها، لا مؤاخذة علیها إلّا بعد صدور النهی علی طبقها من النبیّ أو الوصیّ، کما لا یبعد هذا الاحتمال.

قلت: مضافاً إلی بقاء المحذورین الأوّلین علی حالهما، إنّ الحکم الذی لم یؤمر النبیّ أو الوصیّ بتبلیغه لا أثر لمقطوعه؛ حتّی یحتاج إلی جعل الإباحة الظاهریة المشکوکة، و هو واضح(1). انتهی ملخّص کلامه قدس سره.

أقول: لو فرض الشکّ فی أنّ الأصل فی الأشیاء هو الحظر أو الإباحة، أو شُکّ فی قاعدة الملازمة بین حکم العقل و الشرع، أو قلنا بأنّ الأصل فی الأشیاء و الأفعال هو الحظر؛ لأنّ العالَمَ ملکٌ للَّه تعالی، و لا یجوز التصرّف فی ملک الغیر عقلًا بدون إذنه، أو لأنّ العبد مملوک له تعالی یحتاج فی أفعاله و تصرّفاته إلی إذن مولاه، فلا ریب فی إمکان جعل الإباحة شرعاً فی هذه الفروض حتی یرد فیه نهی واقعاً، فإنّ هذا الشکّ یجامع العلم بعدم صدور النهی واقعاً- أیضاً- لاستناده إلی احتمال الحظر فی الأشیاء، مع ثبوت قاعدة الملازمة بین حکم العقل و الشرع، فإنّه بناء علی هذا الاحتمال الأشیاء محرّمة واقعاً و إن لم یتعلّق بها نهی من الشارع المقدّس، و حینئذٍ فلا إشکال فی أنّه یمکن جعل الإباحة الظاهریّة بقوله علیه السلام:

(کلّ شی ء


1- نهایة الدرایة 2: 187 سطر 23.

ص: 267

مطلق حتّی یرد فیه نهی)

بأن تکون مغیّاةً بورود النهی واقعاً، مع تحدید الشی ء بعدم ورود النهی عنه واقعاً.

و کذلک لو فرضنا أنّه لو شکّ المکلّف فی إباحة شرب التتن، لا لأجل أصالة الحظر، بل لأجل احتمال تحریم الشارع له، فإنّه لا إشکال فی إمکان جعل الإباحة الظاهریّة فیه فی ظرف الشکّ فیما لو اخذ عدم ورود النهی الواقعی تحدیداً للموضوع.

قوله قدس سره: یلزم تخلُّف الحکم عن موضوعه.

فیه: أنّه علی هذا الفرض یتبدّل الموضوع إلی موضوع آخر مع ورود النهی واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ القید حدّ للموضوع؛ بمعنی أنّه ینتفی بانتفائه، فلا یلزم تخلّف الحکم عن موضوعه.

و أمّا ما ذکره ثانیاً، ففیه: أنّا لا نُسلّم الاحتیاج إلی الأصل دائماً؛ لأنّه بناءً علی الفرض الأوّل للشکّ- أی الناشئ عن احتمال أنّ الأصل فی الأشیاء الحظر- یمکن مع قطع المکلّف بعدم ورود النهی عن الشارع واقعاً أن یشکّ فی الحرمة؛ لاجتماع الشکّ المذکور مع القطع المزبور، و معه لا مورد لجریان أصالة عدم ورود النهی؛ للقطع بعدمه، مع أنّ أصالة عدم ورود النهی و إن لا تثبت موضوع للإباحة، لکن یمکن استصحاب بقاء الحلّیّة المجعولة سابقاً قبل الشکّ فی ورود النهی من الشارع.

و أمّا ما ذکره ثالثاً، ففیه: أنّه لو شکّ المکلّف فی ورود النهی و عدمه یتحقّق به موضوع الحکم بالإباحة؛ إذ لیس موضوعها إلّا الشکّ فیه، و هو متحقّق بالوجدان، و لا فرق فی ذلک بین ورود النهی من اللَّه تعالی أو من النبیّ أو الوصیّ علیهما السلام.

نعم یمکن أن یورد فی المقام لزوم لَغْویة جعل الإباحة الظاهریّة؛ لحکم العقل بعدم الحرج مع عدم ورود النهی عنه واقعاً.

ص: 268

و لکن یردّه: أنّه لیس کذلک؛ لظهور الفائدة فی صورة الشکّ فی صدور النهی واقعاً، فإنّه لا یحکم العقل بعدم الحرج- حینئذٍ- بناء علی أصالة الحظر فی الأفعال، فیفید جعل الإباحة فی هذه الصورة. هذا کلّه بحسب مقام الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الإثبات و الاستظهار: فلا ریب فی أنّ بعض الصور المذکورة بعید جدّاً، مثل إرادة الإباحة- بمعنی اللاحرج العقلی- من قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء مطلق)

، مع إرادة ورود النهی واقعاً من قوله علیه السلام:

(حتّی یرد فیه نهی)

، فإنّ بیان ذلک- أی أنّ الأصل فی الأشیاء الإباحة العقلیّة المذکورة- لیس من شأن الإمام علیه السلام المبیِّن للأحکام الشرعیّة لا العقلیّة.

و مثل ما لو ارید منه الإباحة الواقعیّة المستکشفة من حکم العقل بالإباحة فی الأفعال؛ بأن یکون الإمام علیه السلام فی مقام بیان قاعدة الملازمة بین حکم العقل و الشرع، فإنّ ذلک- أیضاً- لا یُناسب مقام الإمام و شأنه؛ حیث إنّه حکم عقلیّ کلامیّ لا شرعیّ.

و مثل ما لو ارید الإباحة الواقعیّة مع قطع النظر عن قاعدة الملازمة مع إرادة ورود النهی قبل ذلک؛ بأن یقال: إنّ الإمام علیه السلام فی مقام بیان أنّ الحکم الواقعی المجعول للأشیاء- قبل ورود الشرع و النواهی و الأوامر الشرعیّة- هو الإباحة، فإنّه لا یترتّب علیه أثر عملیّ، مع أنّ الظاهر أنّ الإمام علیه السلام فی مقام الإفتاء بما یترتّب علیه الأثر العملی و الجری علی وفقه.

و هکذا یبعد الجمود علی ظاهر قوله:

(حتّی یرد)

بمعناه الاستقبالی؛ بأن یُراد بالشی ء الذی ادُّخر حکمه، و استودع عند صاحب الأمر- عجّل اللَّه تعالی فرجه الشریف- فیحکم بإباحته حتّی یرد من قِبَله علیه السلام بعد ظهوره نهیٌ؛ و ذلک لأنّ الأحکام المودعة المذخورة عنده علیه السلام عدّة قلیلة، لا یناسبها ظاهر الخبر، فإنّ الظاهر أنّه فی مقام بیان کبری کلّیّة.

ص: 269

فالظاهر أنّ الإمام علیه السلام فی مقام الإفتاء: بأنّ حکم الأشیاء هو الإباحة، و أنّه یجوز ارتکابها ما دام لم یرد فیها نهی، مثل

(کلّ شی ءٍ لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام)

أو

(کلّ شی ء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر)

فیترتّب علیه جواز الارتکاب ما لم یُعلم الخلاف، و حینئذٍ فهذا الخبر یصلح دلیلًا علی البراءة، لا کما ذکر الشیخ الأعظم: من أنّه أتمّ دلالة من جمیع الأخبار(1)، بل هو أضعف دلالةً منها کما لا یخفی.

و أمّا ما ذکره بعض الأعاظم (الشیخ محمّد حسین الأصفهانی قدس سره): من أنّ الورود فی الروایة بمعنی الوصول(2)، فلم یثبت ذلک، فإنّه یقال: «ورد الماء فی الحوض»، و لیس معناه وصل إلیه.

روایة أبی إبراهیم

و ممّا استدلّ به للبراءة:

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن أبی علی الأشعری، عن محمّد بن عبد الجبّار، و محمّد بن إسماعیل، عن الفضل بن شاذان جمیعاً، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبی إبراهیم، قال: سألته عن الرجل یتزوّج المرأة فی عدّتها بجهالة، أ هی ممّن لا تحلّ له أبداً؟

فقال: (لا، أمّا إذا کان بجهالة فلیتزوّجها بعد ما تنقضی عدّتها، و قد یُعذر الناس فی الجهالة بما هو أعظم من ذلک).

فقلت: و بأیّ الجهالتین یُعذر- و فی نسخة «تحف العقول»: «أعذر» بدل «یعذر»- بجهالة أنّ ذلک محرّم علیه، أم بجهالته أنّها فی العدّة؟

فقال: (إحدی الجهالتین أهون من الاخری، الجهالة بأنّ اللَّه حرّم ذلک علیه؛


1- فرائد الاصول: 199 سطر 23.
2- نهایة الدرایة 2: 188 سطر 19.

ص: 270

و ذلک بأنّه لا یقدر علی الاحتیاط معها).

فقلت: و هو فی الاخری معذور؟

قال: (نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور فی أن یتزوّجها).

فقلت: فإن کان أحدهما متعمّداً و الآخر یجهل؟

فقال: (الذی تعمّد لا یحلّ له أن یرجع إلی صاحبه أبداً)

(1).

أقول: إن کانت العبارة «یُعذر» بصیغة المضارع المجهول، فمعناها: أنّه بأیّهما هو معذور؟

و إن کانت العبارة بصیغة أفعل التفضیل فمقتضاها أنّه فهم: أنّه فی کلتا الجهالتین معذور، و لکن سأل عن أنّه أیّتهما أولی بالعذر؟ یعنی سببیّتها للعذر.

و یرد علی الاستدلال بالروایة بناء علی أنّ العبارة «أعذر»: أنّ الظاهر من الروایة أنّها فی مقام بیان الحکم الوضعی؛ أی عدم حرمة المرأة المذکورة علیه أبداً، و صحّة تزویجها بعد العدّة، و الحکم الوضعی غیر قابل للزیادة و النقصان و الشدّة و الضعف حتّی یعبَّر عنه بصیغة «أفعل التفضیل»، بل الأمر فی الحکم الوضعی دائر بین الوجود و العدم: فإمّا هو موجود و متحقّق، و إمّا معدوم، و فی صورة الوجود لیس قابلًا للشدّة و الضعف و الزیادة و النقصان.

و یمکن الجواب: بأنّ الأحکام الوضعیّة و إن کانت کذلک، لکن یمکن أن یقال: إنّ منشأها هی الأحکام التکلیفیّة، فحیث إنّه فی صورة العلم بأنّها فی العدّة و بحرمة نکاحها- حینئذٍ- یکون قد ارتکب أمراً محرّماً فحرمت علیه المرأة مؤبّداً، و فی صورة الجهل بهما أو بأحدهما لم یرتکب فعلًا محرّماً تکلیفیّاً فعلیّاً لم تحرم علیه مؤبّداً، فیصحّ له تزویجها بعد انقضاء عدّتها، و الحکم التکلیفی قابل للأعذریّة


1- الکافی 5: 427/ 3، الاستبصار 3: 186/ 676، وسائل الشیعة، 14: 345، کتاب النکاح، أبواب ما یحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 17، الحدیث 4.

ص: 271

عرفاً؛ لأنّ الجاهل الغافل الغیر الملتفت أصلًا أعذر عند العرف و العقلاء من الجاهل الشاکّ الملتفت المتردّد، المرتکب لمشکوک الحرمة؛ لحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، و حینئذٍ فالأعذریّة باعتبار الحکم التکلیفی الذی هو منشأ انتزاع الحکم الوضعی منه.

و أمّا حکمه علیه السلام بأهونیّة الجهل بالحرمة؛ معلِّلًا: بأنّه لا یقدر معه علی الاحتیاط، فیمکن توجیهه: بأنّ الغالب من الناس إذا أرادوا التزویج بامرأةٍ یتفحّصون عن حالها، و أنّها فی العدّة أو لا، أو عن انقضاء عدّتها و عدمه، و الاحتیاط- حینئذٍ- ممکن بالتفحّص عن ذلک لأجل التردّد، و أمّا بالنسبة إلی الحکم الوضعی فالغالب غفلة الناس عنه أو عن بعض خصوصیّاته و فروعاته، کالحکم بأنّ اولات الأحمال أجلهنّ أن یضعن حملهنّ، أو أنّ عدّة الحامل المتوفی عنها زوجها أبعد الأجلین؛ من أربعة أشهر و عشر و وضع حملهنّ، و مع الغفلة عن ذلک لا یتمکّن من الاحتیاط.

و لکن یرد علیه: أنّ الرجل المذکور: إمّا غافل عن ذلک رأساً فهو لا یقدر علی الاحتیاط؛ من غیر فرق فی ذلک بین الجهل بالحکم أو الموضوع، و إمّا متردّد فی ذلک، فهو قادر علی الاحتیاط بالفحص؛ من غیر فرق فیه بین الجهل بالحکم و الموضوع أیضاً، و حینئذٍ فالتوجیه المذکور غیر وجیه.

و الحقّ: أنّا و إن لم نسلّم ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره سابقاً: من أنّ ظاهر قوله:

(بجهالة)

هو الجهل مع الغفلة فی جمیع المواد، لکن الظاهر من الجهالة هنا هو الجاهل الغیر الملتفت، فلا یشمل المتردّد، فالروایة- حینئذٍ- أجنبیّة عمّا نحن فیه.

و منه یظهر: فساد ما ذکره المحقّق العراقی(1)؛ حیث تمسّک هنا بإطلاق قوله علیه السلام:

(و قد یُعذر الناس ...)

فی المقام، فکأنّه قدس سره زعم أنّ لفظة «قد» هنا


1- نهایة الأفکار 3: 232.

ص: 272

للتحقیق، مع أنّها فی مقام التعلیل.

روایة عبد اللَّه بن سلیمان

و ممّا استُدلّ به للبراءة:

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن أبی أیوب، عن عبد اللَّه بن سنان، عن عبد اللَّه بن سلیمان، قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن، فقال لی: (لقد سألتنی عن طعام یُعجبنی).

ثمّ أعطی الغلام درهماً، فقال: (یا غلام ابتع لنا جبناً).

ثمّ دعا بالغداء فتغدّینا معه، فأتی بالجبن، فأکل و أکلنا، فلمّا فرغنا من الغداء، قلت: ما تقول فی الجبن؟

قال: (أ وَ لم تَرَنی آکله)؟!.

قلت: بلی و لکنّی احبُّ أن أسمعه منک.

فقال: (سأخبرک عن الجبن و غیره؛ کلّ ما کان فیه حلال و حرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام بعینه فتدعه)

(1).

و اشتهار هذه الروایة بصحیحة عبد اللَّه بن سنان اشتباه نشأ عمّا ذکره فی الوسائل(2) بقوله: و رواه البرقی فی المحاسن عن ابن محبوب، عن عبد اللَّه بن سنان مثله، و لکن مراده قدس سره: عن عبد اللَّه بن سنان، عن عبد اللَّه بن سلیمان، کما هو دأب صاحب الوسائل من ذکر ما ینفرد به السند الآخر و إسقاط المشترک، کما لا یخفی علی من لاحظ الوسائل، و عبد اللَّه بن سلیمان مشترک بین الثقة و الضعیف، و الظاهر


1- الکافی 6: 339/ 1، و فی سنده بدلًا من أبی أیوب( ابن محبوب)، وسائل الشیعة 17: 90، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 1.
2- ذیل المصدر السابق.

ص: 273

اتّحادها مع بعض ما ذکره فی هذا الباب من الأخبار ممّا یقرب فی التعبیر منها: مثل

روایة معاویة بن عمّار، عن رجل من أصحابنا، قال: کنت عند أبی جعفر علیه السلام فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر علیه السلام: (إنّه طعام یُعجبنی، و سأخبرک عن الجبن و غیره؛ کلّ شی ء فیه الحلال و الحرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام فتدعه بعینه)

(1).

و علی أیّ تقدیر فالظاهر أنّ منشأ شکّ الراوی هو ما رأی من أنّ بعض أفراد الناس یجعل الإنفحة التی من المیتة فی الجبن، فسأل عن ذلک، و المتبادر منها عرفاً هو أنّ تمام السبب و العلّة للحکم بالإباحة هو الشکّ و الجهل بالحرمة، و أنّ العلم بأنّ فی بعض أفراده إنفحة المیتة لا یمنع عن الحکم بحلّیّته.

و یؤیّد ذلک: مناسبة الحکم و الموضوع، فإنّه لا یناسب العلمُ بحرمة بعض أفراده حلّیّةَ المشکوک، بل المناسب له هو الحرمة، بخلاف الجهل و الشکّ، فإنّه المناسب للحکم بالحلّیّة فالحکم بالحلّیّة فی هذه الروایة من جهة الشک فی الحرمة.

و أورد الشیخ الأعظم قدس سره علی الاستدلال بها للبراءة: بأنّ الروایة ظاهرة فی وجود القسمین بالفعل، لا مردّداً بینهما؛ إذ لا تقسیم مع التردید أصلًا؛ لا ذهناً و لا خارجاً، و حینئذٍ فلا تدلّ الروایة علی حلّیّة ما لو شکّ فی حرمة شرب التتن مثلًا(2).

و قال النراقی قدس سره ما حاصله: إنّا نفرض شیئاً له قسمان: حلال و حرام، و اشتبه قسم ثالث منه، کاللحم فإنّه شی ء فیه حلال، و هو لحم الغنم، و قسم حرام، و هو لحم الخنزیر، فهذا الکلّی المنقسم حلال، فلحم الحمار- مثلًا- حلال، و إذا حُکم فی هذا المورد بالبراءة للروایة یحکم بها فی غیره من الموارد- أیضاً- بالإجماع


1- المحاسن: 496/ 601، وسائل الشیعة 17: 92، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 7.
2- فرائد الاصول: 201 سطر 1.

ص: 274

المرکّب(1).

و أورد علیه الشیخ الأعظم قدس سره: بأنّ الظاهر من الروایة أنّ وجود القسمین منشأ للشکّ و لحم الحمار، لا دخل فی هذا الحکم أصلًا، مع أنّه یلزم تقیید الموضوع بقید أجنبیّ(2). انتهی.

أقول: الظاهر عدم ورود هذا الإشکال علی النراقی قدس سره فإنّه لا یعتبر فی التقسیم وجود القسمین فی الصنف، بل یکفی وجودهما فی النوع، و حینئذٍ فلا إشکال فیما ذکره النراقی قدس سره.

و الظاهر تمامیّة دلالتها علی البراءة- کما ذکرناه أوّلًا- بدون الاحتیاج إلی الإجماع المرکّب و عدم القول بالفصل فی بعض الموارد، بل تشمل الروایة- علی التقریب الذی ذکرناه- ما إذا شُکّ فی مائع- ابتداءً- أنّه خمر أو خلّ، فیحکم بالبراءة فیه.

نعم یمکن أن یقال باختصاص الروایة بالشبهات الموضوعیّة لأُمور:

الأوّل: ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره من ظهورها فی وجود القسمین بالفعل، و هو لا یتحقّق إلّا فی الشبهات الموضوعیّة.

الثانی: ما ذکره بعض آخر من ظهور قوله علیه السلام:

(بعینه)

فی الشبهات الموضوعیّة(3).

الثالث: استظهار ذلک من قوله علیه السلام:

(منه)

. الرابع: تعبیره ب

(تعرف)

؛ بدعوی أنّ المعرفة إنّما یستعمل فی إدراک الامور الجزئیّة لا الکلّیّة؛ یقال: «عرفت زیداً»، فلا یشمل الشبهات الحکمیّة؛ لأنّ الأحکام


1- مناهج الأحکام و الاصول: 213 سطر 10.
2- فرائد الاصول: 201 سطر 4.
3- فوائد الاصول 3: 364.

ص: 275

کلّیّات.

الإنصاف: أنّ کلّ واحد من هذه الامور و إن کان قابلًا للخدشة، و لکن یحصل من مجموعها الاطمئنان بذلک، فالروایة تختصّ بالشبهات الموضوعیّة فقط، و لا تشمل الحکمیّة.

و أمّا ما تقدّم منّا أوّلًا: من أنّ المتبادر من الروایة أنّ الموضوع للحکم بالإباحة فی الروایة، هو الشکّ و الشبهة، و أنّه لا دخْلَ للعلم بوجود قسم من الحلال و قسم من الحرام فی الحکم بالإباحة و الحلّیّة فهو لا ینافی اختصاصها بالشبهات الموضوعیّة.

حدیث الحلّیة

و ممّا استدلّ به فی المقام:

روایة مسعدة بن صدقة: (کلّ شی ء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه، فتدعه من قِبَل نفسک، و ذلک مثل الثوب یکون علیک، قد اشتریته و هو سرقة، و المملوک عندک لعلّه حرٌّ قد باع نفسه، أو خُدِعَ فبیع قهراً، أو امرأة تحتک و هی اختک أو رضیعتک، و الأشیاء کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر هذا، أو تقوم به البیّنة)

(1) و صدرها و إن یعمّ الشبهة الحکمیّة، لکن قد یقال باختصاصها بالشبهات الموضوعیّة بقرینة التمثیل فی ذیلها بالموضوعات الخارجیّة، خصوصاً مع التعبیر فی التمثیل بقوله علیه السلام:

(و ذلک مثل الثوب ...)

إلخ، فإنّ الإتیان باسم الإشارة یُشعر بانطباق الکبری المذکورة علی هذه الأشیاء و نظائرها خاصّة، و بقرینة قوله:

(حتّی تقوم به البیّنة)

المختصّة بالموضوعات


1- الکافی 5: 313/ 40، تهذیب الأحکام 7: 226/ 989، وسائل الشیعة 12: 60، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4.

ص: 276

الخارجیّة، لا الأحکام الشرعیّة(1).

و یمکن دفع ذلک: بأنّ الأمثلة التی ذکرها الإمام علیه السلام و إن کانت من الموضوعات، لکن لا ینافیها عمومیّة الکبری المذکورة فی صدرها و شمولها للأحکام أیضاً، و لعلّ ذکره علیه السلام الأمثلة المذکورة فی ذیلها لأجل احتیاج المخاطب إلی حکم الشبهة الموضوعیّة لا الحکمیّة و أنّها محل ابتلائه.

و أمّا قوله علیه السلام:

(و الأشیاء کلّها ...)

الخ، فلا یلزم أن یکون کلّ واحد من الاستبانة و قیام البیّنة فی کلّ واحدة واحدة من الشبهات، بل یمکن ذکرهما باعتبار تحقّق مجموعهما فی مجموع موارد الشبهات، بل الاستبانة إنّما هی فی جمیع موارد الشبهة، و یختصّ قیام البیّنة فی الشبهات الموضوعیّة.

و لکن هنا إشکال آخر: و هو أنّ الحلّیّة فی الأمثلة المذکورة فیها مستندة إلی اصول و قواعد اخری غیر أصالة البراءة، مثل قاعدة الید بالنسبة إلی الثوب المُشتری من السوق، أو الاستصحاب کاستصحاب عدم تحقّق النسب بینه و بین الزوجة، أو أصالة الحرّیّة فی الإنسان المشکوک حرّیّته، و لا مجال معها لأصالة البراءة؛ لحکومتها علیها؛ لزوال الشکّ بهذه الاصول و القواعد، فلا تصل النوبة إلی أصالة البراءة(2).

و یمکن دفعه: بأنّ المقصود هو بیان ما هو الوظیفة بحسب العمل الخارجی و الجری العملی، و أنّ المشکوک حرمته حلال؛ سواء کان هناک ما یقتضی الحلّیّة من الاصول و الأمارات أم لا.

أو یقال: المقصود هو الحکم بالحلّیّة من حیث الشکّ، مع قطع النظر عن قیام


1- نهایة الأفکار 3: 234.
2- انظر نهایة الأفکار 3: 224 ذکره و أجاب علیه.

ص: 277

أصل أو أمارة علی وفق أصالة الحلّیّة(1).

هذا کلّه فی الاستدلال بالأخبار.

الدلیل الثالث: الإجماع

و أمّا الاستدلال للبراءة بالإجماع(2) فهو موهون فی مثل هذه المسألة، التی للعقل إلیها سبیل، و من واضح النقل علیها دلیل؛ لقوّة احتمال استناد المجمعین فیها إلی حکم العقل و النقل، فإنّه إنّما یفید فی المسائل المخالفة للأصل و القاعدة، و لم یقم علیها دلیل ظاهر من النقل و العقل، فإنّه یستکشف حینئذٍ- من إجماع الأصحاب الذین هم بطانة الأئمة علیهم السلام مع القطع بعدم إفتائهم بدون الدلیل، و مراعاتهم کمال الدقّة و الاحتیاط فی مقام الفتوی- أنّ الحکم المذکور و فتواهم هو رأی الإمام علیه السلام.

و قد تقدّم أنّه لا یلزم فیه استکشاف وجود نصّ معتبر- أیضاً- عندهم، و لا یلزم فی استکشاف رأی المعصوم إطباق کلّ الفقهاء بأجمعهم حتی یرد علیه: بأنّ أکثر الفقهاء لم یصنّفوا کتاباً حتی یُطّلع علی فتاواهم، کما أورد ذلک المتأخّرون، بل یکفی إطباق عدّة من الفقهاء المصنّفین فی الفقه، کالشیخ الطوسی و السیّد المرتضی و أمثالهما، فإنّه یستکشف بنحو القطع أنّ ما أفتوا به هو رأی المعصوم علیه السلام.

و بالجملة: لیست المسألة ممّا یستدلّ لها بالإجماع.


1- و فی هذین الوجهین لدفع الإشکال نظر؛ لأنّه مع قطع النظر عن قاعدة الید و نحوها ممّا یوافق البراءة و عدم جریانها فرضاً، لا مجال لأصالة البراءة فیها، بل هو مجری استصحاب بقاء الثوب علی ملک مالکه، و أصالةِ الحرّیّة فی الإنسان المشکوک رقّیّته، و أصالةِ عدم تأثیر العقد فی الزوجة المشکوک کونها اختاً له، فالوجهان اللّذان ذکرهما- دام ظلّه- محلّ إشکال. المقرّر حفظه اللَّه.
2- فرائد الاصول: 202 سطر 23.

ص: 278

الدلیل الرابع: العقل

و ممّا استدلّ به فی المقام: حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان و مؤاخذة العبد بلا حجّة و برهان، فإنّه لو فرض أنّ عبداً تفحّص و بحث عن حکم المولی فی مورد الشبهة بقدر وسعه، و اجتهد بمقدار طاقته، و لم یقصّر فی طلبه و تحصیله، و لم یظفر به، و فرض وجوده واقعاً، و لم یصل إلیه لبعض الامور و الجهات، فلا ریب فی أنّ عقابَ المولی له و عتابه علی مخالفته لحکمه الواقعی قبیحٌ عند العقل و العقلاء بلا ریب و إشکال(1).

و المراد بالبیان- الذی عدمه موضوع حکم العقل- هو الحجّة، لا بیان الحکم الواقعی، فینتفی موضوع هذا الحکم العقلی بجعل المولی وجوب الاحتیاط فی موارد الشبهة، فإنّ إیجاب الاحتیاط حجّة و بیان، فلو خالفه و صادفت مخالفته الواقع، فالعقاب علیه لیس بلا بیان.

ثمّ إنّه ذکر بعض الأعاظم من المحقّقین (الشیخ محمّد حسین الأصفهانی قدس سره فی الحاشیة): أنّه لا یحتاج فی المقام إلی قاعدة حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، بل یکفی فیه دفع استحقاق العقوبة علی فعلِ محتمل الحرمة- مثلًا- ما لم یقم حجّة منجِّزة لها، و حیث إنّ موضوع العقاب بالأخرة هو الظلم علی المولی، فمع عدمه لا یستحقّ العقوبة، و هو کافٍ.

و بالجملة: حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان من جزئیّات حکم العقل بقبح الظلم عند العقلاء؛ نظراً إلی أنّ مخالفة ما لم تقم علیه الحجّة لیست من جزئیّات الظلم علی المولی، فالعقوبة علیه ظلم من المولی علی عبده، و مخالفة ما قامت علیه الحجّة خروج عن زیّ الرقّیّة و رسم العبودیّة، و هو ظلم من العبد علی مولاه


1- انظر فرائد الاصول: 203 سطر 17.

ص: 279

فیستحقّ العقوبة(1). انتهی ملخّصه.

أقول: أمّا ما ذکره قدس سره من أنّ العقوبة إنّما هی لأجل ظلم العبد علی مولاه، و أنّ مناط صحّتها هو ذلک، فهو ممنوع؛ إذ لا معنی لظلم العبد علی مولاه؛ لأنّ الظلم عبارة عن التعدّی علی الغیر من غیر حقّ، و لا یمکن ذلک فی المفروض، بل الملاک فی صحّة العقوبة هو مخالفة المولی، فمتی تحقّق عنوان المخالفة للمولی صحّت العقوبة، و إلّا فلا.

و ما ذکره قدس سره من کفایة دفع استحقاق العقوبة و عدم الاحتیاج إلی قاعدة حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، ففیه: أنّه لا یکفی مجرّد عدم استحقاق العقوبة ما لم ینضمّ إلیه حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، فإنّه مع قطع النظر عن هذا الحکم العقلی لا مُؤمّن للعبد من العقوبة و إن لم یستحقّها، فلعلّ المولی یُعاقبه ظلماً، فالمؤمّن له من العقوبة هو حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، فلا إشکال فی الاحتیاج إلی تلک القاعدة العقلیّة، و لا فرق فی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان؛ بین ما إذا لم یصدر البیان من المولی واقعاً أصلًا، و بین ما لو صدر منه واقعاً؛ و لکن لم یصل إلی المکلَّف لا عن تقصیر من العبد، بل لأمر خارج عن اختیاره، و المناط فی الحکم العقلی المذکور واحد فی کلا الفرضین، خلافاً للمیرزا النائینی قدس سره حیث ذهب إلی أنّ المناطَ فی حکم العقل فیما إذا لم یصدر من المولی بیان أصلًا، غیرُ المناط فیما إذا صدر و لکن لم یصل إلینا؛ لعدم فوات غرض المولی فی الأوّل؛ لعدم إرادته له فی الواقع، بخلاف الفرض الثانی، فإنّه یفوت غرضه فیه، و لکن حیث إنّ فوته لیس مستنداً إلی العبد استقلّ العقل بقبح عقابه(2). انتهی.

و فیه: أنّه لا فرق بین الفرضین فی أنّ مناط حکم العقل هو عدم البیان و عدم


1- نهایة الدرایة 2: 191 سطر 1.
2- فوائد الاصول 3: 365- 366.

ص: 280

قیام الدلیل و الحجّة للمولی علی العبد؛ و حکمه بقبح العقاب بلا حجّة وجهة.

ثمّ إنّه قد یتوهّم معارضة قاعدة قبح العقاب بلا بیان مع قاعدة عقلیّة اخری، و هی حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، بل ورود الثانیة علی الاولی؛ لأنّ البیان أعمّ من البیان العقلی و النقلی، فمع حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ینتفی موضوع الحکم فی القاعدة الاولی(1).

و أورد علیه بعض الأعاظم (و هو المحقّق العراقی قدس سره): بمنعِ ذلک و حکومةِ قاعدة قبح العقاب بلا بیان علی قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل؛ إذ بعد جریان القاعدة الاولی نعلم قطعاً بعدم الضرر، و لا یحتمل الضرر فی مورد الشبهة حتّی تجری فیه قاعدة دفع الضرر المحتمل، و أنّ جریانها دوریّ؛ لتوقُّف الحکم بوجوب دفع الضرر علی احتماله توقُّف الحکم علی موضوعه، و احتمالُه- أی الضرر- فی مورد الشبهة موقوف علی جریان تلک القاعدة فیه، لا قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لوضوح أنّه مع جریان هذه لا یُحتمل الضرر(2). انتهی محصّل کلامه.

أقول: المراد بالضرر فی موضوع القاعدة: إمّا هو العقوبة الاخرویّة، أو غیرها ممّا سیأتی إن شاء اللَّه تعالی.

فعلی الأوّل: لا معنی للحکومة و الورود فی المقام، فإنّ کلّ واحدة من قاعدتی قبح العقاب بلا بیان و وجوب دفع الضرر المحتمل، کبری کلّیّة مرکّبة من موضوع و محمول، فموضوع الاولی عدم البیان، و هو- أیضاً- کلّیّ غیر قابل للرفع، و محمولها قبح العقاب علیه، فهی قضیّة موضوعها أمر کلّیّ فی قوّة قضیّة شرطیّة؛ کأنّها عبارة عن أنّه لو تحقّق فی موردٍ عدمُ البیان یقبح العقاب فیه، و هذا أمر غیر قابل للرفع، فلو فرض صدور البیان فی جمیع الأحکام الشرعیّة و عدم وجود حکمٍ


1- هدایة المسترشدین: 448 سطر 3.
2- نهایة الأفکار 3: 235- 236.

ص: 281

غیر مبیَّن، فهذه القضیّة- أیضاً- صادقة، فهذه الکبری الکلّیّة إنّما تُنتج لو انضمّ إلیها صُغری ثابتة إمّا بالوجدان أو بالبرهان، کشرب التتن، فیقال: شربُ التتن ممّا لم یرد فیه البیان، و کلّ ما هو کذلک یقبح العقاب علیه، ینتج: أنّ شرب التتن یقبح العقاب علیه، و الفرض أنّ هذه الصغری ثابتة بالوجدان، و أنّ المکلّف استفرغ وسعه و تفحّص و اجتهد فی الطلب عن وجود البیان فیه، فلم یجده، فیضمّ إلیها الکبری المذکورة، ینتج ما ذکر.

و أمّا قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فهی- أیضاً- کُبری کلّیّة موضوعها أمر کلّیّ غیر قابل للرفع، و هی- أیضاً- فی قوّة قضیّة شرطیّة، لکنّها إنّما تُنتج إذا انضمّت إلیها صغری ثابتة بالوجدان أو بالبرهان، و هی فی مثل شرب التتن فیما نحن فیه، و إن کانت ثابتة قبل الفحص و الیأس عن الدلیل لاحتمال الضرر و العقوبة فیه، و لکنّها غیر ثابتة بعد الفحص التامّ و الیأس عن الدلیل علی الحرمة- کما هو المفروض فی المقام- إذ لا یحتمل العقاب و الضرر فیه، فإنّه بعد ثبوت عدم ورود البیان و الحجّة وجداناً یحکم العقل بقبح العقاب علیه، فلا یتحقّق فیه صُغری قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حتّی یُنتج نتیجة تُضادّ نتیجة القاعدة الاولی.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ ما نحن فیه لیس مورد الحکومة و لا الورود، لواحدة من القاعدتین علی الاخری(1).


1- و لا یخفی أنّه لا یُعنی بالحکومة إلّا ذلک، و إلّا لا حکومة و لا ورود فی شی ء من الموارد. أ لا تری أنّ قوله: \iُ( لا شکّ لکثیر الشکّ)\E ( هذه قاعدة متصیدة من الأحادیث، راجع وسائل الشیعة 5: 329، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16)، کبری کلّیّة یحتاج فی إنتاجها إلی ضمّ صغری ثابتة، و هکذا مثل: \iُ( إذا شککت بین الثلاث و الأربع فابنِ علی الأربع)\E ( انظر وسائل الشیعة 5: 320، باب 10 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، فقد ورد هذا المضمون فی هذا الباب)، فإنّه- أیضاً- کبری کلّیّة یحتاج فی إنتاجها إلی صُغری ثابتة، فمع ثبوت صُغری الاولی- أی کثرة الشکّ- فی مورد یحکم بعدم الشکّ له، فلا مورد للکبری الثابتة فیه بعد الحکم بنفی الشکّ أو عدمه. و بالجملة: لیس معنی الحکومة و الورود إلّا ما ذکره- دام ظلّه العالی- و إلّا یلزم عدم تحقّق حکومة و لا ورود فی أدلّة الأحکام أصلًا. المقرّر دامت برکاته.

ص: 282

هذا کلّه لو ارید بالضرر العقوبة الاخرویّة، و إن ارید منها لوازم الأعمال من الصورة الملازمة للإنسان فی النشأة الآخرة؛ بناءً علی القول بتجسّم الأعمال و الملکات، بل ادّعی بعضهم(1): أنّه لا عقوبة و لا مثوبة فی النشأة الآخرة إلّا هذه الصورة الملازمة للإنسان، الناشئة من الأعمال، و لا تنفکّ عنها، کالأثر الوضعی للشی ء، و أنّ الأعمال القبیحة تستلزم صوراً قبیحة، ملازمة للإنسان بعد الارتحال عن هذه النشأة الدنیویّة ظلمانیّةً تُؤذیه، و الأعمال الحسنة تستلزم صوراً بهیّة حسنة نورانیّة تبشّره، و استشهد علی ذلک بمثل قوله: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ* وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ»(2)؛ حیث علّق الرؤیة علی نفس العمل، و أنّه یراه، و هو غیر قابل للرؤیة إلّا بتجسّمه، و قوله تعالی: «یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً»(3) الآیة، و هذا القول و إن کان إفراطاً؛ ضرورة ثبوت الثواب و العقاب الاخروی، لکن علی فرض دعوی إرادة ذلک من الضرر المحتمل، یرد علیه النقض:

أوّلًا: بالشبهة الوجوبیّة مطلقاً و التحریمیّة الموضوعیّة؛ حیث إنّ الأخباری لا یقول بوجوب الاحتیاط فیهما، مع أنّ مقتضی ما ذکر عدم الفرق بین الشبهات.

و ثانیاً: أنّ مقصود القائل بذلک: هو أنّ مخالفة اللَّه بارتکاب المحرّمات و ترک الواجبات، توجب حزازة و منقصة فی النفس و إیجاد نقطة سوداء فی القلب، و تزید بتکرار المخالفة حتّی تصیر المخالفة مَلَکة نفسانیّة له؛ تبلغ حدّاً یُکذِّب معه بآیات


1- انظر تفسیر القرآن، صدر المتألهین 4: 284- 285.
2- الزلزلة( 99): 7 و 8.
3- آل عمران( 3): 30.

ص: 283

اللَّه، و یستهزئ بها، و تُجسَّم تلک المَلَکة یوم القیامة فی صورة قبیحة تؤذیه، فهذه الصورة هی تلک المَلَکات تحصل بعد انقطاع النفس عن علائقها بعالم الطبیعة و المادّة.

و حینئذٍ نقول:

إنّ هذا إنّما یتحقّق فی التکالیف المعلومة المبیّنة، لا المشکوکة؛ لعدم تحقّق المخالفة فیها، بل ورد:

(أنّ اللَّه یُحبّ أن یؤخذ برُخَصه، کما یُحبّ أن یُؤخذ بعزائمه)

(1).

و إن ارید بالضرر الضرر الدُّنیوی؛ بأن یقال: إنّ ارتکاب المحرّم- کشرب الخمر- یوجب الإضرار بالبدن و نحوه- مثلًا- فإن ارید أن العقل یحکم بقبح الإتیان بالمشکوک، و یحرم ارتکابه شرعاً؛ لقاعدة الملازمة بین حکم العقل و الشرع، یلزم انقلاب الشکّ فی الحکم إلی القطع به؛ لأنّه- حینئذٍ- حرام مقطوع به، و لا أظنّ أن یلتزم به الخصم.

و إن ارید ذلک مع عدم حکم العقل بقبح ذلک، فلا یحرم ارتکاب مقطوعه، فضلًا عن مشکوکه.

و إن ارید بالضرر ما یترتّب علیه من المصالح و المفاسد التی هی ملاکات الأحکام؛ بناءً علی مذهب العدلیّة، لحکم العقل بوجوب دفع احتمال ضرر تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة فی موارد الشبهة الحکمیّة، فإن ارید أنّ ارتکابه قبیح عقلًا فیحرم شرعاً، فلا دلیل علیه، بل القدر المسلَّم هو أنّ الأحکام الشرعیّة لیست جُزافیّة، بل هی ناشئة عن المصالح و المفاسد النفس الأمریّة فی الجملة.


1- وسائل الشیعة 1: 81، کتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 25، الحدیث 1، و 11: 481، کتاب الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، أبواب الأمر و النهی و ما یناسبهما، الباب 29، الحدیث 20.

ص: 284

و أمّا مع عدم حکم العقل بذلک، فمجرّد احتمال تفویت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة لا یوجب تحقّق البیان؛ لیکون وارداً علی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان.

فی أدلّة القول بالاحتیاط
اشارة

و استدلّ الأخباریّون لوجوب الاحتیاط فی الشبهة البدویّة التحریمیّة بالأدلّة الثلاثة: الکتاب، و السُّنّة، و العقل:

الاستدلال بالکتاب
اشارة

أمّا الآیات فهی علی طوائف:

الأوّل: ما دلّ علی النهی عن التقوّل بغیر العلم

الأوّل: ما دلّ علی النهی عن التقوّل بغیر العلم(1)

. و تقریب الاستدلال: أنّ الحکمَ بالبراءة و جواز ارتکاب الشبهة المذکورة قولٌ بغیر علم، و هو منهیٌّ عنه.

و یظهر من الشیخ الأعظم قدس سره الاعتراف بذلک؛ حیث قال قدس سره: فإنّ الحکم بترخیص الشارع لمحتمل الحرمة قول بغیر علم و افتراء؛ حیث إنّه لم یأذن فیه، و لا یرد ذلک علی أهل الاحتیاط؛ لأنّهم لا یحکمون بالحرمة، و إنّما یترکون لاحتمال الحرمة، و هذا بخلاف الارتکاب، فإنّه لا یکون إلّا بعد الحکم بالرخصة و العمل بالإباحة(2).

لکن فیه ما لا یخفی، فإنّ محطّ البحث بین الاصولی و الأخباری لیس مجرّد


1- الأعراف( 7): 33.
2- انظر فرائد الاصول: 205 سطر 12.

ص: 285

ترک الأخباری للمشتبه فی مقام العمل و ارتکاب الاصولی لها، بل محطّ البحث هو جواز الإفتاء و الحکم بجواز ارتکاب الشبهة و تجویز الشارع له و عدمه، و الأوّل دعوی الاصولی، و الثانی دعوی الأخباری، و کلٌّ منهما إفتاء و نسبة إلی الشرع.

فلو أجاب الأخباری: بأنّ القول بوجوب الاحتیاط و عدم جواز الارتکاب لیس قولًا بغیر علم؛ لقیام الحجّة من العقل و الشرع علیه، نقول: القول بالبراءة- أیضاً- لیس بغیر علم؛ لاعتماد الاصولی علی مثل حدیث الرفع الصحیح سنداً التامّ دلالةً، و حکمِ العقل بقبح العقاب بلا بیان، غایة الأمر أنّ أدلّة الاصولی و الأخباری تتعارضان، و هو کلام آخر.

و بالجملة: ما ذکره الشیخ قدس سره فی المقام غیر مستقیم.

مضافاً إلی أنّه لا یصحّ للأخباری أو مَن قِبَله الاستدلال لمذهبه بظواهر الکتاب؛ لعدم حجّیّته عنده، فکیف یُتمسّک بها؟!

الثانی: الآیات الآمرة باتّقاء اللَّه

، مثل: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ»(1)، «وَ جاهِدُوا فِی اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ»(2).

و أجاب شیخنا الحائری قدس سره عنها: بأنّها تشمل المندوبات و ترک المکروهات، مع أنّه لا ریب فی عدم وجوبهما، فیدور الأمر بین تقیید المادّة بغیرهما و بین التصرّف فی هیئة الطلب؛ بحملها علی إرادة مطلق الرجحان؛ حتّی لا تنافی ترکَ المندوب و فعل المکروه، و لا إشکال فی عدم أولویّة الأوّل إن لم نقل بأولویّة الثانی من جهة کثرة استعمالها فی غیر الوجوب حتّی قیل(3): إنّها صارت من المجازات


1- آل عمران( 3): 102.
2- الحج( 22): 78.
3- معالم الدین: 48- 49.

ص: 286

الراجحة المساوی احتمالها لاحتمال الحقیقة(1). انتهی.

أقول: ما ذکره قدس سره لا یخلو عن الإشکال:

أمّا أوّلًا: فلأنّ الاتّقاء- فی العرف و اللُّغة- لا یشمل فعل المندوبات و ترک المکروهات؛ بمعنی أنّه لا دَخْل لفعل المندوبات و ترک المحرّمات فی تحقّق التقوی، بل الاتّقاء یتحقّق بفعل الواجبات و ترک المحرّمات، فلو أتی المکلّف بجمیع الواجبات و ترک جمیع المحرّمات، و اجتنب المشکوکات؛ بالإتیان بما شُکّ فی وجوبه و ترکِ المشکوک حرمته، یصدق علیه: أنّه اتّقی حقّ التقاة و إن ترک جمیع المندوبات، و ارتکب جمیع المکروهات، و لا یصدق الاتّقاء مع عدم الاجتناب عن المشکوکات و إن فعل جمیع المندوبات، و ترک جمیع المکروهات.

و بالجملة: لا دخل لفعل المندوبات و ترک المکروهات فی صدق الاتّقاء حقّ التُّقاة.

و ثانیاً: أنّ استعمال هیئة الطلب فی المندوبات و إن کان کثیراً و من المجازات الراجحة، لکن استعمالها فی الوجوب- أیضاً- کثیر لو لم یکن أکثر، و لیس ذلک مثل استعمال المطلق فی إطلاقه؛ لنُدرته جدّاً، لتقیید أکثر المطلقات.

فالأولی أن یقال فی وجه ترجیح حمل الهیئة علی الاستحباب: هو أنّ الآیات الشریفة المذکورة تشمل جمیع الشبهات الوجوبیّة و التحریمیّة و الحکمیّة و الموضوعیّة، و سیاقها آبٍ عن التخصیص، بل تخصیصها- بإخراج الشبهات الوجوبیّة مطلقاً و التحریمیّة الموضوعیة- مستهجَن مستبشَع، فالأمر دائر بین ارتکاب ذلک التخصیص الأکثر المستهجن بتقییدها بالشبهة التحریمیّة التکلیفیّة فقط، و خروج سائر الشبهات عنها، و بین حمل الهیئة فیها علی الاستحباب، و لا ریب فی أنّ المتعیّن هو الثانی.


1- درر الفوائد: 429.

ص: 287

مضافاً إلی أنّ الآیات الشریفة تشمل مقطوعَی الحرمة و الوجوب، و من المعلوم أنّ الأمر بالاتّقاء بالنسبة إلیهما إرشادیّ مثل الأمر فی «أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ»*، و حینئذٍ فهذه الأوامر لیست مولویّة.

الثالث

: و من الآیات التی تمسّک بها الأخباریّون: قوله تعالی: «وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ»(1)، و لکن الظاهر أنّ المراد من التهلکة الفساد؛ بطغیان الفقراء لفقرهم الناشئ عن ترک الأغنیاء أداءَ حقوقهم و عدم إنفاقهم علیهم و إعانتهم؛ بقرینة ما قبلها فإنّ صدر الآیة قوله تعالی: «وَ أَنْفِقُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ»، فإنّه من المحتمل بقرینة صدر الآیة أنّ المراد بالتهلکة ما ینشأ من عدم إنفاق الأغنیاء؛ لعدم دفع الزکوات و الصدقات إلیهم، الموجب لِنشو الفساد منهم، کما فی زماننا هذا، و إلّا فلو ارید من التهلکة العقاب الاخروی فلا بدّ من إثباتها فی مورد الشبهة؛ حتی تشمله الآیة، و إثباتها بالآیة دور واضح.

الرابع

: قوله تعالی: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللَّهِ وَ الرَّسُولِ»(2).

و فیه: أنّ الآیة غیر مربوطة بالمقام، بل مربوطة بباب المحاکمة و التنازع.

نعم لو ارید من قوله «تَنازَعْتُمْ» نحو تردّدتم أو شککتم أمکن الاستدلال بها فی المقام، و لکنّه ممنوع.

فتلخّص: أنّ الآیات لا تدلّ علی مطلوب الأخباریّین، مضافاً إلی ما تقدّم من عدم حجّیّة الظواهر عندهم، فکیف یتمسّکون بها فی المقام و غیره؟!


1- البقرة( 2): 195.
2- النساء( 4): 59.

ص: 288

الاستدلال بالسنّة
اشارة

و أمّا الأخبار التی استدلّوا بها لمذهبهم: فهی کثیرة جدّاً، و هی أیضاً علی فِرَق:

الاولی: ما دلّ علی وجوب الرجوع إلی الأئمّة علیهم السلام عند الشبهات

: مثل

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی، عن أحمد، عن ابن فضّال، عن ابن بکیر، عن حمزة بن الطیّار: أنّه عرض علی أبی عبد اللَّه علیه السلام بعض خطب أبیه، حتّی إذا بلغ موضعاً منها.

قال: (کفّ و اسکت).

ثمّ قال أبو عبد اللَّه علیه السلام: (إنّه لا یسعکم فیما ینزل بکم ممّا لا تعلمون إلّا الکفّ عنه و التثبّت و الردّ إلی أئمّة الهدی؛ حتّی یحملوکم فیه علی القصد، و یجلوا عنکم فیه العمی، و یُعرّفوکم فیه الحقّ؛ قال اللَّه تعالی: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»*

(1))(2).

و فیه: أنّ المراد فیها غیر معلوم، فإنّ الأمر بالسکوت و الردّ إلی الأئمّة علیهم السلام لعلّه لأجل تفسیر حمزة الخطبة بما لا یصحّ، و کان المطلب من المعارف الدقیقة التی لا یسعها فهمه، کما أنّ کثیراً من الخطب و الأدعیة مشتملة علی معارف دقیقة عمیقة اعتقادیّة لا یدرکها عقل کلّ أحد، و لذا منعوا بعض أصحابهم عن التکلّم فیها، و أمروا بعضاً آخر بذلک، و لا بدّ من إمعان النظر و تدقیقه فی فهمها، و لیست مثل الروایات المتضمّنة للأحکام الفرعیّة؛ حیث إنّ اللازم فیها هو الأخذ بمفهومها العرفی


1- الأنبیاء( 21): 7.
2- الکافی 1: 40/ 10، وسائل الشیعة 18: 112، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 3.

ص: 289

العقلائی.

و بالجملة: حیث إنّه لم یُعلم أنّ ما قُرئ علی أبی عبد اللَّه أیّ شی ء کان؛ و أنّه من المسائل الفرعیّة أو الاصولیّة الاعتقادیّة أو غیرهما، فلا یصحّ التمسّک بها فی المقام.

و مثل

ما رواه محمّد بن علی بن الحسین بإسناده عن علی بن مهزیار، عن الحسین بن سعید، عن الحرث بن محمّد بن النعمان الأحول، عن جمیل بن صالح، عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال: (قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم ...) فی کلام طویل:

(الامور ثلاثةٌ: أمرٌ تبیّن لک رشده فاتّبعه، و أمرٌ تبیّن لک غیّه فاجتنبه، و أمرٌ اختلف فیه فردّه إلی اللَّه عزّ و جلّ)

(1).

و فیه: إن ارید ممّا تبیّن رشده الفتوی المشهورة بین الفقهاء، و ممّا تبیّن غیّه الشاذّ النادر، فیردّ المختلف فیه إلی اللَّه، فهو خلاف مسلک الأخباری، فإنّه یوجب سدّ باب علاج التعارض و الرجوع إلی المرجّحات، مع أنّ مسلک صاحب الحدائق- أیضاً- خلاف ذلک.

فلا بدّ أن یُراد من ذلک الامور الاصولیّة الاعتقادیّة.

و مثل

ما فی عیون الأخبار عن أبیه، عن سعد المسمعی، عن أحمد بن الحسن المیثمی، عن الرضا فی حدیث اختلاف الأحادیث قال: (و ما لم تجدوه فی شی ء من هذه الوجوه فردّوا إلینا علمه فنحن أولی بذلک، و لا تقولوا فیه بآرائکم، و علیکم بالکفّ و التثبّت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتی یأتیکم البیان من عندنا)

(2).


1- الفقیه 4: 285/ 34، وسائل الشیعة 18: 118،، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 23.
2- عیون أخبار الرضا 2: 21/ 45، وسائل الشیعة 18: 81، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 21.

ص: 290

و الظاهر أنّ المرادَ النهیُ عن الإفتاء بالحکم الواقعی فی مورد الشبهة بالقیاس و الاستحسانات العقلیّة المتعارفة بین العامّة، کما هو دأبهم فی الفتیا، لا الإفتاء بالحکم الظاهری الذی موضوعه الشکّ و الشبهة بعنوانهما.

و کذلک

روایة سُلَیم بن قیس الهلالی فی کتابه: أنّ علیّ بن الحسین علیهما السلام قال لأبان بن أبی عیّاش: (یا أخا عبد قیس إن وضح لک أمر فاقبله، و إلّا فاسکت تسلم، و ردّ علمه إلی اللَّه، فإنّک أوسع ممّا بین السماء و الأرض)

(1).

و ما رواه الحسن بن محمّد بن الحسن، عن أبیه، عن المفید، عن ابن قولویه، عن محمّد بن یعقوب عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن محمّد بن عیسی الیقطینی، عن یونس، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبی جعفر علیه السلام فی وصیّته لأصحابه قال: (إذا اشتبه الأمر علیکم فقفوا عنده، و ردّوه إلینا حتّی نشرح لکم من ذلک ما شرح اللَّه لنا، فإذا کنتم ما أوصیناکم لم تعدوه إلی غیره، فمات منکم میّت قبل أن یخرج قائمنا کان شهیداً، و من أدرک قائمنا فقتل معه کان له أجر شهیدین، و من قَتل بین یدیه عدوّاً لنا کان له أجر عشرین شهیداً)

(2).

فإنّ هذه الروایات غیر مرتبطة بمسألة وجوب الاحتیاط فی الشبهة و وجوب الوقوف و عدم الحکم بالبراءة حکماً ظاهریّاً، بل المنهیّ عنه فیها الإفتاء بالحکم الواقعی.

و مثل

ما رواه محمد بن مسعود العیّاشی فی تفسیره عن عبد اللَّه بن جُندَب، عن الرضا علیه السلام فی حدیث قال: (إنّ هؤلاء القوم سنح لهم شیطان اغترّهم بالشبهة،


1- کتاب سلیم بن قیس: 67، وسائل الشیعة 18: 121، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 35.
2- الأمالی، الشیخ الطوسی: 231/ 2، المجلس التاسع، وسائل الشیعة 18: 123، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 43.

ص: 291

و لبّس علیهم أمر دینهم، و أرادوا الهدی من تلقاء أنفسهم، فقالوا: لِمَ و متی و کیف؟

فأتاهم الهُلْکُ من مأمن احتیاطهم، و ذلک بما کسبت أیدیهم «وَ ما رَبُّکَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِیدِ»(1)، و لم یکن ذلک لهم و لا علیهم، بل کان الفرض علیهم و الواجب لهم من ذلک الوقوف عند التحیّر، و ردّ ما جهلوه من ذلک إلی عالمه و مستنبطه؛ لأنّ اللَّه تعالی یقول فی کتابه: «وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَ إِلی أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(2)؛ یعنی آل محمّد، و هم الذین یستنبطون من القرآن، و یعرفون الحلال و الحرام، و هم الحجّة للَّه علی خلقه)

(3).

و هذه الروایة- أیضاً- فی مقام التوبیخ و التعییر علی العامّة العمیاء الذین ترکوا أهل البیت، و لم یرجعوا إلیهم فی أحکامهم و معرفة الحلال و الحرام، و حکموا من عند أنفسهم علی طبق الأقیسة و الاستحسانات العقلیّة.

الثانیة: ما دلّ علی النهی عن التقوّل بغیر علم

الثانیة: ما دلّ علی النهی عن التقوّل بغیر علم(4)

، و قد تقدّم أنّه لیس المراد بالعلم العلم الوجدانی الجازم، بل المراد هو الحجّة، و إلّا لما صحّ التمسُّک بالأمارات و الاصول المعتبرة الغیر القطعیّة، و أصالة البراءة منها، فالاستنادُ إلیها بمثل حدیث الرفع و نحوه استنادٌ إلی الحجّة المعتبرة.

الثالثة: ما دلّ علی وجوب الوقوف عند الشبهة

بنحو الإطلاق، الدالّة علی وجوب الاحتیاط و تثلیث الامور، مثل

ما رواه الکلینی قدس سره عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد، عن الحسین بن سعید، عن الحسین بن الجارود، عن موسی بن بکر بن داب، عمّن حدّثه، عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال لزید بن علی:


1- فصِّلت( 41): 46.
2- النساء( 4): 83.
3- تفسیر العیّاشی 1: 260/ 206، وسائل الشیعة 18: 125، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 49.
4- بحار الأنوار 2: 113 و 118/ 2 و 20 و 21.

ص: 292

(إنّ اللَّه- عزّ و جلّ- أحلّ حلالًا، و حرّم حراماً، و فرض فرائض، و ضرب أمثالًا، و سنّ سُنناً ...- إلی أن قال-: فإن کنت علی بیّنة من ربّک، و یقین من أمرک، و تبیان من شأنک، فشأنک، و إلّا فلا ترومنّ أمراً أنت منه فی شکّ و شبهة)

. أقول: ذکر هذه الجملة من الروایة فی الوسائل فی باب وجوب التوقّف و الاحتیاط، و لکن لا یخفی علی من راجع أصل الروایة صدراً و ذیلًا- فی اصول الکافی فی باب ما یفصل به بین دعوی المحقّ و المُبطل فی أمر الإمامة- أنّها غیر مربوطة بما نحن فیه أصلًا، فإنّ الروایة هکذا:

إنّ زید بن علیّ بن الحسین دخل علی أبی جعفر علیه السلام و معه کتب من أهل الکوفة یدعونه فیها إلی أنفسهم، و یخبرونه باجتماعهم، و یأمرونه بالخروج.

فقال له أبو جعفر علیه السلام: (هذه الکتب ابتداء منهم أو جواب ما کتبت به إلیهم، و دعوتهم إلیه؟). فقال: ابتداء من القوم ...- إلی أن قال-: فغضب زید عند ذلک، ثمّ قال: لیس الإمام منّا من جلس فی بیته، و أرخی ستره، و ثبّط عن الجهاد، و لکن الإمام منّا من منع حوزته، و جاهد فی سبیل اللَّه حقّ جهاده، و دفع عن رعیّته و ذبّ عن حریمه.

قال أبو جعفر: (هل تعرف- یا أخی- من نفسک شیئاً ممّا نسبتها إلیه، فتجی ء علیه بشاهد من کتاب اللَّه، أو حجّة من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم أو تضرب به مثلًا، فإن اللَّه- عزّ و جلّ- أحلّ حلالًا، و حرّم حراماً، و فرض فرائض، و ضرب أمثالًا، و سنّ سُنناً، و لم یجعل الإمام القائم بأمره فی شبهة فیما فرض اللَّه له من الطاعة؛ أن یسبقه بأمرٍ قبل محلّه، أو یجاهد فیه قبل حلوله، و قد قال اللَّه- عزّ و جلّ- فی الصید: «لا تَقْتُلُوا الصَّیْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ»(1) أ فقتل الصید أعظم، أم قتل النفس التی حرّم اللَّه؟! ... فجعل لکلّ شی ء أجلًا، و لکلّ أجلٍ کتاباً، فإن کنت علی بیّنة من ربّک


1- المائدة( 5): 95.

ص: 293

و یقین من أمرک و تبیان من شأنک، فشأنک و إلّا فلا ترومنّ أمراً أنت منه فی شکّ و شبهة، و لا تتعاطَ زوال مُلکٍ لم تنقض اکله، و لم ینقطع مداه، و لم یبلغ الکتاب أجله، فلو قد بلغ مداه، و انقطع اکله، و بلغ الکتابُ أجله، لانقطع الفصل و تتابع النظام، و لأعقب اللَّه فی التابع و المتبوع الذُّلّ و الصِّغار، أعوذ باللَّه من إمام ضلّ عن وقته، فکان التابع فیه أعلم من المتبوع)

(1).

فإنّک بعد التأمّل فی هذا الحدیث، تعرف أنّه غیر مربوط بالمقام و المبحث الذی نحن فیه أصلًا، مع ضعف سنده، و دلالته علی الطعن و الخدشة فی زید بن علیّ بن الحسین مع جلالة شأنه و علوّ مقامه.

و منها:

ما رواه الکلینی قدس سره عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن سنان، عن ابن بکیر، عن زرارة، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا و لم یجحدوا لم یکفروا)

(2)، و هی- أیضاً- مع ضعف سندها غیر مرتبطة بالمقام، بل هی راجعة إلی اصول العقائد.

و منها:

ما رواه محمّد بن الحسین عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی نهج البلاغة فی کتابه إلی عثمان بن حُنیف عامله علی البصرة: (أمّا بعدُ یا ابن حُنیف، فقد بلغنی أنّ رجلًا من فتیة أهل البصرة دعاک إلی مأدُبة، فأسرعت إلیها تُستطاب لک الألوان، و تُنقل إلیک الجِفان، و ما ظننتُ أنّک تجیب إلی طعامِ قومٍ عائلُهم مجفُوّ، و غنیّهم مدعوّ، فانظر إلی ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه علیک علمه فالفظه، و ما أیقنت بطیب وجوهه فَنَلْ منه)

(3).


1- الکافی 1: 290/ 16، وسائل الشیعة 18: 114، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 10.
2- الکافی 2: 286/ 19، وسائل الشیعة 18: 115، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 11.
3- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 586- 587، وسائل الشیعة 18: 116، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 17.

ص: 294

و لیعلم أنّ وظائف العمّال و آدابهم باب آخر غیر وظائف سائر الناس فی أعمالهم و أفعالهم، فإنّه یمکن أن یکون للحاکم- الذی هو منصوب من قِبَل الإمام- آداب و وظائف یأمره الإمام علیه السلام برعایتها من جهة أنّه منصوب من قِبَله، و الروایة من هذا القبیل.

مضافاً إلی منع استفادة الوجوب منها، فإنّها امور أخلاقیّة یحسن مراعاتها، و راجحة فی الشریعة، و لا یجب مراعاتها، فهذه الروایة- أیضاً- أجنبیّة عمّا نحن فیه.

و مثلها

ما ورد عنه علیه السلام فی کتابه إلی مالک الأشتر: (اختر للحکم بین الناس أفضل رعیّتک فی نفسک ممّن لا تضیق به الامور ...- إلی أن قال-: أوقفهم فی الشبهات، و آخذهم بالحُجج، و أقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم، و أصبرهم علی تکشّف الامور، و أصرمهم عند اتّضاح الحکم)

(1).

فإنّها أیضاً مرتبطة بباب آداب القاضی و شرائطه و أوصافه، و راجعة إلی القضاء و الحکم.

و مثلها

ما فی وصیّته علیه السلام لولده الحسن علیه السلام: (یا بُنیّ دع القول فیما لا تعرف و الخطاب فیما لا تکلّف، و أمسک عن طریقٍ إذا خفت ضلالته، فإنّ الکفّ عند حیرة الضلال خیر من رکوب الأهوال ..- إلی أن قال-: و ابدأ قبل نظرک فی ذلک بالاستعانة بإلهک، و الرغبة إلیه فی توفیقک، و ترک کلّ شائبة أولجتک فی شبهة، أو أسلمتک إلی ضلالة)

(2).

و لا یخفی أنّ المذکورات فیها امور أخلاقیّة، مراعاتها راجحة و حسن،


1- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 609- 610، وسائل الشیعة 18: 116، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 18.
2- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 555 و 558، وسائل الشیعة 18: 117، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 20.

ص: 295

و لا یجب.

مضافاً إلی أنّ ارتکاب شرب التتن لا یسمّی ضلالة، بل المراد بها الشبهات، التی ربّما یوجب عدمُ رعایةِ الاحتیاط فیها الخلَل فی اصول العقائد و فساد الاعتقادات.

و مثل

ما روی عنه علیه السلام أیضاً فی خطبة: (فیا عجبی- و ما لی لا أعجب- من خطأ هذه الفِرق علی اختلاف حُججها فی دینها؛ لا یقتصّون إثر نَبیّ، و لا یقتدون بعمل وصیّ، و لا یؤمنون بغیب، و لا یعفون عن عیب، یعملون فی الشبهات، و یسیرون فی الشهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، و المنکر عندهم ما أنکروا، مفزعهم فی المعضلات إلی أنفسهم)

(1).

فإنّها- أیضاً- فی مقام التوبیخ علی العامّة أجنبیة عمّا نحن فیه.

و منها:

ما عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: (لا ورع کالوقوف عند الشبهة)

(2).

و منها:

ما عن محمّد بن علیّ ماجیلویه، عن عمّه، عن البرقی، عن العبّاس بن معروف، عن أبی شُعیب، یرفعه إلی أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (أورع الناس من وقف عند الشبهة)

(3).

و منها:

ما فی الخصال، عن محمّد بن علیّ ماجیلویه، عن عمّه محمّد بن أبی القاسم عن أحمد بن أبی عبد اللَّه، عن العبّاس بن معروف، عن أبی شُعیب، یرفعه إلی أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (أورع الناس من وقف عند الشبهة، و أعبد الناس من أقام الفرائض، و أزهد الناس من ترک الحرام، و أشدّ الناس اجتهاداً من ترک الذنوب)

(4).


1- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 208.
2- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 682.
3- الخصال: 16/ 56، وسائل الشیعة 18: 118، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 24.
4- الخصال: 16/ 56، وسائل الشیعة 18: 121، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 33.

ص: 296

و لا یخفی أنّ هذه الروایات علی البراءة أدلّ؛ حیث إنّها تدلّ علی أنّ للورع مراتب، و أنّ الواجد لأعلاها من اتّقی الشبهات- أیضاً- فلا یُنافی ارتکابها أصل الورع و إن لم یکن أورع فتدلّ علی استحباب اتّقاء الشبهات، مضافاً إلی ترک المحرّمات، بل هی مفسِّرة لسائر الأخبار التی تقرب منها فی المضمون.

و منها:

ما عن الفضل بن الحسن الطبرسی فی تفسیره الصغیر، قال فی الحدیث: (دع ما یُریبک إلی ما لا یُریبک فإنّک لن تجد فقد شی ءٍ ترکته للَّه عزّ و جلّ)

(1).

و منها:

ما عن محمّد بن مکّی الشهید فی الذکری قال: قال النبیُّ صلی الله علیه و آله و سلم: (دع ما یُریبک إلی ما لا یُریبک)

(2).

و فی هذه الروایات ثلاث احتمالات:

الأوّل: أنّ المراد أنّه إذا دار الأمر بین ما یُریبک و بین ما لا یُریبک- أی:

ارتکاب أمرٍ فیه ریب و ارتکاب أمرٍ لا ریب فیه- فدع الأوّل، و افعل الثانی.

الثانی: أنّ المراد: دع ما یُریبک و أخّره إلی زمان لا یُریبک، مثل روایة الحُکْم بالإرجاء إلی لقاء الإمام علیه السلام.

الثالث: أنّ المراد خُذْ ما لا ریب فیه و اترک ما فیه الریب.

و الاستدلال بها متوقّف علی إرادة المعنی الأخیر، و لا مرجِّح له بین الاحتمالات، مع أنّه لا یُناسبه الإتیان بلفظة «إلی»، و حینئذٍ فالروایة مجملة و مشتبهة المراد، مع إرسالها، مضافاً إلی ظهور العلّة فی الثانیة فی الاستحباب.


1- کنز الفوائد 1: 351، جوامع الجامع: 5 سطر 9، وسائل الشیعة 18: 124، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 47.
2- ذکری الشیعة: 138 سطر 16، وسائل الشیعة 18: 127، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 56.

ص: 297

و منها: قوله علیه السلام:

(و إنّما سُمّیت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ، فأمّا أولیاء اللَّه فضیاؤهم فیها الیقین، و دلیلهم سمْت الهدی، و أمّا أعداء اللَّه فدعاؤهم فیها الضلال، و دلیلهم العمی)

(1).

و لا یخفی ما فی الاستدلال بها فی المقام، فإنّه لیس فیها إلّا مجرّد تفسیر الشبهة.

و منها:

روایة فضیل بن عیاض، قال: قلت له: مَنِ الوَرِعُ مِنَ الناس؟

قال: (الذی یتورّع عن محارم اللَّه، و یجتنب هؤلاء، فإذا لم یتّق الشبهات وقع فی الحرام و هو لا یعرفه)

(2).

و هی- أیضاً- غیر مرتبطة بالمقام.

الرابعة: أخبار التثلیث

. منها:

مرسلة الصدوق قدس سره عن أمیر المؤمنین علیه السلام (أنّه خطب الناس، فقال:

حلال بیِّن، و حرام بیِّن، و شبهات بین ذلک، فمن ترک ما اشتبه علیه من الإثم فهو لما استبان له أترک، و المعاصی حمی اللَّه، فمن یرتع حولها یوشک أن یدخلها)

(3).

و الظاهر أنّها إرشاد إلی الزجر عن اعتیاد النفس علی ارتکاب الشبهات؛ لأنّ من اعتاد علی ارتکابها دعته نفسه إلی ارتکاب المحرّمات أیضاً؛ لأنّه یهون علیه- حینئذٍ- ارتکابها، کما هو مقتضی تشبیه المحرّمات بالحمی، فإنّه لا ریب فی أنّه لا منع للرعی حول الحمی، بل الممنوع هو رعی نفس الحِمی، لکن حیث إنّ الراعی حول الحمی یوشک أن یدخلها، فالأولی عدم رعی الغنم حولها، فکذلک ما نحن فیه کما عرفت، و نظیر ذلک ارتکاب المکروهات أیضاً.


1- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 143.
2- معانی الأخبار: 252/ 1، وسائل الشیعة 18: 118، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 25.
3- الفقیه 4: 53/ 15، وسائل الشیعة 18: 118، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 22.

ص: 298

و منها:

ما عن الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسی فی أمالیه، عن أبیه، عن علیّ بن أحمد الحمامی، عن أحمد بن محمّد القطّان، عن إسماعیل بن أبی کثیر، عن علی بن إبراهیم عن السریّ بن عامر، عن النعمان بن بشیر قال: سمعت رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم یقول: (إنّ لکلِّ مَلِکٍ حِمیً، و حِمی اللَّه حلالُهُ و حرامه، و المشتبهات بین ذلک، کما لو أنّ راعیاً رعی إلی جانب الحِمی لم یثبت غنمه أن تقع فی وسطه، فدعوا المشتبهات)

(1).

و هی- أیضاً- کالتی قبلها فی المضمون، مع ضعف سندها بالنعمان.

و مثل

روایة محمّد بن علیّ بن عثمان الکراجکی- فی کتاب کنز الفوائد- عن محمّد بن علیّ بن طالب البلدی، عن محمّد بن إبراهیم بن جعفر النعمانی، عن أحمد بن محمّد بن سعید بن عقدة، عن شیوخه الأربعة، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن النعمان الأحول، عن سلام بن المستنیر، عن أبی جعفر الباقر قال:

(قال جدّی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم: أیّها الناس حلالی حلال إلی یوم القیامة، و حرامی حرام إلی یوم القیامة؛ ألا و قد بیّنهما اللَّه- عزّ و جلّ- فی الکتاب، و بیّنتُهما لکم فی سُنّتی و سیرتی، و بینهما شبهات من الشیطان و بدع بعدی، مَن ترکها صَلُح له أمر دینه، و صلحت له مروّته و عرضه، و من تلبّس بها، و وقع فیها و اتّبعها، کان کمن رعی غنمه قرب الحِمی، و من رعی ماشیته قرب الحِمی نازعته نفسه إلی أن یرعاها فی الحمی، ألا و إنّ لکلّ مَلکٍ حِمیً، ألا و إنّ حمی اللَّه- عزّ و جلّ- محارمه، فتوقّوا حِمی اللَّه و محارمه)

(2) الحدیث.


1- الأمالی، الشیخ الطوسی: 381/ 69، المجلس الثالث عشر، وسائل الشیعة 18: 122، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 40.
2- کنز الفوائد 1: 352، وسائل الشیعة 18: 124، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 47.

ص: 299

و هی- أیضاً- صریحة فی عدم البأس فی ارتکاب الشبهات، بل هی مفسِّرة لمثل قوله:

(الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات)

، کما فی الروایات الآتیة، فإنّ طائفة ممّا استدلّ بها لوجوب الاحتیاط ما دلّ علی الوقوف عند الشبهة، و لعلّها أهمّ ما استدلّ به الأخباریّون لمذهبهم.

مثل

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن علی بن النعمان، عن عبد اللَّه بن مسکان، عن داود بن فرقد، عن أبی سعید، عن أبی جعفر علیه السلام قال: (الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، و ترکک حدیثاً لم تروِهِ خیر من روایتک حدیثاً لم تُحصِهِ)

(1).

و منها:

روایة السکونی، عن أبی جعفر علیه السلام عن أبیه، عن علیّ علیه السلام، قال:

(الوقوف فی الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، و ترکک حدیثاً لم تروِهِ خیر من روایتک حدیثاً لم تُحصِهِ)

(2).

و قوله:

(لم تروِهِ)

فیه احتمالات:

الأوّل: أنّه بصیغة المعلوم من الثلاثی المجرّد.

الثانی: أنّه بصیغة المجهول منه.

الثالث: أنّه بصیغة المعلوم من باب التفعیل.

و علی أیّ تقدیر: فالظاهر أنّ الجملة الثانیة صُغری للجملة الاولی، و هما مرتبطتان، لا أنّهما جملتان مستقلّتان غیر مرتبطة إحداهما بالأُخری، و حینئذٍ فالاستدلال بها لوجوب الاحتیاط موقوف علی أن یُراد منها ترکُ الفتوی بها، لا


1- الکافی 1: 40/ 9، وسائل الشیعة 18: 112، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 2.
2- تفسیر العیاشی 1: 8/ 2، وسائل الشیعة 18: 126، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 50.

ص: 300

مجرّد التحدیث الذی هو اصطلاح المحدِّثین، و حینئذٍ فتدلّ علی وجوب التوقّف عند الشبهة و عدم الإفتاء بالبراءة، و أمّا ذکر لفظ «الخیر» فلا یدلّ علی وجود الخیر فی الطرف الآخر المقابل أیضاً.

لکن الظاهر منها إرادة ترک التحدیث و نقل الروایة، و لا یقول الأخباری بعدم جواز نقل الحدیث المذکور، فإنّ بناء جمیع الأصحاب علی نقل الروایات التی وصلت إلیهم حتی الأخبار الموافقة للتقیّة، و لم یقتصروا علی مجرّد نقل الأخبار البیِّنة الرشد.

و علی فرض کون المراد ترک الفتوی فهی خارجة عمّا نحن فیه؛ لاعتراف الاصولی و الأخباری بعدم جواز الفتوی علی طبق خبر لم یضبط.

و علی أیّ تقدیر: فالروایة غیر صالحة للاستدلال بها فیما نحن فیه.

نعم، لو فُرض أنّ الجملتین مستقلّتان لا یرتبط إحداهما بالأُخری، فصدرها ظاهر فی مدّعاهم، لکن یظهر من ملاحظة الروایات الدالّة علی أنّ الرعی حول الحمی یوجب الوقوع فی الحِمی: أنّ المرادَ بالاقتحام فی الهلکة الوقوعُ فی المحرّمات المعلومة؛ بسبب حصول الجرأة له بارتکاب الشبهات، و أنّه یهون علیه ارتکابها بذلک، کما ورد نظیره فی ارتکاب المکروهات- أیضاً- لا أنّ نفس ارتکاب الشبهات هلکة، فإنّ الروایات یفسِّر بعضها بعضاً.

و منها:

ما رواه الشیخ قدس سره فی أبواب النکاح بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی، عن هارون بن مسلم، عن مَسْعدة بن زیاد، عن جعفر علیه السلام عن آبائه: (أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: لا تُجامعوا فی النکاح علی الشبهة، و قفوا عند الشبهة، یقول: إذا بلغک أنّ امرأة قد رضعت من لَبَنها، و أنّها لک محرّم، و ما أشبه ذلک، فإنّ الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة)

(1).


1- تهذیب الأحکام 7: 474/ 1904، لم ترد فی التهذیب الذی بین أیدینا عبارة: \iُ( و قفوا عند الشبهة)\E و لکنها وردت فی الوسائل. وسائل الشیعة 14: 193، کتاب النکاح، أبواب مقدّمات النکاح و آدابه، الباب 157، الحدیث 2.

ص: 301

و لیس المراد بالبلوغ فیها البلوغ الشرعی بقیام البیّنة علی ذلک، بل المراد ما یوجب الشکّ و الشبهة.

و الجواب عن الاستدلال بها: هو أنّ الروایة غیر معمول بها فی موردها، و لا یقول بمضمونها الأخباری أیضاً، کیف؟! و قد نصّ علی عدم البأس فی هذا المورد فی روایة مَسعدة بن صدقة المتقدّمة، و یعلم من قوله:

(الوقوف عند الشبهة)

فی خصوص هذا المورد أنّ المراد به الإرشاد، و أنّ المراد من الهلکة الهلکة العرفیّة، أی لئلّا ینکشف الخلاف و حرمتها علیه، فیوجب له ذلک الحزازة و المنقصة و العار عند الناس.

و منها:

روایة جمیل بن درّاج عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة؛ إنّ علی کلّ حقّ حقیقة، و علی کلّ صواب نوراً، فما وافق کتاب اللَّه فخذوه، و ما خالف کتاب اللَّه فدعوه)

(1).

أقول: لا بدّ أن یراد من هذه المخالفة غیر المخالفة بنحو الإطلاق و التقیید و العموم و الخصوص؛ لما ثبت فی محلّه من جواز تخصیص عموم الکتاب و تقیید إطلاقه بخبر الواحد، فلا بدّ أن یُراد بها المخالفة بنحو التباین، و حینئذٍ فلیس هو مورد الشبهة، بل هو- حینئذٍ- بیّن الغیّ؛ للأخبار الکثیرة الدالّة علی أنّ ما خالف کتاب اللَّه زُخرف(2) أو باطل(3) و نحو ذلک، فلا یمکن جعل قوله:

(الوقوف عند الشبهة)

کبری منطبقة علی الذیل، فهی بحسب المضمون مثل روایات التثلیث؛ و أنّ


1- وسائل الشیعة 18: 86، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 35.
2- الکافی 1: 55/ 3، وسائل الشیعة 18: 79، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 14.
3- تفسیر العیاشی 1: 9/ 5.

ص: 302

الامور ثلاثة: أمر بیِّن الرشد، و أمر بیِّن الغیّ، و أمر مشتبِه(1)، و صدرها مقابل للذیل، لا أنّه منطبق علیه.

فما یظهر من الشیخ الأعظم قدس سره من أنّ قولَهُ:

(الوقوف عند الشبهة)

مقدّمة و تمهید للحکم بوجوب طرح ما خالف کتاب اللَّه(2)، غیرُ سدید؛ لما ذکرناه.

و منها:

ما رواه محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن محمّد بن عیسی، عن صفوان بن یحیی، عن داود بن الحصین، عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللَّه علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دَینٍ أو میراث، فتحاکما إلی السلطان و إلی القضاة، أ یحلّ ذلک؟

قال: (من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت، و ما یحکم له فإنّما یأخذ سُحتاً، و إن کان حقّاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحکم الطاغوت ...) إلی أن قال:

قلت: فإن کان کلّ رجل اختار رجلًا من أصحابنا، فرضیا أن یکونا النّاظرین فی حقّهما، و اختلفا فیما حکما، و کلاهما اختلفا فی حدیثکم؟

قال: (الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما- فی الحدیث- و أورعهما، و لا یلتفت إلی ما یحکم به الآخر).

قال قلت: فإنّهما عدلان مرضیّان عند أصحابنا، لا یُفضّل واحد منهما علی الآخر.

قال فقال: (ینظر إلی ما کان من روایتهم عنّا فی ذلک الذی حکما به المُجمع علیه من أصحابک، فیؤخذ به من حکمنا، و یترک الشاذّ الذی لیس بمشهور


1- الفقیه 4: 285/ 34، وسائل الشیعة 18: 118، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 23، و یأتی ذلک أیضاً فی الروایة الآتیة.
2- فرائد الاصول: 206 سطر 9.

ص: 303

عند أصحابک؛ فإنّ المُجمع علیه لا ریب فیه، و إنّما الامور ثلاثة: أمرٌ بَیّنٌ رشده فیُتّبع، و أمرٌ بَیّنٌ غیّهُ فیُجتنب، و أمرٌ مُشکلٌ یُردُّ علمه إلی اللَّه و إلی رسوله، قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم: حلال بیّن، و حرام بیّن، و شبهات بین ذلک، فمن ترک الشبهات نجا من المحرّمات، و من أخذ بالشبهات ارتکب المحرّمات، و هلک من حیث لا یعلم).

قلت: فإن کان الخبران عنکما مشهورَین قد رواهما الثقات عنکم؟

قال: (یُنظر فما وافق حکمه حکم الکتاب و السنّة و خالف العامّة فیؤخذ به و یترک ما خالف حکمه حکم الکتاب و السنّة و وافق العامّة ...) إلی أن قال:

قلت: فإن وافق حکّامهم الخبرین جمیعاً؟

قال: (إذا کان ذلک فأرجِه حتّی تلقی إمامک؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خیرٌ من الاقتحام فی الهلکات)

(1).

أقول: أمّا قوله علیه السلام

(ینظر إلی ما کان ...)

إلی قوله قلت فقد تقدّم فی حجیّة الشهرة أنّ من جعله علیه السلام الشاذّ النادر الذی لیس بمشهور فی مقابل المجمع علیه الذی لا ریب فیه یعلم منه أنّه لیس المراد جعل الشاذّ النادر ممّا فیه الرّیب و الشبهة بل فیه کل الرّیب و تمامه لعدم إمکان الحکم بعدم الریب فی المجمع علیه المقابل المناقض للشاذّ النادر، مع الحکم بأنّ الشاذّ النادر ممّا فیه الریب، فلیست هذه الجملة مربوطة بباب ترجیح إحدی الحجّتین علی الاخری، بل هو تمییز للحجّة عن اللاحجّة، و یُناسبه جعل الامور ثلاثة، فإنّ الظاهر أنّ بیِّن الرشد هو الخبر المُجمع علیه، و بیِّن الغیّ هو الشاذّ النادر، و أمّا المُشکِل فلا بدّ أن یُراد به ما هو محلّ اختلاف الأصحاب، و لیس مجمعاً علیه، و لا شاذّاً نادراً، فلا بدّ من الأخذ بالأوّل،


1- الکافی 1: 54/ 10 باب اختلاف الحدیث، وسائل الشیعة 18: 75، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 1.

ص: 304

و ترک الثانی، و ردّ الثالث إلی اللَّه و رسوله.

و لکن لا یلتزم بذلک الأخباری، فإنّ غالب الأخبار التی یتمسّک بها العلماء- الاصولیّون و الأخباریّون- لیس من المجمع علیه البیّن الرشد، و لا الشاذ النادر البیّن الغیّ، بل من القسم الثالث.

و بالجملة: لیس المراد من المُشکِل ما یتحیّر المکلّف فیه، و حینئذٍ فقوله علیه السلام:

(قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم ...)

الخ منطبق علیه.

و أمّا قوله علیه السلام فی ذیلها:

(فإن وافق حکامهم الخبرین ...)

الخ فقد تقدّم أنّ قوله علیه السلام:

(الوقوف عند الشبهة ...)

لا یدلّ علی الوجوب، فهذه الروایة بنفسها لا تدلّ علی وجوب الاحتیاط فی ما نحن فیه، بل یمکن الاستدلال بها علی الاستحباب.

ثمّ علی فرض تسلیم استفادة وجوب الاحتیاط منها فهی معارضة بأخبارٍ دالّة علی التوسعة و التخییر، الذی ذهب إلیه جمهور الأصحاب فی باب تعارض الخبرین.

مثل

روایة أحمد بن علیّ بن أبی طالب الطبرسی، عن الحسن بن الجهم، عن الرضا علیه السلام قال: قلت: تجیئنا الأحادیث عنکم مختلفة؟

فقال: (ما جاءک عنّا فقس علی کتاب اللَّه عزّ و جلّ و أحادیثنا، فإن کان یَشبَههما فهو منّا، و إن لم یکن یشبههُما فلیس منّا).

فقلت: یجیئنا الرجلان و کلاهما ثقة بحدیثین مختلفین، و لا نعلم أیّهما الحقّ؟

قال: (إذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت)

(1).

و عن الحارث بن المغیرة، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (إذا سمعت من أصحابک


1- الاحتجاج 2: 264/ 233، وسائل الشیعة 18: 87، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 40.

ص: 305

الحدیث، و کلّهم ثقة، فموسّع علیک حتّی تری القائم علیه السلام فتردّه إلیه)

(1).

فإنَّ هذین الخبرین نصّان فی الحکم بالتخییر فی باب التعارض و مقتضی الجمع بینهما و بین المقبولة- الظاهرة فی وجوب الوقوف- حملُ المقبولة علی الاستحباب.

مضافاً إلی أنّه مع قطع النظر عن هاتین الروایتین نقول: إنّ قوله:

(الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة)

تعبیر آبٍ عن التخصیص و غیر قابل له، بل و للتقیید أیضاً، و هو شامل لجمیع الشبهات حتی الوجوبیّة، مع أنّ الأخباری لا یقول بوجوب الاحتیاط فیها، فالأمر دائر بین التخصیص أو التقیید المستهجن المستبشع، و بین الحمل علی الاستصحاب، فلا ریب أنّ الثانی هو المتعیّن.

فتلخّص: أنّ المقبولة- التی لعلّها العُمدة فی مستند الأخباریّین- لا تدلّ علی مطلوبهم.

و منها:

ما رواه الشیخ قدس سره بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن سلیمان بن داود، عن عبد اللَّه بن وضّاح قال: کتبت إلی العبد الصالح علیه السلام یتواری القرص، و یقبل اللیل، ثمّ یزید اللیل ارتفاعاً، و تستتر عنّا الشمس، و ترتفع فوق الجبل حمرة، و یؤذّن عندنا المؤذّنون، أ فاصلّی- حینئذٍ- و أفطر إن کنت صائماً، أو أنتظر حتّی تذهب الحمرة التی فوق الجبل فکتب علیه السلام إلیَّ: (أری لک أن تنتظر حتّی تذهب الحمرة، و تأخذ بالحائطة لدینک)

(2).

و لعلّ تعبیر الشیخ الأعظم عن هذه الروایة: بموثّقة عبد اللَّه بن وضّاح(3)، إنّما


1- الاحتجاج 2: 264/ 234، وسائل الشیعة 18: 87، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 41.
2- تهذیب الأحکام 2: 259/ 1031، وسائل الشیعة 3: 129، کتاب الصلاة، أبواب المواقیت، الباب 16، الحدیث 14.
3- فرائد الاصول: 209 سطر 16.

ص: 306

هو لأجل تقدیم توثیق النجاشی لسلیمان بن داود(1) علی تضعیف ابن الغضائری(2) له، و لکنّه مشترک بین سلیمان بن داود المنقری الثقة، و بین غیره الضعیف، و لم یثبت أنّ المذکور فی سندها هو الأوّل، فالروایة غیر موثّقة.

و أمّا دلالتها: مع اغتشاش السؤال فیها، و اضطراب الجمل الواقعة فیها و إن کان المطلب معلوماً، فالظاهر أنّ المراد بارتفاع الحُمرة هی الحمرة المشرقیّة التی تحدث من جانب المشرق بانعکاس إشراق الشمس فی الهواء، فإنّها التی ترتفع تدریجاً، لا الحمرة المغربیّة، فإنّها لیست کذلک، فالسؤال إنّما هو عن الحکم الشرعی؛ فی أنّه هل یجوز الدخول فی صلاة المغرب بمجرّد سقوط القرص و استتارها، أو أنّه لا بدّ أن یصبر حتّی تزول الحمرة المشرقیّة؛ للاختلاف بین الفریقین فی ذلک و مع ذلک لم یبیّن الإمام الحکم الواقعی و أمره بالانتظار حتی تذهب الحمرة فیظهر من ذلک أنّها صدرت تقیّة خصوصاً مع کونها مکاتبة و حینئذٍ فلا تدلّ علی مطلوب الأخباریین.

و منها:

ما وجد بخط الشهید محمّد بن مکّی، عن عنوان البصری، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام یقول فیه: (سل العلماء ما جهلت، و إیّاک أن تسألهم تعنّتاً و تجربة، و إیّاک أن تعمل برأیک شیئاً، و خذ بالاحتیاط فی جمیع امورک ما تجد إلیه سبیلًا، و اهرب من الفتیا هربک من الأسد، و لا تجعل رقبتک عتبةً للناس)

(3).

و من المعلوم من سیاق الروایة أنّ الأمر بالاحتیاط فیها للاستحباب لا الوجوب.

هذه جملة من الأخبار التی تمسّک الأخباریّون بها لوجوب الاحتیاط فی


1- رجال النجاشی: 184/ 488.
2- مجمع الرجال 3: 165.
3- وسائل الشیعة 18: 127، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 54.

ص: 307

الشبهة التحریمیّة التکلیفیّة، و قد عرفت قصورها عن ذلک، و أمّا بعض الأخبار الاخر(1) فلا دلالة له أصلًا، فلا نتعرّض لها.

الاستدلال بحکم العقل و استدلّوا به بوجهین:
الوجه الأوّل: بطریق العلم الإجمالی

و یقرّر هذا الوجه- أیضاً- بوجوه:

الأوّل: العلم الإجمالی بثبوت تکالیف- واجبات و محرّمات- فی الشریعة قبل المراجعة إلی أدلّة الأحکام، و لا إشکال فی أنّ الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة، فلا بدّ من الاحتیاط بترک کلّ ما تحتمل حرمته؛ حتی یحصل الیقین بفراغ الذمّة عنها.

الثانی: العلم الإجمالی بثبوت محرّمات فی الشریعة قبل الرجوع إلی الأدلّة مع قطع النظر عن الواجبات، فلا بدّ من ترک کلّ ما تحتمل حرمته.

الثالث: دعوی العلم الإجمالی بعد الرجوع إلی الأدلّة و الظفر بمقدار منها فی الشبهات الباقیة، فلا بدّ من ترک کلّ ما یحتمل الحرمة حتی یحصل الیقین بالفراغ.

و لا یخفی أنّ الدعوی الأخیرة جُزافیّة؛ إذ لا شاهد علیها لا عقلًا و لا نقلًا، فهی ساقطة رأساً.

و لا بأس بصرف عنان الکلام إلی البحث عن انحلال العلم الإجمالی و کیفیّته و أقسامه؛ لشدّة الاحتیاج إلیه فی ذلک المقام.


1- انظر بحار الأنوار 2: 259/ 8 و 9، وسائل الشیعة 18: 127، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 57 و 58.

ص: 308

فنقول: ما ینحلّ به العلم الإجمالی: إمّا هو العلم الوجدانی التفصیلی، و أمّا قیام الأمارة المعتبرة کذلک، و إمّا الأصل الجاری فی أطرافه.

و علی أیّ تقدیر: إمّا أن یقترن العلم الإجمالی لما ینحلّ به، أو یتقدّم عنه، أو یتأخّر عنه، و قد یکون المتقدّم و المتأخّر و المقارن منهما المعلومین لا العلمین، فلا بدّ من بیان ما هو المناط و المیزان للانحلال الحقیقی أو التعبّدی.

فقد یقال: إنّ الانحلال الحقیقی یتوقّف علی حصول علمین: العلم التفصیلی بمقدار المعلوم بالإجمال، و العلم بانطباق المعلوم بالتفصیل علی المعلوم بالإجمال؛ بحیث لو لم یتحقّق العلم الثانی لم یتحقّق الانحلال الحقیقی، فلو علم بموطوئیّة عشرة غنام إجمالًا فی قطیع منها، و حصل العلم التفصیلی بموطوئیّة عشرة معیّنة من القطیع المذکور، فلا یتحقّق الانحلال الحقیقی إلّا إذا عُلِمَ بانطباق تلک العشرة علی العشرة المعلومة بالإجمال، و إلّا فلو احتمل أنّها غیرها لم یتحقّق الانحلال حینئذٍ.

و قد یقال بعدم احتیاجه إلی العلم الثانی بالانطباق فی تحقّق الانحلال الحقیقی، فإنّه بعد العلم التفصیلی بأنّ عشرة معیّنة- من قطیع الغنم المذکورة فی المثال- موطوءة، یحصل الانطباق علی المعلوم بالإجمال قهراً، و إلّا یلزم تعلُّق علمین بشی ء واحد، و هو محال.

و اجیب عنه (المجیب المحقّق العراقی فی المقالات): بأنّه ممنوع؛ لأنّه مع عدم العلم الثانی- أی العلم بانطباق المعلوم بالتفصیل علی المعلوم بالإجمال- یحتمل وجداناً انطباق هذا علی ذاک و عدمه، و هذا آیة بقاء العلم الإجمالی و عدم انحلاله.

و أمّا استحالة تعلّق علمین بشی ء واحد، فهو- أیضاً- ممنوع؛ لأنّ العلم یتعلّق بالصور الذهنیّة بما أنّها کاشفة عن الخارج، لا بنفس الخارج، و لا مانع من وجود صورتین فی النفس تعلّق بکلّ واحدة منهما علمٌ مع کشفهما عن واحد

ص: 309

خارجی؛ أ لا تری أنّه یمکن تعلّق العلم و الشکّ بشی ء واحد، کما فی موارد العلم الإجمالی(1). انتهی.

أقول: العلم الإجمالی متقوّم بوجود العلم بشی ء و التردّد فی متعلّقه بین أکثر من واحد: إمّا بنحو المنفصلة الحقیقیّة؛ بأن علم بأنّ واحداً من هذین الإناءین خمر لا أزید؛ بحیث لو لم یکن هذا خمراً فالخمر هو الآخر، و بالعکس، و إمّا بنحو المنفصلة المانعة الخلوّ؛ بأن علم إجمالًا بنجاسة أحد الإناءین مع احتمال نجاسة الآخر- أیضاً- بحیث یحتمل بعد العلم التفصیلی بنجاسة أحدهما معیّناً نجاسة الآخر- أیضاً- و حینئذٍ فلو فرض حصول العلم التفصیلی بنجاسة أحد الإناءین معیّناً فی الفرض الأوّل، لا تصدق القضیّة بنحو الانفصال الحقیقی؛ لزوال التردّد الذی قد عرفت دخله فی قوام العلم الإجمالی، فبمجرّد حصول العلم التفصیلی بنجاسة أحد الإناءین معیناً فیه ینحلّ العلم الإجمالی حقیقةً.

و هکذا الکلام فی الفرض الثانی، فإنّه بعد العلم التفصیلی بنجاسة أحد الإناءین معیّناً فیه لا تصدق القضیّة بنحو منع الخلوّ؛ بحیث لو لم یکن هذا نجساً فالنجس هو ذاک الآخر، بل هو- حینئذٍ- علم تفصیلی بنجاسة أحدهما و شکّ بدْویّ، و لا تردید فی متعلّق العلم، و قد عرفت دخله فی قوام العلم الإجمالی.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ ما ذکره المحقّق العراقی: من بقاء احتمال انطباق المعلوم بالتفصیل علی المعلوم بالإجمال و عدمه لو لم یحصل العلم بالانطباق، غیرُ سدید؛ لأنّه إن أراد بالمعلوم بقاؤه إجمالًا الإجمالَ فعلًا، فقد عرفت أنّه لا علم إجمالیّ بعد العلم التفصیلی بأحد الطرفین.

و إن أراد به المعلوم بالإجمال قبل حصول العلم التفصیلی، فهو آیة وجود العلم الإجمالی فی ذلک الزمان لا بالفعل، و هو غیر مورد البحث و الکلام.


1- مقالات الاصول 2: 66 سطر 13.

ص: 310

و بالجملة: المناط و المیزان فی تحقّق الانحلال الحقیقی زوال العلم الإجمالی، و یتحقّق زواله بزوال التردید فی النفس، کما فیما نحن فیه؛ لما عرفت من عدم بقاء التردید بنحو القضیّة المنفصلة بعد حصول العلم التفصیلی بأحد الطرفین، فیتحقّق الانحلال حقیقة.

و أمّا ما ذکره: من إمکان تعلّق علمین بشی ء واحد، فهو من العجائب الصادرة منه قدس سره مع عظم شأنه و جلالة قدره، فإنّه قدس سره اعترف: بأنّ العلم متعلّق بالصورة الذهنیّة بما أنّها کاشفة عن الخارج و مرآة له، و هو مستلزم لانکشاف شی ء واحد خارجیّ مرّتین فی آنٍ واحد، و هو مستحیل، فیمتنع أن یتحقّق له علم إجمالیّ: بأنّ هذا أو ذاک واجب، و علم تفصیلیّ بوجوب أحدهما المعیّن فی زمان واحد.

و أمّا قیاسه قدس سره ذلک بإمکان تعلّق الشکّ و الیقین بشی ء واحد، ففیه: أنّک قد عرفت أنّ العلم الإجمالی: عبارة عن العلم مع الشکّ و التردید فی متعلّقه، و أنّ الشکّ من مقوّمات العلم الإجمالی، فلا مانع من اجتماعهما، بل لا بدّ منه فی تحقّق العلم الإجمالی، بخلاف تعلّق علمین بشی ء واحد، فإنّه ممتنع.

فالحقّ تحقّق الانحلال الحقیقی بمجرّد حصول العلم التفصیلی بأحد الأطراف معیّناً؛ بدون الاحتیاج إلی العلم بانطباق المعلوم بالتفصیل علی المعلوم بالإجمال.

و أمّا ما تقدّم: من أنّ العلم التفصیلی بأحد الأطراف معیّناً ینطبق علی المعلوم بالإجمال قهراً، ففیه: أنّ الوجدان شاهد علی عدم الانطباق الواقعی، و مع ذلک لا یُنافی الانحلال الحقیقی.

ثمّ إنّه لو فرضنا عدم الانحلال الحقیقی فی الفرض المذکور، أو قامت الأمارة علی ثبوت التکلیف فی أحد الأطراف معیّناً، أو فُرض جریان الأصل فیه مع تقارن العلم الإجمالی به، فهل یتحقّق فیه الانحلال الحکمی- بمعنی أنّ العلم الإجمالی

ص: 311

و إن بقی حقیقةً، و لکنّه فی حکم الانحلال؛ لأجل عدم تأثیره فی وجوب الإتیان بجمیع الأطراف- أو لا؟

قد یقال بتحقّق الانحلال الحکمی فی الفروض الثلاثة بمعنی سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر و المنجّزیّة بتقریبات:

الأوّل: ما ذکره المحقّق العراقی: و هو أنّ العلم الإجمالی فی الصور المذکورة لا یؤثّر مستقلّاً بالنسبة إلی الطرف الذی علم به تفصیلًا، أو قامت الأمارة علیه، أو جری الأصل فیه، فلا یجب مراعاته بالنسبة إلی الطرف الآخر- أیضاً- لسقوطه عن الاستقلال فی التأثیر، فلا مانع من جریان الأصل فیه(1). انتهی حاصله.

و فیه: أنّ باب الاحتجاجات بین الموالی و العبید غیر باب التأثیر و التأثّر، بل لیس فی المقام تأثیر و تأثّر، و المفروض بقاء العلم الإجمالی فی الفروض المذکورة حقیقة، و عدم تحقّق الانحلال الحقیقی بزواله، و مع بقائه یحتاج المکلَّف إلی الجواب فی مقام الاحتجاج، و لم یقم دلیل- عقلًا و لا نقلًا- علی اعتبار الاستقلال فی منجّزیّة العلم الإجمالی، فهذا التقریب غیر مستقیم.

الثانی: ما أفاده بعضٌ آخر فی خصوص ما قامت الأمارة علی ثبوت التکلیف فی أحد الأطراف، و هو أنّ الأدلّة الشرعیّة الدالّة علی حجّیّة الأمارات مطلقة؛ تشمل ما لو قامت فی أطراف العلم الإجمالی- أیضاً- و لیست مقیّدة بغیر موارد العلم الإجمالی و أطرافه، بخلاف العلم الإجمالی، فإنّ تأثیره و منجّزیّته مشروطة عقلًا بعدم قیام الأمارة علی أحد الأطراف مقارناً له، و حیث إنّ المفروض قیام الأمارة علی أحد الأطراف مقارناً للعلم الإجمالی، فلیس- حینئذٍ- مؤثّراً، فلا تجب مراعاته فی الطرف الآخر أیضاً(2). انتهی.


1- نهایة الأفکار 3: 251.
2- انظر درر الفوائد: 468.

ص: 312

و فیه أیضاً: أنّه لو عکس الأمر فهو أولی بأن یقال: حیث إنّ حجّیّة الأمارات و جعلها لأجل تنجیز الحکم- أی حکم مؤدّاها- فلا تأثیر لها مع وجود العلم الإجمالی بالحکم و أنّ حجّیّة الأمارات مشروطة بغیر موارد العلم الإجمالی؛ لِلَغویّة جعلها حینئذٍ، بخلاف العلم، فإنّ منجّزیّته عقلیّة و بلا قید و شرط.

الثالث: ما ذکره فی «الکفایة»- جواباً عن أصل استدلال الأخباریّین-: و هو أنّه کما نعلم بوجود التکالیف نعلم إجمالًا- أیضاً- بنصب الشارع أمارات و اصول مثبتة للتکالیف بمقدار تلک التکالیف المعلومة إجمالًا أو أزید، و حینئذٍ لا علم لنا بوجود تکالیف اخر غیر التکالیف الفعلیّة فی الموارد المثبتة بالطرق و الاصول العملیّة.

إن قلت: نعم، لکنّه إذا لم یکن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالواجبات.

قلت: إنّما یضرّ السبق إذا کان المعلوم اللاحق حادثاً، و أمّا إذا لم یکن کذلک، بل کان ممّا ینطبق علیه ما عُلم أوّلًا، فلا محالة ینحلّ العلم الإجمالی إلی التفصیلی و الشکّ البدوی.

إن قلت: إنّما یوجب العلم بقیام الطرق- المثبتة للتکلیف بمقدار المعلوم بالإجمال- ذلک، إذا کان قضیّة قیام الطریق علی تکلیف موجباً لثبوته فعلًا، و أمّا بناء علی أنّ قضیّة حجّیّته و اعتباره شرعاً، لیس إلّا ترتیب ما للطرق المعتبرة عقلًا، و هو تنجّز ما أصابه و العذر عمّا أخطأه، فلا انحلال لما علم بالإجمال.

قلت: قضیّة الاعتبار شرعاً و إن کان ذلک- علی ما قوّینا- إلّا أنّ نهوض الحجّة علی ما ینطبق علیه المعلوم بالإجمال فی بعض الأطراف، یکون عقلًا بحکم الانحلال، و صَرف تنجُّزه إلی ما کان ذاک الطرف، و العذر عمّا إذا کان فی سائر الأطراف، مثلًا: إذا علم بحرمة إناء زید بین الإناءین، و قامت البیّنة علی أنّ هذا إناء زید، فلا ینبغی الشکّ فی أنّه کما إذا عُلم أنّه إناؤه؛ فی عدم لزوم الاجتناب إلّا عن

ص: 313

خصوصه دون الآخر، و لو لا ذلک لما کان یُجدی القول: بأنّ قضیّة اعتبار الأمارات هو کون المؤدّیات أحکاماً شرعیّة فعلیّة؛ ضرورة أنّها تکون کذلک بسبب حادث، و هو کونها مؤدّیات أمارات شرعیّة.

ثمّ أجاب ثانیاً بقوله: هذا إذا لم یُعلم بثبوت التکالیف الواقعیّة فی موارد الطرق و الأمارات المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، و إلّا فالانحلال إلی العلم بما فی الموارد، و انحصار أطرافه بموارد تلک الطرق بلا إشکال کما لا یخفی(1). انتهی.

أقول: أمّا ما ذکره أوّلًا، ففیه: أنّه إن أراد تحقّق الانحلال الحقیقی بذلک، فلا یخفی أنّ الأمارات و الطرق المعتبرة ظنّیّة، و لا یقطع بأنّ مؤدّاها أحکام واقعیّة، بل ذلک مظنون لا مقطوع، فالعلم الإجمالی بالتکالیف باقٍ بحاله بالوجدان؛ سواء فرض مقارنته للعلم الإجمالی بالطرق أو متقدّماً علیه أو متأخّراً، فإنّ فی صورة التأخّر- أیضاً- العلم متأخّر لا المعلوم.

و بالجملة: الانحلال الحقیقی- بمجرّد العلم الإجمالی بنصب الطرق و الأمارات- غیر مسلَّم.

و إن أراد- کما هو ظاهر عبارته- صرْف التنجّز إلی خصوص موارد الأمارات، لا الأطراف الاخر، فلا دلیل علی ذلک، فإنّ المفروض أنّ العلم الإجمالی بالتکالیف باقٍ بحاله، و هو منجّز تامّ، و المفروض أنّ متعلّق العلم هو التکالیف الواقعیّة، و لا یرضی المولی بترکها و مخالفتها، فما المانع عن تنجیزه فی جمیع الأطراف؟

فإن ادّعی امتناع التنجیز بعد التنجیز، فهو ممنوع.

و إن ادّعی اشتراط الاستقلال فی التنجیز- کما تقدّم عن المحقّق العراقی، و أنّه یشترط الاستقلال فی تأثیر العلم الإجمالی- فهو- أیضاً- ممنوع، کما عرفت.


1- کفایة الاصول: 394.

ص: 314

و بالجملة: بعد فرض بقاء العلم الإجمالی حقیقة فهو منجِّز بلا ریب مع منجِّزیّة الأمارات أیضاً، و هذا نظیر ما إذا عُلم بوقوع قطرتین من بول- مثلًا- فی زمان واحد: إحداهما فی أحد الإناءین، و ثانیتهما فی أحد هذین الإناءین أو فی ثالث، فإنّ کلّ واحد من العلمین مؤثّران فی التنجیز.

مضافاً إلی ما عرفت من أنّ دعوی الأخباری: هو العلم الإجمالی بثبوت تکالیف فی الشریعة إجمالًا لا یرضی الشارع بمخالفتها، و معه لا یمکن الترخیص فیها أو فی بعض الأطراف- و لو مع عدم انحصار الأطراف- إلّا مع رفع الید عن الحکم الواقعی.

و أمّا ما أجاب به ثانیاً: فهو الموافق للتحقیق، فإنّا لا نعلم بثبوت تکالیف واقعیّة أکثر من الأحکام التی هی مؤدّیات الطرق و الأمارات، بل هی أکثر من الأحکام الواقعیّة المعلومة إجمالًا، و یتحقّق الانحلال الحقیقی بها؛ لما عرفت من عدم بقاء العلم الإجمالی و انحصار أطرافه بموارد الطرق و الأمارات؛ لزوال التردید بین جمیع الأطراف، و صَرفه إلی خصوص موارد الطرق و الأمارات، و قد عرفت أنّ التردید من مقوّمات العلم الإجمالی، مثلًا: لو علم أوّلًا بنجاسة أحد إناءات ثلاثة، ثمّ أخبر صادق بنجاسة واحد من الاثنین المعیَّنین منها، ینحلّ العلم الإجمالی الأوّل إلی علم إجمالیّ بنجاسة أحد الإناءین و شکّ بدویّ بالنسبة إلی الثالث؛ لعدم صدق المنفصلة بینه و بینهما، فلا یقال: إمّا أحد هذین نجس، و إمّا هذا الثالث؛ للعلم بنجاسة أحدهما.

فإن قلت: لو فرض العلم إجمالًا بوقوع قطرتین من الدم: إحداهما إمّا علی إناء زید، و إمّا علی إناء عمرو، و ثانیتهما إمّا علی إناء زید المذکور أو إناء خالد، فلو زال أحد العلمین، کما لو انکشف کون إحدی القطرتین ماءً طاهراً، لم یضرّ بالعلم الإجمالی الآخر، بل هو باقٍ بحاله و منجِّز لمتعلّقه، فکذلک فیما نحن فیه لا یضرّ

ص: 315

العلمُ الإجمالیُّ بوجود تکالیف فیما بأیدینا من الطرق و الأمارات، بالعلم الإجمالی بوجود تکالیف واقعیّة فی الشریعة، فلو أتی بمؤدّی الأمارات، و امتثلها کان العلم الإجمالی الثانی باقیاً مؤثّراً فی التنجیز کالمثال.

قلت: فرق بین ما نحن فیه و المثال المذکور، فإنّ متعلَّقَ العلم فی المثال أسبابُ التکالیف، لا نفس التکالیف، و حیث إنّ متعلّقهما فی المثال مختلف، فإنّ فیه علمین متغایرین لا یضرّ أحدهما بالآخر وجوداً و عدماً، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ متعلّق کلّ واحد من العلمین واحد، و هو العلم بنفس التکالیف، و حینئذٍ فلیس هنا علمان؛ لاستحالة تعلّق علمین بشی ء واحد، فبعد حصول العلم الإجمالی بوجود تکالیف فی مؤدّی الأمارات بقدر المعلوم بالإجمال أوّلًا، ینصرف العلم الإجمالی الأوّل إلی أطراف الثانی، و یصیر الأطراف الخارجة عن مؤدّی الأمارات شبهة بدویّة.

الرابع: ما ذکره بعض الأعاظم (الشیخ محمّد حسین الأصفهانی قدس سره) فی هذا المقام جواباً عن الأخباریّین: إنّ العلم الإجمالی متعلّق بوجوب ما لا یخرج عن الطرفین، لا بخصوصیّة الطرفین؛ لا بنحو التعیین، و لا بنحو التردید، و هو لا ینجّز إلّا بمقداره، و أمّا الحجّة القائمة علی وجوب الظهر- مثلًا- بخصوصیّتها، فهی منجِّزة للخاصّ بما هو خاصّ، فلیس لها فی تنجیز الخاصّ مزاحم فی تأثیرها، فلا محالة تستقلّ الحجّة بالتأثیر فی تنجّز الخاصّ؛ سواء کانت مقارنة للعلم الإجمالی أو متقدّمة أم متأخّرة عنه و هو مانع عن تنجّز الوجوب الواحد بما لا یخرج عن الطرفین و لو بقاءً، فلا یکون منجَّزاً بقاءً(1). انتهی.

أقول: یرد علیه- مع قطع النظر عمّا ذکرنا سابقاً: من احتیاج العلم الإجمالی إلی الجواب فی مقام الاحتجاج، و تسلیم ما ذکره من تعلّق العلم الإجمالی بما لا


1- نهایة الدرایة 2: 202 سطر 10.

ص: 316

یخرج عن أحد الطرفین- أنّ ما یعاقب علیه عند ترک الأطراف أو الطرف الذی هو واجب واقعاً، لا یمکن أن یکون هو ما ذکره؛ أی عنوان ما لا یخرج عن الطرفین، بل لا یترتّب العقاب إلّا علی خصوص أحد الطرفین، کما فی مورد قیام الأمارة من غیر فرق بینهما، و حینئذٍ فلا یتمّ ما ذکره قدس سره.

و یمکن الجواب عن أصل الاستدلال- أیضاً-: بأنّه إن کان المدّعی: هو العلم القطعی الجازم بوجود واجبات و محرّمات لا یرضی الشارع بمخالفتها أصلًا و علی أیّ تقدیر حتّی علی تقدیر الجهل بها، فهو یقتضی عدم جواز التمسّک بالأمارات و الاصول النافیة للتکلیف؛ لأنّه لا یحتمل الترخیص فیها مع العلم المذکور فی بعض الأطراف؛ لأنّ احتماله مساوق لاحتمال الترخیص لو کان التکلیف فی ذلک الطرف، مع أنّ المفروض أنّ المولی لا یرضی بترکه بوجه أصلًا، و لا فرق فی ذلک بین الشبهات الوجوبیّة و التحریمیّة حکمیّةً أو موضوعیّة، مع أنّ الأخباری لا یلتزم بذلک أصلًا، بل هو أکثر إصراراً علی حجیّة الأمارات من الاصولی، بل محطّ البحث بین الاصولی و الأخباری هی الشبهات التی لم تقم فیها أمارة.

و کذلک مقتضاه عدم جواز التمسّک بالأمارات و الاصول المثبتة للتکلیف؛ لو احتمل وجود ما یُخالفها من التکالیف فی موردها، و الأخباری لا یلتزم بذلک، فیستکشف بذلک: أنّ مدّعاه هو العلم إجمالًا بجعل الشارع قوانین کلّیّة فی الشریعة، لکن لا بحیث لا یرضی بترکها بوجه من الوجوه، بل یحتمل رفع الید عن بعضها فی بعض الموارد و الإغماض عنه، و حینئذٍ فلا یُنافیه ثبوت الترخیص و وروده من الشارع فی ارتکاب الشبهات؛ و إن احتمل ثبوت التکلیف فیها واقعاً بمثل حدیث الرفع و أمثاله و قاعدة حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان.

و أجاب شیخنا الحائری قدس سره فی «الدرر» بما حاصله: أنّ فی العلم جهتین

ص: 317

و حیثیّتین:

إحداهما: أنّه صفة خاصّة، و أراد بذلک تمامیّة کشفه.

و ثانیتهما: ما یشترک بینه و بین الأمارات، و هو طریقیّته المطلقة للواقع، و الاولی مختصّة به، و ملاک حکم العقل بحجّیّته لیس هو الاولی، بل الملاک فیه هی الحیثیّة الثانیة، و لذلک تقوم الأمارات مقامه، بل الأمارات من المصادیق الحقیقیّة له، و حینئذٍ فلو قامت أمارة معتبرة علی بعض الأطراف مفصّلًا، فالمعلوم بوصف کونه معلوماً و إن کان مردّداً، و لکن ما قام علیه الطریق القاطع للعذر لیس مردّداً، کما هو ملاک حکم العقل بحجّیّة العلم، و ما بقی علی إجماله لیس ملاکاً لحکم العقل(1).

أقول: یرد علیه: أنّه لو کان ملاک حکم العقل بحجّیّة العلم هو طریقیّته المطلقة، لا جهة طریقیّته التامّة، فهو مستلزم لحجّیّة جمیع الأمارات و الطرق بذواتها و أنفسها؛ لأنّها- حینئذٍ- واجدة لما هو ملاک حکم العقل بحجّیّتها، و هو طریقیّتها المطلقة و عدم إمکان تصرّف الشارع فیها إثباتاً و نفیاً، کما فی القطع؛ لعدم الفرق بینهما علی ما ذکره قدس سره مع أنّه لا یلتزم بذلک.

و الحلّ: هو أنّ ملاک حکم العقل بحجّیّة العلم هی الجهة الاولی- أی تمامیّة کشفه عن الواقع- و الأماراتُ فاقدة لها، فالأولی فی جواب استدلال الأخباریّین لوجوب الاحتیاط فی المقام هو ما ذکرناه.

الوجه الثانی: التمسّک بأصالة الحظر فی الأشیاء

الثانی من وجهی الاستدلال بحکم العقل لوجوب الاحتیاط فی الشبهات التحریمیة: هو التمسّک بأصالة الحظر فی الأشیاء.

استدلّ لها: بأنّ جمیع الموجودات و الکائنات فی العالم ملک للَّه تعالی، و لا


1- درر الفوائد: 439.

ص: 318

یجوز التصرّف فی ملک الغیر بغیر إذنه عقلًا، فالعبد المملوک له تعالی لا یجوز له أن یتصرّف فی موجودات العالم- سوی الضروریّات و ما یختلّ بترکه النظام إلّا بإذنه تعالی- و من جملتها الشبهات التحریمیّة إلّا فیما قام الدلیل علی صدور الإذن فیه منه تعالی، و حیث إنّه لم یثبت الإذن منه تعالی فی الشبهات التحریمیّة، فلا یجوز له ارتکابها عقلًا(1).

أقول: هذه المسألة ممّا لا ربط لها بالمقام، فإنّ محطّ البحث و موضوعه فیها:

هو أنّه هل الأصل فی الأشیاء- قبل ورود الشریعة و بعث الرسل و إنزال الکتب و صدور الأوامر و النواهی- هو الحظر و عدم جواز التصرّف فیها؛ لما ذکر من الدلیل علیه، أو أنّ الأصل فیها الإباحة؟

فهذا البحث جارٍ و لو مع العلم بعدم ورود النهی، بخلاف البحث فیما نحن فیه، فإنّ موضوعه و مورد النزاع فیه: هو أنّه لو احتمل النهی و التحریم فی موردٍ فی خصوص الشبهات التحریمیّة، فهذا الاحتمال هل هو منجِّز للواقع لو فرض ثبوت التحریم واقعاً فیه، و صحّ العقاب علیه، کما هو مدّعی الأخباری، أو لا؛ لقبح العقاب بلا بیان عقلًا و نحوه من الأدلّة المتقدّمة للبراءة و لو فرض وجود النهی واقعاً، کما هو مدّعی الاصولی.

و حینئذٍ فیمکن للقائل بالحظر فی المسألة الاولی أن یذهب إلی البراءة فی المسألة الثانیة، کما أنّه یمکن للقائل بالإباحة فی المسألة الاولی أن یختار الاحتیاط فی المسألة الثانیة.

و السرّ فی ذلک: هو أنّه لا ارتباط بین المسألتین؛ لتغایر موضوعیهما، و محطّ البحث فیهما، و عدم التلازم بینهما، فالاستدلال لوجوب الاحتیاط بذلک فاسدٌ.


1- انظر فرائد الاصول: 214 سطر 1، و کفایة الاصول: 396، و نهایة الدرایة 2: 204- 205 سطر 16.

ص: 319

و أمّا الحقّ فی تلک المسألة: فهو أنّه لا إشکال فی الإباحة، و ما ذکروه من الدلیل علی الحظر- من أنّ الأشیاء ملک للَّه تعالی، و لا یجوز التصرّف فی ملک الغیر إلّا بإذنه- فاسدٌ؛ لأنّه إن ارید من الملک هو الاصطلاحی العرفی الاعتباری؛ أی اعتبار الإضافة بین المالک و المملوک، کما یقال: هذا ملک لزید، فهو مقطوع الفساد.

و إن ارید به ما ذکره الفلاسفة من المعنی لملکه تعالی؛ لقوله تعالی: «وَ لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»(1) من جهة أنّه تعالی خالقها و صانعها فهو صحیح، لکن الإذن فی التصرف فیها واقع منه تعالی؛ لأنّ المراد من الإذن- حینئذٍ- هو الإذن التکوینی، و لا یقدر أحد علی شی ء إلّا بإذنه تعالی.

تنبیهاتٌ
اشارة

و هنا امور لا بدّ من التنبیه علیها:

التنبیه الأوّل اشتراط جریان البراءة بعدم وجود أصل موضوعی
اشارة

أنّ أصالة الحلّ و البراءة إنّما تجری- فی الموارد التی اخترنا جریانها فیها- فیما لم یکن هناک أصل موضوعیّ أو غیره مقدّم علیها بنحو الحکومة أو الورود، فإنّه مع جریان الأصل الموضوعی المذکور لا مجال لأصالة البراءة، فلو شکّ فی امرأة أنّها زوجته أو أجنبیّة، لا یجوز النظر إلیها اعتماداً علی أصالة الحلّ؛ لجریان عدم تحقّق الزوجیّة بینهما الحاکمة علی أصالة الحلّ، و کذا لو شکّ فی لحم أو


1- النحل( 16): 52.

ص: 320

حیوان أنّه حلال أو لا، فإنّه لا مجال لجریان أصالة الحلّ فیه؛ بناء علی جریان أصالة عدم التذکیة، أو عدم قابلیّة الحیوان للذبح.

حول أصالة عدم التذکیة
اشارة

و لکن وقع الکلام بین الأعلام فی جریان أصالة عدم قابلیّة الحیوان المشکوک فی قابلیّته للتذکیة، و کذلک أصالة عدم التذکیة و عدمه، و لا بأس بصرف عنان الکلام إلی ما هو مقتضی القواعد الاصولیّة و إن کان خارجاً عن المقام، فنقول:

الشبهة فی المقام: إمّا حکمیّة، کما لو شکّ فی حیوان- کالأرنب- أنّه قابل للتذکیة أو لا، و کذلک الحیوان المتولّد من المأکول لحمه کالغنم و الغیر المأکول کالکلب، و لم یتبع أحدهما فی الاسم، بل کان طبیعة ثالثة، و مثل الشبهة المفهومیّة، کما لو شکّ فی صدق مفهوم الکلب علی الجرّی، و کما لو شکّ فی شرطیّة شی ء فی التذکیة و تحقّقها، کاستقبال الذابح، و کما لو شکّ فی مانعیّة شی ء کالجلل، فإنّ الشبهة فی جمیع هذه الصور حکمیّة.

و إمّا موضوعیّة، کما لو شکّ فی حیوان أنّه کلب أو غنم، و کما لو وجد لحم مطروح لم یعلم أنّه مِن مذکًّی أو لا، و کما لو شکّ فی تحقّق ما هو شرط للتذکیة المعلوم شرطیّته، کالاستقبال بالمذبوح المعلوم شرطیّته، أو شکّ فی وجود مانع کالجلل المعلوم مانعیّته، فإنّ الشبهة فی تلک الموارد موضوعیّة.

ثمّ إنّ فی حقیقة التذکیة وجوهاً و احتمالات:

أحدها: أنّها أمرٌ مرکّب من امور ستّة:

1- استقبال المذبوح.

2- التسمیة.

3- الذبح بالحدید.

ص: 321

4- إسلام الذابح.

5- فَرْی الأوداج الأربعة.

6- قابلیّة الحیوان للتذکیة.

الثانی: أنّها عنوان بسیط یحصل و یتحقّق بهذه الامور الستّة، و هذه الامور محصّلة و محقّقة لها.

الثالث: أنّها عبارة عن عنوان منتزع من هذه الامور الستّة متّحد معها فی الخارج.

الرابع: أنّها مرکّبة من الامور الخمسة المذکورة، سوی قابلیّة المحل لکنّها متقیِّدة بها فی تحقّقها.

الخامس: أنّها عبارة عن عنوان منتزع عن امور خمسة مقیَّدة بقابلیّة المحلّ لها.

السادس: أنّها عبارة عن عنوان بسیط یحصل من الامور الخمسة بشرط قابلیّة المحلّ لها.

إذا عرفت ذلک نقول: لا بدّ من البحث فی جریان أصالة عدم قابلیّة المحلّ لها و عدمه، ثمّ البحث- علی فرض جریانها- فی جریان أصالة عدم التذکیة و عدمه.

ذکر شیخنا الحائری قدس سره(1) فی بیان جریان أصالة عدم القرشیّة ما یستلزم القول بجریان أصالة عدم قابلیّة الحیوان للتذکیة فیما نحن فیه، و إن لم یتعرّض له فی خصوص هذا المقام، لکنّ المسألتین من وادٍ واحد.

و حاصله: أنّ العوارض علی قسمین: عارض الوجود، و عارض الماهیّة، و علی أیّ تقدیر فالعرض: إمّا لازم أو مفارق، فالعرض اللّازم للماهیّة کالزوجیّة للأربعة، علی إشکال و مسامحة فی التعبیر عن ذلک بالعرض، و العارض المفارق لها


1- انظر درر الفوائد: 218- 220.

ص: 322

کعروض الوجود لها، أو عوارض الوجود المفارقة، فإنّها عارضة للماهیّة- أیضاً- بالتبع للوجود علی مسامحةٍ فی التعبیر فی جمیع ذلک، و العرض اللّازم للوجود کنوریّته و مُظهریّته بنفسه، و العرض المفارق له کالبیاض و السواد.

إذا عرفت ذلک فلا ریب فی أنّ القرشیّة و قابلیة المحلّ للتذکیة لیستا من عوارض ماهیّة المرأة و الحیوان، و هو واضح، بل هما من عوارض الوجود، فإذا شکّ فی امرأة أنّها قرشیّة أو لا، یُشار إلیها، فیقال: هذه المرأة لم تکن قرشیّة فی الأزل؛ لأنّ القرشیّة من عوارض الوجود، فقبل وجودها لا یمکن أن تکون قرشیّة، فیستصحب عدم قرشیّتها إلی الآن، و کذلک فی الحیوان المشکوک قابلیّته للتذکیة و عدمها.

أقول: یرد علیه أوّلًا: أنّ هذا الأصل غیر صحیح؛ و ذلک لأنّ الموضوع للحکم برؤیة الدم فی المرأة و النجاسة و الحرمة فی الحیوان- فیما نحن فیه- إمّا هو المرأة الغیر القرشیّة أو الحیوان الغیر القابل للتذکیة بنحو الإیجاب العدولی؛ أی معدولة المحمول.

و إمّا هو بنحو الموجبة السالبة المحمول؛ أی المرأة التی لیست قرشیّة أو الحیوان الذی لیس قابلًا للتذکیة.

و إمّا بنحو السالبة المحصّلة مع حفظ الموضوع و وجوده؛ أی الحیوان الموجود الغیر القابل للتذکیة و المرأة الموجودة الغیر القرشیّة.

و إمّا بنحو السالبة المحصّلة الأعمّ من صورة عدم الموضوع و عدم المحمول، لکن هذا الفرض الأخیر مستحیل؛ لأنّه یمتنع أن یثبُت حکمٌ ثبوتیّ- کالحرمة و النجاسة و رؤیة الدم- لموضوعٍ عدمیّ؛ لأنّ مع عدم وجود الحیوان و المرأة کیف یمکن الحکم بنجاسته و حرمته و رؤیتها الدم؟!

فلا بدّ أن یکون الموضوع هو أحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة، و حینئذٍ فلیس

ص: 323

للمستصحب حالة سابقة متیقّنة فیها؛ لأنّه لم یتحقّق فی الزمان السابق وجود الحیوان متّصفاً بعدم قابلیّته للتذکیة، و لا المرأة متّصفة بعدم القرشیّة؛ کی یستصحب.

فإن قلت: یمکن استصحاب عدم القرشیّة و لو فی حال عدم وجود المرأة فی الزمان السابق- أی العدم الأزلی- و کذلک فی الحیوان.

قلت: استصحاب هذا العدم الأزلی لا یثبت أنّ هذه المرأة الموجودة متّصفة بعدم القرشیّة، و هکذا استصحاب کلّ عامّ أو کلّیّ لإثبات خاصٍّ و فرد، فإنّه مُثبِت.

فإن قلت: یمکن أن یؤخذ الموضوع مرکّباً من المرأة و عدم قرشیّتها، لا بنحو التقیید، بل هما معاً، فأحد جزءی الموضوع متحقّق بالوجدان، و هی المرأة، و الآخر یُحرز بالاستصحاب؛ أی استصحاب العدم الأزلی للقرشیّة.

قلت: نعم، لکن لا بدّ من ملاحظة الأدلّة، و أنّ الموضوع فیها اخذ کذلک أو لا، و لیس فی الأدلّة الشرعیّة ما یدلّ علی ذلک.

مضافاً إلی أنّه لا یمکن استصحاب عدم القرشیّة فی الجزء الآخر بنحو الأعمّ من عدم الموضوع؛ لأنّ فرض عدم الموضوع منافٍ لفرض وجود المرأة؛ أی الجزء الآخر.

و بعبارة اخری: فرض انتفاء القرشیّة بانتفاء موضوعها مناقض لفرض وجود المرأة، فلا بدّ فی استصحاب عدم القرشیّة فی المقام من حفظ وجود الموضوع، و یجی ء فیه ما ذکرناه: من عدم وجود الحالة السابقة فی المقام.

و ثانیاً: لو سلّمنا ذلک لکن یشترط فی الاستصحابات الموضوعیّة أن یترتّب علیها أثر شرعیّ؛ بأن یکون هناک کبری کلّیّة تنطبق علی الموضوع المستصحب، کما لو فرض أنّه ورد فی الشرع: أنّ کلّ ما لا یقبل التذکیة فهو غیر مذکًّی، فباستصحاب عدم قبوله للتذکیة یترتّب علیه الحکم المذکور فی الکبری؛ لأنّ المستصحب من مصادیق موضوعها، لکن لم یرد فی الشریعة کبری کذلک موضوعها

ص: 324

الحیوان الغیر القابل للتذکیة، بل الأحکام الواردة فی الأدلّة الشرعیّة هی أنّ المذکّی حلال و طاهر، و الغیر المذکّی حرام و نجس، و لا یثبت باستصحاب عدم قبول التذکیة ان الحیوان غیر مذکّی یترتّب علیه حرمته و نجاسته لأنّه حکم عقلی لحکم العقل بانتفاء المرکّب بانتفاء أحد جزأیه أو شرطه، و لا فرق فی ذلک بین الوجوه الستّة المتقدّمة فی معنی التذکیة و حقیقتها.

فتلخّص: أنّ أصالة عدم قابلیّة الحیوان للتذکیة: إمّا غیر جاریة، أو غیر نافعة.

و أمّا أصالة عدم التذکیة: فهی- أیضاً- کذلک: إمّا غیر جاریة، أو غیر مفیدة؛ لأنّها مثبتة؛ و ذلک لأنّ موضوع الحرمة و النجاسة: إمّا هو الحیوان المیتة، أو الحیوان الغیر المذکّی بنحو الموجبة المعدولة المحمول و إمّا الحیوان الذی لیس بمذکّیً بنحو الموجبة السالبة المحمول، أو الحیوان مسلوباً عنه التذکیة مع حفظ وجود الموضوع.

ثمّ إنّ التذکیة: عبارة عن إزهاق روح الحیوان بکیفیّة خاصّة بیّنها الشارع، و هی اجتماع الامور الستّة.

و أمّا عدم التذکیة فهی:

إمّا عبارة عن عدم إزهاق الروح بنحو السلب المطلق.

أو أنّها عبارة عن إزهاق الروح بکیفیّة اخری غیر ما عیّنها الشارع.

أو إزهاق الروح بغیر الکیفیّة الخاصّة بنحو الموجبة المعدولة المحمول.

أو الإزهاق الذی لیس بالکیفیّة الخاصّة بنحو الموجبة السالبة المحمول.

أو الإزهاق مسلوباً عنه الکیفیّة الخاصّة بنحو السالبة المحصّلة، مع حفظ وجود الموضوع لا بنحو التقیید.

هذا بحسب التصوّر العقلی.

ص: 325

و أمّا بحسب التصدیق و الإمکان: فلا یمکن أن یکون عدم التذکیة عبارة عن عدم إزهاق الروح بنحو السلب المطلق الأعمّ من عدم الموضوع، و هو الحیوان، أو مع وجوده و حیاته، أو بعد موته، مع إزهاقه بغیر الکیفیّة الخاصّة، فإنّه لا یمکن اعتبار ذلک موضوعاً لحکمٍ ثبوتیّ فی مقام الجعل.

و کذلک بنحو السالبة المحصّلة الأعمّ من عدم الموضوع و المحمول؛ فإنّه لا یمکن أن یؤخذ موضوعاً لحکم شرعیّ.

و کذلک لو فرض أنّه مرکّب من إزهاق الروح و عدم الکیفیّة الخاصّة.

مضافاً إلی إشکال آخر فیه: و هو أنه لا یمکن اعتبار ذلک موضوعاً إن ارید من عدم الکیفیّة الأعمُّ من عدم الموضوع، و هو الإزهاق، فإنّه یُنافی فرض وجود الجزء الآخر؛ أی الإزهاق.

إذا عرفت ذلک نقول: إن ارید من استصحاب عدم التذکیة استصحاب عدمها الأعمّ من عدم الموضوع و عدم المحمول- أی استصحاب العدم الأزلی و لو قبل وجود الحیوان أو حال حیاته- فهو مثبِت؛ لما عرفت من أنّ استصحاب العامّ أو الکلّی لا یثبت الخاصّ و الجزئی، و ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّه لا أثر شرعیّ یترتّب علی القدر المشترک، بل هو مترتّب علی إزهاق روح الحیوان بغیر الکیفیّة الشرعیّة، أو الذی لیس بالکیفیّة الخاصّة، أو بنحو السالبة المحصّلة مع حفظ وجود الموضوع، و استصحاب الأعمّ لا یثبت ذلک.

و إن ارید استصحاب عدم التذکیة مع حفظ الموضوع فلا حالة سابقة متیقّنة له.

و یظهر ممّا ذکرنا: حال التفصیلات التی ذکرها القوم، مثل التفصیل بین کون التذکیة و عدمها أمرین وجودیّین فلا تجری، و بین غیره من الصور فتجری فیها، کما اختاره فی «الکفایة»(1).


1- کفایة الاصول: 397- 398.

ص: 326

و کالتفصیل بین الأحکام الوجودیّة المترتِّبة علی الغیر المذکّی فلا تجری، و بین الأحکام العدمیّة فتجری، کما اختاره الفقیه الهمدانی قدس سره(1).

و کذلک التفصیل بین أن یفسَّر عدم التذکیة بإزهاق الروح بغیر الکیفیّة الخاصّة بنحو الموجبة المعدولة المحمول، و بین تفسیره بنحو السالبة المحصّلة، فتجری علی الثانی دون الأوّل، کما اختاره الشیخ الأعظم قدس سره(2).

و لا بأس بالتعرّض لما اختاره الفقیه الهمدانی قدس سره فی طهارته(3) و تعلیقته علی الفرائد: من التفصیل بین الأحکام الوجودیّة و بین العدمیّة، الاولی مثل الحلّیّة و الطهارة و جواز الصلاة فیه، و الثانیة إعدامها(4).

و یظهر هذا التفصیل من الشیخ قدس سره(5) أیضاً.

توضیحه بتقریر منّا: أنّ الأحکام الوجودیة المذکورة مسبّبة عن أسباب حادثة، و هی التذکیة، و مع عدمها تنعدم تلک الأحکام، و مع الشکّ فی التذکیة- التی هی سبب لها- یستصحب عدمها فیترتّب علیه عدم الطهارة و الحلّیّة و عدم جواز الصلاة فیه، فإنّه یکفی فیه عدم وجود سببها المحرز بالأصل.

أقول: یرد علیه أوّلًا: أنّه إن أراد أنّ موضوع الأحکام العدمیّة المذکورة، هو عدمُ التذکیة بنحو السلب المطلق الصادق مع عدم وجود الحیوان، و مع وجوده و حیاته، و مع وجوده و إزهاق روحه لا مع الشرائط المعتبرة فیها شرعاً، فقد تقدّم استحالة ذلک، و الظاهر أنّه لم یُرد ذلک أیضاً.

و إن أراد أنّه لمّا کان سبب الأحکام الوجودیّة المذکورة هی التذکیة، فمع


1- یأتی التعرض له عن قریب.
2- فرائد الاصول: 223 سطر 8.
3- مصباح الفقیه، الطهارة: 653 سطر 20.
4- حاشیة المحقّق الهمدانی علی الرسائل: 91 سطر 28.
5- انظر فرائد الاصول: 373- 374.

ص: 327

عدمها المحرز بالأصل یحکم بعدم تلک الأحکام؛ ضرورة عدم المسبَّب عند عدم السبب.

ففیه: أنّک قد عرفت: أنّ لعدم التذکیة- أی عدم إزهاق الروح مع الکیفیّة المعتبرة الخاصّة- ثلاثة مصادیق؛ أی یتحقّق فی ثلاثة موارد:

الأوّل: فی مورد عدم وجود الحیوان رأساً.

الثانی: فی صورة وجوده و حیاته.

الثالث: فی مورد وجوده و إزهاق روحه لا مع الشرائط الستّة، و حینئذٍ فإن أراد استصحاب عدم التذکیة بنحو العموم الشامل لجمیع الأقسام الثلاثة فقد عرفت- أیضاً- أنّ استصحاب العامّ و السلب المطلق لا یثبت الخاصّ و السلب الرابط.

و بعبارة اخری: استصحاب عدم التذکیة بنحو الإطلاق، الشامل لصورة عدم وجود الموضوع رأساً، لا یثبت أنّ هذا الحیوان الخاصّ الذی زهق روحه غیر مذکًّی.

و إن أراد استصحاب خصوص هذا القسم أی عدم تذکیة هذا الحیوان الذی زهق روحه، فلا حالة سابقة له متیقّنة؛ لأنّه لم یکن فی السابق زمان تیقّن فیه وجود هذا الحیوان الزاهق روحه بدون الکیفیّة الخاصّة لیستصحب.

و ثانیاً: ما ذکره: من أنّ الأسباب إنّما هی للحلّیّة و الطهارة و جواز الصلاة لا لعدمها، یمکن منعه، فإنّ المجعول هو الحرمة؛ لقوله تعالی: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ»(1)، و کذلک عدم جواز الصلاة فیه، و یکفی فی جواز الصلاة فی کلّ شی ء لم یرد فیه النهی، و کذلک الطهارة.


1- المائدة( 5): 3.

ص: 328

أصالة عدم التذکیة فی الشبهة الموضوعیّة

هذا کلّه فی الشبهة الحکمیّة، و أمّا الشبهة الموضوعیّة، کما لو وجد هناک حیوان زهق روحه، لکن لا یعلم أنّه مذکًّی بالکیفیّة الشرعیّة أو لا، و کما لو شُکّ فی وجود شرط أو عدم مانع، و فرض عدم أصل یُحرز به ذلک، فأصالة عدم التذکیة جاریة فیه مع قطع النظر عن الإشکال المتقدّم الساری فی جمیع أقسام الشبهة.

و أمّا لو شُکّ فی قطعة لحم أو جلد أنّها من الغنم المذکّی الموجود، أو من الغیر المذکّی الموجود، فإن قلنا: إنّ التذکیة و عدمها من أوصاف الغنم، لا من أجزائها- کما هو الحقّ- فلا أصل یجری فی هذه القطعة من اللّحم أو الجلد یحرز به أنّها من المذکّی أو من غیره؛ لعدم جریان الأصل فی الغنمین؛ للعلم بأنّ أحدهما غیر مذکًّی، و المفروض عدم جریانه فی أجزاء الغنم.

و إن قلنا: بأنّ التذکیة و عدمها من أوصاف أجزاء الغنم، فأصالة عدم التذکیة فی هذه القطعة جاریة.

هذا إذا کان کلّ واحد من المذکّی و الغیر المذکّی معلوماً متعیّناً، و لو اشتبه أحدهما بالآخر مع العلم بأنّ أحدهما غیر مذکًّی، فإن قلنا بجریان الأصل فی أطراف العلم الإجمالی- لعدم استلزامه المخالفة العملیّة- فأصالة عدم التذکیة جاریة فی القطعة، فیحکم بطهارتها و حلّیّتها، و الجلد المأخوذ من أحدهما.

و إن قلنا بعدم جریانه فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً أو قلنا بتساقطهما، و حینئذٍ تصل النوبة إلی أصالتی الحلّیّة و الطهارة؛ سواء قلنا بجریانهما فی خصوص الغنمین، و إجراء حکم المُلاقی و المُلاقی بالنسبة إلی القطعة؛ لیکون الحکم فیها تابعاً لهما، أم قلنا بجریانهما فی کلّ واحد من الغنمین و القطعة، فیتساقط الأصلان فی کلّ واحد منها، و لا أصل غیرهما یُحرز به الطهارة و الحلّیّة و لا عدمهما.

ص: 329

هذا کلّه إذا فرض الغنمان فی مورد الابتلاء.

و أمّا مع خروجهما عن مورد الابتلاء فالأصل فی المأخوذ منه هذه القطعة جارٍ و لو علی القول بعدم جریان الاصول فی الخارج عن مورد الابتلاء؛ لأنّ هذه القطعة منه مورد الابتلاء، فأصالة عدم التذکیة فی المأخوذ منه هذه القطعة لا مانع من جریانها، فیحکم بعدم التذکیة فیه؛ لعدم الفرق فی جریان الأصل بین أن یکون أصل الغنم المأخوذ منه هذه القطعة مورداً للابتلاء أو القطعة المأخوذة منه کذلک، و لا معارض لهذا الأصل؛ لعدم جریانه فی الطرف الآخر لخروجه عن مورد الابتلاء رأساً.

و لو کان المأخوذ منه هذه القطعة خارجاً عن مورد الابتلاء، و الآخر داخلًا فیه، فأصالة عدم التذکیة جاریة فی کلّ واحد منهما: أمّا فی المأخوذ منه هذه القطعة فلما ذکر: من أنّ هذه القطعة داخلة فی مورد الابتلاء، و هو کافٍ فی جریان الأصل فی المأخوذ منه الخارج عنه، و أمّا فی الآخر فلأنّ المفروضَ دخولُهُ فی مورد الابتلاء، فیتساقط الأصلان أیضاً.

و أمّا التفصیل بین الطهارة و الحلّیّة الذی ذکره صاحب «الروضة»(1)، و أطال المیرزا النائینی(2) الکلام فیه، فهو- أیضاً- غیر صحیح، و لا یهمّنا التعرّض له.


1- الروضة البهیّة 1: 21 سطر 14.
2- فوائد الاصول 3: 384.

ص: 330

التنبیه الثانی فی حسن الاحتیاط
اشارة

لا ریب فی حسن الاحتیاط عقلًا و لو فی الموارد التی قلنا بجریان البراءة العقلیّة و النقلیّة أو العقلیّة فقط فیها، لکن استشکل فی المقام بوجهین:

أحدهما: أنّه یعتبر فی الإطاعة و العبادة قصد التقرّب و قصد عنوان الطاعة، و هو متعذِّر فی الموارد التی یشکّ فیها فی التکلیف؛ لتوقّفه علی العلم التفصیلی بأنّ المأتیّ به إطاعة و ممّا یتقرّب به إلی اللَّه تعالی، و المفروض عدم العلم بذلک(1).

ثانیهما: أنّه لا بدّ فی تحقّق الامتثال و الإطاعة من انبعاث المکلَّف نحو الفعل عن بعث المولی، و هذا إنّما یتحقّق إذا علم بتعلّق الأمر به تفصیلًا، و المفروض أنّ المکلّف لا یعلم بذلک فی موارد الشکّ فی التکلیف، فالانبعاث فیها إنّما هو عن احتمال البعث، لا عن البعث الواقعی(2).

أقول: أمّا الوجه الأوّل ففیه: أنه لا دلیل علی لزوم العلم بأنّ المأتیّ به عبادة و إطاعة؛ لا عقلًا، و لا نقلًا:

أمّا عقلًا: فلأنّ الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلّقه و متعلّق الأوامر هو الطبائع فلا داعویّة للأمر إلّا إلی نفس الطبیعة، فیتحقّق الامتثال بها کیفما اتّفق، فمجرّد الإتیان بمتعلّق الأمر کافٍ فی تحقّق الامتثال، و لا یفتقر إلی قصد عنوان الطاعة.

و أمّا نقلًا: فلعدم ما یدلّ علیه إلّا الإجماع الذی ادّعاه السیّد الرضیّ قدس سره علی وجوب قصد الوجه فی العبادة، المتوقّف علی العلم بأنّ المأتیّ به واجب، و هو لیس


1- انظر فرائد الاصول: 228 سطر 17.
2- انظر فوائد الاصول 3: 73.

ص: 331

حجّة فی المسألة التی هی من المسائل الکلامیّة العقلیّة؛ لاحتمال استناد المجمعین إلی حکم العقل، و عدم احتمال وجود نصّ معتبر فیه لم یصل إلینا لیستکشف به رأی المعصوم؛ لما عرفت من أنّ المسألة کلامیّة، لا فرعیّة.

و أمّا الوجه الثانی: فیرد علیه النقض بما إذا قطع بالتکلیف و الأمر مع مخالفة اعتقاده للواقع؛ لعدم الأمر و التکلیف فی الواقع، فما یقال فی الجواب عن ذلک یقال فی الجواب عن إشکال محتمل التکلیف.

و الذی یحسم مادّة الإشکال هو أن یقال: أمّا فی صورة القطع بالتکلیف المخالف للواقع، فنلتزم بعدم تحقّق عنوان الطاعة فیها، فلو قطع اثنان کلٌّ بتکلیف، و طابق اعتقاد أحدهما للواقع، و خالف قطع الآخر له فإنّ الباعث للقاطع نحو الفعل بالذات و إن کان هی الصورة الذهنیّة التی هی المعلومة بالذات، لا الخارج الذی هو معلوم بالعرض، لکن حیث إنّ الصورة الذهنیّة کاشفة عن الواقع و فانیة فیه، فکأنّ القاطع لا یری إلّا الواقع، و المفروض أنّ اعتقاد الجاهل المرکَّب مخالف للواقع، و لیس له واقع، کی تکشف الصورة الذهنیة عنه، و مع عدم وجود التکلیف فیه واقعاً أصلًا، کیف یُعدّ فعله طاعة؟! بخلاف الآخر، فإنّه لأجل علمه بالتکلیف الموجود فی الواقع المعلوم بالعرض، یعدّ فعله طاعة.

و أمّا فی محتمل التکلیف، فکما لا دلیل عقلًا و لا نقلًا علی اعتبار قصد الوجه و الجزم بالنیّة فی العبادات، کذلک لا یُعتبر فی تحقّق الامتثال فیها العلمُ بوجود التکلیف و قصد عنوان الإطاعة و الامتثال؛ لعدم داعویّة الأمر إلّا إلی متعلّقه، و متعلّق الأوامر هو نفس الطبائع، فمجرّد الإتیان بالطبیعة کافٍ فی تحقّق الامتثال؛ لعدم اعتبار قصد عنوان الإطاعة و العبادة فی امتثالها.

نعم، قام الدلیل علی اعتبار قصد التقرّب به إلی اللَّه تعالی، لا بقصد الریاء و نحوه، فیکفی إیجاد متعلّق الأمر بقصد القربة.

ص: 332

و أمّا ما یقال: من أنّ للامتثال أربع مراتب، الامتثال العلمی التفصیلی، و الامتثال العلمی الإجمالی، و الامتثال الظنّی التفصیلی، و الامتثال الاحتمالی، و أنّه لا یجوز الاکتفاء بالمرتبة اللاحقة منها مع إمکان الامتثال بالمرتبة السابقة فی جمیع المراتب(1).

فهو ممنوع: بل یکفی الامتثال الاحتمالی مع إمکان الامتثال العلمی التفصیلی؛ الذی یحصل بالرجوع إلی مدارک المسألة، و تحصیل العلم بالتکلیف.

فتلخّص: أنّ الاحتیاط ممکن و حسن فی جمیع الشبهات البدویّة الوجوبیّة و التحریمیّة حتّی فی العبادات.

ثمّ علی فرض التنزّل و تسلیم اعتبار قصد الإطاعة و عنوان العبادة المتوقّف علی العلم بالأمر، هل یمکن تحقّق ذلک بنفس أوامر الاحتیاط أو لا؟

الحقّ عدمه؛ لأنّ شمول أوامر الاحتیاط لذلک، یتوقّف علی إمکان الاحتیاط بقصد عنوان الطاعة، المفروض توقّفها علی أوامر الاحتیاط، و هو دور واضح.

فإن قلت: أوامر الاحتیاط متعلّقة بذات العمل الذی احتمل وجوبه، لا بالعمل المقیَّد بأنّه محتمل الوجوب؛ بأن یؤخذ قید احتمال الوجوب فی المأمور به، فإن کان متعلّقها عملًا توصّلیّاً یکفی الإتیان به بلا قصد الأمر المتعلّق به، و إن کان متعلّقها العمل العبادی- یعنی لو تعلّق الأمر به کان عبادة- فلا بدّ من قصد الأمر المتعلّق به، و هو الأمر بالاحتیاط، فیقصد التقرّب به و امتثاله.

قلت: لیس کذلک، بل أوامر الاحتیاط متعلّقة بعنوان الاحتیاط المفروض توقّفه علی الأمر، و لهذا تشمل أوامرُ الاحتیاط فعلَ محتمل الوجوب و ترکَ محتمل الحرمة، و لیس ذلک إلّا لأجل أنّها عامّة تشمل کلیهما، و هو دلیل علی عدم تعلّق


1- فوائد الاصول 3: 71- 72 و 400- 401.

ص: 333

الأمر بذات العمل.

و قال المیرزا النائینی قدس سره فی المقام ما ملخّصه: قد یتعلّق أمران- أحدهما توصّلیّ وجوبیّ، و الآخر تعبّدیّ ندبیّ- بشی ء واحد، کما لو نذر الإتیان بصلاة اللیل، فإنّ الأمر المتعلّق بصلاة اللیل ندبیّ تعبّدیّ، و الأمر بالوفاء بالنذر توصّلی وجوبیّ، فالأمر النذری یکتسب العبادیّة من الأمر الندبی، و الأمر الندبی یکتسب الوجوب من الأمر النذری، و قد لا یتّحد متعلّقهما، کالأمر بالوفاء بعقد الإجارة التی متعلّقها أمر عبادیّ، کما لو استأجر أحداً علی الإتیان بالصلاة الواجبة عن الغیر، فإنّ الأجیر إنّما یُستأجر لتفریغ ذمّة الغیر، فالإجارة إنّما تتعلّق بما فی ذمّة المنوب عنه، و ما فی ذمّته هی الصلاة الواجبة أو المستحبّة بوصف أنّها واجبة أو مستحبّة، فمتعلّق الأمر الإجاری إنّما هی الصلاة المقیّدة بأنّها مستحبّة للمنوب عنه، لا بذات الصلاة بما هی هی، و متعلّق الأمر الاستحبابی إنّما هی نفس الصلاة، فلا یتّحد الأمر الاستحبابی مع الأمر الوجوبی الإجاری، و ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ الأمر بالاحتیاط لم یتعلّق بذات العمل مرسلًا عن قید أنّه محتمل الوجوب، بل التقیید بذلک مأخوذ فی موضوع أوامر الاحتیاط، و إلّا لم یکن من الاحتیاط فی شی ء، بخلاف الأمر المتعلّق بالعمل المحتاط فیه، فإنّه علی تقدیر وجوده الواقعی إنّما یتعلّق بذات العمل، فلم یتّحد متعلَّق الأمرین حتّی یکتسب الأمرُ بالاحتیاط العبادیّةَ من الأمر المتعلِّق بالعمل لو فرض أنّه تعلّق به الأمر العبادی(1). انتهی ملخّصه.

أقول: یرد علیه أوّلًا: بأنّه لا یمکن تعلّق أمرین مستقلّین بشی ء واحد إلّا أن یکون أحدهما تأکیداً للآخر؛ لاستحالة تعلّق إرادتین مستقلّتین بشی ء واحد، کما قرّر فی محلّه، کما لا یمکن تعلّق حُبّینِ أو شوقینِ کذلک بشی ء واحد.

و ثانیاً: الأمر النذری فیما ذکره من المثال لیس متعلّقاً بذات صلاة اللیل، بل


1- فوائد الاصول 3: 403- 404.

ص: 334

هو متعلّق بعنوان الوفاء بالنذر، غایة الأمر أنّ الإتیان بصلاة اللیل- فی المثال- فی الخارج من مصادیق الوفاء بالنذر، و هو مصداق صلاة اللیل- أیضاً- فهو مَجْمع العنوانین اللّذینِ تعلّق بکلّ واحد منهما أمر مستقلّ، و ذلک ممکن، کما تقدّم فی مسألة اجتماع الأمر و النهی.

و ثالثاً: علی فرض الإغماض عن ذلک، و تسلیم إمکان تعلّق أمرین مستقلّین بشی ء واحد، لا دلیل علی اکتساب أحد الأمرین الوصف الفاقد له من الآخر الواجد له، فإنّ ذلک مجرّد دعوی لا دلیل علیها، بل الدلیل علی خلافها، فإنّ لکلٍّ من الأمرین- اللّذینِ أحدهما وجوبیّ، و الآخر استحبابیّ- مبادٍ غیر ما هو للآخر من المبادی، و لا یُعقل تبدُّل مبادیهما باتّحاد متعلّقهما، کما لا یخفی.

فتلخّص: أنّ الإشکال فی المقام منحصر فی لزوم الدور الذی ذکرناه.

الاستدلال بأخبار (من بلغ)
اشارة

ثمّ إنّه یمکن الاستدلال لإمکان الاحتیاط بأخبار

(من بلغ)

التی هی المدرک للتسامح فی أدلّة السُّنن، مثل

صحیحة هشام بن سالم عن الصادق علیه السلام قال: (من بلغه عن النبی شی ء من الثواب فعمله، کان أجر ذلک له و إن کان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم لم یقُله)

(1) إلی غیر ذلک من الأخبار الواردة فی ذلک(2)؛ و ذلک لأنّه یُستفاد منها: أنّه فی محتمل التکلیف لأجل قیام خبر ضعیف غیر معتبر، لو فعل ذلک رجاء ذلک الثواب و احتمال التکلیف، لم یکن ذلک تشریعاً محرّماً، بل هو جائز یُثاب علیه


1- المحاسن: 25/ 2، وسائل الشیعة 1: 60، کتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18، الحدیث 3.
2- الکافی 2: 71/ 1 و 2، ثواب الأعمال: 160/ 1، باب ثواب من بلغه شی ء من الثواب فعمل به، وسائل الشیعة 1: 59، کتاب الصلاة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18.

ص: 335

بذلک، و هی تدلّ علی أنّه یُثاب علیه و إن لم یکن الواقع کذلک، لکن یُستفاد منها مفروغیّة ترتُّب الثواب علی نفس العمل لو فُرض وجود التکلیف به واقعاً و کونه المأمور به؛ أی ثواب نفس ذلک العمل.

و الحاصل: أنّه یُستفاد منها: أنّه لو فعل محتمل التکلیف یترتّب علیه ثواب نفس العمل؛ سواء کان محقَّقاً و ثابتاً فی الواقع أم لا، و هذا ممّا لا إشکال فیه.

و إنّما الإشکال و الخلاف فی أنّها هل تدلّ علی استحباب ذلک العمل الذی بلغه، کما اختاره فی «الکفایة»(1)، أو أنّها فی مقام جعل حجّیّة خبر غیر الثقة- أیضاً- فی المندوبات و المکروهات، کما اختاره المیرزا النائینی قدس سره حیث إنّه ذکر فیها احتمالات، و اختار منها أنّها فی مقام إثبات مسألة اصولیّة، و هی حجّیّة خبر الواحد و إن لم یوجد فیه الشرائط المعتبرة للحجّیّة، و فی الحقیقة هذه الأخبار مخصِّصة لما دلّ علی اعتبار الوثاقة فی حجّیّة خبر الواحد، و أنّ هذا الشرط- أی الوثاقة- إنّما هو فی غیر المندوبات و المکروهات، و إنّما تعتبر فی الخبر القائم علی وجوب شی ء أو حرمته فقط.

ثمّ استشکل علی نفسه: بأنّه کیف یمکن هذا التخصیص مع أنّ بینهما عموماً من وجه؛ حیث إنّ ما دلّ علی اعتبار الشرائط یعمّ الخبر الدالّ علی الوجوب و الاستحباب، و أخبار

(من بلغ)

و إن اختصّت بالخبر الدالّ علی الاستحباب، إلّا أنّها تعمّ الخبر الواجد للشرائط و فاقدها، ففی الخبر القائم الغیر الواجد للشرائط علی الاستحباب یقع التعارض بینهما، و لا وجه لتقدیم أخبار

(من بلغ)

علی ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی حجّیّة الخبر بنحو الإطلاق؟!

و أجاب: مضافاً إلی أنّه یمکن أن یقال: إنّ أخبار

(من بلغ)

ناظرة إلی أدلّة اعتبار الوثاقة فی الخبر، و أنّ هذا الشرط لا یعتبر فی الخبر القائم علی الاستحباب،


1- کفایة الاصول: 401.

ص: 336

فهی حاکمة علی ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی حجّیّة خبر الواحد، و فی مورد الحکومة لا تلاحظ النسبة بینهما.

و مضافاً إلی أنّ الترجیح لأخبار

(من بلغ)

بعمل المشهور بها.

أنّه لو قُدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی حجّیّة أخبار الآحاد مطلقاً، لم یبقَ لأخبار

(من بلغ)

مورد و مصداق، بخلاف ما لو قدّمنا أخبار

(من بلغ)

علی تلک الأدلّة، فإنّ الواجبات و المحرّمات تبقی مشمولة لها(1). انتهی.

و ذکر قدس سره فی ضمن الوجوه التی احتملها فی الروایات: احتمال أنّ قوله:

(فعمله)

جملة خبریّة فی مقام الإنشاء بمعنی «فلیفعل» مثل قوله علیه السلام:

(یعید الصلاة)

(2) فی مقام الأمر بالإعادة(3).

أقول: المتبادر عرفاً من هذه الروایات هو أنّ ذلک منهم علیهم السلام نظیر الجُعل فی الجعالة، إلّا أنّه جعل فیها الثواب للعمل علی کلّ تقدیر؛ سواء طابق الواقع أم لا؛ حثّاً للمکلّفین علی المحافظة علی الأعمال المندوبة، فجعل الثواب علی فرض عدم مصادفة البالغ للواقع- أیضاً- لئلّا یترکه المکلَّفون، کما أنّه جُعل الثواب لمقدّمات بعض العبادات کالحجّ؛ حثّاً و تحریضاً علی الإتیان به، و حینئذٍ فلا تدلّ تلک الروایات علی استحباب ذلک العمل الذی بلغه ثوابه، کما ذهب إلیه فی «الکفایة».

ثمّ إنّ ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره أیضاً محلّ إشکال:

أمّا أوّلًا: فلأنّه لا تَنافی بین أخبار

(من بلغ)

و بین أدلّة اعتبار الوثاقة فی حجّیّة خبر الواحد؛ لأنّهما مثبتان، و قد قُرّر فی محلّه(4) عدم التنافی بین


1- فوائد الاصول 3: 413- 414.
2- تهذیب الأحکام 2: 143/ 18، الاستبصار 1: 351/ 5، وسائل الشیعة 4: 716، کتاب الصلاة، أبواب تکبیرة الإحرام، الباب 2، الحدیث 5.
3- فوائد الاصول 3: 412.
4- تهذیب الاصول 2: 78.

ص: 337

المثبتَینِ(1).

و ثانیاً: ما ذکره- من حکومة هذه علی تلک الأدلّة- فیه: أنّ الحکومة إنّما هی فیما إذا کان أحد الدلیلین ناظراً بنفسه إلی الآخر و مفسِّراً له عرفاً، مثل

(لا شکّ لکثیر الشکّ)

(2) بالنسبة قوله علیه السلام:

(إذا شککت فابنِ علی الأکثر)

، و ما نحن فیه لیس کذلک؛ لعدم النظر فی هذه الأخبار إلی أدلّة اعتبار الوثاقة فی خبر الواحد عرفاً؛ لتکون حاکمة علیها.

و ثالثاً: ما أفاده: من عمل المشهور بهذه الأخبار فی الجواب عن الإشکال الذی ذکره. فیه: أنّه لا یتعیّن کون الوجه فی عمل المشهور بها هو تقدیمهم لها علی تلک الأدلّة، بل یمکن ذلک لوجوهٍ اخر.

و رابعاً: ما ذکره: من عدم بقاء المورد لهذه الأخبار لو قدّمت الأدلّة الدالّة علی اعتبار الوثاقة فی المخبر.

فیه: أنّه علی فرض تسلیمه لیس ذلک من المرجّحات لتقدیم هذه الأخبار، بل لا بدّ من إجراء قواعد التعارض بینهما- من التخییر أو التساقط- علی فرض تعارضهما.

التنبیه الثالث اختلاف أصالة البراءة باختلاف متعلّقات الأحکام

تختلف أصالة البراءة بحسب أنحاء تعلّق الأوامر و النواهی بالمتعلّقات؛ أی:


1- و لا یخفی أنّ اعتبار العدالة و الوثاقة لیس معناه إلّا عدم اعتبار خبر غیر الموثّق، و إلّا فلا معنی لاعتبارها، فمفاد دلیل اعتبارها عدم حجّیّة خبر غیر الموثّق مطلقاً. المقرّر حفظه اللَّه.
2- هذه قاعدة مستفادة من الروایات، راجع وسائل الشیعة 5: 329، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16.

ص: 338

بحسب اختلاف متعلّقاتها.

توضیح ذلک: أنّ الأمر و النهی قد یتعلّقان بنفس الطبیعة لا بشرط، و لازم ذلک کفایة الإتیان بفرد منها- فی الأوامر- فی تحقّق الامتثال؛ لأنّ کلّ واحد من أفرادها هو تمام الطبیعة المطلوبة، و هذا ممّا لا إشکال فیه.

و إنّما الإشکال فی أنّه لو أتی المکلّف بفردین منها أو أکثر دفعة واحدة، فهل یستحقّ مثوبة واحدة، أو أنّه یستحقّ مثوبات متعدّدة حسب تعدّد الأفراد المأتیّ بها؟ وجهان:

قد یقال بالثانی؛ و ذلک لما عرفت من أنّ الطبیعة التی فُرض تعلُّق الأمر بها متکثّرة بذاتها فی الخارج بعدد تکثّر أفرادها؛ بحیث یکون کلّ واحد من أفرادها تمام الطبیعة المطلوبة، فکلّ واحد من الأفراد مطلوب مستقلّ، و هو یقتضی ترتّب الثواب علی کلّ واحد منها مستقلّاً، نظیر الواجب الکفائی علی احتمال ذکرناه فی بابه، و هو أنّه یجب علی کلّ واحد من المکلّفین الإتیان به؛ بحیث لو أتی به جمیعُهم استحقّ کلّ واحد منهم المثوبة، و لکن یکفی إتیان واحد منهم به.

فإن قلت: مقتضی ذلک هو أنّ ترک کلّ واحد من أفراد الطبیعة عصیان واحد، فیتحقّق بترک الطبیعة عصیانات عدیدة کثیرة.

قلت: لیس کذلک؛ لأنّه مع ترک جمیع الأفراد یکون قد ترک الطبیعة المأمور بها، فقد خالف أمراً واحداً، و هو الأمر بالطبیعة، فلا یستحقّ إلّا عقوبة واحدة.

و لکن یرد علی هذا القول: أنّه فرق بین الواجب الکفائی و بین ما نحن فیه؛ حیث إنّه فی الواجب الکفائی لکلّ مکلّف تکلیف مستقلّ، فالأمر المتعلّق بالواجب الکفائی متوجّه إلی جمیع أفراد المکلّفین، فهو أوامر متعدّدة حسب تعدُّد أفراد المکلّفین و مقتضاه ترتّب الثواب علی کلّ واحد منها، بخلاف ما نحن فیه، فإنّه لیس فیه إلّا أمر واحد متعلّق بالطبیعة، و مقتضاه ترتّب مثوبة واحدة علی امتثاله، و عقوبة

ص: 339

واحدة علی مخالفته و ترکِها.

هذا فی الأمر المتعلّق بالطبیعة.

و أمّا النهی المتعلّق بالطبیعة- مثل: «لا تشرب الخمر»- فلا إشکال فی الفرق بینه و بین الأمر، فإنّ الطبیعة المأمور بها یکفی فی امتثاله الإتیان بفرد منها مرّةً واحدة، و یسقط الأمر بها، بخلاف النهی المتعلّق بالطبیعة، فإنّه لا بدّ فی امتثاله من ترک جمیع أفرادها، و مع ترک فردٍ منها فقط لا یسقط النهی، بل هو باقٍ بحاله، و کذلک لو ارتکب فرداً منها.

و هذا ممّا لا إشکال فیه.

و إنّما الإشکال فی وجه ذلک و سرّه، مع أنّ متعلّقهما واحد، فإنّه لا یصحّ ذلک علی طبق الموازین العقلیّة.

فإنّ ما ذکره بعضهم: من أنّ الطبیعة توجد بوجود فردٍ منها، و انعدامها إنّما هو بانعدام جمیع أفرادها، فلها وجودات متعدّدة و عدم واحد(1).

فاسدٌ، فإنّه قد حقّق و قرّر فی محلّه: أنّه کما أنّ لها وجودات متعدّدة، کذلک لها أعدام متعدّدة، فوجود کلّ فرد منها وجود لها، و عدم ذلک الفرد عدم لها، و عدمُ فردٍ آخر منها عدمٌ آخر لها.

و الحقّ: أنّ هذا الفرق بینهما عرفیّ عقلائی، فالنهی إذا تعلّق بالطبیعة فعند العرف و العقلاء امتثال ذلک النهی إنّما هو بترک جمیع أفرادها، بخلاف الأمر، فالفرق بینهما عقلائیّ لا عقلیّ.

و قد یتعلّق الأمر و النهی بصِرف الوجود الذی لا تکرّر فیه، و مقتضی تعلّق الأمر به هو کفایة الإتیان بفرد من الأفراد؛ سواء قلنا بأنّه عنوان بسیط و الأفراد محصِّلة له، أم قلنا بأنّه عنوان منتزع من الأفراد متّحد معها فی الوجود، و یوجد


1- انظر کفایة الاصول: 182- 183.

ص: 340

بوجود الأفراد، و حیث إنّ صِرف الوجود لا یتکرّر، فلیس له إلّا امتثال واحد و مثوبة واحدة، و کذلک لو تعلّق النهی به.

و قد یتعلّق الأمر و النهی بالأفراد بنحو الاستغراق، مثل: «أکرم کلّ عالم»؛ لما عرفت من أنّ لفظة «کلّ» و نحوها موضوعة للکثرة، و الأمر المتعلّق به ینحلّ عرفاً إلی أوامر متعدّدة حسب تعدّد أفراد مدخوله، و کذلک بالنسبة إلی المکلّفین، فلکلّ واحد منهم أمر مستقلّ یُثاب علی امتثاله، و یُعاقب علی ترکه، و کذلک لو تعلّق النهی بها کذلک.

و قد یتعلّق الأمر و النهی بمجموع الأفراد باعتبارها أمراً واحداً، مثل: «أکرم مجموع العلماء»؛ بحیث لو أخلّ بإکرام واحد منهم لما حصل الامتثال أصلًا، و یتحقّق العصیان و المخالفة بترک إکرامِ واحدٍ منهم، و تترتّب العقوبة علیه، و تترتّب علی إکرام مجموعهم مثوبةٌ واحدة.

و ذکر بعض الأعاظم (المیرزا النائینی قدس سره) هنا قسماً آخر: بأن یتعلّق الأمر أو النهی بشی ء بنحو المعدولة المحمول، مثل: «کُن لا شارب الخمر»(1).

و لکن مرجعه إلی أحد الأقسام المذکورة، و لیس قسماً مستقلّاً برأسه.

إذا عرفت ذلک نقول: لو شکّ فی فرد بنحو الشبهة الموضوعیّة فیما لو تعلّق الأمر بالأفراد بنحو الاستغراق، مثل: «أکرم کلّ عالم»، و شکّ فی أنّ زیداً عالم أو لا، أو قال: «لا تصلِّ فی وَبَر ما لا یُؤکل لحمه»، و شکّ فی لباسٍ أنّه منه أو ممّا یؤکل لحمه، فقد یقال بعدم جریان البراءة العقلیّة فیه؛ لأنّ ما هو وظیفة الشارع من البیان قد صدر منه و وصل إلینا، فلو ترک إکرام المشکوک أنّه عالم، و صادف کونه عالماً فی الواقع، فهو لیس بمعذور؛ لعدم جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لما عرفت من صدور ما هو وظیفة الشارع من البیان بقوله: «أکرم کلّ عالم»، و لا یجب علیه غیر


1- فوائد الاصول 2: 394- 395.

ص: 341

ذلک من بیان أنّ هذا الفرد عالم، أو لیس بعالم، و لا مؤمّن من العقوبة فیه عقلًا(1).

و فیه: أنّ البیان الکلّی و إن کان صادراً قطعاً، لکن المفروض أنّ الحکم متعلّق بکلّ فرد فردٍ، غایة الأمر أنّه لیس بنحو التفصیل؛ بأن یقول: «أکرم زیداً و أکرم عمراً» و هکذا، بل بنحو الإجمال بقوله: «أکرم کلّ عالم»، فکما إذا لم یعلم بتعلّق وجوب الإکرام بزید فی الأوّل- أی إذا تعلّق الحکم بکلّ فرد فرد بنحو التفصیل- لا یجب إکرامه لجریان قاعدة القبح، کذلک فیما لو صدر الحکم بنحو الإجمال و الکلّی الاستغراقی؛ لعدم الفرق بین الصورتین إلّا بالإجمال و التفصیل.

لا أقول: إنّ الحکم متعلّق بالأفراد المعلومة، بل أقول: إنّه متعلّق بالأفراد الواقعیّة للعلماء، لکن العقاب علی المشکوک عالمیّته منها عقاب بلا حجّة و بیان، فلا إشکال فی جریان البراءة العقلیّة فی الفرد المشکوک.

فإن قلت: مقتضی ذلک البیان جواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهات المصداقیّة للمخصّص، کما لو قال: «أکرم العلماء، و لا تکرم الفسّاق منهم»، و شکّ فی أنّ زیداً العالم فاسق أو لا بنحو الشبهة الموضوعیّة، فلم تعلم حرمة إکرام زید، و المفروض أنّه عالم، فیتمسّک بأکرم العلماء فی وجوب إکرامه.

قلت: الحکم بعدم جواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهات المصداقیّة للمخصِّص، لیس لأجل عدم جریان البراءة العقلیّة فی الشبهات الموضوعیّة؛ لیرد ما ذکر، بل إنّما هو لأجل ما ذکرناه فی محلّه: من أنّه یعتبر فی جواز التمسّک بالظواهر- مضافاً إلی الصدور و الظهور و حجّیّتها- إحراز تطابق الإرادة الجدّیّة مع الإرادة الاستعمالیّة، و زید فی المثال المذکور و إن کان من المصادیق المشتبهة للمخصِّص، فلیس المخصِّص حجّة فیه، و لکن لا یجوز التمسّک بالعامّ- أیضاً- لعدم إحراز تطابق الجدّ و الاستعمال فیه.


1- انظر نهایة التقریر 1: 174- 178.

ص: 342

نعم أصالة تطابقهما جاریة فیما لو شکّ فی أصل التخصیص، لکن فیما نحن فیه- أی ما کان أصل التخصیص معلوماً، و شکّ فی فرد أنّه من مصادیق ذلک المخصّص أو لا- فإنّ الأصل المزبور من الاصول العقلائیّة، و لیس بناؤهم علیه فی هذا المقام، و لا أقلّ من الشکّ فی بنائهم علیه فیه، فالمقام من المصادیق المشتبهة لهذا الأصل العقلائی.

و بالجملة: الوجهُ فیما ذکرناه- من جریان البراءة العقلیّة- عدمُ تعلّق الحکم بعنوانٍ محصِّله الأفراد حتی یقال: إنّ الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة، کما هو کذلک لو تعلّق الأمر بمجموع الأفراد، کما سیجی ء بیانه، بل الحکم فیما نحن فیه متعلّق بنفس الأفراد؛ أی کلّ فردٍ فرد، غایة الأمر أنّه بنحو الإجمال و الکلّی الاستغراقی، فالعقاب علی المشکوک عقاب بلا بیان و لا حجّة.

ثمّ إنّه ذکر المیرزا النائینی قدس سره لبیان جریان البراءة العقلیّة فی الشبهات الموضوعیّة، ما حاصله: أنّ التکالیف الشرعیّة إنّما صدرت علی نهج القضایا الحقیقیّة التی تنحلّ إلی قضیّة شرطیّة، مقدّمها وجود الموضوع، و تالیها عنوان المحمول، فلا بدّ من فرض وجود الموضوع فی ترتّب الحکم، فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجاً یُعلم بعدم فعلیّة التکلیف، و مع الشکّ فی وجوده یُشکّ فی فعلیّته؛ لأنّ المناط فی صحّة العقوبة عقلًا هو أن یکون التکلیف قابلًا للباعثیّة و الداعویّة، و ذلک لا یکون إلّا بعد العلم بتحقّق الموضوع و انطباق الکبری المجعولة الشرعیّة علیه، و الفرض عدم العلم بتحقّق الموضوع فی المقام، فلا تصحّ العقوبة علیه(1). انتهی.

أقول: علی فرض تسلیم أنّ التکالیف الشرعیّة علی نهج القضایا الحقیقیّة، إنّ القضیّة الحقیقیّة من القضایا البتّیّة، و لذا قسّموا القضایا البتّیّة إلی الحقیقیّة و الخارجیّة،


1- فوائد الاصول 3: 393- 394.

ص: 343

و جعلوا الشرطیّة فی مقابل البتّیّة(1)، و لا تنحلّ القضایا الحقیقیّة إلی الشرطیّة، و لیس ذلک مقصوداً و مراداً للمحقّقین من المنطقیّین أیضاً.

و بالجملة: لا فرق بین القضیّة الحقیقیّة و الخارجیّة فی أنّ کلّ واحدة منهما من القضایا البتّیّة لا الشرطیّة، بل الفرق بینهما إنّما هو فی أنّ الموضوع فی الحقیقیّة جُعِل بنحوٍ لا تنحصر أفراده فی الأفراد الموجودة بالفعل فقط، بل الأعمّ من الموجودة المحقّقة و المقدّرة؛ و أنّ المراد کلّما لو وجد فرد منه و لو بعد أزمنة کثیرة ینطبق علیه ذلک الموضوع، و یترتّب علیه الحکم، مثل «النار حارّة»، و مثل «لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا»(2)، فمتی تحقّق عنوان المستطیع إلی یوم القیامة، و وجد فرد منه، و صدق علیه عنوانه، یترتّب علیه وجوب الحجّ، فحیث إنّ الموضوع فیها کذلک قالوا: إنّها فی قوّة قضیّة شرطیّة، لا إنّها قضیّة شرطیّة حقیقة، بخلاف القضایا الخارجیّة، فإنّ الموضوع فیها عنوان لا ینطبق إلّا علی الأفراد الموجودة المحقّقة خارجاً بالفعل فقط، مثل: «قُتل مَن فی العسکر».

فما ذکره قدس سره من الوجه لجریان البراءة العقلیّة فی الشبهات الموضوعیّة لا یخلو عن الإشکال، بل الوجه فیه ما ذکرناه.

هذا کلّه فیما لو تعلّق الحکم بالأفراد بنحو الاستغراق.

و أمّا لو تعلّق بمجموع الأفراد فلا ریب فی أنّ الامتثال فی مثل «أکرم مجموع العلماء» إنّما یتحقّق بإکرامهم جمیعاً؛ بحیث لو ترک واحداً منهم لمّا حصل الامتثال أصلًا و إن أکرم الباقین منهم، و یتحقّق العصیان بذلک، و مع إکرام جمیعهم یترتّب علیه مثوبة واحدة.

و هذا ممّا لا إشکال فیه.


1- شرح المنظومة( قسم المنطق): 46 و 50.
2- آل عمران( 3): 97.

ص: 344

و إنّما الإشکال فیما لو شکّ فی فرد أنّه عالم أو لا، فهل الشکّ فی ذلک من قبیل الشکّ بین الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین، کما هو مختار المیرزا النائینی قدس سره فیتفرّع علیه جریان البراءة فیه؛ بناءً علی جریانها فی الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین؟

قال قدس سره: إنّه لا فرق بینه و بین ما لو تعلّق الحکم بالأفراد بنحو الاستغراق- کما فی الفرض السابق- إلّا أنّ الشکّ فیه من قبیل الأقلّ و الأکثر الاستقلالیّین، و ما نحن فیه من قبیل الارتباطیّین(1).

و فیه: أنّه قد ذکرنا فی مسألة دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر، أنّه قد یکون الجزء المشکوک ممّا یشکّ فی صدق عنوان المأمور به بدونه، کالرکوع فی الصلاة مثلًا، ففی مثل ذلک لا تجری البراءة، و لا بدّ من الإتیان به؛ لأنّ مع ترکه لم یعلم بتحقّق المأمور به الواجب و لو علی القول بالأعمّ، بخلاف ما لو لم یکن کذلک، کما لو فرض صدق الصلاة علی الفاقدة للسورة و لو بناء علی القول بالأعمّ، فإذا شکّ فی وجوب السورة فهی مورد جریان البراءة؛ لأنّ المفروض صدق الصلاة علی الفاقدة لها، و جزئیّة السورة غیر معلومة.

و ما نحن فیه من قبیل الأوّل؛ لأنّ نسبة الأفراد إلی عنوان مجموع العلماء نسبة المحصِّل إلی العنوان المحصَّل، و العلم باشتغال الذمّة بوجوب إکرام مجموع العلماء یقتضی العلم بالفراغ و الخروج عن عهدة هذا التکلیف، و مع ترک إکرام المشکوک یشکّ فی صدق العنوان المعلوم اشتغال الذمّة بوجوبه، فلا بدّ من الإتیان به لیحصل العلم بالفراغ. هذا فیما لو تعلّق الأمر بالمجموع.

أمّا لو تعلّق النهی به فلا مانع من جریان الأصل فی الفرد المشکوک، کما لو شکّ فی أنّ مجموع الفسّاق فی مثل قوله: «لا تکرم مجموع الفسّاق»، هی العشرة أو التسعة؛ للشکّ فی أنّ زیداً فاسق أو لا، فإنّ العقاب علی إکرام التسعة فقط- بترک


1- فوائد الاصول 4: 201- 202.

ص: 345

إکرام زید المشکوک- عقاب بلا بیان و حجّة لعدم العلم بذلک(1).

و لو تعلّق الأمر بصِرف الوجود فلا مجری لأصالة البراءة؛ لأنّه مع الإتیان بالفرد المشکوک یشکّ فی الامتثال و الإتیان بالمأمور به المعلوم وجوبه؛ سواء قلنا بأنّه عنوان بسیط و الأفراد محصِّلة له، أم قلنا بأنّه عنوان منتزع من الأفراد، و وجوده بعین وجود الأفراد التی هی منشأ انتزاعه.

و لو تعلّق النهی بصِرف الوجود فلا مانع من جریان أصالة البراءة فی المشکوک فردیّته.

و کذلک لو تعلّق الأمر بالطبیعة، فإنّه لا یجری الأصل فی الفرد المشکوک فردیّته لها، بخلاف ما لو تعلّق النهی بها.

و السرّ فی جمیع الموارد التی قلنا فیها بجریان أصالة البراءة فی الفرد المشکوک فی الشبهات الموضوعیّة، هو أنّ الکبری الکلّیّة الشرعیّة لیست حجّة فی الصُّغری المشکوکة، و إنّما تنتج إذا انضمّت إلیها صُغری معلومة.

ثمّ إنّه هل یوجد فی المقام أصل موضوعیّ یُحرز به الموضوع أو لا؟

فنقول: أمّا فی صورة تعلّق الأمر بجمیع الأفراد بنحو الاستغراق، مثل «أکرم کلّ عالم» لو شکّ فی فرد أنّه عالم أو لا مع کونه عالماً سابقاً، فیستصحب علمه، فیحکم علیه بوجوب الإکرام، و مع عدم کونه عالماً سابقاً، ففی جریان استصحاب ذلک العدم، فیترتّب علیه عدم وجوب إکرامه، تأمّل و تردّد(2).

و أمّا فی صورة تعلّق الأمر أو النهی بالمجموع فباستصحاب عالمیّة زید-


1- یمکن أن یقال بعدم الفرق بین الأمر و النهی لو فرض أنّ نسبة الأفراد إلی المجموع نسبة المحصِّل إلی المحصَّل، و أنّ الاشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی. المقرّر حفظه اللَّه.
2- لا فرق بین أن یکون الحالة السابقة لفرد هو العلم أو عدم العلم إذ لا یعتبر فی الاستصحاب إلّا الیقین السابق و الشکّ اللاحق من غیر فرق بین الوجود و العدم. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 346

مثلًا- لا یثبت موضوع الحکم، و أنّ الموضوع مرکّب منه و من سائر أفراد العلماء، و لا باستصحاب عدم عالمیّته یثبت أنّ موضوع الحکم هو باقی الأفراد لأنّ موضوع الحکم فی الکبری لیس هو نفس المستصحب لیترتّب علیه حکمها، بخلاف الفرض الأوّل؛ حیث إنّ متعلّق الحکم فیه نفس الأفراد، فالمستصحب فیه هو عین الموضوع الذی تعلّق به الحکم.

نعم لو فرض أنّ المجموع فی الفرض الثانی هو هذه التسعة، و شُکّ فی ذلک لأجل احتمال زوال عِلم أحد الأفراد، أو لاحتمال صیرورة فردٍ آخر عالماً، فباستصحابه یترتّب علیه الحکم.

و کذا الکلام لو تعلّق الحکم بصِرف الوجود.

التنبیه الرابع فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر
اشارة

البحث فیما لو شُکّ فی واجب أنّه تعیینیّ أو تخییریّ.

و قبل بیان ما هو الحقّ فی جریان البراءة فیه و عدمه، لا بدّ من تقدیم امور:

الأمر الأوّل: قد تقدّم فی مباحث الألفاظ معنی الوجوب التخییری، و بیان دفع الإشکالات الواردة علیه، مثل لزوم تعلّق الإرادة و البعث بالأمر المبهم و غیر ذلک، و أنّه قد یتعلّق الغرض بأحد أمرین لیس بینهما جامع یتعلّق الأمر به، أو أنّ بینهما جامعاً بعیداً یحتاج فی تعلّق الأمر به إلی بیان أفراده، و معه یصیر الأمر بالجامع لغواً، فیقول: «افعل هذا أو ذاک»، و الواجب التخییری عبارة عن ذلک.

و أمّا ما تقدّم من المحقّق الخراسانی قدس سره من إنکاره للواجب التخییری؛ لأنّ الغرض الواحد لا یصدر من اثنین بما هما اثنان؛ لأنّ الواحد لا یصدر إلّا من

ص: 347

الواحد(1)، و أنّ کلّ ما هو ظاهر فی ذلک فالواجب الذی تعلّق الأمر به فی الواقع هو الجامع بینهما، و أنّ التخییر بین أفراده عقلیّ، لا شرعیّ(2).

ففیه: مضافاً إلی ما تقدّم من الإشکال علیه بأنّ مورد قاعدة «الواحد لا یصدر إلّا من الواحد» هو الواحد الحقیقی البسیط من جمیع الجهات، و الإغماض عن عدم جریانها فی مثل المقام من الامور الاعتباریّة، أنّ الملحوظ فی هذا التقسیم إنّما هو البعث و الإرادة، و أنّهما لو تعلّقا بواحد معیّن فالواجب تعیینیّ، و لو تعلّقا بأحد أمرین یحصل الغرض بأحدهما فهو تخییریّ، و لیس ذلک التقسیم مربوطاً بالغرض لیقال:

إنّ الواحد لا یصدر إلّا من الواحد، کیف و لو کان المناط هو الغرض فی الواجبات ففی الصلاة أغراض متعدّدة مختلفة، کالتقرّب إلی اللَّه، و أنّها «معراج المؤمن»(3)، و «قُربان کلّ تقیّ»(4)، و غیر ذلک، فالمناط فی هذا التقسیم لیس هو وحدة الغرض و تعدّده.

مع أنّه قد یکون للمولی غرضان یکفیه أحدهما، و بینهما التضادّ و لا یجتمعان أصلًا، و لا جامع بینهما حتّی یقال: إنّ الواجب هو ذلک الجامع، فلا محیص- فی مثل ذلک- عن القول بالوجوب التخییری.

و کذلک لو لم یکن بین الغرضین تضادّ، لکن فرض أنّ فی الجمع بینهما مفسدةً، کما لو تعلّق الغرض إمّا بإکرام التجّار أو الفقراء، مع تحقّق المفسدة فی إکرام جمیعهم، فإنّه لا محیص إلّا بأن یقول: أکرم التجّار أو الفقراء.


1- الأسفار 7: 204.
2- کفایة الاصول: 174.
3- إشارة إلی ما فی الحدیث من أنّ الصلاة معراج المؤمن، اعتقادات المجلسی: 39.
4- إشارة إلی ما فی الحدیث من أنّ الصلاة قربان کلّ تقیّ، الکافی 3: 265/ 6، الفقیه 1: 136/ 637، وسائل الشیعة 3: 30، کتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض، الباب 12، الحدیث 1.

ص: 348

و بالجملة: ما ذکره فی «الکفایة» محلّ إشکال بل منع.

الأمر الثانی: ذکر المیرزا النائینی قدس سره: أنّ الواجب التخییری علی ثلاثة أقسام:

الأوّل: بحسب الجعل الابتدائی؛ بأن کان الخطاب من أوّل الأمر خطاباً تخییریّاً ذا أفراد، فی مقابل الواجب التعیینی، مثل وجوب الخصال الثلاث فی بعض الکفّارات تخییراً.

الثانی: التخییر الناشئ عن تزاحم الحکمین و تمانع الخطابین فی مقام الامتثال، و لیس أحدهما أولی من الآخر بالرعایة و أهمّ مع أنّهما بحسب أصل الجعل و التشریع مطلقان بالنسبة إلی حال اجتماع کلٍّ منهما مع الآخر، و لیس بین متعلّقیهما تمانع و تضادّ، و لکن عَرَضَ التمانع و التضادّ فی مقام الامتثال؛ لعدم تمکّن المکلّف من الجمع بین امتثالیهما، فلا بدّ- حینئذٍ- من تقیید الإطلاق فی کلّ واحد منهما عقلًا- فی مقام الامتثال- بصورة عدم الإتیان بالآخر؛ لأنّ المفروض عدم تمکّن المکلّف من الجمع بینهما، و اشتراط التکلیف بالقدرة ضروریّ.

الثالث: التخییر الناشئ عن تعارض الحجّتین و تنافی الطریقین، کتعارض فتوی المجتهدین المتساویین، أو تعارض الخبرین المتنافیین المتساویین؛ أی المتعادلین(1). انتهی.

أقول: یرد علیه:

أوّلًا: أنّ ما ذکره فی القسم الثانی: من تقیید إطلاق کلٍّ منهما عقلًا، فیه ما تقدّم سابقاً من أنّه لا سبیل للعقل إلی تقیید إطلاق الحکم الشرعی؛ إذ لیس لأحد الحاکمین تقیید إطلاقِ حکمِ حاکمٍ آخر، بل إطلاقهما باقٍ بحاله فی حال التزاحم، غایة الأمر أنّ المکلّف معذور فی ترک امتثال أحدهما إذا أتی بالآخر.


1- فوائد الاصول 3: 417- 420.

ص: 349

و ثانیاً: أنّ ملاک التقسیم هو اختلاف الأقسام بنفسها، مثل: الکلمة: إمّا اسم، أو فعل، أو حرف، و التخییر فی الأقسام الثلاثة التی ذکرها لا ملاک له، غایة الأمر أنّ ما فیه التخییر مختلف، و اختلافه لا یوجب اختلاف الأقسام و تکثیرها، و إلّا فالأقسام تزید علی ما ذکره، فإنّ التخییر قد یقع فی باب الکفّارات، و قد یقع بین القصر و الإتمام فی أماکن التخییر، و غیر ذلک.

و لکن سیأتی البحث عن کلّ واحد من الأقسام الثلاثة التی ذکرها قدس سره فیما سیأتی إن شاء اللَّه.

الأمر الثالث: الملاک کلّ الملاک فی جریان البراءة العقلیّة هو الشکّ فی التکلیف، کما أنّ الملاک فی الحکم بالاشتغال هو الشکّ فی سقوط التکلیف بعد العلم بثبوته و أمّا اشتراط کون المرفوع ممّا فی رفعه الامتنان و أمراً مجعولًا- أی:

ممّا تناله ید الوضع و الرفع الشرعیین- فهو من شرائط البراءة النقلیّة لا العقلیّة.

الأمر الرابع: ذکر بعض الأعاظم: أنّه کما یمکن اشتراط التکلیف بشرطٍ فی عالم التشریع- کاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة- کذلک یمکن حدوث اشتراط للتکلیف فی مرحلة بقائه، کما لو فرض اشتراط وجوب الصلاة بقاءً بعدم الصیام، و هذان الفرضان متعاکسان فی جریان البراءة و الاشتغال عند الشکّ فیهما، فلو شکّ فی إطلاق التکلیف و اشتراطه فی الابتداء، فالأصل یقتضی البراءة عند عدم وجود ما یشکّ فی شرطیّته؛ للشکّ فی التکلیف حینئذٍ.

و لو شکّ فیهما فی الثانی- أی: بقاءً- فالأصل یقتضی الاشتغال؛ لأنّ مرجعه إلی الشکّ فی سقوط التکلیف بالإتیان بالصلاة(1). انتهی.

أقول: القسم الثانی الذی ذکره غیر متصوّر، و هو اشتراط التکلیف فی مرحلة البقاء فقط؛ و ذلک لأنّه إن أراد أنّ الحکم مطلق و مشروط معاً فهو محال، و إن أراد


1- فوائد الاصول 3: 421- 422.

ص: 350

أنّه مطلق ابتداءً فی الواقع، ثمّ بدا له الاشتراط بقاءً، فهو بداءٌ مستحیل بالنسبة إلیه تعالی، و إن أراد أنّه مطلق فی وقت معیّن و إلی حدّ معیّن کالزوال، و مشروط بعد ذلک الوقت و الحدّ، فهو منجّز فی الابتداء، و مشکوک بعد ذلک الحدّ و الوقت؛ للشکّ فی ثبوته بعد هذا الوقت عند عدم ما احتمل اشتراط التکلیف به، فما ذکره لیس قسماً آخر.

أنحاء الشکّ فی التعیین و التخییر
اشارة

إذا تمهّد ذلک فاعلم: أنّ الشکّ فی واجب أنّه تعیینیّ أو تخییریّ یتصوّر علی أقسام:

الأوّل: أن یعلم بوجوب شی ء قطعاً و یشکّ فی آخر أنّه عِدْلٌ له حتّی یکون الأوّلُ- الذی عُلِم وجوبه- أحدَ فردی الواجب المخیّر، أو لا بل هو- أی الأوّل- واجب معیّن؛ لا یقوم مقامه شی ء آخر، و لا عِدل له.

الثانی: أن یعلم بوجوب شیئین، و لکن یشکّ فی أنّ کلّاً منهما واجب تخییراً؛ و أنّ أحدهما عِدْلٌ للآخر یقوم مقامه، و یکفی الإتیان بأحدهما، أو أنّهما واجبان کلّ واحد منهما تعییناً.

الثالث: ما لو علم بوجوب شی ء، و علم بأنّ شیئاً مسقط للأوّل، و لکن شکّ فی أنّ إسقاطه من جهة وجوبه من جهة أنّه عِدلٌ له تعلّق به الوجوب أیضاً تخییراً، أو أنّه مستحبّ أو مباح یسقط الأوّل من جهة انتفاء ملاک وجوب الأوّل بإتیانه أو لجهة اخری.

ثمّ إنّه اختلف فی معنی الوجوب التخییری علی أقوال:

الأوّل: أنّ کلّ واحد من الأفراد واجب مشروط بعدم وجود الآخر، فالشکّ فی الوجوب التخییری مرجعه إلی الشکّ فی إطلاق التکلیف فی کلّ واحد منهما،

ص: 351

و اشتراطه(1).

الثانی: ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره(2)، و تبعه شیخنا الحائری قدس سره فی «الدرر»(3): من أنّ الوجوب فیه متعلّق بالجامع بین الأفراد.

الثالث: ما هو المختار من أنّ الوجوب التخییری سنخٌ خاصّ من الوجوب، متعلّقه مردّد بین أکثر من واحد، فی قبال الوجوب التعیینی الذی متعلّقه شی ء واحد معیّن.

و قد عرفت أنّه ذکر المیرزا النائینی قدس سره للواجب التخییری أقساماً ثلاثة، و إن أوردنا علیه ما تقدّم، لکن لا بأس بالتعرّض لصورة الشکّ فی کلّ واحد من الأقسام التی ذکرها:

أمّا القسم الأوّل الذی ذکره، و هو أن یجعل التخییر فی ابتداء الجعل و التشریع، مع البناء علی أنّ معنی الوجوب التخییری: هو تعلّق الوجوب بکلّ واحد من الأفراد مع التقیید بعدم الآخر، فمرجع الشکّ فی وجوب الفعل تعییناً أو تخییراً إلی الشکّ فی ثبوت التکلیف مع فقد ما احتمل اشتراطه به؛ لأنّه مع احتمال اشتراطه بما هو مفقود لا یعلم بتعلّق التکلیف به متعیّناً، فتجری البراءة بالنسبة إلی وجوبه التعیینی.

و أمّا بناءً علی ما اختاره فی «الکفایة» فی معنی الوجوب التخییری: من أنّ الوجوب متعلّق بالجامع بین الأفراد، فذکر شیخنا الحائری قدس سره فی «الدرر» فیه وجهین:

الأوّل: أنّ تعلّق التکلیف بهذا الموضوع معلوم، و یشکّ فی أنّه هل یسقط بإتیان شی ء آخر أم لا؟ فمقتضی الاشتغال بالحکم الثابت یقیناً الیقینُ بالفراغ عن


1- انظر ما قرّره المحقّق النائینی فی فوائد الاصول 1: 232- 233.
2- کفایة الاصول: 174.
3- درر الفوائد: 481.

ص: 352

عهدة التکلیف.

الثانی: أنّ مرجع الشکّ فی المقام إلی الشکّ فی الإطلاق و التقیید؛ لأنّ الشیئین إن اتّحدا فی الأثر فاللازم عند العقل استناد ذلک الأثر إلی الجامع، و حینئذٍ فمرجع الشکّ فی التعیین و التخییر إلی أنّ التکلیف الواجب، هل هو متعلّق بالجامع بین الفردین، أو بخصوص ذلک الفرد؟ فالمرجع هو البراءة عن الخصوصیّة الفردیة للشکّ فیها.

ثمّ اختار الأوّل؛ لأنّ الأمر بالخصوصیّة الفردیّة معلوم، و هو حجّة للمولی علی العبد، و سقوطه بالفرد الآخر مشکوک(1). انتهی.

أقول: تعلُّق الأمر بخصوص ذلک الفرد و إن کان معلوماً، لکنّه مردّد بین الإرشادی الذی لا یترتّب علیه شی ء علی فرض کون الواجب هو الجامع، و بین المولوی علی فرض تعیّنه، فمقتضی الأصل هو البراءة عن وجوب الخصوصیّة الفردیّة.

و ذکر المحقّق العراقی: أنّ الطلب فی الواجب التعیینی متعلّق به بشراشر وجوده علی جمیع التقادیر؛ سواء أتی بشی ء آخر أم لا، و مقتضاه النهی عن ضدّه العامّ؛ أی الترک أیضاً علی جمیع التقادیر.

و أمّا فی الواجب التخییری فالطلب فیه ناقص، فإنّه متعلّق به لا علی جمیع التقادیر، بل علی فرض عدم الإتیان بالعِدْل، و مقتضاه النهی عن ضدّه علی فرض عدم الإتیان بالعِدْل أیضاً، لا مطلقاً، فالطلب فی الأوّل طارد لجمیع أنحاء عدمه و یسدّ جمیعها، بخلافه فی الثانی فإنّه طارد للعدم علی فرض عدم الإتیان بالصوم، و مقتضی هذا العلم الإجمالی تحصیل البراءة الیقینیّة بالإتیان بصیام ستّین یوماً.


1- درر الفوائد: 481.

ص: 353

فاستشکل علی المیرزا النائینی قدس سره القائل بالبراءة عن التعینیّة(1). انتهی ملخّص کلامه قدس سره.

و فیه: أوّلًا: أنّ التفصیل الذی ذکره فی مقام الفرق بین الواجب التعیینی و التخییری، عبارة اخری عمّا ذکره المیرزا النائینی قدس سره: من اشتراط الوجوب فی کلّ واحد من الأطراف بعدم الإتیان بالآخر(2)، غایة الأمر أنّه عبّر بلفظ الاشتراط، و لم یعبّر المحقّق العراقی بلفظ الاشتراط، بل بما یرادفه.

و ثانیاً: قد عرفت سابقاً تسالمهم علی عدم اقتضاء الأمر بالشی ء النهیَ عن ضدّه العامّ؛ بمعنی الترک، بمعنی ترکّب الواجب من وجوب الفعل و حرمة الترک؛ بأن یترتّب علیه عقوبتان، فما ذکره: من حرمة ترک الواجب المعیّن علی جمیع التقادیر؛ لاقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه العامّ، و حرمة ترک الواجب المخیّر لا مطلقاً، بل علی تقدیر عدم الإتیان بالعِدْل؛ لما ذکر، ممنوع.

و ثالثاً: علی فرض تسلیم اقتضاء الأمر بالشی ء النهیَ عن ضدّه العامّ و حرمة الترک، لکن ما ذکره قدس سره من الاستدلال للاشتغال هو عین المدّعی، لأنّ المفروض الشکّ فی أنّه واجب تعییناً أو تخییراً، مع العلم الإجمالی بأصل الوجوب.

و حینئذٍ فنقول: إنّ مراده قدس سره وجوب الإتیان بما احتمل وجوبه، کالصیام فی المثال، مع أنّه علی فرض الإتیان بالعتق لا حجّة علی وجوبه و التکلیف به؛ لعدم العلم الإجمالی حینئذٍ؛ لاحتمال أن یکون الواجب فی الواقع تخییریّاً و قد أتی بأحد الأفراد، فالشکّ حینئذٍ فی أصل ثبوت التکلیف بخصوص الصیام.

اللّهم إلّا أن یتشبّث بما ذکره المیرزا النائینی قدس سره: من أنّ الواجب مشروط بقاءً


1- نهایة الأفکار 3: 288- 289.
2- راجع فوائد الاصول 1: 232- 233.

ص: 354

و استمراراً، لا حدوثاً(1)؛ لیرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی السقوط، لا الثبوت، و قد تقدّم بیان فساده.

و بعبارة اخری: أیّة حجّة تحملنا علی الإتیان بخصوص الصیام مع الإتیان بالعتق، مع دوران الأمر بین تعلُّق الإرادة به تامّة علی جمیع التقادیر، و بین تعلّقها به ناقصةً علی تقدیر عدم الإتیان بالعتق الذی هو عِدْله؟!

و أمّا بناءً علی المختار من معنی الوجوب التخییری، و أنّه سِنْخ خاصّ من الوجوب فی مقابل الوجوب التعیینی، فلو شکّ فی واجب أنّه تعیینیّ أو تخییریّ بهذا المعنی، ففی جریان البراءة عن التعیینیّة أو الاشتغال وجهان:

من أنّه لم یعلم بوجوب خصوصیّة ما احتمل تعیّنه؛ لعدم قیام حجّة علیه علی الفرض، فیلزم جریان البراءة عن وجوبِ خصوصه.

و من أنّ الطلب هنا معلوم، فلو ترک الإتیان بما احتمل تعیّنه لمکان الإتیان بعِدله المحتمل، و کان فی الواقع واجباً معیّناً، عُدّ عند العرف و العقلاء عاصیاً، فالخصوصیّة مشکوکة الوجوب، لکن حیث إنّ أصل الطلب معلوم و یقینیّ، فلا بدّ من تحصیل البراءة الیقینیّة بالإتیان بما احتمل تعیّنه.

هذا کلّه بناءً علی الوجه الأوّل من وجوه التخییر التی ذکرناها.

و أمّا بناءً علی الوجه الثانی، و هو ما لو علم بوجوب هذا و ذاک، لکن شُکّ فی أنّ کلّ واحد منهما واجب تعیینیّ مستقلّ، أو أنّهما واجبان تخییریّان یکفی الإتیان بأحدهما، فبناءً علی أنّ التخییر بحسب الجعل الابتدائی، و بناءً علی الوجه الأوّل من معانی الوجوب التخییری، و هو أن یکون کلّ واحد منهما مشروطاً بعدم الآخر، فالکلام فیه هو الکلام فی القسم الأوّل بعینه من جریان البراءة؛ لعدم قیام الحجّة علی تعیّن ما احتمل تعیّنه، فیکفی الإتیان بأحدهما.


1- فوائد الاصول 3: 421.

ص: 355

و کذلک بناءً علی ما اختاره فی «الکفایة» من تعلُّق الوجوب التخییری بالجامع بین الأفراد(1)؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالخصوصیّة و إن کان معلوماً، لکنّه مردّد بین الإرشادی و المولوی.

و أمّا بناءً علی المختار فی الواجب التخییری من أنّه سنخ خاصّ من الواجب، ففیه الوجهان، کما فی الصورة الثالثة المتقدّمة: البراءة؛ لعدم ثبوت التکلیف بخصوصیّة التعیین فی کلّ واحد منهما، و الاشتغال، و هو الأقرب؛ لحکم العرف و العقلاء بلزوم الإتیان بهما؛ للعلم بثبوت أصل التکلیف فیهما، و الشکّ إنّما هو فی سقوطه بأحدهما.

لا یقال: الحکم بالاشتغال فیه یستلزم الحکم بالاشتغال فی الأقلّ و الأکثر، مع أنّکم لا تقولون به فیه.

لأنّه یقال: فرق بین المقام و بین تلک المسألة؛ حیث إنّ التکلیف بالأکثر غیر معلوم فی تلک المسألة، بخلاف ما نحن فیه؛ حیث إنّ المفروض أنّا نعلم بوجوب کلّ واحد منهما، و إنّما الشکّ فی إسقاط الإتیان بأحدهما للآخر، و القاعدة فیه هی الاشتغال.

و أمّا الوجه الثالث من وجوه الشکّ فی التعیین و التخییر، و هو ما لو علم بوجوب شی ء کصلاة الظهر، و علم أیضاً بأنّ صلاة الجمعة مسقطة للتکلیف بصلاة الظهر، لکن لم یعلم أنّ إسقاطها له هل هو لأجل أنّها أحد فردی الواجب المخیّر بینها و بین صلاة الظهر، أو أنّه لا لأجل ذلک، بل إمّا لأنّها مانعة عن استیفاء ملاک صلاة الظهر، أو لأنّ عدمها شرط فی تحقّق الملاک. فالکلام فیه فی مقامین:

الأوّل: فی جواز الإتیان بما یعلم أنّه مسقط؛ أی صلاة الجمعة مع إمکان فعل الظهر.


1- کفایة الاصول: 174.

ص: 356

الثانی: فی وجوب الإتیان بما هو مسقط؛ أی صلاة الجمعة، مع عدم إمکان فعل صلاة الظهر.

أمّا المقام الثانی: فلا إشکال فی عدم وجوب فعل المسقط- أی صلاة الجمعة- لجریان البراءة و ذلک لعدم العلم بالتکلیف بالنسبة إلیه.

و أمّا المقام الأوّل: فذکر المیرزا النائینی قدس سره: أنّه لا یترتّب علی البحث فی الوجهین أثر عملیّ إلّا من حیث العصیان و عدمه، فإنّه لو ترک المکلّف الظهر مع العلمِ بتعلّق التکلیف بها و الاکتفاءِ بالجمعة مع احتمال تعلُّق التکلیف فی الواقع بالظهر، و أنّ إسقاط الجمعة للتکلیف بالظهر إنّما هو لأجل مانعیّتها عن استیفاء ملاک الظهر، لا أنّ عدمها شرط لتحقّق الملاک، فهو یستحقّ العقوبة(1). انتهی.

أقول: المفروض احتمال شرطیّة عدم فعل الجمعة فی تحقّق الملاک فی صلاة الظهر، فلا مانع من تفویت المکلّف للملاک بفعل المسقِط له و المانع عن تحقّقه.

هذا کلّه فی التخییر بحسب الجعل الابتدائی.

و أمّا التخییر الناشئ عن تزاحم الحکمین، کما لو زاحم إنقاذ الأب إنقاذ الابن، فإن علم أهمیّة إنقاذ الأب تعیّن إنقاذه، و إن علم تساویهما فیتخیّر، و إن احتمل أهمیّة أحدهما المعیّن و أقوائیّة ملاکه فذهب المیرزا النائینی: إلی أنّ مرجعه إلی الشکّ فی تقیید إطلاق محتمل الأهمیّة فی مرحلة البقاء و الامتثال، مع العلم بتقیید الإطلاق فی الأطراف الاخر، و لا إشکال فی أنّ الأصل فیه یقتضی الاشتغال- لا البراءة- للشکّ فی سقوط التکلیف بمحتمل الأهمیّة، سواء قلنا بتساقط الخطابین فی المتزاحمین و استکشاف العقل خطاباً ثالثاً تخییریّاً، أم قلنا بتقیید إطلاق کلٍّ من الخطابین بعدم الإتیان بالآخر، فإنّ مرجع الشکّ فی المفروض إلی الشکّ فی سقوط التکلیف


1- فوائد الاصول 3: 430.

ص: 357

بامتثال خطاب غیر محتمل الأهمیّة(1). انتهی محصّله.

أقول: لیت شعری کیف یرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی المسقط؟! فإنَّ الشکّ فی السقوط إمّا بعد الإتیان بأحدهما، و إمّا قبله، فعلی الثانی فالخطاب معلوم موجود بعدُ لم یسقط یقیناً، و علی الأوّل فالمفروض موت من ترک إنقاذه و سقط خطابه بانتفاء الموضوع.

و لکن الإشکال فی المسلکین اللَّذینِ ذکرهما فی باب التزاحم، فإنّهما خلاف التحقیق، بل التحقیق فیه ما تقرّر فی محلّه من بقاء إطلاق کلّ واحد من الخطابین بالفعل بحالهما من دون تقیید أحدهما، فلو ترکهما معاً تترتّب علیه عقوبتان و یستحقّهما، و لو امتثل أحدهما فی المتساویین فی الأهمیّة فهو معذور فی ترک الآخر مع فعلیّة خطابه و إطلاقه؛ لعدم تمکّن المکلّف و قدرته علی امتثاله مع الآخر، و کذا لو امتثل خطاب الأهمّ، فإنّه معذور فی ترک الآخر، و لو ترک الأهمّ و امتثل خطاب المهمّ فهو و إن کان ممتثلًا بالنسبة إلیه، لکنّه یستحقّ العقوبة؛ حیث ترک امتثال أمر الأهمّ مع تعیّنه علیه، و حینئذٍ فلو شکّ فی أهمیّة أحدهما فمقتضی قاعدة الاشتغال امتثال أمر محتملها.

و أمّا التخییر الناشئ عن تعارض الخبرین فبناءً علی ما هو الحقّ- من أنّ حجّیّة الأمارات علی الطریقیّة، و الحکم بالتخییر بالأخذ بأیّهما شاء مع تعادلهما، و تعیّن الأخذ بذی المزیّة و ترجیح أحدهما بإحدی المرجّحات مع عدم تعادلهما- لو شُکّ فی الخبرین المتعارضین أنّهما متساویان متعادلان؛ لا مرجّح لأحدهما علی الآخر، أو أنّ لأحدهما المُعیّن مُرجّحاً علی الآخر؛ کی یتخیّر بینهما فی الأوّل، و یتعیّن الأخذ بذی المزیّة فی الثانی، فلا إشکال فی أن مقتضی القاعدة هو الاشتغال و لزوم العمل بما تحتمل مزیّته؛ لأنّه معلوم الحجّیّة علی کلّ تقدیر: أمّا علی تقدیر


1- فوائد الاصول 3: 433.

ص: 358

تعادلهما و تساویهما فی الواقع فلأجل التخییر بینه و بین الآخر، و أمّا علی تقدیر وجود المرجّح له فی الواقع فلأجل تعیُّن العمل به، و أنّه الحجّة خاصّة، و أمّا الآخر فهو مشکوک الحجّیّة؛ لأنّه علی تقدیر وجود مزیّة للأوّل فی الواقع لیس حجّة، و الشکّ فی الحجّیّة کافٍ فی عدمها.

هذا کلّه فی الشکّ فی التعیینی و التخییری.

فی دوران الأمر بین الواجب العینیّ و الکفائیّ

و أمّا لو شکّ فی واجب أنّه عینیّ أو کفائیّ ففی معنی الوجوب الکفائی بحسب التصوّر و مقام الثبوت احتمالات.

الأوّل: أنّ الوجوب و التکلیف فیه متوجّه إلی کلّ واحد من المکلّفین، مشروطاً بعدم قیام غیره به و إتیانه.

الثانی: أنّ التکلیف فی کلّ واحد من الوجوب العینی و الوجوب الکفائی مُتوجّه إلی کلّ واحدٍ من المکلّفین مُنجّزاً، و إنّما الفرق بینه و بین الأوّل إنّما هو فی المتعلّق، فإنّ متعلّق الأوّل ما هو قابل للتکرار کالطبیعة، بخلاف الثانی فإنَّ مُتعلّقه ما لیس قابلًا للتکرار، مثل صِرْف الوجود أو ناقض العدم، فإنّه لو تعلّق الوجوب بصِرف الوجود، و أتی به واحد من المکلّفین، لما أمکن إیجاده ثانیاً؛ لأنّ صِرْف الوجود لا یتکرّر.

الثالث: أنّ التکلیف فیه مُتوجّه إلی الواحد لا بعینه.

الرابع: أنّ التکلیف فیه مُتوجّه إلی الجامع بین المکلّفین و نوعهم.

الخامس: أنّه سِنْخ من الوجوب مُتوجّه إلی المکلّفین بنحو التخییر بینهم فی قِبال العینی.

فهل القاعدة عند الشکّ فی واجب أنّه عینی أو کفائی هل یقتضی الاشتغال

ص: 359

فی جمیع الصور المذکورة فی معنی الکفائی، أو البراءة فی جمیعها، أو التفصیل بینها؟ وجوه:

أمّا علی الوجه الأوّل- المتقدّم فی معنی الوجوب الکفائی- فلا ریب فی أنّه لیس المراد اشتراط التکلیف بعدم قیام الغیر به فی أوّل الوقت؛ بحیث یتعیّن علی هذا المکلّف مع عدم قیام الغیر به فی أوّل الوقت، و لا اشتراطه فی جمیع الوقت؛ کی لا یصیر متعیّناً علیه أصلًا، بل المراد اشتراطه بعدم قیام الغیر به حتّی یضیق وقته؛ بأن لا یبقی من الوقت إلّا بمقدار فعله، فیتعیّن علیه حینئذٍ، فلو قام الغیر به فی أثناء الوقت و أتی به، و شُکّ فی أنّه کفائیّ لیسقط أو عینیّ فلا یسقط، فهذا المکلّف لا یعلم بتنجّز التکلیف علیه؛ لأنّه علی فرض کونه کفائیّاً فقد سقط بفعل الغیر، فیشکّ فی ثبوت التکلیف علیه، فیُجری البراءة.

و أمّا ما قیل: من أنّ مرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی سقوط التکلیف المتوجّه إلیه قبل قیام الغیر به؛ لأنّ مرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی تقیید إطلاق الخطاب فی مرحلة البقاء(1)، فقد عرفت ما فیه.

و أمّا علی الوجه الثانی فی معنی الوجوب الکفائی، فیمکن أن یقال فیه بالبراءة لو شکّ فی واجب أنّه عینی أو کفائی لوجهین:

الأوّل: أنّ مرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی ثبوت التکلیف علیه مع قیام الغیر به؛ لعدم علمه بثبوت التکلیف علیه حینئذٍ.

الثانی: أنّه مع فعل الغیر له یشکّ فی قدرته و تمکُّنه علی فعله؛ لأنّه علی فرض تعلُّقه بصِرْف الوجود بعد قیام الغیر به و إیجاده، لا یمکن إیجاده ثانیاً؛ لانطباق صِرْف الوجود علی ما أتی به الغیر، و هو لا یتکرّر، و مع الشکّ فی القدرة لا یجب علیه فعله.


1- فوائد الاصول 3: 437.

ص: 360

لکن یرد علی الوجه الثانی: أنّ اللازم عند العرف و العقلاء هو الإقدام علی فعله مع الشکّ فی القدرة علیه، و لا یُعذر عندهم بمجرّد احتمال عدم القدرة، بل الشکّ فیه لیس فی القدرة و عدمها؛ لأنّ التکلیف: إمّا ثابت قطعاً، أو ساقط قطعاً، مع تمکّنه من الفعل.

و یرد علی الوجه الأوّل: أنّه فی الفرض المذکور یُعلم إجمالًا: إمّا بوجوب إیجاد نفس الطبیعة، أو الإتیان بصِرْف الوجود، و بعد قیام الغیر به و إن انتفی العلم الإجمالی نفسه، لکنّ أثره الذی هو التنجُّز باقٍ بحاله، نظیر ما إذا علم بخمریّة أحد الإناءین، فاریق أحدهما، فإنّه و إن انتفی نفس العلم الإجمالی، لکن یبقی أثره، و هو التنجّز بالنسبة إلی الإناء الآخر الباقی، و ما نحن فیه من هذا القبیل، فهذا العلم الإجمالی یقتضی الاحتیاط و الاشتغال بما احتمل تعیّنه علیه بعد قیام الغیر به.

لکن مقتضی هذا البیان الفرق بین ما لو علم بذلک فی ابتداء الوقت قبل قیام الغیر به، و بین ما لو علم إجمالًا بالتکلیف بعد قیام الغیر به، فإنّه إنّما یتمّ فی الصورة الاولی دون الثانیة، فإنّ الثانیة نظیر ما لو علم بخمریّة أحد الإناءین بعد إراقة أحدهما أو صبّه فی البحر، فإنّ العلم الإجمالی فیه غیر منجّز و لا أثر له، و لا یبقی أثره.

و أمّا علی الثالث من الاحتمالات فی معنی الوجوب الکفائی، و هو أن یقال:

أنّ التکلیف فیه متوجّه إلی الجامع بین المکلّفین کالإنسان، و حیث إنّه ینطبق علی کلّ واحد من المکلّفین، و یصدق علیه، وجب علی کلّ واحد منهم الإقدام علی فعله، و لکن متی تحقّق الجامع بإقدام بعض المکلّفین علیه سقط الأمر و التکلیف، و علیه لو شُکّ فی واجب أنّه عینیّ أو کفائیّ بهذا المعنی فمقتضی القاعدة هو الاشتغال؛ للعلم الإجمالی بوجوب ذلک الفعل علیه إمّا عیناً أو کفایةً، و أنّه من مصادیق الجامع بین أفراد المکلّفین المتوجّه إلیه التکلیف.

ص: 361

لکن هذا إنّما یتمّ فیما لو علم إجمالًا بذلک قبل قیام الغیر به و فِعْله، کما فی أوّل الوقت، فیبقی أثره الذی هو التنجیز بعد قیام الغیر، بخلاف ما لو حصل العلم الإجمالی بذلک بعد قیام الغیر و فِعْله له، فإنّه لا ینجّز، و لا أثر له.

و هکذا الکلام بناءً علی المعنیین الأخیرین فی معنی الوجوب الکفائی- أحدهما: أن یقال بتوجّه التکلیف فیه إلی الواحد لا بعینه، و الثانی: أنّه سنخ خاصّ من الوجوب فی مقابل الوجوب العینیّ- فإنّه یجری هذا التفصیل فیهما، و أنّه لو علم إجمالًا بتوجّه التکلیف إمّا عیناً أو کفایةً قبل قیام الغیر به، کما فی أوّل الوقت، فیرجع إلی الشکّ فی السقوط و المسقط، و القاعدة فیه الاشتغال.

و أمّا لو حصل العلم الإجمالی المذکور بعد قیام الغیر به و إتیانه به، فمرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی ثبوت التکلیف علیه؛ لاحتمال أن یکون الواجب کفائیّاً سقط بفعل الغیر؛ و لم یتوجّه إلیه منجّزاً.

التنبیه الخامس دوران الأمر بین المحذورین

لو دار الأمر بین الوجوب و الحرمة؛ بأن علم إمّا بوجوب شی ء أو حرمته، فلا یمکن فیه تحصیل الموافقة القطعیّة، و أمّا المخالفة القطعیّة ففی المقام صور فإنّه إمّا یمکن فیه المخالفة القطعیة أو لا.

و الاولی مثل ما إذا کان أحدهما المعیّن تعبّدیّاً، کما لو علم إمّا بحرمة الصلاة علی الحائض أو وجوبها علیها، فإنّ وجوبها علی تقدیره تعبّدیّ یحتاج فی صحّتها إلی قصد التقرّب، و حرمتها تعبّدیة ذاتیّة، فإنّه یمکن المخالفة القطعیّة فیه بإتیانها بالصلاة لا بقصد التقرّب، فإنّها تعلم حینئذٍ: إمّا بارتکابها الحرام حیث أتت بصورة

ص: 362

الصلاة المفروض حرمتها ذاتاً، أو ترکت واجباً من حیث عدم قصد القربة بها.

و الثانیة: مثل التوصلیّین.

و علی کلا التقدیرین: فهی إمّا فی واقعة واحدة، کما لو علم بوجوب وطء المرأة فی ساعة معیّنة للحلف علیه، أو حرمته فیها للحلف علی ترکه، أو فی وقائع متعدّدة، کما لو علم إمّا بوجوب وطئها کلّ یوم أو حرمته کذلک، فإنّه یمکن المخالفة القطعیّة فی الثانی فی الجملة؛ بأن یطأها یوماً، و یترکها فی یوم آخر.

و علی أی تقدیر: إمّا أن یکون أحد الحکمین أهمّ من الآخر، أو یکونا متساویین، أو احتمل أهمیّة أحدهما المعیّن.

فنقول: أمّا فی التوصّلیّین فی واقعة واحدة فلا یمکن فیه المخالفة القطعیّة و حینئذٍ فهل یتخیّر المکلّف فیه بین الفعل و الترک عقلًا، أو شرعاً، أو لا؟

لا إشکال فی حکم العقل بالتخییر بینهما؛ بمعنی إدراکه له، کما إنّ المکلف لا یخلو عن أحدهما- الفعل أو الترک- قهراً و تکویناً أیضاً، لکن لا یُنافیه إدراک العقل لذلک بعد إدراکه التساوی بینهما فی الأهمیّة، و إدراکه امتناع الترجیح بلا مرجِّح أو قبحه، و لا نعنی بالتخییر العقلی إلّا ذلک.

و من هنا یظهر ما فی کلام المیرزا النائینی قدس سره: من أنّ التخییر هنا تکوینیّ، لا عقلیّ و لا شرعیّ؛ لأنّ مورد حکم العقل بالتخییر إنّما هو فیما إذا کان فی طرفی التخییر ملاک یلزم استیفاؤه، و لم یتمکّن المکلّف من الجمع بینهما کما فی المتزاحمین، و ما نحن فیه لیس کذلک؛ لعدم ثبوت الملاک إلّا فی أحدهما(1). انتهی.

مضافاً إلی أنّه یرد علیه النقض بما إذا علم المکلّف بأنّ أحد الإناءین خمر، و قد اضطرّ إلی شرب أحدهما، فإنّ العقل یحکم هنا بالتخییر قطعاً مع عدم وجود الملاک إلّا فی أحدهما، مع أنّ ما ذکره مجرّد دعوی لا شاهد علیها.


1- فوائد الاصول 3: 444- 445.

ص: 363

و کذلک ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره فی المقام: من أنّ مورد حکم العقل بالتخییر إنّما هو فیما إذا تمکّن المکلّف من ترک طرفی التخییر، لا فی مثل ما نحن فیه الذی لا یقدر المکلّف فیه علی ذلک، و إن کان فیه نحو آخر من التخییر(1). انتهی.

فإنّه أیضاً مجرّد دعوی لا شاهد علیها.

هذا کلّه فی التخییر العقلی.

و أمّا البراءة العقلیّة فذهب المحقّق الخراسانی و المیرزا النائینی و العراقی قدّست أسرارهم إلی عدم جریانها فی المقام لوجوه:

الأوّل: ما ذکره فی «الکفایة»: من أنّه لا مجال هنا لقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّه لا قصور فی البیان هاهنا(2).

الثانی: ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره، و هو قریب ممّا ذکره المیرزا النائینی قدس سره:

و هو أنّ العلم الإجمالی هنا ساقط عن التأثیر لأجل الاضطرار، إذ لا بدّ فیه إمّا من الفعل أو الترک فی مرتبة سابقة علی جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان و سائر الاصول الشرعیّة و العقلیّة، فلیس المقام مقام جریان الاصول و یلغو انطباقها علیه.

و بعبارة اخری: سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز لیس بملاک قبح العقاب بلا بیان، بل لأجل اضطرار المکلّف إلی الفعل أو الترک فی رتبة سابقة علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان و سائر الاصول مطلقاً؛ قبل أن تصل النوبة إلیها، فلا مجال للقاعدة فیه حینئذٍ(3).

الثالث: ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره، و حاصله: أنّ مدرک البراءة العقلیّة هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان، و فی المقام یقطع بعدم العقاب؛ لأنّ وجود العلم


1- نهایة الأفکار 3: 293.
2- کفایة الاصول: 405.
3- نهایة الأفکار 3: 293.

ص: 364

الإجمالی فیه کالعدم لا یقتضی التأثیر و التنجیز، فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه بلا حاجة إلی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان(1). انتهی.

أقول: هنا أمران:

أحدهما: جنس التکلیف، و هو معلوم.

ثانیهما: نوعه و هو الوجوب بالخصوص أو الحرمة کذلک، و هو مجهول.

فما ذکره فی «الکفایة» من عدم قصور البیان: إن أراد به بالنسبة إلی الأوّل فهو مسلّم، لکنّه غیر مؤثّر فی التنجیز؛ لعدم قدرة المکلّف علی رعایته و امتثاله.

و إن أراد به بالنسبة إلی خصوص الوجوب أو الحرمة، فمن الواضح قصور البیان بالنسبة إلیهما، و لا فرق فیه بین صورة فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّین، فإنّه لا بیان بالنسبة إلی خصوص الوجوب، و لا بالنسبة إلی خصوص الحرمة، فالعقاب علی کلّ واحدٍ منهما بخصوصه عقاب بلا بیان، و هو قبیح.

و بالجملة: لا فرق بین ما نحن فیه و بین الشبهة البَدْویّة فی جریان قاعدة القبح.

و أمّا ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره ففیه: أنّه لو لا قاعدة قبح العقاب بلا بیان و لا مؤمّن من العقاب علی خصوص الوجوب و لا الحرمة، فالمؤمّن من العقاب هی تلک القاعدة، کما فی الشبهة البَدْویّة.

و من هنا یظهر: ما فی الوجه الثانی الذی ذکره المحقّق العراقی قدس سره من أنّ التخییر العقلی فیه فی مرتبة سابقة علی جریان الاصول.

فإنّه ممنوع: بل العکس أولی، و أنّ الترخیص العقلی بین الفعل و الترک فی مرتبة متأخّرة عن جریان الأصل؛ أی قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ حیث إنّه یُدرک العقل أوّلًا أنّ العقاب علی خصوص الوجوب بلا بیان، و کذلک الحرمة، و یُدرک عدم إمکان الجمع بینهما، فیُدرک أنّه مخیّر بینهما، فإدراکه لقاعدة القبح فی مرتبة سابقة


1- فوائد الاصول 3: 448.

ص: 365

علی إدراکه للتخییر بینهما، و هو المطلوب.

فتلخّص: أنّه لا مانع من جریان قاعدة القبح فی دوران الأمر بین الوجوب و الحرمة.

و أمّا الکلام فی جریان البراءة الشرعیّة فیه: فقال المیرزا النائینی قدس سره: إنّه لا مجال لجریان الاصول الشرعیّة فی المقام:

أمّا أصالة الإباحة: فلعدم شمول أدلّتها لدوران الأمر بین الوجوب و الحرمة؛ أی بین المحذورین:

أمّا أوّلًا: فلأنّها تختصّ بما إذا احتمل الحرمة و الإباحة، کما هو ظاهر قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء یکون فیه حلال و حرام فهو لک حلال)

(1)، و فیما نحن فیه الطرف الآخر للحرمة هو الوجوب لا الإباحة.

و أمّا ثانیاً: فلأنّ دلیلها مختصّ بالشبهات الموضوعیّة، و لا تشمل الشبهة الحکمیّة.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ جعل الإباحة مع العلم بجنس التکلیف الإلزامی غیر ممکن، فإنّها بمدلولها المطابقی تنافی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ مفادها الرخصة فی الفعل و الترک، و هی تناقض العلم بوجود التکلیف الإلزامی و إن لم یکن لهذا العلم أثر عملی.

و الحاصل: الحکم الظاهری إنّما هو فی مورد الجهل بالحکم الواقعی، فمع العلم به وجداناً لا یمکن جعل حکمٍ ظاهریّ، فمرتبة الإباحة لیست محفوظة فی المقام(2).


1- الکافی 5: 313/ 39، تهذیب الأحکام 7: 226/ 988، وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.
2- فوائد الاصول 3: 445.

ص: 366

أقول: أمّا ما ذکره أوّلًا، ففیه: أنّه لیس فی الشریعة أصل یسمّی بأصالة الإباحة، فإنّه لم یدلّ علیها دلیل و لا خبر، و التی یدلّ علیها الدلیل هی أصالة الحِلّ، و بینهما فرق فی المتفاهم العرفی، فإنّ المتبادر عرفاً من الإباحة هو خُلُوّ الفعل عن التکلیف الإلزامی، لا بفعله و لا بترکه، فهی فی قبال الوجوب و الحرمة، بخلاف الحلّیّة، فإنّ المتبادر منها عرفاً هو ما یقابل الحرمة فقط، فیقال: إنّ هذا الشی ء حلال لا حرام، و لا یقال: إنّه حلال لا واجب، و لهذا قال علیه السلام:

(حتّی تعرف أنّه حرام)

، و أصالة الحلّیّة لا تناقض أصل الإلزام هنا؛ لما عرفت من أنّها فی قبال الحرمة فقط لا الوجوب، و من المحتمل أن یکون التکلیف الإلزامی المعلوم إجمالًا هو الوجوب فی المقام، فلا تنافی بینهما.

و أمّا قوله علیه السلام:

(کلّ شی ءٍ مطلق حتّی یرد فیه نهی)

(1) فمرجعه أیضاً إلی أصالة الحلّیّة.

نعم فی نسخة اخری- علی ما نقلها الشیخ قدس سره-:

(حتّی یرد فیه نهی أو أمر)

(2) فهی بناءً علیها تنطبق علی أصالة الإباحة، لکنّها غیر معتمد علیها؛ لإرسالها، مع اختلاف النسخ فیها.

و أمّا ما ذکره ثانیاً، ففیه: ما تقدّم من أنّ المختار شمول الروایة للشبهات الحکمیّة أیضاً.

و أمّا ما ذکره ثالثاً، ففیه: أنّ مقتضی ما ذکره- من أنّ مفاد أصالة الإباحة الرخصة فی الفعل و الترک- هو عدم جریانها فی الشبهات البَدْویّة التحریمیّة؛ لأنّه


1- الفقیه 1: 208/ 22، وسائل الشیعة 18: 127، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 60.
2- الأمالی، الشیخ الطوسی: 669/ 1405، باختلاف یسیر و لکن حکی فی القوانین و الفرائد بعینه، لاحظ قوانین الاصول 2: 17 سطر 9، فرائد الاصول: 236 سطر 12.

ص: 367

و إن صحّ الترخیص فی الفعل فیها، لکن لا معنی للترخیص فی ترکها؛ لعدم احتمال حرمة الترک حتی یرخّص فیه، بل مقتضی ما ذکره اختصاصها بالمقام- أی: دوران الأمر بین المحذورین- لأنّه یصحّ فیه الترخیص فی الفعل؛ لاحتمال الحرمة، و الترخیص فی ترکه؛ لاحتمال وجوبه، فهذا الوجه یناقض الوجه الأوّل فی مقتضاهما.

مضافاً إلی عدم اختصاص الدلیل بقوله علیه السلام:

(کلّ شی ء فیه حلال و حرام)

حتّی یتوهّم اختصاصه بالشبهات البَدْویّة، فإنّ من أدلّتها قوله:

(کلّ شی ءٍ هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه)

(1) الذی احتمل اختصاصه بأطراف العلم الإجمالی لأجل کلمة «بعینه»(2)، و الروایة الواردة فی الجبن(3) و غیرها من الروایات التی ذکرناها فی مسألة أصالة البراءة، فما أفاده فی عدم جریان أصالة الإباحة فی المقام غیر صحیح.

و أمّا أصالة البراءة الشرعیّة: فقال المیرزا النائینی قدس سره فی وجه عدم جریانها فی المقام ما حاصله: أنّها و إن لم تناقض المعلوم بالإجمال بمدلولها المطابقی؛ لأنّ المقصود منها رفع خصوص الوجوب و الحرمة، و المعلوم بالإجمال لیس خصوص الوجوب و الحرمة، و لا مانع منها من جهة انحفاظ الرتبة أیضاً، لکن لا یشمل مدرکها- الذی هو عبارة عن قوله علیه السلام:

(رفع عن امّتی تسعة ... و ما لا یعلمون)

(4)- دوران


1- الکافی 5: 313/ 40، تهذیب الأحکام 7: 226/ 989، وسائل الشیعة 12: 60، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4.
2- فوائد الاصول 3: 364، نهایة الأفکار 3: 233.
3- الکافی 6: 339/ 1، وسائل الشیعة 17: 90، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 1.
4- التوحید: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

ص: 368

الأمر بین المحذورین، فإنّ الرفع فرع إمکان الوضع، و فیما نحن فیه لا یمکن وضع الوجوب و الحرمة کلیهما؛ لا علی سبیل التعیین، و لا علی سبیل التخییر، و مع عدم إمکان الوضع لا یمکن الرفع، فلا تشمل أدلّة البراءة الشرعیّة المقام(1). انتهی.

و فیه: أنّه إن أراد عدم إمکان وضع خصوص الوجوب فلا مانع منه، فإنّ للشارع وضعه، و کذلک خصوص الحرمة. و یندفع إشکال التناقض بینه و بین الحکم الواقعی علی فرض مخالفته للواقع بما یندفع به التناقض بین الحکم الظاهری و الواقعی.

و إن أراد عدم إمکان وضع مجموعهما فلیس المجموع شیئاً آخر غیر خصوص الوجوب و خصوص الحرمة، فلا إشکال فی إمکان وضع کلّ منهما بخصوصه لا مجموعهما، فالرفع أیضاً ممکن حینئذٍ.

و توهّم: أنّه لا مجال هنا للبراءة الشرعیّة بعد جریان البراءة العقلیّة؛ لعدم أثر شرعی یترتّب علیها.

مدفوعٌ: بأنّ البراءة العقلیّة و النقلیّة فی عَرْضٍ واحد بالنسبة إلی الشبهات.

و إنّما یرد هذا التوهّم لو فرض جریان البراءة العقلیّة فی مرتبة متقدّمة علی جریان البراءة النقلیّة، فإنّه یرد علیه حینئذٍ: أنّه لا احتیاج فیه إلی البراءة الشرعیّة، لکن لیس الأمر کذلک، بل هما فی عَرْضٍ واحد؛ لا تقدّم لإحداهما علی الاخری.

و أمّا الاستصحاب: فقال قدس سره فی وجه عدم جریانه فیما نحن فیه: إنّ انحفاظ الرتبة لا یمنع فی جریان الاستصحاب؛ لما ذکرناه فی البراءة الشرعیّة، و کذا لا یمنع من جهة لزوم المخالفة العملیّة؛ لأنّ المکلّف لا یخلو من الفعل أو الترک تکویناً، لکن لمّا کان الاستصحاب من الاصول المتکفِّلة للتنزیل، لا یمکن الجمع بین مؤدّاه و بین العلم الإجمالی؛ لأنّ البناء علی وجوب الفعل و عدم حرمته واقعاً- کما هو مفاد


1- فوائد الاصول 3: 447- 448.

ص: 369

الاستصحابین- لا یجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته.

و إن شئت قلت: إنّ البناء علی مؤدّی الاستصحابین یُنافی الموافقة الالتزامیّة(1). انتهی.

و فیه أوّلًا: أنّ مفاد الاستصحاب هو البناء العملی علی طبق ما کان، و ترتیب آثار الیقین فی ظرف الشکّ، لا الالتزام القلبی و عقد القلب علی ذلک، بل لیس فی أدلّته التعبیر بالبناء إلّا فی الروایة الثالثة لزرارة(2)، و المراد به ما عرفت من أن المراد هو البناء العملی، لا الالتزام القلبی بذلک.

و ثانیاً: لا دلیل علی وجوب الموافقة الالتزامیّة؛ و عقد القلب علی الحکم الشرعی.

فتلخّص من جمیع ما ذکرناه: أنّه لا مانع من جریان الاصول العقلیّة و الشرعیّة فی دوران الأمر بین الوجوب و الحرمة.

هذا کلّه إذا لم یشتمل أحد الحکمین علی مزیّة علی الآخر.

و أمّا إذا اشتمل أحدهما علی مزیّة دون الآخر، کما لو دار الأمر بین أن یکون شخص نبیّاً یجب حفظه، أو سابّاً لنبیٍّ یجب قتله، و حیث إنّ حفظ النبیّ أهمّ من قتل سابّ النبیّ، حتّی أنّه لا تجری البراءة فی الشبهة البدویّة، فالعقل یحکم بترجیح مراعاته علی الآخر، فلیس المکلّف حینئذٍ مخیّراً بین الفعل و الترک.

و یظهر من «الکفایة»: أنّ ذلک من مصادیق دوران الأمر بین التعیین و التخییر، فحکم بالتعیین علی طبق مبناه فی تلک المسألة(3).


1- انظر فوائد الاصول 3: 448- 449.
2- الکافی 3: 351/ 3، تهذیب الأحکام 2: 186/ 740، وسائل الشیعة 5: 321، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 10، الحدیث 3.
3- کفایة الاصول: 406.

ص: 370

لکن فرق بین المقام و بین تلک المسألة؛ حیث إنّ ما احتمل تعیّنه فی تلک المسألة معلوم تعلّق التکلیف به؛ إمّا تعییناً أو تخییراً، فیمکن القول بتعیّنه، کما فی دوران الأمر بین وجوب خصوص الصیام فی الکفّارة أو التخییر بینه و بین العتق، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ المفروض فیه احتمال کلٍّ من الوجوب و الحرمة فی فعل واحد، و عدم العلم بأحدهما الخاصّ تعییناً حتّی یحکم بتعیّنه لأجل ذلک، بل تعیینه لما ذکرناه لو فرض، کون المزیّة فی غایة الأهمیّة؛ بحیث لا یرضی الشارع بترکها علی أیّ تقدیر.

هذا کلّه فی الواقعة الواحدة.

و أمّا فی الوقائع المتعدّدة، کما لو علم إمّا بوجوب شرب الماء- مثلًا- فی کلّ یوم للحلف علیه، أو حرمته کذلک، فهنا علوم ثلاثة إجمالیّة:

الأوّل: العلم الإجمالی فی کلّ یومٍ یومٍ إمّا بوجوب شرب الماء أو حرمته، و هذا العلم لیس له موافقة قطعیّة، و لا مخالفة قطعیّة.

الثانی: العلم الإجمالی إمّا بوجوب شرب الماء فی هذا الیوم، و إمّا بحرمته غداً(1).

الثالث: العلم الإجمالی إمّا بحرمة شرب الماء الیوم، و إمّا بوجوبه غداً.

و هذان العلمان یمکن المخالفة القطعیّة فیهما؛ بشرب الماء فی کلا الیومین أو ترکه فیهما؛ للعلم بمخالفته للواقع: إمّا بترک الواجب، أو بارتکاب المحرّم، لکن المخالفة فی أحدهما مستلزمة للموافقة القطعیّة فی الآخر.


1- لأنّ شربه: إمّا واجب کلّ یوم، أو حرام کلّ یوم، فیصدق أنّه إمّا واجب الیوم، و إمّا حرام غداً علی فرض عدم وجوبه الیوم، و کذلک یصدق أنّه إمّا حرام الیوم، أو واجب غداً؛ لأنّه علی فرض عدم حرمته الیوم فهو واجب غداً، و علی فرض عدم وجوبه الیوم فهو حرام غداً. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 371

و الحاصل: أنّ الارتکاب فی واقعة و الترک فی الاخری، لا یوجب المخالفة القطعیّة بالنسبة إلی العلم الإجمالی الأوّل؛ حیث إنّ کلّ واقعة یدور الأمر فیها بین الوجوب و الحرمة، مستقلّة عن الاخری، و لکنّه یوجب المخالفة القطعیّة بالنسبة إلی أحد العلمین الآخرین، لکن المخالفة القطعیّة فی إحدی الواقعتین مستلزمة للموافقة القطعیّة فی الاخری.

و حینئذٍ فهل التخییر فیها ابتدائیّ؛ بمعنی أنّه یجب علی المکلّف اختیار ما اختاره أوّلًا و فی الابتداء من الفعل أو الترک فی جمیع الوقائع المتأخّرة التی بعدها، أو أنّ التخییر استمراریّ، فله اختیار الفعل فی واقعة و ترکه فی اخری؟

قد یقال بالأوّل؛ لعدم حصول العلم بالمخالفة حینئذٍ.

و لکن الحقّ أنّه استمراریّ، فله اختیار الفعل فی واقعة و الترک فی اخری، فإنّه و إن استلزم المخالفة القطعیّة، لکن قد عرفت أنّها فی العلمین الأخیرین مستلزمة للموافقة القطعیّة فی إحداهما، و لا فرق عقلًا بین احتمال الموافقة و المخالفة، و بین حصول الموافقة القطعیّة و المخالفة القطعیّة کلتیهما.

نعم بناءً علی ما قیل: من أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة(1)، یتعیّن القول الأوّل؛ و أنّ التخییر ابتدائیّ. لکنّه ممنوع؛ فإنّه کثیراً ما یکون جلب المنفعة أولی من دفع المفسدة.

و قال المیرزا النائینی فی وجه کون التخییر استمراریاً لا ابتدائیاً ما حاصله:

أنّه لم یتعلّق تکلیف شرعی مولویّ بالمخالفة القطعیّة، بل قبحها کحسن الموافقة و الطاعة من المستقلّات العقلیّة التی لا تستتبع خطاباً مولویّاً، و حکم العقل بقبح المخالفة القطعیّة فرع تنجُّز التکلیف، و إلّا فنفس المخالفة بما هی مخالفة لا یحکم العقل بقبحها ما لم یتنجّز الحکم، و الحکم فیما نحن فیه لیس منجّزاً فی کلّ واقعة؛


1- الوافیة، الفاضل التونی: 97، فرائد الاصول: 239 سطر 3.

ص: 372

لأنّه فی کلّ واحدة من الوقائع دائر بین المحذورین، و تکرّر الواقعة لا یوجب تبدّل المعلول بالإجمال، و لا خروج المورد عن دوران الأمر بین المحذورین، و لا یلحظ انضمام الوقائع بعضها مع بعض حتّی یقال: إنّ الأمر فیها لا یدور بین المحذورین؛ لأنّ التکلیف و الحلف فی المثال لم یتعلّقا بالوقائع بقید الانضمام، بل کلّ واقعة متعلّق لهما بحیال ذاتها مستقلّة.

و الحاصل: أنّ التخییر البَدْوی فی صورة تعدُّد الواقعة یدور مدار أحد أمرین:

إمّا من جهة حرمة المخالفة القطعیّة شرعاً، و إمّا من ملاحظة الوقائع المتعدّدة منضمّاً بعضها إلی بعض فی تعلّق التکلیف بها، و کلاهما محلّ منع، فلا محیص عن التخییر الاستمراری(1). انتهی.

و ممّا ذکرنا یظهر ما فیه من الإشکال، فإنّ عدم تعلُّق الحکم الشرعی بالمخالفة القطعیّة- کحسن الموافقة- مسلّم، و کذا عدم ملاحظة الوقائع منضمّاً بعضها إلی بعض؛ و أنّ کلّ واقعة منها مستقلّة یدور الأمر فیها بین المحذورین، لکنّ المخالفة إنّما تحصل بالنسبة إلی العلمین الأخیرین من العلوم الثلاثة الإجمالیّة، و لیس العلم الإجمالی فی المقام منحصراً فی الأوّل منها، فلو لا التقریب الذی ذکرنا للتخییر الاستمراری لم یتمّ ما ذکره من البیان لنفی التخییر الابتدائی.

هذا کلّه فیما لا تمکن فیه المخالفة القطعیّة، کما فی الواجب التوصّلی.

و أمّا مع إمکانها، کما إذا کان أحد الحکمین أو کلاهما تعبّدیّاً- و إن لم نجد له مثالًا صحیحاً فی الأحکام- کما لو دار الأمر بین وجوب صلاة الجمعة و حرمتها، مع کونهما تعبّدیان، فلو أتی بها لا بقصد القربة تحقّقت المخالفة القطعیّة؛ لأنّها علی فرض وجوبها لم یُمتثل أمرها؛ لأجل عدم قصد التقرّب بها، و علی فرض حرمتها واقعاً فقد ارتکبها لو فرض أنّ حرمتها ذاتیّة.


1- فوائد الاصول 3: 453- 455.

ص: 373

و کذلک لو فرض أحدهما المعیّن تعبّدیّاً- کالوجوب- و الآخر توصّلیّاً.

و أمّا لو فرض أحدهما الغیر المعیّن تعبّدیّاً فلا تتحقّق فیه المخالفة القطعیّة أیضاً بلا إشکال، لکن هل یجب قصد التقرّب علی تقدیر الفعل، أو لا یجب؟

یمکن أن یقال بالأوّل؛ حیث إنّه یعلم بوجوبه، و یتمکّن منه، فلا یعذر فی ترکه.

ص: 374

الفصل الرابع فی الشکّ فی المکلّف به

و قبل الکلام فیه لا بدّ من تقدیم أمرین:
الأمر الأوّل:

أنّ الملاکَ فی الشکّ فی المکلّف به أمران:

أحدهما: العلم بأصل التکلیف الشرعی: إمّا بجنسه الذی هو الإلزام، کأنْ یعلم إمّا بوجوب فعل معیّن، أو حرمة شی ء آخر کذلک، و إمّا بنوعه، کأنْ یعلم إمّا بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر، سواء فی ذلک بین الشبهة الحکمیّة کالمثالین المذکورین، أو الموضوعیّة کأن یعلم إمّا أنّ هذا خمر أو ذاک.

الثانی: إمکان الاحتیاط و الموافقة القطعیّة، فیخرج دوران الأمر بین المحذورین عن محطّ البحث، و کذلک لو علم بوجوب أحد الشیئین و حرمة الآخر لا علی التعیین، فإنّه خارج عن موضوع هذا البحث؛ لعدم إمکان تحصیل الموافقة القطعیّة و الاحتیاط.

الأمر الثانی:

لیس المراد من العلم بالتکلیف العلمَ بالتکلیف الفعلی المنجّز الذی لا یرضی المولی بترکه؛ و ذلک لأنّه لا معنی للترخیص فی مخالفته، بل لا یعقل

ص: 375

احتمال الترخیص فیها حینئذٍ، فإنّ احتماله مساوق لاحتمال اجتماع النقیضین.

کما لا یناسبه التفصیل بین الشبهة المحصورة و غیرها، فإنّه لو علم بتکلیف فعلیّ منجَّز؛ لا یرضی المولی بترکه أبداً و لو فی الأطراف الغیر المحصورة، لما أمکن الترخیص فی بعضها؛ لأنّ معنی الترخیص فی فرد منها: أنّ المولی قد رفع یده عن الحکم الواقعی لو کان متعلّقاً بهذا الفرد، و هو خلاف المفروض، بل لو احتمل ذلک الحکم المذکور و لو فی الشبهة البدْویّة، لما أمکن الترخیص فیها أیضاً.

و لا یناسبه أیضاً ما ذکروه: من أنّ العلم فی المقام هل هو علّة تامّة للتنجیز أو مقتضٍ له(1)؟ و غیر ذلک من المباحث المذکورة فی باب الاشتغال.

و کذلک لو ارید العلمُ بقیام الحجّة و الأمارة مع العلم بعدم رفع الید عنها علی فرض مصادفتها للواقع؛ فإنّه معه لا یمکن القطع بالترخیص حینئذٍ.

بل المرادُ من العلم بالتکلیف- جنساً أو نوعاً- العلمُ بقیام الحجّة کذلک مع احتمال رفع الید عن الحکم الواقعی، و الإغماض عنه علی فرض المصادفة للواقع، فإنّه حینئذٍ یمکن البحث فی جواز الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف و المخالفة القطعیّة الذی نُسب إلی العَلَمین، و یجری فیه التفصیل بین الشبهة المحصورة و غیرها ... إلی غیر ذلک من المباحث المذکورة فی باب الاشتغال.

ثمّ إنّ الأحکام الواقعیّة غیر مقیّدة بصورة عدم قیام الأمارة علی خلافها، و لا بصورة العلم بها، بل الأحکام الواقعیّة مطلقة بالنسبة إلی قیام الأمارة علی خلافها و عدمه، و بالنسبة إلی حالتی علم المکلّف بها و عدمه، لکن یمکن للشارع رفع الید عنها فی بعض الحالات و الصور لمصلحة مقتضیة لذلک- کالتوسعة علی المکلّفین و عدم التضییق علیهم- من دون قصور فی المصالح و المفاسد الواقعیّة النفس الأمریّة، کما فی الواجب المشروط، فإنّ المصالح الواقعیّة فیه قاصرة عن الاقتضاء


1- انظر کفایة الاصول: 406- 407، و نهایة الأفکار 3: 307.

ص: 376

فی صورة عدم تحقّق الشرط، و لذلک لا یجب علی المکلّف تحصیل الشرط، بخلاف العلم، فإنّ تعلم الأحکام و تعلیمها واجبان مطلقان، و لو کانت الأحکام الواقعیّة مشروطة بالعلم لما وجب تحصیله.

و بالجملة: المراد من العلم بالتکلیف هنا العلم بقیام الحجّة من إمارة معتبرة أو إطلاق دلیل و نحوه یدلّ علیه، کما أنّ المراد من العلم الإجمالی بالتکلیف فی باب القطع: هو العلم بالتکلیف الفعلی المنجّز الذی لا یرضی الشارع المقدّس بترکه أصلًا، فإنّه لا فرق بینه و بین العلم التفصیلی فی وجوب موافقته، و حرمة مخالفته، و عدم احتمال الرخصة فی مخالفته و لا فی طرف من أطرافه حتی فی الشبهة الغیر المحصورة.

و الغرض هنا بیان الفرق و التفکیک بین المقامین؛ لوقوع الخلط بینهما فی کلمات الأعلام، و عدم الفرق بینهما حتّی من مثل الشیخ المحقّق الأنصاری أعلی اللَّه مقامه؛ حیث إنّه استدلّ لوجوب الموافقة القطعیّة: بأنّ المقتضی لها موجود، و المانع مفقود، و جعَل المقتضی إطلاق الأدلّة، أو عمومها و شمولها لأطراف العلم الإجمالی(1)، فإنّ ذلک الاستدلال یناسب ما ذکر، لکن استدلّ ثانیاً: بأنّ الترخیص فی المخالفة یناقض الحکم المعلوم بالإجمال(2)، فإنّه یُناسب إرادة العلم بالتکلیف الفعلی المنجّز الذی لا یرضی المولی بترکه، لا العلم به مع احتمال إغماض المولی عنه فی بعض الموارد.

و ممّا ذکرنا- من أنّ المراد من العلم بالتکلیف هو العلم بقیام الحجّة من أمارة أو إطلاق دلیل و نحوه- یظهر: أنّه لا مانع عقلیّ عن الترخیص فی أطراف هذا العلم الإجمالی، و الحکم بجواز المخالفة القطعیّة؛ بتقدیم الاصول علی الحجّة، و لا من


1- فرائد الاصول: 244 سطر 11.
2- فرائد الاصول: 242 سطر 15.

ص: 377

الحکم بعدم جوازها؛ بتقدیم الحجّة علی الاصول، بخلاف ما لو ارید من العلم بالتکلیف التکلیفُ الفعلیّ المنجّز الذی لا یرضی المولی بترکه، فإنّه حینئذٍ لا یعقل الترخیص فی مخالفته کما عرفت.

و حینئذٍ نقول: لو علم بقیام الحجّة إمّا علی وجوب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر- من غیر فرق بین صورة إجمال النصّ، أو فقدانه، أو تعارض النصّین- فلا إشکال فی أنّه لا فرق بین قیام الحجّة علی وجوب شی ء تفصیلًا أو إجمالًا، و بین العلم بحکمٍ فعلیٍّ منجّز لا یرضی المولی بترکه أصلًا؛ فی لزوم موافقة کلٍّ منهما عقلًا و حرمة المخالفة، لکن لا بملاک واحد، فإنّ ملاک حکم العقل بحرمة المخالفة فی الثانی: هو حکمه بأنّه عصیان للمولی، و هو غیر جائز، بخلاف حکمه بحرمة مخالفة الأمارة و الحجّة، فإنّ ملاکه هو عدم معذوریّة العبد فی المخالفة لو عاتبه المولی و عاقبه؛ لعدم حکم العقل بتحقّق العصیان بمجرّد مخالفة الأمارة إلّا فی صورة إصابتها للواقع، فحیث إنّه لا یعلم الإصابة و لا عدمها فلا یحکم بتحقّق العصیان.

و قد عرفت: أنّه لا یجوز الترخیص فی مخالفة العلم بالحکم الفعلیّ المنجّز الذی لا یرضی المولی بترکه أصلًا، فإنّه مساوقٌ لاجتماع النقیضین، و لکن یجوز الترخیص فی مخالفة الأمارة المعتبرة لمصلحة من المصالح اقتضت ذلک حتّی فیما لو کان مؤدّاها معلوماً بالتفصیل، فضلًا عن المعلوم بالإجمال، کما فی ما نحن فیه.

ص: 378

هل العلم الإجمالی موجب لوجوب الموافقة و حرمة المخالفة أم لا؟
المقام الأوّل: فی الشبهة المحصورة
اشارة

و معنی ترخیص الشارع فی مخالفة الأمارة: هو رفع الید عن الحکم الواقعی و الإغماض عنه علی تقدیر إصابتها للواقع، کما فی الشبهة البَدْویّة طابق النعل بالنعل.

فإذا أمکن ذلک، و أنّه غیر ممتنع، یقع الکلام فی أنّه هل یوجد من الاصول ما یختصّ بأطراف العلم الإجمالی أو لا؟ و علی الثانی هل یوجد منها ما یشملها بإطلاقه أو عمومه أو لا؟

فعلی الأخیر: لا إشکال فی لزوم الموافقة القطعیّة بمراعاة جمیع الأطراف.

و علی الأوّل: لا إشکال فی جواز المخالفة.

و أمّا علی الثانی: أی فرض شمول إطلاق أدلّة الاصول أو عمومها لأطراف العلم الإجمالی، فیقع البحث فی لزوم تقدیم أدلّة الأمارات؛ و لزوم العمل بها و طرح إطلاق أدلة الاصول أو عمومها، أو تقدیم إطلاق الاصول أو عمومها علی الأمارات، و بیان کیفیّة تقدیمها؛ و أنّه بنحو التخصیص و التقیید أو الحکومة، فلا بدّ أوّلًا من ذکر أدلّة الاصول.

البحث حول الروایات الواردة فی أطراف العلم الإجمالی

فنقول:

روی محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن ابن محبوب، عن عبد اللَّه بن سنان، عن عبد اللَّه بن سلیمان قال: سألت أبا

ص: 379

جعفر علیه السلام عن الجبن، فقال علیه السلام: (سألتنی عن طعام یعجبنی)، ثمّ أعطی الغلام درهماً، فقال: (یا غلام ابتع لنا جبناً)، ثمّ دعا بالغذاء فتغذّینا معه، فأتی بالجبن فأکل و أکلنا، فلمّا فرغنا من الغداء.

قلت: ما تقول فی الجبن؟

فقال: (أ وَ لم ترنی آکله؟!).

قلت: بلی، و لکنّی احبّ أن أسمعه منک.

فقال علیه السلام: (سأخبرک عن الجبن و غیره: کلّ ما کان فیه حلال و حرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام بعینه فتدعه)

(1).

و نقل فی الوسائل هذه الکبری الکلّیّة فقط

عن البرقی فی المحاسن، عن الیقطینی، عن صفوان، عن معاویة بن عمّار، عن رجلٍ من أصحابنا، قال: کنت عند أبی جعفر علیه السلام، فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر: (إنّه طعام یعجبنی، و سأخبرک عن الجبن و غیره: کلّ شی ء فیه الحلال و الحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام، فتدعه بعینه)

(2).

و نقلها أیضاً فی أبواب ما یکتسب به عن محمّد بن علی بن الحسین،

بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن عبد اللَّه بن سنان، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام، قال: (کلّ شی ء یکون فیه حلال و حرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه)

(3).

و تحتمل هذه الکبری الکلّیّة وجوهاً ثلاثة:

الأوّل: أنّها ناظرة إلی خصوص أطراف العلم الإجمالی، و لا تشمل الشبهة


1- الکافی 6: 339/ 1، وسائل الشیعة 17: 90، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 1.
2- المحاسن: 496/ 601، وسائل الشیعة 17: 92، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.

ص: 380

البَدْویّة، و أنّ المراد من الشی ء ما اختلط فیه الحلال و الحرام.

الثانی: أنّها ناظرة إلی خصوص الشبهة البَدْویّة، و أنّ المراد: أنّ الطبیعة التی لها قسمان: أحدهما الحلال و ثانیهما الحرام، کطبیعة اللحم الذی له قسمان: قسم حرام کلحم الخنزیر، و قسم حلال کلحم الغنم، فهذه الطبیعة لک حلال حتّی تعرف القسم الحرام بعینه، فما ذکره علیه السلام بیان لمنشإ الشکّ.

الثالث: أنّها شاملة للشبهات البدویّة و المقرونة بالعلم الإجمالی معاً.

و أمّا قوله علیه السلام:

(بعینه)

ففیه احتمالان:

أحدهما: أنّه تأکید للحرام، و المراد بالعرفان هو الأعمّ من التفصیلی و الإجمالی.

و ثانیهما: أنّه قید للمعرفة، و حینئذٍ فالمراد بالعرفان المأخوذ غایةً للحکم بالحلّیّة هو التفصیلی فقط.

و الاحتمال الثانی المذکور أردأ الاحتمالات؛ حیث إنّ المناسب للشبهة البَدْویّة هو التعبیر بمثل:

(الناس فی سعة ما لا یعلمون)

(1) أو

(کلّ شی ء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام)

(2)، لا التعبیر المذکور فی تلک الکبری.

و أمّا الاحتمال الثالث: المراد منه الأعمّ من الشبهات البدویّة و المقرونة بالعلم الإجمالی، و المراد بالمعرفة بناءً علیه هی المعرفة التفصیلیّة بالنسبة إلی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، و الأعمّ منها و من الإجمالیّة بالنسبة إلی الشبهات البَدْویّة.

ففیه: أنّ هذا التعبیر لا یناسب صدوره من الإمام علیه السلام؛ لأنّ مرجعه إلی


1- ورد قریب من هذا الحدیث فی عوالی اللآلی 1: 424/ 109 و هو قول النبی صلی الله علیه و آله و سلم« إنّ الناس فی سعة ما لم یعلموا».
2- الکافی 5: 313/ 40، تهذیب الأحکام 7: 226/ 989، وسائل الشیعة 12: 60، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4.

ص: 381

الترخیص فی ارتکاب جمیع أطراف العلم الإجمالی إلی أن یتحقّق العلم التفصیلی بالحرام، و الترخیص فی الشبهات البَدْویّة حتّی یحصل العلم بالحرام و لو إجمالًا، فإنّ مقتضی الأوّل الترخیص فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، و مقتضی الثانی عدمه، فیلزم التناقض فی مدلول الروایة.

مضافاً إلی أنّ العرفان إنّما یطلق فی الجزئیّات إذا تمیّز الجزئی بجمیع خصوصیّاته الشخصیّة، و لا یطلق علی المردّد بین الفردین أو الأفراد، بل یطلق علیه العلم لا المعرفة، فمعرفة الشی ء بعینه هو الذی یشار إلیه بالإشارة الحسّیّة، فالمتبادر من الروایة عرفاً هو إرادة أطراف العلم الإجمالی بالخصوص؛ أی الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، و أنّ المراد بالمعرفة هی المعرفة التفصیلیّة، و أنّ المراد بالشی ء: هو المختلط بالحرام و الحلال.

لکن هنا إشکال آخر- مع قطع النظر عن مجهولیّة محمّد بن سلیمان؛ لاشتراکه بین الثقة و الضعیف- و هو أنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام فی الجبن إنّما هو لمکان الإنفحة التی اخذت من المیتة، و الروایات متضافرة من أهل البیت علیهم السلام علی حلّیّته(1)، لکن حیث إنّهم زعموا حرمتها بیّن الإمام علیه السلام جواز أکله بطریق آخر تنطبق هذه القاعدة علیه.

و الحاصل: أنّ هذا البیان من الإمام علیه السلام إنّما هو لأجل عدم تسلیم الخصم حلّیّة الإنفحة، کما یظهر ذلک من

روایة أبی حمزة عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث: أنّ قتادة قال له: أخبرنی عن الجبن.

فقال علیه السلام: (لا بأس به).

فقال: ربّما جُعِلت فیه إنفحة المیتة.

فقال علیه السلام: (لیس به بأسٌ؛ إنّ الإنفحة لیس لها عروق، و لا فیها دم، و لا لها


1- وسائل الشیعة 16: 444، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33.

ص: 382

عظم، إنّما تخرج من بین فرث و دم، و إنّما الإنفحة بمنزلة دجاجة میتة اخرجت منها بیضته، فهل تأکل تلک البیضة؟).

قال قتادة: لا، و لا آمر بأکلها.

قال أبو جعفر: (و لِمَ؟).

قال: لأنّها من المیتة.

فقال علیه السلام: (فإن حضنت تلک البیضة فخرجت منها دجاجة أ تأکلها؟).

قال: نعم.

قال: (فما حرّم علیک البیضة، و حلّل لک الدجاجة ...؟!)

(1) إلی آخره، فإنّه یظهر منها إنکارهم لحلّیّة الإنفحة، و لعلّ حکمه علیه السلام بحلّیّة الجبن مع العلم الإجمالی بجعل الإنفحة فی بعضها، لمکان حلّیّة الإنفحة، فمع العلم التفصیلی بجعل الإنفحة فی الجبن یجوز أکله حینئذٍ، فضلًا عن العلم الإجمالی بذلک فی بعض أفراد الجبن، و حینئذٍ فیشکل التمسّک بهذه الروایات لجواز ارتکاب أطراف العلم الإجمالی مطلقاً.

و منها:

ما رواه الکلینی قدس سره بإسناده عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام، قال: سمعته یقول: (کلّ شی ء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه، فتدعه من قِبل نفسک، و ذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته و هو سرقة، أو المملوک عندک و لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدِع فبیع أو قُهر، أو امرأة تحتک و هی اختک أو رضیعتک، و الأشیاء کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک، أو تقوم به البیّنة)

(2).


1- الکافی 6: 256/ 1، وسائل الشیعة 16: 444، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحدیث 1.
2- الکافی 5: 313/ 40، تهذیب الأحکام 7: 226/ 989، وسائل الشیعة 12: 60، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4.

ص: 383

و هذه الروایة- مع قطع النظر عن الأمثلة المذکورة فیها، و الإشکال الآتی- ظاهرة فی أنّ کلّ مشتبه الحلّیّة و الحرمة فهو محکوم بالحلّیّة، حتّی یعلم تفصیلًا أنّ ذلک الشی ء بخصوصه حرام، فلا تشمل الغایةُ العلمَ الإجمالی، فإنّ العلم فی المعلوم بالإجمال لم یتعلّق بالشی ء بخصوصه، بل العلم فیه متعلّق بأحد الشیئین أو الأشیاء بنحو التردید، فالروایة دالّة علی جواز ارتکاب أطراف المعلوم بالإجمال بالخصوص.

و علی فرض تسلیم شمولها للشبهات البَدْویّة یرد علیه إشکال لزوم التناقض المتقدّم علی ذلک الفرض فی الروایات الثلاث المتقدّمة.

و یرد علیها أیضاً: أنّ الحکم بالحلّیّة فی الأمثلة المذکورة فیها لیس مستنداً إلی هذه القاعدة، بل إلی مثل قاعدة الید و أصالة الصحّة فی فعل الغیر و نحوها المتقدّمة علی أصالة الحلّیّة، فلیست هی حینئذٍ فی مقام إفادة قاعدة الحلّیّة؛ لعدم انطباقها علی تلک الأمثلة المذکورة فیها.

و قد عرفت أنّه یشمّ من روایة عبد اللَّه بن سلیمان رائحة التقیّة؛ لعدم انطباق قاعدة الحلّ علی موردها، فلم یعلم منها أنّ القاعدة مورد تأیید الإمام علیه السلام و تصدیقه؛ لاحتمال أنّ ذلک منه علیه السلام من جهة إلزام المخالف، فالعمدة فی المقام هی روایة عبد اللَّه بن سنان الصحیحة سنداً، التامّة دلالةً علی الترخیص فی ارتکاب خصوص أطراف المعلوم بالإجمال.

لکن الإشکال فیها و فی الروایات المتقدّمة مضافاً إلی إعراض الأصحاب عنها، حتّی أنّه ذکر صاحب الجواهر قدس سره أنّ أصحابنا لم یعملوا بهذه الأخبار إلّا نادراً(1)، و کذلک ابن إدریس؛ حیث إنّه أوَّلَ کلام الشیخ قدس سره- الظاهر فی العفو فیما


1- جواهر الکلام 1: 294- 298.

ص: 384

إذا ارتکب أطراف العلم الإجمالی فی مسألة الربا- بأنّ مراده العفو من حیث الإثم، و أنّ ذلک یُعدّ فی العرف إذناً فی المعصیة و ارتکاب الحرام(1)؛ حیث إنّ إطلاق دلیل حرمة الخمر- مثلًا- یشمل المعلوم منه بالإجمال فی الشبهة المحصورة، و إعراض الأصحاب عنها إنّما هو لذلک؛ أی: لأنّه إذن فی المعصیة عند العرف و العقلاء و إن لم یکن کذلک عقلًا.

نعم لا مانع من شمولها للشبهة الغیر المحصورة، التی یُعدّ کلّ واحد من أطرافها کالشبهة البدویّة، فیجوز ارتکاب أطرافها لهذه الروایات.

هذا فی الشبهات الموضوعیّة کما هی مورد هذه الروایات کالجبن.

و أمّا الشبهات الحکمیة: فقد تکلّف بعضهم(2) الاستدلال لجواز ارتکاب أطرافها بقوله علیه السلام:

(کلّ شی ء فیه حلال و حرام ...)

(3) إلی آخره أیضاً، و قد عرفت فساده.

هذه هی الروایات الواردة فی المقام بنحو العموم.

و أمّا الأخبار الواردة فی خصوص بعض الموارد- کالواردة فی خصوص اشتباه مال الربا بغیره(4)، أو المأخوذ من بنی امیّة و الظلمة(5)، و نحو ذلک- فلا یستفاد منها قاعدة کلّیّة شاملة لجمیع موارد الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، بل


1- السرائر 2: 251- 252.
2- نهایة الأفکار 3: 233- 234.
3- الکافی 5: 313/ 39، الفقیه 3: 216/ 92، وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.
4- الکافی 5: 145 و 146/ 5 و 9، تهذیب الأحکام 7: 16/ 70، وسائل الشیعة 12: 431، کتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 5، الحدیث 2 و 3.
5- الکافی 5: 126/ 9، تهذیب الأحکام 6: 369/ 1068، وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 2.

ص: 385

علی فرض العمل بها فی موردها الخاصّ فهو لخصوصیّة فی تلک الموارد اقتضت ذلک، فإنّ فی کلّ واحد منها مباحث و مسائل خاصّة لا یناسب التعرّض لها فی المقام.

فتلخّص: أنّه لا یصحّ التمسّک بأصالة الحِلّ لجواز ارتکاب أطراف الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

و أمّا أصالة البراءة فلا تشمل أدلّتها أیضاً لأطراف المعلوم بالإجمال، مثل:

(ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)(1)، أو قوله علیه السلام:

(رفع ما لا یعلمون)

(2)، أو حدیث السعة(3)، و نحو ذلک من أدلّة البراءة؛ لأنّ المتبادر منها هو الترخیص فی الشبهات البَدْویّة، لا المقرونة بالعلم الإجمالی.

مضافاً إلی قیام الحجّة إجمالًا علی وجوب الاجتناب فی أطراف هذه الشبهة، فعلی فرض شمول تلک الأخبار لأطرافها- من جهة الشکّ و عدم العلم- فهی لا تقتضی رفع المعلوم بالإجمال؛ لأنّه نظیر تعارض المقتضی مع اللامقتضی.

هذا مع أنّه فرق بین عدم العلم المأخوذ فی «ما لا یعلمون» و نحوه، و بین عدم العلم فی أطراف المعلوم بالإجمال، فإنّ عدم العلم فی الأوّل هو عدم العلم البسیط، بخلاف أطراف المعلوم بالإجمال، فإنّ المشتبه و المردّد فیه هو المعلوم، و إلّا فالعلم فیه موجود محقّق.

و بالجملة: أنّ «ما لا یعلمون» عبارة عن العرف و العقلاء عن المشکوک، و الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی لیست من قبیل المشکوک، بل تعدّ من المعلوم،


1- الکافی 1: 126/ 3، التوحید: 413/ 9.
2- التوحید: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1 و 2.
3- المحاسن: 452، عوالی اللآلی 1: 424/ 109، مستدرک الوسائل 18: 20، کتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 12، الحدیث 4.

ص: 386

فلا تشملها الأدلّة.

ما هو المانع عند الشیخ الأعظم عن شمول الروایات لأطراف العلم الإجمالی؟

ثمّ إنّه ذکر الشیخ الأعظم قدس سره فی بیان وجه عدم جریان الاصول فی المقام:

تارةً بلزوم المنافاة بینها و بین ما دلّ علی حرمة ذلک العنوان المشتبه- مثل:

«حرّم علیکم الخمر»- فی مقام الثبوت؛ لأنّ الإذن فی کلا المشتبهین یُنافی المنع عن ارتکاب المردّد، و یوجب الحکم بعدم حرمته فی متن الواقع، و هو ممّا یشهد الاتّفاق و النصّ علی خلافه(1).

و اخری بلزوم المنافاة بین الصدر و الذیل فی دلیل الاستصحاب، و کذلک فی قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام)

فی مقام الإثبات و الأخذ بالظواهر؛ حیث ذکر فی باب تعارض الاستصحابین ما حاصله: أنّ العلم الإجمالی بانتقاض أحد الضدّین یوجب خروجهما عن مدلول لا تنقض؛ لأنّ قوله علیه السلام:

(لا تنقض الیقین بالشکّ، و لکن تنقضه بیقین مثله)

(2) یدلّ علی حرمة النقض بالشکّ، و وجوب النقض بالیقین، فإذا فرض الیقین بارتفاع الحالة السابقة فی أحد المستصحبین، فلا یجوز إبقاء کلٍّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشکّ؛ لأنّه یستلزم طرح الحکم بنقض الیقین.

و أشار فی هذا الکلام إلی لزوم التناقض بین الصدر و الذیل- فی الحکم- فی قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء لک حلال ...)

إلی آخره فی ذلک الباب و فی باب الاشتغال و أنّه لا یصلح للاستدلال به فی أطراف المعلوم بالإجمال؛ لأنّه کما یدلّ علی حلّیّة کلّ


1- فرائد الاصول: 241 سطر 16.
2- تهذیب الأحکام 1: 8/ 11، وسائل الشیعة 1: 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.

ص: 387

واحد من المشتبهین، کذلک یدلّ علی حرمة ذلک المعلوم إجمالًا؛ لأنّه أیضاً شی ء عُلمت حرمته(1).

و أورد علیه بعض المحقّقین: بأنّ الذیل المذکور- أی: الحکم بنقض الیقین بالیقین- لیس فی جمیع أخبار الباب، بل فی بعضها(2).

و لکن لا یخفی ما فی هذا الإیراد؛ فإنّ الاستصحاب لیس إلّا حکماً واحداً؛ و قاعدة واحدة مستفادة من هذه الأخبار الواردة فی الاستصحاب، و إطلاق بعضها یُقیَّد بالبعض الآخر المذیّل بهذا الذیل.

فأقول: المراد بالیقین فی أخبار الاستصحاب: إمّا الیقین الوجدانیّ، و إمّا مطلق الحجّة الأعمّ من الیقین الوجدانی و غیره من أقسام الحجج المعتبرة التعبّدیّة:

فعلی الأوّل: فلیس فیها إلّا حکم واحد، و هو حرمة نقض الیقین بالشکّ، و أمّا قوله علیه السلام:

(و لکن تنقضه بیقینٍ مثله)

فلیس هو حکماً مولویّاً؛ لما عرفت من أنّ القطع حجّة عقلیّة؛ و وجوب اتّباعه حکم عقلی لا دخَلَ للشرع فیه.

و بالجملة: لا یشتمل الذیل علی الحکم الشرعی حتّی یلزم التناقض بینه و بین الحکم المشتمل علیه الصدر- علی فرض شمول الأخبار لأطراف العلم الإجمالی- بل الذیل تحدید لحدود الأوّل.

و أمّا علی الثانی: فکذلک بالنسبة إلی القطع الوجدانی، و معه فلا یمکن أن یکون قوله علیه السلام:

(و لکن تنقضه بیقین آخر)

تحدیداً و بیاناً لحدود الحکم الأوّل بالنسبة إلی الحجّة العقلیّة- أی القطع- و حکماً مولویّاً بالنسبة إلی الحجّة الشرعیّة معاً.

ثمّ علی فرض إمکان ذلک ثبوتاً، لکن معنی نقض الیقین بالیقین: هو نقضه بمثل الیقین المذکور فی الصدر، و العلم الإجمالی لیس مثله؛ لعدم اتّحاد متعلّق الشکّ


1- فرائد الاصول: 241 سطر 8، و 429 سطر 10.
2- فوائد الاصول 4: 22- 23.

ص: 388

و الغایة، فإنّ متعلّق الشکّ هو کلّ واحد من الأفراد بعینه، و متعلّق العلم الإجمالی أحد الأطراف لا بعینه، و حینئذٍ فلا بدّ أن یُراد من الیقین فی ذیل روایات الاستصحاب الیقینُ التفصیلی لا الإجمالی، و حینئذٍ یندرج کلّ واحد من الأطراف فی صدر الروایة، من دون أن یعارضه الذیل.

و هکذا الکلام فی قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه)

. و قال المیرزا النائینی قدس سره- فی بیان عدم جریان الاصول فی أطراف الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی- ما حاصله: أنّ لزوم التضاد بین الحکم بحرمة المعلوم بالإجمال، و بین الحکم بالحلّیّة فی أصالة الإباحة، واضح؛ لأنّ معنی الإباحة: هو جواز الفعل و الترک، و هو مضادّ لحکم الحرمة للمعلوم بالإجمال، و حینئذٍ فلا مجال لجریانها فی أطراف المعلوم بالإجمال.

و أمّا الاصول التنزیلیّة- کالاستصحاب- فهی و إن لم تناقض نفس المعلوم بالإجمال؛ لأجل اختلاف الرتبة- کما بُیّن فی مقام الجمع بین الحکم الظاهری و الواقعی- و لا تستلزم المخالفة العملیّة أیضاً، لکنّها لا تجری فی المقام؛ لأجل قصور المجعول فیها عن شموله لأطراف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ المجعول فی الاصول التنزیلیّة هو البناء العملی؛ و الأخذ بأحد طرفی الشکّ علی أنّه هو الواقع و إلغاء الطرف الآخر، و جعل الشکّ کالعدم فی عالم التشریع، ففی الاستصحاب حیثیّة الاصول من جهة ترتّب الآثار، و حیثیّة الأمارات من جهة البناء علی أنّه هو الواقع، و لا یمکن جعل هذا مع العلم الوجدانی إجمالًا.

و بالجملة: المجعول فی مثل الاستصحاب و نحوه معنیً لا یعقل ثبوته لجمیع أطراف العلم الإجمالی.

و أمّا الاصول الشرعیّة- کأصالتی الطهارة و البراءة- فالمانع من جریانها فی

ص: 389

المقام لزوم المخالفة العملیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال(1). انتهی محصّل کلامه قدس سره.

أقول: یرد علیه:

أوّلًا: أنّ ما ذکره فی معنی الاستصحاب غیر صحیح؛ لأنّ العمدة من أخباره هو الخبر الأوّل(2) و الثانی(3) لزرارة، و لیس معنی

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

فیهما هو إطالة عمر الیقین؛ و البناء علی أنّه الواقع؛ لأنّه علیه السلام فرض أنّه شاکّ؛ لأنّه علیه السلام قال:

(لأنّک کنت علی یقین من طهارتک فشککت)

، و المراد: أنّک کنت فی سابق الحال علی یقین، لا فی الحال الحاضر، و حینئذٍ فلیس معنی

(لا تنقض الیقین)

إلّا وجوب ترتیب آثار الیقین السابق فی ظرف الشکّ اللّاحق، لا البناء القلبی علی أنّه الواقع.

و ثانیاً: لیس مراده ممّا ذکر من لزوم المناقضة بین الصدر و الذیل- علی تقدیر شمول أخبار الاستصحاب لأطراف المعلوم بالإجمال- أنّ التعبّد بالاستصحابین فی طرفی العلم الإجمالی، یناقض العلم الإجمالی بالتکلیف المردّد؛ للزوم ذلک فی أصالة الإباحة فی غیر دوران الأمر بین المحذورین؛ لأنّه قدس سره معترف بعدمه فیها؛ للاختلاف فی المرتبة، فلا بدّ أن یرید من المناقضةِ المناقضةَ فی المجعول و فی مقام الجعل، و هذا صحیح بناءً علی ما اخترناه: من أنّ المراد بالعلم الإجمالی هنا: هو العلم بقیام الحجّة الشرعیة، لا العلم الوجدانی؛ للزوم المناقضة بین جعل الأمارة و جعل الاستصحاب علی خلافها.


1- فوائد الاصول 4: 12- 17.
2- تهذیب الأحکام 1: 8/ 11، وسائل الشیعة 1: 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء الباب 1، الحدیث 1، و 2: 1053 و 1061، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37 و 41، الحدیث 1.
3- تهذیب الأحکام 1: 421/ 1335، الاستبصار 1: 183/ 13، وسائل الشیعة 2: 1053 و 1061، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37 و 41، الحدیث 1.

ص: 390

و أمّا بناءً علی ما اختاره قدس سره- من أنّ المراد بالعلم الإجمالی فی باب الاشتغال هو العلم الوجدانی بالتکلیف الفعلی(1)- فالاستصحاب و إن کان مضادّاً له، لکن لا یستلزم المناقضة فی مقام الجعل؛ لعدم تناول ید الجعل الشرعی للعلم الوجدانی.

و العجب أنّه قدس سره تعرّض لهذا الإشکال فی مسألة تعارض الاستصحابین بقوله: و قد یناقش فیما ذکرناه- من عدم جریان الاصول المحرِزة فی أطراف العلم الإجمالی- بأنّه یلزم حینئذٍ عدم التفکیک بین المتلازمین الشرعیّین، کطهارة الید و بقاء الحدث فیما إذا توضّأ بمائع مردّد بین الماء و البول؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث و طهارة البدن، ینافیان العلم الوجدانی بعدم المطابقة للواقع فی أحد الأصلین؛ لأنّه إن کان ماءً فقد ارتفع الحدث، و إن کان بولًا فقد تنجّس البدن، فالجمع بینهما فی التعبّد غیر ممکن(2).

و أجاب عن ذلک: بالفرق بین المقامین؛ لأنّه تارةً: یلزم من التعبُّد بمؤدّی الأصلین العلم التفصیلی بکذب ما یؤدّیان إلیه؛ لأنّهما یتّفقان فی نفی ما یعلم تفصیلًا ثبوته، کما فی استصحاب نجاسة الإناءین مع العلم بطهارة أحدهما، و بالعکس.

و اخری: لا یلزم من التعبّد بمؤدّاهما العلم التفصیلی بکذب ما یؤدّیان إلیه، بل یعلم إجمالًا بعدم مطابقة أحد الأصلین للواقع، کما فی الاصول الجاریة فی الموارد التی یلزم منها التفکیک بین المتلازمین الشرعیّین، کالمثال المتقدّم، و الذی منَعْنا من جریانه فی أطراف العلم الإجمالی هو القسم الأوّل، لا الثانی(3). انتهی.

أقول: یرد علیه:


1- فوائد الاصول 4: 17- 18.
2- فوائد الاصول 4: 694.
3- فوائد الاصول 4: 694- 695.

ص: 391

أوّلًا: أنّه لیس فی القسم الأوّل- الذی یتّحد الاستصحابان فیه بحسب النوع- علم تفصیلی حتّی یستلزم التعبّدُ بهما المخالفةَ له، بل العلم فیه إجمالیّ أیضاً: إمّا بنجاسة هذا الإناء، أو ذاک، فالتعبّد بمؤدّی الاستصحابین فیه مستلزم لمخالفة العلم الإجمالی- کما فی القسم الثانی- لا للعلم التفصیلی.

و ثانیاً: مجرّد اختلاف القسمین فی اتّحاد الاستصحابین فی أحدهما بحسب النوع، و اختلافهما فیه، لا یوجب الفرق بینهما فی الحکم مع اتّحاد المناط و الملاک فیهما، فإنّ متعلّق العلم فی کلیهما مردّد بین الاثنین.

و ثالثاً: یرد علیه النقض بما إذا علم إمّا بوجوب هذا، أو حرمة ذاک، مع أنّ الحالة السابقة فیهما عدم الوجوب و الحرمة، فإنّ اللّازم- علی ما ذکره- جریان استصحاب عدم الوجوب و عدم الحرمة فیهما؛ لأنّ التعبّد بمؤدّاهما لا یُنافی إلّا العلم الإجمالی، و لا أظنّ أن یلتزم هو قدس سره به.

فالوجه فی عدم جریان الاصول فی جمیع أطراف المعلوم بالإجمال، و حرمة المخالفة القطعیّة، هو ما ذکرناه من الوجهین المتقدّمین.

هذا کلّه بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیّة.

وجوب الموافقة القطعیة و عدمه

و أمّا الکلام بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة، و عدم جریان الاصول فی بعض الأطراف أیضاً، أو عدم وجوبها؛ لشمول إطلاق أدلّة الاصول لبعض الأطراف فهو أنّک قد عرفت: أنّ محطّ البحث فی هذا الباب هو ما لو علم إجمالًا بقیام الحجّة الشرعیّة، مع الشکّ فی متعلّقها، لا العلم الوجدانی بالتکلیف الفعلی الذی لا یرضی المولی بترکه، کما یظهر ذلک من المحقّق العراقی قدس سره؛ حیث ذکر- فی بیان الوجه فی لزوم الموافقة القطعیّة- بأنّ العلم الإجمالی بالنسبة إلیها علّة تامّة، و أنّ الإذنَ فی

ص: 392

ارتکاب بعض الأطراف إذنٌ فی المعصیة. و أطال الکلام فی ذلک(1).

لما عرفت من أنّه لو ارید من العلم ذلک لَما أمکن الترخیص عقلًا فی مقام الثبوت؛ للزوم المناقضة فی مقام الإرادة، و لا وَقْع للبحث فی الجواز و عدمه حینئذٍ، بل المراد من العلم الإجمالی: هو ما ذکرناه، و حینئذٍ فیقع الکلام فی أنّ العلم بقیام الأمارة علی نجاسة أحد الإناءین- مثلًا- هل هو علّة تامّة للتنجیز و لزوم الموافقة القطعیّة، و عدم جریان الاصول أو إطلاقها بالنسبة إلی بعض الأطراف أیضاً، أو أنّه لیس علّةً تامّةً له، بل هو مقتضٍ لذلک، یمکن للشارع أن یرفع الید عنه بجریان الاصول فیه.

و عرفت أیضاً: أنّه لا مانع عقلیّ من جریانها فی أطراف العلم الإجمالی؛ بمعنی عدم لزوم المناقضة فی مقام الإرادة ثبوتاً حتّی فی الترخیص فی جمیع الأطراف، فبالنسبة إلی بعضها أیضاً کذلک.

و بعبارة اخری: وجوب موافقة الأمارة إنّما هو بحکم العقل؛ سواء کانت تفصیلیّة، أو إجمالیّة؛ بمعنی أنّ المکلّف لا یُعذر فی مخالفتها عند إصابتها للواقع، و أنّه علی فرض عدم الإصابة یکون متجرّیاً، لکن للشارع أن یرخِّص فی ترک العمل علی وفقها بجعل الاصول؛ لأجل مصلحة اقتضت ذلک، کالتوسعة و التسهیل علی المکلّفین و نحو ذلک، لا لأجل تقییدها بعدم قیام أصلٍ علی خلافها، کما أنّ الأحکام الواقعیّة غیر مقیّدة بعدم قیام الأمارة علی خلافها، فلا إشکال فی جواز الترخیص فی جمیع الأطراف و بعضها فی مقام الثبوت.

لکن تقدّم: أنّ الترخیص بالنسبة إلی جمیع الأطراف غیر ممکن فی مقام الإثبات؛ لوجهین:

أحدهما: أنّه و إن لم یکن هناک مانع عقلیّ منه، لکن یُعدّ ذلک عند العرف


1- نهایة الأفکار 3: 307- 308.

ص: 393

و العقلاء ترخیصاً فی المعصیة، و هو قبیح، و لأجل ذلک تنصرف أدلّة الاصول إلی غیر هذا المورد.

و ثانیهما ما تقدّم أیضاً: من أنّه لأحدٍ أن یدعی أنّ المتبادر من عدم العلم فی مثل قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء هو لک حلال)

(1) و قوله علیه السلام:

(رُفع ما لا یعلمون)

(2) و نحوه، عدم العلم البسیط، کما فی الشبهات البَدْویّة، لا عدمه بمعنی وجوده و تردّد متعلّقه بین الأزید من واحد، فلا یصدق عدم العلم علی أطراف المعلوم بالإجمال، و حینئذٍ فلا تشمله هذه الروایات و أنّها مختصّة بالشبهات البَدْویّة. هذا بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة.

لکن هل یتأتی الوجهان بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة؛ بأن یُقال: إنّ مقتضی الوجهین انصراف أدلّة الاصول عن جمیع أطراف المعلوم بالإجمال، و عدم جریانها فی بعض الأطراف أیضاً، أو لا؟

لا إشکال فی أنّ الترخیص فی ارتکاب بعض الأطراف لیس بمثابة الترخیص فی جمیعها فی استنکار العرف ذلک، و عدّهم ذلک ترخیصاً فی المعصیة، و أنّه فرق بینهما عندهم، و حینئذٍ فلا مانع من هذه الجهة من شمول إطلاق أدلّة الاصول- علی فرض ثبوت الإطلاق لها- بالنسبة إلی بعض الأطراف.

نعم لو قلنا: بعدم إطلاق لها یشمل هذا المورد فمقتضی العلم الإجمالی هو وجوب الموافقة القطعیّة؛ بمراعاة التکلیف المعلوم بالإجمال فی جمیع الأطراف، فلا بدّ من ملاحظة أدلّة الاصول المرخِّصة، و أنّها هل تشمل هذا المورد أو لا؟


1- الکافی 5: 313/ 40، تهذیب الأحکام 7: 226/ 989، وسائل الشیعة 12: 60، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4.
2- التوحید: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

ص: 394

فنقول: أمّا التی لسانها الرفع و التوسعة و أمثالهما، فالمتبادر منها عرفاً هو الرفع و التوسعة فیما لم تقم الحجّیّة علی التکلیف فیه لا إجمالًا و لا تفصیلًا، و حیث إنّ المفروض فیما نحن فیه قیام الحجّة إجمالًا علی ثبوت التکلیف فلا مجال لجریانها فیه، فتختصّ بالشبهات البَدْویّة.

و أمّا روایات الحِلّ فقد تقدّم الإشکال فی روایة عبد اللَّه بن سلیمان(1) سنداً و دلالةً؛ من جهة احتمال التقیّة فیها، و أمّا روایة مسعدة(2) فتقدّم أیضاً الإشکال فیها؛ من جهة عدم انطباق الکبری المذکورة فیها علی الأمثلة المذکورة فی ذیلها.

و التی یمکن الاستدلال بها فی المقام هی روایة عبد اللَّه بن سنان(3)- الصحیحة سنداً التامّة دلالةً- حیث إنّه لیس معنی

(کلّ شی ء فیه حلال و حرام فهو لک)

أنّ کلّ فردٍ من أفراد المشتبه حلال؛ لأنّه لیس فی کلّ فردٍ منها حلال و حرام، بل هو إمّا حلال، و إمّا حرام، بل معناه: کلّ شی ء اختلط فیه الحلال و الحرام، أو کلّ طبیعة لها قسمان: أحدهما حلال، و الآخر حرام، علی مسامحة فی التعبیر عنه بذلک.

و عرفت أنّ الظاهر منها الأوّل، و حینئذٍ فهی ظاهرة فی الترخیص فی خصوص الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

لکن عرفت أیضاً: عدم إمکان العمل بمضمونها و علی طبقها؛ لأنّه ترخیص لدی العرف فی المعصیة، و إذ لم یمکن الأخذ بظاهرها بالنسبة إلی جمیع الأطراف، فالأخذ بها بالنسبة إلی بعضٍ معیّنٍ من الأطراف، من غیر مرجّح، و أمّا البعض الغیر


1- تقدّم فی أوّل هذا المبحث.
2- نفس المصدر.
3- الکافی 5: 313/ 39، الفقیه 3: 216/ 92، وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.

ص: 395

المعیّن من الأطراف، فهو لیس موضوعاً لها ابتداءً لیحفظ عمومها بالنسبة إلیه، فالحکم بالترخیص فی بعض أطرافها الغیر المعیّن یحتاج إلی دلیل.

و قد ذکر لبیان شمول أدلة الترخیص فی بعض الأطراف وجوه:

الوجه الأوّل: قد یقال: (القائل الاستاذ المحقّق الحائری قدس سره) فی بیان جواز ارتکاب بعض الأطراف الغیر المعیّن بنحو التخییر: إنّه و إن لم یدلّ دلیلٌ لفظیٌّ علی الترخیص فی هذا البعض الغیر المعیّن، إلّا أنّه یمکن استکشاف الترخیص من الدلیل اللّفظی بضمیمة حکم العقل.

بیان ذلک: أنّ القضیّة المشتملة علی حکم متعلّق بعنوان من العناوین؛ علی سبیل الإطلاق أو العموم، مثل «أکرم العلماء»، یفهم منها أمران:

أحدهما: ثبوت ذلک الحکم لتمام أفراد عنوان الموضوع.

و ثانیهما: وجود ملاک الحکم فی کلّ فردٍ منها.

ثمّ إن ثبت قید یرجع إلی مادّة القضیّة فقضیّة ذلک التقیید تضییق دائرة ذلک الحکم و ملاکه معاً، کما لو قال: «لا تکرم الفسّاق منهم»، و إن ثبت قید یرجع إلی الطلب فقضیّته رفع الید عن إطلاق الطلب دون المادّة، کما إذا ورد خطاب دالّ علی وجوب إنقاذ الغریق، ثمّ اتّفق وجود غریقین، فإنّ ذلک الخطاب و إن لم یشملهما بحکم العقل؛ لقبح التکلیف بما لا یطاق، إلّا أنّه یحکم لإطلاق المادّة بوجود ملاک الوجوب فی کلیهما؛ و لهذا یستکشف العقل وجوباً تخییریّاً إن لم یکن أحدهما أهمّ، و تعیینیّاً إن کان أحدهما أهمّ.

و حینئذٍ نقول: ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ الأدلّة المرخّصة هنا و إن اختصّ حکمها بغیر صورة العلم الإجمالی- لحکم العقل بقبح الإذن فی المعصیة- إلّا أنّ اقتضاء کلّ مشکوک للإباحة یستکشف من إطلاق المادّة، و بعد تعذُّر الجری علی مقتضاه فی جمیع الأطراف یستکشف أنّ البعض- علی سبیل التخییر-

ص: 396

مرخَّص فیه؛ حیث لا ترجیح للبعض المعیّن(1). انتهی.

و لکن أجاب هو قدس سره عن ذلک: بأنّ هذا الحکم من العقل إنّما هو فیما یقطع بعدم المانع فی الجری علی طبق أحد الاقتضاءین، کما فی مثال الغریقین، و أمّا فیما نحن فیه فکما أنّ الشکّ یقتضی الترخیص، کذلک العلم الإجمالی یقتضی الاحتیاط، و لعلّ اقتضاء العلم أقوی فی نظر الشارع، فلا وجه لقطع العقل بالترخیص(2). انتهی.

و هو جیّد حسن.

الوجه الثانی الذی قیل لبیان شمول أدلّة الترخیص فی بعض الأطراف: أنّ فی قوله علیه السلام:

(کلّ شی ء فیه حلال و حرام)

عموماً و إطلاقاً أحوالیّاً، کما لو قیل: «أکرم العلماء»، فإنّه عامّ بالنسبة إلی کلّ واحد من أفراد العلماء، و مطلق بالنسبة إلی حالات الأفراد، فإنّ عموم الحکم بالحلّیّة شامل لکلّ واحد من الأطراف حال ارتکاب الباقی و عدمه، کما فی «أکرم العلماء»، فإنّه عامّ بالنسبة إلی کلّ فرد من أفرادهم، و مطلق بالنسبة إلی إکرام الباقین و عدمه.

و حینئذٍ نقول: المفروض عدم جواز الأخذ و التمسّک بهذا العموم و الإطلاق معاً بالنسبة إلی جمیع الأطراف؛ لأنّه إذنٌ فی المعصیة و هو قبیح، فالأمر دائر بین رفع الید عن العموم و الإطلاق معاً بترک العمل به فی جمیع الأطراف، و بین رفع الید عن الإطلاق بتقییده جواز ارتکاب بعض الأفراد بحال عدم ارتکابه البعض الآخر؛ أی الأخذ بالعموم، و تقیید الإطلاق الأحوالی؛ و رفع الید عنه، و الثانی هو المتعیّن إعمالًا للدلیل بقدر الإمکان؛ لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، فلا مانع من التمسّک بقوله:

(کلّ شی ء فیه حلال و حرام)

بالنسبة إلی البعض الغیر المعیّن من الأطراف(3).


1- درر الفوائد: 458- 459.
2- درر الفوائد: 459.
3- درر الفوائد: 458.

ص: 397

انتهی ملخّصاً.

أقول: لا ریب فی أنّ کلّ واحد من أطراف العلم الإجمالی لیس من أفراد عموم قوله:

(کلّ شی ء فیه حلال و حرام حتّی تعرف الحرام)

؛ لما عرفت من أن کلّ طرف من أطراف العلم الإجمالی لا یصدق علیه أنّه شی ء فیه حلال و حرام، بل هو إمّا حلال و إمّا حرام واقعاً، بل مصداقه الشی ء المختلط فیه الحلال و الحرام، کقطیع غنم یعلم أنّ فرداً منه مغصوب أو موطوء، فهذا مصداق واحد لتلک الکبری الکلّیّة، و کلّ واحد من أفراده أجزاء لهذا المصداق، و القطیعُ الآخر- الذی علم فیه فرد کذلک- مصداقٌ آخر له، و مقتضی الأخذ بالعموم هو الحکم بالحلّیّة فی کلّ واحد من هذه المصادیق؛ أی مجموع هذا القطیع و ذاک القطیع، و المفروض عدم جواز الأخذ به؛ لأنّه ترخیص فی المعصیة، و معنی الإطلاق فیه: هو أنّ الحکم ثابت فی هذا القطیع؛ سواء حُکم به فی القطیع الآخر، أم لا، و تقیید إطلاق هذه الکبری الکلّیّة لا یفید ما هو بصدده؛ من جواز الأخذ بها فی بعض أفراد القطیع، فمنشأ الاشتباه توهّم: أنّ کلّ واحد من أطراف العلم الإجمالی مصداق للکبری المذکورة، و قد عرفت فساده.

و قال المیرزا النائینی قدس سره فی بیان عدم الدلیل علی التخییر فیما نحن فیه ما حاصله: أنّ الموارد التی حکمنا بالتخییر فیها مع عدم دلیل خاصّ علیه إنّما هو لأحد أمرین:

أحدهما: اقتضاء الدلیل و الکاشف للتخییر.

ثانیهما: اقتضاء المدلول و المنکشف ذلک.

فمن الأوّل: ما لو ورد «أکرم العلماء»، ثمّ علم بخروج زید و عمرو عن ذلک العموم، لکن شکّ فی أنّ خروجهما: هل هو علی سبیل الإطلاق؛ بحیث لا یجب إکرام کلّ واحد منهما بحال من الأحوال، أو أنّه لیس علی وجه الإطلاق، بل خروج کلّ واحدٍ منهما مشروط بحال إکرام الآخر، و الوظیفة فی مثل ذلک التخییرُ؛ بإکرام

ص: 398

أحدهما دون الآخر؛ لأنّ القدر المتیقّن من المُخْرَج هو ذلک؟

و من الثانی: ما لو تزاحم واجبان فی مقام الامتثال؛ لعدم القدرة علی الجمع بینهما، فإنّ التخییر بینهما إنّما هو لأجل اقتضاء أنّ المجعول فی باب التکالیف معنیً یقتضی التخییر فی امتثال أحد المتزاحمین، فإنّ العقل یستقلّ حینئذٍ بصرف القدرة فی أحدهما تخییراً: إمّا لأجل تقیید التکلیف فی کلّ واحدٍ منهما بحال عدم امتثال الآخر، و إمّا لأجل سقوط التکلیفین معاً، و استکشاف العقل حکماً تخییریّاً؛ لوجود الملاک التامّ فی کلّ واحد منهما.

و علی أیّ حال فالتخییر فی هذا الباب لم ینشأ من ناحیة الدلیل، بل من ناحیة المدلول.

إذا عرفت ذلک نقول: إنّ القول بالتخییر- فی باب تعارض الاصول- ممّا لا شاهد علیه؛ لا من ناحیة الدلیل و الکاشف، و لا من ناحیة المدلول و المنکشف:

أمّا الأوّل: فواضح، فإنّ دلیل اعتبار کلّ أصل من الاصول العملیّة إنّما یقتضی جریانه عیناً؛ سواء عارضه أصل آخر، أم لا، و لیس فی الأدلّة ما یوجب التخییر فی إجراء أحد الأصلین.

و أمّا الثانی: فلأنّ المجعول فی باب الاصول العملیّة لیس إلّا الحکم بتطبیق العمل علی مؤدّی الأصل: إمّا بقید أنّه الواقع، کما فی التنزیلیّة منها، و إمّا لا بقید ذلک، کما فی غیر التنزیلیّة منها، مع انحفاظ الحکم الظاهری باجتماع القیود الثلاثة- أی: الجهل بالواقع، و إمکان الحکم علی المؤدّی بأنّه الواقع، و عدم لزوم المخالفة العملیّة- و حیث إنّه یلزم من جریان الاصول فی أطراف العلم الإجمالی مخالفة عملیّة، فلا یمکن جعلهما معاً، و لا دلیل علی التخییر فی إجراء أحدهما؛ لا من ناحیة الدلیل، و لا من ناحیة المدلول(1). انتهی.


1- فوائد الاصول 4: 28- 31.

ص: 399

أقول: أمّا ما ذکره من القسم الأوّل- الذی جعل التخییر فیه مقتضی الدلیل و الکاشف- فلنا أن نقول: إنّه و إن کان کذلک، لکنّه مقتضی المدلول و المنکشف فیه، لا الدلیل و الکاشف؛ و ذلک لأنّ التخییر فیه ناشٍ عن احتمال کون المخصِّص المجمل تخییریّاً؛ لتردّده بین أن یکون تخییریّاً أو تعیینیّاً، و القدر المتیقّن من التخصیص أنّه بنحو التخییر، لا لجریان أصالة العموم بالنسبة إلی أحدهما؛ و ذلک لأنّه- علی فرض کونه تعیینیّاً- لا تخییر فیه أصلًا، و علی فرض کونه تخییریّاً فالتخییر واقع، فحیث إنّه مردّد بین التعیینی و التخییری، فالقدر المتیقّن هو أنّه بنحو التخییر، فحیثیّة التخییر إنّما هی مقتضی التردّد و احتمال التخییر، و العموم و إجمال المخصِّص فیه و إن کانا متحقّقین أیضاً، لکن التخییر لیس مقتضاهما.

و یدلّ علی ذلک: أنّه لو فرض تردّد المخصِّص بین الأقلّ و الأکثر؛ بأن احتمل خروج زید فقط، أو هو مع عمرو، فالمتعیّن هو الحمل علی المتیقَّن، و هو خروج زید فقط؛ و لیس ذلک إلّا لأجل تردّد المخصّص بینهما و تیقّن خروج الأقلّ، و الأکثر مشکوک الخروج، فیبقی العامّ علی عمومه بالنسبة إلی الأقلّ، فکذلک ما نحن فیه.

و أمّا القسم الثانی- الذی ذکر قدس سره أنّ التخییر فیه مقتضی المدلول و المنکشف- فلنا أن نقول: إنّ التخییر فی المتزاحمین مقتضی الدلیل و الکاشف، لا المدلول و المنکشف؛ و ذلک لأنّ الحاکم بالتخییر فی المتزاحمین بعد تعذُّر الجمع بینهما: هو العقل الکاشف عن الواقع(1).

و أمّا ما نحن فیه- أی الأصلان المتعارضان- فیمکن أن یقال: إنّ التخییر فیه مقتضی الدلیل و الکاشف؛ حیث إنّ العقل یحکم بالتخییر بینهما، و هو کاشف عنه- بعد عدم إمکان الأخذ بمؤدّی الأصلین و الجمع بینهما؛ لأنّه ترخیص فی المعصیة-


1- لا یخفی أنّ العقل حاکم بالتخییر، لا أنّه مقتضٍ له، و المقتضی له هو وجود الملاک فی کلیهما، مع عدم إمکان الجمع بینهما. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 400

بالتخییر بینهما و العقل کاشف عنه.

کما أنّه یمکن أن یقال: إنّه مقتضی المدلول و المنکشف؛ حیث إنّ المقام نظیر المتزاحمین اللذین ذکر هو قدس سره أنّ التخییر فیهما مقتضی المدلول؛ لأنّه کما أن وجوب إنقاذ کلّ واحدٍ من الغریقین مع تعذّر الجمع بینهما اقتضی التخییرَ بینهما؛ لوجود الملاک التامّ فی کلّ واحدٍ منهما، فکذلک ما نحن فیه بعد عدم إمکان إجراء الأصلین و العمل بمؤدّاهما.

فالحقّ- فی بیان عدم جواز إجراء الاصول فی بعض الأطراف- ما ذکرناه فی أصالة الحلّ و الاستصحاب.

ثمّ إنّه یظهر من الشیخ الأعظم قدس سره و کذا المیرزا النائینی رحمه الله: أنّ معنی الترخیص فی بعض الأطراف، یرجع إلی جعل الطرف الآخر بدلًا عمّا ارتکبه لو صادف الواقع، لکن لیس للبدلیة شاهد من الأخبار(1). انتهی.

أقول: لا یُعقل جعل بدلیّة بعض الأطراف للبعض الآخر فی بعض الموارد، فإنّ منها ما لو علم بحرمة أحد الشیئین و استحباب الآخر، فلو ارتکب أحدهما و ترک الآخر، فصادف أنّ ما ارتکبه خمرٌ، فمعنی بدلیّة ترک المستحبّ عن ترک الحرام هو بدلیّة المستحبّ عن الحرام، مع أنّ المستحبّ ذو مصلحة غیر ملزمة، و الحرام ذو مفسدة ملزمة، و لا یعقل بدلیّة ذی المصلحة عن ذی المفسدة، و کذا لو علم بأنّ أحد الشیئین- لا علی التعیین- واجب، و الآخر مکروه، فإنّه لو ترک أحدهما، فصادف أنّه الواجب واقعاً، مع أنّه لا معنی لبدلیّة فعل المکروه عن الواجب، نعم للشارع أن یرخّص فی بعض الأطراف؛ إذ لا مانع منه عقلًا و لا عرفاً، و لکن لیس مرجعه إلی بدلیّة بعض الأطراف عن بعض، بل معناه الإغماض و رفع الید عن الحکم الواقعی لو صادفه، کما فی موارد قاعدة التجاوز و الفراغ و الشکّ بعد


1- فرائد الاصول: 242 سطر 8، 245 سطر 3 و انظر فوائد الاصول 4: 35.

ص: 401

الوقت، فإنّه فی هذه الموارد لم یأتِ بشی ء حتّی یکون بدلًا عمّا ترکه.

مضافاً إلی أنّ الترک عبارة عن عدم الإتیان بالفعل، و هو غیر قابل لأنْ یجعل بدلًا عن شی ء.

تنبیهات
التنبیه الأوّل: عدم اشتراط الاحتیاط بوحدة حقیقة المشتبهین

المستفاد من قواعد الأصحاب اختصاص وجوب الاحتیاط بما إذا کان المشتبهان مندرجین تحت حقیقة واحدة، و أمّا إذا لم یکونا کذلک، کما لو علم إمّا بغصبیّة ذلک الإناء، أو خمریّة ذاک، فلا یجب الاحتیاط فیه(1).

لکنه خلاف التحقیق؛ لعدم الفرق بینهما، فإنّ فی الثانی أیضاً یعلم إجمالًا بتوجّه تکلیف منجّز علیه یجب مراعاته؛ سواء کان لأجل غصبیّة ذلک، أو خمریّته.

التنبیه الثانی: تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیّات
اشارة

لو کان أطراف العلم الإجمالی متدرجة الوجود أی التی لا یوجد الطرف الثانی فیه إلّا بعد انعدام الأوّل- فهل هو کغیر متدرّجة الوجود فی وجوب مراعاة العلم الإجمالی، أو لا؟

کما لو علم إمّا بوجوب إکرام زید الیوم، أو إکرامه غداً، و فرض أنّ الغد ظرف إکرامه، لا أنّه قید للحکم أو الموضوع.

و قد یکون فی الطرف الثانی فی المثال بنحو الشرطیة؛ کأن علم إمّا بوجوب إکرام زید الیوم، و إمّا بوجوب إکرامه غداً لو طلعت الشمس؛ أی بنحو یجعل طلوع


1- انظر الحدائق الناضرة 1: 517.

ص: 402

الشمس شرطاً لوجوب إکرامه، فلا یتحقّق الوجوب ما دام لم یتحقّق طلوع الشمس فی الغد.

و قد یکون أحد الأطراف بنحو الواجب التعلیقی؛ بأن یجعل الغد فی المثال قیداً للموضوع- أی الواجب- و حینئذٍ لا مانع من تعلّق الوجوب و الإرادة بإکرام زیدٍ غداً.

فهذه أقسام ثلاثة:
أمّا القسم الأوّل و الثالث

- أی ما لو علم بالحکم مطلقاً منجّزاً فی الأوّل، و معلّقاً فی الثالث فی بعض الأطراف؛ بأن یکون الوجوب فعلیّاً و الواجب مقیّداً- فلا فرق بینهما و بین الأطراف الغیر المتدرّجة فی لزوم مراعاته؛ للعلم بتوجّه تکلیف مطلق إلیه، فوجب علیه مراعاته بإتیان جمیع الأطراف أو ترکها؛ لأنّ الحکم فی الواجب المعلّق أیضاً فعلیّ، و الواجب مقیّد.

و أمّا القسم الثانی:

فمع العلم الوجدانی بالتکلیف المردّد بین الحکم المطلق الفعلیّ و بین المشروط بالغد، فیجب مراعاته عقلًا؛ لأنّه و إن لم یعلم بتوجّه تکلیف فعلیّ إلیه- لاحتمال عدم تحقّق شرطه، و احتمال أنّه الطرف المشروط- لکنّه یعلم بوجود الغرض الملزم فی أحد هذه الأطراف، فمع العلم بأنّ للمولی غرضاً فی حکم ما یجب اتّباعه، و إن لم یؤمر به للغفلة عنه و نحوها فی الموالی العرفیّة، کما لو علم بغرق ابن المولی و المولی غافل أو نائم، و لکن یعلم بأنّه لو علم به لأمره بإنقاذه، فإنّه یجب علی العبد إنقاذه، کما لا یخفی.

بل لو أمره بقتل شخص لزعمه أنّه عدوّه، لکن علم العبد خطاءه، و أنّه صدیقه، لا یجب- بل لا یجوز له- قتله.

فحیث إنّ المفروض أنّه عالم بوجود غرضٍ للمولی فی أحد الأطراف، وجبت علیه مراعاته.

ص: 403

و أمّا مع عدم العلم الوجدانی بالتکلیف، لکن قامت أمارة معتبرة: إمّا علی وجوب هذا بالفعل، أو ذاک مشروطاً بشرط لم یتحقّق شرطه بعدُ، فیمکن أن یقال:

بعدم وجوب الاحتیاط؛ لعدم العلم بالتکلیف الفعلیّ المنجَّز قبل تحقّق الشرط و لا بعده؛ لأنّه بعد تحقّقه یحتمل کون الواجب هو الطرف الآخر الغیر المشروط، المفروض مضیّ وقته، و المفروض عدم علمه بوجود غرضٍ له لأنّ المفروض عدم العلم الوجدانی فیه.

و لکنّ الإنصاف خلافه؛ و ذلک لأنّه مع قیام الأمارة: إمّا علی وجوب هذا بالفعل، أو وجوب ذلک مشروطاً بشرط سیتحقّق قطعاً، فهو غیر معذور فی المخالفة عند العرف و العقلاء، فإنّه لو علم تفصیلًا بوجوب فعلٍ مشروطاً بشرط یتحقّق بعد ذلک قطعاً، فترک مقدّماته و لو قبل تحقّق الشرط، فتعذّر علیه الامتثال بعد تحقّقه؛ لترکه مقدّماته، لما کان معذوراً عند العقلاء، بل یعدّ عاصیاً.

ففیما نحن فیه؛ أی ما لو قامت الأمارة المعتبرة علی نحو ما ذکر من التکلیف المردّد بین الواجب الفعلیّ و المشروط، أیضاً کذلک مع العلم بأنّه یتحقّق الشرط، فلا بدّ من مراعاة کلٍّ منهما، و لا یقبل عذره فی المخالفة.

و حینئذٍ فلا فرق بین الأقسام الثلاثة کلّها فی وجوب مراعاة العلم الإجمالی، خلافاً للشیخ الأعظم قدس سره حیث اختار جواز الارتکاب و المخالفة؛ لأجل خروج الطرف الآخر عن مورد ابتلاء المکلّف(1).

التنبیه الثالث: فی شرائط تنجیز العلم الإجمالی
اشارة

یعتبر فی تنجیز العلم الإجمالی و لزوم الموافقة القطعیّة العلمُ بتأثیر التکلیف المعلوم بالإجمال علی کلّ تقدیر؛ و أنّ کلّ واحد من الأطراف لو فرض القطع


1- انظر فرائد الاصول: 252 سطر 6.

ص: 404

بحرمته تفصیلًا تنجّز التکلیف علیه.

فإن لم یکن کذلک؛ بأن لم یعلم بالتکلیف أصلًا، کما لو وقعت قطرة من البول فی أحد إناءین أحدهما بول، فإنّه علی تقدیر وقوعها فیه لا أثر له، فلا یعلم بحدوث تکلیف منجّز علیه و لو إجمالًا، فإنّ العلم بوقوعها فی أحد الإناءین لا یؤثر فی التنجیز.

و کذلک فیما لا یکون التکلیف فعلیّاً علی فرض وجوده فی بعض الأطراف، بل مجرّد حکم إنشائی، فلا یؤثّر العلم الإجمالی بهذا النحو فی وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، کما لو اضطرّ إلی ارتکاب بعض الأطراف.

أقسام الاضطرار
اشارة

و تفصیل الکلام فی صورة عروض الاضطرار هو أنّه إمّا یتحقّق الاضطرار قبل توجّه التکلیف و قبل العلم به، کما لو اضطرّ إلی شرب أحد الإناءین، ثمّ تعلّق التکلیف، ثمّ حصل العلم الإجمالی بحرمة أحدهما.

أو یتحقّق الاضطرار بعد تعلّق التکلیف و قبل حصول العلم به، أو یتقدّم التکلیف علی العلم به، ثمّ یعرض الاضطرار.

و یمکن تصوّر أقسام اخر کتقدّم الاثنین منها علی الآخر، و تأخّرهما.

و علی أیّ تقدیر، قد یعرض الاضطرار علی ارتکاب طرف معیّن من الأطراف، أو علی أحد الأطراف لا بعینه.

و علی أیّ حال الاضطرار إمّا عقلیّ، فیبحث فیه عن حکم العقل حینئذٍ، و إمّا عادیّ و عرفیّ، فیبحث حینئذٍ عن حکمه الشرعی، مثل قوله علیه السلام:

(رُفع ما اضطُرّوا

ص: 405

إلیه)

(1) و نحوه.

فهذه أقسام الاضطرار إلی ارتکاب بعض الأطراف نذکر حکم بعضها، و یظهر منه حکم الباقی.

فنقول: أمّا لو اضطرّ إلی ارتکاب أحد الأطراف بعینه- کشرب ماء هذا الإناء- ثمّ علم إمّا بنجاسته، أو نجاسة إناء آخر، فالحقّ فیه عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر أیضاً؛ سواء قلنا بسقوط التکالیف الشرعیّة فی موارد الأعذار عن الفعلیّة- کما هو مذهب القوم(2)- أم قلنا: بأنّها فعلیّة باقیة علی فعلیتها، کما فی صورة عدم العذر، غایة الأمر أنّه معذور فی مخالفة ذلک الحکم الفعلیّ و غیر معاقب علیه؛ لمکان العذر.

أمّا علی الأوّل فواضح؛ لأنّه لا یعلم حینئذٍ بتکلیف فعلیٍّ فی البین، فلیس علیه حجّة.

و أمّا علی الثانی المختار فیمکن أن یقال بلزوم الاجتناب و الاحتیاط بمراعاة الطرف الآخر، و وجوب الاجتناب علیه لأنّ المفروض أنّ التکلیف فعلیّ علی أیّ تقدیر، حتّی بالنسبة إلی الطرف المضطرّ إلیه، غایة الأمر أنّه لو کان فی هذا الطرف فهو معذور فی مخالفته، لکنّه لیس معذوراً علی فرض وجوده فی الطرف الآخر الغیر المضطرّ إلیه، فلا مؤمّن من العقوبة بالنسبة إلیه، کما لو عجز عن موافقة بعض الأطراف، فإنّ عدم القدرة فی طرف لیست عذراً فی غیره من الأطراف.

و فیه: أنّ هذا إنّما یتمّ فیما لو شکّ فی أصل القدرة و العذر، و أمّا لو علم بعدم القدرة أو العذر فلا، و ما نحن فیه کذلک، فإنّ المفروض أنّ المکلّف مضطرّ إلی


1- التوحید: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.
2- کفایة الاصول: 408، فوائد الاصول 4: 53، نهایة الأفکار 3: 338.

ص: 406

ارتکاب أحد الأطراف بعینه، و أنّه علی فرض کون المکلّف به هو ذلک المضطرّ إلیه، لا یصحّ للمولی الاحتجاج به و العقاب علیه، فمرجع الشکّ فی المقام إلی الشکّ فی وجود حکمٍ فعلیٍّ صالحٍ للاحتجاج به علی العبد، و لا یکفی مجرّد العلم بفعلیّة التکلیف ما لم یصلح للاحتجاج به، و لا یعلم فیما نحن فیه بصلاحیّته للاحتجاج به؛ للعلم التفصیلی بعدم صلاحیّته له لو کان متعلّقاً بهذا الطرف المضطرّ إلیه، و المفروض احتمال ذلک.

هذا کلّه فیما لو اضطرّ إلیه قبل التکلیف و العلم به.

و أمّا لو اضطرّ إلی البعض المعیّن بعد تعلُّق التکلیف و قبل العلم به، أو اضطرّ إلیه مقارناً للعلم بالتکلیف، فالحکم فیه کما فی الصورة الاولی.

و لو اضطرّ إلی أحد الأطراف بعینه بعد العلم بالتکلیف؛ بأن علم بأنّ أحد هذین الإناءین نجس، ثمّ اضطرّ إلی شرب أحدهما المعیّن، فالحقّ فیه وجوب الاحتیاط و الاجتناب عن الآخر؛ لأنّ المفروض تنجُّز التکلیف علیه: بالعلم به قبل عروض الاضطرار و بعد عروضه یسقط وجوب الموافقة القطعیّة، و أمّا جواز المخالفة القطعیّة فلا وجه له، فلا بدّ من مراعاة التکلیف فی الطرف الآخر.

و بالجملة: مجرّد الشکّ فی أنّ المضطرّ إلیه هو المکلّف به أولا، کافٍ فی لزوم مراعاة الطرف الآخر و اجتنابه، لا لأجل الاستصحاب، بل لأجل عدم العذر بالنسبة إلی الطرف الآخر لو کان هو المکلّف به واقعاً.

و هذا نظیر فقْدِ بعض الأطراف بعد العلم بالتکلیف، فإنّه لا إشکال فی وجوب الاجتناب عن الباقی و أمّا لو اضطُرّ إلی ارتکاب أحد الأطراف لا بعینه؛ بأن اضطُرّ إلی شرب أحد الإناءین اللَّذینِ عُلم بنجاسة أحدهما، فالحقّ فیه وجوب الاجتناب عن باقی الأطراف مطلقاً- سواء کان الاضطرار بعد العلم بالتکلیف، أم قبله- عقلًا و شرعاً؛ و ذلک لأنّ المجوِّز لارتکاب باقی الأطراف أحد امور ثلاثة:

ص: 407

الأوّل: أن یوجب الاضطرار رفع التکلیف و سقوطه بالکلّیّة.

الثانی: أن یمنع عن فعلیّته.

الثالث: أن یوجب سقوطه عن الصلاحیّة للاحتجاج به علی العبد.

و الاضطرار إلی البعض الغیر المعیّن لا یوجب شیئاً من هذه الامور، و السرّ فیه عدم تعلّق الاضطرار بخصوص ما تعلّق به التکلیف؛ لأنّ المفروض أنّ المضطرّ إلیه أحد الأطراف لا بعینه، و أنّ ارتکاب أحدهما لا بعینه کافٍ فی رفع الاضطرار، و هو لا یتعیّن فی خصوص متعلّق التکلیف، و حینئذٍ فإذا اختار طرفاً منها للاضطرار إلیه، فصادف تعلّق التکلیف به واقعاً، فهو معذور، و أمّا لو ارتکب الآخر أیضاً، و صادف تعلّق التکلیف به واقعاً، فهو غیر معذور فی ارتکابه؛ لرفع الاضطرار بارتکاب الأوّل، فللمولی بالنسبة إلی الطرف الآخر الحجّة علی العبد.

و الفرق بین هذه الصورة و الصورة الاولی- المفروض فیها الاضطرار إلی أحد الأطراف بعینه قبل العلم بالتکلیف- هو أنّ الاضطرار إلی المعیّن منها یوجب عدم العلم بالتکلیف الفعلی، أو الصالح للاحتجاج به حینئذٍ؛ لاحتمال أنّ المکلّف به هو المضطرّ إلیه، بخلاف هذه الصورة، فإنّ المفروض عدم الاضطرار إلی البعض المعیّن منها؛ بحیث لو تبدّل علمه الإجمالی إلی العلم التفصیلی به فی أحد الأطراف، وجب أن یرفع اضطراره بارتکاب الآخر، فانطباق المکلّف به علی المضطرّ إلیه مستند إلی جهله به.

و الحاصل: أنّ جهله بالمکلّف به صار سبباً لانطباق المضطرّ إلیه علی المکلّف به.

ص: 408

مختار المحقّق الخراسانی

و منه یظهر: ما فی کلام المحقّق الخراسانی من الإشکال؛ حیث ذکر: أنّ الاضطرار إلی بعض الأطراف یوجب الترخیص فی الباقی فی جمیع أقسام الاضطرار و الصور المتقدّمة؛ معلّلًا بأنّ عدم الاضطرار من حدود التکلیف و قیوده، و بهذا یفرّق بینه و بین ما إذا فقد بعض الأطراف؛ حیث إنّه یبقی التکلیف بالاجتناب عن باقی الأفراد فی الثانی؛ لأنّ عدم الفقدان لیس من حدود التکلیف و قیوده، بخلاف الاضطرار، فإنّ عدمه من حدوده(1).

و ذهب فی الحاشیة: إلی التفصیل بین صورة الاضطرار إلی البعض المعیّن من الأطراف، و بین الاضطرار إلی البعض الغیر المعیّن منها، فیجب الاجتناب عن الباقی فی الأوّل، دون الثانی(2).

فإنّه یرد علیه: أنّه إن أراد أنّ الاضطرار من حدود التکلیف بحکم العقل، ففیه:

أوّلًا: ما تقدّم: من أنّه لا سبیل للعقل إلی تقیید الأحکام الشرعیّة و تحدیدها، و أنّ الأحکام الشرعیّة غیر مقیّدة بعدم عروض الأعذار العقلیّة کالاضطرار و العجز، بل هی مطلقة فعلیّة شاملة لموارد الأعذار العقلیّة أیضاً، غایة الأمر أنّ العبد معذور فی المخالفة، و حینئذٍ فلا فرق بین الاضطرار إلی ارتکاب بعض الأطراف، و بین فقد بعض الأطراف؛ فی أنّ شیئاً منهما لیس من حدود التکلیف.

و ثانیاً: سلّمنا ذلک، لکنّ الاضطرار فی هذه الصورة لیس متعلّقاً بما تعلّق به التکلیف؛ لیرتفع التکلیف بسبب عروضه؛ لأنّ المفروض اضطراره إلی البعض الغیر


1- کفایة الاصول: 408- 410.
2- کفایة الاصول: 409 الهامش 1.

ص: 409

المعیّن، و علی فرض انطباق ما ارتکبه- من الطرف المضطرّ إلیه- علی المکلّف به، فسببه الجهل بالمکلّف به، و إلّا فلو علم تفصیلًا بالمکلّف به فالواجب صرف الاضطرار إلی سائر الأطراف.

و إن أراد أنّ الاضطرار من حدود التکلیف شرعاً، یرد علیه الإشکال المتقدّم ذکره أیضاً.

مضافاً إلی أنّ قوله علیه السلام:

(رُفع ما اضطُرّوا إلیه)

معناه: رفع الحکم الشرعی بسبب طروّ الاضطرار إلی ارتکاب متعلّقه، و فیما نحن فیه لم یتعلّق الاضطرار بما تعلّق به التکلیف، بل إلی أحدهما الغیر المعیّن، و قد عرفت: أنّ انطباق ما اختاره من أحد أطراف الاضطرار علی المکلّف به مستند إلی جهله به، و لا یشمل

(ما لا یعلمون)

(1) ذلک الجهل أیضاً.

التنبیه الرابع: فی شرطیّة الدخول فی محل الابتلاء لتنجیز العلم الإجمالی
اشارة

قد عرفت: أنّه یعتبر فی تنجیز العلم الإجمالی تأثیره علی أیّ تقدیر؛ بأن یکون منجِّزاً للتکلیف لو فرض العلم التفصیلی به فی کلّ واحد من الأطراف.

و فرّعوا علی ذلک: اعتبار دخول کلّ واحد من الأطراف فی مورد ابتلاء المکلّف، و أنّه لو خرج بعض الأطراف عن الابتلاء عقلًا فلا أثر له فی التنجیز.

و کذلک لو خرج بعضها عنه من جهة أنّه فی مکان لا یتمکّن المکلّف من الوصول إلیه عادةً، کما لو علم إجمالًا إمّا بنجاسة هذا الإناء، أو إناء آخر فی هند.

و کذلک لو خرج بعضها عن تحت قدرته و اختیاره عقلًا أو عادةً.


1- التوحید: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

ص: 410

فقالوا: إنّ العلم الإجمالی فی هذه الموارد غیر مؤثّر فی هذا الفرد و الطرف الآخر أیضاً، فلا تجب مراعاة التکلیف فیه أیضاً؛ لعدم العلم بالتکلیف حینئذٍ؛ حیث إنّ النهی عمّا لیس مورداً للابتلاء، أو عن ما هو خارج عن تحت قدرته لغوٌ، فإنّ ما هو خارج عن الابتلاء أو غیر مقدور للمکلّف متروک قهراً، و لا یفتقر إلی النهی فی ترکه، فالنهی عنه حینئذٍ قبیح مستهجن، یمتنع صدوره من الحکیم، و کذلک الأمر بما لا یتمکّن المکلّف من ترکه أو إیجاده، کالأمر بالتنفّس؛ فإنّه ضروریّ للإنسان لا ینفکّ عنه(1).

و بعبارة اخری: حیث إنّ الأمر و النهی هما لغرض بعث المکلّف و زجره و تحریکه نحو الفعل أو الترک؛ لدرک المصلحة الکامنة فیه أو دفع المفسدة، فهو حاصل بدون الأمر و النهی؛ لانزجار المکلّف عمّا هو خارج عن ابتلائه أو عن قدرته بدون النهی، و کذلک الأمر بما لا یقدر علی ترکه من مثل التنفّس، فهما فی هذه الموارد التی لا یترتّب علیهما الانبعاث و الانزجار بلا فائدة و لا أثر، فیکونان قبیحین لا یمکن صدورهما من الحکیم، حتّی أنّ الشیخ الأعظم قدس سره ذکر: أنّه ینحلّ بذلک الإشکال فی ما علم بعدم وجوب الاجتناب فیه من الشبهة المحصورة فی موارد:

أقول: ما لو علم إجمالًا بوقوع النجس إمّا فی إنائه، أو فی موضع من الأرض التی لا یُبتلی بها المکلّف.

أو ما لو علم إجمالًا إمّا بوقوعه فی ثوبه، أو ثوب الغیر، فإنّ الثوبین من الشبهة المحصورة.

أو ما لو علمت الزوجة إمّا أنّها هی المطلّقة أو اختها.

فإنّه لا یجب الاجتناب فی الأوّلین، و یجوز لکلّ واحدةٍ من الاختین ترتیب


1- انظر فرائد الاصول: 250- 251، و فوائد الاصول 4: 54- 55، و نهایة الأفکار 3: 338.

ص: 411

آثار الزوجیّة مع زوجها.

و کذلک ما یستفاد من کلمات الأصحاب من عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الذی عُلم بوقوع النجس فیه أو فی خارجه.

و یؤیّد ما ذُکر: صحیحة علی بن جعفر(1) الواردة فیمن رعف فامتخط، فصار الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه ...(2).

و فصّل بعضهم: بین الأمر و النهی؛ و أنّ اعتبار الابتلاء إنّما هو فی النهی دون الأمر(3).

و فصّل آخرون(4): بین القدرة العقلیّة و الخارج عن مورد الابتلاء، فاشترط الاولی دون الثانی.

و لکن لا فرق بین الصور المذکورة. انتهی.

أقول: لو فرض أنّ الخطابات الشرعیّة شخصیّة جزئیّة؛ و أنّ لکلّ مکلّف خطاباً مستقلّاً یخصّه؛ و لو علی القول بانحلال الخطابات المتضمّنة للتکالیف العامّة الکلّیّة إلی خطابات و تکالیف جزئیّة شخصیّة بعدد أشخاص المکلّفین، و لاحظنا کلّ واحد من هذه الخطابات بخصوصه لاعتبر فیها- مضافاً إلی القدرة العقلیّة و العادیّة، و الدخول فی مورد الابتلاء فی صحّة الخطاب و التکلیف؛ لاستهجان تکلیف العاجز عن فعل به أمراً و نهیاً، کما تقدّم بیانه- عدمُ العلم بعدم انبعاث المکلّف عن بعثه و انزجاره بزجره، و إلّا فالبعث و الزجر لغوٌ لا یمکن صدورهما من الحکیم.

و کذا بالنسبة إلی الکفّار و الجهّال؛ لعدم ترتّب الانبعاث و الانزجار علی أمره


1- الکافی 3: 74/ 16، مسائل علی بن جعفر: 119/ 64، وسائل الشیعة 1: 112، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحدیث 1.
2- فرائد الاصول: 251 سطر 3.
3- فوائد الاصول 4: 51- 52، نهایة الأفکار 3: 339.
4- نهایة الدرایة 2: 252- 253.

ص: 412

و نهیه.

و کذلک فیما لو انزجر الشخص عن شی ء بدون احتیاج إلی النهی، کما لو نهی شخصاً مؤمناً عالماً عادلًا عن کشف عورته بین الناس، فإنّه لغوٌ؛ لعدم ارتکابه ذلک بدون النهی.

بل لا بدّ من اعتبار الوقوع مورد الابتلاء فی الأحکام الوضعیّة الأصلیّة أو التابعة للأحکام التکلیفیّة أیضاً، فلا بدّ أن یلتزم بعدم نجاسة الدم أو البول الذین لیسا مورد ابتلائه؛ لکونهما فی مکان بعید لا یصل إلیه المکلّف، و کذلک عدم تکلیف مَن له امٌّ فی غایة الکِبر لا یرغب فیها أحدٌ بحرمتها علیه.

و بالجملة: یلزم عدم صحّة التکلیف بالنسبة إلی من عُلم بعدم انبعاثه و انزجاره عن البعث و الزجر بسبب من الأسباب، فالتکلیف فی جمیع تلک الموارد لغوٌ لا أثر له، لا یمکن صدوره عن العاقل، فضلًا عن الحکیم.

و فصّل المیرزا النائینی قدس سره: بین عدم القدرة و بین عدم إرادة العبد للإتیان بالمأمور به، أو عدم انزجاره عن المنهیّ عنه؛ فی قبح خطاب الأوّل دون الثانی؛ لأنّ القدرة من قیود التکلیف و حدوده، بخلاف إرادة العبد؛ لعدم إمکان جعلها من قیوده و حدوده(1).

و لکنّه ممنوع: لعدم الفرق بینهما فی ذلک؛ لأنّا لا نسلّم أنّ القدرة من قیود التکلیف و حدوده، و لزوم لغْویّة التکلیف و عدم ترتّب الأثر علیه مشترک بینهما، فکما أنّ بعث غیر القادر لغوٌ و قبیح، کذلک بعث من یعلم بعدم انبعاثه لعدم إرادته ذلک.

و قال المحقّق الشیخ محمّد حسین الأصفهانی قدس سره فی الحاشیة: إنّه لا یعتبر فی الخطابات إلّا إمکان انبعاث المکلّف و انزجاره ذاتاً أو وقوعاً، فمع وجود هذا


1- فوائد الاصول 4: 53- 54.

ص: 413

الإمکان صحّ الخطاب، و إن علم الآمر بعدم إرادة العبد للامتثال.

و فرّع علی ذلک: عدم مانعیّة الخروج عن الابتلاء عن تنجیز العلم الإجمالی؛ لإمکان الامتثال ذاتاً و إن خرج بعض الأطراف عن الابتلاء، و لا یعتبر فی التکالیف البعثیة منها و الزجریّة أزید من القدرة المعتبرة فیها عقلًا، و لا یعتبر الابتلاء به فعلًا(1). انتهی.

أقول: ما ذکره من عدم اعتبار الابتلاء حسن، لکن ما ذکره فی وجهه غیر صحیح، فإنّه لا ریب فی استهجان الخطاب و قبح التکلیف، مع علم الآمر بعدم انبعاث المأمور أو عدم انزجاره و إن أمکن ذلک ذاتاً و وقوعاً، فانقداح الإرادة من الحکیم بالبعث نحوه أو الزجر عنه مستحیل حینئذٍ، فلا یکفی فی صحّة الخطاب مجرّد الإمکان الذاتی، بل لا بدّ من إمکان الامتثال بمعنی الاحتمال.

ثمّ إنّه قدس سره نقل عن بعض أجلّة عصره فی بیان عدم اعتبار الابتلاء فی حقیقة التکلیف: أنّ حقیقة التکلیف لیست هی بمعنی البعث و الزجر و جعل الداعی و إیجاده؛ لیتوهّم الاستهجان العقلائی، بل حقیقته هو الإلزام بالفعل أو الترک، و ربّما یوجب نفس هذا الإلزام تحصیل الابتلاء، فکیف یشترط بعدم الابتلاء(2)؟!

و أجاب عنه: بالمنع ممّا ذکره، و أنّ حقیقة التکلیف لیست إلّا البعث و الزجر و إیجاد الداعی إلی الفعل أو الترک(3). انتهی.

أقول: لو سلّمنا أنّ التکلیف عبارة عن الإلزام لکن لا بدّ من اعتبار الابتلاء فی الإلزام الشخصی الجزئی، فإنّ الإلزام علی ترک ما هو متروک بنفسه- و لو مع عدم الإلزام بالترک؛ لأنّه فی بلد بعید لا یصل إلیه المکلّف- مستهجن قبیح.


1- نهایة الدرایة 2: 252- 253.
2- تشریح الاصول: 68 سطر 2.
3- نهایة الدرایة 2: 253.

ص: 414

الفرق بین الخطابات القانونیّة و الخطابات الشخصیة
اشارة

هذا کلّه فی الخطابات الشخصیة الجزئیّة فإنّه یعتبر فیها ما ذکر.

و أمّا الخطابات الکلّیّة العامّة مثل: «یا أَیُّهَا النَّاسُ»*(1) و «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»*(2) و نحوهما من الخطابات الشرعیّة، بل نوع القوانین الصادرة من جمیع الموالی، کذلک فهی کلّیّة عامّة متوجّهة إلی عموم المکلّفین.

و القول بانحلالها إلی خطابات جزئیّة شخصیّة؛ و أنّ مرجعها إلی خطاب زید و عمرو و غیرهما، لا معنی له؛ لأنّ أحرف النداء فی مثل: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»* موضوعة لإیجاد النداء، و قد استعملت فی المثال فی ذلک المعنی، و الخطاب واحد، و النداء واحد، و لکنّ المخاطبین جماعة کثیرة، و نسبته إلی جمیع المکلّفین علی حدٍّ سواء، و یشمل کلّهم حتّی العاجزین و غیرهم من ذوی الأعذار، و التکالیف فعلیّة بالنسبة إلی جمیعهم أیضاً، غایة الأمر أنّهم معذورون فی المخالفة و ترک الامتثال للعذر، و یکفی فی صحّة هذا الخطاب احتمال انبعاث بعض المکلّفین و انزجاره بهذا البعث و الزجر.

نعم لو علم الآمر بعدم انبعاث جمیعهم و عدم انزجاره فهذا الخطاب مستهجن.

و لکن یکفی فی حسنه احتمال انبعاث بعضهم و انزجاره.

و لیست التکالیف مقیّدة بعدم العجز و غیره من الأعذار، و لا بعدم الخروج عن الابتلاء، بل هما من الأعذار لترک الامتثال، و حینئذٍ فلو خرج بعض أطراف العلم الإجمالی عن الابتلاء أو عن قدرته وجبت مراعاته بالنسبة إلی الطرف أو الأطراف الاخر؛ للعلم بفعلیّة التکلیف حتّی بالنسبة إلی الخارج عن مورد ابتلاء مکلّفٍ من


1- البقرة( 2): 153.
2- آل عمران( 3): 102.

ص: 415

المکلّفین، لکنّ الخروج عنه کعدم القدرة من الأعذار لترک الامتثال، و أنّه لا یُعاقب علیه لو صادف الواقع.

فظهر من ذلک: الإشکال فیما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره و غیره من اشتراط الابتلاء فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی تنجیزه(1)، خصوصاً علی السعة التی تستفاد من کلامه قدس سره و الأمثلة المتقدّمة للخروج عن الابتلاء.

و أمّا مثال الزوجة المتقدّم ذکره فی کلامه قدس سره، فهو لیس من باب العلم الإجمالی؛ لأنّ لکلّ واحدة من الزوجتین بنفسها حکماً مستقلّاً لنفسها، و کلّ واحدة منهما شاکّة شکّاً بدویّاً فی أنّها مطلّقة أو لا، فهو خارج عمّا نحن فیه.

و أمّا صحیحة علی بن جعفر فلا بدّ من حملها علی ما حملها علیه الشیخ أبو جعفر الطوسی: من فرض القطرة ممّا لا یدرکها الحسّ، فإنّها لیست فی الشرع موضوعة لحکم(2)، و لذا لا حکم لِلَون الدم مع وجود أجزاء غیر محسوسة منه فی موضوع اللون.

و قال شیخنا الحائری قدس سره فی درسه: إنّه یمکن أن یقال بوجوب الاحتیاط فیما لو شکّ فی خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء و عدمه؛ لأنّه نظیر الشکّ فی القدرة علی الإتیان بالمکلّف به؛ حیث إنّه مع الشکّ فیها و إن لم یعلم بالخطاب و حسنه؛ إذ لا یحسن إلّا مع القدرة علیه واقعاً، لکن یستکشف وجود الملاک من إطلاق المادّة، فیلزم اتّباعه؛ لأنّ ملاکات الأحکام أیضاً لازمة المراعاة کنفس التکالیف، و کذلک فیما نحن فیه؛ حیث إنّه و إن شکّ فی حسن الخطاب و تحقّق التکلیف؛ من جهة الشکّ فی الخروج عن محلّ الابتلاء، لکن یستکشف وجود الملاک من إطلاق المادّة، فیلزم اتّباعه.


1- فرائد الاصول: 251 سطر 3، درر الفوائد: 464، فوائد الاصول 4: 50- 51.
2- الاستبصار 1: 23/ 12.

ص: 416

اللهمّ إلّا أن یفرّق بین الشکّ فی القدرة و بین الشکّ فی الابتلاء؛ باستکشاف الملاک فی الأوّل من إطلاق المادّة دون الثانی.

و استدلّ المیرزا النائینی قدس سره لذلک بوجهین:

أحدهما: ذلک المذکور(1)، و ذکر المقرّر لبحثه: أنّه یلزم علی هذا وجوبُ الاجتناب عن أحد طرفی المعلوم بالإجمال، مع العلم بخروج الآخر عن مورد الابتلاء؛ للعلم بتحقّق الملاک فی أحد الطرفین؛ لأنّ المفروض أنّه لا دَخْل للابتلاء و عدمه فی الملاک، فلو اقتضی العلم بثبوت الملاک وجوب الاجتناب عن أحد الطرفین، مع الشکّ فی خروج الآخر عن مورد الابتلاء، فلْیقتضِ ذلک أیضاً، حتی مع العلم بخروج أحدهما عن محلّ الابتلاء، مع أنّه قد تقدّم: أنّ خروج بعض الأطراف یقتضی عدم وجوب الاحتیاط بالاجتناب عن الآخر، و السرّ فی ذلک هو أنّ مجرّد وجود الملاک لا یکفی فی حکم العقل بوجوب الاجتناب.

و شیخنا الاستاذ قد أسقط هذا الوجه عن الاعتبار بعد ما کان بانیاً علیه لمّا أوردتُ علیه النقض المذکور(2). انتهی.

أقول: لا بدّ من البحث فی کلّ واحد من الشکّ فی القدرة، و الشکّ فی الخروج عن محلّ الابتلاء، و العلم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء فی المقام.

فنقول: أمّا بناءً علی مذاق القوم: من أنّ الأحکام الشرعیّة مقیّدة و محدودة- عقلًا أو شرعاً- بعدم طُرُوّ الأعذار العقلیّة(3)، فلو شکّ المکلّف فی أنّه قادر علی فعل المأمور به أو لا، فمرجعه إلی الشکّ فی التکلیف؛ لأنّ المفروض أنّ التکالیف مقیّدة و محدودة بالقدرة و مختصّة بالقادرین، فمع الشکّ فی القید- و هو القدرة-


1- فوائد الاصول 4: 55- 57.
2- و هو المحقّق الشیخ محمد علی الکاظمی قدس سره فی فوائد الاصول 4: 57، الهامش 1.
3- انظر کفایة الاصول: 408، فوائد الاصول 4: 53، نهایة الأفکار 3: 338.

ص: 417

یشکّ فی التکلیف، و حینئذٍ فلا یجب علیه الإقدام علی الإتیان بالمأمور به من ناحیة التکلیف؛ لعدم ثبوته.

و أمّا من ناحیة الملاک فإن علم بوجوده وجداناً فلا بدّ من مراعاته بالإقدام علیه؛ لما عرفت سابقاً من وجوب تحصیل غرض المولی و رعایة الملاکات و مناطات الأحکام، کما یجب مراعاة نفس التکالیف.

و کذلک لو شکّ فی الخروج عن الابتلاء و عدمه، فإنّه مع العلم الوجدانی بتحقّق الملاک؛ و وجوده فی الطرف المشکوک خروجه عن الابتلاء أو الطرف الآخر الداخل فیه، یجب علیه تحصیل الغرض و الملاک مهما أمکن؛ و لو بمراعاته فی الداخل فی الابتلاء، و إن لم یعلم بالتکلیف الفعلیّ فیه، و هکذا الحال فیما لو علم بخروج بعض الأطراف عنه.

و إن لم یعلم بذلک وجداناً- أی وجود الملاک- بل یراد کشفه من إطلاق المادّة فی الخطاب، فمقتضی القاعدة- علی مبنی القوم- عدم وجوب الاحتیاط، لا من ناحیة التکلیف؛ للشکّ فیه، و لا من ناحیة الملاک؛ لأنّ المفروض عدم القطع به.

و أمّا استکشافه من الدلیل التعبّدی فهو إنّما یصحّ مع إطلاق الدلیل من حیث الهیئة و المادّة؛ بحیث یشمل هذا المقام، فإنّه بملاحظة مذهب العدلیّة؛ من إناطة الأحکام الشرعیّة بالمصالح و المفاسد فی متعلّقاتها، یستکشف الملاک فی هذا المورد من المصلحة أو المفسدة، فتلزم مراعاته.

و أمّا لو لم یعلم بإطلاق الهیئة، کموارد الشکّ فی القدرة و الخروج عن محلّ الابتلاء- بناءً علی هذا المذهب- فلا یستکشف وجود الملاک فیها، فإنّ الشکّ فی إطلاق الهیئة مستلزم للشکّ فی إطلاق المادّة؛ لأنّه لا معنی لإطلاق المادّة مع تقیید الهیئة؛ لعدم العلم بشمول الخطاب لها لیستکشف الملاک منه، و مع عدم العلم بالتکلیف و لا بالملاک لا وجه للاحتیاط.

ص: 418

و أمّا بناءً علی ما اخترناه: من أنّ التکالیف الشرعیّة لیست محدودة و مقیّدة بالقدرة و الابتلاء و نحوهما، بل التکالیف مطلقة فعلیّة حتّی فی موارد الأعذار، فمقتضی القاعدة هو الاحتیاط فی موارد الشکّ فی القدرة و الخروج عن مورد الابتلاء، بل و مع العلم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء، فإنّ اللازم حینئذٍ مراعاة الاحتیاط و التکلیف فی الطرف الآخر؛ للعلم بالتکلیف الفعلی و الشکّ فی العذر، فلا فرق حینئذٍ بین صورة العلم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء، و صورة الشکّ فیه فی لزوم الاحتیاط.

بخلافه علی مذاق القوم، فإنّه یمکن علیه أن یفرق بین صورتی العلم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء و الشکّ فیه.

و لکن الحقّ: عدم الفرق بینهما علی مذاقهم أیضاً.

ثانیهما: ما استدل به المحقّق النائینی تبعاً للشیخ الأعظم قدس سره(1) لوجوب الاحتیاط فی صورة الشکّ فی خروج بعض الأطراف عن الابتلاء و عدمه: بأنّه لا إشکال فی إطلاق ما دلّ علی حرمة شرب الخمر؛ و شموله لکلتا صورتی الابتلاء و عدمه، و القدر الثابت من خروجه عقلًا عن الإطلاق هو صورة العلم بخروج الخمر عن مورد الابتلاء؛ بحیث یلزم منه استهجان الخطاب و النهی عنه عرفاً، فلو شکّ فی استهجان النهی و عدمه فی مورد الشکّ، فالمرجع هو إطلاق الدلیل؛ لما بُیِّن فی مبحث العموم و الخصوص: من أنّ التخصیص بالمجمل مفهوماً- المردّد بین الأقلّ و الأکثر- لا یمنع من التمسّک بالعامّ فیما عدا القدر المتیقّن من التخصیص- أی الأقلّ- بل ما نحن فیه أولی؛ لأنّ المخصِّص فی المقام دلیل لبّی- أی حکم العقل- و فی المخصِّصات العقلیّة اللُّبّیّة یجوز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة، فضلًا عن الشبهات المفهومیّة عند دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر، کما فیما نحن فیه، فإنّ


1- فرائد الاصول: 252 سطر 13.

ص: 419

الشبهة فیه إنّما هی لأجل إجمال المقیّد؛ و تردّده بین الأقلّ و الأکثر؛ لاختلاف مراتب إمکان الابتلاء.

فإن قلت: قد قُرّر فی محلّه سرایة إجمال المخصِّص المتّصل إلی العامّ، و أنّه لا ینعقد له ظهور فی جمیع ما یحتمل انطباق مفهوم المخصِّص علیه فی المخصّص اللّفظی المتّصل أو اللُّبّی الضروری؛ سواء کان إجماله لأجل تردّده بین المتباینین، أم بین الأقلّ و الأکثر، و أنّ التفصیل بینهما إنّما هو فی المخصِّص اللّفظی المنفصل أو ما فی حکمه من العقل النظری، و أمّا العقل الضروری فحکمه حکم المتّصل اللّفظی فی سرایة إجماله إلی العامّ.

و من المعلوم أنّ المخصّص فیما نحن فیه من الأحکام العقلیّة الضروریّة فإجماله یسری إلی العامّ أیضاً، فلا یصحّ التمسُّک به.

قلت: أوّلًا: منع کون المخصّص فی المقام من الضروریّات و البدیهیّات العقلیّة المرتکزة فی أذهان العقلاء، بل هو من الأحکام العقلیّة النظریّة التی هی فی حکم المخصّص المنفصل الذی لا یسری إجماله إلی العامّ.

و ثانیاً: سرایة إجمال المخصّص إلی العامّ فی الموارد المذکورة، إنّما هو فیما إذا کان الخارج من العموم عنواناً واقعیّاً غیر مختلفِ المراتب المردّدِ مفهومه بین الأقلّ و الأکثر، کما لو تردّد مفهوم الفاسق المخرَج عن عموم «أکرِم العلماء» بین خصوص مرتکب الکبیرة و بین الأعمّ منه و من مرتکب الصغیرة.

و أمّا لو کان المخرَج عن العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة، و علم بخروج بعض مراتبه عن العموم، و شکّ فی خروج مرتبة اخری منه، فإجمال المخصِّص و تردّده بین خروج جمیع مراتبه أو بعضها لا یسری إلی العامّ؛ لأنّ مرجع الشکّ فی مثل ذلک فی الحقیقة إلی الشکّ فی ورود مخصّص آخر للعامّ سوی ما علم خروجه بالتخصیص؛ یعنی یرجع إلی الشکّ فی التخصیص الزائد، و ما نحن فیه من هذا

ص: 420

القبیل(1). انتهی.

أقول: غایة ما ذکروه فی وجه جواز التمسّک بالعامّ فی المخصّص المجمل النظری فی مورد الشکّ فی الخروج، و عدم جوازه فی المخصّص اللّفظی المتّصل:

هو أنّ المخرَج فی المخصّص اللّفظی هو عنوان مشکوک بحسب المفهوم، فیسری إجماله إلی العامّ، فلا یصحّ التمسّک به بالنسبة إلی المشکوک شمول المخصّص له، بخلاف المخصّص اللُّبّی النظری، فإنّ المُخرَج بحکم العقل هی الأفراد لا العنوان، فبالنسبة إلی المعلوم خروجه من الأفراد یُتمسّک فیه بالخاصّ، و أمّا الفرد المشکوک خروجه فلا مانع من التمسُّک فیه بالعامّ(2).

و فیه: أنّ المخرَج بالمخصِّص اللُّبّی أولی بأن یکون عنواناً کلّیّاً من اللفظی، فإنّ العقل إنّما یُدرک الکلّیّات لا الجزئیّات.

ثمّ إنّ المخصّص إذا کان منفصلًا لفظیّاً فلا ریب فی أنّ إجماله لا یسری إلی العامّ؛ لأنّ المخصّص إنّما صدر بعد انعقاد الظهور للعامّ، و هو لا یوجب إجمال العامّ.

و أمّا المخصِّص اللُّبّی الضروری فلا ریب- أیضاً- فی أنّ إجماله یسری إلی العامّ، کاللّفظی المتّصل، کما اعترفوا بذلک(3)، بل لم یصدر فی هذا الفرض شیئان: أحدهما عامّ، و الثانی خاصّ مجمل یسری إجماله إلی العامّ، بل الصادر فیه أمر واحد مجمل، و هو العامّ المحفوف بالخاصّ المجمل اللُّبّی الضروری، أو اللفظی المتّصل.

و أمّا المخصِّص اللُّبّی النظری فالحقّ أنّه- أیضاً- کذلک؛ حیث إنّه و إن لم یکن بدیهیّاً حافّاً بالکلام ابتداءً، لکن بعد التأمّل العقلی و إعمال النظر و التدبّر یکشف


1- فوائد الاصول 4: 57- 60.
2- انظر مطارح الأنظار: 193 سطر 35، کفایة الاصول: 258- 259.
3- فوائد الاصول 2: 536.

ص: 421

عن احتفاف العامّ به من الأوّل، کما لو قال:

(لعن اللَّه بنی امیّة قاطبة)

(1)، فإنّ خروج المؤمنین منهم من ذلک العموم و إن کان بحکم العقل النظری، لکن بعد التأمّل و النظر و درک العقل ذلک، یکشف خروجهم من الأوّل و ابتداءً، و أنّ العموم کان محفوفاً به حال صدوره، فیسری إجمال المخرَج إلی العامّ، کما لو صدر عامّ بدون الاطّلاع علی المخصّص له ابتداءً، ثمّ ظفرنا بمخصّصه المجمل، و انکشف اتّصاله به من الأوّل، فإنّه لا ریب فی أنّ إجماله یسری إلی العامّ، و لا یُعدّ ذلک مخصِّصاً منفصلًا عن العامّ، فما ذکره قدس سره أوّلًا فی جواب الإشکال غیرُ مستقیم.

و أمّا ما ذکره ثانیاً، ففیه: مضافاً إلی المناقشة فی مثاله لغیر ذی المراتب بقوله:

«لا تکرم الفُسّاق»، فإنّ الفسق: عبارة عن الخروج عن طاعة اللَّه، و له مراتب متفاوتة باختلاف مراتب المعاصی و من حیث کثرتها و قلّتها.

أوّلًا: أنّه لا فرق فی العنوان المخرَج بالتخصیص بین ذی المراتب و غیره فی جواز التمسُّک بالعامّ فی المشکوک و عدمه، و أنّه لا إشکال فی المخصّص المنفصل الصادر بعد انعقاد الظهور للعامّ؛ فی أنّه یجوز التمسّک بالعامّ فی الفرد المشکوک خروجه عن العموم شبهة مفهومیّة؛ من غیر فرق بین ذی المراتب و غیره، فإنّه بعد تمامیّة ظهور العامّ و انعقاده حجّةً یصحّ التمسّک بظهوره، و الخاصّ المجمل مفهوماً لیس حجّة بالنسبة إلی المشکوک شموله له، و لا یصحّ رفع الید عن الحجّة باللّاحجّة.

و أمّا المخصّص اللّفظی المتّصل بالعامّ فقد عرفت سرایة إجماله إلی العامّ، بل لیس الصادر فیه إلّا العامّ المجمل، فلا یصحّ الاحتجاج به فی المشکوک فیه علی العبد.

و ثانیاً: ما ذکره من الأخذ بالقدر المتیقّن من الخاصّ، و التمسّک فی الزائد عنه


1- البلد الأمین: 270، بحار الأنوار 98: 292/ 1.

ص: 422

بالعامّ: إن أراد المقدار المتیقّن مع فرض تبیُّن مفهوم الخاصّ؛ بأن یکون الشکّ فی المراد، فلیس ذلک مفروض البحث فی المقام، و لا أراده المعترض أیضاً.

و إن أراده مع فرض إجمال مفهومه و تردّده بین الأقلّ و الأکثر فقد عرفت ما فیه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قدس سره ذکر فی «الکفایة»: أنّه لا یجوز التمسّک بإطلاق أدلّة التکالیف لو شکّ فی الخروج عن الابتلاء؛ لأنّ التمسّک به إنّما یصحّ فیما أمکن الإطلاق فیه ثبوتاً، و المفروض أنّه مشکوک؛ لأنّ إمکان الابتلاء بموضوع التکلیف من الشرائط المعتبرة ثبوتاً فی أصل تشریع التکلیف؛ لاستهجان التکلیف واقعاً بما لا یمکن الابتلاء به(1).

و ذکر فی الحاشیة علی ذلک ما هذا لفظه: نعم لو کان الإطلاق فی مقامٍ یقتضی بیان التقیید بالابتلاء لو لم یکن هناک ابتلاء مصحّح للتکلیف کان الإطلاق و عدم بیان التقیید دالّاً علی فعلیّته و وجود الابتلاء المصحّح لها کما لا یخفی(2). انتهی.

و حاصل ما أفاده فی الحاشیة: أنّه لو علم بالتکلیف الفعلی فی البین فإنّه یستکشف منه إمکان الإطلاق فیصحّ التمسّک به.

و أورد علیه المیرزا النائینی قدس سره: بأنّه لو اعتبر ذلک فی صحّة التمسّک بالإطلاق لا یبقی لجواز الأخذ به مورد؛ لأنّه لو توقّف جواز التمسّک بالإطلاق علی إمکانه ثبوتاً و فی نفس الأمر، فبناءً علی ما هو مذهب العدلیّة- من إناطة الأحکام بالمصالح و المفاسد فی متعلّقاتها- إنّما یصحّ النهیُ لو کان فی المنهیّ عنه مفسدة، و الأمرُ إذا کان فی المأمور به مصلحة، و مع الشکّ فی المفسدة و المصلحة فی مورد یلزم عدم صحّة التمسّک بالإطلاق.


1- انظر کفایة الاصول: 410.
2- کفایة الاصول: 410، الهامش 4.

ص: 423

و بالجملة: مرجع الشکّ فیهما إلی الشکّ فی إمکان الإطلاق، فلو اعتبر إمکان الإطلاق ثبوتاً فی صحّة الأخذ به یلزم عدم صحّة التمسّک به فی شی ء من الموارد(1).

و فیه: أنّ ما ذکره: من إناطة الأحکام بالمصالح و المفاسد، هو من المسائل الکلامیّة العقلیّة الدقیقة التی یغفل عنها العرف و العقلاء، و لا یلتفتون إلیها، و لا یتوقّف الأخذ بالإطلاق علیها عندهم، بخلاف الدخول فی مورد الابتلاء، فإنّه من الامور التی یتوقّف الإطلاق علیها عند العرف و العقلاء، فإثبات کونه مورد للابتلاء بالإطلاق، المتوقّف علی إمکانه، المتوقّف علی الدخول فی محلّ الابتلاء، دور واضح عرفاً، بخلاف المصالح و المفاسد.

فما أفاده فی «الکفایة» هو الحقّ.

المقام الثانی: فی الشبهة الغیر المحصورة
اشارة

قد تقدّم: أنّه تجب مراعاة العلم الوجدانی- و لو إجمالًا- بالتکلیف المنجّز الذی لا یرضی المولی بترکه أصلًا، من غیر فرق بین الشبهة المحصورة الأطراف و الغیر المحصورة مع إمکان الاحتیاط فی جمیع الأطراف.

فالمراد من العلم الإجمالی بالتکلیف فی أطرافٍ غیر محصورة: هو العلم بموضوع الحکم الشرعی، کالعلم بأنّ واحداً من ألف إناء موجود خمرٌ، أو العلم بقیام حجّة معتبرة کأمارة و إطلاق دلیل، و نحو ذلک ممّا یحتمل و یمکن فیه رفع الید و الإغماض عن المعلوم إجمالًا.

و لیعلم أنّ الکلام فی المقام هو مع قطع النظر عن لزوم العسر و الحرج، أو عروض الاضطرار و الخروج عن الابتلاء و نحو ذلک، فإنّه مع فرض عروض إحدی


1- فوائد الاصول 4: 61- 62.

ص: 424

المذکورات لا یجب اجتناب جمیع الأطراف، بل یجوز الارتکاب فی الشبهة المحصورة أیضاً.

فالبحث فی المقام ممحّض: فی أنّ کثرة الأطراف- من حیث هی، و من حیث عدم الحصر فیها- هل توجب جواز الارتکاب أو لا؟

أدلّة جواز الارتکاب فی الشبهة الغیر المحصورة

فنقول: استدلّ الشیخ الأعظم قدس سره(1) و غیره لجواز الارتکاب بوجوهٍ تبلغ ستّة:

الأوّل: الإجماع المدّعی علی ذلک، بل دعوی الضرورة علیه(2).

الثانی: أنّ المنع عن الارتکاب مستلزم للعسر و الحرج المنفیّین فی الشریعة المقدّسة.

و قد عرفت أنّ البحث فی المقام إنّما هو مع قطع النظر عن ذلک، فلا وجه لهذا الوجه.

الثالث- و هو العمدة-: الأخبار الدالّة علی ذلک، مثل صحیحة عبد اللَّه بن سنان(3)، و روایة عبد اللَّه بن سلیمان(4)، فإنّهما إمّا تختصّان بالشبهة الغیر المحصورة أو تعمّانها و المحصورة، لکن لا بدّ من تخصیصهما بغیر المحصورة؛ لما تقدّم سابقاً.

و من هنا یظهر: ما فی إشکال الشیخ قدس سره فی المقام و دعواه: أنّ المراد أنّ جعل المیتة فی الجبن فی مکان واحد لا یوجب الاجتناب عنه فی غیر ذلک المکان من


1- فرائد الاصول: 257- 260.
2- انظر مفتاح الکرامة 1: 127 سطر 13، مدارک الأحکام 1: 108.
3- الفقیه 3: 216/ 92، وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.
4- الکافی 6: 339/ 1، المحاسن: 495/ 596، وسائل الشیعة 17: 90، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 1.

ص: 425

الأماکن، و لا کلام فی ذلک(1).

و مثل

روایة أبی الجارود: قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن، فقلت له:

أَخْبَرَنی من رأی أنّه یجعل فیه المیّتة، فقال: (أ مِن أجل مکانٍ واحدٍ یجعل فیه المیتة حرّم جمیع ما فی الأرضین؟! إذا علمت أنّه میتة فلا تأکله، و إن لم تعلم فاشترِ و بِع و کلْ، و اللَّه إنّی لأعترض السوق، فأشتری بها اللحم و السمن و الجبن، و اللَّه ما أظنّ کلّهم یسمّون؛ هذه البربر و هذه السودان)

(2).

و هذه الروایة- مع قطع النظر عن ضعف سندها- ظاهرة فی جواز ارتکاب أطراف الشبهة الغیر المحصورة، و دلالتها تامّة.

و أمّا إشکال الشیخ قدس سره فی دلالتها بأنّ المراد من قوله علیه السلام:

(أ مِن أجل مکانٍ واحدٍ یجعل فیه المیتة ...)

هو أنّ جعل المیتة فی مکان خارج عن محلّ الابتلاء، لا یوجب الاجتناب عن جبن غیره من الأماکن، و لا کلام فیه، فإنّه حینئذٍ یصیر شبهةً بَدْویّة(3). انتهی.

لکن الإنصاف أنّه خلاف ظاهر الروایة؛ حیث إنّ ظاهرها أنّه علیه السلام کان یعلم إجمالًا بعدم رعایة جماعة لشرائط الذبح، و مع ذلک کان یشتری و یأکل من تلک اللحوم.

و کذلک إشکاله قدس سره بأنّ المراد بقوله علیه السلام:

(ما أظنّ کلّهم یسمّون)

عدم وجوب تحصیل القطع أو الظنّ بالحلّیّة، بل یکفی فی جواز الأکل شراؤها من سوق المسلمین(4)، فإنّه خلاف ظاهر الروایة أیضاً؛ لما عرفت من أنّها ظاهرة فی عدم


1- فرائد الاصول: 259 سطر 19.
2- المحاسن: 495/ 497، وسائل الشیعة 17: 91، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 5.
3- فرائد الاصول: 259 سطر 19.
4- نفس المصدر: سطر 5.

ص: 426

احتماله علیه السلام تسمیة کلّهم، بل کان قاطعاً بعدم تسمیة بعضهم.

و منها:

صحیحة الحلبی قال: قال أبو عبد اللَّه علیه السلام: (کلّ رِباً أکله الناس بجهالة، ثمّ تابوا، فإنّه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة).

و قال علیه السلام: (لو أنّ رجلًا ورث من أبیه مالًا، و قد عرف أنّ فی ذلک المال رباً، و لکن قد اختلط فی التجارة بغیر حلال، کان حلالًا طیّباً فلیأکله، و إن عرف منه شیئاً أنّه رباً فلیأخذ رأس ماله و لیردّ الربا)

(1).

فإنّ القدر المتیقّن منها هی الشبهة الغیر المحصورة.

و غیر ذلک من الأخبار الدالّة علی ذلک، و قد نقلها السیّد قدس سره فی الحاشیة علی المکاسب فی مسألة جواز السلطان(2).

الرابع: ما أفاده شیخنا الاستاذ الحائری قدس سره: و هو أنّ کثرة الأطراف توجب ضعف احتمال کون الحرام فی طرف خاصّ؛ بحیث لا یعتنی به العقلاء، کما لو أخبر بموت واحد من أهل البلد، فإنّه لا یضطرب من انتسب إلی بعض أهل ذلک البلد؛ من أبنائه أو إخوانه و غیرهم؛ لاحتمال أنّه من أقربائه.

و الحاصل: أنّ کثرة الأطراف توجب الاطمئنان بعدم حرمة خصوص هذا الطرف أو ذاک، و الأمارة العقلائیّة قائمة علی جواز الارتکاب.

و یؤیّد ذلک: أنّه قلّما یوجد أحد لیس له هذا النحو من العلم الإجمالی بوجود حرام أو نجس فی أطراف غیر محصورة؛ ممّا هو محلّ ابتلائه، و یفتقر إلیه فی معاشه، کالجبن و اللحم و السمن و نحو ذلک، مع عدم اعتناء أحدٍ بذلک العلم الإجمالی، و لیس ذلک إلّا لأجل ضعف الاحتمال جدّاً فی خصوص طرف من


1- الکافی 5: 145/ 4، تهذیب الأحکام 7: 16/ 69، وسائل الشیعة 12: 431، کتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 5، الحدیث 2.
2- حاشیة المکاسب، السیّد الیزدی: 33 سطر 12.

ص: 427

الأطراف لکثرتها(1).

ثمّ أورد علی نفسه: بأنّه کیف یمکن اجتماع الاطمئنان بعدم حرمة کلّ واحد من الأطراف بالخصوص، مع العلم الإجمالی بوجود الحرام فیها و عدم خروجه عنها؟! و هل یجتمع العلم بالموجبة الجزئیّة مع الظنّ بالسلب الکلّی(2)؟!

أقول: ما لا یمکن الاجتماع فیه هو العلم بحرمة واحد منها مع العلم بعدم حرمة کلّ واحد منها بنحو السلب الکلّی، و لکنّه لا ینافی الاطمئنان بعدم حرمة هذا بالخصوص و ذاک.

و یمکن الإشکال فیه أیضاً: بأنّه یعلم بمخالفة إحدی هذه الأمارات العقلائیّة للواقع؛ حیث إنّها قائمة فی کلّ واحد من الأطراف مع العلم بحرمة أحدها، و هذا موجب لعدم الاعتماد علی تلک الأمارات.

و لکن یدفعه: أنّ هذا العلم الإجمالی أیضاً له أطراف غیر محصورة؛ بحیث یکون احتمال مخالفة کلّ واحدة منها بالخصوص للواقع ضعیفاً لا یعتنی به.

فالظاهر أنّ هذا الوجه صحیح کالوجه الثالث.

ثمّ إنّ لازم الوجه الأوّل- أی الإجماع و الضرورة- عدم وجوب الموافقة القطعیّة، لا جواز المخالفة القطعیّة.

و أمّا الوجه الثالث المذکور- أی الاستدلال بالأخبار- فمقتضاه جواز المخالفة القطعیّة أیضاً؛ بارتکاب جمیع الأطراف حتّی مع العزم علیه من الابتداء؛ لما عرفت: من أنّ مقتضی الأخبار رفع الید عن الحکم المعلوم بالإجمال.

فما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره: من جواز ارتکاب جمیع الأطراف لو اتّفق ذلک، لا مع العزم علیه من الابتداء، بل لو قصد ارتکاب ما هو المحرّم واقعاً، یستحقّ


1- درر الفوائد: 471.
2- نفس المصدر.

ص: 428

العقوبة بارتکاب أوّل طرف منها؛ لکونه متجرّیاً(1)، غیرُ مستقیم بناءً علی هذا الوجه، نعم هو صحیح بناءً علی الوجه الأخیر- أی الوجه الرابع الذی اخترناه أیضاً- لبقاء التکلیف المعلوم بالإجمال حینئذٍ و عدم رفع الید عنه، فلا یجوز العزم علی ارتکاب جمیع الأطراف ابتداءً، و لا العزم علی ارتکاب المحرّم الواقعی المعلوم إجمالًا، و یجوز إذا اتّفق ذلک، لا مع قصد ارتکاب المحرّم الواقعی، و لا مع العزم ابتداءً علی ارتکاب جمیع الأطراف؛ لأنّه عند ارتکاب کلّ واحد من الأطراف یطمأن بأنّ المعلوم غیره، و هکذا الطرف الآخر عند ارتکابه، و عند ارتکاب الطرف الأخیر یطمأن بأنّه فی الأطراف الاخر التی ارتکبها قبل ذلک، فیجوز ارتکابه أیضاً.

ثمّ إنّ الضابط فی عدم الحصر یختلف باختلاف الوجوه المتقدّمة لجواز الارتکاب:

فعلی الوجه الأوّل- أی الإجماع و الضرورة- لا بدّ من ملاحظة معقد الإجماع، و هو ما یصدق علیه الغیر المحصور عرفاً، و حدَّه بعضهم بما یعسر عدّه(2)، فالمحصور ما لا یعسر عدّه.

و قیّده بعضهم ذلک: بزمان قلیل.

و عن المحقّق الثانی قدس سره: أنّ طریق ضبطه أن یقال: إنّه إذا لُوحظت العلیا من مراتب الأعداد کالألف- مثلًا- یقطع بأنّها غیر محصورة، و یعسر عدّها عادةً فی زمان قصیر، فیجعل ذلک طرفاً، و لُوحظت المرتبة السفلی کالثلاثة، فإنّها محصورة قطعاً؛ لسهولة عدّها فی زمان قصیر، و ما بینهما من الوسائط کلُّ ما یجری مجری الطرف الأوّل یلحق به، و یحکم بأنّه غیر محصور، و ما یجری مجری الطرف الثانی یلحق به، و یحکم بأنّه محصور، و ما یشکّ فیه من المراتب یعرض علی القوانین


1- فرائد الاصول: 260 سطر 7.
2- مدارک الأحکام 3: 253.

ص: 429

و النظائر(1).

و حیث إنّ هذا الوجه ضعیف لا ینبغی التعرّض له و البحث عنه.

و أمّا بناءً علی الوجه الثالث و هو الاستدلال لجواز الارتکاب بالأخبار المتقدّمة: فقد عرفت دلالتها علی جواز ارتکاب أطراف المعلوم بالإجمال مطلقاً، خرج منها ما یعدّ ذلک ترخیصاً و إذناً فی المعصیة. و یحکم بجواز ارتکاب ما سواه للأخبار المتقدّمة.

و أمّا بناءً علی الوجه الأخیر:- الذی حکیناه عن الاستاذ الحائری قدس سره- فالضابط فی عدم الحصر علیه هی الشبهة التی یکون احتمال التکلیف فی خصوص کلّ واحدٍ من أطرافها ضعیفاً؛ لا یعتنی به العرف و العقلاء؛ و یُقدمون علی ارتکابه.

و قال المیرزا النائینی قدس سره: الضابط فی الغیر المحصورة أن لا یمکن ارتکاب جمیع أطرافها عادةً؛ بأن تبلغ الأطراف حدّاً من الکثرة لا یمکن جمعها عادةً فی الارتکاب و استعمالها فی الأکل و الشرب، و هذا یختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال:

فتارةً: یعلم بنجاسة حبّة من الحنطة فی ضمن حُقّة منها، فهی من المحصورة؛ لإمکان استعمال الحنطة بطحنه و جعله خبزاً و أکله.

و اخری: یُعلم بنجاسة إناء من لبن البلد، فهذا من الغیر المحصورة و لو لم تبلغ أوانی البلد ألفاً؛ لعدم التمکّن عادةً من استعمال جمیع الأوانی.

و منه یظهر حکمها؛ و هو عدم حرمة المخالفة القطعیّة، و عدم وجوب الموافقة القطعیّة؛ لأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعیّة، و المفروض عدمها(2). انتهی.


1- انظر فرائد الاصول: 260 سطر 20.
2- فوائد الاصول 4: 117- 119.

ص: 430

أقول: یرد علیه:

أوّلًا: إنّه إن أراد من عدم إمکان الجمع بین الأطراف فی الارتکاب- فی ضابط الغیر المحصورة- عدم إمکانه دفعةً، فربّ شبهة محصورة کذلک، کالبالغة أطرافها عشرین إناءً مثلًا.

و إن أراد عدم إمکان ذلک و لو تدریجاً، فربّ شبهة غیر محصورة یمکن ارتکاب جمیع أطرافها کذلک.

و ثانیاً: إنّ القدرة التی هی شرط للتکلیف عندهم، أو عذر عقلیّ علی ما اخترناه، إنّما هی فیما إذا لم یتمکّن المکلّف من فعل المأمور به أو ترک المنهیّ عنه، و أمّا الفعل الضروری الذی لا یمکن ترکه فی الأوّل و فعله فی الثانی، فلا معنی للأمر به أو النهی عنه؛ لأنّه ضروریّ الفعل فی الأوّل، و ضروریّ الترک فی الثانی، یفعله قهراً فی الأوّل و یترکه کذلک فی الثانی، کما فیما نحن فیه.

و ثالثاً: لیس فیما نحن فیه أمرٌ بالجمع بین الأطراف و عدمه؛ کی یقال بعدم إمکان الجمع بین الأطراف، فلا تکلیف بحرمة المخالفة القطعیّة، بل التکلیف متعلّق بالخمر الواقعی، و العقل یحکم بوجوب اجتناب الأطراف؛ لئلّا یقع فی محذور المخالفة للحرام الواقعی.

فیما لو شکّ بأنّ الشبهة محصورة أو غیر محصورة

ثمّ إنّه لو علم: بأنّ الشبهة محصورة أو غیر محصورة فهو، و أمّا لو شکّ فی ذلک بنحو الشبهة المصداقیّة أو المفهومیّة فالعمدة من الوجوه التی استدلّ بها لجواز ارتکاب أطراف الغیر المحصورة- کما عرفت- وجهان: منها أحدهما أخبار الحِلّ، و ثانیهما الطریقة العقلائیّة؛ فنذکر ما هو المطابق للقواعد فی حکم الشکّ بناءً علی هذین الوجهین، (و أمّا الوجوه الاخر فحیث إنّها ضعیفة فلا جدوی للتعرّض لحکمها

ص: 431

فی صورة الشکّ).

أمّا بناءً علی الاستدلال بأخبار الحِلّ: فإن کان المخصِّص لها و إخراج الشبهة المحصورة هو الإجماع، و کان مفهوم معقد الإجماع مبیَّناً، فالشبهة مصداقیّة- کما لو فرض أنّ الألف غیر محصورة- و المائة محصورة، و شکّ فی مورد أنّ أطرافه ألفٌ أو مأة؛ لیجب الاجتناب عنه علی الثانی دون الأوّل- فحکمه حکم سائر موارد الشبهات المصداقیّة للمخصِّص فی عدم جواز التمسُّک بواحدٍ منهما؛ لعدم العلم بأنّه مصداق للمخصِّص، و لا للباقی تحت العامّ؛ للعلم بخروج المحصور، و لعلّه منه.

و لا یجوز التمسّک فیه بالأدلّة الأوّلیّة أیضاً، مثل: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ ...»(1) إلی آخره؛ لأنّه و إن کان المختار بقاء الحکم الفعلی فی جمیع الموارد، لکن المفروض قیام الدلیل علی جواز الارتکاب و الترخیص فی الشبهات الغیر المحصورة.

نعم، لو شُکّ فی أصل الترخیص أمکن التمسّک بها، نظیر ما لو شکّ فی أصل تخصیص العامّ، لکن المفروض فی المقام العلم بأصل الترخیص و لکن لم یعلم أنّ هذا المورد من المرخَّص فیه، أو لا، کما فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص بعد العلم بأصل الترخیص.

و أمّا فی الشبهة المفهومیّة، کما لو لم یعلم معنی و مفهوم المخرَج بالإجماع من أخبار الحِلّ، فهو مثل سائر موارد الشبهات المفهومیّة للمخصِّص فی عدم صحّة التمسّک فیه بالمخصِّص؛ لعدم حجّیّته بالنسبة إلی المشکوک شموله له، لکن یجوز التمسّک بالعموم؛ لأنّه حجّة بالنسبة إلیه؛ فیجوز التمسُّک فیه بقوله علیه السلام:

(کلّ شی ء


1- المائدة( 5): 3.

ص: 432

یکون فیه حلال و حرام فهو لک حلال)

(1).

إلّا أن یقال: إنّ المخصِّص لتلک الأخبار هو العقل؛ لأنّه ترخیص فی المعصیة بالنسبة إلی الشبهة المحصورة، فلا یجوز التمسّک فیه بأخبار الحلّ و لا المخصِّص؛ لأنّه و إن کان منفصلًا، لکنّه یکشف عن أنّ العامّ صدر من المولی محفوفاً بالمخصِّص المجمل، فیصیر هو أیضاً مجملًا.

لکن لا مانع من التمسُّک بالأدلّة الأوّلیّة؛ لأنّ الإجمال إنّما هو فی أدلّة الترخیص.

و أمّا بناءً علی أنّ الدلیل علی جواز الارتکاب فی الغیر المحصورة هی الأمارة العقلائیّة- أی الوجه الأخیر الذی نقلناه عن الاستاذ الحائری قدس سره- فالکلام فی المقام- بناءً علیه- أیضاً کذلک، ففی الشبهة المصداقیّة لا یجوز التمسّک بالمخصِّص و لا بالعامّ و لا بالأدلّة الأوّلیّة، کما لو فرض أنّ العقلاء لا یجتنبون ما بلغت أطرافه ألفاً، دون ما إذا کانت مائة، و لم یعلم فی عددٍ أنّه ألف أو مائة، فإنّ الظاهر عدم جواز التمسّک بواحد من العامّ و المخصّص و الأدلّة الأوّلیّة، کما فی نظائره من الشبهات المصداقیّة للمخصِّص؛ لعدم إحراز بناء العقلاء فی ذلک؛ لا بالارتکاب، و لا بعدمه.

و أمّا فی الشبهة المفهومیّة، کما لو علم أنّ المُخرَج من أخبار الحلّ عنوان مجمل بحسب المفهوم؛ کبناء العقلاء علی عدم جواز الارتکاب فیه، فمقتضی القاعدة جواز التمسُّک بأخبار الحلّ، کما فی نظائره من الشبهات المفهومیّة للمخصِّص؛ لأنّها حجّة بالنسبة إلی المشکوک خروجه منها، و الخاصّ المخرِج للعنوان المذکور لیس حجّةً فیه، و لا ترفع الید من الحجّة باللّاحجّة.


1- الکافی 5: 313/ 39، تهذیب الأحکام 7: 226/ 988، وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.

ص: 433

ثمّ إنّ الموارد التی جوّزنا فیها ارتکاب أطراف الشبهة الغیر المحصورة، هل هی من قبیل الشبهات البَدْویّة، فلا یجوز الوضوء من أطراف الغیر المحصورة التی یعلم بأنّ أحدها نجس، إلّا إذا أحرزت الطهارة بأصل آخر، أو هی أدون من الشبهة البَدْویّة، فیجوز الوضوء منها أیضاً؟

فیختلف ذلک باختلاف الوجوه المستدلّ بها لجواز الارتکاب، فإن کان المتمسَّک به فیه أخبار الحلّ فمقتضاه مجرّد حلّیّتها و الأکل منها، و أنّها بمنزلة المشکوک بَدْواً، فلا یجوز الوضوء منها؛ لعدم دلالة أخبار الحلّ علی طهارة کلّ واحد من الأطراف، بل مجرّد جواز الأکل و الشرب.

بخلاف ما لو تمسّکنا له ببناء العقلاء؛ فإنّ مقتضاه جواز الوضوء لبنائهم علی أنّها طاهرة، و یجوز الوضوء بالماء الطاهر.

و العجب من المیرزا النائینی قدس سره فإنّه- مع أنّ مبناه فی ضابطة الغیر المحصورة عدم إمکان الجمع بین الأطراف- نقل عنه المقرّر جواز الوضوء من أطرافها(1)، مع أنّ مقتضی مبناه فی ذلک عدم جواز الوضوء؛ لأنّ جواز الارتکاب حینئذٍ إنّما هو لعدم إمکان الجمع بین الأطراف، لا لطهارتها.

حول الشبهات الوجوبیّة

ثمّ إنّ ما ذکرناه: من جواز المخالفة القطعیّة و عدم وجوب الموافقة الاحتمالیّة فی الغیر المحصورة، إنّما هو فی الشبهات التحریمیّة التی استدللنا علیها بأخبار الحلّ و بناء العقلاء، و أمّا الشبهات الوجوبیة فالمستند فیها منحصر فی بناء العقلاء؛ لاختصاص الأخبار بالشبهات التحریمیة، و حینئذٍ فالحکم بعدم وجوب الإتیان بجمیع أفراد الشبهة الوجوبیة الغیر المحصورة، مقصور علی الموارد التی


1- فوائد الاصول 4: 122.

ص: 434

استقرّ بناؤهم علی عدم لزوم الإتیان بها؛ لضعف احتمال الوجوب فی کلّ واحد من أطرافها؛ بحیث لا یُعتنی به، کما لو بلغت ألفاً، فإنّ احتمال الوجوب فی هذا الطرف بالخصوص و ذلک الطرف کذلک ... و هکذا، فی غایة الضعف، و لا یُقدمون علی الإتیان بجمیع الأطراف لهذا الاحتمال.

و أمّا لو أمکن الإتیان بمائة من أطرافها فلا بدّ من الإتیان بها؛ لأنّ نسبة المائة إلی الألف هی العُشْر، و هو محصور، و لیس بناء العقلاء علی عدم وجود الواجب فی ذلک المائة و لیس احتمال وجود الواجب فیها ضعیفاً، فلیس الحکم بعدم وجوب الإتیان بجمیع أطرافها فی الشبهة الوجوبیة الغیر المحصورة بنحو الإطلاق، بخلاف الشبهة التحریمیّة؛ لدلالة الأخبار فیها علی جواز الارتکاب بنحو الإطلاق.

ص: 435

الفصل الخامس بیان حکم ملاقی بعض أطراف الشبهة المحصورة و هو یتصوّر علی أقسام

اشارة

لأنّ العلم بالملاقاة: إمّا متقدّم علی حصول العلم الإجمالی بنجاسة أحد الأطراف بحسب الزمان، أو متأخّر عنه، و إمّا مقارن له.

و علی أیّ تقدیر: قد یکون الملاقی- بالکسر- طرفاً لعلمٍ إجمالیٍّ آخر؛ بأن علم إمّا بنجاسة الملاقی- بالکسر- أو نجاسة الطرف الآخر للملاقی- بالفتح- المعلوم إجمالًا نجاسة أحدهما.

و هو أیضاً علی ثلاثة أقسام: لأنّ العلم الإجمالی الثانی بالنجاسة إمّا بعد العلم بالملاقاة، أو قبله، أو مقارن له.

و أیضاً قد یخرج الملاقی- بالفتح- عن مورد الابتلاء بعد ذلک، و قد یخرج عنه، ثمّ یدخل فیه ثانیاً.

ص: 436

أدلّة عدم جواز ارتکاب ملاقی أحد أطراف الشبهة المحصورة

فنقول: استدلّ لعدم جواز ارتکاب ملاقی أحد أطراف الشبهة المحصورة و وجوب الاجتناب عنه بقوله تعالی: «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(1) بناءً علی أنّ الاجتناب عن النجس یعمّ الاجتناب عن ملاقیه أیضاً و لو بوسائط، بل هو عینه؛ و لذا نقل الاستدلال به عن السیّد أبی المکارم ابن زهرة(2) علی تنجّس الماء القلیل بمجرّد ملاقاته للنجس.

و استدلّ(3) له أیضاً

بما رواه عمرو بن شمر، عن جابر الجعفی، عن أبی جعفر علیه السلام: أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة فی خابیة فیها سمن أو زیت، فما تری فی أکله؟ قال: فقال له أبو جعفر علیه السلام: (لا تأکله).

فقال له الرجل: الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی من أجلها.

قال فقال له أبو جعفر: (إنّک لم تستخفّ بالفأرة، و إنّما استخْفَفْتَ بدینک، إنّ اللَّه حرّم المیتة من کلّ شی ء)

(4).

و لکنّ الحقّ عدم صلاحیّة الاستدلال بهما: أمّا الآیة فلأنّ سببیّة الملاقاة للنجس لتنجّس الملاقی لیست تکوینیّة، و لا بنحو السرایة الحقیقیّة؛ بأن توجب اتّساع دائرة النجس؛ لتکون نجاسة الملاقی- بالکسر- فی عرض نجاسة الملاقی- بالفتح- و لا عینها؛ لیکون الحکم بوجوب الهجر عن النجس حکماً بوجوبه عن ملاقیه، بل هی نجاسة اخری تعبّداً من الشارع، غیر النجاسة التی فی الملاقی


1- المدّثر( 74): 5.
2- الغنیة، ضمن سلسلة الینابیع الفقهیة 2: 379.
3- فوائد الاصول 4: 79- 80.
4- تهذیب الأحکام 1: 420/ 1327، الاستبصار 1: 24/ 3، وسائل الشیعة 1: 149، کتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحدیث 2.

ص: 437

- بالفتح- فإنّ سببیته وقوع مقدار رأس إبرة من البول فی أقلّ من مقدار الکرّ بقلیل لتنجس ذلک الماء، و وجوب الاجتناب عنه لیس إلّا مجرّد التعبّد، و إلّا فهو لیس بنجس، بل متنجّس(1)، و لا تدلّ الآیة علی وجوب هجره؛ لأنّها لا تدلّ علی وجوب الاجتناب عن المتنجّس، بل عن نفس النجس، و ما نحن فیه کذلک.

و أمّا الروایة فهی ضعیفة السند بعمرو بن شمر، بل قیل: إنّه من الجعّالین فی کتاب جابر(2).

مضافاً إلی أنّه یمکن أن یقال: إنّ المفروض فی السؤال فیها: أنّ الفأرة انبثّت و تشتّتت فی السمن، و اختلطت أجزاؤها فیه، و أراد السائل أکله کذلک؛ فلذا حکم الإمام علیه السلام بأنّ ذلک استخفاف بحکم حرمة المیتة.

و هذا المعنی و إن بعُد فی بادئ النظر، لکنّه بعد ملاحظة حالات الأعراب فی ذلک الزمان، و کیفیّة أطعمتهم و مأکولاتهم، غیر بعید.

حکم العقل و الاصول العقلیّة فی الملاقی

و بالجملة: الاستدلال بها غیر صحیح، فلا بدّ فی المقام من ملاحظة حکم العقل و القواعد العقلیّة.

فنقول: یعتبر فی تأثیر العلم الإجمالی- بل کلّ أمارة معتبرة- و تنجیزه التکلیف أمران:

الأوّل: کشفه الفعلیّ عن الواقع بنحو الإطلاق و علی أیّ تقدیر.


1- ذکر بعض أعاظم أساتیذنا فی درسه: أنّ عنوان المتنجّس عنوان حادث فی الأزمنة المتأخّرة، و شاع بین المتأخّرین، و إلّا فالنجس شامل للمتنجّس أیضاً، و أنّهما واحدٌ، و لذا اطلق فی کلمات القدماء لفظ النجس علی الأعمّ منهما، فتدبّر. المقرّر حفظه اللَّه.
2- رجال النجاشی: 287/ 765.

ص: 438

الثانی: تنجیزه التکلیف الواقعی کذلک.

فمع عدم الأمرین أو أحدهما لا تأثیر لهما، کما لو قامت أمارة علی وجوب فعل، ثمّ قامت أمارة اخری علی ذلک الحکم بعینه، فإنّ الأمارة الثانیة و إن تصلح لذلک، لکنّها لیست کاشفة عن الحکم الفعلیّ المنجّز بعد قیام الأمارة الاولی؛ لعدم إمکان الکشف عن شی ء مرّتین بالفعل، و کذلک التنجیز.

إذا عرفت ذلک نقول: لو علم بنجاسة أحد الإناءین إجمالًا، ثمّ علم بملاقاة شی ء لأحدهما، ثمّ حصل علم إجمالی آخر: إمّا بوقوع نجاسة فی الملاقی- بالکسر- أو الطرف الآخر للملاقی- بالفتح- فلا أثر للعلم الإجمالی الثانی فی إثبات تکلیفٍ فعلیٍّ منجَّز بالنسبة إلی الملاقی- بالکسر- و الطرف؛ لعدم کشفه عن التکلیف الفعلیّ المنجّز مطلقاً و علی أیّ تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر کون النجس فی العلم الإجمالی الأوّل هو الملاقی- بالفتح- فالملاقی له نجس، فالعلم الإجمالی الأوّل کاشف و منجّز لنجاسة الملاقی- بالفتح- سابقاً علی العلم الإجمالی الثانی، فلا یمکن کشف العلم الإجمالی الثانی عنها؛ لا فی الملاقی- بالکسر- و لا فی الطرف؛ لما عرفت من عدم معقولیّة الکشف بعد الکشف، فالعلم الإجمالی الثانی لا أثر له.

و منه یظهر الوجه فیما ذکره فی «الکفایة»(1): من الحکم بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- دون الملاقی- بالفتح- و الطرف فیما لو علم بنجاسة أحدهما، ثمّ لاقاه شی ء آخر، و حکمه بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالفتح- دون الملاقی و الطرف فیما لو علم بنجاسة الملاقی- بالکسر- و الطرف، ثمّ علم بالملاقاة، ثمّ علم إمّا بنجاسة الملاقی أو الطرف، و أنّ الملاقی- بالکسر- علی تقدیر کونه هو النجس، فهو لأجل ملاقاته للملاقی- بالفتح- فإنّ حال الملاقی-


1- کفایة الاصول: 411- 412.

ص: 439

بالفتح- فی هذه الصورة حال الملاقی- بالکسر- فی الصورة الاولی فی عدم وجوب الاجتناب؛ لعدم تنجّز العلم الإجمالی الثانی و عدم کشفه الفعلی علی کلّ تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر کون النجس هو الطرف فهو لا ینجّزه؛ لتنجیز العلم الأوّل بالنسبة إلیه، فالملاقی حینئذٍ کالشبهة البَدْویّة.

و أمّا الإشکال: بأنّه لا مانع من أن یکشف کلّ من العلمین بالنسبة إلی الطرف، و حیث إنّه لا یصدر الواحد إلّا من الواحد نقول: المؤثّر هو الجامع بینهما، کما لو بُنی سقف علی دعامة واحدة، ثمّ انضمّ إلیها دعامة اخری، فالسقف معتمِد حینئذٍ علی الجامع بینهما.

و أمّا بالنسبة إلی الملاقی- بالفتح- فکلّ واحد من العلمین مؤثّر فی کلّ واحد من الملاقی و الملاقی.

فمدفوع أوّلًا: بأنّ ذلک غیر صحیح فی محلّه أیضاً لما تقرّر فیه: أنّ الفاعل الإلهی إذا صدر منه شی ء فإذا انضمّ إلیه فاعل آخر، فالتأثیر مختصّ بالأوّل، و لا أثر للثانی أصلًا؛ کی یقال: المؤثّر هو الجامع بینهما؛ لعدم صدور الواحد إلّا من الواحد.

و ما ذکر من الدلیل غیر صحیح؛ لأنّ هذا الکلام من المحقّق الداماد قدس سره(1) إنّما هو فی البسائط الحقیقیّة، لا فی مثل هذه الامور العرفیّة.

و ثانیاً: لیس التنجیز من الآثار الحقیقیّة الواقعیّة، بل هو أمر اعتباریّ عقلیّ أو عقلائیّ للعلم و نحوه من الأمارات المعتبرة؛ بمعنی أنّه مع قیام الحجّة أو العلم علی تکلیفٍ، لا یُعذر العبد فی مخالفته؛ و أنّ للمولی الحجّة علیه.

و حینئذٍ فالإشکال المذکور غیر صحیح.

ثمّ إنّه بما ذکرنا- من عدم الأثر للعلم الإجمالی الثانی- یظهر ما فی کلام المیرزا النائینی قدس سره؛ حیث حکم بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- فی


1- القبسات: 368.

ص: 440

الشبهة المحصورة دون الملاقی- بالفتح- و الطرف فی جمیع الصور المفروضة فی «الکفایة» و إشکاله علیه: بأنّ المدار فی تأثیر العلم الإجمالی إنّما هو علی المعلوم، و فی جمیع الصور المفروضة مرتبة وجود الملاقی- بالفتح- و الطرف سابقة علی وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- و الطرف، و إن تقدّم زمان العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی- بالکسر- و الطرف علی العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی- بالفتح- و الطرف؛ لأنّ التکلیف فی الملاقی- بالکسر- إنّما جاء من قِبَل التکلیف بالملاقی- بالفتح- و الطرف، فلا أثر لتقدّم زمانه، فالمؤثّر من العلمین هو السابق منهما فی الرتبة المتأخّر زماناً، و هو العلم بنجاسة الملاقی- بالفتح- و الطرف، نظیر ما لو علم بوقوع قطرة من الدم فی أحد الإناءین، ثمّ علم بعد ذلک بوقوع قطرة اخری منه فی أحد هذین الإناءین أو فی إناء ثالث، و لکن ظرف وقوع القطرة المعلومة ثانیاً أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أوّلًا، فإنّه لا ینبغی التأمّل فی أنّ العلم الإجمالی الثانی یوجب انحلال الأوّل؛ لسبق معلومه علیه، و من الواضح أنّ العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی- بالکسر- و الطرف، یکون المعلوم به متأخّراً عن المعلوم إجمالًا بنجاسة الملاقی- بالفتح- و الطرف، ففی أیّ زمان یحدث العلم الإجمالی الثانی یسقط العلم الإجمالی الأوّل عن التأثیر(1). انتهی.

أقول: أمّا ما ذکره من المثال فهو غیر ما نحن فیه، و الحکم فیه مسلَّم؛ و ذلک لما تقدّم: من أنّ شرط العلم الإجمالی أن یکون مؤثّراً علی کلّ تقدیر؛ و یوجب التکلیف بنحو الإطلاق، فالعلم الإجمالی: إمّا بوقوع قطرة فی أحد الإناءین، أو فی إناء ثالث، لیس مؤثّراً و موجباً للتکلیف حینئذٍ؛ لأنّه علی تقدیر وقوع القطرة الثانیة علی ما وقعت علیه القطرة الاولی لا توجب الثانیة تکلیفاً زائداً سوی التکلیف الناشئ من وقوع القطرة الاولی، و حینئذٍ فالمؤثّر من العِلمین هو الأوّل منهما.


1- فوائد الاصول 4: 86- 88.

ص: 441

ثمّ إنّ المفروض فی الصورة الثانیة- التی ذکرها فی «الکفایة»- هو العلم الإجمالی: إمّا بنجاسة الملاقی- بالکسر- أو الطرف، و علی فرض تقدّم رتبة وجوب الاجتناب عن المُلاقی بالفتح- علی تقدیر نجاسته- علی وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- فهو لا یصحّ بالنسبة إلی الطرف علی تقدیر نجاسته، فإنّه لم یفرض التقدّم و التأخّر بالنسبة إلیه، و مع قطع النظر عنه لا یعلم بنجاسة الملاقی- بالکسر- و مع ملاحظته لا یکون المعلوم فی الملاقی- بالفتح- و الطرف متقدّماً بحسب الرتبة علی المعلوم فی الملاقی- بالکسر- و الطرف.

و أیضاً: الکاشفیّة و المنجّزیّة لیستا من شئون مرتبة العلم الإجمالی و وجوده العقلی، بل هی من شئون وجوده الخارجی و تقدّمه البرهانی، فلا یصحّ أن یقال: إنّ المنجِّز من العلمین هو المتقدّم منهما رتبةً لا المتأخّر؛ لیترتّب علیه وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالفتح- و الطرف دون الملاقی- بالکسر- لما عرفت من أنّها من شئون وجوده الخارجی، فالمعلوم بین الملاقی- بالفتح- و الطرف و إن کان متقدّماً بحسب الرتبة العقلیّة علی المعلوم بین الملاقی و الطرف، لکن عرفت: أنّ المنجّزیة لیست من شئون العلم کذلک، و کلّ علم هو علّة للآخر کذلک، فإنّ الأوّل متقدّم علی الثانی بحسب الرتبة تقدّم العلّة علی معلولها، لکنّهما بحسب الزمان متقارنان؛ لا تقدّم لأحدهما زماناً علی الآخر.

فالعلم الإجمالی بنجاسة الملاقی و الطرف متأخّر عن العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی- بالکسر- و الطرف فی الصورة الثانیة بحسب الوجود الخارجی، و المؤثّر هو المتقدّم علیه فی الوجود، و هو العلم بنجاسة الملاقی- بالکسر- و الطرف.

فظهر ممّا ذکرنا: الوجه فیما ذکره فی «الکفایة»: من وجوب الاجتناب عن الملاقی و الملاقی و الطرف جمیعاً فی الصورة الأخیرة، و هی ما لو حصل العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی- بالفتح- و الطرف بعد العلم بالملاقاة؛ و ذلک لأنّ العلم

ص: 442

الإجمالی بنجاسة الملاقی و الطرف فی زمان العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی و الطرف، فهما مؤثّران معاً.

و إن شئت قلت: إنّ هنا علماً إجمالیّاً واحداً له ثلاثة أطراف، فیجب الاجتناب عنها جمیعاً.

و وافق المحقّق العراقی المحقّق الخراسانی فی الحکم فی الصورة المفروضة(1)، لکن لازم کلامه هو وجوب الاجتناب عن الملاقی و الطرف دون الملاقی- بالفتح- فی الصورة الثالثة؛ حیث ذهب إلی أنّ المؤثّر من العلمین هو المتقدّم رتبةً و لو تأخّر بحسب الوجود الخارجی.

هذا کلّه بحسب الاصول العقلیة.

ما هو الأصل الشرعی فی الملاقی؟

و أمّا الاصول الشرعیّة فذکر الشیخ الأعظم قدس سره: أنّ الشکّ فی نجاسة الملاقی- بالکسر- فی الصورة الاولی- مسبّب عن الشکّ فی نجاسة الملاقی- بالفتح- و أصالة الطهارة الجاریة فی السبب حاکمة علی أصالة الطهارة فی المسبّب، لکنّها معارَضة بأصالة الطهارة فی الطرف فتتساقطان، فتبقی أصالة الطهارة فی المسبّب- أی الملاقی بالکسر- بلا معارض فهی جاریة فیه(2).

و قال المحقّق العراقی قدس سره: إنّه لو قلنا باقتضاء العلم الإجمالی للتنجیز، لا أنّه علّة تامّة له، فلا إشکال فی جریان أصالة الطهارة فی الملاقی- بالکسر- لتساقط أصالتی الطهارة فی الملاقی- بالفتح- و الطرف(3).


1- نهایة الأفکار 3: 359.
2- فرائد الاصول: 253 سطر 23.
3- نهایة الأفکار 3: 361.

ص: 443

أقول: هنا إشکال من وجهین:

الوجه الأوّل: ما سیجی ء بیانه- إن شاء اللَّه تعالی- فی باب الاستصحاب.

و ملخّصه: أنّه یعتبر فی تقدیم الأصل السببی علی الأصل المسبَّبی و حکومته علیه- مضافاً إلی مسبَّبیّة الشکّ فی أحدهما عن الشکّ فی الآخر- أن یکون الأصل الجاری فی السبب رافعاً للشکّ فی المسبّب تعبّداً؛ بتنقیحه لموضوع قاعدةٍ کلّیّة شرعیّة، کما لو غسل ثوبه النجس بالماء المشکوک کرّیّته، فإنّ الشکّ فی طهارة الثوب مسبّب عن الشکّ فی کُرّیّة الماء المذکور، و مع سبقه بالکرّیّة و استصحابها یتحقّق موضوع حکم الشارع بمطهّریة ماء الکرّ لکلّ ما غسل به، و المفروض أنّه غسل الثوب به، فیصیر طاهراً، و یزول الشکّ فی نجاسته تعبّداً.

و أمّا لو لم یکن الأصل الجاری فی السبب منقِّحاً لموضوع قاعدة شرعیّة- لعدم وجود حکم شرعیّ یتحقّق موضوعه و ینقح بالاستصحاب- فالأصل فی السبب فی مثل ذلک لیس حاکماً علی الأصل فی المسبّب و مقدّماً علیه، کما فیما نحن فیه، فإنّه لیس فی الشرع قاعدة کلّیّة مفادها: هو أنّ کلّ ما لاقی طاهراً فهو طاهر؛ لینقّح باستصحاب الطهارة فی الملاقی موضوع تلک القاعدة، لیرتفع الشکّ فی الملاقی- بالکسر- فلیس المقام مقام الشکّ السببیّ و المسبّبی، فالاصول الثلاثة فی الملاقی و الملاقی و الطرف متعارضة متساقطة.

الوجه الثانی: ما أفاده شیخنا الاستاذ الحائری قدس سره فی درسه: و هو أنّ فی کلّ واحد من الملاقی و الملاقی و الطرف أصلین: أحدهما أصالة الطهارة، و الثانی أصالة الحلّیّة؛ لأنّ الشکَّ فی الطهارة مستلزمٌ للشکّ فی الحلّیّة أیضاً، و الشکُّ فی الحلّیّة فی کلّ واحد منها مسبَّبٌ عن الشکّ فی نجاسته، و الشکُّ فی طهارة الملاقی- بالکسر- و نجاسته مسبَّبٌ عن الشکّ فی طهارة الملاقی- بالفتح- و نجاسته، فأصالتا الطهارة فی الملاقی- بالفتح- و الطرف متعارضتان متساقطتان، و أصالتا الحلّیّة فیهما و أصالة

ص: 444

الطهارة فی الملاقی- بالکسر- فی عَرْض واحد؛ لأنّ الشکَّ فی جمیعها مسبَّبٌ عن الشکّ فی طهارة الملاقی- بالفتح- و الطرف، فتتساقط، فیبقی فی المقام أصالة الحلّیّة فی الملاقی- بالکسر- بلا معارض، فهو حلال غیر طاهر، فلا یجوز الوضوء منه، و یجوز أکله أو شربه. انتهی.

و أجاب عنه هو قدس سره: بأنّه لا تجری الاصول فی أطراف العلم الإجمالی لوجهین:

أحدهما: لزوم التناقض فی مدلول الأدلّة.

و ثانیهما: أنّ أصالة الحلّیّة و البراءة مقیَّدتان بعدم العلم بالخلاف.

و حینئذٍ فأصالة الطهارة فی الملاقی- بالکسر- جاریة بلا معارض، و کذلک أصالة الحلّیّة.

أقول: أمّا أصل الإشکال ففیه:

أوّلًا: أنّ أصالة الحلّیّة فی أطراف الشبهة المحصورة غیر جاریة، لا لما ذکره قدس سره، بل لما عرفت من أنّ المستَنَد لها فی أطراف العلم الإجمالی هو روایة مسعدة بن صدقة(1)، و قد عرفت الإشکال فیها: من جهة أنّ الأمثلة المذکورة فی ذیلها مستنِدة إلی أمارات اخر متقدِّمة علی أصالة الحلّیّة، کقاعدة الید و الإقرار و نحوهما، لا إلی أصالة الحلّیّة و الکبری الکلّیّة فی صدرها.

و أمّا روایة عبد اللَّه بن سنان(2) و عبد اللَّه بن سلیمان(3) فقد عرفت: أنّهما


1- الکافی 5: 313/ 40، تهذیب الأحکام 7: 226/ 989، وسائل الشیعة 12: 60، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4.
2- الفقیه 3: 216/ 92، وسائل الشیعة 12: 59، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.
3- الکافی 6: 339/ 1، وسائل الشیعة 17: 90، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 1.

ص: 445

مخصَّصتان بغیر الشبهة المحصورة.

و أمّا أدلّة البراءة- مثل حدیث الرفع(1) و نحوه- فهی لا تشمل الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی أصلًا، و حینئذٍ فلا مجال لجریان أصالة الحلّ فی الملاقی- بالفتح- و الطرف أصلًا، لا أنّها جاریة فیهما، لکنّهما متساقطتان بمعارضتهما مع أصالة الطهارة فی الملاقی بالکسر.

و حینئذٍ فأصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارض، فیجوز الوضوء منه.

و ثانیاً: قد عرفت: أنّ الأصل الجاری فی السبب إنّما یقدّم علی الأصل الجاری فی المسبّب؛ لکونه رافعاً لموضوع الأصل فیه- أی الشکّ تعبّداً- و هو یتوقّف علی وجود کبری کلّیّة شرعیّة ینقّح بها موضوعه، فلو فرض أنّ فی الشریعة حکماً کلّیّاً: بأنّ کلّ طاهر حلال، و کلّ ما لاقی طاهراً فهو حلال و طاهر صحّ ما ذکره قدس سره: من أنّ أصالة الحلّیّة فی کلّ واحد من الملاقی- بالفتح- و الطرف، و أصالة الطهارة فی الملاقی- بالکسر- فی عَرْض واحد، و متأخّرتان عن أصالتی الطهارة فی الملاقی- بالفتح- و الطرف؛ لأنّ کلّ واحد من أصالة الحل فی الملاقی- بالفتح- و الطرف و أصالة الطهارة فی الملاقی- بالکسر- فی عَرْض واحد، فتبقی أصالة الحلّ فی الملاقی- بالکسر- فی الصورة الاولی و الملاقی- بالفتح- فی الصورة الثانیة جاریتین بلا معارض، فهو حلال لا یجوز الوضوء منه حینئذٍ.

لکن لیس فی الشریعة حکم کلّیّ بأنّ کلّ طاهر حلال أکله، و کلّ ما لاقی طاهراً فهو طاهر؛ لینقَّح بأصالة الطهارة موضوعُ کلّ واحد منهما، و یرتفع بها الشکّ فی الطهارة و النجاسة فی الملاقی- بالکسر- فی الصورة الاولی، و فی الملاقی- بالفتح- فی الصورة الثانیة، و کذلک الشکّ فی الحلّیّة و الحرمة فی الملاقی- بالفتح-


1- التوحید: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

ص: 446

و الطرف فی الصورة الاولی، و فی الملاقی- بالکسر- و الطرف فی الصورة الثانیة، و تدخل فی سلک أسبابها، و إلّا فمجرّد التقدّم الرتبی العقلی، لا یوجب حکومة الأصل الجاری فی المتقدّم علی الأصل الجاری فی المتأخّر، مع تقارن الشکّین بحسب الوجود الخارجی.

فالحقّ فی المقام: أنّ الشکوک الستّة المتقدّمة هی فی عَرْض واحد بالنسبة إلی جریان الاصول، فتتساقط الاصول الشرعیّة جمیعاً؛ لأجل المعارضة بسبب العلم الإجمالی، و لا فرق فی ذلک بین الصور الثلاث التی ذکرها فی «الکفایة».

هذا کلّه علی المختار فی مناط الأصل السببی و المسبّبی؛ و أنّ مجرّد التقدّم الرتبی بسبب نشوء شکٍّ عن شکٍّ لا یوجب جریان الأصل فی السبب دون المسبّب.

و أمّا بناءً علی کفایة مجرّد ذلک- کما هو مذهب القوم- فنقول: إنّ الإشکال صحیح و وارد فی الصورة الثالثة التی یتقارن فیها العلمان بحسب الزمان، و أمّا الصورة الاولی و الثانیة فلا یرد علیها ذلک الإشکال حتی بناءً علی مذهبهم المذکور؛ و ذلک لما عرفت: من أنّه یعتبر فی تأثیر العلم الإجمالی إیجابه لحدوث تکلیف علی أیّ تقدیر، و لیس الأمر کذلک فیهما؛ لأنّه إذا علم بوقوع قطرة من الدم فی إناء زید أو فی إناء عمرو، ثمّ علم بوقوع قطرة اخری إمّا فی إناء عمرو أو فی إناء بکر، فالعلم الإجمالی الأوّل موجب للتکلیف فی طرفیه- أی إناء زید و عمرو- و أمّا العلم الإجمالی الثانی فلا یعلم إیجابه للتکلیف علی أیّ تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر وقوع الثانیة فی إناء عمرو، و فرض وقوع الاولی فیه أیضاً، فلا توجب الثانیة حدوث تکلیف، و إنّما توجبه لو فرض وقوعها فی إناء بکر، و حیث إنّه غیر معلوم فلا یعلم به حدوث تکلیفٍ سوی التکلیف الحادث بالعلم الأوّل، فلو خالف العلم الإجمالی الثانی؛ بأن ارتکب إناء عمرو و بکر، لم یعلم بمخالفته للتکلیف بالنسبة إلی العلم الثانی، و إن کان متجرِّیاً بارتکاب إناء عمرو؛ من حیث إنّه أحد طرفی العلم

ص: 447

الإجمالی الأوّل، الذی هو منجِّز للتکلیف علی الفرض.

و الملاقی لأحد الأطراف فی الصورة الاولی، نظیر إناء بکرٍ فی المثال؛ من حیث إنّه طرف للعلم الإجمالی: إمّا بنجاسته أو نجاسة الطرف، و حیث إنّه مسبوق بالعلم الإجمالی نجاسة الملاقی- بالفتح- أو الطرف المنجّز للتکلیف المعلوم، و الأصل فی کلّ واحد منهما معارَض بالأصل فی الآخر تعارضاً بالعَرَض؛ إذ لیس التعارض بینهما حقیقیّاً؛ بأن یکون مؤدّی الأصلین متناقضین؛ لاختلاف موضوعیهما، و اختلاف أصالة الطهارة و الحلّیّة بأنفسهما، فالتعارض بینهما لمکان العلم الإجمالی بمخالفة أحد الأصلین للواقع، فیتعارضان و یتساقطان تصل النوبة إلی العلم الإجمالی الثانی بنجاسة الملاقی- بالکسر- أو الطرف، و حیث إنّه لیس بینهما تعارض بالعرض أیضاً؛ لما عرفت من عدم إیجابه للتکلیف المستقلّ علی أیّ تقدیر، فأصالة الطهارة جاریة فی الملاقی- بالکسر- بلا معارض.

و ممّا ذکرنا یظهر حال الملاقی- بالفتح- فی الصورة الثانیة فإنّ حاله فیها حال الملاقی فی الصورة الاولی التی ذکرناها.

و أمّا الصورة الثالثة فالإشکال المذکور فیها وارد من جهة تعارض العلمین بحسب الوجود الخارجی.

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قدس سره ذکر لصورة وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- و الطرف دون الملاقی- بالفتح- مثالین:

أحدهما: ما تقدّم.

ثانیهما: ما لو علم بالملاقاة، ثمّ حدث العلم الإجمالی، لکن مع خروج الملاقی- بالفتح- عن محلّ الابتلاء حال حدوثه، و صار مبتلا به بعده(1).

و فصّل المیرزا النائینی قدس سره بینه و بین ما لم یعُدِ الملاقی- بالفتح- إلی محلّه


1- کفایة الاصول: 412.

ص: 448

بعد ذلک، فحکم فی الأوّل بلزوم الاجتناب عنه و عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- و بعدم وجوبه فی الملاقی- بالفتح- فی الثانی(1).

أقول: قد تقدّم الکلام بما لا مزید علیه فی اعتبار الابتلاء فی التکالیف و تنجیز العلم الإجمالی، و أنّه لا یعتبر فی التکالیف الکلّیّة القانونیّة.

و علی فرض اعتباره أیضاً لا بدّ من وجوب الاجتناب فی هذه الصورة عن الملاقی- بالفتح- دون الملاقی- بالکسر أیضاً و ذلک لأنّ الملاقی- بالفتح- و إن کان خارجاً عن مورد الابتلاء، إلّا أنّه یجری فیه الأصل باعتبار أنّ ملاقیه مورد للابتلاء، کما أنّ التذکیة من أوصاف الغنم- علی ما هو التحقیق- فمع خروج الغنم عن مورد الابتلاء و الشکّ فی تذکیتها و لکن قطعة من لحمها أو جلدها فی مورد الابتلاء، لا مانع من جریان أصالة عدم التذکیة بالنسبة إلی الغنم المذکورة؛ لأنّ جلدها مورد الابتلاء، لأنّ المستَنَد للمنع هو لَغویّة الحکم بالحرمة فی الخارج عنه، و هی مفقودة فیما نحن فیه؛ لأنّ الحکم بعدم التذکیة یفید باعتبار جلدها، فیترتّب علیها الأثر الشرعی، و ما نحن فیه من هذا القبیل، فلذا لا مانع من جریان الأصل فی الملاقی- بالفتح- الخارج عن الابتلاء بلحاظ ملاقیه الذی هو مورد الابتلاء، فیعارَض بأصالة الطهارة فی الطرف، و یتساقطان، فتبقی أصالة الطهارة فی الملاقی- بالکسر- بلا معارض.

هذا کلّه لو قلنا: بأنّ نجاسة الملاقی للنجس فرد آخر له حکم مستقلّ بوجوب الاجتناب، و أمّا لو قلنا: بأنّه لیس للملاقی- بالکسر- حکم شرعیّ مستقلّ، ففیه احتمالان:

أحدهما: ان الحکم بوجوب الاجتناب عن النجس یستتبع الحکم بوجوبه


1- فوائد الاصول 4: 86.

ص: 449

عن ملاقیه حکماً شرعیّاً تبعیّاً، کما ذکره أبو المکارم ابن زهرة قدس سره(1).

ثانیهما: أنّ امتثال الحکم بوجوب الاجتناب عن النجس لا یتحقّق عقلًا إلّا بالاجتناب عن ملاقیه أیضاً.

فعلی الأوّل من هذین الاحتمالین یلزم وجوب الاجتناب عن الملاقی و الملاقی و الطرف جمیعاً فی جمیع الصور المفروضة؛ لأنّه لیس حینئذٍ إلّا علم إجمالیّ واحد إمّا بنجاسة الطرف أو الملاقی- بالفتح- و ملاقیه، فیجب الاجتناب عن جمیعها.

و بعبارة اخری: الملاقی و الملاقی طرف واحد للعلم الإجمالی.

و کذلک علی الاحتمال الثانی.

و لکنّه بعید؛ لعدم حکم العقل بذلک، فإذا شککنا فی أنّ نجاسة الملاقی- بالکسر- نجاسة اخری غیر نجاسة الملاقی- بالفتح- و أنّ لکلّ واحدة منهما حکماً شرعیّاً مستقلّاً علی حِدَة، أو أنّها لیست نجاسة مستقلّة اخری غیر نجاسة الملاقی- بالفتح- و لیس لها حکم شرعیّ مستقلّ، و أنّ الحکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی- بالفتح- النجس، یستتبع حکماً شرعیّاً تبعیّاً بوجوب الاجتناب عن ملاقیه، فمقتضی القاعدة عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- فی الصورة الاولی، و عن الملاقی- بالفتح- فی الصورة الثانیة، و جریان البراءة العقلیّة و النقلیّة فیهما؛ و ذلک لأنّا لو فرضنا عدم وجوب الاجتناب عن ملاقی النجس شرعاً بنحو الاستقلال، و شککنا فی استتباع الحکم بوجوب الاجتناب عن النجس لحکمٍ تبعیٍّ بوجوب الاجتناب عن ملاقیه و عدمه، فلا مانع من جریان البراءة العقلیّة و النقلیّة فی الملاقی- بالکسر- لعدم قیام حجّة علی وجوب الاجتناب عنه.

و ما نحن فیه کذلک؛ لعدم العلم التفصیلی بنجاسة الملاقی- بالفتح- بل


1- الغنیة، ضمن سلسلة الینابیع الفقهیة 2: 379.

ص: 450

وجوب الاجتناب عنه إنّما هو لأجل أنّه من أحد أطراف العلم الإجمالی.

فالأمر فی صورة الشکّ المذکور دائر بین أن یکون هناک علم إجمالیّ واحد بنجاسة الملاقی و الملاقی أو الطرف- علی فرض أنّ نجاسة الملاقی- بالکسر- لیست نجاسة اخری لها حکم مستقلّ- و بین أن یکون هناک علمان إجمالیان أحدهما بین الملاقی- بالفتح- و الطرف، و الثانی بین الملاقی- بالکسر- أو الطرف علی فرض أن یکون لملاقی النجس حکمٌ آخر بوجوب الاجتناب مستقلّاً، و علی هذا الفرض فالعلم الإجمالی الثانی غیر مؤثّر فی التنجیز، کما تقدّم الکلام فیه.

و حیث یشکّ أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی- بالکسر- علی هذا النحو أو ذاک فلا حجّة فیه تقتضی وجوب الاجتناب عنه؛ لعدم تأثیر العلم الإجمالی الثانی علی التقدیر الثانی، فلا إشکال فی جریان البراءة العقلیّة و النقلیّة فیه.

و من هنا ظهر الإشکال فیما ذکره المحقّقان النائینی(1) و العراقی(2) فی المقام: من وجوب الاحتیاط و عدم جریان البراءة العقلیّة و النقلیّة؛ حیث قال المیرزا النائینی قدس سره: إنّه بناءً علی أنّ تأثیر العلم الإجمالی بنحو الاقتضاء لا تجری البراءتان:

أمّا الشرعیّة فلأنّها فرع سببیّة الشکّ فی الملاقی- بالفتح- للشکّ فی نجاسة الملاقی- بالکسر- لتجری فیه بعد تعارضهما فی الملاقی- بالفتح- و الطرف، و حیث إنّه لم یحرز ذلک؛ لاحتمال وحدة نجاسة الملاقی و الملاقی و عدم تعدّدهما، و أنّ لهما حکماً واحداً، فلا مجال لجریانها فی الملاقی بالکسر.

و أمّا البراءة العقلیّة فلأنّها فرع انحلال العلم الإجمالی، و حیث إنّه لم یحرز ذلک فلا مجال لجریانها فیه أیضاً؛ لأنّ الانحلال موقوف علی أن تکون نجاسة الملاقی- بالکسر- نجاسة اخری لها حکم مستقلّ بوجوب الاجتناب.


1- فوائد الاصول 4: 89- 93.
2- نهایة الأفکار 3: 358.

ص: 451

و قال العراقی قدس سره- أیضاً- ما مرجعه إلی ما ذکره المحقّق النائینی.

و قد عرفت أنّ الحقّ جریانهما فی الملاقی بالکسر.

تنبیهات
اشارة

بقی هنا فروع تعرّض لها الشیخ الأعظم قدس سره فی التنبیهات:

التنبیه الأوّل: وجوب الاحتیاط عند الجهل بالقبلة

قال قدس سره ما حاصله: إنّه یجب الاحتیاط برعایة أطراف العلم الإجمالی فی الشبهات الوجوبیّة و الموضوعیّة أیضاً، کالصلاة إلی أربعة جوانب عند اشتباه القبلة، و کالصلاة فی ثوبین أحدهما نجس لا بعینه(1).

و نقل عن الحلّی سقوط الستر عند اشتباه الثوب الطاهر بالنجس و وجوب الصلاة عاریاً(2).

و عن المحقّق القمّی قدس سره: التفصیل بین الشرائط کالطهارة من الخبث، و بین الموانع کأجزاء ما لا یؤکل لحمه؛ بسقوط المانعیّة فی الثانی عند الاشتباه، دون الشرطیّة فی الأوّل(3).

و قال المیرزا النائینی قدس سره: کأنّ المحقّق القمّی قدس سره قاس باب الجهل بالموضوع علی باب العجز و عدم القدرة(4).


1- فرائد الاصول: 269 سطر 7.
2- السرائر 1: 184- 185.
3- الظاهر من عبارة القوانین خلاف ذلک فقد ذُکر فیها عدم وجوب الاجتناب عن مشتبه المانعیّة و الشرطیّة فی أطراف العلم الإجمالی علی حدٍّ سواء، راجع قوانین الاصول 2: 38 سطر 19.
4- فوائد الاصول 4: 135.

ص: 452

أقول: قیاس الجهل بالموضوع علی العجز و عدم القدرة لا یثمر التفصیل المذکور؛ لأنّ مقتضاه سقوط الشرطیّة و المانعیّة کلتیهما؛ بناءً علی اشتراط التکلیف بالقدرة، فلا یکون فعلیّاً فی صورة العجز.

و أمّا بناءً علی المختار- من أنّ العجز عذر فی الامتثال لا شرط فی التکلیف- فالأمر أوضح فی عدم اقتضاء القیاس المذکور للتفصیل؛ لبقاء التکلیف فی صورة العجز بحاله، و إن کان معذوراً فی الامتثال، کما ورد فی المغمی علیه: أنّه

(کلّما غلب اللَّه علیه فهو أولی بالعذر)

(1).

فالظاهر أنّ ما ذکره من التفصیل مبنیّ علی ما نُسب إلیه: من عدم تنجیز العلم الإجمالی بقیام الأمارات و الحجج و عدم وجوب الاحتیاط باجتناب الأطراف فی الشبهة التحریمیّة، و أنّها کالشبهة البَدْویّة فی عدم وجوب الاحتیاط(2)، و حینئذٍ فإن کان المعلوم إجمالًا من الشرائط، کطهارة اللباس لو اشتبه الطاهر منه بالنجس، وجب إحراز تحقّق الشرط، و لا یکفی الشکّ فی تحقّقه، بخلاف الموانع، فإنّه لا یجب إحراز عدمها، بل یکفی مجرّد الشکّ؛ بناءً علی انحلال التکالیف عرفاً، کما تقدّم سابقاً.

التنبیه الثانی: فی کیفیة النیّة لو کان المعلوم بالإجمال من العبادات

إذا کان المعلوم بالإجمال عبادیّاً- یفتقر امتثاله إلی النیّة و القربة- فلا بدّ من الاحتیاط بأن ینوی عند الإتیان بکلّ واحد من الأطراف فعلها احتیاطاً؛ لإحراز الواجب العبادی الواقعی، و یقصد فعل التکلیف العبادی المعلوم إجمالًا- المردّد بین


1- الکافی 3: 412/ 1، تهذیب الأحکام 3: 302/ 925، وسائل الشیعة 5: 352 و 354، کتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 3 و 16.
2- قوانین الاصول 2: 35 سطر 3.

ص: 453

الأطراف- تقرّباً إلیه تعالی، فیجب العزم حین الإتیان بطرفٍ منها علی الإتیان بباقی الأطراف أیضاً؛ إذ النیّة المذکورة لا تتحقّق بدونه، فإنّ من قصد الاقتصار علی أحد الأطراف فقط، لیس قاصداً لامتثال الواجب الواقعی علی کلّ تقدیر، بل علی تقدیر المصادفة للواقع.

و أمّا الشاکّ بدواً فی وجوب شی ء فیکفیه قصد احتمال الأمر(1).

و أورد علیه المیرزا النائینی قدس سره: بأنّه لا فرق بین الشبهة البَدْویّة و المقرونة بالعلم الإجمالی فی ذلک؛ إذ کما أنّ فعل محتمل الوجوب فی الشبهة البَدْویّة إنّما هو بداعی احتمال الأمر، فکذلک الإتیان بکلّ واحدٍ من أطراف المقرونة بالعلم الإجمالی، فإنّه بداعی احتمال انطباق الواجب الواقعی علی هذا الطرف أو ذاک، فهو أیضاً منبعث عن احتمال الأمر، لا الأمر المعلوم بالإجمال، فیکفی قصد احتمال الأمر(2).

أقول: ما ذکره قدس سره- من کفایة الإتیان بقصد احتمال الأمر- حقّ؛ لعدم الدلیل علی وجوب ما زاد علی أصل النیّة و القربة و الخلوص فی العبادات، لکنّ ما ذکره:

من عدم انبعاث الآتی بأطراف المعلوم بالإجمال عن الأمر المعلوم، غیر صحیح؛ للفرق بین الآتی بالشبهة البَدْویّة و بین الآتی بأحد أطراف العلم الإجمالی؛ لتحصیل الموافقة الاحتمالیّة فقط، و بین الآتی بقصد الموافقة القطعیّة، فإنّ الأوّل لا ینبعث إلّا عن احتمال الأمر، لکن الثانی و الثالث منبعثان عن الأمر المعلوم؛ بحیث لو لم یکن عالماً به لما أتی به أصلًا، نعم هو مع احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف.

و أمّا ما یظهر من بعضهم: من أنّ الآتی بأحد أطراف المعلوم بالإجمال، مع


1- فرائد الاصول: 270 سطر 8.
2- فوائد الاصول 4: 136- 137.

ص: 454

العزم علی عدم الإتیان بسائر الأطراف متجرٍّ یستحقّ العقوبة لذلک(1).

ففیه: أنّ التجرّی لیس بالإتیان بهذا الطرف، بل بترک سائر الأطراف.

التنبیه الثالث: حکم ما لو کان المعلوم بالإجمال أمرین مترتّبین شرعاً

لو کان المعلوم بالإجمال أمرین مترتّبین شرعاً، کالظهر و العصر عند اشتباه القبلة المردّدة بین الجهات الأربع، أو القصر و الإتمام عند الجهل بالمسافة الشرعیّة، فهل یجب الإتیان بجمیع محتملات المتقدِّم، فیأتی بالظهر إلی الجهات الأربع، قصراً و تماماً، ثمّ یصلّی العصر إلی الجهات، أو لا یجب ذلک، فیصلّی الظهر و العصر إلی جهة، ثمّ یصلّیهما إلی جهة اخری ... و هکذا، فیکفی أن یأتی واحد من محتملاتها عقیب الظهر فی کلّ واحدٍ منها؟ وجهان(2).

فهنا مقامان من البحث:

الأوّل: فی أنّه هل للامتثال مراتب أربع: الامتثال العلمیّ التفصیلیّ، و العلمیّ الإجمالیّ، و الظنّی بالظنّ المعتبر، و الاحتمالی، فلا یکفی اللاحق فی کلٍّ منها مع إمکان السابق، أو أنّه لا یعتبر ذلک، بل یکفی الامتثال الإجمالی مع إمکان الامتثال العلمی التفصیلی؟

الثانی: أنّه لو قلنا بعدم کفایة الامتثال الإجمالی مع إمکان الامتثال التفصیلی، هل یتفرّع علیه وجوب الإتیان بجمیع محتملات المتقدّم إلی الجهات، ثمّ الأخذ بمحتملات المتأخّر، أو أنّه لا یتفرّع علیه ذلک و إن قلنا به؟

أمّا المقام الأوّل: فقد عرفت کفایة الامتثال الإجمالی مع إمکان التفصیلی


1- فوائد الاصول 4: 137.
2- فرائد الاصول: 271 سطر 18.

ص: 455

منه؛ و ذلک لأنّه لا یدعو الأمر إلّا إلی متعلّقه، فإن تعلّق بنفس الطبیعة المطلقة فهو یقتضی کفایة إیجادها بأیّ وجه اتّفق، و لا یُشترط فی الامتثال شی ء آخر، إلّا أنّه قام الدلیل علی اعتبار النیّة و القربة و الإخلاص فی العبادات، و أمّا قصد عنوان الطاعة أو الأمر فلم یقم علیه دلیل من الخارج، و الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة لا یدعو إلّا إلیهما، و مقتضی ذلک کفایة الامتثال الإجمالی.

و أمّا المقام الثانی: فهو لو فرضنا وجوب الامتثال التفصیلی مع الإمکان فذهب المیرزا النائینی قدس سره: إلی أنّه یتفرّع علیه وجوب الإتیان بجمیع محتملات الظهر أوّلًا فیما نحن فیه، ثمّ الأخذ بإتیان محتملات العصر، لأنّه یجب إحراز الترتیب بینهما حین الإتیان بصلاة العصر، و لا یکفی حصول العلم به بعده، و مقتضاه ما ذکر.

ثمّ استشکل علیه: بأنّه لا فرق بین الإتیان بجمیع محتملات الظهر، ثمّ الأخذ بمحتملات العصر، و بین الإتیان بصلاة الظهر و العصر إلی جهة ثم الاتیان بهما إلی جهة اخری و هکذا إلی تمام الجهات، فإنّه علی کلّ حالٍ لا یعلم بوقوع العصر عقیب الظهر حین الإتیان بمحتملات العصر، فإنّه حین الإتیان بکلّ واحدٍ من محتملات العصر فی الصورة الاولی أیضاً لا یعلم بذلک؛ لاحتماله أنّ القبلة غیر تلک الجهة، فیحتمل أن لا تکون هذه صلاة العصر، و إنّما یعتبر الترتیب بین الظهر و العصر المأمور بهما واقعاً و فی نفس الأمر.

و أجاب: بأنّ الفرق بینهما فی غایة الوضوح؛ لأنّه عند تأخیر جمیع محتملات العصر عن جمیع محتملات الظهر یعلم- حین الإتیان بکلّ واحد من محتملات العصر- أنّ الصلاة المأتیّ بها واقعة عقیب صلاة الظهر واقعاً و إن لم یعلم بأنّها عصر واقعیّ، إلّا أنّه لمکان الجهل بالقبلة، لا لمکان الجهل بالترتیب(1). انتهی


1- فوائد الاصول 4: 138- 139.

ص: 456

ملخّصاً.

أقول: لا إشکال فی أنّ الترتیب إنّما یعتبر بین الظهر و العصر الواقعیّین، و تحقّقه یتوقّف علی فعل ظهرٍ، و فعل عصرٍ، و تقدّم الأوّل علی الثانی؛ بحیث لو أخلّ بواحدٍ من هذه الامور الثلاثة لما تحقّق الترتیب، و حینئذٍ فإن أتی بجمیع محتملات الظهر، ثمّ أتی بواحد من محتملات العصر، فهو لا یعلم بتحقّق الترتیب بین الظهرین و تقدّم الظهر علی العصر؛ لأنّ التقدّم و التأخّر متضایفان؛ لا یعقل تحقّق وصف التقدّم بدون تحقّق التأخّر، فلو لم یکن ما أتی به- من أحد محتملات العصر- عصراً واقعیّاً؛ لاحتمال أنّ القبلة غیر تلک الجهة، فحین الإتیان بهذا المحتمل للعصر لا یعلم بتحقّق الترتیب بین الظهرین و تقدّم الظهر علی العصر؛ لما عرفت من توقُّفه علی العصر الواقعیّ.

و بالجملة: الشکّ فی القبلة ملازم للشکّ فی حصول الترتیب، لا ینفکّ أحدهما عن الآخر، فلا ینفع تقدیم جمیع محتملات الظهر.

فالحقّ عدم وجوب تقدیم جمیع محتملات الظهر علی محتملات العصر، و إن قلنا بوجوب الامتثال التفصیلی و تقدّمه علی الامتثال الإجمالی.

ص: 457

الفصل السادس فی دوران الواجب بین الأقلّ و الأکثر

اشارة

و قبل الخوض فی البحث لا بدّ من تقدیم أمرین:

الأمر الأوّل: الکثرة الاستقلالیة و الارتباطیة

أنّ الأقلّ و الأکثر: إمّا استقلالیّان، و إمّا ارتباطیّان.

و المناط فی الاستقلالیّ: هو أن یکون هناک موضوعان تعلّق بکلّ واحدٍ منهما غرض مستقلّ عن الآخر؛ بحیث یمکن تحصیل أحدهما بدون الآخر، کما لو دار الأمر فی الدَّین بین دینارٍ أو دینارین.

و بعبارة اخری: کلّ واحد من الأقلّ و الأکثر فی الاستقلالیّین موضوع لحکم مستقلّ غیر حکم الآخر، کالحکم بوجوب إکرام زید، أو زید و عمرو؛ سواء تعلّق بکلّ واحد منهما أمر مستقلّ، أو أمر واحد منحلّ إلی أمرین أو أکثر، و مثل «أکرم کلّ عالم»، بخلاف الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین، فإنّ الموضوع و الحکم و الغرض فیهما واحد.

ص: 458

و ظهر بذلک عدم صحّة ما ذکره المحقّق العراقی؛ حیث إنّه ذکر: أنّ الفرق بینهما إنّما هو فی کیفیّة تعلّق الأمر، و أنّ الأمر إن کان واحداً فهو ارتباطیّ، و إلّا فاستقلالیّ(1)؛ و ذلک لما عرفت من أنّهما متمایزان فی رتبة سابقة علی تعلّق الأمر.

و أیضاً الفرق بینهما: هو أنّ الأقلّیّة و الأکثریّة أمران یعتبرهما المکلّف فی الاستقلالیّین، و إلّا فلیس الأقلّ فیهما أقلّ لأکثر واقعاً، بل هما موضوعان مستقلّان فی نفس الأمر، بخلاف الارتباطیّین، فإنّهما فی نفس الأمر کذلک؛ یعنی الأقلّ منهما أقلّ للأکثر واقعاً.

و ظهر أیضاً ممّا ذکرناه محطّ البحث فی الارتباطیّین: و هو أن یکون الأقلّ لا بشرط بالنسبة إلی الأکثر؛ بحیث لو أتی بالأکثر، و کان الواجب واقعاً هو الأقلّ، حصل الامتثال بالنسبة إلیه، بخلاف ما لو اعتبر الأقلّ بشرط لا عن الأکثر، و فرض أنّ الواجب واقعاً هو الأقلّ، فإنّهما حینئذٍ کالمتباینین.

و ظهر أیضاً: أنّه لا وجه لوجوب الاحتیاط فی الاستقلالیّین؛ لأنّ الشکّ فی الأکثر بَدْویّ، کسائر الشبهات البدویة، فهو مجری أصالة البراءة العقلیّة و النقلیّة.

الأمر الثانی: فی بیان أقسام الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین

فإنّهما إمّا من قبیل الکلّ و الجزء الخارجیّین، و إمّا من قبیل الکلّ و الجزء العقلیّین الانحلالیّین، مثل: الرقبة و الرقبة المؤمنة؛ حیث إنّ الإیمان لیس جزءاً خارجیّاً بل عقلیّ، و إمّا من قبیل الشرط و المشروط، مثل: الوضوء بالنسبة إلی الصلاة، و إمّا فی متعلّق التکلیف، و إمّا فی موضوعه، و إمّا فی الأسباب و المحصّلات الشرعیّة أو العقلیّة أو العادیّة، و إمّا من قبیل الجنس و النوع، و إمّا من قبیل الحصّة و الطبیعة.


1- نهایة الأفکار 3: 373.

ص: 459

فذهب المحقّق العراقی قدس سره: إلی خروج هذا القسم الأخیر عن محطّ البحث، و مثّل له بما إذا دار الأمر بین إکرام زید و بین وجوب إکرام طبیعة الإنسان؛ بناءً علی ما زعمه من تضمّن الفرد حصّة من الطبیعة، فزید فی المثال متضمّن لحصّة من طبیعة الإنسان؛ معلّلًا خروجه: بأنّه یعتبر فی المقام بقاء الأقلّ علی حقیقته المطلقة فی ضمن الأکثر، و لیس حقیقة الإنسان بإطلاقها باقیة فی ضمن الحصّة، و لذا لا تصدق هذه الحصّة من الإنسان علی سائر الأفراد مثل عمرو و بکر(1).

أقول: لو اعتبر ذلک فی هذا المقام، لزم خروج الجنس و النوع أیضاً عن محطّ البحث؛ لأنّ الحقیقة الإطلاقیّة للحیوان لیست باقیة فی ضمن الناطق و الناهق مثلًا، و کذلک المطلق و المقیّد، فلو دار الأمر بین وجوب إکرام الإنسان أو إکرام الإنسان الأبیض، فإنّ الحقیقة الإنسانیّة لیست باقیة فی ضمن الإنسان الأبیض بإطلاقها، و لذا لا یصدق الإنسان الأبیض علی الإنسان الأسود، و المثال المذکور- أی النوع و الشخص- و إن کان خارجاً عن البحث، لکن لا لما ذکره، بل لأجل أنّه یعتبر أن تکون الطبیعة التی فی ضمن الأکثر ذا أمر ضمنیّ علی فرض وجوب الأکثر، فلو علم إمّا بوجوب إکرام الحیوان أو الإنسان، فهو خارج عن محلّ النزاع؛ لعدم الأمر الضمنی بإکرام الحیوان فی ضمن الإنسان علی تقدیر وجوب إکرامه، بخلاف ما لو علم إمّا بوجوب إکرام الحیوان أو الحیوان الناطق؛ لأنّ الحیوان الذی فی الأکثر هو طبیعة الحیوان مع قید.

مضافاً إلی أنّ الأمر فی المثال الذی ذکره لم یتعلّق بالمطلق بوجه، و علی فرض کون الواجب هو إکرام زید لم تقم حجّة علی وجوب المطلق، مع أنّ محطّ البحث هو ما إذا کان القلیل قلیل ذلک الکثیر.


1- نهایة الأفکار 3: 397.

ص: 460

حول الأقوال فی الأقلّ و الأکثر بحسب الأجزاء
اشارة

إذا عرفت ذلک نقول: أمّا القسم الأوّل؛ أی الشکّ فی الأقلّ و الأکثر بحسب الأجزاء الخارجیة، کما لو تردّد الأمر فی أجزاء الصلاة بین التسعة و العشرة بزیادة الاستعاذة- مثلًا- ففی جریان البراءة العقلیّة و الشرعیّة بالنسبة إلی الأکثر، أو عدم جریانهما، أو التفصیل بین البراءة العقلیّة، فلا تجری، و بین الشرعیّة، فتجری، أقوالٌ.

و الحقّ: هو القول الأوّل.

و توضیحه- علی وجهٍ تندفع الإشکالات الواردة علیه- یحتاج إلی بیان امور:

الأمر الأوّل: أنّ المرکّبات الاعتباریّة- مثل الصلاة المرکّبة من أجزاء- نظیر المرکّبات الحقیقیّة فی أنّه کما أنّ الأجزاء فی المرکّبات الحقیقیّة- کالعقیق و نحوه من المعادن- لیست باقیة علی فعلیّتها الأوّلیّة، بل طرأت علیها فعلیّة اخری غیر الصورة الفعلیّة للأجزاء، کذلک مثل الصلاة المرکّبة من الرکوع و السجود و غیرهما فی عالم الاعتبار و اللحاظ.

الأمر الثانی: أنّ المتبادر إلی أذهان المکلّفین من مثل الصلاة فی مقام الامتثال، هو نفس الماهیّة المأمور بها أوّلًا، ثمّ ینتقل إلی لحاظ أجزائها کلّ واحدٍ منها، بخلاف ذلک فی نظر الآمر و لحاظه من الموالی العرفیّة، فإنّه یلاحظ کلّ واحدٍ من الأجزاء أوّلًا، ثمّ یلاحظ أنّ لمجموعها مصلحة- مثلًا- فیأمر بالمرکّب منها لقیام الغرض به.

الأمر الثالث: أنّ الأمر المتعلّق بنفس المرکّب واحد لا یدعو إلّا إلی نفس هذا المرکّب، فهنا أمرٌ واحد متعلّق بأمرٍ وحدانیّ فی اللحاظ، فیبعث المکلّف و یدعوه إلیه، لا أوامر متعدّدة و أبعاث و دعوات متعدّدة حسب تعدّد الأجزاء؛ تعلّق

ص: 461

کلّ واحدٍ منها بجزء؛ بأن یتعلّق بکلّ جزء أمرٌ، لکن حیث إنّ هذا المرکّب منحلٌّ إلی الأجزاء، بل هو عین الأجزاء الکثیرة، لکن فی لباس الوحدة و لحاظها، کما أنّ الأجزاء الکثیرة عین ذلک الواحد بحسب اللحاظ فی لباس الکثرة، فالأمر و البعث إلی هذا المرکّب أمرٌ و بعثٌ إلی هذه الأجزاء، و الدعوة إلیه عین الدعوة إلی الأجزاء، فداعویّة الأمر إلی المرکّب هی داعویّته إلی الأجزاء بعینها، لا أنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب ینبسط علی أجزائه؛ بأن یتعلّق بکلّ جزء منه جزء من الأمر؛ سواء قلنا:

إنّ الأجزاء مقدّمات داخلیّة؛ یعنی کلّ واحد منها مقدّمة، و تعلّق الأمر الغیری بها، کما ذکره المحقّق العراقی فی المقدّمات الخارجیّة(1) أم لا، فإنّ وجوب الإتیان بالأجزاء علی فرض مقدّمیّتها الداخلیّة إنّما هو بحکم العقل؛ لیتحقّق امتثال أمر المرکّب، لا أنّه یترشّح من الأمر بالمرکّب أمرٌ بالمقدّمات.

و ممّا ذکرنا یظهر: أنّه إنّما یدعو إلی الأجزاء التی هو مشتمل علیها، لا إلی أمرٍ خارج عنه.

الأمر الرابع: أنّ ما ذکرنا: من أنّ دعوة الأمر إلی المرکّب دعوة إلی الأجزاء، إنّما هو فیما إذا علم جزئیّته، و أمّا لو شکّ فی جزئیّة شی ء للمأمور به فلا یدعو الأمر إلیه؛ لعدم قیام الحجّة علی وجوب الإتیان به، فالعقاب علیه عقاب بلا بیان، بل الأمر کذلک و إن قلنا: بأنّ وجوب الأجزاء عقلیّ من باب المقدّمیّة.

و بالجملة: قد عرفت أنّ الصلاة المأمور بها و إن لاحظها الآمر بعنوان وحدانیّ حین الأمر بها، لکن عرفت أیضاً فی الأمر الثالث أنّها عین الأجزاء و الکثرات فی لحاظ الوحدة، فالأمر المتعلّق بها متعلّق بالأجزاء، فمرجع الشکّ فی جزئیّة شی ء للمأمور به إلی الشکّ فی اعتبار المولی هذا الجزء فی المرکّب مع سائر الأجزاء التی تنحلّ الصلاة إلیها، و لم تقم حجّة علی وجوبه، فأصالة البراءة فیه


1- نهایة الأفکار 3: 375- 376.

ص: 462

محکّمة، و الفرض صدق الصلاة علی المأتیّ به من سائر الأجزاء المعلومة؛ بناءً علی القول بالأعمّ، کما هو مبنی البحث فی الأقلّ و الأکثر.

الإشکالات علی جریان البراءة العقلیّة عن الأکثر

و بهذا البیان یظهر اندفاع بعض الإیرادات الواردة علی جریان البراءة العقلیّة فیه:

الإشکال الأوّل: أنّ مرجع الشکّ فی الأقلّ و الأکثر إلی المتباینین؛ و ذلک لأنّ الأمر حینئذٍ دائرٌ بین تعلّق الأمر بصورة مرکّبة من الأجزاء التسعة- مثلًا- و بین تعلّقه بصورة مرکّبة من أجزاء عشرة، فإنّ الصورة المرکّبة من الأجزاء التسعة غیر الصورة المرکّبة من الأجزاء العشرة، و حینئذٍ فلا بدّ من الاحتیاط بتکرار الصلاة حتّی یُعلم بفراغ الذمّة عن التکلیف المعلوم إجمالًا بینهما، فهذا الإشکال لا اختصاص له بالبراءة، بل یرد علی القول بالاشتغال أیضاً؛ لأنّ المراد بالاشتغال هنا هو الحکم بوجوب الإتیان بالأکثر، و کفایته عن الأقلّ لو کان هو الواجب واقعاً، لا تکرار الصلاة.

بیان الاندفاع: أنّک قد عرفت أنّ الصلاة لیست عبارة عن عنوان مغایر للأجزاء، بل هی نفس الأجزاء المنحلّة إلیها، و الأمر بالصلاة أمر بها بعینه، فالأجزاء المعلومة واجبة الإتیان؛ للعلم بتعلّق الأمر بها، و أمّا الجزء المشکوک فلم یعلم الأمر به، و لم یقم حجّة علی وجوبه، فلا وجه للحکم بوجوبه.

الإشکال الثانی: ما نقل المیرزا النائینی قدس سره(1) نسبته إلی صاحب الحاشیة (الشیخ محمّد تقی الأصفهانی قدس سره) و إن کان الظاهر أنّ ذلک غیر ما ذکره هو: و هو أنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ لا ینحلّ العلم الإجمالی به؛ لتردّده بین المتباینین،


1- فوائد الاصول 4: 152.

ص: 463

فإنّه لا إشکال فی مباینة الماهیّة بشرط شی ء للماهیّة لا بشرط، فالتکلیف بالأقلّ إنّما هو لا بشرط عن الزیادة، و مع تعلّق التکلیف بالأکثر فالتکلیف بالأقلّ إنّما هو بشرط شی ء، و هو انضمام الجزء العاشر- مثلًا- إلیه، فالتکلیف بالأقلّ ملحوظاً لا بشرط، مباین له ملحوظاً بشرط انضمام جزء آخر إلیه، فوجوب الأقلّ مردّد بین المتباینین، فالتکلیف إذا لوحظ لا بشرط فمقتضاه کفایة الإتیان به، و إن لوحظ بشرط انضمام الجزء الآخر فلا یکفی الإتیان به بدونه، فامتثاله أیضاً یختلف حسب اختلاف متعلّق الوجوب.

و بالجملة: مرجع الشکّ فی الأقلّ و الأکثر إلی المتباینین تکلیفاً و امتثالًا(1).

أقول: یرد علیه:

أوّلًا: أنّه لا معنی لجعل التکلیف لا بشرط أو بشرط شی ء؛ لعدم تصوّر هذه الاعتبارات فیه، فإنّه لیس إلّا البعث نحو الفعل، فالأولی تبدیله بمتعلّقه؛ بأن یقال: إنّ متعلّقه قد یعتبر لا بشرط، و قد یعتبر بشرط شی ء.

و حینئذٍ نقول: الأمر فی المقام لیس دائراً بین تعلّقه بالماهیّة بشرط شی ء أو اللابشرط لما عرفت من أنّ الأمر فیه متعلّق بالصلاة المنحلّة إلی أجزاء متردّدة بین القلیلة و الکثیرة فی عَرْض واحد، و التعبیر المذکور فی الإشکال یوهم أنّ تعلّق التکلیف بالأقلّ؛ دائرٌ بین أخذه بنحو اللابشرط أو بشرط شی ء، و هو لیس بصحیح.

و ثانیاً: علی فرض تسلیم ما ذکره من الدوران بین الماهیّة لا بشرط و الماهیة بشرط شی ء، فالماهیّة لا بشرط لا تُباین الماهیّة بشرط شی ء، فإنّ معنی الدوران المذکور هو الشکّ فی أنّ متعلّق التکلیف ذات الأقلّ أو ذات الأکثر، لا الأقلّ مع اعتبار اللّابشرطیّة أو البشرط الشیئیّة.

و بالجملة: إنّما یصحّ ما ذکره لو کان اللابشرط و البشرط شی ء قسمین


1- انظر هدایة المسترشدین: 449 سطر 20.

ص: 464

متباینین؛ بأن اعتبرا بنحو المقوّمیّة، لکن ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ المراد من اللّابشرط هو عدم اعتبار شی ء الذی یجتمع مع ألف شی ء؛ أی اللّابشرط المقسمی المقسم للأقسام الثلاثة، و لا مباینة بین المقسم و الأقسام، و ما نحن فیه نظیر دوران الأمر بین المقسم و أحد أقسامه، و حینئذٍ فلو دار الأمر بین الأقلّ و الأکثر، ینحلّ العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ و الشکّ البَدْوی بالنسبة إلی الأکثر.

نعم لو دار الأمر بین التکلیفین- لا بین متعلقهما صحّ ما ذکره من عدم الانحلال، لکن عرفت أنّه لیس کذلک.

مضافاً إلی أنّ ما ذکرناه مماشاة معه فی هذه التعبیرات، و إلّا فلا ارتباط لما نحن فیه بقضیّة اللّابشرط و البشرط شی ء أصلًا، فإنّ التحقیق ما تقدّم: من أنّ الأمر متعلّق بالصلاة المنحلّة إلی أجزاء عدیدة بعضها معلوم اعتباره، و بعضها مشکوک فیه، و لم یعلم أنّ الآمر اعتبره فی اللحاظ حین الأمر أو لا، فینحلّ حینئذٍ العلم الإجمالی:

إلی العلم التفصیلی بوجوب الأجزاء المعلومة، و الشکّ البَدْویّ بالنسبة إلی الغیر المعلومة، فلا یدعو الأمر المتعلّق بالصلاة إلیها.

و ثالثاً: أنّ هذا الإشکال یستلزم تکرار الصلاة بالإتیان بالأقلّ تارةً و الأکثر اخری، کما هو مقتضی دوران الأمر بین المتباینین، لا وجوب الأکثر فقط، و لا یلتزم به المستشکل و لا القائلون بالاشتغال فی الأقلّ و الأکثر.

ثمّ إنّه أجاب المیرزا النائینی قدس سره عن الإشکال بما لا یخلو عن مسامحة و إن کان قریباً ممّا ذکرناه، لو لا بعض التعبیرات التی نقلها المقرّر لبحثه، فإنّه قدس سره ذکر ما ملخّصه:

أنّ الماهیّة لا بشرط و الماهیّة بشرط شی ء لیسا من المتباینین اللّذَین لا جامع بینهما فإنّ التقابل بینهما لیس من تقابل التضاد بل من تقابل العدم و الملکة فإنّ الماهیّة لا بشرط لیس معناها لحاظ عدم انضمام شی ء إلیها؛ بحیث یؤخذ العدم قیداً

ص: 465

لها، و إلّا رجعت إلی الماهیّة بشرط لا، بل معنی الماهیّة لا بشرط هو عدم لحاظ شی ء معها، و لیست هی مباینة بالهویّة للماهیّة بشرط شی ء؛ لیدور الأمر فیهما بین المتباینین(1).

فإنّ ظاهر کلامه أنّه لا جامع بین الضدّین، و هو فاسد، فإنّ مطلق اللون جامع بین السواد و البیاض المتضادّین.

و أمّا ما ذکره: من أنّ بینهما تقابل العدم و الملکة، ففیه: أنّه علی تقدیر ذلک فلازمه الاحتیاط بالتکرار؛ لرجوعه إلی دوران الأمر بین المتباینین؛ لأنّ العدم و الملکة متقابلان، کما لو دار الأمر بین وجوب إکرام الکوسج و بین وجوب إکرام الملتحی.

ثمّ إنّ الجامع بین الماهیّة لا بشرط و بین الماهیة بشرط شی ء لیس هو الماهیّة بنحو اللّابشرط المقسمی، فإنّ الماهیّة اللّابشرط التی لم یعتبر فیها شی ء إن ارید من عدم الاعتبار عدم الاعتبار بنحو السلب البسیط، لا لحاظ عدم الاعتبار معها، فهو عین اللّابشرط المقسمی، و لا یعقل أن یکون جامعاً بین نفسه و بین أحد الأقسام، و إن أراد بعدم الاعتبار عدمه بنحو الإیجاب العدولی، فهو خلاف ما صرّح هو به: من أنّ معناه عدم الاعتبار، لا اعتبار العدم.

و بالجملة: ما وقع فی کلامه من بعض التعبیرات لا یخلو عن الإشکال.

الإشکال الثالث: إنّ الأمر فی ما نحن فیه دائر فی الأقلّ بین الوجوب النفسیّ الذی یترتّب علی ترکه العقاب؛ علی تقدیر أنّه الواجب واقعاً دون الأکثر، و بین الوجوب الغیری الذی لا یترتّب علی ترکه العقاب؛ علی تقدیر وجوب الأکثر واقعاً المترتّب علی ترکه العقاب، لا علی ترک الأقلّ؛ لأنّ وجوبه حینئذٍ غیریّ من باب المقدّمیّة للواجب، و العقل یحکم بوجوب الاحتیاط بالإتیان بالأکثر؛ لعدم المؤمّن


1- فوائد الاصول 4: 154.

ص: 466

من العقوبة المعلومة إجمالًا علی هذا الفرض، و لا یتحقّق المُؤمِّن منها إلّا بإتیان الأکثر.

و فیه: أوّلًا: أنّا لا نُسلّم دوران الأمر فی الأقلّ بین ما ذکره؛ و ذلک لأنّ المرکّب- سواء الاعتباری منه، أم الحقیقی- یوجد بوجود جمیع الأجزاء، و ینعدم بانعدام کلّ جزء من أجزائه، کما ینعدم بانعدام جمیع الأجزاء، لا أنّ انعدام کلّ جزء یستلزم انعدامه، بل انعدامه بعین انعدام الجزء، و لیس له إلّا عدم واحد یتحقّق تارةً بانعدام کلّه، و اخری بانعدام کلّ جزء من أجزائه، و حینئذٍ فلو عُلم بجزئیّة عدّة أجزاء له، و شُکّ فی جزئیّة شی ء له و عدمها، فیعلم حینئذٍ بانعدام المرکّب عند انعدام الأجزاء المعلومة جزئیّتها له، و یشکّ فی انعدامه بترک ما شکّ فی جزئیّته له، فیشکّ فی استحقاقه للعقوبة بترک هذا المشکوک؛ لعدم قیام حجّة علی وجوبه و جزئیّته، فالعقاب علیه عقاب بلا بیان، بخلاف الأجزاء المعلومة التی هی عبارة عن الأقلّ، و هو معنی انحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ، و الشکِّ البدویّ فی وجوب الزائد علیه، و ترتُّبِ العقاب علی ترک الأقلّ(1).

و ثانیاً: سلّمنا أنّ وجوب الأجزاء غیریّ من باب المقدّمة، لکن المفروض أنّ التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ معلوم و إن لم یعلم بترتّب العقوبة علی ترکه، لکن الذی هو سبب التنجیز، و حجّة و یصحّ العقوبة علیه، هو العلم بالتکلیف و إن لم یعلم بالعقوبة، و لا أثر للعلم بترتّب العقوبة و عدمه أصلًا، فإنّ المناط هو العلم بالتکلیف، فلو فرض علمه بوجوب شی ء، و لم یعلم بترتّب العقوبة علی ترکه، أو علم بعدمها،


1- و لا یخفی أنّ مقتضی هذا البیان هو الاحتیاط بوجوب الإتیان بالأکثر؛ لأنّه مع الاقتصار علی الأقل و ترک الجزء المشکوک، یشکّ فی امتثال الأمر المتعلّق بالصلاة و عدمه، و الاشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی، فیلزم الإتیان بالأکثر حینئذٍ، و هو خلاف المقصود. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 467

و لکنّه ممّا یترتّب علیه العقاب فی الواقع، فهو مستحقّ للعقوبة المذکورة، و لا أثر لجهله بها فی استحقاقها مع العلم بالتکلیف، و کذلک لو زعم أنّ العقوبة المترتّبة علیه کذا، و کانت فی الواقع غیر ما زعمه، فإنّه یترتّب علیه ما هو الواقع.

و بالجملة: لا دَخْل للعلم بالعقوبة و عدمه فی المقام ممّا علم فیه بالتکلیف، بل الملاک فی تنجیز التکلیف هو العلم به أو قیام الحجّة علیه، و حینئذٍ فالمفروض فی المقام أنّه یعلم بوجوب الأقلّ و إن لم یعلم بترتّب العقاب علیه، بل یحتمل ذلک، و لا مؤمّن منها؛ لعدم جریان قبح العقاب بلا بیان فیما علم بالتکلیف من المقام و أمثاله، فالحجّة قائمة علی وجوب الأقلّ دون الأکثر، فالعقاب علیه- أی الأقلّ- عقاب بلا بیان، و هو معنی الانحلال.

الإشکال الرابع: إشکال آخر علی القول بالبراءة و انحلال العلم الإجمالی، و قد قرّر بتقریبات:

الأوّل: أنّ العقل یستقلّ بعدم کفایة الامتثال الاحتمالی للتکلیف؛ لأنّ القطع باشتغال الذمّة یقتضی الفراغ الیقینی، و لا یکفی الفراغ الاحتمالی إلّا فی التکلیف الاحتمالی، لا التکلیف الیقینی، فإنّه یقتضی الفراغ و الامتثال الیقینی؛ لتنجُّز التکلیف بالعلم به و لو إجمالًا؛ لتمام البیان الذی یترتّب علیه صحّة العقوبة علیه، و حینئذٍ فلا یجوز فی ما نحن فیه الاقتصار علی الأقلّ؛ للشکّ معه فی امتثال التکلیف المعلوم ثبوته، و العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ المردّد بین کونه بنحو اللّابشرط أو بشرط شی ء هو عین العلم الإجمالی بالتکلیف المردّد بین الأقلّ و الأکثر، و مثل هذا العلم التفصیلی لا یعقل أن یوجب الانحلال؛ لأنّه یستلزم أن یوجب العلم الإجمالی بانحلال نفسه.

الثانی: هو أنّه و إن علم تفصیلًا بوجوب الأقلّ و الشکّ البَدْویّ بالنسبة إلی الأکثر- أی الجزء المشکوک وجوبه- و أنّ العقاب علیه عقاب بلا بیان؛ إلّا أنّ هنا

ص: 468

جهة اخری تقتضی التنجیز و استحقاق العقاب علی ترک الخصوصیة- علی تقدیر تعلّق التکلیف بها- و هی احتمال الارتباطیّة و قیدیّة الزائد للأقلّ، فإنّ هذا الاحتمال بضمیمة العلم الإجمالی یقتضی التنجیز و استحقاق العقاب عقلًا، فإنّه لا دافع لهذا الاحتمال، و لیس من وظیفة العقل رفع القیدیّة و لا وضعها، بل هما من وظیفة الشارع، فیبقی حکم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التکلیف. انتهی.

و هذان الوجهان ذکرهما المیرزا النائینی علی ما فی تقریرات درسه(1).

الثالث: ما نُسب إلی صاحب الفصول قدس سره: و هو أنّه و إن علم بوجوب الأقلّ تفصیلًا، لکنّه مع الاقتصار علیه یشکّ فی سقوط التکلیف المعلوم فی البین؛ لاحتمال أن یکون وجوب الأقلّ ضمنیّاً لا یسقط به التکلیف المعلوم(2). انتهی.

و ملخّص الوجوه الثلاثة: هو أنّ الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة، و لا تحصل إلّا بالإتیان بالأکثر.

لکن یرد علی الوجه الأوّل: أنّه قدس سره قد اعترف- فی جواب ما نسب إلی صاحب الحاشیة- بأنّ الماهیّة اللّابشرط لیس معناها لحاظ عدم انضمام شی ء معها بنحو الإیجاب العدولی، بل عدم اللحاظ بنحو السلب البسیط، و معه لا یعقل العلم الإجمالی فی المقام حینئذٍ، فإنّ الأقلّ اخذ بنحو اللّابشرط بهذا المعنی، و هو عبارة عن نفس الطبیعة و ذات الأقلّ، و لا معنی للعلم الإجمالی بتعلّق التکلیف بنفس الطبیعة أو بالطبیعة المقیّدة، فإنّه لیس من العلم الإجمالی، بل هو علم تفصیلیّ بوجوب الأقلّ و شکّ بدوی بالنسبة إلی الأکثر؛ لأنّه لا بدّ فی العلم الإجمالی من بقاء الإجمال فی النفس بالنسبة إلی کلّ واحد من الطرفین؛ بأن لا یعلم بأنّ هذا واجب أو لیس هو بواجب بل ذاک، مع العلم بأحدهما، کما فی المتباینین، و ما نحن فیه لیس


1- فوائد الاصول 4: 159- 161.
2- الفصول الغرویّة: 357 سطر 16.

ص: 469

من هذا القبیل؛ لعدم بقاء الإجمال فی النفس بالنسبة إلی الأقلّ- أی ذات الطبیعة و طبیعته اللّابشرط فإنّه معلوم تفصیلًا. نعم لو اخذ اللّابشرطیّة قیداً للطبیعة- أی الأقلّ بنحو الإیجاب العدولی- صحّ ما ذکره؛ لإمکان العلم الإجمالی بتعلّق التکلیف بالطبیعة إمّا مع هذا القید أو ذاک؛ لبقاء الإجمال فی کلّ واحد من طرفی التردید، لکنّه قدس سره صرّح بخلاف ذلک.

و أمّا الوجه الثانی الذی ذکره ففیه: أنّه کما أنّ العقاب بالنسبة إلی الجزء المشکوک بلا بیان- لأنّ الشکّ فیه بدویّ- فکذلک بالنسبة إلی قید الارتباطیّة، فإنّه لم تقم علیه حجّة و لا دلیل، فالعقاب علیها أیضاً بلا بیان.

و من هذا البیان یظهر الجواب عمّا نسب(1) إلی صاحب الفصول قدس سره، فإنّ التکلیف إنّما یتنجّز لو علم به، أو قامت علیه حجّة معتبرة، و الذی یجب الإتیان به، و یصحّ العقاب علیه، هو المعلوم وجوبه، و أمّا الزائد علیه فلم تقم علیه حجّة لیتنجّز، فلو کان الواجب فی الواقع هو الأکثر فی نفس الأمر، فهو معذور فی ترکه؛ لعدم العلم به، و لم تقم حجّة علیه.

الإشکال الخامس: و من الإشکالات ما ذکره المحقّق الشیخ محمّد تقی صاحب الحاشیة قدس سره، و حاصله: أنّ الأمر فی المقام دائر بین تعلّقه بالطبیعة المشتملة علی الأقلّ و بین الطبیعة المشتملة علی الأکثر، و لیست الطبیعة المشتملة علی الأقلّ مندرجة فی الطبیعة المشتملة علی الأکثر، کما فی الدَّین المردّد بین الأقلّ و الأکثر؛ لقیام الدلیل علی الارتباط بین الأجزاء، و حینئذٍ فالتکلیف بالأکثر لا یقتضی اشتغال الذمّة بالأقلّ بوجهٍ من الوجوه، و الإتیان بالأقلّ حینئذٍ کالعدم، فاشتغال الذمّة حینئذٍ دائر بین طبیعتین وجودیّتین، لا تندرج إحداهما فی الاخری و إن کانت أجزاء الأقلّ مندرجة فی الأکثر، فلا وجه لإجراء البراءة فی تعیین أحد الوجهین.


1- انظر نهایة الأفکار 3: 387.

ص: 470

ثمّ أورد علی نفسه بأنّ التکلیف بالأکثر فی المقام قاضٍ بالتکلیف بالأقلّ فی الجملة، فیصدق ثبوت الاشتغال علی طریق اللّابشرط، و حینئذٍ فیدور الأمر بین البراءة و الشغل، فیُنفی وجوبه بالأصل.

و أجاب: بأنّه لیس التکلیف بالأقلّ ثابتاً علی طریق اللّابشرط؛ لیکون ثبوت التکلیف به علی نحو الإطلاق، بل ثبوته هناک علی سبیل الإجمال و الدوران بین کونه مطلوباً بذاته، أو تبعاً للکلّ و فی ضمنه، فلا یعقل جریان البراءة فیه(1). انتهی ملخّصاً.

أقول: قد عرفت أنّ الأمر متعلّق بالطبیعة المنحلّة إلی الأجزاء، و هی عبارة عن نفس الأجزاء فی لحاظ الوحدة، و الآمر إنّما أمر بها بهذا اللحاظ، فالأمر بها أمر بالأجزاء بعینه، لا أنّ للصلاة عنواناً خاصّاً غیر الأجزاء، و الأجزاء محصّلة له، و حینئذٍ فإن أراد قدس سره أنّ الأقلّ عبارة عن طبیعة و عنوان مغایرین لطبیعة الأکثر و عنوانه، فهو ممنوع، و إن أراد غیر ذلک فمقتضاه ما ذکرناه: من عدم قیام الحجّة و الدلیل علی وجوب الجزء الزائد علی الأقلّ، و المقدار المعلوم وجوبه هی الأجزاء المعلومة التی هی عبارة عن الأقلّ.

الإشکال السادس: ثمّ إنّ هنا إشکالًا آخر یمکن تقریبه بوجوه:

الأوّل: أنّ العلم بوجوب الأقلّ علی أیّ تقدیر، موقوف علی وجوب الأکثر علی تقدیر تعلّق الأمر به واقعاً؛ لدوران وجوب الأقلّ بین النفسی و الغیریّ من باب المقدّمة علی تقدیر وجوب الأکثر، و الحکم بعدم وجوب الأکثر یستلزم الخُلْف.

الثانی: أنّه یلزم من وجوب الأقلّ عدم وجوبه علی تقدیر جریان البراءة فی الأکثر، و ما یلزم من وجوده عدمه محال.

بیان ذلک: ما عرفت من دوران أمره بین الوجوب النفسی و الغیری، فمع


1- هدایة المسترشدین: 449 سطر 19.

ص: 471

الحکم بعدم وجوب الأکثر لا یعلم وجوب الأقلّ؛ لاحتمال أن یکون وجوبه غیریّاً من باب المقدّمة للأکثر، و لا تجب المقدّمة عند عدم وجوب ذی المقدّمة.

و هذان الوجهان ذکرهما المحقّق الخراسانی قدس سره(1).

الثالث: أنّ العلم الإجمالی المولِّد للعلم التفصیلی؛ لکونه علّةً له، و العلم التفصیلی معلولًا له یمتنع أن ینحلّ ذلک العلم الإجمالی بذلک العلم التفصیلی؛ لأنّ هذا العلم التفصیلی إنّما هو من ناحیة ذلک العلم الإجمالی، فکیف یمکن بقاء المعلول مع زوال علّته؟! فانحلال العلم الإجمالی مستلزم لزوال العلم التفصیلی أیضاً(2).

و لکن لا یخفی أنّ هذه التقریبات الثلاثة إنّما تتمّ لو قلنا: بأنّ وجوب الأجزاء غیریّ من باب المقدّمة الداخلیّة، و قد عرفت فساد ذلک، و أنّ وجوب الأجزاء نفسیّ بعین وجوب الکلّ، و الأمر المتعلّق بها أمرٌ بها، و لا أمر سواه متعلّق بالأجزاء، و حینئذٍ فالوجوه الثلاثة غیر صحیحة.

ثمّ إنّ الشیخ الأعظم قدس سره ذکر فی ضمن کلامه وجهاً آخر للاحتیاط: و هو أنّه لا ریب فی أنّ الأحکام الشرعیّة مبتنیة علی المصالح و المفاسد فی متعلّقاتها- کما هو مذهب العدلیّة- و أنّها لغرضٍ یترتّب علیها، و حینئذٍ فإمّا أن نقول: بأنّها من قبیل العنوان للمأمور به، و تعلّق الأمر بها، کما تعلّق أمرٌ آخر بالعبادة، و أنّ الواجبات الشرعیّة ألطاف فی الواجبات العقلیّة.

أو نقول: بأنّها علّة و غرض للآمر بالصلاة.

و علی التقدیرین یجب تحصیل العلم بحصول اللطف و الغرض، و لا یحصل إلّا بإتیان کلّ ما یشکّ فی مدخلیّته، فیجب الإتیان بالأکثر؛ لعدم حصول العلم بحصول


1- کفایة الاصول: 413.
2- انظر نهایة الأفکار 3: 385.

ص: 472

الغرض و اللطف إلّا بالإتیان به.

و أجاب عنه بوجهین:

و حاصل أوّلهما بتوضیحٍ منّا: هو أنّ ما ذهب إلیه العدلیّة من ابتناء الأحکام الشرعیّة علی المصالح و المفاسد النفس الأمریّة، إنّما هو لدفع محذور الجُزافیّة فی الأوامر و النواهی الشرعیّة فی قبال الأشاعرة، و لا ینحصر اندفاعه بالقول بأنّ متعلّقاتها مشتملة علی المصالح و المفاسد الواقعیّة، بل کما یندفع ذلک المحذور بذلک یندفع بالالتزام بتحقّق المصلحة و المفسدة فی نفس الأمر و النهی أیضاً، بل یکفی محبوبیّة الفعل و مطلوبیّته بالذات أیضاً فی اندفاعه؛ و لو لم نقل بوجود المصلحة فی الأمر أو المأمور به، فإذا أمکن دفع محذور الجُزافیّة- الذی لأجله التزموا بابتناء الأحکام الشرعیّة علی المصالح و المفاسد بأحد الوجوه الثلاثة- لم یعلم بوجود مصلحة و مفسدة فی متعلّقات الأحکام حینئذٍ؛ حتّی یجب تحصیل العلم بحصوله بالإتیان بالأکثر؛ لاحتمال وجود المصلحة فی الأمر، أو محبوبیّة الفعل و مطلوبیّته ذاتاً، و نحو ذلک.

أضف إلی ذلک: أنّ الالتزام بتعلّق الأمر بالغرض الواقعی لا یُثمر شیئاً، و یتوجّه علیه إشکال الجُزافیّة بتعلّق أمر آخر بالعبادة.

ثانیهما: إنّما یجب تحصیل الأغراض لو کانت معلومة، و إلّا فلم یقم دلیل خاصّ من آیة أو روایة علی وجوب تحصیل الأغراض الواقعیّة و لو لم یُعلم بها، و فیما نحن فیه لم یعلم بغرض زائداً علی ما یترتّب علی الأقلّ المعلوم وجوب الإتیان به، و به یحصل الغرض المعلوم ثبوته المترتّب علیه، و لا یجب أزید من ذلک، فلو فرض وجود غرض آخر فی الواقع مترتّب علی الأکثر فلا یجب تحصیله؛ لعدم قیام دلیل علیه، و مجرّد احتمال وجوده لا یوجب تنجّزه، و إلّا فلا یحصل العلم بتحقّقه و إن أتی بالأکثر أیضاً؛ لاحتمال اعتبار قصد الوجه فی ترتّب المصلحة علی

ص: 473

المأتیّ به، و لا یحصل ذلک فی الأکثر؛ لعدم العلم بوجوبه لیقصد ذلک(1).

الإشکال السابع: ثمّ إنّ هنا إشکالًا آخر أیضاً علی البراءة فی خصوص العبادات: و هو أنّه یعتبر فی العبادات قصد عنوان الإطاعة و القربة و الجزم بالنیّة، و لا یمکن ذلک مع الاقتصار علی الأقلّ؛ لاحتمال أن یکون وجوبه غیریّاً من باب المقدّمیّة، و وجوب الأکثر نفسیّاً، فمع دوران الأمر فی الأقلّ بین الوجوب الغیریّ و النفسی، لا یمکن قصد الوجه و الجزم بالنیّة و قصد الإطاعة، فلا بدّ من الإتیان بالأکثر لیتمکّن من ذلک(2). انتهی ملخّصاً.

و فیه أوّلًا: أنّه لا فرق فی ذلک بین صورتی الإتیان بالأقلّ أو الأکثر؛ لأنّه کما لا یتمکّن المکلّف من قصد الوجه و الإطاعة و الجزم بالنیّة فی صورة الإتیان بالأقلّ، کذلک لا یتمکّن من ذلک فی الأکثر أیضاً؛ لعدم العلم بوجوب الأکثر؛ لاحتمال أنّ الواجب هو الأقلّ خاصّة، و کما أنّه یمکن قصد القربة مع عدم العلم بأنّه هو الواجب، یمکن قصدها فی الأقلّ أیضاً مع عدم العلم بأنّه الواجب خاصّة؛ لأنّه لا نعنی بها إلّا أن یکون الفعل للَّه تعالی و رجاءً لامتثال أمره، لا بدواعٍ اخر من الشهوات النفسانیّة و أمثالها فلا فرق فی ذلک بین الأقلّ و الأکثر.

و ثانیاً: و هو الحلّ: أنّ کلّ واحدٍ من الآتی بالأقلّ و الأکثر، إنّما ینبعث عن الأمر المتعلّق بطبیعة الصلاة فی قوله تعالی: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ»، و قوله تعالی: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ»*؛ ضرورة أنّه الداعی و الباعث للمکلّف إلی الإتیان بهذه الأجزاء، غایة الأمر أنّ الاختلاف إنّما هو فی تشخیص الموضوع، و إلّا فکلّ واحدٍ منهما یتحرّکان إلی امتثال هذا الأمر، و لیس هنا أمرٌ آخر متعلِّق بالأقلّ أو الأکثر، و حینئذٍ نقول: ما قام الحجّة و الدلیل علی وجوبه هی الأجزاء المعلومة


1- فرائد الاصول: 273 سطر 16.
2- انظر فرائد الاصول: 275 سطر 17.

ص: 474

التی هی عبارة عن الأقلّ، فالأمر المتعلّق بالصلاة بعینه متعلّق بهذه الأجزاء المعلومة، لا أنّها واجبة عقلًا أو غیریّاً، و أمّا الجزء الزائد عنه فلا دلیل علی وجوبه، و علی تقدیر وجوبه واقعاً فالعقاب علیه بلا بیان و حجّة.

و هذا الذی ذکرناه نظیر اختلاف المجتهدینِ فی الاجتهاد، بأن یعتقد أحدهما وجوب السورة- مثلًا- و الآخر عدم وجوبها، فإنّ کلّ واحدٍ منهما ینبعث عن الأمر المتعلّق بطبیعة الصلاة، فکذلک فیما نحن فیه کلّ واحدٍ من الآتی بالأقلّ و الأکثر ینبعث عن الأمر المتعلّق بطبیعة الصلاة.

هذا کلّه بالنسبة إلی البراءة العقلیّة.

حول جریان البراءة الشرعیّة و عدمه

و أمّا البراءة الشرعیّة: ففی جریانها فی الجزء المشکوک مطلقاً، و عدم جریانها کذلک، أو التفصیل بین ما لو قلنا: بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیّة فلا تجری، و بین ما لو قلنا: إنّه بنحو الاقتضاء لها، کما اختاره المحقّق العراقی(1)، أقوال:

فنقول: أمّا علی القول بانحلال العلم الإجمالی فی المقام و جریان البراءة العقلیّة- کما ذهب إلیه الشیخ الأعظم قدس سره(2)، و اخترناه أیضاً- فلا إشکال فی جریان البراءة الشرعیّة مطلقاً؛ لأنّ الشکّ فی وجوب الجزء الزائد بَدْویّ؛ لأنّ المفروض انحلال العلم الإجمالی.

و أمّا بناءً علی عدم انحلاله و عدم جریان البراءة العقلیّة، فالحقّ عدم جریان البراءة الشرعیّة مطلقاً؛ و ذلک لأنّه إن ارید جریانها بالنسبة إلی الوجوب النفسی


1- نهایة الأفکار 3: 389.
2- فرائد الاصول: 273 سطر 2.

ص: 475

للجزء الزائد علی الأقلّ؛ للشکّ فی وجوبه النفسی، فهو مُعارَض بأصالة عدم الوجوب النفسی بالنسبة إلی الأقلّ أیضاً؛ للشکّ فی وجوبه النفسی أیضاً؛ لأنّ المفروض بقاء العلم الإجمالی و عدم انحلاله، فیتساقطان.

و توهّم: عدم جریان أصالة عدم الوجوب النفسی بالنسبة إلی الأقلّ؛ لعدم ترتُّب أثرٍ علیه؛ حیث إنّه معلوم الوجوب- إمّا نفسیّاً أو غیریّاً- فیجب الإتیان به علی أیّ تقدیر، فأصالة عدم وجوبه النفسی لا تُثمر جواز ترکه، و مع عدم ترتُّب الأثر الشرعیّ علیه لا مجال لجریانها، بخلاف أصالة البراءة بالنسبة إلی الجزء الزائد، فإنّه یترتّب علیه الأثر، و هو عدم وجوب فعله(1).

مدفوعٌ: بأنّ ترتُّب الأثر فی مورد ما کافٍ فی الجریان مطلقاً، و أصالة البراءة عن الوجوب النفسی للأقلّ مثمرة عند تعذُّر الإتیان بالأکثر- أی الجزء الزائد علی الأقلّ- و یترتّب علیها الأثر، و هو عدم وجوب الإتیان بالأقلّ؛ لاحتمال أن یکون وجوبه غیریّاً من باب المقدّمة للأکثر، و قد سقط بالتعذّر، و مع جریانها فی الأقلّ فی هذا المورد فهما متعارضتان متساقطتان.

و کذلک الإشکال علی ما ذکرناه من جریان البراءة فی الأقلّ و معارضتها بها فی الأکثر بأنّها لیست جاریة بالنسبة إلیه؛ للعلم بوجوبه علی کلّ تقدیر، فلا مجال لجریانها فیه، بخلاف الأکثر، فإنّه لا یحتمل وجوبه الغیریّ، بل علی تقدیر وجوبه فهو نفسیّ، و إلّا فلیس بواجب أصلًا، و المفروض أنّه مشکوک الوجوب، فلا مانع من جریان أصالة البراءة فیه؛ لانتفاء المعارض لها؛ لعدم جریانها فی الأقلّ؛ لأنّ المفروض العلم بوجوبه علی کلّ تقدیر(2).

فإنّه أیضاً مندفعٌ: بأنّ المعلوم وجوبه هو الجامع بین الوجوب النفسی


1- انظر ما قرّره فی نهایة الأفکار 3: 390.
2- نهایة الأفکار 3: 389- 390.

ص: 476

و الغیری فی الأقلّ، و هو غیر مجعول، و لیس المقصود من جریان البراءة فیه رفع ذلک الجامع، بل المقصود إجراؤها فی الأقلّ لرفع خصوص الوجوب النفسی القابل للجعل و الرفع، و المفروض أنّه مشکوک لا معلوم، و المعلوم هو الجامع بینه و بین الغیریّ الغیر القابل للرفع، فلا مانع من جریان الأصل فی الأقلّ فی خصوص وجوبه النفسیّ المشکوک، فیتعارض مع الأصل الجاری فی الأکثر فیتساقطان.

إن ارید جریان الأصل فی جزئیّة الزائد المشکوک، ففیه: أنّه یُنافی مذهبهم من عدم قابلیّة الجزئیّة للوضع و الرفع، و أنّها غیر مجعولة، بل رفعها و وضعها برفع مَنشإ انتزاعها و وضعه، و هو الوجوب النفسیّ، و قد عرفت أنّ الأصل فیه معارَض بالأصل فی الأقلّ.

و إن ارید جریان أصالة البراءة عن وجوب الجزء المشکوک، ففیه: أنّها معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الأقلّ نفسیّاً؛ و ذلک لأنّ الشک فی وجوب الجزء و إن کان ناشئاً و مسبّباً عن الشکّ فی وجوب الأکثر نفسیّاً، لکن قد تقدّم أنّه لا یکفی مجرّد ذلک فی تقدیم الأصل السببی أی تقدّم مرتبة الشکّ السببی علی المسبّبی، بل لا بدّ فیه أن یکون الأصل فی السبب رافعاً للشکّ فی المسبّب، و منقّحاً لموضوع حکمٍ شرعیٍّ، و یترتّب علیه أثر شرعیّ، و ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ وجوب المقدّمة و إن قلنا بأنّه شرعیّ، لکنّه من باب الملازمة العقلیّة؛ و حکم العقل بإیجاب الشارع لها عند إیجابه لذی المقدّمة، و عدم إمکان انفکاکهما، فلا یصحّ جریان الأصل فی وجوب الأکثر بهذا اللحاظ؛ لیتقدّم بحسب الرتبة، و یتساقط مع الأصل الجاری فی الأقلّ؛ لتصل النوبة إلی البراءة عن وجوب الجزء المشکوک بلا معارض لها، فإذا لم یکن الأصل الجاری فی الأکثر رافعاً للشکّ عن وجوب الجزء الزائد، فلا یتقدّم علی الأصل الجاری فی وجوب الجزء، و حینئذٍ فالأصل فیه معارض بالأصل فی وجوب الأکثر و الأقلّ؛ لأنّ الشکّ فیه فی عَرْض الشکّ فیهما، فتتساقط الاصول

ص: 477

جمیعاً.

مضافاً إلی أنّ وجوب المقدّمة عقلیّ لا شرعیّ، کما حقّق فی محلّه.

فتلخّص: أنّه لا مجال لأصالة البراءة فی الأکثر؛ بناءً علی بقاء العلم الإجمالی و عدم انحلاله؛ سواء قلنا بأنّ وجوب الجزء نفسیّ، أم غیریّ، أم ضمنیّ.

حول انحلال العلم الإجمالی بالبراءة الشرعیّة

ثمّ لو فرض جریان أصالة البراءة الشرعیّة بالنسبة إلی الأکثر؛ بناءً علی هذا المبنی- أی القول بعدم انحلاله عقلًا- و الإغماض عن الإشکالات المتقدّمة، فهل ینحلّ العلم الإجمالیّ بها؛ لجریانها بالنسبة إلی الأکثر، و أنّ الأقلّ واجب نفسیّ تعبّداً، و أنّه تمام المأمور به و مصداق ظاهریّ للطبیعة المأمور بها- أی الصلاة- إمّا لأنّه مقتضی أدلّة الواجب و حدیث الرفع معاً، کما ذکره بعضهم(1)، و إمّا لتخصیص إطلاقات الأدلّة بحدیث الرفع، کما اختاره فی الکفایة(2)، و إمّا لحکم العرف و العقلاء بأنّ الأقلّ تمام المأمور به بعد نفی وجوب الأکثر بأدلّة البراءة، کما اختاره شیخنا الاستاذ الحائری قدس سره(3).

و لا یرد علیه ما أورده المحقّق العراقیّ؛ حیث ذکر الوجوه الثلاثة المشار إلیها لإثبات وجوب الأقلّ فقط، و أورد علی کلّ واحدٍ منها، و حیث إنّه لا یهمّنا إطالة الکلام فی ذلک نذکر الوجه الأوّل الذی ذکره، و أورد علیه، مع ما یرد علیه من الإشکال.

فقال: الأوّل من الوجوه: أنّ الحدیث ناظر إلی إطلاقات أدلّة الجزئیّة واقعاً؛


1- فوائد الاصول 4: 163.
2- کفایة الاصول: 417.
3- درر الفوائد: 480.

ص: 478

بتقیید مفاد فعلیّتها بحال العلم بها، و أنّه برفع فعلیّة التکلیف عن المشکوک واقعاً، مع ضمیمة ظهور أدلّة بقیّة الأجزاء فی الفعلیّة، یرتفع الإجمال فی البین، و یتعیّن کون متعلّق التکلیف الفعلیّ هو الأقلّ، و بالإتیان به یتحقّق الفراغ و الخروج عن عهدة التکلیف.

ثمّ أورد علیه: بأنّ حدیث الرفع لا یصلح لرفع فعلیّة التکلیف عن المشکوک واقعاً؛ إذ مفاد الرفع فیه- کما أوضحناه فی محلّه(1)؛ عند التعرّض لشرح الحدیث- إنّما هو مجرّد الرفع الظاهری الثابت فی المرتبة المتأخّرة عن الجهل بالواقع، و مثله غیر صالحٍ لتقیید إطلاقات أدلّة الجزئیّة الواقعیّة المحفوظة؛ حتّی بمرتبة فعلیّتها فی المرتبة السابقة علی الجهل بها.

و الحاصل: أنّ الشکّ فی وجوب الجزء المشکوک متأخّر عنه رتبةً، و الرفع الظاهری متأخّر عن الشکّ؛ لأنّه من أحکامه، فالرفع متأخّر عن وجوب الجزء بمرتبتین، و یمتنع تعلّق الرفع بما هو متقدّم علیه برتبتین؛ أی الجزئیّة الواقعیّة المحفوظة فی المرتبة السابقة علی الجهل بها، و لأنّ رفع کلّ شی ء عبارة عن نقیضه و بدیله، فلا یمکن أن یکون الرفع فی هذه المرتبة نقیضاً لما هو فی المرتبة السابقة؛ لأنّ وحدة الرتبة شرط فی التناقض(2). انتهی.

و فیه: أنّ الإطلاق لیس عبارة عن لحاظه فی جمیع الحالات و فی جمیع المراتب، بل هو عبارة عن عدم التقیید مع تعلیق الحکم بنفس الطبیعة، و هو بإطلاقه متحقّق فی جمیع الحالات و المراتب حتّی فی مرتبة الجهل بالحکم، و لهذا قلنا: إنّ الحکم الواقعی محفوظ فی مرتبة الحکم الظاهری أیضاً، و من جملة المراتب مرتبة الشکّ فی وجوب الجزء و رفعه، و حینئذٍ یرتفع الإشکال الذی ذکره بحذافیره؛ من


1- نهایة الأفکار 3: 211.
2- نفس المصدر 3: 390- 391.

ص: 479

حیث إنّ الرفع متعلِّق بالحکم فی مرتبة واحدة.

مضافاً إلی ما تقدّم منّا: من منع ما ذکروه من تأخّر الشکّ فی الحکم عن نفس الحکم؛ لما یلزمه من التوالی الفاسدة المتقدّمة.

هذا کلّه بالنسبة إلی الأقلّ و الأکثر فی الأجزاء.

حول سائر الأقسام من الأقل و الأکثر

و أمّا الکلام فی غیره من سائر الأقسام التی أشرنا إلیها، فحاصله: أنّ الأقلّ و الأکثر: إمّا فی شرائط المأمور به و موانعه، کما لو شکّ فی أنّ الصلاة واجبة بلا شرط، أو بشرط الطهارة، أو مع الشکّ فی مانعیّة شی ء لها، و الشرط قد یوجد بوجود المشروط فی الخارج کالرقبة و الإیمان، و قد یوجد بوجودٍ آخر مستقلّ غیر وجود المشروط، کالطهارة بالنسبة إلی الصلاة، و قد یکون الأقلّ و الأکثر من قبیل الجنس و النوع؛ سواء کانا من البسائط الخارجیّة التی یمکن التعبیر عنها بلا مئونة زائدة، کاللّون و اللّون الأحمر، أم التی تحتاج إلی مئونة زائدة فی مقام التعبیر عنها، کما فی بعض الأنواع من الألوان التی لا اسم خاصّ لها یعبّر عنها به، و یقال فی مقام التعبیر: اللّون الذی یشبه لون السماء أو الماء و نحوهما، أم من المرکّبات الخارجیّة، و قد یکون الأقلّ و الأکثر فی الحصّة أو الفرد و الطبیعی، کما لو شکّ فی وجوب إکرام الإنسان، أو الإنسان المتشخّص بخصوصیّة خاصّة کزید، فهل تجری البراءة العقلیّة فی جمیع هذه الأقسام، أو لا فی جمیعها، أو التفصیل بین الشکّ فی شرائط المأمور به أو موانعه و بین غیرهما من الأقسام؛ بجریان البراءة فی الأوّلین، دون غیرهما من الأقسام؟ أقوالٌ:

اختار ثانیها فی «الکفایة»(1)، و ذهب المیرزا النائینی قدس سره و المحقّق العراقی


1- کفایة الاصول: 417.

ص: 480

إلی الأخیر(1).

و ذکر فی «الکفایة» فی وجه ما ذهب إلیه: أنّ الصلاة- مثلًا- فی ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودةٌ بعین وجودها، و هی فی ضمن صلاة اخری فاقدة للشرط و الخصوصیّة مباینة للمأمور بها، و مع تباینهما لا مجال لجریان الأصل فیه.

و ذکر المحقّق العراقی قدس سره فی وجه عدم جریانها فی مثل الحصّة و الطبیعی و الجنس و النوع ما حاصله: أنّ الملاک فی باب الأقلّ و الأکثر هو أن یکون الأقلّ علی نحوٍ یکون بذاته و حصّته الخاصّة- سوی حدّ الأقلیّة- محفوظاً فی ضمن الأکثر، و من الواضح عدم تحقّق ذلک فی مفروض البحث، فإنّه بعد تحصُّص الطبیعی فی المتواطئات إلی حصص و آباء کذلک بعدد الأفراد؛ بحیث کان المتحقّق فی ضمن کلّ فرد حصّةً و أباً خاصّاً من الطبیعی المطلق، غیر الحصّة و الأب المتحقّق فی ضمن فرد آخر، کالحیوانیّة الموجودة فی ضمن الإنسان بالقیاس إلی الحیوانیّة الموجودة فی ضمن نوع آخر کالبقر، و کالإنسانیّة المتحقّقة فی ضمن زیدٍ بالقیاس إلی الإنسانیّة فی ضمن عمرو، فلا محالة فی فرض دوران الواجب بینهما لا یکاد یکون الطبیعی الذی هو أب الآباء- بما هو جامع الحصص و الآباء، القابل للانطباق علی حصّة اخری- محفوظاً فی ضمن زید؛ کی یمکن دعوی العلم بوجوبه علی أیّ حالٍ؛ لأنّ ما هو محفوظ فی ضمنه إنّما هی الحصّة الخاصّة من الطبیعی، و مع تغایر هذه الحصّة مع الحصّة الاخری المحفوظة فی ضمن فرد آخر، لا یکون من قبیل الأقلّ و الأکثر، بل من قبیل المتباینین. انتهی محصّله.

و لعلّ مرجع هذا الوجه و ما ذکره فی «الکفایة» إلی شی ء واحد، و حاصله: أنّه یعتبر فی جریان البراءة فی الأقلّ و الأکثر وجود قدر متیقّن فی البین یجب علی کلّ


1- فوائد الاصول 4: 190- 208، نهایة الأفکار 3: 397.

ص: 481

حال، و یشکّ فی الزائد عنه أنّه أیضاً واجب أو لا، کما فی الأقلّ و الأکثر فی الأجزاء.

ثمّ إنّ الکلّیّ الطبیعی- بما هو جامع و قابل الانطباق علی کلّ واحدٍ من الأفراد- غیر موجود مستقلّاً و بنفسه علی التحقیق، فإنّ الموجود فی الخارج من الطبیعی یمتنع صدقه و انطباقه علی کثیرین، فإنّ الحیوان الموجود فی الخارج الذی هو عین الإنسان، غیر قابل للصدق و الانطباق علی الحیوان الخارجی الذی هو عین البقر، و الذی یمکن انطباقه علی کلّ واحدٍ منهما هو أصل طبیعة الحیوان الجامع، لکنّه غیر موجودٍ بنفسه و مستقلّاً عن الأفراد فی الخارج، و إلّا لزم الالتزام بما ذکره الرجل الهمدانی من وجود الطبیعی- المعبَّر عنه بأب الآباء- فی الخارج مستقلّاً، و کذلک الإنسان المتحقّق فی ضمن زید لا یمکن انطباقه علی الإنسان المتحقّق فی ضمن عمرو، و حینئذٍ فکلّ واحدٍ منهما مباین للآخر، لا جامع بینهما فی الخارج؛ کی یقال: إنّه القدر المتیقّن وجوبه علی کلّ تقدیر، و یشکّ فی وجوب خصوصیّة الإنسان فی المثال الأوّل و خصوصیّة زید فی المثال الثانی؛ لیُنفی بأصالة البراءة.

أقول: قد أشرنا فی مباحث الألفاظ إلی أنّ ما ذکره الفلاسفة: من أنّ نسبة الطبیعی إلی أفراده نسبة الآباء إلی الأبناء، و لیس موجوداً فی الخارج، و الموجود فی الخارج هی الحصص، إنّما هو للفرار عن مقولة الرجل الهمدانی: بوجود الکلّی الطبیعی فی الخارج بما هو کلّیّ و جامع مشترک بین الأفراد بوجودٍ وحدانیّ، و أنّه لا ینعدم ما دام فرد منه موجوداً(1)، و لیس مرادهم ما ذکره المحقّق العراقی: من وجود الحصص فی الخارج قبل وجود الأفراد، و تصیر کلّ واحدةٍ من الحصص فی ضمن فردٍ من الأفراد بعدد وجودها(2)، بل مرادهم: أنّ نفس الطبیعی متکثّر فی الخارج؛


1- انظر شرح المنظومة( قسم الفلسفة): 99، الأسفار 1: 272- 273.
2- نهایة الأفکار 3: 397.

ص: 482

لأنّ کلّ واحد من الأفراد تمام الطبیعة بدون زیادة و نقصان و عینها، فزید تمام طبیعة الإنسان، و کذلک عمرو و بکر و غیرهما، فالطبیعة واحدة فی وعاء التحلیل العقلی، متکثّرة فی وعاء الخارج، و نفس الطبیعة هی الجامع المشترک بین الأفراد؛ لأنّ زیداً ینحلّ إلی طبیعة الإنسان و خصوصیّة، و عمرو ینحلّ إلیها مع خصوصیّة اخری، و هکذا سائر الأفراد.

و حینئذٍ فإن أراد المحقّق العراقی قدس سره بما ذکره: مباینة زیدٍ مع شی ء آخر غیر الإنسان، فهو خلاف المفروض، و إن أراد أنّ زیداً و عمراً متباینان فی وجودهما الخارجی فهو صحیح، لکن بینهما جامع وحدانی- و هو طبیعة الإنسان فی وعاء التحلیل العقلی- هو القدر المتیقّن؛ و لا یحتاج فی الأقلّ و الأکثر إلی وجود جامع خارجیّ مشترک؛ لأنّ الأحکام متعلّقة بالطبائع لا الخارج.

و حینئذٍ نقول فی دوران الأمر بین وجوب إطعام الحیوان أو الحیوان الناطق:

إنّ وجوب إطعام أصل الحیوان ممّا قامت علیه الحجّة، و لیس لوجوب إطعام خصوص الإنسان دلیل و حجّة؛ للعلم بوجوب الأوّل علی کلّ تقدیر و الشکّ فی الثانی، فتجری فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ أی البراءة العقلیّة.

و کذلک فی صورة دوران الأمر بین الطبیعة و بین هذه الطبیعة المقارنة لقیدٍ فی الخارج أو المتّصلة به أو التی هی عینه، فإنّ المناط إنّما هو فی وجود الجامع فی وعاء التحلیل لا الخارج، و لا فرق فی ذلک بین الأقسام المذکورة، فالحقّ هو جریان البراءة العقلیة فی الأکثر مطلقاً؛ من غیر فرق بین الأقسام المذکورة؛ لوجود مناط الانحلال فی جمیعها؛ أی وجود القدر المتیقّن وجوبه و الشکّ البَدْویّ فی الزائد عنه، و أنّ العلم الإجمالی إنّما هو فی بَدْو النظر و الوهم، و إلّا فبعد التأمّل هنا علم تفصیلیّ بوجوب الأقلّ و شکّ بدویّ بالنسبة إلی الأکثر، و وضوحُ ذلک فی بعض الأقسام، کما فی الأقلّ و الأکثر فی الشروط؛ فیما إذا کان للشرط استقلال فی الوجود و التحقّق،

ص: 483

کالطهارة بالنسبة إلی الصلاة، و خفاؤه فی بعضها الآخر، کالجنس و النوع و الطبیعی و الفرد، أوجبا التوهّم و الاشتباه من بعض الأعلام، کالمحقّق العراقیّ قدس سره؛ حیث فصّل بینهما بالقول بالانحلال و جریان الأصل فی الأوّل دون الثانی(1).

لکن عرفت أنّ التحقیق: عدم الفرق بین الأقسام کلّها، فإنّ الطبیعی و الفرد لیسا متباینین؛ حیث إنّ الفرد- مثل زید- موجود واحد خارجیّ، تنطبق علیه عناوین مشتقّة و غیر مشتقّة، کالناطق و الأبیض و ابن عمر و الإنسان؛ حسب جهاتٍ کثیرة یشتمل علیها، لا أنّه فی الخارج وجودات متعدّدة بعدد العناوین المتعدّدة المختلفة.

فلا یتوهّم: أنّ تکثُّر الألفاظ و التعبیرات و العناوین و تباینها بحسب اللفظ و المفهوم، توجب تکثّر المعنونات و تباینها؛ لأنّ الألفاظ و التعبیرات معرِّفات و علامات لشی ء واحدٍ خارجیٍّ هو زید فی المثال، فمع دوران الأمر بین وجوب إکرام طبیعة الإنسان و خصوص زید، نعلم بوجوب إکرام الطبیعة تفصیلًا؛ لأنّ زیداً أیضاً إنسان مع خصوصیّات و تشخُّصات زائدة خاصّة، و نشکّ فی اعتبار الخصوصیّة المشخِّصة لزید، فالعقاب علی مخالفة إکرام طبیعة الإنسان لیس بلا بیان، بخلاف الخصوصیّة فإنّ العقاب علی مخالفتها بلا بیان و برهان.

و من هنا یظهر وجه الإشکال فیما ذکره المیرزا النائینی- فی بیان عدم جریان البراءة فی مثل دوران الأمر بین الإنسان و الحیوان-: من أنّ التردید بینهما و إن کان یرجع بالتحلیل العقلی إلی الأقلّ و الأکثر، إلّا أنّه خارج عنه فی نظر العرف و أنّه عرفاً تردید بین المتباینین؛ لأنّ الإنسان بما له من المعنی المرتکز فی أذهان العرف مباینٌ للحیوان، و لهذا تشمئزّ النفس و یتنفّر الطبع من إطلاق الحیوان علیه، فاللّازم


1- نهایة الأفکار 3: 399.

ص: 484

فی مثله هو الاحتیاط بإطعام خصوص الإنسان(1). انتهی.

أقول: یرد علیه- مضافاً إلی ما تقدّم-: أنّه مناقشة فی المثال؛ لعدم اختصاص الجنس و النوع بالإنسان و الحیوان، فإنّ البقر و الحیوان أیضاً من مصادیقه، مع وضوح عدم المباینة بین البقر و الحیوان عرفاً، و کذلک الغنم و الحیوان، مع أنّ اللّازم ممّا ذکره هو الاحتیاط بالجمع بین أطراف العلم الإجمالی، کما هو مقتضی دوران الأمر بین المتباینین.

و هذا الإشکال واردٌ علی ما ذکره العراقی قدس سره أیضاً فی وجه عدم جریان البراءة و وجوب الاحتیاط بالجمع بین الأطراف، لا وجوب الأکثر فقط(2).


1- فوائد الاصول 4: 208.
2- نهایة الأفکار 3: 396.

ص: 485

الفصل السابع فی الأقلّ و الأکثر فی الأسباب و المحصّلات

و محطّ البحث فیه هو ما لو علم بتعلّق الأمر بحقیقة معلومة بالتفصیل مفهوماً، لا إجمال فیها أصلًا؛ سواء کانت من الحقائق التکوینیّة ذات أسباب عقلیّة أو عادیّة، أم من المعانی الشرعیّة التی لها أسباب شرعیّة، و سواء کانت مشکِّکة ذات مراتب متفاوتة مختلفة، تعلّق الأمر بمرتبة منها کالنور، أم کانت من البسائط التی توجد دفعةً، و سواء قلنا باقتضاء العلم الإجمالی للموافقة القطعیّة، أم قلنا بأنّه علّة تامّة لها، کما لو عُلم بوجوب قتل المرتدّ المعلوم، و شکّ فی محصّل القطع بین الضربة و الضربتین، و کما لو عُلم الأمر بتنظیف البیت المعلوم، و شُکّ فی أسبابه و ترددت بین الأقل و الأکثر، و کما لو علم بوجوب تحصیل الطهور، و تردّد الأمر فی سببه بین الأقلّ، کمجرّد الغسلتین و المسحتین، و الأکثر منهما مع اعتبار شی ء آخر، کتقدّم مسح الیمنی علی الیسری، أو مع قصد الوجه.

و محطّ البحث فی الحقیقة التی ذات المراتب هو ما إذا تعلَّق الأمر بمرتبة منها معیّنة مبیّنة، و شکَّ فی سبب حصول تلک المرتبة، و تردّد بین الأقلّ و الأکثر، و إلّا فلو

ص: 486

فُرض الشکّ فی أنّ الأمر متعلّق بغسل جمیع البدن أو بعضه، فهو شکّ فی متعلَّق الأمر- أی المأمور به- و هو خارج عن البحث و الکلام فی المقام.

و من هنا یظهر وجه الإشکال فیما ذکره المحقّق العراقی قدس سره- من التفصیل بین الحقیقة ذات المراتب و بین غیرها؛ بجریان البراءة فی الاولی دون الثانی(1)- حیث إنّک قد عرفت عدم الفرق بینهما فیما هو محطّ البحث و الکلام، فإنّ ملاک البحث ما عرفت، و لا دَخْل للدفعیّة و التدریجیّة فی الوجود فی ملاکه، فلو علم بتعلّق الأمر بمرتبة معلومة من حقیقةٍ ذات مراتب متدرّجة الوجود، کالطهارة- لو قلنا بأنّها تدریجیّة الوجود- تحصل بغسل کلّ عضوٍ مرتبة منها، و شکّ فی محصّلها بین الأقلّ و الأکثر، مثل مجرّد غسل البدن أو مع قصد الوجه، فهو محلّ البحث.

و إذا فرض تردّد الأمر بین تعلّق الوجوب بغسل جمیع البدن أو بعضه، فهو خارج عن محلّ الکلام، کما عرفت.

فما ذکره لیس تفصیلًا فی المسألة، بل هو تفصیل بین الأقلّ و الأکثر فی الأسباب و بین غیرها.

إذا عرفت محطّ البحث فی المقام فمقتضی القاعدة هو الاشتغال و عدم جریان البراءة العقلیة و الشرعیة مطلقاً فی جمیع الأقسام؛ لقیام الدلیل و الحجّة علی وجوب إیجاد هذا العنوان المسبّب المعلوم- کما هو المفروض- و تعلّق الأمر به، و إنّما الشکّ فی تحقّقه و حصوله بالأقلّ، فالمسبّب لیس مجری البراءة؛ لعدم الشکّ فی وجوبه و مفهومه، و إنّما الشکّ فی محصّله و حصوله بالأقلّ، و القاعدة فیه تقتضی الاشتغال؛ للشکّ فی الامتثال بالإتیان بالأقلّ، و مع قیام الحجّة علی وجوب المسبّب، فالعقاب علیه لیس بلا بیان لو اقتصر علی الأقلّ، و کان حصوله فی الواقع متوقّفاً علی الأکثر، و لیست الأسباب مورد الحجّة و البیان؛ کی یقال: إنّه مع الشکّ فی الأکثر فالعقاب


1- نهایة الأفکار 3: 401- 402.

ص: 487

علیه عقاب بلا بیان.

و من هنا یظهر: أنّ ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره: من التفصیل بین القول بالاقتضاء و بین العلّیّة التامّة؛ بجریان البراءة علی الأوّل دون الثانی؛ لأنّ حرمة المخالفة من قِبل الأسباب المعلومة- أی الأقلّ- معلومة، و حرمتها من قِبل الأکثر غیر معلومة؛ من غیر فرقٍ بین الأسباب العقلیّة و الشرعیّة و العادیّة فی جریان البراءة فیها علی القول بالاقتضاء، لا علی القول بالعلّیّة(1)، غیر صحیح؛ لأنّ معنی الاقتضاء: هو أنّ العقل یقضی بوجوب الموافقة القطعیّة مع عدم ترخیص الشارع لترکها، و أمّا مع الترخیص فلا تجب الموافقة القطعیّة، فلا بدّ فی الترخیص من الشکّ فی الحکم، و أمّا مع عدم الشکّ- کما فیما نحن فیه- فلا معنی للترخیص؛ لأنّ المفروض العلم بوجوب العنوان المعلوم مفهومه تفصیلًا، فلا معنی للبراءة بالنسبة إلیه، و لا بدّ فی مقام الامتثال من العلم بحصول الواجب بالإتیان بالأکثر، و لیس له إضافات حتّی یقال: إنّه بالإضافة إلی کذا معلوم و بالنسبة إلی کذا مشکوک.

و لا فرق فیما ذکرنا- من أنّ مقتضی القاعدة فی المقام هو الاشتغال- بین القول بأنّ للعنوان المأمور به عدماً واحداً یتحقّق بعدم کلّ جزء من أجزاء سببه أو کلّ واحدٍ من أسبابه، و بین القول بأنّ له أعداماً متعدّدة بحسب تعداد أسبابه أو أجزاء سببه؛ و ذلک لأنّ الأعدام لیست متعلَّقة للنهی و الحرمة، بل التکلیف الوجوبی و الأمر متعلّق بالعنوان، و علی فرض اقتضاء الأمر بالشی ء للنهی عن ضدّه، فهو نهیٌ تبعیّ للأمر المتعلّق بالعنوان و إن لم نقل بأنّه متولّد و ناشٍ عن هذا الأمر، لکن لا مناص عن الالتزام بأنّه تابع له، فالأمر المتعلّق بهذا العنوان حجّة علی حرمة جمیع أعدام ذلک العنوان، و لا حجّة علیه سواه، فامتثال تلک النواهی إنّما یتحقّق بامتثال ذلک الأمر.


1- نهایة الأفکار 3: 402.

ص: 488

فما ذکره العراقی قدس سره فی الجواب عن الإشکال الذی أورده علی نفسه من التفصیل- و اعترافه بورود الإشکال و جریان البراءة فیما إذا قلنا: بأنّ للمأمور به أعداماً متعدّدة حسب تعدُّد أسبابها، بخلاف ما لو قلنا: بأنّه لیس للعنوان الواحد إلّا عدمٌ واحد، فإنّ الحجّة قائمة علیه(1)- غیر مستقیم؛ لما عرفت من قیام الحجّة علی کلّ واحدٍ من تلک الأعدام، و هی الأمر المتعلّق بالعنوان المقتضی للنهی عن ضدّه و إعدامه، التابع للأمر المذکور، و لیست النواهی المتعلّقة بأضداده حجج مستقلّة، و علی فرض تسلیم أنّها حجج، و قلنا: بالبراءة فیها لأجل دوران الأمر فیها بین الأقلّ و الأکثر، لکن الأمر المتعلّق بالعنوان حجّة علیه، و لا بدّ من امتثاله، و لا یحصل العلم به إلّا بإتیان الأکثر، و لا یصحّ رفع الید عنه لأجل دوران النواهی و الأعدام بین الأقلّ و الأکثر؛ لعدم قصوره فی إیجابه لإیجاد المأمور به.

هذا کلّه فی الأسباب و المسبّبات العقلیّة و العادیّة.

و أمّا الأسباب و المسبّبات الشرعیّة: فقبل الشروع فی البحث عنها نقدّم أمراً:

و هو أنّه لا ریب فی أنّه لا دَخْل لاعتبار العقلاء أو الشارع فی الأسباب و المسبّبات العقلیّة و العادیّة، فإنّ الشمس إذا طلعت أضاءت؛ اعتُبر ذلک لها أو لم یعتبر، و نصب السلّم مقدّمة للصعود إلی السطح؛ اعتُبرت مقدّمیّته أو لا.

و أمّا الامور الاعتباریّة التی تسمّی بالأسباب و المسبّبات الشرعیّة فهی: إمّا عقلائیّة، أو شرعیّة:

الاولی: کالإیجاب و القبول بالنسبة إلی حصول الملکیّة و نحوها ممّا هو متعارف بین العقلاء.

و الثانیة: کالغسلتین و المسحتین بالنسبة إلی الطهارة، و الرضعة و الرضعات بالنسبة إلی نشر الحرمة ... و نحو ذلک، فإنّ اعتبار سببیّة ذلک بید الشارع فقط،


1- نهایة الأفکار 3: 403.

ص: 489

و لا ریب فی أنّه لیس لهذه الأسباب العقلائیّة و الشرعیّة تأثیر و تأثّر حقیقیّان فی الواقع و نفس الأمر؛ بأن یوجد بالإیجاب و القبول أمرٌ حقیقیّ هی الملکیّة فی نفس الأمر، کالبائع و المشتری و الثمن و المثمن، و کذا لا تأثیر و تأثّر لها فی النفوس أیضاً(1) حقیقةً؛ بأن یؤثّر إیجاب البائع- مثلًا- فی نفس المشتری، و یتصرّف فیها، و کذلک القبول، بل ذلک مجرّد اعتبار یعتبره العقلاء حسب احتیاجهم إلی ذلک من جهة تمدّنهم، فالتزموا علی أنفسهم بتوقّف الملکیّة و اعتبارها علی التلفّظ بالإیجاب و القبول؛ بإنشائها و إیقاعها اعتباراً ... و هکذا، و فی الحقیقة لیست هذه أسباباً لتلک، بل هی موضوع لاعتبار الملکیّة لدی العقلاء، و بالإنشاء الاعتباری و استعمال اللّفظ یتحقّق موضوع اعتبار العقلاء للملکیّة مثلًا.

فتلخّص: أنّ الأسباب و المسبّبات العقلائیّة لیست علی حذو الأسباب و المسبّبات العقلیّة و العادیّة فی تأثیرها حقیقةً و تکویناً، بل أثرها اعتباریّ فی أمرٍ اعتباریّ متقوّم بالاعتبار.

و أمّا الأسباب الشرعیّة: فهی تختلف باختلاف الموارد، فقد یکون الشارع تابعاً للعقلاء فی اعتبارهم للأسباب و المسبّبات؛ بإمضاء ما اعتبروه سبباً أو مسبّباً، و عدم تخطئته لهم فی اعتبارهم، و قد یتصرّف فی الأسباب العقلائیّة، فیعتبر سببیّة ما لیس سبباً عندهم کوقوع الطلاق- الذی هو عبارة عن هجر الرجل عن زوجته-


1- فیه نظر؛ لأنّ الألفاظ و التعبیرات مؤثّرة فی النفس، فکما أنّه لو سبّ شخصٌ أحداً یتأثّر به و یغضبه، بل یظهر أثره فی وجهه و یتغیّر لونه، و لذا یتحرّک للانتقام منه، کذلک الإیجاب و القبول فی النکاح و البیع، فإنّ الزوجین بعد الإیجاب و القبول لهما إحساس خاصّ و حالة مخصوصة یحصلان بالإیجاب و القبول لم یکونا قبله، فیوجد بهما علاقة بینهما فی أنفسهما یدرکانها، و کذلک الإیجاب و القبول فی البیع و الإجارة و نحو ذلک. و الحاصل: أنّ الألفاظ مؤثّرة فی النفس، و موجبة لإیجاد حالة فیها لم تکن قبل ذلک. المقرّر حفظه اللَّه.

ص: 490

بلفظ «أنتِ طالق» لو فرض سببیّة شی ء آخر لوقوع الطلاق عندهم، فإنّ الطلاق أمرٌ عقلائیّ، و تبعهم الشارع أیضاً فیه، لکن تصرّف فی سببه، و قد یتصرّف و یُسقط ما هو سبب عندهم عن السببیّة، و قد یتصرّف فی نفس المسبّب، فیُسقط ما هو معتبر عندهم، کبیع المنابذة و نحوه، و قد یَعتبِر ما لیس مُعتَبراً عندهم، کالاعتکاف- مثلًا- فإنّه من مخترعات الشارع لا العقلاء.

و من موارد جعل الشارع سببیّة ما لیس سبباً عند العقلاء هو سببیّة الید للضمان و إن لم یتلف المال بیده، فإنّ مجرّد الاستیلاء علی مال الغیر موجب للضمان شرعاً، کما فی الأیادی المتعاقبة المتواردة علی مال الغیر عدواناً، و الظاهر عدم سببیّة مجرّد الید للضمان عند العقلاء، بل الموضوع له عندهم هو الإتلاف، و حینئذٍ فلا یُغنی جعل الشارع للسببیّة عن جعل المسبّب، و لا العکس، بل لا بدّ من جعل السببیّة و المسبّبیّة، بمعنی اعتبار موضوعیّة شی ء- کالإیجاب و القبول- لأمرٍ اعتباریّ، کالبیع و للنقل و الانتقال، و الطهارة بالنسبة إلی الغسلات و المسحات فإنّ الغسلات بنفسها تکوینیّة، لکن سببیّتها للطهارة تفتقر إلی الجعل و الاعتبار، کنفس الطهارة علی احتمال.

إذا عرفت ذلک نقول: الحقّ عدم جریان البراءة العقلیّة و النقلیّة فی المقام أیضاً:

أمّا الاولی: فلأنّ التکلیف متعلّق بالمسبّب کالطهارة و النقل و الانتقال، و هو معلوم لا شکّ فیه، و إنّما الشکّ فی السبب لتردّده بین الأقلّ و الأکثر، کما لو شکّ فی حصول الطهارة بمجرّد الغسلتین و المسحتین، أو یشترط فیها قصد الوجه- مثلًا- أیضاً، و کما لو شکّ فی کفایة مجرّد الإیجاب و القبول فی تحقّق النقل و الانتقال، أو یشترط فیه تقدیم الإیجاب علی القبول أو العربیة مثلًا، فإنّه لا یحصل العلم بحصول المسبّب إلّا بإتیان الأکثر، و لا یکفی الأقلّ، و السببیّة فی المقام و إن کانت شرعیّة

ص: 491

مجعولة تحتاج إلی البیان، لکن یکفی هنا احتمال وجود البیان لوجوب تحصیل العلم بتحقّق المسبّب.

و أمّا البراءة الشرعیّة: فیمکن أن یقال بجریانها فی السبب؛ حیث إنّ المفروض أنّ السببیّة مجعولة کالمسبّب، و أنّ الشکّ فی حصول المسبّب ناشٍ و مسبّب عن الشکّ فی سببیّة الأقلّ فقط، أو مع أمر آخر، فمقتضی حدیث الرفع رفع اعتبار الأمر الزائد علی الأقلّ فی السببیّة، فیحکم بحصول المسبّب عند تحقّق الأقلّ المعلوم سببیّته إجمالًا، و لکن الحقّ عدم جریانها أیضاً؛ لاحتیاج سببیّة الأقل إلی إثبات أنّه تمام الموضوع لحصول المسبّب، و المفروض أنّه مشکوک فیه، و لا یرفع هذا الشکّ بإجراء البراءة عن الأکثر؛ لأنّه أثر عقلیّ لا یثبت بالأصل، و مع بقاء الشکّ یشکّ فی حصول المسبّب. فالحقّ عدم جریان البراءة الشرعیّة هنا أیضاً.

ص: 492

الفصل الثامن فی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر فی الشبهات الموضوعیّة

اشارة

و لا بدّ أوّلًا من بیان الفرق بینه و بین دوران الأمر بینهما فی الأسباب و المحصّلات، و قد عرفت أنّ المناط فی الأقلّ و الأکثر فیها، هو تعلّق الأمر بعنوان معلوم لا شکّ فیه و فی مصادیقه، و الشکّ إنّما هو فی السبب المحصِّل له؛ لتردّده بین الأقلّ و الأکثر، و المناط فی ما نحن فیه هو تعلّق الأمر بشی ء معلوم یتردّد مصداقه بین الأقلّ و الأکثر، لا فی سببه المحصّل له، و مثّل الشیخ الأعظم قدس سره لذلک بما لو فُرض تعلُّق الأمر بالصوم بین الهلالین، و شُکّ فی أنّه تسعة و عشرون یوماً أو ثلاثون، و بما لو فرض تعلُّق الأمر بالطَّهور المبیح للصلاة- أعنی الفعل الرافع للحدث- و شُکّ فی جزئیّة شی ء للوضوء أو الغسل الرافعین للحدث و حکم بالاحتیاط فیهما(1).


1- فرائد الاصول: 283 السطر الأخیر.

ص: 493

و لا یخفی أنّ هذین المثالین لیسا من قبیل الشکّ فی السبب و المحصّل، بل الشبهة فیهما موضوعیّة:

أمّا المثال الأوّل فواضح.

و أمّا المثال الثانی فلأنّ المفروض أنّ المأمور به فیه هو الفعل الرافع للحدث أی المقیّد بذلک و الشکّ إنّما هو فی مصداق ذلک، لا فی محصّله و موجبه.

نعم لو فرض تعلُّق الأمر بالطَّهور، و شکّ فی حصوله بمجرّد الغسلتین و المسحتین أو مع قصد الوجه، فهو من قبیل الشکّ فی المحصّل، لکنّه غیر ما ذکره الشیخ قدس سره من المثال، و من هنا توهّم بعض الأعاظم قدس سره؛ حیث استشکل علی الشیخ قدس سره: بأنّ المثالین من قبیل الشکّ فی المحصّل، لا الشبهة الموضوعیّة، فکأنّه- أی بعض الأعاظم- جعل الشکّ فی الشبهة الموضوعیّة من الشکّ فی المحصّل، کما یظهر من المثالین و من حکمه بالاحتیاط، فکأنّه غفل عن ذلک، أو توهّم عدم إمکان وقوع الشکّ فی نفس متعلّق التکلیف من جهة الشبهة الموضوعیّة(1). انتهی.

و قد عرفت ما یظهر منه اندفاع هذا التوهّم، فالغفلة منه فیما ذکره الشیخ من المثال بقوله: «أی الفعل الرافع للحدث»، لا من الشیخ قدس سره.

بیان حال الأقسام المتصوّرة
اشارة

إذا عرفت ذلک نقول: هنا أقسام: فإنّه قد یتعلّق الأمر أو النهی بما لمتعلّقه متعلّق خارجیّ، مثل «أکرم العلماء و لا تکرم الفُسَّاق»، فإنّ الحکم فیهما متعلّق بالإکرام، و الإکرام متعلّق بالعلماء أو الفسّاق الموجودین فی الخارج، و قد لا یکون لمتعلّقه متعلّق کالأمر بالصلاة.

و علی الأوّل: إمّا أن یتعلّق الأمر أو النهی بنفس الطبیعة القابلة للتکثُّر، کالأمر


1- فوائد الاصول 4: 200.

ص: 494

بإکرام طبیعة العالم أو النهی عن إکرام طبیعة الفاسق.

و إمّا أن یتعلّقا بصِرف الوجود الغیر القابل للتکثُّر، و إمّا أن یتعلّقا بالطبیعة الساریة؛ أی العموم الاستغراقی المنحلّ إلی أوامر و نواهٍ متعدّدة عرفاً، مثل «أکرم کلّ عالم» أو «لا تکرم کلّ فاسق»، فإنّهما ینحلّان عرفاً إلی الأمر بإکرام هذا و ذاک، و کذلک النهی، فإکرام کلّ واحد واجب مستقلّ عن الآخر، و یتحقّق الامتثال فی البعض دون البعض لو أکرم بعضهم.

و قد یتعلّقان بالعموم المجموعی، مثل «أکرم مجموع العلماء»، و هو تکلیف واحد متعلّق بمجموعهم، و لا ینحلّ إلی تکالیف متعدّدة، و امتثاله إنّما هو بإکرام جمیعهم، فلو أخلّ بواحدٍ منهم لما امتثل أصلًا و إن أکرم الباقین.

و علی کلّ تقدیر: إمّا أن یکون الأمر و النهی نفسیّان، و إمّا غیریّان، کما فی الأوامر المتعلّقة بالأجزاء و الشرائط، و النواهی المتعلّقة بالموانع و القواطع.

فهل القاعدة: هو الاشتغال فی جمیع هذه الأقسام، أو البراءة کذلک، أو التفصیل بین الأقسام؟

ذهب بعضهم إلی البراءة فی الجمیع؛ لأنّ الأفراد المعلومة الفردیّة معلومةُ الحکم، و الأفراد المشکوکة الفردیّةِ مشکوکةُ الحکم، و أصالة البراءة فیها محکّمة؛ سواء کان الحکم فیها نفسیّاً أم غیریّاً، و بنحو العموم الاستغراقی أو المجموعی، فالإکرام الواجب- مثلًا- مردّد بین الأقلّ- أی الأفراد المعلومة الفردیّة- و الأکثر؛ أی مع الأفراد المشکوکة، فیجب إکرام المعلومة، و تجری أصالة البراءة فی المشکوکة. هذا ما ذهب إلیه المیرزا النائینی قدس سره(1).

و ذهب بعض آخر إلی الاشتغال فی جمیع تلک الأقسام؛ و ذلک لأنّ البیان الذی هو من وظیفة الشارع و المولی قد صدر منه علی الفرض لا قصور فیه؛ أی الکبری


1- فوائد الاصول 4: 200- 203.

ص: 495

الکلّیّة، مثل قوله: «لا تُصلِّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه»(1)- مثلًا- و هی حجّة بالنسبة إلی الأفراد الواقعیّة و مصادیقها النفس الأمریّة، و لیس بیان الأفراد- أی أنّ هذا فرد له، و ذاک لیس بفرد- من وظیفته، و حینئذٍ فلا بدّ من تحصیل العلم بالامتثال؛ و وقوع الصلاة فی غیر وبر ما لا یؤکل فی المثال، و لا یحصل إلّا بالاحتیاط و امتثال التکلیف بالنسبة إلی الفرد المشکوک(2).

أقول: المناط فی الاشتغال فی المقام- کما أشرنا إلیه- هو تعلّق التکلیف بعنوان معلوم قد قامت الحجّة التامّة علیه مع الشکّ فی الامتثال و الخروج عن عهدة هذا التکلیف المعلوم، کما أنّ المناط فی جریان البراءة عدم قیام الحجّة التامّة علی المشکوک، و هذا ممّا لا إشکال و لا شبهة فیه لأحد، و إنّما الإشکال و الاشتباه فی تشخیص الموارد و صُغریات القاعدتین.

و الحقّ فی المقام: التفصیل بین الأقسام المذکورة: أمّا لو تعلّق الأمر النفسی بالطبیعة المطلقة، أو بصِرف الوجود من الطبیعة، أو بنحو العموم المجموعی، فمقتضی القاعدة فیه هو الاشتغال عند الشکّ فی تحقّق المأمور به؛ و دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر، فلا بدّ من امتثال التکلیف بالنسبة إلی المشکوک- یعنی الأکثر- لأنّ المفروض قیام الحجّة التامّة علیه، و إنّما الشکّ فی مقام الامتثال و الخروج عن العهدة، و القاعدة فی مثله هی الاشتغال و تحصیل العلم بفراغ الذمّة من التکلیف.

بخلاف ما لو تعلّق الأمر النفسی بشی ء بنحو العموم الاستغراقی، مثل «أکرم کلّ عالم»؛ لأنّ المفروض أنّ الأمر لم یتعلّق بعنوان معلوم مبیَّن یشکّ فی مصداقه


1- لیس فی کتب الحدیث روایة بهذا النص حسب ما تیسّر لنا البحث عنها، نعم توجد بهذا المضمون أحادیث متعددة من قبیل المنقولة فی الکافی 3: 397- 398، و علل الشرائع: 342 باب 43، وسائل الشیعة 3: 250- 252، کتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّی، الباب 2.
2- انظر فرائد الاصول: 283 السطر ما قبل الأخیر.

ص: 496

و تحقّقه فی مقام الامتثال، بل الحکم فیه متعلّق بالأفراد؛ لأنّ لفظة «کلّ» آلة للإشارة إلی الأفراد، فکأنّه قال: أکرم زیداً و عمراً و بکراً، و شکّ فی أنّ خالداً عالم أو لا، فمرجعه إلی الشکّ و التردید بین الأقلّ و الأکثر، فالأفراد المعلومةُ الفردیّة لِ «کلّ عالم» یجب إکرامهم، و الفرد المشکوک یشکّ فی وجوب إکرامه، و حیث إنّه لم تقم حجّة علی وجوب إکرامه فالعقاب علیه عقاب بلا بیان، بخلاف الأفراد المعلومة.

و أمّا المثالان اللّذان ذکرهما الشیخ الأعظم قدس سره، فمتعلّق الأمر فیهما هو العموم المجموعی؛ لتعلّق الأمر فیهما بعنوان الصوم بین الهلالین، أو الفعل المقیّد بکونه رافعاً للحدث، فالحکم بلزوم الاحتیاط فیهما مطابق للقاعدة.

و أمّا لو تعلّق النهی النفسی بشی ء فالحقّ فیه جریان البراءة مطلقاً؛ سواء تعلّق بصِرف الوجود، أو بالطبیعة المطلقة، أم بنحو العموم الاستغراقی أو المجموعی، فإنّ مرجع الشکّ فی تحقّق صِرف الوجود- بالإتیان بهذا المصداق المشکوک، أو الطبیعة المطلقة، أو العموم الاستغراقی، أو المجموعی- إلی الشکّ فی حلّیّته و حرمته، و الأصل فیه هو البراءة.

و أمّا الأمر الغیری بالنسبة إلی الأجزاء، کما لو أمر بالصلاة مع السورة بنحو صرف الوجود، أو الطبیعة، أو بنحو العموم الاستغراقی، أو المجموعی- و إن کان ذلک مجرّد فرضٍ- فحکمه حکم الوجوب النفسی؛ من التفصیل بین ما إذا اخذ الجزء بنحو العموم الاستغراقی، فالأصل فیه هو البراءة، و بین غیره من الأقسام الثلاثة فالأصل فیه الاشتغال، فمع الشکّ فی مقدار من القرآن أنّه سورة- مثلًا- أو لا، فلا یجتزأ به لو کان الأمر بنحو صرف الوجود أو الطبیعة، و کذلک لو أمر بالصلاة مع مجموع سور القرآن- مثلًا- و شکّ فی أن سورة النور- التی نقلها المیرزا الآشتیانی قدس سره فی حاشیته علی الفرائد(1)- مثلًا من القرآن أو لا، فلا بدّ من الإتیان


1- بحر الفوائد: 101 سطر 8.

ص: 497

بها فی مقام الامتثال أیضاً، و کذلک الکلام بالنسبة إلی الشرائط؛ من التفصیل المذکور بین أنحاء تعلُّق الأمر بها، و أخذها فی متعلّق الأمر الغیری.

و أمّا لو تعلّق النهی الغیری بشی ء؛ کما فی موانع الصلاة و قواطعها فذهب بعضهم: إلی أنّ الفرق بین المانع و القاطع هو أنّ المانع اعتُبر عدمه شرطاً و قیداً للمأمور به، بخلاف القاطع، فاعتُبر وجوده قاطعاً و فاصماً للهیئة الاتّصالیّة بین الأجزاء(1).

و الحقّ أنّ ما ذکروه فی المانع غیر صحیح؛ لأنّه لا یُعقل تقیید الصلاة بعدم شی ء؛ بأن یؤخذ العدم قیداً و شرطاً لها، بل هو ما اعتُبر وجوده مانعاً عن تحقّق الهیئة الاتّصالیة المعتبرة فیها، و مضادّاً لها، و اعتُبر القاطع قاطعاً و رافعاً للهیئة الاتّصالیة کما ذکروه، و بناءً علی ما ذکروه فإن اعتُبر عدم المانع قیداً و شرطاً فالکلام فیه هو الکلام فی الشرائط؛ من التفصیل بین ما لو اخذ بنحو صرف الوجود، أو نفس الطبیعة، أو العموم المجموعی، و الأصل فیه الاشتغال عند الدوران بین الأقلّ و الأکثر، و إن اخذ بنحو العموم الاستغراقی؛ بأن یکون معنی «لا تُصلِّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه»، هو تقیید الصلاة المأمور بها بعدم کلّ فردٍ فردٍ من أفراد وبره، فمع الشکّ فی فرد أنّه ممّا یؤکل لحمه أو لا یؤکل، فالأصل فیه البراءة من تقیید الصلاة بعدمه؛ لانحلال العموم الاستغراقی إلی نواهٍ متعدّدة عرفاً، و قامت الحجّة بالنسبة إلی ما عُلم أنّه من وبر ما لا یؤکل، و أمّا المشکوک فلا، فالعقاب علیه عقاب بلا بیان.

لا یقال: نعم، و لکن قضیّة الاشتغال الیقینی بالصلاة هو تحصیل العلم بالفراغ، و لا یحصل إلّا بترک المشکوک.

لأنّه یقال: إنّ الصلاة و إن علم وجوبها، و لکن یشکّ فی تقییدها بعدم هذا الفرد، و لم تقم حجّة علی ذلک، فتکفی الصلاة المجرّدة عن هذا القید.


1- نهایة الأفکار 3: 411.

ص: 498

و بالجملة: ما هو المعلوم من الاشتغال بالتکلیف هو التکلیف بأصل الصلاة مع رعایة القیود المعلومة، و أمّا غیرها فلا حجّة و لا دلیل علی وجوب رعایتها، و یتفرّع علی ذلک جواز الصلاة فی اللباس المشکوک کونه من المأکول أو غیره.

و أمّا بناءً علی ما اخترناه فی معنی المانع- من أنّه ما جعل وجوده دافعاً و مضادّاً للصلاة- فمقتضی القاعدة هو البراءة فی الفرد المشکوک مطلقاً؛ سواء جعل المانع صِرف وجوده، أو نفس الطبیعة، أو بنحو العموم الاستغراقی، أو المجموعی، فلو فُرض جعل مجموع أفراد ما لا یؤکل لحمه مانعاً، لو شُکّ فی فردٍ أنّه منه أو لا، فمقتضی القاعدة جواز الصلاة فی هذا الفرد؛ للشکّ فی وقوع الصلاة فی المجموع.

نعم لو صلّی مع جمیع أفراد ما لا یؤکل حتّی المشکوک بطلت؛ لتحقّق المانع یقیناً، و علی هذا یجوز الصلاة فی اللباس المشکوک لحمه، و لا یتوقّف ذلک- علی هذا الفرض- علی الانحلال بخلاف ما لو قلنا باشتراط الصلاة بعدم الموانع.

و هکذا الکلام فی القاطع، فإنّ حکمه فی صورة الشکّ حکم المانع علی ما اخترناه.

و ینبغی التنبیه علی أمرین:
التنبیه الأوّل: هل الأصل فی الأجزاء و الشرائط هو الرکنیّة؟
اشارة

لو ثبت جزئیّة شی ء للمأمور به فی الجملة، و شُکّ فی أنّه جزء علی الإطلاق، فتفسد الصلاة بالإخلال به مطلقاً و لو سهواً، أو یختصّ جزئیّته بصورة الالتفات، فلا تفسد الصلاة لو أخلّ به سهواً و غفلةً.

و الکلام فیه یقع فی مقامات:

الأوّل: فی بیان مقتضی الأصل العقلیّ.

الثانی: فی بیان الأصل النقلیّ.

الثالث: فی وجود دلیل خاصّ علی الصحّة أو البطلان و عدمه.

ص: 499

مقتضی الأصل العقلی فی جانب النقیصة
اشارة

أمّا المقام الأوّل: فذهب الشیخ الأعظم قدس سره إلی عدم جریان الأصل العقلیّ، و أنّه یقتضی رکنیّته؛ لأنّ ما هو جزء حال التوجّه و الالتفات جزء حال السهو و الغفلة أیضاً، فبانتفائه ینتفی المرکّب، و المأتیّ به لیس موافقاً للمأمور به؛ لأنّ الغفلة لا توجب تغیّر المأمور به و لا تغیّر الأمر المتوجّه إلیه قبل الغفلة، و لم یحدث بالنسبة إلیه من الشارع أمر آخر متوجّه إلی الغافل؛ لعدم إمکان توجیه الخطاب نحو الغافل و الساهی- بعنوانهما- بالصلاة الفاقدة للجزء؛ لأنّه لو خاطبه کذلک فإمّا أن لا یتذکّر أصلًا، فلا یوجب هذا الأمر انبعاثه و تحریک عضلاته نحو الفعل المأمور به، و إن تذکّر و زال سهوه و غفلته بسبب توجیه الخطاب نحوه کذلک، خرج عن عنوان الساهی الذی هو الموضوع للحکم فی ذلک الخطاب، و یصیر محکوماً بحکم الملتفت، و علی أیّ تقدیر فالخطاب الخاصّ به لغوٌ لا یمکن صدوره من الحکیم، و إذا امتنع ذلک فی حقّه وجب علیه الإعادة بمقتضی الأمر الأوّل(1).

هذا، و لکن تُفصّی عن الإشکال بوجوهٍ؛ بمعنی تصویر تکلیف الناسی بالناقص و إمکانه؛ بنحوٍ تندرج هذه المسألة تحت مسألة دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر؛ علی وجهٍ یندفع به هذا الإشکال:

الوجه الأوّل: أنّ الباعث و المحرّک لجمیع المکلّفین- الأعمّ من الذاکرین و الناسین- للامتثال و الإتیان بالمأمور به، هو أمر واحد تعلّق بطبیعة الصلاة، و لکن لا اقتضاء له فی مقام الثبوت بالنسبة إلی الناسی إلّا لتسعة أجزاء، و أمّا بالنسبة إلی الملتفت فهو یقتضی الإتیان بعشرة أجزاء، و لم تتعلّق الإرادة الجدّیة بالنسبة إلی الأکثر فی الناسی، فکلّ واحدٍ من الناسی و الملتفت یتحرّکان نحو امتثال أمر واحد،


1- فرائد الاصول: 286 سطر 15.

ص: 500

و ینبعثان عنه، و هو قوله تعالی: «أَقِمِ الصَّلاةَ ...»*(1) إلی آخره، و لا یلزم أن یکون هناک أمران: تعلّق أحدهما بالصلاة الواجدة لعشرة أجزاء بالنسبة إلی الذاکر، و ثانیهما بالواجدة لتسعة أجزاء بالنسبة إلی الساهی؛ حتّی یقال: باستحالة توجیه الخطاب نحو الساهی بعنوانه؛ و ذلک لأنّ الداعی من الأمر: إمّا التوصّل إلی الغرض و المصلحة، و إمّا لأجل أن یقصده فی مقام الامتثال، و علی أیّ تقدیر لا یحتاج إلی توجیه أمر خاصّ بالناسی:

أمّا علی الأوّل: فلاستیفاء الغرض و المصلحة بدون هذا الأمر أیضاً؛ لأنّ المفروض إتیانه بسائر الأجزاء، فهذا الأمر لغوٌ.

و علی الثانی: فکذلک؛ لما عرفت من أنّ المحرّک لکلّ واحدٍ منهما هو الأمر المتعلّق بالصلاة، و أنّهما بصدد امتثاله و بقصده، غایة الأمر أنّ الناسی اعتقد الإتیان به، و أنّه منطبق علی المأتیّ به، فإنّه لا تفاوت بین الذاکر و الناسی إلّا فی ترک الناسی بعض الأجزاء، و لیس ترکه بداعویّة الأمر، بل الأمر یدعو إلی الوجود و الإیجاد، فتوجیه الأمر بالناقص إلی هذا الناسی لغوٌ، و إذا أمکن ذلک فی مقام الثبوت فمرجع الشکّ- فی مقام الإثبات- فی جزئیّة الجزء المنسیّ و عدمها بالنسبة إلیهما إلی الشکّ بین الأقلّ و الأکثر، و قد عرفت أنّ الحقّ جریان البراءة فیه بالنسبة إلی الأکثر(2).

الوجه الثانی: ما ذکره المیرزا الشیرازی قدس سره و حاصله: أنّا سلّمنا عدم إمکان توجیه الخطاب بالناقص نحو الناسی، لکن یمتنع خطابه بالتامّ أیضاً، فهو فی حال النسیان غیر مخاطب أصلًا؛ لا بالتامّ و لا بالناقص، و مع ذلک فالمفروض أنّه أتی بالناقص، و بعد زوال النسیان و التفاته یشکّ فی حدوث الأمر بالتامّ بالنسبة إلیه؛ للشکّ فی تحقّق الملاک، و الأصل عدمه. نعم لو لم یأتِ بالناقص أیضاً فالضرورة


1- الإسراء( 17): 78، هود( 11): 114.
2- انظر نهایة الأفکار 3: 420- 421.

ص: 501

قاضیة بوجوب الإتیان به(1). انتهی.

و هذا الجواب و إن کان کافیاً فی ردّ الإشکال الذی ذکره الشیخ الأعظم، لکن التحقیق و الواقع خلافه؛ لأنّ الأمر المتوجّه إلی جمیع المکلّفین متوجّه إلیه أیضاً حتی حال النسیان.

الوجه الثالث: ما نقله المیرزا النائینی قدس سره عن بعض مقرّری بحث الشیخ قدس سره فی باب الخلل، و حاصله: أنّ امتثال الأمر لا یتوقّف علی التفات المکلّف و توجّهه إلی ما اخذ عنواناً له بخصوصه؛ کی یقال بامتناع توجیه الأمر إلی الناسی بعد التفاته إلی نسیانه، بل یمکن الامتثال بالالتفات إلی ما ینطبق علیه من العنوان و لو من باب الخطاء فی التطبیق، نظیر قصد الأمر بالأداء أو القضاء أحدهما فی مکان الآخر(2).

انتهی.

و اعترف المیرزا النائینی قدس سره: بأنّ ذلک خطاء فی التطبیق، لکن استشکل علیه: بأنّ المعتبر فی صحّة البعث قابلیّته للانبعاث، و أمّا إذا لم یکن کذلک فلا یمکن صدوره، و ما نحن فیه کذلک، فإنّ المفروض حینئذٍ أنّ امتثال الناسی دائماً من باب الاشتباه فی التطبیق، فیقصد الأمر بالتامّ دائماً؛ لزعمه ذاکراً فی الإتیان بالناقص فی مقام الامتثال، فالأمر بالناقص لیس محرّکاً له أصلًا، بخلاف الأداء و القضاء، فإنّه قد یتّفق الاشتباه فی التطبیق فیهما، فیعتقد بقاء الوقت الأدائی أو بالعکس(3). انتهی.

أقول: علی فرض تسلیم أنّ المقام من باب الاشتباه فی التطبیق، لا یرد علیه هذا الإشکال؛ لأنّ معنی الاشتباه فی التطبیق هنا أنّه یری نفسه ملتفتاً و ذاکراً، و لا یلتفت إلی نسیانه، فیقصد الأمر بالتامّ، و ینبعث عنه دائماً، و لا ضیر فیه؛ حیث إنّه


1- انظر ما نقله المحقّق الحائری عن المیرزا فی درر الفوائد: 491- 492.
2- فوائد الاصول 4: 211.
3- فوائد الاصول 4: 211- 212.

ص: 502

قصد الأمر المتوجّه إلیه واقعاً، غایة الأمر أنّه زعم أنّه الأمر بالتامّ دون الناقص، لکن الحقّ أنّه لیس من باب الاشتباه فی التطبیق حیث إنّه اعتقد أنّه ذاکر و قصد الأمر بالتامّ، فهو منبعث عنه واقعاً، لا عن الأمر بالناقص، و الشاهد علیه: أنّ الأمر بالناقص وجوده کعدمه، فالحقّ عدم تمامیّة هذا الوجه أیضاً.

و فصّل المیرزا النائینی قدس سره: بین ما لو استوعب النسیان جمیع الوقت و عدمه؛ بجریان البراءة فی الأوّل دون الثانی:

أمّا جریانها فی الأوّل فلأنّ مرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی أنّ المکلّف به فی حقّ الناسی هل هو الطبیعة الواجدة للجزء المنسیّ، أو الطبیعة الفاقدة له؟ فهو من صغریات الشکّ بین الأقلّ و الأکثر، بخلاف ما لو لم یستوعب النسیان جمیع الوقت؛ لأنّ أقصی ما تقتضیه أصالة البراءة هو عدم جزئیّة الجزء المنسیّ حال النسیان فقط، و لا تقتضی عدمها فی تمام الوقت، فلو کان المکلّف ناسیاً فی أوّل الوقت، و أتی بالناقص، و تذکّر فی آخر الوقت بمقدارٍ یمکنه إیجاد الطبیعة بتمام ما لها من الأجزاء، فأصالة البراءة عن الجزء المنسیّ فی حال النسیان، لا تقتضی عدم وجوب الفرد التامّ فی ظرف التذکّر، بل مقتضی الأدلّة وجوبه؛ لأنّ المأمور به هو صِرف وجود الطبیعة التامّة الأجزاء و الشرائط فی مجموع الوقت، و یکفی فی وجوب ذلک التمکّن من إیجادها کذلک فی جزءٍ من الوقت، و لو کان ذاکراً فی أوّل الوقت، و عرض النسیان فی آخره، فمقتضی استصحاب التکلیف الثابت علیه فی أوّل الوقت، هو وجوب القضاء و الإتیان به تامّاً؛ للشکّ فی سقوطه بسبب النسیان الطارئ(1). انتهی ملخّصه.

أقول: لا یخفی أنّ المفروض فی محطّ البحث فی المقام، أنّ شرط جریان البراءة العقلیّة، هو عدم الإطلاق فی أدلّة الأجزاء، و لا فی دلیل المرکّب، إذ مع


1- فوائد الاصول 4: 220- 221.

ص: 503

فرض إطلاق أدلّة الأجزاء مع عدم الإطلاق فی دلیل المرکب فمقتضی إطلاق أدلّة الأجزاء، وجوب الجزء و جزئیّة المنسیّ حال النسیان أیضاً، فلا مجال للبراءة حینئذٍ، و لو فُرض الإطلاق فی دلیل المرکّب دون دلیل للأجزاء فهو أمارة علی ان المکلف مأمور بالناقص، و أنّ الجزء المنسیّ لیس بجزء بالنسبة إلیه حال النسیان، فلا مجال للبراءة أیضاً، فمحطّ البحث هو ما إذا لم یکن فی البین إطلاق أصلًا؛ لا فی دلیل المرکّب، و لا فی أدلّة الأجزاء.

و حینئذٍ فیرد علی ما ذکره قدس سره:

أوّلًا: أنّ المفروض الشکّ فی جزئیّة الجزء المنسیّ، فإذا کان ناسیاً فی أوّل الوقت و متذکّراً فی آخره، و أتی بالناقص حال النسیان، فسواء قلنا بأنّه غیر مکلّف حال النسیان أصلًا؛ لا بالتامّ و لا بالناقص، أم قلنا بأنّه مکلّف بالناقص، یشکّ فی حدوث التکلیف بالتامّ بعد زوال النسیان، فالأصل یقتضی عدمه؛ لأنّه مسبوقٌ به.

و ثانیاً: ما ذکره من أنّ مقتضی الأدلّة وجوبه، فهو خروج عن محطّ البحث و مورد النزاع؛ لما عرفت من أنّ محطّه ما إذا لم یکن إطلاق و دلیل فی البین أصلًا.

و ثالثاً: ما ذکره من استصحاب التکلیف فی الذاکر أوّل الوقت الناسی فی آخره.

فیه: أنّ تکلیفه بالتمام أوّل الوقت موضوعه الذکر، و المفروض زواله و عروض النسیان علیه الموجب لرفع التکلیف بالتمام عنه، کما هو مقتضی مذهبهم:

من جعل النسیان و غیره من الأعذار العقلیّة من حدود التکلیف و قیوده، المستلزم لعدمه حین طروّه.

فتلخّص: أنّ التفصیل المذکور غیر صحیح.

ثمّ إنّهم ذکروا فی المقام: أنّه مع إطلاق دلیل الجزء المنسیّ الشامل لحال السهو و النسیان، فهو یقتضی عدم تکلیفه ببقیّة الأجزاء، و مع عدم الإطلاق، و احتمال

ص: 504

أنّ جزئیّته مقصورة علی حال الذکر، فالمرجع هو البراءة(1). لکن هذا الکلام إنّما هو فی مقام الثبوت.

مقتضی الأدلّة فی نسیان الجزء و الشرط

و أمّا فی مقام الإثبات و سرد الأدلّة فلیس هنا قاعدة کلّیّة شاملة لجمیع الموارد، بل الموارد مختلفة فی تحقّق الإطلاق و عدمه.

نعم الغالب فی دلیل المأمور به عدم الإطلاق فیه، مثل: «أَقِمِ الصَّلاةَ»*(2) «وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ»*(3) و نحوهما من الأوامر الکلّیّة القانونیّة؛ لأنّها فی مقام جعل القانون و بیان أصل الوجوب.

ثمّ إنّه فصّل بعضهم: بین القول بمجعولیّة جزئیّة الجزء استقلالًا المستفادة من مثل:

(لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب)

(4)، و بین القول بانتزاعها من الحکم التکلیفی المجعول بمثل «صلِّ مع الفاتحة»، فحکم ببقاء جزئیّة الجزء حال النسیان فی الأوّل؛ لشمول دلیل الجزئیّة له حینئذٍ دون الثانی، فلا مجال للبراءة فی الأوّل؛ لشمول دلیل الجزئیّة لحال النسیان فیه و جریان البراءة فی الثانی؛ لعدم إمکان شمول أدلّة التکالیف لحال النسیان(5).

أقول: أمّا القائلون بأنّ النسیان و نحوه من الأعذار العقلیّة لیست من حدود التکلیف و قیوده- کما هو المختار- فهم فی فُسحة من أصل الإشکال.


1- انظر فوائد الاصول 4: 216، و نهایة الأفکار 3: 423.
2- الإسراء( 17): 78، هود( 11): 114.
3- البقرة( 2): 43.
4- عوالی اللآلی 1: 196/ 2 و 2: 218/ 13، مستدرک الوسائل 4: 158، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 1، الحدیث 5.
5- انظر فرائد الاصول: 286 سطر 21، فوائد الاصول 4: 216- 217.

ص: 505

و أمّا القائلون: بأنّها من حدود التکلیف و قیوده، و أنّه یمتنع تکلیف الناسی و الغافل- کالمحقّق العراقی قدس سره- فأجابوا عنه تارةً: بأنّه لا فرق فی المقام بین نحوی الجعل الوضعی و التکلیفی، فإنّ الأوامر التکلیفیّة المنتزعة عنها الجزئیّة و الشرطیّة، و کذلک النواهی المنتزعة عنها المانعیّة، مثل: «لا تُصلِّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» فهی إرشادیّة، لا مولویّة نفسیّة، فیمکن توجیهها نحو الناسی أیضاً، فلا فرق بینها و بین مثل:

(لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب)

، فکما تستفاد الجزئیّة للفاتحة منه، و یشمل إطلاقها حال النسیان و نحوه، فکذلک مثل «صلِّ مع الفاتحة».

و اخری: بأنّه سلّمنا أنّ هذه الأوامر و النواهی لیست إرشادیة، بل مولویّة نفسیّة؛ بدعوی أنّ المولی فیها فی مقام بیان الحکم التکلیفی، لکن نقول: استحالة تکلیف الناسی و الغافل لیست من الضروریّات؛ حتّی یقال: إنّه من القرائن الحافّة بالکلام المانعة عن انعقاد الظهور له ابتداءً، بل هو من الأحکام العقلیّة النظریّة التی تفتقر إلی التفکّر و التأمّل، و حینئذٍ فلا یمنع عن انعقاد الظهور.

نعم بعد حکم العقل بذلک بالتأمّل و التدبّر یرفع الید عن حجیّة ظهوره، لکن یمکن التجزئة فی ذلک بأن یرفع الید عن حجّیّة ظهوره بالنسبة إلی الحکم التکلیفی، و یبقی حجّیّته بالنسبة إلی الحکم الوضعیّ، کالجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة لشی ء المنتزعة منه.

و ثالثةً: مع الإغماض عن ذلک کلّه لا مانع من التمسّک بإطلاق المادّة فی مثل قوله: «اسجد فی صلاتک» و نحوه؛ لأنّه یستفاد منه أنّ طبیعة السجدة مطلوبة مطلقاً بلا قیدٍ و شرط(1).

هذه خلاصة الوجوه التی ذکرها المحقّق العراقیّ، و لکنّها فاسدة:

أمّا الوجه الأوّل ففیه: أنّه لیس معنی الإرشادیّة استعمال الأمر أو النهی- فی


1- نهایة الأفکار 3: 424.

ص: 506

مثل «اسجد فی صلاتک» و «لا تُصلِّ فی وبر ما لا یُؤکل لحمه»- فی معنیً اسمیّ، و هو جزئیّة ذلک الجزء أو شرطیّة الشرط أو مانعیّة شی ء؛ بمعنی عدم استعمال الأمر و النهی الإرشادیّ فی البعث و الزجر، بل الأمر و النهی مستعملان دائماً فی البعث و الزجر؛ من دون فرق بین النفسیّین منهما و الغیریّین لغرض الإرشاد أو غیره، غایة الأمر أنّه قد یتبادر منهما عند العرف و العقلاء: أنّ البعث و الزجر إنّما هما لأجل أنّ المبعوث إلیه محبوبٌ و مطلوب نفساً و ذاتاً، و أنّ المزجور عنه مبغوضٌ ذاتاً للآمر، و قد یتبادر منهما عندهم جزئیّة شی ء أو شرطیّته أو مانعیّة شی ء، کما فی «صلِّ مع الطهارة» أو «اسجد فی صلاتک» و نحوهما من الأوامر و النواهی المتعلِّقة بأجزاء الصلاة و شرائطها و موانعها، و کما لا یمکن توجیه الأمر و النهی إلی الناسی فی الأوامر و النواهی النفسیّة المولویّة، کذلک فی الأوامر و النواهی الإرشادیّة.

و أمّا الوجه الثانی ففیه: أنّ ما ذکره إنّما یمکن فیما له ظهوران؛ أحدهما تابع للآخر و ناشٍ عنه، کما لو قام أمارة علی وجوب شی ء، فإنّ ظهورها فی الوجوب یستلزم ظهورها فی عدم حرمة ذلک الشی ء، و حینئذٍ فلو سقط ظهورها فی الوجوب لأجل المعارضة مع أمارة اخری- مثلًا- عن الاعتبار، أمکن التفکیک بینه و بین لازمه من الظهور الثانی فی عدم حجّیّة الأوّل دون الثانی، فهذا الظهور الثانی تابع للأوّل فی الظهور، لا فی الحجّیّة، علی تأمّل فی ذلک أیضاً.

و أمّا لو لم یکن هناک إلّا ظهور واحد فلا یصحّ فیه ما ذکره، و ما نحن فیه من قبیل الثانی، فإنّ الجزئیّة و الشرطیّة منتزعتان من الأمر بالجزء و الشرط، و کذلک المانعیّة من النهی عند العرف و العقلاء؛ لظهورهما فی ذلک، و حیث إنّه لا یمکن توجیه التکلیف إلی الناسی و بعثه بعنوان الناسی إلی فعلٍ أو زجره عنه، و ثبت ذلک و لو بالکشف بعد التأمّل و التدبّر، فلیس هنا ما ینتزع عنه الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة بالنسبة إلی الناسی، فما ذکره: من أنّ امتناع تکلیف الناسی لیس من

ص: 507

البدیهیّات، لیکون من القرائن الحافّة المانعة عن انعقاد الظهور، مسلّم، لکنّه یکشف- بعد النظر و التأمّل- عن عدم توجیه الخطاب إلیه من الأوّل، و مع عدم توجّه التکلیف إلیه لا منشأ لانتزاع الجزئیّة و الشرطیّة للمنسیّ.

و ثانیاً: لو سلّمنا أنّ فیما نحن فیه أیضاً ظهورین: أحدهما فی الحکم التکلیفی، و ثانیهما فی الحکم الوضعی؛ أی الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة، لکن ما ذکرنا من إمکان التفکیک بین الظهورین یتأتّی فیما نحن فیه؛ لأنّه مع امتناع توجیه التکلیف نحو الناسی، فلا تکلیف بالنسبة إلیه حتّی ینتزع منه الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة؛ لعدم وجود منشأ انتزاعها.

و ممّا ذکرنا یظهر: ما فی الوجه الثالث الذی ذکره من التمسُّک بإطلاق المادّة، فإنّ فیه: أنّ قضیة الکشف عن المصلحة بإطلاق المادّة لیس أمراً جُزافیّاً؛ کیف؟! و هو مورد البحث و الکلام بین الأشاعرة و العدلیّة، و الکشف عن المصلحة إنّما هو بعد ثبوت التکلیف و تحقّقه، و مع قصوره و عدم ثبوته فلا کاشف عن المصلحة، کما هو المفروض بالنسبة إلی الناسی.

مقتضی الأصل الشرعی فی المقام
اشارة

فانقدح ممّا ذکرنا: أنّ مقتضی الأصل العقلی فی المقام هو البراءة.

و أمّا الأصل الشرعی و البراءة الشرعیّة فمحطّ البحث فی المقام هو ما إذا ثبت إطلاق الأدلّة الدالّة علی الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة و شمولها لحال النسیان؛ کی یحکم بارتفاعها بحدیث الرفع، بخلاف ما هو محطّ البحث فی البراءة العقلیّة.

فنقول: مقتضی القاعدة مع حفظ الإطلاق هو الإعادة أو القضاء بعد التذکّر، و إنّما الکلام فی أنّه هل یمکن رفع الید عن الإطلاق بحدیث الرفع أو لا؟ فالحکم برفع الجزئیّة و الشرطیّة یفتقر إلی ثبوت أمرین:

ص: 508

أحدهما: شمول حدیث الرفع لما نحن فیه من الشبهات فی الأحکام الوضعیّة.

ثانیهما: إثبات أنّ الباقی من الأجزاء مصداق للمأمور به.

و مع عدم إثبات هذین الأمرین فالقاعدة تقتضی الاشتغال، کما هو قضیّة إطلاق دلیل الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة و شمولها لصورة النسیان؛ سواء کان بلسان الوضع أم التکلیف؛ لعدم موافقة المأتیّ به للمأمور به.

و توضیح الکلام فی ذلک یفتقر إلی تقدیم امور:

الأوّل: أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع المنحلّة إلی الأجزاء و الشرائط کالصلاة، و إن کانت تدعو إلیها ابتداءً، لکن حیث إنّ الصلاة لیست إلّا عبارة عن تلک الأجزاء، فهی فی الحقیقة تدعو إلیها، کما لو أمر ببناء المسجد، فإنّه أمر بتألیف أجزائه و تحصیلها.

الثانی: لیس معنی حکومة الأدلة الثانویّة- کأدلّة نفی الحرج و الضرر و الرفع سوی «ما لا یعلمون»- علی الأدلّة الأولیّة المتکفّلة للأحکام الأوّلیّة، هو رفع الحکم الفعلی الذی تعلّقت به الإرادة الجدّیّة حتّی حال النسیان و الخطاء- مثلًا- فإنّ مرجعه إلی النسخ المستحیل، بل المراد أنّه یکشف بها بعروض هذه الطوارئ عن عدم تعلُّق الإرادة الجدّیّة بالنسبة إلیه، و عدم تطابق الإرادة الجدّیّة مع الاستعمالیّة فی مقام الجعل الکلّی القانونی؛ أی جعل جزئیّة الجزء و شرطیّة الشرط و مانعیّة المانع.

الثالث: قد یحتمل فی حدیث الرفع أنّ المراد من رفع النسیان هو رفع المنسیّ، فإنّ رفع نفس النسیان غیر معقول، فلا بدّ أن یراد منه رفع المنسیّ بادّعاء أنّه نفس النسیان؛ لما بینهما من نحو من الاتّحاد و الارتباط.

ثمّ إنّ المنسیّ عبارة عن الجزء- مثلًا- و هو غیر قابلٍ للرفع الحقیقیّ، بل

ص: 509

رفعه باعتبار رفع حکمه و بلحاظه، مثل:

(یا أشباه الرجال و لا رجال)

(1)، فهو المرفوع.

و الحاصل: أنّ هنا ادّعاءین:

أحدهما: ادّعاء أنّ النسیان هو المنسیّ.

ثانیهما: ادّعاء أنّ رفع حکم المنسیّ هو رفع نفسه.

لا یقال: إنّ استعمال النسیان فی المنسیّ مجازٌ، و إسناد الرفع إلیه باعتبار حکمه، و أنّ تغییر السیاق إنّما هو لأجل المتابعة للآیة الشریفة: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ أَخْطَأْنا»(2) الآیة، فالمراد بالنسیان هو المنسیّ، و کذلک فی الخطاء، کما فی «ما استُکرهوا علیه».

لأنّ التحقیق: هو أنّ تغییر السیاق فی الحدیث الشریف لنکتة اخری، و هی أنّ الإکراه قد یتعلّق بالوجود، و قد یتعلّق بالعدم، و کذلک عدم القدرة و الطاقة قد یتعلّق بالوجود، و قد یتعلّق بالعدم، و کذا الاضطرار و الجهل فی «ما لا یعلمون» قد یتعلّقان بالموضوع، و قد یتعلّقان بالحکم النفسی أو الغیری، کالجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة، و الموضوع المجهول قد یکون موضوعاً لحکم نفسیّ أو لحکم غیریّ، کالجزء و الشرط و المانع، و لذلک عبّر عنه فی الحدیث بالموصول، بخلاف الخطاء و النسیان، فإنّ تعلّقهما بالوجود و العدم لیس علی وتیرة واحدة، فإنّ فی صورة الترک نسیاناً یتعلّق النسیان بنفس الجزء المتروک، فیذهل عن الجزء فیترکه، بخلاف ما لو أوجد شیئاً نسیاناً، کالتکلّم و نحوه فی الصلاة، فإنّ النسیان متعلّق بمنشإ ذلک، فیذهل عن أنّه فی الصلاة، فیتکلّم عن إرادة و اختیار، و هکذا فی الخطاء.

و حینئذٍ فلو عبّر عنه: ب «ما نسوا» و «ما أخطئوا»- کما فی (ما اضطُرّوا إلیه)


1- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 123.
2- البقرة( 2): 286.

ص: 510

- لم یشمل الإیجاد نسیاناً أو خطاءً؛ لما عرفت من عدم تعلّق النسیان بنفس الوجود، بل بمنشئه، فعبّر علیه السلام فیهما بالنسیان و الخطاء، لیشمل القسمین؛ أی نسیان الوجود و العدم و متعلّق الحکم نفسیّاً أو غیریّاً، فمعنی رفع النسیان رفعه بما له من الآثار التی هو منشؤها، و فی الحقیقة یتعلّق الرفع بما هو مسبّب عن النسیان بلا واسطة أو مع الواسطة، و حینئذٍ فلا یحتاج إلی ادّعاء أنّ النسیان عین المنسیّ.

الرابع: لو نسی الجزء أو الشرط فترکهما، فهل یتعلّق النسیان بوجود الجزء المنسیّ، فینسی وجوده فیترکه- کما هو صریح کلام المحقّق العراقی(1)- أو أنّه متعلّق بالعدم- کما هو ظاهر کلام المیرزا النائینی قدس سره(2)- أو أنّه متعلّق بذات الجزء و طبیعته؟ وجوهٌ.

و الحقّ هو الأخیر، فإنّ ترک الجزء مسبّب عن الذهول و غروب الذهن عن طبیعة سورة الفاتحة- مثلًا- فلا یوجد مصداقها فی الخارج، و کذلک الشرط؛ لأنّ المفروض أن لا وجود خارجیّ له فی صورة النسیان حتّی یتعلّق به النسیان، و معنی رفع طبیعة الجزء و الشرط هو رفع حکمهما؛ أی الجزئیّة و الشرطیّة أو الوجوب التکلیفی الذی هو منشأ انتزاعهما، لا باعتبار أظهر الآثار؛ لاحتیاج ذلک إلی مئونة زائدة و ادّعاء آخر، و هو ادّعاء أنّ ذلک الأثر الظاهر هو جمیع الآثار؛ حتّی یصحّ إسناد الرفع باعتباره مع ترتّب سائر الآثار.

و لو سلّمنا ذلک لکن ما هو أظهر الآثار هنا هی الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة؛ لعدم المؤاخذة هنا؛ حتّی یقال: إنّها هی أظهر الآثار.

إذا عرفت ذلک فالحقّ جریان البراءة الشرعیّة فیما نحن فیه أیضاً؛ حیث إنّ الأمر متعلّق بنفس الطبیعة المنحلّة إلی الأجزاء و الشرائط و عدم الموانع، و هو


1- نهایة الأفکار: 3: 426.
2- فوائد الاصول 4: 224.

ص: 511

بحسب إطلاقه شامل لجمیع حالات المکلَّفین، کما عرفت ذلک فی الأمر الأوّل، و بعد ملاحظة حدیث الرفع و إسناده إلی النسیان، یکشف ذلک عن عدم تعلّق الإرادة الجدّیّة بالجزء المنسیّ حال النسیان؛ حیث إنّ المولی کان عالماً بذلک، و لم نعلم به؛ و لخفاء ذلک علینا حکمنا بالإطلاق و الشمول لحال النسیان أیضاً، لکن بعد الاطّلاع علی حدیث الرفع، کشفنا به عن عدم تعلّق الإرادة الجدّیّة فی مقام جعل القانون و الحکم الکلّی، الذی هو المصحّح لإسناد الرفع إلیه، و إلّا فلیس فی الواقع حکم حتّی یسند الرفع إلیه، بل هو کالتخصّص، و لیس المراد رفع الحکم الثابت الذی تعلّقت به الإرادة الجدّیة أیضاً؛ کی یستشکل علیه: بأنّ مرجعه إلی النسخ المستحیل، کما أورده المیرزا النائینی قدس سره فی المقام علی البراءة الشرعیّة(1)؛ و ذلک لأنّه کما لا یلزم من دلیل نفی الحرج و نحوه النسخ المستحیل، فکذلک لا یلزم من حدیث الرفع ذلک.

و بذلک یظهر اندفاع جمیع الإشکالات التی أوردها المحقّق العراقی قدس سره:

و منها: أنّه لا بدّ أن یتعلّق الرفع بما تعلّق به الجعل، و متعلّق الجعل هو طبیعة الجزء و الشرط و المانع، و النسیان لا یتعلّق بالطبیعة، بل بالوجود و الفرد الخارجی منها، و لا أثر لوجودها الخارجی- حتّی یسند الرفع إلیه بلحاظه- إلّا الصحّة، و إسناد الرفع إلی الجزء المنسیّ بلحاظ أثر الصحّة یُنتج ما هو خلاف المقصود؛ حیث إنّ المقصود تصحیح الصلاة بحدیث الرفع، لا رفع صحّتها(2). انتهی.

و فیه: أوّلًا: أنّ النسیان أیضاً متعلّق بالطبیعة، فإنّ الناسی یذهل عن طبیعة الجزء و الشرط، فیترک ما هو مصداقها الخارجی، کما أنّ متعلّق الجعل أیضاً هی الطبیعة، فمتعلّقهما واحد.


1- فوائد الاصول 3: 341.
2- انظر نهایة الأفکار 3: 429.

ص: 512

و الحاصل: أنّ الوجود و الإیجاد یتوقّفان علی لحاظ الطبیعة، فغروب الطبیعة عن الذهن یصیر منشأً لعدم إیجاد فردها و مصداقها الخارجی.

و ثانیاً: سلّمنا أنّ النسیان متعلّق بالوجود و المصداق الخارجی للجزء، لکن الفرد الخارجی عین الطبیعة مع الخصوصیّات، فیصحّ رفعه بلحاظ آثار الطبیعة، و أمّا الصحّة فلا یمکن الرفع بلحاظها؛ حیث إنّها من الآثار العقلیّة؛ لأنّها عبارة عن موافقة المأتیّ به للمأمور به، و لا بدّ فی الأثر- الذی بلحاظه یُسند الرفع إلی ذیه- قابلیّته للوضع و الرفع، و الصحّة لیست کذلک.

و من الإشکالات ما ذکره هو قدس سره أیضاً: و هو أنّ المرفوع لا بدّ أن یکون قابلًا للإتیان به، و قدرةُ المکلّف علیه مع قطع النظر عن حدیث الرفع، و حینئذٍ فإن ارید فی المقام رفع الجزء و الشرط فی صورة النسیان من حیث دخلهما فی الملاک و المصلحة، فهو أمر تکوینیّ غیر قابل للرفع، و إن ارید رفع الحکم التکلیفی- أی وجوب الجزء و الشرط حال النسیان- فهو غیر قابل لذلک؛ حیث إنّ المکلّف لا یتمکّن من الامتثال و الإتیان به؛ لامتناع تکلیف الغافل(1). انتهی.

و فیه: أنّه منافٍ لما ذکره قُبیل هذا فی بیان عدم الفرق- فی استفادة الحکم الوضعی و انتزاعه- بین القول: بأنّ الحکم الوضعیّ مجعولٌ بنفسه بمثل:

(لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب)

، و بین القول بانتزاعه من الحکم التکلیفی من مثل «صلِّ مع الطهارة، أو السجود»، و معه لا إشکال فی صحّة إسناد الرفع إلی الجزء بلحاظ آثاره الشرعیّة؛ لإمکان استفادة الجزئیّة منه حال النسیان.

و منها- و هو المهمّ من الإشکالات فی المقام- ما ذکره هو و المیرزا النائینی 0: و هو أنّ وجوب الصلاة تکلیف واحد لتعلُّق أمرٍ واحدٍ بها، لا تکالیف عدیدة، و غایة ما یستفاد من حدیث الرفع: هو رفع التکلیف الفعلی عن المجموع من


1- نهایة الأفکار 3: 429.

ص: 513

حیث المجموع، و لکن لا یستفاد منه وضع الباقی و وجوبه؛ لأنّ الرفع لا یتکفّل الوضع، فحیث إنّه لا یثبت ذلک بحدیث الرفع، فمقتضی المصالح النفس الأمریّة و ملاکات الأحکام الشرعیّة، هو وجوب الإتیان بها ثانیاً و إعادتها تامّة الأجزاء بعد الذکر و زوال النسیان(1). انتهی.

و اندفاع هذا الإیراد و الإشکال أیضاً یظهر ممّا تقدّم؛ حیث إنّ حدیث الرفع لا یرفع التکلیف الفعلی الذی تعلّقت به الإرادة الجدّیّة؛ لما عرفت من أنّه نسخ محال، بل الرفع متعلّق بالجعل القانونی، فهو کاشف عن عدم تعلّق الإرادة الجدّیة بالنسبة إلی الناسی، و لذلک قال: إنّه دفع فی الحقیقة لا رفع، و حینئذٍ فمع الحکم بعدم جزئیّة الجزء المنسیّ أو شرطیّته بالحدیث، یصیر الباقی مأموراً به بالجعل الأوّل، لا بحدیث الرفع؛ کی یقال: إنّ الحدیث لا یتکفّل الوضع.

و أمّا قیاس المیرزا النائینی قدس سره ما نحن فیه بما إذا لم یصلِّ أصلًا نسیاناً، و أنّه کما تجب الإعادة هناک، کذلک فی ما نحن فیه؛ أی ترک الجزء أو الشرط نسیاناً(2)، فهو من الغرائب و الأعاجیب؛ للفرق الواضح بین المقیس و المقیس علیه، فإنّه فی صورة الترک رأساً نسیاناً لم یأتِ بشی ء حتّی یحکم بالإجزاء، بخلاف ما نحن فیه.

فتلخّص: أنّ الحقّ هو جریان البراءة الشرعیّة فی المقام.

هذا تمام الکلام فی النقیصة السهویّة.

فی تصور الزیادة
اشارة

و أمّا الزیادة العمدیّة و السهویّة: فقبل التعرّض لبیان مقتضی القواعد العقلیّة و النقلیّة لا بدّ من تقدیم أمرٍ: و هو أنّه لا إشکال فی تصوّر النقیصة فی الصلاة حقیقةً،


1- نهایة الأفکار 3: 429، فوائد الاصول 4: 226- 227.
2- فوائد الاصول 4: 226.

ص: 514

فإنّه لو ترک المکلّف بعض أجزاء الصلاة- التی هی عبارة عن نفس الأجزاء الکثیرة فی لحاظ الاعتبار، فیأمر بها، فینتزع منه الآمر و المأمور و المأمور به، و کلّ من المأمور به و جزئه و شرطه فی عرضٍ واحد- فإنّه یصدق علیه أنّه نقص فی صلاته فی مقام الامتثال، و هذا ممّا لا إشکال فیه.

و إنّما الإشکال فی تصویر الزیادة الحقیقیّة فی المأمور به فی مقام الامتثال، و أنّه هل یمکن تصوّرها أو لا؟

و التحقیق: هو الثانی؛ لأنّ معنی الزیادة فی المأمور به- بما أنّه مأمورٌ به- هو زیادتها فیها بنحوٍ یصیر جزءاً لها بما أنّها مأمور بها، و هو مستحیل، فلو أتی بجزءٍ زائد، کما إذا قرأ الفاتحة فی صلاته مرّتین، فالثانیة لا تصیر جزءاً للصلاة المکتوبة؛ کی یعدّ ذلک زیادة فی المکتوبة حقیقةً، بل هو ضمّ شی ء خارج عن المأمور به إلیه.

نعم یصدق علیه الزیادة فی المأمور به عرفاً؛ حیث إنّ معنی الزیادة عند العرف: هو الإتیان بما هو من سنخ أجزاء الصلاة زائداً علی ما یعتبر فیها، و لا فرق فی ذلک بین اعتبار کلّ واحدٍ من الأجزاء و المرکّب بنحو اللّابشرط أو بشرط لا، خلافاً لصاحب الکفایة حیث ذکر: أنّه لا بدّ أن یعتبر الماهیّة المرکّبة بشرط لا؛ لتتصوَّر الزیادة فیه، و أن لا یعتبر فی الجزء و الشرط ذلک- أی بشرط لا- فإنّه لو اعتبر الجزء بشرط لا فهو من قبیل النقیصة لا الزیادة(1)، و تبعه فی ذلک المحقّق العراقی قدس سره(2).

أقول: لو اعتبر الفاتحة فی الصلاة بشرط لا عن فاتحة اخری جزء للصلاة، فهو ینحلّ إلی جزءٍ و هو الفاتحة، و شرط للجزء و هو قید الوحدة، فلو أخلّ بالشرط، و قرأ الفاتحة مرّتین، یصدق علیه الزیادة العمدیّة عرفاً؛ من حیث إنّه زاد فی صلاته فاتحةً، و النقیصة من حیث الإخلال بشرط الجزء، و یمکن استناد البطلان إلی کلّ


1- کفایة الاصول: 418.
2- نهایة الأفکار 3: 437.

ص: 515

واحدٍ منهما.

و الحاصل: أنّ الزیادة الحقیقیّة غیر متصوّرة فی المأمور به.

و ذهب المحقّق العراقی قدس سره إلی إمکان تصویر الزیادة الحقیقیة أیضاً، و مهّد لذلک مقدّمات:

الاولی: الزیادة إنّما تتحقّق إذا کان المزید من جنس المزید علیه، فلو صُبّ دبسٌ علی سَمْن فی إناء، فلا یقال: «إنّه زاد السَّمنُ» إلّا باعتبار ما فی الظرف.

الثانیة: لا بدّ فی صدق الزیادة من کون المزید علیه محدوداً بحدٍّ خاصّ.

الثالثة: اعتبار المرکّب و تقدیره قبل تعلّق الأمر به یتصوّر علی أنحاء ثلاثة:

أحدها: أن یعتبر الأجزاء و الشرائط فی مقام التقدیر بشرط لا عن الزیادة.

ثانیها: أن یعتبرها لا بشرط عن الزیادة؛ بمعنی أن لا یعتبر البشرطلائیّة، و لا یعتبرها فی نفس الطبیعة أیضاً، مثل أن یعتبر الرکوع جزءاً للصلاة بدون اعتباره بشرط لا و لا مجرّد الطبیعة.

و ثالثها: أن یعتبر الطبیعة- أی طبیعة الأجزاء- جزءاً للصلاة بنحو اللّابشرط؛ بحیث کلّما تحقّق فرد منها صار جزءاً للصلاة، و حینئذٍ فإن اعتبر الأجزاء و الشرائط فی مقام الاعتبار قبل تعلیق الأمر بها بشرط لا، فلا تتصوّر الزیادة حینئذٍ، بل یرجع إلی النقیصة، و إن اعتبرها بالنحو الثانی فکذلک لا تصدق الزیادة حقیقةً؛ حیث إنّه و إن لم یلاحظ الأجزاء و الشرائط بشرط لا- کما فی الفرض الأوّل- لکن لیس بنحو اللّابشرط أیضاً، فالزیادة خارجة عن دائرة الملحوظ، فلا تصدق الزیادة؛ لما عرفت فی المقدّمة الاولی من أنّه لا بدّ فی صدق الزیادة حقیقة من کون المزید من سنخ المزید علیه، و لیس المفروض کذلک، و إن اعتبرها بنحو الفرض الثالث؛ بأن اعتبر طبیعة الأجزاء و الشرائط جزءاً و شرطاً للصلاة بنحو اللّابشرط، فیتصوّر الزیادة الحقیقیّة حینئذٍ مطلقاً؛ سواء تعلّق الأمر بها بعد التقدیر بنحو اللّابشرط بنحو الفرض

ص: 516

الأوّل، أم الثانی، أم الثالث:

أمّا لو کان تعلّق الأمر بها بنحو الفرض الأوّل فظاهر؛ لأنّ المفروض أنّه اعتُبرت الطبیعة فی مقام التقدیر بنحوٍ کلّما یتحقّق فرد منها صار جزءاً للصلاة قبل تعلّق الأمر، و أمّا بعد تعلّق الأمر بها بنحو الفرض الأوّل أو الثانی، فهو و إن لم یصدق الزیادة فی المأمور به، لکن تصدق الزیادة فی الصلاة بصیرورتها جزءاً للصلاة، لا للمأمور به، و أمّا إن کان تعلّق الأمر بنحو الفرض الثالث؛ بأن اعتبر الأجزاء و الشرائط لا بشرط، و علّق الأمر بها کذلک، فتحقّق الزیادة حینئذٍ إنّما هو لأجل أنّ الأمر تعلّق بنفس الطبیعة بنحو اللّابشرط، و هو یقتضی صِرْف الوجود، فتکون الطبیعة محدودة بحدٍّ خاصّ بسبب الأمر، فلو زاد فی الصلاة، کما لو أتی بالرکوع بعد الإتیان به أوّلًا، فقد بدّل الحدّ بحدٍّ آخر، کما أنّه یصدق- بصبّ ماءٍ علی ماءٍ آخر محدود- أنّه زاد فیه، و بدّل حدّه الخاصّ بحدٍّ آخر.

ثمّ إنّه بعد إمکان تصویر الزیادة حقیقةً فی الصلاة یحمل علیها قوله علیه السلام:

(من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة)

(1)، و لا داعی علی حمله علی الزیادة العرفیّة(2). انتهی.

أقول: و فی کلامه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ الفرض الثانی الذی ذکره لاعتبار الأجزاء و الشرائط ممّا لا محصّل له؛ لأنّه لا یخلو الأمر: إمّا أن یعتبر الرکوع فیه بشرط لا و بقید الوحدة، أو لا بشرط.

و بعبارة اخری: إمّا أن تعتبر الوحدة قیداً للجزء فیه أو لا، و الأوّل هو الفرض الأوّل الذی ذکره بعینه، و الثانی یرجع إلی الفرض الثالث بعینه، و الواقع لا یخلو عن


1- الکافی 3: 355/ 5، وسائل الشیعة 5: 332، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 19، الحدیث 2.
2- نهایة الأفکار 3: 429- 436.

ص: 517

أحدهما، فلیس ذلک فرضاً آخر غیر الأوّل و الثالث.

الثانی: أنّ ما ذکره فی الفرض الثالث: من اعتبار الجزء نفس الطبیعة بنحو اللّابشرط ... إلی آخره، یرد علیه أنّه لو اعتبر نفس طبیعة الجزء أو الشرط جزءاً و شرطاً، فمعناه أنّ نفس طبیعة الرکوع- مثلًا- اعتُبرت جزءاً للصلاة، و تتحقّق فی الخارج بأوّل فردٍ یوجد فیه، فیصیر جزءاً للصلاة، فتتحقّق الطبیعة بتمامها، و حینئذٍ فلا یصیر الفرد الثانی منها جزءاً لها.

و بعبارة اخری: لو جعل الجزئیّة لطبیعة الرکوع بدون اعتبار السریان فیها، یتحقّق ذلک الجزء بالمصداق الأوّل منها، و لا یصیر الفرد الثانی منها جزءاً لتحقّق الطبیعة- بتمامها بالفرد الأوّل من الرکوع. نعم لو اعتبر الجزء الطبیعة الساریة- و لو إلی حدٍّ خاصّ- یصیر الفرد الثانی و الثالث جزءاً للصلاة.

الثالث- و هو العمدة-: أنّ ما ذکره من الاعتبارات الثلاثة للأجزاء و الشرائط فی مقام الاعتبار و التقدیر- قبل تعلُّق الأمر بها- فیه:

أوّلًا: أنّ مجرّد الاعتبار و تقدیر الأجزاء لا یصیر صلاةً مکتوبة؛ لیصدق علیها أنّها زیادة فی المکتوبة، بل المکتوبة عبارة عن الصلاة المأمور بها، فلو اعتبر الأجزاء لا بشرط عن الزیادة، و لکن أمر بها بنحو البشرطلا، لم یعدّ ما اعتبره و قدره صلاةً مکتوبةً، فالمکتوبة هی المأمور بها، و قبل تعلّق الأمر بها لا تعدّ مکتوبةً.

و ثانیاً: لو فرض أنّ نفس طبیعة الأجزاء اعتبرت جزءاً؛ بنحوٍ کلّما أتی به من مصادیقها صار جزءاً للصلاة، و امر بها بأحد الأنحاء الثلاثة، صارت محدودة بالأمر، و حینئذٍ فالزیادة إمّا فی المقدّر أو فی المأمور به:

و علی الأوّل: فالمفروض أنّه اعتبر الأجزاء نفس الطبیعة؛ بحیث کلّما أتی به من أفرادها صار جزءاً للصلاة، فلا تتحقّق الزیادة.

و علی الثانی: ففیه: أنّ المأمور به محدودٌ بحدٍّ خاصّ یتعلّق الأمر به؛ بحیث

ص: 518

یمتنع دخْل شی ء آخر فیه، فلو فرض أنّه قرأ الفاتحة مرّة اخری لم تکن هی زیادة فی الصلاة حقیقةً، بل هو ضمّ شی ء إلی شی ء.

فتلخّص: أنّ ما ذکره فی بیان تصویر الزیادة الحقیقیّة غیر صحیح.

نعم تصدق الزیادة العرفیّة فیما لو رکع ثانیاً بعنوان الجزئیّة للصلاة، و یصدق علیه عرفاً أنّه زاد فی صلاته.

مقتضی الأصل فی جانب الزیادة

ثمّ إنّه قد یتمسّک فی المقام باستصحاب الصحّة و عدم البطلان للصلاة بالزیادة؛ للشکّ فی حصول النقص فی الصلاة بسبب هذه الزیادة؛ لأجل تقیید الصلاة أو الأجزاء بعدمها، أو لأجل مضادّتها للصلاة، فیُشار إلی ماهیّة المزید، کالقهقهة- مثلًا- المشکوک فی قاطعیّتها للصلاة، فیقال: إنّها لم تکن مانعةً أو قاطعةً للصلاة فی الأزل قطعاً، فالأصل بقاؤها علی ذلک إلی الآن، کما تقدّم نظیر ذلک فی استصحاب عدم القرشیّة من الاستاذ الحائری قدس سره(1)، و تقدّم الإشکال فیه أیضاً أوّلًا بعدم اتّحاد القضیّة المشکوکة و المتیقّنة فی هذا الاستصحاب هنا؛ حیث إنّ الماهیّة لا تحقُّق لها فی الأزل، و ثانیاً بأنّ هذا الاستصحاب لا یُثبت أنّ هذا الفرد من القهقهة- مثلًا- غیرَ مانعٍ أو غیرَ قاطعٍ، علی فرض الإغماض عن الإشکال الأوّل؛ لأنّ ما هو المتیقَّن هی السالبة المحصّلة الصادقة بانتفاء الموضوع أیضاً، أو المحمول مع وجود الموضوع، و لا یثبت باستصحاب السلب المحصّل الجامعُ بین القسمین أحدهما المعیّن، و هو السلب المحصّل مع وجود الموضوع و انتفاء المحمول، کما سیجی ء- إن شاء اللَّه تعالی- فی مسألة استصحاب الکلّی.

و قد یقرّر الاستصحاب: بأنّه یشکّ فی تحقّق المانع أو القاطع بسبب وجود ما


1- درر الفوائد: 219- 220 مع مراجعة الهامش 1.

ص: 519

یشکّ فی کونه مانعاً أو قاطعاً، کالقهقهة فی الصلاة المشتغل بها، فیقال: إنّه لم یکن القاطع واقعاً فی الصلاة قبل ذلک، فیستصحب عدمه.

و إن شئت قلت: کانت هذه الصلاة بلا مانعٍ و لا قاطعٍ قبل صدور القهقهة، فالآن کما کانت؛ لئلّا یتوهّم عدم إثبات هذا الاستصحاب أنّ هذه الصلاة لم تکن متّصفة بعدم حصول المانع و القاطع فیها، کما توهّم ذلک الإشکال فی استصحاب العدالة، فإنّه لا یثبت أنّ زیداً عادل، فلدفع هذا التوهّم یقال: أنّ المستصحَب فیها هو عدالة زید.

أقول: لو قلنا: بأنّ مرجع مانعیّة شی ء أو قاطعیّته إلی أنّ ذلک الشی ء مضادٌّ للصلاة، و أنّ بطلان الصلاة إنّما هو لمکان المضادّة بینهما واقعاً، کما فی التکوینیّات، و أنّ الفرق بین المانع و القاطع: هو أنّ القاطع مضادٌّ للهیئة الاتّصالیّة للصلاة، و المانع مضادٌّ لطبیعة الصلاة، و أنّ وجود أحد الضدّین مانع عن وجود الضدّ الآخر لو کان أقوی منه، فیرد علی هذا الاستصحاب: أنّ استصحاب عدم أحد الضدّین لا یثبت وجود الآخر، کما لا یثبت باستصحاب عدم الحرکة السکونُ و بالعکس، فباستصحاب عدم تحقّق المانع و القاطع، لا یثبت تحقّق الصلاة تامّةً و مصداقاً للمأمور به.

و أمّا استصحاب کونها بلا مانعٍ و قاطعٍ قبل ذلک، فهو إنّما یفید لو لم تشتمل الصلاة فی ابتدائها علی ما یحتمل مانعیّته أو قاطعیّته، و أمّا لو اشتملت فی الابتداء علیه، کما لو لبس فی أوّل الصلاة ما یحتمل مانعیّته، فلا حالة سابقة متیقّنة له حتّی تستصحب.

و أمّا استصحاب العدم الأزلی فقد عرفت ما فیه.

هذا کلّه بناءً علی أنّ معنی مانعیّة شی ء أو قاطعیّته لها هو ضدّیّته لها تکویناً، و لذلک نهی عنهما فی الصلاة، فإنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للمصالح و المفاسد فی

ص: 520

المأمور به و المنهیّ عنه، و لیست جُزافیّة؛ و إن لم تقیّد الصلاة بعدمهما شرعاً، کما اخترناه سابقاً، و لکنّ التحقیق أنّه لیس کذلک.

توضیحه: أنّ الصلاة عبارة عن عدّة أجزاء أوّلها التکبیر و آخرها التسلیم فهی عبارة عن مجموع تلک الأجزاء علی الترتیب الخاصّ المعتبر بینها، فلو لم تقیّد تلک الماهیّة أو أجزاؤها بعدم الموانع و القواطع، یتحقّق الامتثال بمجرّد الإتیان بها کذلک مع الشرائط المعتبرة فیها و إن اشتملت علی القهقهة و أمثالها، کلبس ما لا یؤکل لحمه أو التکلّم، فإنّه لا مضادّة تکوینیّة بین هذه و بین أجزاء الصلاة و لأنّ المفروض اشتمالها علی الأجزاء التی أوّلها التکبیر و آخرها التسلیم مع رعایة الترتیب الخاصّ المعتبر فیها، و الهیئة الصلاتیّة توجد بذلک؛ من غیر فرقٍ بین الإتیان بما یعدّ مانعاً أو قاطعاً و عدمه، و حینئذٍ فلا محیص عن الالتزام بأنّ الأجزاء مقیَّدة بعدم ما هو مانع حال الإتیان بها شرعاً، و أنّه یحصل فی المأمور به ضیق و قید مسبّب عن تقیید الأجزاء حال إیجادها بعدم ذلک المانع، لا بمعنی أنّ عدمه مؤثّر؛ لیرد علیه: بأنّه غیر معقول، بل بمعنی أنّ وجوده مُخلّ و مُفسد لها.

هذا فی الموانع.

و هکذا الکلام فی القاطع فإنّه لو لم یقیّد الهیئة الاتّصالیة المرتکزة فی الأذهان- التی هی أمر ممتدّ یعدّ أنّ المصلّی فیها بعد تکبیرة الإحرام إلی أن یفرغ منها بالتسلیم، حتّی فی السکنات المتخلّلة بین أجزاء الصلاة- بعدم القهقهة و نحوها، یلزم عدمُ بطلان الصلاة بها؛ و أنّها مثل غمض العین فیها و نحوه ممّا لا تفسد الصلاة بها، و وقوعُها صحیحةً؛ لأنّ الصحّة عبارة عن موافقة المأتیّ به للمأمور به، و هی حاصلة علی الفرض، فلو لم تشترط الصلاة بعدم زیادة جزء لزم صحّتها معها أیضاً، نظیر ما لو امر بإتیان الماء، فأتی به مرّتین، فالثانیة و إن کانت لغواً؛ لحصول الغرض بالأُولی، لکنّها لا تضُرّ و لا تُخِلّ بالامتثال الأوّل، فلو کانت مخلّة

ص: 521

بالامتثال بالأُولی لا بدّ أن یقیّد الاولی بعدم الثانیة، و ما نحن فیه کذلک.

فظهر ممّا ذکرناه: أنّ ما استظهرناه فی سابق الزمان، و تقدّم قبل ذلک فی کیفیّة مانعیّة المانع و قاطعیّة القاطع: من أنّ وجودهما مضادٌّ للصلاة تکویناً لأجل اقتضاء المصالح و المفاسد الواقعیّة ذلک، لا أنّها مقیّدة شرعاً بعدمهما، غیر مستقیم، بل الحقّ أنّ الصلاة مقیّدة شرعاً بعدمهما.

و ظهر أیضاً: أنّ ما أفاده المحقّق العراقی من التفصیل بین المانع و القاطع، و أنّ عدم المانع شرط للصلاة، و وجود القاطع مضادّ لها(1)، أیضاً غیر مستقیم.

إذا عرفت ذلک کلّه نقول: إنّ استصحاب عدم المانع و القاطع- عند الشکّ فی مانعیّة الزیادة أو قاطعیّتها- لا إشکال فیه؛ بأن یقال: هذه الصلاة لم یکن فیها مانع أو قاطع فی الابتداء، و شکّ فی تحقّقهما بزیادة جزء؛ للشکّ فی مانعیّتها، فالأصل عدم حدوث المانع و القاطع، و ینقّح به الموضوع للحکم الشرعی.

نعم بناءً علی الاحتمال الآخر، و هو أنّ المانع و القاطع مضادّان للصلاة تکویناً، لا أنّ الصلاة مقیّدة بعدمهما فی مقام الأمر و الحکم، فلا یجری هذا الاستصحاب؛ لأنّ استصحاب عدم أحد الضدّین لا یُثبت وجود الضدّ الآخر.

و أمّا استصحاب بقاء الهیئة الاتّصالیة الذی ذکره الشیخ الأعظم(2)، فالأمر فیه علی العکس ممّا ذکر، و أنّه بناءً علی المختار: من تقیید الصلاة أو أجزائها بعدم المانع و القاطع، فالاستصحاب المذکور لا یثبت أنّ هذه الصلاة ممّا لم یقع فیها المانع أو القاطع.

و أمّا بناءً علی الاحتمال الآخر؛ أی مضادّة المانع و القاطع للصلاة، و عدم تقییدها بعدمهما شرعاً، و أنّ وجودهما مُخِلّ و مُفسد و مُخرِّب للهیئة الاتّصالیّة، فمع


1- نهایة الأفکار 3: 411.
2- فرائد الاصول: 289 سطر 8.

ص: 522

الشکّ فی مانعیّة الزیادة لا إشکال فی استصحاب بقاء الهیئة الاتصالیّة؛ لعدم تقییدها بعدم المانع و القاطع حتّی یقال: إنّه لا یثبت ذلک.

و أمّا الإشکال علیه: بأنّ الهیئة الاتصالیّة من الامور المتدرّجة الوجود، و قد قرّر فی محلّه عدم جریان الاستصحاب فیها، ففیه ما سیجی ء- إن شاء اللَّه- فی باب الاستصحاب: أنّ الحقّ جریانه فیها أیضاً کالزمان.

و أمّا استصحاب الصحّة التأهلیّة فبیانه: أنّ الجزء السابق کالتکبیر، کان صالحاً و قابلًا و أهلًا للجزئیّة للصلاة- بانضمام سائر الأجزاء- یقیناً، و یشکّ فی بقائها، فتستصحب أهلیّته لذلک بعد الزیادة.

فیرد علیه أیضاً: أنّه لا یثبت أنّ هذه الصلاة هی المأمور بها.

و أورد علیه الشیخ الأعظم قدس سره: بأنّ المستصحب: إمّا هو صحّة مجموع الصلاة- أی الأجزاء- فهو لم یتحقّق بعدُ، و إمّا هو الأجزاء السابقة المأتیّ بها فهی غیر مُجدیة؛ لأنّ صحّتها ثابتة قطعاً- سواء قلنا: بأنّها عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلّق بها، أم ترتُّب الآثار علیها- لأنّها باقیة علی ما وقعت علیه علی وجهٍ لو انضمّ إلیها تمام ما یعتبر فی الکلّ حصل الکلّ(1). انتهی ملخّصه.

أقول: هذا الإشکال إنّما لو قلنا: بأنّ الأجزاء السابقة لم تقیّد بقید، و أنّها اخذت لا بشرط، فإنّها حینئذٍ صحیحة دائماً، غایة الأمر أنّ الاستدبار- مثلًا- مانعٌ عن ضمّ باقی الأجزاء اللّاحقة؛ لأنّ الأجزاء اللاحقة اخذت بشرط لا، و مقیّدة بعدم المانع.

و أمّا لو قلنا: بأنّ جمیع أجزاء الصلاة حتّی السابقة مقیّدة بعدم القهقهة- مثلًا- إلی آخر الصلاة- کما هو الظاهر- فلا یرد علیه ما ذکره قدس سره، و حینئذٍ لو شکّ فی قاطعیّة الزیادة أو مانعیّتها، فاستصحاب الصحّة التأهُّلیّة بمکان من الإمکان لو لا


1- فرائد الاصول: 289 سطر 23.

ص: 523

إشکال المُثبِتیّة.

فتلخّص: أنّ الأصل فی جانب الزیادة هو عدم البطلان.

مقتضی الروایات الواردة فی جانب الزیادة
اشارة

و أمّا الروایات الواردة فی المقام فمنها:

روایة أبی بصیر عن الصادق علیه السلام أنّه قال: (من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة)

(1).

و روی زرارة و بکیر ابنا أعین عن أبی جعفر علیه السلام قال: (إذا استیقن أنّه زاد فی صلاته المکتوبة لم یعتدّ بها، و استقبل صلاته استقبالًا إذا کان قد استیقن یقیناً)

(2)، و رواها الکلینی عن زرارة فی أبواب الرکوع بزیادة لفظة «رکعة»(3)، و غیرها من الأخبار مثل قوله علیه السلام:

(لا تقرأ فی المکتوبة بشی ء من العزائم، فإنّ السجود زیادة فی المکتوبة)

(4).

و الکلام هنا یقع فی مقامین:

الأوّل: فی بیان المراد من الزیادة المبطلة، و أنّها بِمَ تتحقّق.

الثانی: ملاحظة النسبة بین هذه الروایات و بین روایة

(لا تُعاد الصلاة إلّا من خمسة)

(5).


1- تهذیب الأحکام 2: 194/ 764، وسائل الشیعة 5: 332، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 19، الحدیث 2.
2- الکافی 3: 354/ 2.
3- الکافی 3: 348/ 3، وسائل الشیعة 5: 332، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 19، الحدیث 1.
4- الکافی 3: 318/ 6، وسائل الشیعة 4: 779، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 40، الحدیث 1.
5- الفقیه 1: 181/ 17، تهذیب الأحکام 2: 152/ 597، وسائل الشیعة 4: 934، کتاب الصلاة، أبواب الرکوع، الباب 10، الحدیث 5.

ص: 524

أمّا المقام الأوّل: فلا إشکال فی أنّه لا تتحقّق الزیادة فیما لو زاد أحد أجزاء الصلاة لا بعنوان الجزئیّة لها؛ و إن کان المزید من سنخ أجزاء المزید علیه، و حینئذٍ فهل یکفی فی صدقها و تحقّقها ما إذا قصد عنوان الجزئیّة للصلاة، و المزید من سنخ أجزائها کالقراءة و نحوها، أو لا یکفی ذلک، بل لا بدّ مضافاً إلی ذلک من صدق الصلاة علی الزائد کالرکعة و الرکعتین؟

فذهب شیخنا الاستاذ الحائری قدس سره إلی الأخیر، و أنّ المقدّر فی قوله:

(من زاد فی صلاته)

لفظ الصلاة، نظیر ما لو قیل: «زاد اللَّه فی عمرک»؛ حیث إنّه یصدق العمر علی المزید(1).

أقول: ما ذکره إنّما یصحّ فی البسائط، کالقیام و القعود و الزمان و نحوه، فإنّه لا بدّ فی صدق الزیادة من صدق عنوان المزید علیه علی الزائد، و لیس کذلک فی المرکّبات کالصلاة، فإنّه لا ریب فی صدق الزیادة فی الصلاة فیما لو أتی برکوع زائد بقصد الجزئیّة للصلاة، بل بعض المرکّبات لا یتوقّف صدق الزیادة فیها علی أن یکون الزائد من سنخ المزید علیه، کما لو زاد علی المعجون المرکّب من عدّة أجزاء شیئاً آخر من غیر سنخ أجزائها. نعم لا بدّ فی صدق الزیادة فی الصلاة من سنخیّة المزید لأجزائها مع قصد عنوان الجزئیّة.

و علی هذا فیشکل قوله علیه السلام:

(لا تقرأ فی المکتوبة بشی ء من العزائم، فإنّ السجود زیادة فی المکتوبة)

، فإنّه لا یقصد بهذا السجود عنوان الجزئیّة للصلاة، و قد عرفت توقّف صدق الزیادة علیه مع حکمه علیه السلام بأنّه زیادة فی المکتوبة.

و تفصّی شیخنا الحائری قدس سره عن هذا الإشکال: بأنّه یستفاد من قوله علیه السلام:

(فإنّ السجود زیادة فی المکتوبة)

أنّ الصلاة مقیّدة بعدمه بنحو الإطلاق، کما قیّدت


1- کتاب الصلاة، المحقق الحائری: 312.

ص: 525

بعدم القهقهة- مثلًا- و لهذا تصدق الزیادة علیه و لو مع عدم قصد الجزئیّة(1).

و فیه: أنّ مجرّد اعتبار عدم شی ء فی الصلاة لا یوجب صدق الزیادة علیه، کالقهقهة و نحوها من القواطع إذا صدرت من المصلّی لا بعنوان الجزئیّة للصلاة، بل الصلاة مقیّدة بعدمها و یصدق علیها عنوان القاطع.

و بالجملة: علی فرض تقیید الصلاة بعدم السجدة فهی مبطلة للصلاة لذلک، لا لصدق الزیادة علیها، و الإشکال إنّما هو فی حکمه علیه السلام علیها بأنّها زیادة.

فنقول: علی فرض صحّة هذه الروایة سنداً و العمل بها لا بدّ من الاقتصار علی موردها، و لا یتعدّی عنه- أی إلی غیر السجدة- لما عرفت من اعتبار قصد الجزئیّة للصلاة فی صدق الزیادة.

فتلخّص: أنّ قوله:

(من زاد ...)

إلی آخره، إنّما یشمل ما إذا کان المزیدُ من سنخ أجزاء المزید علیه و الإتیانُ به بقصد الجزئیّة للصلاة.

و فی قبال هذه الروایة

روایة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: (لا تُعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الرکوع، و السجود. ثمّ قال علیه السلام:

القراءة سنّة، و التشهّد سنّة، و لا تنقض السنّةُ الفریضة)

(2).

فقد یقال: إنّ هذه الروایة لا تشمل- بل لا یعقل شمولها- لصورة العمد فی جانب الزیادة و النقیصة؛ لمنافاتها لجعل الجزئیّة و الشرطیّة- کما هو المعروف- لکن لیس کذلک، فإنّه یمکن أن تکون هناک مصلحة فی الواقع ملزمة فی الصلاة التامّة الأجزاء و الشرائط، و مصلحة اخری ناقصة قائمة بالصلاة بدون السورة؛ بحیث لو أتی بالصلاة لا مع السورة یستوفی تلک المصلحة الناقصة، و لا یمکن معه استیفاء


1- کتاب الصلاة، المحقق الحائری: 313.
2- الفقیه 1: 225/ 8، تهذیب الأحکام 2: 152/ 597، وسائل الشیعة 4: 770، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 29، الحدیث 5.

ص: 526

المصلحة التامّة، و لا یُنافی ذلک ترتُّب العقاب علی ترک السورة عمداً، فلا إشکال عقلیّ فی شمول حدیث

(لا تُعاد)

لصورة العمد.

و لکنّ الإنصاف أنّه منصرفٌ عن صورة العمد.

و هل یشمل صورة الجهل بالموضوع المرکّب أو البسیط و الجهل بالحکم و نسیانه، أو لا؟

فیه خلاف: فذهب شیخنا الاستاذ- فی أبواب الخلل- إلی انصرافه عن تلک الصور و اختصاصها بالخلل الحاصل بالسهو و النسیان للموضوع، و مهّد لبیانه مقدّمتین:

الاولی: أنّ ظاهر

(لا تُعاد)

هی الصحّة الواقعیّة، و أنّها مصداق واقعیّ للصلاة المأمور بها، و یؤیّده الأخبار الواردة فی نسیان سورة الفاتحة حتّی رکع، و حکمه علیه السلام فیها بتمامیّة الصلاة(1)، و قد قرّرنا إمکان تخصیص الساهی بتکلیفٍ خاصّ بما لا مزید علیه.

الثانیة: أنّ الظاهر من الصحیحة: أنّ الحکم إنّما هو بعد الفراغ من الصلاة، و إن أبیْت ذلک فلا بدّ من تخصیصها بما إذا لم یمکن تدارک المتروک، کمن نسی القراءة، و لم یذکر حتّی رکع، فلا یصحّ الاستناد إلیها؛ لجواز الدخول فی الصلاة فیما لو شکّ فی جزئیّة شی ء للصلاة، بل إنّما تدل علی صحّة الصلاة فیما إذا دخل فی الصلاة، و قصد امتثال الأمر الواقعی باعتقاده، ثمّ تبیّن له الخلل بشی ء من الأجزاء و الشرائط، فالعامد الملتفت خارج عن مصبّ الروایة، کالشاکّ فی جزء من الأجزاء بأنحائه، فإنّ مرجع ذلک إلی قواعد اخر لا بدّ من مراعاتها حتّی یجوز الدخول فی الصلاة، فلا یجوز للشاکّ فی وجوب الفاتحة- مثلًا- الدخول فی الصلاة تارکاً لها


1- الکافی 3: 347، باب السهو فی القراءة، وسائل الشیعة 4: 769، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 29.

ص: 527

بقصد الامتثال مستدلّاً بقوله علیه السلام:

(لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة ...)

. نعم لو اعتقد عدم وجوب شی ء أو شرطیّته، أو کان ناسیاً لحکم شی ء من الجزئیّة و الشرطیّة، یمکن توهّم شمول الصحیحة له، و عدم وجوب الإعادة علیه.

لکن یدفعه ما ذکرناه فی المقدّمة الاولی: من أنّ ظاهر الصحیحة الحکم بصحّة العمل واقعاً، و مقتضاه عدم جزئیّة المتروک أو شرطیّته، و لا یعقل تقیّد الجزئیّة و الشرطیّة بالعلم بهما؛ بحیث لو علم بعدمهما بالجهل المرکّب خرج عن الجزئیّة و الشرطیّة.

نعم یمکن ذلک علی نحو التصویب الذی ادّعی الإجماع علی خلافه؛ بمعنی أنّ المجعول الواقعیّ هو المرکّب التامّ الثابت لکلّ واحد من المکلّفین، و لکن نسیان الحکم أو الغفلة عنه أو القطع بعدمه بالجهل المرکّب، یصیر سبباً لحدوث مصلحة فی الناقص علی حدّ المصلحة فی التامّ(1). انتهی.

أقول: لیس معنی

(لا تعاد)

أنّ الصلاة الناقصة تامّة، بل معناها و مفادها؛ بملاحظة قوله علیه السلام فی ذیلها:

(القراءة سُنّة، و التشهّد سُنّة، و لا تنقض السُّنّةُ الفریضةَ)

: أنّ هذا النقصان لا یوجب فساد الصلاة، و لا خللًا فیها یوجب الإعادة، لا أنّ صلاته تامّة لأجل عدم جزئیّة الجزء المتروک أو شرطیّته حال النسیان أو الجهل، فعدم وجوب الإعادة إنّما هو لأجل استیفائه المصلحة الناقصة، التی لا یمکن معه تدارک المصلحة التامّة، و حینئذٍ فلا إشکال عقلیّ فی المقام، و الشاکّ الملتفت إلی شکّه فی الابتداء یمکن له الشروع فی الصلاة؛ التفاتاً إلی حدیث الرفع أو الاستصحاب و نحوهما من القواعد و الاصول، فلو انکشف الخلاف بعد الصلاة أو بعد التجاوز عن المحلّ یشمله حدیث

(لا تعاد)

، و لیس المراد شروع الجاهل البسیط فی الصلاة اعتماداً علی حدیث

(لا تعاد)

؛ لیرد علیه ما ذکره.


1- کتاب الصلاة، المحقق الحائری: 315- 317.

ص: 528

فتلخّص: أنّه لا إشکال عقلیّ فی شمول الحدیث لجمیع الأقسام المذکورة.

و إن أراد أنّه منصرف عن صورة الجهل بالحکم أو الموضوع و نسیان الحکم عند العرف و العقلاء، فهو ممنوع.

نعم هو منصرف عن صورة العمد، مع أنّ ما ذکره و ادّعاه لیس انصرافاً، بل هو تقیید للحدیث، و هو یحتاج إلی دلیل عقلیّ أو نقلیّ، و قد عرفت عدم الدلیل العقلیّ، و کذلک النقلیّ؛ لأنّ الإجماع الذی نُقل فی المقام- علی عدم شمول الحدیث للجاهل- لم نتحقّقه، و لم تثبت حجّیّته، و مع عدم الدلیل لا وجه لتقیید إطلاق الحدیث.

ثمّ إنّه هل یشمل الحدیث الزیادة فی الصلاة عن سهو، أو أنّه یختصّ بالنقیصة فقط؟

وجهان ذکرهما الاستاذ الحائریّ قدس سره و قال:

إنّ المنشأ للوجه الأوّل: أنّ الزیادة مرجعها إلی النقیصة؛ لأنّ عدمها معتبر فی الصلاة، و إلّا لا یُعقل إیجابها للبطلان، فعلی هذا یقتضی العموم عدم الإعادة لکلّ نقصٍ حصل فی الصلاة؛ سواء کان بترک ما اعتبر وجوده، أم بإیجاد ما اعتبر ترکه.

و منشأ الوجه الثانی: انصرافه إلی ترک الوجودیّات، و أمّا العدمیّات المعتبرة فی الصلاة فلا یشملها، و هو الأقوی، و حینئذٍ فإن ثبت عمومٌ یدلّ علی إبطال الزیادة مطلقاً لم یکن الحدیث حاکماً علیه(1). انتهی.

و فیه: أنّ المتبادر من الروایة أنّ کلّ نقص حاصل من قِبَل هذه الخمسة فهو یوجب الإعادة؛ سواء کان بالزیادة أم النقیصة، و أنّ کلّ نقص حاصل بسبب غیرها من الأجزاء سهواً فهو لا یوجب الإعادة؛ سواء کان بالزیادة أم بالنقیصة، و عدم تصوّر الزیادة فی بعض هذه الخمسة فی الخارج، مثل الطهور و الوقت و القبلة، لا یوجب


1- درر الفوائد: 494.

ص: 529

عدم شمولها لزیادة ما یتصوّر فیه الزیادة کالرکوع و السجود.

هذا فی المقام الأوّل.

النسبة بین حدیثی (مَن زاد) و (لا تُعاد)

و أمّا الکلام فی المقام الثانی: و هو بیان النسبة بین حدیث

(من زاد فی صلاته ...)

إلی آخره، و بین حدیث

(لا تعاد)

، و قد عرفت أنّ خبر

(من زاد فی صلاته ...)

یشمل جمیع أقسام الزیادة عمداً و سهواً و جهلًا من الأرکان و غیرها، لکن لا یشمل أقسام النقیصة.

نعم قد یتوهّم عدم شموله للزیادة العمدیّة، و لکنّه واضح الفساد. إلّا أن روایة

(لا تُعاد)

- کما عرفت- منصرفة عن صورة العمد، و لکنّها تعمّ الزیادة و النقیصة معاً.

و حینئذٍ فالکلام: إمّا فی ملاحظة النسبة بین حدیث

(من زاد)

و بین الجملة المستثناة منه بعد خروج المستثنی؛ لأنّ له ظهوراً مستقلّاً مغایراً لظهور الجملة المشتملة علی الاستثناء.

و إمّا بینه و بین مجموع المستثنی و المستثنی منه؛ بدعوی أنّ للمجموع منهما ظهوراً واحداً:

فعلی الأوّل: فالنسبة بینهما العموم من وجه؛ لعدم شمول

(من زاد)

للنقیصة و شموله للعمد من الأرکان و غیرها.

و أمّا المستثنی منه فی

(لا تعاد)

مع لحاظ خروج المستثنی، فلا یشمل العمد و الأرکان الخمسة، و یشمل النقیصة، فیتعارضان فی الزیادة السهویّة غیر الخمسة، فإنّ مقتضی

(من زاد)

هو بطلان الصلاة بزیادة مثل القراءة و الأذکار الواجبة سهواً، و مقتضی خبر

(لا تعاد)

عدم بطلانها بذلک.

و علی الثانی: فإمّا أن نقول بشمول من زاد لصورة العمد، أو لا؛ إمّا لعدم تعقّل

ص: 530

الزیادة عمداً؛ لأنّها متقوّمة بقصد عنوان الجزئیّة بها، و لا یتأتّی ذلک القصد من المکلّف الملتفت، و إمّا لأنّ العبد الذی هو بصدد امتثال أمر المولی لا یصدر منه الزیادة فی المأمور به عمداً.

فإن قلنا بالأوّل- أی شمول

(من زاد)

لصورة العمد- فبینهما العموم من وجه أیضاً؛ لأنّ خبر

(لا تعاد)

- بناءً علی أنّ مجموعه جملة واحدة لها ظهور واحد- بمنزلة القضیّة المردّدة المحمول، و کأنّه علیه السلام قال: «الصلاة تُعاد فی صورتی الزیادة و النقیصة فی هذه الخمسة، و لا تعاد فی غیرها فیهما»، و خبر

(من زاد)

یشمل العمد و السهو علی الفرض فی الأرکان و غیرها، و لا یشمل النقیصة، فمورد افتراق خبر

(من زاد)

هو الزیادة العمدیّة، و مورد افتراق

(لا تعاد)

النقیصة مطلقاً، و یتصادقان و یتعارضان فی الزیادة السهویّة فی غیر الخمسة.

و أمّا لو قلنا بعدم شمول

(من زاد)

لصورة الزیادة العمدیّة، فبینهما العموم المطلق؛ لأنّ خبر

(لا تعاد)

أعمّ و أشمل من خبر

(من زاد)

؛ لعدم شمول خبر

(من زاد)

للنقیصة، و خبر

(لا تعاد)

یشملها أیضاً.

إذا عرفت ذلک نقول: بناءً علی أنّ بینهما العموم من وجه فقد ذهب الشیخ الأعظم قدس سره: إلی أنّ خبر

(لا تعاد)

حاکم علی حدیث

(من زاد)

(1)، و تبعه فی ذلک بعض من تأخّر عنه(2).

و قال شیخنا الحائری قدس سره: إنّه لا وجه لحکومته علیه(3).

و هذا هو الحقّ مع قطع النظر عن الجهات التی یشتمل علیها خبر

(لا تُعاد)


1- فرائد الاصول: 293 سطر 12.
2- أوثق الوسائل: 384 سطر 35 فوائد الاصول 4: 238- 239، نهایة الدرایة 2: 294 سطر 8.
3- درر الفوائد: 494.

ص: 531

لما سیأتی- إن شاء اللَّه تعالی- من أنّ الحکومة تفتقر إلی اللسان، و أنّه لا بدّ فیها من أن یکون الدلیل الحاکم ناظراً إلی الدلیل المحکوم، و شارحاً و مفسّراً له، و متصرّفاً فی موضوعه بالتوسعة أو التضییق، أو فی محموله، أو فی بعض الامور المتقدّمة أو المتأخّرة عنه، کالتصرّف فی علّته، و خبر

(لا تعاد)

و إن کان کذلک بالنسبة إلی أدلّة الأجزاء و الشرائط، و لکنّه لیس کذلک بالنسبة إلی حدیث

(من زاد فی صلاته)

، فإنّهما نظیر «أکرم العلماء، و لا تکرم الفسّاق»؛ فی أنّهما فی عرضٍ واحد و فی رتبة واحدة بالإثبات و النفی، فکأنّه علیه السلام قال: «أعِد الصلاة بالزیادة السهویّة»: «لا تُعدها بها فی مورد الاجتماع».

و لکن یشتمل خبر

(لا تعاد)

علی جهات یمکن أن یقال بتقدیمه أو حکومته علی حدیث

(من زاد)

لأجلها؛ من حیث التعلیل المذکور فی ذیلها، و هو

(أنّ السُّنّة لا تنقض الفریضة)

، و من حیث استثناء الخمسة، فإنّهما یوجبان قوّة ظهوره، فیقدّم علی خبر

(من زاد)

، بل یمکن أن یقال: إنّ خبر

(من زاد)

لیس إلّا مجرّد الحکم بالإعادة، و أمّا خبر

(لا تعاد)

فهو مشتمل علی علّة الحکم، ففیه تصرّف فی سلسلة العلل، و أنّ علّة الإعادة غیر متحقّقة فی غیر الخمسة، و حینئذٍ فلا یبعد أن یقال بتقدّم خبر

(لا تعاد)

علیه بملاحظة هذه الجهات، کما لا یبعد أن یقال: إنّه المتبادر عند العرف و العقلاء إذا عُرض الخبران علیهم، و سیأتی أنّ ملاک التعارض هو التنافی بین مدلولی الدلیلین عند العرف و العقلاء.

هذا، و لکن یشکل الحکم بتقدیم خبر

(لا تعاد)

؛ لاستلزامه التخصیص الأکثر- المستهجن- فی خبر

(من زاد)

، و عدم بقاء مورد له إلّا الرکوع و السجود سهواً، و أمّا العمد فهو قلیلٌ جدّاً، فلا بدّ أن یلتزم بتقدیر لفظة رکعة إلی من زاد فی صلواته رکعةً فی خبر

(من زاد)

، کما ذکره شیخنا الحائری قدس سره.

و یمکن أن یقال: حیث إنّه لم یذکر المتعلّق فی خبر

(من زاد)

، و احتمل أنّ

ص: 532

المقدّر لفظة «جزءاً» أو «رکناً» أو «رکعة»، فالقدر المتیقّن هو الأخیر، أو یتصرّف فی خبر

(لا تعاد)

إمّا بما نُسب إلی المشهور: من عدم شموله لصورة العمد و الجهل بالموضوع و الحکم و اختصاصه بالسهو الموضوعی أو نسیانه، و ما عداه فهو مشمول لخبر

(من زاد)

، و إمّا بأنّ حدیث

(من زاد)

نصٌّ فی مدلوله و مفاده، أو أنّ ظهوره قویّ، و خبر

(لا تعاد)

لیس کذلک حتّی أنکر بعضهم شموله للزیادة، لا للوجه العقلیّ المذکور، بل لأجل قرینیّة الخمسة المستثناة، و عدم تصوّر الزیادة فی بعضها، فیحمل الظاهر علی النصّ أو الأظهر عند التعارض بالعَرَض، فیمکن استناد المشهور إلیه لذلک.

هذا کلّه بالنسبة إلی خبر

(من زاد)

. و أمّا نسبة (لا تعاد) إلی خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام:

(إذا استیقن أنّه زاد فی صلاته المکتوبة استقبل صلاته استقبالًا)

، کما نقل «الوافی» عن الکلینی(1) و الشیخ 0 فی کتابیه بدون لفظة «رکعة»(2) و لکن نقلها فی «الوسائل» عن الکافی و الشیخ قدس سره بإضافة زیادة «رکعة»(3)، و کذلک المجلسیّ فی «مرآة العقول» فی باب السهو فی الرکوع(4)، و القدر المتیقّن الثابت هو زیادة الرکعة؛ بملاحظة اختلاف النسخ فی زیادة لفظة «رکعة» و إسقاطها، مع الاطمئنان بأنّها روایة واحدة، و بملاحظة أنّ احتمال النقیصة فی النسخ أقرب من احتمال الزیادة؛ لاحتیاجها إلی مئونة زائدة، مع أنّ الظاهر التفات الکلینی قدس سره و توجّهه إلی لفظة «الرکعة» فیها؛ و لذا ذکر الروایة فی باب زیادة الرکوع، فلا یصحّ الأخذ بإطلاقها فی النُّسخ التی اسقط


1- الوافی 8: 964/ 25.
2- تهذیب الأحکام 2: 194/ 763، الاستبصار 1: 376/ 1.
3- وسائل الشیعة 5: 332، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 19، الحدیث 1.
4- مرآة العقول 15: 187/ 3.

ص: 533

فیها لفظ «الرکعة»؛ لاحتیاجه إلی إثبات تعدّدهما، فلا حجّیّة لها علی إبطال الزیادة مطلقاً.

ثمّ لو فرضنا أنّها روایة مستقلّة مطلقة فهی لا تشمل صورة العمد، فتدلّ علی أنّه من زاد فی صلاته بغیر عمدٍ، و استیقن ذلک، فعلیه الإعادة و لو کان جاهلًا بسیطاً؛ اعتماداً علی القواعد و الاصول، و حینئذٍ بینه و بین خبر

(لا تعاد)

عموم من وجه، و یأتی فیه جمیع التفاصیل المتقدّمة فی مقام بیان النسبة بین خبر

(لا تعاد)

و بین حدیث

(من زاد)

، و ما تقدّم من علاج التعارض بینهما.

نعم ادُّعی الإجماع علی بطلان الصلاة بزیادة الرکن سهواً، فالعمد کذلک لو تمّ الإجماع.

ثمّ إنّ المیرزا النائینی قدس سره- بعد ما ذکر المناط فی تحقّق الزیادة و صدقها- قال: و لکن یمکن أن یقال: إنّ المقدار الذی یستفاد من قوله علیه السلام:

(إنّ السجود زیادة فی الفریضة)

: هو صدق الزیادة علی الفعل الذی لا یکون له حافظ وحدة، و لم یکن بنفسه من العناوین المستقلّة، و أمّا إذا کان المأتیّ به فی أثناء الصلاة من العناوین المستقلّة بنفسها، کما لو أتی المکلّف بصلاة اخری فی أثناء صلاة الظهر- مثلًا- فالظاهر أنّه لا یندرج فی التعلیل؛ لأنّ السجود و الرکوع المأتیّ بهما لصلاة اخری لا دخْل لهما فی صلاة الظهر، و لا یصدق علی ذلک أنّه زیادة فی صلاة الظهر.

و یؤیّد ذلک- بل یدلّ علیه- ما ورد فی بعض الأخبار: أنّه لو ضاق وقت صلاة الآیات، و خاف المکلّف لو أخّرها إلی أن یفرغ من الصلاة الیومیّة فوت وقتها، صلّی الآیات فی أثناء صلاة الیومیّة، و لا یجب علیه استئنافها بعد الفراغ من صلاة الآیات، بل یبنی علیها و یتمّها(1)، و لیس ذلک إلّا من جهة عدم عدّ ذلک زیادة فی


1- تهذیب الأحکام 3: 155/ 332 و 293/ 888، وسائل الشیعة 5: 147، کتاب الصلاة، أبواب صلاة الکسوف و الآیات، الباب 5، الحدیث 3 و 4.

ص: 534

صلاة الفریضة الیومیّة، و حینئذٍ فیمکن التعدّی عن مورد النصّ إلی عکس المسألة، و هو ما لو تضیّق وقت الیومیّة فی أثناء صلاة الآیات و خاف فوتها، فیصلّی الیومیّة فی أثناء صلاة الآیات، و لا تبطل بذلک؛ لأنّ بطلانها: إمّا لأجل الزیادة، و إمّا لأجل فوت الموالاة.

أمّا الزیادة فالمفروض عدم صدقها علی ما له عنوان مستقلّ، و أمّا فوت الموالاة فلا ضیرَ فیه إذا کان لأجل تحصیل واجب أهمّ، و علی هذا یبتنی جواز الإتیان بسجدتی السهو من صلاة فی أثناء صلاة اخری إذا سها المکلّف عنهما فی محلّهما، و تذکّر بعد ما شرع فی صلاة اخری(1). انتهی.

أقول: و فیه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ ما ادّعاه من أنّه إذا کان للزیادة عنوان مستقلّ فکذا، و إن لم یکن له عنوان مستقلّ فکذا، فهو مجرّد دعوی لا شاهد علیها، و التعلیل فی الروایة- بأنّ السجود زیادة فی الفریضة- لا یدلّ علی مدّعاه، فإنّ السجود لقراءة العزائم أیضاً له عنوان مستقلّ لا ارتباط له بالفریضة، و لیس من شئون الصلاة؛ لأنّ السجود أیضاً حافظ للوحدة، غایة الأمر وجوبه مسبّب عن قراءة العزیمة.

الثانی: لیس لسجدتی السهو عنوان مستقلّ، بل هما تبع للصلاة الاولی، فعلی ما ذکره لا بدّ من إبطالهما للصلاة التی وقعتا فیها.

الثالث: ما استدلّ به لما ذکره من الروایة فإنّها لیست هی کما ذکره، بل الروایات وردت فی عکس ما ذکره، و بعضها صریحة فی أنّه لو کان مشتغلًا بصلاة الآیات، و خاف فوت الیومیّة، یأتی بالیومیة فی أثناء صلاة الآیات، ثمّ یبنی علی ما مضی من صلاة الآیات، و حینئذٍ فلا یصحّ التعدّی منه إلی عکسه؛ لاحتمال أنّ ذلک إنّما هو لأجل خصوصیّة فی صلاة الآیات لیست فی غیرها.


1- فوائد الاصول 4: 242- 243.

ص: 535

التنبیه الثانی: هل تشمل أدلّة الأجزاء و الشرائط لحال العجز و الاضطرار؟
اشارة

لو علم بجزئیّة شی ء أو شرطیّته أو مانعیّته للصلاة، و شکّ فی أنّها بنحو الإطلاق حتّی فی حال العجز و الاضطرار، فیسقط الصلاة لو تعذّر الإتیان بالجزء أو الشرط، أو اضطرّ إلی إیجاد المانع أو القاطع، أو أنّها مختصّة بحال الاختیار، فیجب الإتیان بباقی الأجزاء و الشرائط عند عروض تلک الأعذار.

تحریر محلّ النزاع

و لا بدّ أوّلًا من تنقیح محطّ البحث و محل النقض و الإبرام، فنقول:

قد یفرض الإطلاق فی دلیل المرکّب و عدم الإطلاق فی دلیل الأجزاء، و قد یفرض العکس، و قد یفرض الإطلاق فی دلیل کلیهما، و قد یفرض عدم الإطلاق لهما.

أمّا الفرض الأوّل: فهو خارج عن محلّ الکلام، کما لو قیل: «الصلاة لا تُترک بحال»، فإنّ إطلاقه یرفع الشکّ فی المقام؛ لأنّ معنی الإطلاق هو أنّها مأمور بها سواء تمکّن الإتیان بجمیع أجزائها، أم لم یتمکّن من بعضها، و المفروض صدق الصلاة علی الفاقدة لهذا الجزء الغیر المقدور، بناءً علی القول بالأعمّ، فیجب الإتیان بها، أی بقیّة الأجزاء.

و کذلک الفرض الثانی: فإنّه أیضاً خارج عن محلّ الکلام؛ لأنّ إطلاق دلیل الجزء یرفع الشکّ مع إهمال دلیل المرکّب، فیسقط وجوب المرکّب؛ لعدم التمکّن من الجزء أو الشرط.

و أمّا الفرض الثالث: فقد یکون دلیل المرکّب حاکماً علی إطلاق دلیل الجزء،

ص: 536

مثل حکومة قوله:

(الصلاة لا تترک بحال)

علی نحو قوله:

(الرکوع فریضة، و السجود فریضة)

، و قد یکون بالعکس، و أنّ إطلاق دلیل الجزء حاکم علی إطلاق دلیل المرکّب، مثل حکومة

(لا صلاة إلّا بطهور)

(1) أو

(إلّا بفاتحة الکتاب)

(2)، أو

(من لم یقم صلبه)

(3) علی قوله:

(الصلاة لا تترک بحال)

، فضلًا عن مثل قوله تعالی: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ»(4) و نحوه؛ لنفی الأوّل موضوعَ الثانی.

فذکر المیرزا النائینی و العراقی 0: أنّ إطلاق أدلّة الأجزاء حاکم علی إطلاق أدلّة المرکّب نحو حکومة القرینة علی ذی القرینة، فإنّ تقدیم القرینة علی ذی القرینة لیس من قبیل تقدیم الأظهر علی الظاهر: بل لأجل حکومته علیه، و ما نحن فیه کذلک(5).

و فیه أوّلًا: أنّه قد تقدّم: أنّ الحکومة تحتاج إلی لسان خاصّ لیس فی القرینة، فلو فرض الشکّ، و اشتبهت القرینة مع ذیها، فلم یعلم أنّ «یرمی» فی «رأیت أسداً یرمی» قرینة علی إرادة الرجل الشجاع من «الأسد» أو العکس مع تساوی ظهورهما، فلا سبیل لنا فیه إلی تعیین القرینة؛ لتقدّم ظهورها علی الآخر. و هذا دلیل علی أنّ تقدّم القرینة لیس من باب الحکومة، بل الغالب فی مناط تقدیم القرینة علی ذیها هو الأظهریّة، فیحمل الظاهر علی الأظهر، کما فی «رأیت أسداً فی الحمّام».


1- الفقیه 1: 35/ 1، دعائم الإسلام 1: 100، وسائل الشیعة 1: 256، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.
2- عوالی اللآلی 1: 196/ 2 و 2: 218/ 13، مستدرک الوسائل 4: 158، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 1، الحدیث 5 و 8.
3- الفقیه 1: 180/ 16، وسائل الشیعة 4: 694، کتاب الصلاة، أبواب القیام، الباب 2، الحدیث 1 و 2.
4- الإسراء( 17): 78.
5- فوائد الاصول 4: 250، نهایة الأفکار 3: 447.

ص: 537

و ثانیاً: قیاس ما نحن فیه بمسألة القرینة وذی القرینة مع الفارق؛ للفرق بین المقیس و المقیس علیه، فإنّ القرینة متّصلة بذیها، بخلاف المفروض فیما نحن فیه.

و الحق ما تقدّم: من أنّه قد یکون دلیل الأجزاء حاکماً علی إطلاق دلیل المرکّب، و قد یعکس، فهذا الفرض أیضاً خارج عن محلّ الکلام هنا.

فالبحث و الکلام فی المقام متمحّض فیما لا إطلاق لواحدٍ من دلیلی المرکّب و الأجزاء و إهمالهما، أو مع إطلاقهما و عدم حکومة أحدهما علی الآخر.

و نقل المیرزا النائینی قدس سره عن الوحید البهبهانی رحمه الله: التفصیل بین ما إذا کانت الجزئیّة أو الشرطیّة مستفادة من قوله:

(لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب)

و

(لا صلاة إلّا بطهور)

، و بین المستفادة من مثل قوله:

(اسجد فی صلاتک)

أو

(لا تصلِّ فی الحریر)

، و أمثال ذلک من النواهی و الأوامر الغیریّة، ففی الأوّل یسقط الأمر بالمقیّد عند تعذُّر القید دون الثانی.

و وجّهه أوّلًا: بأنّ الأمر الغیریّ المتعلّق بالجزء أو الشرط مقصور بحالة التمکّن منهما؛ لاشتراط کلّ خطابٍ و تکلیف بالقدرة علی متعلّقه، فیسقط الأمر بالقید عند عدم التمکّن منه، و یبقی الأمر بالباقی الفاقد للقید علی حاله، و هذا بخلاف القیدیّة المستفادة من مثل قوله:

(لا صلاة إلّا بطهور)

أو

(بفاتحة الکتاب)

، فإنّه لم یتعلّق فیه أمر بالفاتحة و الطهور حتّی یشترط فیهما القدرة علیهما، بل إنّما استفید قیدیّة الطهور و الفاتحة بلسان الوضع لا التکلیف؛ لأنّ معناه لا تصحّ الصلاة بدون الفاتحة و الطهور، و لازم ذلک سقوط الأمر بالصلاة عند تعذّرهما أو تعذّر أحدهما؛ لعدم تمکّن المکلّف من إیجاد الصلاة الصحیحة.

ثمّ قال: هذا غایة ما یمکن أن یوجّه به کلامه قدس سره.

و أورد علیه أوّلًا: أنّ القدرة إنّما تعتبر فی الخطابات النفسیّة؛ لأنّها تتضمّن الطلب المولوی و البعث الفعلی نحو المتعلّق، فإنّ العقل یستقلّ بقبح تکلیف العاجز

ص: 538

فیها، و أمّا الخطابات الغیریّة المتعلّقة بالأجزاء و الشرائط، فیمکن أن یقال: إنّ مفادها لیس إلّا الإرشادَ و بیانَ دَخْل متعلّق الخطاب الغیریّ فی متعلّق الخطاب النفسی، ففی الحقیقة تکون لخطابات الغیریّة فی التکالیف و فی باب الوضع بمنزلة الأخبار؛ لا تتضمّن بعثاً و تحریکاً لإرادة المکلّف حتّی تقتضی القدرة علی المتعلّق.

و ثانیاً: لو سُلِّم أنّ الخطابات الغیریّة فی التکالیف متضمّنة للبعث و التحریک، فلا إشکال فی أنّه لیس فی آحاد الخطابات الغیریّة ملاک البعث المولویّ، و إلّا خرجت عن کونها غیریّة، بل ملاک البعث المولوی قائمٌ بالمجموع، فالقدرة أیضاً إنّما تعتبر فی المجموع، لا فی الآحاد، و تعذّر البعض یوجب سلب القدرة عن المجموع، و لازم ذلک سقوط الأمر بالمجموع، لا خصوص ذلک البعض(1). انتهی.

و تبعه المحقّق العراقی قدس سره(2) فی عدم الفرق بینهما.

أقول: یمکن أن یقال: إنّ نظر الوحید البهبهانی قدس سره إلی غیر ما ذکره من التوجیه لکلامه، فإنّ الظاهر أنّ منشأ تفصیله: هو أنّ فی مثل:

(لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب)

خصوصیّةً لیست فی مثل «اسجد فی صلاتک»، و هی أنّ لسان

(لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب)

لسان نفی موضوع الأمر النفسی مع عدم الفاتحة، و هو لسان الحکومة، بخلاف مثل

(اسجد فی صلاتک)

و نحوه، فإنّ الأوّل حاکم علی خبر

(لا تعاد)

، دون الثانی، فلیس الوجه للتفصیل الذی ذکره هو ما أفاده، فلا یرد علیه الإشکال المذکور.

ثمّ إنّ الإشکال الذی ذکره أوّلًا غیر صحیح؛ لما تقدّم: من أنّ الأوامر و النواهی مستعملة دائماً فی البعث و الزجر مطلقاً؛ نفسیّةً أو غیریّة، مولویّة أو إرشادیّة، و إنّما الاختلاف فی الأغراض و الدواعی، فإنّ الغرض من البعث و الزجر:


1- فوائد الاصول 4: 251- 253.
2- نهایة الأفکار 3: 446- 448.

ص: 539

إمّا محبوبیّة الفعل و مبغوضیّته الذی تعلّقا به بالذات، و إمّا لغرض الإرشاد إلی أنّ متعلّقه جزء أو شرط أو مانع، و علی أیّ تقدیرٍ هما مستعملان فی البعث و الزجر، فکما لا یمکن توجیه الأمر النفسی إلی العاجز، کذلک الأمر الغیری.

اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّ الهیئة فی الأمر الغیریّ مستعملة فی غیر البعث، و هو الإخبار، و هو کما تری.

فتلخّص من جمیع ما ذکر: أنّ محطّ البحث هو صورة عدم وجود الإطلاق فی دلیلی الأجزاء و المرکّب، أو وجوده فیهما مع عدم حکومة أحدهما علی الآخر، و لم یقم دلیل اجتهادیّ علی تقدیم أحدهما علی الآخر، مع قطع النظر عن علاج التعارض.

مقتضی البراءة العقلیّة

ثمّ إنّ المکلّف قد یکون عاجزاً فی ابتداء زمان التکلیف و البلوغ عن الإتیان بالمأمور به إلی آخر الوقت، و قد یطرأ عدم التمکّن بعد تمکّنه منه فی الابتداء.

و علی الثانی: إمّا أن یطرأ القدرة و العجز فی واقعة واحدة، کما لو یتمکّن المکلّف فی أوّل الوقت من فعل الصلاة تامّة الأجزاء و الشرائط، ثمّ طرأ العجز بعد ذلک.

و إمّا فی واقعتین، کما إذا کان قادراً علی ذلک فی الأمس، و طرأ العجز فی الیوم الحاضر.

فهل القاعدة تقتضی البراءة فی جمیع هذه الفروض و الأقسام، أو الاشتغال کذلک، أو التفصیل بینهما؟

الحقّ هو الأوّل: أمّا فی القسم الأوّل- و هو ما إذا لم یتمکّن فی أوّل الوقت- فللشکّ فی توجّه التکلیف بالصلاة التامّة، و کذلک القسم الثالث- أی فرض التمکّن

ص: 540

و العجز فی واقعتین- فإنّه فی أوّل الوقت شاکٌّ فی توجّه التکلیف بالباقی بعد العجز عن الصلاة التامّة؛ لأنّ لکلّ وقت من الأوقات الخمسة و کذلک لکلّ یوم تکلیفاً خاصّاً مستقلّاً.

و هذا ممّا لا کلام فیه.

و إنّما الکلام فی القسم الثانی، و هو المفروض تمکّنه فی ابتداء الظهر- مثلًا- علی الإتیان بالصلاة التامّة الأجزاء و الشرائط، ثمّ طرأ العجز عن بعض الأجزاء و الشرائط، و الحقّ فیه أیضاً البراءة؛ و ذلک فإنّ المکلّف و إن کان عالماً بتوجّه التکلیف بالتامّ فی أوّل الوقت المفروض تمکّنه فیه منه، و یعلم بعدمه عند العجز و عدم القدرة، و لکنّه یشکّ فی توجّه التکلیف بالناقص عند العجز، و لا یعلم به مع علمه بعدم تکلیفه بالتامّ للعجز، و یشکّ فی تکلیفه بالناقص عند العجز، و هو مجری البراءة.

و لکن قد یقال: إنّ هذا الفرض بمنزلة الشکّ فی القدرة، فکما یجب الاحتیاط فی صورة الشکّ فی القدرة علی الامتثال مع العلم بالتکلیف، فکذلک فی ما نحن فیه.

و یدفعه: أنّ ما نحن فیه عکس ذلک؛ لأنّ فی صورة الشکّ فی القدرة یعلم بالتکلیف، کالتکلیف بإنقاذ الغریق، و یشکّ فی القدرة علی الامتثال، و العقل یحکم فیه بوجوب الاحتیاط فیه و الاختبار، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ العجز و عدم القدرة علی امتثال التکلیف بالتامّ معلوم، و یشکّ فی التکلیف بالناقص المقدور، و أنّه غیر معلوم.

و أمّا ما أفاده فی «الدرر» فی وجه وجوب الإتیان بالناقص: من أنّه یعلم بتوجّه التکلیف إلیه، فإن لم یأتِ بالناقص المقدور لزم المخالفة القطعیّة(1).

ففیه: أنّه إن أراد بالتکلیف المعلوم: هو التکلیف بالتامّ فی صورة القدرة علیه


1- درر الفوائد: 498.

ص: 541

المعلوم تفصیلًا، فهو معلوم السقوط مع العجز عن التامّ، و التکلیف بالناقص المقدور مشکوک فیه.

و إن أراد العلم الإجمالی فلیس هنا علم إجمالیّ؛ لتلزم مخالفته القطعیّة.

فالحقّ: أنّه مجری البراءة العقلیّة عن وجوب الناقص؛ لأنّه شکّ فی التکلیف به.

مقتضی البراءة الشرعیّة
اشارة

و أمّا البراءة الشرعیّة المستندة إلی حدیث الرفع و نحوه، فهی أیضاً لا تفید فی إثبات التکلیف بالناقص، مع عدم الإطلاق فی دلیلی المرکّب و الأجزاء و إهمالهما، کالإجماع و نحوه، فإنّ غایة ما یتضمّنه حدیث الرفع هو رفع جزئیّة الجزء المتعذّر أو شرطیّة شرطه کذلک، و أمّا إثبات التکلیف بالباقی الناقص فلیس من شئون حدیث الرفع، و المفروض عدم الإطلاق فی دلیل المرکّب لیشمل صورة العجز عن الجزء؛ حتّی یتمسّک به لإثبات التکلیف بالباقی الناقص، فمقتضی البراءة الشرعیّة عدم وجوبه.

نعم لو ثبت الإطلاق فی دلیل المرکّب، أمکن التمسُّک به لإثبات وجوب الباقی بعد حکومة حدیث الرفع علی دلیل جزئیّة الجزء حین التعذّر، و لیس رفعها خلاف الامتنان أیضاً، بل رفع الجزئیّة حینئذٍ موافق للامتنان، و أمّا وضع الباقی فلیس مستنداً إلی حدیث الرفع؛ لیلزم منه خلاف المنّة.

و هذا نظیر رفع الحرج فی حدیث عبد الأعلی فیمن عثر، فوقع ظفره، فجعل فی إصبعه مرارة؛ بقوله علیه السلام:

(یُعرف هذا و أشباهه من کتاب اللَّه عزّ و جلّ «ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(1) امسح علیه)

(2)، فإنّ الظاهر أنّ المراد هو الاستناد


1- الحج( 22): 78.
2- الکافی 3: 33/ 4، تهذیب الأحکام 1: 363/ 1097، الاستبصار 1: 77/ 3، وسائل الشیعة 1: 327، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 5.

ص: 542

و الإحالة علی قوله تعالی: «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»(1)، لا إلی نفی الحرج، فإنّ آیة نفی الحرج لا ترفع إلّا وجوب المسح علی البشرة، و لا تتضمّن وجوب المسح علی المرارة، بل هو مستند إلی إطلاق آیة «وَ امْسَحُوا».

فما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره- من أنّه علیه السلام أحال معرفة ذلک إلی آیة نفی الحرج(2)- ممنوع. و لو استشکل علی الاستدلال برفع «ما اضطُرّوا إلیه» بما أشرنا إلیه سابقاً: من أنّ المضطرّ إلیه هو الترک لا الفعل، فهو إنّما یرد بالنسبة إلی الجزء و الشرط المتعذّرین، لا بالنسبة إلی المانع و القاطع، مضافاً إلی شمول «ما لا یطیقون» للجمیع.

التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء

و ربّما یتمسّک لإثبات وجوب الباقی الفاقد للجزء أو الشرط المتعذّرین بالاستصحاب، و قرّر بوجوه لا یخلو جمیعها عن الإشکال:

الأوّل: استصحاب أصل الوجوب الجامع بین النفسی و الغیری بعد تعذّر الجزء أو الشرط، فإنّ الوجوب کان متیقّناً قبل عروض العجز عن الجزء، و بعد طروّه و إن علم بارتفاع هذا الفرد من الوجوب الغیریّ المتعلّق بالباقی، لکن یشکّ فی حدوث وجوب نفسیّ آخر للباقی مقارناً لارتفاع الأوّل، فیستصحب أصل الوجوب الجامع مع قطع النظر عن کونه نفسیّاً أو غیریّاً، فیجب الإتیان بالباقی(3).

الثانی: استصحاب بقاء الوجوب الضمنی المتعلّق بالباقی؛ للعلم به قبل


1- المائدة( 5): 6.
2- فرائد الاصول: 296 سطر 21.
3- انظر فرائد الاصول: 294 سطر 6، و کفایة الاصول: 420، و نهایة الأفکار 3: 449.

ص: 543

عروض التعذّر فی ضمن وجوب الکلّ، و هو و إن ارتفع قطعاً بارتفاع الوجوب النفسی المتعلّق بالکلّ بعد عروض التعذّر، لکن یحتمل حدوث وجوب نفسیّ آخر متعلّق بالباقی حین ارتفاع الأوّل، و المراد استصحاب أصل الوجوب، لا الوجوب النفسی الخاصّ(1).

و لکن یرد علی هذین الوجهین من الاستصحاب ما تقدّم سابقاً: من أنّه یعتبر فی الاستصحابات الموضوعیّة ترتُّب أثرٍ شرعیٍّ علی المستصحب، أو کون المستصحب نفسه حکماً شرعیّاً، و الجامع بین الوجوب النفسی و الغیری أو الضمنی و النفسی لیس کذلک، فإنّه لیس أمراً مجعولًا شرعیّاً؛ لأنّ المجعول هو الوجوب النفسی أو الغیری، لا الکلّی الجامع بینهما، فإنّه أمر انتزاعیّ منتزع من أفراده المجعولة، و لا یترتّب علیه أیضاً أثر شرعیّ، مضافاً إلی أنّ الجامع الحقیقیّ بین المعانی الحرفیّة غیر معقول- کما حُقّق فی محلّه- بل الجامع بینها معنیً عرضیّ اسمیّ منتزع من هذا و ذاک.

مع أنّه علی فرض تسلیم ثبوت الوجوب الغیریّ للأجزاء، فهو لکلّ واحدٍ من أجزاء المرکّب، لا لمجموع الأجزاء؛ لتوقّف المرکّب علی کلّ واحدٍ منها، فلیس لمجموع هذه الأجزاء وجوب غیریّ حتّی یستصحب، و أمّا استصحاب وجوب هذا و ذاک فهو مقطوع الارتفاع، و المراد إثبات الوجوب النفسی للباقی.

الثالث: استصحاب شخص الوجوب النفسی المتعلّق بالصلاة- مثلًا- بدعوی أنّ الموضوع- أی الأجزاء العشرة- و إن لم یکن باقیاً عقلًا بتعذّر بعض الأجزاء، لکنّه باقٍ عرفاً، فیقال: إنّ هذه الأجزاء التسعة هی التی تعلّق بها الوجوب، فالأصل بقاؤه؛ للشکّ فیه من جهة احتمال دخالة الجزء المتعذّر فی الوجوب، کما


1- انظر نهایة الأفکار 3: 449.

ص: 544

هو الشأن فی جمیع موارد الاستصحابات، کما فی استصحاب عدالة زید(1).

و فیه: أنّ القضیّة المتیقّنة و الموضوع فی مثل استصحاب العدالة هو الهویّة الشخصیّة الخارجیّة، و هی باقیة حقیقةً فی ظرف الشکّ، و إنّما الشکّ لأجل زوال حالةٍ احتمل دخالتها فیه، و إلّا فالموضوع لم یتبدّل حقیقةً، بخلاف العناوین و المفاهیم الکلّیّة، فإنّ عنوان الفرس- مثلًا- بقید أنّه عربیّ یُغایر الفرس مع قید الأعجمی- مثلًا- لعدم انطباق أحدهما علی الآخر، و لذا لو باعه کذلک، فأقبضه ما لیس فیه هذا القید، فإنّه لا یوجب الخیار مع صحة البیع، بخلاف ما لو باع الفرس الخارجی بشرط العربیّة، فانکشف کونه عجمیّاً، فإنّ له الخیار؛ لبقاء المبیع و صدقه، و إنّما المتخلّف شرطه و قیده، بخلاف الأوّل، و لذلک یکون جمیع قیود العناوین الکلّیّة مقوّمات.

و بالجملة: فرق بین العناوین الکلّیة و بین الهویّات الشخصیّة الخارجیّة، و ما نحن فیه من قبیل الأوّل، فالصلاة بقید أنّها مع السورة تغایر الصلاة بدونها عقلًا و عرفاً، و المعلوم وجوبه هو الأوّل، و المشکوک فیه هو الثانی، فلا تتّحد القضیّة المتیقّنة مع المشکوکة.

مضافاً إلی أنّ جریان الاستصحاب فی مثل عدالة زید أو کُرّیّة الماء أو نجاسة الماء المتغیّر بعد زوال التغیّر بنفسه، إنّما هو لأجل احتمال عدم دَخْل الصفة الزائلة- أی التغیّر فی المثال الأخیر- فی البقاء و دخلها فی الحدوث فقط، و لهذا لا إشکال فی جریان الاستصحاب فیها، بخلاف ما نحن فیه؛ لأنّ الإرادة کانت متعلّقة بعشرة أجزاء- مثلًا- و مع تعذُّر بعضها لا بقاء لها بشخصها، فهی مقطوعة الارتفاع، و المحتمل هو حدوث حکم آخر للباقی، فهذا الاستصحاب من قبیل استصحاب القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الکلّیّ، لا القسم الأوّل.


1- انظر نهایة الدرایة 2: 297 سطر 19.

ص: 545

الرابع: أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة المرکّبة من الأجزاء المتعدّدة منبسط علی جمیع أجزائها، فإذا تعذّر بعضها یشکّ فی بقاء الوجوب المتعلّق بالباقی و عدمه و سقوطه رأساً، فیستصحب، و لا یحتاج حینئذٍ إلی دعوی التسامح فی بقاء الوجوب، و لا فی بقاء الموضوع؛ لأنّ المقصود هو استصحاب نفس الوجوب المتعلّق بالباقی بالانبساط حقیقةً، و بقاء الموضوع أیضاً حقیقة، و إنّما احتمل ارتفاع وجوب الباقی بارتفاع وجوب الجزء المتعذّر(1).

و فیه: أوّلًا: أنّ القول بانبساط الوجوب علی الأجزاء لا یرجع إلی معنیً محصّل صحیح؛ لأنّه إن ارید منه: أنّ الأمر المتعلّق بالطبیعة یدعو إلی الأجزاء الکثیرة فهو صحیح، فإنّ المطلوب الملحوظ أمر وحدانیّ؛ أی الأجزاء فی لحاظ الوحدة، و الملحوظ- أی ما تعلّق به الأمر- و إن کان هو الصلاة لا الأجزاء، لکن لیست حقیقة الصلاة إلّا عبارة عن تلک الأجزاء، فالأمر المتعلّق بالصلاة یدعو إلی أجزائها، و حینئذٍ فلا معنی للاستصحاب المذکور؛ لأنّه لیس هنا إلّا أمر واحد و وجوب واحد متعلّق بأمر واحد مرکّب، ینعدم بانعدام کلّ واحد من أجزائه، و لا یعقل دعوة الأمر بالکلّ إلی الباقی من الأجزاء بعد تعذّر بعضها، و لیس هنا أوامر متعدّدة و وجوبات عدیدة بعدد الأجزاء، فإنّ الأمر لا یدعو إلّا إلی ما تعلّق به، و هو المرکّب، و لا یعقل دعوته إلی غیر ما تعلّق به، و حینئذٍ فالتکلیف الأوّل مرتفع قطعاً بتعذّر الجزء، و المحتمل حدوث تکلیف آخر متعلّق بالباقی، فهو من قبیل القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی.

و من هنا یظهر ما فی قیاس المحقّق العراقی قدس سره ما نحن فیه بالبیاض الشدید؛ حیث إنّه یمکن استصحاب بقاء شخصه مع زوال بعض مراتبه؛ للفرق بینهما(2)؛


1- انظر فوائد الاصول 4: 559- 560.
2- نهایة الأفکار 3: 451- 452.

ص: 546

حیث إنّ شخص البیاض موجود فی الخارج بجمیع مراتبه مع تبدّلها، و الإرادة و البعث و الطلب لیست کذلک إذا تعلّقت بالمجموع، فإنّها تنتفی بانتفاء بعض المجموع قطعاً.

و إن ارید الانبساط الحقیقی، فانبساط الإرادة علی الأجزاء تابع للإرادة المتعلّقة بالمجموع، و یدور معها وجوداً و عدماً، و مع عدمها و انتفائها تنتفی الإرادة المنبسطة علی الأجزاء؛ لعدم استقلالها، فلا یعقل انبساط الإرادة علی الأجزاء مع انتفاء هذه الإرادة.

هذا کلّه فی مقتضی الاصول.

مقتضی قاعدة المیسور
اشارة

و أمّا قاعدة المیسور المستندة إلی النبویّ و العلویّین المرویّات فی عوالی اللآلی عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم:

(إذا أمرتکم بشی ء فَأْتوا منه ما استطعتم)

(1)،

و عن علیٍّ علیه السلام: (المیسور لا یسقط بالمعسور)

و

(ما لا یُدرک کلّه لا یُترک کلّه)

(2)، فهذه الروایات ضعیفة السند، و لکن ذکر الشیخ قدس سره و غیره: أنّ ضعفها منجبر بعمل الأصحاب بها(3).

و فیه: أنّ عملهم بها غیر ثابت، و أمّا حکمهم فی باب الصلاة فلم یُعلم استنادهم فیه إلی هذه الأخبار، فلعلّه لأجل مُسلَّمیّة ذلک عندهم فی الصلاة؛ لأنّها لا تترک بحالٍ، و لذا ذکر النراقی قدس سره: أنّه لم یثبت تمسُّک متقدّمی الأصحاب بها(4).


1- عوالی اللآلی 4: 58/ 206.
2- عوالی اللآلی 4: 58/ 205 و 207.
3- فرائد الاصول: 294 سطر 16، نهایة الأفکار 3: 455، درر الفوائد: 500.
4- عوائد الأیّام: 262.

ص: 547

و بالجملة: لم یثبت حجّیّة تلک الروایات.

و أمّا الکلام فی دلالتها:

أمّا الاولی: فمع قطع النظر عن صدرها الذی نقله فی «الکفایة»(1)، فلا إشکال فی أنّ لفظ الشی ء مطلق یعمّ الکلّی ذات الأفراد و الکلّ ذات الأجزاء، و لکن قوله:

(فأتوا منه)

هل یصلح قرینة علی اختصاصه بالمرکّب ذی الأجزاء، و عدم شموله للکلّی ذی الأفراد، لأجل ظهور کلمة «من» فی التبعیض الذی لا یصدق إلّا فی المرکّب ذی الأجزاء؟

و الحقّ إمکان الاستدلال بها لما نحن فیه مع قطع النظر عن صدرها؛ لأنّها إمّا مختصّة بالمرکّب ذی الأجزاء، کما فی ما نحن فیه، أو یعمّه و الکلّی ذا الأفراد؛ لعدم احتمال اختصاصه بالکلّی ذی الأفراد، فإنّه لیس معنی کون لفظة «من» للتبعیض أنّها مستعملة فیه بالمعنی الاسمیّ؛ لیلزم التجوّز فی استعمالها فی إرادة بعض أفراد الکلّی، کما لو قیل: «إذا أمرتکم بالعتق فأتوا منه ما استطعتم»، أو «إنّ الحوالة من البیع» و نحو ذلک؛ باعتبار إرادة معنیً آخر مصحّح لاستعمال لفظة «منه» فیه، کاعتبار تقطیع عدّة من أفراد الکلّی- أی الطبیعة- أو أجزاء المرکّب، بل هی ظاهرة فی إرادة بعض أجزاء المرکّب- أی الکلّ- و لا أقلّ من إرادة الأعمّ منه و من الکلّی ذی الأفراد، لکنّه مع قطع النظر عن صدرها. و أمّا بملاحظة صدرها؛ و هو

ما رُوی منْ أنّه خطب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم، فقال: (إنّ اللَّه کتب علیکم الحجّ).

فقام عکاشة- و رُوی سراقة بن مالک- فقال: أ فی کلّ عام یا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم؟

فأعرض عنه حتّی عاد مرّتین أو ثلاثاً.

فقال صلی الله علیه و آله و سلم: (ویحک و ما یُؤمنک أن أقول: نعم، و اللَّه لو قلت: نعم، لوجبت،


1- کفایة الاصول: 421.

ص: 548

و لو وجبت ما استطعتم، و لو ترکتم لکفرتم، فاترکونی ما ترکتکم، فإنّما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم و اختلافهم علی أنبیائهم، فإذا أمرتکم بشی ءٍ فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهیتکم عن شی ء فاجتنبوه)

(1)، فهو قرینة علی أنّ المراد هو الکلّی ذی الأفراد، فسیاق الروایة یدلّ علی عدم إرادة الکلّ ذی الأجزاء.

و دعوی: أنّ المورد لا یکون مخصِّصاً، فلا یوجب تخصیص الروایة بالکلّی ذی الأفراد فقط و عدم شموله للکلّ ذی الأجزاء.

مدفوعة: بأنّه إنّما یصحّ فیما إذا لم یکن المورد قرینة علی الاختصاص، کما فی

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

، فإنّ صدره الوارد فی مورد خاصّ- و هو الوضوء- لا یوجب تخصیصَه به و عدم استفادة الکبری الکلّیّة منه، و لکن ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ إعراض النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم أوّلًا و ثانیاً عن جواب السائل، ثمّ قوله:

(إذا أمرتکم)

ظاهر فی أنّه لمکان حکم العقل بکفایة الإتیان بفردٍ واحدٍ- من الطبیعة المأمور بها- فی تحقّق الامتثال، و عدم وجوب الإتیان بمصداقٍ آخر منها؛ لعدم الحجّة علیه، فوجوب باقی الأفراد و المصادیق یحتاج إلی البیان و الدلیل، و هذا الحکم العقلیّ إنّما هو فی الکلّی ذی الأفراد، و أمّا الکلّ ذو الأجزاء فلیس فیه هذا الحکم العقلیّ.

فتلخّص: أنّ دعوی: أنّ المراد هو الأعمّ و وجوب الإتیان بکلّ ما یستطاع من أفراد الکلّی و أجزاء الکلّ، خلاف سیاق الروایة.

و أمّا قوله علیه السلام:

(المیسور لا یسقط بالمعسور)

ففیه أربعة احتمالات بحسب بدْو النظر:

الأوّل: أنّ الطبائع المیسورة المتعلَّقة للأمر لا تسقط بالمعسورة منها.

الثانی: أنّ الحکم المیسور لا یسقط عن الذمّة بالحکم المعسور.


1- مجمع البیان 3: 386 ذیل الآیة 101 من سورة المائدة، بحار الأنوار 22: 31 الباب 37.

ص: 549

الثالث: أنّ الحکم لا یسقط عن موضوعه.

الرابع: أنّ الموضوع المیسور لا یسقط عن الموضوعیّة بالمعسور منه.

و المتعیّن هو الاحتمال الأوّل.

توضیح ذلک: أنّ السقوط یتوقّف فی صدقه علی أمرین: أحدهما ثبوته أوّلًا، و ثانیهما أنّ السقوط إنّما یستعمل فی مکان مرتفع و لو اعتباراً.

و حینئذٍ نقول: إنّ للطبیعة بعد تعلّق الأمر بها نحو ثبوت فی الذمّة و استقرار فی العهدة عرفاً، فیقال: «إنّ الصلاة- مثلًا- علی عهدتی»، قال تعالی: «وَ لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ»(1)، فکأنّه دَینٌ ثابت علی عهدة الناس، و ثبوتها فی الذمّة هو عین ثبوت أجزائها فیها، و اعتبرت الذمّة مکاناً مرتفعاً، و حینئذٍ لو ارید أنّ المیسور من الطبیعة المأمور بها لا تسقط عن الذمّة بالمعسور منها، لا یلزم منه خلافُ ظاهرٍ أصلًا، و لیس المراد ثبوته بالأمر الأوّل؛ لأنّه مرتفع قطعاً بتعذُّر بعض أجزاء الطبیعة، بل المراد کشف ذلک عن تعلّق حکم آخر بالمیسور واقعاً بعد تعذُّر الجزء، أو لأنّ ذلک إخبارٌ فی مقام الإنشاء؛ أی إنشاء ثبوته فی العهدة.

فحاصل المعنی: أنّ الحکم الأوّل المتعلّق بالمجموع، و إن انتفی بتعذُّر الجزء، و سقطت الطبیعة بمجموع أجزائها عن الذمّة، لکن المیسور منها- و هو باقی الأجزاء- باق فی الذمّة بتعلّق أمرٍ آخر بها مقارناً لارتفاع الأوّل.

و أمّا الاحتمالات الثلاثة الاخر فهی خلاف الظاهر:

أمّا الاحتمال الثانی: فلاحتیاجه إلی تقدیر لفظ «الحکم»، مضافاً إلی أنّ حکم المیسور تبع لحکم الکلّ، و المفروض انتفاء حکم الکلّ، فیتبعه حکم الباقی.

و منه یظهر مرجوحیّة الاحتمال الثالث؛ لما ذکر فی الاحتمال الثانی، و کذلک الاحتمال الرابع، مضافاً إلی أنّه یعتبر ثبوت الحکم علی الموضوع و سقوطه عنه، لا


1- آل عمران( 3): 97.

ص: 550

العکس.

ثمّ إنّه لا یعتبر العهدة و الذمّة فی المندوبات عرفاً، بل تختص بالواجبات، و حینئذٍ فالروایة لا تعمّ المندوبات، فیستفاد الوجوب منهم.

و لا یرد علیه: أنّه إن ارید منها مطلق الرجحان فلا تفید المطلوب من وجوب الباقی، و إن ارید منها الوجوب لزم وجوب المندوبات.

و ذکر المحقّق الخراسانی و العراقی و المیرزا النائینی قدس سرهم: أنّ معناها أنّ المیسور بما له من الحکم لا یسقط بالمعسور(1)، و جعله بعضهم(2) نظیر قوله علیه السلام:

(لا ضرر و لا ضرار)

(3)، و بعضهم نظیر الاستصحاب، فکما أنّ قوله علیه السلام:

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

(4) یعمّ الواجبات و المستحبّات، کذلک قوله:

(المیسور لا یسقط بالمعسور)

یعمّهما(5).

و أشار الشیخ الأعظم قدس سره إلی إشکال علی ذلک و الجواب عنه.

و حاصل الإشکال: أنّه فرق بین الاستصحاب و بین ما نحن فیه؛ لأنّ مفاد

(لا تنقض)

هو الحکم بعدم نقض ما تعلّق به الیقین سابقاً، و بترتیب الآثار أو البناء علی البقاء، فیشمل الواجب و المندوب، بخلاف ما نحن فیه الذی فرض فیه ثبوت حکم وحدانیّ لطبیعة وحدانیّة، فلا یحتمل بقاؤه بعد تعذُّر بعض الأجزاء؛ لامتناع بقاء الحکم المتعلّق بالمرکّب بتعذّر جزئه؛ لانتفاء المرکّب بتعذّر جزئه، و إنّما


1- کفایة الاصول: 421، فوائد الاصول 4: 255، نهایة الأفکار 3: 457.
2- کفایة الاصول: 421.
3- الکافی 5: 293/ 6، وسائل الشیعة 12: 364، کتاب التجارة، أبواب الخیار، الباب 17، الحدیث 4.
4- الکافی 3: 351/ 3، وسائل الشیعة 5: 321، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 10، الحدیث 3.
5- فوائد الاصول 4: 255، نهایة الأفکار 3: 457.

ص: 551

المحتمل حدوث حکم آخر متعلّق بالباقی، فلا یصحّ أن یقال: لا یسقط الحکم المتعلّق بالمجموع بتعذّر بعض الأجزاء، فإنّ الحکم الأوّل قد سقط قطعاً.

و حاصل جوابه قدس سره عن هذا الإشکال: هو أنّه لا فرق بین الوجوب النفسی و الغیری لدی العرف و العقلاء، فیعبّرون عن وجوب باقی الأجزاء: أنّ وجوبها باقٍ، و عن عدمه: بأنّه مرتفع کما فی الاستصحاب(1).

و زاد استاذنا الحائری قدس سره: أنّ الموضوع بعد تعذّر الجزء أیضاً باقٍ فی نظر العرف، فلا یفرّقون بین الصلاة مع السورة، و بینها مع عدمها، فوجوب فاقدة السورة یُعدّ بقاء وجوب واجدها عرفاً(2).

أقول: کیف یحکم العرف بذلک، مع حکمهم بأنّ وجوب الکلّ نفسیّ و وجوب الأجزاء غیریّ؟! مع أنّ هذا لیس ممّا یرجع فیه إلی العرف، بل الموارد التی یرجع فیها إلی العرف موارد خاصّة ینزّل بعض الإطلاقات علیها، مثل «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(3) و نحوه.

نعم یمکن أن یقال: إنّ قوله:

(المیسور لا یسقط بالمعسور)

إمّا إخبارٌ عن أنّ تعذّر الجزء لا یوجب سقوط وجوب الباقی باعتبار تعلّق حکم آخر به، و إمّا إنشاء للحکم بالوجوب له، و علی أیّ تقدیر فلو اعتبر فی المندوبات أیضاً عهدة کالواجبات، مع عدم إرادة أنّ المیسور لا یسقط بما له من الحکم- إن واجباً فبنحو الوجوب، و إن ندباً فبنحو الاستحباب- لا بدّ أن یراد منه مطلق الرجحان، فلا یدلّ حینئذٍ علی وجوب باقی الأجزاء.

و أمّا قوله علیه السلام:

(ما لا یُدرک کلّه لا یُترک کلّه)

فلا ریب فی شمول الموصول


1- فرائد الاصول: 294 سطر 22.
2- درر الفوائد: 499.
3- البقرة( 2): 275.

ص: 552

لجمیع المرکّبات الواجبة و المستحبّة، و إنّما الإشکال فی شموله للطبائع الکلّیّة ذات الأفراد، و الظاهر عدم شموله لها؛ لأنّ إرادتها تفتقر إلی عنایة زائدة.

و أمّا ما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره: من عدم شمول الموصول للمندوبات بقرینة ظهور جملة

(لا یترک)

فی الوجوب، کما أنّها قرینة علی عدم إرادة المباحات و المکروهات(1).

ففیه: أنّ عدم إرادة المباحات و المکروهات و المحرّمات إنّما هو بقرینة جملة

(ما لا یدرک)

؛ لأنّ الدرک إنّما یطلق فیما کان للفعل مطلوبیّة ذاتیّة أو مصلحة، فإذا کان الإنسان بصدد الإتیان به فمنعه عنه مانع، یقال: إنّه لم یدرک ذلک، و لا یطلق ذلک عند عدم الإتیان بالمباح و المکروه و الحرام، فهذه الثلاثة خارجة عن موضوع القضیّة؛ أی جملة

(ما لا یدرک)

، لا بقرینة «لا یترک»، فلا إشکال فی شمول الموصول للمندوبات أیضاً.

نعم قوله علیه السلام:

(لا یترک)

ظاهر فی الإلزام، فیدور الأمر بین الأخذ بظهور الصدر و طرح ظهور الذیل فی الوجوب، و بین العکس و إخراج المندوبات عن الموصول، و لیس هنا ضابطٌ کلّیّ فی تقدیم أحدهما علی الآخر، بل الموارد مختلفة، فقد یُرجَّح ظهور الصدر علی ظهور الذیل، و قد یعکس، و لکن الغالب أنّ الصدر قرینة علی التصرّف فی الذیل؛ لأنّه دفعٌ، و عکسه رفعٌ، و الدفع أهون من الرفع.

و الحاصل: أنّه یمکن أن یعمّ الموصولُ المندوبات.

فالإنصاف: عدم ثبوت إرادة الوجوب منها، و لا أقلّ من احتمال إرادة مطلق الرجحان.

ثمّ إنّ فی لفظ «الکلّ» فی الموضعین احتمالات بحسب بدْو النظر:


1- فرائد الاصول: 295 سطر 12.

ص: 553

الأوّل: أنّ المراد کلّ واحد من أجزاء المرکّب بنحو الاستغراق فی الموضعین.

الثانی: أنّ المراد منه مجموع الأجزاء فیهما.

الثالث: أنّ المراد بالأوّل الاستغراق، و بالثانی مجموع الأجزاء.

الرابع: عکسه.

و لکنّ التأمّل و النظر یقتضی استحالة الاحتمال الثانی و الثالث:

أمّا الثانی: فلأنّ درک المجموع متقوّم بدرک جمیع الأجزاء، و عدم درکه عبارة عن ترکه الذی یتحقّق بترک بعض الأجزاء، و مرجع النهی عن ترک مجموع الأجزاء إلی وجوب الإتیان بمجموعها، فیصیر حاصل المعنی علی هذا التقدیر:

ما لا یدرک مجموعه بتعذّر بعض أجزائه لا یترک مجموعه و یجب الإتیان بمجموعه، و لا معنی له.

و أمّا الثالث: و هو أن یراد بالأوّل الکلّ الاستغراقی، و بالثانی مجموع الأجزاء، فلأنّ مفاده حینئذٍ: ما لا یدرک کلّ واحدٍ من أجزائه بتعذّر بعضها، یجب الإتیان بمجموع أجزائه، و هو أیضاً محال.

و أمّا الاحتمال الأوّل: و هو أن یراد بالأوّل الاستغراقی فی الأجزاء فی کلیهما، فهو مبنیّ علی الاختلاف المتقدّم بین الشیخ الأعظم و بین صاحب الحاشیة علی المعالم الشیخ محمّد تقی 0 فی أنّ مفهوم قوله علیه السلام:

(إذا بلغ الماء قدر کرٍّ لم ینجِّسه شی ء)

(1) هو الإیجاب الکلّی، أی أنّه إذا لم یبلغ قدر کرّ ینجّسه کلّ شی ء، کما اختاره الشیخ قدس سره(2)، أو الإیجاب الجزئی؛ أی أنّه لو لم یبلغ قدر الکرّ ینجّسه شی ء، کما هو مختار صاحب الحاشیة(3).


1- وسائل الشیعة 1: 117، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
2- الطهارة، الشیخ الأنصاری: 49 سطر 26، مطارح الأنظار: 174 سطر 31.
3- هدایة المسترشدین: 291 سطر 27.

ص: 554

فعلی الأوّل فهو أیضاً ممتنع فیما نحن فیه، و لذا ذکر الشیخ قدس سره: أنّه لا معنی له فی المقام؛ لأنّ مفاده حینئذٍ أنّه لو لم یمکن الإتیان بهذا و ذاک وجب الإتیان بهما.

و علی الثانی: فهو ممکنٌ- کما هو الحقّ- لأنّ النفی حینئذٍ بقوله:

(لا یترک)

متعلّق بالکلّیّة؛ لأنّ مرجعه حینئذٍ: لا یترک جمیعه، بل یترک بعضه؛ أی المتعذّر، و لذا قالوا: إنّ «لیس کلّ» سُورٌ للسالبة الجزئیّة(1)، و هو المتبادر إلی الذهن و الفهم أیضاً.

و أمّا الاحتمال الأخیر فهو أیضاً ممکن.

ثمّ إنّ المعروف فی قاعدة المیسور اعتبار أن یعدّ المعسور معسوراً لذلک المیسور، و المراد أنّه یعتبر صدق عنوان «الکلّ» علی المعسور فی وجوب الإتیان به، کالوضوء مع تعذّر المسح علی الیسری- مثلًا- بخلاف ما لو تعذّر ما سوی المسح علی الیسری، فإنّه لا یصدق الوضوء علی المسح علی الیسری فقط، و الدلیل علی ذلک هو ظاهر الروایات الثلاث، فإنّ قولَهُ:

(إذا أمرتکم بشی ء)

ظاهرٌ فی أنّ المراد: إذا أمرتکم بطبیعةٍ فأتوا منها بمصداق مستطاع منها، فإنّ لها أفراداً عرضیّة، و هی الأفراد الکاملة التامّة الأجزاء و الشرائط، و أفراداً طولیّة، کالکامل و الناقص و الأنقص، فیدلّ علی وجوب الإتیان بالفرد الناقص لو تعذّر الکامل، لکن لا بدّ أن یصدق علی المأتیّ به عنوان تلک الطبیعة.

لکن تقدّم أن لفظة «ما» مصدریّة زمانیّة بقرینة صدر الروایة، و حینئذٍ فلا تدلّ علی ما ذکر.

و أمّا قوله:

(ما لا یُدرک کلّه ...)

إلی آخره، ففیه احتمالان:

أحدهما: أنّ «ما» کنایة عن الطبیعة، و المعنی حینئذٍ: ما لا یدرک من الطبائع المأثور بها بکلّیتها فلا تترک بالکلّیّة، و حینئذٍ فتدلّ علی المطلوب المذکور؛ لأنّ


1- شرح المنظومة( قسم المنطق): 48 سطر 16، الحاشیة علی تهذیب المنطق، المولی عبد اللَّه: 69 سطر 11.

ص: 555

الدرک و الترک متعلّقان بالطبیعة، فلا بدّ أن تصدق الطبیعة علی الباقی.

ثانیهما: أنّ المراد: ما لا یُدرک کلّه و مجموعه، لا یُترک جمیع أجزائه، و علیه فلا تدلّ علی المطلوب؛ لأنّه یصدق علی کلّ واحد من الأجزاء أنّه جزء المرکّب و لو جزءاً یسیراً، کالتشهّد فقط بالنسبة إلی الصلاة، و حیث إنّ الظاهر هو هذا الاحتمال الثانی فهی لا تدلّ علی المطلوب؛ أی اعتبار صدق الطبیعة علی الباقی.

و أمّا قوله:

(المیسور ...)

إلی آخره، ففیه أربع احتمالات:

الأوّل: أنّ المراد: أنّ الطبیعة المیسور- أی مصداقها المیسور- لا تسقط بتعسّر مصداقها الآخر.

الثانی: أنّ المراد: أنّ المیسور من أجزاء الطبیعة المأمور بها لا یسقط بتعسّر بعض أجزائها الاخر.

الثالث: أنّ المراد المیسور من الطبیعة المأمور بها لا یسقط بمعسوریّة بعض أجزائها.

الرابع: أنّ المیسور من الأجزاء لا یسقط بالمعسور من الطبیعة.

و دلالتها علی ما ذکر موقوفة علی أن یراد بالمیسور نفس الطبیعة المأمور بها؛ سواء ارید بالمعسور نفس الطبیعة أیضاً، أم أجزاؤها، فلا بدّ أن یصدق عنوان الطبیعة علی المیسور الناقص.

و أمّا بناءً علی الاحتمالین الآخرین و هما أن یراد بالمیسور الأجزاء؛ سواء ارید بالمعسور أیضاً الأجزاء، أو نفس الطبیعة، فلا تدلّ علی المطلوب.

هذا بحسب التصوّر.

و أمّا بحسب التصدیق و مقام الاستظهار فهی مجملة من حیث الاحتمالات المذکورة لا ظهور لها فی بعضها، و القدر المتیقّن هو ما ذکروه: من اعتبار صدق عنوان المعسور علی المیسور؛ بأن یعدّ الباقی معسوراً لذلک المیسور عرفاً.

ص: 556

تذنیبان:

الأوّل: لا إشکال فی أنّ المناط فی تشخیص المیسور و تمیّزه هو نظر العرف و العقلاء فی الموضوعات العرفیّة، و أمّا الموضوعات الشرعیّة فهل المناط فیه نظرهم أیضاً، أو نظر الشرع؟ وجهان.

و تظهر الثمرة فی أنّه قد یکون ما لیس میسوراً عرفاً میسوراً شرعاً بتخطئته للعرف، و هو مبنیّ علی أن یراد بالمیسور الطبیعة أو إدراک المصلحة، فعلی الأوّل فالمناط هو نظرهم، فقد یعدّ الناقص من مرکّب من میسور ذلک العنوان المعسور، و یطلق علیه عنوان المأمور به، کما لو تعذّر المسح علی الیسری، فإنّه یطلق عنوان الوضوء علی الباقی عندهم، و أنّه وضوء ناقص عند العرف، و قد لا یطلق عندهم عنوان المأمور به علی المأتیّ به المیسور، کما لو تعذّر أفعال الوضوء إلّا المسح علی الیسری- مثلًا- فإنّه لا یطلق علیه الوضوء عندهم.

و علی الثانی فالمناط هو نظر الشارع؛ لعدم إحاطتنا بالمصالح و المفاسد الواقعیّة، و لا یُدرکها إلّا الشارع المقدّس.

الثانی: قد یقال بخروج موارد کثیرة عن تحت قاعدة المیسور بالتخصیص؛ بحیث ربما یوجب الاستهجان لکثرته(1).

و الحقّ خلافه، فإنّه لم یخرج منها إلّا موارد نادرة، فإنّ الصلاة داخلة تحتها بلا إشکال و کذلک الحجّ مع حفظ الأرکان، و لذا یجب علی من لم یقدر علی الطواف بنفسه أن یُطاف به بحمله، و کما إذا لم یدرک اختیاریّ الوقوفات، فإنّه یکفی الاضطراری منها، و کذلک الوضوء، بل الطهارات الثلاث و الزکاة و الخمس.

نعم الصوم خارج عنها تخصّصاً، فإنّه عنوان بسیط لا ترکّب فیه، و أمّا الأکل


1- درر الفوائد: 500- 501.

ص: 557

و الشرب و نحوهما من مبطلاته، فلیس له میسور و معسور حتّی تشمله القاعدة، و حینئذٍ فلا یلزم التخصیص المستهجن.

نعم لو ارید بالمیسور الأجزاء أمکن القول بلزوم خروج کثیر من الموارد، و لکن قد عرفت أنّ المراد منه الطبیعة و اعتبار الثبوت فی العهدة.

ص: 558

الفصل التاسع فی شرائط الاحتیاط و البراءة

المقام الأوّل فی الاحتیاط
اشارة

أمّا الاحتیاط، فقد یقال: إنّه یعتبر فیه عدم إمکان تحصیل العلم التفصیلی بالواقع، أو عدم استلزامه التکرار فی العمل، فلو أمکن تحصیل العلم التفصیلی بالتکلیف الواقعی و الامتثال التفصیلی، فلا یحسن الاحتیاط، بل لا یجوز، فلا بدّ هنا من دفع الإشکالات التی أوردوها فی المقام.

قد یقال بأنّه لا یتحقّق الامتثال بالاحتیاط مطلقاً؛ لعدم تحقّق عنوان الطاعة معه؛ و ذلک لأنّ الامتثال لیس عبارة عن مجرّد الإتیان بما هو الواقع کیفما اتّفق، بل لا بدّ من صدق عنوان الإطاعة علیه فی العبادات، و صدقها موقوف علی أن یکون الانبعاث عن أمر المولی و بعثه الواقعی بالذات، و فی صورة الاحتیاط لیس کذلک(1).


1- انظر فوائد الاصول 3: 72- 73.

ص: 559

و نقول توضیحاً للإشکال: إنّ الإطاعة غیر معقولة حتّی فی صورة العلم التفصیلی بالتکلیف؛ لأنّ المکلّف لا ینبعث عن الأمر الواقعی بالذات للمولی أصلًا، بل ینبعث دائماً عن الصورة الذهنیّة للأمر المعلومة بالذات؛ لأنّها هی التی ینالها المکلّف، لا الأمر الواقعی الذی هو معلوم بالعرض، مع أنّه تتوقّف الإطاعة علی أن یکون الانبعاث عن بعث المولی.

و الدلیل علی أنّ الانبعاث إنّما هو عن الصورة الذهنیّة للبعث: هو أنّه لو اعتقد اثنان علی أنّ المولی أمرهما بشی ء، و کان اعتقاد أحدهما موافقاً للواقع، و الآخر مخالفاً له، فأتی کلّ واحدٍ منهما بما اعتقده، فإنّه لا فرق بینهما فی أنّ کلّ واحدٍ منهما منبعث عن باعث، و لیس الباعثُ لهما الأمرَ الواقعی؛ لعدم الأمر الواقعی فی أحدهما، بل الباعث هی الصورة الذهنیّة للأمر، فلو کان الواقع دخیلًا فی الانبعاث و لو بنحو جزء الموضوع و السبب، لزم الانبعاث فی أحدهما بلا سبب و باعث، و هو محال، و کذا لو اعتقد أحدٌ وجود حیّةٍ أو أسد، و الآخر عدمه، فهرب الأوّل دون الثانی، و فرض أنّ الواقع عکس ذلک، فهذا أقوی شاهد علی أنّ الانبعاث و الانزجار إنّما هما عن الصورة العلمیّة لا الواقع.

و إن شئت قلت ذلک بنحو البرهان: إنّ کلّ إطاعة عبارة عن الانبعاث عن بعث المولی، و لا شی ء من الانبعاث عن بعث المولی بممکن، ینتج لا شی ء من الإطاعة بممکن.

هذا فی صورة العلم التفصیلی بالمأمور به.

و أمّا فی صورة الشکّ و الاحتمال فلا ریب فی أنّ الانبعاث إنّما هو عن احتمال الأمر الواقعیّ، لا الواقع المحتمل؛ لأنّه علی الثانی لا بدّ أن یکون المؤثّر فی الانبعاث هو الأمر، و المفروض أنّ وجوده و عدمه عنده علی السواء، فلا بدّ أن یکون انبعاثه عن احتمال الأمر، و حینئذٍ فلا یعدّ ذلک إطاعة؛ لما عرفت من توقّفها علی

ص: 560

نشوء الانبعاث عن بعث المولی.

فنقول فی دفع الإشکال: أمّا فی صورة العلم التفصیلی فلا إشکال فی أنّ الإطاعة من الامور العرفیّة العقلائیّة، و لیست مبتنیة علی هذه الدقائق العقلیّة، و المناط فی صدقها هو نظر العرف و فهم العقلاء فی تحقّق الإطاعة، فإنّها أمر عرفیّ عقلائی، و هی عندهم متقوّمة بوجود الأمر الواقعیّ و الاعتقاد به، فإنّ الواقع فی صورة العلم به منکشف عند الانبعاث و الإتیان بالمأمور به الناشئ عن ذلک، و یصدق علیه عنوان الإطاعة عرفاً.

و الحاصل: أنّ الإطاعة لیست مبتنیة علی هذه الدقائق العقلیّة لیرد ما ذکر من الإشکال.

أمّا البرهان المذکور: فإن ارید من الصغری و هی أنّ کلّ إطاعة هی الانبعاث عن بعث المولی بالذات- أی الأمر و البعث الواقعیّ- فهی ممنوعة، فإنّ الإطاعة أعمّ من ذلک و من الانبعاث عن البعث بالعرض؛ أی الصورة الذهنیّة و العلمیّة منه.

و إن ارید الأعمّ منهما فالکبری ممنوعة، فإنّ المستحیل هو الانبعاث عن البعث بالذات، لا الانبعاث عن البعث بالعرض و الصورة العلمیّة منه، و حینئذٍ فلا إشکال فی صدق الإطاعة فی صورة العلم التفصیلی بالتکلیف.

و أمّا فی صورة احتمال الأمر و التکلیف فلا یصحّ فیه ما ذکرناه فی صورة العلم بالأمر؛ حیث إنّه لا کاشفیّة للاحتمال عن الواقع، لکن لا إشکال فی تحقّق عنوان الإطاعة أیضاً بالإتیان بالمشکوک و المحتمل التکلیف؛ لما عرفت أنّها من الامور العرفیّة العقلائیّة، فیعدّ الانبعاث عن احتمال الأمر إطاعة أیضاً عندهم علی فرض وجوده واقعاً، بل لعلّ المنبعث عن احتمال أولی بأن یقال: إنّه مطیع عندهم من المنبعث عنه فی صورة العلم التفصیلی بالأمر.

فالحقّ: أنّ الانبعاث ناشٍ عن امور نفسانیّة، و له مبادئ خاصّة من الخوف

ص: 561

من العقاب، أو الشوق إلی الثواب، و تصوّر أمر المولی، فإنّها توجب الانبعاث و الحرکة نحو الإتیان بالفعل.

مضافاً إلی أنّه لا دلیل علی اعتبار صدق عنوان الإطاعة و قصدها فی صدق الامتثال و الاحتیاط؛ لا من العقل، و لا من النقل.

و أمّا قوله تعالی: «أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ»(1)، فلیس مفاده اعتبار قصد عنوان الإطاعة فی مقام الامتثال؛ لأنّ سیاقَها بالنسبة إلی اللَّه تعالی و إلی الرسول و اولی الأمر واحدٌ، مع أنّه لا یعتبر قصد إطاعة اولی الأمر و الرسول، فکذلک بالنسبة إلی اللَّه تعالی، و إلّا لَوجب فی الجمیع.

و الحقّ: أنّ الأمر فی الآیة إرشاد إلی ما یحکم به العقل من لزومِ الإتیان بما أمر اللَّه و رسوله و اولو الأمر و وجوبِهِ، لا أنّه أمر مولویّ مفاده وجوب قصد عنوان الإطاعة، و علی فرض الشکّ فی اعتباره فالمرجع هو أصالة البراءة عن وجوبه.

فتلخّص: أنّه لا دلیل علی وجوب قصد الطاعة و إمکان الاحتیاط.

و إنّما الإشکال فی الاحتیاط فی ما لو أوجب التکرار مع التمکّن من الامتثال التفصیلی فأورد علیه الشیخ الأعظم قدس سره: بأنّ تکرار العبادة مع التمکّن من الامتثال التفصیلی أجنبیٌّ عن سیرة المتشرّعة، بل من أتی بصلوات غیر محصورة لإحراز شروط الصلاة الواجبة، کأن صلّی فی موضع تردّدت فیه القبلة بین أربع جهات فی خمسة أثواب أحدها الطاهر، ساجداً علی خمسة أشیاء أحدها ما یصحّ السجود علیه، مائة صلاة، مع تمکّنه من صلاة واحدة یعلم اشتمالها لجمیع شرائطها تفصیلًا، یعدّ فی العرف عابثاً و لاعباً بأمر المولی و لاغیاً بفعله، و الفرق بین الصلوات الکثیرة و صلاتین لا یرجع إلی محصّل(2).


1- النساء( 4): 59.
2- فرائد الاصول: 299 سطر 18.

ص: 562

و مثّلنا لذلک سابقاً: بما لو أمر المولی عبده بشی ء، فأتی بکلّ ما یحتمل إرادته، فأحضر الطلّاب و العلماء؛ لاحتمال أن یرید إکرامهم، و عمّال المولی و نحوهم، فلا ریب فی أنّه یُعدّ فی نظر العرف لاغیاً و لاعباً بأمر المولی، لا ممتثلًا و مطیعاً.

أقول: علی فرض تسلیم ذلک فهو لا یصلح دلیلًا و برهاناً علی المطلوب؛ لیحکم به و یجری فی جمیع الموارد، فعلی فرض أنّه یُعدّ لاعباً بأمر المولی فی المثالین، فلیس مطلق التکرار کذلک، فلو تردّد فی شی ء بین کونه شرطاً للصلاة أو مانعاً، فصلّی مرّتین: إحداهما معه، و الاخری بدونه، فلا ریب أنّه لا یعدّ لاغیاً و عابثاً.

و علی فرض الإغماض عن ذلک فهو لیس لاعباً فی أصل الإتیان بالمأمور به؛ لأنّ المفروض أنّه بصدد امتثال أمر المولی فی تکرار الصلاة، و لیس التکرار من مشخّصات المأمور به، بل المأمور به واحدة منهما، و الباقی علی فرض أنّه لعب و عبث لا یضرّ بالمأمور به.

و الحاصل: أنّ اللعب فی خصوصیّات المأمور به لا یضرّ مع عدم کونه لاعباً فی أصل فعله، کالصلاة علی المنارة، أو فی زمان و مکان خاصّ، أو لباس مخصوص؛ تکون هذه الخصوصیّة مضحکة، مع قصد الامتثال فی أصل الإتیان بالمأمور به.

و هنا إشکال آخر فی الامتثال بالاحتیاط: و هو أنّه یعتبر فی امتثال الأمر العبادیّ قصد القربة و الوجه و التمییز و الجزم بالنیّة و الانبعاث عن بعث المولی؛ لشهرة القول باعتبار هذه بین الأصحاب، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره، و نقل غیر واحد اتّفاق المتکلّمین علی وجوب إتیان الواجب لوجوبه و المندوب لندبه أو لوجههما(1)، و نقل السیّد الرضیّ قدس سره إجماع أصحابنا علی بطلان صلاة من صلّی


1- کشف المراد: 322.

ص: 563

صلاة لا یعلم أحکامها(1) و تقریر أخیه الأجلّ عَلم الهدی قدس سره بذلک فی مسألة الجاهل بالقصر(2)، و قال الشیخ الأعظم قدس سره: أنّه یمکن أن یجعل هذان الاتّفاقان دلیلًا فی المسألة مع اعتضادهما بالشهرة العظیمة، فضلًا عن کونهما منشأً للشکّ الملزِم للاحتیاط فی ترک هذا النحو من الامتثال، مع عدم إمکان ذلک فی الاحتیاط فی مقام الامتثال بتکرار العمل، فلا فائدة فیه(3).

أقول: لا ریب فی إمکان قصد القربة و الوجه للمحتاط مع التکرار أیضاً، نعم هو لا یتمکّن من التمییز و الجزم بالنیّة، لکن لم یقم دلیل علی اعتبارهما فی مقام الامتثال، فإنّ المسألة عقلیّة، کما اعترف هو قدس سره به، و لا مجال لدعوی الإجماع فی المسائل العقلیّة، و لا یصلح هذا الإجماع دلیلًا فیها، فإنّ اعتبار الإجماع إنّما هو لکشفه عن الدلیل الشرعی، و یحتمل ابتناؤهم فی ذلک الإجماع علی دلیل عقلیّ، فلا یکشف هذا الإجماع عن الدلیل الشرعی التعبّدی.

مضافاً إلی ما أفاده فی «الکفایة»: من التمسُّک بقاعدة «عدم الدلیل دلیل العدم» فی المسائل العامّة البلوی(4)، و علی فرض الشکّ فی اعتبار ذلک فیمکن التمسّک لنفیه أوّلًا بإطلاقات الأدلّة.

و توهّم عدم إمکان أخذ ذلک فی المأمور به قد عرفت فساده، و علی فرض عدم إمکانه لو شکّ فی اعتباره بدلیل آخر- فإنّه قابلٌ للبیان کبیان قصد العبادیّة و اعتبار النیّة- أمکن التمسّک لنفیه بالإطلاق المقامی، فإنّ الشکّ فیه و إن کان فی سقوط المأمور به عن العهدة بدونه، لکن حیث إنّ منشأه الشکّ فی الثبوت فالعقاب


1- حکاه عنه الشهید فی ذکری الشیعة: 259 سطر 18.
2- نفس المصدر سطر 19.
3- فرائد الاصول: 299 سطر 10.
4- کفایة الاصول: 98.

ص: 564

علیه عقاب بلا بیان، فلأصالة البراءة العقلیة فیه مجال.

و الحاصل: أنّه یمکن التمسّک لنفی وجوب ذلک بالإطلاق اللّفظی للأدلّة، و علی فرض عدم الإطلاق اللفظی یتمسّک لنفیه بالإطلاق المقامی؛ لأنّه من الموارد التی تحتاج إلی البیان، کما فی سائر الشرائط المشکوکة.

و توهّم: أنّه من موارد الشکّ و دوران الأمر بین التعیین و التخییر فاسد، فإنّ القدر المتیقَّن الثابت هو وجوب الإتیان بالمأمور به مع القیود التی قام الدلیل علی اعتبارها، کقصد التقرّب و فعله للَّه تعالی، لا ریاءً أو لشهوات نفسانیّة، و الزائد علی ذلک مشکوک الاعتبار، و الأصل یقتضی البراءة عنه.

خاتمة

قد یقال- فیما لو قامت الأمارة المعتبرة علی وجوب صلاة الجمعة مثلًا فی زمن الغیبة، و احتمل وجوب الظهر واقعاً لا الجمعة-: إنّ الاحتیاط فیه هو أن یأتی بمؤدّی الأمارة؛ أی الجمعة أوّلًا، ثمّ الإتیان بصلاة الظهر المحتمل وجوبها واقعاً، و أمّا لو عکس؛ فصلّی الظهر أوّلًا ثمّ الجمعة، ففیه إشکال؛ حیث إنّ مفاد دلیل الأمارة إلغاء احتمال الخلاف، و الإتیانُ بصلاة الظهر عینُ الاعتناء باحتمال الخلاف، فلیس للمکلّف ذلک. ذکره المیرزا النائینی قدس سره(1).

أقول: یرد علیه أوّلًا: أنّه لا دلیل فی الشرع علی اعتبار الأمارات تأسیساً، بل هی عقلائیّة أمضاها الشارع، کما اعترف هو قدس سره به فی مواضع من کلامه، و بناءُ العقلاء علی العمل بالأمارات و الاعتماد علیها، و أمّا الاعتناء باحتمال الخلاف فلا محذور فیه أصلًا عندهم، و لا مانع عندهم فی الإتیان بما احتمل وجوبه واقعاً، ثمّ العمل بمؤدّی الأمارة.


1- فوائد الاصول 4: 265.

ص: 565

و علی فرض قیام الدلیل الشرعی التأسیسی علی حجّیّة الأمارات- کما ربما یظهر ذلک أیضاً منه قدس سره- فلا فرق أیضاً بین الصورتین.

فالحقّ: أنّ الاحتیاط حسنٌ مطلقاً و علی کلّ حال، و أنّ عمل تارک طریقی الاجتهاد و التقلید صحیح إذا احتاط فیه.

المقام الثانی فی شروط البراءة العقلیّة و النقلیّة
اشارة

و الکلام فی ذلک یقع فی مواضع:

الموضع الأوّل: فی شروط جریان البراءة العقلیّة
اشارة

و لا إشکال فی اعتبار الفحص عن الأدلّة- بما سیجی ء من بیان مقداره- و عدمِ الظفر بما یصلح دلیلًا علی الحکم فی جریانها، فلا مجال لجریانها بمجرّد الشکّ فی التکلیف، مثل وجوب صلاة الجمعة و نحوها قبل الفحص عنها؛ لأنّ موضوع البراءة العقلیّة هو عدم البیان، و المراد به البیان الواصل، لا الوصول إلی کلّ واحدٍ من المکلّفین بطرق غیر متعارفة، بل المراد وصوله بطریق متعارف بین العقلاء، و هو یختلف باختلاف الموارد و الأزمنة، و المراد به فی مثل زماننا هذا إلی یوم القیامة، هو بیان الأحکام الشرعیّة الکلّیّة القانونیّة لجمیع المکلّفین، و کیفیّة بیانها هو بیانها من النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم لأصحابه بمقدارٍ یمکنه صلی الله علیه و آله و سلم، و کذلک الأئمّة المعصومون صلوات اللَّه علیهم أجمعین لأصحابهم و ضبط الأصحاب لها فی کتبهم و بیانهم لأصحابهم الذین من بعدهم علیهم السلام، و إیصالها یداً بید و صدراً بصدر إلی یوم الدین، فالوصول بالنسبة إلینا هو ذکرها فی القرآن المجید و ضبطها فی کتب الأخبار و الأحادیث، فلا بدّ من الرجوع إلیها، و بدون ذلک لا یصدق عدم الوصول، و لا تجری

ص: 566

البراءة؛ لعدم تحقّق موضوعها حینئذٍ؛ أی عدم وصول البیان.

و اورد علی ذلک بأنّ التکالیف الواقعیة بوجودها الواقعی غیر قابلة للباعثیّة أو الزاجریّة ما لم تصل حقیقة بوجودها العلمیّ فی افق النفس، بل بوجودها الحاضر فی النفس؛ یعنی وجودها التصدیقی، فلا یکفی احتمالها، بل لا بدّ من العلم بها، و حیث إنّ الأمر بوجوده العنوانی لفنائه فی معنونه- و هو الأمر بوجوده الخارجی- موجب لاتّصاف الأمر الخارجی بالدعوة بالعرض، کما فی المعلوم بالذات و المعلوم بالعرض، فالمنجِّزیة موقوفة علی اتّصاف الأمر الواقعیّ بالباعثیة بالعَرَض، و هی متوقّفة علی أن تکون التکالیف منکشفة بالعلم، فما لم تکن کاشفیّة و منکشفیّة للأمر الواقعی لا باعثیّة له، و لا منجّزیة له، کما فی صورة الاحتمال؛ حیث إنّه لا کاشفیّة له، فلا تعقل المنجّزیة فی صورة الاحتمال لیمنع من جریان القاعدة(1).

أقول: یرد علیه أوّلًا: النقض بما إذا قامت أمارة معتبرة غیر مفیدة للظنّ، بل الظنّ علی خلافها، فإنّه یجب العمل بها، لکن لیس هنا علم بالواقع، فبناءً علی ما ذکره یلزم عدم منجّزیّتها؛ لعدم اتّصاف الواقع بالباعثیّة، فیلزم عدم تحقّق المنجّزیّة.

و أمّا العلم بالحجّیّة و اعتبار الأمارة و وجوب العمل علی طبقها، فإنْ ترتّبت العقوبة علی ترک العمل بالحجّة فهو ممّا لا یلتزم به المستشکل، فیلزم ترتّبها علی الواقع، فیلزم ما ذکرنا.

و ثانیاً: بالحلّ بأنّه لیس معنی التنجیز ما أفاده، و لا نسلّم توقّفه علی باعثیّة الأمر الواقعی، بل الباعث و المحرّک: إمّا هو الأمر الواقعیّ، و إمّا احتمال وجود التکلیف فی الکتاب المجید أو کتب الأخبار، بل المنجّزیة أمر عقلائیّ یحکم بها کلّ عاقل مع الاحتمال المذکور، فحینئذٍ لا یتحقّق موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان


1- نهایة الدرایة 2: 305 سطر 21.

ص: 567

مع هذا الاحتمال، فهذا الوجه لبیان عدم جریان البراءة العقلیّة قبل الفحص صحیح لا غبار علیه.

نعم هنا وجهٌ آخر لوجوب الفحص لا یخلو عن الإشکال: و هو أنّ الإقدام فی المشتبه مع ترک الفحص فیما هو مظنّة التکلیف مع عدم العلم بأمر المولی و نهیه عادةً إلّا به ظلم علی المولی، و خروج عن رسم العبودیّة و زیّ الرقّیة، فیترتّب علیه العقاب بعنوان أنّه ظلم علی المولی، لا علی الواقع، فالعقاب علی الواقع و إن کان قبیحاً قبل الفحص، لکنّه لیس قبیحاً علی نفس ترک الفحص کالتجرّی(1).

و فیه: علی فرض تسلیم عدم العقاب علی مخالفة الواقع، لا وجه للعقاب علی ترک الفحص، فإنّ العقاب علیه إنّما هو لأجل احتمال التکلیف الواقعی، لا علی نفسه استقلالًا بدون الارتباط بالواقع.

و الحاصل: أنّه لا وجه للعقاب علی ترک الفحص مع فرض عدمه بالنسبة إلی الحکم الواقعی.

و الفرق بینه و بین التجرّی: هو أنّ نفس التجرّی علی المولی ظلم و قبیح؛ لقیام الحجّة المعتبرة و لو مع مخالفتها للواقع، بخلاف ترک الفحص.

الوجه الثالث لبیان وجوب الفحص و عدم جریان البراءة العقلیّة قبله: هو إنّ العلم الإجمالی- لکلّ واحد من آحاد المکلّفین- بوجود أحکام فی الشریعة من الواجبات و المحرّمات، یقتضی وجوب الفحص عنها و عدم جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان قبله، نعم بعد الفحص بالمقدار اللّازم و عدم الظفر بالحکم لا مانع من جریانها(2).

و فیه: أنّ هذا خروج عن محلّ البحث؛ لأنّ الکلام هنا فی شرائط البراءة بعد


1- انظر نهایة الدرایة 2: 305 سطر 13.
2- انظر فرائد الاصول: 301 سطر 3.

ص: 568

الفراغ عن تحقّق الشکّ فی أصل التکلیف، کما هو مجری البراءة، و إلّا فمع اقتران الشبهة بالعلم الإجمالی بالتکلیف، فهو شکٌّ فی المکلّف به الذی هو مجری الاحتیاط، لا البراءة التی یبحث فیه عن شرائطها، فلیس الفرض الذی ذکره موضوعَ البراءة؛ أی الشکّ البدویّ فی التکلیف.

و اورد علی هذا الوجه أیضاً:

تارةً: بأنّه أخصّ من المدّعی؛ لأنّ محلّ البحث هو مطلق الشبهات، و هذا الوجه إنّما یقتضی وجوب الفحص فی خصوص المقرونة بالعلم الإجمالی(1).

و اخری: بأنّه أعمّ من المدّعی بوجهٍ آخر؛ لأنّ المدّعی هو وجوب الفحص فیما بأیدینا من کتب الأخبار و الأحکام، و العلم الإجمالی لا یختصّ بذلک، بل دائرته أوسع و أطرافه أعمّ ممّا فی هذه الکتب و التی لم تصل إلینا من الجوامع الأوّلیّة(2).

و أجاب المیرزا النائینی قدس سره عن الأوّل: بأنّ استعلام مقدار من الکتب التی یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها و الفحص فیها، لا یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ إذ متعلّق العلم: تارةً یتردّد من أوّل الأمر بین الأقلّ و الأکثر، کما لو علم بأنّ فی هذه القطیع من الغنم موطوءة مردّدة بین عشرة و عشرین.

و اخری: یکون المتعلّق عنواناً لیس بنفسه مردّداً بین الأقلّ و الأکثر من أوّل الأمر، بل المعلوم هو العنوان بما له فی الواقع من الأفراد، کما لو علم بموطوئیّة البِیض من هذا القطیع، و تردّدت بین العشرة و العشرین.

ففی الأوّل: ینحلّ العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیه، کما لو علم تفصیلًا بموطوئیّة هذه العشرة من القطیع.

و فی الثانی: لا ینحلّ بذلک، بل لا بدّ من الفحص التامّ عن کلّ ما یحتمل


1- انظر فرائد الاصول: 301 سطر 13.
2- نفس المصدر: 301 سطر 12.

ص: 569

انطباق العنوان المعلوم بالإجمال علیه؛ لأنّ العلم الإجمالی یوجب تنجیز متعلّقه بما له من العنوان، کالبِیض بما له من الأفراد فی المثال، فکلّ ما هو من أفراد البیض قد تنجّز التکلیف به، و لازم ذلک هو الاجتناب عن کلّ ما یحتمل أنّه من أفراد البیض، و العلم التفصیلیّ بموطوئیّة عدّة من البیض یحتمل انحصار البیض فیه لا یوجب انحلال العلم الإجمالی، و ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ المعلوم بالإجمال فی المقام هی الأحکام الموجودة فیما بأیدینا من الکتب، فقد تنجّزت جمیع الأحکام المثبتة فی الکتب، و لازم ذلک هو الفحص التامّ عن جمیع ما فی الکتب التی بأیدینا، و لا ینحلّ العلم الإجمالی باستعلام جملة من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها، کما لو علم باشتغال الذمّة بما فی الطومار، و تردّد ما فیه بین الأقلّ و الأکثر، فإنّه لیس له الأخذ بالأقلّ، بل لا بدّ من الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار.

و أجاب عن الوجه الثانی: بأنّه و إن علم إجمالًا بوجود أحکام فی الشریعة أعمّ ممّا بأیدینا من الکتب، إلّا أنّه یعلم إجمالًا أیضاً بأنّ فیما بأیدینا من الکتب أدلّة مثبتة لأحکام مصادفة للواقع بمقدار یحتمل انطباق ما فی الشریعة علیها، فینحلّ العلم الإجمالی الخاصّ، و یرتفع الإشکال، و یتمّ الاستدلال بالعلم الإجمالی لوجوب الفحص(1). انتهی.

أقول: یرد علیه: أنّ ما ذکره من الفرق بین ما إذا تعلّق الحکم بالأفراد و بین ما لو تعلّق بالعنوان، فیه:

أوّلًا: أنّ العنوان المتعلَّق للحکم فی الفرض الثانی من قبیل العنوان المحصَّل، و المصادیق محصِّلاته، فاللّازم فیه الاحتیاط بلا إشکال، و لکن ما نحن فیه لیس من هذا القبیل، و کذلک المثال الذی ذکره لیس منه، فإنّ عنوان الغنم البیض لیس عنواناً


1- فوائد الاصول 4: 280.

ص: 570

بسیطاً متعلَّقاً للحکم بنفسه، بل الحکم فیه متعلِّق بالأفراد- أی کلّ واحدٍ من الغنم الموطوءة- و العنوان المذکور مرآة للأفراد الموضوعة للحکم، و لکلّ واحدٍ منها حکم مستقلّ، و کذلک عنوان «ما فی الکتب الأربعة»، فإنّه عنوان مشیر اخذ مرآةً للأفراد، و الحکم علیه إنّما هو بهذا اللحاظ، و لذا ذکر فی وجه جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة فی مثل «لا تصلِّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه»: أنّ الکبری الکلّیّة لیست حجّةً علی الصُّغریات و المصادیق المشکوکة، فإنّ الکبری الکلّیّة و إن تعلّق الحکم الکلّی فیها بالعنوان، لکن حیث إنّه لوحظ مرآةً للأفراد و المصادیق فهو منحلٌّ إلی أحکام متعدّدة حسب تعدّد الموضوعات، فالمشکوک لا حجّة علیه، و ما نحن فیه أیضاً کذلک، فلا فرق بین القسمین.

و ثانیاً: أنّ عنوان «ما فی الکتب الأربعة» أو «الغنم البیض» لیس من العناوین و الموضوعات المتعلَّقة للأحکام، فإنّ هذا العنوان مستحدَث لم یکن متداولًا فی الإطلاقات قبل تدوین تلک الکتب؛ لیتعلّق به الحکم مع تحقّق العلم الإجمالی قبلها، نعم المثال الأوّل- و هو عنوان الغنم الموطوء- کذلک، لکن قد عرفت انحلال العلم الإجمالی فیه، و أنّه- بما أنّه عنوان المصادیق- موضوع للحکم.

و ثالثاً: علی فرض الإغماض عن ذلک کلّه یرد علی ما ذکره فی الجواب عن الإشکال الثانی: أنّ العلم الإجمالی بما فی الکتب علی الإطلاق یوجب تنجّز الحکم و الاحتیاط، و لا ینحلّ بمجرّد الفحص عمّا فی الکتب الأربعة، فإنّه أیضاً عنوان مثل عنوان ما فی الکتب الأربعة و نحوه، و حیث إنّ دائرته أوسع ممّا فی الکتب الأربعة، فلا ینحلّ بالفحص عمّا فی الکتب الأربعة.

و أمّا مثال الطومار و نحوه من الشبهات فلا یقول أحدٌ فیها بالبراءة، لا للعلم الإجمالی، بل لوجوهٍ اخر، مثل قصور أدلّة البراءة عن شمولها لمثله، و عدم بناء العقلاء علی البراءة فی أمثال ذلک من الشبهات الموضوعیّة.

ص: 571

و أجاب المحقّق العراقی قدس سره عن الإشکال الأوّل: بأنّه مبنیٌّ علی أنّ المدّعی هو العلم الإجمالی بالأحکام بنحو الإطلاق، أو مع التقیید بما لو تفحّصنا عنه بمقدار المعلوم بالإجمال لظفرنا به و لو فی بعض المسائل، فإنّ الإشکال حینئذٍ وارد، لکن المدّعی لیس ذلک، بل المدّعی هو أنّا نعلم إجمالًا بعدّة من الأحکام فی مجموع المسائل المحرّرة المنبثّة فی جمیع الأطراف؛ بحیث لو تفحّصنا عن کلّ مسألة تکون مظنةً للحکم لظفرنا به، و حینئذٍ فلا ینحلّ العلم الإجمالی إلّا بالفحص عن کلّ مسألةٍ مسألةٍ، و مع الفحص فی کلّ مسألة و عدم الظفر بالحکم خرجت تلک المسألة عن کونها طرفاً للعلم الإجمالی، فتجری البراءة فیها حینئذٍ، فلا یرد إشکال عدم الفائدة للفحص مع الظفر بالحکم؛ لعدم جریان البراءة؛ لأجل أنّ المسألة من أطراف العلم الإجمالی، و حینئذٍ فیندفع الإشکال(1). انتهی.

أقول: لیس هذا العلم الإجمالی تحت الاختیار؛ حتّی نقول: لو فرض کذا یرد الإشکال، دون ما لو فرض ذاک، فإنّا إذا لاحظنا شریعة الإسلام، و التفتنا إلیها، حصل لنا العلم الإجمالی بوجود أحکام فیها بنحو الإطلاق، لا المقیّدة بالمسائل المحرّرة، کما ذکره قدس سره، مضافاً إلی أنّ مرجع ما ذکره إلی دعوی العلم التفصیلی بالحکم الإلزامی فی کلّ مسألة، و هو کما تری.

و الحقّ فی الجواب عن الاستدلال: هو منع العلم بوجود أحکام فی الشریعة سوی ما فی بأیدینا من الأحکام و مضامین الأخبار، و لم یثبت لنا وجود کتب مشتملة علی أحکام- سوی تلک الأحکام- فُقدت و لم تصل إلینا، مضافاً إلی ما عرفت من خروج هذا الفرض عن محطّ البحث فی المقام؛ أی الشبهة البَدْویّة، لا المقرونة بالعلم الإجمالی، فالدلیل علی وجوب الفحص هو ما ذکرناه من حکم العقل بذلک.


1- نهایة الأفکار 3: 471.

ص: 572

و أمّا الاستدلال له بالإجماع(1) فهو ممّا لا مجال له فی مثل هذه المسألة ممّا للعقل فیها سبیل؛ لاحتمال اعتماد المجمعین علی ذلک الحکم العقلی، فلیس هو دلیلًا مستقلّاً کاشفاً عن دلیل معتبر یدلّ علی المطلوب؛ لیتمسّک به فی الموارد المشکوکة؛ سواء کانت الشبهة بدویّة أم مقرونة بالعلم الإجمالی.

و أمّا الآیات و الروایات التی استدلّ بها فی المقام- الدالّة علی وجوب التفقّه و التعلّم کآیتی النفر(2) و السؤال(3) و نحوهما- فهی لیست إلّا مثل قوله تعالی: «أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ»*(4) فی أنّها لمجرّد الإرشاد إلی ما یحکم به العقل من وجوب التفقّه و تعلّم الأحکام، مضافاً إلی عدم اختصاصها بالشبهات البَدْویّة، بل المخاطب بها عموم المسلمین العالِمین بوجود أحکام فی الشریعة المقدّسة إجمالًا.

هذا کلّه فی الشبهات الحکمیّة.

و أمّا الشبهات الموضوعیّة مع العلم بالحکم الکلّی، فهل تقتضی القواعد العقلیّة وجوب الفحص فیها أیضاً مطلقاً، أو لا مطلقاً، أو التفصیل بین ما إذا کان الفحص سهلًا لا یحتاج إلی مئونة زائدة؛ بحیث لا یسمّی فحصاً فی الحقیقة، و بین ما إذا احتاج إلی تکلّف و مئونة زائدة، أو التفصیل بین الموضوعات التی یؤدّی ترک الفحص فیها إلی مخالفات کثیرة کملاحظة أنّه مستطیع أو لا، أو بلوغ ما له حدّ النصاب للزکاة و نحو ذلک، و بین ما لم یکن کذلک؟

وجوه، و لا یبعد الأوّل؛ لتمامیّة الحجّة ببیان الکبری الکلّیّة، و أمّا الصُّغریات و تشخیص أفراد الموضوعات کلّ واحدٍ واحدٍ، فهو لیس من وظیفة الشارع،


1- فرائد الاصول: 300 سطر 15.
2- التوبة( 9): 122.
3- النحل( 16): 43، الأنبیاء( 21): 7.
4- النساء( 4): 59.

ص: 573

فالعقاب علیه مع ترک الفحص لیس عقاباً بلا بیان؛ من دون فرقٍ بین ما لو کان الفحص سهلًا قلیل المئونة و عدمه، لزم منه مخالفات کثیرة أو لا.

الموضع الثانی: فی بیان مقدار الفحص

و المناط فیه هو الیأس عن الظفر بالدلیل و الحجّة علی الحکم، و هو أمرٌ سهلٌ لا سیّما فی مثل زماننا هذا؛ حیث إنّ المسائل فیه مبوّبة؛ و جعل لکلٍّ من مسائل الطهارة و الصلاة و غیرهما بابٌ مستقلٌّ، و ذکروا فی کلّ بابٍ الأخبار المربوطة بمسائله، و بذل الفقهاء جهدهم و وسعهم فی جمع الأخبار و الآیات المربوطة بکلّ بابٍ فیه؛ بحیث یکون احتمال وجود دلیل آخر فیه لم یظفروا به بعیداً جدّاً.

ص: 574

الفصل العاشر قاعدة «لا ضرر»

اشارة

و لا بأس بصرف عنان الکلام فی بیان المدرک لقاعدة لا ضرر تبعاً للأعلام، و لاعتبار بعضهم فی أصالة البراءة عدم استلزامه الإضرار علی الغیر.

و قبل الخوض فی بیانها و مفادها و الجهات المبحوث عنها فیها، لا بدّ من ذکر الأخبار التی یدلّ علیها، و هی کثیرة:

الأخبار الواردة فی نفی الضرر
اشارة

منها: ما ورد فی قضیّة سَمُرة بنِ جُنْدَب التی نقلها المشایخ الثلاثة:

فروی الصدوق قدس سره بإسناده عن الحسن بن الصیقل، عن أبی عبیدة الحذّاء، قال: قال أبو جعفر علیه السلام: کان لِسَمُرَة بنِ جُنْدَب نخلة فی حائط بنی فلان، فکان إذا جاء إلی نخلته ینظر إلی شی ء من أهل الرجل یکرهه الرجل، قال: فذهب الرجل إلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم فشکاه، فقال: یا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم إنّ سَمُرَة یدخل علیّ بغیر إذنی، فلو أرسلت إلیه، فأمرته أن یستأذن حتّی تأخذ أهلی حذرها منه، فأرسل إلیه

ص: 575

رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم فدعاه، فقال: (یا سَمُرَةُ ما شأن فُلانٍ یشکوک، و یقول: یدخل بغیر إذنی، فتری من أهله ما یکره ذلک، یا سَمُرَةُ استأذن إذا أنت دخلت).

ثمّ قال رسول اللَّه: (یسرّک أن یکون لک عَذقٌ فی الجنّة بنخلتک؟).

قال: لا. قال: (لک ثلاثة)، قال: لا.

قال: (ما أراک یا سَمُرَةُ إلّا مُضارّاً؛ اذهب یا فلان فاقطعها، و اضرب بها وجهه)

(1).

و رواه الکلینی رحمه الله عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبیه، عن عبد اللَّه بن بکیر، عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام، مع اختلاف فی التعبیرات، إلّا أنّه ذکر فی ذیلها: فقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم للأنصاریّ: (اذهب فاقلعها، و ارمِ بها إلیه، فإنّه لا ضرر و لا ضِرار)

(2).

و عن علیّ بن محمّد بن بندار، عن أحمد بن أبی عبد اللَّه، عن أبیه، عن بعض أصحابنا، عن عبد اللَّه بن مسکان، عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام أیضاً، إلّا أنّه قال:

فقال له رسول اللَّه: (إنّک رجلٌ مضارٌّ و لا ضرر و لا ضرار علی مؤمن)

(3).

و منها:

ما ورد فی بیع فضول الماء، مثل ما رواه الکلینی رحمه الله عن محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن محمّد بن عبد اللَّه بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام، قال: (قضی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم بین أهل المدینة فی مشارب النخل: أنّه لا یمنع نفع الشی ء، و قضی بین أهل البادیة: أنّه لا یُمنع فضلُ ماءٍ لیمنع


1- الفقیه 3: 59/ 9، وسائل الشیعة 17: 340، کتاب إحیاء الموات، أبواب إحیاء الموات، الباب 12، الحدیث 1.
2- الکافی 5: 292/ 2، تهذیب الأحکام 7: 146/ 651، وسائل الشیعة 17: 341، کتاب إحیاء الموات، الباب 12، الحدیث 3.
3- الکافی 5: 294/ 8، وسائل الشیعة 17: 341، کتاب إحیاء الموات، أبواب إحیاء الموات، الباب 12، الحدیث 4.

ص: 576

فضلُ کلاءٍ، فقال: لا ضرر و لا ضرار)

(1).

و رواه من طرق العامّة عبادة بن الصامت(2)، إلّا أنّه قال: (لا یمنع نقع البئر)

بدل «نفع الشی ء»، و نقل أنّه فی نسخة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم نفع بالفاء.

و منها:

ما رواه الکلینی، عن محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن محمّد بن عبد اللَّه بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (قضی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم بالشفعة بین الشرکاء فی الأرضین و المساکن، و قال: لا ضرر و لا ضرار)

(3).

و منها:

ما رواه محمّد بن یعقوب أیضاً فی باب الضرار عن محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن یزید بن إسحاق شعر، عن هارون بن حمزة الغنوی، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام: عن رجل شهد بعیراً مریضاً و هو یباع، فاشتراه رجل بعشرة دراهم، فجاء و أشرک فیه رجلًا بدرهمین بالرأس و الجلد، فقضی أنّ البعیر برئ، فبلغ ثمنه دنانیر. قال: فقال: (لصاحب الدرهمین خُمسُ ما بلغ)، فإن قال: ارِید الرأس و الجلد فقال: (لیس له ذلک؛ هذا الضرار، و قد اعطی حقَّه إذا اعطی الخمس)

(4).

و منها:

ما رواه فی «المستدرک» عن «دعائم الإسلام»، قال: روینا عن أبی عبد اللَّه علیه السلام أنّه سئل عن جدار لرجل- و هو سُترة بینه و بین جاره- سقط، فامتنع من بنیانه، قال: (لیس یُجبر علی ذلک، إلّا أن یکون وجب ذلک لصاحب الدار


1- الکافی 5: 293/ 6، وسائل الشیعة 17: 333، کتاب إحیاء الموات، أبواب إحیاء الموات، الباب 7، الحدیث 2.
2- مسند أحمد بن حنبل 5: 327 سطر 8.
3- الکافی 5: 280/ 4، وسائل الشیعة 17: 319، کتاب إحیاء الموات، أبواب إحیاء الموات، الباب 5، الحدیث 1.
4- الکافی 5: 293/ 4، وسائل الشیعة 13: 49، کتاب التجارة، أبواب بیع الحیوان، الباب 22، الحدیث 1.

ص: 577

الاخری بحقٍ أو بشرطٍ فی أصل الملک ...)- إلی أن قال-:

فإن کان الجدار لم یسقط، و لکنّه هدمه، أو أراد هدمه إضراراً بجاره؛ لغیر حاجة منه إلی هدمه.

قال: (لا یُترک؛ و ذلک أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم قال: لا ضرر و لا ضرار- (إضرار:

نسخة)- و إن هدمه کُلّف أن یبنیه)

(1).

و منها:

ما فی «المستدرک» من روایة «دعائم الإسلام» قال: و روینا عن أبی عبد اللَّه علیه السلام، عن أبیه، عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیه السلام: (أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم قال:

لا ضرر و لا ضرار)

(2).

و منها:

مرسلة الصدوق: قال النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم: (لا ضرر و لا إضرار فی الإسلام، فالإسلام یزید المسلم خیراً، و لا یزیده شرّاً)

(3).

و منها: ما استدلّ به الشیخ قدس سره فی «الخلاف» فی خیار الغبن بقوله: دلیلنا

ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم قال: (لا ضرر و لا ضرار- إضرار نسخة- و هذا ضرر)

(4).

و منها:

ما احتجّ به أبو المکارم بن زهرة فی «الغنیة» فی خیار العیب بقوله:

و یحتجّ علی المخالف بقوله علیه السلام: (لا ضرر و لا ضرار)

(5).

و منها:

ما عن «التذکرة» مرسلًا عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: (لا ضرر و لا ضرار


1- دعائم الاسلام 2: 504/ 1805، مستدرک الوسائل 17: 118، کتاب إحیاء الموات، الباب 9، الحدیث 1.
2- دعائم الاسلام 2: 499/ 1781 و فیه( إضرار) بدل( ضرار)، مستدرک الوسائل 17: 118، کتاب إحیاء الموات، الباب 9، الحدیث 2.
3- الفقیه 4: 243/ 2، وسائل الشیعة 17: 376، کتاب الفرائض و المواریث، أبواب موانع الارث، الباب 1، الحدیث 10.
4- الخلاف 3: 42، مسألة 60، الموطأ 2: 805، سنن الدارقطنی 4: 227، فیض القدیر 6: 431.
5- الغنیة، ضمن الجوامع الفقهیة: 526 سطر 20.

ص: 578

فی الإسلام)

(1).

و عن نهایة ابن الأثیر فی الحدیث: (لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام)

(2).

و فی مجمع البحرین: و فی حدیث الشفعة: (قضی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم بالشفعة بین الشرکاء فی الأرضین و المساکن، و قال: لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام)

(3).

و منها:

ما عن مسند ابن حنبل من روایة عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم: (أن لا ضرر و لا ضرار)

(4).

إلی غیر ذلک من الأخبار الدالّة علی ذلک، مثل ما ورد فی حفر(5) القناة قرب اخری، و أنّ المناط فی جوازه عدم الضرر.

و مثل ما ورد فی النهی عن إجراء صاحب النهر الماء من موضع آخر، و یعطّل الرحی(6).

و مثل قوله:

(من ضرّ علی أخیه المؤمن فلیس منّا)

(7) ... إلی غیر ذلک من الأخبار.

و حینئذٍ یقع الکلام هنا فی جهات:


1- تذکرة الفقهاء 1: 522 سطر 40.
2- النهایة فی غریب الحدیث و الأثر 3: 81 مادة« ضرر».
3- مجمع البحرین 3: 373 مادة« ضرر».
4- مسند أحمد بن حنبل 5: 327، سطر 8.
5- الکافی 5: 294/ 7، وسائل الشیعة 17: 344، کتاب إحیاء الموات، أبواب إحیاء الموات، الباب 16، الحدیث 1.
6- الکافی 5: 293/ 5.
7- روضة الواعظین: 376، وسائل الشیعة 15: 489- 490، کتاب الخلع و المباراة، الباب 2، الحدیث 1.

ص: 579

الجهة الاولی: عدم صدور «لا ضرر» مستقلًا

قد عرفت وقوع قاعدة «لا ضرر» فی کثیر من الأخبار المذکورة فی ضمن القضایا، و عدم استقلالها بالصدور مجرّدةً عن قضیّة، و أمّا مرسلة الصدوق و «التذکرة» و ابن الأثیر و نحوها، فلم یثبت صدورها استقلالًا عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم، لا فی ضمن قضیّة من القضایا، و لا وثوق بذلک؛ لأنّه من الممکن نقلهم هذه الجملة مستقلّة بدون ذکر القضیّة التی ذُکر فی ضمنها؛ و إن لم تصدر منه صلی الله علیه و آله و سلم کذلک، و لکن مرسلة الصدوق لا تخلو عن ظهور فی ذلک، بخلاف سائر العبارات المذکورة.

و بالجملة: لم یثبت لنا صدور هذه الجملة- أی جملة- «لا ضرر و لا ضرار»- مستقلّةً؛ لا فی ضمن قضیّة، فما فی بعض العبائر- کعبارة المیرزا النائینی قدس سره- من دعوی القطع بصدور هذا الخبر(1)، إنّما یصحّ لو لم یُرد صدور هذه الجملة مستقلّة.

الجهة الثانیة: إشکالات حول وقوع «لا ضرر» فی بعض القضایا

وقوع هذه الجملة فی غیر قضیّة سَمُرة، کقضیّة الشفعة، و منع فضول الماء، و الاستدلال بها علیه، أوجب إشکالات:

منها: أنّها ذکرت فی ذیل روایة الشفعة بنحو التعلیل، فیرد علی ذلک الإشکال:

تارةً: بأنّ العلّة معمِّمة للحکم، فلا بدّ من الالتزام بالشفعة فی غیر البیع- من الصلح و الهبة و نحو ذلک- إذا استلزم عدمها الضرر علی الشریک الآخر.

و اخری: بأنّها مخصّصة أیضاً؛ لأنّ مقتضی التعلیل أنّ المناط فی ثبوت الشفعة هو الضرر، فلو فرض عدم الضرر من عدمها علی الشریک الآخر، بل بیع


1- منیة الطالب 2: 193 سطر 16- 17.

ص: 580

الشریک حصّته لغیره أعود له من أخذه بالشفعة، لزم عدم ثبوتها له.

و منها: أنّه یلزم عدم صحّة المعاملة أو عدم لزومها فیما إذا لم یترتّب الضرر علی ذات المعاملة، بل نشأ الضرر من أمرٍ خارج ربّما یتعقّب المعاملة و یترتّب علیها، کما لو باع حصّته من الدار المحبوبة المرضیّة عند أهله و أولاده؛ بحیث یؤدّی بیعها إلی مرضهم أو مشاجرتهم أو إیذائهم، أو باع حصّته من شرّیر یُؤذی الجار ..

و أشباه ذلک، فیلزم ثبوت الشفعة للمتضرّر فی جمیع تلک الموارد، و لا یلتزم بذلک أحد.

و منها: أنّه یستلزم منها إثبات أمرٍ، و هو الأخذ بالشفعة، لا مجرّد نفی لزوم البیع.

و منها: أنّ قضیّة «لا ضرر» هو وجوب إعطاء فضول الماء للغیر بلا عوض؛ لئلّا یلزم الضرر علی الغیر، مضافاً إلی أنّه لا یعدّ ضرراً، بل هو عدم نفعٍ، فلا یصلح الاستدلال علیه ب «لا ضرر»، مع أنّ المشهور بین الفقهاء کراهة منع فضول الماء(1)، و هی لا تناسب الاستدلال لها لقاعدة «لا ضرر».

اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّ «لا ضرر» حکم أخلاقیّ لا شرعیّ .. إلی غیر ذلک من التوالی الفاسدة التی یستلزم الالتزام بها فقهاً جدیداً، و لذلک وقع العلماء فی الجواب عن هذه الإشکالات فی حَیْصَ بَیْصَ:

فقال المحقّق شیخ الشریعة الأصبهانی فی رسالته: إنّ الراجح فی نظری إرادة النهی التکلیفی من حدیث نفی الضرر، و کنت أستظهر منه عند البحث عنه فی أوقات مختلفة إرادة التحریم التکلیفی فقط، إلّا أنّه یمنعنی من الجزم به حدیث الشفعة و حدیث النهی عن منع فضول الماء؛ حیث إنّ اللفظ واحد، و لا مجال لإرادة ما عدا الحکم الوضعی فی حدیث الشفعة و إرادة التحریم فی النهی عن منع فضل


1- مفتاح الکرامة 7: 51 سطر 29، ریاض المسائل: 322 سطر 15.

ص: 581

الماء؛ بناءً علی ما اشتهر عند الفریقین من حمل النهی علی التنزیه، و کنت أتشبّث ببعض الامور فی دفع الإشکال، إلی أن تبیّن لی: أنّ حدیثی الشفعة و النهی عن منع فضول الماء لم یکونا حال صدورهما من النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم مذیّلین بحدیث الضرر، و أنّ الجمع بینهما من الراوی من روایتین صادرتین عنه صلی الله علیه و آله و سلم فی زمانین مختلفین، و هذه و إن کانت دعوی عظیمة غریبة یأبی عن تصدیقها کثیر من الناظرین، إلّا أنّها مجزوم بها عندی، و بها یندفع الإشکال، فنقول: یظهر بعد التدبّر فی الروایات أنّ الحدیث الجامع لأقضیة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم و ما قضی به فی موارد مختلفة، کان معروفاً عند الفریقین: أمّا من طرقنا فبروایة عقبة بن خالد عن الصادق علیه السلام، و من طرق العامّة فبروایة عبادة بن الصامت.

ثمّ ذکر القضایا التی نقلها عبادة بن الصامت، و من جملتها:

(أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قضی أن لا ضرر و لا ضِرار، و قضی بأنّه لیس لعِرقٍ ظالمٍ حقٌّ، و قضی بین أهل المدینة فی النخل لا یمنع نقع بئر، و قضی بین أهل البادیة أنّه لا یمنع فضل ماء)

. ثمّ قال: و هذه الفقرات کلّها أو جلّها مرویّة فی طرقنا فی الأبواب المختلفة، و غالبها بروایة عقبة بن خالد، و بعضها بروایة غیره، و الذی أعتقده أنّها کانت مجتمعة فی روایة عقبة بن خالد عن أبی عبد اللَّه علیه السلام، کما فی روایة عبادة بن الصامت، إلّا أنّ أئمّة الحدیث فرّقوها و وزّعوها علی الأبواب المختلفة، ثمّ نقل عن المشایخ الثلاثة بعض هذه الفقرات.

ثمّ قال: قد عرفت بما ذکرناه مطابقة ما روی بطرقنا لما روی بطرق القوم من روایة عبادة بن الصامت من غیر زیادة و لا نقیصة، بل بعین تلک الألفاظ غالباً إلّا حدیثی الشفعة و منع فضل الماء المرویّین فی طرقنا بزیادة قوله:

(لا ضرر و لا ضرار)

و تلک المطابقة بین الفقرات ممّا یؤکّد الوثوق بأنّهما أیضاً کانتا مطابقتین لنقل العامّة من عدم التذییل بحدیث نفی الضرر، و أنّ غرض الراوی أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قال

ص: 582

کذا، لا أنّه کان فی ذیل الروایتین(1). انتهی ملخّص کلامه.

و أیّده المیرزا النائینی قدس سره

- علی ما فی التقریرات- و قال: إنّ القضایا التی نقلها عقبة بن خالد نقلها الکلینی بسندٍ واحد عن محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن محمّد بن هلال، عن عقبة بن خالد، عنه علیه السلام(2).

أقول: یرد علیه أنّ القضایا التی نقلت عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم کثیرة جدّاً، و الراوی لسبعة أو ثمانیة منها هو عقبة بن خالد، و هو متفرّد فی اثنتین منها، و أمّا القضایا غیر تلک فرواها غیره، فإنّ عدّة کثیرة منها نقلها السَّکونی، و نقلها زید بن علیّ فی ضمن الحکم بأنّ فی الرکاز خمس، و فی الروایة الدالة علی أنّ

(مال المملوک لمن باعه)

سالم و غیره(3)، و فی الروایة الدالّة علی أن

(الولد للفراش و للعاهر الحجر)

(4) سعید الأعرج و رواه غیره أیضاً، و فی خبر

(لیس لعرقِ ظالمٍ حقٌّ)

(5) عبد العزیز بن محمّد، و فی قوله:

(قضی للجدّتین المیراث)

(6) غیاث بن إبراهیم، و روی بعضها مسمع بن عبد الملک و أبو مریم و یحیی بن أبی العلاء و داود بن


1- قاعدة لا ضرر، شیخ الشریعة الأصفهانی: 18- 23.
2- منیة الطالب 2: 194.
3- الکافی 5: 213/ 1، تهذیب الأحکام 7: 71/ 306، وسائل الشیعة 13: 32، کتاب التجارة، أبواب بیع الحیوان، الباب 7، الحدیث 1. و أمّا روایة سالم فهی مذکورة فی مستدرک الوسائل 13: 371، کتاب التجارة، أبواب بیع الحیوان، الباب 5، الحدیث 3، و کذلک فی عوالی اللآلی 1: 103/ 35.
4- تهذیب الأحکام 8: 183/ 640، وسائل الشیعة 14: 565، کتاب النکاح، أبواب نکاح العبید، الباب 56، الحدیث 1.
5- تهذیب الأحکام 7: 206/ 909، وسائل الشیعة 13: 283، کتاب الإجارة، أبواب أحکام الإجارة، الباب 33، الحدیث 3.
6- تهذیب الأحکام 9: 313/ 1126، وسائل الشیعة 17: 473، کتاب الفرائض و المواریث، أبواب میراث الأبوین و الأولاد، الباب 20، الحدیث 14. فی المصدر:( أطعم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم الجدتین السدس).

ص: 583

فرقد، و قد عرفت روایات السکونی فی ذلک أکثر من روایة عقبة.

فظهر ممّا ذکر: أنّ ما أفاده قدس سره غیر مستقیم، و الشاهد علی عدم صحّة ما أفاده: أنّ عقبة بن خالد ذکر جملة «لا ضرر» مرّتین فی تلکما القضیّتین، فلو کانتا واحدة لم یکن وجه لذکرها مرّتین.

و أمّا ما جعله المیرزا النائینی قدس سره مؤیّداً لما ذکره فهو من الأعاجیب؛ و ذلک لأنّ عقبة بن خالد صاحب کتاب، و طریق الکلینی إلیه هو ما ذکره، و ذلک لا یصلح دلیلًا علی أنّ الأخبار المضبوطة فی ذلک الکتاب مجتمعة، و إلّا یلزم أن تکون الأخبار التی رواها الفضل بن شاذان و غیره من أصحاب الجوامع الأوّلیّة أیضاً کذلک. نعم یمکن أن یقال: بعدم إمکان وقوع «لا ضرر» فی ذیل هذین الخبرین؛ لعدم الارتباط بینهما بوجهٍ من الوجوه.

توضیح ذلک: أنّ تذییل قضیّة باخری بنحو ظاهر فی الارتباط بینهما علی أنحاء:

الأوّل: أن تکون القضیّة التی فی ذیل اخری کبری کلّیّة، و القضیّة المُذیّلة بها إحدی صُغریاتها المندرجة تحت الکبری؛ أی تحت عنوان الوسط المحکوم علیه فی الکبری بحکم.

و یمکن أن یقال: إنّ قولنا: «الخمر حرامٌ؛ لأنّ کلّ مسکرٍ حرامٌ» من هذا القبیل، و علیه فحرمة الخمر إنّما هی بما أنّها مسکر، لا بما أنّها خمر.

الثانی: أنّ القضیّة المذکورة فی الذیل علّة للقضیّة المذیّلة بها، کما لو قیل:

«الخمر حرامٌ لأنّه مسکر»، فإنّ الحکم فیه مترتِّب علی نفس عنوان الخمر بما أنّه خمر، و لکن بجهة تعلیلیّة صارت علّة لجعل ذلک الحکم علی هذا العنوان، و به یفترق عن الوجه الأوّل.

الثالث: أن تکون نکتةً للتشریع و جعل الحکم للقضیّة المذیّلة بها، کما فی

ص: 584

الأحکام الکلّیّة القانونیّة السیاسیّة، و یمکن أن یکون قوله: «الخمر حرام لأنّه مسکر» من هذا القبیل.

و الفرق بینه و بین الوجه الأوّل واضح، و هو بعینه الفرق بین الثانی و الأوّل، و أمّا الفرق بینه و بین الوجه الثانی فهو أنّ نکتة التشریع لا یلزم اطّرادها فی جمیع موارد الحکم، فإنّ الخمر حرام بناءً علی هذا الوجه؛ سواء المسکر من أفراده أو الغیر المسکر؛ لأنّ الإسکار علّة لجعل الحرمة و تشریعها، لا لنفس الحرمة، فإنّ الإسکار قد یترتّب علی بعض أفراد الخمر، و قد لا یترتّب کالقلیل منه للمدمن، و لعلّ استحباب غسل الجمعة کذلک بالنسبة إلی إزالة أریاح الآباط، أو الصوم لیذوق الأغنیاء طعم الجوع و نحو ذلک، بخلاف علّة الحکم، فإنّها ساریة و مترتّبة علی جمیع أفراده، و تذییل قضیّة ثبوت الشفعة بقضیّة «لا ضرر» لا یمکن بوجهٍ من هذه الوجوه:

أمّا الوجه الأوّل فواضح؛ لأنّ الحکم بالشفعة لیس من صُغریات قوله:

(لا ضرر و لا ضرار)

؛ بأن یتفرّع علیها نحو تفرّع الصغری علی الکبری، کتفرّع حرمة الخمر علی «کلُّ مسکر حرام».

و کذلک بنحو الوجه الثانی بلا إشکال، فإنّ نفی الضرر لیس علّة لثبوت الشفعة، و إلّا یلزم دورانها مداره ثبوتاً و نفیاً، و لیس کذلک.

و کذلک الوجه الثالث؛ و ذلک لأنّه لو کان نفی الضرر نکتةً لتشریع حقّ الشفعة، لزم عدم لزوم البیع أصلًا و جواز فسخ المعاملة للشریک الآخر بدون العوض؛ لأنّ دفع الضرر یترتّب دائماً علی عدم لزوم البیع، لا علی الأخذ بالشفعة، فیلزم منه جواز فسخ البیع من الشریک الآخر و إن لم یأخذ بالشفعة بدفع مثل الثمن، و هو ضررٌ علی البائع.

نعم یمکن أن یقال: إنّه لوحظ فیه حال الطرفین؛ لأنّه مع عدم ثبوت حقّ

ص: 585

الشفعة یلزم الضرر علی الشریک، و مع سلطنة الشریک علی فسخ المعاملة و عدم الأخذ بالشفعة بدفع مِثْل الثمن، یلزم الضرر علی البائع، فبملاحظة عدم تضرّرهما حکم بسلطنة الشریک علی الأخذ بالشفعة بدفع مِثْل الثمن؛ لئلّا یلزم تضرّر أحدهما، و حینئذٍ یمکن أن یُجعل نفی الضرر نکتةً لتشریع الحکم بالشفعة بهذا البیان و التقریر.

لکن هذه الروایة ضعیفة السند؛ لجهالة محمّد بن عبد اللَّه بن هلال، و عدم توثیق عقبة بن خالد و إن روی هو عن نفسه ما یدلّ علی توثیقه و حسن حاله، لکن لا یعتمد علی روایة شخصٍ بتوثیق نفسه، و لم یثبت اعتماد الفقهاء و استنادهم علی روایته فی ثبوت حقّ الشفعة؛ لینجبر ضعفها بعمل الأصحاب.

مضافاً إلی أنّ مقتضاها ثبوت حقّ الشفعة فیما لو کان الشرکاء أکثر من اثنین أیضاً؛ للتعبیر بالشرکاء فیها بلفظ الجمع، و لا یلتزمون بذلک.

مضافاً إلی ظهور عدم الارتباط بین الحکم بالشفعة و بینها؛ لعدم التفریع بالفاء، و لو ارتبطت به کان الأنسب التفریع بالفاء.

و أمّا روایة النهی عن منع فضول الماء فالمشهور بین الفقهاء کراهته، کما هو المناسب أیضاً، مع أنّ لفظ القضاء لا یناسب الکراهة، کما لا یخفی علی من تتبّع و لاحظ موارد استعماله؛ لأنّ القضاء حکمٌ لازم الاتّباع و الإجراء، فلا بدّ أن یطلق فی موارد وجوب شی ء أو حرمته، لا الکراهة الشرعیّة، و لذا لم یستعمل فی المندوبات، فاستفادة الکراهة منه بعیدة جدّاً، مع ما فی الاستدلال ب «لا ضرر» علی الکراهة من البرودة.

فهذه جهات دالّة علی عدم تذییل الحدیثین بقضیّة «لا ضرر»، کما أفاده شیخ الشریعة، و یؤیّده أنّه لا عین و لا أثر للاستدلال ب «لا ضرر» فی سائر أخبار الشفعة.

ص: 586

الجهة الثالثة: فی عدم صدور «لا ضرر ... فی الإسلام»

قال المحقّق شیخ الشریعة قدس سره أیضاً: تفحّصتُ فی کتب العامّة، و تتبّعتُ فی مسانیدهم و صحاحهم و معاجمهم و غیرها مراراً، فلم أجد روایة «لا ضرر» معقّبة بکلمة «فی الإسلام»، و لا أدری من أین جاء ابن الأثیر(1) بهذه الزیادة(2).

أقول: ذکر فی مجمع البحرین أیضاً ذلک(3)، مع أنّ ما ذکره فیه هو بعینه روایة الکافی فی الشفعة، و لیس فیها هذا القید. نعم هو مذکور فی مرسلة الصدوق و المنقولة عن «التذکرة»(4)، و لعلّهما واحدة، و هذه المرسلة ممّا یعتمد علیها؛ حیث أسندها إلی النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم جزماً، بخلاف ما لو نقل الروایة بلفظ «و رُوی»، لکن یحتمل قویّاً وقوع تلک الزیادة اشتباهاً من النسّاخ؛ حیث إنّه ذکر بعدها (فالإسلام یزید المسلم خیراً)، فکرّر الناسخ لفظة «فی الإسلام» اشتباهاً حال النسخ، کما وقع نظائره کثیراً، ثمّ صُحف و کتب «فی الإسلام»، فلا وثوق فی تعقّب قوله: «لا ضرر» بقوله: «فی الإسلام».

الجهة الرابعة: فی صدور «لا ضرر ... علی مؤمن»

قد تقدّم إنّ قضیة سَمُرة منقولة بطرق مختلفة:

ففی روایة الکلینی قدس سره عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبیه، عن عبد اللَّه بن بکیر، عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام، قال فی ذیلها:

(فإنّه


1- النهایة فی غریب الحدیث و الأثر 3: 81.
2- قاعدة لا ضرر، شیخ الشریعة الأصفهانی: 12.
3- مجمع البحرین 3: 373 مادة« ضرر».
4- الفقیه 4: 243/ 2، تذکرة الفقهاء 1: 522 سطر 40.

ص: 587

لا ضرر و لا ضرار)

(1).

و فی روایته عن علیّ بن محمّد بن بندار، عن أحمد بن أبی عبد اللَّه، عن بعض أصحابنا، عن عبد اللَّه بن مسکان، عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام، و فی ذیلها: (إنّک رجل مضارّ، و لا ضرر و لا ضرار علی مؤمن)

(2)، و هذه الروایة مرسلة، لکن الظاهر عدم کون هذا الراوی وضّاعاً، فإنّه جمع بین ما فی روایة الصدوق من قوله علیه السلام:

(ما أراک یا سَمُرة إلّا مضارّاً)

(3) و ما فی روایة الکلینی قدس سره بطریق آخر بقوله:

(فإنّه لا ضرر و لا ضرار)

(4).

و الظاهر أنّ نقله أضبط من الطریقین الآخرین، و أنّ الراوی فیهما بصدد ما هو المهمّ عنده من الجمل، و عدم ذکر قید «المؤمن» فیهما، إنّما هو لأجل عدم الاهتمام به، فالظاهر وجود هذا القید فیما صدر عنه صلی الله علیه و آله و سلم.

مضافاً إلی أنّه لو دار الأمر بین الزیادة و النقیصة، فالأصل العقلائیّ علی تقدیم أصل عدم الزیادة علی عدم النقیصة، لا لأجل قلّة السهو و الاشتباه فی جانب الزیادة؛ لیقال: إنّ ذلک إنّما یسلّم فیما إذا اتّحد الراوی لکلّ واحدٍ منهما، و مع تعدّدهما و روایة واحد لأحدهما و الآخر لآخر فلا، کما فیما نحن فیه؛ لوجود هذا القید فی طریقٍ و عدمه فی روایتین اخریین، بل لوجود دواعٍ فی جانب الإسقاط و النقیصة لیست فی جانب الزیادة، مثل عدم کون الراوی بصدد نقل تمام الروایة مع خصوصیّاتها، بخلاف الزیادة، فإنّه لا داعی لها، بل الداعی إلی خلافها؛ لأنّه افتراء علی الإمام علیه السلام.


1- الکافی 5: 292- 393/ 2.
2- الکافی 5: 294/ 8.
3- الفقیه 3: 59/ 9، وسائل الشیعة 17: 340، کتاب إحیاء الموات، الباب 12، الحدیث 1.
4- الکافی 5: 292/ 2.

ص: 588

مضافاً إلی أنّ ما ذکر إنّما یصحّ مع توافق النقلین فی التعبیر، و ما لیس فیه ذلک القید من الروایتین غیر متوافقتین فی العبارة.

فیظهر من ذلک أنّ راوی المرسلة أضبط.

و دعوی: أنّ هذا القید من الراوی لا الإمام؛ باعتبار أنّه أنسب فی نظره لشرافة المؤمن و کرامته(1).

واضحة الفساد؛ لما عرفت من أنّه افتراء علی الإمام علیه السلام.

و دعوی: أنّه یمکن زیادته لسبق القلم و الاشتباه فی النسخ، ففیها: أنّ سبق اللسان أو القلم فی مقام التکلّم و الکتابة إنّما هو فیما إذا کانت بین الشیئین ملازمة ذهنیّة، و ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّا کثیراً ما نتصوّر الضرر، و لا یسبق المؤمن إلی أذهاننا أصلًا.

الجهة الخامسة: فی معنی الضرر و الضرار
اشارة

إنّ الضرر یطلق غالباً فیما یقابل النفع من النقص المالی أو البدنی، یقال: «ضرّ فی التجارة»؛ أی خسر، فی مقابل قولک: «نفع فلان فی تجارته»؛ أی زاد فی ماله، و یقال أیضاً: «ضرّ الدواء فی بدنه» فی مقابل قوله: «نفعه»، و أمّا مَن نظر إلی امرأة غیره فلا یقال: إنّه ضرّه.

نعم قد یستعمل بمعنی الضیق و نیل المکروه و نحوهما کالحرج و سوء الحال، لکن الغالب هو الأوّل.

و أمّا الضرار

فهو بالعکس، فإنّ غالب ما یطلق هو فیه هو الإیقاع فی المکروه و الضیق و الحرج و سوء الحال.

و قد ذکر هذا اللفظ فی ستّة مواضع من الکتاب المجید:


1- منیة الطالب 2: 192 سطر 19.

ص: 589

1- قوله تعالی: «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ»(1)، فإنّه ورد فی تفسیرها

عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: (لا ینبغی للرجل أن یمتنع من جماع المرأة، فیضارّ بها إذا کان لها ولد مرضع، و یقول لها: لا أقربک، فإنّی أخاف علیک الحبل، فتقتلین ولدی، و کذلک المرأة لا یحلّ لها أن تمتنع علی- عن/ نسخة- الرجل، فتقول: إنّی أخاف أن أحبل، فأقتل ولدی، و هذه المضارّة فی الجماع علی الرجل و المرأة)

(2) الخبر.

و قریب منها روایات اخری فی تفسیرها(3)، و لا ریب فی أنّ المراد من المضارّة فیها هو الإیقاع فی الحرج و المشقّة و المکروه، لا الضرر المالی أو البدنی و فی مجمع البحرین: قوله: «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ»؛ أی: لا تضارّ بنزع الرجل الولد عنها، و لا تضارّ الأُمُّ الأبَ فلا ترضعه(4).

2- و قوله تعالی: «وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا عَلَیْهِنَّ»(5).

3- و قوله تعالی: «وَ لا یُضَارَّ کاتِبٌ وَ لا شَهِیدٌ»(6)، و فی المجمع: فیه قراءتان:

إحداهما: «لا یضارّ» بالإظهار و الکسر و البناء للفاعل علی قراءة أبی عمر، فعلی هذا فالمعنی: لا یجوز وقوع المضارّة من الکاتب؛ بأن یمتنع من الإجابة، أو


1- البقرة( 2): 233.
2- تفسیر القمّی 1: 76- 77، وسائل الشیعة 15: 180، کتاب النکاح، أبواب أحکام الأولاد، الباب 72، الحدیث 2.
3- الکافی 6: 41/ 6، تفسیر العیاشی 1: 120/ 382، وسائل الشیعة 15: 180، کتاب النکاح، أبواب أحکام الأولاد، الباب 72، الحدیث 1.
4- مجمع البحرین 3: 371 مادة« ضرر».
5- الطلاق( 65): 6.
6- البقرة( 2): 282.

ص: 590

یحرّف بالزیادة و النقیصة، و کذا الشهید.

و ثانیتهما: قراءة الباقین «لا یُضارّ» بالإدغام و الفتح بالبناء للمفعول، و علی هذا فالمعنی: لا یوقع علی الکاتب و الشهید ضرر؛ بأن یکلّف بقطع المسافة بمشقّة من غیر تعهّد بمئونتهما أو غیر ذلک(1)، و لا یبعد أن یُراد من قوله: «وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا عَلَیْهِنَّ» هذا المعنی أیضاً.

4- قوله تعالی: «وَ لا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا»(2)،

فعن أبی عبد اللَّه علیه السلام حیث سئل عن قول اللَّه عزّ و جلّ: «وَ لا تُمْسِکُوهُنَّ ...» الآیة، قال: (الرجل یُطلّق حتّی إذا کادت أن یخلو أجلها راجعها، ثمّ طلّقها یفعل ذلک ثلاث مرّات، فنهی اللَّه تعالی عن ذلک)

(3)، فالمضارّة حینئذٍ فیها بمعنی الإیقاع فی الضیق و الکلفة، لا الضرر المالی و البدنی لوجوب النفقة زمن العدّة أیضاً.

و قال فی مجمع البیان: لا تراجعوهنّ لا لرغبة فیهنّ، بل للإضرار بهنّ لتطویل العِدّة(4).

5- قوله تعالی: «وَ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ کُفْراً وَ تَفْرِیقاً ...»(5) الآیة، و لیس المراد من الضرار فیها الضرر المالی أو البدنی؛ لما نقل: أن بنی عمر بن عوف اتّخذوا مسجد عوف- و هو مسجد قباء- فحسدهم جماعة من المنافقین من بنی غنم بن عوف، فبنوا مسجداً ضراراً، و أرادوا أن یحتالوا بذلک، فیفرّقوا بین


1- مجمع البیان 2: 680.
2- البقرة( 2): 231.
3- الفقیه 3: 323/ 1، وسائل الشیعة 15: 402، کتاب الطلاق، أبواب أقسام الطلاق و أحکامه، الباب 34، الحدیث 2.
4- مجمع البیان 2: 582.
5- التوبة( 9): 107.

ص: 591

المؤمنین و یوقعوا الشکّ و الاضطراب فی قلوبهم(1).

6- قوله تعالی: «مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصی بِها أَوْ دَیْنٍ غَیْرَ مُضَارٍّ وَصِیَّةً ...»(2).

و أمّا الأخبار ففی مرسلة زرارة:

(إنّک رجلٌ مضارّ)

(3).

و فی روایة هارون بن حمزة:

(هذا الضرار)

(4).

و فی روایة الحذّاء:

(لا ضرر و لا ضرار)

(5).

و لا ریب فی عدم إرادة الضرر المالی و البدنی منها؛ لأنّ إضرار سَمُرة لم یکن مالیّاً، بل هو بمعنی: إیقاع الأنصاری فی الکُلفة و المشقّة و الحرج.

فما ذکره ابن الأثیر فی «النهایة»: من أنّ قوله:

(لا ضرر)

؛ أی: لا یضرّ الرجل أخاه، فینقصه شیئاً من حقّه، و الضِّرار فِعال من الضرّ؛ أی: لا یُجازیه علی إضراره بإدخال الضرر علیه(6)، و تبعه السیوطی فی الدرّ النثیر(7) و صاحب تاج العروس(8) و مجمع البحرین(9).

وهمٌ صدر منه؛ فإنّه لم یستعمل الضرار فی شی ء من موارد إطلاقاته فی


1- مجمع البیان 5: 109.
2- النساء( 4): 12.
3- الکافی 5: 294/ 8، وسائل الشیعة 17: 341، کتاب إحیاء الموات، أبواب إحیاء الموات، الباب 12، الحدیث 4.
4- الکافی 5: 293/ 4.
5- لیست هذه من روایة الحذّاء بل من صحیحة زرارة و مرسله، الکافی 5: 292/ 2 و 294/ 8.
6- النهایة فی غریب الحدیث و الأثر 3: 81 مادة« ضرر».
7- الدرّ النثیر 3: 17.
8- تاج العروس 3: 348 مادة« ضرر».
9- مجمع البحرین 3: 373 مادة« ضرر».

ص: 592

مجازاة الضرر، و لعلّه ذکر ذلک علی طبق باب المفاعلة؛ غفلةً عن عدم استعماله فی ذلک، و عدم اقتضاء باب المفاعلة ذلک، و لم یتأمّل فی الحدیث لیتفطّن إلی ذلک.

و بالجملة: قد عرفت أنّ الشائع فی إطلاق الضرار هو استعماله فی إیقاع المکروه و الضیق و المشقّة، علی الغیر و لم یُرَد منه فی هذا الخبر المجازاة علی الضرر قطعاً، و لم یصدر من الأنصاری ما هو مجازاة لضرر سَمُرة.

و مثل روایة عبیدة بن زرارة، قال: قلت لأبی عبد اللَّه علیه السلام: الجاریة یرید أبوها أن یزوّجها من رجلٍ، و یرید جدّها أن یزوّجها من رجلٍ آخر، فقال:

(الجدّ أولی بذلک ما لم یکن مضارّاً إن لم یکن الأب زوّجها قبله)

(1).

و الحاصل: أنّ کلّ واحدٍ من الضرر المالی و البدنی ضرر و إضرار و إیقاع فی المکروه و الحرج و المشقّة، و فعلُ سَمُرة لم یکن ضرراً بل ضِراراً؛ أی: إیقاع الأنصاری فی الحرج و المشقّة.

هذا کلّه فی مفردات الألفاظ.

فی مفاد الجملة الترکیبیّة

و أمّا الکلام فی الهیئة الترکیبیّة منه، فقال الشیخ الأعظم قدس سره: اعلم أنّ المعنی- بعد تعذُّر إرادة الحقیقة- عدم تشریع الضرر؛ بمعنی أنّ الشارع لم یشرّع حکماً یستلزم الضرر علی الغیر تکلیفیّاً أو وضعیّاً، فلزوم البیع مع الغَبْن حکم یلزم منه الضرر علی المغبون، فینتفی بالخبر، و کذلک لزوم البیع من غیر شفعة للشریک.

و ذکر أیضاً أمثلة اخری، مثل سلطنة المالک علی الدخول إلی عَذْقه و إباحته له من دون الاستئذان من الأنصاری.


1- الکافی 5: 395/ 1، وسائل الشیعة 14: 218، کتاب النکاح، أبواب عقد النکاح، الباب 11، الحدیث 2.

ص: 593

ثمّ ذکر أنّه یحتمل النهی أیضاً، و جعل الأوّل أرجح(1). انتهی.

أقول: قد صرّح قدس سره بعدم إرادة الحقیقة منه، و أنّ الاستعمال مجازیّ، و لکن لم یبیّن أنّه مجاز فی الحذف، کما ذکروه فی مثل: «وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ»(2)، أو أنّه مجاز فی الکلمة، أو أنّه بنحو الحقیقة الادّعائیّة، و لکن هذا الأخیر أقرب من الأوّلین فی کلامه قدس سره، و الحقیقة الادّعائیّة تحتاج إلی مصحِّح الادّعاء، و یمکن أن یکون المصحِّح لنفی الضرر ادّعاءً أحد امور:

الأوّل: علاقة السببیّة و المسبَّبیّة بإطلاق اللفظ الموضوع للمسبَّب و إرادة السبب؛ لأنّ الحکم سبب للضرر؛ بادّعاء أنّ الحکم الضرریّ عین الضرر.

الثانی: ما ذکره فی «الکفایة» من أنّه من قبیل نفی الآثار بنفی الموضوع، مثل:

(یا أشباه الرجال و لا رجال)

(3)؛ بدعوی أنّ تمام آثار الرجولیّة هی الشجاعة، و بدعوی أنّها عین الرجولیّة، فکذلک فیما نحن فیه؛ بدعوی أنّ لزوم البیع الغَبْنی أو وجوب الغسل و الوضوء و الصوم- مثلًا- فی صورة الضرر عین الضرر(4).

الثالث: ما ذکره فی «الحاشیة علی الفرائد»، و هو قریب ممّا ذکره فی «الکفایة»: و هو أنّه نفی للحکم بنفی الموضوع مثل:

«لا رفث و لا فسوق»

(5)، فالمراد أنّه تعالی لم یشرّع حکماً ضرریّاً(6).

الرابع: ما أفاده استاذنا الحائری قدس سره- علی ما ببالی- و هو أنّ ما یتحقّق به الضرر أمران:


1- فرائد الاصول: 314 سطر 18.
2- یوسف( 12): 82.
3- نهج البلاغة( شرح محمّد عبده): 123، الخطبة 27.
4- کفایة الاصول: 432.
5- البقرة( 2): 197.
6- حاشیة فرائد الاصول، المحقق الخراسانی: 168 سطر 25.

ص: 594

أحدهما: بعض الأحکام المستلزمة للضرر.

ثانیهما: إضرار المسلمین بعضهم بعضاً.

و حیث إنّ الحکیم تعالی لم یشرّع حکماً ضرریّاً، و نهی عن إضرار المسلمین بعضهم بعضاً، صحّ منه أن یقول بنحو الإخبار:

(لا ضرر و لا ضرار)

حقیقةً، و لا تلزم المجازیّة أیضاً.

الخامس: أنّ أحکام الشارع کثیرة یستلزم إطلاق بعضها الضرر، و أمّا الأحکام التی هی ضرر ذاتاً فقلیلة، فحیث إنّها قلیلة بالنسبة إلی ما لا یلزم منها الضرر، فهی کالعدم، صحّ أن یقال:

(لا ضرر و لا ضِرار)

. السادس: ما أفاده المحقّق العراقی(1)، و هو بعینه ما ذکره شیخنا الحائری قدس سره.

السابع: ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره، فإنّه بعد نقل ما اختاره الشیخ الأعظم قدس سره مع وجوهٍ اخر، و أطال الکلام بتمهید مقدّمات، لا یهمّنا التعرّض لما لا ارتباط لها بالمقام، قال ما ملخّصه: إنّ الأحکام الشرعیّة بشراشر حقائقها مجعولة، و جعلها التشریعی هو عین وجودها التکوینی، فبجعلها تتحقّق، و کذلک فی جانب النفی، فإنّ النفی المتعلّق بالحکم نفیٌ بسیط متعلّق بشراشر وجوده، و نفی حقیقته عن صفحة الکون هو عین نفیه التشریعی.

ثمّ ذکر بعد مقدّمات اخری غیر مرتبطة بما نحن فیه: أنّه قد ذکرنا فی حدیث الرفع: أنّ الرفع فیه مستعمل فی معناه الحقیقی؛ سواء کان متعلّقه ممّا رفعُهُ بید الشارع، مثل «ما لا یعلمون»، أم لا مثل رفع النسیان، فإنّ الرفع فیهما مستعمل فی معناه الحقیقی، غایة الأمر أنّه إن لوحظ بالنسبة إلی الأحکام فهو حاکم علیها و مخصِّص لها، و إن لوحظ بالنسبة إلی المکلّفین فهو إنشاءٌ للنهی عن إضرار بعضهم بعضاً، و هو لا یُنافی استعماله فی معناه الحقیقی. نعم لو کان نفی الضرر إخباراً لم


1- مقالات الاصول 2: 113 سطر 7.

ص: 595

یکن بدٌّ و مفرٌّ من القول بالمجازیة؛ لئلّا یلزم الکذب، و لکنّه لیس إخباراً، و کذلک حدیث الرفع، بل إنشاء و إیقاع لنفی الأحکام الضرریّة؛ لما مرّ من أنّ الأحکام بشراشرها بید الشارع، و تحت الجعل إثباتاً و نفیاً، فهو إعدامٌ للأحکام الضرریّة، فلا یلزم ارتکاب التجوُّز.

ثمّ ذکر: أنّ الجملة الخبریّة و الإنشائیّة من المدالیل السیاقیّة، لا المدالیل اللفظیّة الموضوع بإزائها لفظ، بل یستفاد من سیاق الکلام کون «بِعت» إنشاءً، فجملة «لا ضرر و لا ضِرار» کذلک، فلا بدّ من ملاحظة أنّه یستفاد من سیاقها الإخبار أو الإنشاء، و لا ریب أنّه یُستفاد منه إنشاء نفی الأحکام المستلزمة للضرر، و نهی المکلّفین عن إضرار بعضهم بعضاً.

ثمّ قال: إنّ المتیقّن الموافق للتحقیق هو ما ذکره الشیخ رحمه الله: من أنّه نفی للحکم لا نهی، و هو لا یستلزم المجازیّة أیضاً؛ لأنّ الضرر من العناوین الثانویّة، و هی علی ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن یکون العنوان الأوّل للثانی من قبیل المعدّات.

الثانی: أن یکون العنوان الأوّل سبباً للثانی و لکنّهما موجودان بوجودین.

الثالث: أن یکونا کذلک مع کونهما موجودین بوجود واحد.

فعلی الأوّل: مع کون العنوان الأوّل و العنوان الثانی موجودین بوجودین، فإطلاق العنوان الثانی و إرادة الأوّل مجاز، و کذلک علی الثانی.

و أمّا علی الثالث فالعنوانان موجودان بوجود واحد کالضرب و الإیلام، فاستعمال أحدهما فی الآخر لا یوجب المجازیّة، بل هو استعمال شائع.

و توهّم: أنّ الموجب للضرر لیس هو الحکم، بل الموجب له هو الموضوع، و الحکم من قبیل المُعدّات.

مدفوعٌ: بأنّ الحکم علی قسمین: أحدهما من قبیل لزوم البیع و نحوه،

ص: 596

و الآخر من قبیل وجوب الوضوء.

أمّا الأوّل: فلا ریب فی أنّه الموجب للضرر.

و أمّا الثانی: فالضرر و إن کان من ناحیة الوضوء لأجل أنّه فعلٌ اختیاریّ، لکن إرادة العبد حیث إنّها محکومة لإرادة اللَّه، فإرادة اللَّه تعالی فی سلسلة العلل، فهی سببٌ تامّ لذلک الضرر، و فی هذه الصورة لا تلزم المجازیّة أیضاً(1). انتهی ملخّصاً.

أقول: قد تقدّم تصریح الشیخ الأعظم قدس سره: بأنّه لیس حقیقة، نعم صرّح شیخنا الحائری: بأنّه استعمال حقیقی، و کذلک العراقیّ بتقریبات متقاربة، و هو خلاف التحقیق.

أمّا ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره فإنّه یرد علیه:

أوّلًا: أنّه إن أراد عدم التجوُّز فی الکلمة فهو صحیح.

و إن أراد أنّه لا مجازیّة فیه أصلًا؛ حتّی فی الإسناد بنحو الحقیقة الادّعائیّة؛ لما ذکره فی وجهه.

ففیه: أنّ ما ذکره فی وجه عدم التجوّز فیه- من أنّ الجملة الخبریّة و الإنشائیّة من المدالیل السیاقیّة، و لم یوضع لها لفظٌ- غیرُ صحیح؛ لأنّه لا إشکال فی أنّ هیئة مثل «اضرب» و نحوه لیست مهملة بل موضوعة، و حینئذٍ فإن أراد أنّ بین الإنشاء و الإخبار جامعاً استُعملت الهیئة فی مثل «بعتُ» و «أنکحت» فیه، و لذا قد یفهم منها الإنشاء، و قد یستفاد منها الإخبار، ففیه: ما تقدّم سابقاً من أنّ معنی الإنشاء و الإخبار من المعانی الحرفیّة لا جامع بینهما، مضافاً إلی أنّ الإنشاء إیقاع و إیجاد، و الإخبار حکایة، و لا جامع بینهما.

لا یقال: إنّ الهیئة موضوعة لمطلق الإسناد؛ لأنّه یقال: إن ارید بالإسناد


1- منیة الطالب 2: 201- 208 سطر 8.

ص: 597

مفهومه الکلّی فهو معنیً اسمیّ، و لیست الهیئة موضوعة لمعنیً اسمیّ، فلا بدّ أن تکون موضوعة لمعنیً حرفیّ، و لا جامع بین المعانی الحرفیّة.

مضافاً إلی أنّ قوله:

(لا ضرر و لا ضِرار)

بناءً علی کونه نفیاً لیس إنشاءً. نعم یصحّ ذلک إذا قلنا: بأنّه نهیٌ.

فإن قال: بأنّه إنشاء لسلب الحکم و نفیه، یلزمه الالتزام بالتجوُّز؛ حیث إنّه اطلق نفی الضرر و ارید به إبقاء سلب الأحکام الضرریّة، و لا نعنی بالمجاز إلّا إطلاق لفظ موضوع لمعنیً و إرادة معنیً آخر، کما أنّ إطلاق لفظ «العالم» و إرادة القرشیّ مجاز و لو مع وجودهما بوجودٍ واحد.

و ثانیاً: ما ذکره من أنَّ إرادة العبد مقهورة لإرادة اللَّه تعالی، فهو بالخطابة أشبه منه بالبرهان، فإنّ إرادة اللَّه تعالی لو کانت سبباً تامّاً لإرادة العبد لما تحقّقت معصیة اللَّه لأحد، و لیس کذلک، بل العبد یرید الفعل و یفعله بمبادئ کامنة فی نفسه؛ من خوف العقاب أو الشوق إلی الثواب و نحو ذلک، و الأحکام من المعدّات لذلک، و بها یتحقّق موضوع الموافقة و المخالفة.

فتلخّص: أنّ إطلاق «لا ضرر» و إرادة نفی الأحکام مجاز لا حقیقة.

و یظهر ممّا ذکرنا ما فی کلام شیخنا الحائری و المحقّق العراقی أیضاً.

و أمّا ما أفاده فی «الکفایة» ففیه: أنّ قوله:

(لا ضرر و لا ضرار)

لیس نظیر

(یا أشباه الرجال و لا رجال)

؛ حیث إنّ نفی الرجولیّة فی کلامه علیه السلام إنّما هو بلحاظ نفی أظهر آثار الرجولیّة- أی الشجاعة- فباعتبار عدمها صحّت دعوی سلب الرجولیّة، بخلاف ما نحن فیه، فإنّه لیس للضرر أثر یترتّب علیه؛ لتصحّ دعوی نفیه بانتفائه.

و أمّا الحکم بوجوب الوضوء فلیس هو من أسباب الضرر، بل سببه الوضوء نفسه، و الحکم به من قبیل المعدّات کما تقدّم، و لیس ما نحن فیه نظیر قوله علیه السلام:

ص: 598

(لا صلاة لجار المسجد إلّا فی المسجد)

(1)؛ حیث إنّ للصلاة فی المسجد آثاراً مهمّة، و یصحّ سلبها عنها فی غیر المسجد بلحاظ عدم ترتّب تلک الآثار علیها.

و أمّا ما فی الحاشیة: من أنّه نظیر «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ»، ففیه: أنّه لیس المراد نفی الرفث و الفسوق باعتبار حکمهما، فإنّ حکمهما الحرمة، فنفیه بلحاظ نفی الحرمة یقتضی نفیها، و هو واضح الفساد، بل هو نفی یُستفاد منه النهی، فلیس «لا ضرر» نظیراً له، و لو کان نفی الضرر باعتبار نفی حکمه لزم عدم حرمة الضرر و الإضرار.

و أمّا دعوی أنّ المصحّح للادّعاء هو علاقة السببیّة و المسبَّبیّة- کما هو محتمل کلام الشیخ الأعظم قدس سره- ففیها: أنّ ما بید الشارع هو نهی المکلّفین عن إضرار بعضهم بعضاً، أو الحکم بوجوب تدارک الضرر، و هو قلیل التأثیر فی محیط التکوین؛ حیث إنّه مع وجود النهی یتحقّق الضرر و الإضرار من العباد کثیراً.

و أمّا نفی الحکم الضرریّ فهو أیضاً غیر صحیح؛ لأنّ الأحکام الضرریّة فی غایة الکثرة، کوجوب الزکاة و الخمس و الحجّ و الحدود و الدِّیات و إسقاط مالیّة الخمر و آلات القمار و اللهو و أعیان النجاسات إلی غیر ذلک، و معها لا تصحّ دعوی نفی الحکم الضرریّ.

و ما یقال- القائل المیرزا النائینی قدس سره-: إنّ مثل وجوب الزکاة و الخمس و نحوهما لا یعدّ ضرراً؛ لأنّه مال الغیر و الحکم بوجوب دفع مال الغیر إلیه لیس ضرراً(2).

ففیه: أنّ الکلام إنّما هو فی أنّها لِمَ صارت مال الغیر مع تحصیله لها بالکلفة و المشقّة، فإنّ جعله للغیر عین الضرر علیه.


1- دعائم الإسلام 1: 148.
2- منیة الطالب 2: 212 سطر 2.

ص: 599

و ما أورده الشیخ قدس سره علی بعض الفحول- حیث ذهب إلی أنّ نفی الضرر إنّما هو لإیجابه التدارک، و معه فلا ضرر(1)- من أنّ مجرّد إیجاب التدارک لا یصحّح نفیه إلّا بتحقّق التدارک فی الخارج(2)، فهو بعینه وارد علی نفسه الشریفة، فإنّ مجرّد رفع إباحة الضرر- کما ذکره قدس سره- لا یصحّح دعوی نفیه.

ثمّ إنّه یرد علی الشیخ الأعظم قدس سره- حیث اختار أنّه نفیٌ لا نهی علی جمیع محتملات کلامه قدس سره(3)- إشکالان لا یمکن التفصّی عنهما:

الأوّل: إشکال تخصیص الأکثر، و ذلک لأنّ الأحکام المخاطَب بها المکلّفون لیست بنفسها ضرریّة، فإنّه لا یترتّب علی مجرّد إیجاب الوضوء و نحوه ضررٌ ترتّباً عقلیّاً أوّلیّاً و لا تولیدیّاً، و إلّا لزم عدم تحقّق مخالفتها و عصیانها؛ لانتفاء تلک الأحکام بناءً علی ما ذکره، بل له نحو دخلٍ فیه؛ لعلّه أضعف من المُعِدّ أیضاً؛ حیث إنّ به یتحقّق موضوع الإطاعة و المعصیة؛ لاختلاف المکلّفین فی عنایتهم بالأحکام فمنهم من لا یعتنی بها و لا یکونون بصدد الامتثال، فلا یترتّب علیهم ضرر أصلًا، و منهم من یکمن فی نفوسهم مبادی الطاعة، کالخوف من العقاب، أو الشوق إلی الثواب، و نحو ذلک، و تتحقّق سائر المبادی، و تحریک العضلات، نحو الفعل و الامتثال، کالوضوء فقد یترتّب علیه ضررٌ، لکن لا ترتُّباً أوّلیّاً، بل بواسطة کالصوم فإنّه قد یترتّب علیه الضرر لکن بواسطة یبوسة المزاج، فالضرر یترتّب أوّلًا علی الیبوسة، و بواسطتها علی الصوم.

و بالجملة: قد یکون متعلّق الحکم بنفسه ضرریّاً، کالبیع الغَبْنی، و قد لا یکون هو بنفسه ضرریّاً، لکن یترتّب علیه الضرر بواسطة، لا ترتّباً أوّلیّاً، کإیجاب الوفاء


1- الوافیة، الفاضل التونی: 194.
2- المکاسب، الشیخ الأنصاری: 372 سطر 27.
3- فرائد الاصول: 314 سطر 18.

ص: 600

بالعقد.

فظهر من ذلک عدم صحّة الحکم بنفی الحکم الضرری؛ حیث إنّه لا حکم ضرریّ أصلًا؛ لما عرفت من عدم ترتُّب الضرر علی الحکم نفسه ترتُّباً أوّلیاً، لا بنحو العلیّة، و لا التولیدیّة، و لا ثانویّاً، بل الضرر دائماً یترتّب علی متعلَّق الحکم ترتُّباً أوّلیّاً و ثانویّاً، و حینئذٍ فلا وجه للقول بأنّه نفی للحکم الذی یترتّب علی متعلّقه ضرر ترتُّباً أوّلیّاً فقط، بل یعمّ و ما یترتّب علیه ترتُّباً ثانویّاً و ثالثیّاً .. و هکذا، و العمل علی وفقه و طبقه بهذه السعة مستلزم لفقهٍ جدید و اختلال سوق المسلمین؛ لأنّه قلّما یتّفق بیع و نحوه إلّا و یترتّب علیه هذا النحو من الضرر و لو بوسائط، و کذلک الأحکام، فلا بدّ من تخصیصه بما إذا کان ترتُّبه أوّلیّاً فقط، و إخراج غیره عنه، و حینئذٍ یلزم التخصیص المستهجن.

و بهذا البیان لا یمکن التفصّی عن هذا الإشکال بما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره:

من أنّه لا ضیر فی هذا التخصیص و لا استهجان؛ حیث إنّه خرج بعنوان واحد(1)؛ لأنّه لیس هنا عنوان واحد ینطبق علی تلک الأفراد؛ لیکون المُخرَج هو ذلک العنوان، و لا وجه للالتزام به مع مجهولیّته، کما اعترف هو قدس سره به، إلّا فیما لا محیص عنه من جهة مفروغیّة أصل المطلب، الذی لا مفرّ عنه إلّا بالالتزام بذلک، و ما نحن فیه لیس کذلک.

مضافاً إلی أنّ عدمَ استهجان تخصیص الأکثر- و لو بعنوان واحد بنحو الإطلاق- ممنوعٌ؛ أ لا تری أنّه لو قال «کُلْ کلّ رمّانةٍ فی هذا البستان إلّا الحامض» و فرض أنّ جمیع ما فی البستان من الرمّان حامض إلّا واحداً منها، فلا ریب فی أنّه مستهجن، مع أنّ المُخرَج عنوان واحد، فالمناط فی الاستهجان هو جعل القانون الکلّی لأفراد قلیلة، و لا فرق فیه بین إخراج أکثر الأفراد بعنوان واحد و بین اخراجها بأکثر من عنوان واحد.


1- فرائد الاصول: 316 سطر 10.

ص: 601

و قال المیرزا النائینی قدس سره: إنّ ما ذکره الشیخ قدس سره فی دفع هذا الإشکال لا یجدی فی دفعه؛ لأنّ القضایا علی قسمین: حقیقیّة و خارجیّة، و المناط فی الاولی هو تعلّق الحکم بنفس الطبیعة، و فی الثانیة تعلّقه بالأفراد الخارجیّة بملاکات مختلفة، مثل «قتل من فی العسکر»، و التخصیص أیضاً: إمّا من قبیل التقیید، مثل «أکرم کلّ عالم عادل»، و إمّا بالأدوات، و الفرق بینهما: هو أنّه علی الأوّل لا یضرّ بکلّیّة الکلّ و لا یزیلها، بخلافه علی الثانی، و تخصیص الأکثر بعنوان واحد إنّما لا یُستهجن إذا کان بالنحو الأوّل- أی التقیید- کما أنّه فی الحقیقیّة کذلک، و لکن قوله:

(لا ضرر و لا ضرار)

بنحو القضیّة الخارجیّة، فالتخصیص فیها وارد علی الأفراد بأداة الإخراج، و کلّ تخصیص کذلک- أی المستهجن- لا فرق فیه بین أن یکون بعنوان واحد أو أکثر.

فالصواب فی دفع الإشکال: أن یقال بعدم لزوم تخصیص الأکثر فی المقام؛ حیث إنّ مثل الزکاة و الخمس و نحوهما إنّما هو إعطاء مال الغیر إلیه، و إیجابه لیس ضرراً، و أمّا مثل إسقاط مالیّة الخمر و النجس و آلات القمار و الطرب و نحو ذلک و وجوب إتلافها، فهو لیس بضررٍ أیضاً؛ حیث إنّ الشارع أسقطها و أخرجها عن ملک مالکها(1). انتهی.

أقول: أمّا المناط و الملاک الذی ذکره فی الفرق بین القضیّة الحقیقیّة و الخارجیّة فقد تقدّم أنّه غیر صحیح؛ بل المناط فی الفرق بینهما- بعد أنّ الحکم فی کلّ واحدٍ منهما متعلّق بالعنوان و الطبیعة- هو أنّ العنوان فی الخارجیّة اخذ بحیث لا ینطبق إلّا علی الأفراد الخارجیّة، مثل

(لا ضرر و لا ضِرار)

، و أمّا فی القضایا الحقیقیّة فالعنوان یعمّ الأفراد المحقَّقة الموجودة و المقدَّرة، و الحکم بنفی الضرر لیس بملاکات مختلفة مع کونه بنحو القضیّة الخارجیّة، بل بملاک واحد.


1- انظر منیة الطالب 2: 210- 211 سطر 20.

ص: 602

هذا لو قلنا باختصاص «لا ضرر» بالأحکام، و إلّا فلو عمّمناه، و قلنا بشموله للإضرار بالغیر أیضاً، فهو لیس بنحو القضیّة الخارجیّة.

مضافاً إلی أنّه لو کان المناط ما ذکره یلزم تثلیث القضایا بزیادة قسم ثالث، و هو تعلُّق الحکم فی الخارجیّة بالأفراد بملاک واحد، مع ما تقدّم من الإشکالات علیه.

الإشکال الثانی الذی یرد علی الشیخ الأعظم: هو أنّه بناءً علی ما ذکره یصیر معنی «لا ضرر» لا حکم ضرریّ مجعول، و أنّ لسانه لسان نفی العسر و الحرج، فکما أنّ نفی العسر و الحرج حکم امتنانیّ کذلک نفی الضرر، و حینئذٍ فلا یمکن تخصیصه؛ لإباء لسانه عن التخصیص رأساً، فضلًا عن تخصیص الأکثر، فیلزم استهجان تخصیصه، مع أنّه لا ریب فی تخصیصه.

و توهّم انصرافه عن مثل وجوب الزکاة و الخمس و عمّا یترتّب علیه الضرر بالواسطة، قد عرفت ما فیه، و حینئذٍ فلا یمکن الالتزام بما ذکره الشیخ قدس سره.

و أمّا الوجه الذی جعله الشیخ قدس سره أردأ الاحتمالات، و هو أن یُراد به نفی الضرر الغیر المتدارک، فیرد علیه جمیع ما أوردناه علیه.

بقی فی المقام الاحتمال الذی ذکره شیخ الشریعة، و ادّعی أنّه المنسبق إلی الأذهان المستقیمة، و لذا فهمه منه مَهَرةُ أهل اللسان، کصاحب لسان العرب(1) و ابن الأثیر(2) و نحوهما: و هو أنّه نفیٌ ارِید منه النهی عن الضرر؛ باستعمال النفی فی معناه و إرادة النهی کنایةً، مثل

«لا رفث و لا فسوق»

(3)، و أنّ ما ذکره بعضهم: من أنّه لم یُعهد استعمال هذا الترکیب فی النهی، فیه: أنّه استعمال شائع جدّاً. ثمّ ذکر نظائره.

و قال أیضاً: وَ لیعلم أنّ المدّعی هو أنّ حدیث نفی الضرر یُراد منه إفادة النهی؛


1- لسان العرب 8: 44 مادة« ضرر».
2- النهایة فی غریب الحدیث و الأثر 3: 81 مادة« ضرر».
3- البقرة( 2): 197.

ص: 603

سواء کان هذا باستعمال الترکیب فی النهی ابتداءً، أو باستعماله فی معناه الحقیقیّ، و هو النفی، و لکن لینتقل منه إلی إرادة الغیر، کما یقال: إنّ کلمة «لا» عند استعمالها فی الإخبار عن نفی الحقیقة أو نفی صحّتها أو نفی کمالها أو إرادة أنّ النهی، فی جمیع المواضع المذکورة تستعمل فی معنیً واحد، و هو نفی الطبیعة إمّا حقیقةً أو ادّعاءً، فإنّ ما لا یصحّ بمنزلة المعدوم فی عدم حصول الأثر المطلوب منه، و کذلک الناقص غیر الکامل بمنزلة المعدوم فی بعض الجهات، و المنهیّ عنه أیضاً یراد منه- من جهة شدّة التنفّر عنه، و المبالغة فی عدم إیجاده- أنّه غیر موجود، کما أنّ المأمور به إذا ارید المبالغة فی طلبه یُطلب بما یدلّ علی وقوعه، فیقال: «ترکب کذا، و تذهب إلی کذا»(1). انتهی.

أقول: أمّا جعله «لا ضرر» حقیقة فیما ذکره: فإن أراد التمسّک بأصالة الحقیقة لترجیح هذا القول، ففیه: أنّه مجاز علی کلا الاحتمالین؛ سواء استعمل فی النفی أو النهی، فإن استعمل فی النفی فهو کنایة عن النهی، فإنّ المراد حینئذٍ هو غیر ما وضع له اللفظ، و هو المناط فی المجازیّة، فإنّ اللفظ فی جمیع المجازات مستعمل فی معناه الحقیقی، و تعلّقت به الإرادة الاستعمالیّة، لکن قد یستقرّ فیه، و تتعلّق به الإرادة الجدّیة أیضاً، فهو حقیقة، و قد لا یستقرّ فیه، بل یتجاوز عنه إلی غیره الذی تعلّقت به الإرادة الجدّیّة، فیصیر مجازاً، و مقتضی أصالة الحقیقة استقراره فی معناه الحقیقی، و عدم تجاوزه عنه إلی غیره، مع أنّه فی المقام متجاوز عنه، و لم یستقرّ فی معناه الحقیقی.

مضافاً إلی أنّ هذا لو کان حقیقةً، فما اختاره الشیخ الأعظم أیضاً کذلک.

و إن أراد أنّ استعمال هذا الترکیب؛ حیث إنّه شائع کثیر فی هذا المعنی، حتّی صار من المجازات الراجحة، و یتبادر هذا المعنی من هذا الترکیب.


1- قاعدة لا ضرر، شیخ الشریعة الأصفهانی: 24- 27.

ص: 604

ففیه: أنّ استعمال هذا الترکیب و إرادة النفی أکثر من استعماله فی النهی، و إن کان إرادة النهی منه أیضاً شائعةً، فما ذکره یصحّ جواباً عمّا فی «الکفایة»، لکنّه لیس فی الشیوع مثل إرادة غیر النهی، فإنّه ارید منه الحکم الوضعی فی کثیر من الموارد، مثل قوله علیه السلام:

(لا سهو علی من أقرّ علی نفسه بسهو)

(1)، و قوله علیه السلام:

(لا سهو فی سهو)

(2)، و قوله علیه السلام:

(لا سهو فی النافلة)

(3)، و قوله علیه السلام:

(لا طلاق إلّا علی السُّنّة)

(4)، و

(لا طلاق إلّا علی طهر من غیر جِماع)

(5)، و

(لا طلاق إلّا ما ارید به الطلاق)

(6)، و

(لا ظِهار إلّا ما ارید به الظِّهار)

(7)، و

(لا طلاق إلّا بعد نکاح)

(8)، و

(لا عتق إلّا فی ملک)

(9)، و

(لا یتم بعد إدراک)

(10)، و قوله علیه السلام:

(لا عِتاق إلّا بعد ما


1- مستطرفات السرائر: 110/ 66، وسائل الشیعة 5: 330، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16، الحدیث 8.
2- الکافی 3: 358/ 5، وسائل الشیعة 5: 341، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 25، الحدیث 2 و 3.
3- المقنع، ضمن الجوامع الفقهیة: 9/ سطر 23، مستدرک الوسائل 6: 414، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16، الحدیث 2.
4- الکافی 6: 62/ 3، وسائل الشیعة 15: 280، کتاب الطلاق، أبواب مقدّماته و شرائطه، الباب 9، الحدیث 3.
5- نفس المصدر.
6- الکافی 6: 62/ 1، وسائل الشیعة 15: 286، کتاب الطلاق، أبواب مقدّماته و شرائطه، الباب 11، الحدیث 3.
7- الکافی 6: 153/ 2، وسائل الشیعة 15: 510، کتاب الظهار، الباب 3، الحدیث 1.
8- الفقیه 3: 321/ 3، وسائل الشیعة 15: 286، کتاب الطلاق، أبواب مقدّماته و شرائطه، الباب 12، الحدیث 1.
9- الفقیه 3: 321/ 3، وسائل الشیعة 15: 286، کتاب الطلاق، أبواب مقدّماته و شرائطه، الباب 12، الحدیث 1.
10- وسائل الشیعة 8: 371، کتاب الحج، أبواب أحکام الدواب، الباب 28، الحدیث 1.

ص: 605

یملک)(1)،

و

(لا نِکاح للعبد إلّا بإذن مولاه)

(2)، و

(لا نَذْر فی معصیة)

(3)، و

(لا یمین لولد مع والدة، و لا للمرأة مع زوجها، و لا للمملوک مع سیّده)

(4)، و

(لا یمین فی قطیعة رحم)

(5)، و قوله علیه السلام:

(و لا رضاع بعد فطام)

(6) إلی غیر ذلک من الموارد التی استعمل فیها هذا الترکیب فی غیر النهی، یظفر بها المتتبّع فی الأخبار.

الحقّ فی معنی الحدیث

نعم لا إشکال فی أنّ قوله علیه السلام:

(لا ضرر و لا ضِرار)

نهیٌ، کما ذکره قدس سره، لکن الفرق: هو أنّا ندّعی أنّه نهی سلطنتی مولویّ من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم، لا أنّه نهی اللَّه صدر من النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم إرشاداً.

توضیح الکلام فی ذلک یحتاج إلی بیان مقدّمتین:

الاولی: أنّ للنبیّ صلی الله علیه و آله و سلم مقامات و شئوناً:

منها: أنّه صلی الله علیه و آله و سلم نبیٌّ مبلِّغ لأحکام اللَّه تعالی، و فی هذا المقام لا أمر له و لا نهی، بل أوامره فیها إرشادیّة لا یترتّب علی مخالفتها و موافقتها عقاب و لا ثواب،


1- الکافی 5: 443/ 5، انظر وسائل الشیعة 14: 290، کتاب النکاح، أبواب ما یحرم بالرضاع، الباب 5، الحدیث 1.
2- دعائم الاسلام 2: 299/ 1125، مستدرک الوسائل 15: 313، کتاب الطلاق، أبواب مقدّماته و شرائطه، الباب 33. و الحدیث منقول بالمضمون و لیس بالنصّ.
3- الکافی 5: 443/ 5، انظر وسائل الشیعة 14: 290، کتاب النکاح، أبواب ما یحرم بالرضاع، الباب 5، الحدیث 1.
4- نفس المصدر( مع اختلاف).
5- الکافی 7: 440/ 4، تهذیب الأحکام 8: 285/ 1048، وسائل الشیعة 16: 130، کتاب الأیمان، الباب 11، الحدیث 5.
6- الکافی 5: 443/ 5، الفقیه 3: 227/ 1، وسائل الشیعة 14: 290، کتاب النکاح، أبواب ما یحرم بالرضاع، الباب 5، الحدیث 1.

ص: 606

سوی ما یترتّب علی مخالفة اللَّه تعالی فی أوامره و نواهیه، و النبیُّ صلی الله علیه و آله و سلم فی هذا المقام مثلُ الأئمّة علیهم السلام و الفقهاء و سائر نَقَلَة الأحکام، و العقل حاکم بوجوب متابعته من حیث إنّه صلی الله علیه و آله و سلم نبیٌّ مبلِّغ للأحکام.

و منها: مقام السلطنة، و أنّه صلی الله علیه و آله و سلم خلیفة اللَّه علی الامّة، و هی غیر مقام النبوّة، و أوامره و نواهیه صلی الله علیه و آله و سلم فی هذا المقام مولویّة؛ یترتّب علی موافقتها الثواب و علی مخالفتها العقاب، کما فی أوامره و نواهیه الصادرة فی الغزوات، و أوجب اللَّه تعالی طاعته علی الناس بقوله: «أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ»*(1)، و هذا مقامٌ مجعولٌ من اللَّه تعالی له بقوله تعالی: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ»(2) الآیة، و قوله تعالی: «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(3) إلی غیر ذلک من الآیات و الروایات الواردة فی ذلک؛ بحیث صار من الضروریّات.

و منها: مقام القضاء و فصل الخصومة، و هو غیر الأوّلَینِ أو من شئون السلطنة المطلقة، و هو أیضاً مجعولٌ من اللَّه تعالی له صلی الله علیه و آله و سلم؛ لإقامة الأحکام السیاسیّة بقوله تعالی: «فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتَّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ»(4) الآیة.

المقدّمة الثانیة: أنّ لفظ «أمَرَ» و «نَهی» و «حَکَمَ» و «قضی» ظاهر لغةً و عرفاً فی الأمر و النهی و الحکم المولویّة الصادرة منه مستقلّاً- لا عن اللَّه تعالی- إرشاداً، إلّا مع قیام قرینة خارجیّة علی خلافه، و یظهر ذلک بالتتبُّع فی الأخبار، فإنّه یظهر لمن راجعها أنّ القضاء غالباً یطلق فی فصل الخصومة و الحکم المولوی، و کذلک مادّة الأمر و النهی، و لا تطلق فی مقام بیان أحکام اللَّه تعالی إلّا نادراً، و لذلک


1- النساء( 4): 59.
2- المائدة( 5): 55.
3- الأحزاب( 33): 6.
4- النساء( 4): 65.

ص: 607

یُسند القضاء إلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم و أمیر المؤمنین غالباً، دون غیرهم من الأئمّة علیهم السلام حتّی الصادقَینِ علیهما السلام؛ لعدم وجود المانع عن قضائهما و فصل خصومتهما، بخلاف زمن غیرهما من الأئمّة الطاهرین، و إن صدر من الصادقین أخبار کثیرة فی بیان الأحکام، و لذا

قال الباقر علیه السلام: (لو کان الأمر إلینا أجزنا ...)

(1).

و أمّا لفظة «قال» فهی محتملة للأمرین، فلا بدّ من ملاحظة القرائن الخارجیّة.

إذا عرفت ذلک نقول: لا ریب فی أنّ قوله علیه السلام:

(لا ضرر و لا ضرار)

- بناءً علی نقل عبادة بن الصامت- ظاهر فی أنّه من قضاء رسول اللَّه و حکمه المولوی السلطنتی، لا أنّه من الأحکام الصادرة من اللَّه تعالی و حکمه صلی الله علیه و آله و سلم به من حیث إنّه نبیّ؛ للتعبیر فیه بأنّه صلی الله علیه و آله و سلم

(قضی أن لا ضرر و لا ضرار)

الظاهر فیما ذکرناه.

و بالجملة: بعد ما عرفت من عدم إرادة النفی من ذلک، و أنّه نهیٌ، فهو ظاهرٌ فی النهی المولوی و الحکم السلطنتی من النبیّ، لا الإرشادی، کما ربما یظهر من المحقّق شیخ الشریعة قدس سره(2)، و إن احتمل إرادته ما ذکرناه أیضاً.

و أمّا بناءً علی نقل الخاصّة و طرقهم فقد عرفت عدم ثبوت تذییل قضیّة الشفعة بذلک، و کذلک فی قضیّة هدم الجدار؛ لأنّ الخبر المذکور منقولٌ فی «دعائم الإسلام» الذی لم یثبت اعتباره.

فیبقی قضیّة سَمُرَة بنِ جُنْدَب، و تقدّم أنّها منقولة بطرق مختلفة: بعضها موثّق، و بعضها فیه إرسال، و بعضها ضعیف، کروایة أبی عبیدة الحذّاء، مع أنّه لم یتمسّک فیها بقضیّة

(لا ضرر)

، و هی أیضاً مختلفة فی المضمون و المتن فی بعض خصوصیّات


1- تهذیب الأحکام 6: 273/ 746، وسائل الشیعة 18: 195، کتاب القضاء، أبواب کیفیة الحکم و أحکام الدعوی، الباب 14، الحدیث 12.
2- قاعدة لا ضرر، شیخ الشریعة الأصفهانی: 18 و 24- 27.

ص: 608

القضیّة، لکنّها متّفقة فی أصل القضیّة، و القدر المسلّم منها أنّه لم یکن للأنصاری شبهة حکمیّة أو موضوعیّة یسأل عنها، بل کان یشکو إلی النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم من سَمُرَة فی إیذائه و إیقاعه فی الحرج و المشقّة، فرجوعه إلیه صلی الله علیه و آله و سلم إنّما هو لیقضی بینهما بما أنّه سلطان الامّة و ولیّ أمرهم، لا بما أنّه نبیّ مبلِّغ لأحکام اللَّه تعالی، و لم یکن ذلک أیضاً قضاءً شرعیّاً علی طبق قاعدة القضاء بالبیّنة و الأیمان(1)، فأمر صلی الله علیه و آله و سلم بقلع العَذْق، و علّله فی موثّقة زرارة: بأنّه

(لا ضرر و لا ضرار)

، فالأمر دائر بین أن یکون ذلک تمسُّکاً بحکمٍ قانونیٍّ شرعیٍّ إلهیٍّ مجعول منه تعالی، و بین أن یکون بیاناً لحِکمة الحُکم و علّته، و الأنسب هو الثانی، فإنّه علی الأوّل یکون الحکم القانونی الإلهی بالنسبة إلی جمیع المکلّفین سواءٌ، حتّی نفس رسول اللَّه الشریفة، فهو صلی الله علیه و آله و سلم أیضاً مأمور بإجراء أحکامه تعالی التی منها الحکم بأنّه

(لا ضرر و لا ضرار)

، مع أنّ أمره صلی الله علیه و آله و سلم بقلع النخلة إضرار علی سمرة، بخلافه علی الثانی؛ لأنّه من قضائه صلی الله علیه و آله و سلم و حکمه، فلا یشمل نفسه الشریفة؛ لأنّه صلی الله علیه و آله و سلم حینئذٍ مرکز الحکم لا مورده.

فتلخّص: أنّه نهیٌ لا نفی، فلا تدلّ علی أنّه لم یُجعل حکمٌ ضرریٌّ فی الشریعة بنحو من أنحاء الدلالة لا حقیقة و لا مجازاً بأنحائه؛ لما عرفت من ورود الإشکالات المتقدّمة علیه، و أنّه نهیٌ مولویّ عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم، لا نهیٌ إلهی، و بناءً علی ذلک لا یصلح هذا الخبر دلیلًا علی خیار الغَبْن و نحوه من الأحکام الوضعیّة.


1- الکافی 7: 414/ 1، وسائل الشیعة 18: 169، کتاب القضاء، أبواب کیفیّة الحکم و أحکام الدعوی، الباب 2، الحدیث 1.

ص: 609

تنبیهات
اشارة

و ینبغی التنبیه علی امور ذکرها الشیخ الأعظم قدس سره:

التنبیه الأوّل: مخالفة المسألة لقاعدتی «الاحترام» و «السلطنة»

أنّه قدس سره ذکر: أنّ فی الخبر إشکالًا هو أنّ أمره صلی الله علیه و آله و سلم بقلع الشجرة لا یوافق قاعدة احترام أموال الناس، و لکنّه لا یخلّ بالاستدلال به(1). انتهی.

أقول: هذا الإشکال علی تقدیر وروده مُخِلّ بالاستدلال کیف؟! و قد علّل صلی الله علیه و آله و سلم أمره بقلع النخلة بأنّه

(لا ضرر و لا ضرار)

، مع عدم انطباقه علی مورده و عدم ارتباطه به، و حینئذٍ فلا یصلح للاستدلال به علی غیر هذا المورد، بل یکشف ذلک عن صحّة ما اخترناه: من أنّه نهیٌ، لا ما اختاره هو قدس سره: من أنّه نفیٌ، و أنّه حاکم علی أدلّة الأحکام الأوّلیّة(2)، فهذا الإشکال من مبعّدات ما اختاره قدس سره.

و تصدّی المیرزا النائینی لدفع هذا الإشکال بوجهین:

الوجه الأوّل: أنّه لم یثبت أنّ ذلک علّة للحکم بقلع النخلة، بل هو تعلیل لعدم استئذان سَمُرة من الأنصاریّ فی دخوله فی حائطه؛ حیث کان جواز دخوله کذلک ضرریاً، و کان سمرة مصرّاً علی مزاحمة الأنصاریّ سقط احترام ماله، و لذا حکم صلی الله علیه و آله و سلم بالقلع بالحکومة الشرعیّة.

و فیه: إنّ علّیة العلّة لشی ء لیست من الامور التی هی تحت اختیار العباد حتّی نجعلها علّة لشی ء دون شی ء آخر، بل لا بدّ من ملاحظة نفس الروایة و ظهورها فی ذلک، فنقول: إنّه صلی الله علیه و آله و سلم بعد إحضاره سَمُرة، تکلّم معه أوّلًا مخاطباً إیّاه و ناصحاً


1- المکاسب، الشیخ الأنصاری: 372 سطر 9.
2- نفس المصدر: 373 سطر 7.

ص: 610

له، فلمّا أصرّ سَمُرة علی الإضرار انصرف عنه، و التفت إلی الأنصاریّ مُخاطباً إیّاه، و أمَره بقلع العَذْقة، و علّله بأنّه

(لا ضرر و لا ضِرار)

، و من البعید غایته علّیّة ذلک؛ لتکلّمه مع سَمُرة قبل انصرافه عنه، فإنّه خلاف قاعدة التکلّم، فالظاهر أنّه علّة لکلامه مع الأنصاریّ، و هو أمره بقلع النخلة.

و ثانیاً: ما ذکره من سقوط مالیّة عَذْق سَمُرة، مصادرةٌ؛ کیف؟! و لو کان کما ذکره فکلّ واحد من المکلّفین سواء فی جواز إتلافه، فإنّها علی ما ذکره نظیر الخمر و آلات القمار و نحوهما؛ بلا فرق بین النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم و بین سائر الناس، فلو سقطت مالیّة عَذْقه بذلک لجاز لکلّ أحد إتلافه، و لا یلتزم به أحد، مع أنّه مناف لما ذکره: من أنّه حکم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم حکومة شرعیّة؛ لتوقّف حکومته صلی الله علیه و آله و سلم فی ذلک علی بقاء مالیّة عذقه، و إلّا لما احتاج إلی الحکومة.

الوجه الثانی: أنّه لو سلّمنا أنّه تعلیل لأمره صلی الله علیه و آله و سلم للأنصاریّ بقلع العَذْقة، لکنه لیس علی خلاف القاعدة أیضاً لأنّ قاعدة «الناس مسلّطون علی أموالهم» محکومة بقاعدة «لا ضرر»، و احترام مال الناس من شئون تسلُّطهم علی أموالهم و من فروع قاعدة السلطنة، و معنی احترام ماله أنّ له السلطنة علی منع الغیر فی التصرّف فیه، فحیث إنّ قاعدة «لا ضرر» حاکمة علی قاعدة السلطنة، فهی حاکمة علی متفرّعاتها أیضاً.

لا یقال: لا نُسلّم حکومتها علی الأصل و متفرّعات قاعدة السلطنة، بل علی نفسها خاصّة، لا علی فروعاتها؛ لأنّ قاعدة السلطنة تنحلّ إلی أمرین:

أحدهما: وجودیّ، و هو تسلّطه علی التصرّف فی ماله کیف شاء.

و ثانیهما: عدمیّ، و هو سلطنته علی منع الغیر عن التصرُّف فیه، و الذی هو موجب للضرر علی الأنصاریّ هو الأمر الأوّل؛ أی تصرّفه فی ماله کیف شاء و عدم استئذان الأنصاری منه فی الدخول علی عَذْقه فی حائط الأنصاری، فقاعدة نفی

ص: 611

الضرر ترفع جواز الدخول فی ملک الغیر بدون الاستئذان منه، و هو الجزء الأخیر للعلّة.

لأنّه یقال: نعم لکنّه انحلال عقلیّ، و لیس هنا إلّا حکم واحد، و هو قاعدة السلطنة، و مع حکومة قاعدة «لا ضرر» علیها لا یبقی فی البین حکم آخر، فحکومتها علی قاعدة السلطنة حکومة علی متفرّعاتها أیضاً.

ثمّ إنّه قدس سره ذکر فی تضاعیف کلامه: أنّه لو فرض أنّ الموجب للضرر هو دخوله فیه بغیر إذنه- لا تصرّفه بغیر إذنه- فلا محیص عن رفع ما هو علّة العلل، و هو حقّ إبقاء العَذْق فی منزل الأنصاری و بقاء مالیّته؛ حیث إنّه علّة للدخول فیه بدون الاستئذان الموجب للإضرار بالأنصاری، و هذا نظیر وجوب المقدّمة وذی المقدّمة؛ حیث إنّ رفع وجوب ذی المقدّمة مستلزم لرفع وجوب المقدّمة، لا الصحّة و اللزوم؛ حیث إنّهما حکمان مستقلّان و إن ترتَّب أحدهما علی الآخر، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ جواز البقاء و حقّ الاستئذان لیسا مستقلّین، بل الثانی من آثار الأوّل، فلا یمکن أن یکون هناک ما هو حاکم علی أحدهما دون الآخر(1). انتهی ملخّصاً.

أقول: و فیما ذکره مواقع للنظر:

منها: ما ذکره من أنّ احترام مال المسلم من متفرّعات سلطنته علی ماله، فإنّه ممنوع؛ لأنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائیّة أمضاها الشارع، کما یظهر ذلک من خطبته صلی الله علیه و آله و سلم فی حجّة الوداع(2)، و معنی قاعدة السلطنة هو حکومةُ الإنسان فی ماله و اختیاره فی التصرّف فیه أیَّ تصرّفٍ شاء، إلّا ما نهی اللَّه تعالی عنه، و أمّا احترام مال المسلم فهو غیر قاعدة السلطنة معنیً و ملاکاً و دلیلًا؛ لأنّ معنی احترام مال


1- منیة الطالب 2: 209 سطر 7.
2- دعائم الإسلام 2: 59/ 160، مستدرک الوسائل 17: 87، کتاب الغصب، الباب 1، الحدیث 1.

ص: 612

المسلم هو أنّه لا یجوز للغیر التصرّف فیه بغیر إذنه و إتلافه، و الدلیل علیه قوله علیه السلام:

(لا یجوز لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه)

(1)، و لهذا یمکن أن لا یکون لأحد أن یتسلّط علی ماله و یمنع من التصرّف فیه، مع أنّه محترم لا یجوز للغیر التصرّف فیه و إتلافه، کمال الصغیر و السفیه و المُفلّس و نحوهم من المحجور علیهم.

نعم لا یبعد استلزام السلطنة علی ماله للذبّ عنه و منع الغیر من التصرّف فیه، نظیر السلطنة علی أنفسهم التی یتفرّع علیها حقّ الدفاع عن أنفسهم عند اعتداء الغیر علیهم.

مضافاً إلی أنّ ما ذکره مستلزم لجواز تصرّف الغیر فی عَذْق سَمُرة و إتلافها؛ لزوال احترام مالیّتها علی ما ذکره، مع أنّه لا یلتزم به.

و منها: قوله: إنّ معنی احترام مال المسلم هو سلطنته علی منع الغیر عن التصرّف فیه، فإنّه أیضاً ممنوع؛ لوضوح أنّ معنی حرمة مال المسلم هو عدم جواز تصرُّف غیر مالکه فیه بدون إذنه بإتلافٍ و نحوه، فهو تکلیف لغیر المالک موضوعه ما سوی المالک، و هذا معنیً غیر تسلُّط المالک علی منع الغیر من التصرّف فی ماله، فإنّ موضوعه نفس المالک، و یمکن الانفکاک بینهما، کما لو فرض عدم تسلُّطه علی منع الغیر عن التصرّف فی ماله بحَجْر الحاکم علیه، مع عدم جواز تصرّف الغیر فیه و بقاء احترامه.

و منها: ما ذکره من انحلال قاعدة السلطنة إلی أمرٍ وجودیّ و عدمیّ المتقدّم ذکرهما، فإنّه یرد علیه:

أوّلًا: منع الانحلال المذکور، بل متعلّق القاعدة: إمّا وجودیّ، و إمّا عدمیّ.

و ثانیاً: تسلّطه علی منع الغیر عن التصرّف فیه لیس أمراً عدمیّاً؛ لأنّ دفع


1- الاحتجاج 2: 559، وسائل الشیعة 6: 376- 377، کتاب الخمس، أبواب الأنفال و ما یختص بالإمام، الباب 3، الحدیث 6.

ص: 613

الغیر عن التصرّف فی ماله أمر وجودیّ لا عدمیّ.

و منها: قوله: الموجب للضرر علی الأنصاریّ و إن کان هو دخول سَمُرة بدون الاستئذان من الأنصاریّ، لکن حیث إنّ علّة العلل هو وجود عَذْقِهِ فی منزل الأنصاریّ، سقط احترام ماله ... إلی آخره، فإنّه یرد علیه:

أوّلًا: النقض بما إذا کان لأحد مال فی ملک غیره بغیر إذنه، فإنّه موجب للضرر علی الغیر، فبناءً علی ما ذکر یزول احترام هذا المال، و یسقط عن المالیّة، فلا بدّ أن یجوز إتلافه، و لا أظنّ أن یلتزم به أحد.

و ثانیاً بالحلّ: و هو أنّ مقایسة ما نحن فیه بالمقدّمة وذی المقدّمة فی غیر محلّها و مع الفارق؛ لثبوت الملازمة العقلیّة بین وجوب المقدّمة و بین وجوب ذیها، و لا یمکن التفکیک بینهما علی فرض تسلیم وجوب المقدّمة، بخلاف ما نحن فیه؛ لأنّ مجرّد مالکیّته للعَذْق یسوّغ له الدخول فی منزل الأنصاری بدون الاستئذان منه، فإنّ ثبوت حقّ العبور إلی عَذْقه فی ملک الغیر یحتاج إلی مصالحة أو معاوضة، و یمکن التفکیک بین مالکیّة أحد لشی ء فی ملک الغیر، و بین ثبوت حقّ العبور و الدخول فی ملکه بغیر إذنه؛ بأن لم یکن له العبور و الدخول فی ملکه إلی ماله، و مقتضی القاعدة: هو تسلُّط ذلک الغیر علی ماله من دون تسلُّطه علی الدخول فی ملک الغیر الذی ماله فیه، و حینئذٍ فالموجب للضرر علی الأنصاری و الموقع له فی الحرج هو دخول سَمُرة فی داره بدون إذنه، لا ملکیّته للعَذْق؛ لیصیر سبباً لسقوط عَذْقه عن المالیّة و زوال احترام ماله، فما ذکره قدس سره فی الجواب عن الإشکال غیر صحیح.

التنبیه الثانی: تقدّم قاعدة «لا ضرر» علی «السلطنة»

قاعدة «لا ضرر» واردة علی قاعدة السلطنة أو حاکمة علیها، فلا یجوز هدم

ص: 614

جدار نفسه إضراراً بجاره، و کذلک حفر قناة عند قناة الغیر یجذب ماءها؛ لأنّ قاعدة السلطنة محکومة لقاعدة «لا ضرر»، و تقدَّم أنّ الحقّ: أنّ «لا ضرر» نهیٌ لا نفی، فلا یرفع به وجوب الصوم أو الوضوء الضرریّان، و کذلک مثل لزوم البیع و نحوه.

و لا استیحاش فی ذلک من جهة بقاء فروع کثیرة بلا دلیل، فإنّ الدلیل لا ینحصر بقاعدة «لا ضرر»؛ بحیث لولاها یبقی کثیر من الفروع بلا دلیل، فإنّ منها البیع الغبنی، فإنّ ثبوت حقّ الخیار فیه حکم عقلائیّ عرفیّ لا یفتقر ثبوته إلی التمسّک ب «لا ضرر»، کما فی خیار العیب.

و استدلّ المیرزا النائینی لثبوت الخیار للمغبون بالاشتراط الضمنی فی ضمن عقد البیع، فجعله تحت عنوان خیار الشرط(1).

و استشکل الشیخ الأعظم علی الاستدلال له بقاعدة «لا ضرر»(2)، و کذلک العلّامة قدس سره(3)، و استدلّ صاحب الجواهر له بالإجماع(4)، لا بقاعدة «لا ضرر».

و قال فی «الغنیة»: دلیلنا إجماع الفرقة، ثمّ استدلّ بحدیث «لا ضرر» قبالًا للعامّة(5).

نعم استدلّ له فی «الخلاف» بقاعدة نفی الضرر حسب(6).

مضافاً إلی أنّ کلّ حکم تابع للدلیل الدالّ علیه، فلو لم یکن لخیار الغَبْن دلیل سوی حدیث «لا ضرر» فنحن ننکره، لا أنّه یجعل ثبوت خیار الغَبْن مفروغاً عنه


1- منیة الطالب 2: 57 سطر 21.
2- المکاسب، الشیخ الأنصاری: 235 سطر 7.
3- تذکرة الفقهاء 1: 523 سطر 11، لم یستشکل العلّامة فی ثبوت خیار الغبن بصورة مطلقة و إنّما استشکل فی حالة ما إذا بذل الغابن الأرش إلی المغبون.
4- جواهر الکلام 23: 41.
5- الغنیة، ضمن الجوامع الفقهیة: 526 سطر 19.
6- الخلاف 3: 42، مسألة 60.

ص: 615

و مسلّماً، و یجعل حدیث «لا ضرر» دلیلًا علیه، و لذلک تری الفقهاء لا یلتزمون بنفی الحکم فی باب الصلاة و غیره بمجرّد توجّه ضرر مالیّ إلیه، و لذا ذکروا: أنّه لو لم یوجد الماء إلّا بدفع الثمن، وجب علیه دفعه و إن کثر مع تمکّنه منه.

نعم لو خاف علی ماله- و إن قلّ- من لصٍّ و غیره- لو ذهب إلی مکان آخر لتحصیل الماء لوجوده فیه- حکموا فیه بعدم وجوب الوضوء، مع أنّه ضرر علیه، لکنّه لیس لأجل قاعدة «لا ضرر»، بل لدلیلٍ و نصٍّ خاصّ علیه.

التنبیه الثالث: حول تحمّل الضرر و توجیهه إلی الغیر

بناءً علی ما اخترناه من أنّ «لا ضرر» نهیٌ لا نفی، فمعناه أنّ الإضرار بالغیر و إیقاعه فی الحرج و المشقّة حرام، و أمّا لو توجّه الضرر إلی الغیر أوّلًا فلا یجب صرفه إلی نفسه و تحمّله؛ دفعاً للضرر عن الغیر؛ لحدیث «لا ضرر»، و إن کان ذلک فی نفسه أمراً حسناً مستحسناً أخلاقیّاً، لکنه لا یجب، و لا ربط له بمفاد حدیث «لا ضرر»، مثل ما لو توجّه السیل إلی دار الغیر، فلا یدلّ حدیث «لا ضرر» علی وجوب صرفه إلی داره و تحمّله ضرره و عدم سدّ باب داره؛ لئلّا یتوجّه السیل إلی دار الغیر.

نعم إجراؤه إلی دار الغیر، مع عدم توجّهه إلی دار الغیر أوّلًا، ضرر علیه، یدلّ علی حرمته، و لا یدلّ علی حرمة دفعه عن دار نفسه و لو جری بطبعه إلی دار الغیر.

و لو اکره علی الإضرار بالغیر فإن قلنا: إنّ مفاد «لا ضرر» نفی، و هو حکم شرعیّ قانونیّ، فهو، و إن کان من العناوین الثانویة، لکن حدیث

(رُفع ... ما استُکرهوا علیه)

(1) مقدّم علیه بنحو الحکومة، و إن کان حدیث «لا ضرر» مقدّماً علی


1- الکافی 2: 335/ 1، التوحید، الصدوق: 353/ 24، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس و ما یناسبه، الباب 56، الحدیث 3.

ص: 616

أدلّة سائر الأحکام.

و أمّا بناءً علی ما اخترناه: من أنّه نهیٌ لا نفی، فیقدّم حدیث الرفع علیه أیضاً بأحد وجهین:

الأوّل: أن یقال: إنّ حدیث الرفع لا یختصّ برفع الأحکام الشرعیّة الإلهیّة، بل یعمّ رفع الأحکام السلطنتیّة لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم أیضاً، کما لو فُرض إکراه أحد علی مخالفة أمره صلی الله علیه و آله و سلم فی الغزوات و نحوها.

الثانی: سلّمنا اختصاصه برفع الأحکام الإلهیّة فقط، لکن مرجع الإکراه علی مخالفة حکمه السلطنتی إلی الإکراه علی مخالفة حکم اللَّه و أمره بقوله تعالی:

«أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ»*(1)؛ لما عرفت من أنّه لا وجوب ذاتیّ لإطاعة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم من حیث إنّه سلطان، بل هو مستفاد من أمر اللَّه تعالی، و حینئذٍ فحدیث الرفع حاکم علی حدیث «لا ضرر».

نعم یمکن أن یقال: إنّ مثل أحادیث نفی الضرر و الرفع و نفی الحرج و أدلّة التقیّة، لیست حاکمة علی الأدلّة المتکفّلة للأحکام الأوّلیة علی الإطلاق، بل إنّما یصحّ ذلک فیما لم یکن الحکم الأوّلی بمثابة من الأهمیّة؛ بحیث لا یرضی الشارع بترکه بوجهٍ من الوجوه، کقتل النبیّ أو الإمام، أو تخریب قبور الأئمّة علیهم السلام و ضرائحهم، أو سبی نساء المؤمنین و ذراریهم و إذلالهم، و مثل تأویل القرآن بما یوافق مذاهب الملحدین و تفسیره بما یطابقها، کما نقل أنّه فسّر بعض القرآن کذلک بمجرّد تهدید الملاحدة له علی ذلک، فإنّ هذه الأحکام و نظائرها لیست محکومة بحدیث نفی الضرر و الحرج و الرفع و أدلّة التقیّة، و إلّا یلزم أن یکون قتلة أبی عبد اللَّه الحسین علیه السلام معذورین؛ کلّ ذلک لأجل انصراف هذه الأخبار عن تلک الأحکام و عدم تبادر رفعها و نفیها من تلک الأخبار، و یؤیّد ذلک التقیید فی روایات التقیّة بما


1- النساء( 4): 59.

ص: 617

إذا لم یلزم الفساد و لم تبلغ الدم.

التنبیه الرابع: تصرّف الإنسان فی ماله مع إضرار غیره

تصرّف الإنسان فی ماله یتصوّر علی أنحاء:

الأوّل: أن یستلزم تصرّفه فی ماله ضرراً علی الغیر و استلزم ترکه الضرر علی نفسه.

الثانی: أن یستلزم تصرُّفه فیه إیقاع الغیر فی الحرج و المشقّة، و فی ترکه إیقاع الحرج و المشقّة علی نفسه.

الثالث: أن یستلزم تصرّفه فیه الضرر علی الغیر، و فی ترکه الحرج و المشقّة علی نفسه.

الرابع: عکس ذلک.

الخامس: أن یستلزم تصرّفه الضرر و الحرج علی الغیر، و یستلزم ترکه فوت نفع، کما لو حفر بئراً للانتفاع به یضرّ جاره.

السادس: أن یستلزم تصرّفه الضرر و الحرج علی الغیر، و لا یترتّب علی ترکه ضرر علی نفسه و لا فوت نفع، بل یتصرّف لهواً.

السابع: کذلک مع قصده الإضرار بالغیر أو إیقاعه فی الحرج.

فهذه صور سبع، هل یجوز التصرّف فی جمیعها، أو لا کذلک، أو التفصیل بینها؟

فنقول: قد یدّعی الشهرة بین الفقهاء علی جواز التصرّف فی ماله(1)، بل ادّعی عدم الخلاف فیه(2)، لکن شمولها لجمیع تلک الصور غیر معلوم، فیمکن أن یقال: إنّ


1- المکاسب، الشیخ الأنصاری: 375 سطر 4.
2- المبسوط 3: 272- 273، السرائر 2: 382- 383، الغنیة، ضمن الجوامع الفقهیة: 540 سطر 28.

ص: 618

نظرهم إلی غیر صورة قصد الإضرار بالغیر، أو التصرّف فیه لهواً، و علی أیّ تقدیر الظاهر جواز تصرّفه فی الصور الأربع الاولی؛ سواء قلنا: بأنّ «لا ضرر» فی الحدیث نهیٌ أو نفی؛ لانصراف حدیث «لا ضرر» عن تلک الصور، و دعوی عدم الخلاف فیه أیضاً لعلّه لذلک.

و ذکروا وجوهاً اخر لذلک:

منها: أنّه لو وقع التعارض بین مصداقین للضرر أو الحرج أو بین فرد من الضرر مع فرد من الحرج، فلا بدّ من علاج التعارض بینهما و المعاملة معهما معاملة المتعارضین، و قد یقال: بحکومة حدیث نفی الحرج علی حدیث نفی الضرر.

و قد یقال: إنّ منع الإنسان عن التصرّف فی ماله حرجیّ مطلقاً؛ سواء لزم منه الضرر أو الحرج علی الغیر أم لا، و سواء أوجب ذلک فوت نفع منه أم لا(1).

و لکن الکلام و الإشکال فی تصوّر التعارض أو الحکومة بین مصداقین من الضرر، فیمکن أن یقال فی تصویره: إنّه لو استلزم تصرّفه فی ماله الضرر علی الغیر، فیرفع جواز التصرّف فیه بحدیث «لا ضرر»، و لکن رفعه بحدیثه أیضاً ضرریّ یُنفی بحدیثه، فإنّه مصداقٌ آخر للضرر.

و هذا نظیر الاستصحاب السببیّ و المسبّبی، فکما أنّ انطباق قوله علیه السلام:

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

(2) علی الشکّ السببیّ إعدام للاستصحاب فی المسبّب، کذلک فیما نحن فیه؛ لأنّ کلّ واحدٍ من حدیث

(لا ضرر)

و قوله علیه السلام:

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

ینحلّ إلی قضایا متعدّدة.


1- انظر فرائد الاصول: 316- 317.
2- الکافی 3: 352/ 3، وسائل الشیعة 5: 321، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 10، الحدیث 3.

ص: 619

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی توجیه التعارض بین مصداقین للضرر.

لکنّه غیر وجیه فإنّ قوله علیه السلام:

(لا ضرر و لا ضرار)

قضیّة واحدة و إنشاء واحد، إلّا أنّها قابلة الانطباق علی مصادیق و أفراد عدیدة، و لا یعقل إعدام القضیة نفسها. نعم لو کان هناک إنشاءات متعدّدة أمکن إعدام بعضها لبعض آخر، و الشکّ السببی و المسبّبی أیضاً لیس کذلک، بل جریان الاستصحاب فی الشکّ السببی یوجب خروج الشک المسبّبی عن موضوع

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

تعبّداً؛ لعدم الشکّ فیه حینئذٍ، فلا توجب فیه قضیّة «لا تنقض» إعدامَ نفسها، بل توجب إعدام موضوعها.

ثمّ لو سلّمنا حکومة «لا ضرر» فی مصداقٍ علی آخر فی مصداق آخر، لکن لا معنی لتعارض فردین و مصداقین من الضرر؛ لأنّه یعتبر فی التعارض کون المتعارضین فی عرضٍ واحد، و ما ذکر لیس کذلک، فإنّ تصرُّف الإنسان فی ماله و إن کان ضرریّاً بالنسبة إلی الغیر، لکن رفع جواز التصرّف فی ماله بحدیث نفی الضرر ضرر آخر علیه، و الثانی فی طول الأوّل، لا فی عرضه، فإذا رفع عدم جواز التصرّف فی ماله لأجل لزوم الضرر بحدیث نفی الضرر، یبقی جواز التصرّف فی ماله بلا مزاحم، کما لو فرض حکومة دلیل علی دلیل آخر حاکم علی ثالث، فإنّ الثالث یبقی بلا مزاحم الذی هو الدلیل الثانی الزائل بحکومة الأوّل علیه.

و أمّا القول بحکومة لا حرج علی حدیث لا ضرر، فهو قابلٌ للتوجیه أیضاً علی المختار من أنّه نهیٌ، و أمّا بناءً علی ما اختاره القوم من أنّه نفیٌ فهو محلّ إشکال؛ حیث إنّه علی هذا القول معناه: أنّه لم یشرّع الحکم الضرریّ، و معنی «لا حرج»: أنّه لم یشرّع الحکم الحرجیّ، و لا ارتباط بین هذین الحکمین حتّی یقال بحکومة أحدهما علی الآخر.

و قد یقال- المیرزا النائینی قدس سره-: لا یمکن حکومة «لا ضرر» علی نفسه؛ لأنّه

ص: 620

لا بدّ أن یتقدّم الدلیل المحکوم- فی الرتبة- علی الدلیل الحاکم، و المصداقان من الضرر فی رتبة واحدة(1).

أقول: المعتبر فی الحکومة هو کون أحد الدلیلین ناظراً و شارحاً للآخر، و لا یعتبر اتّحاد الرتبة فیهما.

هذا تمام الکلام فی قاعدة لا ضرر. و الحمد للَّه ربّ العالمین.


1- منیة الطالب 2: 225 سطر 11- 12.

ص: 621

خاتمة فی أنّه علامَ یترتّب العقاب لو ترک الفحص؟

اشارة

تقدّم الکلام فی وجوب الفحص و اعتباره فی جریان البراءة العقلیّة و النقلیّة و بیان مقدار الفحص، و بقی الکلام فی العقاب علی ترک الفحص، و أنّه علامَ یترتّب؟

فنقول: لا إشکال فی ترتّب العقاب علیه فی الجملة، لکنّه هل هو مترتّب علی مخالفة الواقع لو ترک الفحص لو اتّفقت؛ بحیث لو لم یکن فی الواقع تکلیف لا یترتّب علیه شی ء من العقاب، کما هو المشهور(1)، أو أنّه مترتّب علی ترک الفحص المؤدّی إلی مخالفة الواقع، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره(2)، أو أنّه مترتّب علی ترک الفحص نفسه و لو لم یؤدِّ إلی مخالفة الواقع، کما هو مذهب صاحب المدارک قدس سره(3)؟ وجوهٌ و أقوال.


1- انظر فرائد الاصول: 301 سطر 22.
2- نفس المصدر: سطر 24.
3- مدارک الأحکام 2: 345.

ص: 622

و الکلام هنا: إمّا فی حکم العقل مع قطع النظر عن مقتضی الأخبار الدالّة علی وجوب الفحص و الحثّ فی طلب العلم، و إمّا فی مقتضی الأخبار:

المقام الأوّل: فی مقتضی حکم العقل

قد تقدّم: أنّ المراد بالبیان المأخوذ عدمه فی موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، هو البیان الواصل بالنحو المتعارف؛ بأن یکون الحکم مضبوطاً فی کتب الأخبار، فلو لم یتفحّص ما فی تلک الکتب من الأخبار المظنّة لوجود الحکم الشرعی فیها، مع حکم العقل بوجوب الفحص.

فالحقّ أنّه یستحقّ العقاب علی مخالفة الواقع لو اتّفقت، لا علی نفس ترک الفحص المؤدّی إلیها أو مطلقاً؛ و ذلک لأنّ وجوب الفحص لیس من المستقلّات العقلیّة، نظیر حکمه بقبح الظلم؛ بأن یترتّب علی نفس الفحص مصلحة ملزمة سوی الوصول إلی الواقع؛ لیکون ترک الفحص من المحرّمات العقلیّة و ظلماً علی المولی، فإنّه لا معنی لظلم العبد علی مولاه فی المقام، بل حکم العقل بلزوم الفحص إنّما هو لئلّا یقع فی مخالفة الواقع و عقوبتها، فالمناط فی وجوب الفحص عقلًا هو الاحتراز عن مخالفة الواقع، و أنّه لا بدّ فی ارتکاب المشتبه من وجود المُؤمِّن من العقوبة، و مع احتمال وجود البیان فی الکتاب المجید و السُّنّة قبل الفحص لا مؤمّن منها، فلو ارتکبه قبل الفحص، و صادف مخالفة الواقع، استحقّ العقاب علی مخالفة الواقع، فالموضوع لاستحقاق العقاب هو مخالفة الواقع، مع عدم المُؤمِّن منه.

نعم یرد الإشکال فی بعض الصور المتصوّرة فی المقام، فإنّ المکلّف قد یکون بحیث لو تفحّص لانتهی إلی الظفر علی أمارة معتبرة و یعثر علیها دالّة علی حرمة شی ء- مثلًا- مع موافقة تلک الأمارة للواقع، و قد یکون بحیث لو تفحّص عثر علی أمارة دالة علی الحلّیّة المخالفة للواقع، و فرض أنّ الحکم الواقعی هی الحرمة،

ص: 623

و قد لا ینکشف الحال بالفحص، و لم یظفر بالحکم الواقعی، مع فرض أنّ الحکم الواقعیّ هی الحرمة، فهل تصحّ العقوبة لو ترک الفحص عقلًا فی جمیع هذه الصور الثلاث أو فی بعضها؟

فقد یقال: باستحقاقه لها فی جمیع هذه الصور لوجهین:

الأوّل: أنّ الأحکام الشرعیّة لیست تابعة فی فعلیّتها لقیام الأمارة و عدمه- کما تقدّم- بل فعلیّتها عبارة عن جعلها مورد الإجراء، و حینئذٍ فمخالفتها توجب استحقاق العقوبة إلّا مع عذرٍ و مؤمِّنٍ منها المفقودین فیما نحن فیه.

الثانی: أنّ الموضوع لحکم العقل بقبح العقاب- کما عرفت- هو عدم البیان المتحقّق فی المقام، و هو مورد حکم العقل بالاحتیاط أو الفحص؛ لعدم حکم العقل بلزوم الفحص تعییناً، بل به أو الاحتیاط، و لا مؤمِّن له من العقاب علی تقدیر ترکهما.

هذا، و لکن یرد علی الوجه الأوّل: أنّا لا نسلّم صحّة العقاب علی کلّ مخالفة لو ترک الفحص، بل القدر المسلّم صحّتها علی المخالفة للواقع فیما لو فحص لعثر علی أمارة معتبرة، فلا یعمّ ما لو لم یصدر البیان من المولی أصلًا.

و علی الوجه الثانی: بأنّه فرقٌ بین حکم العقل بالاحتیاط هنا و بین حکمه به فی سائر الموارد، فإنّ حکمه به فی غیر هذا المقام إنّما هو لإحراز الواقع و حفظه، و فیما نحن فیه لإحراز موضوع حکمه بقبح العقاب، و هو عدم البیان؛ لاحتمال وجود البیان الواصل قبل الفحص، لا لإحراز الواقع، و لذا لو تفحّص و لم یعثر علی الأمارة و البیان، أو عثر علی ما هو مخالف للواقع، کان معذوراً فی مخالفة الواقع، و لا یحکم العقل فی المقام بإحراز الواقع.

هذا، و لکن مجرّد قیام الأمارة علی الحلّیّة لا یکفی فی المعذوریّة، مع عدم الفحص و الاطّلاع علیها، فلو فرض قیام أمارة علی الحرمة، و هناک أمارة

ص: 624

اخری علی الحلّیّة أقوی من الاولی، مع فرض موافقة الاولی للواقع، فإنّ مجرّد وجود أمارة علی الحلّیّة فی الواقع لا یکفی فی المعذوریّة ما لم یتفحّص عنها، و إن کان معذوراً لو تفحّص عنها و ظفر بها، فإنّ المخالفة حینئذٍ بسببها، بخلاف ما لو لم یتفحّص عنها و لو مع وجودها فی الواقع، فإنّ المخالفة للواقع حینئذٍ مستندة إلی عدم مبالاته، و نظیر ذلک فی وجه ما ذکرناه فی باب التزاحم، کالغریقین و لا یقدر المکلّف إلّا علی إنقاذ أحدهما، فإنّه و إن لم یتمکّن إلّا من إنقاذ أحدهما، لکن لو ترکهما معاً استحقّ عقوبتین.

ثمّ علی فرض وجود الأمارة واقعاً، و ترک الفحص عنها، فهل المنجّز هو الواقع، أو الأمارة المنجِّزة للواقع؟

فقد یقال بالثانی؛ لأنّ التکلیف الواقعیّ ما لم یصل إلی المکلّف لا یصیر فعلیّاً، لکن لا مانع من تنجیز الأمارة للواقع.

و فیه: أنّه لا معنی للتنجیز إلّا صحّة العقوبة فی صورة فعلیّة الحکم بقیام الأمارة علیه، و لا معنی لتنجُّز نفس الأمارة إلّا تنجُّز مُؤدّاها؛ إذ لا یترتّب علی مخالفة نفس الأمارة عقوبة، بل هی مترتّبة علی مخالفة الحکم الواقعیّ المنجَّز بقیام الأمارة علیه.

بقی هنا أمران:

الأوّل: أنّه لو ترک الفحص، و فرض أنّه لو تفحّص لظفر بحکمٍ آخر غیر المشکوک فیه، مضافاً إلی إزاحة الشکّ فی المشکوک فیه، فهل یصحّ العقاب علی الحکم المغفول عنه بالکلّیّة أیضاً أو لا؟

و لعلّ نظر المحقّق الخراسانی قدس سره إلی ذلک الفرض؛ حیث حکم بصحّة العقوبة علی مخالفته أیضاً؛ لأنّها و إن کانت مغفولًا عنها حینها و بلا اختیار، إلّا أنّها منتهیة

ص: 625

إلی الاختیار، و هو کافٍ فی صحّة العقوبة(1). انتهی.

أقول: هذا الکلام بإطلاقه محلّ تأمّل و إشکال؛ لأنّ الکلام فی شرائط البراءة، و المکلّف ملتفت و متوجّه إلی التکلیف المحتمل غیر غافل عنه، و قد تقدّم الکلام فی المناط فی فعلیّة الأحکام و أنّها فی فعلیّتها غیر مقیّدة؛ بعدم عجز المکلّف و جهله و غیرهما من حالات المکلّف- کما هو المختار- فالتکالیف التی وضعت مورد الإجراء فعلیّة مطلقاً، غایة الأمر أنّه قد یُعذر العبد فی مخالفتها للجهل، کما فیما بعد الفحص بالمقدار المعتبر و عدم الظفر بها، و قد لا یکون الجهل عذراً، کما فیما قبل الفحص، فمحطّ البحث فی المقام إنّما هو فیما إذا التفت المکلّف إلی التکلیف المحتمل، و احتمله غیر غافل عنه، و لو فرض البحث عن صورة غفلة المکلّف عن التکلیف رأساً، فهو بحث طفیلیّ یذکر طرداً للباب، و إلّا فهو خارج عن محطّ البحث هنا.

فنقول: الجهل بالتکلیف المغفول عنه بالکلّیّة لیس عذراً فی المخالفة؛ لأنّ الغفلة فی المقام ناشئة عن تقصیر المکلّف فی ترک الفحص، فلا یُعدّ عذراً، و مخالفة التکلیف الفعلی بلا عذر مقبول موجّه توجب استحقاق العقوبة.

الثانی من الأمرین: هو أنّک قد عرفت الحال فی وجوب الفحص و صحّة العقوبة مع عدمه فی الواجبات المطلقة و أمّا الواجبات المشروطة و الموقتة قبل حصول الشرط و حضور الوقت فهل یجب الفحص لو علم المکلّف اداء ترکه و التعلّم قبلهما إلی مخالفة التکلیف بعد حضور الوقت و حصول الشرط و عدم تمکّنه للفحص بعدهما فیستحق العقوبة علیه أو لا یجب فلا یستحقها علی ترکه لأنّه قبل حصول الشرط و حضور الوقت لا تکلیف حتی یجب مقدّماته و المفروض عدم تمکنه عنه بعدهما أو یلتزم بالواجب المعلّق و فعلیة الوجوب قبلهما، مع تعلیق


1- کفایة الاصول: 425.

ص: 626

الواجب علی حصول الشرط المعلّق علیه و دخول الوقت- کما التزم به بعض المحقّقین(1)، فیجب الفحص قبلهما؛ لفعلیّة الوجوب حینئذٍ و تقیید الواجب بهما؟

فقال المحقّق العراقی قدس سره ما حاصله: بناءً علی ما ذهب إلیه الشیخ قدس سره فی الواجب المشروط- من أنّ الوجوب فیه حالیّ و الواجب استقبالیّ(2)- أمکن القول بوجوب الفحص و التعلّم قبل حصول الشرط و حضور الوقت.

و أمّا بناءً علی ما هو مذهب غیره من أنّ الوجوب فیه مشروط بحصول الشرط و حضور الوقت، فبناءً علی المختار- من أنّ وجوب المقدّمة تبعیّ لوجوب ذی المقدّمة- لا یمکن القول بوجوب الفحص قبل حصول الشرط؛ لعدم وجوب ذی المقدّمة حینئذٍ لتجب مقدّمته تبعاً له؛ لترشّح الوجوب منه إلی المقدّمة، و هو- أی ترشح الوجوب من ذی المقدّمة إلی المقدّمة- کالنار علی المنار، و لذا التزم صاحب المدارک: بأنّ وجوب الفحص فیه نفسیّ تهیّئی(3)، لکن ذلک غیر مفید، و أنّه کَرّ علی ما فرّ منه؛ حیث إنّه لا مطلوبیّة ذاتیّة له فی نفسه أیضاً، بل مطلوبیّته غیریّة، فمع عدم وجوب الغیر کیف یمکن القول بوجوب ما هو مطلوب له؟!

و ذهب بعضٌ آخر إلی أنّ وجوبه عقلیّ؛ و بحکم العقل، لا ترشّحیّ، بتوهّم أنّ تعجیز المکلّف نفسه قبل حصول الشرط و حضور الوقت بترک الفحص، داخل تحت قاعدة «الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار»(4).

و هو مدفوع: بأنّه إنّما یدخل تحت هذه القاعدة إذا کان التعجیز عن تقصیر من المکلّف، و التقصیر فرع تحقّق التکلیف الفعلی، و المفروض أنّه لا تکلیف قبل


1- الفصول الغرویّة: 79 سطر 36.
2- مطارح الأنظار: 45 سطر 23.
3- مدارک الأحکام 2: 345.
4- انظر کفایة الاصول: 425- 426 و ذلک یظهر من تعلیقة صاحب الکفایة فی نفس الکفایة الهامش 2 من الصفحة 426.

ص: 627

حصول الشرط و حضور الوقت، فلا تقصیر حتّی یدخل تحت تلک القاعدة(1). انتهی ملخّصاً.

أقول: قد تقدّم أنّ القول بترشّح الوجوب من ذی المقدّمة إلی المقدّمة غیر معقول، و أنّ عدمه کالنار علی المنار، بل لکلٍّ من الأمر بالمقدّمة و الأمر بذیها مبادٍ کامنة فی النفس غیر مبادی الآخر، و لذا لو غفل الآمر عن مقدّمیّة المقدّمة لم تتعلّق بها إرادته، و کذا لو توهّم مقدّمیة شی ء للواجب، مع عدم توقّف الواجب علیه واقعاً، و أنّ وهمه فی غیر محله و لم یطابق الواقع، فهو یریدها و یأمر بها.

فیظهر من ذلک بطلان القول بالترشّح، و أنّه لا تلازم بین الأمر بالمقدّمة و بین الأمر بذیها، لکن کما أنّه یمکن أن یأمر المولی بالمقدّمات بإرادة مستقلّة متعلّقة بها فی الواجبات المطلقة، کذلک یمکنه ذلک فی الواجبات المشروطة و الموقّتة قبل حصول الشرط و حضور الوقت؛ لو علم بحصوله و حضوره بعد ذلک، فإذا وجب استقبال زید عند قدومه غداً، لکن یتوقّف استقباله غداً علی تحصیل مقدّمات قبل قدومه، فمع العلم بتحقّق قدومه غداً فهو یرید تلک المقدّمات و یأمر بها قطعاً، کما فی الواجب المطلق من غیر فرق بینهما، فلا یبتنی القول بوجوب الفحص و التعلّم فی الواجبات المشروطة و الموقّتة- قبل حصول الشرط و حضور الوقت- علی مذهب الشیخ قدس سره فی الواجب المشروط من تعلیق الواجب و فعلیّة الوجوب، و کما أنّ العقل یحکم بوجوب المقدّمات فی الواجب المطلق، کذلک یحکم به فی الواجب المشروط و الموقّت قبل حصول الشرط و حضور الوقت إذا علم بتحقّقهما و عدم تمکّنه من الامتثال بدونها.

و أمّا إشکاله علی صاحب المدارک ففیه: أنّ ما ذکره إنّما یرد علیه لو کان الوجوب غیریّاً؛ و أنّ وجوبه بالغیر، و لیس المراد من الوجوب النفسی التهیُّئی ذلک،


1- نهایة الأفکار 3: 480- 481.

ص: 628

بل المراد أنّه واجب نفسیّ لا لذاته بل لغیره؛ فی قبال الواجب النفسی لذاته، و حینئذٍ فلا یرد علیه هذا الإیراد.

و إنّما الإشکال علیه: هو أنّه لا فرق بینه و بین الواجب بالغیر فی عدم ترتّب العقاب علی مخالفته، بل علی مخالفة الغیر الذی مطلوبیّة ذلک له، و فائدة هذا الواجب للغیر هو تمامیّة الحجّة علی الواقع.

و أمّا إیراده علیه: بأنّ تعجیز المکلّف نفسه قبل حصول الشرط لا یدخل تحت قاعدة «الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار».

ففیه: أنّه قد تقدّم فی مقام الإشکال علی المیرزا النائینی قدس سره: أنّ هذه القاعدة غیر مرتبطة بالمقام، و أنّها قاعدة کلّیّة مختلف فیها، فراجع.

و أمّا ما ذکره: من أنّ تعجیز المکلّف نفسه إنّما یدخل تحت تلک القاعدة إذا کان ذلک بعد تحقّق الشرط و کان عن تقصیر ... إلی آخره.

ففیه: أنّه کما أنّ تعجیز المکلّف نفسه بعد تحقّق الشرط لیس عذراً، کذلک قبل تحقّقه أو حضور الوقت فی الواجب المشروط و الموقّت مع العلم بتحقّقهما بعد ذلک.

ثمّ إنّه تظهر الثمرة بین الأقوال: فی أنّه لو قلنا بأنّ وجوب الفحص و التعلُّم نفسیّ لذاته، فالعقاب مترتّب علی ترکهما و مخالفتهما، و إلّا فالعقاب مترتّب علی مخالفة الواقع؛ سواء قلنا: بأنّ وجوبهما غیریّ و ترشّحی، أم نفسی تهیّئی، أم طریقیّ، أم عقلیّ، فإنّه لا فرق بین جمیع هذه الاحتمالات فی أنّ العقاب إنّما هو علی مخالفة الواقع، و التزام صاحب المدارک بالوجوب النفسی التهیُّئی؛ لتصحیح ترتّب العقاب علی ترک الفحص و التعلّم، لا یثمر ذلک؛ لما عرفت من أنّ وجوبهما و إن لم یکن بالغیر، لکنّه للغیر و أنّ مطلوبیّتهما لا لذاتهما، بل لغیرهما، و حینئذٍ فالعقاب إنّما هو علی مخالفة ذلک الغیر الذی هو مطلوب بالذات.

ص: 629

کما أنّه بناءً علی ما اختاره المیرزا النائینی قدس سره(1)- تبعاً للشیخ قدس سره(2)- من الوجوب الطریقی لهما، فالحقّ أیضاً هو ما ذکرناه: من أنّ مقتضاه ترتّب العقاب علی مخالفة الواقع، لا علی ترکهما؛ لأنّ المفروض أنّ الفحص طریق، و الأمر به طریقیّ لتحصیل الواقع، کما أنّ الأمر بالاحتیاط لحفظ الواقع و درکه، فالعقاب علی ترک الواقع، لا علی ترک الطریق المؤدّی إلیه.

و العجب أنّه قدس سره صرّح: بأنّه لیس العقاب هنا علی ترک الواقع؛ لعدم البیان و الجهل به، و کذلک نفس الطریق، بل هو مترتِّب علی ترک الطریق المؤدّی إلی مخالفة الواقع، مع ما عرفت من أنّ الجهل لا یُعدّ عذراً(3).

هذا کلّه بالنسبة إلی حکم العقل.

المقام الثانی: فی مقتضی الأخبار

و أمّا الأخبار الواردة فی المقام:

فعدّة منها تدلّ علی تعریف العلماء: بأنّهم ورثة الأنبیاء(4)، و حصون الإسلام(5)، و الحثّ علی التفقّه(6) فی الدین، فهی راجعة إلی الفقاهة.

و عدّة اخری دالّة علی عدم السعة فی ترک السؤال، و أنّ الجاهل غیر معذور، مثل قوله علیه السلام:

(هلّا تعلّمت)

(7)، و قوله:

(هلک الناس لترک السؤال)

(8)، و قوله:

(قتلوه؛


1- فوائد الاصول 4: 281.
2- فرائد الاصول: 301 سطر 24.
3- انظر فوائد الاصول 4: 285.
4- الکافی 1: 26/ 1.
5- الکافی 1: 30/ 3.
6- الکافی 1: 23، کتاب فضل العلم.
7- الأمالی، الشیخ الطوسی: 9.
8- الکافی 1: 31/ 2، و فیه( إنّما یهلک الناس لأنّهم لا یسألون).

ص: 630

ألّا سألوا، دواء العیّ السؤال)

(1) فی قضیّة المجدور.

أمّا الفرقة الاولی: فهی غیر مربوطة بالمقام؛ حیث إنّها تدلّ علی مطلوبیّة التفقّه فی الدین ذاتاً و نفساً و إن لم یُحتج إلیه فی مقام العمل، کتعلُّم الرجل مسائل الحیض و الاستحاضة، و غیر المستطیع لمسائل الحجّ و مناسکه، فهی تدلّ علی الوجوب الکفائی للتفقّه فی الدین بضمیمة قوله تعالی: «وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً ...»(2) الآیة؛ حیث تدلّ علی عدم وجوب النَّفْر علی الجمیع، مع دلالة الروایات المذکورة علی الوجوب، فیکفی قیام البعض بذلک.

و أمّا الفرقة الثانیة: فمفادها هو ما یحکم به العقل من وجوب التعلّم؛ لئلّا یؤدّی ترکه إلی مخالفة الواقع.

و إن شئت قلت: إنّها تدلّ علی الوجوب الغیری للتعلّم، أو الوجوب النفسی التهیُّئی، فالعقاب إنّما یترتّب علی مخالفة الواقع، لا علی ترک الفحص و التعلّم.

هذا کلّه بالنسبة إلی ما یترتّب علی مخالفة الواقع- لو ترک الفحص- من التبعة و العقوبة.

البحث فی صحّة العبادة و بطلانها لو ترک الفحص

و أمّا الکلام فی صحّة العبادة و بطلانها لو ترک الفحص مع حکم العقل بوجوبه، فنقول: لا إشکال فی وجوب إعادة الصلاة فیما لو أتی بما یخالف الواقع المأمور به، لانکشاف الخلاف، کما لو قطع بالحکم أو قامت الأمارة علیه، فانکشف الخلاف بعد العمل علی طبقهما، و کذلک لو اعتمد فی عمله علی الحجج و الأمارات العقلائیّة، مثل خبر الواحد و نحوه التی لم یردع عنها الشارع، و مثل متابعة فتوی


1- الکافی 1: 31/ 1.
2- التوبة( 9): 122.

ص: 631

الفقیه لو قلنا: إنّه طریق عقلائیّ، فالحقّ فی جمیع تلک الموارد عدم الإجزاء، کما تقدّم الکلام فیه فی مسألة الإجزاء، فإذا کان الحکم کذلک هناک فما نحن فیه أولی بذلک؛ أی عدم الإجزاء و وجوب الإعادة؛ حیث إنّه خالف الواقع بلا عذر، مع ترکه الفحص الواجب علیه تقصیراً، لکن استُثنی من ذلک موردان:

أحدهما: الإتمام فی موضع القصر جهلًا.

ثانیهما: الجهر فی موضع الإخفات فی القراءة، و بالعکس.

فإنّهم حکموا بعدم وجوب الإعادة و لو علم به فی الوقت، مع استحقاقه للعقوبة من حیث تقصیره فی ترک التعلّم و الفحص الواجب علیه، کما تقدّم نظیره فی حدیث

(لا تُعاد)

، و تقدّم: أنّه لا منافاة عقلًا بین الحکم بالإجزاء لو أخلّ بغیر الخمسة جهلًا عن تقصیر، و بین الحکم باستحقاقه للعقوبة، بل فی صورة العمد أیضاً لو لا الانصراف عنها.

و قد اورد علی ذلک: بأنّه لا یمکن قصر وجوب الجهر و الإخفات، أو القصر للمسافر، بصورة العلم بها؛ لأنّه- مضافاً إلی استلزامه الدور- خلاف الضرورة، و لهذا تصحّ صلاة المسافر الجاهل بوجوب القصر لو قصّر غفلةً، فإنّها تُجزیه بلا إشکال، فالمصلّی جهراً فی موضع الإخفات أو بالعکس، أو المسافر تماماً جاهلًا بالحکم عن تقصیر، یستحقّ العقوبة، لکن قام النصّ و الإجماع علی صحّة صلاته و عدم وجوب الإعادة و إن علم بالحکم فی الوقت، و حینئذٍ فیرد الإشکال تارة: بأنّه مع الحکم بصحّة الصلاة المذکورة، و أنّها مأمور بها، لا وجه لاستحقاقه العقوبة، و إن لم تکن مأموراً بها فلا وجه للحکم بصحّة الصلاة.

و بعبارة اخری: أنّ الصلاة المذکورة: إن کانت وافیة بتمام الملاک و المصلحة فهی صحیحة؛ لعدم النقصان فیها حینئذٍ، و معه لا وجه لاستحقاقه العقوبة، و إن لم تکن وافیة بتمام المصلحة و الملاک فلا وجه للحکم بصحّتها.

ص: 632

و اخری: بأنّه کیف یمکن القول باستحقاقه العقوبة مع بقاء الوقت، و تمکّنه من الإعادة، و إیقاع الصلاة تامّة، و الإتیان بالمأمور به.

و الحقّ فی الجواب: هو ما ذکره صاحب الکفایة: من أنّه إنّما حکم بالصحّة فی المفروض لاشتمالها علی المصلحة التامّة اللّازمة الاستیفاء المهمّة فی نفسها، و إن کانت دون مصلحة الجهر فی موضعه و الإخفات فی موضعه و القصر، و إنّما لم یؤمر بها للأمر بما هی واجدة لتلک المصلحة بنحو الأتمّ الأکمل.

و أمّا الحکم باستحقاقه للعقوبة فإنّه بعد استیفاء الناقصة تکون الکاملة بلا فائدة، و غیر قابلة الاستیفاء، و لا یمکن تدارکها مع کونها ملزمة، و أنّه لا یتمکّن من القصر بعد الإتیان بها تماماً، و لا من الجهر فی موضعه بعد الإخفات و لو مع بقاء الوقت ... إلی آخر ما ذکر فی الجواب عن الإشکالین اللذین أوردهما علی نفسه(1)، فراجع، فإنّه صحیح متین یندفع به کلا الإیرادین.

و لکن أورد علیه المیرزا النائینی قدس سره: بأنّه متمکّن من الإتیان بالصلاة المأمور بها و إعادتها بالوجدان، فکیف یمکن الحکم بأنّه لا یتمکّن من ذلک(2)؟!

و فیه: أنّ المراد هو القدرة علی الصلاة المأمور بها المشتملة علی المصلحة التامّة، لا علی صورة الصلاة و إن لم تشتمل علیها، و هو متمکّن من صورة الصلاة الغیر المشتملة علی المصلحة، و أمّا المشتملة علی المصلحة فهو لا یقدر علیها.

ثمّ إنّه ذکر لبیان تصحیح الصلاة فی المفروض وجوهاً اخر:

الوجه الأوّل: أنّه من قبیل تعدّد المطلوب، و أنّ طبیعة الصلاة مطلوبة، و مع خصوصیّة القصر- مثلًا- مطلوبة بطلب آکد من الاولی، لکن لا بنحو یتعلّق بالصلاة أمران و إرادتان فی مقام الأمر و الإرادة، بل الإرادة و البعث متعلّقان بأصل الصلاة،


1- کفایة الاصول: 428.
2- فوائد الاصول 4: 291- 292.

ص: 633

و یکون البعث إلیها مع خصوصیة القصر آکد(1).

و فیه: أنّ هذا ظاهر الفساد؛ لأنّ المقصود هو أنّ الصلاة المأمور بها تامّة هی المبعوث إلیها، فلا محیص عن القول بتعلّق الأمر الواحد بالجامع بما هو جامع و خصوص فرد من الصلاة قصراً بخصوصیّة القصریّة، و بما هو قسم للجامع المذکور تعلّق به أمرٌ آخر، فیلزم تعلّق أمرین بخصوص هذا الفرد القصریّ، و أمّا التامّ بما أنّه تامّ فلم یتعلّق أمر به، و لا یلتزم هذا القائل به أیضاً، فما ذکره من عدم تعلّق أمرین بخصوص الفرد، بل أمر واحد أکید، غیر صحیح.

الوجه الثانی: أنّ هنا أمرین: أحدهما متعلّق بالجامع؛ أی طبیعة الصلاة الجامعة بین الأفراد، و الآخر بخصوص القصر بما هو قصر، و هو المطلوب الأعلی، و أمّا الأمر الأوّل فهو متعلّق بأصل الصلاة فیما لو جهل بوجوب القصر للمسافر أو بمصداقیّته لهذا الجامع، و أمّا مع العلم بوجوب القصر فهو المصداق له فقط(2).

فإن قلت: إنّ الأمر المتعلّق بالجامع یسری إلی الأفراد أیضاً، فیلزم أن یکون القصر بما هو قصر متعلَّقاً لأمرین و إرادتین مستقلّتین، و هو محالٌ؛ لأنّه من قبیل اجتماع المثلین.

قلت: قد تقدّم فی مبحث المطلق و المقیّد أنّ معنی المطلق هو أنّ الأمر متعلّق بنفس الطبیعة، و لیس معناها سواء کان کذا أم کذا. نعم یتّحد المطلق مع الأفراد الخارجیّة فی الخارج، فلیس مرجع الأمر المتعلّق بالطبیعة إلی الأمر بهذه الخصوصیّة الفردیّة، و مجرّد اتّحادها مع الفرد فی الخارج لا یوجب إسراء الحکم من أحدهما إلی الآخر، کما قرّر ذلک فی مبحث اجتماع الأمر و النهی. نعم لو تعلّق الأمر بالعامّ الاستغراقی فهو یرجع إلی الأمر بالأفراد.


1- انظر نهایة الدرایة 2: 314 سطر 20.
2- انظر نهایة الأفکار 3: 484- 485.

ص: 634

و بالجملة: الأمر الأوّل متعلّق بنفس الطبیعة من دون أن یسری إلی الأفراد، فلا یلزم تعلّق أمرین مستقلّین بشی ء واحد، و هو خصوص الفرد.

نعم یتوجّه هنا البحث المتقدّم فی مسألة اجتماع الأمر و النهی: من أنّه هل یختصّ دفع غائلة الاجتماع بتعدُّد العنوانین فیما لو کان بینهما العموم من وجه أو العموم و الخصوص الموردی، و أمّا العموم و الخصوص العنوانی- و هو ما لو اخذ المطلق فی مفهوم المقیّد، کالرقبة و الرقبة المؤمنة- فلا یندفع فیهما غائلة اجتماع الضدّین؛ لعدم تعدّد العنوانین، و لیس ملاک الجواز متحقِّقاً فیه.

فإنّ نظیر هذا الکلام واقع فیما نحن فیه؛ لأنّه لا تغایر بین نفس الطبیعة و الفرد بحسب العنوان، بل الفرد نفس الطبیعة مع خصوصیّات و تشخّصات فردیّة، فکما یستحیل تعلّق الإرادة و البعث بنفس الطبیعة و إرادة زجریّة بفردها، کذلک یستحیل تعلّق إرادتین بعثیّتین إیجابیّتین مستقلّتین بهما.

و یمکن دفع هذا الإشکال: بأنّه علی فرض امتناع اجتماع الأمر و النهی فی هذا الفرض، یمکن أن یقال: بجواز اجتماع الأمرین فی المقام؛ لعدم استلزامه اجتماع المثلین، لعدم التماثل بین الأحکام؛ أ لا تری أنّه قد تکون طبیعة الماء مطلوبة لرفع العطش بشربها و دفع ضرره، و طبیعة الماء فی ظرفٍ خاصّ- نظیفٍ مثلًا- أیضاً مطلوبة.

و الحاصل: أنّه لا تنافی بین المطلوبتین، بخلاف المطلوبیّة و المبغوضیّة؛ لوضوح التنافی بین مطلوبیّة الطبیعة و مبغوضیّة الطبیعة المقیّدة.

و لکن الإشکال فی المقام: هو أنّ القائل بهذا الوجه و کذا الوجه الآتی- أی الترتُّب- بصدد تصحیح العبادة؛ أی التمام فی موضع القصر جهلًا، أو الجهر فی موضع الإخفات، و کذلک العکس جهلًا، و مجرّد إثبات وجود الأمر واقعاً لا یفید و لا یثبت ذلک- أی صحة الصلاة مع جهل المکلّف به-؛ فإنّ المناط فی صحّة

ص: 635

العبادة هو وجود الأمر الذی هو منشأ الانبعاث المکلّف بمبادئه الخاصّة، و الانبعاث عنه إنّما یتحقّق مع علمه به، و أمّا لو جهل بوجوده واقعاً- کما هو المفروض فی ما نحن فیه- فلیس العبد منبعثاً عنه لتصحّ العبادة.

نعم یندفع هذا الإشکال لو ارید إثبات الأمر بعنوان التمام بخصوصه، کما سیأتی بیانه، لکن هذا الوجه غیر ذلک.

الوجه الثالث: ما عن الشیخ کاشف الغطاء قدس سره من تصویر الأمر بالتمام؛ أی فاقد الخصوصیّة بنحو الترتّب، و حاصله: أنّ المأمور به أوّلًا هو الصلاة المقصورة، و علی فرض الجهل بحکم القصر و لو تقصیراً و عصیاناً، فالمأمور به هو الفاقد للخصوصیّة؛ أی التمام(1).

و اورد علیه:

أوّلًا کبرویّاً: بعدم صحّة القول بالترتّب(2).

و ثانیاً صغرویّاً: بعدم صحّته فی خصوص المقام.

أمّا الأوّل: و قد تقدّم الکلام فیه مفصّلًا، و لا نعیده.

و أمّا الثانی: فأنکر المیرزا النائینی قدس سره أنّ ما نحن فیه من صُغریات مسألة الترتُّب؛ لأنّه یعتبر فی الترتُّب وجود ملاک الحکم بتمامه فی کلّ واحد من الأمرین، کالأمر بإنقاذ الغریقین الأهمّ و المهمّ، فإنّ ملاک الأمر موجود و متحقّق فیهما، لکن حیث لا یتمکّن المکلّف من إنقاذهما معاً قلنا: بأنّ المهمّ مأمور به بنحو الترتُّب؛ یعنی أنّه مأمور بإنقاذ الأهمّ أوّلًا، و علی فرض عصیانه له فهو مأمور بإنقاذ المهمّ، و المکلّف فیما نحن فیه متمکّن من الجمع بین صلاة الظهر تماماً و قصراً، و حیث إنّه لا تنافی و لا تضادّ بینهما لا بدّ أن یتعلّق الأمر بهما، و عدم تعلّق الأمر بهما معاً یکشف


1- کشف الغطاء: 27 سطر 22.
2- فرائد الاصول: 309 سطر 8.

ص: 636

بنحو القطع عن عدم وجود الملاک فیهما معاً.

فالفرق بین ما نحن فیه و مسألة الترتّب من وجهین:

أحدهما: عدم التضادّ بین الأمرین و إمکان الجمع بینهما فی ما نحن فیه، مع اعتبار التضادّ و عدم إمکان الجمع بین الأمرین فی الامتثال فی مسألة الترتّب.

ثانیهما: اعتبار وجود الملاک التامّ فی الأمرین فی الترتُّب، بخلاف المقام.

مضافاً إلی أنّه یعتبر فی الخطاب الترتُّبی أن یکون خطاب المهمّ مشروطاً بعصیان خطاب الأهمّ، و لا یمکن ذلک فیما نحن فیه؛ إذ لا یعقل أن یخاطَب التارک للقصر بعنوان العاصی، فإنّه غیر ملتفِت إلی هذا العنوان لجهله بالحکم، و لو التفت إلی جهله و عصیانه یخرج عن عنوان الجاهل، فلا تصحّ منه الصلاة التامّة، فلا یندرج تحت صُغری الترتّب، و کأنّ الشیخ قدس سره اعترف و سلّم اندراج ما نحن فیه فی صغری الترتُّب، و مَنع الکبری.

و فیه: أنّا لا نعقل الترتُّب فی المقام(1). انتهی.

أقول: أمّا ما ذکره: من أنّه یعتبر فی الترتُّب وجود الملاک التامّ فی کلّ واحد من الأمرین، ففیه:

أنّه إن أراد أنّه یعتبر أن یکون الأمران ذوی ملاک تامّ فی عرض واحد، ففیه أنّا لا نُسلّم اعتبار ذلک فی الترتُّب؛ أی اشتمال کلّ واحد منهما علی ملاک تامّ فی عرض واحد، فلا یعتبر فی الترتُّب ذلک.

و إنْ أراد أنّهما- أی القصر و التمام فیما نحن فیه- لا یشتملان علی الملاک حتی فی الطول أیضاً، فهو ممنوعٌ؛ للإجماع علی صحّة الصلاة التامّة بدل القصر جهلًا بالحکم، و کذلک المجهورة فی موضع الإخفاتیّة، و بالعکس، و هو کاشف عن وجود الملاک فی التمام فی صورة الجهل بالحکم، لکن لا فی عرض وجود الملاک


1- فوائد الاصول 4: 293.

ص: 637

فی القصر، و هو کافٍ فی الترتُّب.

و أمّا ما ذکره: من عدم التضادّ المعتبر فی الترتُّب فیما نحن فیه؛ لتمکّن المکلّف من الإتیان بالقصر بعد الإتیان بالتمام.

ففیه: أنّ المقدور فی المقام هو الجمع بین التمام و صورة الصلاة المقصورة جهلًا، لا علی القصر المشتملة علی المصلحة و الملاک بعد صلاة التمام جهلًا، فالتضادّ بینهما متحقّق، کما ذکره المحقّق الخراسانی فی «الکفایة»(1)؛ لأنّه مع الإتیان بالصلاة التامّة یتدارک المصلحة الصلاتیة، و یسقط الأمر بالقصر حینئذٍ.

و أمّا ما ذکره: من أنّه یُعتبر فی الترتُّب اشتراط الأمر بالمهمّ بعصیان الأمر بالأهمّ، و لا یعقل العصیان فی المقام.

ففیه: أنّا لا نُسلّم اعتبار ذلک فی الترتُّب، بل یمکن أن یقال: إنّ المعتبر فیه ترتُّب الأمر بالمهمّ علی مخالفة الأمر بالأهمّ، و هو متحقّق فیما نحن فیه، فإنّ المفروض أنّ المکلّف خالَفَ الأمر بالقصر، إلّا أنّه غیر ملتفت إلی هذه المخالفة و غافل عنها، و هو غیر ضائر فی الترتُّب.

هذا، لکن بقی هنا إشکال أوردناه علی صحّة أصل الترتّب: و هو أنّه لو کان الأمر بالتمام مشروطاً بمخالفة أمر الأهمّ أو عصیانه، فإنّه یتوقّف علی مُضیّ الوقت بمقدار لا یمکنه الإتیان بالأهمّ؛ ضرورة أنّ الوقت ما دام باقیاً لم تتحقّق المخالفة بعدُ، و مع خروج الوقت لا معنی للأمر بالمهمّ؛ لخروج وقته أیضاً؛ لما تقدّم سابقاً من أنّه لا یعقل الترتُّب إلّا فی المضیَّقین.

و إن قلنا: بأنّ الأمر بالمهمّ مشروطٌ بامتناع استیفاء مصلحة الأهمّ، فلا یمتنع استیفاء مصلحته إلّا بعد مضیّ الوقت و معه یستحیل الأمر بالمهمّ.

و هذا الإشکال جارٍ فیما نحن فیه أیضاً، فإنّ مخالفة الأمر بالقصر لا تتحقّق


1- کفایة الاصول: 429.

ص: 638

إلّا بعد خروج الوقت أو مضیّه بمقدار لا یمکنه الإتیان بالقصر، و معه لا یعقل الأمر بالتمام حینئذٍ.

و لکن یمکن دفع هذا الإشکال فیما نحن فیه؛ حیث إنّ موضوع الأمر بالمهمّ فی مسألة الترتُّب: إمّا العصیان، أو الذی یعصی، و کلّ واحدٍ منهما لا یتحقّق إلّا بعد مضیّ الوقت بمقدارٍ لا یمکنه الإتیان به، و معه لا معنی للأمر بالمهمّ أیضاً؛ لانقضاء وقته، و موضوع الأمر بالتمام فیما نحن فیه هو عنوان «الذی لم یأتِ بالقصر، و الذی تعلّق به الأمر المطلق»، فمع صدق هذا العنوان یتحقّق موضوع الأمر بالتامّ و ملاکه.

و الحاصل: أنّ القصر و ملاکه علی نحو الإطلاق و ملاک التمام مقیّد بعدم الإتیان بالقصر جهلًا.

بقی فی المقام إشکالان آخران لا یمکن الذبّ عنهما:

الأوّل: أنّه قد تقدّم فی مسألة الترتُّب: أنّه لو ترک الإتیان بالأهمّ و المهمّ کلیهما فهو مستحقّ لعقوبتین؛ لترکه کلّ واحدٍ منهما بلا عذرٍ، و فیما نحن فیه لیس کذلک، فإنّه لو ترکهما- أی القصر و الإتمام- فإن قلنا باستحقاقه لعقوبة واحدة، فهو خلاف حکم العقل فی مسألة الترتّب؛ لما عرفت من حکمه باستحقاقه لعقوبتین.

و إن قلنا: باستحقاقه لعقوبتین فهو خلاف الإجماع.

الثانی: أنّه إن کان عنوانُ التمام المترتّب علی «الذی یعصی الأمر بالقصر» ذا ملاک و مصلحة، فلا بدّ أن یلتزم بأنّ هناک أمرین: أحدهما متعلّق بالقصر، و الآخر بالتمام، مع عدم تمکّنه من الإتیان بهما مع وجود الملاک فی کلّ واحدٍ منهما، و إن أمکن الإتیان بصورتیهما فالإشکال فی أصل الترتُّب آتٍ هنا أیضاً.

ص: 639

هذا تمام الکلام فی مباحث القطع و الظنّ و البراءة و الاشتغال، و یتلوه البحث فی الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید إن شاء اللَّه تعالی.

تقریراً لمباحث استاذنا الأعظم و مولانا الأفخم آیة اللَّه العظمی الحاج السیّد روح اللَّه الموسوی الخمینی أدام اللَّه أیّام إفاضاته، و متّع اللَّه المسلمین بطول بقائه آمین.

سنة أربعٍ و سبعین بعد ثلاثمائة و الألف من الهجرة النبویّة بالسنین القمریة.

بقلم العبد الفانی الفقیر إلی رحمة الباری تعالی حسین بن یحیی التقوی الاشتهاردی مولداً و القمّی مسکناً عفی عنهما.

و الحمد للَّه ربّ العالمین، و صلّی اللَّه علی محمّد و آله أجمعین.

ص: 640

ص: 641

فهرس الموضوعات

ص: 642

ص: 643

المطلب السادس

الأمارات المعتبرة عقلًا و شرعاً

الباب الأوّل: فی القطع

الفصل الأوّل: فی أنّ مسألة القطع لیس من المسائل الکلامیّة ... 13

الفصل الثانی: فی صحّة إطلاق الحجّة علی القطع ... 14

الفصل الثالث: فی أنّ بعض الخطابات لا تعمّ غیر المجتهدین ... 15

الفصل الرابع: فی المراد من وجوب متابعة القطع ... 16

الفصل الخامس: حجیّة القطع و طریقیّته ... 17

الفصل السادس: فی مراتب الحکم ... 19

الفصل السابع: مبحث التجرّی ... 21

الأمر الأوّل: هل البحث عن التجرّی من المباحث الاصولیّة أم لا؟ ... 21

الأمر الثانی: إنّ المناط فی صحة العقوبة هو صدور الفعل عن إرادة و اختیار ...

27

بحث استطرادی حول الطلب و الإرادة ... 34

ص: 644

الفصل الثامن: فی أقسام القطع و أحکامها ... 37

الفصل التاسع: فی قیام الأمارات و الاصول مقام القطع ... 46

فی إمکان قیام الأمارات و الاصول مقام القطع ... 46

فی قیام الأمارات مقام القطع ... 51

فی قیام الاصول مقام القطع ... 53

الفصل العاشر: فی الموافقة الالتزامیّة ... 59

الفصل الحادی عشر: فی أحکام العلم الإجمالی ... 65

المسألة الاولی: فی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیّة ... 65

المسألة الثانیة: فی وجوب موافقة القطعیة و عدمه ... 66

المسألة الثالثة: فی کفایة الامتثال الإجمالی مع إمکان التفصیلی ... 70

الباب الثانی: فی الظنّ

المقام الأوّل: فی إمکان التعبّد بالظنّ و عدمه ... 79

فی شبهة «ابن قبة» ... 79

التحقیق فی الجواب عن «ابن قِبة» بالنسبة إلی الأمارات ... 86

جواب الشیخ الأعظم قدس سره عن شبهة «ابن قبة» بناءً علی السببیة ... 88

فی الجواب عن «ابن قبة» بالنسبة إلی الاصول العملیة ... 94

المقام الثانی: فی وقوع التعبّد بالأمارات و عدمه فی الشریعة المقدّسة ... 115

المقدّمة فی تأسیس الأصل ... 115

ص: 645

الأمر الأوّل: حجیّة ظواهر الألفاظ ... 124

التفصیل بین مَن قصد إفهامه و غیره ... 127

فی دعوی تحریف القرآن و ردّها ... 130

فی حجّیّة قول اللُّغوی ... 133

فی اختلاف القراءات ... 134

الأمر الثانی: فی الإجماع المنقول ... 136

ملاک حجیّة الإجماع ... 139

الأمر الثالث: فی الشهرة ... 144

الأمر الرابع: الخبر الواحد ... 150

الفصل الأوّل: أدلّة عدم حجّیّة خبر الواحد ... 151

الفصل الثانی: أدلّة حجّیّة الخبر الواحد ... 159

الدلیل الأوّل: الکتاب ... 159

آیة النبأ ... 159

فی الإشکالات علی التمسّک بالآیة ... 161

آیة النَّفر ... 183

الدلیل الثانی: الأخبار ... 189

الدلیل الثالث: الإجماع ... 190

الدلیل الرابع: بناء العقلاء ... 191

ص: 646

الباب الثالث: فی البراءة و الاشتغال

الفصل الأوّل: ترتیب مباحث الاصول ... 199

الفصل الثانی: وجه تقدیم الأمارات علی الاصول ... 201

الفصل الثالث: أدلّة القول بالبراءة فی الشبهات الحکمیة:

الدلیل الأوّل: الآیات ... 208

الدلیل الثانی: الأخبار ... 216

حدیث الرفع ... 217

توضیح الکلام فی فقه الروایة ... 217

بحث عن متعلّق الرفع ... 219

الأمر الأوّل: فی أنّ حدیث الرفع امتنانیٌّ ... 226

الأمر الثانی: فی شمول الحدیث للُامور العدمیّة ... 227

الأمر الثالث: فی شمول الحدیث للموضوعات الخارجیة و الشبهات الحکمیة ... 229

التعرّض لباقی فقرات حدیث الرفع ... 236

عنوان النسیان ... 236

النسیان فی المعاملات ... 241

عنوان الاضطرار ... 242

عنوان «ما لا یطیقون» ... 244

عنوان «الإکراه» ... 244

حدّ الإکراه المرفوع ... 246

ص: 647

حدیث الحجب ... 249

حدیث السعة ... 252

خبر عبد الصمد بن بشیر ... 254

روایة عبد الأعلی بن أعین ... 257

روایة ابن الطیّار ... 258

روایة إبراهیم بن عمر ... 262

مرسلة الصدوق ... 262

روایة أبی إبراهیم ... 270

روایة عبد اللَّه بن سلیمان ... 272

حدیث الحلّیة ... 275

الدلیل الثالث: الإجماع ... 277

الدلیل الرابع: العقل ... 278

فی أدلّة القول بالاحتیاط:

الاستدلال بالکتاب ... 284

الاستدلال بالسنّة ... 288

الاستدلال بحکم العقل ... 307

الوجه الأوّل: بطریق العلم الإجمالی ... 307

الوجه الثانی: التمسّک بأصالة الحظر فی الأشیاء ... 317

ص: 648

تنبیهاتٌ:

التنبیه الأوّل: اشتراط جریان البراءة بعدم وجود أصل موضوعی ... 319

حول أصالة عدم التذکیة ... 320

أصالة عدم التذکیة فی الشبهة الموضوعیّة ... 328

التنبیه الثانی: فی حسن الاحتیاط ... 330

الاستدلال بأخبار (من بلغ) ... 334

التنبیه الثالث: اختلاف أصالة البراءة باختلاف متعلّقات الأحکام ... 337

التنبیه الرابع: فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر ... 346

أنحاء الشکّ فی التعیین و التخییر ... 350

فی دوران الأمر بین الواجب العینیّ و الکفائیّ ... 358

التنبیه الخامس: دوران الأمر بین المحذورین ... 361

الفصل الرابع: فی الشکّ فی المکلّف به ... 374

هل العلم الإجمالی موجب لوجوب الموافقة و حرمة المخالفة أم لا؟ ... 378

المقام الأوّل: فی الشبهة المحصورة ... 378

البحث حول الروایات الواردة فی أطراف العلم الإجمالی ... 378

ما هو المانع عند الشیخ الأعظم عن شمول الروایات لأطراف العلم الإجمالی؟ ... 386

وجوب الموافقة القطعیة و عدمه ... 391

تنبیهات:

التنبیه الأوّل: عدم اشتراط الاحتیاط بوحدة حقیقة المشتبهین ... 401

ص: 649

التنبیه الثانی: تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیّات ... 401

التنبیه الثالث: فی شرائط تنجیز العلم الإجمالی ... 404

أقسام الاضطرار ... 404

مختار المحقّق الخراسانی ... 408

التنبیه الرابع: فی شرطیّة الدخول فی محل الابتلاء لتنجیز العلم الإجمالی ... 409

الفرق بین الخطابات القانونیّة و الخطابات الشخصیة ... 414

المقام الثانی: فی الشبهة الغیر المحصورة ... 423

أدلّة جواز الارتکاب فی الشبهة الغیر المحصورة ... 424

فیما لو شکّ بأنّ الشبهة محصورة أو غیر محصورة ... 430

حول الشبهات الوجوبیّة ... 433

الفصل الخامس: بیان حکم ملاقی بعض أطراف الشبهة المحصورة ... 435

أدلّة عدم جواز ارتکاب ملاقی أحد أطراف الشبهة المحصورة ... 436

حکم العقل و الاصول العقلیّة فی الملاقی ... 437

ما هو الأصل الشرعی فی الملاقی؟ ... 442

تنبیهات:

التنبیه الأوّل: وجوب الاحتیاط عند الجهل بالقبلة ... 451

التنبیه الثانی: فی کیفیة النیّة لو کان المعلوم بالإجمال من العبادات ... 453

التنبیه الثالث: حکم ما لو کان المعلوم بالإجمال أمرین مترتّبین شرعاً ... 454

الفصل السادس: فی دوران الواجب بین الأقلّ و الأکثر ... 457

ص: 650

الأمر الأوّل: الکثرة الاستقلالیة و الارتباطیة ... 457

الأمر الثانی: فی بیان أقسام الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین ... 458

حول الأقوال فی الأقلّ و الأکثر بحسب الأجزاء ... 460

الإشکالات علی جریان البراءة العقلیّة عن الأکثر ... 462

حول جریان البراءة الشرعیّة و عدمه ... 474

حول انحلال العلم الإجمالی بالبراءة الشرعیّة ... 477

حول سائر الأقسام من الأقلّ و الأکثر ... 479

الفصل السابع: فی الأقلّ و الأکثر فی الأسباب و المحصّلات ... 485

الفصل الثامن: دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر فی الشبهات الموضوعیة ... 492

بیان حال الأقسام المتصوّرة ... 493

ینبغی التنبیه علی أمرین:

التنبیه الأوّل: هل الأصل فی الأجزاء و الشرائط هو الرکنیّة؟ ... 498

مقتضی الأصل العقلی فی جانب النقیصة ... 499

مقتضی الأدلّة فی نسیان الجزء و الشرط ... 504

مقتضی الأصل الشرعی فی المقام ... 508

فی تصور الزیادة ... 514

مقتضی الأصل فی جانب الزیادة ... 518

مقتضی الروایات الواردة فی جانب الزیادة ... 523

النسبة بین حدیثی (مَن زاد) و (لا تُعاد) ... 529

ص: 651

التنبیه الثانی: هل تشمل أدلّة الأجزاء و الشرائط لحال العجز و الاضطرار؟ ... 535

تحریر محلّ النزاع ... 535

مقتضی البراءة العقلیّة ... 539

مقتضی البراءة الشرعیّة ... 541

التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء ... 543

مقتضی قاعدة المیسور ... 546

الفصل التاسع: فی شرائط الاحتیاط و البراءة ... 558

المقام الأوّل: فی الاحتیاط ... 558

خاتمة ... 564

المقام الثانی: فی شروط البراءة العقلیّة و النقلیّة ... 565

الموضع الأوّل: فی شروط جریان البراءة العقلیّة ... 565

الموضع الثانی: فی بیان مقدار الفحص ... 573

الفصل العاشر: قاعدة «لا ضرر» ... 574

الأخبار الواردة فی نفی الضرر ... 574

یقع الکلام هنا فی جهات:

الجهة الاولی: عدم صدور «لا ضرر» مستقلًا ... 579

الجهة الثانیة: إشکالات حول وقوع «لا ضرر» فی بعض القضایا ... 579

الجهة الثالثة: فی عدم صدور «لا ضرر ... فی الإسلام» ... 586

الجهة الرابعة: فی صدور «لا ضرر ... علی مؤمن» ... 586

ص: 652

الجهة الخامسة: فی معنی الضرر و الضرار ... 588

فی مفاد الجملة الترکیبیّة ... 592

الحقّ فی معنی الحدیث ... 605

تنبیهات:

التنبیه الأوّل: مخالفة المسألة لقاعدتی «الاحترام» و «السلطنة» ... 609

التنبیه الثانی: تقدّم قاعدة «لا ضرر» علی «السلطنة» ... 614

التنبیه الثالث: حول تحمّل الضرر و توجیهه إلی الغیر ... 615

التنبیه الرابع: تصرّف الإنسان فی ماله مع إضرار غیره ... 617

خاتمة: فی أنّه علامَ یترتّب العقاب لو ترک الفحص؟ ... 621

المقام الأوّل: فی مقتضی حکم العقل ... 622

المقام الثانی: فی مقتضی الأخبار ... 629

البحث فی صحّة العبادة و بطلانها لو ترک الفحص ... 630

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.