سرشناسه : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -
عنوان و نام پديدآور : منتخب موسوعه الامام علي بن ابي طالب عليه السلام/ محمد الري شهري، بمساعده محمدكاظم طباطبائي، محمود طباطبائي نژاد؛ مراجعه النهايه حيدر المسجدي، مجتبي الغيوري.
مشخصات نشر : قم: موسسه دارالحديث العلميه والثقافيه، مركز للطباعه والنشر، 1421ق.= 1379.
مشخصات ظاهري : 8 ج.
فروست : مركز بحوث دا رالحديث؛ 16.
شابك : 300000 ريال: دوره 964-493-216-1 : ؛ ج.1 964-493-217-X : ؛ ج.2 964-493-218-8 : ؛ ج. 3، چاپ دوم 964-493-219-6 : ؛ ج.4 964-493-220-X : ؛ ج. 6، چاپ دوم 964-493-222-6 : ؛ ج.7، چاپ دوم 964-493-223-4 : ؛ 22000ريال: ج.12 964-5985-89-7 :
يادداشت : عربي.
يادداشت : فهرستنويسي بر اساس جلد دوم: 1427ق. = 1385.
يادداشت : چاپ دوم.
يادداشت : ج.1، 3، 4، 6 و 7 (چاپ دوم: 1427ق. = 1385).
يادداشت : ج.4 (چاپ؟: 1427ق.= 1385).
يادداشت : ج.12(چاپ اول: 1421ق.=1379).
يادداشت : كتابنامه.
موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- اثبات خلافت
موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- اصحاب
موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- فضايل
شناسه افزوده : طباطبائي، سيدمحمدكاظم، 1344 -
شناسه افزوده : طباطبايي، محمود، 1239 - 1319ق.
شناسه افزوده : مسجدي، حيدر
شناسه افزوده : غيوري،سيد مجتبي، 1350 -
رده بندي كنگره : BP37/م36م8 1379
رده بندي ديويي : 297/951
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
ص: 7
ص: 8
ص: 9
ص: 10
ص: 11
تمهيدالحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه ، وصلّى اللّه على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الأطيبين الأطهرين ، لا سيّما أخيه ووزيره ووصيّه وخليفته . تتضمّن موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام نظرة جديدة إلى حياة أمير المؤمنين عليه السلام ؛ السيرة العلوية ، وتاريخ أكثر البشرية كمالاً ، وأبرز المؤمنين ، وأعظم شخصية في التاريخ الإسلامي بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتقدّم هذه الموسوعة _ وذلك استنادا على الكتاب والسنّة والتاريخ ، بتصميمٍ جديد ، ومعالجةٍ مبتكرة ، وتنظيمٍ جديدٍ وعملي _ أكثر تعاليم الشخصية الكبرى التي سمّاها النبيّ صلى الله عليه و آله باب علمه وحكمته (1) ، عبرة أمام أنظار المحقّقين والباحثين في العلوم والمعارف العلَوية والمتعطّشين إلى الحقّ والحقيقة . وفيما يلي نذكر بعض خصائص هذه الموسوعة . (2) أ _ الشمولية والانتقائية . ب _ الاستناد الواسع إلى مصادر الشيعة وأهل السنّة . ج _ الانتفاع من المصادر المعتبرة والقابلة للاستناد . د _ تقديم ما يقرب من سبعة آلاف نصّ تاريخي وحديثي مع التحليل إذا اقتضى الأمر .
.
ص: 12
ه _ الالتفات إلى الحقائق وحاجات المجتمع المعاصرة والجانب العملي من المضامين . و _ الابتكار في التأليف وتقديم المواضيع على شكل رسم بياني ، بحيث يكوّن عند الباحث صورة عامّة عن مواضيع الكتاب من خلال نظرة عابرة فيه . ز _ تقديم الإيضاحات والتفسيرات المطلوبة حول الأشخاص ؛ الأمكنة ، وكذلك الخرائط التي أعدّها المتخصّصون . ونظرا إلى أنّ عامّة الناس لم يكن بإمكانهم الانتفاع من كتاب بهذه الخصوصيات ، فقد قرّرنا أن نضع خلاصة منه تحت تصرّف كافّة الراغبين في التعرّف على تعاليم السيرة العلوية ، وأن تُهيّأ أرضية ترجمة هذا الكتاب إلى اللغات الأُخرى ؛ من أجل تحقيق هذا الهدف أكثر فأكثر . ومن جهةٍ أُخرى ، فإنّ اختيار مواضيع كتاب كان قد أُلّف بدوره على أساس المنتقيات ، كان عملاً مجهدا ، وفّق اللّه المنّان إليه الفاضل المحترم مهدي غلام علي . وأنا أتقدّم بشكري الخالص له مباركا إيّاه على هذا التوفيق الكبير ، جدير بالذكر أنّ تدوين «موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام » قد تمّ بمساعدة المحقق الفاضل السيّد محمّد كاظم الطباطبائي والسيّد الفاضل محمود طباطبائينژاد ، فهما سهيمان في تدوين هذه الخلاصة أيضا ، فأتقدم لهما ولجميع الذين ساهموا في تلخيص هذه الموسوعة بالشكر الجزيل والثناء الجميل ، وأسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يجزيهم من فضله وكما هو أهله إنّه حميد مجيد . اللّهمّ إنّا نقسم عليك بعظمة ليلة القدر أن تتقبّل منّا هذه الخدمة المتواضعة ، وأن تجعلنا من الممهدين للحكومة العالمية التي سيقيمها ابن عليّ وفاطمة عليهماالسلام ، وفي صفوف أصحاب الإمام المهدي عليه السلام ، وتمتنا على حبّ أهل بيت الرسالة ، وتحشرنا في زمرة أتباعهم المخلصين والحقيقيّين ، آمين ربّ العالمين . محمّد محمّدي الريشهرى ¨ ليلة 23 من شهر رمضان المبارك 1429 ه _ الثاني من شهر مهر 1387 ش
.
ص: 13
مقدّمة منتخب الموسوعةيعتبر كتاب «موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنّة» الضخم ، جهدا قيّما في مجال التعريف بالإمام عليّ عليه السلام . وقد صدر هذا الكتاب القيّم بعد تتبّع واسع ، تقييم مناسب لموضوعات وتحليلات مفيدة ، استنادا إلى التاريخ والسنّة ، طيلة ثماني سنوات من التأليف ، وفي عام الإمام عليّ عليه السلام سنة 1379 ش (1999 م) . ويتمتّع هذا الأثر بمكانة خاصّة بين الآثار المتعلّقة بشخصية ذلك الإمام الهُمام . وممّا يدلّ على مكانته هذه ، إقبال الباحثين والأوساط العلمية عليه ، وحصوله على الجوائز والأوسمة العلمية _ الثقافية ، ومن جملتها جائزة الدورة الثانية لاختيار كتاب عام الولاية . الجدير بالذكر أنّ النصّ الأصلي للكتاب قد طبع ضمن سبع مجلدات ضخمة . ولم تكن حاجة لبعض مقاطعة التخصّصيّة ، ولذلك فقد تمّ إعداد مختارات منه ؛ كي يخرج الكتاب من الإطار التخصّصي إلى العامّ ، ويكون بالإمكان إصداره في مجلّدٍ واحد ، ولذلك فقد أخذنا بنظر الاعتبار الملاحظات التالية : 1 . تمّت المحافظة على جميع العناوين الرئيسة وأغلب العناوين الفرعية . 2 . اُختيرت أكثر الأحاديث شمولية ووضوحا من المصادر المعتبرة أكثر في
.
ص: 14
هامش كلّ عنوان . 3 . حُذفت جميع الإيضاحات في الهوامش . 4 . اكتفينا بذكر أوّل مصادر الحديث في الهوامش . وقد عَكس «منتخب موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام » الآن _ كمرآة _ مواضيع الكتاب الأصلي كالتالي :
القسم الأوّل : نسب الإمام علي عليه السلامدار الحديث في هذا القسم عن أجداد أمير المؤمنين عليه السلام والبيئة التي ترعرع فيها ، وحياته ، والديه ، أسمائه ، كناه ، ألقابه ، سيرته ووجهه ، وعن زيجات الإمام عليّ عليه السلام وأولاده .
القسم الثاني : الإمام عليّ عليه السلام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آلهيظهر هذا القسم أنّ الإمام عليّا عليه السلام ، اقتفى آثار أقدام رسول اللّه صلى الله عليه و آله من البعثة وحتّى الوفاة ، وسعى من أجل سيادة الإسلام ، وكان سبّاقا مع النبيّ صلى الله عليه و آله في جميع المجالات وفي جميع الصعوبات .
القسم الثالث : مساعي النبيّ صلى الله عليه و آله لاستخلاف علي عليه السلام من بعدهاستعرضنا في هذا القسم ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام وإمامته في إطار سعي رسول اللّه صلى الله عليه و آله لسعادة الأُمّة ، وذكرنا الأدلّة العقلية والنقلية لإثبات هذا الرأي ، وهو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لم يترك الأُمّة دون قائد ، ولم يدع مستقبلها دون برنامج محدّد ، بل إنّه رسم المستقبل بوضوح من خلال التمهيدات الواسعة ؛ الإرشادات ، الإشارات والتصريحات الكثيرة .
.
ص: 15
القسم الرابع : الإمام عليّ عليه السلام بعد النبيّ صلى الله عليه و آلهسلّطنا الضوء في هذا القسم على أرضيات وأسباب تجاهل إرشادات النبيّ صلى الله عليه و آله حول مستقبل الأُمّة والقيادة العلوية ، والتعرّف على مواقف الإمام الحكيمة وكيفيتها وسببها .
القسم الخامس : سياسة الإمام عليّ عليه السلامذكرنا في هذا القسم تولّي الإمام عليه السلام للخلافة ؛ بداية الإصلاحات ، أُسسها وانعكاساتهما في المجتمع .
القسم السادس : حروب الإمام عليّ عليه السلامتطرّقنا في هذا القسم إلى أسباب ظهور الفتن وكيفيتها ، وكذلك جذورها ومسيرتها ونتائجها ، وفتن «الناكثين» ، «القاسطين» و «المارقين» في مواجهة حركة الإمام عليه السلام الإصلاحية وموقفه الأُصولي والصلب من حقوق اللّه وحقوق الناس والقيم .
القسم السابع : عهد المشقّةيمثّل هذا القسم استعراضا للمظالم التي تعرّض لها أمير المؤمنين عليه السلام ، وأصداء صرخات الوحشة والوحدة التي كان عليه السلام يعاني منها . ويُظهر هذا القسم أنّ ذلك الاتّجاه الأوّل الواسع لم يعد له وجود في هذا العهد ، وأنّ الناس كانوا يمتنعون عن المشاركة في المعارك ، ولم يكونوا يلبّون دعوات الإمام عليه السلام ، وتدلّ شكاواه المتكرّرة من الناس ، على المنافع الدنيوية والتخاذل الذي كان يسيطر على الناس آنذاك .
القسم الثامن : شهادة الإمام عليّ عليه السلامذكرنا في هذا القسم تنبّؤ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بشأن شهادة عليّ عليه السلام ، وحديث مولانا
.
ص: 16
عليّ عليه السلام حول شهادته والقضايا المتعلّقة بذلك ؛ مثل كيفية اغتياله ، أقواله عليه السلام الحكيمة منذ ضربته وحتّى لحظة شهادته ، وما إلى ذلك .
القسم التاسع : وجهات النظر حول شخصية الإمام عليّ عليه السلامسوف نلقى الضوء في هذا القسم على شخصية الإمام عليّ عليه السلام من منظار القرآن ، النبيّ صلى الله عليه و آله ، الإمام نفسه ، أهل البيت عليهم السلام ، زوجات النبيّ صلى الله عليه و آله ، أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله ، أصحاب الإمام ، طائفة من أبرز الشعراء ، بل وحتّى معارضيه وأعدائه .
القسم العاشر : خصوصيات الإمام عليّ عليه السلامذكرنا في هذا القسم أبعاد شخصية الإمام عليه السلام وخصوصياته العقائدية ، الأخلاقية ، العملية ، السياسية ، الاجتماعية والفكرية .
القسم الحادي عشر : علم الإمام عليّ عليه السلاميعتبر عليّ عليه السلام أفضل تلامذة مدرسة النبيّ صلى الله عليه و آله وأرفعهم مكانة ؛ فهو أكمل شخص ، ملأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله روحه بالعلم ومدّ أمامه أُفق الحقائق ، وفتح أمامه باب العلم ، كما تعبّر النصوص الروائية والتاريخية عن ذلك. وسنتعرّف في هذا القسم على جانب ممّا ذكر.
القسم الثاني عشر : قضاء الإمام عليّ عليه السلامدار الحديث في هذا القسم عن مكانة عليّ عليه السلام في القضاء ، باعتباره «أقضى الأُمّة» ، وذكرنا نماذج من قضائه عليه السلام في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعهد خلافته .
القسم الثالث عشر : كرامات الإمام عليّ عليه السلامذكرنا في هذا القسم نماذج من القدرة الروحية والمعنوية للإمام عليه السلام ؛ ولايته التكوينية ، مظاهر خلافة اللّه في إمام البشرية ؛ نماذج مثل : إجابة الدعوات ، الحديث
.
ص: 17
عن الأُمور الغيبية (أخبار المغيبات) ، وما إلى ذلك .
القسم الرابع عشر : حبّ الإمام عليّ عليه السلامتظهر النصوص المروية في هذا القسم ، أنّ حبّ علي عليه السلام ، هو حبّ للّه ورسوله عليه السلام ، وهو واجب وعبادة ونعمة ، وحبل اللّه المتين ، وأفضل الأعمال ، وعلى رأس أعمال المؤمنين .
القسم الخامس عشر : معاداة الإمام عليّ عليه السلامتظهر نصوص الأحاديث المعتبرة المروية عن الفريقين ، أنّ أعداء عليّ عليه السلام بعيدون عن الرحمة الإلهيّة ، وأنّ هلاكهم محتوم ، ومعاداته تدلّ على النفاق والفسق والشقاء .
القسم السادس عشر : أصحاب الإمام عليّ عليه السلام وعمّالهيتعرّف القارئ في هذا القسم على تراجم لشخصيات عدد من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وعمّاله ، بشكلٍ إجمالي . فممّا لاشكّ فيه أنّ موقف الإمام عليه السلام إزاء أصحابه وعمّاله ، يدعو إلى التأمّل وأخذ الدروس والعبر .
شكر وتقديرنشكر اللّه _ تعالى _ على توفيقه إيّانا لخدمة شخصية الإمام عليّ عليه السلام ، آملين أن يشملنا لطفه وكرمه في الدارين . وأرى هنا لزاما عليَّ أن أتقدّم بشكري إلى المؤلّف الجليل سماحة آية اللّه الري شهري ؛ ذلك لأنّ إرشاداته وتوجيهاته القيّمة فتحت أمامي الطريق في جميع مراحل التلخيص .
.
ص: 18
كما أتقدّم بشكري إلى جميع الاخوان الذين أسهموا في إعداد هذا الأثر ، وخاصّة سماحة حجّة الإسلام والمسلمين عبد الهادي المسعودي الذي سعى في بلورة اُولى مراحل التلخيص ، وسماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد محمود الطباطبائي نژاد الذي زاد من غنى هذا الأثر وقيمته من خلال نقده الإصلاحي . وفي الختام ، أمدّ يد الشكر إلى المدير المحترم لقسم إعداد الكتاب الأخ محمّدباقر النجفي وزملائه المحترمين ، وآمل أن تؤدّي هذه الجهود والمساعي إلى رضا الحقّ تعالى . والحمد للّه ربّ العالمين مهدي غلام على ¨ 15 رمضان المبارك 1429 ه _ 26 شهريور 1387 ش
.
ص: 19
القسم الأوّل : اُسرة الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل : الولادةالفصل الثاني : النشأةالفصل الثالث : الزواجالفصل الرابع : الأولاد
.
ص: 20
. .
ص: 21
الفصل الأوّل : الولادةأ _ النَّسَبُإنّ اُرومة الناس دليل على شخصيّتهم وفكرهم وثقافتهم . فاُولو النزاهة والصلاح والعقل والحكمة ينحدرون _ في الغالب _ من اُسَر كريمة طيّبة مهذّبة ، وذوو السوء والقبح والشرّ غالبا هم ممّن نشأ في أحضان غير سليمة ، وانحدر من اُصول لئيمة . ويتجلّى القسم الأوّل في الأنبياء _ الذين هم عِلْية وجوه التاريخ ، وقمم الشرف والكرامة والعزّة _ ومَنْ تفرّع من دوحاتهم ، ورسخت جذوره في بيوتاتهم الرفيعة . وكانت لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام جذور ضاربة في سلالة طاهرة كريمة هي سلالة إبراهيم عليه السلام ، فهو كرسول اللّه صلى الله عليه و آله في ذلك . وإبراهيم عليه السلام هو بطل التوحيد، الراغب إلى اللّه ، المغرم بحبّه، وهو الواضع سنّة الحجّ ؛ رمز العبودية ومقارعة الشرك . وهكذا فالحديث عن جُدود النبيّ صلى الله عليه و آله حديث عن جدود عليّ عليه السلام ، والكلام عن سلالته صلى الله عليه و آله هو بعينه الكلام عن سلالة أخيه ووصيّه عليه السلام ، قال صلى الله عليه و آله في أسلافه : «إنَّ اللّهَ اصطَفى مِن وُلدِ إبراهيمَ إسماعيلَ ، وَاصطَفى مِن وُلدِ إسماعيلَ بَني كِنانَةَ ، وَاصطَفى مِن بَني كِنانَةَ قُرَيشا ، وَاصطَفى مِن قُرَيشٍ بَني هاشِمٍ ، وَاصطَفاني مِن بَني هاشِمٍ» . (1)
.
ص: 22
وهكذا فبنو هاشم هم صفوة اختيرت من بين صفوة الاُسر ، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام هما صفوة هذه الصفوة ، قال الإمام عليه السلام واصفا سلالة النبيّ صلى الله عليه و آله : «اُسرَتُهُ خَيرُ الاُسَرِ ، وشَجَرَتُهُ خَيرُ الشَّجَرِ ؛ نَبَتَت في حَرَمٍ ، وبَسَقَت في كَرَمٍ ، لَها فُروعٌ طِوالٌ ، وثَمَرٌ لا يُنالُ» . (1) وهذا الثناء _ بحقّ _ هو ثناء على سلالته عليه السلام أيضا ، حيث قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «أنَا وعَلِيٌّ مِن شَجَرَةٍ واحِدَةٍ» . (2) وقال : «لَحمُهُ لَحمي ، ودَمُهُ دَمي» . (3) وعلى هذا يكون بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبيت عليّ هو بيت النبوّة ، واُرومتهما اُرومة النور والكرامة ، وهما المصطفيان من نسل إبراهيم وبني هاشم ، مع خصائص ومزايا سامقة؛ كالطهارة، والفصاحة ، والسماحة ، والشجاعة ، والذكاء ، والحياء ، والعفّة ، والحلم ، والصبر وأمثالها (4) . ناهيك عن منزلتهما المرموقة العليّة بين قبائل العرب بأجمعها .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :خُلِقتُ أنَا وعَليٌّ مِن نورٍ واحِدٍ . . . فَلَم يَزَل يَنقُلُنَا اللّهُ عزّ وجلّ مِن أصلابٍ طاهِرَةٍ إلى أرحامٍ طاهِرَةٍ حَتَّى انتَهى بِنا إلى عَبدِ المُطَّلِبِ . (5)
ب _ الأَبُعبد مناف بن عبد المطّلب ، المشهور بأبي طالب ، أحد العشرة من أولاد
.
ص: 23
عبد المطّلب (1) . وكان عبد المطّلب الوجه المتألِّق في قريش ، وله منزلته السامقة في أوساطها . ثمّ جاء بعده ولده أبو طالب فورث تلك المكانة الاجتماعيّة العليّة . (2) وكانت اُسرة أبي طالب أوّل الاُسر التي اجتمع فيها زوجان هاشميّان . (3) تولّى أبو طالب رعاية النبيّ صلى الله عليه و آله الذي فقد أبو يه في طفولته ، ثمّ فقد جدّه (4) . ولمّا بُعث أمين قريش صلى الله عليه و آله لم يدّخر أبو طالب وسعا في دعمه ومؤازرته على ما هو بسبيله في مسيرته الجهادية الشاقّة . وآمن به أرسخ الإيمان (5) ، وأصحر بذلك في شِعره (6) . وكانت منزلته الاجتماعيّة السامية بين قريش وأهل مكّة ، ودعمه السخيّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، حائلَين أصليّين دون وصول الأذى إليه صلى الله عليه و آله من قريش . (7) رافقه في حصار الشِّعب ، وتحمّل مصائب المقاطعة الاقتصاديّة على كبر سنّه ، ولم يتنازل عن معاضدته ومواساته . (8) وكان له حقّ عظيم على الإسلام والمسلمين في غربة الدين يومئذٍ . وبعد خروجه من الشعب فارق الحياة حميدا . ففقد النبيّ صلى الله عليه و آله بوفاته ووفاة خديجة عليهماالسلامعضدَين وفيّين مضحّيين . واشتدّ أذى قريش وتعذيبها للمؤمنين عقب ذلك . (9)
.
ص: 24
كمال الدين عن الأصبغ بن نباتة :سَمِعتُ أميرَ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ يَقولُ : وَاللّهِ ما عَبَدَ أبي ولا جَدّي عَبدُ المُطَّلِبِ ولا هاشِمٌ ولا عَبدُ مَنافٍ صَنَماً قَطُّ ! قيلَ لَهُ : فَما كانوا يَعبُدونَ ؟ قالَ : كانوا يُصَلّونَ إلَى البَيتِ عَلى دينِ إبراهيمَ عليه السلام ، مُتَمَسِّكينَ بِهِ . (1)
الكافي عن إسحاق بن جعفر عن الإمام الصادق عليه السلام :قيلَ لَهُ : إِنَّهُم يَزعُمونَ أنَّ أبا طالِبٍ كانَ كافِرا ؟ فَقالَ : كَذَبوا ، كَيفَ يَكونُ كافِراً وهُوَ يَقولُ : أ لَم تَعلَموا أنّا وَجَدنا مُحَمَّدانَبِيّا كَموسى خُطَّ في أوَّلِ الكُتبِ وفي حَديثٍ آخَرَ : كَيفَ يَكونُ أبو طالِبٍ كافِرا وهُوَ يَقولُ : لَقَد عَلِموا أنَّ ابنَنا لا مُكَذَّبٌلَدَينا ولا يَعبَأُ بِقِيلِ الأَباطِلِ وأبيَضُ يُستَسقَى الغَمامُ بِوَجهِهِثِمالُ اليَتامى عِصمَةٌ لِلأَرامِلِ (2)
ج _ الاُمُّفاطمة بنت أسد ، وكانت امرأة لبيبة ، صلبة العقيدة ، فتيّة القلب ، بَرّة ، مبجَّلة . احتضنت النبيّ صلى الله عليه و آله في طفولته (3) ، فكان يحبّها حبّا شديدا ، حتى قال فيها : «كانَت اُمّي بَعدَ اُمِّي الَّتي وَلَدَتني» . (4) وكان يُثني على حنانها وشفقتها عليه قائلاً : «إنَّهُ لَم يَكُن أحَدٌ بَعدَ أبي طالِبٍ أبَرَّ بي مِنها» . (5) وكانت أوّل امرأة بايعت النبيّ صلى الله عليه و آله (6) . وهاجرت إلى المدينة مع عليّ وفاطمة عليهماالسلام
.
ص: 25
مشيا على الأقدام . ولمّا توفّيت هذه المرأة العظيمة كفّنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله بقميصه (1) ، وشارك في تشييعها ، وصلّى عليها ، ثمّ وضعها في قبرها بعدما اضطجع فيه . (2) وكان عليّ عليه السلام رابع ولدٍ لهذين الوجهين المتألِّقين في التاريخ الإسلامي ، إذ زيّن حياتهما بهاءً وسناءً بعد طالب وعقيل وجعفر . (3)
الإمام الصادق عليه السلام :إنَّ فاطِمَهَ بِنتَ أسَدٍ اُمَّ أميرِ المُؤمِنينَ كانَت أوَّلَ امرَأَةٍ هاجَرَت إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِن مَكَّةَ إلَى المَدينَةِ عَلى قَدَمَيها . وكانَت مِن أبَرِّ النّاسِ بِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَسَمِعَت رَسولَ اللّهِ وهُوَ يَقولُ : إنَّ النّاسَ يُحشَرونَ يَومَ القِيامَةِ عُراةً كَما وُلِدوا ، فَقالَت : وا سَوأَتاه ! فَقالَ لَها رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : فَإِنّي أسأَلُ اللّهَ أن يَبعَثَكِ كاسِيَةً . وسَمِعَتهُ يَذكُرُ ضَغطَةَ القَبرِ ، فَقالَت : وَا ضَعفاه ! فَقالَ لَها رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : فَإِنّي أسأَلُ اللّهَ أن يَكفِيَكِ ذلِكَ . وقالَت لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَوما : إنّي اُريدُ أن اُعتِقَ جارِيَتي هذِهِ ، فَقالَ لَها : إن فَعَلتِ أعتَقَ اللّهُ بِكُلِّ عُضوٍ مِنها عُضوا مِنكِ مِنَ النّارِ . فَلَمّا مَرِضَت أوصَت إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وأمَرَت أن يُعتِقَ خادِمَها ، وَاعتَقَلَ لِسانُها ، فَجَعَلَت تومي إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله إيماءً ، فَقَبِلَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَصِيَّتَها . فَبَينَما هُوَ ذاتَ يَومٍ قاعِدٌ إذ أتاهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام وهُوَ يَبكي ، فَقالَ لَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : ما يُبكيكَ ؟ فَقالَ : ماتَت اُمّي فاطِمَةُ ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ : واُمّي وَاللّهِ ! وقامَ مُسرِعا حَتّى دَخَلَ ، فَنَظَرَ إلَيها وبَكى . ثُمَّ أمَرَ النِّساءَ أن يُغَسِّلنَها ، وقالَ صلى الله عليه و آله : إذا فَرَغتُنَّ فَلا تُحْدِثنَ شَيئا حَتّى تُعلِمنَني ، فَلَمّا فَرَغنَ أعلَمنَهُ بِذلِكَ ، فَأَعطاهُنَّ أحَدَ
.
ص: 26
قَميصَيهِ الَّذي يَلي جَسَدَهُ وأمَرَهُنَّ أن يُكَفِّنَّها فيهِ ، وقالَ لِلمُسلِمينَ : إذا رَأَيتُموني قَد فَعَلتُ شَيئا لَم أفعَلهُ قَبلَ ذلِكَ فَسَلوني : لِمَ فَعَلتَهُ ؟ فَلَمّا فَرَغنَ مِن غُسلِها وكَفنِها ، دَخَلَ صلى الله عليه و آله فَحَمَلَ جِنازَتَها عَلى عاتِقِهِ ، فَلَم يَزَل تَحتَ جِنازَتِها حَتّى أورَدَها قَبرَها ، ثُمَّ وَضَعَها ودَخَلَ القَبرَ فَاضطَجَعَ فيهِ ، ثُمَّ قامَ فَأَخَذَها عَلى يَدَيهِ حَتّى وَضَعَها فِي القَبرِ ، ثُمَّ انكَبَّ عَلَيها طَويلاً يُناجيها ... . (1)
د _ المَولِدُولد الإمام عليّ عليه السلام في يوم الجمعة (2) الثالث عشر من شهر رجب (3) بعد ثلاثين سنة من عام الفيل (4) في الكعبة المكرّمة . (5) قال العلّامة الأميني في مولد الإمام عليه السلام وفي فضيلته التي لا بديل لها : «وهذِهِ حَقيقَةٌ ناصِعَةٌ أصفَقَ عَلى إثباتِهَا الفَريقانِ ، وتَضافَرَت بِهَا الأَحاديثُ ، وطَفَحَت بِها الكُتُبُ ، فَلا نَعبَأُ بِجَلَبَةِ رُماةِ القَولِ عَلى عَواهِنِهِ بَعدَ نَصِّ جَمعٍ مِن أعلامِ الفَريقَينِ عَلى تَواتُرِ حَديثِ هذِهِ الأَثارَةِ» . 6
المستدرك على الصحيحين :قَد تَواتَرَتِ الأَخبارُ أنَّ فاطِمَةَ بِنتَ أسَدٍ وَلَدَت أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام في جَوفِ الكَعبَةِ . 7
.
ص: 27
ه _ الأَسماءُلمّا ولد الإمام عليه السلام ، اختارت له اُمّه فاطمة بنت أسد اسم «حيدرة» (1) تيمّنا باسم أبيها «أسد» ، ثمّ اتّفقت هي وأبو ه _ وبإلهام ربّاني _ على تسميته «عليّا» . وكانت له أسماء اُخرى أيضا ذكرت في سياق النصوص التاريخيّة والروائيّة لموسوعة الإمام عليّ عليه السلام . (2)
الإمام زين العابدين عليه السلام :كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ذاتَ يَومٍ جالِسا وعِندَهُ عَلِيٌّ وفاطِمَةُ وَالحَسَنُ وَالحُسَينُ عليهم السلام ، فَقالَ : وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ بَشيرا ، ما عَلى وَجهِ الأَرضِ خَلقٌ أحَبَّ إلَى اللّهِ عزَّ وجَلَّ ولا أكرَمَ عَلَيهِ مِنّا . إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى شَقَّ لِيَ اسماً مِن أسمائِهِ ؛ فَهُوَ مَحمودٌ وأنَا مُحَمَّدٌ ، وشَقَّ لَكَ يا عَلِيُّ اسماً مِن أسمائِهِ ؛ فَهُوَ العَلِيُّ الأَعلى وأنتَ عَلِيٌّ ... . (3)
و _ الكُنىكانت لأمير المؤمنين عليه السلام كنى عديدة ، أشهرها : أبو الحسن (4) ، وثمّة كنى اُخرى ذُكرت له عليه السلام ، منها : أبو الحسين ، وأبو السبطين (5) ، وأبو الريحانتين ، وأبو تراب ، وإن كان التعريف الاصطلاحي للكنية لا ينطبق على بعضها . ويتراءى من الروايات أنّ كنية «أبو تراب» كانت أحبّ الكنى إليه عليه السلام ، وأ نّه كان يُسرّ إذا نودي بها ؛ لاُمور منها : أ نّه كان يجد فيها نوعا من التواضع والتذلّل للّه سبحانه . ومنها : أ نّها كانت تذكّره بملاطفة النبيّ صلى الله عليه و آله معه في غزوة ذات العشيرة حيث
.
ص: 28
كان متوسّداً التراب بصحبة عمّار بن ياسر وقد أصابه شيء منه ، ولذا كان له عليه السلام انشداد وتعلّق خاصّ بتلك الكنية .
الإمام عليّ عليه السلام :كانَ الحَسَنُ في حَياةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَدعوني أبَا الحُسَينِ ، وكانَ الحُسَينُ يَدعوني أبَا الحَسَنِ ، ويَدعُوانِ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أباهُما . فَلَمّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله دَعَواني بِأَبيهِما . (1)
صحيح البخاري عن أبي حازم :إنَّ رَجُلاً جاءَ إلى سَهلِ بنِ سَعدٍ فَقالَ : هذا فُلانٌ _ لِأَميرِ المَدينَةِ _ يَدعو عَلِيّا عِندَ المِنبَرِ . قالَ : فَيَقولُ ماذا ؟ قالَ : يَقولُ لَهُ : أبو تُرابٍ . فَضَحِكَ ؛ قالَ : وَاللّهِ ما سَمّاهُ إلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ! وما كانَ _ وَاللّهِ _ لَهُ اسمٌ أحَبَّ إلَيهِ مِنهُ ! فَاستَطعَمتُ الحَديثَ سَهلاً ، وقُلتُ : يا أبا عَبّاسٍ ، كَيفَ ذلِكَ ؟ قالَ : دَخَلَ عَلِيٌّ عَلى فاطِمَةَ ثُمَّ خَرَجَ ، فَاضطَجَعَ فِي المَسجِدِ ، فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : أينَ ابنُ عَمِّكِ ؟ قالَت : فِي المَسجِدِ ، فَخَرَجَ إلَيهِ ، فَوَجَدَ رِداءَهُ قَد سَقَطَ عَن ظَهرِهِ ، وخَلَصَ التُّرابُ إلى ظَهرِهِ ، فَجَعَلَ يَمسَحُ التُّرابَ عَن ظَهرِهِ فَيَقولُ : اِجلِس يا أبا تُرابٍ _ مَرَّتَينِ _ . 2
ز _ الأَلقابُإنّ شخصيّة عليّ عليه السلام بحر لا يُدرك غوره ، فهو ذو شخصيّة فذّة ذات أبعاد عظيمة فريدة في التاريخ لا نظير لها . وكان للإمام عليه السلام ألقاب وأوصاف كثيرة يشير كلٌّ
.
ص: 29
منها إلى بعد من تلك الأبعاد العلميّة والعمليّة والثقافيّة والاجتماعيّة والمعنويّة والسياسيّة الرفيعة لشخصيّته عليه السلام . ويعود جُلّها إلى عصر النبيّ صلى الله عليه و آله ؛ إذ كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يناديه بها. ومن هذه الألقاب : «أعلم الاُمّة» ، «أقضى الاُمّة» ، «أوّل من أسلم» ، «أوّل من صلّى» ، «خير البشر» ، «أمير المؤمنين» ، «إمام المتّقين» ، «قائد الغرّ المحجّلين»، «سيّد المسلمين» ، «سيّد المؤمنين»، «يعسوب المؤمنين» ، «الأنزع البطين»، «عمود الدين» ، «سيّد الشهداء» ، «سيّد العرب» ، «راية الهدى» ، «باب الهدى» ، «حيدر»، «المرتضى» ، «الوليّ» ، «الوصيّ» . وما برح رسول اللّه صلى الله عليه و آله يذكر الإمام عليه السلام بهذه الألقاب . وكان في الحقيقة يمهّد بها لقيادته وزعامته ، والتعريف بمنزلته العظيمة وموقعه المتميّز في القيادة مع تبيين أبعاد شخصيّته عليه السلام ، وذلك من منطلق اهتمامه بمستقبل الاُمّة الإسلاميّة ومهمّة الإمام العظمى في المستقبل المنظور . وإذا لاحظنا ألقاب الإمام عليه السلام نجد أنّ أشهرها لقبان هما : «أميرالمؤمنين» و «الوصي» .
ح _ الشَّمائِلُلم تحمل إلينا النصوص التاريخيّة والحديثيّة شيئا عن ملامح الإمام عليه السلام إبّان ولادته وفي صغره ، ومن هنا فإنّ ما يأتي في هذا المجال يرتبط بملامحه وهندامه أيّام خلافته عليه السلام . وفي ضوء ذلك يتسنّى لنا أن نصفه عليه السلام فنقول : كان عليه السلام رَبْعة من الرجال ؛ إلى القِصَر أقرب وإلى السمن ، من أحسن الناس وجها ، وكأنّ وجهه القمر ليلة البدر حسنا ، كثير التبسُّم ، آدَم اللون يميل إلى
.
ص: 30
السُّمرة ، أدْعَج (1) العينين عظيمهما ، في عينيه لين ، أصلع ، كأنّ عنقه إبريق فضّة ، كَثّ اللحية ، لا يغيّر شيبَه ، عريض ما بين المنكبين ، شَثْن الكفّين (2) ، شديد الساعد واليد ، عريض الصدر ، ذا بطن ، ضخم الكَرادِيس (3) ، ضخم عضلة الذراع والساق دقيقَ مُستدَقّها ، إذا مشى تكفّأ . (4)
.
ص: 31
الفصل الثاني : النشأةرافق عليّ عليه السلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله منذ السنين الاُولى من عمره ؛ فقد عسرت الحياة على أبي طالب برهة ، وضاقت به الاُمور ، فاقترح رسول اللّه صلى الله عليه و آله على إخوة أبي طالب أن يأخذوا منه بعض أولاده إلى بيوتهم ؛ لتخفيف عب ء العيش عن كاهله . وشاءت إرادة اللّه تعالى أن يكون عليّ عليه السلام في بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فتولّى تربيته منذ نعومة أظفاره . وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يحبّ هذا الطفل الصغير ؛ يضمّه إلى صدره ، ويُمِسّه عَرْفَه ، ويُلقمه الطعام ، ويرعى حياته لحظة لحظة ، وينفحه بالأنوار الإلهيّة المشعّة . وهكذا تربّى الإمام عليه السلام في حجر النبوّة ، وارتوى من منهل فضائلها الرائق ، وأمضى أيّامه ملازما لها ملازمة الظلّ لصاحبه . وحين سطعت القبسات الاُولى للوحي صدّق بالرسالة المحمّديّة موقنا ؛ إذ كانت روحه قد تواشجت هي وروح صاحبها . من هنا كان أوّل من صدّقه صلى الله عليه و آله . ونجد في الخطبة البليغة الرفيعة «القاصعة» أجمل تصوير لهذه الملازمة ، ولدور رسول اللّه صلى الله عليه و آله في تربيته وإعداده عليه السلام ، وحبِّه إيّاه ، واستنارةِ الإمام عليه السلام بهذه الملازمة .
.
ص: 32
الإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَتِهِ المُسَمّاةِ بِالقاصِعَةِ _: أنَا وَضَعتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلاكِلِ (1) العَرَبِ ، وكَسَرتُ نَواجِمَ (2) قُرونِ رَبيعَةَ ومُضَرَ ، وقَد عَلِمتُم مَوضِعي مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالقَرابَةِ القَريبَةِ ، وَالمَنزِلَةِ الخَصيصَةِ ؛ وَضَعَني في حِجرِهِ وأنَا وَلَدٌ يَضُمُّني إلى صَدرِهِ ، ويَكنُفُني في فِراشِهِ ، ويُمِسُّني جَسَدَهُ ، ويُشِمُّني عَرفَهُ (3) ، وكان يَمضَغُ الشَّيءَ ثُمَّ يُلقِمُنيهِ ، وما وَجَدَ لي كَذبَةً في قَولٍ ، ولا خَطلَةً (4) في فِعلٍ . ولَقَد قَرَنَ اللّهُ بِهِ صلى الله عليه و آله مِن لَدُن أن كانَ فَطيما أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِهِ ؛ يَسلُكُ بِهِ طَريقَ المَكارِمِ ، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالَمِ ، لَيلَهُ ونَهارَهُ . ولَقَد كُنتُ أتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفَصيلِ (5) أثَرَ اُمِّهِ ، يَرفَعُ لي في كُل يَومٍ من أخلاقِهِ عَلَما ، ويأمُرُني بِالاِقتِداءِ بِهِ . ولَقَد كانَ يُجاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِراءَ ، فَأَراهُ ولا يَراهُ غَيري . ولَم يَجمَع بَيتٌ واحِدٌ يَومَئِذٍ فِي الإِسلامِ غَيرَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وخَديجَةَ وأنَا ثالِثُهُما ، أرى نورَ الوَحيِ وَالرِّسالَةِ ، وأشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ . (6)
.
ص: 33
الفصل الثالث : الزواجأ _ تَزويجُهُ فاطِمَةَ عليهاالسلام بِنتَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آلههاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة مليئة بالعناء والمشقّة والمصائب المريرة من أجل تبليغ الرسالة ، وأرسى دعائم الحكومة الإسلاميّة هناك . وكان عليّ عليه السلام معه صلى الله عليه و آله منذ الأيّام الاُولى للرسالة . وكان في السنة الاُولى من الهجرة ابن أربع وعشرين سنة؛ فلابدّ له من الزواج وبدء الحياة المشتركة. وكانت الزهراء عليهاالسلام قد بلغت يومئذٍ التاسعة من عمرها (1) . وهي بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولها منزلتها الرفيعة الزاخرة بالفضائل الإنسانيّة ، والخصائص الملكوتيّة السامية . وقد أثنى عليها أبو ها مرارا ، وسمّاها بضعته . وكان موقع النبيّ صلى الله عليه و آله في زعامة الاُمّة من جهة ، وشخصيّة الزهراء عليهاالسلام من جهة اُخرى ، عاملَين مشجّعين لكثير من الصحابة _ بخاصّة من كان يفكّر منهم بمستقبله عبر هذه الأواصر _ على التقدّم لخطوبة الزهراء عليهاالسلام . بيد أنّ أباها كان يرفض رفضا قاطعا ، ويصرّح أحيانا بأنّه ينتظر فيها قضاء اللّه . (2)
.
ص: 34
واقترح على الإمام عليّ عليه السلام عدد من الصحابة الموالين له أن يتقدّم لخطوبتها عليهاالسلام . وكان قلب الإمام طافحا بالإيمان ، وصدره مفعما بحبّ اللّه ، لكنّه خالي الوفاض من الدراهم والدنانير . فتوجّه تلقاء البيت النبويّ ، ومنعته الهيبة النبويّة من الكلام ، وكان ينظر مرّةً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله نظرة مليئة بالحياء ، واُخرى إلى الأرض . فأنطقه النبيّ صلى الله عليه و آله من خلال بعض التمهيدات ، ولمّا تكلّم قال له : أ معك شيء ؟ والجواب واضح ! أمّا فاطمة ، فهل لها كُف ء غير عليّ ؟ ! وتحقّق الأمر الإلهيّ ، كما أشار إليه النبيّ الأعظم (1) وبدأ هذان العظيمان حياتهما المشتركة في السنة الاُولى من الهجرة (2) بمهرٍ قليل (3) ، ومراسم بسيطة (4) ، وجهاز أكثر بساطة (5) . وهكذا ولد أعظم بيت في التاريخ ، وبدأت أبهى حياة مشتركة . وتكوّن في جوار بيت النبيّ صلى الله عليه و آله بيت صغير هو أكبر من التاريخ كلّه ، وكان مغبط أهل السماوات والأرض حقّا ! وكان منهل الفضائل والمكارم ، والعشق ، والإيمان ، والإيثار ، والجهاد ، وبساطة العيش ، بل كان يناطح السماء علوّا ورفعة . أمّا سيّده _ راهب الليل المتهجِّد في جوفه _ فقد كان ليث الوغى ، لا تكاد تبرأ جراحه بعدُ حتى يخوض حربا اُخرى . وكان عليه السلام أشجع المقاتلين ، وأعظمهم منازلة للأقران .
.
ص: 35
وأمّا صاحبته فقد كانت السيّدة الرزينة الصبور ، حملت عب ء الحياة ، ورضيت بأقلّ الإمكانات . وكانت تضمّد جراح بعلها وأبيها (1) ، حتى عبّر عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله تعبيرا لطيفا ، فقال : «فاطِمَةُ اُمُّ أبيها» . (2) وكانت الثمرة الاُولى لهذا الزواج الإلهي هو الإمام الحسن عليه السلام الذي ولد في السنة الثالثة من الهجرة (3) ، والثانية هو الإمام الحسين عليه السلام الذي ولد فيالسنة الرابعة منها (4) ، ثمّ ولدت بعدهما زينب واُمّ كلثوم ، وآخرهم هو المحسن الذي اُجهض شهيدا . (5)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثلُكُم أتَزَوَّجُ فيكُم واُزَوِّجُكُم ، إلّا فاطِمَةَ فَإِنَّ تَزويجَها نَزَلَ مِنَ السَّماءِ . (6)
الإمام الصادق عليه السلام :لَولا أنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى خَلَقَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام لِفاطِمَةَ ، ما كانَ لَها كُفوٌ عَلى ظَهرِ الأَرضِ مِن آدَمَ ومَن دونَهُ . (7)
الأمالي للطوسي عن الضحّاك بن مزاحم :سَمِعتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام يَقولُ : أتاني أبو بَكرٍ وعُمَرُ فَقالا : لَو أتَيتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَذَكَرتَ لَهُ فاطِمَةَ . قالَ : فَأَتَيتُهُ ، فَلَمّا رَآني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ضَحِكَ ، ثُمَّ قالَ : ما جاءَ بِكَ يا أبَا الحَسَنِ ؟ وما حاجَتُكَ ؟قالَ : فَذَكَرتُ لَهُ قَرابَتي وقِدَمي فِي الإِسلامِ ونُصرَتي لَهُ وجِهادي ، فَقالَ : يا عَلِيُّ صَدَقتَ ، فَأَنتَ أفضَلُ مِمّا تَذكُرُ .
.
ص: 36
فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، فاطِمَةُ تُزَوِّجُنيها ؟ فَقالَ : يا عَلِيُّ ، إنَّهُ قَد ذَكَرَها قَبلَكَ رِجالٌ ، فَذَكَرتُ ذلِكَ لَها ، فَرَأَيتُ الكَراهَةَ في وَجهِها ، ولكِن عَلى رِسلِكَ حَتّى أخرُجَ إلَيكَ . فَدَخَلَ عَلَيها فَقامَت إلَيهِ ، فَأَخَذَت رِداءَهُ ونَزَعَت نَعلَيهِ ، وأتَتهُ بِالوَضوءِ ، فَوَضَّأَتهُ بِيَدِها وغَسَلَت رِجلَيهِ ، ثُمَّ قَعَدَت ، فَقالَ لَها : يا فاطِمَةُ ، فَقالَت : لَبَّيكَ !حاجَتُكَ يا رَسولَ اللّهِ ؟ قالَ : إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ مَن قَد عَرَفتِ قَرابَتَهُ وفَضلَهُ وإسلامَهُ ، وإنّي قَد سَأَلتُ ربّي أن يُزَوِّجَكِ خَيرَ خَلقِهِ وأحَبَّهُم إلَيهِ ، وقَد ذَكَرَ مِن أمرِكِ شَيئا ، فَما تَرَينَ ؟ فَسَكَتَت ولَم تُوَلِّ وَجهَها ، ولَم يرَ فيهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله كَراهَةً ، فَقامَ وهُوَ يَقولُ : اللّهُ أكبَرُ ! سُكوتُها إقرارُها . فَأَتاهُ جَبرَئيلُ عليه السلام فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ، زَوِّجها عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ؛ فَإِنَّ اللّهَ قَد رَضِيَها لَهُ ورَضِيَهُ لَها . (1)
سنن ابن ماجة عن عائشة واُمّ سلمة :أمَرَنا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن نُجَهِّزَ فاطِمَةَ حَتّى نُدخِلَها عَلى عَلِيٍّ . فَعَمَدنا إلَى البَيتِ فَفَرَشناهُ تُرابا لَيِّنا مِن أعراضِ (2) البَطحاءِ ، ثُمَّ حَشَونا مِرفَقَتَينِ ليفا فَنَفَشناهُ بِأَيدينا ، ثُمَّ أطعَمَنا تَمرا وزَبيبا ، وسَقَينا ماءً عَذبا ، وعَمَدنا إلى عودٍ فَعَرَضناهُ في جانِبِ البَيتِ لِيُلقى عَلَيهِ الثَّوبُ ويُعَلَّقَ عَلَيهِ السِّقاءُ . فَما رَأَينا عُرسا أحسَنَ مِن عُرسِ فاطِمَةَ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام_ في ذِكرِ زَواجِهِ مِن فاطِمَةَ عليهاالسلام_: ... ثُمَّ صاحَ بي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : يا عَلِيُّ ، فَقُلتُ : لَبَّيكَ يا رَسولَ اللّهِ ! قالَ : اُدخُل بَيتَكَ وَالطُف بِزَوجَتِكَ وَارفَق بِها ؛ فَإِنَّ فاطِمَةَ بَضعَةٌ مِنّي ، يُؤلِمُني ما يُؤلِمُها ويَسُرُّني ما يَسُرُّها ، أستَودِعُكُمَا اللّهَ
.
ص: 37
وأستَخلِفُهُ عَلَيكُما . (1)
ب _ زَوجاتُهُ بَعدَ فاطِمَةَ عليهاالسلام بِنتِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آلهعاش الإمام عليه السلام تسع سنين مع فاطمة عليهاالسلام ، ولم يتزوّج في حياتها غيرها . وبعد وفاتها عليهاالسلام تزوّج عددا من النساء ، وفيما يأتي أسماؤهنّ : 1 _ اُمامَةُ بِنتُ أبِي العاصِ . 2 _ أسماءُ بِنتُ عُمَيسٍ . 3 _ فاطِمَةُ اُمُّ البَنينَ . 4 _ اُمُّ سَعيدٍ بِنتُ عُروَةَ بنِ مَسعودٍ الثَّقَفِيِّ . 5 _ خَوَلَةُ بِنتُ جَعفَرِ بنِ قَيسٍ . 6 _ الصَّهباءُ بِنتُ رَبيعَةَ . 7 _ لَيلى بِنتُ مَسعودٍ . 8 _ مُحَيّاةُ بِنتُ امرِئِ القَيسِ . وكان له غيرهنّ سبع عشرة سُرِّيّة (2) بعضهنّ اُمّهات ولد . وكانت أزواجه عند استشهاده اُمامة ، واُمّ البنين ، وأسماء بنت عميس ، وليلى بنت مسعود . (3)
.
ص: 38
الفصل الرابع : الأولادلم تتّفق كلمة المؤرّخين على عدد موحّد فيما يخصّ عدد أولاده عليه السلام ؛ فقد ذكر الشيخ المفيد أنّ عددهم سبعة وعشرون ولدا ذكرا واُنثى (1) ، فيما ذكر ابن سعد أنّهم يبلغون أربعةً وثلاثين ولدا (2) ، وذكر المزّي أنّ عددهم تسعة وثلاثون ولدا . (3) ويمكن عزْو الاختلاف الموجود في الكتب التاريخيّة حول عدد أولاد الإمام إلى تداخل الأسماء مع الكنى وتكرار البعض منها . وقد تبيّن لنا بعد الفحص والتمحيص أنّ عددهم كان يبلغ أربعةً وثلاثين ولدا ، وهم كلّ من : 1 . الإمام الحسن عليه السلام . 2 . الإمام الحسين عليه السلام . 3 . زينب . 4 . اُمّ كلثوم .
.
ص: 39
5 . المحسّن (1) . (2) اُمّهم فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله . ومحسّن ولدها الآخر الذي سقط وقُتل في هجوم الغوغاء على بيت الوحي . (3) 6 . العبّاس . 7 . عبد اللّه . 8 . عثمان . 9 . جعفر . اُمّهم اُمّ البنين بنت حِزام . وكلّهم قُتلوا مع الحسين عليه السلام بكربلاء . 10 . محمّد ابن الحنفيّة : اُمّه خولة بنت جعفر بن قيس . 11 . أبو بكر : اُمّه ليلى ، ولعلّها ابنة مسعود الدارميّة . قُتل مع الحسين عليه السلام بكربلاء . (4) 12 . عبيد اللّه : اُمّه ليلى . قُتل مع الحسين عليه السلام بكربلاء . (5) 13 . محمّد الأصغر : اُمّه اُمّ ولد . قُتل مع الحسين عليه السلام بكربلاء . (6) 14 . يحيى : اُمّه أسماء بنت عميس . مات في حياة الإمام عليه السلام . (7)
.
ص: 40
15 . عون : اُمّه أسماء بنت عميس . (1) 16 . محمّد الأوسط : اُمّه اُمامة . (2) 17 . عمر : اُمّه الصهباء التغلبيّة ؛ اُمّ حبيب . 18 . رقيّة : اُمّها الصهباء التغلبيّة ؛ اُمّ حبيب . وهي زوجة مسلم بن عقيل (3) ، وله منها ثلاثة أولاد (4) ، استُشهد منهم عبد اللّه في كربلاء . (5) 19 . اُمّ الحسن : اُمّه_ا اُمّ سعي_د (6) . ك_انت زوج_ة جَعدة بن هُبي_رة _ ابن اُخت الإمام عليه السلام _ ثمّ تزوّجها جعفر بن عقيل . واستُشهد جعفر في واقعة الطفّ (7) . وكانت اُمّ الحسن في سبايا كربلاء . (8) 20 . اُمّ هانئ : تزوّجها عبد اللّه الأكبر ابن عقيل 9 الذي قُتل مع الحسين عليه السلام بكربلاء 10 مع ابنه محمّد . 11 21 . فاطمة : تزوّجها محمّد بن أبي سعيد بن عقيل 12 الذي قُتل مع الحسين عليه السلام بكربلاء . 13
.
ص: 41
22 . زينب الصغرى (1) : تزوّجها محمّد بن عقيل . (2) 23 . ميمونة : تزوّجها عبد اللّه بن عقيل . (3) 24 . نفيسة : تزوّجها عبد اللّه بن عقيل . (4) 25 . خديجة : تزوّجها عبد الرحمن بن عقيل . (5) 26 . اُمامة : تزوّجها الصلت بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب (6) . ماتت في حياة الإمام عليه السلام . (7) 27 . رَملَة الكبرى : اُمّها اُمّ سعيد 8 . تزوّجها عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث ابن عبد المطّلب . 9 28 . جُمانة 10 : ماتت في حياة الإمام عليه السلام . 11 29 . اُمّ سلمة . 12 30 . رقيّة الصغرى . 13
.
ص: 42
31 . اُمّ كلثوم الصغرى . (1) 32 . رَملَة الصغرى . (2) 33 . اُمّ الكِرام . 3 34 . اُمّ جعفر . 4
.
ص: 43
القسم الثاني: الإمام عليّ عليه السلام مع النبيّ صلّي الله عليه و آلهالفصل الأوّل : المؤازرة على الدعوةالفصل الثاني : كسر الأصنامالفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيتالفصل الرابع : غاية الفُتوّة في غزوتينالفصل الخامس : ارغام العدوّ على التسليمالفصل السادس : الضربة المصيريّة في غزوة الخندقالفصل السابع : الشجاعة والأدب في الحديبِيّةِالفصل الثامن : الدور المصيري في فتح خيبرالفصل التاسع : النشاطات في فتح مكّةالفصل العاشر : المقاومة الرائعة في غزوة حنينالفصل الحادي عشر : الاستخلاف عن النبيّ في غزوة تبوكالفصل الثاني عشر : عدّةُ بَعثات هامّةالفصل الثالث عشر : من أدعية النبيّ صلى الله عليه و آله للإمام عليه السلامالفصل الرابع عشر : عروج النبيّ صلى الله عليه و آله من صدر الوصيّ
.
ص: 44
. .
ص: 45
الفصل الأوّل : المؤازرة على الدعوةبدأت الدعوة سرّية ، وامتدّت شيئاً فشيئاً فهوت إليها أفئدة ثلّة من الناس ، إقبالاً منها على تلك الرسالة الحقّة . وكان عليّ عليه السلام أوّل من آمن بها من الرجال ، وشهد بنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله ، ثمّ تبعه آخرون . . . . وبعد ثلاث سنين نزلت الآية الكريمة : «وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1) إيذانا ببدء الدعوة العلنيّة ابتداء بعشيرة النبيّ الأقربين . فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام بإعداد الطعام وإقامة مأدبة خاصّة ؛ ليجتمع آل عبدالمطّلب ، فيبلّغهم النبيّ صلى الله عليه و آله برسالته ، وفي اليوم الأوّل تعذّر عليه ذلك بسبب ضجيج أبي لهب ولغطه ، ثمّ أعاده عليهم في غد ذلك اليوم ، وبعد فراغهم من الطعام بدأ كلامه بحمداللّه تعالى وقال : «إنَّ الرّائِدَ لا يَكذِبُ أهلَهُ و ...» . و انتهى كلامه ، ولم ينهض معلناً عن متابعته ومرافقته صلى الله عليه و آله والإيمان برسالته الإلهيّة إلّا عليّ عليه السلام ؛ حيث قام وصدح بذلك ، فأجلسه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتكرّر هذا الموقف في المرّة الثانية والثالثة ، فقال صلى الله عليه و آله :
.
ص: 46
«اِجلِس ؛ فَأَنتَ أخي ووَزيري ووَصِيّي وخَليفَتي مِن بَعدي» . وخاطب الحاضرين بقوله : «إنَّ هذا أخي ، ووَصيّي ، وخَليفَتي عَلَيكُم ؛ فَاسمَعوا لَهُ وأطيعوهُ» . (1) إلّا أنّ ذوي الضمائر السود ، والقلوب العليلة ، والأبصار العمي ، والأسماع الصمّ لم يذعنوا لصوت الحقّ ، ولجّوا وكابروا وعتَوا عن الكلام النبويّ ، بل إنّهم اتّخذوا أبا طالب سخريّاً . لكنّ الحقّ علا ، وطار كلامه صلى الله عليه و آله في الآفاق طلقاً من ذلك النطاق الضيّق ، ورسخت هذه الحقيقة فضيلةً عظمى إلى جانب فضائله عليه السلام ، وتبلور سند متين لإثبات ولايته إلى جانب عشرات الأسانيد الوثائقيّة ، وأعلن النبيّ صلى الله عليه و آله عمليّاً وحدة النبوّة والولاية في الاتّجاه والمسير وتلازمها ، ودلّ الجميع في اليوم الأوّل من الجهر بدعوته استمرار القيادة وامتدادها بعده ، وأودع ذلك ذمّة التاريخ ، والمهمّ هو تبيان موقع الكلام النبويّ . و قال صلى الله عليه و آله كلمته : «فَاسمَعوا لَهُ وأَطيعوهُ» في وقت كانت قريش قد تصامّت عن سماع كلامه ولم تعره آذانا صاغية ، فمن البيّن أنّ هذا الكلام كان للمستقبل وأجياله القادمة ممّن يقرّ بنبوّته صلى الله عليه و آله ، ويعتقد بحجّيّة كلامه .
شرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإسكافي:قَد رُوِيَ فِي الخَبَرِ الصَّحيحِ أنَّهُ صلى الله عليه و آله كَلَّفَهُ عليه السلام في مَبدَإِ الدَّعوَةِ قَبلَ ظُهورِ كَلِمَةِ الإِسلامِ وَانتِشارِها بِمَكَّةَ أن يَصنَعَ لَهُ طَعاما ، وأن يَدعُوَ لَهُ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ، فَصَنَعَ لَهُ الطَّعامَ ، ودَعاهُم لَهُ ، فَخَرَجوا ذلِكَ اليَومَ ، ولَم يُنذِرهُم صلى الله عليه و آله ؛ لِكَلِمَةٍ قالَها عَمُّهُ أبو لَهَبٍ ، فَكَلَّفَهُ فِي اليَومِ الثّاني أن يَصنَعَ مِثلَ ذلِكَ الطَّعامِ ، وأن يَدعُوَهُم ثانِيَةً ، فَصَنَعَهُ ، ودَعاهُم فَأَكَلوا .
.
ص: 47
ثُمَّ كَلَّمَهُم صلى الله عليه و آله فَدَعاهُم إلَى الدّينِ ، ودَعاهُ مَعَهُم ؛ لِأَ نَّهُ مِن بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ، ثُمَّ ضَمِنَ لِمَن يُؤازِرُهُ مِنهُم ويَنصُرُهُ عَلى قَولِهِ أن يَجعَلَهُ أخاهُ فِي الدّينِ ، ووَصِيَّهُ بَعدَ مَوتِهِ ، وخَليفَتَهُ مِن بَعدِهِ ، فَأَمسَكوا كُلُّهُم وأجابَهُ هُوَ وَحدَهُ ، وقالَ : أنَا أنصُرُكَ عَلى ما جِئتَ بِهِ ، واُوازِرُكَ واُبايِعُكَ ، فَقالَ لَهُم _ لَمّا رَأى مِنهُمُ الخِذلانَ ، ومِنهُ النَّصرَ ، وشاهَدَ مِنهُمُ المَعصِيَةَ ومِنهُ الطّاعَةَ ، وعايَنَ مِنهُمُ الإِباءَ ومِنهُ الإِجابَةَ - : هذا أخي ووَصِيّي وخَليفَتي مِن بَعدي ، فَقاموا يَسخَرونَ ويَضحَكونَ ، ويَقولونَ لِأَبي طالِبٍ : أطِعِ ابنَكَ ؛ فَقَد أمَّرَهُ عَلَيكَ . (1)
.
ص: 48
الفصل الثاني : كسر الأصنامكانت الكعبة رمز التوحيد على طول التاريخ . وعند ما بُعث النبيّ صلى الله عليه و آله لهداية الاُمّة ، كان الجاهليّون قد ملؤوا بيت التوحيد هذا بأصنام وأوثان شتّى من وحي جهلهم وزيغهم الفكري ، فلوّثوه بالشرك عبر هذا العمل السفيه ، ولذا اهتمّ النبيّ صلى الله عليه و آله بإزالة كلّ هذا القبح والشذوذ ، وأخذ عليّاً عليه السلام معه لتطهير مركز التوحيد من مظاهر الشرك . فصعد عليه السلام على منكبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وألقى صنم قريش الكبير _ وقيل : هو صنم خزاعة _ من على سطح الكعبة إلى الأرض . وهذه الفضيلة العظيمة المتمثّلة بتحطيم الأصنام صعوداً على منكبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله تفرّد بها عليّ عليه السلام دون غيره على امتداد التاريخ . و هي فضيلة لا نظير لها ، وموهبة لا يشاركه فيها أحد .
الإمام عليّ عليه السلام :لَمّا كانَ اللَّيلَةُ الَّتي أمَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن أبيتَ عَلى فِراشِهِ وخَرَجَ مِن مَكَّةَ مُهاجِرا ، اِنطَلَقَ بي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلَى الأَصنامِ فَقالَ : اِجلِس ، فَجَلَستُ إلى جَنبِ الكَعبَةِ ، ثُمَّ صَعِدَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلى مَنكِبي ، ثُمَّ قالَ : اِنهَض ، فَنَهَضتُ بِهِ فَلَمّا رَأى ضَعفي تَحتَهُ قالَ : اِجلِس ، فَجَلَستُ فَأَنزَلتُهُ عَنّي وجَلَسَ لي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قالَ لي : يا عَلِيُّ ، اِصعَد عَلى مَنكِبي فَصَعِدتُ عَلى مَنكِبَيهِ ، ثُمَّ نَهَضَ بي
.
ص: 49
رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وخُيِّلَ إلَيَّ أ نّي لَو شِئتُ نِلتُ السَّماءَ ، وصَعِدتُ إلَى الكَعبَةِ وتَنَحّى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَأَلقَيتُ صَنَمَهُمُ الأَكبَرَ ، وكانَ مِن نُحاسٍ مُوَتَّدا بِأَوتادٍ مِن حَديدٍ إلَى الأَرضِ ، فَقالَ لي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : عالِجهُ فَعالَجتُ فَما زِلتُ اُعالِجُهُ ويَقولُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : إيهِ إيهِ ، فَلَم أزَل اُعالِجُهُ حَتَّى استَمكَنتُ مِنهُ فَقالَ : دُقَّهُ ، فَدَقَقتُهُ فَكَسَّرتُهُ ونَزَلتُ . (1)
نكتةتشير بعض الروايات إلى أنّ حادثة تحطيم الأصنام وقعت قبل الهجرة في ذروة توتّر وهلع المشركين ، وتشير طائفة اُخرى من الروايات إلى أنّ حادثة تحطيم الأصنام وقعت عند فتح مكّة . وليس مستبعدا أن تكون هذه الحادثة قد وقعت مرّتين : المرة الاُولى : عندما كان يسود جوّ من الخوف والترقّب فترة ما قبل الهجرة ، أقدم النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام عليّ عليه السلام على هذه الخطوة الجبّارة من أجل قمع الشرك والضلال ، فأعاد المشركون الأصنام إلى الكعبة ؛ لأنّ المسجد الحرام والكعبة المشرّفة كانتا تحت تصرفهم آنذاك . والمرّة الثانية : عند فتح مكّة المكرّمة .
.
ص: 50
الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيتقال اللّه تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوف بِالْعِبَادِ» . (1) انتشر دين اللّه في شبه الجزيرة العربيّة شيئا فشيئا ، وعلا الأذان المحمّدي ، وانعكس صداه في أرجاء منها ، وكانت «يثرب» من المدن التي سمعت نداء الحقّ ، وقد التقى عدد من أهلها برسول اللّه صلى الله عليه و آله في موسم الحجّ ، وعاهدوه سرّاً . (2) ومن جهة اُخرى زاد المشركون ظلمهم وجورهم ، وبلغوا ما بلغوا في تعذيبهم واضطهادهم وإرهابهم للناس ، واشتدّ أذاهم للمسلمين ، فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالهجرة إلى يثرب . من هنا ، هاجر المسلمون إلى يثرب تخلّصاً من جور المشركين واضطهادهم ، وقد بذل المشركون قصارى جهدهم للحؤول دون الهجرة ، بيد أنّ رجالاً كثيرا تركوا ما عندهم في مكّة وغادروها على عجل ، ففزع المشركون لذلك ؛ لأ نّهم كانوا يعتقدون أنّه إذا اجتمع خلق غفير من أهل يثرب ، وحصل المسلمون على دعم من
.
ص: 51
بعضهم ، وخرج النبيّ صلى الله عليه و آله من مكّة والتحق بهم ، فسيشكّلون قوّة عظيمة تهدّد أمنهم وخاصّه قوافلهم التجاريّة . ولذا عزموا على تدبير مكيدة لإنهاء أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذي كان لا يزال بمكّة . فاجتمعوا وتشاوروا ، فتصافقوا على قتله صلى الله عليه و آله ؛ إذ لم يكن إخراجه أو حبسه مجدياً . واطّلع صلى الله عليه و آله على مؤامرتهم المشؤومة عن طريق الوحي ، فكُلِّف بالخروج من مكّة (1) «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَ_كِرِينَ» . (2) وقد قام المشركون بتطويق داره صلى الله عليه و آله ، بعد تداولهم في خطّة قتله وكيفيّة التنفيذ ، فإذا قَصَد الخروج فستتلقّاه سيوفهم وينتهي أمره إلى الأبد . فاقترح صلى الله عليه و آله على عليّ عليه السلام أن يبيت في فراشه تلك الليلة ، فسأله : أ وَتسلم يا رسول اللّه ؟ قال : نعم . فرحّب الإمام عليه السلام بهذا الاقتراح موطّنا نفسه للقتل عند مواجهة المشركين صباحاً (3) ، وسجد سجدة الشكر على هذه الموهبة العظيمة (4) . والتحف بالبرد اليمانيّ الأخضر الذي كان يلتحف به النبيّ صلى الله عليه و آله عند نومه ، ونام مطمئنّاً في فراشه صلى الله عليه و آله . (5) لقد عبّر الإمام عليه السلام بهذا الموقف عن غاية شجاعته ، وجسّدها وصدع بها عمليّاً ؛ إذ عرّض بدنه الأعزل للسيوف المسلولة ، وهذا اللون من الشجاعة امتاز به دون غيره .
.
ص: 52
وقد دفع هذا الإيثار الرائع الملائكة الكروبيّين إلى الاستحسان والإعجاب به . وباهى اللّه سبحانه ملائكته بهذا المشهد العجيب لنكران الذات (1) ، فأنزل الآية الكريمة : «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ . . .» لتخليد هذه المنقبة ، وتكريم هذا الإيثار وهذه الفضيلة الرفيعة في أروقة التاريخ . و بعد تلك الليلة كان عليه السلام يذهب إلى غار «ثور» ليُوصل ما يحتاج إليه النبيّ صلى الله عليه و آله و رفيقه (2) . فأوصاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بردّ الأمانات ، واللحاق به في المدينة . (3) وبعد مدّة ترك عليه السلام مكّة قاصداً يثرب ومعه الفواطم ؛ اُمّه فاطمة بنت أسد ، والسيّدة فاطمة الزهراء ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب . فعلمت قريش بذلك ، وعزمت على منعه فبعثت ببعض فرسانها خلفه ، بيد أنّهم اصطدموا بموقفه الشجاع الجريء ورجعوا خائبين (4) . وكان النبيّ صلى الله عليه و آله ينتظره في «قبا» ، حتى إذا لحق به ، توجّهوا نحو يثرب . (5)
تاريخ دمشق عن أبي رافع :إنَّ عَلِيّا كانَ يُجَهِّزُ النّبِيَّ صلى الله عليه و آله حينَ كانَ بِالغارِ ويَأتيهِ بالطَّعامِ ، وَاستَأجَرَ لَهُ ثَلاثَ رَواحِلَ ؛ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ولِأَبي بَكرٍ و[لِ]دَليلِهِمُ ابنِ اُرَيقِطٍ ، وخَلَّفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ، لِيُخرِجَ إلَيهِ أهلَهُ ، فَأَخرَجَهُم (6) ، وأمَرَهُ أن يُؤَدِّيَ عَنهُ أمانَتَهُ ووَصايا مَن كانَ يوصي إلَيهِ ، وما كانَ يُؤتَمَنُ عَلَيهِ مِن مالٍ ، فَأَدّى أمانَتَهُ كُلَّها . وأمَرَهُ أن يَضطَجِعَ عَلى فِراشِهِ لَيلَةَ خَرَجَ ، وقالَ : إنَّ قُرَيشا لَن يَفقِدوني ما رَأَوكَ ،
.
ص: 53
فَاضطَجَعَ عَلِيٌّ عَلى فِراشِهِ ، فَكانَت قُرَيشٌ تَنظُرُ إلى فِراشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَيَرَونَ عَلَيهِ رَجُلاً يَظُنّونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، حَتّى إذا أصبَحوا رَأَوا عَلَيهِ عَلِيّا ، فَقالوا : لَو خَرَجَ مُحَمَّدٌ خَرَجَ بِعَلِيٍّ مَعَهُ ، فَحَبَسَهُمُ اللّهُ عَزَّوجَلَّ بِذلِكَ عَن طَلَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله حينَ رَأَوا عَلِيّا ولَم يَفقِدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله . وأمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله عَلِيّا أن يَلحَقَهُ بِالمَدينَةِ ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ في طَلَبِهِ بَعدَما أخرَجَ إلَيهِ أهلَهُ ، يَمشي مِنَ اللَّيلِ ويَكمُنُ مِنَ النَّهارِ حَتّى قَدِمَ المَدينَةَ ، فَلَمّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قُدومُهُ قالَ : اُدعوا لي عَلِيّا . قيلَ : يا رَسولَ اللّهِ ، لا يَقدِرُ أن يَمشِيَ ، فَأَتاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ، فَلَمّا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله اعتَنَقَهُ وبَكى رَحمَةً لِما بِقَدَمَيهِ مِنَ الوَرَمِ ، وكانَتا تَقطُرانِ دَما ، فَتَفَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله في يَدَيهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهِما رِجلَيهِ ، ودَعا لَهُ بِالعافِيَةِ ، فَلَم يَشتَكِهِما عَلِيٌّ حَتَّى استُشهِدَ . (1)
.
ص: 54
الفصل الرابع : غاية الفُتوّة في غزوتينأ _ غَزوَةُ بَدرٍتُعدّ غزوة بدر من أشدّ الغزوات التي خاضها النبيّ صلى الله عليه و آله وأعظمها من حيث الظروف الزمنيّة ، وميزان القوى ، ومستوى المعدّات الحربيّة التي كانت عند المسلمين . ذلك أنّ الهدف الأوّل من التحرّك _ وهو التحرّش بقافلة قريش والسيطرة عليها _ وما تلاه من حرب غير متكافئة يدلّان على أهميّة المعركة ودورها المصيريّ الحاسم . من هنا كانت للبدريّين في التاريخ منزلة رفيعة خاصّة ، وكان حضورهم في حوادث التاريخ الإسلامي _ لا سيّما بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله _ حيثما وُجِدوا يُشعر بشأنٍ خاصّ . ووقعت هذه المعركة ببدر _ منطقة قريبة من المدينة _ في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة . (1) وشهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هذه المعركة التي كانت اُولى معارك النبيّ صلى الله عليه و آله ، واُولى المشاهد البطوليّة للإمام عليه السلام الذي ظهر فيها بمظهرٍ حقيقٍ بالمشاهدة ، والثناء ، والإعجاب ، إذ :
.
ص: 55
1 . كان يحمل الراية المظفّرة للجيش الإسلامي . (1) 2 . اُنيطت به مهمّة التعرّف على قوّة العدوّ ومعه عدد من الصحابة ، وذلك قبل حدوث المواجهة وفي مرحلة حسّاسة من الاستطلاع والاستكشاف والتقصّي الخفيّ ، فحقّق نجاحا باهرا . (2) 3 . وحين طلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله الماء في منتصف ليلة القتال الحالكة المروّعة ، قام عليه السلام ، وسار نحو بدر بخطىً ثابتة راسخة ، ونزح الماء من بئرها العميقة المظلمة ، فروّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله . (3) 4 . إنّه وفي أوّل مواجهة فرديّة سقى الوليد بن عُتبة كأس المنون (4) ، وأعان رفيقه على قتل أبيه عتبة (5) . وذكر _ سلام اللّه عليه _ هذه الملحمة العظيمة في أحد كتبه إلى معاوية ، فقال : «فَأَنَا أبو حَسَنٍ قاتِلُ جَدِّكَ وأخيكَ وخالِكَ شَدخا (6) يَومَ بَدرٍ ، وذلِكَ السَّيفُ مَعِي ، وبِذلِكَ القَلبِ ألقى عَدُوّي» . (7) 5 . وصرع عليه السلام العاص بن سعيد فارس قريش المقتدر (8) ، ونوفل بن خويلد العدوّ الشرور الحاقد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله . 9
.
ص: 56
6 . ولمّا صدر الأمر بالهجوم الشامل ، وتشابكت القوى المتحاربة ، وحمي وطيس القتال ، هجم عليه السلام على العدوّ كالليث الغاضب ، وخلخل استعداداته العسكريّة ، وصنع من قتلاه تلّاً ؛ فقد نقل المؤرّخون أنّ (35) من قتلى المشركين البالغ عددهم (70) قُتلوا بسيفه عليه السلام . (1) 7 . وهو الذي كان في عنفوان شبابه يومئذٍ ، ونال الوسام الخالد : «لا سَيفَ إلّا ذُو الفَقارِ ولا فَتى إلّا عَلِيٌّ» بفضل تلك الشهامة ، والشجاعة ، والاستبسال الذي أبداه آنذاك . (2)
المستدرك على الصحيحين عن ابن عبّاس :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله دَفَعَ الرايَةَ إلى عَلِيٍّ رضى الله عنه يَومَ بَدرٍ وهُوَ ابنُ عِشرينَ سَنَةً . (3)
السيرة النبويّة لإبن هشام عن ابن إسحاق_ في ذِكرِ أحداثِ مَعرَكَةِ بَدرٍ _: ثُمَّ خَرَجَ بَعدَهُ (4) عُتبَةُ بنُ رَبيعَةَ بَينَ أخيهِ شَيبَةَ بنِ رَبيعَةَ وَابنِهِ الوَليدِ بنِ عُتبَةَ ، حَتّى إذا فَصَلَ مِنَ الصَّفِّ دَعا إلَى المُبارَزَةِ ، فَخَرَجَ إلَيهِ فِتيَةٌ مِنَ الأَنصارِ ثَلاثَةٌ ، وهُم : عَوفٌ ومُعَوِّذٌ ابنَا الحارِثِ _ واُمُّهُما عَفراءُ _ ورَجُلٌ آخَرُ ، يُقالُ : هُوَ عَبدُ اللّهِ بنُ رَواحَةَ ، فَقالوا : مَن أنتُم ؟ فَقالوا : رَهطٌ مِنَ الأَنصارِ ، قالوا : ما لَنا بِكُم مِن حاجَةٍ ، ثُمَّ نادى مُناديهِم : يا مُحَمَّدُ ، أخرِج إلَينا أكفاءَنا مِن قَومِنا . فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : قُم يا عُبَيدَةَ بنَ الحارِثِ ، وقُم يا حَمزَةُ ، وقُم يا عَلِيُّ ، فَلَمّا قاموا ودَنَوا مِنهُم ، قالوا : مَن أنتُم ؟ قالَ عُبَيدَةُ : عُبَيدَةُ ، وقالَ حَمزَةُ : حَمزَةُ ، وقالَ عَلِيٌّ : عَلِيٌّ ، قالوا : نَعَم ، أكفاءٌ كِرامٌ ، فَبارَزَ عُبَيدَةُ _ وكانَ أسَنَّ القَومِ _ عُتبَةَ بنَ رَبيعَةَ ،
.
ص: 57
وبارَزَ حَمزَةُ شَيبَةَ بنَ رَبيعَةَ ، وبارَزَ عَلِيٌّ الوَليدَ بنَ عُتبَةَ ، فَأَمّا حَمزَةُ فَلَم يُمهِل شَيبَةَ أن قَتَلَهُ ، وأمّا عَلِيٌّ فَلَم يُمهِلِ الوَليدَ أن قَتَلَهُ ، وَاختَلَفَ عُبَيدَةُ وعُتبَةُ بَينَهما ضَربَتَينِ ، كِلاهُما أثبَتَ صاحِبَهُ ، وكَرَّ حَمزَةُ وعَلِيٌّ بِأَسيافِهِما عَلى عُتبَةَ فَذَفَّفا (1) عَلَيهِ ، وَاحتَمَلا صاحِبَهُما ، فَحازاهُ إلى أصحابِهِ . (2)
الإمام الباقر عليه السلام :نادى مُنادٍ فِي السَّماءِ يَومَ بَدرٍ يُقالُ لَهُ رِضوانُ : لا سَيفَ إلّا ذُو الفَقارِ ، ولا فَتى إلّا عَلِيٌّ . (3)
ب _ غَزوَةُ اُحُدٍإنّ هزيمة المشركين في بدر ، وقتل صناديدهم ورؤسائهم يومذاك أوقدا غضب قريش وحفيظتها ؛ فكانت كالأفعى المطعونة لا يقرّ لها قرار . من جهة اُخرى كانت قريش قد رأت استبسال المسلمين في بدر وعشقهم للشهادة ؛ فلابدّ لها _ إذا _ من التخطيط للثأر . لذا أقبلت على شتّى القبائل لتصطحب مقاتليها وشجعانها لحرب محمّد صلى الله عليه و آله ، وتولّت مصاريف القتال ، وإعداد عدّته وسائر ما يتطلبّه ، وتوجّهت صوب المدينة بجيش جرّار بلغ ثلاثة آلاف مقاتل ، وفيه مئتا فرس (4) ، وثلاثة آلاف بعير . (5) وعرف النبيّ صلى الله عليه و آله ذلك ، فشاور أصحابه ، ثمّ عزم على القتال ، وبعد صلاة الجمعة غادر المدينة ومعه قرابة ألف مقاتل صَوب «اُحد» التي كان العدوّ قد عسكر فيها . (6)
.
ص: 58
بدأ القتال صبيحة السابع من شوّال سنة 3 ه (1) ، وكاد النصر يكون حليف المسلمين في البداية لولا ترك الرصَد مواضعهم من الجبل طمعا في الغنائم ، فباغتهم العدوّ ، وإذا هم بوضعهم العسكريّ المتخلخل ، أمام عدوٍّ حاقدٍ موتورٍ متفانٍ في سبيل هدفه _ ممّا ذكر التاريخ تفاصيله _ فتلقّوا ضرباب شديدة موجعة ، وانكسروا (2) ، وآثر كثير منهم الفرار على البقاء ، وتركوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحده في الميدان ، ولم يثبت معه إلّا الإمام عليّ عليه السلام ونفر قليل ، فكان عليه السلام يُحيط برسول اللّه صلى الله عليه و آله ويدفع عنه الهجمات كالليث الهصور . لقد كانت اُحد من أشدّ معارك النبيّ صلى الله عليه و آله وقعا ، وأكثرها دروسا وعِبَرا ، وأبلغها تنبيها وتذكيرا ، وكان الإمام عليه السلام فيها البطل الذي لا صنو له في دوره البارز المتفرّد ؛ إذ : 1 . كان رافع لوائها الأصلي (3) ؛ وهو لواء المهاجرين . (4) 2 . وبسيفه هلك صاحب لواء الشرك المغرور طلحة بن أبي طلحة . (5) 3 . وبضرباته المتوالية قتل بعد طلحة ثمانية غيره حملوا اللواء بعده ، فأفناهم الواحد تلو الآخر ، ولم يُرفع للشرك بعدهم لواء . (6) 4 . من المؤسف أنّ كثيرا من المسلمين لاذوا بالفرار بعد تضعضع الجيش ، وهجوم العدوّ المباغت ، وكان عليّ عليه السلام هو الذي يحمي رسول اللّه صلى الله عليه و آله من مخاطر
.
ص: 59
هجمات العدوّ في تلك اللحظات الصعبة الحاسمة . (1) 5 . نقل ابن إسحاق أنّ اثنين وعشرين من المشركين قُتلوا في هذه المعركة (2) ، منهم اثنا عشر قتلهم الإمام عليه السلام . (3) 6 . أثنى جبرئيل عليه السلام على شهامة الإمام عليه السلام وقتاله في هذه الحرب ، ودوّى النداء الملكوتي : «لا سَيفَ إلّا ذُو الفَقارِ ولا فَتى إلّا عَلِيٌّ» في الآفاق . (4) 7 . أنافتْ جراح الإمام عليه السلام _ رمز البطولة والشجاعة _ على تسعين جرحا (5) . وانكسرت يده المنقذة للمظلوم القامعة للظالم في هذه الحرب . (6) 8 . لمّا ترك جيش الكفر ميدان الحرب ، بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله من محلّ استخفائه عليّا عليه السلام _ مع ما به من جراحات مزّقت بدنه ، ومن ضعف بسبب كثرة النزف _ ليستطلع خبر العدوّ ويتأكّد من تركه الميدان . (7)
الإمام الصادق عليه السلام :لَمّا انهَزَمَ النّاسُ يَومَ اُحُدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله انصَرَفَ إلَيهِم بِوَجهِهِ وهُوَ يَقولُ : أنَا مُحَمَّدٌ ، أنَا رَسولُ اللّهِ ، لَم اُقتَل ولَم أمُت ... وكانَ النّاسُ يَحمِلونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله المَيمَنَةَ فَيَكشِفُهُم عَلِيٌّ عليه السلام ، فَإِذا كَشَفَهُم أقبَلَتِ المَيسَرَةُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، فَلَم يَزَل كَذلِكَ حَتّى تَقَطَّعَ سَيفُهُ بِثَلاثِ قِطَعٍ ، فَجاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَطَرَحَهُ بَينَ يَدَيهِ وقالَ : هذا سَيفي قَد تَقَطَّعَ ، فَيَومَئِذٍ أعطاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ذَا الفَقارِ ، ولَمّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله اختِلاجَ (8)
.
ص: 60
ساقَيهِ مِن كَثرَةِ القِتالِ رَفَعَ رَأسَهُ إلَى السَّماءِ وهُوَ يَبكي وقالَ : يا رَبِّ وَعَدتَني أن تُظهِرَ دينَكَ وإن شِئتَ لَم يُعيِكَ ، فَأَقبَلَ عَلِيٌّ عليه السلام إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، أسمَعُ دَوِيّا شَديدا ، وأسمَعُ «أقدِم حَيزومُ» (1) وما أهُمُّ أضرِبُ أحَدا إلّا سَقَطَ مَيِّتا قَبلَ أن أضرِبَهُ . فَقالَ : هذا جَبرَئيلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ فِي المَلائِكَةِ ، ثُمَّ جاءَ جَبرَئيلُ عليه السلام فَوَقَفَ إلى جَنبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ! إنَّ هذِهِ لَهِيَ المُواساةُ ، فَقالَ : إنَّ عَلِيّا مِنّي وأنَا مِنهُ ، فَقالَ جَبرَئيلُ : وأنَا مِنكُما . ثُمَّ انهَزَمَ النّاسُ . (2)
الإرشاد :لَمَّا انهَزَمَ النّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله في يَومِ اُحُدٍ ، وثَبَتَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام قالَ (3) لَهُ : ما لَكَ لا تَذهَبُ مَعَ القَومِ ، فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : أذهَبُ وأدَعُكَ يا رَسولَ اللّهِ ؟ ! وَاللّهِ لابَرِحتُ حَتّى اُقتَلَ أو يُنجِزَ اللّهُ لَكَ ما وَعَدَكَ مِنَ النَّصرِ ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : أبشِر يا عَلِيُّ ؛ فَإِنَّ اللّهَ مُنجِزٌ وَعدَهُ ، ولَن يَنالوا مِنّا مِثلَها أبَدا . ثُمَّ نَظَرَ إلى كَتيبَةٍ قد أقبَلَت إلَيهِ ، فَقالَ لَهُ : لَو حَمَلتَ عَلى هذِهِ يا عَلِيُّ ، فَحَمَلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَقَتَلَ مِنها هِشامَ بنَ اُمَيَّةَ المَخزومِيَّ وَانهَزَمَ القَومُ . ثُمَّ أقبَلَت كَتيبَةٌ اُخرى ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : اِحمِل عَلى هذِهِ ، فَحَمَلَ عَلَيها فَقَتَلَ مِنها عَمرَو بنَ عَبدِ اللّهِ الجُمَحِيَّ ، وَانهَزَمَت أيضا . ثُمَّ أقبَلَت كَتيبَةٌ اُخرى ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : اِحمِل عَلى هذِهِ ، فَحَمَلَ عَلَيها فَقَتَلَ مِنها بِشرَ بنَ مالِكٍ العامِرِيَّ وَانهَزَمَتِ الكَتيبَةُ ، فَلَم يَعُد بَعدَها أحَدٌ مِنهُم . وتَرَاجَعَ المُنهَزِمونَ مِنَ المُسلِمينَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وَانصَرَفَ المُشرِكونَ إلى مَكَّةَ وَانصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله إلَى المَدينَةِ ، فَاستَقبَلَتهُ فاطِمَةُ عليهاالسلامومَعَها إناءٌ فيهِ ماءٌ ، فَغَسَلَ بِهِ
.
ص: 61
وَجهَهُ ، ولَحِقَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام وقَد خَضَبَ الدَّمُ يَدَهُ إلى كَتِفِهِ ومَعَهُ ذُو الفَقارِ ، فَناوَلَهُ فاطِمَةَ عليهاالسلام وقالَ لَها : خُذي هذَا السَّيفَ فَقَد صَدَقَنِي اليَومَ . وأنشَأَ يَقولُ : أ فاطِمُ هاكِ السَّيفَ غَيرَذَميمٍفَلَستُ بِرِعديدٍ ولا بِمليمٍ (1) لَعَمري لَقَد أعذَرتُ في نَصرِأحمَدَوطاعَةِ رَبٍّ بِالعِبادِ عَليمٍ أميطي دِماءَ القَومِ عَنهُ فَإِنَّهُسَقى آلَ عَبدِ الدّارِ كَأسَ حَميمٍ وقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : خُذيهِ يا فاطِمَةُ ، فَقَد أدّى بَعلُكِ ما عَلَيهِ وقَد قَتَلَ اللّهُ بِسَيفِهِ صَناديدَ قُرَيشٍ . (2)
اُسد الغابة عن سعيد بن المسيّب :لَقَد أصابَت عَلِيّا يَومَ اُحُدٍ سِتَّ عَشَرَةَ ضَربَةً ، كُلُّ ضَربَةٍ تُلزِمُهُ الأَرضَ ، فَما كانَ يَرفَعُهُ إلّا جِبريلُ عليه السلام . (3)
.
ص: 62
الفصل الخامس : ارغام العدوّ على التسليمأ _ غَزوَةُ بَنِي النَّضيرِكان بنو النضير قد عقدوا حلفا مع المسلمين ، ثمّ همّوا بقتل النبيّ صلى الله عليه و آله . وكان صلى الله عليه و آله قد عرف تحرّكاتهم السرّيّة بعد اُحد ، فقصد حصنهم لتقصّي الحقيقة ، وكان مطلبه الظاهري دفع دية رجلين من قبيلة بني عامر . تظاهر بنو النضير باستقباله صلى الله عليه و آله في مشارف الحصن ، ولمّا نام صلى الله عليه و آله مع أصحابه في ظلّ الحصن ، خطّطوا لقتله ، لكنّه علم بمكيدتهم حين مهّدوا لتنفيذها فيمّم المدينة على غفلة منهم (1) بعد أن نقضوا حلفهم ونكثوا عهدهم ، فأمر بإجلائهم عن بيوتهم ، وترحيلهم عن ديارهم ، فكابروا ولجّوا ، فحاصرهم في ربيع الأوّل سنة (4) من الهجرة (2) . وفي ضوء بعض المعلومات التاريخيّة نزحوا عن ديارهم أذلّةً صاغرين بعد أن قتل عشرة منهم . (3)
الإرشاد :لَمّا تَوَجَّهَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلى بَنِي النَّضيرِ ، عَمِلَ عَلى حصِارِهِم ، فَضَرَبَ قُبَّتَهُ في أقصى بَني حُطَمَةَ مِنَ البَطحاءِ ، فَلَمّا أقبَلَ اللَّيلُ رَماهُ رَجُلٌ مِن بَنِي النَّضيرِ
.
ص: 63
بِسَهمٍ فَأَصابَ القُبَّةَ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله أن تُحَوَّلَ قُبَّتُهُ إلَى السَّفحِ ، وأحاطَ بِهِ المُهاجِرونَ وَالأَنصارُ . فَلَمَّا اختَلَطَ الظَّلامُ فَقَدوا أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام ، فَقالَ النّاسُ : يا رَسولَ اللّهِ ، لا نَرى عَلِيّا ؟ فَقالَ صلى الله عليه و آله : أراهُ في بَعضِ ما يُصلِحُ شَأنَكُم . فَلَم يَلبَث أن جاءَ بِرَأسِ اليَهودِيِّ الَّذي رَمَى النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله _ وكانَ يُقالُ لَهُ : عَزورا _ فَطَرَحَهُ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله . فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : كَيفَ صَنَعتَ ؟ فَقالَ : إنّي رَأَيتُ هذَا الخَبيثَ جَريئا شُجاعا ، فَكَمَنتُ لَهُ وقُلتُ : ما أجرَأَهُ أن يَخرُجَ إذَا اختَلَطَ الظَّلامُ يَطلُبُ مِنّا غِرَّةً (1) ، فَأَقبَلَ مُصلِتا سَيفَهُ في تِسعَةِ نَفَرٍ مِن أصحابِهِ اليَهودِ ، فَشَدَدتُ عَلَيهِ فَقَتَلتُهُ وأفلَتَ أصحابُهُ ولَم يَبرَحوا قَريبا ، فَابعَث مَعي نَفَرا ؛ فَإِنّي أرجو أن أظفَرَ بِهِم ! فَبَعَثَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَعَهُ عَشَرَةً ، فيهِم : أبو دُجانَةَ سِماكُ بنُ خَرَشَةَ ، وسَهلُ بنُ حُنَيفٍ ، فَأَدرَكوهُم قَبلَ أن يَلِجُوا الحِصنَ ، فَقَتَلوهُم وجاؤوا بِرُؤوسِهِم إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، فَأَمَرَ أن تُطرَحَ في بَعضِ آبارِ بَني حُطَمَةَ . وكانَ ذلِكَ سَبَبُ فَتحِ حُصونِ بَنِي النَّضيرِ . (2)
ب _ غَزوَةُ بَني قُرَيظَةَأخفقت المؤامرة الكبرى التي تآزر عليها المشركون واليهود في غزوة الخندق ، ونكث بنو قريظة حلفهم الذي كان قد عقدوه مع المسلمين على عدم التعرّض لهم ، ومالؤوا المشركين ضدّ النبيّ صلى الله عليه و آله (3) ، فعزم صلى الله عليه و آله في غد ذلك اليوم الذي فرّ فيه المشركون على اقتحام حصن بني قريظة ، وهو آخر وكر فسادٍ لليهود قرب المدينة (4) . وبعد أن
.
ص: 64
صلّى صلى الله عليه و آله صلاة الظهر ، أصدر أمره بالتعبئة العسكريّة ، وأخبر المسلمين بإقامة صلاة العصر في حيّ «بني قريظة» . (1) وتجلّت شخصيّة الإمام عليه السلام في هذا التحرّك أيضا ، وكان دوره فيه لافتا للنظر لاُمور : 1 . كانت راية الإسلام الخفّاقة بيده المقتدرة . (2) 2 . كان آمرا على مقدّمة الجيش . (3) 3 . كان بنو قريظة قد تسامعوا به ، ولمّا رأوه ، قالوا : جاء قاتل عمرو بن عبد ودّ . يقول ابن هشام : نزل بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ ؛ لأنّ عليّ بن أبي طالب قال : «وَاللّهِ لَأَذوقَنَّ ما ذاقَ حَمزَةُ أو لَأَفتَحَنَّ حِصنَهُم» . (4) 4 . رضي اليهود بحكم سعد بن معاذ فيهم ؛ إذ كانوا يظنّون أنّه سيحكم لهم بسبب الأواصر القديمة التي كانت تربطهم به ، لكنّه حكم بقتل رجالهم ، ومصادرة أموالهم ، وسبي ذراريهم . (5)
السيرة النبويّة لإبن هشام_ في ذِكرِ نُزولِ بَني قُرَيظَةَ عَلى حُكمِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ _: إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ صاحَ وهُم مُحاصِرو بَني قُرَيظَةَ : يا كَتيبَةَ الإِيمانِ . وتَقَدَّمَ هُوَ وَالزُّبَيرُ بنُ العَوّامِ وقالَ : وَاللّهِ لَأَذوقَنَّ ما ذاقَ حَمزَةُ أو لَأَفتَحَنَّ حِصنَهُم ؛ فَقالوا : يا مُحَمَّدُ ، نَنزِلُ عَلى حُكمِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ . (6)
.
ص: 65
الفصل السادس : الضربة المصيريّة في غزوة الخندقعند ما نزح بنو النضير عن أطراف المدينة ، توجّه قسم منهم إلى خيبر ، وقسم إلى الشام ، وطفق رؤساؤهم يحرّضون المشركين ويشجّعونهم على التحالف مع اليهود ، وتهيئة جيش من جميع القبائل لمهاجمة المدينة بمؤازرة اليهود . (1) وهكذا كان ؛ فقد تهيّأ جيش ضخم قوامه عشرة آلاف ، ضمّ كافّة المعارضين للحكومة الإسلاميّة الجديدة التي أسّسها النبيّ صلى الله عليه و آله في المدينة وبدأ زحفه نحو المدينة (2) ، ومن هنا عُرفت هذه الغزوة بغزوة الأحزاب . وقد شاور النبيّ صلى الله عليه و آله أصحابه حول كيفيّة مواجهة العدوّ ، فاقترح سلمان حفر خندق في مدخل المدينة ؛ لتعويق العدوّ . وتحقّق ما أراد ، وأمر صلى الله عليه و آله أصحابه بحفر الخندق ، واشترك هو معهم في الحفر (3) ، فتعوّق جيش العدوّ ، الذي كان يهمّ بمهاجمة المدينة بكلّ غرور وخُيَلاء ، خلف الخندق ، وظلّ على هذه الحال شهرا تقريبا (4) ،
.
ص: 66
حتى وقع في مأزِق بسبب صعوبة الإمداد . وفي ذات يوم عبر عمرو بن عبد ودّ الخندق ومعه عدد من فرسان العدوّ وشجعانه المشهورين (1) ، وصاروا أمام المسلمين ، وطلبوا أن يبرز إليهم أقرانهم ، فلم يجِبهم أحد ، وكرّروا نداءهم غير مرّةٍ ، وكان لعمرو صيته المخيف ، ففزع منه الجميع ، وحُبست الأنفاس في الصدور ، ولم تلقَ نداءاته المغرورة جوابا ، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يقوم إليه أحد ويقتلع شرّه ، فلم يقُم إلّا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام (2) . ولمّا تقابلا قال صلى الله عليه و آله عبارته الخالدة : «بَرَزَ الإِيمانُ كُلُّهُ إلَى الشِّركِ كُلِّهِ» . (3) وبعد قتال شديد عاجله الإمام بهجمة سريعة ، فقضى عليه ، وبلغت صيحة «اللّه أكبر» عنان السماء ، فلاذ أصحابه بالفرار (4) . وتبدّد جيش الأحزاب على ما كان عليه من شوكة واُبّهة خياليّة . ويمكننا أن نفهرس دور الإمام العظيم في هذه الحرب على النحو الآتي : 1 . لمّا عبر عمرو بن عبد ودّ وأصحابه من موضع ضيّق من الخندق ، استقرّ الإمام عليه السلام هناك مع جماعة ، فلم يتيسّر للمشركين العبور بعدئذٍ . (5) 2 . كان قتل عمرو بن عبد ودّ مهمّاً وحاسما ومصيريّا إلى درجة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «لَمُبارَزَةُ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ لِعَمرِو بنِ عَبدِ وَدٍّ يَومَ الخَندَقِ أفضَلُ مِن أعمالِ اُمَّتي إلى يَومِ القِيامَةِ» . 6
.
ص: 67
وفي رواية : «لَضَربَةُ عَلِيٍّ لِعَمرٍو يَومَ الخَندَقِ تَعدِلُ عِبادَةَ الثَّقَلَينِ» . (1) وحينما تجدّل صنديد العرب صريعا بصق في وجه الإمام آيِسا بائسا ، فوقف صلوات اللّه عليه ، وتمهّل ولم يبادر إلى حزّ رأسه لئلّا يكون في عمله ذرّة من غضب . 3 . وبعد أن جدّله وصرعه ، وولّى أصحابه مدبرين تبعهم (2) ، وقتل منهم نوفل ابن عبد اللّه . (3) 4 . لمّا ضرب الإمام عليه السلام رجل عمرو وقضى عليه ، ألقى تراب الذلّ والخوف والرعب على وجوه المشركين ، وأقعدهم حيارى مهزومين منهارين . (4) 5 . قتل الإمام عليه السلام عمرا ، بيد أنّه ترفّع عن سلب درعه الثمين إذ «كان يضرب بسيفه من أجل الحقّ» لا غيره . . . ولم يخفَ كلّ هذا الترفّع والجلال والشمم عن الأنظار ، حتى إنّ اُخت عمرو نفسها أثنت عليه . (5)
رسول اللّه صلى الله عليه و آلهلَمُبارَزَةُ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ لِعَمرِو بنِ عَبدِ وَدٍّ يَومَ الخَندَقِ أفضَلُ مِن أعمالِ اُمَّتي إلى يَومِ القِيامَةِ . (6)
عنه صلى الله عليه و آله :لَضَربَةُ عَلِيٍّ لِعَمرٍو يَومَ الخَندَقِ تَعدِلُ عِبادَةَ الثَّقَلَينِ . (7)
.
ص: 68
الفصل السابع : الشجاعة والأدب في الحديبِيّةِعزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله على التوجّه إلى مكّة في السنّة السادسة من الهجرة قاصدا العمرة ، فسار حتى الحديبيّة ، فعلمت قريش بمسيره ، فخرجت من مكّة . واُخبر النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ قريش عازمة على صدّه ومنعه من دخول مكّة . وبعثت قريش ممثّلاً عنها للتفاوض مع النبيّ صلى الله عليه و آله ، كما بعث النبيّ صلى الله عليه و آله ممثلاً عنه أيضا ، فقرّروا أن يرجع النبيّ صلى الله عليه و آله تلك السنة ولا يدخل مكّة (1) . وعقدوا على ذلك صلحا بينهم ، فكتب الإمام عليّ عليه السلام نصّ الصلح بيده . (2)
الإرشاد عن فايد مولى عبد اللّه بن سالم :لَمّا خَرَجَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله في عُمرَةِ الحُدَيبِيَّةِ نَزَلَ الجُحفَةَ فَلَم يَجِد بِها ماءً ، فَبَعَثَ سَعدَ بنَ مالِكٍ بِالرَّوايا ، حَتّى إذا كانَ غَيرَ بَعيدٍ رَجَعَ سَعدٌ بِالرَّوايا فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما أستَطيعُ أن أمضِيَ ! لَقَد وَقَفَت قَدَماي رُعبا مِنَ القَومِ ! ! فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : اِجلِس . ثُمَّ بَعَثَ رَجُلاً آخَرَ ، فَخَرَجَ بِالرَّوايا حَتّى إذا كانَ بِالمَكانِ الَّذي انتَهى إلَيهِ الأَوَّلُ رَجَعَ ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : لِمَ رَجَعتَ ؟ ! فَقالَ : وَالَّذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا استَطَعتُ أن
.
ص: 69
أمضِيَ رُعبا ! ! فَدَعا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِما ، فَأَرسَلَهُ بِالرَّوايا ، وخَرَجَ السُّقاةُ وهُم لا يَشُكّونَ في رُجوعِهِ لِما رَأَوا مِن رُجوعِ مَن تَقَدَّمَهُ ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ عليه السلام بِالرَّوايا ، حَتّى وَرَدَ الحِرارَ (1) فَاستَقى ، ثُمَّ أقبَلَ بِها إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ولَها زَجَلٌ (2) ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ، ودَعا لَهُ بِخَيرٍ . (3)
صحيح البخاري عن البراء بن عازب :لَمّا صالَحَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أهلَ الحُدَيبِيَّةِ ، كَتَبَ عَلِيٌّ بَينَهُم كِتابا ، فَكَتَبَ : مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّهِ ، فَقالَ المُشرِكونَ : لا تَكتُب «مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّهِ» ؛ لَو كُنتَ رَسولاً لَم نُقاتِلكَ ! ! فَقالَ لِعَليٍّ : اُمحُهُ . فَقالَ عَلِيٌّ : ما أنَا بِالَّذي أمحاهُ ، فَمَحاهُ رَسولُاللّهِ صلى الله عليه و آله بِيَدِهِ . (4)
.
ص: 70
الفصل الثامن : الدور المصيري في فتح خيبرتحظى وقعة خيبر بشأن خاصّ بين وقائع النبيّ صلى الله عليه و آله ؛ ففيها هزم صلى الله عليه و آله يهود خيبر ، وقوّض مركز التآمر على دينه وحكومته الجديدة . فكانت حصون اليهود في منطقة خصبة شمال غربيّ المدينة تبعد عنها حوالي (200) كيلومتر ، تدعى خيبر . (1) وكان اليهود القاطنون في هذه الحصون يضمرون حقدا للنبيّ صلى الله عليه و آله والمؤمنين والدولة الإسلاميّة منذ الأيّام الاُولى لاتّساع الرسالة ، ولم يدّخروا وسعا للكيد بهم ، بل إنّ حرب الأحزاب شُنَّت على الإسلام بدعمهم العسكري والمالي . وبهذا يتّضح أنّهم كانوا أعداءً لُدّا ومتآمرين يتحرّقون حنقا على الرسالة ونبيّها الكريم صلى الله عليه و آله . (2) وحين اطمأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله من قريش بعد صلح الحديبيّة ، توجّه نحو خيبر ؛ لفتح حصونها ، والقضاء على وكر التآمر (3) . ووجود عشرة آلاف مقاتل ، وحصون حصينة منيعة لا تُقهر ، وقدرات ومعدّات كثيرة داخلها ، وأضغان راسخة فى قلوب اليهود المتواجدين داخل الحصن شدّت من عزائمهم لمحاربة النبيّ صلى الله عليه و آله شكّل دلالة
.
ص: 71
على الأهمّيّة الخاصّة لوقعة خيبر . وكان للإمام أمير المؤمنين عليه السلام فيها مظهر عجيب ، وله في فتحها العظيم دور لا يضاهى ولا يبارى يتمثّل فيما يلي : 1 . كانت راية الإسلام في هذه المعركة بيد الإمام علي عليه السلام المقتدرة كما في غيرها من الحروب والغزوات . (1) 2 . لمّا فتحت كلّ الحصون ، واستعصى حصن «الوطيح» و«السلالم» _ إذ كانا من أحكم الحصون ، وزحف المسلمون نحوهما مرّتين : الاُولى بقيادة أبي بكر ، والاُخرى بقيادة عمر ، لكنّهما أخفقا في فتحهما _ انتدب النبيّ صلى الله عليه و آله عليّا عليه السلام ، وكان مريضا لا يقدر على القتال فدعا النبيّ صلى الله عليه و آله ، فشفي ، وفتح اللّه على يديه ، وتمكّن الجيش الإسلامي العظيم من فتح ذينك الحصنين اللذين كان فتحهما لا يصدّق ولا يخطر ببال أحد . (2) 3 . جندل الإمامُ عليه السلام الحارثَ _ المقاتل اليهوديّ المغرور ، الذي كانت الأبدان ترتجف من صيحاته عند القتال _ بضربة قاصمة ، كما قدّ مرحب _ الذي لم يجرأ أحد على مواجهته _ نصفين . (3) 4 . لمّا أخفق المسلمون في فتح الحصنين المذكورين وأوشك الرعب أن يسيطر على القلوب ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله عبارته العظيمة الرائعة المشهورة : «لاُعطينّ الراية غدا رجلاً يحبّ اللّهَ ورسولَه ويحبّه اللّهُ ورسولُه» (4) ، والاُخرى : «كرّارا غير فرّار» (5) ،
.
ص: 72
يريد بذلك عليّا صلوات اللّه عليه ، فأحيا الأمل في النفوس بالنصر . 5 . قلع الإمام عليه السلام باب قلعة قموص وحده ، وكان لا يحرّكه إلّا أربعون رجلاً ! (1)
الإرشاد عن عبد الملك بن هشام ومحمّد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الآثار :حاصَرَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله خَيبَرَ بِضعا وعِشرينَ لَيلَةً ، وكانَتِ الرّايَةُ يَومَئِذٍ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَلَحِقَهُ رَمَدٌ أعجَزَهُ عَنِ الحرَبِ ، وكانَ المُسلِمونَ يُناوِشونَ اليَهودَ مِن بَينِ أيدي حُصونِهِم وجَنَباتِها . فَلَمّا كانَ ذاتَ يَومٍ فَتَحُوا البابَ وقَد كانوا خَندَقوا عَلى أنفُسِهِم ، وخَرَجَ مَرحَبٌ بِرِجلِهِ يَتَعَرَّضُ لِلحَربِ . فَدَعا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أبا بَكرٍ فَقالَ لَهُ : خُذِ الرّايَةَ ، فَأَخَذَها _ في جَمعٍ مِنَ المُهاجِرينَ _ فَاجتَهَدَ ولَم يُغنِ شَيئا ، فَعادَ يُؤَنِّبُ القَومَ الَّذينَ اتَّبَعوهُ ويُؤَنِّبونَهُ ! فَلَمّا كانَ مِن الغَدِ تَعَرَّضَ لَها عُمَرُ ، فَسارَ بِها غَيرَ بَعيدٍ ، ثُمَّ رَجَعَ يُجَبِّنُ أصحابَهُ ويُجَبِّنونَهُ ! فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : لَيسَت هذِهِ الرّايَةُ لِمَن حَمَلَها ، جيؤوني بِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . فَقيلَ لَهُ : إنَّهُ أرمَدُ . قالَ : أرونيهِ تُروني رَجُلاً يُحِبُّ اللّهَ ورَسولَهُ ، ويُحِبُّهُ اللّهُ ورَسولُهُ ، يَأخُذُها بِحَقِّها لَيسَ بِفَرّارٍ . فَجاؤوا بِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام يَقودونَهُ إلَيهِ ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : ما تَشتَكي يا عَلِيُّ ؟ قالَ : رَمَدٌ ما اُبصِرُ مَعَهُ ، وصُداعٌ بِرَأسي . فَقالَ لَهُ : اِجلِس وضَع رَأسَكَ عَلى فَخِذي . فَفَعَلَ عَلِيٌّ عليه السلام ذلِكَ ، فَدَعا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وتَفَلَ في يَدِهِ فَمَسَحَها عَلى عَينَيهِ ورَأسِهِ ، فَانفَتَحَت عَيناهُ وسَكَنَ ما كانَ يَجِدُهُ مِنَ الصُّداعِ . وقالَ في دُعائِهِ لَهُ : اللّهُمَّ قِهِ الحَرَّ وَالبَردَ . وأعطاهُ الرّايَةَ _ وكانَت رايَةً بَيضاءَ _ وقالَ لَهُ : خُذِ الرّايَةَ وَامضِ بِها ، فَجَبرَئيلُ مَعَكَ ، وَالنَّصرُ أمامَكَ ، وَالرُّعبُ مَبثوثٌ في صُدورِ القَومِ ، وَاعلَم _ يا عَلِيُّ _
.
ص: 73
أَنَّهُم يَجِدونَ في كِتابِهِم : إنَّ الَّذي يُدَمِّرُ عَلَيهِمِ اسمُهُ آلِيا ، فَإِذا لَقيتَهُم فَقُل : أنَا عَلِيٌّ ، فَإِنَّهُم يُخذَلونَ إن شاءَ اللّهُ ... . وجاءَ فَي الحَديثِ : أنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام لَمّا قالَ : أنَا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، قالَ حِبرٌ مِن أحبارِ القَومِ : غُلِبتُم وما اُنزِلَ عَلى موسى . فَدَخَلَ قُلوبَهُم مِنَ الرُّعبِ ما لَم يُمكِنهُم مَعَهُ الاِستيطانُ بِهِ . (1)
صحيح البخاري عن سهل بن سعد :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ يَومَ خَيبَرَ : لَاُعطِيَنَّ هذِهِ الرّايَةَ غَدا رَجُلاً يَفتَحُ اللّهُ عَلى يَدَيهِ ، يُحِبُّ اللّهَ ورَسولَهُ ، ويُحِبُّهُ اللّهُ ورَسولُهُ . قالَ : فَباتَ النّاسُ يَدوكونَ (2) لَيلَتَهُم أيُّهُم يُعطاها ، فَلَمّا أصبَحَ النّاسُ غَدَوا على رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله كُلُّهُم يَرجو أن يُعطاها ، فَقالَ : أينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ؟ فَقيلَ : هُوَ يا رَسولَ اللّهِ يَشتَكي عَينَيهِ ، قالَ : فَأَرسِلوا إلَيهِ ، فَاُتِيَ بِهِ ، فَبَصَقَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله في عَينَيهِ ودَعا لَهُ ، فَبَرَأَ حَتّى كَأَن لَم يَكُن بِهِ وَجَعٌ ، فَأَعطاهُ الرّايَةَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : يا رَسولَ اللّهِ ، اُقاتِلُهُم حَتّى يَكونوا مِثلَنا ؟ فَقالَ : اُنفُذ عَلى رِسلِكَ حَتّى تَنزِلَ بِساحَتِهِم ، ثُمَّ ادعُهُم إلَى الإِسلامِ ، وأخبِرهُم بِما يَجِبُ عَلَيهِم مِن حَقِّ اللّهِ فيهِ ، فَوَاللّهِ لِأَن يَهِديَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً واحِدا خَيرٌ لَكَ مِن أن يَكونَ لَكَ حُمرُ النَّعَمِ . (3)
الإرشاد :لَمّا قَتَلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام مَرحَبا رَجَعَ مَن كانَ مَعَهُ وأغلَقوا بابَ الحِصنِ عَلَيهِم دونَهُ ، فَصارَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام إلَيهِ فَعالَجَهُ حَتّى فَتَحَهُ ، وأكَثرُ النّاسِ مِن جانِبِ الخَندَقِ لَم يَعبُروا مَعَهُ ، فَأَخَذَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام بابَ الحِصنِ فَجَعَلَهُ عَلَى الخَندَقِ جِسرا لَهُم حَتّى عَبَروا وظَفِروا بِالحِصنِ ونالُوا الغَنائِمَ . فَلَمَّا انصَرَفوا مِنَ الحُصونِ
.
ص: 74
أخَذَهُ أميرُ المُؤمِنينَ بِيُمناهُ فَدَحا بِهِ أذرُعا مِنَ الأَرضِ ، وكانَ البابُ يُغلِقُهُ عِشرونَ رَجُلاً مِنهُم . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :وَاللّهِ ما قَلَعتُ بابَ خَيبَرَ ، ودَكدَكتُ حِصنَ يَهودٍ بِقُوَّةٍ جِسمانِيَّةٍ ، بَل بِقُوَّةٍ إلهِيَّةٍ . (2)
.
ص: 75
الفصل التاسع : النشاطات في فتح مكّةتمّ الاتّفاق في صلح الحديبيّة على أن يكفّ كلّ من الطرفين عن شنّ الحرب ، وألّا يحرّضا حلفاءهما على ذلك ، وألّا يدعماهم في حرب من الحروب . لكنّ قريش نكثت مقرّرات ذلك الصلح بتجهيز بني بكر _ حلفائهم _ على قبيلة خزاعة حليفة المسلمين ، أو بالاشتراك ليلاً في قتالٍ ضدّها . (1) وتناهى إلى أسماع النبيّ صلى الله عليه و آله استشهاد عدد من المسلمين مظلومين ، واستنجاد عمرو بن سالم _ رئيس قبيلة خزاعة _ بأبيات مؤثّرة ، فأنجده . وهكذا عزم على فتح مكّة ، ومحو معالم الشرك من مركز التوحيد ، إذ لا مانع يحول دون ذلك حينئذٍ . فسيطر رسول اللّه صلى الله عليه و آله على مكّة عبر خطّة عسكريّة عجيبة ، وفتحها بلا إراقة دمٍ ، ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل . (2) وشهد الإمام عليّ عليه السلام هذا النصر ، وكان حضوره فيه لافتا للنظر من وجوه : 1 . كان حاطب بن أبي بلتعة قد كتب إلى قريش كتابا يخبرهم فيه بعزم النبيّ صلى الله عليه و آله على فتح مكّة ، وأرسله مع إحدى النساء . فاستدعى النبيّ صلى الله عليه و آله عليّا عليه السلام ، وبعثه مع
.
ص: 76
اثنين للقبض على تلك المرأة . ولمّا لقوها وطلبوا منها دفع الكتاب إليهم أنكرت ذلك أشدّ إنكار ، ففتّشوها عدّة مرّات فلم يجدوا عندها شيئا ، ودلّ تفتيشهم على صحّة ما تدّعيه . فقال لها الإمام عليه السلام : واللّه ما كَذَبنا رسولُ اللّه صلوات اللّه عليه . . . واللّه لتُظهرنّ الكتاب أو لأردنّ رأسك إلى رسول اللّه ! فاستسلمت المرأة وأخرجته من ضفيرتها ، ودفعته إليه . (1) 2 . كان سعد بن عبادة يحمل راية الإسلام ، وينادي : اليوم يوم الملحمة . . . . فنادى رسول اللّه صلى الله عليه و آله نداء الرحمة والرأفة ، وقال : اليوم يوم المرحمة . . . (2) ، ثمّ دعا عليّا عليه السلام وأمره أن يرفع الراية مكان سعد . (3) 3 . أعطى النبيّ صلى الله عليه و آله الأمان للجميع بعد فتح مكّة إلّا شرذمة من سود الضمائر المعاندين فقد أهدر دمهم ، منهم الحويرث _ الذي كان يؤذيه كثيرا يوم كان في مكّة _ وامرأة مغنّية كانت تهجوه صلى الله عليه و آله ، فقتلهما الإمام عليه السلام . (4)
صحيح البخاري عن عبيد اللّه بن أبي رافع :سَمَعتُ عَلِيّا رضى الله عنه يَقولُ : بَعَثَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنَا وَالزُّبَيرَ وَالمِقدادَ ، فَقالَ : اِنطَلِقوا حَتّى تَأتوا رَوضَةَ خاخٍ (5) ، فَإِنَّ بِها ظَعينَةً (6) مَعَها كِتابٌ ، فَخُذوهُ مِنها . فَانطَلَقنا تَعادى بِنا خَيلُنا حَتّى أتَينَا الرَّوضَةَ ، فَإِذا نَحنُ بِالظَّعينَةِ ، قُلنا لَها : أخرِجِي الكِتابَ . قالَت : ما مَعِي كِتابٌ ! فَقُلنا : لَتُخرِجِنَّ الِكتابَ أو لَنُلقِيَنَّ
.
ص: 77
الثِّيابَ . فَأَخرَجَتهُ مِن عِقاصِها (1) . فَأَتَينا بِهِ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله . (2)
تاريخ الطبري عن عبد اللّه بن أبي نجيح :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله حينَ فَرَّقَ جَيشَهُ مِن ذي طُوىً ، أمَرَ الزُّبَيرَ أن يَدخُلَ في بَعضِ النّاسِ مِن كُدىً (3) ، وكانَ الزُّبَيرُ عَلَى المُجَنِّبَةِ (4) اليُسرى ، فَأَمَرَ سَعدَ بنَ عُبادَةَ أن يَدخُلَ في بَعضِ النّاسِ مِن كَداءِ (5) . فَزَعَمَ بَعضُ أهلِ العِلمِ أنَّ سَعدا قالَ حينَ وُجِّهَ داخِلاً : «اليَومُ يَومُ المَلحَمَةِ،اليَومُ تُستَحَلُّ الحُرمَةُ»فَسَمِعَها رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرينَ، فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، اِسمَع ما قالَ سَعدُ بنُ عُبادَةَ ! وما نَأمَنُ أن تَكونَ لَهُ في قُرَيشٍ صَولَةٌ ! ! فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ: أدرِكهُ فَخُذِ الرّايَةَ ، فَكُن أنتَ الَّذي تَدخُلُ بِها. (6)
.
ص: 78
الفصل العاشر : المقاومة الرائعة في غزوة حنينألقى فتح مكّة الرعب في قلوب المشركين ، والذعر والفزع في نفوسهم ؛ فتشاورت قبيلتا الطائف المهمّتان هوازن وثقيف مع بعض القبائل الاُخرى ، فعزمتا على المسارعة إلى مواجهة جيش الإسلام قبل أن يقبل عليهم ، وجمعتا جيشا ضخما بقيادة شابّ باسل شجاع يدعى : مالك بن عوف النصري ، وسار الجيش نحو المسلمين . (1) وبادر النبيّ صلى الله عليه و آله إلى مواجهتهم على رأس جيش عظيم يتألّف من اثني عشر ألفا ؛ عشرة آلاف من يثرب ، وألفين من المسلمين الجدد ، وبلغت عظمة الجيش درجةً جعلت البعض يصاب بغرور زائف حتى قال : لا نُغلب اليوم من قلّة . (2) وأمر مالك جيشه بالاختباء خلف الأحجار والصخور وشعاب الجبال والنقاط المرتفعة في آخر الوادي الذي كان ممرّا إلى منطقة حنين . ولمّا وصل الجيش الإسلامي هناك رُشق بالسهام والحجارة ، فمُني بالهزيمة والانكسار ، وحدث ما حدث ، وفرّ كثير من جيش رسول اللّه صلى الله عليه و آله (3) ، حتى قال أبو سفيان مستهزئا : لا تنتهي
.
ص: 79
هزيمتهم دون البحر . (1) وفي ساعة العسرة هذه لم يبقَ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّا قليل ؛ قرابة عشرة ، فاستماتوا في الدفاع عنه ، وفيهم أمير المؤمنين عليه السلام فكان لا يفتأ يحوم حوله مدافعا ، وهزم من كان يريد قتل النبيّ صلى الله عليه و آله ، وأجبرهم على الفرار . (2) وصاح النبيّ صلى الله عليه و آله بصوتٍ عالٍ في خضمّ تلك الشدائد والنوازل قائلاً : يا أنصار اللّه وأنصار رسوله ، أنا عبد اللّه ورسوله ! ثمّ ساق بغلته نحو العدوّ ومعه عدد من الصحابة ، وأمر عمّه العبّاس أن ينادي المسلمين بصوته الجهوريّ ويدعوهم إلى نصرته . وهكذا انتظم أمر الجيش مرّة اُخرى . (3) إنّ ثبات عليّ عليه السلام وقتاله بلا هوادة في هذه المعركة لافتان للنظر أيضا ، فقد قتل أربعين من هوازن (4) ، وفيهم أبو جرول ؛ وهو أحد شجعانهم ، وكان هلاكه بداية لانهيار جيشهم . (5) ولاحق النبيّ صلى الله عليه و آله الفارّين ، وحاصر قلعتهم بالطائف . وفي هذا الحصار اشتبك الإمام عليه السلام مع نافع بن غيلان فقتله ، فولّى جمع من المشركين مدبرين ، وأسلم آخرون . (6) يضاف إلى هذا أنّ الإمام عليه السلام كلّف عند الحصار بكسر الأصنام التي كانت حول الطائف ، وقد أنجز هذه المهمّة بأحسن ما يكون . (7)
.
ص: 80
قال الشيخ المفيد _ رضوان اللّه عليه _ في حضور الإمام عليه السلام هذه الغزوة : «فَانظُرِ الآنَ إلى مَناقِبِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام في هذِهِ الغَزاةِ وتَأَمَّلها وفَكِّر في مَعانيها تَجِدهُ قَد تَوَلّى كُلَّ فَضلٍ كانَ فيها ، وَاختَصَّ مِن ذلِكَ بِما لَم يَشرَكهُ فيهِ أحَدٌ مِنَ الاُمَّةِ» . (1) ويتسنّى لنا الآن _ بناءً على ما ذكرنا وما جاء في الوقائع التاريخيّة _ أن نسجّل دور الإمام عليه السلام في النقاط الآتية : 1 . حمله راية المهاجرين . 2 . حضوره المهيب في احتدام القتال وهجوم العدوّ بلا هوادة ، ودفعه الخطر عن النبيّ صلى الله عليه و آله في أحرج اللحظات التي فرّ فيها الكثيرون . 3 . قتلُه أبا جرول والذي استتبع انهيار جيش هوازن . 4 . قتله أربعين من مقاتلي هوازن . 5 . قيادته لكتيبة كانت قد تعبّأت من أجل إزالة الأصنام . 6 . مبارزة شهاب _ من قبيلة خثعم _ الذي لم يجرأ أحد من المسلمين على مبارزته ، فهبّ الإمام عليه السلام إليه وقضى عليه . 7 . قتله نافعا ، الذي أدّى إلى إسلام الكثيرين .
الإرشاد :أقبَلَ رَجُلٌ مِن هَوازِنَ عَلى جَمَلٍ لَهُ أحمَرَ ، بِيَدِهِ رايَةٌ سَوداءُ في رَأسِ رُمحٍ طَويلٍ أمامَ القَومِ ، إذا أدرَكَ ظَفَرا مِنَ المُسلِمينَ أكَبَّ عَلَيهِم ، وإذا فاتَهُ النّاسُ رَفَعَهُ لِمَن وَراءَهُ مِنَ المُشرِكينَ فَاتَّبَعوهُ ، وهُوَ يَرتَجِزُ ويَقولُ : أنَا أبو جَروَلٍ لا بَراحَ (2)حَتّى نُبيحَ القَومَ أو نُباحَ
.
ص: 81
فَصَمَدَ لَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَضَرَبَ عَجُزَ بَعيرِهِ فَصَرَعَهُ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَطَرَهُ ، ثُمَّ قالَ : قَد عَلِمَ القَومُ لَدَى الصَّباحِأنّي فِي الهَيجاءِ ذو نَصاحٍ فَكانَت هَزيمَةُ المُشرِكينَ بِقَتلِ أبي جَروَلٍ لَعَنَهُ اللّهُ . (1)
الإرشاد :لَمّا قَتَلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام أبا جَروَلٍ وخُذِلَ القَومُ لِقَتلِهِ ، وَضَعَ المُسلِمونَ سُيوفَهُم فيهِم ، وأميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يَقدُمُهُم حَتّى قَتَلَ أربَعينَ رَجُلاً مِنَ القَومِ ، ثُمَّ كانَتِ الهَزيمَةُ وَالأَسرُ حينَئِذٍ . (2)
.
ص: 82
الفصل الحادي عشر : الاستخلاف عن النبيّ في غزوة تبوكتبوك هي أقصى منطقة توجّه إليها النبيّ صلى الله عليه و آله في حروبه . وبدأت تحرّكات المنافقين في المدينة في وقت راح رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعدّ جيشه للانطلاق إلى تبوك . والحوادث التي وقعت تدلّ بوضوح على أنّ المنافقين في المدينة كانوا يتحيّنون الفرصة لتوجيه ضربتهم للحكومة النبويّة الجديدة . وكانت هذه الغيبة الطويلة للنبيّ فرصة مناسبة لهم . من هنا ، نلحظ أنّه صلى الله عليه و آله استخلف في البداية محمّد بن مسلمة على المدينة ، ثمّ جعل عليّا عليه السلام عليها ، وقال : «أنَا لابُدَّ مِن أن اُقيمَ أو تُقيمَ» . (1) وقال : «إنَّ المَدينَةَ لا تَصلُحُ إلّا بي أو بِكَ» . (2) وهكذا أخفقت المؤامرة ، فإنّ وجود عليّ عليه السلام ألقى الرعب في قلوب المنافقين والمتآمرين ، وآيسهم من القيام بأيّ تحرّك في المدينة ، فراحوا يعزفون على وتر آخر ؛ فإنّ غزوة تبوك كانت الغزوة الوحيدة التي لم يشهدها أمير المؤمنين عليه السلام بقرار
.
ص: 83
النبيّ صلى الله عليه و آله ، ولما طرأ من أحداث في المدينة (1) . فأرجفوا أنّ عليّا تخلّى عن الحرب وخذل النبيّ ولم يرافقه مع رغبة النبيّ في حضوره معه . فما كان من الإمام عليه السلام إلّا أن هرع إليه صلى الله عليه و آله قبل مغادرته ، وأخبره بأراجيفهم ، فنطق النبيّ صلى الله عليه و آله عندئذٍ كلمته الخالدة العظيمة في حقّه : «أما تَرضى أن تَكونَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي» . (2) وهكذا اُحبطت هذه المؤامرة في مهدها ، وسجّل التاريخ لعليٍّ عليه السلام أسطع المناقب أمام أنظار الناس .
.
ص: 84
الفصل الثاني عشر : عدّةُ بَعثات هامّةأ _ كَسرُ الأَصنامِالإرشاد_ في ذِكرِ وقايع ما بَعدَ غَزوَةِ حُنَينٍ _: ثُمَّ سارَ _ [النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ]بِنَفسِهِ إلَى الطّائِفِ فَحاصَرَهُم أيّاما ، وأنفَذَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام في خَيلٍ ، وأمَرَهُ أن يَطَأَ ما وَجَدَ ، ويَكسِرَ كُلَّ صَنَمٍ وَجَدَهُ . فَخَرَجَ حَتّى لَقِيَتهُ خَيلُ خَثعَمٍ في جَمعٍ كَثيرٍ ، فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ القَومِ يُقالُ لَهُ : شِهابٌ ، في غَبَشِ الصُّبحِ ، فَقالَ : هَل مِن مُبارِزٍ ؟ فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : مَن لَهُ ؟ فَلَم يَقُم أحَدٌ ، فَقامَ إلَيهِ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَوَثَبَ أبُو العاصِ بنُ الرَّبيعِ زَوجُ بِنتِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَقالَ : تُكفاهُ أيُّهَا الأَميرُ . فَقالَ : لا ، ولكِن إن قُتِلتُ فَأَنتَ عَلَى النّاسِ ، فَبَرَزَ إلَيهِ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام وهُوَ يَقولُ : إنَّ عَلى كُلِّ رَئيسٍ حَقّاأن يُروِيَ الصَّعدَةَ (1) أو تُدَقَّا ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ . ومَضى في تِلكَ الخَيلِ حَتّى كَسَرَ الأَصنامَ ، وعادَ إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهُوَ مُحاصِرٌ لِأهلِ الطّائِفِ ، فَلَمّا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله كَبَّرَ لِلفَتحِ ، وأخَذَ بِيَدِهِ فَخَلا بِهِ ، وناجاهُ طَويلاً . (2)
.
ص: 85
ب _ إعلانُ البَراءَةِ مِنَ المُشرِكينَإنّ آيات البراءة ، وإعلان الاستياء من الشرك والصنميّة ، ولزوم تطهير أرض الوحي من معالم الشرك ، كلّ ذلك يعدّ من أعظم الفصول في التاريخ الإسلامي . فقد نزلت سورة «براءة» في موسم الحجّ سنة (9 ه ) وكُلّف أبوبكر بقراءتها على الحجّاج ، مع بيان يتألّف من أربع موادّ ، وتوجّه أبوبكر إلى مكّة ، لكن لم يمضِ على تحرّكه إلّا وقت قصير حتى هبط الوحي مبلّغا النبيّ صلى الله عليه و آله أن : «لا يُؤَدّي عَنكَ إلّا أنتَ أو رَجُلٌ مِنكَ» . فدعا عليّاً عليه السلام وأخبره بالأمر ، وأعطاه راحلته ، وأمره أن يعجّل في ترك المدينة ، ويأخذ السورة من أبي بكر ، ويقرأها على الناس في حشدهم الغفير يوم العاشر من ذي الحجّة . وهكذا كان . فاُضيفت بذلك منقبة اُخرى إلى مناقبه العظيمة ، وثبت للأجيال والأعصار المختلفة سلفاً أنّه من النبيّ صلى الله عليه و آله ، وأنّه نفسه .
الإرشاد :جاءَ في قِصَّةِ البَراءَةِ : وقَد دَفَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله إلى أبي بَكرٍ لِيَنبِذَ بِها عَهدَ المُشرِكينَ ، فَلَمّا سارَ غَيرَ بَعيدٍ نَزَلَ جَبرَئيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَقالَ لَهُ : إنَّ اللّهَ يُقرِئُكَ السّلامَ ويَقولُ لَكَ : لا يُؤَدّي عَنكَ إلّا أنتُ أو رَجُلٌ مِنكَ . فَاستَدعى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيّا عليه السلام وقالَ لَهُ : اِركَب ناقَتِي العَضباءَ وَالحَق أبا بَكرٍ ، فَخُذ بَراءَةَ مِن يَدِهِ وَامضِ بِها إلى مَكَّةَ ، فَانبِذ عَهدَ المُشرِكينَ إلَيهِم ، وخَيِّر أبا بَكرٍ بَينَ أن يَسيَر مَعَ رِكابِكَ أو يَرجِعَ إلَيَّ . فَرَكِبَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ناقَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله العَضباءَ ، وسارَ حَتّى لَحِقَ أبا بَكرٍ ، فَلَمّا رَآهُ فَزِعَ مِن لُحوقِهِ بِهِ ، واستَقبَلَهُ وقالَ : فيمَ جِئتَ يا أبَا الحَسَنِ ، أسائِرٌ مَعِي أنتَ أم لِغَيرِ ذلِكَ ؟ ! فَقالَ لَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَني أن ألحَقَكَ فَأَقبِضَ مَنكَ الآياتِ مِن بَراءَةَ وأنبِذَ بِها عَهدَ المُشرِكينَ إلَيهِم ، وأمَرَني أن اُخَيِّرَكَ بَينَ أن
.
ص: 86
تَسيرَ مَعِي أو تَرجِعَ إلَيهِ . فَقالَ : بَل أرجِعُ إلَيهِ . وعادَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيهِ قالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، إنَّكَ أهَّلتَني لِأَمرٍ طالَتِ الأَعناقُ فيهِ إلَيَّ ، فَلَمّا تَوَجَّهتُ لَهُ رَدَدتَني عَنهُ ، ما لي ، أنَزَلَ فِيَّ قُرآنٌ ؟ ! فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : لا ، ولكِنَّ الأَمينَ هَبَطَ إلَيَّ عَنِ اللّهِ جَلَّ جَلالُهُ بِأَنَّهُ لا يُؤَدّي عَنكَ إلّا أنتَ أو رَجُلٌ مِنكَ ، وعَلِيٌّ مِنّي ، ولا يُؤَدّي عَنّي إلّا عَلِيٌّ . (1)
تاريخ دمشق عن ابن عبّاس :بَينا أنَا مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ في بَعضِ طُرُقِ المَدينَةِ _ يَدُهُ في يَدي _ إذ قالَ لي : يَابنَ عَبّاسٍ ، ما أحسِبُ صاحِبَكَ إلّا مَظلوما ! فَقُلتُ : فَرُدَّ إلَيهِ ظُلامَتَهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! ! قالَ : فَانتَزَعَ يَدَهُ مِن يَدي ، ونَفَرَ مِنّي يُهَمهِمُ ، ثُمَّ وَقَفَ حَتّى لَحِقتُهُ ، فَقالَ لي : يَابنَ عَبّاسٍ ، ما أحسِبُ القَومَ إلَا استَصغَروا صاحِبَكَ . قُلتُ : وَاللّهِ مَا استَصغَرَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله حينَ أرسَلَهُ وأمَرَهُ أن يَأخُذَ بَراءَةَ مِن أبي بَكرٍ فَيَقرَأَها عَلَى النّاسِ ! ! فَسَكَتَ . (2)
ج _ البَعثُ إلَى اليَمَنِلمّا فتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله مكّة ، وانتصر على القبائل المستقرّة حولها في غزوة حنين ، أراد توسيع نطاق دعوته ؛ فأرسل إلى اليمن معاذ بن جبل ، وهناك استعصت مسائل على معاذ فرجع ، وبعث بعده خالد بن الوليد ، فلم يحقّق نجاحاً ، وأخفق في مهمّته بعد ستّة أشهر من المكوث في اليمن . فانتدب عليّاً عليه السلام ، فوجّهه إليها مع كتاب . ولمّا وصل قرأه على أهلها ببيان بليغ وكلام مؤثِّر ، ودعاهم إلى التوحيد ، فأسلمت قبيلة «همدان» . وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك ، فسرَّ ودعا لهم . (3)
.
ص: 87
ونقلت أخبار اُخرى أنّ الإمام عليه السلام اصطدم بقبيلة «مذحج» وهزمهم ، ثمّ دعاهم إلى الإسلام بعد هزيمتهم الثانية ، وجمع غنائم الحرب ، وسار بها وبصدقات نجران فالتحق بالنّبيّ صلى الله عليه و آله في موسم الحجّ . (1) ثمّ فوِّض إليه عليه السلام القضاء في اليمن ، ودعا له النبيّ صلى الله عليه و آله بالثّبات في قضائه (2) . و نقلت كتب التاريخ نماذج من قضائه في اليمن . والآن يمكن أن يثار السؤال الآتي : هل حدثت كلّ هذه الوقائع لعليّ عليه السلام في سفرةٍ واحدةٍ أو في عدّة أسفار ؟ ! ينصّ ابن سعد على سفرتين له عليه السلام (3) . يضاف إلى هذا أنّ الأخبار المرتبطة باشتباكه مع قبيلة «مذحج» تدلّ على استقلال تلك «السريّة» . وفي النصوص المتعلّقة بذهاب الإمام عليه السلام إلى اليمن ، وكيفيّة تنفيذ هذه المهمّة الكبرى مناقب وفضائل مسجَّلة له عليه السلام تجدها هنا .
الإمام عليّ عليه السلام :بَعَثَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلَى اليَمَنِ وقالَ لي : يا عَلِيُّ ، لا تُقاتِلَنَّ أحَدا حَتّى تَدعوَهُ ، وَايمُ اللّهِ لَأَن يَهدِيَ اللّهُ عَلى يَدَيكَ رَجُلاً خَيرٌ لَكَ مِمّا طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ وغَرَبَت ! ولَكَ وَلاؤُهُ يا عَلِيُّ . 4
.
ص: 88
الفصل الثالث عشر : من أدعية النبيّ صلّي الله عليه و آله للإمام عليه السلامأ _ اللّهُمَّ اجعَل لي وَزيرا مِن أهلي عَلِيّا أخيرسول اللّه صلى الله عليه و آله :اللّهُمَّ أقولُ كَما قالَ أخي موسى : اللّهُمَّ اجعَل لي وَزيرا مِن أهلي ، عَلِيّا (1) أخي ، اُشدُد بِهِ أزري ، وأشرِكهُ في أمري ، كَي نُسَبِّحَكَ كَثيرا ، ونَذكُرَكَ كَثيرا ، إنَّكَ كُنتَ بِنا بَصيرا . (2)
ب _ اللّهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيثُ دارَرسول اللّه صلى الله عليه و آله :رَحِمَ اللّهُ عَلِيّا ، اللّهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيثُ دارَ . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :اللّهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ حَيثُما دارَ . (4)
ج _ اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في حَجَّةِ الوَداعِ _: مَن يَكُنِ اللّهُ ورَسولُهُ مَولَياهُ فَإِنَّ هذا مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، اللّهُمَّ مَن أحَبَّهُ مِنَ النّاسِ فَكُن لَهُ حَبيبا ، ومَن أبغضَهُ
.
ص: 89
فَكُن لَهُ مُبغِضا . (1)
د _ جَوامِعُ أدعِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهالإمام عليّ عليه السلام :وَجَعتُ وَجَعا ، فَأَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، فَأَقامَني في مَكانِهِ وقامَ يُصَلّي ، وألقى عَلَيَّ طَرَفَ ثَوبِهِ ، ثُمَّ قالَ : قَد بَرَأتَ يَابنَ أبي طالِبٍ ، لا بَأسَ عَلَيكَ ؛ ما سَأَلتُ اللّهَ شَيئا إلّا سَأَلتُ لَكَ مِثلَهُ ، ولا سَأَلتُ اللّهَ شَيئا إلّا أعطانيهِ ، غَيرَ أنَّهُ قيلَ لي : إنّهُ لا نَبِيَّ بَعدَكَ . (2)
.
ص: 90
الفصل الرابع عشر : عروج النبيّ صلّي الله عليه و آله من صدر الوصيّكانت الأيّام الأخيرة من عمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله أيّاما عجيبةً ، فقد كانت لعليّ عليه السلام أيّاما حافلةً بالغموم ، زاخرةً بالآلام ، مليئة بالمتاعب والمحن ، وكانت للسّاسة آنذاك أيّام عمل ، ومثابرة وتخطيط للاستحواذ على الخلافة وسعي لرسم السياسة القادمة ، وتفكير بالغد وبما يليه . . . أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله بتجهيز الجيش لحرب الروم ، فتعبّأ الجيش وفيه وجوه بارزة ، وعقد صلى الله عليه و آله اللواء بنفسه ودفعه إلى اُسامة بن زيد . وكان صغر سنّه قد شكّل ذريعة بأيدي الساسة للاعتراض عليه إخفاءً للبواعث الحقيقيّة التي كانت تدفعهم إلى التلكّؤ والتباطؤ في الحركة في وقت كان النبيّ صلى الله عليه و آله على فراش المرض يعاني من الحمّى . ولمّا علم بتثاقلهم قام من فراشه ، وتوجّه نحو المسجد بجسمٍ محمومٍ ورأس معصوب ، وأنبأ المسلمين بالتّبعات الذميمة الشاذّة لفتورهم وتقاعسهم ، ثمّ قال : «أنفِذُوا جَيشَ اُسَامَة» . بَيْد أنّ ساسة الدنيا حالوا دون الإنفاذ من خلال توقّف دام أكثر من خمسة عشر يوما . (1)
.
ص: 91
وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يطوي اللحظات الأخيرة من حياته . ووهب الإمام عليّا عليه السلام درعه ، ولواءه ، وجعله وصيّه (1) ، ونقل إليه علوما لاتُحصى عبر نجوى طويلة (2) . وبينا كان يلفظ كلمته الأخيرة : «لا ، مَعَ الرَّفيقِ الأَعلى» فاضت روحه المقدّسة الطاهرة وهو في حجر الإمام عليه السلام . وعرجت تلك الروح الزكيّة المطهّرة نحو الرفيق الأعلى من صدر حبيبه ونجيّه ورفيق دربه وحاميه وحافظ سرّه والذابّ عنه بلا منازع : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام . (3) إنّه الإمام عليه السلام _ والغمّ متراكم جاثم على صدره ، والعيون عَبرى ، والقلب حزين ، مليء غصّةً لفقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ مَن يلي غسله والملائكة أعوانه ، والفضل بن عبّاس معه (4) . . . ثمّ كفّنه ، وكشف عن وجهه ، وبينا كانت دموعه تنهمر على خدّيه ، ناداه بصوت حزين وهو يغصّ في عبرته ، والحزن يعصر قلبه : «بِأَبي أنتَ واُمّي ، طِبتَ حَيّا ومَيِّتا . . .» . وصلّى على جثمانه الطاهر ، ثمّ صلّى عليه الصحابة جماعةً ، جماعةً . ودفنه حيث فاضت روحه المقدّسة الشريفة (5) ، وعاونه على الدفن جماعة منهم أوس ابن خولّى ، والفضل بن عبّاس . (6)
الإرشاد :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ لا يُفارِقُهُ [ صلى الله عليه و آله ] إلّا لِضَرورَةٍ ، فَقامَ في بَعضِ شُؤونِهِ ، فَأَفاقَ صلى الله عليه و آله إفاقَةً فَافتَقَدَ عَلِيّا عليه السلام ، فَقالَ _ وأزواجُهُ حَولَهُ _ : اُدعوا لي أخي وصاحِبي . وعاوَدَهُ الضَّعفُ فَأَصمَتَ . فَقالَت عائِشَةُ : اُدعوا لَهُ أبا بَكرٍ ، فَدُعِيَ ، فَدَخَلَ عَلَيهِ فَقَعَدَ
.
ص: 92
عِندَ رَأسِهِ ، فَلَمّا فَتَحَ عَينَهُ نَظَرَ إلَيهِ وأعرَضَ عَنهُ بِوَجهِهِ ، فَقامَ أبو بَكرٍ وقالَ : لَو كانَ لَهُ إلَيَّ حاجَةٌ لَأَفضى بِها إلَيَّ . فَلَمّا خَرَجَ أعادَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله القَولَ ثانِيَةً وقالَ : اُدعوا لي أخي وصاحِبي . فَقالَت حَفصَةُ : اُدعوا لَهُ عُمَرَ ، فَدُعِيَ ، فَلَمّا حَضَرَ رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله فَأَعرَضَ عَنهُ ، فَانصَرَفَ . ثُمَّ قالَ صلى الله عليه و آله : اُدعوا لي أخي وصاحِبي . فَقالَت اُمُّ سَلَمَةَ : اُدعوا لَهُ عَلِيّا ؛ فَإِنَّهُ لا يُريدُ غَيرَهُ . فَدُعِيَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَلَمّا دَنا مِنهُ أومَأَ إلَيهِ ، فَأَكَبَّ عَلَيهِ ، فَناجاهُ رسَولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله طَويلاً ، ثُمَّ قامَ فَجَلَسَ ناحِيَةً حَتّى أغفى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقالَ لَهُ النّاسُ : مَا الَّذي أوعَزَ إلَيكَ يا أبَا الحَسَنِ ؟ فَقالَ : عَلَّمَني ألفَ بابٍ ؛ فَتَحَ لي كُلُّ بابٍ ألفَ بابٍ ، ووَصّاني بِما أنَا قائِمٌ بِهِ إن شاءَ اللّهُ . ثُمَّ ثَقُلَ صلى الله عليه و آله وحَضَرَهُ المَوتُ وأميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام حاضِرٌ عِندَهُ ، فَلَمّا قَرُبَ خُروجُ نَفسِهِ قالَ لَهُ : ضَع رَأسي يا عَلِيُّ في حِجرِكَ ؛ فَقَد جاءَ أمرُ اللّهِ عزَّ وجَلَّ ، فَإِذا فاضَت نَفسي فَتَناوَلها بِيَدِكَ وَامسَح بِها وَجهَكَ ، ثُمَّ وَجِّهني إلَى القِبلَةِ ، وتَوَلَّ أمري ، وصَلِّ عَلَيَّ أوَّلَ النّاسِ ، ولا تُفارِقني حَتّى تُوارِيَني في رَمسي ، وَاستَعِن بِاللّهِ تَعالى . فَأَخَذَ عَلِيٌّ عليه السلام رَأسَهُ فَوَضَعَهُ في حِجرِهِ ، فَاُغمِيَ عَلَيهِ ، فَأَكَبَّت فاطِمَةُ عليهاالسلامتَنظُرُ في وَجهِهِ وتَندُبُهُ وتَبكي وتَقولُ : وأبيَضُ يُستَسقَى الغَمامُ بِوَجهِهِثِمالُ (1) اليَتامى عِصمَةٌ لِلأَرامِلِ فَفَتَحَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَينَيهِ ، وقالَ بِصَوتٍ ضَئيلٍ : يا بُنَيَّةُ ، هذا قَولُ عَمِّكِ أبي طالِبٍ ، لا تَقوليهِ ، ولكِن قُولي : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَ_بِكُمْ» (2) . فَبَكَت طَويلاً ، فَأَومَأَ إلَيها بِالدُّنُوِّ مِنهُ ،
.
ص: 93
فَدَنَت ، فَأَسَرَّ إلَيها شَيئا تَهَلَّلَ لَهُ وَجهُها . ثُمَّ قَضى صلى الله عليه و آله وَيدُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام اليُمنى تَحتَ حَنَكِهِ (1) ، فَفاضَت نَفسُهُ صلى الله عليه و آله فيها ، فَرَفَعَها إلى وَجهِهِ فَمَسَحَهُ بِها ، ثُمَّ وَجَّهَهُ ، وغَمَّضَهُ ، ومَدَّ عَلَيهِ إزارَهُ ، وَاشتَغَلَ بِالنَّظَرِ في أمرِهِ . (2)
كنز العمّال عن حذيفة بن اليمان :دَخَلتُ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله في مَرَضِهِ الَّذي قُبِضَ فيهِ ، فَرَأَيتُهُ يَتَسانَدُ إلى عَلِيٍّ ، فَأَرَدتُ أن اُنَحِّيَهُ وأجلِسَ مَكانَهُ ، فَقُلتُ : يا أبَا الحَسَنِ ، ما أراكَ إلّا تَعِبتَ في لَيلَتِكَ هذِهِ ، فَلَو تَنَحَّيتَ فَأَعنَتُكَ ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : دَعهُ ؛ فَهُوَ أحَقُّ بِمَكانِهِ مِنكَ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :لَقَد قُبِضَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وإنَّ رَأسَهُ لَعَلى صَدري ، ولَقَد سالَت نَفسُهُ في كَفّي فَأَمرَرتُها عَلى وَجهي . ولَقَد وُلِّيتُ غُسلَهُ صلى الله عليه و آله وَالمَلائِكَةُ أعواني ، فَضَجَّتِ الدّارُ وَالأَفنِيَةُ ؛ مَلَأٌ يَهبِطُ ، ومَلَأٌ يَعرُجُ ، وما فارَقَت سَمعي هَينَمَةٌ (4) مِنهُم ، يُصَلّونَ عَلَيهِ حَتّى وارَيناهُ في ضَريحِهِ . (5)
.
ص: 94
. .
ص: 95
القسم الثالث : جهود النبي صلّي الله عليه و آله لقيادة الإمام علي عليه السلامالمدخل : موقف النبي من مستقبل الرسالةالفصل الأول : أحاديث الوصايةالفصل الثاني : أحاديث الوراثةالفصل الثالث : أحاديث الخلافةالفصل الرابع : أحاديث المنزلةالفصل الخامس : أحاديث الإمارةالفصل السادس : أحاديث الإمامةالفصل السابع : أحاديث الولايةالفصل الثامن : أحاديث الهدايةالفصل التاسع : أحاديث العصمةالفصل العاشر : حديث الغديرالفصل الحادي عشر : غاية جهد النبيّ صلى الله عليه و آله في تعيين الوليّ
.
ص: 96
. .
ص: 97
المدخل : موقف النبي من مستقبل الرسالةالدين الإسلامي خاتم الأديان ، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله خاتم النبيّين ، والقرآن هو الحلقة الأخيرة في كتب السماء ، وبهذا فالإسلام شامل لكلّ زمان ومكان . لقد نهض النبيّ صلى الله عليه و آله بحمل راية دين اكتسى لون الأبديّة ، لا يتخطّاه الزمان ، ولن يقوى على طيّ سجلّ حياته وتَجاوُزه . هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى يُعلمنا قانون الوجود وناموس الخليقة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنسان كبقيّة الناس ، له حياة ظاهريّة محدودة ، وهذا القرآن يُعلن صراحة أنّ الموت يُدركه كما يُدرك الآخرين : «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم مَّيِّتُونَ» . (1) وهو صلى الله عليه و آله يضطلع برسالة إبلاغ تعاليم الدين وهدي السماء ، كما يتبوّأ أيضاً مسؤوليّة قيادة المجتمع وزعامته . ومن ثمّ فهو يجمع بين المرجعيّة الفكريّة للاُمّة وبين القيادة السياسيّة . وعلى هذا سنكون أمام سؤال جادّ وخطير لا يمكن تخطّيه بسهولة ، بالأخصّ بعد أن تحوّل إلى هاجس يُثير اهتمام أعلام المسلمين ومفكّريهم على مرّ التاريخ ؛
.
ص: 98
والسؤال هو : مادامت الحياة ستنتهي بهذا القائد الربّاني الفذّ بعد سنوات الدعوة والجهاد إلى الموت ، ومادام النبيّ سيرحل صوب الرفيق الأعلى ملبّياً نداء ربّه ، فما الذي دبّره لمستقبل هذا الدين الباقي على مدى الزمان ؟ وماذا فعل لتأمين مستقبل دعوته وضمان ديمومة رسالته ؟ هل حدّد خياراً خاصّاً للمستقبل أم إنّه لم يفكّر بذلك قط ، وترك الأمر برمّته إلى الاُمّة ؟ كثرت كتابات المسلمين علماء ومحدّثين ومتكلّمين عن هذا الموضوع ، وانتهوا إلى نظريّات متعدّدة . وما يُلحظ أنّ هذا الاتّجاه التنظيري سعى إلى تثبيت وقائع التاريخ الإسلامي وتحويلها إلى معيار أشادوا على أساسه اُصولاً ومرتكزات . لكن أين تكمن الحقيقة ؟ ! يقضي التدبّر العميق في الموضوع ، ودراسة حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بشمول ، إلى أنّ الموقف النبوي من مستقبل الرسالة لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاث ، هي : 1 . إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أغضى عن مستقبل الدعوة ، وأهمل الأمر تماماً من دون أن ينطق بشيء للاُمّة . 2 . إنّه صلى الله عليه و آله عهد بمستقبل الرسالة إلى الاُمّة ، وأمر جيل الصحابة أن ينهض بمهمّة تدبير أمر الدعوة من بعده . 3 . إنّه صلى الله عليه و آله ارتكز إلى مبدأ النصّ الصريح في تدبير المستقبل ، والتخطيط لشؤون الرسالة ، ومن ثمّ أعلن صراحة عن الشخص الذي يتبوّأ مسؤوليّة هداية الاُمّة من بعده ، ويضطلع بدور قيادة المجتمع الإسلامي . لندرس الآن هذه الفرضيّات الثلاث ونتناولها من خلال البحث والتحليل :
الفرضيّة الاُولى : السكوت إزاء المستقبلتواجه هذه الفرضيّة فيضاً من الأسئلة ، منها : ما الذي دعا النبيّ صلى الله عليه و آله إلى عدم التفكير
.
ص: 99
بمشروع محدّد لمستقبل الدعوة ؟ وما الذي أملى عليه السكوت عن مستقبل الاُمّة ؟ ثمّ ما هي طبيعة الفكر الذي يمكن أن ينبثق منه موقف مثل هذا ، ويُفرِز لدى القائد مثل هذه السلبيّة ؟ يمكن تأسيس هذه السلبيّة وتفسيرها كموقف نبوي مفترض ، على ضوء فرضيّتين مسبقتين يستوطنان ذهن القائد ويستحوذان عليه . والآن لنستعرض المسبقتين الذهنيّتين المفترضتين ، كي نتبيّن قدر منطقيّتهما ، ومدى انسجامهما مع المعايير العقلانيّة :
1 . الإحساس بالأمن وانتفاء الخطربمعنى أنّ القائد لا يشعر بوجود أيّ خطر يدهم الاُمّة ، وانتفاء أيّ تيّار يكون بمقدوره أن يُزلزل إيمان الناس ويؤثّر على قناعاتها ، ومن ثَمّ فإنّ هذه الاُمّة التي توشك أن ترث الرسالة الإسلاميّة ، ستنجح في إيجاد مشروع لإدارة المجتمع ، وضمان ديمومة الرسالة . والسؤال : هل يصحّ مثل هذا التصوّر ؟ إنّ الوقائع الحقيقيّة لمجتمع الصدر الأوّل تُسفر بوضوح عن عدم صواب هذا التصوّر ، وأنّ هناك أخطاراً جذريّة جادّة كانت تتهدّد المجتمع الإسلامي آنئذٍ ، وتوشك أن تعصف بكيانه ، وهي :
أ _ الفراغ القياديلم يكن قد مرّ وقت طويل على تأسيس الأبعاد الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع الذي أسّسه النبيّ صلى الله عليه و آله ، ومن ثَمّ كان النبيّ القائد يمسك بنفسه أزمّة الثقافة والسياسة والقضاء في هذا المجتمع .
.
ص: 100
على صعيد آخر حالت الحروب المتوالية وأجواء المواجهة الدائمة ، دون أن يتمكّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله من تعميم ثقافة الرسالة ، ونفوذ معاييرها في واقع ذلك المجتمع ، وعلى مستوى جميع الأبعاد ؛ فما أكثر من حمل عنوان الصحبة وهو لم يتوفّر بعدُ على تصوّر عميق ودقيق لمبادئ الدين ، ولم ينطوِ على معرفة وافية بشخصيّة النبيّ وأبعاد الرسالة . إنّ مجتمعاً كهذا حريّ به أن يواجه الزلزال ، ويُصبح على شفا أزمة عاصفة في اللحظة التي يختفي بها القائد ، وتحيطه أجواء محمومة يكتنفها الاضطراب من كلّ جانب ، مجتمع كهذا حريّ به أن يفقد قدرته على اتّخاذ القرار الصائب ، ولا يلبث أن يقع في الشباك المترصّدة ، ومن ثَمّ يصير طعمة سائغة لألاعيب الساسة وأحابيلهم . فيا ترى ، هل يمكن مع هذا الواقع المتردّي _ الذي سجّل له التاريخ أمثلة عمليّة كثيرة _ أن نتصوّر الرسول القائد صلى الله عليه و آله يختار السلبيّة ، ويترك مثل هذا المجتمع للمجهول ، ويدع تحديد مصيره إليه ، دون أن يحمل همّ المستقبل !
ب _ عدم نضج المجتمعركّزنا في نهاية النقطة السابقة على أنّ ورثة هذه الرسالة التغييريّة الشاملة لا يتمتّعون بقاعدة فكريّة وسياسيّة صلبة تسمح لهم أن يفكّروا بالمستقبل ، ويتدبّروا أمره بشكل هادئ رصين ؛ فبقايا الجاهليّة لا تزال تملك أقداماً راسخة ، ولا تزال العصبيّات القبليّة تستأثر بنفوذ كبير في وجودهم . كما أشرنا إلى أ نّهم لا يمتلكون الإدراك الكافي لمعرفة موقع رسول اللّه صلى الله عليه و آله والمكانة العليّة السامقة التي يحظى بها النبيّ ، فهم تارة ينظرون إليه بشراً عاديّاً
.
ص: 101
يتكلّم في الرضى والغضب (1) ، واُخرى يحثّونه على التزام العدالة ! وثالثة تثقل عليهم قراراته وما يأتي به _ عن السماء _ من أحكام حتى يستريبوا في أصل الرسالة ! فبعد هذا كلّه ، هل من المنطقي أن يكل النبيّ القائد أزمّة الاُمور ومستقبل الرسالة بيد مجتمع كهذا ، ثمّ يمضي قرير العين إلى ربّه !
ج _ المنافقون والتيّارات الهدّامة من الداخلاصطفّ كثيرون لمواجهة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومناهضة رسالته ، وهو في ذروة قوّته ، وفي أثناء ممارسته لحاكميّته . ومع أنّ هؤلاء كانوا يتظاهرون بالإيمان إلّا أ نّهم في باطنهم كانوا يعارضون دين الحقّ ، ويسعون لإطفاء أنواره بكلّ ما اُوتوا من جهد وقوّة . إنّ هذه المواجهة يمكن أن تعدّ أوسع مدىً وأشدّ وطأة من دائرة عمل المنافقين ؛ فهي تتخطّاها إلى تخوم أوسع كما تشهد على ذلك وقائع التاريخ ، وكما سنُشير إليه في حينه ، ومن ثمّ هل يمكن أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أغضى عن ذلك ؟ وهل يجوز أن نتصوّر أنّ هذا القائد العظيم أهمل هذا _ وغيره _ وترك الاُمّة هملاً من دون تدبير ؟ ! ينبغي أن يضاف إلى هؤلاء تلك العناصر التي كانت حديثة عهد بالإسلام ، حيث لم تدخل هذا الدين إلّا بعد فتح مكّة ، فهؤلاء لم تترسّخ حقائق الدين في نفوسهم بعدُ ، ولم تتمكّن من وجودهم كما ينبغي . ومن ثمّ فهم عرضة للتغيير مع أوّل طارئ ، ويمكن أن تقذفهم الأوضاع إلى طريق آخر ، كما أثبتت ذلك التيّارات التي عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد النبيّ .
د _ اليهود والقوى الاُخرى والأخطار الخارجيّةالإسلام دعوة انقلابيّة تتضمّن الهدم والبناء ، فقد قوّضت حركة هذا الدين الأحابيل
.
ص: 102
والخطط الشيطانيّة ، شيّدت على أنقاضها بناءً جديداً . لقد جاء النبيّ صلى الله عليه و آله برسالة تطمح أن تقود العالم ، وتكون لها الكلمة الأخيرة في الحياة الإنسانيّة ، ولمّا أدرك الأعداء هذا المعنى ، دخلوا في مواجهة حامية مع الدين الجديد سخّروا لها جميع قدراتهم ، ولم يكفّوا عن مقارعته حتى الرمق الأخير . ولمّا تبيّن لهم أنّ لغة الصراع المباشر لم تعُد تُغني شيئاً ، لجؤوا إلى المكيدة ، وراحوا ينسجون المؤامرة تلو الاُخرى مكراً بهذا الدين . وهذا واقع معروف لا يستريب به من له أدنى معرفة بالتاريخ الإسلامي . أ فيجوز بعد هذه المواجهات الحادّة والصراع المرير مع اليهود والقبائل المشركة وبقيّة القوى المعادية ، أن يجنح بنا الخيال فنتصوّر بأنّ هؤلاء ركنوا إلى الهدوء ، وجنحوا إلى السلم ، ولم يعُد لهم شأن بالإسلام ودعوته ؟ ! وهل يصحّ لسياسيّ فطن ، ولقائد كيّس وبصير أن يُغضي عن كلّ هذا الواقع العدائي المتشابك من حول دعوته ، ثمّ يمضي من دون أن يدبّر لحركته الفتيّة برنامجاً يصونها ويؤمّن لها المستقبل ؟ ثمّ هل يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله قائداً خاض جميع هذه المواجهات ، ثمّ يتصوّر أنّ اُمّته امتلكت من الصلابة ما يُحصّنها من جميع هذه المكائد والأخطار ، بحيث لم يعُد يخشى عليها من أحابيل هؤلاء ، وإنّ مكر هؤلاء وقوّتهم قد تلاشت ولم تعُد تؤلّف خطراً ذا بال ؟ !
2 . السلبيّة إزاء المستقبلالعنصر الثاني الذي يمكن أن يوجّه الفرضيّة الاُولى ويقدّم لها تفسيراً منطقياً ، هي أن نفترض أنّ النبيّ القائد يدرك الأخطار التي تحفّ دعوته ، ويتطلّع إلى أهميّة المستقبل بنحو جيّد ، لكنّه مع ذلك لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ تلك الأخطار ، لأ نّه يرى أنّ رسالته تنتهي بحياته ، وهو يتحمّل مسؤوليّتها مادام حيّاً ، فإذا لم يعُد
.
ص: 103
بين الناس ، ولم يكن ثمّ خطر يتهدّد حياته ، وإنّ ما يمكن أن تتعرّض له الدعوة من بعده لا يتعارض مع مصالحه الشخصيّة _ وحاشاه _ فلماذا يُبادر لحمايتها وتأمين مستقبلها ؟ بل لِيدعها والاُمّة التي ترتبط بها بانتظار المصير المجهول ! أ يليق هذا التصوّر بقائد واقعي ، وسياسي فطن ورسالي مثابر ؟ ! فكيف يصدق هذا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونفسُه الطهور لا تعرف الراحة في سبيل إعلاء كلمة اللّه ، حتى تسلّيه السماء ، ويأتيه النداء الربّاني يدعوه إلى الهدوء : «ط_ه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى » (1) . وكيف يصدق ذلك على نبيّ اللّه ، وهذه السماء تجسّم معاناته وما يبذله في سبيل هداية الناس : «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ» . (2) أ وَيجوز أن يخامرنا مثل هذا التصوّر الذي يفترض السلبيّة واللامبالاة ، وقد بلغ من تفاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتضحيته من أجل الرسالة أ نّه لم يترك تدبير أمرها إلى آخر لحظة من حياته ، حيث كان ينادي بتجهيز جيش اُسامة ويحثّ عليه وهو على فراش الموت وقد ثقل عليه المرض ؟ ! أ وَلا تكفينا رزيّة «يوم الخميس» وقد طلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله في آخر لحظات حياته أن يأتوه بدواة وقلم كي يكتب للاُمّة كتاباً لن تضلّ بعده أبداً ، لنكفّ عن هذا التصوّر الواهي ، ونعدّ ما يُزعم من سكوته عن مستقبل الاُمّة جرأة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ودعوى واهية لا تليق بمقام هذا العظيم ، وحريّ بنا أن ننزّه ساحته عنها وعن أمثالها ؟ ! على ضوء ذلك كلّه ، ليس من الممكن افتراض الموقف السلبي بحال من
.
ص: 104
الأحوال . وهكذا تسقط الفرضيّة الاُولى .
الفرضيّة الثانية : إيكال المستقبل إلى الاُمّةوهي أن نؤمن بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يعيّن للاُمّة قائد المستقبل ، بل عهد قيادة الرسالة والقيمومة عليها إلى الاُمّة ، لكي يحدّد الجيل الطليعي من المهاجرين والأنصار طبيعة هذا المستقبل على أساس نظام الشورى . والسؤال : هل يمكن الإقرار بهذا التصوّر ؟ وإلى أيّ مدى يتطابق مع الحقيقة ؟ هناك عدد من النقاط التي تحفّ هذه الفرضية الغريبة ، يمكن الإشارة لها كما يلي : أ _ لو كان النبيّ صلى الله عليه و آله قد اتّخذ من مستقبل الاُمّة والرسالة مثل هذا الموقف ، لكان حريّاً به أن يقوم بعمليّة توعية للاُمّة بطبيعة نظام الشورى وحدوده ومكوّناته وضوابطه ، والسبيل إلى تطبيقه وكلّ ما يمتّ إلى الموضوع بصلة ، بالأخصّ وإنّ ما يزيد في أهمّية هذه العمليّة أنّ المجتمع لم يكن قد عرف _ حتى ذلك الوقت _ نظام الشورى ، ولم تكن قد تمّت تجربته في بنية الحكم وهيكليّته ، فهل من المنطقي أن نزعم أنّ النبيّ القائد صلى الله عليه و آله أحال الاُمّة في خيارها المستقبلي ، وطبيعة القيادة التي تنتظرها ، إلى اُسلوب غائم غير واضح ، وغير محدّد المعالم والتفاصيل ! على أنّ الذي يدحض هذا التصوّر ويستبعده تماماً هو موقف التيّار الذي طالب بالخلافة ، ثمّ تبوّأ مقعدها ؛ فكلّ الأرقام والشواهد في حياة هؤلاء تدلّ بصورة لا تقبل الشكّ أنّ أيّ واحد من هؤلاء لم يستند إلى الشورى كميراث نبوي ، ولم يستدلّ على صحّة موقفة بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله هو الذي اختار نظام الشورى للاُمّة من بعده ، وليس في حياتهم ما يُنبئ عن إيمانهم بالشورى وممارستهم لهما عمليّاً ، فأبو بكر اتجّه إلى «النصب» في تعيين البديل الذي يخلفه ، أمّا عمر بن الخطّاب فلم يلجأ إلى
.
ص: 105
خيار الشورى السداسيّة إلّا بعد أن دفعته الضرورة لذلك ، حيث لم يرَ البديل المناسب ؛ وفي ذلك يقول وهو على فراش الموت : «لَو أدرَكَني أحَدُ رَجُلَينِ ثُمَّ جَعَلتُ هذَا الأَمرَ إلَيهِ ، لَوَثِقتُ بِهِ ؛ سالِمٌ مَولى أبي حُذَيفَةَ ، وأبو عُبَيدَةَ بنُ الجَرّاحِ» (1) ، وقال «لَو كانَ سالِمٌ حَيّاً ما جَعَلتُها شورى» (2) ، وقال: «لَو أدرَكتُ أبا عُبَيدَةَ بنَ الجَرّاحِ لَاستَخلَفتُهُ وما شاوَرتُ» . (3) بهذا يتّضح أنّ هذه النظريّة لا تمتّ إلى واقع النبيّ صلى الله عليه و آله بصلة ، بل هي ممّا اُنتج بعد ذلك بزمن ، وتمّ صياغتها بمرور الوقت لتبرير ما وقع في صدر التاريخ الإسلامي وتصويبه ، ومن ثمَّ فهي أقرب إلى تنظير ما بعد الوقوع ! ب _ لو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد فكّر بطرح الشورى كخيار للمستقبل ، ولو أ نّه أراد إسناد المرجعيّة الفكريّة للرسالة والقيادة السياسيّة للاُمّة إلى جيل الصحابة ، لتحتّم أن يعبّئ هذا الجيل تعبئة فكريّة ورساليّة مكثّفة لكي يعدّه للمهمّة التي تنتظره ، بالأخصّ إذا لاحظنا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان قد بشّر بسقوط تيجان كسرى وقيصر ، وانهيار الإمبراطوريّتين : الفارسيّة والروميّة ، وأنّ رسالته ستمتدّ في الزمان والمكان من دون أن تعرف الحواجز والحدود . فهل كان الصحابة على مستوى من الدراية والعلم يؤهّلهم للنهوض بهذه المسؤوليّة الكبيرة ؟ ما هي الحقيقة ؟ وهل يمكن أن نتصوّر الصحابة على مستوى النهوض بهذه المسؤوليّة ؟ هذا سؤال خطير لاحَ لكثيرين ، ولا يمكن تجاوزه ببساطة ؛ لأنّ الإغضاء عنه ينمّ عن ضرب من السذاجة واللامبالاة في الاُصول العقيديّة .
.
ص: 106
لقد كان الباحث مروان خليفات وواحداً من الذين لاح لهم هذا السؤال ، فدفعه إلى البحث والتأمّل . ثمّ أثمرت جولته التي دفعته إلى النصوص الحديثيّة والتاريخيّة ، وأسفرت عن نتيجة مهمّة جدّاً جديرة بالقراءة ، حيث خصّص لها الفصل الثالث من الباب الثاني من كتابه . وهذه خلاصة مكثّفة لما انتهى إليه : الصحابة يُقلّون السؤال ، ولا يروون إلّا قليلاً ممّا سمعوه . وقد بذلوا جهدهم في منع تدوين الحديث ، والحؤول دون انتشاره . بالإضافة إلى أ نّهم لم يتلقّوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّا حقائق قليلة ، لانشغالاتهم الكثيرة ؛ حيث صرحوا بأنفسهم أ نّه كان يلهيهم الصفق بالأسواق وغيره من الأشغال ، ويحول بينهم وبين حقائق السنّة . (1) من النتائج التي خرج بها البحث أنّ الصحابة كانوا كثيراً ما يُخطئون في النقل ؛ فهم تارة ينقلون شطراً من الحديث ، وتارة يأخذون الحديث عن مخبر وينسبونه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله ، وثالثة ينسَون ما سمعوه وقد صرّحوا بذلك ، ورابعة يخطئون في الجواب ثمّ يرجعون إلى الحقّ بتذكير الآخرين وهكذا . كما انتهى حال الصحابة إلى أنّ مِن بينهم منافقين كما هو عليه صريح القرآن ، ومنهم من ارتدّ على عقبيه ، ومنهم من يساق إلى النار كما جاء في صريح الصحيحين ، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله . أ وَبعد هذا يقال إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد أسند المرجعيّة الفكريّة والقيادة السياسيّة إلى هذا الجيل ، وجعله القيّم على رسالته ، والمؤتمن على الكتاب ؟ ! على ضوء هذا كلّه لا ينبغي أن نتردّد لحظة في أنّ اُطروحة إيكال أمر المستقبل إلى الاُمّة أو نُخبها ، وقصّة إسناد المرجعيّة الفكريّة والسياسيّة إلى الصحابة ، لهي
.
ص: 107
اُطروحة نشأت بمرور الزمن ؛ لتصويب الوقائع المُرّة التي عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وليس لها منشأ قط أو أساس يدلّ عليها في نصوص رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحياته . وبهذا تسقط الفرضيّة الثانية .
الفرضيّة الثالثة : تحديد المستقبل والنصّ على الخلافةهي أن نؤمن بأن رسول اللّه اتّخذ موقفاً إيجابيّاً من مستقبل الرسالة ، وعاش قضيّة هذا المستقبل بمسؤوليّة كبيرة ، بحيث اختار من يخلفه في القيمومة على الرسالة وخلافة الاُمّة . وما واقعة الغدير وما جرى فيها ، ونصوص تلك الخطبة العصماء التي ألقاها بها النبيّ على جموع المسلمين ، إلّا تصريحاً وتأكيداً لما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أعلنه قبل ذلك مرّات من ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام وإمامة هذا المجاهد العظيم . (1) لقد اختاره النبيّ منذ أيّام حياته الاُولى ، فنشأ في كنف رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتربّى في حجره وتحت رعايته دون أن يدنّس الشركُ لحظةً من حياته الطاهرة . على أ نّه ليس أدلّ على هذه النشأة النظيفة من كلام عليّ عليه السلام نفسه ، وهو يقول : «وقَد عَلِمتُم مَوضِعي مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالقَرابَةِ القَريبَةِ ، وَالمَنزِلَةِ الخَصِيصَةِ . وَضَعَني في حِجرِهِ وأنَا وَلَدٌ ، يَضُمُّني إلى صَدرِهِ ، ويَكنُفُني في فِراشِهِ ، ويُمِسُّني جَسَدَهُ ، ويُشِمُّني عَرفَهُ . وكانَ يَمضَغُ الشَّيءَ ثُمَّ يُلقِمُنيهِ ، وما وَجَدَ لي كَذبَةً في قَولٍ ، ولا خَطلَةً في فَعلٍ ، ولَقَد قَرَنَ اللّهُ بِهِ صلى الله عليه و آله مِن لَدُن أن كَان فَطيماً أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَريقَ المَكارمِ ، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالَمِ ، لَيلَهُ ونَهارَهُ .
.
ص: 108
ولَقَد كُنتُ أتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفَصيلِ أثَرَ اُمِّهِ ، يَرفَعُ لي في كُلِّ يَومٍ مِن أخلاقِهِ عَلَماً ، ويَأمُرُني بِالاِقتِداءِ بِهِ . ولَقَد كانَ يُجاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِراءَ ، فَأَراهُ ولا يَراهُ غَيري ، ولَم يَجمَع بَيتٌ واحِدٌ يَومَئِذٍ فِي الإِسلامِ غَيرَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وخَديجَةَ وأنَا ثالِثُهُما ؛ أرى نورَ الوَحيِ وَالرِّسالَةِ ، وأشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ . ولَقَد سَمِعتُ رَنَّةَ الشَّيطانِ حينَ نَزَلَ الوَحيُ عَلَيهِ صلى الله عليه و آله ، فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ! ما هذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقالَ : هذَا الشَّيطانُ قَد أيِسَ مِن عِبادَتِهِ . إنَّكَ تَسمَعُ ما أسمَعُ ، وتَرى ما أرى ، إلّا أ نَّكَ لَستَ بِنَبِيٍّ ، ولكِنَّكَ لَوَزيرٌ ، وإنَّكَ لَعَلى خَيرٍ» . (1) إنّ الأحاديث النبويّة التي تصرّح بإمامة عليّ بن أبي طالب وولايته ، هي من الشمول والكثرة بحيث لا تدع مجالاً للاسترابة والشكّ . فنبيّ اللّه لم يصدع ب_ «حقّ الخلافة» للإمام ول_ «خلافة الحقّ» هذه مرّة واحدة أو مرّتين ، بل فعل ذلك عشرات المرّات بالإشارة وبالصراحة ، وحدّد مشروعاً واضحاً لمستقبل الاُمّة وغد الرسالة ، على مرأى من المسلمين جميعاً . لقد امتدّت عمليّة إعلان هذا الحقّ العلويّ والإجهار به ونشره إلى أبعد مدى ، لتستوعب من حياة النبيّ جميع سنّي عمره في تبليغ الرسالة ، حتى بلغت في واقعة الغدير ذروتها القصوى ، واستقرّت على قمّتها الشاهقة . إنّ من يتأمّل هذه المواضع بأجمعها (ممّا سيأتي توثيقه في هذا الفصل مختصرا) لا يستريب لحظة في أنّ إمامة الاُمّة وقيادة المستقبل ، لهي في طليعة شواغل النبيّ الأقدس صلى الله عليه و آله ، وهي بنظره المهمّة الاُولى التي لا تتقدّمها مهمّة . لهذا ما وجد فرصة مواتية إلّا وأعلن فيها هذه الحقيقة ، وما وجد موضعاً مناسباً إلّا وأفاد منه في إبلاغ هذا الأمر الإلهي .
.
ص: 109
لقد استندنا في هذا الفصل على وثائق ومدوّنات ونصوص تعود إلى كتب الفريقين في الحديث والتاريخ والتفسير . (1) ثمّ سنبدأ البحث التحليلي في هذا المدخل منذ بدايات الرسالة ، وأوائل أيّام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، حتى نبلغ به يوم الغدير كما سلفت الإشارة إلى ذلك . وعند الغدير سنعيد عرض مكوّنات المشهد مجدّداً ، ونمارس العرض والتحليل على ضوء معطيات الرواية والدراية معاً . هذه لمحة موجزة عن خطّة العمل ، ودونكم التفاصيل في بيان أهمّ المساعي النبيّ لقيادة الإمام عليّ عليه السلام :
.
ص: 110
1 . حديث يوم الإنذارنزل أمر السماء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأمره أن يدعو عشيرته إلى الإسلام «وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1) ، فدعا النبيّ عشيرته ، ولمّا اجتمعوا عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، راح يعدّهم لتلقّي ما دعاهم إليه ، وبعد مقدّمات أبلغهم دعوته ، ثمّ انعطف يقول : «فَأَيُّكُم يُوازِرُني عَلى هذَا الأَمرِ عَلى أن يَكونَ أخي ووَصِيّي وخَليفَتي فيكُم» (2) ، وفي بعض النصوص التاريخيّة : «خَليفَتي مِن بعَدي» . لم يلبِّ للنبيّ صلى الله عليه و آله دعوته من الحاضرين غير عليّ بن أبي طالب الذي وثب من بين الجمع مجيباً النبيّ ؛ فما كان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد أن سمع جواب عليّ ، إلّا أن قال على مسمع من الملأ : «إنَّ هذا أخي ووَصِيّي وخَليفَتي فيكُم ؛ فَاسمَعوا لَهُ وأطيعوا» . (3) وهكذا أعلن النبيّ ولاية عليّ بن أبي طالب وإمامته والدعوة لم تزل في أوّل يوم من أيّام مرحلتها العلنيّة . لقد فهم الحاضرون في ذلك اليوم مغزى هذه الرسالة بوضوح ، وأدركوا تماماً من كلام النبيّ صلى الله عليه و آله إمامة عليّ ولزوم طاعته ، لذلك انبرى
.
ص: 111
بعضهم مخاطباً أبا طالب : «قَد أمَرَكَ أن تَسمَعَ لِابنِكَ وتُطيعَ !» (1) ، بيد أ نّهم عتَوا واستكبروا وأخذتهم العزّة بالإثم ، فأنِفوا أن يستجيبوا للحقّ ، وأن يذعنوا إليه .
2 . أحاديث الوصايةتهدف الوصاية إلى الحفاظ على الدين وديمومة النهج والطريق ، وهي بهذا اللحاظ سيرة مضى عليها جميع رسل السماء . وفي إطار إشارته إلى هذه الحقيقة في مواضع متعدّدة ومناسبات مختلفة ، سجّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإمام أمير المؤمنين عليه السلام موقعه في الوصاية ، فكان ممّا قال : «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيّاً ووارِثاً ، وإنَّ عَلِيّاً وَصِيّي ووارِثي» . (2) لقد بلغت أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله حيال عليّ عليه السلام في هذا المعنى حدّاً من الكثرة بحيث أمسى لفظ «الوصيّ» نعتاً للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وصفة يُعرف بها دون لبس أو غموض . حتّى ورد في تاج العروس : «الوَصِيُّ _ كَغَنِيٍّ _ : لَقَبُ عَلِيٍّ رضى الله عنه» . (3) وعندما كان يُطلق مصطلح «الوصيّ» في الأحاديث والكلام والأشعار كانت الغالبيّة من مسلمي صدر الإسلام تفهم منه دلالته على الإمام عليّ عليه السلام من دون تردّد ، ومن ثَمّ دلالته بالضرورة على الخلافة والإمامة . (4) ثمّ جاء الدور لبني اُميّة ، الذي يبدو أ نّهم بذلوا جهوداً كبيرة علّهم يطمسون هذا العنوان الوضيء ويُزيلونه عن الإمام ، ويُباعدون بينه وبينه ، فكم بذلوا في سبيل هذا الغرض المنحطّ ، وكم وضعوا من الأحاديث (5) ، لكن أ نّى للحقّ أن يُقهر بحراب أهل
.
ص: 112
الباطل !
3 . أحاديث الوراثةألِفَ الذهن الإنساني على الدوام عناوين «الإرث» و «الميراث» و «الوراثة» ، بحيث استوعبت هذه الحقيقة الاُمور الماديّة والمعنويّة ، والناس تُظهر دهشتها _ في العادة _ لإنسان يسكت عن كيفيّة التصرّف بتركته من بعده ، وما يتركه الناس يتمثّل تارة بالاُمور المادّية واُخرى بالاُمور والمواريث المعنويّة . لقد جرت سنّة الإرث ، وتواضع الطبع الإنساني في هذا المجال على وجود الوارث والمؤتمن ، من دون أن يُنكر ذلك أحد ، بل التقى الناس على امتداح هذه السنّة مهما كانت انتماءاتهم الحضاريّة والثقافيّة والفكريّة . فتعالوا الآن لننظر ماذا فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله بميراثه العظيم ، وهو خاتم النبيّين ، وحامل آخر رسالات السماء ، ومبلّغ دين أبديّ يترامى امتداداً فوق حدود المكان والزمان . إلامَ عَهِد بأمر هذا الدين من بعده ؟ هل أوصى اللّه سبحانه رسوله الكريم أن يعهد بالأمر إلى شخص محدّد ؟ إنّ أخبار «الوراثة» ونصوصها هي جواب جليّ على هذا السؤال المهمّ ؛ فقد راح رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُخبر تارة بأنّ اختيار الوارث هي سنّة جرى عليها جميع النبيّين قبله ، ومن ثَمّ يتحتّم عليه بوصفه خاتم المرسلين والحلقة الأخيرة في نبوّات السماء ، أن يختار وارثه ، كما تحدّث اُخرى وبصراحة على أنّ وراثته تكمن بالإمامة والعلم . وهذا الموقع هو ما أكّد عليه الصحابة أيضاً منذ ذلك العصر ؛ حيث صاروا يُظهرون كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتصريحه بهذه الحقيقة في مناسبات ومواضع ومناسبات مختلفة ، كما كانوا أحياناً يُشيرون في كلامهم إلى عليّ بن أبي طالب بموقع الوراثة ومقام الوارث ، من ذلك : سأل عبد الرحمن بن خالد قثم بن العبّاس : من أين ورث
.
ص: 113
عليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ قال : إنّه كان أوّلنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لزوقاً . لقد ضمّ فصل «أحاديث الوراثة» النصوص الروائيّة والتاريخيّة التي تفصح عن هذه الحقيقة من كتب الفريقين ، وهي تُشير إلى الكلمات النبويّة التي ذكر فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله صراحة أنَّ عليّاً وارثه ؛ وارث علمه وخزانته ومكنون معرفته ، ومن ثَمّ فهو بالضرورة إمام الاُمّة ورمز مرجعيّتها الفكريّة والسياسيّة .
4 . أحاديث الخلافة«الخلافة» هي أيضاً تعبير قرآني ، ومصطلح ديني يُشير بوضوح إلى الاستخلاف في الأبعاد المختلفة إلّا إذا استثني بُعد . وهذا ما يفسّر لنا الجهود الحثيثة التي بذلها الذين أمسكوا بأزمّة اُمور المسلمين بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وما بذلوه من مساعٍ جبّارة كي يلبسوا هذا الرداء ، ويُحكموه على قاماتهم . كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد صرّح بخلافة عليّ بن أبي طالب منذ الأيّام الاُولى لإعلان دعوته وإجهاره برسالة السماء ؛ هذا التصريح الذي يمكن تلمّسه في أحاديث كثيرة قالها النبيّ في مواضع متعدّدة ، ومواقع مختلفة ، وهي تُشير إلى حدود هذه الخلافة . وهذا الجهد النبوي يكشف عن مدى عناية رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمستقبل الاُمّة ، واهتمامه الكبير بمصير الرسالة من بعده .
5 . أحاديث المنزلةمن بين أعظم الصفات التي نَحَل بها النبيّ صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ومن أكثر العناوين النبويّة ألَقاً _ ممّا أطلقه النبيّ على الإمام أمير المؤمنين _ هو عنوان «المنزلة» ، حيث ساوى النبيّ عليّاً بنفسه ، ووصفه أ نّه مثله في القيادة . هذه المجموعة من الأحاديث النبويّة تشتهر بين العلماء والمحدّثين بأحاديث المنزلة ،
.
ص: 114
وذلك انسجاماً مع صريح ما يقضي به الكلام النبوي في هذا المضمار . لقد عبّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن هذا الموقع الرفيع الذييحظى به الإمام أميرالمؤمنين بصيغ متعدّدة، مثل قوله: «أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أ نَّهُ لا نَبِيَّبَعدي». (1) كما صدع بهذه الحقيقة وأعلنها على المسلمين مرّات ومرّات ؛ ليكون بذلك قد أوضح للجميع _ وللتاريخ أيضاً _ مساواة عليّ ومماثلته له في القيادة . وكان من بين المواضع التي أعلن فيها النبيّ هذا الكلام المعجز حول عليّ ، غزوة تبوك . ففي ظلّ أوضاع صعبة ومُضنية جهّز النبيّ جيشاً كبيراً ، ثمّ خرج من المدينة قاصداً أن يقاتل به الروم . لقد كانت تبوك هي أقصى نقطة قصدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حروبه ، وأبعدها عن المدينة جغرافيّاً . وفي المدينة حيث كان يعيش النبيّ استطاع النفاق أن يتبلور آنئذٍ في إطار حركة منظّمة ، راحت تترصّد الوضع بصدور موبوءة بالحقد والضغينة ، وتخطّط بخفاء كي تنقضّ على المجتمع الإسلامي الفتيّ بضربة قاصمة . لقد غادر النبيّ المدينة في سفر طويل ، وهو يتوجّس خيفة من فتن المنافقين وكيد الحاقدين ، فماذا يفعل ؟ وكيف يؤمّن وضع المدينة ويطمئنّ عليها ؟ اختار صلى الله عليه و آله أن يُبقي عليّاً في المدينة ، يخلفه في أهله ، ويصون له دار هجرته ومن بقي من قومه . هكذا مضى الأمر . وعندما رآى المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، أنّ خطّتهم تلاشت بوجود عليّ كما تتلاشى خيوط العنكبوت، وأحلامهم ضاعت ببقاء الإمام أمير المؤمنين في المدينة ، راحوا يُرجفون بأنّ النبيّ ما ترك عليّاً في المدينة إلّا لموجدة عليه ، وأ نّه لو كان له به غرض لما خلفّه على النساء والصبيان !
.
ص: 115
راحت شائعات حركة النفاق تزحم أجواء المدينة ، وصارت أراجيفهم تحاصر عليّ بن أبي طالب _ ليث الوغى وفارس ساحات الجهاد _ وتنهال عليه من كلّ حدب وصوب ، فماذا هو فاعل أمير المؤمنين ؟ سرعان ما لحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله وقصّ عليه أراجيف المنافقين، فما كان من النبيّ الأقدس إلّا أن تحدّث إلى عليّ بما يكشف عن حظوة كبيرة عند النبيّ ، ومكانة لا تُدانيها مكانة أحد من العالمين، فقال له بفيض حنان : «اِرجِع يا أخي إلى مَكانِكَ؛ فَإِنَّ المَدينَةَ لا تَصلُحُ إلّا بي أو بِكَ ؛ فَأَنتَ خَليفَتي في أهلي ودارِ هِجرَتي وقَومي ، أما تَرضى أن تَكونَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أ نَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي ؟» . (1) بصراحة لا يشوبها لبس سجّل النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ بن أبي طالب عليه السلام جميع ما له من مناصب ومواقع ومسؤوليّات ما خلا النبوّة ، وأوضح دون أدنى شائبة أنّ الإمام أمير المؤمنين هو الذي يجسّد عمليّاً ديمومة الخطّ النبوي ، وينهض بمسؤوليّات النبيّ عند غيابه ، في زعامة الاُمّة وقيادتها ، وممارسة المرجعيّة الفكريّة والعلميّة للرسالة الإسلاميّة . تسجّل بعض النصوص التاريخيّة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خاطب عليّاً بهذه الجملة صراحة : «إنَّهُ لابُدَّ مِن إمامٍ وأميرٍ ؛ فَأَنَا الإِمامُ ، وأنتَ الأَميرُ» . (2)
6 . أحاديث الإمارةحثّ القرآن جميع المؤمنين ودعاهم بصراحة تامّة إلى إطاعة «اُولي الأمر» (3) ؛ حيث جعل إطاعة هؤلاء واتّباعهم رديفاً لإطاعة اللّه وإطاعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله . والسؤال : من هم مصداق «اُولي الأمر» ؟ أ فيجوز أنّ نعدّ الطغاة والجبّارين المحترفين _ الذين
.
ص: 116
يتسنّمون السلطة متّخذين جماجم الأبرياء سلّماً يرقون به إلى مسند العرش _ مصداقاً لاُولي الأمر ؟ أبداً لا يجوز هذا . فلا ريب أنّ مصداق «اُولي الأمر» ينطبق على اُولئك الذين يعيشون حياتهم على نهج نبوي وضّاء ، ويبذلون وجودهم للّه ، وفي سبيل اللّه ، ويُفنون أعمارهم من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، وبسط العدالة في ربوع الحياة . وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يتبوّأ من هذا العنوان ذروته العليا ، ويقف على أقصى نقطة من قمّته الشاهقة ، كما تفصح عن ذلك الكثير من الأحاديث النبويّة ؛ تلك النصوص الوضّاءة الموحية التي تبعث على الدهشة والجلال . دعونا نتخطّى ذلك إلى ما هو أبعد منه مدىً وأعمق أثراً ؛ فهذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله اختصّ عليّ بن أبي طالب وحده بلقب «أمير المؤمنين» ؛ فلا يحقّ هذا اللقب لأحدٍ غيره قط كما نصّ على ذلك صراحة النهي النبوي . ولدينا فيض من النصوص التي تتحدّث عن هذا المعنى ، وهي من الكثرة بحيث صنّف من بعضها السيّد الأجلّ ، قدوة السالكين ، واُسوة العابدين وجمال العارفين رضي الدين عليّ بن طاووس الحلّي كتاباً أطلق عليه عنوان : «اليقين باختصاص مولانا علي عليه السلام بإمرة المؤمنين» ، والملاحظ أنّ هذه الأحاديث النبويّة تذكر الإمام عليّ بلقب «أمير المؤمنين» مرّة ، ولقب «أمير البررة» ثانية ، و«أمير كلّ مؤمن بعد وفاتي» ثالثة . وهذا الإمام الحسن عليه السلام يشرط على معاوية في معاهدة الصلح أن لايتسمّى ب_ «أمير المؤمنين» ولا يُطلق على نفسه هذا اللقب . (1)
.
ص: 117
7 . أحاديث الإمامة«الإمام» في المعنى اللغوي هو المتقدّم ، والمقتدى به ، وقائد القوم ، ورئيس القبيلة (1) ، وهو في الثقافة القرآنيّة والدينيّة _ دون شكّ _ قائد الاُمّة في مختلف الأبعاد ، وزعيم الاُمّة في إدارة اُمور المجتمع . هذه الحقيقة يمكن تلمّسها في الرسالتين المتبادلتين بين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية . لقد تحدّث الإمام في إطار رسالة مطوّلة عن موقعه وموقع أهل البيت عليهم السلام ، وذكّر بوصايته عن النبيّ ، وخلافته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ فما كان من معاوية إلّا أن قال في الجواب نصّاً : «ألا وإنّما كان محمّد رسول اللّه من الرسل إلى الناس كافّة ، فبلّغ رسالات ربّه ، لا يملك شيئاً غيره !» وهذا النصّ يحصر وظيفة النبيّ بالتبليغ فقط ؛ فهو مبلّغ رسالة لا أكثر ، وليس بإمام ، ولا زعيم ، ولا قائد ، ولا رجل سياسة ، ولا أيّ شيء آخر . فردّ الإمام عليّ عليه السلام على كلام معاوية الذي أنكر فيه بقية شؤون النبيّ ، وفي الطليعة شأنه كإمام ؛ ردَّ عليه بصراحة مسفرة ، وهو يكتب : «وَالَّذي أنكَرتَ مِن إمامَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، زَعَمتَ أ نَّهُ كانَ رَسولاً ولَم يَكُن إماماً ؛ فَإِنَّ إنكارَكَ عَلى جَميعِ النَّبِيّينَ الأَئِمَّةِ ، ولكِنّا نَشهَدُ أ نَّهُ كانَ رَسولاً نَبِيّاً إماماً» . (2) يُسفر هذا الحوار المتبادل في الرسالتين عن موقع الإمامة في الفكر الإسلامي ، وهو إلى ذلك يكشف عن الأسباب الكامنة من وراء عداء بني اُميّة لهذا العنوان . على ضوء هذا التوضيح يمكن أن نُدرك الآن عمق الأخبار والأحاديث الكثيرة
.
ص: 118
التي أكّد فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، من بينها قوله : «يا عَلِيُّ ، أنتَ وَصِيّي وخَليفَتي وإمامُ اُمَّتي بَعدي» أو قوله : «أنتَ إمامُ كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ ، ووَلِيُّ كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ بَعدي» وغير ذلك من النصوص التي جاءت تأكيداً وإلفاتاً لديمومة الإمامة في وجود عليّ بن أبي طالب .
8 . أحاديث الولايةمن العناوين البارزة التي جاءت بها الروايات ، وأكّدتها أيضاً آيات تفسّرها أحاديث حيال عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، هو عنوان «الوليّ» . لا جدال في أنّ استعمال مادة «و ل ي» بمعنى القيّم ، والقائد ، والزعيم ، والأولى بالتصرّف ، والأحقّ بالقيمومة والأمر ؛ هو أمر شائع الاستعمال في الأدب العربي ، كما سنُشير إلى ذلك أثناء دراسة حديث الغدير وتحليله . إنّ النصوص التي تضمّنت إطلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله عنوان «الوليّ» و «الولاية» على عليّ بن أبي طالب ، لهي كثيرة في الحديث والأخبار النبويّة ، فلطالما أشار النبيّ إلى عليّ بهذا الوصف الجليل في مواضع كثيرة ، وما أكثر المواقع التي عرض بها هذا العنوان المثير للانتباه . فخطاب النبيّ بهذه الصيغة : «يا عَلِيُّ ، أنتَ وَلِيُّ النّاسِ بَعدي ؛ فَمَن أطاعَكَ فَقَد أطاعَني ، ومَن عَصاكَ فَقَد عَصاني» (1) تردّد كثيراً بحيث امتلأت منه مصادر أهل السنّة ومدوّناتهم الحديثيّة ، وقد أوردنا شطراً مهمّاً منها في ظلّ عنوان «أحاديث الولاية» . (2) إنّ هذه الأحاديث _ بالأخصّ حين تأتي بقيد «من بعدي» _ لا تدع مجالاً للشكّ
.
ص: 119
في أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد حدّد من خلال ذلك طبيعة المسار السياسي الذي يخلفه ، وأومأ بوضوح إلى القيادة السياسيّة التي تتسنّم الاُمور من بعده .
9 . أحاديث الهدايةإمامة الاُمّة هي هداية الناس إلى المنزل المقصود ، وتوجيهها صوب المقصد الأعلى ، وسوقها تلقاء الكمال الإنساني الميسور . وعلى هذا ، أ فيمكن لمن لم يتوفّر على الهداية الكاملة ، ولم يعِش الدين إدراكاً عميقاً في وجوده أن يأخذ بيد المجتمع صوب تلك الهداية ؟ أو يكون لمن لا يهتدي إلّا أن يُهدى أن يتبوّأ هذا الموقع ؟ لقد أوضح النبيّ أنّ هادي الاُمّة والإمام الذي يأخذ بيد المؤمنين إلى برّ الأمان في المستقبل هو عليّ بن أبي طالب . فأمير المؤمنين عليه السلام هو الذي يسوق الاُمّة صوب الحقيقة ، ويأخذ بيدها إلى الينابيع الصافيّة النقيّة ، وهو الذي يتبوّأ في الاُمّة موقع الهداية بعد النبيّ . هذا ما أفصح عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله حين عدّ عليّاً «هادي» الاُمّة ، والمصداق الرفيع لهذا الموقع وهو يفسّر قوله سبحانه : «إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» (1) بقوله صلى الله عليه و آله : «المُنذِرُ أنَا ، وَالهادي عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ» .
10 . أحاديث العصمةإنّ «العصمة» بمعنى الوقاية من الذنب والخطأ والجهل ، والاحتراز من الاعوجاجات التي تشوب السلوك ، هي من الخصائص الحتميّة لرسل السماء ؛ ويبدو أن ليس هناك نحلة أو فرقة من المسلمين تشكّ في ضرورة عصمة الأنبياء ، فالأنبياء عليهم السلام معصومون بنصّ القرآن ، وهذه حقيقة أجمع عليها المتكلّمون والعلماء ؛ إذ ليس
.
ص: 120
هناك من يناقش في أصل العصمة وضرورتها ، إنّما يمكن أن يكون لبعضهم كلام في حدّها وحدودها . أمّا عقيدة الشيعة التي تستند إلى «النصّ» على الإمامة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتركّز على أنّ الإمامة قائمة على أساس النصوص الثابتة ، فهي تؤمن بأنّ جميع خصائص رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ ما خلا النبوّة _ تتجسّد في الإمام ، وتواصِل حضورها في خليفته من بعده ، وهي تعدّ ذلك أمراً قطعيّاً على أساس نصوص كثيرة ودلائل عقليّة وافرة نُقّحت في مظانّها . لقد ركّز علماء الشيعة ومتكلّموهم على هذا الأصل إزاء بقيّة الفرق الإسلاميّة ، وعدّوا هذا الموقع ضرورياً لخليفة النبيّ ، وذلك في مقابل التيّارات الاُخرى في الساحة الإسلاميّة من تلك التي لم تتبنّ ضرورة النصّ ، على أنّ طبيعة هذه المواقف ، وتحليل خلفيّاتها التاريخيّة وبناها الفكريّة ، هو أمر خارج عن نطاق هذا البحث . لكن يحسن بنا الآن أن نتوقّف مع ملاحظة سريعة ، قبل أن نواصل متابعة الجهود النبويّة لتشييد قواعد الإمامة العلويّة ، وتثبيت إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وطبيعة النهج الذي اعتمده رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعرض هذه الحقيقة ؛ فقد استند متكلّمو الشيعة ومفسّروهم منذ القدم إلى «آية التطهير» من بين ما استندوا إليه في إثبات عصمة «الأئمّة» وطهارة «أهل البيت» ، وهو استدلال متين كشف عن قوّته وإحكامه في الدراسات المختصّة بذلك . بيد أنّ ما يعنينا أمره في هذا المجال ، وله صلة وثيقة ، بل ضروريّة ببحثنا ، هو معرفة طبيعة عرض هذه المسألة ، والكيفيّة التي استند إليها رسول اللّه صلى الله عليه و آله في بيانها ، وهنا بالذات تكمن الملاحظة التي أحببنا المكوث عندها قليلاً .
.
ص: 121
لقد مضت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ بعد أن تلا آية التطهير على المسلمين _ أيّام وأشهر طويلة وهو يقف إلى جوار بيت عليّ ، وينادي إذا حضر وقت الصلاة : «الصَّلاةَ يا أهلَ البَيتِ» (1) . على هذا ليس هناك شكّ في أنّ «أصحاب الكساء» هم مصداق «أهل البيت» ، وأنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو سيّد أهل البيت وذروة السنام فيه . إنّما الذي يحظى بأهمّية أكبر بنظرنا هو ما كان يفعله الرسول في ثنايا تركيزه على الإعداد لقيادة المستقبل ، وكجزء من برنامجه لإعلان الإمامة التي تخلفه ، إلى جوار تأكيده على التصريح بطهارة أهل البيت وعصمتهم ، وحتى بعد إعلان هذه الفضيلة راح يكرّر على الدوام قوله صلى الله عليه و آله : «أنَا حَربٌ لِمَن حارَبَكُم ، وسِلمٌ لِمَن سالَمَكُم» (2) ، فماذا يعني هذا التكرار ، وما هو مغزاه ؟ يبدو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كشف للاُمّة _ من خلال تفسيره النافذ البصير لقوله سبحانه : «وَ مَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَ_كَ إِلَا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ» (3) _ عن وجود اُسرة ستنقضّ على المجتمع الإسلامي ، وتسومه الأذى والعذاب والظلم ، وبتشبيهه حركة هذه الاُسرة بنزو القردة كشف عن هويّتها القرديّة ، وحذّر الاُمّة من أن تترك اُمور دينها تقع في يوم من الأيّام بيد رجال هذه العشيرة ، أو أن تكون قيم هذا الدين ومثله العليا لعبة بأيديهم يعبثون بها كيفما شاؤوا . على الجانب الآخر من المشهد ، حرص رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ من خلال التركيز على طرح «أهل البيت» كاُناس مطهّرين ، وثلّة معصومة نقيّة من المثالب والعيوب _ أن يسجّل للاُمّة خطّ الإمامة المعصومة ، والقيادة النزيهة للمستقبل . وكان لآية التطهير الدور العظيم في بيان فضائل «آل اللّه » والكشف عن مناقبهم
.
ص: 122
ومنزلتهم الرفيعة ، وعلى هذا الضوء يتبيّن أنّ السرّ من وراء كلّ هذه الجهود النبويّة في الكشف عن مقصود الآية وتحديد مرادها ، وكذلك ما بذله الأئمّة عليهم السلام على هذا الصعيد ، وأيضاً ما قام به الاُمويّون في المقابل ومفسّروا البلاط من سعي هائل لصرف الآية عن «آل اللّه » أو إشراك الآخرين معهم في هذه الفضيلة على أقلّ تقدير ، إنّما يكمن في مفهومها الرفيع ، وما تنطوي عليه من دلالة قاطعة على طهارة الإمام أمير المؤمنين وعصمته ، ومن ثَمّ عصمة أهل البيت بالضرورة . ولم تكن هذه الآية وحدها في الميدان ، فبالإضافة إلى آية التطهير والجهود النبويّة الحثيثة التي بذلها رسول اللّه صلى الله عليه و آله في إبلاغها وتطبيقها على أهل البيت عليهم السلام ، توالت إلى جوارها روايات كثيرة نعت فيها النبيّ عليّ بن أبي طالب بالصدق والطهارة والنقاء والتزام الحقّ واستقامة السلوك وطُهر الفطرة ، ثمّ توّج ذلك كلّه بالإعلان أنّ عليّاً هو عدل القرآن ، ومعيار الحقّ ، والميزان الذي يفرّق بين الحقّ والباطل ، وبين الضلالة والصواب ، وهو فصل الخطاب . وفي ذلك دلالة قاطعة على أنّ من ينبغي أن يكون الاُسوة والإمام ، والقائد والمنار ، والزعيم والمولى هو عليّ بن أبي طالب لا غير . ثمّ انظروا وتأمّلوا في قوله صلى الله عليه و آله : «عَلِيٌّ مَعَ القُرآنِ ، وَالقُرآنُ مَعَ عَلِيٍّ» ، «عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ ، وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ» ، «عَلِيٌّ عَلَى الحَقِّ ؛ مَنِ اتَّبَعَهُ اتَّبَعَ الحَقَّ ، ومَن تَرَكَهُ تَرَكَ الحَقَّ» ، «عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ وَالقُرآنِ ، وَالحَقُّ وَالقُرآنُ مَعَ عَلِيٍّ» . ماذا يعني هذا ؟ يعني أنّ عليّاً ثابت لا يزيغ ، صلبٌ لا تتعثّر به خطاه ، يقف في أعلى ذرى الاستقامة والصلاح ، لا يعرف غير الحقّ والصواب . إنّ عليّاً ليحمل على جبهته الوضيئة عنواناً رفيعاً اسمه «العصمة» ، ومن ثمّ ستكون الاُمّة في أمان من نفسها ، وسلامة من دينها وهي تهتدي بهدي عليّ ، وتقتدي به اُسوة ومناراً .
.
ص: 123
11 . أحاديث العلميتبوّأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله المرجعيّة الفكريّة للاُمّة بالإضافة إلى الزعامة السياسيّة كما سلفت الإشارة لذلك ، فالاُمّة تواجه في معترك حياتها عشرات المعضلات الفكريّة على الصعيدين الفردي والاجتماعي ؛ فمن الذي يتولّى تذليل هذه العقبات ؟ ومن الذي يُميط اللثام عمّا يواجهه المجتمع من مشكلات معرفيّة ، ويفسّر للناس آيات القرآن ، ويعلّم الاُمّة أحكام دينها وكلّ ما يمتّ بصلة إلى المرجعيّة العلميّة والفكريّة ؟ ومَن الذي أراد له رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يتبوّأ هذا الموقع في المستقبل بحيث تلوذ به الاُمّة ، وتلجأ إليه بعد رحيل النبيّ ؟ لقد ضمّت المصادر القديمة نصوصاً نبويّة مكثّفة تدلّ بأجمعها على أنّ النبيّ اختار عليّ بن أبي طالب للمرجعيّة العلميّة والفكريّة من بعده ، منها الحديث النبوي الكريم : «أنَا مَدينَةُ العِلمِ ، وعَلِيٌّ بابُها» فعلاوة على شوق عليّ عليه السلام إلى العلم ، وتطلّعاته الذاتيّة إلى المعرفة ، وتوقه الشديد للتعلّم ، واستعداده الخاصّ على هذا الصعيد ، كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله لا يُخفي حرصه على إعداد عليّ إعداداً علميّاً خاصّاً ، وزقّهِ العلم زقّاً ، وإشباع روحه بالمعرفة ، والفيض عليه من الحقائق الربّانيّة العُليا . لقد جاء الكلام النبوي الكريم : «أنَا مَدينَةُ العِلمِ وعَلِيٌّ بابُها ؛ فَمَن أرادَ المَدينَةَ فَليَأتِ البابَ» ليدلّ دلالة قاطعة لا يشوبها أدنى لبس ، على أنّ العلم الصحيح عند عليّ وحسب لا عند سواه (1) . لقد طلب النبيّ عليّ بن أبي طالب في اللحظات الأخيرة من حياته ، وراح يسرّ له بينابيع المعرفة ، فقال عليّ بعد ذلك واصفاً الحصيلة التي طلع بها من إسرار النبيّ له : «حَدَّثَني ألفَ بابٍ ، يَفتَحُ كلُّ بابٍ ألفَ
.
ص: 124
بابٍ» . وهذه هي الحقيقة ، يدلّ عليها قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «أنَا دارُ الحِكمَةِ ، وعَلِيٌّ بابُها» . ثمّ هل انشقّت الحياة الإنسانيّة عن إنسان غير عليّ يقول : «سَلوني قَبلَ أن تَفقِدوني» ؟ وهل عرفت صفحات التاريخ من ينطق بهذا سوى أمير المؤمنين ؟ لقد أجمع الصحابة على أعلميّة عليّ بن أبي طالب ، وتركوا للتاريخ شهادة قاطعة تقول : أفضلنا عليّ . ولِمَ لا يكون كذلك والإمام أمير المؤمنين نفسه يقول : «وَاللّهِ ما نَزَلَت آيَةٌ إلّا وقَد عَلِمتُ فيمَ نَزَلَت ، وأينَ نَزَلَت ، وعَلى مَن نَزَلَت ؛ إنَّ رَبّي وَهَبَ لي قَلباً عَقولاً ، ولِساناً ناطِقاً» . وما أسمى كلمات الإمام الحسن عليه السلام وما أجلّ كلامه وهو يقول بعد شهادة أمير المؤمنين : «لَقَد فارَقَكُم رَجُلٌ بِالأَمسِ لَم يَسبِقهُ الأَوَّلونَ بِعِلمٍ ولا يُدرِكُهُ الآخِرونَ» . إنّ هذا وغيره _ وهو كثير قد جاء في مواضع متعددة _ ليشهد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قصد من وراء التركيز على هذه النقطة _ التي أقرّ بها الصحابة تبعاً للنبيّ _ أن يعلن عمليّاً عن المرجع الفكري للاُمّة مستقبلاً ، ويحدّد للاُمّة بوضوح الينبوع الثرّ الذي ينبغي أن تستمدّ منه علوم الدين .
12 . أحاديث إثنا عشر خليفةمن بين الأحاديث المهمّة الجديرة بالتأمّل بشأن مستقبل الاُمّة ، هي تلك التي تتحدّث عن عدد خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله . إنّ هذه الأحاديث الوفيرة التي جاءت في نقول متعدّدة ، وطرق مختلفة وصحيحة (1) ، لتُشير إلى أنّ خلفاء النبيّ اثنا عشر خليفة . تُطالعنا إحدى صيغ الحديث بالنصّ التالي : «لا يَزالُ الدّينُ قائِماً حَتّى تَقومَ
.
ص: 125
السّاعَةُ أو يَكونَ عَلَيكُمُ اثنا عَشَرَ خَليفَةً كُلُّهُم مِن قُرَيشٍ» . (1) وقد جاء في نصّ آخر بالصيغة التالية : عَن جابِرِ بنِ سَمُرَةَ قالَ : كُنتُ مَعَ أبي عِندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَسَمِعتُهُ يَقولُ : «بَعدِي اثنا عَشَرَ خَليفَةً» ، ثُمَّ أخفى صَوتَهُ ، فَقُلتُ لِأَبي : مَا الَّذي أخفى صَوتَهُ ؟ قالَ : قالَ : «كُلُّهُم مِن بَني هاشِمٍ» . (2) وفي نصّ آخر : «يَكونُ مِن بَعدِي اثنا عَشَرَ أميراً» . (3) ما الذي قصده رسول اللّه صلى الله عليه و آله من هذه الأحاديث ؟ هل تحدّث عن واقع سوف يحصل أم رام الحديث عن حقيقة ينبغي أن تكون ؟ هل رام أن يستشرف المستقبل ليشير إلى الذين سيخلفونه في الواقع التاريخي ، ويتسنّمون هذا الموقع من بعده أم أ نّه استند إلى حقيقة تنصّ صراحة أنّ خلفاءه اثنا عشر خليفة ، وأنّ هؤلاء هم الذين ينبغي أن يكونوا خلفاء ، ليس من ورائهم أحد حتى آخر الدهر ؟ لايبدو أنّ هناك شكّ في أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان بصدد إعلان الخليفة ، وتحديد من يتبوّأ مكانه ويمارس الحاكميّة على الاُمّة كما يمارسها هو ، ويواصل نهج النبيّ في الخلافة . بيد أنّ البعض سعى إلى اصطناع مصاديق لهذا الكلام الإلهي الذي نطق به الرسول صلى الله عليه و آله تتطابق ورغباته (4) ، فذهب إلى أنّ المراد من الاثنيعشر هم الخلفاء الأربعة ، ومعاوية وولده يزيد وهكذا ! (5) وعلى طبق هذا التفسير يكون النبيّ صلى الله عليه و آله قد نصب هؤلاء خلفاء له ، وأهاب بالاُمّة
.
ص: 126
اتّباعهم وإطاعتهم والتسليم إليهم ! أي طاعة يزيد وعبد الملك بن مروان وأضرابهم ، «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَ هِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَا كَذِبًا» ! (1) كيف يمكن تصوّر رسول الكرامة والإنسانيّة ، ومبعوث الحريّة والقيم العليا ، وهو يختار لخلافته الظلمة والفسّاق ، ويحثّ الاُمّة على طاعة المجرمين والفاسدين ؟ ! (2) لا جدال أنّ من يُذعن لأصل الرواية _ ولا مفرّ من ذلك _ يتحتّم عليه التسليم لتفسير الشيعة الذي يذهب إلى أنّ هؤلاء الخلفاء هم عليّ وآل عليّ عليهم السلام ، كما ذكرت ذلك بعض الروايات عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأتت على أسمائهم صراحة ، حيث يمكن أن يُلحظ ما يلي : 1 . إنّهم اثنا عشر معروفون ينطبقون _ في عددهم وأسمائهم _ مع الحديث . 2 . إنّ الأئمّة من قريش ؛ وهم من قريش . 3 . رأينا بعض الروايات تحمل في ذيلها عبارة : «كُلُّهُم مِن بَني هاشِمٍ» . والأمر كذلك في عليّ وآل عليّ عليهم السلام ؛ فهم جميعاً من بني هاشم ، يؤيّد ذلك الكلام العلوي المنيف الذي يقول فيه أمير المؤمنين عليه السلام : «إنَّ الأَئِمَّةَ مِن قُرَيشٍ غُرِسوا في هذَا البَطنِ مِن هاشِمٍ ، لا تَصلُحُ عَلى سِواهُم ، ولا تَصلُحُ الوُلاةُ مِن غَيرِهِم» . (3) 4 . إنّهم من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهذا يتطابق مع ما سبق وقد ذكرناه في
.
ص: 127
الصفحات السابقة ، كما يتوافق مع نصوص كثيرة ستأتي الإشارة إليها لاحقاً . 5 . كما أ نّه يتطابق بدقّة مع ما جاء عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في تفسير هذه الجملة _ كما سلفت الإشارة لذلك _ حيث ذُكرت أسماء هؤلاء الخلفاء الكرام بشكل كامل وتامّ . 6 . على أساس روايات كثيرة تحدّث رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن دوام إمامة المهدي عليه السلام واستمرارها إلى ما قبل القيامة ، والمهدي المنتظر هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأئمّة الاثني عشر في المعتقد الشيعي . من هذه الروايات : المَهدِيُّ مِنّا أهلَ البَيتِ يُصلِحُهُ اللّهُ في لَيلَةٍ . (1) المَهدِيُّ مِن عِترَتي مِن وُلدِ فاطِمَةَ . (2) لَو لَم يَبقَ مِنَ الدُّنيا إلّا يَومٌ لَبَعَثَ اللّهُ عزَّوجَلَّ رَجُلاً مِنّا يَملَؤُها عَدلاً كَما مُلِئَت جَوراً . (3) لا تَقومُ السّاعَةُ حَتّى يَلِيَ رَجُلٌ مِن أهلِ بَيتي يُواطِئُ اسمُهُ اسمي . (4) الأَئِمَّةُ بَعدِي اثنا عَشَرَ ؛ تِسعَةٌ مِن صُلبِ الحُسَينِ ، وَالتّاسِعُ مَهدِيُّهُم . (5) واستكمالاً للحديث في هذا المضمار نعرض فيما يلي عدداً من النقاط الاُخرى : 1 . يُعدّ حديث «اثنا عشر خليفة» أو «اثنا عشر أميراً» المروي عن جابر بن سمرة ، من الأحاديث المشهورة التي اُخرجت بطرق متعدّدة كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك . والذي عليه عقيدة أغلب الذين وثّقوا الحديث ورووه أنّ الرسول صلى الله عليه و آله أدلى به
.
ص: 128
في «حَجَّة البلاغ» ، بيد أنّ عمليّة دراسة طرق الحديث وتحليل صيغه الروائيّة تدلّ بوضوح أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أدلى بهذا الحديث في مكانين ، هما :
أ _ مسجد النبي صلى الله عليه و آلهوفاقاً لرواية مسلم وأحمد بن حنبل ، جاء نصّ جابر بالصيغة التالية : «سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ جُمُعَةٍ عَشِيَّةَ رُجِمَ الأَسلَمِيُّ ، يَقولُ : لا يَزالُ الدّينُ» (1) إلى آخر النصّ . المعلوم أنّ ماغر بن مالك الأسلمي المذكور في النصّ قد تمّ رجمه بالمدينة جزماً (2) . علاوة على ذلك ثمّة نصوص اُخرى تتحدّث صراحة أنّ الراوي سمع الحديث في مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله ، كما في قوله : «جِئتُ مَعَ أبي إلَى المَسجِدِ وَالنَّبِيُّ يَخطُبُ» إلى آخر الحديث (3) ، حيث يدلّ لفظ «المسجد» في الرواية على المسجد النبوي ظاهراً .
ب _ حجّة البلاغهذه المجموعة من الأخبار مرويّة عن جابر بن سمرة بن جندب أيضاً ، وقد ذكر فيها أ نّه سمع مقالة النبيّ هذه في ذلك الموسم العظيم (4) (حَجَّة البلاغ أو حَجَّة الوداع) ، وفي الموقف بعرفات . (5) 2 . إنّ استثمار رسول اللّه صلى الله عليه و آله للموسم ، وتوظيفه لاجتماع الاُمّة العظيم في عرفات ؛ لكي يعلن هذه الحقيقة ويصدع بها ، لهو أمر خليق بالاعتبار ، وينطوي
.
ص: 129
على الدروس والعِبَر . فقد حرص النبيّ صلى الله عليه و آله على أن يستفيد من هذا الحشد الكبير في الإعلان عن «حديث الثقلين» ، وذلك في واحدة من المرّات المتكرّرة التي كان النبيّ قد أعلن فيها هذا الحديث المصيري على الاُمّة . بشكل عامّ عندما نطلّ على هذه المراسم نجدها شهدت عرض «الثقلين» بوصفهما معاً السبيل إلى هداية الاُمّة ، وفي المشهد ذاته تمّ تحديد مصاديق العترة والإعلان عنها بوضوح ، وفي الذروة الأخيرة من هذا الموسم سجّل المشهد نزول آية «إكمال الدين» وإعلان الولاية ، هذا الإعلان الذي ترافق مع إنذار للنبيّ صلى الله عليه و آله يفيد أنّ عدم إبلاغه ما اُنزل إليه من ربّه يتساوق مع ضياع الرسالة وعدم إبلاغها بالمرّة . بعبارة اُخرى : كأنّ المشهد يُخبرنا بوقائعه وما حصل فيه ، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان في الموسم هذا بشأن أن يُلقي على الاُمّة نظرة مستأنفة في جميع محتويات الرسالة ، ويستعيد اُمور هذا الدين ، وقد راح في الأيّام الأخيرة من سفره يركّز على الحجّ والولاية أكثر . لننظر إلى الإمام الباقر عليه السلام وهو يقول : «حَجَّ رَسولُ اللّهِ . . .» . 3 . تنطوي بعض صيغ الحديث ونقوله على نقطة تستثير السؤال وتستحق التأمّل ؛ فقد انطوت بعض نقول الحديث على جملة : «كُلُّهم مِن قُرَيشٍ» ، وهي تدلّ على أنّ جابراً لم يسمع هذه الجملة ، فسأل عنها أباه ، فذكر له أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال في تتمّة الحديث : «كُلُّهم مِن قُرَيشٍ» أو «كُلُّهُم مِن بَني هاشِمٍ» . هذه الصيغ على ثلاثة أضرب ، هي : أ _ إنّ جابراً قال فقط : «ثُمَّ قالَ كَلِمَةً لَم أفهَمها» . (1) أو : «ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَت عَلَيَّ» (2) من دون إيضاح علّة خفاء الصوت ، وسبب
.
ص: 130
عدم السماع . ب _ وفي بعضها عزى جابر عدم سماعه تتمّة الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه و آله قائلاً : «ثُمَّ خَفَضَ صَوتَهُ ، فَلَم أدرِ ما يَقولُ» . (1) أو : «ثُمَّ هَمَسَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِكَلِمَةٍ لَم أسمَعها ، فَقُلتُ لِأَبي : مَا الكَلِمَةُ الَّتي هَمَسَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ؟» . (2) أو : «ثُمَّ أخفى صَوتَهُ ، فَقُلتُ لِأَبي : قَد سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : يَكونُ بَعدِي اثنا عَشَرَ أميراً ، فَمَا الَّذي أخفى صَوتَهُ ؟ قالَ : كُلُّهُم مِن قُرَيشٍ» . (3) ج _ ذكر في بعضها أنّ سبب عدم سماع كلام النبيّ كان لغط الناس واهتياجهم ، حيث ضاع كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولم يعد يُسمع وسط ضجيج الحاضرين وصراخهم . والذي يبعث على الدهشة والأسى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله في الوقت الذي كان يتحدّث فيه إلى الناس ، نجد الذين يستمعون إليه يرفعون أصواتهم خلافاً لصريح الأمر الإلهي : « لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَ تَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ » (4) ، وقد علت أصواتهم وزاد اهتياجهم حتى لم يعد يتميّز كلام النبيّ وما يقوله في هذا الضجيج ، بحيث لم يكن بمقدور الراوي _ جابر _ أن يتابع بقيّة الكلام ، فلاذ بالآخرين ، فذكروا له أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «كُلُّهُم مِن قُرَيشٍ» . لقد جاءت صيغ متعدّدة تدلّ على هذا المعنى ، منها : «ثُمَّ لَغَطَ القَومُ وتَكَلَّموا ، فَلَم أفهَم قَولَهُ بَعدَ كُلُّهُم» . (5)
.
ص: 131
«فَقالَ كَلِمَةً صَمَّنيهَا النّاسُ» . (1) «ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أصَمَّنيهَا (2) النّاسُ ، فَقُلتُ لِأَبي _ أو لِابني _ : مَا الكَلِمَةُ الَّتي أصَمَّنيهَا النّاسُ ؟ قالَ : كُلُّهُم مِن قُرَيشٍ» . (3) كما جاء أيضاً : «فَصَرَخَ النّاسُ ، فَلَم أسمَع ما قالَ» . (4) وبتأمّل ما أوردناه يهتدي الباحث إلى نقاط ، لا يخلو ذكرها من فائدة : 1 . تحظى قضيّة الخلافة ومستقبل الاُمّة ومصيرها بعد النبيّ صلى الله عليه و آله بحسّاسيّة فائقة ، بحيث كان النبيّ عندما يصل إلى النقطة الجوهريّة ويبلغ لبّ المسألة يخفض صوته حتى لكأ نّه يهمس ، وفي موقع آخر كان الناس يبادرون إلى اللغط وإثارة الضوضاء حال سماعهم الكلام النبوي ، يُظهرون بذلك إباءهم له . 2 . تذكر بعض الروايات في تصوير الحالة «خفض الصوت» ، وبعضها الآخر ذكرت «اللغط والضجيج» ، حيث يرتبط كلّ وصف من هذه الأوصاف بمورد من موارد النقل . فجابر يذكر أ نّه لم يسمع الكلام النبوي في المسجد لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خفض صوته ، أمّا في الحديث الذي جاء في مسند أحمد بن حنبل ، فقد ذكر جابر أ نّه لم يسمع الكلام للغط القوم وهياجهم . والظاهر أنّ خفض النبيّ صوته كان في المسجد النبوي في المدينة ، ولغط الناس وهياجهم كان في حَجَّة الوداع ، كما أشارت لذلك الروايات المتقدّمة . 3 . إنّه لأمر حريّ بالانتباه ما جاء في أحد النقول ، من أنَّ النبيّ قال عندما أخفى
.
ص: 132
صوته : «كُلُّهُم مِن بَني هاشِمٍ» . والحقّ ، لا يستبعد أن تكون تتمّة الكلام _ على وجه الحقيقة _ هي جملة : «كُلُّهُم مِن بَني هاشِمٍ» ، التي أثارت الهياج ، وعلا كلام كثيرين عند سماعها ، فلم يذعنوا لها ، وأبوا قبولها ، والنقطة التي تزيد من قوّة هذا الاستنتاج هي مشهد السقيفة وما جرى في ذلك اليوم من حوادث ، ففي صراع يوم السقيفة لم يستند أيّ من أطراف اللعبة على مثل هذا الكلام ، ولم يذكر أحد أ نّه سمع النبيّ ، يقول : «كُلُّهُم مِن قُرَيشٍ» برغم أنّ هذا الكلام كان يمكن أن يكون مؤثّراً في حسم الموقف . لهذا كلّه ، يمكن القول أنّ تتمّة الحديث النبوي كانت : «كُلُّهُم مِن بَني هاشِمِ» لا غير ، ثمّ بمرور الوقت وعندما حانت لحظة تدوين الحديث قدّروا أنّ من «المصلحة» استبدال «كلّهم من بني هاشم» بتعبير «كلّهم من قريش» ! مهما يكن الأمر ، ينطوي هذا الحديث بنقوله الكثيرة وطرقه المتعدّدة التي أيّدها محدّثو أهل السنّة أيضاً ؛ ينطوي على رسالة واحدة لا غير هي الإعلان عن ولاية عليّ بن أبي طالب وأولاده ، والتصريح بخلافة عليّ عليه السلام بعد النبيّ صلى الله عليه و آله بلا فصل . ومن ثمّ فهو دليل آخر على السياسة النبويّة الراسخة في تحديد مستقبل الحكم وقيادة الاُمّة من بعده .
13 . حديث السفينةوالنبيّ صلى الله عليه و آله يعيش بين الاُمّة كان يُمسك بجميع الاُمور ، ويُشرف على الشؤون كافّة ، ولم يكن المجتمع الإسلامي على عهد النبيّ قد اتّسع بعدُ ، بيد أنّ هذا المجتمع الفتيّ كان يواجه مصاعب كثيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي ، ويعاني عدداً من الانحرافات ؛ فتيّار النفاق _ مثلاً _ كانت بذوره الاُولى قد نشأت في تضاعيف ذلك
.
ص: 133
المجتمع ، وهكذا لاحت أيضاً إرهاصات ارتداد البعض انطلاقاً من المجتمع ذاته . لقد كان الرسول القائد ينظر ليوم تغيب فيه هذه الشعلة المتوهّجة ، ويفقد المجتمع وجود النبيّ ، فيما ينبغي للاُمّة أن تشقّ طريقها من بعده ، وتواصل الدرب . إنّ كلّ ما توفّرنا على ذكره يُشير إلى التخطيط لمستقبل الاُمّة وتدبير غدها الآتي ؛ هذا الغد الذي سينشقّ عن أجواء تتفجّر جوانبها بالفتنة ، وتضطرم بالعواصف العاتية وأمواج الضلال . على ضوء هذه الخلفيّة انطلقت كلمات رسول اللّه صلى الله عليه و آله تُدلّ الاُمّة على الملاذ الآمِن الذي تعتصم به من الفتن والضلال فيما اشتهر ب_ «حديث السفينة» ، الذي جاء في أحد نصوصه : «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ؛ من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها هلك» . ما أروعه من تشبيه دالّ وموقظ ، يبعث على التيقّظ والحذر ! فرسول اللّه صلى الله عليه و آله يتطلّع صوب المستقبل من وراء حُجب الغيب ، فيبصره مليئاً بالفتن والضلالات التي يشبّهها بالأمواج المتلاطمة العاتية ، أمواج مهولة تُغرق مَن يعرض لها ، وتدفعه نحو قاعٍ سحيق ، وما أكثر من يتسلّق الأوهام حذر هذه الأمواج ، بيد أ نّها سرعان ما تفترسه وتأتي عليه في ملاذه الواهن ، فيُدركه الغرق ويصير هباءً ضائعاً . فإذاً ينبغي أن تكون الاُمّة على حذر ، وأن تُدرك أنّ طريق النجاة الوحيد يكمن في ركوب «السفينة» ، واللوذ بأهل البيت عليهم السلام ، والاعتصام بحجزتهم ، والتمسّك بتعاليمهم وسنّتهم . ليس هناك شكّ في دلالة الحديث على وجوب إطاعة أهل البيت عليهم السلام وإلّا هل لعاقل تأخذه أمواج عاتية ، فيُشرف حتماً على الغرق والضياع ، ثمّ يتردّد في النجاة ، ولا يركب سفينة الإنقاذ !
.
ص: 134
من جهة اُخرى إنّ التطلّع صوب هذه السفينة يستتبع الهداية بالضرورة والنجاة من أمواج الفتن والضلالات ، فالسفينة منجية ، وإذاً فهؤلاء الكرام معصومون منزّهون عن الزلل والخطأ . (1)
14 . حديث الثقلينمن بين الخطوات التي تدبّرها الرسول القائد لمستقبل الاُمّة ، للحؤول دون تفشّي الضلالة ، وشيوع الجهل في وسطها ، وانحدارها إلى هوّة الحيرة والضياع ، هي جهوده التي بذلها لتعيين المرجعيّة الفكريّة ، وتحديد مسار ثابت للحركة الفكريّة ، وبيان كيفيّة تفسير القرآن والرسالة والمصدر الذي يستمدّ منه ذلك . هذه الحقيقة ربّما عبّرت عن نفسها بأنصع وجه في «حديث الثقلين» . لقد تضوّعت مواطن كثيرة بشذى الحديث ؛ حيث صدع به النبيّ صلى الله عليه و آله مراراً بمحتوىً واحد وصيغ بيانيّة متعدّدة ، وفي مواضع مختلفة ؛ في عرفة ، ومسجد الخيف ، وفي غدير خمّ ، كما أتى على ذكره في آخر كلام له وهو على مشارف الرحيل وقد ثقل عليه المرض ، في الحجرة الشريفة ، وغير ذلك . وبالإضافة إلى أهل البيت عليهم السلام فقد روى الحديث عدد كبير من الصحابة ، كما ذهب إلى صحّته كثير من التابعين والعلماء . (2) إنّ للحديث صيغاً متعدّدة ، جاء في إحداها : «إنّي تارِكٌ فيكُم ما إن تَمسَّكتُم بِهِ لَن تَضِلّوا بَعدي ، أحَدُهُما أعظَمُ مِنَ الآخَرِ ؛ كِتابُ اللّهِ حَبلٌ مَمدودٌ مِنَ السَّماءِ إلَى الأَرضِ ، وعِترَتي أهلُ بَيتي ، ولَن يَتَفَرَّقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ ، فَانظُروا كَيفَ
.
ص: 135
تَخلُفوني فيهِما» . (1) كلام عظيم ، ومنقبة شاهقة ، وفضيلة سامية لا نظير لها ، وهداية تبعث على السعادة ، وتوجيه يعصم من الضلالة والردى . النقطة الأهمّ التي يحويها هذا الكلام النبوي العظيم ، والحقيقة العظمى التي يجهر بها دون لبس ، هي مرجعيّة أهل البيت عليهم السلام ، والحثّ على وجوب اتّباعهم والائتمام بهم في الأقوال والأفعال ، وقد صرّح بهذه الحقيقة الرفيعة عدد كبير من العلماء ، منهم سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ؛ أحد كبار متكلّمي أهل السنّة ، حين قال : «إنَّهُ صلى الله عليه و آله قَرَنَهُم بِكِتابِ اللّهِ في كَونِ التَّمَسُّكِ بِهِما مُنقِذاً مِنَ الضَّلالَةِ ، ولا مَعنى لِلتَّمَسُّكِ بِالكِتابِ إلَا الأَخذُ بِما فيهِ مِنَ العِلمِ وَالهِدايَةِ ، فَكَذا فِي العِترَةِ» . (2) على صعيد آخر تتمثّل أهمّ مهامّ النبيّ صلى الله عليه و آله ومسؤوليّاته بالهداية وإزالة الضلالة . هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى ؛ فإنّ ما يأتي في طليعة واجبات الاُمّة وأكثرها بداهة ، هو ضرورة تمسّكها بكلّ ما يبعث على الهداية ، ويعصم من الضلال . وهذا ما فعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله تماماً ، وهو يضع المسلمين أمام هذا الواجب ، في قوله : «ما إن تَمَسَّكتُم بِهِما لَن تَضِلّوا» ؛ وعندئذٍ هل يسع إنسان أن يتردّد في وجوب اتّباع «العترة» الهادية ، والتسليم إليها وهي العاصمة عن الضلال ؟ ! ممّا يدلّ عليه الحديث أيضاً أنّ التمسّك بهذين الثقلين الكريمين يكفي لبلاغ المقصد الأسنى وتحصيل الهداية ، وأن ليس وراءهما إلّا الضلال «فمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَا
.
ص: 136
الضَّلَ_لُ» . (1) من جهة اُخرى يسجّل حديث الثقلين «عصمة» العترة من دون لبس وغموض ؛ فمن زاوية عدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله التمسّك بها واجباً ضروريّاً من دون أيّ قيد أو شرط ، فهل من المنطقيّ أو المعقول أن نتصوّر النبيّ يدفع الاُمّة إلى التمسَّك بمرجعيّة أشخاص ، ويحثّها على التمسّك بتعاليمها دون قيد أو شرط ، وأشخاص هذه المرجعيّة يعيشون الضلال ؟ ثمّ إنّ هذه العترة هي عدل قرآنٍ «لَا يَأْتِيهِ الْبَ_طِ_لُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ» (2) ، فهكذا العترة أيضاً . وأخيراً دلّ الحديث على أنّ التمسّك بالعترة هو سدّ يحول دون الضلالة ، فإذا ما كان الضلال سائغاً بحقّ هذه المرجعيّة فهل يمكنها أن تكون عاصمة عن الضلال ؟ ! فالعترة إذاً معصومة جزماً بدلالات الحديث .
15 . حديث الغديرذكرنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أكّد منذ الأيّام الاُولى التي صدع فيها بالرسالة ، على الإمامة ومستقبل الاُمّة من بعده ، وشهدت له المواطن جميعاً ، وهو يعلن «الحقّ» ، ويحدّد أمام الجميع الإمامة من بعده بأعلى خصائصها ، وبمزاياها المتفوّقة ، ولم يتوانَ عن ذلك لحظة ، ولم يُضِع فرصة إلّا وأفاد منها في إعلان هذا «الحقّ» والإجهار به . وفي الحَجَّة الاخيرة التي اشتهرت ب_ «حَجَّة الوداع» ، بلغت الجهود النبويّة ذروتها ، وقد جاءه أمر السماء بإبلاغ الولاية ، لتكتسب هذه الحجّة عنوانها الدالّ ، وهي تسمّى «حَجَّة البلاغ» .
.
ص: 137
لنشاهد المشهد عن كثب ونتأمّل كيف تكوّنت وقائعه الاُولى . فهذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد قصد التوجّه للحجّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وقد نادى منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُعلم الناس بذلك ، فاجتمع من المسلمين جمع غفير قاصداً مكّة ليلتحق بالنبيّ صلى الله عليه و آله ، ويتعلّم منه مناسك حجّه . حجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالمسلمين ، ثمّ قفل عائداً صوب المدينة . عندما حلَّ اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة كانت قوافل الحجيج تأخذ طريقها إلى مضاربها ومواضع سكناها ؛ فمنها ما كان يتقدّم على النبيّ ، ومنها ما كان يتأخّر عنه ، بيد أ نّها لم تفترق بعدُ ، إذ ما يزال يجمعها طريق واحد . حلّت قافلة النبيّ صلى الله عليه و آله بموضع يقال له «غدير خمّ» في وادي الجحفة ، وهو مفترق تتشعّب فيه طرق أهل المدينة والمصريّين والعراقيّين . الشمس في كبد السماء ترسل بأشعّتها اللاهبة ، وتدفع بحممها صوب الأرض ، وإذا بالوحي يغشى النبيّ ويأتيه أمر السماء ، فيأمر أن يجتمع الناس في المكان المذكور . ينادي منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بردّ من تقدّم من القوم ، وبحبس من تأخّر ؛ ليجتمع المسلمون على سواء في موقف واحد ، ولا أحد يدري ما الخبر . منتصف النهار في يوم صائف شديد القيظ ، حتى أنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدّة الحرّ ، فيما يلوذ آخرون بظلال المراكب والمتاع . راحت الجموع المحتشدة تتحلّق أنظارها بنبيّها الكريم وهو يرتقي موضعاً صنعوه له من الرحال وأقتاب الإبل . بدأ النبيّ خطبته ، فراحت الكلمات تخرج من فؤاده وفمه صادعة رائعة ، حمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ ذكر للجمع المحتشد أنّ ساعة الرحيل قد أزفت ، وقد أوشك أن يُدعى فيُجيب ، على هذا مضت سنّة البشر قبله من نبيّين وغير نبيّين . أما وقد أوشك على الرحيل ، فقد طلب من الحاضرين أن يشهدوا له بأداء
.
ص: 138
الرسالة ، فهبّت الأصوات تُجيب النبيّ على نسقٍ واحد : «نَشهَدُ أ نَّكَ قَد بَلَّغتَ ونَصَحتَ وجَهَدتَ ؛ فَجَزاكَ اللّهُ خَيراً» . ما لهذا جمَعَهم في هذه الظهيرة القائضة ، بل هو يعدّهم لنباء مُرتقب ، ويُهيّئ النفوس لبلاغ خطير هذا أوانه ، تحدّث إليهم مرّات عن صدقه في «البلاغ» ، كما تكلّم عن «الثقلين» وأوصى بهما ، ثمّ انعطف يحدّثهم عن موقعه الشاهق العليّ في الاُمّة ، وطلب منهم أن يشهدوا بأولويّته على أنفسهم ، حتى إذا ما شهدوا له بصوت واحد ، أخذ بعضد عليّ بن أبي طالب ورفعه ، فزاد من جلال المشهد وهيبته ، ثمّ راح ينادي بصوتٍ عالي الصدح قويّ الرنين : «فَمَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» . قال هذه الجملة ، ثمّ كرّرها ثلاثاً ، وطفق يدعو لمن يوالي عليّاً ، ولمن ينصر عليّاً ، ولمن يكون إلى جوار عليّ . تبلّج المشهد عن نداء نبوي أعلى فيه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله ولاية عليّ وخلافته ، على مرآى من عشرات الاُلوف ، وقد اجتمعوا للحجّ من جميع أقاليم القبلة ، وصدع ب_ «حقّ الخلافة» و «خلافة الحقّ» . فهل ثَمّ أحد تردّد في مدلول السلوك النبوي ، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نصب بهذه الكلمات عليّ بن أبي طالب وليّاً وإماماً ؟ أبداً ، لم يسجّل المشهد التاريخي يومئذٍ من استراب بهذه الحقيقة أو شكّ فيها ، حتى اُولئك النفر الذين أخطؤوا حظّهم ، وعتت بهم أنفسهم ، فأنفوا عن الانقياد ؛ حتى هؤلاء لم يستريبوا في محتوى الرسالة النبويّة ، ولم يشكّوا بدلالتها ، إنّما انكفأت بهم البصيرة ، فراحوا يتساءلون عن منشأ هذه المبادرة النبويّة ، وفيما إذا كانت من عند نفس النبيّ أم وحياً نازلاً من السماء . انجلى المشهد عن عليّ بن أبي طالب وهو متوّج بالولاية والإمارة ، فانثال عليه كثيرون يهنّئونه من دون أن تلوح في اُفق ذلك العصر أدنى شائبة تؤثّر في نصاعة هذه الحقيقة أو تشكّك فيها ، فهذا هو عمر بن الخطّاب نهض من بين الصفوف
.
ص: 139
المهنّئة ، وقد خاطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : «هنيئاً لك يا بن أبي طالب !أصبحت اليوم وليّ كلّ مؤمن» . بيد أنّ الأمر لم يمضِ إلى مداه وغايته على هذه الشاكلة ؛ إذ سرعان ما حصل الانقلاب بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتغيّر الواقع ، وراح البعض يقلب الاُمور وهو يسعى أن يُلبس رداء الخلافة غير أهله . لكن هيهات ! حيث لم يشقّ الشكّ طريقه إلى هذه الفضائل أبداً ، ولم ينفذ الظلام إلى هذا النور المتبلّج ، فراح القوم يبحثون عن ذرائع اُخرى فما الذي فعلوه ؟ لقد سَعوا بعد مدّة أن يشكّكوا من جهة في دلالة هذا الحديث الشريف على «الإمامة والولاية» ، ويثيروا الشبهات من جهة ثانية حول سنده . لقد توفّرنا على إيراد نصوص كثيرة في المتن ، ونودّ الآن أن نسلّط الضوء على بعض الحقائق الكامنة في الحديث من خلال دراسة وتحليل محتواه وسنده ودلالته ، وذلك في إطار النصوص التي مرّت ومعلومات اُخرى . سنمضي مع هذه الجولة التحليليّة من خلال العناوين التالية :
1 . سند الحديثحديث الغدير من أبرز الأحاديث النبويّة وأكثرها شهرة ، صرّح بصحّته بل بتواتره عدد كبير من المحدّثين والعلماء (1) . على سبيل المثال : نقل ابن كثير عن الذهبي : «وصَدرُ الحَديثِ (مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ) مُتَواتِرٌ ، أتَيَقَّنُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَهُ» . (2) وقال الذهبي في رسالته : حَديثُ «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» مِمّا تَواتَرَ ، وأفادَ
.
ص: 140
القَطعَ بِأَنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه و آله قالَهُ ، رَواهُ الجَمُّ الغَفيرُ وَالعَدَدُ الكَثيرُ مِن طُرُقٍ صَحيحةٍ ، وحَسَنَةٍ ، وضَعيفَةٍ ، ومُطَّرَحَةٍ ، وأنَا أسوقُها : . . . . (1) وقد أحصى العلّامة الأميني مائة وعشرة من أعاظم الصحابة رووا الحديث ، ثمّ ذكر في نهاية الجولة أنّ من فاته منهم أكثر من ذلك بكثير . (2) أمّا المحقّق الراحل السيّد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله فقد ذكر في هامش على كلام صاحب الغدير ، أنّ هناك عدداً آخر من الصحابة رووا الحديث ، قد استوفاهم في كتابه «على ضفاف الغدير» . (3) ثمَّ في موسوعة «الغدير» فهرس كبير تقصّى رواة حديث الغدير من التابعين . أمّا العالم الغيور السيّد حامد حسين الهندي الذي أمضى عمره دفاعاً عن الولاية وحريم التشيّع بمثابرة عجيبة ومن دون تعب أو كلل ، فقد خصّص جزءاً كبيراً من موسوعته الخالدة «عبقات الأنوار» لحديث الغدير ، حيث كشف فيه عن أسانيد الحديث تفصيلاً ، وضبط طرقه ورواته (4) ، ثمّ استوفى الكلام في نقد من ذهب إلى عدم تواتر الحديث ، كاشفاً خطل هذه الدعوى وعدم صوابها بأدلّة دامغة وافية . (5) على ضوء هذه المعطيات يبدو أنّ الكلام عن سند الحديث وصحّته هو من فضول الكلام ، وممّا لا جدوى من ورائه . لذلك كلّه سنكتفي بشهادات عدد من المحدّثين ، قبل أن نترك هذه النقطة إلى بُعد آخر من أبعاد البحث :
.
ص: 141
ذكر الحاكم النيسابوري الحديث في موضع من «المستدرك على الصحيحين» ، ثمّ كتب بعد ذلك : «هذا حَديثٌ صَحيحٌ عَلى شَرطِ الشَّيخَينِ ولَم يُخرِجاهُ» . (1) كما قال في موضع آخر بعد نقل الحديث : «هذا حَديثٌ صَحيحُ الإِسنادِ ولَم يُخرِجاهُ» . (2) أمّا الترمذي فقد ذكر بعد أن نقل الحديث في «السنن» : «هذا حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ» . (3) وعند ترجمة الذهبي لابن جرير الطبري ، كتب : «لَمّا بَلَغَهُ _ ابن جرير _ أنَّ ابنَ أبي داوُدَ تَكَلَّمَ في حَديثِ غَديرِ خُمٍّ ، عَمِلَ كِتابَ الفَضائِلِ ، وتَكَلَّمَ عَلى تَصحيحِ الحَديثِ . قُلتُ : رَأَيتُ مُجَلَّداً مِن طُرُقِ الحَديثِ لِابنِ جَريرٍ ، فَاندَهَشتُ لَهُ ولِكَثرَةِ تِلكَ الطُّرُقِ» . (4) وكتب ابن حجر : «وأمّا حَديثُ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ، فَقَد أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ وَالنِّسائِيُّ ، وهُوَ كَثيرُ الطُّرُقِ جِدّاً ، وَقِد استَوعَبَهَا ابنُ عُقدَةَ في كِتابٍ مُفرَدٍ ، وكَثيرٌ مِن أسانيدِها صِحاحٌ حِسانٌ» . (5) أمّا كتاب ابن عقدة الموسوم ب_ «حديث الولاية» فقد كان متداولاً بين العلماء حتى القرن الهجري العاشر تقريباً ، وعنه كتب السيّد ابن طاووس يقول : «وقَد رُوِيَ فيهِ نَصُّ النَّبِيِّ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ عَلى مَولانا عَلِيٍّ عليه السلام بِالوِلايَةِ مِن مِائَةٍ وخَمسِ
.
ص: 142
طُرُقٍ» (1) . (2) ممّن أتى على نقل الحديث أيضاً ابن عساكر ؛ حيث ذكره في مواضع عدّة من مصنّفه العظيم ، ويكفيك أ نّه ذكر له عشرات الطرق في موضع واحد فقط . (3) وعلى النهج ذاته مضى عدد كبير من المحدّثين والمفسّرين والعلماء . أ فبعد هذا كلّه ، يجوز الشكّ في صدور الحديث أو في طرقه ؟ ! إنّ من يفعل هذا إنّما ينزلق إليه عن استكبار وعتوّ ورغبة في مناهضة الحقّ الصراح ، لا لشيء آخر .
2 . دلالة الحديثيظهر ممّا ذكرناه في بداية البحث وما سنعمل تفصيله أكثر عبر نصوص جمّة ، أنّ أحداً لم يكن يشكّ أو يناقش في أنّ مدلول جملة : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» إنّما كان يُشير إلى الرئاسة وتولّي الأمر ، وإلى الإمامة والزعامة ، على هذا مضت سُنّة السلف ومن عاصر الحديث ، دون أن يفهم أحد ما سوى ذلك . ولا جدال أنّ للفظ «المولى» في اللغة معاني أوسع من ذلك (4) ، لكن ليس ثمَّ شيء من تلك المعاني يمكن أن يكون هو المراد ، إنّما المقصود بمدلول الحديث هو الذي ذكرناه ، وفهمه الجيل الأوّل .
.
ص: 143
«المولى» في الأدب العربيإنّ تفحّص النصوص الأدبيّة القديمة ، ودراسة متون اللغة والتفسير ، ليدلّ دون ريب أنّ إحدى المعاني الواضحة ل_ «المولى» هي الرئاسة والأولى بالتصرّف في اُمور «المولّى عليه» ، وهي بمعنى الزعامة والولاية . وفيما يلي نستعرض بعض النصوص والشواهد اللغويّة والتفسيريّة الدالّة على ذلك : كتب أبو عبيدة معمر بن المثنّى البصري في تفسير الآية(15) من سورة الحديد ، عند قوله : «هِىَ مَوْلَاكُمْ» : «أي : أولى بِكُم» . (1) ثمّ شيّد تفسيره وصوّبه على أساس بيت من الشعر الجاهلي استشهد به ، وهو : فَغَدَت كِلَا الفَرجَينِ تَحسَبُ أ نَّهُمَولَى المَخافَةِ خَلفُها وأمامُها لقد قصد شرّاح «المعلّقات السبع» على أخذ المولى في بيت لبيد المذكور بمعنى «الأولى» ، وعلى هذا مضوا في شرح الشعر . (2) كتب المفسّر والنسّابة المعروف محمّد بن السائب الكلبي ، في تفسير الآية (51) من سورة التوبة : «قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ما نصّه : «أولى بِنا مِن أنفُسِنا فِي المَوتِ والحَياةِ» . (3) وكتب الأديب والمفسّر الكوفي المشهور أبو زكريّا يحيى بن زياد بن عبد اللّه المعروف بالفرّاء ، في تفسير الآية(15) من سورة الحديد ، ما نصّه : « «هِىَ مَوْلَاكُمْ» : أي أولى بِكُم» . (4)
.
ص: 144
وإلى هذا ذهب أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وأبو إسحاق الزجّاج ، ومحمّد بن القاسم الأنباري وآخرون . (1) ذكرنا أيضاً أنّ مجيء مولى بمعنى المتولّي والقيّم على الاُمور هو كذلك من بين أجلى استعمالات هذا اللفظ ، وقد صرّح به كثير منهم : أبو العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرّد ، في تفسير الآية (11) من سورة محمّد : «ذَ لِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ» ، حيث كتب : «وَالوَلِيُّ وَالمَولى مَعناهُما سَواءٌ ، وهُوَ الحَقيقُ بِخَلقِهِ المُتَوَلّي لِاُمورِهِم» . (2) كما جاء عن الفرّاء ، قوله : «الوَلِيُّ وَالمَولى في كَلامِ العَرَبِ واحِدٌ» . (3) كتب المفسّر والأديب والباحث القرآني المعروف في القرن الهجري الرابع الراغب الإصفهاني ، ما نصّه : «وَالوِلايَةُ تَوَلِّي الأَمرِ ، وَالوَلِيُّ وَالمَولى يُستَعمَلانِ في ذلِكَ ، كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يُقالُ في مَعنَى الفاعِلِ أيِ المُوالي ، وفي مَعنَى المَفعولِ أيِ المُوالى» . (4) كتب المفسّر والأديب المعروف في القرن الهجري الخامس أبو الحسن عليّ بن أحمد الواحدي النيسابوري ، في تفسير الآية(62) من سورة الأنعام : «ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ» ما نصّه : «الَّذي يَتَوَلّى اُمورَهُم» . (5) في الواقع صرّح بهذه الحقيقة علماء كثيرون نذكر من بينهم أيضاً المفسّر المعتزلي الكبير جار اللّه الزمخشري ، الذي كتب في تفسير الآية(286) من سورة
.
ص: 145
البقرة : «أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا» ما نصّه : «سَيِّدُنا ونَحنُ عَبيدُكَ ، أو ناصِرُنا أو مُتَوَلّي اُمورِنا» . (1) أمّا ابن الأثير فقد كتب في مصنّفه القيّم «النهاية» الذي تناول فيه غريب الحديث النبوي وألفاظه الصعبة ، ما نصّه في معنى «المولى» : «قَد تَكَرَّرَ ذِكرُ المَولى فِي الحَديثِ ، وهُوَ اسمٌ يَقَعُ عَلى جَماعَةٍ كَثيرَةٍ . . . وكُلُّ مَن وَلِيَ أمراً أو قامَ بِهِ فَهُوَ مَولاهُ ووَلِيُّهُ . . . ومِنهُ الحَديثُ «أيُّمَا امرَأَةٍ نُكِحَت بِغَيرِ إذنِ مَولاها فَنِكاحُها باطِلٌ» ، وفي رِوايَةٍ «وَلِيِّها» أي مُتَوَلّي أمرِها . (2) على هذا الضوء يتّضح أنّ «الأولويّة في الاُمور» ، و «تولّي الاُمور» و «السيادة والرئاسة والزعامة» هي حقائق ثابتة ومعروفة في معنى المولى ، كما أنّ تساوي معنى «المولى» مع «الوليّ» هي أيضاً حقيقة أكّد عليها العلماء والمفسّرون كما مرّت الإشارة لذلك . (3) وبذلك نحن نعتقد _ كما يتّفق معنا في ذلك أيضاً المنصفون وأتباع الحقّ من جميع الفرق والمذاهب (4) _ انّ ما قصده رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ذلك المشهد العظيم الخالد ، من خلال هذه الجملة المصيريّة الخطيرة ، هو الإعلان عن «ولاية» عليّ بن
.
ص: 146
أبي طالب و «إمامته» و «زعامته» وليس أيّ شيء آخر . لقد اُعدّ المشهد وتمّت تهيئة ذلك الحشد العظيم لغرض واحد فقط ، هو إعلان الولاية العلويّة للمرّة الأخيرة على مرآى الجميع ، هو إعلان أخير لكن احتشدت فيه كلّ عناصر التأثير والجاذبية لكي يستعصي على النسيان ويستوطن وعي الجميع وذاكرتهم ، حتى إذا ما أوشكت ساعة الرحيل ومضى النبيّ إلى ربّه ؛ لا يقول قائل : لم أدرِ ما الخبر ؟ أو لم أكن أعلم بالأمر ولم أسمع به ! لهذا كلّه حرص النبيّ صلى الله عليه و آله على أن يأخذ من القوم العهد والميثاق ، وأقرّهم مرّات على ما أبلغهم به ، حتى إذا أقرّوا له ، عاد يخاطب الجمع : «ألا فَليُبَلِّغِ الشّاهِدُ الغائِبَ» . أمّا الآن فقد آن لنا أن ندرس ملازمات قلب هذا المعنى ؛ فلو قلنا إنّ مدلول هذا الحديث النبوي لم يكن يعني الولاية وقيادة الاُمّة في المستقبل ، فما هي اللوازم التي تترتّب على هذا النمط من التفسير ؟ هل ترى العقل يذعن للمشهد بمثل هذ التفسير ؟ ثمّ ننعطف إلى تحليل الواقعة ودراسة مكوّناتها وتأمّل الكيفيّة التي انبثق على أساسها المشهد ؛ لنخرج من حصيلة ذلك كلّه إلى أنّ الحقيقة تكمن فيما ذكرناه أثناء التحليل الاصطلاحي واللغوي لذلك الجزء من الحديث النبوي وحسب ، وليس ثَمَّ شيء أو أشياء وراء ذلك . واللّه من وراء القصد .
قرائن دلالة حديث الغدير على الخلافةأ _ القرائن العقليّة1 . الحصيلة التي تجمّعت بين أيدينا حتى الآن لا تدع _ باعتقادنا _ مجالاً للشكّ في
.
ص: 147
أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد عيّن في ذلك المشهد المهيب قائد المستقبل ، وحدّد للاُمّة الإسلاميّة الإمام المرتقب . وما يمكن أن نضيفه الآن ، أنّ من يعتقد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يكن قد صدع بالولاية في ذلك الجمع العظيم ، ولم يكن قد أعلن الخلافة عبر ذلك الخطاب الذي تفجّر حماساً وتركيزاً على هذه النقطة ، ومن ثَمّ فإنّ من يذهب إلى أنّ النبيّ قد اختار موقف الصمت إزاء مستقبل الاُمّة وغد الرسالة ، لا يسعه أن يدرك مِن الذي ذكرناه دلالته على المستقبل ، وسيكون عاجزاً عن أن يفهم منه تعييناً للإمامة التي تتبوّأ القيادة بعد النبيّ . تماشياً مع قناعة هذا النظر ينبغي أنّ نفترض أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يكن قد فكّر في مستقبل الرسالة ، ولم يرسم لغد الاُمّة بعده مشروعاً محدّداً واضح المعالم والأركان ، ولم يحدّد موقع الإمامة بعد غيابه ، بل ترك الاُمّة كقطيع دون راعٍ ، وكهباء ضائع في خلاء ، ومن ثمَّ فهو لم يجهر بالحقيقة الناصعة على هذا الصعيد ولم يعلنها بلاغاً صادعاً تتناقله العصور والأجيال ! هذا مع أ نّنا رأينا في مطلع البحث أنّ الفرضيّات الاُخرى حيال مستقبل الاُمّة ، غير نظريّة النصّ على القيادة ، تتّسم بأجمعها بالسقم والاضطراب وعدم الصواب . والسؤال مجدّداً : أ يقبل العقل _ أيّ عقل كان _ هذه السلبيّة واللامبالاة على هذا «الطبيب الدوّار» (1) ؟ وهل يصدق هذا على نبيّ لبث شامخاً ناهضاً متفانياً لم يتلعثم عزمه قط ، ولم يكفّ عن التفكير في مستقبل الاُمّة والرسالة لحظة واحدة ؟ حاشا رسول اللّه أن يفعل ذلك ، وجلّت عن ذلك حكمته وصوابه ، وحزمه وثباته . 2 . كيفيّة انبثاق المشهد وانطلاق البلاغ : حجّ المسلمون مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهمّوا
.
ص: 148
بمغادرة مكّة عائدين إلى ديارهم ومواضع سكناهم بعد أن انتهت المراسم . أفواج تتلوها أفواج ، وقوافل يتبع بعضها أثر بعض ، تترك البيت العتيق قاصدة العودة بأهلها من حيث أتوا . كذلك مضت قافلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ترسل خطاها الثابتة صوب المدينة . اقتربت القافلة النبويّة من «وادي خمّ» وهو وادٍ موصوف بكثرة الوخامة وشدّة الحر (1) ، فجاء وحي السماء من فوره ، يأمر النبيّ أن يقف حيث هو . وراح منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأمر من تقدّم أن يعود ، ويحبس من تأخر ؛ ليجتمع الناس سواءً في مكان واحد ، حيث لم تتشعّب بهم الطريق بعد . أرض جرداء غير مسكونة مفتوحة على صحراء ممتدّة الشمس فوق الرؤوس حارّة لاهبة ، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه و آله أن يصنعوا له موضعاً يرتقيه من أقتاب الإبل ، حتى إذا خطب بالحاضرين يراه الجميع ويسمعونه . احتشد المكان بعشرات الاُلوف ، أدّى النبيّ صلى الله عليه و آله صلاة الظهر ، ثمّ راح يستعدّ لالقاء خطابه بعد أن أمرهم بالتجمّع ، ازداد تجمهر الحشود واقترابها إلى حيث يقف النبيّ مستعدّاً لأمرٍ مهم . الشمس تستقرّ في كبد السماء فترسل بأشعّتها الحارقة ، فتتحوّل الصحراء في تلك الظهيرة إلى كتلة ملتهبة . الحاضرون يضعون الأردية والملابس فوق الرؤوس وتحت الأقدام علّها تقيهم شيئاً من الرمضاء الحارقة وأشعّة الشمس المتوهّجة ، وبعضهم يفى ء إلى المتاع والرحال يلوذ بظلاله . مشهد يقتحم الذاكرة ويستعصي على النسيان . رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصعد الموضع الذي صنعوه مِن الرحال وأقتاب الإبل ، وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ بكلماته الأفئدة والأسماع ، ويُلقي خطبته على عشرات الاُلوف من المسلمين الذين أنهوا الحجّ لتوّهم .
.
ص: 149
بدأ الخطبة ، حمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ راح يُشهدهم مرّات ومرّات على جهده الحثيث في إبلاغ الرسالة ، وما بذله لهم من النصيحة في دين اللّه ، وبجهاده العظيم في سبيل الدعوة . فشهدوا له وشهدوا ، وردّدوا ذلك بصوت واحد . كان هذا كلّه كالتمهيد ، حتى إذا ما تطلّعت النفوس والعقول مستفهمة ما وراء هذا الكلام النبوي من مغزى ، أزِفت اللحظة الموعودة ، فما كان من النبيّ إلّا أن أخذ بعضد عليّ ورفعه حتى بان بياض آباطهما ، وصدع يقول : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» . والآن هلمّوا نُبصر المشهد ، ونتأمّل فيه عن كثب . ما الذي كان يبتغيه النبيّ بكلّ هذا التمهيد ، وفي فضاء مثل هذا تحتشد فيه الاُلوف المؤلّفة ؟ وما الذي كان يُريده من إعلان هذا الكلام وسط جوّ حارّ ملتهب يتجمهر فيه هذا الجمع العظيم ؟هل كان ما يقصده من قوله : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» هو الإعلان عن حبّ عليّ عليه السلام وحسب ؟ أ لم يتحدّث النبيّ صلى الله عليه و آله إلى الناس في أكثر من موضع من حجّته الأخيرة ؛ حَجَّة الوداع العظيمة ، عن أهل بيته ، ويركّز على مودّتهم من بين ما تحدّث به إلى المسلمين . أفتراه الآن جمع الاُلوف في هذه الرمضاء التي تشتعل النار في ترابها ، طالباً منها الإصغاء إلى كلامه ، وإلى أن يُبلّغ الشاهد الغائب ؛ لمحض أن يوصيها بحبّ عليّ ! أ يحتاج حبّ عليّ إلى وصيّة وهو سيّد المؤمنين وأميرهم والشخصيّة الخارقة في مدرسة محمّد صلى الله عليه و آله حيث لا تُضاهي مكانتها شخصيّة في هذا الدين ؟ ثمّ أ ليس المؤمنون مأمورون في كتاب اللّه بحبّ بعضهم بعضاً ، ومن ثمّ هم مأمورون بحبّ عليّ بالضرورة ؟ فهل يحتاج كلام كهذا إلى كلّ هذا التمهيد والإعداد ؟ سبق أن عرضنا أحاديث «حبّ عليّ» وقد ركّزنا هناك أيضاً إلى أ نّها تنطوي
.
ص: 150
على مدلول أعظم ، وغاية أسمى تتخطّى حدود الحبّ الصوري العادي . ولطالما تساءلنا عن هذا العناء الذي تجشّمه الناس في تلك الظهيرة الحارقة ؛ فهل كانت هذه المشقّة والأذى البليغ من أجل أن يسمع الناس كلاماً يوصيهم بحبّ عليّ ؟ ! تكشف هذه المؤشّرات بأجمعها أنّ ما كان يبتغيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بجملته تلك يتخطّى هذه التصوّرات العاديّة ، ويتجاوزها إلى مدلول أهمّ وأخطر ، هذا المدلول هو الذي أملى على النبيّ صلى الله عليه و آله أن يعدّ _ بأمر اللّه _ هذا المشهد العظيم بوقائعه الأخّاذة ، ومعانيه التي لا تُنسى ، كي يصدع مرّة اُخرى بذلك البلاغ الخطير ، باُسلوب أوضح ، حتى يعود المسلمون إلى ديارهم ومواطن سكناهم وفي أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول ، وفي ضمائرهم والعقول يستقرّ ذلك البلاغ الخطير . هل لعقل أن يفهم من المشهد غير هذا ؟ وهل ثمّ عقل يسيغ تلك التوجيهات والدعاوى الواهية التي ساقوها من حول الواقعة ! «إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» . (1)
ب _ القرائن في الواقعة نفسها1 . نزول الآيتينلا جدال في أنّ الآيتين (3) و (67) من سورة المائدة نزلتا بشأن واقعة الغدير ، فقد نزل الأمر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالبلاغ (الآية : 67) فأعدّ له ذلك المشهد المهيب الذي تجمّعت فيه آلاف الاُلوف ، حتى إذا ما انتهى النبيّ من البلاغ ، ومن قوله : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» نزلت الآية الاُخرى وهي تتحدّث عن إكمال الدين وتمام النعمة .
.
ص: 151
هذه حقيقة وثّقت لها كثرة كبيرة من الروايات والأخبار بحيث لم يعد فيها أدنى شكّ . والسؤال : لقد نزلت الآية (67) وهي تحتّم على النبيّ صلى الله عليه و آله إبلاغ أمر إذا ما تخلّف عنه فكأ نّه لم يبلّغ الرسالة بالمرّة ، كما تُشير إلى أنّ ما ينبغي إبلاغه لهو من الخطورة بحيث يبعث الخيفة والتوجّس ، ويُثير خصومة المعاندين وعداوتهم ؛ فهل يتّسق هذا كلّه والزعم أنّ الآية نزلت بشأن شيء من الشرائع وبعض الحلال والحرام ! لقد كان واضحاً أنّ إبلاغ الشرائع وأحكام الحلال والحرام لا يستحقّ من النبيّ الخشية والتوجّس ، كما لا يستتبع من الآخرين المعارضة والعناد . إنّه لأمر غريب ما ذهب إليه عدد من المفسّرين ! فعندما عجز هؤلاء عن رؤية الحقيقة _ أو لم تكن لهم رغبة برؤيتها _ تراهم جنحوا لمزاعم واهية وأقوال لا نصيب لها من الصواب . إنّ أهمّية الآيتين وتحديد زمن نزولهما ، يدفعنا إلى تخصيص بحث مستقلّ لكلّ واحدة منهما .
2 . محتوى الخطبةإنّ الطريقة التي بدأ بها النبيّ صلى الله عليه و آله خطبته ، وكيفيّة إدامتها ، والطريقة التي اختار بها عرض الموضوع ، والنسق الحماسي المؤثّر الذي شاب كلمات الرسول وذلك الإيقاع المتحرّق الأخّاذ في كلماته ، كلّ ذلك لا يدع مجالاً للشكّ في أنّ الموضوع أهمّ وأخطر بكثير ممّا تصوّره البعض . لنبقَ مع إحدى الصيغ التاريخيّة التي توفّرت على بيان النصّ ، ثمّ نتأمّل ما فيه من إيحاءات . عن حذيفة بن أسيد ، قال : «لَمّا قَفَلَ رَسولُ اللّهِ مِن حَجَّة الوَداع نَهى أصحابَهُ عَن شَجَراتٍ بِالبَطحاءِ مُتَقارِباتٍ أن يَنزِلوا حَولَهُنَّ ، ثُمَّ بَعَثَ إلَيهِم فَصَلّى تَحتَهُنَّ ، ثُمَّ قامَ فَقالَ : أيُّهَا النّاسُ !
.
ص: 152
قَد نَبَّأَنِي اللَّطيفُ الخَبيرُ أ نَّهُ لَم يُعَمَّر نَبِيٌّ إلّا مَثلَ نِصفِ عُمُرِ الَّذي قَبلَهُ ، وإنّي لَأَظُنُّ أن يوشِكَ أن اُدعى فَاُجيبَ ، وإنّي مَسؤولٌ وأنتُم مَسؤولونَ ، فَمَاذا أنتُم قائِلونَ ؟قالوا : نَشهَدُ أ نَّكَ قَد بَلَّغتَ ونَصَحتَ وجَهَدتَ ، فَجَزاكَ اللّهُ خَيراً . قالَ : أ لَستُم تَشهَدونَ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسولُهُ ، وأنَّ جَنَّتَهُ حَقٌّ ، وأنَّ نارَهُ حَقٌّ ، وأنَّ المَوتَ حَقٌّ ، وأنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيبَ فيها ، وأنَّ اللّهَ يَبعَثُ مَن فِي القُبورِ ؟ قالوا : بَلى نَشهَدُ بِذلِكَ . قالَ : اللّهُمَّ اشهَد ، ثُمَّ قال : يا أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ اللّهَ مَولايَ ، وأنَا مَولَى المُؤمِنينَ ، وأنَا أولى بِهِم من أنفُسِهِم ؛ مَن كُنتُ مَولاهُ فَهذا مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ . ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! إنّي فَرَطُكُم وإنَّكُم وارِدونَ عَلَىَّ الحَوضَ ، حَوضٌ أعرَضُ مِمّا بَينَ بُصرى وصَنعاءَ ، فيه آنِيَةٌ عَدَدَ النُّجومِ قِدحانٌ مِن فِضَّةٍ ، وإنّي سائِلُكُم حينَ تَرِدونَ عَلَيَّ عَنِ الثَّقَلَينِ ، فَانظُروا كَيفَ تَخلُفوني فيهِما ؛ الثَّقَلُ الأَكبَرُ كِتابُ اللّهِ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللّهِ وطَرَفٌ بِأَيديكُم ، فَاستَمسِكوا بِهِ لا تَضِلّوا ولا تُبَدِّلوا ، وعِترَتي أهلُ بَيتي ؛ فَإِنَّهُ قَد نَبَّأَنِي اللَّطيفُ الخَبيرُ أ نَّهُما لَن يَفتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ» . (1) إنّ نسق بيان الخطبة ليدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله راح بادئ الأمر يهيّئ القلوب ويعدّها ، ويدفع بالأفكار إلى التأمّل ، ويحثّ الآذان على الانتباه والإصغاء ، حتى تنفتح بصائر القلوب ، فيملأ الأفئدة إيماناً ، وتستوطن كلماته النديّة الشجيّة الأعماق ، ذلك كلّه لكي لا ينقلب أحد من الناس في الغد وما بعد الغد إلى إنكار ما سمع من خطاب الرسول إلّا أن يكون ذلك عن ضلالة وعمى ، وعن عناد أمام الحقّ الصراح . تحدّث النبيّ صراحة بأنّ ساعة الرحيل قد أوشكت ، وما أقرب أن يُودّع الاُمّة
.
ص: 153
إلى الرفيق الأعلى ؛ كي يحفّز بذلك الأذهان ويستحثّها للتفكير بأمر الخلافة ، ويدفعها للتأمّل في الصيغة التي تستمرّ فيها القيادة من بعده . لقد جاءت كلمات النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّي مسؤول ، وأنتم مسؤولون» لتلقي شحنة مركّزة وقويّة على المسؤوليّة العامّة الملقاة على عاتق الجميع ، وكأنّه صلى الله عليه و آله يقول : أنا مسؤول أن أصدع بالحقّ وأهتف بالحقيقة كما هي ، وأنتم مسؤولون أن تُصغوا وتتأمّلوا ثمّ تعملوا . ثمّ انعطف يتساءل : لقد مكثت فيكم سنوات مديدة اُبلّغ رسالات ربّي فماذا أنتم قائلون ؟ أجاب الحشد بصوت واحد عالي الرنين ، رفيع الصدى : نشهد أ نّك قد بلّغت وجاهدت ، فجزاك اللّه خيراً . واستمرّ النبيّ يسترسل بتساؤلاته إلى الجمع المحتشد أمامه ، عن اُصول ما جاء به إليهم ، فشهدوا بالتوحيد والرسالة ، وأ نّه الأولى عليهم من أنفسهم في جميع شؤون الحياة ، فأشهد اللّه عليهم قائلاً : اللّهُمَّ اشهد . هي ذي اللحظة الموعودة أزفت ، إنّ هذا كلّه كان كالتمهيد ، ترقّب عارم يحفّ بالمشهد ، الأبصار تطمح تلقاء المُحيّا النبوي ، الآذان مشدودة إليه ، وتساؤلات تسكن الأعماق : ما الذي يريد أن يقوله النبيّ من وراء ذلك ؟ تدفّقت الكلمات من فم النبيّ صلى الله عليه و آله : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَهذا مَولاهُ» . وطفق النبيّ بعدها يدعو لمن والاه ، وأنّ من يعتو عن هذا الأمر ، ويعلو عليه ، ولا يسلّم لصاحب الولاية بولايته ، فهو في الحقيقة يُعلن المعركة ضدّ الرسول ، ويشهرها حرباً على النبيّ نفسه . أ بعد هذا يسفّ بعاقل رأيه ، ويتداعى به حزمه ، فيزعم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله فعل ذلك كلّه كي يوصي بحبّ علي ؟ !
.
ص: 154
رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعلم أنّ في قومه من لا يطيق هذه الحقيقة ، وأنّ فيهم من سيحرّض على «المولى» ويحشّد الصفوف لمواجهته ، جامحاً عن الحقّ ، فشدّد وحذّر ، ثمّ ما لبث أن تحوّل إلى جانب آخر ، ليعيد تأكيد الأمر من بُعدٍ جديد . ذكر القيامة ، وعاد ينبّه إلى لحظة الفراق ، مشيراً : إنّني اُوشك أن اُدعى فاُجيب ، لكنّي أتوجّس المستقبل ، فماذا أنتم فاعلون ! موعدنا هناك ، على الحوض ، ستجدوني أقف بانتظاركم ، أترقّبكم كيف ترِدون . صلّى اللّه عليك يا ضياء العالم ، ويا سراج الوجود المنير ، لقد صدعت بكلمات اللّه ، وبلّغت رسالة السماء بما هي أهله ، وأدّيت حقّ «الحقّ» اُداءً شرُفت به الحياة ، وأضاءت به مقادير الإنسان . صلّى الله عليك ، وقد صدعت بولاية عليّ بصدر مشحون بالغصص والآلام ، لعلمك بالمدى الذي ستبلغه مكائد القوم واحَنهم ، وهي توشك أن تنطلق قويّة ضارية ، تحيك المؤامرات والمتاعب من كلّ حدب وصوب . بيد أ نّك حفظت للحقّ حرمته ، وأدّيت الأمانة . فسلام عليك _ نُزجيه خاشعين _ عمّا أعطيت وهديت ، وعلى الذين نهجو نهجك الوضّاء ، وسلكوا سبيلك ، وبذلوا مهجتهم فيك .
3 . تتويج عليّ يوم الغديرهو ذا نبيّ اللّه يضع عمامته على رأس عليّ ليزداد المشهد اُبّهةً وجلالاً ، فهو بحقّ : نور على نور . رسول اللّه صلى الله عليه و آله يهبط من المكان الذي وُضع له لحظة أن صدع بأخطر بلاغات السماء ، تتهادى إلى نفسه المقدّسة عذوبة شفيفة ، تسكن روحه طمأنينة باذخة ، ورضى أحسّ به بعد أن انتهى من إبلاغ الاُمّة أمر ربّه . الناس يتجمهرون حول النبيّ
.
ص: 155
حلقاً حلقاً . لا ريب أنّ القلوب تموج بمشاعر مختلفة لما حصل . ما الخبر ؟ عليّ أصبح خليفة النبيّ ؟ لم يكن قلّة اُولئك الذين تجاهلوا كلّ جهود النبيّ صلى الله عليه و آله وما بذله في سبيل هذا الأمر منذ أوّل أيّام البعثة حتى هذه اللحظة ، وما كان اصرارهم على العناد قليلاً ، لذلك شعر النبيّ أنّ مهمّته لم تكتمل بعد ، فلابدّ من المزيد إمكاناً في ترسيخ الأمر ، وإبلاغاً في الحجّة . نادى على عليّ عليه السلام ، وتوّج رأسه بعمامته «السحابة» . لقد ألفت أعراف ذلك العصر تتويج من يتسنّم زمام الحكم ، وعلى هذا جرى الملوك والاُمراء ، والآن هو ذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقد نصب عليّاً للحكم ، يضع على رأسه العمامة ؛ لأنّ «العَمائِمُ تِيجانُ العَرَبِ» . (1) كما حدّثوا عن ثقافة ذلك العصر أنّ العرب عندما كانوا يَنتخِبون شخصاً للإمارة ويسوّدونه عليهم ، كانوا يضعون على رأسه «عمامة» في سلوك كان يدلّ على تثبيت الحاكميّة والولاية . (2) لقد تحدّث عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن هذه المكرمة النبويّة العظيمة ، بقوله : «عَمَّمَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ غَديرِ خُمٍّ بِعِمامَةٍ» . كما وثّق المحدّثون والمؤرّخون مراسم هذا التتويج المهيب الذي ينبئ عن العظمة والجلال ، فكان ممّا كتبوه : «أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله دَعا عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ يَومَ غَديرِ خُمٍّ ، فَعَمَّمَهُ وأرخى عَذَبَةَ العِمامَةِ مِن خَلفِهِ» . وكتبوا أيضاً : «إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَمَّمَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام عِمامَتَهُ السَّحابَةَ» . (3)
.
ص: 156
لقد دلّل النبيّ صلى الله عليه و آله بتتويج عليّ عليه السلام بعمامته «السحابة» على هذه الهيئة الخاصّة ، وفي ذلك المشهد وبعد البلاغ ، على أ نّه لم يكن يقصد من وراء خطبته وكلماته السامية ، غير نصب عليّ للولاية ، ولم يكن له غرض يصبو إليه من جميع ذلك ، إلّا أن يعلن إمامة أمير المؤمنين وزعامته للاُمّة . (1)
4 . التسليم بالإمارةنزل النبيّ صلى الله عليه و آله من المنبر الذي صنعوه له من أحداج الإبل ، ثمّ أمر المؤمنين أن يُسلّموا على عليّ عليه السلام بإمرة المؤمنين . يقول بُريدة الأسلمي : «أمَرَنا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن نُسَلِّمَ عَلى عَلِيٍّ عليه السلام بِإِمرَةِ المُؤمِنينَ» .
5 . التهنئة بالولاية والإمارةلقد أسفرت تصريحات ذلك اليوم عن وجه الحقيقة ، حتى لم يفهم الحاضرون من الواقعة ومن البلاغ غير نصب عليّ عليه السلام للولاية ، لذلك اندفعوا صوب الإمام أمير المؤمنين يهنّئونه بالولاية . والطريف أنّ الذين تقمّصوا الأمر بعد ذلك كانوا في طليعة المبادرين لتهنئة الإمام ، ومن بينهم الخليفة الثاني الذي بادر الإمام بقوله : «هَنيئاً لَكَ يَا بنَ أبي طالِبٍ ! أصبَحتَ اليَومَ وَلِيَّ كُلِّ مُؤمِنٍ» . لقد توفّرت مصادر حديثيّة وتاريخيّة كثيرة على توثيق تهنئة عمر وضبطها بألفاظ عديدة ، كما توفّرت أيضاً على ضبط تهاني الآخرين .
6 . شعر الشعراءيحظى فهم الاُدباء والشعراء لمفردات اللغة وألفاظها بعناية خاصّة في جميع
.
ص: 157
الثقافات ، فإذا ما تعددت احتمالات المعنى ترى العلماء يُهرَعون إلى فهم الاُدباء والشعراء ليستندوا إليه في الترجيح . وفي يوم الغدير ، حيث كان النبيّ قد نزل المنبر للتوّ ، نهض حسّان بن ثابت من فوره ، واستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يقول في الواقعة أبياتاً من الشعر ، فأذن له النبيّ ، فراح ينشد قصيدته العصماء ، ومطلعها : يُناديهُمُ يَومَ الغَديرِ نَبِيُّهُمبِخُمٍّ وأسمِع بِالرَّسولِ مُنادِياً إلى أن قال : فَقالَ لَهُ قُم يا عِلِيُّ فَإِنَّنيرَضيتُكَ مِن بَعدي إماماً وهادِياً فلمّا فرغ قال النبيّ صلى الله عليه و آله : «لا تَزالُ يا حَسّانُ مُؤَيَّداً بِروحِ القُدُسِ ما نَصَرتَنا بِلِسانِكَ» . يتّضح من غديريّة حسّان أ نّه فهم من الواقعة ومن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، النصَّ على إمامة عليّ بن أبي طالب ، وقد أيّده النبيّ ولم يُنكر عليه 1 . وعلى هذا مضى شعراء كثيرون بعد حسّان بن ثابت ؛ حيث استلهموا في شعرهم وقصائدهم إمامة عليّ وولايته من هذه الواقعة وما صدر فيها . من جهته استند العلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني في موسوعته الضخمة «الغدير» على مثل هذا الشعر من بين ما استند إليه ، قاصداً تحليل محتواه ودراسة مراميه الدالّة على الولاية والإمامة .
.
ص: 158
7 . إنكار الولاية ونزول العذابصدور موبوءة بالحسد ، موغرة بالحقد والضغينة ، لا لشيء إلّا لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أعلن اسم عليّ ونصبه للولاية وإمامة الاُمّة من بعده . راح هؤلاء يُرجِفون ، ويبثّون السفاهات ، لكن ندّ مِن بينهم رجل كان أكثرهم وقاحة ، وأجرأهم على الحقّ ، نظر بعين الشكّ إلى ما قام به النبيّ من نصب عليّ للإمامة ، فأسرع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله تسبقه أحقاده ، فسأله بجلفٍ وفجاجة ، عن الذي جاء به ، وفيما إذاكان منه أم من اللّه ، فردّ عليه نبيّ اللّه ثلاث مرّات مشفوعة بقسم أنّ ما جاء به هو من عند اللّه ، وهو أمر السماء لابدّ له فيه . لكنّ الرجل مضى بنفس متبلّدة داجية ، وروح منهوكة مهزومة تُحيط بها ظلمة حالكة من كلّ صوب ، وهو يسأل اللّه بتبرّم وسخط أن يُسقِط عليه حجارة من السماء أو يأتيه بعذاب أليم إن كان ما يقوله حقّاً . لم يكد يبتعد عن النبيّ خطوات ، حتى نزل به العذاب ، إذ رماه اللّه بحجر قتله من فوره ، بعد أن وقع على هامته ، وأنزل اللّه سبحانه : «سَأَلَ سَآئِل بِعَذَابٍ وَاقِعٍ » . (1) المهمّ في هذه الواقعة ما فهمه سائل العذاب ، فهذا الرجل فهم من قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» دلالته على الإمامة والرئاسة والقيادة ، بدليل قوله في سياق ردّه على النبيّ صلى الله عليه و آله : «ثُمَّ لَم تَرضَ حَتّى نَصَبتَ هذَا الغُلامَ ، فَقُلتَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» ! إذ من الجليّ أنّ حبّ عليّ وإظهار مودّته لو كانا هما المقصودين في كلام النبيّ ، لما استدعى الأمر كلّ هذا الحنق والغضب من الرجل ، ولما استتبع عصيانه وطغيانه .
.
ص: 159
8 . اعتراف الصحابةلم يكن ثمّةَ من الصحابة في ذلك العصر مَن فهم من الكلام النبوي غير دلالته على مفهوم الإمامة والقيادة . حتى مرضى القلوب أظهروا الذي أظهروه لضعف اعتقادهم ، وإلّا لم يشكّ منهم أحد قط في مدلول الكلام النبوي ومعناه . منذ ذلك المشهد وبعده _ حيث استمرّ الأمر بعد ذلك سنوات أيضاً _ كان هناك على الدوام من يُطلق على الإمام عليّ عنوان المولى ، ويخاطبه ويسلّم عليه به . وعندما كان الإمام عليّ عليه السلام يستوضح هؤلاء ويسألهم عن هذا الاستعمال ، كانوا يُجيبوه : «سَمِعنا رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ غَديرِ خُمٍّ يَقولُ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَاِءنَّ هذا مَولاهُ» . (1) وقد أكّد عمر بن الخطّاب نفسه على هذه النقطة مرّات ، كما فعل ذلك عدد آخر من الصحابة أيضاً . والسؤال : هل أراد هؤلاء بمناداتهم عليّاً بالمولى ، استناداً إلى الواقعة وإلى مدلول حديث الغدير ؛ هل أرادوا بذلك «الحبيب» و «النصير» ؟ إنّ الجنوح إلى مثل هذا الفهم لا تبرّره إلّا اللااُباليّة كما ينمّ عن عدم الانصياع إلى أبسط الحقائق اللغويّة والبيانيّة وأوضحها .
9 . مناشدة الإمامعندما رأى الإمام عليّ عليه السلام أنّ الجهاز السياسي الحاكم راح ينتهز الفرصة في تجاهل الواقعة وكتمانها ، بادر إلى اُسلوب فاعل لمواجهة ذلك . لم يلجأ الإمام إلى مواجهة الوضع الجديد على أساس صدامي مباشر ، ولم يَر من المناسب أن يلتحم في معركة حامية تثير الفتنة والاضطراب ، لأسباب كان يقدّرها ، ومرّت إليها الإشارة
.
ص: 160
في موضعها . بيد أ نّه لم يكفّ يده قط عن إظهار الحقّ ، والإجهار بالحقيقة وبما كان قد حصل يوم الغدير مستفيداً من أيّة فرصة تؤاتيه لإعلان ذلك . فإذا ما واجه أحدهم الإمام بسؤال كان يُجيبه بصراحة ، وإذا ما كان بين الناس ورأى الأجواء مؤاتية بادر هو للحديث عن واقعة الغدير طالباً ممّن كان حضر الواقعة من الحاضرين أن يشهدوا بما أبصروا ورأوا . كما كان يحصل أحياناً أن يقسم الإمام على أشخاص لاذوا بالصمت خوفاً أو طمعاً ، ويحثّهم على إظهار الحقّ والصدع به ، حتى لا تضيع الحقيقة وتندثر في مطاوي النسيان . إنّ الوقائع من هذا القبيل كثيرة ، وقد اشتهرت في تصانيف المحدّثين والمؤرّخين ب_ «المناشدة» ، وقد حصلت بوفرة سواء في عهد عزلة الإمام أو في عصر خلافته ، لكي لا يضيع الحقّ على الجيل الجديد ، ولا تلتبس عليه الحقيقة ، ويصير ضحيّة التجهيل والتضليل . من ذلك ما ذكروه ، من أنّ الإمام حضر في مجتمع الناس بالرحبة في الكوفة واستنشدهم بحديث الغدير ، حيث قالوا : نشد عليّ عليه السلام الناس في الرحبة من سمع النبيّ صلى الله عليه و آله يقول يوم غدير خُمّ ما قال ، إلّا قام . فقام بضعة عشر رجلاً من الصحابة . لقد دأب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على تأكيد هذه الحقيقة دائماً وفي كلّ مكان ، حيث راح يحثّ من حضر الواقعة على الإدلاء بشهادته ، كي لايضيع حقّ «الحقّ» ولا يلفّه النسيان . على هذا كانت شهادة هؤلاء القوم مهمّة بالنسبة إلى الإمام ، وعندما اختار بعضهم _ ممّن لم يُرتقب منه ذلك أبداً _ الكتمان والامتناع عن إبداء الشهادة ، دعا عليهم الإمام بألمٍ وتوجّع . أ فيكون كلّ هذا الحثّ والإصرار ، والحرص والتحرّق على إضاءة المشهد وإبقاء
.
ص: 161
الواقعة حيّة لا تُنسى ، لمحض أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال في جملةٍ : أحبّوا عليّاً وانصروه ! ثمّ هل لنا أن نتصوّر أنّ الجهاز الحاكم فرض السكوت على تلك الجموع الكثيرة التي حضرت الواقعة ، بحيث كان الإمام عندما ينشدهم لم تنهض منهم إلّا قلّة ضئيلة فيما تلوذ الأكثريّة بالصمت خوفاً أو طمعاً ، إنّما كان من أجل أن يحولوا بين القلوب والنفوس وبين جملة أوصى بها النبيّ بحبّ عليّ ؟
كلام أهل البيت عليهم السلام في تفسير الحديثذكرنا مراراً أنّ الذين حضروا مشهد الغدير فهموا من قول النبيّ : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» دلالته على الولاية والإمامة والرئاسة ، على هذا الأساس انطلقوا لتحيّة الإمام بالإمارة وتهنئته بالولاية ، على المسار ذاته تحرّك الاُدباء والشعراء ، فضمّنوا شعرهم وقصائدهم هذه الحقيقة التي فهموها وتركوها وثيقة للتاريخ ، كما يشذّ عن ذلك الفهم حتى اُولئك الضُّلّال الذي تعثّرت بهم بصيرتهم فاختاروا الضلالة على الهدى . ما نودّ التأكيد عليه في خاتمة هذه القرائن ، أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أعلنوا هذه الحقيقة في تفسير الحديث مرّات ومرّات . أجل ، لم يصدر عن اُولئك الكرام ، وهُم هُم في البلاغة والعلم ، وهم «أهل البيت» ، و «أدرى بما في البيت» ؛ لم يصدر عنهم في مواضع متعدّدة قط سوى هذا التفسير . ونختم بنصّ من هذه النصوص الوضيئة التي تتضوّع مسكاً _ وختامه مسك _ حيث سأل أبو إسحاق الإمام عليّ بن الحسين ، بقوله : ما مَعنى قَولِ النَّبِيِّ : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ؟» .
.
ص: 162
قال : «أخبَرَهُم أ نَّهُ الإمامُ بَعدَهُ» . (1) إنّ أمثال هذه النصوص التفسيريّة كثير في ميراث أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، ولا جدال أنّ تفسيرهم مقدّم على كلّ تفسير . (2)
بعد الغديرقفل رسول اللّه صلى الله عليه و آله عائداً إلى المدينة بعد أن انتهى من الحجّ وأبلغ ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام . لم يعترض على البلاغ النبوي علناً وبشكل صريح إلّا شخص واحد ، أمّا البقيّة فقد انطوت على الصمت ولم تجهر بخبيئة نفسها . تفرّق الناس في البوادي والصحاري قاصدين ديارهم ، ودخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله المدينة مع أصحابه .
محاولة لتثبيت محتوى «الغدير»راح رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُمضي أيّامه الأخيرة في المدينة ، وموجات السرور تطفح بالبشر على وجهه الأقدس ، وهو يشعر بالرضى وقد انتهى من أداء آخر المسؤوليّات وبلّغ آخر كلمات السماء وأخطرها . بيد أ نّه كان يعرف بعلمه الذي يستمدّه من وراء الملكوت ، ما يجري في داخل المجتمع ، وله دراية بجميع المؤامرات والمكائد والعداوات التي توشك أن تنطلق في المستقبل القريب قويّة ضارية . لذلك كلّه راح يستفيد من الفرصة المتبقّية لكي يُحكم ما كان قد بلّغه ويرسّخه أكثر فأكثر . لقد سجّل الجهد النبوي على هذا الصعيد مبادرتين عظيمتين على الأقلّ ، نشير إليهما في الفصل الآتي .
.
ص: 163
16 . الجهود الأخيرة1 . كتابة الوصيّةرسول اللّه صلى الله عليه و آله ممدّد على فراش المرض وقد ثقل عليه المرض ، الحمّى تلهب جسده المطهّر ، وكلّ شيء يومئ إلى أنّ ساعة الرحيل قد أزفت ، وأنّ النبيّ يوشك أن يفارق هذه الدنيا بعد سنوات من الجهد الحثيث المثابر . ما يشغل النبيّ في هذه اللحظات الحرجة ويقضّ عليه مضجعه هو مستقبل الاُمّة ، والغد الذي ستؤول إليه رسالته الفتيّة ، وهذه الشجرة الطيّبة التي لا تزال بحاجة إلى الرعاية والحماية ، وإلى عناية من نوع خاصّ . في هذه اللحظات الثقيلة بوطأة الفراق الذي أوشك ، وإذا بصوت يصدع من الحجرة النبويّة ، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : «اِيتوني بِكِتابٍ أكتُب لَكُم كِتاباً لَن تَضِلّوا بَعدَهُ أبَداً» . (1) انفجر المشهد عن لغط تحوّل بالتدريج إلى صياح وخصام في محضر النبيّ الأقدس ، ثمّ ندت عن أحد الحاضرين كلمة قارصة موجعة بعيدة كلّ البعد عن مقام النبيّ وشأوه العظيم . لقد بلغ من احتدام الموقف أنّ النساء صحن من وراء الستر إشفاقاً على النبيّ ، وهنّ يحثّنّ الرجال أن يُقرّبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما طلبه ، فما كان من صاحب ذلك الصوت إلّا أن عاد يطعن بهنّ . (2) عندها أحجم النبيّ عن الحاضرين ، ونادى بهم : «قوموا عَنّي» ! 3 لم تُكتب هذه الوصية النبويّة ، لكن محتواها كان واضحاً لكثيرين _ ولا يزال _
.
ص: 164
وهم يعرفون تماماً لماذا أحجم النبيّ عن إملائها . لا ريب أنّ محتوى الوصيّة هو تأكيد آخر على ما تمّ إبلاغه في الغدير من الولاية وتحديد مستقبل الاُمّة ومصيرها ، تشهد على ذلك النقاط التالية : 1 . إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله تحدّث عن «التمسّك» بالثقلين مرّات ومرّات ، وعدَّ ذلك عصمة للاُمّة من مهاوي الردى والضلال . وفي حديثه عن هذه الوصيّة صرّح بالخصلة ذاتها ، وهو يقول : «كِتاباً لَن تَضِلّوا» . 2 . ينبغي أن ندرس ونتأمّل طبيعة الشيء الذي إذا كتبه الرسول يُثير كلّ هذا الصخب والتوجّس وردود الأفعال ، حتى ليستمرئ بعض الحاضرين توجيه تلك المقالة المهينة إلى رسول اللّه ، هل كان ثمَّ شيء خليق بإثارة هذا الجوّ العنيف المنفعل غير قضيّة «القيادة» ، حتى بلغ من ضوضاء القوم أن أمر النبيّ بإخراجهم وإبعادهم عنه ، بكلمات ملؤها الألم ! 3 . كان ابن عبّاس يتحدّث عن تلك الرزيّة [رزيّة الخميس] على الدوام ، ويُعيد ذكراها بتوجّع وألم ، حتى كانت دموعه تسيل على خدّيه في بعض المرّات ، وقد قال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أوصى بثلاث بعد الذي قالوا ، قال : «أخرِجُوا المُشرِكينَ مِن جَزيرَةِ العَرَبِ ، وأجيزُوا الوَفدَ بِنَحوِ ما كُنتُ اُجيزُهُم . . .» . ثمّ ذكر ابن أبي نجيح الذي روى الخبر عن سعيد بن جبير ، ما نصّه : وسَكَتَ سَعيدٌ عَنِ الثّالِثَةِ ، فَلا أدري أسَكَتَ عَنها عَمداً ؟ ! وقالَ مَرَّةً : أو نَسِيَها ؟ وقالَ سُفيانُ مَرَّةً : وإمّا أن يَكونَ تَرَكَها أو نَسِيَها ! (1) أنسي سعيد ! أم اعتصم بالصمت وهو يبصر سيف الحجّاج بن يوسف يبرق فوق الرؤوس ؟ وهل اختارت ذاكرة التاريخ إلّا أن تدفع الأمر إلى مطاوي العدم والنسيان
.
ص: 165
لتفتك ب_ «الحقيقة» وتاُدّها لمصلحة الجهاز الحاكم ، وتذبحها على دكّة «المصلحة» ! يكتب العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين : «ليست الثالثة إلّا الأمر الذي أراد النبيّ أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال ، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلى نسيانه ، كما نبّه إليه مفتي الحنفيّة في «صور» الحاج داود الددا . (1) هكذا يتّضح أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عندما منع من الكتابة ، عاد ليؤكّد الأمر شفويّاً في إطار وصايا اُخرى ، ولكن ! 4 . اعتراف عمر بن الخطّاب : لقد صرّح عمر بهذه الحقيقة ، وعدّ ما قام به _ من منع النبيّ والحؤول بينه وبين أن يكتب _ تداركاً لمصلحة الاُمّة ! يقول : «ولَقَد أرادَ [ صلى الله عليه و آله ] في مَرَضِهِ أن يُصَرِّحَ بِاسمِهِ ، فَمَنَعتُ مِن ذلِكَ إشفاقاً وحيطَةً عَلَى الإِسلامِ . لا ورَبِّ هذِهِ البَنِيَّةِ لا تَجتَمِعُ عَلَيهِ قُرَيشٌ أبَداً ، ولَو وَلِيَها لَانتَقَضَت عَلَيهِ العَرَبُ مِن أقطارِها ، فَعَلِمَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أ نّي عَلِمتُ ما في نَفسِهِ فَأَمسَكَ» ! (2)
2 . إنفاذ جيش اُسامةاختار رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ وهو في أيّامه الأخيرة وقد استولى عليه المرض _ اختار اُسامة بن زيد ؛ ذلك الفتى البالغ عمره 17 سنة ، لقيادة جيش كبير يضمّ في صفوفه أعيان الصحابة . يقول ابن سعد في هذا السياق : «فَلَمّا كانَ يَومُ الأَربَعاءِ بُدِئَ بَرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَحُمَّ وصُدِعَ ، فَلَمّا أصبَحَ يَومَ الخَميسِ عَقَدَ لِاُسامَةَ لِواءً بِيَدِهِ . . . فَلَم يَبقَ أحَدٌ مِن وُجوهِ المُهاجِرينَ الأَوَّلينَ والأَنصارِ إلَا انتُدِبَ في تِلكَ الغَزوَةِ ؛ فيهِم : أبوبَكرٍ الصِّدّيقُ ، وعُمَرُ بنُ الخَطّابِ ، وأبو عُبَيدَةَ بنُ الجَرّاحِ ، وسَعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ ، وسَعيدُ بنُ زَيدٍ ، وقَتادَةُ بنُ النُّعمانِ ،
.
ص: 166
وسَلَمَةُ بنُ أسلَمَ بنِ حَريشٍ» (1) . النبيّ صلى الله عليه و آله يأمر بإنفاذ هذا الجيش ويقول مؤكّداً «جَهِّزوا جيشَ اُسامَةَ ، لَعَنَ اللّهُ مَن تَخَلَّفَ عَنهُ» (2) ويأمر جيش المسلمين بترك المدينة فوراً مع عدم وجود خطر عسكري فِعليّ يهدّد المدينة ! لا ريب أنّ النبيّ كان يقصد من وراء ذلك أن ينقّي أجواء المدينة من المتربّصين الذين يتحيّنون الفرصة بعد رحيل النبيّ للانقضاض على الخلافة ، ومن جهة اُخرى يريد صلى الله عليه و آله تمهيد الطريق لوصول الحقّ إلى صاحبه الشرعي ، وهو ما ورد صريحاً في كلام الإمام عليّ عليه السلام .
.
ص: 167
الفصل الأول : أحاديث الوصايةأ _ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيّا ووارِثا ، وإنَّ عَلِيّا وَصِيّي ووارِثي . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ للّهِ تَعالى مِائَةَ ألفِ نَبِيٍّ وأربَعَةً وعِشرينَ ألفَ نَبِيٍّ ، أنَا سَيِّدُهُم وأفضَلُهُم وأكرَمُهُم عَلَى اللّهِ عزَّوجَلَّ ، ولِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّ أوصى إلَيهِ بَأَمرِ اللّهِ تَعالى ذِكرُهُ ، وإنَّ وَصِيّي عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ لَسَيِّدُهُم وأفضَلُهُم وأكرَمُهُم عَلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام :كانَ وَصِيُّ آدَمَ عليه السلام شَيثَ بنَ آدَمَ هِبَةَ اللّهِ ، وكانَ وَصِيُّ نوحٍ سام [ا] ، وكانَ وَصِيُّ إبراهيمَ إسماعيلَ ، وكانَ وَصِيُّ موسى يوشَعَ بن نونٍ ، وكانَ وَصِيُّ داوُدَ سُليمانَ ، وكانَ وَصِيُّ عيسى شَمعونَ ، وكانَ وَصِيُّ مَحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام وَهُوَ خَيرُ الأَوصياءِ . (3)
ب _ وَصِيُّ آدَمَ عليه السلامرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّ آدَمَ عليه السلام سَأَلَ اللّهَ عَزَّوجَلَّ أن يَجعَلَ لَهُ وَصِيّا صالِحا ، فَأَوحَى اللّهُ
.
ص: 168
عزَّوجَلَّ إلَيهِ : إنّي أكرَمتُ الأَنبِياءَ بَالنُّبُوَّةِ ، ثُمُّ اختَرتُ مِن خَلقي خَلقا وجَعَلتُ خِيارَهُمُ الأَوصِياءَ . فَأَوحَى اللّهُ تَعالى ذِكرُهُ إلَيهِ : يا آدَمُ أوصِ إلى شَيثٍ . فَأَوصى آدَمُ عليه السلام إلى شَيثٍ وهُوَ هِبَةُ اللّهِ بنُ آدَمَ . (1)
ج _ وَصِيُّ نوحٍ عليه السلامرسول اللّه صلى الله عليه و آله :لَقَد خَرَجَ نوحٌ مِنَ الدُّنيا وعاهَدَ قَومَهُ عَلَى الوَفاءِ لِوَصِيَّهِ سامٍ . (2)
د _ وَصِيُّ موسى عليه السلامالإمام الباقر عليه السلام :كانَ وَصِيُّ موسى يوشَعَ بنَ نونٍ عليه السلام ، وهُوَ فَتاهُ الَّذي ذَكَرَهُ اللّهُ عزَّوجَلَّ في كِتابِهِ (3) . (4)
ه _ وَصِيُّ عيسى عليه السلامرسول اللّه صلى الله عليه و آله :لَقَد رُفِعَ عيسىَ بنُ مَريَمَ إلَى السَّماءِ ، وقَد عاهَدَ قَومَهُ عَلَى الوَفاءِ لِوَصِيِّهِ شَمعونَ بنِ حَمّونَ الصَّفا . (5)
و _ وَصِيُّ خاتَمِ الأَنبياءِ صلى الله عليه و آله1 . الوَصِيُّفضائل الصحابة لابن حنبل عن أنس بن مالك :قُلنا لِسَلمانَ : سَلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله مِن وَصِيِّهِ ؟
.
ص: 169
فَقالَ لَهُ سَلمانُ : يا رَسولَ اللّهِ مَن وَصِيُّكَ ؟ قالَ : يا سَلمانُ ، مَن كانَ وَصِيَّ موسى ؟ قال : يوشَعُ بنُ نونٍ . قالَ : فَإِنَّ وَصِيّي ووارِثي ، يَقضي دَيني ، ويُنجِزُ مَوعودي عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَةٍ خَطَبَها لأهلِ المَدينَةِ _: وَالَّذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَقَد عَلِمتُم أنّي صاحِبُكُم وَالَّذي بِهِ اُمِرتُم ، وأنّي عالِمُكُم وَالَّذي بِعِلمِهِ نَجاتُكُم ، ووَصِيُّ نَبِيِّكُم ، وخِيَرَةُ رَبِّكُم ، ولِسانُ نُورِكُم ، وَالعالِمُ بِما يُصلِحُكُم . (2)
2 . وِصايَتُهُ مِنَ اللّهِتالإمام الصادق عليه السلام :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَمّا نَزَلَ قُدَيدَ (3) قالَ لَعَلَيٍّ عليه السلام : يا عَلِيُّ ، إنّي سَأَلتُ رَبّي أن يُوالِيَ بَيني وبَينَكَ فَفَعَلَ ، وسَأَلتُ رَبّي أن يُؤآخِيَ بَيني وبَينَكَ فَفَعَلَ ، وسَأَلتُ رَبّي أن يَجعَلَكَ وَصِيّي فَفَعَلَ . فَقالَ رَجُلانِ مِن قُرَيشٍ : وَاللّهِ لَصاعٌ مِن تَمرٍ في شَنٍّ (4) بالٍ أحَبُّ إلَينا مِمّا سَأَلَ مُحَمَّدٌ رَبَّهُ ، فَهَلّا سَأَلَ رَبَّهُ مَلَكا يَعضُدُهُ عَلى عَدُوِّهِ ، أو كَنزا يَستَغني بِهِ عَن فاقَتِهِ ، وَاللّهِ ما دَعاهُ إلى حَقٍّ ولا باطِلٍ إلّا أجابَهُ إلَيهِ ، فَأَنزَلَ اللّهُ سُبحانَهُ وتَعالى : «فَلَعَلَّكَ تَارِكُم بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَ ضَآئِق بِهِ صَدْرُكَ» _ إلى آخِرِ الآيَةِ _ (5) . (6)
.
ص: 170
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِفاطِمَةَ عليهاالسلام _: أ ما عَلِمتِ أنَّ اللّهَ عزَّوجَلَّ اطَّلَعَ إلى أهلِ الأَرضِ فَاختارَ مِنهُم أباكِ فَبَعَثَهُ نَبِيّا ، ثُمَّ اطَّلَعَ الثّانِيَةَ فَاختارَ بَعلَكِ ، فَأَوحى إلَيَّ ، فَأَنكَحتُهُ وَاتَّخَذتُهُ وَصِيّا (1) ؟
3 . خَيرُ الأَوصياءِالإمام عليّ عليه السلام :إنَّ خَيرَ الخَلقِ _ يَومَ يَجمَعُهُمُ اللّهُ _ الرُّسُلُ ، وإنَّ أفضَلَ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله ، وإنَّ أفضَلَ كُلِّ اُمَّةٍ بَعَد نَبِيِّها وَصِيُّ نَبِيِّها حَتّى يُدرِكَهُ نَبِيٌّ ، ألا وإنَّ أفضَلَ الأَوصِياءِ وَصِيُّ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ وآلِهِ السَّلامُ . (2)
4 . سَيِّدُ الأَوصياءِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :أنَا سَيِّدُ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ ، وعَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ سَيِّدُ الوَصِيّينَ . (3)
عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: لَولا أنّي خاتِمُ الأَنبِياءِ لَكُنتَ شَريكا فِي النُّبُوَّةِ ؛ فَإِن لا تَكُن نَبِيّا فَإِنَّكَ وَصِيُّ نَبِيٍّ ووارِثُهُ ، بَل أنتَ سَيِّدُ الأَوصِياءِ ، وإمامُ الأَتقِياءِ . (4)
5 . أوَّلُ أوصياءِ خاتَمِ الأَنبِياءِ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :الأَئِمَّةُ بَعدِي اثنا عَشَرَ ؛ أوَّلُهُم عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، وآخِرُهُمُ القائِمُ ؛ فَهُم خُلَفائي وأوصِيائي وأولِيائي وحُجَجُ اللّهِ عَلى اُمَّتي بَعدي . (5)
.
ص: 171
الفصل الثاني : أحاديث الوراثةأ _ الوارِثُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ وَصِيّي ، وخَليفَتي ، ووَزيري ، ووارِثي ، وأبو وُلدي ... ، أمرُكَ أمري ... ، ونَهيُك نَهيي . (1)
ب _ وارِثُ عِلمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :القُرآنُ إمامٌ هادٍ ، ولَهُ قائِدٌ يَهدي بِهِ ويَدعو إلَيهِ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ، وهُوَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، وهُوَ وَلِيُّ الأَمرِ بَعدي ، ووارِثُ عِلمي وحِكمَتي ، وسِرّي وعَلانِيَتي ، وما وَرِثَهُ النَّبِيّونَ قَبلي ، وأنَا وارِثٌ ومَوَرِّثٌ ، فَلا تُكذِبُنَّكُم أنفُسُكُم . (2)
الإمام الباقر عليه السلام :وَرِثَ عَلِيٌّ عليه السلام عِلمَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ووَرِثَت فاطِمَةُ تَرَكَتَهُ . (3)
.
ص: 172
الفصل الثالث : أحاديث الخلافةأ _ ألا تَستَخلِفُ؟السنّة عن عبد اللّه بن مسعود :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ لَيلَةَ الجِنِّ : نُعِيَت إلَيَّ _ وَاللّهِ _ نَفسي . فَقُلتُ : يَقومُ بِالنّاسِ أبو بَكرٍ الصِّدّيقُ ! فَسَكَتَ . فَقُلتُ : يَقومُ بِالنّاسَ عُمَرُ ! فَسَكَتَ . فَقُلتُ :يَقومُ بِالنّاسِ عَلِيٌّ ! ! فَقالَ : لا يَفعَلونَ ، ولَو فَعَلوا دَخَلُوا الجَنَّةَ أجمَعينَ . (1)
ب _ اِستِخلافُ الإِمامِ عليه السلام بِأَمرِ اللّهِترسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ وَصِيّي ، أوصَيتُ إلَيكَ بِأَمرِ رَبّي . وأنتَ خَليفَتي ، اِستَخلَفتُكَ بِأَمرِ رَبّي . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ خَليفَةُ اللّهِ وخَليفَتي ، وحُجَّةُ اللّهِ وحُجَّتي . (3)
ج _ خَليفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله بَعدَهُفاطمة عليهاالسلام :اُشهِدُ اللّهَ تَعالى لَقَد سَمِعتُهُ [ صلى الله عليه و آله ] يَقولُ : عَلِيٌّ خَيرُ مَن أخلُفُهُ فيكُم ، وهُوَ الإِمامُ وَالخَليفَةُ بَعدي . (4)
.
ص: 173
السنّة عن ابن عبّاس :خَرَجَ النّاسُ في غَزوَةِ تَبوكَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : أخرُجُ مَعَكَ ؟ قالَ : لا . قالَ : فَبَكى . قالَ : أفَلا تَرضى أن تَكونَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أنَّكَ لَستَ بِنَبِيٍّ ! ! وأنتَ خَليفَتي في كُلِّ مُؤمِنٍ مِن بَعدي . (1)
د _ خَليفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله في حَياتِهِ وبَعدَ مَوتِهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ وَصِيّي ، وأبو وُلدي ، وزَوجُ ابنَتي ، وخَليفَتي عَلى اُمَّتي في حَياتي وبَعدَ مَوتي ؛ أمرُكَ أمري ، ونَهيُكَ نَهيي . اُقسِمُ بِالَّذي بَعَثَني بِالنُّبُوَّةِ وجَعَلَني خَيرَ البَرِيَّةِ أنَّكَ لَحُجَّةُ اللّهِ عَلى خَلقِهِ ، وأمينُهُ عَلى سِرِّهِ ، وخَليفَتُهُ عَلى عِبادِهِ . (2)
.
ص: 174
الفصل الرابع : أحاديث المنزلةأ _ حَديثُ المَنزِلَةِ3.رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي . (1)الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام: لَقَد قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله لِعَلِيٍّ عليه السلام في عَشَرَةِ مَواضِعَ : أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى . (2)ب _ مَوارِدُ تَأكيدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله عَلى حَديثِ المَنزِلَةِ1 . يَومُ الإِنذارِكنز الفوائد عن أبي رافع :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله جَمَعَ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ فِي الشِّعبِ . . . فَقالَ : إنَّ اللّهَ عزّوجلّ أمَرَني أن اُنذِرَ عَشيرَتِي الأَقرَبينَ ورَهطِي المُخلِصينَ ، وإنَّ اللّهَ تَعالى لَم يَبعَث نَبِيّا إلّا جَعَلَ لَهُ مِن أهلِهِ أخا ، ووارِثا ، ووَزيرا ، ووَصِيّا ، وخَليفَةً في أهلِهِ ، فَأَيُّكُم يُبايِعُني عَلى أنَّهُ أخي ووَزيري ووارِثي دونَ أهلي ، ويَكونُ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي ؟ فَسَكَتَ القَومُ .
.
ص: 175
فَأَعادَ الكَلامَ عَلَيهِم ثَلاثَ مَرّاتٍ ، وقالَ : وَاللّهِ ، لَيَقومَنَّ قائِمُكُم أو يَكونُ في غَيرِكُم ، ثُمَّ لَتُذَمُّنَّ !
قالَ : فَقامَ عَلِيٌّ عليه السلام وهُم يَنظُرونَ كُلُّهُم إلَيهِ ، فَبايَعَهُ ، وأجابَهُ إلى ما دَعاهُ . (1)2 . يَومُ المُؤاخاةِ5.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :فضائل الصحابة لابن حنبل عن محدوج بن زيد :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله آخى بَينَ المُسلِمينَ ، ثُمَّ قالَ : يا عَلِيُّ ، أنتَ أخي ، وأنتُ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، غَيرَ أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي . (2)3 . عِندَ سَدِّ الأَبوابِ8.الإمام عليّ عليه السلام :رسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّ رِجالاً يَجِدونَ في أنفُسِهِم في أنّي أسكَنتُ عَلِيّا فِي المَسجِدِ ، وَاللّهِ ما أخرَجتُهُم ، ولا أسكَنتُهُ ، إنَّ اللّهَ عزّوجلّ أوحى إلى موسى وأخيهِ : «أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَ اجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» (3) ، وأمَرَ موسى ألّا يَسكُنَ مَسجِدَهُ ، ولا يَنكِحَ فيهِ ، ولا يَدخُلَهُ إلّا هارونُ وذُرِّيَّتُهُ ، وإنَّ عَلِيّا مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، وهُوَ أخي دونَ أهلي ، ولا يَحِلُّ مَسجِدي لِأَحَدٍ يَنكِحُ فيهِ النِّساءَ إلّا عَلِيٌّ وذُرِّيَّتُهُ ، فَمَن ساءَهُ فَهاهُنا _ وأومَأَ بِيَدِهِ نَحوَ الشّامِ _ . (4)4 . فَتحُ خَيبَرَ10.عنه عليه السلام :المناقب لابن المغازلي عن جابر بن عبد اللّه :لَمّا قَدِمَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ بِفَتحِ خَيبَرَ قالَ لَهُ
.
ص: 176
10.عنه عليه السلام :النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : يا عَلِيُّ ، لَولا أن تَقولَ طائِفَةٌ مِن اُمَّتي فيكَ ما قالَتِ النَّصارى في عيسَى بنِ مَريَمَ لَقُلتُ فيكَ مَقالاً لا تَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ المُسلِمينَ إلّا أخَذُوا التُّرابَ مِن تَحتِ رِجلَيكَ ، وفَضلِ طَهورِكَ ؛ يَستَشفونَ بِهِما ، ولكِن حَسبُكَ أن تَكونَ مِنّي . . . بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، غَيرَ أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي . (1)5 . غَزوَةُ تَبوكَ12.عنه عليه السلام :صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقّاص :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله خَرَجَ إلى تَبوكَ (2) وَاستَخلَفَ عَلِيّا ، فَقالَ : أ تُخَلِّفُني فِي الصِّبيانِ وَالنِّساءِ ؟ ! قالَ : أ لا تَرضى أن تَكونَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، إلّا أنَّهُ لَيسَ نَبِيٌّ بَعدي ! ! (3)
.
ص: 177
بحث حول حديث المنزلةإنّ حديث المنزلة الذي نقلناه بصور متنوّعة يمثّل فضيلة من الفضائل العلويّه الرفيعة ، ومنقبة من مناقبها الكريمة . واستبان ممّا ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نطق بهذه الفضيلة في مواطن كثيرة ؛ فما جرى على لسانه المطهّر في غزوة تبوك وإن كان أشهرها ، ولكنّه لا يقتصر عليها . والأسانيد العديدة والمنقولات الجمّة لهذاالحديث لا تَدَع مجالاً للشكّ في صدوره القطعي ، وقد أدّى سعة نقله وكثره أسانيده إلى أن يصرّح علماء ومحدّثون سنّة كبار بتواتره وكثرة نقله من طرق ومصادر مختلفة ، ويؤكّدون على كونه الحديث الأكثر ثبتا بين الآثار المنقوله عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، مبيّنين بذلك اتّفاق رواة الحديث وحفظة الآثار على صحّته . وكتب الحسكاني يقول عن أسانيده : وهذا حَديثُ المَنزِلَةِ الَّذي كانَ شَيخُنا أبو حازِمٍ الحافِظُ يَقولُ : خَرَّجتُهُ بِخَمسَةِ آلافِ إسنادٍ!! (1) وفيه قال محمّد بن عبد البرّ :
.
ص: 178
رَوى قَولَهُ صلى الله عليه و آله : «أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى» جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ ، وهُوَ مِن أثبَتِ الآثارِ وأصَحِّها . رَواهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله سَعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ ، وطُرُقُ حَديثِ سَعدٍ فيهِ كَثيرَةٌ جِدّا ، قَدذَكَرَهَاابنُ أبي خَيثَمَةَ وغَيرُهُ ، ورَواهُ ابنُ عَبّاسٍ ، وأبو سَعيدٍ الخُدرِيُّ ، واُمُّ سَلَمَةَ ،وأسماءُ بِنتُ عُمَيسٍ ، وجابِرُ بنُ عَبدِ اللّهِ ، وجَماعَةٌ يَطولُ ذِكرُهُم . (1) وكتب محمّد بن يوسف الگنجي : هذا حَديثٌ مُتَّفَقٌ علَى صِحَّتِهِ ، رَواهُ الأَئِمَّةُ الحُفّاظُ كَأَبي عَبدِ اللّهِ البُخارِيِّ فيصَحيحِهِ ، ومُسلِمِ بنِ الحَجّاج في صَحيحِهِ ، وأبي داوُدَ في سُنَنِهِ ، وأبي عيسَى التِّرمِذِيِّ في جامِعِهِ ، وأبي عَبدِ الرَّحمنِ النِّسائِيِّ في سُنَنِهِ ، وابنِ ماجَهَ القَزوِينِيِّ في سُنَنِهِ ، وَاتَّفَقَ الجَميعُ عَلى صِحَّتِهِ حَتّى صارَ ذلِكَ إجماعا مِنهُم .قالَ الحاكِمُ النّيسابورِيُّ : هذا حَديثٌ دَخَلَ في حَدِّ التَّواتُرِ . (2) وأورد السيوطي في كتابه الذي أفرده لنقل الأحاديث المتواترة وسمّاه ب_ «الأزهارالمتناثرة في الأخبار المتواترة» حديث المنزلة (3) ، مصرّحا عمليّا بتواتره . إنّ ما ورد أعلاه يعكس بعضا من الآراء الواردة بشأن أسانيده . ولاريب أنّ التتبّع فيالمصادر الحديثيّة ينفي أيّة أوهام تشكّك في قطعيّة صدوره . ومن حيث المضمون نرى أنّه جعل لعليّ عليه السلام جميع المناصب التي كانت لهارون عليه السلام في عصر موسى عليه السلام إلّا النبوّة ، وذكر القرآن الكريم مناصب هارون بهذا النحو : «وَ اجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى * هَ_رُونَ أَخِى * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَ أَشْرِكْهُ فِى
.
ص: 179
أَمْرِى » . (1) وثبتت هذه المناصب لعليّ عليه السلام في الأحاديث النبويّة بصراحة . وأورد القرآن الكريم قسما آخر من مناصب هارون بالنحو الآتي : «اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» . (2) إنّ واقع حياة عليّ عليه السلام ، ودفاعه الفذّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وشهوده الذي لا مثيل له فيحروبه جميعها ، كلّ اُولئك مَعْلَم على أنّ اللّه تعالى جعل لعليّ عليه السلام من رسول اللّه صلى الله عليه و آله منزلة هارون من موسى عليهماالسلام . لقد مضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله في إبلاغ رسالته حسب المجريات الطبيعيّة للاُمور ، وكان عليّ عليه السلام أفضل وأثبت نصير له في هذا السبيل . فمبيته في فراشه ، واستبساله العجيب في معركة بدر التي كانت أوّل اختبار للمسلمين ، وكانت مصيريّه رهيبة ، وحمايته العظيمة له صلى الله عليه و آله في اُحد وقد فرّ كثير من المدّعين ، ومبارزته لعمرو بن عبد ودّ في معركة الخندق بعد حصار المشركين المخيف ،وتجلّيقوّته في خيبر وقد ظلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأصحابه خلف أسوارها ،وغير ذلك كلّه آية على أنّ دعمه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله كان مصيريّا . ونُضيف إلى ما ذكرناه أنّ هذه الأحاديث تدلّ على أنّ عليّا عليه السلام كان متميّزا بين الصحابة ، ولم يُقرَن به أحد منهم كما كان هارون في بني إسرائيل . انظر إلى الروايات الآتية : _ الإمام عليّ عليه السلام : إنّ اللّهَ تَبارَكَ اسمُهُ . . . شَدَّ بي أزرَ رَسولِهِ ، وأكرَمَني بِنَصرِهِ ،وشَرَّفَني بِعِلمِهِ ، وحَباني بِأَحكامِهِ ، وَاختَصَّني بِوَصِيَّتِهِ ، وَاصطَفاني
.
ص: 180
بِخِلافَتِهِ فِي اُمَّتِهِ ، فَقال صلى الله عليه و آله _ وقَد حَشَدَهُ المُهاجِرونَ وَالأَنصارُ ، وَانغَصَّت بِهِمُ المَحافِلُ _ : «أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ عَلِيّا مِنّي كَهارونَ مِن موسى إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي» . فَعَقَلَ المُؤمِنونَ عَنِ اللّهِ نُطقَ الرَّسولِ ؛ إذ عَرَفوني أنّي لَستُ بِأَخيهِ لِأَبيهِ واُمِّهِ كَما كانَ هارونُ أخا موسى لِأَبيهِ واُمِّهِ ، ولا كُنتُ نَبِيّا فَاقتَضى نُبُوَّةً ، ولكِن كانَ ذلِكَ مِنهُ استِخلافا لي كَمَا استَخلَفَ موسى هارونَ عليهماالسلام حَيثُ يَقولُ :«اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» . (1) _ أبو خالد الكابلي : قيلَ لِسَيِّدِ العابِدينَ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ : إنَّ النّاسَ يَقولونَ : إنَّ خَيرَالنّاسِ بَعدَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أبو بَكرٍ ، ثُمَّ عُمَرُ ، ثُمَّ عُثمانُ ، ثُمَّ عَلِيٌّ عليه السلام . قالَ : فَمايَصنَعونَ بِخَبَرٍ رَواهُ سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ عَن سَعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أنَّهُ قالَ لِعَلِيٍّ عليه السلام : «أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي»؟ فَمَن كانَ في زَمَنِ موسى مِثلَ هارونَ؟ (2) _ أبو هارون العبدي : سَأَلتُ جابِرَ بنَ عبدِ اللّهِ الأَنصارِيَّ عَن مَعنى قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله لِعَلِيٍّ عليه السلام : «أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي» ، قالَ : اِستَخلَفَهُ بِذلِكَ _ وَاللّهِ _ عَلى اُمَّتِهِ في حَياتِهِ وبَعدَ وَفاتِهِ ، وفَرَضَ عَلَيهِم طاعَتَهُ ؛ فَمَن لَم يَشهَد لَهُ بَعدَ هذَا القَولِ بِالخِلافَةِ فَهُوَ مِن الظّالِمينَ . (3) _ سلم بن وضّاح : كُنّا عِندَ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللّهِ ، فَسَأَلَهُ مُعَلَّى بنُ سُلَيمانَ عَن قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله : «أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى» أيَّ شَيءٍ أرادَ بِهِ؟ قالَ : أرادَ بِهِ أن يُطاعَ مِن بَعدِهِ كَما يُطاعُ النَّبِيُّ في حَياتِهِ . (4)
.
ص: 181
الفصل الخامس : أحاديث الإمارةأ _ مَعنى اُولِي الأَمرِالكتاب«يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمْرِ مِنكُمْ» . (1)
الحديث31. ( _ في كِتابٍ لَهُ لاِبنِهِ الحَسَنِ عليه السلام _ ) كمال الدين عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري :لَمّا أنزَلَ اللّهُ عزّوجلّ عَلى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله : «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمْرِ مِنكُمْ» ، قُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، عَرَفنَا اللّهَ ورَسولَهُ ، فَمَن اُولُو الأَمرِ الَّذين قَرَن اللّهُ طاعَتَهُم بِطاعَتِكَ ؟ فَقالَ صلى الله عليه و آله : هُم خُلَفائي يا جابِرُ، وأئِمَّةُ المُسلِمينَ مِن بَعدي ، أوَّلُهُم عَلِيُّ ابنُ أبي طالِبٍ . (2)32.عنه عليه السلام :الإمام زين العابدين عليه السلام :إنَّ اُولِي الأَمرِ الَّذينَ جَعَلَهُمُ اللّهُ عزّوجلّ أئِمَّةً لِلنّاسِ وأوجَبَ عَلَيهِم طاعَتَهُم : أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام ، ثُمَّ الحَسَنُ ، ثُمَّ الحُسَينُ ابنا عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، ثُمَّ انتَهَى الأَمرُ إلَينا . (3)
.
ص: 182
ب _ الأَميرُ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّ اللّهَ عزّوجلّ بَعَثَني إلَيكُم رَسولاً ، وأمَرَني أن أستَخلِفَ عَلَيكُم عَلِيّا أميرا . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :مَن كُنتُ نَبِيَّهُ فَعَلِيٌّ أميرُهُ . (2)
ج _ أميرُ البَرَرَةِ34.عنه عليه السلام :رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ يَومَ الحُدَيبِيَّةِ وهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عَلِيٍّ عليه السلام _: هذا أميرُ البَرَرَةِ ، وقاتِلُ الفَجَرَةِ ، مَنصورٌ مَن نَصَرَهُ ، مَخذولٌ مَن خَذَلَهُ _ يَمُدُّ بِها صَوتَهُ _ . (3)د _ مَبدَأُ تَسمِيَةِ عَلِيٍّ عليه السلام بِأَميرِ المُؤمِنينَ36.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الكافي عن جابر :قُلتُ لِأَبي جَعفَرٍ عليه السلام : لِمَ سُمِّيَ أميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ : اللّهُ سَمّاهُ . (4)ه _ اِختِصاصُ هذَا الاِسمِ بِعَلِيٍّ عليه السلام38. ( _ في وَصِيَّتِهِ لِأَبي ذَرٍّ _ ) الإمام الصادق عليه السلام_ وسُئِلَ عَنِ القائِمِ عليه السلام يُسَلَّمُ عَلَيهِ بإِمرَةِ المُؤمِنينَ ؟ فَقالَ _: لا ، ذاكَ اسمٌ سَمَّى اللّهُ بِهِ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام ، لَم يُسَمَّ بِهِ أحَدٌ قَبلَهُ ولا يَتَسَمّى بِهِ بَعدَهُ . (5)
.
ص: 183
الفصل السادس : أحاديث الإمامةأ _ إمامَتُهُ مِنَ اللّهِترسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَعاشِرَ النّاسِ ! مَن أحسَنُ مِنَ اللّهِ قيلاً ، وأصدَقُ مِنَ اللّهِ حَديثا ؟ مَعاشِرَ النّاسِ ! إنَّ رَبَّكُم جَلَّ جَلالُهُ أمَرَني أن اُقيمَ لَكُم عَلِيّا علما وإماما ، وخَليفَةً ووَصِيّا ، وأن أتَّخِذَهُ أخا ووَزيرا . (1)
ب _ إمامُ المُتَّقينَرسول اللّه صلى الله عليه و آله :اُوحِيَ إلَيَّ في عَلِيٍّ ثَلاثٌ : أنَّهُ سَيِّدُ المُسلِمينَ ، وإمامُ المُتَّقينَ ، وقائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلينَ . (2)
ج _ إمامُ كُلِّ مُؤمِنٍ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ إمامُ كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ ، ووَلِيُّ كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ بَعدي . (3)
.
ص: 184
39.عنه صلى الله عليه و آله :رسول اللّه صلى الله عليه و آله :أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ عَلِيّا إمامُكُم مِن بَعدي . . . مَن أقَرَّ بِاِءمامَتِهِ فَقَد أقَرَّ بِنُبُوَّتي ، ومَن أقَرَّ بِنُبُوَّتي فَقَد أقَرَّ بِوَحدانِيَّةِ اللّهِ عزّوجلّ . (1)د _ إمامُ الاُمَّةِ41.حلية الأولياء :رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ وَصِيّي وإمامُ اُمَّتي ؛ مَن أطاعَكَ أطاعَني ، ومَن عَصاكَ عَصاني . (2)42.الإمام عليّ عليه السلام :المحاسن عن بشير العطّار :قالَ أبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : «يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاس بِإِمَ_مِهِمْ» (3) ثُمَّ قالَ : قالَ رَسولُ اللّهُ صلى الله عليه و آله : وعَلِيٌّ إمامُكُم . (4)
.
ص: 185
الفصل السابع : أحاديث الولايةأ _ وِلايَةُ عَلِيٍّ عليه السلام وِلايَةُ اللّهِت وَالرَّسولِ صلى الله عليه و آلهالكتاب«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ» . (1)
الحديثالدرّ المنثور عن أبي رافع :دَخَلتُ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهُوَ نائِمٌ يوحى إلَيهِ . . . فَمَكَثتُ ساعَةً ، فَاستَيقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وهُوَ يَقولُ : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ» ، الحَمدُ للّهِِ الَّذي أتَمَّ لِعَلِيٍّ نِعَمَهُ ، وهَنيئا (2) لِعَلِيٍّ بِفَضلِ اللّهِ إيّاهُ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :إنّي كُنتُ اُصَلّي فِي المَسجِدِ ، فَجاءَ سائِلٌ فَسَأَلَ وأنَا راكِعٌ ، فَناوَلتُهُ خاتَمي مِن إصبَعي ، فَأَنزَلَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى فِيَّ : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
.
ص: 186
ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ» . (1)
44.عنه عليه السلام :الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ» _: إنَّما يَعني : أولى بِكُم ؛ أي أحَقُّ بِكُم ، وبِاُمورِكُم ، وأنفُسِكُم، وأموالِكُم، اللّهُ ورسولُهُ وَالَّذينَ آمَنوا ؛ يَعني عَلِيّا وأولادَهُ الأَئِمَّةَ عليهم السلام إلى يَومِ القِيامَةِ . (2)ب _ عَلِيٌّ عليه السلام مَولى مَن كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله مَولاهُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ (3) . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :مَن كُنتُ مَولاهُ فَإِنَّ عَلِيّا مَولاهُ . (5)
مسند ابن حنبل عن بريدة :غَزَوتُ مَعَ عَلِيٍّ اليَمَنَ ، فَرَأَيتُ مِنهُ جَفوَةً ، فَلَمّا قَدِمتُ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ذَكَرتُ عَلِيّا فَتَنَقَّصتُهُ . فَرَأَيتُ وَجهَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَتَغَيَّرُ ؛ فَقالَ : يا بُرَيدَةُ ، أ لَستُ أولى بِالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهِم ؟ ! قُلتُ : بَلى يا رَسولَ اللّهِ . قالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ . (6)
اُسد الغابة عن زرّ بن حبيش :خَرَجَ عَلِيٌّ مِنَ القَصرِ ، فَاستَقبَلَهُ رُكبانٌ مُتَقَلِّدُو السُّيوفِ ، فَقالوا : السَّلامُ عَلَيكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، السَّلامُ عَلَيكَ يا مَولانا ورَحمَةُ اللّهِ وبَرَكاتُهُ . فَقالَ عَلِيٌّ : مَن هاهُنا مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ؟ فَقامَ اثنا عَشَرَ ، مِنهُم : قَيسُ بنُ ثابِتِ بنِ شَمّاسٍ ، وهاشِمُ بنُ عُتبَةَ ، وحَبيبُ بنُ بُدَيلِ بنِ وَرقاءَ ، فَشَهِدوا أنَّهُم سَمِعُوا
.
ص: 187
النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَقولُ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ . (1)
ج _ وِلايَتُهُ فَريضَةٌ46.الإمام الصادق عليه السلام :الكافي عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه السلام :كُنتُ عِندَهُ جالِسا ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ : حَدِّثني عنَ وِلايَةِ عَلِيٍّ ، أمِنَ اللّهِ ، أو مِن رَسولِهِ ؟ ! فَغَضِبَ ، ثُمَّ قالَ : وَيحَكَ ، كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أخوَفَ للّهِِ مِن أنَ يَقولَ ما لَم يَأمُرهُ بِهِ اللّهُ ! ! بَلِ افتَرَضَهُ كَمَا افتَرَضَ اللّهُ الصَّلاةَ وَالزَّكاةَ وَالصَّومَ وَالحَجَّ . (2)د _ بَركاتُ وِلايَتِهِ48.الإمام الصادق عليه السلام _ في حديث يذكر فيه فضرسول اللّه صلى الله عليه و آله عن جبرئيل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم :يَقولُ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى : وِلايَةُ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ حِصني ، فَمَن دَخَلَ حِصني أمِنَ ناري . (3)49.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :عنه صلى الله عليه و آله :مَن يُريدُ أن يَحيا حَياتي ، ويَموتَ مَوتي ، ويَسكُنَ جَنَّةَ الخُلدِ الَّتي وَعَدَني رَبّي ، فَليَتَوَلَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ؛ فَإِنَّهُ لَن يُخرِجَكُم مِن هُدىً ، ولَن يُدخِلَكُم في ضَلالَةٍ . (4)
.
ص: 188
الفصل الثامن : أحاديث الهدايةأ _ عَلِيٌّ عليه السلام الهاديالكتاب«إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» . (1)
الحديث59.الإمام عليّ عليه السلام :تفسير الطبري عن ابن عبّاس :لَمّا نَزَلَت : «إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» وَضَعَ صلى الله عليه و آله يَدَهُ عَلى صَدرِهِ فَقالَ : أنَا المُنذِرُ ولِكُلِّ قَومٍ هادٍ ، وأومَأَ بِيَدِهِ إلى مَنكِبِ عَلِيٍّ فَقالَ : أنتَ الهادي يا عَلِيُّ ، بِكَ يَهتَدِي المُهتَدونَ بَعدي . (2)60.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :فينا نَزَلَت هذِهِ الآيَةُ : «إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أنَا المُنذِرُ ، وأنتَ الهادي يا عَلِيُّ . (3)ب _ عَلِيٌّ عليه السلام لا يَزالُ عَلى هُدىً61.الإمام عليّ عليه السلام :رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَمّارُ ، إنَّ عَلِيّا لا يَزالُ عَلى هُدىً . (4)
.
ص: 189
202.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :عنه صلى الله عليه و آله :يا عَمّارُ ، تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، وأنتَ إذ ذاكَ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَكَ . يا عَمّارَ بنَ ياسِرٍ ، إن رَأَيتَ عَلِيّا قد سَلَكَ وادِيا وسَلَكَ النّاسُ وادِيا غَيرَهُ فَاسلُك مَعَ عَلِيٍّ ؛ فَإِنَّهُ لَن يُدلِيَكَ في رَدىً ، ولَن يُخرِجَكَ مِن هُدىً . (1) .
ص: 190
الفصل التاسع : أحاديث العصمةأ _ عَلِيٌّ عليه السلام مَعَ القُرآنِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ مَعَ القُرآنِ وَالقُرآنُ مَعَهُ ، لا يَفتَرِقانِ حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى طَهَّرَنا وعَصَمَنا ، وجَعَلَنا شُهَداءَ عَلى خَلقِهِ ، وحُجَّتَهُ في أرضِهِ ، وجَعَلَنا مَعَ القُرآنِ وجَعَلَ القُرآنَ مَعَنا ، لا نُفارِقُهُ ولا يُفارِقُنا . (2)
ب _ عَلِيٌّ عليه السلام مَعَ الحَقِّرسول اللّه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ ، يَدورُ مَعَهُ حَيثُما دارَ . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :يَا بنَ عَبّاسٍ ، سوفَ يَأخُذُ النّاسُ يَمينا وشِمالاً ، فَإِذا كانَ كَذلِكَ فَاتَّبِع عَلِيّا وحِزبَهُ ؛ فَإِنَّهُ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَهُ ، ولا يَفتَرِقانِ حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ . (4)
.
ص: 191
ج _ عَلِيٌّ عليه السلام مُبَيِّنٌ مَا اختَلَفَت فيهِ الاُمَّةُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ الَّذي تُبَيِّنُ لاُِمَّتي ما يَختَلِفونَ فيهِ بَعدي ، وتَقومُ فيهِم مَقامي ، قَولُكَ قَولي ، وأمرُكَ أمري ، وطاعَتُكَ طاعَتي ؛ وطاعَتي طاعَةُ اللّهِ ، ومَعصِيَتُكَ مَعصِيَتي ؛ ومَعصِيَتي مَعصِيَةُ اللّهِ عزّوجلّ . (1)
204.عنه صلى الله عليه و آله :عنه صلى الله عليه و آله :إذَا اختَلَفتُم في شَيءٍ فَكونوا مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . (2)
.
ص: 192
الفصل العاشر : حديث الغديرأ _ واقِعَةُ الغَديرِالكتاب«يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَ_فِرِينَ» . (1)
الحديثالإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» _: هِيَ الوِلايَةُ . (2)
إثبات الوصيّة :لَمّا صارَ [ صلى الله عليه و آله ] بِوادي خُمٍّ نَزَلَ عَلَيهِ الوَحيُ في أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام آيَةُ العِصمَةِ مِنَ النّاسِ ، وقَد كانَ الأَمرُ قَبلَ ذلِكَ يَأتيهِ فَيَتَوَقَّفُ ؛ اِنتِظارا لِقَولِ اللّهِ عزّوجلّ : «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» . فَلَمّا نَزَلَت قامَ خَطيبا ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ كَثيرا ، ثُمَّ نَصَبَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام
.
ص: 193
عَلَما وقَيِّما مَقامَهُ بَعدَهُ . وكانَ مِن حَديثِ غَديرِ خُمٍّ ما رَواهُ النّاسُ ، ثُمَّ انصَرَفَ في آخِرِ ذِي الحِجَّةِ . (1)
.
ص: 194
بحث حول آية التبليغ «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَ_فِرِينَ» . (1) قصد رسول اللّه صلى الله عليه و آله الحجّ في العام العاشر من الهجرة . وقبل أن ينطلق تلقاء «الحرم الإلهي» أمر النبيّ صلى الله عليه و آله أن يُخبروا الجميعَ بعزمه على الحجّ ، فتطلّع المسلمون إلى البيت العتيق واجتمعوا للحجّ من كلّ فجّ عميق ، فاحتشد منهم جمع عظيم . خطب النبيّ الأقدس صلى الله عليه و آله الناس مرّات في ذلك الموسم المهيب ، ثمّ راح في خطبته الطويلة يوم «عرفة» يهاجم آخر بقايا الثقافة الجاهليّة ، وَيَلقي بما تبقّى من معاييرها في قاعٍ سحيق ، وهو يدعو الناس إلى الثبات على الحقّ ، وبناء حياتهم وفق المعايير الإلهيّة وقِيَم السماء . كما أهاب بهم التمسّك بكتاب اللّه وسنّة العترة النبويّة المطهّرة . في ذلك السفر عاد النبيّ صلى الله عليه و آله يؤكّد ما سبق أن أعلنه للاُمّة في ذلك العام بالكناية والتلميح تارة ، وبصراحة ووضوح تارة اُخرى ، من أنّ هذه السنة التي يُمضيها بينهم هي آخر سنيّ عمره الشريف . لهب متأجّج راح يسكن النفوس ، ولوعة متفجّعة راحت تتدافع في الصدور لهذا
.
ص: 195
النبأ المرتقب ، حملت المسلمين على موج من التطلّع والشوق لنبيّهم ، والى أن يستفيدوا ويتعلّموا ويزدادوا من معلّمهم العظيم ما واتتهم الفرصة المتبقّية لذلك . والنبيّ أيضاً هاجت به أشواقه ، وفاضَ به حماسه الطهور لهذا الحضور المتألّق بين أفواج المسلمين في هذا الموكب المهيب ، وبانتظار تبليغ كلمة هي آخر كلمات السماء وأهمّها على الإطلاق ، وإيصال رسالة هي الأكمل والأخطر . حماس عارم من الاُمّة ، وترقّب نبويّ يشوبه التوجّس لنبأ عظيم حانت لحظته أو كادت . هذا هو المشهد الذي انتهت إليه حَجَّة الوداع . المسلمون يعودون بعد انتهاء الموسم ، يسلك كلّ فريق السبيل الذي يؤدّي به إلى أهله وسكناه ، لكن في وادي غدير خمّ ، وقبل أن تفترق بهم الطريق إذا صوت السماء يقرع فؤاد النبيّ ، وإذا الوحي يأتيه من فوره ، ملقياً عليه الأمر بجزم : «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ» . التأمّل في سياق الآية وما فيها من شدّة وتصميم على الإبلاغ ، وما تنطوي عليه من تحذير جادّ ، كلّ ذلك لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الرسالة هي من الخطورة بمكان ، وإنّ عمليّة الإبلاغ تقترن بالتوجّس نظراً لمحتوى الرسالة وملابسات الموقف . فيا تُرى ، ما هو الأمر الذي يتحتّم على النبيّ صلى الله عليه و آله أن يبادر إلى إبلاغه ؟ وما هي الرسالة التي يبعث إبلاغها في نفس النبيّ صلى الله عليه و آله كلّ هذه الخشية والتوجّس ، وهو الصلب الذي تحمّل ما تحمّل في سبيل تبليغ كلمات اللّه ورسالاته ولم يبالِ ، وذو العزم الراسخ في سبيل إعلان الحقّ وتوسيع مداه ، وهو الطود الشامخ الذي واجه الشرك وحده ؟ أطبقت كلمة أعلام الشيعة محدّثين ومفسّرين ومؤرّخين ومتكلّمين _ ودون أدنى شائبة تردّد _ أنّ الآية مرتبطة بواقعة يوم «الغدير» ، وأنّ محتوى الرسالة وفحواها
.
ص: 196
هو «الولاية» و«الإمامة العلويّة» . ومن ثَمّ ذهبوا إلى أنّ الآية المباركة نزلت في الثامن عشر من ذي الحجّة عام 10 ه لتؤكّد _ والمسلمون محتشدون من كلّ حدب وصوب _ على «الولاية العلويّه» للمرّة الأخيرة ، في ظلّ أجواء أخّاذه مؤثّره تستعصي على النسيان . أمّا علماء أهل السنّة فقد تفرّقت بهم السبل ، فلم تتّفق كلمتهم بشأن زمن نزول الآية ، كما لم يتوحّدهم رأي بشأْن محتوى الأمر الذي يتحتّم على النبيّ إبلاغه . لقد رصد فخر الدين الرازي أغلب هذه الآراء ، وأنهاها إلى عشرة أقوال ، يتّفق القول الأخير منها مع رؤية الشيعة . لكن من اليسير أن نلحظ عدم استقامة ما ذكره ، وإن يبدو وجود مؤيّدات أحياناً في كلمات الصحابة أو التابعين ذكرها غير الفخر الرازي في كتبهم . وقبل أن نطلّ على بعض الرؤى التي اكتنفت الآية ، من الجدير أن نتناول مفهومها بشيء من البحث والتحليل ، عبر النقاط الآتية : 1 . قوله سبحانه : «بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ» . تنصّ الجملة إلى أنّ المعنيّ بالخطاب هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وفيها دلالة على أنّ محتوى الرسالة يرتبط به أكثر ، وقد اُمر بالإبلاغ ، لكن ثَمّ حالة من التوجّس والخيفة تمنعه من الإجهار . ولقد ذكر هذه الحقيقة جميع رواة الشيعة ، وأيّدتها بعض روايات العامّة . (1) 2 . قوله : «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» . تحتشد في هذا الجزء من الآية دِلالات تفيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان عند نزول الآية قد انتهى من تبليغ الرسالة ، ووفى بحقّ هذا الدين ، وأنّ هذا النبيّ حمل إلى
.
ص: 197
الناس كلمات اللّه وهدي السماء وتعاليمها ، ثم هو الآن في مواجهة «أمر» بلغ من عظيم شأنه وجلال خطره ، أنّه إذا لم يُعلنه تصير «الرسالة» بأتمّها عرضة للضياع ، حتى لكأنّه ما بلّغ من «الرسالة» شيئاً . هذا بدوره يُثبت صحّة الروايات التي ذهبت إلى أنّ نزول الآية جاءَ في سياق سورة «المائدة» ، ومن جملة آخر الآيات المدنيّة ، لا أنّها مستثناة منها ، وأنّها نزلت في مكّة ! 3 . قوله : «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ» . ما الذي يخشاه النبيّ ؟ القتل ؟ ! الأذى والتعذيب ؟ ! أم اهتياج المشركين واليهود وتفجّر سخطهم ؟ ! هذه سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله تفصح بأنّ هذا العظيم لم يعرف الخوف إلى قلبه طريقاً قط عندما يتعلّق الأمر به . ثمّ اسمعوا وحي السماء ؛ لتروا كيف تصف صلابة رُسُل اللّه ، وشموخ حمله الرسالات وثباتهم : «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَ لَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَا اللَّهَ وَ كَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا » (1) ! أوَ بعد هذا ، يجوز أن يُنعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالخوف من البطش والأذى ، أو الرهبة مِن القتل والتعذيب ، وهو أفضل الرسل الكرام ، وخاتم النبيّين ، والحلقة الأخيرة في موكب حملة الحقّ ورسالات السماء ! هي إذاً خشيةٌ ، بيد أنّها من «لون» آخر ، فما كان يخشاه النبيّ هو أن لا يؤتي «البلاغ» ثماره المرجوّه ، وما كان يبعث على توجّسه هو طبيعة الجوّ الذي يمنع من نفاذ كلمة الحقّ ، ويردع عن أن يؤتي «البلاغ» آثاره المطلوبة . هذا ما كان يخشاه النبيّ ويبعث في نفسه التوجّس لاغير .
.
ص: 198
4 . قوله : «مِنَ النَّاسِ» . «الناس» هو لفظ مطلق بلا شكّ ، والنصّ يتضمّن حفظ اللّه سبحانه وحراسته للنبيّ صلى الله عليه و آله ؛ حفظه من أحابيل اُولئك الذين ستنطلق جهودهم وهي تهدف الحؤول دون وصول «البلاغ» الى الناس ، ومِن ثمَّ إفشال مهمّته . فعلى هذا يتّضح أنّ المراد من «الكفر» في قوله : «الْقَوْمِ الْكَ_فِرِينَ» هو الكفر ببعض الآيات الربّانيّة ، والمقصود من «عدم الهداية» في قوله سبحانه : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى» هو عدم نجاح خديعة هؤلاء ، وفشل ما أبرموه للنَّيل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في إبلاغ «ما اُنزل» . وإلّا لو كان المراد من «عدم الهداية» عدم الهداية إلى الإيمان ، لتعارض ذلك مع أصل التبليغ ومهمّة الإبلاغ ، ولم يتّسق مع فلسفة الدعوة والهداية بالأساس ، حتى لكأنّ اللّه سبحانه يقول : ادعو هؤلاء الى حكم اللّه ، بيد أنّني لن أهديهم ! وهكذا يتّضح _ بلا أدنى شائبة _ أنّ المراد في مدلول هذا الجزء من الآية أنّ جهود هؤلاء في إطفاء هذا النور ستصاب بالخيبة ، وستبوء جهودهم للطعن بالنبيّ بالضلالة والخسران ، وتذهب مساعيهم لإفشال هذا «البلاغ» أدراجَ الرياح ، ولن يحصدوا من رمي النبيّ صلى الله عليه و آله بتهمة الانحياز إلى بيته وقرابته القريبة إلاّ الذلّة والصغار . فالمقصود إذاً : ستسقط كلّ اُمنيات هؤلاء للحؤول دون الإجهار بهذا البلاغ ، وتصير كهشيم تذروه ريح عاتية . تحوي هذه الآية من النقاط والعظات المضيئة أكثر بكثير ممّا سطّرته هذه الكلمات . لكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه في نقل الرؤى يهدف إلى تشييد معالم المشهد التاريخي للواقعة ، وتجسيد أجواء النزول ، أكثر ممّا يهدف إلى تبيين معنى الآية .
.
ص: 199
أمّا الآن فنمرّ على بعض الأقوال في الآية من خلال المحورين التاليين : 1 . نزول الآية أوّل البعثة ، والخشية من إبلاغ الدين ! يبدو أنّ أوّل من ذهب الى ذلك _ وان لم يقطع به _ هو محمّد بن إدريس الشافعي ، فعلى أساس ما ذكره ، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعد أن أتاه الوحي ونزلت عليه : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ» ، كبر ذلك عليه ، وخاف التكذيب وأن يُتناول من قبل المشركين ، فنزل عليه «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ» ، وقد كان ذلك عصمة له من قِبَل اللّه سبحانه كي يمضي على تبليغ ما اُمر به بثبات ودون خوف . (1) على أساس هذه الرؤية روي عن الحسن البصري قوله : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «لَمّا بَعَثَنِيَ اللّهُ تَعالى بِرِسالَتِهِ ضِقتُ بِها ذَرعَاً ، وَعَرَفتُ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يُكَذِّبُني» (2) فأمسك عن الدعوة حتى نزلت عليه الآية . ذكرنا فيما سلف أنّ سورة المائدة هي من بين آخر السور التي نزلت على النبيّ صلى الله عليه و آله إن لم تكن آخرها (3) . فما الذي كان يريده اللّه سبحانه من قوله : «بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ» ، ولم ينزل على النبيّ صلى الله عليه و آله شيء بعدُ ؟ وما الذي كان يخشاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويمنعه عن الإبلاغ ولمّا يواجهِ المشركون بعدُ آيةً أو آيات من تلك التي تقضّ مضاجعهم ، وتبعث فيهم النقمة والاهتياج ! إنّ هذا الذي يزعمونه لا يليق بمُبلِّغ عاديّ ، وهو ليس خليق بإنسان متوسّط الحال لايزال في أوّل الطريق ، أفيجوز على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وذلك القلب المجدول إلى السماء ، الموصول باللّه أبداً ؟ وهل يتّسق مع خطاه الراسخة وتلك الارادة الصلبة التي لا تعرف الوهن !
.
ص: 200
أمّا ما ذكروه من أنّ الباعث على نزول الآية هو ما كان من حراسة أبي طالب عمّ النبيّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ بنزول الآية طلب النبيّ إليه أن يكفّ عن الحراسة بعد أن وعد اللّه سبحانه بعصمته وحمايته (1) ؛ فإنّ فيه بالإضافة إلى ما تمّت الإشارة إليه في نقد الرؤية الاُولى ، أنّه يتعارض مع الواقع التاريخي الصادق . فهذا الواقع خير دليل على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ظلّ يحظى بالحراسة سنوات خاصّةً في المدينة ، وليس ثمة شاهد أقوى على ذلك من وجود «اُسطوانة الحرس» . 2 . إخفاء بعض القرآن خوفاً من المشركين ! ذكروا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان أيّام اقامته بمكّة يجاهر ببعض القرآن ، ويُخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من أذى المشركين أو اليهود ، وخوفاً ممّا يمكن أن يوقعوه به ! وممّا يبعث على الأسف أن يلتزم بعض الناس أحياناً بأقوال واهية وبآراء لا تليق كهذه . أفيجوز مثل هذا الظنّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ ثمّ هذه حياته التي تتفجّر بالحيويّة والحركة ، وهذه سيرته كلّها مضاء وحزم وصِدام مع مظاهر الشرك والجاهليّة ، فهل تجتمع هي وهذا الظنّ الواهي ؟ وهل تستحقّ حياة نبيّ اللّه هذه الكلمات ؟ ! إنّ ما تضمّه تفاسير أهل السنّة ومجاميعها الروائيّة من أقوال ورؤى حيال الآية ، لايتعدّى ذلك الرصد الذي قدّمه الفخر الرازي للأقوال في المسألة ، وَحين نتفحّص بقيّة الأقوال التي أحصاها الرازي فهي أضعف وأكثر وهناً من الرأي الذى عرضناه قبل قليل . أمّا آخر الأقوال فقد ذكره الفخر الرازي على النحو الآتي : «نَزَلَتِ الآيَةُ في فَضلِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ، ولَمّا نَزَلَت هذِهِ الآيَةُ أخَذَ بِيَدِهِ ، وقالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ
.
ص: 201
مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَقالَ : هَنيئاً يَا بنَ أبي طالِبٍ !أصبَحتَ مَولايَ ومَولى كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ ، وهُوَ قَولُ ابنِ عَبّاسٍ وَالبَراءِ بنِ عازِبٍ ومُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ» . (1) ثم انعطف الفخر الرازي ليقول : «وَاعلَم أنَّ هذِهِ الرِّواياتِ وإن كَثُرَت إلّا أنَّ الأَولى حَملُهُ عَلى أنَّهُ تَعالى آمَنَهُ مِن مَكرِ اليَهودِ وَالنَّصارى ، وأمَرَهُ بإِظهارِ التَّبليغِ من غَيرِ مُبالاةٍ مِنهُ بِهِم» . (2) إنّ ما صرّح به الفخر الرازي من أنّ الروايات في هذا القول _ الأخير _ كثيرة ، لهو أمر ثابت وصحيح . بَيد أنّ الذي يبعث على الدهشة هو حال اُولئك المفسّرين والمحدّثين والمتكلّمين الذين لا ينصاعون إلى كلّ هذا الحشد من الروايات ، ولا يُذعنون إليه ، بل يجنحون إلى معاذير وتفسيرات لا تلتئم والواقع التاريخي ، ولا تنسجم مع شخصيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أو تتواءم مع سيرته الوضيئة ، وتتوافق مع خطاه الراسخة في إبلاغ الحقّ .
نزول الآية في واقعة الغدير لإبلاغ الولايةيتّضح ممّا سلف ؛ واستناداً إلى الروايات والأخبار الكثيرة ، أنّ آية الإبلاغ نزلت في غدير خمّ للثامن عشر من ذي الحجّة عام 10 ه ، عطفا على ما كان قد صرّح به النبيّ وذكره مرّات ، وتأكيداً لما كان نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الوحي القرآني والبياني أكثر من مرّة . على أنّ من الحريّ أن نؤكّد أنّ قوله سبحانه : «مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ» يشمل كلّ ما هبط على النبيّ صلى الله عليه و آله في هذا المجال ، على امتداد سنيّ الرسالة ، سواء أكان وحياً قرآنيّاً أم
.
ص: 202
وحياً بيانيّاً ، وذلك في مختلف المواضع والمناسبات ، وعلى صعيد كافّة التجمّعات ممّا قلّ منها أو كثُر . والآن هذا هو النبيّ أمام صفوف متراصّة من المسلمين تبلغ عشرات الاُلوف قد قصدوا مكّة حجّاجاً من حواضر العالم الإسلامي وبواديه ، وأمّوا البيت العتيق من كلّ فجٍّ عميق . وإذا صوت الوحي يأتي النبيّ من فوره ، يأمره وهو في السنة الأخيرة من عمره الشريف وفي حَجَّة الوداع ، أن يصدع بالولاية العلويّة ، ويُعلن على الجميع إمامة عليّ بن أبي طالب ، بصراحة تامّة ، ودقّة متناهية لا تحتمل أدنى شائبة من تأويل ، ولا تُطيق أيّ عذر أو تسويغ مهما كان . يتوجّس النبيّ من الأمر ويخشاه ، بيد أنّ خشيته لا على نفسه وهو الذي حمل روحه على كفّه وبذلها في سبيل الحقّ منذ أيّام الدعوة الاُولى ، فقهر الصعاب وجعل المستحيل ذلولاً . يتوجّس ، لكن لا من المشركين وقد كسر شوكتهم ، وصاروا على يديه فلولاً يائسة منهوكة . يخاف ، لكن أيضاً لامن اليهود والنصارى وقد لاذوا أمام عظمة المسلمين وجلال إهابهم ، بصمت ذليل . إنّما الذي يخشاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويتوجّس منه لهو «داخل اُمّته» وما يريبه هو هذا «النفاق» الكامن الذي أخذ موقعه بين بعض المسلمين ، وما يخشاه هو هذه الشكوك التي يبثّها النفر الذين تظاهروا بالإسلام ، وهم في ريب من أصل الرسالة ، وما يخاف منه هو هذه التُّهَم التي تهجم على الكلام النبوي ، لترمي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالفئويّة الاُسريّة الضيّقة ، ومحاباة قرابته القريبة ، وتتّهمه بتحميل أهله على الناس ! ممّا تكشف عنه لغة الآية والروايات _ التي مرّت نصوصها فيما مضى _ أيضاً أنّ
.
ص: 203
أمين الوحي جبرائيل عليه السلام كان قد حمل في الأيّام الأخيرة عن اللّه سبحانه ، إلى أمين الرسالة صلى الله عليه و آله أهميّة هذا الإبلاغ ، وأكّد على ضرورته مرّات ، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله تحدّث عن توجّسه وخيفته ؛ وها هو الآن البلاغ الأخير يقرع فؤاده : «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ» . 1 «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ» . مخاطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعنوان الرسالة هو الخطاب الخليق بصفة التبليغ . إيهٍ يا نبيّ اللّه ! هل تتوجّس ؟ تُساورك الخشية ، وتنتابك الخِيفة ؟ لكن أيّ شيء هو شأنك غير البلاغ والدعوة ؟ وهل لك مسؤوليّة اُخرى غير أن تصدع بكلمات اللّه وتجهر بها ؟ فادعُ _ إذا _ واصدع وبلّغ ، إنّما بدقّةٍ متناهية ، وبصيغة مؤثّرة وثابتة «وَ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَا الْبَلَ_غُ» . «مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ» . تُرى ما الذي «أُنزِلَ إِلَيْكَ» ؟ ولماذا لم يُصرّح به ؟ إنّما كان ذلك كي يكشف عن الموقع الرفيع الذي يحظى به الأمر . وجاء بهذه الصيغة إجلالاً وتعظيماً لذلك الأمر ، ولكي يُشير إلى أنّه ليس لرسول اللّه صلى الله عليه و آله من الأمر شيء ، ولا له فيه إرادة واختيار ، بل مهمّته الإبلاغ وحسب . من جهة اُخرى تنمّ هذه الصيغة عن صحّة فراسة النبيّ لما كان يرتقبه من ردود فعل متوجّسة تصدر عن القوم ، ممّا جعل اللّه سبحانه يدع الأمر في هالة من
.
ص: 204
الغموض والإبهام ، ما برحت تُلقي ظلالها على الموقف حتى تحين لحظة البلاغ ، وينطق النبيّ بكلمة السماء . «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» . يُحار الإنسان لاُولئك الذين جنحوا في تفسير الآية إلى كلام آخر ، وحين راموا الصدود عن «الحقيقة» سلكوا طريقاً واهياً لا يأوي إلى قرار ! تُرى كيف يفسّرون هذه الجزء من الآية ؟ وما هو المعنى الذي يسوقونه إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تُصرّح به بعض التعاليم الإلهيّة من النهي عن الكتمان ؟ تُرى ما الذي يؤدّي كتمانه وعدم إظهاره والتأكيد عليه ، ممّا نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إلى بلوغ حالة يصير فيها بنيان الرسالة في مهبّ الريح وكأنّها لم تُبلّغ ! وأيّ أمر هذا الذي إذا غاب عن الأذهان ، واستطاع أعداء الرسالة وأْده والقضاء عليه في واقع المجتمع ؛ يتقوّض أساس هذا الدين ، وكأنّه لم يكن ! إنّ هذه الكلمة العجيبة المدهشة لتومئ من جهة إلى ما يحظى به هذا البلاغ من شأْوٍ عظيم ، كما تؤشّر من جهة اُخرى إلى حقيقة تُفيد أنّه ليس ثمّة خيار أمام رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّا تبليغ هذه الرسالة ، حيث أنذره ربّه _ إن هو لم يبلّغ _ بتلاشي جميع الجهود ، وضياع كلّ تلك الآلام والمشاقّ التي طوتها الأعوام الثلاث والعشرون من عمر الرسالة ، واضمحلال ما أنفق فيها من جهد وجهاد . «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» . في عين اللّه حراستك ، وأنت في حفظه وحماه . كأنّك _ يا رسول اللّه _ تتوجّس خيفة من الأمر ، وتخشى ردود فعل تلك النفوس المظلمة ، وتتهيّب هياجها وما تُثيره من شحناء . لكن اعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير . سيزول مكرهم جميعاً ، ويغدو كهشيم تذروه الرياح ، ويتلاشى كيد الناس ، جميع
.
ص: 205
«النَّاسِ» ! إنّ اللّه سبحانه ليؤكّد في هذا الجزء مجدّداً على عظمة البلاغ ، كما يُشير اُخرى إلى ذوي الريبة والنفوس المدلهمّة . لكن مَن هم هؤلاء ؟ لم يُفصح النصّ عن شيء ، بل مضى يوعِد بزوال جميع ضروب المكر ، وسقوط كلّ أحابيل الشيطان ، وتلاشي المكائد جميعاً ، من أيّ إنسان كان ! إنّ كلّ كلمة في الآية لتُسفِر عن عظمة هذا البلاغ وسموّه ، وهي تُومئ أيضاً إلى مخاوف وهواجس ، وإلى نفوس اُناسٍ موبوءة بالإحن والشحناء ، مملوءة بالضغينة والغضب ! فيا ليت اُولئك المفسّرين والباحثين القرآنيّين الذين جنحوا إلى أقوال اُخَر يبصرون بتأمّل : أيّ شيء من «مَآ أُنزِلَ» يثير إبلاغه كلّ هذه الخشية والهواجس ؟حتى إذا ما ظهر إلى الناس أثار الحنق والغضب ، وجرّ اُناسا إلى مواجهات ومواقف ؟ ثمّ لهم أن يتأمّلوا في حقيقة التاريخ الإسلامي وواقعه الصادق ، ليُبصروا ما الذي أثار الإحَن والفتن ؟ وأيّ شيء أحدث كلّ هذا الهياج ؟ !
.
ص: 206
ب _ إكمالُ الدّينِالكتاب«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاءِسْلَامَ دِينًا» . (1)
الحديث205.الإمام الصادق عليه السلام :تاريخ دمشق عن أبي سعيد الخدري :لَمّا نَصَبَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيّا بِغَديرِ خُمٍّ فَنادى لَهُ بِالوِلايَةِ ، هَبَطَ جِبريلُ عليه السلام عَلَيهِ بِهذِهِ الآيَةِ : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاءِسْلَامَ دِينًا» . (2)206.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :تاريخ اليعقوبي :قَد قيلَ إنَّ آخِرَ ما نَزَلَ عَلَيهِ [النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ] : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاءِسْلَ_مَ دِينًا» ، وهِيَ الرِّوايَةُ الصَّحيحَةُ الثّابِتَةُ الصَّريحَةُ . وكانَ نُزولُها يَومَ النَّصِّ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ بِغَديرِ خُمٍّ . (3)
.
ص: 207
بحث حول يوم إكمال الدين «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاءِسْلَامَ دِينًا » . (1) تتحدّث الآية عن يوم يتّسم بأربع خصائص مهمّة : 1 . هو يوم يئس فيه الكفّار من إلحاق الأذى بأصل الإسلام ، أو النيل من قواعد هذا الدين ووجوده . 2 . هو يوم كمُل فيه الدين الإسلامي . 3 . هو يوم أتمّ اللّه سبحانه فيه نعمته على الاُمّة الإسلاميّة . 4 . هو يوم رضي اللّه سبحانه فيه لهذا الدين أن يكون الدين النهائي الخاتم للإنسانيّة أجمع . عندما تحتشد هذه الخصائص البارزة في هذا اليوم ، ففي ذلك إشارة على أنّه أعظم يوم وأكثرها تحديداً للمصير في تاريخ الرسالة النبويّة ، بل في تاريخ الإسلام قاطبة . هنا بالذات يكمن مغزى كلمة ألقاها يهوديٌّ إلى عمر بن الخطّاب وهو يشيد
.
ص: 208
بجلال هذا اليوم لو كان عند اليهود . ففي الخبر عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطّاب ، قوله : إنَّ رَجُلاً مِنَ اليَهودِ قالَ لَهُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، آيَةٌ في كِتابِكُم تَقرَؤونَها ، لَو عَلَينا مَعشَرَ اليَهودِ نَزَلَت لَاتَّخَذنا ذلِكَ اليَومَ عيداً ! قالَ : أيُّ آيَةٍ ؟ قالَ : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ . . .» . (1) ينبغي الآن أن نُطلّ على تاريخ الإسلام لننظر أيّ يوم هذا اليوم المصيري الذي يحمل تلك الخصائص الأربعة ؟ وهو الى ذلك جدير أن يحتفي به المجتمع الإسلامي وتتّخذه الاُمّة عيداً ! كثيرة هي الاحتمالات التي سيقت لتحديد ذلك اليوم ، بيد أنّها في الغالب لا تستند الى وثائق تاريخيّة أو الى نصوص حديثيّة ، وبذلك ننأى عن عرضها في هذا المجال (2) . تبقى هناك فرضيّ_تان تستند كلّ واحدة منهما إلى مجموعة من النصوص التاريخيّة والحديثيّة التي تعود إلى الشيعة والسنّة . والمطلوب دراسة هاتين المجموعتين من النصوص لننظر فيما إذا كانت متعارضة فيما بينها ، أم هناك وجه للجمع بينهما . والفرضيّتان هما :
1 . يوم غدير خمّفي أحاديث الشيعة أخبار كثيرة تحدّد موضوع الآية بنصب النبيّ صلى الله عليه و آله للإمام عليّ عليه السلام قائداً للاُمّة من بعده ، من دون أن تُشير إلى ذكر يوم الغدير أو أيّ يوم آخر غيره . بيد
.
ص: 209
أنّ هناك ما يناهز العشرين حديثاً تتحدّث صراحة على أنّ الآية نزلت يوم الغدير (1) . كما توجد أحاديث في كتب أهل السنّة تنتهي أساساً إلى أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، تُشير أيضاً إلى أنّ الآية نزلت في يوم الغدير ، الموافق للثامن عشر من ذي الحجّة سنة عشر للهجرة ، وهذه الأحاديث تتوافق مع القرآن ، ولا مناص من التسليم بها ، وإلّا ليس ثمّة يوم يمكن العثور عليه في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله ينطوي على ما ذكره القرآن من خصائص غير يوم الغدير . فبتعيين القائد المستقبلي للاُمّة الإسلاميّة من قِبَل اللّه سبحانه في هذا اليوم ، اندحر الكافرون ، وانقطع دابرهم ، وتبدّلت آمالهم يأساً ، وقد كانوا من قبل يظنّون أنّ هذا الدين متقوّم بشخص النبيّ ووجوده الأقدس ، فإذا ما غاب عن الساحة انتهى أمر الإسلام ، وصار إلى زوال . في هذا اليوم تكامل منهاج الإسلام ، وتمّت اُطروحته لإدارة غد البشريّة ، وتدبير أمر العالم كلّ العالم . وبتبوّأ شخصيّة شاهقة متألّقة كالإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو عِدل النبيّ صلى الله عليه و آله _ باستثناء النبوّة _ وتعيينه للخلافة ، كملت نعمة اللّه سبحانه على الاُمّة الإسلاميّة . وباستكمال منهاج الإسلام ، وبلوغ برنامجه الذروة لتكامل المجتمع الإنساني مادّياً ومعنويّاً ؛ رضي اللّه سبحانه الإسلام ديناً لتكامل الإنسان . ثمّة قرائن وافرة تدلّ على أنّ يوم إكمال الدين هو يوم الغدير ؛ فها نحن نُبصر على المسرح التاريخي لوقائع يوم الغدير عام (10 ه) يدَي رسول اللّه صلى الله عليه و آله تضع العمامة على رأس عليّ عليه السلام في مراسم مهيبة ، ثم هو ذا النبيّ يضع بنفسه برنامجاً خاصّاً لتهنئة الإمام القائد في ذلك اليوم ، فينثال على الإمام الصحابة الكرام مسلّمين
.
ص: 210
ومهنّئين ، وهذا حسّان بن ثابت يطلع من بين الصفوف بقصيدة توثّق الواقعة ، وبعد ذلك كلّه يُصار لإعلان يوم الغدير عيداً من أعظم الأعياد الإسلاميّة . فهل تدع هذه القرائن شكّاً في أنّ يوم إكمال الدين هو يوم الغدير ، بالأخصّ حين تنضمّ إليها وثائق وقرائن كثيرة اُخرى تاريخيّة وحديثيّة ؟
2 . يوم عرفةبإزاء النصوص التي سلفت إليها الإشارة هناك نصوص اُخرى تُصرّح أنّ آية «إكمال الدين» نزلت في يوم عرفة بعرفات . هذا القول هو الشائع بين أهل السنّة ، وهو المعوّل عندهم ، وقد روي عن عدد من الصحابة ، بيد أنّ الأساس فيه هو كلام عمر آنف الذكر حين سأله الرجل اليهودي ، وقد توافرت الكتب على نقله من بينها صحيح البخاري ، كما مرّت الإشارة إليه. كما ذُكر القول نفسه في بعض كتب الشيعة وأحاديثها ، ونذكر فيما يلي حديثين منها مرويّين عن الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق عليهماالسلام : _ الحديث الأوّل ذكره ثقة الإسلام الكليني في الكافي ، وقد جاء فيه : «عَن أبِي الجارودِ، قالَ : سَمِعتُ أبا جَعفَرٍ عليه السلام يَقولُ : فَرَضَ اللّهُ عزّوجلّ عَلَى العِبادِ خَمساً ؛ أخَذوا أربَعاً ، وتَرَكوا واحِداً . قُلتُ : أتُسَمّيِهنَّ لي جُعِلتُ فِداكَ ؟ فَقالَ : الصَّلاةُ ، وكانَ النّاسُ لايَدرونَ كَيفَ يُصَلّونَ ، فَنَزَلَ جَبرَئيلُ عليه السلام فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ، أخبِرهُم بِمَواقيتِ الصَّلاةِ . ثُمَّ نَزَلَتِ الزَّكاةُ ، فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ، أخبِرهُم مِن زَكاتِهِم ما أخبَرتَهُم مِن صَلاتِهِم . ثُمَّ نَزَلَ الصَّومُ ، فَكانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إذا كانَ يَومُ عاشوراءَ بَعَثَ إلى ما حَولَهُ مِنَ القُرى فَصاموا ذلِكَ اليَومَ ، فَنَزَلَ شَهرُ رَمَضانَ بَينَ
.
ص: 211
شَعبانَ وشَوّالٍ . ثُمَّ نَزَلَ الحَجُّ ، فَنَزَلَ جَبرَئيلُ عليه السلام فَقالَ : أخبِرهُم مِن حَجِّهِم ما أخبَرتَهُم مِن صَلاتِهِم و زَكاتِهِم وصَومِهِم . ثُمَّ نَزَلَتِ الوِلايَةُ ؛ وإنّما أتاهُ ذلِكَ في يَومِ الجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ ، أنزَلَ اللّهُ عزّوجلّ : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى» وكانَ كَمالُ الدّينِ بِوِلايَةِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ، فَقالَ عِندَ ذلِكَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : اُمَّتي حَديثو عَهدٍ بِالجاهِلِيَّةِ ، ومَتى أخبَرتُهُم بِهذا فِي ابنِ عَمّي يَقولُ قائِلٌ ، ويَقولُ قائِلٌ _ فَقُلتُ في نَفسي مِن غَيرِ أن يَنطِقَ بِهِ لَساني _ فَأَتَتني عَزيمَةٌ مِنَ اللّهِ عزّوجلّ بَتلَةً (1) أوعَدَني إن لَم اُبَلِّغ أن يُعَذِّبَني ، فَنَزَلَت : «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَ_فِرِينَ» . (2) فَأَخَذَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِيَدِ عِلِيٍّ عليه السلام فَقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! إنَّهُ لَم يَكُن نَبِيٌّ مِنَ الأَنبِياءِ مِمَّن كانَ قَبلي إلّا وقَد عَمَّرَهُ اللّهُ ، ثُمَ دَعاهُ فَأَجابَهُ ، فَاَوشِكُ أن اُدعى فَاُجيبَ ، وأنَا مَسؤولٌ وأنتُم مَسؤولونَ ، فَماذا أنتُم قائِلونَ ؟ فَقالوا : إنَّكَ قَد بَلَّغتَ ونَصَحتَ ، وأدَّيتَ ما عَلَيكَ ، فَجَزاكَ اللّهُ أفضَلَ جَزاءِ المُرسَلينَ . فَقالَ : اللّهُمَّ اشهَد _ ثَلاثَ مَرّاتٍ _ ثُمَّ قالَ : يا معَشَرَ المُسلِمينَ ! هذا وَلِيُّكُم مِن بَعدي ، فَليُبَلِّغِ الشّاهِدُ مِنكُمُ الغائِبَ» . (3) _ أمّا الحديث الثاني فقد رواه العيّاشي عن محمّد الخزاعي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : «لَمّا نَزَلَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَرفاتٍ يَومَ الجُمُعَةِ ، أتاهُ جَبرَئيلُ عليه السلام فَقالَ لَهُ : يا مُحَمَّدُ ، إنَّ اللّهَ يُقرِئُكَ السَّلامَ ويَقولُ لَكَ : قُل لِاُمَّتِكَ : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» بِوِلايَةِ عَلِيِّ
.
ص: 212
ابنِ أبي طالِبٍ «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاءِسْلَ_مَ دِينًا » ولَستُ اُنزِلُ عَلَيكُم بَعدَ هذا ، قَد أنزَلتُ عَلَيكُمُ الصَّلاةَ والزَّكاةَ وَالصَّومَ وَالحَجَّ ، وهِيَ الخامِسَةُ ، ولَستُ أقبَلُ هذِهِ الأَربَعَةَ إلّا بِها» . (1) والسؤال الآن : هل تتعارض هاتان المجموعتان من النصوص بحيث لا يمكن علاجها ممّا يتحتّم طرح إحداهما ، أم أنّ الجمع بينهما ممكن ؟ مقتضى التأمّل في هاتين المجموعتين من النصوص ودراستهما بدقّة لاتُفضي إلى عدم وجود تعارض أساسي بين الاثنين وحسب ، بل العكس تُفيد أ نّهما يؤيّد بعضهما بعضاً من حيث الأصل ، وأنّ إحداهما مكمّلة للاُخرى . وبيان ذلك _ كما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي _ هو : «أنَّ التَّدَبُّرَ فِي الآيَتَينِ الكَريمَتَينِ : «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ . . .» عَلى ما سَيَجيءُ مِن بَيانِ مَعناهُ ، وقَولِهِ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ . . .» وَالأَحاديثِ الوارِدَةِ مِن طُرُقِ الفَريقَينِ فيهِما ، ورِواياتِ الغَديرِ المُتَواتِرَةِ ، وكَذا دِراسَةِ أوضاعِ المُجتَمَعِ الإِسلامِيِّ الدّاخِلِيَّةِ في أواخِرِ عَهدِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَالبَحثَ العَميقَ فيها ، يُفيدُ القَطعَ بِأَنَّ أمرَ الوِلايَةِ كانَ نازِلاً قَبلَ يَومِ الغَديرِ بِأَيّامٍ . وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله يَتَّقِي النّاسَ في إظهارِهِ ، ويَخافُ أن لا يَتَلَقَّوهُ بِالقَبولِ أو يُسيؤُوا القَصدَ إلَيهِ ؛ فَيَختَلُّ أمرُ الدَّعوَةِ ، فَكانَ لا يَزالُ يُؤَخِّرُ تَبليغَهُ النّاسَ مِن يَومٍ إلى غَدٍ حَتّى نَزَلَ قَولُهُ : «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ . . .» فَلَم يُمهِل في ذلِكَ» . (2) في الحقيقة أنّ هناك تسعة أيّام فصلت بين صدور الحكم الإلهي بنصب الإمام عليّ عليه السلام قائداً للاُمّة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله وبين إبلاغ الحكم ، فحكم ولاية الإمام
.
ص: 213
أميرالمؤمنين عليه السلام صدر في يوم عرفة بعرفات ، بيد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخّر إبلاغه إلى يوم غدير خمّ للبواعث التي أشرنا إليها آنفاً . بهذا يتّضح أنّ النصوص التي لها دلالة على نزول آية الإكمال في يوم عرفة ناظرة إلى تاريخ صدور الولاية ، أمّا النصوص التي لها دلالة على أنّ الآية قد نزلت في غدير خمّ ، فهي ناظرة الى تاريخ إبلاغ حكم الولاية ، و مِن ثَمّ فإنّ تعبير النزول يصحّ على الطائفتين كليهما ، بل هو أمر مألوف .
.
ص: 214
ج _ التَّتويجُ يَومَ الغَديرِ231.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :عَمَّمَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ غَديرِ خُمٍّ بِعِمامَةٍ سَوداءَ ، طَرَفُها عَلى مَنكِبي . (1)232.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام زين العابدين عليه السلام :إنَّ رَسولَ اللّهِ عَمَّمَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عِمامَتَهُ السَّحابَةَ (2) وأرخاها مِن بَينِ يَدَيهِ ومِن خَلفِهِ ، ثُمَّ قالَ : أقبِل فَأَقبَلَ ، ثُمَّ قالَ : أدبِر فَأَدبَرَ . فَقالَ : هكَذا جائَتنِي المَلائِكَةُ ، ثُمَّ قالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، وَانصُر مَن نَصَرَهُ ، وَاخذُل مَن خَذَلَهُ . (3)د _ التَّهنِئَةُ القِيادِيَّةُمسند ابن حنبل عن البراء بن عازب :كُنّا مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله في سَفَرٍ ، فَنَزَلنا بِغَديرِ خُمٍّ ، فَنودِيَ فينا : الصَّلاةَ جامِعَةً ، وكُسِحَ (4) لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله تَحتَ شَجَرَتَينِ ، فَصَلَّى الظُّهرَ ، وأخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ عليه السلام فَقالَ : أ لَستُم تَعلَمونَ أنّي أولى بِالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهِم ؟ قالوا : بَلى . قالَ : أ لَستُم تَعلَمونَ أنّي أولى بِكُلِّ مُؤمِنٍ مِن نَفسِهِ ؟ قالوا : بَلى . قالَ : فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ . قالَ : فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعدَ ذلِكَ ، فَقالَ لَهُ : هَنيئا يَا بنَ أبي طالِبٍ!أصبَحتَ وأمسَيتَ مَولى كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ. (5)
.
ص: 215
ه _ ذِكرَياتُ أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله مِن واقِعَةِ الغَديرِ1 . أبو سَعيدٍ الخُدرِيُّ233.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :تاريخ دمشق عن عبد اللّه بن شريك عن سهم بن حصين الأسدي :قَدِمتُ إلى مَكَّةَ أنَا وعَبدُ اللّهِ بنُ عَلقَمَةَ _ وكانَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَلقَمَةَ سَبّابَةً لِعَلِيٍّ دَهرا _ قالَ : فَقُلتُ لَهُ : هَل لَكَ في هذا _ يَعني أبا سَعيدٍ الخُدرِيَّ _ نُحدِثُ (1) بِهِ عَهدا ؟ قالَ : نَعَم ، قالَ : فَأَتَيناهُ ، فَقالَ : هَل سَمِعتَ لِعَلِيٍّ _ رِضوانُ اللّهِ عَلَيهِ _ مَنقَبَةً ؟ قالَ : نَعَم ، إذا حَدَّثتُكَ فَسَل عَنهَا المُهاجِرينَ وَالأَنصارَ وقُرَيشا (2) :
إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قامَ يَومَ غَديرِ خُمٍّ فَأَبلَغَ ، ثُمَّ قالَ : يا أيُّهَا النّاسُ ! أ لَستُ أولى بِالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهِم ؟ قالوا : بَلى _ قالَها ثَلاثَ مَرّاتٍ _ ثُمَّ قالَ : اُدنُ يا عَلِيُّ. فَرَفَعَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَدَيهِ حَتّى نَظَرتُ إلى بَياضِ آباطِهِما ؛ قالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ _ ثَلاثَ مَرّاتٍ _ .
قالَ : فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَلقَمَةَ : أنتَ سَمِعتَ هذا مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ قالَ أبو سَعيدٍ : نَعَم ، وأشارَ إلى اُذُنَيهِ وصَدرِهِ ؛ قالَ : سَمِعتهُ اُذُنايَ ووَعاهُ قَلبي .
قالَ عَبدُ اللّهِ بنُ شَريكٍ : فَقَدِمَ عَلَينا عَبدُ اللّهِ بنُ عَلقَمَةَ وسَهمُ بنُ حُصَينٍ ، فَلَمّا صَلَّينَا الهَجيرَ (3) ، قامَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَلقَمَةَ فَقالَ : إنّي أتوبُ إلَى اللّهِ وأستَغفِرُهُ مِن سَبِّ عَلِيٍّ _ ثَلاثَ مَرّاتٍ _ . (4)
.
ص: 216
2 . جابِرُ بنُ عَبدِ اللّهِ246.الإمام عليّ عليه السلام :سير أعلام النبلاء عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيل :كُنتُ عِندَ جابِرٍ في بَيتِهِ ، وعَلِيُّ بنُ الحُسَينِ ، ومُحَمَّدُ ابنُ الحَنَفِيَّةِ ، وأبو جَعفَرٍ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِن أهلِ العِراقِ ، فَقالَ : أنشُدُكَ بِاللّهِ إلّا حَدَّثتَني ما رَأَيتَ وما سَمِعتَ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ! فَقالَ : كُنّا بِالجُحفَةِ بِغَديرِ خُمٍّ ، وثَمَّ ناسٌ كَثيرٌ مِن جُهَينَةَ ومُزَينَةَ وغِفارٍ ، فَخَرَجَ عَلَينا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِن خِباءٍ أو فُسطاطٍ ، فَأَشارَ بِيَدِهِ ثَلاثا ، فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ رضى الله عنه فَقالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ . (1)3 . زَيدُ بنُ أرقَمَ248.عنه عليه السلام :المستدرك على الصحيحين عن زيد بن أرقم :خَرَجنا مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله حَتَّى انتَهَينا إلى غَديرِ خُمٍّ ، فَأمَرَ بِدَوحٍ (2) فَكُسِحَ ، في يَومٍ ما أتى عَلَينا يَومٌ كانَ أشَدَّ حَرّا مِنهُ ! فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وقالَ : يا أيُّهَا النّاسُ ! إنَّهُ لَم يُبعَث نَبِيٌّ قَطُّ إلّا ما عاشَ نِصفَ ما عاشَ الَّذي كانَ قَبلَهُ ، وإنّي اُوشِكُ أن اُدعى فَاُجيبَ ، وإنّي تارِكٌ فيكُم ما لَن تَضِلّوا بَعدَهُ ؛ كِتابَ اللّهِت .
ثُمَّ قامَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ عليه السلام فَقالَ : يا أيُّهَا النّاسُ ! مَن أولى بِكُم مِن أنفُسِكُم ؟ قالوا : اللّهُ ورَسولُهُ أعلَمُ !
قالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ . (3)
.
ص: 217
و _ ذِكرَياتُ الإِمامِ عليه السلام259.صحيح البخاري عن أبي هريرة :الإمام عليّ عليه السلام :خَرَجَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلى حِجَّةِ الوَداعِ ، ثُمَّ صارَ إلى غَديرِ خُمٍّ ، فَأَمَرَ فَاُصلِحَ لَهُ شِبهُ المِنبَرِ ، ثُمَّ عَلاهُ وأخَذَ بِعَضُدي حَتّى رُئِيَ بَياضُ إبطَيهِ ، رافِعا صَوتَهُ قائِلاً في مَحفِلِهِ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ .
فَكانَت عَلى وِلايَتي وِلايَةُ اللّهِ ، وعَلى عَداوَتي عَداوَةُ اللّهِ .
وأنزَلَ اللّهُ عزّ وجلّ في ذلِكَ اليَومِ : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاءِسْلَ_مَ دِينًا» . (1)
فَكانَت وِلايَتي كَمالَ الدّينِ ، ورِضَى الرَّبِّ جَلَّ ذِكرُهُ . (2)ز _ اِحتِجاجُ عَلِيٍّ عليه السلام263.عنه عليه السلام :الاحتجاج :قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام [بَعدَ وَفاةِ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله وَانتِخابِ أبي بَكرٍ ] : يا مَعاشِرَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، اللّهَ اللّهَ لاتَنسَوا عَهدَ نَبِيِّكُم إلَيكُم في أمري ، ولا تُخرِجوا سَلطانَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِن دارِهِ وقَعرِ بَيتِهِ إلى دورِكُم وقَعرِ بُيوتِكُم ، ولاتَدفَعوا أهلَهُ عَن حَقِّهِ ومَقامِهِ في النّاسِ ! فَوَاللّهِ يا مَعاشِرَ الجَمعِ ! إنَّ اللّهَ قَضى وحَكَمَ ونَبِيُّهُ أعلَمُ وأنتُم تَعلَمونَ أنّا أهلَ البَيتِ أحَقُّ بِهذَا الأَمرِ مِنكُم ، أ ما كانَ القارِئُ مِنكُم لِكِتابِ اللّهِ ، الفَقيهُ في دينِ اللّهِ ، المُضطَلِعُ بِأَمرِ الرَّعِيَّةِ ؟ وَاللّهِ إنَّهُ لفينا لا فيكُم ! فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى فَتَزدادوا مِنَ الحَقِّ بُعداً ، وتُفسِدوا قَديمَكُم بِشَرٍّ مِن حَديثِكُم .
فَقالَ بَشيرُ بنُ سَعدٍ الأَنصارِيُّ الَّذي وَطَّأَ الأَرضَ لِأَبي بَكرٍ ، وقالَت جَماعَةٌ مِنَ الأَنصارِ : يا أبَا الحَسَنِ ، لَو كانَ هذَا الأَمرُ سَمِعَتهُ مِنكَ الأَنصارُ قَبلَ بَيعَتِها لِأَبي بَكرٍ مَا اختَلَفَ فيكَ اثنانِ.
.
ص: 218
263.عنه عليه السلام :فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : ياهؤُلاءِ ! أ كُنتُ أدَعُ رَسولَ اللّهِ مُسَجّىً لا اُواريهِ وأخرُجُ اُنازِعُ في سُلطانِهِ ؟ وَاللّهِ ماخِفتُ أحَداً يَسمو لَهُ ويُنازِعُنا أهلَ البَيتِ فيهِ ، ويَستَحِلُّ مَا استَحلَلتُموهُ ، ولا عَلِمتُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله تَرَكَ يَومَ غَديرِ خُمٍّ لِأَحَدٍ حُجَّةً ، ولا لِقائِلٍ مَقالاً . (1)ح _ احتجاج فاطمة عليهاالسلام بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله265.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :فاطمة عليهاالسلام بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لَمّا مُنِعَت فَدَكَ وخاطَبَتِ الأَنصارَ ، فَقالوا : يا بِنتَ مُحَمَّدٍ ، لَو سَمِعنا هذَا الكَلامَ مِنكَ قَبلَ بَيعَتِنا لِأَبي بَكرٍ ما عَدَلنا بِعَلِيٍّ أحَدا ، فَقالَت _: وهَل تَرَكَ أبي يَومَ غَديرِ خُمٍّ لِأَحَدٍ عُذرا ؟ (2)271.الإمام الجواد عليه السلام :عنها عليهاالسلام :أنَسيتُم قَولَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ غَديرِ خُمٍّ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ؟ (3)(4)ط _ مُناشَداتُ عَلِيٍّ عليه السلاممسند ابن حنبل عن أبي الطفيل :جَمَعَ عَلِيٌّ رضى الله عنه النّاسَ فِي الرَّحبَةِ (5) ، ثُمَّ قالَ لَهُم : أنشُدُ اللّهَ كُلَّ امرِئٍ مُسلِمٍ سَمِعَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ يَومَ غَديرِ خُمٍّ ما سَمِعَ لَمّا قامَ . فَقامَ ثَلاثونَ مِنَ النّاسِ _ وقالَ أبو نَعيمٍ : فَقامَ ناسٌ كَثيرٌ _ فَشَهِدوا حينَ أخَذَهُ بِيَدِهِ فَقالَ لِلنّاسِ : أ تَعلَمونَ أنّي أولى بِالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهِم ؟ قالوا : نَعَم يا رَسولَ اللّهِ . قالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَهذا مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ .
.
ص: 219
قالَ : فَخَرَجتُ وكَأَنَّ في نَفسي شَيئا ، فَلَقيتُ زَيدَ بنَ أرقَمَ ، فَقُلتُ لَهُ : إنّي سَمِعتُ عَلِيّا رضى الله عنه يَقولُ كَذا وكَذا . قالَ : فَما تُنكِرُ ؟ قَد سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ ذلِكَ لَهُ . (1)
السنّة عن المهاجر بن عميرة أو عميرة بن المهاجر :سَمِعتُ عَلِيّا رضى الله عنه ناشَدَ النّاسَ عَلَى المِنبَرِ : مَن سَمِعَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ؟ فَقامَ اثنا عَشَرَ رَجُلاً ، فَقالوا : سَمِعنا رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُهُ . (2)
ي _ عيدُ الغَديرِ فِي الإِسلامِ272.الإمام عليّ عليه السلام :رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يَومُ غَديرِ خُمٍّ أفضَلُ أعيادِ اُمَّتي وهُوَ اليَومُ الَّذي أمَرَنِي اللّهُ تَعالى ذِكرُهُ فيهِ بِنَصبِ أخي عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عَلَما لِاُمَّتي ، يَهتَدونَ بِهِ مِن بَعدي ، وهُوَ اليَومُ الَّذي أكمَلَ اللّهُ فيهِ الدّينَ ، وأتَمَّ عَلى اُمَّتي فيهِ النِّعمَةَ ، ورَضِيَ لَهُمُ الاِءسلامَ دينا . (3)273.عنه عليه السلام :مصباح المتهجّد عن الفيّاض بن محمّد الطرسوسي :أَنّهُ شَهِدَ أبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بنَ موسى الرِّضا عليه السلام في يَومِ الغَديرِ وبِحَضرَتِهِ جَماعَةٌ مِن خاصَّتِهِ قَدِ احتَبَسَهُم لِلإِفطارِ ، وقَد قَدَّمَ إلى مَنازِلِهِمُ الطَّعامَ وَالبُرَّ وَالصِّلاتِ وَالكِسوَةَ حَتَّى الخَواتيمَ وَالنِّعالَ ، وقَد غَيَّرَ مِن أحوالِهِم وأحوالِ حاشِيَتِهِ ، وجُدِّدَت لَهُ آلَةٌ غَيرُ الآلَةِ الَّتي جَرَى الرَّسمُ بِابتِذالِها قَبلَ يَومِهِ ، وهُوَ يَذكُرُ فَضلَ اليَومِ وقِدَمَهُ . (4)
.
ص: 220
الفصل الحادي عشر : غاية جهد النبيّ صلّي الله عليه و آله في تعيين الوليّأ _ طَلَبُ الصَّحيفَةِ وَالدَّواةِ275.الإمام عليّ عليه السلام :صحيح البخاري عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عبّاس :لَمّا حُضِرَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وفِي البَيتِ رِجالٌ فيهِم عُمَرُ بنُ الخَطّابِ ، قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : هَلُمَّ أكتُب لَكُم كِتابا لا تَضِلّوا بَعدَهُ . فَقالَ عُمَرُ : إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قَد غَلَبَ عَلَيهِ الوَجَعُ ! ! ! وعِندَكُمُ القُرآنُ ، حَسبُنا كِتابُ اللّهِ ! ! فَاختَلَفَ أهلُ البَيتِ فَاختَصَموا ؛ مِنهُم مَن يَقولُ : قَرِّبوا يَكتُب لَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله كِتابا لَن تَضِلّوا بَعدَهُ ، ومِنهُم مَن يَقولُ ما قالَ عُمَرُ . فَلَمّا أكثَرُوا اللَّغوَ وَالاِختِلافَ عِندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : قوموا .
قالَ عُبَيدُ اللّهِ : فَكانَ ابنُ عَبّاسٍ يَقولُ : إنَّ الرَّزِيَّةَ (1) كُلَّ الرَّزِيَّةِ ما حالَ بَينَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وبَينَ أن يَكتُبَ لَهُم ذلِكَ الكِتابَ ؛ مِن اختِلافِهِم ولَغَطِهِم . (2)276.الإمام عليّ عليه السلام :صحيح البخاري عن ابن عبّاس :يَومُ الخَميسِ ، وما يَومُ الخَميسِ ! ! اِشتَدَّ بِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَجَعُهُ ، فَقالَ : اِيتوني أكتُب لَكُم كِتابا لَن تَضِلّوا بَعدَهُ أبَدا . فَتَنازَعوا _ ولا يَنبَغي عِندَ نَبِيٍّ تَنازُعٌ _ فَقالوا : ما شَأنُهُ ؟ ! أهَجَرَ (3) ؟ ! ! اِستَفهِموهُ ! ! ! فَذَهَبوا يَرُدّونَ عَلَيهِ . فَقالَ :
.
ص: 221
276.الإمام عليّ عليه السلام :دَعوني ؛ فَالَّذي أنَا فيهِ خَيرٌ مِمّا تَدعونَني إليَهِ . (1)277.عنه عليه السلام :صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس :يَومُ الخَميسِ ، وما يَومُ الخَميسِ ! !ثُمَّ جَعَلَ تَسيلُ دُموعُهُ ، حَتّى رَأَيتُ عَلى خَدَّيِه كَأَنَّها نِظامُ اللُّؤلُؤِ . قالَ : قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : اِيتوني بِالكَتِفِ (2) وَالدَّواةِ أكتُب لَكُم كِتابا لَن تَضِلّوا بَعدَهُ أبَدا . فَقالوا : إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَهجُرُ !!! (3)4 .
ص: 222
ب _ إنفاذُ جَيشِ اُسامَةَ286.الإمام عليّ عليه السلام :الطبقات الكبرى عن ابن عمر :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله بَعَثَ سَرِيَّةً فيهِم أبو بَكرٍ وعُمَرُ ، وَاستَعمَلَ عَلَيهِم اُسامَةُ بنُ زَيدٍ ، فَكانَ النّاسُ طَعَنوا فيهِ _ أي في صِغَرِهِ _ فَبَلَغَ ذلِكَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَصَعِدَ المِنبَرَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وقالَ : إنَّ النّاسَ قَد طَعَنوا في إمارَةِ اُسامَةَ ، وقَد كانوا طَعَنوا في إمارَةِ أبيهِ مِن قَبلِهِ ، وإنَّهُما لَخَليقانِ لَها ، وإنَّهُ لَمِن أحَبِّ النّاسِ إلَيَّ آلاً ، فَاُوصيكُم بِاُسامَةَ خَيرا ! (1)
.
ص: 223
أنساب الأشراف :كانَ في جَيشِ اُسامَةَ : أبو بَكرٍ ، وعُمَرُ ، ووُجوهٌ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ . (1)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :جَهِّزوا جَيشَ اُسامَةَ ، لَعَنَ اللّهُ مَن تَخَلَّفَ عَنهُ ! (2)
.
ص: 224
بحث حول آخر قرارات النبيّ صلّي الله عليه و آلهاكتملت الفصول لهذا المبحث العظيم الذي حمل بين طيّاته آخر جهود رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، تلك الجهود الحافلة بالآلام والمشاقّ . ونعود هنا لإلقاء نظرة اُخرى _ عطفا على ما سبق ذكره _ لنفصح بإيجاز عن سرّ عدم تحقّق آخر جهوده صلى الله عليه و آله . لقد بيّنتْ هذه الفصول بكلّ جلاء بأنّ الولاية العلويّة قد واكبت الرسالة المحمّديّة في الإبلاغ والتصريح ، وأنّ الرسول حينما كان يصدح بالرسالة ، كان يجاهر أيضا بالحديث عن ديمومة الرسالة في قالب الولاية ، ويسمّي عليا «وصيّا» و«خليفة» و«وزيرا» و«صاحبا» و«رفيقا» . وإضافة إلى كلّ ذلك فإنّه كان يتحدّث عن القيادة المستقبليّة في المناسبات المختلفة بما يتناسب والظروف السياسيّة والثقافيّة التي كانت سائدة آنذاك . وكان يصف أمير المؤمنين عليه السلام بأنّه الشخص الأكثر مقدرة على قيادة الاُمّة وانتشالها من تلاطم أمواج الفتن والانحرافات . وقد أوردنا هذه الحقائق في موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1) ، بين طيّات هذه الموسوعة استنادا إلى الكمّ الهائل من الروايات المنقولة من طريق الفريقين ، وجرى التأكيد
.
ص: 225
على أنّ ذروة ذلك الإبلاغ وقعت في «حَجَّة الوداع» أو بتعبير آخر في «حَجَّة البلاغ» وفي غدير خمّ . وهكذا فإنّ تأكيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله على كتابة الولاية من بعده في آخر ساعات عمره المبارك ، كان بلا شكّ يمثّل آخر جهوده ومساعيه لوضع حلّ يضمن سلامة المجتمع ، ويقي الاُمّة من الانحراف من بعده . ومن هذا المنطلق أمر الرسول صلى الله عليه و آله _ وهو في فراش المرض، وبدنه الشريف يلتهب من شدّة الحُمّى _ بتجهيز جيش بقيادة الشابّ اُسامة بن زيد ، وأكّد على الخروج فيه ، ولعن المتخلّفين عنه . وكان كلّما فتح عينيه سأل عن مجريات اُمور ذلك الجيش . لكنّ العجب كلّ العجب أنّ البعض امتنع عن الالتحاق بذلك الجيش اجتهادا منهم أمام النصّ الصريح من رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وفضلاً عن ذلك اتّهموا الرسول الذي لم يكن يقول إلّا الحقّ ، ولا يتكلّم إلّا بالوحي (1) ، بأنّه يهجر ؛ أي يهذي ! ! وهكذا بقيت كتابة الوصيّة بلا أثر ، ولم تُفلح آخر جهود الرسول صلى الله عليه و آله لإعداد الأرضيّة الكفيلة بتوطيد «حاكميّة الحقّ» . ليس هناك أدنى شكّ في أنّ المراد من هذه الوصيّة هو التصريح بالقيادة ، والتأكيد عليها، وجلب الأنظار إلى ما جاء من إبلاغ الحقّ على مدى عشرين سنة، ونودي به في كلّ حدب وصوب (2) . ولكن يبقى ثمّة سؤال؛ وهو لماذا لم يصرّ الرسول صلى الله عليه و آله على كتابة الوصيّة رغم اللغط الذي أثاروه في حينها ؟ ولماذا لم يبادر إلى هذا الإجراء الأساسي مسبقا وفي أيّام صحّته ؟ ولماذا لم يُقدِم على كتابة الوصيّة رغم الاقتراح الذي قدّمه البعض
.
ص: 226
بالإتيان بأدوات الكتاب، مع أنّه بقي على قيد الحياة أربعة أيّام بعد طرح هذه القضيّة ؟ ولماذا لم يُقدم على هذا الإجراء ليحول دون وقوع الاُمّة في الضلال؛ وهو الذي يصفه القرآن بالحرص على هداية الاُمّة ؟ ! (1) لعلّ التأمّل في وضع المجتمع الإسلامي حينذاك ، وطبيعة تركيب مجتمع المدينة، ومكانة الإمام عليّ عليه السلام يساعد في العثور على جواب لهذا السؤال ، لقد قام الرسول صلى الله عليه و آله بالكثير من الغزوات والمعارك في سبيل القضاء على الشرك وإزالة العراقيل الحائلة دون إبلاغ الرسالة . وقد قُتل في تلك المعارك الكثير من قادة الشرك والاستكبار ، وكان لسيف عليّ عليه السلام الدور الأكبر فيها، وهذه حقيقة لا يشكّ فيها من لديه أدنى اطّلاع على تاريخ الإسلام . وفي السنوات الأخيرة من عمر الرسول صلى الله عليه و آله التحق الكثير من ذوي اُولئك القادة بمعسكر الإسلام ، إلّا أنّ الإسلام لم يدخل في قلوبهم ، ولم يكونوا على استعداد للقبول بقيادة الإمام عليّ عليه السلام ، هذا من جهة . ومن جهة اُخرى فإنّ الكثير من الصحابة البارزين ما كانوا يرون _ لسبب أو آخر _ المصلحة في وجود الإمام عليّ عليه السلام على رأس قيادة الاُمّة ، فلم يَرُق لهم أمر كتابة الوصيّة ؛ وذلك لأنّ كتابة الوصيّة كانت تغلق عليهم باب كلّ الأعذار والتبريرات . أمّا في الظروف العادية فإنّ إقدام النبيّ صلى الله عليه و آله على مثل هذا الإجراء يهيّئ كان الأجواء لبثّ الفرقة والتناحر في داخل المعسكر الإسلامي . بينما في آخر لحظات عمر الرسول صلى الله عليه و آله فإنّ الوصيّة كانت تلقى أجواءً أفضل للقبول ، ومن الطبيعي أنّ القائد الذي شارف على الرحيل من هذه الدنيا بعد سنوات من الجهد في سبيل توطيد ركائز الدين ، لابدّ أنّ يضع خطّة للمستقبل يضمن فيها بقاء الدين ومصلحة الاُمّة ، ولو أنّ الوجوه البارزة ما كانت لتثير الاختلاف واللغط
.
ص: 227
وتعكّر صفو الماء لكان الاحتمال قويّا بأن لايجد الذين أسلموا حديثا فرصة للمناورة . وعلى هذا المنوال عزم الرسول صلى الله عليه و آله على أصل الوصيّة وكتابتها من جهة، وسعى من جهة اُخرى من خلال أمره بتجهيز سريّة اُسامة لإبعاد أصحاب الادّعاءات ومثيري الضجيج عن الساحة في سبيل توفير الأجواء لطرح المسألة نهائيّا . ولا شكّ أنّ سريّة اُسامة لو كانت سارت على وجهتها ، واُبعد مثيرو الشغب عن الساحة لكانت الوصيّة قد كُتبت ، والخلافة الحقّة قد استُتبّت ، ولقُضي على كل ما يُعكّر صفو الأجواء ، قبل عودتهم . (1) ولكن لماذا لم يُصرّ النبيّ صلى الله عليه و آله على ما طلب ، ولم يستثمر الفرصة المتبقّية لكتابة الوصيّة ؟ يكفي النظر إلى ما قيل حول المسألة للعثور على الجواب، وسبب ذلك يعود _ كما صرّح به مفكّر بارع (2) _ إلى أنّهم جرّدوه من العصمة من الضلال بقولهم : «هجر» ! ! ولهذا قال لهم فيما رواه ابن عبّاس بعد أن هدأت الضجّة وقالوا له : أ لا نأتيك بما طلبتَ ؟ قال : أ بَعدَ الذي قلتم ؟ !... أوَبَعد ماذا ؟ ! يا للعجب ويا للأسف ! ! فهل هناك موضع للكتابة بعد أن اتّهموا الرسول صلى الله عليه و آله بأنّه يهجر ؟ فإذا كان قول الرسول يُتجاهل، ويوصف بالهذيان في حياته، وهو الذي نزّهه القرآن عن الخطأ بقوله : «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَا وَحْىٌ يُوحَى» (3) فلا بدّ وأن
.
ص: 228
يكون سائر كلامه موضع تشكيك من بعد وفاته . ويظهر من هذا الكلام والأجواء التي تمخّضت عنه ، ما يلي : 1 . إنّ المعارضين لخلافة الإمام عليّ عليه السلام كانوا جادّين في موقفهم ، ولم يتوّرعوا حتى عن النيل من الرسول صلى الله عليه و آله في سبيل هذه الغاية . 2 . لم يكن للكتابة تأثير حينذاك ، وذلك لأنّهم كانوا سيُشيعون هذا الكلام وهذا الرأي بين الناس ، ويُبطلون بذلك أيّ أثر لكتابة الصحيفة . 3 . لعلّ أهمّ ما كان يتمخّض عن ذلك هو أن لا يصل الإمام إلى الخلافة ، بل وكانت تضيع كلّ تعاليم الرسول ، ويقع التشكيك في حجّيّتها ، وتضمحلّ أوامره ونواهيه في خضمّ الأخذ والردّ . والحقيقة هي أنّ اتّهام الرسول صلى الله عليه و آله بالهذيان يعتبر من أكثر الحوادث مثارا للحزن والألم والمرارة في تاريخ الإسلام . ولعلّ أبلغ ما يعبّر عن ذلك هو كلام ابن عبّاس الذي كان يبكي ويقول : «إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ ما حالَ بَينَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وبَينَ أن يَكتُبَ لَهُم ذلِكَ الكِتابَ !» . والأمر المثير أنّه بعد سنتين من ذلك التاريخ حينما كان أبو بكر في اللحظات الأخيرة من حياته يعيش في حالة إغماء ولا قدرة له على الكلام نصب عمر بن الخطّاب خليفة من بعده بكتابة تلقينيّة من عثمان، غير أنّ أحدا لم يتّهمه بالهذيان ! وهكذا فقد وقعت تلك الإهانة، ولم تُكتب تلك الوصيّة، ووُضعت اُسس انحراف القيادة ، وحلَّ بالاُمّة ما لم يكن ينبغي أنّ يحلّ بها . وتبلور تاريخ المسلمين على نحو آخر حافل بكثير من الاضطرابات . (1)
.
ص: 229
القسم الرابع : الإمام عليّ عليه السلام بعد النبيّ صلّي الله عليه و آله إلي بيعة النّاسالفصل الأول : قصّة السقيفةالفصل الثاني : عهد عمر بن الخطّابالفصل الثالث : نظرة تحليليّة لوقائع الشورىالفصل الرابع : مبادئ الثورة على عثمانالفصل الخامس : الثورة على عثمان
.
ص: 230
. .
ص: 231
الفصل الأول : قصّة السقيفةأ _ إنكارُ مَوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله (1)287.الإمام عليّ عليه السلام :الطبقات الكبرى عن عائشة:لَمَّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، 2 استَأذَنَ عُمَرُ وَالمُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ ،
.
ص: 232
287.الإمام عليّ عليه السلام :فَدَخَلا عَلَيهِ فَكَشَفَا الثَّوبَ عَن وَجهِهِ فَقالَ عُمَرُ : واغَشيا ! ما أشَدَّ غَشيَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . ثُمَّ قاما ، فَلَمَّا انتَهَيا إلَى البابِ قالَ المُغيرَةُ : يا عُمَرُ ماتَ وَاللّهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ! فَقالَ عُمَرُ : كَذَبتَ ! ما ماتَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ولكِنَّكَ رَجُلٌ تَحوشُكَ فِتنَةٌ ، ولَن يَموتَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله حَتّى يُفنِيَ المُنافِقينَ .
ثُمَّ جاءَ أبو بَكرٍ وعُمَرُ يَخطُبُ النّاسَ فَقالَ لَهُ أبو بَكرٍ : اُسكُت ! فَسَكَتَ ، فَصَعِدَ .
ص: 233
287.الإمام عليّ عليه السلام :أبو بَكرٍ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم مَّيِّتُونَ» (1) ، ثُمَّ قَرَأَ : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَ_بِكُمْ» (2) ، حَتّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ ، ثُمَّ قالَ : مَن كانَ يَعبُدُ مُحَمَّدا فَإِنَّ مُحَمَّدا قَد ماتَ ، ومَن كانَ يَعبُدُ اللّهَ فَإِنَّ اللّهَ حَيٌّ لا يَموتُ !
قالَ : فَقالَ عُمَرُ : هذا في كِتابِ اللّهِ ؟ قالَ : نَعَم ! فَقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! هذا أبو بَكرٍ وذو شَيبَةِ المُسلِمينَ فَبايِعوهُ ! فَبايَعَهُ النّاسُ . (3)ب _ ما جَرى فِي السَّقيفَةِ294.الإمام عليّ عليه السلام _ في وَصِيَّتِهِ لاِبنِصحيح البخاري عن ابن عبّاس عن عمر_ مِن خُطبَتِهِ فِي أواخِرِ عُمُرِهِ _: بَلَغَني أنَّ قائِلاً مِنكُم يَقولُ : وَاللّهِ لَو قَد ماتَ عُمَرُ بايَعتُ فُلاناً فَلا يَغتَرَّنَّ امرُؤٌ أن يَقولَ : إنَّما كانَت بَيعَةُ أبي بَكرٍ فَلتَةً وتَمَّت . ألا وإنَّها قَد كانَت كَذلِكَ ، ولكِنَّ اللّهَ وقى شَرَّها ، ولَيسَ فيكُم مَن تُقطَعُ الأعناقُ إلَيهِ مِثلُ أبي بَكرٍ .
مَن بايَعَ رَجُلاً عَن غَيرِ مَشورَةٍ مِنَ المُسلِمينَ فَلا يُتابَعُ هُوَ ولَا الَّذي تابَعَهُ تَغِرَّةٌ (4) أن يُقتَلا وإِنَّه قَد كانَ مِن خَبَرِنا حينَ تَوفّى اللّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله أنَّ الأَنصارَ خالَفونا ، واجتَمَعوا بِأَسْرِهِم في سَقيفَةِ بَني ساعِدَةَ ، وخالَفَ عَنّا عَليٌّ والزُّبَيرُ ومَن مَعَهُما ، واجتَمَعَ المُهاجِرونَ إلى أبي بَكرٍ ، فَقُلتُ لأَبي بَكرٍ : يا أبا بَكرِ اِنطَلِق بِنا إلى إخوانِنا هؤلاءِ مِنَ الأنصارِ ، فَانطَلَقنا نُريدُهُم ، فَلمّا دَنَونا مِنهُم لَقيَنا مِنهُم رَجُلانِ صالِحانِ ، فَذَكَرا ما تَمالأَ عَلَيهِ القَومُ ، فَقالا : أينَ تُريدونَ يامَعشَرَ المُهاجِرينَ ؟ فَقُلنا : نُريدُ إخوانَنا هؤلاءِ
.
ص: 234
294.الإمام عليّ عليه السلام _ في وَصِيَّتِهِ لاِبنِمِنَ الأنصارِ . فَقالا : لا عَلَيكُم أن لا تَقرَبوهُم ، اقضوا أمرَكُم . فَقُلتُ : وَاللّهِ لَنَأتينَّهُم .
فَانطَلَقنا حَتّى أتَيناهُم في سَقيفَةِ بَني ساعِدَةَ ، فإِذا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَينَ ظَهرانيهم ، فَقُلتُ : مَن هذَا ؟ فَقالوا : هذَا سَعدُ بن عِبادَةَ . فَقُلتُ : ما لَهُ ؟ قالوا : يُوعَكُ ، فَلَمّا جَلَسنا قَليلاً تَشَهَّدَ خَطيبَهُم ، فَأَثنى عَلَى اللّهِ بِما هو أهلُهُ ثُمَّ قالَ :
أمّا بَعدُ ، فَنَحنُ أنصارُ اللّهِ وكَتيبَةُ الإِسلامِ ، وأنتُم مَعشَرَ المُهاجِرينَ رَهطٌ ، وقَد دَفَّت دافّةٌ (1) مِن قَومِكُم ، فإِذا هُم يُريدونَ أن يَختَزِلونا مِن أصلِنا ، وأن يَحضِنونا مِنَ الأمرِ .
فَلَمّا سَكَتَ أردتُ أن أتَكَلَّمُ ، وكُنتُ قَد زَوّرتُ مَقالَةً أعجَبَتني أرَدتُ أن اُقَدِّمَها بَينَ يَدَي أبي بَكرٍ ، وكُنتُ اُداري مِنهُ بَعضَ الحَدِّ ، فَلَمّا أرَدتُ أن أتَكَلَّمُ قالَ أبو بَكرٍ : عَلى رَسلِكَ ، فَكَرَهتُ أن اُغضِبَهُ ، فَتَكَلَّمَ أبو بَكر ، فَكانَ هو أحلَمُ مِنِّي وأوقَرُ ، وَاللّهِ ما تَرَكَ مِن كَلِمَةٍ أعجَبَتني في تَزويري إلّا قالَ في بَديهَتِهِ مِثلها أو أفضَلَ ، حَتّى سَكَتَ فَقالَ : ما ذَكَرتُم فيكُم مِن خَيرٍ فأَنتُم لَهُ أهلٌ ، ولَن يُعرَفُ هذَا الأمرُ إلّا لِهذا الحَيِّ مِن قُرَيشِ ، هُم أوسَطُ العَرَبِ نَسَباً وداراً ، وقَد رَضيتُ لَكُم أحَدَ هذَينِ الرَّجُلينِ ، فَبايِعوا أيُّهُما شِئتُم ، فأَخَذَ بِيَدي وبِيَدِ أبي عُبيدةَ بن الجرّاح وهو جالِسٌ بَينَنا ، فَلَم أكرَه مِمّا قالَ غَيرَها ، كانَ وَاللّهِ أن اُقَدَّمَ فَتُضرَبُ عُنُقي ، لا يَقرِبُني ذلِكَ مِن إثمٍ أحَبَّ إليَّ مِن أن أتَأَمَّرُ عَلى قَومٍ فيهِم أبو بَكر ، اللّهُمّ إلّا أن تُسَوِّلَ لي نَفسي عِندَ المَوتِ شَيئا لا أجِدَهُ الآنَ ، فَقالَ قائِلٌ مِنَ الأنصارِ : أنا جُذَيلُها المُحَكّكُ ، وعُذَيقُها المُرَجّبُ ، مِنّا أميرٌ ومِنكُم أميرٌ . يامَعشَرَ قُرَيشَ ! فَكَثَرَ اللّغَطُ وارتَفَعَتِ الأصواتُ ، حَتّى فَرقَت مِنَ الاختِلافُ ، فَقُلتُ : ابسُط يَدَكَ يا أبا بَكرٍ ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبايَعتُهُ وبايَعَهُ المُهاجِرونَ ثُمَّ بايَعَتهُ الأنصارُ ، ونَزَونا عَلى سعدِ بن عِبادَةَ فَقالَ قائِلٌ مِنهُم : قَتَلتُم .
ص: 235
294.الإمام عليّ عليه السلام _ في وَصِيَّتِهِ لاِبنِسَعدَ بن عِبادَةَ ! فَقُلتُ : قَتَلَ اللّهُ سَعدَ بنَ عِبادَةَ . قالَ عُمَرُ : وإِنّا وَاللّهِ ما وَجَدنا فيما حَضَرنا مِن أمرٍ أقوى مِن مُبايَعَةِ أبي بَكرٍ خَشَينا إن فارَقنا القَومَ ولَم تَكُن بَيعَةٌ أن يُبايِعوا رَجُلاً مِنهُم بَعدَنا ، فَإِمّا بايَعناهُم عَلَى ما لا نَرضى ، وإِمّا نُخالِفَهُم فَيَكونُ فَسادٌ . فَمَن بايَعَ رَجُلاً عَلى غَيرِ مَشوَرَةٍ مِنَ المُسلِمينَ فَلا يُتابَعُ هو ولَا الَّذي بايَعَهُ تَغِرَّةَ أن يُقتَلا . (1)ج _ مَن تَخَلَّفَ عَن بَيعةِ أبَي بَكرٍ302.الإمام الصادق عليه السلام :تاريخ اليعقوبي :تَخَلَّفَ عَن بَيعَةِ أبي بَكرٍ قَومٌ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، ومالوا مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، مِنهُمُ : العَبّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ ، وَالفَضلُ بنُ العَبّاسِ ، وَالزُّبَيرُ بنُ العَوّامِ بنِ العاصِ ، وخالِدُ بنُ سَعيدٍ ، وَالمِقدادُ بنُ عَمرٍو ، وسَلمانُ الفارِسِيُّ ، وأبو ذَرٍّ الغِفارِيُّ ، وعَمّارُ بنُ ياسِرٍ ، وَالبَراءُ بنُ عازِبٍ ، واُبَيُّ بنُ كَعبٍ .
فَأَرسَلَ أبو بَكرٍ إلى عُمَرَ بنِ الخَطّابِ ، وأبي عُبَيدَةَ بنِ الجَرّاحِ ، وَالمُغيرَةَ بنِ شُعبَةَ ، فَقالَ : مَا الرَّأيُ ؟ قالوا : الرَّأيُ أن تَلقَى العَبّاسَ بنَ عَبدِ المُطَّلِبِ ، فَتَجعَلَ لَهُ في هذَا الأَمرِ نَصيبا يَكونُ لَهُ ولِعَقِبِهِ مِن بَعدِهِ ، فَتَقطَعونَ بِهِ ناحِيَةَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ حُجَّةً لَكُم عَلى عَلِيٍّ إذا مالَ مَعَكُم . (2)د _ كلامُ الإِمامِ عليه السلام لَمّا وَصَلَ إلَيهِ خَبَرُ السَّقيفَةِ304.الإمام الباقر عليه السلام :الإرشاد :لَمّا تَمَّ ، لِأَبي بَكرٍ ما تَمَّ ، وبايَعَهُ مَن بايَعَ ، جاءَ رَجُلٌ إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وهُوَ يُسَوّي قَبرَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِمِسحاةٍ في يَدِهِ فَقالَ لَهُ: إنَّ القَومَ قَد بايَعوا أبا بَكرٍ، ووَقَعَتِ الخَذلَةُ فِي الأَنصارِ لِاختِلافِهِم ، وبَدَرَ الطُّلَقاءُ بِالعَقدِ لِلرَّجُلِ خَوفا مِن إدراكِكُمُ الأَمرَ .
.
ص: 236
304.الإمام الباقر عليه السلام :فَوَضَعَ طَرَفَ المِسحاةِ فِي الأَرضِ ويَدُهُ عَلَيها ثُمَّ قالَ : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيمِ* الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَ_ذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّ_ئاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ» (1) . (2)ه _ الهُجومُ عَلى بَيتِ فاطِمَةَ عليهاالسلام بِنتِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آلهأنساب الأشراف عن سليمان التيمي وعن ابن عَون :إنَّ أبا بَكرٍ أرسَلَ إلى عَلِيٍّ يُريدُ البَيعَةَ ، فَلَم يُبايِع . فَجاءَ عُمَرُ ، وَمَعَهُ قَبَسٌ ، فَتَلَقَّتهُ فاطِمَةُ عَلَى البابِ ، فَقالَت فاطِمَةُ : يَابنَ الخَطّابِ ! ! أ تُراكَ مُحَرِّقا عَلَيَّ بابي ؟ ! قالَ : نَعَم ! ! ، وذلِكَ أقوى فيما جاءَ بِهِ أبوكِ . (3)
تاريخ الطبري عن زياد بن كُلَيب :أتى عُمَرُ بنُ الخَطّابِ مَنزِلَ عَلِيٍّ وَفيهِ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ورِجالٌ مِنَ المُهاجِرينَ ، فَقالَ : وَاللّهِ لَاُحرِقَنَّ عَلَيكُم أَو لَتَخرُجُنَّ إلَى البَيعَةِ . فَخَرَجَ عَلَيهِ الزُّبَيرُ مُصلِتا بِالسَّيفِ ، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيفُ مِن يَدِهِ ، فَوَثَبوا عَلَيهِ فَأَخَذوهُ . (4)
و _ اِمتِناعُ الإِمامِ عليه السلام مِنَ البَيعَةِ305.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الردّة :أرسَلَ أبو بَكرٍ إلى عَلِيٍّ فَدَعاهُ ، فَأَقبَلَ وَالنّاسُ حُضورٌ ، فَسَلَّمَ وجَلَسَ ، ثُمَّ أقبَلَ عَلَى النّاسِ ، فَقالَ : لِمَ دَعَوتَني ؟ فَقالَ لَهُ عُمَرُ : دَعَوناكَ لِلبَيعَةِ الَّتي قَدِ اجتَمَعَ عَلَيهَا المُسلِمونَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : يا هؤُلاءِ ، إنَّما أخَذتُم هذَا الأَمرَ مِنَ الأَنصارِ بِالحُجَّةِ عَلَيهِم وَالقَرابَةِ لِأَبي بَكرٍ ؛ لِأَنَّكُم زَعَمتُم أنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله مِنكُم ، فَأَعطَوكُمُ المَقادَةَ ، وَسَلَّموا إلَيكُمُ الأَمرَ ، وأنَا أحتَجُّ عَلَيكُم بِالَّذِي احتَجَجتُم بِهِ عَلَى الأَنصارِ ، نَحنُ أولى
.
ص: 237
305.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله حَيّا ومَيِّتا ؛ لِأَنّا أهلُ بَيتِهِ ، وأقرَبُ الخَلقِ إلَيهِ ، فَإِن كُنتُم تَخافونَ اللّهَ فَأَنصِفونا ، وَاعرِفوا لَنا في هذَا الأَمرِ ما عَرَفَتهُ لَكُمُ الأَنصارُ .
فَقالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّكَ أيُّهَا الرَّجُلُ لَستَ بِمَتروكٍ أو تُبايِعُ كَما بايَعَ غَيرُكَ . فَقالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : إذا لا أقبَلُ مِنكَ وَلا اُبايِعُ مَن أنَا أحَقُّ بِالبَيعَةِ مِنهُ . فَقالَ لَهُ أبو عُبَيدَةَ بنُ الجَرّاحِ : وَاللّهِ يا أبَا الحَسَنِ ، إنَّكَ لَحَقيقٌ لِهذَا الأَمرِ لِفَضلِكَ وسابِقَتِكَ وقَرابَتِكَ ، غَيرَ أنَّ النّاسَ قَد بايَعوا ورَضوا بِهذَا الشَّيخِ ، فَارضَ بِما رَضِيَ بِهِ المُسلِمونَ .
فَقالَ لَهُ عليّ كَرَّمَ اللّهُ وَجهَهُ : يا أبا عُبَيدَةَ ، أنتَ أمينُ هذِهِ الاُمَّةِ ! ! فَاتَّقِ اللّهَ في نَفسِكَ ؛ فَإِنَّ هذَا اليَومَ لَهُ ما بَعدَهُ مِنَ الأَيّامِ ، ولَيسَ يَنبَغي لَكُم أن تُخرِجوا سُلطانَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِن دارِهِ وقَعرِ بَيتِهِ إلى دورِكُم وقُعورِ بُيوتِكُم ؛ فَفي بُيوتِنا نَزَلَ القُرآنُ ، ونَحنُ مَعدِنُ العِلمِ وَالفِقهِ وَالدّينِ وَالسُّنَّةِ وَالفَرائِضِ ، ونَحنُ أعلَمُ بِاُمورِ الخَلقِ مِنكُم ؛ فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى فَيَكونَ نَصيبُكُمُ الأَخَسَّ .
فَتَكَلَّمَ بَشيرُ بنُ سَعدٍ الأَنصارِيُّ فَقالَ : يا أبَا الحَسَنِ ، أما وَاللّهِ لَو أنَّ هذَا الكَلامَ سَمِعَهُ النّاسُ مِنكَ قَبلَ البَيعَةِ لَمَا اختَلَفَ عَلَيكَ رَجُلانِ ، وَلَبايَعَكَ النّاسُ كُلُّهُم ، غَيرَ أنَّكَ جَلَستَ في مَنزِلِكَ وَلَم تَشهَد هذَا الأَمرَ ، فَظَنَّ النّاسُ أن لا حاجَةَ لَكَ فيهِ ، وَالآنَ فَقَد سَبَقَتِ البَيعَةُ لِهذَا الشَّيخِ ، وَأنتَ عَلى رَأسِ أمرِكَ .
فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : وَيحَكَ يا بَشيرُ ! أ فَكانَ يَجِبُ أن أترُكَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله في بَيتِهِ فَلَم أجِبهُ إلى حُفرَتِهِ ، وأخرُجَ اُنازِعُ النّاسَ بِالخِلافَةِ ؟ ! (1)ز _ اِعتِراضُ الإِمامِ عليه السلام عَلى قَرارِ السَّقيفَةِ307.عنه صلى الله عليه و آله :الإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَةٍ تَشتَمِلُ عَلَى الشَّكوى مِن أمرِ الخِلافَةِ _: أما وَاللّهِ لَقَد تَقَمَّصَها فُلانٌ وإنَّهُ لَيَعلَمُ أنَّ مَحَلّي مِنها مَحَلُّ القُطبِ مِنَ الرَّحا ، يَنحَدِرُ عَنِّي السَّيلُ
.
ص: 238
307.عنه صلى الله عليه و آله :ولا يَرقى إلَيَّ الطَّيرُ ، فَسَدَلتُ دونَها ثَوبا ، وطَوَيتُ عَنها كَشحا (1) ، وطَفِقتُ أرتَئي بَينَ أن أصولَ بِيَدٍ جَذّاءَ (2) ، أو أصبِرَ عَلى طَخيَةٍ (3) عَمياءَ ، يَهرَمُ فيهَا الكَبيرُ ، وَيَشيبُ فيهَا الصَّغِيرُ ، ويَكدَحُ فيها مُؤمِنٌ حتّى يَلقى رَبَّهُ ! فَرَأَيتُ أنَّ الصَّبرَ عَلى هاتا أحجى ، فَصَبَرتُ وفِي العَينِ قَذىً ، وفِي الحَلقِ شَجا (4) ، أرى تُراثي نَهبا . (5)ح _ اِستِنصارُ الإِمامِ عليه السلام المُهاجِرينَ وَالأَنصارَ309.الإمام عليّ عليه السلام :كتاب سليم بن قيس :قالَ سَلمانُ : فَلَمّا أن كانَ اللَّيلُ حَمَلَ عَلِيٌّ عليه السلام فاطِمَةَ عليهاالسلامعَلى حِمارٍ ، وأخَذَ بِيَدَيِ ابنَيهِ الحَسَنِ والحُسَينِ عليهماالسلام ، فَلَم يَدَع أحَدا مِن أهلِ بَدرٍ مِنَ المُهاجِرينَ ولا مِنَ الأَنصارِ إلّا أتاهُ في مَنزِلِهِ ، فَذَكَّرَهُم حَقَّهُ ، ودَعاهُم إلى نُصرَتِهِ ، فَمَا استَجابَ لَهُ مِنهُم إلّا أربَعَةٌ وأربَعون رَجُلاً . فَأَمَرَهُم أن يُصبِحوا بُكرَةً مُحَلِّقينَ رُؤوسَهُم مَعَهُم سِلاحُهُم لِيُبايِعوا عَلَى المَوتِ ، فَأَصبَحوا ، فَلَم يُوافِ مِنهُم أحَدٌ إلّا أربَعَةٌ .
فَقُلتُ لِسَلمانَ : مَنِ الأَربَعَةُ ؟ فَقالَ : أنَا وأبو ذَرٍّ وَالمِقدادُ وَالزُّبَيرُ بنُ العَوّامِ .
ثُمَّ أتاهُم عَلِيٌّ عليه السلام مِنَ اللَّيلَةِ المُقبِلَةِ ، فَناشَدَهُم ، فَقالوا : نُصبِحُكَ بُكرَةً ، فَما مِنهُم أحَدٌ أتاهُ غَيرُنا .
.
ص: 239
309.الإمام عليّ عليه السلام :ثُمَّ أتاهُمُ اللَّيلَةَ الثّالِثَةَ فَما أتاهُ غَيُرنا .
فَلَمّا رَأى غَدرَهُم وقِلَّةَ وَفائِهم لَهُ لَزِمَ بَيتَهُ ، وأقبَلَ عَلَى القُرآنِ يُؤَلِّفُهُ ويَجمَعُهُ ، فَلَم يَخرُج مِن بَيتِهِ حَتّى جَمَعَهُ . (1)310.الكافي عن سعيد بن الحسن :تاريخ اليعقوبي :اِجتَمَعَ جَماعَةٌ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يَدعونَهُ إلَى البَيعَةِ لَهُ ، فَقالَ لَهُم : اُغدوا عَلى هذا مُحَلِّقينَ الرُّؤوسَ . فَلَم يَغدُ عَلَيهِ إلّا ثَلاثَةُ نَفَرٍ . (2)ط _ وَعيُ الإِمامِ عليه السلام في مُواجَهَةِ الفِتنَةِأنساب الأشراف عن الحسين عن أبيه :إنَّ أبا سُفيانَ جاءَ إلى عَلِيٍّ عليه السلام ، فَقالَ : يا عَلِيُّ ، بايَعتُم رَجُلاً مِن أذَلِّ قَبيلَةٍ مِن قُرَيشٍ ! أما وَاللّهِ لَئِن شِئتَ لَاُضرِمَنَّها عَلَيهِ مِن أقطارِها ، ولَأَملَأَنَّها عَلَيهِ خَيلاً ورِجالاً ! ! فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنَّكَ طالَما ما غَشَشتَ اللّهَ ورَسولَهُ وَالإِسلامَ ، فَلَم يَنقُصهُ ذلِكَ شَيئا . (3)
ي _ بَيعَةُ الإِمامِ عليه السلام بَعدَ وَفاةِ فاطِمَةَ عليهاالسلامالكامل في التاريخ عن الزُّهري:بَقِيَ عَلِيٌّ وبَنو هاشِمٍ وَالزُّبَيرُ سِتَّةَ أشهُرٍ لَم يُبايِعوا أبا بَكرٍ ، حَتّى ماتَت فاطِمَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنها ، فَبايَعوهُ . (4)
صحيح البخاري عن عائشة :إنَّ فاطِمَةَ عليهاالسلام بِنتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أرسَلَت إلى أبي بَكرٍ تَسأَلُهُ ميراثَها مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ مِمّا أفاءَ اللّهُ عَلَيهِ بِالمَدينَةِ ، وفَدَكَ ، وما بَقِيَ مِن خُمُسِ خَيبَرَ ... فَأَبى أبو بَكرٍ أن يَدفَعَ إلى فاطِمَةَ مِنها شَيئا ، فَوَجَدَت فاطِمَةُ عَلى أبي بَكرٍ
.
ص: 240
في ذلِكَ ، فَهَجَرَتهُ ؛ فَلَم تُكَلِّمهُ حَتّى تُوُفِّيَت ، وعاشَت بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله سِتَّةَ أشهُرٍ . فَلَمّا تُوُفِّيَت دَفَنَها زَوجُها عَلِيٌّ لَيلاً ، ولَم يُؤذِن بِها أبا بَكرٍ ، وصَلّى عَلَيها . وكانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النّاسِ وجهٌ حَياةَ فاطِمَةَ ، فَلَمّا تُوُفِّيَتِ استَنكَرَ عَلِيٌّ وُجوهَ النّاسِ ، فَالتَمَسَ مُصالَحَةَ أبي بَكرٍ ومُبايَعَتَهُ ، ولَم يَكُن يُبايِع تِلكَ الأَشهُرَ . (1)
ك _ دَوافِعُ بَيعَةِ الإِمامِ عليه السلام بَعدَ امتِناعِهِ1 . مَخافَةُ الفُرقَةِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَتِهِ قَبلَ حَربِ الجَمَلِ _: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله حينَ قُبِضَ كُنّا نَحنُ أهلَ بَيتِهِ ، وعُصبَتَهُ ، ووَرَثَتَهُ ، وأولِياءَهُ ، وأحَقَّ خَلقِ اللّهِ بِهِ ، لا نُنازَعُ في ذلِكَ . . . فَانتَزَعوا سُلطانَ نَبِيِّنا مِنّا ، ووَلَّوهُ غَيرَنا ، وَايمُ اللّهِ فَلَولا مَخافَةُ الفُرقَة بَينَ المُسلِمينَ أن يَعودوا إلَى الكُفرِ لَكُنّا غَيَّرنا ذلِكَ مَا استَطَعنا ! (2)
2 . مَخافَةُ الإرتِدادِالإمام الباقر عليه السلام :إنَّ النّاسَ لَمّا صَنَعوا ما صَنَعوا إذ بايَعوا أبا بَكرٍ ، لم يَمنَع أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام مِن أن يَدعُوَ إلى نَفسِهِ إلّا نَظَرا لِلنّاسِ ، وتَخَوُّفا عَلَيهِم أن يَرتَدّوا عَنِ الإِسلامِ ؛ فَيَعبُدُوا الأَوثانَ ، ولا يَشهَدوا أن لا إلهَ إلَا اللّهُ ، وأنَّ مُحَمَّدا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله . . . وبايَعَ مُكرَها ؛ حَيثُ لَم يَجِد أعوانا . (3)
3 . عَدَمُ النّاصِرِالكافي عن سدير :كُنّا عِندَ أبي جَعفرٍ عليه السلام ، فَذَكَرنا ما أحدَثَ النّاسُ بَعدَ نَبِيِّهِم صلى الله عليه و آله ،
.
ص: 241
وَاستِذلالَهُم أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ : أصلَحَكَ اللّهُ ، فَأَينَ كانَ عِزُّ بَني هاشِمٍ وما كانوا فيهِ مِنَ العَدَدِ ؟ ! فَقالَ أبو جَعفَرٍ عليه السلام : ومَن كانَ بَقِيَ مِن بَني هاشِمٍ؟! إنَّما كانَ جَعفَرٌ وحَمزَةُ ، فَمَضَيا ، وبَقِيَ مَعَهُ رَجُلانِ ضَعيفانِ ذَليلانِ ، حَديثا عَهدٍ بِالإِسلامِ ؛ عَبّاسٌ وعَقيلٌ ، وكانا مِنَ الطُّلَقاءِ ، أما وَاللّهِ لَو أنَّ حَمزَةَ وجَعفرا كانا بِحَضرَتِهِما ما وصَلا إلى ما وَصَلا إلَيهِ ، ولَو كانا شاهِدَيهِما لَأَتلَفا نَفسَيهِما . (1)
4 . الإِكراهُ312.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام الصادق عليه السلام :وَاللّهِ ما بايَعَ عَلِيٌّ عليه السلام حَتّى رَأَى الدُّخانَ قَد دَخَلَ عَلَيهِ بَيتَهُ . (2)ل _ مَجالاتُ نَجاحِ قَرارِ السَّقيفَةِ1 . بُغضُ قُرَيشٍنثر الدرّ عن ابن عبّاس :وقَعَ بَينَ عَلِيٍّ وعُثمانَ كَلامٌ ، فَقالَ عُثمانُ : ما أصنَعُ بِكُم إن كانَت قُرَيشٌ لا تُحِبُّكُم ! وقَد قَتَلتُم مِنهُم يَومَ بَدرٍ سَبعينَ ، كَأَنَّ وُجوهَهُم شُنوفُ (3) الذَّهَبِ ، تَشرَبُ آنُفُهُم (4) قَبلَ شِفاهِهِم ! (5)
2 . الحَسَدالأمالي للمفيد عن أبي الهَيثَم بن التَّيِّهان_ قَبلَ حَربِ الجَمَلِ _: يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ حَسَدَ
.
ص: 242
قُرَيشٍ إيّاكَ عَلى وَجهَينِ : أمّا خِيارُهُم فَحَسَدوكَ مُنافَسَةً فِي الفَضلِ ، وَارتِفاعا فِي الدَّرَجَةِ . وأمّا أشرارُهُم فَحَسَدوكَ حَسَدا ، أحبَطَ اللّهُ بِهِ أعمالَهُم ، وأثقَلَ بِهِ أوزارَهُم . وما رَضوا أن يُساووكَ حَتّى أرادوا أن يَتَقَدَّموكَ ، فَبَعُدَت عَلَيهِمُ الغايَةُ ، وأسقَطَهُمُ المِضمارُ ، وكُنتَ أحَقَّ قُرَيشٍ بِقُرَيشٍ ، نَصَرتَ نَبِيَّهُم حَيّا ، وقَضَيتَ عَنهُ الحُقوقَ مَيِّتا ، وَاللّهِ ما بَغيُهُم إلّا عَلى أنفُسِهِم ، ونَحنُ أنصارُكَ وأعوانُكَ ، فَمُرنا بِأَمرِكَ . (1)
م _ بَيعَةُ أبي بَكرٍ مِن وِجهَةِ نَظَرِ عُمَرتاريخ اليعقوبي عن عمر بن الخطّاب :كانَت بَيعَةُ أبي بَكرٍ فَلتَةً ، وَقَى اللّهُ شَرَّها ، فَمَن عادَ لِمِثلِها فَاقتُلوهُ . (2)
.
ص: 243
الفصل الثاني : عهد عمر بن الخطّابأ _ مَكانَةُ عُمَرَ عِندَ أبي بَكرٍتاريخ الإسلام عن أبي بكر :وَاللّهِ ، ما عَلى ظَهرِ الأَرضِ رَجُلٌ أحَبُّ إلَيَّ مِن عُمَرَ . (1)
313.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الإمامة والسياسة_ في ذِكرِ كِتابَةِ استِخلافِ عُمَرَ _: خَرَجَ عُمَرُ بِالكِتابِ وأعلَمَهُم ، فَقالوا : سَمعا وطاعَةً ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ : ما فِي الكِتابِ يا أبا حَفصٍ ؟ قالَ : لا أدري ، ولكِنّي أوَّلُ مَن سَمِعَ وأطاعَ . قالَ : لكِنّي وَاللّهِ أدري ما فيهِ ؛ أمَّرتَهُ عامَ أوَّلٍ ، وأمَّرَكَ العامَ ! (2)ب _ مَوقِفُ الإِمامِ عليه السلام مِن خِلافَتِهِ315.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام _ في ذِكرِ السَّقيفَةِ ومابَعدَها _ :_ في ذِكرِ السَّقيفَةِ ومابَعدَها _الإمام عليّ عليه السلام : فَرَأَيتُ أنَّ الصَّبرَ عَلى هاتا أحجى (3) ، فَصَبَرتُ وفِي العَينِ قَذىً ، وفِي الحَلقِ شَجا ، أرى تُراثي (4) نَهبا ، حَتّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبيلِهِ ، فَأَدلى بِها إلى فُلانٍ بَعدَهُ .
شَتّانَ ما يَومِي عَلى كورِهاويَومُ حَيّانَ أخي جابِرِ (5)
فَيا عَجَبا ! ! بَينا هُوَ يَستَقيلُها في حَياتِهِ إذ عَقَدَها لِاخَرَ بَعدَ وَفاتِهِ _ لَشَدَّ ما تَشَطَّرا ضَرعَيها ! _ فَصَيَّرَها في حَوزَةٍ خَشناءَ يَغلُظُ كَلمُها (6) ، ويَخشُنُ مَسُّها ، ويَكثُرُ العِثارُ فيها ، وَالاِعتِذارُ مِنها ، فَصاحِبُها كَراكِبِ الصَّعبَةِ إن أشنَقَ لَها خَرَمَ ، وَإن أسلَسَ لَها تَقَحَّم (7) فَمُنِيَ النّاسُ _ لَعَمرُ اللّهِ _ بِخَبطٍ وشِماسٍ (8) ، وتَلَوُّنٍ وَاعتِراضٍ . (9)
.
ص: 244
ج _ اِستِشارَةُ عُمَرَ الإِمامَ عليه السلام فِي المُعضِلاتِفضائل الصحابة لابن حنبل عن سعيد بن المُسَيّب :كانَ عُمَرُ يَتَعَوَّذُ بِاللّهِ مِن مُعضِلَةٍ لَيسَ لَها أبو حَسَنٍ . (1)
317.الإمام الصادق عليه السلام :الاستيعاب :وقالَ [عُمَرُ] فِي المَجنونَةِ الَّتي أمَرَ بِرَجمِها ، وفِي الَّتي وَضَعَت لِسِتَّةِ أشهُرٍ ، فَأَرادَ عُمَرُ رَجمَها ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام : إنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَ_ثُونَ شَهْرًا» (2) الحَديثَ ، وقالَ عليه السلام لَهُ : إنَّ اللّهَ رَفَعَ القَلَمَ عَنِ المَجنونِ ، الحَديثَ ، فَكانَ عُمَرُ يَقولُ : لَولا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ . (3)
.
ص: 245
بيان : كان الإمام عليّ عليه السلام يقدّم آراءه الاستشاريّة في الميادين العلميّة أو في المشاكل السياسيّة بعدما يحرز أنّها تعود بالفائدة على المُجتَمع الإسلامي ، ولا يبدي رأيه إذا عاد بالنفع الشخصي على الخليفة ولم يَعُد على المُجتَمع بشيء . يَقولُ ابنُ عَبّاسٍ : خَرَجتُ مَعَ عُمَرَ إلَى الشّامِ في إحدى خرجاتِهِ ، فَانفَرَدَ يَوما يَسيرُ عَلى بَعيرِهِ فَاتَّبَعتُهُ ، فَقالَ لي : يَابنَ عَبّاسٍ ، أشكو إلَيكَ ابنَ عَمَّكَ ! سَأَلتُهُ أن يَخرُجَ مَعي فَلَم يَفعَل . (1)
د _ اِستِنجادُ عُمَرَ بِرَأيِ الإِمامِ عليه السلامتاريخ اليعقوبي :أَرَّخَ عُمَرُ الكُتُبَ ، وأرادَ أن يَكتُبَ التَّأريخَ مُنذُ مَولِدِ رَسولِ اللّهِ ، ثُمَّ قالَ : مِنَ المَبعَثِ . فَأَشارَ عَلَيهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ أن يَكتُبَهُ مِنَ الهِجرَةِ ، فَكَتَبَهُ مِنَ الهِجرَةِ . (2)
320.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ لِعُمَرَ لَمَّا استَشارَ النّاسَ في أن يَسيرَ فيمَن مَعَهُ لِقِتالَ الفُرسِ _: إنَّ هذَا الأَمرَ لَم يَكُن نَصرُهُ ولا خِذلانُهُ لِكَثَرةٍ ولا قِلَّةٍ ؛ هُوَ دينُهُ الَّذي أظهَرَ ، وجُندُهُ الَّذي أعَزَّ وأيّدَهُ بِالمَلائِكَةِ ، حتّى بَلَغَ ما بَلَغَ ، فَنَحنُ عَلى مَوعودٍ مِنَ اللّهِ ، وَاللّهُ مُنجِزٌ وَعدَهُ ، وناصِرٌ جُندَهُ .
ومَكانُكَ مِنهُم مَكانُ النِّظامِ مِنَ الخَرَزِ ؛ يَجمَعُهُ ويُمسِكُهُ ، فإِنِ انحَلَّ تَفَرَّقَ ما فيهِ وذَهَبَ ، ثُمَّ لَم يَجتَمِع بِحَذافيرِهِ أبَدا . وَالعَرَبُ اليَومَ وإن كانوا قَليلاً فَهِيَ كَثيرٌ عَزيزٌ بِالإِسلامِ ؛ فَأَقِم ، وَاكتُب إلى أهلِ الكوفَةِ _ فَهُم أعلامُ العَرَبِ ورُؤَساؤُهُم _ ومَن لَم يَحفِل (3) بِمَن هوَ أجمَعُ وأحَدُّ وأجَدُّ مِن هؤُلاءِ : فَليَأتِهِمُ الثُّلُثانِ وَليُقِمِ الثُّلُثُ ، وَاكتُب
.
ص: 246
320.الإمام الصادق عليه السلام :إلى أهلِ البَصرَةِ أن يُمِدُّوهُم بِبَعضِ مَن عِندَهُم . (1)321.مكارم الأخلاق عن أنس :تاريخ اليعقوبي:شاوَرَ عُمَرُ أصحابَ رَسولِ اللّهِ في سَوادِ الكوفَةِ ، فَقالَ لَهُ بَعضُهُم : تُقَسِّمُها بَينَنا ، فَشاوَرَ عَلِيّا ، فَقالَ : إن قَسَّمتَهَا اليَومَ لَم يَكُن لِمَن يَجيءُ بَعدَنا شَيءٌ ، ولكِن تُقِرُّها في أيديهِم يَعمَلونَها ، فَتَكونُ لَنا ولِمَن بَعدَنا . فَقالَ : وَفَّقَكَ اللّهُ ، هذَا الرَّأيُ ! (2) .
ص: 247
الفصل الثالث : نظرة تحليليّة لوقائع الشورىأ _ وَصِيَّةُ عُمَرَ بِخُصوصِ الخِلافَةِ323.الإمام الصادق عليه السلام :صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون :قالوا] لِعُمَرَ بَعدَ إصابَتِهِ[ : أوصِ يا أميرَ المُؤمِنينَ استَخلِف . قالَ : ما أجِدُ أحَدا أحَقَّ بِهذَا الأَمرِ مِن هؤُلاءِ النَّفَرِ _ أو الرَّهطِ _ الَّذينَ تُوُفِّيَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهُوَ عَنهُم راضٍ ، فَسَمّى عَلِيّا وعُثمانَ وَالزُّبَيرَ وطَلحَةَ وسَعدا وعَبدَ الرَّحمنِ ، وقالَ : يَشهَدُكُم عَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ ، ولَيسَ لَهُ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ _ كَهَيئَةِ التَّعزِيَةِ لَهُ _ فَإِن أصابَتِ الإِمرَةُ سَعدا فَهوَ ذاكَ ، وإلّا فَليَستَعِن بِهِ أيُّكُم ما اُمِّرَ ، فَإِنّي لَم أعزِلهُ عَن عَجزٍ ولا خِيانَةٍ . (1)ب _ رَأيُ عُمَرَ فيمَن رَشَّحَهُم لِلخِلافَةِ325.الكافي عن صالح بن الحكم :الطبقات الكبرى عن عمرو بن ميمون :شَهِدتُ عُمَرَ يَومَ طُعِنَ . . . ثُمَّ قالَ : اُدعوا لي عَلِيّا ، وعُثمانَ ، وطَلحَةَ ، وَالزُّبَيرَ ، وعَبدَ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ ، وسَعدا ؛ فَلَم يُكَلِّم أحَدا مِنهُم غَير عَلِيٍّ وعُثمانَ .
فَقالَ : يا عَلِيُّ ، لَعَلَّ هؤُلاءِ القَومَ يَعرِفونَ لَكَ قَرابَتَكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وصِهرَكَ ، وما آتاكَ اللّهُ مِنَ الفِقهِ وَالعِلمِ ، فَإِن وَليتَ هذَا الأَمرَ فَاتَّقِ اللّهَ فيهِ !
.
ص: 248
325.الكافي عن صالح بن الحكم :ثُمَّ دَعا عُثمانَ فَقالَ : يا عُثمانُ ، لَعَلَّ هؤُلاءِ القَومَ يَعرِفونَ لَكَ صِهرَكَ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وسِنَّكَ وشَرَفَكَ ، فَإِن وَليتَ هذَا الأَمرَ فَاتَّقِ اللّهَ ، ولا تَحمِلَنَّ بَني أبي مُعَيطٍ عَلى رِقابِ النّاسِ !
ثُمَّ قالَ : اُدعوا لي صُهَيبا ، فَدُعِيَ ، فَقالَ : صَلِّ بِالنّاسِ ثَلاثا ، وَليَخلُ هؤُلاءِ القَومُ في بَيتٍ ، فَإِذَا اجتَمَعوا عَلى رَجُلٍ ، فَمَن خالَفَهُم فَاضرِبوا رَأسَهُ .
فَلَمّا خَرَجوا مِن عِندِ عُمَرَ ، قالَ عُمَرُ : لو وَلَّوها الأَجلَحَ (1) سَلَكَ بِهِمُ الطَّريقَ ! فَقالَ لَهُ ابنُ عُمَرَ : فَما يَمنَعُكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ : أكرَهُ أن أتَحَمَّلَها حَيّا ومَيِّتا . (2)ج _ مَعلومِيَّةُ نَتيجَةِ الشّورى قَبلَ المَشورَةِ327.عيون أخبار الرضا عليه السلام عن الحسن بن الجهم :تاريخ الطبري :قالَ عَلِيٌّ لِقَومٍ كانوا مَعَهُ مِن بَني هاشِمٍ : إن اُطيعَ فيكُم قَومُكُم لَم تُؤَمَّروا أبَدا . وتَلَقّاهُ العَبّاسُ فَقالَ : عُدِلَت عَنّا ! فَقالَ : وما عِلمُكَ ؟ قالَ : قُرِنَ بي عُثمانُ ، وقالَ : كونوا مَعَ الأَكثَرِ ، فَإِن رَضِيَ رَجُلان رَجُلاً ، ورَجُلانِ رَجُلاً ، فكونوا مَعَ الَّذينَ فيهِم عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ ، فَسَعدٌ لا يُخالِفُ ابنَ عَمِّهِ عَبدَ الرَّحمنِ ، وعَبدُ الرَّحمنِ صِهرُ عُثمانَ ؛ لا يَختَلِفونَ ، فَيُوَلّيها عَبدُ الرَّحمنِ عُثمانَ أو يُوَلّيها عُثمانُ عَبدَ الرَّحمنِ ، فَلَو كانَ الآخَرانِ مَعي لَم يَنفَعاني . (3)د _ مَوقِفُ الإِمامِ عليه السلام مِن قَرارِ الشّورىالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ لَمّا عَزَموا عَلى بَيعَةِ عُثمانَ _: لَقَد عَلِمتُم أنّي أحَقُّ النّاسِ بِها مِن غَيري ، ووَاللّهِ لَاُسلِمَنَّ ما سَلِمَت اُمورُ المُسلِمينَ ، ولَم يَكُن فيها جَورٌ إلّا عَلَيَّ خاصَّةً ؛ اِلتِماسا لِأَجرِ ذلِكَ وفَضلِهِ ، وزُهدا فيما تَنافَستُموهُ مِن زُخرُفِهِ وزِبرِجِهِ . (4)
.
ص: 249
ه _ شِقشِقَةٌ هَدَرَت !329.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ لَه عليه السلام _: أما وَاللّهِ لَقَد تَقَمَّصَها فُلانٌ (1) ، وإنَّهُ لَيَعلَمُ أنَّ مَحلّي مِنها مَحَلُّ القُطبِ مِنَ الرَّحا ، يَنحَدِرُ عَنِّي السَّيلُ ، ولا يَرقى إلَيَّ الطَّيرُ ؛ فَسَدَلتُ دونَها ثَوبا ، وطَوَيتُ عَنها كَشحا ، وطَفِقتُ أرتَئي بَينَ أن أصولَ بِيَدٍ جَذّاءَ (2) ، أو أصبِرَ عَلى طَخيَةٍ (3) عَمياءَ ، يَهرَمُ فيهَا الكَبيرُ ، ويَشيبُ فيهَا الصَّغيرُ ، ويَكدَحُ فيها مُؤمِنٌ حَتّى يَلقى رَبَّهُ !
فَرَأَيتُ أنَّ الصَّبرَ عَلى هاتا أحجى ، فَصَبَرتُ وفِي العَينِ قَذىً (4) ، وفِي الحَلقِ شَجا (5) ، أرى تُراثي نَهبا ، حَتّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبيلِهِ ، فَأَدلى بِها إلى فُلانٍ بَعدَهُ .
ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَولِ الأَعشى :
شَتّانَ ما يَومي عَلى كورِها (6)ويومُ حَيَّان أخي جابِرِ
فَياعَجَبا ! ! بَينا هُوَ يَستَقيلُها في حَياتِهِ إذ عَقَدَها لِاخر بَعدَ وَفاتِهِ _ لَشَدَّ ما تَشَطَّرا ضَرعَيهَا ! _ فَصَيَّرَها في حَوزَةٍ خَشناءَ يَغلُظُ كَلمُها ، ويَخشُنُ مَسُّها ، ويَكثُرُ العِثارُ فيها ، وَالاِعتِذارُ مِنها ، فَصاحِبُها كَراكِبِ الصَّعبَةِ إن أشنَقَ لَها خَرَمَ ، وإن أسلَسَ لَها تَقَحَّمَ ، فَمُنِيَ النّاسُ _ لَعَمرُ اللّهِ _ بِخَبطٍ وشِماسٍ ، وتَلَوُّنٍ وَاعتِراضٍ ؛ فَصَبَرتُ عَلى طولِ المُدَّةِ ، وشِدَّةِ المِحنَةِ ؛ حَتّى إذا مَضى لِسَبيلِهِ جَعَلَها في جَماعَةٍ زَعَمَ أنّي
.
ص: 250
329.عنه عليه السلام :أحَدُهُم ، فَيا للّهِِ وَلِلشّورى ! مَتَى اعتَرَضَ الرَّيبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنهُم ، حَتّى صِرتُ اُقرَنُ إلى هذِهِ النَّظائِرِ ! لكِنّي أسفَفتُ إذ أسفّوا ، وطرِتُ إذ طاروا ؛ فَصَغا رَجُلٌ مِنهُم لِضِغنِهِ ، ومالَ الآخَرُ لِصِهرِهِ ، مَعَ هَنٍ وهَنٍ ، إلى أن قامَ ثالِثُ القَومِ نافِجا حِضنَيهِ ، بَينَ نَثيلِهِ ومُعتَلَفِهِ ، وقامَ مَعَهُ بَنو أبيهِ يَخضَمونَ مالَ اللّهِ خِضمَةَ الإِبِلِ نِبتَةَ الرَّبيعِ ، إلى أنِ انتكَثَ عَلَيهِ فَتلُهُ ، وأجهَزَ عَلَيهِ عَمَلُهُ ، وكَبَتَ بِهِ بَطنَتُهُ !
فَما راعَني إلّا وَالنّاسُ كَعُرفِ الضَّبُعِ إلَيَّ ، يَنثالونَ عَلَيَّ مِن كُلِّ جانِبٍ ، حَتّى لَقَد وُطِئَ الحَسَنانِ ، وشُقَّ عِطفايَ ، مُجتَمِعينَ حَولي كَرَبيضَةِ الغَنَمِ ، فَلَمّا نَهَضتُ بِالأَمرِ نَكَثَت طائِفَةٌ ، ومَرَقَت اُخرى ، وقَسَطَ آخَرونَ : كَأَنَّهُم لَم يَسمَعُوا اللّهَ سُبحانَهُ يَقولُ : «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَ الْعَ_قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1) بَلى ! وَاللّهِ لَقَد سَمِعوها ووَعَوهَا ، ولكِنَّهُم حَلِيَتِ الدُّنيا في أعيُنِهِم وراقَهُم زِبرِجُها !
أما وَالَّذي فَلَقَ الحَبَّةَ ، وَبَرأَ النّسَمَةَ ، لَولا حُضورُ الحاضِرِ ، وقِيامُ الحُجَّةِ بِوُجودِ النّاصِرِ ، وما أخَذَ اللّهُ عَلَى العُلَماءِ ألّا يُقارّوا عَلى كِظَّةِ ظالِمٍ ، ولا سَغَبِ مَظلومٍ ، لَأَلقَيتُ حَبلَها عَلى غارِبِها ، ولَسَقيتُ آخِرَها بِكَأسِ أوَّلِها ، ولَأَلفَيتُم دُنياكُم هذِهِ أزهَدَ عِندي مِن عَفطَةِ عَنْزٍ !
قالوا : وقامَ إلَيهِ رَجُلٌ مِن أهلِ السَّوادِ عِندَ بُلوغِهِ إلى هذَا المَوضِعِ مِن خُطبَتِهِ ، فَناوَلَهُ كِتابا _ قيلَ : إنَّ فيهِ مَسائِلَ كانَ يُريدُ الإِجابَةَ عَنها _ فَأَقبَلَ يَنظُرُ فيهِ ، فَلَمّا فَرَغَ مِن قِراءَتِهِ ، قالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، لَوِ اطَّرَدَت خُطبَتُكَ مِن حَيثُ أفضَيتَ !
فَقالَ : هَيهاتَ يَابنَ عَبّاسٍ ! تِلكَ شِقشِقَةٌ هَدَرَت ثُمَّ قَرَّت ! .
ص: 251
329.عنه عليه السلام :قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَوَاللّهِ ، ما أسَفتُ عَلى كَلامٍ قَطُّ كَأَسَفي عَلى هذَا الكَلامِ ألّا يَكونَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام بَلَغَ مِنهُ حَيثُ أرادَ . (1) .
ص: 252
نظرة تحليليّة لوقائع الشّورىتبلورت وقائع الخلافة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله على نحو مدهش وملفت للنظر ، وانتهت بحادثة السقيفة واستخلاف أبي بكر ، وادُّعي أنّ خلافته كانت موضع إجماع . ثمّ إنّه نصب عمر خليفةً من بعده ، وهكذا فقد سنَّ سُنّة «الاستخلاف». وفي الأيّام الأخيرة من حياة عمر ، أخذ يفكّر _ وهو على فراش الموت _ بمستقبل الاُمّة الإسلاميّة ، وتدلّ النصوص التاريخيّة بكلّ جلاء على أنّه كان يفكّر أيضا بنوع من الاستخلاف أيضا ، وأنّه ذكر أسماء جماعة وقال لو أنّهم كانوا أحياءً لعهِدَ إليهم أمر الخلافة ؛ منهم : معاذ بن جبل (1) ، وأبو عبيدة الجرّاح (2) ، وسالم مولى أبي حذيفة ... . (3) وعلى كلّ حال ؛ فإنّ عمر كان يفكّر بالشورى؛ ولكن الشورى الَّتي تضمن له تحقيق أهدافه بشكل أو آخر ، على أن لا يُتجاهل فيها أمر عليّ عليه السلام ، على اعتبار أنّ عليّا لا يمكن تجاهله في مثل هذا الأمر ، وهذه الحقيقة لم تكن خافية عن نظر عمر ، ولهذا السبب ؛ فإنّه حينما استدعى أحد الأنصار للتشاور معه في أمر الخلافة ، فعدّد الأنصاري جماعة من المهاجرين ولم يُسَمِّ عليّا ، فقال عمر : فَما لَهُم مِن
.
ص: 253
أبِي الحَسَنِ! فَوَاللّهِ إنَّهُ لَأَحراهُم إن كانَ عَلَيهِم أن يُقيمَهُم عَلى طَريقَةٍ مِنَ الحَقِّ . (1) وهكذا عيّن عمر جماعة للشورى قوامهم ستّة أشخاص ، وقد انتقد كلَّ واحد منهم بصفة سيّئة فيه ، إلّا عليّا ؛ فقد نسبه إلى المزاح ! ولكنّه أكّد أيضا أنّه أحراهم أن يُقيمهم على سنّة نبيّهم . (2) وسمّى عمر أعضاء الشورى الَّذين يجب أن يختاروا الخليفة من بينهم ، وهم : عليّ عليه السلام ، وعثمان بن عفان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمن بن عوف . لم يكن عمر يحمل مشاعر طيّبة تجاه بني هاشم ، ولا تجاه عليّ عليه السلام . وكان أكثر حنكة وذكاءً من أن يسمّي للشورى أشخاصا يختارون عليّا ولو على سبيل الاحتمال . (3) وقد رسم عمر طريقة عمل الشورى وموازناته؛ فهم يجب أن يجتمعوا في دار تحت مراقبة خمسين رجلاً من الأنصار حتّى يختاروا رجلاً من بينهم ؛ فإن اتّفق خمسة على رجل وأبى واحد يُضرب عنقه ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان يُضرب عُنقاهما ، فإن رضي ثلاثة منهم رجلاً ، وثلاثة رجلاً ، يجب عندئذ تحكيم عبد اللّه بن عمر ؛ فإن لم يرضوا بحكمه ، يجب قبول خيار الجهة الَّتي فيها عبد الرحمن بن عوف . (4) كانت المعادلة الَّتي أرادها الخليفة واضحة تماما . وكانت نتيجتها معروفة منذ البداية لكلّ لبيب . ولهذا السبب فقد حثّ ابن عبّاس عليّا على عدم الدخول في
.
ص: 254
الشورى ، لكنّ عليّا قال : لا ، بَل أدخُلُ مَعَهُم فِي الشّورى ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَد أهَّلَنِي الآنَ لِلخِلافَةِ ، وكانَ قَبلَ ذلِكَ يَقولُ : إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ : إنَّ النُّبُوَّةَ وَالإِمامَةَ لا يَجتَمِعانِ في بَيتٍ ! ! فَأَنَا أدخُلُ في ذلِكَ لِاُظهِرَ لِلنّاسِ مُناقَضَةَ فِعلِهِ لِرِوايَتِهِ . (1) ولكنّه أكّد بصريح القول أنّ عمر قد عدل _ بهذا التركيب _ الخلافة عن بني هاشم ، قائلاً : قد قرِنَ بي عُثمانُ ، ويَجِبُ اتِّباعُ الأَكثَرِيَّةِ ؛ فَسَعدٌ لا يُخالِفُ ابنَ عَمِّهِ عَبدَ الرَّحمنِ ، وعَبدُ الرَّحمنِ صِهرُ عُثمانَ ، وهُما لا يَختَلِفانِ ؛ فَلَو كانَ الآخَرانِ مَعي لم يَنفَعاني . (2) تنحّى طلحة جانبا لصالح عثمان (على أساس الرواية الَّتي تقول إنّ طلحة قد حضر الشورى) ، وتنحّى الزبير جانبا لصالح عليّ عليه السلام ، وتنازل سعد عن حقّه لصالح عبد الرحمن . وأعلن عبد الرحمن أنّه أخرج نفسه من الخلافة ، واقترح على الآخرَين (عليّ عليه السلام وعثمان) أن يفوّض أحدهما حقّه للآخر ، فسكتا. وذكر الطبري أنّ عبد الرحمن بقي ليالي متوالية يشاور رؤساء الجيش والأشراف ، وكان لا يخلو بواحد منهم حتّى يأمره بعثمان (3) . حتّى إذا انتهت الأيّام الثلاثة اجتمع النّاس صباحا في المسجد ، فخرج إليهم عبد الرحمن وقال : إنّي نظرت في النّاس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا (4) . بينما صاح عمّار والمقداد مؤكّدَين على انتخاب عليّ عليه السلام . وارتفعت الأصوات في المسجد ، وصاح عمّار : لماذا تُبعدون هذا الأمر عن أهل بيت الرسول؟! (5) ثمّ إنّ عبد الرحمن بن عوف قال لعليّ عليه السلام : هل تعاهِد اللّه على العمل بكتاب اللّه
.
ص: 255
وسنّة نبيّه وسيرة أبي بكر وعمر؟ فقال : لا ، ولكن أسير على كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه قدر وسعي . ولمّا عرض هذا السؤال على عثمان ، قال : أعمل بالقرآن وسنّة رسول اللّه وسيرة الشيخين. ثمّ كرّر عبد الرحمن سؤاله لعليّ عليه السلام ، فأجابه عليه السلام كما أجابه من قبل ، وأضاف لا حاجة مع كتاب اللّه وسيرة نبيّه إلى سيرة أحد ، ولكنّك تريد أن تزوي هذا الأمر عنّي (1) . وهكذا اختار عبد الرحمن بن عوف عثمان للخلافة ، وأجلسه على مسند السلطة . وذُبح الحقّ مرّة اُخرى على مذبح الزيف والفتنة ، ووجد الّذين سلّوا سيف العداوة ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله سنوات طويلة ، أنّ الفرصة قد سنحت الآن في ظلّ الدعم الَّذي يوفّره لهم خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لكي يستأنفوا مواقفهم العدائيّة ضدّه . ولمّا رأى عليّ عليه السلام الأمر على هذه الشاكلة قال لعبد الرحمن : «حَبَوتَهُ حَبوَ الدَّهرِ ، لَيسَ هذا أوَّلَ يَومٍ تَظاهَرتُم فيهِ عَلَينا ، «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» . (2) ثُمَّ قالَ لَهُ : «وَاللّهِ ما وَلَّيتَ عُثمانَ إلّا لِيَرُدَّ الأَمرَ إلَيكَ» . (3) وصاحَ المِقدادُ : «ما رَأَيتُ مِثلَ ما اُوتِيَ إلى أهلِ هذَا البَيتِ بَعدَ نَبِيِّهِم ! إنّي لَأَعجَبُ من قُرَيشٍ أنَّهُم
.
ص: 256
تَرَكوا رَجُلاً ما أقولُ إنَّ أحَدا أعلَمُ ولا أقضى مِنهُ بِالعَدلِ . أما وَاللّهِ لَو أجِدُ عَلَيهِ أعوانا» . (1) ثمّ إنّ عمارا قال من شدّة حرصه على الإسلام : يا ناعِيَ الإسلامِ قُم فَانعَهُقد ماتَ عرفٌ وأتى مُنكَرُ (2) أوَلم يكن الأمر كذلك ؟ أوَلم يُنعَ الاسلام من خلال تسلّط بني اُميّة؟! أوَلم تنبعث الجاهليّة من جديد؟ فقد خرج عثمان في الليلة الَّتي بويع له في يومها إلى صلاة العشاء وبين يديه شمعة ، فلقيه المقداد ، فقال : ما هذه البدعة؟! (3) ولغرض تعميم وإكمال البحث نورد الملاحظات التالية : 1 . ذكرنا أنّ عليّا عليه السلام قال لعبد الرحمن بن عوف : «وَاللّهِ ما وَلَّيتَ عُثمانَ إلّا لِيَرُدَّ الأَمرُ إلَيكَ» . ولم يُصرّح عليه السلام بمثل هذا الكلام إلّا انطلاقا من معرفته بأحوال المتلاعبين بالسياسة ودعاة الفتن ، لو كانت يومذاك ثمّةَ آذان واعية . وجاء الشاهد على صدق كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيما نقله المؤرّخون ؛ من أنّ عثمان بعدما اشتدّ عليه المرض دعا كاتبا ، وأمره أن يكتب عهده بالخلافة من بعده لعبد الرحمن : فكتب بما أمره . (4) 2 . لماذا لم يوافق الإمام عليه السلام على شرط عبد الرحمن؟ لأنّه كانت قد مرّت حينذاك سنوات على وفاة الرسول صلى الله عليه و آله ، ووقعت فيها تغيّرات كثيرة ، وصدرت أحكام كثيرة مناقضة لحكم الرسول صلى الله عليه و آله ، وبُدّلت سنّته صلى الله عليه و آله في موارد
.
ص: 257
كثيرة (1) . فكيف كان يتسنّى للإمام عليه السلام قبول هذا الشرط ؟ ولو أنّه قبله وتسلّم زمام الاُمور _ على فرض المحال _ كيف كان يتسنّى له التوفيق بين تلك المتناقضات؟ وما كان عساه يفعل مع تلك التغييرات؟ هل كان النّاس على استعداد لقبول إعادة الحقائق إلى مسارها الأوّل؟ فقد أثبت عهد خلافة الإمام عليّ عليه السلام عدم استعداد النّاس لقبول عودة الحقائق إلى مسارها الأوّل ، مع أنّ الكثير من المسائل قد تجلّت بكلّ وضوح يومذاك ، ومع أنّ النّاس قد أقبلوا بأنفسهم عليه ، غير أنّه كان يواجه صعوبة في كثير من القرارات ، والمثال الواضح على ذلك «صلاة التراويح» . ولو عرضنا هذا السؤال من زاوية اُخرى وقلنا : لماذا لم يقبل الإمام شرط عبد الرحمن؟ نلاحظ هنا أنّه عليه السلام كان أمام معادلتين : الاُولى : قبول الشرط وإقامة حكومة العدل الإسلامي . الثانية : عدم قبول الشرط ؛ لأنّه لم يكُن حقّا ، مع التضحية بهذا المنصب الخطير . والوجه الآخر للسؤال هو : هل كان عبد الرحمن يعقد له البيعة لو أنّه قبل ذلك الشرط؟ يمكن القول بجزم _ من خلال الأخبار الَّتي نقلناها عن الشورى ، وما كان فيها من تدبير ، وكذلك من خلال كلام الإمام عليه السلام مع عبد الرحمن _ بأنّ الجواب هو السلب طبعا . وقد أدرك عليّ عليه السلام بعمق نظره الخاصّ بأنّ كلّ هذه التمهيدات الَّتي اتُّخذت جاءت لتبرير قرار متّخذ مسبقا. ولو أنّ الإمام وافق على الشرط ؛ فإنَّ عثمان كان يوافق عليه أيضا ، وفي مثل هذه الحالة كان عبد الرحمن سيلجأ إلى
.
ص: 258
ذريعة اُخرى ، كأن يقول مثلاً _ كما مرّ علينا _ بأنَّ رؤساء الجيش ، وزعماء القبائل يميلون إلى عثمان ، وتكون النتيجة هي انتخاب عثمان أيضا ، وستكون نتيجة القبول بهذا الشرط هي إضفاء الشرعيّة من قِبَل عليّ عليه السلام على قرارات الشيخين ، وحاشا أن ينخدع عليّ _ الَّذي يخترق بصره الحجب السطحيّة ويرى الحقائق _ بمثل هذه المشاهد . 3 . كانت معادلة الشورى واضحة مسبقا ولهذا السبب أمر عمر بضرب عنق كلّ مَن يعارض ، وبعد البيعة لعثمان من قِبَل ابن عوف وسائر أعضاء الشورى ، ظلّ عليٌّ واقفا ولم يبايِع ، فقال له ابن عوف : بايِع وإلّا ضربتُ عنقك ! فخرج من الدار وتبعه أصحاب الشورى وقالوا : بايِع وإلّا جاهدناك ! (1) وهذا ما جعل الشريف المرتضى يقول بألم : «فَأَيُّ رِضىً هاهُنا ؟ ! . . . وكَيفَ يَكونُ مُختارا مَن تُهَدَّدُ بِالقَتلِ وبِالجِهادِ» . (2) 4 . التطميع بالخلافة الملاحظة الأخيرة في هذا المضمار هي أنّ عمر أجَّج بعمله هذا نار الطمع بالخلافة في قلوب أعضاء الشورى . وقد أشار الشيخ المفيد إلى هذا المعنى بقوله : إنّ سعد بن أبي وقّاص ما كان يرى نفسه شيئا أمام عليّ عليه السلام ، إلّا أنّ وجوده في الشورى بعث في نفسه شعورا بالأهليّة للخلافة . ونقل ابن أبي الحديد أيضا هذا التحليل عن اُستاذه. وكان طلحة أيضا يستدلّ بوجوده في الشورى على مجابهته لعليّ (3) . وأشار معاوية أيضا إلى هذا المعنى في إحدى محاوراته . (4)
.
ص: 259
وعلى كلّ حال ؛ فإنّ عمر قد دأب مرّة اُخرى من خلال الشورى الَّتي أوجدها على طمس «حقّ الخلافة» وسحق حرمتها. وسلّط بني اُميّة على رقاب الاُمّة فاقترفوا كلّ تلك المفاسد . وعمل من خلال غرسه لروح التطلّع إلى الخلافة في نفوس أشخاص مثل طلحة والزبير ، على تمهيد الأجواء لنشوب الصراعات اللاحقة . ونحن نؤكّد من خلال استقراء تلك الحادثة وكيفيّة تبلور وقائعها بأنَّ الحقّ هو ما جاء في تحليل مجرياتها إجمالاً ، ليس إلّا.. . واللّه من وراء القصد .
.
ص: 260
الفصل الرابع : مبادئ الثورة على عثمانأ _ التَّرفمروج الذهب :بَنى ]عُثمانُ[ دارَهُ فِي المَدينَةِ ، وشَيَّدَها بِالحَجَرِ وَالكِلسِ ، وجَعَلَ أبوابَها مِنَ السّاجِ وَالعَرعَرِ ، وَاقتَنى أموالاً وجِنانا وعُيونا بِالمَدينَةِ . وذَكَرَ عَبدُ اللّهِ بنُ عُتبَةَ أنَّ عُثمانَ يَومَ قُتِلَ كانَ لَهُ _ عِندَ خازِنِهِ _ مِنَ المالِ خَمسونَ ومِئَةُ ألفِ دينارٍ ، وألفُ ألفِ دِرهَمٍ ، وقيمَةُ ضِياعِهِ بِوادِي القُرى وحُنَينٍ وغَيرِهِما مِئَةُ ألفِ دينارٍ ، وخَلَّفَ خَيلاً كَثيرا وإبِلاً . (1)
أنساب الأشراف عن سُلَيم أبي عامر :رَأَيتُ عَلى عُثمانَ بُردا ثَمَنُهُ مِئَةُ دينارٍ . (2)
ب _ جَعلُ المالِ دولَةً بَينَ الأَغنِياءِ1 . اِستِئثارُ الأقارب331.الإمام عليّ عليه السلام :أنساب الأشراف عن ابن عبّاس :كانَ مِمّا أنكَروا عَلى عُثمانَ أنَّهُ وَلَّى الحَكَمَ ابنَ أبِي العاصِ صَدَقاتِ قُضاعَةَ (3) ، فَبَلَغَت ثَلاثَمِئَةِ ألفِ دِرهَمٍ ، فَوَهَبَها لَهُ حينَ أتاهُ بِها . (4)
.
ص: 261
تاريخ أبي الفداء :أقطَعَ [عُثمانُ] مَروانَ بنَ الحَكَمِ فَدَكَ (1) ، وهِيَ صَدَقَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله الَّتي طَلَبَتها فاطِمَةُ ميراثا ! فَرَوى أبو بَكرٍ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله : نَحنُ مَعاشِرَ الأَنبِياءِ لا نُوَرِّثُ ، ما تَرَكناهُ صَدَقَةٌ . ولَم تَزَل فَدَكُ في يَد مَروانَ وبَنيهِ إلى أن تَوَلّى عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ ، فَانتَزَعَها مِن أهلِهِ ورَدَّها صَدَقَةً . (2)
المعارف لابن قتيبة :تَصَدَّقَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِمَهزورٍ _ مَوضِعِ سوقِ المَدينَةِ _ عَلَى المُسلِمينَ ، فَأَقطَعَها عُثمانُ الحارِثَ بنَ الحَكَمِ ؛ أخا مَروانَ بنِ الحَكَمِ ، وأقطَعَ مَروانَ فَدَكَ وهِيَ صَدَقَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله (3) .
تاريخ اليعقوبي :زَوَّجَ عُثمانُ بِنتَهُ مِن عَبدِ اللّهِ بنِ خالِدِ بنِ اُسَيدٍ ، وأمَرَ لَهُ بِستِّمِئَةِ ألفِ دِرهَمٍ ، وكَتَبَ إلى عَبدِ اللّهِ بنِ عامِرِ أن يَدفَعَها إلَيهِ مِن بَيتِ مالِ البَصرَةِ . (4)
المَعارِف لاِبنِ قُتَيبَة :وطَلَبَ إلَيهِ ] إلى عُثمانَ [ عَبدُ اللّهِ بنُ خالِدِ بنِ اُسَيدٍ صِلةً ، فَأَعطاهُ أربَعَمِئَةِ ألفِ دِرهَمٍ . (5)
2 . اِستِئثارُ الآخرينشرح نهج البلاغة :أعطى ] عثمانُ [ أبا سُفيانَ بنَ حَربٍ مِئَتَي ألفٍ مِن بَيتِ المالِ ، فِي اليَومِ الَّذي أمَرَ فيهِ لِمَروانَ بنِ الحَكَمِ بِمِئَةِ ألفٍ مِن بَيتِ المالِ . (6)
أنساب الأشراف عن موسى بن طلحة :أعطى عُثمانُ طَلحَةَ في خِلافَتِهِ مِئَتَي ألفِ دينارٍ . (7)
.
ص: 262
332.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :تاريخ المدينة عن موسى بن طَلحَة :أوَّلُ مَن أقطَعَ بِالعِراقِ عُثمانُ بن عَفّانَ قَطائِعَ مِمّا كانَ مِن صَوافي آلِ كَسرى ، ومِمّا جَلا عَنهُ أهلُهُ ، فَقَطَعَ (1) لِطَلحَةَ ابنِ عُبَيدِ اللّهِ النَّشاستَجَ (2) . (3)333.الأمالي للطوسي عن عبداللّه بن الحسن عن آبائه :الطبقات الكبرى عن أبي حصين :إنَّ عُثمانَ أجازَ الزُّبَيرَ بنَ العَوّامِ بِسِتِّمِئَةِ ألفٍ ، فَنَزَلَ عَلى أخوالِهِ ؛ بَني كاهِلٍ ، فَقالَ : أيُّ المالِ أجوَدُ ؟ قالوا : مالُ أصبَهانَ . قالَ : أعطوني مِن مالِ أصبَهانَ . (4)ج _ رَدُّ طُرَداءِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آلهتاريخ اليعقوبي :كَتَبَ عُثمانُ إلَى الحَكَمِ بنِ أبِي العاصِ أن يَقدَمَ عَلَيهِ _ وكانَ طَريدَ رَسولِ اللّهِ _ وقَد كانَ عُثمانُ لَمّا وُلِّيَ أبو بَكرٍ اِجتَمَعَ هُوَ وقَومٌ مِن بَني اُمَيَّةَ إلى أبي بَكرٍ ، فَسَأَلوهُ فِي الحَكَمِ ، فَلَم يَأذَن لَهُ ، فَلَمّا وُلِّيَ عُمَرُ فَعلوا ذلِكَ ، فَلَم يَأذَن لَهُ فَأَنكَرَ النّاسُ إذنَهُ لَهُ . وقالَ بَعضُهُم : رَأَيتُ الحَكَمَ بنَ أبِي العاصِ يَومَ قَدِمَ المَدينَةَ عَلَيهِ فزر خلقٍ (5) ، وهُوَ يَسوق تَيسا ، حَتّى دَخَلَ دارَ عُثمانَ ، وَالنّاسُ يَنظُرونَ إلى سوءِ حالِهِ وحالِ مَن مَعَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ وعَلَيهِ جُبَّةُ خَزٍّ وطَيلَسانٌ . (6)
.
ص: 263
د _ مُعاقَبَةُ مَن أنكَرَ عَلَيهِ أحداثَهُنَفيُ أبي ذَرٍّ338.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :مُروج الذّهب_ في ذِكرِ ما طُعِنَ بِهِ عَلى عُثمانَ _: ومِن ذلِكَ ما فَعَلَ بِأَبي ذَرٍّ ؛ وَهُوَ أنَّهُ حَضَرَ مَجلِسَهُ ذاتَ يَومٍ ، فَقالَ عُثمانُ : أ رَأَيتُم مَن زَكّى مالَهُ ، هَل فيهِ حَقٌّ لِغَيرِهِ ؟ فَقالَ كَعبٌ : لا ، يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَدَفَعَ أبو ذَرٍّ في صَدرِ كَعبٍ ، وَقالَ لَهُ : كَذِبتَ يَابنَ اليَهودِيِّ ، ثُمَّ تَلا : «لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ» (1) اَلآيَةَ .
فَقالَ عُثمانُ : أ تَرَونَ بَأسا أن نَأخُذَ مالاً مِن بَيتِ مالِ المُسلِمينَ فَنُنفِقَهُ فيما يَنوبُنا مِن اُمورِنا ، ونُعطيكُموهُ ؟ فَقالَ كَعبٌ : لا بَأسَ بِذلِكَ .
فَرَفَعَ أبو ذَرٍّ العَصا ، فَدَفَعَ بِها في صَدرِ كَعبٍ ، وَقالَ : يَابنَ اليَهودِيِّ ما أجرَأَكَ عَلَى القَولِ في دينِنا !
فَقالَ لَهُ عُثمانُ : ما أكثَرَ أذاكَ لي ! غَيِّب وَجهَكَ عَنّي ؛ فَقَد آذَيتَنا . فَخَرَجَ أبو ذَرٍّ إلَى الشّامِ .
فَكَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عُثمانَ : إنَّ أبا ذَرٍّ تَجتَمِعُ إلَيهِ الجُموعُ ، ولا آمَنُ أن يُفسِدَهُم عَلَيكَ ، فَإِن كانَ لَكَ فِي القَومِ حاجَةٌ فَاحمِلَهُ إلَيكَ .
فَكَتَبَ إلَيهِ عُثمانُ بِحَملِهِ . فَحَمَلَهُ عَلى بَعيرٍ ، عَلَيهِ قَتَبٌ يابِسٌ ، مَعَهُ خَمسَةٌ مِنَ الصَّقالِبَةِ (2) يَطيرونَ (3) بِهِ ، حَتّى أتَوا بِهِ المَدينَةَ ، وقَد تَسَلَّخَت بَواطِنُ أفخاذِهِ ، وكادَ أن
.
ص: 264
338.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يَتلِفَ ، فَقيلَ لَهُ : إنَّكَ تَموتُ مِن ذلِكَ . فَقالَ : هَيهاتَ ، لَن أموتَ حَتّى اُنفى . وذَكَرَ جَوامِعَ ما يَنزِلُ بِهِ بَعدُ ، ومَن يَتَوَلّى دَفنَهُ .
فَأَحسَنَ إلَيهِ في دارِهِ أيّاما ، ثُمَّ دَخَلَ إلَيهِ فَجَلَسَ عَلى رُكبَتَيهِ ، وتَكَلَّمَ بِأَشياءَ ، وذَكَرَ الخَبَرَ في وُلدِ أبِي العاصِ : «إذا بَلَغوا ثَلاثينَ رَجُلاً اِتَّخَذوا عِبادَ اللّهِ خَوَلاً» . . . وكانَ في ذلِكَ اليَومِ قَد اُتِيَ عُثمانُ بِتَرَكَةِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ الزُّهرِيِّ مِنَ المالِ ، فَنُثِرَتِ البِدَرُ حَتّى حالَت بَينَ عُثمانَ وبَينَ الرَّجُلِ القائِمِ ، فَقالَ عُثمانُ : إنّي لَأَرجو لِعَبدِ الرَّحمنِ خَيرا ؛ لِأَنَّهُ كانَ يَتَصَدَّقُ ، ويُقرِي الضَّيفَ ، وتَرَكَ ما تَرَونَ .
فَقالَ كَعبُ الأَحبارِ : صَدَقتَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَشالَ أبو ذَرٍّ العَصا ، فَضَرَبَ بِها رَأسَ كَعبٍ ، ولَم يَشغَلهُ ما كانَ فيهِ مِنَ الأَلَمِ ، وقالَ : يَابنَ اليَهودِيِّ تَقولُ لِرَجُلٍ ماتَ وتَرَكَ هذَا المالَ : إنَّ اللّهَ أعطاهُ خَيرَ الدُّنيا وخَيرَ الآخِرَةِ ، وتَقطَعُ عَلَى اللّهِ بِذلِكَ ! وأنَا سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «ما يَسُرُّني أن أموتَ وأدَعَ ما يَزِنُ قيراطا» ! !
فَقالَ لَهُ عُثمانُ : وارِ عَنّي وَجهَكَ . فَقالَ : أسيرُ إلى مَكَّةَ ؟ قالَ : لا وَاللّهِ . قالَ : فَتَمنَعُني مِن بَيتِ رَبّي أعبُدُهُ فيهِ حَتّى أموتَ ؟ قالَ : إي وَاللّهِ .
قالَ : فَإِلَى الشّامِ ؟ قالَ : لا وَاللّهِ .
قالَ : البَصرَةِ ؟ قالَ : لا وَاللّهِ ، فَاختَر غَيرَ هذِهِ البُلدانِ .
قالَ : لا واللّهِ ، ما أختارُ غيرَ ما ذَكَرتُ لَكَ ، ولَو تَرَكتَني في دارِ هِجرَتي ما أرَدتُ شَيئا مِنَ البُلدانِ ، فَسَيِّرني حَيثُ شِئتَ مِنَ البِلادِ .
قالَ : فَإِنّي مُسَيِّرُكَ إلَى الرَّبَذَةِ . قالَ : اللّهُ أكبَرُ ! صَدَقَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ قَد أخبَرَني بِكُلِّ ما أنَا لاقٍ .
قالَ عُثمانُ : وما قالَ لَكَ ؟ ! قالَ : أخبَرَني بِأَنّي اُمنَعُ عَن مَكَّةَ وَالمَدينَةِ ، وأموتُ بِالرَّبَذَةِ ، ويَتَوَلّى مُواراتي نَفَرٌ مِمَّن يَرِدونَ مِنَ العِراقِ نَحوَ الحِجازِ . .
ص: 265
338.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :وبَعَثَ أبو ذَرٍّ إلى جَمَلٍ لَهُ ، فَحَمَلَ عَلَيهِ امرَأَتَهُ ، وقيلَ : ابنَتَهُ . وأمَرَ عُثمانُ أن يَتَجافاهُ النّاسُ حَتّى يَسيرَ إلَى الرَّبَذَةِ .
فَلَمّا طَلَعَ عَنِ المَدينَةِ _ ومَروانُ يُسَيِّرُ]هُ[ عَنها _ طَلَعَ عَلَيهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ رضى الله عنه ، ومَعَهُ ابناهُ الحَسَنُ وَالحُسَينُ ، وعَقيلٌ أخوهُ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ جَعفَرٍ ، وعَمّارُ بنُ ياسِرٍ .
فَاعتَرَضَ مَروانُ ، فَقالَ : يا عَلِيُّ ، إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ قَد نَهَى النّاسَ أن يَصحَبوا أبا ذَرٍّ في مَسيرِهِ ويُشَيِّعوهُ ، فَإِن كُنتَ لَم تَدرِ بِذلِكَ فَقَد أعلَمتُكَ !
فَحَمَلَ عَلَيهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ بِالسَّوطِ ، وضَرَبَ بَينَ اُذُنَي راحِلَتِهِ ، وقالَ : تَنَحَّ ، نَحّاكَ اللّهُ إلَى النّارِ . ومَضى مَعَ أبي ذَرٍّ فَشَيَّعَهُ ، ثُمَّ وَدَّعَهُ وَانصَرَفَ .
فَلَمّا أرادَ عَلِيٌّ الاِنصِرافَ بَكى أبو ذَرٍّ ، وقالَ : رَحِمَكُمُ اللّهُ أهلَ البَيتِ ، إذا رَأيتُكَ يا أبَا الحَسَنِ ووُلدَكَ ذَكَرتُ بِكُم رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله .
فَشَكا مَروانُ إلى عُثمانَ ما فَعَلَ بِهِ عَلِيّ بنُ أبي طالِبٍ ، فقالَ عُثمانُ : يا مَعشَرَ المُسلِمينَ ! مَن يَعذِرُني مِن عَلِيٍّ ؟ رَدَّ رَسولي عَمّا وَجَّهتُهُ لَهُ ، وفَعَلَ كَذا ، وَاللّهِ لَنُعطِيَنَّهُ حَقَّهُ !
فَلَمّا رَجَعَ عَلِيٌّ اِستَقبَلَهُ النّاسُ ، فَقالوا لَهُ : إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عَليكَ غَضبانُ ؛ لِتَشييعِكَ أبا ذَرٍّ . فَقالَ عَلِيٌّ : «غَضَبُ الخَيلِ عَلَى اللُّجُمِ» .
فَلَمّا كانَ بِالعَشِيِّ جاءَ إلى عُثمانَ ، فَقالَ لَهُ : ما حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعتَ بِمَروانَ ! ولِمَ اجتَرَأتَ عَلَيَّ ، ورَدَدتَ رَسولي وأمري ؟ !
قالَ : أمّا مَروانُ ؛ فَإِنَّهُ استَقبَلَني يَرُدُّني ، فَرَدَدتُهُ عَن رَدّي . وأمّا أمرُكَ فَلَم أرُدَّهُ .
قال عُثمانُ : أ لَم يُبلِغكَ أنّي قَد نَهَيتُ النّاسَ عَن أبي ذَرٍّ وعَن تَشييعِهِ ؟
فَقالَ عَلِيٌّ : أوَكُلُّ ما أمَرتَنا بِهِ مِن شَيءٍ نَرى طاعَةَ اللّهِ وَالحَقَّ في خِلافِهِ اتَّبَعنا فيهِ أمرَكَ ! ! بِاللّهِ لا نَفعَلُ . .
ص: 266
338.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :قالَ عُثمانُ : أقِد مَروانَ .
قالَ : ومِمَّ أُقيدُهُ ؟
قالَ : ضَرَبتَ بَينَ اُذُنَي راحِلَتِهِ ، وشَتَمتَهُ ، فَهُوَ شاتِمُكَ وضارِبٌ بَينَ اُذُنَي راحِلَتِكَ .
قالَ عَلِيٌّ : أمّا راحِلَتي فَهِيَ تِلكَ ، فَإِن أرادَ أن يَضرِبَها كَما ضَرَبتُ راحِلَتَهُ فَليَفعَل ، وأمّا أنَا فَوَاللّهِ لَئِن شَتَمَني لَأَشتَمَنَّكَ أنتَ مِثلَها بِما لا أكذِبُ فيهِ ، ولا أقولُ إلّا حَقّا .
قالَ عُثمانُ : ولِمَ لا يَشتِمُكَ إذا شَتَمتَهُ ؟ ! ، فَوَاللّهِ ما أنتَ عِندي بِأَفضَلَ مِنهُ !
فَغَضِبَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، وقالَ : ألِيَ تَقولُ هذَا القَولَ ؟ ! وبِمَروانَ تَعدِلُني ! ! فَأَنَا وَاللّهِ أفضَلُ مِنكَ ! وأبي أفضَلُ مِن أبيكَ ! واُمّي أفضَلُ مِن اُمِّكَ ! وهذِهِ نَبلي قد نَثلَتُها (1) ، وهَلُمَّ فَانثُلْ بِنَبلِكَ . (2)
فَغَضِبَ عُثمانُ ، وَاحمَرَّ وَجهُهُ ، فَقامَ ودَخَلَ دارَهُ . وَانصَرَفَ عَلِيٌّ ، فَاجتَمَعَ إلَيهِ أهلُ بَيتِهِ ، ورِجالٌ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ .
فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ وَاجتَمَعَ النّاسُ إلى عُثمانَ شَكا إلَيهِم عَلِيّا ، وقالَ : إنَّهُ يَعيبُني ويُظاهِرُ مَن يَعيبُني _ يُريدُ بِذلِكَ أبا ذَرٍّ وعَمّارَ بنَ ياسِرٍ وغَيرَهُما _ . فَدَخَلَ النّاسُ بَينَهُما ، حَتّى اصطَلَحا ، وقالَ لَهُ عَلِيٌّ : وَاللّهِ ، ما أرَدتُ بِتَشييعِ أبي ذَرٍّ إلّا اللّهَ تَعالى . (3) .
ص: 267
تحريف التاريخ في قضيّة نفي أبي ذرّإنّ تحريف الحقائق في النصوص التأريخيّة القديمة أمر يدعو إلى تشويه الواقع وإضلال النّاس من جهة ، وإلى الأسف العميق من جهة اُخرى . حيث إنّ الناظر في طيّات التاريخ ينظر بعين الأسى إلى ما نال النصوص القديمة من التحريف ؛ وهو في الحقيقة له أسباب كثيرة ، يطول الكلام ببيانها . ومن أوضح مصاديقه هو تحريف المعلومات المتعلّقة بقضيّة نفي أبي ذرّ . فنرى الطبري وابن الأثير قد تناولا ممهِّدات النفي وطبيعته وكيفيّته وملابسات إخراج أبي ذرّ من الشام على نحو الإشارة . بَيْد أنّهما أحجما عن كشف الحقائق وتصوير الواقع الصادق . أمّا الطبري فقد ذكر في تأريخه : وفي هذه السنة _ أعني سنة ثلاثين _ كان ما ذُكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية ، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها اُمور كثيرة ، كرهت ذكر أكثرها . فأمّا العاذرون معاوية في ذلك ، فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة . . . (1) وأمّا ابن الأثير فقال : وفي هذه السنة ]30 ه [ كان ما ذكر في أمر أبي ذرّ ، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكر في سبب ذلك اُمور كثيرة _
.
ص: 268
من سبّ معاوية إيّاه ، وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ، لا يصحّ النقل به ، ولو صحّ لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان ؛ فإنَّ للإمام أن يؤدّب رعيّته ، وغير ذلك من الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سببا للطعن عليه ! ! _ كرهتُ ذكرها . وأمّا العاذرون فإنّهم قالوا : . . . . (1) وهكذا يسدلان الستار على الحقائق . ومن جانب آخر ، ينقلان معلومات كاذبة عن أبي ذرّ ، فيحاولان المَسَّ بقُدسيّة «أصدَق مَن أقَلَّتهُ الغَبراءُ» . ومن العجب أنّهما يوردان ذلك كلّه عن سيف بن عمر بطل الوضع والاختلاق ، ومثال الافتراء ، والنموذج الماثل لإشاعة الكذب . إنّ أحدا لم يُثْنِ على سيف ؛ فقد ضعّفه ابن معين وقال : «فليس خيرٌ منه» . وذهب أبو حاتم إلى أنّه «مَتروكُ الحَديثِ» . ونصّ النسائي والدارقطني على ضعفه . وقال أبو داوود : «ليس بشيء» . وقال ابن حبّان :«يروي الموضوعات عن الأثباتِ» . اتُّهم بالزندقة ، وقالوا : إنّه كان يضع الحديث ، وذهب الحاكم أيضا إلى أنّه متّهم بالزندقة . (2) وأمّا أخبار سيف بن عمر فجميعها تبيّض صحيفة عثمان وتدافع عنه ، فيقول مثلاً في نفي أبي ذرّ من قبل عثمان : قالَ ]أبو ذَرٍّ لِعُثمانَ[ : فَتَأذَنُ لي فِي الخُروجِ ؟ فَإِنَّ المَدينَةَ لَيسَت لي بِدارٍ . فَقالَ : أ وَتَستَبدِلُ بِها إلّا شَرّا مِنها ؟ ! قالَ : أمَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن أخرُجَ مِنها إذا بَلَغَ البِناءُ سَلعا (3) . قالَ : فَانفُذ لِما أمَرَكَ بِهِ .
.
ص: 269
قالَ : فَخَرَجَ حَتّى نَزَلَ الرَّبَذَةَ فَخَطَّ بِها مَسجِدا ، وأقطَعَهُ عُثمانُ صِرمَةً (1) مِنَ الإِبِلِ ، وأعطاهُ مَملوكَينِ ، وأرسَلَ إلَيهِ : أن تَعاهَدِ المَدينَةَ حَتّى لا تَرتَدَّ أعرابِيّا ، فَفَعَلَ . وقال أيضا : خَرَجَ أبو ذَرٍّ إلَى الرَّبَذَةِ مِن قِبَلِ نَفسِهِ ، لَمّا رَأى عُثمانُ لا يَنزَعُ (2) لَهُ . (3) ونحن نعلم أنّ بعض الأباطيل حول «عبد اللّه بن سبأ» من مختلقاته أيضا ؛ إذ منح لهذه الشخصيّة قابليّة عجيبة حتّى جعلها عَلَما لجميع ضروب الاحتجاج والاعتراض على عثمان ومعاوية .
.
ص: 270
ه _ مبادئ الثورة على عثمان1 . ضَربُ عَمّارِ بنِ ياسِرٍ342.عنه عليه السلام :أنساب الأشراف عن أبي مِخنَف_ في إسنادِهِ _: كانَ في بَيتِ المالِ بِالمَدينَةِ سَفَطٌ فيهِ حُلِيٌّ وجَوهَرٌ ، فَأَخَذَ مِنهُ عُثمانُ ما حَلّى بِهِ بعضَ أهلِهِ ، فَأَظهَرَ النّاسُ الطَّعنَ عَلَيهِ في ذلِكَ وكَلَّمُوهُ فيهِ بِكَلامٍ شَديدٍ حَتّى أغضَبوهُ ، فَخَطَبَ فَقالَ : لَنأخُذَنَّ حاجَتَنا مِن هذَا الفَيءِ وإن رَغِمَت اُنوفُ أقوامٍ .
فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : إذا تُمنَعُ مِن ذلِكَ ويُحالُ بَينَكَ وبَينَهُ .
وقالَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ : اُشهِدُ اللّهَ أنَّ أنفي أوَّلُ راغِمٍ مِن ذلِكَ .
فَقالَ عُثمانُ : أعَلَيَّ يَابنَ المَتكاءِ (1) ! تَجتَرِئُ ؟ خُذوهُ ، فَاُخِذَ ودَخَلَ عُثمانُ فَدَعا بِهِ فَضَرَبَهُ حَتّى غُشِيَ عَلَيهِ ، ثُمَّ اُخرِجَ فَحُمِلَ حَتّى اُتِيَ بِهِ مَنزِلَ اُمِّ سَلَمَةَ زَوجِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَلَم يُصَلِّ الظُّهرَ وَالعَصرَ وَالمَغرِبَ ، فَلَمّا أفاقَ تَوَضَّأَ وصَلّى وقالَ : الحَمدُ للّهِِ ، لَيسَ هذَا أوَّلَ يَومٍ اُوذينا فيهِ فِي اللّهِ . . . .
وبَلَغَ عائِشَةَ ما صُنِعَ بِعَمّارٍ ، فَغَضِبَت وأخرَجَت شَعرا مِن شَعرِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وثَوبا مِن ثِيابِهِ ، ونَعلاً مِن نِعالِهِ ، ثُمَّ قالَت : ما أسرَع ما تَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم وهذا شَعرُهُ وثَوبُهُ ونَعلُهُ ولَم يَبلَ بَعدُ ، فَغَضِبَ عُثمانُ غَضَبا شَديدا حَتّى ما دَرى ما يَقولُ . (2)2 . ضَربُ عَبدِ اللّهِ بنِ مَسعودٍ وتَسييرُهُ348.كنز العمّال عن ابن عبّاس عَن رَسولِ اللّه ِ صلى اأنساب الأشراف عن أبي مخنف وعوانة :إنَّ عَبدَ اللّهِ بنَ مَسعودٍ حينَ ألقى مَفاتيحَ بَيتِ المالِ إلَى الوَليدِ بنِ عُقبَةَ قالَ : مَن غَيَّرَ غَيَّرَ اللّهُ ما بِهِ ، ومَن بَدَّلَ أسخَطَ اللّهُ عَلَيهِ ، وما
.
ص: 271
348.كنز العمّال عن ابن عبّاس عَن رَسولِ اللّه ِ صلى اأرى صاحِبَكُم إلّا وقَد غَيَّرَ وبَدَّلَ ، أ يُعزَلُ مِثلُ سَعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ ويُولَّى الوَليدُ ؟ وكانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ لا يَدَعُهُ وهُوَ : إنَّ أصدَقَ القَولِ كتابُ اللّهِ ، وأحسَنَ الهُدى هُدى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وشَرَّ الاُمورِ مُحدَثاتُها ، وكُلَّ مُحدَثٍ بِدعَةٌ ، وكُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ ، وكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النّارِ .
فَكَتَبَ الوَليدُ إلى عُثمانَ بِذلِكَ وقالَ : إنَّهُ يَعيبُكَ ويَطعَنُ عَلَيكَ ، فَكَتَبَ إلَيهِ عُثمانُ يَأمُرُهُ بِإِشخاصِهِ ، وشَيَّعَهُ أهلُ الكوفَةِ ، فَأَوصاهُم بِتَقوَى اللّهِ ولُزومِ القُرآنِ ، فَقالوا لَهُ : جُزِيتَ خَيرا ؛ فَلَقَد عَلَّمتَ جاهِلَنا ، وثَبَّتَّ عالِمَنا ، وأقرَأتَنَا القُرآنَ ، وفَقَّهتَنا فِي الدّينِ ، فَنِعَم أخُو الإِسلامِ أنتَ ونِعمَ الخَليلُ ، ثُمَّ وَدَّعوهُ وَانصَرَفوا .
وقَدِمَ ابنُ مَسعودٍ المَدينَةَ وعُثمانُ يَخطُبُ عَلى مِنبَرِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَلَمّا رَآهُ قالَ : ألا إنَّهُ قَدِمَت عَلَيكُم دُوَيبَةُ سوءٍ ، مَن تَمشِ عَلى طَعامِهِ يَقِئ ويَسلَح . (1)
فَقالَ ابنُ مَسعودٍ : لَستُ كَذلِكَ ، ولكِنّي صاحِبُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ بَدرٍ ، ويَومَ بَيعَةِ الرِّضوانِ .
ونادَت عائِشَةُ : أي عُثمانُ ! أ تَقولُ هذا لِصاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟
ثُمَّ أمَرَ عُثمانُ بِهِ فَاُخرِجَ مِنَ المَسجِدِ إخراجا عَنيفا ، وضَرَبَ بِهِ عَبدُ اللّهِ بنُ زمعَةَ بنِ الاَسوَدِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ أسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى بنِ قُصَي الأَرضَ ، ويُقالُ : بَلِ احتَمَلَهُ يَحمومُ غُلامُ عُثمانَ ورِجلاهُ تَختَلِفانِ عَلى عُنُقِهِ ، حَتّى ضَرَبَ بِهِ الأَرضَ ، فَدَقَّ ضِلعُهُ .
فَقالَ عَلِيٌّ : يا عُثمانُ ! أ تَفعَلُ هذا بِصاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِقَولِ الوَليدِ بنِ عُقبَةَ ؟
فَقالَ : ما بِقَولِ الوَليدِ فَعَلتُ هذا ، ولكِن وَجَّهتُ زُبَيدَ بنَ الصَّلتِ الكَندِيَّ إلَى الكوفَةِ ، فَقالَ لَهُ ابنُ مَسعودٍ : إنَّ دَمَ عُثمانَ حَلالٌ . .
ص: 272
348.كنز العمّال عن ابن عبّاس عَن رَسولِ اللّه ِ صلى افَقالَ عَلِيٌّ : أحَلتَ مِن زُبَيدٍ عَلى غَيرِ ثِقَةٍ . . . وقامَ عَلِيٌّ بِأَمرِ ابنِ مَسعودٍ حَتّى أتى بِه مَنزِلَهُ ، فَأَقامَ ابنُ مَسعودٍ بِالمَدينَةِ لا يَأذَنُ لَهُ عُثمانُ فِي الخُروجِ مِنها إلى ناحِيَةٍ مِنَ النَّواحي ، وأرادَ حينَ بَرِئَ الغَزوَ ، فَمَنَعَهُ مِن ذلِكَ .
وقالَ لَهُ مَروانُ : إنَّ ابنَ مَسعودٍ أفسَدَ عَلَيكَ العِراقَ ، أ فَتُريدُ أن يُفسِدَ عَلَيكَ الشّامَ ؟
فَلَم يَبرَحِ المَدينَةَ حَتّى تُوُفِّيَ قَبلَ مَقتَلِ عُثمانَ بِسَنَتَينِ ، وكانَ مُقيما بِالمَدينَةِ ثَلاثَ سِنينَ . وقالَ قومٌ : إنَّهُ كانَ نازِلاً عَلى سَعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ .
ولَمّا مَرِضَ ابنُ مَسعودٍ مَرَضَهُ الَّذي ماتَ فيهِ أتاهُ عُثمانُ عائِدا فَقالَ : ما تَشتَكي ؟ قالَ : ذُنوبي .
قالَ : فَما تَشتَهي ؟ قالَ : رَحمَةَ رَبّي .
قالَ : أ لا أدعو لَكَ طَبيبا ؟ قالَ : الطَّبيبُ أمرَضَني .
قالَ : أ فَلا آمُرُ لَكَ بِعَطائِكَ ؟ قالَ : مَنَعتَنيهِ وأنَا مُحتاجٌ إلَيهِ ، وتُعطينيهِ وأنَا مُستَغنٍ عَنهُ ؟
قالَ : يَكونُ لِوُلدِكَ ، قالَ : رِزقُهُم عَلَى اللّهِ .
قالَ : اِستَغِفر لي يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ . قالَ : أسأَلُ اللّهَ أن يَأخُذَ لي مِنكَ بِحَقّي .
وأوصى أن لا يُصَلِّيَ عَلَيهِ عُثمانُ ، فَدُفِنَ بِالبَقيعِ وعُثمانُ لا يَعلَمُ ، فَلَمّا عَلِمَ غَضِبَ وقالَ : سَبَقتُموني بِهِ ؟ ! فَقالَ لَهُ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ : إنَّهُ أوصى أن لا تُصَلِّيَ عَلَيهِ ؛ وقالَ الزُّبَيرُ :
لَأَعرَفِنَّكَ بَعدَ المَوتِ تَندُبُنيوفي حَياتيَ ما زَوَّدتَني زادي (1) .
ص: 273
الفصل الخامس : الثورة على عثمانقام عثمان بن عفّان من بين أعضاء الشورى الَّتي كان عمر بن الخطّاب قد شكّلها ، فتربّع على أريكة الحكم . وأرسى دعائم حكومته منذ البداية على قواعد مخالفة للسيرة النبويّة . وكانت ممارساته ، سواءً في تعامله مع النّاس والصحابة ، أم كانت في موقفه من أحكام الدين مَدْعاةً لاحتجاج الأمّة عليه ، فوُصِم بمعارضة السنّة النبويّة وانتهاك حُرمة الدين . وكان منقادا لبِطانةٍ سقيمة الفكر زائغة النهج قد حاقت به ، فلم تدعه يأخذ الخطر المُحْدِق به مأخذ الجدّ ، ولا يكترث بالاحتجاجات والانتقادات الموجّهة إليه . تدلّ النصوص المذكورة في الصفحات المتقدّمة على اتّساع نطاق الشذوذ في حكومة عثمان ، كما تدلّ على زيغه عن الحقّ وإلغائه للمعايير السليمة . ويرى بعض المؤرّخين أنّ السنين الستّ الاُولى من حكومته كانت هادئة لم تطرأ فيها حادثة تُذكَر ولم يعترض عليها أحدٌ يومئذٍ ، ثمّ حدثت تبدّلات متنوّعة (1) . ولكن هذا الرأي لم يكن صحيحا ، إذ بدأ عثمان انحرافه منذ الأيّام الاُولى لتبلور حكومته ، بإرجاعه الحكم بن العاص ومروان ، وتسليطهما على الاُمّة ، وزاد في ذلك
.
ص: 274
أيضا بتأمير أقاربه على الأمصار ، وإسرافه الفاضح من بيت المال . فأثار عمله هذا صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله منذ البداية ، بَيْد أنّ المعارضة العامّة والنهوض والتحرّك الجماعي ضدّه حدثت في السنين الستّ الأخيرة من حكومته . (1) في سنة (33 ه ) أقدم عثمان على نفي ثلّة من كبار أهل الكوفة وصالحيهم ، وكان فيهم بعض الصحابة أيضا . وبعد مدّة ثار الكوفيّون في سنة (34 ه ) مطالبين بعزل سعيد بن العاص والي الكوفة ، فلم يُصغِ عثمان إلى طلبهم ، فحالوا دون دخوله مدينتهم مقاوِمين . فاضطرّ عثمان بعدئذ إلى عزله راضخا لمطالبهم _ وكان سعيد من أقربائه _ وعيّن مكانه أبا موسى الأشعري الَّذي كان يرتضيه أهل الكوفة . وفي تلك السنة تراسل الصحابة وخطّطوا للثورة على عثمان طاعنين بتصرّفاته الشاذّة . وممّا جاء في مراسلاتهم قولهم : «إن كُنتُم تُريدونَ الجِهادَ فَعِندَنا الجِهادُ» . وبلّغ أمير المؤمنين عليه السلام عثمان احتجاجات الصحابة ، ووعظه باُسلوب ليّن لعلّه يثوب إلى رشده ، ويغيّر منهجه في الحكم ، ويستقيم على الطريقة ، لكنّه لم يستجب وخطب خطبة شديدة اللهجة عنّف فيها المعترضين ولجأ فيها إلى التهديد . وكتب طلحة وبعض الصحابة الآخرين كتابا إلى أهل مصر وغيرها من الأمصار الإسلاميّة يَدْعونهم فيها إلى الثورة على عثمان . وفي أعقاب هذه الدعوة وسواها ، ونتيجةً لجميع ضروب الشذوذ ، وعدم اعتناء عثمان باحتجاجات النّاس وانتقاداتهم تقاطر على المدينة جماعات مختلفة من مصر ، والكوفة ، والبصرة ، وحاصروا عثمان يؤازرهم عدد من الصحابة ، وطالبوه بكلّ حزم أن يعتزل الحكم . وكان لعائشة ، وطلحة بن عبيد اللّه ، وعمرو بن العاص دور مهمّ في إلهاب الثورة عليه .
.
ص: 275
وقالت عائشة قولها المشهور فيه إبّان تلك الأحداث : «اُقتُلوا نَعثَلاً ، قَتَلَ اللّهُ نَعثَلاً» . وتناقلت الألسن قولها هذا ، واشتهر في الآفاق بعد ذلك التاريخ . ويبدو أنّ عثمان قد أفاق بعدئذٍ من نومه الثقيل الَّذي كانت بطانته قد فرضته عليه من قبل ، وشعر بالخطر . من هنا ، طلب من الإمام عليه السلام أن يصرف الثوّار عن أهدافهم ، وعاهده على تغيير سياسته ، والعمل كما يريدون ، فتكلّم الامام عليه السلام معهم وأقنعهم بفكّ الحصار عنه ، ووعدهم عثمان بتلبية طلباتهم وألّا يكرّر النهج الَّذي كان قد سلكه من قبل وأن يعمل بكتاب اللّه تعالى ، وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله . . . وخطب عثمان خطبة أعلن فيها صراحةً توبته من فعلاته السابقة ، وقال أمام الحشد الغفير من المسلمين : «أستَغفِرُ اللّهَ مِمّا فَعَلتُ وأتوبُ إلَيهِ» . وقال نادما ، وهو غارق في حيرته : «فَوَاللّهِ ، لَئِن رَدَّني الحَقَّ عَبدا لَأستَنُّ بِسُنَّةِ العَبدِ ، ولَأذلنّ ذلّ العَبدِ ، ولَأكونَنَّ كالمرقوق . . .» . وانتهى الحصار ، وعاد المصريّون إلى بلادهم مع واليهم الجديد محمّد بن أبي بكر ، وعزم سائر المسلمين على الرجوع إلى مدائنهم ، وآبَ أهل المدينة إلى دورهم وحياتهم اليوميّة . . . لكن المؤسف أنّ هذه التوبة لم تدم طويلاً ، فقد تدخّلت البطانة الأمويّة المريضة الفكر والعمل _ لا سيّما مروان _ وجعلته يعدل عن قراره ، وافتعلت ضجّة ضيّقت عليه الأرض بما رحبت ، فتراجع ونقض جميع وعوده ، والثوّار لمّا يصلوا إلى أمصارهم بعد . وكان هذا التغيّر في الموقف على درجة من القبح حتّى صاحت نائلة زوجته قائلةً :
.
ص: 276
«إنَّهُم وَاللّهِ قاتِلوهُ ومُؤَثِّموهُ ، إنَّهُ قالَ مَقالَةً لا يَنبَغي أن يَنزِعَ عَنها» . وحين كان المصريّون في طريق عودتهم إلى مصر _ بعد وعود عثمان _ تفطّنوا في أحد المواضع إلى أنّ غلاما لعثمان متوجّه إلى مصر أيضا ، فشكّوا فيه واستوقفوه ، فاستبان أنّه رسوله إلى مصر ، وفتّشوه فوجدوا عنده حكم عثمان إلى واليه على مصر عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح يأمره فيه بقتل عدد من الثوّار . وكان الكتاب بخطّ كاتب عثمان وعليه ختمه ، وعندئذٍ عاد الثوّار إلى المدينة وحاصروا عثمان مرّة أخرى . . . فلم يُجْدِ نفعا حينئذٍ كلام وسيط ، ولم تُقبل توبة . . . واستغاث عثمان هذه المرّة بمعاوية يستنجده لإنقاذه بشكل من الأشكال . بَيْد أنّ معاوية الَّذي كان متعطّشا للسلطة والتسلّط وجد الفرصة مؤاتية لركوب الموجة والقفز على أريكة الحكم . من هنا لم يُسارع إلى إغاثة عثمان والذبّ عنه وإنقاذه حتّى يقتل ، ومن ثمّ يتربّع على العرش بذريعة المطالبة بدمه . ودام الحصار أربعين يوما . وفيها طلب عثمان من الإمام عليه السلام مرّتين أن يخرج من المدينة ، فاستجاب عليه السلام لذلك . كما طلب منه في كلّ منهما أن يرجع ، وفعل عليه السلام أيضا . وأعان كبار الصحابة الثوّار في هذا الحصار . والقلّة الباقية منهم كانوا إمّا مؤيّدين لعثمان ، أو لم يبدوا معارضة علنيّة له . وهكذا قُتل عثمان في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة (35 ه ) بفعل اقتحام الثوّار داره بعد أن قُتل أحدهم بسيف مروان .
.
ص: 277
تحليل لأسباب الثورة على عثمانتمخّضت الشورى الَّتي عيّنها الخليفة الثاني عن اختيار عثمان خليفة للمسلمين الَّذي امتاز عهد خلافته وخاصّة السنوات الأخيرة منه بأهمّية استثنائيّة . فقبل ذلك عاش المجتمع الإسلامي حالة من الاستقرار في عهد خلافة الخليفة الثاني . وأكثر ما يُعزى هذا الاستقرار إلى غلظته الممزوجة بالاستبداد . فتحوّل ذلك المجتمع الهادئ بين ليلة وضحاها إلى مجتمع يموج بالاضطراب ويعجّ بالاعتراضات ضدّ الخليفة . فكيف تبلورت هذه القضيّة ؟ ومن أين نشأت تلك الاضطرابات والاحتجاجات الموجّهة ضدّ الخليفة ؟ وممّا لا ريب فيه إنّ النّاس الَّذين اجتمعوا في المدينة من مختلف الأمصار للتظلّم لدى الخليفة لم يكونوا يمثّلون فئة خاصّة ولا ولاية أو مدينة بعينها ، بل كانوا من مختلف بقاع العالم الإسلامي. فيا ترى ما هي أسباب هذه الثورة ؟ وكيف يُحاصَر خليفة المسلمين _ الَّذي كانت له صلة قربى مع الرسول صلى الله عليه و آله _ ولا يهبّ أحد لنجدته ؟ ! لقد طال الحصار ولم يأتِ أحد لمناصرته من خارج المدينة . وحتّى استنجاده بمعاوية _ الَّذي اتّخذ من قضيّة المطالبة بدمه ذريعة لتحقيق مآربه _ بقي بلا طائل . فمعاوية الَّذي جنّد في حرب صفّين جيشاً قوامه مئة ألف ، لم يرسل ولا حتّى
.
ص: 278
الف رجل لنصرته . ولكن ياتُرى لماذا لم يفعل ذلك ؟ ومن السذاجة أن ينسب المرء حادثة بمثل هذه السعة إلى مجهول أو إلى تيّار عابر . فالتأمّل في التساؤلات المذكورة والغور في أعماق النصوص والمصادر من أجل العثور على إجابات عنها ينتهي بالباحث في تاريخ الإسلام إلى الاهتداء إلى مسائل ونكات أعمق ممّا طرحه أصحاب الرؤى الساذجة وسعوا إلى إظهاره وكأنّه حقائق ثابتة . ويمكن القول باختصار بأنّ ثورة المسلمين على عثمان تعود في جذورها إلى أعمال عثمان والمحيطين به . ويمكن التنقيب في هذه المسألة بشكل أعمق . فقد كان عثمان من أشراف مكّة ، وكان أقرباؤه بنو اُميّة من ألدّ أعداء الإسلام . فقد كانوا من قادة رؤوس الكفر الَّذين حاربوا الإسلام ، ولم يدخلوا فيه حتّى رأوا سيفه مصلَتاً على رؤوسهم ، فاُرغموا على الاستسلام أثناء فتح مكّة ، واُطلقوا على أساس الرأفة الإلهيّة ؛ إذ عفا عنهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وصاروا يعرفون من بعد ذلك باسم «الطُّلَقاء» . وهكذا فإنّهم لم تكن لهم وجاهة دينيّة ، ولا مركز اجتماعي . وإذا ألقينا نظرة أكثر عمقاً على سلوك عثمان نلاحظ ما يأتي :
1 . إدناؤه الطُّلَقاءلما تسلّم عثمان الخلافة أدنى أقاربه _ الطُّلَقاء _ واتّخذ منهم بطانة وأعواناً مع أنّ بعضهم كان طريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله كما هو الحال بالنسبة للحَكَم وابنيه مروان والحارث ؛ وأصبح مروان _ طريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ في عهد خليفة المسلمين عثمان ، كاتباً خاصّاً للخليفة ! وأصبحت رئاسة السوق بيد الحارث ! وبذلك هيمنوا على شؤون السياسة والاقتصاد دفعة واحدة . فمعاوية كان في الشام ، وعبد اللّه بن عامر _ شاب عمره 25 سنة من بني اُميّة _
.
ص: 279
في البصرة ، وعبد اللّه بن أبي سرح _ مع ما كان من ارتداده _ في مصر ، وسعيد بن العاص في الكوفة ، والأشعث بن قيس في أذربيجان وكان أكثرهم من أقارب عثمان ، وهؤلاء هم الَّذين كانوا يحكمون الاُمّة الإسلاميّة بدلاً من صحابة الرسول صلى الله عليه و آله والوجوه البارزة في المجتمع الإسلامي . وكانوا يضيّقون الخناق على النّاس بدعم من الخليفة . ولم يكن تظلّم النّاس وصيحاتهم تعود عليهم بطائل . وعندما كان كبار صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحتجّون على تلك الأوضاع ، كان عثمان يغلظ عليهم ويعاملهم باُسلوب بعيد عن الإنصاف ؛ فقد نفى أبا ذرّ إلى الربذة ، وبقي فيها إلى أن مات غريباً مظلوماً . وداسَ بقدمه عمّار بن ياسر _ مع ماله من ماضٍ وضّاءٍ _ حتّى اُصيب بفتق . ونفى عبد اللّه بن مسعود ومنعه عطاءه من بيت المال ، وما إلى ذلك من الأحداث والمواقف الَّتي يمكن للقارئ الاطّلاع عليها بين دفّتي هذا الكتاب .
2 . البذخ في العطاءاتّبع عثمان سياسة اقتصاديّة تدعو إلى العجب ! فقد كان يتصرّف ببيت المال وكأنّه ملْكٌ مطلق له ، وقد وردت أخبار كثيرة عن كثرة بذله وجزيل عطائه لأقاربه حتّى إنّ قبح هذا السخاء لم يبقَ خافياً عن أنظار الباحثين السُّنّة ؛ فقد وهب للحكم وأبي سفيان ومروان وغيرهم الكثير من الأموال ، ولم يستجب لاحتجاجات المسلمين . والغريب أنّه كان يُسمّي كلّ هذا الهبات من بيت المال صلة للرحم . وقد أدّى عثمان بأعماله هذه إلى إيجاد فوارق طبقيّة فاحشة في المجتمع الإسلامي . كما أدّت هذه الأعمال والهبات المنافية للأحكام الإسلاميّة إلى توسيع رقعة السخط والاحتجاج بين النّاس ، حتّى تحوّلت إلى حركة عامّة وثورة عارمة ضدّ عثمان .
.
ص: 280
3 . موقفه من مبادئ الدينالنقطة المهمّة والَّتي بقيت خافية عن أنظار الباحثين وهي جديرة بالاهتمام ، هي التلاعب بالدين ، وتحريف الأحكام الإلهيّة ، وكانت هذه المسألة ظاهرة بكلّ جلاء في كلمات وشعارات معارضي الخليفة . فسخاء الخليفة وكثرة هباته من بيت المال وتعيينه لأقاربه في المناصب والولايات بعيداً عن الموازين الشرعيّة وبدون أن تتوفّر فيهم الكفاءة المناسبة لشغل هذه المناصب من جهة ، وسعي المؤرّخين من جهة اُخرى إلى حماية الشخصيّات التاريخيّة بدلاً من حماية التراث التاريخي كلّ ذلك أدّى إلى عدم ظهور ممارسات الخليفة الَّتي ربّما كان لها أكبر الأثر في انتفاض المسلمين ضدّه . نورد فيما يلي بعض الأمثلة عن هذا الموضوع : روي عن زيد بن أرقم أنّه قيل له : بِأَيِّ شَيءٍ أكْفرتُم عُثمانَ ؟ قالَ : بِثَلاثَةٍ : جَعَلَ المالَ دُولَةً بَينَ الأَغنياءِ ، وجَعَلَ المُهاجِرينَ مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِمَنزِلَةِ مَن حارَبَ اللّهَ ورَسولَهُ ، وعَمَلَ بِغَيرِ كِتابِ اللّهِ . (1) ومن المعارضين لسياسة عثمان : عمّار بن ياسر الَّذي عرف بوقوفه مع الحقّ ، وكان له دور مشهود في التحريض على عثمان ، وخطب في صفّين خطبة حثّ فيها النّاس على مقاتلة معاوية ، وقال فيما قال : اِنهَضوا مَعي عِبادَ اللّهِ إلى قَومٍ يَطلُبونَ _ فيما يَزعُمونَ _ بِدَمِ الظّالِمِ لِنَفسِهِ ، الحاكِمِ على عِبادِ اللّهِ بِغَيرِ ما في كِتابِ اللّهِ ، إنَّما قَتَلَهُ الصّالِحونَ المُنكِرونَ لِلعُدوانِ ، الآمِرونَ بِالإِحسانِ ، فَقالَ هؤُلاءِ الَّذينَ لا يُبالونَ إذا سَلُمَت دُنياهُم ولو دَرَسَ هذَا الدّينُ : لِمَ قَتَلتُموهُ ؟ فَقُلنا : لِأَحداثِهِ . . . (2) .
.
ص: 281
وجاءت بين كلمات الصحابة فيما يخصّ مقتل عثمان تعابير حول أعماله من قبيل : «بَدَّلَ دينَكُم» ، و«أحدَثَ أحداثا» ؛ فقد خوطب بالقول : «إنَّكَ أحدَثتَ أحداثا لَمَ يَكُنِ النّاسُ يَعهدونَها» ، «أرادَ أن يُغَيِّرَ دينَنا» ، «أحدَثَ الأَحداثَ وخالَفَ حُكمَ الكِتابِ» ، «النّابِذُ لِحُكمِ القُرآنِ وَراءَ ظَهرِهِ» ، «غَيَّرتَ كِتابَ اللّهِ» ، وما شابه ذلك من التعابير الكثيرة . (1) ومن الواضح أنّ هذه التعابير تنمّ عن تحريف الدين وتغيير الأحكام ، وتبديل السُنّة المحمّديّة ، وهذا ما حصل في عهد حكومة عثمان ؛ فقد ورد في بعض كتب الصحابة إلى الولايات : «دينُ مُحَمَّدٍ قَد اُفسِدَ» . وعلى كلّ حال لم يمرّ زمن طويل على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولا يستطيع المسلمون أن يَروا دين اللّه يتعرّض للتحريف والتلاعب ، وتُسخّر أحكام اللّه لمآرب شخصيّة ، ويسكتوا عن ذلك .
4 . المستشارون الفاسدونيؤدّي المستشارون دورا حاسما في إدارة الاُمور وبلورة الوقائع . والحقيقة هي أنّ المستشار يأخذ على عاتقه دورا تكميليّا بل وأساسيّا في إدارة دفّة الاُمور بالنسبة لمدير ذلك المجتمع . وهكذا يتّضح أنّ اختيار المستشار يتّصف بحسّاسيّة فائقة . هذا من جانب ، ومن جانب آخر هناك مسألة مهمّة ؛ وهي كيفيّة استفادة القائد منهم ، وكيفيّة إشارتهم عليه ، ودرجة فهمهم ، ومدى إخلاصهم للقائد . ومن المؤسف أنّ عثمان كانت كلّ مواقفه في هذا المجال غير سويّة ، وقد سبقت
.
ص: 282
الاشارة إلى كيفيّة اختياره للأفراد ، فالمقرّبون منه ؛ أي بطانته ، ما كانوا يحظون بمكانة اجتماعيّة ولا بوجاهةٍ دينيّة . أضف إلى كلّ ذلك أنّ الخليفة كان شخصا عديم الإرادة وضعيفا أمام آراء بطانته ، كما أنّ مستشاريه لم يكونوا على فكر صائب ؛ ولا هم من أهل الدين والتقوى . ومن البديهي _ والحال هذه _ أنّ جميع آرائهم الَّتي كانوا يفرضونها على عثمان كانت تصبّ في صالح أهوائهم وفي اتّجاه الصدام مع الثائرين ، وليس في صالح الاُمّة والخلافة والخليفة . فالبطانة الَّتي كانت مقرّبة من عثمان لم تكن على علاقات طيّبة مع الأنصار ، وليس لها مواقف حسنة مع المهاجرين . وهكذا فقد ساقت عثمان في اتّجاه انتهى بمقتله . يقول شيخ سياستهم أبو سفيان الَّذي اشتهر صيت عدائه للإسلام في الآفاق : «إنَّ الأَمرَ أمر عالَمِيَّة ، وَالمُلكَ مُلك جاهِلِيَّة ، فَاجعَل أوتادَ الأَرضِ بَني اُمَيَّةَ» . حسنا ، لقد فعل عثمان ذلك . ولكن إلى أين وصلوا به ؟ لقد كانت جميع الأعمال الَّتي تُفعل باسم عثمان ، بيد مروان ، وهو ذلك الشابّ الَّذي لم يكن يعرف شيئا من تعاليم الإسلام ، وكان طريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وبعدما عاد من منفاه ووطأت قدمه أرض المدينة أفرغ ما في قلبه من حقد متراكم خلال تلك السنين ، في ظلّ السلطة الَّتي منحها إيّاه خليفة المسلمين ، فأخذ يوجّه الإهانات لجميع المهاجرين والأنصار ، وكان لعمله ذاك تأثير واضح في إثارتهم ضدّ عثمان . أصبح الخليفة أداة طيّعة بيد مروان بن الحكم ، سواء عندما أعلن توبته أمام الملأ ، وأرغمه مروان على نقض توبته ، أم عندما وافق على عزل والي مصر ، لكنّه
.
ص: 283
رضخ في أعقاب ذلك لإرادة مروان ، وأصدر أمره بقتل ونفي وتعذيب الثوّار الوافدين من هناك . لقد كان مروان هو الَّذي يُملي على عثمان ما يريد ، وكان يسعى في جرّه إلى اتّخاذ مواقف متزمّتة ، حتّى إنّ زوجته نائلة بنت الفرافصة قالت له : «فَإِنَّهُم وَاللّهِ قاتِلوهُ ومُؤَثِّموهُ . . . وقَد أطَعتَ مَروانَ يَقودُكَ حَيثُ شاءَ» . وكان سائر مستشاري عثمان من هذا القبيل ؛ فعندما جمعهم للتشاور معهم في أمر سخطِ النّاس عليه ، أشار عليه معاوية باستخدام القوّة ضدّهم لإسكاتهم ، فيما أشار عليه عبد اللّه بن عامر قائلاً : «أن تَأمُرَهُم بِجِهادٍ يَشغَلُهُم عَنكَ ، وأن تُجَمِّرَهُم فِي المَغازي حَتّى يَذلّوا لَكَ ، فَلا يَكون هِمَّةُ أحَدِهِم إلّا نَفسهُ» . أمّا سعيد بن العاص فقد أشار عليه قائلاً : «إنَّ لِكُلِّ قَومٍ قادَةً مَتى تَهلُكُ يَتَفَرَّقوا ، ولا يَجتَمِعُ لَهُم أمرٌ» . وعرض عليه معاوية في هذا المجال أن يقتل عليّا وطلحة والزبير . فإذا وُجدت كلّ هذه القلوب الفاسدة والنفوس المريضة والتوجّهات الجائرة المثيرة للسخط ، فما الداعي بعدئذٍ للتساؤل عن أسباب تبلور تلك الثورة ؟ إنّ الشخص الوحيد الَّذي كان يُشير حينذاك على عثمان باخلاص رغبة في صيانة هويّة الاُمّة الإسلاميّة ، ويحذّره من عواقب الاُمور ، ويسعى _ رغم كلّ ما نزل به من ظلم _ إلى أن لا تصل الاُمور إلى هذا الحدّ ، هو الإمام عليّ عليه السلام . وياليت عثمان كان يُصغي لنصائحه ويَفي بالعهود الَّتي قطعها على نفسه للنّاس . وللإمام عليّ عليه السلام كلام جميل عن موقفه أزاء تلك الأحداث ، وعن موقف بطانة عثمان ، جاء في بعض منه : «وَاللّهِ ما زِلتُ أذُبُّ عَنهُ حَتّى إنّي لَأَستَحي ، ولكِنَّ مَروانَ ومُعاوِيَةَ وعَبدَ اللّهِ بنَ
.
ص: 284
عامِرٍ وسَعيدَ بنَ العاصِ هُم صَنَعوا بِهِ ما تَرى . فَإِذا نَصَحتُهُ وأمَرتُهُ أن يُنَحِّيَهُمُ استَغَشَّني حَتّى جاءَ ما تَرى» . كانت هذه العوامل وعوامل اُخرى غيرها هي الَّتي دفعت إلى الثورة على عثمان ، ومهّدت للانتقاض ضدّ الحكومة المركزيّة . ذكر المسعودي في مروج الذهب أسباب السخط على عثمان قائلاً : «في سَنَةِ خَمسٍ وثَلاثينَ كَثُرَ الطَّعنُ عَلى عُثمانَ وظَهَرَ عَلَيهِ النَّكيرُ لِأَشياءَ ذَكَروها مِن فِعلِهِ ، مِنها : ما كانَ بَينَهُ وبَينَ عَبدِ اللّهِ بنِ مَسعودٍ ، وَانحِرافُ هُذَيلٍ عن عُثمانَ مِن أجلِهِ . ومِن ذلِكَ ما نالَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ مِنَ الفَتقِ والضَّربِ ، وَانحِرافُ بِني مَخزومٍ عَن عُثمانَ مِن أجلِهِ . ومِن ذلِكَ فِعلُ الوَليدِ بنِ عُقبَةَ في مَسجِدِ الكوفَةِ . . . ومِن ذلِكَ ما فَعَلَ بِأَبي ذَرٍّ . (1) بينما ذكر اليعقوبي أسباب الثورة على النحو الآتي : «نَقِمَ النّاسُ عَلى عُثمانَ بَعدَ وِلايَتِهِ بِسِتِّ سِنينَ ، وتَكَلَّمَ فيهِ مَن تَكَلَّمَ ، وقالوا : آثَرَ القُرَباءَ ، وحَمَى الحِمى ، وبَنَى الدّارَ ، وَاتَّخَذَ الضِّياعَ والأَموالَ بِمالِ اللّهِ وَالمُسلِمينَ ، ونَفى أبا ذَرٍّ صاحِبَ رَسولِ اللّهِ وعَبدَ الرَّحمنِ بنَ حَنبَلٍ ، وآوَى الحَكَمَ بنَ أبِي العاصِ وعَبدَ اللّهِ بنَ سَعدِ بنِ أبي سَرحٍ طَريدَي رَسُولِ اللّهِ ، وأهدَرَ دَمَ الهُرمُزانِ ؛ ولَم يَقتُل عُبَيدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ بِهِ ، ووَلَّى الوَليدَ بنَ عُقبَةَ الكوفَةَ ، فَأَحدَثَ فِي الصَّلاةِ ما أحدَثَ ، فَلَم يَمنَعهُ ذلِكَ مِن إعاذَتِهِ إيّاهُ . وأجازَ الرَّجمَ ؛ وذلِكَ أنَّهُ كانَ رَجَمَ امرَأَةً مِن جُهَينَةَ دَخَلَت عَلى زَوجِها فَوَلَدَت لِسِتَّةِ أشهُرٍ ، فَأَمَرَ عُثمانُ بِرَجمِها . فَلَمّا اُخرِجَت دَخَلَ إلَيهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ فَقالَ : إنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقولُ : «وَ حَمْلُهُ وَ فِصَ__لُهُ ثَلَ_ثُونَ شَهْرًا» (2) وقالَ في رضاعِهِ :«حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» (3) ، فَأَرسَلَ عُثمانُ في
.
ص: 285
أثَرِ المَرأَةِ ، فَوُجِدَت قَد رُجِمَت وماتَت . وَاعتَرَفَ الرَّجُلُ بِالوَلَدِ» . (1) وأشار الطبري في تاريخه إلى بعض من تلك العوامل ، متجاهلاً العوامل الاُخرى ، قائلاً : «قد ذَكَرنا كَثيرا مِنَ الأَسبابِ الَّتي ذَكَرَ قاتِلوهُ أنَّهُم جَعَلوها ذَريعَةً إلى قَتلِهِ ، فَأَعرَضنا عَن ذِكرِ كَثيرٍ مِنها لِعِلَلٍ دَعَت إلَى الإِعراضِ عَنها» . (2) كان الكلام إلى الآن يدور حول أسباب الثورة على عثمان . بَيد أنّ النكتة الأكثر أهمّية هي دراسة ماهيّة الأفراد والفصائل المشاركة في الثورة . من الواضح أنّ الَّذين شاركوا في تلك الواقعة لم يكونوا كلّهم على هدف واحد ، وكان لبعضهم غايات اُخرى تختلف عن غايات الآخرين . ولكن يمكن على العموم تلخيص العوامل المشتركة بينهم بما يلي :
أ _ الناقمون والثائرون العارفون بالسُّنّةشاركت في هذه الحركة شخصيّات بارزة من الصحابة والمؤمنين المخلصين . والحقيقة هي أنّ حشود هائلة من الجماهير الثوريّة كانت تتحرّك بزعامتهم ، وهذه الشخصيّات ليست من النوع الَّذي يمكن التشكيك بإخلاصها وصدقها ورسوخ عقيدتها . ونشير فيما يلي إلى بعض هذه الشخصيّات كالآتي :
1 . عمّار بن ياسركان عمّار من المسلمين الأوائل ومن المجاهدين الأشدّاء . وقد اعتبره رسول اللّه صلى الله عليه و آله
.
ص: 286
معيارا للحقّ بقوله : «إذَا اختَلَفَ النّاسُ كانَ ابنُ سُمَيَّةَ مَعَ الحَقِّ» (1) و«ما خُيِّرَ عَمّارُ بَينَ أمَرينِ إلَا اختارَ أرشَدَهُما» (2) و«مَلِئَ عَمّارٌ إيمانا إلى مُشاشِهِ (3) » (4) ، «يَزولُ مَعَ الحَقِّ حَيثُ يَزولُ» . (5) كان عمّار الحائز لهذه المكانة عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله من جملة الناقمين الأساسيّين والأوائل على عثمان ، وكان يسعى بجدّ على هذا السبيل . ذكر ابن كثير في هذا المجال : «كانَ عَمّارٌ يُحَرِّضُ النّاسَ عَلى عُثمانَ ولَم يَقلَع ولَم يَرجَع ولَم يَنزَع» . (6) وبسبب هذه الاعتراضات والانتقادات تعرّض عمّار للضرب من قبل الخليفة وبطانته حتّى اُغمي عليه واُصيب بعاهة . (7)
2 . زيد بن صَوحانوكان من كبار الزهّاد ، ومن الوجوه البارزة في تاريخ الإسلام ، وقد اعتُبر من «الأبدال (8) » . وكان من خُلّص أصحاب عليّ عليه السلام ، بل إنّ البعض يعتبره من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ وذلك لوجود رواية عن الرسول صلى الله عليه و آله بشأنه ؛ قال فيها :
.
ص: 287
«مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إلى رَجُلٍ يَسبِقُهُ بَعضُ أعضائِهِ إلَى الجَنَّةِ ؛ فَليَنظُر إلى زَيدِ بنِ صوحانَ» (1) . وقد عُدّ هذا الرجل في عداد أكابر الزهّاد والأبدال (2) . وكان عمر بن الخطّاب يُكرمه ويُثني عليه كثيرا . أمّا عثمان فقد نفاه إلى الشام ، ثمّ استشهد لاحقا في معركة الجمل ، وقد خاطبه أمير المؤمنين عليه السلام بالقول : «قَد كُنتَ خَفيفَ المَؤونَةِ ، عَظيمَ المَعُونَةِ» .
3 . جبلة بن عمرو الأنصاريوهو من الفقهاء ومن أجلّاء الصحابة (3) . شهد معركة اُحد (4) . كان يؤاخذ عثمان بشدّة على اتّخاذه مستشارين سيّئي الطِّباع وخبيثي النوايا بطانةَ سوءٍ . وكان يخاطبه خطابا مرّا لاذعا ويقول له : «يا نَعثَلُ ! وَاللّهِ لَأَقتُلَنَّكَ ، ولَأَحمِلَنَّكَ عَلى قُلوصٍ جَرباءَ ، ولَاُخرِجَنَّكَ إلى حَرَّةِ النّارِ» . (5)
4 . جهجاه الغفاريمن صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وممّن شهدوا بيعة الرضوان ، روى عنه البخاري ومسلم . (6)
5 . عمرو بن الحمقمن صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أسلم بعد الحديبيّة . (7)
.
ص: 288
6 . عبد الرحمن بن عُدَيسمن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومن المبايعين تحت الشجرة . (1) وشارك في هذه الوقائع أيضا رجال صالحون من ذوي الشخصيّات البارزة كمالك الأشتر ، ومحمّد بن أبي بكر ، ومحمّد بن أبي حذيفة ، وحكيم بن جبلّة و . . . وكان لهم فيها دور فاعل . يتبيّن من خلال التأمّل في هذه الشخصيّات وفي كلماتهم وشعاراتهم أنّ هذه الحركة كانت ذات أبعاد واسعة . وانطلاقا من الحضور الجادّ للصحابة في هذه الحادثة ؛ حيث يمكن النظر إلى مشاركتهم هذه على أنّها بمثابة توجيه للجماهير المؤمنة ؛ يمكن تسمية الثورة على عثمان باسم «ثورة الصحابة» . جاء في تاريخ الطبري : «لَمّا رَأَى النّاسُ ما صَنَعَ عُثمانُ ، كَتَبَ مَن بِالمَدينَةِ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله إلى مَن بِالآفاقِ مِنهُم . . . أنَّ دينَ مُحَمَّدٍ قَد اُفسِدَ» . (2)
ب _ الاستغلاليونولم يغب عن تلك الحشود الغفيرة بعض محترفي السياسة ، فركبوا أمواج الاعتراض أو ساعدوا على توسيع مداها طمعا في نيل مكانة أفضل . ومن الطبيعي أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص لم يكونوا يُدركون أوضاع النّاس وما كانوا يأبهون لها ، ولكنّهم : 1 . كانوا يشعرون وكأنّهم نُحُّوا إلى الوراء في ظلّ الامتيازات والمناصب الَّتي منحها عثمان لأقاربه .
.
ص: 289
2 . أخذوا يشعرون بعد اتّساع رقعة الثورة أنّ الفرصة قد أصبحت مؤاتية لنيل مآربهم الدنيويّة ، والحقيقة هي أنّهم لم يُدركوا ما ستؤول إليه الأوضاع بعد مقتل عثمان . إذا فمعارضتهم لعثمان لم تكن نابعة من حرصهم على المصلحة العامّة ، ولا من باب الغيرة الدينيّة واستشعار الوظيفة الشرعيّة . ومعنى هذا أنّهم كانوا يتطلّعون إلى الجاه والرئاسة . نشير على سبيل المثال إلى أنّ طلحة كان واحدا منهم ، وقد كتب إلى أهل الكوفة بالقدوم إلى المدينة من أجل وضع حدٍّ لتصرّفات عثمان ، ويبدو أنّه لم يكن يتوقّع بعد مقتل عثمان سوى تسلّم منصب الخلافة . وكان بعض أنصاره على مثل ظنّه . فبعدما انتهى سودان بن حمران من قتل عثمان ، خرج من الدار ونادى : «أينَ طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللّهِ ؟ لَقَد قَتَلنَا ابنَ عَفّانَ» . (1) وفي معركة الجمل رماه مروان بسهم من خلفه وقتله ؛ لأنّه كان يعتبره هو قاتل عثمان . وهكذا الحال بالنسبة لعائشة أيضا ؛ فقد كانت تأمل أن تكون الغلبة لأقاربها ؛ فكانت تقول : «اُقتُلوا نَعثَلاً ؛ فَقَد كَفَرَ !» (2) ، ولكن بعدما انقلبت الاُمور ، وآلت إلى مآل آخر ، غيّرت موقفها . وهذا ينمّ عن أنّها كانت ترمي إلى شيء آخر غير الحقّ ؛ فعندما أخذوا يسائلونها في وقعة الجمل عن السبب الَّذي جعلها تحرّضهم قبل ذاك على قتل عثمان ، ثمّ أصبحت تطلب بثأره ، قالت : «قَد قُلتُ وقالوا ، وقَولِيَ الأَخيرُ
.
ص: 290
خَيرٌ مِن قَولِيَ الأَوَّلِ» . (1) ومن هؤلاء الانتهازيّين أيضا عمرو بن العاص الَّذي فقد منصبه في عهد عثمان ، وكان يعزّ عليه أن يرى بلاد مصر الَّتي فتحها هو قد أصبحت الآن بيد عبد اللّه بن أبي سرح . ومن هنا فهو كان يسعى لتعجيل الثورة ضدّ عثمان ، وقد أشرنا إلى بعض مساعيه في هذا الاتّجاه ، وكان يقول : «أنَا أبو عَبدِ اللّهِ ، إذا حَكَكتُ قرحةً نَكأَتُها ! إن كُنتُ لَاُحَرِّضُ عَلَيهِ ، حَتّى إنّي لَاُحَرِّضُ عَلَيهِ الرّاعِيَ في غَنَمِهِ في رَأسِ الجَبَلِ» . (2) وهكذا الحال بالنسبة إلى إلزبير أيضا ؛ فهو كان مسايرا لطلحة ، ويطمع في انتهاز فرصة الثورة لتحقيق ما تصبو إليه نفسه ، وكان يعتبر نفسه قائدا لهذه الجماعة .
ج _ الأعوان الانتهازيّونهناك أشخاص كانوا مسايرين لعثمان ويرون رأيه ، ولكنّهم في هذه الحادثة لم ينصروه بل خذلوه ، وصاروا عليه عونا _ ولو بشكل غير مباشر _ وهذا من عجائب عِبَر الدنيا . وأبرز نموذج لهذه الطائفة معاوية ؛ فقد كان هو وزمرته تجسيدا حقيقيّا لهذا التوجّه . والواقع أنّه كان له يد طولى في قتل عثمان . فقد كان بإمكانه أن يرسل من الشام سريّة لحماية الخليفة أو مواجهة المعارضين . بَيد أنّه لم يفعل ! وحتّى بعدما استنصره عثمان ، جاء إلى المدينة بمفرده . وقد أدرك عثمان الغاية من قدومه ، فقال له :
.
ص: 291
«أرَدتَ أن اُقتَلَ فَتَقولَ : أنا وَلِيُّ الثَأرِ» . (1) عندما كتب عثمان كتابا يستحثّه فيه على نصرته ، أخذ يسوّف ويتعلّل إلى أن ذهبت الفرصة أدراج الرياح . لننظر إلى هذا النصّ التاريخي : «فَلَمّا جاءَ مُعاوِيَةَ الكِتابُ تَرَبَّصَ بِهِ وكَرِهَ اظهارَ مُخالَفَةِ أصحابِ رَسولِ اللّهِ وقَد عَلِمَ اجتِماعَهُم» . وهكذا يمكن القول بأنّ معاوية كانت له يد في قتل عثمان بشكلٍ غير مباشر . وكان لتلك اليد تأثيرها كما أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى هذا المعنى في إحدى كلماته . وعلى كلّ حال فقد تظافرت التيّارات المنبثقة من أربعة نقاط مهمّة في الخلافة الإسلاميّة آنذاك ، وصنعت ثورة شاملة ضدّ عثمان . ومن الطبيعي أنّ حضور جموع غفيرة من المسلمين في المدينة ، واعتراضهم الصريح على أعمال عثمان ، لم يدفعه هو وبطانته لإعادة النظر في الماضي ، بل عمدوا بدلاً من ذلك إلى تجاهل الاُمور ، ومعاملة الثائرين بأساليب غير مُرضية ، ممّا أدّى إلى تأزيم الأوضاع ومهّد الظروف لقتل عثمان . يتّضح ممّا مرّ ذكره أنّ ما نقله سيف بن عمر وحاول فيه تجاهل الأسباب والعوامل المذكورة أعلاه تجاهلاً تامّا ، ونسبة الأحداث الَّتي وقعت ضدّ عثمان إلى شخص كعبد اللّه بن سبأ ، بعيد عن الحقيقة وعن الواقع التاريخي . وقد وصفت المصادر الرجاليّة سيف بن عمر بالكذب ، وطعنت فيه . وهذا ما يوجب عدم التعويل على أخباره . وفضلاً عن كلّ ذلك فحتّى لو كان صادقا ، فإنّ ما نقله من الأخبار جاء على نحو لا يمكن التصديق به على الإطلاق ، ومن الواضح أنّ دور عبد اللّه بن سبأ فيها موضوع ولا صحّة له .
.
ص: 292
. .
ص: 293
القسم الخامس : سياسة الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: بيعة النورالفصل الثاني : الإصلاحات العلويّةالفصل الثالث : السياسة الإداريّةالفصل الرابع : السياسة الثقافيّةالفصل الخامس : السياسة الاقتصاديّةالفصل السادس : السياسة الاجتماعيّةالفصل السابع : السياسة القضائيةالفصل الثامن : السياسة الأمنيّةالفصل التاسع : السياسة الحربيةالفصل العاشر : السياسة الدوليّة
.
ص: 294
. .
ص: 295
المدخل(1)السياسة في المدرستينتسنّم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الحكم في 18 ذي الحجّة عام 35 ه ، وخرَّ شهيداً في محراب العبادة في 21 رمضان عام 40 للهجرة . وبذلك تكون مدّة حكمه قد بلغت أربع سنوات وتسعة أشهر وثلاثة أيّام . أمّا البحوث الَّتي تتّصل بهذا العهد فهي : 1 . كيفيّة وصول الإمام إلى الحكم ، وانطلاق الإصلاحات ، والمرتكزات الَّتي نهضت عليها سياسة الإصلاح العلوي . 2 . ضروب المواجهة الَّتي برزت إزاء سياسة الإصلاح العلوي ، والفتن الَّتي اشتعلت نتيجة لمناهضة الإصلاحات ، والحروب الَّتي اندلعت في عهد حكومة الإمام على قصره . 3 . الضعف والتراخي الَّذي برز في جيش الإمام ، وتفشّي العصيان وعدم الطاعة ، وانطلاق الحملات العسكريّة والغارات لمعاوية ، حَتّى صارت هذه المرحلة من أمضّ أيّام حكم الإمام ، وأكثرها إيلاماً . 4 . تيّار مؤامرة اغتيال الإمام الَّذي انتهى فعلاً بواقعة استشهاده .
.
ص: 296
5 . حال أصحاب الإمام والقادة والاُمراء في نطاق عهده السياسي . إنّ كلّ واحد من هذه العناوين الخمسة قد استحوذ على شطرٍ من هذا المنتخب ، بيدَ أن إدارة السلطة ، وطبيعة السياسات الَّتي انتهجها الإمام في الحكم تحظى بأهمّية خاصّة في العصر الحاضر ، ولا سيما بالنسبة لقادة الجمهوريّة الإسلاميّة ، نظراً لما تتمتّع به من فاعليّة وبُعد تعليميّ . لكن قبل أن نعرض للنصوص التاريخيّة والحديثيّة ذات الصلة بنهج الإمام السياسي نمرّ في البدء على تعريف السياسة والمراد منها في كلٍّ من المدرستين : العلويّة والاُمويّة ، ثمّ نعرض من خلال إشارات سريعة إلى العناوين الرئيسيّة للمرتكزات السياسيّة للإمام ، والاُصول الَّتي يعتمدها في الإدارة . وعلى ضوء هاتين النقطتين ننتقل بعدئذٍ إلى معالجة الأسئلة الَّتي تُثار حيال الرؤية السياسيّة للإمام والإجابة عنها ، والدفاع عن سياسته عليه السلام ومعنى كونه سياسيّاً . تعدّ الرؤية السياسيّة من وجهة نظر الإمام علي عليه السلام واحدة من أهمّ الشروط الأساسيّة للقيادة ؛ فالإمام لا ينظر إلى السياسة بوصفها رمز دوام الرئاسة والقيادة ، واستمرار إطاعة الاُمّة للقائد وحسب ، بل ما برح يؤكّد أنّ «المُلك سياسة» . (1) إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يتحدّث صراحة بأنّ العجز السياسي هو آفة تهدّد القادة ، وأنّ اُولئك القادة الَّذين لا يتمتّعون ببصيرة سياسيّة نافذة تتآكل سلطتهم ، ويهبط عهد رئاستهم إلى أقلّ مدىً زمني ، وفي نهج الإمام فإنّ السياسات الخاطئة هي علامة سقوط الدول وزوال الحكومات . وعلى هذا الأساس تذهب المدرسة العلويّة إلى أنّ إدارة المجتمع على ضوء الاُصول الإسلاميّة ، هي عمليّة لا يمكن أن تتحقّق إلّا من خلال التأهّل السياسي
.
ص: 297
لقادة ذلك المجتمع فقط . بتعبير آخر : يعدّ التأهّل السياسي أحد الاُصول العامّة للإدارة ، من دون وجود اختلاف يُذكر على هذا الصعيد بين الإسلام وسائر المدارس والمنهجيّات الاُخَر . ومن هذا المنظار سيتمّ عرض تعاليم الإمام علي عليه السلام في هذا المجال . أمّا ما يميّز الإسلام على هذا الصعيد عن بقيّة المدارس والمنهجيّات فيكمن في «مفهوم» السياسة العلويّة في مقابل «مفهوم» السياسة الاُمويّة ، وما ينطوي عليه هذا المصطلح من مضامين معنويّة .
السياسة في المدرسة الاُمويّةتنظر المدرسة الاُمويّة إلى السياسة على أنّها : «تشخيص الهدف وبلوغه بأيّ طريق ممكن» . والحقيقة أنّ سياسيّي العالم في الماضي والحاضر الَّذين يتعاطون هذه الممارسة رسميّاً ، لا يفهمون من «السياسة» أكثر من هذا . وحقيقة الحال أنّ السياسة في المدرسة الاُمويّة بمعناها الشائع في التقليد السياسي للحكومات والأنظمة ، لا تنهض على اُصولٍ ومرتكزات قيميّة . فهذا (شينفلر) أحد منظّري السياسة وفق هذا المبنى يقول : لا شأن للسياسي المحترف في أن تكون الاُمور حقّاً أم باطلاً . على المستوى ذاته حلّل (برتراند راسل) أيضاً الدوافع والألاعيب السياسيّة ، وتعاطى وإيّاها من خلال المنظار نفسه ، وهو يقول : «يتمثّل الحافز السياسي عند أكثر النّاس بالنفعيّّة والأنانيّة والتنافس وحبّ السلطة . على سبيل المثال : يكمن مصدر جميع الأعمال الإنسانيّة في الممارسة السياسيّة بالعوامل المذكورة آنفاً . فالقائد السياسي الَّذي يستطيع إقناع النّاس بقدرته على تلبية هذه الاحتياجات وإشباعها ، تصل قدرته في احتواء جماهير النّاس وضمّها إلى سلطته حدّاً تؤمن فيه
.
ص: 298
أنّ اثنين زائد اثنين يساوي خمسة ، أو أنّ جميع هذه الصلاحيّات قد فُوّضت إليه من قِبل اللّه ! أمّا القائد السياسي الَّذي يُغضي عن مثل هذه الدوافع ويهملها ، فهو لا يحظى عادة بتأييد الجماهير المستضعفة وحمايتها . وبذلك يدخل علم نفس القوى المحرّكة للجمهور كجزءٍ من أهمّ أجزاء إعداد القادة السياسييّن الناجحين ، وكشرط في طليعة شروط تأهيلهم وتربيتهم» . (1) يُضيف : «إنّ أكثر القادة السياسييّن إنّما يغنمون مناصبهم من خلال إقناع قطّاع واسع من الجمهور بأنّهم يتحلّون بتطلّعات إنسانيّة ، حيث صار واضحاً أنّ مثل هذا الاعتقاد يلقى قبولاً سريعاً ، إثر وجود حالة الغليان والحماس . إنّ غَلّ الأفراد ورسفهم بالقيود ، ثمّ ممارسة إلقاء الكلام والخطابة العامّة ، والتوسّل بالعقوبات غير القانونيّة ، واللجوء إلى الحرب هي مراحل لتكوين حالة الحِراك الجماعي ومدّ الهياج العام وتوسعته . أعتقد أنّ أنصار الفكر غير المنطقي يجدون فرصة أفضل في الحفاظ على حالة الهياج العام عند الأفراد ، بُغية استغلالهم وخداعهم» . (2) إنّ ما جاء في هذا التحليل السياسي حيال القيادة السياسيّة للمجتمع يتطابق بالكامل مع تفسير السياسة ومعناها في المدرسة الاُمويّة ؛ فمعاوية ؛ مؤسِّس هذه المدرسة في تأريخ الإسلام ، تحرّك على هذا الأساس ، ومن خلال شعار «المُلك عقيم» (3) بحيث كان على اُهبة الاستعداد لممارسة أيّ شيء من أجل بلوغ السلطة والدفاع عنها .
.
ص: 299
السياسة في المدرسة العلويّةلكن مع الانتقال إلى الإمام عليّ عليه السلام ، وهو يسجِّل : «المُلك سياسة» لم يكن يقصد أنّ التوسّل بأيّ وسيلة هو أمر مباح لبلوغ السلطة أو الحفاظ عليها ، بل على العكس تماماً ؛ إذ لا يجوز استعمال الأداة السياسيّة غير الشرعيّة في المدرسة العلويّة ، حَتّى لو كلّف ذلك فقدان السلطة نفسها . السياسة في المدرسة العلويّة : هي معرفة الأدوات السياسيّة المشروعة ، وتوظيفها لإدارة المجتمع ، وتأمين الرفاه المادّي والمعنوي للناس . بل أساساً لا تستحق السياسات غير الشرعيّة لقب «السياسة» في النهج العلوي ولا يطلق عليها هذا الوصف ؛ إنّما هي المكر والخدعة والنكراء والشيطنة . (1) في النهج العلوي لا تحتاج عمليّة إدارة النظام والحفاظ على السلطة إلى أدوات سياسيّة غير مشروعة ، بل يمكن حُكم القلوب من خلال توظيف السياسات الصحيحة والشرعيّة فقط ، وسوق المجتمع صوب التكامل المادّي والمعنوي . ربّما تكون السياسات غير الشرعيّة مفيدة مؤقّتاً لتحكيم هيمنة السياسييّن الرسمييّن ، بيدَ أنّها لا يمكن أن تدوم ، وهي تحمل إلى النّاس أضراراً ماحقة .
حركة الإصلاح العَلَويعلى هذا الأساس انطلق الإمام مباشرة بعد أن بايعه النّاس وتسلّم زمام السلطة السياسيّة بحركة إصلاح حكوميّة بدأَها من خلال شعار العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة . لقد أعلن صراحة أنّ الفلسفة الكائنة وراء قبوله الحكم تكمن في إيجاد الإصلاحات ، وكان عليه السلام يعتقد أنّ المجتمع الإسلامي قد تغيّر في المدّة الَّتي كان
.
ص: 300
فيها الإمام بعيداً عن المشهد السياسي ، وأنَّ ما يُمارس باسم الحكومة الإسلاميّة ينأى بفاصلة كبيرة عن الإسلام وسيرة النبيّ صلى الله عليه و آله وسنّته . من جهة اُخرى كان الإمام يعلم جيّداً بأنّ الطريق الجديد والإعلان عن نهج الإصلاح العلوي الَّذي هو نفسه الإصلاح المحمّدي ، لا يتّسق مع مزاج المجتمع في ظلّ الأوضاع السياسيّة الَّتي كانت سائدة ، وبحسب قوله عليه السلام : «لا تَقُومُ لَهُ القُلُوبُ ، ولا تَثبُتُ عَلَيهِ العُقُولُ» ، حيث تستتبع عمليّة مواجهة الانحرافات ، ومكافحة الاعوجاج كثيراً من الاضطرابات السياسيّة . من هذه الزاوية كانت عمليّة الإصلاح السياسي والاجتماعي الشامل بحاجة إلى إعداد وتخطيط عميق جدّاً ومحسوب .
سياسة الإمام في مواجهة الانحرافلم يتعامل الإمام عليه السلام مع الانحرافات الموجودة بعجلة ؛ لأنّ التعاطي مرّة واحدة وبشكل مباشر مع جميع الانحرافات الَّتي كان المجتمع قد اعتاد عليها خلال سنوات ، يجرّ إلى عدم الرضا العامّ ، ويُفضي إلى الفرقة وضعف بنيان الحكم ، بل ولجَ الإمام هذه الدائرة على أساس برنامج تمّ الإعداد له جيّداً ، فقسَّم الإصلاحات الَّتي ينبغي أن تضطلع بها حكومته إلى قسمين ، هما : 1 . مواجهة الفساد الإداري والاقتصادي . 2 . مواجهة الانحرافات الثقافيّة .
سياسة الإصلاح الإداري والاقتصاديلقد انطلقت سياسة الإصلاح العلوي في مواجهة الفساد الإداري والاقتصادي منذ الأيّام الاُولى لعهد الإمام السياسي ، فعزَل الولاة غير الأكفّاء ، وأعاد الأموال العامّة إلى بيت المال .
.
ص: 301
لقد أشار الإمام منذ يوم البيعة الأوّل إلى نهجه الاُصولي في الإصلاح ، ونبَّه إلى سياساته على هذا الصعيد بشكل مقتضب وعامّ ، وهو يقول : «إعلَمُوا أنّي إن أَجَبتُكُم رَكِبتُ بِكُم ما أعلَم ، وَلَم اُصغِ إلى قَولِ القائِلِ ، وَعَتبِ العاتِبِ» . (1) وفي ثاني أيّام خلافته اعتلى المنبر ، ثمّ راح يُصرّح بما كان قد أشار إليه في اليوم السابق ، وهو يقول : «ألا إنَّ كُلَّ قَطِيعَةٍ أقطَعَها عُثمان ، وَكُلَّ مالٍ أعطَاهُ مِن مالِ اللّهِ فَهوَ مَردُودٌ في بَيتِ المالِ ؛ فإنَّ الحَقَّ القَديمَ لا يُبطِلُهُ شَيءٌ ، ولَو وَجَدتُه وَقَد تُزُوِّجَ بِهِ النِساء وَفُرِّقَ فِي البُلدانِ ، لَرَدَدتُهُ إلى حالِهِ ؛ فإنَّ في العَدلِ سِعَةً ، وَمَن ضاقَ عَلَيهِ العَدلُ فَالجُور عَلَيهِ أضيَقُ» . لقد تحدَّث الإمام بإسهاب في خطاب تفصيليّ ألقاه في ذلك اليوم عن مسؤوليّة قادة المجتمع في بسط العدالة الاجتماعيّة ، وأعلن بوضوح أنّه لن يسمح لأحدٍ _ دون استثناء _ من استغلال المال العامّ ، وأنّ اُولئك الَّذين راكموا ثرواتهم عبر غصب المال العامّ وحصلوا _ عن هذا الطريق _ على الأراضي الخصبة (القطائع) والخيول المسوّمة والجواري الحسان ، سيعمد علي إلى مصادرة هذه الثروات المغصوبة بأجمعها وردّها إلى بيت المال . كان هذا الحديث لأمير المؤمنين عليه السلام بمنزلة الصاعقة الَّتي نزلت على رؤوس من يعنيهم الأمر ، حيث راحت أصداء مواجهة نداء العدالة العلويّة تتجسّد في معارضة شخصيّات معروفة لحكم الإمام . وفي اليوم الثالث من أيّام عهد الإمام دعا النّاس إلى استلام أعطياتهم من بيت المال ، حيث أمر عليه السلام كاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع أن يسير على النهج التالي : «اِبدَأ بِالمُهاجِرينَ فَنادِهِم وَأعطِ كُلَّ رَجُلٍ مِمَّن حَضَرَ ثَلاثَةَ دَنانِير ، ثُمَّ ثَنِّ بِالأنصارِ فَافعَل مَعَهُم مِثلَ ذلِكَ ، ومَن حَضَرَ مِنَ النّاسِ كُلّهِم الأحمَرَ والأسوَدَ فَاصنَع بِهِ مِثلَ ذلِكَ» .
.
ص: 302
أدرك سُراةُ القوم وكبراؤهم أنّ العدالة الاقتصاديّة في ظلال حكم عليّ عليه السلام ليست شعاراً وحسب ، بل هي نهج جادّ لا محيد عنه ، فراحوا يتحجّجون ويتبرّمون أمام كاتب الإمام ، وأبدَوا تذمّرهم من ذلك ، فما كان من ابن أبي رافع إلّا أن رفع الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فلم يُفاجأ الإمام بانطلاق شرارة المعارضة والرفض من قبل الشخصيّات المرموقة ، ليس هذا وحسب ، بل أعلن بجزم عن إدامة النهج الإصلاحي ، وهو يقول : «وَاللّهِ إن بَقيتُ وسَلِمتُ لَهُم لَاُقيمَنَّهُم عَلَى المَحَجَّةِ البَيضاءِ» . من هذه البؤرة بالذات بدأت مسألة الطلب بثأر عثمان من الإمام ! والَّذي يبعث على التأمّل أنّ بعض أصحاب الثروات كانوا قد قيّدوا بيعتهم للإمام بشرطين ؛ الأوّل : أن لا يقترب الإمام من ثرواتهم الَّتي كانوا جنوها على عهد عثمان ، والثاني : أن يقتصّ من قتلة عثمان . لقد كان الإمام يعلم أنّ مسألة إنزال القصاص بقَتَلة عثمان لم تكن أكثر من ذريعة لعدم استرداد الثروات غير المشروعة لهؤلاء ، بيدَ أنه لم يُذعن إلى أيٍّ من هذين الشرطين ، وواجه _ بحزم وصلابة _ الاقتراحات التساوميّة .
سياسة الإصلاح الثقافيلقد كانت الأوضاع موائمة لبدء الإصلاح الإداري والاقتصادي نتيجةً لقيام عامّة النّاس ضدّ الفساد الإداري والاقتصادي المستشري على عهد عثمان . على هذا الأساس انطلق الإمام بهذه الإصلاحات منذ الأيّام الأولى لتسنّمه أزمّة السلطة برغم تقديره لجميع التبعات الَّتي تترتّب عليها ، والمشكلات الَّتي تؤدّي إليها . على عكس حركة الإصلاح الثقافي الَّتي لم يكن الشروع الفوري بها ممكناً ، بل كانت تحتاج إلى زمان حَتّى يستقرّ حكم الإمام . ولذلك كان عليه السلام يقول في هذا المضمار : «لَوِ استَوَت قَدَمايَ مِن هذِهِ المَداحِضِ لَغَيَّرتُ أشياءَ» .
.
ص: 303
لم يكن سهلاً على الإمام أمير المؤمنين أن يواجه بشكل مباشر وفوري الإرث الثقافي الَّذي تطبّع عليه النّاس واعتادوه خلال ربع قرن من الزمان ؛ لأنّ هذه العمليّة _ لو تمّت _ كانت تجرّ إليها نفور الجمهور وسخطه ، وتستتبع اختلاف الاُمّة . لذلك كلّه ترك الإمام موضوع مواجهة الانحرافات الثقافيّة إلى فرصةٍ مؤاتية . أجل ، لقد انطلق الإمام عليّ عليه السلام ببرنامجه الإصلاحي الدقيق والمدروس ، لإعادة المجتمع الإسلامي إلى سيرة النبيّ وسنّته ، من نقطة العدالة الاجتماعيّة ومفصل الإصلاح الإداري والاقتصادي . ثمّ ظلَّ وفياً لهذا النهج حَتّى آخر لحظات حياته ، حيث لم يتراجع في أحلك الأوضاع السياسيّة الَّتي مرَّت ، ولم يتوانَ في بذل أقصى جهوده من أجل استكمال هذا المشروع ، وإيجاد المجتمع القائم على أساس القيم والأهداف الإسلاميّة الأصيلة . إنّ ما سنبيّن عليه في هذا الجزء من المنتخب هو بيان أهمّ اُصول حركة الإصلاح العلوي ، وأبرز مرتكزاتها في مضمار الإصلاح الإداري ، والثقافي ، والاقتصادي ، والاجتماعي ، والقضائي ، والأمني ، والعسكري ، وذلك من خلال الاستناد إلى النصوص الحديثيّة والتاريخيّة . ثمّ نصير بعدئذٍ إلى استخلاص رؤى الإمام في مجال السياسات الَّتي تُفضي على المستوى الدولي إلى ثبات الدول أو سقوطها ، وبيان ما يكون منها مؤثّراً على صعيد العلاقة الإيجابيّة بين الدول بعضها ببعض . وأخيراً ننتقل إلى عرض نصوص سياسات الإمام ومصادرها . أما التوفّر على شرح وافٍ لمرتكزات سياسة الإمام فهي عمليّة تحتاج إلى فرصة اُخرى .
.
ص: 304
منهج حكومة القلوب (2 ) تنتهي عمليّة تفحّص النصوص الإسلاميّة في مضمار القواعد الَّتي تنهض عليها مرتكزات النظام الإسلامي ، إلى أنّ الإسلام هو دين الحكومة على القلوب ؛ وإلى أنّ المنطلقات السياسيّة للحكم الإسلامي هي اُصول هذا النوع من الحكم والإدارة ، ومن ثَمَّ فإنّ المباني السياسيّة للنظام العلوي هي ليست شيئاً غير مرتكزات الإدارة الإسلاميّة نفسها . فالإسلام منهج لتكامل الإنسان ماديّاً ومعنويّاً ، وإنّ الحبّ هو أهم العناصر الَّتي تدخل في قوام هذا المنهج . لقد بلغ موقع الحبّ في قيام الحكومة الإسلاميّة ، ودوره في برامج هذا الدين من أجل تقدّم المجتمع الإنساني ، حدّاً جعل الإمام الباقر عليه السلام لا يرى الإسلام إلّا أنّه دين الحبّ وحسب ، وهو يقول : «هَلِ الدِّينُ إلّا الحُبُّ !» . (1) ومن وجهة نظر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام تقوم الدعائم الأساسيّة للإسلام واُصول منهاجه التكاملي ، على أساس محبّة اللّه ، حيث يقول : «إنَّ هذَا الإِسلامَ دينُ اللّهِ الَّذِي اصطَفاهُ لِنَفسِهِ ، وَاصطَنَعَهُ عَلى عَينِهِ ، وأصفاهُ خِيَرَةَ خَلقِهِ ، وأقامَ دَعائِمَهُ عَلى مَحَبَّتِهِ» . (2) كما أنّ أئمّة الدين والقادة السياسييّن الصادقين للاُمّة الإسلاميّة ، ما هُم إلّا مظاهر
.
ص: 305
محبّة النّاس للخالق جلّ جلاله ؛ وما محبّة النّاس لهم إلّا محبّة للّه سبحانه . (1) وعلى هذا الأساس تتخطّى القاعدة الصلبة الَّتي تقوم عليها الحكومة الإسلاميّة دائرة البيعة ورأي النّاس ؛ إذ للحكم الإسلامي جذر راسخ في حبّ النّاس وقلوبهم . وهنا يكمن سرّ كلّ هذا التركيز القرآني والأحاديث الإسلاميّة ، على محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم . (2) من جهةٍ اُخرى نعرف أنّ المحبّة لا ترتكن إلى الأمر ؛ إذ يمكن إجبار الإنسان على أن يقوم بعمل خلاف رغبته وضدَّ ميله الباطني ، ولكن لا يمكن إجباره على حبّ شخصٍ من دون أن ينجذب إليه ويميل له ذاتياً . إنّ الإنسان عاشق للجمال بطبيعته ، فهو يحبّ جميع مظاهر الجمال المادّي والمعنوي . فإذا أحبّ منهج إنسان وسيرته وارتاح إلى فعله وعمله مالَ إليه وتوثّقت علاقته به ، وإذا نفر منه واستوحش فعله وسيرته لم يحبّه . من هنا نفهم أنّ فلسفة وجوب محبّة أهل البيت ، تكمن في السعي من أجل معرفتهم معرفة حقيقيّة ؛ لأنّ سيرتهم وسلوكهم هما من الجمال والجاذبيّة بحيث لا يطّلع عليها إنسان وهو سليم الوجدان لم يفقد ضميره الإنساني ، إلّا أحبّهم وشعر بالمودّة إزاءهم . وهنا بالضبط يكمن سرّ حبّ كلّ الَّذين عرفوا عليّ بن أبي طالب سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين . لقد استطاع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يعكس في حياته وبالأخصّ خلال عهده
.
ص: 306
السياسي القصير أبهى صورة للإنسانيّة ، وأعظم صيغة للحكم المبتني على أساس القيم الإنسانيّة ؛ فليس بمقدور إنسان ينظر إلى جمال فِعال عليّ وحكمه ثمّ لا يهيم به حبّاً . وفيما يلي نمرّ سريعاً على الاُصول السياسيّة للإمام ومرتكزاته في إدارة البلاد ؛ هذه المرتكزات الَّتي تعدّ في حقيقتها سرّ إيجاد ضروب الجمال ، ودائرة النفوذ العلويّة ، كما تؤلّف الاُصول السياسيّة للحكومة على القلوب ، وذلك على أمل أن يقترب مسؤولوا نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وقادته من الإمام أكثر فأكثر ، ويعكسوا للعالم ملامح من الصورة الوضّاءة للحكم العلوي .
اُصول السياسة الإداريّةيمكن استخلاص السياسة الإداريّة للإمام علي عليه السلام وإرجاعها إلى عدّة اُصول ، هي :
1 . الصدق في السياسةالصدق فيالسياسة هو أهمّ أصل فيالسياسة الإداريّه للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو رمز النفوذ الخلّاق والجاذبيّة الخالدة للحكم العلوي ، والحدّ الفاصل بين تخوم السياستين العلويّة والاُمويّة ، فإنّه لا معنى للصدق ولا مكان له في قاموس السياسة الاُمويّة ، والكذب هو الأداة الأساسيّة في ضروب الفعّاليّة السياسيّة عند السياسييّن المحترفين . يذكر الإمام الخميني أنّ أحد مسؤولي النظام الملكي السابق زاره عندما كان في السجن ، وقال له : «إنَّ السياسة خبث وكذب وخداع . . . وهي بلاء سيّئ ، اتركوا ذلك لنا» ! يضيف الإمام الخميني في تتمّة الواقعة : «صحيحٌ ما يقوله ؛ فلئن كانت السياسة لا تعني إلّا هذه الاُمور ، فهي من شؤونهم» (1) . أجل ، إذا ما حذف الكذب عن
.
ص: 307
السياسة في عالَم السياسييّن المحترفين فلن يبقى منها شيء . أمّا في قاموس السياسة العلويّة فإنّ الصدق أوّل شروط الحكم والتأهّل السياسي ، فإذا لم يكن ثَمَّ وجود للصدق السياسي فلن يكون هناك معنى لسيادة الحقّ ، وحاكميّة القانون ، وحقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعيّة ، وجميع البرامج والسياسات البنّاءة الَّتي سنشير لها بعدئذٍ ، حيث تتحوّل بأجمعها إلى كلمات فارغة لا معنى لها ، وتنقلب إلى أداة للابتزاز والتعدّي على حقوق النّاس أكثر . في نهج السياسة العلويّة لا يجوز توظيف الحيل السياسيّة إلّا في مورد واحد هو الحرب ، والحرب هي الاستثناء الوحيد للّجوء إلى الخديعة ، كما سيأتي توضيح ذلك أثناء الحديث عن السياسة الحربيّة للإمام عليه السلام .
2 . محوريّة الحقّتعدّ محوريّة الحقّ مظهراً للصدق السياسي في الحكم العلوي ، فإذا ما جلت النظر في سلوك الإمام عليه السلام وسيرته السياسيّة في جميع مجالات الحكم ، لرأيت أن الالتزام بهذا الأصل واضح في ثنايا هذه السيرة ، وفي كلّ مرفق من مرافقها . لقد كان الإمام يرى أنّ إقامة الحقّ وإحقاقه هو عماد فلسفة حكمه ، ولم يكن يفكِّر في إدارة الاجتماع السياسي بشيء آخر غير إحياء الحقّ ومحو الباطل . على هذا الضوء واجه الإمام عليه السلام بشدّة اُسلوب المداهنة والتلوّن في إدارة شؤون المجتمع ، فيما كانت تمثِّله السياسة الاُمويّة .
3 . سيادة القانونلقد بلغ من احترام الإمام عليه السلام للقانون أنّه لم يكن يرى لنفسه خاصّية أمام القانون . كان يؤمن أنّه ليس هناك شخص فوق القانون ، ولن يستطيع أحد _ ولا ينبغي له _ أن يكون مانعاً عن تنفيذ القانون الإلهي .
.
ص: 308
4 . الانضباط الإداريكان الإمام عليه السلام ميّالاً بحزم إلى خاصّية النظم والانضباط في الشؤون الفرديّة والاجتماعيّة ، بالأخص الاُمور ذات الصلة بالحكم ؛ ففي فلسفة الإمام كانت واحدة من حِكَم القرآن إيجاد النَّظم في المجتمع ، حيث يقول في وصفه : «ألا إنَّ فيهِ عِلمَ ما يَأتي ، والحَديثَ عَنِ الماضي ، ودَواءَ دائِكُم ، ونَظمَ ما بَينَكُم» . كان الإمام يحثّ العاملين معه على الدوام أن لا يغفلوا عن خاصّية الانضباط الإداري في ممارسة العمل ، وأن يبذلوا جهدهم لإنجاز كلّ واجب في وقته المحدّد . لقد بلغ من اهتمام الإمام وفائق عنايته بالنظم ، أنه راح يوصي بذلك أولاده حَتّى وهو على فراش الشهادة .
5 . انتخاب الأكفّاءفي رؤية الإمام ينبغي انتخاب العاملين في النظام الإسلامي على أساس الجدارة لا على أساس المحسوبيّة والمنسوبيّة . وفي هذا السياق ينبغي أن تُراعى في عمليّة الاختيار ما يحظى به هؤلاء من تأهيل أخلاقي ، وأصالة عائليّة ، وما يتحلّون به من كفاءة وتخصّص . كما لا يجوز للمدراء في النظام الإسلامي أن يوزّعوا المناصب على أساس الصلات العائليّة والعلاقات السياسيّة . ولا يحقّ أن يلي أمور النّاس المحروم من الأصالة العائليّة ، ولا أن تناط المسؤوليّة بسيّئ الأخلاق ، أو أن يُعهد بشؤون المجتمع لمن يفتقر إلى الكفاءة والتخصّص ويفتقد للحيويّة اللازمة .
6 . تأمين الاحتياجات الاقتصاديّة للعاملينيعتقد الإمام أنّ من لوازم الحؤول دون الفساد الإداري ، أن يتمتّع العاملون في النطاق الحكومي والوظائف العامة بحدٍّ كافٍ من الحقوق الماليّة تؤمن لهم الحياة
.
ص: 309
الكريمة ، لكي تتوافر الأرضيّة المناسبة لإصلاح هؤلاء ، ولا يطمعوا بالمال العامّ ، ومن ثَمّ تنتفي في حياتهم دوافع الاتّجاه صوب الفساد والخيانة .
7 . الاهتمام الخاصّ بالقوّات المسلّحةمن بين العاملين في نطاق أجهزة النظام الإسلامي يركِّز الإمام على القوّات المسلّحة ؛ إذ ينبغي أن يحظى هؤلاء باهتمام خاصّ ، كما أنّ على الوالي أن يتعامل معهم معاملة الوالدين مع أبنائهما .
8 . تأسيس جهاز الرقابة على العامليننهى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بشدّة عن ممارسة التجسّس والتدخّل بالاُمور الشخصيّة للمجتمع أثناء عهده السياسي (1) ، بيدَ أنّه مع ذلك كان يرى من الضروري فرض رقابة على العاملين في النظام الإسلامي ، وممارسة ذلك عبر جهاز رقابي خاص ، ومن خلال موظّفين سريّين (عيون) ، لئلّا يتوانى هؤلاء في أداء وظائفهم ، أو يتعدّوا على حقوق النّاس بالاتّكاء إلى ما لديهم من سلطة . إنّ عهود الإمام واللوائح الَّتي أصدرها بهذا الشأن ، وما بعث به من رسائل للولاة المتخلّفين مثل الأشعث بن قيس ، وزياد بن أبيه ، وقدامة بن عجلان ، ومصقلة بن هبيرة ، والمنذر بن الجارود ، كلّها تحكي تأسيس الإمام لجهاز رقابي مقتدر كان ينهض بمهمّة مراقبة العاملين معه خلال عهده السياسي . لقد بلغ المخبرون السرّيّون والعاملون في جهاز الرقابة الخاصّ في حكومة الإمام ، حدّاً من العدالة والوثاقة ، بحيث تحوّلت تقاريرهم وما يُدلون به من معلومات إلى قاعدة تستند إليها سياسة التحفيز الإداري للعاملين ، حيث يشجَّع
.
ص: 310
المحسنون ، ويعزَل الخونة والفاسدون بعد إثبات جرمهم مباشرة ، وينزل بهم من العقوبة ما يكون عبرة للآخرين ، وعِظة لمن اتّعظ .
9 . منع الهديّةشرَّع النظام العلوي مبدأ منع أخذ العاملين في الدولة الهدايا من النّاس ، بالإضافة إلى حرمة تعاطي الرشوة ، إمعاناً في مبارزة الفساد الإداري . وكان الإمام أمير المؤمنين يعدّ أخذ الهديّة «غلولاً» ، وأخذ الرشوة «شركاً» .
10 . الحزم المصحوب باللينيسير النظام العلوي في التعاطي مع العاملين في النطاق الحكومي ، على منهجٍ يجمع بين الحزم واللين . فمن وجهة نظر الإمام تعدّ القسوة المطلقة آفة تهدِّد النسق الإداري ، وفي الوقت ذاته يلحق اللين اللامحدود أضراراً بإدارة المجتمع . ومن ثَمَّ فإنّ الإدارة الناجحة هي الَّتي تجمع _ بحسب تعبير الإمام _ بين القسوة والرأفة ، وتقرن الشدّة إلى اللين . ففي المواضع الَّتي تحتاج إلى الشدّة ينبغي التعامل بحزم ، وفي المواقع الَّتي يكون فيها اللين هو الأجدى ، ينبغي التزام سياسة الرفق والمداراة .
اُصول السياسة الثقافيّةتكمن أبرز مرتكزات السياسة الثقافيّة للإمام ، في المنطلقات التالية :
1 . تنمية التربية والتعليمتتقدّم التنمية الثقافيّة في النظام العلوي على التنمية الاقتصاديّة ؛ فعلاوة على أنَّ التنمية الاقتصاديّة غير ممكنة من دون التنمية الثقافيّة ؛ فإنّ حاجة الروح إلى التربية والتعليم أكثر من حاجة الجسد إلى الطعام والشراب .
.
ص: 311
وأساساً لا تزيد فلسفة الوحي والنبوّة وفلسفة الحكم في منهج الأنبياء الإلهيّين ، على تربية الإنسان وتعليمه ، وإنَّ جميع الجهود ما هي إلّا مقدّمة لبناء الإنسان الكامل . على هذا الأساس كان الأنبياء والأوصياء يتولّون شخصياً تعليم النّاس وتربيتهم ، وعلى هذا مضت أيضاً سيرة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وسياسته .
2 . تصحيح الثقافة العامّةتكمن واحدة من أبرز العناصر الأساسيّة لمنهج الحكم العلوي في الإقدام على تصحيح الثقافة العامّة للمجتمع . فعلى قدر ما كان الإمام يدافع عن السنن والتقاليد الاجتماعيّة البنّاءة ، كان يهاجم بعنف الأعراف والتقاليد الخاطئة ، ولم يكن يسمح أن تواصل التقاليد الخاطئة والأعراف الضارّة ، حضورها في المجتمع الإسلامي .
3 . النقد البنّاء بدلاً من الإطراء والتملّقتكمن واحدة من أهمّ مبادرات الإمام عليّ عليه السلام وأكثرها ألقاً لجهة تصحيح الثقافة الاجتماعيّة العامّة ، بمواجهته لحالة تملّق الاُمراء ومديح القادة السياسيّين . لقد حثَّ الإمام أمير المؤمنين الولاة والعاملين معه على أن يقرّبوا الأجرأ في قول الحقّ ، والأكثر صراحة في الجهر به ، وأن يربّوا مَن حولهم على عدم تملّقهم والإطراء عليهم أكثر من الاستحقاق . أمّا فيما يرتبط بالإمام شخصيّاً فقد كان يرفض أيّ ضرب من الثناء حوله ، وكان يواجه المثنين والمتملّقين بمواقف علنيّة صريحة وحازمة . كما كان يحثّ النّاس أن لا يُطروه بسبب نهوضه بأداء التكاليف الإلهيّة ، وأن يتّجهوا بدل الثناء إلى النصيحة بخير ، والنقد البنّاء الصريح لبرامجه وأعماله ، إذا كان ثمّة نقد في هذا المجال .
.
ص: 312
4 . معياريّة الحقّ في اتّباع الرجالتتمثّل واحدة من أهمّ توجيهات الإمام لتصحيح الثقافة العامّة في نصب الحقّ ميزاناً في اتّباع الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة وموالاتها . وتنشأ أغلب الانحرافات السياسيّة والاجتماعيّة من التمحور حول مفهوم الشخصيّة . وفي هذا الاتّجاه حذَّر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المجتمع من أنّ الشخصيّات مهما عظمت ، ولحظتها العيون بالحبّ والتقدير والإجلال ، فلا يمكن أن تتحوّل إلى معيار للحقّ والباطل ، وإلى ميزانٍ لهما ، ثمّ سعى أن يرفع المجتمع من زاوية الوعي الثقافي ، ويرتقي به إلى المستوى الَّذي يزن به الشخصيّات الكبيرة ويعرفها بمعيار الحقّ ، لا أن يزن الحقّ بمعيار الرجال .
اُصول السياسة الاقتصاديّةتتمثّل اُصول السياسة الاقتصاديّة في حكومة الإمام علي عليه السلام بالدعائم التالية :
1 . إشاعة ثقافة العمليعدّ الفقر الاقتصادي في رؤية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام معلولاً للتلازم بين ثقافة الكسل والعجز . وإلّا فإنّ المجتمع الَّذي تهيمن عليه ثقافة العمل لا يمكن أن يُصاب أبداً بآفة الفقر ، الَّذي يعدّ بدوره بؤرة لتفشّي كثير من الأمراض المادّية والمعنويّة في المضمارين الفردي والاجتماعي . على هذا الأساس راح الإمام يُشيع ثقافة العمل في ربوع المجتمع بوصف العمل عبادة ، وكان هو نفسه عليه السلام عاملاً نموذجياً .
2 . التنمية الزراعيّةلقد أولى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عناية فائقة بالتنمية الزراعيّة من أجل القضاء على
.
ص: 313
الفقر في المجتمع ، وراح يُقرّع الاُمّة الَّتي تملك الماء والتراب ثمّ تُصاب مع ذلك بالفقر ، وهو يقول : «مَن وَجَدَ ماءً وَتُراباً ثُمَّ افتَقَرَ فَأبعَدَهُ اللّه » . وفي نهج الإمام تتمثّل واحدة من ملاكات تقييم كفاءة الأنظمة بمدى التزامها بمبدأ التنمية الزراعيّة . لهذا كان يعدّ التنمية الزراعيّة في طليعة الوظائف الأساسيّة للعاملين في حكومته ، وقد ألزم اُمراء الجيوش بالدفاع عن حقوق الفلّاحين .
3 . التنمية الصناعيّةمع أنّ الصناعة لم تكن تلعب دوراً مهمّاً في الاقتصاد السائد على عهد حكم الإمام ، إلّا أنّه أولاها أهمّية كبيرة كما يتبيَّن من الأحاديث الَّتي تُنقَل عنه عليه السلام في هذا المجال ؛ فالإمام يذكر الحِرَف والصناعات على أنّها كنز ، ويوصي العاملين في حكومته بحماية الحرفيّين ، كما يحثّ أهل الصناعات على مراعاة الدقّة في العمل ، وأن لا يضحّوا بالجودة والكفاءة في سبيل السرعة .
4 . التنمية التجاريّةكانت التجارة في صدر الإسلام وخلال العهد العلوي تلعب الدور الأكبر في تأمين الاحتياجات الاقتصاديّة للمجتمع . لذلك عمدت حكومة الإمام إلى حماية التجّار بجوار حمايتها لأصحاب الصناعات والحرف .
5 . الإشراف المباشر على السوقلجهةِ ما للسوق من أهمّية في الاقتصاد ، حرص الإمام على ممارسة إشراف مباشر عليه ، حيث كان يراقب السوق شخصياً ، في إطار برنامج يسوقه صبيحة كلّ يوم إلى أسواق الكوفة ، وكأنّه في مهمّة «معلِّم الصبيان» كما يقول الراوي ، وهو يحثّ الباعة على التزام التقوى ، والاحتراز عن التطفيف والكذب والظلم والاحتكار ، وينهاهم
.
ص: 314
عن ضروب المعاصي الَّتي قد ينزلقون إليها في هذا المجال . كما يطلب منهم رعاية الإنصاف ، وتحرّي الأخلاق الإسلاميّة في التعاطي مع المشترين .
6 . سياسة أخذ الخراجلم تكن سياسة الإمام في أخذ الخراج وجباية الأموال الإسلاميّة على منوالٍ واحد ، بل كان يرعى حقوق مؤدّي هذه الأموال أيضاً ؛ ففي إطار الحكم العلوي كان جهاز الضريبة والعاملون في جباية الخراج ملزمين بالإضافة إلى التزام الحذر ورعاية الدقّة المطلوبة ، بتحرّي جانب الإنصاف ، والعناية بالأخلاق الإسلاميّة في التعاطي مع النّاس .
7 . عدم التأخّر في توزيع المال العامّلم يُجز الإمام حبس المال العام في خزانة الدولة ، ولم يكن يرضى بتأخير توزيع أموال بيت المال وتقسيمها حَتّى لليلةٍ واحدة ، بل كان يعتقد أنّ ما يعود إلى النّاس ينبغي دفعه إليهم في أوّل فرصة مواتية .
8 . تقسيم المال العام بالتساويكان الإمام يسلك سياسة توزيع المال العام بين جميع المسلمين بالتساوي ؛ ففي نهج الإمام كان يتساوى في العطاء : العربي والأعجمي ، والمهاجري والأنصاري ، والأسود والأبيض ، بل لم يكن يختلف العبد المعتق عن سيّده ومولاه في نصيبه من الدخل العامّ .
9 . تأمين الاحتياجات الأساسيّة للجميعترتكز سياسة الإمام الاقتصاديّة على استئصال الفقر من المجتمع ، حيث كان عليه السلام يقول : «ما جاعَ فَقيرٌ إلّا بِما مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ» . على هذا الضوء كان يرى أنّ الدولة
.
ص: 315
الإسلاميّة مسؤولة عن تأمين متطلّبات الحدّ الأدنى ، وتوفير المستلزمات الضروريّة لجميع الَّذين يعيشون في نطاق جغرافيّة الأمصار الإسلاميّة . فكما أنّ الَّذي يعيش في الكوفة ينبغي أن يحظى بالرفاه النسبي ، وأن لا يواجه مشكلة على صعيد المستلزمات الأوّليّة مثل الطعام والشراب والمسكن ، فكذلك الحال في سائر الأمصار ؛ إذ كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يركّز على حماية الطبقة الضعيفة من المجتمع ، ويولي عناية خاصة بالأيتام واُسر الشهداء ، بحيث كان يهتمّ بذلك شخصيّاً كلّما واتته الفرصة .
10 . حرمة بذل المال العامّكان الإمام يعدّ المال العام أمانة لدى العاملين في اُطُر الدولة ، وكان لا يسمح لهؤلاء في بذل هذا المال وتوزيعه هدايا وهبات ، ويقول : «جودُ الوُلاةِ بِفَيءِ المُسلِمينَ جَورٌ وخَترٌ (1) » .
11 . تحريم الامتيازات للأولاد والمقرّبينلم يكن الإمام يعترف بأي امتياز خاص لأحدٍ في توزيع المال العامّ ، ولم يُستثنَ من هذا القانون أحدٌ لا من الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة البارزة ، ولا من أولاده المقرّبين إليه ، بل كان الإمام يُبدي حذراً أكبر في هذا الجانب إزاء المقرّبين إليه ؛ لكي يكون ذلك عظة للآخرين .
12 . التقشّف في المال العامّ والاحتياط في صرفهكان نهج الإمام في صرف المال العام يشدّ إليه الأنظار ويوحي بالدروس والعبر . فلكي يدفع ولاته والعاملين معه إلى أقصى نهايات التقشّف وصيانة الأموال العامة ،
.
ص: 316
عمّم الإمام أمراً إدارياً حثَّ فيه هؤلاء أن لا ينسوا هذا المبدأ في الكتابة إليه ، وراح يقول : «أدِقّوا أقلامَكُم ، وَقارِبوا بَينَ سُطورِكُم ، وَاحذَفُوا عَنّي فُضُولَكُم ، وأقصُدُوا قَصدَ المَعاني ، وَإيّاكُم وَالإكثارَ ؛ فَإِنَّ أموالَ المُسلِمينَ لا تَحتَمِلُ أضراراً» . أمّا حرص الإمام نفسه وسلوكه الشخصي في التصرّف ببيت المال ، فهو أمر يبعث على الدهشة ! فالإمام لم يكن على استعداد لأن يستفيد من نور سراج تابع لبيت المال في جواب من راجعه ليلاً في أمر شخصي ! فعندما كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مشغولاً بكتابة ما يتعلّق بكيفيّة تقسيم بيت المال ، ودخل عليه طلحة والزبير في أمرٍ شخصي ، عمد إلى السراج الَّذي كان يستهلك وقوده من الثروات العامّة فأطفأه ، وأمر من يأتي إليه بسراجٍ آخر من بيته !
اُصول السياسة الاجتماعيّةترجع اُصول السياسة الاجتماعيّة في الحكم العلوي إلى المنطلقات التالية :
1 . العدالة الاجتماعيّةتعدّ العدالة المحور الأكثر بروزاً في منهج الحكم العلوي ، وقد بلغ من اقتران اسم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالعدالة وامتزاجه بها ، قدراً بحيث صار اسم عليّ عنواناً للعدالة ، وعنوان العدالة باعثاً للإيحاء باسم عليّ . ومعنى هذا التصاحب بين الاثنين ، أنّ الحكم الَّذي يمكنه الادّعاء باقتفاء الحكم العلوي مثالاً له ، هو ذلك الَّذي يحرص قادته على العدالة أكثر من أيّ شيء آخر . وبديهيّ لا يكمن هذا الاقتداء بالتعاطي مع العدالة من خلال الشعار والأقوال وحسب كما دأب على ذلك الجميع في العالم المعاصر عبر رفع هذا الشعار وتكراره ، وإنّما يحصل بترسيخ العدالة من خلال السلوك والعمل . وهذه حالة نادرة كما كانت بالأمس تماماً .
.
ص: 317
إنّ الحكم الَّذي يسعه أن يزعم أنه يقتدي بالحكم العلوي ، هو ذلك الَّذي لا يضحّي بالعدالة ويئدها على مذبح المصلحة ، فليس في النظام العلوي مصلحة أعلى من مصلحة إقامة العدل . وأخيراً ، فإنّ بمقدور الحكم أن يعلن أنّ مثاله الأعلى الَّذي يحتذي به هو عليّ ، إذا ما استطاع أن يحكم القلوب عبر منهج تقديم العدالة على المصلحة ، لا أن يحكم الأجساد ويقبض سيطرته عليها ، عبر منهج ترجيح المصالح العابرة !
2 . احترام الحقوق المتبادلة بين الدولة والاُمّةفي منطق الإمام لا يمكن أن يدوم بقاء الدول في المجتمعات إلّا إذا احترم النظام الحاكم حقوق الشعب ، وفي الطرف الآخر أبدى الشعب احترامه لحقوق النظام الحاكم عليه . وإلّا فمن دون رعاية الحقوق المتبادلة بين الدولة والشعب لا يمكن تحقّق العدالة الاجتماعيّة . وطبيعي أنّ رعاية هذا الأمر هي عمليّة شاقّة ، ففي دائرة الكلام يحترم الجميع الحقّ ، لكن في دائرة العمل يتضاءل أهل الحقّ وينحسر عددهم «أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ» وبتعبير جميل للإمام أمير المؤمنين نفسه : «الحَقُّ أوسَعُ الأشياءِ فِي التَواصُفِ ، وَأضيَقُها فِي التَناصُفِ» . لهذا كلّه لم تتخطّ العدالة الاجتماعيّة واحترام حقوق الإنسان على مرّ التأريخ كلّه تخوم الشعار ، بل تحوّل هذا الشعار _ أيضاً _ إلى أداة لابتزاز حقوق النّاس والاعتداء عليها أكثر . وعلى مدى عصور التاريخ الإسلامي بعد عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله سنحت فرصة استثنائيّة واحدة لجهة استقرار العدالة الاجتماعيّة تمثّلت في العهد القصير الَّذي أمضاه الإمام عليّ في الحكم ، بيد أن الاُمة لم تغتنم هذه الفرصة ، بل وقع الظلم على حكم الإمام من قِبل الرعيّة ذاتها ، حَتّى قال عليه السلام : «إن كانَتِ الرُّعايا قَبلي لَتَشكو
.
ص: 318
حَيفَ رُعاتِها ، فَإِنَّنِي اليَومَ لَأَشكو حَيفَ رَعِيَّتي» . وهكذا مضى عليّ وقد اصطحب العدالة معه ، وهذه هي مسؤوليتنا حاضراً في أن نتعلّم من اُولئك ونأخذ العبرة منهم ، ونوطّئ الأرضيّة المطلوبة لاستقرار العدالة الاجتماعيّة .
3 . تنمية الحرّيات المشروعة والبنّاءةتأتي الحرّية خطوة اُولى في سبيل تحقيق العدالة واحترام حقوق الاُمّة ، بيدَ أنّ المراد منها هو الحريّة البنّاءة لا الهدّامة ، حريّة الانعتاق من أسار القيود الداخليّة (الذاتيّة) والأغلال الخارجيّة . هذه الحرّية هي نفسها الَّتي دعا القرآن إليها النّاس ، في قوله سبحانه : «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلَ_لَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ» . وهي ذاتها الَّتي عناها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وعدّها بمنزلة فلسفة بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله ، وهو يقول : «إنَّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً لِيُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَةِ عِبادِهِ إلى عِبادَتِهِ ... وَمِن وِلايَةِ عِبادِهِ إلى وِلايَتِهِ» . في المنهج العلوي النّاس أحرار بأجمعهم ولا يسوغ أن يكونوا عبيد غيرهم ، وأنّ ما يجرّ الإنسان إلى نير العبوديّة ، ويدفع الأنظمة إلى التجبّر والتسلّط والطغيان ، هي الأغلال الداخليّة والعبوديّة الباطنيّة . فإذا ما أراد المجتمع الإنساني أن يرتقي ذرى الحرّية ، ويبلغ الاستقلال الحقيقي ، فيتحتّم عليه في البدء أن يُحكم الارتباط باللّه ، ويقوم بشروط العبوديّة للّه بحسب تعبير الإمام أمير المؤمنين . إنّ شروط العبوديّة للّه هي في الحقيقة قوانين الحرّية الواقعيّة للناس ، وإذا لم تذعن الإنسانيّة إلى هذه الشروط ، فستغدو حرّيتها واستقلالها الخارجي حالة مؤقّتة ؛ وهي عائدة إلى العبوديّة حتماً .
.
ص: 319
4 . سياسة الرفقتكمن واحدة من النقاط الأساسيّة في المنهج الاجتماعي للحكم العلوي بمبدأ مداراة النّاس ، وكيفيّة تعاطي المسؤولين الحكوميين مع الشعب . فعلى عكس الساسة المحترفين الَّذين يسعَون إلى أن يكون رضا الخاصَة ثمناً لهضم حقوق الجماهير العريضة وسخطها ، تقوم سياسة الإمام أمير المؤمنين على مبدأ إرضاء القاعدة الشعبيّة العريضة ، ولو كان في ذلك سخط الخاصّة وعدم رضاها ، حيث يقول عليه السلام : «إنَّ سُخطَ العامَّةِ يُجحِفُ بِرِضَى الخاصَّةِ ، وإنَّ سُخطَ الخاصَّةِ يُغتَفَرُ مَعَ رِضَى العامَّةِ» . في الاتّجاه إلى تحقيق سياسة الرفق وكسب رضا الجمهور ، أوصى الإمام ولاته أن يتعاملوا مع النّاس بمودّة وعطف ، وأن تكون لهم صلة مباشرة بالشعب ، بحيث يلتقون مع أفراده وجهاً لوجه ، ويُصغون إلى مشكلاتهم مباشرة من دون واسطة ، وأن يتحمّلوا منهم سوء الخلق ، ويصبروا على ما يبدر منهم من سوء وتصرّفات غير لائقة . كما حثَّ عليه السلام ولاته أن لا يُقطبوا بوجه النّاس ولا يلقوهم بوجوه مكفهرّة ، ولا يسيئوا الظنّ بهم . كما نهاهم عن التجسس فيما يتصل بدائرة الأحوال الشخصيّة ، وأن لا يدقّقوا في الذنوب الَّتي اقترفها الأفراد بعيداً عن عيون الآخرين . من النقاط المهمّة الاُخرى الَّتي حرص الإمام على إيصاء الولاة بها لجهة سياسة الرفق بالناس ، ضرورة إدلاء الولاة بالتوضيحات اللازمة في كلّ ما يمكن أن يكون باعثاً لسوء ظنّ الشعب ، وسبباً في اتّهام الولاة بغمط حقوق الجمهور والتجاوز عليها ؛ ففي منهج الإمام لا يجوز الاستخفاف بحالة سوء الظنّ الَّتي تبرز لدى الجمهور ، بل ينبغي للولاة والمسؤولين أن يدلوا إلى الشعب بصدق وتواضع بدلائل أعمالهم ، ويوضّحوا لهم أسباب ما أقدموا عليه .
.
ص: 320
5 . حماية المظلومينمن أجل استئصال العوامل الَّتي تُساعد التعدّي على حقوق النّاس ، وبغية تعميم حالة مواجهة الظالمين والمعتدين ، بادر النظام العلوي إلى تقوية ثقافة حماية المظلومين . لقد كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ينتهز كلّ الفرص من أجل توسعة ثقافة مكافحة الظلم ويستفيد منها لحماية المظلومين ، كما كان يحثّ النّاس على مساعدته لإصلاح مجتمعهم ، وهو يهتف : «أيُّهَا النّاسُ أعينوني عَلى أنفُسِكُم ، وَايمُ اللّهِ لَاُنصِفَنَّ المَظلومَ مِن ظالِمِهِ ، ولَأَقودَنَّ الظالِمَ بِخِزامَتِهِ» . ثَمَّ قَصصٌ في دفاع «اُسوة العدالة» عن المظلومين وحمايته العمليّة لهم خليقة بالقراءة ، وهي إلى ذلك مليئة بالدروس والعبر لمن يرفع شعار الاقتفاء بالإمام العظيم .
6 . تأسيس بيت القصصلم يعرف الإسلام قبل عليّ عليه السلام هذه البادرة ، فلأوّل مرّة في التاريخ الإسلامي بادر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أثناء تولّيه السلطة ، إلى تأسيس «بيت القصص» لكي يكون موضعاً لمعالجة مشكلات النّاس وتظلّماتهم ؛ فمن لا يستطيع من أبناء الشعب أن يوصل مشكلته شفوياً أو لا يرغب أن يُعبِّر عنها بهذه الصيغة ، بمقدوره أن يكتب قصّته ، ويوصل قضيّته عن هذا الطريق .
7 . حفظ وحدة المجتمع واُلفتهيعتقد الإمام عليّ عليه السلام أنّ الاتّحاد يضمن بقاء الدول وديمومتها ، وأنّ الفرقة عامل في سقوط الدول وزوالها . لذلك كان يقول : «لَيسَ رَجُلٌ أحرَصَ عَلى جَماعَةِ اُمّةِ مُحَمَّدٍ
.
ص: 321
واُلفَتِها مِنّي» . وحيثما كان الأمر ذا صلةٍ بشخصه كان يُغضي ويُضحّي من أجل أن لا تبتلي الاُمّة الإسلاميّة بالفرقة ؛ لأنّه عليه السلام كان يؤمن أنّ اختلاف الاُمّة يستتبع انتصار أهل الباطل . لقد بلغ من حرص الإمام على وحدة كلمة الاُمّة الإسلاميّة وعنايته بهذا الموضوع حدّاً أمر فيه الجهاز القضائي التابع لحكومته أن يمتنع عن العمل بالقوانين الإسلاميّة الأصيلة إذا كان في ذلك ما يُثير الاختلاف ، كما سيأتي توضيح ذلك أثناء الحديث عن مرتكزات السياسة القضائيّة .
اُصول السياسة القضائيّةتتمثّل اُصول السياسة القضائيّة للإمام بالمرتكزات التالية :
1 . اختيار الأكفأ للقضاءيعدّ القاضي العنصر الأساسي في التنظيم القضائي من أجل إحقاق حقوق النّاس . ومن ثَمَّ كلّما كان القاضي أقوى علميّاً وعمليّاً وأخلاقيّاً كانت له فاعليّة أكبر في الجهاز القضائي . من هذه الوجهة ينبغي في منطق النظام العلوي اختيار الأكفأ لمنصب القضاء .
2 . تأمين الاحتياجات الاقتصاديّة للقضاةيحظى القضاة المؤهّلون في النظام العلوي بالأمن المعاشي والاقتصادي عامّة ، لكي لا تدفعهم حاجتهم إلى النّاس للانحراف عن الحقّ ، ولئلا يزيغ الجهاز القضائي عن مساره في إصلاح المجتمع ، وينجرّ إلى الفساد .
.
ص: 322
3 . الأمن الوظيفي للقضاةيتمتّع القضاة المؤهّلون في النظام العلوي بالأمن الوظيفي ، وهم على اطمئنان بأنّ أقرب النّاس إلى الجهاز القيادي للنظام ، ليس بمقدوره أن يُعيق عملهم ويُعرقل أداء مسؤوليتهم ، ويمنع من الوفاء بحقوق النّاس وإحقاقها .
4 . رعاية آداب القضاءللقضاء آداب عامّة ، وينبغي للقاضي في النظام العلوي أن يلتزم بجميع آداب القضاء سواء الواجب منها والمندوب . وقد بلغ من حرص الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على رعاية هذا الجانب أنّه أوضح لقاضٍ في أسباب عزله عن الجهاز القضائي : «أنّي رَأيتُ كَلامَكَ يَعلُو عَلى كَلامِ خَصمِكَ» .
5 . الرقابة الدقيقة على القضاةكان الإمام أمير المؤمنين يعدّ نفسه مسؤولاً عن صحّة عمل الجهاز القضائي وسلامته ، وحينئذٍ لم يكن يكتفي بلغة الموعظة وتحذير القضاة من تضييع حقوق المجتمع ، بل كان يمارس الإشراف المباشر على عمل القضاة ، بل يراقب أحكامهم أيضاً . ونظراً لما يحظى به الجهاز القضائي من موقع ممتاز في إصلاح شؤون المجتمع ، كان الإمام يحرص على ممارسة القضاء والفصل في القضايا من خلال موقع «دكّة القضاء» برغم ما عليه من مهامّ ومسؤوليّات .
6 . وحدة الرؤية القضائيّةفي رؤية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز لقضاة النظام الإسلامي اختلافهم في إصدار الأحكام ، بل لابدَّ من وحدة الرؤية . أمّا المسؤوليّة في إيجاد هذه الوحدة
.
ص: 323
الَّتي تنتظم أحكام الجهاز القضائي فهي تقع على عاتق القيادة .
7 . تساوي الجميع أمام القانونفي النظام العلوي يتساوى النّاس جميعاً أمام القانون . ثمَّ إنّ الجهاز القضائي بدرجة من الاستقلال ، ويحظى بمنزلة خاصّة تمكِّنه من إجراء القانون على أفراد المجتمع بصيغة متساوية . فالمجتمع بجميع طبقاته سواسية أمام القاضي والجهاز القضائي ، يستوي في ذلك حَتّى الإمام والقائد الَّذي نصب القاضي في موقعه وخوّله ممارسة القضاء . لقد كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خاضعاً للجهاز القضائي في حكومته برغم كلّ ما يحظى به من مكانة مرموقة على الصعيد العلمي والعملي والسياسي ، وقد حضر إلى المحكمة للإجابة عن أسئلة القاضي الَّذي نصبه بنفسه . وبهذا السلوك كان الإمام يدلّل عملياً على الموقع الَّذي يحظى به القضاء ، ويدافع عن حقوق النّاس ، بالإضافة إلى أنّه يُعلّم قادة المستقبل درساً بليغاً في الخضوع أمام الجهاز القضائي .
8 . موقع مصالح النظام في إصدار الأحكامليس هناك شيء يمكن أن يحول دون إجراء القوانين الإسلاميّة الأصيلة في النظام القضائي التابع للحكم العلوي ، إلّا في مواضع يؤدّي فيها القضاء بالأحكام الإسلاميّة الأصيلة إلى فرقة الاُمّة الإسلاميّة ، ويُفضي إلى تزلزل قواعد الحكم الإسلامي نفسه . وهذه حالة خاصّة _ برزت في عهد الإمام _ نتيجة أوضاع سياسيّة واجتماعيّة معيّنة ، وانبثقت على أثر رؤية خاصّة حملها النّاس إزاء القانون الإلهي . في مواجهة أوضاع كهذه خاطب الإمام علي عليه السلام شُريحاً القاضي ، بقوله : «اقضِ
.
ص: 324
كَما كُنتَ تَقضِي حَتّى يَجتَمِعَ أمرُ النّاسِ» .
اُصول السياسة الأمنيّةأولى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الجانب الأمني أهمّية فائقة ، وكان يعدّ البقعة الَّتي تفتقد إلى الأمن أسوأ الأماكن . كما ذكرأنّ من الأدلة الَّتي دفعته إلى قبول الحكم هي إيجاد الإصلاحات الأمنيّة . أمّا اُصول السياسة الأمنيّة للإمام ، فهي تتمثّل بما يلي :
1 . تأسيس نظام أمني فاعلبرغم أنّ التاريخ لا يسجّل وجود مؤسسة مستقلّة في حكومة الإمام بعنوان أنّها مؤسّسة أمنيّة ، إلّا أنّ ملاحظة النصوص المتفرّقة ذات الصلة بالمهام الأمنيّة ، وتأمّل الأعمال الَّتي كان يقدم عليها الإمام بالاستناد إلى ما يجتمع لديه من أخبار سرّية ، كلّ ذلك يحكي وجود تنظيمات في حكومته وظيفتها جمع الأخبار الَّتي تتّصل بالأمن الداخلي ، والاستخبارات العسكريّة ، وما له صلة بعمل الولاة والاُمراء . لكن ليس في أيدينا معلومات تفصيليّة عن تلك التنظيمات ، الَّتي من الممكن أنها كانت تؤلّف مؤسّسة واحدة أو عدّة مؤسّسات أمنيّة .
2 . إزالة التوتّرإنّ تأمّل توجيهات الإمام في مجال استصلاح الأعداء وتبديلهم إلى أصدقاء ، واعتماده مبدأ السلام الحَذر مع الأعداء ، كلّ ذلك يدلّل التزام الإمام سياسة إزالة التوتّر من أجل ترسيخ الأمن الداخلي للمجتمع الإسلامي .
3 . الحذر وانتهاز الفُرصإلى جوار سياسة إزالة التوتّر كان الإمام يُوصي المسلمين أن لا يرتقبوا من العدوّ
.
ص: 325
الخير ، ولا يتوقّعوا منه النصيحة ، وكان يدعوهم إلى عدم الاستهانة بالأعداء واستصغار شأنهم ، ويحثّهم على التزام جانب الحذر خاصّة في مقابل الأعداء الَّذين لا يجهرون بعدائهم ، وأن يتحيّنوا الفرصة المواتية لمواجهتهم .
4 . الامتناع عن سياسة الرعبامتنع الإمام تماماً عن التوسّل بسياسة إثارة الرعب والخوف ، والركون إلى وسائل القسوة غير القانونيّة ، في مواجهة العناصر المناوئة للأمن . كما لم يلجأ أبداً إلى مبدأ إنزال العقوبة بالمتّهمين والَّذين تحوم حولهم الشبهات في تعكير الجوّ العامّ ، قبل وقوع الجرم .
5 . مبدأ تطبيق القانون في مواجهة المجرمينلم يمنع النظام العلوي اللجوء إلى ممارسة التعذيب في مواجهة المتّهمين والمظنونين وحسب ، بل منع من تعذيب المجرمين أيضاً ؛ إذ لم يكن من حقّ إنسان أن يُهين مجرماً . فإذا ما ثبت الجرم في المحكمة ينفّذ بالمجرم القانون الإلهي ، وإذا حصل أحياناً وأن تخطّى منفّذ الحكم دائرة العقوبة المنصوصة عمداً أو سهواً يُنزل به القصاص ، كما وقع لقنبر عندما زاد في جلد مجرم ثلاثة سياط ، فما كان من المجرم إلّا أن اقتصّه بها .
6 . مداراة المعارضين ما لم يصلوا إلى تخوم التآمركان الإمام يلجأ إلى مبدأ العمل بالمداراة مع المعارضين السياسيين ما لم يصلوا إلى تخوم الفساد والتآمر الأمني ، وهو يؤمن أنّ سياسة الرفق بالمعارضين ومداراتهم تُخفّف من غلوائهم وتُقلّل مخالفتهم . فالإمام لم يعمد إلى مواجهة الخوارج ما داموا لم يرتكبوا قتلاً ، ولم يُخلّوا بأمن المجتمع الإسلامي ولم يجرّوه إلى الخطر ، بل
.
ص: 326
تحمّل سُبابهم وتجريحهم ، ولم يقطع عنهم حَتّى عطاءهم من بيت المال ! أمّا في التعامل مع المتآمرين ضدّ الأمن العام فقد كان الإمام يختار الحكم بما يناسب سعة المؤامرة وعمقها . فقد كان ينفي المتآمرين حيناً ، ويحبسهم حيناً آخر ، وقد يلجأ إلى المواجهة العسكريّة والقوّة كحلٍّ .
اُصول السياسة الحربيّةتنطوي السياسة الحربيّة للإمام على دروس كبيرة وعِبَر ، وهي جديرة بالاهتمام . وترجع هذه السياسة إلى الاُصول التالية :
1 . العناية بالتدريب الحربي وتنظيم الجيشكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام واحداً من أبرز القادة العسكريين تجربة . فقد أمضى عمراً في سوح القتال ، وعلاوة على ما كان يتمتّع به من قوّة وشجاعة لا نظير لهما ، فقد كان على دراية تامّة بضروب الفنون العسكريّة . لقد راح الإمام يتولّى بنفسه تدريب جيشه ، وكان قبل انطلاق المعركة يرتّب القوّات وينظّمها على نسق خاص ، وهو يكرّر على مسامعها أبرز النقاط التدريبيّة على هذا الصعيد . لقد حصل في أثناء الغارات الَّتي شنّها معاوية أن ندَّت بعض الأصوات تتّهم الإمام أن لا علم له بالحرب ! فكان ممّا أجاب به وهو يشكو أصحابه ، قوله عليه السلام : «وَأفسَدتُم عَلَيَّ رَأيي بِالعِصيانِ وَالخِذلانِ ؛ حَتّى لَقَد قَالَت قُرَيشٌ : إنَّ ابنَ أبي طالِبٍ رَجُلٌ شُجاعٌ ، وَلكِن لا عِلمَ لَهُ بِالحَربِ . للّهِِ أبوهُم ! وَهَل أحَدٌ مِنهُم أشَدُّ لَها مِرَاسَاً ، وأقدَمُ فيها مَقاماً مِنّي ! لَقَد نَهَضتُ فيها وَما بَلَغتُ العِشرِينَ ، وها أنذا قَد ذَرَّفتُ عَلَى السِّتّينَ ، وَلكِن لا رَأيَ لِمَن لا يُطاع !» . (1)
.
ص: 327
لم يكن الإمام يغفل في تدريب المقاتلين على ضروب الفنون العسكريّة أدقّ النقاط وأصغرها ، من قبيل عدم الانفصال عن السلاح في المعركة ، استثمار الفرص المناسبة لإنزال الضربة بالعدوّ ، طبيعة النظرة إلى قوّات العدوّ وكيفيّة ممارسة الانسحاب التكتيكي .
2 . تأسيس القوّات الخاصّةواحدة من المعالم البارزة في سياسة الإمام الحربيّة تأسيسه قوّات خاصّة عرفت باسم «شُرْطة الخميس 1 » أو ما يعبّر عنه اليوم ب_ «الفدائييّن» . لقد انضمّت إلى «شُرْطة الخميس» أوفى القوات للإمام وأكثرها إخلاصاً واستعداداً للتضحية والفداء ؛ فقد كانت هذه القوّات تتحلّى بكفاءة ممتازة ، ويستفيد منها الإمام في المهمّات الخاصّة . لقد خاطب الإمام هذه القوّات في واحدة من خطبه ، بقوله عليه السلام : «أنتُمُ الأَنصارُ عَلَى الحَقِّ ، وَالإِخوانُ فِي الدّينِ ، وَالجُنَنُ (1) يَومَ البَأسِ ، وَالبِطانَةُ دونَ النّاسِ ، بِكُم أضرِبُ المُدبِرَ ، وأرجو طاعَةَ المُقبِلِ ، فَأَعينوني بِمُناصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الغِشِّ ، سَليمَةٍ مِنَ الرَّيبِ ؛ فَوَاللّهِ إنّي لَأَولَى النّاسِ بِالنّاسِ» . (2) ويمكن مقاربة «شُرْطة الخميس» في إطار الثقافة المعاصرة بمصطلح
.
ص: 328
«الاُصوليين» وحالة «حزب اللّه » الَّتي تتمتّع بالعقلانيّة والخبرة والكفاءة ، وهي تقف إلى جوار الإمام . فلقد كان لهذه «القوّات» القدرة على النقد البنّاء في اللحظة المطلوبة ، كما كانت وفيّة للإمام ، ثابتة على ولائه في أحلك الأوضاع الَّتي مرَّ بها الحكم العلوي . أمّا سبب تسمية هذه القوّة ب_ «شُرْطة الخميس» فلعلامات خاصّة كانوا يُعرفون بها ، أو لعهدٍ خاص أبرموه مع الإمام ، حيث سئل الأصبغ بن نباتة : كيف تسمّيتم شُرْطة الخميس يا أصبغ ؟ قال : «لأنّا ضمنّا له الذبح ، وضمن لنا الفتح» يعني أمير المؤمنين عليه السلام . (1)
3 . تقوية البنية المعنويّةحرص الإمام على أن يولي القدرة النفسيّة وما تحظى به القوات المسلّحة من قوّة في البنية المعنويّة وروح تضحويّة عالية ؛ أهمّيةً استثنائية فائقة . وعلى هذا الأساس سعى الإمام للإفادة من أيّ طريق ممكن في تعزيز الروح المعنويّة للقوّات المسلّحة في مواجهة العدوّ . لقد راح الإمام يبثّ روح الإيثار والتضحية في القوّات المقاتلة ويلهب فيها روح الحماس والاستعداد لاستقبال الشهادة ، من خلال الخطب الناريّة ، والشعارات المؤثِّرة ، وعبر الترغيب بالحياة ما بعد الموت ، والاستمداد من اللّه والاستعانة بالذكر والدعاء . بيدَ أنّ ما يثير الانتباه على هذا الصعيد ، ويدخل في عداد العناصر المهمّة ، توظيف الإمام عنصر «الإيحاء والتلقين» في تقوية الجانب النفسي للمجاهدين ؛ فمن خلال تربية ابنه محمّد عبر هذا البعد ، يصف الإمام تجربته الشخصيّة لولده ،
.
ص: 329
بقوله : «إنَّني لَم ألقَ أحَداً إلّا حَدَّثَتني نَفسي بِقَتلِهِ ، فَحَدِّث نَفسَكَ _ بِعَون اللّهِ _ بِظُهورِكَ عَلَيهِم» . وبالعكس ، تُعدّ عمليّة تلقين النفس بالضعف والإيحاء لها بالخوف واحدة من موجبات الهزيمة أمام العدوّ ، وفي هذا المضمار يقول الإمام في جواب مَن سأله : بِأَيِّ شَيءٍ غَلَبتَ الأَقرانَ ؟ : «ما لَقيتُ رَجُلاً إلّا أعانَني عَلى نَفسِهِ» . (1) لقد تمثّلت واحدة أخرى من وسائل تعزيز الحالة النفسيّة للمجاهدين في نطاق النهج الحربي للنظام العلوي ، بتحذير هؤلاء من العواقب الدنيويّة والاُخرويّة الخطيرة الَّتي قد تترتّب على إدبارهم عن العدوّ ، وفرارهم من الجبهات . من النقاط الاُخر الَّتي تبرز في هذا المضمار تأكيد الإمام على كتمان الاُمور الَّتي يُفضي فشوها إلى تضعيف روح المقاومة .
4 . الحيلة في الحربذكرنا فيما سلف أنّه لا مكان للحيلة والخداع في سياسة الإمام الإداريّة . وفي هذا المعنى يكمن الفارق الأساسي والأكثر أهمّية بين المنهجين العلوي والاُموي . لكن ينبغي أنّ ننتبه إلى أن هذا النهج العامّ يسجِّل استثناءً واحداً يتمثّل بموقع الحيلة في الحرب . ففي الوقت الَّذي يعارض الإمام بقوّة استخدام الحيلة والتوسّل بالخداع في غير الحرب ، يجيز ذلك في الحرب ، بل ويوصي به ، ويعدّ نفسه في طليعة المختصّين بهذا المبدأ في مضمار الحرب ، ويقول : «كُن فِي الحَربِ بِحيلَتِكَ أوثَقَ مِنكَ
.
ص: 330
بِشدَّتِكَ» .
5 . أخلاق الحربتتمثّل واحدة من النقاط الغنيّة بالدروس في السياسة الحربيّة للنظام العلوي ، بموضوع أخلاق الحرب ، حيث يمكن إجمال اُصول الأخلاق الحربيّة من المنظار العلوي ، بالنقاط التالية :
أ _ تجنّب الحرب وعدم البدء بالقتالتأتي هذه السياسة تأكيداً على جنوح الإسلام العلوي إلى السلم ومناهضة النزعة الحربيّة . ففي جميع الحروب الَّتي اندلعت على عهد الإمام أمير المؤمنين ، كان عليه السلام ينهى جيشه عن مبادأة القوم بالقتال ، ويوصيه بعدم مباشرة القتال حَتّى يبدأ العدوّ بذلك . عن جندب الأزدي أنّه قال : إنّ علياً كان يأمرنا في كلّ موطن لقينا فيه معه عدوّاً ، فيقول : «لا تُقاتِلُوا القَومَ حَتّى يَبدَؤوكُم ؛ فَأَنتُم بِحَمدِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ عَلى حُجَّةٍ ، وتَركُكُم إيّاهُم حَتّى يَبدَؤوكُم حُجَّةٌ اُخرى لَكُم» .
ب _ عدم الدعوة إلى المبارزةفي اتّجاه ترسيخ سياسة مناهضة النزعة الحربيّة ، كان الإمام ينهى المقاتلين معه عن الدعوة إلى المبارزة ، أمّا إذا دعا إليها العدوّ فتلزم إجابته .
ج _ الحصانة السياسيّة لرُسل العدوّتتمثّل واحدة من مبادئ السياسة الدوليّة للإسلام بمبدأ الحصانة السياسيّة لممثّلي البلدان الأجنبيّة ، ولرُسُل العدوّ أيضاً . لقد كان الإمام عليّ عليه السلام يحثّ جيشه على التزام هذا النهج بشكل جدّي ، ويدعوهم إلى التلبّث في الموارد المشكوكة ، فإذا ما
.
ص: 331
ادّعى إنسان أنّه من رسل العدوّ ، لا تسوغ مواجهته قبل إنجاز التحريات الكافية .
د _ إقامة الحجّة قبل بدء القتاللقد بلغ من عناية الإمام بالتوعية وإنارة البصائر ، والحرص على عدم سفك الدماء ، أنّه لم يكن يُضيع أيّة فرصة تسنح لهداية العدوّ ، بل كان يمارس الهداية حَتّى في ساحة القتال وبين الجيشين وهما على وشك الالتحام ، ويُقيم الحجّة مكرّراً على العدوّ .
ه _ الدعاء أثناء القتالعندما يكون الجيش العلوي مستعدّاً للالتحام مع العدوّ ، وبعد إقامة الحجّة وقبل الشروع بالقتال ، يلجأ الإمام إلى الدعاء وذكر اللّه لكي يستمدّ العون منه ، وحَتّى يكون الجهاد مقدّمة لحبّ اللّه والاقتراب إليه أكثر ، ووسيلة لتحقّق الأهداف والقيم الإنسانيّة .
و _ الشروع في القتال عند الزوالكان الإمام أمير المؤمنين يسعى أن لا يقاتل حَتّى تزول الشمس ؛ فإنّه أقرب إلى الليل ، ومن ثم فهو أدعى إلى انتهاء القتال سريعاً ، وأجدر أن يقلّ القتل ، ويرجع الطالب ، ويفلت المنهزم .
ز _ الإحسان إلى فلول العدوّكان الإمام يأمر جيشه بحسن السيرة مع الجيش المهزوم ويحثّهم على الرفق بالأسرى ومن بقي منه بالأخصّ النساء . فقد كان من وصاياه لمقاتليه أن لا يتبعوا مدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، ولا يدخلوا داراً ، ولا يأخذوا من أموال النّاس شيئاً إلّا ما وجدوه في عسكر القوم ، ولا يعرضوا إلى النساء ولا يهيجوهن بأذىً وإن شتمن الأعراض وسببن الاُمراء والصلحاء .
.
ص: 332
اُصول السياسة العالميّةمرَّت _ في الفقرات السابقة _ إشارات إلى اُصول سياسة الإمام عليّ عليه السلام في مختلف المضامير الإداريّة ومرافق البلاد . وما نقصده من السياسة العالميّة للإمام _ في هذه الفقرة _ هو توظيف تعاليمه والإفادة ممّا رسمه من توجيهات ، ممّا يعدّ ضرورياً لإدارة البلاد واستقرار الاجتماع السياسي بغضّ النظر عن أيّ عقيدة واتجاه . ومعنى ذلك تحديداً ، أنّ التوجيهات السياسيّة والاجتماعيّة هذه هي ممّا تقتضيه الفطرة ويُمليه العقل السليم ؛ فبمقدور كلّ إنسان أن يشهد بصحّة هذه المنطلقات السياسيّة والاجتماعيّة العلويّة في مضمار إدارة البلد وتوجيه الاجتماع السياسي ، ويتأكّد من سلامتها بمحض احتكامه إلى وجدانه ، ورجوعه إلى التاريخ ، وبغضّ النظر عن معتقده الديني مهما كان . لقد توفّر الفصل العاشر على تصنيف سياسة الإمام وما وضعه من قواعد عامّة ومنطلقات عالميّة على صعيد إدارة البلد والاجتماع السياسي ، إلى ثلاثة أقسام ، هي :
المجموعة الأولى : القواعد الَّتي تضمن بقاء الدولتتضمّن هذه المجموعة جملة القواعد الَّتي يعدّ الالتزام بها ضرورياً لبقاء الدول ودوامها ، مثل السعي الحثيث لترسيخ العدالة الاجتماعيّة ، والاستناد إلى حسن التدبير في إدارة شؤون الاجتماع السياسي ، وإلى الرفق في التعامل مع النّاس ، بالإضافة إلى توخّي الحذر في الدفاع عن الحرّية ، وتأمين الاستقلال والعزّة ، وكلّ ما له صلة بالحقوق الفرديّة والاجتماعيّة للشعب .
المجموعة الثانية : القواعد الَّتي تجرّ إلى زوال الدولوهي تتضمّن جملة من القواعد والسياسات الَّتي وإن كان اللجوء إليها يمكن أن
.
ص: 333
يكون فاعلاً على المدى القصير ، إلّا أنّها تجرّ في نهاية المطاف إلى زوال الحكم ، مثل التعدّي على حقوق النّاس ، وسفك الدماء ، والركون إلى سوء التدبير في إدارة الاُمور ، والاستئثار وتقديم المسؤولين عن النظام لمصالحهم الذاتيّة ومصالح من يحيط بهم على الآخرين ، والتفريط بقواعد الحاكميّة واُصولها ، وانجرار مسؤولي النظام إلى الاُمور التافهة ، وإناطة المسؤوليّة لغير المؤهّلين في مقابل إقصاء الأكفّاء .
المجموعة الثالثة : المنطلقات الفاعلة في العلاقات الدوليّةوهذه تشمل التوجيهات الَّتي صدرت عن الإمام عليه السلام في مجال العلاقات الدوليّة ، مثل الإقرار للآخرين بحقوق إنسانيّة نظير ما يتمتّع به الإنسان المسلم من حقوق على هذا الصعيد ؛ ضرورة التمسّك بمبدأ العزّة في إقامة العلاقات مع الآخرين ، والاهتمام بسياسة إزالة التوتّر مع سائر البلدان ، والوفاء بالمعاهدات والمواثيق ، والتزام جانب الأمانة في حفظ حقوق الآخرين ، واستثمار ما تحظى به البلدان الأجنبيّة من علوم وفنون مع الحفاظ في الوقت ذاته على الاستقلال الثقافي وعدم الذوبان في ثقافة الآخر . وبالإضافة إلى هذه المجموعات الثلاث ، فقد عُرف عن الإمام في مضمار العلاقات الدوليّة ، عناصر اُخرى بالغة الأهميّة ، وتنطوي على قيمة تعليميّة فائقة ، مبثوثة في الثنايا . (1)
استخلاصما تمّ استعراضه حَتّى اللحظة من خلاصات مكثّفة حيال الاُصول السياسيّة للإمام عليّ عليه السلام في مجال الإدارة العامة والاجتماع السياسي _ ممّا سيأتي تفصيله _ يكشف
.
ص: 334
بجلاء أنّ السياسة في منظار الإمام أمير المؤمنين هي أداة للحكم على أساس الحقوق والاحتياجات الواقعيّة للناس ، وليست أداة لترسيخ سلطة الأقوياء والمعتدين على حقوق الشعب . على ضوء تلك الاُصول وهذا الاستخلاص يمكن الإجابة بسهولة على ما يُثار من انتقادات حول كفاءة الإمام وأهليّته السياسيّة .
.
ص: 335
دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة (3 ) إنّ من ينظر إلى السياسة بوصفها أداة للتسلّط على الاُمّة ، وليست مجرّد وسيلة للحكم على أساس الحقوق العامة للاُمّة واحتياجاتها الواقعيّة ، يظنّ أن بعض المواقف السياسيّة للإمام هي دليل عدم تأهّله السياسي وعدم كفاءته في هذا المجال ، ويزعم أنّ علياً رجل حرب وشجاعة ، وليس رجل سياسة ! من المواضع الَّتي تُغري هؤلاء بهذا الوهم بعض مواقف الإمام قبل بلوغه السلطة ، مثل موقفه في عمل الشورى السداسيّة الَّتي انتخبها عمر لتعيين الخليفة من بعده ، وعدد آخر من مواقفه السياسيّة بعد تسنّمه الحكم ، كعزله معاوية بداية خلافته . فلو كان الإمام رجل سياسة _ في منطق هؤلاء _ لاستجاب إلى شرط عبد الرحمن بن عوف عندما اشترط لبيعته أن يعمل الإمام بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر ، ولا يضيّع الفرصة الَّتي واتته لتسنّم الخلافة ، حَتّى إذا ما استقرّت قواعد حكمه عمل بما يريد . وإلّا هل ترى أنّ عثمان الَّذي قبل شرط عبد الرحمن هذا قد وفّى به ! يُضيف هؤلاء : ولو أنّ عليّاً كان رجل سياسة لداهن خصومه بداية عهده بالحكم ، بالأخصّ طلحة والزبير ومعاوية ، واستجاب لرغائبهم مؤقّتاً ، حَتّى إذا ما استقرّ حكمه بادر لمواجهتهم والقضاء عليهم .
.
ص: 336
ليست قليلة مثل هذه المواقف في حياة الإمام السياسيّة ، حيث حال إصراره على التمسّك بالقيم الأخلاقيّة والإسلاميّة دون وصوله إلى السلطة ، أو أدّى إلى تضعيف قواعد حكمه . يكتب ابن أبي الحديد في هذا المضمار : «واعلم أنّ قوماً ممّن لم يعرِف حقيقة فضل أمير المؤمنين عليه السلام ، زعموا أنّ عمر كان أسوس منه ، وإن كان هو أعلم من عمر ، ثم زعم أعداؤه ومباغضوه أنّ معاوية كان أسوس منه وأصحّ تدبيراً» . (1) لكي لا يطول البحث أكثر ، نكل الجواب التفصيلي عمّا اُثير من نقدٍ حيال مواضع خاصّة من سياسة الإمام إلى موضعه المناسب، لنكتفي في هذا المجال بجواب عامّ يعالج جميع الانتقادات الَّتي اُثيرت حول منهجه أو الَّتي يمكن أن تُثار . وجوهر هذا الجواب : أنّنا إذا أخذنا السياسة بمعنى أنّها أداة لحكم القلوب ، أو أنّها وسيلة لممارسة الحكم على أساس حقوق النّاس والاحتياجات الواقعيّة للمجتمع ؛ فإنّ عليّاً هو أعظم رجل سياسة في التأريخ بعد النبي صلى الله عليه و آله . أمّا إذا كانت السياسة بمعنى الوصول إلى الحكم وفرض السلطة على المجتمع بأيّ طريق ممكن ، فإنّ عليّاً عليه السلام ليس رجل سياسة أصلاً . بديهي ، لا يعني ذلك أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن يعرف السياسة بهذا المعنى ، إنّما معناه أنّ التزامه بالأحكام الإلهيّة ؛ وتمسّكه بالقيم الأخلاقيّة أثنياه أن يكون سياسيّاً بهذا المعنى ، وإلّا فإنّ الإمام كان أعرف النّاس بألاعيب السياسة وحيلها اللامشروعة من أجل فرض السلطة ، كيف لا ، وهو الَّذي يقول : «لَولا أنَّ المَكر وَالخَديعَةَ فِي النّارِ لَكُنتُ أمكَرَ النّاسِ» .
.
ص: 337
كما يقول : «هَيهاتَ ، لَولَا التُّقى لَكُنتُ أدهَى العَرَبِ» . وقوله عليه السلام : «وَاللّهِ ما مُعاوِيَةُ بِأَدهى مِنّي ، ولكِنَّهُ يَغدِرُ ويَفجُرُ ، ولَولا كَراهِيَّةُ الغَدرِ لَكُنتُ مِن أدهَى النّاسِ ، ولكِن كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ ، وكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ ، ولِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يُعرَفُ بِهِ يَومَ القِيامَةِ» . إنّه عليه السلام لعلى دراية بأيّ مكر سياسي يستطيع أن يحبس الأنفاس في الصدور ، كما بمقدوره أن يلجأ إلى سياسة الترغيب والتهديد والتجاوز على حقوق عامّة النّاس ليقضي على ضروب المعارضة والعصيان الداخلي ، بيد أنّ التزامه يُثنيه عن ذلك ، وتربأ به قيمه الإسلاميّة والإنسانيّة من الجنوح إلى هذا المنحدر ، وتعصمه عن التوسّل بالوسائل غير المشروعة . ولطالما كرّر _ صلوات اللّه وسلامه عليه _ قوله : «إنّي لَعالِمٌ بِما يُصلِحُكُم ويُقيمُ أوَدَكُم ، وَلكِنّي لا أرَى إصلاحَكُم بإِفسادِ نَفسِي» . (1) يُشير الإمام في هذا الكلام إلى تلك السياسات والوسائل الفاعلة على صعيد فرض الحكم التسلّطي على المجتمع ، بيد أنّه لا يستطيع أن يلجأ إليها ، لأنّها تنتهي إلى ثمن باهض هو فساد السياسي نفسه ! أجل ، إنّه الإصلاح الَّذي يكون ثمنه فساد المصلح !وهذا الكلام لأمير المؤمنين يعلن أنّ حركة الإصلاح قد تنتهي أحياناً إلى فساد المصلح . ومن ثَمّ فإنّ اُصول المنهج السياسي العلوي لا تسمح لحكم الإمام أن يلجأ الى ممارسة ذلك النمط من الإصلاحات القائم على مرتكزات غير مشروعة ، مثل الإصلاح الاقتصادي الَّذي يكون ثمنه التضحية بالعدالة الاجتماعيّة ، ممّا هو سائد في العالم المعاصر . إنّ الإمام عليّاً عليه السلام يعرف جيّداً كيف يخدع المعارضين الأقوياء ذوي النفوذ السياسي الهائل ، ويُغريهم بأنّ مصالحهم سوف تتأمّن في إطار حكمه ، ثمّ يعمد إلى
.
ص: 338
استيصالهم والقضاء عليهم تدريجيّاً ، كما يعرف أيضاً كيف يخدع الشعب ، ويُغريه بأنّ حقوقه الواقعيّة سوف تتأمّن ، وأنّه سوف يحترم القيم الإسلاميّة ، على حين ينهج في العمل سبيلاً آخر ، ليرسّخ بذلك قواعد حكمه ويحافظ على استقراره . ولو أنّ ذلك قد حصل ، لما كان عليُّ بن أبي طالب عندئذٍ ، هو عليَّ بن أبي طالب ، بل لكان رجل سياسة محترف مثله كمثل بقيّة السياسيّين المحترفين في التاريخ ، له اُسوة بهم وهم يتّخذون السياسة أداة لفرض السلطة على النّاس ، لا أن تكون وسيلة لإقامة الحقّ وتأمين حقوق المجتمع . لم يكن لحركة الإصلاح العلوي من هدف سوى إحياء منهج الحكم النبوي ، ومن ثَمّ لم يكن بمقدورها أن تتحرّك على اُسس غير مبدئيّة ، مناهضة للقيم والدين وكلّ ما هو غير إنساني . من هذا المنطلق راحت هذه الحركة الإصلاحيّة تواجه ذات العقبات والمشكلات الَّتي اصطدم بها الحكم النبوي . (1) لكن الإمام استطاع من خلال تحمله كافّة المشكلات ، أن يُعيد في التاريخ الإسلامي _ ولمرّة أخرى _ المعالم الوضّاءة لمنهج الحكم النبوي ، وأن يُعلّم الآخرين ممّن يأتي في المستقبل منهج حكومة القلوب . لكن ينبثق هنا سؤال أساسي ، فحواه : إذا كان النهج الَّذي اختاره الإمام لإدارة الاجتماع السياسي ممكناً وعمليّاً من خلال الاُصول الَّتي مرّت الإشارة إليها ، فلماذا راحت أكثريّة النّاس تبتعد عن رجل سياسة كعليّ نهض بتنفيذ هذا المنهج ، مع أنّه عليه السلام كان قد وصل إلى السلطة بحماية عامّة من الجمهور نفسه عبر عمليّة انتخابيّة حرّة ؟ ولماذا انفضّت عنه بعد مرور مدّة قصيرة على حكمه ، بحيث أمضى الأشهر الأخيرة من حياته وحيداً فريداً ؟
.
ص: 339
يمكن القول إجمالاً في جواب هذا السؤال بأنّ ابتعاد النّاس عن الإمام وبقاءه وحيداً ، ليس دليلاً على خطأ هذا النهج وعدم صحّته . بل ثَمَّ لذلك دلائل اُخرى ستأتي تفصيلاً نهاية القسم السابع من هذه الموسوعة ، المخصّص لمصير الإمام وما آل إليه من غربة موجعة .
.
ص: 340
الفصل الأوّل: بيعة النورأ _ تاريخُ بَيعَةِ الإِمامِ عليه السلاماختلف المؤرّخون وكُتّاب السِّيرة في تعيين التاريخ الدقيق لبيعة النّاس للإمام عليه السلام ، فقال البعض : إنّها حصلت في اليوم الَّذي قُتل فيه عثمان (1) . وقال آخرون : إنّها وقعت بعد قتل عثمان بفترة ؛ واختلفوا في تحديدها بين اليوم الواحد والخمسة أيّام . 2 فورد في بعض المصادر التاريخيّة : «بويِعَ عَلِيٌّ يَومَ الجُمُعَةِ لِخَمسٍ بَقينَ مِن ذِي الحِجَّةِ وَالنّاسُ يَحسَبونَ مِن يَومِ قَتلِ عُثمانَ» . (2) لكن نقل الطبري عن أبي المليح (3) ونقل ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي (4) ، كما جاء في تاريخ دمشق وتذكرة الخواصّ (5) ، أنّ بيعة النّاس كانت يوم
.
ص: 341
الثامن عشر من ذي الحجّة سنة (35 ه ) . والَّذي نراه هو أنّ القول الثاني أقرب إلى الواقع ؛ حيث أنّه يلائم القول باتّحاد تاريخ قتل عثمان _ الَّذي هو 18 ذي الحجّة على أصحّ الأقوال (1) _ مع تاريخ بيعة الإمام ، مضافا إلى تصريح المصادر السابقة بذلك . ومن جهةٍ اُخرى إذا لاحظنا الشرائط السياسيّة الحاكمة على المجتمع الإسلامي آنذاك ، ولاحظنا شخصيّة الإمام العديمة النظير ، فإنّه يبعد _ غاية البُعد _ وقوع فاصل زماني بين قتل عثمان وتعيين القائد الجديد للاُمّة .
ب _ حُرِّيَّةُ النّاسِ فِي انتِخابِ الإِمامِ عليه السلامالإمام عليّ عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى أهلِ الكوفَةِ عِندَ مَسيرِهِ مِنَ المَدينَةِ إلَى البَصرَةِ _: بايَعَنِي النّاسُ غَيرَ مُستَكرَهينَ ، ولا مُجبَرينَ ، بَل طائِعينَ مُخَيَّرينَ . (2)
ج _ كَراهَةُ الإِمامِ عليه السلام لِلحُكومَةِالإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَتِهِ بَعدَ البَيعَةِ _: أمّا بَعدُ ، فَإِنّي قَد كُنتُ كارِها لِهذهِ الوِلايَةِ _ يَعلَمُ اللّهُ في سَماواتِهِ وفَوقَ عَرشِهِ _ عَلى اُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، حَتَّى اجتَمَعتُم عَلى ذلِكَ ، فَدَخَلتُ فيهِ . (3)
.
ص: 342
نظر تحليلي حول أسباب كراهة الإمام لقبول الحكومةكانت الثورة على عثمان _ بسبب ممارساته في الحكم _ عامّة شاملة ، وقد أفضى شمول الثورة وتطلّع النّاس إلى شخصيّة بارزة للخلافة إلى أن تكون مقدّرات الخلافة خارجة من قبضة التيّارات المتباينة ؛ أي أنّ النّاس أنفسهم كانوا أصحاب القرار في اختيار القائد السياسي. وكانت القلوب بأسرها يومئذٍ تتشوّف إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحده بلا أدنى تردّد، فقد كان أكفَأ إنسان لخلافة النبيّ صلى الله عليه و آله ، وها هو اسمه تردّده الألسن وإن زُوي مدّةً دامت خمسا وعشرين سنةً. وكان الإقبال الشعبي العامّ إليه بنحوٍ لم يتَسَنَّ لأحدٍ أن يخالفه فيه قطّ . من هنا شعر مدّعو الخلافة _ الَّذين كانوا يزعمون أنّهم نظائره عليه السلام ، وكانوا معه في الشورى السداسيّة _ أنّ الحنكة السياسيّة تتطلّب المبادرة إلى بيعته والسبق إليها. وكانت الأمواج البشريّة العارمة تنثال عليه من كلّ جانبٍ لبيعته، بَيْد أنّه عليه السلام وقف بحزمٍ وصرامة ورفضَ البيعة، وطلب من النّاس أن يَدَعوه ويلتمسوا غيره، وقال لهم: «أنَا لَكُم وَزيرا خَيرٌ لَكُم مِنّي أميرا». ومن العجيب أنّ الرجل الَّذي كان يرى نفسه الخليفة المباشر للنبيّ صلى الله عليه و آله ، وما برح يعرض ظلامته ويتحدّث عن أهليّته وجدارته للخلافة خلال المدّة الطويلة لإزوائه
.
ص: 343
كلّما اقتضى المقام منه ذلك، وكان يصرخ من وحي الحرقة والألم ومن أعماق قلبه متأوّها لاستلاب حقّه، وزحزحة الحقّ عن مكانه... ها هو الآن يرفض البيعة ، وقد انثال عليه النّاس انثيالاً عجيبا مدهشا ، مقبلين عليه بقلوبهم وأرواحهم وبكلّ وجودهم، راضين به خليفةً لهم، مؤكّدين تصدّيه لحكومتهم في انتخابٍ حرٍّ مباشرٍ !فما له يكره ذلك ، ويرغب عن قبول هذه المهمّة؛ معلنا ذلك بصراحة؟!ولماذا وقف الإمام عليه السلام هذا الموقف؟ هل رغب عنها حقّا لنفسه ورجّح لها شخصا آخر أم أنّه أراد بموقفه هذا أن يعبّر مثلاً عن شيءٍ من المجاملة السياسيّة _ ومثله لا يجامل _ من أجل أن يسترعي انتباه النّاس أكثر فأكثر ، أو كان لموقفه الثُّنائي هذا مسوِّغ أو مسوِّغات اُخرى لا نعرفها؟! والواقع أنّ معرفة _ ولو يسيرة _ بسيرته واُسلوبه وبصيرته ونهجه عليه السلام لا تدَع مجالاً للشكّ في أنّه كان بعيدا عن المجاملات السياسيّة، نافرا من نفس الحكومة بما هي حكومة. فهو لم يكن طالبَ حكم وتسلّط على النّاس ؛ إذ الخلافة عنده أداة لإحقاق الحقّ، وبسط العدل، وإقامة القسط، فهل كانت الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة آنذاك مهيّأة لتحقيق الأهداف المذكورة؟ كلّا، إنّ مثل هذه الظروف لم تكن مهيّأة؛ فالتقلّبات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، والتغيّرات الروحيّة والفكريّة الَّتي حدثت بعد خمس وعشرين سنةً قد استتبعت تغيّر الصحابة ورفاق الدرب أيضا بأفكارٍ مغايرة، ومعايير مباينة، ومقاييس اُخرى للحياة... إنّ الجيل الجديد _ والَّذين يقفون على رأس المواقع السياسيّة في هذه الفترة المتأخّرة _ إنّما يعيشون في ظروف يجهلون فيها معايير الدين وموازينه الراسخة،
.
ص: 344
ولا يَعُون طبيعة عصر الرسالة والسيرة النبويّة، ولا يعرفون عليّا عليه السلام ومنزلته الرفيعة في الدين ودوره وشأنه العظيمين معرفةً صحيحةً. فما مرّ على الدين خلال ربع قرن، وما ابتُدع من تفسيرات وتأويلات للنصوص الدينيّة، وما ظهر من تغييرات في الأحكام، خاصّة في عهد الخليفة الثالث، كلّ ذلك جعل مبادئ الدين ومقاييسه الصحيحة وأحكامه السديدةَ غريبةً على النّاس ، وهو الَّذي سوّغ للاُمّة ثورتها على عثمان ؛ فقد كان الثوّار يقولون في عثمان: «أحدَثَ الأَحداثَ ، وخالَفَ حُكمَ الكِتابِ» (1) . وحيث كان يُشتكى من مقتله وسرّ الثورة عليه، يقولون: لأحداثه (2) . هذه كلّها رسمت صورةً في الأذهان وأجرت على الألسن صعوبة العمل على أساس الكتاب والسنّة بعيدا عن المجاملات والمداهنات. وكان الإمام عليه السلام يعلم علم اليقين أنّ إرجاع المياه إلى مجاريها يُثير عليه الفتن، وأنّ تطبيق الحقّ يُنهض أصحاب الباطل المعاندين للحقّ. من هنا كان عليه السلام يرفض البيعة ، ويؤكّد رفضه ؛ كي تتمّ الحجّة على المخالفين في المستقبل. وفي إحدى المناسبات قال عليه السلام : «دَعوني وَالتَمِسوا غَيري ؛ فَإِنّا مُستَقِبلونَ أمرا لَهُ وجوهٌ وأَلوانٌ ، لا تَقومُ لَهُ القُلوبُ ، ولا تَثبُتُ عَلَيهِ العُقولُ . وإنَّ الآفاقَ قَد أغامَت ، وَالمَحَجَّةَ قَد تَنَكَّرَت . وَاعلَموا أنّي إن أجَبتُكُم رَكِبتُ بِكُم ما أعلَمُ ، ولَم اُصغِ إلى قَولِ القائِلِ ، وعَتبِ العاتِبِ ، وإن تَرَكتُموني فَأَنَا كَأَحَدِكُم ، ولَعَلّيٌ أسمَعُكُم وأطوَعُكُمِ لِمَن وَلَّيتُموهُ أمرَكُم ، وأنَا لَكُم وَزيرا خَيرٌ لَكُم مِنّي أميرا» (3) .
.
ص: 345
إنّه لكلامٌ بليغ، كلام معبّر ، وذو مغزى . إنّ ما نستقبله أمر ذو ألوان شتّى، وله وجوه وأشكال متباينة . . . نستقبل أمواجا تبدأ بعدها العواصف والأعاصير ، والعدل الَّذي اُصِرّ عليه يستتبع صيحات تعلو ، وصرخات تتصاعد هنا وهناك ... . وكان عليه السلام يريد أن تتمهّد الأرضيّة، ويضع للناس معايير التعامل ومقاييسه، ويعيد الكلام حول الخطوط الأصليّة للحكومة، ويستبين المستقبل ليختار الناسُ سبيلهم بوعي ، ويتّخذوا موقفهم عن بصيرة. في كلامه عليه السلام ، بعد امتناعه ورفضه في الخطبة المذكورة وفي مواضع اُخرى : 1 . تأكيد على أنّه غير عاشق للرئاسة وليس من طلّابها ؛ فإذا تحدّث عن نفسه، وتأوّه ممّا حدث بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأكّد زعامته وإمامته، فذلك كلّه لتوضيح الحقائق ، وتأكيد المصالح. وإذا تسلّم زمام الاُمور، ورضي بالخلافة ، فلإقامة الحقّ، وبناء حكومة على النهج الَّذي يعرفه هو ويرتضيه ؛ كي لا يرى أحد أو جماعة أو قبيلة أنّ الإمام عليه السلام مَدين لهم بسبب تعالي صيحاتهم لبيعته ، فيفرضوا عليه أهواءهم وطلباتهم. 2 . تأكيد على أنّ تغييرات قد لحقت بتعاليم الدين، وأنّ الرسالة الإلهيّة بعد نبيّها اُصيبت بداء التبدّلات والتقلّبات. فإذا أخذ بزمام الاُمور فإنّه يكافح التحريفات ويقارعها، ويزيح الستار عن الوجه الحقيقي للدين ، وينفض عنه غبار التحريف. وهذا كلّه يستتبع توتّرات سياسيّة واجتماعيّة. 3 . آيةٌ على معرفة الإمام عليه السلام الدقيقة بالمجتمع وبالنفس الإنسانيّة وخبرته بزمانه. ويدلّ هذا الكلام على أنّه عليه السلام لم ينخدع بانثيال النّاس عليه لبيعته في ذلك الجوّ السياسيّ السائد يومئذٍ . وكان يرى مستقبل حكومته بوضوح ، وكان يعلم جيّدا أنّ الأرضيّة غير ممهَّدة للإصلاحات العلويّة، ولإعادة الاُمّة إلى نهج نبيّها صلى الله عليه و آله وسيرته
.
ص: 346
وسُنّته ، وكان أدرى من غيره بأنّ سبب الثورة العامّة على عثمان لم يكن من أجل العودة إلى القيم الإسلاميّة الأصيلة، وأنّ بعض الثائرين لا سيما مَن ركب الموجة منهم _ كعائشة، وطلحة، والزبير _ قاموا بما قاموا به لأسباب سياسيّة واقتصاديّة معيّنة ، فالباعث لهم على بيعة الإمام عليه السلام لا ينسجم مع هدفه من قبول الحكومة. وإذا ما بلغوا النتيجة الحتميّة وأدركوا أنّ عليّا لا يسايرهم ولا يماشيهم ولا يمنح أحدا امتيازا خلاف الحقّ والعدل، فسيناهضون إصلاحاته، ويجرّون المجتمع الإسلاميّ إلى التفرقة والتشتّت . 4 . مبايعته مبايعة للأهداف العلويّة؛ فمن صافحه وعاهده فعليه أن يكون متأهّبا لمرافقته ، وملازمته من أجل إزالة التحريفات، وإعادة بناء المجتمع معنويّا، وتحكيم الدين تحكيما حقيقيّا، وإحياء ما نَسيَته الأذهان، وكشف الحقائق الَّتي مُنيت بالتغيير والتبديل... وأراد عليه السلام أن يلقي الحجّة على الأمواج البشريّة العارمة الَّتي كانت تنادي باسمه للخلافة ، وأراد أن يُعلمها أنّه لايستهدف من قبول الخلافة إلّا بسط العدل، وإقامة الحقّ، وإحياء دين اللّه ، وهذا هو السبيل لا غيره.
.
ص: 347
د _ دَوافِعُ الإِمامِ عليه السلام لِقَبولِ الحُكومَةِالإمام عليّ عليه السلام :أما وَالَّذي فَلَقَ الحَبَّةَ ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَولا حُضورُ الحاضِرِ ، وقِيامُ الحُجَّةِ بِوُجودِ النّاصِرِ ، وما أخَذَ اللّهُ عَلَى العُلَماءِ ألّا يُقارّوا (1) عَلى كِظَّةِ 2 ظالِمٍ ، ولا سَغَبِ (2) مَظلومٍ ، لَأَلقَيتُ حَبلَها عَلى غارِبِها ، وَلَسَقَيتُ آخِرَها بِكَأسِ أوَّلِها ، ولَأَلفَيتُم دُنياكُم هذِهِ أزهَدَ عِندي مِن عَفطَةِ عَنزٍ . (3)
ه _ أوَّلُ مَن بايَعَالكامل في التاريخ :لَمّا قُتِلَ عُثمانُ ، اجتَمَعَ أصحابُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وفيهِم طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، فَأَتَوا عَلِيّا ، فَقالوا لَهُ : إنَّهُ لابُدَّ لِلنّاسِ مِن إِمامٍ ! قالَ : لا حاجَةَ لي ]في[ (4) أمرِكُم ؛ فَمَنِ اخترَتُم رَضيتُ بِهِ . فَقالوا : ما نَختارُ غَيرَكَ . وتَرَدَّدوا إلَيهِ مِرارا ، وقالوا لَهُ في آخِرِ ذلِكَ : إنّا لا نَعلَمُ أحَدا أحَقَّ بِهِ مِنكَ ؛ لا أقدَمَ سابِقَةً ، ولا أقرَبَ قَرابَةً مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . فَقالَ : لا تَفعَلوا ، فَإِنّي أكونُ وَزيرا خَيرا مِن أن أكونَ أميرا . فَقالوا : وَاللّهِ ما نَحنُ بِفاعِلينَ حَتّى نُبايِعَكَ . قالَ : فَفِي المَسجِدِ ؛ فَإِنَّ بَيعَتي لا تَكونُ خَفِيَّةً ، ولا تَكونُ إلّا فِي المَسجِدِ _ وكانَ في بَيتِهِ ، وقيلَ : في حائِطٍ لِبَني عَمرِو بنِ مَبذولٍ _ . فَخَرَجَ إلَى المَسجِدِ وعَلَيه إزارٌ وطاقٌ وعِمامَةُ خَزٍّ ، ونَعلاهُ في يَدِهِ ، مُتَوَكِّئا عَلى قَوسٍ ، فَبَايَعَهُ النّاسُ . وكانَ أوَّلُ مَن بايَعَهُ مِنَ النّاسِ طَلحَةَ بنَ عُبَيدِ اللّهِ . فَنَظَرَ إلَيهِ
.
ص: 348
حَبيبُ بنُ ذُؤَيبٍ فَقالَ : إنّا للّهِِ ! أوَّلُ مَن بَدَأَ بِالبَيعَةِ يَدٌ شَلّاءُ ، لا يَتِمُّ هذَا الأَمرُ ! وبايَعَهُ الزُّبَيرُ . وقالَ لَهُما عَلِيٌّ : إن أحببَتُما أن تُبايِعاني ، وإن أحبَبتُما بايَعتُكُما ! فَقالا : بَل نُبايِعُكَ . (1)
و _ بَيعَةُ عامَّةِ النّاسِالإمام عليّ عليه السلام_ في وَصفِ بَيعَتِهِ _: بَسَطتُم يَدي فَكَفَفتُها ، ومَدَدتُموها فَقَبَضتُها ، ثُمَّ تَداكَكتُم عَلَيَّ تَداكَّ الإِبِلِ الهيمِ عَلى حِياضِها يَومَ وِردِها ، حَتَّى انقَطَعَتِ النَّعلُ ، وسَقَطَ الرِّداءُ ، ووُطِئَ الضَّعيفُ ، وبَلَغَ مِن سُرورِ النّاسِ بِبَيعَتِهِم إيّايَ أنِ ابتَهَجَ بِهَا الصَّغيرُ ، وهَدَجَ إلَيهَا الكَبيرُ ، وتَحامَلَ نَحوَها العَليلُ ، وحَسَرَت إلَيهَا الكِعابُ . (2)
الطبقات الكبرى :لَمّا قُتِلَ عُثمانُ يَومَ الجُمُعَةِ لِثمانِيَ عَشَرَةَ لَيلَةً مَضَت مِن ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ خَمسٍ وثَلاثينَ ، وبويِعَ لِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ؛ بِالمَدينَةِ الغَدَ مِن يَومَ قُتِلَ عُثمانُ ، بِالخِلافَةِ ، بايَعَهُ طَلحَةُ ، وَالزُّبَيرُ ، وسَعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ ، وسَعيدُ بنُ زَيدِ بنِ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ ، وعَمّارُ بنُ ياسِرٍ ، واُسامَةُ بنُ زَيدٍ ، وسَهلُ بنُ حُنَيفٍ ، وأبو أيّوبَ الأَنصاريُّ ، ومُحَمَّدُ بنُ مَسلَمَةَ ، وزَيدُ بنُ ثابِتٍ ، وخُزَيمَةُ بنُ ثابِتٍ ، وجَميعُ مَن كانَ بِالمَدينَةِ مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وغَيرُهُم . (3)
ز _ مَن تَخَلَّفَ عَن بَيعَتِهِكانت بيعة الإمام عليه السلام عامّة شاملة ، وقد اشترك فيها جميع المهاجرين والأنصار (4) ، وتمام من كان في المدينة . وقد بايع الجميع عن اختيار كامل ، وحرّية تامّة . ثمّ بايعه
.
ص: 349
أهالي مكّة والحجاز والكوفة . (1) وقد صرّح الإمام عليه السلام بأنّ بيعته عامّة شاملة (2) ، كما صرّحت المصادر التاريخيّة الكثيرة باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعة الإمام عليه السلام . (3) لكن ذكرت بعض المصادر أخبارا تدلّ على تخلّف أمثال : عبد اللّه بن عمر ، وسعد بن أبي وقّاص ، ومحمّد بن مسلمة ، واُسامة بن زيد ، وحسّان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد اللّه بن سلام ، ومروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة ، عن البيعة . (4) وفي تخلّف هؤلاء عن البيعة نظريّتان : الاُولى : إنّ هؤلاء تخلّفوا عن بيعة الإمام ، بل كانوا مخالفين لبيعته واقعا . الثانية : إنّهم لم يخالفوا أصل البيعة ، وأنّ ما ورد في النصوص مشعرا بذلك فهو بمعنى عدم مُسايرتهم للإمام في حروبه الداخليّة . قال الحاكم النيسابوري _ بعد ذكر الأخبار الواردة في بيعة النّاس للإمام _ : «أمّا قول من زعم أنّ عبد اللّه بن عمر وأبا مسعود الأنصاري وسعد بن أبي وقّاص وأبا موسى الأشعري ومحمّد بن مسلمة الأنصاري واُسامة بن زيد قعدوا عن بيعته ، فإنّ هذا قول مَن يجحد حقيقة تلك الأحوال» ، ثمّ ذكر أنّ هؤلاء بايعوا الإمام لكن لم يسايروه في حروبه الداخليّة ؛ لأسباب دَعَتهم إلى ذلك ، ممّا أوقع البعض في اعتقاد أنّهم مخالفين لبيعة الإمام عليه السلام . (5)
.
ص: 350
وقد ارتضى هذا الرأي ابن أبي الحديد ، ونسبه إلى المعتزلة في كتابه شرح نهج البلاغة . (1) وإذا تأمّلنا نصوص الباب نجد أنّ أكثر من عُرف بالتخلّف عن البيعة قد بايع الإمام عليه السلام ، لكنّ بيعة بعضهم _ نظير : عبد اللّه بن عمر ، وسعد بن أبي وقّاص _ لم تكن بمعنى الوفاء لقيادة الإمام ؛ حيث أعلنوا صراحة عدم مرافقتهم للإمام في حروبه . كما أنّ بيعة بعض آخر منهم _ نظير : مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة _ كانت بدوافع سياسيّة . (2) ومن هنا يمكن عدّ هؤلاء في المتخلّفين عن البيعة ؛ لأنّ بيعتهم لم تكن حقيقيّة وكاملة ، كما يكن عدّهم في المبايعين ؛ لاشتراكهم من المراسم الرسميّة للبيعة . وبهذا يمكن الجمع بين النظريّتين . وهنا احتمال ثالث ، وهو : أنّهم تخلّفوا عن البيعة العامّة الشاملة والَّتي كانت في المسجد ، وقد اختلقوا أعذارا لتبرير ذلك ، لكن لمّا تمّت البيعة واستحكمت خلافة الإمام عليه السلام رغبوا في البيعة . ويؤيّد ذلك أنّ مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وسعيد بن العاص جاؤوا إلى الإمام _ بعد انتهاء البيعة العامّة _ فبايعوه بعد نقاش . كما يشهد له اعتراف عبد اللّه بن عمر واُسامة بن زيد وسعد بن أبي وقّاص ببيعة الإمام عليّ عليه السلام ، كما ورد في بعض النصوص .
.
ص: 351
الفصل الثاني : الإصلاحات العلويّةأ _ صَوتُ العَدالَةِ وصَداهاشرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإِسكافيّ :صَعِدَ ]عَلِيٌّ عليه السلام [ المِنبَرَ فِي اليَومِ الثّاني مِن يَومِ البَيعَةِ وهُوَ يَومُ السَّبتِ لِاءِحدى عَشَرَةَ لَيلَةً بَقينَ مِن ذِي الحِجَّةِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وذَكَرَ مُحَمَّدا فَصَلّى عَلَيهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ نِعمَةَ اللّهِ عَلى أهلِ الإِسلامِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّنيا فَزَهَّدَهُم فيها ، وذَكَرَ الآخِرَةَ فَرَغَّبَهُم إلَيها ، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّهُ لَمّا قُبِضَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله استَخلَفَ النّاسُ أبا بَكرٍ ، ثُمَّ استَخلَفَ أبو بَكرٍ عُمَرَ فَعَمِلَ بِطَريقِهِ ، ثُمَّ جَعَلَها شورى بَينَ سِتَّةٍ ، فَأَفضَى الأَمرُ مِنهُم إلى عُثمانَ ، فَعَمِلَ ما أنكَرتُم وعَرَفتُم ، ثُمَّ حُصِرَ وقُتِلَ ، ثُمَّ جِئتُموني طائِعينَ فَطَلَبتُم إلَيَّ ، وإنَّما أنَا رَجُلٌ مِنكُم ، لي ما لَكُم وعَلَيَّ ما عَلَيكُم ، وقَد فَتَحَ اللّهُ البابَ بَينَكُم وبَينَ أهلِ القِبلَةِ ، وأقبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَع اللَّيلِ المُظلِمِ ، ولا يَحمِلُ هذَا الأَمرَ إلّا أهلُ الصَّبرِ وَالبَصَرِ وَالعِلمِ بِمَواقِعِ الأَمرِ ، وإنّي حامِلُكُم عَلى مَنهَجِ نَبِيِّكُم صلى الله عليه و آله ومُنَفِّذٌ فيكُم ما اُمِرتُ بِهِ ، إنِ استَقَمتُم لي وبِاللّهِ المُستَعانُ . ألا إنَّ مَوضِعي مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَعدَ وَفاتِهِ كَمَوضِعي مِنهُ أيّامَ حَياتِهِ ، فَامضوا لِما تُؤمَرونَ بِهِ وقِفوا عندَ ما تُنهَونَ عَنهُ ، ولا تَعجَلوا في أمرٍ حَتّى نُبَيِّنَهُ لَكُم ، فَإِنَّ لَنا عَن كُلِّ أمرٍ تُنكِرونَهُ عُذرا . ألا وإنَّ اللّهَ عالِمٌ مِن فَوقِ سَمائِهِ وعَرشِهِ أنّي كُنتُ كارِها لِلوِلايَةِ عَلى اُمَّةِ مُحَمَّدٍ
.
ص: 352
حَتَّى اجتَمَعَ رَأيُكُم عَلى ذلِكَ ؛ لِأَنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «أيُّما والٍ وَلِيَ الأَمرَ مِن بَعدي اُقيمَ عَلى حَدِّ الصِّراطِ ، ونَشَرَتِ المَلائِكَةُ صَحيفَتَهُ ؛ فَإِن كانَ عادِلاً أنجاهُ اللّهُ بِعَدلِهِ ، وإن كانَ جائِرا اِنتَفَضَ بِهِ الصِّراطُ حَتّى تَتَزايَلَ مَفاصِلُهُ ، ثُمَّ يَهوي إلَى النّارِ ؛ فَيَكونُ أوَّلُ ما يَتَّقيها بِهِ أنفَهُ وحَرَّ وَجهِهِ» ولكِنّي لَمَّا اجتَمَعَ رَأيُكُم لَم يَسَعني تَركُكُم . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام يَمينا وشِمالاً فَقالَ : ألا لا يَقولَنَّ رِجالٌ مِنكُم غَدا قَد غَمَرَتهُمُ الدُّنيا فَاتَّخَذُوا العِقارَ ، وفَجَّرُوا الأَنهارَ ، ورَكَبُوا الخُيولَ الفارِهَةَ ، وَاتَّخَذُوا الوَصائِفَ الرّوقَةَ (1) فَصارَ ذلِكَ عَلَيهِم عارا وشَنارا ، إذا ما مَنَعتُهُم ما كانوا يَخوضونَ فيهِ وأصَرتُهُم إلى حُقوقِهِمُ الَّتي يَعلَمونَ ، فَيَنقِمونَ ذلِكَ ويَستَنكِرونَ ويَقولونَ : حَرَمَنَا ابنُ أبي طالِبٍ حُقوقَنا . ألا وأيُّما رَجُلٍ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَرى أنَّ الفَضلَ لَهُ عَلى مَن سِواهُ لِصُحبَتِهِ ، فَإِنَّ الفَضلَ النَّيِّرَ غَدا عِندَ اللّهِ ، وثَوابَهُ وأجرَهُ عَلَى اللّهِ ، وأيُّما رَجُلٍ اِستَجابَ للّهِِ وَلِلرَّسولِ فَصَدَّقَ مِلَّتَنا ودَخَلَ في دينِنا وَاستَقبَلَ قِبلَتَنا ، فَقَدِ استَوجَبَ حُقوقَ الإِسلامِ وحُدودَهُ ، فَأَنتُم عِبادُ اللّهِ ، وَالمالُ مالُ اللّهِ يُقسَمُ بَينَكُم بِالسَّوِيَّةِ ، لا فَضلَ فيهِ لِأَحَدٍ عَلى أحَدٍ ، ولِلمُتَّقينَ عِندَ اللّهِ غَدا أحسَنُ الجَزاءِ وأفضَلُ الثَّوابِ ، لَم يَجعَلِ اللّهُ الدُّنيا لِلمُتَّقينَ أجرا ولا ثَوابا وما عِندَ اللّهِ خَيرٌ لِلأَبرارِ . وإذا كانَ غَدا إن شاءَ اللّهُ فَاغدوا عَلَينا فَإِنَّ عِندَنا مالاً نَقسِمُهُ فيكُم ، ولا يَتَخَلَّفَنَّ أحَدٌ مِنكُم عَربِيٌّ ولا عَجَمِيٌّ ، كانَ مِن أهلِ العَطاءِ أو لَم يَكُن إلّا حَضَرَ إذا كانَ مُسلِما حُرّا . أقولُ قَولي هذا وأستَغفِرُ اللّهَ لي ولَكُم . ثُمَّ نَزَلَ . قالَ شَيخُنا أبو جَعفَرٍ : وكانَ هذا أوَّلَ ما أنكَروهُ مِن كلامِهِ عليه السلام ، وأورَثَهُمُ الضِّغنَ
.
ص: 353
عَلَيهِ ، وكَرِهوا إعطاءَهُ وقَسمَهُ بِالسَّوِيَّةِ . فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ غَدا وغَدا النّاسُ لِقَبضِ المالِ ، فَقالَ لِعُبَيدِاللّهِ بنِ أبي رافِعٍ كاتِبِهِ : اِبدَأ بِالمُهاجِرينَ فَنادِهِم وأعطِ كُلَّ رَجُلٍ مِمَّن حَضَرَ ثَلاثَةَ دَنانيرَ ، ثُمَّ ثَنِّ بِالأَنصارِ فَافعَل مَعَهُم مِثلَ ذلِكَ ، ومَن يَحضُرُ مِنَ النّاسِ كُلِّهِمُ الأَحمَرِ وَالأَسوَدِ فَاصنَع بِهِ مِثلَ ذلِكَ . فَقالَ سَهلُ بنُ حُنَيفٍ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، هذا غُلامي بِالأَمسِ وقَد أعتَقتُهُ اليَومَ ، فَقالَ : نُعطيهِ كَما نُعطيكَ ، فَأَعطى كُلَّ واحِدٍ مِنهُما ثَلاثَةَ دَنانيرَ ، ولَم يُفَضِّل أحَداً عَلى أحَدٍ ، وتَخَلَّفَ عَن هذَا القَسمِ يَومَئِذٍ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وعَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ وسَعيدُ بنُ العاصِ ومَروانُ بنُ الحَكَمِ ورِجالٌ مِن قُرَيشٍ وغَيرِها . قالَ : وسَمِعَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ أبي رافِعٍ عَبدَ اللّهِ بنَ الزُّبَيرِ يَقولُ لِأَبيهِ وطَلحَةَ ومَروانَ وسَعيدٍ : ما خَفِيَ عَلَينا أمسِ مِن كَلامِ عَلِيٍّ ما يُريدُ ، فَقالَ سَعيدُ بنُ العاصِ وَالتَفَتَ إلى زَيدِ بنِ ثابِتٍ : إيّاكَ أعني واسمَعي يا جارَة ، فَقالَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ أبي رافِعٍ لِسَعيدٍ وعَبدِ اللّهِ بنِ الزُّبَيرِ : إنَّ اللّهَ يَقولُ في كِتابِهِ : «وَ لَ_كِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَ_رِهُونَ» . (1) ثُمَّ إنَّ عُبَيدَ اللّهِ بنَ أبي رافِعٍ أخبَرَ عَلِيّاً عليه السلام بِذلِكَ فَقالَ : وَاللّهِ ، إن بَقيتُ وسَلِمتُ لَهُم لَاُقيمَنَّهُم عَلَى المَحَجَّةِ البَيضاءِ وَالطَّريقِ الواضِحِ . قاتَلَ اللّهُ ابنَ العاصِ ، لَقَد عَرَفَ مِن كَلامي ونَظَري إلَيهِ أمسِ أنّي اُريدُهُ وأصحابَهُ مِمَّن هَلَكَ فيمنَ هَلَكَ . (2)
ب _ عَزلُ عُمّالِ عُثمانَ16.عنه صلى الله عليه و آله :تاريخ اليعقوبي :عَزَلَ عَلِيٌّ عُمّالَ عُثمانَ عَنِ البُلدانِ خَلا أبي موسَى الأَشعَرِيِّ ، كَلَّمَهُ فيهِ الأَشتَرُ فَأَقَرَّهُ . (3)
.
ص: 354
الاختصاص :اِجتَمَعَ النّاسُ عَلَيهِ جَميعا ، فَقالوا لَهُ : اُكتُب يا أميرَ المُؤمِنينَ إلى مَن خالَفَكَ بِوِلايَتِهِ ثُمَّ اعزِلهُ ، فَقالَ : المَكرُ وَالخَديعَةُ وَالغَدرُ فِي النّارِ . (1)
ج _ اِستِردادُ أموالِ بَيتِ المالِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ فيما رَدَّهُ عَلَى المُسلِمينَ مِن قَطائِعِ عُثمانَ _: وَاللّهِ لَو وَجَدتُهُ قَد تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ ، ومُلِكَ بِهِ الإِماءُ ؛ لَرَدَدتُهُ ، فَإِنَّ فِي العَدلِ سَعَةً ، ومَن ضاقَ عَلَيهِ العَدلُ فَالجَورُ عَلَيهِ أضيَقُ . (2)
د _ تَعَذُّرَ بَعضِ الإِصلاحاتِ21.الإمام زين العابدين عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :لَو قَدِ استَوَت قَدَمايَ مِن هذِهِ المَداحِضِ لَغَيَّرتُ أشياءَ . (3)
.
ص: 355
الفصل الثالث : السياسة الإداريّةأ _ الصِّدقُ فِي السِّياسَةِ24.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :هَيهاتَ ! لَولَا التُّقى لَكُنتُ أدهَى العَرَبِ . (1)25. ( _ في وَصِيَّتِهِ لِلإِمامِ الحَسَنِ عليه السلام _ ) عنه عليه السلام :وَاللّهِ ما مُعاوِيَةُ بِأَدهى مِنّي ، ولكِنَّهُ يَغدِرُ ويَفجُرُ ، ولَولا كَراهِيَةُ الغَدرِ لَكُنتُ مِن أدهَى النّاسِ ، ولكِن كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ ، وكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ ، ولِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يُعرَفُ بِهِ يَومَ القِيامَةِ . وَاللّهِ ما اُستَغفَلُ بِالمَكيدَةِ ، ولا اُستَغمَزُ بِالشَّديدَةِ . (2)ب _ الاِلتِزامُ بِالحَقِّ27.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: ألزِمِ الحَقَّ مَن لَزِمَهُ مِنَ القَريبِ وَالبَعيدِ ، وكُن في ذلِكَ صابِرا مُحتَسِبا ، واقِعا ذلِكَ مِن قَرابَتِكَ وخاصَّتِكَ حَيثُ وَقَعَ ، وَابتَغِ عاقِبَتَهُ بِما يَثقُلُ عَلَيكَ مِنهُ ، فإِنَّ مَغَبَّةَ ذلِكَ مَحمودَةٌ . (3)ج _ الاِلتِزامُ بِالقانونِالغارات_ في ذِكرِ النَّجاشِي الشّاعِرِ _: كانَ شاعِرَ عَلِيٍّ عليه السلام بِصفّينَ ، فَشَرِبَ الخَمرَ
.
ص: 356
بِالكوفَةِ ، فَحَدَّهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَغَضِبَ ولَحِقَ بِمُعاوِيَةَ وهَجا عَلِيّا عليه السلام . . . لَمّا حَدَّ عَلِيٌّ عليه السلام النَّجاشِيَّ غَضِبَ لِذلِكَ مَن كانَ مَعَ عَلِيٍّ مِنَ اليَمانِيَّةِ ، وكانَ أخَصُّهُم بِهِ طارِقَ بنَ عَبدِ اللّهِ بنِ كَعبِ بنِ اُسامَةَ النَّهدِيَّ ، فَدَخَلَ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، ما كُنّا نَرى أنَّ أهلَ المَعصِيَةِ وَالطّاعَةِ وأهلَ الفُرقَةِ والجَماعَةِ عِندَ وُلاةِ العَدلِ ومَعادِنِ الفَضلِ سِيّانِ فِي الجَزاءِ ، حَتّى رَأَيتُ ما كانَ مِن صَنيعِكَ بِأَخِي الحارِثِ ، فَأَوغَرتَ صُدورَنا ، وشَتَّتَّ اُمورَنا ، وحَمَلتَنا عَلَى الجادَّةِ التَّي كُنّا نَرى أنَّ سَبيلَ مَن رَكِبَها النّارُ . فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : «وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَا عَلَى الْخَ_شِعِينَ» (1) ، يا أخا بَني نَهدٍ ، وهَل هُوَ إلّا رَجُلٌ مِنَ المُسلِمينَ انتَهَكَ حُرمَةَ مَن حَرَّمَ اللّهُ فَأَقَمنا عَلَيهِ حَدّا كانَ كَفّارَتَهُ ، إنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَ_ئانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» (2) . (3)
د _ عَدَمُ المُداهَنَةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :اِرفَعوا ألسِنَتَكُم عَن عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، فَإِنَّهُ خَشِنٌ في ذاتِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، غَيرُ مُداهِنٍ في دينِهِ . (4)
حلية الأولياء عن عبد الواحد الدمشقي :نادى حَوشَبٌ الخَيرِيُّ عَلِيّا يَومَ صِفّينَ ، فَقالَ : اِنصَرِف عَنّا يَابنَ أبي طالِبٍ ، فَإِنّا نَنشُدُكَ اللّهَ في دِمائِنا ودَمِكَ ، نُخَلّي بَينَكَ وبَينَ عِراقِك ، وتُخَلّي بَينَنا وبَينَ شامِنا ، وتَحقِنُ دِماءَ المُسلِمينَ . فَقالَ عَلِيٌّ : هَيهاتَ يابنَ اُمِّ ظَليمٍ ! وَاللّهِ لَو عَلِمتُ أنَّ المُداهَنَةَ تَسَعُني في دينِ اللّهِ
.
ص: 357
لَفَعَلتُ ، ولَكانَ أهوَنَ عَلَيَّ في المَؤونَةِ ، ولكِنَّ اللّهَ لَم يَرضَ مِن أهلِ القُرآنِ بِالإِدهانِ وَالسُّكوتِ ، واللّهُ يُعصى . (1)
ه _ تَنظيمُ الاُمورِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكِ الأَشتَرِ _: وأمضِ لِكُلِّ يَومٍ عَمَلَهُ ؛ فإِنَّ لِكُلِّ يَومٍ ما فيهِ . . . إيّاكَ وَالعَجَلَةَ بِالاُمورِ قَبلَ أوانِها ، أوِ التَّسَقُّطَ فيها عِندَ إمكانِها ، أو اللَّجاجَةَ فيها إذا تَنَكَّرَت ، أوِ الوَهنَ عَنها إذا استَوضَحَت . فَضَع كُلَّ أمرٍ مَوضِعَهُ ، وأوقِع كُلَّ أمرٍ مَوقِعَهُ . (2)
و _ اِنتِخابُ العُمّالِ الصّالِحينَالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: فَاصطَفِ لِوِلايَةِ أعمالِكَ أهلَ الوَرَعِ وَالعِلمِ وَالسِّياسَةِ . (3)
ز _ عَدَمُ استِعمالِ الخائِنِ وَالعاجِزِالإمام عليّ عليه السلام :آفَهُ الأَعمالِ عَجْزُ العُمّالِ . (4)
عنه عليه السلام :إنَّ المُغيرَةَ بنَ شُعبَةَ قَد كانَ أشارَ عَلَيَّ أن أستَعمِلَ مُعاوِيَةَ عَلَى الشّامِ وأنَا بِالمَدينَةِ ، فَأَبَيتُ ذلِكَ عَلَيهِ ، ولَم يَكُنِ اللّهُ لِيَراني أتَّخِذُ المُضِلّينَ عَضُدا (5) . (6)
عنه عليه السلام_ مِن كِتابِهِ إلى رِفاعَةَ قاضِيهِ عَلَى الأَهوازِ _: اِعلَم يا رِفاعَةُ أنَّ هذِهِ الإِمارَةَ أمانَةٌ ؛ فَمَن جَعَلَها خِيانَةً فَعَلَيهِ لَعنَةُ اللّهِ إلى يَومِ القيامَةِ ، ومَنِ استَعمَلَ خائِنا فَإِنَّ
.
ص: 358
مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بَريءٌ مِنهُ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . (1)
ح _ إسباغُ الأَرزاقِ عَلَى العُمّالِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: ثُمَّ أسبِغ عَلَيهِمُ الأَرزاقَ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُم عَلَى استِصلاحِ أنفُسِهِم ، وغِنىً لَهُم عَن تَناوُلِ ما تَحتَ أيديهِم ، وحُجَّةٌ عَلَيهِم إن خالَفوا أمرَك أو ثَلَموا أمانَتَكَ . (2)
ط _ اِختِيارُ العُيونِ لِمُراقَبَةِ العُمّالِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: ثُمَّ انظُر في اُمورِ عُمّالِكَ فَاستَعمِلهُمُ اختِبارا . . . ثُمَّ تَفَقَّد أعمالَهُم ، وَابعَثِ العُيونَ مِن أهلِ الصِّدقِ وَالوَفاءِ عَلَيهِم ؛ فَإِنَّ تَعاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِاُمورِهِم حَدوَةٌ (3) لَهُم عَلَى استِعمالِ الأَمانَةِ ، وَالرِّفقِ بِالرَّعِيَّةِ ، وتَحَفَّظ مِنَ الأَعوانِ ؛ فَإِن أحَدٌ مِنهُم بَسَطَ يَدَهُ إلى خِيانَةٍ اِجتَمَعَت بِها عَلَيهِ عِندَكَ أخبارُ عُيونِكَ ، اكتَفَيتَ بِذلِكَ شاهِدا ، فَبَسَطتَ عَلَيهِ العُقوبَةَ في بَدَنِهِ ، وأخَذتَهُ بِما أصابَ مِن عَمَلِهِ ، ثُمَّ نَصَبتَهُ بِمَقامِ المَذَلَّةِ ، ووَسَمتَهُ بِالخِيانَةِ ، وقَلَّدتَهُ عارَ التُّهَمَةِ . (4)
ي _ إكرامُ المُحسِنِ وعُقوبَةُ المُسِيءِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: ولا يَكونُ المُحسِنُ وَالمُسيءُ عِندَكَ بِمَنزِلَةٍ سَواءٍ ؛ فَإِنَّ في ذلِكَ تَزهيدا لاِهلِ الإِحسانِ فِي الإِحسانِ ، وتَدريبا لِأَهلِ الإِساءَةِ عَلَى الإِساءَةِ . وألزِم كُلّاً مِنهُم ما ألزَمَ نَفسَهُ . (5)
.
ص: 359
ك _ المَوقِفُ الحازِمُ مَعَ العُمّالِ1 . الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ (1)نثر الدرّ :قالَ ]عَلِيٌّ عليه السلام [ لِلأَشعَثِ بنِ قَيسٍ : أدِّ [ يعنى: ما أخذه من بيت المال ظلما] وإلّا ضَرَبتُكَ بِالسَّيفِ . فَأَدّى ما كانَ عَلَيهِ ، فَقالَ لَهُ : مَن كانَ عَلَيكَ لَو كُنّا ضَرَبناكَ بِعَرضِ السَّيفِ ؟ فَقالَ : إنَّكَ مِمَّن إذا قالَ فَعَلَ . (2)
2 . زِيادُ بنُ أبيهِ51.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابِهِ إلى زِيادِ بنِ أبيهِ _: إنّي اُقسِمُ بِاللّهِ قَسَما صادِقا ، لَئِن بَلَغَني أنَّكَ خُنتَ مِن فَيءِ المُسلِمينَ شَيئا صَغيرا أو كَبيرا ، لَأَشُدَّنَّ عَلَيكَ شِدَّةً تَدَعُكَ قَليلَ الوَفر ، ثَقيلَ الظَّهرِ ، ضَئيلَ الأَمرِ . وَالسَّلامُ . (3)ل _ عَزلُ مَن ثَبَتَت خِيانَتُهُ مِنَ العُمّالِ53.عنه عليه السلام :الاستيعاب :كانَ عَليٌّ عليه السلام . . . لا يَخُصُّ بِالوِلاياتِ إلّا أهلَ الدِّياناتِ وَالأَماناتِ ، وإذا بَلَغَهُ عَن أحَدِهِم خِيانَةٌ كَتَبَ إلَيهِ : قَد جاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم فَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقَسطِ ولا تَبخَسُوا النَّاسَ أشياءَهُم ولا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ . بَقِيَّةُ اللّهِ خَيرٌ لَكُم إن كُنتُم مُؤمِنينَ وما أنَا عَلَيكُم بِحَفيظٍ (4) . إذا أتاكَ كِتابي هذا فاحتَفِظ بِما في يَدَيكَ مِن أعمالِنا حَتّى نَبعَثَ إلَيكَ مَن يَتَسَلَّمُهُ مِنكَ ، ثُمَّ يَرفَعُ طَرفَهُ إلَى السَّماءِ فَيَقولُ : اللّهُمَّ إنَّكَ تَعلَمُ أنّي لَم آمُرهُم بِظُلمِ خَلقِكَ ، ولا بِتَركِ حَقِّكَ .
وخُطَبُهُ ومَواعِظُهُ ووَصاياهُ لِعُمّالِهِ إذ كانَ يُخرِجُهُم إلى أعمالِهِ كَثيرَةٌ مَشهورَةٌ لَم
.
ص: 360
53.عنه عليه السلام :أرَ التَّعَرُّضَ لِذِكرِها ، لِئَلّا يَطولَ الكِتابُ ، وهِيَ حِسانٌ كُلُّها . (1)م _ عُقوبَةُ الخَوَنَةِ مِنَ العُمّالِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ في مُراقَبَةِ العُمّالِ _: فَإِن أحَدٌ مِنهُم بَسَطَ يَدَهُ إلى خِيانَةٍ اجتَمَعَت بِها أخبارُ عُيونِكَ ، اكتَفَيتَ بِذلِكَ شاهِدا ، فَبَسَطتَ عَلَيهِ العُقوبَةَ في بَدَنِهِ ، وأخَذتَهُ بِما أصابَ مِن عَمَلِهِ ، ثُمَّ نَصَبتَهُ بِمَقامِ المَذَلَّةِ ، ووَسَمتَهُ بِالخِيانَةِ ، وقَلَّدتَهُ عارَ التُّهَمَةِ . (2)
.
ص: 361
الفصل الرابع : السياسة الثقافيّةأ _ تَنمِيَةُ التَّعليمِ وَالتَّرِبيَةِالإمام عليّ عليه السلام :عَلَى الإِمامِ أن يُعَلِّمَ أهلَ وِلايَتِهِ حُدودَ الإِسلامِ والإِيمانِ . (1)
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ عليه السلام إلى قُثَمِ بنِ العَبّاسِ ، وهوَ عامِلُهُ عَلى مَكَّةَ _: أمّا بَعدُ ، فَأَقِم لِلنّاسِ الحَجَّ ، وذَكِّرهُم بِأَيّامِ اللّهِ ، وَاجلِس لَهُمُ العَصرَينِ ، فَأَفتِ المُستَفِتيَ ، وعَلِّمِ الجاهِلَ ، وذاكِرِ العالِمَ . (2)
الإمام الباقر عليه السلام :كانَ عَلِيٌّ عليه السلام إذا صَلَّى الفَجرَ لَم يَزَل مُعَقِّبا إلى أن تَطلُعَ الشَّمسُ ، فَإِذا طَلَعَتِ اجتَمَعَ إلَيهِ الفُقَراءُ وَالمَساكينُ وغَيرُهُم مِنَ النّاسِ ، فَيُعَلِّمُهُمُ الفِقهَ وَالقُرآنَ ، وكانَ لَهُ وَقتٌ يَقومُ فيهِ مِن مَجلِسِهِ ذلِكَ . (3)
ب _ النَّهيُ عَن نَقضِ السُّنَنِ الصّالِحَةِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: لا تَنقُض سُنَّةً صالِحَةً عَمِلَ بِها صُدورُ هذِهِ الاُمَّةِ ، وَاجتَمَعَت بِهَا الاُلفَةُ ، وصَلَحَت عَلَيهَا الرَّعِيَّةُ ، ولا تُحدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ
.
ص: 362
بِشَيءٍ مِن ماضي تِلكَ السُّنَنِ ؛ فَيَكونَ الأَجرُ لِمَن سَنَّها ، وَالوِزرُ عَلَيكَ بِما نَقَضتَ مِنها . . . وَالواجِبُ عَلَيكَ أن تَتَذَكَّرَ مامَضى لِمَن تَقَدَّمَكَ مِن حُكومَةٍ عادِلَةٍ ، أو سُنَّةٍ فاضِلَةٍ ، أو أثَرٍ عَن نَبِيِّنا صلى الله عليه و آله ، أو فَريضَةٍ في كِتابِ اللّهِ . (1)
ج _ الأَمرُ بِمُكافَحَةِ السُّنَنِ الطّالِحَةِالإمام عليّ عليه السلام :اِعلَم أنَّ أفضَلَ عِبادِ اللّهِ عِندَ اللّهِ إمامٌ عادِلٌ ، هُدِيَ وهَدى ، فَأَقامَ سُنَّةً مَعلومَةً ، وأماتَ بِدعَةً مَجهولَةً ، وإنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَها أعلَامٌ ، وإنَّ البِدَعَ لَظاهِرَةٌ لَها أعلامٌ . (2)
د _ النَّقدُ بَدَلُ الإِطراءِ66.الإمام الكاظم عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ بَعدَ ذِكرِ خَصائِصِ البِطانَةِ الصّالِحَةِ _: فَاتَّخِذ اُولئِكَ خاصَّةً لِخَلَواتِكَ وحَفَلاتِكَ ، ثُمَّ ليَكُن آثَرُهُم عِندَكَ أقوَلَهُم بِمُرِّ الحَقِّ لَكَ ، وأقَلَّهُم مُساعَدَةً فيما يَكونُ مِنكَ مِمّا كَرِهَ اللّهُ لِأَولِيائِهِ ، واقِعا ذلِكَ مِن هَواكَ حَيثُ وَقَعَ . وَالصَق بِأَهلِ الوَرَعِ وَالصِّدقِ ، ثُمَّ رُضهُم عَلى ألّا يُطروكَ ولا يَبجَحوكَ (3) بِباطِلٍ لَم تَفعَلهُ ؛ فَإِنَّ كَثرَةَ الإِطراءِ تُحدِثُ الزَّهوَ ، وتُدني مِنَ العِزَّةِ . (4)
.
ص: 363
الفصل الخامس : السياسة الاقتصاديّةأ _ الحَثُّ عَلَى العَمَلِ69.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :إنَّ الأَشياءَ لَمَّا ازدَوَجَتِ ازدَوَجَ الكَسَلُ وَالعَجزُ ، فَنُتِجا (1) بَينَهُما الفَقرَ . (2)عنه عليه السلام :ما غُدوَةُ أحَدِكُم في سَبيلِ اللّهِ بِأَعظَمَ مِن غُدوَتِهِ يَطلُبُ لِوُلدِهِ وعِيالِهِ ما يُصلِحُهُم. (3)
شرح نهج البلاغة_ في ذِكرِ صَدَقاتِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: كانَ يَعمَلُ بِيَدِهِ ، ويَحرُثُ الأَرضَ، ويَستَقِيالماءَ، ويَغرِسُ النَّخلَ، كُلُّ ذلِكَ يُباشِرُهُ بِنَفسِهِ الشَّريفَةِ (4) .
ب _ عمارة البلادالإمام عليّ عليه السلام_ مِمّا كَتَبَهُ إلى قَرَظَةَ بنِ كَعبٍ الأَنصارِيِّ _:أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ رِجالاً مِن أهلِ الذِّمَّةِ مِن عَمَلِكَ ذَكَروا نَهرا في أرضِهِم قَد عَفا وَادُّفِنَ ، وفيهِ لَهُم عِمارَةٌ عَلَى المُسلِمينَ ، فَانظُر أنتَ وهُم ، ثُمَّ اعمُر وأصلِحِ النَّهرَ ؛ فَلَعَمري لَأَن يَعمُروا
.
ص: 364
أحَبُّ إلَينا مِن أن يَخرُجوا وأن يَعجِزوا أو يُقَصِّروا في واجِبٍ مِن صَلاحِ البِلادِ . وَالسَّلامُ . (1)
ج _ التَّنمِيةُ الزِّراعِيَّةُالإمام عليّ عليه السلام :إنَّ مَعايِشَ الخَلقِ خَمسَةٌ : الإِمارَةُ ، وَالعِمارَةُ ، وَالتِّجارَةُ ، وَالإِجارَةُ ، وَالصَّدَقاتُ . . . وأمّا وَجهُ العِمارَةِ فَقَولُهُ تَعالى : «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (2) ، فَأَعلَمَنا سُبحانَهُ أنَّهُ قَد أمَرَهُم بِالعِمارَةِ ؛ لَيَكونَ ذلِكَ سَبَبا لِمَعايِشِهِم بِما يَخرُجُ مِنَ الأَرضِ ؛ مِنَ الحَبِّ ، وَالثَّمَراتِ ، وما شاكَلَ ذلِكَ ، مِمّا جَعَلَهُ اللّهُ مَعايِشَ لِلخَلقِ . (3)
د _ التَّنمِيَةُ الصِّناعِيَّةُ77.الإمام الرضا عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :حِرفَةُ المَرءِ كَنزٌ . (4)78.الإمام عليّ عليه السلام :عنه عليه السلام :إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ المُحتَرِفَ الأَمينَ . (5)ه _ التَّنمِيَةُ التِّجارِيَّةُ80.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :تَعَرَّضوا لِلتِّجارَةِ ؛ فَإِنَّ فيها غِنىً لَكُم عَمّا في أيدِي النّاسِ . (6)عنه عليه السلام_ لِلمَوالي _: اِتَّجِروا ، بارَكَ اللّهُ لَكُم ؛ فَإِنّي قَد سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : الرِّزقُ
.
ص: 365
عَشَرَةُ أجزاءٍ ؛ تِسعَةُ أجزاءٍ فِي التِّجارَةِ ، وَواحِدَةٌ في غَيرِها . (1)
و _ مُراقَبَةُ السّوقِ مُباشَرَةً83.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :دعائم الإسلام :إنَّهُ ]عَليّا عليه السلام [ كانَ يَمشي فِي الأَسواقِ ، وبِيَدِهِ دِرَّةٌ يَضرِبُ بِها مَن وَجَدَ مِن مُطَفِّفٍ أو غاشٍّ في تِجارَةِ المُسلِمينَ .
قالَ الأَصبَغُ : قُلتُ لَهُ يَوما أنَا أكفيكَ هذا يا أميرَ المُؤمِنينَ ، وَاجلِس في بَيتِكَ !قالَ : ما نَصَحتَني يا أصبَغُ . (2)84.الإمام الصادق عليه السلام :ربيع الأبرار :كانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَمُرُّ فِي السّوقِ عَلَى الباعَةِ ، فَيَقولُ لَهُم : أحسِنوا ، أرخِصوا بَيعَكُم عَلَى المُسلِمينَ ؛ فإِنَّهُ أعظَمُ لِلبَرَكَةِ . (3)ز _ مَنعُ الاحتِكارِ86.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابِهِ إلى رِفاعَةَ _: اِنهَ عَنِ الحُكرَةِ ، فَمَن رَكِبَ النَّهيَ فَأَوجِعهُ ، ثُمَّ عاقِبهُ بِإِظهارِ مَا احتَكَرَ . (4)ح _ سِياسَةُ أخذِ الخَراجِ88.الإمام عليّ عليه السلام :الكافي عن مهاجر عَن رَجُلٍ مِن ثَقيفٍ :اِستَعمَلَني عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام عَلى بانِقيا (5) وسَوادٍ مِن سَوادِ الكوفَةِ ، فَقالَ لي _ وَالنّاسُ حُضورٌ _ : اُنظُر خَراجَكَ فَجُدَّ فيهِ ، ولا تَترُك مِنهُ دِرهَما ، فَإِذا أرَدتَ أن تَتَوَجَّهَ إلى عَمَلِكَ فَمُرَّ بي .
قالَ : فَأَتَيتُهُ ، فَقالَ لي : إنَّ الَّذي سَمِعتَ مِنّي خُدعَةٌ ، إيّاكَ أن تَضرِبَ مُسلِما أو
.
ص: 366
88.الإمام عليّ عليه السلام :يَهودِيّا أو نَصرانِيّا في دِرهَمِ خَراجٍ ، أو تَبيعَ دَابَّةَ عَمَلٍ في دِرهَمٍ ، فَإِنَّما اُمِرنا أن نَأخُذَ مِنهُمْ العَفوَ . (1)ط _ تَوزيعُ أموالِ العامَّةِ بِالسَّوِيَّةِالكافي عن أبي مِخنَف :أتى أميرَ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ رَهطٌ مِنَ الشَّيعَةِ ، فَقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، لَو أخرَجتَ هذِهِ الأَموالَ فَفَرَّقتَها في هؤُلاءِ الرُّؤَساءِ وَالأَشرافِ ، وفَضَّلتَهُم عَلَينا ، حَتّى إذَا استَوسَقَتِ الاُمورُ عُدتَ إلى أفضَلِ ما عَوَّدَكَ اللّهُ مِنَ القَسمِ بِالسَّوِيَّةِ ، وَالعَدلِ فِي الرَّعِيَّةِ ! ! فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : أ تَأمُرونّي _ وَيحَكُم _ أن أطلُبَ النَّصرَ بِالظُّلمِ وَالجَورِ فيمَن وُلّيتُ عَلَيهِ مِن أهل الإِسلامِ ! ! لا وَاللّهِ ، لا يَكونُ ذلِكَ ما سَمَرَ السَّميرُ ، وما رَأَيتُ فِي السَّماءِ نَجما ، وَاللّهِ لَو كانَت أموالُهُم مالي لَساوَيتُ بَينَهُم ، فَكَيفَ وإنَّما هِيَ أموالُهُم ! ! (2)
.
ص: 367
وقفة مع أسلوب توزيع الأموال العامّة في صدر الإسلامإنّ عنوان «بيت المال» في النصوص الروائيّة هو مصطلح عامّ للعائدات العامّة للمسلمين، ويكون تحت اختيار الحكومة الإسلاميّة ويتبيّن من خلال نظرة جامعة للروايات أنّ بيت المال ينفق في وجهين : 1 . النفقات العامّة ذات العنوان الخاصّ، مثل ضمان الفقراء ، والمساكين ، والعاجزين ، واُسر الشهداء، ورواتب العاملين في بيت المال، والقضاة، والجنود، ومصارف التعليم، والصحّة، وقروض الغرماء، ودِيات المقتولين الَّذين ليس لهم ضامن، والعمران، وغيرها... 2 . تقسيم الفائض : بعد أن يتمّ إعطاء المذكورين حصصهم من بيت المال ، ففي صدر الإسلام كان يتمّ تقسيم الفائض عن ذلك بين عامّة المسلمين وقد عرّفت الروايات هذا القسم بالحقّ العام للأفراد من بيت المال . إنّ التوزيع المطلوب لبيت المال من وجهة نظر الإسلام يستند على ركيزتين أساسيّتين هما: 1 . رعاية العدالة في التقسيم: للعدالة الاقتصاديّة في توزيع الثروات العامّة معياران أصليّان في الإسلام :
.
ص: 368
أحدهما: أولويّة الضمان الاجتماعي ، والاهتمام بالطبقات الاجتماعيّة الضعيفة والمحرومة ، والسعي في التوسعة عليهم . والآخر: رعاية المساواة في الحقوق المتكافئة. وإذا لاحظنا سياسة الإمام عليّ عليه السلام في توزيع الأموال نلمس فيها أوضح مصاديق هذين المعيارين ، إذ نقرأ في كتبه إلى عمّاله تأكيده الدائم على تخصيص قسمٍ من مصادر بيت المال للطبقات المحرومة وذات الدخل المحدود ، وتأكيداته الجمّة ، ووصاياه الكثيرة بإلغاء الامتيازات الوهميّة المجحفة، ومنح الحقوق المتساوية للقريب والبعيد، والعربي والأعجمي، والمرأة والرجل، وذي السابقة في الإسلام وحديثي العهد به . فترتسم لطلّاب العدالة صورة مشرقة للعدالة الإنسانيّة. 2 . عدم حبس الحقوق العامّة : الإسراع في الإنفاق، واجتناب حبس الحقوق العامّة ، فمع تأكيد الإسلام على لزوم الاعتدال في الإنفاق والتخطيط له، والإنفاق بمقدار، نجده ذمّ بشدّة حبس الحقوق العامّة بلا مسوّغ، وأوصى بالإسراع في إنفاقها. وإذا لاحظنا هاتين الخصوصيّتين يمكن بيان المنهج القويم في صرف أموال بيت المال بهذا النحو : إذا تمّ حبس جزء من الدخل لمصارف خاصّة بحيث كان كلّ من الدخل والمصرف حاليّين فهذا الحبس هو الإمساك والادّخار المنهيّ عنه في الروايات . بل بلغ اهتمام النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله برعاية هذا المبدأ مرتبة قصوى تظهر معها آثار الغمّ على صفحات وجهه الكريم بسبب بقاء مقدار قليل من الأموال الَّتي ينبغي أن تصل إلى مستحقّيها. وحين زادت عائدات بيت المال في عهد عمر بشكل لم يسبق له مثيل قامت الحكومة بتأسيس بيت المال وتشكيل الديوان ، وكانت العائدات
.
ص: 369
تُجمع فيه وتُدَّخر على طول السنة، ثمّ تُوزّع على عامّة المسلمين في نهاية السنة بشكلٍ فردي. وعندما تقلّد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الخلافة رفض هذه السياسة، وسار بسيرة النبيّ صلى الله عليه و آله . وامتناعه عن التأخير في تقسيم بيت المال حتّى بمقدار ليلة واحدة، وتأكيده على توزيع جميع ما في بيت المال ، يدلّ بوضوح على شدّة اهتمامه باجتناب الادّخار.
.
ص: 370
ي _ تَوفيرُ الحاجاتِ الضَّرورِيَّةِ لِلجَميعِالإمام عليّ عليه السلام :ما أصبَحَ بِالكوفَةِ أحَدٌ إلّا ناعِما ؛ إنَّ أدناهُم مَنزِلَةً لَيَأكُلُ مِنَ البُرِّ ويَجلِسُ فِي الظِّلِّ ويَشرَبُ مِن ماءِ الفُراتِ . (1)
ك _ حِمايَةُ الطَّبَقَةِ السُّفلى96.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابِهِ إلى قُثَمِ بنِ العَبّاسِ _: وانظُر إلى ما اجتَمَعَ عِندَكَ مِن مالِ اللّهِ فَاصرِفهُ إلى مَن قِبَلَكَ مِن ذَوِي العِيالِ وَالمَجاعَةِ ، مُصيبا بِهِ مَواضِعِ الفاقَةِ وَالخَلّاتِ (2) ، وما فَضَلَ عَن ذلِكَ فاحمِلهُ إلَينا لِنَقسِمَهُ فيمَن قِبَلَنا . (3)ل _ العِنايَةُ الخاصَّةُ بِالأَيتامِربيع الأبرار عن أبي الطُّفيل :رَأَيتُ عَلِيّا _ كَرَّمَ اللّهُ وَجهَهُ _ يَدعُو اليَتامَى فَيُطعِمُهُمُ العَسَلَ، حَتّى قالَ بَعضُ أصحابِهِ : لَوَدِدتُ أنّي كُنتُ يَتيما . (4)
م _ عَدَمُ استِئثارِ الأَولادِ والأَقرِباءِ1 . الحَسَنُ وَالحُسَينُ عليهماالسلام101.الإمام عليّ عليه السلام :أنساب الأشراف عن داوودَ بنِ أبي عَوفٍ عَن رَجُلٍ مِن خَثعَمٍ:رَأَيتُ الحَسَنَ وَالحُسَينَ عليهماالسلاميَأكُلانِ خُبزا وخَلّاً وبَقلاً ، فَقُلتُ : أ تَأكُلانِ هذا وفِي الرَّحَبَةِ (5) ما فيها ! فَقالا : ما
.
ص: 371
101.الإمام عليّ عليه السلام :أغفَلَكَ عَن أميرِ المُؤمِنينَ ! (1)102.الإمام الصادق عليه السلام :شرح نهج البلاغة عن خالد بن مُعَمَّر السَّدوسيّ_ لِعِلباء بنِ الهَيثَمِ _: ماذا تُؤَمِّلُ عِندَ رَجُلٍ أرَدتُهُ عَلى أن يَزيدَ في عَطاءِ الحَسَنِ والحُسينِ دُرَيهِماتٍ يَسيرَةً رَيثَما يَرأَبانِ (2) بِها ظَلَفَ (3) عَيشِهِما ، فَأَبى وغَضِبَ فَلَم يَفعَل ! (4)2 . اُمُّ كُلثومٍ104.من لا يحضره الفقيه :الاختصاص :بُعِثَ إلَيهِ ]عَلِيٍّ عليه السلام [ مِنَ البَصرَةِ مِن غَوصِ البَحرِ بِتُحفَةٍ لا يُدرى ما قِيمَتُها ، فَقالَت لَهُ ابنَتُهُ اُمُّ كُلثومٍ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أتَجَمَّلُ بِهِ ويَكونَ في عُنُقي ؟فَقالَ : يا أبا رافِعٍ ، أدخِلهُ إلى بَيتِ المالِ ؛ لَيسَ إلى ذلِكَ سَبيلٌ حَتّى لا تَبقَى امرَأَةٌ مِنَ المُسلِمينَ إلّا ولَها مِثلُ ذلِكَ ! (5)ن _ التَّقَشُّفُ وَالِاحتِياطُ فِي النَّفَقَةِ مِن بَيتِ المالِ106.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى عُمّالِهِ _: أدِقّوا أقلامَكُم ، وقارِبوا بَينَ سُطورِكُم ، وَاحذِفوا عَنّي فُضولَكُم ، وَاقصِدوا قَصدَ المَعاني ، وإيّاكُم وَالإِكثارَ ؛ فإِنَّ أموالَ المُسلِمينَ لا تَحتَمِلُ الإِضرارُ . (6)مكارم الأخلاق عن عقيل بن عبد الرحمن الخَولانيّ :كانَت عَمَّتي تَحتَ عَقيلِ بنِ أبي طالِبٍ ،
.
ص: 372
فَدَخَلَت عَلى عَلِيٍّ عليه السلام بِالكوفَةِ وهُوَ جالِسٌ عَلى بَرذَعَةِ (1) حِمارٍ مُبَتَّلَةً (2) ، قالَت : فَدَخَلَت عَلى عَلِيٍّ عليه السلام اِمرَأَةٌ لَهُ مِن بَني تَميمٍ فَقُلتُ لَها : وَيحَكِ ! إنَّ بَيتَكِ مُمتَلِئٌ مَتاعا وأميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام جالِسٌ عَلى بَرذَعَةِ حِمارٍ مُبَتَّلَةً ! فَقالَت : لا تَلوميني ، فَوَاللّهِ ما يَرى شَيئا يَنكُرُهُ إلّا أخَذَهُ فَطَرَحَهُ في بَيتِ المالِ . (3)
.
ص: 373
الفصل السادس : السياسة الاجتماعيّةأ _ إقامَةُ العَدلِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: وَليَكُن أحَبُّ الاُمورِ إلَيكَ أوسَطَها فِي الحَقِّ ، وأعَمَّها فِي العَدلِ ، وأجمَعَها لِرِضَى الرَّعِيَّةِ . . . إنَّ أفضَلَ قُرَّةِ عَينِ الوُلاةِ استِقامَةُ العَدلِ فِي البِلادِ ، وظُهورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ . (1)
ب _ الاِلتزِامُ بِالحقُوقِ112.عنه صلى الله عليه و آله :الإمام عليّ عليه السلام :جَعَلَ اللّهُ سُبحانَهُ حُقوقَ عِبادِهِ مُقَدَّمَةً لِحُقوقِهِ ؛ فَمَن قامَ بِحُقوقِ عِبادِ اللّهِ كانَ ذلِكَ مُؤَدِّيا إلَى القِيامِ بِحُقوقِ اللّهِ . (2)ج _ تَنمِيَةُ الحُرِّيَّةِ البَنّاءَةِ114.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ آدَمَ لَم يَلِد عَبدا ولا أمَةً ، وإنَّ النّاسَ كُلَّهُم أحرارٌ . (3)115.الإمام عليّ عليه السلام :عنه عليه السلام :لا تَكُن عَبدَ غَيرِكَ وقَد جَعَلَكَ اللّهُ حُرّا . (4)
.
ص: 374
د _ الاِهتِمامُ بِرِضَى العامَّةِ117.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: فَاعمَل فيما وُلّيتَ عَمَلَ مَن يُحِبُّ أن يَدَّخِرَ حُسنَ الثَّناءِ مِنَ الرَّعِيَّةِ ، وَالمَثوبَةِ مِنَ اللّهِ ، وَالرِّضا مِنَ الإِمامِ . ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ . (1)ه _ الرَّحمَةُ لِلرَّعِيَّةِ وَالمَحَبَّةُ لَهُمالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: وأشعِر قَلبَكَ الرَّحمَةَ لِلرَّعِيَّةِ ، وَالمَحَبَّةَ لَهُم ، وَاللُّطفَ بِهِم ، ولا تَكونَنَّ عَلَيهِم سَبُعا ضارِيا تَغتَنِمُ أكلَهُم ؛ فَإِنَّهُم صِنفانِ : إمّا أخٌ لَكَ فِي الدّينِ ، وإمّا نَظيرٌ لَكَ فِي الخَلقِ ، يَفرُطُ مِنهُمُ الزَّلَلُ ، وتَعرِضُ لَهُمُ العِلَلُ ، ويُؤتى عَلى أيديهِم فِي العَمدِ وَالخَطَأَ ، فَأَعطِهِم مِن عَفوِكَ وصَفحِكَ مِثلَ الَّذي تُحِبُّ وتَرضى أن يُعطِيَكَ اللّهُ مِن عَفوِهِ وصَفحِهِ ؛ فَإنَّكَ فَوقَهُم ، ووالِي الأَمرِ عَلَيكَ فَوقَكَ ، واللّهُ فَوقَ مَن وَلّاكَ . وقَدِ استَكفَاكَ أمرَهُم وَابتَلاكَ بِهِم . ولا تَنصِبَنَّ نَفسَكَ لِحَربِ اللّهِ ؛ فَإِنهُ لا يَدَ لَكَ بِنِقمَتِهِ ، ولا غِنىً بِكَ عَن عَفوِهِ ورَحمَتِهِ ... وَاعلَم أنَّهُ لَيسَ شَيءٌ بِأَدعى إلى حُسنِ ظَنِّ راعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِن إحسانِهِ إلَيهِم ، وتَخفيفِهِ المَؤوناتِ عَلَيهِم ، وتَركِ استِكراهِهِ إيّاهُم عَلى ما لَيسَ لَهُ قِبَلَهُم ، فَليَكُن مِنكَ في ذلِكَ أمرٌ يَجتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ ؛ فَإِنَّ حُسنَ الظَّنِّ يَقطَعُ عَنكَ نَصَباً طَويلاً ، وإنَّ أحَقَّ مَن حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَن حَسُنَ بَلاؤُكَ عِندَهُ . وإنَّ أحَقَّ مَن ساءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَن ساءَ بَلاؤُكَ عِندَهُ . (2) وزاد في تحف العقول : فَاعرِف هذِهِ المَنزِلَةَ لَكَ وعَلَيكَ لِتَزِدكَ بَصيرَةً في حُسنِ الصُّنعِ ، وَاستِكثارِ حُسنِ البَلاءِ عِندَ العامَّةِ ، مَعَ ما يوجِبُ اللّهُ بِها لَكَ فِي المَعادِ . (3)
.
ص: 375
و _ الاِتِّصالُ المُباشِرُ بِالنّاسِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: اِجعَل لِذَوِي الحاجاتِ مِنكَ قِسما تُفَرِّغُ لَهُم فيهِ شَخصَكَ ، وتَجلِسُ لَهُم مَجلِسا عامّا ، فَتَتَواضَعُ فيهِ للّهِِ الَّذي خَلَقَكَ ، وتُقعِدَ عَنهُم جُندَكَ وأعوانَكَ مِن أحراسِكَ وشُرَطِكَ ، حَتّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُم غَيرَ مُتَتَعتِعٍ ؛ فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ في غَيرِ مَوطِنٍ : «لَن تُقَدَّسَ اُمّةٌ لا يُؤخَذُ لِلضَّعيفِ فيها حَقُّهُ مِنَ القَوِيِّ غَيرَ مُتَتَعتِعٍ» . . . ثُمَّ اُمورٌ مِن اُمورِكَ لابُدَّ لَكَ مِن مُباشَرَتِها ، مِنها : إجابَةُ عُمّالِكَ بِما يَعيا عَنهُ كُتّابُكَ . ومِنها : إصدارُ حاجاتِ النّاسِ يَومَ وُرودِها عَليكَ بِما تَحرَجُ بِهِ صُدورُ أعوانِكَ . . . فَلا تُطَوِّلَنَّ احتجِابَكَ عَن رَعِيَّتِكَ ؛ فَإِنَّ احتِجابَ الوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعبَةٌ مِنَ الضِّيقِ ، وقِلَّةُ عِلمٍ بِالاُمورِ ، وَالِاحتِجابُ مِنهُم يَقطَعُ عَنهُم عِلمَ مَا احتَجَبوا دونَهُ ، فَيَصغُرُ عِندَهُمُ الكَبيرُ ، ويَعظُمُ الصَّغيرُ ، ويَقبُحُ الحَسَنُ ، ويَحسُنُ القَبيحُ . (1)
ز _ الاِجتنابُ عَنِ الغَضَبِ123.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ مِن وَصِيَّتِهِ لِابنِ عَبّاسٍ عِندَ استِخلافِهِ إيّاهُ عَلَى البَصرَةِ _: سَعِ النّاسَ بِوَجهِكَ ومَجلِسِكَ وحُكمِكَ ، وإيّاكَ وَالغَضَبَ ؛ فَإِنَّهُ طَيرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ . (2)ح _ إعانَةُ المَظلومِ125.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :أيُّهَا النّاسُ ! أعينوني عَلى أنفُسِكُم ، وايمُ اللّهِ لَاُنصِفَنَّ المَظلومَ مِن ظالِمِهِ ، ولَأَقودَنَّ الظّالِمَ بِخِزامَتِهِ ، حَتّى اُورِدَهُ مَنهَلَ الحَقِّ وإن كانَ كارِها . (3)
.
ص: 376
126.الإمام عليّ عليه السلام :عنه عليه السلام :الذَّليلُ عِندي عَزيزٌ حَتّى آخُذَ الحَقَّ لَهُ ، وَالقَوِيُّ عِندي ضَعيفٌ حَتّى آخُذَ الحَقَّ مِنهُ . (1)ط _ تَأسيسُ بَيتِ القِصَصِصبح الأعشى :أوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ بَيتا تُرمى فيهِ قِصَصُ أهلِ الظُّلاماتِ أميرُ المُؤمِنينَ عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ رضى الله عنه . (2)
شرح نهج البلاغة :كانَ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام بَيتٌ سَمّاهُ : بَيتَ القِصَصِ ، يُلقِي النّاسُ فيهِ رِقاعَهُم . (3)
ي _ الحِرصُ عَلى جَماعَةِ الاُمَّةِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامِهِ مَعَ الخَوارِجِ _: اِلزَموا السَّوادَ الأَعظَمَ ؛ فَإِنَّ يَدَ اللّهُ مَعَ الجَماعَةِ ، وإيّاكُم والفُرقَةَ ! فَإِنَّ الشّاذَّ مِنَ النّاسِ لِلشَّيطانِ ، كَما أنَّ الشّاذَّ مِنَ الغَنَمِ لِلذِّئبِ . (4)
132.الإمام الصادق عليه السلام :عنه عليه السلام :وإنّي ، وَاللّهِ ، لَأَظُنُّ أنَّ هؤلاءِ القَومَ سَيُدالونَ (5) مِنكُم بِاجتِماعِهِم عَلى باطِلِهِم ، وتَفَرُّقِكُم عَن حَقِّكُم . (6)
.
ص: 377
الفصل السابع : السياسة القضائيةأ _ اِختِيارُ الأَفاضِلِ لِلقَضاءِ135.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: ثُمَّ اختَر لِلحُكمِ بَينَ النّاسِ أفضَلَ رَعِيَّتِكَ في نَفسِكَ ، مِمَّن لا تَضيقُ بِهِ الاُمورُ ، ولا تُمَحِّكُهُ (1) الخُصومُ ، ولا يَتَمادى فِي الزَّلَّةِ ، ولا يَحصَرُ مِنَ الفَيءِ إلَى الحَقِّ إذا عَرَفَهُ ، ولا تُشرِفُ نَفسُهُ عَلى طَمَعٍ ، ولا يَكتَفي بِأَدنى فَهمٍ دونَ أقصاهُ ، وأوقَفَهُم فِي الشُّبهاتِ ، وآخَذَهُم بِالحُجَجِ ، وأقَلَّهُم تَبَرُّما بِمُراجَعَةِ الخَصمِ ، وأصبَرَهُم عَلى تَكَشُّفِ الاُمورِ ، وأصرَمَهُم عِندَ اتِّضاحِ الحُكمِ ، مِمَّن لا يَزدَهيهِ إطراءٌ ولا يَستَميلُهُ إغراءٌ ، واُولئِكَ قَليلٌ . (2)ب _ التَّأمينُ الاِقتِصاديُّ لِلقُضاةِ137.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: ثُمَّ اختَر لِلحُكمِ بَينَ النّاسِ أفضَلَ رَعِيَّتِكَ في نَفَسِكَ . . . وَافسَح لَهُ فِي البَذلِ ما يُزيلُ عِلَّتَهُ وتَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إلَى النّاسِ . (3)
.
ص: 378
ج _ التَّأكيدُ عَلى آدابِ القَضاءِالكافي عن أحمد بن أبي عبد اللّه رفعه :قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام لِشُرَيحٍ : لا تُسارَّ أحَدا في مَجلِسِكَ ، وإن غَضِبتَ فَقُم ؛ فَلا تَقضِيَنَّ وأنتَ (1) غَضبانُ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ _: وإذا أنتَ قَضَيتَ بَينَ النّاسِ فَاخفِض لَهُم جَناحَكَ ، ولَيِّن لَهُم جانِبَكَ ، وَابسُط لَهُم وَجهَكَ ، وآسِ بَينَهُم في اللَّحظِ والنَّظَرِ ، حَتّى لا يَطمَعَ العُظَماءُ في حَيفِكَ لَهُم ، ولا يَأيَسَ الضُّعَفاءُ مِن عَدلِكَ عَلَيهِم . (3)
د _ عَزلُ مَن تَخَلَّفَ عَنِ الآدابِ142.الإمام عليّ عليه السلام :عوالي اللآلي :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ وَلّى أبَا (4) الأَسوَدِ الدُّؤلِيَّ القَضاءَ ثُمَّ عَزَلَهُ ، فَقالَ لَه: لِمَ عَزَلتَني وما جَنَيتُ وما خُنتُ ؟ فَقالَ عليه السلام : إنّي رَأَيتُ كَلامَكَ يَعلو عَلى كَلامِ الخَصمِ . (5)ه _ مُراقَبَةُ قَضاءِ القُضاةِ144.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ ، بَعدَ أن ذَكَرَ كَيفِيَّةَ اختِيارِ القُضاةِ _: ثُمَّ أكثِر تَعاهُدَ قَضائِهِ . (6)145.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام الصادق عليه السلام :لَمّا وَلّى أميرُ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ شُرَيحا القَضاءَ اشتَرَطَ عَلَيهِ أن لا يُنَفِّذَ القَضاءَ حَتّى يَعرِضَهُ عَلَيهِ . (7)
.
ص: 379
و _ التَّحذيرُ مِنَ الجَورِ والجَهلِ في القَضاءِ147.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الإمام عليّ عليه السلام :أفظَعُ شَيءٍ ظُلمُ القُضاةِ . (1)148.الإمام عليّ عليه السلام :عنه عليه السلام :مَن جارَت أقضِيَتُهُ زالَت قُدرَتُهُ . (2)ز _ مُباشَرَةُ الإِمامِ عليه السلام القَضاءَ بِنَفسِهِ150.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :عوالي اللآلي :رُوِيَ عَن عَلِيٍّ عليه السلام أنَّهُ كانَ يَفعَلُ ذلِكَ ] أي القَضاءَ [ في مَسجِدِ الكوفَةِ ، ولَهُ بِهِ دَكَّةٌ مَعروفَةٌ بِدَكَّةِ القَضاءِ . (3)إرشاد القلوب :رُوِيَ أنَّهُ عليه السلام كانَ إذا يَفرُغُ مِنَ الجِهادِ يَتَفَرَّغُ لِتَعليمِ النّاسِ ، وَالقَضاءِ بَينَهُم . (4)
ح _ إِقامَةُ الحُدودِ عَلَى القَريبِ وَالبَعيدِ153.كنزالفوائد :الإمام الباقر عليه السلام :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام أمَرَ قَنبَرا أن يَضرِبَ رَجُلاً حَدّا ، فَغَلُظَ قَنبَرٌ فَزادَهُ ثَلاثَةَ أسواطٍ ، فَأَقادَهُ عَلِيٌّ عليه السلام مِن قَنبَرٍ ثَلاثَةَ أسواطٍ . (5)ط _ الخُضوعُ لِلقَضاءِ155.عنه عليه السلام :الكامل في التاريخ عن الشعبي :وَجَدَ عَلِيٌّ دِرعا لَهُ عِندَ نَصرانِيٍّ ، فَأَقبَلَ بِهِ إلى شُرَيحٍ وجَلَسَ إلى جانِبِهِ ، وقالَ: لَو كانَ خَصمي مُسلِما لَساوَيتُهُ ، وقالَ: هذِهِ دِرعي . فَقالَ النَّصرانِيُّ: ماهِيَ إلّا دِرعي ، ولَم يَكذِب أميرُ المُؤمِنينَ . فَقالَ شُرَيحٌ لِعَلِيٍّ: أ لَكَ بَيِّنَةٌ ؟
.
ص: 380
155.عنه عليه السلام :قالَ: لا ، وهوَ يَضحَكُ . فَأَخَذَ النَّصرانِيُّ الدِّرعَ ومَشى يَسيرا ثُمَّ عادَ وقالَ:
أشهَدُ أنَّ هذِهِ أحكامُ الأَنبِياءِ ، أميرُ المُؤمِنينَ قَدَّمَني إلى قاضِيهِ ، وقاضيهِ يَقضي عَلَيهِ !
ثُمَّ أسلَمَ وَاعتَرَفَ أنَّ الدِّرعَ سَقَطَت مِن عَلِيٍّ عِندَ مَسيرِهِ إلى صِفّينَ ، فَفَرِحَ عَلِيٌّ بِإِسلامِهِ ووَهَبَ لَهُ الدِّرعَ وفَرَسا ، وشَهِدَ مَعَهُ قِتالَ الخَوارِجِ . (1) .
ص: 381
الفصل الثامن : السياسة الأمنيّةأ _ أهَمِّيَّةُ الأَمنِ158.الإمام الجواد عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :شَرُّ البِلادِ بَلَدٌ لا أمنَ فيهِ ، ولا خِصبَ . (1)159.الإمام عليّ عليه السلام :عنه عليه السلام :لابُدَّ لِلنّاسِ مِن أميرٍ بَرٍّ أو فاجِرٍ ؛ يَعمَلُ في إمرَتِهِ المُؤمِنُ ، ويَستَمتِعُ فيهَا الكافِرُ ، ويُبَلِّغُ اللّهُ فيهَا الأَجَلَ ، ويُجمَعُ بِهِ الفَيءُ ، ويُقاتَلُ بِهِ العَدُوُّ ، وتَأمَنُ بِهِ السُّبُلُ ، ويُؤخَذُ بِهِ لِلضَّعيفِ مِنَ القَوِيِّ ؛ حَتّى يَستَريحَ بَرٌّ ، ويُستَراحَ مِن فاجِرٍ . (2)ب _ الاِستِخبارالإمام عليّ عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى عُمّالِهِ _: بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ . مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مَن قَرَأَ كِتابي هذا مِنَ العُمّالِ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ رِجالاً لَنا عِندَهُم بَيعَةٌ خَرَجوا هُرّابا فَنَظُنُّهُم وَجَّهوا نَحوَ بِلادِ البَصرَةِ ، فَاسأَل عَنهُم أهلَ بِلادِكَ ، واجعَل عَلَيهِمُ العُيونَ في كُلِّ ناحِيَةٍ مِن أرضِكَ ، ثُمَّ اكتُب إلَيَّ بِما يَنتَهي إلَيكَ عَنهُم ، وَالسَّلامُ . (3)
.
ص: 382
الفتوح_ في ذِكرِ حَربِ صِفّينَ _: قَد كانَ مَعَ مُعاوِيَةَ رَجُلٌ مِن حِميَرٍ يُقالُ لَهُ الحُصَينُ بنُ مالِكٍ وكانَ يُكاتِبُ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ رضى الله عنهويَدُلُّهُ عَلى عَوراتِ مُعاوِيَةَ . (1)
ج _ اِستِصلاحُ الأَعداءِ164.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :مَنِ استَصلَحَ عَدُوَّهُ زادَ في عَدَدِهِ . (2)165.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :عنه عليه السلام :كَمالُ الحَزمِ استِصلاحُ الأَضدادِ ، ومُداجاةُ الأَعداءِ . (3)د _ المُسالَمَةُ مَعَ الوَعي167.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :وَجَدتُ المُسالَمَةَ ما لَم يَكُن وَهنٌ فِي الإِسلامِ أنجَعَ مِنَ القِتالِ . (4)ه _ التَّحذيرُ مِنِ استِصغارِ الخَصمِ169.تحف العقول :الإمام عليّ عليه السلام :لا تَستَصغِرَنَّ عَدُوّا وإن ضَعُفَ . (5)و _ اِنتِهازُ الفُرصَةِ في مُواجَهَةِ الأَعداءِ171.الكافي عن عليّ بن أسباط عَنهُم عليهم السلامالإمام عليّ عليه السلام :لا تُوقِع بِالعَدُوِّ قَبلَ القُدرَةِ . (6)172.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :عنه عليه السلام_ في الحِكَمِ المَنسوبَةِ إلَيهِ _: أقتَلُ الأَشياءِ لِعَدُوِّكَ ألّا تُعَرِّفَهُ أنَّكَ اتَّخَذتَهُ عَدُوّا . (7)
.
ص: 383
ز _ التَّحذيرُ مِنَ التَّعذيبِمسند زيد عن زيد بن عليّ عن أبيه عن جدّه عن الإمام عليّ عليهم السلام_ أنَّهُ قالَ لِعُمَرَ فِي امرَأَةٍ حامِلٍ اِعتَرَفَت بِالفُجورِ فَأَمَرَ بِها أن تُرجَمَ _: فَلَعَلَّكَ انتَهَرتَها أو أخَفتَها ؟ قالَ : قَد كانَ ذلِكَ ، فَقالَ : أ وَما سَمِعتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : لا حَدَّ عَلى مُعتَرِفٍ بَعدَ بَلاءٍ ، إنَّهُ مَن قَيَّدتَ أو حَبَستَ أو تَهَدَّدتَ فلا إقرارَ لَهُ . قالَ : فَخَلّى عُمَرُ سَبيلَها ، ثُمَّ قالَ : عَجَزَتِ النِّساءُ أن تَلِدَ مِثلَ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ ، لَولا عَليٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ . (1)
ح _ الرِّفقُ ما لَم يَكُن تَآمُراالأموال عن كثير بن نَمِر :جاءَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ (2) مِنَ الخَوارِجِ إلى عَليٍّ ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنّي وَجَدتُ هذا يَسُبُّكَ ، قالَ : فَسُبَّهُ كَما سَبَّني . قالَ : ويَتَوَعَّدُكَ ؟فَقالَ : لا أقتُلُ مَن لَم يَقتُلني ، قالَ عَليٌّ : لَهُم عَلَينا ثَلاثٌ : أن لا نَمنَعَهُمُ المَساجِدَ أن يَذكُرُوا اللّهَ فيها ، وأن لا نَمنَعَهُمُ الفَيءَ ما دامَت أيديهِم مَعَ أيدينا ، وأن لا نُقاتِلَهُم حَتّى يُقاتِلونا . (3)
ط _ إجلاءُ المُتَآمِرينَ178.عنه عليه السلام :الغارات عن سعيدٍ الأَشعَريّ :اِستَخلَفَ عَليٌّ عليه السلام حينَ سارَ إلَى النَّهرَوانِ رَجُلاً مِنَ النَّخَعِ يُقالُ لَهُ : هانِي بنُ هَوذَةَ ، فَكَتَبَ إلى عَليٍّ عليه السلام : إنَّ غَنيّا وباهِلَةَ فَتَنوا ، فَدَعَوُا اللّهَ عَلَيكَ أن يَظفِرَ بِكَ عَدُوُّكَ ، قالَ : فَكَتَبَ إلَيهِ عَليٌّ عليه السلام : أجلِهِم مِنَ الكوفَةِ ولا تَدَع مِنهُم أحَدا . (4)
.
ص: 384
الفصل التاسع : السياسة الحربيةأ _ الاِهتِمامُ بِالتَّدريبِ العَسكَرِيِّ1 . تَعليمُ الجَيشِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن وَصِيَّتِهِ لِزيادِ بنِ النَّضرِ حينَ أنفَذَهُ عَلى مُقَدِّمَتِهِ إلى صِفّينَ _: اِعلَم أنَّ مُقَدِّمَةَ القَومِ عُيونُهُم ، وعُيونُ المُقَدِّمَةِ طَلائِعُهُم ، فَإِذا أنتَ خَرَجتَ مِن بِلادِكِ ودَنَوتَ مِن عَدُوِّكَ فَلا تَسأَم (1) مِن تَوجيهِ الطَّلائِعِ في كُلِّ ناحِيَةٍ ، وفي بَعضِ الشِّعابِ وَالشَّجَرِ وَالخَمَرِ (2) ، وفي كُلِّ جانِبٍ ، حَتّى لا يُغيرَكُم عَدُوُّكُم ، ويَكونَ لَكُم كَمينٌ . ولا تُسَيِّرِ الكَتائِبَ وَالقَبائِلَ مِن لَدُنِ الصَّباحِ إلَى المَساءِ إلّا تَعبِيَةً ، فَإِن دَهَمَكُم أمرٌ أو غَشِيَكُم مَكروهٌ كُنتُم قَد تَقَدَّمتُم فِي التَّعبِيَةِ . وإذا نَزَلتُم بِعَدُوٍّ أو نَزَلَ بِكُم فَليَكُن مُعَسكَرُكُم في أقبالِ الأَشرافِ ، أو في سِفاحِ الجِبالِ ، أو أثناءِ الأَنهارِ ؛ كَيما تَكونَ لَكُم رِدءا ودُونَكُم مَرَدّا . وَلتَكُن مُقاتَلَتُكُم مِن وَجهٍ واحِدٍ وَاثنَينِ . وَاجعَلوا رُقَباءَكُم في صَياصِي (3) الجِبالِ ، وبِأَعلى الأَشرافِ ، وبِمَناكِبِ الأَنهارِ ؛
.
ص: 385
يُريئونَ لَكُم ؛ لِئَلّا يَأتِيَكُم عَدُوٌّ مِن مَكانِ مَخافَةٍ أو أمنٍ . وإذا نَزَلتُم فَانزِلوا جَميعا ، وإذا رَحَلتُم فَارحَلوا جَميعا ، وإذا غَشِيَكُمُ اللَّيلُ فَنَزَلتُم فَحُفّوا عَسكَرَكُم بِالرِّماحِ وَالتِّرَسَةِ ، وَاجعَلوا رُماتَكُم يَلوونَ تِرَسَتَكُم ؛ كَيلا تُصابَ لَكُم غِرَّةٌ ، ولا تُلقى لَكُم غَفلَةٌ . وَاحرُس عَسكَرَكَ بِنَفسِكَ، وإيّاكَ أن تَرقُدَ أو تُصبِحَ إلّا غِرارا (1) أو مَضمَضَةً (2) . ثُمَّ ليَكُن ذلِكَ شَأنَكَ ودَأبَكَ حَتّى تَنتَهِيَ إلى عَدُوِّكَ . وعَلَيكَ بِالتَّأَنّي في حَربِكَ ، وإيّاكَ والعَجَلَةَ إلّا أن تُمكِنَكَ فُرصَةٌ . وإيّاكَ أن تُقاتِلَ إلّا أن يَبدَؤوكَ ، أو يَأتِيَكَ أمري . وَالسَّلامُ عَلَيكَ ورَحمَةُ اللّهِ . (3)
2 . تَنظيمُ الجَيشِدعائم الإسلام :إنَّهُ [ عليّا عليه السلام ] كانَ إذا زَحَفَ لِلقِتالِ جَعَلَ مَيمَنَةً وميسَرَةً وقَلبا يَكونُ هُوَ فيهِ ، ويَجعَلُ لَها رَوابِطُ ، ويُقَدِّمُ عَلَيها مُقَدّمينَ ، ويَأمُرُهُم بِخَفضِ الأَصواتِ ، وَالدُّعاءِ ، وَاجتِماعِ القُلوبِ ، وشَهرِ السُّيوفِ ، وإظهارِ العِدَّةِ ، ولُزومِ كُلِّ قَومٍ مَكانَهُم ، ورُجوعِ كُلِّ مَن حَمَلَ إلى مَصافِّهِ بَعدَ الحَملَةِ . (4)
3 . اِنتِهازُ الفُرصَةِالإمام عليّ عليه السلام_ في وَصفِ القِتالِ _: مَن رَأى فُرصَةً مِنَ العَدُوِّ فَليَنشُز ، وَليَنتَهِزِ الفُرصَةَ بَعدَ إحكامِ مَركَزِهِ ، فَإِذا قَضى حاجَتَهُ عادَ إلَيهِ . (5)
.
ص: 386
4 . الاِنسِحابُ التّاكتيكيّ188.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :كانَ يَقولُ لِأَصحابِهِ عِندَ الحَربِ _ : لا تَشتَدَّنَّ عَلَيكُم فَرَّةٌ بَعدَها كَرَّةٌ ، ولا جَولَةٌ بَعدَها حَملَةٌ . (1)ب _ تَأسيسُ القُوّاتِ الخاصَّةِ190.عنه عليه السلام :الإمام الصادق عليه السلام :كانوا _ شُرطَةُ (2) الخَميسِ _ سِتَّةَ آلافِ رَجُلٍ أنصارهُ ]أي عَلِيّ عليه السلام [ . (3)191.عنه عليه السلام :رجال الكشّي عن أبي الجارود :قُلتُ لِلأَصبَغِ بنِ نُباتَةَ : ما كانَ مَنزِلَةُ هذَا الرَّجُلِ ]عَلِيٍّ عليه السلام [ فيكُم ؟ قالَ : ما أدري ما تَقولُ ! إلّا أنَّ سُيوفَنا كانَت عَلى عَواتِقِنا ، فَمَن أومى إلَيهِ ضَرَبناهُ بِها . وكانَ يَقولُ لَنا : تَشَرَّطوا ، فَوَاللّهِ مَا اشتِراطُكُم لِذَهَبٍ ولا لِفِضَّةٍ ، ومَا اشتِراطُكُم إلّا لِلمَوتِ ، إنَّ قَوما مِن قَبلِكُم مِن ] بَني إسرائيلَ [ (4) تَشارَطوا بَينَهُم ، فَما ماتَ أحَدٌ مِنهُم حَتّى كانَ نَبِيَّ قَومِهِ ، أو نَبِيَّ قَريَتِهِ ، أو نَبِيَّ نَفسِهِ ، وإنَّكُم لَبِمَنزِلَتِهِم ، غَيرَ أنَّكُم لَستُم بِأَنبِياءَ . (5)ج _ العِنايَةُ الخاصَّةُ بِالقُوات المُسَلَّحَةِالإمام عليّ عليه السلام_ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ _: ثُمَّ تَفَقَّد مِن اُمورِهِم ما يَتَفَقَّدُهُ الوالِدانِ مِن وَلَدِهِما ، ولا يَتَفاقَمَنَّ في نَفسِكَ شَيءٌ قَوَّيتَهُم بِهِ . ولا تَحقِرَنَّ لُطفا تَعاهَدتَهُم بِهِ وإن قَلَّ ؛ فَإِنَّهُ داعِيَةٌ لَهُم إلى بَذلِ النَّصيحَةِ لَكَ ، وحُسنِ الظَّنِّ بِكَ . ولا تَدَع تَفَقُّدَ لَطيفِ
.
ص: 387
اُمورِهِمُ اتِّكالاً عَلى جَسيمِها ؛ فَإِنَّ لِليَسيرِ مِن لُطفِكَ مَوضِعا يَنتَفِعونَ بِهِ ، ولِلجَسيمِ مَوقِعا لا يَستَغنونَ عَنهُ . (1)
د _ الِاهتِمامُ بِمَعنَوِيّاتِ الجَيشِ1 . التَّحريض196.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ عليه السلام لِابنِهِ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ لَمّا أعطاهُ الرّايَةَ يَومَ الجَمَلِ _: تَزولُ الجِبالُ ولا تَزُل ، عَضَّ عَلى ناجِذِكَ . أعِرِ اللّهَ جُمجُمَتَكَ . تِد فِي الأَرضِ قَدَمَك . ارمِ بِبَصَرِكَ أقصَى القَومِ ، وغُضَّ بَصَرَكَ ، وَاعلَم أنَّ النَّصرَ مِن عِندِ اللّهِ سُبحانَهُ . (2)2 . الشِّعار198.عنه عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَ بِإِعلانِ الشِّعارِ قَبلَ الحَربِ ، وقالَ: لِيَكُن في شِعارِكُمُ اسمٌ مِن أسماءِ اللّهِ . (3)3 . التَّحذيرُ مِنَ الفِرارِ200.كنزالفوائد :الإمام عليّ عليه السلام :لِيَعلَمِ المُنهَزِمُ بِأَنَّهُ مُسخِطٌ رَبَّهُ ، وموبِقٌ نَفسَهُ ، إنَّ فِي الفِرارِ مَوجِدَةَ اللّهِ، وَالذُّلَّ اللّازِمَ ، وَالعارَ الباقِيَ ، وفَسادَ العَيشِ عَلَيهِ . وإنَّ الفارَّ لَغَيرُ مَزيدٍ في عُمُرِهِ ، ولا مَحجوزٌ بَينَهُ وبَينَ يَومِهِ ، ولا يُرضي رَبَّهُ . ولَمَوتُ الرَّجُلِ مَحقا قَبلَ إتيانِ هذِهِ الخِصالِ خَيرٌ مِنَ الرِّضى بِالتَّلبيسِ بِها ، وَالإِقرارِ عَلَيها ! (4)
.
ص: 388
ه _ الخُدعَةالإمام الباقر عليه السلام :إنّ عَلِيّا عليه السلام كانَ يَقولُ: لَأَن تَخَطَّفَنِي الطَّيرُ أحَبُّ إلَيَّ مِن أن أقولَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما لَم يَقُل ، سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ في يَومِ الخَندَقِ: الحَربُ خُدعَةٌ . يَقولُ: تَكَلَّموا بِما أرَدتُم . (1)
الكافي عن عَدِيّ بن حاتِم :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام قالَ يَومَ التقَى هُوَ ومُعاوِيَةُ بِصِفّينَ _ ورَفَع بِها صَوتَه لِيُسمِعَ أصحابَهُ _ : وَاللّهِ لَأَقتُلَنَّ مُعاوِيَةَ وأصحابَهُ ، ثُمَّ يَقولُ في آخِرِ قَولِهِ : إن شاءَ اللّهُ _ يَخفِضُ بِها صَوتَهُ _ . وكُنتُ قَريبا مِنهُ ، فَقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ إنَّكَ حَلَفتَ عَلى ما فَعَلتَ ، ثُمَّ استَثنَيتَ ، فَما أرَدتَ بِذلِكَ ؟ ! فَقالَ لي: إنَّ الحَربَ خُدعَةٌ ، وأنَا عِندَ المُؤمِنينَ غَيرُ كَذوبٍ ، فَأَرَدتُ أن اُحَرِّض أصحابي عَلَيهِم ؛ كَيلا يَفشَلوا ، وكَي يَطمَعوا فيهِم ، فَأَفقَهُهُم يَنتَفِعُ بِها بَعدَ اليَومِ إن شاءَ اللّهُ . (2)
و _ أخلاقُ الحَربِ1 . النَّهيُ عَنِ الاِبتِداءِ بِالقِتالِالإمام عليّ عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ قَبلَ وَقعَةِ صِفّينَ _: إيّاكَ أن تَبدَأ القَومَ بِقِتالٍ إلّا أن يَبدَؤوكَ ، حَتّى تَلقاهُم ، وتَسمَعَ مِنهُم ، ولا يَجرِمَنَّكَ شَنَآنُهُم عَلى قِتالِهِم قَبلَ دُعائِهِم وَالإِعذارِ إلَيهِم مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ ! (3)
2 . الحَصانَةُ السِّياسِيَّةُ لِلرُّسُلِالإمام عليّ عليه السلام :إن ظَفِرتُم بِرَجُلٍ مِن أهلِ الحَربِ فَزَعَمَ أنَّهُ رَسولٌ إلَيكُم ؛ فَإِن عُرِفَ ذلِكَ
.
ص: 389
مِنهُ وجاءَ بِما يَدُلُّ عَلَيهِ فَلا سَبيلَ لَكُم عَلَيهِ حَتّى يُبلِغَ رَسالاتِهِ ويَرجِعَ إلى أصحابِهِ ، وإن لَم تَجِدوا عَلى قَولِهِ دَليلاً فَلا تَقبَلوا مِنهُ . (1)
3 . إقامَةُ الحُجَّةِ قَبلَ الحَربِالسنن الكبرى عن البَراءِ بن عازِب :بَعَثَني عَلِيٌّ رضى الله عنه إلَى النَّهرِ إلَى الخَوارِجِ ، فَدَعَوتُهُم ثَلاثا قَبلَ أن نُقاتِلَهُم . (2)
4 . الدُّعاءُ إذا أرادَ القِتالَ212.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الإمام الصادق عليه السلام :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام كانَ إذا أرادَ القِتالَ قالَ هذِهِ الدَّعَواتِ: اللّهُمَّ إنَّكَ أعلَمتَ سَبيلاً مِن سُبُلِكَ ، جَعَلتَ فيهِ رِضاكَ ، وَنَدبتَ إلَيهِ أولِياءَكَ ، وجَعَلتَهُ أشرَفَ سُبُلِكَ عِندَك ثَوابا ، وأكرَمَها لَدَيكَ مَآبا ، وأحَبَّها إلَيكَ مَسلَكا ، ثُمَّ اشتَرَيتَ فيهِ مِنَ المُؤمِنينَ أنفُسَهُم وأموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقتُلونَ ويُقتَلونَ وَعدا عَلَيكَ حَقّا ، فَاجعَلني مِمَّنِ اشتَرى فيهِ مِنكَ نَفسَهُ ثُمَّ وَفى لَكَ بِبَيعِهِ الَّذي بايَعَكَ عَلَيهِ ، غَيرَ ناكِثٍ ولا ناقِضٍ عَهدا ، ولا مُبَدِّلاً تَبديلاً ، بَلِ استيجابا لِمَحَبَّتِكَ ، وتَقَرُّبا بِهِ إلَيكَ ، فَاجعَلهُ خاتِمَةَ عَمَلي ، وصَيِّر فيهِ فَناءَ عُمُري ، وَارزُقني فيهِ لَكَ وبِهِ (3) مَشهدا توجِبُ لي بِهِ مِنكَ الرِّضا ، وتَحُطُّ بِهِ عَنِّي الخَطايا ، وتَجعَلُني فِي الأَحياءِ المَرزوقينَ بِأَيدِي العُداةِ وَالعُصاةِ ، تَحتَ لِواءِ الحَقِّ ورايَةِ الهُدى ، ماضِيا عَلى نُصرَتِهِم قُدُما ، غَيرَ مُوَلٍّ دُبُرا ، ولا مُحدِثٍ شَكّا ، اللّهُمَّ وأعوذُ بِكَ عِندَ ذلِكَ مِنَ الجُبنِ عِندَ مَوارِدِ الأَهوالِ ، ومِنَ الضَّعفِ عِندَ مُساوَرَةِ (4) الأَبطالِ ، ومِنَ الذَّنبِ المُحبِطِ لِلأَعمالِ ، فَاُحجِمَ
.
ص: 390
212.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن شَكٍّ ، أو أمضِيَ (1) بِغَيرِ يَقينٍ ، فَيَكون سَعيي في تَبابٍ ، وعَمَلي غَيرَ مَقبولٍ . (2)5 . البَدءُ بِالقِتالِ بَعدَ الزَّوالِالإمام الصادق عليه السلام :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ لا يُقاتِلُ حَتّى تَزولَ الشَّمسُ ويَقولُ : تُفتَحُ أبوابُ السَّماءِ ، وتُقبِلُ الرَّحمَةُ ، ويَنزِلُ النَّصرُ . ويَقولُ: هُوَ أقرَبُ إلَى اللَّيلِ ، وأجدَرُ أن يَقِلَّ القَتلُ ، ويَرِجعَ الطّالِبُ ، ويُفلِتَ المُنهَزِمُ . (3)
6 . حُسنُ المُعامَلَةِ مَعَ بقَايَا العَدُوِّ216.عنه عليه السلام :تاريخ اليعقوبي عن إسماعيل بن عليّ :إنَّ أوَّلَ مَن عَلَّمَ قِتالَ أهلِ القِبلَةِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، ولم يَكُن يَقتُلُ أسيرا ، ولا يَتبَعُ مُنهَزِما ، ولا يُجهِزُ عَلى جَريحٍ . (4)
.
ص: 391
الفصل العاشر : السياسة الدوليّةأ _ ما يُوجِبُ بَقاءَ الدُّوَلِ1 . إقامَةُ العَدلِ220.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :مَن عَمِلَ بِالعَدلِ حَصَّنَ اللّهُ مُلكَهُ . (1)221.عنه عليه السلام :عنه عليه السلام :ثَباتُ المُلكِ فِي العَدلِ . (2)222.عنه عليه السلام :عنه عليه السلام :جَعَلَ اللّهُ _ سُبحانَهُ _ العَدلَ قِواما لِلأَنامِ ، وتَنزيها مِنَ المَظالِمِ وَالآثامِ ، وتَسنِيَةً لِلإِسلامِ . (3)223.الإمام الصادق عليه السلام :عنه عليه السلام :إذا أدَّتِ الرَّعِيَّةُ إلَى الوالي حَقَّهُ ، وأدَّى الوالي إلَيها حَقَّها عَزَّ الحَقُّ بَينَهُم ، وقامَت مَناهِجُ الدّينِ ، وَاعتَدَلَت مَعالِمُ العَدلِ ، وجَرَت عَلى أذلالِهَا (4) السُّنَنُ ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمانُ ، وطُمِعَ في بَقاءِ الدَّولَةِ ، ويَئِسَت مَطامِعُ الأَعداءِ . (5)
.
ص: 392
2 . حُسنُ التَّدبيرِ225.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الإمام عليّ عليه السلام :مَن حَسُنَت سِياسَتُهُ دامَت رِياسَتُهُ . (1)226.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :عنه عليه السلام :بِحُسنِ السِّياسَةِ يَكونُ الأَدَبُ الصّالِحُ . (2)3 . حُسنُ السّيرَةِ228.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :حُسنُ السّيرَةِ جَمالُ القُدرَةِ ، وحِصنُ الإِمرَةِ . (3)4 . اليَقَظَةُ لِحِراسَةِ الاُمورِالإمام عليّ عليه السلام :مِن أماراتِ الدَّولَةِ اليَقَظَةُ لِحِراسَةِ الاُمورِ . (4)
ب _ ما يوجبُ زَوالَ الدُّوَلِ1 . الظُّلمِالإمام عليّ عليه السلام :شَرُّ الاُمَراءِ مَن ظَلَمَ رَعِيَّتَهُ . (5)
234.عنه صلى الله عليه و آله :عنه عليه السلام :مَن ظَلَمَ رَعِيَّتَهُ نَصَرَ أضدادَهُ . (6)235.الإمام عليّ عليه السلام :عنه عليه السلام_ لِزِيادِ بنِ أبيهِ _: اِستَعمِلِ العَدلَ ، وَاحذَرِ العَسفَ وَالحَيفَ ؛ فَإِنَّ العَسفَ يَعودُ بِالجَلاءِ ، وَالحَيفَ يَدعو إلَى السَّيفِ . (7)
.
ص: 393
2 . سوءُ التَّدبيرِ237.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الإمام عليّ عليه السلام :سوءُ التَّدبيرِ سَبَبُ التَّدميرِ . (1)238.عنه صلى الله عليه و آله :عنه عليه السلام :يُستَدَلُّ عَلَى الإِدبارِ بِأَربَعٍ : سوءِ التَّدبيرِ ، وقُبحِ التَّبذيرِ ، وقِلَّةِ الِاعتِبارِ ، وكَثرَةِ الِاعتِذارِ . (2)3 . الاِستِئثار240.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الإمام عليّ عليه السلام_ فِي الحِكَمِ المَنسوبَةِ إلَيهِ _: الِاستِئثارُ يوجِبُ الحَسَدَ ، وَالحَسَدُ يوجِبُ البِغضَةَ ، وَالبِغضَةُ توجِبُ الِاختِلافَ ، وَالِاختِلافُ يوجِبُ الفُرقَةَ ، وَالفُرقَةُ توجِبُ الضَّعفَ ، وَالضَّعفُ يوجِبُ الذُّلَّ ، وَالذُّلُّ يوجِبُ زَوالَ الدَّولَةِ وذَهابَ النِّعمَةِ . (3)4 . تَضييعُ الاُصولِ242.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :يُستَدَلُّ عَلى إدبارِ الدُّوَلِ بِأَربَعٍ : تَضييعِ الاُصولِ ، وَالتَّمَسُّكِ بِالفُروعِ (4) ، وتَقديمِ الأَراذِلِ ، وتَأخيرِ الأَفاضِلِ . (5)ج _ إرشاداتٌ فِي العَلاقاتِ الاِجتِماعِيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ1 . قِياسُ النّاسِ بِالنَّفسِالإمام عليّ عليه السلام_ في وَصِيَّتِهِ لِابنِهِ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ _: يا بُنَيَّ ! ... أحسِن إلى جَميعِ النّاسِ كَما تُحِبُّ أن يُحسَنَ إلَيكَ ، وَارضَ لَهُم ما تَرضاهُ لِنَفسِكَ ، وَاستَقبِح مِن نَفَسِكَ ما
.
ص: 394
تَستَقبِحُهُ مِن غَيرِكَ ، وحَسِّن مَعَ جَميعِ النّاسِ خُلُقَكَ ، حَتّى إذا غِبتَ عَنهُم حَنّوا إلَيكَ ، وإذا مِتَّ بَكَوا عَلَيكَ . وقالوا: إنّا للّهِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ ، ولا تَكُن مِنَ الَّذين يُقالُ عِندَ مَوتِهِ : الحَمدُ للّهِِ رَبِّ العالَمينَ . (1)
2 . التَجَنُّبُ مِنَ المُعاداةِالإمام عليّ عليه السلام :اِجتَنِبوا . . . مِن تَضاغُنِ القُلوبِ ، وتَشاحُنِ الصُّدورِ ، وتَدابُرِ النُّفوسِ ، وتَخاذُلِ الأَيدي . (2)
عنه عليه السلام :رَأسُ الجَهلِ مُعاداةُ النّاسِ . (3)
3 . الوَفاءُ بِالعَهدِ250. ( _ لِأَبي ذَرٍّ _ ) الإمام عليّ عليه السلام :أيُّهَا النّاسُ ! وإنَّ الوَفاءَ تَوأَمُ الصِّدقِ ، ولا أعلَمُ جُنَّةً أوقى مِنهُ ، وما يَغدِرُ مَن عَلِمَ كَيفَ المَرجِعُ (4) ، ولَقَد أصبَحنا في زَمانٍ قَدِ اتَّخَذَ أكثَرُ أهلِهِ الغَدرَ كَيسا (5) ، ونَسَبَهم أهلُ الجَهلِ فيهِ إلى حُسنِ الحيلَةِ . (6)4 . الاِستِقلالُ الثَّقافِيُّ252.الإمام الصادق عليه السلام :الإمام الصادق عليه السلام :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يَقولُ : لا تَزالُ هذِهِ الاُمَّةُ بِخَيرٍ ما لَم يَلبَسوا لِباسَ العَجَمِ ، ويَطعَموا أطعِمَةَ العَجَمِ ، فَإذا فَعَلوا ذلِكَ ضَرَبَهُم اللّهُ بِالذُّلِّ . (7)
.
ص: 395
القسم السادس : حروب الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل : الحرب الاُولى : وقعة الجملالفصل الثاني : الحرب الثانيّة : وقعة صِفّينالفصل الثالث : الحرب الثالثة : وقعة نهروان
.
ص: 396
. .
ص: 397
المدخلنظرة عامّة في حروب الإمام عليه السلامتسلّم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مقاليد الخلافة بعد انثيال الناس عليه ، وإقبالهم المنقطع النظير ، وإصرارهم المتواصل . وبيّن سياسته في الحكم بصراحة في أوّل خطبة حماسيّة جليلة له ، وذكر فيها أنّه لن يطيق الامتيازات التي لا أساس لها في الإسلام ، وأنّه سوف يُحدث تغييرا جذريّا في المجتمع ، ويقضي على التفاضل والتمايز الموهوم في كافّة زوايا المجتمع ؛ لأنّ ذلك كلّه من سِمات الجاهليّة التي عادت إلى الناس كهيئتها قبل البعثة النبويّة الشريفة . ومن الواضح أنّ الكثيرين لم يتحمّلوا تلك المساواة ، وامتعضوا من فقدانهم منزلتهم وامتيازاتهم ، ولم يهدأ اُولئك الذين عكّروا الماء عند هجومهم على عثمان ليصطادوا لهم منصبا . ولم يُطِق هذه السياسة الثوريّة العاصفة الوصوليّون النفعيّون الذين تسلّطوا على الاُمّة بلا سابقة ولا شرف باذخ ، وفعلوا ما شاؤوا ، غير مبالين بالحكومة المركزيّة . ولهذا لم تكَد تمضي أيّام قلائل على حكومة الإمام صلوات اللّه عليه حتى بدأت المواجهات ، وتكشّفت الذرائع والحجج الواهية التي اتّصلت فصبغت السنوات الخمس _ التي هي مدّة حكم الإمام عليه السلام _ بصِبغة الحروب والدماء .
.
ص: 398
وكانت تلك المواجهات عسيرة ثقيلة إذا ما نظرنا إلى جذورها ، وكيفيّة تبلور الكيان الذي كان عليه مُوقدوها ، لاسيما أصحاب الجمل والنهروان ، وأصحر الإمام عليه السلام بذلك مرارا ، فقال : «لَو لَم أكُ فيكُم ما قوتِلَ أصحابُ الجَمَلِ وأهلُ النَّهرَوانِ !» . (1) وقال : «إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري ، بَعدَ أن ماجَ غَيهَبُها (2) ، وَاشتَدَّ كَلَبُها (3) » . (4) تُرى ! من كان قادرا على إبصار ذلك السحاب المركوم من الأفكار الفاسدة ، والجهل المطبق ، والشرك المعقّد ، في ظلّ العناوين البرّاقة الخادعة ؛ كعنوان : الصحابة ، وعنوان السابقين ، ووجوه المتنسّكين الجهلة المتحجّرين أصحاب الجباه التي أثفنها السجود ؟ ! ومن كان متمكّنا من الأمر بقمع هؤلاء وإبادتهم ؟ ! أجل ، كان عمل عليّ عليه السلام عملاً عسيرا ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يرى ذلك كلّه في مرآة الزمن ، فأشار إليه مرارا ، وقال مخاطبا الإمام : «تُقاتِلُ عَلَى التَّأويلِ كَما قاتَلتُ عَلَى التَّنزيلِ» ، وقال : «إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ أخي ووَصِيّي ، يُقاتِلُ بَعدي عَلى تأويلِ القُرآنِ كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ» .وأكثر من ذلك أنّه صلى الله عليه و آله كشف هويّة مُسعّري الحروب ضدّ الإمام ، فقال : «هذا وَاللّهِ قاتِلُ القاسِطينَ وَالنّاكِثينَ والمارِقينَ بَعدي» . من هنا كان بعض الصحابة يتحدّثون عن هذه الحقيقة قبل أن تُقبل الخلافة على الإمام عليه السلام .
.
ص: 399
وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله مكلّفا برسالة إبلاغ الدين ، كما كان على عاتقه مهمّة الكشف عمّا سيحدث لهذه الاُمّة في المستقبل ؛ لأنّ دينه يتّصف بالخلود ، وهو لكلّ زمان ومكان . فكان يخبر بتلك المواجهات ، ويعرّف الناس بمُوقدي نار الفتنة _ كما مرّ _ فذكرهم في عِداد أهل الباطل ، وعرّفهم ، على أنّهم شرذمة فتنة ، وفئة باغية ، وقال صلى الله عليه و آله : «يا عَلِيُّ، سَتُقاتِلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ وأنتَ عَلَى الحَقِّ ، فَمَن لَم يَنصُركَ يَومَئِذٍ فَلَيسَ مِنّي» . (1) ومن جانب آخر ، فقد صرّح صلى الله عليه و آله للجميع بأحقّية الإمام عليه السلام في حروبه ، واستقامته فيها ، بعد أن كان يُطري على شخصيّة الإمام ، ويؤكّد أنّه مع الحقّ والحقّ معه دائما (2) ، فقال صلى الله عليه و آله : «أنتَ . . . تُقاتِلُ عَن سُنَّتي» (3) ، وقال : «حَربُ عَلِيٍّ حَربُ اللّهِ» (4) ، وقال : «حَربُكَ حَربي» (5) ، أو : «حَربُكَ حَربي ، وسِلمُكَ سِلمي» (6) ، إلى غيرها من الأحاديث . وبهذا كلّه أفصح رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن مقام الإمام الإلهيّ ؛ لتستبين في المستقبل حقائق الأشخاص والأعمال ، وتتجلّى صفة الحقّ والباطل . وبعد هذه النظرة المقتضبة سنكون مع إضمامة من الأخبار والأسانيد التي تتكفّل بإضاءة ما أوردناه :
.
ص: 400
أ _ تحذير النبيّ صلى الله عليه و آله من محاربة الإمام عليه السلام261.رجال الكشّي عن ابن أبي عمير :رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ، حَربُكَ حَربي ، وسِلمُكَ سِلمي ، وحَربي حَربُ اللّهِ ، ومَن سالَمَكَ فَقَد سالَمَني ، ومَن سالَمَني فَقَد سالَمَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ . (1)262.الإمام عليّ عليه السلام :عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ وفاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَينِ عليهم السلام _: أنَا حَربٌ لِمَن حاربَتُم ، وسِلمٌ لِمَن سالَمتُم . (2)ب _ إخبار النبيّ صلى الله عليه و آله بالفتن بعدهالمستدرك على الصحيحين عن أبي أيّوب الأنصاريّ :سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَقولُ لِعَلِيِّ بنِ أبيطالِبٍ : تُقاتِلُ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ بِالطُّرُقاتِ وَالنَّهرَواناتِ وبَالشَّعَفاتِ . (3) قالَ أبو أيّوبَ : قُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، مَعَ مَن تُقاتِلُ هؤُلاءِ الأقوامُ ؟ ! قالَ : مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . (4)
ج _ أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بقتال المفتونين266.الإمام عليّ عليه السلام :الإمام عليّ عليه السلام :اُمِرتُ أن اُقاتِلَ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ ، فَفَعَلتُ ما اُمِرتُ بِهِ ؛ فَأَمَّا النّاكِثونَ : فَهُم أهلُ البَصرَةِ وغَيرُهُم مِن أصحابِ الجَمَلِ ، وأمَّا المارِقونَ : فَهُمُ الخَوارِجُ ، وأمَّا القاسِطونَ : فَهُم أهلُ الشّامِ وغَيرُهُم مِن أحزابِ مُعاوِيَةَ . (5)
.
ص: 401
د _ دوافع البغاة في قتال الإمام عليه السلام1 . الِاستِعلاءُ269.الإمام عليّ عليه السلام :الإرشاد :لَمَّا اتَّصَلَ بِهِ [بِعَلِيٍّ عليه السلام ] مَسيرُ عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إلَى البَصرَةِ مِن مَكَّةَ ، حَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : قَد سارَت عائِشَةُ وطَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَدَّعِي الخِلافَةَ دونَ صاحِبِهِ ، فَلا يَدَّعي طَلحَةُ الخِلافَةَ إلّا أنَّهُ ابنُ عَمِّ عائِشَةَ ، ولا يَدَّعيهَا الزُّبَيرُ إلّا أنَّهُ صِهرُ أبيها ، وَاللّهِ لَئِن ظَفِرا بِما يُريدانِ لَيَضرِبَنّ الزُّبَيرُ عُنُقَ طَلحَةَ ، ولَيَضرِبَنَّ طَلحَةُ عُنُقَ الزُّبَيرِ ؛ يُنازِعُ هذا عَلَى المُلكِ هذا . (1)2 . الحِقدُالمناقب للخوارزمي :ويُروى في يَومِ السّادِسِ وَالعِشرينَ مِن حُروبِ صِفّينَ : اجتَمَعَ عِندَ مُعاوِيَةَ المَلأَُ مِن قَومِهِ ، فَذَكَروا شَجاعَةَ عَلِيٍّ وشَجاعَةَ الأَشتَرِ ، فَقالَ عُتبَةُ بنُ أبي سُفيانَ : إن كانَ الأَشتَرُ شُجاعا ، لكِنَّ عَلِيّا لا نَظيرَ لَهُ في شَجاعَتِهِ وصَولَتِهِ وقُوَّتِهِ ! ! قالَ مُعاوِيَةُ : ما مِنّا أحَدٌ إلّا وقَد قَتَلَ عَلِيٌّ أباهُ ، أو أخاهُ ، أو وَلَدَهُ ؛ قَتَلَ يَومَ بَدرٍ أباكَ يا وَليدُ ، وقَتَلَ عَمَّكَ يا أبَا الأَعوَرِ يَومَ اُحُدٍ ، وقَتَلَ يَابنَ طَلحَةَ الطَّلحاتِ أباكَ يَومَ الجَمَلِ ، فَإِذَا اجتَمَعتُم عَلَيهِ أدرَكتُم ثَأرَكُم مِنهُ ، وشَفَيتُم صُدورَكُم . (2)
3 . الحَسَدُالأمالي للمفيد عن الحسن بن سلمة :لَمّا بَلَغَ أميرَ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ مَسيرُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وعائِشَةَ مِن مَكَّةَ إلَى البَصرَةِ . . . فَقامَ أبُو الهَيثَمِ بنُ التَّيِّهانِ وقالَ : يا
.
ص: 402
أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ حَسَدَ قُرَيشٍ إيّاكَ عَلى وَجهَينِ : أمّا خِيارُهُم ؛ فَحَسَدوكَ مُنافَسَةً فِي الفَضلِ ، وَارتِفاعا فِي الدَّرَجَةِ ، وأمّا أشرارُهُم ؛ فَحَسَدوكَ حَسَدا أحبَطَ اللّهُ بِهِ أعمالَهُم ، وأثقَلَ بِهِ أوزارَهُم ، وما رَضوا أن يُساووكَ حَتّى أرادوا أن يَتَقَدَّموكَ ، فَبَعُدَت عَلَيهِمُ الغايَةُ ، وأسقَطَهَمُ المِضمارُ . وكُنتَ أَحقَّ قُرَيشٍ بِقُرَيشٍ ؛ نَصَرتَ نَبِيَّهُم حَيّا ، وقَضَيتَ عَنهُ الحُقوقَ مَيِّتا . وَاللّهِ ما بَغيُهُم إلّا عَلى أنفُسِهِم ، ونَحنُ أنصارُكَ وأعوانُكَ ، فَمُرنا بِأَمرِكَ ! (1)
4 . الحِرصُالأمالي للطوسي عن مالك بن أوس :بَعَثَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] إلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ فَدَعاهُما ، ثُمَّ قالَ لَهُما : أ لَم تَأتِياني وتُبايِعاني طائِعَينِ غَيرَ مُكرَهَينِ ، فَما أنكَرتُم ! أ جَورٌ في حُكمٍ ، أوِ استِئثارٌ في فَيءٍ؟ ! قالا : لا . قالَ عليه السلام : أو في أمرٍ دَعَوتُماني إلَيهِ مِن أمرِ المُسلِمينَ فَقَصَرتُ عَنهُ؟ ! قالا : مَعاذَ اللّهِ . قالَ عليه السلام : فَمَا الَّذي كَرِهتُما مِن أمري حَتّى رَأَيتُما خِلافي ؟ قالا : خِلافَكَ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ فِي القَسمِ ، وَانتِقاصَنا حَقَّنا مِنَ الفَيءِ ؛ جَعَلتَ حَظَّنا فِي الإِسلامِ كَحَظِّ غَيرِنا مِمّا أفاءَ اللّهُ عَلَينا بِسُيوفِنا مِمَّن هُوَ لَنا فَيءٌ فَسَوَّيتَ بَينَنا وبَينَهُم . (2)
5 . الجَهالَةُالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كتابٍ لَهُ إلى عَقيلٍ _: ألا وإنَّ العَرَبَ قَدِ اجتَمَعَت عَلى حَربِ أخيكَ اليَومَ اجتِماعَها عَلى حَربِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله قَبلَ اليَومِ ، فَأَصبَحوا قَد جَهِلوا حَقَّهُ ، وجَحَدوا فَضلَهُ . (3)
.
ص: 403
ه _ أهداف الإمام عليه السلام في قتال البغاة1 . إحياءُ الدّينِ280.الإمام عليّ عليه السلام :مسند ابن حنبل عن أبي سعيدٍ الخدريّ :كُنّا جُلوسا نَنتَظِرُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَخَرَجَ عَلَينا مِن بَعضِ بُيوتِ نِسائه _ قالَ : _ فَقُمنا مَعَهُ ، فَانقَطَعَت نَعلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيها عَلِيٌّ يَخصِفُها ، فَمَضى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ومَضَينا مَعَهُ ، ثُمَّ قامَ يَنتَظِرُهُ ، وقُمنا مَعَهُ .
فَقالَ : إنَّ مِنكُم مَن يُقاتِلُ عَلى تَأويلِ هذَا القُرآنِ كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ ، فَاستَشرَفنا وفينا أبو بكرٍ وعُمَرُ ، فَقالَ : لا ، ولكِنَّهُ خاصِفُ النَّعلِ .
قالَ : فَجِئنا نُبَشِّرُهُ ، _ قال : _ وكَأَنَّهُ قَد سَمِعَهُ . (1)2 . الدِّفاعُ عَنِ السُّنَّةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ أخي ، وأبو وُلدي ، تُقاتِلُ عَن سُنَّتي ، وتُبرِئُ ذِمَّتي . (2)
3 . مُكافَحَةُ البِدعَةِ284.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الأمالي للطوسي عن أبي سعيدٍ الخدريّ :أخبَرَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيّا بِما يَلقى بَعدَهُ ، فَبَكى عليه السلام وقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، أسأَلُكَ بِحَقّي عَلَيكَ ، وقَرابَتي مِنكَ ، وحَقِّ صُحبَتي إيّاكَ ، لَمّا دَعَوتَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ أن يَقبِضَني إلَيهِ ؟
فَقالَ صلى الله عليه و آله : أ تَسأَ لُني أن أدعُوَ رَبّي لِأَجَلٍ مُؤَجَّلٍ ؟
قالَ : فَعَلامَ اُقاتِلُهُم ؟ قالَ : عَلَى الإِحداثِ فِي الدّينِ . (3)
.
ص: 404
كلامٌ في إصابة الإمام عليه السلام في جميع حروفهقال أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان الملقّب بالمفيد : ومن الدليل على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مصيبا في حروبه كلّها ، وأنّ مخالفيه في ذلك على ضلال ، ما تظاهرت به الروايات عن النبيّ صلى الله عليه و آله من قوله : «حَربُكَ يا عَلِيُّ حَربي ، وسِلمُكَ يا عَلِيُّ سِلمي» (1) ، وقوله صلى الله عليه و آله : «يا عَلِيُّ، أنَا حَربٌ لِمَن حارَبَكَ، وسِلمٌ لِمَن سالَمَكَ» . (2) وهذان القولان مرويّان من طريقي العامّة والخاصّة والمنتسبة من أصحاب الحديث إلى السنّة ، والمنتسبين منهم إلى الشيعة ، لم يعترض أحد من العلماء الطعن على سندهما ، ولا ادّعى إنسان من أهل المعرفة بالآثار كذب رواتهما . وما كان هذا سبيله وجب تسليمه والعمل به ، إذ لو كان باطلاً لما خلت الاُمّة من عالم منها ينكره ويكذّب رواته ، ولا سلم من طعن فيه ، ولعرف سبب تخرّصه وافتعاله ، ولاُقيم دليل اللّه سبحانه على بطلانه ، وفي سلامة هذين الخبرين من جميع ما ذكرناه حجّة واضحة على ثبوتهما حسبما بيّنّاه . ومن ذلك : الرواية المستفيضة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال لأمير المؤمنين عليه السلام : «تُقاتِلُ يا عَلِيُّ عَلى تَأويلِ القُرآنِ ، كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ» . (3)
.
ص: 405
وقوله _ لسهيل بن عمرو ومن حضر معه لخطابه على ردّ من أسلم من مواليهم _ : «لَتَنتَهُنَّ يا مَعشَرَ قُرَيشٍ أو لَيَبعَثِ اللّهُ عَلَيكُم رَجُلاً يَضرِبُكُم عَلى تَأويلِ القُرآنِ كَما ضَرَبتُكُم عَلى تَنزيلِهِ ». فَقالَ لَهُ بَعضُ أصحابِهِ : مَن هُوَ يا رَسولَ اللّهِ ، هُوَ فُلانٌ ؟ قالَ : «لا ». قالَ : فَفُلانٌ ؟ قالَ : «لا ، ولكِنَّهُ خاصِفُ (1) النَّعلِ فِي الحُجرَةِ» . فَنَظَروا فَإِذا عَلِيٌّ عليه السلام فِي الحُجرَةِ يَخصِفُ نَعلَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . (2) ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام : «تُقاتِلُ بَعدِي النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ» . والقول في هذه الرواية كالأخبار التي تقدّمت ، قد سلمت من طاعن في سندها بحجّةٍ ، ومن قيام دليل على بطلان ثبوتها ، وسلّم لروايتها الفريقان فدلّ على صحّتها . ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله : «عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ ، اللّهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ حَيثُما دارَ» (3) . وهذا أيضا خبر قد رواه محدّثو العامّة ، وأثبتوه في الصحيح عندهم ، ولم يعترض أحدهم لتعليل سنده ، ولا أقدم منهم مقدم على تكذيب ناقله ، وليس توجد حجّة في العقل ولا السمع على فساده ، فوجب الاعتقاد بصحّته وصوابه . ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله : «اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، وَانصُر مَن نَصَرَهُ ،
.
ص: 406
وَاخذُل مَن خَذَلَهُ» (1) . وهذا في الرواية أشهر من أن يحتاج معه إلى جمع السند له ، وهو أيضا مسلّم عند نقلة الأخبار . وقوله صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام : «قاتَلَ اللّهُ مَن قاتَلَكَ ، وعادَى اللّهُ مَن عاداكَ» (2) . والخبر بذلك مشهورٌ وعند أهل الرواية معروفٌ مذكور . ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله : «مَن آذى عَلِيّا فَقَد آذاني ، ومَن آذاني فَقَد آذَى اللّهَ تَعالى» (3) . فَحكمَ أنّ الأذى له عليه السلام أذى اللّه ، والأذى للّه جلّ اسمه هلاك مخرج عن الإيمان ، قال اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا» . (4) وأمثال ما أثبتناه _ من هذه الأخبار في معانيها الدالّة على صواب أمير المؤمنين عليه السلام وخطأ مخالفيه _ كثيرة ، إن عملنا على إيراد جميعها ، طال به الكتاب وانتشر به الخطاب ، وفيما أثبتناه منه للحقّ كفاية للغرض الذي نأمله ، إن شاء اللّه تعالى . (5) أقول : راجع كلام ابن أبي الحديد في أنّ الإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله حقّ الإمام عليّ عليه السلام وأنّه لو سلّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه ؛ لأنّه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنّه قال : «عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ ، وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدورُ حَيثُما دارَ» ، وقال له غير مرّة : «حَربُكَ حَربي، وسِلمُكَ سِلمي» . (6)
.
ص: 407
الفصل الأوّل : الحرب الاُولى : وقعة الجمل1 / 1مواصفات الحربأ _ تاريخُهاذكر بعض المؤرّخين أنّ معركة الجمل وقعت في جمادى الاُولى (1) عام (36 ه ) ، بينما أكّد بعض آخر أنّها وقعت في جمادى الثانية (2) من العام نفسه ، ولم تدُم أكثر من يوم واحد . (3) وتاريخ الرسالتين اللتين بعثهما الإمام إلى أهالي المدينة والكوفة بعد انتهاء الحرب يؤيّد الرأي الأوّل . (4)
.
ص: 408
ب _ مَكانُهاوقعت معركة الجمل في الزّابوقة (1) ؛ التي هي في ضواحي البصرة ، أو في الزاوية (2) ؛ التي كانت واحدة من أحياء البصرة، أو في الخريبة . (3)
ج _ عَدَدُ المُشارِكينَ فيهابلغ قوام الجيشين في معركة الجمل خمسين ألفا ، شكّل جيش الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عشرين ألفا منهم (4) ، وشكّل جيش الناكثين ثلاثين ألفا . 5
د _ أكابِرُ أصحابِ الإِمامِ عليه السلامشارك الكثير من أكابر أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله في معركة الجمل إلى جانب الإمام عليّ عليه السلام ، إلّا أنّ الروايات تختلف في ذكر عددهم ؛ فبعض المصادر يصرّح بأنّ عددهم كان ثمانين من أهل بدر ، وألفا وخمسمئة من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله . ويذكر آخر أنّ عدد المشاركين في هذه المعركة من أصحاب الرسول كان ثمانمئة من الأنصار ، وأربعمئة ممّن شهدوا بيعة الرضوان . ومن بين الشخصيّات البارزة التي شاركت في جيش الإمام عليّ عليه السلام يمكن الإشارة إلى كلّ من : أبي أيّوب الأنصاري وأبي الهيثم بن التيّهان وخزيمة بن ثابت وعبد اللّه بن بديل وعبد اللّه بن عبّاس وعثمان بن حنيف وعديّ بن حاتم وعمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعمر بن أبي سلمة وهاشم بن عتبة .
.
ص: 409
ه _ وُجوهُ أصحابِ الجَمَلِكان وجوه أصحاب الجمل من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله والمقرّبين إليه ، وكان في جيشهم أيضا أشراف وأكابر آخرون . فقد كان فيهم عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم وعبد اللّه بن عامر وكعب بن سور ، وغيرهم ممّن كانوا يؤيّدون عثمان أو لا يطيقون تحمّل عدالة الإمام عليه السلام . وقد كان حضور أشخاصٍ كطلحة والزبير وعائشة في المعركة باعثا على وقوع غير ذوي البصيرة _ ممّن ينظرون إلى الحقّ من خلال الشخصيّات البارزة _ في الشك والحيرة ، أو الانضمام إلى جيش أصحاب الجمل . ولأجل تنوير عقول أمثال هؤلاء الناس قال أمير المؤمنين عليه السلام قولته المشهورة : «إنَّ الحَقَّ لا يُعرَفُ بِالرِّجالِ ؛ اِعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أهلَهُ» .
و _ عَدَدُ القَتلى فيهاقُتل في معركة الجمل من جيش الإمام عليّ عليه السلام خمسة آلاف (1) . وتُجمع النصوص التاريخيّة كلّها على هذا العدد بدون أدنى اختلاف . ولكن هناك اختلاف كبير بين هذه النصوص حول عدد قتلى جيش الجمل، بحيث لا يمكن التعويل كثيرا على أيٍّ منها . فقد ذكرت بعض الأخبار التاريخيّة أنّ عدد من قُتل منهم عشرون ألفا (2) ، بينما جاء في أخبار اُخرى أنّه قُتل منهم ثلاثة عشر ألفا (3) ، وعلى خبرٍ آخر عشرة آلاف 4 ، أو خمسة آلاف . 5
.
ص: 410
1 / 2هويّة رؤساء الناكثينتُعدّ معركة الجمل من الحوادث الجديرة بالتأمّل في التاريخ الإسلاميّ ؛ وإنّ في التعرّف على دوافع مسعّريها وأهدافهم تذكيرا للمرء وتنبيها له لمعرفة رجاله الذين يقتدي بهم ويسير على نهجهم . إنّنا نلحظ في النصوص التاريخيّة التي تحدّثت عن تنظيم القوّات وأهدافها وبواعثها نقاطا تثير التأمّل . منها : الأهواء ، والنزعات الدنيويّة ، واستغلال بعض الوجهاء لتحفيز عامّة الناس . ومنها : ممارسات مكتنزي الثروات ، وطلّاب السلطة ، ومَنْ وجد حياته المترفة مهدّدة بالخطر . النقطة الاُخرى التي ينبغي ألّا ننساها هي كيفيّة مواجهة أشخاصٍ من الصحابة عليّا عليه السلام ، في حين أنّهم كانوا يدّعون الإسلام والسبق إليه ! ومن جانب آخر ، وجاهة عامّة الأشخاص الذين كان موقفهم في معركة الجمل يتعارض تماما مع موقفهم في زمان عثمان . وننقل فيما يأتي بإيجاز نصوصا تتحدّث عن حياة الذين أوقدوا تلك الحرب ، وندعوا القرّاء إلى التأمّل فيها .
أ _ عائِشَةُهي عائشة بنت أبي بكر ، وزوج النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله . (1) توفّي عنها النبيّ ولها من العمر ثماني عشرة سنةً . (2) حظيت باحترام بالغ في عهد أبي بكر وعمر ، بَيْدَ أنّ عثمان قلّل من شأنها ومن
.
ص: 411
احترامها ؛ فبرز الخلاف بينهما (1) إلى درجة أنّها كانت تحرّض الناس على قتله بقولها : اقتلوا نعثلاً فقد كفر (2) ! وحين حاصر الثوّار عثمان ذهبت إلى مكّة ، وظلّت فيها إلى أن قُتِل . وعندما قُتل عثمان ، كانت تتطلّع إلى خلافة طلحة (3) والزبير . (4) ولمّا تناهى إلى سمعها استخلاف أمير المؤمنين عليه السلام رجعت من منتصف الطريق إلى مكّة ، ونادت بظُلامة عثمان مطالبة بثأره . (5) وعلى الرغم من أنّ موقفها من قتل عثمان كان واضحا للناس ؛ ومنهم من كان يذكّرها به ، بَيْدَ أنّهم كانوا يحترمونها ويسمعون كلامها ؛ إجلالاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولاُمومتها المؤمنين . كانت خطيبة وأديبة (6) ؛ وملمّة إلماما تامّا بسجايا العرب ، وتعرف مواطن ضعفهم ، لذا كانت قادرة على تحريضهم . (7) وكان طلحة والزبير يعلمان أنّ الطريق الوحيد للنصر وتسلّم الخلافة هو تعبئة الناس بواسطة عائشة ؛ فلم يضيّعا هذه الفرصة . كانت عائشة تجاهر بعدائها للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وتذكر أنّ بينها وبينه ما يكون بين المرأة وبين أحمائها . (8) ولولا وجاهتها لما استطاع طلحة والزبير تعبئة الناس للحرب . وكانت فارسة
.
ص: 412
الحلبة بعد مقتل طلحة والزبير . مع هذا كلّه ، أرجعها الإمام عليه السلام إلى المدينة باحترامٍ تامّ . واصلت عداءها للإمام عليه السلام على الرغم من إصحارها بالندم مرارا على ما فرّطت في جنبه يوم الجمل . أظهرت سرورها بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام (1) ، وسجدت لذلك شكرا (2) ! وحالت دون دفن الإمام الحسن عليه السلام عند جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله . (3) ماتت سنة سبع وخمسين أو ثمانٍ وخمسين من الهجرة . (4)
ب _ طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللّهِأحد السابقين إلى الإسلام (5) ، ومن كبار الصحابة . آخى الزبيرَ قبل الهجرة (6) . كان تاجرا ، وعندما وقعت معركة بدر كان قد ذهب في تجارة إلى الشام . (7) أثنى عليه أهل السُّنّة ، وعَدُّوه من العشرة المبشَّرة . (8) كان الخلفاء يحترمونه بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله . اختاره عمر في الشورى السداسيّة ، لكنّه اعتزل لمصلحة عثمان . كان في غاية الدهاء والسياسة . حصل على ثروة طائلة في عصر عثمان ؛ بسبب الأموال التي كان قد أعطاها إيّاه بلا حساب . وَهَبه عثمان مرّةً دَيْنا كان عليه بلغ خمسين ألف درهم ، وقال له : معونةً على
.
ص: 413
مروءتك (1) ! ! كان من ملّاكي الأرض الكبار ، حتى كان يُغِلّ بالعراق ما بين أربعمئة ألف إلى خمسمئة ألف ، ويُغلّ بالسَّراة (2) عشرة آلاف دينار . (3) خلّف بعد موته ثروةً قدِّرت بثلاثين مليون درهم . (4) لم يُولِّه عثمان على مصر من الأمصار مع أنّه كان يعظّمه ، ويعود ذلك إلى أنّه كان يهتمّ كثيرا بأقاربه وبِطانته ، ومن هنا توتّرت العلاقة بينهما (5) ، كما أعرض عثمان أيضا عن أهمّ سندٍ له في الماضي وهو عبد الرحمن بن عوف . (6) كان طلحة يطمح إلى الخلافة (7) ؛ فكتب إلى البصرة ، والكوفة ، وغيرهما من الأمصار محرّضا أهلها على قتل عثمان (8) . وكان بيت المال بيده في جريان قتل عثمان (9) ، بَيْدَ أنّه لم يستطع أن يطالب بالخلافة ؛ لاتّهامه بالمشاركة في قتله ؛ فبايع أميرَ المؤمنين عليه السلام ، والعجيب أنّه أوّل شخص يبايع . لم يظفر طلحة بالخلافة ، ويضاف إلى ذلك أنّه حُرِمَ من الامتيازات التي كانت له في عهد عثمان . ممّا حدا به إلى إعلان معارضته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فأوقد نار الحرب مع الزبير ، وعائشة ، وغيرهما . وكان يقول : إنّا داهَنّا في أمر عثمان ، فلا نجد اليوم شيئا أمثل من أن نبذل دماءنا
.
ص: 414
فيه (1) ! ! ! قُتل طلحة في معركة الجمل سنة 36 ه ، بسهم رماه به مروان بن الحكم مِن خلفه . (2)
ج _ الزُّبَيرُ بنُ العَوّامِهو ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، وهو رابع من أسلم ، أو خامسهم (3) ، وكان من الصحابة الشجعان المشهورين ، وشهد مشاهد النبيّ صلى الله عليه و آله كلّها (4) ، وجُرح عدّة مرّات ، عدّه أهل السنّة أحد العشرة المبشّرة بالجنّة (5) . امتنع من بيعة أبي بكر ، وكان من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام ، وأصحابه الاُوَل ، قيل : إنّه حضر دفن السيّدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام (6) ، ممّا يدلّ على قربه من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . كان أحد الستّة الذين رشّحهم عمر للشورى ، واعتزل نصرةً للإمام عليّ عليه السلام . وكان صهر أبيبكر (7) ، بيد أنّه أمضى سنوات من عمره إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام . وقال عليه السلام فيه : ما زال الزبير رجلاً منّا أهلَ البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه (8) . وهذا يدلّ على أنّ عبد اللّه بن الزبير كان مثيرا للفتنة ، وهو ما سنشير إليه لاحقا . كَنَز الزبير ثروة طائلة في عهد عثمان 9 ، بلغت عند موته خمسين ألف دينار ،
.
ص: 415
وألف فرس ، وألف عبد وأمَة (1) . لكنّه لم يتولَّ منصبا . وكان يساعد الثوّار الذين نهضوا ضدّ عثمان (2) ، بل طالب بقتله ؛ علّه يتقلّد أمر الخلافة . وبايع عليّا عليه السلام بعد قتل عثمان (3) ، ولكنّه لمّا حُرم من الإمارة ، ومن الامتيازات التي كانت له في عصر عثمان ، رفع لواء المعارضة بوجه أمير المؤمنين عليه السلام يحرّضه على ذلك ولدُه عبد اللّه . توجّه إلى مكّة مع طلحة متظاهرَين أنّهما يريدان العمرة ، وهناك نسّقا مع عائشة وغيرها ، ثمّ اتّفقوا على إشعال فتيل «الجمل» ، واعتزل الزبير الحرب بعد كلام أمير المؤمنين عليه السلام معه ، لكنّه اغتيل على يد ابن جرموز .
د _ عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِولد في السنة الاُولى من الهجرة بالمدينة ، وهو أوّل مولود من أولاد المهاجرين . (4) وكان حفيد أبي بكر (5) . وله دور مهمّ في انحراف أبيه ، وإيقاد حرب الجمل . وقال فيه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : «ما زالَ الزُّبَيرُ رَجُلاً مِنّا أهلَ البَيتِ حَتّى نَشَأَ ابنُهُ المَشؤومُ عَبدُ اللّهِ» . (6) وبذل قصارى جهده في تولية أبيه الخلافة بعد مقتل عثمان ، إلّا أنّه لم يُفلح في ذلك ، وكان حلقة الوصل بين عائشة من جهة ، والزبير وطلحة من جهة اُخرى . (7)
.
ص: 416
وعندما عزم الزبير على اعتزال القتال حاول أن يُثنيه عمّا هو بسبيله مستخدما ضروب الحيل الأخلاقيّة والعاطفيّة . (1) ولمّا لم يبق أحد حول جمل عائشة ، أخذ بزمامه ، وجُرح جرحا بليغا في اصطراعه مع مالك الأشتر . وكان يرغب في قتل مالك حتى لو كلّفه ذلك نفسَه ، لذا كان يقول وهما مصطرعان : اُقتُلوني ومالِكاوَاقتُلوا مالِكا مَعي ! (2) عفا عنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعد الحرب ، بطلبٍ من عائشة (3) . وكان مغرورا منبوذا حتى إنّ معاوية لم يحترمه ولم يُبالِ به . (4) ولم يبايع يزيدَ بعد هلاك معاوية . وتوطّن مكّة حفظا لنفسه (5) ثمّ تسلّط عليها فهاجمها جيش يزيد لدحره ، واحترقت الكعبة ، ودُمّرت في ذلك الهجوم . (6) لكنّ عبد اللّه نجا عندما بلغ مكّة خبرُ هلاك يزيد . (7) ثمّ ادّعى الخلافة سنة 64 ه (8) ، واستولى على الحجاز واليمن والعراق وخراسان . (9) وطلب البيعة من عبد اللّه بن عبّاس ، ومحمّد ابن الحنفيّة ، فلم يستجيبا له ، فعزم على إحراقهما ، بَيْدَ أنّهما نجَوَا بعد حملة المختار . (10)
.
ص: 417
قُتل ابن الزبير ، ثمّ صُلب في عهد عبد الملك بن مروان سنة 73 ه ، بعدما أغار الحجّاج على مكّة والمسجد الحرام . (1)
ه _ مَروانُ بنُ الحَكَمِكان مروان بن الحكم شخصا مشبوها ، ورجلاً انتهازيّا يميل إلى اثارة الفتن والاضطرابات ، ويمثّل تجسيدا للشخص المرسوس في أوساط حركة لا ينسجم مع مسارها ولا يعتقد بقيمها ولا يتماشى مع مُثُلها . وأمثال هؤلاء الأشخاص يُلحقون أضرارا فادحة بالتيّار الفكري أو السياسي الذى ينتمون إليه . إنّ التأثير العميق الذي كان لمروان على عثمان من جهة ، والرغبة الجامحة في إيجاد حكومة مجرّدة من القيم من جهة اُخرى ، فضلاً عن عدم اعتقاده بالثقافة الإسلاميّة ، جعل له دورا مهمّا في التطوّرات التي عصفت بالمجتمع الإسلامي آنذاك . لقد كان له دور جدير بالتأمّل في تأجيج نار الغضب من جديد في نفوس الثائرين على عثمان ، وتعجيل اضطرام المناحرات حول دار الخلافة . والمترجَم له هو ابن عمّ عثمان . وُلدَ في مكّة أو في الطائف ، ولكن لمّا كان النبيّ صلى الله عليه و آله قد نفى أباه الحكم بن أبي العاص إلى الطائف ، فقد ذهب معه إليها ؛ لذلك لم يَرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله . (2) وسبب نفي الحَكَم إلى الطائف هو نظره في داخل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله ، أو استهزاؤه بعمله وسيرته صلى الله عليه و آله . (3)
.
ص: 418
لَعَنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : «وَيلٌ لِاُمَّتي مِمّا في صُلبِ هذا» (1) . وعندما تقلّد عثمان أمر الخلافة ، أعاد عمّه وابن عمّه إلى المدينة ، وبالغ في إكرامهما (2) وأغدق عليهما الأموال (3) وفسح المجال لمروان أن يتدخّل في شؤون الخلافة ؛ فأصبح كاتبه ، بل منظّر حكومته حقّا . لا ريب في أنّ ركون عثمان إلى مروان ، وطاعته طاعةً مطلقة كان لها دور مهمّ في قتله (4) . وكان مروان غِرّا لا حظّ له من آداب الإسلام في المعاشرة ؛ لأنّه كان يعيش خارج المدينة منذ طفولته بوصفه طريدَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وجُرح أثناء دفاعه عن عثمان (5) ، وضرب على قفاه فقُطع أحد علباويه ، فعاش بعد ذلك أوقص (6) ، وكان يلقّب «خيط باطل» لدقّة عنقه (7) ثمّ فرّ بعد مقتل عثمان إلى مكّة ، ولحق بالمتمرّدين ؛ أي أصحاب الجمل . (8) وكان على الميمنة في حرب الجمل ، وله فيها دور ماكر . وقَتل في مَعْمعتها طلحةَ ؛ لأنّه كان يحسبهُ قاتلَ عثمان (9) ، وجُرح في الحرب (10) ، بيد أنّ الإمام عليه السلام عفا عنه (11) ، ثمّ التحق بمعاوية (12) ، واشترك معه في حرب صفّين . (13)
.
ص: 419
تولّى حكم المدينة سنة 42 ه (1) ، وهو الذي حال دون دفن الإمام الحسن عليه السلام عند جدّه المصطفى صلى الله عليه و آله . (2) تأمّر مروان على المسلمين بعد يزيد بن معاوية ، لكنّه لم يحكم أكثر من تسعة أو عشرة أشهر (3) ، فتحقّق فيه كلام الإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ؛ إذ كان قد شبّه قِصَرَ إمارته ب « لَعْقَةِ الكَلبِ أنفَهُ» (4) ، ثمّ تسلّط أبناؤه من بعده ، فتأسّس الكيان المروانيّ الذي كان له دور خبيث سيّئ في تشويه المعارف الإسلاميّة ودمار المجتمع الإسلاميّ . هلك مروان سنة 65 ه . (5)
1 / 3تأهّب الناكثين للخروج على الإمام عليه السلامأ _ دَسائِسُ مُعاوِيَةَالإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ لَهُ قَبلَ حَربِ الجَمَلِ في شَأنِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ _: ويا عَجَبا لِاستِقامَتِهِما لِأَبي بَكرٍ وعُمَرَ وبَغيِهِما عَلَيَّ ! وهُما يَعلَمانِ أنّي لَستُ دونَ أحَدِهِما ، ولَو شِئتُ أن أقولَ لَقُلتُ . ولَقَد كانَ مُعاوِيَةُ كَتَبَ إلَيهِما مِنَ الشّامِ كِتابا يَخدَعُهُما فيهِ ، فَكَتَماهُ عَنّي ، وخَرَجا يوهِمانِ الطَّغامَ (6) أنَّهُما يَطلُبانِ بِدَمِ عُثمانَ . (7)
.
ص: 420
ب _ بَدءُ الخِلافِالإمامة والسياسة :ذَكَروا أنَّ الزُّبَيرَ وطَلحَةَ أتَيا عَلِيّا _ بَعدَ فَراغِ البَيعَةِ _ فَقالا : هَل تَدري عَلى ما بايعَناكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟
قالَ عَلِيٌّ : نَعَم ، عَلَى السَّمِع وَالطّاعَةِ ، وعَلى ما بايَعتُم عَلَيهِ أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ .
فَقالا : لا ، ولكِنّا بايَعناكَ عَلى أنّا شَريكاكَ فِي الأَمرِ .
قالَ عَلِيٌّ : لا ، ولكِنَّكُما شَريكانِ فِي القَولِ وَالاِستِقامَةِ وَالعَونِ عَلَى العَجزِ وَالأَوَدِ (1) . (2)ج _ خُروجُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إلى مَكَّةَفي أعقاب عدّة أيّام من المداولات التي أجراها طلحة والزبير مع الإمام في سبيل الحصول على بعض المناصب الحكوميّة (3) ، وكسب الامتيازات الاقتصاديّة ، ولم تتمخّض هذه المباحثات إلّا عن رفضه الانصياع لمطاليبهم ، تناهى إليهم خبر إعلان عائشة في مكّة عن معارضتها للإمام ، والبراءة من قتلة عثمان . ومن جهة اُخرى فقد فرّ بعض عمّال عثمان برفقة الأموال التي نهبوها من بيت المال إلى مكّة خوفا من حساب الإمام لهم . وهكذا فقد عزم كلّ من طلحة والزبير على الذهاب إلى مكّة ، والإعلان عن معارضتهما لحكومة الإمام من هناك . فجاءاه وهما يضمران هذه النيّة .
الجمل عن بكر بن عيسى :إنَّ عَلِيّا عليه السلام أخَذَ عَلَيهِمَا العَهدَ وَالميثاقَ أعظَمَ ما أخَذَهُ عَلى أحَدٍ مِن خَلقِهِ ألّا يُخالِفا ولا يَنكُثا ، ولا يَتَوَجَّها وَجها غَيرَ العُمرَةِ حَتّى يَرجِعا إلَيهِ ،
.
ص: 421
فَأَعطَياهُ ذلِكَ مِن أنفُسِهِما ، ثُمَّ أذِن لَهُما فَخَرَجا . (1)د _ دَعوَةُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ عائِشَةَ إلَى الخُروجِ (2)أنساب الأشراف عن صالح بن كيسان وأبي مخنف :قالوا : قَدِمَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ عَلى عائِشَةَ ، فَدَعَواها إلَى الخُروجِ ، فَقالَت : أ تَأمُرانّي أن اُقاتِلَ ؟
فَقالا : لا ، ولكِن تُعلِمينَ النّاسَ أنَّ عُثمانَ قُتِلَ مَظلوما ، وتَدعيهِم إلى أن يَجعَلُوا الأمرَ شورى بَينَ المُسلِمينَ ؛ فَيَكونوا عَلَى الحالَةِ الَّتي تَرَكَهُم عَلَيها عُمَرُ بنُ الخَطّابِ ، وتُصلِحينَ بَينَهُم . (3)ه _ تَخطيطُ النّاكِثينَ لِلحَربِإنّ شورى الناكثين جديرة بالتأمّل ، فقد اجتمعوا في مكّة من أجل التخطيط لمواجهة أمير المؤمنين عليه السلام . وجلس طلحة ، والزبير ، وعائشة ، ومروان بن الحكم ، ويعلى بن منية ، وعبد اللّه بن عامر ، وعبد اللّه بن الزبير ، ونظائرهم ليعيّنوا موضع القتال ، ويرسموا خطّة الحرب ، وأساليب المواجهة . وكان لكلّ واحدٍ من هؤلاء مواصفاته الخاصّة ؛ فطلحة والزبير كانا لاهثَين وراء السلطة ، وفي أنفسهما هوى الرئاسة والخلافة ، ومروان رجل ماكر ، مريب ، بعيد عن الدين ، وعبد اللّه بن عامر شخص موتور فَقَدَ سلطته بعد أن ملأ جيوبه بدنانير بيت المال ودراهمه ، وهكذا كان يعلى بن منية ؛ فامتزج حبّ السلطة ، ونزعة الترف ،
.
ص: 422
وبلبلة الهوَس بفتنة عمياء تمخّضت عنها معركة الجمل . واختارت هذه الشرذمة البصرة بعد مداولات كثيرة ، ذلك أنّهم من جهة لم يثقوا بمعاوية ؛ فيذهبوا إلى الشام ، ومن جهة اخرى إنّهم كانوا يبتغون مدينة هي في الوقت نفسه قاعدة عسكرية ولم تكن مدينة غير الكوفة والبصرة لها هذه الخصوصيّة ، فاختاروا البصرة لميل أهل الكوفة للإمام عليّ عليه السلام ، وميل أهل البصرة إلى عثمان ، مضافا إلى نفوذ ابن عامر في البصرة لأنّه كان حاكما عليها ، وهذا ما يساعدهم في استقطاب الناس والحصول على معلومات ضروريّة تخدم موقف الحرب .
و _ رَسائِلُ عائِشَةَ إلى وُجوهِ البِلادِتاريخ الطبري :كَتَبَت عائِشَةُ إلى رِجالٍ مِن أهلِ البَصرَةِ ، وكَتَبَت إلَى الأَحنَفِ بنِ قَيسٍ ، وصَبرَةَ بنِ شَيمانَ ، وأَمثالِهِم مِنَ الوُجوهِ ، ومَضَت حَتّى إذا كانَت بِالحُفَيرِ (1) انتَظَرَتِ الجَوابَ بِالخَبَرِ . (2)
ز _ تَأَهُّبُ عائِشَةَ لِلخرُوجِالجمل :لَمّا رَأَت عائِشَةُ اجتِماعَ مَنِ اجتَمَعَ إلَيها بِمَكَّةَ عَلى مُخالَفَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، والمُبايَنَةِ لَهُ وَالطّاعَةِ لَها في حَربِهِ تَأَهَّبَت لِلخُروجِ . وكانَت في كُلِّ يَومٍ تُقيمُ مُنادِيَها يُنادي بِالتَّأَهُّبِ لِلمَسيرِ ، وكانَ المُنادي يُنادي ويَقولُ : مَن كانَ يُريدُ المَسيرَ فَليَسِر ؛ فَإِنَّ اُمَّ المُؤمِنينَ سائِرَةٌ إلَى البَصرَةِ تَطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ بنِ عَفّانَ المَظلومِ . (3)
.
ص: 423
ح _ اِستِرجاعُ عائِشَةَشرح نهج البلاغة :لَمّا عَزَمَت عائِشَةُ عَلَى الخُروجِ إلَى البَصرَةِ طَلَبوا لَها بَعيرا أيِّدا (1) يَحمِلُ هَودَجَها ، فَجاءَهُم يَعلَى بنَ اُمَيَّةَ بِبَعيرِهِ المُسَمّى عَسكَرا ؛ وكانَ عَظيمَ الخَلقِ شَديدا ، فَلَمّا رَأَتهُ أعجَبَها ، وأنشَأَ الجَمّالُ يُحَدِّثُها بِقُوَّتِهِ وشِدَّتِهِ ، ويَقولُ في أثناءِ كَلامِهِ : عَسكَرٌ . فَلَمّا سَمِعَت هذِهِ اللَّفظَةَ استَرجَعَت وقالَت : رُدّوهُ لا حاجَةَ لي فيهِ ، وذَكَرَت حَيثُ سُئِلَت أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ذَكَرَ لَها هذَا الاِسمَ ، ونَهاها عَن رُكوبِهِ ، وأمَرَت أن يُطلَبَ لَها غَيرُهُ ، فَلَم يوجَد لَها ما يُشبِهُهُ ، فَغُيِّرَ لَها بِجِلالٍ (2) غَيرَ جِلالِهِ وقيلَ لَها : قَد أصَبنا لَكِ أعظَمَ مِنهُ خَلقا ، وأَشَدَّ قُوَّةً ، واُتِيَت بِهِ فَرَضِيَت . (3)
تاريخ اليعقوبي :مَرَّ القَومُ فِي اللَّيلِ بِماءٍ يُقالُ لَهُ : ماءَ الحَوأَبِ (4) ، فَنَبَحَتهُم كِلابُهُ ، فَقالَت عائِشَةُ : ما هذَا الماءُ ؟ قالَ بَعضُهُم : ماءُ الحَوأَبِ . قالَت : إنّا للّهِِ وإِنّا إلَيهِ راجِعونَ ! رُدّوني رُدّوني ! هذَا الماءُ الَّذي قالَ لي رَسولُ اللّهِ : «لا تَكونِي الَّتي تَنبَحُكِ كِلابُ الحَوأَبِ» . فَأَتاهَا القَومُ بِأَربَعينَ رَجُلاً ، فَأَقسَموا بِاللّهِ أنَّهُ لَيسَ بِماءِ الحَوأَبِ!! (5)
1 / 4تأهّب الإمام عليه السلام لمواجهة الناكثينأ _ اِستِشارَةُ الإِمامِ عليه السلام أصحابَهُ فيهِمكان معاوية قد أخضع الشام لسلطته عدّة سنين ، بيدٍ مبسوطة وهيمنة قيصريّة ، ولم
.
ص: 424
يردعه أحد من الخلفاء الماضين عن أعماله قطّ . وكان يعرف أميرَ المؤمنين عليه السلام حقّ معرفته ، ويعلم علم اليقين أنّه لا يتساهل معه أبدا . فامتنع عن بيعته ، ورفع قميص عثمان ، ونادى بالثأر له مستغلّاً جهل الشاميّين ، وتأهّب للحرب . فتجهّز الإمام عليه السلام لقمع هذا الباغي ، وعيّن الاُمراء على الجيش ،وكتب إلى عمّاله في مصر ، والكوفة ، والبصرة يستظهرهم بإرسال القوّات اللازمة . وبينا كان يعدّ العدّة لذلك بلغه تواطؤ طلحة والزبير وعائشة في مكّة ، وإثارتهم للفتنة ، وتحرّكهم صوب البصرة (1) ، فرأى عليه السلام أنّ إخماد هذه الفتنة أولى ، لذلك دعا وجهاء أصحابه واستطلع آراءهم . ويستوقفنا حقّا اُسلوب هذا الحوار ، وآراء أصحابه ، وموقفه الحاسم عليه السلام من قمع البغاة ، وقد اشترك في الحوار المذكور : عبد اللّه بن عبّاس ، ومحمّد بن أبي بكر ، وعمّار بن ياسر ، وسهل بن حُنيف ، واقترح عبد اللّه بن عبّاس عليه أن يأخذ معه اُمّ سلمة أيضا ، فرفض صلوات اللّه عليه ذلك ، وقال : «فَإِنّي لا أرى إخراجَها مِن بَيتِها كَما رَأَى الرَّجُلانِ إخراجَ عائِشَةَ» (2) . ولِمَ ذاك ؟ ذاك لأنّه عليه السلام لم يفكّر إلّا بالحقّ ، لا بالنصر كيفما كان .
ب _ خُطبَةُ الإِمامِ عليه السلام لَمّا بَلَغَهُ خَبَرُ النّاكِثينَالإرشاد :ولَمَّا اتَّصَلَ بِهِ مَسيرُ عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إلَى البَصرَةِ مِن مَكَّةَ، حَمِدَ اللّهَ وأثَنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : قَد سارَت عائِشَةُ وطَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ؛ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَدَّعِي الخِلافَةَ دونَ صاحِبِهِ ، لا يَدَّعي طَلحَةُ الخِلافَةَ إلّا أنَّهُ ابنُ عَمِّ عائِشَةَ ، ولا يَدَّعيهَا الزُّبَيرُ إلّا أنَّهُ صِهرُ أبيها ، وَاللّهِ لَئِن ظَفِرا بِما يُريدانِ لَيَضرِبَنَّ الزُّبَيرُ عُنُقَ طَلحَةَ ، ولَيَضرِبَنَّ طَلحَةُ
.
ص: 425
عُنُقَ الزُّبَيرِ ، يُنازِعُ هذا عَلى المُلكِ هذا !
وقَد _ وَاللّهِ _ عَلِمَت أنَّهَا الرّاكِبَةُ الجَمَلَ ، لا تَحُلُّ عُقدَةً ، ولا تَسيرُ عَقَبةً ، ولا تَنزِلُ مَنزِلاً إلّا إلى مَعصِيَةٍ ؛ حَتّى تورِدُ نَفسَها ومَن مَعَها مَورِدا يُقتَلُ ثُلُثُهُم ، ويَهرُبُ ثُلُثُهُم ، ويَرجِعُ ثُلُثُهُم .
وَاللّهِ إنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ لَيَعلَمانِ أنَّهُما مُخطِئانِ وما يَجهَلانِ ، ولَرُبَّ (1) عالِمٍ قَتَلَهُ جَهلُهُ وعِلمُهُ مَعَهُ لا يَنفَعُهُ . وَاللّهِ لَيَنَبَحَنَّها كِلابُ الحَوأَبِ ، فَهَل يَعتَبِرُ مُعتَبِرٌ أو يَتَفَكَّرُ مُتَفَكِّرٌ ؟!
ثُمَّ قالَ : قَد قامَتِ الفِئَةُ الباغِيَةُ ؛ فَأَينَ المُحسِنونَ ؟ (2)ج _ كِتابُ الإِمامِ عليه السلام إلى أهلِ الكوفَةِ عِندَ المَسيرِ مِنَ المَدينَةِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى أهلِ الكوفَةِ عِندَ مَسيرِهِ مِن المَدينَةِ إلَى البَصرَةِ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى أهلِ الكوفَةِ ؛ جَبهَةِ الأَنصارِ ، وسَنامِ العَرَبِ .
أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّي اُخبِرُكُم عَن أمرِ عُثمانَ حَتّى يَكونَ سَمعُهُ كَعِيانِهِ : إنَّ النّاسَ طَعَنوا عَلَيهِ ، فَكُنتُ رَجُلاً مِنَ المُهاجِرينَ اُكثِرُ استِعتابَهُ ، واُقِلُّ عِتابَهُ ، وكانَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ أهوَنُ سَيرِهِما فيهِ الوَجيفُ ، (3) وأرفَقُ حِدائِهِمَا العَنيفُ ، وكانَ مِن عائِشَةَ فيهِ فَلتَةُ غَضَبٍ ، فَاُتيحَ لَهُ قَومٌ فَقَتَلوهُ ، وبايَعَنِي النّاسُ غَيرَ مُستَكرَهينَ ولا مُجبَرينَ ، بَل طائِعينَ مُخَيَّرينَ .
وَاعلَموا أنَّ دارَ الهِجرَةِ قَد قَلَعَت بِأَهلِها وقَلَعوا بِها ، وجاشَت جَيشَ المِرجَلِ ، (4) وقامَتِ الفِتنَةُ عَلَى القُطبِ ، فَأَسرِعوا إلى أميرِكُم ، وبادِروا جِهادَ عَدُوِّكُم ، إن شاءَ اللّهُ
.
ص: 426
عَزَّ وجَلَّ . (1)د _ اِلتِباسُ الأَمرِ عَلى مَن لا بَصيرَةَ لَهُ344. ( _ في قَولِهِ : {Q} «قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا» {/Q} _ ) تاريخ اليعقوبي :وقالَ لَهُ [لِعَلِيٍّ عليه السلام ] الحارِثُ بنُ حَوطٍ الرّانِيُّ : أظَنُّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ وعائِشَةَ اجتَمَعوا عَلى باطِلٍ ؟
فَقالَ : يا حارِثُ ! إنَّهُ مَلبوسٌ عَلَيكَ ، وإِنَّ الحَقَّ وَالباطِلَ لا يُعرَفانِ بِالنّاسِ ، ولكنِ اعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أهلَهُ ، وَاعرِفِ الباطِلَ تَعرِفْ مَن أتاهُ . (2)1 / 5استنصار الإمام عليه السلام من أهل الكوفةأ _ كِتابُ الإِمامِ عليه السلام إلى أهلِ الكُوفَةِ مِنَ الرَّبَذَةِتاريخ الطبري :عَن يَزيدَ الضَّخمِ قالَ : لَمّا أتى عَلِيّا الخَبَرُ وهُوَ بِالمَدينَةِ بِأَمرِ عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ أنَّهُم قَد تَوَجَّهوا نَحوَ العِراقِ ، خَرَجَ يُبادِرُ وهُوَ يَرجو أن يُدرِكَهُم ويَرُدَّهُم ، فَلَمَّا انتَهى إلَى الرَّبَذَةِ أتاهُ عَنهُم أنَّهُم قَد أمعَنوا (3) ، فَأَقامَ بِالرَّبَذَةِ أيّاما ، وأتاهُ عَنِ القَومِ أنَّهُم يُريدونَ البَصرَةَ ، فَسُرِّيَ (4) بِذلِكَ عَنهُ ، وقالَ : إنَّ أهلَ الكوفَةِ أشَدُّ إلَيَّ حُبّا ، وفيهِم رُؤوسُ العَرَبِ وأعلامُهُم ... .
[و] عَن مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي لَيلى عَن أبيهِ قالَ : كَتَبَ عَلِيٌّ إلى أهلِ الكوفَةِ : بِسمِ اللّه الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، أمّا بَعدُ ؛ فَإِنِّي اختَرتُكُم والنُّزولَ بَينَ أظهُرِكُم لِما أعرِفُ مِن مَوَدَّتِكُم وحُبِّكُم للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله ، فَمَن جاءَني ونَصَرَني فَقَد
.
ص: 427
أجابَ الحَقَّ وقَضَى الَّذي عَلَيهِ . (1)ب _ إرسالُ الإِمامِ عليه السلام ابنَهُ إلَى الكوفَةِتاريخ الطبري عن أبي ليلى :بَعَثَ عَلِيٌّ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ وعَمّارَ بنَ ياسِرٍ يَستَنفِرانِ النّاسَ ، وبَعَثَ قَرَظَةَ بنَ كَعبٍ الأَنصارِيَّ أميرا عَلَى الكوفَةِ ، وكَتَبَ مَعَهُ إلى أبي موسى :
أمّا بَعدُ ؛ فَقَد كُنتُ أرى أنَّ بُعدَكَ مِن هذَا الأَمرِ الَّذي لَم يَجعَلِ اللّهُ عَزَّوجَلَّ لَكَ مِنهُ نَصيبا سَيَمنَعُكَ مِن رَدِّ أمري ، وقَد بَعَثتُ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ وعمّارَ بنَ ياسِرٍ يَستَنفِرانِ النّاسَ ، وبَعَثتُ قَرَظَةَ بنَ كَعبٍ والِيا عَلَى المِصرِ ، فَاعتَزِل مَذموما مَدحورا ؛ فَإِن لَم تَفعَل فَإِنّي قَد أمَرتُهُ أن يُنابِذَكَ ؛ فَإِن نَابَذتَهُ فَظَفِرَ بِكَ أن يُقَطِّعَكَ آرابا .
فَلَمّا قَدِمَ الكِتابُ عَلى أبي موسَى اعتَزَلَ ، ودَخَلَ الحَسنُ وعَمّارٌ المَسجِدَ ، فَقالا :
أيُّهَا النّاسُ ، إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَقولُ : إنّي خَرَجتُ مَخرَجي هذا ظالِما أو مَظلوما ، وإنّي اُذَكِّرُ اللّهَ عَزَّوجَلَّ رَجُلاً رَعى للّهِِ حَقّاً إلّا نَفَرَ ؛ فَإِن كُنتُ مَظلوما أعانَني ، وإن كُنتُ ظالِما أخَذَ مِنّي . وَاللّهِ إنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ لَأَوَّلُ مَن بايَعَني ، وأوَّلُ مَن غَدَرَ ، فَهَلِ استَأثَرتُ بِمالٍ أو بَدَّلتُ حُكما ؟ فَانفِروا ؛ فَمُروا بِمَعروفٍ ، وَانهَوا عَن مُنكَرٍ . (2)ج _ مَوقِفُ أبي موسى مِن مَندوبِيِ الإِمامِ عليه السلام352.الإمام الرضا عليه السلام :شرح نهج البلاغة عن أبي مِخنَف :لَمّا سَمِعَ أبو موسى خُطبَةَ الحَسَنِ وعَمّارٍ قامَ فَصَعِدَ المِنبَرَ ، وقالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي أكرَمَنا بِمُحَمَّدٍ ؛ فَجَمَعَنا بَعدَ الفُرقَةِ ، وجَعَلَنا إخوانا مُتَحابّينَ بَعدَ العَداوَةِ ، وحَرَّمَ عَلَينا دِماءَنا وأموالَنا ، قالَ اللّهُ سُبحانَهُ :«وَلَا تَأْكُلُواْ
.
ص: 428
352.الإمام الرضا عليه السلام :أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَ_طِ_لِ» (1) ، وقالَ تَعالى : «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَ__لِدًا فِيهَا» (2) ، فَاتَّقُوا اللّهَ عِبادَ اللّهِ ، وضَعوا أسلِحَتَكُم وكُفّوا عَن قِتالِ إخوانِكُم . (3)د _ إشخاصُ الأَشتَرِ لِمُواجَهَةِ فِتنَةِ أبي موسىكان الإمام بحاجة إلى وجود جيش الكوفة إلى جانب سائر الجيش للتصدّي بحزم لحركة الناكثين ، إلّا أنّ تثبيط أبي موسى لأهالي الكوفة حال دون نهوضهم لنصرته . وكان مالك الأشتر قادرا على حلّ هذه العقدة ؛ إذ إنّه هو الذي اقترح على أمير المؤمنين عليه السلام إبقاءه في منصبه على ولاية الكوفة بعد أن كان الإمام قد هَمّ بعزله فيمن عزله من ولاة عثمان . وتصرّح بعض الوثائق التاريخيّة بأنّ الإمام قال له : «أنتَ شَفَعتَ في أبي موسى أن اُقِرَّهُ عَلَى الكوفَةِ ؛ فَاذهَب فَأَصلِح ما أفسَدتَ» (4) ، بيد أنّ الرواية التي أوردها نصر بن مزاحم تفيد أنّ الأشتر هو الذي عرض على الإمام فكرة ا لمسير إلى الكوفة لمعالجة ما أفسده الأشعرى .
ه _ وُصولُ قُوّاتِ الكوفَةِ إلَى الإِمامِ عليه السلامانتهى الموقف الحاسم الذي اتّخذه مالك الأشتر من أبي موسى الأشعري بحلّ مشكلة إرسال جيش من الكوفة ، فانطلقت القوّات من هناك والتحقت بالإمام في ذي قار . وممّا يسترعي الاهتمام في هذا الصدد هو أنّه عليه السلام أخبر أصحابه بعدد الجيش القادم من الكوفة قبل وصوله إليه .
.
ص: 429
357.الإمام الباقر عليه السلام :تاريخ الطبري عن أبي الطفيل :قالَ عَلِيٌّ : «يَأتيكُم مِنَ الكوفَةِ اثنا عَشَرَ ألفَ رَجُلٍ ورَجُلٌ» ، فَقَعَدتُ عَلى نَجَفَةِ (1) ذي قارٍ ، فَأَحصَيتُهُم ، فَما زادوا رَجُلاً ، ولا نَقَصوا رَجُلاً . (2) .
ص: 430
بحثٌ حول مبعوثي الإمام عليه السلام إلى الكوفةكان الإمام عليّ عليه السلام بحاجة إلى قوّات إضافيّة لمحاربة جيش أصحاب الجمل ، وكانت الكوفة أفضل ولاية قادرة على إمداده بمثل تلك القوّات ؛ وذلك لأنّها كانت حاضرة عسكريّة ، وكان فيها عدد كبير جدّا من المقاتلين ؛ خلافا لما كانت عليه مكّة أو المدينة أو اليمن أو . . . . وفضلاً عن ذلك فقد كانت الكوفة أقرب ولاية إلى البصرة ، وهذا يعني أنّها كانت أفضل مكان لإرسال القوّات ، إلّا أنّ وجود أبي موسى الأشعري واليا على الكوفة ، كان يحول دون استقدام القوّات من هناك . وعلى ضوء تلك الظروف كتب أمير المؤمنين عليه السلام رسالة إلى أهل الكوفة ، وأرسلها مع مبعُوثين عنه لاستنفار أهاليها وتحريضهم على الالتحاق به . ولابدّ وأن يكون لهؤلاء المبعوثين وجاهة عند أهل الكوفة ، ومقدرة على محاجّة أبي موسى الأشعري . بيد أنّ هناك اختلافا كبيرا بين المصادر التاريخيّة حول عدد مبعوثي الإمام إلى الكوفة وترتيبهم : 1 . ذكر الطبري مبعوثي الإمام وترتيبهم على الأنحاء التالية : أ _ محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن عون ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر ، مالك
.
ص: 431
الأشتر . (1) ب _ رواية سيف بن عمر : محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر ، مالك الأشتر وعبد اللّه بن عبّاس ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر . ج _ محمّد بن أبي بكر ، هاشم بن عتبة ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر . (2) 2 . وردت أسماؤهم في «الكامل في التاريخ» على نحو مشابه تقريبا لما أورده الطبري . (3) 3 . أمّا كتاب البداية والنهاية فقد اقتصر على ذكر روايات سيف بن عمر عن الطبري . (4) 4 . وسرد كتاب أنساب الأشراف أسماء اُولئك المبعوثين على النحو التالي : هاشم بن عتبة ، عبد اللّه بن عبّاس ومحمّد بن أبي بكر ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار ابن ياسر ؛ وأنّ الإمام الحسن عليه السلام قدم على الإمام عليّ عليه السلام في عشرة آلاف مقاتل (ولم يرد اسم مالك الأشتر بينهم) . (5) 5 . وورد ذكرهم في كتاب «الجمل» على النحو الآتي : هاشم بن عتبة (من الربذة) ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد ، مالك الأشتر . وجاء في نقل آخر عن الواقدي : محمّد ابن الحنفيّة ومحمّد بن أبي بكر ، الإمام الحسن وعمّار (أو برفقة ابن عبّاس) . (6)
.
ص: 432
6 . وجاء في شرح نهج البلاغة ذكرهم على النحو الآتي : هاشم بن عتبة ، عبد اللّه بن عبّاس ومحمّد بن أبي بكر (أو : محمّد بن جعفر بن أبي طالب ومحمّد بن أبي بكر كما في رواية محمّد بن إسحاق) ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد . (1) ثمّ استطرد مُوردا نصّ كلام الطبري . (2) 7 . وجاء في كتاب الإمامة والسياسة : عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر ، الإمام الحسن عليه السلام وعبد اللّه بن عبّاس وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد . (3) وهكذا يلاحظ وجود اختلافات شاسعة في عدد المبعوثين وترتيبهم . ويبدو أنّ ترتيبهم الصحيح كان على النحو التالي :
1 . هاشِمُ بنُ عُتبَةَبعث الإمام علي عليه السلام وهو في الربذة _ قرب المدينة _ هاشم بن عتبة بكتاب إلى أبي موسى الأشعري _ والي الكوفة _ لاستنفار الناس ودعوتهم لمحاربة جيش أصحاب الجمل . وسبب اختياره لهاشم بن عتبة واضح ؛ فهو كان من قادة جيش المسلمين ، وكانت له وجاهة عند أهل الكوفة . سار هاشم بن عتبة إلى الكوفة وأبلغ كتاب الإمام عليه السلام ، لكنّه واجه معارضة من قِبل أبي موسى الأشعري ، فبعث هاشم رسالة من الكوفة إلى الإمام عليه السلام بيّن له فيها طبيعة الأوضاع هناك . وفي أعقاب ذلك سار بنفسه إلى الإمام وشرح له مجريات الاُمور بالتفصيل .
.
ص: 433
2 . مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍالمبعوث الثاني للإمام هو محمّد بن أبي بكر الذي كانت له وجاهة عند جميع المسلمين ، وخاصّة عند الثوّار المناهضين لعثمان . وتتّفق المصادر التاريخيّة على وجود محمّد بن أبي بكر بين المبعوثين ، إلّا أنّها تختلف في ترتيب إيفاده ؛ فبعضها يُفيد أنّه اُوفد قبل هاشم بن عتبة (1) ، بينما يرى البعض الآخر منها أنّه اُوفد إلى الكوفة بعد رجوع هاشم بن عتبة منها (2) . وهناك مصادر اُخرى لم تذكر زمنا معيّنا لأيّ منهما . (3) كما يوجد ثَمّة اختلاف آخر حول أعضاء الوفد المرافق لمحمّد بن أبي بكر ، فبعض المصادر ذكرت اسم محمّد بن عون (4) ، وذكرت مصادر اُخرى محمّد بن جعفر (5) ، وبعضها ذكرت محمّد ابن الحنفيّة 6 ، وذكر غيرها عبد اللّه بن عبّاس . 7
3 . الإِمامُ الحَسَنُ عليه السلام و عَمّارُ بنُ ياسِرٍيمكن الجزم بأنّ الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر كانا من جملة المندوبين الذين أرسلهم أمير المؤمنين عليه السلام إلى الكوفة . فبعدما عجز الموفَدون الآخرون عن إقناع أبي موسى الأشعري وأهالي الكوفة بالنهوض والالتحاق بالإمام عليه السلام بعث هذين الرجلين إلى هناك . وقد أوردت كتب التاريخ والحديث نصوص خطبهما في الكوفة
.
ص: 434
واحتجاجاتهما مع أبي موسى الأشعري . وفي نهاية المطاف سارا برفقة جيش الكوفة والتحقوا بجيش الإمام عليّ عليه السلام . وقد عزت بعض المصادر التاريخيّة إرسال جيش الكوفة إلى دور هذين الرجلين (1) . بينما تحدّثت مصادر اُخرى عن مسير مالك الأشتر إلى هناك وطرده لأبي موسى الأشعري من قصر الإمارة . (2)
4 . مالِكُ الأَشتَرُورد اسم مالك الأشتر بصفته مبعوثا للإمام عليه السلام إلى الكوفة ، واعتبرته معظم المصادر هو آخر المبعوثين ، وقالت : إنّ جهوده قد أثمرت في استنفار أهالي الكوفة وإرسال جيش منهم لمؤازرة الإمام (راجع النصّ السابق) . وذكرت مصادر اُخرى بأنّ الأشتر قد اُوفد إلى الكوفة في مستهلّ الأمر ، ولكنّ جهوده باءت بالفشل . (3) وتجدر الإشارة إلى أنّ الأشتر كانت له وجاهة لا نظير لها بين أهالي الكوفة . وقد استطاع في عهد عثمان ، وفي ذروة هيمنة الخليفة أن يسيطر على الكوفة ويُثير أهلها ضدّ عثمان . وفي ضوء ذلك يكون الاحتمال الأقوى هو أنّ الأشتر كان الموفد الأخير ، وأنّه سار إلى هناك لحسم الاُمور . أمّا الرواية التي أشارت إلى أنّه كان أوّل المبعوثين ، وأنّه قد فشل في مهمّته فهي رواية سيف بن عمر الذي يلاحظ بوضوح عداؤه الصريح للأشتر في مواضع لاحصر لها من كتاب تاريخ الطبري .
.
ص: 435
وذكرت مصادر اُخرى أنّ الأشتر نفسه أعرب عن رغبته في المسير إلى الكوفة (1) . لأنّ أبا موسى كان واليا لعثمان على الكوفة ، وأنّ الإمام قد رام عزله ولكنّه أبقاه في منصبه هذا نزولاً عند رغبة مالك الأشتر . وقد يُفهم أنّ عمله هذا قد جاء رغبة منه في التكفير عن خطئه الأوّل .
.
ص: 436
1 / 6احتلال البصرةأ _ مُناقَشاتُ مَندوبِ الوالي وَالنّاكِثينَأنساب الأشراف عن أبي مِخنَف في إسناده :ولَمّا قَرُبَت عائِشَةُ ومَن مَعَها مِنَ البَصرَةِ بَعَثَ إلَيهِم عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ عِمرانَ بنَ الحُصَينِ الخُزاعِيَّ أبا نُجَيدٍ ، وأبَا الأَسوَدِ الدُّؤَلِيَّ ، فَلَقِياهُم بِحَفَرِ أبي موسى (1) فَقالا لَهُم : فيما قَدِمتُم ؟ فَقالوا : نَطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ ، وأن نَجعَلَ الأَمرَ شورى ؛ فَإِنّا غَضِبنا لَكُم مِن سَوطِهِ وعَصاهُ ؛ أفَلا نَغضَبُ لَهُ مِنَ السَّيفِ ؟ ! !
وقالا لِعائِشَةَ : أَمَرَكِ اللّهُ أن تَقَرّي في بَيتِكِ ؛ فَإِنَّكِ حَبيسُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وحَليلَتُهُ وحُرمَتُهُ . فَقالَت لِأَبِي الأَسوَدِ : قَد بَلَغَني عَنكَ يا أبَا الأَسوَدِ ما تَقولُ فِيَّ ! ! فَانصَرَفَ عِمرانُ وأبُو الأَسوَدِ إلَى ابنِ حُنَيفٍ ، وجَعَلَ أبُو الأَسوَدِ يَقولُ :
يَا بنَ حُنَيفٍ قَد اُتيتَ فَانفِرِوطاعِنِ القَومَ وضارِب وَاصبِرِ وَابرُز لَهُم مُستَلئِماً وشَمِّرِ
فَقالَ عُثمانُ : إي ورَبِّ الحَرَمَينِ لَأَفعَلَنَّ . (2)ب _ حَصرُ دارِ الإِمارَةِ وَالقِتالُ حَولَهاأنساب الأشراف :ونادى عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ فِي النّاسِ فَتَسَلَّحوا ، وأقبَلَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وعائِشَةُ حَتّى دَخَلُوا المِربَدَ مِمّا يَلي بَني سُلَيمٍ ، وجاءَ أهلُ البَصرَةِ مَعَ عُثمانَ رُكبانا
.
ص: 437
ومُشاةً ، وخَطَبَ طَلحَةُ فَقالَ : إنَّ عُثمانَ بنَ عَفّانَ كانَ مِن أهلِ السّابِقَةِ وَالفَضيلَةِ مِنَ المُهاجِرينَ الأَوَّلينَ ، وأحدَثَ أحداثاً نَقَمناها عَلَيهِ ، فَبايَنّاهُ ونافَرناهُ ، ثُمَّ أعتَبَ حينَ استَعتَبناهُ ، فَعَدا عَلَيهِ امرُؤٌ ابتَزَّ هذِهِ الاُمَّةَ أمرَها بِغَيرِ رِضىً ولا مَشورَةٍ ، فَقَتَلَهُ ، وساعَدَهُ عَلى ذلِكَ رِجالٌ غَيرُ أبرارٍ ولا أتقِياءَ ، فَقَتلوهُ بَريئاً تائِباً مُسلِماً ، فَنَحنُ نَدعوكُم إلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ ؛ فَإِنَّهُ الخَليفَةُ المَظلومُ . وتَكَلَّمَ الزُّبَيرُ بِنَحوٍ مِن هذَا الكَلامِ .
فَاختَلَفَ النّاسُ؛ فَقالَ قائِلونَ : نَطَقا بِالحَقِّ ، وقالَ آخَرونَ : كَذِبا ولَهُما كانا أشَدَّ النّاسِ عَلى عُثمانَ ! ! وَارتَفَعَتِ الأَصواتُ .
واُتِيَ بِعائِشَةَ عَلى جَمَلِها في هَودَجِها فَقالَت : صَهٍ صَهٍ (1) ، فَخَطَبَت بِلِسانٍ ذَلقٍ وصَوتٍ جَهوَرِيٍّ، فأَسكَتَ (2) لَهَا النّاسُ فَقالَت : إنَّ عُثمانَ خَليفَتَكُم قُتِلَ مَظلوماً بَعدَ أن تابَ إلى رَبِّهِ ، وخَرَجَ مِن ذَنبِهِ ، وَاللّهِ مابَلَغَ مِن فِعلِهِ ما يُستَحَلُّ بِهِ دَمُهُ ؛ فَيَنبَغي فِي الحَقِّ أن يُؤخَذَ قَتَلَتُهُ فَيُقتَلوا بِهِ ، ويُجعَلَ الأَمرُ شورى .
فَقالَ قائِلونَ : صَدَقتِ . وقالَ آخَرونَ : كَذَبتِ، حَتّى تَضارَبوا بِالنِّعالِ وتَمايَزوا ، فَصاروا فِرقَتَينِ : فِرقَةً مَعَ عائِشَةَ وأصحابِها ، وفرقَةً مَعَ ابنِ حُنَيفٍ ، وكانَ عَلى خَيلِ ابنِ حُنَيفٍ حُكَيمُ بنُ جَبَلَةَ ، فَجَعَلَ يَحمِلُ ويَقولُ :
خَيلي إلَيَّ إنَّها قُرَيشُلَيُردِيَنَّها نَعيمُها وَالطَّيشُ (3)
وتَأَهَّبوا لِلقِتالِ ، فَانتَهَوا إلَى الزّابوقَةِ (4) ، وأصبَحَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ فَزَحَفَ إلَيهِم ، فَقاتَلَهُم أشَدَّ قِتالٍ ، فَكَثُرَت بَينَهُمُ القَتلى ، وفَشَت فيهِمُ الجِراحُ . ثُمَّ إنَّ النّاسَ تَداعَوا .
ص: 438
إلَى الصُّلحِ ، فَكَتَبوا بَينَهُم كِتاباً بِالمُوادَعَةِ إلى قُدومِ عَلِيٍّ عَلى أن لا يَعرِضَ بَعضُهُم لِبَعضٍ في سوقٍ ولا مَشرَعَةٍ ، وأنَّ لِعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ دارَ الإِمارَةِ وبَيتَ المالِ وَالمَسجِدَ ، وأنّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ يَنزِلانِ ومَن مَعَهُما حَيثُ شاؤوا . ثُمَّ انصَرَفَ النّاسُ وألقَوُا السِّلاحَ . (1)ج _ اِستيلاءُ النّاكِثينَ عَلَى البَصرَةِالجمل_ في ذِكرِ ماحَدَثَ بَعدَ مُصالَحَةِ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ وأصحابِ الجَمَلِ _ : طَلَبَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ غَدرَتَهُ ، حَتّى كانَت لَيلَةٌ مُظلِمَةٌ ذاتُ رِياحٍ ، فَخَرَجَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وأصحابُهُما حَتّى أتَوا دارَ الإِمارَةِ وعُثمانُ بنُ حُنَيفٍ غافِلٌ عَنهُم ، وعَلَى البابِ السَّبابِجَةُ يَحرُسونَ بُيوتَ الأَموالِ _وكانوا قَوما مِنَ الزُّطِّ (2) قَدِ استَبصَروا وأكَلَ السُّجودُ جِباهَهُم ، وَائتَمَنَهُم عُثمانُ عَلى بَيتِ المالِ ودارِ الإِمارَةِ _ فَأَكَبَّ عَلَيهِمُ القَومُ وأخَذوهُم مِن أربعِ جَوانِبِهِم ، ووَضَعوا فِيهِمُ السَّيفَ ، فَقَتَلوا مِنهُم أربَعينَ رَجُلاً صَبرا !يَتَوَلّى مِنهُم ذلِكَ الزُّبَيرُ خاصَّةً ، ثُمَّ هَجَموا عَلى عُثمانَ فَأَوثَقوهُ رِباطا ، وعَمَدوا إلى لِحيَتِهِ _ وكانَ شَيخا كَثَّ اللِّحَيةِ _ فَنَتَفوها حَتّى لَم يَبقَ مِنها شَيءٌ ولا شَعرَةٌ واحِدَةٌ ! وقالَ طَلحَةُ : عَذِّبُوا الفاسِقَ ، وَانتِفوا شَعرَ حاجِبَيهِ ، وأشفارَ عَينَيهِ ، وأوثِقوهُ بِالحَديدِ ! (3)د _ أمرُ عائِشَةَ بِقَتلِ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ377.عنه عليه السلام :الجمل :قالَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ لِعائِشَةَ [بَعدَما أخَذا عُثمانَ بنَ حُنَيفٍ] : ما تَأمُرينَ في عُثمانَ ؟ فَإِنَّهُ لِما بِهِ .
.
ص: 439
377.عنه عليه السلام :فَقالَت : اُقتُلوهُ قَتَلَهُ اللّهُ ! وكانَت عِندَهَا امرَأَةٌ مِن أهلِ البَصرَةِ فَقالَت لَها : يا اُمّاه !أينَ يُذهَبُ بِكِ ؟ ! أ تَأمُرينَ بِقَتلِ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ ، وأخوهُ سَهلٌ خَليفَةٌ عَلَى المَدينَةِ ، ومَكانُهُ مِنَ الأَوسِ وَالخَزرَجِ ما قَد عَلِمتِ ! وَاللّهِ ، لَئِن فَعَلتِ ذلِكَ لَتَكونَنَّ لَهُ صَولَةٌ بِالمَدينَةِ يُقتَلُ فيها ذَراري قُرَيشٍ .
فَنابَ إلى عائِشَةَ رَأيُها وقالَت : لا تَقتُلوهُ ، ولكِنِ احبِسوهُ وضَيِّقوا عَلَيهِ حَتّى أرى رَأيي .
فَحُبِسَ أيّاما، ثُمَّ بَدا لَهُم في حَبسِهِ ، وخافوا مِن أخيهِ أن يَحبِسَ مَشايِخَهُم بِالمَدينَةِ ويوقِعَ بِهِم ، فَتَرَكوا حَبسَهُ . (1)ه _ قَتلُ المُعارِضينَتاريخ الطبري عن الزهري :قامَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ خَطيبَينِ فَقالا : يا أهلَ البَصرَةِ !تَوبَةٌ بِحَوبَةٍ ، إنَّما أردَنا أن يُستَعتَبَ أميرُ المُؤمِنينَ عُثمانُ ، ولَم نُرِد قَتلَهُ ، فَغَلَبَ سُفَهاءُ النّاسِ الحُلَماءَ حَتّى قَتَلوهُ .
فَقالَ النّاسُ لِطَلحَةَ : يا أبا مُحَمَّدٍ ، قَد كانَت كُتُبُكَ تَأتينا بِغَيرِ هذا ! فَقالَ الزُّبَيرُ : فَهَل جاءَكُم مِنّي كِتابٌ في شَأنِهِ ؟ ثُمَّ ذَكَرَ قَتلَ عُثمانَ وما أتى إلَيهِ، وأظهَرَ عَيبَ عَلِيٍّ . فَقامَ إلَيهِ رَجُلٌ مِن عَبدِ القَيسِ فَقالَ : أيُّهَا الرَّجُلُ ! أنصِت حَتّى نَتَكَلَّمَ ، فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ : وما لَكَ ولِلكَلامِ ؟ فَقالَ العَبدِيُّ :
يامَعشَرَ المُهاجِرينَ ، أنتُم أوَّلُ مَن أجابَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَكانَ لَكُم بِذلِكَ فَضلٌ ، ثُمَّ دَخَلَ النّاسُ فِي الإِسلامِ كَما دَخَلتُم ، فَلَمّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بايَعتُم رَجُلاً مِنكُم ، وَاللّهِ مَا استَأمَرتُمونا في شَيءٍ مِن ذلِكَ ، فَرَضينا وَاتَّبَعناكُم ، فَجَعَلَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ لِلمُسلِمِينَ في إمارَتِهِ بَرَكَةً ، ثُمَّ ماتَ وَاستَخلَفَ عَلَيكُم رَجُلاً مِنكُم فَلَم تُشاوِرونا في
.
ص: 440
ذلِكَ ، فَرَضينا وسَلَّمنا ، فَلَمّا تُوُفِّيَ الأَميرُ جَعَلَ الأَمرَ إلى سِتَّةِ نَفَرٍ ، فَاختَرتُم عُثمانَ وبايَعتُموهُ عَن غَيرِ مَشورَةٍ مِنّا ، ثُمَّ أنكَرتُم مِن ذلِكَ الرَّجُلِ شَيئا فَقَتَلتُموهُ عَن غَيرِ مَشوَرةٍ مِنّا ، ثُمَّ بايَعتُم عَلِيّا عَن غَيرِ مَشورَةٍ مِنّا ، فَمَا الَّذي نَقَمتُم عَلَيهِ فَنُقاتِلَهُ ؟ هَلِ استَأثَرَ بِفَيءٍ ؟ أو عَمِلَ بِغَيرِ الحَقِّ ؟ أو عَمِلَ شَيئاً تُنكِرونَهُ فَنَكونَ مَعَكُم عَلَيهِ ؟ وإلّا فَما هذا ؟
فَهَمّوا بِقَتلِ ذلِكَ الرَّجُلِ ، فَقامَ مِن دونِهِ عَشيرَتُهُ ، فَلَمّا كانَ الغَدُ وَثَبوا عَلَيهِ وعَلى مَن كانَ مَعَهُ ، فَقَتَلوا سَبعينَ رَجُلاً . (1)1 / 7من ذي قار إلى البصرةأ _ أخذُ البَيعَةِ عَلى مَن حَضَرَ383.الإمام الباقر عليه السلام :الإرشاد عن ابن عبّاس :لَمّا نَزَلَ [الاِءمامُ عَلِيٌّ عليه السلام ] بِذي قارٍ أخَذَ البَيعَةَ عَلى مَن حَضَرَهُ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَأَكثَرَ مِنَ الحَمدِ للّهِِ وَالثَّناءِ عَلَيهِ وَالصَّلاةِ عَلى رَسولِ اللّهِ، صلى الله عليه و آله ثُمَّ قالَ :
قَد جَرَت اُمورٌ صَبَرنا عَلَيها _ وفي أعيُنِنَا القَذى _ تَسليما لِأَمرِ اللّهِ تَعالى فيمَا امتَحَنَنا بِهِ رَجاءَ الثَّوابِ عَلى ذلِكَ ، وكانَ الصَّبرُ عَلَيها أمثَلَ مِن أن يَتَفَرَّقَ المُسلِمونَ وتُسفَكَ دِماؤُهُم .
نَحنُ أهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ ، وأحَقُّ الخَلقِ بِسُلطانِ الرِّسالَةِ ، ومَعدِنُ الكَرامَةِ الَّتِي ابتَدَأَ اللّهُ بِها هذِهِ الاُمَّةَ .
وهذا طَلحَةُ وُالزُّبَيرُ لَيسا مِن أهلِ النُّبُوَّةِ ولا مِن ذُّرِّيَّةِ الرَّسولِ ، حينَ رَأَيا أنَّ اللّهَ قَد رَدَّ عَلَينا حَقَّنا بَعدَ أعصُرٍ ، فَلَم يَصبِرا حَولاً واحِدا ولا شَهرا كامِلاً حَتّى وَثَبا عَلى
.
ص: 441
383.الإمام الباقر عليه السلام :دَأبِ الماضينَ قَبلَهُما، لِيَذهَبا بِحَقّي، ويُفَرِّقا جَماعَةَ المُسلِمينَ عَنّي. ثُمَّ دَعا عَلَيهِما. (1)ب _ قُدومُ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ385.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الجمل :خَرَجَ ابنُ حُنَيفٍ حَتّى أتى أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام وهُوَ بِذي قارٍ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيهِ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، وقَد نَكَّلَ بِهِ القَومُ ، بَكى وقالَ : يا عُثمانُ، بَعَثتُكَ شَيخا ألحى فَرَدّوكَ أمرَدَ إلَيَّ ! اللّهُمَّ إنَّكَ تَعلَمُ أنَّهُمُ اجتَرَؤوا عَلَيكَ وَاستَحَلّوا حُرُماتِكَ ، اللّهُمَّ اقتُلهُم بِمَن قَتَلوا مِن شيعَتي ، وعَجِّل لَهُمُ النَّقمَةَ بِما صَنَعوا بِخَليفَتي . (2)ج _ قُدومُ الإِمامِ عليه السلام إلَى البَصرَةِمروج الذهب عن المنذر بن الجارود :لَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ عليه السلام البَصرَةَ دَخَلَ مِمّا يَلي الطَفَّ _ إلى أن قالَ _ : فَساروا حَتّى نَزَلُوا المَوضِعَ المَعروفَ بِالزّاوِيَةِ ، فَصَلّى أربَعَ رَكَعاتٍ ، وعَفَّرَ خَدَّيهِ عَلَى التُّرابِ ، وقَد خَالَطَ ذلِكَ دُموعَهُ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيهِ يَدعو :
اللّهُمّ رَبَّ السَّمواتِ وما أظَلَّت، وَالأَرَضينَ وما أقَلَّت ، ورَبَّ العَرشِ العَظيمِ ، هذِهِ البَصرَةُ أسأَلُكَ مِن خَيرِها ، وأعوذُ بِكَ مِن شَرَّها ، اللّهُمَّ أنزِلنا فيها خَيرَ مُنزَلٍ وأنتَ خَيرُ المُنزِلينَ ، اللّهُمَّ إنّ هؤُلاءِ القَومَ قَد خَلَعوا طاعَتي وبَغَوا عَلَيَّ ونَكَثوا بَيعَتي ، اللّهُمَّ احقِن دِماءَ المُسلِمينَ . (3)1 / 8جهود الإمام عليه السلام لمنع القتالعندما تحرّك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع قوّاته من ذي قار ، بعث صَعْصَعة بن
.
ص: 442
صوحان إلى طلحة والزبير وعائشة ، ومعه كتاب تحدّث فيه عن إثارتهم للفتنة ، وذكر فيه موقفهم الحاقد الماكر من عثمان بن حُنيف ، وحذّرهم من مغبّة عملهم ، وعاد صعصعة فأخبره قائلاً : «رَأَيتُ قَوما ما يُريدونَ إلّا قِتالَكَ» . (1) وتأهّبت قوّات الطرفين للحرب ، بيد أنّ الإمام سلام اللّه عليه منع أصحابه من أن يبدؤوهم بقتال ، وحاول في بادئ أمره أن يردع اُولي الفتنة عن الحرب . وإنّ حديثه عليه السلام مع قادة جيش الجمل ، ومع الجيش نفسه يجلب الانتباه (2) . وبذل قصارى جهوده في سبيل المحافظة على الهدوء ، والحؤول دون اشتعال نار الحرب ، فبعث إلى قادة الجيش رسائل يحثّهم فيها على عدم الاصطدام (3) ، ثمّ أوفد مبعوثيه للتفاوض معهم (4) . ولمّا لم تثمر جهوده شيئا ، ذهب بنفسه إليهم (5) . ونلاحظ أنّ الإمام عليه السلام قد ترجم لنا في تلك الرسائل والمحاورات شخصيّته وأبان عظيم قدره ، وأماط اللثام عن الموقف السابق الذي كان عليه مساعير الحرب ، وتحدّث مرّة اُخرى عن قتل عثمان وكيفيّته بدقّة تامّة ، وكشف أبعاد ذلك الحادث ، وأغلق على مثيري الفتنة تشبّثهم بالمعاذير الواهية . ولمّا وجد ذلك عقيما وتأهّب الفريقان للقتال ، أوصى عليه السلام أصحابه بمَلْك أنفسهم والمحافظة على الهدوء ، وقال : «لا تَعجَلوا حَتّى اُعذِرَ إلَى القَومِ . . .» . فقام إليهم فاحتجّ عليهم فلم يجد عند القوم إجابة . وبعد اللتيا والتي ، بعث ابن عبّاس ثانية من أجل التفاوض الأخير ؛ لعلّه يردعهم عن الحرب ؛ ، لئلّا تُسفك دماء المسلمين هدرا ، بيد أنّ القوم خُتم على سمعهم ، فلم
.
ص: 443
يصغوا إلى رسول الإمام ، كما لم يصغوا إلى الإمام عليه السلام من قبل (1) . وقد كان لعائشة وعبد اللّه بن الزبير خاصّة الدور الأكبر في ذلك .
أ _ الإِقدامُ الشُّجاعُ لِاءِنقاذِ العَدُوِّمروج الذهب :خَرَجَ عَلِيٌّ بِنَفسِهِ حاسِرا عَلى بَغلَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله لا سِلاحَ عَلَيهِ ، فَنادى : يا زُبَيرُ ، اخرُج إلَيَّ ، فَخَرجَ إلَيهِ الزُّبَيرُ شاكّا في سِلاحِهِ ، فَقيلَ ذلِكَ لِعائِشَةَ ، فَقالَت : وا ثُكلَكِ يا أسماءُ ، فَقيلَ لَها : إنَّ عَلِيّا حاسِرٌ ، فَاطمَأَنَّت . وَاعتَنَقَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما صاحِبَهُ .
فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : وَيَحكَ يا زُبَيرُ ! مَا الَّذي أخرَجَكَ ؟ قالَ : دَمُ عُثمانَ ، قالَ : قَتَلَ اللّهُ أولانا بِدَمِ عُثمانَ ، أما تَذكُرُ يَومَ لَقيتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله في بَني بَياضَةَ وهُوَ راكِبٌ حِمارَهُ ، فَضَحِكَ إلَيَّ رَسولُ اللّهِ ، وضَحِكتُ إلَيهِ ، وأنتَ مَعَهُ ، فَقُلتَ أنتَ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما يَدَعُ عَلِيٌّ زَهوَهُ .
فَقالَ لَكَ : لَيسَ بِهَ زَهوٌ ، أ تُحِبُّهُ يا زُبَيرُ ؟
فَقُلتَ : إنّي وَاللّهِ لَاُحِبُّهُ .
فَقالَ لَكَ : إنَّكَ وَاللّهِ سَتُقاتِلُهُ وأنتَ لَهُ ظالِمٌ .
فَقالَ الزُّبَيرُ : أستَغفِرُ اللّهَ ، وَاللّهِ لَو ذَكَرتُها ما خَرَجتُ .
فَقالَ لَهُ عليه السلام : يا زُبَيرُ ، ارجِع ، فَقالَ : وكَيفَ أرجِعُ الآنَ وقَدِ التَقَت حَلقَتَا البِطانِ (2) ؟!هذا وَاللّهِ العارُ الَّذي لا يُغسَلُ .
فَقالَ عليه السلام : يا زُبَيرُ ، ارجِع بِالعارِ قَبلَ أن تَجمَعَ العارَ وَالنّارَ .
.
ص: 444
فَرَجَعَ الزُّبَيرُ وهُوَ يَقولُ :
اِختَرتُ عارا عَلى نارٍ مُؤَجَّجَةٍما إن يَقومُ لَها خَلقٌ مِنَ الطّينِ نادى عَلِيٌّ بِأَمرٍ لَستُ أجهَلُهُعارٌ لَعَمرُكَ فِي الدُّنيا وفِي الدّينِ فَقُلتُ : حَسبُكَ مِن عَذلٍ أبا حَسَنٍفَبَعضُ هذَا الَّذي قَد قُلتَ يَكفيني
فَقالَ ابنُهُ عَبدُ اللّهِ : أينَ تَذهَبُ وتَدَعُنا ؟ فَقالَ : يا بُنَيَّ ، أذكَرَني أبُو الحَسَنِ بِأَمرٍ كُنتُ قَد اُنسيتُهُ ، فَقالَ : لا وَاللّهِ ، ولكِنَّكَ فَرَرتَ مِن سُيوفِ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ؛ فَإِنَّها طِوالٌ حِدادٌ ، تَحمِلُها فِتيَةٌ أنجادٌ ، قالَ : لا وَاللّهِ ، ولكِنّي ذَكَرتُ ما أنسانيهِ الدَّهرُ ، فَاختَرتُ العارَ عَلَى النّارِ ، أبِالجُبنِ تُعَيِّرُني لا أبا لَكَ ؟ ثُمَّ أمالَ سِنانَهُ وشَدَّ فِي المَيمَنَةِ .
فَقالَ عَلِيٌّ : اِفرِجوا لَهُ فَقَد هاجوهُ .
ثُمَّ رَجَعَ فَشَدَّ فِي المَيسَرَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَشَدَّ فِي القَلبِ ، ثُمَّ عادَ إلَى ابنِهِ ، فَقالَ : أ يفَعَلُ هذا جَبانٌ ؟ ثُمَّ مَضى مُنصَرِفا . (1)ب _ عاقِبَةُ الزُّبَيرِالجمل عن مروان بن الحكم :هَرَبَ الزُّبَيرُ فارّا إلَى المَدينَةِ حَتّى أتى وادِيَ السِّباعِ ، فَرَفَعَ الأَحنَفُ صَوتَهُ وقالَ : ما أصنَعُ بِالزُّبَيرِ ؟ قَد لَفَّ بَينَ غارَينِ (2) مِنَ النّاسِ حَتّى قَتَلَ بَعضُهُم بَعضا ، ثُمَّ هُوَ يُريدُ اللِّحاقَ بِأَهلِهِ !!
فَسَمِعَ ذلِكَ ابنُ جُرموزٍ فَخَرَجَ في طَلَبِهِ، وَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِن مُجاشِعٍ حَتّى لَحِقاهُ ، فَلَمّا رَآهُما الزُّبَيرُ حَذِرَهُما .
.
ص: 445
فَقالا : يا حَوارِيَّ رَسولِ اللّهِ ، أنتَ في ذِمَّتِنا لا يَصِلُ إلَيكَ أحَدٌ . وسايَرَهُ ابنُ جُرموزٍ ، فَبَينا هُوَ يَسايِرُهُ ويَستَأخِرُ ، وَالزُّبَيرُ يُفارِقُهُ ، قالَ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، اِنزِع دِرعَكَ فَاجعَلها عَلى فَرَسِكَ فَإِنَّها تُثقِلُكَ وتُعييكَ ، فَنَزَعَها الزُّبَيرُ وجَعَلَ عَمرُو بنُ جُرموزٍ يَنكُصُ ويَتَأَخَّرُ ، وَالزُّبَيرُ يُناديهِ أن يَلحَقَهُ وهُوَ يَجري بِفَرَسِهِ ، ثُمَّ يَنحازُ عَنهُ حَتَّى اطمَأَنَّ إلَيهِ ولَم يُنكِر تَأَخُّرَهُ عَنهُ ، فَحَمَلَ عَلَيهِ وطَعَنَهُ بَينَ كَتِفَيهِ فَأَخرَجَ السِّنانَ مِن ثَديَيهِ ، ونَزَلَ فَاحتَزَّ رَأسَهُ وجاءَ بِهِ إلَى الأَحنَفِ ، فَأَنفَذَهُ إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام .
فَلَمّا رَأى رَأسَ الزُّبَيرِ وسَيفَهُ قالَ : ناوِلِني السَّيفَ ، فَناوَلَهُ ، فَهَزَّهُ وقالَ :
سَيفٌ طالَما قاتَلَ بِهِ بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ولكِنَّ الحينَ ومَصارِعَ السّوءِ !
ثُمَّ تَفَرَّسَ في وَجهِ الزُّبَيرِ وقالَ :
لَقَد كانَ لَكَ بِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله صُحبَةٌ ومِنهُ قَرابَةٌ ، ولكِنَّ الشَّيطانَ دَخَلَ مِنخَرَيكَ ، فَأَورَدَك هذَا المَورِدَ ! (1)ج _ مُناقَشاتُ الإِمامِ عليه السلام وطَلحَةَامام صادق عليه السلام نيز در اين باره مى فرمايد :الإمامة والسياسة_ في ذِكرِ مادارَ بَينَ الإِمامِ عليه السلام وَطَلحَةَ مِنَ الكَلامِ _: قالَ طَلحَةُ : اِعتَزِل هذَا الأَمرَ ، ونَجعَلُهُ شورى بَينَ المُسلِمينَ ، فَإِن رَضوا بِكَ دَخَلتُ فيما دَخَلَ فيهِ النّاسُ ، وإن رَضوا غَيرَكَ كُنتَ رَجُلاً مِنَ المُسلِمينَ .
قالَ عَلِيٌّ : أوَلَم تُبايِعني يا أبا مُحَمَّدٍ طائِعا غَيرَ مُكرَهٍ ؟ فَما كُنتُ لِأَترُكَ بَيعَتي .
قالَ طَلحَةُ : بايَعتُكَ وَالسَّيفُ في عُنُقي .
قالَ : أ لَم تَعلَم أنّي ما أكرَهتُ أحَدا عَلَى البَيعَةِ ؟ ولَو كُنتُ مُكرِها أحَدا لَأَكرَهتُ سَعدا ، وَابنَ عُمَرَ ، ومُحَمَّدَ بنَ مَسلَمَةَ ؛ أبَوُا البَيعَةَ وَاعتَزَلوا ، فَتَرَكتُهُم .
.
ص: 446
امام صادق عليه السلام نيز در اين باره مى فرمايد :قالَ طَلحَةُ : كُنّا فِي الشّورى سِتَّةٌ ، فَماتَ اثنانِ وقَد كَرِهناكَ ، ونَحنُ ثَلاثَةٌ .
قالَ عَلِيٌّ : إنَّما كانَ لَكُما ألّا تَرضَيا قَبلَ الرِّضى وقَبلَ البَيعَةِ ، وأمَّا الآنَ فَلَيس لَكُما غَيرُ ما رَضيتُما بِهِ ، إلّا أن تَخرُجا مِمّا بويِعتُ عَلَيهِ بِحَدَثٍ ، فَإِن كُنتُ أحدَثتُ حَدَثا فَسَمّوهُ لي ! وأخرَجتُم اُمَّكُم عائِشَةَ ، وتَرَكتُم نِساءَكُم ، فَهذا أعظَمُ الحَدَثِ مِنكُم ، أرِضىً هذا لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن تَهتِكوا سِترا ضَرَبَهُ عَلَيها ، وتُخرِجوها مِنهُ ؟ !
فَقالَ طَلحَةُ : إنَّما جاءَت لِلإِصلاحِ .
قالَ عَلِيٌّ عليه السلام : هِيَ _ لَعَمرُ اللّهِ _ إلى مَن يُصلِحُ لَها أمرَها أحوَجُ . أيُّهَا الشَّيخُ! اِقبَلِ النُّصحَ وَارضَ بِالتَّوبَةِ مَعَ العارِ ، قَبلَ أن يَكونَ العارُ وَالنّارُ . (1)1 / 9القتالأ _ دُعاءُ الإِمامِ عليه السلام قَبلَ القِتالِالجمل :لَمّا رَأى أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ما قَدِمَ عَلَيهِ القَومُ مِنَ العِنادِ وَاستَحَلّوهُ مِن سَفكِ الدَّمِ الحَرامِ ، رَفَعَ يَدَيهِ إلَى السَّماءِ وقالَ : اللّهُمَّ إلَيكَ شَخَصَتِ الأَبصارُ ، وبُسِطَتِ الأَيدي ، وأفضَتِ القُلوبُ ، وتَقَرَّبَت إلَيكَ بِالأَعمالِ ، «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَ_تِحِينَ» (2) . (3)ب _ تَحريضُ الإِمامِ عليه السلام أصحابَهُ عَلَى القِتالِالجمل :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام أنظَرَهُم [أصحابَ الجَمَلِ] ثَلاثَةَ أيّامٍ ؛ لِيَكُفّوا ويَرعَووا ، فَلَمّا
.
ص: 447
عَلِمَ إصرارَهُم عَلَى الخِلافِ قامَ في أصحابِهِ فَقالَ : عِبادَ اللّهِ ! اِنهَدوا إلى هَؤلاءِ القَومِ مُنشَرِحَةً صُدورُكُم ، فَإِنَّهُم نَكَثوا بَيعَتي ، وقَتَلوا شيعَتي ، ونَكَّلوا بِعامِلي ، وأخرَجوهُ مِنَ البَصرَةِ بَعدَ أن آلَموهُ بِالضَّربِ المُبَرِّحِ ، وَالعُقوبَةِ الشَّديدَةِ ، وهُوَ شَيخٌ مِن وُجوهِ الأَنصارِ وَالفُضَلاءِ ، ولَم يَرعَوا لَهُ حُرمَةً ، وقَتَلُوا السَّبابِجَةَ رِجالاً صالِحينَ ، وقَتَلوا حُكَيمَ بنَ جَبَلَةَ ظُلما وعُدوانا ؛ لِغَضَبِهِ للّهِِ ، ثُمَّ تَتَبَّعوا شيعَتي بَعدَ أن هَرَبوا مِنهُم وأخَذوهُم في كُلِّ غائِطَةٍ (1) ، وتَحتَ كُلِّ رابِيَةٍ ، يَضرِبونَ أعناقَهُم صَبرا ، ما لَهُم؟ «قَ_تَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (2) ! ! فَانهَدوا إلَيهِم عِبادَ اللّهِ ، وكونوا اُسودا عَلَيهِم ؛ فَإِنَّهُم شِرارٌ ، ومُساعِدوهُم عَلَى الباطِلِ شِرارٌ ، فَالقَوهُم صابِرينَ مُحتَسِبينَ مَوَطِّنينَ أنفُسَكُم ، إنَّكُم مُنازِلونَ ومُقاتِلونَ ، قَد وَطَّنتُم أنفُسَكُم عَلَى الضَّربِ وَالطَّعنِ ومُنازَلَةِ الأَقرانِ . فَأَيُّ امرِى ءٍ أحَسَّ مِن نَفسِهِ رَبَاطَةَ جَأشٍ عِندَ الفَزَعِ وشَجاعَةً عِندَ اللِّقاءِ ورأى مِن أخيهِ فَشَلاً ووَهنا ، فَليَذُبَّ عَنهُ كَما يَذُبُّ عَن نَفسِهِ ؛ فَلَو شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثلَهُ . (3)
ج _ السَّكينَةُ العَلَوِيَّةُ فِي الحَربِالجمل عن محمّد ابن الحنفيّة :لَمّا نَزَلنَا البَصرَةَ وعَسكَرنا بِها وصَفَفنا صُفوفَنا ، دَفَعَ أبي عَلِيٌّ عليه السلام إلَيَّ اللِّواءَ ، وقالَ : لا تُحدِثَنَّ شَيئا حَتّى يُحدَثَ فيكُم . ثُمَّ نامَ ، فَنالَنا نَبلُ القَومِ ، فَأَفزَعتُهُ ، فَفَزِعَ وهُوَ يَمسَحُ عَينَيهِ مِنَ النَّومِ ، وأصحابُ الجَمَلِ يَصيحونَ : يا ثاراتِ عُثمانَ ! فَبَرَزَ عليه السلام ولَيسَ عَلَيهِ إلّا قَميصٌ واحِدٌ ، ثُمَّ قالَ : تَقَدَّم بِاللَّواءِ ! فَتَقَدَّمتُ وقُلتُ : يا
.
ص: 448
أبَتِ أفي مِثلِ هذَا اليَومِ بِقَميصٍ واحِدٍ ؟ ! فَقالَ عليه السلام : أحرَزَ أمرا أجَلُهُ (1) ، وَاللّهِ قَاتَلتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وأنَا حاسِرٌ (2) أكثَرَ مِمّا قاتَلتُ وأنَا دارِعٌ . (3)
د _ اِشتِدادُ القِتالِالإمامة والسياسة :اِقتَتَلَ القَومُ قِتالاً شَديدا ، فَهَزَمَت يَمَنُ البَصَرَةِ يَمَنَ عَلِيٍّ ، وهَزَمَت رَبيعَةُ البَصرَةِ رَبيعَةَ عَلِيٍّ . . . ثُمَّ تَقَدَّم عَلِيٌّ فَنَظَرَ إلى أصحابِهِ يُهزَمونَ ويُقتَلونَ ، فَلَمّا نَظَرَ إلى ذلِكَ صاحَ بِابنِهِ مُحَمَّدٍ _ ومَعَهُ الرّايَةُ _ : أنِ اقتَحِم ! فَأَبطَأَ وثَبَتَ ، فَأَتى عَلِيٌّ مِن خَلفِهِ فَضَرَبَهُ بَينَ كَتِفَيهِ ، وأخَذَ الرّايَةَ مِن يَدِهِ ، ثُمَّ حَمَلَ فَدَخَلَ عَسكَرَهُم ، وإنَّ المَيمَنَتَينِ وَالمَيسَرَتَينِ تَضطَرِبانِ ؛ في إحداهُما عَمّارٌ ، وفِي الاُخرى عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ ، ومُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ . قالَ : فَشَقَّ عَلِيٌّ في عَسكَرِ القَومِ يَطعَنُ ويَقتُلُ ، ثُمَّ خَرَجَ . . . ثُمَّ أعطَى الرّايَةَ لِابنِهِ وقالَ : هكَذا فَاصنَع . فَتَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ بِالرّايَةِ ومَعَهُ الأَنصارُ ، حَتَّى انتَهى إلَى الجَمَلِ وَالهَودَجِ وهَزَمَ ما يَليهِ ، فَاقتَتَلَ النّاسُ ذلِكَ اليَومَ قِتالاً شَديدا ، حَتّى كَانتِ الواقِعَةُ والضَّربُ عَلَى الرُّكَبِ . (4)
ه _ مُقاتَلَةُ الإِمامِ عليه السلام بِنَفسِهِالفتوح :اِنفَرَقَ عَلِيٌّ يُريدُ أصحابَهُ ، فَصاحَ بِهِ صائِحٌ مِن وَرائِهِ ، فَالتَفَتَ وإذا بِعَبدِاللّهِ بنِ خَلَفٍ الخُزاعِيِّ وهُوَ صاحبُ مَنزِلِ عائِشَةَ بِالبَصرَةِ ، فَلَمّا رَآهُ عَلِيٌّ عَرَفَهُ ، فَناداهُ : ما
.
ص: 449
تَشاءُ يَابنَ خَلَفٍ ؟
قالَ : هَل لَكَ فِي المُبارَزَةِ ؟
قالَ عَلِيٌّ : ما أكرَهُ ذلِكَ ، ولكن وَيحَكَ يَابنَ خَلَفٍ ما راحَتُكَ فِي القَتلِ وقَد عَلِمتَ مَن أنَا ! !
فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ خَلَفٍ : دَعني مِن مَدحِكَ يَابنَ أبي طالِبٍ ، وَادنُ مِنّي لِتَرى أيُّنا يَقتُلُ صاحِبَهُ ! ثُمَّ أنشَدَ شِعرا ، فَأَجابَهُ عَلِيٌّ عَلَيهِ ، وَالتَقَوا لِلضَّربِ ، فَبادَرَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ خَلَفٍ بِضَربَةٍ دَفَعَها عَلِيٌّ بِحَجَفَتِهِ (1) ، ثُمَّ انحَرَفَ عَنهُ عَلِيٌّ فَضََربَهُ ضَرَبَةً رَمى بِيَمينِهِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ اُخرى فَأَطارَ قِحفَ رَأسِهِ . (2)و _ قَتلُ طَلحَةَ بِيَدِ مَروانَالفتوح :جَعَلَ طَلحَةُ يُنادي بِأَعلى صَوتِهِ : عِبادَ اللّهِ ! الصَّبرَ الصَّبرَ ! إنَّ بَعدَ الصَّبرِ النَّصرُ وَالأَجرُ . فَنَظَرَ إلَيهِ مَروانُ بنُ الحَكَمِ ، فَقالَ لِغُلامٍ لَهُ : وَيلَكَ يا غُلامُ ! وَاللّهِ إنّي لَأَعلَمُ أنَّه ما حَرَّضَ عَلى قَتلِ عُثمانَ يَومَ الدّارِ أحَدٌ كَتَحريضِ طَلحَةَ ولا قَتَلَهُ سِواهُ ! ولكِنِ استُرني فَأَنتَ حُرٌّ ؛ فَسَتَرَهُ الغُلامُ .
ورَمى مَروانُ بِسَهمٍ مَسمومٍ لِطَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ ، فَأَصابَهُ بِهِ ، فَسَقَطَ طَلحَةُ لِما بِهِ وقَد غُمِيَ عَلَيهِ . ثُمَّ أفاقَ ، فَنَظَرَ إلَى الدَّمِ يَسيلُ مِنهُ فَقالَ : إنّا للّهِِ وإنّا إلَيه راجِعونَ ، أظُنُّ وَاللّهِ أنَّنا عُنينا بِهذِهِ الآيَةِ مِن كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ إذ يَقولُ :«وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَ_لَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ » (3) . (4)
.
ص: 450
ز _ اِستمرارُ الحَربِ بِقِيادَةِ عائِشَةَتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :كانَ القِتالُ الأَوَّلُ يَستَحِرُّ إلَى انتِصافِ النَّهارِ ، واُصيبَ فيهِ طَلحَةُ ، وذَهَبَ فيهِ الزُّبَيرُ ، فَلَمّا أوَوا إلى عائِشَةَ وأبى أهلُ الكوفَةِ إلَا القِتالَ ولَم يُريدوا إلّا عائِشَةَ ، ذَمَرَتهم (1) عائِشَةُ .
فَاقتَتَلوا حَتّى تَنادَوا فَتَحاجَزوا ، فَرَجَعوا بَعدَ الظُّهرِ فَاقتَتَلوا ، وذلِكَ يَومَ الخَميسِ في جُمادَى الآخِرَةِ ، فَاقتَتَلوا صَدرَ النَّهارِ مَعَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، وفي وَسَطِهِ مَعَ ئِشَةَ . (2) .ح _ عَقرُ الجَمَلِ وتَفَرُّقُ أصحابِهِالجمل :لَمّا تَفَرَّقَ النّاسُ عَنِ الجَمَلِ أشفَقَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام أن يَعودَ (3) إلَيهِ فَتعودَ الحَربُ ، فَقالَ : عَرقِبُوا (4) الجَمَلَ . فَتَبادَرَ إلَيهِ أصحابُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَعَرقَبوهُ ، ووَقَعَ لِجَنبِهِ ، وصاحَت عائِشَةُ صَيحَةً أسمَعَت مَن فِي العَسكَرَينِ . (5)ط _ مُدَّةُ الحَربِأنساب الأشراف :كانَتِ الحَربُ مِنَ الظُّهرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ . (6)
.
ص: 451
1 / 10بعد الظفرأ _ الكَرامَةُالإمام الباقر عليه السلام :أمَرَ عَلِيٌّ عليه السلام مُنادِيَهُ فَنادى يَومَ البَصرَةِ : «لا يُتَّبَعُ مُدبِرٌ ، ولا يُذَفَّفُ (1) عَلى جَريحٍ ، ولا يُقتَلُ أسيرٌ ، ومَن أغلَقَ بابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، ومَن ألقى سِلاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ» ، ولَم يَأخُذ مِن مَتاعِهِم شَيئا . (2)
ب _ إصدارُ العَفوِ العامِّأنساب الأشراف :قامَ عَلِيٌّ _ حينَ ظَهَرَ وظَفِرَ _ خَطيبا فَقالَ : يا أهلَ البَصرَةِ !قَد عَفَوتُ عَنكُم ؛ فَإِيّاكُم وَالفِتنَةَ ؛ فَإِنَّكُم أوَّلُ الرَّعِيَّةِ نَكَثَ البَيعَةَ ، وشَقَّ عَصَا الاُمَّةِ . ثُمَّ جَلَسَ وبايَعَهُ النّاسُ . (3)
ج _ مُحادَثاتٌ بَينَ الإِمامِ عليه السلام وعائِشَةَتاريخ اليعقوبي_ في خَبَرِ عائِشَةَ _: أتاها عَلِيٌّ ، وهِيَ في دارِ عَبدِ اللّهِ بنِ خَلَفِ الخُزاعِيِّ ، وابنُهُ المَعروفُ بِطَلحَةِ الطَّلحاتِ ، فَقالَ : إيها يا حُمَيراءُ ! أ لَم تَنتَهي عَن هذَا المَسيرِ ؟ فَقالَت : يَابنَ أبي طالِبٍ ! قَدَرتَ فَأَسجِح !
فَقالَ : اخرُجي إلَى المَدينَةِ ، وَارجِعي إلى بَيتِكِ الَّذي أمَرَكِ رَسولُ اللّهِ أن تَقَرّي فيهِ . قالَت : أفعَلُ . (4)
.
ص: 452
د _ إشخاصُ عائِشَةَ إلَى المَدينَةِالجمل :لَمّا عَزَمَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَلَى المَسيرِ إلَى الكوفَةِ أنفَذَ إلى عائِشَةَ يَأمُرُها بِالرَّحيلِ إلَى المَدينَةِ ، فَتَهَيَّأَت لِذلِكَ ، وأنفَذَ مَعَها أربَعينَ امرَأَةً ألبَسَهُنَّ العمائِمَ وَالقَلانِسَ (1) ، وقَلَّدَهُنَّ السُّيوفَ ، وأمَرَهَنُّ أن يَحفَظنَها ، ويَكُنَّ عَن يَمينِها وشِمالِها ومِن وَرائِها . فَجَعَلَت عائِشَةُ تَقولُ فِي الطَّريقِ : اللّهُمَّ افعَل بِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ بِما فَعَلَ بي !بَعَثَ مَعِيَ الرِّجالَ ولَم يَحفَظ بي حُرمَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . فَلَمّا قَدِمنَ المَدينَةَ مَعَها ألقَينَ العَمائِمَ وَالسُّيوفَ ودَخَلنَ مَعَها ، فَلَمّا رَأَتهُنَّ نَدِمَت عَلى ما فَرَّطَت بِذَمِّ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وسَبِّهِ . وقالَت : جَزَى اللّهُ ابنَ أبي طالِبٍ خَيرا ، فَلَقَد حَفِظَ فِيَّ حُرمَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . (2)
ه _ غَنائِمُ الحَربِشرح الأخبار :كانَ عَلِيٌّ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ قَد غَنَّمَ أصحابَهُ ما أجلَبَ بِهِ أهلُ البَصرَةِ إلى قِتالِهِ _ وأجلَبوا بِهِ : يَعني أتَوا بِهِ في عَسكَرِهِم _ ولَم يَعرِض لِشَيءٍ غَيرِ ذلِكَ مِن أموالِهِم ، وجَعَلَ ما سِوى ذلِكَ مِن أموالِ مَن قُتِلَ مِنهُم لِوَرَثَتِهِم ، وخَمَّسَ ما اُغنِمَهُ مِمّا أجلَبوا بِهِ عَلَيهِ ، فَجَرَت أيضا بِذلِكَ السُّنَّةُ . (3)
و _ دُخولُ الإِمامِ عليه السلام بَيتَ مالِ البَصرَةِالجمل :لَمّا خَرَجَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ مِنَ البَصرَةِ ، وعادَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ إلى بَيتِ المالِ فَتَأَمَّلا ما فيهِ ، فَلَمّا رَأَوا ما حَواهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ قالوا : هذِهِ الغَنائِمُ الَّتي وَعَدنَا اللّهُ
.
ص: 453
بِها ، وأخبَرَنا أنَّهُ يُعَجِّلُها لَنا .
قالَ أبُو الأَسوَدِ : فَقَد سَمِعتُ هذا مِنهُما ، ورَأَيتُ عَلِيّا عليه السلام بَعدَ ذلِكَ ، وقَد دَخَلَ بَيتَ مالِ البَصرَةِ ، فَلَمّا رَأى ما فيهِ قالَ : يا صَفراءُ ويا بَيضاءُ غُرّي غَيري ! اَلمالُ يَعسوبُ (1) الظَّلَمَةِ ، وأنَا يَعسوبُ المُؤمِنينَ .
فَلا وَاللّهِ مَا التَفَتَ إلى ما فيهِ ، ولا فَكَّرَ فيما رَآهُ مِنهُ ، وما وَجَدتُهُ عِندَهُ إلّا كَالتُّرابِ هَواناً ! فَعَجِبتُ مِنَ القَومِ ومِنهُ عليه السلام ! فَقُلتُ : اُولئِكَ مِمَّن يُريدُ الدُّنيا ، وهذا مِمَّن يُريدُ الآخِرَةَ ، وقَوِيَت بَصيرَتي فيهِ . (2)ز _ تَوبيخُ الإِمامِ عليه السلام أهلَ البَصرَةِالجمل :لَمّا كَتَبَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام الكُتُبَ بِالفَتحِ قامَ فِي النّاسِ خَطيباً ، فَحَمِدَ اللّهَ تَعالى وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ ، ثُمَّ قالَ :
أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ غَفورٌ رَحيمٌ عَزيزٌ ذُو انتِقامٍ ، جَعَلَ عَفوَهُ ومَغفِرَتَهُ لِأَهلِ طاعَتِهِ ، وجَعَلَ عَذابَهُ وعِقابَهُ لِمَن عَصاهُ وخالَفَ أمرَهُ ، وَابتَدَعَ في دينِهِ ما لَيسَ مِنهُ ، وبِرَحمَتِهِ نالَ الصّالِحونَ العَونَ ، وقَد أمكَنَنِيَ اللّهُ مِنكُم يا أهلَ البَصرَةِ ، وأسلَمَكُم بِأَعمالِكُم ؛ فَإِيّاكُم أن تَعودوا إلى مِثلِها ؛ فَإِنَّكُم أوَّلُ مَن شَرَعَ القِتالَ وَالشِّقاقَ ، وتَرَكَ الحَقَّ وَالإِنصافَ . (3)ح _ اِستِخلافُ ابنِ عَبّاسٍ عَلَى البَصرَةِالجمل عن الواقدي عن رجاله :لَمّا أرادَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام الخُروجَ مِنَ البَصرَةِ استَخلَفَ عَلَيها عَبدُ اللّهِ بنُ العَبّاسِ وأوصاهُ ، فَكانَ في وَصِيَّتِهِ لَهُ أن قالَ :
.
ص: 454
يَا بنَ عَبّاسٍ ، عَلَيكَ بِتَقوَى اللّهِ وَالعَدلِ بِمَن وُلّيتَ عَلَيهِ ، وأن تَبسُطَ لِلنّاسِ وَجهَكَ ، وتُوَسِّعَ عَلَيهِم مَجلِسَكَ وتَسَعَهُم بِحِلمِكَ . وإيّاكَ وَالغَضَبَ ؛ فَإِنَّهُ طِيَرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ ، وإيّاكَ وَالهَوى ؛ فَإِنَّهُ يَصُدُّكَ عَن سَبيلِ اللّهِ .
وَاعلَم أنَّ ما قَرَّبَكَ مِنَ اللّهِ فَهُوَ مُباعِدُكَ مِنَ النّارِ ، وما باعَدَكَ مِنَ اللّهِ فَهُوَ مُقَرِّبُكَ مِنَ النّارِ . وَاذُكرِ اللّهَ كَثيرا ولا تَكُن مِنَ الغافِلينَ .
ورَوى أبو مِخنَفٍ لوطُ بنُ يَحيى قالَ : لَمَّا استَعمَلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَبدَ اللّهِ بنَ العَبّاسِ عَلَى البَصرَةِ خَطَبَ النّاسَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى رَسولِهِ ، ثُمَّ قالَ :
يا مَعاشِرَ النّاسِ ، قَدِ استَخلَفتُ عَلَيكُم عَبدَ اللّهِ بنَ العَبّاسِ ، فَاسمَعوا لَهُ وأطيعوا أمرَهُ ما أطاعَ اللّهَ ورَسولَهُ ؛ فَإِن أحدَثَ فيكُم أو زاغَ عَنِ الحَقِّ فَأَعلِموني أعزِلهُ عَنكُم ؛ فَإِنّي أرجو أن أجِدَهُ عَفيفاً تَقِيّاً وَرِعاً ، وإنّي لَم اُوَلِّهِ عَلَيكُم إلّا وأنَا أظُنُّ ذلِكَ بِهِ ، غَفَرَ اللّهُ لَنا ولَكُم .
فَأَقامَ عَبدُ اللّهِ بِالبَصرَةِ حَتّى عَمِلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الشّامِ ، فَاستَخلَفَ عَلَيها زيادَ بنَ أبيهِ ، وضَمَّ إلَيهِ أبَا الأَسوَدِ الدُّؤَلِيَّ ، ولَحِقَ بِأَميرِالمُؤمِنينَ عليه السلام ، فَسارَ مَعَهُ إلى صِفّينَ . (1)ط _ قُدومُ الإِمامِ عليه السلام إلَى الكوفَةِوقعة صفّين عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود وغيره :لَمّا قَدِمَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ مِنَ البَصرَةِ إلَى الكوفَةِ يَومَ الِاثنَينِ لِثِنتَي عَشرَةَ لَيلَةً مَضَت مِن رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاثينَ ، وقَد أعَزَّ اللّهُ نَصرَهُ ، وأظهَرَهُ عَلى عَدُوِّهِ ، ومَعَهُ أشرافُ النّاسِ وأهلُ
.
ص: 455
البَصرَةِ ، استَقبَلَهُ أهلُ الكوفَةِ وفيهِم قُرّاؤُهُم وأشرافُهُم ، فَدَعَوا لَهُ بِالبَرَكَةِ وقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أينَ تَنزِلُ ؟ أ تَنزِلُ القَصرَ ؟ فَقالَ : لا ، ولكِنّي أنزِلُ الرُّحبَةَ . فَنَزَلَها وأقبَلَ حَتّى دَخَلَ المَسجِدَ الأَعظَمَ فَصَلّى فيهِ رَكعَتَينِ ، ثُمَّ صَعِدَ المِنبَرَ فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ وصَلّى عَلى رَسولِهِ وقالَ :
أمّا بَعدُ ؛ يا أهلَ الكوفَةِ ! فَإِنَّ لَكُم فِي الإِسلامِ فَضلاً ما لَم تُبَدِّلوا وتُغَيِّروا . دَعَوتُكُم إلَى الحَقِّ فَأَجَبتُم ، وبَدَأتُم بِالمُنكَرِ فَغَيَّرتُم . ألا إنَّ فَضلَكُم فيما بَينَكُم وبَينَ اللّهِ فِي الأَحكامِ وَالقَسمِ ، فَأَنتُم اُسوَةُ مَن أجابَكُم ودَخَلَ فيما دَخَلتُم فيهِ . ألا إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عَلَيكُمُ اتِّباعُ الهَوى ، وطولُ الأَمَلِ ؛ فَأَمَّا اتِّباعُ الهَوى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ ، وأمّا طولُ الأَمَلِ فَيُنسِي الآخِرَةَ . ألا إنَّ الدُّنيا قَد تَرَحَّلَت مُدبِرَةً ، وَالآخِرَةَ تَرَحَّلتَ مُقبِلَةً ، ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما بَنونَ ؛ فَكونوا مِن أبناءِ الآخِرَةِ . اَليَومَ عَمَلٌ ولا حِسابٌ ، وغَدا حِسابٌ ولا عَمَلٌ . الحَمدُ للّهِِ الَّذي نَصَرَ وَلِيَّهُ ، وخَذَلَ عَدُوَّهُ ، وأعَزَّ الصّادِقَ المُحِقَّ ، وأذَلَّ النّاكِثَ المُبطِلَ .
عَلَيكُم بِتَقوَى اللّهِ وطاعَةِ مَن أطاعَ اللّهَ مِن أهلِ بَيتِ نَبِيِّكُم ، الَّذينَ هُم أولى بِطاعَتِكُم فيما أطاعُوا اللّهَ فيهِ مِنَ المُنتَحِلينَ المُدَّعينَ المُقابِلينَ إلَينا ، يَتَفَضَّلونَ بِفَضلِنا ، ويُجاحِدونّا أمرَنا ، ويُنازِعونّا حَقَّنا ، ويُدافِعونّا عَنهُ . فَقَد ذاقوا وَبالَ مَا اجتَرَحوا فَسوفَ يَلقَونَ غَيّاً . ألا إنَّهُ قَد قَعَدَ عَن نُصرَتي مِنكُم رِجالٌ فَأَنَا عَلَيهِم عاتِبٌ زارٍ . فَاهجُروهُم وأسمِعوهُم ما يَكرَهونَ حَتّى يُعتِبوا ، لِيُعرَفَ بِذلِكَ حِزبُ اللّهِ عِندَ الفُرقَةِ . (1) .
ص: 456
الفصل الثاني : الحرب الثانيّة : وقعة صِفّين2 / 1مواصفات الحربأ _ تَأريخُهابعد مضي حوالي أربعة أشهر على إخماد فتنة الناكثين بقيادة عائشة وطلحة والزبير وفي وقت لم تكن جراحها قد اندملت ودماؤها قد جفّت ، واجه الإسلام العلوي فتنة القاسطين بقيادة معاوية . فخرج الإمام عليّ عليه السلام في الخامس من شوّال عام 36 للهجرة من الكوفة لإخماد هذه الفتنة (1) . وفي أواخر ذي القعدة (2) وأثناء حطّ الرحال في صفّين وقعت معركة خاطفة للسيطرة على شريعة الفرات التي سيطر عليها جيش معاوية قبل وصول الإمام وجيشه ، وقد انتهت هذه المعركة بانتصار جيش الإمام عليّ عليه السلام . وفي شهر ذي الحجّة وقعت مناوشات بين الجيشين (3) ، إلى أن اُعلنت الهدنة بين
.
ص: 457
الفريقين في محرّم من عام 37 (1) ، وما إن انتهت حتى وقعت الحرب الحقيقيّة بينهما في بداية صفر عام 37 (2) و حمىٍ وطيسها في الثامن من صفر . وفي العاشر منه (3) حينما كان جيش الإمام على وشك إحراز الانتصار الحاسم ، إلّا أنّها انفضّت بحيلة من عمرو بن العاص ، وعاد الإمام إلى الكوفة .
ب _ مَكانُهاصِفّين _ بكسرتين وتشديد الفاء _ موضع بقرب الرقّة (4) على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقّة وبالس (5) . (6) وتبلغ المسافة بين دمشق والرقّة _ وهي بقرب صفّين _ 550 كيلو مترا تقريبا . (7)
ج _ عَدَدُ المُشارِكينَ فيهاذكرت أعداد متضاربة عن عدد جيشي الإمام عليّ عليه السلام ومعاوية . ولعلّ سبب ذلك يعود إلى أنّ بعضهم ذكر عدد المقاتلين فقط ، بينما أضاف بعضٌ آخر الخدم والغلمان . وزاد عليهم آخرون كلَّ مَن يرافق الجيوش عادةً من جماعات الميرة ، والنساء والأطفال .
.
ص: 458
ومع أنّ النصوص التاريخيّة أشارت إلى أنّ جيش الإمام عليّ عليه السلام بلغ قوامه 120 ألفا (1) أو 150 ألفا (2) أو 95 ألفا (3) أو أكثر من 100 ألف (4) أو 50 ألفا (5) على اختلافٍ بينها ، إلّا أنّ المشهور هو أنّ عدد جيش الإمام كان تسعين ألفا . (6) وتضاربت الروايات أيضا بخصوص عدد جيش معاوية ما بين 60 ألفا (7) و 70 ألفا 8 و83 ألفا 9 و90 ألفا 10 ومائة ألف 11 ومائة وعشرين ألفا 12 و130 ألفا 13 ، إلّا أنّ الروايات التي تصرّح بأن عددهم كان خمسةً وثمانين ألفا هي الأشهر . 14
د _ أكابِرُ أصحابِ الإِمامِ عليه السلامشارك في حرب صفّين إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام الكثير من أكابر صحابة الرسول صلى الله عليه و آله وغيرهم ممّن بذل كلّ غالٍ ونفيس في سبيل إرساء دعائم الإسلام . وتختلف الروايات في ذكر عددهم ؛ فمنها ما يشير إلى أنّ عددهم كان بين 70 و 80
.
ص: 459
من البدريّين ، و 800 ممّن شهدوا بيعة الرضوان ، و 400 من سائر الصحابة . وفي مقابل ذلك كان عدد الذين شاركوا في جيش معاوية من الصحابة لا يتجاوز عدد أصابع اليد وهم ممّن أسلموا بعد الفتح .
ه _ وُجوهُ أصحابِ مُعاوِيَةَلم يكن أحد من أصحاب معاوية من السابقين إلى الإسلام ، بل كان بعضهم ممّن حارب النبيّ صلى الله عليه و آله سنوات عديدة أو ممّن طرده أو لعنه النبيّ صلى الله عليه و آله .
و _ عَدَدُ القَتلى فيهاالمشهور أنّ القتلى من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا ، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألفا . (1)
2 / 2هويّة رؤساء القاسطينأ _ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَولد في سنة 20 قبل الهجرة وأسلم سنة 8 ه مُكرها تحت بوارق فرسان الإسلام ، وعُرف هو وأضرابه ب_«الطُّلَقاء» . ولّاه عمر على الشام ، فانتهج لنفسه اُسلوبا تحكّميّا سلطويّا ، وضرب على وتر الاستقلال مذ نُصب واليا عليه ، وتساهل معه عمر لأسبابٍ ما . (2)
.
ص: 460
وفي عهد عثمان _ الذي كان يتطلّع إلى تسليط الاُمويّين على الناس _ لم يرعوِ معاوية عن ظلمه وجوره ، وتمرّغ في ترفه ونعيمه ، بلا وازعٍ من ضمير ، ولا رادعٍ من سلطان . وإنّ إمارته التي استمرّت عشرين سنة ، وأساليبه في تجهيل الناس وتحميقهم ، وبثّ الذعر والهلع في نفوسهم ، وإبقائهم على جهلهم ؛ كلّ اُولئك مهّد الأرضيّة لكلّ عمل يصبّ في مصلحته بالشام . عزم على مناوءة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام منذ تولّيه الخلافة ، وجدّ كثيرا في تحريض طلحة والزبير عليه ، وقاد معركة صفّين ضدّ الإمام عليه السلام . وبعد قضيّة التحكيم أكثر من شنّ الغارات الوحشيّة على المناطق الخاضعة لحكومة الإمام عليه السلام ، وأفسد في الأرض ، وأهلك الحرث والنسل . ثمّ تمكّن من فرض الصلح على الإمام الحسن عليه السلام سنة 41 ه ، عبر مكيدة خاصّة ، وضجيج مفتعل ، فأحكم قبضته على السلطة بلا منازع ، ثمّ طفق يضطهد شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأنصاره ، موغلاً في ذلك ، حتى أنّ أقرانه وأتباعه لم يطيقوا ممارساته . وإنّ لقاء المغيرة به ، وإخباره عن موقفه العدائي ضدّ الدين الإسلامي الحنيف يترجمان حقده الدفين ، كما يدلّان على غاية خسّته ودَنَسه (1) ، وقد أفرط في سبّ الإمام عليه السلام ، وعندما طُلب منه أن يكفّ قال : «لا واللّه ، حتى يربوَ عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر ذاكر له فضلاً » ! ! (2)
.
ص: 461
وتستوقفنا المعلومات التي يذكرها ابن أبي الحديد حول طمسه فضائل الإمام ، واختلاقه فضائل لنفسه ، وسعيه في وضع الحديث ، نقلاً عن كتاب الأحداث للمدائني (1) ، وغيره من الكتب القديمة ، والواقع أنّ كلّ ما قام به يوائم التفكير القيصري والكسروي ، ويبتغي تبديل تعاليم الدين . وتعتبر إمامته للصلاة في المدينة ، وتركه البسملة ، واحتجاج المهاجرين والأنصار عليه أدلّة قاطعة على ما نقول . ومهما يكن فإنّ معاوية تقمّص الخلافة ؛ الخلافة الدينيّة التي لا يعتقد بها اعتقادا راسخا من أعماق قلبه ، وادّعى خلافة من قصد قتاله ، ولم يتورّع عن تشويه الدين ، ولم يأبهْ لتغيير معارف الحقّ . وأباح لنفسه كلّ عمل من أجل إحكام قبضته على الاُمور ، واستمرار تسلّطه وتحكّمه . هلك معاوية سنة 60 ه ، ونصب يزيد حاكما على الناس ، فخطا بذلك خطوة اُخرى نحو قلب الحقائق الدينيّة ، وهو ما اشتُهرت آثاره في التاريخ .
دُعاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله عَلَيهِصحيح مسلم عن ابن عبّاس :كُنتُ ألعَبُ مَعَ الصِّبيانِ فَجاءَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَتَوارَيتُ خَلفَ بابٍ . قالَ : فَجاءَ فحَطَأَني حَطأَةً (2)
وقالَ : اِذهَب وَادعُ لي مُعاوِيَةَ . قالَ : فَجِئتُ فَقُلتُ : هُوَ يَأكُلُ . قالَ : ثُمَّ قالَ لي : اِذهب فَادعُ لي مُعاوِيَةَ . قالَ : فَجِئتُ فَقُلتُ : هُوَ يَأكُلُ . فَقالَ : لا أشبَعَ اللّهُ بَطنَهُ ! (3)رسول اللّه صلى الله عليه و آله :إذا رَأَيتُم مُعاوِيَةَ عَلى مِنبَري فَاقتُلوهُ (4) .
.
ص: 462
ب _ عَمرُو بنُ العاصِسياسيّ ماكر ، ومحتال ماهر ، ووجهٌ متلوّن عجيب ، وعُدَّ أحد دهاة العرب الأربعة (1) . كان له في الفحشاء عِرقٌ ؛ فاُمّه النابغة كانت من البغايا المشهورة . ولمّا ولد عمرو فيسنة 50 قبل الهجرة ، نسبته اُمّه إلى خمسة ، ثمّ اختارت العاص وألحقته به . (2) نشأ عمرو في حجر من كان يهجو النبيّ صلى الله عليه و آله كثيرا ، وهو الذي عبّرت عنه سورة الكوثر بالأبتر (3) . وكان الإمام الحسن عليه السلام يقول فيه : «ألأَمُهُم حَسَبا ، وأخبَثُهُم مَنصِبا » . (4) وكان عمرو بن العاص يؤذي النبيّ صلى الله عليه و آله ويهجوه كثيرا في مكّة . وبعد كلّ ما أبداه من عنادٍ وتهتّك لعنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : « اللّهُمَّ إنَّ عَمرَو بنَ العاصِ هَجاني ، وأنتَ تَعلَمُ أنّي لَستُ بِشاعِرٍ ، فَالعَنهُ مَكانَ كُلِّ بَيتٍ هَجاني لَعنَةً » . (5) وعندما هاجر عدد من المسلمين إلى الحبشة ، ذهب عمرو بن العاص إلى بلاد النجاشي مبعوثا من قريش ليُرجعهم ، فلم يفلح . (6) قال ابن أبي الحديد في وصف عمرو بن العاص : وكان عمرو أحد من يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمكّة ويشتمه ، ويضع في طريقه الحجارة ؛ لأنّه كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخرج من منزله ليلاً ، فيطوف بالكعبة ، وكان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه
.
ص: 463
ليعثر بها . . . لشدّة عداوة عمرو بن العاص لرسول اللّه صلى الله عليه و آله أرسله أهل مكّة إلى النجاشي ليزهّده في الدين ، وليطرد عن بلاده مهاجرة الحبشة ، وليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه قتله . (1) قاتل المسلمين في حروب متعدّدة إلى جانب المشركين . (2) ولمّا أحسّ بقدرة الإسلام المتعاظمة ، أسلم سنة 8 ه قبل فتح مكّة . (3) كان ملمّا بفنون القتال . أمّره النبيّ صلى الله عليه و آله في غزوة ذات السلاسل ، وفي الجيش أبو بكر ، وعمر (4) ، وعندما توفّي النبيّ صلى الله عليه و آله كان في مهمّة بعُمان (5) . (6) أحبّه عمر بن الخطّاب كثيرا ، وكان يكرّمه ويبجّله (7) . وفتح ابن العاص مصر في أيّامه ، ثمّ ولّاه عليها . (8) وظلّ واليا عليها في عهد عثمان مدّة ، ثمّ عزله عثمان وولّى أخاه لاُمّه عبد اللّه ابن سعد بن أبي سرح ؛ انطلاقا من سياسته في تحكيم الاُمويّين (9) . فاغتمّ عمرو لذلك وحقد على عثمان ، وكان له دور مهمّ في تأليب الناس عليه . (10) وكان ابن العاص داهية ، عارفا بزمانه ، ومن جانب آخر كان رَكونا إلى الدنيا ،
.
ص: 464
عابدا لهواه ، من هنا كان يعلم جيّدا أنّه لا يمكن أن ينسجم مع أشخاص مثل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، لذلك ولّى صوب معاوية (1) عندما تقلّد الإمام الخلافة ، وهو يعلم أنّ حبّ الدنيا هو الذي حداه على ذلك ، وقال لمعاوية مرّة : إن هي إلّا الدنيا نتكالب عليها . . . . (2) وهكذا كان ، إذ جعل ولاية مصر شرطا لمؤازرته معاوية . (3) وكان في حرب صفّين قائدا لجيش الشام ، ومستشارا لمعاوية ، وموجّها للحرب في ساحة القتال . (4) وكان أسود القلب ، أعماه حبّ الدنيا عن رؤية الحقّ ، وكان يعرف فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، وطالما صرّح بها (5) . وكذلك كان يعرف عمّار بن ياسر وشخصيّته ، ويعتقد بكلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيه إذ قال له : «تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ» . (6) ومن جهة اُخرى كان يدرك ضعة معاوية ورذالته وتعسّفه . كما كان هو نفسه لا نظير في ضعته وحقارته ؛ إذ كشف عورته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمّا رأى الموت قد أمسك بخناقه ! ! فنجا من الموت بهذه المكيدة التي تمثّل وصمة عارٍ عليه . (7) وهو صاحب خطّة رفع المصاحف على الرماح عند اشتداد الحرب ، وتواتر الهزائم ، فأنقذ جيش الشام من اندحار حتميّ . (8)
.
ص: 465
ومثّل معاوية في التحكيم ، فخدع أبا موسى الأشعري ؛ إذ جعل نتيجة التحكيم لمصلحة معاوية (1) ، فمهّد الأرضيّة لفتن اُخرى . وكان أحد المخطّطين البارعين للسياسة الدعائيّة المناهضة لأمير المؤمنين عليه السلام (2) . وإنّ قيامه بتعكير الأجواء ، وتضليل الناس ، وانتقال المواقف ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام معلم على لؤمه وقبحه ومكره ، وأشار الإمام إلى شيء من ذلك إشارة بليغة في الخطبة 84 من نهج البلاغة . قاتل ابنُ العاص محمّدَ بن أبي بكر في مصر ، فغلبه وأحكم قبضته عليها . (3) هلك سنة 43 ه (4) . وخلّف ثروة طائلة ، ودراهم ودنانير وافرة . وذُكر أنّ أمواله المنقولة بلغت سبعين رقبة جمل مملوءة ذهبا . (5)
شِدَّةُ أسَفِهِ عِندَ المَوتِامام على عليه السلام مى فرمايد:تاريخ اليعقوبي :لَمّا حَضَرَت عَمرا الوَفاةُ قالَ لِابنِهِ : لَوَدَّ أبوكَ أنَّهُ كانَ ماتَ في غَزاةِ ذاتِ السَّلاسِلِ ؛ إنّي قَد دَخَلتُ في اُمورٍ لا أدري ما حُجَّتي عِندَ اللّهِ فيها .
ثُمَّ نَظَرَ إلى مالِهِ فَرَأى كَثرَتَهُ ، فَقالَ : يا لَيتَهُ كانَ بَعرا ، يا لَيتَنيِمتُّ قَبلَ هذَا اليَومِ بِثَلاثينَ سَنَةً ؛ أصلَحتُ لِمُعاوِيَةَ دُنياهُ ، وأفسَدتُ ديني ، آثَرتُ دُنيايَ وتَرَكتُ آخِرَتي ، عُمِّيَ عَلَيَّ رُشدي حَتّى حَضَرَني أجَلي ، كَأَنّي بِمُعاوِيَةَ قَد حَوى مالي ، وأساءَ فيكُم خِلافَتي .
وتُوُفِّيَ عَمرٌو لَيلَةَ الفِطرِ سَنَةَ 43 ه ، فَأَقَرَّ مُعاوِيَةُ ابنَهُ عَبدَ اللّهِ بنَ عَمرٍو . (6)
.
ص: 466
2 / 3السياسة العلويّةأ _ عَزلُ مُعاوِيَةَذكرنا سابقا أنّ اُولى الأعمال التي اتّخذها الإمام عليّ عليه السلام بعد مبايعة الناس له على طريق الشروع بالإصلاحات هو عزل عمّال عثمان . وكان الساسة من أصحاب الإمام لا يرون من المصلحة عزل شخصين ، هما : معاوية وأبي موسى الأشعري . وأخيرا وبعد الكثير من التوضيحات وفي أعقاب وساطة مالك الأشتر ، وافق أمير المؤمنين عليه السلام على إبقاء أبي موسى الأشعري . أمّا بالنسبة الى معاوية فلم تفلح جميع الجهود التي بذلت لإقناع الإمام بإبقائه في منصبه ، إذ كان لا يرى جواز إبقائه واليا ولو لحظة واحدة . أمّا بالنسبة إلى معاوية فهو لم يبايع الإمام ولم يترك أهل الشام يبايعونه . وبدأ منذ اليوم الأول لخلافة الإمام بالتآمر عليه ، ممهّدا بذلك الأجواء للصدام العسكري . وأوّل سؤال يُثار في هذا المجال هو كيف يمكن تبرير عمل الإمام هذا من الوجهة السياسيّة ؟ أ لم يكن من الأفضل أن يُبقي الإمامُ معاوية في منصبه في بداية خلافته إلى حين استتباب الاُمور ، وإلى أن يبايع هو وأهل الشام ، ثمّ يعزله من بعد ذلك لكي لا تقع حرب صفّين ولكي تستقرّ الحكومة الإسلاميّة بقيادته ؟ أ لم يكن الحفاظ على وحدة كلمة الاُمّة وديمومة النظام الإسلامي وهما من أوجب الواجبات ، يقضيان بإبقاء معاوية على ولاية الشام ولو مؤقّتا ؟
دفاع عن سياسة عزل معاويةاستنادا إلى ما يتبنّاه الإمام في سياسة وإدارة النظام الإسلامي التي سبق شرحها يمكن الردّ على هذه التساؤلات بكلّ سهولة . بَيدَ أنّ هذه السياسة توجد بشأنها اُمور مهمّة لابدّ من الإشارة إليها هاهنا :
.
ص: 467
دافع ابن أبي الحديد عن هذه السياسة بالتفصيل ، ونحن نورد النقاط المهمّة فيها : استدلّ ابن أبي الحديد ابتداءً من خلال المصادر والوثائق التاريخيّة على أنّ معاوية ما كان يبايع الإمام في أيِّ ظُروف كانت . ثمّ أشار إلى المبادئ الدينيّة التي كان يسير عليها الإمام في تعيين وعزل الولاة والعمال . ثمّ أورد في ختام المطاف تحليلاً رصينا لعالم يدعى ابن سنان بيّن فيه عدم امكانيّة إبقاء معاوية في الظروف التي بايع فيها الناس عليّا من بعد قتل عثمان ؛ لأنّها ستجعل الإمام يواجه في أوّل حكومته أوضاعا كالتي انتهى إليها عثمان في اُواخر حكمه .
1 . إبقاء معاوية في منصبه لا يدعوه إلى البيعةنقل ابن أبي الحديد فيما يخصّ انتقاد سياسة الإمام بعزل معاوية : منها قولهم : لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقرّ معاوية على الشام إلى أن يستقرّ الأمر له ويتوطّد ويبايعه معاوية وأهل الشام ثمّ يعزله بعد ذلك ، لكان قد كُفي ما جرى بينهما من الحرب . والجواب : إنّ قرائن الأحوال حينئذٍ قد كان علم أمير المؤمنين عليه السلام منها أنّ معاوية لا يبايع له وإن أقرّه على ولاية الشام ، بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية وآكد في الامتناع من البيعة ؛ لأنّه لا يخلو صاحب السؤال إمّا أن يقول : كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة ويقرن إلى ذلك تقليده بالشام فيكون الأمران معا ، أو يتقدّم منه عليه السلام المطالبة بالبيعة ، أو يتقدّم منه اقراره على الشام وتتأخّر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثانٍ . فإن كان الأوّل فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة فيؤكّد حاله عندهم ، ويقرّر في أنفسهم : لولا أنّه أهل لذلك لما اعتمده عليّ عليه السلام معه ، ثمّ يماطله بالبيعة ويحاجزه عنها .
.
ص: 468
وإن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام . وإن كان الثالث فهو كالقسم الأوّل ، بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف والعصيان . وكيف يتوهّم من يعرف السير أنّ معاوية كان يبايع له لو أقرّه على الشام وبينه وبينه ما لا تبرك الابل عليه من التِّرات القديمة والأحقاد ، وهو الذي قتل حنظلة أخاه ، والوليد خاله ، وعتبة جدّه ، في مقام واحد ! ! ثمّ ما جرى بينهما في أيّام عثمان حتى أغلظ كلّ واحد منهما لصاحبه ، وحتى تهدّده معاوية وقال له : إنّي شاخص إلى الشام وتارك عندك هذا الشيخ _ يعني عثمان _ واللّه لئن انحصّت منه شعرة واحدة لأضربنّك بمائة ألف سيف ! ! . . . و أمّا قول ابن عبّاس له عليه السلام : ولِّه شهرا واعزله دهرا ، وما أشار به المغيرة بن شعبة، فإنّهما ما توهّماه وما غلب على ظنونها وخطر بقلوبهما . و عليّ عليه السلام كان أعلم بحاله مع معاوية ، وأنّها لا تقبل العلاج والتدبير ، وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ونكره ودهائه وما كان في نفسه من عليّ عليه السلام من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان أنّه يقبل إقرار عليّ عليه السلام له على الشام ، وينخدع بذلك ، ويبايع ويعطي صفقة يمينه ! إنّ معاوية لأدهى من أن يُكاد بذلك ، وإنّ عليّاً عليه السلام لأعرف بمعاوية ممّن ظنّ أنّه لو استماله بإقراره لبايع له . ولم يكن عند عليّ عليه السلام دواء لهذا المرض إلّا السيف ؛ لأنّ الحال إليه كانت تؤول لا محالة ، فجعل الآخر أوّلاً . (1)
2 . إبقاء معاوية كان يزعزع الحكومة المركزيّةلم يكن إبقاء معاوية على ولاية الشام يقوّي ركائز حكومة الإمام ، بل إنّه كان يؤدي الى زعزعتها منذ البداية . وقد جاء تحليل ابن سنان في هذا المضمار على النحو
.
ص: 469
التالي : إنّا قد علمنا أنّ أحد الأحداث التي نقمت على عثمان وأفضت بالمسلمين إلى حصاره وقتله تولية معاوية الشام مع ما ظهر من جوره وعدوانه ، ومخالفة أحكام الدين في سلطانه ، وقد خوطب عثمان في ذلك فاعتذر بأنّ عمر ولّاه قبله ، فلم يقبل المسلمون عذره ، ولا قنعوا منه إلّا بعزله ، حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى . وكان عليّ عليه السلام من أكثر المسلمين لذلك كراهية ، وأعرفهم بما فيه من الفساد في الدين ، فلو أنّه عليه السلام افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام وإقراره فيه ، أ ليس كان يبتدئ في أوّل أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره ، فأفضى إلى خلعه وقتله ؟ ! ولو كان ذلك في حكم الشريعة سائغا والوزر فيه مأمونا لكان غلطا قبيحا في السياسة ، وسببا قويّا للعصيان والمخالفة ، ولم يكن يمكنه عليه السلام أن يقول للمسلمين : إنّ حقيقة رأيي عزل معاوية عند استقرار الأمر وطاعة الجمهور لي ، وإنّ قصدي بإقراره على الولاية مخادعته وتعجيل طاعته ومبايعة الأجناد الذين قِبله ، ثمّ أستأنف بعد ذلك فيه ما يستحقّه من العزل ، وأعمل فيه بموجب العدل ؛ لأنّ إظهاره عليه السلام لهذا العزم كان يتّصل خبره بمعاوية ، فيفسد التدبير الذي شرع فيه ، وينتقض الرأي الذي عوّل عليه . (1)
3 . إبقاء معاوية يتعارض مع المباني السياسيّة للإمام عليه السلامقدّم ابن سنان ردّا آخر على الطعن بسياسته في عزل معاوية ، وفيه إشارة إلى مبانيه السياسيّة في الحكم ، ويسمّيه جوابا حقيقيّا ويقول فيه : واعلم أنّ حقيقة الجواب هو أنّ عليّا عليه السلام كان لا يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة ، سواء أكانت تلك السياسة دينيّة أو دنيويّة ؛ أمّا الدنيويّة فنحو أن يتوهّم الإمام في إنسان أنّه يروم فساد خلافته
.
ص: 470
من غير أن يثبت ذلك عليه يقينا ؛ فإنّ عليّا عليه السلام لم يكن يستحلّ قتله ولا حبسه ، ولا يعمل بالتوهّم وبالقول غير المحقّق . وأمّا الدينيّة فنحو ضرب المتّهم بالسرقة ؛ فإنّه أيضا لم يكن يعمل به ، بل يقول : إن يثبت عليه بإقرار أو بيّنة أقمتُ عليه الحدّ ، وإلّا لم أعترضه . وغير عليّ عليه السلام قد كان منهم من يرى خلاف هذا الرأي ، ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح المرسلة ، وأنّه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الاُمّة لإصلاح الثلثين ، ومذهب أكثر الناس أنّه يجوز العمل بالرأي وبغالب الظنّ ، وإذا كان مذهبه عليه السلام ما قُلناه ، وكان معاوية عنده فاسقا ، وقد سبق عنده مقدّمة اُخرى يقينيّة ، هي أنّ استعمال الفاسق لا يجوز ، ولم يكن ممّن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة . فقد تعيّن مجاهرته بالعزل ، وإن أفضى ذلك إلى الحرب . (1)
ب _ رفض سياسة المداهنةمروج الذهب عن ابن عبّاس :قَدِمتُ مِن مَكَّةَ بَعدَ مَقتَلِ عُثمانَ بِخَمسِ لَيالٍ ، فَجِئتُ عَلِيّا أدخُلُ عَلَيهِ ، فَقيلَ لي : عِندَهُ المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ ، فَجَلَستُ بِالبابِ ساعَةً ، فَخَرَجَ المُغيرَةُ ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ، وقالَ : مَتى قَدِمتَ ؟ قُلتُ : السّاعَةَ ، ودَخَلتُ عَلى عَلِيٍّ وسَلَّمتُ عَلَيهِ . . .
قُلتُ : أخبِرني عَن شَأنِ المُغيرَةِ ، ولِمَ خَلا بِكَ ؟
قالَ : جاءَني بَعدَ مَقتَلِ عُثمانَ بِيَومَينِ ، فَقالَ : أخلِني ، فَفَعَلتُ ، فَقالَ : إنَّ النُّصحَ رَخيصٌ ، وأنتَ بَقِيَّةُ النّاسِ ، وأنَا لَكَ ناصِحٌ ، وأنَا اُشيرُ عَلَيكَ أن لا تَرُدَّ عُمّالَ عُثمانَ عامَكَ هذا ، فَاكُتب إلَيهِم بِإِثباتِهِم عَلى أعمالِهِم ، فَإِذا بايَعوا لَكَ ، وَاطمَأَنَّ أمرُكَ ، عَزَلتَ مَن أحبَبتَ ، وأقرَرتَ مَن أحبَبتَ .
.
ص: 471
فَقُلتُ لَهُ : وَاللّهِ ، لا اُداهِنُ في ديني ، ولا اُعطِي الرِّياءَ في أمري .
قالَ : فَإِن كُنتَ قَد أبَيتَ فَانزِع مَن شِئتَ ، وَاترُك مُعاوِيَةَ ؛ فَإِنَّ لَهُ جُرأَةً وهُوَ في أهلِ الشّامِ مَسموعٌ مِنهُ ، ولَكَ حُجَّةٌ في إثباتِهِ ، فَقَد كانَ عُمَرُ وَلّاهُ الشّامَ كُلَّها .
فَقُلتُ لَهُ : لا وَاللّهِ ، لا أستَعمِلُ مُعاوِيَةَ يَومَينِ أبَدا .
فَخَرَجَ مِن عِندي عَلى ما أشارَ بِهِ ، ثُمَّ عادَ ، فَقالَ : إنّي أشَرتُ عَلَيكَ بِما أشَرتُ بِهِ وأبَيتَ عَلَيَّ ، فَنَظَرتُ فِي الأَمرِ وإذا أنتَ مُصيبٌ لا يَنبَغي أن تَأخُذَ أمرَكَ بِخُدعَةٍ ، ولا يَكونَ فيهِ دُلسَةٌ .
قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَقُلتُ لَهُ : أمّا أوَّلُ ما أشارَ بِهِ عَلَيكَ فَقَد نَصَحَكَ ، وأمَّا الآخِرُ فَقَد غَشَّكَ . (1)ج _ الإِمامُ عليه السلام يَدعو مُعاوِيَةَ إلَى البَيعَةِشرح نهج البلاغة :لَمّا بويِعَ عَلِِيٌّ عليه السلام كَتَبَ إلى مِعاوِيَةَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ النّاس قَتَلوا عُثمانَ عَن غَيرِ مَشورَةٍ مِنّي ، وبايَعوني عَن مَشورَةٍ مِنهُم وَاجتِماعٍ ، فَإِذا أتاكَ كِتابي فَبايِع لي ، وأوفِد إلَيَّ أشرافَ أهلِ الشّامِ قِبَلَكَ . (2)د _ سِياسَةُ مُعاوِيَةَ في جَوابِ الإِمامِ عليه السلامتاريخ الطبري_ في ذِكرِ كِتابِ الإِمامِ إلى مُعاوِيَةَ وأبي موسى _: وكانَ رَسولُ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ سَبرَةَ الجُهَنِيَّ ، فَقَدِمَ عَلَيهِ فَلَم يَكتُب مُعاوِيَةُ بِشَيءٍ ، ولَم يُجِبهُ ، ورَدَّ رَسولَهُ ، وجَعَلَ كُلَّما تَنَجَّزَ جَوابَهُ لَم يَزِد عَلى قَولِهِ :
أدِم إدامَةَ حِصنٍ أوخَذا بِيَديحَرباً ضَروساً تَشُبُّ الجَزلَ وَالضَّرَما في جارِكُم وَابنِكُم إذ كانَ مَقتَلُهُشَنعاءَ شَيَّبَتِ الأَصداغَ وَاللَّمَما أعيَى المَسودُ بِها وَالسَّيِّدونَ فَلَميوجَد لَها غَيرُنا مَولىً ولا حَكَما
وجَعَلَ الجُهَنِيُّ كُلَّما تَنَجَّزَ الكِتابَ لَم يَزِدهُ عَلى هذِهِ الأَبياتِ ، حَتّى إذا كانَ الشَّهرُ الثّالِثُ مِن مَقتَلِ عُثمانَ في صَفَرٍ دَعا مُعاوِيَةُ بِرَجُلٍ مِن بَني عَبسٍ ثُمَّ أحَدِ بَني رَواحَةَ يُدعى قَبيصَةَ ، فَدَفَعَ إلَيهِ طوماراً مَختوماً عُنوانُهُ : مِن مُعاوِيَةَ إلى عَلِيٍّ ، فَقالَ : إذا دَخَلتَ المَدينَةَ فَاقبِض عَلى أسفَلِ الطّومارِ ، ثُمَّ أوصاهُ بِما يَقولُ ، وسَرَّحَ رَسولَ عَلِيٍّ .
وخَرَجا فَقَدِمَا المَدينَةَ في رَبيعِ الأَوَّلِ لِغُرَّتِهِ ، فَلَمّا دَخَلَا المَدينَةَ رَفَعَ العَبسِيُّ الطّومارَ كَما أمَرَهُ ، وخَرَجَ النّاسُ يَنظُرونَ إلَيهِ ، فَتَفَرَّقوا إلى مَنازِلِهِم وقَد عَلِموا أنَّ مُعاوِيَةَ مُعتَرِضٌ ، ومَضى يَدخُلُ عَلى عَلِيٍّ ، فَدَفَعَ إلَيهِ الطّومارَ فَفَضَّ خاتَمَهُ فَلَم يَجِد في جَوفِهِ كِتابَةً ، فَقالَ لِلرَّسولِ : ما وَراءَكَ ؟ قال : آمِنٌ أنَا ؟ قالَ : نَعَم ؛ إنَّ الرُّسُلَ آمِنَةٌ لا تُقتَلُ . قالَ : وَرائي أنّي تَرَكتُ قَوماً لا يَرضَونَ إلّا بِالقَوَدِ . قالَ : مِمَّن ؟ قالَ : مِن خَيطِ نَفسِكَ ، وتَرَكتُ سِتّينَ ألفَ شَيخٍ يَبكي تَحتَ قَميصِ عُثمانَ وهُوَ مَنصوبٌ لَهُم قَد ألبَسوهُ مِنبَرَ دِمَشقَ . فَقالَ : مِنّي يَطلُبونَ دَمَ عُثمانَ ! أ لَستُ مَوتوراً كَتِرَةِ عُثمانَ ؟ !اللّهُمَّ إنّي أبرَأُ إلَيكَ مِن دَمِ عُثمانَ . (3)
.
ص: 472
ه _ تَعيينُ الوالي لِلشّامِ وإرجاعُهُتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :بَعَثَ عَلِيٌّ عُمّالَهُ عَلَى الأَمصارِ فَبَعَثَ . . . سَهلَ بنَ حُنَيفٍ عَلَى الشّامِ ، فَأَمّا سَهلٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ حَتّى إذا كانَ بِتَبوكَ (1) لَقِيَتهُ خَيلٌ ، فَقالوا : مَن أنتَ ؟ قالَ : أميرٌ . قالوا : عَلى أيِّ شَيءٍ ؟ قالَ : عَلَى الشّامِ ، قالوا : إن كانَ عُثمانُ بَعَثَكَ
.
ص: 473
فَحَيَّهَلاً بِكَ ، وإن كانَ بَعَثَكَ غَيرُهُ فَارجِع ! قالَ : أوَما سَمِعتُم بِالَّذي كانَ ؟ قالوا : بَلى ؛ فَرَجَعَ إلى عَلِيٍّ . (1)و _ إشخاصُ جَريرِ بنِ عَبدِ اللّهِ إلى مُعاوِيَةَامام عسكرى عليه السلام نيز مى فرمايد:تاريخ الطبري :وَجَّهَ عَلِيٌّ عِندَ مُنصَرَفِهِ مِنَ البَصرَةِ إلَى الكوفَةِ وفَراغِهِ مِنَ الجَمَلِ جَريرَ بنَ عَبدِ اللّهِ البَجَلِيَّ إلى مُعاوِيَةَ يَدعوهُ إلى بَيعَتِهِ ، وكانَ جَريرٌ حينَ خَرَجَ عَلِيٌّ إلَى البَصرَةِ لِقِتالِ مَن قاتَلَهُ بِها بِهَمَذانَ عامِلاً عَلَيها كانَ عُثمانُ استَعمَلَهُ عَلَيها ، وكانَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ عَلى آذَربَيجانَ عامِلاً عَلَيها كانَ عُثمانُ استَعمَلَهُ عَلَيها ، فَلَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ الكوفَةَ مُنصَرِفا إلَيها من البَصرَةِ كَتَبَ إلَيهِما يَأمُرهُما بِأَخذِ البَيعَةِ لَهُ عَلى مَن قِبَلِهِما مِنَ النّاسِ وَالاِنصِرافِ إلَيهِ . فَفَعَلا ذلِكَ ، وَانصَرَفا إلَيهِ . فَلَمّا أرادَ عَلِيٌّ تَوجيهَ الرَّسولِ إلى مُعاوِيَةَ ، قالَ جَريرُ بنُ عَبدِ اللّهِ : . . . ابعَثني إلَيهِ فَإِنَّهُ لي وِدٌّ حَتّى آتِيَهُ فَأَدعوَهُ إلَى الدُّخولِ في طاعَتِكَ ، فَقالَ الأَشتَرُ لِعَلِيٍّ : لا تَبعَثهُ ، فَوَاللّهِ إنّي لَأَظُنُّ هَواهُ مَعَهُ .
فَقالَ عَلِيٌّ : دَعهُ حَتّى نَنظُرَ مَا الَّذي يَرجِعُ بِهِ إلَينا .
فَبَعَثَهُ إلَيهِ وكَتَبَ مَعَهُ كِتابا يُعلِمُهُ فيهِ بِاجتِماعِ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ عَلى بَيعَتِهِ ، ونَكثِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وما كانَ مِن حَربِهِ إيّاهُما ، ويَدعوهُ إلى الدُّخولِ فيما دَخَلَ فيهِ المُهاجِرونَ وَالأَنصارُ مِن طاعَتِهِ ، فَشَخَصَ إلَيهِ جَريرٌ ، فَلَمّا قَدِمَ عَلَيهِ ماطَلَهُ وَاستَنظَرَهُ ، ودَعا عَمرا فَاستَشارَهُ فيما كَتَبَ بِهِ إلَيهِ ، فَأَشارَ عَلَيهِ أن يُرسِلَ إلى وُجوهِ الشّامِ ، ويُلزِمَ عَلِيّا دَمَ عُثمانَ ، ويُقاتِلَهُ بِهِم ، فَفَعَلَ ذلِكَ مُعاوِيَةُ . (2)
.
ص: 474
ز _ مُعاوِيَةُ يُبَدِّدُ الوَقتَ استِعداداً لِلحَربِهمچنين پيامبر خدا صلى الله عليه و آله در توصيه هاوقعة صفّين عن الجرجاني :كانَ مُعاوِيَةُ أتى جَريرا في مَنزِلِهِ فَقالَ : يا جَريرُ !إنّي قَد رَأَيتُ رَأيا .
قالَ : هاتِهِ .
قالَ : اُكتُب إلى صاحِبِكَ يَجعَلُ لِيَ الشّامَ ومِصرَ جِبايَةً ، فإذا حَضَرَتهُ الوَفاةُ لَم يَجعَل لِأَحَدٍ بَعدَهُ بَيعَةً في عُنُقي ، واُسَلِّمُ لَهُ هذَا الأَمرَ ، وأكتُبُ إلَيهِ بِالخِلافَةِ .
فَقالَ جَريرٌ : اُكتُب بِما أرَدتَ ، وأكتُبُ مَعَكَ .
فَكَتَبَ مُعاوِيَةُ بِذلِكَ إلى عَلِيٍّ . فَكَتَبَ عَلِيٌّ إلى جَريرٍ :
أمّا بَعدُ ، فَإِنَّما أرادَ مُعاوِيَةُ ألّا يَكونَ لي في عُنُقِهِ بَيعَةٌ ، وأن يَختارَ مِن أمرِهِ ما أحَبَّ ، وأرادَ أن يُريثَكَ حَتّى يَذوقَ أهلَ الشّامِ . وإنَّ المُغيرَةَ بنَ شُعبَةَ قَد كانَ أشارَ عَلَيَّ أن أستَعمِلَ مُعاوِيَةَ عَلَى الشّامِ وأنَا بِالمَدينَةِ ، فَأَبَيتُ ذلِكَ عَلَيهِ . ولَم يَكُنِ اللّهُ لِيَراني أتَّخِذُ المُضِلّينَ عَضُدا ، فَإِن بايَعَكَ الرَّجُلُ ، وإلّا فَأَقبِل . (1)ح _ أصحاب الإِمامِ عليه السلام يُشيرونَ عَلَيهِ بِالاِستِعدادِ لِلحَربِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ وقَد أشارَ عَلَيهِ أصحابُهُ بِالِاستعدادِ لِلحَربِ بَعدَ إرسالِهِ جَريرَ بنَ عَبدِ اللّهِ البَجَليَّ إلى مُعاوِيَةَ _: إنَّ استِعدادي لِحَربِ أهلِ الشّامِ وجَريرٌ عِندَهُم إغلاقٌ لِلشّامِ وصَرفٌ لِأَهلِهِ عَن خَيرٍ إن أرادوهُ . ولكِن قَد وَقَّتُّ لِجرَيرٍ وَقتاً لا يُقيمُ بَعدَهُ إلّا مَخدوعاً أو عاصِياً . وَالرَّأيُ عِندي مَعَ الأَناةِ ، فَأَروِدوا (2) ولا أكرَهُ لَكُمُ الإِعدادَ .
.
ص: 475
ولَقَد ضَرَبتُ أنفَ هذَا الأَمرِ وعَينَهُ ، وقَلَّبتُ ظَهرَهُ وبَطنَهُ ، فَلَم أرَ لي فيهِ إلَا القِتالَ أوِ الكُفرَ بِما جاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله . إنَّهُ قَد كانَ عَلَى الاُمَّةِ والٍ أحدَثَ أحداثاً وأوجَدَ النّاسَ مَقالاً ، فَقالوا ثُمَّ نَقَموا فَغَيَّروا . (1)2 / 4حرب الدعايةأ _ كَيدُ مُعاوِيَةَ في حَربِ الدِّعايَةِاز امام صادق عليه السلام نقل شده كه لقمان به فرزنشرح نهج البلاغة عن النقيب أبي جعفر :كانَ مُعاوِيَةُ يَتَسَقَّطُ عَلِيّاً ويَنعى عَلَيهِ ما عَساهُ يَذكُرُهُ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وأنَّهُما غَصَباهُ حَقَّهَ ، ولا يَزالُ يَكيدُهُ بِالكِتابِ يَكتُبُهُ وَالرِّسالَةِ يَبعَثُها يَطلُبُ غِرَّتَهُ (2) ؛ لِيَنفُثَ بِما في صَدرِهِ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ إمّا مُكاتَبَةً أو مُراسَلَةً ، فَيَجعَلَ ذلِكَ حُجَّةً عَلَيهِ عِندَ أهلِ الشّامِ ، ويُضيفَهُ إلى ما قَرَّرَهُ في أنفُسِهِم مِن ذُنوبِهِ كَما زَعَمَ ، فَقَد كانَ غَمَصَهُ (3) عِندَهُم بِأَنَّهُ قَتَلَ عُثمانَ ومالَأَ عَلى قَتلِهِ ، وأنَّهُ قَتَلَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ وأسَرَ عائِشَةَ وأراقَ دِماءَ أهلِ البَصرَةِ ، وبَقِيَت خَصلَةٌ واحَدَةٌ وهُوَ أن يَثبُتَ عِندَهُم أنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِن أبي بَكرٍ وعُمَرَ ، ويَنسُبُهُما إلى الظُّلمِ ومُخالَفَةِ الرَّسولِ في أمرِ الخِلافَةِ ، وأنَّهُما وَثَبا عَلَيها غَلَبَةً وغَصَباهُ إيّاها .
فَكانَت هذِهِ الطّامَّةُ الكُبرى لَيسَت مُقتَصِرَةً عَلى فَسادِ أهلِ الشّامِ عَلَيهِ ، بَل وأهلِ العِراقِ الَّذينَ هُم جُندُهُ وبِطانَتُهُ وأنصارُهُ ؛ لِأَنَّهُم كانوا يَعتَقِدونَ إمامَةَ الشَّيخَينِ إلَا القَليلَ الشّاذَّ مِن خَواصِّ الشّيعَةِ .
.
ص: 476
از امام صادق عليه السلام نقل شده كه لقمان به فرزنفَلَمّا كَتَبَ ذلِكَ الكِتابَ مَعَ أبي مُسلِمٍ الخَولانِيِّ قَصَدَ أن يُغضِبَ عَلِيّاً ويُحرِجَهُ ويُحوِجَهُ إذا قَرَأَ ذِكرَ أبي بَكرٍ وأنَّهُ أفضَلُ المُسلِمينَ إلى أن يَخلِطَ خَطَّهُ فِي الجَوابِ بِكَلِمَةٍ تَقتَضي طَعناً في أبي بَكرٍ ، فَكانَ الجَوابُ مُجَمجَماً غَيرَ بَيِّنٍ لَيسَ فيهِ تَصريحٌ بِالتَّظليمِ لَهُما ولَا التَّصريحُ بِبَراءَتِهِما وتارَةً يَتَرَحَّمُ عَلَيهِما وتارَةً يَقولُ : أخَذا حَقّي وقَد تَرَكتُهُ لَهُما .
فَأَشارَ عَمرُو بنُ العاصِ عَلى مُعاوِيَةَ أن يَكتُبَ كِتاباً ثانِياً مُناسِباً لِلكِتابِ الأَوَّلِ ؛ لِيَستَفِزّا فيهِ عَلِيّاً عليه السلام ويَستَخِفّاهُ ، ويَحمِلَهُ الغَضَبُ مِنهُ أن يَكتُبَ كَلاماً يَتعََلَّقانِ بِهِ في تَقبيحِ حالِهِ وتَهجينِ مَذهَبِهِ .
وقالَ لَهُ عَمرٌو : إنَّ عَلِيّاً عليه السلام رَجُلٌ نَزِقٌ تَيّاهٌ ، ومَا استَطعَمتَ مِنهُ الكَلامَ بِمِثلِ تَقريظِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ فَاكتُب . فَكَتَبَ كِتاباً أنفَذَهُ إلَيهِ مَعَ أبي اُمامَةَ الباهِلِيِّ وهُوَ مِنَ الصَّحابَةِ بَعدَ أن عَزَمَ عَلى بِعثَتِهِ مَعَ أبِي الدَّرداءِ ونُسخَةُ الكِتابِ :
مِن عَبدِ اللّهِ مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ :
أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ تَعالى جَدُّهُ ، اصطَفى مُحَمَّدا عليه السلام لِرِسالَتِهِ وَاختَصَّهُ بِوَحيِهِ وتَأدِيَةِ شَريعَتِهِ ، فَأَنقَذَ بِهِ مِنَ العَمايَةِ وهَدى بِهِ مِنَ الغَوايَةِ ، ثُمَّ قَبَضَهُ الَيهِ رَشيداً حَميداً قَد بَلَّغَ الشَّرعَ ومَحَقَ الشِّركَ وأخمَدَ نارَ الإِفكِ ، فَأَحسَنَ اللّهُ جَزاءَهُ وضاعَفَ عَلَيهِ نِعَمَهُ وآلاءَهُ ، ثُمَّ إنَّ اللّهَ سُبحانَهُ اختَصَّ مُحَمَّدا عليه السلام بِأَصحابٍ أيَّدوهُ وآزَروهُ ونَصَروهُ ، وكانوا كَما قالَ اللّهُ سُبحانَهُ لَهُم : «أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ» (1) فَكانَ أفضَلَهُم مَرتَبَةً وأعلاهُم عِندَ اللّهِ وَالمُسلِمينَ مَنزِلَةً الخَليفَةُ الأَوَّلُ ، الَّذي جَمَعَ الكَلِمَةَ ولَمَّ الدَّعوَةَ وقاتَلَ أهلَ الرِّدَّةِ ، ثُمَّ الخَليفَةُ الثّاني الَّذي فَتَحَ الفُتوحَ ومَصَّرَ الأَمصارَ وأذَلَّ رِقابَ المُشرِكينَ ، ثُمَّ الخَليفَةُ الثّالِثُ المَظلومُ الَّذي نَشَرَ المِلَّةِ وطَبَّقَ الآفاقَ بِالكَلِمَةِ .
ص: 477
از امام صادق عليه السلام نقل شده كه لقمان به فرزنالحَنيفِيَّةِ .
فَلَمَّا استَوثَقَ الإِسلامُ وضَرَبَ بِجِرانِهِ (1) عَدَوتَ عَلَيهِ فَبَغَيتَهُ الغَوائِلَ ونَصَبتَ لَهُ المَكايِدَ ، وضَرَبتَ لَهُ بَطنَ الأَمرِ وظَهرَهُ ودَسَستَ عَلَيهِ وأغرَيتَ بِهِ ، وقَعَدتَ حَيثُ استَنصَرَكَ عَن نَصرِهِ وسَأَلَكَ أن تُدرِكَهُ قَبلَ أن يُمَزَّقَ فَما أدرَكتَهُ ، وما يَومُ المُسلِمينَ مِنكَ بِواحِدٍ .
لَقَد حَسَدتَ أبا بَكرٍ وَالتَوَيتَ عَلَيهِ ورُمتَ إفسادَ أمرِهِ ، وقَعَدتَ في بَيتِكَ ، وَاستَغوَيتَ عِصابَةً مِنَ النّاسِ حَتّى تَأَخَّروا عَن بَيعَتِهِ ، ثُمَّ كَرِهتَ خِلافَةَ عُمَرَ وحَسَدتَهُ وَاستَطَلتَ مُدَّتَهُ ، وسُرِرتَ بِقَتلِهِ وأظهَرتَ الشَّماتَةَ بِمُصابِهِ حَتّى إنَّكَ حاوَلتَ قَتلَ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ قاتِلَ أبيهِ ، ثُمَّ لَم تَكُن أشَدَّ مِنكَ حَسَدا لِابنِ عَمِّكَ عُثمانَ نَشَرتَ مَقابِحَهُ وطَوَيتَ مَحاسِنَهُ ، وطَعَنتَ في فِقهِهِ ثُمَّ في دينِهِ ثُمَّ في سيرَتِهِ ثُمَّ في عَقلِهِ ، وأغرَيتَ بِهِ السُّفَهاءَ مِن أصحابِكَ وشيعَتِكَ حَتّى قَتَلوهُ بِمَحضَرٍ مِنكَ لا تَدفَعُ عَنهُ بِلِسانٍ ولا يَدٍ ، وما مِن هؤُلاءِ إلّا مَن بَغَيتَ عَلَيهِ وتَلَكَّأتَ في بَيعَتِهِ حَتّى حُمِلتَ إلَيهِ قَهراً تُساقُ بِخَزائِمِ (2) الاِقتِسارِ كَما يُساقُ الفَحلُ المَخشوشُ ، ثُمَّ نَهَضتَ الآنَ تَطلُبُ الخِلافَةَ ، وقَتَلَةُ عُثمانَ خُلَصاؤُكَ وسُجَراؤُكَ والمُحدِقونَ بِكَ ، وتِلكَ مِن أمانِيِّ النُّفوسِ وضَلالاتِ الأَهواءِ .
فَدَعِ اللَّجاجَ وَالعَبَثَ جانِباً وَادفَع إلَينا قَتَلَةَ عُثمانَ ، وأَعِدِ الأَمرَ شورى بَينَ المُسلِمينَ لِيَتَّفِقوا عَلى مَن هُوَ للّهِِ رِضاً . فَلا بَيعَةَ لَكَ في أعناقِنا ولا طاعَةَ لَكَ عَلَينا ولا عُتبى لَكَ عِندَنا ، ولَيسَ لَكَ ولِأَصحابِكَ عِندي إلَا السَّيفُ ، وَالَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ لَأَطلُبَنَّ قَتَلَةَ عُثمانَ أينَ كانوا وحَيثُ كانوا حَتّى أقتُلَهُم أو تَلتَحِقَ روحي بِاللّهِ . .
ص: 478
از امام صادق عليه السلام نقل شده كه لقمان به فرزنفَأَمّا ما لا تَزالُ تَمُنُّ بِهِ مِن سابِقَتِكَ وجِهادِكَ فَإِنّي وَجَدتُ اللّهَ سُبحانَهُ يَقولُ : «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لَا تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَ_مَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْاءِيمَ_نِ إِن كُنتُمْ صَ_دِقِينَ» (1) ولَو نَظَرتَ في حالِ نَفسِكَ لَوَجَدتَها أشَدَّ الأَنفُسِ امتِناناً عَلَى اللّهِ بِعَمَلِها ، وإذا كانَ الاِمتِنانُ عَلَى السّائِلِ يُبطِلُ أجرَ الصَّدَقَةِ فَالاِمتِنانُ عَلَى اللّهِ يُبطِلُ أجرَ الجِهادِ ويَجعَلُهُ ك_َ «صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْ ءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَ_فِرِينَ» . (2)
قالَ النَّقيبُ أبو جَعفَرٍ : فَلَمّا وَصَلَ هذَا الكِتابُ إلى عَلِيٍّ عليه السلام مَعَ أبي اُمامَةَ الباهِلِيِّ ، كَلَّمَ أبا اُمامَةَ بِنَحوٍ مِمّا كَلَّمَ بِهِ أبا مُسلِمٍ الخَولانِيَّ وكَتَبَ مَعَهُ هذَا الجَوابَ .
قالَ النَّقيبُ : وفي كِتابِ مُعاوِيَةَ هذا ذِكرُ لَفظِ الجَمَلِ المَخشوشِ أوِ الفَحلِ المَخشوشِ ، لا فِي الكِتابِ الواصِلِ مَعَ أبي مُسلِمٍ ولَيسَ في ذلِكَ هذِهِ اللَّفظَةُ وإنَّما فيهِ : «حَسَدتَ الخُلَفاءَ وبَغَيتَ عَلَيهِم عَرَفنا ذلِكَ مِن نَظَرِكَ الشَّزرِ (3) وقَولِكَ الهُجرِ (4) وتَنَفُّسِكَ الصُّعَداءَ وإبطائِكَ عَنِ الخُلَفاءِ» .
قالَ : وإنَّما كَثيرٌ مِنَ النّاسِ لا يَعرِفونَ الكِتابَينِ ، وَالمَشهورُ عِندَهُم كِتابُ أبي مُسلِمٍ فَيَجعَلونَ هذِهِ اللَّفظَةَ فيهِ ، وَالصَّحيحُ أنَّها في كِتابِ أبي اُمامَةَ ، أ لا تَراها عادَت في جَوابِهِ ؟ ولَو كانَت في كتابِ أبي مُسلِمٍ لَعادَت في جَوابِهِ . (5) .
ص: 479
ب _ الأَجوِبَةُ الواعِيَةُ لِلإِمامِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ جَوابا ، وهُوَ مِن مَحاسِنِ الكُتُبِ _: أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أتاني كِتابُكَ تَذكُرُ فيهِ اصطِفاءَ اللّهِ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله لِدينِهِ وتَأييدَهُ إيّاهُ بِمَن أيَّدَهُ مِن أصحابِهِ ، فَلَقَد خَبَّأَ لَنَا الدَّهرُ مِنكَ عَجَباً ، إذ طَفِقتَ تَخبِرُنا بِبَلاءِ اللّهِ تَعالى عِندَنا ونِعمَتِهِ عَلَينا في نَبِيِّنا ، فَكُنتَ في ذلِكَ كَناقِلِ التَّمرِ إلَى هَجَرَ أو داعي مُسَدِّدِهِ إلَى النِّضالِ .
وزَعَمتَ أنَّ أفضَلَ النّاسِ فِي الإِسلامِ فُلانٌ وفُلانٌ ، فَذَكَرتَ أمراً إن تَمَّ اعتَزَلَكَ كُلُّهُ ، وإن نَقَصَ لَم يَلحَقكَ ثَلمُهُ . وما أنتَ وَالفاضِلَ والمَفضولَ ، وَالسّائِسَ وَالمَسوسَ ؟ وما لِلطُّلَقاءِ وأبناءِ الطُّلَقاءِ والتَّمييزَ بَينَ المُهاجِرينَ الأَوَّلينَ ، وتَرتيبَ دَرَجاتِهِم ، وتَعريفَ طَبَقاتِهِم . هَيهاتَ لَقَد حَنَّ قِدحٌ لَيسَ مِنها ، وطَفِقَ يَحكُمُ فيها مَن عَلَيهِ الحُكمُ لَها .
ألا تَربَعُ _ أيُّهَا الإِنسانُ _ عَلى ظَلعِكَ ، وتَعرِفُ قُصورَ ذَرعِكَ ؟ وتَتَأَخَّرُ حَيثُ أخَّرَكَ القَدَرُ ؟ فَما عَلَيكَ غَلَبَةُ المَغلوبِ ولا ظَفَرُ الظّافِرِ ، وإنَّكَ لَذَهَّابُ فِي التّيهِ ، رَوّاغٌ عَنِ القَصدِ .
ألا تَرى _ غَيرَ مُخبِرٍ لَكَ ولكِن بِنِعمَةِ اللّهِ اُحدِّثُ _ أنَّ قَوماً استُشهِدوا في سَبيلِ اللّهِ تَعالى مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ _ ولِكُلٍّ فَضلٌ _ حَتّى إذَا استُشهِدَ شَهيدُنا قيلَ : سَيِّدُ الشُّهَداءِ ، وخَصَّهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِسَبعينَ تَكبيرَةً عِندَ صَلاتِهِ عَلَيهِ .
أ وَلا تَرى أنَّ قَوماً قُطِّعَت أيديهِم في سَبيلِ اللّهِ _ ولِكُلٍّ فَضلٌ _ حَتّى إذا فُعِلَ بِواحِدِنا ما فَعَلَ بِواحِدِهِم قيلَ : الطَّيّارُ فِي الجَنَّةِ وذُو الجَناحَينِ ، ولَولا ما نَهَى اللّهُ عَنهُ مِن تَزكِيَةِ المَرءِ نَفسَهُ لَذَكَرَ ذاكِرٌ فَضائِلَ جَمَّةً تَعرِفُها قُلوبُ المُؤمِنينَ ، ولا تَمُجُّها آذانُ السّامِعينَ ، فَدَع عَنكَ مَن مالَت بِهِ الرَّمِيَّةُ ؛ فَإِنّا صَنائِعُ رَبِّنا ، وَالنّاسُ بَعدُ صَنائِعُ
.
ص: 480
لَنا . لَم يَمنَعنا قَديمُ عِزِّنا ولا عادِيُّ طَولِنا عَلى قَومِكَ أن خَلَطناكُم بِأَنفُسِنا ، فَنَكَحنا وأنكَحنا فِعلَ الأَكفاءِ ، ولَستُم هُناكُ .
وأنّى يَكونُ ذلِكَ ومِنَّا النَّبِيُّ ومِنكُمُ المُكَذِّبُ ، ومِنّا أسَدُ اللّهِ ومِنكُم أسَدُ الأَحلافِ ، ومِنّا سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ ومِنكُم صِبيَةُ النّارِ ، ومِنّا خَيرُ نِساءِ العالَمينَ ومِنكُمُ حَمّالَةُ الحَطَبِ في كَثيرٍ مِمّا لَنا وعَلَيكُم ؛ فَإِسلامُنا قَد سُمِعَ ، وجاهِلِيَّتُنا لا تُدفَعُ ، وكِتابُ اللّهِ يَجمَعُ لَنا ما شَذَّ عَنّا وهُوَ قَولُهُ سُبحانَهُ وتَعالى : «وَأُوْلُواْ الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَ_بِ اللَّهِ» (1) وقَولُهُ تَعالى : «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَ هِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ_ذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ» (2) فَنَحنُ مَرَّةً أولى بِالقَرابَةِ ، وتارَةً أولى بِالطّاعَةِ . ولَمَّا احتَجَّ المُهاجِرونَ عَلَى الأَنصارِ يَومَ السَّقيفَةِ بِرَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله فَلَجوا عَلَيهِم ، فَإِن يَكُنِ الفَلَجُ بِهِ فَالحَقُّ لَنا دونَكُم ، وإن يَكُن بِغَيرِهِ فَالأَنصارُ عَلَى دَعواهُم .
وزَعمَتَ أنّي لِكُلِّ الخُلَفاءِ حَسَدتُ وعَلى كُلِّهِم بَغَيتُ ، فَإِن يَكُن ذلِكَ كَذلِكَ فَلَيسَتِ الجِنايَةُ عَلَيكَ فَيَكونَ العُذرُ إلَيكَ :
وتِلكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنكَ عارُها
وقُلتَ إنّي كُنتُ اُقادُ كَما يُقادُ الجَمَلُ المَخشوشُ حَتّى اُبايِعَ ، ولَعَمرُ اللّهِ لَقَد أرَدتَ أن تَذُمَّ فَمَدَحتَ ، وأن تَفضَحَ فَافتَضَحتَ ! وما عَلَى المُسلِمِ مِن غَضاضَةٍ في أن يَكونَ مَظلوماً ما لَم يَكُن شاكّاً في دينِهِ ، ولا مُرتاباً بِيَقينِهِ . وهذِهِ حُجَّتي إلى غَيرِكَ قَصدُها ، ولكِنّي أطلَقتُ لَكَ مَنها بِقَدرِ ما سَنَحَ مِن ذِكرِها .
ثُمَّ ذَكَرتَ ما كانَ مِن أمري وأمرِ عُثمانَ فَلَكَ أن تُجابَ عَن هذِهِ لِرَحِمِكَ مِنهُ ، فَأَيُّنا كانَ أعدى لَه وأهدى إلى مَقاتِلِهِ . أ مَن بَذَلَ لَهُ نُصرَتَهُ فَاستَقعَدَهُ وَاستَكَفَّهُ ، أم .
ص: 481
مَنِ استَنصَرَهُ فَتَراخى عَنهُ وبَثَّ المَنونَ إلَيهِ حَتّى أتى قَدَرُهُ عَلَيهِ ؟
كَلّا وَاللّهِ لَ_ «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَ الْقَآئِلِينَ لِاءِخْوَ نِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَا قَلِيلاً» (1) وما كُنتُ لِأَعتَذِرَ مِن أنّي كُنتُ أنقِمُ عَلَيهِ أحداثاً ، فَإِن كانَ الذَّنبُ إلَيهِ إرشادي وهِدايَتي لَهُ فَرُبَّ مَلومٍ لا ذَنبَ لَهُ :
وقَد يَستَفيدُ الظِّنَّةَ المُتَنَصِّحُ .
وما أرَدتُ إلَا الإِصلاحَ ما استَطَعتُ وما تَوفيقي إلاّ بِاللّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وإلَيهِ اُنيبُ .
وذَكَرتَ أنَّهُ لَيسَ لي ولِأَصحابي عَندَكَ إلَا السَّيفُ فَلَقَد أضحَكتَ بَعدَ استِعبارٍ ! مَتى ألفَيتَ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ عَنِ الأَعداءِ ناكِلينَ ، وبِالسَّيفِ مُخَوَّفينَ ؟ ! ف
_
لَبِّث قَليلاً يَلحَقِ الهَيجا حَمَل
فَسَيَطلُبُكَ مَن تَطلُبُ ، ويَقرُبُ مِنكَ ما تَستَبعِدُ ، وأنَا مُرقِلٌ نَحوَكَ في جَحفَلٍ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالتّابِعينَ لَهُم بِإِحسانٍ ، شَديدٍ زِحامُهُم ، ساطِعٍ قَتامُهُم ، مُتَسَربِلينَ سَرابيلَ المَوتِ ، أحَبُّ اللِّقاءِ إلَيهِم لِقاءُ رَبِّهِم ، وقَد صَحِبَتهُم ذُرِّيَّةٌ بَدرِيَّةٌ وسُيوفٌ هاشِمِيَّةٌ ، قَد عَرَفتَ مَواقِعَ نِصالِها في أخيكَ وخالِكَ وجَدِّكَ وأهلِكَ «وَ مَا هِىَ مِنَ الظَّ__لِمِينَ بِبَعِيدٍ» (2) . (3) .
ص: 482
أهداف معاوية في حرب الدّعاية وحكمة أجوبة الإمامتأمُّل الرسائل التي تبودلت بين الإمام ومعاوية أثناء الحرب الدعائيّة ، وما ينطوي عليه جواب معاوية من جرأة ووقاحة ؛ يفضي بالباحث إلى السؤال التالي : لماذا فتح الإمام باب المكاتبة وتبادل الكتب مع شخص مثل معاوية ؟ أ لم يكن الأفضل أن يهمل الإمام جواب معاوية ليكون بمنأى عن كلّ ذلك التعريض والبذاءة ؟ يكتب ابن أبي الحديد بعد نقل شطر من الكتب التي جرت بين الإمام ومعاوية ، ما نصّه : «قُلتُ : وأعجَبُ وأطرَبُ ما جاءَ بِهِ الدَّهرُ _ وإن كانَت عَجائِبُهُ وبَدائِعُهُ جَمَّةً _ أن يُفضِيَ أمرُ عَلِيٍّ عليه السلام إلى أن يَصيرَ مُعاوِيَةُ نِدّاً لَهُ ونَظيراً مُماثِلاً ، يَتَعارَضانِ الكِتابَ وَالجَوابَ ، ويَتَساوَيانِ فيما يُواجِهُ بِهِ أحَدُهُما صاحِبَهُ ، ولا يَقولُ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام كَلِمَةً إلّا قالَ مِثلَها ، وأخشَنَ مَسّاً مِنها ، فَلَيتَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله كانَ شاهِدَ ذلِكَ ! لِيَرى عِياناً لا خَبَراً أنَّ الدَّعوَةَ الَّتي قامَ بِها ، وقاسى أعظَمَ المَشاقِّ في تَحَمُّلِها ، وكابَدَ الأَهوالَ فِي الذَّبِّ عَنها ، وضَرَبَ بِالسُّيوفِ عَلَيها لِتَأييدِ دَولَتِها ، وشَيَّدَ أركانَها ، ومَلَأَ الآفاقَ بِها ، خَلَصَت صَفواً عَفواً لِأَعدائِهِ الَّذينَ كَذَّبوهُ ، لَمّا دَعا إلَيها ، وأخرَجوهُ عَن أوطانِهِ لَمّا حَضَّ عَلَيها ، وأدمَوا وَجهَهُ ، وقَتَلوا عَمَّهُ وأهلَهُ ، فَكَأَنَّهُ كانَ يَسعى لَهُم ، ويَدأَبُ لِراحَتِهِم ؛ كَما قالَ أبو سُفيانَ في أيّامِ عُثمانَ ، وقَد مَرَّ بِقَبرِ حَمزَةَ ، وضَرَبَهُ بِرِجلِهِ، وقالَ : يا أبا عُمارَةَ ! إنَّ الأَمرَ الَّذِي اجتَلَدنا عَلَيهِ بِالسَّيفِ أمسى في يَدِ غِلمانِنَا اليَومَ
.
ص: 483
يَتَلَعَّبونَ بِهِ ! ثُمَّ آلَ الأَمرُ إلى أن يُفاخِرَ مُعاوِيَةُ عَلِيّاً ، كَما يَتَفاخَرُ الأَكفاءُ وَالنُّظَراءُ ! ! إذا عَيَّرَ الطّائِيَّ بِالبُخلِ مادِرٌوقَرَّعَ قُسّاً بِالفَهاهَةِ باقِلُ وقالَ السُّها لِلشَّمسِ : أنتِ خَفِيَّةٌوقالَ الدُّجى : يا صُبحُ لَونُكَ حائِلُ وفاخَرَتِ الأَرضُ السَّماءَ سَفاهَةًوكاثَرَتِ الشُّهُبَ الحَصا وَالجَنادِلُ فَيا مَوتُ زُرْ إنَّ الحَياةَ ذَميمَةٌويا نَفسِ جِدّي إنَّ دَهرَكِ هازِلُ ! ثُمَّ أقولُ ثانِياً لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام : لَيتَ شِعري ، لِماذا فَتَحَ بابَ الكِتابِ وَالجَوابِ بَينَهُ وبَينَ مُعاوِيَةَ ؟ ! وإذا كانَتِ الضَّرورَةُ قَد قادَت إلى ذلِكَ فَهَلَا اقتَصَرَ فِي الكِتابِ إلَيهِ عَلَى المَوعِظَةِ مِن غَيرِ تَعَرُّضٍ لِلمُفاخَرَةِ وَالمُنافَرَةِ ! وإذا كانَ لابُدَّ مِنهُما فَهَلَا اكتَفى بِهِما مِن غَيرِ تَعَرُّضٍ لِأَمرٍ آخَرَ يوجِبُ المُقابَلَةَ وَالمُعارَضَةَ بِمِثلِهِ ، وبِأَشَدَّ مِنهُ : «وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ» (1) . . . ولَعَلَّهُ عليه السلام قَد كانَ يَظهَرُ لَهُ مِنَ المَصلَحَةِ حينَئِذٍ ما يَغيبُ عَنَّا الآنَ ، وللّهِِ أمرٌ هُوَ بالِغُهُ !» . (2) وحقيقة الأمر تؤول إلى ما ذكره ابن أبي الحديد نهاية كلامه بصيغة الاحتمال . فالشيء الجزمي أنّ الإمام لم يلج مضمار هذه الحرب الدعائيّة من دون حكمة ، ولكي نتلمّس الحكمة من وراء مكاتبات الإمام يتحتّم أن نعرف في البدء طبيعة الأهداف التي كان يتوخاها معاوية من إطلاق الحرب الدعائيّة ضدّ الإمام .
أهداف معاويةقبل أن ندلف إلى تبيين الأهداف التي كان يصبو إليها معاوية من الحرب الدعائية ، من الضروري أن نشير إلى أنّ الرسائل السياسيّة كانت تعدّ في ذلك العصر واحدة
.
ص: 484
من أهمّ أدوات الحرب النفسيّة والدعائيّة . ففي ذلك العهد كانت وسائل الإعلام تقتصر على الخطب العامّة والرسائل ، ومن الطبيعي أن يكون للرسائل فاعليّة إعلاميّة تفوق ما للخطابة . وربّما استطعنا أن نقارب التأثير الإعلامي للرسائل في ذلك العصر بما للصحافة المعاصرة من موقع في وقتنا الحاضر . لقد بادر معاوية إلى شنّ حرب دعائيّة شاملة ضدَّ الإمام قبل أن تبدأ لحظة الاشتباك العسكري المباشر معه . فبالاستناد إلى مرتكزات نهجه السياسي رام معاوية من وراء حرب الدعاية هذه أن يهيّئ الأرضيّة الاجتماعيّة للالتحام العسكري المباشر ، حيث وظّف في هذه الحرب آليّة الخطابة وآليّة الرسالة في الوقت ذاته . لقد كان يبغي من وراء حربه الدعائيّة تحقيق عدد من الأهداف ، هي :
1 . اتّهام الإمام عليه السلام بقتل عثمانيركّز الشطر الأعظم من كتب معاوية إلى الإمام على هذا الموضوع . أمّا البواعث التي أملت على معاوية اتّهام الإمام بالتورّط بقتل عثمان ، فقد تمثّلت _ من جهة _ بالطعن بأهليّة الإمام في تسنّم الخلافة ، كما تحرّكت _ من جهة ثانية _ باتّجاه تمهيد الأجواء للاصطدام العسكري المباشر معه بذريعة الطلب بدم عثمان ، ومن ثمّ تهيئة المناخ اللازم لوصول معاوية نفسه إلى السلطة . كثيرة هي الوثائق التأريخيّة التي تثبت صحّة هذا الادّعاء . (1) فقد انتهج معاوية هذه السياسة الشيطانيّة بوضوح حتى قبل مقتل عثمان ، حينما تباطأ عن نصرته . وقد بلغ من شدّة جلاء هذا الأمر أنّ عثمان حينما رأى إهمال معاوية لمؤازرته برغم
.
ص: 485
إصراره في أن يبعث إليه بقوّة تحميه في مقابل الثائرين ؛ قال له صراحة : «أرَدتَ أن اُقتَلَ فَتَقولَ : أنَا وَلِيُّ الثَّأرِ» (1) !
2 . دفع الإمام عليه السلام للحديث ضدّ الخلفاءيعرف معاوية جيّداً أنّ عليّاً عليه السلام يعدّ نفسه هو الخليفة بلا فصل بعد النبيّ صلى الله عليه و آله وأنّ الإمام يعتقد بأنّه قد أصابه الظلم في هذه الواقعة ، ولذلك اعتصم بالمقاومة وامتنع عن بيعة أبي بكر ما كانت زوجته فاطمة الزهراء عليهاالسلام بضعة النبي صلى الله عليه و آله على قيد الحياة . بيدَ أنّ الإمام لم يكن يرى من المصلحة أن يجهر بهذا الأمر ، لما يفضي إليه ذلك من وقوع الفرقة في المجتمع الإسلامي ، وتصدّع الكيان السياسي للمسلمين . وفي هذا الاتّجاه كانت إحدى أهداف معاوية من حربه الدعائيّة أن يدفع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للتعريض بالخليفتين الأوّل والثاني ، لكي يصيِّر ذلك ذريعة إلى محاصرته أمام الرأي العام وإحراجه ، ووسيلة إلى بثّ الفرقة بين أنصاره وأتباعه . يقول النقيب أبو جعفر بهذا الشأن : «كانَ مُعاوِيَةُ يَتَسَقَّطُ عَلِياً ويَنعى عَلَيهِ ما عَساهُ يَذكُرُهُ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ ، وأنَّهُما غَصَباهُ حَقَّهُ ، ولا يَزالُ يَكيدُهُ بِالكِتابِ يَكتُبُهُ ، وَالرِّسالَةِ يَبعَثُها يَطلُبُ غِرَّتَهُ ، لِيَنفُثَ بِما في صَدرِهِ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ ، إمّا مُكاتَبَةً أو مُراسَلَةً ، فَيَجعَلَ ذلِكَ حُجَّةً عَلَيهِ عِندَ أهلِ الشّامِ . . . فَكانَت هذِهِ الطّامَّةُ الكُبرى لَيسَت مُقتَصِرَةً عَلى فَسادِ أهلِ الشّامِ عَلَيهِ ، بَل وأهلِ العِراقِ الَّذينَ هُم جُندُهُ وبِطانَتُهُ وأنصارُهُ ؛ لِأَنَّهُم كانوا يَعتَقِدونَ إمامَةَ الشَّيخَينِ ، إلَا القَليلَ الشّاذَّ مِن خَواصِّ الشّيعَةِ» . (2)
.
ص: 486
3 . التعريض بشموليّة بيعة الاُمّة للإمام عليه السلاماتّضح من مقدّمة القسم أنّ سعة بيعة عموم الناس للإمام هي واحدة من نقاط القوّة البارزة التي اقترنت مع بداية حكمه ، إذ لم يحظَ أيّ من الخلفاء السابقين بمثل هذا الشمول . وما كان يرمي إليه معاوية في حربه الدعائيّة هو تشويه هذه النقطة والنيل من هذا المكسب ، والإيحاء بأنّ عدم مبايعة أهل الشام للإمام هي دليل عدم شرعيّة خلافته .
4 . النيل من قداسة الإمام عليه السلام في الوجدان الشعبيلقد كان معاوية على دراية تامّة بأنّه لا يستطيع مواجهة الإمام والوقوف ضدّه مع كلّ الرصيد الضخم الذي يحظى به أمير المؤمنين عليه السلام وما له من سابقة مشرقة في هذا الدين ، إلّا بتهديم تلك القداسة في الأذهان والنيل من هالته في الوجدان الشعبي ، عبر عمل دعائي مكثّف تتخلّله عناصر التضليل والخداع . وما الرسائل التي بعث بها للإمام إلّا خطوة في هذا الاتّجاه ، ثمّ جاء سبّه من على المنابر استكمالاً لهذا النهج .
حكمة أجوبة الإمام عليه السلام لمعاويةوالآن نتساءل : ما الذي كان سيقع لو أنّ الإمام تراجع في هذه الحرب الدعائيّة ؟ وماذا لو لم يفتح باب المكاتبة مع معاوية بحسب تفكير ابن أبي الحديد ؟ وماذا سيكون لو أهمل كلام معاوية وبرامجه على هذا الصعيد ولم يرد عليها ؟ هل كان معاوية يختار الصمت مثلاً ويكفّ عن حربه الدعائية الشعواء ضدَّ الإمام ؟ لا ريب أنّ سياسة السكوت في مقابل الأمواج الدعائيّة العاتية التي يبثّها معاوية كانت ستنتهي بضرر الإمام . فسكوت الإمام كان معناه تأييداً منه لكلّ تهم معاوية . إنّه من السذاجة بمكان أن نتصوّر بأنّ الإمام لو لم يفتح باب المكاتبة مع معاوية ،
.
ص: 487
لما كان معاوية قد شرع بحربه الدعائيّة ضدّ الإمام أو أنّه كان ينثني عن إدامتها ، بل الذي لا نشكّ فيه أنّ سكوت الإمام _ لو حصل _ كان يستتبع تصعيد وتيرة هذه الحرب وتأجيج نيرانها أكثر . إنّ كتب الإمام وأجوبته لم تعمل على تعطيل الفعل الدعائي الماكر لمعاوية وحسب ، بل تحوّلت إلى وثيقة في التأريخ تثبت أحقّية الإمام . فإضافةً إلى ما بادر إليه الإمام من تنوير العقول وتبصير الناس وتوعيتها عبر هذه الرسائل ، فقد عمد فيها للدفاع عن نفسه على أحسن وجه ، وأتمّ الحجّة على معاوية والمخدوعين من أتباعه . كما ترك للتأريخ ولمن يأتي بعده وثيقة حوت ما جرى بينه وبين معاوية . لقد التزم الإمام جانب الحذر بعمله بحيث لم يدع معاوية يحقّق أيّاً من الأهداف التي كان يصبو إليها من حربه الدعائيّة كما يريد .
.
ص: 488
2 / 5تهيُّؤ معاوية للحربالحربأ _ إشارَةُ عَمرِو بنِ العاصِامام صادق عليه السلام نيز مى فرمايد :شرح نهج البلاغة_ في شَرحِ كَلامِهِ عليه السلام فِي اليَومِ الثّاني مِن بَيعَتِهِ بِالمَدينَةِ ، حَيثُ أمَرَ عليه السلام بِرَدِّ كُلِّ قَطيعَةٍ أقطَعَها عُثمانُ وكُلِّ مالٍ أعطاهُ مِن بَيتِ المالِ _: قالَ الكَلبِيُّ : ثُمَّ أمَرَ عليه السلام بِكُلِّ سِلاحٍ وُجِدَ لِعُثمانَ في دارِهِ مِمّا تَقَوّى بِهِ عَلَى المُسلِمينَ فَقُبِضَ ، وأمَرَ بِقَبضِ نَجائِبَ كانَت في دارِهِ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ فَقُبِضَت ، وأمَرَ بِقَبضِ سَيفِهِ ودِرعِهِ ، وأمَرَ ألّا يُعرَضَ لِسِلاحٍ وُجِدَ لَهُ لَم يُقاتَل بِهِ المُسلِمونَ ، وبِالكَفِّ عَن جَميعِ أموالِهِ الَّتي وُجِدَت في دارِهِ وفي غَيرِ دارِهِ ، وأمَرَ أن تُرتَجَعَ الأَموالُ الَّتي أجازَ بِها عُثمانُ حَيثُ اُصيبَت أو اُصيبَ أصحابُها .
فَبَلَغَ ذلِكَ عَمرَو بنَ العاصِ وكانَ بِأَيلَةَ مِن أرضِ الشّامِ ، أتاها حَيثُ وَثَبَ النّاسُ عَلى عُثمانَ فَنَزَلَها فَكَتَبَ إلى مُعاوِيَةَ : ما كُنتَ صانِعا فَاصنَع . إذ قَشَرَكَ ابنُ أبي طالِبٍ مِن كُلِّ مالٍ تملِكُهُ كَما تُقشَرُ عَنِ العَصا لِحاها . (1)ب _ الاِستِعانَةُ بِعَمرِو بنِ العاصِوقعة صفّين عن عمر بن سعد ومحمّد بن عبيد اللّه :كَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عَمرٍو وهُوَ بِالبَيعِ مِن فِلَسطينَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّهُ كانَ مِن أمرِ عَلِيٍّ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ما قَد بَلَغَكَ . وقَد سَقَطَ إلَينا مَروانُ بنُ الحَكَمِ في رافِضَةِ أهلِ البَصرَةِ ، وقَدِمَ عَلَينا جَريرُ بنُ عَبدِ اللّهِ في بَيعَةِ عَلِيٍّ ، وقَد حَبَستُ نَفسي عَلَيكَ حَتّى تَأتِيَني . أقبِل اُذاكِرك أمراً .
فَلَمّا قُرِئَ الكِتابُ عَلى عَمرٍو استَشارَ ابنَيهِ عَبدَ اللّهِ ومُحَمَّدا فَقالَ : اِبنَيَّ ، ما تَرَيانِ ؟
.
ص: 489
فَقالَ عَبدُ اللّهِ : أرى أنَّ نَبِيَّ اللّهِ صلى الله عليه و آله قُبِضَ وهُوَ عَنكَ راضٍ ، وَالخَليفَتانِ مِن بَعدِهِ ، وقُتِلَ عُثمانُ وأنتَ عَنهُ غائِبٌ . فَقِرَّ في مَنزِلِكَ فَلَستَ مَجعولاً خَليفَةً ، ولا تُريدُ أن تَكونَ حاشِيَةً لِمُعاوِيَةَ عَلى دُنيا قَليلَةٍ ، أوشَكَ أن تَهلِكَ فَتَشقى فيها .
وقالَ مُحَمَّدٌ : أرى أنَّكَ شَيخُ قُرَيشٍ وصاحِبُ أمرِها ، وإن تَصَرَّمَ هذَا الأَمرُ وأنتَ فيهِ خامِلٌ تَصاغَرَ أمرُكَ ، فَالحَق بِجَماعَةِ أهلِ الشّامِ فَكُن يَدا مِن أياديها ، وَاطلُب بِدَمِ عُثمانَ ، فَإِنَّكَ قَدِ استَنَمتَ فيهِ إلى بَني اُمَيَّةَ .
فَقالَ عَمرٌو : أمّا أنتَ يا عَبدَ اللّهِ فَأَمَرتَني بِما هُوَ خَيرٌ لي في ديني ، وأمّا أنتَ يا مُحَمَّدُ فَأَمَرتَني بِما هُوَ خَيرٌ لي في دُنيايَ ، وأنَا ناظِرٌ فيهِ . (1)ج _ وَعدُ المُؤازَرَةِ المَشروطَةِسير أعلام النبلاء عن يزيد بن أبي حبيب وعبد الواحد بن أبي عون :لَمّا صارَ الأَمرُ في يَدِ مُعاوِيَةَ ، استَكثَرَ مِصرَ طُعمَةً لِعَمرٍو ما عاشَ ، ورَأى عَمرٌو أنَّ الأَمرَ كُلَّهُ قَد صَلَحَ بِهِ وبِتَدبيرِهِ ، وظَنَّ أنَّ مُعاوِيَةَ سَيَزيدُهُ الشَّامَ ، فَلَم يَفعَل ، فَتَنَكَّرَ لَهُ عَمرٌو . فَاختَلَفا وتَغالَظا ، فَأَصلَحَ بَينَهُما مُعاوِيَةُ بنُ حُدَيجٍ ، وكَتَبَ بَينَهُما كِتابا بِأَنَّ : لِعَمرٍو وِلايَةَ مِصرَ سَبعَ سِنينَ ، وأشهَدَ عَلَيهِما شُهودا ، وسارَ عَمرٌو إلى مِصرَ سَنَةَ تِسعٍ وثَلاثينَ ، فَمَكَثَ نَحوَ ثَلاثِ سِنينَ ، وماتَ . (2)الإمام عليّ عليه السلام_ في ذِكرِ عَمرِو بنِ العاصِ _: إنَّهُ لم يُبايِع مُعاوِيَةَ حَتّى شَرَطَ أن يُؤتِيَهُ أتِيَّةً ، ويَرضَخَ لَهُ عَلى تَركِ الدِّين رَضيخَةً . (3)
.
ص: 490
د _ اِستِغلالُ قَميصِ عُثمانَتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :كانَ أهلُ الشّامِ لَمّا قَدِمَ عَلَيهِمُ النُّعمانُ بنُ بَشيرٍ بِقَميصِ عُثمانَ الَّذي قُتِلَ فيهِ مُخَضَّبا بِدَمِهِ ، وبِأَصابِعِ نائِلَةَ زَوجَتِهِ مَقطوعَةً بِالبَراجِمِ ؛ إصبَعانِ مِنها ، وشَيءٌ مِنَ الكَفِّ ، وإصبَعانِ مَقطوعَتانِ مِن اُصولِهِما ، ونِصفُ الإِبهامِ ، وَضَعَ مُعاوِيَةُ القَميصَ عَلَى المِنبَرِ ، وكَتَبَ بِالخَبَرِ إلَى الأَجنادِ .
وثابَ إلَيهِ النّاسُ ، وبَكَوا سَنَةً (1) وهُوَ عَلَى المِنبَرِ وَالأَصابِعُ مُعَلَّقَةٌ فيهِ ، وآلَى الرِّجالُ مِن أهلِ الشّامِ ألّا يَأتُوا النِّساءَ ، ولا يَمَسَّهُمُ الماءُ لِلغُسلِ إلّا مِنِ احتِلامٍ ، ولا يَناموا عَلَى الفُرُشِ حَتّى يَقتُلوا قَتَلَةَ عُثمانَ ، ومَن عَرَضَ دونَهُم بِشَيءٍ أو تَفنى أرواحُهُم . فَمكَثوا حَولَ القَميصِ سَنَةً ، وَالقَميصُ يوضَعُ كُلَّ يَومٍ عَلَى المِنبَرِ ويُجَلَّلُهُ أحيانا فَيُلبَسُهُ ، وعُلِّقَ في أردانِهِ أصابِعُ نائِلَةَ . (2)ه _ المصالَحَةُ مَعَ الرُّومِمروج الذهب :قَد كانَ مُعاوِيَةُ صالَحَ مَلِكَ الرُّومِ عَلى مالٍ يَحمِلُهُ إلَيهِ لِشُغلِهِ بِعَلِيٍّ . (3)و _ الاِستِنصارُ مِن مَكَّةَ وَالمَدينَةِو در جاى ديگر مى فرمايد:وقعة صفّين عن زياد بن رستم :كَتَبَ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ إلى عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ خاصَّةً ، وإلى سَعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ ، ومُحَمَّدِ بنِ مَسلَمَةَ ، دونَ كِتابِهِ إلى أهلِ المَدينَةِ ، فَكانَ في كِتابِهِ إلَى ابنِ عُمَرَ :
أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّهُ لَم يَكُن أحَدٌ مِن قُرَيشٍ أحَبَّ إلَيَّ أن يَجتَمِعَ عَلَيهِ الاُمَّةُ بَعدَ قَتلِ
.
ص: 491
و در جاى ديگر مى فرمايد:عُثمانَ مِنكَ . ثُمَّ ذَكَرتُ خَذلَكَ إيّاهُ وطَعنَكَ عَلى أنصارِهِ فَتَغَيَّرتُ لَكَ ، وقَد هَوَّنَ ذلِكَ عَلَيَّ خِلافُكَ عَلى عَلِيٍّ ، ومَحا عَنَكَ بَعضَ ما كانَ مِنكَ ، فَأَعِنّا _ رَحِمَكَ اللّهُ _ عَلى حَقِّ هذَا الخَليفَةِ المَظلومِ ، فَإِنّي لَستُ اُريدُ الإِمارَة عَلَيكَ ، ولكِنّي اُريدُها لَكَ ، فَإِن أبَيتَ كانَت شورى بِينَ المُسلِمينَ . (1)ز _ إعلانُ الحَربِوقعة صفّين عن محمّد وصالح بن صدقة :كَتَبَ عَلِيٌّ عليه السلام إلى جَرَيرٍ [رَسولِهِ إِلى مُعاوِيَةَ] بَعدَ ذلِكَ :
أمّا بَعدُ ؛ فَإِذا أتاكَ كِتابي هذا ، فَاحمِل مُعاوِيَةَ عَلَى الفَصلِ ، وخُذهُ بِالأَمرِ الجَزمِ ، ثُمَّ خَيِّرهُ بَينَ حَربٍ مُجلِيَةٍ ، أو سِلمٍ مُحظِيَةٍ ، فَإِنِ اختارَ الحَربَ فَانبِذ لَهُ ، وإنِ اختارَ السِّلمَ فَخُذ بَيعَتَهُ .
فَلَمّا انتَهَى الكِتابُ إلى جَريرٍ أتى مُعاوِيَةَ فَأَقرَأَهُ الكِتابَ ، فَقالَ لَهُ : يا مُعاوِيَةُ ، إنَّهُ لا يُطبَعُ عَلى قَلبٍ إلّا بِذَنبٍ ، ولا يُشرَحُ صَدرٌ إلّا بِتَوبَةٍ ، ولا أظُنُّ قَلبَكَ إلّا مَطبوعا . أراكَ قَد وَقَفتَ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ كَأَنَّكَ تَنتَظِرُ شَيئا في يَدَي غَيرِكَ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : ألقاكَ بِالفَيصَلِ أوَّلَ مَجلِسٍ إن شاءَ اللّهُ . فَلَمّا بايَعَ مُعاوِيَةَ أهلُ الشّامِ وذاقَهُم قالَ : يا جَريرُ ! الحَق بِصاحِبِكَ . وكَتَبَ إلَيهِ بِالحَربِ ، وكَتَبَ في أسفَلِ كِتابِهِ بِقَولِ كَعبِ بنِ جُعَيلٍ :
أرَى الشّامَ تَكرَهُ مُلكَ العِراقِوأهلُ العِراقِ لَها كارِهونا وكُلٌّ لِصاحِبِهِ مُبغِضٌيَرى كُلَّ ما كانَ مِن ذاكَ دينا (2)
.
ص: 492
2 / 6مسير الإمام عليه السلام إلى صفّينأ _ اِستِشارَةُ الإِمامِ عليه السلام فِي المَسيرِ إلى صِفّينَتاريخ الطبري عن أبي بكر الهذلي :إنَّ عَلِيّا لَمَّا استَخلَفَ عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ عَلَى البَصرَةِ سارَ مِنها إلَى الكوفَةِ فَتَهَيَّأَ فيها إلى صِفّينَ ، فَاستَشارَ النّاسَ في ذلِكَ فَأَشارَ عَلَيهِ قَومٌ أن يَبعَثَ الجُنودَ ويُقيمَ وأشارَ آخَرونَ بِالمَسيرِ ، فَأَبى إلَا المُباشَرَةَ فَجَهَّزَ النّاسَ . فَبَلَغَ ذلِكَ مُعاوِيَةَ فَدَعا عَمرَو بنَ العاصِ فَاستَشارَهُ فَقالَ : أمّا إذ بَلَغَكَ أنَّهُ يَسيرُ فَسِرِ بِنَفسِكَ ولا تَغِب عَنهُ بِرَأيِكَ ومَكيدَتِكَ . قالَ : أمّا إذا يا أبا عَبدِ اللّهِ فَجَهَّزِ النّاسَ . فَجاءَ عَمرٌو فَحَضَّضَ النّاسَ وضَعَّفَ عَلِيّا وأصحابَهُ وقالَ : إنَّ أهلَ العِراقِ قَد فَرَّقوا جَمعَهُم وأوهَنوا شَوكَتَهُم وفَلَوا حَدَّهُم ، ثُمَّ إنَّ أهلَ البَصرَةِ مُخالِفونَ لِعَلِيٍّ قَد وَتَرَهُم وقَتَلَهُم ، وقَد تَفانَت صَناديدُهُم وصَناديدُ أهلِ الكوفَةِ يَومَ الجَمَلِ ، وإنَّما سارَ في شِرذِمَةٍ قَليلَةٍ ، ومِنهُم مَن قَد قَتَلَ خَليفَتَكُم ، فَاللّهَ اللّهَ في حَقِّكُم أن تُضَيِّعوهُ وفي دَمِكُم أن تُبطِلوهُ . (1)ب _ خُطبَةُ الإِمامِ عليه السلام قَبلَ الشُّخوصِالأخبار الطوال :لَمّا أجمَعَ عَلِيٌّ عليه السلام عَلَى المَسيرِ إلى أهلِ الشّامِ ، وحَضَرَتِ الجُمُعَةُ ، صَعِدَ المِنبَرَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قالَ :
أيُّهَا النّاسُ ! سيروا إلى أعداءِ السُّنَنِ وَالقُرآنِ ، سيروا إلى قَتَلَةِ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، سيروا إلَى الجُفاةِ الطَّغامِ الَّذينَ كانَ إسلامُهُم خَوفا وكَرها ، سيروا إلَى المُؤَلَّفَةِ قُلوبُهُم لِيَكُفّوا عَنِ المُسلِمينَ بَأسَهُم . (2)
.
ص: 493
ج _ بُكاءُ الإمامِ عليه السلام لَمّا وَصَلَ إلى كَربَلاءِوقعة صفّين عن الحسن بن كثير عن أبيه :إنَّ عَلِيّا أتى كَربَلاءَ فَوَقَفَ بِها ، فَقيلَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، هذِهِ كَربَلاءُ .
قالَ : ذاتُ كَربٍ وبَلاءٍ .
ثُمَّ أومَأَ بِيَدِهِ إلى مَكانٍ فَقالَ : هاهُنا مَوضِعُ رِحالِهِم ، ومُناخُ رِكابِهِم .
وأومَأَ بِيَدِهِ إلى مَوضِعٍ آخَرَ فَقالَ : هاهُنا مُهَراقُ دِمائِهِم . (1)د _ الأشتَرُ عَلى مُقَدِّمَةِ جَيشِ الإِمامِ عليه السلامتاريخ الطبري عن خالد بن قطن الحارثي :إنَّ عَلِيّا لَمّا قَطَعَ الفُراتَ دَعا زِيادَ بنَ النَّضرِ وشُرَيحَ بنَ هانِئٍ فَسَرَّحَهُما أمامَهُ نَحوَ مُعاوِيَةَ عَلى حالِهِمَا الَّتي كانا خَرَجا عَلَيها مِنَ الكُوفَةِ . قالَ : وقَد كانا حَيثُ سَرَّحَهُما مِنَ الكوفَةِ أخَذا عَلى شاطِئِ الفُراتِ مِن قِبَلِ البَرِّ مِمّا يَلِي الكوفَةَ حَتّى بَلَغا عاناتٍ (2) ، فَبَلَغَهُما أخذُ عَلِيٍّ عَلى طَريقِ الجَزيرَةِ ، وبَلَغَهُما أنَّ مُعاوِيَةَ قَد أقبَلَ مِن دِمَشقَ في جُنودِ أهلِ الشّامِ لِاستِقبالِ عَلِيٍّ فَقالا : لا وَاللّهِ ، ما هذا لَنا بِرَأيٍ أن نَسيرَ وبَينَنا وبَينَ المُسلِمينَ وأميرِ المُؤمِنينَ هذَا البَحرُ ! وما لَنا خَيرٌ في أن نَلقى جُنودَ أهلِ الشّامِ بِقِلَّةِ مَن مَعَنا مُنقَطِعينِ مِنَ العَدَدِ وَالمَدَدِ . فَذَهَبوا لِيَعبُروا مِن عاناتٍ ، فَمَنَعَهُم أهلُ عاناتٍ وحَبَسوا عَنهُمُ السُّفُنَ ، فَأَقبَلوا راجِعينَ حَتّى عَبَروا مِن هِيتَ (3)
، ثُمَّ لَحِقوا عَلِيّا بِقَريَةٍ دونَ قَرقِيسِياءَ (4) وقَد أرادوا أهلَ
.
ص: 494
عاناتٍ فَتَحَصَّنوا وفَرّوا ، ولَمّا لَحِقَتِ المُقَدِّمَةُ عَلِيّا قالَ : مُقَدِّمَتي تَأتيني مِن وَرائي !
فَتَقَدَّمَ إلَيهِ زِيادُ بنُ النَّضرِ الحارِثِيُّ وشُرَيحُ بنُ هانِئٍ فَأَخبَراهُ بِالَّذي رَأَيا حينَ بَلَغَهُما مِنَ الأَمرِ ما بَلَغَهُما . فَقالَ : سَدَدتُما . ثُمَّ مَضى عَلِيٌّ فَلَمّا عَبَرَ الفُراتَ قَدَّمَهُما أمامَهُ نَحوَ مُعاوِيَةَ ، فَلَمّا انتَهَيا إلى سورِ الرّومِ لَقِيَهُما أبُوالأَعوَرِ السُّلَمِيُّ عَمرُو بنُ سُفيانَ في جُندٍ مِن أهلِ الشّامِ ، فَأَرسَلا إلى عَلِيٍّ : إنّا قَد لَقِينا أبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ في جُندٍ مِن أهلِ الشّامِ وقَد دَعَوناهُم فَلَم يُجِبنا مِنهُم أحَدٌ فَمُرنا بِأَمرِكَ . فَأَرسَلَ عَلِيٌّ إلَى الأَشتَرِ فَقالَ :
يا مالِكُ ، إنَّ زِيادا وشُرَيحا أرسَلا إلَيَّ يُعلِماني أنَّهُما لَقِيا أبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ في جَمعٍ مِن أهلِ الشّامِ ، وأنبَأَنِي الرَّسولُ أنَّهُ تَرَكَهُم مُتَواقِفينَ ، فَالنَّجاءَ إلى أصحابِكَ النَّجاءَ ، فَإِذا قَدِمتَ عَلَيهِم فَأَنتَ عَلَيهِم وإيّاكَ أن تَبدَأَ القَومَ بِقِتالٍ إلّا أن يَبدَؤوكَ حَتّى تَلقاهُم فَتَدعُوَهُم وتَسمَعَ ، ولا يَجرِمَنَّكَ شَنَآنُهُم عَلى قِتالِهِم قَبلَ دُعائِهِم وَالإِعذارِ إلَيهِم مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ ، وَاجعَل عَلى مَيمَنَتِكَ زِيادا وعَلى مَيسَرَتِكَ شُرَيحا وقِف مِن أصحابِكَ وَسَطا ، ولا تَدنُ مِنهُم دُنوَّ مَن يُريدُ أن يُنشِبَ الحَربَ ، ولا تَباعَد مِنهُم بُعدَ مَن يَهابُ البَأسَ حَتّى أقدَمَ عَلَيكَ ، فَإِنّي حَثيثُ السَّيرِ في أثَرِكَ إن شاءَ اللّهُ .
قالَ : وكانَ الرَّسولُ الحارِثَ بنَ جُمهانَ الجُعفِيَّ فَكَتَبَ عَلِيٌّ إلى زِيادٍ وشُرَيحٍ :
أمّا بَعدُ ، فَإِنّي قَد أمَّرتُ عَلَيكُما مالِكا فَاسمَعا لَهُ وأطيعا ، فَإِنَّهُ مِمَّن لا يُخافُ رَهَقُهُ ولا سِقاطُهُ ولا بُطؤُهُ عَمَّا الإِسراعُ إلَيهِ أحزَمُ ، ولَا الإِسراعُ إلَى مَا الإِبطاءُ عَنهُ أمثَلُ ، وقَد أمَرتُهُ بِمِثلِ الَّذي كُنتُ أمَرتُكُما بِهِ ألّا يَبدَأَ القَومَ حَتّى يَلقاهُم فَيَدعُوَهُم ويُعذِرَ إلَيهِم . (1) .
ص: 495
ه _ مُواجَهَةُ مُقَدِّمَةِ الجَيشَينِتاريخ الطبري عن خالد بن قطن الحارثي :خَرَجَ الأَشتَرُ حَتّى قَدِمَ عَلَى القَومِ ، فَاتَّبَعَ ما أمَرَهُ عَلِيٌّ وكَفَّ عَنِ القِتالِ ، فَلَم يَزالوا مُتَواقِفينَ حَتّى إذا كانَ عِندَ المَساءِ حَمَلَ عَلَيهِم أبُوالأَعوَرِ السُّلَمِيُّ ، فَثَبَتوا لَهُ وَاضطَرَبوا ساعَةً ، ثُمَّ إنَّ أهلَ الشّامِ انصَرَفوا .
ثُمَّ خَرَجَ إلَيهِم مِنَ الغَدِ هاشِمُ بنُ عُتبَةَ الزُّهرِيُّ في خَيلٍ ورِجالٍ حَسَنٍ عَدَدُها وعُدَّتُها ، وخَرَجَ إلَيهِ أبُوالأَعوَرِ فَاقتَتَلوا يَومَهُم ذلِكَ ، تَحمِلُ الخَيلُ عَلَى الخَيلِ وَالرِّجالُ عَلَى الرِّجالِ ، وصَبَرَ القَومُ بَعضُهُم لِبَعضٍ ثُمَّ انصَرَفوا ، وحَمَلَ عَلَيهِمُ الأَشتَرُ فَقُتِلَ عَبدُ اللّهِ بنُ المُنذِرِ التَّنوخِيُّ قَتَلَهُ يَومَئِذٍ ظَبيانُ بنُ عَمّارٍ التَّميمِيُّ وما هُوَ إلّا فَتىً حَدَثٌ وإن كانَ التَّنوخِيُّ لَفارِسَ أهلِ الشّامِ ، وأخَذَ الأَشتَرُ يَقولُ : وَيحَكُم ! أروني أبَا الأَعوَرِ . ثُمَّ إنَّ أبَا الأَعوَرِ دَعَا النّاسَ فَرَجَعوا نَحوَهُ ، فَوَقَفَ مِن وَراءِ المَكانِ الَّذي كانَ فيهِ أوَّلَ مَرَّةٍ ، وجاءَ الأَشتَرُ حَتّى صَفَّ أصحابَهُ فِي المَكانِ الَّذي كانَ فيهِ أبُوالأَعوَرِ ، فَقالَ الأَشتَرُ لِسِنانِ بنِ مالِكٍ النَّخَعِيِّ : اِنطَلِق إلى أبِي الأَعوَرِ فَادعُهُ إلَى المُبارَزَةِ ، فَقالَ : إلى مُبارَزَتي أو مُبارَزَتِكَ ؟ فَقالَ لَهُ الأَشتَرُ : لَو أمَرتُكَ بِمُبارَزَتِهِ فَعَلتَ ؟ قالَ : نَعَم وَاللّهِ ، لَو أمَرتَني أن أعتَرِضَ صَفَّهُم بِسَيفي ما رَجَعتُ أبَدا حَتّى أضرِبَ بِسَيفي في صَفِّهِم ، قالَ لَهُ الأَشتَرُ : يَابنَ أخي ، أطالَ اللّهُ بَقاءَكَ ! قَد وَاللّهِ ، ازدَدتُ رَغبَةً فيكَ لا أمَرتُكَ بِمُبارَزَتِهِ إنّما أمَرتُكَ أن تَدعُوَهُ إلى مُبارَزَتي ، إنَّهُ لا يَبرُزُ إن كانَ ذلِكَ مِن شَأنِهِ إلّا لِذَوِي الأَسنانِ وَالكَفاءَةِ وَالشَّرَفِ ، وأنتَ _ لِرَبِّكَ الحَمدُ _ مِن أهلِ الكَفاءَةِ والشَّرَفِ غَيرَ أنَّكَ فَتىً حَدَثُ السِّنِ ، فَلَيسَ بِمُبارِزِ الأَحداثِ ولكِنِ ادعُهُ إلى مُبارَزَتي . فَأَتاهُ فَنادى : آمِنوني فَإِنّي رَسولٌ فَاُومِنَ ، فَجاءَ حَتَّى انتَهى إلى أبِي الأَعوَرِ . قالَ أبومِخنَفٍ : فَحَدَّثَنِي النَّضرُ بنُ صالِحٍ أبو زُهَيرٍ العَبِسيُّ قالَ : حَدَّثَني سِنانٌ قالَ : فَدَنَوتُ مِنهُ فَقُلتُ : إنَّ الأَشتَرَ يَدعوكَ إلى مُبارَزَتِهِ . قالَ : فَسَكَتَ عَنّي
.
ص: 496
طَويلاً ثُمَّ قالَ : إنَّ خِفَّةَ الأَشتَرِ وسوءَ رَأيِهِ هُوَ حَمَلَهُ عَلى إجلاءِ عُمّالِ ابنِ عَفّانَ مِنَ العِراقِ ، وَانتِزاؤُهُ عَلَيهِ يُقَبِّحُ مَحاسِنَهُ ، ومِن خِفَّةِ الأَشتَرِ وسوءِ رَأيِهِ أن سارَ إلَى ابنِ عَفّانَ في دارِهِ وقَرارِهِ حَتّى قَتَلَهُ ، فيمَن قَتَلَهُ فَأَصبَحَ مُتَّبَعا بِدَمِهِ ، ألا لا حاجَةَ لي في مُبارَزَتِهِ . قالَ : قُلتُ : إنَّكَ قَد تَكَلَّمتَ فَاسمَع حَتّى اُجيَبَك ، فَقالَ : لا ، لا حاجَةَ لي فِي الاِستِماعِ مِنكَ ولا في جَوابِكَ ، اذهَب عَنّي . فَصاحَ بي أصحابُهُ فَانصَرَفتُ عَنهُ ، ولَو سَمِعَ إلَيَّ لَأَخبَرتُهُ بِعُذرِ صاحِبي وحُجَّتِهِ . فَرَجَعتُ إلَى الأَشتَرِ فَأَخبَرتُهُ أنَّهُ قَد أبَى المُبارَزَةَ ، فَقالَ : لِنَفسِهِ نَظَرَ .
فَواقَفناهُم حَتّى حَجَزَ اللَّيلُ بَينَنا وبَينَهم وَبِتنا مُتَحارِسينَ ، فَلَمّا أصبَحنا نَظَرنا فَإِذَا القَومُ قَدِ انصَرَفوا مِن تَحتِ لَيلَتِهِم ، ويُصَبِّحُنا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ غُدوَةً . فَقَدِمَ الأَشتَرُ فيمَن كانَ مَعَهُ في تِلكَ المُقَدِّمَةِ حَتَّى انتَهى إلى مُعاوِيَةَ فَواقَفَهُ ، وجاءَ عَلِيٌّ في أثَرِهِ فَلَحِقَ بِالأَشتَرِ سَريعا فَوَقَفَ وتَواقَفوا طَويلاً . (1)2 / 7مواجهة الجيشينتوجّه الإمام عليه السلام من الكوفة باتّجاه الشام في شهر شوّال من عام 36 ه ، ولمّا كان الطريق المستقيم بينهما يمرّ عبر صحراء جرداء لا عشب فيها ولا ماء ولم تكن للإمام عليه السلام المعدّات الكافية لدعم جيشه الذي قوامه مِئة ألف ، اختار الطريق المحاذي للفرات (أي مسير الجزيرة) . فمرّ على كربلاء وهيت و ... حتى وصل إلى الرقّة قرب صفّين . فالتقت مقدّمة جيش الإمام بقيادة مالك الأشتر مع مقدّمة جيش معاوية
.
ص: 497
واضطرّتهم للفرار ، وهي أوّل مواجهة بين الجيشين في صفّين ، والذي شرع بهذه المواجهة جيش معاوية . وفي أواخر ذي القعدة وصل جيش الإمام إلى صفّين ، بعد وصول جيش معاوية إليها لقربها من الشام ، واحتلال المناطق الحسّاسة من المنطقة . وقد نظّم معاويةُ جيشَه بنحوٍ بحيث لا يتمكّن جيش الإمام من الوصول للماء . فنصحهم الإمام عليه السلام ، وأرسل اليهم رسولاً في ذلك ، لكن دون جدوى . فهجم الأشتر والأشعث على جيش معاوية _ بعد موافقة الإمام على ذلك _ واستولوا على الماء . فأمر الإمام عليه السلام بتنظيم الجيش بنحوٍ يتمكّن معه الجيشان من الماء . وبهذا انتصر الإمام عليه السلام نصراً معنويّاً سجّله التاريخ في صفحاته بماء الذهب بأنّ الإمام يمنع التوسّل بالسبل غير الإنسانيّة في مواجهة العدوّ لتحصيل النصر . ثمّ أرسل الإمام عليه السلام ممثّليه إلى معاوية كي يدفعوا به إلى الاستسلام ، ويحولون دون وقوع الحرب وإراقة الدماء . فلمّا أقبلوا على معاوية طردهم بغضب . وفي شهر ذي الحجّة حصلت مناوشات ومواجهات متفرّقة بين الجيشين ؛ إذ كان الإمام في صدد إنهاء ذلك بالصلح دون الحرب ، ولذا لم تكن المواجهة بين تمام الجيشين . ثمّ انقطعت هذه المواجهات المتفرّقة في شهر محرّم من عام 37 ه ، وصارت محادثات الصلح بصورة أكثر جدّية ، لكنّها لم تثمر شيئاً كسابقاتها . فلمّا تقطّعت جميع السبل تهيّأ الإمام عليه السلام للحرب ، فبدأت الحرب يوم الأربعاء أوّل شهر صفر عام 37 ه . وكانت الحرب في الاُسبوع الأوّل بهذه الكيفيّة : يخرج صباح كلّ يوم أحد القادة الأبطال لجيش الإمام ويحارب العدوّ حتى المساء ، ثم تنقطع الحرب إلى اليوم التالي دون حصول نصر لأحد الطرفين على
.
ص: 498
الآخر خلال هذه المدّة . وكان قادة الجيش في هذه الأيّام : مالك الأشتر ، وعمّار بن ياسر ، ومحمّد ابن الحنفيّة ، وعبد اللّه بن عبّاس ، وهاشم بن عتبة ، وقيس بن سعد . لكن الحرب اشتدّت في يوم الأربعاء الثامن من صفر واتّخذت شكلاً آخر ؛ حيث اشترك فيها تمام الجيشين . وقد استقرّ الإمام عليه السلام في القلب ، وتولّى قيادة الجيش بنفسه . واستُشهد عدد كثير من كبار الجيش في هذا اليوم ويوم الخميس . ولمّا كان قصد الإمام حسم الأمر لم تتوقّف الحرب عند غروب الخميس بل استمرّت ليلة الجمعة أيضاً ، وكانت أشدّ ليلة طوال الحرب ، ولهذا سُمّيت «ليلة الهرير» . وكان الإمام عليه السلام حاضراً بنفسه في أرض المعركة يوم الخميس وليلة الجمعة ، وقتل بيده 523 شخصاً أكثرهم من شجعان أهل الشام . ولشدّة الحرب صلّى أصحاب الإمام عليه السلام في ميدان القتال إيماءً . وفي صباح الجمعة أشرقت الشمس وأطلّت على ظفر جيش الإمام وانكسار وهزيمة أهل الشام . وأشرف مالك الأشتر والسريّة التي يقودها على خيمة معاوية _ التي يقود الجيش منها _ بحيث صمّم معاوية على الاستسلام وطلب الأمان ، لكن جرى قلم القدر على شيء آخر ؛ فتلاقح جهل الخوارج مع حيلة عمرو بن العاص فأنتجا نجاة معاوية !
أ _ مُكافَأةُ الإساءَةِ بِالإحسانِشرح نهج البلاغة_ في ذِكرِ القِتالِ عَلَى الماءِ وَاستيلاءِ أصحابِ الإِمامِ عَلَيهِ _: فَقالَ لَهُ أصحابُهُ وشيعَتُهُ : اِمنَعهُمُ الماءَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! كَما مَنَعوكَ ، ولا تَسقِهِم مِنهُ قَطرَةً ،
.
ص: 499
وَاقتُلهُم بِسُيوفِ العَطَشِ ، وخُذهُم قَبضا بِالأَيدي فَلا حاجَةَ لَكَ إلَى الحَربِ .
فَقالَ : لا وَاللّهِ ، لا اُكافِئُهُم بِمِثلِ فِعلِهِم ، افسَحوا لَهم عَن بَعضِ الشَّريعَةِ ، فَفي حَدِّ السَّيفِ ما يُغني عَن ذلِكَ . (1)ب _ بِدايَةُ القِتالِتاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة الحنفي_ في بَيانِ ابتِداءِ الحَربِ في ذِي الحِجَّةِ _: أخَذَ عَلِيٌّ يَأمُرُ الرَّجُلَ ذَا الشَّرَفِ فَيَخرُجُ مَعَهُ جَماعَةٌ ، ويَخرُجُ الَيهِ مِن أصحابِ مُعاوِيَةَ آخَرُ مَعَهُ جَماعَةٌ ، فَيَقتَتِلانِ في خَيلِهِما ورِجالِهِما ثُمَّ يَنصَرِفانِ ، وأخَذوا يَكرَهونَ أن يَلقَوا بِجَمعِ أهلِ العِراقِ أهلَ الشّامِ لِما يَتَخَوَّفونَ أن يَكونَ في ذلِكَ مِن الاِستِئصالِ وَالهَلاكِ ، فَكانَ عَلِيٌّ يُخرِجُ مَرَّةً الأَشتَرَ ، ومَرَّةً حُجرَ بنَ عَدِيٍّ الكِندِيَّ ، ومَرَّةً شَبَثَ بنَ رِبعِيٍّ ، ومَرَّةً خالِدَ بنَ المُعَمَّرِ ، ومَرَّةً زِيادَ بنَ النَّضرِ الحارِثِيَّ ، ومَرَّةً زِيادَ بنَ خَصَفَةَ التَّيِميّ ، ومَرَّةً سَعيدَ بنَ قَيسٍ ، ومَرَّةً مَعقِلَ بنَ قَيسٍ الرِّياحِيَّ ، ومَرَّةً قَيسَ بنَ سَعدٍ ، وكانَ أكثَر القَومِ خُروجا الَيهِمُ الأَشتَرُ ، وكانَ مُعاوِيَةُ يُخرِجُ إلَيهِم عَبدَ الرَّحمنِ بنَ خالِدٍ المَخزومِيَّ وأبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ ، ومَرَّةً حَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ الفِهرِيَّ ، ومَرَّةً ابنَ ذِي الكَلاعِ الحِميَرِيَّ ، ومَرَّةً عُبيدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ ، ومَرَّةً شُرَحبيلَ بنَ السِّمطِ الكِندِيَّ ، ومَرَّةً حَمزَةَ بنَ مالِكِ الهَمدانِيَّ ، فَاقتَتَلوا مِن ذِي الحِجَّةِ كُلِّها ورُبَّمَا اقتَتَلوا فِي اليَومِ الواحِدِ مَرَّتَينِ أوَّلَهُ وآخِرَهُ .
قالَ أبومِخنَفٍ : حَدَّثَني عَبدُ اللّهِ بنُ عاصِمٍ الفائِشيُّ قالَ : حَدَّثَني رَجُلٌ مِن قَومي أنَّ الأَشتَرَ خَرَجَ يَوما يُقاتِلُ بِصِفّينَ في رِجالٍ مِنَ القُرّاءِ ورِجالٍ مِن فُرسانِ العَرَبِ ، فَاشتَدَّ قِتالُهُم فَخَرَجَ عَلَينا رَجُلٌ وَاللّهِ لَقَلَّما رَأَيتُ رَجُلاً قَطُّ هُوَ أطوَلُ ولا أعظَمُ مِنهُ ،
.
ص: 500
فَدَعا إلَى المُبارَزَةِ فَلَم يَخرُج إلَيهِ أحَدٌ إلَا الأَشتَرُ ، فَاختَلَفا ضَربَتَينِ فَضَرَبَهُ الأَشتَرُ فَقَتَلَهُ ، وايمُ اللّهِ ، لَقَد كُنّا أشفَقنا عَلَيهِ ، وسَأَلناهُ ألّا يَخرُجَ إلَيهِ ، فَلَمّا قَتَلَهُ الأَشتَرُ نادى مُنادٍ مِن أصحابِهِ :
يا سَهمَ سهم بنَ أبِي العَيزارِيا خَيرَ مَن نَعلَمُهُ منِ زارِ
وزارَةُ : حَيٌّ مِنَ الأَزدِ . وقالَ : اُقسِمُ بِاللّهِ لَأَقتُلَنَّ قاتِلَكَ أو لَيَقتُلَنّي . فَخَرَجَ فَحَمَلَ عَلَى الأَشتَرِ وعَطَفَ عَلَيهِ الأَشتَرُ فَضَرَبَهُ ، فَإِذا هُوَ بَينَ يَدَي فَرَسِهِ ، وحَمَلَ عَلَيهِ أصحابُهُ فَاستَنقَذوهُ جَريحا . فَقالَ أبو رُفَيقَةَ الفَهمِيُّ : هذا كانَ نارا فَصادَفَ إعصارا . وَاقتَتَلَ النّاسُ ذَا الحِجَّةِ كُلَّهُ ، فَلَمَّا انقَضى ذُو الحِجَّةِ تَداعَى النّاسُ إلى أن يَكُفَّ بَعضُهُم عَن بَعضٍ المُحَرَّمَ ، لَعَلَّ اللّهَ أن يُجرِيَ صُلحا أوِ اجتِماعا ، فَكَفَّ بَعضُهُم عَن بَعضٍ . (1)ج _ الهُدنَةُ رَجاءَ الصُّلحِتاريخ الطبري_ في أخبارِ سَنَةِ 37 هجريّة _: كانَ في أوَّلِ شَهرٍ مِنها وهُوَ المُحَرَّمُ مُوادَعَةُ الحَربِ بَينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ ، قَد تَوادَعا عَلى تَركِ الحَربِ فيهِ إلَى انقِضائِهِ طَمَعاً فِي الصُّلحِ . (2)د _ الاِستِئناءُ رَجاءَ الاِهتِداءِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ عليه السلام وقَدِ استَبطَأَ أصحابُهُ إذنَهُ لَهُم فِي القِتالِ بِصِفّينَ _: أمّا قَولُكُم : أكُلَّ ذلِكَ كَراهِيَةَ المَوتِ ؟ فَوَاللّهِ ما اُبالي ، دَخَلتُ إلَى المَوتِ أو خَرَجَ المَوتُ إلَيَّ .
وأمّا قَولُكُم : شَكّا في أهلِ الشّامِ ، فَوَاللّهِ ما دَفَعتُ الحَربَ يَوما إلّا وأنا أطمَعُ أن
.
ص: 501
تَلحَقَ بي طائِفَةٌ فَتَهتَدِيَ بي ، وتَعشُوَ (1) إلى ضَوئي ، وذلِكَ أحَبُّ إلَيَّ مِن أن أقتُلَها عَلى ضَلالِها ، وإن كانَت تُبوءُ بِآثامِها . (2)2 / 8القتالأ _ دُعاءُ الإِمامِ عليه السلام قَبلَ القِتالِالإمام عليّ عليه السلام_ يَومَ صِفّينَ _: اللّهُمَّ إلَيكَ رُفِعَتِ الأَبصارُ ، وبُسِطَتِ الأَيدي ، ونُقِلَتِ الأَقدامُ ، ودَعَتِ الأَلسُنُ ، وأفضَتِ القُلوبُ ، وتُحوكِمَ إلَيكَ فِي الأَعمالِ ، فَاحكُم بَينَنا وبَينَهُم بِالحَقِّ وأنتَ خَيرُ الفاتِحينَ . اللّهُمَّ إنّا نَشكو إلَيكَ غَيبَةَ نَبِيِّنا وقِلَّةَ عَدَدِنا وكَثرَةَ عَدُوِّنا وتَشَتُّتَ أهوائِنا وشِدَّةَ الزَّمانِ وظُهورَ الفِتَنِ . أعِنّا عَلَيهِم بِفَتحٍ تُعَجِّلُهُ ، ونَصرٍ تُعِزُّ بِهِ سُلطانَ الحَقِّ وتُظهِرُهُ . (3)ب _ الأَمرُ بِالقِتالِالأخبار الطوال :لَمَّا انسَلَخَ المُحَرَّمُ بَعَثَ عَلِيٌّ مُنادِيا ، فَنادى في عَسكَرِ مُعاوِيَةَ عِندَ غُروبِ الشَّمسِ : إنّا أمسَكنا لِتَنصَرِمَ الأَشهُرُ الحُرُمُ ، وقَد تَصَرَّمَت ، وَإنّا نَنبِذُ إلَيكُم عَلى سَواءٍ ، إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخائِنينَ . (4)
ج _ تَحريضُ الإِمامِ عليه السلام أصحابَهُ عَلَى القِتالِتاريخ دمشق عن ابن عبّاس :عَقِمَ النِّساءُ أن يَأتينَ بِمِثلِ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ ابنِ أبي طالِبٍ ، وَاللّهِ ما رَأَيتُ ولا سَمِعتُ رَئيسا يوزَنُ بِهِ ، لَرَأَيتُهُ _ يَومَ صِفّينَ _ وعَلى
.
ص: 502
رَأسِهِ عِمامَةٌ قَد أرخى طَرَفَيها كَأَنَّ عَينَيهِ سِراجا سَليطٍ وهُوَ يَقِفُ عَلى شِرذِمَةٍ يَحُضُّهُم حَتّى انتَهى إلَيَّ وأنَا في كَنَفٍ مِنَ النّاسِ فَقالَ :
مَعاشِرَ المُسلِمينَ ! استَشعِرُوا الخَشيَةَ ، وغُضُّوا الأَصواتَ ، وتَجَلبَبُوا السَّكينَةَ ، وَاعمَلُوا الأَسِنَّةَ ، وأقلِقُوا السُّيوفَ قَبلَ السِّلَّةِ ، وَاطعُنُوا الرّخرِ (1) ، ونافِحوا بِالظُّبا ، وصِلُوا السُّيوفَ بِالخُطا ، وَالنِّبالَ بِالرِّماحِ ، فَإِنَّكُم بِعَينِ اللّهِ ومَعَ ابنِ عَمِّ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله .
عاوِدُوا الكَرَّ ، وَاستَحيوا مِنَ الفَرِّ ؛ فَإِنَّهُ عارٌ باقٍ فِي الأَعقابِ وَالأَعناقِ ، ونارٌ يَومَ الحِسابِ ، وطيبوا عَن أنفُسِكُم أنفُسا ، وَامشوا إلَى المَوتِ أسحُحا 2 ، وعَلَيكُم بِهذَا السَّوادِ الأَعظَمِ ، وَالرِّواقِ المُطَنَّبِ (2) ، فَاضرِبوا ثَبَجَهُ (3) ؛ فَإِنَّ الشَّيطانَ راكِبٌ صَعبَهُ ، ومُفرِشٌ ذِراعَيهِ ، قَد قَدَّمَ لِلوَثبَةِ يَدا ، وأخَّرَ لِلنُّكوصِ رِجلاً ، فَصَمدا صَمدا حَتّى يتََجَلّى لَكُم عَمودُ الدّينِ «وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ» (4) . (5)د _ اليَومُ الأَوَّلُ مِنَ القِتالِمروج الذهب :وأصبَحَ عَلِيٌّ يَومَ الأَربَعاءِ _ وكانَ أوَّلُ يَومٍ مِن صَفَرَ _ فَعَبَّأَ الجَيشَ ، وأخرَجَ الأَشتَرَ أمامَ النّاسِ ، وأخرَجَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ _ وقَد تَصافَّ أهلُ الشّامِ وأهلُ العِراقِ _ حَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ الفِهرِيَّ ، وكانَ بَينَهُم قِتالٌ شَديدٌ سائِرَ يَومِهِم ، وأسفَرَت
.
ص: 503
عَن قَتلى مِنَ الفَريقَينِ جَميعا ، وَانصَرَفوا . (1)ه _ اليَومُ الثّاني مِنَ القِتالِمروج الذهب :فَلَمّا كانَ يَومُ الخَميسِ _ وهُوَ اليَومُ الثّاني _ أخرَجَ عَلِيٌّ هاشِمَ بنَ عُتبَةَ بنِ أبي وَقّاصٍ الزُّهرِيَّ المِرقالَ وهُوَ ابنُ أخي سَعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ ، وإنَّما سُمِّيَ المِرقالَ ؛ لِأَنَّهُ كانَ يُرقِلُ (2) فِي الحَربِ ، وكانَ أعوَرَ ذَهَبَت عَينُهُ يَومَ اليَرموكِ وكانَ مِن شيعَةِ عَلِيٍّ . . . فَأَخرَجَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ أبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ وهُوَ سُفيانُ بنُ عَوفٍ وكانَ مِن شيعَةِ مُعاوِيَةَ وَالمُنحَرِفينَ عَن عَلِيٍّ ، فَكانَت بَينَهُمُ الحَربُ سِجالاً ، وَانصَرَفوا في آخِرِ يَومِهِم عَن قَتلى كِثيرٍ . (3)و _ اليَومُ الثّالِثُ مِنَ القِتالِالأخبار الطوال :خَرَجَ يَوما آخَرَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ في خَيلٍ مِن أهلِ العِراقِ ، فَخَرَجَ إلَيهِ عَمرُو بنُ العاصِ في ذلِكَ ، ومَعَهُ شُقَّةٌ سَوداءُ عَلى قَناةٍ .
فَقالَ النّاسُ : هذا لِواءٌ عَقَدَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله .
فَقالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : أنَا مُخبِرُكُم بِقِصَّةِ هذَا اللِّواءِ : هذا لِواءٌ عَقَدَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وقالَ : مَن يَأخُذُهُ بِحَقِّهِ ؟
فَقالَ عَمرٌو : وما حَقُّهُ يا رَسولَ اللّهِ ؟
فَقالَ : لا تَفِرُّ بِهِ مِن كافِرٍ ، ولا تُقاتِلُ بِهِ مُسلِما .
.
ص: 504
فَقَد فَرَّ بِهِ مِنَ الكافِرينَ في حَياةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وقَد قاتَلَ بِهِ المُسلِمينَ اليَومَ .
فَاقتَتَلَ عَمرٌو وعَمّارٌ ذلِكَ اليَومَ كُلَّهُ . (1)ز _ اليَومُ الرّابِعُ مِنَ القِتالِوقعة صفّين عن عمر بن سعد :إنَّ عُبيدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ تَقَدَّمَ فِي اليَومِ الرّابِعِ ، ولَم يَترُك فارِسا مَذكورا ، وجَمَعَ مَنِ استَطاعَ . فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : إنَّكَ تَلقى أفاعِيَ أهلِ العِراقِ فَارفُق وَاتَّئِد . فَلَقِيَهُ الأَشتَرُ أمامَ الخَيلِ مُزبِدا _ وكانَ الأَشتَرُ إذا أرادَ القِتالَ أزبَدَ _ . . . وشَدَّ عَلَى الخَيلِ خَيلِ الشّامِ فَرَدَّها ، فَاستَحيا عُبَيدُ اللّهِ فَبَرَزَ أمامَ الخَيلِ _ وكانَ فارِسا شُجاعا _ . . . فَحَمَلَ عَلَيهِ الأَشتَرُ فَطَعَنَهُ ، وَاشتَدَّ الأَمرُ ، وَانصَرَفَ القَومُ ولِلأَشتَرِ الفَضلُ ، فَغَمَّ ذلِكَ مُعاوِيَةَ . (2)
ح _ اليَومُ الخامِسُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري :فَلَمّا كانَ اليَومُ الخامِسُ خَرَجَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ وَالوَليدُ بنُ عُقبَةَ فَاقتَتَلوا قِتالاً شَديدا ، ودَنا ابنُ عَبّاسٍ مِنَ الوَليدِ بنِ عُقبَةَ ، فَأَخَذَ الوَليدُ يَسُبُّ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ، وأخَذَ يَقولُ : يَابنَ عَبّاسَ ! قَطَّعتُم أرحامَكُم ، وقَتَلتُم إمامَكُم ، فَكَيفَ رَأَيتُم صُنعَ اللّهِ بِكُم ؟ ! لَم تُعطَوا ما طَلَبتُم ، ولَم تُدرِكوا ما أمَّلتُم ، وَاللّهُ إن شاءَ مُهلِكُكُم وناصِرٌ عَلَيكُم . فَأَرسَلَ إلَيهِ ابنُ عبّاسٍ : أنِ ابرُز لي ، فَأَبى . وقاتَلَ ابنُ عَبّاسٍ يَومَئِذٍ قِتالاً شَديدا ، وغَشِيَ النّاسَ بِنَفسِهِ . (3)
.
ص: 505
ط _ اليَومُ السّادِسُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري :خَرَجَ قَيسُ بنُ سَعدٍ الأَنصارِيُّ ، وَابنُ ذِي الكَلاعِ الحِميَرِيُّ فَاقتَتَلوا قِتالاً شَديدا ، ثُمَّ انصَرَفا . وذلِكَ فِي اليَومِ السّادِسِ . (1)
ي _ اليَومُ السّابِعُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري_ في ذِكرِ أحداثِ اليَومِ السّابِعِ مِنَ الحَربِ _: خَرَجَ الأَشتَرُ ، وعادَ إلَيهِ حَبيبُ بنُ مَسلَمَةَ اليَومَ السّابِعَ ، فَاقتَتَلا قِتالاً شَديدا ، ثُمَّ انصَرَفا عِندَ الظُّهرِ ، وكُلٌّ غَيرُ غالِبٍ . وذلِكَ يَومُ الثُّلاثاءِ . (2)
2 / 9اشتداد القتالأ _ القِتالُ الجِماعِيُّتاريخ الطبري عن زيد بن وهب :أنَّ عَلِيّا قالَ : حَتّى مَتى لا نُناهِضُ هؤُلاءِ القَومَ بِأَجمَعِنا ! فَقامَ فِي النّاسِ عَشِيَّةَ الثُّلاثاءِ لَيلَةَ الأَربِعاءِ بَعدَ العَصرِ ، فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي لايُبرَمُ ما نَقَضَ ، وما أبرَمَ لا يَنقُضُهُ النّاقِضونَ ، لَو شاءَ مَا اختَلَفَ اثنانِ مِن خَلقِهِ ، ولا تَنازَعَتِ الاُمَّةُ في شَيءٍ مِن أمرِهِ ، ولاجَحَدَ المَفضولُ ذَا الفَضلِ فَضلَهُ . وقَد ساقَتنا وهؤُلاءِ القَومَ الأَقدارُ ، فَلَفَّت بَينَنا في هذَا المَكانِ ، فَنَحنُ مِن رَبِّنا بِمَرأىً ومَسمَعٍ ، فَلَو شاءَ عَجَّلَ النَّقِمَةَ ، وكانَ مِنهُ التَّغييرُ ، حَتّى يُكَذِّبَ اللّهُ الظّالِمَ ، ويُعلَمَ الحَقُّ أينَ مَصيرُهُ ، ولكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنيا دارَ الأَعمالِ ، وجَعَلَ الآخِرَةَ عِندَهُ هِيَ دارُ القَرارِ ؛ «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَ__ئواْ بِمَا عَمِلُواْ وَ يَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى» . (3)
.
ص: 506
ألا إنَّكُم لاقُو القَومِ غَدا ، فَأَطيلُوا اللَّيلَةَ القِيامَ ، وأكثِروا تِلاوَةَ القُرآنِ ، وسَلُوا اللّهَ عَزَّ وجَلَّ النَّصرَ وَالصَّبرَ ، وَالقَوهُم بِالجِدِّ وَالحَزمِ ، وكونوا صادِقينَ . ثُمَّ انصَرَفَ ، ووَثَبَ النّاسُ إلى سُيوفِهِم ورِماحِهِم ونِبالِهِم يُصلِحونَها ، ومَرَّ بِهِم كَعبُ بنُ جُعَيلٍ التَّغلِبِيُّ وهُوَ يَقولُ : أصبَحَتِ الاُمَّةُ في أمرٍ عَجَبْوَالمُلكُ مَجموعٌ غَدا لِمَن غَلَبْ فَقُلتُ قَولاً صادِقا غَيرَ كَذبْإنَّ غَدا تَهلِكُ أعلامُ العَرَبْ (1)
ب _ اِستِشهادُ اُوَيسِ بنِ عامِرٍ القَرَنِيِّتاريخ دمشق عن سعيد بن المسيب_ في ذِكرِ اُوَيسٍ القَرَنِيِّ _: عادَ في أيّامِ عَلِيٍّ فَقاتَلَ بَينَ يَدَيِه ، فَاستُشهِدَ في صِفّينَ أمامَهُ ، فَنَظَروا فَإِذا عَلَيهِ نِيِّفٌ وأربَعونَ جِراحَةً ، مِن طَعنَةٍ ، وضَربَةٍ ، ورَميَةٍ . (2)
ج _ اِستِشهادُ هاشِمِ بنِ عُتبَةَمروج الذهب :إنَّ هاشِما المِرقالَ لَمّا وَقَعَ إلَى الأَرضِ وهُوَ يَجودُ بِنَفسِهِ رَفَعَ رَأسَهُ ، فَإِذا عُبيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ مَطروحا إلى قُربِهِ جَريحا ، فَحَبا حَتّى دَنا مِنهُ ، فَلَم يَزَل يَعَضُّ عَلى ثَديَيهِ حَتّى ثَبَتَت فيهِ أسنانُهُ لِعَدمِ السِّلاحِ وَالقُوَّةِ . (3)د _ اِستِشهادُ عَمّارِ بنِ ياسِرٍكان عمّار بن ياسر صحابيّا ، حليف الحقّ ، مؤازرا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله . وكان مهذّب النفس ، طاهر النقيبة ، محمود السريرة ، سليم القلب ، مفعما بحبّ اللّه تعالى .
.
ص: 507
إنّ عمّارا وما تحمّله من مشاقّ وجهود في سبيل الدين وإرساء دعائم المجتمع الإسلامي الفتيّ صفحة مشرقة تتألّق في التأريخ الإسلامي ؛ فكان ذا بصيرة ثاقبة ، ورؤية نافذة ، وخطوات وطيدة ، فقد كان يرى الشرك على حقيقته من بين ركام المكر والخديعة والظواهر المموّهة بالإسلام والتوحيد . وكان يقف وقفة مهيبة أمام راية أهل الشام ويقول : وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ لَقَد قاتَلتُ بِهذِهِ الرّايَةِ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ثَلاثَ مَرّاتٍ ، وهذِهِ الرّابِعَةُ . وَالّذي نَفسي بِيَدِهِ لَو ضَرَبونا حَتّى يَبلُغوا بِنا شَعَفاتِ هَجَرَ لَعَرَفتُ أنَّ مُصلِحينا عَلَى الحَقِّ ، وأنَّهُم عَلَى الضَّلالَةِ . (1) وهكذا كان وجود عمّار في صفّين باعثا على زهو البعض ، ومولّدا الذعر في نفوس البعض الآخر ، ومثيرا للتأمّل عند آخرين . ولمّا علم الزبير بحضوره في معركة الجمل ، طفق يتضعضع (2) . وأرابَ وجودُه في صفّين كثيرا من أصحاب معاوية ، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان قد قال له : «تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ» (3) ، وقال : «يَلتَقي أهلُ الشّامِ وأهلُ العِراقِ ، وعَمّارٌ في أهلِ الحَقِّ تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ» (4) ، وقال : «لَيسَ يَنبَغي لِعَمّارٍ أن يُفارِقَ الحَقَّ ، ولَن تَأكُلَ النّارُ مِنهُ شَيئا» (5) ، وقال : «إذَا اختَلَفَ النّاسُ كانَ ابنُ سُمَيَّةَ مَعَ الحَقِّ . . .» . 6 وحاول الكثيرون أن يروا عمّارا ، ويسمعوا كلامه ؛ كي يستزيدوا من التعرّف
.
ص: 508
على حقّانيّة أمير المؤمنين عليه السلام من خلال كلام هذا الشيخ الجليل الفتيّ القلب . . . الذي ينبع حديثه من أعماق قلبه ، من أجل أن يتثبّتوا من مواضع أقدامهم . ولمّا تجندل ذلك الشيخ المتفاني ذو القدّ الممشوق ، وتضمّخ بدمه ، وشرب كأس المنون . . . كبر ذلك على كلا الجيشين . ورأى مثيرو الفتنة ومسعّرو الحرب ما أخبر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله باُمّ أعينهم ، وإذ شقّ عليهم وصمة «الفئة الباغية» فلابدّ أن يحتالوا بتنميق فتنة اُخرى وخديعة ثانية ؛ ليحولوا دون تضعضع جندهم ، وهذا ما فعله معاوية . (1) فقد إمامنا العظيم _ صلوات اللّه عليه _ أخلص أصحابه وأفضلهم ، وقُطع عضده المقتدر ، واغتمّت نفسه المقدّسة وضاق صدره ، فقال : رَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ أسلَمَ ، ورَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ قُتِلَ ، ورَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ يُبعَثُ حَيّا . (2)
ه _ اِضطِرابُ جَيشِ مُعاوِيَةَشرح نهج البلاغة :قالَ مُعاوِيَةُ لَمّا قُتِلَ عَمّارٌ _ وَاضطَرَبَ أهلُ الشّامِ لِرِوايَةِ عَمرِو بنِ العاصِ كانَت لَهُم : «تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ» _ : إنَّما قَتَلَهُ مَن أخرَجَهُ إلَى الحَربِ وعَرَّضَهُ لِلقَتلِ ! فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : فَرَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إذَن قاتِلُ حَمزَةَ ! ! (3)
و _ اِستِشهادُ خُزَيمَةَ بنِ ثابِتٍ ذِي الشَّهادَتَينِالطبقات الكبرى عن عمارة بن خزيمة بن ثابت :شَهِدَ خُزَيمَةُ بنُ ثابِتٍ الجَمَلَ وهُوَ لا يَسُلُّ سَيفا ، وشَهِدَ صِفّينَ وقالَ : أنَا لا أصل (4) أبَدا حَتّى يُقتَلَ عَمّارٌ ، فَأَنظُرَ مَن يَقتُلُهُ ؛ فَإِنّي
.
ص: 509
سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ . فَلَمّا قُتِلَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ قالَ خُزَيمَةُ : قَد بانَت لِيَ الضَّلالَةُ ، وَاقتَرَبَ فَقاتَلَ حَتّى قُتِلَ . (1)ز _ قِتالُ الأَشتَرِتؤدّي الحوادث العصيبة ومشقّات الحياة وصروف الدهر دورا مهمّا في صقل الناس ، وتبلور رفعتهم وعزّتهم . إنّ هذا النوع من الحوادث كما يُجلّي عظمة الروح الإنسانيّة بنحو بيّن ، فإنّه يترك أثره العميق في إيجاد الأرضيّة التي تتبلور فيها شخصيّة الإنسان في بعض الأحيان ، وبها تتجلّى بواطن الناس ؛ فإنّه في صروف الدهر وحدثانه تُعرف حقيقة الإنسان ، وقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : «في تَقَلُّبِ الأَحوالِ عِلمُ جَواهِرِ الرِّجالِ» (2) خير آية على هذه الحقيقة العميقة . وهكذا كانت معركة صفّين مرآةً تجلّت فيها شخصيّة مالك المتألّقة في تاريخ التشيّع ؛ فقد كان الوجه البارز ، والبطل الشجاع الباسل في هذه الحرب . 1 . كان دور مالك واضحا في تحفيز الكوفيّين الذين كانوا يسمعون كلامه ، وفي إرسالهم إلى المعركة . 2 . كان له دور أساسي في تنظيم الجيش . 3 . كان مالك على مقدّمة الجيش ، وكانت هيمنته العظيمة ومواجهته البطوليّة لمقدّمة جيش معاوية _ التي كان عليها أبو الأعور السلمي _ قد أرغمتا هؤلاء على الفرار من الميدان .
.
ص: 510
4 . كان أهل الرقّة (1) من أنصار عثمان ، فدمّروا الجسور المنصوبة على نهر الفرات لخلق العقبات أمام الجيش العلوي الذي كان قوامه مِئة ألف مقاتل . فعزم الإمام عليه السلام على الرجوع والبحث عن معبر آخر ؛ لأنّه لم يُرد أن يستخدم القوّة العسكريّة ويقسر الناس على القيام بعمل شاقّ ، وهنا عرّف مالك نفسه لأهل الرقّة وهدّدهم ، فاضطرّوا إلى نصب جسر للعبور ، وعبر الجيش بالفعل . 5 . حال جيش معاوية دون وصول جيش الإمام عليه السلام إلى الماء ، فاستبسل ومعه الأشعث بن قيس حتى تمكّن الجيش من الحصول على الماء . 6 . تولّى مالك قيادة الخيّالة عند نشوب الحرب . 7 . كان له الدور الأكبر في صولات ذي الحجّة . وحين بدأت الحرب في شهر صفر ودامت ثمانية أيّام ، كان مالك في يومين منها قائدا عامّا لها على الإطلاق . 8 . كان مقاتلاً لا نظير له في المواجهات الفرديّة ، ولم ينكص قطّ عند مواجهة أحد . 9 . في الأيّام الأخيرة من المعركة ، كان حلّالاً للمشاكل العويصة فيها ، وكان يحضر بأمر مولاه حيثما ظهرت مشكلة فيبادر إلى حلّها . 10 . تألّق مالك تألّقا عظيما في وقعة الخميس وليلة الهرير . 11 . قاد مع أصحابه جولة مرعبة مهيبة من جولات صفّين ، فتقدّم حتى وصل خيمة معاوية فجرَ يومِ جمعةٍ ، ولم يكن بينه وبين الانتصار الأخير وإخماد نار الفتنة الاُمويّة إلّا خطوة واحدة ، فتآمر الأشعث والخوارج وأجبروا الإمام عليه السلام على
.
ص: 511
إرجاعه ، فابتعد عن خيمة معاوية بقلب ملؤه الأسى ؛ كي لا يصل إلى مولاه أذى . فيا عجبا لكلّ هذا الإيثار مع ذلك التحجّر ، واسوداد ضمائر المناوئين للإمام عليه السلام ، وقبح سرائرهم ! ! إنّ أعظم ما تميّز به مالك هو معرفته العميقة للإمام عليه السلام وتواضعه أمام مولاه ، ذلك التواضع النابع من وعيه الفذّ ، ومعرفته العظيمة .
ح _ قِتالُ الإِمامِ عليه السلام بِنَفسِهِامام صادق عليه السلام نيز مى فرمايد:وقعة صفّين عن جابر بن عمير الأنصاري_ في بَيانِ شَجاعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام في حَربِ صِفّينَ _: لا وَاللّهِ الَّذي بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بِالحَقِّ نَبِيّا ، ما سَمِعنا بِرَئيسِ قَومٍ مُنذُ خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَالأَرضَ أصابَ بِيَدِهِ في يَومٍ واحِدٍ ما أصابَ ؛ إنَّهُ قَتَلَ فيما ذَكَرَ العادّونَ زِيادَةً عَلى خَمسِمِئَةٍ مِن أعلامِ العَرَبِ ، يَخرُجُ بِسَيفِهِ مُنحَنِيا فَيقولُ : مَعذِرَةً إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وإلَيكُم مِن هذا ، لَقَد هَمَمتُ أن أصقُلَهُ ولكِن حَجَزَني عَنهُ أنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ كَثيرا : «لا سَيفَ إلّا ذو الفَقارِ ، ولا فَتى إلّا عَلِيٌّ» وأنا اُقاتِلُ بِهِ دونَهُ .
قالَ : فَكُنّا نَأخُذُهُ فَنُقَوِّمُهُ ، ثُمَّ يَتَناوَلُهُ مِن أيدينا فَيَتَقَحَّمُ بِهِ في عُرضِ الصَّفِّ ، فَلا وَاللّهِ ما لَيثٌ بِأَشَدَّ نِكايَةً في عَدُوِّهِ مِنهُ ، رَحمَةُ اللّهِ عَلَيهِ رَحمَةً واسِعَةً . (1)ط _ طُمَأنينَةُ الإِمامِ عليه السلام في ساحَةِ القِتالِوقعة صفّين عن أبي إسحاق :خَرَجَ عَلِيٌّ يَومَ صِفّينَ وفِي يَدِهِ عَنَزَةٌ ، فَمَرَّ عَلى سَعيدِ بنِ قَيسٍ الهَمدانِيِّ ، فَقالَ لَهُ سَعيدٌ : أ ما تَخشى يا أميرَ المُؤمِنينَ أن يَغتالَكَ أحَدٌ وأنتَ قُربَ عَدُوِّكَ ؟ فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنَّهُ لَيسَ مِن أحَدٍ إلّا عَلَيهِ مِنَ اللّهِ حَفَظَةٌ يَحفَظونَهُ مِن أن
.
ص: 512
يَتَرَدّى في قَليبٍ (1) ، أو يَخِرَّ عَلَيهِ حائِطٌ ، أو تُصيبَهُ آفَةٌ ، فَإِذا جاءَ القَدَرُ خَلَّوا بَينَهُ وبَينَهُ . (2)
ي _ فَضيحَةُ عَمرِو بنِ العاصِعيون الأخبار عن المدائني :رَأى عَمرُو بنُ العاصِ مُعاوِيَةَ يَوما يَضحَكُ ، فَقالَ لَهُ : مِمَّ تَضحَكُ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أضحَكَ اللّهُ سِنَّكَ ؟ قالَ : أضحَكُ مِن حُضورِ ذِهنِكَ عِندَ إبدائِكَ سَوءَتَكَ يَومَ ابنِ أبي طالِبٍ ! أما وَاللّهِ لَقَد وافَقتَهُ مَنّانا كَريما ، ولَو شاءَ أن يَقتُلَكَ لَقَتَلَكَ .
قالَ عَمرٌو : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أما وَاللّهِ إنّي لَعَن يَمينِكَ حينَ دَعاكَ إلَى البِرازِ فَاحوَلَّت عَيناكَ ، ورَبا سَحرُكَ ، وبَدا مِنكَ ما أكرَهُ ذِكرَهُ لَكَ ، فَمِن نَفسِكَ فَاضحَك أو دَع ! ! . (3)ك _ هُجومُ الإِمامِ عليه السلام عَلَى المَجموعَةِ الَّتي فيها مُعاوِيَةُالأخبار الطوال :حَمَلَ عَلِيٌّ رضى الله عنه عَلَى الجَمعِ الَّذي كانَ فيهِ مُعاوِيَةُ في أهلِ الحِجازِ مِن قُرَيشٍ وَالأَنصارِ وغَيرِهِم ، وكانوا زُهاءَ اثنَي عَشَرَ ألفَ فارِسٍ ، وعَلِيٌّ أمامَهُم ، وكَبَّروا وكَبَّرَ النّاسُ تَكبيرَةً ارتَجَّت لَهَا الأَرضُ ، فَانتَقَضَت صُفوفُ أهلِ الشّامِ ، وَاختَلَفَت راياتُهُم ، وَانتَهَوا إلى مُعاوِيَةَ وهُوَ جالِسٌ عَلى مِنبَرِهِ مَعَهُ عَمرُو بنُ العاصِ يَنظُرانِ إلَى النّاسِ ، فَدَعا بِفَرَسٍ لِيَركَبَهُ . ثُمَّ إنَّ أهلَ الشّامِ تَداعَوا بَعدَ جَولَتِهِم ، وثابوا (4) ، ورَجَعوا عَلى أهلِ العِراقِ ، وصَبَرَ
.
ص: 513
القومُ بَعضُهُم لِبَعضٍ إلى أن حَجَزَ بَينَهُمُ اللَّيلُ . (1)
ل _ حيلَةُ مُعاوِيَةَوقعة صفّين_ في بَيانِ ما قالَهُ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ حينَ بَلَغَهُ شِعرُ الأَشتَرِ _: قَد رَأَيتُ أن أَكتُبَ إلى عَلِيٍّ كِتابا أسأَلُهُ الشّامَ _ وهُوَ الشَّيءُ الأَوَّلُ الَّذي رَدَّني عَنهُ _ واُلقِيَ في نَفسِهِ الشَّكَّ وَالرَّيبَةَ . فَضَحِكَ عَمرُو بنُ العاصِ ، ثُمَّ قالَ : أينَ أنتَ يا مُعاوِيَةُ مِن خُدعَةِ عَلِيٍّ ؟ ! فَقالَ : أ لَسنا بَني عَبدِ مَنافٍ ؟ قالَ : بَلى ، ولكِن لَهُمُ النُّبُوَّةُ دونَكَ ، وإن شِئتَ أن تَكتُبَ فَاكتُب . فَكَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عَلِيٍّ مَعَ رَجُلٍ مِنَ السَّكاسِكِ ، يُقالُ لَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ عُقبَةَ ، وكانَ مِن ناقِلَةِ (2)
أهلِ العِراقِ ، فَكَتَبَ :
أمّا بَعدُ ، فَإِنّي أظُنُّكَ أن لَو عَلِمتَ أنَّ الحَربَ تَبلُغُ بِنا وبِكَ ما بَلَغَت وعَلِمنا ، لَم يَجِنها بَعضُنا عَلى بَعضٍ ، وإنّا وإن كُنّا قَد غُلِبنا عَلى عُقولِنا فَقَد بَقِي لَنا مِنها ما نَندَمُ بِهِ عَلى ما مَضى ، ونُصلِحُ بِهِ ما بَقِيَ . وقَد كُنتُ سَأَلتُكَ الشّامَ عَلى ألّا يَلزَمَني لَكَ طاعَةٌ ولا بَيعَةٌ ، فَأَبَيتَ ذلِكَ عَلِيَّ ، فَأَعطانِي اللّهُ ما مَنَعتَ ، وأنا أدعوكَ اليَومَ إلى ما دَعَوتُكَ إلَيهِ أمسِ ، فَإِنّي لا أرجو مِنَ البَقاءِ إلّا ما تَرجو ، ولا أخافُ مِنَ المَوتِ إلّا ما تَخافُ . وقَد وَاللّهِ رَقَّتِ الأَجنادُ ، وذَهَبَتِ الرِّجالُ ، ونَحنُ بَنو عَبدِ مَنافٍ لَيسَ لِبَعضِنا عَلى بَعضٍ فَضلٌ إلّا فَضلٌ لا يُستَذَلُّ بِهِ عَزيزٌ ، ولا يُستَرَقُّ حُرٌّ بِهِ . وَالسَّلامُ . (3)م _ جَوابُ الإِمامِ عليه السلاموقعة صفّين :فَلَمّا انتَهى كِتابُ مِعاوِيَةَ إلى عَلِيٍّ قَرَأَهَ ، ثُمَّ قالَ : العَجَبُ لِمُعاوِيَةَ وكِتابِهِ !
.
ص: 514
ثُمَّ دَعا عَلِيٌّ عَبَيدَ اللّهِ بنَ أبي رافِعٍ كاتِبَهُ ، فَقالَ : اُكتُب إلى مُعاوِيَةَ :
أمّا بَعد ؛ فَقَد جاءَني كِتابُكَ ، تَذكُرُ أنَّكَ لَو عَلِمتَ وعَلِمنا أنَّ الحَربَ تَبلُغُ بِنا وبِكَ ما بَلَغَت لَم يَجنِها بَعضُنا عَلى بَعضٍ ، فَإِنّا وإيّاكَ مِنها في غايَةٍ لَم تَبلُغها ، وإنّي لَو قُتِلتُ في ذاتِ اللّهِ وحَييتُ ، ثُمَّ قُتِلتُ ثُمَّ حَييتَ سَبعينَ مَرَّةً ، لَم أرجِع عَنِ الشِّدَّةِ في ذاتِ اللّهِ ، وَالجِهادِ لِأَعداءِ اللّهِ . وأمّا قَولُكَ : إنَّهُ قَد بَقِيَ مِن عُقولِنا ما نَندَمُ بِهِ عَلى ما مَضى ، فَإِنّي ما نَقَصتُ عَقلي ، ولا نَدِمتُ عَلى فِعلي . فَأَمّا طَلَبُكَ الشّامَ ، فَإِنّي لَم أكُن لِاُعطِيَكَ اليَومَ ما مَنَعتُكَ مِنها أمسِ . وأمَّا استِواؤُنا فِي الخَوفِ وَالرَّجاءِ ؛ فَإِنَّكَ لَستَ أمضى عَلَى الشَّكِّ مِنّي عَلَى اليَقينِ ، ولَيسَ أهلُ الشّامِ بِأَحرَصَ عَلَى الدُّنيا مِن أهلِ العِراقِ عَلَى الآخِرَةِ . وأمّا قَولُكَ : إنّا بَنو عَبدِ مَنافٍ لَيس لِبَعضِنا عَلى بَعضٍ فَضلٌ ؛ فَلَعَمري إنّا بَنو أبٍ واحِدٍ ، ولكِن لَيسَ اُمَيَّةُ كَهاشِمٍ ، ولا حَربٌ كَعبدِ المُطَّلِبِ ، ولا أبو سُفيانَ كَأَبي طالِبٍ ، ولَا المُهاجِرُ كَالطَّليقِ ، ولَا المُحِقُّ كَالمُبطِلِ . وفي أيدينا بَعدُ فَضلُ النُّبُوَّةِ الَّتي أذلَلنا بِهَا العَزيزَ ، وأعزَزنا بِهَا الذَّليلَ . وَالسَّلامُ . (1)2 / 10أشدّ الأيّامأ _ وَقعَةُ الخَميسِكان يوم الخميس أشدّ أيّام الحرب في صفّين وأكثرها فزعا ؛ فقد كان الإمام عليه السلام يقاتل قتالاً شديدا في خضمّ تلك المعركة مضافا إلى قيادته للجيش . وكان يُهيج الجيش للقتال بما صنعه من ملاحم عظيمة مثيرة تشجّع على خوض الحرب . ولم يهدأ القتال يومئذٍ لحظةً واحدةً ، حتى صلّى الجند وهم يقاتلون .
.
ص: 515
وكثر القتلى حتى صاروا كالتلّ ، وجُرح مالا يُحصى من الجيش ، وقتل الإمام عليه السلام آنذاك في يوم واحد (523) من مُنازِلي الأقران ، ومن شجعان العرب . وكان كلّما قتل يكبّر ، ومن تكبيرات الإمام عليه السلام كانوا يعرفون عدد من يُصرع من العدوّ . وقد سُمّي ذلك اليوم «وَقعَةَ الخَميسِ» أو «يَومَ الهَريرِ (1) » .
وقعة صفّين عن جندب الأزدي :لَمّا كانَ غَداةُ الخَميسِ لِسَبعٍ خَلَونَ مِن صَفَرٍ مِن سَنَةِ سَبعٍ وثَلاثينَ ، صَلّى عَلِيٌّ ، فَغَلَّسَ بِالغَداةِ ، ما رَأَيتُ عَلِيّا غَلَّسَ بِالغَداةِ أشَدَّ مِن تَغليسِهِ يَومَئِذٍ . ثُمَّ خَرَجَ بِالنّاسِ إلى أهلِ الشّامِ فَزَحَفَ إلَيهِم ، وكانَ هُوَ يَبدَؤُهُم فَيَسيرُ إلَيهِم ، فَإِذا رَأَوهُ وقَد زَحَفَ استَقبَلوهُ بِزُحوفِهِم . (2)
ب _ لَيلَةُ الهَريرِمروج الذهب :كانَت لَيلَةُ الجُمُعَةِ _ وهِيَ لَيلَةُ الهَريرِ _ فَكانَ جُملَةُ مَن قَتَلَ عَلِيٌّ بِكَفِّهِ في يَومِهِ ولَيلَتِهِ خَمسَمِئَةٍ وثَلاثَةً وعِشرينَ رَجُلاً، أكثَرُهُم فِي اليَومِ ، وذلِكَ أنَّهُ كانَ إذا قَتَلَ رَجُلاً كَبَّرَ إذا ضَرَبَ ، ولَم يَكُن يَضرِبُ إلّا قَتَلَ . ذَكَرَ ذلِكَ عَنهُ مَن كانَ يَليهِ في حَربِهِ ولا يُفارِقُهُ مِن وُلدِهِ وغَيرِهِم . (3)
الصراط المستقيم عن عمرو بن العاص_ يَومَ الهَريرِ _: للّهِِ دَرُّ ابنِ أبي طالِبٍ ! ما كانَ أكثَرَهُ عِندَ الحُروبِ ! ما آنَستُ أن أسمَعَ صَوتَهُ في أوَّلِ النّاسِ إلّا وسَمِعتُهُ في آخِرِهِم ، ولا فِي المَيمَنَةِ إلّا وسَمِعتُهُ فِي المَيسَرَةِ . (4)
.
ص: 516
2 / 11توقّف الحربأ _ مَكرُ اللَّيلِامام على عليه السلام در كلام ديگرى به نكته مهم ديوقعة صفّين عن عمّار بن ربيعة :إنّ عَلِيّا قامَ خَطيبا ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! قَدَ بَلَغَ بِكُمُ الأَمرُ وبِعَدُوِّكُم ما قَد رَأَيتُم ، ولَم يَبقَ مِنهُم إلّا آخِرُ نفَسٍ ، وإنَّ الاُمورَ إذا أقبَلَتِ اعتُبِرَ آخِرُها بِأَوَّلِها ، وقَد صَبَرَ لَكُمُ القَومُ عَلى غَيرِ دينٍ حَتّى بَلَغنا مِنهُم ما بَلَغنا ، وأنَا غادٍ عَلَيهِم بِالغَداةِ اُحاكِمُهُم إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ .
فَبَلَغَ ذلِكَ مُعاوِيَةَ ، فَدَعاَعمرَو بنَ العاصِ ، فَقالَ : يا عَمرُو ! إنَّما هِيَ اللَّيلَةُ حَتّى يَغدُوَ عَلِيٌّ عَلَينا بِالفَيصَلِ ، فَما تَرى ؟
قالَ : إنَّ رِجالَكَ لا يَقومونَ لِرِجالِهِ ، ولَستَ مِثلَهُ ، هُوَ يُقاتِلُكَ عَلى أمرٍ ، وأنتَ تُقاتِلُهُ عَلى غَيرِهِ . أنتَ تُريدُ البَقاءَ وهُوَ يُريدُ الفَناءَ ، وأهلُ العِراقِ يُخافونَ مِنكَ إن ظَفِرتَ بِهِم ، وأهلُ الشّامِ لا يَخافونَ عَلِيّا إن ظَفِرَ بِهِم .
ولكِن ألقِ إلَيهِم أمرا إن قَبِلوهُ اختَلَفوا ، وإن رَدّوهُ اختَلَفوا ؛ اُدعُهُم إلى كِتابِ اللّهِ حَكَما فيما بَينَكَ وبَينَهُم ؛ فَإِنَّكَ بالِغٌ بِهِ حاجَتَكَ فِي القَومِ ؛ فَإِنّي لَم أزَل اُؤَخِّرُ هذَا الأَمرَ لِوَقتِ حاجَتِكَ إلَيهِ .
فَعَرَفَ ذلِكَ مُعاوِيَةُ ، فَقالَ : صَدَقتَ . (1)ب _ رَفعُ المَصاحِفِتاريخ اليعقوبي :زَحَفَ أصحابُ عَلِيٍّ وظَهَروا عَلى أصحابِ مُعاوِيَةَ ظُهورا شَديدا ، حَتّى لَصِقوا بِهِ ، فَدَعا مُعاوِيَةُ بِفَرَسِهِ لِيَنجُوَ عَلَيهِ .
فَقالَ لَهُ عَمرُو بنُ العاصِ : إلى أينَ ؟
.
ص: 517
قالَ : قَد نَزَلَ ما تَرى ، فَما عِندَكَ ؟
قالَ : لَم يَبقَ إلّا حيلَةٌ واحِدَةٌ ؛ أن تَرفَعَ المَصاحِفَ ، فَتَدعُوَهُم إلى ما فيها ، فَتَستَكِفَّهُم ، وتُكَسِّرَ مِن حَدِّهِم ، وتَفُتَّ في أعضادِهِم .
قالَ مُعاوِيَةُ : فَشَأنَكَ ! فَرَفَعُوا المَصاحِفَ ، ودَعَوهُم إلَى التَّحَكُّمِ بِما فيها ، وقالوا : نَدعوكُم إلى كِتابِ اللّهِ .
فَقالَ عَلِيٌّ : إنَّها مَكيدَةٌ ، ولَيسوا بِأَصحابِ قُرآنٍ .
فَاعتَرَضَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ الكِندِيُّ _ وقَد كانَ مُعاوِيَةُ استَمالَهُ ، وكَتَبَ إلَيهِ ودَعاهُ إلى نَفسِهِ _ فَقالَ : قَد دَعَا القَومُ إلَى الحَقِّ !
فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : إنَّهُم إنَّما كادوكُم ، وأرادوا صَرفَكُم عَنهُم .
فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ ، لَئِن لَم تُجِبهُمُ انصَرَفتُ عَنكَ .
ومالَتِ اليَمانِيَّةُ مَعَ الأَشعَثِ ، فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ ، لَتُجيبَنَّهُم إلى ما دَعَوا إلَيهِ ، أو لَنَدفَعَنَّكَ إلَيهِم بِرُمَّتِكَ . (1)ج _ الإِمامُ عليه السلام في حِصارِ أصحابِ الجِباهِ السُّودِمروج الذهب_ بَعدَ ذِكرِ رَفعِ المَصاحِفِ _: فَلَمّا رَأى كَثيرٌ مِن أهلِ العِراقِ ذلِكَ ، قالوا : نُجيبُ إلى كِتابِ اللّهِ ونُنيبُ إلَيهِ ، وأحَبَّ القَومُ المُوادَعَةَ وقيلَ لِعَلِيٍّ : قَد أعطاكَ مُعاوِيَةُ الحَقَّ ، ودَعاكَ إلى كِتابِ اللّهِ ، فَاقبَل مِنهُ ، وكانَ أشَدَّهُم في ذلِكَ اليَومِ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ ، فَقالَ عَلِيٌّ : أيُّهَا النّاسُ ! إنَّهُ لَم يَزَل مِن أمرِكُم ما اُحِبُّ حَتّى قَرَحَتكُمُ الحَربُ ، وقَد وَاللّهِ أخَذَت مِنكُم وتَرَكَت ، وإنّي كُنتُ بِالأَمسِ أميرا ، فَأَصبَحتُ اليَومَ مَأمورا ، وقَد
.
ص: 518
أحبَبتُمُ البَقاءَ . (1)
د _ رُجوعُ الأَشتَرِ مِنَ المَعرَكَةِوقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر_ في بَيانِ ماجَرى بَعدَ رَفعِ المَصاحِفِ _: قالَ الأَشترُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! احمِلِ الصَّفَّ عَلَى الصَّفِّ يُصرَعِ القَومُ . فَتَصايَحوا : إنَّ عَلِيّا أميرَ المُؤمِنينَ قَد قَبِلَ الحُكومَةَ ، ورَضِيَ بِحُكمِ القُرآنِ ، ولَم يَسَعهُ إلّا ذلِكَ .
قالَ الأَشتَرُ : إن كانَ أميرُ المُؤمِنينَ قَد قَبِلَ ورَضِيَ بحِكُمِ القُرآنِ ، فَقَد رَضيتُ بِما رَضِيَ أميرُ المُؤمِنينَ .
فَأَقبَلَ النّاسُ يَقولونَ : قَد رَضِيَ أميرُ المُؤمِنينَ ، قَد قَبِلَ أميرُ المُؤمِنينَ ، وهُوَ ساكِتٌ ، لا يَبَضُّ بِكَلِمَةٍ ، مُطرِقٌ إلَى الأَرضِ . (2)ه _ فَرَحُ مُعاوِيَةَالفتوح :كانَ مُعاوِيَةُ بَعدَ ذلِكَ [أي بَعدَ خِتامِ الحَربِ] يَقولُ : وَاللّهِ ، لَقَد رَجَعَ عَنِّي الأَشتَرُ يَومَ رَفعِ المَصاحِفِ ، وأنَا اُريدُ أن أسأَلَهُ أن يَأخُذَ لِيَ الأَمانَ مِن عَلِيٍّ . وقَد هَمَمتُ ذلِكَ اليَومَ بِالهَرَبِ ، ولكِن ذَكَرتُ قَولَ عَمرِو بنِ الإِطنابَةِ حَيثُ يَقولُ :
أبَت لي عِفَّتي وأبى بَلائيوأخذِي الحَمدِ بِالثَّمنِ الرَّبيحِ (3)و _ رِسالَةُ مُعاوِيَةَ إلَى الإِمامِ عليه السلاموقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر :بَعَثَ مُعاوِيَةُ أبَا الأَعوَرِ السَّلَمِيَّ عَلى بِرذَونٍ أبيَضَ ، فَسارَ بَينَ الصَّفَّينِ ؛ صَفِّ أهلِ العِراقِ وصَفِّ أهلِ الشّامِ ، وَالمُصحَفُ عَلى رَأسِهِ وهُوَ
.
ص: 519
يَقولُ : كِتابُ اللّهِ بَينَنا وبَينَكُم . فَأَرسَلَ مُعاوِيَةُ إلى عَلِيٍّ : إنَّ الأَمرَ قَد طالَ بَينَنا وبينَكَ ، وكُلُّ واحِدٍ مِنّا يَرى أنَّهُ عَلَى الحَقِّ فيما يَطلُبُ مِن صاحِبِهِ ، ولَن يُعطِيَ واحِدٌ مِنَّا الطّاعَةَ لِلآخَرِ ، وقَد قُتِلَ فيما بَينَنا بَشَرٌ كَثيرٌ ، وأنَا أتَخَوَّفُ أن يَكونَ ما بَقِيَ أشَدَّ مِمّا مَضى ، وإنّا سَوفَ نُسأَلُ عَن ذلِكَ المَوطِنِ ، ولا يُحاسَبُ بِهِ غَيري وغَيرُكَ ، فَهَل لَكَ في أمرٍ لَنا ولَكَ فيهِ حَياةٌ وعُذرٌ وبَراءَةٌ ، وصَلاحٌ لِلاُمَّةِ ، وحَقنٌ لِلدِّماءِ ، واُلفَةٌ لِلدّينِ ، وذَهابٌ لِلضَّغائِنِ وَالفِتَنِ ؛ أن يُحَكَّمَ بَينَنا وبَينَكَ حَكَمانِ رَضِيّانِ ؛ أحدُهُما مِن أصحابي ، وَالآخَرُ مِن أصحابِكَ ؛ فَيَحكُمانِ بِما في كِتابِ اللّهِ بَينَنا ؛ فَإِنَّهُ خَيرٌ لي ولَكَ ، وأقطَعُ لِهذِهِ الفِتَنِ . فَاتَّقِ اللّهَ فيما دُعيتَ لَهُ ، وَارضَ بِحُكمِ القُرآنِ إن كُنتَ مِن أهلِهِ . وَالسَّلامُ . (1)ز _ جَوابُ الإِمامِ عليه السلام عَنهُ وقَبولُهُ التَّحكيمَوقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر_ بَعدَ ذِكرِ كِتابِ مُعاوِيَةَ لِلإِمامِ عليه السلام _: فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ :
مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ .
أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ أفضَلَ ما شَغَلَ بِهِ المَرءُ نَفسَهُ اتِّباعُ ما يَحسُنُ بِهِ فِعلُهُ ، ويُستَوجَبُ فضَلُهُ ، ويَسلَمُ مِن عَيبِهِ . وإنَّ البَغيَ وَالزّورَ يُزرِيانِ بِالمَرءِ في دينِهِ ودُنياهُ ، ويُبدِيانِ مِن خَلَلِهِ عِندَ مَن يُغنيهِ مَا استَرعاهُ اللّهُ ما لا يُغني عَنهُ تَدبيرُهُ .
فَاحذَرِ الدُّنيا ؛ فَإِنَّهُ لا فَرَحَ في شَيءٍ وَصَلتَ إلَيهِ مِنها . ولَقَد عَلِمتَ أنَّكَ غَيرُ مُدرِكٍ ما قُضِيَ فَواتُهُ . وقَد رامَ قَومٌ أمرا بِغَيرِ الحَقِّ ؛ فَتَأَوَّلوا عَلَى اللّهِ تَعالى ، فَأَكذَبَهُم ومَتَّعَهُم قَليلاً ، ثُمَّ اضطَرَّهُم إلى عَذابٍ غَليظٍ . فَاحذَر يَوما يَغتَبِطُ فيهِ مَن أحمَدَ عاقِبَةَ عَمَلِهِ ، ويَندَمُ فيهِ مَن أمكَنَ الشَّيطانَ مِن قِيادِهِ ولَم يُحادَّهُ ، فَغَرَّتهُ الدُّنيا وَاطمَأَنَّ
.
ص: 520
إلَيها . ثُمَّ إنَّكَ قَد دَعَوتَني إلى حُكمِ القُرآنِ ؛ ولَقَد عَلِمتُ أنَّكَ لَستَ مِن أهلِ القُرآنِ ، ولَستَ حُكمَهُ تُريدُ ، وَاللّهُ المُستَعانُ . وقَد أجَبنَا القُرآنَ إلى حُكمِهِ ، ولَسنا إيّاكَ أجَبنا . ومَن لَم يَرضَ بِحُكمِ [القُرآنِ] (1) فَقَد ضَلَّ ضَلالاً بَعيدا . (2)ح _ كَلامُ الإِمامِ عليه السلام في ذَمِّ أصحابِهِالإمام على عليه السلام_ مِن كَلامِهِ عليه السلام حينَ رَجَعَ أصحابُهُ عَنِ القِتالِ بِصِفّينَ ، لَمَّا اغتَرَّهُم مُعاوِيَةُ بِرَفعِ المَصاحِفِ _: لَقَد فَعَلتُم فَعلَةً ضَعضَعَت مِنَ الإِسلامِ قُواهُ ، وأسقَطَت مُنَّتَهُ (3)
، وأورَثَت وَهنا وذِلَّةً . لَمّا كُنتُم الأَعلَينَ ، وخافَ عَدُوُّكُمُ الاِجتِياحَ ، وَاستَحَرَّ بِهِمُ القَتلُ ، ووَجَدوا ألَمَ الجِراحِ ؛ رَفَعُوا المَصاحِفَ ودَعَوكُم إلى ما فيها لِيَفثَؤوكُم (4) عَنهُم ، ويَقطَعُوا الحَربَ فيما بَينَكُم وبَينَهُم ، ويَتَرَبَّصوا (5) بِكُم رَيبَ المَنونِ خَديعَةً ومَكيدَةً . فَما أنتُم إن جامَعتُموهُم عَلى ما أحَبّوا ، وأعطَيتُموهُمُ الَّذي سَأَلوا إلّا مَغرورونَ . وَايمُ اللّهِ ، ما أظُنُّكُم بَعدَها مُوافِقي رُشدٍ ، ولا مُصيبي حَزمٍ . (6)2 / 12تعيين الحَكَمأ _ مُخالَفَةُ الإِمامِ عليه السلام في تَعيينِ الحَكَمِالإمام الباقر عليه السلام :لَمّا أرادَ النّاسُ عَلِيّا عَلى أن يَضَعَ حَكَمَينِ قالَ لَهُم عَلِيٌّ :
إنَّ مُعاوِيَةَ لَم يَكُن لِيَضَعَ لِهذَا الأَمرِ أحَدا هُوَ أوثَقُ بِرَأيِهِ ونَظَرِهِ مِن عَمرِو بنِ
.
ص: 521
العاصِ ، وإنَّهُ لا يَصلُحُ لِلقُرَشِيِّ إلّا مِثلُهُ ، فَعَلَيكُم بِعَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ فَارموهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ عَمرا لا يَعقِدُ عُقدَةً إلّا حَلَّها عَبدُ اللّهِ ، ولا يَحُلُّ عُقدَةً إلّا عَقَدَها ، ولا يُبرِمُ أمرا إلّا نَقَضَهُ ، ولا يَنقُضُ أمرا إلّا أبرَمَهُ .
فَقالَ الأَشعَثُ : لا وَاللّهِ ، لا يَحكُمُ فيها مُضَرِيّانِ حَتّى تَقومَ السّاعَةُ ، ولكِنِ اجعَلهُ رَجُلاً مِن أهلِاليَمنِ إذ جَعَلوا رَجُلاً مِن مُضَرَ .
فَقالَ عَلِيٌّ : إنّي أخافُ أن يُخدَعَ يَمَنِيُّكُم ؛ فَإِنَّ عَمرا لَيسَ مِنَ اللّهِ في شَيءٍ إذا كانَ لَهُ في أمرٍ هوىً .
فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ ، لِأَن يَحكُما بِبَعضِ مانَكرَهُ ، وأحَدُهُما مِن أهلِ اليَمنِ ، أحَبُّ إلَينا مِن أن يَكونَ بَعضُ ما نُحِبُّ في حُكمِهِما وهُما مُضَرِيّانِ . (1)ب _ وَثيقَةُ التَّحكيمِتاريخ الطبري عن فضيل بن خديج الكندي_ في وَثيقَةِ التَّحكيمِ _: كانَ الكِتابُ في صَفَرٍ والأَجَلُ رَمَضانُ إلى ثَمانِيَةِ أشهُرٍ ، إلى أن يَلتَقِيَ الحَكَمانِ . ثُمَّ إنَّ النّاسَ دَفَنوا قَتلاهُم ، وأمَرَ عَلِيٌّ الأَعوَرَ فَنادى فِي النّاسِ بِالرَّحيلِ . (2)
ج _ عَدَمُ رِضاءِ الأَشتَرِ بِما فِي الوَثيقَةِامام باقر عليه السلام نيز مى فرمايد:تاريخ الطبري عن عُمارة بن ربيعة الجرمي :لَمّا كُتِبَتِ الصَّحيفَةُ دُعِيَ لَهَا الأَشتَرُ فَقالَ : لا صَحِبَتني يَميني ولا نَفَعَتني بَعدَها شِمالي إن خُطَّ لي في هذِهِ الصَّحيفَةِ اسمٌ عَلى صُلحٍ ولا مُوادَعَةٍ ، أ وَلَستُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي ومِن ضَلالِ عَدُوّي ؟ أ ولَستُم قَد رَأَيتُمُ الظَّفَرَ لَو لَم تُجمِعوا عَلَى الجَورِ ؟
.
ص: 522
امام باقر عليه السلام نيز مى فرمايد:فَقالَ لَهُ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ : إنَّكَ وَاللّهِ ، ما رَأَيتَ ظَفَرا ولا جَورا ، هَلُمَّ إلَينا فَإنَّهُ لا رَغبَةَ بِكَ عَنَّا .
فَقالَ : بَلى وَاللّهِ ، لَرَغبَةٌ بي عَنكَ فِي الدُّنيا لِلدُّنيا وَالآخِرَةِ لِلآخِرَةِ ، ولَقَد سَفَكَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِسَيفي هذا دِماءَ رِجالٍ ما أنتَ عِندي خَيرٌ مِنهُم ولا أحرَمُ دَما .
قالَ عُمارَةُ : فَنَظَرتُ إلى ذلِكَ الرَّجُلِ وكَأَنَّما قُصِعَ عَلى أنفِهِ الحُمَمُ _ يَعنِي الأَشعَثَ _ . (1)د _ اِختِلافُ الكَلِمَةِ في أصحابِ الإِمامِ عليه السلاممروج الذهب :لَمّا وَقَعَ التَّحكيمُ تَباغَضَ القَومُ جَميعا ، وأقبَلَ بَعضُهُم يَتَبَرَّأُ مِن بَعضٍ : يَتَبَرَّأُ الأَخُ مِن أخيهِ ، وَالاِبنُ مِن أبيهِ ، وأمَرَ عَلِيٌّ بِالرَّحيلِ ، لِعِلمِهِ بِاختِلافِ الكَلِمَةِ ، وتَفاوُتِ الرَّأيِ ، وعَدمِ النِّظامِ لِاُمورِهِم ، وما لَحِقَهُ مِنَ الخِلافِ مِنهُم ، وكَثُرَ التَّحكيمُ في جَيشِ أهلِ العِراقِ ، وتَضارَبَ القَومُ بِالمَقارِعِ ونِعالِ السُّيوفِ ، وتَسابّوا ، ولامَ كُلُّ فَريقٍ مِنهُمُ الآخَرَ في رَأيِهِ .
وسارَ عَلِيٌّ يَؤُمَّ الكوفَةَ ، ولَحِقَ مُعاوِيَةُ بِدِمَشقَ مِن أرضِ الشّامِ وفَرَّقَ عَساكِرَهُ ، فَلَحِقَ كُلُّ جُندٍ مِنهُم بِبَلَدِهِ . (2)2 / 13الإنصراف من صفّينأ _ بَدءُ تَدَفُّقِ الاِعتِراضِالإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا قالَ لَهُ رَجُلٌ مِن أصحابِهِ : نَهَيتَنا عَنِ الحُكومَةِ ، ثُمَّ أمَرتَنا بِها ، فَلَم
.
ص: 523
نَدرِ أيُّ الأَمرَينِ أرشَدُ ؟ _: هذا جَزاءُ مَن تَرَكَ العُقدَةَ ! أما وَاللّهِ لَو أنّي حينَ أمَرتُكُم بِهِ حَمَلتُكُم عَلَى المَكروهِ الَّذي يَجعَلُ اللّهُ فيهِ خَيرا ، فَإِنِ استَقَمتُم هَدَيتُكُم ، وإنِ اعوَجَجتُم قَوَّمتُكُم ، وإن أبَيتُم تَدارَكتُكُم _ لَكانَتِ الوُثقى .
ولكِن بِمَن ، وإلى مَن ؟ اُريدُ أن اُداوِيَ بِكُم وأنتُم دائي ؛ كَناقِشِ الشَّوكَةِ بِالشَّوكَةِ وهُوَ يَعلَمُ أنَّ ضَلعَها (1) مَعَها ! اللّهُمَّ قَد مَلَّت أطِبّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ ، وكَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأشطانِ الرَّكِيِّ !
أينَ القَومُ الَّذينَ دُعوا إلَى الإِسلامِ فَقَبِلوهُ ، وقَرَؤُوا القُرآنَ فَأَحكَموهُ ، وهِيجوا إلَى الجِهادِ فَوَلِهوا وَلَهَ اللِّقاحِ إلى أولادِها ، وسَلَبُوا السُّيوفَ أغمادَها ، وأخَذوا بِأَطرافِ الأَرضِ زَحفا زَحفا ، وصَفّا صَفّا . بَعضٌ هَلَكَ ، وبَعضٌ نَجا . لا يُبَشَّرونَ بِالأَحياءِ ، ولا يُعَزَّونَ عَنِ المَوتى . مُرْهُ العُيونِ مِنَ البُكاءِ ، خُمصُ البُطونِ مِنَ الصِّيامِ ، ذُبلُ الشِّفاهِ مِنَ الدُّعاءِ ، صُفرُ الأَلوانِ مِنَ السَّهَرِ ، عَلى وُجوهِهِم غَبَرَةُ الخاشِعينَ .
اُولئِكَ إخوانِيَ الذّاهِبونَ . فَحَقٌّ لَنا أن نَظمَأَ إلَيهِم ، ونَعَضَّ الأَيدِيَ عَلى فِراقِهِم . إنَّ الشَّيطانَ يُسَنِّي لَكُم طُرُقَهُ ، ويُريدُ أن يَحُلَّ دينَكُم عُقدَةً عُقدَةً ، ويُعطِيَكُم بِالجَماعَةِ الفُرقَةَ ، وبِالفُرقَةِ الفِتنَةَ ، فَاصدِفوا عَن نَزَغاتِهِ ونَفَثاتِهِ ، وَاقبَلُوا النَّصيحَةَ مِمَّن أهداها إلَيهِم ، وَاعقِلوها عَلى أنفُسِكُم . (2)ب _ دُخولُ الكُوفَةِ وبَدءُ فِتنَةٍ اُخرىتاريخ الطبري عن عمارة بن ربيعة_ في صِفَةِ أصحابِ الإِمامِ عليه السلام _: خَرَجوا مَعَ عَلِيٍّ إلى صِفّينَ وهُم مُتَوادّونَ أحِبّاءُ ، فَرَجَعوا مُتَباغِضينَ أعداءَ ، ما بَرِحوا مِن عَسكَرِهِم بِصِفّينَ حَتّى فَشا فيهِمُ التَّحكيمُ، ولَقَد أقبَلوا يَتَدافَعونَ الطَّريقَ كُلَّهُ ويَتَشاتَمونَ
.
ص: 524
ويَضطَرِبونَ بِالسِّياطِ . يَقولُ الخَوارِجُ : يا أعداءَ اللّهِ ! أدهَنتُم في أمرِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وحَكَّمتُم ! وقالَ الآخِرونَ : فارَقتُم إمامَنا ، وفَرَّقتُم جَماعَتَنا .
فَلَمّا دَخَلَ عَلِيٌّ الكوفَةَ لَم يَدخُلوا مَعَهُ حَتّى أتَوا حَرَوراءَ (1) ، فَنَزَلَ بِها مِنهُمُ اثنا عَشَرَ ألفا ، ونادى مُناديهِم : إنَّ أميرَ القِتالِ شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ التَّميمِيُّ ، وأميرَ الصَّلاةِ عبَدُ اللّهِ بنُ الكَوّاءِ اليَشكُرِيُّ ، وَالأَمرُ شورى بَعدَ الفَتحِ ، وَالبَيعَةُ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ، وَالأَمرُ بِالمَعروفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ . . . ولَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ الكوفَةَ وفارَقَتهُ الخَوارِجُ وثَبَتَ إلَيهِ الشّيعَةُ فَقالوا : في أعناقِنا بَيعَةٌ ثانِيَةٌ ؛ نَحنُ أولياءُ مَن والَيتَ ، وأعداءُ مَن عادَيتَ . فَقالَتِ الخَوارِجُ : اِستَبَقتُم أنتُم وأهلُ الشّامِ إلَى الكُفرِ كفرَسَي رِهانٍ ؛ بايَعَ أهلُ الشّامِ مُعاوِيَةَ عَلى ما أحَبّوا وكَرِهوا ، وبايَعتُم أنتُم عَلِيّا عَلى أنَّكُم أولياءُ مَن والى وأعداءُ مَن عادى ! فَقالَ لَهُم زِيادُ بنُ النَّضرِ : وَاللّهِ ما بَسَطَ عَلِيٌّ يَدَهُ فَبايَعناهُ قَطُّ إلّا عَلى كِتابِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ولكِنَّكُم لَمّا خالَفتُموهُ جاءَتهُ شيعَتُهُ فَقالوا : نَحنُ أولِياءُ مَن والَيتَ ، وأعداءُ مَن عادَيتَ ، ونَحنُ كَذلِكَ وهُوَ عَلَى الحَقِّ وَالهُدى ، ومَن خالَفَهُ ضالٌّ مُضِلٌّ . (2)2 / 14خيمة التحكيمأ _ تَقييمُ الحَكَمَينِالطرائف عن أبي رافع :لَمّا أحضَرَني أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام وقَد وَجَّهَ أبا موسَى الأَشعَرِيَّ فَقالَ لَهُ : اُحكُم بِكِتابِ اللّهِ ولا تُجاوِزهُ ، فَلَمّا أدبَرَ قالَ : كَأَنّي بِهِ وقَد خُدِعَ . قُلتُ :
.
ص: 525
يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَلِمَ تُوَجِّهُهُ وأنتَ تَعلَمُ أنَّهُ مَخدوعٌ ؟ فَقالَ : يا بُنَيَّ ، لَو عَمِلَ اللّهُ في خَلقِهِ بِعِلمِهِ ما احتَجَّ عَلَيهِم بِالرُّسُلِ . (1)ب _ وَصِيَّةُ ابنِ عَبّاسٍ لِأَبي موسىمروج الذهب :وفي سَنَةِ ثَمانٍ وثَلاثينَ كانَ التِقاءُ الحَكَمَينِ بِدومَةِ الجَندَلِ وقيلَ بِغَيرِها ، عَلى ما قَدَّمنا مِن وَصفِ التَّنازُعِ في ذلِكَ ، وبَعَثَ عَلِيٌّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ العَبّاسِ ، وشُرَيحِ ابنِ هانئٍ الهَمدانِيِّ في أربَعِمِئَةِ رَجُلٍ فيهِم أبو موسَى الأَشعَرِيُّ ، وبَعَثَ مُعاوِيَةُ بِعَمرِو ابنِ العاصِ ومَعَهُ شُرَحبيلُ بنُ السِّمطِ في أربَعِمِئَةٍ ، فَلَمّا تَدانَى القَومُ مِنَ المَوضِعِ الَّذي كانَ فيهِ الاِجتِماعُ قالَ ابنُ عَبّاسٍ لِأَبي موسى :
إنَّ عَِليّا لَم يَرضَ بِكَ حَكَما لِفَضلٍ عِندَكَ ، وَالمُتَقَدِّمونَ عَلَيكَ كَثيرٌ ، وإنَّ النّاسَ أبَوا غَيرَكَ ، وإنّي لَأَظُنَّ ذلِكَ لِشَرٍّ يُرادُ بِهِم ، وقَد ضُمَّ داهِيَةُ العَرَبِ مَعَكَ .
إن نَسيتَ فَلا تَنسَ أنَّ عَلِيّا بايَعَهُ الَّذينَ بايَعوا أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ ، ولَيسَ فيهِ خَصلَةٌ تُباعِدُهُ مِنَ الخِلافَةِ ، ولَيسَ في مُعاوِيَةَ خَصلَةٌ تُقَرِّبُهُ مِنَ الخِلافَةِ . (2)ج _ وَصِيَّةُ مُعاوِيَةَ لِعَمرِو بنِ العاصِالبيان والتبيين :قالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ : يا عَمرُو ! إنَّ أهلَ العِراقِ قَد أكرَهوا عَلِيّا عَلى أبي موسى ، وأنَا وأهلُ الشّامِ راضونَ بِكَ . وقَد ضُمَّ إلَيكَ رَجُلٌ طَويلُ اللِّسانِ ، قَصيرُ الرَّأيِ ؛ فَأَجِدِ الحَزَّ ، وطَبِّقِ المَفصِلَ ، ولا تَلقِهِ بِرَأيِكَ كُلِّهِ . (3)
.
ص: 526
د _ نَصيحَةُ الإِمامِ عليه السلام لِعَمرِو بنِ العاصِوقعة صفّين عن شقيق بن سلمة :كَتَبَ عَلِيٌّ إلى عَمرِو بنِ العاصِ يَعِظُهُ ويُرشِدُهُ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ الدُّنيا مَشغَلَةٌ عَن غَيرِها ، ولَم يُصِب صاحِبُها مِنها شَيئا إلّا فَتَحَت لَهُ حِرصا يَزيدُهُ فيها رَغبَةً ، ولَن يَستَغنِيَ صاحِبُها بِما نالَ عَمّا لَم يَبلُغهُ ، ومِن وَراءِ ذلِكَ فِراقُ ما جَمَعَ . وَالسَّعيدُ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ ؛ فَلا تُحبِط _ أبا عَبدِ اللّهِ _ أجرَكَ ، ولا تُجارِ مُعاوِيَةَ في باطِلِهِ .
فَأَجابَهُ عَمرُو بنُ العاصِ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ ما فيهِ صَلاحُنا واُلفَتُنَا الإِنابَةُ إلَى الحَقِّ ، وقَد جَعَلنَا القُرآنَ حَكَما بَينَنا ، فَأَجِبنا إلَيهِ . وصَبرَ الرَّجُلُ مِنّا نَفسَهُ عَلى ما حَكَمَ عَلَيهِ القُرآنُ ، وعَذَرَهُ النّاسُ بَعدَ المُحاَجَزةِ . وَالسَّلامُ .
فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِيٌّ : أمّا بَعدُ فَإِنَّ الَّذي أعجَبَكَ مِنَ الدُّنيا مِمّا نازَعَتكَ إلَيهِ نَفسُكَ ووَثِقتَ بِهِ مِنها لَمُنقَلِبٌ عَنكَ ، ومُفارِقٌ لَكَ ؛ فَلا تَطمَئِنَّ إلَى الدُّنيا ؛ فَإِنَّها غَرَّارَةٌ . ولَوِ اعتَبَرتَ بِما مَضى لَحَفِظتَ ما بَقِيَ ، وَانتَفَعتَ بِما وُعِظتَ بِهِ . وَالسَّلامُ .
فَأَجابَهُ عَمرٌو : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أنصَفَ مَن جَعَلَ القُرآنَ إماما ، ودَعَا النّاسَ إلى أحكامِهِ . فَاصبِر أبا حَسنٍ ، وأنَا غَيرُ مُنيلِكَ إلّا ما أنالَكَ القُرآنُ . (1)ه _ مُفاوَضاتُ الحَكَمَينِالعقد الفريد عن أبي الحسن_ في ذِكرِ اجتِماعِ الحَكَمَينِ _: اُخلِيَ لَهُماجعَمرِو بنِ العاصِ وأبي موسىج مَكانٌ يَجتَمِعانِ فيهِ ، فَأَمهَلَهُ عَمرُو بنُ العاصِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، ثُمَّ أقبَلَ إلَيهِ بِأَنواعٍ مِنَ الطَّعامِ يُشَهّيهِ بِها ، حَتّى إذَا استَبطَنَ أبو موسى ناجاهُ عَمرٌو ، فَقالَ لَهُ : يا أبا موسى ! إنَّكَ شَيخُ أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وذو فَضلِها ، وذو سابِقَتِها ، وقَد تَرى ما
.
ص: 527
وَقَعَت فيهِ هذِهِ الاُمَّةُ مِنَ الفِتنَةِ العَمياءِ الَّتي لا بَقاءَ مَعَها ، فَهَل لَكَ أن تَكونَ مَيمونَ هذِهِ الاُمَّةِ ؛ فَيَحقُنُ اللّهُ بِكَ دِماءَها ؛ فَإِنَّهُ يَقولُ في نَفسٍ واحِدَةٍ : «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا» (1) ، فَكَيفَ بِمَن أحيا أنفُسَ هذَا الخَلقِ كُلِّهِ !
قالَ لَهُ : وكَيفَ ذلِكَ ؟ قالَ : تَخلَعُ أنتَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ، وأخلَعُ أنَا مُعاوِيَةَ بنَ أبي سُفيانَ ، ونَختارُ لِهذِهِ الاُمَّةِ رَجُلاً لَم يَحضُر في شَيءٍ مِنَ الفِتنَةِ ، ولَم يَغمِس يَدَهُ فيها .
قالَ لَهُ : ومَن يَكونَ ذلِكَ ؟ _ وكانَ عَمرُو بنُ العاصِ قَد فَهِمَ رَأيَ أبي موسى في عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ _ فَقالَ لَهُ : عَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ . فَقالَ : إنَّهُ لَكَما ذَكَرتَ ، ولكِن كَيفَ لي بِالوَثيقَةِ مِنكَ ؟
فَقالَ لَهُ : يا أبا موسى ، «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » (2) ، خُذ مِنَ العُهودِ وَالمَواثيقِ حَتّى تَرضى .
ثُمَّ لَم يُبقِ عَمرُو بنُ العاصِ عَهدا ولا مَوثِقا ولا يَمينا مُؤَكَّدَةً حَتّى حَلَفَ بِها ، حَتّى بَقِيَ الشَّيخُ مَبهوتا ، وقالَ لَهُ : قَد أحبَبتُ . (3)و _ رَأيُ الحَكَمَينِتاريخ الطبري عن أبي جناب الكلبي :إنَّ عَمرا وأبا موسى حَيثُ التَقَيا بِدومَةِ الجِندَلِ ، أخَذَ عَمرٌو يُقَدِّمُ أبا موسى فِي الكَلامِ ، يَقولُ : إنَّكَ صاحِبُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وأنتَ أسَنُّ مِنّي ، فَتَكَلَّم وأتَكَلَّمُ ؛ فَكانَ عَمرٌو قَد عَوَّدَ أبا موسى أن يُقَدِّمَهُ في كُلِّ شَيءٍ ، اغتَزى بِذلِكَ كُلِّهِ أن يُقَدِّمَهُ ، فَيَبدَأَ بِخَلعِ عَلِيٍّ . قالَ : فَنَظَرَ في أمرِهِما ومَا اجتَمَعا عَلَيهِ ، فَأَرادَهُ
.
ص: 528
عَمرٌو عَلى مُعاوِيَةَ فَأَبى ، وأرادَهُ عَلَى ابنِهِ فَأَبى ، وأرادَ موسى عَمرا عَلى عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ فَأَبى عَلَيهِ ، فَقالَ لَهُ عَمرٌو : خَبِّرني ما رَأيُكَ ؟ قالَ : رَأيي أن نَخلَعَ هذَينِ الرَّجُلَينِ ، ونَجعَلَ الأَمرَ شورى بَينَ المُسلِمينَ ، فَيَختارَ المُسلِمونَ لِأَنفُسِهِم مَن أحَبّوا . فَقالَ لَهُ عَمرٌو : فَإِنَّ الرَّأيَ ما رَأَيتَ .
فَأَقبَلا إلَى النّاسِ وهُم مُجتَمِعونَ ، فَقالَ : يا أبا موسى ، أعلِمهُم بِأَنَّ رَأيَنا قَد اجتَمَعَ وَاتَّفَقَ ، فَتَكَلَّمَ أبو موسى فَقالَ : إنَّ رَأيي ورَأيَ عَمرٍو قَدِ اتَّفَقَ عَلى أمرٍ نَرجو أن يُصلِحَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ أمرَ هذِهِ الاُمَّةِ . فَقالَ عَمرٌو : صَدَقَ وبَرَّ ، يا أبا موسى ! تَقَدَّم فَتَكَلَّم ، فَتَقَدَّمَ أبو موسى لِيَتَكَلَّمَ ، فَقالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : وَيحَكَ ! وَاللّهِ إنّي لَأَظُنَّهُ قَد خَدَعَكَ . إن كُنتُما قَد اتَّفَقتُما عَلى أمرٍ ؛ فَقَدِّمهُ فَليَتَكَلَّم بِذلِكَ الأَمرِ قَبلَكَ ، ثُمَّ تَكَلَّم أنتَ بَعدَهُ ؛ فَإِنَّ عَمرا رَجُلٌ غادِرٌ ، ولا آمَنُ أن يَكونَ قَد أعطاكَ الرِّضا فيما بَينَكَ وبَينَهُ ، فَإِذا قُمتَ في النّاسِ خالَفَكَ _ وكانَ أبو موسى مُغَفَّلاً _ فَقالَ لَهُ : إنّا قَدِ اتَّفَقنا . فَتَقَدَّمَ أبو موسى فَحَمِدَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ :
أيُّهَا النّاسُ ! إنّا قَد نَظَرنا في أمرِ هذِهِ الاُمَّةِ فَلَم نَرَ أصلَحَ لِأَمرِها ، ولا ألَمَّ لِشَعَثِها مِن أمرٍ قَد أجمَعَ رَأيي ورَأيُ عَمرٍو عَلَيهِ ؛ وهُوَ أن نَخلَعَ عَلِيّا ومُعاوِيَةَ ، وتَستَقبِلَ هذِهِ الاُمَّةُ هذَا الأَمرَ ؛ فَيُوَلّوا مِنهُم مَن أحَبّوا عَلَيهِم ، وإنّي قَد خَلَعتُ عَلِيّا ومُعاوِيَةَ ، فَاستَقبِلوا أمرَكُم ، ووَلّوا عَلَيكُم مَن رَأَيتُموهُ لِهذَا الأَمرِ أهلاً . ثُمَّ تَنَحّى .
وأقبَلَ عَمرُو بنُ العاصِ فَقامَ مَقامَهُ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ وقالَ : إنَّ هذا قَد قالَ ما سَمِعتُم وخَلَعَ صاحِبَهُ ، وأنَا أخلَعُ صاحِبَهُ كَما خَلَعَهُ ، واُثبِتُ صاحِبي مُعاوِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ وَلِيُّ عُثمانَ بنِ عَفّانَ ، وَالطّالِبُ بِدَمِهِ ، وأحَقُّ النّاسِ بِمَقامِهِ .
فَقالَ أبو موسى : ما لَكَ لا وَفَّقَكَ اللّهُ ! غَدَرتَ وفَجَرتَ ! إنَّما مَثَلُكَ «كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحمِل عليه يَلْهَثْ أو تتركه يَلْهث» (1) . قالَ عَمرٌو : إنَّما مَثَلَكُ «كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ .
ص: 529
أَسْفَارَا» (1) . وحَمَلَ شُرَيحُ بنُ هانِئٍ عَلى عَمرٍو فَقَنَّعَهُ بِالسَّوطِ ، وحَمَلَ عَلى شُرَيحٍ ابنٌ لِعَمرٍو فَضَرَبَهُ بِالسَّوطِ ، وقامَ النّاسُ فَحَجَزوا بيَنَهُم . وكانَ شُرَيحٌ بَعدَ ذلِكَ يَقولُ : ما نُدِمتُ عَلى شَيءٍ نَدامَتي عَلى ضَربِ عَمرٍو بِالسَّوطِ ألّا أكونَ ضَرَبتُهُ بِالسَّيفِ آتِيا بِهِ الدَّهرُ ما أتى . وَالتَمَسَ أهلُ الشّامِ أبا موسى ، فَرَكِبَ راحِلَتَهُ ولَحِقَ بِمَكَّةَ .
قالَ ابنُ عَبّاسٍ : قَبَّحَ اللّهُ رَأىَ أبي موسى ! حَذَّرتُهُ وأمَرتُهُ بِالرَّأيِ فَما عَقَلَ . فَكانَ أبو موسى يَقولُ : حَذَّرَنِي ابنُ عَبّاسٍ غَدرَةَ الفاسِقِ ، ولكِنِّي اطمَأنَنتُ إلَيهِ ، وظَنَنتُ أنَّهُ لَن يُؤثِرَ شَيئا عَلى نَصيحَةِ الاُمَّةِ . ثُمَّ انصَرَفَ عَمرٌو وأهلُ الشّامِ إلى مُعاوِيَةَ ، وسَلَّموا عَلَيهِ بِالخِلافَةِ ، ورَجَعَ ابنُ عَبّاسٍ وشُرَيحُ بنُ هانِئٍ إلى عَلِيٍّ . (2)ز _ كَلامُ الإِمامِ عليه السلام لَمّا بَلَغَهُ أمرُ الحَكَمينِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ بَعدَ التَّحكيمِ وما بَلَغَهُ مِن أمرِ الحَكَمَينِ _: أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ مَعصِيَةَ النّاصِِح الشَّفيقِ العالِمِ المُجَرِّبِ ، تورِثُ الحَسرَةَ ، وتُعقِبُ النَّدامَةَ .
وقَد كُنتُ أمَرتُكُم في هذِهِ الحُكومَةِ أمري ، ونَخَلتُ لَكُم مَخزونَ رَأيي ، لَو كانَ يُطاعُ لِقَصيرٍ أمرٌ ! فَأَبيَتُم عَلِيَّ إباءَ المُخالِفينَ الجُفاةِ ، وَالمُنابِذينَ العُصاةِ .
حَتَّى ارتابَ النّاصِحُ بِنُصحِهِ ، وضَنَّ الزَّندُ بِقَدحِهِ ، فَكُنتُ أنَا وإيّاكُم كَما قالَ أخو هَوازِنَ :
أمَرتُكُمُ أمري بِمُنعَرَجِ اللِّوىفَلَم تَستَبينُوا النُّصحَ إلّا ضُحَى الغَدِ (3)
.
ص: 530
بحث حول التحكيمإنّ قضيّة التحكيم في معركة صفّين تُعدّ واحدة من أكثر الوقائع الباعثة على الأسف والأسى في عهد حكومة الإمام عليّ عليه السلام ؛ حيث جاءت هذه الحادثة المريرة في وقت شارَفَ فيه جيش الإمام على إحراز النصر النهائي ، فحالَ قبول التحكيم دون تحقيق ذلك الانتصار الساحق ، وليس هذا فحسب ، بل إنّه أفضى أيضا إلى وقوع خلافات في جيشه عليه السلام وانهماكه في صراعات مع كوكبة واسعة من خيرة مقاتليه . ولغرض تسليط الأضواء على هذا الموضوع لابدّ أوّلاً من مناقشة عدّة اُمور :
1 . سبب قبول التحكيمالسؤال الأوّل الذي يتبادر إلى الأذهان هو : لماذا وافق الإمام على فكرة التحكيم ؟ فهل إنّه كان في شكّ من أمره ومواقفه ؟ بل ما معنى التحكيم بين الحقّ والباطل ؟ أوَلم تكن الحكمة والسياسة تقضيان أن يقاوم الإمام ضغوط رهْط من جيشه ، ولا ينصاع لفكرة التحكيم ؟ وفي معرض الإجابة عن هذه التساؤلات نقول : بلى ، إنّ مقتضى الحكمة والسياسة ألّا يقبل الإمام بالتحكيم ، إلّا أنّه عليه السلام _ كما تفيد الوثائق التاريخيّة القطعيّة _ لم يقبل التحكيم بإرادته وإنّما فُرض عليه فرضا ، ولم تكن مقاومته أمام ذلك الرأي
.
ص: 531
الساذج تُجديه نفعا ، بل كانت تؤدّي إلى وقوع معركة النهروان في صفّين ، وسيضطرّ الإمام إلى محاربة قسم كبير من جيشه في ذات الميدان الذي كان يقاتل فيه جيش الشام . عندما أدرك معاوية بأنّه لا طاقة له على الصمود أمام جيش الإمام ، وأنّ الحرب لو استمرت لكان الانتصار الحاسم حليف الإمام ، لجأ _ بما لديه من معرفة بفريق واسع من جيش الإمام ، وبناءً على اقتراح من عمرو بن العاص _ إلى حيلتين شيطانيّتين خطيرتين : الاُولى هدفها إيقاف القتال مؤقّتا ، بينما ترمي الثانية إلى تمزيق أو إضعاف جيش الإمام . وقد آتت كلتا الحيلتين اُكلهما بمعاضدة العناصر المتغلغلة في جيش الإمام . كانت الحيلة الاُولى رفع القرآن على الرماح ، ودعوة الإمام إلى تحكيم القرآن ، حتى أوقف القتال ، أمّا الحيلة الثانية فكانت قضيّة التحكيم التي تمّ حبكها على نحو أكثر تعقيدا ، ممّا أدّى في خاتمة المطاف إلى وقوف قطاع من خيرة جيشه في وجهه . وهذا هو السبب الذي دفع الإمام لاحقا إلى مقاتلة أنصاره في معركة النهروان . ولم يكن أمامه مناص في معركة صفّين سوى الانصياع لضغوطهم وقبول التحكيم . وهناك قول مشهور للإمام في وصف حالته أثناء قبول التحكيم : «لقد كنت أمسِ أميرا ، فأصبحت اليوم مأمورا ! وكنتُ أمس ناهيا ، فأصبحت اليوم منهيّا !» . وهو يعبّر بكلّ وضوح عن هذا الواقع المرير .
2 . لماذا أبو موسى ؟تفيد بعض الوثائق التاريخيّة أنّ أبا موسى الأشعري كان رجلاً منافقا ؛ فقد نُسب إلى حذيفة وعمّار بن ياسر القول بذلك . وهذا الادّعاء حتّى لو افترضناه غير صحيح ،
.
ص: 532
إلّا أنّ من المسلّم به أنّه كان رجلاً ساذجا ومغفّلاً وكان مناهضا لسياسة الإمام في التصدّي الحاسم لمثيري الفتنة الداخليّة . وموقفه هذا هو الذي جعله يثبّط الناس عن أمير المؤمنين عند قدومه البصرة ، ويحثّهم على لزوم بيوتهم ، وفي نهاية الأمر أرغمه مالك الأشتر على مغادرة قصر الإمارة . وهنا يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال وهو : لماذا عيّن الإمام شخصا ساذجا له كهذا ، مندوبا عنه في أمر التحكيم ؟ ألم يعلم بما ستكون عليه نتيجة التحكيم فيما لو دخل أبو موسى فيه ؟ والجواب هو : بلى ، إنّ الإمام كان يعلم بالنتيجة ؛ فقد ذكر عبد اللّه بن أبي رافع كاتب الإمام عليّ عليه السلام بأنّ أبا موسى عندما أراد المسير إلى التحكيم ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : «كَأَنّي بِهِ وقَد خُدِعَ !» ، غير أنّ الضغوط التي أرغمت الإمام على قبول التحكيم هي نفسها التي أرغمته على إرسال أبي موسى ممثّلاً عنه . ومع أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حاول أن يبعث عبد اللّه بن عبّاس أو مالكا الأشتر حكما ، إلّا أنّ محاولاته لم تُجْد نفعا ! فقال عليه السلام : «إنَّكُم عَصَيتُموني في أوَّلِ الأَمرِ ؛ فَلا تَعصونِي الآنَ ! إنّي لا أرى أن اُوَلِّيَ أبا موسى» . فقال الأشعث وزيد بن الحصين الطائي ومسعر بن فدكي : لا نرضى إلّا به ؛ فإنّه ما كان يحذّرنا منه وقعنا فيه ! قال عليّ عليه السلام : «فَإِنَّهُ لَيسَ لي بِثِقَةٍ ؛ قَد فارَقَني وخَذَّلَ النّاسَ عَنّي ، ثُمّ هَرَبَ مِنّي حَتّى آمَنتُهُ بَعدَ أشهُرٍ . . .» . ولم يستطع الإمام أن يثنيهم عن رأيهم ، فقال لهم في نهاية الأمر : «فَاصنَعوا ما أرَدتُم !» .
.
ص: 533
3 . موضوع التحكيملنتطلّع الآن في موضوع الحَكَميّة ، وما الذي يجب أن يحكم فيه الحكمان ؟ لا يلاحظ في وثيقة التحكيم ما يشير إلى موضوع التحكيم ، ولا واجبات وصلاحيّات الحكَمَين ، وإنّما اشتملت على واجب عامّ للحكَمَين وهو «أن ينزل الحَكَمان عند حكم القرآن ، وما لم يجداه مسمّىً في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول اللّه » . لم يرد في نصّ الوثيقة ما يشير إلى موضوع التحكيم قطّ ، أو أنّه يُعنى بالنظر في أمر قتَلة عثمان ؛ كما أشار البعض إلى «أنّ الذي يُستشفّ من كتب وكلمات معاوية أنّ ما فُوّض إلى الحَكَمين هو النظر في أمر قتلة عثمان ، وهل كانوا محقّين في عملهم أم لا ؟» . أوَهل كان موضوع التحكيم واضحا بحيث لم تكن هناك ضرورة لإدراجه في نصّ الوثيقة ؟ أم يحتمل أنّ موضوع التحكيم كان موجودا في الوثيقة ، إلّا أنّه حُذف أو حُرِّف لاحقا ؟ الذي يبدو أنّ تحريف نصّ الوثيقة كان أمرا مستبعدا ، وكذلك لو كان موضوع التحكيم يختصّ بقتلة عثمان لاُشير إليه في نصّ الوثيقة . وما جاء في كلام الإمام أو في رسائله إلى معاوية لا يكشف عن أنّ مسألة قتلة عثمان كان أحد مواضيع التحكيم . ويظهر أنّ موضوع التحكيم يختصّ بحلّ اختلافات الجانبين ، ولا توجد حاجة لتعيينه ؛ فقد يكون الاختلاف تارة حول مسائل الزواج ، كما جاء في الآية (35) من سورة النساء ، أو مسائل سياسيّة ، كما وقع في معركة صفّين ، أو مسائل اُخرى . وفي كلّ الحالات يجب على الحكمين البتّ في جميع المسائل المختلف عليها بين
.
ص: 534
الفريقين المتنازعين ، وتوفير أجواء المصالحة بينهما . ومعنى هذا الكلام عدم تخصيص موضوع الحكَميّة في معركة صفّين بمسألة قتلة عثمان ، وإنّما كان يشمل جميع الاُمور المتنازع عليها بين عليّ عليه السلام ومعاوية . وهذا هو السبب الذي جعل الوثيقة خالية من ذكر أيّ موضوع خاصّ ، إلّا أنّ هذا المعنى لم يكن يشمل تعيين الخليفة ، وإنّما كان واجب الحكمين البتّ في تنازع جيش الكوفة والشام ووضع حدّ لحالة الحرب وسفك الدماء . والحقيقة هي أنّ ما اُعلن بوصفه رأيا نهائيّا على أثر الخديعة التي حاكها عمرو بن العاص ، جاء خارج موضوع التحكيم وفوق الصلاحيّات المفوّضة إلى الحَكَمين .
4 . سبب انخداع جيش الإمام عليه السلاموالآن نُجيل النظر في أسباب انخداع جيش الإمام عليّ عليه السلام ؛ ولماذا لم يدركوا أو لم يريدوا أن يدركوا بأنّ رفع المصاحف على الرماح لم يكن إلّا مكيدة أراد بها الشاميّون إيقاف القتال ؟ ولماذا لم يُصغوا لكلام إمامهم ، وأرغموه على قبول التحكيم ؟ ينبغي الإجابة عن هذا السؤال بالقول : إنّه وإن كان ثمّة أفراد في جيش الإمام كانوا طوع أمره ، وأرادوا أن تستمرّ المعركة حتّى انتصار جيش الكوفة ، إلّا أنّ الوثائق التاريخيّة تُثبت أنّ الأكثريّة العظمى من جيش الإمام كانت قد سئمت الحرب أوّلاً ، وكانوا يعلمون أنّهم حتى لو انتصروا فلن يحصلوا على أيّة غنائم _ مثلما حدث في معركة الجمل _ ثانيا ؛ ومن هنا فهم كانوا يفتقدون الدوافع المحفزة على مواصلة القتال . وعندما عرض عديّ بن حاتم على الإمام عليه السلام مواصلة الحرب قائلاً : يا أمير المؤمنين ، ألا نقوم حتى نموت ؟ فقال عليّ عليه السلام : «اُدنُهْ» ، فَدَنا حَتّى وَضَعَ اُذُنَهُ عِندَ أنفِهِ ، فَقالَ : «وَيحَكَ ! إنَّ عامَّةَ
.
ص: 535
مَن مَعي يَعصيني ، وإنَّ مُعاوِيَةَ فيمَن يُطيعُهُ ولا يَعصيهِ» . نعم ، فقد كان قرّاء الكوفة _ الذين كان لهم دور أساسي في جيش الإمام _ من جملة هذه الشِّرْذِمة ، ونظرا لمكانتهم بين أهل الكوفة ، فقد أصبح لهم الدور الأكبر في صياغة هذا المشهد الأليم ، وكان جهلهم وغرورهم بمثابة الغشاء الذي حال بينهم وبين إدراك الخدعة التي لجأ إليها الشاميّون برفع المصاحف على الرماح لغرض إيقاف الحرب والحيلولة دون هزيمتهم المتوقّعة ، وقد أدّى التطرّف الديني _ المقرون بالجهل والحماقة _ بهؤلاء العبّاد الجهلة إلى إرغام إمامهم على قبول التحكيم . وممّا دعم الموقف الأحمق للقرّاء في تلك الأثناء وساهم في نجاح مكيدة معاوية لإيقاف الحرب وبثّ الفرقة في جيش الإمام _ كما سبقت الإشارة إليه _ هو موقف اُولئك الذين كانوا يتعاملون مع الإمام تعاملاً منافقا ، ومن كانوا يمنّون أنفسهم بوعود معاوية ، وعلى رأسهم الأشعث بن قيس . فالأشعث بن قيس من قبيلة كندة التي كانت تقطن جنوب الجزيرة العربيّة ، وقد وفد على الرسول صلى الله عليه و آله مع جماعة من قومه في السنة العاشرة للهجرة ، وأسلم ، ثمّ ارتدّ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله ، فبعث أبو بكر جيشا لقتاله ، واُسر واقتيد مكبّلاً بالأغلال إلى المدينة ، فعفا عنه أبو بكر وزوّجه اُخته ! ! وبعد مقتل عثمان بايع عليّا عليه السلام ، بيد أنّه لم يكن يتعامل معه بإخلاص ؛ فمواقفه إزاء الإمام وخاصّة فيما يتعلّق بالتحكيم ، وبثّ الفرقة بين صفوف جيش الإمام ، تشير إلى أنّه تحوّل إلى واحد من العناصر المندسّة في جيش الإمام لصالح معاوية . إلّا أنّ الإمام عليّ عليه السلام لم يكن قادرا على البتّ في أمره ؛ بسبب مكانته الاجتماعيّة وضخامة قبيلته التي كان لها دور مؤثّر في جيش الكوفة .
.
ص: 536
5 . الحكمة من عدم اغتنام الفرصة بعد توبة الخوارجوتوقّفت المعركة على أثر المكيدة التي ابتكرها عمرو بن العاص . ولكن ما لبث قرّاء الكوفة أن انتبهوا إلى أنّهم قد انطلت عليهم الخدعة ، وأنّهم قد أخطؤوا في حمل الإمام على قبول التحكيم . فجاؤوا إليه وأعربوا عن خطأ موقفهم ، وتوبتهم ممّا كان منهم ، وأنّه هو الآخر قد أخطأ في قبول رأيهم ، ويجب أن يتوب أيضا ! واعتبروا الوثيقة التي صيغت على أساس المكيدة فاقدة لأيّة قيمة ، ولابدّ من نقضها واستئناف الحرب . إلّا أنّ الإمام رفض قبول هذه الاقتراحات ، وانتهى ذلك الرفض إلى انشقاق القُرّاء عن الإمام ووقوع معركة النهروان . والسؤال الأساسي الأخير فيما يخصّ أمر التحكيم هو : لماذا رفض الإمام اقتراح القرّاء بنقض الوثيقة ومعاودة القتال ؟ ألم يكن يعلم بما سيؤول إليه رفض تلك المقترحات ؟ وما هي الحكمة الكامنة وراء عدم اغتنام الإمام لتلك الفرصة الذهبيّة لإنهاء فتنة القاسطين ، وتوقّي وقوع فتنة المارقين ؟ وجواب هذا السؤال : هو أنّ استجابة الإمام لتلك المقترحات تنطوي على ثلاثة أخطاء سياسيّة ودينيّة كبرى لم يكن الإمام على استعداد لاقترافها ، وهي :
أ _ الاعتراف بخطأ القيادةكان الطلب الأوّل للخوارج أن يعترف بأنّه قد أخطأ فيما يخصّ القبول بأمر التحكيم ، غير أنّ الإمام لم يكن على استعداد للإعلان عن ارتكابه لأيّ خطأ ؛ وذلك لأنّ القبول بالتحكيم لحلّ الاختلافات لا يُعدّ تصرّفا خاطئا ، بل هو أمر محبّذ يؤيّده القرآن . والمؤاخذة الوحيدة في هذا السياق هي أنّ التحكيم في هذه الواقعة جاء خلافا للحكمة والسياسة التي أعلنها الإمام صراحة ، لكنّهم هم الذين استنكروا منه ذلك الموقف وأملوا عليه وعلى جيش الكوفة الرضوخ للتحكيم .
.
ص: 537
وفضلاً عن ذلك ، فإنّ الإمام كان يميل إلى الاستقالة على نحو يُرضي الخوارج ، غير أنّ الأشعث لم يقبل وأصرّ على أن يعترف الإمام بالخطأ على نحو يسيء إلى مكانته بوصفه قائدا .
ب _ نقض العهدولو افترضنا أنّ الإمام قد اعترف بخطأ ؛ فإنّ الخوارج كان لديهم طلب آخر ؛ وهو نقض الوثيقة بين جيش الشام والكوفة . بينما كان الإمام يرى أنّ التمسّك بالمواثيق يعدّ واحدا من المبادئ الدوليّة في الإسلام ، ولا ينبغي أن ينقض المواثيق تحت أيّة ذريعة كانت . ومن هنا فقد كتب في عهده إلى مالك الأشتر : «وإن عَقَدتَ بَينَكَ وبَينَ عَدُوِّكَ عُقدَةً أو ألبَستَهُ مِنكَ ذَمَّةً ، فَحُط عَهدَكَ بِالوَفاءِ ، وَارعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمانَةِ ، وَاجعَل نَفسَكَ جُنَّةً دونَ ما أعطَيتَ ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ مِن فَرائِضِ اللّهِ شَيءٌ النّاسُ أشَدُّ عَلَيهِ اجتِماعا ، مَعَ تَفَرُّقِ أهوائِهِم وتَشَتُّتِ آرائِهِم ، مِن تَعظيمِ الوَفاءِ بِالعُهودِ . وقَد لَزِمَ ذلِكَ المُشرِكونَ فيما بَينَهُم دونَ المُسلِمينَ لَمَّا استَوبَلوا مِن عَواقِبِ الغَدرِ ؛ فَلا تَغدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ، ولا تَخيسَنَّ بِعَهدِكَ ، ولا تَختِلَنَّ عَدُوَّكَ ؛ فَإِنَّهُ لا يَجتَرِئُ عَلَى اللّهِ إلّا جاهِلٌ شَقِيٌّ . وقَد جَعَلَ اللّهُ عَهدَهُ وذِمَّتَهُ أمنا أفضاهُ بَينَ العِبادِ بِرَحمَتِهِ ، وحَريما يَسكُنونَ إلى مَنَعَتِهِ ، ويَستَفيضونَ إلى جِوارِهِ ؛ فَلا إدغالَ ولا مُدالَسَةَ ولا خِداعَ فيهِ» . (1) فإذا كان الإمام عليّ عليه السلام ينقض هذا المبدأ الإسلامي الأساسي ، فما عسانا أن نتوقّع من غيره !
ج _ خطورة تسلّط الجهلة المتنسّكينإنّ خطر تسلّط الجهلة المتنسّكين _ في منظار الإمام عليه السلام _ لا يقلّ عن خطر العلماء
.
ص: 538
الفاسقين ؛ فالاعتراف بخطأ ، ونقض العهد في أمر التحكيم ، كان يعني انصياع عليّ عليه السلام لتسلّط الجهلة المتنسّكين _ المصابين بمرض العجب وحبّ الدنيا والتطرّف الديني لدى من اشتُهروا باسم «القرّاء» _ على نفسه وعلى الاُمّة الإسلاميّة ، وأنّه قد فوّض إليهم القرارات الأساسيّة في الحرب والسلام ، ومن بعدهما في جميع الاُمور المهمّة والحسّاسة . وهذا ليس بالأمر الذي يمكن أن يتقبّله أو يستسيغه قائد الاُمّة الإسلاميّة . وهذا ما جعل الإمام يقاوم طلباتهم بكلّ قوّة ، ويقول : «فَإِنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» .
.
ص: 539
الفصل الثالث : الحرب الثالثة : وقعة نهرواندراسة حول المارقين وجذور انحرافهمإنّ ظهور حركة الخوارج وبالتالي قيام معركة النهروان يُعَدّ من الحوادث المليئة بالعبر في التاريخ الإسلامي وعصر حكومة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؛ ذلك أنّ طبيعة سلوكهم ، وسابقتهم الدينيّة ، وتمسّكهم القشري بالإسلام ، ثمّ مواجهتهم للإمام عليه السلام ، كلّ ذلك يعتبر من الاُمور المهمّة الحسّاسة في السيرة العلويّة . ويمكننا أن نقف على المخاطر والمحاذير إزاء مواجهة تيّارهم ومحاربتهم ، من خلال كلامٍ رفيعٍ للإمام عليه السلام قال فيه : « . . . إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ؛ ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» . (1) أجلْ ، كيف يتسنّى أن تُسلّ السيوف على وجوهٍ قرآنيّة الظاهر ، وجباهٍ ثَفِنَةٍ من كثرة السجود ، ومن ثَمّ قهرها وإبادتها ؟ ! نحن في هذا الموضوع سوف نتوفر _ وقبل كلّ شيء _ على دراسة الوضع النفسي والاجتماعي للخوارج اعتمادا عل الوثائق التاريخيّة والحديثيّة ، ونستعرض
.
ص: 540
كيفيّة تبلور أفكارهم ، وما كان لهم من موقف متشدّد مَشُوب باللجاجة والجهل في قبال الإمام عليه السلام .
الدين والاعتدالالإسلام دينٌ وَسَط (1) ، وتعاليمه زاخرة بالتأكيد على الاعتدال ، وبالنظرة الشموليّة المستوعبة ، وبضرورة الابتعاد عن الإفراط ، والنظرة الضيّقة الاُحاديّة الجانب إلى الاُمور . ورسول اللّه صلى الله عليه و آله _ الذي كان يعرض الإسلام بوصفه منهاجا للتكامل المادّي والمعنوي ويؤكّد شموليّته وكماله في استيعابه المصالح الفرديّة والاجتماعيّة _ كان يرى الإفراط والنظرة الاُحاديّة الجانب أكبر خطر على اُمّته ودينه . ولم يزل ينبّه على هذه الحقيقة طيلة عمره المبارك ، فقد كان صلى الله عليه و آله يقول : «لا يَقومُ بِدينِ اللّهِ إلّا مَن حاطَهُ مِن جَميعِ جَوانِبِهِ» . (2) وكان صلى الله عليه و آله يرى أنّ الذين يحملون النظرة الشموليّة المستوعبة للدين ، ويُحيطون بجميع التعاليم الدينيّة في مجال الفكر ، والقول ، والتكامل الفردي والاجتماعي هم وحدهم الذين تُثمر جهودهم في نصرة الدين ، وكان يحرص على تعليم ذلك لاُمّته . ومن هنا كان صلى الله عليه و آله يقول : «إنَّ دينَ اللّهِ عَزَّوجَلَّ لَن يَنصُرَهُ إلّا مَن حاطَهُ مِن جَميعِ جَوانِبِهِ» . (3) ورسول اللّه صلى الله عليه و آله _ إلى جوار ما كانت تعيشه الاُمّة من تعاليم سيرته الوضّاءة التي يُتحفها بها من أجل هدايتها واستقامتها على الطريقة ، وجعلها الاُمّة الوسط _ كان
.
ص: 541
يدلّ على القدوة في هذا المجال ، ويؤكّد تمسّك المسلمين بسيرة العترة التي كان يعرّفها للاُمّة بوصفها المثال البارز للاعتدال والوسطيّة . وقد أشار الأئمّة عليهم السلام إلى منزلة أهل البيت ومكانتهم ، من ذلك دعاء الإمام السجّاد عليه السلام في الصلوات الشعبانيّة ، حيث جاء فيها : اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ الفُلكِ الجارِيَةِ فِي اللُّجَجِ الغامِرَةِ ؛ يَأمَنُ مَن رَكِبَها ، ويَغرَقُ مَن تَرَكَها ، المُتَقَدِّمُ لَهُم مارِقٌ ، وَالمُتَأَخِّرُ عَنهُم زاهِقٌ ، وَاللّازِمُ لَهُم لاحِقٌ . (1) وهكذا نبّه أئمّة الدين الناسَ على لزوم الاعتدال في الفكر والحياة ، وأكّدوا ذلك . ويمكننا أن نُدرك من هذا كلّه أنّ الخروج عن جادّة الاعتدال ، والسقوط في حضيض الإفراط والتطرّف لا يستتبع إلّا الشذوذ ، وربّما الانجراف مع تيّار الفساد . ومثّل الخوارج _ في نطاق الثقافة الإسلاميّة _ تيّارا متطرّفا ذا مواقف حادّة متشنّجة بعيدة عن الاعتدال ، ونُعتوا في الأحاديث النبويّة بصفة «التعمّق» : «إنَّ أقواما يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ يَمرُقونَ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . ونتناول هذا الاصطلاح فيما يأتي بإيجاز قبل أن نتحدّث عن جذور تيّار الخوارج :
التطرّف الديني في اصطلاح الحديثذكرنا أنّ الإسلام دينٌ وسطٌ يرفض الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال ، ولنا أن نلمس هذه الحقيقة في التعاليم الدينيّة بعناوين متنوّعة . منها : إنّنا نلحظ أنّ الإفراط والتطرّف وردا في لسان الأحاديث والروايات تحت عنوان «التعمّق» ، قال
.
ص: 542
رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «إيّاكُم وَالتَّعَمُّقَ فِي الدّينِ ! فَإِنَّ اللّهَ تَعالى قَد جَعَلَهُ سَهلاً ، فَخُذوا مِنهُ ما تُطيقونَ ؛ فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ مادامَ مِن عَمَلٍ صالِحٍ وإن كانَ يَسيرا» (1) . ونُلقي فيما يأتي نظرة عابرة على هذه المفردة مستهدين بما ذكره أرباب المعاجم . قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : المُتَعَمِّق : المبالغ في الأمر المنشود فيه الذي يُطلب أقصى غايته (2) . وجاء في «لسان العرب» : المُتَعَمِّق : المبالغ في الأمر المتشدّد فيه الذي يطلب أقصى غايته (3) . ونجد هذا المعنى أيضا في كلام المحدّثين ؛ فقد ذهبوا في شرح روايات جمّة إلى أنّ التعمّق هو الإغراق في الخروج عن الاعتدال ، والإفراط في مقابل الاعتدال (4) . إنّ التنقيب عن مواضع استعمال «التعمّق» في المعاجم والأحاديث الإسلاميّة المنقولة في مصادر الفريقين لا يُريب الباحث في أنّ المراد من هذه الكلمة في الثقافة الإسلاميّة ليس إلّا الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال . وعلى أيّ
.
ص: 543
حال لو لم يكن إلّا الحديث الذي أوردناه آنفا لكفى به برهانا على ما نقول . وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يوصي أصحابه دائما ألّا يتجاوزوا حدّ الاعتدال في اُمور الدين ، ولا يُحرجوا أنفسهم ، ولا يفقدوا حماسهم ونشاطهم في العبادة ، وأن يُراعوا حدود السنّة ، ولأنّ المجال هنا يضيق عن ذكر جلّ وصاياه وتعاليمه التربويّة المليئة بالدروس والعبر ، الجديرة بالقراءة والتأمّل . فإننا نذكر نزرا يسيرا منها : «ألا وإنَّ لِكُلِّ عِبادَةٍ شِرَّةً ، ثُمَّ تَصيرُ إلى فَترَةٍ ، فَمَن صارَت شِرَّةُ عِبادَتِهِ إلى سُنَّتي فَقَدِ اهتَدى ، ومَن خالَفَ سُنَّتي فَقَد ضَلَّ ، وكانَ عَمَلُهُ في تَبابٍ ، أما إنّي اُصَلّي وأنامُ ، وأصومُ واُفطِرُ ، وأضحَكُ وأبكي ؛ فَمَن رَغِبَ عَن مِنهاجي وسُنَّتي فَلَيسَ مِنّي» (1) . وكان صلى الله عليه و آله ينظر في مرآة الزمان إلى أفراد من اُمّته يناهضون الحقّ لإفراطهم وتطرّفهم ، ويصرّون على موقفهم إصرارا سُرعان ما يُبعدهم عن الدين وحقائقه ، ولذا قال في حقّهم : «إنَّ أقواما يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ ، يَمرُقونَ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (2) . وقال مشيرا إلى علامات هؤلاء : «إنَّ فيكُم قَوما يَعبُدونَ ويَدأَبونَ يَعني يُعجِبونَ النّاسَ وتُعجِبُهُم أنفُسُهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . فالتعمّق هو التطرّف والإفراط ، وإذا ما جُعل ميزانا لأفعال الآخرين فلا يُنتج إلّا الحكم الجائر ؛ فيرى الحقّ دوما في جانبه ، وليس للآخرين حظٌّ منه ، وهذا النوع من الرؤى هو الذي يسبّب الفرقة ، ويستتبع الزيغ ويوجِد الشقاق ، وبالتالي فيصبح دعامة للكفر ، وحسبنا في المقام كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بيان هذه الحقيقة ، وأنّ التعمّق أحد اُسس الكفر ، إذ يقول :
.
ص: 544
«وَالكُفرُ عَلى أربَعِ دَعائِمَ : عَلَى التَّعَمُّقِ ، وَالتَّنازُعِ ، وَالزَّيغِ ، وَالشِّقاقِ ؛ فَمَن تَعَمَّقَ لم يُنِب إلَى الحَقِّ» (1) . ومثل هؤلاء المتعمّقين بتماديهم في ظنونهم وأوهامهم ، وإغراقهم في أفكارهم ، ومن ثمّ أساليبهم المفرطة ، لا يجدون مجالاً للإنابة إلى الحقّ ، ومن هنا لا ينقادون للإسلام ، وهل الإسلام إلّا التسليم للحقّ ، والإقرار به ، والخضوع له بعد فهمه ؟ والمؤسف أنّ مشكلة الخوارج الكبرى قد تمثّلت في توجّهاتهم المتطرّفة المفرطة اللامتناهية ، لذلك آلَ أمرهم إلى حكمهم بالكفر على كلّ من لا يرى رأيهم ولا يعمل عملهم !
نقطة البداية في الانحرافإنّ عددا من المسلمين في عصر صدر الإسلام لم يتلقّ تحذير النبيّ صلى الله عليه و آله من «التعمّق» بكثيرٍ من الجِدّية ؛ لأسباب سنعرضها عند الحديث عن جذور «التعمّق» ؛ فهؤلاء قد تجاوزوا السنّة النبويّة ، وأفرطوا في نزعاتهم حتى وقحُوا في بعض المرّات واجترؤوا يؤاخذون النبيّ صلى الله عليه و آله إذ كان صلى الله عليه و آله في أحد الأيّام مشغولاً بتوزيع الغنائم ، وقسمتها بمراعاة مصالح معيّنة ، فهبّ أحد هؤلاء «المتقدّسين» ، وقد سوّلت له نفسه أنّه أعدل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في القسمة بزعمه ، وطلب منه أن يعدل في التوزيع ! وطعن في تقسيمه القائم على التعاليم القرآنيّة ، وكان أثر السجود بائنا على جبهته ، ورأسه محلوق على طريقة «المتقدّسين» يومئذٍ ورفع عقيرته بغلظة وفظاظة قائلاً : «يا مُحَمَّدٌ ، وَاللّهِ ما تَعدِلُ !» فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله مُغضبا : وَيحَكَ ! فَمَن يَعدِلُ إذا لَم أعدِل ؟ ! وَهَمَّ الصحابةُ بقتله لموقفه الوقِح هذا ، بَيْد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله منَعهم ، وحكى لهم صورةً
.
ص: 545
عن مستقبله ، وأنبأهم بأنّه ورفقاءه بعيدون عن الحقّ من منطلق «التعمّق» وقال : «سَيَكونَ لَهُ شيعَةٌ يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ حَتّى يَخرُجوا مِنهُ» . (1) وقال في خبر آخر : «إنَّهُ يَخرُجُ هذا في أمثالِهِ وفي أشباهِهِ وفى ضُرَبائِهِ يَأتيهِمُ الشَّيطانُ مِن قِبَلِ دينِهِم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لا يَتَعَلَّقونَ مِن الإِسلامِ بِشَيءٍ» . (2) والعجب أنّ هؤلاء قد تقمّصوا الزهد ، وعليهم سيماء العابدين أو هيئة الزاهدين ، بَيْد أنّهم _ من منظار رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ من الدين خارجون ، وعن الحقّ والحقيقة بعيدون ، وهم الذين كانوا يسمّون أنفسهم «القُرّاء» أيضا ، في حين أبان النبيّ صلى الله عليه و آله هذه الصفة وجلّى طبيعتها أيضا ، فقد قال صلى الله عليه و آله : «يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حُلوقَهُم أو حَناجِرَهُم !» (3) . ويحسن بنا أن نتحدّث بإجمال عن مصطلح «القرّاء» ؛ لِما كان له من أرضيّة اجتماعيّة في التاريخ الإسلامي .
تيّار القرّاء وتبلورهكان في المجتمع الإسلامي أشخاص مشهورون بحُسن القراءة ، وحظي هؤلاء بشعبيّة لافتة للنظر ، وإقبال حَسَن بين الناس ، حتى غدا عنوان «القارئ» امتيازا له أثر في تعيين المناصب أحيانا (4) .
.
ص: 546
وقد ازداد عددهم بمرور الأيّام ، وكانوا يحلقون رؤوسهم على طريقة خاصّة (1) ، ويضعون عليها برانس خاصّة لتمييزهم عن غيرهم ، فعُرفوا ب«أصحاب البرانس» . وكان القرّاء متفرّقين في مكّة ، والمدينة ، والشام ، والكوفة ، لكنّ معظمهم كان في الكوفة (2) . ولم يشتركوا في الشؤون السياسيّة غالبا ، بَيْد أنّهم طفقوا ينتقدون عثمان في أيّام خلافته ، ولم يُطِق انتقادهم وتعنيفهم فنفاهم ، ولهم في الثورة عليه وقتله دَورٌ أيضا .
دور القرّاء في جيش الإمام عليّ عليه السلامكان القرّاء _ بسابقتهم الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة هذه _ يشكّلون قسما لافتا للنظر من جيش الإمام عليه السلام ، وعُرفوا بالشجاعة والإقدام والقتال ، وكان لهم موقع في جيشه عليه السلام ، بحيث إنّهم لمّا اُبيدوا في النهروان تركوا فراغا مشهودا في الجيش . ويدلّ على موقعهم أيضا أنّ معاوية عندما شنّ غاراته ، وحثَّ الإمامُ عليه السلام جُنده على الدفاع عن الثغور ، فلم يسمع جوابا منهم ، قال أحد أصحابه : «ما أحوَجَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام ومَن مَعَهُ إلى أصحابِ النَّهرَوانِ !» (3) .
القرّاء وفرض التحكيم على الإمام عليه السلامممّا يؤسف له أنّ هؤلاء القرّاء بماضيهم المعروف قد خدعتهم _ وهم في جيش الإمام عليه السلام _ المكائد الخفيّة لمعاوية وعمرو بن العاص وعملائهما ، بسبب تطرّفهم ، وإفراطهم أو تعمّقهم على حدّ تعبير النبيّ صلى الله عليه و آله ، ففرضوا التحكيم على الإمام عليه السلام .
.
ص: 547
لقد احتال ابن العاص وسوّل للجيش مكيدته في وقتٍ أوشك أن يُطوى فيه ملفّ الشام إلى الأبد ، وتستريح الاُمّة من هذه الفتنة العمياء السوداء ، وأمر برفع المصاحف على الرماح دلالةً على الكفّ عن القتال ، وأمارةً على تحكيم كتاب اللّه فيه ، فاتّخذ اُولئك القرّاء موقفهم المُشين المشهور ، وهم المعروفون بسطحيّتهم ونظرهم إلى ظاهر الاُمور لا باطنها ، ولم يروا وجه الحيلة ، فأجبروا الإمام عليه السلام على قبول التحكيم ، والإمساك عن القتال تعظيما لحرمة القرآن بزعمهم ، وأكرهوه على ذلك بالرغم من معارضته عليه السلام ومعه الخاصّة من أصحابه ، وهدّدوه بالقتل عند الرفض ، ولم يكن له عليه السلام سبيل إلّا الاستجابة لذلك المنطق المتعسّف الخاوي الجهول ؛ لما كان لهم من تغلغل ونفوذ في جيشه ، وقَبِل الإمام عليه السلام اقتراحهم ، فاستدعى «مالكا» الذي كان قد تقدّم في المعركة واقترب من فسطاط معاوية . وهكذا انطلت الخديعة ، وواجهت حكومة الإمام عليه السلام مشكلة جدّية .
انفصال القرّاء عن الإمام عليه السلامما لبث أن اُميط اللثام ، وافتضحت خديعة معاوية ، وأدرك القرّاء السطحيّون خطأهم وانخداعهم بمكيدة رفع المصاحف ، ولكنّهم بدل أن يستفيقوا فيعيدوا الحقّ إلى نصابه ، والماء إلى مسابه نراهم كابروا بمضاعفة تطرّفهم ، وجهلهم ، وإفراطهم ، ونظرتهم الضيّقة المنغلقة ، واجترحوا سيّئةً أكبر من سابقتها ، فقالوا للإمام عليه السلام : لقد كفرنا بفعلنا هذا ، وإنّا تائبون منه ، وأنت كفرت أيضا ؛ فعليك أن تتوب مثلنا ، وتنكث ما عاهدت عليه معاوية ، وتعود إلى مقاتلته ! ولا ريب في أنّ نكث الإمام عهدَهُ _ مضافا إلى ما فيه من مخالفةٍ لسيرته واُسلوبه وتعاليم دينه _ يُفضي إلى تضييق هؤلاء «المتقدّسين» المتعنّتين الخناق على الإمام عليه السلام ، وتحديد نطاق حكومته إلى درجة ينفلت معها زمام الاُمور ، ويفقد عليه السلام
.
ص: 548
القدرة على صنع قراره في الحرب والسلم ، والسياسة والإدارة ؛ وتخرج الاُمور المهمّة من يده . فلذا واجه عليه السلام هذا الطلب الجهول بكلّ قوّة ، لكنّ اُولئك القرّاء بدل أن يتأمّلوا في هشاشة موقفهم الأحمق هذا ، افترقوا _ عند الرجوع من صفّين _ عن أمير المؤمنين وإمام المتديّنين ؛ انطلاقا من «التعمّق» في الدين والإفراط في السلوك المشين ، وعسكروا في «حروراء» قريبا من الكوفة .
انقلاب «القرّاء» إلى «المارقين»أجَل ، تحقّقت نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ وإذا الذين كانوا بالأمس وجوه المسلمين البارزة ، وممّن جمعوا في حياتهم بين الجهاد والقتال ، والزهد والعبادة ، يقفون اليوم أمام الدين وإمام المسلمين بسبب إصابتهم بداء التعمّق والتطرّف ؛ متذرّعين بذريعة الدفاع عن ساحة القرآن وحريم الدين . وهكذا أخرجهم داء الإفراط والتطرّف من الدين حتى لم يبق في نفوسهم للدين من أثر . وهكذا استحقّوا عنوان «المارقين» الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد وصفهم به من قبل . وممّا كان صلى الله عليه و آله قد قاله للإمام عليه السلام : «يا عَلِيُّ ! لَولا أنتَ لَما قوتِلَ أهلُ النَّهرِ ، قالَ : فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ! ومَن أهلُ النَّهرِ ؟ قالَ : قَومٌ يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (1) .
الإمام عليه السلام ومباهاته باجتثاث فتنة «التعمّق»اتّضح ممّا ذكرناه إلى الآن حول تيّار «التعمّق» والوجوه المنتمية إليه أنّ الاصطدام به كان عملاً صعبا ، وحقيقة الأمر أنّ استئصال جذور هذه الفتنة _ التي كانت في ظاهرها تيّارا وطيدا في التديّن _ عملٌ في غاية الإعضال ، وكان الإمام عليه السلام يرى أنّ
.
ص: 549
إبادة هذا التيّار واقتلاع جذور الفتنة من مفاخر عصر خلافته ، فقد قال عليه السلام : «إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» (1) . إنّ قتالَ أدعياء الحقّ ؛ القرّاء الذين كانت ترنيمات القرآن قد ملأت حياتهم ، وجرى على السنتهم نداء «لا حُكْم إلّا للّه » وهم بِسيَرٍ ربّانيّة الظاهر ، عملٌ جدُّ عسير ؛ فهؤلاء كانوا يُحيون الليل بالعبادة ، ويخرّون للأذقان سُجّدا سجدات طويلة ، وجباههم ثفنات من كثرة السجود . وكانوا لا يعرفون حدّا لانتقاد غيرهم ، واشتُهروا بوصفهم رجالاً اُولي شأنٍ وقوّةٍ في الدين . لكن واأسفاه ! إذ كانوا مرضى القلوب ، ضيّقي الأفكار ، صغار العقول . من هنا كان الاصطدام بتيّار «التعمّق» _ بناءً على ما ذُكر _ ممّا لم يقدر عليه يومئذ إلّا الإمام عليه السلام وكان قمعه يتطلّب بصيرة وحزما خاصّا متميّزا لم يقدر عليه سوى عليّ عليه السلام . وهذه الكلمة كلمته المشهورة التي نطق بها بعد قتال الخوارج لم يَقُلها _ لذلك _ في حربه مع «الناكثين» و«القاسطين» فإنّه ما قال في قتال هاتين الطائفتين : «لَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» أو «لَولا أنَا ما قُوتِلَ . . .» ، بيد أنّه قال ذلك في قتال الخوارج .
جذور التعمّقلننظر الآن من أين ظَهَر هذا التيّار ، وكيف ؟ ولماذا ظهر إنّ دراسة جذور هذا التيّار ، والوقوف على بواعث انحراف أصحابه يعتبران من أهمّ موضوعاته وتتجلّى أهميّة هذه الدراسة بملاحظة إخبار النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام عليّ عليه السلام باستمرار هذا التيّار عبر التاريخ الإسلامي ، وأنّ مقارعة التطرّف والإفراط ، واليقظة والحذر منهما حاجة
.
ص: 550
لازمة للاُمّة الإسلاميّة . قال النبيّ صلى الله عليه و آله في استمرار هذا التيّار الفكري : «كُلَّما قُطِعَ مِنهُم قَرنٌ نَشَأَ قَرنٌ ثُمَّ يَخرُجُ في بَقِيَّتِهِمُ الدَّجّالُ» . (1) وعندما اُبيد الخوارج في النهروان وقيل للإمام عليه السلام : هلك القوم بأجمعهم ، قال عليه السلام : «كَلّا وَاللّهِ ، إنَّهُم نُطَفٌ في أصلابِ الرِّجالِ وقَراراتِ النِّساءِ ؛ كُلَّما نَجَمَ مِنهُم قَرنٌ قُطِعَ ، حَتّى يَكونَ آخِرُهُم لُصوصا سَلّابينَ» . (2) من هنا ، ينبغي التوفّر قبل كلّ شيء على دراسة نفسيّات المارقين ، والتنقيب عن جذور «التعمّق» ، واستقصاء ممهّدات هذا التطرّف ، لعلّ في ذلك عبرة لمعتبر في عصرنا هذا وجميع الأعصار .
1 . الجهللا مناصَ من عدّ الجهل أوّل عامل في دراسة جذور «التعمّق» وقد نصّت الأحاديث والروايات على هذه النقطة ؛ فإنّنا نلحظ عليّا عليه السلام ينظر إلى الجهل مصدرا للإفراط والتفريط ، والتطرّف والتلكّؤ ، قال عليه السلام : «لا تَرَى الجاهِلَ إلّا مُفرِطا أو مُفَرِّطا» (3) . وهكذا نجده في كلام الإمام الباقر عليه السلام إذ عدّه أساس تطرّف الخوارج وموقفهم المفرِط ، فقد قال إسماعيل الجُعفي : سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسعُ العبادَ جهلُه ؟ فقال :
.
ص: 551
«الدّينُ واسِعٌ ، ولكِنَّ الخَوارِجَ ضَيَّقوا عَلى أنفُسِهِم مِن جَهلِهِم» (1) . وهذه هي النقطة التي أكّدها أمير المؤمنين عليه السلام من قبل عند تحليله النفسي والفكري للخوارج وسبب تطرّفهم ونزعاتهم المفرطة ، فقال : « . . . ولكِن مُنيتُ بِمَعشَرٍ أخِفّاءِ الهامِ ، سُفَهاءِ الأَحلامِ» (2) . وقال في كلام آخر يخاطبهم به : «وأنتُم _ وَاللّهِ _ مَعاشِرٌ أخِفّاءُ الهامِ سُفَهاءُ الأَحلامِ» (3) . وفي كلام رفيع له عليه السلام كان يهدف منه إيقاظهم ، أوصاهم في سياق توضيح بعض الحقائق أن يرعووا عن لجاجهم وعملهم الذي يسوّله لهم جهلهم ، وأن يتبيّنوا طريق الاعتدال ، وأشار فيه إلى خلقهم وجبلّتهم فقال عليه السلام : «ثُمَّ أنتُم شِرارُ النّاسِ ، ومَن رَمى بِهِ الشَّيطانُ مَرامِيَهُ ، وضَرَبَ بِهِ تيهَهُ . وسَيهَلِكُ فِيَّ صِنفانِ : مُحِبٌّ مُفرِطٌ يَذهَبُ بِهِ الحُبُّ إلى غَيرِ الحَقِّ ؛ ومُبغِضٌ مُفرِطٌ يَذهَبُ بِهِ البُغضُ إلى غَيرِ الحَقِّ . وخَيرُ النّاسِ فِيَّ حالاً النَّمَطُ الأَوسَطُ ؛ فَالزَموهُ» (4) .
العقل مقياس الأعمالإنّ التعقّل ، والانطلاق من العقل في العمل ، وقياس السلوك بالفكر والتفكّر كلّ اُولئك في غاية الأهميّة من منظار الدين . وللدين تأكيد عجيب في هذا المجال ، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ما قَسَمَ اللّهُ لِلعِبادِ شَيئا أفضَلَ مِنَ العَقلِ ، فَنَومُ العاقِلِ أفضَلُ مِن سَهَرِ الجاهِلِ ،
.
ص: 552
وإقامَةُ العاقِلِ أفضَلُ مِن شُخوصِ الجاهِلِ» (1) . من هنا ، لا يقام وزن للأعمال التي لا تُمارَس من وحي العقل ، ولا للجهود المنطلقة من الجهل والحمق . وهكذا كان الخوارج في خفّة عقولهم وجهلهم ؛ فإنّهم لم يلجؤوا إلى ركن وثيق في الدين مع جميع ما كانوا عليه من العبادة وقيام الليل . والغريب أنّهم لم يظفروا بمعتقدات راسخة قطّ مع ما عرفوا به من استبسالهم في ساحات الوغى ، وعباداتهم الطويلة ، وتحمّلهم مشقّات في العبادة . وهذا كلّه لم يؤدّ دورا تكامليّا في عقائدهم . وحين سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً من الحروريّة يتهجّد ويقرأ ، قال : «نَومٌ عَلى يَقينٍ خَيرٌ مِن صَلاةٍ في شَكٍّ» (2) .
عمق جهل الخوارجإنّ جهل الخوارج مُدهش إلى درجة أنّهم كانوا في مِرْيةٍ وشكّ من أمرهم حتى اللحظات الأخيرة من الحرب التي أوقدوها وزهقت فيها أرواحهم ، بَيدْ أنّهم لم يرعووا عن مكابرتهم . وهذه من النقاط المهمّة في تحليل شخصيّتهم ، أي أنّهم على الرغم من تطرّفهم الشديد في العمل لم يلجؤوا إلى ركن وثيق في العقيدة . وعلى سبيل المثال لمّا هلك أحدهم في النهروان قال : «حَبَّذَا الرَّوحَةُ إلَى الجَنَّةِ» ، فقال قائدهم عبد اللّه بن وهب : ما أدري أإلَى الجَنَّةِ أم إلَى النّارِ ؟ فَقالَ رَجُلٌ مِن بَني سَعدٍ كان يرى هذا المشهد : «إنّما حَضَرتُ اغتِرارا بِهذا ، وأراهُ قَد شَكَّ ! ! فَانخَزَلَ بِجَماعَةٍ مِن أصحابِهِ ومالَ إلى ناحِيَةِ أبي أيّوبَ الأَنصارِيِّ» . ونُذكّر بأنّ جواب صادق آل محمّد صلى الله عليه و آله بشأن الخوارج جدير بالمطالعة والتأمّل .
.
ص: 553
فقد سمّاهم «الشُّكّاك» ، ونبّه أيضا على مواقفهم من الوجهة النفسيّة ، فعن جميل بن درّاج : قالَ رَجُلٌ لِأَبي عَبدِ اللّهِ [الإِمامِ الصّادقِ] عليه السلام : الخَوارِجُ شُكّاكٌ ؟ فَقالَ : نَعَم . قالَ : كَيفَ وهُم يَدعونَ إلَى البِرازِ ؟ قالَ : ذلِكَ مِمّا يَجِدونَ في أنفُسِهِم (1) . والنقطة الملفتة للانتباه في هذا الحوار هي أنّ السائل يجد صعوبة في أن يقرّ بأنّ رجالاً يشهرون سيوفهم ويقاتلون دفاعا عن عقيدةٍ مشوبة بالشّك والارتياب . وجواب الإمام عليه السلام هو أنّهم لا ينطلقون في تحرّكهم من وحي عقيدةٍ راسخة معيّنة ، بل من وحي عواطف باطنيّة دعتهم إلى اتّخاذ مثل ذلك الموقف ، وهذه النقطة شديدة الإثارة للتأمّل والدعوة إلى الاعتبار ، فقد يحدث _ بل كثيرا ما يحدث _ أن يقع الإنسان دونما تفكير أسيرا لعواطفه دفعةً واحدة ، في المواطن المثيرة والمواضع التي تحكمها اللحظة الحاضرة إلى درجة يتعطّل معها عقله بغتةً ، وهو يعيش إعصار العاطفة ، فإذا ما سكن هذا الإعصار وهدأت فورته يفهم الراكب موجته ماذا كان فعل ، وكيف فَقَدَ كنزه ! وكلام الإمام عليه السلام يدلّ على أنّ تحرّك المارقين لم يعتمد على عقيدة راسخة . وفيما ذكرناه _ وفي غيره من الحقائق التي تصدق على حياة بعضهم _ إنارة وبيان لهذه الحقيقة .
2 . حبّ الدنيايمكن أن نعدّ حبّ الدنيا وتأثير مغرياتها العامل الثاني لانحراف الخوارج ، مهما تعدّدت أشكال هذا الحبّ ومؤشّراته . وهذا الموضوع في الحقيقة أهمّ عامل في زيغ التيّارات الثلاثة : الناكثين والقاسطين والمارقين . وقد تعرّض الإمام عليه السلام إلى هذه
.
ص: 554
الحقيقة في كلام عميق له قال فيه : «فَلَمّا نَهَضتُ بِالأَمرِ نَكَثَت طائِفَةٌ ، ومَرَقَت اُخرى ، وقَسَطَ آخَرونَ ، كَأَنَّهُم لَم يَسمَعوا كَلامَ اللّهِ حَيثُ يَقولُ :«تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَ الْعَ_قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1) . بَلى وَاللّهِ ، لَقَد سَمِعوها ووَعَوها ، ولكِنَّهُم حَلِيَتِ الدُّنيا في أعيُنِهِم ، وراقَهُم زِبرِجُها (2) . ولعلّ ما جاء في التاريخ حول الخوارج يجعل التصديق بهذا الموضوع عسيرا بعض العُسر ، ذلك أنّ قوما اتّخذوا الزهد شعارا لهم ، وظهروا بمظهر العازفين عن الدنيا ، وأتعبوا أنفسهم في العبادة ، وجاوزوا حدّ الاعتدال فيها ، ورغبوا عن مادّيات هذه الحياة ، وكانوا يُبلون بلاءً حسنا في ميادين القتال ، كيف يكون لحبّ الدنيا من معنىً بالنّسبة إليهم ؟ ! وهنا ينبغي أن نقول : «هاهنا ألف مسألة هي أدقّ من الشعرة» (3) . فللإقبال على الدنيا معالم ووجوه ، ذلك أنّ منهم مَن يتشدّد فيها على نفسه حينا ، ويعنُف بها ؛ لكي يكون مشهورا محبوبا بين الناس ، ويذيع صيته ، ويتحدّث المتحدّثون باسمه ! أجل : كُلُّ مَن فِي الوُجودِ يَطلُبُ صَيداإنَّمَا الاِختِلافُ فِي الشَّبَكاتِ وليس للمرء أن يُخلِصَ دخيلته فيها ما لم يَخلَصْ من حبالة النفس وفخّ الشيطان ، ومن الواضح أنّ الإقبال على الدنيا _ إذا كان في قالب التديّن ولباس أهل الآخرة _ أخطر بكثيرٍ ممّا إذا كان في قالب حبّ الدنيا واللهث وراءها ، وفي زيّ الإتراف . ذلك أنّ من العسير إدراك هذه الحقيقة من وراء ذلك الظاهر .
.
ص: 555
ولنا أن نلمس هذه الحقيقة بوضوح في تصوير شامل للإمام أمير المؤمنين عليه السلام يتحدّث فيه عن أصناف الناس في عصره ، قال عليه السلام : «ومِنهُم مَن يَطلُبُ الدُّنيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ ولا يَطلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنيا ، قَد طامَنَ مِن شَخصِهِ ، وقارَبَ مِن خَطوِهِ ، وشَمَّرَ مِن ثَوبِهِ ، وزَخرَفَ مِن نَفسِهِ لِلأَمانَةِ ، وَاتَّخَذَ سِترَ اللّهِ ذَريعَةً إلَى المَعصِيَةِ» (1) . ومن الصعب تمييز النماذج الماثلة لطلّاب الدنيا بخاصّة طلّابها الذين عليهم مسحة التوجه إلى الآخرة ، فهذا اللون من التوجّه لا يظهر إلّا عند محطّات الاختبار وفى منعطفات الحياة الوعرة ، وهناك تنجلي جوهرة الباطن ، ونِعمَ ما قاله الإمام عليه السلام في هذا المجال : «في تَقَلُّبِ الأَحوالِ عِلمُ جَواهِرِ الرِّجالِ» . (2) إن إدراك الحقيقة المستخفية وراء حجاب الرياء والتدليس أمر لا يهتدي إليه كلّ أحد ؛ فهو يتطلّب بصيرة عميقة ثاقبة كبصيرة مالك الأشتر ، حتى يتسنّى أن يُرى حبّ الدنيا كامنا وراء السجدات الطويلة والنزعات الخادعة ببريق قداستها المفتعلة . لقد كان مالك على مشارف النصر في صفّين ، وتقدّم حتى اقترب من خيمة طلّاب السلطة ، لكنّه اُكره على التقهقر تحت ضغط «القرّاء» . وحين عاد خاطبهم بحرقة وألم ، فقال لهم : «يا أصحابَ الجِباهِ السُّودِ ! كُنّا نَظُنُّ صَلَواتِكُم زَهادَةً فِي الدُّنيا ، وشَوقا إلى لِقاءِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ ، فَلا أرى فِرارَكُم إلّا إلَى الدُّنيا مِنَ المَوتِ ، ألا قُبحاً يا أشباهَ النِّيبِ الجَلّالَةِ» (3) .
.
ص: 556
وهذا اللون من طلب الدنيا وضروب حبّها والركون إليها ورد أيضا في كلام تربويّ للإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليه السلام يبعث على التذكير والتنبيه ، فلنقرأه معاً : «إذا رَأَيتُمُ الرَّجُلَ قَد حَسُنَ سَمتُهُ وهَديُهُ ، وتَماوَتَ في مَنطِقِهِ ، وتَخاضَعَ في حَرَكاتِهِ ، فَرُوَيدا لا يَغُرَّنَّكُم ؛ فَما أكثَرَ مَن يُعجِزُهُ تَناوُلُ الدُّنيا ورُكوبُ المَحارِمِ مِنها لِضَعفِ نِيَّتِهِ ، ومَهانَتِهِ ، وجُبنِ قَلبِهِ ؛ فَنَصَبَ الدّينَ فَخّا لَها ، فَهُو لا يَزالُ يَختِلُ النّاسَ بِظاهِرِهِ ؛ فَإِن تَمَكَّنَ مِن حَرامٍ اقتَحَمَهُ . وإذا وَجَدتُموهُ يَعِفُّ عَنِ المالِ الحَرامِ فَرُوَيدا لا يَغُرَّنَّكُم ؛ فَإِنَّ شَهَواتِ الخَلقِ مُختَلِفَةٌ ؛ فَما أكثَرَ مَن يَنبو عَنِ المالِ الحَرامِ وإن كَثُرَ ، ويَحمِلُ نَفسَهُ عَلى شَوهاءَ قَبيحَةٍ فَيأتي مِنها مُحَرَّما ، فَإِذا وَجَدتُموهُ يَعِفُّ عَن ذلِكَ فَرُوَيدا لا يَغُرَّكُم حَتّى تَنظُروا ما عَقَدَهُ عَقلُهُ ، فَما أكثَرَ مَن تَرَكَ ذلِكَ أجمَعَ ، ثُمَّ لا يَرجِعُ إلى عَقلٍ مَتينٍ ، فَيَكونُ ما يُفسِدُهُ بِجَهلِهِ أكثَرَ مِمّا يُصلِحُهُ بِعَقلِهِ ، فَإِذا وَجَدتُم عَقلَهُ مَتينا ، فَرُوَيدا لا يَغُرَّكُم حَتّى تَنظُروا : أ مَع هَواهُ يَكونُ عَلى عَقلِهِ ، أو يَكونُ مَعَ عَقلِهِ عَلى هَواهُ ؟ وكَيفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّئاساتِ الباطِلَةِ وزُهدُهُ فيها ؟ فَإِنَّ فِي النّاسِ مَن خَسِرَ الدُّنيا وَالآخِرَةَ يَترُكُ الدُّنيا لِلدُّنيا ، ويَرى أنَّ لَذَّةَ الرِّئاسَةِ الباطِلَةِ أفضَلُ مِن لَذَّةِ الأَموالِ وَالنِّعَمِ المُباحَةِ المُحَلَّلَةِ ، فَيَترُكُ ذلِكَ أجمَعَ طَلَبا لِلرِّئاسَةِ الباطِلَةِ ، حَتّى إذا قيلَ لَهُ : اِتَّقِ اللّهَ ، أخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ ، فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ ، ولَبِئسَ المِهادُ ؛ فَهُو يَخبِطُ خَبطَ عَشواءَ ، يَقودُهُ أوَّلُ باطِلٍ إلى أبعَدِ غاياتِ الخَسارَةِ ، ويُمِدُّهُ رَبُّهُ بَعدَ طَلَبِهِ لِما لا يَقدِرُ عَلَيهِ في طُغيانِهِ ، فَهُو يُحِلُّ ما حَرَّمَ اللّهُ ، ويُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللّهُ ، لا يُبالي ما فاتَ مِن دينِهِ إذا سَلِمَت لَهُ رِئاسَتُهُ الَّتي قَد شَقِيَ مِن أجلِها ، فَاُولئِكَ الَّذينَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيهِم ولَعَنَهُم وأعَدَّ لَهُم عَذابا مُهينا . ولكِنَّ الرَّجُلَ كُلَّ الرَّجُلِ نِعمَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذي جَعَلَ هَواهُ تَبَعا لِأَمرِ اللّهِ ، وقُواهُ مَبذولَةً في رِضَى اللّهِ ، يَرَى الذُّلَّ مَعَ الحَقِّ أقرَبَ إلى عِزِّ الأَبَدِ مِنَ العِزِّ فِي الباطِلِ ،
.
ص: 557
ويَعلَمُ أنَّ قَليلَ ما يَحتَمِلُهُ مِن ضَرّائِها يُؤَدّيهِ إلى دَوامِ النَّعيمِ في دارٍ لا تَبيدُ ولا تَنفَدُ ، وأنَّ كَثيرَ ما يَلحَقُهُ مِن سَرّائِها إنِ اتَّبَعَ هَواهُ يُؤَدّيهِ إلى عَذابٍ لَا انقِطاعَ لَهُ ولا زَوالَ ، فَذلِكُمُ الرَّجُلُ نِعمَ الرَّجُلُ ، فَبِهِ فَتَمَسَّكوا ، وبِسُنَّتِهِ فَاقتَدوا ، وإلى رَبِّكُم بِهِ فَتَوَسَّلوا ؛ فَإِنَّهُ لا تُرَدُّ لَهُ دَعوَةٌ ، ولا تُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةٌ» (1) .
آثار التعمّقمن المناسب أن نتحدّث عن آثار «التعمّق» بعد أن تعرّفنا على طبيعته وجذوره ؛ فإنّا نلحظ أنّ الأحاديث التي أحصت أخطار الجاهل «المتنسّك» هي في الحقيقة قد صوّرت آثار «التعمّق» الضارّة . ونقرأ في هذه الأحاديث : أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخبر بهلاك اُمّته على يد العلماء الفجّار ، والعبّاد الجهّال . وقد تجسّد هذا الخبر في أيّام حكومة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام واتّخذ شكله يومئذٍ ، قال عليه السلام : «قَصَمَ ظَهري عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ» (2) . وقال : «قَطَعَ ظَهرِي اثنانِ : عالِمٌ فاسِقٌ . . . وجاهِلٌ ناسِكٌ» (3) وقال في خطبة له عليه السلام : «قَطَعَ ظَهري رَجُلانِ مِنَ الدُّنيا : رَجُلٌ عَليمُ اللِّسانِ فاسِقٌ ، ورَجُلٌ جاهِلُ القَلبِ ناسِكٌ ؛ هذا يَصُدُّ بِلِسانِهِ عَن فِسقِهِ ، وهذا بِنُسُكِهِ عَن جَهلِهِ ؛ فَاتَّقُوا الفاسِقَ مِنَ العُلَماءِ ، وَالجاهِلَ مِنَ المُتَعَبِّدينَ ، اُولئِكَ فِتنَةُ كُلِّ مَفتونٍ» (4) . نلحظ هنا أنّ الإمام عليه السلام بكلماته هذه يذكّر بمشكلة حكومته في الحقيقة ، وأنّه
.
ص: 558
يلفتنا إلى أنّ حكومته قد تلقّت ضربتين قاصمتين من شريحتن ، وأنّ عمودها الفقري قد اُصيب وتضعضع بذلك ، وهاتان الشريحتان هما : 1 . العلماء المتهتّكون ؛ وهم الوجوه البارزة الذين أوقدوا فتنة الجمل وصفّين (الناكثون والقاسطون) ومهّدوا سبل الفساد ، وقسطوا ونكثوا عامِدين . 2 . الجهّال العابدون الذين واجهوا الإمام عليه السلام في النهروان بسيماء الزاهدين وباسم الدين منطلقين من جهلهم وحمقهم . وهكذا ، فلا قيمة لعبادات الجاهل المتنسّك ، ولا وزن لتهجّداته ، ولا خلاقَ له منها . وليس هذا فحسب ، بل إنّهم يشكّلون خطرا عظيما على الإسلام والحكومة الإسلاميّة ، وبعبارة اُخرى : مَثَلُ العالم المتهتّك في خطره على النظام الإسلامي كمثل الجاهل المتنسّك في خطره على الاُمّة الإسلاميّة والنظام الإسلامي أيضا . ولا غرْو أن تُختم حياة الإمام عليه السلام على يد هذه الشريحة الثانية ، فدلّ واقع التاريخ على أنّ خطر العبّاد الجاهلين أشدّ وأنكى . فاستبان _ إذن _ أنّ أمرّ ثمرةٍ وأضرّها لشجرة «التعمّق» الخبيثة _ الضاربة جذورها في الجهل وحبّ الدنيا والمرتدية لباس الدين _ هو تقويض أركان النظام الإسلامي . والآن نعرّج على أغصان هذه الشجرة بشيء من التوضيح :
1 . العُجبالعُجُب ، والزهو ، والتعظّم ، كلّ ذلك يمثّل أوّل غصن للتعمّق ، والتطرّف ، والتنسّك الجاهل . وقد مُني القرّاء بهذه الأدواء الوبيلة ؛ لإفراطهم في تعبّدهم وتنسّكهم ، ونظرهم إلى هذا المرض على أنّه قيمة مهمّة . وزعموا _ بفعل هذا المرض _ أنْ ليس في الناس من هو أفضل منهم . ومن هنا سأل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله أحدهم بغية كشف باطنه الخفيّ له ووضعه أمامه ، فقال :
.
ص: 559
«أ قُلتَ في نَفسِكَ حينَ وَقَفتَ عَلَى المَجلِسِ : لَيسَ فِي القَومِ خَيرٌ مِنّي ؟ قالَ : نَعَم !» . فأراد صلى الله عليه و آله أن ينبّهه على إصابته بداء الزهو والعُجب . وقال فيه وفي نظائره : «إنَّ فيكُم قَوما يَدأَبونَ ويَعمَلونَ حَتّى يُعجِبُوا النّاسَ وتُعجِبَهُم أنفُسُهُم» (1) .
خطر العُجبالعُجب أخطر الأمراض الأخلاقيّة ، فإذا استفحل عند أحد غدا عُضالاً ، وأودى بصاحبه . وكلام صادق آل محمّد عليه السلام آية بيّنة على هذه الحقيقة ، قال عليه السلام : «مَن اُعجِبَ بِنَفسِهِ هَلَكَ ، ومَن اُعجِبَ بِرَأيِهِ هَلَكَ ، وإنَّ عيسَى بنَ مَريَمَ عليه السلام قالَ : داوَيتُ المَرضى فَشَفَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ ، وأبرَأتُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ بِإِذنِ اللّهِ ، وعالَجتُ المَوتى فَأَحيَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ ، وعالَجتُ الأَحمَقَ ؛ فَلَم أقدِر عَلى إصلاحِهِ ! فَقيلَ : يا روحَ اللّهِ ، ومَا الأَحمَقُ ؟ قالَ : المُعجَبُ بِرَأيِهِ ونَفسِهِ ، الَّذي يَرَى الفَضلَ كُلَّهُ لَهُ لا عَلَيهِ ، ويُوجِبُ الحَقَّ كُلَّهُ لِنَفسِهِ ، ولا يوجِبُ عَلَيها حَقّا ، فَذاكَ الأَحمَقُ الَّذي لا حيلَةَ في مُداواتِهِ» (2) . وقال السيّد الإمام الخميني رحمه الله في وصيّته لابنه : «يا بُنيّ اعتُقْ نفسك من رقّ الزهو والعُجب ؛ فإنّه إرث الشيطان الذي عصى اللّه تعالى في الخضوع لوليّه وصفيّه جلّ وعلا بسببه . واعلَمْ أنّ جميع بلايا الإنسان من هذا الإرث الشيطاني ، فهو أصل اُصول الفتنة» (3) .
.
ص: 560
وإذا ترسّخ هذا الداء في نفس أحد ، فلا ينفعه عندئذٍ أيّ عمل من أعماله في نجاته وتكامله . وقال الإمام الصادق عليه السلام : «قالَ إبليسُ _ لَعنَةُ اللّهِ عَلَيهِ _ لِجُنودِهِ : إذَا استَمكَنتُ مِنِ ابنِ آدَمَ في ثَلاثٍ ، لَم اُبالِ ما عَمِلَ ؛ فَإِنَّهُ غَيرُ مَقبولٍ مِنهُ : إذَا استَكثَرَ عَمَلَهُ ، ونَسِيَ ذَنبَهُ ، ودَخَلَهُ العُجبُ» (1) . إنّ داء العجب في الحقيقة يحول دون استمتاع المرء ببركات أعماله الصالحة من جهة ، ويُفضي إلى ضروب الانحرافات الأخلاقيّة من جهة اُخرى . وهكذا ينبغي أن نؤكّد أنّ سائر أعراض «التعمّق» التي سنُشير إليها لاحقا ترشُف من هذه الرذيلة .
2 . استدامة الجهلوتُمثّل الغصن الآخر من أغصان شجرة «التعمّق» ، ولها في العُجب جذور على نحوٍ ما ؛ فحينما يُفرط الإنسان في عمله ، وينطلق فيه بلا تعقّل ، ويرى نفسه أفضل من الآخرين من دون منازِع ؛ فإنّه لا يعيد النظر في فكره وعمله ، ويسعى في جهله ، ويَلجّ فيه ، ويَظلّ حبيسَ حبالته . ومن هنا قال الإمام الهادي عليه السلام : «العُجبُ صارِفٌ عَن طَلَبِ العِلمِ ، داعٍ إلَى التَّخَبَّطِ فِي الجَهلِ» (2) . وفي الواقع أنّ داء العُجب يُلقي الإنسان في الجهل المركّب حقّا ، و«المتعمّق» _ كما قلنا _ يرى أنّ ما يفعله هو الأفضل ، فلِمَ التأمّل وإعادة النظر فيه إذن ؟ وتحدّث القرآن الكريم عن أمثال هذا النموذج بنحو يدعو إلى الاعتبار والاتّعاظ . قال جلّ من قائل :
.
ص: 561
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَ_لاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» (1) . وحين تُليت هذه الآية الكريمة عند الإمام عليه السلام ، قال : «أهلُ حَرَوراءَ مِنهُم» . (2) وهكذا يأسر العجب الإنسان في الجهل ، والمفتون بهذا الجهل لا يرى نفسه جاهلاً أبدا ، ولا ينفكّ من هذا القيد بتاتا ، وكلام الإمام عليه السلام في هذا الشأن معبِّر ناطق بليغ ، فقد قال عليه السلام في وصيّته لابنه الحسن عليه السلام : «إنَّ الجاهِلَ مَن عَدَّ نَفسَهُ _ بِما جَهِلَ مِن مَعرِفَةِ العِلمِ _ عالِما ، وبِرَأيِهِ مُكتَفِيا ؛ فَما يَزالُ لِلعُلَماءِ مُباعِدا ، وعَلَيهِم زارِيا ، ولِمَن خالَفَهُ مُخَطِّئا ، ولِما لَم يَعرِف مِنَ الاُمورِ مُضَللاً ، فَإِذا وَرَدَ عَلَيهِ مِنَ الاُمورِ ما لَم يَعرِفهُ أنكَرَهُ وكَذَّبَ بِهِ وقالَ بِجَهالَتِهِ : ما أعرِفُ هذا ، وما أراهُ كانَ ، وما أظُنُّ أن يَكونَ ، وأنّى كانَ ؟ ! وذلِكَ لِثِقَتِهِ بِرَأيِهِ ، وقِلَّةِ مَعرِفَتِهِ بِجَهالَتِهِ . فَما يَنفَكُّ _ بِما يَرى مِمّا يَلتَبِسُ عَلَيهِ رَأيُهُ مِمّا لا يَعرِفُ _ لِلجَهلِ مُستَفيدا ، ولِلحَقِّ مُنكِرا ، وفِي الجِهالَةِ مُتَحَيِّرا ، وعَن طَلَبِ العِلمِ مُستَكبِرا» . (3)
3 . التكفير والاتّهامإنّ إحدى الثمار المرّة المضرّة للتطرّف المنطلق من الجهل ، والإفراط الهشّ الخاوي ، و«التعمّق» في الدين ، وحبّ التمحور المنبثق منه هي اتّهام الآخرين بالخروج من الدين ؛ فالسطحيّون المتحجّرون الزاهون بأنفسهم العادّون سلوكهم معيارا للحقّ يحكمون على الآخرين بلا أناةٍ ولا أساس ، ويقصمون ظهر كلّ من لا يفكّر
.
ص: 562
تفكيرهم بعصا التكفير . وهكذا كان الخوارج ، فهم الذين كانوا قد فرضوا التحكيم على الإمام عليه السلام غير آذِنين لأنفسهم بالتفكير فيه والتأمّل فيما ابتدعوه ولو قليلاً ، ثمّ حملوا عصا التكفير وكفّروا الإمام عليه السلام وهو الذي كان كيان الإيمان الماثل ، وصورة الحقّ المتجسّد ، ومظهر الربّانيّة الرفيعة . والعجب أنّهم قد أفتوا بقتل كلّ من لم يعتقد بعقيدتهم ، وأقدموا على ذلك عمليّا ، فقتلوا أشخاصا في هذا السبيل (1) . وواصلوا نهجهم على هذا المنوال ، وشرّعوا التكفير ، وقالوا بكفر كلّ من يرتكب الكبيرة . ومن هنا ، لمّا سُئل أحد قادتهم ؛ وهو قطري بن الفُجاءة ، في إحدى المعارك : هل تقاتل أم لا ؟ فأجاب بالنفي ، ثمّ استدرك فعزم على القتال ، قال جنده : كَذَبَ وكَفَرَ . وعرّضوا به قائلين : «دابّة اللّه » ، فحكم عليهم بالكفر (2) .
4 . التعصّب واللجاجاللجاج من وحي الجهل والتعصّب الأعمى إفراز آخر من الإفرازات الخطرة للتطرّف الديني والعُجب المنبثق منه . وهكذا فالشخص المتعمّق مرتهن بحبالة الزيغ والضلال بحيث تتعذّر نجاته . من هذا المنطلق ، ولمّا اتّصف به الخوارج ، خاطبهم الإمام عليه السلام قائلاً : «أيَّتُهَا العِصابَةُ الَّتي أخرَجَتها عَداوَةُ المِراءِ وَاللَّجاجَةِ ، وصَدَّها عَنِ الحَقِّ الهَوى ، وطَمَحَ بِهَا النَّزَقُ (3) ، وأصبَحَت فِي اللَّبسِ وَالخَطبِ العَظيمِ» (4) . وهكذا «فالمتعمّقون» و «المتعصّبون» أولو اللجاجة لم ينظروا فيما يعتقدون به
.
ص: 563
قطّ ، ولم يحتملوا فيه الخطأ فيرونه بحاجةٍ إلى إعادة نظر وتمحيص . من هنا صمّوا عن سماع توجيهات الإمام عليه السلام الناصحة الشفيقة ، ولم يعيدوا النظر في مواقفهم حين حاورهم ابن عبّاس وغيره من رُسُل الإمام عليه السلام حوارا استدلاليّا واعيا ، بل أنّهم قد تصامّوا عن الكلام ؛ لئلّا يسمعوهُ فيؤثّر فيهم . قال عبد اللّه بن وهب ، وهو يقاتل : «ألقُوا الرِّماحَ ، وسَلّوا سُيوفَكُم مِن جُفونِها ؛ فَإِنّي أخافُ أن يُناشِدوكُم كَما ناشَدوكُم يَومَ حَرَوراءَ !» . (1) وصرخوا بعد مناظرةٍ للإمام عليه السلام معهم قائلين : «لا تُخاطِبوهُم ولا تُكَلِّموهُم» . (2) ولمّا سمعوا احتجاج ابن عبّاس الرصين ، وقد أغلق عليهم منافذ التذرّع والتشبّث ، مستهديا بالقرآن الكريم ، صاحوا : «لا تَجعَلُوا احتِجاجِ قُرَيشٍ حُجَّةً عَلَيكُم ؛ فَإِنَّ هذا مِنَ القَومِ الَّذينَ قالَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ فيهِم : «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » (3) ! وحين سمعوا أجوبته القويّة في حوار آخر وعَيَوا عن ردّه ، رفعوا عقيرتهم بوجهه مخاطبين إيّاه بقولهم : «أمسِك عَنّا غَربَ لِسانِكَ يَا ابنَ عَبّاسٍ ؛ فَإِنَّهُ طَلقٌ ذَلقٌ غَوّاصٌ عَلى مَوضِعِ الحُجَّةِ !» . (4) وعلى هذا فالخوارج _ وبعنوان آخر «القرّاء» ، وأخيرا «المتعمّقون» في الدين ، وفيما نتج عنهم من الإفراط ، والتطرّف ، والجهل ، واللجاجة _ قد ظلّوا على كفرهم ،
.
ص: 564
وصاروا مصدرا للغيّ والضياع في المجتمع الإسلامي .
دور المتغلغلينينبغي في الختام ألّا نغفل عن نقطةٍ في تحليل فتنة الخوارج واستقصاء جذورها ، وتتمثّل هذه النقطة في دور المتغلغلين بخاصّة «القاسطين» في انحراف «المارقين» ، مع تذكيرنا بصعوبة العثور على وثائق تاريخيّة لإثبات هذا الموضوع نتيجةً للسرّيّة الموجودة في هذا المجال بشكل طبيعيّ ، بَيْد أنّنا يتسنّى لنا أن نبلغ ما نصبوا إليه إلى حدٍّما عبر قرائن معيّنة ، ومن هذه القرائن التي يمكن أن تساعد الباحث في هذا الحقل : دراسة دور الأشعث بن قيس في هذه الفتنة (1) . إنّ التأمّل في النصوص التاريخيّة ، لاسيّما فيما ذكره كتاب «وقعة صفّين» الثمين حول الأشعث وموقفه في ذروة القتال يوم صفّين وما بعده لا يدع مجالاً للشكّ في أنّه لم يرتبط بالإمام عليه السلام ولم يُوالِه قطّ ، وأنّه كان عنصرا متغلغلاً عميلاً لمعاوية في جيشه عليه السلام ، ويعود ذلك إمّا لإقالته عن ولاية آذربايجان (2) ، وعزله عن رئاسة قبيلته (3) ، أو لتقلّباته الاعتقاديّة واضطراب عقائده الدينيّة ، ممّا دفع ابن أبي الحديد أن يقول : «كُلُّ فَسادٍ كانَ في خِلافَةِ عَلِيٍّ عليه السلام وكُلُّ اضطِرابٍ حَدَثَ فَأَصلُهُ الأشَعَثُ» (4) . وكان الأشعث متّهما بارتباطه بمعاوية ، وهو نفسه كان منتبها إلى هذه النقطة ، حذِرا منها ، وكان يحاول ألّا يعمل ما يفضحه ويكشف للناس حقيقته ، وقد راودته فكرة التوجّه إلى معاوية بعد عزله ، فمنعه قومه من ذلك (5) . وارتباطاته مع معاوية ،
.
ص: 565
وحواره مع رُسُله إليه دليل على نفاقه (1) . وعندما احتدم القتال ، وتضعضع جيش معاوية ، ولاحت في الاُفق بشائر آيات النصر لجيش الإمام عليه السلام ، خطب الأشعث بقبيلته ، وأفزعهم ذاكرا ترمّل النساء ويُتم الأطفال ، فبان وهن عجيب في صفوفهم (2) . ولمّا رفع أصحاب معاوية المصاحف بمكيدة ابن العاص ، خطب الأشعث وأكره الإمام عليه السلام على قبول التحكيم (3) . وحينما وافق الإمام على التحكيم ، واختار مالك الأشتر أو عبد اللّه بن عبّاس ممثّلاً عنه ، عمل الأشعث بكلّ ماله من قوّة للحيلولة دون ذلك (4) . ولمّا كُتِب نصّ التحكيم رفعه أمام الجيش ، فصاح بعض الأفراد قائلين : لا حكم إلّا للّه (5) . و بعد أن انكشفت أسرار المؤامرة قليلاً هبّ أولئك المخدوعون فاتّهموا عليّا عليه السلام بالإثم ، وطلبوا منه أن يتوب . وعندما أراد عليه السلام أن يُخمد نار الفتنة باُسلوب لطيف ، ويُعبّئ الناس نحو الشام واصل الأشعث إثارته للفتنة ، وحاول أن يُرجع المخدوعين الذين كانوا عازمين على الذهاب مذعنين بالحقّ إلى موضعهم الأوّل ، فزاد بذلك إيقاد الفتنة (6) . وهكذا زرع الأشعث بذرة الفتنة ، واتّخذ سبيله مع أشخاص كثيرين ، وخرج من جيش الإمام عليه السلام ، وقصد الكوفة . وكان الأشعث ملوّث النفس ، سقيم الفكر ، ذا موقفٍ معادٍ ، واستطاع أن يمارس دورا خبيثا مؤثّرا في إثارة الفتنة إبّان حرب النهروان . وكان يتّخذ المواقف من منطلق الأهواء ، والميول المادّية ، والعصبيّات القَبَليّة متلبّساً برداء المعايير الإلهيّة
.
ص: 566
والإنسانيّة . وحريّ بالذكر أيضا أنّ الإمام عليه السلام عندما اختار عبد اللّه بن عبّاس للتحكيم قال الأشعث : لا وَاللّهِ ، لا يَحكُمُ فيها مُضَرِيّانِ حَتّى تَقومَ السَّاعَةُ ، ولكِنِ اجعَلهُ رَجُلاً مِن أهلِ اليَمَنِ إذ جَعَلوا رَجُلاً مِن مُضَرَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : إنّي أخافُ أن يُخدَعَ يَمَنِيُّكُم ؛ فَإِنَّ عَمرا لَيسَ مِنَ اللّهِ في شَيءٍ إذا كانَ لَهُ في أمرٍ هَوىً . فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ لَأَن يَحكُما بِبَعضِ ما نَكرَهُ وأحَدُهُما مِن أهلِ اليَمَنِ ، أحَبُّ إلَينا مِن أن يَكونَ بَعضُ ما نُحِبُّ في حُكمِهِما وهُما مُضَرِيّانِ . (1) وهكذا فالعصبيّة القبليّة والعريكة الجاهليّة التي كان عليها الأشعث وعدد من أصحابه هي التي أوقدت فتنة النهروان بعد تلك الأحداث ، ممّا أدّى إلى أن يُقرَن رجل أحمق غير واعٍ كأبي موسى الأشعري اليمني إلى رجل محتال ماكر مثير للفتن كعمرو بن العاص ، ويبدّل من بعدها مجرى التاريخ الإسلامي !
.
ص: 567
3 / 1نظرة عامّةأ _ أسماءُ مُسَعِّرِي الحَربِوصفت النصوص التاريخيّة والحديثية مثيري حرب النهروان بخمس صفات، هي:
1 . المارقونأوّل من نعتهم بهذا الاسم هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وذلك أنّه كان يرى بالبصيرة الإلهيّة بأنّ هذه الفئة بسبب تطرّفها الديني تمرق من الدين بسرعة بحيث لا يبقى عليها أيّ أثر من الآثار الحقيقيّة للدين؛ فقال في هذا المجال: «يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ (1) مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ؛ فَيَنظُرُ الرّامي إلى سَهمِهِ، إلى نَصلِهِ، إلى رِصافِهِ، فَيَتَمارى فِي الفوقَةِ هَل عَلِقَ بِها مِنَ الدَّمِ شَيءٌ» (2) .
2 . الحروريّةاما سبب تسميتهم بالحروريّة فقد أورد المبرّد في كتابه «الكامل» ما يلي: وكان سبب تسميتهم الحروريّة أنّ عليّاً _ رضوان اللّه عليه _ لمّا ناظرهم _ بعد مناظرة ابن عبّاس إيّاهم _ كان فيما قال لهم: «ألا تَعلَمونَ أنَّ هؤُلاءِ القَومَ لَمّا رَفَعُوا المَصاحِفَ قُلتُ لَكُم: إنَّ هذِهِ مَكيدَةٌ ووَهنٌ، وأنَّهُم لَو قَصَدوا إلى حُكمِ المَصاحِفِ لَم يَأتوني (3) . ثُمَ سَأَلونِي التَّحكيمَ،
.
ص: 568
أفَعَلِمتُم أنَّهُ ما كانَ مِنكُم أحَدٌ أكرَهَ لِذلِكَ مِنّي؟ قالوا: اللّهُمَّ نَعَم... فَرَجَعَ مَعَهُ مِنهُم ألفانِ مِن حَرَوُراء، وقَد كانوا تَجَمَّعوا بِها. فَقالَ لَهُم عَلِيٌّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ : ما نُسَمّيكُم؟ ثُمَّ قالَ: أنتُمُ الحَرَورِيَّةُ؛ لِاجتِماعِكُم بِحَرَوراءَ» (1) .
3 . الشُراةوهذا الاسم يحمل معنيين متضادّين: أ _ مأخوذ من «شَرَى» بمعنى «غضب» وقيل في معناه: سُمّوا بذلك لأنَّهم غضبوا ولَجّوا (2) . ب _ مأخوذ من «شَرَى» بمعنى «باع» . وكان الخوارج يعتبرون أنفسهم «شُراة» بهذا المعنى ، بزعمهم أنّهم شروا دنياهم بالآخرة ، وأنّهم مصداق للآية الكريمة: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ» (3) . (4) وقال عليّ عليه السلام في ردّ هذه التصوّر الجاهل : بَل إنَّهُم مِصداقٌ لِهذِهِ الآيَةِ: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَ_لاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» . (5)
4 . الخوارجوهذا الاسم من الأسماء المعروفة لمثيري حرب النهروان ، وسمُّوا بهذا الاسم لخروجهم عن طاعة الإمام عليّ عليه السلام وتمرّدهم على حكمه . 6
.
ص: 569
5 . البُغاةالبُغاة: مشتق من البغي بمعنى التعدّي والظلم والفساد. فعندما سُئِل عليّ عليه السلام عن أصحاب النهروان هل هم مشركون أم منافقون؟ سمّاهم بغاة. ولهذه التسمية جذر قرآني حيث يقول الباري تعالى: «وَ إِن طَ_آئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَ_تِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » (1) . وممّا ينبغي الالتفات إليه في هذا المضمار أنّ الأسماء الثلاثة الاُول خاصّ بأصحاب النهروان، وأمّا «الخارج» و «الباغي» فيشملان الناكثين والقاسطين أيضاً ، بل يطلقان على كلّ من تمرّد على الإمام العادل .
ب _ إخبارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله عَن خَصائِصِهِم ومَصيرِهِمرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ فِي الحَرَورِيَّةِ _: يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ (2) . (3)صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ذَكَرَ قَوما يَكونونَ في اُمَّتِهِ يَخرُجونَ في فُرقَةٍ مِنَ النّاسِ ، سيماهُمُ التَّحالُقُ ، هُم شَرُّ الخَلقِ _ أو مِن أشَرِّ الخَلقِ _ يَقتُلُهُم أدنَى الطّائِفَتَينِ إلَى الحَقِّ . (4)
صحيح البخاري عن يسير بن عمرو :قُلتُ لِسَهلِ بنِ حُنَيفٍ : هَل سَمِعتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَقولُ فِي الخَوارِجِ شَيئا ؟ قالَ : سَمِعتُهُ يَقولُ _ وأهوى بِيَدِهِ قِبَلَ العِراقِ _ : يَخرُجُ مِنهُ قَومٌ يَقرَؤونَ القُرآنَ ، لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ . (5)
.
ص: 570
ج _ المارِقونَ مِن وِجهَةِ نَظرِ الإِمامِ عليه السلامهم او مى فرمايد :الفتوح عن حبيب بن عاصم الأزدي_ لِلإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: يا أميرَ المُؤمِنينَ ، هؤُلاءِ الَّذينَ نُقاتِلُهُم ، أ كُفّارٌ هُم ؟
فَقالَ عَلِيٌّ : مِنَ الكُفرِ هَرَبوا ، وفيهِ وَقَعوا . قالَ : أفَمُنافِقونَ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : إنَّ المُنافِقينَ لا يَذكُرونَ اللّهَ إلّا قَليلاً . قالَ : فَما هُم يا أميرَ المُؤمِنينَ حَتّى اُقاتِلَهُم عَلى بَصيرَةٍ ويَقينٍ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : هُم قَومٌ مَرَقوا مِن دينِ الإِسلامِ ، كَما مَرَقَ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ؛ يَقرَؤونَ القُرآنَ فَلا يَتَجاوَزُ تَراقِيَهُم ، فَطوبى لِمَن قَتَلَهُم أو قَتَلوهُ . (1)د _ مُباهاُت الإِمامِ عليه السلام بِقِتالِهِمالإمام عليّ عليه السلام :أمّا بَعدَ حَمدِ اللّهِ وَالثَّناءِ عَلَيهِ ، أيُّهَا النّاسُ ! فَإِنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري بَعدَ أن ماجَ غَيهَبُها ، وَاشتَدَّ كَلَبُها (2) . (3)
ه _ نَهيُ الإِمامِ عليه السلام عَن قِتالِهِم بَعدَهُالإمام الباقر عليه السلام :ذُكِرَتِ الحَرَورِيَّةُ عِندَ عَلِيٍّ عليه السلام قالَ : إن خَرَجوا مَعَ جَماعَةٍ أو عَلى إمامٍ عادلٍ فَقاتِلوهُم ، وإن خَرَجوا عَلى إمامٍ جائِرٍ فَلا تُقاتِلوهُم ؛ فَإِنَّ لَهُم في ذلِكَ مَقالاً . (4)
و _ هُوِيَّةُ رُؤَسائِهِمانبثق الخوارج من قلب فئة كانت تسكن الكوفة وتعرف باسم «القراء». وجاءت
.
ص: 571
نشأتهم في ظل مشاعر جيّاشة استفحلت في الأيّام الأخيرة من معركة صفّين، ولم تأتِ من نوازع قائمة على التفكير والتعقّل. كان زمام قيادتهم العسكريّة بيد شبث بن ربعي، فيما كان زمام زعامتهم الدينيّة والفكريّة بيد عبد اللّه ابن الكوّاء. وفي أعقاب تقلّص حدّة المشاعر، ومن بعد المناظرات والاحتجاجات التي أجراها معهم الإمام عليّ عليه السلام وعبد اللّه بن عبّاس، انشقَّ هذان الشخصان عن الخوارج وعادا إلى جيش الإمام عليّ عليه السلام ، وكانا في عداد جيشه عند اضطرام معركة النهروان، وتولّى شبث بن ربعي قيادة ميسرة جيش الإمام. وأخذ بزمام قيادة الخوارج فيما بعد أفراد من عامّة الناس ومن مجاهيلهم، ولا تتوفّر بين أيدينا معلومات عنهم. وقد وردت أسماء أشخاص مثل شريح بن أوفى، وزيد بن الحصين، وحمزة بن سنان في عداد الشخصيّات البارزة للخوارج، ولكن لا تتوفّر لدينا معلومات عن حياتهم وسيرتهم.
1 . حُرقوصُ بنُ زُهَيرٍكان حرقوص من الصحابة (1) ، ولكنّه خاوٍ من الاعتقاد الراسخ . وقد ذكرنا كلمته البذيئة النابية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله في غزوة حنين ، إذ قال له : اعدِلْ يا محمّد ! وكذلك جواب النبيّ صلى الله عليه و آله له (2) . أمره عمر بن الخطّاب بقمع التمرّد الذي قام به الهرمزان في خوزستان ، فنجح في مهمّته (3) . وشارك في الثورة على عثمان . وهمّ أصحاب الجمل بقتله ، لكنّه استطاع الفرار من أيديهم . (4) كان في عداد أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيّام خلافته ، لكنّه انخدع بمكيدة
.
ص: 572
عمرو بن العاص في صفّين ، ووقف بوجه الإمام عليه السلام ، وقام بدور مهمّ في فرض التحكيم ، بما كان يحمله من أرضيّة فكريّة وروحيّة منحرفة كما أشرنا إلى ذلك سلفا . وكان عنصرا مؤثّرا أيضا في تنظيم الخوارج لحرب الإمام عليه السلام . كما كان متشدّدا في عدائه له وحقده عليه (1) . وهو وإن رفض الإمارة على أصحاب النهروان ، لكنّه كان على رجّالتهم في تلك المعركة (2) . ثمّ قتله الإمام عليه السلام فيها (3) . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أخبر بهلاكه في النهروان ، وعن كيفيّة ذلك . وبعد معركة النهروان قال الإمام عليه السلام : اُطلُبوهُ ، فَلَم يَجِدوهُ ، فَقالَ عليه السلام مُؤَكِّدا : اِرجِعوا ، فَوَاللّهِ ما كَذَبتُ ولا كُذِّبتُ مَرَّتَينِ أو ثَلاثا ثُمَّ وَجَدوهُ في خَرِبَةٍ . (4) فهذا التأكيد دليل على حقّانيّة الإمام عليه السلام من جهة ، وعلى انحراف الخوارج وضلالهم الثابت من جهة اُخرى ، وهو خطوة لتثبيت قلوب أصحاب الإمام عليه السلام الذين كان قد شقّ عليهم قتال اُناس يتظاهرون بالزهد والعبادة . وهكذا أصحر الإمام عليه السلام بحقّه وثبات خُطاه هو وأصحابه مرارا في معركة النهروان .
2 . عَبدُ اللّهِ بنُ وَهبٍتولّى قيادة الخوارج في فتنة النهروان . وليس في أيدينا معلومات تُذكَر عن ماضيه . علما أنّه لم يَقُم بالأمر في بداية تبلور التيّار الخارجي ؛ فقد كان ابن الكوّاء أمير الصلاة ، وشَبَث بن رِبعيّ أمير الحرب (5) . ثمّ انفصلا عن الخوارج فيما بعد (6) ، ممّا
.
ص: 573
دفعهم إلى البحث عن قائد جديد لهم . وكان المرشّحون للقيادة : هم زيد بن حُصَين ، وحرقوص بن زُهير ، وحمزة بن سِنان ، وشُريح بن أوفى ، بَيْد أنّهم رفضوا ذلك ، فتأمّر عبد اللّه بن وهب عليهم (1) . ونظّمهم من أجل الحرب ، ودعاهم إليها في خُطَبه الحماسيّة ، وحذّرهم من التحدّث إلى الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والاستماع إلى خُطَبِهِ . (2) وتدلّ بعض النصوص التاريخيّة على أنّه لم يكن ثابت العقيدة في طريقه الذي كان قد اختاره لنفسه (3) . ونقل المؤرّخون أنّه دعا الإمام عليّا عليه السلام إلى البِراز بكلّ وقاحة وصلافة ، ولكنّه قُتل في اللحظات الاُولى التي واجه فيها ليث الوغى الذي لا نِدّ له .
3 / 2مواصفات الحربأ _ تاريخُهابعدما يقرب من سنة واحدة على واقعة صفّين، وفي وقت لم تكن قد اُخمدت فيه نيران هذه الحرب الدامية، اندلع لهيب ثالث حرب داخليّة منطلقاً هذه المرّة من داخل جيش الإمام وبزعامة المتطرّفين من المسلمين. وهكذا كان الإمام منذ تسلّمه لزمام السلطة السياسية يواجه في كلّ عام حرباً أهليّة.
.
ص: 574
إنّ تاريخ وقوع معركة النهروان غير محدّد على وجه الدقّة؛ فقد ذكر بعض المؤرّخين أنّها وقعت سنة 38 ه (1) ، بينما ذكر آخرون أنّها وقعت سنة 37 ه (2) ، وأشار غيرهم الى وقوعها سنة 39 ه . (3) ويبدو أنّ الرأي الأوّل أقرب إلى الصواب؛ فبالإضافة إلى أنّ الكثير من أصحاب السيَر _ أو أكثرهم كما يقول الطبري _ يذهبون إلى هذا القول؛ فإنَّ التتبّع الدقيق لمجريات الأحداث في عهد حكومة الإمام عليّ عليه السلام يؤيّد هذا الرأي أيضاً. وأمّا الشهر الذي وقعت فيه معركة النهروان فلم يُشِر إليه أكثر المؤرّخين إلّا أنّ البعض منهم يرى أنّها حدثت في شهر صفر سنة 38 ه (4) ويرى آخرون أنّها كانت في شهر شعبان سنة 38 ه (5) ويبدو أنّ القول الصحيح هو الأوّل أي في شهر صفر سنة 38 ه ؛ لأنّ وقت التحكيم كان قد عُيّن في شهر رمضان، ومن بعده جهّز الإمام جيشاً وسار به نحو الشام، وإذا به يواجه تمرّد الخوارج عليه. وكانت مدّة الحرب قصيرة جدّاً وما لبثت أن خمدت على وجه السرعة (6) .
ب _ مَكانُهادارت رحى الحرب في النهروان وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي (7) على أربعة فراسخ من بغداد . (8)
.
ص: 575
ج _ عَدَدُ المُشارِكينَ فيهاشكّل جيش الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من ثمانية وستين ألفا ؛ وذلك أنّ الإمام عليه السلام تهيّأ لقتال أهل الشام ، ولم يكن عزم على قتال الخوارج (1) . وأمّا جيش الخوارج فكان أربعة آلاف (2) ، أو ألفين وثمانمِئَة . (3)
تاريخ الطبري عن أبي سلمة الزهري_ في ذِكرِ ما بَقِيَ مِن أصحابِ النَّهرَوانِ بَعدَ إعطاءِ الإِمامِ لَهُمُ الأَمانَ _: كانوا أربَعَةَ آلافٍ ، فَكانَ الَّذينَ بَقوا مَعَ عَبدِ اللّهِ بنِ وَهبٍ مِنهُم ألفَينِ وثَمانَمِئَةٍ . (4)
3 / 3مسير المارقين إلى النهروانأ _ بِدايَةُ الفُرقَةِتاريخ الطبري عن الزهري :تَفَرَّقَ أهلُ صِفّينَ حينَ حُكِّمَ الحَكَمانِ . . . فَلَمَّا انصَرَفَ عَلِيٌّ خالَفَتِ الحَرَورِيَّةُ وخَرَجَت _ وكانَ ذلِكَ أوَّلَ ما ظَهَرَت _ فَآذَنوهُ بِالحَربِ ، ورَدّوا عَلَيهِ أن حَكَّمَ بَني آدَمَ في حُكمِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وقالوا : لا حُكمَ إلّا للّهِِ سُبحانَهُ ! وقاتَلوا . (5)
ب _ إشخاصُ عَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ إليهِمالإمام عليّ عليه السلام_ مِن وَصِيَّتِهِ لِعَبدِ اللّهِ بنِ العَبّاسِ لَمّا بَعَثَهُ لِلاِحتِجاجِ عَلَى الخَوارِجِ _: لا
.
ص: 576
تُخاصِمهُم بِالقُرآنِ ؛ فَإِنَّ القُرآنَ حَمّالٌ ذو وُجوهٍ ؛ تَقولُ ويَقولونَ ، ولكِن حاجِجهُم بِالسُّنَّةِ ، فَإِنَّهُم لَن يَجِدوا عَنها مَحيصا . (1)
ج _ خُروجُ الإِمامِ عليه السلام إلى حَرَوراءَ وتَوبَةُ جَماعَةٍ مِنَ الخَوارِجِالفتوح_ بَعدَ ذِكرِ رُجوعِ عَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ مِن حَرَوراءَ وإخبارِهِ الإِمامَ بِما جَرى بَينَهُ وبَينَ الخَوارِجِ _:رَكِبَ عَلِيٌّ إلَى القَومِ في مِئَةِ رَجُلٍ مِن أصحابِهِ ، حَتّى وافاهُم بِحَرَوراءَ ، فَلَمّا بَلَغَ ذلِكَ الخَوارِجَ رَكِبَ عَبدُ اللّهِ بنُ الكَوّاءِ في مِئَةِ رَجُلٍ مِن أصحابِهِ حَتّى واقَفَهُ .
فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : يَابنَ الكَوّاءِ إنَّ الكَلامَ كَثيرٌ ، ابرُز إلَيَّ مِن أصحابِكَ حَتّى أُكَلِّمَكَ . قالَ ابنُ الكَوّاءِ : وأنَا آمِنٌ مِن سَيفِكَ .
قالَ عَلِيٌّ : نَعَم ، وأنتَ آمِنٌ مِن سَيفي .
قالَ : فَخَرَجَ ابنُ الكَوّاءِ في عَشَرَةٍ مِن أصحابِهِ ودَنَوا مِن عَلِيٍّ رضى الله عنه . قالَ : وذَهَبَ ابنُ الكَوّاءِ لِيَتَكَلَّمَ فَصاحَ بِهِ رَجُلٌ مِن أصحابِ عَلِيٍّ وقالَ : اُسكُت ؛ حَتّى يَتَكَلَّمَ مَن هُوَ أحَقُّ بِالكَلامِ مِنكَ .
قالَ : فَسَكَتَ ابنُ الكَوّاءِ ، وتَكَلَّمَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، فَذَكَرَ الحَربَ الَّذي كانَ بَينَهُ وبَينَ مُعاوِيَةَ ، وذَكَرَ اليَومَ الَّذي رُفِعَت فيهِ المَصاحِفُ ، وكَيفَ اتَّفَقوا عَلَى الحَكَمَينِ ، ثُمَّ قالَ لَهُ عَلِيٌّ : وَيحَكَ يَابنَ الكَوّاءِ ، أ لَم أقُل لَكُم في ذلِكَ اليَومِ الَّذي رُفِعَت فيهِ المَصاحِفُ : كَيفَ أهلُ الشّامِ يُريدونَ أن يَخدَعوكُم بِها ؟ أ لَم أقُل لَكُم بِأَنَّهُم قَد عَضَّهُمُ السِّلاحُ وكاعوا (2) عَنِ الحَربِ ، فَذَروني اُناجِزهُم ، فَأَبَيتُم عَلَيَّ وقُلتُم : إنَّ القَومَ قَد
.
ص: 577
دَعَونا إلى كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ فَأَجِبهُم إلى ذلِكَ ، وإلّا لَم نُقاتِل مَعَكَ ، وإلّا دَفَعناكَ إلَيهِم ! فَلَمّا أجَبتُكُم إلى ذلِكَ وأرَدتُ أن أبعَثَ ابنَ عَمّي عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ لِيكَونَ لي حَكَما ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ لا يَبتَغي بِشَيءٍ مِن عَرَضِ هذِهِ الدُّنيا ولا يَطمَعُ أحَدٌ مِن النّاسِ في خَديعَتِهِ ، فَأَبى عَلَيَّ مِنكُم مَن أبى ، وجِئتُموني بِأَبي موسَى الأَشعَرِيِّ وقُلتُم : قَد رَضينا بِهذا . فَأَجَبتُكُم إلَيهِ وأنا كارِهٌ ، ولَو أصَبتُ أعوانا غَيرَكُم في ذلِكَ الوَقتِ لَما أجَبتُكُم . ثُمَّ إنِّي اشتَرَطتُ عَلَى الحَكَمَينِ بِحَضرَتِكُم أن يَحكُما بِما أنزَلَ اللّهُ مِن فاتِحَتِهِ إلى خاتِمَتِهِ أو السُّنَّةِ الجامِعَةِ ، فَإِن هُما لَم يَفعَلا ذلِكَ فَلا طاعَةَ لَهُما عَلَيَّ ، أكانَ ذلِكَ أم لَم يَكُن ؟
فَقالَ ابنُ الكَوّاءِ : صَدَقتَ ، قَد كانَ هذا بِعَينِهِ ، فَلِمَ لا تَرجِعُ إلى حَربِ القَومِ إذ قَد عَلِمتَ إنَّ الحَكَمَينِ لَم يَحكُما بِالحَقِّ، وأنَّ أحَدَهُما خَدَعَ صاحِبَهُ ؟
فَقالَ عَلِيٌ : إنَّهُ لَيسَ إلى حَربِ القَومِ سَبيلٌ إلَى انقِضاءِ المُدَّةِ الَّتي ضُرِبَت بَيني وبَينَهُم .
قالَ ابنُ الكَوّاءِ : فَأَنتَ مُجمِعٌ عَلى ذلِكَ ؟
قالَ : وهَل يَسَعُني إلّا ذلِكَ ؟ اُنظُر يَابنَ الكَوّاءِ أنّي أصَبتُ أعوانا وأقعُدُ عَن حَقّي ؟
قالَ : فَعِندَها بَطَنَ (1) ابنُ الكَوّاءِ فَرَسَهُ وصارَ إلى عَلِيٍّ مَعَ العَشَرَةِ الَّذينَ كانوا مَعَهُ ، ورَجَعوا عَن رَأيِ الخَوارِجِ ، وَانصَرَفوا مَعَ عَلِيٍّ إلَى الكوفَةِ ، وتَفَرَّقَ الباقونَ وهُم يَقولونَ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ ، ولا طاعَةَ لِمَن عَصَى اللّهَ . (2) .
ص: 578
د _ صَبرُ الإِمامِ عليه السلام عَلى أذاهُم ورِفقُهُ بِهِمتاريخ الطبري عن كثير بن بهز الحضرمي :قامَ عَلِيٌّ فِي النّاسِ يَخطُبُهُم ذاتَ يَومٍ ، فَقالَ رَجُلٌ _ مِن جانِبِ المَسجِدِ _ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ . فَقامَ آخَرُ فَقالَ مِثلَ ذلِكَ ، ثُمَّ تَوالى عِدَّةُ رِجالٍ يُحَكِّمونَ .
فَقالَ عَلِيٌّ : اللّهُ أكبَرُ ، كَلِمَةُ حَقٍّ يُلتَمَسُ بِها باطِلٌ ! أما إنَّ لَكُم عِندَنا ثَلاثا ما صَحِبتُمونا : لا نَمنَعُكُم مَساجِدَ اللّهِ أن تَذكُروا فيهَا اسمَهُ ، ولا نَمنَعُكُمُ الفَيءَ ما دامَت أيديكُم مَعَ أيدينا ، ولا نُقاتِلُكُم حَتّى تَبدَؤونا . ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكانِهِ الَّذي كانَ فيهِ مِن خُطبَتِهِ . (1)ه _ بَيعَتُهُم عَبدَ اللّهِ بنَ وَهبٍتاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة :إنَّ عَلِيّا لَمّا بَعَثَ أبا موسى لِاءِنفاذِ الحُكومَةِ لَقِيَتِ الخَوارِجُ بَعضُها بَعضا ، فَاجتَمَعوا في مَنزِلِ عَبدِ اللّهِ بنِ وَهَبٍ الرّاسِبِيِّ ، فَحَمِدَ اللّهَ عَبدُ اللّهِ بنُ وَهبٍ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَوَاللّهِ مايَنبَغي لِقَومٍ يُؤمِنونَ بِالرَّحمنِ ويُنيبونَ إلى حُكمِ القُرآنِ أن تَكونَ هذِهِ الدّنيَا _ الَّتِي الرِّضا بِها وَالرُّكونُ بِها وَالإِيثارُ إيّاها عَناءٌ وتَبارٌ _ آثَرَ عِندَهُم مِنَ الأَمرِ بِالمَعروفِ ، وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَالقَولِ بِالحَقِّ ، وإن مُنَّ وضُرَّ فَإِنَّهُ مَن يُمَنُّ ويُضَرُّ في هذِهِ الدُّنيا فَإِنَّ ثوابَهُ يَومَ القيامَةِ رِضوانُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وَالخُلودُ في جَنّاتِهِ . فَاخرُجوا بِنا إخوانَنا مِن هذِهِ القَريَةِ الظّالِمِ أهلُها إلى بَعضِ كُوَرِ الجِبالِ ، أو إلى بَعضِ هذِهِ المَدائِنِ ، مُنكِرينَ لِهذِهِ البِدَعِ المُضِلَّةِ .
فَقالَ لَهُ حُرقوصُ بنُ زُهَيرٍ : إنَّ المَتاعَ بِهذِهِ الدُّنيا قَليلٌ ، وإنَّ الفِراقَ لَها وَشيكٌ ، فَلا تَدعُوَنَّكُم زينَتُها وبَهجَتُها إلَى المُقامِ بِها ، ولا تَلفِتَنَّكُم عَن طَلَبِ الحَقِّ ، وإنكارِ الظُّلمِ ، فَإِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ .
.
ص: 579
فَقالَ حَمزَةُ بنُ سِنانٍ الأَسدِيُّ : يا قَومُ ! إنَّ الرَّأيَ ما رَأَيتُم ، فَوَلّوا أمرَكُم رَجُلاً مِنكُم ، فَإِنَّهُ لابُدَّ لَكُم مِن عِمادٍ وسِنادٍ ورايَةٍ تَحُفّونَ بِها ، وتَرجِعونَ إلَيها . فَعَرَضوها عَلى زَيدِ بنِ حُصَينٍ الطاّئِيِّ ، فَأَبى ، وعَرَضوها عَلى حُرقوصِ بنِ زُهَيرٍ ، فَأَبى ، وعَلى حَمزَةَ بنِ سِنانٍ وشُرَيحِ بنِ أوفَى العَبِسيِّ ، فَأَبَيا ، وعَرَضوها عَلى عَبدِ اللّهِ بنِ وَهبٍ ، فَقالَ: هاتوها ، أما وَاللّهِ لا آخُذُها رَغبَةً فِي الدُّنيا ، ولا أدَعُها فَرَقا (1) مِنَ المَوتِ . فَبايَعوهُ لِعَشرٍ خَلَونَ مِن شَوّالٍ ، وكانَ يُقالُ لَهُ : ذُو الثَّفِناتِ .
ثُمَّ اجتَمَعوا في مَنزِلِ شُرَيحِ بنِ أوفَى العَبسِيِّ ، فَقالَ ابنُ وَهبٍ : اِشخَصوا بِنا إلى بَلدَةٍ نَجتَمِعُ فيها لِاءِنفاذِ حُكمِ اللّهِ ، فَإِنَّكُم أهلُ الحَقِّ .
قالَ شُرَيحٌ : نَخرُجُ إلَى المَدائِنِ فَنَنزِلُها ، ونَأخُذُ بِأَبوابِها ، ونُخرِجُ مِنها سُكّانَها ، ونَبعَثُ إلى إخوانِنا مِن أهلِ البَصرَةِ فَيَقدَمونَ عَلَينا .
فَقالَ زَيدُ بنُ حُصَينٍ : إنَّكُم إن خَرَجتُم مُجتَمِعينَ اتُّبِعتُم ، ولكِنِ اخرُجوا وُحدانا مُستَخفينَ ، فَأَمَّا المَدائِنُ فَإِنَّ بِها مَن يَمنَعُكُم ، ولكِن سيروا حَتّى تَنزِلوا جِسرَ النَّهرَوانِ وتُكاتِبوا إخوانَكُم مِن أهلِ البَصرَةِ . قالوا : هذَا الرَّأيُ .
وكَتَبَ عَبدُ اللّهِ بنُ وَهبٍ إلى مَن بِالبَصرَةِ مِنهُم يُعلِمُهُم مَا اجتَمَعوا عَلَيهِ ، ويَحُثُّهُم عَلَى اللِّحاقِ بِهِم ، وسَيَّرَ الكِتابَ إلَيهِم ، فَأَجابوهُ أنَّهُم عَلَى اللِّحاقِ بِهِ .
فَلَمّا عَزَموا عَلَى المَسيرِ تَعَبَّدوا لَيلَتَهُم ؛ وكانَت لَيلَةُ الجُمُعَةِ ويَومُ الجُمُعَةِ ، وساروا يَومَ السَّبتِ ، فَخَرَجَ شُرَيحُ بنُ أوفَى العَبسِيُّ وهُوَ يَتلو قَولَ اللّهِ تَعالى : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّ__لِمِينَ * وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ» (2) . (3) .
ص: 580
و _ قَتلُهُمُ ابنَ خَبّابٍ وامرَأَتَهُ وهِيَ حُبلىمسند ابن حنبل عن أيّوب عن حميد بن هلال عن رجل من عبد القيس كان من الخوارج ثمّ فارقهم قال :دَخَلوا قَريَةً ، فَخَرَجَ عَبدُ اللّهِ بنُ خَبّابٍ ، ذَعِرا يَجُرُّ رِداءَهُ ، فَقالوا : لَم تُرَعْ ، قالَ : وَاللّهِ لَقَد رُعتَموني !
قالوا : أنتَ عَبدُ اللّهِ بنُ خَبّابٍ صاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟
قالَ : نَعَم . قالوا (1) : فَهَل سَمِعتَ مِن أبيكَ حَديثا يُحَدِّثُهُ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله تُحَدِّثُناهُ ؟
قالَ : نَعَم ، سَمِعتُهُ يُحَدِّثُ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنَّهُ ذَكَرَ فِتنَةً ، القاعِدُ فيها خَيرٌ مِنَ القائِمِ ، وَالقائِمُ فيها خَيرٌ مِنَ الماشي ، وَالماشي فيها خَيرٌ مِنَ السّاعي . قالَ : فَإِن أدرَكتَ ذلِكَ فَكُن عَبدَ اللّهِ المَقتولَ _ قالَ أيّوبُ : ولا أعلَمُهُ إلّا قالَ : ولا تَكُن عَبدَ اللّهِ القاتِلَ _.
قالوا : أ أنتَ سَمِعتَ هذا مِن أبيكَ يُحَدِّثُهُ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟
قالَ : نَعَم .
قالَ : فَقَدَّموهُ عَلى ضَفَّةِ النَّهرِ ، فَضَرَبوا عُنُقَهُ ، فَسالَ دَمُهُ كَأَنَّهُ شِراكُ نَعلٍ مَا ابذَقَرَّ (2) ، وبَقَروا اُمَّ وَلَدِهِ عَمّا في بَطنِها . (3)3 / 4عزم الإمام عليه السلام على قتال معاوية ثانياأ _ خُطبَةُ الإِمامِ عليه السلام قَبلَ المَسيرِ إلَى الشّامِتاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة :لَمّا خَرَجَتِ الخَوارِجُ وهَرَبَ أبو موسى إلى مَكَّةَ
.
ص: 581
ورَدَّ عَلِيٌّ ابنَ عَبّاسٍ إلى البَصرَةِ ، قامَ فِي الكوفَةِ فَخَطَبَهُم ، فَقالَ :
الحَمدُ للّهِِ وإن أتَى الدَّهرُ بِالخَطبِ الفادِحِ ، وَالحَدَثانِ الجَليلِ ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ ، وأنَّ مُحَمَّدا رَسولُ اللّهِ .
أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ المَعصِيَةَ تورِثُ الحَسرَةَ ، وتُعقِبُ النَّدَمَ ، وقَد كُنتُ أمَرتُكُم في هذَينِ الرَّجُلَينِ وفي هذِهِ الحُكومَةِ أمري ، ونَحَلتُكُم رَأيي ، لَو كانَ لِقَصيرٍ أمرٌ ! ولكِن أبَيتُم إلّا ما أرَدتُم ، فَكُنتُ أنَا وأنتُم كَما قالَ أخو هَوازِنَ :
أمَرتُهُمُ أمري بِمُنعَرَجِ اللِّوىَفَلَم يَستَبينُوا الرُّشدَ إلّا ضُحَى الغَدِ
ألا إنَّ هذَينِ الرَّجُلَينِ اللَّذَينِ اختَرتُموهُما حَكَمَينِ قَد نَبَذا حُكمَ القُرآنِ وَراءَ ظُهورِهِما ، وأحيَيا ما أماتَ القرآنُ ، وَاتَّبَعَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما هَواهُ بِغَيرِ هُدىً مِنَ اللّهِ ، فَحَكَما بِغَيرِ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ ، ولا سُنَّةٍ ماضِيَةٍ ، وَاختَلَفا في حُكمِهِما ، وكِلاهُما لَم يَرشُد ، فَبَرِئَ اللّهُ مِنهُما ورَسولُهُ وصالِحُ المُؤمِنينَ . اِستَعِدّوا وتَأَهَّبوا لِلمَسيرِ إلَى الشّامِ ، وأصبِحوا في مُعَسكَرِكُم إن شاءَ اللّهُ يَومَ الإِثنَينِ . (1)ب _ اِستِنصارُ الإِمامِ عليه السلام الخَوارِجَ في قِتالِ مُعاوِيَةَأنساب الأشراف عن أبي مجلز :بَعَثَ عَلِيٌّ إلَى الخَوارِجِ أن سيروا إلى حَيثُ شِئتُم ، ولا تُفسِدوا فِي الأَرضِ ؛ فَإِنّي غَيرُ هائِجِكُم ما لَم تُحدِثوا حَدَثا .
فَساروا حَتّى أتَوُا النَّهرَوانَ ، وأجمَعَ عَلِيٌّ عَلى إتيانِ صِفّينَ ، وبَلَغَ مُعاوِيَةَ فَسارَ حَتّى أتى صِفّينَ .
وكَتَبَ عَلِيٌّ إلَى الخَوارِجِ _ بِالنَّهرَوانِ _ : أمّا بَعدُ ، فَقَد جاءَكُم ما كُنتُم تُريدونَ ، قَد تَفَرَّقَ الحَكَمانِ عَلى غَيرِ حُكومَةٍ ولَا اتِّفاقٍ ، فَارجِعوا إلى ما كُنتُم عَلَيهِ ، فَإِنّي اُريدُ
.
ص: 582
المَسيرَ إلَى الشّامِ .
فَأَجابوهُ : أنَّهُ لا يَجوزُ لَنا أن نَتَّخِذَكَ إماما وقَد كَفَرتَ حَتّى تَشهَدَ عَلى نَفسِكَ بِالكُفرِ ، وتَتوبَ كَما تُبنا ، فَإِنَّكَ لَم تَغضَب للّهِِ ، إنَّما غَضِبتَ لِنَفسِكَ .
فَلَمّا قَرَأَ جَوابَ كِتابِهِ إلَيهِم يَئِسُ مِنهُم ، فَرَأى أن يَمضِيَ مِن مُعَسكَرِهِ بِالنُّخَيلَةِ _ وقَد كانَ عَسكَرَ بِها حينَ جاءَ خَبرُ الحَكَمَينِ _ إلَى الشّامِ ، وكَتَبَ إلى أهلِ البَصرَةِ فِي النُّهوضِ مَعَهُ . (1)ج _ نُزولُ عَسكَرِ الإِمامِ عليه السلام بِالنُّخَيلَةِالأخبار الطوال_ بَعدَ ذِكرِ رِسالَةِ الإِمامِ عليه السلام إلَى الخَوارِجِ وجَوابِهِم لَهُ _: لَمّا قَرَأَ عَلِيٌّ كِتابَهُم يَئِسَ مِنهُم ، ورَأى أن يَدَعَهُم عَلى حالِهِم ، ويَسيرَ إلَى الشّامِ ؛ لِيُعاوِدَ مُعاوِيَةَ الحَربَ ، فَسارَ بِالنّاسِ حَتّى عَسكَرَ بِالنُّخَيلَةِ ، وقالَ لِأَصحابِهِ : تَأَهَّبوا لِلمَسيرِ إلى أهلِ الشّامِ ، فَإِنّي كاتِبٌ إلى جَميعِ إخوانِكُم لِيَقدَموا عَلَيكُم ، فَإِذا وافَوا شَخَصنا إن شاءَ اللّهُ .
ثُمَّ كَتَبَ كِتابَهُ إلى جَميعِ عُمّالِهِ أن يُخَلِّفوا خُلفاءَهُم عَلى أعمالِهِم ، ويَقدَموا عَلَيهِ . (2)د _ إصرارُ الجَيشِ عَلى قِتالِ الخَوارِجِ قَبلَ المَسيرِتاريخ الطبري عن أبي الصلت التيمي :بَلَغَ عَلِيّا أنَّ النّاسَ يَقولونَ : لَو سارَ بِنا إلى هذِهِ الحَرَورِيَّةِ فَبَدَأنا بِهِم ، فَإِذا فَرَغنا مِنهُم وَجَّهَنا مِن وَجهِنا ذلِكَ إلَى المُحِلّينَ . فَقامَ في النّاسِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّهُ قَد بَلَغَني قَولُكُم : لَو أنَّ
.
ص: 583
أميرُ المُؤمِنينَ سارَ بِنا إلى هذِهِ الخارِجَةِ الَّتي خَرَجَت عَلَيهِ فَبَدَأنا بِهِم ، فَإِذا فَرَغنا مِنهُم وَجَّهَنا إلَى المُحِلّينَ ، وإنَّ غَيرَ هذِهِ الخارِجَةِ أهَمُّ إلَينا مِنهُم ، فَدَعوا ذِكرَهُم ، وسيروا إلى قَومٍ يُقاتِلونَكُم كَيما يَكونوا جَبّارينَ مُلوكا ، ويَتَّخِذوا عِبادَ اللّهِ خَوَلاً .
فَتَنادى النّاسُ مِن كُلِّ جانِبٍ : سِر بِنا يا أميرَ المُؤمِنينَ حَيثُ أحبَبتَ . (1)3 / 5مسير جيش الإمام عليه السلام إلى النهروانأ _ ما أدّى إلى تَطَوُّرِ مَوقِفِ الإِمامِ عليه السلام في مُواجَهَةِ الخَوارِجِتاريخ الطبري عن حميد بن هلال_ بَعدَ أن ذَكَرَ أنَّ الخَوارِجَ قَتَلوا عَبدَ اللّهِ ابنَ خَبّابٍ وَامرَأَتَهُ _: وقَتَلوا ثَلاثَ نِسوَةٍ مِن طَيِّءٍ ، وقَتَلوا اُمَّ سِنانٍ الصَّيداوِيَّةَ ، فَبَلَغَ ذلِكَ عَلِيّا ومَن مَعَهُ مِنَ المُسلِمينَ مِن قَتلِهِم عَبدَ اللّهِ بنَ خَبّابٍ وَاعتِراضِهِم النّاسَ ، فَبَعَثَ إلَيهِمُ الحارِثَ بنَ مُرَّةَ العَبدِيَّ لِيَأتِيَهُم فَيَنظُرَ فيما بَلَغَهُ عَنهُم ، ويَكتُبَ بِهِ إلَيهِ عَلى وَجهِهِ ، ولا يَكتُمَهُ .
فَخَرَجَ حَتَّى انتَهى إلَى النَّهرِ لِيُسائِلَهُم ، فَخَرَجَ القَومُ إلَيهِ فَقَتَلوهُ . وأتَى الخبَرُ أميرَ المُؤمِنينَ وَالنّاسَ ، فَقامَ إلَيهِ النّاسُ فَقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ عَلامَ تَدَعُ هؤُلاءِ وَراءَنا يَخلُفونَنا في أموالِنا وعِيالِنا ؟ ! سِر بِنا إلَى القَومِ ، فَإِذا فَرَغنا مِمّا بَينَنا وبَينَهُم سِرنا إلى عَدُوِّنا مِن أهلِ الشّامِ .
وقامَ إلَيهِ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ الكِندِيُّ فَكَلَّمَهُ بِمِثلِ ذلِكَ _ وكانَ النّاسُ يَرَونَ أنَّ الأَشعَثَ يَرى رَأيَهُم ؛ لِأَنَّهُ كانَ يَقولُ يَومَ صِفّينَ أنصَفَنا قَومٌ يَدعونَ إلى كِتابِ اللّهِ ، فَلَمّا أمَرَ عَلِيّا بِالمَسيرِ إلَيهِم عَلِمَ النّاسُ أنَّهُ لَم يَكن يَرى رَأيَهُم _ فَأَجمَعَ عَلى ذلِكَ ، فَنادى بِالرَّحيلِ . (2)
.
ص: 584
ب _ نُزولُ الإِمامِ عليه السلام عَلى فَرسَخَينِ مِنَ النَّهرَوانِامام كاظم عليه السلام مى فرمايد كه خداوند متعال ،الفتوح :سارَ عَلِيٌّ رضى الله عنه حَتّى نَزَلَ عَلى فَرسَخَينِ مِنَ النَّهرَوانِ ، ثُمَّ دَعا بِغُلامِهِ فَقالَ لَهُ : اِركَب إلى هؤُلاءِ القَومِ ، وقُل لَهُم عَنّي : مَا الَّذي حَمَلَكُم عَلَى الخُروجِ عَلَيَّ ، أ لَم أقصِد في حُكمِكُم ؟ أ لَم أعدِل في قَسمِكُم ؟ أ لَم أقسِم فيكُم فَيئَكُم ؟ أ لَم أرحَم صَغيرَكُم ؟ أ لَم اُوَقِّر كَبيرَكُم ؟ أ لَم تَعلَموا أنّي لَم أتَّخِذكُم خَوَلاً ، ولَم أجعَل مالَكُم نَفَلاً ؟ وَانظُر ماذا يَرُدّونَ عَلَيكَ ، وإن شَتَموكَ فَاحتَملِ ، وإيّاكَ أن تَرُدَّ عَلى أحَدٍ مِنهُم شَيئا .
فَأَقبَلَ غُلامُ عَلِيٍّ حَتّى أشرَفَ عَلَى القَومِ بِالنَّهرَوانِ ، فَقالَ لَهُم ما أمَرَهُ بِهِ ، فَقالَت لَهُ الخَوارِجُ : اِرجِع إلى صاحِبِكَ ؛ فَلَسنا نُجيبُهُ إلى شَيءٍ يُريدُه أبَدا ، وإنّا نَخافُ أن يَرُدَّنا بِكَلامِهِ الحَسَنِ كَما رَدَّ إخوانَنا بِحَرَوراءَ عَبدَ اللّهِ بنَ الكَوّاءِ وأصحابَهُ ، وَاللّهِ تَعالى يَقولُ : «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» (1) ، ومَولاكَ عَلِيٌّ مِنهُم ، فَارجِع إلَيهِ وخَبِّرهُ بِأَنَّ اجتِماعَنا هاهُنا لِجِهادِهِ ومُحارَبَتِهِ ، لا لِغَيرِ ذلِكَ . (2)ج _ إخبارُ الإِمامِ عليه السلام بِما سَيَقَعُ فِي الحَربِالإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا عَزَمَ عَلى حَربِ الخَوارِجِ ، وقيلَ لَهُ : إنَّ القَومَ عَبَروا جِسرَ النَّهرَوانِ _: مَصارِعُهُم دونَ النُّطفَةِ (3) ، وَاللّهِ ، لا يُفلِتُ مِنهُم عَشَرَةٌ ، ولا يَهلِكُ مِنكُم عَشَرَةٌ . (4)
.
ص: 585
3 / 6إقامة الحجّة في ساحة القتالأ _ اِحتِجاجاتُ الإِمامِ عليه السلام عَلَيهِمنهج البلاغة :مِن كَلامٍ لَهُ عليه السلام قالَهُ لِلخَوارِجِ ، وقَد خَرَجَ إلى مُعَسكَرِهِم وهُم مُقيمونَ عَلى إنكارِ الحُكومَةِ فَقالَ عليه السلام : أكُلُّكُم شَهِدَ مَعَنا صِفّينَ ؟
فَقالوا : مِنّا مَن شَهِدَ ، ومِنّا مَن لَم يَشهَد .
قالَ : فَامتازوا فِرقَتَينِ ؛ فَليَكُن مَن شَهِدَ صِفّينَ فِرقَةً ، ومَن لَم يَشهَدها فِرقَةً ، حَتّى اُكَلِّمَ كُلّاً مِنكُم بِكَلامِهِ . ونادَى النّاسَ ، فَقالَ : أمسِكوا عَنِ الكَلامِ ، وأنصِتوا لِقَولي ، وأقبِلوا بِأَفئِدَتِكُم إلَيَّ ، فَمَن نَشَدناهُ شَهادَةً فَليَقُل بِعِلمِهِ فيها .
ثُمَّ كَلَّمَهُم عليه السلام بِكَلامٍ طَويلٍ ، مِن جُملَتِهِ أن قالَ عليه السلام : أ لَم تَقولوا عِندَ رَفعِهِمُ المَصاحِفَ حيلَةً وغيلَةً ومَكرا وخَديعَةً : إخوانُنا وأهلُ دَعوَتِنَا استَقالونا وَاستَراحوا إلى كِتابِ اللّهِ سُبحانَهُ ، فَالرَّأيُ القَبولُ مِنهُم ، وَالتَّنفيسُ عَنهُم ؟
فَقُلتُ لَكُم : هذا أمرٌ ظاهِرُهُ إيمانٌ ، وباطِنُهُ عُدوانٌ ، وأوَّلُهُ رَحمَةٌ ، وآخِرُهُ نَدامَةٌ ، فَأَقيموا عَلى شَأنِكُم ، وَالزَموا طَريقَتَكُم ، وعَضّوا عَلَى الجِهادِ بِنَواجِذِكُم ، ولا تَلتَفِتوا إلى ناعِقٍ نَعَقَ ؛ إن اُجيبَ أضَلَّ ، وإن تُرِكَ ذَلَّ .
وقَد كانَت هذِهِ الفَعلَةُ ، وقَد رَأَيتُكُم أعطَيتُموها . وَاللّهِ لَئِن أبَيتُها ما وَجَبَت عَلَيَّ فَريضَتُها ، ولا حَمَّلَنِي اللّهُ ذَنبَها . ووَاللّهِ ، إن جِئتُها إنّي لَلمُحِقُّ الَّذي يُتَّبَعُ ، وإنَّ الكِتابَ لَمَعي ، ما فارَقتُهُ مُذ صَحبِتُهُ ، فَلَقَد كُنّا مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وإنَّ القَتلَ لَيَدورُ عَلَى الآباءِ وَالأَبناءِ ، وَالإِخوانِ وَالقَراباتِ ، فَما نَزدادُ عَلى كُلِّ مُصيبَةٍ وشِدَّةٍ إلّا إيمانا ، ومُضِيّا عَلَى الحَقِّ ، وتَسليما لِلأَمرِ ، وصَبرا عَلى مَضَضِ (1) الجِراحِ .
.
ص: 586
ولكِنّا إنَّما أصبَحنا نُقاتِلُ إخوانَنا فِي الإِسلامِ عَلى ما دَخَلَ فيهِ مِنَ الزَّيغِ وَالاعوِجاجِ ، وَالشُّبهَةِ وَالتَّأويلِ . فَإِذا طَمِعنا في خَصلَةٍ يَلُمُّ اللّهُ بِها شَعَثَنا ، ونَتَدانى بِها إلَى البَقِيَّةِ فيما بَينَنا ، رَغِبنا فيها ، وأمسَكنا عَمّا سِواها . (1)تاريخ بغداد عن جابر :إنّي لَشاهِدٌ عَلِيّا يَومَ النَّهرَوانِ لَمّا أن عايَنَ القَومَ قالَ لِأَصحابِهِ : كُفّوا . فَناداهُم أن أقيدونا (2) بِدَمِ عَبدِ اللّهِ بنِ خَبّابٍ _ وكانَ عامِلُ عَلِيٍّ عَلَى النَّهرَوانِ _.
قالوا : كُلُّنا قَتَلَهُ . (3)ب _ خُطبَةُ الإِمامِ عليه السلام بَينَ الصَّفَّينِالأخبار الموفّقيّات عن عليّ بن صالح :لَمّا استَوَى الصَّفّانِ بِالنَّهرَوانِ تَقَدَّمَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام بَينَ الصَّفَّينِ ، ثُمَّ قالَ :
أمّا بَعدُ ، أيَّتُهَا العِصابَةُ الَّتي أخرَجَتها عادَةُ المِراءِ وَالضَّلالَةِ ، وصَدَفَ بِها عَنِ الحَقِّ الهَوى وَالزَّيغُ ، إنّي نَذيرٌ لَكُم أن تُصبِحوا غَدا صَرعى بِأَكنافِ هذَا النَّهرِ ، أو بِمِلطاطٍ (4) مِنَ الغائِطِ ، بِلا بَيِّنَةٍ مِن رَبِّكُم ولا سُلطانٍ مُبينٍ . أ لَم أنهَكُم عَن هذِهِ الحُكومَةِ واُحَذِّركُموها ، واُعلِمكُم أنَّ طَلَبَ القَومِ لَها دَهنٌ مِنهُم ومَكيدَةٌ ؟ ! فَخالَفتُم أمري وجانَبتُمُ الحَزمَ فَعَصَيتُموني حَتّى أقرَرتُ بِأَن حَكَّمتُ ، وأخَذتُ عَلَى الحَكَمَينِ فَاستَوثَقتُ ، وأمَرتُهُما أن يُحيِيا ما أحيَا القُرآنُ ، ويُميتا ما أماتَ القرآنُ ، فَخالَفا أمري وعَمَلا بِالهَوى ، ونَحنُ عَلَى الأَمرِ الأَوَّلِ ، فَأَينَ تَذهَبونَ ؟ وأينَ يُتاهُ بِكُم ؟
فَقالَ خَطيبُهُم : أمّا بَعدُ ، يا عَلِيُّ ! فَإِنّا حينَ حَكَّمنا كانَ ذلِكَ كُفرا مِنّا ، فَإِن تُبتَ
.
ص: 587
كَما تُبنا فَنَحنُ مَعَكَ ومِنكَ ، وإن أبَيتَ فَنَحنُ مُنابِذوكَ عَلى سَواءٍ إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخائِنينَ .
فَقالَ عَلِيٌّ : أصابَكُم حاصِبٌ (1) ولا بَقِيَ مِنكُم وابِرٌ (2) ، أبَعدَ إيماني بِاللّهِ ، وجِهادي في سَبيلِ اللّهِ ، وهِجرَتي مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله اقِرُّ بِالكُفرِ ؟ ! لَقَد ضَلَلتُ إذا وما أنَا مِن المُهتَدينَ ، ولكِن مُنيتُ بِمَعشَرٍ أخِفّاءِ الهامِ ، سُفَهاءِ الأَحلامِ ، وَاللّهُ المُستَعانُ . (3)ج _ رَفعُ رايَةِ الأَمانِتاريخ الطبري عن أبي سلمة الزهري :رَفَعَ عَلِيٌّ رايَةَ أمانٍ مَعَ أبي أيّوبَ ، فَناداهُم أبو أيّوبَ :مَن جاءَ هذِهِ الرّايَةَ مِنكُم مِمَّن لَم يَقتُل ولَم يَستَعرِض فَهُوَ آمِنٌ ، ومَنِ انصَرَفَ مِنكُم إلَى الكوفَةِ أو إلَى المَدائِنِ وخَرَجَ مِن هذِهِ الجَماعَةِ فَهُوَ آمِنٌ ، إنَّهُ لا حاجَةَ لَنا بَعدَ أن نُصيبَ قَتَلَةَ إخوانِنا مِنكُم في سَفكِ دِمائِكُم .
فَقالَ فَروَةُ بنُ نَوفَلٍ الأَشجَعِيُّ : وَاللّهِ ، ما أدري عَلى أيِّ شَيءٍ نُقاتِلُ عَلِيّا ؟ ! لا أرى إلّا أن أنصَرِفَ حَتّى تَنفُذَ لي بَصيرَتي في قِتالِهِ أو اتِّباعِهِ ، وَانصَرَفَ في خَمسِمِئَةِ فارِسٍ حَتّى نَزَلَ البَندَنيجَيْنَ وَالدَّسْكَرَةَ ، وخَرَجَت طائِفَةٌ اُخرى مُتَفَرِّقينَ فَنَزَلَتِ الكوفَةَ ، وخَرَجَ إلى عَلِيٍّ مِنهُم نَحوٌ مِن مِئَةٍ ، وكانوا أربَعَةَ آلافٍ ، فَكانَ الَّذينَ بَقوا مَعَ عَبدِ اللّهِ بنِ وَهبٍ مِنهُم ألفَينِ وثَمانِمِئَةٍ . (4)
.
ص: 588
3 / 7القتالأ _ الدُّعاءُ قَبلَ القِتالِالإمام الباقر عليه السلام :إنَّ عَلِيّا عليه السلام كانَ يَدعو عَلَى الخَوارِجِ فَيَقولُ في دُعائِهِ : اللّهُمَّ رَبَّ البَيتِ المَعمورِ، وَالسَّقفِ المَرفوعِ ، وَالبَحرِ المَسجورِ ، وَالكِتابِ المَسطورِ ، أسأَلُكَ الظَّفَرَ عَلى هؤُلاءِ الَّذينَ نَبَذوا كِتابَكَ وَراءَ ظُهورِهِم ، وفارَقوا اُمَّةَ أحمَدَ عُتُوّاً عَلَيكَ . (1)ب _ الأَمرُ بِالقِتالِمروج الذهب_ في ذِكرِ قِتالِ الخَوارِجِ _: لَمّا أشرَفَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] عَلَيهِم قالَ : اللّهُ أكبَرُ ، صَدَقَ اللّهُ ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله .
فَتَصافَّ القَومُ ، ووَقَفَ عَلَيهِم بِنَفسِهِ ، فَدَعاهُم إلَى الرُّجوعِ وَالتَّوبَةِ ، فَأَبَوا ورَمَوا أصحابَهُ ، فَقيلَ لَهُ : قَد رَمَونا .
فَقالَ : كُفّوا .
فَكَرَّرُوا القَولَ عَلَيهِ ثَلاثا وهُوَ يَأمُرُهُم بِالكَفِّ ، حَتّى اُتِيَ بِرَجُلٍ قَتيلٍ مُتَشَحِّطٍ بِدَمِهِ .
فَقالَ عَلِيٌّ : اللّهُ أكبَرُ ، الآنَ حَلَّ قِتالُهُمُ ، احمِلوا عَلَى القَومِ . (2)ج _ قِتالُ الإِمامِ عليه السلام بِنَفسِهِالكامل للمبرّد :خَرَجَ مِنهُم رَجُلٌ بَعدَ أن قالَ عَلِيٌّ رِضوانُ اللّهِ عَلَيهِ :
.
ص: 589
اِرجِعوا وَادفَعوا إلَينا قاتِلَ عَبدِ اللّهِ بنِ خَبّابٍ .
فَقالُوا : كُلُّنا قَتَلَهُ وشَرِكَ في دَمِهِ ! ثُمَّ حَمَلَ مِنهُم رَجُلٌ عَلى صَفِّ عَلِيٍّ _ وقَد قالَ عَلِيٌّ : لا تَبدَؤوهُم بِقِتالٍ _ فَقَتَلَ مِن أصحابِ عَلِيٍّ ثَلاثَةً وهُو يَقولُ :
أقتُلُهُم ولا أرى عَلِيّاولَو بَدا أوجَرتُهُ الخَطِّيّا
فَخَرَجَ إلَيهِ عَلِيٌّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ فَقَتَلَهُ ، فَلَمّا خالَطَهُ السَّيفُ قالَ : حَبَّذَا الرَّوحَةُ إلَى الجَنَّةِ !
فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنِ وَهَبٍ : ما أدري أإلَى الجَنَّةِ أم إلَى النّارِ ؟
فَقالَ رَجُلٌ مِن بَني سَعدٍ : إنَّما حَضَرتُ اغتِرارا بِهذا ، وأراهُ قَد شَكَّ ! ! فَانخَزَلَ بِجَماعَةٍ مِن أصحابِهِ ، ومالَ ألفٌ إلى ناحِيَةِ أبي أيّوبَ الأَنصارِيِّ . (1)د _ مُقاتَلَةُ الإِمامِ عليه السلام عَبدَ اللّهِ بنَ وَهبٍالفتوح :تَقَدَّمَ عَبدُ اللّهِ بنِ وَهَبٍ الرّاسِبِيُّ حَتّى وَقَفَ بَينَ الجَمعَينِ ، ثُمَّ نادى بِأَعلى صَوتِهِ : يَابنَ أبي طالِبٍ ! حَتّى مَتى يَكونَ هذِهِ المُطاوَلَةُ بَينَنا وبَينَكَ ؟ ! وَاللّهِ ، لا نَبرَحُ هذِهِ العَرصَةَ أبَدا أو تَأبى عَلى نَفسِكَ ، فَابرُز إلَيَّ حَتّى أبرُزَ إلَيكَ وذَرِ النّاسَ جانِبا .
فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ رضى الله عنه ثُمَّ قالَ : قاتَلَهُ اللّهُ مِن رَجُلٍ ما أقَلَّ حياءَهُ ! أما إنَّهُ لِيَعلَمُ أنّي حَليفُ السَّيفِ وجَديلُ الرُّمحِ ، ولكِنَّهُ أيِسَ مِنَ الحَياةِ ، أو لَعَلَّهُ يَطمَعُ طَمَعا كاذِبا .
قالَ : وجَعَلَ عَبدُ اللّهِ يَجولُ بَينَ الصَّفّينِ وهُوَ يَرتَجِزُ ويَقولُ :
أنَا ابنُ وَهبٍ الرّاسِبِيُّ الثّاريأضرِبُ فِي القَومِ لَأَخذِ الثّارِ حَتّى تَزولَ دَولَةُ الأَشرارِويَرجِعَ الحَقُّ إلَى الأَخيارِ
.
ص: 590
ثُمَّ حَمَلَ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ ضَربَةً ألحَقَهُ بِأَصحابِهِ . (1)ه _ سُرعَةُ دَمارِهِمالإمامة والسياسة عن الثعلبي :لَقَد رَأَيتُ الخَوارِجَ حينَ استَقبَلَتهُمُ الرِّماحُ وَالنَّبلُ كَأَنَّهُم مَعَزٌ اتَّقَتِ المَطَرَ بِقُرونِها ، ثُمَّ عَطَفَتِ الخَيلُ عَلَيهِم مِنَ المَيمَنَةِ وَالمَيسَرَةِ ، ونَهَضَ عَلِيٌّ فِي القَلبِ بِالسُّيوفِ وَالرِّماحِ ، فَلا وَاللّهِ ما لَبِثوا فُواقا (2) ، حَتّى صَرَعَهُمُ اللّهُ ، كَأَنَّما قيلَ لَهُم : موتوا فَماتوا . (3)و _ اِستِبشارُ النّاسِ بِظُهورِ آيَةٍ مِن آياتِ النُّبُوَّةِصحيح مسلم عن بسر بن سعيد عن عبيد اللّه بن أبي رافع :إنَّ الحَرَورِيَّةَ لَمّا خَرَجَت _ وهُوَ مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رضى الله عنه _ قالوا : لا حُكمَ إلّا للّهِِ .
قالَ عَلِيٌّ : كَلِمَةُ حَقٍّ اُريدَ بِها باطِلٌ ، إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَصَفَ ناسا إنّي لَأَعرِفُ صِفَتَهُم في هؤُلاءِ ، يَقولونَ الحَقَّ بِأَلسِنَتِهِم لا يَجوزُ هذا مِنهُم _ وأشارَ إلى حَلقِهِ _ مِن أبغَضِ خَلقِ اللّهِ إلَيهِ مِنهُم أسوَدُ ، إحدى يَدَيهِ طُبيُ شاةٍ أو حَلَمَةُ ثَديٍ .
فَلَمّا قَتَلَهُم عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ رضى الله عنه قالَ : اُنظُروا ، فَنَظَروا فَلَم يَجِدوا شَيئا .
فَقالَ : اِرجِعوا ، فَوَاللّهِ ! ما كَذَبتُ ولا كُذِّبتُ _ مَرَّتَينِ أو ثَلاثا _ ثُمَّ وَجَدوهُ في خَرِبَةٍ ، فَأَتَوا بِهِ حَتّى وَضَعوهُ بَينَ يَدَيهِ .
قالَ عُبَيدُ اللّهِ : وأنَا حاضِرٌ ذلِكَ مِن أمرِهِم ، وقَولِ عَلِيٍّ فيهِم . (4)
.
ص: 591
ز _ كَلامُ الإِمامِ عليه السلام عِندَ المُرورِ بِقَتلَى الخَوارِجِالإمام عليّ عليه السلام_ وقَد مَرَّ بِقَتلَى الخَوارِجِ يَومَ النَّهرَوانِ _: بُؤسا لَكُم ، لَقَد ضَرَّكُم مَن غَرَّكُم !
فَقيلَ لَهُ : مَن غَرَّهُم يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟
فَقالَ عليه السلام : الشَّيطانُ المُضِلُّ ، وَالأَنفُسُ الأَمّارَةُ بِالسّوءِ ، غَرَّتهُم بِالأَمانِيِّ ، وفَسَحَت لَهُم بِالمَعاصي ، ووَعَدَتهُمُ الإِظهارَ ، فَاقتَحَمَت بِهِمُ النّارَ . (1)ح _ إخبارُ الإِمامِ عليه السلام بِاستِمرارِ نَهجِهِم فِي التّاريخِالمصنّف لعبد الرزّاق عن قتادة :لَمّا قَتَلَهُم قالَ رَجُلٌ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي أبادَهُم وأراحَنا مِنهُم .
فَقالَ عَلِيٌّ : كَلّا وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ ، إنَّ مِنهُم لَمَن في أصلابِ الرِّجالِ لَم تَحمِلهُ النِّساءُ بَعدُ ، ولَيَكونَنَّ آخِرُهُم لُصّاصا جَرّادينَ (2) .ط _ سِياسَةُ الإِمامِ عليه السلام فِي الجَرحى وَالغَنائِمِتاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة :طَلَبَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] مَن بِهِ رَمَقٌ مِنهُم ، فَوَجَدناهُم أربَعَمِئَةِ رَجُلٍ ، فَأَمَرَ بِهِم عَلِيٌّ فَدُفِعوا إلى عَشائِرِهِم ، وقالَ :
اِحمِلوهُم مَعَكُم فَداووهُم ، فَإِذا بَرِئوا فَوافوا بِهِمُ الكوفَةِ ، وخُذوا ما في عَسكَرِهِم مِن شَيءٍ .
قالَ : وأمَّا السِّلاحُ وَالدَّوابُّ وما شَهِدوا بِهِ عَلَيهِ الحَربَ ، فَقَسَّمَهُ بَينَ المُسلِمينَ ،
.
ص: 592
وأمَّا المَتاعُ وَالعَبيدُ وَالإِماءُ فَإِنَّهُ حينَ قَدِمَ رَدَّهُ عَلى أهلِهِ . (1)ي _ خُطبَةُ الإِمامِ عليه السلام لَمّا فَرَغَ مِن قِتالِ الخَوارِجِهم او مى فرمايد:كنز العمّال عن عبد الملك بن قريب :سَمِعتُ العَلاءَ بنَ زِيادٍ الأَعرابِيَّ يَقولُ : سَمِعتُ أبي يَقولُ : صَعِدَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ مِنبَرَ الكوفَةَ بَعدَ الفِتنَةِ وفَراغِهِ مِنَ النَّهرَوانِ فَحَمِدَ اللّهَ وخَنَقَتهُ العِبرَةُ ، فَبَكى حَتَّى اخضَلَّت لِحيَتُهُ بِدُموعِهِ وجَرَت ، ثُمَّ نَفَضَ لِحيَتَهُ فَوَقَعَ رَشاشُها عَلى ناسٍ مِن اُناسٍ ، فَكُنّا نَقولُ : إنَّ مَن أصابَهُ مِن دُموعِهِ فَقَد حَرَمَهُ اللّهُ عَلى النّارِ ، ثُمَّ قالَ :
يا أيُّهَا النّاسُ ! لا تَكونوا مِمَّن يَرجُو الآخِرَةَ بِغَيرِ عَمَلٍ ، ويُؤَخِّرُ التَّوبَةَ بِطولِ الأَمَلِ ، يَقولُ فِي الدُّنيا قَولَ الزّاهِدينَ ، ويَعمَلُ فيها عَمَلَ الرّاغِبينَ ، إن اُعطِيَ مِنها لَم يَشبَع ، وإن مُنِعَ مِنها لَم يَقنَع ، يَعجِزُ عَن شُكرِ ما اُوتِيَ ، ويَبتَغِي الزِّيادَةَ فيما بَقِيَ ، ويَأمُرُ ولا يَأتي ، ويَنهى ولا يَنتَهي ، يُحِبُّ الصّالِحينَ ولا يَعمَلُ بِأَعمالِهِم ، ويُبغِضُ الظّالِمينَ وهُوَ مِنهُم ، تَغلِبُهُ نَفسُهُ عَلى ما يَظُنُّ ، ولا يَغلِبُها عَلى ما يَستَيقِنُ ، إنِ استَغنى فُتِنَ ، وإن مَرِضَ حَزِنَ ، وإنِ افتَقَرَ قَنِطَ ووَهَنَ ، فَهُوَ بَينَ الذَّنبِ وَالنِّعمَةِ يَرتَعُ ، يُعافى فَلا يَشكُرُ ، ويُبتَلى فَلا يصَبِرُ ، كَأَنَّ المُحَذَّرَ مِنَ المَوتِ سِواهُ ، وكَأَنَّ مَن وُعِدَ وزُجِرَ غَيرُهُ .
يا أغراضَ المَنايا ! يا رَهائِنَ المَوتِ ! يا وِعاءَ الأَسقامِ ! يا نُهبَةَ الأَيّامِ ! ويا ثِقلَ الدَّهرِ ! ويا فاكِهَةَ الزَّمانِ ! ويا نورَ الحَدَثانِ ! ويا خُرسُ عِندَ الحُجَجِ ! ويا مَن غَمَرَتهُ الفِتَنُ وحيلَ بَينَهُ وبَينَ مَعرِفَةِ العِبَرِ . بِحَقٍّ ! أقولُ : ما نَجا مَن نَجا إلّا بِمَعرِفَةِ نَفسِهِ ، وما هَلَكَ مَن هَلَكَ إلّا مِن تَحتِ يَدِهِ ، قالَ اللّهُ تَعالى : «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ
.
ص: 593
هم او مى فرمايد:قُواْ أَنفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَارًا» (1) جَعَلَنَا اللّهُ وإيّاكُم مِمَّن سَمِعَ الوَعظَ فَقَبِلَ ، ودُعِيَ إلَى العَمَلِ فَعَمِلَ . (2)3 / 8خروج بقايا من الخوارجالكامل في التاريخ :لَمّا قُتِلَ أهلُ النَّهرَوانِ ، خَرَجَ أشرَسُ بنُ عَوفٍ الشَّيبانِيُّ عَلى عَلِيٍّ _ بِالدَّسكَرَةِ _ في مِئَتَينِ ، ثُمَّ سارَ إلَى الأَنبارِ ، فَوَجَّهَ إلَيهِ عَلِيٌّ الأَبرَشَ بنَ حَسّانٍ في ثَلاثِمِئَةٍ فَواقَعَهُ ، فَقُتِلَ أشرَسُ في رَبيعِ الآخِرِ سَنَةَ ثَمانٍ وثَلاثينَ .
ثُمَّ خَرَجَ هِلالُ بنُ عُلَّفَةَ _ مِن تَيمِ الرِّبابِ _ ومَعَهُ أخوهُ مُجالِدٌ ، فَأَتى ماسَبَذانَ (3) ، فَوَجَّهَ إلَيهِ عَلِيٌّ مَعقِلَ بنَ قَيسٍ الرِّياحِيَّ فَقَتَلَهُ وقَتَلَ أصحابَهُ ، وهُم أكثَرُ مِن مِئَتَينِ ، وكانَ قَتَلُهُم في جُمادَى الاُولى سَنَةَ ثَمانٍ وثَلاثينَ .
ثُمَّ خَرَجَ الأَشهَبُ بنُ بِشرٍ ، وقيلَ : الأَشعَثُ _ وهُوَ مِن بَجيلَةَ _ في مِئَةٍ وثَمانينَ رَجُلاً ، فَأَتَى المَعرَكَةَ الَّتي اُصيبَ فيها هِلالٌ وأصحابُهُ ، فَصَلّى عَلَيهِم ودَفَنَ مَن قَدِرَ عَلَيهِ مِنهُم .
فَوَجَّهَ إلَيهِم عَلِيٌّ جارِيَةَ بنَ قُدامَةَ السَّعدِيَّ ، وقيلَ : حُجرَ بنَ عَدِيٍّ ، فَأَقبَلَ إلَيهِمُ الأَشهَبُ ، فَاقتَتَلا بِجَرجَرايا (4)
مِن أرضِ جوخا (5) ، فَقُتِلَ الأَشهَبُ وأصحابُهُ في جُمادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَمانٍ وثَلاثينَ .
.
ص: 594
ثُمَّ خَرَجَ سَعيدُ بنُ قُفلٍ التَّيمِيُّ _ مِن تَيمِ اللّهِ بنِ ثَعلَبَةَ _ في رَجَبٍ بِالبَندَنيجَينِ ومَعَهُ مِئَتا رَجُلٍ فَأَتى دَرزِنجانَ (1) _ وهِيَ مِنَ المَدائِنِ عَلى فَرسَخَينِ _ فَخَرَجَ إلَيهِم سَعدُ بنُ مَسعودٍ فَقَتَلَهُم في رَجَبٍ سَنَةَ ثَمانٍ وثَلاثينَ .
ثُمَّ خَرَجَ أبو مَريَمَ السَّعدِيُّ التَّميمِيُّ ، فَأَتى شَهرَزورَ (2) ، وأكثَرُ مَن مَعَهُ مِنَ المَوالي ، وقيلَ : لَم يَكُن مَعَهُ مِنَ العَرَبِ غَيرُ سِتَّةِ نَفَرٍ هُوَ أحَدُهُم ، وَاجتَمَعَ مَعَهُ مِئَتا رَجُلٍ ، وقيلَ : أربَعُمِائَةٍ ، وعادَ حَتّى نَزَلَ عَلى خَمسَةِ فَراسِخَ مِنَ الكوفَةِ .
فَأَرسَلَ إلَيهِ عَلِيٌّ يَدعوهُ إلى بَيعَتِهِ ودُخولِ الكوفَةِ ، فَلَم يَفعَل ، وقالَ : لَيسَ بَينَنا غَيرُ الحَربِ .
فَبَعَثَ إلَيهِ عَلِيٌّ شُرَيحَ بنَ هانِئٍ في سَبعِمِئَةٍ ، فَحَمَلَ الخَوارِجُ عَلى شُرَيحٍ وأصحابِهِ فَانكَشَفوا ، وبَقِيَ شُرَيحٌ في مِائَتَينِ ، فَانحازَ إلى قَريَةٍ ، فَتَراجَعَ إلَيهِ بَعضُ أصحابِهِ ودَخَلَ الباقونَ الكوفَةَ .
فَخَرَجَ عَلِيٌّ بِنَفسِهِ وقَدَّمَ بَينَ يَدَيهِ جارِيَةَ بنَ قُدامَةَ السَّعدِيَّ ، فَدَعاهُم جارِيَةُ إلئ طاعَةِ عَلِيٍّ وحَذَّرُهُم القَتلَ فَلَم يُجيبوا ، ولَحِقَهُم عَلِيٌّ أيضا فَدَعاهُم فَأَبَوا عَلَيهِ وعَلى أصحابِهِ ، فَقَتَلَهُم أصحابُ عَلِيٍّ ولَم يَسلَم مِنهُم غَيرُ خَمسينَ رَجُلاً استَأمَنوا فَآمَنَهُم .
وكانَ فِي الخَوارِجِ أربَعونَ رَجُلاً جَرحى ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِإِدخالِهِمُ الكوفَةَ ومُداواتِهِم حَتّى بَرِؤوا ، وكانَ قَتلُهُم في شَهرِ رَمَضانَ سَنَةَ ثَمانٍ وثَلاثينَ ؛ وكانوا مِن أشجَعِ مَن قاتَلَ مِنَ الخَوارِجِ ، ولِجُرأَتِهِم قارَبُوا الكوفَةَ . (3) .
ص: 595
3 / 9خروج الخِرّيت بن راشداُسد الغابة عن الزبير :كانَ الخِرّيتُ عَلى مُضَرَ يَومَ الجَمَلِ مَعَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، وكانَ عَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ قَد استَعمَلِ الخِرّيتَ بنَ راشِدٍ عَلى كورَةٍ مِن كُوَرِ فارِسٍ ، ثُمَّ كانَ مَعَ عَلِيٍّ ، فَلَمّا وَقَعَتِ الحُكومَةُ فارَقَ عَلِيّا إلى بِلادِ فارسٍ مُخالِفا ، فَأَرسَلَ عَلِيٌّ إلَيهِ جَيشا ، وَاستَعمَلَ عَلَى الجَيشِ مَعقِلَ بنَ قَيسٍ وزِيادَ بنَ خَصَفَةَ ، فَاجتَمَعَ مَعَ الخِرّيتِ كَثيرٌ مِنَ العَرَبِ ونَصارى كانوا تَحتَ الجِزيَةِ ، فَأَمَرَ العَرَبَ بِإِمساكِ صَدَقاتِهِم وَالنَّصارى بِإِمساكِ الجِزيَةِ ، وكانَ هُناكَ نَصارى أسلَموا ، فَلَمّا رَأَوُا الاِختِلافَ ارتَدّوا وأعانوهُ ، فَلَقوا أصحابَ عَلِيٍّ وقاتَلَهُم ، فَنَصَبَ زِيادُ بنُ خَصَفَةَ رايَةَ أمانٍ ، وأمَرَ مُنادِيا فَنادى : مَن لَحِقَ بِهذِهِ الرّايَةِ فَلَهُ الأَمانُ ، فَانصَرَفَ إلَيها كَثيرٌ مِن أصحابِ الخِرّيتِ ، فَانهَزَمَ الخِرّيتُ فَقُتِلَ . (1)
.
ص: 596
. .
ص: 597
القسم السابع : أيّام المحنةالفصل الأوّل: عصيان الجيشالفصل الثاني: تحذير الإمام عليه السلام أصحابه من عاقبة العصيانالفصل الثالث : شكوى الإمام عليه السلام من عصيان أصحابهالفصل الرابع : هرب عدّة من أصحاب الإمام عليه السلام إلى معاويةالفصل الخامس: محايدة عدّة من أصحاب الإمام عليه السلامالفصل السادس: استشهاد مالك الأشترالفصل السابع: احتلال مصرالفصل الثامن: هجمات أذناب معاويةالفصل التاسع: تمنّي الاستشهادالفصل العاشر: آخر خطبة خطبها الإمام عليه السلام
.
ص: 598
. .
ص: 599
الفصل الأوّل: عصيان الجيشأ _ العَزمُ عَلى قِتالِ مُعاوِيَةَ بَعدَ الفَراغِ مِنَ الخَوارِجِتاريخ الطبري عن أبي الدرداء :كانَ عَلِيٌّ لَمّا فَرَغَ مِن أهلِ النَّهرَوانِ حَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : إنَّ اللّهَ قَد أحسَنَ بِكُم ، وأعَزَّ نَصرَكُم ، فَتَوَجَّهوا مِن فَورِكُم هذا إلى عَدُوِّكُم .
قالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، نَفِدَت نِبالُنا ، وكَلَّت سُيوفُنا ، ونَصَلَت أسِنَّةَ رِماحِنا ، وعادَ أكثَرُها قَصدا ، فَارجِع إلى مِصرِنا ، فَلنَستَعِدَّ بِأَحسَنِ عُدَّتِنا ، ولَعَلَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَزيدُ في عِدَّتِنا عِدَّةَ مَن هَلَكَ مِنّا ؛ فَإِنَّهُ أوفى لَنا عَلى عَدُوِّنا .
وكانَ الَّذي تَوَلّى ذلِكَ الكَلامَ الاَشعَثُ بنُ قَيسٍ .
فَأَقبَلَ حَتّى نَزَلَ النُّخَيلَة (1) ، فَأَمَرَ النّاسَ أن يَلزَموا عَسكَرَهُم ، ويُوَطِّنوا عَلَى الجِهادِ أنفُسَهُم ، وأن يُقِلّوا زِيارَةَ نِسائِهِم وأبنائِهِم حَتّى يَسيروا إلى عَدُوِّهِم .
فَأقاموا فيهِ أيّاما ، ثُمَّ تَسَلَّلوا مِن مُعَسكَرِهِم ، فَدَخَلوا إلّا رِجالاً مِن وُجوهِ النّاسِ قَليلاً ، وتُرِكَ العَسكَرُ خالِيا ، فَلَمّا رَأى ذلِكَ دَخَلَ الكوفَةَ ، وَانكَسَرَ عَلَيهِ رَأيُهُ فِي المَسيرِ . (2)
.
ص: 600
ب _ ذَمُّ الإِمامِ عليه السلام أصحابَهُ لَمّا كَرِهُوا المَسيرَ إلَى الشّامِالغارات عن قيس بن السكن :سَمِعتُ عَلِيّا عليه السلام يَقولُ ونَحنُ بِمَسكِنٍ (1) :
يا مَعشَرَ المُهاجِرينَ ! «ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَ_سِرِينَ» (2) . فَتَلَكَّؤوا ، وقالوا : البَردُ شَديدٌ ، وكانَ غَزاتُهُم فِي البرَدِ .
فَقالَ عليه السلام : إنَّ القَومَ يَجِدونَ البَردَ كَما تَجِدونَ . قالَ : فَلَم يَفعَلوا وأبَوا ، فَلَمّا رَأى ذلِكَ مِنهُم قالَ : اُفٍّ لَكُم ! إنَّها سُنَّةٌ جَرَت عَلَيكُم . (3)
.
ص: 601
الفصل الثاني: تحذير الإمام عليه السلام أصحابه من عاقبة العصيانأ _ التَّحذيرُ مِن غَلَبَةِ أهلِ الشّامِالإرشاد_ مِن كَلامِهِ عليه السلام فِي استِبطاءِ مَن قَعَدَ عَن نُصرَتِهِ _: ما أظُنُّ هؤُلاءِ القَومَ _ يَعني أهلَ الشّامِ _ إلّا ظاهِرينَ عَلَيكُم ، فَقالوا لَهُ : بِماذا يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟
قالَ : أرى اُمورَهُم قَد عَلَت ونيرانَكمُ قَد خَبَت ، وأراهُم جادّينَ وأراكُم وانينَ ، وأراهُم مُجتَمِعينَ وأراكُم مُتَفَرِّقينَ ، وأراهُم لِصاحبِهِم مُطيعينَ وأراكُم لي عاصينَ .
أمَ وَاللّهِ لَئِن ظَهَروا عَلَيكُم لَتَجِدَنَّهُم أربابَ سوءٍ مِن بَعدي لَكُم ، لَكَأَنّي أنظُرُ إلَيهِم وقَد شارَكوكُم في بِلادكِمُ ، وحَمَلوا إلى بِلادِهِم فَيئَكُم ، وكَأَنّي أنظُرُ إلَيكُم تَكِشّونَ (1) كَشيشَ الضِّبابِ ؛ لا تَأخذُونَ حَقّا ولا تَمنَعونَ للّهِِ حُرمَةً ، وكَأَنّي أنظُرُ إلَيهِم يقَتُلونَ صالِحيكُم ، ويُخيفونَ قُرّاءَكُم ، ويَحرِمونَكُم ويَحجُبونَكُم ، ويُدنونَ النّاسَ دونَكُم ، فَلَو قَد رَأيتُمُ الحِرمانَ وَالأَثَرَةَ ، ووَقعَ السَّيفِ ، ونُزولَ الخَوفِ ، لَقَد نَدِمتُم وخَسِرتُم عَلى تَفريطِكُم في جِهادِهِم ، وتَذاكَرتُم ما أنتُم فيهِ اليَومَ مِنَ الخَفضِ (2) والعافِيَةِ حينَ لا
.
ص: 602
يَنفَعُكُمُ التَّذكارُ . (1)ب _ التَّحذيرُ مِن جَهَنَّمِ الدُّنياالإمام عليّ عليه السلام_ في كَلامِهِ مَعَ أهلِ الكوفَةِ _: أيُّهَا النّاسُ ! إنِّي استنَفَرتُكُم لِجِهادِ هؤُلاءِ القَومِ [أي أهلِ الشّامِ] فَلَم تَنفِروا ، وأسمَعتُكُم فَلَم تُجيبوا ، ونَصَحتُ لَكُم فَلمَ تَقبَلوا ، شُهودٌ كَالغُيَّبِ ، أتلو عَلَيكُمُ الحِكمَةَ فتُعرِضونَ عَنها ، وأعظِكُمُ بِالمَوعِظَةِ البالِغَةِ فَتَتَفَرَّقونَ عَنها ، كَأنَّكُم حُمُرٌ مُستَنفِرَةٌ فَرَّت مِن قَسوَرَةٍ (2) ، وأحُثُّكُم عَلى جِهادِ أهلِ الجَورِ فَما آتي عَلى آخِرِ قَولي حَتّى أراكُم مُتَفَرِّقينَ أيادِيَ سَبَأٍ ، تَرجِعونَ إلى مَجالِسِكُم تَتَرَبَّعونَ حِلَقا ، تَضرِبونَ الأَمثالَ وتَناشَدونَ الأشعارَ ، وتَجَسَّسونَ الأَخبارَ ، حَتّى إذا تَفَرَّقتُم تَسأَلونَ عَنِ الأَسعارِ ، جَهلةً مِن غَيرِ عِلمٍ ، وغَفلةً مِن غَيرِ وَرَعٍ ، وتَتَبُّعا في غَير خَوفٍ ، نَسيتُمُ الحَربَ والاِستِعدادَ لَها ، فَأَصبَحَت قُلوبُكُم فارِغَةً مِن ذِكرِها ، شَغَلتُموها بِالأَعاليلِ وَالأَباطيلِ . فَالعَجَبُ كُلُّ العَجَبِ ! وما لي لا أعجَبُ مِنِ اجتِماعِ قَومٍ عَلى باطِلِهِم ، وتَخاذُلِكُم عَن حَقِّكُم !
يا أهلَ الكوفَةِ ! أنتُم كَاُمِّ مُجالِدٍ ، حَمَلَت فَأَملَصَت (3) ، فَماتَ قَيِّمُها ، وطالَ تَأَيُّمُها ، ووَرِثَها أبعَدُها .
وَالَّذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إنَّ مِن وَرائِكُم للَأَعوَرَ الأَدبَرَ ، جََهنَّمُ الدُّنيا ، لا يُبقي ولا يَذَرُ ، ومِن بَعدِهِ النَّهّاسُ الفَرّاسُ الجَموعُ المَنوعُ ، ثُمَّ لَيَتَوارَثَنَّكُم مِن بَني اُمَيَّةَ عِدَّةٌ ، ما الآخِرُ بِأَرأَفَ بِكُم مِنَ الأَوَّلِ ، ما خَلا رَجُلاً واحِدا (4) ، بَلاءٌ قَضاهُ اللّهُ عَلى
.
ص: 603
هذِهِ الاُمَّةِ لا مَحالَةَ كائِنٌ ، يَقتُلونَ خِيارَكُم ، ويَستَعبِدونَ أراذِلَكُم ، ويَستَخرِجونَ كُنوزَكُم وذَخائِرَكُم مِن جَوفِ حِجالِكُم (1) ، نِقمَةً بِما ضَيَّعتُم مِن اُمورِكُم ، وصَلاحِ أنفُسِكُم وَدينِكُم . (2)ج _ التَّحذيرُ مِنَ الذُّلِّ الشّامِلِامام صادق عليه السلام مى فرمايد:الغارات عن جندب بن عبد اللّه الوائلي :كانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَقولُ : أما إنَّكُم سَتَلقَونَ بَعدي ثَلاثا : ذُلّاً شامِلاً ، وسَيفا قاتِلاً ، وأثَرَةً (3) يَتَّخِذُهَا الظّالِمونَ عَلَيكُم سُنَّةً ، فَسَتَذكُروني عِندَِتلكَ الحالاتِ ، فَتَمَنَّونَ لَو رَأَيتُموني ونَصَرتُموني وأهرَقتُم دِماءَكُم دونَ دمي ، فَلا يُبعِدُ اللّهُ إلّا مَن ظَلَمَ .
وكانَ جُندَبٌ بَعدَ ذلِكَ إذا رَأى شَيئا يَكرَهُهُ ، قالَ : لا يُبعِدُ اللّهُ إلّا مَن ظَلَمَ . (4)
.
ص: 604
الفصل الثالث : شكوى الإمام عليه السلام من عصيان أصحابهأ _ مُنيتُ بِمَن لا يُطيعُو در كلام ديگرى مى فرمايد :الإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَةٍ خَطَبَها عِندَ عِلمِهِ بِغَزوَةِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ لِعَينِ التَّمرِ _: مُنِيتُ بِمَن لا يُطيع إذا أمَرتُ ، ولا يُجيبُ إذا دَعَوتُ ، لا أبا لَكُم ! ما تَنتَظِرونَ بِنَصرِكُم رَبَّكُم ؟ أ ما دينٌ يَجمَعُكُم ، ولا حَمِيَّةٌ تُحمِشُكُم ! أقومُ فيكُم مُستَصرِخا ، واُناديكُم مُتَغَوِّثا ، فَلا تَسمَعونَ لي قَولاً ، ولا تُطيعونَ لي أمرا ، حَتّى تَكَشَّفَ الاُمورُ عَن عَواقِبِ المَساءَةِ ؛ فَما يُدرَكُ بِكُم ثارٌ ، ولا يُبلَغُ بِكُم مَرامٌ .
دَعَوتُكُم إلى نَصرِ إخوانِكُم فَجَرجَرتُم جَرجَرَةَ الجَمَلِ الأَسَرِّ ، وتَثاقَلتُم تَثاقُلَ النِّضوِ الأَدبَرِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ مِنكُم جُنَيدٌ مُتَذائِبٌ ضَعيفٌ (1) ، «كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ» (2) . (3)
.
ص: 605
ب _ مُنيتُ بِشِرارِ خَلقِ اللّهِالإمام عليّ عليه السلام :أمّا بَعدُ يا أهلَ الكوفَةِ ! أكُلَّما أقبَلَ مَنسِرٌ مِن مَناسِرِ أهلِ الشّامِ أغلَقَ كُلُّ امرِئٍ بابَهُ ، وَانجَحَرَ في بَيتِهِ انجِحارَ الضَّبِّ ، وَالضَّبُعِ الذَّليلِ في وِجارِه ؟ اُفٍّ لَكُم ! لَقَد لَقيتُ مِنكُم ، يَوما اُناجيكُم ، ويوما اُناديكُم ؛ فَلا إخوانٌ عِندَ النَّجاءِ ، وَلا أحرارٌ عِندَ النِّداءِ . (1)ج _ لَبِئسَ حُشّاشُ الحَربِ أنتُمالإمام عليّ عليه السلام :لَعَمرُ اللّهِ ، لَبِئسَ حُشّاشُ الحَربِ أنتُم ! إنَّكُم تُكادونَ ولا تَكيدونَ ، ويُتَنَقَّصُ أطرافُكُم ولا تَتَحاشونَ ، ولا يُنامُ عَنكُم وأنتُم في غَفلةٍ ساهونَ ، إنَّ أخَا الحَربِ اليَقظانَ ذو عَقلٍ ، وباتَ لِذُلٍّ مَن وادَعَ ، وغُلِبَ المُتَجادِلونَ ، وَالمَغلوبُ مَقهورٌ ومَسلوبٌ . (2)د _ لا غَناءَ في كَثرَةِ عَدَدِكُمو در حديث ديگرى آورده كه آن حضرت مى فرمايد :نهج البلاغة :مِن كَلامٍ لَهُ عليه السلام وقَد جَمَعَ النّاسُ وحَضَّهُم عَلَى الجِهادِ فَسَكَتوا مَلِيّا ، فَقالَ : ما بالُكُم أمُخرَسونَ أنتُم ؟
فَقالَ قَومٌ مِنهُم : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إن سِرتَ سِرنا مَعَكَ .
فَقالَ عليه السلام : ما بالُكُم ! لا سُدِّدتُم لِرُشدٍ ، ولا هُديتُم لِقَصدٍ ! أفي مِثلِ هذا يَنبَغي لي أن أخرُجَ ؟ ! وإنّما يَخرُجُ في مِثلِ هذا رَجُلٌ مِمَّن أرضاهُ مِن شُجعانِكُم وذَوي بَأسِكُم ، ولا يَنبَغي لي أن أدَعَ الجُندَ ، وَالمِصرَ ، وبَيتَ المالِ ، وجِبايَةَ الأَرضِ ، وَالقَضاءَ بَينَ المُسلِمينَ ، وَالنَّظَرَ في حُقوقِ المُطالِبينَ ، ثُمَّ أخرُجُ في كَتيبَةٍ أتبَعُ اُخرى ، أتَقَلقَلُ
.
ص: 606
و در حديث ديگرى آورده كه آن حضرت مى فرمايد :تَقَلقُلَ القِدحِ فِي الجَفيرِ (1) الفارِغِ ، وإنَّما أنَا قُطبُ الرَّحا ؛ تَدورُ عَلَيَّ وأنا بِمَكاني ، فَإِذا فارَقتُهُ استَحارَ مَدارُها ، وَاضطَرَبَ ثِفالُها (2) . هذا لَعَمرُ اللّهِ الرَّأيُ السّوءُ .
وَاللّهِ لَولا رَجائِيَ الشَّهادَةَ عِندَ لِقائِيَ العَدُوَّ _ ولَو قَد حُمَّ (3) لي لِقاؤُهُ _ لَقَرَّبتُ رِكابي ثُمَّ شَخَصتُ عَنكُم ، فَلا أطلُبُكُم ما اختَلَفَ جُنوبٌ وشَمالٌ ، طَعّانينَ عَيّابينَ حَيّادينَ رَوّاغينَ .
إنَّهُ لا غَناءَ في كَثرَةِ عَدَدِكُم مَعَ قِلَّةِ اجتِماعِ قلُوبِكُم ، لَقَد حَمَلتُكُم عَلَى الطَّريقِ الواضِحِ الَّتي لا يَهلِكُ عَلَيها إلّا هالِكٌ ؛ مَنِ استَقامَ فَإِلَى الجَنَّةِ ، ومَن زَلَّ فَإِلَى النّارِ ! (4)ه _ ما بالُكُم؟ ما دَواؤكُم؟أنساب الأشراف :لَمَّا استَنفَرَ عَلِيٌّ أهلَ الكوفَةِ فَتَثاقَلوا وتَباطَؤوا ، عاتَبَهُم ووَبَّخَهُم ، فَلَمّا تَبَيَّنَ مِنهُمُ العَجزُ ، وخَشِيَ مِنهُمُ التِمامَ عَلَى الخِذلانِ ، جَمَعَ أشرافَ أهلِ الكوفَةِ ودَعا شيعَتَهُ الَّذينَ يَثِقُ بِمُناصَحَتِهِم وَطاعَتِهِم فَقالَ :
الحَمدُ للّهِِ ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلّا اللّهُ ، وأنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ ، أمّا بَعدُ ؛ أيُّهَا النّاسُ ! فَإِنَّكُم دَعَوتُموني إلى هذِهِ البَيعَةِ فَلَم أرُدَّكُم عَنها ، ثُمَّ بايَعتُموني عَلَى الإِمارَةِ ولَم أسأَلُكُم إيّاها ، فَتَوَثَّبَ عَلَيَّ مُتَوَثِّبونَ ، كَفَى اللّهُ مَؤونَتَهُم ، وصَرَعَهُم لِخُدودِهِم ، وأتعَسَ جُدودَهُم ، وجَعَلَ دائِرَةَ السَّوءِ عَلَيهِم .
وبَقِيَت طائِفَةٌ تُحدِثُ فِي الإِسلامِ أحداثا ؛ تَعمَلُ بِالهَوى ، وتَحكُمُ بِغَيرِ الحَقِّ ،
.
ص: 607
لَيسَت بِأهلٍ لِمَا ادَّعَت، وهُم إذا قيلَ لَهُم: تُقَدِّموا قَدَما، تَقَدَّموا، وإذا قيلَ لَهُم: أقبِلوا أقبَلوا ، لا يَعرِفونَ الحَقَّ كَمَعرِفَتِهِمُ الباطِلَ ، وَلا يُبطِلونَ كَإِبطالِهِمُ الحَقَّ .
أما إنّي قَد سَئِمتُ مِن عِتابِكُم وخِطابِكُم ، فَبَيِّنوا لي ما أنتُم فاعِلونَ ؛ فَإِن كُنتُم شاخِصينَ مَعي إلى عَدُوّي فَهُوَ ما أطلُبُ وأُحِبُّ ، وإن كُنتُم غَيرَ فاعِلينَ فَاكشِفوا لي عَن أمرِكُم أرى رَأيي . فَوَاللّهِ لَئِن لَم تَخرُجوا مَعي بأَجمَعِكُم إلى عَدُوِّكُم فَتُقاتِلوهُم حَتّى يَحكُمَ اللّهُ بَيننَا وبَينَهُم وهُوَ خَيرُ الحاكِمينَ لَأَدعُوَنَّ اللّهَ عَلَيكُم ، ثُمَّ لَأَسيرَنَّ إلى عَدُوِّكُم ولَو لَم يَكُن مَعي إلّا عَشَرَةٌ .
أ أَجلافُ أهلِ الشّامِ وأعرابُها أصبَرُ عَلى نُصرَةِ الضَّلالِ ، وأشَدُّ اجتِماعا عَلَى الباطِلِ مِنكُم عَلى هُداكُم وحَقِّكُم ؟ ما بالُكُم ؟ ما دَواؤُكُم ؟ إنَّ القَومَ أمثالُكُم لا يُنشَرونَ إن قُتِلوا إلى يَومِ القِيامَةِ . (1)و _ لَو كانَ لي بِعَدَدِ أهلِ بَدرٍالإمام عليّ عليه السلام :اِتَّقُوا اللّهَ عِبادَ اللّهِ وتَحاثّوا عَلَى الجِهادِ مَعَ إمامِكُم ؛ فَلَو كانَ لي مِنكُم عِصابَةٌ بِعَدَدِ أهلِ بَدرٍ ؛ إذا أمَرتُهُم أطاعوني ، وإذَا استَنهَضتُهُم نَهَضوا مَعي ، لَاستَغنَيتُ بِهِم عَن كَثيرٍ مِنكُم ، وأسرَعتُ النُّهوضَ إلى حَربِ مُعاوِيَةَ وأصحابِهِ ؛ فَإِنَّهُ الجِهادُ المَفروضُ . (2)ز _ وَدِدتُ أنَّ لي بِكُلِّ عَشَرَةٍ مِنكُم رَجُلاً مِن أهلِ الشّامِالإمام عليّ عليه السلام :وَدِدتُ وَاللّهِ أنَّ لي بِكُلِّ عَشَرَةٍ مِنكُم رَجُلاً مِن أهلِ الشّامِ وأنّي صَرَفتُكُم كَما يُصرَفُ الذَّهَبُ ، ولَوَدِدتُ أنّي لَقيتُهُم عَلى بَصيرَتي فَأراحَنِيَ اللّهُ مِن مُقاساتِكُم
.
ص: 608
ومُداراتِكُم كَما يُدارَى البِكارُ العَمِدةُ (1) وَالثِّيابُ المُنهَرِئَةُ كُلَّما خِيطَت مِن جانِبٍ تَهَتَّكَت مِن جانِبٍ . (2)ح _ بَلَغَني أنَّكُم تَقولونَ : «عَلِيٌّ يَكذِبُ»الإمام عليّ عليه السلام :أمّا بُعدُ يا أهلَ العِراقِ ، فَإِنَّما أنتُم كَالمَرأَةِ الحامِلِ ؛ حَمَلَت ، فَلَمّا أتَمَّت أملَصَت وماتَ قَيِّمُها ، وطالَ تَأَيُّمُها ، ووَرِثَها أبعَدُها ، أما وَاللّهِ ما أتَيتُكُمُ اختِيارا ، ولكِن جِئتُ إلَيكُم سَوقا .
ولَقَد بَلَغَني أنَّكُم تَقولونَ : عَلِيٌّ يَكذِبُ ! قاتَلَكُمُ اللّهُ تَعالى ! فَعَلى مَن أكذِبُ ؟ أ عَلَى اللّهِ ؟ فَأَنَا أوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ ، أم عَلى نَبِيِّهِ ؟ فَأَنَا أوَّلُ مَن صَدَّقَهُ ، كَلّا وَاللّهِ ، لكِنَّها لَهجَةٌ غِبتُم عَنها ، ولَم تَكونوا مِن أهلِها ، وَيلُمِّهِ (3) كَيلاً بِغَيرِ ثَمَنٍ ! لَو كانَ لَهُ وِعاءٌ ، «ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ» (4) . (5)ط _ لا أرى إصلاحَكُم بِإِفسادِ نَفسيالإمام عليّ عليه السلام :ولَقَد عَلِمتُ أنَّ الَّذي يُصلِحُكُم هُوَ السَّيفُ ، وما كُنتُ مُتَحَرِّيا صَلاحَكُم بِفَسادِ نَفسي ، ولكِن سَيُسَلَّطُ عَلَيكُم مِن بَعدي سُلطانٌ صَعبٌ . (6)
.
ص: 609
الفصل الرابع : هرب عدّة من أصحاب الإمام عليه السلام إلى معاويةأ _ النَّجاشِيُّمقيس بن عمرو بن مالك المشهور بالنجاشي : من شعراء صدر الإسلام ، وأحد أصحاب الإمام عليه السلام . كان النجاشي من الدعاة لجيش الإمام عليّ عليه السلام بأشعاره ؛ فكان يُحمِّس الناس للقتال من جهة ، ويفضح معاوية وأصحابه ، ويُبدي مخازيهم من جهة اُخرى . فلمّا كان منه ما كان من إفطاره في شهر رمضان وشربه للخمر حدّه الإمام عليه السلام كغيره من العصاة ، ولم يمنع الإمام عليه السلام عن إقامة حدّ اللّه تعالى ما قدّمه من خدمات . فلمّا رأى النجاشي شدّة الإمام وجزمه في إقامة الحدود الإلهيّة ، وعدم منع شيء عن إقامتها _ ولم يكن يتصوّر شدّة الإمام بهذا الحدّ _ اعتزل عن الإمام والتجأ إلى معاوية .
ب _ القَعقاعُ بنُ شَورٍلَيسَ عِندَنا مَعلوماتٌ كَثيرَةٌ عَن حَياتِهِ . وَلِيَ كَسكَرَ بَعدَ قُدامَةِ بنِ عَجلانَ (1) . وقالَ ابنُ
.
ص: 610
أبي الحَديدِ : إنَّهُ وَلِيَ «مَيسانَ» أيضا . (1) قَبَضَ عَلى بَيتِ المالِ لِتَرَفُّهٍ ومَلَذّاتِهِ . وحينَ عَلِمَ أنَّ الإِمامَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام اطَّلَعَ عَلى ذلِكَ ، أخَذَ الأَموالَ وذَهَبَ إلى مُعاوِيَةَ (2) . دَنَّسَ قَلبُهُ الأَسوَدُ حَياتَهُ ، وبَلَغَ بِهِ الحالُ أنَّهُ خانَ مُسلِمَ بنَ عَقيلٍ سَفيرَ الإِمامِ الحُسَينِ عليه السلام إلَى الكوفَةِ ، وسَعى في تَفريقِ أصحابِهِ عَنهُ ، مُتَواطِئا مَعَ ابنِ الأَشعَثِ وأضرابِهِ . (3)
ج _ يَزيدُ بنُ حُجَيَّةَمن أصحاب الإمام عليه السلام (4) ، وشهد معه حروبه (5) . وجعله الإمام عليه السلام أحد الشّهود في التّحكيم . (6) استعمله الإمام عليه السلام على الرّيّ ودستبى (7)(8) . لكنّه انتهج الخيانة ، إذ نقل ابن الأثير أنّه استحوذ على ثلاثين ألف درهم من بيت المال ؛ وطالبه الإمام بالنّقص الحاصل في بيت المال ، فأنكر ذلك ، فجلده (9) وسجنه ، ففرّ من السّجن والتحق بمعاوية (10) . وشهد على حجر بن عديّ حين أراد معاوية قتله . 11
.
ص: 611
د _ كِتابُ الإِمامِ عليه السلام إلى سَهلٍ فيمَن لَحِقَ بِمُعاوِيَةَو در نقل ديگرى آمده است:الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى سَهلِ بنِ حُنَيفِ الأَنصاري ، وهُوَ عامِلُهُ عَلَى المَدينَةِ ، في مَعنى قَومٍ مِن أهلِها لَحِقوا بِمُعاوِيَةَ _: أمّا بَعدُ ؛ فَقَد بَلَغَني أنَّ رِجالاً مِمَّن قَبلَكَ يَتَسَلَّلون إلى مُعاوِيَةَ ؛ فَلا تَأسَف عَلى ما يَفوتُكَ مِن عَدَدِهِم ، ويَذهَبُ عَنكَ مِن مَدَدِهِم ؛ فَكَفى لَهُم غَيّا ، ولَكَ مِنهُم شافِيا ، فِرارُهُم مِنَ الهُدى وَالحَقِّ ، وإيضاعُهُم إلَى العَمى وَالجَهلِ ، وإنَّما هُم أهلُ دُنيا مُقبِلونَ عَلَيها ، ومُهطِعونَ إلَيها ، وقَد عَرَفُوا العَدلَ ورَأَوهُ ، وسَمِعوهُ ووَعَوهُ ، وعَلِموا أنَّ النّاسَ عِندَنا فِي الحَقِّ اُسوَةٌ ، فَهَرَبوا إلَى الأَثَرَةِ ، فَبُعدا لَهُم وسُحقا ! !
إنَّهُم _ وَاللّهِ _ لَم يَنفِروا مِن جَورٍ ، ولَم يَلحَقوا بِعَدلٍ ، وإنّا لَنَطمَعُ في هذَا الأَمرِ أن يُذَلِّلَ اللّهُ لَنا صعَبَهُ ، ويُسَهِّلَ لَنا حَزنَهُ (1) ، إن شاءَ اللّهُ ، وَالسَّلامُ . (2)
.
ص: 612
الفصل الخامس: محايدة عدّة من أصحاب الإمام عليه السلامأ _ جَريرُ بنُ عَبدِ اللّهِ البَجَلِيُّامام على عليه السلام نيز در اين باره مى فرمايد:تاريخ الطبري :خَرَجَ جَريرُ بنُ عَبدِ اللّهِ إلى قَرقيسِياءَ وكَتَبَ إلى مُعاوِيَةَ ، فَكَتَبَ إلَيهِ يَأمُرُهُ بِالقدُومِ عَلَيهِ . (1)ب _ أبو عَبدِ الرَّحمنِ السُّلَمِيُّو در كلام ديگرى چنين تصريح مى كند:الغارات عن عطاء بن السائب :قالَ رَجُلٌ لِأَبي عَبدِ الرَّحمنِ السُّلَمِيِّ : اُنشِدُكَ بِاللّهِ تُخبِرُني ، فَلَمّا أكَّدَ عَلَيهِ قالَ : بِاللّهِ هَل أبغَضتَ عَلِيّا إلّا يَومَ قَسَّمَ المالَ في أهلِ الكوفَةِ فَلَم يُصِبكَ ولا أهلَ بَيتِكَ مِنهُ شَيءٌ ؟ قال : أمّا إذا أنشَدتَني بِاللّهِ فَلَقَد كانَ ذلِكَ . (2)
.
ص: 613
الفصل السادس: استشهاد مالك الأشترأ _ إشخاصُ مالِكٍ إلى مِصرَتاريخ الطبري_ في ذِكرِ أحداثِ سَنَةِ ثَمانٍ وثَلاثينَ هجريّة _: فَلَمَّا انقَضى أمرُ الحُكومَةِ ، كَتَبَ عَلِيٌّ إلى مالِكِ بنِ الحارِثِ الأَشتَرِ _ وهُوَ يَومَئِذٍ بِنَصيبينَ _ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّكَ مِمَّنِ استَظهَرتُهُ عَلى إقامَةِ الدّينِ ، وَأقمَعُ بِهِ نَخوَةَ (1) الأَثيمِ ، وأشُدُّ بِهِ الثَّغرَ (2) المَخوفَ . وكُنتُ وَلَّيتُ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ مِصرَ ، فَخَرجَت عَلَيهِ بِها خَوارِجُ ، وهُوَ غُلامٌ حَدَثٌ لَيسَ بِذي تَجرِبَةٍ لِلحَربِ ، ولا بِمُجَرِّبٍ لِلأَشياءِ ، فَاقدِم عَلَيَّ ؛ لِنَنظُرَ في ذلِكَ فيما يَنبَغي ، وَاستَخلِف عَلى عَمَلِكَ أهلَ الثِّقَةِ وَالنَّصيحَةِ مِن أصحابِكَ . وَالسَّلامُ .
فَأَقبَلَ مالِكٌ إلى عَلِيٍّ حَتّى دَخَلَ عَلَيهِ ، فَحَدَّثَهُ حَديثَ أهلِ مِصرَ ، وخَبَّرَهُ خَبَرَ أهلِها ، وقالَ : لَيسَ لَها غَيرُكَ ، اخرُج رَحِمَكَ اللّهُ ، فِإِنّي إن لَم اُوصِكَ اكتَفَيتُ بِرَأيِكَ ، وَاستَعِن بِاللّهِ عَلى ما أهَمَّكَ ، فَاخلِطِ الشِّدَّةَ بِاللّينِ ؛ وَارفُق ما كانَ الرفِّقُ أبلَغَ ، وَاعتَزِم بِالشِّدَّةِ حينَ لا يُغني عَنكَ إلَا الشِّدَّةُ . (3)
.
ص: 614
ب _ كِتابُ الإِمامِ عليه السلام إلى أهلِ مِصرَ قَبلَ إشخاصِ مالِكٍالأمالي للمفيد عن هشام بن محمّد :قَدَّمَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام أمامَهُ [أي مالِكٍ ]كِتابا إلى أهلِ مِصرَ :
بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، سَلامٌ عَلَيكُم ، فَإِنّي أحمَدُ إلَيكُمُ اللّهَ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ ، وأسأَلُهُ الصَّلاةَ عَلى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وآلِهِ ، وإنّي قَد بَعَثتُ إلَيكُم عَبدا مِن عِبادِ اللّهِ ، لا يَنامُ أيّامَ الخَوفِ ، ولا يَنكُلُ عَنِ الأَعداءِ حِذارَ الدَّوائِرِ (1) ، مِن أشَدِّ عَبيدِ اللّهِ بَأسا ، وأكرَمِهِم حَسَبا ، أضَرَّ عَلَى الفُجّارِ مِن حَريقِ النّارِ ، وأبعَدَ النّاسَ مِن دَنَسٍ أو عارٍ ، وهُوَ مالِكُ بنُ الحارِثِ الأَشتَرُ ، لا نابِي الضِّرسِ ، ولا كَليلُ الحَدِّ ، حَليمٌ فِي الحَذَرِ ، رَزينٌ فِي الحَربِ ، ذو رَأيٍ أصيلٍ ، وصَبرٍ جَميلٍ ؛ فَاسمَعوا لَهُ ، وأطيعوا أمرَهُ ، فَإن أمَرَكُم بالنَّفيرِ فَانفِروا ، وإن أمَرَكُم أن تُقيموا فَأقيموا ؛ فَإِنَّهُ لا يُقدِمُ ولا يُحجِمُ إلّا بِأَمري ، فَقَد آثَرتُكُم بِهِ عَلى نَفسي ؛ نَصيحَةً لَكُم ، وشِدَّةَ شَكيمَةٍ عَلى عَدُوِّكُم ، عَصَمَكُمُ اللّهُ بِالهُدى ، وثَبَّتَكُم بِالتَّقوى ، ووَفَّقَنا وإيّاكُم لِما يُحِبُّ ويَرضى . وَالسَّلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللّهِ وبَرَكاتُهُ . (2)ج _ مَكرُ مُعاوِيَةَ في قَتلِ الأَشتَرِتاريخ الطبري عن يزيد بن ظبيان الهمداني :بَعَثَ مُعاوِيَةُ إلَى الجايِستارِ _ رَجُلٍ مِن أهلِ الخَراجِ _ فَقالَ لَهُ : إنَّ الأَشتَرَ قَد وُلِّيَ مِصرَ ، فَإِن أنتَ كَفَيتَنيهِ لَم آخُذ مِنكَ خَراجا ما بَقيتَ ، فَاحتَل لَهُ بِما قَدَرتَ عَلَيهِ .
فَخَرَجَ الجايِستارُ حَتّى أتَى القُلزُمَ وأقامَ بِهِ ، وخَرَجَ الأَشتَرُ مِنَ العِراقِ إلى مِصرَ ، فَلَمَّا انتَهى إلَى القُلزُمِ استَقبَلَهُ الجايِستارُ ، فَقالَ : هذا مَنزِلٌ وهذا طَعامٌ وعَلَفٌ ، وأنَا
.
ص: 615
رَجُلٌ مِن أهلِ الخَراجِ ، فَنَزَلَ بِهِ الأَشتَرُ ، فَأَتاهُ الدِّهقانُ بِعَلَفٍ وطَعامٍ ، حَتّى إذا طَعِمَ أتاهُ بِشَربَةٍ مِن عَسَلٍ قَد جَعَلَ فيها سَمّا فَسَقاهُ إيّاهُ ، فَلَمّا شَرِبَها ماتَ .
وأقبَلَ مُعاوِيَةُ يَقولُ لِأَهلِ الشّامِ : إنَّ عَلِيّا وَجَّهَ الأَشتَرَ إلى مِصرَ ، فَأَدعُوَا اللّهَ أن يَكفيكُموهُ . قالَ : فَكانوا كُلَّ يَومٍ يَدعونَ اللّهَ عَلَى الأَشتَرِ ، وأقبَلَ الَّذي سَقاهُ إلى مُعاوِيَةَ فَأَخبَرَهُ بِمَهلِكِ الأَشتَرِ ، فَقامَ مُعاوِيَةُ فِي النّاسِ خَطيبا ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وقالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّهُ كانَت لِعَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ يَدانِ يَمينانِ قُطِعَت إحداهُما يَومَ صِفّينَ _ يَعني عَمّارَ بنَ ياسرٍ _ وقُطِعَتِ الاُخرَى اليَومَ _ يَعنِي الأَشتَرَ _ . (1)د _ حُزنُ الإِمامِ عليه السلامتاريخ اليعقوبي :لَمّا بَلَغَ عَلِيّا قَتلُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ وَالأَشتَرِ جَزِعَ عَلَيهِما جَزَعا شَديدا ، وتَفَجَّعَ ، وقالَ عَلِيٌّ : عَلى مِثلِكَ فَلتَبكِ البَواكي يا مالِكُ ، وأنّى مِثلُ مالِكٍ ! (2)پيامبر خدا صلى الله عليه و آله به دو تن از فرزنداالإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا جاءَهُ نَعيُ الأَشتَرِ _: مالِكٌ وما مالِكٌ ! وَاللّهِ ، لَو كانَ جَبَلاً لَكانَ فِندا (3) ، ولَو كانَ حَجَرا لَكانَ صَلدا (4) ، لا يَرتَقيهِ الحافِرُ ، ولا يُوفي (5) عَلَيهِ الطّائِرُ . (6)الغارات عن علقمة بن قيس النخعي_ بَعدَ شَهادَةِ مالِكِ الأَشتَرِ _: فَما زالَ عَلِيٌّ يَتَلَهَّفُ ويَتَأَسَّفُ حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ المُصابُ بِهِ دونَنا ، وقَد عُرَِف ذلِكَ في وَجهِهِ أيّاما . (7)
.
ص: 616
ه _ هَزيمَةُ أهلِ العِراقِ بِمَوتِ الأَشتَرِأنساب الأشراف عن المدائني :ذُكِرَ الأَشتَرُ النَّخَعِيُّ عِندَ مُعاوِيَةَ ، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ النَّخَعِ لِلَّذي ذَكَرَهُ : اُسكُت ، فَإِنَّ مَوتَهُ أذَلَّ أهلَ العِراقِ ، وإنَّ حَياتَهُ أذَلَّت أهَلَ الشّامِ ! فَسَكَتَ مُعاوِيَةُ ولَم يَقُل شَيئا . (1)
.
ص: 617
الفصل السابع: احتلال مصرأ _ إشخاصُ عَمرِو بنِ العاصِ لِقتالِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍتاريخ الطبري عن عبد اللّه بن حوالة الأزدي_ في ذِكرِ إشخاصِ مُعاوِيَةَ عَمرَو ابنَ العاصِ إلى مِصرَ _: بَعَثَهُ في سِتَّةِ آلافِ رَجُلٍ . . . فَخَرَجَ عَمرٌو يَسيرُ حَتّى نَزَلَ أدانِيَ أرضِ مِصرَ ، فَاجتَمَعَتِ العُثمانِيَةُ إلَيهِ فَأَقامَ بِهِم ، وكَتَبَ إلى مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ :
أمّا بَعدُ ، فَتَنَحَّ عَنّي بِدَمِكَ يَا بنَ أبي بَكرٍ فَإِنّي لا اُحِبُّ أن يُصيبَكَ مِنّي ظُفُرٌ ، إنَّ النّاسَ بِهِذِهِ البِلادِ قَد اجتَمَعوا عَلى خِلافِكَ ورَفضِ أمرِكَ ونَدِموا عَلَى اتِّباعِكَ ، فَهُم مُسَلِّموكَ لَو قَدِ التَقَت حَلَقَتَا البِطانِ (1) ، فَاخرُجِ مِنها فَإِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحينَ ، وَالسَّلامُ .
وبَعَثَ إلَيهِ عَمرٌو أيضاً بِكِتابِ مُعاوَِيةَ إلَيهِ :
أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ غِبَّ البَغيِ وَالظُّلمِ عَظيمُ الوَبالِ ، وإنَّ سَفكَ الدَّمِ الحَرامِ لا يَسلَمُ صاحبَهُ مِنَ النِّقمَةِ فِي الدُّنيا ومِنَ التِّبعَةِ الموبِقَةِ فِي الآخِرَةِ ، وإنّا لا نَعلَمُ أحَداً كانَ أعظَمَ عَلى عُثمانَ بَغياً ولا أسوَأَ لَهُ عَيباً ولا أشَدَّ عَلَيهِ خِلافاً مِنكَ ، سَعَيتَ عَلَيهِ فِي السّاعينَ وسَفَكتَ دَمَهُ فِي السّافِكينَ ، ثُمَّ أنتَ تَظُنُّ أنّي عَنكَ نائِمٌ أو ناسٍ لَكَ حَتّى
.
ص: 618
تَأتِيَ فَتَأَمَّرَ عَلى بِلادٍ أنتَ فيها جاري ، وجُلُّ أهلِها أنصارِي يَرَونَ رَأيي ويَرقُبونَ قَولي ويَستَصرِخوني عَلَيكَ ، وقَد بَعَثتُ إلَيكَ قَوماً حِناقاً عَلَيكَ يَستَسقونَ دَمَكَ ويَتَقَرَّبونَ إلَى اللّهِ بِجِهادِكَ ، وقَد أعطَوُا اللّهَ عَهداً لَيَمثِلُنَّ بِكَ ، ولَو لَم يَكُن مِنهُم إلَيكَ ما عَدا قَتلِكَ ما حَذَّرتُكَ ولا أنذَرتُكَ ، ولَأَحبَبتُ أن يَقتُلوكَ بِظُلمِكَ وقَطيعَتِكَ وعُدُوِّكَ عَلى عُثمانَ يَومَ يُطعَنُ بِمَشاقِصِكَ (1) بَينَ خُشَشائِهِ (2) وأوداجِهِ ، ولكِن أكرَهُ أن أمثِلَ بِقُرَشِيٍّ ، ولَن يُسَلِّمَكَ اللّهُ مِنَ القِصاصِ أبَداً أينَما كُنتَ . وَالسَّلامُ . (3)ب _ استِنصارُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍپيامبر خدا صلى الله عليه و آله مى فرمايد:تاريخ الطبري عن عبد اللّه بن حوالة الأزدي :فَطَوى مُحَمَّدٌ كِتابَيهِما وبَعَثَ بِهِما إلى عَلِيٍّ ، وكَتَبَ مَعَهُما : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ ابنَ العاصِ قَد نَزَلَ أدانِيَ أرضِ مِصرَ ، وَاجتَمَعَ إلَيهِ أهلُ البَلَدِ جُلُّهُم مِمَّن كانَ يَرى رَأيَهُم ، وقَد جاءَ في جَيشٍ لَجِبٍ خَرّابٍ ، وقَد رَأَيتُ مِمَّن قِبَلي بَعضَ الفَشَلِ ، فَإِن كانَ لَكَ في أرضِ مِصرَ حاجَةٌ فَأَمِدَّني بِالرِّجالِ وَالأَموالِ . وَالسَّلامُ عَلَيكَ . (4)ج _ كِتابُ الإِمامِ عليه السلام في جَوابِهِتاريخ الطبري عن عبد اللّه بن حوالة الأزدي :فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِيٌّ : أمّا بَعدُ ، فَقَد جاءَني كِتابُكَ تَذكُرُ أنَّ ابنَ العاصِ قَد نَزَلَ بِأَدانِيَ أرضِ مِصرَ في لَجَبٍ مِن جَيشِهِ خَرّابٍ، وأنَّ مَن كانَ بِها عَلى مِثلِ رَأيِهِ قَد خَرَجَ إلَيهِ ، وخُروجُ مَن يَرى رَأيَهُ إلَيهِ خَيرٌ لَكَ مِن إقامَتِهِم عِندَكَ ، وذَكَرتَ أنَّكَ قَد رَأيتَ في بَعضٍ مِن قِبَلِكَ فَشَلاً ، فَلا تَفشَل وإن فَشِلوا
.
ص: 619
فَحَصِّن قَريَتَكَ ، وَاضمُم إلَيكَ شيعَتَكَ وَاندُب إلَى القَومِ كِنانَةَ بنَ بِشرٍ المَعروفَ بِالنَّصيحَةِ وَالنَّجدَةِ وَالبَأسِ ، فَإِنّي نادِبٌ إلَيكَ النّاسَ عَلَى الصَّعبِ وَالذَّلولِ ، فَاصبِر لِعَدُوِّكَ وَامضِ عَلى بَصيرَتِكَ وقاتِلهُم عَلى نِيَّتِكَ وجاهِدهُم صابِرا مُحتَسِبا ، وإن كانَت فِئَتُكَ أقَلَّ الفِئَتَينِ فَإِنَّ اللّهَ قَد يُعِزُّ القَليلَ ويَخذُلُ الكَثيرَ .
وقَد قَرَأتُ كِتابَ الفاجِرِ بنِ الفاجِرِ مُعاوِيَةَ وَالفاجِرِ بنِ الكافِرِ عَمرٍو ، المُتَحابَّينِ في عَمَلِ المَعصِيَةِ وَالمُتَوافِقَينِ المُرتَشِيَينِ فِي الحُكومَةِ ، المُنكَرَينِ فِي الدُّنيا ، قَدِ استَمتَعوا بِخَلاقِهِم كَما استَمتَعَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم بِخَلاقِهِم ، فَلا يُهلِك إرعادَهُما وإبراقَهُما ، وأجِبهُما إن كنتَ لَم تُجِبهُما بِما هُما أهلُهُ ، فَإِنَّكَ تَجِدُ مَقالاً ما شِئتَ . وَالسَّلامُ . (1)د _ إستِنهاضُ الإِمامِ عليه السلام لِلدِّفاعِ عَن مِصرَحتّى شناخت اندك دنيا مى تواند زهد و بى رغبتى را بتاريخ الطبري عن عبد اللّه بن فُقَيم_ بَعدَ ذِكرِ استِصراخِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ إلى عَلِيٍّ عليه السلام _: قامَ عَلِيٌّ فِي النّاسِ وقَد أمَرَ فَنودِيَ : الصَّلاةُ جامِعَةً ! فَاجتَمِعِ النّاسِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قالَ :
أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ هذا صَريخُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ وإخوانِكُم مِن أهلِ مِصرَ ، قَد سارَ إلَيهِمُ ابنُ النّابِغَةِ عَدُوُّ اللّهِ ، ووُلِّيَ مَن عادَى اللّهَ ، فَلا يَكونَنَّ أهلُ الضَّلالِ إلى باطِلِهِم ، وَالرُّكونُ إلى سَبيلِ الطّاغوتِ أشَدَّ اجتِماعا مِنكُم عَلى حَقِّكُم هذا ، فَإِنَّهُم قَد بَدَؤوكُم وإخوانَكُم بِالغَزوِ ، فَاعجَلوا إلَيهِم بِالمُؤاساةِ وَالنَّصرِ .
عِبادَ اللّهِ ! إنَّ مِصرَ أعظَمُ مِنَ الشّامِ ، أكثَرُ خَيرا ، وخَيرٌ أهلاً ، فَلا تَغلِبوا عَلى مِصرَ ، فَإِنَّ بَقاءَ مِصرَ في أيديكُم عِزٌّ لَكُم ، وكَبتٌ لِعَدُوِّكُم ، اُخرُجوا إلَى الجَرعَةِ (2)
بَينَ
.
ص: 620
حتّى شناخت اندك دنيا مى تواند زهد و بى رغبتى را بالحيرَةِ (1) وَالكوفَةِ ، فَوافوني بِها هُناكَ غَدا إن شاءَ اللّهُ .
قالَ : فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ خَرَجَ يَمشي ، فَنَزَلَها بُكرَةً ، فَأَقامَ بِها حَتَّى انتَصَفَ النَّهارُ يَومُهُ ذلِكَ ، فَلَم يُوافِهِ مِنهُم رَجُلٌ واحِدٌ ، فَرَجَعَ .
فَلَمّا كانَ مِنَ العَشِيِّ بَعَثَ إلى أشرافِ النّاسِ ، فَدَخَلوا عَلَيهِ القَصرَ وهُوَ حَزينٌ كَئيبٌ ، فَقالَ :
الحَمدُ للّهِِ عَلى ما قَضى مِن أمري وقَدَّرَ مِن فِعلي وَابتَلاني بِكُم أيَّتُهَا الفِرقَةُ ؛ مِمَّن لا يُطيعُ اذا أمَرتُ ولا يُجيبُ إذا دَعَوتُ ، لا أبا لِغَيرِكُم ! ما تَنتَظِرونَ بِصَبرِكُم وَالجِهادِ عَلى حَقِّكُم ! المَوتُ وَالذُّلُّ لَكُم في هذِهِ الدُّنيا عَلى غَيرِ الحَقِّ ، فَوَاللّهِ ، لَئِن جاءَ المَوتُ _ ولَيَأتِيَنَّ _ لَيُفَرِّقَنَّ بَيني وبَينَكُم ، وأنَا لِصُحبَتِكُم قالٍ وبِكُم غَيرُ ضَنينٍ . (2)ه _ إستِشهادُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍولّى الإمام عليه السلام محمّد بن أبي بكر على مصر سنة 36 ه باقتراح من عبد اللّه بن جعفر ، وذلك بعد عزل قيس بن سعد عنها (3) . من هنا لم يشهد محمّدٌ معركة صفّين . (4) تشدّد محمّد على أشخاص كان هواهم في عثمان (5) ، فتمرّدوا عليه بعدما جرى في صفّين وما آلَت إليه من التحكيم (6) ، وضيّقوا عليه الخناق (7) ، وانتهز معاوية وعمرو
.
ص: 621
بن العاص الفرصة فهبّوا إلى مؤازرة المتمرّدين (1) . فكادت الاُمور تفلت في مصر ، ويخرج هذا الإقليم من سيادة الدولة الإسلاميّة ، لذا عيّن الإمام عليه السلام مالكا مكانه ليُخمد الفتنة المستعرة فيها (2) ، لكنّ هذا النصير الفذّ الفريد استشهد في الطريق بأسلوبٍ غادر خبيث انتهجه معاوية ، فأعاد الإمام عليه السلام محمّدا إليها . (3) بعث معاوية عمرو بن العاص مع لُمّةٍ لإعانة المتمرّدين (4) . وكان لابن العاص نفوذ فيها إذ كان قد فتحها في زمان خلافة عمر (5) . فحدثت اشتباكات استُشهد فيها كنانة الذي كان قد بعثه محمّد على رأس ألفين لمواجهة ابن العاص (6) ، فجرّ ذلك إلى أن ترك أصحاب محمّد أميرهم وحيدا ، فوقع في قبضة العدوّ . (7) ومن جانب آخر لم تُجْدِ استغاثة الإمام عليه السلام واستنصاره أهل الكوفة لمؤازرة محمّد (8) . وآل الأمر إلى أن يضع معاوية بن خديج محمّدا في جلد حمار ميّت ويحرقه ، وهو ظمآن (9) ، وجاء في بعض الأخبار أنّه اُحرق حيّا . (10) أحزن استشهاد محمّد بن أبي بكر الإمام عليه السلام كثيرا 11 ، وتوجّع على ما جرى على عزيزه الراحل ، وجزع عليه أشدّ الجزع ، وحين سُئل عليه السلام عن علّة جزعه الشديد ،
.
ص: 622
قال : «رَحِمَ اللّهُ مُحَمَّدا ؛ كانَ غُلاما حَدَثا ، أما وَاللّهِ لَقَد كُنتُ أرَدتُ أن اُوَلّيَ المِرقالَ هاشِمَ بنَ عُتبَة بنِ أبي وَقّاصٍ مِصرَ ... بِلا ذمٍّ لِمُحَمَّدَ بنِ أبي بكرٍ ، لَقَد أجهَدَ نَفسَهُ وقَضى ما عَلَيهِ» . (1) وكان عليه السلام يُثني عليه ويذكره بخير في مناسبات مختلفة ويقول : «لَقَد كانَ إلِيَّ حَبيبا ، وَكانَ لي رَبيبا (2) ، فَعِندَ اللّهِ نَحتَسِبُهُ وَلَدا ناصِحا ، وَعامِلاً كادِحا ، وَسَيفا قاطِعا ، وَرُكنا دافِعا» . (3)
و _ فَرَحُ مُعاوِيَةَامام على عليه السلام در دو جمله مى فرمايد:الغارات عن جندب بن عبد اللّه_ في خَبَرِ قَتلِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ _: قَدِمَ عَلَيهِ [عَلى عَلِيٍّ عليه السلام ]عَبدُ الرَّحمنِ بنِ المُسَيِّبِ الفَزارِيُّ . . . عَينُهُ بِالشّامِ . . . وحَدَّثَهُ أنَّهُ لَم يَخرُج مِنَ الشّامِ حَتّى قَدِمَتِ البُشرى مِن قِبَلِ عَمرِو بنِ العاصِ تَتري يَتبَعُ بَعضُها عَلى أثَرِ بَعضٍ بِفَتحِ مِصرَ وقَتلِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ ، وحَتّى أذَّنَ مُعاوِيَةُ بِقَتلِهِ عَلَى المِنبَرِ ، فَقالَ لَهُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، ما رَأَيتُ يَوما قَطُّ سُرورا بِمِثلِ سُرورٍ رَأَيتُهُ بِالشّامِ ، حَتّى أتاهُم هَلاكُ ابنِ أبي بَكرٍ .
فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : أما إنَّ حُزنَنا عَلى قَتلِهِ عَلى قَدرِ سُرورِهِم بِهِ ، لا بَل يَزيدُ أضعافا . (4)
.
ص: 623
ز _ خُطبَةُ الإِمامِ عليه السلام بَعدَ قَتلِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍالإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَتِهِ بَعدَ قَتلِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ _: ألا إنَّ مِصرَ قَدِ افتَتَحَهَا الفَجَرَةُ اُولُو الجَورِ وَالظُّلمِ الَّذينَ صَدّوا عَن سَبيلِ اللّهِ ، وبَغَوا الإِسلامَ عِوَجاً . ألا وإنَّ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ قَدَ استُشهِدَ ، فَعِندَاللّهِ نَحتَسِبُهُ .
أما وَاللّهِ إن كانَ ما عَلِمتُ لَمِمَّن يَنتَظِرُ القَضاءَ ، ويَعمَلُ لِلجَزاءِ ، ويُبغِضُ شَكلَ الفاجِرِ ، ويُحِبُّ هُدَى المُؤمِنِ ، إنّي وَاللّهِ ما ألومُ نَفسي عَلَى التَّقصيرِ ، وإنّي لِمُقاساةِ الحَربِ لَجِدٌّ خَبيرٌ ، وإنّي لَأَقدَمُ عَلَى الأَمرِ وأعرِفُ وَجهَ الحَزمِ ، وأقومُ فيكُم بِالرَّأيِ المُصيبِ ، فَأَستَصرِخُكُم مُعلِنا ، واُناديكُم نِداءَ المُستَغيثِ مُعرِبا ، فَلا تَسمَعونَ لي قَولاً ، ولا تُطيعونَ لي أمرا ، حَتّى تَصيرَ بِيَ الاُمورُ إلى عَواقِبِ المَساءَةِ ، فَأَنتُمُ القَومُ لا يُدرَكُ بِكُمُ الثَّأرُ ، ولا تُنقَضُ بِكُمُ الأَوتارُ ، دَعَوتُكُم إلى غِياثِ إخوانِكُم مُنذُ بِضعٍ وخَمسينَ لَيلَةً فَتَجَرجَرتُم جَرجَرَةَ الجَمَلِ الأَشدَقِ ، وتَثاقَلتُم إلَى الأَرضِ تَثاقُلَ مَن لَيسَ لَهُ نِيَّةٌ في جِهادِ العَدُوِّ ، ولَا اكتِسابِ الأَجرِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ مِنكُم جُنَيدٌ مُتَذانِبٌ «كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ» (1) فَاُفٍّ لَكُم ! (2)
.
ص: 624
الفصل الثامن: هجمات أذناب معاويةأ _ السياسة العلوية والسياسة الاُمويّةبعد أن تحمّل معاوية مرارة الانكسار في صفَّين توصّل إلى هذه النتيجة وهي عدم قدرته على مواجهة الإمام وجهاً لوجه ، فانتهج اُسلوباً آخر من أجل الوصول إلى أهدافه وأطماعه المشؤومة ، فاتّخذ سياسة غير إسلاميّة و غير إنسانيّة في مواجهة الإمام ؛ وهي سياسة الإيذاء المباغت ، من قبيل : الاغتيال ، وإحراق المنازل والبيوت ، ونهب الأموال ، وإثارة الرعب والخوف بين الناس ، وسلب الأمن عن البلاد الإسلاميّة . وفي هذا المجال كتب المسعودي _ المؤرّخ المعروف _ : «وكان معاوية في بقيّة أيّام عليّ يبعث سرايا تُغير ، وكذلك عليّ كان يبعث من يمنع سرايا معاوية من أذيّة الناس» . (1) وقد رام معاويةُ بانتهاجه هذه السياسة اللئيمة الخطرة الأهدافَ التالية : 1 . زرع اليأس في قلوب الناس من حكومة الإمام عليه السلام ، وفَتّ مقاومتهم ومنعهم عن الاستمرار في معاضدة الإمام .
.
ص: 625
2 . السيطرة على المحالّ التي لها موقع سياسي هامّ كالبصرة ومصر . 3 . إلجاء الإمام إلى المقابلة بالمثل ، وإزالة قدسيّة الإمام من أذهان الناس . 4 . استغلال غطاء «عهد الصلح» المشروط _ الذي أمضاه الإمام في التحكيم _ لخدمة مصالحه وأهدافه ، وبالتالي دفع الإمام لنقض العهد المذكور . والذي ساعد على إيجاد أرضيّة مناسبة لهذه السياسة الخطرة هو استشهاد جملة من أركان جيش الإمام من جانب ، ومن جانب آخر تعب جيش الإمام وعدم طاعتهم لقائدهم . لكنّ الإمام عليه السلام _ في ذلك الظرف الحسّاس _ لم يتخطّ حدود العدالة قَيدَ أنملة ، وأبقى درساً عمليّاً للحكومات التي تريد الاستنارة بنهجه في الوفاء والثبات على هذه السياسة المباركة ، بل لم يكن حاضراً لنقض ذلك العهد المشروط الذي اُلجئ إلى قبوله . وإليك كلام الإمام عليه السلام في هذا المجال :
الإرشاد :ومِن كَلامِهِ عليه السلام لَمّا نَقَضَ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ شَرطَ المُوادَعَةِ وأقبَلَ يَشُنُّ الغاراتِ عَلى أهلِ العِراقِ ، فَقالَ بَعدَ حَمدِ اللّهِ وَالثَّناءِ عَلَيهِ :
ما لِمُعاوِيَةَ قاتَلَهُ اللّهُ ؟ ! لَقَد أرادَني عَلى أمرٍ عَظيمٍ ، أرادَ أن أفعَلَ كَما يَفعَلُ ، فَأَكونَ قَد هَتَكتُ ذِمَّتي ونَقَضتُ عَهدي ، فَيَتَّخِذَها عَلَيَّ حُجَّةً ، فَتَكونَ عَلَيَّ شَينا إلى يَومِ القِيامَةِ كُلَّما ذُكِرتُ .
فَإِن قيلَ لَهُ : أنتَ بَدَأتَ ، قالَ : ما عَلِمتُ ولا أمَرتُ ، فَمِن قائِلٍ يَقولُ : قَد صَدَقَ ، ومِن قائِلٍ يَقولُ : كَذِبَ .
أمَ واللّهِ ، إنَّ اللّهَ لَذو أناةٍ وحِلمٍ عَظيمٍ ، لَقَد حَلُمَ عَن كَثيرٍ مِن فَراعِنَةِ الأَوَّلينَ وعاقَبَ فَراعِنَةً ، فَإِن يُمهِلهُ اللّهُ فَلَن يَفوتَهُ ، وهُوَ لَهُ بِالمِرصادِ عَلى مَجازِ طَريقِهِ .
فَليَصنَع ما بَدا لَهُ فَإِنّا غَيرُ غادِرينَ بِذِمَّتِنا ، ولا ناقِضينَ لِعَهدِنا ، ولا مُرَوِّعينَ .
ص: 626
لِمُسلِمٍ ولا مُعاهَدٍ ، حَتّى يَنقَضي شَرطُ المُوادَعَةِ بَينَنا ، إن شاءَ اللّهُ . (1)ب _ غارَةُ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍالكامل في التاريخ :في هذِهِ السَّنَةِ [39 ه ] فَرَّقَ مُعاوِيَةُ جُيوشَهُ فِي العِراقِ في أطرافِ عَلِيٍّ ، فَوَجَّهَ النُّعمانَ بنَ بَشيرٍ في ألفِ رَجُلٍ إلى عَينِ التَّمرِ ، وفيها : مالِكُ بنُ كَعبٍ مَسلَحةً لِعَلِيٍّ في ألفِ رَجُلٍ ، وكانَ مالِكٌ قَد أذِنَ لِأَصحابِهِ فَأَتُوا الكوفَةَ ولَم يَبقَ مَعَهُ إلّا مِئَةُ رَجُلٍ ، فَلَمّا سَمِعَ بِالنُّعمانِ كَتَبَ إلى أميرِ المُؤمِنينَ يُخبِرُهُ ويَستَمِدُّهُ .
فَخَطَبَ عَلِيٌّ النّاسَ ، وأمَرَهُم بِالخُروجِ إلَيهِ ، فَتَثاقَلوا .
وواقَعَ مالِكٌ النُّعمانَ وجَعَلَ جِدارَ القَريَةِ في ظُهورِ أصحابِهِ ، وكَتَبَ مالِكٌ إلى مِخنَفِ بنِ سُلَيمٍ يَستَعينُهُ ، وهُوَ قَريبٌ مِنهُ ، وَاقتَتَلَ مالِكٌ وَالنُّعمانُ أشَدَّ قِتالٍ ، فَوَجَّهَ مِخنَفٌ ابنَهُ عَبدَ الرَّحمنِ في خَمسينَ رَجُلاً ، فَانتَهَوا إلى مالِكٍ وقَد كَسَروا جُفونَ سُيوفِهِم وَاستَقتَلوا ، فَلَمّا رَآهُم أهلُ الشّامِ انهَزَموا عِندَ المَساءِ ، وظَنّوا أنَّ لَهُم مَدَدا ، وتَبِعَهُم مالِكٌ فَقَتَلَ مِنهُم ثَلاثَةَ نَفَرٍ .
ولَمّا تَثاقَلَ أهلُ الكوفَةِ عَنِ الخُروجِ إلى مالِكٍ ، صَعِدَ عَلِيٌّ المِنبَرَ فَخَطَبَهُم ، ثُمَّ قالَ :
يا أهلَ الكوفَةِ ! كُلَّما سَمِعتُم بِجَمعٍ مِن أهلِ الشّامِ أظَلَّكُمُ انجَحَرَ كُلُّ امرِئٍ مِنكُم في بَيتِهِ ، وأغلَقَ عَلَيهِ بابَهُ انجِحارَ الضَّبِّ في جُحرِهِ ، وَالضَّبُعِ في وِجارِها ، المَغرورُ مَن غَرَرتُموهُ ، ومَن فازَ بِكُم فازَ بِالسَّهمِ الأَخيَبِ ، لا أحرارٌ عِندَ النِّداءِ ، ولا إخوانٌ عند النَّجاءِ ! إنّا للّهِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ ! ماذا مُنيتُ بِهِ مِنكُم ؟ عُميٌ لا يُبصِرونَ ، وبُكمٌ لا يَنطِقونَ ، وصُمٌّ لا يَسمَعونَ ! إنّا للّهِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ . (2)
.
ص: 627
ج _ غارَةُ سُفيانَ بنِ عَوفٍو در كلام ديگرى از پيامبر خدا صلى الله عليه و آلهالغارات عن سفيان بن عوف الغامدي :دَعاني مُعاوِيَةُ فَقالَ :
إنّي باعِثُكَ في جَيشٍ كَثيفٍ ذي أداةٍ وجَلادَةٍ فَالزَم لي جانِبَ الفُراتِ حَتّى تَمُرَّ بِهيتَ (1) فَتَقطَعَها ، فَإِن وَجَدتَ بِها جُندا فَأَغِر عَلَيهِم وإلّا فَامضِ حَتّى تُغيرَ عَلَى الأَنبارِ ، فَإِن لَم تَجِد بِها جُندا فَامضِ حَتّى تُغيرَ عَلَى المَدائِنِ ثُمَّ أقبِل إلَيَّ ، وَاتَّقِ أن تَقرُبَ الكوفَةَ ، وَاعلَم أنَّكَ إن أغَرتَ عَلى أهلِ الأَنبارِ وأهلِ المَدائِنِ فَكَأَنَّكَ أغَرتَ عَلَى الكوفَةِ ، إنَّ هذِهِ الغاراتِ يا سُفيانُ عَلى أهلِ العِراقِ تَرهَبُ قُلوبَهُم وتُجَرِّئُ كُلَّ مَن كانَ لَهُ فينا هَوىً مِنهُم ويَرى فِراقَهُم ، وتَدعو إلَينا كُلَّ مَن كانَ يَخافُ الدَّوائِرَ ، وخَرَّبَ كُلَّ ما مَرَرتَ بِهِ مِنَ القُرى ، وَاقتُل كُلَّ مَن لَقيتَ مِمَّن لَيسَ هُوَ عَلى رَأيِكَ ، وَاحرَبِ (2) الأَموالَ ، فَإِنَّهُ شَبيهٌ بِالقَتلِ وهُوَ أوجَعُ لِلقُلوبِ . (3)د _ غارَةُ الضَّحّاكِ بنِ قَيسٍو در حديث ديگرى مى فرمايد:الغارات عن عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري :دَعا مُعاوِيَةُ الضَّحّاكَ بنَ قَيسٍ الفِهرِيَّ ، وقالَ لَهُ : سِر حَتّى تَمُرَّ بِناحِيَةِ الكوفَةِ ، وتَرتَفِعَ عَنها مَا استَطَعتَ ، فَمَن وَجَدتَهُ مِنَ الأَعرابِ في طاعَةِ عَلِيٍّ فَأَغِر عَلَيهِ ، وإن وَجَدتَ لَهُ مَسلَحَةً (4) أو خَيلاً فَأَغِر عَلَيهِما ، وإذا أصبَحتَ في بَلدَةِ فَأَمسِ في اُخرى ، ولا تُقيمَنَّ لِخَيلٍ بَلَغَكَ أنَّها قَد سُرِّحَت إلَيكَ لِتَلقاها فَتُقاتِلَها ، فَسَرَّحَهُ فيما بَينَ ثَلاثَةِ آلافٍ إلى أربَعَةِ آلافِ جَريدَةِ خَيلٍ .
فَأَقبَلَ الضَّحّاكُ يَأخُذُ الأَموالَ ، ويَقتُلُ مَن لَقِيَ مِنَ الأَعرابِ حَتّى مَرَّ بِالثَّعلَبِيَّةِ
.
ص: 628
و در حديث ديگرى مى فرمايد:فَأَغارَ خَيلُهُ عَلَى الحاجِّ ، فَأَخَذَ أمتِعَتَهُم ، ثُمَّ أقبَلَ فَلَقِيَ عَمرَو بنَ عُمَيسِ بنِ مَسعودٍ الذُّهلِيَّ _ وهُوَ ابنُ أخي عَبدِ اللّهِ بنِ مَسعودٍ صاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله _ فَقَتَلَهُ في طَريقِ الحاجِّ عِندَ القُطقُطانَةِ (1) وقَتَلَ مَعَهُ ناسا مِن أصحابِهِ .
قالَ أبو رَوقٍ : فَحَدَّثَني أبي أنَّهُ سَمِعَ عَلِيّا عليه السلام وقَد خَرَجَ إلَى النّاسِ وهُوَ يَقولُ عَلَى المِنبَرِ : يا أهلَ الكوفَةِ ! اُخرُجوا إلَى العَبدِ الصّالِحِ عَمرِو بنِ عُمَيسٍ ، وإلى جُيوشٍ لَكُم قَد اُصيبَ مِنها طَرَفٌ ؛ اُخرُجوا فَقاتِلوا عَدُوَّكُم وَامنَعوا حَريمَكُم ، إن كُنتُم فاعِلينَ .
قالَ : فَرَدّوا عَلَيهِ رَدّا ضَعيفا ، ورَأى مِنهُم عَجزا وفَشَلاً فَقالَ :
وَاللّهِ ، لَوَدِدتُ أنَّ لي بِكُلِّ مِئَةٍ مِنكُم رَجُلاً مِنهُم ، وَيحَكُم اُخرُجوا مَعي ، ثُمَّ فِرّوا عَنّي إن بدا لَكُم ، فَوَاللّهِ ما أكرَهُ لِقاءَ رَبّي عَلى نِيَّتي وبَصيرَتي ، وفي ذلِكَ رَوحٌ لي عَظيمٌ ، وفَرَجٌ مِن مُناجاتِكُم ومُقاساتِكُم ومُداراتِكُم مِثلَ ما تُدارى البِكارُ العَمِدةُ ، وَالثِّيابُ المُتَهَتِّرَةُ ، كُلَّما خِيطَت مِن جانِبٍ تَهَتَّكَت عَلى صاحِبِها مِن جانِبٍ آخَرَ ، ثُمَّ نَزَلَ .
فَخَرَجَ يَمشي حَتّى بَلَغَ الغَرِيَّينِ (2) ، ثُمَّ دَعا حُجرَ بنَ عَدِيٍّ الكِندِيَّ مِن خَيلِهِ فَعَقَدَ لَهُ ثَمَّ رايَةً عَلى أربَعَةِ آلافٍ ، ثُمَّ سَرَّحَهُ . (3)
فَخَرَجَ حَتّى مَرَّ بِالسَّماوَةِ (4) _ وهِيَ أرضُ كَلبٍ _ فَلَقِيَ بِها امرَأَ القَيسِ بنَ عَدِيِّ بنِ .
ص: 629
و در حديث ديگرى مى فرمايد:أوسِ بنِ جابِرِ بنِ كَعبِ بنِ عُلَيمٍ الكَلبِيَّ أصهارَ الحُسَينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليهم السلام ، فَكانوا أدِلّاءَهُ عَلى طَريقِهِ وعَلَى المِياهِ ، فَلَم يَزَل مُغِذّا في أثَرَ الضَّحّاكِ حَتّى لَقِيَهُ بِناحِيَةِ تَدمُرَ فَواقَفَهُ فَاقتَتَلوا ساعَةً ، فَقُتِلَ مِن أصحابِ الضَّحّاكِ تِسعَةَ عَشَرَ رَجُلاً ، وقُتِلَ مِن أصحابِ حُجرٍ رَجُلانِ : عَبدُ الرَّحمنِ وعَبدُ اللّهِ الغامِديُّ ، وحَجَزَ اللَّيلُ بَينَهُم ، فَمَضَى الضَّحّاكُ ، فَلَمّا أصبَحوا لَم يَجِدوا لَهُ ولِأَصحابِهِ أثَرا . (1)ه _ غارَةُ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ قَباثِالكامل في التاريخ_ في أحداثِ سَنَةِ تِسعٍ وثَلاثينَ هجريّة _: وفيها سَيَّرَ مُعاوِيَةُ عَبدَ الرَّحمنِ بنَ قَباثِ بنِ أشيَمَ إلى بِلادِ الجَزيرَةِ وفيها شَبيبُ بنُ عامِرٍ _ جَدُّ الكِرمانِيِّ الَّذي كانَ بِخُراسانَ _ وكانَ شَبيبٌ بِنَصيبينَ ، فَكَتَبَ إلى كُمَيلِ بنِ زِيادٍ ، وهُوَ بِهيتَ ، يُعلِمُهُ خَبَرَهُم .
فَسارَ كُمَيلٌ إلَيهِ نَجدَةً لَهُ في سِتِّمِئَةِ فارِسٍ ، فَأَدرَكوا عَبدَ الرَّحمنِ ومَعَهُ مَعَنُ بنُ يَزيدَ السُّلَمِيُّ ، فَقاتَلَهُما كُميلٌ وهَزَمَهُما ، فَغَلَبَ عَلى عَسكَرِهِما ، وأكثَرَ القَتلَ في أهلِ الشّامِ ، وأمَرَ أن لا يُتبَعُ مُدبِرٌ ولا يُجهَزَ عَلى جَريحٍ ، وقُتِلَ مِن أصحابِ كُمَيلٍ رَجُلانِ .
وكَتَبَ إلى عَلِيٍّ بِالفَتحِ فَجَزاهُ خَيرا ، وأجابَهُ جَوابا حَسَنا ورَضِيَ عَنهُ ، وكانَ ساخِطا عَلَيهِ ... .
وأقبَلَ شَبيبُ بنُ عامِرٍ مِن نَصيبينَ فَرَأى كُمَيلاً قَد أوقَعَ بِالقَومِ فَهَنَّأَهُ بِالظَّفَرِ ، وأتبَعَ الشّامِيّينَ فَلَم يَلحَقهُم ، فَعَبَرَ الفُراتَ ، وبَثَّ خَيلَهُ ، فَأَغارَت عَلى أهلِ الشّامِ حَتّى بَلَغَ بَعلَبَكَّ .
.
ص: 630
فَوَجَّهَ مُعاوِيَةُ إلَيهِ حَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ فَلَم يُدرِكهُ ، ورَجَعَ شَبيبٌ فَأَغارَ عَلى نَواحِي الرَّقَّةِ ؛ فَلَم يَدَع لِلعُثمانِيَّةِ بِها ماشِيةً إلَا استاقَها ، ولا خَيلاً ولا سِلاحا إلّا أخَذَهُ ، وعادَ إلى نَصيبينَ وكَتَبَ إلى عَلِيٍّ .
فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِيٌّ يَنهاهُ عَن أخذِ أموالِ النّاسِ إلَا الخَيلَ وَالسِّلاحَ الَّذي يُقاتِلونَ بِهِ ، وقالَ : رَحِمَ اللّهُ شَبيبا ، لَقَد أبعَدَ الغارَةَ وعَجَّلَ الِانتِصارَ . (1)و _ غارَةُ بُسرِ بنِ أبي أرطاةَتاريخ الطبري عن عوانة :أرسَلَ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ بَعدَ تَحكيمِ الحَكَمَينِ بُسرَ بنَ أبي أرطاةَ _ وهُوَ رَجُلٌ مِن بَني عامِرِ بنِ لُؤَيٍّ _ في جَيشٍ ، فَساروا مِنَ الشّامِ حَتّى قَدِمُوا المَدينَةَ ، وعامِلُ عَلِيٍّ عَلَى المَدينَةِ يَومَئِذٍ أبو أيّوبٍ الأَنصارِيُّ ، فَفَرَّ مِنهُم أبو أيّوبٍ ، فَأَتى عَلِيّا بِالكوفَةِ .
ودَخَلَ بُسرٌ المَدينَةَ ، قالَ : فَصَعِدَ مِنبَرَها ولَم يُقاتِلهُ بِها أحَدٌ ، فَنادى عَلَى المِنبَرِ : يا دينارُ ، ويا نَجّارُ ، ويا زُرَيقُ ، شَيخي شَيخي ! عَهدي بِهِ بِالأَمسِ ، فَأَينَ هُوَ ! يَعني عُثمانَ .
ثُمَّ قالَ : يا أهلَ المَدينَةِ ! وَاللّهِ ، لَولا ما عَهِدَ إلَيَّ مُعاوِيَةُ ما تَرَكتُ بِها مُحتَلِما إلّا قَتَلتُهُ ، ثُمَّ بايَعَ أهلُ المَدينَةِ .
وأرسَلَ إلى بَني سَلَمَةَ ، فَقالَ : وَاللّهِ ، ما لَكُم عِندي مِن أمانٍ ، ولا مُبايَعَةٍ حَتّى تَأتوني بِجابِرِ بنِ عَبدِ اللّهِ .
فَانطَلَقَ جابِرٌ إلى اُمِّ سَلَمَةَ زَوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَقالَ لَها : ماذا تَرَينَ ؟ إنّي قَد خَشيتُ أن اُقتَلَ ، وهذِهِ بَيعَةُ ضَلالَةٍ .
.
ص: 631
قالَت : أرى أن تُبايَعَ ؛ فَإِنّي قَد أمَرتُ ابني عُمَرَ بنَ أبي سَلَمََة أن يُبايِعَ ، وأمَرتُ خَتَني عَبدَ اللّهِ بنَ زَمعَةَ _ وكانَتِ ابنَتُها زَينَبُ ابنَةُ أبي سَلَمَةَ عِندَ عَبدِ اللّهِ بنِ زَمعَةَ فَأتاهُ جابِرٌ فَبايَعَهُ .
وهَدَمَ بُسرٌ دورا بِالمَدينَةِ ، ثُمَّ مَضى حَتّى أتى مَكَّةَ ، فَخافَهُ أبو موسى أن يَقتُلَهُ ، فَقالَ لَهُ بُسرٌ : ما كُنتُ لِأَفعَلَ بِصاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ذلِكَ ، فَخَلّى عَنهُ .
وكَتَبَ أبو موسى قَبلَ ذلِكَ إلَى اليَمَنِ : إنَّ خَيلاً مَبعوثَةً مِن عِندِ مُعاوِيَةَ تَقتُلُ النّاسَ ، تَقتُلُ مَن أبى أن يُقِرَّ بِالحُكومَةِ .
ثُمَّ مَضى بُسرٌ إلَى اليَمَنِ ، وكانَ عَلَيها عُبَيدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ عامِلاً لِعَلِيٍّ ، فَلَمّا بَلَغَهُ مَسيرُهُ فَرَّ إلَى الكوفَةِ حَتّى أتى عَلِيّا ، وَاستَخلَفَ عَبدَ اللّهِ بنَ عَبدِ المَدانِ الحارِثِيَّ عَلَى اليَمَنِ ، فَأَتاهُ بُسرٌ فَقَتَلَهُ وقَتَلَ ابنَهُ ، ولَقِيَ بُسرٌ ثَقَلَ (1) عُبَيدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ ، وفيهِ ابنانِ لَهُ صَغيرانِ فَذَبَحَهُما .
وقَد قالَ بَعضُ النّاسِ : إنَّهُ وَجَدَ ابنَي عُبَيدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ عِندَ رَجُلٍ مِن بَني كِنانَةَ مِن أهلِ البادِيَةِ ، فَلَمّا أرادَ قَتلَهُما ، قالَ الكِنانِيُّ : عَلامَ تَقتُلُ هذَينِ ولا ذَنبَ لَهُما ! فَإِن كُنتَ قاتِلَهُما فَاقتُلني .
قالَ : أفعَلُ ، فَبَدَأَ بِالكِنانِيِّ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ قَتَلَهُما ، ثُمَّ رَجَعَ بُسرٌ إلَى الشّامِ .
وقَد قيلَ : إنَّ الكِنانِيَّ قاتَلَ عَنِ الطِّفلَينِ حَتّى قُتِلَ ، وكانَ اسمُ أحَدِ الطِّفلَينِ اللَّذَينِ قَتَلَهُما بُسرٌ : عَبدَ الرَّحمنِ ، وَالآخَرِ قُثَمَ ، وقَتَلَ بُسرٌ في مَسيرِهِ ذلِكَ جَماعَةً كَثيرَةً مِن شيعَةِ عَلِيٍّ بِاليَمَنِ .
وبَلَغَ عَلِيّا خَبَرُ بُسرٍ ، فَوَجَّهَ جارِيَةَ بنَ قُدامَةَ في ألفَينِ ، ووَهَبَ بنَ مَسعودٍ في .
ص: 632
ألفَينِ ، فَسارَ جارِيَةُ حَتّى أتى نَجرانَ فَحَرَّقَ بِها ، وأخَذَ ناسا مِن شيعَةِ عُثمانَ فَقَتَلَهُم ، وهَرَبَ بُسرٌ وأصحابُهُ مِنهُ ، وأتبَعَهُم حَتّى بَلَغَ مَكَّةَ .
فَقالَ لَهُم جارِيَةُ : بايِعونا .
فَقالوا : قَد هَلَكَ أميرُ المُؤمِنينَ ، فَلِمَن نُبايِعُ ؟ قالَ : لِمَن بايَعَ لَهُ أصحابُ عَلِيٍّ ، فَتَثاقَلوا ، ثُمَّ بايَعوا .
ثُمَّ سارَ حَتّى أتَى المَدينَةَ وأبو هُرَيرَةَ يُصَلّي بِهِم ، فَهَرَبَ مِنهُ ، فَقالَ جارِيَةُ : وَاللّهِ ، لَو أخَذتُ أبا سِنَّورٍ لَضَرَبتُ عُنُقَهُ ، ثُمَّ قالَ لِأَهلِ المَدينَةِ : بايِعُوا الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ ، فَبايَعوهُ .
وأقامَ يَومَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ مُنصَرِفا إلَى الكوفَةِ ، وعادَ أبو هُرَيرَةَ فَصَلّى بِهِم . (1)الاستيعاب :أرسَلَ مُعاوِيَةُ بُسرَ بنَ أرطاةَ إلَى اليَمَنِ ، فَسَبى نِساءً مُسلِماتٍ ، فَاُقِمنَ فِي السّوقِ (2) .
.
ص: 633
الفصل التاسع: تمنّي الاستشهادأ _ إنَّ أحَبَّ ما أنَا لاقٍ إلَيَّ المَوتُالإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ لَهُ عليه السلام في ذَمِّ العاصينَ مِن أصحابِهِ _:... إنَّهُ لا يَخرُجُ إلَيكُم مِن أمري رِضىً فَتَرضَونَهُ ، ولا سُخطٌ فَتَجتَمِعونَ عَلَيهِ ، وإنَّ أحَبَّ ما أنَا لاقٍ إلَيَّ المَوتُ ! قَد دارَستُكُمُ الكِتابَ ، وفاتَحتُكُمُ الحِجاجَ ، وعَرَّفتُكُم ما أنكَرتُم ، وسَوَّغتُكُم ما مَجَجتُم ، لَو كانَ الأَعمى يَلحَظُ ، أوِ النّائِمُ يَستَيقِظُ ! وأقرِب بِقَومٍ _ مِنَ الجَهلِ بِاللّهِ _ قائِدُهُم مُعاوِيَةُ ! ومُؤَدِّبُهُمُ ابنُ النّابِغَةِ ! (1)
ب _ اللّهُمَّ مَلِلتُهُم ومَلّونيالغارات عن ابن أبي رافع :رَأَيتُ عَلِيّا عليه السلام قَدِ ازدَحَموا عَلَيهِ حَتّى أدَمَوا رِجلَهَ . فَقالَ : اللّهُمَّ قَد كَرِهتُهُم وكَرِهوني ، فَأَرِحني مِنهُم وأرِحهُم مِنّي . (2)
.
ص: 634
الفصل العاشر: آخر خطبة خطبها الإمامنهج البلاغة :رُوِي عَن نَوفِ البِكالِيِّ قالَ : خَطَبَنا بِهذِهِ الخُطبَةِ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيٌّ عليه السلام بِالكوفَةِ وهُوَ قائِمٌ عَلى حِجارَةٍ نَصَبَها لَهُ جَعدَةُ بنُ هُبَيرَةَ المَخزومِيُّ ، وعَلَيهِ مِدرَعَةٌ مِن صوفٍ وحَمائِلُ سَيفِهِ ليفٌ ، وفي رِجلَيهِ نَعلانِ مِن ليفٍ ، وكَأَنَّ جَبينَهُ ثَفِنَةُ بَعيرٍ . فَقالَ عليه السلام : الحَمدُ للّهِِ الَّذي إلَيهِ مَصائِرُ الخَلقِ ، وعَواقِبُ الأَمرِ . نَحمَدُهُ عَلى عَظيمِ إحسانِهِ ونَيِّرِ بُرهانِهِ ، ونَوامي فَضلِهِ وَامتِنانِهِ ، حَمداً يَكونُ لِحَقِّهِ قَضاءً ، ولِشُكرِهِ أداءً ، وإلى ثَوابِهِ مُقَرِّبا ، ولِحُسنِ مَزيدِهِ موجِباً . ونَستَعينُ بِهِ استِعانَةَ راجٍ لِفَضلِهِ ، مُؤَمِّلٍ لِنَفعِهِ ، واثِقٍ بِدَفعِهِ ، مُعتَرِفٍ لَهُ بِالطَّولِ ، مُذعِنٍ لَهُ بِالعَمَلِ وَالقَولِ . ونُؤمِنُ بِهِ إيمانَ مَن رَجاهُ موقِناً ، وأنابَ إلَيهِ مُؤمِناً ، وخَنَعَ لَهُ مُذعِناً ، وأخلَصَ لَهُ مُوَحِّداً ، وعَظَّمَهُ مُمَجِّداً ، ولاذَ بِهِ راغِباً مُجتَهِداً . لَم يُولَد سُبحانَهُ فَيَكونَ فِي العِزِّ مُشارَكاً ، ولَم يَلِد فَيَكونَ مَوروثاً هالِكاً . ولَم يَتَقَدَّمهُ وَقتٌ ولا زَمانٌ . ولَم يَتَعاوَرهُ زِيادَةٌ ولا نُقصانٌ ، بَل ظَهَرَ لِلعقُولِ بِما أرانا مِن عَلاماتِ التَّدبيرِ المُتقَنِ وَالقَضاءِ المُبرَمِ . فَمِن شَواهِدِ خَلقِهِ خَلقُ السَّمواتِ مُوَطَّداتٍ بِلا عَمَدٍ ، قائِماتٍ بِلا سَنَدٍ . دَعاهُنَّ
.
ص: 635
فَأَجَبنَ طائِعاتٍ مُذعِناتٍ ، غَيرَ مُتَلَكِّئاتٍ ولا مُبطِئاتٍ . ولَولا إقرارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبوبِيَّةِ وإذعانُهُنَّ بِالطَّواعِيَةِ لَما جَعَلَهُنَّ مَوضِعا لِعَرشِهِ ، ولا مَسكَناً لِمَلائِكَتِهِ ، ولا مَصعَداً لِلكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالعَمَلِ الصّالِحِ مِن خَلقِهِ . جَعَلَ نُجومَها أعلاماً يَستَدِلُّ بِهَا الحَيرانُ في مُختَلِفِ فِجاجِ (1) الأَقطارِ . لَم يَمنَع ضَوءَ نورِهَا ادلِهمامُ سُجُفِ اللَّيلِ المُظلِمِ . ولَا استَطاعَت جَلابيبُ سَوادِ الحَنادِسِ أن تَرُدَّ ما شاعَ فِي السَّمواتِ مِن تَلَألُؤِ نورِ القَمَرِ . فَسُبحانَ مَن لا يَخفى عَلَيهِ سَوادُ غَسَقٍ داجٍ ولا لَيلٍ ساجٍ (2) في بِقاعِ الأَرَضينَ المُتَطَأطِئاتِ ، ولا في يَفاعِ (3) السُّفعِ (4) المُتَجاوِراتِ . وما يَتَجَلجَلُ بِهِ الرَّعدُ في اُفُقِ السَّماءِ ، وما تَلاشَت عَنهُ بُروقُ الغَمامِ ، وما تَسقُطُ مِن وَرَقَةٍ تُزيلُها عَن مَسقَطِها عَواصِفُ الأَنواءِ وَانهِطالُ السَّماءِ ، ويَعلَمُ مَسقَطَ القَطرَةِ ومَقَرَّها ، ومَسحَبَ الذَّرَّةِ ومَجَرَّها ، وما يَكفِي البَعوضَةَ مِن قوتِها ، وما تَحمِلُ الاُنثى في بَطنِها . الحَمدُ للّهِِ الكائِنِ قَبلَ أن يَكونَ كُرسِيٌّ أو عَرشٌ ، أو سَماءٌ أو أرضٌ أو جانٌّ أو إنسٌ ، لا يُدرَكُ بِوَهمٍ ، ولا يُقَدَّرُ بِفَهمٍ . ولا يَشغَلُهُ سائِلٌ ، ولا يَنقُصُهُ نائِلٌ ، ولا يَنظُرُ بِعَينٍ ، ولا يُحَدُّ بِأَينٍ . ولا يُوصَفُ بِالأَزواجِ ، ولا يُخلَقُ بِعِلاجٍ . ولا يُدرَكُ بِالحَواسِّ . ولا يُقاسُ بِالنّاسِ . الَّذي كَلَّمَ موسى تَكليماً ، وأراهُ مِن آياتِهِ عَظيماً . بِلا جَوارِحِ ولا أدَواتٍ ، ولا نُطقٍ ولا لَهَواتٍ . بَل إن كُنتَ صادِقاً أيُّهَا المُتَكَلِّفُ لِوَصفِ رَبِّكَ فَصِف جَبرائيلَ وميكائيلَ وجُنودَ المَلائِكَةِ المُقَرَّبينَ في حُجُراتِ القُدُسِ مُرجَحِنّينَ (5) ، مُتَوَلِّهَةً عُقولُهُم أن يَحُدّوا أحسَنَ
.
ص: 636
الخالِقينَ . فَإِنَّما يُدرَكُ بِالصِّفاتِ ذَوُو الهَيئاتِ وَالأَدَواتِ ، ومَن يَنقَضي إذا بَلَغَ أمَدَ حَدِّهِ بِالفَناءِ ؛ فَلا إلهَ إلّا هُوَ ، أضاءَ بِنورِهِ كُلَّ ظَلامٍ ، وأظلَمَ بِظُلمَتِهِ كُلَّ نورٍ . اُوصيكُم عِبادَ اللّهِ بِتَقوَى اللّهِ الَّذي ألبَسَكُمُ الرِّياشَ (1) وأسبَغَ عَلَيكُمُ المَعاشَ . ولَو أنَّ أحَداً يَجِدُ إلَى البَقاءِ سُلّماً ، أو إلى دَفعِ المَوتِ سَبيلاً ، لَكانَ ذلِكَ سُلَيمانُ بنُ داوُدَ عليه السلام الَّذي سُخِّرَ لَهُ مُلكُ الجِنِّ وَالإِنسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وعَظيمِ الزُّلفَةِ ، فَلَمَّا استَوفى طُعمَتَهُ ، وَاستَكمَلَ مُدَّتَهُ ، رَمَتهُ قِسِيُّ الفَناءِ بِنِبالِ المَوتِ ، وأصبَحَتِ الدِّيارُ مِنهُ خالِيَةً ، وَالمَساكِنُ مُعَطَّلَةً ، ووَرِثَها قَومٌ آخَرونَ ، وإنَّ لَكُم فِي القُرونِ السّالِفَةِ لَعِبرَةً ! أينَ العَمالِقَةُ وأبناءُ العَمالِقَةِ ! أينَ الفَراعِنَةُ وأبناءُ الفَراعِنَةِ ! أينَ أصحابُ مَدائِنِ الرِّسِّ الَّذينَ قَتَلُوا النَّبِيّينَ ، وأطفَؤوا سُنَنَ المُرسَلينَ ، وأحيَوا سُنَنَ الجَبّارينَ ! وأينَ الَّذينَ ساروا بِالجُيوشِ وهَزَموا بِالاُلوفِ . وعَسكَرُوا العَساكِرَ ومَدَّنُوا المَدائِنَ . ومِنها : قَد لَبِسَ لِلحِكمَةِ جُنَّتَها ، وأخَذَها بِجَميعِ أدَبِها مِنَ الإِقبالِ عَلَيها ، وَالمَعرِفَةِ بِها ، وَالتَّفَرُّغِ لَها ؛ فَهِيَ عِندَ نَفسِهِ ضالَّتُهُ الَّتي يَطلُبُها ، وحاجَتُهُ الَّتي يَسأَلُ عَنها ؛ فَهُوَ مُغتَرِبٌ إذَا اغتَرَبَ الإِسلامُ ، وضَرَبَ بِعَسيبِ (2) ذَنَبِهِ ، وألصَقَ الأَرضَ بِجِرانِهِ (3) . بَقِيَّةٌ مِن بَقايا حُجَّتِهِ ، خَليفَةٌ مِن خَلائِفِ أنبِيائِهِ . ثُمَّ قالَ عليه السلام : أيُّهَا النّاسُ ! إنّي قَد بَثَثتُ لَكُمُ المَواعِظَ الَّتي وَعَظَ الأَنبِياءُ بِها اُمَمَهُم ، وأدَّيتُ إلَيكُم ما أدَّتِ الأَوصِياءُ إلى مَن بَعدَهُم ، وأدَّبتُكُم بِسَوطي فَلَم تَستَقيموا . وحَدَوتُكُم بِالزَّواجِرِ فَلَم تَستَوسِقوا (4) . للّهِِ أنتُم ! أ تَتَوَقَّعونَ إماماً غَيري يَطَأُ بِكُمُ
.
ص: 637
الطَّريقَ ، ويُرشِدُكُمُ السَّبيلَ ؟ ألا إنَّهُ قَد أدبَرَ مِنَ الدُّنيا ما كانَ مُقبِلاً ، وأقبَلَ مِنها ما كانَ مُدبِراً ، وأزمَعَ (1) التَّرحالَ عِبادُ اللّهِ الأَخيارُ ، وباعوا قَليلاً مَِن الدُّنيا لا يَبقى بِكَثيرٍ مِنَ الآخِرَةِ لا يَفنى . ما ضَرَّ إخوانَنَا الَّذينَ سُفِكَت دِماؤُهُم وهُم بِصِفّينَ ألّا يَكونُوا اليَومَ أحياءً ؟ يُسيغونَ الغُصَصَ ويَشرَبونَ الرَّنقَ (2) . قَد _ وَاللّهِ _ لَقُوا اللّهَ فَوَفّاهُم اُجورَهُم ، وأحَلَّهُم دارَ الأَمنِ بَعدَ خَوفِهِم . أينَ إخوانِيَ الَّذينَ رَكِبُوا الطَّريقَ ومَضَوا عَلَى الحَقِّ ؟ أينَ عَمّارٌ ؟ وأينَ ابنُ التَّيِّهانِ ؟ وأينَ ذُو الشَّهادَتَينِ ؟ وأينَ نُظَراؤُهُم مِن إخوانِهِمُ الَّذينَ تَعاقَدوا عَلَى المَنِيَّةِ ، واُبرِدَ بِرُؤوسِهِم إلَى الفَجَرَةِ . قالَ : ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى لِحيَتِهِ الشَّريفَةِ الكَريمَةِ فَأَطالَ البُكاءَ ، ثُمَّ قالَ عليه السلام : أوِّهِ عَلى إخوانِيَ الَّذينَ تَلَوُا القُرآنَ فَأَحكَموهُ ، وتَدَبَّرُوا الفَرضَ فَأَقاموهُ ، أحيَوُا السُّنَّةَ وأماتُوا البِدعَةَ . دُعُوا لِلجِهادِ فَأَجابوا ، ووَثِقوا بِالقائِدِ فَاتَّبَعوهُ . ثُمَّ نادى بِأعلى صَوتِهِ : الجِهادَ الجِهادَ عِبادَ اللّهِ ! ألا وإنّي مُعَسكِرٌ في يَومي هذا ؛ فَمَن أرادَ الرَّواحَ إلَى اللّهِ فَليَخرُج ! قالَ نَوفٌ : وعَقَدَ لِلحُسَينِ عليه السلام في عَشَرَةِ آلافٍ ، ولِقَيسِ بنِ سَعدٍ في عَشَرَةِ آلافٍ ، ولِأَبي أيّوبٍ الأَنصارِيِّ في عَشَرَةِ آلافٍ ، ولِغَيرِهِم عَلى أعدادٍ اُخَرَ وهُوَ يُريدُ الرَّجعَةَ إلى صِفّينَ ، فَما دارَتِ الجُمُعَةُ حَتّى ضَرَبَهُ المَلعونُ ابنُ مُلجَمٍ لَعَنَهُ اللّهُ ، فَتَراجَعَتِ العَساكِرُ ، فَكُنّا كَأَغنامٍ فَقَدَت راعيَها تَخَتطِفُهَا الذِّئابُ مِن كُلِّ مَكانٍ . (3)
.
ص: 638
بحث في جذور التخاذلعرفنا في القسم الخامس أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حظي بتأييد شعبي واسع ، ووصل إلى الخلافة عبر انتخابات حرّة ، حتى بلغ من إقبال الناس على بيعته وفرحهم بها أنّه قال في وصفها : «أقبَلتُم إلَيَّ إقبالَ العوذِ المَطافيلِ عَلى أولادِها» . كما قرأنا في هذا الفصل أنّ الجماهير راحت تبتعد عن الإمام تدريجيّاً ولمّا تمضِ مدّة قصيرة على حكمه ، حيث فقد حماية وتأييد أغلبهم ؛ ففي الأيّام الاُولى _ من عهد الإمام السياسيّ _ نقض بعض الناس البيعة فخرجوا مع ثلّة من السبّاقين إلى بيعة الإمام ليثيروا حرب الجمل . على خطٍّ آخر بادر جمع من الشخصيّات المعروفة ذات التأثير الشعبي البارز للالتحاق بمعاوية ، كما انفصل آخرون عن صفّ الإمام وقرّروا اتّخاذ موقف الحياد . هكذا راح يتضاءل التأييد الشعبي لحكم الإمام يوماً بعد آخر ، بحيث لم يفقد الحكم العلوي ذلك التأييد الجماهيري العارم الذي برز في الأيّام الاُولى للبيعة فحسب ، بل انقلب التأييد إلى معارضة! حتى آلَ الأمر في نهاية المطاف إلى أن يعيش الإمام الأشهر الأخيرة من حياته وحيداً وهو يشكو مرارة غربته ، وعصيان أصحابه ، وعدم طاعتهم .
.
ص: 639
إشكاليّة الموضوعتكمن إشكاليّة الموضوع في الأسئلة الأساسيّة التالية : ما هي الأسباب وراء ابتعاد أكثريّة الناس عن الإمام علي عليه السلام ؟ لماذا لم يستطع الإمام أن يحافظ على تأييد أغلبيّة الجمهور لحكمه؟ لماذا حلّت الفرقة بين الجماهير خلال حكم الإمام ، ولم يستطع إيجاد وحدة الكلمة بين صفوف الجماهير التي بايعته؟ لماذا صار الإمام أواخر حياته يبثّ شكواه على الدوام من عدم حماية الناس لحركته الإصلاحيّة ، وهو يقول : «هَيهاتَ أن أطلَعَ بِكُم سَرارَ العدَلِ» ، ويقول : «اُريدُ أن اُداوِيَ بِكُم وأنتُم دائي» ، ويقول : «مُنيتُ بِمَن لا يُطيعُ» ، ويقول : «لا غَناءَ في كَثرَةِ عَدَدِكُم مَعَ قِلَّةِ اجتِماعِ قُلوبِكُم!» ، ويقول : «لَو كانَ لي بِعَدَدِ أهلِ بَدرٍ» ، ويقول : «وَدِدتُ أنّي أبيعُ عَشَرَةً مِنكُم بِرَجُلٍ مِن أهلِ الشّامِ!» . وبكلمة مختصرة : ما هو سبب إدبار عامّة الناس عن الحكم العلوي بعد ذلك الإقبال منقطع النظير الذي حظي به الإمام يوم البيعة؟ أليس في انفضاض الناس عن الإمام وبقائه وحيداً ما يدلّ على عدم إمكانيّة ممارسة الحكم عمليّاً وفق اُصول المنهج السياسي العلوي ، وأنّه لا مكان للمدينة العلويّة الفاضلة إلّا في دنيا الخيال؟ قبل أن نلجأ للإجابة على هذه الأسئلة وبيان أسباب بقاء الإمام وحيداً ، من
.
ص: 640
الضروري الإشارة إلى نقطتين :
1 . دور الخواصّ في التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّةلقد كان للخواصّ على مرّ التأريخ _ ولا يزال _ الدور الأكبر في التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي يشهدها أيّ مجتمع ، فالنخب هي التي تأخذ موقع الجمهور في العادة وتقرّر بدلاً منه ، على حين ليس للجمهور _ في الأغلب _ إلّا اتّباع تلك النخب والانقياد لها . وقد تُرتّب النخبُ المشهد _ أحيانا _ بصيغة بحيث تتوهّم الجماهير أنّها صاحبة القرار! ففي عصرٍ كصدر الإسلام كان لرؤساء القبائل الدور المحوري في التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة . وفي عصرٍ آخر صار ذلك التأثير إلى النخب الفكريّة وقادة الأحزاب . أما في العصر الحاضر فإنّ الذي يتحكّم بالجمهور ويوجّهه ويصوغ قراراته هم كبار المشرفين على الشبكات الخبريّة ، وأجهزة الاتّصال المختلفة ، والقنوات والنظم الإعلاميّة ، وأصحاب الجرائد ، والصحفيّون .
2 . دور أهل الكوفة في حكم الإمام عليه السلاميحتلّ العراق في الجغرافيّة السياسيّة لعصر صدر الإسلام موقع الجسر الذي يربط شرق العالم الإسلامي بغربه ، كما يعدّ مصدراً لتزويد السلطة المركزيّة بما تحتاج إليه من جندٍ وقوّاتٍ عسكريّة . وفي العراق تحظى الكوفة بموقع خاصّ ، وحساسيّة كبرى . لقد مُصِّرت الكوفة عام 17 ه ؛ لتكون مقرّاً للجند ، حيث تقارَنَ تمصير هذه المدينة مع إيجاد معسكرات كبرى للجند . بهذا يتّضح أنّ الكوفة هي قاعدة عسكريّة ، ومن ثمّ فإنّ من يسكنها لم يكن
.
ص: 641
يفكّر بأكثر من القتال والبعوث وفتح البلدان والحصول على الغنائم وغير ذلك ممّا له صلة بهذه الدائرة . لقد كان من سكن الكوفة بعيداً عن المدينة المنوّرة التي تحتضن أكثريّة الصحابة ، كما أنّ تردّد الصحابة على هذا المصر كان قليلاً أيضاً ، إذ سار عمر بسياسةٍ تقضي أن لا يتوزّع الصحابة في الأمصار بل يبقون في المدينة من حوله (1) . على هذا الأساس لم يحظَ الكوفيّون بالمعرفة الدينيّة اللازمة ، وظلّ حظّهم ضئيلاً من تعاليم الشريعة والعلوم الدينيّة . لقد تحدّث عمر صراحةً إلى من رغب من الصحابة قصدَ الكوفة ، ونهاهم عن تعليم الحديث ؛ لئلّا يضرّوا اُنس هؤلاء بالقرآن . (2) هذا وقد برزت في الكوفة طبقة عُرفت ب_ «القرّاء» ، ألّفت فيما بعد البذور التأسيسيّة لتيّار الخوارج . ثم نقطة أساسيّة اُخرى تتمثّل بالنسيج القبائلي الموجود في الكوفة وهيمنة الطباع القبليّة ، وثقافة القبيلة وموازينها على مجتمع الكوفة ، ففي إطار نسيج ثقافيّ كهذا تكون الكلمة الفصل لرئيس القبيلة ، أما البقيّة فهم تبع له ، من دون أن تكون لهم حرّية الاختيار . بضمّ هاتين المقدّمتين لبعضهما نخلص إلى هذه النتيجة : عندما نقول : «إنّ الناس انفضّوا عن الإمام علي عليه السلام وتركوه وحيداً» فما نقصده بذلك هو تخلّي الخواصّ والنخب ورؤساء قبائل الاُمّة الإسلاميّة عنه ، بالخصوص أهل العراق ، وبخاصّة أهل الكوفة .
.
ص: 642
وفيما يلي نعرض دراسة أسباب هذه الظاهرة ، وكيف بقي الإمام وحيداً ، من خلال ما ورد على لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
غربة الإمام عليه السلام على لسانهذكرنا قبل ذلك أنّ الإمام عليّاً عليه السلام استطاع أن يعكس في أيّام حكمه القصير أبهى صورة للحكم القائم على أساس القيم الإنسانيّة . فالنهج العلوي في الحكم لم يكن يستقطب إليه المؤمنين بالقيم الإسلاميّة فحسب ، بل كان _ ولا يزال _ يجذب إلى دائرة نفوذه حتى أولئك الذين لا يدينون بهذه القيم من بني الإنسان . لذلك كلّه لا يمكن أن يكون سبب انفضاض الناس عن الإمام كامناً بخطأ منهجه في الحكم ، بل ثم لذلك أدلّة اُخرى . لقد بيّن الإمام نفسه أسباب إدبار الجمهور عن حكمه بعد أن كانوا أقبلوا عليه ، وكشف بالتفصيل دوافع إحجام المجتمع عن برنامجه الإصلاحي ، كما وضع يده على الجذر الذي تنتهي إليه الاختلافات التي عصفت بالمجتمع ، والاضطرابات التي برزت أيّام حكمه . وفيما يلي نقدّم أجوبة الإمام على هذه النقاط :
1 . تضادّ الإراداتيبرز السبب الأوّل في ابتعاد الناس عن الإمام بذلك الاختلاف الأساسي الذي ظهر بين الرؤى ، والتضادّ المبدئي الذي حصل بين دوافع القوم وأهدافهم ؛ فلم يكن دافع أغلب الذين ثاروا على عثمان _ لاسيما بعض قادة الحركة مثل طلحة والزبير _ هو إعادة المجتمع إلى سيرة النبيّ وسنّته ، واستئناف القيم الإسلاميّة الأصيلة ، بل كان الباعث على ذلك هو ضجر هؤلاء من الاستئثار القبلي والحزبي الذي مارسه بنو اُميّة وفي طليعتهم عثمان . وبذلك لم يكن هدف هؤلاء من قتل عثمان ومبايعة الإمام
.
ص: 643
علي عليه السلام يتخطّى هذه النقطة ، حيث لبثوا بانتظار حلّ الإمام لهذه المشكلة . أمّا الإمام ، فقد كان له في قبول الحكم هدف وباعث آخر ، فقد كان يهدف من وراء الاستجابة أن يعيد المجتمع إلى سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله وسنّته ، ويبادر إلى إحياء القيم الإسلاميّة ، ويطلق حركة إصلاحيّة عميقة وواسعة في المجتمع والدولة تطال جميع المرافق الإداريّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة . وخلاصة الكلام أنّ مطامح الجمهور كانت شخصيّة ، وما يريده الإمام كان إلهيّاً . فبينما كانت الناس تدور حول منافعها الشخصيّة ، كان الإمام يسعى إلى استئناف القيم الإسلاميّة وتطبيقها . وهذا ما أشار إليه بقوله عليه السلام : «ولَيسَ أمري وَأمرُكُم واحِدَاً ؛ إنّي اُريدُكُم للّهِِ ، وأنتُم تُريدونَني لِأَنفُسِكُم» . (1) في أجواء كهذه ، عندما لمس الناس أنّ الإمام لا يتواءم وإيّاهم في الهدف ، راحوا يتخلّون عن مساندته . ثمّ بمرور الزمان ، وكلّما اتّضحت دوافع الإمام في العمل أكثر راح تأييد الناس يتضاءل ، وتتّسع الفجوة بينهم وبين الإمام .
2 . خيانة الخواصّ وتبعيّة العواملقد كان لرؤساء القبائل في العهد العلوي الدور الأبرز في اتّخاذ القرار ، والتأثير على أغلبيّة الجمهور . ولم تؤتِ جهود الإمام ثمارها المرجوّة على صعيد الارتقاء بهؤلاء فكريّاً ، من خلال تصحيح نظرتهم إلى الحقّ ، بحيث يعرفون الحقّ بمعيار الحقّ ، لا بمعيار الرجال الذين يَكنّون لهم الاحترام . لقد صارت هذه الأجواء _ التي تقف حائلاً صلباً دون تحقّق الإصلاحات الأساسيّة _ تلقي في نفس الإمام الألم والمضاضة .
.
ص: 644
وممّا جاء عن الإمام في تحليل هذا الفضاء الاجتماعي الذي يبعث على الملالة ، قوله عليه السلام : «النّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعالِمٌ رَبّانِيٌّ ، ومُتَعَلِّمٌ عَلى سَبيلِ نَجاةٍ ، وهَمَجٌ رَعاعٌ ؛ أتباعٌ كُلِّ ناعِقٍ ، يَميلونَ مَعَ كُلِّ ريحٍ ، لَم يَستَضيئوا بِنورِ العِلمِ ، ولَم يَلجَؤوا إلى رُكنٍ وَثيقٍ» . (1) يقسّم هذا النص العلوي الناسَ في انتخاب طريق الحياة إلى ثلاثة أقسام ، هي : القسم الأوّل : العلماء الذين عرفوا طريق الحياة الصحيح ، حيث يطلق الإمام على هؤلاء وصف «العالم الربّاني» . القسم الثاني : هم ذلك الفريق من الناس الذي يسعى لمعرفة الطريق الصحيح ، ويتحرّك باتّجاه معرفة الحقّ ، وهؤلاء في الوصف العلوي «متعلّمون على سبيل نجاة» . أمّا القسم الثالث فلا هو بالذي يعرف الطريق الصحيح للحياة ، ولا هو يبذل سعيه في سبيل معرفته ، بل يتمثّل معياره في اتّخاذ القرار واختيار النهج الذي يسلكه بالتقليد الأعمى للخواصّ ، واتّباع الشخصيّات دون بصيرة ، وهؤلاء هم «الهمج الرعاع» . إنّ معنى «الهمج» هو الذباب الصغير الذي يحطّ على وجه الغنم أو الحمير ، و«الرعاع» بمعنى الأحمق والتافه الذي لا قيمة له . فشبّه التحليل العلوي أولئك الذين لا يعرفون طريق الحياة الصحيح ، ولا يسمحون لأنفسهم بالتفكير به ، بل غاية حظّهم اتّباع الآخرين اتّباعاً أعمى ، شبّههم بالذباب ؛ إذ هم يحيطون بجاهلٍ أكبر منهم يستمدّون منه ، وهو يغذوهم! إنّ أمثال هؤلاء لا يتمتّعون بقاعدة فكريّة وعقيديّة متينة ، وهم يتّبعون الغيرمن
.
ص: 645
دون تفحّص لكونه حقّا أو باطلاً ، بل يتّبعونه لمحض كونه رئيس قبيلة ، أو قائد حزب ، أو شخصيّة تحظى بالاحترام بالنسبة إليهم ، فهم كالذباب تماماً ؛ كلّما تحرّكت الريح من جانب تحرّك معها . والذي يبعث على ألم الإمام وتوجّعه أنّ أغلب من يعاصره من الناس كان من القسم الثالث . فقد كان عليٌّ يعيش وسط جمهور ليس من أهل المعرفة والتشخيص ، ولا هو ممن يتحرّى المعرفة ويتحرّك في مسار البحث والتحقيق . بيد أن الأمضّ على الإمام في ذلك كلّه أنّه عليه السلام قلّما كان يعثر على من يباثّه همومه ، ويتحدّث إليه بمثل هذه المصائب الاجتماعيّة . أجل ، لم يكن مع عليّ من يستطيع أن يُفصح له بحقيقة من يعيش معهم ، وعلامَ يمارس حكمه . وعندما أراد مرّة أن يُفصح بخبيئة نفسه لكميل بن زياد _ وهو من خواصّه وممّن يطيق سماع تحليله المتوجّع للوضع القائم _ تراه أخذ بيده ، وصار به إلى الصحراء ، وبالحزن الممزوج بالألم أشار إليه أنّه لا يستطيع أن يتحدّث بهذا الكلام لكلّ أحد ؛ لعدم قدرة الجميع على تحمّله ، وأنّه كلما حظي الإنسان بقاعدة فكريّة أكبر واُفق معنوي أوسع ، كان ذا قيمة أكثر ، ثمّ بعد ذلك حدّثه بسرّ انفضاض الناس عن نهجه ، وانكفائهم عنه ، وتنكّبهم عن برنامجه الإصلاحي ، حيث ذكر له أنّ المشكلة الأساسيّة في ذلك تعود إلى جهل الناس ، واتّباعهم الأعمى للخواصّ ممن هو خائن أو جاهل .
إتمام الحجّة على الخواصّ والعوامّإنّ ما ذكره الإمام مجملاً إلى كميل بن زياد _ في الصحراء _ من خطر خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام ، وما كان قد أشار إليه بهذا الشأن في مجلس خاصّ جمع فيه عدّة من المقرّبين والأتباع المخلصين ، عاد لاستعراضه تفصيلاً أمام جمهور
.
ص: 646
الناس في خطبة طويلة ألقاها في الأشهر الأخيرة من حكمه ، حيث أتمّ بذلك الحجّة على الخواصّ والعوامّ معاً . لقد استعرض الإمام في كلامه هذا _ الذي حمل عنوان «الخطبة القاصعة» والتي أدلى بها بعد معركة النهروان كما يتّضح من متنها _ نقاطاً أساسيّة على غاية قصوى من الأهميّة ترتبط بمعرفة المجتمع المعاصر له ، وعلل انكسار النهضات الدينيّة قبل الإسلام ، ثم ما يتصل بالتنبؤ بمستقبل المسلمين ومآل الإسلام .
تحذير للخواصّفي هذا الخطاب وبعد أن عرّج الإمام على المصير الذي آل إليه إبليس بعد ستّة آلاف سنة من العبادة ، انعطف إلى النخب التي لها في خدمة الإسلام سابقة مشرقة ، وراح يحذّرها من أن تؤول إلى المصير نفسه ، وهو يقول : «فَاحذَروا _ عِبادَ اللّهِ _ عَدُوَّ اللّهِ أن يُعدِيَكُم بِدائِهِ ، وأن يَستَفِزَّكُم بِنِدائِهِ!» . ولكي لا تُبتلى الاُمة بهذا المصير يتحتّم عليها أن تكفّ عن العصبيّة ، وأحقاد الجاهليّة ، وعن التكبّر ، فقال عليه السلام : «فَأَطفِئوا ما كَمَنَ في قُلوبِكُم مِن نيرانِ العَصَبِيَّةِ ، وأحقادِ الجاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّما تِلكَ الحَمِيَّةُ تَكونُ فِي المُسلِمِ مِن خَطَراتِ الشَّيطانِ ، ونَخَواتِهِ ، ونَزَعاتِهِ ، ونَفَثاتِهِ . وَاعتَمِدوا وَضعَ التَّذَلُّلِ عَلى رُؤوسِكُم ، وإلقاءِ التَّعَزُّزِ تَحتَ أقدامِكُم ، وخَلعَ التَّكَبُّرِ مِن أعناقِكُم» .
تحذير للعواموفي إدامة خطابه راح الإمام يركّز بكثافة على جماهير الناس ، وهو يحذّرها من السادة والكبراء ، فلو أنّ اُولئك لم ينثنوا عن علوّهم وتكبّرهم فلا ينبغي للجمهور أن يتّبعهم ، ويكون أداة يستغلّها الكبراء في تحقيق أهدافهم اللامشروعة .
.
ص: 647
ثم ألفتَ نظر الجماهير إلى أن جميع الفتن وضروب الفساد تنبع من تلكم الرؤوس فقال : «ألا فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِن طاعَةِ ساداتِكُم وكُبَرائِكُمُ الَّذينَ تَكَبَّروا عَن حَسَبِهِم ، وتَرَفَّعوا فَوقَ نَسَبِهِم . . . ؛ فَإِنَّهُم قَواعِدُ العَصَبِيَّةِ ، ودَعائِمُ أركانِ الفِتنَةِ . . . وهُم أساسُ الفُسوقِ ، وأحلاسُ العُقوقِ ، اتَّخَذَهُم إبليسُ مَطايا ضَلالٍ ، وجُنداً بِهِم يَصولُ عَلَى النّاسِ» . وبعد أن انتهى الإمام من بيان عدد من المقدّمات الضروريّة في هذا المجال ، انعطف إلى بحث أخلاقي سياسي مهمّ ، وهو يتحدث عن الامتحانات الإلهيّة الصعبة ودورها في تربية الإنسانيّة ، فقد أكّد أنّ فلسفة ما يلاقيه الإنسان من ضروب المحن والمصائب وما يعانيه من مشاقّ الحياة ، هي عين حكمة الصلاة والصوم والزكاة ، حيث أنّها تهدف أيضاً إلى بناء الإنسان معنويّاً ، وتزكيته من الرذائل الخلقيّة ، بالأخصّ الأثرة والكبر والغرور . ثم دعا الناس أن يعتبروا بمصير النهضات الدينيّة التي سبقت الإسلام ، وما آلت إليه من انكسار إثر الفرقة والاختلاف ، فحذّرهم أن لا يجرّ كِبرُ الخواصّ وعلوّهم واتّباع العوامّ الحكومةَ الإسلاميّة إلى مصير مماثل لما انتهت إليه النهضات السابقة . وعند هذه النقطة راح الإمام يدقّ أجراس الخطر بصراحة ، وهو يتمّ الحجة على الخواصّ والعوامّ معاً ، بقوله لهم : «ألا وإنَّكُم قَد نَفَضتُم أيدِيَكُم مِن حَبلِ الطّاعَةِ ، وثَلَمتُم حِصنَ اللّهِ المَضروبَ عَلَيكُم ، بِأَحكامِ الجاهِليَّةِ . . . وَاعلَموا أنَّكُم صِرتُم بَعدَ الهِجرَةِ أعراباً ، وبَعدَ المُوالاةِ أحزاباً ؛ ما تَتَعَلَّقونَ مِنَ الإِسلامِ إلّا بِاسمِهِ ، ولا تَعرِفونَ مِنَ الإيمانِ إلّا رَسمَهُ . . . ألا وإنَّكُم قَد قَطَعتُم قَيدَ الإِسلامِ ، وعَطَّلتُم حُدودَهُ ، وأمَتُّم أحكامَهُ» . (1)
.
ص: 648
3 . العدالة في التوزيعتكمن إحدى أهمّ أسباب ابتعاد الخواصّ عن الإمام والتفاف العوام حوله بسياسة العدالة الاقتصاديّة . لطالما حضّ المقرّبون إلى الإمام أن يغضّ الطرف عن هذا النهج ، ليستحوذ على ولاء رؤساء القبائل ، ويستقطب إليه نفوذ الشخصيّات البارزة من خلال منحهم مزايا ماديّة خاصّة . بيدَ أنّ الإمام كان يرى أنّ هذا العرض يتنافى مع اُصول الحكم العلوي ، ويتعارض مع مرتكزاته ، ومن ثمّ فإنّ العمل به معناه أن ينفض الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يديه عن أهداف الحكم الإسلامي ، ويتخلّى عن غاياته . لذلك لم يُبدِ استعداداً لقبوله . فيما يلي أمثلة لهذه العروض مقرونة بجواب الإمام عليها : 1 . جاء في كتاب الغارات : شَكَا عَلِيٌّ عليه السلام إلَى الأشتَرِ فِرارَ النّاسِ إلى مُعاوِيَةَ ، فَقالَ الأشتَرُ : يا أمِيرَ المُؤمِنينَ ، إنّا قَاتَلنَا أهلَ البَصرَةِ بِأَهلِ البَصرَةِ وَأَهلَ الكُوفَةِ ، وَالرَّأيُ وَاحِدٌ ، وَقَد اختَلَفُوا بَعدُ ، وَتَعادَوا ، وَضَعُفَتِ النِّيّةُ ، وَقَلَّ العَدلُ ، وَأنتَ تَأخُذُهُم بِالعَدلِ ، وَتَعمَلُ فِيهِم بِالحَقِّ ، وَتُنصِفُ الوَضِيعَ مِنَ الشَّريفِ ، وَلَيسَ لِلشَّريفِ عِندَكَ فَضلُ مَنزِلَةٍ عَلَى الوَضِيعِ ، فَضَجَّت طائِفَةٌ مِمَّن مَعَكَ عَلَى الحَقِّ إذ عُمُّوا بِهِ ، وَاغتَمُّوا مِنَ العَدلِ إذ صارُوا فيهِ ، وَصارَت صَنائِعُ مُعاوِيَةَ عِندَ أهلِ الغِنى وَالشَّرَفِ ، فَتاقَت أنفُسُ النَّاسِ إلَى الدُّنيا ، وَقَلَّ مِنَ النّاسِ مَن لَيسَ لِلدُّنيا بِصاحِبٍ ، وَأكثَرُهُم مَن يَجتَوي الحَقَّ ، وَيَستَمرِي الباطِلَ ، وَيُؤثِرُ الدُّنيا . فإن تَبذُلِ المَالَ يا أمِيرَ المُؤمِنينَ تَمِل إلَيكَ أعناقُ النّاسِ ، وَتَصفُ نَصِيحَتُهُم ، وَتَستَخِلص وُدُّهم . صَنَعَ اللّهُ لَكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، وَكَبَتَ عَدُوَّكَ ، وَفَضَّ جَمعَهُم ، وَأوهَنَ كَيدَهُم ، وَشَتَّتَ اُمورَهُم ، إنَّهُ بِما يَعمَلُونَ خَبِيرٌ .
.
ص: 649
فَأَجَابَهُ عَلِيٌ عليه السلام ، فَحَمِدَ اللّهَ وَأثنى عَلَيهِ ، وَقالَ : أمّا مَا ذَكَرتَ مِن عَمَلِنا وَسِيرَتِنا بِالعَدلِ ، فَإِنَّ اللّهَ يَقُولُ : «مَّنْ عَمِلَ صَ__لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَ مَا رَبُّكَ بِظَ_لَّ_مٍ لِّلْعَبِيدِ» (1) وَأَنَا مِن أن أكُونَ مُقَصِّراً فيما ذَكَرتَ أخوَفُ . وَأمّا مَا ذَكَرتَ مِن أنَّ الحَقَّ ثَقُلَ عَلَيهِم فَفارَقُونا لِذلِكَ ، فَقَد عَلِمَ اللّهُ أنَّهُم لَم يُفارِقُونا مِن جَورٍ ، وَلَم يُدعَوا إذ فارَقُونا إلى عَدلٍ ، وَلَم يَلتَمِسُوا إلّا دُنَياً زَائِلَةً عَنهُم كَأَن قَد فَارَقُوها ، وَلَيُسأَلُنَّ يَومَ القِيَامَةِ : ألِلدُّنيا أرادُوا أم للّهِِ عَمِلُوا؟ وَأَمَّا مَا ذَكَرتَ مِن بَذلِ الأَموالِ وَاصطِناعِ الرِّجَالِ ، فَإِنّا لا يَسَعُنا أن نُؤتِيَ أمرَأً مِنَ الفَيءِ أكثَرَ مِن حَقِّهِ ، وَقَد قَالَ اللّهُ وَقُولُهُ الحَقُّ : «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّ_بِرِينَ» . (2) وَبَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وَحدَهُ فَكَثَّرَهُ بَعدَ القِلَّةِ ، وَأعَزَّ فِئَتَهُ بَعدَ الذِّلَّةِ ، وَإن يُرِدِ اللّهُ أن يُوَلِّينَا هذَا الأَمرَ يُذَلِّل لَنَا صَعبَهُ ، وُيُسَهِّل لَنَا حَزنَهُ (3) . وَأَنا قابِلٌ مِن رَأيِكَ مَا كَانَ للّهِِ رِضَىً ، وَأنتَ مِن آمِنِ أصحابِي ، وَأوثَقِهِم فِي نَفسِي ، وَأنصَحِهِم وَأَرآهُم عِندِي . (4) 2 . وفي الكتاب نفسه روى عن ربيعة وعمّارة ما نصّه : إِنَّ طائِفَةً مِن أصحابِ عَلِيٍ عليه السلام مَشَوا إلَيهِ فَقالُوا : يا أمِيرَ المُؤمِنينَ ، أعطِ هذِهِ الأَموالَ ، وَفَضِّل هؤُلاءِ الأَشرافَ مِنَ العَرَبِ وَقُرَيشَ عَلَى المَوالِيِّ وَالعَجَمِ ، وَمَن تَخافُ خِلافَهُ مِنَ النّاسِ وَفِرارَهُ . قالَ : وَإنَّما قالُوا لَهُ ذلِكَ لِلَّذِي كانَ مُعاوِيَةُ يَصنَعُ مَن أَتاهُ . فَقالَ لَهُم عَلِيٌّ عليه السلام : أَتَأمُرونِي أَن أَطلُبَ النَّصرَ بِالجَورِ ؟ ! وَاللّهِ لا أَفعَلُ ما طَلَعَت
.
ص: 650
شَمسٌ ، وَما لاحَ فِي السَّماءِ نَجمٌ . وَاللّهِ ، لَو كانَ ما لُهُم لِي لَواسَيتُ بَينَهُم ، فَكَيفَ وَإِنَّما هِيَ أموالُهُم ؟ ! . (1) 3 . بعث سهل بن حنيف _ والي الإمام على المدينة _ رسالة إليه ، يخبره فيها أنّ جمعاً من أهل المدينة التحق بمعاوية . فكتب الإمام في جوابه : «أمّا بَعدُ ، فَقَد بَلَغَني أنَّ رِجالاً مِمَّن قِبَلَكَ يَتَسَلَّلونَ إلى مُعاوِيَةَ ، فَلا تَأسَف عَلى ما يَفوتُكَ مِن عَدَدِهِم ، ويَذهَبُ عَنكَ مِن مَدَدِهِم ، فَكَفى لَهُم غَيّاً ولَكَ مِنهُم شافِياً فِرارُهُم مِنَ الهُدى وَالحَقِّ ، وإيضاعُهُم إلَى العَمى وَالجَهلِ ، وإنَّما هُم أهلُ دُنيا مُقبِلونَ عَلَيها ، ومُهطِعونَ إلَيها ، وقَد عَرَفُوا العَدلَ ورَأَوهُ ، وسَمِعوهُ ووَعَوهُ ، وعَلِموا أنَّ النّاسَ عِندَنا فِي الحَقِّ اُسوَةٌ ، فَهَربوا إلَى الأَثَرَةِ ، فَبُعداً لَهُم وسُحقاً!! إنَّهُم _ وَاللّهِ _ لَم يَنفِروا مِن جَورٍ ، ولَم يَلحَقوا بِعَدلٍ ، وإنّا لَنَطمَعُ في هذَا الأَمرِ أن يُذَلِّلَ اللّهُ لَنا صَعبَهُ ، ويُسَهِّلَ لَنا حَزنَهُ ، إن شاءَ اللّهُ . وَالسَّلامُ» . (2)
4 . تجنّب القوّة في إجراء الأحكامالمدرسة الاُمويّة ترى أنّ الهدف يوجّه الوسيلة ، بحيث يستطيع السياسي أن يستفيد من الأدوات اللامشروعة في سياساته وبرامجه وأوامره . ومن ثمّ فإنّ القائد ليس له أن يضلّل الجمهور بلغة التطميع فحسب ، بل له أيضاً أن يفرض نفسه عليه عبرَ استخدام لغة التهديد والتوسّل بالقوّة . ولقد استطاع معاوية من خلال توظيف هذه السياسة أن يحافظ على التفاف الناس حوله . وربما كان يستطيع أن يحافظ على المصالح الوطنيّة للشام من خلال
.
ص: 651
هذا النهج . بيد أن الأمر يختلف في المدرسة العلويّة التي لا تُجيز توظيف الأدوات غير المشروعة في تنفيذ السياسات المطلوبة ؛ وعندئذ لا يستطيع القائد أن يتوسّل بلغة التطميع لتنفيذ الحكم ، كما لا يستطيع أن يستخدم لغة التهديد مع الناس . وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام عليه السلام على استعداد أن يجبر الناس على طاعته بالقوّة ؛ فعندما أجبره الجُند في حرب صفّين على إيقاف القتال والإذعان إلى التحكيم ، قال : «ألا إنّي كُنتُ أميرَ المُؤمِنينَ ، فَأَصبَحتُ اليَومَ مَأموراً ، وكُنتُ ناهِياً ، فَأَصبَحتُ مَنهِيّاً ، وقَد أحبَبتُمُ البَقاءَ ولَيسَ لي أن أحمِلَكُم عَلى ما تَكرَهونَ» . على هذا الضوء لا يستطيع الحكم العلوي تحقيق مراميه الإصلاحيّة إلّا على أساس الاختيار الشعبي الحرّ لبرامج الإمام بهذا الشأن ، وإلّا فالإمام لا يرى نفسه مخوّلاً باستخدام منطق القوّة والتوسّل بالسيف لإجبار الناس على طاعته ، فالجمهور سوف ينتخب الطريق الذي يريده هو . وبعبارة اُخرى : إنّ إحدى أجوبة الإمام على هذا التساؤل : لماذا ترك الناسُ الإمامَ وحيداً؟ هو : إنّني لستُ على استعداد أن اُجبر هؤلاء على الطاعة بمنطق السيف ؛ فهذا الاُسلوب وإن كان يحلّ مشكلة الحكم مؤقّتاً ، إلّا أنّ هذا الحكم لن يغدو بعدئذ حكماً علويّاً! لقد تكرّر هذا المعنى في كلام الإمام ، ففي خطاب لأهل الكوفة ، قال بعد أن بثّ شكواه منهم : «يا أهلَ الكوفَةِ ! أتَرَوني لا أعلَمُ ما يُصلِحُكُم؟! بَلى ، ولكِنّي أكرَهُ أن اُصلِحَكُم بِفَسادِ نَفسي» . (1) وكما قال مرّة اُخرى : «ولَقَد عَلِمتُ أنَّ الَّذي يُصلِحُكُم هُوَ السَّيفُ ، وما كُنتُ
.
ص: 652
مُتَحَرِّياً صَلاحَكُم بِفَسادِ نَفسي ، ولكِن سَيُسَلَّطُ عَلَيكُم بَعدي سُلطانٌ صَعبٌ» . (1) يوجّه الإمام في هذا الكلام خطابه إلى اُولئك الذين أساؤوا استخدام أجواء الحرّيّة في ظلال حكمه ، وصاروا يتمرّدون على طاعته ؛ بأنّني أستطيع كبقيّة السياسيّين المحترفين أن أضطرّكم إلى إطاعتي ، وبمقدوري أن أقوِّم أودَكم ببساطة من خلال القوّة وعبر منطق السيف ؛ بيدَ أنّني أربأ بنفسي أن اُقدم على ذلك ؛ لأنّ إصلاح أمركم بالسيف ومنطق القوّة لا يكون إلّا بالتضحية بقيمي الأخلاقيّة ، وهذا الثمن يتنافى مع فلسفة حكمي . لكن اعلموا بأنّ المستقبل يُخبئ لكم في أحشائه آتياً عظيماً! فبسلوككم هذا إنّما توطّئون لأنفسكم نازلة قومٍ لا يحكمونكم إلّا بالسيف ، ولا يتحدّثون إليكم إلّا بمنطق القوّة ، ولا يعرفون بكم الشفقة! لقد خاطب الإمام أولئك بقوله عليه السلام : «لا يَصلُحُ لَكُم يا أهلَ العِراقِ إلّا مَن أخزاكُم وأخزاهُ اللّهُ!» . (2)
تحقّق نبوءة الإمام عليه السلامهكذا مضى عليّ عليه السلام مظلوماً من بين الناس ؛ وبتعبيره : «إن كانَتِ الرَّعايا قَبلي لَتَشكو حَيفَ رُعاتِها ، وإنَّنِي اليَومَ لَأَشكو حَيفَ رَعِيَّتي» . (3) لقد أوضح للاُمّة أنّ هضم الرعيّة لحقوق الوالي العادل لا يقلّ في تبعاته الخطرة على المجتمع عن عمل الوالي الظالم ، وهو يقول : «وإذا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ واِلَيها ، أو أجحَفَ الوالي بِرَعِيَّتِهِ ، اختَلَفَت هُنالِكَ الكَلِمَةُ ، وظَهَرَت مَعالِمُ الجَورِ ، وكَثُرَ الإِدغالُ فِي الدّينِ ، وتُرِكَت مَحاجُّ السُّنَنِ ، فَعُمِلَ بِالهَوى ، وعُطِّلَتِ الأَحكامُ ، وكَثُرَت عِلَلُ
.
ص: 653
النُّفوسِ ، فَلا يُستَوحَشُ لِعَظيمِ حَقٍّ عُطِّلَ ، ولا لِعَظيمِ باطِلٍ فُعِلَ ، فَهُنالِكَ تَذِلُّ الأَبرارُ ، وتَعِزُّ الأَشرارُ ، وتَعظُمُ تَبِعاتُ اللّهِ سُبحانَهُ عِندَ العِبادِ» . (1) لم تلبث الأمّة بعد استشهاد الإمام إلّا أربعة وثلاثين عاماً حتّى تحقّقت نبوءته فيها . ففي عهد خلافة عبد الملك بن مروان خرجت على الحكومة المركزيّة من جهة الأهواز جماعة من الخوارج يطلق عليها الأزارقة ، ولم تكن ثَمَّ منطقة يمكن أن يُبعث منها جند لمواجهة هؤلاء غير الكوفة ، لكنّ أهل الكوفة لم يذعنوا لذلك ، ولم يستجيبوا لرغبة الحكم ، ولم يعبؤوا به . بادر عبد الملك إلى عقد مجلس ضمَّ الخواصّ والمقرّبين لمعالجة المشكلة وتدبّر الحلّ ، فاستنهضهم ضمن خطابٍ حماسي ، قائلاً : «فمن ينتدب لهم منكم بسيفٍ قاطع ، وسنان لامع!» ، فخيّم الصمت على الجميع ، ولم يَنبِس أحدهم ، إلّا الحجّاج بن يوسف _ الذي كان قد انتهى لتَوّه من مهمّة في مكّة قضى فيها على حركة عبد اللّه بن الزبير _ فنهض من مكانه وأبدى استعداده للمهمّة . بيدَ أنّ عبد الملك لم يرضَ ، وطلب منه الجلوس . وفي إطار حديثه عن كيفيّة إرسال الجند إلى الأهواز توجّه عبد الملك مجدّداً إلى القوم طالباً من الحضور أن يذكروا له أكفأ الرجال أميراً على العراق ، ومن يكون قائداً للجيش الذي سيقود المعركة مع الأزارقة ، وهو يقول : ويلكم! مَن للعراق؟ فصمتوا ، وقام الحجّاج ثانية ، وقال : أنا لها . الطريف في الأمر أنّ عبد الملك التفت هذه المرّة إلى الحجّاج مستوضحاً عن الوسيلة التي يلجأ إليها في دفع الناس لطاعته ، حيث سأله نصّاً : إنّ لكلّ أمير آلة وقلائد ، فما آلتك وقلائدك؟
.
ص: 654
أوضح الحجّاج لعبد الملك أنّه سيلجأ إلى القوّة واستعمال السيف لإجبار الناس على الطاعة ، وأنّه لن يوفِّر جهداً في استغلال سياسة التهديد والترغيب وتوظيفها بأقصى مداها حتى يقضي على جميع المناوئين ، معبِّراً عن هذا النهج بقوله : «فمن نازعني قصمته ، ومن دنا منّي أكرمته ، ومن نأى عنّي طلبته ، ومن ثبت لي طاعنته ، ومن ولّى عنّي لحقته ، ومن أدركته قتلته . . . إنّ آلتي : ازرع بدرهمك مَن يواليك ، واحصد بسيفك مَن يعاديك» . وافق عبد الملك على هذا النهج ، وكتب للحجّاج عهده على العراقين أعني الكوفة والبصرة سنة (74) للهجرة . أمّا الحجّاج فكان أوّل ما نطق به في أوّل لقاء جمعه مع أهل الكوفة ، قوله لهم : «إنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ، وإنّي لصاحبها ، وكأنّي أنظر إلى الدماء ، وإنّها لترقرق بين العمائم واللحى . . . واعلموا أنّي لا أعِد إلّا وفيت ، ولا أقول إلّا أمضيت ، ولا أدنو إلّا فهمت ، ولا أبعد إلّا سمعت ، فإيّاكم وهذه الهنات والجماعات والبطالات ، وقال وقيل وماذا يقول ، وأمر فلان إلى ماذا يؤول . وما أنتم يا أهل العراق ويا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! وإنّما أنتم أهل قرية «كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَ قَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (1) . . . ؛ ألا إنّ سيفي سيروى من دمائكم ، ويفري من جلودكم ، فمن شاء فليحقن دمه» . (2) لقد أدرك الناس من خلال القسوة التي أبداها الحجّاج منذ اليوم الأوّل لعهده أنّه جادّ في تنفيذ سياسته ، حازم في العمل بما يقول . وحيث كان ذاك فقد أمر في اليوم
.
ص: 655
الثاني مناديه أن يطوف في سكك الكوفة وطرقها ، وهو يقرأ على الناس : «ألا إنّنا قد أجّلنا من كان من أصحاب المهلّب ثلاثاً ، فمن أصبناه بعد ذلك فعقوبته ضرب عنقه» . لكي يضمن الحجّاج تنفيذ أمره دعا حاجبه زياد بن عروة وصاحب شرطته ؛ وأمرهما أن يطوفا في سكك المدينة وطرقها مع عدد من الجند ؛ يشرفان على خروج الناس إلى القتال ، ومن أبى أو تأخّر عن النفير ضربت عنقه . هكذا التحق بالمهلّب بن أبي صفرة قائد الجيش الذي خرج لحرب الأزارقة جميع من كان معه بادئ الأمر ، وعادوا إليه بعد أن كانوا تركوه وحيداً ، دون أن يتخلّف أحد . (1) لقد استطاع عبد الملك بن مروان إسكات جميع المعارضين والقضاء على الخارجين عليه من خلال الاتكاء إلى سياسة البطش والإرهاب هذه ، وإجرائها في جميع أمصار العالم الإسلامي ، حتى بلغ من أمره أنّه خرج إلى مكّة حاجّاً سنة (75) وهو مطمئنّ البال . قال اليعقوبي بهذا الشأن : «ولما استقامت الاُمور لعبد الملك ، وصلحت البلدان ، ولم تبق ناحية تحتاج إلى صلاحها والاهتمام بها ، خرج حاجّاً سنة 75» . (2) أجل ، هذه هي الإصلاحات التي يكون ثمنها فساد المُصلح . والإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن على استعداد أن يصلح المجتمع بهذه الطريقة ، فعليّ لا يستطيع أن يميل إلى نهج يحلّ مشكلة الحكم من خلال التضحية بالقيم الإنسانيّة . ولو حصل ذلك لن تكون عندئذٍ ثمّ حاجة إلى بعث الأنبياء وإلى القادة الإلهيّين ،
.
ص: 656
ومن ثمّ ليس هناك حاجة إلى قيادة عليّ عليه السلام بالأساس ، بل لن يكون للحكم العلوي من معنى ، إنّما يغدو شعاراً بلا مفهوم ؛ لأنّ في وسع الجميع ممارسة الحكم بهذه الطريقة ، كما تَمَّ ذلك فعلاً ، حيث مارسوا الحكم قروناً باسم الإسلام . وأمّا الحكم العلوي فإنّ الأصالة فيه للقيم ، وعلى هذا لم يكن الإمام علي عليه السلام على استعداد للتضحية بالقيم الإنسانيّة والإسلاميّة مهما كان الثمن . وإنّ الحكم الذي يجعل القيم فداءً لمصالح الحكم والحاكمين هو حكم اُموي ، وليس علويّاً ولا إسلاميّاً وإن توارى خلف اسم علي والإسلام! بديهيّ لم يعد لسياسة القوّة ولغة السيف وقعٌ ولا تأثير يذكر في العالم المعاصر . فقد راحت الأدوات العسكريّة تفقد فاعليتها بالتدريج ، واكتشف الحكّام والساسة وسائل جديدة لممارسة السلطة على أساس النهج الاُموي ؛ فالوسائل صارت أكثر تعقيداً ممّا كانت عليه في الماضي ، وأفدح خطراً في هتك القيم الإنسانيّة ووأدها ، ومن بين ذلك برز برنامج «الإصلاح الاقتصادي» الذي يضحّي بالعدالة الاجتماعيّة ، ويأتي تطبيقه على أساس تدمير الطبقات الضعيفة في الهرم الاجتماعي والقضاء عليها .
5 . العوامل الجانبيّةيمثِّل ما ذكرناه حتى الآن العوامل الأساسيّة لتخاذل الناس وبقاء الإمام وحده آخر أيّام حكمه . وهناك مجموعة اُخرى من العوامل هي وإن لم تكن بمستوى هذه تأثيرا ، إلّا أنّه لا يمكن الإغضاء عن الدور الذي ساهمت به في إبعاد الجماهير عن الإمام . سنطلق على المجموعة الثانية وصف العوامل الجانبيّة التي اصطفّت إلى جوار العوامل الأساسيّة ، وراحت تخلق المشكلات لحكم الإمام ؛ وهي :
.
ص: 657
أ _ شُبهة قتال أهل القبلةانطلقت المواجهة في جميع الحروب التي سبقت العهد العلوي مع الكفّار ، بحيث لم يكن بمقدور أحد أن يثير شبهة في هذا المجال . أمّا الحروب التي اندلعت في ظلّ حكم الإمام ، وتحرّكت في مسار إصلاح المجتمع الإسلامي ومن أجل إعادته إلى ظلال سيرة النبي صلى الله عليه و آله وسنّته ، فقد وقعت مع أهل القبلة . لقد انطلقت هذه الحروب في مواجهة اُناسٍ يدّعون الانتماء إلى الإسلام أيضاً ، بل لبعضهم سوابق مشرقة في خدمة هذا الدين . من هنا كان النبيّ صلى الله عليه و آله قد أطلق في تنبّؤاته على هذه الحروب صفة القتال على أساس تأويل القرآن . أجل ، لقد هيّأت حروب أهل القبلة التي اشتعلت في أيّام حكم الإمام الأرضيّةَ المناسبة لإيجاد الشبهة ، وانفصال الناس عن الإمام ، ومنابذتهم له . وعلى هذا الأساس اختارت شخصيّات بارزة موقفها منذ البدء في أن لا تكون إلى جوار علي عليه السلام في هذه الحروب . ولمّا استوضح الإمام من هؤلاء بواعث موقفهم هذا ، أجاب سعد بن أبي وقّاص : «إنّي أكره الخروج في هذه الحرب لئلّا اُصيب مؤمناً ، فإن أعطيتني سيفاً يعرف المؤمن من الكافر قاتلتُ معك» . وقال له اُسامة : «أنت أعزّ الخلق عليّ ، ولكنّي عاهدت اللّه أن لا اُقاتل أهل لا إله إلّا اللّه » . وقال عبد اللّه بن عمر : «لست أعرف في هذه الحرب شيئاً ، أسألك ألّا تحملني على ما لا أعرف» . (1) لقد التقى استعداد الناس ذهنيّا بشبهة عدم استساغة قتال أهل القبلة ، مع تلك
.
ص: 658
الشبهات التي أثارها المناوئون لمنهج الإصلاح العلوي ، بالأخصّ معاوية في حربه الدعائيّة الشعواء ضدّ الإمام ؛ التقى هذا بذاك ، وصارا سبباً في عرقلة حركة التعبئة العامّة وتهديدها بأخطار جدّيّة ، بحيث لم يجد الإمام مناصّاً من أن يلج الميدان بنفسه أغلب الأحيان ، وينهض شخصيّاً بإرشاد الناس وتوجيههم . خاطبهم عليه السلام في البدء : «وقَد فُتِحَ بابُ الحَربِ بَينَكُم وبَينَ أهلِ القِبلَةِ ، ولا يَحمِلُ هذَا العِلمَ إلّا أهلُ البَصَرِ وَالصَّبرِ وَالعِلمِ بِمَواضِعِ الحَقِّ ، فَامضوا لِما تُؤمَرونَ بِهِ ، وقِفوا عِندَ ما تُنهَونَ عَنهُ ، ولا تَعجَلوا في أمرٍ حَتّى تَبَيَّنوا ؛ فَإِنَّ لَنا مَعَ كُلِّ أمرٍ تُنكِرونَهُ غِيَراً» . (1) مع أنّ الإمام لم يألُ جهداً في أن يستفيد من أيّ فرصة تسنح لتوجيه الناس وإرشادهم ، إلّا أنّه كان عسيراً على كثيرين أن يهضموا أنّ علياً عليه السلام ينطق بالحقّ ، وأنّ طلحة والزبير وعائشة _ في الوقت ذاته _ سادرون في الغيّ .
ب _ القتال بلا غنيمةمن العوامل السلبيّة التي أثّرت في الجماهير غيابُ الغنيمة ؛ فمع تدنّي مستوى الوعي الثقافي للقاعدة الشعبيّة العريضة صار لغياب الغنائم الحربيّة الكبرى أثر في تخريب الحالة النفسيّة للقوّات المقاتلة ، ودفعها إلى الملالة والإحباط والتعب من الحرب ، ومن ثمّ عدم طاعة الإمام والانقياد له ، يفوق ما كان لشبهة قتال أهل القبلة . لقد اعتاد المقاتلون الحصول على غنائم وافرة في العهود التي سبقت عهد الإمام ، من خلال حروب الكفّار ، وبالأخصّ حروب فارس والروم . أمّا الآن فقد راح الإمام عليه السلام يدعوهم منذ أوائل أيّام حكمه _ ولأوّل مرّة _ إلى حرب لا غنيمة من
.
ص: 659
ورائها ، أو أن يكون نصيبهم منها ضئيلاً لا قيمة له . وهذا ما لم يألفه الناس قبل ذلك ، ومن ثمّ لم يكونوا على استعداد لقبوله كما يبدو . لقد كان اقتران الحرب بالغنيمة أمراً ذا مغزى للجمهور الذي يعيش في ذلك العصر . وعندما ننظر إلى القاعدة الشعبيّة التي رافقت الإمام عليه السلام في حروبه وشهرت السيف معه ضدّ أصحاب الفتنة ، نجدها في الغالب غير متحلّية بالبصيرة ، ولا ملتمسة منار الحقّ ، بحيث يكون الحقّ هو هدفها في إشهار السيف ، ورضا اللّه هو الغاية القصوى التي تتمنّاها من القتال ، بل كان الجمّ الغفير من هؤلاء يفكّر بمنافعه الشخصيّة قبل أن يفكّر بالحقّ ومصلحة الدين . فمن بين الاعتراضات التي طالما كرّرها جند الإمام في حربي الجمل والنهروان ، هو : لماذا لا يسلبون نساء القوم ويتّخذونهنّ سبايا واُسارى؟ ولماذا لا توزّع عليهم أموالهم؟ قال ابن أبي الحديد بهذا الصدد : «اتّفقت الرواة كلّها على أنّه عليه السلام قبض ما وجد في عسكر الجمل ؛ من سلاح ودابّة ومملوك ومتاع وعروض ، فقسّمه بين أصحابه ، وأنّهم قالوا له : اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقاً ، فقال : لا . فقالوا : فكيف تحلّ لنا دماءهم وتحرِّم علينا سبيهم؟!» . (1) لقد تلاقحت عوامل الملالة والتعب والإحباط التي عاشها الجند بعد سنتين من ممارسة القتال بدون غنائم وعوائد مادّيّة ، مع التبعات السلبيّة لشبهة عدم شرعيّة قتال أهل القبلة ؛ حتى إذا ضُمّت هذه إلى تلك ، ثمّ التقت الحصيلة مع العناصر الأساسيّة للتخاذل ، صار من الطبيعي أن تجرّ الحالة إلى عدم انقياد هؤلاء وعصيانهم ، بحيث راح الإمام يواجه مشكلة حقيقيّة جادّة في استنفار القوّات
.
ص: 660
وتعبئتها أواخر عهد حكمه .
ج _ فقد الأخلّة وخلّص الأعوانتتمثّل إحدى العوامل الاُخر التي ساهمت في غربة الإمام وبقائه وحيداً أواخر عهده في الحكم بغياب أبرز الخلّان ، وفقدان الشخصيّات الكبيرة التي كان لكلّ منها أثره المباشر في توجيه جيشه . لقد كان هؤلاء لساناً ناطقاً ، تُلهب كلماتهم النفوس ، وتثبّت القلوب في الأزمات ، وتثير خطبهم الحماس في سوح القتال ، ولهم تأثير بليغ على الناس . هذه هي سوح القتال ومضامير الحياة وقد خلت من عمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، وهاشم بن عتبة ، كما لم يعُد فيها أثر يذكر لمحمّد بن أبي بكر ، وعبد اللّه بن بديل ، وزيد بن صوحان ، حتى يُلهبوا بكلماتهم المضيئة حماسَ الناس ، ويُثيروا فيهم العزائم . وها هو الإمام يومئ إلى تلك الأطواد الشامخة بالبصيرة ، المتوهِّجة بالنور ، وسط ساحةٍ عنود يمتنع فيها الأصحاب ، وينأون عن نصرته بهذه الذريعة وتلك ، ويتحدّث عن رهبان الليل ، وليوث الوغى إذا حمي الوطيس ، والسابقين في مضمار الإيمان والعمل ، فيقول : «أينَ القَومُ الَّذينَ دُعوا إلَى الإِسلامِ فَقَبِلوهُ ، وقَرَؤُوا القُرآنَ فَأَحكَموهُ ، وهيجُوا إلَى الجِهادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقاحِ إلى أولادِها ، وسَلَبُوا السُّيوفَ أغمادَها ، وأخَذوا بِأَطرافِ الأَرضِ زَحفاً زَحفاً ، وصَفّاً صَفّاً . بَعضٌ هَلَكَ ، وبَعضٌ نَجا . لا يُبَشَّرونَ بِالأَحياءِ ، ولا يُعَزَّونَ عَنِ المَوتى . مُرهُ (1) العُيونِ مِنَ البُكاءِ ، خُمصُ البُطونِ مِنَ الصِّيامِ ، ذُبُلُ الشِّفاهِ مِنَ الدُّعاءِ ، صُفرُ الأَلوانِ مِنَ السَّهَرِ ، عَلى وُجوهِهِم غَبَرَةُ الخاشِعينَ ، اُولئِكَ إخوانِيَ الذّاهِبونَ ، فَحقَّ لَنا أن نَظمَأَ إلَيهِم ، ونَعَضَّ الأَيدِيَ
.
ص: 661
عَلى فِراقِهِم» . (1) وقد عاد الإمام إلى ذكر اُولئك الأخلّاء في آخر خطبة ألقاها ، قبل عدّة أيّام من اغتياله ، فقال : «أينَ إخوانِيَ الَّذينَ رَكِبُوا الطَّريقَ ، ومَضَوا عَلَى الحَقِّ ! أينَ عَمّارٌ ! وأينَ ابنُ التَّيِّهانِ ! وأينَ ذُو الشَّهادَتَينِ ! وأينَ نُظَراؤُهُم مِن إخوانِهِمُ الَّذينَ تَعاقَدوا عَلَى المَنِيَّةِ ، واُبرِدَ بِرُؤوسِهِم إلَى الفَجَرَةِ!» . (2) على خطٍ آخر كان الخوارج جزءاً من جند الإمام ومقاتلي جيشه ، ثمّ ما لبثوا أن تحوّلوا بعد صفّين إلى موقعٍ مناهض للإمام ، فكان مآلهم أن قتلوا في النهروان ، أو صاروا أحلاس بيوتهم . وبذلك غابت عن صفوف العسكر أيضاً هذه القوّة القتاليّة الوثّابة ، فصار الإمام عليّ عليه السلام وحيداً فريداً غريباً .
الكَفاءة القياديّة للإمام عليه السلام في وحدتهآخر وأهمّ نقطة تجدر بعنايتنا في بحث عوامل وحدة الإمام وتقصّي جذور هذه الحالة ، هي القدرة القياديّة والكفاءة الإداريّة الفذّة التي حظي بها أمير المؤمنين عليه السلام في هذه البرهة الحالكة ، ممّا لم نرَ مَن تنبّه إليها . تكشف الوثائق التأريخيّة أنّ الإمام عليّاً عليه السلام أبدى في عهد غربته أسمى حالات الكفاءة القياديّة ، وأظهر من نفسه أجلّ معاني القدرة الإداريّة وأرفعها ؛ فحين نسجّل أنّ عليّاً بقي وحيداً فليس معنى ذلك أنّ عناد الجند وعدم انقياده لطاعته اضطرّه إلى أن يكون حِلْس بيته ، أو أنّه افتقد في الأشهر الأخيرة من خلافته قدرته القياديّة ، وغابت عنه جدارته في إدارة المجتمع ، بحيث راح يمضي وقته ببثّ شكواه ، ولم يكن له شاغل حتى لحظة استشهاده غير تقريع الناس ولومهم على عدم دفاعهم عن
.
ص: 662
نهجه الإصلاحي . كلّا ، بل هذه هي صفحات التأريخ تجهر عن واقع مغاير بالكامل ، وهي تبدي الإمام وقد بذل جهوده القصوى في هذه المدّة ، وتظهره وقد بذل جهد طاقته في هذه الأيّام إذا ما قيست ببقيّة أشواط حكمه . لقد كان على الإمام أن ينهض في هذه البرهة بالعب ء وحده ، وأن يبادر لمل ء الفراغات جميعاً ، وأن يمضي حتى آخر لحظة من حياته على السبيل ذاتها التي اختطّها لحكمه ، وأعلنها منذ اليوم الأوّل . ولقد حدث هذا تماماً . تعالوا معنا نرقب المشهد عن كثب ؛ في مجتمع لم تكن النخبة على استعداد لمسايرته ، ولم يكن الخواصّ راضين بمماشاته ، وكان العوامّ تبعاً لاُولئك ؛ وفي فضاء ينضح بشبهة قتال أهل القبلة ، ومحاربة شخصيّات لها في هذا الدين سابقة ، وهي إلى ذلك تتسربل وشاح القدسيّة وتتظاهر به ؛ وفي ظلّ أوضاع قاتمة انقلب فيها المقاتلون إلى حالة مطبقة من التآكل والضجر بعد ثلاثة حروب دمويّة أمضوها في سنتين من دون غنائم ومكاسب مادّيّة تذكر . وفي مشهد غاب عنه كبار أصحاب الإمام وخلّص حواريه ، وفي الوقت الذي راح جيش معاوية يواصل غاراته على الناس من دون انقطاع ، في أجواء مكفهرّةٍ كهذه ، كم هي الكفاءة التي يحتاج إليها القائد لكي يحثّ الجمهور على العودة إلى القتال ، ويعبّئه لحرب معاوية مجدّداً من دون أن يتوسّل بمنطق القوّة؟ لقد كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يحظى بهذه الكفاءة كلّها ، وخير ما يشهد لهذه الكفاءة ويفصح عن هذا الادّعاء بجلاء هو الخطبة الحماسيّة التي كان قد ألقاها الإمام قبل بعث الجند إلى صفّين مجدّداً ، فعن نوف البكالي ، قال : «خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، وعليه مدرعة من صوف ، وحمائل سيفه ليف ، وفي رجليه نعلان من
.
ص: 663
ليف ، وكأن جبينه ثَفَنةُ بعير» . وفي نهاية الخطبة نادى الإمام بأعلى صوته : «الجِهادَ الجِهادَ عِبادَ اللّهِ! ألا وإنّي مُعَسكِرٌ في يَومي هذا ، فَمَن أرادَ الرَّواحَ إلَى اللّهِ فَليَخرُج!» قال نوف : وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد اُخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفّين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم _ لعنه اللّه _ فتراجعت العساكر ، فكنّا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كلّ مكان! (1) هكذا يظهر أنّ ما كان يندّ عن الإمام من صيحات متوجّعة ، وما كان يبثّ به أصحابه من شكاوى مكرّرة ، لم يكن عن ضعف قيادي ، كما لم يكن إظهاراً لعجز عن إدارة المجتمع في مثل ذلك الفضاء الذي كان يعمّه ، وتلك الخصائص التي كانت تفشو فيه . إنّما رام الإمام أن يستفيد من هذه اللغة في حثّ الناس وتعبئتها للحركة والجهاد بدلاً من استخدام منطق القوّة والسيف . إنّ تعبئة الإمام لتلك القوّات الكثيفة في ظلّ الأوضاع التي مرّت الإشارة إليها ولمّا يبقَ على استشهاده إلّا أقلّ من اسبوع ، ينبئ من جهة عن الكفاءة الاستثنائيّة الممتازة التي يحظى بها في تعبئة جماهير الناس ، ويكشف من جهة اُخرى عن نجاح النهج العلوي في إدارة الاجتماع السياسي .
.
ص: 664
. .
ص: 665
القسم الثامن : استشهاد الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: إخبار النبيّ صلى الله عليه و آله باستشهادهالفصل الثاني: إخبار الإمام عليه السلام باستشهادهالفصل الثالث: التآمر في اغتيال الإمام عليه السلامالفصل الرابع: اغتيال الإمام عليه السلامالفصل الخامس: من الاغتيال إلى الاستشهادالفصل السادس: بعد الاستشهاد
.
ص: 666
. .
ص: 667
الفصل الأوّل: إخبار النبيّ صلّي الله عليه و آله باستشهاده عليه السلامالإمام عليّ عليه السلام :إنَّهُ لَمّا أنزَلَ اللّهُ سُبحانَهُ قَولَهُ : «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ» (1) عَلِمتُ أنَّ الفِتنَةَ لا تَنزِلُ بِنا ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَينَ أظهُرِنا ، فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما هذِهِ الفِتنَةُ الَّتي أخبَرَكَ اللّهُ تَعالى بِها ؟
فَقالَ : يا عَلِيُّ ، إنَّ اُمَّتي سَيُفتَنونَ مِن بَعدي .
فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، أَ وَلَيسَ قَد قُلتَ لي يَومَ اُحُدٍ حَيثُ استُشهِدَ مَن استُشهِدَ مِنَ المُسلِمينَ ، وحيزَت عَنِّي الشَّهادَةُ ، فَشُقَّ ذلِكَ عَلَيَّ ، فَقُلتَ لي : أبشِر ، فَإِنَّ الشَّهادَةَ مِن وَرائِكَ ؟
فَقالَ لي : إنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ ، فَكَيفَ صَبرُكَ إذَن ؟
فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، لَيسَ هذا مِن مَواطِنِ الصَّبرِ ، ولكِن مِن مَواطِنِ البُشرى وَالشُّكرِ . (2)المعجم الكبير عن جابر :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لِعَلِيٍّ عليه السلام : إنَّكَ امرُؤٌ مُستَخلَفٌ ، وإنَّكَ مَقتولٌ ، وهذِهِ مَخضوبَةٌ مِن هذِهِ _ [يَعني ]لِحيَتَهُ مِن رَأسِهِ _ . (3)
.
ص: 668
مسند أبي يعلى عن عائشة :رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله التَزَمَ عَلِيّا وقَبَّلَهُ ويَقولُ : بِأَبِيَ الوَحيدُ الشَّهيدُ ، بِأَبِيَ الوَحيدُ الشَّهيدُ . (1)الإمام عليّ عليه السلام :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : يا عَلِيُّ ، تَدري مَن أشقَى الأَوَّلينَ ؟
قُلتُ : اللّهُ ورَسولُهُ أعلَمُ .
قالَ : عاقِرُ النّاقَةِ . قالَ : تَدري مَن شَرُّ ، وقالَ مَرَّةً : مَن أشقَى الآخِرينَ ؟
قُلتُ : اللّهُ ورَسولُهُ أعلَمُ .
قالَ : قاتِلُكَ . (2) .
ص: 669
الفصل الثاني: إخبار الإمام عليه السلام باستشهادهالإرشاد عن الإمام عليّ عليه السلام :أتاكُم شَهرُ رَمَضانَ ، وهُوَ سَيِّدُ الشُّهورِ ، وأوَّلُ السَّنَةِ ، وفيهِ تَدورُ رَحىَ السُّلطانِ ، ألا وإنَّكُم حاجُّوا العامِ صَفّا واحِدا ، وآيَةُ ذلِكَ أنّي لَستُ فيكُم . فَكانَ أصحابُهُ يَقولونَ : إنَّهُ يَنعى إلَينا نَفسَهُ ، فَضُرِبَ عليه السلام في لَيلَةِ تِسعَ عَشَرَةَ ، ومَضى في لَيلَةِ إحدى وعِشرينَ مِن ذلِكَ الشَّهرِ . (1)
علل الشرائع عن الأصبغ بن نباتة :قُلتُ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام : ما مَنَعَكَ مِنَ الخِضابِ وقَدِ اختَضَبَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ قالَ : أنتَظِرُ أشقاها أن يَخضِبَ لِحيَتي مِن دَمِ رَأسي بَعدَ عَهدٍ مَعهودٍ أخبَرَني بِهِ حَبيبي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله . (2)
تاريخ اليعقوبي :قَدِمَ عَبدُ الرَّحمنِ بنُ مُلجَمٍ المُرادِيُّ الكوفَةَ لِعَشرٍ بَقينَ مِن شَعبانَ سَنَةَ (40ه ) ، فَلَمّا بَلَغَ عَلِيّا قُدومُهُ قالَ : وقَد وافى ؟ أما إنَّهُ ما بَقِيَ عَلَيَّ غَيرُهُ ، هذا أوانُهُ . فَنَزَلَ عَلَى الأَشعَثِ بنِ قَيسٍ الكِندِيِّ ، فَأَقامَ عِندَهُ شَهرا يَستَحِدُّ سَيفَهُ . (3)
.
ص: 670
الفصل الثالث: التآمر في اغتيال الإمام عليه السلامالإرشاد عن أبي مخنف لوط بن يحيى وإسماعيل بن راشد وأبي هشام الرفاعي وأبي عمرو الثقفي وغيرهم :إنَّ نَفَرا مِن الخَوارِجِ اجتَمَعوا بِمَكَّةَ ، فَتَذاكَرُوا الاُمَراءَ ، فَعابوهُم وعابوا أعمالَهُم عَلَيهِم ، وذَكَروا أهلَ النَّهروانِ وتَرَحَّموا عَلَيهِم ، فَقالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ : لَو أنّا شَرَينا أنفُسَنا للّهِِ ، فَأَتَينا أئِمَّةَ الضَّلالِ ، فَطَلَبنا غِرَّتَهُم (1) ، فَأَرَحنا مِنهُمُ العِبادَ وَالبِلادَ ، وثَأَرنا بِإِخوانِنا لِلشُّهَداءِ بِالنَّهرَوانِ . فَتَعاهَدوا عِندَانقِضاءِ الحَجِّ عَلى ذلِكَ ، فَقالَ عَبدُ الرَّحمنِ بنُ مُلجَمٍ : أنَا أكفيكُم عَلِيّا ، وقالَ البَرَكُ بنُ عَبدِ اللّهِ التَّميمِيُّ : أنَا أكفيكُم مُعاوِيَةَ ، وقالَ عَمرُو بنُ بَكرٍ التَّميمِيُّ : أنَا أكفيكُم عَمرَو بنَ العاصِ ، وتَعاقَدوا عَلى ذلِكَ ، وتَوافَقوا عَلَيهِ وعَلَى الوَفاءِ ، وَاتَّعَدوا لِشَهرِ رَمَضانَ في لَيلَةِ تِسعَ عَشَرَةَ ، ثُمَّ تَفَرَّقوا . فَأَقبَلَ ابنُ مُلجَمٍ _ وكانَ عِدادُهُ في كِندَةَ _ حَتّى قَدِمَ الكوفَةَ ، فَلَقِيَ بِها أصحابَهُ ، فَكَتَمَهُم أمرَهُ مَخافَةَ أن يَنتَشِرَ مِنهُ شَيءٌ . فَهُوَ في ذلِكَ إذ زارَ رَجُلاً مِن أصحابِهِ ذاتَ يَومٍ _ مِن تَيمِ الرُّبابِ _ فَصادَفَ عِندَهُ قُطامَ بِنتَ الأَخضَرِ التَّيمِيَّةَ ، وكانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام قَتَلَ أباها وأخاها بِالنَّهروَانِ ، وكانَت مِن أجمَلِ نِساءِ زَمانِها ، فَلَمّا
.
ص: 671
رَآهَا ابنُ مُلجَمٍ شَغِفَ بِها وَاشتَدَّ إعجابُهُ بِها ، فَسَأَلَ في نِكاحِها وخَطَبَها فَقالَت لَهُ : مَا الَّذي تُسَمّي لي مِنَ الصَّداقِ ؟ فَقالَ لَها : اِحتَكَمي ما بَدا لَكَ . فَقالَت لَهُ : أنَا مُحتَكِمَةٌ عَلَيكَ ثَلاثَةَ آلافِ دِرهَمٍ ، ووَصيفا وخادِما ، وقَتلَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . فَقالَ لَها : لَكِ جَميعُ ما سَأَلتِ ، وأمّا قَتلُ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ فَأنّى لي بِذلِكَ ؟ فَقالَت : تَلتَمِسُ غِرَّتَهُ ، فَإِن أنتَ قَتَلتَهُ شَفَيتَ نَفسي وهَنَّأَكَ العَيشُ مَعي ، وإن قُتِلتَ فَما عِندَ اللّهِ خَيرٌ لَكَ مِنَ الدُّنيا . فَقالَ : أما وَاللّهِ ما أقدَمَني هذَا المِصرَ _ وقَد كُنتُ هارِبا مِنهُ لا آمَنُ مَعَ أهلِهِ _ إلّا ما سَأَلتِني مِن قَتلِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، فَلَكِ ما سَأَلتِ . قالَت : فَأَنَا طالِبَةٌ لَكَ بَعضَ مَن يُساعِدُكَ عَلى ذلِكَ ويُقَوّيكَ . ثُمَّ بَعَثَت إلى وَردانَ بنِ مُجالِدٍ _ مِن تَيمِ الرُّبابِ _ فَخَبَّرتهُ الخَبَرَ وسَأَلَتهُ مَعونَةَ ابنِ مُلجَمٍ ، فَتَحَمَّلَ ذلِكَ لَها ، وخَرَجَ ابنُ مُلجَمٍ فَأَتى رَجُلاً مِن أشجَعَ يُقالُ لَهُ شَبيبُ بنُ بَجرَةَ ، فَقالَ : يا شَبيبُ ، هَل لَكَ في شَرَفِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ ؟ قالَ : وما ذاكَ ؟ قالَ : تُساعِدُني عَلى قَتلِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ _ وكانَ شَبيبٌ عَلى رَأيِ الخَوارِجِ _ . فَقالَ لَهُ : يَابنَ مُلجَمٍ ، هَبَلَتكَ الهَبولُ ، لَقَد جِئتَ شَيئا إدّا ، وكَيفَ تَقدِرُ عَلى ذلِكَ ؟ فَقالَ لَهُ ابنُ مُلجَمٍ : نَكمُنُ لَهُ فِي المَسجِدِ الأَعظَمِ ، فَإِذا خَرَجَ لِصَلاةِ الفَجرِ فَتَكنا بِهِ ، وإن نَحنُ قَتَلناهُ شَفَينا أنفُسَنا وأدرَكنا ثَأرَنا . فَلَم يَزَل بِهِ حَتّى أجابَهُ ، فَأَقبَلَ مَعَهُ حَتّى دَخَلَا المَسجِدَ عَلى قُطامَ _ وهِيَ مُعتَكِفَةٌ فِي المَسجِدِ الأَعظَمِ ، قَد ضَرَبَت عَلَيها قَبَّةً _ فَقالَ لَها : قَدِ اجتَمَعَ رَأيُنا عَلى قَتلِ هذَا الرَّجُلِ . قالَت لَهُما : فَإِذا أرَدتُما ذلِكَ فَالقَياني في هذَا المَوضِعِ . فَانصَرَفا مِن عِندِها فَلَبِثا أيّاما ، ثُمَّ أتَياها ومَعَهُمَا الآخَرُ لَيلَةَ الأَربَعاءِ لِتِسعَ عَشَرَةَ لَيلَةً خَلَت مِن شَهرِ رَمَضانَ سَنَةِ أربَعينَ مِنَ الهِجرَةِ ، فَدَعَت لَهُم بِحَريرٍ فَعَصَبَت بِهِ صُدورَهُم ، وتَقَلَّدوا أسيافَهُم ومَضَوا وجَلَسوا مُقابِلَ السُّدَّةِ الَّتي كانَ يَخرُجُ مِنها أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام إلَى الصَّلاةِ ، وقَد كانوا قَبلَ ذلِكَ ألقَوا إلَى الأَشعَثِ بنِ قَيسٍ ما في
.
ص: 672
نُفوسِهِم مِنَ العَزيمَةِ عَلى قَتلِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وواطَأَهُم عَلَيهِ وحَضَرَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ في تِلكَ اللَّيلَةِ لِمَعونَتِهِم عَلى مَا اجتَمَعوا عَلَيهِ . (1)
.
ص: 673
بحث حول المتآمرين لاغتيال الإمام على عليه السلاميفهم من النصوص التاريخيّة أنّ الأخبار التي رواها مؤرخو الشيعة والسنّة تشير إلى أنّ الإمام عليّا عليه السلام اغتيل بمؤامرة نفّذها عدد من بقايا الخوارج . وتتلخص أخبار المؤرخين الأوائل في هذا المجال : أنّ جماعة من الخوارج اجتمعوا بعد معركة النهروان في مكّة وأقسموا على الانتقام لقتلاهم ، واستقرّ رأيهم بعد المداولات حول كيفية إيجاد حلّ لمشكلات العالم الإسلامي على أنّ منشأ الفتنة ثلاثة أشخاص هم : علي عليه السلام ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص . ومادام هؤلاء الثلاثة أحياءً فستبقى الاُمّة الإسلاميّة تعيش حالة من الاضطراب . وهكذا أخذ ثلاثة من اُولئك القوم على عاتقهم مهمّة اغتيال هؤلاء الثلاثة . تبنّى عبد الرحمن بن ملجم المرادي مهمّة اغتيال الإمام عليّ عليه السلام ، وتبنّى برك بن عبد اللّه التميمي مهمّة اغتيال معاوية ، واُنيطت مهمّة قتل عمرو بن العاص بعمرو بن بكر التميمي . وعزم هؤلاء الثلاثة على تنفيذ خطّة القتل في إحدى ليالي شهر رمضان حيث يضطرّ هؤلاء الثلاثة إلى القدوم إلى المسجد _ وبناءً على المشهور لدينا _ في ليلة التاسع عشر من رمضان . فقتل عمرو بن بكر الذي كان مكلّفا بقتل عمرو بن العاص شخصا آخر كان قد
.
ص: 674
ذهب إلى الصلاة بدلاً عن ابن العاص في تلك الليلة ، وجرح برك بن عبد اللّه معاوية . أمّا ابن ملجم فقد استطاع تنفيذ مهمّته بتحريض من قطام _ وكانت امرأة جميلة _ وبمساعدة من وردان بن مجالة وشبيب بن بجرة ، وأنهى مهمّة قتل الإمام عليّ عليه السلام . وهذه الرواية متّفق عليها من قبل جميع المؤرّخين المسلمين تقريبا . وهل كانت القصّة على هذا المنوال حقّا ، أم أنّ الحقيقة شيء آخر؟ وهل كان الخوارج _ كما جاء في النصوص التاريخيّة _ هم المخطّطون الأصليّون لاغتيال الإمام ولم يكن لمعاوية أيّ دور فيه؟ وهل الحكايات التي حكيت حول دور قطام في اغتيال الإمام كانت صحيحة ، أم أنّ المخطّط الأصلي لاغتيال الإمام كان معاوية ، وكلّ ما جاء في التاريخ عن الفاعلين ليس إلّا تلفيقا يراد منه تبرئة ساحة معاوية من جريمة اغتيال أمير المؤمنين؟ يميل بعض المؤرخين المعاصرين إلى تأييد الفرضية ، وينكرون أساسا دور الخوارج في عملية الاغتيال هذه . أشار الدكتور شهيدي إلى هذا الافتراض قائلاً : «لا اُريد القول كما قال المؤرّخ الأباضي المعاصر الشيخ سليمان يوسف بن داود بأنّ الخوارج كانوا أنصار الإمام عليٍّ عليه السلام ولم يشتركوا في قتله ، وأنّ قبيلة بني مراد التي ينتمي إليها ابن ملجم لم تكن من الخوارج ، وأنّ قصة ابن ملجم ورفيقيه من تلفيق جلاوزة معاوية لإخفاء الحقيقة عن الناس . وقد عرضت بعض الانتقادات على كتابه هذا في لقاء جمع بيننا في الجزيرة ، وكتبتها له في رسالة أيضا . ولكن لو أنّ أحدا قال بأنّ مؤامرة شهادة الإمام عليٍّ عليه السلام ليست بالشكل الذي شاع على الألسن ، فإنني لا أستبعد صحّة قوله» . وبعد نقده لبعض النصوص المتعلّقة بدور قطام في مؤامرة الاغتيال هذه كتب
.
ص: 675
ما يلي : «مجموع هذه التناقضات يؤيد كون هذه القصّة ملفّقة . ويبدو أنّ قصّة قطام قد ابتدعت ورُبطت بقصّة أولئك الثلاثة لكي تتقبلها الأذهان أكثر» . يبدو أنّ على الباحث الذي يريد الاقتراب من الحقيقة عند تتبّع واقعة قتل الإمام ومعرفة مسبّبيها أن يبحث في دور الخوارج ومعاوية وقطام في قتل الإمام كلّاً على حدة :
1 . دور الخوارجدور الخوارج في مؤامرة قتل الإمام عليٍّ عليه السلام من مسلّمات التاريخ الإسلامي ولا يمكن إنكارها . وقد أذعن الخوارج أنفسهم لهذه الحقيقة . فقد نظم عمران بن حطان قصيدة في الثناء على عمل ابن ملجم جاء فيها : يا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادِ بِهَاإلّا لِيَبلُغَ مِنْ ذِيِ العَرشِ رِضْوَانَا إنّي لَأَذكُرُهُ حِينا فَأَحْسِبُهُأَوفَى البَرِيَّةِ عِندَ اللّهِ مِيزانَا (1) وقال ابن أبي ميّاس المرادي: وَنَحْنُ ضَرَبنَا يا لَكَ الخَيرُ حَيدَرَاأبا حَسَنٍ مَأمُومَةً فَتَفَطَّرا وَنَحْنُ خَلَعنَا مُلكَهُ مِنْ نِظامِهِبِضَرْبَةِ سَيْفٍ إذ عَلا وَتَجَبَّرا وَنَحْنُ كِرامٌ فِي الصَّباحِ أعِزَّةٌإذِا المَوتُ بِالمَوتِ ارتَدى وَتَأَزَّرا (2) لا شكّ في أنّ مثل هذه المسألة لو كانت من اختلاق قُصّاص معاوية لما بقي هذا الموضوع التاريخي المهمّ خافيا عن أذهان المؤرّخين والمحدّثين . ويمكن فهم
.
ص: 676
مدى دور الخوارج في هذه المؤامرة من خلال معرفة هل هم تصرّفوا فيها على نحو مستقلّ أم كانوا في عملهم القذر هذا أداة بيد معاوية أو جلاوزته؟ وكذلك من خلال النظر إلى كيفيّة تنفيذ المؤامرة . وهذه المسائل تتطلّب التأمّل والتمعّن .
2 . دور معاويةلا يوجد من الناحية التاريخيّة سند يمكن أن يعزو بوضوح مؤامرة قتل الإمام إلى معاوية . ولكن توجد ثمّة قرائن لا يمكن للباحث أن ينكر في ضوئها دور معاوية في هذه الواقعة . لا شكّ في أنّ معاوية كان بصدد قتل الإمام ؛ وذلك لأنّه كان يعلم جيّدا بأنّه لن يصل إلى الخلافة طالما بقي عليّ عليه السلام حيّا ، هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى فإنّ قتل الإمام في ساحة المعركة لم يكن أمرا ميسورا ، بل إنّ تجربة وقعة صفّين أثبتت لو أنّ هذه الحرب تكرّرت مرّةً اُخرى لانتهت قطعا بهزيمة معاوية والقضاء عليه . وعلى هذا فإنّ أفضل السبل لإزاحة الإمام عن الطريق هو اغتياله ، وهو عمل سبق له أن جرّبه مع مالك الأشتر الذي يعتبر من أفضل العناصر التي وقفت إلى جانب الإمام . وكان أنجح اُسلوب لتنفيذ الخطّة هو تنفيذها على يد أنصار سابقين للإمام ؛ أي على يد بقايا الخوارج الذين دخلوا مؤخّرا في صراع مع الإمام ، وكانوا يفكّرون بالانتقام لقتلاهم . وتوفّرت لديهم الدواعي الكافية للإقدام على هذا العمل الخطير والخبيث ، هذا فضلاً عن عدم إمكانية تتبّع المؤامرة والوصول الى الفاعل الأصلي ، ولعلّ هذا هو السبب الذي أدّى إلى عدم وجود أي سند تاريخي يثبت ارتباط هذه القضية بمعاوية . ومن الطبيعي أنّ أمثال هذه القرارات السرّية من قبل الحكومات ليست مما يمكن للمؤرخين الاطّلاع عليه وتثبيته في كتبهم .
.
ص: 677
إحدى القرائن الاُخرى الجديرة بالتأمّل في هذا السياق هو دور الأشعث في هذه الواقعة ؛ فهو لم يكن مؤيّدا للإمام من كلّ قلبه ، بل إنّه هدّد الإمام بالقتل ، ووصفه الإمام علانية بالنفاق ، ولكن بما أنّه كان رئيسا لقبيلة كندة ، فإنّ الإمام كان ينتهج معه اُسلوب المداراة ؛ لأنّ إبعاده عن الإمام كان يخلق له مشكلة مع تلك القبيلة الكبيرة ويمنعها من الوقوف إلى جانبه . إنّ دور الأشعث في فرض التحكيم على الإمام ، واختيار أبي موسى للتحكيم وما تبع ذلك من وقائع ، ينمّ عن علاقاته الخفية بمعاوية . وعلى هذا الأساس فإنّ علمه المسبق بعملية الاغتيال قبل وقوعها ، وعلاقة ابن ملجم به قبل تنفيذ العملية يعدّ مؤشّرا على وجود يد لدمشق في تلك الحادثة . نقل ابن أبي الدنيا عن اُستاذه عبد الغفّار أنّه قال : «سَمِعتُ غَيِرَ واحِدٍ يَذكُرُ أَنَّ اِبنَ مُلجَمٍ باتَ عِندَ الأَشعَثِ بنِ قَيسٍ ، فَلَمّا أسحَرَ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ : أَصبَحتَ» . (1) ونقل الكثير من المؤرّخين أنّ ابن ملجم عندما مرّ بالأشعث عند المسجد قبل الإقدام على عملية الاغتيال ، قال له : «النَّجاءَ النَّجاءَ لِحاجَتِكَ فَقَد فَضِحَكَ الصُّبحُ» . ولما سمع حُجر بن عدي مقالته عرف مقصوده ، فقال له : «قَتَلتَهُ يا أَعوَرُ» ، وخرج من المسجد من ساعته ليبلغ الإمام بالقضية ، ولكنّ الإمام كان قد دخل من باب آخر ، وعندما وصل حجر ، كان الرَّجل قد ضرب الإمام ! يمكن لهذه القرائن أن تؤيّد تدخّل دمشق في اغتيال الإمام ، ولكن لا بمعنى نفي أي دور للخوارج في ذلك الاغتيال ، ولكن يعني أنّهم اُقدموا على هذا العمل تحت تأثير مكائد معاوية ولو عن طريق وسطاء ، مثلما يسري هذا الاحتمال على قضية فرض التحكيم على الإمام .
.
ص: 678
الشبهة الوحيدة التي يمكنها الطعن بهذا الرأي هي أنّه لو كانت لمعاوية يد في اغتيال الإمام لما انعكست هذه الخطّة عليه وعلى رفيقه المقرّب عمرو بن العاص . ويمكن الإجابة عن هذه الشبهة بالقول : أولاً : يحتمل أنّ الضربة التي أصابت ألية معاوية ، كانت _ مثل قتل شخص آخر بدلاً من عمرو بن العاص _ لعبة سياسية لكي يواجه الحاكم الجديد مشاكل أقلّ مع الناس . ثانيا : في المؤامرات غير المباشرة التي تحوكها وتنفّذها العناصر المعارضة ، كثيرا ما تطال نيران تلك المؤامرات المخطّطين الأصليّين وخاصة في ذلك العصر الذي كانت تنعدم فيه وسائل الاتصال السريع .
3 . دور قطامذهب المؤرخون إلى الإفراط والتفريط فيما يخصّ دور قطام في مقتل أمير المؤمنين . فالبعض جعل لها في هذه الحادثة دورا أساسيا ، ولعلّ أول مؤرّخ بالغ في تضخيم دور قطام في مؤامرة القتل ، هو ابن أعثم . ونقل كتاب بحار الأنوار عن كتابٍ مجهولٍ هذه القصّة على صورة رواية غرامية . وعندما وقعت هذه القصة بيد القاص المسيحي جرجي زيدان ، جعل لها أغصانا وفروعا كثيرة . وفي مقابل ذلك شكّك مؤرخون معاصرون من خلال عرضهم لبعض الإشكالات والتناقضات الموجودة في هذه القصّة ، في أصل وجود مثل هذه القضية في قتل الإمام عليه السلام . ويبدو أنّ أصل وجود قطام ودورها في مؤامرة اغتيال الإمام شيء لا يمكن إنكاره . بيد أنّ الحكايات التي جاءت بهذا الخصوص في فتوح ابن أعثم وفي بحار الأنوار ، وفي كتاب جرجي زيدان لا واقع لها . تتفق مصادر قديمة كالطبقات الكبرى (م230) ، الإمامة والسياسة (م276) ،
.
ص: 679
أنساب الإشراف (م279) ، الأخبار الطوال (م282) والكامل للمبرد (م285) ، مقاتل الطالبيّين (م 356) على دور امرأة اسمها قطام قُتل أبوها وأخوها _ وفي بعض النصوص عمّها _ في معركة النهروان ، ممّا جعلها تحقد على الإمام وتشارك في مؤامرة اغتياله ، وكانت على صلة بابن ملجم . وعلى هذا لا يمكن إنكار أصل القصّة بهذه البساطة . ولكن يمكن التشكيك في كيفيّتها . وأما ما جاء منها على شكل رواية ابن اعثم أو كتاب مجهول نقل عنه بحار الأنوار ، فهو باطل قطعا . وربما يمكن القول بأنّ أقرب النصوص إلى الواقع هو النصّ الذي جاء في كتابي أنساب الأشراف والإمامة والسياسة الذيجاء فيه : «قَدِمَ ابنُ مُلجَمٍ الكُوفَةَ وَكَتَمَ أمرَهُ، وَتَزَوَّجَ إمرَأَةً يُقالُ لَها : قُطامُ بِنتُ عَلْقَمَةَ ، وَكَانَت خَارِجِيَّةً ، وَكَانَ عَلِيٌّ قَد قَتَلَ أخَاهَا فِي حَرْبِ الخَوارِجِ ، وَتَزَوَّجَها عَلَى أن يَقتُلَ عَلِيَّا فَأقَامَ عِندَهَا مُدَّةً ، فَقَالَت لَهُ فِي بَعضِ الأيّامِ وَهُوَ مُختَفٍ : لَطالَما أحبَبتَ المَكثَ عِندَ أهلِكَ وَأضرَبتَ عَنِ الأمرِ الَّذي جِئتَ بِسَبَبِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ لِي وَقتَا وَأعِدْتُ فيه أصحَابِي وَلَنْ اُجَاوِزَهُ» (1) .
.
ص: 680
الفصل الرابع: اغتيال الإمامأ _ لَيلَةُ التّاسِعِ عَشرٍالإرشاد :رُوِيَ أنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام سَهِرَ تِلكَ اللَّيلَةَ ، فَأَكثَرَ الخُروجَ وَالنَّظَرَ فِي السَّماءِ وهُوَ يَقولُ : وَاللّهِ ما كَذَبتُ ولا كُذِّبتُ ، وإنَّهَا اللَّيلَةُ الَّتي وُعِدتُ بِها ، ثُمَّ يُعاوِدُ مَضجَعَهُ ، فَلَمّا طَلَعَ الفَجرُ شَدَّ إزارَهُ وخَرَجَ وهُوَ يَقولُ : اُشددُ حَيازيمَكَ لِلمَوتِفَإِنَّ المَوتَ لا قيكَ ولا تَجزَع مِنَ المَوتِإذا حَلَّ بِواديكَ فَلَمّا خَرَجَ إلى صَحنِ الدّارِ استَقبَلَتهُ الإِوَزُّ فَصِحنَ في وَجهِهِ ، فَجَعَلوا يَطرُدونَهُنَّ فَقالَ : «دَعوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نَوائِحُ» ، ثُمَّ خَرَجَ فَاُصيبَ عليه السلام . (1)
ب _ فَجرُ التّاسِعِ عَشرٍتاريخ الطبري عن محمّد ابن الحنفيّة :كُنتُ وَاللّهِ إنّي لَاُصَلّي تِلكَ اللَّيلَةَ الَّتي ضُرِبَ فيها عَلِيٌّ فِي المَسجِدِ الأَعظَمِ ، في رِجالٍ كَثيرٍ مِن أهلِ المِصرِ ، يُصَلّونَ قَريبا مِنَ السُّدَّةِ ، ما هُم إلّا قِيامٌ ورُكوعٌ وسُجودٌ ، وما يَسأَمونَ مِن أوَّلِ اللَّيلِ إلى آخِرِهِ ، إذ خَرَجَ عَلِيٌّ
.
ص: 681
لِصَلاةِ الغَداةِ ، فَجَعَلَ يُنادي : أيُّهَا النّاسُ ، الصَّلاةُ ، الصَّلاةُ ، فَما أدري أخرَجَ مِنَ السُّدَّةِ فَتَكَلَّمَ بِهذِهِ الكَلِماتِ أم لا ! فَنَظَرتُ إلى بَريقٍ ، وسَمِعتُ : الحُكمُ للّهِِ يا عَلِيُّ لا لَكَ ولا لِأَصحابِكَ ، فَرَأَيتُ سَيفا ، ثُمَّ رَأَيتُ ثانِيا ، ثُمَّ سَمِعتُ عَلِيّا يَقولُ : لا يَفوتَنَّكُمُ الرَّجُلُ . وشَدَّ النّاسُ عَلَيهِ مِن كُلِّ جانِبٍ . قالَ : فَلَم أبرَح حَتّى اُخِذَ ابنُ مُلجَمٍ واُدخِلَ عَلى عَلِيٍّ ، فَدَخَلتُ فيمَن دَخَلَ مِنَ النّاسِ ، فَسَمِعتُ عَلِيّا يَقولُ : النَّفسُ بِالنَّفسِ ، إن أنَا مُتُّ فَاقتُلوهُ كَما قَتَلَني ، وإن بَقيتُ رَأَيتُ فيهِ رَأيي . (1)
ج _ فُزتُ وَرَبِّ الكَعبَةِالإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا ضَرَبَهُ ابنُ مُلجَمٍ _: فُزتُ ورَبِّ الكَعبَةِ . (2)
.
ص: 682
بحث حول تعريض الإمام عليه السلام نفسه للقتليُستفاد من النصوص التاريخيّة والحديثيّة التي مرّ قسم منها بأنّ الإمام عليّا عليه السلام كان من غير شكّ على علم بشهادته ، وكان يعلم بوقتها وأنّه كان يعرف قاتله أيضاً ، وحتى إنّ بعض خواصّه كانوا على اطّلاع بهذا الأمر . (1) ومن هنا فلا بدّ من التساؤل عن السبب الذي جعل الإمام يعرّض نفسه للقتل . ألم يكن مكلّفاً بوقاية نفسه من القتل لكي تنتفع الاُمّة الإسلاميّة من بركات وجوده أكثر فأكثر؟ ألا يُعتبر ذهابه إلى المسجد في الليلة التي يعلم بأنّه سيُقتل فيها ، إلقاءً للنفس في التهلكة؟ وهذا التساؤل يثار أيضاً حول سائر الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، وهو أنّهم إذا كانوا على علم بشهادتهم ، لماذا لم يتوقّوها؟
مبادئ علم الإمام عليه السلامقبل الإجابة عن التساؤلات أعلاه ، ينبغي الإجابة عن سؤال آخر ، وهو من أين يعلم الأئمّة الكيفيّة التي سيقتلون فيها؟ قدّمنا إجابة تفصيليّة عن هذا السؤال في كتاب «أهل البيت في الكتاب والسنّة»
.
ص: 683
تحت عنوان «مبادئ علومهم» . أمّا الجواب الإجمالي عن هذا السؤال فهو أنّ مبادئ العلوم المتنوّعة الواسعة عند أهل البيت هي عبارة عن : تعاليم الرسول صلى الله عليه و آله التي انتقلت عن طريق الإمام علي عليه السلام إلى سائر الأئمّة عليهم السلام ، وكتب الأنبياء السابقين ، وكتاب الإمام عليّ عليه السلام ، ومصحف فاطمة عليهاالسلام ، وكتاب الجفر ، وكتاب الجامعة ، والإلهام . (1) واستناداً إلى النصوص التي أوردناها في الفصل الرابع من ذلك القسم ، فإنّ أئمّة أهل البيت كانوا يكسبون معرفة ما يريدون معرفته بواسطة الطرق التي سبقت الإشارة اليها .
إجابات عن سبب تعريض الإمام عليه السلام نفسه للقتلعرضت إجابات مختلفة حول عدم توقّي الأئمّة لشهادتهم مع علمهم بوقوعها ، ويتلخّص أهم تلك الأسباب فيما يلي :
1 . عدم العلم التفصيليمع أنّ الأئمة كانوا على معرفة إجماليّة بالكيفيّة التي سيُقتلون بها ، إلّا أنّهم لم يكن لديهم علم تفصيلي بالموضوع ، حتى وإن كان سبب عدم العلم يعود إلى عدم إرادتهم لمعرفته . بيد أنّ هذا الجواب يتنافى مع ظاهر الروايات الدالّة على أنّ الأئمّة كان لديهم علم تفصيلي بوقائع شهاداتهم ، أو يمكن القول على الأقلّ بأنّ هذا التوجيه غير مقبول فيما يخصّ شهادة الإمام عليّ عليه السلام ولا سيما في ضوء وجود كلّ هذه النصوص التاريخيّة والحديثيّة التي اطّلعنا على بعضٍ منها . ومن المثير للعجب أن يقول الشيخ
.
ص: 684
المفيد : «فأمّا علمه بوقت قتله فلم يأت عليه أثر على التحصيل» .
2 . عدم العلم أثناء وقوع التقدير الإلهيويفيد هذا المعنى أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا على علم تفصيلي بخبر شهادتهم ، ولكن هذا العلم يُسلَب منهم وقت استشهادهم وفقاً للتقدير الإلهي القطعي . جاءت رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يمكن أن تؤيّد في أحد احتمالاتها صحّة هذا الجواب ، قال الحسن بن الجهم : قُلتُ للإمام الرضا عليه السلام : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يُقتل فيها والموضع الذي يُقتل فيه ، وقوله لمّا سمع صياح الإوزّ في الدار : صوائح تتبعها نوائح ، وقول اُمّ كلثوم : لو صلّيت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلّي بالناس ! فأبى عليها ، وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ، وقد عرف عليه السلام أنّ ابن ملجم لعنه اللّه قاتله بالسيف ، كان هذا ممّا لم يجز تعرّضه! فقال : «ذلِكَ كانَ ، ولكِنَّهُ خُيِّرَ في تِلكَ اللَّيلَةِ لِتَمضِيَ مَقاديرُ اللّهِ عَزَّوجَلَّ» . (1) لقد جاء في بعض نسخ المصدر كلمة «حيّر» بدل «خيّر» ، وعلى هذا فإنّ قول الإمام يدلّ بكل وضوح بأنّه طرأت عليه في تلك اللحظة حالة لم يبقَ معها عليه تكليف بدفع القتل عن نفسه ، لكي يجري التقدير الإلهي .
3 . الإمام عليه السلام مكلّف باختيار الشهادةلاشكّ في أنّ تقدير الشهادة للإمام يأتي على أساس الحكمة الإلهيّة البالغة ، ولها مصالح ملزمة يجب أن تتحقّق . ولهذا السبب يتعيّن على الإمام أن لا يتوقّى منها ، وليس هذا فحسب ، بل ويجب عليه اختيار الشهادة رغم علمه الدقيق بكيفيّة
.
ص: 685
استشهاده . وذلك لأنّ اختيار الشهادة مع العلم بوقتها وكيفيّتها يُعدُّ فضيلة لا يحتملها إلّا القادة الربانيّون الكبار وخواصّ أصحابهم . ومع أنّني لم اُلاحظ أحدا تعرض لهذا الجواب ، ولكن يبدو أنّه أفضل ما يُمكن أن يُعلّل به عدم وقاية أئمّة أهل البيت أنفسهم من الشهادة ، مع علمهم بكيفيّتها ، وهو ممّا تؤيّده الأدلّة العقليّة والنقليّة (1) . ولغرض تقديم مزيد من المعلومات للباحثين ، نورد فيما يلي نصَّ جواب الشيخ المفيد ، والعلّامة الطباطبائي :
جواب الشيخ المفيدنقل العلّامة المجلسي أنّ الشيخ المفيد سُئل في المسائل العكبريّة : الإمام عندنا مجمع على أنّه يعلم ما يكون ، فما بال أمير المؤمنين عليه السلام خرج إلى المسجد وهو يعلم أنه مقتول وقد عرف قاتله والوقت والزمان ؟ وما بال الحسين بن علي عليهماالسلامسار إلى الكوفة وقد علم أنهم يخذلونه ولا ينصرونه وأنه مقتول في سفرته تلك ؟ ولِمَ لمّا حُصروا وعرف أنّ الماء قد مُنع منه وأنّه إن حفر أذرعا قريبة نبع الماء ، ولم يحفر وأعان على نفسه حتى تلف عطشا؟ والحسن عليه السلام وادع معاوية وهادنه وهو يعلم أنّه ينكث ولا يفي ويقتل شيعة أبيه عليه السلام . فأجاب الشيخ _ رحمه اللّه _ عنها بقوله : وأما الجواب عن قوله : «إنّ الإمام يعلم ما يكون» فإجماعنا أنّ الأمر على خلاف ما قال ، وما أجمعت الشيعة على هذا القول . وإنّما إجماعهم ثابت على أنّ الإمام يعلم الحكم في كلّ ما يكون دون أن يكون عالما بأعيان ما يحدث ويكون على التفصيل والتمييز . وهذا يسقط الأصل الذي بَنى عليه الأسئلة بأجمعها . ولسنا نمنع
.
ص: 686
أن يعلم الإمام أعيان ما يحدث ويكون بإعلام اللّه تعالى له ذلك . فأمّا القول بأنه يعلم كلّ ما يكون فلسنا نطلقه ولا نصوّب قائله لدعواه فيه من غير حجّة ولا بيان . والقول بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم قاتله والوقت الذي يُقتل فيه فقد جاء الخبر متظاهرا أنّه كان يعلم في الجملة أنّه مقتول ، وجاء أيضا بأنّه يعلم قاتله على التفصيل . فأما علمه بوقت قتله فلم يأتِ عليه أثر على التحصيل . ولو جاء به أثر لم يلزم فيه ما يظنه المعترضون ، إذ كان لا يمتنع أن يتعبّده اللّه تعالى بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل ، ليبلغه بذلك علوّ الدرجات ما لا يبلغه إلّا به . ولعلمه بأنّه يطيعه فيذلك طاعة لو كلّفها سواه لم يردها . ولا يكون بذلك أميرالمؤمنين عليه السلام ملقياً بيده إلى التهلكة ، ولا معيناً على نفسه معونة تستقبح في العقول . وأما علم الحسين عليه السلام بأنّ أهل الكوفة خاذلوه ، فلسنا نقطع على ذلك ، إذ لا حجّة عليه من عقل ولا سمع ، ولو كان عالماً بذلك لكان الجواب عنه ما قدّمناه في الجواب عن علم أمير المؤمنين عليه السلام بوقت قتله ومعرفة قاتله كما ذكرناه . وأما دعواه علينا أنّا نقول : إنّ الحسين عليه السلام كان عالماً بموضع الماء قادراً عليه ، فلسنا نقول ذلك ، ولا جاء به خبر ، على أنّ طلب الماء والاجتهاد فيه يقضي بخلاف ذلك ، ولو ثبت أنّه كان عالماً بموضع الماء لم يمتنع في العقول أن يكون متعبداً بترك السعي في طلب الماء من حيث كان ممنوعاً منه حسب ما ذكرناه في أمير المؤمنين عليه السلام ، غير أنّ ظاهر الحال بخلاف ذلك على ما قدّمناه . والكلام في علم الحسن عليه السلام بعاقبة موادعته معاوية بخلاف ماتقدّم ، وقد جاء الخبر بعلمه بذلك ، وكان شاهد الحال له يقضي به ، غير أنّه دفع به عن تعجيل قتله وتسليم أصحابه له إلى معاوية ، وكان في ذلك لطف في بقائه إلى حال مضيّه ولطف لبقاء كثير من شيعته وأهله وولده ، ودفع فساد في الدين هو أعظم من الفساد الذي
.
ص: 687
حصل عند هدنته ، وكان عليه السلام أعلم بما صنع لما ذكرناه وبيّنا الوجوه فيه . انتهى كلامه . أقول : وسأل السيّد مهنّا بن سنان العلّامة الحلّي عن مثل ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام فأجاب بأنّه يحتمل أن يكون عليه السلام اُخبر بوقوع القتل في تلك الليلة ، ولم يعلم في أي وقت من تلك الليلة أو أي مكان يقتل ، وأنّ تكليفه عليه السلام مغاير لتكليفنا ، فجاز أن يكون بذل مهجته الشريفة في ذات اللّه تعالى ، كما يجب على المجاهد الثبات ، وإن كان ثباته يفضي إلى القتل . (1)
جواب العلّامة الطباطبائيقال العلّامة الطباطبائي في هذا المجال : الإمام عليه السلام واقف بإذن اللّه على حقائق عالم الوجود كيفما كانت ؛ سواء كانت محسوسة أم خارج دائرة الحسّ كالموجودات السماويّة والحوادث الماضية ووقائع المستقبل . والدليل على هذا القول هو : جاء في الروايات المتواترة المنقولة في الجوامع الحديثيّة الشيعيّة ككتاب الكافي ، والبصائر ، وكتب الصدوق ، وكتاب بحار الأنوار وغيرها مما لايحصى ولا يُعدّ من الروايات بأنَّ الإمام عليه السلام واقف بكلّ شيء لا عن طريق العلم الاكتسابي وإنّما بطريق الموهبة الإلهيّة ، وبإمكانه أن يعلم كلّ شيء بإذن اللّه من خلال أدنى توجّه . النكتة التي ينبغي الالتفات إليها في هذا المجال هي أنّ هذا العلم اللدني الذي تثبته الأدلة العقليّة والنقليّة ، لا تخلّف فيه ولا تغيير ، ولا خطأ ، ويُسمّى بعلم ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ ، والعلم بما له صلة بالقضايا الإلهيّة الحتميّة . وهذا المطلب يستلزم عدم وجود أيّ تكليف بمتعلّق هذا العلم من حيث كونه حتمي الوقوع ولا يرتبط به قصد وطلب من الإنسان ؛ وذلك أنّ التكليف يأتي عادةً
.
ص: 688
عن طريق الإمكان بالفعل ، وعن طريق كون الفعل والترك كلاهما بيد المكلّف يختار منهما ما يشاء . وأمّا ما كان ضروري الوقوع ومتعلّقاً بالقضاء الحتمي ، فمن المحال أن يكون موضع تكليف . فمن الممكن مثلاً أن يأمر اللّه العبد بفعل أو ترك ما بيده فعله أو تركه . ولكن من المحال أن يأمره بفعل أو ترك ما قضت به الإرادة الإلهيّة ولا مجال فيه للأخذ والردّ ؛ لأنّ مثل هذا الأمر والنهي عبث ولغو . وكذلك يتسنّى للإنسان أن يعقد العزم على تحقيق عمل يحتمل فيه الإمكان وعدم الإمكان ويجعله نصب عينيه ويسعى من أجل تحقيقه ، ولكنه لا يستطيع إطلاقاً أن يقصد تحقيق أمر يقيني لايخضع للتغيير والتخلّف ؛ لأنّ إرادة أو عدم إرادة الإنسان ، وقصده وعدم قصده لا تأثير له في أمر واقع لا محالة ، من جهة كونه واقعاً . فتأمّل . يتّضح من خلال هذا البيان : 1 . إنّ هذا العلم اللدنّي لدى الإمام عليه السلام لا تأثير له في أعماله ولا صلة له بتكاليفه الخاصّة . وكلّ أمر مفروض من جهة تعلّقه بقضاء اللّه الحتمي الوقوع ، لا يكون موضوعاً لأمر الإنسان أو نهيه أو قصده أو إرادته . أجل إنّ متعلق القضاء الحتمي والمشيئة الإلهيّة القاطعة للحقّ تعالى هو الرضا بالقضاء كما روي عن سيّد الشهداء عليه السلام في اللحظات الأخيرة من حياته حينما كان يتمرّغ في الدم والتراب : «صبرا عَلى قَضائِكَ ولامَعبودَ سِواكَ يا غياث المستغيثين» (1) . وكذلك فيما جاء في خطبته عند خروجه من مكّة : «رِضَا اللّهِ رِضانا أهلَ البَيتِ» (2) . 2 . حتميّة فعل الإنسان من حيث تعلّقه بالقضاء الإلهي لاتتنافى مع صفته الاختيارية من حيث النشاط الاختياري للإنسان ؛ لأنّ القضاء الإلهي يتعلّق بكيفياته
.
ص: 689
لابمطلقه ؛ كأن يشاء اللّه أن يؤدي الإنسان كذا عمل اختياري بإرادته ، ففي مثل هذه الحالة يكون التحقق الخارجي لهذا الفعل حتميّاً لامفرّ منه من حيث تعلّقه بالإرادة الإلهيّة ، وهو في الوقت ذاته اختياري ويتصف بصفة الإمكان بالنسبة للإنسان ، فتأمّل . 3 . لاينبغي أخذ ظواهر أعمال الإمام عليه السلام الخاضعة للتطابق مع العلل والأسباب الظاهريّة كدليل على عدم امتلاكه لهذا العلم اللدنّي ، وشاهداً على الجهل بالواقع ، كأن يقال : إذا كان لدى الإمام الحسين عليه السلام علم بالواقع لماذا أرسل مسلم بن عقيل نيابة عنه إلى الكوفة؟ ولماذا بعث كتاباً إلى أهل الكوفة بيد الصيداوي؟ ولماذا خرج من مكّة إلى الكوفة؟ ولماذا ألقى بنفسه إلى التهلكة والباري تعالى يقول : «وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (1) . (2)
.
ص: 690
الفصل الخامس: من الاغتيال إلى الاستشهادأ _ أمرُ الإِمامِ عليه السلام بِالإِحسانِ إلى قاتِلِهِأنساب الأشراف_ في ذِكرِ ما جَرى بَعدَ اغتِيالِ الإِمامِ عليه السلام _: أمَّا ابنُ مُلجَمٍ فَاُخِذَ واُدخِلَ عَلى عَلِيٍّ ، فَقالَ : أطيبوا طَعامَهُ وألينوا فِراشَهُ ، فَإِن أعِش فَأَنَا وَلِيُّ دَمي ؛ فَإِمّا عَفَوتُ وإمَّا اقتَصَصتُ ، وإن أمُت فَأَلحِقوهُ بي «وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (1) . (2)الرياض النضرة :لَمّا اُخِذَ [ابنُ مُلجَمٍ] قالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : اِحبسُوهُ ؛ فَإن مُتُّ فَاقتُلوهُ ، ولا تُمَثَّلوا بِهِ ، وإن لَم أمُت فَالأَمرُ إلَيَّ فِي العَفوِ أوِ القِصاصِ . (3)
ب _ وَصايَا الإِمامِ عليه السلامأوصى الإمام عليّ عليه السلام أولاده وعائديه في أيامه الأخيرة بوصايا عديدة ، ذكرتها كتب الحديث والتاريخ (4) ، ونحن نشير هنا إلى بعض هذه الوصايا :
.
ص: 691
اُوصيكُما بِتَقوَى اللّهِ ، وألّا تَبغِيَا الدُّنيا وإن بَغتَكُما ، ولا تَأسَفا عَلى شَيءٍ مِنها زُوِيَ عَنكُما ، وقولا بِالحَقِّ ، وَاعمَلا لِلأَجرِ ، وكونا لِلظّالِمِ خَصما ، ولِلمَظلومِ عَونا . اُوصيكُما وجَميعَ وُلدي وأهلي ومَن بَلَغَهُ كِتابي بِتَقوَى اللّهِ ونَظمِ أمرِكُم وصَلاحِ ذاتِ بَينِكُم ؛ فَإِنّي سَمِعتُ جَدَّكُما صلى الله عليه و آله يَقولُ : صَلاحُ ذاتِ البَينِ أفضَلُ مِن عامَّةِ الصَّلاةِ وَالصِّيامِ . اللّهَ اللّهَ فِي الأَيتامِ ؛ فَلا تُغِبّوا (1) أفواهَهُم ، ولا يَضيعوا بِحَضرَتِكُم . وَاللّهَ اللّهَ في جيرانِكُم ؛ فَإِنَّهُم وَصِيَّةُ نَبِيِّكُم . ما زالَ يوصي بِهِم حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُم . وَاللّهَ اللّهَ فِي القُرآنِ ، لا يَسبِقُكُم بِالعَمَلِ بِهِ غَيرُكُم . وَاللّهَ اللّهَ فِي الصَّلاةِ ؛ فَإِنَّها عَمودُ دينِكُم . وَاللّهَ اللّهَ في بَيتِ رَبِّكُم ، لا تُخَلّوهُ ما بَقيتُم ؛ فَإِنَّهُ إن تُرِكَ لَم تُناظَروا . وَاللّهَ اللّهَ فِي الجِهادِ بِأَموالِكُم وأنفُسِكُم وألسِنَتِكُم في سَبيلِ اللّهِ . وعَلَيكُم بِالتَّواصُلِ وَالتَّباذُلِ ، وإيّاكُم وَالتَّدابُرَ وَالتَّقاطُعَ . لا تَترُكُوا الأَمرَ بِالمَعروفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ ، فَيُوَلّى عَلَيكُم شِرارُكُم ، ثُمَّ تَدعونَ فَلا يُستَجابُ لَكُم . ثُمَّ قالَ : يا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ، لا اُلفِيَنَّكُم تَخوضونَ دِماءَ المُسلِمينَ خَوضا ، تَقولونَ : قُتِلَ أميرُ المُؤمِنينَ . ألا لا تَقتُلُنَّ بي إلّا قاتِلي . اُنظُروا إذا أنَا مُتُّ مِن ضَربَتِهِ هذِهِ ، فَاضرِبوهُ ضَربَةً بِضَربَةٍ ، ولا تُمَثِّلوا بِالرَّجُلِ ؛ فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : إيّاكُم وَالمُثلَةَ ولَو بِالكَلبِ العَقورِ . (2)
.
ص: 692
ج _ عِيادَةُ الإِمامِ عليه السلامالأمالي للمفيد عن الأصبغ بن نباتة :لَمّا ضَرَبَ ابنُ مُلجِمٍ أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام غَدَونا عَلَيهِ نَفَرٌ مِن أصحابِنا ، أنَا وَالحارِثُ وسُوَيدُ بنُ غَفَلَةَ وجَماعةٌ مَعَنا ، فَقَعَدنا عَلَى البابِ فَسَمِعنَا البُكاءَ فَبَكَينا ، فَخَرَجَ إلَينَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ عليهماالسلامفَقالَ : يَقولُ لَكُم أميرُ المُؤمِنينَ : اِنصَرِفوا إلى مَنازِلِكُم . فَانصَرَفَ القَومُ غَيري ، وَاشتَدَّ البُكاءُ مِن مَنزِلِهِ فَبَكَيتُ فَخَرَجَ الحَسَنُ عليه السلام فَقالَ : أ لَم أقُل لَكُمُ انصَرِفوا . فَقُلتُ : لا وَاللّهِ يَابنَ رَسولِ اللّهِ ، ما تُتابِعُني نَفسي ، ولا تَحمِلُني رِجلي أن أنصَرِفَ حَتّى أرى أميرَ المُؤمِنينَ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ . قالَ : فَتَلَبَّثَ ، فَدَخَلَ ، ولَم يَلبَث أن خَرَجَ فَقالَ لي : اُدخُل ، فَدَخَلتُ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَإِذا هُوَ مُستَنِدٌ ، مَعصوبُ الرَّأسِ بِعِمامَةٍ صَفراءَ ، قَد نُزِفَ واصفَرَّ وَجهُهُ ، ما أدري وَجهُهُ أصفَرُ أمِ العِمامَةُ ، فَأَكبَبتُ عَلَيهِ فَقَبَّلتُهُ وبَكَيتُ ، فَقالَ لي : لا تَبكِ يا أصبَغُ ؛ فَإِنَّها وَاللّهِ الجَنَّةُ ، فَقُلتُ لَهُ : جُعِلتُ فِداكَ ، إنّي أعلَمُ وَاللّهِ أنَّكَ تَصيرُ إلَى الجَنَّةِ ، وإنَّما أبكي لِفِقداني إيّاكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ . (1)
د _ كَلِماتُ الإِمامِ عليه السلام قُبَيلَ مَوتِهِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامِهِ قُبَيلَ مَوتِهِ _: وَاللّهِ ، ما فَجَأني مِنَ المَوتِ وارِدٌ كَرِهتُهُ ، ولا طالِعٌ أنكَرتُهُ ، وما كُنتُ إلّا كَقارِبٍ وَرَدَ ، وطالِبٍ وَجَدَ «وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ» (2) . (3)
.
ص: 693
ه _ لِقاءُ المَحبوبِربيع الأبرار عن أسماء بنت عُميس :أنَا لَعِندَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام بَعدَما ضَرَبَهُ ابنُ مُلجَمٍ ، إذ شَهَقَ شَهقَةً ، ثُمَّ اُغمِيَ عَلَيهِ ، ثُمَّ أفاقَ فَقالَ : مَرحَبا ، مَرحَبا ، الحَمدُ للّهِِ الَّذي صَدَقَنا وَعدَهُ ، وأورَثَنَا الجَنَّةَ ، فَقيلَ لَهُ : ما تَرى ؟ قالَ : هذا رَسولُ اللّهِ ، وأخي جَعفَرٌ ، وعَمّي حَمزَةُ ، وأبوابُ السَّماءِ مُفَتَّحَةٌ ، وَالمَلائِكَةُ يَنزِلونَ يُسَلِّمونَ عَلَيَّ ويُبَشِّرونَ ، وهذِهِ فاطِمَةُ قَد طافَ بِها وَصائِفُها مِنَ الحورِ ، وهذِهِ مَنازِلي فِيالجَنَّةِ ، «لِمِثْلِ هَ_ذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَ_مِلُونَ » (1) . (2)
و _ تاريخُ شَهادَتِهِكان اغتيال الإمام عليه السلام على يد ابن ملجم على المشهور في فجر اليوم التاسع عشر (3) من شهر رمضان . وكانت شهادته عليه السلام في ليلة الجمعة (4) الحادي والعشرين (5) من شهر رمضان سنة (40 ه ) (6) ، والذي يصادف ليلة نزول القرآن . (7) وهناك أقوال اُخر حول تاريخ اغتياله وهي : اليوم السابع عشر (8) ، والحادي والعشرون 9 من شهر رمضان . كما ذُكرت أقوال اُخر حول تاريخ شهادته وهي : اليوم الثالث والعشرون 10 ،
.
ص: 694
والتاسع عشر (1) ، والسابع عشر (2) ، والسابع والعشرون (3) من شهر رمضان سنة (40 ه ) . وهناك اختلاف أيضا بين المؤرّخين حول سنّ الإمام عليه السلام حين شهادته ؛ فقد ذكر أكثر المؤرّخين والمحدّثين من الفريقين أنّ عمره الشريف كان (63 سنة) (4) بيد أنّ هناك أقوال اُخر في هذا المضمار ، وهي : (58 سنة) (5) و(65 سنة) (6) و(64 سنة) . (7)
.
ص: 695
الفصل السادس: بعد الاستشهادأ _ التَّجهيزُ وَالدَّفنُالإرشاد عن حبّان بن عليّ العنزي عن مولىً لعليّ عليه السلام :لَمّا حَضَرَت أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام الوَفاةُ قالَ لِلحَسَنِ وَالحُسَينِ عليهماالسلام : إذا أنَا مُتُّ فَاحمِلاني عَلى سَريري ، ثُمَّ أخرِجاني وَاحمِلا مُؤَخَّرَ السَّريرِ ؛ فَإِنَّكُما تُكفيانِ مُقَدَّمَهُ ، ثُمَّ ائتِيا بِيَ الغَرِيَّينِ (1) ؛ فَإِنَّكُما سَتَرَيانِ صَخرَةً بَيضاءَ تَلمَعُ نورا ، فَاحتَفِرا فيها ؛ فَإِنَّكُما تَجِدانِ فيها ساجَةً ، فَادفِناني فيها . قالَ : فَلَمّا ماتَ أخرَجناهُ وجَعَلنا نَحمِلُ مُؤَخَّرَ السَّريرِ ونُكفى مُقَدَّمَهُ ، وجَعَلنا نَسمَعُ دَويّا وحَفيفا حَتّى أتَينَا الغَرِيَّينِ ، فَإِذا صَخرَةٌ بَيضاءَ تَلمَع نورا ، فَاحتَفَرنا فَإِذا ساجَةٌ مَكتوبٌ عَلَيها : «مِمَّا ادَّخَرَ نوحٌ لِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ» . فَدَفَنّاهُ فيها ، وَانصَرَفنا ونَحنُ مَسرورونَ بِإِكرامِ اللّهِ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَلَحِقَنا قَومٌ مِنَ الشّيعَةِ لَم يَشهَدوا الصَّلاةَ عَلَيهِ ، فَأَخبَرناهُم بِما جَرى وبِإِكرامِ اللّهِ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام فَقالوا : نُحِبُّ أن نُعايِنَ مِن أمرِهِ ما عايَنتُم . فَقُلنا لَهُم : إنَّ المَوضِعَ قَد عُفِّيَ أثَرُهُ بِوَصِيَّةٍ مِنهُ عليه السلام ، فَمَضَوا وعادوا إلَينا فَقالوا : إنَّهُمُ احتَفَروا فَلَم يَجِدوا شَيئا . (2)
.
ص: 696
ب _ خُطبَةُ الإِمامِ الحَسَنِ عليه السلام بَعدَ أبيهِتاريخ الطبري عن خالد بن جابر :سَمِعتُ الحَسَنَ يَقولُ _ لَمّا قُتِلَ عَلِيٌّ عليه السلام وقَد قامَ خَطيبا ، فَقالَ _ : لَقَد قَتَلتُمُ اللَّيلَةَ رَجُلاً في لَيلَةٍ فيها نَزَلَ القُرآنُ ، وفيها رُفِعَ عيسَى بنُ مَريَمَ عليه السلام ، وفيها قُتِلَ يوشَعُ بنُ نونٍ فَتى موسى عليهماالسلام . وَاللّهِ ما سَبَقَهُ أحَدٌ كانَ قَبلَهُ ، ولا يُدرِكُهُ أحَدٌ يَكونُ بَعدَهُ ، وَاللّهِ إن كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَيَبعَثُهُ فِي السَّرِيَّةِ وجَبريلُ عَن يَمينِهِ وميكائيلُ عَن يَسارِهِ ، وَاللّهِ ما تَرَكَ صَفراءَ ولا بَيضاءَ إلّا ثَمانُمِئَةٍ _ أو سَبعُمِئَةٍ _ أرصَدَها لِخادِمِهِ . (1)
ج _ قِصاصُ ابنِ مُلجَمٍتهذيب الأحكام عن أبي مطر :لَمّا ضَرَبَ ابنُ مُلجَمٍ الفاسِقُ _ لَعَنَهُ اللّهُ _ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام قالَ لَهُ الحَسَنُ عليه السلام : أقتُلُهُ ؟ قالَ : لا ، ولكِنِ احبِسهُ ؛ فَإِذا مُتُّ فَاقتُلوهُ ، وإذا مُتُّ فَادفِنوني في هذَا الظَّهرِ في قَبرِ أخَوَيَّ هودٍ وصالِحٍ عليهماالسلام . (2)
د _ مَكانُ قَبرِ الإِمامِ عليه السلامالإمام الصادق عليه السلام :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيٌّ يَأتِي النَّجَفَ ويَقولُ : وادِي السَّلامِ ومَجمَعُ أرواحِ المُؤمِنينَ ونِعمَ المَضجَعُ لِلمُؤمِنِ هذَا المَكانُ . وكانَ يَقولُ : اللّهُمَّ اجعَل قَبري بِها . (3)تهذيب الأحكام عن أبي بصير :قُلتُ لِأَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام : أينَ دُفِنَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام قالَ : دُفِنَ في قَبرِ أبيهِ نوحٍ عليه السلام قُلتُ : وأينَ قَبرُ نوحٍ ؟ النّاسُ يَقولونَ : إنَّهُ فِي المَسجِدِ ، قالَ : لا ، ذاكَ في ظَهرِ الكوفَةِ . (4)
.
ص: 697
ه _ إخفاءُ قَبرِ الإِمامِ عليه السلامالإمام الصادق عليه السلام :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام أمَرَ ابنَهُ الحَسَنَ أن يَحفِرَ لَهُ أربَعَةَ قُبورٍ في أربَعَةِ مَواضِعَ : فِي المَسجِدِ ، وفِي الرُّحبَةِ ، وفِيالغَرِيِّ ، وفي دارِ جَعدَةَ بنِ هُبَيرَةَ ، وإنَّما أرادَ بِهذا أن لا يَعلَمَ أحَدٌ مِن أعدائِهِ مَوضِعَ قَبرِهِ عليه السلام . (1)
و _ ظُهورُ قَبرِ الإِمامِ عليه السلامكتاب من لا يحضره الفقيه عن صفوان عن الإمام الصادق عليه السلام :سارَ وأنَا مَعَهُ فِي القادِسِيَّةِ (2) حَتّى أشرَفَ عَلَى النَّجَفِ . . . ثُمَّ قالَ عليه السلام : اِعدِلِ بِنا ، قالَ : فَعَدَلتُ بِهِ فَلَم يَزَل سائِرا حَتّى أتَى الغَرِيَّ ، فَوَقَفَ عَلَى القَبرِ فَساقَ السَّلامَ مِن آدَمَ عَلى نَبِيٍّ نَبِيٍّ عليهم السلام وأنَا أسوقُ السَّلامَ مَعَهُ حَتّى وَصَلَ السَّلامُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ خَرَّ عَلَى القَبرِ فَسَلَّمَ عَلَيهِ وعَلا نَحيبَهُ ، ثُمَّ قامَ فَصَلّى أربَعَ رَكَعاتٍ _ وفي خَبَرٍ آخَرَ : سِتَّ رَكَعاتٍ _ وصَلَّيتُ مَعَهُ ، وقُلتُ لَهُ : يَابنَ رَسولِ اللّهِ ما هذَا القَبرُ ؟ قالَ: هذَا القَبرُ قَبرُ جَدّي عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام . (3)ز _ ثَوابُ زِيارَتِهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن زارَ عَلِيّا بَعدَ وَفاتِهِ فَلَهُ الجَنَّةُ . (4)تهذيب الأحكام عن جعفر بن محمّد بن مالك عن رجاله يرفعه :كُنتُ عِندَ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الصّادِقِ عليهماالسلام وقَد ذَكَرَ أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام فَقالَ ابنُ مارِدٍ لِأَبي
.
ص: 698
عَبدِ اللّهِ عليه السلام : ما لِمَن زارَ جَدَّكَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام ؟ فَقالَ : يَابنَ مارِدٍ ، مَن زارَ جَدّي عارِفاً بِحَقِّهِ كَتَبَ اللّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطوَةٍ حَجَّةً مَقبولَةً وعُمرَةً مَبرورَةً ، وَاللّهِ يَابنَ مارِدٍ ما يُطعِمُ اللّهُ النّارَ قَدَما اغبَرَّت في زِيارَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ماشِيا كانَ أو راكِبا ، يَابنَ مارِدٍ ! اُكتُب هذَا الحَديثَ بِماءِ الذَّهَبِ . (1)
.
ص: 699
القسم التاسع : الآراء حول شخصية الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: عليّ عليه السلام عن لسان القرآنالفصل الثاني: عليّ عليه السلام عن لسان النبيّ صلى الله عليه و آلهالفصل الثالث: عليّ عليه السلام عن لسان عليّ عليه السلامالفصل الرابع: عليّ عليه السلام عن لسان أهل البيت عليهم السلامالفصل الخامس: عليّ عليه السلام عن لسان أزواج النبيّ صلى الله عليه و آلهالفصل السادس: عليّ عليه السلام عن لسان أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آلهالفصل السابع: عليّ عليه السلام عن لسان أصحابهالفصل الثامن: عَلِيٌّ عليه السلام عَنْ لِسَانِ أعْدَائِهِالفصل التاسع: عَلِيٌّ عليه السلام عَنْ لِسَانِ الشعراء
.
ص: 700
. .
ص: 701
الفصل الأوّل: عليّ عليه السلام عن لسان القرآنعليّ عليه السلام حافظ سرّ القرآن الكريم ، والمظهر الأسمى لفهم هذا الكتاب الإلهيّ . إنّه قرين هذا النداء السماويّ ، ولسانه الناطق . وارتباطه به ارتباط وثيق لا ينفكّ ، ويظلّ هذا الارتباط قائما إلى يوم القيامة ، والميعاد على حوض الكوثر . وهذه الحقيقة العظيمة نطق بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حديث الثقلين العظيم ، وقال صلى الله عليه و آله في كلام آخر له أيضا : «عَلِيٌّ مَعَ القُرآنِ وَالقُرآنُ مَعَ عَلِيٍّ ؛ لا يَفتَرِقانِ حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ» . (1) يترجم لنا هذا الكلام الثمين أنّ عليّا عليه السلام عِدل القرآن الكريم ، والمدافع الدؤوب عن معارفه ، وحليفه الكبير المبيّن لتعاليمه ، كما قال عليه السلام : «ذلِكَ القُرآنُ فَاستَنطِقوهُ ولَن يَنطِقَ ، ولكِن اُخبِرُكُم عَنهُ» (2) . وقال : «وَاللّهِ ، ما نَزَلَت آيَةٌ إلّا وقَد عَلِمتُ فيما نَزَلَت ، وأينَ نَزَلَت ، وعَلى مَن نَزَلَت» (3) . وهذه حقيقة أقرّ بها الجميع ، واعترف بها
.
ص: 702
الصحابة منذ الأيّام الاُولى . من جهة اُخرى يمكننا أن نفهم من هذا الكلام النبويّ الرفيع أنّ القرآن الكريم أفضل وثيقة دالّة على عظمة عليّ عليه السلام وناطقة بجلالته وسموّ شأنه : «وَالقُرآنُ مَعَ عَلِيٍّ» . (1) ولم يَخْفَ هذا على أحد منذ الأيّام الاُولى لنزول القرآن الكريم ، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «ما أنزَلَ اللّهُ آيَةً فيها«يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ» إلّا وعَلِيٌّ رَأسُها وأميرُها» . (2) وقال مفسّر القرآن الكبيرُ عبد اللّه بن عبّاس : «لَيسَ مِن آيَةٍ فِي القُرآنِ فيها : «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ» إلّا وعَلِيٌّ رَأسُها وأميرُها وشَريفُها . ولَقَد عاتَبَ اللّهُ أصحابَ مُحَمَّدٍ فِي القُرآنِ ، وما ذَكَرَ عَلِيّا إلّا بِخَيرٍ» . (3) وقال أيضا : «ما نَزَلَ في أحَدٍ مِن كِتابِ اللّهِ تَعالى ما نَزَلَ في عَلِيٍّ» . (4) وقال حذيفة بن اليمان : «ما نَزَلَت فِي القُرآنِ «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ» إلّا كانَ لِعَلِيٍّ لُبُّها ولُبابُها» . (5) وقال مجاهد : «نَزَلَت في عَلِيٍّ سَبعونَ آيَةً ، لَم يَشرَكهُ فيها أحَدٌ» . (6) وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : «لَقَد نَزَلَت في عَلِيٍّ ثَمانونَ آيَةً صَفوا في كِتابِ اللّهِ ، ما يَشرَكُهُ فيها أحَدٌ مِن هذِهِ الاُمَّةِ» . (7) وما سنذكره في السطور القادمة من هذه المجموعة ما هو غَيضٌ من فَيض . وقد
.
ص: 703
آثرنا الإيجاز في عرض هذه الحقائق .
أ _ نَفسُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهالكتاب«فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَ_ذِبِينَ» . (1)
الحديثالإمام عليّ عليه السلام :إنَّ النَّصارَى ادَّعَوا أمرا فَأَنزَلَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ فيهِ : «فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَ_ذِبِينَ» ، فَكانَت نَفسي نَفسُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ وَالنِّساءُ فاطِمَةُ عليهاالسلام ، وَالأَبناء الحَسَنُ وَالحُسَينُ . (2)ب _ شاهِدٌ مِنهُالكتاب«أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ» . (3)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله : «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ» : أنَا ، «وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ» : عَلِيٌّ . (4)
.
ص: 704
ج _ الَّذي عِندَهُ عِلمُ الكِتابِالكتاب«وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِى وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَ_بِ » . (1)
الحديثالكافي عن بريد بن معاوية :قُلتُ لِأَبي جَعفَرٍ عليه السلام : «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِى وَ بَيْنَ_كُمْ وَ مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَ_بِ» ؟ قالَ عليه السلام : إيّانا عَنى ، وعَلِيٌّ عليه السلام أوَّلُنا وأفضَلُنا وخَيرُنا بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله . (2)د _ المُؤمِنُالكتاب«أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ» . (3)
الحديثتفسير الطبري عن عطاء بن يسار_ فِي الآيَةِ الكَريمَةِ _: نَزَلَت بِالمَدينَةِ في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ، وَالوَليدِ بنِ عُقبَةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ؛ كانَ بَينَ الوَليدِ وبَينَ عَلِيٍّ عليه السلام كَلامٌ ، فَقالَ الوَليدُ بنُ عُقبَةَ : أنَا أبسَطُ مِنكَ لِسانا ، وأحَدُّ مِنكَ سِنانا ، وأرَدُّ مِنكَ لِلكَتيبَةِ ! فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : اُسكُت ؛ فَإِنَّكَ فاسِقٌ . فَأَنزَلَ اللّهُ فيهِما : «أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ» إلى قوله : «بِهِ تُكَذِّبُونَ» . (4)
.
ص: 705
ه _ السّابِقُالكتاب«وَ السَّ_بِقُونَ السَّ_بِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» . (1)
«وَ السَّ_بِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَ_جِرِينَ وَالْأَنصَارِ» . (2)
الحديثسپس حضرت تأكيد مى كند :الأمالي للمفيد عن ابن عبّاس :سَأَلتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَن قَولِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «وَ السَّ_بِقُونَ السَّ_بِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّ_تِ النَّعِيمِ» ، فَقالَ صلى الله عليه و آله : قالَ لي جَبرَئيلُ : ذاكَ عَلِيٌّ وشيعَتُهُ ؛ هُمُ السّابِقونَ إلَى الجَنَّةِ ، المُقَرَّبونَ إلَى اللّهِ تَعالى بِكَرامَتِهِ لَهُم . (3)و _ صالِحُ المُؤمِنينَالكتاب«إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَ__لِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذَ لِكَ ظَهِيرٌ» . (4)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله :صالِحُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . (5)ز _ خَيرُ البَرِيَّةِالكتاب«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» . (6)
.
ص: 706
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في قَولِهِ تَعالى : «أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» _: أنتَ يا عَلِيُّ وشيعَتُكَ . (1)
الإمام الباقر عليه السلام :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : يا عَلِيُّ «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» : أنتَ وشيعَتُكَ . تَرِدُ عَلَيَّ أنتَ وشيعَتُكَ راضينَ مَرضِيّينَ . (2)
ح _ خَصمُ الكُفّارِالكتاب«هَ_ذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ» . (3)
الحديثصحيح البخاري عن أبي مجلَز عن قيس بن عباد عن الإمام عليّ عليه السلام :أنَا أوَّلُ مَن يَجثو بَينَ يَدَيِ الرَّحمنِ لِلخُصومَةِ يَومَ القِيامَةِ .
قالَ قَيسٌ : وفيهِم نَزَلَت : «هَ_ذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ» قالَ : هُمُ الَّذينَ بارَزوا يَومَ بَدرٍ : عَلِيٌّ وحَمزَةُ وعُبَيدَةُ ، وشَيبَةُ بنُ رَبيعَةَ وعُتبَةُ بنُ رَبيعَةَ وَالوَليدُ بنُ عُتبَةَ . (4)ط _ الهاديالكتاب«إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ » . (5)
.
ص: 707
الحديثامام سجاد عليه السلام مى فرمايد:تاريخ دمشق عن ابن عبّاس :لَمّا نَزَلَت : «إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : أنَا المُنذِرُ ، وعَلِيٌّ الهادي ، بِكَ يا عَلِيُّ يَهتَدِي المُهتَدونَ . (1)ي _ الوَلِيُّ المُتَصَدِّقُ فِي الرُّكوعِالكتاب«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ » . (2)
الحديثالمعجم الأوسط عن عمّار بن ياسر :وَقَفَ عَلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ سائِلٌ وهُوَ راكِعٌ في تَطَوُّعٍ ، فَنَزَعَ خاتَمَهُ فَأَعطاهُ السّائِلَ ، فَأَتى رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَأَعلَمَهُ ذلِكَ ، فَنَزَلَت عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله هذِهِ الآيَةُ : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ» فَقَرَأَها رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ثُمَّ قالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ . (3)
ك _ الَّذي يَشري نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضاةِ اللّهِالكتاب«وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوف بِالْعِبَادِ » . (4)
.
ص: 708
الحديثالإمام زين العابدين عليه السلام_ فِي الآيَةِ الكَريمَةِ _: نَزَلَت في عَلِيٍّ عليه السلام حينَ باتَ عَلى فِراشِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . (1)ل _ الَّذي يُنفِقُ مالَهُ بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ سِرّا وعَلانِيَةًالكتاب« الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَ لَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » . (2)
الحديثالمعجم الكبير عن ابن عبّاس_ في قَولِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَ لَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً» _: نَزَلَت في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، كانَت عِندَهُ أربَعَةُ دَراهِمَ ، فَأَنفَقَ بِاللَّيلِ واحِدا ، وبِالنَّهارِ واحِدا ، وفِي السِّرِّ واحِدا ، وفِي العَلانِيَةِ واحِدا . (3)م _ المُؤَذِّنُ بَينَ أصحابِ الجَنَّةِ وَالنّارِالكتاب«وَنَادَى أَصْحَ_بُ الْجَنَّةِ أَصْحَ_بَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّن بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّ__لِمِينَ » . (4)
الحديثالكافي عن أحمد بن عمر الحلّال :سَأَلتُ أبَا الحَسَنِ عليه السلام عَن قَولِهِ تَعالى : «فَأَذَّنَ مُؤَذِّن بَيْنَهُمْ
.
ص: 709
أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّ__لِمِينَ» ؟قالَ عليه السلام :المُؤَذِّنُ أميرُالمُؤمِنينَ عليه السلام (1) .
ن _ وِلايَتُهُ كَمالُ الدّينِالكتاب«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاءِسْلَ_مَ دِينًا» . (2)
«يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَ_فِرِينَ » . (3)
الحديثتاريخ دمشق عن أبي سعيد الخدري :نَزَلَت هذِهِ الآيَةُ : «يَ_أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ» عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ غَديرِ خُمٍّ في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . (4)
.
ص: 710
الفصل الثاني: عليّ عن لسان النبيّموقع الإمام عليه السلام من الحديث النَّبويّ صلى الله عليه و آلهما توفّر عليه هذا الفصل هو كلمات عظيمة ، وقمم سامقة ، ومدائح لا نظير لها صدرت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بشأن عليّ عليه السلام . وفي البدء نرى من الضروري أن نذكر عددا من النقاط حيال أبعاد شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام ، والموقع الذي يحظى به هذا الإمام العظيم بنظر النبيّ صلى الله عليه و آله وما لَه من مكانة من خلال تعاليم الدين نفسه . هذه النقاط هي :
1 . سعة حديث النبيّ صلى الله عليه و آله حيال عليّ عليه السلامتُؤلّف كلمات رسول اللّه صلى الله عليه و آله الوضّاءة الشطرَ الأعظم ممّا ذكرناه في فصول هذا الكتاب من معالم عن عليّ عليه السلام ، وممّا توفّرنا على بيانه من أبعاد شخصيّة هذا العظيم . على هذا الضوء راح الكلام النبوي يشعّ في أرجاء تمام صفحات هذا الكتاب . وما نسجّله هنا _ باختصار _ ما هو إلّا نقاط بارزة ، وتجلّيات مشرقة من كلام النبيّ العظيم ، ممّا لم يأتِ ذكره في الفصول الاُخر أو لم يرد بتفصيل .
2 . عليٌّ عليه السلام السرّ المكتوملشخصيّة أمير المؤمنين أبعاد مجهولة واسعة ، ومن ثمّ فقد اعترف الكثيرون على
.
ص: 711
امتداد التاريخ بعجزهم عن الارتقاء إلى مكامن تلك الشخصيّة التي لا نظير لها في تاريخ الإسلام . بيدَ أنّ هذه الحقيقة تجلّت على أسمى وجه وأتمّه في كلام النبيّ صلى الله عليه و آله . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ما عَرَفَكَ يا عَلِيُّ حَقَّ مَعرِفَتِكَ إلَا اللّهُ وأنَا» . (1) لكن ما قدر ما أظهره النبيّ من تلك المعرفة ؟ وكم كان يطيق المجتمع من تلك الحقائق ؟ وكيف تعاملت _ الاُمّة _ مع ما أبداه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأظهره ؟! قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «لَولا أن يَقولَ فيكَ الغالونَ مِن اُمَّتي ما قالَتِ النَّصارى في عيسَى بنِ مَريَمَ ؛ لَقُلتُ فيكَ قَولاً لا تَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ النّاسِ إلّا أخَذُوا التُّرابَ مِن تَحتِ قَدَمَيكَ يَستَشفونَ بِهِ» . (2) أجل ؛ إنّ الاُمّة لا تطيق سطوع حقيقة شخصيّتك ، ولا تتحمّل ظهور فضائلك ومناقبك كما هي ، وليس للآذان قدرة على الإصغاء إليها ، ولا للنفوس قابليّة الانغمار بها والارتواء من نميرها . مع ذلك كلّه ، تبقى أجمل الصيغ عن شخصيّة أمير المؤمنين وأسماها ، وأنطق الأوصاف وأبلغها وأثراها دلالةً فيما جاء ؛ هي تلك التي نجدها في كلام النبيّ المصطفى صلى الله عليه و آله . بيد أنّ السؤال : هل يعبّر ما احتوته صفحات الآثار المكتوبة من الكلمات المحمّديّة حيال الإمام عن جميع ما كان ، أم إنّ كثيرا من تلك الحقائق بقي رهين الصدور خشية الأذى وخوف التبعات ، ثم دُفن مع أهله واندثر مع أصحابه ؟ لسنا نريد في هذه المقدّمة أن نُزيح الستار عن هذا المشهد من التاريخ المليء
.
ص: 712
بالغصص ، لكنّنا نؤكّد أنّ ما بقي هو غيض من فيض ، وما وصل إلينا محض اُمثولات من حقائق ما برحت ثاويةً في صدر التاريخ ، غائرةً في أحشائه ، ومُجرّد أحاديث قصار من كلام سامق طويل لم يُبَح به . عجبا واللّه ! إنّ اُولئك الذين لم يطيقوا أشعّة الشمس ، لم يرضَوا بهذا القليل ولم يتحمّلوه ؛ إذ سرعان ما أصدروا حكمهم عليه ب_ «الوضع» عنادا من عند أنفسهم ، وجنوحا عن الحقّ ، ومعاداةً للفضيلة ، ثمّ ما لبثوا أن سعَوا بذريعة «الوضع» إلى إبعاد هذا القليل عن ساحة الثقافة ومضمار الفكر ، وحذفه من صفحات أذهان الناس . أما في المواضع التي استعصت فيها تلك الفضائل على التكذيب بما لها من قوّة ومن تلألؤ ساطع ، فقد بادر اُولئك إلى التحريف المعنوي ، وتوسّلوا بتوجيهات غير منطقيّة وبجهود عقيمة ، علّهم ينالون بها شيئا من تشعشع أنوار الحقّ ، ويقلّلون من امتداده . وفي هذا المضمار نسجّل بأسف : ما أكثر الكتابات التي اُهملت بسبب هذه الهجمات الثقافيّة ، وما أكثر ما ضاع !
3 . كلام النبيّ صلى الله عليه و آله نافذة لمعرفة عليّ عليه السلامعليٌّ سرّ الوجود المكتوم ؛ وهل ثَمَّ سبيل إلى اكتناه هذا السرّ وفتح مغاليقه سوى الاستمداد من أعلم شخصيّة في الوجود وأدراها بالسرّ ؟ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأعرف الوجود بالسرّ ، وهو إلى ذلك مُعلّم الإمام عليه السلام ومُربّيه ، وقد كان الإمام عليه السلام تلميذه ورفيق دربه وقرينه . لقد أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليّا وضمّه إليه صغيرا ، ثمّ تمتم بنداء الوحي في ثنايا روحه وجوانبها ، فطفقت أعماق وجود عليّ تفوح بشذى عطر التعاليم الإلهيّة وتنضح بنداها .
.
ص: 713
وهكذا كان عليٌّ ماثلاً أمامه بكلّ وجوده كالمرآة الصافية . وعندما كان النبيّ يتحدّث عنه فإنّما يتحدّث بمثل هذه النظرة ومن خلالها . ولك أن تتأمّل هذا الوصف العلوي الأخّاذ الناطق ، في بيان الصلة فيما بينهما (صلوات اللّه وسلامه عليهما) ؛ إذ يقول أمير المؤمنين : «وَضَعَني في حِجرِهِ وأنَا وَلَدٌ ، يَضُمُّني إلى صَدرِهِ ، ويَكنُفُني فِي فِراشِهِ ، ويُمِسُّني جَسَدَهُ ، ويُشِمُّني عَرفَهُ ، وكانَ يَمضَغُ الشَّيءَ ثُمَّ يُلقِمُنيهِ ، وما وَجَدَ لي كَذبَةً في قَولٍ ، ولا خَطلَةً في فِعلٍ ، ولَقَد قَرَنَ اللّهُ بِهِ صلى الله عليه و آله مِن لَدُن أن كانَ فَطيما أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَريقَ المَكارِمِ ، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالَمِ ، لَيلَهُ ونَهارَهُ . ولَقَد كُنتُ أتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفَصيلِ أثَرَ اُمِّهِ ، يَرفَعُ لي في كُلِّ يَومٍ مِن أخلاقِهِ عَلَما ، ويَأمُرُني بِالِاقتِداءِ بِهِ . ولَقَد كانَ يُجاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِراءَ فَأَراهُ ولا يَراهُ غَيري . ولَم يَجمَع بَيتٌ واحِدٌ يَومَئِذٍ فِي الإِسلامِ غَيرَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وخَديجَةَ وأنَا ثالِثُهُما . أرى نورَ الوَحيِ وَالرِّسالَةِ ، وأشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ . ولَقَد سَمِعتُ رَنَّةَ الشَّيطانِ حينَ نَزَلَ الوَحيُ عَلَيهِ صلى الله عليه و آله ، فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما هذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقالَ : هذَا الشَّيطانُ قَد أيِسَ مِن عِبادَتِهِ ، إنَّكَ تَسمَعُ ما أسمَعُ ، وتَرى ما أرى ، إلّا أنَّكَ لَستَ بِنَبِيٍّ ، ولكِنَّكَ لَوَزيرٌ وإنَّكَ لَعَلى خَيرٍ» . إنّ رسول اللّه عليه السلام موصول بمصدر الوحي ومنبثق الإلهام ، ومن ثَمَّ فما يقوله هو انعكاس لتجلّيات ربّانيّة ، وتجلٍّ لحقائق الوحي ، وهو تبلور لكلام اللّه سبحانه . فعندما يتحدّث النبيّ عن عليّ فكأنّ الذي يتحدّث عنه هو اللّه جلّ جلاله ، وهو سبحانه الذي يكشف الستر والأسرار ، ويزيح الحُجب عن الشخصيّة السامقة لإمام الإنسانيّة . وحيثُ نطلّ على المشهد من زاوية اُخرى ؛ فإنّ عليّا هو نظير رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو
.
ص: 714
مثيله . وعلى ضوء الكلام الالهي الساطع : «وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ» فإنّ عليّا عليه السلام هو نفس رسول اللّه صلى الله عليه و آله له جميع ما للنبيّ الأقدس من مقامات ظاهريّة وباطنيّة ما خلا النبوّة . فعندما يتحدّث رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الإمام أمير المؤمنين ويكشف عن مؤهّلاته وما يحظى به من جدارة ، إنّما يضع في الحقيقة امتداده الوجودي بين يدي الآخرين ، ويعرض نظيره ويعرّف به من أجل الأهداف السياسيّة والاجتماعيّة العالية للاُمّة الإسلاميّة ، ويقدّم إلى الناس كافّة أفضل شخصيّة وأسماها نشأت في ظِلال الأنوار الإلهيّة الساطعة .
4 . تصنيفُ كلام النبيّ صلى الله عليه و آله حيال عليّ عليه السلامقبل أن نبادر إلى تصنيف كلام النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله حيال الإمام عليّ بن أبي طالب ، ونستخلصه من خلال عناوين نأتي بها في إطار نظرة سريعة عامّة ، ينبغي أن نعترف أنّ الاستخلاص الدقيق والتصنيف الكامل التامّ لما قاله النبيّ في عليّ لهو عمل عظيم شاقّ ، وهو _ بلا شك _ يتطلّب مجالاً أوسع من الفرصة المتاحة لنا في مقدّمة هذا الفصل . بيد أنّنا مع ذلك نسعى من خلال الإفادة من روايات هذا الفصل وما جاء في الفصول الاُخر ، أن نشقّ طريقا صوب المراد والمقصود ؛ وإن لم يكن بالمستوى اللائق . بهذا الشأن تبرز أمامنا العناوين التالية :
أ _ عليٌّ عليه السلام من حيث الخلق والتكوينيرتبط جزء من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الإمام عليّ بجوهره الوجودي وكيفيّة خلقه . فمن وجهة نظر النبيّ يعدّ عليّ ورسول اللّه _ صلوات اللّه وسلامه عليهما _ شعاع نور
.
ص: 715
واحد ، والاثنان هما تجلٍّ لنور اللّه سبحانه ؛ فلحم عليّ هو لحم النبيّ ، ودمُه دمُه ، وروحُه روحُه ، وباطنُه باطنُه . طينتهما واحدة ، وكلاهما من شجرةٍ واحدةٍ ، وسائر الناس من شجرٍ شتّى ومن طِيَنٍ مختلفة . كثيرةٌ هي الروايات التيتشير إلى هذه الحقيقة الرفيعة في مصادر الفريقين . (1)
ب _ عليٌّ عليه السلام من حيث الاُسرةعليٌّ عليه السلام هو ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله وصهره ووالد ريحانتيه . بيدَ أنّ الأسمى من ذلك كلّه أنّ عليّا هو الشخصيّة السامقة في أهل البيت التي تحظى بمكانةٍ مرموقةٍ ، وأحد «أصحاب الكساء» و «الخمسة الطيّبين» الذين نزلت بحقّهم آية التطهير وهي تهبهم أرفع فضيلة وأسماها . فضلاً عن ذلك ، أنّ النبيّ كان يرى أنّ دوام نسله ينحدر من صلب عليّ الطاهر ، وهو صلى الله عليه و آله يقول : «إنَّ اللّهَ تَعالى جَعَلَ ذُرِّيَّةَ كُلِّ نَبِيٍّ مِن صُلبِهِ ، وإنَّ اللّهَ تَعالى جَعَلَ ذُرِّيَّتي مِن صُلبِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ» . وبخلود نسل النبيّ في ذريّة عليّ سجّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإمام أبي الريحانتين الحسن والحسين وبحكمٍ إلهي ناصع ، أرفع خصوصيّة له وأرقى فضيلة .
ج _ عليٌّ عليه السلام من حيث العلميُعدّ عليّ بنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله أعلم الاُمّة وأكثرها بصيرة . لقد قدّم النبيّ عليّا خازنا لعلمه والمؤتمن عليه ، ووارثه وحافظ أسراره ومعدن تمام علمه ، وتحدّث عنه بوصفه الإنسان الذي يحظى من جميع علم البشريّة بتسعة أعشاره .
.
ص: 716
ثمّ أكّد الحقيقة التي تفيد أنّ الطريق إلى بلوغ اُفق العلم النبوي وساحة المعارف المحمّديّة إنّما يكمن فقط في سلوك جانب عليّ . فعليٌّ على دراية بجميع ما في الكتب السماويّة وما تحويه من أحكام وتعاليم ؛ درايته بالقرآن وتعاليمه وأحكامه . وعليّ الأعلم بحقائق القرآن ، والأكثر إحاطة من الجميع بدقائقه ، بحيث لم يكن على وجه الأرض وعلى امتداد الزمان غيره يقول : «سَلوني قَبلَ أن تَفقِدوني» . وهذا ابن عبّاس تراه قد غضب ممّن قارن علمه بعلم عليٍّ ، وقال في جوابه : «عِلمي مِن عِلمِ عَلِيٍّ ، وعِلمُ أصحابِ مُحَمَّدٍ كُلِّهِم في عِلمِ عَلِيٍّ كَالقَطرَةِ الواحِدَةِ في سَبعَةِ أبحُرٍ» .
د _ عليٌّ عليه السلام من حيث العقيدةإنّ مَن ترعرع منذ الصغر في حضن النبيّ صلى الله عليه و آله ، واختلطت لحظات حياته وتواشجت بلحظات حياة النبيّ ، وسمع نداء الوحي الربّاني ولم يلوّث الكفر له روحا قطّ حتى للحظة واحدة لخليقٌ به أن يحتلّ عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله تلك المكانة العظيمة . لقد كان عليّ من بين الرجال أوّل من صدع بإيمانه برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وفي الإيمان كان أمير المؤمنين الذروة في الشهود القلبي ، وهذا النبيّ يقول في خطاب نفسه الوضّاءة المنوّرة : «إنَّكَ تَسمَعُ ما أسمَعُ وتَرى ما أرى» . وهو صلى الله عليه و آله الذي يشهد على استقامته وثبات إيمانه ورسوخه ، بقوله : «الإيمانُ مُخالِطٌ لَحمَكَ ودَمَكَ كَما خالَطَ لَحمي ودَمي» . بهذه الشهادات _ وغيرها _ وضع النبيّ ذلك المؤمن النقي في أرفع ذرى اليقين .
ه _ عليٌّ عليه السلام من حيث الأخلاقكان من بين ما أعلنه النبيّ صلى الله عليه و آله في فلسفة بعثته وهدف رسالته ، هو إتمام «مكارم
.
ص: 717
الأخلاق» . من هذا المنطلق سعى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى عرض مشروع جديد ، وتربية إنسان آخر ، وأن يصنع من المؤمنين بمبدئه ومنهجه مُثُلاً عمليّة للنهج الإنساني ، وقُدوات رفيعة لمكارم الأخلاق . عند هذه النقطة يبرز حكم النبيّ حيال عليّ سامقا موحيا وهو يعدّه الأحسن أخلاقا ، والقمّة في التحمّل والصبر والاستقامة والتواضع والزهد وسائر مكارم الأخلاق . ومع ذلك كلّه كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الأصلب في إجراء حكم الحقّ ، ثابتا لا يتزعزع في العلم بالأحكام الإلهيّة ، صلبا لا تلين له قناة في تنفيذ العدل والعدالة ، حتى قيل فيه : إنّه «كلمة العدل» والتجسيد الواقعي للعدل والإنصاف .
و _ عليٌّ عليه السلام في مضمار العملكثيرهم أصحاب الادّعاءات ، وليسوا قلّة اُولئك الذين يتحدّثون عن الحقّ ويرفعون شعاره ، لكن إذا ما أزفت ساعة العمل ، وراحت عمليّة إحقاق الحقّ تحتاج إلى الجهد والمثابرة ، وتتطلّب التضحية والثبات ، صار أهل الحقّ قلّة وكَثُر الفارّون ! أمّا عليّ فهو في مضمار العمل اُمثولة لا نظير لها أيضا ، ذلك أنّ اقترانه بالحقّ واتّباعه له ، وثباته إلى جوار القرآن ، أمليا أن يسجّل له رسول اللّه صلى الله عليه و آله غير مرّة معيّته مع القرآن ، ومعيّته مع الحقّ وعدم انفصاله عنهما . فهو أوّل إنسانٍ يقيم الصلاة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكان له حضوره الأوفر في سوح القتال وميادين الجهاد أكثر من أيّ شخص آخر ، ولم يُدبر عن عدوٍّ قطّ ، حتى حَمل على صدره وسام : «لا سَيفَ إلّا ذُو الفَقارِ ولا فَتى إلّا عَلِيٌّ» . ثمّ عدّ النبيّ ضربته يوم الخندق أفضل من أعمال الاُمّة وعبادة الثقلين _ جميعا _ إلى يوم القيامة .
.
ص: 718
ز _ عليٌّ عليه السلام من حيث السياسةمن خلال التأمّل بما جاء عن النبيّ حيال عليّ ، بإلقاء الأضواء على الكيفيّة التي صدر بها ذلك ، ثُمّ بتفحّص الأجواء التي انطلقت فيها تلك الحقائق ، والأرضيّة التي تحرّكت عليها الخطابات النبويّة فيما أعلنت من مناقب ومكرمات علويّة ؛ لا يبقى ثَمَّ شكّ بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان بصدد بيان الموقع الرفيع لقيادة المستقبل، وتحديد المسار إلى أفضل إنسان يتسنّم هذا الموقع، والمصداق الإلهي الوحيد لهذا العنوان . على هذا الضوء خطّ رسول اللّه _ للاُمّة والرسالة _ قيادة الغد وسياسة المستقبل ، بحيث راح يكتب جميع ما قاله على هذا الصعيد وجها آخر عبر هذه الرؤية . بيدَ أنّ ما يعنينا التركيز عليه في هذا المجال ، هو تلك العناوين والأحاديث التي تمسّ هذه الحقيقة عن كثب وتتّصل بها على نحو أوثق . لقد سجّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإمام عليّ موقع الأب في بيان طبيعة صلته بالاُمّة ، وهو يقول : «حَقُّ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عَلى هذِهِ الاُمَّةِ كَحَقِّ الوالِدِ عَلى وَلدِهِ» . وها هو ذا النبيّ الأكرم يطلق على عليّ لقب «سيّد العرب» و «سيّد المسلمين» و «سيّد الدنيا والآخرة» ، حيث تكتسب هذه الألقاب إيحاءات خاصّة بلحاظ ما ل_ «السيادة» من معنى . كما كان من بين ما نَحلَه به من ألقاب اُخر تبعث على الفخر وصْفه له ب_ «حجّة اللّه » و «صاحب السرّ» و «الوزير» و «الوصيّ» و «الخليفة» . أمّا تعبيره عنه بأنّ حزبه حزب اللّه ، و «عَلِيٌّ مِنّي وأنَا مِنهُ» فيحمل دلالات مكثّفة على ما نحن فيه ومعاني خاصّة تدلّ عليه ، بالأخصّ قوله : «عَلِيٌّ مِنّي وأنَا مِنهُ» و «لَحمُهُ لَحمي ودَمُهُ دَمي» بلحاظ ما تحمله هذه الألفاظ من مدلولات في إطار ذلك العصر وثقافته . ثمّ يجيء قول النبيّ : «عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ» و «عَلِيٌّ مَعَ القُرآنِ وَالقُرآنُ
.
ص: 719
مَعَهُ» ليدلّل بوضوح على أنّ إطاعة عليّ إطاعة للّه وللرسول ، واتّباع للحقّ والقرآن ، وأنّ عليّا «محور» في القيادة والسياسة ، وهو «سفينة النجاة» إذا ارتطمت _ بالاُمّة _ الأمواج ، وأحاطت بها الحركات العاتية ، حيث يقول صلى الله عليه و آله : «مَثَلُ عَلِيٍّ في هذِهِ الاُمَّةِ كَمَثَلِ الكَعبَةِ» . وقوله صلى الله عليه و آله : «يا عَلِيُّ مَثَلُكَ في اُمَّتي كَمَثَلِ سَفينَةِ نوحٍ مَن رَكِبَها نَجا ومَن تَخَلَّفَ عَنها غَرِقَ» . لقد تواترت الأحاديث النبويّة التي تؤكّد لزوم حبّ عليّ ، وتعدّ حبّه «حبّ اللّه » و«حبّ رسول اللّه » ، وتنظر إلى حبّ أمير المؤمنين ك_ «فريضة» و «عبادة» ، بل تخطّت مدلولات الحديث النبوي ذلك كلّه ، وهي تسجّل أنّ حبّ عليٍّ هو من دين اللّه بالصميم ؛ تداخل مع أصله وامتزج بأساسه ، حيث قال صلى الله عليه و آله : «لا يُحِبُّهُ إلّا مُؤمِنٌ ولا يُبغِضُهُ إلّا مُنافِقٌ ، وحُبُّهُ إيمانٌ وبُغضُهُ كُفرٌ» . وقال : «مَن أحَبَّ عَلِيّا فَقَدِ اهتَدى» . وفي المقابل ارتبط بغض عليّ بالكفر ، حيث عدّ النبيّ مبغضيه منافقي الاُمّة ، وعدّ أعداءه ومناوئيه أعداءً للّه وللرسول . لقد جاء ذلك كلّه من أجل فتح جبهة مترامية الأطراف تمتدّ بامتداد التاريخ نفسه ، لتجعل من عليّ بؤرةً يرتبط بها أهل الحقّ بحزامٍ وثيقٍ وتدع مواضع المناوئين لعليّ ومخالفيه تتواصل مع خنادق الظلمة وأهل الباطل ؛ لتشقّ الطريق في نهاية المآل إلى حركة سياسيّة مستقبليّة قويمة ، من أجل سياسة الغد ومرحلة ما بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله . لقد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بهذا الجهد المستقبلي الصادح بالحقّ ، ذروته في واقعة «غدير خم» ، عندما أعلى عليّا أمام الاُلوف وعلى رؤوس الأشهاد قائدا للمستقبل ، بصراحة ومن دون لبس ، في مشهدٍ أخّاذ لا يُمحى عن الذاكرة ، ممّا ستأتي تفاصيله
.
ص: 720
في صفحات هذه المجموعة . إنّ العناوين والأوصاف التي اختارها رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعليّ جاءت بأجمعها هادفةً موحيةً . فما جاء على لسان النبيّ في صفة عليّ من أنّه «حبل اللّه المتين» ، «عمود الدين» ، «يعسوب المؤمنين» ، «راية الهدى» ، «مدينة الهدى» ، «الصدّيق الأكبر» ، «الفاروق الأعظم» و «وليّ كلّ مؤمن بعدي» يكفي كلّ واحد منها ليخطّ للإمام الموقع الأفضل والمكانة الأسمى . أمّا ما جاء عن النبيّ من مضامين مفادها : أفلح من اتّبعك ، وضلّ عن السبيل من حادَ عنك ، وليس من سبيل للمؤمنين إلى معرفتي أقوم منك ، ولولاك ما عرفني مؤمن ، ففيه دلالة على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يفكّر من خلال هذه المقولات بأهمّ ما يشغله ، متمثّلاً بهداية الاُمّة واستقامتها على طريق الحقّ ؛ يترسّم لذلك العلاج ويحدّد لها الطريق ، لكي تهتدي الاُمّة بذلك ، وتعثر على سبيل الجنّة وتنأى عن النار المحرقة . لقد أخذت مهمّة إبراز هذه الحقائق وإشاعة هذه التعاليم المنقذة على النبيّ حياته كلّها ، بحيث لم يغفل رسول اللّه صلى الله عليه و آله لحظة واحدة عن هذه الرؤية المستقبليّة ، والتطلّع إلى ما وراء الحاضر ، والتوجيه من أجل غدٍ مطمئنّ وضّاح .
ح _ عليٌّ عليه السلام من حيث المقامات المعنويّةينظرُ عليٌّ إلى ما وراء هذه الدنيا كنظرته إلى هذه الدنيا ، وإنّ الحقائق العلويّة وعالم الملكوت واضح لديه وضوح ما بين يديه ؛ والأمر بعد ذلك كما يقول : «لَو كُشِفَ الغِطاءُ مَا ازدَدتُ يَقينا» . إنّ التأمّل في تمام الأبعاد الشامخة المتطاولة لهذه الشخصيّة يكشف عن رُقيّ مركزها المعنوي ، والموقع الذي يحظى به الإمام على قمم المعنويّة وذُراها . ومع
.
ص: 721
ذلك كلّه ، لو لم تكن إلّا هذه الكلمات المنيفة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله في إضاءة هذا الجانب من شخصيّة عليّ لكفاه كي يتبوّأ أرقى مواقع هذا الخطّ ، ويحلّق في أقصى ذُرى المعنويّة ، حيث يقول فيه النبيّ : «عَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ» وقوله : «خَيرُ مَن أترُكُ بَعدي» . تدلّ هذه الكلمات النبويّة السامقة على أنّ عليّا هو الأفضل بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو الأكمل ، وهو الشخصيّة التي لا يرقى إليها نظير . وهذه الفضيلة في الحقيقة هي اُمّ فضائل الإمام ، وهي رأسها جميعا . عليٌّ زوج الزهراء البتول ، ولو لم يكن كذلك لما كان لها كفؤ ، وهذه آية التطهير تشهد لعليّ بالطهارة والفلاح . لكنّ لعليّ فوق ذلك فضيلة تسموا على الطهارة والعصمة ، التي راح يفخر بها ملائكة اللّه المقرّبون وكرامه الكاتبون ، واستوجبت رضا اللّه المطلق ، ورضا رسوله وأمين الوحي الإلهي عنه ؛ تلك هي سلوكه إلى اللّه ، ومراحل تقرّبه إليه ، وبلوغه المقصد الأعلى للإنسانيّة ، والحظّ الأوفى من الكمال ، حتى كان من ذلك في الذروة القصوى ، بحيث عُدّ ذكره والنظر إليه عبادة للّه المتعال .
ط _ المنزلة الاُخرويّةحينما بُعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، واُبلغ الأمر بالرسالة ، واُرسل الى هداية الاُمّة والناس كافّة ، كانت أوّل يد شدّت على يديه الشريفتين هي يد عليّ ، وعلى هذا يمضي الأمر يوم القيامة ، إذ تكون أوّل يد تصافح يد النبيّ ، وأوّل كفّ توضع بكفّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله هي كفّ عليّ . وكفّ عليّ هذه هي التي تحمل «لواء الحمد» راية رسول اللّه صلى الله عليه و آله في عرصات القيامة . وعليٌّ أوّل وارد على «الكوثر» ، وهو خليفة النبيّ عليه . وفي الآخرة يتألّق اسم عليّ بلقب «سيّد الشهداء» و «أبي الشهداء» . ولن يمضي
.
ص: 722
على «الصراط» أحد ولن يجوز عليه إنسان إلّا بإمضاء عليّ ، ولا غرو فهو «قسيم الجنّة والنار» . عليٌّ في القيامة رفيق النبيّ وصاحبه ، وقرينه ، له في عرصاتها منزلة عظيمة ، بحيث يضيء وسط الجميع كالشمس المشرقة .
ي _ مظلوميّة عليّ عليه السلاملماذا كلّ هذا التركيز على شخصيّة عليّ ؟ ولماذا هذا التمجيد والتبجيل ؟ عليّ كبير ، وشأنه أعظم من أن يرقى إلى ذراه الطير (1) ؛ فإذن ينبغي لهذه الشخصيّة أن تعرّف ، بَيدَ أنّ السؤال لا يزال : لماذا كلّ هذا التأكيد على لزوم حبّ عليّ وموالاته ؟ ولماذا هذا التحذير من مناوءاته ومخالفته وانتهاك حرمته ؟ عجبا لهذا الحديث المليء بالشجون ! لكأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يتشوّف ذلك كلّه ويتطلّع إليه عبر مرآة الزمان ؛ ينظر ضروب المظالم والإحن والأضغان ، يرى غربة عليّ ووحدته وما ينزل به من الظلم الفظيع . أجل ، لكأنّ رسول اللّه ينظر إلى ذلك كلّه ، وهو يخاطب أمير المؤمنين بقوله : «إنَّ الاُمَّةَ سَتَغدِرُ بِكَ مِن بَعدي» . هذا النبيّ يحتضن عليّا وتنهمر عيونه بالدموع ، وهو يذكر عليّا وما ينزل به من ظلمٍ في الغد ؛ وهذا أمير المؤمنين يصف لنا المشهد وَوَجْد النبيّ ، بقوله : «اِعتَنَقَنِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ثُمَّ أجهَشَ باكِيا ، قُلتُ : ما يُبكيكَ ؟ قالَ : ضَغائِنُ قَومٍ لايُبدونَها لَكَ إلّا مِن بَعدي» . يا للعجب !! رسول اللّه صلى الله عليه و آله ينتخب عليّا لمؤاخاته من بين الجميع ، ويأتيه أمر
.
ص: 723
السماء بغلق الأبواب المشرعة على المسجد كلّها إلّا باب عليّ . يصرّح بمنزلة عليّ مرّات ومرّات ، ويمتدحه على مرأى من الاُمّة ومسمع ، ويشيد بمكانته ، ويذكر بوضوح أنّ من آذى عليّا فقد آذاه ، ومن سبّ عليّا فقد سبّ اللّه ورسوله . لكنّه يعود ليسجّل بقلب مصدوع مليء بالألم مظلوميّةَ الإمام ، وما يؤول إليه من الانغمار بدم الجراح ، فيقول مخاطبا إيّاه مواسيا : «بِأَبِي الوَحيدُ الشَّهيدُ» . كما يقول صلى الله عليه و آله : «إنَّكَ مُقتولٌ وهذِهِ مَخضوبَةٌ مِن هذِهِ» . وهكذا لا يرتقي إلى عليٍّ نظير في الأبعاد الإنسانيّة كلّها ، كما من العجب أن لا يرتقي إلى مظلوميّته أحدٌ أيضا ! على ضوء النقاط التي مرّت ، نقدّم فيما يلي شطرا من كلمات النبيّ صلى الله عليه و آله حيال عليّ عليه السلام :
أ _ الخِلقَةُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :خُلِقتُ أنَا وعَلِيٌّ مِن نورٍ واحِدٍ . (1)عنه صلى الله عليه و آله :خُلِقتَ يا عَلِيُّ مِن شَجَرَةٍ خُلِقتُ مِنها ، أنَا أصلُها ، وأنتَ فَرعُها ، وَالحُسَينُ وَالحَسَنُ أغصانُها ، ومُحِبّونا وَرَقُها ، فَمَن تَعَلَّقَ بِشَيءٍ مِنها أدخَلَهُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ الجَنَّةَ . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :هذا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، لَحمُهُ لَحمي ، ودَمُهُ دَمي ، هُوَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي . (3)
.
ص: 724
ب _ الاُسرَةُالإمام عليّ عليه السلام :خَطَبتُ إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فاطِمَةَ عليهاالسلام ، فَزَوَّجَني ، فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، أنَا أحَبُّ إلَيكَ أم هِيَ ؟ قالَ : هِيَ أحَبُّ إلَيَّ مِنكَ ، وأنتَ أعَزُّ عَلَيَّ مِنها . (1)
المعجم الكبير عن حذيفة :رَأَينا في وَجهِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله السُّرورَ يَوما مِنَ الأَيّامِ ، فَقُلنا : يا رَسولَ اللّهِ ، لَقَد رَأَينا في وَجهِكَ تَباشيرَ السُّرورِ ، قالَ : وكَيفَ لا اُسَرُّ وقَد أتاني جَبرَئيلُ عليه السلام فَبَشَّرَني أنَّ حَسَنا وحُسَينا سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ ، وأبوهُما أفضَلُ مِنهُما . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، ما بَعَثَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ نَبِيّا إلّا وجَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ من صُلبِهِ ، وجَعَلَ ذُرِّيَّتي مِن صُلبِكَ ، ولَولاكَ ما كانَت لي ذُرِّيَّةٌ . (3)
ج _ المَنزِلَةُ عِندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ مِنّي بِمَنزِلَتي مِن رَبّي . (4)امام صادق عليه السلام نيز مى فرمايد:عنه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ مِنّي بِمَنزِلَةِ رَأسي مِن بَدَني . (5)عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ مِنّي وأنَا مِنكَ . (6)عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، اُحِبُّ لَكَ ما اُحِبُّ لِنَفسي ، وأكرَهُ لَكَ ما أكرَهُ لِنَفسي . (7)
عنه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ مِنّي كَنَفسي ، طاعَتُهُ طاعَتي ، ومَعصِيَتُهُ مَعصِيَتي . (8)
.
ص: 725
عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ خاصَّةُ أهلي ، وحَبيبي إلى قَلبي . (1)
عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ أخي ، ووَزيري ، تَقضي دَيني ، وتُنجِزُ مَوعِدي ، وتُبرِئُ ذِمَّتي . (2)
المستدرك على الصحيحين عن ابن عبّاس :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ [لِبَني عَمِّهِ] : أيُّكُم يَتَوَلّاني فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ؟ فَقالَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنهُم : أ تَتَوَلّاني (3) فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ؟ فَقالَ : لا ، حَتّى مَرَّ عَلى أكثَرِهِم ، فَقالَ عَلِيٌّ : أنَا أتَوَلّاكَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . فَقالَ : أنتَ وَلِيّي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . (4)
د _ المَكانَةُ السِّياسِيَّةُ وَالِاجتِماعِيَّةُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :أنا وعَلِيٌّ أبَوا هذِهِ الاُمَّةِ . (5)عنه صلى الله عليه و آله :حَقُّ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عَلى هذِهِ الاُمَّةِ كَحَقِّ الوالِدِ عَلى وَلَدِهِ . (6)عنه صلى الله عليه و آله :اُوحِيَ إلَيَّ في عَلِيٍّ ثَلاثٌ : أنَّهُ سَيِّدُ المُسلِمينَ ، وإمامُ المُتَّقينَ ، وقائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلينَ . (7)تاريخ بغداد عن ابن عبّاس :نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله إلى عَلِيٍّ فَقالَ : أنتَ سَيِّدٌ فِي الدُّنيا ، سَيِّدٌ فِي الآخِرَةِ . (8)
.
ص: 726
امام على عليه السلام مى فرمايد:رسول اللّه صلى الله عليه و آله :أنتَ يا عَلِيُّ ووَلَدايَ خِيَرَةُ اللّهِ مِن خَلقِهِ . (1)تاريخ دمشق عن أنس :كُنتُ جالِسا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، إذ أقبَلَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ رضى الله عنه ، فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : يا أنَسُ ، أنَا وهذا حُجَّةُ اللّهِ عَلى خَلقِهِ . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في عَلِيٍّ عليه السلام _: قَد عَلَّمتُهُ عِلمي ، وَاستَودَعتُهُ سِرّي ، وهُوَ أميني عَلى اُمَّتي . (3)
عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ وارِثي ، ووَصِيّي ، تَقضي دَيني ، وتُنجِزُ عِداتي ، وتَقتُلُ عَلى سُنَّتي . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ الإِمامُ وَالخَليفَةُ مِن بَعدي . (5)عنه صلى الله عليه و آله :أمّا أنتَ يا عَلِيُّ فَصَفِيّي وأميني . (6)و در كلام ديگرى مى فرمايد:عنه صلى الله عليه و آله :خَيرُ مَن أخلُفُ بَعدي ، وخَيرُ أصحابي عَلِيٌّ . (7)عنه صلى الله عليه و آله :حِزبُ عَلِيٍّ حِزبُ اللّهِ ، وحِزبُ أعدائِهِ حِزبُ الشَّيطانِ . (8)عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: مَن أطاعَني فَقَد أطاعَ اللّهَ ، ومَن عَصاني فَقَد عَصَى اللّهَ ، ومَن أطاعَكَ فَقَد أطاعَني ، ومَن عَصاكَ فَقَد عَصاني . (9)عنه صلى الله عليه و آله :مَثَلُ عَلِيٍّ في هذِهِ الاُمَّةِ كَمَثَلِ الكَعبَةِ . (10) .
ص: 727
عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، مَثَلُكَ في اُمَّتي كَمَثَلِ سَفينَةِ نوحٍ ، مَن رَكِبَها نَجا ومَن تَخَلَّفَ عَنها غَرِقَ . (1)عنه صلى الله عليه و آله_ في وَصفِ عَلِيٍّ عليه السلام _: هُوَ يَعسوبُ (2) المُؤمِنينَ . (3)عنه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ آيَةُ الحَقِّ ، ورايَةُ الهُدى . (4)عنه صلى الله عليه و آله_ في عَلِيٍّ عليه السلام _: إنَّهُ الصِّراطُ المُستَقيمُ ، وإنَّهُ الَّذي يَسأَلُ اللّهُ عَن وِلايَتِهِ يَومَ القِيامَةِ . (5)
عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ عَلِيّا هُوَ مَدينَةُ هُدىً ؛ فَمَن دَخَلَها نَجا ، ومَن تَخَلَّفَ عَنها هَلَكَ . (6)
المعجم الكبير عن أبي ذرّ وسلمان :أخَذَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِيَدِ عَلِيٍّ عليه السلام فَقالَ : . . . هذَا الصِّدّيقُ الأَكبَرُ ، وهذا فاروقُ هذِهِ الاُمَّةِ يَفرُقُ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ . (7)رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ،لَولاكَ لَما عُرِفَ المؤُمِنونَ بَعدي. (8)عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أما إنَّكَ المُبتَلى وَالمُبتَلى بِكَ ، أما إنَّكَ الهادي مَنِ اتَّبَعَكَ ، ومَن خالَفَ طَريقَتَكَ فَقَد ضَلَّ إلى يَومِ القِيامَةِ . (9)عنه صلى الله عليه و آله :أنَا مَدينَةُ الجَنَّةِ وعَلِيٌّ بابُها ؛ فَمَن أرادَ الجَنَّةَ فَليَأتِها مِن بابِها . (10) .
ص: 728
عنه صلى الله عليه و آله :اللّهُمَّ أقولُ كَما قالَ أخي موسى : اللّهُمَّ اجعَل لي وَزيرا مِن أهلي ، عَلِيّا أخِي ، اشدُد بِهِ أزري وأشرِكهُ في أمري ، كَي نُسَبِّحَكَ كَثيرا ونَذكُرَكَ كَثيرا ، إنَّك كُنتَ بِنا بَصيرا . (1)الإمام عليّ عليه السلام :ولَقَد سَمِعتُ رَنَّةَ (2) الشَّيطانِ حينَ نَزَلَ الوَحيُ عَلَيهِ صلى الله عليه و آله فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما هذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقالَ : هذَا الشَّيطانُ قَد أيِسَ مِن عِبادَتِهِ . إنَّكَ تَسمَعُ ما أسمَعُ ، وتَرى ما أرى ، إلّا أنَّكَ لَستَ بِنَبِيٍّ ، ولكِنَّكَ لَوَزيرٌ ، وإنَّكَ لَعَلى خَيرٍ . (3)عنه عليه السلام :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَضِيَني لِنَفسِهِ أخا ، وَاختَصَّني لَهُ وَزيرا . (4)رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ وَصِيّي . (5)
عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ وارِثي ، ووَصِيّي ، تَقضي دَيني ، وتُنجِزُ عِداتي ، وتَقتُلُ عَلى سُنَّتي . (6)
عنه صلى الله عليه و آله_ في وَصفِ عَلِيٍّ عليه السلام _: هُوَ أخي ، ووَصِيّي ، وخَليفَتي عَلى اُمَّتي في حَياتي وبَعدَ مَوتي ، مَن أطاعَهُ أطاعَني ، ومَن وافَقَهُ وَافَقَني ، ومَن خالَفَهُ خالَفَني . (7)عنه صلى الله عليه و آله :أنَا مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّهِ سَيِّدُ النَّبِيّينَ ، وعَلِيٌّ ابنُ عَمّي سَيِّدُ الوَصِيّينَ . (8)رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يَابنَ مَسعودٍ ، عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ إمامُكُم بَعدي ، وخَليفَتي عَلَيكُم . (9) .
ص: 729
ه _ الكَمالاتُ المَعنَوِيَّةُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن أرادَ أن يَنظُرَ إلى آدَمَ في عِلمِهِ ، وإلى نوحٍ في فَهمِهِ ، وإلى إبراهيمَ في حِلمِهِ ، وإلى يَحيَى بنِ زَكَرِيّا في زُهدِهِ ، وإلى موسَى بنِ عِمرانَ فيبَطشِهِ ، فَليَنظُر إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . (1)اليقين عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري :سَمِعتُهُ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِاُذُنَيَّ هاتَينِ يَقولُ _ وإلّا فَصَمَّتا _ : عَلِيٌّ بَعدي خَيرُ البَشَرِ ، مَن أبى فَقَد كَفَرَ . (2)امام صادق عليه السلام به مفضل بن عمر مى فرمايد:المعجم الكبير عن أبي رافع :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَعَثَ عَلِيّا مَبعَثا ، فَلَمّا قَدِمَ قالَ لَهُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله : اللّهُ ورَسولُهُ وجِبريلُ عليهم السلام عَنكَ راضونَ . (3)رسول اللّه صلى الله عليه و آله :النَّظَرُ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عِبادَةٌ ، وذِكرُهُ عِبادَةٌ . (4)و _ المَقاماتُ الاُخرَوِيَّةُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :سَتَكونُ مِن بَعدي فِتنَةٌ ، فَإِذا كانَ ذلِكَ فَالزَموا عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ؛ فَإِنَّهُ أوَّلُ مَن يَراني ، وأوَّلُ مَن يُصافِحُني يَومَ القِيامَةِ . (5)
عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ صاحِبُ لِوائي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . (6)
امام على عليه السلام در اين باره مى فرمايد:عنه صلى الله عليه و آله :عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ مَعي غَدا فِي القِيامَةِ عَلى حَوضي ، وصاحِبُ لِوائي ، ومَعي غَدا عَلى مَفاتيحِ خَزائِنِ جَنَّةِ رَبّي . (7)
.
ص: 730
عنه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ يَومَ القِيامَةِ عَلَى الحَوضِ ، لا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلّا مَن جاءَ بِجَوازٍ مِن عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . (1)عنه صلى الله عليه و آله :لا يَجوزُ أحَدٌ الصِّراطَ إلّا مَن كَتَبَ لَهُ عَلِيٌّ الجَوازَ . (2)عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ أقرَبُ النّاسِ مِنّي مَوقِفا يَومَ القِيامَةِ ، ومَنزِلي ومَنزِلُكَ فِي الجَنَّةِ مُتَواجِهانِ كَمَنزِلِ الأَخَوَينِ . (3)عنه صلى الله عليه و آله :يُنادِي المُنادي [يَومَ القِيامَةِ] : يا عَلِيُّ ، أدخِل مَن أحَبَّكَ الجَنَّةَ ومَن عاداكَ النّارَ ، فَأَنتَ قَسيمُ الجَنَّةِ وأنتَ قَسيمُ النّارِ . (4) .
ص: 731
الفصل الثالث: عليّ عليه السلام عن لسان عليّ عليه السلامبَحثٌ حَولَ مَدحِ الإِمامِ عليه السلام نَفسَهُإنّ أحد الفصول التربويّة الثمينة الموقظة في خطب الإمام أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ورسائله هي الكلمات التي تعكس أبعاداً من شخصيّته الفريدة . وما سوف نعرضه في هذا الفصل يمثّل شذرات من تلك الكلمات الدرّيّة ، وستأتي نماذج اُخرى من كلماته عليه السلام في طيّات فصول الكتاب المتنوّعة . إنّ النظرة السطحيّة العابرة لهذه الكلمات قد توحي بأنّ الإمام كان يمدح نفسه ، ولعلّها تسوق القارئ إلى القول بأنّ مثل هذه الكلمات تتنافى مع قوله تعالى «فَلَا تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى» (1) . علما أنّه عليه السلام قد أشار إلى ذلك بقوله : «ولَولا ما نَهَى اللّهُ عَنهُ مِن تَزكِيَةِ المَرءِ نَفسَهُ ، لَذَكَرَ ذاكِرٌ فَضائِلَ جَمَّةً» (2) . وهذا الكلام يمكن أن يكون آيةً على مسار تزكية النفس وكيفيّته ، وجوازه أو حظره . لاشكّ في أنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان يقوم بواجب شرعيّ لا مناص منه ؛ إذ لو كانت تزكية المرء نفسه كذبا فهي محرّمة ، ولو كانت صدقا _ ولا مصلحة ملزمة
.
ص: 732
فيها _ فهي لا جَرمَ مذمومة ، وأمّا لو كانت ذات مصلحة فهي محمودة لا محالة . وخلاصة القول : لو ترتّبت عليها مصالح مهمّة ملزمة وكانت تصبّ في اتّجاه إحقاق الحقّ والدفاع عن الحقوق فلا نرتاب في وجوبها ، وإذا صدف عنها الإنسان بذريعة عدم التحدّث عن النفس فذلك مذموم وحرام ، وهو يمهّد لضياع الحقائق والقيم . . . . ومن هنا فإنّنا حينما نلاحظ كلمات المدح عند الإمام نلمس فيها دفاعاً عن شخصيّة إنسان مظلوم ؛ ألجأه الواجب إلى إماطة اللثام عن حقٍّ ضائع مكتوم ، في ظروف لم يَحُلْ فيها مساعير الفتنة دون قول الحقّ فحسب ، بل تقوّلوا وافتَرَوا وتخرّصوا لتشويه صورة الحقّ . ولقد تحدّث الإمام عليه السلام من أجل قشع الغمائم السوداء عن سماء الحياة الفكريّة للمجتمع ، وإراءة ما كان ، وما جرى على الحقّ ، وإلّا فإنّ حقيقة حياته الصادقة عليه السلام وشخصيّته الرفيعة هما أعظم شأنا من أن يتحدّث عن نفسه، أو أن يُمنى بحبّ الذات ! ويتسنّى لنا أن نحلّل بعض التساؤلات المثارة حول مدح الإمام ذاته، وتحدّثه بفضائله ومعالم عظمته بما يأتي :
1 . امتثال أمر اللّه تعالى في بيان نعمهكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يلهج بذكر النعم الإلهيّة ، ويتحدّث بفضل اللّه تعالى عليه، وهو بكلماته البليغة شكور يقدّر النعمة والمنعِم ويثمّنها . ومن أقواله عليه السلام : «أنَا قاتِلُ الأَقرانِ، ومُجَدِّلُ الشُّجعانِ . أنَا الَّذي فَقَأتُ عَينَ الشِّركِ، وثَلَلتُ عَرشَهُ ؛ غَيرَ مُمتَنٍّ عَلَى اللّهِ بِجِهادي ولامُدِلٍّ (1) إلَيهِ بِطاعَتي ، ولكِن اُحَدِّثُ بِنِعمَةِ رَبّي (2) » . (3)
.
ص: 733
2 . بيان الحقائق التاريخيّةتتبلور كلّ حادثة في ثنايا التاريخ، وتُنقل على مرّ الدهور، لكن كيف تُنقل ؟ من هم الذين كانوا اُولي الدور المؤثّر في الأحداث ؟ وكيف ظهرت الأحداث ؟ و و و . . . تبلور الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة كقضيّة عجيبة ، وأنتج ردود فعل كثيرة ، وفتح طريقه من بين المنعطفات الوعرة والوهاد والنجاد التي لا تُحصى ومضى قُدُما . وكان لعليّ عليه السلام الدور الأكبر فيه . بَيْد أنّ الذي كان يقال للأجيال السابقة آنذاك ، هل كان كذلك حقّا ؟ ! وحين حدث التغيير في الحكم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله ، فإنّ هذا التغيير قد استتبع تغييراتٍ كثيرة ، منها وضع لكثير من الشخصيّات، ورفع لكثير غيرها ، ومنها اختلاق لكثير من الشخصيّات ، ومكابرة لكثير غيرها . . . وكان الإمام عليه السلام هو الذي رفع لواء الحقّ في وقت قد كُمّت فيه الأفواه، وقُطعت الألسن، وكُسرت الأقلام . وبيّن عليه السلام حقائق التاريخ كما هي عليه . فمن كان له الدور الأوّل والتأثير الأكبر في هذا التاريخ غير عليٍّ عليه السلام ؟ !
3 . الدفاع عن الحقّ دفاع مظلومقلنا إنّ التغييرات السياسيّة تستتبع تغييرات اجتماعيّة وثقافيّة كثيرة، وكان الإمام عليه السلام أكثر الناس ظُلامةً في ظلّ تلك التغييرات ، وقد صبر مهضوما مظلوما لمصلحة الإسلام _ وقد تحدّثنا عن ذلك في أحد المواضع _ بَيْد أنّه حاول أن يتحدّث عن هذه الظلامة ، ويحول دون تحريف التاريخ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً . وعندما بلغت التهديدات ذروتها سكت البعض خوفا ، واُلجم البعض الآخر حرصا على الحياة بعدما كثرت مغرياتها ، فمن يتحدّث عن عليٍّ عليه السلام ؟ ومن يُفصح عن «حقّ الخلافة» و«خلافة الحقّ» ؟ وأنكى من ذلك كلّه أنّ حزب الطُّلَقاء استحوذ
.
ص: 734
على مقدّرات الاُمّة ، فنال من عليٍّ ما شاء ، واختلق _ باطلاً _ فضائل موهومة لبعض الصحابة كي يقلّل قبسا ولو ضئيلاً من فضائل عليٍّ ، فهل للإمام سبيل غير تعريف نفسه للاُمّة ، والإصحار بفضائله ومناقبه ؟ ! إنّه عليه السلام بكلماته المذكورة في موقع الدفاع عن المظلوم ، وهو نفسه المنادي بضرورة الدفاع عن المظلوم، ومقارعة الظالم .
4 . الدفاع عن حقّ الناسعندما تُفْتَعل الأجواء الكاذبة في المجتمع ، وتجرف الدعايات المسمومة المضادّة بعض الناس باطلاً ، وتقذف ببعضهم الآخر ظلما ، ويتربّع غير الجُدَراء على دفّة الحكم ، ويتسلّمون مقاليد الأمر ، وينزوي الجدراء المؤهَّلون ويبتعدون عن مسرح الحياة ، فالتقصير على المجتمع ؛ إذ أباح ظلمهم ، وضيّع حقّه في الاستهداء بهم والاستنارة بجدارتهم . فالنضال ضدّ هذه الأجواء الكاذبة ، وإعادة الحقّ إلى نصابه يمثّلان دفاعا عن حقّ الناس . ومن كان يمتري في أنّ عليّا عليه السلام كان الأجدر الأكفأ ؟ أ لم يَقُل عمر بن الخطّاب : «إنَّهُ لَأَحراهُم أن يُقيمَهُم عَلى طَريقَةٍ مِنَ الحَقِّ» ؟ فماذا يفعل الناس في خضمّ حضورهم ؟ ! وإذا عرّف الإمام عليه السلام نفسه وتحدّث عن جدارته ولياقته فإنّما يدافع عن حقّ الناس الثابت ، أي حقّ معرفة الأجدر ، وتحكيم الأصلح . هذه وغيرها تمثّل سرّ حديث عليٍّ عن عليٍّ ، وبعبارة اُخرى ، إنّ عليّ بن أبي طالب يتحدّث عن الإمام عليّ ، وعن أجدر إنسانٍ لتسلّم زمام الاُمور .
5 . الدفاع عن الذات إزاء الهجوم الدعائي العنيفبيد أنّ ما يفوق في أهميّته جميع الأدلّة التي ذكرناها كبواعث أملت على الإمام
.
ص: 735
أمير المؤمنين عليه السلام أن يبادر إلى تبيين فضائله والحديث عن خصائصه بنفسه ، هي طبيعة الأجواء التي أعلن فيها ذلك على الملأ العام . حياة عليّ عليه السلام مدهشة حقّاً ؛ أيّامها ملأى بالدروس ، وتاريخها حافل بالعظات . شخصيّة تتألّق بوهجٍ مضيء مرتفع ، رجل في مثل هذه الصلابة والرسوخ العظيم ، مؤمن يسمو به إيمانه ، فلا توازيه نجوم السماء علوّاً وجلالاً . شخصيّة كهذه تتبوّأ منصّة كلّ هذه المكرمات ، ثمّ تطلع عليها أجواء محمومة بالدعاية الباطلة ، كيف ستبدو في عيون جيلٍ راح ينظر إليها وهي تمسك أزمّة الحكم بعد ربع قرن من الغياب ؟ وكيف ستكتسب موقعها في ذهنه ووعيه ؟ هذا هو السؤال . إنّ دراسة حياة عليّ عليه السلام المترعة نوراً وحركة ومضاء ، تكشف عن أنّ هذا العظيم لم يتحدّث على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن نفسه قط ، مع ما كانت تزهر به أيّامه من مآثر عظمى وإنجازات باهرة . لكن بعد أن مضى النبيّ الأقدس إلى الرفيق الأعلى بادر الإمام في الأيّام الاُولى التي شهدت تغيّر الحكم وتنكّب الحياة السياسيّة عن اُصولها ؛ بادر للحديث عن سابقته الوضيئة في هذا الدين ، وراح يصدع بحقّه في كلّ مكان ؛ رغبة منه بإحقاق الحقّ ، وإجهاراً للحقيقة ، ودفاعاً عن موقع «الإمامة» . لكن للأسف لم تُغنِ جهود الإمام شيئاً ، فاختطّت الخلافة مساراً آخر ! غير استثناءات قليلة ومواضع نادرة ، فلاذ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بصمت رهيب استغرق من عمره سنوات مديدة ، وطوى عن حقّه كَشْحاً ، وكلماته المتوجّعة تقول : «فَصَبَرتُ وفِي العَينِ قَذىً ، وفِي الحَلقِ شَجاً» . ولمّا تسلّل «حزب الطلقاء» إلى واقع الحياة الإسلاميّة ، وترسّخت أقدامه على
.
ص: 736
عهد الخليفة الثالث ، اتّسع حجم الأكاذيب والافتراءات ، وطفقت تنهال من كلّ جانب ولا سيما في الشام ؛ لتصنع أجواء مكفهرّة نتنة ، تقلب الحقائق ، وتحاصر أهل الحقّ وأنصاره خاصّة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . وقف الإمام يواجه كلّ هذه الأكاذيب والافتراءات ، والسيول المتدفّقة من التزييف والاتّهام وقلب الحقائق وكتمانها ، يتصدّره بلاط معاويّة المغموس بالخداع والحيلة ، وبإصرار جاهلي عنيد على إفساد الأذهان ، وتلويث العقول بموج عارم من الأباطيل والزخارف والسفاهات . ولمّا كان معاويّة يعرف أن شخصيّة عليّ عليه السلام لو راحت تسطع من وراء غيوم الدعاية المضادّة المتلبّدة الداجية لانهارت حياته السياسيّة والاجتماعيّة ، وذهبت أدراج الرياح ، لذلك حشّد كلّ قواه وإرادته وتصميمه على استهداف هذه الشخصيّة ، فراح يضخّم ذاته حتى ينال من عليّ عليه السلام ما استطاع ، ولم تتهيّأ له وسيلة إلّا ركبها في هذه الحرب البغيضة الشعواء ، حتى بلغت به جرأته أن يفرض لعن عليّ عليه السلام في «الصلوات» ! ترى ماذا عسى الإمام عليّ عليه السلام أن يفعل في مواجهة جوّ وبيء مثل هذا يزدحم بالأكاذيب والافتراءات والتضليل ، وتتشابك فيه أحابيل الدعاية المضادّة ؟ ليس أمامه إلّا أن يجهر بفضائله ، ويكشف عن مثالب «حزب الطلقاء» وسوآتهم . إنّ شطراً عظيماً ممّا نطق به الإمام من فضائله كان لمواجهة فضاء وبيء مسعور مثل هذا . ولا ريب في أنّ ذلك مهمّة صعبة ، شاقّة ، مجهدة بيد أنّها ضروريّة لا مناص منها .
.
ص: 737
ولمّا كان عليّ عليه السلام لا يعرف إلّا الحقّ ، وليس له هدف إلّا أن يعلو الحقّ ، تحتّم عليه أن ينطق وأن يتحدّث ولو كلّفه ذلك جهداً ومرارة . وهذا ما فعله تماماً إمامُنا سلام اللّه عليه .
أ _ المَكانَةُ عِندَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آلهالإرشاد_ في ذِكرِ أحوالِ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام بَعدَ الهِجرَةِ _: أنزَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله عِندَ وُرودِهِ المَدينَةَ دارَهُ ، وأحَلَّهُ قَرارَهُ ، وخَلَطَهُ بِحُرَمِهِ وأولادِهِ ، ولَم يُمَيِّزهُ مِن خاصَّةِ نَفسِهِ ، ولَا احتَشَمَهُ في باطِنِ أمرِهِ وسِرِّهِ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :كُنتُ في أيّامِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله كَجُزءٍ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، يَنظُرُ إلَيَّ النّاسُ كَما يُنظَرُ إلَى الكَواكِبِ في اُفُقِ السَّماءِ ، ثُمَّ غَضَّ (2) الدَّهرُ مِنّي ، فَقُرِنَ بي فُلانٌ وفُلانٌ ، ثُمَّ قُرِنتُ بِخَمسَةٍ أمثَلُهُم عُثمانُ ، فَقُلتُ : وا ذَفَراه ! ثُمَّ لَم يَرضَ الدَّهرُ لي بِذلِكَ حَتّى أرذَلَني ، فَجَعَلَني نَظيرا لِابنِ هِندٍ وَابنِ النّابِغَةِ ، لَقَدِ استَنَّتِ الفِصالُ حَتَّى القَرعى (3) . (4)
عنه عليه السلام :أنا مِن رَسولِ اللّهِ كَالضَّوءِ مِنَ الضَّوءِ (5) ، وَالذِّراعِ مِنَ العَضُدِ . (6)
عنه عليه السلام :أنَا صِنوُهُ ، ووَصِيُّهُ ، ووَلِيُّهُ ، وصاحِبُ نَجواهُ وسِرِّهِ . (7)
.
ص: 738
عنه عليه السلام :لَقَد قُبِضَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وإنَّ رَأسَهُ لَعَلى صَدري ، ولَقَد سالَت نَفسُهُ في كَفّي ، فَأَمرَرتُها عَلى وَجهي . ولَقَد وَليتُ غُسلَهُ صلى الله عليه و آله وَالمَلائِكَةُ أعواني ، فَضَجَّتِ الدّارُ وَالأَفنِيَةُ ؛ مَلَأٌ يَهبِطُ ، ومَلَأٌ يَعرُجُ ، وما فارَقَت سَمعي هَينَمَةٌ (1) مِنهُم ، يُصَلّونَ عَلَيهِ حَتّى وارَيناهُ في ضَريحِهِ .
فَمَن ذا أحَقُّ بِهِ مِنّي حَيّا ومَيِّتا ؟ ! فَانفُذوا عَلى بَصائِرِكُم ، وَلتَصدُق نِيّاتُكُم في جِهادِ عَدُوِّكُم ، فَوَالَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ إنّي لَعَلى جادَّةِ الحَقِّ ، وإنَّهُم لَعَلى مَزَلَّةِ الباطِلِ .
أقولُ ما تَسمَعونَ وأستَغفِرُ اللّهَ لي ولَكُم . (2)ب _ مُنتَهَى الخُضوعِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهالإمام الصادق عليه السلام :جاءَ حِبرٌ مِنَ الأَحبارِ إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، مَتى كانَ رَبُّكَ ؟ فَقالَ لَهُ : ثَكِلَتكَ اُمُّكَ ! ومَتى لَم يَكُن حَتّى يُقالَ : مَتى كانَ ؟ ! كانَ رَبّي قَبلَ القَبلِ بِلا قَبلٍ ، وبَعدَ البَعدِ بِلا بَعدٍ ، ولا غايَةَ ولا مُنتَهى لِغايَتِهِ ، انقَطَعَتِ الغاياتُ عِندَهُ ، فَهُوَ مُنتَهى كُلِّ غايَةٍ . فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أ فَنَبِيٌّ أنتَ ؟ فَقالَ : وَيلَكَ ! إنَّما أنَا عَبدٌ مِن عَبيدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :لَقَد عَلِمَ المُستَحفَظونَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أنّي لَم أرُدَّ عَلَى اللّهِ ولا عَلى رَسولِهِ ساعَةً قَطُّ ، ولَقَد واسَيتُهُ بِنَفسي فِي المَواطِنِ الَّتي تَنكُصُ فيهَا الأَبطالُ وتَتَأَخَّرُ فيهَا الأَقدامُ ، نَجدَةً أكرَمَنِي اللّهُ بِها . (4)
.
ص: 739
ج _ التَّقَدُّمُ عَلَى الأَقرانِالإمام عليّ عليه السلام :لا يَتَقَدَّمُني أحَدٌ إلّا أحمَدُ صلى الله عليه و آله ، وإنّي وإيّاهُ لَعَلى سَبيلٍ واحِدٍ ، إلّا أنَّهُ هُوَ المَدعُوُّ بِاسمِهِ . (1)عنه عليه السلام_ في خُطبَةٍ لَهُ بَعدَ وَقعَةِ النَّهرَوانِ _: فَقُمتُ بِالأَمرِ حينَ فَشِلوا ، وتَطَلَّعتُ حينَ تَقَبَّعوا ، ونَطَقتُ حينَ تَعتَعوا ، ومَضَيتُ بِنورِ اللّهِ حينَ وَقَفوا . وكُنتُ أخفَضَهُم صَوتا ، وأعلاهُم فَوتا (2) ، فَطِرتُ بِعِنانِها ، وَاستَبدَدتُ بِرِهانِها ، كَالجَبَلِ لا تُحَرِّكُهُ القَواصِفُ ، ولا تُزيلُهُ العَواصِفُ ، لَم يَكُن لِأَحَدٍ فِيَّ مَهمَزٌ ، ولا لِقائِلٍ فِيَّ مَغمَزٌ . (3)د _ الفَضائِلُ الباهِرَةُالإمام الباقر عليه السلام :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ يَقولُ : ما للّهِِ عَزَّ وجَلَّ آيَةٌ هِيَ أكبَرُ مِنّي ، ولا للّهِِ مِن نَبَأٍ أعظَمُ مِنّي . (4)الإمام عليّ عليه السلام :أنَا الصِّدّيقُ الأَكبَرُ ، وأنَا الفاروقُ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ . (5)
عنه عليه السلام :أنَا كَلامُ اللّهِ النّاطِقُ . (6)و در كلام ديگرى به مسئله جان و آبرو اشاره كرده ،عنه عليه السلام :أنَا ... أعرَفُكُم بِالكِتابِ وَالسُّنَّةِ ، وأفقَهُكُم فِي الدّينِ ، وأعلَمُكُم بِعَواقِبِ الاُمورِ . (7)عنه عليه السلام :أنَا أوَّلُ مَن يَجثو بَينَ يَدَيِ الرَّحمنِ لِلخُصومَةِ يَومَ القِيامَةِ . (8)
.
ص: 740
عنه عليه السلام :أنَا قَسيمُ اللّهِ بَينَ الجَنَّةِ وَالنّارِ ، لا يَدخُلُها داخِلٌ إلّا عَلى حَدِّ قَسمي . (1)ه _ المَناقِبُ المَعدودَةُالإمام عليّ عليه السلام :لَقَد اُعطيتُ السِّتَّ ؛ عِلمَ المَنايا وَالبَلايا وَالوَصايا ، وفَصلَ الخِطابِ ، وإنّي لَصاحِبُ الكَرّاتِ ، ودَولَةِ الدُّوَلِ ، وإنّي لَصاحِبُ العَصا وَالميسَمِ ، وَالدّابَةُ الَّتي تُكَلِّمُ النّاسَ . (2)عنه عليه السلام :لَقَد اُعطيتُ السَّبعَ الَّتي لَم يَسبِقني إلَيها أحَدٌ ؛ عُلِّمتُ الأَسماءَ ، وَالحُكومَةَ بَينَ العِبادِ ، وتَفسيرَ الكِتابِ ، وقِسمَةَ الحَقِّ مِنَ المَغانِمِ بَينَ بَني آدَمَ ، فَما شَذَّ عَنّي مِنَ العِلمِ شَيءٌ إلّا وقَد عَلَّمَنيهِ المُبارَكُ . ولَقَد اُعطيتُ حَرفا يَفتَحُ ألفَ حَرفٍ ، ولَقَد اُعطِيَت زَوجَتي مُصحَفا فيهِ مِنَ العِلمِ ما لَم يَسبِقها إلَيهِ أحَدٌ خاصَّةً مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ . (3)عنه عليه السلام :اُحاجُّ النّاسَ يَومَ القِيامَةِ بِتِسعٍ ؛ بِإِقامِ الصَّلاةِ ، وإيتاءِ الزَّكاةِ ، وَالأَمرِ بِالمَعروفِ ، وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَالعَدلِ فِي الرَّعِيَّةِ ، وَالقَسمِ بِالسَّوِيَّةِ ، وَالجِهادِ في سَبيلِ اللّهِ ، وإقامَةِ الحُدودِ وأشباهِهِ . (4)عنه عليه السلام :كانَ لي عَشرٌ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَم يُعطَهُنَّ أحَدٌ قَبلي ، ولا يُعطاهُنَّ أحَدٌ بَعدي ؛ قالَ لي : يا عَلِيُّ ، أنتَ أخي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وأنتَ أقرَبُ النّاسِ مِنّي مَوقِفا يَومَ القِيامَةِ ، ومَنزلي ومَنزِلُكَ فِي الجَنَّةِ مُتَواجِهَينِ (5) كَمَنزِلِ الأَخَوَينِ ، وأنتَ الوَصِيُّ ، وأنتَ الوَلِيُّ ، وأنتَ الوَزيرُ ، عَدُوُّكَ عَدُوّي ، وعَدُوّيَعُدوُّ اللّهِ ، ووَلِيُّكَ وَلِيّي ، ووَلِيّي وَلِيُّ اللّهِ . (6)
.
ص: 741
و _ المَناقِبُ المَنثورَةُالإمام عليّ عليه السلام :أنَا أولى بِرَسولِ اللّهِ حَيّا ومَيِّتا ، وأنَا وَصِيُّهُ ووَزيرُهُ ومُستَودَعُ سِرِّهِ وعِلمِهِ ، وأنَا الصِّدّيقُ الأَكبَرُ ، وَالفاروقُ الأَعظَمُ ، وأوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ وصَدَّقَهُ ، وأحسَنُكُم بَلاءً في جِهادِ المُشرِكينَ ، وأعرَفُكُم بِالكِتابِ وَالسُّنَّةِ ، وأفقَهُكُم في الدّينِ ، وأعلَمُكُم بِعَواقِبِ الاُمورِ ، وأذرَبُكُم (1) لِسانا ، وأثبَتُكُم جَنانا . (2)عنه عليه السلام :أنَا عَينُ اللّهِ ، وأنَا يَدُ اللّهِ ، وأنَا جَنبُ اللّهِ ، وأنَا بابُ اللّهِ . (3)عنه عليه السلام :أنَا عِلمُ اللّهِ ، وأنَا قَلبُ اللّهِ الواعي ، ولِسانُ اللّهِ النّاطِقُ ، وعَينُ اللّهِ ، وجَنبُ اللّهِ ، وأنَا يَدُ اللّهِ . (4)عنه عليه السلام :إنَّما مَثَلي بَينَكُم كَمَثَلِ السِّراجِ فِي الظُّلمَةِ ؛ يَستَضيءُ بِهِ مَن وَلَجَها ، فَاسمَعوا أيُّهَا النّاسُ وعوا ، وأحضِروا آذانَ قُلوبِكُم تَفهَموا . (5)
.
ص: 742
الفصل الرابع: عليّ عليه السلام عن لسان أهل البيت عليهم السلامفاطمة عليهاالسلام بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ خِطابا لِقَومٍ وَقَفوا خَلفَ بابِ بَيتِها لِأَخذِ البَيعَةِ مِنَ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: لا عَهدَ لي بِقَومٍ أسوَأَ مَحضَرا مِنكُم ؛ تَرَكتُم رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله جِنازَةً بَينَ أيدينا ، وقَطَعتُم أمرَكُم فيما بَينَكُم ، ولَم تُؤَمِّرونا ، ولَم تَرَوا لَنا حَقّا ، كَأَنَّكُم لَم تَعلَموا ما قالَ يَومَ غَديرِ خُمٍّ ! وَاللّهِ لَقَد عَقَدَ لَهُ يَومَئِذٍ الوَلاءَ ؛ لِيَقطَعَ مِنكُم بِذلِكَ مِنهَا الرَّجاءَ ، ولكِنَّكُم قَطَعتُمُ الأَسبابَ بَينَكُم وبَينَ نَبِيِّكُم ، وَاللّهُ حَسيبٌ بَينَنا وبَينَكُم فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . (1)
الإمام الحسن عليه السلام_ في خُطبَةٍ لَهُ بَعدَ استِشهادِ أبيهِ عليه السلام _: يا أيُّهَا النّاسُ ! لَقَد فارَقَكُم أمسِ رَجُلٌ ما سَبَقَهُ الأَوَّلونَ ، ولايُدرِكُهُ الآخِرونَ ، ولَقَد كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَبعَثُهُ المَبعَثَ فُيُعطيهِ الرّايَةَ ، فَما يَرجِعُ حَتّى يَفتَحَ اللّهُ عَلَيهِ ، جِبريلُ عَن يَمينِهِ ، وميكائيلُ عَن شِمالِهِ ، ما تَرَكَ بَيضاءَ ولا صَفراءَ إلّا سَبعَمِئَةِ دِرهَمٍ فَضَلَت مِن عَطائِهِ ، أرادَ أن يَشتَرِيَ بِها خادِما . (2)تاريخ دمشق عن مولى لحذيفة :كانَ حُسَينُ بنُ عَلِيٍّ آخِذا بِذِراعي في أيّامِ المَوسِمِ ، قالَ :
.
ص: 743
ورَجُلٌ خَلفَنا يَقولُ : اللّهُمَّ اغفِر لَهُ ولِاُمِّهِ ، فَأَطالَ ذلِكَ ، فَتَرَكَ الحُسَينُ ذِراعي وأقبَلَ عَلَيهِ فَقالَ : قَد آذَيتَنا مُنذُ اليَومِ ، تَستَغفِرُ لي ولِاُمّي وتَترُكُ أبي ؟ وأبي خَيرٌ مِنّي ومِن اُمّي . (1)الإمام زين العابدين عليه السلام_ مِن كَلامِهِ في مَجلِسِ يَزيدَ _: أنَا ابنُ عَلِيٍّ المُرتَضى ، أنَا ابنُ مَن ضَرَبَ خَراطيمَ الخَلقِ حَتّى قالوا لا إلهَ إلَا اللّهُ ، أنَا ابنُ مَن ضَرَبَ بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِسَيفَينِ ، وطَعَنَ بِرُمحَينِ ، وهاجَرَ الهِجرَتَينِ ، وبايَعَ البَيعَتَينِ ، وصَلَّى القِبلَتَينِ ، وقاتَلَ بِبَدرٍ وحُنَينٍ ، ولَم يَكفُر بِاللّهِ طَرفَةَ عَينٍ ، أنَا ابنُ صالِحِ المُؤمِنينَ ، ووارِثِ النَّبِيّينَ ، وقامِعِ المُلحِدينَ ، ويَعسوبِ المُسلِمينَ ، ونورِ المُجاهِدينَ ، وزَينِ العابِدينَ ، وتاجِ البَكّائينَ ، وأصبَرِ الصّابِرينَ ، وأفضَلِ القائِمينَ مِن آلِ ياسينَ ، ورَسولِ رَبِّ العالَمينَ . أنَا ابنُ المُؤَيَّدِ بِجَبرَئيلَ ، المَنصورِ بِميكائيلَ ، أنَا ابنُ المُحامي عَن حَرَمِ المُسلِمينَ ، وقاتِلِ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ ، وَالمُجاهِدِ أعداءَهُ النّاصِبينَ ، وأفخَرِ مَن مَشى مِن قُرَيشٍ أجمَعينَ ، وأوَّلِ مَن أجابَ وَاستَجابَ للّهِِ مِنَ المُؤمِنينَ ، وأقدَمِ السّابِقينَ ، وقاصِمِ المُعتَدينَ ، ومُبيرِ المُشرِكينَ ، وسَهمٍ مِن مَرامِي اللّهِ عَلَى المُنافِقينَ ، ولِسانِ حِكمَةِ العابِدينَ ، ناصِرِ دينِ اللّهِ ، ووَلِيِّ أمرِ اللّهِ ، وبُستانِ حِكمَةِ اللّهِ ، وعَيبَةِ عِلمِ اللّهِ . سَمِحٌ ، سَخِيٌّ ، بُهلولٌ زَكِيٌّ أبطَحِيٌّ رَضِيٌّ مَرضِيٌّ ، مِقدامٌ هَمّامٌ ، صابِرٌ صَوّامٌ ، مُهَذَّبٌ قَوّامٌ ، شُجاعٌ قَمقامٌ (2) ، قاطِعُ الأَصلابِ ، ومُفَرِّقُ الأَحزابِ ، أربَطُهُم جَنانا ، وأطبَقُهُم عِنانا ، وأجرَأُهُم لِسانا ، وأمضاهُم عَزيمَةً ، وأشَدُّهُم شَكيمَةً (3) ، أسدٌ باسِلٌ ،
.
ص: 744
وغَيثٌ هاطِلٌ . يَطحَنُهُم فِي الحُروبِ _ إذَا ازدَلَفَتِ الأَسِنَّةُ وقَرُبَتِ الأَعِنَّةُ _ طَحنَ الرَّحى ، ويَذروهُم ذَروَ الرّيحِ الهَشيمِ ، لَيثُ الحِجازِ ، وصاحِبُ الإِعجازِ ، وكَبشُ العِراقِ ، الإِمامُ بِالنَّصِّ وَالاِستِحقاقِ ، مَكِّيٌّ مَدَنِيٌّ ، أبطَحِيٌّ تِهامِيٌّ ، خَيفِيٌّ عَقَبِيٌّ ، بَدرِيٌّ اُحُدِيٌّ ، شَجَرِيٌّ مُهاجِرِيٌّ ، مِنَ العَرَبِ سَيِّدُها ، ومِنَ الوَغى لَيثُها . وارِثُ المَشعَرَينِ ، وأبُو السِّبطَينِ الحَسَنِ وَالحُسَينِ ، مَظهَرُ العَجائِبِ ، ومُفَرِّقُ الكَتائِبِ ، وَالشِّهابُ الثّاقبُ ، وَالنّورُ العاقِبُ ، أسَدُ اللّهِ الغالِبُ ، مَطلوبُ كُلِّ طالِبٍ ، غالِبُ كُلِّ غالِبٍ ، ذاكَ جَدّي عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . (1)
الإمام الباقر عليه السلام :إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ نَصَبَ عَلِيّا عليه السلام عَلَما بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ ، فَمَن عَرَفَهُ كانَ مُؤمِنا ، ومَن أنكَرَهُ كانَ كافِرا ، ومَن جَهِلَهُ كانَ ضالّاً ، ومَن نَصَبَ مَعَهُ شَيئا كانَ مُشرِكا ، ومَن جاءَ بِوِلايَتِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ ، ومَن جاءَ بِعَداوَتِهِ دَخَلَ النّارَ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِيونُسَ بنِ أبي وَهبٍ _: اِعلَم أنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام أفضَلُ عِندَ اللّهِ مَِن الأِئِمَّةِ كُلِّهِم ، ولَهُ ثَوابُ أعمالِهِم ، وعَلى قَدرِ أعمالِهِم فُضِّلوا . (3)الإمام الكاظم عليه السلام :إنَّ عَلِيّا عليه السلام بابٌ مِن أبوابِ الهُدى ؛ فَمَن دَخَلَ مِن بابِ عَلِيٍّ كانَ مُؤمِنا ، ومَن خَرَجَ مِنهُ كانَ كافِرا ، ومَن لَم يَدخُل فيهِ ولَم يَخرُج مِنهُ كانَ فِي الطَّبَقَةِ الَّذينَ لِلّهِ فيهِمُ المَشيئَةُ . (4)
الإمام الرضا عليه السلام_ في كِتابِهِ إلَى المَأمونِ حينَ سَأَلَهُ عَن مَحضِ الإِسلامِ _: إنَّ الدَّليلَ .
ص: 745
بَعدَهُ [رَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله ]وَالحُجَّةَ عَلَى المُؤمِنينَ ، وَالقائِمَ بِأَمرِ المُسلِمينَ ، وَالنّاطِقَ عَنِ القُرآنِ ، وَالعالِمَ بِأَحكامِهِ ، أخوهُ وخَليفَتُهُ ووَصِيُّهُ ووَلِيُّهُ ، وَالَّذي كانَ مِنهُ بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى، عَلِيُّ بنُ أبيطالِبٍ عليه السلام أميرُالمُؤمِنينَ، وإمامُ المُتَّقينَ، وقائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلينَ ، وأفضَلُ الوَصِيّينَ ، ووارِثُ عِلمِ النَّبِيّينَ وَالمُرسَلينَ . (1)الإمام الجواد عليه السلام :عَلَّمَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيّا عليه السلام ألفَ كَلِمَةٍ ، كُلُّ كَلِمَةٍ يَفتَحُ ألفَ كَلِمَةٍ . (2)الإمام الهادي عليه السلام_ في زِيارَةِ صاحِبِ الأَمرِ عليه السلام _: اللّهُمَّ وصَلِّ عَلى وَلِيِّكَ ، ودَيّانِ دينِكِ ، وَالقائِمِ بِالقِسطِ مِن بَعدِ نَبِيِّكَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ أميرِ المُؤمِنينَ ، وإمامِ المُتَّقينَ ، وسَيِّدِ الوَصِيّينَ ، ويَعسوبِ الدّينِ ، وقائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلينَ ، قِبلَةِ العارِفينَ ، وعَلَمِ المُهتَدينَ ، وعُروَتِكَ الوُثقى ، وحَبلِكَ المَتينِ ، وخَليفَةِ رَسولِكَ عَلَى النّاسِ أجمَعينَ ، ووَصِيِّهِ فِي الدُّنيا وَالدّينِ . (3)الإمام العسكري عليه السلام_ فِي الصَّلاةِ عَلَى الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: اللّهُمَّ صَلِّ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، أخي نَبِيِّكَ ، ووَصِيِّهِ ، ووَلِيِّهِ ، وصَفِيِّهِ ، ووَزيرِهِ ، ومُستَودَعِ عِلمِهِ ، ومَوضِعِ سِرِّهِ ، وبابِ حِكمَتِهِ ، وَالنّاطِقِ بِحُجَّتِهِ ، وَالدّاعي إلى شَريعَتِهِ ، وخَليفَتِهِ في اُمَّتِهِ ، ومُفَرِّجِ الكُرَبِ عَن وَجهِهِ ، قاصِمِ الكَفَرَةِ ، ومُرغِمِ الفَجَرَةِ ، الَّذي جَعَلتَهُ مِن نَبِيِّكَ بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى . اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، وَانصُر مَن نَصَرَهُ ، وَاخذُل مَن خَذَلَهُ ، وَالعَن مَن نَصَبَ لَهُ مِنَ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ ، وصَلِّ عَلَيهِ أفضَلَ ما صَلَّيتَ عَلى أحَدٍ مِن أوصِياءِ أنبِيائِكَ يا رَبَّ العالَمينَ . (4)
.
ص: 746
الإمام المهدي عليه السلام_ في دُعائِهِ _: اللّهُمَّ . . . وصَلِّ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ ، ووارِثِ المُرسَلينَ ، وقائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلينَ ، وسَيِّدِ الوَصِيّينَ ، وحُجَّةِ رَبِّ العالَمينَ . (1)
.
ص: 747
الفصل الخامس: عليّ عليه السلام عن لسان أزواج النبيّ صلّي الله عليه و آلهالمعجم الكبير عن اُمّ سلمة :كانَ عَلِيٌّ عَلَى الحَقِّ ؛ مَنِ اتَّبَعَهُ اتَّبَعَ الحَقَّ ، ومَن تَرَكَهُ تَرَكَ الحَقَّ ، عَهدا مَعهودا قَبلَ يَومِهِ هذا . (1)التاريخ الكبير عن عائشة :أعلَمُ النّاسِ بِالسُّنَّةِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام . (2)خصائص أمير المؤمنين عن جميع بن عمير :دَخَلتُ مَعَ اُمّي عَلى عائِشَةَ ، فَسَمِعتُها تَسأَلُها مِن وَراءِ الحِجابِ عَن عَلِيٍّ عليه السلام ، فَقالَت : تَسأَليني عَن رَجُلٍ ما أعلَمُ أحَدا كانَ أحَبَّ إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِنهُ ولا أحَبَّ إلَيهِ مِنِ امرَأَتِهِ ؟ ! (3)
.
ص: 748
الفصل السادس: عليّ عليه السلام عن لسان أصحاب النبيّ صلّي الله عليه و آلهتاريخ بغداد عن إبراهيم عن علقمة والأسود :أتَينا أبا أيّوبَ الأَنصارِيَّ عِندَ مُنصَرَفِهِ مِن صِفّينَ ، فَقُلنا لَهُ : يا أبا أيّوبَ ، إنَّ اللّهَ أكرَمَكَ بِنُزولِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وبِمَجيءِ ناقَتِهِ تَفَضُّلاً مِنَ اللّهِ وإكراما لَكَ حَتّى أناخَت بِبابِكَ دونَ النّاسِ ، ثُمَّ جِئتَ بِسَيفِكَ عَلى عاتِقِكَ تَضرِبُ بِهِ أهلَ لا إلهَ إلَا اللّهُ ؟ ! فَقالَ : يا هذا ، إنَّ الرّائِدَ لا يَكذِبُ أهلَهُ ، وإنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَنا بِقِتالِ ثَلاثَةٍ مَعَ عَلِيٍّ ؛ بِقِتالِ النّاكِثينَ ، وَالقاسِطينَ ، وَالمارِقينَ . فَأَمَّا النّاكِثونَ فَقَد قَابَلناهُم أهلُ الجَمَلِ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، وأمَّا القاسِطونَ فَهذا مُنصَرَفُنا مِن عِندِهِم _ يَعني مُعاوِيَةَ وعَمرا _ وأمَّا المارِقونَ فَهُم أهلُ الطَّرفاواتِ ، وأهلُ السُّعَيفاتِ ، وأهلُ النُّخَيلاتِ ، وأهلُ النَّهرَواناتِ ، وَاللّهِ ما أدري أينَ هُم ، ولكِن لابُدَّ مِن قِتالِهِم إن شاءَ اللّهُ . قالَ : وسَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ لِعَمّارٍ : يا عَمّارُ ، تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، وأنتَ إذ ذاكَ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَكَ . يا عَمّارَ بنَ ياسِرٍ ، إن رَأَيتَ عَلِيّا قَد سَلَكَ وادِيا وسَلَكَ النّاسُ وادِيا غَيرَهُ فَاسلُك مَعَ عَلِيٍّ ؛ فَإِنَّهُ لَن يُدَلِّيَكَ (1) في رَدىً ، ولَن يُخرِجَكَ مِن هُدىً . يا عَمّارُ ، مَن تَقَلَّدَ سَيفا أعانَ بِهِ عَلِيّا عَلى عَدُوِّهِ قَلَّدَهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ
.
ص: 749
وِشاحَينِ (1) مِن دُرٍّ ، ومَن تَقَلَّدَ سَيفا أعانَ بِهِ عَدُوَّ عَلِيٍّ عَلَيهِ قَلَّدَهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ وِشاحَينِ مِن نارٍ . قُلنا : يا هذا ، حَسبُكَ رَحِمَكَ اللّهُ ! حَسبُكَ رَحِمَكَ اللّهُ ! (2)
تاريخ دمشق عن الشعبي :بَينا أبو بَكرٍ جالِسٌ ، إذ طَلَعَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام مِن بَعيدٍ ، فَلَمّا رَآهُ قالَ أبو بَكرٍ : مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إلى أعظَمِ النّاسِ مَنزِلَةً ، وأقرَبِهِم قَرابَةً ، وأفضَلِهِم دالَّةً (3) ، وأعظَمِهِم غَناءً عَنِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَليَنظُر إلى هذَا الطّالِعِ . (4)
اليقين عن معاوية بن ثعلبة الليثي_ لِأَبي ذَرٍّ _: قُلتُ : يا أبا ذَرٍّ ، إنّا لَنَعلَمُ أنَّ أحَبَّهُم إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أحَبُّهُم إلَيكَ . قالَ : أجَل . قُلنا : فَأَيُّهُم أحَبُّ إلَيكَ ؟ قالَ : هذَا الشَّيخُ المَظلومُ المُضطَهَدُ حَقُّهُ _ يَعني أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام _ . (5)
الأمالي للطوسي عن عبد المؤمن الأنصاري عن أبيه عن أنس بن مالك :سَأَلتُهُ : مَن كانَ آثَرَ النّاسِ عِندَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فيما رَأَيتَ ؟ قالَ : ما رَأَيتُ أحَدا بِمَنزِلَةِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ؛ كانَ يَبعَثُني في جَوفِ اللَّيلِ إلَيهِ ، فَيَستَخلي بِهِ حَتّى يُصبِحَ ، هذا كانَ لَهُ عِندَهُ حَتّى فارَقَ الدُّنيا . (6)
و يا مى فرمايد :الإمام الباقر عليه السلام :سُئِلَ جابِرُ بنُ عَبدِ اللّهِ الأَنصارِيُّ عَن عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ، قالَ : ذلِكَ .
ص: 750
و يا مى فرمايد :وَاللّهِ أميرُ المُؤمِنينَ ، ومُخزِي المُنافِقينَ ، وبَوارُ الكافِرينَ ، وسَيفُ اللّهِ عَلَى القاسِطينَ وَالنّاكِثينَ وَالمارِقينَ . (1)كتاب من لا يحضره الفقيه :كانَ جابِرُ بنُ عَبدِ اللّهِ الأَنصارِيُّ يَدورُ في سِكَكِ الأَنصارِ بِالمَدينَةِ وهُوَ يَقولُ : عَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ ، فَمَن أبى فَقَد كَفَرَ . يا مَعاشِرَ الأَنصارِ ، أدِّبوا أولادَكُم عَلى حُبِّ عَلِيٍّ ، فَمَن أبى فَانظُروا في شَأنِ اُمِّهِ ! (2)شرح الأخبار عن حذيفة بن اليمان_ في وَصفِ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: ذلِكَ خَيرُ هذِهِ الاُمَّةِ بَعدَ نَبِيِّها صلى الله عليه و آله ، لا يَشُكُّ فيهِ إلّا مُنافِقٌ . (3)
المصنّف عن سلمان :إنَّ أوَّلَ هذِهِ الاُمَّةِ وُرودا عَلى نَبِيِّها صلى الله عليه و آله أوَّلُها إسلاما عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام . (4)
تاريخ دمشق عن ابن عبّاس :لِعَلِيٍّ أربَعُ خِصالٍ : هُوَ أوَّلُ عَرَبِيٍّ وعَجَمِيٍّ صَلّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وهُوَ الَّذي كانَ لِواؤُهُ مَعَهُ في كُلِّ زَحفٍ ، وهُوَ الَّذي صَبَرَ مَعَهُ يَومَ المِهراسِ (5) ، انهَزَمَ النّاسُ كُلُّهُم غَيرَهُ ، وهُوَ الَّذي غَسَّلَهُ ، وهُوَ الَّذي أدخَلَهُ قَبرَهُ . (6)تاريخ دمشق عن ابن عبّاس :كُنّا نَتَحَدَّثُ : أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله عَهِدَ إلى عَلِيٍّ عليه السلام سَبعينَ عَهداً لَم يَعهَدها إلى غَيرِهِ . (7)مسند ابن حنبل عن ابن عمر :لَقَد اُوتِيَ ابنُ أبي طالِبٍ ثَلاثَ خِصالٍ لَأَن تَكونَ لي واحِدَةٌ .
ص: 751
مِنهُنَّ أحَبُّ إلَيَّ مِن حُمرِ النَّعَمِ : زَوَّجَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ابنَتَهُ ، ووَلَدَت لَهُ ، وسَدَّ الأَبوابَ إلّا بابَهُ فِي المَسجِدِ ، وأعطاهُ الرّايَةَ يَومَ خَيبَرَ . (1)تاريخ دمشق عن عبد اللّه بن مسعود:إنَّ القُرآنَ اُنزِلَ عَلى سَبعَةِ أحرُفٍ ، ما مِنها حَرفٌ إلّا لَهُ ظَهرٌ وبَطنٌ ، وإنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عِندَهُ مِنهُ عِلمُ الظّاهِرِ وَالباطِنِ . (2)الفتوح عن عمّار بن ياسر_ مِن كَلامِهِ في حَربِ صِفّينَ لِعَمرِو بنِ العاصِ _: أيُّهَا الأَبتَرُ ! أ لَستَ تَعلَمُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، وَانصُر مَن نَصَرَهُ ، وَاخذُل مَن خَذَلَهُ ؟ (3)
تاريخ دمشق عن عمر بن الخطّاب :اللّهُمَّ لا تُنزِلَنَّ شَديدَةً إلّا وأبُو الحَسَنِ إلى جَنبي . (4)
الاستيعاب :وقالَ [عُمَرُ] فِي المَجنونَةِ الَّتي أمَرَ بِرَجمِها ، وفِي الَّتي وَضَعَت لِسِتَّةِ أشهُرٍ ، فَأَرادَ عُمَرُ رَجمَها ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام : إنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَ_ثُونَ شَهْرًا» (5) الحَديثَ ، وقالَ عليه السلام لَهُ : إنَّ اللّهَ رَفَعَ القَلَمَ عَنِ المَجنونِ ، الحَديثَ ، فَكانَ عُمَرُ يَقولُ : لَولا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ . (6)كنز العمّال عن عمر بن الخطّاب :يَابنَ أبي طالِبٍ ! فَما زِلتَ كاشِفَ كُلِّ شُبهَةٍ ، ومُوَضِّحَ كُلِّ حُكمٍ . (7)تاريخ بغداد عن عمر بن الخطّاب_ لَمّا رَأى رَجُلاً يَسُبُّ عَلِيّا عليه السلام _: إنّي أظُنُّكَ مُنافِقا ؛ سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : إنَّما عَلِيٌّ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ .
ص: 752
بَعدي . (1)شرح نهج البلاغة :قالَ مُعاوِيَةُ لِقَيسِ بنِ سَعدٍ : رَحِمَ اللّهُ أبا حَسَنٍ ! فَلَقَد كانَ هَشّا بَشّا ، ذا فُكاهَةٍ .
قالَ قَيسٌ : نَعَم ، كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَمزَحُ ويَبتَسِمُ إلى أصحابِهِ ، وأراكَ تُسِرُّ حَسوا فِي ارتِغاءٍ (2) ، وتَعيبُهُ بِذلِكَ ! أما وَاللّهِ لَقَد كانَ مَعَ تِلكَ الفُكاهَةِ وَالطَّلاقَةِ أهيَبَ مِن ذي لَبدَتَينِ ، قَد مَسَّهُ الطُّوى ، تِلكَ هَيبَةُ التَّقوى ، ولَيسَ كَما يَهابُكَ طَغامُ (3) أهلِ الشّامِ . (4) .
ص: 753
الفصل السابع: عليّ عليه السلام عن لسان أصحابهربيع الأبرار :سَأَلَ زِيادُ بنُ أبيهِ أبَا الأَسوَدِ عَن حُبِّ عَلِيٍّ فَقالَ : إنَّ حُبَّ عَلِيٍّ يَزدادُ في قَلبي حِدَّةً ، كَما يَزدادُ حُبُّ مُعاوِيَةَ في قَلبِكَ ؛ فَإِنّي اُريدُ اللّهَ وَالدّارَ الآخِرَةَ بِحُبّي عَلِيّا ، وتُريدُ الدُّنيا بِزينَتِها بِحُبِّكَ مُعاوِيَةَ ، ومَثَلي ومَثَلُكَ كَما قالَ إخوَةُ مَذحِجٍ :
خَليلانِ مُختَلِفٌ شَأنُنااُريدُ العَلاءَ ويَهوِى اليَمَن اُحِبُّ دِماءَ بَني مالِكوراقَ المُعَلّى (1) بَياضَ اللَّبَنِ (2)تنبي_ه الخ_واط_ر ع_ن الأحن_ف بن قي_س_ لَمّا سَأَلَهُ مُعاوِيَةُ عَن أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: كانَ آخِذا بِثَلاثٍ تارِكا لِثَلاثٍ : آخِذا بِقُلوبِ الرِّجالِ إذا حَدَّثَ ، حَسَنَ الِاستِماعِ إذا حُدِّثَ ، أيسَرَ الأَمرَينِ عَلَيهِ إذا خولِفَ ، تارِكا لِلمِراءِ ، تارِكا لِمُقارَنَةِ اللَّئيمِ ، تارِكا لِما يُعتَذَرُ مِنهُ . (3)الصواعق المحرقة :قالَ مُعاوِيَةُ لِخالِدِ بنِ مُعَمَّرٍ : لِمَ أحبَبتَ عَلِيّا عَلَينا ؟ قالَ : عَلى ثَلاثِ خِصالٍ : عَلى حِلمِهِ إذا غَضِبَ ، وعَلى صِدقِهِ إذا قالَ ، وعَلى عَدلِهِ إذا حَكَمَ . (4)
.
ص: 754
الإمام الصادق عليه السلام :لَمّا صُرِعَ زَيدُ بنُ صوحانَ _ رَحمَةُ اللّهِ عَلَيهِ _ يَومَ الجَمَلِ ، جاءَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام حَتّى جَلَسَ عِندَ رَأسِهِ فَقالَ : رَحِمَكَ اللّهُ يا زَيدُ ، قَد كُنتَ خَفيفَ المَؤونَةِ عَظيمَ المَعونَةِ . قالَ : فَرَفَعَ زَيدٌ رَأسَهُ إلَيهِ وقالَ : وأنتَ فَجَزاكَ اللّهُ خَيرا يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَوَاللّهِ ما عَلِمتُكَ إلّا بِاللّهِ عَليما ، وفي اُمِّ الِكتابِ عَلِيّا حَكيما ، وأنَّ اللّهَ في صَدرِكَ لَعَظيمٌ . وَاللّهِ ما قاتَلتُ مَعَكَ عَلى جَهالَةٍ ، ولكِنّي سَمِعتُ اُمَّ سَلَمَةَ زَوجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله تَقولُ : سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، وَانصُر مَن نَصَرَهُ ، وَاخذُل مَن خَذَلَهُ» فَكَرِهتُ وَاللّهِ أن أخذُلَكَ فَيَخذُلَنِيَ اللّهُ . (1)
تاريخ اليعقوبي_ في ذِكرِ بَيعَةِ النّاسِ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: . . . وقامَ صَعصَعَةُ بنُ صوحانَ فَقالَ : وَاللّهِ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، لَقَد زَيَّنتَ الخِلافَةَ وما زانَتكَ ، ورَفَعتَها وما رَفَعَتكَ ، ولَهِيَ إلَيكَ أحوَجُ مِنكَ إلَيها . (2)
تذكرة الخواصّ عن عمرو بن يحيى عن صعصعة بن صوحان :إنَّهُ مَرَّ عَلَى المُغيرَةِ بنِ شُعبَةَ فَقالَ لَهُ : مِن أينَ أقبَلتَ ؟ فَقالَ : مِن عِندِ الوَلِيِّ التَّقِيِّ الجَوادِ الحَيِيِّ (3) الحَليمِ الوَفِيِّ الكَريمِ الحَفِيِّ ، المانِعِ بِسَيفِهِ ، الجَوادِ بِكَفِّهِ ، الوَرِيِّ زَندُهُ (4) ، الكَثيرِ رِفدُهُ ، الَّذي هُوَ مِن ضِئضِئِ (5) أشرافٍ أمجادٍ لُيوثٍ أنجادٍ ، لَيسَ بِإِقعادٍ (6) ولا إنكادٍ ، لَيسَ في أمرِهِ ولا في
.
ص: 755
قَولِهِ فَنَدٌ ، لَيسَ بِالطّائِشِ النَّزِقِ ، ولا بِالرّايثِ المَذِقِ (1) ، كَريمُ الأَبناءِ ، شَريفُ الآباءِ ، حَسَنُ البَلاءِ ، ثاقِبُ السَّناءِ ، مُجَرَّبٌ مَشهورٌ ، وشُجاعٌ مَذكورٌ ، زاهِدٌ فِي الدُّنيا ، راغِبٌ فِي الاُخرى . فَقالَ المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ : هذِهِ صِفاتُ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ عليه السلام . (2)
مروج الذهب :دَخَلَ ضِرارُ بنُ ضَمرَةَ ؛ وكانَ مِن خَواصِّ عَلِيٍّ عَلى مُعاوِيَةَ وافِدا ، فَقالَ لَهُ : صِف لي عَلِيّا . قالَ : أعفِني يا أميرَ المُؤمِنينَ . قالَ مُعاوِيَةُ : لابُدَّ مِن ذلِكَ . فَقالَ : أمّا إذا كانَ لابُدَّ مِن ذلِكَ فَإِنَّهُ كانَ وَاللّهِ بَعيدَ المَدى ، شَديدَ القُوى ، يَقولُ فَصلاً ، ويَحكُم عَدلاً ، يَتَفَجَّرُ العِلمُ مِن جَوانِبِهِ ، وتَنطِقُ الحِكمَةُ مِن نَواحيهِ ، يُعجِبُهُ مِنَ الطَّعامِ ما خَشُنَ ، ومِنَ اللِّباسِ ما قَصُرَ . وكانَ وَاللّهِ يُجيبُنا إذا دَعَوناهُ ، ويُعطينا إذا سَأَلناهُ ، وكُنّا وَاللّهِ _ عَلى تَقريبِهِ لَنا وقُربِهِ مِنّا لا نُكَلِّمُهُ هَيبَةً لَهُ ، ولا نَبتَدِئُهُ لِعِظَمِهِ في نُفوسِنا ، يَبسِمُ عَن ثَغرٍ كَاللُّؤلُؤِ المَنظومِ ، يُعَظِّمُ أهلَ الدّينِ ، ويَرحَمُ المَساكينَ ، ويُطعِمُ فِيالمَسغَبَةِ يَتيما ذا مَقرَبَةٍ أو مِسكينا ذا مَترَبَةٍ ، يَكسُو العُريانَ ، وَينصُرُ اللَّهفانَ ، ويَستَوحِشُ مِنَ الدُّنيا وزَهرَتِها ، ويَأنِسُ بِاللَّيلِ وظُلمَتِهِ . وكَأَنّي بِهِ وقَد أرخَى اللَّيلُ سُدولَهُ ، وغارَت نُجومُهُ ، وهُوَ في مِحرابِهِ قابِضٌ عَلى لِحيَتِهِ ، يَتَمَلمَلُ تَمَلمُلَ السَّليم (3) ، ويَبكي بُكاءَ الحَزينِ ، ويَقولُ : «يا دُنيا غُرّي غَيري ، إلَيَّ تَعَرَّضتِ أم إلَيَّ تَشَوَّفتِ ؟ هَيهاتَ هَيهاتَ ! لا حانَ حينُكِ ، قد أبَنتُكِ ثَلاثا لا رَجعَةَ لي فيكِ ، عُمُرُكِ قَصيرٌ ، وعَيشُكِ حَقيرٌ ، وخَطَرُكِ يَسيرٌ ، آهِ مِن قِلَّةِ الزّادِ وبُعدِ السَّفَرِ ووَحشَةِ الطَّريقِ .
.
ص: 756
فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : زِدني شَيئا مِن كَلامِهِ ، فَقالَ ضِرارٌ : كانَ يَقولُ : أعجَبُ ما في الإِنسانِ قَلبُهُ . . . فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : زِدني كُلَّما وَعَيتَهُ مِن كَلامِهِ ، قالَ : هَيهاتَ أن آتِيَ عَلى جَميعِ ما سَمِعتُهُ مِنهُ . (1)
الكامل في التاريخ_ في ذِكرِ مَقتَلِ حُجرِ بنِ عَدِيٍّ وأصحابِهِ _: قالَ [مُعاوِيَةُ ]لِعَبدِ الرَّحمنِ بنِ حَسّانٍ : يا أخا رَبيعَةَ ، ما تَقولُ في عَلِيٍّ ؟ قالَ : دَعني ولا تَسأَلني فَهُوَ خَيرٌ لَكَ . قالَ : وَاللّهِ لا أدَعُكَ . قالَ : أشهَدُ أنَّهُ كانَ مِنَ الذّاكِرينَ اللّهَ تَعالى كَثيرا ، مِنَ الآمِرينَ بِالحَقِّ ، وَالقائِمينَ بِالقِسطِ ، وَالعافينَ عَنِ النّاسِ . قالَ : فَما قَولُكَ في عُثمانَ ؟ قالَ : هُوَ أوَّلُ مَن فَتَحَ أبوابَ الظُّلمِ ، وأغلَقَ أبوابَ الحَقِّ . قالَ : قَتَلتَ نَفسَكَ ! قالَ : بَل إيّاكَ قَتَلتُ ، ولا رَبيعَةَ بِالوادي ؛ يَعني لِيَشفَعوا فيهِ . فَرَدَّهُ مُعاوِيَةُ إلى زِيادٍ ، وأمَرَهُ أن يَقتُلَهُ شَرَّ قَتلَةٍ ، فَدَفَنَهُ حَيّا . (2)
رجال الكشّي :سُئِلَ قَنبَرٌ : مَولى مَن أنتَ ؟ فَقالَ : أنَا مَولى مَن ضَرَبَ بِسَيفَينِ ، وطَعَنَ بِرُمحَينِ ، وصَلَّى القِبلَتَينِ ، وبايَعَ البَيعَتَينِ ، وهاجَرَ الهِجرَتَينِ ، ولَم يَكفُر بِاللّهِ طَرفَةَ عَينٍ . أنَا مَولى صالِحِ المُؤمِنينَ ، ووارِثِ النَّبِيّينَ ، وخَيرِ الوَصِيّينَ ، وأكبَرِ المُسلِمينَ ، ويَعسوبِ المُؤمِنينَ ، ونورِ المُجاهِدينَ ، ورَئيسِ البَكّائينَ ، وزَينِ العابِدينَ ، وسِراجِ الماضينَ ، وضَوءِ القائِمينَ ، وأفضَلِ القانِتينَ ، ولِسانِ رَسولِ رَبِّ العالَمينَ ، وأوَّلِ المُؤمِنينَ مِن آلِ ياسينَ . المُؤَيَّدِ بِجِبريلَ الأَمينِ ، وَالمَنصورِ بِميكائيلَ المَتينِ ، وَالمَحمودِ عِندَ أهلِ
.
ص: 757
السَّماواتِ أجمَعينَ ، سَيِّدِ المُسلِمينَ وَالسّابِقينَ ، وقاتِلِ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ ، وَالمُحامي عَن حَ_رَمِ المُسلِمينَ ، وَالمُجاهِ_دِ أع_داءَهُ النّاصِبينَ ، ومُطفِئِ نيرانِ الموقِدينَ ، وأفخَرِ مَن مَشى مِن قُرَيشٍ أجمَعينَ ، وأوَّلِ مَن حارَبَ وَاستَجابَ لِلّهِ ، أميرِ المُؤمِنينَ ، ووَصِيِّ نَبِيِّهِ فِي العالَمينَ ، وأمينِهِ عَلَى المَخلوقينَ ، وخَليفَةِ مَن بُعِثَ إلَيهِم أجمَعينَ ، سَيِّدِ المُسلِمينَ وَالسّابِقينَ ، وقاتِلِ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ ، ومُبيدِ المُشرِكينَ ، وسَهمٍ مِن مَرامِي اللّهِ عَلَى المُنافِقينَ ، ولِسانِ كَلِمَةِ العابِدينَ . ناصِرِ دينِ اللّهِ ، ووَلِيِّ اللّهِ ، ولِسانِ كَلِمَةِ اللّهِ ، وناصِرِهِ في أرضِهِ ، وعَيبَةِ عِلمِهِ ، وكَهفِ دينِهِ ، إمامِ الأَبرارِ ، مَن رَضِيَ عَنهُ العَلِيُّ الجَبّارُ . سَمِحٌ ، سَخِيٌّ ، حَيِيٌّ (1) ، بُهلولٌ ، سَنحنَحِيٌّ (2) ، زَكِيٌّ ، مُطَهَّرٌ ، أبطَحِيٌّ ، باذِلٌ ، جَرِيٌّ ، هُمامٌ ، صابِرٌ (3) ، صَوّامٌ ، مَهدِيٌّ ، مِقدامٌ ، قاطِعُ الأَصلابِ ، مُفَرِّقُ الأَحزابِ ، عالِي الرِّقابِ ، أربَطُهُم عِنانا ، وأثبَتُهُم جَنانا ، وأشَدُّهُم شَكيمَةً (4) ، بازِلٌ (5) ، باسِلٌ ، صِنديدٌ ، هِزَبرٌ ، ضِرغامٌ ، حازِمٌ ، عَزّامٌ ، حَصيفٌ ، خَطيبٌ ، مِحجاجٌ ، كَريمُ الأَصلِ ، شَريفُ الفَضلِ ، فاضِلُ القَبيلَةِ ، نَقِيُّ العَشيرَةِ ، زَكِيُّ الرَّكانَةِ (6) ، مُؤَدِّي الأَمانَةِ . مِن بَني هاشِمٍ ، وَابنُ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وَالإِمامُ ، مَهدِيُّ الرَّشادِ ، مُجانِبُ الفَسادِ ، الأَشعَثُ الحاتِمُ ، البَطَلُ الجَماجِمِ ، وَاللَّيثُ المُزاحِمُ ، بَدرِيٌّ ، مَكِّيٌّ ، حَنَفِيٌّ ، روحانِيٌّ ، شَعشَعانِيٌّ . مِنَ الجِبالِ شَواهِقُها ، ومِنَ الهِضابِ رُؤوسُها ، ومِنَ العَرَبِ سَيِّدُها ، ومِنَ الوَغى لَيثُها .
.
ص: 758
البَطَلُ الهُمامُ ، وَاللَّيثُ المِقدامُ ، وَالبَدرُ التَّمامُ ، مِحَكُّ المُؤمِنينَ ، ووارِثُ المَشعَرَينِ ، وأبُو السِّبطَينِ الحَسَنِ وَالحُسَينِ ، وَاللّهِ أميرُ المُؤمِنينَ حَقّا حَقّا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عَلَيهِ مِنَ اللّهِ الصَّلَواتُ الزَّكِيَّةُ وَالبَرَكاتُ السَّنِيَّةُ . (1)
تاريخ اليعقوبي_ في ذِكرِ بَيعَةِ النّاسِ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: . . . ثُمَّ قامَ مالِكُ بنُ الحارِثِ الأَشتَرُ فَقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! هذا وَصِيُّ الأَوصِياءِ ، ووارِثُ عِلمِ الأَنبِياءِ ، العَظيمُ البَلاءِ ، الحَسَنُ الغَناءِ ، الَّذي شَهِدَ لَهُ كِتابُ اللّهِ بِالإيمانِ ورَسولُهُ بِجَنَّةِ الرِّضوانِ ، مَن كَمُلَت فيهِ الفَضائِلُ ، ولَم يَشُكَّ في سابِقَتِهِ وعِلمِهِ وفَضلِهِ الأَواخِرُ ولَا الأَوائِلُ . (2)
.
ص: 759
الفصل الثامن: عَلِيٌّ عليه السلام عَنْ لِسَانِ أعْدَائِهِأ _ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَسير أعلام النبلاء عن عبيد :جاءَ أبو مُسلِمٍ الخَولانِيُّ واُناسٌ إلى مُعاوِيَةَ وقالوا : أنتَ تُنازِعُ عَلِيّا ، أم أنتَ مِثلُهُ ؟ فَقالَ : لا وَاللّهِ ، إنّي لَأَعلَمُ أنَّهُ أفضَلُ مِنّي وأحَقُّ بِالأَمرِ مِنّي . (1)تاريخ دمشق عن جابر :كُنّا عِندَ مُعاوِيَةَ فَذُكِرَ عَلِيٌّ ، فَأَحسَنَ ذِكرَهُ وذِكرَ أبيهِ واُمِّهِ ، ثُمَّ قالَ : وكَيفَ لا أقولُ هذا لَهُم ؟ هُم خِيارُ خَلقِ اللّهِ ، وعِندَهُ بَنيهِ أخيارٌ أبناءُ أخيارٍ . (2)مقتل أمير المؤمنين عن مغيرة :لَمّا جيءَ مُعاوِيَةُ بِنَعيِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام وهُوَ قائِلٌ (3) مَعَ امرَأَتِهِ ابنَةِ قَرَظَةَ في يَومٍ صائِفٍ فَقالَ : إنّا لِلّهِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ ، ماذا فَقَدوا مِنَ العِلمِ وَالخَيرِ وَالفَضلِ وَالفِقهِ ؟
قالَتِ امرَأَتُهُ : بِالأَمسِ كُنتَ تَطعَنُ في عَينَيهِ وتَستَرجِعُ اليَومَ عَلَيهِ ! قالَ : وَيلَكِ ! لا تَدرينَ ماذا فَقَدوا مِن عِلمِهِ وفَضلِهِ وسَوابِقِهِ ! (4)
.
ص: 760
ب _ عَمرُو بنُ العاصِوقعة صفّين عن عمر بن سعد بإسناده :قالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرٍو : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، إنّي أدعوكَ إلى جِهادِ هذَا الرَّجُلِ الَّذي عَصى رَبَّهُ وقَتَلَ الخَليفَةَ ، وأظهَرَ الفِتنَةَ ، وفَرَّقَ الجَماعَةَ ، وقَطَعَ الرَّحِمَ !! قالَ عَمرٌو : إلى مَن ؟ قالَ : إلى جِهادِ عَلِيٍّ . فَقالَ عَمرٌو : وَاللّهِ يا مُعاوِيَةُ ، ما أنتَ وعَلِيٌّ بِعِكمَي (1) بَعيرٍ ، ما لَكَ هِجرَتُهُ ولا سابِقَتُهُ ، ولا صُحبَتُهُ ، ولا جِهادُهُ ، ولا فِقهُهُ وعِلمُهُ . وَاللّهِ إنَّ لَهُ مَعَ ذلِكَ حَدّا وجِدّا ، وحَظّا وحُظوَةً ، وبَلاءً مِنَ اللّهِ حَسَنا ، فَما تَجعَلُ لي إن شايَعتُكَ عَلى حَربِهِ ، وأنتَ تَعلَمُ ما فيهِ مِنَ الغَرَرِ وَالخَطَرِ ؟ قالَ : حُكمَكَ . قال : مِصرَ طُعمَةً . (2)
ج _ مَروانُ بنُ الحَكَمِشرح نهج البلاغة عن ابن أبي سيف :خَطَبَ مَروانُ وَالحَسَنُ عليه السلام جالِسٌ فَنالَ مِن عَلِيٍّ ، فَقالَ الحَسَنُ عليه السلام : وَيلَكَ يا مَروانُ !! أ هذَا الَّذي تَشتُمُ شَرُّ النّاسِ ؟ قالَ : لا ، ولكِنَّهُ خَيرُ النّاسِ . (3)
د _ الوَليدُ بنُ عَبدِ المَلِكِالإرشاد :قالَ الوَليدُ بنُ عَبدِ المَلِكِ لِبَنيهِ يَوما : يا بَنِيَّ عَلَيكُم بِالدّينِ ، فَإِنّي لَم أرَ الدّينَ بَنى شَيئا فَهَدَمَتهُ الدُّنيا ، ورَأَيتُ الدُّنيا قَد بَنَت بُنيانا هَدَمَهُ الدّينُ . ما زِلتُ أسمَعُ
.
ص: 761
أصحابَنا وأهلَنا يَسُبّونَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ويَدفِنونَ فَضائِلَهُ ، ويَحمِلونَ النّاسَ عَلى شَنَآنِهِ ، فَلا يَزيدُهُ ذلِكَ مِنَ القُلوبِ إلّا قُربا ، ويَجتَهِدونَ في تَقريبِهِم مِن نُفوسِ الخَلقِ فَلا يَزيدُهُم ذلِكَ إلّا بُعدا . (1)ه _ عَبدُ العَزيزِ بنُ مَروانَشرح نهج البلاغة عن عمر بن عبد العزيز :كانَ أبي يَخطُبُ فَلا يَزالُ مُستَمِرّا في خُطبَتِهِ ، حَتّى إذا صارَ إلى ذِكرِ عَلِيٍّ وسَبِّهِ تَقَطَّعَ لِسانُهُ ، وَاصفَرَّ وَجهُهُ ، وتَغَيَّرَت حالُهُ ، فَقُلتُ لَهُ في ذلِكَ ، فَقالَ : أ وَقَد فَطَنتَ لِذلِكَ ؟ إنَّ هؤُلاءِ لَو يَعلَمونَ مِن عَلِيٍّ ما يَعلَمُهُ أبوكَ ما تَبِعَنا مِنهُم رَجُلٌ . (2)
.
ص: 762
الفصل التاسع: عَلِيٌّ عليه السلام عَنْ لِسَانِ الشعراءكَعبُ بنُ زُهَيرٍ (1)و نيز مى فرمايد:من شعراء القرن الأوّل ، يقول : إنَّ عَلِيّا لَمَيمونٌ نَقيبَتُهُبِالصّالِحاتِ مِنَ الأَفعالِ مَحبورُ صِهرُ النَّبِيِّ وخَيرُ النّاسِ كُلِّهِمُفَكُلُّ مَن رامَهُ بِالفَخرِ مَفخورُ صَلَّى الصَّلاةَ مَعَ الاُمِّيِّ أوَّلَهُمقَبلَ العِبادِ ورَبُّ النّاسِ مَكفورُ بِالعَدلِ قُمتَ أمينا حينَ خالَفَهُأهلُ الهَوى مِن ذَوِي الأَهواءِ وَالزّور يا خَيرَ مَن حَمَلتَ نَعلاً لَهُ قَدَمٌإلَا النَّبِيِّ لَدَيهِ البَغيُ مَهجورُ اللّهُ أعطاكَ فَضلاً لا زَوالَ لَهُمِن أينَ آتي لَهُ الأَيّامَ تَغييرُ (2)
.
ص: 763
الكُمَيتُ بنُ زَيدٍ الأَسَدِيُّ (1)هر چند صبر كردن ، دشوار است ، ولى دشوارتر از پيامالكُمَيتُ بنُ زَيدٍ الأَسَدِيُّ عَلِيٌّ أميرُ المُؤمِنينَ وحَقُّهُمِنَ اللّهِ مَفروضٌ عَلى كُلِّ مُسلِمِ وإنَّ رَسولَ اللّهِ أوصى بِحَقِّهِوأشرَكَهُ في كُلِّ حَقٍّ مُقَسَّمِ وزَوَّجَهُ صِدّيقَةً لَم يَكُن لَهامُعادِلَةٌ غَيرُ البَتولَةِ مَريَمِ ورَدَّمَ أبوابَ الَّذينَ بَنى لَهُمبُيوتا سِوى أبوابِهِ لَم يُرَدِّمِ وأوجَبَ يَوما بِالغَديرِ وِلايَةًعَلى كُلِّ بَرٍّ مِن فَصيحٍ وأعجَمِ (2)السَيِّدُ الحِميَرِيُّ (3)من أكابر الشعراء في القرن الثاني ، يقول : اُقسِمُ بِاللّهِ وآلائِهِوَالمَرءُ عَمّا قالَ مَسؤولُ إنَّ عَلِيٌّ بنَ أبي طالِبٍعَلَى التُّقى وَالبِرِّ مَجبولُ وإنَّهُ كانَ الإِمامَ الَّذيلَهُ عَلَى الاُمَّةِ تَفضيلُ يَقولُ بِالحَقِّ ويعنى (4) بِهِولا تُلَهّيهِ الأَباطيلُ كانَ إذَا الحَربُ مَرَتهَا القَنا (5)وأحجَمَت عَنهَا البَهاليلُ (6) يَمشي إلَى القِرنِ وفي كَفِّهِأبيَضُ ماضِي الحَدِّ مَصقولُ مَشيَ العَفَرْنى (7) بَينَ أشبالِهِأبرَزَهُ لِلقَنَصِ الغيلُ (8) ذاكَ الَّذي سَلَّمَ في لَيلَةٍعَلَيهِ ميكالٌ وجِبريلُ ميكالُ في ألفٍ وجبريلُ فيألفٍ ويَتلوهُمُ سَرافيلُ لَيلَةَ بَدرٍ مَدَداً اُنزِلواكَأَنَّهُم طَيرٌ أبابيلُ فَسَلَّموا لَمّا أتَوا حَذوَهُوذاكَ إعظامٌ وتَبجيلُ (9)
.
ص: 764
العَبدِيُّ الكوفِيُّ (1)العَبدِيُّ الكوفِيُّ لَكَ المَناقِبُ يَعيَى الحاسِبونَ بِهاعَدّا ويَعجِزُ عَنها كُلُّ مُكتَتِبِ كَرَجعَةِ الشَّمسِ إذ رُمتَ الصَّلاةَ وقَدراحَت تَوارى عَنِ الأَبصارِ بِالحُجُبِ رُدَّت عَلَيكَ كَأَنَّ الشُّهبَ مَا اتَّضَحَتلِناظرٍ وكَأَنَّ الشَّمسَ لَم تَغِبِ وفي بَراءَةَ أنباءٌ عَجائِبُهالَم تُطوَ عَن نازِحٍ يَوما ومُقتَرِبِ ولَيلَةَ الغارِ لَما بِتَّ مُمتَلِئاًأمنا وغَيرُكَ مَلآنٌ مِنَ الرُّعُبِ ما أنتَ إلّا أخُو الهادي وناصِرُهُومُظهِرُ الحَقِّ وَالمَنعوتُ فِي الكُتُبِ وزَوجُ بَضعَتِهِ الزَّهراءِ يَكنُفُهادونَ الوَرى وأبو أبنائِهِ النُّجُبِ (2)
.
ص: 765
الشّافِعِيُّأحد أئمّة أهل السنّة ، يقول : إذا في مَجلِسٍ نَذكُرُ عَلِيّاوسِبطَيهِ وفاطِمَةَ الزَّكِيَّهْ يُقالُ تَجاوَزوا يا قومُ هذافَهذا مِن حَديثِ الرّافِضِيَّهْ بَرِئتُ إلَى المُهَيمِنِ مِن اُناسٍيَرَونَ الرَّفضَ حُبَّ الفاطِمِيَّهْ (1) وله أيضا : يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللّهِ حُبُّكُمُفَرضٌ مِنَ اللّهِ فِي القُرآنِ أنزَلَهُ يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أنَّكُمُمَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ (2) وله أيضا : إلامَ إلامَ وحَتّى مَتىاُعاتَبُ في حُبِّ هذَا الفَتى ؟ وهَل زُوِّجَت فاطِمٌ غَيرَهُوفي غَيرِهِ هَل أتى «هَلْ أَتَى» (3) ؟ (4)
.
ص: 766
الصّاحِبُ بنُ عَبّادٍ 1من جهابذة العلماء والاُدباء في القرن الرابع ، يقول : قالَت : فَمَن صاحِبُ الدّينِ الحَنيفِ أجِب ؟فَقُلتُ : أحمَدُ خَيرُ السّادَةِ الرُّسُلِ قالَت : فَمَن بَعدَهُ تُصفِي الوَلاءَ لَهُ ؟قُلتُ : الوَصِيُّ الّذي أربى عَلى زُحَلِ قالَت : فَمَن باتَ مِن فَوقِ الفِراشِ فِدىً ؟فَقُلتُ : أثبَتُ خَلقِ اللّهِ فِي الوَهَلِ (1) قالَت : فَمَن ذَا الَّذي آخاهُ عَن مِقَةٍ ؟فَقُلتُ : مَن حازَ رَدَّ الشَّمسِ فِي الطَّفَلِ قالَت : فَمَن زَوَّجَ الزَّهراءَ فاطمة ؟فَقُلتُ : أفضَلُ مَن حافٍ ومُنتَعِلِ قالَت : فَمَن والِدُ السِّبطَينِ إذ فَرَعا ؟فَقُلتُ : سابِقُ أهلِ السَّبقِ في مَهَلِ قالَت : فَمَن فازَ في بَدرٍ بِمُعجِزِها ؟فَقُلتُ : أضرَبُ خَلقِ اللّهِ فِي القُلَلِ قالَت : فَمَن أسَدُ الأَحزابِ يَفرِسُها ؟فَقُلتُ : قاتِلُ عَمرِو الضَّيغَمِ البَطَلِ قالَت : فَيَومَ حُنَينٍ مَن فَرا وبَرا ؟فَقُلتُ : حاصِدُ أهلِ الشِّركِ فِي عَجَلِ قالَت : فَمَن ذا دُعِيَ لِلطَّيرِ يَأكُلُهُ ؟فَقُلتُ : أقرَبُ مَرضِيٍّ ومُنتَحِلِ قالَت : فَمَن تِلوُهُ يَومَ الكِساءِ أجِب ؟فَقُلتُ : أفضَلُ مَكسُوٍّ ومُشتَمِلِ قالَت : فَمَن سادَ في يَومِ «الغَديرِ» أبِنْ ؟فَقُلتُ : مَن كانَ لِلإِسلامِ خَيرَ وَلِيِّ قالَت : فَفي مَن أتى في هَل أتى شَرَفٌ ؟فَقُلتُ : أبْذَلِ أهلِ الأَرضِ لِلنَّفَلِ قالَت : فَمَن راكِعٌ زَكّى بِخاتَمِهِ ؟فَقُلتُ : أطعَنُهُم مُذ كانَ بِالأَسَلِ (2) قالَت : فَمَن ذا قَسيمُ النّارِ يُسهِمُها ؟فَقُلتُ : مَن رَأيُهُ أذكى مِنَ الشُّعَلِ قالَت : فَمَن باهَلَ الطُّهرُ النَّبِيُّ بِهِ ؟فَقُلتُ : تاليهِ في حِلٍّ ومُرتَحَلِ قالَت : فَمَن شِبهُ هارونَ لِنَعرِفَهُ ؟فَقُلتُ : مَن لَم يَحُل يَوما ولَم يَزُلِ قالَت : فَمَن ذا غَداً بابُ المَدينَةِ قُل ؟فَقُلتُ : مَن سَأَلوهُ وَهوَ لَم يَسَلِ قالَت : فَمَن قاتِلُ الأَقوامِ إذ نَكَثوا ؟فَقُلتُ : تَفسيرُهُ في وَقعَةِ الجَمَلِ قالَت : فَمَن حارَبَ الأَرجاسَ إذ قَسَطوا ؟فَقُلتُ : صِفِّينُ تُبدي صَفحَةَ العَمَلِ قالَت : فَمَن قارَعَ الأَنجاسَ إذ مَرَقوا ؟فَقُلتُ : مَعناهُ يَومَ النَّهرَوانِ جَلي قالَت : فَمَن صاحِبُ الحَوضِ الشَّريفِ غَدا ؟فَقُلتُ : مَن بَيتُهُ في أشرَفِ الحُلَلِ قالَت : فَمَن ذا لِواءُ الحَمدِ يَحمِلُهُ ؟فَقُلتُ : مَن لَم يَكُن فِي الرَّوعِ بِالوَجِلِ قالَت : أكُلُّ الَّذي قَد قُلتَ في رَجُلٍ ؟فَقُلتُ : كُلُّ الَّذي قَد قُلتُ في رَجُلِ قالَت : فَمَن هُوَ هذَا الفَردُ سِمهُ لَنا ؟فَقُلتُ : ذاكَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيّ (3)
.
ص: 767
اِبنُ أبِي الحَديدِمن جهابذة العلماء وأثبات المؤرّخين في القرن السابع ، يقول : كَأَنَّ ظُباتِ المَشرَفِيَّةِ (1) مِن كَرىًفَما يَبتَغي إلّا مَقَرَّ المَحاجِرِ فَلا تَحسَبَنَّ الرَّعدَ رَجسَ غَمامَةٍولكِنَّهُ مِن بَعضِ تِلكَ الزَّماجِرِ (2) ولا تَحسَبَنَّ البَرقَ نارا فَإِنَّهُوَميضٌ أتى مِن ذِي الفَقارِ بِفاقِرِ (3) ولا تَحسَبَنَّ المُزنَ تَهمي (4) فَإِنَّهاأنامِلُهُ تَهمي بِأَوطَفِ (5) هامِرِ (6) تَعالَيتَ عَن مَدحٍ فَأَبلَغُ خاطِبٍبِمَدحِكَ بَينَ النّاسِ أقصَرُ قاصِرِ (7)
.
ص: 768
عَلاءُ الدّينِ الحِلِّيُّ (1)من أكابر العلماء والاُدباء في القرن الثامن ، يقول : يامَن بِهِ كَمُلَ الدّينُ الحَنيفُ ولِلإِسلامِ مِن بَعدِ وَهنٍ مَيلَهُ عَضَدا وصاحِبَ النَّصِّ في خُمٍّ وقَد رَفَعَ النَّبِيُّ]مِنهُ[ (2) عَلى رَغمِ العَدا عَضُدا أنتَ الَّذِي اختارَكَ الهادِي البَشيرُ أخاوما سِواكَ ارتَضى مِن بَينِهِم أحَدا أنتَ الَّذي عَجِبَت مِنهُ المَلائِكُ فيبَدرٍ ومِن بَعدِها إذ شاهَدوا اُحُدا ويقول أيضا : وحَقِّ نَصرِكَ لِلإِسلامِ تَكلَؤُهُحِياطَةً بَعدَ خَطبٍ فادِحٍ ورَدى ما فَصَّلَ المَجدُ جِلبابا لِذي شَرَفٍإلّا وكانَ لِمَعناكَ البهيجِ رِدا يا كاشِفَ الكَربِ عَن وَجهِ النَّبِيِّ لَدىبَدرٍ وقَد كَثُرَت أعداؤُهُ عَدَدا اِستَشعَرُوا الذُّلَّ خَوفا مِن لِقاكَ وقَدتَكاثَروا عَدَدا وَاستَصحَبوا عُدَدا ويومَ عمرِو بنِ وَدِّ العامِرِيِّ وقَدسارَت إلَيكَ سَرايا جَيشِهِ مَدَدا أضحَكتَ ثَغرَ الهُدى بشرا بِهِ وبَكَتْعَينُ الضَّلالِ لَهُ بَعدَ الدِّما مُدَدا وفي هَوازِنَ لَمّا نارُهَا استَعَرَتْمن عَزمِ عَزمِكَ يَوما حَرُّها بَرَدا أجرى حُسامُكَ صَوبا مِن دِمائِهُمُهَدَرا وأمطَرتُهُم مِن أسهُمٍ بَرَدا أقدَمتَ وَانهَزَمَ الباقونَ حينَ رَأَواعَلَى النَّبِيِّ مُحيطا جَحفَلاً لُبَدا (3) لَولا حُسامُكُ ما وَلَّوا ولَا اطَّرَحوامِنَ الغَنائِمِ مالاً وافِرا لُبَدا (4)(5)
.
ص: 769
الشَّيخُ أحمَدُ السَّبعِيُّ الأَحسائِيُّ 1من العلماء والاُدباء في القرن العاشر ، يقول : أعيَت صِفاتُكَ أهلَ الرَّأيِ وَالنَّظَرِوأورَدَتهم حِياضَ العَجزِ وَالحَصَرِ أنتَ الَّذي دَقَّ مَعناهُ لِمُعتَبِرٍيا آيةَ اللّهِ بَل يا فِتنَةَ البَشَرِ يا حُجَّةَ اللّهِ بَل يا مُنتَهَى القَدَرِ عَن كَشفِ مَعناكَ ذُو الفِكرِ الدَّقيقِ وَهَنْوفيكَ رَبُّ العُلى أهلَ العُقولِ فَتَنْ أنّى تَحُدُّكَ يا نورَ الإِلهِ فُطُنْيامَن إلَيهِ إشاراتُ العُقولِ ومَنْ فيهِ الأَلِبّاءُ بَينَ العَجزِ وَالخَطَرِ فَفي حُدوثِكَ قَومٌ في هَواكَ غَوَواإذ أبصَروا مِنكَ أمرا مُعجِزا فَغَلَوا حَيَّرتَ أذهانَهُم يا ذَا العُلى فَعَلَواهَيَّمتَ أفكارَ ذِي الأَفكارِ حينَ رَوَوا آياتِ شَأنِكَ فِي الأَيّامِ وَالعُصُرِ أوضَحتَ لِلنّاسِ أحكاما مُحَرَّفَةًكَما أبَنتَ أحاديثا مُصَحَّفَةً أنتَ المُقَدَّمُ أسلافا وأسلِفَةًيا أوَّلاً آخِرا نورا ومَعرِفَةً يا ظاهِرا باطِنا فِي العَينِ وَالأَثَرِ يا مُطعِمَ القُرصِ لِلعانِي الأَسيرِ وماذاقَ الطَّعامَ وأمسى صائِما كَرَما ومُرجِعَ القُرصِ إذ بَحرُ الظَّلامِ طَمالَكَ العِبارَةُ بِالنُّطقِ البَليغِ كَما لَكَ الإِشارَةُ فِي الآياتِ وَالسُّوَرِ أنوارُ فَضلِكَ لا تُطفي لَهُنَّ عِدامَهما يُكَتِّمُهُ أهلُ الضَّلالِ بَدا تَخالَفَت فيكَ أفكارُ الوَرى أبَداكَم خاضَ فيكَ اُناسٌ فَانتَهَوا فَغَدا مَغناكَ مُحتَجِبا عَن كُلِّ مُقتَدِرِ (1)
.
ص: 770
الشَّيخُ كاظِمٌ الاُزرِيُّ 1من كبار الشعراء في القرن الثالث عشر ، يقول : أيُّهَا الرّاكِبُ المُجِدُّ رُوَيدابِقُلوبٍ تَقَلَّبَت في جَواها إن تَراءَت أرضُ الغَرِيّينَ فَاخضَعْوَاخلَعِ النَّعلَ دونَ وادي طُواها وإذا شِمْتَ (1) قُبَّةَ العالَمِ الأَع_لى وأنوارُ رَبِّها تَغشاها فَتَواضَع فَثَمَّ دارَةُ قُدسٍتَتَمَنَّى الأَفلاكُ لَثْمَ ثَراها قُل لَهُ وَالدُّموعُ سَفحُ عَقيقٍوَالحِشى تُصطَلى بِنارِ غَضاها يَابنَ عَمِّ النَّبِيِّ أنتَ يَدُ اللّ_هِ الَّتي عَمَّ كُلَّ شَيءٍ نَداها أنتَ قُرآنُهُ القَديمُ وأوصافُكَ آياتُهُ الَّتي أوحاها حَسبُكَ (2) اللّهُ في مَآثِرِ شَتّىهِيَ مِثلُ الأَعدادِ لا تَتَناهى لَيتَ عَينا بِغَيرِ رَوضِكَ تَرعىقَذِيَت وَاستَمَرَّ فيها قَذاها أنتَ بَعدَ النَّبِيِّ خَيرُ البَراياوَالسَّما خَيرُ ما بِها قَمراها لَكَ ذاتٌ كَذاتِهِ حَيثُ لَولاأنَّها مِثلُها لَما آخاها قَد تَراضَعتُما بِثَديِ وِصالٍكانَ مِن جَوهَرِ التَّجَلّي غِذاها (3)
.
ص: 771
. .
ص: 772
. .
ص: 773
القسم العاشر : خصائص الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: الخصائص العقائديّةالفصل الثاني: الخصائص الاخلاقيةُالفصل الثالث: الخصائص العمليّةالفصل الرابع: الخصائص السياسيّةُ والاجتماعيّةُالفصل الخامس: الخصائص الحربيّةُ
.
ص: 774
. .
ص: 775
كلام حول خصائص الإمام عليه السلامالإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام منبع الفضائل ، وروحه ملأى بكلّ المحامد والمحاسن ، وحياته مظهر للمَكْرُمات . وما نورده هنا هو طرف من خصائص الإمام عليه السلام . وأمّا الخصائص الرفيعة الكريمة كالعلم ، والعصمة ، وما ماثلهما ، فقد جاءت في ذيل عناوينها الخاصّة . بَيْدَ أنّ ما نُورده هنا ، وفي مواضع اُخرى أيضا ، لا يمثّل كلَّ شيء يمكن أن يقال في إمام الإنسانيّة المتفرّد هذا . وسبب ذلك هو أنّ بحر عظمته وشخصيّته أوسع وأعزّ من أن يأتي عليه الوصف أو يفي به القلم أو يبلغ قعره الفكر ، وهو القائل : «يَنحَدِرُ عَنِّي السَّيلُ ، ولا يَرقى إلَيَّ الطَّيرُ» . (1) والسبب الآخر هو أنّ التاريخ لم ينقل للأجيال جميع مناقبه وفضائله ومكارمه . وكم دأبَ الكثيرون على محوها من ذاكرة التاريخ ، لكن ظهر منها ما بهر العيون وحيّر العقول ، رغم كلّ محاولات الجائرين المجحفين طمسها ودفنها . وما أروع كلام الخليل بن أحمد وأبلغه في الإمام حين قالَ : «ما أقولُ في حَقِّ امرِئٍ كَتَمَت مَناقِبَهُ أولِياؤُهُ خَوفا ، وأعداؤُهُ حَسَدا ، ثُمَّ ظَهَرَ ما بَينَ
.
ص: 776
الكَتمَينِ ما مَلَأَ الخافِقَينِ ؟ !» . (1) نزرٌ يسير نذكره هنا من تضاعيف النصوص الدينيّة المأثورة عن الفريقين ؛ إذ لا يسَعنا الإحاطة بصفات شخصيّة كشخصيّة عليّ عليه السلام ؛ تلك الشخصيّة المتفرّدة التي لا مثيل لها في الإيمان والعلم والخُلق والفتوّة والشجاعة والرحمة . بل لا نجد إنسانا يحمل بين جنباته خصائص متضادّة _ لا تُجمع في شخصٍ عادةً _ كعليّ إذا نظر إلى العدوّ وصاح به في ساحات الوغى ارتعدت فرائصه وبلغ قلبُه حنجرتَه ، ولم يجرُؤ أقرانه على منازلته . وإذا نظر إلى دموع اليتيم مترقرقةً في عينيه ، أو أبصر من حنا الدهرُ ظَهرَه اهتزّ قلبه وجرت دموعه . . . فلذا عُرف بأنّه «جامع الأضداد» ! إنّه العديم النظير في التاريخ كلّه ، وفي جميع الميادين ؛ فهو المعجزة الكبرى للإسلام ولرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكيف لا يكون كذلك وقد تكفّلته النبوّة واحتضنته الرسالة في حجر هذا الرسول العظيم ، وهو الفاني في جمال الحقّ . لكنّه _ مع كلّ ذلك _ كيف كان يرى نفسه في مقابل النبيّ صلى الله عليه و آله ؟ نجد ذلك في جوابه عليه السلام لمّا عَجِب أحدُهم مرّةً من علمه الزاخر ومعرفته العميقة حتى ظنّ أنّه هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال له الإمام عليّ عليه السلام : «أنَا عَبدٌ مِن عَبيدِ مُحَمَّدٍ» . (2) كان عليه السلام منذ الأيّام الاُولى لحياته رفيق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعضده ، وكم يأسر القلوبَ تصويره عليه السلام لهذه المرافقة والملازمة في خطبته الطويلة المعروفة بالقاصعة ! قلب عليّ عليه السلام منهل الوحي الصافي الزلال ، وروحه معطّرة بالتعاليم الربّانيّة ، وقد بلور ذلك كلّه في ميدان القتال والسياسة . وحياة عليّ عليه السلام مزيج عجيب من العلم والعمل ، والزهد والسعي . وهو أسد الحروب والكفاح ، وروحه الكبيرة متعلّقة بالملكوت الأعلى في جوف الليل !
.
ص: 777
الفصل الأوّل: الخصائص العقائديّةأ _ لَم يَ_كفُر بِاللّهِ طَرفَةَ عَينٍرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّ سُبّاقَ الاُمَمِ ثَلاثَةٌ لَم يَكفُروا طَرفَةَ عَينٍ : عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، وصاحِبُ ياسينَ ، ومُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ ، فَهُمُ الصِّدِّيقونَ ، وعَلِيٌّ أفضَلُهُم . (1)در روايت ديگرى امام على عليه السلام مى فرمايد :الإمام عليّ عليه السلام :إنّي لَم اُشرِك بِاللّهِ طَرفَةَ عَينٍ ، ولَم أعبُدِ اللّاتَ وَالعُزّى . (2)ب _ أوّل من أسلمرسول اللّه صلى الله عليه و آله :أوَّلُكُم وارِدا عَلَى الحَوضِ (3) أوَّلُكُم إسلاما ؛ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . (4)عنه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ أوَّلُ مَن آمَنَ بي وصَدَّقَني . (5)الإمام عليّ عليه السلام :أنَا أوَّلُ مَن أسلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله . (6)
عنه عليه السلام :لَقَد أسلَمتُ قَبلَ النّاسِ بِسَبعِ سِنينَ . (7)
.
ص: 778
الكافي عن سعيد بن المسيّب :سَأَلتُ عَلِيَّ بنَ الحُسَينِ عليهماالسلام : اِبنَ كَم كانَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام يَومَ أسلَمَ ؟
فَقالَ عليه السلام : أ وَكانَ كافِرا قَطُّ ؟ إنَّما كانَ لِعَلِيٍّ عليه السلام حَيثُ بَعَثَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ رَسولَهُ صلى الله عليه و آله عَشرُ سِنينَ ، ولَم يَكُن يَومَئِذٍ كافِرا ، ولَقَد آمَنَ بِاللّهِ تَبارَكَ وتَعالى وبِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله ، وسَبَقَ النّاسَ كُلَّهُم إلَى الإِيمانِ بِاللّهِ وبِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله وإلَى الصَّلاةِ بِثَلاثِ سِنينَ ، وكانَت أوَّلُ صَلاةٍ صَلّاها مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله الظُّهرَ رَكعَتَينِ . (1)المستدرك على الصحيحين عن أنس :نُبِّئَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله يَومَ الإِثنَينِ ، وأسلَمَ عَلِيٌّ عليه السلام يَومَ الثُّلاثاءِ . (2)ج _ أفضَلُ الاُمَّةِ يَقيناالإمام عليّ عليه السلام :لَو كُشِفَ الغِطاءُ مَا ازدَدتُ يَقينا . (3)عنه عليه السلام :ما شَكَكتُ فِي الحَقِّ مُذ اُريتُهُ . (4)المناقب للخوارزمي عن عمر بن الخطّاب :أشهَدُ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَسَمِعتُهُ وهُوَ يَقولُ : لَو أنَّ السَّماواتِ السَّبعَ وَالأَرَضينَ السَّبعَ وُضِعنَ في كِفَّةِ ميزانٍ ، ووُضِعَ إيمانُ عَلِيٍّ في كِفَّةِ ميزانٍ ، لَرَجَحَ إيمانُ عَلِيٍّ . (5)رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: الإِيمانُ مُخالِطٌ لَحمَكَ ودَمَكَ كَما خالَطَ لَحمي ودَمي . (6)
.
ص: 779
كلام في بدء إسلام الإمامكان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أفضل وأكرم مؤمن عرفه التاريخ الإسلاميّ بل كان في ذروة الإيمان ، وإيمانه ذو مواصفات لا مثيل لها عند غيره من اُولي الإيمان ، فهو أوّل من صدّق برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإيمانه نقيّ خالص لم تَشُبه شائبة الشرك قطّ ، ولم يشاكله أحد في ثبات خطاه على الإيمان وقوّة العقيدة . كان عليه السلام _ كما أشرنا سابقا _ ينام في فراش النبيّ صلى الله عليه و آله منذ الأيّام الاُولى لحياته . وقد نشأ برعاية النبيّ إيّاه . وتربّى على الخلق النبوي العظيم والسيرة المباركة . وكان يشهد مراحل النبوّة مع النبيّ صلى الله عليه و آله جنبا إلى جنب ، وكان النبيّ يأخذه معه إلى غار حراء ، فتعرّف على أسرار الملكوت . وصرّح في خطبته العظيمة «القاصعة» أنّه كان يرى نور الوحي ، ويسمع رنّة الشيطان اليائسة . وعلى مشارف إبلاغ الرسالة نال لقب «الوصي» ، و«الوزير» ، و «الأخ» ، من خلال مرافقته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله . ولنلحظ تصويره الجميل للرعاية النبويّة . قالَ : «وقَد عَلِمتُم مَوضِعي مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالقَرابَةِ القَريبَةِ ، وَالمَنزِلَةِ الخَصيصَةِ . وَضَعَني في حِجرِهِ وأنَا وَلَدٌ يَضُمُّني إلى صَدرِهِ ، ويَكنُفُني في فِراشِهِ ، ويُمِسُّني
.
ص: 780
جَسَدَهُ ، ويُشِمُّني عَرفَهُ (1) . وكانَ يَمضَغُ الشَّيءَ ثُمَّ يُلقِمُنيهِ . وما وَجَدَ لي كَذبَةً في قَولٍ ، ولا خَطلَةً في فِعلٍ . ولَقَد قَرَنَ اللّهُ بِهِ صلى الله عليه و آله مِن لَدُن أن كانَ فَطيما أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَريقَ المَكارمِ ، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالَمِ ، لَيلَهُ ونَهارَهُ . ولَقَد كُنتُ أتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفَصيلِ أثَرَ اُمِّهِ ، يَرفَعُ لي في كُلِّ يَومٍ مِن أخلاقِهِ عَلَما ، ويَأمُرُني بِالاِقتِداءِ بِهِ . ولَقَد كانَ يُجاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِراءَ فَأَراهُ ، ولا يَراهُ غَيري . ولَم يَجمَع بَيتٌ واحِدٌ يَومَئِذٍ فِي الإِسلامِ غَيرَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وخَديجَةَ وأنَا ثالِثُهُما . أرى نورَ الوَحي وَالرِّسالَةِ ، وأشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ . ولَقَد سَمِعتُ رَنَّةَ الشَّيطانِ حينَ نَزَلَ الوَحيُ عَلَيهِ صلى الله عليه و آله فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما هذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقالَ : هذَا الشَّيطانُ قَد أيِسَ مِن عِبادَتِهِ . إنَّكَ تَسمَعُ ما أسمَعُ ، وتَرى ما أرى ، إلّا أنَّكَ لَستَ بِنَبِيٍّ ، ولكِنَّكَ لَوَزيرٌ وإنَّكَ لَعَلى خَيرٍ» . (2) وقال ابن أبي الحديد _ في بيان قوله عليه السلام : «إنّي وُلِدتُ عَلَى الفِطرَةِ» (3) _ : «ومُرادُهُ هاهُنا بِالوِلادَةِ عَلَى الفِطرَةِ أنَّهُ لَم يولَد فِي الجاهِلِيَّةِ ؛ لِأَ نَّهُ وُلِدَ عليه السلام لِثَلاثينَ عاما مَضَت مِن عامِ الفيلِ ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه و آله اُرسِلَ لِأَربَعينَ سَنَةً مَضَت مِن عامِ الفيلِ . وقَد جاءَ فِي الأَخبارِ الصَّحيحَةِ أنَّهُ صلى الله عليه و آله مَكَثَ قَبلَ الرِّسالَةِ سِنينَ عَشرا يَسمَعُ الصَّوتَ ويَرَى الضَّوءَ ، ولا يُخاطِبُهُ أحَدٌ ، وكانَ ذلِكَ إرهاصا لِرِسالَتِهِ عليه السلام ، فَحُكمُ تِلكَ السِّنينَ العَشرِ حُكمُ أيّامِ رِسالَتِهِ صلى الله عليه و آله ، فَالمَولودُ فيها إذا كانَ في حِجرِهِ وهُوَ المُتَوَلّي لِتَربِيَتِهِ مَولودٌ في أيّامٍ كَأَيّامِ النُّبُوَّةِ ، ولَيسَ بِمَولودٍ في جاهِلِيَّةٍ مَحضَةٍ ، فَفارَقَت حالُهُ حالَ مَن يُدّعى لَهُ مِنَ الصَّحابَةِ مُماثَلَتُهُ فِي الفَضلِ . وقَد رُوِيَ أنَّ السَّنَةَ الَّتي وُلِدَ فيها عَلِيٌّ عليه السلام هِيَ السَّنَةُ الَّتي بُدِئَ فيها بِرِسالَةِ
.
ص: 781
رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَاُسمِعَ الهُتافَ مِنَ الأَحجارِ وَالأَشجارِ ، وكُشِفَ عَن بَصَرِهِ ، فَشاهَدَ أنوارا وأشخاصا ، ولَم يُخاطَب فيها بِشَيءٍ . وهذِهِ السَّنَةُ هِيَ السَّنَةُ الَّتِي ابتَدَأَ فيها بِالتَّبَتُّلِ وَالاِنقِطاعِ وَالعُزلَةِ في جَبَلِ حِراءَ ، فَلَم يَزَل بِهِ حَتّى كوشِفَ بِالرِّسالَةِ ، واُنزِلَ عَلَيهِ الوَحيُ . وكانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَتَيَمَّنُ بِتِلكَ السَّنَةِ وبِوِلادَةِ عَلِيٍّ عليه السلام فيها ، ويُسَمّيها سَنَةَ الخَيرِ وسَنَةَ البَرَكَةِ ، وقالَ لِأَهلِهِ لَيلَةَ وِلادَتِهِ ، وفيها شاهَدَ ما شاهَدَ مِن الكَراماتِ وَالقُدرَةِ الإِلهِيَّةِ ، ولَم يَكُن مِن قَبلِها شاهَدَ مِن ذلِكَ شَيئا : «لَقَد وُلِدَ لَنَا اللَّيلَةَ مَولودٌ يَفتَحُ اللّهُ عَلَينا بِهِ أبوابا كَثيرَةً مِنَ النِّعمَةِ وَالرَّحمَةِ» . وكانَ كَما قالَ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ ؛ فَإِنَّهُ عليه السلام كانَ ناصِرَهُ وَالمُحامِيَ عَنهُ وكاشِفَ الغَمّاءِ عَن وَجهِهِ ، وبِسَيفِهِ ثَبَتَ دينُ الإِسلامِ ، ورَسَت دَعائِمُهُ ، وتَمَهَّدَت قَواعِدُهُ» . (1) ويقول الكاتب المسيحي الشهير جورج جرداق : «وإذا أسلَمَ بَعضُ الوُجوهِ مِن قُرَيشٍ مُنذُ أوَّلِ الدَّعوَةِ احتِكاما لِلعَقلِ وتَخَلُّصا مِنَ الوَثَنِيَّةِ ؛ وإذا أسلَمَ كَثيرٌ مِنَ العَبيدِ وَالأَرِقّاءِ وَالمُضطَهَدينَ طَلَبا لِلعَدالَةِ الَّتي تَتَدَفَّقُ بِها رِسالَةُ مُحَمَّدٍ ، وَاستِنكارا لِلجَورِ الَّذي يُلهِبُ ظُهورَهُم بِسِياطِهِ ؛ وإذا أسلَمَ قَومٌ بَعدَ انتِصارِ النَّبِيِّ امتِثالاً لِلواقِعِ وتَزَلُّفا لِلمُنتَصَرِ كَما هِيَ الحالُ بِالنِّسبَةِ لِأَكثَرِ الأَمَوِيّينَ ؛ إذا أسلَمَ هؤُلاءِ جَميعا في ظُروفٍ تَتَفاوَتُ مِن حَيثُ قيمَتِها ومَعانيهَا الإِنسانِيَّةِ ، وتَتَّحِدُ في خُضوعِها لِلمَنطِقِ أو لِلواقِعِ الرّاهِنِ ، فَإِنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ قَد وُلِدَ مُسلِما ؛ لِأَ نَّهُ مِن مَعدِنِ الرِّسالَةِ مَولِدا ونَشأَةً ، ومِن ذاتِهِ خَلقا وفِطرَةً . ثُمَّ إنَّ الظَّرفَ الَّذي أعلَنَ فيهِ عَمّا يَكمُنُ في كِيانِهِ مِن روحِ الإِسلامِ ومِن حَقيقَتِهِ ، لَم يَكُن شَيئا مِن ظُروفِ الآخَرينَ ولَم يَرتَبِط بِموجِباتِ العُمُرِ ؛ لِأَنَّ إسلامَ عَلِيٍّ كانَ أعمَقَ مِن ضَرورَةِ الاِرتِباطِ بِالظُّروفِ إذ كانَ
.
ص: 782
جارِيا مِن روحِهِ كَما تَجرِي الأَشياءُ مِن مَعادِنِها وَالمِياهُ مِن يَنابيعِها . فَإِنَّ الصَّبِيَّ ما كادَ يَستَطيعُ التَّعبيرَ عَن خَلَجاتِ نَفَسِهِ ، حَتّى أدّى فَرضَ الصَّلاةِ وشَهِدَ بِاللّهِ ورَسولِهِ دونَ أن يَستَأذِنَ أو يَستَشيرَ . لَقد كانَ أوَّلُ سُجودِ المُسلِمينَ الاُوَلِ لِالِهَةِ قُرَيشٍ ! وكانَ أوَّلُ سُجودِ عَلِيٍّ لِاءِلهِ مُحَمَّدٍ ! إلّا أنَّهُ إسلامُ الرَّجُلِ الَّذي اُتيحَ لَهُ أن يَنشَأَ عَلى حُبِّ الخَيرِ ويَنمُوَ في رِعايَةِ النَّبِيِّ ويُصبِحَ إمامَ العادِلينَ مِن بَعدِهِ ، ورُبّانَ السَّفينَةِ في غَمرَةِ العَواصِفِ وَالأَمواجِ» . (1) يتبيّن ممّا ذكرناه _ وهو غيض من فيض ، ويمكن ملاحظة حقائق كثيرة تدعم ما أوردناه _ ما يأتي : 1 . يعود إيمان عليّ عليه السلام إلى السنين التي سبقت الجهر بالرسالة الإسلاميّة . 2 . تباينت أقوال المؤرّخين في عمره عليه السلام حين تصديقه النبيّ صلى الله عليه و آله بين الثمان (2) ، والتسع (3) ، والعشر (4) ، والإحدى عشرة (5) ، والاثنتي عشرة (6) ، والثلاث عشرة (7) ، والأربع عشرة (8) ، والخمس عشرة (9) ، والستّ عشرة . 10
.
ص: 783
وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على تحديد عمره في موقفه من الرسالة فحسب ، وإلّا فإنّ روحه الطاهرة لم تتلوّث بالشرك قطّ . وهكذا قالَ زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام في جواب من سأله عن عمر الإمام عليه السلام عند إيمانه : أوَكانَ كافِرا ؟ إنَّما كانَ لِعَلِيٍّ حَيثُ بَعَثَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ رَسولَهُ صلى الله عليه و آله عَشرُ سِنينَ ، ولَم يَكُن يَومَئِذٍ كافِرا . ونضيف إلى أنّ ما نُقل عن أنّه عليه السلام كان ابن عشر سنين حين تصديقه بالرسالة يعدّ من أصحّ الأخبار وأشهرها . (1) 3 . من هنا لا مراء فيمن كان أوّل المؤمنين ! فبعض الصحابة أسلم بعد فترة قصيرة مضت على الرسالة ، وبعضهم أسلم بعد برهة من الزمن . أمّا عليّ عليه السلام فقد كانت روحه معطّرة بعبير الوحي منذ أيّامه الاُولى ، كما كان يعرف معالمه قبل البعثة وقد ألفه وتمرّس عليه ، ومن الطبيعيّ أنّه رافق أوّل قبس تألّق منه بلا تأخير . والآن أيّ شأن لأقوال الذين يحاولون أن يستهينوا بإيمان عليٍّ عليه السلام لصغر سنّه ؟ !ليت لعِلية القوم المسنّين قليلاً من تلك الفطنة ، وسلامة الفطرة وخلوص القلب ، وليتهم ألِفوا نور الوحي ! 4 . نُقلت روايات متنوّعة كثيرة في عبادة الإمام عليه السلام وصلاته . ولا تدلّ هذه الروايات على أنّه أوّل من صلّى بعد النبيّ فحسب ، بل تدلّ على أنّه سبق الآخرين إلى العبادة بثلاث أو خمس أو سبع سنين أيضا . ويمكن أن تشير هذه الروايات إلى عبادته عليه السلام قبل البعثة أيضا . (2)
.
ص: 784
الفصل الثاني: الخصائص الأخلاقيةُأ _ حُسنُ الخُلقِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ . . . أحسَنُ النّاسِ خُلُقا . (1)
الكامل في التاريخ_ في عَلِيٍّ عليه السلام _: كانَ مِن أحسَنِ النّاسِ وَجها ، ولا يُغَيِّرُ شَيبَهُ ، كَثيرَ التَّبَسُّمِ . (2)
ب _ الصَّبرُرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: إنَّكَ لَن تَموتَ حَتّى تُؤمَرَ ، وتُملَأَ غَيظا ، وتوجَدَ مِن بَعدي صابِرا . (3)
الإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَةٍ لَهُ يَذكُرُ فيها صِفَتَهُ قَبلَ البَيعَةِ لَهُ _: فَنَظَرتُ فَإِذا لَيسَ لي مُعينٌ إلّا أهلَ بَيتي ، فَضَنِنتُ بِهِم عَنِ المَوتِ ، وأغضَيتُ عَلَى القَذى ، وشَرِبتُ عَلَى الشَّجا ،
.
ص: 785
وصَبَرتُ عَلى أخذِ الكَظَمِ (1) ، وعَلى أمَرَّ مِن طَعمِ العَلقَمِ (2) . (3)الإرشاد عن جندب بن عبد اللّه :دَخَلتُ عَلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ بِالمَدينَةِ بَعدَ بَيعَةِ النّاسِ لِعُثمانَ ، فَوَجَدتُهُ مُطرِقا كَئيبا ، فَقُلتُ لَهُ : ما أصابَ قَومَكَ ؟ قالَ : صَبرٌ جَميلٌ . فَقُلتُ لَهُ : سُبحانَ اللّهِ ! وَاللّهِ إنَّكَ لَصَبورٌ . (4)ج _ قُوَّةُ العَزمِ وَالاِستِقامَةِالإمام عليّ عليه السلام_ في كَلامٍ لَهُ بَعدَ وَقعَةِ النَّهرَوانِ يَذكُرُ فيهِ فَضائِلَهُ _: فَقُمتُ بِالأَمرِ حينَ فَشِلوا ، وتَطَلَّعتُ حينَ تَقَبَّعوا (5) ، ونَطَقتُ حينَ تَعتَعوا ، ومَضَيتُ بِنورِ اللّهِ حينَ وَقَفوا ، وكُنتُ أخفَضَهُم صَوتا ، وأعلاهُم فَوتا (6) ، فَطِرتُ بِعِنانِها ، وَاستَبدَدتُ بِرِهانِها (7) ، كَالجَبَلِ ؛ لا تُحَرِّكُهُ القَواصِفُ ، ولا تُزيلُهُ العَواصِفُ ، لَم يَكُن لِأَحَدٍ فِيَّ مَهمَزٌ ، ولا لِقائِلٍ فِيَّ مَغمَزٌ . (8)د _ تَمامُ الإِخلاصِالفخري :قيلَ إنَّ عَلِياً عليه السلام صَرَعَ في بَعضِ حُروبِهِ رَجُلاً ، ثُمَّ قَعَدَ عَلى صَدرِهِ لِيَحتَزَّ رَأسَهُ ، فَبَصَقَ ذلِكَ الرَّجُلُ في وَجهِهِ ، فَقامَ عَلِيٌّ عليه السلام وتَرَكَهُ ، فَلَمّا سُئِلَ عَن سَبَبِ قِيامِهِ وتَركِهِ
.
ص: 786
قَتلَ الرَّجُلِ بَعدَ التَّمَكُّنِ مِنهُ قالَ : إنَّهُ لَمّا بَصَقَ في وَجهِي اغتَضتُ مِنهُ ، فَخِفتُ إن قَتَلتُهُ أن يَكونَ لِلغَضَبِ وَالغَيظِ نَصيبٌ في قَتلِهِ ، وما كُنتُ اُحِبُّ أن أقتُلَهُ إلّا خالِصاً لِوَجهِ اللّهِ تَعالى . (1)
ه _ كَمالُ الصِّدقِالإمام عليّ عليه السلام :وَاللّهِ ، ما كَذَبتُ ولا كُذِّبتُ ، ولا ضَلَلتُ ولا ضُلَّ بي وما نَسيتُ ما عُهِدَ إلَيَّ ، إنّي إذا لَنَسِيٌّ . (2)
و _ كَمالُ الإِيثارِالإمام زين العابدين عليه السلام :إنَّ أوَّلَ مَن شَرى نَفسَهُ ابتِغاءَ رِضوانِ اللّهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام ، وقالَ عَلِيٌّ عليه السلام عِندَ مَبيتِهِ عَلى فِراشِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله :
وَقَيتُ بِنَفسي خَيرَ مَن وَطِى ءَ الحَصىومَن طافَ بِالبَيتِ العَتيقِ وبِالحِجر رَسولَ إلهٍ خافَ أن يَمكُروا بِهِفَنَجّاهُ ذُو الطَّولِ الإِلهُ مِنَ المَكر وباتَ رَسولُ اللّهِ فِي الغارِ آمِنامُوَقّىً وفي حِفظِ الإلهِ وفي سِتر وبِتُّ اُراعِيهِم ولَم يَتهَمونَنيوقَد وَطَّنتُ نَفسي عَلَى القَتلِ وَالأَسر (3)ز _ زينَةُ الزُّهدِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، إنَّ اللّهَ قَد زَيَّنَكَ بِزينَةٍ لَم يَتَزَيَّنِ العِبادُ بِزينَةٍ أحَبَّ إلَى اللّهِ مِنها ؛ الزُّهدِ فِي الدُّنيا ، فَجَعَلَكَ لا تَنالُ مِنَ الدُّنيا شَيئا ، ولا تَنالُ الدُّنيا مِنكَ شَيئا ، ووَهَبَ
.
ص: 787
لَكَ حُبَّ المَساكينِ ، فَرَضوا بِكَ إماما ، ورَضيتَ بِهِم أتباعا ، فَطوبى لِمَن أحَبَّكَ وصَدَقَ فيكَ ، ووَيلٌ لِمَن أبغَضَكَ وكَذَبَ عَلَيكَ ؛ فَأَمَّا الَّذينَ أحَبّوا وصَدَقوا فيكَ فَهُم جيرانُكَ في دارِكَ ، ورُفَقاؤُكَ في قَصرِكَ ، وأَمَّا الَّذينَ أبغَضوكَ وكَذَبوا عَلَيكَ فَحَقٌّ عَلَى اللّهِ أن يوقِفَهُم مَوقِفَ الكَذّابينَ يَومَ القِيامَةِ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :دُنياكُم هذِهِ أزهَدُ عِندي مِن عَفطَةِ عَنزٍ . (2)عنه عليه السلام :وَاللّهِ لَدُنياكُم هذِهِ أهوَنُ في عَيني مِن عُراقِ (3) خِنزيرٍ في يَدِ مَجذومٍ . (4)خصائص الأئمّة عليهم السلام :قالَ [ عَلِيٌّ ] عليه السلام يَوما عَلى مِنبَرِ الكوفَةِ : «مَن يَشتَري مِنّي سَيفي هذا ، ولَو أنَّ لي قوتُ لَيلَةٍ ما بِعتُهُ» ، وغَلَّةُ صَدَقَتِهِ تَشتَمِلُ حينَئِذٍ عَلى أربَعينَ ألفَ دينارٍ في كُلِّ سَنَةٍ . (5)ح _ سَماحَةُ الكَفِّرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في وَصفِ عَلِيٍّ عليه السلام _: هذَا البَحرُ الزّاخِرُ ، هذَا الشَّمسُ الطالِعَةُ ، أسخى مِنَ الفُراتِ كَفّا ، وأوسَعُ مِنَ الدُّنيا قَلبا ، فَمَن أبغَضَهُ فَعَلَيهِ لَعنَةُ اللّهِ . (6)الإمام الصادق عليه السلام :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام أعتَقَ ألفَ مَملوكٍ مِن مالِهِ وكَدِّ يَدِهِ . (7)ربيع الأبرار عن محمّد ابن الحنفيّة :كانَ أبي عليه السلام يَدعو قَنبَرا بِاللَّيلِ ، فَيُحَمِّلُهُ دَقيقا وتَمرا ، فَيَمضي إلى أبياتٍ قَد عَرَفَها ، ولا يُطلِعُ عَلَيهِ أحَدا . فَقُلتُ لَهُ : يا أبَةِ ، ما يَمنَعُكَ أن
.
ص: 788
يُدفَعَ إلَيهِم نَهارا ؟ قالَ عليه السلام : يا بُنَيَّ ، صَدَقَةُ السِّرِّ تُطفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ . (1)
ط _ التَّواضُعُ عَن رِفعَةٍفضائل الصحابة لابن حنبل عن زاذان :رَأَيتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام يُمسِكُ الشُّسوعَ بِيَدِهِ ، يَمُرُّ فِي الأَسواقِ ، فَيُناوِلُ الرَّجُلَ الشِّسعَ ، ويُرشِدُ الضّالَّ ، ويُعينُ الحَمّالَ عَلَى الحَمولَةِ وهُوَ يَقرَأُ هذِهِ الآيَةَ : «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَ الْعَ_قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (2) ثُمَّ يَقولُ : هذِهِ الآيَةُ اُنزِلَت فِي الوُلاةِ وذَوِي القُدرَةِ مِنَ النّاسِ . (3)ي _ الجَمعُ بَينَ الأَضدادِنهج البلاغة_ فِي الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: ومِن عَجائِبِهِ عليه السلام الَّتِي انفَرَدَ بِها وأمِنَ المُشارَكَةَ فيها ، أنَّ كَلامَهُ الوارِدَ فِي الزُّهدِ وَالمَواعِظِ ، وَالتَّذكيرِ وَالزَّواجِرِ ، إذا تَأَمَّلَهُ المُتَأَمِّلُ ، وفَكَّرَ فيهِ المُتَفَكِّرُ ، وخَلَعَ مِن قَلبِهِ أنَّهُ كَلامُ مِثلِهِ مِمَّن عَظُمَ قَدرُهُ ، ونَفَذَ أمرُهُ ، وأحاطَ بِالرِّقابِ مُلكُهُ ، لَم يَعتَرِضهُ الشَّكُّ في أنَّهُ كَلامُ مَن لا حَظَّ لَهُ في غَيرِ الزَّهادَةِ ، ولا شُغلَ لَهُ بِغَيرِ العِبادَةِ ، قَد قَبَعَ في كِسرِ بَيتٍ ، أوِ انقَطَعَ إلى سَفحِ جَبَلٍ ، ولا يَسمَعُ إلّا حِسَّهُ ، ولَا يَرى إلّا نَفَسَهُ . ولا يَكادُ يوقِنُ بِأَنَّهُ كَلامُ مَن يَنغَمِسُ فِي الحَربِ مُصلِتا سَيفَهُ ، فَيَقُطُّ الرِّقابَ ، ويُجَدِّلُ الأَبطالَ ، ويَعودُ بِهِ يَنطِفُ دَما ، ويَقطُرُ مُهَجا ، وهُوَ مَعَ تِلكَ الحالِ زاهِدُ
.
ص: 789
الزُّهّادِ ، وبَدَلُ الأَبدالِ . وهذِهِ مِن فَضائِلِهِ العَجيبَةِ ، وخَصائِصِهِ اللَّطيفَةِ ، الَّتي جَمَعَ بِها بَينَ الأَضدادِ ، وألَّفَ بَينَ الأَشتاتِ . (1)
.
ص: 790
الفصل الثالث: الخصائص العمليّةأ _ إمامُ المُصَلّينَ1 . اَوَّل مَن صَلَّىرسول اللّه صلى الله عليه و آله :أوَّلُ مَن صَلّى مَعي عَلِيٌّ . (1)عنه صلى الله عليه و آله :لَقَد صَلَّتِ المَلائِكَةُ عَلَيَّ وعَلى عَلِيٍّ سَبعَ سِنينَ ؛ لِأَ نّا كُنّا نُصَلّي لَيسَ مَعَنا أحَدٌ يُصَلّي غَيرَنا . (2)2 . اِهتِمامُهُ بِأَوَّلِ الوَقتِإرشاد القلوب :كانَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] يَوما في حَربِ صِفّينَ مُشتَغِلاً بِالحَربِ وَالقِتالِ ، وهُوَ مَعَ ذلِكَ بَينَ الصَّفَّينِ يَرقُبُ الشَّمسَ ، فَقالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، ما هذَا الفِعلُ ؟ فَقالَ عليه السلام : أنظُرُ إلَى الزَّوالِ حَتّى نُصَلِّيَ . فَقالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : وهَل هذا وَقتُ صَلاةٍ ؟ ! إنَّ عِندَنا لَشُغُلاً بِالقِتالِ عَنِ الصَّلاةِ . فَقالَ عليه السلام : عَلامَ نُقاتِلُهُم ؟ إنَّما نُقاتِلُهُم
.
ص: 791
عَلَى الصَّلاةِ . (1)
3 . كيفيةُ صَلاتِهِصحيح البخاري عن مطرف بن عبد اللّه :صَلَّيتُ خَلفَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ، أنَا وعِمرانُ بنُ حُصَينٍ ، فَكانَ إذا سَجَدَ كَبَّرَ ، وإذا رَفَعَ رَأسَهُ كَبَّرَ ، وإذا نَهََض مِنَ الرَّكعَتَينِ كَبَّرَ ، فَلَمّا قَضَى الصَّلاةَ ، أخَذَ بِيَدي عِمرانُ بنُ حُصَينٍ فَقالَ : قَد ذَكَّرَني هذا صَلاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، أو قالَ : لَقَد صَلّى بِنا صَلاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله . (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ فِي الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: وإن كانَ لَيَقومُ إلَى الصَّلاةِ ، فَإِذا قالَ : وَجَّهتُ وَجهي تَغَيَّرَ لَونُهُ ، حَتّى يُعرَفُ ذلِكَ في وَجهِهِ . (3)عنه عليه السلام :كانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَركَعُ فَيَسيلُ عَرَقُهُ حَتّى يَطَأَ في عَرَقِهِ مِن طولِ قِيامِهِ . (4)4 . اِهتِمامُهُ بِصَلاةِ اللَّيلِالإمام عليّ عليه السلام :ما تَرَكتُ صَلاةَ اللَّيلِ مُنذُ سَمِعتُ قَولَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله : صَلاةُ اللَّيلِ نورٌ ، فَقالَ ابنُ الكَوّا : ولا لَيلَةَ (5) الهَريرِ ؟ قالَ : ولا لَيلَةَ الهَريرِ . (6)ب _ إمامُ العابِدينَالإمام عليّ عليه السلام :عَبَدتُ اللّهَ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله سَبعَ سِنينَ قَبلَ أن يَعبُدَهُ أحَدٌ مِن هذِهِ الاُمَّةِ . (7)
.
ص: 792
الإمام الباقر عليه السلام_ فِيالإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: ما أطاقَ أحَدٌ عَمَلَهُ، وإن كانَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليهماالسلاملَيَنظُرُ فِي الكِتابِ مِن كُتُبِ عَلِيٍّ عليه السلام فَيَضرِبُ بِهِ الأَرضَ ويَقولُ : مَن يُطيقُ هذا ؟ (1)الإمام الصادق عليه السلام :إنَّ عَلِيّا عليه السلام في آخِرِ عُمُرِهِ كانَ يُصَلِّي في كُلِّ يَومٍ ولَيلَةٍ ألفَ رَكعَةٍ . (2)حلية الأولياء عن أبي صالح :دَخَلَ ضِرارُ بنُ ضَمرَةَ الكِنانِيُّ عَلى مُعاوِيَةَ ، فَقالَ لَهُ : صِف لي عَلِيّا . فَقالَ : أ وَتُعفيني يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ : لا اُعفيكَ ، قالَ : أمّا إذ لابُدَّ ؛ فَإِنَّهُ كانَ وَاللّهِ بَعيدَ المَدى ، شَديدَ القُوى ، يَقولُ فَصلاً ، ويَحكُمُ عَدلاً ، يَتَفَجَّرُ العِلمُ من جَوانِبِهِ ، وتَنطِقُ الحِكمَةُ مِن نَواحِيهِ ، يَستَوحِشُ مِن الدُّنيا وزَهرَتِها ، ويَستَأنِسُ بِاللَّيلِ وظُلمَتِهِ . كانَ وَاللّهِ غَزيرَ العَبرَةِ ، طَويلَ الفِكرَةِ ، يُقَلِّبُ كَفَّهُ ، ويُخاطِبَ نَفسَهُ ، يُعجِبُهُ مِن اللِّباسِ ما قَصُرَ ، ومِنَ الطَّعامِ ما جَشَبَ ، كانَ وَاللّهِ كَأَحَدِنا ؛ يُدنينا إذا أتَيناهُ ، ويُجيبُنا إذا سَأَلناهُ ، وكانَ مَعَ تَقَرُّبِهِ إلَينا وقُربِهِ مِنّا لا نُكَلِّمُهُ هَيبَةً لَهُ ؛ فَإِن تَبَسَّمَ فَعَن مِثلِ اللُّؤلُؤِ المَنظومِ ، يُعَظِّمُ أهلَ الدِّينِ ، ويُحِبُّ المَساكينَ ، لا يَطمَعُ القَوِيُّ في باطِلِهِ ، ولا يَيأَسُ الضَّعيفُ مِن عَدلِهِ . فَأَشهَدُ بِاللّهِ لَقَد رَأَيتُهُ في بَعضِ مَواقِفِهِ وقَد أرخَى اللَّيلُ سُدولَهُ ، وغارَت نُجومُهُ يَميلُ في مِحرابِهِ ، قابِضا عَلى لِحيَتِهِ ، يَتَمَلمَلُ تَمَلمُلَ السَّليمِ (3) ، ويَبكي بُكاءَ الحَزينِ ، فَكَأَنّي أسمَعُهُ الآنَ وهُوَ يَقولُ : يا رَبَّنا يا رَبَّنا _ يَتَضَرَّعُ إلَيهِ _ ثُمَّ يَقولُ لِلدُّنيا : إلَيَّ تَغَرَّرتِ ! إلَيَّ تَشَوَّفتِ ! هَيهاتَ هَيهاتَ ، غُرّي غَيري ، قَد بَتَتُّكِ ثَلاثا ، فَعُمُرُكِ قَصيرٌ ، ومَجلِسُكِ حَقيرٌ ، وخَطَرُكِ يَسيرٌ ، آهِ آهِ مِن قِلَّةِ الزّادِ ، وبُعدِ السَّفَرِ ، ووَحشَةِ الطَّريقِ .
.
ص: 793
فَوَكَفَت (1) دُموعُ مُعاوِيَةَ عَلى لِحيَتِهِ ما يَملِكُها ، وجَعَلَ يَنشُفُها بِكُمِّهِ وقَدِ اختَنَقَ القَومُ بِالبُكاءِ ، فَقالَ : كَذا كانَ أبُو الحَسَنِ رحمه الله ! كَيفَ وَجدُكَ عَلَيهِ يا ضِرارُ ؟ قالَ : وَجدُ مَن ذُبِحَ واحِدُها في حِجرِها ، لا تَرقَأُ (2) دَمعَتُها ، ولا يَسكُنُ حُزنُها . ثُمَّ قامَ فَخَرَجَ . (3)
الخصال عن نوف البكالي :بِتُّ لَيلَةً عِندَ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ عليه السلام ، فَكانَ يُصَلِّي اللَّيلَ كُلَّهُ ، ويَخرُجُ ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ ؛ فَيَنظُرُ إلَى السَّماءِ ويَتلُو القُرآنَ قالَ : فَمُرَّ بي بَعدَ هُدوءٍ مِنَ اللَّيلِ ، فَقالَ : يا نَوفُ ، أراقِدٌ أنتَ أم رامِقٌ ؟ قُلتُ : بَل رامِقٌ ، أرمُقُكَ بِبَصَري يا أميرَ المُؤمِنينَ . قالَ : طوبى لِلزّاهِدينَ فِي الدُّنيا ، وَالرّاغِبينَ فِي الآخِرَةِ ، اُولئِكَ الَّذينَ اتَّخَذُوا الأَرضَ بَساطا ، وتُرابَها فِراشا ، وماءَها طيبا ، وَالقُرآنَ دِثارا ، وَالدُّعاءَ شِعارا ، وقَرَّضوا مِنَ الدُّنيا تَقريضا عَلى مِنهاجِ عيسَى بنِ مَريَمَ عليه السلام . (4)
ج _ إمامُ الدّاعينَ1 . أدعِيَتُهُ لِلآخَرِينَالإمام عليّ عليه السلام_ في وَصِيَّتِهِ لِلحَسَنِ عليه السلام عِندَ انصِرافِهِ مِن صِفّينَ _: أستَودِعُ اللّهَ دينَكَ ودُنياكَ ، وأَسأَلُهُ خَيرَ القَضاءِ لَكَ فِي العاجِلَةِ وَالآجِلَةِ ، وَالدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَالسَّلامُ . (5)عنه عليه السلام_ لَمّا قُتِلَ عَمّارٌ _: رَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ أسلَمَ ، ورَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ قُتِلَ ، ورَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ يُبعَثُ حَيّا . (6)
.
ص: 794
عنه عليه السلام_ لِهاشِمٍ المِرقالِ _: اللّهُمَّ ارزُقهُ الشَّهادَةَ في سَبيلِكَ ، وَالمُرافَقَةَ لِنَبِيِّكَ صلى الله عليه و آله . (1)2 . أدعِيَتُهُ فِي الاِستِعانَةِ في أمرِ الوِلايَةِالإمام عليّ عليه السلام :اللّهُمَّ إنّي عَبدُكَ ووَلِيُّكَ ، اختَرتَني وَارتَضَيتَني ، ورَفَعتَني وكَرَّمتَني بِما أورَثتَني مِن مَقامِ أصفِيائِكَ ، وخِلافَةِ أوليائِكَ ، وأغنَيتَني وأفقَرتَ النّاسَ في دينِهِم ودُنياهُم ، وأعزَزتَني وأذلَلتَ العِبادَ إلَيَّ ، وأسكَنتَ قَلبي نورَكَ ولَم تُحوِجني إلى غَيرِكَ ، وأنعَمتَ عَلَيَّ وأنعَمتَ بي ، ولَم تَجعَل مِنَّةً عَلَيَّ لِأَحَدٍ سِواكَ ، وأقَمتَني لِاءِحياءِ حَقِّكَ ، وَالشَّهادَةِ عَلى خَلقِكَ ، وأن لا أرضى ولا أسخَطَ إلّا لِرِضاكَ وسَخَطِكَ ، ولا أقولَ إلّا حَقّا ، ولا أنطِقَ إلّا صِدقا . (2)
3 . أدعِيَتُهُ فِي الأَحوالِ الخاصَّةِ3 / 1 . عِندَ النَّومِالإمام عليّ عليه السلام_ كانَ إذا نامَ يَقولُ _: اللّهُمَّ أسلَمتُ نَفسي إلَيكَ ، ووَجَّهتُ وَجهي إلَيكَ ، وفَوَّضتُ أمري إلَيكَ ، وألجَأتُ ظَهري إلَيكَ ، آمَنتُ بِكِتابِكَ المُنزَلِ ، ونَبِيِّكَ المُرسَلِ . (3)3 / 2 . عِندَ لُبسِ الثَّوبِ الجَديدِالإمام عليّ عليه السلام_ بَعدَمَا اشتَرى قَميصا ولَبِسَهُ _: الحَمدُ لِلّهِ الَّذي رَزَقَني مِنَ الرِّياشِ ما أتَجَمَّلُ بِهِ فِي النّاسِ ، ووارى سوَءَتي ، وسَتَرَ عَورَتي ، الحَمدُ لِلّهِ رَبِّ العالَمينَ . (4)
.
ص: 795
3 / 3 . عِندَ الأَكلِ وَالشُّربِالإمام الباقر عليه السلام :جاءَ قَنبَرٌ مَولى عَلِيٍّ عليه السلام بِفِطرِهِ إلَيهِ . . . فَأَخَذَ القَدَحَ ، فَلَمّا أرادَ أن يَشرَبَ قالَ : بِسمِ اللّهِ ، اللّهُمَّ لَكَ صُمنا ، وعَلى رِزقِكَ أفطَرنا ، فَتَقَبَّل مِنّا ، إنَّكَ أنتَ السَّميعُ العَليمُ . (1)3 / 4 . عِندَ الوضُوءِو امام على عليه السلام مى فرمايد:الإمام عليّ عليه السلام :_ إذا فَرَغَ مِن وُضوئِهِ _: اللّهُمَّ اجعَلني مِنَ التَّوّابينَ ، وَاجعَلني مِنَ المُتَطَهِّرينَ . (2)3 / 5 . عِندَ دُخولِ المَسجِدِالإمام عليّ عليه السلام_ إذا دَخَلَ المَسجِدَ _: بِسمِ اللّهِ وبِاللّهِ ، السَّلامُ عَلَيكَ أيُّهَا النَّبِيُّ ورَحمَةُ اللّهِ وبَرَكاتُهُ ، السَّلامُ عَلَينا وعَلى عِبادِ اللّهِ الصّالِحينَ . (3)
3 / 6 . عِندَما مَدَحَهُ قَومٌ في وَجهِهِالإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا مَدَحَهُ قَومٌ في وَجهِهِ _: اللّهُمَّ إنَّكَ أعلَمُ بي مِن نَفسي ، وأنَا أعلَمُ بِنَفسي مِنهُم ، اللّهُمَّ اجعَلنا خَيرا مِمّا يَظُنُّونَ ، وَاغفِر لَنا ما لا يَعلَمونَ . (4)د _ إمامُ المُجاهِدينَرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ . . . أشجَعُهُم قَلبا فِي لِقاءِ الحَربِ ، وأجوَدُهُم كَفّا ،
.
ص: 796
وأزهَدُهُم فِي الدُّنيا ، وأشَدُّهُم جِهادا . (1)عنه صلى الله عليه و آله :أفضَلُكُم عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، أقدَمُكُم إسلاما ، وأوفَرُكُم إيمانا ، وأكثَرُكُم عِلما ، وأرجَحُكُم حِلما ، وأشَدُّكُم لِلّهِ غَضَبا ، وأشَدُّكُم نِكايَةً فِي الغَزوِ وَالجِهادِ . (2)ه _ إمامُ المُستَضعَفينَالإمام عليّ عليه السلام :إنَّ اللّهَ جَعَلَني إماما لِخَلقِهِ ؛ فَفَرَضَ عَلَيَّ التَّقديرَ في نَفسي ومَطعَمي ومَشرَبي ومَلبَسي كَضُعَفاءِ النّاسِ ؛ كَي يَقتَدِيَ الفَقيرُ بِفَقري ، ولا يُطغِيَ الغَنِيَّ غِناهُ . (3)الإمام الباقر عليه السلام :وَاللّهِ ، إن كانَ عَلِيٌّ عليه السلام لَيَأكُلُ أكلَ العَبدِ ، ويَجلِسُ جِلسَةَ العَبدِ ، وإن كانَ لَيَشتَرِي القَميصَينِ السُّنُبلانِيَّينِ فَيُخَيِّرُ غُلامَهُ خَيرَهُما ، ثُمَّ يَلبَسُ الآخَرَ ، فَإِذا جاز أصابِعَهُ قَطَعَهُ ، وإذا جازَ كَعبَهُ حَذَفَهُ . ولَقَد وَلِيَ خَمسَ سِنينَ ما وَضَعَ آجُرَّةً عَلى آجُرَّةٍ ، ولا لَبِنَةً عَلى لَبِنَةٍ ، ولا أقطَعَ قَطيعا ، ولا أورَثَ بَيضاءَ ولا حَمراءَ ، وإن كانَ لَيُطعِمُ النّاسَ خُبزَ البُرِّ وَاللَّحمِ ، ويَنصَرِفُ إلى مَنزِلِهِ ويَأكُلُ خُبزَ الشَّعيرِ وَالزَّيتِ وَالخَلِّ ، وما وَرَدَ عَلَيهِ أمرانِ كِلاهُما لِلّهِ رِضىً إلّا أخَذَ بِأَشَدِّهِما عَلى بَدَنِهِ . (4)
1 . طَعامُهُالإمام عليّ عليه السلام :أكتَفي مِن دُنياكُم بِمِلحي وأقراصي ، فَبِتَقوَى اللّهِ أرجو خَلاصي ، ما لِعَلِيٍّ ونعيمٍ يَفنى ، ولَذَّةٍ تَنتِجُهَا المَعاصي ! (5)
تنبيه الخواطر :رُوِيَ أنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام كانَ أكلُهُ قُرصَ الشَّعيرِ وَالمِلحَ الجَريشَ . (6)
.
ص: 797
و در كلام ديگرى مى فرمايد:الكامل في التاريخ_ في ذِكرِ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: كانَ يَختِمُ عَلَى الجِرابِ الَّذي فيهِ دَقيقُ الشَّعيرِ الَّذي يَأكُلُ مِنهُ ، ويَقولُ : لا اُحِبُّ أن يَدخُلَ بَطني إلّا ما أعلَمُ . (1)الغارات عن عقبة بن علقمة :دَخَلتُ عَلى عَلِيٍّ عليه السلام فَإِذا بَينَ يَدَيهِ لَبَنٌ حامِضٌ _ آذَتني حُموضَتُهُ _ وكِسَرٌ يابِسَةٌ ، فَقُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أ تَأكُلُ مِثلَ هذا ؟ ! فَقالَ لي : يا أبَا الجَنوبِ ، رَأَيتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَأكُلُ أيبَسَ مِن هذا ، ويَلبَسُ أخشَنَ مِن هذا _ وأشارَ إلى ثِيابِهِ _ فَإِن أنَا لَم آخُذ بِما أخَذَ بِهِ خِفتُ ألّا ألحَقَ بِهِ . (2)2 . لِباسُهُالإمام عليّ عليه السلام :وَاللّهِ ، لَقَد رَقَّعتُ مِدرَعَتي هذِهِ حَتَّى استَحيَيتُ مِن راقِعِها ، ولَقَد قالَ لي قائِلٌ : أ لا تَنبِذُها عَنكَ ؟ ! فَقُلتُ : اغرُب عَنّي ، فَعِندَ الصَّباحِ يَحمَدُ القَومُ السُّرى (3) . (4)
الإمام الباقر عليه السلام :إنَّ عَلِيّا عليه السلام كانَ لا يَلبَسُ إلَا البَياضَ أكثَرَ ما يَلبَسُ ، ويَقولُ : فيهِ تَكفينُ المَوتى . (5)
الكافي عن زرارة بن أعين :رَأَيتُ قَميصَ عَلِيٍّ عليه السلام الَّذي قُتِلَ فيهِ عِندَ أبي جَعفَرٍ عليه السلام ، فَإِذا أسفَلُهُ اثنا عَشَرَ شِبرا وبَدَنُهُ ثَلاثَةُ أشبارٍ ، ورَأَيتُ فيهِ نَضحَ دَمٍ . (6)
3 . بَيتُهُالإمام الباقر عليه السلام_ في صِفَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: لَقَد وَلِيَ النّاسَ خَمسَ سِنينَ ، فَما وَضَعَ
.
ص: 798
آجُرَّةً عَلى آجُرَّةٍ ، ولا لَبِنَةً عَلى لَبِنَةٍ . (1)4 . شِراؤُهُالطبقات الكبرى عن فرّوخ :رَأَيتُ عَلِيّا في بَني ديوارٍ وأنَا غُلامٌ ، فَقالَ : أ تَعرِفُني ؟ فَقُلتُ : نَعَم ، أنتَ أميرُ المُؤمِنينَ . ثُمَّ أتى آخَرَ فَقالَ : أ تَعرِفُني ؟ فَقالَ : لا ، فَاشتَرى مِنهُ قَميصا زابِيّا ، فَلَبِسَهُ ، فَمَدَّ كُمَّ القَميصِ فَإِذا هُوَ مَعَ أصابِعِهِ ، فَقالَ : لَهُ كُفَّهُ . فَلَمّا كَفَّهُ قالَ : الحَمدُِللّهِ الَّذي كَسا عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ . (2)5 . مُواساتُهُالإمام الباقر عليه السلام_ في صِفَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: إن كانَ لَيَشتَرِي القَميصَ السُّنبُلانِيَّ (3) ، ثُمَّ يُخَيِّرُ غُلامَهُ خَيرَهُما ثُمَّ يَلبَسُ الباقِيَ . (4)6 . الجَمعُ بَينَ العِبادَةِ وَالعَمَلِعدّة الداعي :يُروى عَن سَيِّدِنا أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام أنَّهُ لَمّا كانََيفرُغُ مِنَ الجِهادِ يَتَفَرَّغُ لِتَعليمِ النّاسِ وَالقَضاءِ بَينَهُم ، فَإِذا يَفرُغُ مِن ذلِكَ اشتَغَلَ في حائِطٍ لَهُ يَعمَلُ فيهِ بِيَدِهِ ، وهُوَ مَعَ ذلِكَ ذاكِرٌ لِلّهِ جَلَّ جَلالُهُ . (5)
حلية الأولياء_ فِي الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: كانَ عليه السلام إذا لَزِمَهُ فِي العَيشِ الضّيقُ وَالجَهدُ أعرَضَ عَنِ الخَلقِ ، فَأَقبَلَ عَلَى الكَسبِ وَالكَدِّ . (6)
.
ص: 799
الإمام الصادق عليه السلام :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ يَحتَطِبُ ويَستَقي ويَكنُسُ ، وكانَت فاطِمَةُ _ سَلامُ اللّهِ عَلَيها _ تَطحَنُ وتَعجِنُ وتَخبِزُ . (1)و _ إمامُ المُتَصَدِّقينَ1 . آيَةٌ ما عَمِلَ بِها غَيرُ الإِمامِ عليه السلامالكتاب«يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَ لِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَ_تٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ» . (2)
الحديثالإمام عليّ عليه السلام :آيَةٌ مِن كِتابِ اللّهِ لَم يَعمَل بِها أحَدٌ قَبلي ، ولا يَعمَل بِها أحَدٌ بَعدي ، كانَ عِندي دينارٌ فَصَرَفتُهُ بِعَشَرَةِ دَراهِمَ ، فَكُنتُ إذا جِئتُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله تَصَدَّقتُ بِدِرهَمٍ ، فَنُسِخَت ، فَلَم يَعمَل بِها أحَدٌ قَبلي ؛ «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً» . (3)2 . صَدَقاتُهُالإمام عليّ عليه السلام :لَقَد رَأَيتُني مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وإنّي لَأَربُطُ الحَجَرَ عَلى بَطني مِنَ الجوعِ ،
.
ص: 800
وإنَّ صَدَقَتِي اليَومَ لَأَربَعونَ ألفا . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :أعتَقَ عَلِيٌّ عليه السلام ألفَ مَملوكٍ مِمّا عَمِلَت يَداهُ وإن كانَ عِندَكُم ، إنَّما حَلواهُ التَّمرُ وَاللَّبَنُ ، وثِيابُهُ الكَرابيسُ . (2)
.
ص: 801
الفصل الرابع: الخصائص السياسيّةُ والاجتماعيّةُأ _ الإِخاءُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهالاستيعاب :آخى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَينَ المُهاجِرينَ بِمَكَّةَ ، ثُمَّ آخى بَينَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ بِالمَدينَةِ ، وقالَ في كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما لِعَلِيٍّ : أنتَ أخي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وآخى بَينَهُ وبَينَ نَفسِهِ . (1)رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: إنَّ اللّهَ أمَرَني أن اُؤاخِيَكَ ، فَأَنتَ أخي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . (2)سنن الترمذي عن ابن عمر :آخى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَينَ أصحابِهِ ، فَجاءَ عَلِيٌّ تَدمَعُ عَيناهُ ، فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، آخَيتَ بَينَ أصحابِكَ ولَم تُؤاخِ بَيني وبَينَ أحَدٍ ؟
فَقالَ لَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أنتَ أخي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . (3)ب _ مُماثَلَةُ حُقوقِهِ حُقوقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله في مَسجِدِهِسنن الترمذي عن ابن عبّاس :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَ بِسَدِّ الأَبوابِ إلّا بابَ عَلِيٍّ . (4)
.
ص: 802
المعجم الأوسط عن العلاء بن عرار :سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عَن عَلِيٍّ وعُثمانَ . فَقالَ : أمّا عَلِيٌّ فَلا تَسأَلوا عَنهُ ؛ اُنظُروا إلى مَنزِلَتِهِ مِن رَسولِ اللّهِ ، فَإِنَّهُ سَدَّ أبوابَنا فِي المَسجِدِ ، وأقَرَّ بابَهُ . (1)رسول اللّه صلى الله عليه و آله :ألا لا يَحِلُّ هذَا المَسجِدُ لِجُنُبٍ ولا لِحائِضٍ إلّا لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وعَلِيٍّ وفاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَينِ ، ألا قَد بَيَّنتُ لَكُمُ الأَسماءَ ألّا تَضِلّوا . (2)
ج _ المَظلومِيَّةُ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: إنَّ الاُمَّةَ سَتَغدِرُ بِكَ . (3)الإمام عليّ عليه السلام :مِمّا عَهِدَ إلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله أنَّ الاُمَّةَ سَتَغدِرُ بِكَ مِن بَعدي . (4)رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ وَصِيّي ، ووارِثي ، قد أعطاكَ اللّهُ عِلمي وفَهمي ، فَإِذا مِتُّ ظَهَرَت لَكَ ضَغائِنُ في صُدورِ قَومٍ ، وغَصبٌ (5) عَلى حِقدٍ . (6)عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ المَظلومُ بَعدي ، مَن ظَلَمَكَ فَقَد ظَلَمَني . (7)الإمام عليّ عليه السلام :فَوَاللّهِ ما زِلتُ مَدفوعا عَن حَقّي مُستَأثَرا عَلَيَّ مُنذُ قَبَضَ اللّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله حَتّى يَومِ النّاسِ هذا . (8)عنه عليه السلام :لَقَد ظُلِمتُ عَدَدَ الحَجَرِ وَالمَدَرِ . (9)
.
ص: 803
الفصل الخامس: الخصائص الحربيّةُما ذكرناه في هذا الفصل إنّما هو غيض من فيض من خصائص هذا الشجاع الذي لا شبيه له والبطل الذي لا نظير له ، الغالب غير المغلوب عليّ بن أبي طالب عليه السلام . نعم ذكرنا في فصول الكتاب المختلفة لمحات من شجاعته في الحروب ، وقتاله الأعداء بنفسه في أشدّ الحروب وأعسر الساعات ، ومبارزته للأبطال ومقارعته للشجعان و . . . ، هذا من جانب . وسعيه من جانب آخر في إخماد نار الحرب ، ومواعظه المفعمة بالعطف والحنان ، وإتمام الحجج على الأعداء ، وعدم شروعه بالحرب ، وشهامته مع الأعداء ، ومراعاة حال الهاربين والمجروحين ، إلى غير ذلك من خصائصه عليه السلام في الحروب .
أ _ أشجَعُ النّاسِ قَلبارسول اللّه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ أشجَعُ النّاسِ قَلبا . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :إنّي وَاللّهِ لَو لَقيتُهُم واحِدا وهُم طِلاعُ (2) الأَرضِ كُلِّها ما بالَيتُ ، ولَا
.
ص: 804
استَوحَشتُ . (1)
عنه عليه السلام_ في خُطبَتِهِ المُسَمّاةِ بِالقاصِعَةِ _: أنَا وَضَعتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلاكِلِ (2) العَرَبِ ، وكَسَرتُ نَواجِمَ قُرونِ رَبيعَةَ ومُضَرَ . (3)عنه عليه السلام :إنّي لَم أفِرَّ مِنَ الزَّحفِ قَطُّ ، ولَم يُبارِزني أحَدٌ إلّا سَقَيتُ الأَرضَ مِن دَمِهِ ! (4)الإمام الصادق عليه السلام :قيلَ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام : لِمَ لا تَشتَري فَرَسا عَتيقا ؟ قالَ : لا حاجَةَ لي فيهِ ؛ فَأَنَا لا أفِرُّ مِمَّن كَرَّ عَلَيَّ ، ولا أكِرُّ عَلى مَن فَرَّ مِنّي . (5)عيون الأخبار لابن قتيبة :كانَت دِرعُ عَلِيٍّ رضى الله عنه صَدرا لا ظَهرَ لَها ، فَقيلَ لَهُ في ذلِكَ ، فَقالَ : إذَا استَمكَنَ عَدُوّي مِن ظَهري فَلا يُبقِ . (6)ب _ ما رُئِيَ مِحرابٌ مِثلُهُو در كلام ديگرى مى فرمايد:النهاية عن ابن عبّاس_ في وَصفِ عَلِيٍّ عليه السلام _: «ما رَأَيتُ مِحرابا مِثلَهُ مِحرابا» ؛ أي مَعروفا بِالحَربِ عارِفا بِها . (7)وقعة صفّين عن معاوية :وَاللّهِ، ما بارَزَ ابنُ أبي طالِبٍ رَجُلاً قَطُّ إلّا سَقَى الأَرضَ مِن دَمِهِ (8) .المناقب لابن شهر آشوب_ فِي الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _:إنَّ الكُفّارَ كانوا يُسَمّونَهُ المَوتَ الأَحمَرَ ، سَمَّوهُ يَومَ بَدرٍ ؛ لِعِظَمِ بَلائِهِ ونِكايَتِهِ . (9)
.
ص: 805
ج _ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله في جَميعِ حُروبِهِالإمام عليّ عليه السلام :إنّي كُنتُ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله في جمَيعِ المَواطِنِ وَالحُروبِ ، وكانَت راَيتُهُ مَعي . (1)الاستيعاب_ فِي الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: أجمَعوا عَلى أنَّهُ صَلَّى القِبلَتَينِ ، وهاجَرَ ، وشَهِدَ بَدرا وَالحُدَيبِيَّةَ وسائِرَ المَشاهِدِ ، وأنَّهُ أبلى بِبَدرٍ وبِاُحُدٍ وبِالخَندَقِ وبِخَيبَر بَلاءً عَظيما ، وأنَّهُ أغنى في تِلكَ المَشاهِدِ ، وقامَ فيهَا المَقامَ الكَريمَ . وكانَ لِواءُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِيَدِهِ في مَواطِنَ كَثيرَةٍ . . . ولَم يَتَخَلَّف عَن مَشهَدٍ شَهِدَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مُذ قَدِمَ المَدينَةَ ، إلّا تَبوكَ ؛ فَإِنَّهُ خَلَّفَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلَى المَدينَةِ وعَلى عِيالِهِ بَعدَهُ في غَزوَةِ تَبوكَ ، وقالَ لَهُ : أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي . (2)
د _ صاحِبُ رايَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في وَصفِ عَلِيٍّ عليه السلام _: إنَّهُ صاحِبُ لِوائي عِندَ كُلِّ شَديدَةٍ وكَريهَةٍ . (3)هم او مى فرمايد :المعجم الكبير عن جابر بن سمرة :قالوا : يا رَسولَ اللّهِ ، مَن يَحمِلُ رايَتَكَ يَومَ القِيامَةِ ؟ قالَ : مَن يُحسِنُ أن يَحمِلَها إلّا مَن حَمَلَها فِي الدُّنيا ؛ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . (4)الطبقات الكبرى عن قتادة :إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ كانَ صاحِبَ لِواءِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ بَدرٍ ، وفي كُلِّ مَشهَدٍ . (5)
.
ص: 806
الإمام الحسن عليه السلام_ حينَ قُتِلَ عَلِيٌّ عليه السلام _: كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَبعَثُهُ بِالرّايَةِ ، جَبرَئيلُ عَن يَمينِهِ ، وميكائيلُ عَن شِمالِهِ ، لا يَنصَرِفُ حَتّى يُفتَحَ لَهُ . (1) .
ص: 807
القسم الحادي عشر : علوم الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: التعلّم في مدرسة النبيّ صلى الله عليه و آلهالفصل الثاني: المنزلة العلميّةالفصل الثالث: أنواع علومه
.
ص: 808
. .
ص: 809
المدخليختصّ هذا القسم بدراسة المدى الذي يَترامى على أطرافه علم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ؛ إذ يتوفّر من جهة على متابعة الجهود النبويّة الحثيثة التي بذلها رسول اللّه صلى الله عليه و آله في تنشئة الإمام معرفيّاً وإعداده علميّاً ، كما يومئ من جهة اُخرى إلى الاستعداد العظيم الذي كان يتحلّى به الإمام وسعته الوجوديّة وما بذله في التعلّم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله والتلقّي منه ، ومن ثمّ يكشف بالضرورة عن الموقع الشاهق الذي يحظى به الإمام علميّاً وهيمنته المذهلة على العلوم . إنّ متابعة هذا المسار ، والتأمّل في فصول القسم الحادي عشر يجذب الباحث بقوّة إلى علم الإمام ، ويدفعه بشوق كي يطلّ على قبسات من علومه الممتدّة ، ويطمح ببصره تلقاء رشفات من بحره الزخّار . عجيب هو علم الإمام ، يُثير التأمّل في مدياته الممتدّة الذهول والحيرى . إذا رام القلم أن يخطّ من هذا العلم حقيقة واحدة سرعان ما يتراءى أمامه بحر زخّار تتدافع أمواجه ، وتتباعد المسافة بين شُطّانه حتى تبلغ المدى الأقصى . بحر لا ينزف هو علم الإمام ، تتراكب أمواجه موج فوقه موج ، شواطئ ممتدّة على الاُفق دون نهاية ، وقعر ليس له قرار . أنّى للقلم أن يرقى إلى بيان علمه وهو «باب علم» النبيّ و«حكمته» ، وأنّى
.
ص: 810
للكلمات أن تتسلّق إلى ذراه وهو «خزانة علم النبيّ» وجميع النبيّين . ثمّ كيف يقدر القلم أن يواكب علم عليّ عليه السلام ، وفي مدى هذا العلم اجتمعت جميع العلوم القرآنيّة ، والمعارف الدينيّة ، وعلم المنايا والبلايا ؛ وقد كان صاحب العلم ينظر إلى الماضي والحاضر كما ينظر إلى الذي بين يديه ، يتبدّى له كما تتبدّى الشمس في رابعة النهار ! «عِلْمُ الْكِتَ_بِ» (1) كلّه كان عند عليّ بن أبي طالب عليه السلام بنصّ الروايات ، ولم يكن عند آصف بن برخيّا من هذا العلم إلّا شيئاً منه «عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَ_بِ» (2) وقد استطاع أن يُحضِر عرش بلقيس عند سليمان عليه السلام من مسافة بعيدة بأقلّ من طرفة عين . وعندئذٍ ينبغي التأمّل ببصيرة وفكر في هذا العلم «علم من الكتاب» مقارنة بذلك العلم «علم الكتاب» لنتصوّر الفارق بين الاثنين ، وفيما إذا كان بمقدور الكلمات والصفحات والأقلام أن ترقى إلى بيان علم عليّ عليه السلام مهما بلغت ، أو تومئ إلى أبعاده ! كان علم الإمام من السعة بحيث أنّ شعاعاً واحداً منه لو تبلّج لكان حريّاً أن يُبهر العقول ، ويأخذ بمجامع النفوس ، ويبعث برعشةٍ راحت تسري في الأجساد ، وذلك قوله عليه السلام : «اندَمَجتُ عَلى مَكنونِ عِلمٍ لَو بُحتُ بِهِ لَاضطَرَبتُمُ اضطِرابَ الأَرشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ البَعيدَةِ» . لقد برقت عن ينبوع الإمام المعرفي ومكنون علمه ومضات علميّة ومعرفيّة صدرت قبل أربعة عشر قرناً استجابة لمتطلّبات ذلك العصر وتلبية لحاجات الموقف إليها _ لا أنّها صدرت بدافع الواقع ونفس الأمر _ راحت تُلقي أضواءً على بداية
.
ص: 811
الخليقة وانبثاق الوجود ، وخلق الملائكة ، وخلق السماوات والأرضين ، والإنسان ، والحيوان ، وأعطت رؤىً مكثّفة في المجتمع ، وعلم النفس ، والتاريخ ، والأدب ، وأبدت إشارات في الفيزياء ، وعلم الأرض «الجيولوجيا» ممّا لا يزال يتّسم بالجدة والحداثة لدى العلماء المعاصرين رغم التطوّر والتكامل . مَن تكون هذه أثارة من علمه وقبضة من معرفته ، كيف يمكن تحديد أبعاد علمه ، والوقوف على مكنون معرفته؟ وهل يمكن تحرّي جميع الجوانب ، ومعرفة كافّة الزوايا في علم إنسانٍ وقف يصدع بعلوّ قامته ، ويهتف بصلابة ورسوخ : «سَلُوني قَبلَ أن تَفقِدُوني» ، ثمّ لم يعجز عن جواب سؤال قطّ ، ولم يسجّل التاريخ مثيلاً لهذه الظاهرة ، ولم تعرف الإنسانيّة في ماضيها وحاضرها من نطق بمثل هذه المقالة أبداً . هالة من الغموض كانت ولا تزال تكتنف علم عليّ ومداه ، ولا غرو فهذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : «ما عَرَفَ اللّهَ حَقَّ مَعرِفَتِهِ غَيري وغَيرُكَ ، وَما عَرَفَكَ حَقَّ مَعرِفَتِكَ غَيرُ اللّهِ وغَيري» . إنّ القلم ليعجز ، وتنكفئ الكلمات ، ولن يكون أمام المرء مهما بلغت كفاءته إلّا الاعتراف بالعجز أمام هذه الظاهرة المدهشة. على هذا يتحتّم على الإنسان أن يكون كالمتنبّي في الإفصاح عن عجزه في بيان أبعاد المعرفة العلويّة ، حيث يكون الصمت في مثل هذا المشهد أبلغ من أيّ نطق . ومن ثمَّ ما أحرانا أن نرفع الأقلام صوب ساحته الغرّاء فنمسك عن الكتابة لنصغي إليه وننصت له بأدب ، عساه يُفيض بشيء قليل ممّا عنده ، ويُبدي قطرة من بحر علومه الزخّار ، وينشر وميضاً من مكنون حقائقه.
.
ص: 812
الفصل الأوّل: التعلّم في مدرسة النبيّ صلى الله عليه و آلهأ _ شِدَّةُ اهتِمامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله بِتَعليمِهِالإمام عليّ عليه السلام :كُنتُ إذا سَأَلتُهُ [ صلى الله عليه و آله ] أجابَني، وإذا سَكَتُّ عَنهُ وفَنِيَت مَسائِلِي ابتَدَأَني. (1)
عنه عليه السلام :ولَيسَ كُلُّ أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَن كان يَسأَلُهُ ويَستَفهِمُهُ ، حَتّى إن كانوا لَيُحِبّونَ أن يَجيءَ الأَعرابيُّ وَالطّارِئُ ، فَيَسأَلَهُ عليه السلام حَتّى يَسمَعوا ، وكانَ لا يَمُرُّ بي مِن ذلِكَ شَيءٌ إلّا سَأَلتُهُ عَنهُ وحَفِظتُهُ . (2)
عنه عليه السلام :وقَد كُنتُ أدخُلُ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله كُلَّ يَومٍ دَخلَةً وكُلَّ لَيلَةٍ دَخلَةً ، فَيُخَلّيني فيها أدورُ مَعَهُ حَيثُ دارَ ، وقَد عَلِمَ أصحابُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنَّهُ لَم يَصنَع ذلِكَ بِأَحَدٍ مِنَ النّاسِ غَيري ، فَرُبَّما كانَ في بَيتي يَأتيني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أكثَرُ ذلِكَ في بَيتي ، وكُنتُ إذا دَخَلتُ عَلَيهِ بَعضَ مَنازِلِهِ أخلاني ، وأقامَ عَنّي نِساءَهُ . فلا يَبقى عِندَهُ غَيري . وإذا أتاني لِلخَلوَةِ مَعي في مَنزِلي لَم تَقُم عَنّي فاطِمَةُ ولا أحَدٌ من بَنِيَّ ، وكُنتُ إذا سَأَلتُهُ أجابَني ، وإذا سَكَتُّ عَنهُ وفَنِيَت مَسائِلِي ابتَدَأَني . فَما نَزَلَت عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله آيَةٌ مِنَ القُرآنِ إلّا أقرَأَنيها ، وأملاها عَلَيَّ ، فَكَتَبتُها
.
ص: 813
بِخَطّي وعَلَّمَني تَأويلَها وتَفسيرَها ، وناسِخَها ومَنسوخَها ، ومُحكَمَها ومُتشابِهَها ، وخاصَّها وعامَّها ، ودَعَا اللّهَ أن يُعطِيَني فَهمَها وحِفظَها ، فَما نَسيتُ آيَةً مِن كِتابِ اللّهِ ، ولا عِلما أملاهُ عَلَيَّ وكَتَبتُهُ ، مُنذُ دَعَا اللّهَ لي بِما دَعا . وما تَرَكَ شَيئا عَلَّمَهُ اللّهُ مِن حَلالٍ ولا حَرامٍ ، ولا أمرٍ ولا نَهيٍ ، كانَ أو يَكونُ ، ولا كِتابٍ مُنزَلٍ عَلى أحَدٍ قَبلَهُ مِن طاعَةٍ أو مَعصِيَةٍ ، إلّا عَلَّمَنيهِ وحَفِظتُهُ ، فَلَم أنسَ حَرفا واحِدا . ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدري ، ودَعَا اللّهَ لي أن يَملَأَ قَلبي عِلما وفَهما ، وحُكما ونورا ، فَقُلتُ : يا نَبِيَّ اللّهِ ! بِأَبي أنتَ واُمّي ، مُنذُ دَعَوتَ اللّهَ لي بِما دَعَوتَ لَم أنسَ شَيئا ، ولَم يَفُتني شَيءٌ لَم أكتُبهُ ، أفَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسيانَ فيما بَعدُ ؟ فَقالَ : لا ، لَستُ أتَخَوَّفُ عَلَيكَ النِّسيانَ وَالجَهلَ . (1)
ب _ عَلَّمَهُ ألفَ بابٍالإمام عليّ عليه السلام :عَلَّمَني[ صلى الله عليه و آله ] ألفَ بابٍ مِنَ العِلمِ ، فَتَحَ لي كُلُّ بابٍ ألفَ بابٍ . (2)
عنه عليه السلام :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلَّمَني ألفَ بابٍ مِنَ الحَلالِ وَالحَرامِ ، ومِمّا كانَ ومِمّا يَكونُ إلى يَومِ القِيامَةِ ، كُلُّ بابٍ مِنها يَفتَحُ ألفَ بابٍ ، فَذلِكَ ألفُ ألفِ بابٍ حَتّى عُلِّمتُ عِلمَ المَنايا وَالبَلايا وفَصلَ الخِطابِ . (3)ج _ إملاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وكِتابَةُ عَلِيٍّ عليه السلامالإمام عليّ عليه السلام :إنَّ كُلَّ آيَةٍ أنزَلَهَا اللّهُ _ جَلَّ وعَلا _ عَلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله عِندي بِإِملاءِ
.
ص: 814
رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وخَطِّ يَدي ، وتَأويلُ كُلِّ آيَةٍ أنزَلَهَا اللّهُ عَلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وكُلُّ حَرامٍ وحَلالٍ ، أو حَدٍّ أو حُكمٍ ، أو شَيءٍ تَحتاجُ إلَيهِ الاُمَّةُ إلى يَومِ القِيامَةِ مَكتوبٌ بِإملاءِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وخَطِّ يَدي ، حَتّى أرشُ الخَدشِ . (1) .
ص: 815
الفصل الثاني: المنزلة العلميّةأ _ بابُ عِلمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :أنَا مَدينَةُ العِلمِ وعَلِيٌّ بابُها ، فَمَن أرادَ العِلمَ فَليَأتِ البابَ . (1)عنه صلى الله عليه و آله :عَلِيٌّ بابُ عِلمي ، ومُبَيِّنٌ لِاُمَّتي ما اُرسِلتُ بِهِ مِن بَعدي . (2)ب _ خازِنُ عِلمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهالإمام عليّ عليه السلام :أنَا بابُ مَدينَةِ العِلمِ وخازِنُ عِلمِ رَسولِ اللّهِ ووارِثُهُ . (3)سختى بلا ، سختى پاكيزه شدن است و پاكيزگى ، ارزش سرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في عَلِيٍّ عليه السلام _: فَقَلِّدوهُ دينَكُم ، وأطيعوهُ في جَميعِ اُمورِكُم ؛ فَإِنَّ عِندَهُ جَميعَ ما عَلَّمَنِي اللّهُ عَزَّوجَلَّ . (4)الإمام الصادق عليه السلام :إنَّ في عَلِيٍّ عليه السلام سُنَّةَ ألفِ نَبِيٍّ مِنَ الأَنبِياءِ ، وإنَّ العِلمَ الَّذي نَزَلَ مَعَ آدَمَ عليه السلام لَم يُرفَع ، وما ماتَ عالِمٌ فَذَهَبَ عِلمُهُ ، وَالعِلمُ يُتَوارَثُ . (5)
.
ص: 816
ج _ أعلَمُ الاُمَّةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ أعلَمُ اُمَّتي . (1)عنه صلى الله عليه و آله :أعلَمُ اُمَّتي مِن بَعدي عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . (2)د _ لَم ينسَ ما سَمِعَهُأنساب الأشراف عن مَكحول :قَرَأَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : «وَ تَعِيَهَآ أُذُنٌ وَ عِيَةٌ» (3) فَقالَ : يا عَلِيُّ ، سَأَلتُ اللّهَ أن يَجعَلَها اُذُنَكَ .
قالَ عَلِيٌّ : فَما نَسيتُ حَديثا أو شَيئا سَمِعتُهُ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . (4)ه _ لَم يَجِد حَمَلَةً لِعِلمِهِپيامبر خدا مى فرمايد كه خداوند در ضمن پاسخ به اوالإمام عليّ عليه السلام :إنّ في صَدري هذا لَعِلما جَمّا ، عَلَّمَنيهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، لَو أجِدُ لَهُ حَفَظَةً يَرعَونَهُ حَقَّ رِعايَتِهِ ويَروونَهُ كَما يَسمَعونَهُ مِنّي إذا لَأَودَعتُهُم بَعضَهُ ، فَعَلَّمَ بِهِ كَثيرا مِنَ العِلمِ ، إنَّ العِلمَ مِفتاحُ كُلِّ بابٍ ، وكُلُّ بابٍ يَفتَحُ ألفَ بابٍ . (5)
.
ص: 817
الفصل الثالث: أنواع علومهأ _ عِلمُ الكِتابِ (1)الإمام عليّ عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ تَبارَكَ وتَعالى : «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِى وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَ_بِ» (2) _: أنَا هُوَ الَّذي عِندَهُ عِلمُ الكِتابِ . (3)ب _ عِلمُ القُرآنِالإمام عليّ عليه السلام :وَاللّهِ ما نَزَلَت آيَةٌ إلّا وقَد عَلِمتُ فيما نَزَلَت ، وأينَ نَزَلَت ، وعَلى مَن نَزَلَت ، إنَّ رَبّي وَهَبَ لي قَلبا عَقولاً ولِسانا طَلِقا . (4)عنه عليه السلام :ذلِكَ القُرآنُ فَاستَنطِقوهُ ولَن يَنطِقَ لَكُم ، اُخبِرُكُم عَنهُ : إنَّ فيهِ عِلمَ ما مَضى ، وعِلمَ ما يَأتي إلى يَومِ القِيامَةِ ، وحُكمَ ما بَينَكُم ، وبَيانَ ما أصبَحتُم فيهِ تَختَلِفونَ ، فَلَو سَأَلتُموني عَنهُ لَعَلَّمتُكُم . (5)
.
ص: 818
ج _ عِلمُ الدّينِفضائل الصحابة عن عبد اللّه :أعلَمُ أهلِ المَدينَةِ بِالفَرائِضِ عَلِيُّ بنُ أبيطالِبٍ . (1)التاريخ الكبير عن عائشة :عَلِيٌّ أعلَمُ النّاسِ بِالسُّنَّةِ . (2)د _ عِلمُ الشَّرائِعِالإمام عليّ عليه السلام :أنَا وَاللّهِ أعلَمُ بِالتَّوراةِ مِن أهلِ التَّوراةِ ، وأعلَمُ بِالإِنجيلِ مِن أهلِ الإِنجيلِ ، وأعلَمُ بِالقُرآنِ مِن أهلِ القُرآنِ . (3)ه _ عِلمُ البَلايا وَالمَناياالإمام الصادق عليه السلام :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام كَثيرا ما يَقولُ : . . . ولَقَد اُعطيتُ خِصالاً ما سَبَقَني إلَيها أحَدٌ قَبلي ، عُلِّمتُ المَنايا وَالبَلايا ، وَالأَنسابَ وفَصلَ الخِطابِ ، فَلَم يَفُتني ما سَبَقَني ، ولَم يَعزُب عَنّي ما غابَ عَنّي ، اُبَشِّرُ بِإِذنِ اللّهِ واُؤَدّي عَنهُ ، كُلُّ ذلِكَ مِنَ اللّهِ مَكَّنَني فيهِ بِعِلمِهِ . (4)و _ عِلمُ ما كانَ وما يَكونُالإمام عليّ عليه السلام :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله التَقَمَ (5) اُذُني وعَلَّمَني ما كانَ وما يَكونُ إلى يَومِ القِيامَةِ ، فَساقَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ ذلِكَ إلَيَّ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله . (6)
.
ص: 819
القسم الثاني عشر : قضايا الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: نظرة عامّةالفصل الثاني: نماذج من أقضيته في عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله
.
ص: 820
. .
ص: 821
الفصل الأوّل: نظرة عامّةرسول اللّه صلى الله عليه و آله :أقضى اُمَّتي وأعلَمُ اُمَّتي بَعدي عَلِيٌّ . (1)
صحيح البخاري عن عمر :أقضانا عَلِيٌّ . (2)الإمام عليّ عليه السلام :بَعَثَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلَى اليَمَنِ ، فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، تَبعَثُني وأنَا شابٌّ أقضي بَينَهُم ولا أدري مَا القَضاءُ ؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ في صَدري ، ثُمَّ قالَ : «اللّهُمَّ اهدِ قَلبَهُ ، وثَبِّت لِسانَهُ» ، فَما شَكَكتُ بَعدُ في قَضاءٍ بَينَ اثنَينِ . (3)عنه عليه السلام :لَو ثُنِيَ لِيَ الوِسادُ لَحَكَمتُ بَينَ أهلِ التَّوراةِ بِتَوراتِهِم ، وبَينَ أهلِ الإِنجيلِ بِإِنجيلِهِم ، وأهلِ الزَّبورِ بِزَبورِهِم ، وأهلِ القُرآنِ بِقُرآنِهِم ، حَتّى يَزهَرَ كُلُّ كِتابٍ مِن هذِهِ الكُتُبِ ويَقولُ : يا رَبِّ إنَّ عَلِيّا قَضى بِقَضائِكَ . (4)
.
ص: 822
الفصل الثاني: نماذج من أقضيته في عصر النّبيّ صلى الله عليه و آلهأ _ قتلى زُبْيَة الأسدو در كلام ديگرى مى فرمايد:الإمام الصادق عليه السلام :إنَّ قَوما احتَفَروا زُبيَةً (1) لِلأَسَدِ بِاليَمَنِ ، فَوقَعَ فيهَا الأَسَدُ ، فَازدَحَمَ النّاسُ عَلَيها يَنظُرونَ إلَى الأَسَدِ ، فَوَقَعَ فيها رَجُلٌ ، فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، فَتَعَلَّقَ الآخَرُ بِآخَرَ وَالآخَرُ بِآخَرَ ، فَجَرَحَهُمُ الأَسَدُ ؛ فَمِنهُم مَن ماتَ مِن جِراحَةِ الأَسَدِ ، ومِنهُم مَن اُخرِجَ فَماتَ ، فَتَشاجَروا في ذلِكَ حَتّى أخَذُوا السُّيوفَ .
فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : هَلُمّوا أقضي بَيَنُكم ؛ فَقَضى أنَّ لِلأَوَّلِ رُبعَ الدِّيَةِ ، ولِلثّاني ثُلثَ الدِّيَةِ ، ولِلثّالِثِ نِصفَ الدِّيَةِ ، ولِلرّابِعِ دِيَةً كامِلَةً ، وجَعَلَ ذلِكَ عَلى قَبائِلِ الَّذينَ ازدَحَموا ، فَرَضِيَ بِعضُ القَومِ وسَخِطَ بَعضٌ . فَرُفِعَ ذلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله واُخبِرَ بِقَضاءِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَأَجازَهُ . (2)ب _ ثَورُ رَجُلٍ قَتَلَ حِمارَ الآخَرِالإمام الباقر عليه السلام :أتى رَجُلٌ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَقالَ : إنَّ ثَورَ فُلانٍ قَتَلَ حِماري ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : اِيتِ أبا بَكرٍ فَسَلهُ . فَأَتاهُ فَسَأَلَهُ ، فَقالَ : لَيسَ عَلَى البَهائِمِ قَوَدٌ . فَرَجَعَ إلَى
.
ص: 823
النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَأَخَبَرهُ بِمَقالَةِ أبي بَكرٍ ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : اِيتِ عُمَرَ فسَلهُ . فَأَتاهُ فَسَأَلَهُ ، فَقالَ مِثلَ مَقالَةِ أبي بَكرٍ . فَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَأَخبَرَهُ ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : اِيتِ عَلِيّا عليه السلام فَسلهُ . فَأَتاهُ فَسَأَلَهُ ، فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : إن كانَ الثَّورُ الدّاخِلُ عَلى حِمارِكَ في مَنامِهِ حَتّى قَتَلَهُ فَصاحِبُهُ ضامِنٌ ، وإن كانَ الحِمارُ هُوَ الدّاخِلُ عَلَى الثَّورِ في مَنامِهِ فَلَيسَ عَلى صاحِبِهِ ضَمانٌ . قالَ : فَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَأَخَبَرَهُ ، فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : الحَمدُ للّهِِ الَّذي جَعَلَ مِن أهِل بَيتي مَن يَحكُمُ بِحُكمِ الأَنبِياءِ . (1)
ج _ رَجُلٌ شَرِبَ الخَمرَ جاهِلاً بِحُرمَتِهِالإمام الصادق عليه السلام :لَقَد قَضى أميرُ المُؤمِنينَ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ _ بِقَضِيَّةٍ ما قَضى بِها أحَدٌ كانَ قَبلَهُ ! وكانَت أوَّلَ قَضِيَّةٍ قَضى بِها بَعدَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . وذلِكَ أ نَّهُ لَمّا قُبِضَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله واُفضِيَ الأمرُ إلى أبي بَكرٍ اُتِيَ بِرَجُلٍ قَد شَرِبَ الخَمَر ، فَقالَ لَهُ أبو بَكرٍ : أشَرِبتَ الخَمرَ ؟ فَقالَ الرَّجُلُ : نَعَم ، فَقالَ : ولِمَ شَرِبتَها وهِيَ مُحَرَّمَةٌ ؟ فَقالَ : إنَّني لَمّا (2) أسلَمتُ ومَنزِلي بَينَ ظَهرانَي قَومٍ يَشربَون الخَمرَ ويَستَحِلّونَها ، ولَم (3) أعلَم أ نَّها حَرامٌ فَأَجتَنِبُها . قالَ : فَالتَفَتَ أبو بَكرٍ إلى عُمَرَ فَقالَ : ما تَقولُ يا أبا حَفصٍ في أمرِ هذَا الرَّجُلِ ؟ فَقالَ : مُعضِلَةٌ وأبُو الحَسَنِ لَها . فَقالَ أبو بَكرٍ : يا غُلامُ ادعُ لَنا عَلِيّا ، قالَ عُمَرُ : بَل يُؤتىَ الحَكَمُ في مَنزِلِهِ ، فَأَتَوهُ ومَعَهُ سَلمانُ الفارِسِيُّ ، فَأَخبَرَهُ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ فَاقتَصَّ عَلَيهِ قِصَّتَهُ .
.
ص: 824
فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام لِأَبي بَكرٍ : اِبعَث مَعَهُ مَن يَدورُ بِهِ عَلى مَجالِسِ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ؛ فَمَن كانَ تَلا عَلَيهِ آيَةَ التَّحريمِ فَليشَهَد عَلَيهِ ؛ فَإِن لَم يَكُن تَلا عَلَيهِ آيَةَ التَّحريمِ فَلا شَيءَ عَلَيهِ . فَفَعَلَ أبو بَكرٍ بِالرَّجُلِ ما قالَ عَلِيٌّ عليه السلام ، فَلَم يَشهَد عَلَيهِ أحَدٌ ، فَخَلّى سَبيلَهُ . (1)
د _ اِمرَأَةٌ وَلَدَت بَعدَ قُدومِ زَوجِهِا بِسِتَّةِ أشُهرٍالمناقب لابن شهر آشوب :كانَ الهَيثَمُ في جَيشٍ ، فَلَمّا جاءَتِ امرَأَتُهُ بَعدَ قُدومِهِ بِستَّةِ أشهُرٍ بِوَلَدٍ ، فَأَنكَرَ ذلِكَ مِنها وجاءَ بِهِ عُمَرَ ، وقَصَّ عَلَيهِ ، فَأَمَرَ بِرَجمِها ، فَأَدرَكَها عَلِيٌّ مِن قَبلِ أن تُرجَمَ ، ثُمَّ قالَ لِعُمَر : اربَع (2) عَلى نَفسِكَ ؛ إنَّها صَدَقَت ، إنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَ_ثُونَ شَهْرًا» (3) وقالَ : «وَالْوَ لِدَ تُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» (4) فَالحَملُ وَالرِّضاعُ ثَلاثونَ شَهرا ، فَقالَ عُمَرُ : لَولا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ . وخَلّى سَبيلَها ، وأَلحَقَ الوَلَدَ بِالرَّجُلِ . (5)
ه _ رَجُلانِ اِحتالا في ذَهابِ مالِ امرَأَةٍالكافي عن زاذان :اِستَودَعَ رَجُلانِ امرَأَةً وَديعَةً وقالا لَها : لا تَدفَعيها إلى واحِدٍ مِنّا حَتّى نَجتَمِعَ عِندَكِ . ثُمَّ انطَلَقا فَغابا ، فَجاءَ أحَدُهُما إلَيها فَقالَ : أعطيني وَديعَتي ؛ فَإِنَّ صاحِبي قَد ماتَ ، فَأَبَت حَتّى كَثُرَ اختِلافُهُ ثُمَّ أعطَتُه ، ثُمَّ جاءَ الآخَرُ فَقالَ : هاتي وَديَعتي ، فَقالَت : أخَذَها صاحِبُكَ وذَكَرَ أ نَّكَ قَد مُتَّ ، فَارتَفَعا إلى عُمَرَ ، فَقالَ لَها
.
ص: 825
عُمَرُ : ما أراكِ إلّا وقَد ضَمِنتِ ، فَقالَتِ المَرأَةُ : اِجعَل عَلِيّا عليه السلام بَيني وبَينَهُ ، فَقالَ عُمَرُ : اِقضِ بَينَهُما ، فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام :
هذِهِ الوَديعَةُ عِندي ، وقَد أمَرتُماها ألّا تَدفَعَها إلى واحِدٍ مِنكُما حَتّى تَجتَمِعا عِندَها فَائِتنيِ بِصاحِبِكَ !
فَلَم يُضَمِّنها وقالَ عليه السلام : إنَّما أرادا أن يَذهَبا بِمالِ المَرأَةِ . (1)و _ رَجُلٌ اُصيبَت إحدى عَينَيهِالكافي عن الحسن بن كثير عن أبيه :اُصيبَت عَينُ رَجُلٍ وهِيَ قائِمَةٌ فَأَمَرَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام فَرُبِطَت عَينُهُ الصَّحيحَةُ ، وأقامَ رَجُلاً (2) بِحِذاهُ بِيَدِهِ بَيضَةٌ ، يَقولُ : هَل تَراها ؟ قالَ : فَجَعَلَ إذا قالَ : نَعَم ، تَأَخَّرَ قَليلاً ، حَتّى إذا خَفِيَت عَلَيهِ عُلِّمَ ذلِكَ المَكانُ ، قالَ : وعُصِّبَت عَينُهُ المُصابَةُ ، وجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَباعَدُ وهُوَ يَنظُرُ بِعَينِهِ الصَّحيحَةِ حَتّى إذا خَفِيَت عَلَيهِ ، ثُمَّ قيسَ ما بَينَهُما فَاُعطِيَ الأَرشَ عَلى ذلِكَ . (3)
ز _ رَجُلانِ تَنازَعا في ثَمانِيَةِ دَراهِمَالكافي عن ابن أبي ليلى :قَضى أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام بَينَ رَجُلَينِ اصطَحَبا في سَفَرٍ ، فَلَمّا أرادا الغَداءَ أخرَجَ أحَدُهُما مِن زادِهِ خَمسَةَ أرغِفَةٍ ، وأخرَجَ الآخَرُ ثَلاثَةَ أرغِفَةٍ ، فَمَرَّ بِهِما عابِرُ سَبيلٍ ، فَدَعَواهُ إلى طَعامِهِما ، فَأَكَلَ الرَّجُلُ مَعَهُما حَتّى لَم يَبقَ شَيءٌ ، فَلَمّا فَرَغوا أعطاهُما العابِرُ بِهِما ثَمانِيَةَ دَراهِمَ ثَوابَ ما أكَلَهُ مِن طَعامِهِما ، فَقالَ صاحِبُ الثَّلاثَةِ أرغِفَةٍ لِصاحِبِ الخَمسَةِ أرغِفةٍ : اِقسِمها نِصفَينِ بَيني وبَينَكَ ، وقالَ صاحِبُ الخَمسَةِ : لا ، بَل يُأخُذُ كُلُّ واحِدٍ مِنّا مِنَ الدَّراهِمِ عَلى عَدَدِ ما أخرَجَ مِنَ الزّادِ .
.
ص: 826
قالَ : فَأَتَيا أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام في ذلِكَ ، فَلَمّا سَمِعَ مَقالَتَهُما قالَ لَهُما : اِصطَلِحا ؛ فَإِنَّ قَضِيَّتُكما دَنِيَّةٌ ، فَقالا : اِقضِ بَينَنا بِالحَقِّ . قالَ : فَأَعطى صاحِبَ الخَمسَةِ أرغِفَةٍ سَبعَةَ دَراهِمَ ، وأعطى صاحِبَ الثَّلاثَةِ أرغِفَةٍ دِرهَما ، وقالَ : أ لَيسَ أخرَجَ أحَدُكُما مِن زادِهِ خَمسَةَ أرغِفَةٍ ، وأخرَجَ الآخَرُ ثلاثَةَ أرغِفَةٍ ؟ قالا : نَعَم . قالَ : أ لَيسَ أكَلَ مَعَكُما ضَيفُكُما مِثلَ ما أكَلتُما ؟ قالا : نَعَم ! قال : أ لَيسَ أكَلَ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما ثلاثة أرغِفَةٍ غَيرَ ثُلُثِها ؟ قالا : نَعَم ! قالَ : أ لَيس أكَلتَ أنتَ يا صاحِبَ الثَّلاثَةِ ثَلاثةَ أرغِفَةٍ غَيرَ (1) ثُلُثٍ ، وأكلَتَ أنتَ يا صاحِبَ الخَمسَةِ ثَلاثَةَ أرغِفَةٍ غَيرَ ثُلُثٍ ، وأكَلَ الضَّيفُ ثَلاثَةَ أرغِفَةٍ غَيرَ ثُلُثٍ ؟ أ لَيسَ بَقيَ لَكَ يا صاحِبَ الثَّلاثَةِ ثُلُثُ رَغيفٍ مِن زادِكَ ، وبَقِيَ لَكَ يا صاحِبَ الخَمسَةِ رَغيفانِ وثُلُثٌ ، وأكلَتَ ثَلاثَةَ أرغِفَةٍ غَيرَ ثُلُثٍ ؟ ! فَأَعطاهُما لِكُلِّ ثُلُثِ رَغيفٍ دِرهَما ؛ فَأَعطى صاحِبَ الرَّغيفَينِ وثُلُثٍ سَبعَةَ دَراهِم ، وأعطى صاحِبَ ثُلُثِ رَغيفٍ دِرهَما . (2)
ح _ قَطعُ يَدِ السّارِقِالكافي عن الحارث بن حصيرة :مَرَرتُ بِحَبَشِيٍّ وهُوَ يَستَسقي بِالمَدينَةِ ، وإذا هُوَ أقطَعُ ، فَقُلتُ لَهُ : مَن قَطَعَكَ ؟فَقالَ : قَطَعَني خَيرُ النّاسِ ! إنّا اُخِذنا في سَرِقَةٍ ونَحنُ ثَمانِيةُ نَفَرٍ ، فَذُهِبَ بِنا إلى عَلِيِّ بن أبي طالِبٍ عليه السلام ، فَأَقرَرنا بِالسَّرِقَةِ ، فَقالَ لَنا : تَعرِفونَ أ نَّها حَرامٌ ؟ قُلنا : نَعَم . فَأَمَرَ بِنا فَقُطِعَت أصابِعُنا مِنَ الرّاحَةِ وخُلِّيَتِ الإِبهامُ ، ثُمَّ أمَرَ بِنا
.
ص: 827
فَحُبِسنا في بَيتٍ يُطعِمُنا فيهِ السَّمنَ وَالعَسلَ حَتّى بَرِئَت أيدينا ، ثُمَّ أمَرَ بِنا فَاُخرِجنا ، وكَسانا فَأَحسَنَ كِسوَتَنا ، ثُمَّ قالَ لَنا : إن تَتوبوا وتُصلِحوا فَهُوَ خَيرٌ لَكُم ، يُلحِقكُمُ اللّهُ بِأَيديكُم فِي الجَنَّةِ ، وإن لا تَفعَلوا يُلحِقكُمُ اللّهُ بِأيديكُم فِي النّارِ . (1)
.
ص: 828
. .
ص: 829
القسم الثالث عشر : آيات الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: استجابة دعواتهالفصل الثاني: ردّ الشمس لهالفصل الثالث: إخباره بالاُمور الغيبيّةالفصل الرابع: النوادر
.
ص: 830
. .
ص: 831
الفصل الأوّل: استجابة دعواتهالإمام الباقر عليه السلام :شَكا أهلُ الكوفَةِ إلى عَلِيٍّ عليه السلام زِيادَةَ الفُراتِ ، فَرَكِبَ هُوَ وَالحَسَنُ وَالحُسَينُ عليهماالسلامفَوَقَفَ عَلَى الفُراتِ وقَدِ ارتَفَعَ الماءُ عَلى جانِبَيهِ ، فَضَرَبَهُ بِقَضيبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَنَقَصَ ذِراعٌ ، وضَرَبَهُ اُخرى فَنَقَصَ ذِراعانِ .
فَقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، لَو زِدتَنا !
فَقالَ : إنّي سَأَلتُ اللّهَ فَأَعطاني ما رَأَيتُم ، وأكرَهُ أن أكونَ عَبدا مُلِحّا . (1)شرح الأخبار عن الأصبغ بن نباتة :لَمَّا انهَزَمَ أهلُ البَصرَةِ قامَ فَتىً إلى عَلِيٍّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ ، فَقالَ : ما بالُ ما فِي الأَخبِيَةِ لا تُقَسَّمُ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : لا حاجَةَ لي في فَتوَى المُتَعَلِّمينَ . قالَ : ثُمَّ قامَ إلَيهِ فَتىً آخَرُ ، فَقالَ مِثلَ ذلِكَ ، فَرَدَّ عَلَيهِ مِثلَ ما رَدَّ أوَّلاً . فَقالَ لَهُ الفَتى : أمَا وَاللّهِ ما عَدَلتَ ! فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام : إن كُنتَ كاذِبا فَبَلَغَ اللّهُ بِكَ سُلطانَ فَتى ثَقيفٍ . ثُمَّ قالَ عَلِيٌّ عليه السلام : اللّهُمَّ إنّي قَد مَلَلتُهُم ومَلّوني ، فَأَبدِلني بِهِم ما هُوَ خَيرٌ مِنهُم ، وأبدلِهُم بي ما هُوَ شَرٌّ لَهُم . قالَ الأَصبَغُ بنُ نُباتَةَ : فَبَلَغَ ذلِكَ الفَتى سُلطانَ الحَجّاجِ ، فَقَتَلَهُ . (2)
.
ص: 832
الفصل الثاني: ردّ الشمس لهأ _ مَن رُدَّت لَهُ الشَّمسُالإمام الصادق عليه السلام :إنَّ سُلَيمانَ بنَ داوودَ عليه السلام عُرِضَ عَلَيهِ ذاتَ يَومٍ بِالعَشِيِّ الخيَلُ ، فَاشتَغَلَ بِالنَّظَرِ إلَيها حَتّى تَوارَتِ الشَّمسُ بِالحِجابِ ، فَقالَ لِلمَلائِكَةِ : رُدُّوا الشَّمسَ عَلَيَّ حَتّى اُصَلِّيَ صَلاتي في وَقتِها ! فَرَدّوها ، فَقامَ فَمَسَحَ ساقَيهِ وعُنُقَهُ ، وأمَرَ أصحابَهُ الَّذينَ فاتَتهُم الصَّلاةُ مَعَهُ بِمِثلِ ذلِكَ _ وكانَ ذلِكَ وُضوءَهُم لِلصَّلاةِ _ ثُمَّ قامَ فَصَلّى ، فَلَمّا فَرَغَ غابَتِ الشَّمسُ وطَلَعَتِ النُّجومُ . ذلِكَ قَولُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَ_نَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّ_فِنَ_تُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَ الْأَعْنَاقِ» (1) . (2)ب _ رَدُّ الشَّمسِ لِلإِمامِ عليه السلام مَرَّتَينِالإمام علي عليه السلام :إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى رَدَّ عَلَيَّ الشَّمسَ مَرَّتَينِ ، ولَم يَرُدَّها عَلى أحَدٍ مِن اُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله غَيري . (3)
.
ص: 833
ج _ رَدُّ الشَّمسِ لَهُ في عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آلهالمعجم الكبير عن أسماء بنت عميس :كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إذا نَزَلَ عَلَيهِ الوَحيُ يَكادُ يُغشى عَلَيهِ ، فَاُنزِلَ عَلَيهِ يَوما وهُوَ في حِجرِ عَلِيٍّ ، فَقالَ لَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : صَلَّيتَ العَصرَ ياعَلِيُّ ؟ قالَ : لا يا رَسولَ اللّهِ . فَدَعا اللّهَ فَرَدَّ عَلَيهِ الشَّمسَ حَتّى صَلَّى العَصرَ . قالَت : فَرَأَيتُ الشَّمسَ طَلَعَت بَعدَما غابَت حينَ رُدَّت حَتّى صَلَّى العَصرَ . (1)
د _ رَدُّ الشَّمسِ أيّامَ إمارَةِ الإِمامِ عليه السلامالإرشاد :وكانَ رُجوعُها ]أيِ الشَّمسِ[ عَلَيهِ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله : إنَّهُ لَمّا أرادَ أن يَعبُرَ الفُراتَ بِبابِلَ ، اشتَغَلَ كَثيرٌ مِن أصحابِهِ بِتَعبيرِ دَوابِّهِم ورِحالِهِم ، وصَلَّى عليه السلام بِنَفسِهِ في طائِفَةٍ مَعَهُ العَصرَ ، فَلَم يَفرَغِ النّاسُ مِن عُبورِهِم حَتّى غَرَبَتِ الشَّمسُ ، فَفاتَتِ الصَّلاةُ كَثيرا مِنهُم ، وفاتَ الجُمهورُ فَضلَ الاِجتِماعِ مَعَهُ ، فَتَكَلَّموا في ذلِكَ ، فَلَمّا سَمِعَ كَلامَهُم فيهِ سَأَلَ اللّهَ تَعالى رَدَّ الشَّمسِ عَلَيهِ لِيَجتَمِعَ كافَّةُ أصحابِهِ عَلى صَلاةِ العَصرِ في وَقتِها ، فَأَجابَهُ اللّهُ تَعالى في رَدِّها عَلَيهِ ، فَكانَت فِي الاُفُقِ عَلَى الحالِ الَّتي تَكونُ عَلَيها وَقتَ العَصرِ ، فَلَمّا سَلَّمَ بِالقَومِ غابَت ، فَسُمِعَ لَها وَجيبٌ (2) شَديدٌ هالَ النّاسَ ذلِكَ ، وأكثَروا مِنَ التَّسبيحِ وَالتَّهليلِ وَالاِستِغفارِ وَالحَمدُ للّهِِ عَلى نِعمَتِهِ الَّتي ظَهَرَت فيهِم ، وسارَ خَبَرُ ذلِكَ فِي الآفاقِ وَانتَشَرَ ذِكرُهُ فِي النّاسِ . (3)
.
ص: 834
الفصل الثالث: إخباره بالاُمور الغيبيّةأ _ اِستِشهادُ الحُسَينِ عليه السلام في كَربَلاءَمسند ابن حنبل عن عبد اللّه بن نُجَيّ عن أبيه :أنَّهُ سارَ مَعَ عَلِيٍّ رضى الله عنهوكانَ صاحِبَ مِطهَرَتِهِ (1) ، فَلَمّا حاذى نينَوى وهُوَ مُنطَلِقٌ إلى صِفّينَ ، فَنادى عَلِيٌّ رضى الله عنه : اِصبِر أبا عَبدِ اللّهِ ، اِصبِر أبا عَبدِ اللّهِ بِشَطِّ الفُراتِ .
قُلتُ : وماذا (2) ؟
قالَ : دَخَلتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ذاتَ يَومٍ وعَيناهُ تَفيضانِ ، قُلتُ : يا نَبِيَّ اللّهِ ، أغضَبَكَ أحَدٌ ، ما شَأنُ عَينَيكَ تَفيضانِ ؟
قالَ : بَل قامَ مِن عِندي جِبريلُ قَبلُ فَحَدَّثَني أنَّ الحُسَينَ يُقتَلُ بِشَطِّ الفُراتِ .
قالَ : فَقالَ : هَل لَكَ إلى أن أُشِمَّكَ مِن تُربَتِهِ ؟
قالَ : قُلتُ : نَعَم .
فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبضَةً مِن تُرابٍ فَأَعطانيها ، فَلَم أملِك عَينَيَّ أن فاضَتا . (3)
.
ص: 835
اُسد الغابة عن غرفة الأزدي :دَخَلَني شَكٌّ مِن شَأنِ عَليٍّ ، فَخَرَجتُ مَعَهُ عَلى شاطِئِ الفُراتِ ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّريقِ ووَقَفَ ووَقَفنا حَولَهُ ، فَقالَ بِيَدِهِ : هذا مَوضِعُ رَواحِلِهِم، ومُناخُ رِكابِهِم، ومُهراقُ دِمائِهِم ، بِأَبي مَن لا ناصِرَ لَهُ فِي الأَرضِ ولا فِي السَّماءِ إلّا اللّهُ .
فَلَمّا قُتِلَ الحُسَينُ خَرَجتُ حَتّى أتَيتُ المَكانَ الَّذي قَتَلوهُ فيهِ ، فَإِذا هُوَ كَما قالَ ، ما أخطَأَ شَيئا . قالَ : فَاستَغفَرتُ اللّهَ مِمّا كانَ مِنّي مِنَ الشَّكِّ ، وعَلِمتُ أنَّ عَلِيّا رضى الله عنهلَم يُقدِم إلّا بِما عُهِدَ إلَيهِ فيهِ . (1)ب _ مَصيرُ الحَربِ في وَقعَةِ الجَمَلِالمعجم الكبير عن الأجلح بن عبد اللّه عن زيد بن عليّ عن أبيه عن ابن عبّاس :لَمّا بَلَغَ أصحابَ عَلِيٍّ حينَ ساروا إلَى البَصرَةِ أنَّ أهلَ البَصرَةِ قَدِ اجتَمَعوا لِطَلَحَةَ وَالزُّبيَرِ، شَقَّ عَلَيهِم ووَقَعَ في قُلوبِهِم ، فَقالَ عَلِيٌّ : وَالَّذي لا إلهَ غَيرُهُ ، لَيُظهَرَنَّ عَلى أهلِ البَصرَةِ ، ولَيُقتَلَنَّ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، ولَيَخرُجَنَّ إلَيكُم مِنَ الكوفَةِ سِتَّةُ آلافٍ وخَمسُمِئَةٍ وخَمسونَ رَجُلاً ، أو خمسة آلافٍ وخَمسُمِئَةٍ وخَمسونَ رَجُلاً _ شَكَّ الأَجلَحُ _ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَوَقَعَ ذلِكَ في نَفسي ، فَلَمّا أتى أهلُ الكوفَةِ خَرَجتُ ، فَقُلتُ : لاَنظُرَنَّ ، فَإِن كانَ كَما يَقولُ (2) فَهُوَ أمرٌ سَمِعَهُ ، وإلّا فَهِيَ خَديعَةُ الحَربِ . فَلَقيتُ رَجُلاً مِنَ الجَيشِ فَسَأَلتُهُ ، فَوَاللّهِ ما عَتَّمَ (3) أن قالَ ما قالَ عَلِيٌّ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : وهُوَ مِمّا كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يُخبِرُهُ . (4)
.
ص: 836
ج _ ما يَقَعُ بَعدَهُ مِنَ الفِتَنِالإمام عليّ عليه السلام :أيُّهَا النّاسُ ، إنّي دَعَوتُكُم إلَى الحَقِّ فَتَلَوَّيتُم عَلَيَّ ، وضَرَبتُكُم بِالدرِّةِ فَأَعيَيتُموني ، أما إنَّهُ سَيَليكُم مِن بَعدي وُلاةٌ لا يَرضَونَ مِنكُم بِهذا حَتّى يُعَذِّبوكُم بِالسِّياطِ وبِالحَديدِ ، إنَّهُ مَن عَذَّبَ النّاسَ فِي الدُّنيا عَذَّبَهُ اللّهُ فِي الآخِرَةِ . وآيَةُ ذلِكَ أن يَأتِيَكُم صاحِبُ اليَمَنِ حَتّى يَحُلَّ بَينَ أظهُرِكُم ، فَيَأخُذَ العُمّالَ وعُمّالَ العُمِّال ، رَجُلٌ يُقالُ لَهُ : يوسُفُ بنُ عُمَرَ (1) . (2)عنه عليه السلام :يَأتي عَلَى النّاسِ زَمانٌ لا يَبقى فيهِم مِنَ القُرآنِ إلّا رَسمُهُ ، ومِنَ الإِسلامِ إلَا اسمُهُ . ومَساجِدُهُم يَومَئِذٍ عامِرَةٌ مِنَ البِناءِ ، خَرابٌ مِنَ الهُدى ، سُكّانُها وعُمّارُها شَرُّ أهلِ الأَرضِ ، مِنهُم تَخرُجُ الفِتنَةُ ، وإلَيهِم تَأوِي الخَطيئَةُ ، يَرُدّونَ مَن شَذَّ عَنها فيها ، ويَسوقونَ مَن تَأَخَّرَ عَنها إلَيها . يَقولُ اللّهُ سُبحانَهُ : فَبي حَلَفتُ لَأَبعَثَنَّ عَلى اُولئِكَ فِتنَةً تَترُكُ الحَليمَ فيها حَيرانَ . وقَد فَعَلَ ، ونَحنُ نَستَقيلُ اللّهَ عَثرَةَ الغَفلَةِ . (3)
د _ مُلكُ مُعاويَةَمروج الذهب :قَد كان مُعاوِيَةُ دَسَّ اُناسا مِن أصحابِهِ إلَى الكوفَةِ يُشيعونَ مَوتَهُ ، وأكثَرَ النّاسُ القَولَ في ذلِكَ حَتّى بَلَغَ عَلِيّا ، فَقالَ في مَجلِسِهِ : قَد أكثَرتُم مِن نَعيِ مُعاوِيَةَ ، وَاللّهِ ما ماتَ ولا يَموتُ حَتّى يَملِكَ ما تَحتَ قَدَمَيَّ ، وإنَّما أرادَ ابنُ آكِلَةِ الأكبادِ أن يَعلَمَ ذلِكَ مِنّي فَبَعَثَ مَن يُشيعُ ذَلِكَ فيكُم لِيَعلَمَ ويَتَيَقَّنَ ما عِندي فيهِ ، وما يَكونُ مِن أمرِهِ فِي المُستَقبَلِ مِنَ الزَّمانِ .
.
ص: 837
ومَرَّ في كَلامٍ كَثيرٍ يَذكُرُ فيهِ أيّامَ مُعاوِيَةَ ومَن تَلاهُ مِن يَزيدَ ومَروانَ وبَنيهِ ، وذَكَرَ الحَجّاجَ وما يَسومُهُم مِنَ العَذابِ ، فَارتَفَعَ الضَّجيجُ ، وكَثُرَ البُكاءُ وَالشَّهيقُ ، فَقامَ قائِمٌ مِنَ النّاسِ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، ولَقَد وصَفتَ اُمورا عَظيمَةً ، آللّهُ إنَّ ذلِكَ كائِنٌ ؟ قالَ عَلِيٌّ : وَاللّهِ إنَّ ذلِكَ لَكائِنٌ ، ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ . فَقالَ آخَرونَ : مَتى يَكونُ ذلِكَ ياأميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ : إذا خُضِبَت هذِهِ مِن هذِهِ ، ووَضَعَ إحدى يَدَيهِ عَلى لِحيَتِهِ وَالاُخرى عَلى رَأسِهِ ، فَأَكثَرَ النّاسُ مِنَ البُكاءِ . فَقالَ : لا تَبكوا في وَقتِكُم هذا فَسَتَبكونَ بَعدي طَويلاً . فَكاتَبَ أكثَرُ أهلِ الكوفَةِ مُعاوِيَةَ سِرّا في اُمورِهِم ، وَاتَّخَذوا عِندَهُ الأَيادِيَ ، فَوَاللّهِ ما مَضَت إلّا أيّامٌ قَلائِلُ حَتّى كانَ ذلِكَ . (1)
ه _ مُلكُ بَني مَروانَ
.
ص: 838
.
.
ص: 839
. .
ص: 840
إرشاد القلوب عن الحارث الأعور الهمداني :خَرَجنا مَعَ أميرِ المُؤمِنينَ حَتّى انتَهَينا إلَى
.
ص: 841
العاقولِ (1) بِالكوفَةِ عَلى شاطِئِ الفُراتِ ، فَإِذا نَحنُ بِأصلِ شَجَرَةٍ ، وقَد وقَعَ أوراقُها وبَقِيَ عودُها يابِسا ، فَضَرَبَها بِيَدِهِ المُبارَكَةِ وقالَ لَها : اِرجِعي بِإِذنِ اللّهِ خَضراءَ ذاتَ ثَمَرٍ ! فَإِذا هِيَ تَخضَرُّ بِأَغصانِها مُثمِرَةً مورِقَةً وحَملُها الكُمَّثَرى الَّذي لا يُرى مِثلُهُ في فَواكِهِ الدُّنيا ! وطَعِمنا مِنهُ وتَزَوَّدنا وحَمَلنا . فَلَمّا كانَ بَعدَ أيّامٍ عُدنا إلَيها فَإِذا بِها خَضراءُ فيهَا الكُمَّثرى ! (2)
.
ص: 842
. .
ص: 843
القسم الرابع عشر : حبّ الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل : التأكيد على حبّهالفصل الثاني: بركات حبّهالفصل الثالث : خصائص محبّيهالفصل الرابع: محبوبيّته عند اللّه عزوجل ورسوله صلّي الله عليه و آله وملائكتهالفصل الخامس: التحذير من الغلوّ في حبّه
.
ص: 844
. .
ص: 845
المدخلالحبّ عنوان قيّم ومتأ لّق في سماء الثقافة الإسلاميّة . وقد أكّدت التعاليم الدينيّة على المحبّة أيّما تأكيد . وجاءت جملة «هَلِ الدّينُ الَا الحُبُّ ؟» لتبلغ بالحبّ مكانة عليّة . ولكن ما معنى الحبّ ؟ ومن الَّذي ينبغي حبّه ؟هذَا السؤال وما شابهه من الأسئلة الاُخرى أجابت عنها التعاليم الدينيّة على نحو مستفيض ، ولكن لا مجال لذكره في هذَا المدخل . (1) بيد أ نّنا نؤكّد هنا على أنّ حبّ الجمال وحبّ الوجوه الطافحة بالصلاح والكرامة والمروءة أمر فطريّ ، ولا يتسنّى القول بأنّ من يبقى على فطرته النقيّة ولا تتدنّس توجّهاته السليمة بلوث الانحراف ؛ لا يميل _ تلقائيّاً _ إلى حبّ كلّ ما هو جميل ونبيل وكريم ، ولا تتوق نفسه إلى المعالي والمكارم . لقد أوصى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحبّ عليّ عليه السلام واعتبر محبّة «آل اللّه » من الإيمان . وهل كلّ هذَا إلّا استلهام للواقع ، وإرشاد إلى الحقّ والحقيقة ، وإلى كلّ ما ينبثق من ذات الإنسان ؟ ! إنّ عليّاً زاخر بكلّ معاني الجمال ، وينبوع دافق يفيض بالفضائل والمكارم وجميع المحامد . وما هذَا الواقع الصادق إلّا تجسيد لتلك الحقيقة السامية الَّتي بعثت السرور في نفوس النّاس كلّهم بشتّى نحلهم ومشاربهم ومذاهبهم ، سواء
.
ص: 846
كانوا من الأصدقاء أم من الأعداء . وهل «آل اللّه » أحد سواهم . . . بيد أنّ المجال لايتّسع هنا للإطناب في القول فيهم . ولكن نظراً إلى أهمّية الموضوع ، ونفاسة المطلب يبدو من غير اللائق طيّ صفحة الحديث بدون الإشارة إلى غيض من هذَا الفيض . وهكذا رأينا أنّ من الأجدر بنا أن نتحدّث بإيجاز عن لزوم حبّ عليّ عليه السلام وآل اللّه في ضوء آية من آيات الكتاب الكريم ، ثمّ نبحث باقتضاب في السرّ الكامن وراء التأكيد البالغ على حبّ عليّ وآل عليّ في ضوء آية كريمة ، ثمّ نلخّص الكلام في ضوء معطيات الأحاديث النبويّة ، وفي أعقاب ذلِكَ ندعو القارئ إلى التأمّل في الأحاديث . لقد أمر الباري سبحانه وتعالى رسوله الكريم في سورة الشورى _ الَّتي يتركّز محور موضوعاتها على الوحي وأبعاد رسالة الرسول صلى الله عليه و آله _ بأن يقول للناس : «قُل لَا أَسْ_ئلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى» . (1) ياللعجب ! لقد أتى القرآن الكريم على ذكر شعار كلّ الأنبياء ؛ وأكّد أنّهم جميعاً كانوا يقولون : «وَ مَآ أَسْ_ئلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَا عَلَى رَبِّ الْعَ__لَمِينَ» (2) ولكنّ الرسول صلى الله عليه و آله أمر أن يُعلِن للناس بأنّ أجر رسالتي موّدة أقاربي . ولو وُضعت هذِهِ الآية الكريمة إلى جانب الآيات الاُخرى الَّتي تناولت هذَا الموضوع ، لاتّضحت لنا حقيقة محتواها . فقد جاء في آية اُخرى : «قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلَا عَلَى اللَّهِ» (3) ، وجاء في آية اُخرى : «قُل لَا أَسْ_ئلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَا ذِكْرَى لِلْعَ__لَمِينَ» (4) .
.
ص: 847
وهذَا يفيد بأنّ ما اُريد من الاُمّة إنّما يصبّ في صالحها ، وإلّا فالكتاب الإلهي «ذكرٌ» للناس كافّة ولا أجر عليه . وجاء في آية اُخرى : «قُلْ مَآ أَسْ_ئلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً» (1) وهو يفيد بأنّ لهذا الأجر علاقة مباشرة بالدعوة وقبولها ، ومعناه أنّ اختيار النّاس للأمر الَّذي أعرضه عليهم هو بمثابة الأجر بالنسبة لي ، وليس هناك من أجر بعده . وهكذا يتّضح لنا من هنا ، ومن خلال الاستنارة بمفاد الآيات الاُخر بأنّ هذِهِ المودّة تعود أيضاً إلى تلبية الدعوة ، والآية دالّة على أنّ هذَا الطلب تعود فائدته عليكم . أي هناك نفي قاطع للأجر تارة ، وتأكيد على أنّ الأجر على من يريد أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً تارة اُخرى ، ويأتي التصريح في ختام المطاف بأنَّ الأجر الَّذي يطلبه منهم تعود منفعته عليهم ، وفي النهاية إنّ أجري «مودّة أقاربي» . إذاً يتّصف «أجري» بالخصائص التالية : 1 . إنّ منفعته لا تعود عليَّ أبداً . 2 . إنّ منفعته تعود عليكم بأكملها . 3 . إنّه ممّا يمهّد لكم السبيل إلى اللّه . وهكذا يتّضح بأنَّ «الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى» ، امتداد لنهج الرسالة ، واستمرار لخطّ الرسول صلى الله عليه و آله . لقد بيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله هذَا المعنى ، وكشف عن مصداقه على طريق إبلاغ الأهداف العامّة للدين . وعلى هذَا المنوال فقد حدّد فى ضوئه مستقبل زعامة الاُمّة الإسلاميّة ، وصرّح لمن سأله عمّن يكون اُولئك القربى ، قائلاً : «عليّ وفاطمة
.
ص: 848
وابناهما» . ويتجلّى لنا من ذلِكَ بأنّ تفسير الرسول صلى الله عليه و آله لهذه الآية يأتي في السياق العامّ لإبلاغ الرسالة ، والتأكيد على امتداد طريق الرسالة ، مع الحرص على إنارة طريق الغد أمام الاُمّة الإسلاميّة . إنّ الروايات الكثيرة الَّتي تحدّثت عن مودّة آل محمد صلى الله عليه و آله ، وأوجبت محبّتهم واعتبرت الموت على محبّتهم شهادة في سبيل اللّه ، وعداوتهم نفاقاً ، وبغض عليّ عليه السلام نفاقاً ، إنّما جاءت لإيجاد تيّار يسير في خطّهم ، والوقاية من ظهور مناهض لهم ، ومُعادٍ _ مآلاً _ لتعاليم الدين ومعارف القرآن . ومع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يرى امتداد نهجه متجسّداً في «آل اللّه » ، فقد ألقى عب ء حمل رسالته على كاهل أبرز مصداق ل_ «آل اللّه » وهو عليّ عليه السلام ، معتبراً أيّة مواجهة له مواجهة للرسول ؛ أي لايسوغ لمن كانت لديه فطرة سليمة وإيمان راسخ ، ويعرف الحقّ ويسير عليه ، أن يبغض عليّاً عليه السلام . أليس هو الرجل المعروف بكلّ معاني الجمال وحميد الخصال ومكارم الأخلاق والصفات ؟وهل توجد فطرة سليمة لا تحبّ الجمال وتأبى التغنّي بالملاحم في سبيل معاني الجمال ؟ ! وهل يمكن أن يكون الإنسان على الحقّ ولا يحبّ المثال الَّذي يتجسّد فيه الحقّ بعينه ؟ ! . . . «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَا الضَّلَ_لُ» . (1) كيف يتواءم ارتداء ثياب الإيمان الجميلة ، وإيكال القلب إلى اللّه ، مع عدم حبّ علي عليه السلام بما يمثّله من ذوبان في اللّه ، وتجسيد لأسمى معاني حبّ اللّه وعبادته ، وما يعكسه من أعلى درجات الإيمان ؟ وهذَا ما يحيط اللثام عن سرّ قوله عليه السلام : «لَو ضَرَبتُ خَيشومَ المُؤمِنِ بِسَيفي هذَا عَلى أن يُبغِضَني ما أبغَضَني ، ولَو صَبَبتُ الدُّنيا بِجَمّاتِها عَلَى المُنافِقِ عَلى أن يُحِبَّني ما أحَبَّني ، وذلِكَ أنَّهُ قُضِيَ فَانقَضى عَلى
.
ص: 849
لِسانِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ صلى الله عليه و آله أنَّهُ قالَ : يا عَلِيُّ ، لا يُبِغضُكَ مُؤمِنٌ ولا يُحِبُّكَ مُنافِقٌ» . (1) وهنا مكمن السرّ الَّذي غرس حبَّ عليّ عليه السلام في قلوب مؤمنين صالحين طاهرين راسخ إيمانهم ، ونقيّة قلوبهم ، وجعل حبّه ثابتاً بين ثنايا أرواحهم ولايزول حَتّى في أقسى وأمرّ ظروف الحياة . فسطّروا بأقدام ثابتة أروع الملاحم ، وخلّدوا بدافق دمائهم معاني العزّة والمقاومة والإيمان بالحقّ وحبّ الحقّ على ناصية التاريخ ، من أمثال حُجر ، ورشيد ، وميثم ، وعمرو بن الحمق وغيرهم .
.
ص: 850
الفصل الأوّل : التأكيد على حبّهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّ اللّهَ تَعالى عَهِدَ إلَيَّ عَهدا في عَلِيٍّ ، فَقُلتُ : يا رَبِّ بيِّنهُ لي ، فَقالَ : اِسمَع ، فَقُلتُ : سَمِعتُ ، فَقالَ : إنَّ عَلِيّا رايَةُ الهُدى ، وإمامُ أولِيائي ، ونورُ مَن أطاعَني ، وهُوَ الكَلِمَةُ الَّتي ألزَمتُهَا المُتَّقينَ ، مَن أحَبَّهُ أحَبَّني ومَن أبغَضَهُ أبغَضَني ، فَبَشِّرهُ بِذلِكَ . (1)عنه صلى الله عليه و آله :مَن أحَبَّ عَلِيّا فَقَد أحَبَّني ، ومَن أبغَضَ عَلِيّا فَقَد أبغَضَني . (2)عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، كَذَبَ مَن زَعَمَ أنَّهُ يُحِبُّني ويُبغِضُكَ . (3)عنه صلى الله عليه و آله :أتاني جُبرَئيلُ فَقالَ : إنَّ اللّهَ يَأمُرُك أن تُحِبَّ عَلِيّا وأن تَأمُرَ بِحُبِّهِ ووَلايَتِهِ ، فَإِنّي مُعطٍ أحِبّاءَ عَلِيٍّ الجَنَّةَ خُلدا بِحُبِّهِم إيّاهُ ، ومُدخِلٌ أعداءَهُ والتّارِكينَ وَلايَتَهُ النّارَ جَزاءً بِعَداوَتِهِم إيّاهُ وتَركِهِم وَلايَتَهُ . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :وَلايَةُ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام وَلايَةُ اللّهِ ، وحُبُّهُ عِبادَةُ اللّهِ . (5)
.
ص: 851
عنه صلى الله عليه و آله :مَن أحَبَّ أن يَتَمَسَّكَ بِالعُروَةِ الوُثقى فَليَتَمَسَّك بِحُبِّ عَلِيٍّ وأهلِ بَيتي . (1)عنه صلى الله عليه و آله :عُنوانُ صَحيفَةِ المُؤمِنِ حُبُّ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . (2) .
ص: 852
الفصل الثاني: بركات حبّهامام على عليه السلام نيز درباره عواقب دنيادوستى مرسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن أحَبَّ عَلِيّا فَقَدِ اهتَدى ، ومَن أبغَضَهُ فَقَدِ اعتَدى . (1)عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: ألا مَن أحَبَّكَ حَفَّ بِالأَمنِ وَالإيمانِ ، ومَن أبغَضَكَ أماتَهُ اللّهُ ميتَةَ الجاهِلِيَّةِ ، وحوسِبَ بِعَمَلِهِ فِي الإِسلامِ . (2)در همين راستا امام صادق عليه السلام نيز مى فرمايدعنه صلى الله عليه و آله :مَن أحَبَّ عَلِيّا قَبِلَ اللّهُ مِنهُ صَلاتَهُ وصِيامَهُ وقِيامَهُ ، وَاستَجابَ دُعاءَهُ . (3)عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، وَاللّهِ لَو أنَّ رَجُلاً صَلّى وصامَ حَتّى يَصيرَ كَالشِّنِّ البالي ، إذا ما نَفَعَ صَلاتُهُ وصَومُهُ إلّا بِحُبِّكُم . (4)عنه صلى الله عليه و آله :حُبُّ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يَأكُلُ السَّيِّئاتِ كَما تَأكُلُ النّارُ الحَطَبَ . (5)عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: حَسبُكَ ، ما لِمُحِبِّكَ حَسرَةٌ عِندَ مَوتِهِ ، ولا وَحشَةٌ في قَبرِهِ ، ولا فَزَعٌ يَومَ القِيامَةِ . (6)
.
ص: 853
الإمام الصادق عليه السلام :وَاللّهِ لا يَهلِكُ هالِكٌ عَلى حُبِّ عَلِيٍّ عليه السلام إلّا رَآهُ في أحَبِّ المَواطِنِ إلَيهِ ، وَاللّهِ لا يَهلِكُ هالِكٌ عَلى بُغضِ عَلِيٍّ عليه السلام إلّا رَآهُ في أبغَضِ المَواطِنِ إلَيهِ . (1)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :لِكُلِّ شَيءٍ جَوازٌ ، وجَوازٌ الصِّراطِ حُبُّ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . (2)عنه صلى الله عليه و آله :حُبُّ عَلِيٍّ بَراءَةٌ مِنَ النّارِ . (3)عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ الجَنَّةَ لَتَشتاقُ لِأَحِبّاءِ عَلِيٍّ عليه السلام ، ويَشتَدُّ (4) ضَوؤُها لِأَحِبّاءِ عَلِيٍّ عليه السلام وهُم فِي الدُّنيا قَبلَ أن يَدخُلوها . (5)الإمام عليّ عليه السلام :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أخَذَ بِيَدِ حَسَنٍ وحُسَينٍ فَقالَ : مَن أحَبَّني وأحَبَّ هذَيِن وأباهُما واُمَّهُما كانَ مَعي في دَرَجَتي يَومَ القِيامَةِ . (6) .
ص: 854
الفصل الثالث : خصائص محبّيهأ _ طيبُ الوِلادَةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، لا يُحِبُّكَ إلّا مَن طابَت وِلادَتُهُ ، ولا يُبغِضُكَ إلّا مَن خَبُثَت وِلادَتُهُ ، ولا يُواليكَ إلّا مُؤمِنٌ ، ولا يُعاديكَ إلّا كافِرٌ . (1)ب _ الإيمانُالإمام عليّ عليه السلام :لَو ضَرَبتُ خَيشومَ المُؤمِنِ بِسَيفي هذَا عَلى أن يُبغِضَني ما أبغَضَني ، ولَو صَبَبتُ الدُّنيا بِجَمّاتِها (2) عَلَى المُنافِقِ عَلى أن يُحِبَّني ما أحَبَّني ؛ وذلِكَ أنَّهُ قُضِيَ فَانقَضى عَلى لِسانِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ صلى الله عليه و آله أنَّهُ قالَ : يا عَلِيُّ ، لا يُبغِضُكَ مُؤمِنٌ ، ولا يُحِبُّكَ مُنافِقٌ . (3)ج _ التَّقوىرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: لا يُحِبُّكَ إلّا مُؤمِنٌ تَقِيٌّ ، ولا يُبغِضُكَ إلّا فاجِرٌ رَدِيٌّ . (4)
.
ص: 855
الفصل الرابع: محبوبيّته عند اللّه ورسوله وملائكتهرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في عَلِيٍّ عليه السلام يَومَ خَيبَرَ _: لَاُعطِيَنَّ اللِّواءَ غَدا رَجُلاً يُحِبُّ اللّهَ ورَسولَهُ ، ويُحِبُّهُ اللّهُ ورَسولُهُ . (1)تاريخ بغداد عن عبد اللّه بن العبّاس :كُنتُ أنا وأبِيَ العَبّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ جالِسَينِ عِندَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، إذ دَخَلَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ فَسَلَّمَ ، فَرَدَّ عَلَيهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وبَشَّ بِهِ ، وقامَ إلَيهِ ، وَاعتَنَقَهُ ، وقَبَّلَ بَينَ عَينَيهِ ، وأجلَسَهُ عَن يَمينِهِ .
فَقالَ العَبّاسُ : يا رَسولَ اللّهِ ، أ تُحِبُّ هذَا ؟ فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : يا عَمَّ رَسولِ اللّهِ، وَاللّهِ! لَلّهُ أشَدُّ حُبّا لَهُ مِنّي، إنَّ اللّهَ جَعَلَ ذُرِّيَّةَ كُلِّ نَبِيٍّ في صُلبِهِ ، وجَعَلَ ذُرِّيَّتي في صُلبِ هذَا. (2)سنن الترمذي عن أنس بن مالك :كانَ عِندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله طَيرٌ ، فَقالَ : اللّهُمَّ ائتِني بِأَحَبِّ خَلقِكَ إلَيكَ ؛ يَأكُلُ مَعي هذَا الطَّيرَ . فَجاءَ عَلِيٌّ ، فَأَكَلَ مَعَهُ . (3)تاريخ دمشق عن أنس بن مالك :اُهدِيَ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله حِجلٌ مَشويٌ بِخُبزِهِ وصِنابِهِ (4) ،
.
ص: 856
فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : اللّهُمَّ ائتِني بِأَحَبِّ خَلقِكَ إلَيكَ ؛ يَأكُلُ مَعي مِن هذَا الطَّعامِ . فَقالَت عائِشَةُ : اللّهُمَّ اجعَلهُ أبي . وقالَت حَفصَةُ : اللّهُمَّ اجعَلهُ أبي _ قال أنَسٌ : _ وقُلتُ : اللّهُمَّ اجعَلهُ سَعدَ بنَ عُبادَةَ . قالَ أنَسٌ : فَسَمِعتُ حَرَكَةً بِالبابِ ، فَخَرَجتُ ، فَإِذا عَلِيٌّ بِالبابِ ، فَقُلتُ : إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلى حاجَةٍ ، فَانصَرَفَ . ثُمَّ سَمِعتُ حَرَكَةً بِالبابِ ، فَخَرَجتُ ، فَإِذا عَلِيٌّ بِالبابِ ، فَقُلتُ : إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلى حاجَةٍ ، فَانصَرَفَ . ثُمَّ سَمِعتُ حَرَكَةً بِالبابِ ، فَسَلَّمَ عَلِيٌّ ، فَسَمِعَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله صَوتَه فَقالَ : اُنظُر مَن هذَا . فَخَرَجتُ فَإِذا هُوَ عَلِيٌّ ، فَجِئتُ إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَأَخبَرتُهُ ، فَقالَ : اِيذَن لَهُ . فَدَخَلَ عَلِيٌّ ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : اللّهُمَّ وإلَيَّ ، اللّهُمَّ وإلَيَّ . (1)
سنن الترمذي عن بريدة :كانَ أحَبَّ النِّساءِ إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فاطِمَةُ ، ومِنَ الرِّجالِ عَلِيٌّ . (2)
.
ص: 857
الفصل الخامس: التحذير من الغلوّ في حبّهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، إنَّ فيكَ مَثَلاً مِن عيسىَ بنِ مَريَمَ ؛ أحَبَّهُ قَومٌ فَأَفرَطوا في حُبِّهِ فَهَلَكوا فيهِ ، وأبغَضَهُ قَومٌ فَأَفرَطوا في بُغضِهِ فَهَلَكوا فيهِ ، وَاقتَصَدَ فيهِ قَومٌ فَنَجوا . (1)الإمام عليّ عليه السلام :سَيَهلِكُ فِيَّ صِنفانِ : مُحِبٌّ مُفرِطٌ يذهَبُ بِهِ الحُبُّ إلى غَيرِ الحَقِّ ، ومُبغِضٌ مُفرِطٌ يَذهَبُ بِهِ البُغضُ إلى غَيرِ الحَقِّ . وخَيرُ النّاسِ فِيَّ حالاً النَّمَطُ الأَوسَطُ ، فَالزَموهُ . (2)عنه عليه السلام :اللّهُمَّ إنّي بَريءٌ مِنَ الغُلاةِ كَبَراءَةِ عيسَى بنِ مَريمَ مِنَ النَّصارى ، اللّهُمَّ اخذُلهُم أبَدا ، ولا تَنصُر مِنهُم أحَدا . (3)
.
ص: 858
. .
ص: 859
القسم الخامس عشر : بُغض الإمام عليّ عليه السلامالفصل الأوّل: بواعث بُغضهالفصل الثاني: التحذير من بُغضهالفصل الثالث: مضارّ بغضهالفصل الرابع: صفات مبغضيهالفصل الخامس: كيد أعدائه لإطفاء نورهالفصل السادس : خيبة آمال أعدائه
.
ص: 860
. .
ص: 861
الفصل الأوّل: بواعث بُغضهأ _ الحِقدُالإمام عليّ عليه السلام :كُلُّ حِقدٍ حَقَدَتهُ قُرَيشٌ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أظهَرَتهُ فِيَّ ، وسَتُظهِرُهُ في وُلدي مِن بَعدي . ما لي ولِقُرَيشٍ ! إنَّما وَتَرتُهُم (1) بِأَمرِ اللّهِ وأمرِ رَسولِهِ ، أفَهذا جَزاءُ مَن أطاعَ اللّهَ ورَسولَهُ إن كانوا مُسلِمينَ ؟ ! (2)معرفة الصحابة عن ابن عبّاس :قالَ عُثمانُ لِعَلِيٍّ : ما ذَنبي إن لَم تُحِبُّكَ قُرَيشٌ وقَد قَتَلتَ مِنهُم سَبعينَ رَجُلاً ؛ كَأَنَّ وُجوهَهُم سُيوفُ الذَّهَبِ ؟ (3)ب _ الحَسَدُشرح نهج البلاغة :جاءَ في تَفسيرِ قَولِهِ تَعالى : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ» (4) أنَّها اُنزِلَت في عَلِيٍّ عليه السلام وما خُصَّ بِهِ مِنَ العِلمِ . (5)
.
ص: 862
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى عَقيلٍ _: ألا وإنَّ العَرَبَ قَدِ اجتَمَعَت عَلى حَربِ أخيكَ اليَومَ اجتِماعَها عَلى حَربِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله قَبلَ اليَومِ ، فَأَصبَحوا قَد جَهِلوا حَقَّهُ وجَحِدوا فَضلَهُ . (1) .
ص: 863
الفصل الثاني: التحذير من بُغضهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن أحَبَّني فَليُحِبَّ عَلِيّا ؛ ومَن أبغَضَ عَلِيّا فَقَد أبغَضَني ، ومَن أبغَضَني فَقَد أبغَضَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ ، ومَن أبغَضَ اللّهَ أدخَلَهُ النّارَ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، طوبى لِمَن أحَبَّكَ وصَدَقَ فيكَ ، ووَيلٌ لِمَن أبغَضَكَ وكَذَبَ فيكَ . (2)عنه صلى الله عليه و آله :ألا إنَّ جَبرَئيل خَبَّرَني عَنِ اللّهِ تَعالى . . . ويَقولُ : مَن عادى عَلِيّا ولَم يَتَوَلَّهُ فَعَلَيه لَعنَتي وغَضَبي . (3)عنه صلى الله عليه و آله :مَعاشِرَ النّاسِ ، مَن أحَبَّ عَلِيّا أحببَتُهُ ، ومَن أبغَضَ عَلِيّا أبغَضتُهُ ، ومَن وَصَلَ عَلِيّا وَصَلتُهُ ، ومَن قَطَعَ عَلِيّا قَطَعتُهُ ، ومَن جَفا عَلِيّا جَفَوتُهُ ، ومَن والى عَلِيّا والَيتُهُ ، ومَن عادى عَلِيّا عادَيتُه . (4)عنه صلى الله عليه و آله_ في حِجَّةِ الوَداعِ وهُوَ عَلى ناقَتِهِ ويَدُهُ عَلى مَنكِبِ (5) عَلِيٍّ عليه السلام _: اللّهُمَّ هَل
.
ص: 864
بَلَّغتُ ؟ اللّهُمَّ هَل بَلَّغتُ ؟ هذَا ابنُ عَمّي وأبو وُلدي ، اللّهُمَّ كُبَّ مَن عاداهُ فِي النّارِ ! (1)عنه صلى الله عليه و آله :مَن حَسَدَ عَلِيّا حَسَدَني ، ومَن حَسَدَني دَخَلَ النّارَ . (2)مسند ابن حنبل عن عمرو بن شاس الأسلمي :خَرَجتُ مَعَ عَلِيٍّ إلَى اليَمَنِ فَجَفاني في سَفَري ذلِكَ حَتّى وَجَدتُ في نَفسي عَلَيهِ ، فَلَمّا قَدِمتُ أظهَرتُ شِكايَتَهُ فِي المَسجِدِ حَتّى بَلَغَ ذلِكَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَدَخَلتُ المَسجِدَ ذاتَ غُدوَةٍ ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله في ناسٍ مِن أصحابِهِ ، فَلَمَّا رَآني أبَدَّني عَينَيهِ _ يَقولُ : حَدَّدَ إلَيَّ النَّظَرَ _ حَتّى إذا جَلَستُ قالَ : يا عَمرُو ، واللّهِ لَقَد آذَيتَني ! قُلتُ : أعوذُ بِاللّهِ أن اُوذِيَكَ يا رَسولَ اللّهِ . قالَ : بَلى ، مَن آذى عَلِيّا فَقَد آذاني . (3)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :حُبُّ عَلِيٍّ إيمانٌ ، وبُغضُهُ كُفرٌ . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، لا يُبالي مَن ماتَ وهُوَ يُبغِضُكَ ؛ ماتَ يَهودِيّا أو نَصرانِيّا . (5) .
ص: 865
الفصل الثالث: مضارّ بغضهرسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن أحَبَّ عَلِيّا مَحياهُ ومَماتَه ، كَتَبَ اللّهُ تَعالى لَهُ الأَمنَ وَالإيمانَ ما طَلَعَتِ الشَّمسُ وما غَرَبَت ؛ ومَن أبغَضَ عَلِيّا مَحياهُ ومَماتَه ، فَميتَتُهُ جاهِلِيَّةٌ ، وحوسِبَ بِما أحدَثَ فِي الإِسلامِ . (1)ثمره شناخت دنيا روى گردانى از آن است. امام على علعنه صلى الله عليه و آله :إنَّ النّارَ لَتَغيظُ ويَشتَدُّ زَفيرُها عَلى أعداءِ عَلِيٍّ عليه السلام وهُم فِي الدُّنيا قَبلَ أن يَدخُلوها . (2)الإمام عليّ عليه السلام :يَهلِكُ فِيَّ ثَلاثَةٌ ، ويَنجو فِيَّ ثَلاثَةٌ ؛ يَهلِكُ اللاعِنُ ، وَالمُستَمِعُ المُقِرُّ ، وَالحامِلُ لِلوِزرِ وهُوَ المَلِكُ المُترَفُ يُتَقَرَّبُ إلَيهِ بِلَعني ، ويُبرَأُ عِندَهُ مِن ديني ، ويُنتَقَصُ عِندَهُ حَسَبي ؛ وإنَّما حَسَبي حَسَبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ودينيدينُهُ . ويَنجو فِيَّ ثَلاثَةٌ : المُحِبُّ المُوالي ، وَالمُعادي مَن عاداني ، وَالمُحِبُّ مَن أحَبَّني . فَإِذا أحَبَّني عَبدٌ أحَبَّ مُحُبّي ، وأبغَضَ مُبغِضي ، وشايَعَني . فَليَمتَحِنِ الرَّجُلُ قَلبَهُ ؛ إنَّ اللّهَ لَم يَجعَل لِرَجُلٍ مِن قَلبَينِ في جَوفِهِ فَيُحِبَّ بِهذا ويُبغِضَ بِهذا ، فَمَن اُشرِبَ قَلبُهُ حُبَّ غَيرِنا فَأَلَّبَ عَلَينا فَليَعلَم أنَّ اللّهَ عَدُوُّهُ وجِبريلَ وميكالَ ، وَاللّهُ عَدُوٌّ لِلكافِرينَ . (3)
.
ص: 866
الفصل الرابع: صفات مبغضيهأ _ خُبثُ الوِلادَةِمهمْ اين است كه شناخت صحيح و واقع بينانه اى از دنرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: لا يُبغِضُكَ مِنَ العَرَبِ إلّا دَعِيٌّ (1) ، ولا مِنَ الأَنصارِ إلّا يَهودِيٌ ، ولا مِن سائِرِ النّاسِ إلّا شَقِيٌّ . (2)ب _ النِّفاقُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :لا يُبغِضُ عَلِيّا إلّا مُنافِقٌ أو فاسِقٌ أو صاحِبُ دُنيا . (3)الإمام عليّ عليه السلام :لَقَد عَهِدَ إلَيَّ النَّبِيُّ الاُمِّيُّ صلى الله عليه و آله أنَّهُ لا يُحِبُّكَ إلّا مُؤمِنٌ ، ولا يُبغِضُكَ إلّا مُنافِقٌ . (4)عنه عليه السلام :وَالَّذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إنَّهُ لَعَهدُ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ صلى الله عليه و آله إلَيَّ : ألّا يُحِبَّني إلّا مُؤمِنٌ ، ولا يُبغِضَني إلّا مُنافِقٌ . (5)
.
ص: 867
ج _ الشَّقاءُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :الحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ وعَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ ؛ مَن أطاع عَلِيّا رَشِدَ ، ومَن عَصى عَلِيّا فَسَدَ ، ومَن أحَبَّهُ سَعِدَ ، ومَن أبغَضَهُ شَقِيَ . (1)
.
ص: 868
الفصل الخامس: كيد أعدائه لإطفاء نورهأ _ مَنعُ ذِكرِ مَناقِبِهِالمناقب لابن شهر آشوب :نادى مُعاوِيَةُ : أن بَرِئَتِ الذِّمِّةُ مِمَّن رَوى حَديثا مِن مَناقِبِ عَلِيٍّ عليه السلام . حَتّى قالَ عَبدُ اللّهِ بنُ شَدّادٍ اللَّيثِيُّ : وَدِدتُ أنّي اُترَكُ أن اُحَدِّثَ بِفَضائِلِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يَوما إلَى اللَّيلِ ، وأنَّ عُنُقي ضُرِبَت !
فَكانَ المُحَدِّثُ يُحَدِّثُ بِحَديثٍ فِي الفِقهِ ، أو يَأتي بِحَديثِ المُبارَزَةِ ، فَيَقولُ : قالَ رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ . وكانَ عَبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي لَيلى يَقولُ : حَدَّثَني رَجُلٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . وكانَ الحَسَنُ البَصرِيُّ يَقولُ : قالَ أبو زَينَبَ .
وسُئِلَ ابنُ جُبَيرٍ عَن حامِلِ اللِّواءِ ، فَقالَ : كَأَنَّكَ رَخِيُّ البالِ (1) ! (2)الإرشاد :فيمَا انتَهى إلَيهِ الأَمرُ في دَفنِ فَضائِلِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وَالحَيلولَةِ بَينَ العُلَماءِ ونَشرِها ما لا شُبَهَة فيهِ عَلى عاقِلٍ ، حَتّى كانَ الرَّجُلُ إذا أرادَ أن يَرويَ عَن أميرِ المُؤمِنينَ رِوايَةً لَم يَستَطِع أن يُضيفَها إلَيهِ بِذِكرِ اسمِهِ ونَسَبِهِ ، وتَدعوهُ الضَّرورَةُ إلى أن يَقولَ : حَدَّثَني رَجُلٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، أو يَقولَ : حَدَّثَني رَجُلٌ مِن
.
ص: 869
قُرَيشٍ ، ومِنهُم مَن يَقولُ : حَدَّثَني أبو زَينَبَ . (1)الإرشاد_ في بَيانِ مَظلومِيَّةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: وكانَتِ الوُلاةُ الجَوَرَةُ تَضرِبُ بِالسِّياطِ مَن ذَكَرَهُ بِخَيرٍ ، بَل تَضرِبُ الرِّقابَ عَلى ذلِكَ ، وتَعتَرِضُ النّاسَ بِالبَراءَةِ مِنهُ . وَالعادَةُ جارِيَةٌ فيمَنِ اتَّفَقَ لَهُ ذلِكَ ألّا يُذكَرَ عَلى وَجهٍ بِخَيرٍ ، فَضلاً عَن أن تُذكَرَ لَهُ فَضائِلُ ، أو تُروى لَهُ مَناقِبُ ، أو تُثَبتَ لَهُ حُجَّةٌ بِحَقٍّ . (2)
الكامل للمبرّد عن أبي العبّاس :يُروى عَن عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَحمَةُ اللّهِ عَلَيهِ أنَّهُ افتَقَدَ عَبدَ اللّهِ بنَ العَباسِ في وَقتِ صَلاةِ الظُّهرِ ، فَقالَ لِأَصحابِهِ : ما بالُ أبِي العَبّاسِ لَم يَحضُر ؟ فَقالوا : وُلِدَ لَهُ مَولودٌ . فَلَمّا صَلّى عَلِيٌّ رحمه الله قالَ : امضوا بِنا إلَيهِ . فَأَتاهُ فَهَنّأَهُ ، فَقالَ : شَكَرتُ الواهِبَ ، وبورِكَ لَكَ فِي المَوهوبِ ، ما سَمَّيتَهُ ؟ قالَ : أ وَيَجوزُ لي أن اُسَمِّيَهُ حَتّى تُسَمِّيَهُ ؟ ! فَأَمَرَ بِهِ ، فَاُخرِجَ إلَيهِ ، فَأَخَذَهُ ، فَحَنَّكَهُ ، ودَعا لَهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيهِ ، وقالَ : خُذهُ إلَيكَ أبَا الأَملاكِ ، قَد سَمَّيتُهُ عَلِيّا ، وكَنَّيتُه أبَا الحَسَنِ . فَلَمّا قامَ مُعاوِيَةُ ، قالَ لاِبنِ عَبّاسٍ : لَيسَ لَكُمُ اسمُهُ وكُنيَتُهُ ، وقَد كَنَّيتُهُ : أبا مُحَمَّدٍ . فَجَرَت عَلَيهِ . (3)
ب _ وَضعُ الأَحاديثِ في ذَمِّهِشرح نهج البلاغة :ذَكَرَ شَيخُنا أبو جَعفَرِ الإسكافِيُّ رَحِمَهُ اللّهُ تَعالى _ وكانَ مِنَ المُتَحَقِّقينَ
.
ص: 870
بِمُوالاةِ عَلِيٍّ عليه السلام ، وَالمُبالِغينَ في تَفضيلِهِ وإن كانَ القَولُ بِالتَّفضيلِ عامّاً شائِعاً فِي البَغدادِيّينَ مِن أصحابِنا كافَّةً إلّا أنَّ أبا جَعفَرٍ أشَدُّهُم في ذلِكَ قَولاً ، وأخلَصُهُم فيهِ اعتِقاداً _ أنَّ مُعاوِيَةَ وَضَعَ قَوماً مِنَ الصَّحابَةِ ، وقَوماً مِنَ التّابِعينَ عَلى رِوايَةِ أخبارٍ قَبيحَةٍ في عَلِيٍّ عليه السلام ، تَقتَضِي الطَّعنَ فيهِ ، وَالبَراءَةَ مِنهُ ، وجَعَلَ لَهَمُ عَلى ذلِكَ جُعلاً (1) يُرغَبُ في مِثلِهِ ، فَاختَلَقوا ما أرضاهُ ، منهم : أبو هُرَيرَةُ ، وعَمروُ بنُ العاصِ ، وَالمُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ ، ومِنَ التّابِعينَ : عُروَةُ بنُ الزُّبَيرِ . (2)
ج _ إشاعَةُ سَبِّهِالإمام عليّ عليه السلام_ في وَصفِ مُعاوِيَةَ _: أما إنَّهُ سَيَظهَرُ عَلَيكُم بَعدي رَجُلٌ رَحبُ (3) البُلعومِ ، مُندَحِقُ (4) البَطنِ ، يَأكُلُ ما يَجِدُ ، ويَطلُبُ ما لا يَجِدُ ، فَاقتُلوهُ ، ولَن تَقتُلوهُ ! ألا وإنَّهُ سَيَأمُرُكُم بِسَبّي ، وَالبَراءَةِ مِنّي ! فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبّوني ؛ فَإِنَّهُ لي زَكاةٌ ، ولَكُم نَجاةٌ ، وأمَّا البرَاءَةُ فَلا تَتَبَرَّؤوا مِنّي ؛ فَإِنّي وُلِدتُ عَلَى الفِطرَةِ ، وسَبَقتُ إلَى الإيمانِ وَالهِجرَةِ . (5)المناقب لابن شهر آشوب :وَالأَصلُ في سَبِّهِ ]عَلِيٍّ عليه السلام [ ما صَحَّ عِندَ أهلِ العِلمِ أنَّ مُعاوِيَةَ أمَرَ بِلَعنِهِ عَلَى المَنابِرِ ، فَتَكَلَّمَ فيهِ ابنُ عَبّاسٍ ، فَقالَ : هَيهاتَ ، هذَا أمرُ دِينٍ ، لَيسَ إلى تَركِهِ سَبيلٌ ، أ لَيسَ الغاشَّ لِرَسولِ اللّهِ ، الشَّتّامَ لِأَبي بَكرٍ ، المُعَيِّر عُمَرَ ، الخاذِلَ عُثمانَ !
قالَ : أ تَسُبُّهُ عَلَى المَنابِرِ ، وهُوَ بَناها بِسَيفِهِ !
قالَ : لا أدَعُ ذلِكَ حَتّى يَموتَ فيهِ الكَبيرُ ، ويَشِبّ عَلَيهِ الصَّغيرُ . (6)
.
ص: 871
المناقب لابن المغازلي عن أبي معاوية هشيم بن بشير الواسطي :أدَركتُ خُطباءَ أهلِ الشّامِ بِواسِطٍ (1) في زَمَنِ بَني اُمَيَّةَ ، كانَ إذا ماتَ لَهُم مَيِّتٌ قامَ خَطيبُهُم فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ فَسَبَّهُ . فَحَضَرتُهُم يَوما وقَد ماتَ لَهُم مَيِّتٌ ، فَقامَ خَطيبُهُم ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وذَكَرَ عَلِيّا عليه السلام فَسَبَّهُ ، فَجاءَ ثَورٌ فَوَضَع قَرنَيهِ في ثَديَيهِ وألزَقَهُ بِالحائِطِ ، فَعَصَرَهُ حَتّى قَتَلَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ يَشُقُّ النّاسَ يَمينا وشِمالاً لا يَهيجُ أحَدا ولايُؤذيهِ . (2)
د _ تَعذيبُ مُحِبّيهِ وتَشريدُهُم وقَتلُهُمشرح نهج البلاغة :رُوِيَ أنَّ أبا جَعفَرٍ مَحمَّدَ بنَ عَلِيٍّ الباقِرَ عليه السلام قالَ لِبَعضِ أصحابِهِ : يا فُلانُ ، ما لَقينا مِن ظُلمِ قُرَيشٍ إيّانا وتَظاهُرِهِم عَلَينا ، وما لَقِيَ شيعَتُنا ومُحِبّونا مِنَ النّاسِ ! إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قُبِضَ وَقد أخبَرَ أنّا أولَى النّاسِ بِالنّاسِ ، فَتَمالَأَت عَلَينا قُرَيشٌ حَتّى أخرَجَتِ الأَمرَ عَن مَعدِنِهِ ، واحتَجَّت عَلَى الأَنصارِ بِحَقِّنا وحُجَّتِنا ، ثُمَّ تَداوَلَتها قُرَيشٌ واحِدٍ بَعدَ واحِدٍ ، حَتّى رَجَعَت إلَينا ، فَنَكَثَت بَيعَتَنا ونَصَبَتِ الحَربَ لَنا ، ولَم يَزَل صاحِبُ الأَمرِ في صَعودٍ كَؤودٍ (3) حَتّى قُتِلَ . فبويِعَ الحَسَنُ ابنُهُ ، وعوهِدَ ، ثُمَّ غُدِرَ بِهِ ، واُسلِمَ ، ووَثَبَ عَلَيهِ أهلُ العِراقِ حَتّى طُعِنَ بِخَنجَرٍ في جَنبِهِ ، ونُهِبَت عَسكَرُهُ ، وعولِجَت (4) خَلاليلُ اُمَّهاتِ أولادِهِ ، فَوادَعَ
.
ص: 872
مُعاوِيَةَ ، وحَقَنَ دَمَهُ ودِماءَ أهلِ بَيتِهِ وهُم قَليلٌ حَقَّ قَليلٍ . ثُمَّ بايَعَ الحُسَينَ عليه السلام مِن أهلِ العِراقِ عِشرونَ ألفاً ، ثُمَّ غَدَروا بِهِ ، وخَرَجوا عَلَيهِ وبَيعَتُهُ في أعناقِهِم ، وقَتَلوهُ ، ثُمَّ لَم نَزَل _ أهلَ البَيتِ _ نُستَذَلُّ ونُستَضامُ ونُقصى ونُمتَهَنُ ونُحرَمُ ونُقتَلُ ونُخافُ ولا نَأمَنُ عَلى دِمائِنا ودِماءِ أولِيائِنا . ووَجَدَ الكاذِبونَ الجاحِدونَ ؛ _ لِكذِبِهِم وجُحودِهِم _ مَوضِعاً يَتَقَرَّبونَ بِهِ إلى أولِيائِهِم وقُضاةِ السَّوءِ وعُمّالِ السَّوءِ في كُلِّ بَلدَةٍ ، فَحَدَّثوهُمِ بِالأَحاديثِ المَوضوعَةِ المَكذوبَةِ ، ورَوَوا عَنّا ما لَم نَقُلهُ وما لَم نَفعَلهُ ؛ لِيُبَغِّضونا إلَى النّاسِ . وكانَ عِظَمُ ذلِكَ وكِبَرُهُ زَمَنَ مُعاوِيَةَ بَعدَ مَوتِ الحَسَنِ عليه السلام ؛ فَقُتِلَت شيعَتُنا بِكُلِّ بَلدَةٍ ، وقُطِعَتِ الأَيدي وَالأَرجُلِ عَلَى الظِّنَّةِ ، وكانَ مَن يُذكَرُ بِحُبِّنا وَالاِنقِطاعِ إلَينا سُجِنَ ، أو نُهِبَ مالُهُ ، أو هُدِمَت دارُهُ ، ثُمَّ لَم يَزَل البَلاءُ يَشتَدُّ ويَزدادُ إلى زَمانِ عُبَيدِ اللّهِ بن زِيادٍ قَاتِلِ الحُسَينِ عليه السلام . ثُمَّ جَاءَ الحَجّاجُ فَقَتَلَهُم كُلَّ قِتلَةٍ ، وأخَذَهُم بِكُلِّ ظِنّةٍ وتُهمَةٍ ، حَتّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُقالُ لَهُ : «زِنديقٌ» أو «كافِرٌ» أحَبُّ إلَيهِ مِن أن يُقالَ : «شيعَةُ عَلِيٍّ» ، وحَتّى صارَ الرَّجُلُ الَّذي يُذكَرُ بِالخَيرِ _ ولَعَلَّهُ يَكونُ وَرِعاً صَدوقاً _ يُحَدِّثُ بِأَحاديثَ عَظيمَةٍ عَجيبَةٍ مِن تَفضيلِ بَعضِ مَن قَد سَلَفَ مِنَ الوُلاةِ ولَم يَخلُقِ اللّهُ تَعالى شَيئا مِنها ، ولا كانَت ، ولا وقَعَت ، وهُوَ يَحسَبُ أنَّها حَقٌّ ؛ لِكَثرَةِ مَن قَد رَواها مِمَّن لَم يُعرَف بِكَذِبٍ ولا بِقِلَّةٍ وَرَعٍ . ورَوى أبُو الحَسَنٍ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي سَيفٍ المَدائِنِيُّ في كِتابِ الأَحداثِ قالَ : كَتَبَ مُعاوِيَةُ نُسخَةً واحِدَةً إلى عُمّالِهِ بَعدَ عامِ الجَماعَةِ : أن بَرِئَتِ الذِّمّةُ مِمَّن رَوى شَيئا مِن فَضلِ أبي تُرابٍ وأهلِ بَيتِهِ . فَقامَتِ الخُطَباءُ في كُلِّ كورَةٍ وعَلى كُلِّ مِنبَرٍ يَلعَنونَ عَلِيّا ، ويَبرَؤونَ مِنهُ ، ويَقَعونَ فيهِ وفي أهلِ بَيتِهِ . وكانَ أشَدَّ النّاسِ بَلاءً حينَئِذٍ أهلُ الكوفَةِ ؛ لِكَثرَةِ مِن بِها مِن شيعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام ، فَاستَعمَلَ عَلَيهِم زِيادَ بنَ سُمَيَّةَ ، وضَمَّ
.
ص: 873
إلَيهِ البَصرَةَ ، فَكانَ يَتَتَبَّعُ الشّيعَةَ _ وهُوَ بِهِم عارِفٌ ؛ لِأَ نَّهُ كانَ مِنهُم أيّامَ عَلِيٍّ عليه السلام _ فَقَتَلَهُم تَحتَ كُلِّ حَجَرٍ ومَدَرٍ ، وأخافَهُم ، وقَطَعَ الأَيدِيَ وَالأَرجُلَ ، وسَمَلَ (1) العُيونَ ، وصَلَبَهُم عَلى جذوع النّخلِ ، وطَرَدَهُم ، وَشَرَّدَهُم عَنِ العِراقِ ، فَلَم يِبَقَ بِها مَعروفٌ مِنهُم . وكَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عُمّالِهِ في جَميعِ الآفاقِ ألّا يُجيزوا لأَِحَدٍ مِن شيعَةِ عَلِيٍّ وأهلِ بَيتِهِ شَهادَةً ، وكتب إلَيهِم : أنِ انظُروا مَن قِبَلَكُم مِن شيعَةِ عُثمانَ ومُحِبّيهِ وأهلِ وَلايَتِهِ وَالَّذين يَروونَ فَضائِلَهُ ومَناقِبَهُ فَأَدنوا مَجالِسَهُم ، وقَرِّبوهُم ، وَأكرموهُم ، وَاكتُبوا لي بِكُلِّ ما يَروي كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم ، وَاسمَهُ ، وَاسمَ أبيهِ وعَشيرَتِهِ . فَفَعلوا ذلِكَ ، حَتّى أكثَروا في فَضائِلِ عُثمانَ ، ومَناقِبِهِ ؛ لِما كانَ يَبعَثُهُ إلَيهِم مُعاوِيَةُ مِنَ الصِّلاتِ وَالكِساءِ وَالحِباءِ وَالقَطائِعِ ، ويُفيضُهُ فِي العَرَبِ مِنهُم وَالمَوالي ، فَكَثُرَ ذلِكَ في كُلِّ مِصرٍ ، وتَنافَسوا فِي المَنازِلِ وَالدُّنيا ، فَلَيسَ يَجيءُ أحَدٌ مَردودٌ مِنَ النّاسِ عامِلاً مِن عُمّالِ مُعاوِيَةَ فَيَروي في عُثمانَ فَضيلَةً أو مَنقَبَةً إلّا كَتَبَ اسمَهُ ، وقَرَّبَهُ ، وشَفّعَهُ . فَلَبِثوا بِذلِكَ حيناً . ثُمَّ كَتَبَ إلى عُمّالِهِ : إنَّ الحَديثَ في عُثمانَ قَد كَثُرَ وفَشا في كُلِّ مِصرٍ ، وفي كُلِّ وَجهٍ وناحِيَةٍ ، فَإِذا جاءَكُم كِتابي هذَا فَادعُوا النّاسَ إلَى الرِّوايَةِ في فَضائِلِ الصَّحابَةِ وَالخُلَفاءِ الأَوَّلينَ ، ولا تَتُركوا خَبَراً يَرويهِ أحَدٌ مِنَ الُمسلِمين في أبي تُرابٍ إلّا وتَأتوني بِمُناقِضٍ لَهُ فِي الصَّحابَةِ ؛ فَإِنَّ هذَا أحَبُّ إلَيَّ ، وأقَرُّ لِعَيني ، وأدحَضُ لِحُجَّةِ أبي تُرابٍ وشيعَتِهِ ، وأشَدُّ عَلَيهِم مِن مَناقِبِ عُثمانَ وفَضلِهِ . فَقُرِئَت كُتُبُهُ عَلَى النّاسِ ، فَرُوِيَت أخبارٌ كَثيرَةٌ _ في مَناقِبِ الصَّحابَةِ _ مُفتَعَلَةٌ لا حَقيقَةَ لَها ، وجدّ النّاسُ في رِوايَةِ ما يَجري هذَا المَجرى ، حَتّى أشادوا بِذِكرِ ذلِكَ
.
ص: 874
عَلَى المَنابِرِ ، واُلقِي إلى مُعَلِّمي الكَتاتيبِ فَعَلَّموا صِبيانَهُم وغِلمانَهُم مِن ذلِكَ الكَثيرَ الواسِعَ ، حَتّى رَوَوهُ وتَعَلّموهُ كَما يَتَعَلَّمونَ القُرآنَ ، وحَتّى عَلَّموهُ بِناتِهِم ونِساءَهُم وخَدَمَهُم وحَشَمَهُم . فَلَبِثوا بِذلِكَ ما شاءَ اللّهُ . ثُمَّ كَتَبَ إلى عُمّالِهِ نُسخَةً واحِدَةً إلى جَميعِ البُلدانِ : اُنظرُوا مَن قامَت عَلَيهِ البَيِّنَةُ أنَّهُ يُحِبُّ عَلِيّا وأهلَ بَيتِهِ فَامحوهُ مِنَ الدّيوانِ ، وأسقِطوا عَطاءَهُ ورِزقَهُ . وشَفَعَ ذلِكَ بِنُسخَةٍ اُخرى : مَنِ اتّهَمتُموهُ بِمُوالاةِ هؤُلاءِ القَومِ فَنَكِّلوا به ، وَاهدِموا دارَهُ . فَلَم يَكُنِ البَلاءُ أشَدَّ ولا أكثَرَ مِنهُ بِالعِراقِ ، ولا سِيَّما بِالكوفَةِ ، حَتّى إنَّ الرَّجُلَ مِن شيعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام لَيَأتيهِ مَن يَثِقُ بِهِ فَيدخُلُ بَيتَهُ فَيُلقي إلَيهِ سِرَّهُ ، ويَخافُ مِن خادِمِهِ ومَملوكِهِ ، ولا يُحَدِّثُهُ حَتّى يأخُذَ عَلَيهِ الأَيمانَ الغَليظَةَ لَيكتُمَنَّ عَلَيهِ . فَظَهَرَ حَديثٌ كَثيرٌ مَوضوعٌ ، وبُهتانٌ مُنتَشِرٌ ، ومَضى عَلى ذلِكَ الفُقَهاءُ والقُضاةُ وَالوُلاةُ . وكانَ أعظَمَ النّاسِ في ذلِكَ بَلِيَّةً القُرّاءُ المُراؤونَ ، وَالمُستَضعَفونَ الَّذينَ يُظهِرونَ الخُشوعَ وَالنُّسُكَ ، فَيَفتَعِلونَ الأَحاديثَ ؛ لِيَحظَوا بِذلِكَ عِندَ وُلاتِهِم ، ويُقَرِّبوا مَجالِسَهُم ، ويُصيبوا بِهِ الأَموالَ وَالضِّياعَ وَالمَنازِلَ . حَتّى انتَقَلَت تِلكَ الأَخبارُ وَالأَحاديثُ إلى أيدِي الدَّيّانينَ الَّذين لا يَستَحِلّونَ الكَذِبَ والبُهتانَ ، فَقَبِلوها ، ورَوَوها وهُم يَظُنّونَ أنَّها حَقٌّ ، ولَو عَلِموا أنَّها باطِلَةٌ لَما رَوَوها ، ولا تَدَيَّنوا بِها . فَلَم يَزَلِ الأَمرُ كَذلِكَ حَتّى ماتَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ عليه السلام ، فَازدادَ البَلاءُ وَالفِتنَةُ ، فَلَم يَبقَ أحَدٌ مِن هذَا القَبيلِ إلّا وهُوَ خائِفٌ عَلى دَمِهِ ، أو طَريدٌ فِي الأَرضِ . ثُمَّ تَفاقَمَ الأمَرُ بَعدَ قَتلِ الحُسَينِ عليه السلام ، ووَلِيَ عَبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ فَاشتَدَّ عَلَى الشّيعَةِ ، ووَلّى عَلَيهِمُ الحَجّاجَ بنَ يوسُفَ ، فَتَقَرَّبَ إليَهِ أهلُ النُّسُكِ وَالصَّلاحِ وَالدّينِ بِبُغضِ عَليٍّ ومُوالاةِ أعدائِهِ ، ومُوالاةِ مَن يَدّعي مِنَ النّاسِ أنَّهُم أيضاً أعداؤُهُ ، فَأَكثَروا فِي الرِّوايَةِ في فَضلِهِم وسَوابِقِهِم ومَناقِبِهِم ، وأكثَروا مِنَ الغَضِّ (1) مِن عَلِيٍّ عليه السلام ،
.
ص: 875
وعَيبِهِ ، وَالطَّعنِ فيه ، وَالشَّنَآنِ لَهُ ، حَتّى إنَّ إنساناً وقَفَ لِلحَجّاجِ _ ويُقالُ : إنَّهُ جَدُّ الأَصمَعِيِّ عَبد المَلِكِ بنِ قَريبٍ _ فَصاحَ بِهِ : أيُّهَا الأَميرُ إنَّ أهلي عَقّوني فَسَمَّوني عَلِيّا ، وإنّي فَقيرٌ بائس ، وأنَا إلى صِلَةِ الأَميرِ مُحتاجٌ . فَتَضاحَكَ لَهُ الحَجّاجُ ، وقالَ : لِلُطفِ ما تَوَسَّلتَ بِهِ قَد وَلَّيتُكَ مَوضِعَ كَذا . وقَد رَوَى ابنُ عَرَفَةَ _ المَعروفُ بِنِفطَوَيهِ ، وهُوَ مِن أكابِرِ المُحَدِّثِينَ وأعلامِهِم _ في تاريخِهِ ما يُناسِبُ هذَا الخَبَرَ ، وقالَ : إنَّ أكثَرَ الأحاديثِ المَوضوعَةِ في فَضائِلِ الصَّحابَةِ افتُعِلَت في أيّامِ بَني اُمَيَّةَ ؛ تَقَرُّباً إلَيهِم بِما يَظُنّونَ أنَّهُم يُرغِمونَ بِهِ اُنوفَ بَني هاشِمٍ . (1)
ه _ الدّافِعُ السِّياسِيُّ في كَيدِ أعدائِهِالإمام زين العابدين عليه السلام :قالَ مَروانُ بنُ الحَكَمِ : ما كانَ فِي القَومِ أحَدٌ أدفَعَ عَن صاحِبِنا مِن صاحِبِكُم _ يَعني عَلِيّا عَن عُثمانَ _ قالَ : قُلتُ : فَما لَكُم تَسُبّونَهُ عَلَى المِنبَرِ ؟ ! قالَ : لا يَستَقيمُ الأمرُ إلّا بِذلِكَ . (2)
.
ص: 876
الفصل السادس : خيبة آمال أعدائهأ _ إنكارُ سَبِّهِالمستدرك على الصحيحين عن عبيد اللّه بن أبي مليكة :جاءَ رَجُلٌ مِن أهلِ الشّامِ فَسَبَّ عَلِيّا عِندَ ابنِ عبّاسٍ ، فَحَصَبَهُ ابنُ عَبّاسِ فَقالَ : يا عَدُوَّ اللّهِ ، آذَيتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا» (1) ! لَو كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله حَيّا لآَذَيتَهُ . (2)تاريخ الطبري عن عليّ بن محمّد :خَطَبَ بُسرٌ عَلى مِنبَرِ البَصرَةِ ، فَشَتَمَ عَلِيّا عليه السلام ، ثُمَّ قالَ : نَشَدتُ اللّهَ رَجُلاً عَلِمَ أنّي صادِقٌ إلّا صَدَّقَني ، أو كاذِبٌ إلّا كَذَّبَني ! قالَ : فَقالَ أبو بَكرَةَ : اللّهُمَّ إنّا لا نَعلَمُكَ إلّا كاذِبا . قالَ : فَأَمَرَ بِهِ فَخُنِقَ ، قالَ : فَقامَ أبو لُؤلُؤَةَ الضَّبِّيُّ فَرَمى بِنَفسِهِ عَلَيهِ ، فَمَنَعَهُ . (3)
المستدرك على الصحيحين عن أبي عبد اللّه الجدلي :دَخَلتُ عَلى اُمِّ سَلَمَةَ فَقالَت لي : أيُسَبُّ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فيكُم ؟ فَقُلتُ : مَعاذَ اللّهِ _ أو : سُبحانَ اللّهِ ! أو كَلِمَةً نَحوَها _ فَقالَت : سَمِعتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : مَن سَبَّ عَلِيّا فقد سَبَّني . (4)
.
ص: 877
صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه :أمَرَ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ سَعدا فَقالَ : ما مَنَعَكَ أن تَسُبَّ أبا التُّرابِ؟ فَقالَ : أما ما ذَكَرتُ ثَلاثا قالَهُنَّ لَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَلَن أسُبَّهُ ؛ لأََن تَكونَ لي واحِدَةٌ مِنهُنَّ أحَبُّ إلَيَّ مِن حُمرِ النَّعَمِ . سَمِعُتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ لَهُ ، خَلَّفَهُ في بَعضِ مَغازيهِ ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : يا رَسولُ اللّهِ ، خَلَّفتَني مَعَ النِّساءِ وَالصِّبيانِ ؟ فَقالَ لَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : «أما تَرضى أن تَكونَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى إلّا أنَّهُ لا نُبُوَّةَ بَعدي» . وسَمِعتُهُ يَقولُ يَومَ خَيبَرَ : «لاُعطِيَنَّ الرّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللّهَ ورَسولَهُ ، ويُحِبُّهُ اللّهُ ورَسولُهُ» . قالَ : فَتَطاوَلنا لَها ، فَقالَ : «اُدعوا لي عَليِّا» . فاُتِيَ بِه أرمَدَ ، فَبَصَقَ في عَينِهِ وَدَفَعَ الرّايَةَ إلَيهِ ، فَفَتَحَ اللّهُ عَلَيهِ . ولَمّا نَزَلَت هذِهِ الآيَةَ : «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ» (1) دَعا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيّا وفاطِمَةَ وحَسَنا وحُسَينا فَقالَ : «اللّهُمَّ هؤُلاءِ أهلي» . (2)
ب _ اِمتِناعُ النّاسِ مِن سَبِّهِتاريخ اليعقوبي_ في حَوادِثِ سَنَةِ (44 ه ) _: في هذِهِ السَّنَةِ عَمِلَ مُعاوِيَةُ المَقصورَةَ فِي المَسجِدِ ، وأخَرَجَ المَنابِرَ إلَى المُصَلّى فِي العيدَينِ ، وخَطَبَ الخُطبَةَ قَبلَ الصَّلاةِ ، وذلِكَ أنَّ النّاسَ إذا صَلَّوا انصَرَفوا لِئَلّا يَسمَعوا لَعنَ عَلِيٍّ ، فَقَدَّمَ مُعاوِيَةُ الخُطبَةَ قَبلَ الصَّلاةِ ، ووَهَبَ فَدَكا لِمَروانَ بنِ الحَكَمِ لِيُغيظَ بِذلِكَ آلَ رَسولِ اللّهِ . (3)الطبقات الكبرى عن سعد بن محمّد بن الحسن بن عطيّة :جاءَ سَعدُ بنُ جُنادَةَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ وهُوَ بِالكوفَةِ ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّهُ وُلِدَ لي غُلامٌ فَسَمِّهِ . قالَ : هذَا
.
ص: 878
عَطِيَّةُ اللّهِ . فَسُمِّيَ عَطِيَّةُ (1) . وكانَت اُمُّهُ اُمَّ وَلَدٍ رومِيَّةً . وخَرَجَ عَطِيَّةُ مَعَ ابنِ الأَشعَثِ عَلَى الحَجّاجِ ، فَلَمَّا انهَزَمَ جَيشُ ابنِ الأَشعَثِ هَرَبَ عَطِيَّةُ إلى فارِسَ ، فَكَتَبَ الحَجّاجُ إلى مُحَمَّدِ بنِ القاسِمِ الثَّقَفِيِّ : أنِ ادعُ عَطِيَّةَ ، فَإِن لَعَنَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ وإلّا فَاضرِبهُ أربَعَمِئَةِ سَوطٍ وَاحلِق رَأسَهُ ولِحيَتَهُ . فَدَعاهُ فَأَقرَأَهُ كِتابَ الحَجّاجِ ، فَأَبى عَطِيَّةُ أن يَفعَلَ ، فَضَرَبَهُ أربَعَمِئَةِ سَوطٍ وحَلَقَ رَأسَهُ ولِحيَتَهُ . (2)
ج _ مَدينَةٌ امتَنَعَت مِن سَبِّهِمعجم البلدان_ في وَصفِ مَدينَةِ سِجِستانَ _: قالَ الرَّهنِيُّ : وأجَلُّ مِن هذَا كُلِّهِ أنَّهُ لُعِنَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ رضى الله عنه عَلى مَنابِرِ الشَّرقِ وَالغَربِ ولَم يُلعَن عَلى مِنبَرِها إلّا مَرَّةً ، وَامتَنَعوا عَلى بَني اُمَيَّةَ حَتّى زادوا في عَهدِهِم ألاّ يُلعَنَ عَلى مِنبَرِهِم أحَدٌ ، ولا يَصطادوا في بَلَدِهِم قُنفُذا ولا سُلحَفاةً ، وأيُّ شَرَفٍ أعظَمُ مِنِ امِتناعِهِم مِن لَعنِ أخي رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلى مِنبَرِهِم وهُوَ يُلعَنُ عَلى مَنابِرِ الحَرَمَينِ مَكَّةَ وَالمَدينَةِ ! ! (3)د _ الِامتِناعُ مِنَ البَراءَةِتاريخ الطبري عن أبي مخنف_ في بَيانِ مَقتَلِ حُجرِ بنِ عَدِيٍّ وأصحابِهِ _: جاءَ رَسولُ مُعاوِيَةَ إلَيهِم بِتَخلِيَةِ سِتَّةٍ وبِقَتلِ ثَمانِيَةٍ ، فَقالَ لَهُم رَسولُ مُعاوِيَةَ : إنّا قَد اُمِرنا أن نَعرِضَ عَلَيكُمُ البَراءَةَ مِن عَلِيٍّ وَاللَّعَن لَهُ ، فَإِن فَعَلتُم تَرَكناكُم ، وإن أبَيتُم قَتَلناكُم ، وإنَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَزعُمُ أنَّ دِماءَكُم قَد حَلَّت لَهُ بِشَهادَةِ أهلِ مِصرِكُم عَلَيكُم ، غَيرَ أنَّهُ قَد
.
ص: 879
عفا عَن ذلِكَ ، فَابرَؤوا مِن هذَا الرَّجُلِ نُخَلِّ سَبيلَكُم . قالوا : اللّهُمَّ إنّا لَسنا فاعِلي ذلِكَ . فَأَمَرَ بِقُبورِهِم فَحُفِرَت ، واُدِنَيت أكفانُهُم ، وقامُوا اللَّيلَ كُلَّهُ يُصَلّونَ ، فَلَمّا أصبَحوا قالَ أصحابُ مُعاوِيَةَ : يا هؤُلاءِ ، لَقَد رَأَيناكُمُ البارِحَةَ قَد أطلَتُمُ الصَّلاةَ ، وأحسنتُمُ الدُّعاءَ ، فَأَخبِرونا ما قَولُكُم في عُثمانَ ؟ قالوا : هُوَ أوَّلُ مَن جارَ فِي الحُكمِ ، وعَمِلَ بِغَيرِ الحَقِّ . فَقالَ أصحابُ مُعاوِيَةَ : أميرُ المُؤمِنينَ كانَ أعلمُ بِكُم ، ثُمَّ قاموا إلَيهِم فَقالوا : تَبرَؤونَ مِن هذَا الرَّجُلِ ؟ قالوا : بَل نَتَوَلّاهُ وَنَتَبَرَّأُ مِمَّن تَبَرَّأَ مِنهُ . فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم رَجُلاً لِيَقتُلَهُ ، ووَقَعَ قَبيصَةُ بنُ ضُبَيعَةَ في يَدَي أبي شَريفٍ البَدّيِّ ، فَقالَ لَهُ قَبيصَةُ : إنَّ الشَّرَّ بَينَ قَومي وقَومِكَ آمِنٌ ، فَليَقتُلني سِواكَ ، فَقالَ لَهُ : بَرَّتكَ رَحِمٌ ! فَأَخَذَ الحَضرَمِيَّ فَقَتَلَهُ ، وقَتَلَ القُضاعِيُّ قَبيصَةَ بنَ ضُبَيعَةَ . قالَ : ثُمَّ إنَّ حُجرا قالَ لَهُم : دَعوني أتَوَضَّأُ ، قالوا لَهُ : تَوَضَّأ ، فَلَمّا أن تَوَضَّأَ قالَ لَهُم : دَعوني اُصَلّي رَكعَتَينِ ، فَاَيمُنُ اللّهِ ما تَوَضَّأتُ قَطُّ إلّا صَلَّيتُ رَكعَتَينِ . قالوا : لِتصُلَِّ . فَصَلّى ثُمَّ انصَرَفَ فَقالَ : وَاللّهِ ما صَلَّيتُ صَلاةً قَطُّ أقصَرَ مِنها ، ولَولا أن تَرَوا أنَّ ما بي جَزَعٌ مِنَ المَوتِ لَأَحبَبتُ أن أستَكثِرَ مِنها ، ثُمَّ قالَ : اللّهُمَّ إنّا نَستَعديكَ عَلى اُمَّتِنا ، فَإِنَّ أهلَ الكوفَةِ شَهِدوا عَلَينا ، وإنَّ أهَلَ الشّامِ يَقتُلونَنا ، أمَا وَاللّهِ لَئِن قَتَلتُموني بِها إنّي لَأَوَّلُ فارِسٍ مِنَ المُسلِمين هَلَكَ في واديها ، وأوَّلُ رَجُلٍ مِنَ المُسلِمينَ نَبَحَتهُ كِلابُها . فَمَشى إلَيهِ الأَعوَرُ هُدبَةُ بنُ فَيّاضٍ بِالسَّيفِ ، فَاُرعِدَت خَصائِلُهُ ، فَقالَ : كَلّا ، زَعَمتَ أنَّكَ لا تَجزَعُ مِنَ المَوتِ ، فَأنَا أدَعُكَ فَابرَأ مِن صاحِبِكَ . فَقالَ : ما لي لا أجزَعُ وأنا أرى قَبرا مَحفورا ، وكَفَنا مَنشورا ، وسَيفا مَشهورا ،
.
ص: 880
وإنّي وَاللّهِ إن جَزِعتُ مِنَ القَتلِ لا أقولُ ما يُسخِطُ الرَّبَّ . فَقَتَلَهُ ، وأقبَلوا يَقتُلونَهُم واحِدا واحِدا حَتّى قَتَلوا سِتَّةً . (1)
.
ص: 881
كلام في خيبة أعدائهرَوى ابنُ أبِي الحَديدِ عَن شَيخِهِ أبي جَعفَرٍ الإسكافِيِّ أنَّهُ قالَ : لَولا ما غَلَبَ عَلَى النّاسِ مِنَ الجَهلِ وحُبِّ التَّقليدِ ؛ لَم نَحتَج إلى نقَضِ مَا احتَجَّتِ بِهِ العُثمانِيَّةُ ، فَقَد عَلِمَ النّاسُ كافَّةً أنَّ الدَّولَةَ وَالسُّلطانَ لِأَربابِ مَقالَتِهِم ، وعَرَفَ كُلُّ أحدٍ عُلُوَّ أقدارِ شُيوخِهِم وعُلَمائِهِم واُمَرائِهِم ، وظُهورَ كَلِمَتِهِم ، وقَهرَ سُلطانِهِم ، وَارتِفاعَ التَّقِيَّةِ عَنهُم ، وَالكَرامَةَ وَالجائِزَةَ لِمَن رَوَى الأَخبارَ وَالأَحاديثَ في فَضلِ أبي بَكرٍ ، وما كانَ مِن تَأكيدِ بَني اُمَيَّةَ لِذلِكَ ، وما وَلَّدَهُ المُحَدِّثونَ مِنَ الأَحاديثِ طَلَبا لَما في أيديهِم ، فَكانوا لا يَألونَ جُهدا في طولِ ما مَلَكوا أن يُخمِلوا ذِكرَ عَلِيٍّ عليه السلام ووُلدِهِ ، ويُطفِئوا نورَهُم ، ويَكتُموا فَضائِلَهُم ومَناقِبَهُم وسَوابِقَهُم ، ويَحمِلوا عَلى شَتمِهِم وسَبِّهِم ولَعنِهِم عَلَى المَنابِرِ . فَلَم يَزَلِ السَّيفُ يَقطُرُ مِن دِمائِهِم ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِم وكَثرَةِ عَدُوِّهِم ؛ فَكانوا بَينَ قَتيلٍ وأسيرٍ ، وشَريدٍ وهارِبٍ ، ومُستَخفٍ ذَليلٍ ، وخائِفٍ مُتَرقِّبٍ ، حَتّى إنَّ الفَقيهَ وَالمُحَدِّثَ وَالقاضِيَ وَالمُتَكَلِّمَ ، لَيُتَقَدَّمُ إلَيهِ ويُتَوَعَّدُ بِغايَةِ الإيعادِ وأشَدِّ العُقوبَةِ ، أن يَذكُروا شَيئا مِن فَضائِلِهِم ، ولا يُرَخِّصوا لِأَحَدٍ أن يُطيفَ بِهِم . وحَتّى بَلَغَ مِن تَقِيَّةِ المُحَدِّثِ أنَّهُ إذا ذَكَرَ حَديثا عَن عَلِيٍّ عليه السلام كَنَى عَن ذِكرِهِ ، فَقالَ : قالَ رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ ؛ وفَعَلَ رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ ، ولا يَذكُرُ عَلِيّا عليه السلام ، ولا يَتَفَوَّهُ بِاسمِهِ .
.
ص: 882
ثُمَّ رَأَينا جَميعَ المُختَلِفينَ قَد حاوَلوا نَقضَ فَضائِلِهِ ، ووَجَّهُوا الحِيَلَ وَالتَّأويلاتِ نَحوَها ، مِن خارِجِيٍّ مارِقٍ ، وناصِبٍ حَنِقٍ ، وثابِتٍ مُستَبهِمٍ ، وناشِى ءٍ مُعانِدٍ ، ومُنافِقٍ مُكَذِّبٍ ، وعُثمانِيٍّ حَسودٍ ؛ يَعتَرِضُ فيها ويَطعَنُ ، ومُعتَزِلِيٍّ قَد نَقَضَ فِي الكَلامِ ، وأبصَرَ عِلمَ الاختِلافِ ، وعَرَفَ الشُّبَهَ ومَواضِعَ الطَّعنِ وضُروبَ التَّأويلِ ، قَدِ التَمَسَ الحِيَلَ في إبطالِ مَناقِبِهِ ، وتَأَوَّلَ مَشهورَ فَضائِلِهِ ، فَمَرَّةً يَتَأَوَّلُها بِما لا يَحتَمِلُ ، ومَرَّةً يَقصِدُ أن يَضَعَ مِن قَدرِها بِقياسٍ مُنتَقَضٍ ، ولا يَزدادُ مَعَ ذلِكَ إلّا قُوَّةً ورِفعَةً ، ووُضوحا وَاستِنارَةً . وقَد عَلِمتَ أنَّ مُعاوِيَةَ ويَزيدَ ومَن كانَ بَعدَهُما مِن بَني مَروانَ أيّامَ مُلكِهِم _ وذلِكَ نَحو ثَمانينَ سَنَةً _ لَم يَدَعوا جُهدا في حَملِ النّاسِ عَلى شَتمِهِ ولَعنِهِ ، وإخفاءِ فَضائِلِهِ ، وسَترِ مَناقِبِهِ وسَوابِقِهِ . رَوى خالِدُ بنُ عَبدِ اللّهِ الواسِطِيُّ عَن حُصَينِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ عَن هِلالِ بنِ يِسافٍ عَن عَبدِ اللّهِ بن ظالِمٍ قالَ : لَمّا بويِعَ لِمُعاوِيَةَ أقامَ المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ خُطَباءَ يَلعَنونَ عَلِيّاً عليه السلام ، فَقالَ سَعيدُ بنُ زَيدٍ بنِ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ : أ لا تَرَونَ إلى هذَا الرَّجُلِ الظّالِمِ يَأمُرُ بِلَعنِ رَجُلٍ مِن أهلِ الجَنَّةِ ؟ ! رَوى سُلَيمانُ بنُ داودَ عَن شُعبَةَ عَنِ الحُرِّ بنِ الصّباحِ قالَ : سَمِعتُ عَبدَ الرَّحمنِ بنِ الأَخنَسِ يَقولُ : شَهِدتُ المُغيرَةَ بنَ شُعبَةَ خَطَبَ ، فَذَكَرَ عَلِيّا عليه السلام ، فَنالَ مِنهُ . رَوى أبو كُرَيبٍ قالَ : حَدَّثَنا أبو اُسامَةَ قالَ : حَدَّثَنا صَدَقَةُ بنُ المُثَنَّى النَّخَعِيُّ عَن رِياحِ بنِ الحارِثِ ، قالَ : بَينَما المُغيرَةُ بنُ شُعبَةِ بِالمَسجِدِ الأَكبَرِ وعِندَهُ ناسٌ ، إذ جاءَهُ رَجُلٌ يُقالُ لَهُ : قَيسُ بنُ عَلقَمَةََ ، فَاستَقبَلَ المُغيرَةَ فَسَبَّ عَلِيّا عليه السلام . رَوى مُحَمَّدُ بنُ سَعيدٍ الإِصفَهانِيُّ عَن شريكٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ إسحاق عَن عَمرِو بنِ
.
ص: 883
عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ عَن أبيهِ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ عليه السلام ، قالَ : قالَ لي مَروانُ : ما كانَ فِي القَومِ أدفَعُ عَن صاحِبِنا مِن صاحِبِكُم ، قُلتُ : فَما بالُكُم تَسُبّونَهُ عَلَى المَنابِرِ ؟ قالَ : إنَّهُ لا يَستَقيمُ لَنَا الأَمرُ إلّا بِذلِكَ ! ! رَوى مالِكَ بنُ إسماعيلُ أبو غَسّانَ النَّهدِيُّ عَن ابنِ أبي سَيفٍ قالَ : خَطَبَ مَروانُ وَالحَسَنُ عليه السلام جالِسٌ ، فَنالَ مِن عَلِيِّ عليه السلام ، فَقالَ الحَسَنُ : وَيلَكَ يا مَروانُ ! أ هذَا الَّذي تَشتِمُ شَرُّ النّاسِ ! قالَ : لا ، ولكِنَّهُ خَيرُ النّاسِ . ورَوى أبو غَسّانَ أيضا قالَ : قالَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ : كانَ أبي يَخطُبُ ، فَلا يَزالُ مُستَمِرّا في خُطَبتِهِ ، حَتّى إذا صارَ إلى ذِكرِ عَلِيٍّ وسَبِّهِ تَقَطَّعَ لِسانُهُ ، وَاصفَرَّ وَجهُهُ ، وتَغَيَّرت حالُهُ ، فَقُلتُ لَهُ في ذلِكَ فَقالَ : أ وَقَد فَطِنتَ لِذلِكَ ؟إنّ هؤُلاءِ لَو يَعلَمونَ مِن عَلِيٍّ ما يَعلَمُهُ أبوكَ ما تَبِعَنا مِنهُم رَجُلٌ . ورَوى أبو عُثمانَ قالَ : حَدَّثَنا أبُو اليَقظانِ قالَ : قامَ رَجُلٌ مِن وُلدِ عُثمانَ إلى هِشامِ بنِ عَبدِ المَلِكِ يَومَ عَرَفَةَ فَقَالَ : إنَّ هذَا يَومٌ كانَتِ الخُلَفاءُ تَستَحِبُّ فيهِ لَعنَ أبي تُرابٍ ! ورَوى عَمرُو بنُ القَنّادِ عَن مُحَمَّدِ بنِ فُضَيلٍ عَن أشعَثِ بنِ سَوّارٍ قالَ : سَبَّ عَدِيُّ بنُ أوطاةَ عَلِيّا عليه السلام عَلَى المِنبَرِ ، فَبَكَى الحَسَنُ البَصرِيُّ وقالَ : لَقَد سُبَّ هذَا اليَومَ رَجُلٌ إنَّهُ لَأَخو رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . ورَوى عَدِيُّ بنُ ثابِتٍ عَن إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ قالَ : كُنتُ أنَا وإبراهيمُ بنُ يَزيدَ جالِسَينِ فِي الجُمُعَةِ مِمّا يَلي أبوابَ كِندَةَ ، فَخَرَج المُغيرَةُ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللّهَ ، ثُمَّ ذَكَرَ ما شاءَ أن يَذكُرَ ، ثُمَّ وَقَعَ في عَلِيٍّ عليه السلام فَضَرَبَ إبراهيمُ عَلى فَخِذي أو رُكبَتي ثُمَّ قالَ : أقبِل عَلَيَّ فَحَدِّثني ؛ فَإِنّا لَسنا في جُمُعَةٍ ؛ أ لا تَسمَعُ ما يَقولُ هذَا ؟ ورَوى عَبدُ اللّهِ بنُ عُثمانَ الثَّقَفِيُّ قالَ : حَدَّثَنَا ابنُ أبي سَيفٍ قالَ : قالَ ابنٌ لِعامرِ بنِ
.
ص: 884
عَبدِ اللّهِ بنِ الزُّبَيرِ لِوَلَدِهِ : لا تَذكُر يا بُنَيَّ عَلِيّا إلّا بِخَيرٍ ؛ فَإِنَّ بَني اُمَيَّةَ لَعَنوهُ عَلى مَنابِرِهِم ثَمانينَ سَنَةً ، فَلَم يَزِدهُ اللّهُ بِذلِكَ إلّا رِفعَةً . إنَّ الدُّنيا لَم تَبنِ شَيئا قَطُّ إلّا رَجَعَت عَلى ما بَنَت فَهَدَمَتهُ ، وإنَّ الدّينَ لَم يَبنِ شَيئاً قَطُّ وهَدَمَهُ . ورَوى عُثمانُ بنُ سَعيدٍ قالَ : حَدَّثَنا مُطَّلِبُ بنُ زِيادٍ عَن أبي بَكرِ بنِ عَبدِ اللّهِ الأَصبهانِيِّ قالَ : كانَ دَعِيٌّ لِبَني اُمَيَّةَ يُقالُ لَهُ خالِدُ بنُ عَبدِ اللّهِ لا يَزالُ يَشتِمُ عَلِيّا عليه السلام ، فَلَمّا كانَ يَومُ جُمُعَةٍ وهُوَ يَخطُبُ النّاسَ قالَ : وَاللّهِ إن كانَ رَسولُ اللّهِ لَيَستَعمِلُهُ وإنَّهُ لَيَعلَمُ ما هُوَ ، ولكِنَّهُ كانَ خَتَنَهُ (1) ، وقَد نَعَسَ سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ فَفَتَحَ عَينَيهِ ثُمَّ قالَ : وَيحَكُم ! ما قالَ هذَا الخَبيثُ ؟ رَأَيتُ القَبرَ انصَدَعَ ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : كَذَبتَ يا عَدُوَّ اللّهِ . ورَوَى القَنّادُ قالَ : حَدَّثَنا أسباطُ بنُ نَصرِ الهَمدانِيُّ عَن السَّدِّيِّ قالَ : بَينَما أنَا بِالمَدينَةِ عِندَ أحجارِ الزَّيتِ (2) ، إذ أقبَلَ راكِبٌ عَلى بَعيرٍ ، فَوَقَفَ فَسَبَّ عَلِيّا عليه السلام ، فَخَفَّ بِهِ النّاسُ يَنظُرونَ إلَيهِ ، فَبَينَما هُوَ كَذلِكَ ، إذ أقبَلَ سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ فَقالَ : اللّهُمَّ إن كانَ سَبَّ عَبدا لَكَ صالِحاً فَأَرِ المُسلِمينَ خِزيَهُ ، فَما لَبِثَ أن نَفَرَ بِهِ بَعيرُهُ ، فَسَقَطَ فَاندَقَّت عُنُقُهُ . ورَوى عُثمانُ بنُ أبي شَيبَةَ عَن عَبدِ اللّهِ بنِ موسى عَن فُطرِ بنِ خَليفَةَ عَن أبي عَبدِ اللّهِ الجَدلِيِّ قالَ : دَخَلتُ عَلى اُمِّ سَلَمَةَ رَحِمَهَا اللّهُ ، فَقالَت لي : أ يُسَبُّ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فيكُم وأنتُم أحياءٌ ؟ قُلتُ : وأنّى يَكونُ هذَا ؟ قالَت : أ لَيسَ يُسَبُّ عَلِيٌّ عليه السلام ومَن يُحِبُّهُ ؟ ورَوَى العَبّاسُ بنُ بَكّارٍ الضَّبِّيُّ قالَ : حَدَّثَني أبو بَكرٍ الهُذَلِيُّ عَنِ الزُّهرِيِّ قالَ : قالَ
.
ص: 885
ابنُ عَبّاسٍ لِمُعاوِيَةَ : أ لا تَكُفَّ عَن شَتمِ هذَا الرَّجُلِ ؟ قالَ : ما كُنتُ لِأَفعَلَ حَتّى يَربوَ عَلَيهِ الصَّغيرُ ويَهرَمَ فيهِ الكَبيرُ ، فَلَمّا وُلِّيَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ كَفَّ عَن شَتمِهِ ، فَقالَ النّاسُ : تَرَكَ السُّنَّةَ . قالَ : وقَد رُوِيَ عَنِ ابن مَسعودٍ _ إمّا مَوقوفاً عَلَيهِ أو مَرفوعا _ : كَيفَ أنتُم إذا شَمَلتَكُم فِتنَةٌ يَربو عَلَيهَا الصَّغيرُ ، ويَهرَمُ فيهَا الكَبيرُ ، يَجري عَلَيهَا النّاسُ فَيَتَّخِذونَها سُنَّةً ، فَإِذا غُيِّرَ مِنها شَيءٌ قيلَ : غُيِّرَتِ السُّنَّةُ ؟ قالَ أبو جَعفَرٍ : وقَد تَعلَمونَ أنَّ بَعضَ المُلوكِ رُبَّما أحدَثوا قَولاً أو ديناً لِهَوىً ، فَيَحمِلونَ النّاسَ عَلى ذلِكَ حَتّى لا يَعرِفوا غَيرَهُ ، كَنَحوِ ما أخَذَ النّاسَ الحَجّاجُ بنُ يوسُفَ بِقراءَةِ عُثمانَ ، وتَرَكَ قِراءَةَ ابنِ مَسعودٍ واُبَيِّ بنِ كَعبٍ ، وتَوَعَّدَ عَلى ذلِكَ بِدونِ ما صَنَعَ هُوَ وجَبابِرَةُ بَني اُمَيَّةً وطُغاةُ مَروانَ بِوُلدِ عَلِيٍّ عليه السلام وشيعَتِهِ ، وإنَّما كانَ سُلطانُهُ نَحوَ عِشرينَ سَنَةً ، فَما ماتَ الحَجّاجُ حَتَّى اجتَمَعَ أهلُ العِراقِ عَلى قِراءَةِ عُثمانَ ، ونَشَأَ أبناؤُهُم ولا يَعرِفون غَيرَها ؛ لإِمساكِ الآباءِ عَنها ، وكَفِّ المُعَلِّمينَ عَن تَعليمِها ، حَتّى لَو قُرِئَت عَلَيهِم قِراءَةُ عَبدِ اللّهِ واُبَيٍّ ما عَرَفوها ، ولَظَنّوا بِتَأليفِها الاِستِكراهَ وَالاِستِهجانَ ؛ لِاءِلفِ العادَةِ وطولِ الجَهالَةِ ؛ لِأَ نَّهُ إذَا استَولَت عَلَى الرَعِيَّةِ الغَلَبَةُ ، وطالَت عَلَيهِم أيّامُ التَّسَلُّطِ ، وشاعَت فيهِمُ المَخافَةُ ، وشَمِلَتُهُم التَّقِيَّةُ ، اتَّفَقوا عَلَى التَّخاذُلِ وَالتَّساكُتِ ، فَلا تَزالُ الأَيَّامُ تَأخُذُ مِن بَصائِرِهِم ، وتَنقُصُ مِن ضَمائِرِهِم ، وتَنقُضُ مِن مَرائِرِهِم (1) ، حَتّى تَصيرَ البِدعَةُ الَّتي أحدَثوها غامِرَةً لِلسُّنَّةِ الَّتي كانوا يَعرِفونَها . ولَقَد كانَ الحَجّاجُ ومَن وَلّاهُ كَعَبدِ المَلِكِ وَالوَليدِ ومَن كانَ قَبلَهُما وبَعدَهُما مِن فَراعِنَةِ بَني اُمَيَّةَ عَلى إخفاءِ مَحاسِنِ عَلِيٍّ عليه السلام وفَضائِلِهِ وفَضائِلِ وُلدِهِ وشيعَتِهِ
.
ص: 886
وإسقاطِ أقدارِهِم ؛ أحرَصَ مِنهُم عَلى إسقاطِ قِراءَةِ عَبدِ اللّهِ واُبَيٍّ ؛ لأَنَّ تِلكَ القِراءاتِ لا تَكونُ سَبَبا لِزَوال مُلكِهِم وفَسادِ أمرِهِم وَانكِشافِ حالِهِم ، وفِي اشتِهارِ فَضلِ عَلِيّ عليه السلام ووُلدِهِ وإظهارِ مَحاسِنِهم بَوارُهُم ، وتَسليطُ حُكمِ الكِتابِ المَنبوذِ عَلَيهِم ، فَحَرَصوا وَاجتَهَدوا في إخفاءِ فَضائِلِهِ ، وحَمَلُوا النّاسَ عَلى كِتمانِها وسَترِها ، وأبَى اللّهُ أن يَزيدَ أمرَهُ وأمرَ وُلدِهِ إلَا استِنارَةً وإشراقا ، وحُبَّهُم إلّا شَغَفاً وشِدَّةً ، وذِكرَهُم إلَا انتِشاراً وكَثرَةً ، وحُجَّتَهُم إلّا وُضوحاً وقُوَّةً ، وفَضلَهُم إلّا ظُهوراً ، وشَأنَهُم إلّا عُلُوّاً ، وأقدارَهُم إلّا إعظاماً ، حَتّى أصبَحوا بِإِهانَتِهِم إيّاهُم أعِزّاءَ ، وبِإِماتَتِهِم ذِكرَهُم أحياءً ، وما أرادوا بِهِ وبِهِم مِنَ الشَّرِّ تَحَوَّلَ خَيراً . فَانتَهى إلَينا مِن ذِكرِ فَضائِلِهِ وخَصائِصِهِ ومَزاياهُ وسَوابِقِهِ ، ما لَم يَتَقَدَّمهُ السّابِقونَ ، ولا ساواهُ فيهِ القاصِدونَ ، ولا يَلحَقُهُ الطّالِبونَ ، ولَولا أنَّها كانَت كَالقِبلَةِ المَنصوبَةٍ في الشُّهرَةِ ، وكَالسُّنَنِ المَحفوظَةِ فِي الكَثرَةِ ؛ لَم يَصِل إلَينا مِنها في دَهرِنا حَرفٌ واحِدٌ إذا كانَ الأَمرُ كَما وَصَفناهُ . (1)
.
ص: 887
ه _ رَفعُ السُّبِّ عَنهُالكامل في التاريخ :كانَ بَنو اُمَيَّةَ يَسُبّونَ أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام ، إلى أن وَلِيَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ الخِلافَةَ ، فَتَرَكَ ذلِكَ وكَتَبَ إلَى العُمّالِ فِي الآفاقِ بِتَركِهِ . وكانَ سَبَبُ مَحَبَّتِهِ عَلِيّا أنَّهُ قالَ : كُنتُ بِالمَدينَةِ أ تَعَلَّمُ العِلمَ ، وكُنتُ ألزَمُ عُبَيدَ اللّهِ بنَ عَبدِ اللّهِ بنِ عُتبَةَ بنِ مَسعودٍ ، فَبَلَغَهُ عَنّي شَيءٌ مِن ذلِكَ ، فَأَتَيتُهُ يَوما وهُوَ يُصَلّي ، فَأَطالَ الصَّلاةَ ، فَقَعَدتُ أنتَظِرُ فَراغَهُ ، فَلَمّا فَرَغَ مِن صَلاتِهِ التَفَتَ إلَيَّ فَقالَ لي : مَتى عَلِمتَ أنَّ اللّهَ غَضِبَ عَلى أهلِ بَدرٍ وبَيعَةِ الرِّضوانِ بَعدَ أن رَضِيَ عَنهُم ؟ قُلتُ : لَم أسمَع ذلِكَ . قالَ : فَمَا الَّذي بَلَغَني عَنكَ في عَلِيٍّ ؟ فَقُلتُ : مَعذِرَةً إلَى اللّهِ وإلَيكَ ! وتَرَكتُ ما كُنتُ عَلَيهِ . وكانَ أبي إذا خَطَبَ فَنالَ مِن عَلِيٍّ رضى الله عنه تَلَجلَجَ (1) ، فَقُلتُ : يا أبَه ، إنَّكَ تَمضي في خُطبَتِكَ ، فَإِذا أتَيتَ عَلى ذِكرِ عَلِيّ عَرَفتُ مِنكَ تَقصيرا ! قالَ : أ وَفطِنَت لِذلِكَ ؟ قُلتُ : نَعَم . فَقالَ : يا بُنَيَّ ، إنَّ الَّذينَ حَولَنا لَو يَعلَمونَ مِن عَلِيٍّ ما نَعلَمُ تَفَرَّقوا عَنّا إلى أولادِهِ . فَلَمّا وَلِيَ الخِلافَةَ لَم يَكُن عِندَهُ مِنَ الرَّغبَةِ فِي الدُّنيا ما يَرتَكِبُ هذَا الأَمرَ العَظيمَ لاِجلِها ، فَتَرَكَ ذلِكَ وكَتَبَ بِتَركِهِ ، وقَرَأَ عِوَضَهُ : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْاءِحْسَ_نِ وَ إِيتَآىءِ ذِى الْقُرْبى» الآيةَ (2) ، فَحَلَّ هذَا الفِعلَ عِندَ النّاسِ مَحَلّاً حَسَنا ، وأكثَروا مَدحَهُ بِسَبَبِهِ . (3)
.
ص: 888
. .
ص: 889
القسم السادس عشر : أصحابُ الإمام عليّ عليه السلام وعُمّالُهُتحليل في طبقات عمّالهعدّة من أصحاب الإمام عليّ عليه السلام وعمالهعدّة من أصحاب الإمام عليّ عليه السلام وعمالهأبو أيّوب الأنصاريّأبو ذرٍّ الغفاريّأبو رافع مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آلهأبو موسى الأشعريّأبو الهيثمالأشعث بن قيسأصبغ بن نباتةاويس القرنيّجابر بن عبد اللّه الأنصاريّحجر بن عديٍّحذيفة بن اليمانخزيمة بن ثابت ذو الشّهادتينرشيد الهجريّزياد بن أبيهسلمان الفارسيّسليم بن قيس الهلاليّصعصعة بن صوحانعبد اللّه بن عبّاسكلام فيما نسب إلى ابن عبّاس من الخيانةعبيد اللّه بن أبي رافععثمان بن حنيفعديّ بن حاتمعليّ بن أبي رافععمّار بن ياسركميل بن زيادمالك الأشترمحمّد بن أبي بكرالمقداد بن عمروميثم التّمّار
.
ص: 890
. .
ص: 891
تحليلٌ في طبقات عمّالهحكومة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام الَّتي دامت قرابة خمس سنين جديرة بالبحث والدراسة من جهات متنوّعة . والتأمّل في سيرته المباركة عليه السلام من جوانب شتّى ذو بُعدٍ تذكيري وتربوي . وعمّاله وولاته يترجمون مفردة مهمّة من مفردات سياسته عليه السلام ، من حيث اختيارهم ، ومراقبة الإمام لهم بعد الاختيار ، وغير ذلك . تحدّثنا عن هذه الاُمور في فصول هذا الكتاب ، والَّذي نريد ذكره هنا هو أنّنا يمكن أن نقسّم ولاته عليه السلام إلى الأقسام الآتية : 1 . الولاة الثقات المتديّنون المعروفون بكفاءتهم الإداريّة وحَنَكتهم وشخصيّتهم الاجتماعيّة الخاصّة . ولنا أن نسمّي هؤلاء طلائع أصحابه والوجوه البارزة فيهم . وكان هؤلاء أعضاد الإمام عليه السلام ومشاوريه الصالحين المخلصين . منهم : مالك الأشتر الَّذي ولّاه الإمام في البداية على الجزيرة (منطقة بين دجلة والفرات ، كانت تتمتّع بأهمّية خاصّة لقربها من الشام) . ثمّ استعمله على مصر . ومنهم : عبد اللّه بن عبّاس الَّذي كان واليا على البصرة . ومنهم : قيس بن سعد بن عُبادة الَّذي وجّهه إلى مصر ، ثمّ جعله على آذربايجان .
.
ص: 892
وكان هؤلاء إذا نشبت الحرب لازموا الإمام عليه السلام ، ولم يقيموا في العاصمة ، ذلك لأنّ اُولي الكفاءة القياديّة وأصحاب الرأي عند المشاورة كانوا قليلين . إذا ألقينا نظرة تاريخيّة على هؤلاء ، نجد أنّ مالك الأشتر هو الوجه المتألّق الَّذي لم تَشُبه شائبة قطّ . أمّا ابن عبّاس فإنّ ما اُشيع عليه من أخذ أموال البصرة حقيق بالتأمّل . وأمّا قيس بن سعد فإنّ عزله عن حكومة مصر _ مع عظمته _ لافت للنظر . 2 . الولاة المتديّنون الملتزمون المعتمدون الذين تنقصهم الكفاءة الإداريّة بشكلٍ من الأشكال . فهؤلاء لم يكن لهم باع يُذكر في تدبير الاُمور . ولقد كانوا من الوجهاء ، بَيْدَ أنّهم لم يتّخذوا القرار الحاسم في الظروف الحرجة ، ولم يتخلّصوا من الأزمات كما ينبغي . فمحمّد بن أبي بكر ، مع سموّ قدره ، عجز عن تهدئة الوضع في مصر ، وفقد قدرة الدفاع حين اضطربت اُمورها . وأبو أيّوب الأنصاري ، مع جلالته وعظمته ، لم يستطع مواجهة بُسر ولاذ بالفرار . وسهل بن حُنيف لم يسيطر على الأوضاع في تمرّد أهالي فارس وامتناعهم عن دفع الخراج ، فعُزل عن منصبه . وعبيد اللّه بن عبّاس ولّى مدبرا أمام بُسر . وعثمان بن حُنيف فَقدَ حزمه في مواجهة مكيدة النّاكثين ، وأخفق ، فأُلقيَ عليه القبض . وكميل بن زياد لم يُطِق غارات معاوية ، فهمّ بالمقابلة بالمثل وتوجّه لشنّ الغارة على مناطق الشام ، فلامه الإمام عليه السلام . 3 . الولاة الذين ليس لهم عقيدة راسخة ، ولم يتمتّعوا بإيمانٍ عميق وإن كانوا ساسة مدبّرين وذوي حسّ إداري فعّال . فهؤلاء لم يتورّعوا عن القبض على بيت المال والتلاعب به إسرافا وتبذيرا . وقد اشتكى منهم الإمام عليه السلام في الأيّام الأخيرة من حياته ، وقال : « لَوِ ائتَمَنتُ أحَدَكُم عَلى قَدَحٍ لَأَخَذَ عِلاقَتَهُ » . (1) ومن هؤلاء : زياد بن أبيه ؛ فقد تصرّف في بيت المال بنحوٍ غير مشروع ،
.
ص: 893
فاعترض عليه الإمام عليه السلام . ثمّ التحق بمعاوية بعد استشهاد الإمام عليه السلام ، ولم يَرعَوِ عن ارتكاب الجرائم . ومنهم : المنذر بن الجارود . عنّفه الإمام عليه السلام لأ نّه أباح لنفسه التلاعب في بيت المال أيضا . ومنهم : النّعمان بن عجلان ، لامه الإمام عليه السلام أيضا بسبب بذله الأموال على قبيلته وتصرّفه غير المشروع فيها لمصلحته ، ثمّ فرّ والتحق بمعاوية . ومنهم : يزيد بن حجية ، ومصقلة بن هُبَيرة ، والقَعْقاع بن شور ، فقد فعلوا فعل أصحابهم المذكورين . إنّ التأمّل في حياة عمّال الإمام عليه السلام ، وتحليل مواقفهم ، والنّظر في مآل حياتهم السياسيّة ، كلّ ذلك ذو بُعدٍ تربوي توجيهي للمرء . ومن الضروري أن نستعرض في هذا المجال ملاحظات ترتبط بهذا الموضوع : 1 . الشخصيّات الفعّالة الموثوق بها كانت قليلة مع الإمام عليه السلام . وهؤلاء هم الذين كانوا يُنتَدَبون للأعمال في مواطن متنوّعة . وظلّ الإمام عليه السلام في الحقيقة وحيدا بعد استشهاد عدد من عِلية أصحابه في صفّين ، وخلا الجوّ من هؤلاء الأعاظم . وعزم الإمام عليه السلام على تسريح هاشم بن عتبة إلى مصر بعد عزل قيس بن سعد ، بَيْدَ أنّه كان بحاجة إلى شخصيّته القِتاليّة في صفّين ؛ لذا أشخص محمّد بن أبي بكر إليها . وعندما استُشهد هاشم في صفّين ، لم يجد بُدّا إلّا إرسال مالك الأشتر إليها مع حاجته الشديدة إلى وجوده معه في مركز الخلافة الإسلاميّة . 2 . كان بين أصحاب الإمام عليه السلام رجال اُمناء صالحون ووجهاء اُولو سابقة مشرقة نقيّة من كلّ شائبة . وهؤلاء كانوا دعائم الحكومة وأعضاد النّظام العلَوي . ولا مناص من بقائهم إلى جانب الإمام عليه السلام ، إذ كان يشاورهم في شؤون الحكومة .
.
ص: 894
ومن هؤلاء : الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ، النّصير الوفيّ المخلص للإمام عليه السلام . وكان وجوده مع الإمام ودفاعه السخيّ عنه يقضي على التردّد ، ويُثبّت كثيرا من الذين كانت تضعضعهم الدعايات المسمومة الَّتي تبثّها أجهزة الإعلام الاُموي في الشام ضدّ الإمام عليه السلام . من جانب آخر ، كانت هناك قبائل ما زالت العصبيّات القبليّة متأصّلة في نفوسها ، فلم تسمع إلّا كلام رُؤسائها . من هنا ، ظلّ رجال مثل عديّ بن حاتم إلى جانب الإمام عليه السلام لتبقى قبائلهم معه أيضا . 3 . إنّ وجود أشخاصٍ مثل زياد بن أبيه بين عمّال الإمام عليه السلام مثير للسؤال . فقد أنفذ الإمامُ الشخصَ المذكور _ باقتراح عبد اللّه بن عبّاس وتأييد جارية بن قُدامة _ على رأس قوّة عسكريّة كبيرة لإخماد تمرّد أهل فارس الذين امتنعوا عن دفع الضرائب ، فاستطاع زياد بتدبيره وحنكته السياسيّة الخاصّة أن يسيطر على الوضع . كان زياد مطعونا في نسبه ، وكان يتّصف بدهاء عجيب . ويمكن أن نعدّه نموذجا للإنسان المتخصّص غير الملتزم الَّذي جمع بين خبث السريرة وظلمة الروح وبين التدبير والدهاء . وإنّ ملازمته لمعاوية مع تحذيرات الإمام المتكرّرة له ، وعمله في «العراقَين» مَعْلَمان على خبث طينته ودَنَسه الَّذي لم يظهره في عصر الإمام عليه السلام . وينبغي الالتفات إلى أنّ الإمام عليه السلام كان يواجه حقائق لا تُنكَر كغيره من الحكّام . وبالنظر إلى ضرورة إدارة المجتمع واستثمار مختلف الطاقات ، وبالنظر أيضا إلى معاناة الإمام عليه السلام من قلّة الأنصار المخلصين فلابدّ له من تولية زياد وأضرابه ، بَيْدَ أنّه عليه السلام كان يقرِن ذلك بالإشراف والتحذير ، ويراقب الأوضاع بدقّة . 4 . كان بعض الأشخاص يعملون مع الإمام عليه السلام ، لكنّهم كانوا لا يوافقونه في بعض مواقفه ! ! فزياد لم يشترك في حروبه جميعها . وأبو مسعود الأنصاري لم يرغب في
.
ص: 895
الاشتراك في الحروب ، وحين نشبت حرب صفّين ، وَليَ الكوفة وظلّ فيها . ويزيد بن قيس الَّذي عُيّن واليا على إصفهان كان يميل إلى الخوارج ، ففرّق الإمام عليه السلام بينه وبينهم بتعيينه . هذا كلّه آية على سماحة الإمام عليه السلام من جهة ، ومن جهة اُخرى مَعْلَم على ما ذكرناه آنفا من أنّه كان يواجه حقائق في المجتمع لا محيص له منها .
.
ص: 896
عدّة من أصحاب الإمام عليّ عليه السلام وعماله1أبو أيُّوبَ الأَنصارِيُّهو خالد بن زيد بن كُلَيب ، أبو أيّوب الأنصاري الخزرجي ، وهو مشهور بكنيته . من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله . نزل النّبيّ صلى الله عليه و آله في داره عند هجرته إلى المدينة (1) . شهد أبو أيّوب حروب النّبيّ جميعها (2) . وكان بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله من السابقين إلى الولاية ، والثابتين في حماية حقّ الخلافة (3) ولم يتراجع عن موقفه هذا قطّ (4) . وعُدَّ من الاثني عشر الذين قاموا في المسجد النّبوي بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله ودافعوا عن حقّ عليّ عليه السلام بصراحة . (5) لم يَدَع أبو أيّوب ملازمة الإمام عليه السلام وصحبته. واشترك معه في كافّة حروبه الَّتي
.
ص: 897
خاضها ضدّ مثيري الفتنة (1) . وكان على خيّالته في النّهروان (2) ، وبيده لواء الأمان . ولّاه الإمام على المدينة (3) ، لكنّه فرّ منها حين غارة بُسر بن أرطاة عليها . (4) عَقَد له الإمام عليه السلام في الأيّام الأخيرة من حياته الشريفة لواءً على عشرة آلاف ليتوجّه إلى الشام مع لواء الإمام الحسين عليه السلام ، ولواء قيس بن سعد لحرب معاوية ، ولكنّ استشهاد الإمام عليه السلام حال دون تنفيذ هذه المهمّة ، فتفرّق الجيش ، ولم يتحقّق ما أراده الإمام عليه السلام . (5) وكان أبو أيّوب من الصحابة المكثرين في نقل الحديث . وروى في فضائل الإمام عليه السلام أحاديث جمّة . وهو أحد رواة حديث الغدير (6) ، وحديث الثقلين (7) ، وكلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإمام عليه السلام حين أمره بقتال النّاكثين ، والقاسطين ، والمارقين (8) ، ودعوتهِ صلى الله عليه و آله أبا أيّوب أن يكون مع الإمام عليه السلام . (9) توفّي أبو أيّوب بالقسطنطينيّة سنة 52 ه ، عندما خرج لحرب الروم ، ودُفن هناك . 10
.
ص: 898
2أبو ذَرٍّ الغِفارِيُّ (1)جُنْدَب بن جُنادة ، وهو مشهور بكنيته . صوت الحقّ المدوّي ، وصيحة الفضيلة والعدالة المتعالية ، أحد أجلّاء الصحابة ، والسابقين إلى الإيمان ، والثابتين على الصراط المستقيم (2) . كان موحِّداً قبل الإسلام ، وترفّع عن عبادة الأصنام (3) . جاء إلى مكّة قادماً من البادية ، واعتنق دين الحقّ بكلّ وجوده ، وسمع القرآن . عُدَّ رابعَ (4) من أسلم أو خامسهم (5) . واشتهر بإعلانه إسلامَه ، واعتقاده بالدين الجديد ، وتقصّيه الحقّ منذ يومه الأوّل . (6) وكان فريداً فذّاً في صدقه وصراحة لهجته ، حتى قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله كلمته الخالدة فيه تكريماً لهذه الصفة المحمودة العالية : «ما أظَلَّتِ الخَضراءُ ، وما أقَلَّتِ الغَبراءُ (7) أصدَقَ لَهجَةً مِن أبي ذَرٍّ » . (8) وكان من الثلّة المعدودة الَّتي رعت حرمة الحقّ في خضمّ التغيّرات الَّتي طرأت بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله (9) . وتفانى في الدفاع عن موقع الولاية العلويّة الرفيعة ، وجعل نفسه مِجَنّاً للذبّ عنه ، وكان أحد الثلاثة الذين لم يفارقوا عليّاً عليه السلام قطّ . (10)
.
ص: 899
ولنا أن نعدّ من فضائله ومناقبه صلاته على الجثمان الطاهر لسيّدة نساء العالمين فاطمة عليهاالسلام ، فقد كان في عداد من صلّى عليها في تلك الليلة المشوبة بالألم والغمّ والمحنة . (1) وصرخاته بوجه الظلم ملأت الآفاق ، واشتهرت في التاريخ ؛ فهو لم يصبر على إسراف الخليفة الثالث وتبذيره وعطاياه الشاذّة ، وانتفض ثائراً صارخاً ضدّها، ولم يتحمّل التحريف الَّذيافتعلوه لدعم تلك المكرمات المصطنعة، وقدح في الخليفة وتوجيه كعب الأحبار لأعماله وممارساته . فقام الخليفة بنفي صوت العدالة هذا إلى الشام الَّتي كانت حديثة عهدٍ بالإسلام ، غيرَ مُلمّةٍ بثقافته . (2) ولم يُطِقه معاوية أيضاً ؛ إذ كان يعيش في الشام كالملوك ، ويفعل ما يفعله القياصرة ، ضارباً بأحكام الإسلام عرض الجدار ، فأقضّت صيحات أبي ذرّ مضجعه (3) . فكتب إلى عثمان يخبره باضطراب الشام عليه إذا بقي فيها أبو ذرّ ، فأمر بردّه إلى المدينة (4) ، وأرجعوه إليها على أسوأ حال . وقدم أبو ذرّ المدينة ، لكن لا سياسة عثمان تغيّرت ، ولا موقف أبي ذرّ منه ، فالاحتجاج كان قائماً ، والصيحات مستمرّة ، وقول الحقّ متواصلاً ، وكشف المساوئ لم يتوقّف . ولمّا لم يُجْدِ الترغيب والترهيب معه ، غيّرت الحكومة اُسلوبها منه ، وما هو إلّا الإبعاد ، لكنّه هذه المرّة إلى الرَّبَذة (5) ، وهي صحراء قاحلة حارقة ، وأصدر عثمان تعاليمه بمنع مشايعته (6) . ولم يتحمّل أمير المؤمنين عليه السلام هذه التعاليم
.
ص: 900
الجائرة ، فخرج مع أبنائه وعدد من الصحابة لتوديعه . (1) وله كلام عظيم خاطبه به وبيّن فيه ظُلامته (2) . وتكلّم من كان معه أيضاً ليعلم النّاس أنّ الَّذي أبعد هذا الصحابي الجليل إلى الربذة هو قول الحقّ ومقارعة الظلم لا غيرها . (3) وكان إبعاد أبي ذرّ أحد ممهّدات الثورة على عثمان . وذهب هذا الرجل العظيم إلى الربذة رضيّ الضمير ؛ لأنّه لم يتنصّل عن مسؤوليّته في قول الحقّ ، لكنّ قلبه كان مليئاً بالألم ؛ إذ تُرك وحده ، وفُصل عن مرقد حبيبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله . يقول عبد اللّه بن حواش الكعبي : رأيتُ أبا ذرّ في الربذة وهو جالس وحده في ظلّ سقيفةٍ ، فقلت : يا أبا ذرّ !وحدك ! فقال : كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر شعاري ، وقول الحقّ سيرتي ، وهذا ما ترك لي رفيقاً . توفّي أبو ذرّ سنة 32 ه (4) . وتحقّق ما كان يراه النّبيّ صلى الله عليه و آله في مرآة الزمان ، وما كان يقوله فيه ، وكان قد قال صلى الله عليه و آله : «يَرحَمُ اللّهُ أبا ذَرٍّ ، يَعيشُ وَحدَهُ ، ويَموتُ وَحدَهُ ، ويُحشَرُ وَحدَهُ» . (5) ووصل جماعة من المؤمنين فيهم مالك الأشتر بعد وفاة ذلك الصحابيّ الكبير القائل الحقّ في زمانه ، ووسّدوا جسده النّحيف الثرى باحترام وتبجيل 6 . 7
.
ص: 901
3أبو رافِعٍ مَولى رَسولِ اللّهِ صلّي الله عليه و آلهغَلَبتْ عليه كنيتُه ، واختُلف في اسمه ، فقيل : أسلمُ ؛ وهو أشهر ما قيل فيه ، وقيل : إبراهيم (1) ، وقيل غير ذلك . أحد الوجوه البارزة في التشيّع ، ومن السابقين إلى التأليف والتدوين والعلم ، وأحد صحابة الإمام الأبرار . كان غلاماً للعبّاس عمّ النّبيّ صلى الله عليه و آله (2) ، ثمّ وهبه العبّاس للنبيّ صلى الله عليه و آله (3) . ولمّا أسلم العبّاس وبلّغ أبو رافع رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله بإسلامه أعتقه . (4) شهد أبو رافع حروب النّبيّ صلى الله عليه و آله كلّها إلّا بدراً (5) . ووقف بعده إلى جانب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ثابت العقيدة ولم يفارقه (6) . وهو أحد رواة حديث الغدير 7 . وعُدّ من أبرار الشيعة وصالحيهم 8 . وكان مع الإمام عليه السلام أيضاً في جميع معاركه . 9
.
ص: 902
وكان مسؤولاً عن بيت ماله عليه السلام بالكوفة (1) . وولداه عبيد اللّه (2) وعليّ (3) من كُتّابه عليه السلام . ولأبي رافع كتاب كبير عنوانه «السُّنن والقضايا والأحكام» (4) ، يشتمل على الفقه في أبوابه المختلفة ، رواه جمع من المحدّثين الكبار وفيهم ولده . وله كتب اُخرى منها كتاب «أقضية أمير المؤمنين» ، و «كتاب الديات» وغيرهما ، ويعتقد بعض العلماء أنّها قاطبةً أبواب ذلك الكتاب الكبير وفصوله (5) . وذهب أبو رافع مع الإمام الحسن عليه السلام إلى المدينة بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (6) . ووضع الإمام الحسن المجتبى عليه السلام نصف بيت أبيه تحت تصرّفه . وروى أبو رافع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله (7) . وذكر البعض أنّه توفّي سنة 40 ه . (8)
4أبو موسَى الأَشعَرِيُّهو عبد اللّه بن قيس بن سليم ، المشهور بأبي موسى الأشعري . من أهل اليمن (9) ، وأحد صحابة النّبيّ صلى الله عليه و آله (10) . أسلم في مكّة (11) . وكان حَسَنَ الصوت ، واشتهر لقراءة . . 12
.
ص: 903
ولّاه النّبيّ صلى الله عليه و آله على مناطق من اليمن (1) . وليالبصرة (2) في عهد عمر بعد عزل المغيرة (3) . عندما كان واليا على البصرة ، فتح كثيرا من مناطق إيران ، منها الأهواز (4) ، وتُستَر (5) ، وقمّ (6) ، وأصفهان (7) ، وجُنديسابور (8) . وظلّ واليا على البصرة في أوّل خلافة عثمان (9) ، ثمّ عزله عثمان ونصب مكانه عبد اللّه بن عامر بن كريز (10) الَّذي كان ابن خمس وعشرين سنة . (11) ولمّا ثار أهل الكوفة على عثمان وواليه سعيد بن العاص وطلبوا أبا موسى ، وافق عثمان على ذلك ، وولي أبو موسى الكوفة . (12) وعندما تسلّم أمير المؤمنين عليه السلام مقاليد الخلافة أبقاه في منصبه باقتراح مالك الأشتر (13) . وهو الوالي الوحيد الَّذي ظلّ في منصبه من ولاة عثمان . (14) وكان أبو موسى يثبّط النّاس عن نصرة الإمام عليه السلام في فتنة أصحاب الجمل ، فعزله
.
ص: 904
الإمام (1) ، وأخرجه مالك الأشتر من الكوفة . (2) اعتزل أبو موسى القتال في صفّين (3) وانضمّ إلى القاعدين . ولكن عندما فُرِضَ التحكيم على الإمام عليه السلام ، فُرِضَ أبو موسى عليه أيضا حَكَما بإصرار الأشعث بن قيس والخزرج وبلبلتهم . وكان الإمام عليه السلام يعلم أنّ أبا موسى سيُضيع الحقّ بمكيدة عمرو بن العاص ، وكذلك كان يعتقد أصحابه الأجلّاء كمالك الأشتر ، وابن عبّاس ، والأحنف بن قيس (4) . وفي آخر المطاف انخدع أبو موسى بمكيدة ابن العاص ، وعجز عن استخلاف عبد اللّه بن عمر ، الَّذي كان صهره (5) ، وكان يطمع فيها . (6) لقد وَهِم أبو موسى أنّه عزل عليّا عليه السلام ومعاوية . واستغلّ ابن العاص الفرصة ، وكادَ فأبقى معاوية . وعبّر أبو موسى بحماقته هذه عن دوره المخزي في التاريخ مرّة اُخرى ، وساق المجتمع الإسلامي إلى هاوية الدمار . (7) ويا عجبا ! فإنّ التدقيق في حوار الرجلين يدلّ على أنّ أبا موسى كان غير مطّلع على موضوع التحكيم ، ولم يعلم في الحقيقة كُنه ما يريد أن يُحكّم فيه . لجأ أبو موسى بعد ذلك إلى مكّة (8) . وعندما مَلَكَ معاوية كان يتردّد عليه ، وكان معاوية يحتفي به . 9
.
ص: 905
وكان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يدعو في صلاته على أبي موسى ، ومعاوية ، وابن العاص (1) . ويدلّ التدبّر في حياة أبي موسى الأشعري وإنعام النّظر فيما ذكرناه أنّه كان ذا «جمود فكري» من جهة ، و «خمود سلوكي» من جهة اُخرى . فلا هو من اُولي الفكر الحركي الفعّال ، ولا هو من أصحاب السعي اللائق المحمود . لقد كان رجلاً ظاهر التنسّك دون الاهتداء بما عليه العقل . مات أبو موسى سنة 42 ه (2) وهو ابن ثلاث وستّين سنةً . (3)
5أبُو الهَيثَمِهو مالك بنُ التَّيِّهانِ بن مالك أبو الهيثم الأنصاري ، وهو مشهور بكنيته . من أوائل الأنصار الذين أسلموا في مكّة قبل هجرة النّبيّ صلى الله عليه و آله (4) . وكان قبل الإسلام موحّداً أيضاً ولم يعبد الأصنام (5) . وشهد مشاهد النّبيّ صلى الله عليه و آله جميعها (6) ، وهو ممّن روى حديث غدير . (7) . وكان من السابقين في معرفة الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ سبق إلى معرفة خلافة الحقّ (8) ، ولم يتنازل عنها إلى غيرها 9 ، وهو أحد الإثني عشر الذين احتجّوا في مسجد النّبيّ مدافعين عن الإمام عليه السلام ، ومعارِضين لتغيير مسار الخلافة . 10
.
ص: 906
وهكذا كان ؛ فقد رافق الإمام عليه السلام منذ بداية تبلور خلافته ، وتصدّى مع عمّار بن ياسر لأخذ البيعة من النّاس . (1) جعله الإمام عليه السلام وعمّارَ بن ياسر على بيت المال . وهو آية على نزاهته . (2) وعندما ذكر الإمامُ عليه السلام بلَوعةٍ وألم _ وهو في وحدته ومحنة نُكول أصحابه وضعفهم _ أحِبَّته الماضين الذين ثبتوا على الطريق ، ذكر فيهم مالك بن التَّيِّهان ، وتأسّف على فقده . (3) واختلف المؤرّخون في وقت وفاته ، لكن يستبين من خطبة الإمام عليه السلام ، الَّتي ذكر فيها اسمه وتأوَّة على فقده وفقد عمّار بن ياسر ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، قائلاً : « أينَ إخوانِيَ الَّذينَ رَكِبوا الطَّريقَ ومَضَوا عَلَى الحَقِّ ؟ أينَ عَمّارٌ ؟ وأينَ ابنُ التَّيِّهانِ ؟ وأينَ ذُو الشَّهادَتَينِ ؟ وأينَ نُظَراؤُهُم مِن إخوانِهِمُ الَّذينَ تَعاقَدوا عَلَى المَنِيَّةِ ، واُبِردَ بِرُؤوسِهِم إلَى الفَجَرَةِ ؟ » يستبين أنّه استُشهد في صفّين (4) . وبه صرّح ابن أبي الحديد (5) ، والعلّامة التستري . (6)
6الأَشعَثُ بنُ قَيسٍالأشعث بن قيس بن معديكَرِب الكِندي ، يُكنّى أبا محمّد ، واسمه معديكَرِب (7) . من
.
ص: 907
كبار اليمن ، وأحد الصحابة (1) . عَوِرت عينه في حرب اليرموك (2) . وهو وجه مشبوه مُريب متلوّن ، رديء الطبع ، سيّئ العمل في التاريخ الإسلامي . ارتدّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الدِّين واُسِر ، فعفا عنه أبو بكر ، وزوّجه اُخته (3) . وكان أبو بكر يُعرب عن ندمه ، ويتأسّف لعفوه . (4) زوّج بنته لابن عثمان في أيّام خلافته (5) . ونصبه عثمان والياً على آذربايجان (6) . وكان يهبه مئة ألف درهم من خراجها سنويّاً . (7) عزل الإمام عليّ عليه السلام الأشعث عن آذربايجان ، ودعاه إلى المدينة (8) ، فهمّ بالفرار في البداية ، ثمّ قدم المدينة بتوصية أصحابه ، ووافى الإمامَ عليه السلام . (9) تولّى رئاسة قبيلته «كِندة» في حرب صفّين (10) ، وكان على ميمنة الجيش (11) . وتزعّم الأشعث التيّار الَّذي فرض التحكيمَ (12) وفرض أبا موسى الأشعري على الإمام عليه السلام . وعارض اختيارَ ابن عبّاس ومالك الأشتر حكَمَين عن الإمام عليه السلام بصراحة 13 ، ونادى بيمانيّة أحد الحكمين 14 . وله يدٌ في نشوء الخوارج ، كما
.
ص: 908
كان له دور كبير في إيقاد حرب النّهروان مع أنّه كان في جيش الإمام عليه السلام (1) . وهو ممّن كان يعارض الإمام عليه السلام وأعماله داخل الجيش بكلّ ما يستطيع (2) ، حتى عُدَّت مواقفه أصل كلّ فساد واضطراب (3) . وكان شرساً إلى درجة أنّه هدّد الإمامَ عليه السلام مرّةً بالقتل (4) . وسمّاه الإمام عليه السلام منافقاً ، ولعنه . (5) وكان ابن ملجم يتردّد على داره (6) ، وهو الَّذي أشار على المذكور بالإسراع يوم عزمه على قتل الإمام عليه السلام (7) . ونحن وإن لم نمتلك دليلاً تاريخيّا قطعيّا على صلته السرّيّة بمعاوية ، لكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الأيادي الخفيّة تعمل بحذر تامّ وكتمان شديد ، ولذا لم تنكشف إلّا نادرا . لكن ملفّ جنايات هذا البيت المشؤوم يمكن عدّه وثيقة معتبرة على علقته بل وعلقة اُسرته بأعداء أهل البيت ، وممّا يعزّز ذلك تعبير الإمام عنه بالمنافق . قامت بنته جعدة بسمّ الإمام الحسن عليه السلام (8) . وتولّى ابنه محمّد إلقاء القبض على مسلم بن عقيل بالكوفة ، بعد أن آمنه زوراً ، ثمّ غدر به (9) وكان ابنه الآخر قيس 10 من اُمراء جيش عمر بن سعد في كربلاء ، ولم يقلّ عن أبيه ضعَةً ونذالةً ؛ إذ سلب قطيفة الإمام الحسين عليه السلام فاشتهر ب_ «قيس القطيفة» . 11
.
ص: 909
هلك الأشعث سنة 40 ه (1) ، فخُتم ملفّ حياته الدَّنِس الملوَّث بالعار .
7أصبَغُ بنُ نُباتَةَأصبغ بن نباتة التَّمِيمي الحنظلي المُجاشِعي . كان من خاصّة الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، ومن الوجوه البارزة بين أصحابه (2) ، وأحد ثقاته عليه السلام (3) ، وهو مشهور بثباته واستقامته على حبّه عليه السلام . وصفته النّصوص التاريخيّة القديمة بأنّه شيعيّ (4) ، وأنّه مشهور بحبّ عليّ عليه السلام . وكان من «شرطة الخميس» (5) ، ومن اُمرائهم (6) . عاهد الإمام عليه السلام على التضحية والفداء والاستشهاد . (7) وشهد معه الجمل ، وصفّين (8) . وكان معدوداً في أنصاره الأوفياء المخلصين . وهو الَّذي روى عهده إلى مالك الأشتر (9) ؛ ذلك العهد العظيم الخالد ! وكان من القلائل الذين اُذن لهم بالحضور عند الإمام عليه السلام بعد ضربته 10 . وعُدّ الأصبغ في أصحاب الإمام الحسن عليه السلام أيضاً . 11
.
ص: 910
8اُوَيسٌ القَرَنِيُّهو اُويس بن عامر بن جَزْء المرادي القرني . كان طاهر الفطرة ، سليم الفكرة ، ووجهاً متألّقاً في التاريخ الإسلامي . أسلم على عهد النّبيّ صلى الله عليه و آله ، لكنّه ما رآه (1) . لذا عُدَّ في التابعين . وصفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بأنّه أفضل التابعين وأعلاهم شأناً (2) ، وصرّح بأنّه يشفع لخلق كثيرين يوم القيامة (3) . وكان في عداد الزهّاد المشهورين (4) ، وأحد ثمانيتهم المعروفين (5) . لم يكن له حضور مشهور في القضايا الاجتماعيّة ، وكان نَصِباً (6) في العبادة ، ونُقل أنّه ربما أمضى الليل كلّه ساجداً . شهد مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الجمل ، وصفّين ، وعاهده على الشهادة في صفّين . وفيها نال ذلك الوسام بوجهٍ مُدمى ، ودُفن هناك . (7) وقد وصف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام اُويساً وصفا يبيّن منزلته الرفيعة ، حين قال : «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ . . . أين حواريّ عليّ بن أبي طالب . . . فيقوم عمرو بن الحمق . . . واُويس القرني » . (8)
.
ص: 911
9جابِرُ بنُ عبدِ اللّهِ الأَنصارِيُّجابر بن عبد اللّه بن عمرو الأنصاري ، يُكنّى أبا عبد اللّه . صحابيّ ذائع الصِّيت (1) ، عمّر طويلاً . وكان مع أبيه في تلك الليلة التاريخيّة المصيريّة الَّتي عاهد فيها أهل يثرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله على الدفاع عنه ودعمه ونصره ، وبيعتهم هي البيعة المشهورة في التاريخ الإسلامي ب_ «بيعة العقبة الثانية» . (2) ولمّا دخل النّبيّ صلى الله عليه و آله المدينة ، صحبه وشهد معه حروبه (3) ولم يتنازل عن حراسة الحقّ وحمايته بعده صلى الله عليه و آله ، كما لم يدّخر وسعاً في تبيان منزلة عليٍّ عليه السلام والتنويه بها (4) . أثنى الأئمّة عليهم السلام على رفيع مكانته في معرفة مقامهم عليهم السلام ، وعلى وعيه العميق للتيّارات المختلفة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومعارف التشيّع الخاصّة ، وفهمه النّافذ لعمق القرآن . وأشادوا به واحداً من القلّة الذين لم تتفرّق بهم السبل بعد النّبيّ صلى الله عليه و آله ، ولم يستبِقوا الصراط بعده ، بل ظلّوا معتصمين متمسّكين به . (5) قلنا إنّه عمّرطويلاً، لذا ورد اسمه الكريم فيصحابة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام (6) ، والإمام الحسن عليه السلا (7) ، والإمام الحسين عليه السلام (8) ، والإمام السجّاد عليه السلام (9) ، والإمام الباقر عليه السلام (10) ،
.
ص: 912
وهو الَّذي بلّغ الإمام الباقر عليه السلام سلامَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله له (1) . وكان قد شهد صفّين مع الإمام عليه السلام (2) . وهو أوّل من زار قبر الحسين عليه السلام وشهداء كربلاء في اليوم الأربعين من استشهادهم ، وبكى على أبي عبد اللّه كثيراً . (3) والروايات المنقولة عنه بشأن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وما اُثر عنه من أخبار تفسيريّة ، ومناظراته ، تدلّ كلّها على ثبات خُطاه ، وسلامة فكره ، وإيمانه العميق ، وعقيدته الراسخة . وصحيفة جابر مشهورة أيضاً (4) ولأنّه لم ينصر عثمان في فتنته ، فقد ختم الحجّاج بن يوسف على يده يريد إذلاله بذلك (5) . فارق جابر الحياة سنة 78ه . (6)
10حُجرُ بنُ عَدِيٍّحُجْرُ بن عديّ بن معاوية الكندي ، أبو عبد الرحمن ، وهو المعروف بحجر الخير ، وابن الأدبر (7) كان جاهليّاً إسلاميّاً (8) ، وفد على النّبيّ (9) ، وله صحبة 10 . من الوجوه المتألّقة في التاريخ الإسلامي ، ومن القمم الشاهقة الساطعة في التاريخ الشيعي .
.
ص: 913
جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وأسلم وهو لم يزل شابّاً . وكان من صفاته : تجافيه عن الدنيا ، وزهده ، وكثرة صلاته وصيامه ، واستبساله وشجاعته ، وشرفه ونُبله وكرامته ، وصلاحه وعبادته (1) . وكان معروفاً بالزهد (2) ، مستجاب الدعوة لِما كان يحمله من روح طاهرة ، وقلب سليم ، ونقيبة محمودة ، وسيرة حميدة . (3) ولم يسكت حجر قطّ أمام قتل الحقّ وإحياء الباطل والركون إليه . من هنا ثار على عثمان مع سائر المؤمنين المجاهدين (4) . ولم يألُ جهداً في تحقيق حاكميّة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فعُدّ من خاصّة أصحابه (5) وشيعته (6) المطيعين . اشترك حجر في حروب الإمام عليه السلام . وكان في الجمل (7) قائداً على خيّالة كِنْدة (8) ، وفي صفّين (9) أميراً على قبيلته (10) ، وفي النّهروان قاد ميسرة (11) الجيش أو ميمنته . 12 وكان فصيح اللسان ، نافذ الكلام ، يتحدّث ببلاغة ، ويكشف الحقائق بفصاحة . وآية ذلك كلامه الجميل المتبصّر في تبيان منزلة الإمام عليه السلام . 13
.
ص: 914
وكان نصير الإمام الوفيّ المخلص ، والمدافع المجدّ عنه . ولمّا أغار الضحّاك بن قيس على العراق ، أمره الإمام عليه السلام بصدّه ، فهزمه حجر ببطولته وشجاعته ، وأجبره على الفرار . (1) اطّلع حجر على مؤامرة قتل الإمام عليه السلام قبل تنفيذها بلحظات ، فحاول بكلّ جهده أن يتدارك الأمر فلم يُفلح (2) . واغتمّ لمقتله كثيراً . وكان من أصحاب الإمام الحسن عليه السلام الغيارى الثابتين . (3) وقد جاش دم غيرته في عروقه حين سمع خبر الصلح ، فاعترض (4) ، فقال له الإمام الحسن عليه السلام : لو كان غيرُك مثلَك لَما أمضيتُه . (5) وكان قلبه يتفطّر ألماً من معاوية . وطالما كان يبرأ من هذا الوجه القبيح لحزب الطلقاء الَّذي تأمّر على المسلمين ، ويدعو عليه مع جمع من الشيعة (6) . وهو الحزب الَّذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وصفه بأنّه ملعون . وكان حجر يقف للدفاع عن العقيدة وأهل البيت عليهم السلام بلا وجلٍ ، ويُعنّف المغيرة الَّذي كان فرداً في رجسه وقبحه ورذالته ، وقد تسلّط على الكوفة في أثناء حكومة الطلقاء ، وكان يطعن في عليٍّ عليه السلام وشيعته (7) . وضاق معاوية ذرعاً بحجر وبمواقفه وكشفه الحقائق ، وصلابته ، وثباته ، فأمر بقتله وتمّ تنفيذ أمره ، فاستشهد 8 ذلك الرجل الصالح في «مَرْج
.
ص: 915
عذراء (1) » (2) سنة 51 ه ، مع ثلّة من رفاقه . (3) وكان حجر وجيهاً عند النّاس ، وذا شخصيّة محبوبة نافذة ، ومنزلة حسنة ، فكَبُر عليهم استشهاده (4) ، واحتجّوا على معاوية ، وقرّعوه على فعله القبيح هذا . وكان الإمام الحسين عليه السلام (5) ممّن تألّم كثيراً لاستشهاده ، واعترض على معاوية في رسالة بليغة له أثنى فيها ثناءً بالغاً على حجر ، وذكر استفظاعه للظلم ، وذكّر معاوية بنكثه للعهد ، وإراقته دم حجر الطاهر ظلماً وعدواناً . واعترضت عائشة (6) أيضاً على معاوية من خلال ذكرها حديثاً حول شهداء «مرج عذراء» . (7) وكان معاوية _ على ما اتّصف به من فساد الضمير _ يرى قتل حجر من أخطائه ، ويعبّر عن ندمه على ذلك (8) ، وقال عند دنوّ أجله : لو كان ناصحٌ لَمَنعنا من قتله (9) ! وقتل مصعب بن الزبير ولدَي حجر : عبيد اللّه ، وعبد الرحمن صبراً . (10) وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد أخبر باستشهاده من قبل ، وشبّه استشهاده وصحبه باستشهاد «أصحاب الاُخدود» . 11
.
ص: 916
11حُذَيفَةُ بنُ اليَمانِحذيفة بن اليمان بن جابر ، أبو عبد اللّه العبسي . كان من وجهاء الصحابة وأعيانهم . وقد أثنى عليه الرجاليّون وأصحاب التراجم بمزايا ذكروها في كتبهم كقولهم : «كان من نجباء (1) وكبار أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله » (2) ، وقولهم : «صاحب سرّ النّبيّ صلى الله عليه و آله » (3) ، وقولهم : «وأعلم النّاس بالمنافقين» (4) . وأسرّ إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله أسماء المنافقين (5) وضبط عنه الفتن الكائنة في الاُمّة (6) إلى قيام الساعة . (7) لم يشهد بدرا ، وشهد اُحدا وما بعدها من المشاهد (8) . كان أحد الذين ثبتوا على العقيدة . لم يصبر على تغيير «حقّ الخلافة» و «خلافة الحقّ» بعد وفاة رسول اللّه ، ووقف إلى جانب عليّ عليه السلام بخطىً ثابتة . (9) كان حذيفة ممّن شهد جنازة السيّدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، وصلّى على جثمانها الطاهر . (10) وليَ المدائن في عهد عمر وعثمان 11 . وكان مريضا في ابتداء خلافة
.
ص: 917
أمير المؤمنين عليّ عليه السلام . مع هذا كلّه لم يُطِق السكوت عن مناقبه وفضائله صلوات اللّه عليه ، فصعد المنبر بجسمه العليل ، وأثنى عليه وأبلغ الثناء ، وذكره بقوله : «فواللّه إنّه لعلى الحقّ آخرا وأوّلاً» ، وقوله : «إنّه لخير من مضى بعد نبيّكم» (1) . وأخذ له البيعة (2) ، وهو نفسه بايعه أيضا . (3) وأوصى أولاده مؤكّدا ألّا يقصّروا في اتّباعه والسير وراءه ، وقال لهم : «فإنّه واللّه على الحقّ ، ومن خالفه على الباطل» (4) . ثمّ توفّي بعد سبعة أيّام مضت على ذلك (5) . وقيل : توفّي بعد أربعين يوما . (6)
12خُزَيمَةُ بنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَينِخزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري الأوسي يُكنّى أبا عمارة . ويلقّب بذي الشهادتين . من الشخصيّات المتألّقة بين صحابة النّبيّ صلى الله عليه و آله . شهد اُحدا وبقيّة المشاهد 7 . وإنّما اشتهر بذي الشهادتين ؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله جعل شهادته شهادة رجلين 8 . وكان خزيمة أحد الأفراد القلائل الذين ثبتوا على «حقّ الخلافة» و «خلافة الحقّ» بعد النّبيّ صلى الله عليه و آله 9 ، إذ قام في المسجد رافعا صوته بالدفاع
.
ص: 918
عن خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام . واحتجّ بالمنزلة الَّتي خصّه بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فشهد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله جعل أهل بيته عليهم السلام معيارا لمعرفة الحقّ من الباطل ، ونصبهم أئمّة على العباد (1) . وشهد خزيمة حروب أمير المؤمنين عليه السلام وكان ثابت الخُطى فيها . رُزق الشهادة بعد استشهاد عمّار بن ياسر. (2)
13رُشَيدٌ الهَجَرِيُّرُشيد الهَجَري من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الواعين الراسخين (3) . وعدّ من أصحاب الإمام الحسن (4) والإمام الحسين عليهماالسلامأيضا (5) ، كان أمير المؤمنين عليه السلام يعظّمه ويُسمّيه «رشيد البلايا» . واخترقت نظرته الثاقبة النّافذة ما وراء عالم الشهادة ، فعُرف بعالِم « البلايا والمنايا » (6) . قال له الإمام عليه السلام يوما : « كَيفَ صَبرُكَ إذا أرسَلَ إلَيكَ دَعِيُّ بَني اُمَيَّةَ ، فَقَطَعَ يَدَيكَ ورِجلَيكَ ولِسانَكَ ؟ » . قال : أ يَكونُ آخِرُ ذلِكَ إلَى الجَنَّةِ ؟ (7) وهكذا ترجم عظمة الصبر ، ودلّ على صلابته في محبّته أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه . ولمّا آن ذلك الأوان فعل زياد بن أبيه فعلته ، ولم يتنازل رشيد عن الحقّ إلى أن استشهد وصلب . (8)
.
ص: 919
14زِيادُ بنُ أبيهِهو زياد بن سُميَّة ؛ وهي اُمّه ، وقبل استلحاقه بأبي سفيان يقال له : زياد بن عبيد الثقفي ، تحدّثنا عنه مجملاً في مدخل البحث . كان من الخطباء (1) والساسة . اشتهر بذكائه المفرط ومكره في ميدان السياسة (2) . ولدته سميّة ، الَّتي كانت بغيّا من أهل الطائف (3) _ وكانت تحت عبيد الثقفي (4) _ في السنة الاُولى من الهجرة . (5) أسلم زياد في خلافة أبي بكر (6) . ولفت نظر عمر في عنفوان شبابه بسبب كفاءته ودهائه السياسي (7) ، فأشخصه في أيّام خلافته إلى اليمن لتنظيم ما حدث فيها من اضطراب (8) . كان عمر بن الخطّاب قد استعمله على بعض صدقات البصرة أو بعض أعمال البصرة . (9) كان زياد يعيش في البصرة ، وعمل كاتبا لولاتها : أبي موسى الأشعري 10 ، والمغيرة بن شعبة 11 ، وعبد اللّه بن عامر . 12
.
ص: 920
وكان كاتبا (1) ومستشارا (2) لابن عبّاس في البصرة أيّام خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . ولمّا توجّه ابن عبّاس إلى صفّين جعله على خراج البصرة وديوانها وبيت مالها . (3) وعندما امتنع أهل فارس وكرمان من دفع الضرائب ، وطردوا واليهم سهل بن حُنيف ، استشار الإمام عليه السلام أصحابه لإرسال رجل مدبّر وسياسي إليهم ، فاقترح ابن عبّاس زيادا (4) ، وأكّد جاريةُ بن قدامة هذا الاقتراح . (5) فتوجّه زياد إلى فارس وكرمان (6) . وتمكّن بدهائه السياسي من إخماد نار الفتنة . وفي تلك الفترة نفسها ارتكب أعمالاً ذميمة فاعترض عليه الإمام عليه السلام . (7) لم يشترك زياد فيحروب الإمام عليه السلام ، وكان مع الإمام وابنه الحسن المجتبى عليهماالسلامحتى استشهاد الإمام عليه السلام ، بل حتى الأيّام الاُولى من حكومة معاوية . (8) ثمّ زلّ بمكيدة معاوية ، ووقع فيما كان الإمام قد حذّره منه (9) ، وأصبح أداةً طيّعة لمعاوية تماما ، من خلال مؤامرة الاستلحاق . وسمّاه معاوية أخاه 10 . وشهد جماعة على أ نّه ابن زنا 11 . وهكذا أصبح زياد بن أبي سفيان ! !
.
ص: 921
كانت المفاسد والقبائح متأصّلة في نفس زياد ، وقد أبرز خبث طينته واسوداد قلبه في بلاط معاوية . ولّاه البصرة في بادئ الأمر ، ثمّ صار أميرا على الكوفة أيضا (1) . ولمّا أحكم قبضته عليهما لم يتورّع عن كلّ ضرب من ضروب الفساد والظلم (2) . وتشدّد كثيرا على النّاس ، خاصّة شيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (3) ، إذ سجن الكثيرين منهم في سجون مظلمة ضيّقة أو قتلهم (4) . وأكره النّاس على البراءة من الإمام عليه السلام (5) وسبّه (6) مصرّا على ذلك . هلك زياد بالطاعون (7) سنة 53 ه (8) وهو ابن 53 سنة (9) ، بعد عقدٍ من الجور والعدوان والنّهب ونشر القبائح وإشاعة الرجس والفحشاء ، وخَلّفَ من هذه الشجرة الخبيثة ثمرة خبيثة تقطر قبحا ، وهو عبيد اللّه الَّذي فاق أباه في الكشف عن سوء سريرته وظلمه لآل عليّ عليه السلام وشيعته . كان زياد نموذجا واضحا للسياسي الَّذي له دماغ مفكّر ، ولكن ليس له قلب وعاطفة قطّ ! ! كان الشرَه ، والعَبَث ، والنّفاق في معاملة النّاس من صفاته الَّتي أشار إليها الإمام عليه السلام في رسالة موقظة منبِّهة . (10)
.
ص: 922
كان زياد عظيما عند طلّاب الدنيا الذين يَعظُم في عيونهم زبرجها وبهرجها ؛ ولذا مدحوه بالذكاء الحادّ والمكانة السامية (1) . بَيد أنّ نظرة إلى ما وراء ذلك تدلّنا على أ نّه لم يَرْعَوِ من كلّ رجسٍ ودنسٍ وقبحٍ وخبث ، حتى من تغيير نسبه أيضا .
15سَلمانُ الفارِسِيُّسلمان الفارسي ، أبو عبد اللّه ، وهو سلمان المحمّدي ، زاهد ثاقب البصيرة ، نقيّ الفطرة ، من سلالة فارسيّة (2) ، مولده رامهرمز (3) وأصله من أصبهان (4) ، صحابيّ (5) جليل من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله . كان يحظى بمكانة عظيمة لا تستوعبها هذه الصفحات القليلة . كان يطوي الفيافي والقفار بحثا عن الحقّ . وعندما دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله المدينة حضر عنده وأسلم (6) . وآثر خدمة ذلكم السفير الإلهيّ العظيم بكلّ طواعية ، ولم يألُ جهدا في ذلك ، وشهد الخندق وأعان المؤمنين بذكائه وخبرته بفنون القتال ، واقترح حفر الخندق ، فلقي اقتراحه ترحيبا . كان يعيش في غاية الزهد ، ولمّا كان قد قطع جميع الوشائج ، وأعرض عن جميع زخارف الحياة ، والتحق بالحقّ ، شرّفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بقوله : « سَلمانُ مِنّا أهلَ البَيتِ » (7) . وكان قلبه الطاهر مَظهرا للأنوار الإلهيّة ، فقال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله :
.
ص: 923
« مَن أرادَ أن يَنظُرَ إلى رَجُلٍ نُوِّرَ قَلبُهُ فَليَنظُر إلى سَلمانَ » . (1) وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول عن سعة علمه واطّلاعه : «عَلِمَ العِلمَ الأَوَّلَ وَالعِلمَ الآخِرَ ، وقَرَأَ الكِتابَ الأَوَّلَ وقَرَأَ الكِتابَ الآخِرَ ، وكانَ بَحرا لا يَنزِفُ » . (2) وقد رعى سلمان حرمة الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولم يحد عن مسير الحقّ (3) ، وكان أحد القلائل الذين قاموا في المسجد النّبويّ ودافعوا عن «خلافة الحقّ» و « حقّ الخلافة » (4) . وكان من عشّاق عليّ وآل البيت عليهم السلام ، ومن الأقلّين الذين شهدوا الصلاة على السيّدة الطاهرة فاطمة الزهراء عليهاالسلام وحضروا دفنها في جوف الليل الحزين . (5) ولّاه عمر على المدائن (6) ، فكانت حكومته فيها من المظاهر المشرّفة الباعثة على الفخر والاعتزاز ، فهي حكومة تعلوها الرؤية الإلهيّة ، ويحيطها الزهد والورع ، وهدفها الحقّ والعدل . كان سلمان من المعمّرين ، عاش قرابة مئتين وخمسين سنة (7) ، وتوفّي بالمدائن (8) أيّام حكومة عمر (9) أو عثمان . (10)
.
ص: 924
16سُلَيمُ بنُ قَيسٍ الهِلالِيُّسليم بن قيس الهلالي العامري يكنى أبا صادق ، كان من محدّثي التابعين ، وعلمائهم ، وعظمائهم ، وهو من أصحاب أمير المؤمنين (1) ، والحسن (2) ، والحسين (3) ، وزين العابدين (4) ، والباقر (5) ، عليهم السلام أجمعين . وكان في أصحاب الإمام أمير المؤمنين من «شرطة الخميس (6) » (7) . وعُدّ من السبّاقين في التأليف وضبط الحقائق والتاريخ . (8) ويعتبر كتابه _ الَّذي جاء في كتب التراجم والمصادر بعناوين متنوّعة _ من أهمّ كتب الشيعة ، وسمّاه بعض العلماء «أصل من أكبر كتب الاُصول» . (9) والَّذي هو الآن موجود في أيدينا وعنوانه : «كتاب سُليم» مع كثرة نسخه وطرقه ، دار حوله كلام بين علماء الرجال والباحثين الإسلاميّين ، منذ زمن بعيد ، فذهب بعضهم إلى أ نّه موضوع أساسا ، ورأى بعض آخر أنّ نسبته إلى سليم ثابتة
.
ص: 925
لا غبار عليها ، وحاول هؤلاء الإجابة عن الإشكالات والشبهات المثارة عليه . واحتاط آخرون فقالوا : إنّه مدسوس ، وحكموا عليه بأنّ فيه الثابت والمشكوك فيه ، والحسن والرديء ، والصحيح والسقيم . (1) مع هذا كلّه ، فإنّ سُليما نفسه لا قدح فيه ؛ إذ كان من الشخصيّات المتألّقة في تاريخ التشيّع ، ومن الموالين الأبرار للأئمّة عليهم السلام ، ومن أحبّاء آل الرسول صلى الله عليه و آله وأودّائهم .
17صَعصَعَةُ بنُ صُوحانَصعصعة بن صوحان بن حُجْر العبدي ، كان مسلما على عهد النّبيّ صلى الله عليه و آله ولم يره (2) . وكان من كبار أصحاب الإمام عليّ عليه السلام (3) ، ومن الذين عرفوه حقّ معرفته كما هو حقّه (4) ، وكان خطيبا شحشحا (5) بليغا (6) . ذهب الأديب العربي الشهير الجاحظ إلى أ نّه كان مقدّما في الخطابة . وأدلّ من كلّ دلالة استنطاق عليّ بن أبي طالب عليه السلام له . (7) أثنى عليه أصحاب التراجم بقولهم : كان شريفا ، أميرا ، فصيحا ، مفوّها ، خطيبا ، لسنا ، ديّنا ، فاضلاً . (8) نفاه عثمان إلى الشام مع مالك الأشتر ورجالات من الكوفة (9) . وعندما ثار النّاس
.
ص: 926
على عثمان ، واتّفقوا على خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قام هذا الرجل الَّذي كان عميق الفكر ، قليل المثيل في معرفة عظمة عليٍّ عليه السلام _ وكان خطيبا مصقعا _ فعبّر عن اعتقاده الصريح الرائع بإمامه ، وخاطبه قائلاً : «واللّه يا أمير المؤمنين ! لقد زيّنت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي إليك أحوج منك إليها» . وعندما أشعل موقدو الفتنة فتيل الحرب على أمير المؤمنين عليه السلام في الجمل ، كان إلى جانب الإمام ، وبعد أن استشهد أخواه زيد وسيحان اللذان كانا من أصحاب الألوية ، رفع لواءهما وواصل القتال (1) . وفي حرب صفّين ، هو رسول الإمام عليه السلام إلى معاوية (2) ومن اُمراء الجيش (3) وراوي وقائع صفّين . (4) وقف إلى جانب الإمام عليه السلام في حرب النّهروان ، واحتجّ على الخوارج بأحقّيّة إمامه وثباته (5) . وجعله الإمام عليه السلام شاهدا على وصيّته (6) ، فسجّل بذلك فخرا عظيما لهذا الرجل . ونطق صعصعة بفضائل الإمام ومناقبه أمام معاوية وأجلاف بني اُميّة مرارا ، وكان يُنشد ملحمة عظمته أمام عيونهم المحملقة ، ويكشف عن قبائح معاوية ومثالبه بلا وجل . (7) وكم أراد منه معاوية أن يطعن في عليّ عليه السلام ، لكنّه لم يلقَ إلّا الخزي والفضيحة ، إذ جوبه بخطبه البليغة الأخّاذة . (8)
.
ص: 927
آمنه معاوية مكرها بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام وصلح الإمام الحسن عليه السلام (1) ، فاستثمر صعصعة هذه الفرصة ضدّ معاوية . وكان معاوية دائم الامتعاض من بيان صعصعة الفصيح المعبّر وتعابيره الجميلة في وصف فضائل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يخفِ هذا الامتعاض . (2) إنّ ما ذكرناه بحقّ هذا الرجل غيض من فيض . وكفى في عظمته قول الإمام الصادق عليه السلام : ما كان مع أمير المؤمنين عليه السلام من يعرف حقّه إلّا صعصعة وأصحابه . (3) توفّي صعصعة أيّام حكومة معاوية . (4)
18عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍعبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطلب أبو العبّاس القرشي الهاشمي ، من المفسّرين والمحدّثين المشهورين في التاريخ الإسلامي (5) . وُلِدَ بمكّة في الشِّعب قبل الهجرة بثلاث سنين (6) . وذهب إلى المدينة سنة 8 ه ، عام الفتح (7) . كان عمر يستشيره في أيّام خلافته 8 . وعندما ثار النّاس على عثمان ، كان مندوبه في الحجّ 9 . ولمّا آلت الخلافة
.
ص: 928
إلى الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كان صاحبه ، ونصيره ، ومستشاره ، وأحد ولاته واُمرائه العسكريّين . كان على مقدّمة الجيش في معركة الجمل (1) ، ثمّ ولي البصرة (2) بعدها . وقبل أن تبدأ حرب صفّين ، استخلف أبا الأسود الدؤلي على البصرة وتوجّه مع الإمام عليه السلام لحرب معاوية . (3) كان أحد اُمراء الجيش في الأيّام السبعة الاُولى من الحرب (4) . ولازم الإمام عليه السلام بثباتٍ على طول الحرب . اختاره الإمام عليه السلام ممثّلاً عنه في التحكيم ، بَيْدَ أنّ الخوارج والأشعث عارضوا ذلك قائلين : لا فرق بينه وبين عليّ عليه السلام . (5) حاورَ الخوارج مندوبا عن الإمام عليه السلام في النّهروان مرارا . وأظهر في مناظراته الواعية عدمَ استقامتهم ، وتزعزع موقفهم ، كما أبان منزلة الإمام الرفيعة السامية . كان واليا على البصرة عند استشهاد الإمام عليه السلام . (6) بايع الإمام الحسن المجتبى عليه السلام (7) ، وتوجّه إلى البصرة من قِبَله 8 . ولم يشترك مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء . وعلّل البعض ذلك بعماه . لم يبايع عبدَ اللّه بن الزبير حين استولى على الحجاز ، والبصرة ، والعراق .
.
ص: 929
ومحمّد ابن الحنفيّة لم يبايعه أيضا ، فكَبُرَ ذلك على ابن الزبير حتى همّ بإحراقهما . (1) كان ابن عبّاس عالما له منزلته الرفيعة العالية في التفسير ، والحديث ، والفقه . وكان تلميذ الإمام عليه السلام في العلم (2) مفتخرا بذلك أعظم افتخار . توفّي ابن عبّاس في منفاه بالطائف سنة 68 ه وهو ابن إحدى وسبعين (3) ، وهو يكثر من قوله : «اللهمّ إنّي أتقرّب إليك بمحمّدٍ وآله ، اللهمّ إنّي أتقرّب إليك بولاية الشيخ عليّ بن أبي طالب» (4) وفي رواية : لمّا حضرت عبد اللّه بن عبّاس الوفاة قال : «اللهمّ إنّي أتقرّب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب» . (5) خلفاء بني العبّاس من ذرّيّته ، وأخبر الإمام عليه السلام بهذا في خطابه لابن عبّاس «أبا الأملاك» .
.
ص: 930
كلام فيما نسب إلى ابن عبّاس من الخيانةمن الملاحظات المهمّة في حياة ابن عبّاس موضوع بيت المال بالبصرة ؛ فقد جاء في المصادر التاريخيّة والحديثيّة كتاريخ الطبري ، والكامل في التاريخ ، وأنساب الأشراف ، ورجال الكشّي ، ونهج البلاغة (بلا ذكر لاسمه) وأمثالها أ نّه أخذ من بيت مال البصرة . وتختلف أنظار الباحثين حول هذا الموضوع على أقوال : أ _ أنكره بعض الباحثين وعلماء الرجال نظرا إلى : _ ضعف الأسانيد . _ جلالة ابن عبّاس وعلمه وفضله . _ ارتباطه الوثيق بالإمام عليّ عليه السلام وإخلاصه له وحبّه إيّاه . _ دور الاُمويّين في تشويه سمعة أصحاب الإمام عليه السلام . ب _ اعترف قسم منهم ببعض ما حصل ، لأ نّه ورد في كتب كثيرة ، وتناقله النّاس آنذاك ، وانتُقِد ابن عبّاس عليه يومئذٍ ، فلم يرَ هؤلاء أنّ إنكاره أمر سهل . ج _ أقرّ بعضهم بأصل الموضوع وبتذكير الإمام عليه السلام إيّاه ، فذهبوا إلى أ نّه وقف على خطئه ، وأعاد أكثر الأموال أو بعضها . وهذا ما ذكره اليعقوبي في تاريخه ، ويبدو أنّ اليعقوبي قد تفرّد في نقله ، غير أ نّه يمكن أن يكون مفيدا في تحليل الموضوع .
.
ص: 931
النّقطة المهمّة الَّتي ينبغي ألّا ننساها في مثل هذه الموضوعات هي دور المفتعِلين للحوادث والمُرجِفين . وقد وقف حسن بن زين الدين المشهور بصاحب المعالم على دور الاُمويّين في اختلاق هذه الحادثة ، وأكّده باحثون مثل السيّد جعفر مرتضى العاملي . وسيتيسّر علينا فهم هذه النّقطة إذا عرفنا أنّ ابن عبّاس _ نظرا إلى مكانته السامية وسمعته العلميّة الَّتي لا تُنكَر _ كان المدافع الشجاع عن عليّ وآل عليّ عليهم السلام في ذلك العهد الاُموي الأسود ، كما كان المنتقد الجريء للاُمويّين والكاشف عن فضائحهم . علما أ نّنا لا نقول بعصمته ، ولا ننكر احتمال خطئه ، بَيْدَ أ نّا نستبعد قبول جميع ما جاء في كتب التاريخ حول هذا الموضوع ، ولا نراه لائقا بشأن ابن عبّاس . (1) ولذا قال ابن أبي الحديد : قد أشكل عليَّ أمر هذا الكتاب ، فإن أنا كذّبت النّقل وقلت : هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام ، خالفت الرواة ، فإنّهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه ، وقد ذكر في أكثر كتب السِّيَر ، وإن صرفته إلى عبد اللّه بن عبّاس صدّني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وبعد وفاته ، وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين عليه السلام ، والكلام يُشعر بأنّ الرجل المخاطب من أهله وبني عمّه ، فأنا في هذا الموضع من المتوقّفين ! (2)
.
ص: 932
19عُبَيدُ اللّهِ بنُ أبي رافِعٍأحد الوجوه المتألّقة في تاريخ التشيّع ، ومن السبّاقين إلى التأليف وتدوين العلوم . وكان كاتب أمير المؤمنين عليه السلام (1) ، ومن خاصّته . وشهد معه الجمل (2) ، وصفّين (3) ، والنّهروان . (4) عدّه مؤلّفو التراجم والرجاليّون من روّاد التأليف في الثقافة الإسلاميّة ، وذكروا بعض كتبه . منها : كتاب «قضايا أمير المؤمنين» ، و «تسمية من شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل وصفّين والنّهروان من الصحابة رضي اللّه عنهم» . (5) وهذا الكتاب مَعْلَم على نباهة عبيد اللّه ووعيه للوقائع ، ويدلّ على اهتمامه بضبط الحوادث . وكان أخوه _ عليّ بن أبي رافع _ كاتبا للإمام عليه السلام أيضا . (6)
20عُثمانُ بنُ حُنَيفعثمان بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي أخو سهل بن حنيف ، من صحابة النّبيّ صلى الله عليه و آله وأحد الأنصار (7) . شهد اُحدا وما تلاها من غزوات (8) . وكان أحد الاثني عشر
.
ص: 933
الذين اعترضوا على تغيير الخلافة بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله (1) . وتولّى مساحة الأرض (2) ، وتعيين الخراج (3) في أيّام عمر . وليَ البصرة في خلافة الإمام عليّ عليه السلام . عندما وصل أصحاب الجمل إلى البصرة قاتلهم في البداية ، وحين أعلنت الهدنة بينهما ، هجموا عليه ليلاً ، وقتلوا حرّاس دار الإمارة وظفروا به ، وعذّبوه ، ونَتَفوا شعر لحيته . (4) وتعدّ رسالة الإمام عليه السلام إليه حين دُعيَ إلى وليمة (5) في البصرة من الوثائق الدالّة على عظمة الحكومة العلويّة ، وضرورة اجتناب الولاة والمسؤولين الترف والرفاهيّة ومعاشرة الأثرياء والمفسدين . توفّي عثمان أيّام حكومة معاوية . (6)
21عَدِيُّ بنُ حاتِمٍعديّ بن حاتم بن عبد اللّه الطائي يكنى أبا طريف ، ابن سخيّ العرب المشهور حاتم الطائي (7) ، وأحد الصحابة . (8) تولّى عديّ رئاسة قبيلته ، وحضر عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله سنة (7 ه ) وأسلم 9 ، فأكرمه ورعى حرمته . 10
.
ص: 934
ظلّ وفيّا للولاية العلويّة بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله ، وذاد عن حريم الحقّ والولاية . (1) شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام مشاهده (2) . ولمّا لحق أحد أولاده بمعاوية ، برئ منه (3) . وكلماته أمام مساعير الفتنة دليل على وعيه العميق للحوادث ، وإدراكه السليم لموقف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وثباته على صراط الحقّ ، ومن كلماته : أيّها النّاس ، إنّه واللّهِ لو غير عليٍّ دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه . . . . (4) اختاره الإمام عليه السلام لمفاوضة العدوّ في صفّين بسبب منطقه البليغ (5) . قتل أحد أولاده في إحدى حروب الإمام ، كما فقد إحدى عينيه (6) . وكان معاوية يعظّمه ويرعى حرمته ، بَيْد أ نّه كان يذكر الإمام عليه السلام في مناسبات مختلفة ويُثني عليه . ولم يتنازل عن موقفه الحقّ أمام معاوية . (7) توفّي حوالي سنة 68 ه (8) ، وله من العمر مئةٌ وعشرون سنة . (9)
22عَلِيُّ بنُ أبي رافِعٍعليّ بن أبي رافع . ولد في عهد النّبيّ وسمّاه عليّا (10) ، تابعيّ ، من خيار الشيعة ،
.
ص: 935
كانت له صحبة مع أمير المؤمنين ، وكان كاتبا له ، وحفظ كثيرا ، وجمع كتابا في فنون من الفقه : الوضوء ، والصلاة ، وسائر الأبواب (1) ، وكان على بيت مال عليّ عليه السلام (2) ، وكان كاتبه . (3)
23عَمّارُ بنُ ياسرٍعمّار بن ياسر بن عامر المَذْحِجيُّ ، أبو اليقظان ، واُمّه سميّة ، وهي أوّل من استشهد في سبيل اللّه . من السابقين إلى الإيمان والهجرة ، ومن الثابتين الراسخين في العقيدة ؛ فقد تحمّل تعذيب المشركين مع أبوَيه منذ الأيّام الاُولى لبزوغ شمس الإسلام ، ولم يداخله ريب في طريق الحقّ لحظة واحدة . (4) شهد له رسول اللّه صلى الله عليه و آله بأنّه يزول مع الحقّ ، وأنّه الطيّب المطيَّب وأنّه مُلئ إيمانا . وأكّد أنّ النّار لا تمسّه أبدا . وهو ممّن حرس _ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ «خلافة الحقّ» و«حقّ الخلافة» ، ولم يَنكُب عن الصراط المستقيم قطّ (5) ، وصلّى مع أمير المؤمنين عليه السلام على جنازة السيّدة المطهّرة فاطمة الزهراء عليهاالسلام (6) ، وظلّ ملازما للإمام صلوات اللّه عليه . ولي الكوفة مدّةً في عهد عمر (7) . وكان قائدا للجيوش في فتح بعض الأقاليم 8 .
.
ص: 936
ولمّا حكم عثمان كان من المعارضين له بجدٍّ (1) . وانتقد سيرته مرارا ، حتى همّ بنفيه إلى الربذة لولا تدخّل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، إذ حال دون تحقيق هدفه . (2) ضُرب بأمر عثمان لصراحته ، وفعل به ذلك أيضا عثمان نفسه ، وظلّ يعاني من آثار ذلك الضرب إلى آخر عمره . (3) وكان لاشتراكه الفعّال في حرب الجمل ، وتصدّيه لقيادة الخيّالة في جيش الإمام عليه السلام مظهر عظيم . كما تولّى في صفّين قيادة رجّالة الكوفة والقرّاء (4) . تحدّث مع عمرو بن العاص وأمثاله من مناوئي الإمام عليه السلام في غير موطن ، وكشف الحقّ بمنطقه البليغ واستدلالاته الرصينة . (5) وفي صفّين استُشهد هذا الصحابيّ الجليل والنّموذج المتألّق ، فتحقّقت بذلك النّبوءة العظيمة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ كان قد خاطبه قائلاً : « تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ » . وكان له من العمر إبّان استشهاده ثلاث وتسعون سنة . (6) نُقل الخبر الغيبيّ الَّذي أدلى به النّبيّ صلى الله عليه و آله حول قتل الفئة الباغية عمّارَ بن ياسر بألفاظ متشابهة ، وطرق متعدّدة . وكان النّاس ينظرون إلى عمّار بوصفه المقياس في تمييز الحقّ والباطل . واُثر هذا الحديث بصيغة : « تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ » ، وبصيغة : « تَقتُلُ عَمّاراً الفِئَةُ الباغِيَةُ » ، وبصيغة : « تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ » على لسان سبعة وعشرين من الصحابة ، وهم : أبو سعيد الخدري ، وعمرو بن العاص ،
.
ص: 937
وعبد اللّه بن عمرو بن العاص ، ومعاوية ، وأبو هريرة ، وأبو رافع ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو اليسر ، وعمّار ، واُمّ سلمة ، وقتادة بن النّعمان ، وأبو قتادة ، وعثمان بن عفّان ، وجابر بن سَمُرة ، وكعب بن مالك ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد اللّه ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وابن عبّاس ، وأبو أيّوب ، وعبد اللّه بن أبي هذيل ، وعبد اللّه بن عمر ، وأبو سعد ، وأبو اُمامة ، وزياد بن الفرد ، وعائشة (1) . وصرّح البعض بتواتره كابن عبد البرّ (2) ، والذهبي (3) ، والسيوطي (4) . وأثار هذا الحديث مشكلة لمعاوية بعد استشهاد عمّار ، فحاول توجيهه بقوله : ما نحن قتلناه وإنّما قتله مَنْ جاء به (5) ! فقال الإمام عليه السلام في جوابه : « فَرَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إذَن قاتِلُ حَمزَةَ ! » (6) ولا يمكن لهذه الصفحات القليلة أن تفي بحقّ تلك الشخصيّة العظيمة قط . وأترككم مع هذه النّصوص من الروايات والتاريخ ، الَّتي بيّنت لنا غيضا من فيض فيما يرتبط بهذه القمّة الرفيعة شرفا ، واستقامة ، وحرّيّة .
24كُمَيلُ بنُ زِيادٍهو كميل بن زياد بن نُهَيك النّخعي الكوفي ، من أصحاب الإمامين أمير المؤمنين عليّ عليه السلام (7) ، وأبي محمّد الحسن عليه السلام . (8)
.
ص: 938
عُدّ من ثقات أصحاب الإمام عليّ عليه السلام (1) ، وقيل في حقّه : كان شجاعاً فاتكاً ، وزاهداً عابداً . (2) كان في مقدّمة الكوفيّين الثائرين على عثمان (3) ، فأقصاه عثمان مع عدّة إلى الشام (4) . ولمّا كانت حرب صفّين شارك فيها مع أهل الكوفة . (5) ولّاه الإمام على هيت ، فلم يتحمّل عِبْأها ، بل كان ضعيفاً في ولايته ، فعاتبه الإمام على ذلك (6) . روى عن أمير المؤمنين عليه السلام (7) ، وممّا رواه الدعاء المشهور ب_ «دعاء كميل» (8) . لم يرد ذكره في واقعة كربلاء ، ولا في ثورة التوّابين والمختار . استشهد كميل _ والَّذي كان من جملة العبّاد الثمانية المشهورين في الكوفة (9) _ في سنة 82 ه (10) على يد الحجّاج لعنه اللّه . (11)
25مالِكٌ الأَشتَرُهو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النّخعي الكوفي ، المعروف بالأشتر ؛ الوجه
.
ص: 939
المشرق ، والبطل الَّذي لا يُقهَر ، واللّيث الباسل في الحروب ، وأصلب صحابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأثبتهم . وكان الإمام عليه السلام يثق به ويعتمد عليه ، وطالما كان يُثني على وعيه ، وخبرته ، وبطولته ، وبصيرته ، وعظمته ، ويفتخر بذلك . وليس بأيدينا معلومات تُذكر حول بدايات وعيه . وكان أوّل حضوره الجادّ في فتح دمشق وحرب اليرموك (1) ، وفيها اُصيبت عينه (2) فاشتهر بالأشْتَر . (3) وكان مالك يعيش في الكوفة . وكان طويل القامة ، عريض الصدر ، طلق اللّسان (4) ، عديم المثيل في الفروسيّة (5) . وكان لمزاياه الأخلاقيّة ومروءته ومَنعته وهيبته واُبّهته وحيائه ، تأثيرٌ عجيب في نفوس الكوفيّين ؛ من هنا كانوا يسمعون كلامه ، ويحترمون آراءه . ونُفي مع عدد من أصحابه إلى حِمْص (6) في أيّام عثمان بسبب اصطدامه بسعيد بن العاص والي عثمان (7) . ولمّا اشتدّت نبرة المعارضة لعثمان عاد إلى الكوفة ، ومنع واليه _ الَّذي كان قد ذهب إلى المدينة آنذاك _ من دخولها . (8)
.
ص: 940
واشترك في ثورة المسلمين على عثمان (1) ، وتولّى قيادة الكوفيّين الذين كانوا قد توجّهوا إلى المدينة ، وكان له دور حاسم في القضاء على حكومة عثمان . (2) وكان يصرّ على خلافة الإمام عليّ عليه السلام بفضل ما كان يتمتّع به من وعي عميق ، ومعرفةٍ دقيقة برجال زمانه ، وبالتيّارات والحوادث الجارية يومذاك (3) . من هنا كان نصير الإمام عليه السلام وعضده المقتدر عند خلافته . وقد امتزجت طاعته وإخلاصه له عليه السلام بروحه ودمه ، وكان الإمام عليه السلام أيضا يحترمه احتراما ، خاصّا ويقيم وزنا لآرائه في الاُمور . وكان له رأي في بقاء أبي موسى الأشعري واليا على الكوفة ، ارتضاه الإمام عليه السلام وأيّده (4) ، مع أنّه عليه السلام كان يعلم بمكنون فكر أبي موسى ، ولم يكن له رأي في بقائه . (5) وعندما كان أبو موسى يثبّط النّاس عن المسير مع الإمام عليه السلام في حرب الجمل ، ذهب مالك إلى الكوفة ، وأخرج أبا موسى _ الَّذي كان قد عزله الإمام عليه السلام _ منها ، وعبّأ النّاس من أجل دعم الإمام عليه السلام والمسير معه في الحرب ضدّ أصحاب الجمل (6) . وكان له دور حاسم عجيب في الحرب . وكان على الميمنة فيها (7) . واصطراعه مع عبد اللّه بن الزبير مشهور في هذه المعركة . (8)
.
ص: 941
ولي مالك الجزيرة (1) _ وهي تشمل مناطق بين دجلة والفرات _ بعد حرب الجمل . وكانت هذه المنطقة قريبة من الشام الَّتي كان يحكمها معاوية (2) . واستدعاه الإمام عليه السلام قبل حرب صفّين . وكان على مقدّمة الجيش في البداية ، وقد هَزم مقدّمة جيش معاوية . ولمّا استولى جيش معاوية على الماء وأغلق منافذه بوجه جيش الإمام عليه السلام ، كان لمالك دور فاعل في فتح تلك المنافذ والسيطرة على الماء (3) . وكان في الحرب مقاتلاً باسلاً مقداما ، رابط الجأش مجدّا مستبسلاً ، وقد قاتل بقلبٍ فتيّ وشجاعة منقطعة النّظير (4) . وتولّى قيادة الجيش مع الأشعث (5) ، وكان على خيّالة الكوفة طول الحرب (6) ، وأحيانا كان يقود أقساما اُخرى من الجيش . (7) وفي معارك ذي الحجّة الاُولى كانت المسؤوليّة الأصليّة والدور الأساس للقتال على عاتقه (8) . وفي المرحلة الثانية _ شهر صفر _ كان يقود القتال أيضا يومين في كلّ ثمانية أيّام . 9 وكان له مظهر عجيب في المنازلات الفرديّة للقتال ، وفي حلّ عُقَد الحرب ، وعلاج مشاكل الجيش ، والنّهوض بعب ء الحرب ، والسير بها قُدما بأمر الإمام عليه السلام .
.
ص: 942
بَيد أنّ مظهره الباهر الخالد قد تجلّى في الأيّام الأخيرة منها ، بخاصّة «يوم الخميس» و «ليلة الهَرير» . وكان يوم الخميس وليلة الجمعة «ليلة الهرير» مسرحا لعرض عجيب تجلّت فيه شجاعته ، وشهامته ، واستبساله ، وقتاله بلا هوادة ، إذ خلخل نظم الجيش الشامي ، وتقدّم صباح الجمعة حتى أشرف على خيمة القيادة . (1) وصار هلاك العدوّ أمرا محتوما ، وبينا كان الظلم يلفظ أنفاسه الأخيرة ، والنّصر يلتمع في عيون مالك ، تآمر عمرو بن العاص ونشر فخّ مكيدته ، فأسرعت جموع من جيش الإمام _ وهم الذين سيشكّلون تيّار الخوارج _ ومعهم الأشعث إلى مؤازرته ، فازداد الطين بلّةً بحماقتهم . وهكذا جعلوا الإمام عليه السلام في وضعٍ حَرِج ليقبل الصلح ، ويُرجعَ مالكا عن موقعه المتقدّم في ميدان الحرب . وكان طبيعيّا في تلك اللّحظة المصيريّة الحاسمة العجيبة أن يرفض مالك ، ويرفض معه الإمام عليه السلام أيضا ، لكن لمّا بلغه أنّ حياة الإمام في خطر ، عاد بروح ملؤها الحزن والألم ، فأغمد سيفه ، ونجا معاوية الَّذي أوشك أن يطلب الأمان من موت محقَّق ، وخرج من مأزق ضاق به ! ! (2) وشاجر مالكٌ الخوارجَ والأشعثَ ، وكلّمهم في حقيقة ما حصل ، وأنبأهم ، بما يملك من بصيرة وبُعد نظر ، أنّ جذر تقدّسهم يكمن في تملّصهم من المسؤوليّة ، وشغفهم بالدنيا . (3) وحين اقترح الإمام عليه السلام عبدَ اللّه بن عبّاس للتحكيم ورفَضه الخوارج والأشعث ، اقترح مالكا ، فرفضوه أيضا مصرِّين على يمانيّة الحَكَم ، في حين كان مالك يمانيّ
.
ص: 943
المحتد ، وهذا من عجائب الاُمور ! (1) وعاد مالك بعد صفّين إلى مهمّته (2) . ولمّا اضطربت مصر على محمّد بن أبي بكر وصعب عليه أمرها وتمرّد أهلها ، انتدب الإمام عليه السلام مالكا وولّاه عليها (3) . وكان قد خَبَر كفاءته ، ورفعته ، واستماتته ، ودأبه ، ووعيه ، وخبرته في العمل ، فكتب إلى أهل مصر كتابا يعرّفهم به ، قال فيه : « . . . بَعَثتُ إلَيكُم عَبدا مِن عِبادِ اللّهِ ، لا يَنامُ أيّامَ الخَوفِ ، ولا يَنكُلُ عَنِ الأَعداءِ ساعاتِ الرَّوعِ ، أشَدَّ عَلَى الفُجّارِ مِن حَريقِ النّارِ ، وهُوَ مالِكُ بنُ الحارِثِ أخو مَذحِجٍ ، فَاسمَعوا لَهُ وأطيعوا أمرَهُ فيما طابَقَ الحَقَّ ؛ فَإِنَّهُ سَيفٌ مِن سُيوفِ اللّهِ ، لا كَليلُ الظُّبَةِ (4) ولا نابِي (5) الضَّرِيبَةِ ؛ فَإِن أمَرَكُم أن تَنفِروا فَانفِروا ، وإن أمَرَكُم أن تُقيموا فَأَقيموا ؛ فَإِنَّهُ لا يُقدِمُ ولا يُحجِمُ ولا يُؤَخِّرُ ولا يُقَدِّمُ إلّا عَن أمري ، وقَد آثَرتُكُم بِهِ عَلى نَفسي لِنَصيحَتِهِ لَكُم ، وشِدَّةِ شَكيمَتِهِ عَلى عَدُوِّكُم» . (6) وكانت تعليماته عليه السلام الحكوميّة _ المشهورة ب_ «عهد مالك الأشتر» _ أعظم وأرفع وثيقة للحكومة وإقامة القسط ، وهي خالدة على مرّ التاريخ . (7) وكان معاوية قد عقد الأمل على مصر ، وحين شعر أنّ جميع خططه ستخيب بذهاب مالك إليها ، قضى عليه قبل وصوله إليها . وهكذا استُشهد ليث الوغى ،
.
ص: 944
والمقاتل الفذّ ، والنّاصر الفريد لمولاه ، بطريقة غادرة بعدما تناول من العسل المسموم بسمّ فتّاك ، وعرجت روحه المشرقة الطاهرة إلى الملكوت الأعلى . (1) وحزن الإمام عليه السلام لمقتله ، حتى عَدّ موته من مصائب الدهر (2) . وأبّنه فكان تأبينه إيّاه فريدا ؛ كما أنّ وجود مالك كان فريدا له في حياته عليه السلام . (3) ولمّا نُعي إليه مالك وبلغه خبر استشهاده المؤلم ، صعد المنبر وقال : «ألا إنَّ مالِكَ بنَ الحارِثِ قَد قَضى نَحبَهُ ، وأوفى بِعَهدِهِ ، ولَقِيَ رَبَّهُ ، فَرَحِمَ اللّهُ مالِكا ! لَو كانَ جَبَلاً لَكانَ فِنداً (4) ، ولَو كانَ حَجَرا لَكانَ صَلداً . للّهِِ مالِكٌ ! وما مالِكٌ ! وهَل قامَتِ النِّساءُ عَن مِثلِ مالِكٍ ! وهَل مَوجودٌ كَمالِكٍ !» . (5) ومعاوية الَّذي كان فريدا أيضا في خبث طويّته ورذالته وضَعَته وقتله للفضيلة ، طار فرحا باستشهاد مالك ، ولم يستطع أن يخفي سروره ، فقال من فرط فرحه : كان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان ، فقُطعت إحداهما يوم صفّين _ يعني عمّار بن ياسر _ وقُطعت الاُخرى اليوم ، وهو مالك الأشتر . (6) وكلّما كان يذكره الإمام عليه السلام ، يثقل عليه الغمّ والحزن ، ويتحسّر على فقده . وحين ضاق ذرعا من التحرّكات الجائرة لأهل الشام ، وتألّم لعدم سماع جُنده كلامه ، وتأوّه على قعودهم وخذلانهم له في اجتثاث جذور الفتنة ، قال رجل : استبانَ فقدُ الأشتر على أهل العراقِ . لو كان حيّا لقلّ اللغط ، ولعلم كلّ امرئٍ
.
ص: 945
ما يقول . (1) نطق هذا الرجل حقّا ، فلم يكن أحد في جيش الإمام عليه السلام مثل مالك .
26مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍهو محمّد بن عبد اللّه بن عثمان وهو محمّد بن أبي بكر بن أبي قُحافة ، واُمّه أسماء بنت عُمَيس ، وُلد في حجّة الوداع ] سنة 10 ه [ بذي الحُلَيفة (2) ، في وقتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد تهيّأ مع جميع أصحابه لأداء حجّة الوداع . اُمّه أسماء بنت عُمَيس . كانت في البداية زوجة جعفر بن أبي طالب (3) وهاجرت معه إلى الحبشة (4) . وبعد استشهاد جعفر تزوّجها أبو بكر (5) ، وبعد موته تزوّجها أمير المؤمنين عليه السلام . فانتقلت إلى بيته مع أولادها وفيهم محمّد الَّذي كان يومئذٍ ابن ثلاث سنين . (6) نشأ في حِجر الإمام عليه السلام (7) إلى جانب الحسن والحسين عليهماالسلام ، وامتزجت روحه بمعرفة وحبّ أهل البيت عليهم السلام وكان الإمام عليه السلام يقول أحيانا ملاطفا : محمّد ابني من صُلب أبي بكر . 8 وكان محمّد في مصر أيّام حكومة عثمان ، وبدأ فيها تعنيفه وانتقاده له 9 ،
.
ص: 946
واشترك في الثورة عليه (1) . وكان إلى جانب الإمام عليه السلام بعد تصدّيه للخلافة . وهو الَّذي حمل كتابه إلى أهل الكوفة قبل نشوب حرب الجمل (2) ، وكان على الرجّالة فيها (3) . وبعد غلبة الإمام عليه السلام تولّى متابعة الشؤون المتعلّقة بعائشة بأمر الإمام عليه السلام (4) ، وأعادها إلى المدينة . (5) كان محمّد مجدّا في الجهاد والعبادة ، ولجدّه في عبادته سُمّي عابد قريش (6) . وهو جدّ الإمام الصادق عليه السلام من الاُمّهات . (7) ولّاه الإمام عليه السلام على مصر سنة 36 ه بعد عزل قيس بن سعد عنها (8) . ولمّا تخاذل أصحاب الإمام عن نصرته عليه السلام وتركوه وحيداً ، اغتنم معاوية هذه الفرصة واستطاع أن يغتال هذا النّصير المخلص باُسلوب غادر خبيث ، واستطاع حينئذٍ أن يسخّر مصر تحت قدرته . كان الإمام عليه السلام يُثني عليه ويذكره بخير في مناسبات مختلفة ويقول : «لَقَد كانَ إلَيَّ حَبيبا، وكانَ لي رَبيبا (9) ، فَعِندَ اللّهِ نَحتَسِبُهُ وَلَدا ناصِحا، وعامِلاً كادِحا، وسَيفا قاطعا، ورُكنا دافِعا» . 10
.
ص: 947
27المِقدادُ بنُ عَمرٍوالمقداد بن عمرو بن ثعلبة البَهْرَاوِيُّ الكندي ، المعروف بالمقداد بن الأسود . طويل القامة ، أسمر الوجه (1) . كان من شجعان الصحابة وأبطالهم ونُجَبائهم (2) . شهد المشاهد كلّها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله (3) . وصَفُوه بأنّه مجمع الفضائل والمناقب ، وكان أحد الأركان الأربعة (4) . وعَدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنّة . (5) ثبت على الصراط المستقيم بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وحفظ حقّ الولاية العلويّة ، وأعلن مخالفته للذين بدّلوا ، في مسجد النّبيّ صلى الله عليه و آله . (6) وعُدَّ المقداد في بعض الروايات أطوع أصحاب الإمام عليه السلام (7) . وكان من الصفوة الذين صلّوا على الجثمان الطاهر لسيّدة النّساء فاطمة صلوات اللّه عليها . (8) عارض المقداد حكومة عثمان ، وأعلن عن معارضته لها من خلال خطبة ألقاها في مسجد المدينة 9 ، وقال : إنّي لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول إنّ أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل . . أما واللّه لو أجد عليه أعوانا . . . .
.
ص: 948
توفّي المقداد سنة 33 ه وهو في السبعين من عمره . (1) وكان له نصيب من مال الدنيا منذ البداية فأوصى للحسن والحسين عليهماالسلام بستّة وثلاثين ألف درهم منه . (2) وهذه الوصيّة دليل على حبّه لأهل البيت عليهم السلام وتكريمه واحترامه لهم عليهم السلام .
28ميثَمٌ التَّمّارُهو ميثم بن يحيى التمّار الأسدي أبو سالم ، جليل من أصحاب أمير المؤمنين (3) ، والحسن (4) ، والحسين (5) عليهم السلام . كان عبدا لامرأة فاشتراه عليّ عليه السلام وأعتقه ، نال منزلةً رفيعةً من العلم بفضل باب العلم النّبوي حتى وُصف بأنّه اُوتي علم المنايا والبلايا . كان الإمام عليه السلام قدأخبره بكيفيّة استشهاده وما يلاقيه في سبيل اللّه . وقد نطق ميثم بهذه الحقيقة العظيمة الواعِظة أمام قاتله الجلّاد الجائر ، وأكّد حتميّة تحقّق تلك النّبوءة الإعجازيّة بصلابةٍ تامّةٍ . (6) إنّ رسوخه على طريق الحقّ ، وثباته في الدفاع عن الولاية ، ومنطقه البليغ في تجلية الحقائق . كلّ ذلك قد استبان مرارا في كلمات الأئمّة عليهم السلام وذكرته أقلام العلماء ممّا سنقف عليه لاحقا . قتله عبيد اللّه بن زياد قبل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بأيّام . 7
.
ص: 949
الفهرس التفصيلي .
ص: 950
. .
ص: 951
. .
ص: 952
. .
ص: 953
. .
ص: 954
. .
ص: 955
. .
ص: 956
. .
ص: 957
. .
ص: 958
. .
ص: 959
. .
ص: 960
. .
ص: 961
. .
ص: 962
. .
ص: 963
. .
ص: 964
. .
ص: 965
. .
ص: 966
. .
ص: 967
. .
ص: 968
. .
ص: 969
. .
ص: 970
. .
ص: 971
. .
ص: 972
. .
ص: 973
. .
ص: 974
. .
ص: 975
. .
ص: 976
. .
ص: 977
. .
ص: 978
. .
ص: 979
. .
ص: 980
. .
ص: 981
. .
ص: 982
. .
ص: 983
. .
ص: 984
. .
ص: 985
. .
ص: 986
. .
ص: 987
. .