الكشف الوافي في شرح اصول الكافي

اشارة

سرشناسه : شيرازي، محمدهادي بن محمدمعين الدين

عنوان قراردادي : الكافي .اصول. شرح

عنوان و نام پديدآور : الكشف الوافي في شرح اصول الكافي/ محمدهادي بن محمدمعين الدين الشيرازي؛ تحقيق علي الفاضلي.

مشخصات نشر : قم: موسسه دارالحديث العلميه والثقافيه، مركز للطباعه والنشر: كتابخانه، موزه و مركز اسناد مجلس شوراي اسلامي، 1430 ق.= 1388.

مشخصات ظاهري : 739 ص.

فروست : الشروح والحواشي علي الكافي؛ 6.

مركز بحوث دارالحديث؛ 189.

مجموعه آثارالموتمرالدولي لذكري ثقةالاسلام الكليني؛ 8.

شابك : 80000 ريال

يادداشت : عربي.

يادداشت : اين كتاب شرحي بر "اصول كافي" تاليف كليني است.

يادداشت : كتابنامه: ص. [719]- 732: همچنين به صورت زيرنويس.

يادداشت : نمايه.

موضوع : كليني، محمد بن يعقوب - 329ق . الكافي. اصول -- نقد و تفسير

موضوع : احاديث شيعه -- قرن 4ق.

شناسه افزوده : كليني، محمد بن يعقوب - 329ق . الكافي. اصول. شرح

شناسه افزوده : دار الحديث. مركز چاپ و نشر

شناسه افزوده : ايران. مجلس شوراي اسلامي. كتابخانه، موزه و مركز اسناد

رده بندي كنگره : BP129/ك8ك220215 1388

رده بندي ديويي : 297/212

شماره كتابشناسي ملي : 1852979

ص: 1

اشاره

مذكّرة أمين اللجنة العلمية للمؤتمركتاب الكافي الشريف، لمؤلّفه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني رحمه اللّه ، هو أهم وأفضل مؤلّفات الشيعة، ونظرا لما يتمتّع به من ميزات وخصائص جعلت منه كتابا لا نظير له، فقد صار محوراً لظهور وإنتاج قسم واسع من التراث الشيعي، وحظي على مرّ التاريخ باهتمام علماء الشيعة وقدّمت له شروح وتعليقات وترجمات كثيرة. وقد قامت روضة السيّد عبدالعظيم الحسني ومؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية بعقد المؤتمر الثالث من مؤتمراتها التي تدور حول محور «تكريم شخصيات مدينة الري وعلمائها» لتكريم ثقة الإسلام الكليني. والأهداف المتوخّاة من هذا التكريم هي: 1 . التعريف بالشخصية العلمية والمعنوية لثقة الإسلام الكليني. 2. نشر المعارف الحديثية لأهل البيت عليهم السلام. 3. تحقيق ودراسة تراث ثقة الإسلام الكليني. 4. معرفة منزلة وتأثير كتاب الكافي. وقد بدأت لجنة المؤتمر العلمية التخطيطَ العملي لهذا المؤتمر بعد إقامة مؤتمر تكريم أبي الفتوح الرازي في خريف 1427ق، وخطّطت للبرامج التالية: 1 . تصحيح وتحقيق المخطوطات المتعلّقة بكتاب الكافي، سواء كانت ترجمات أو شروح أو تعليقات أو غيرها. 2. فتح آفاق بحثية جديدة في مجال الكافي. 3. تجزئة وتحليل الانتقادات والأسئلة المتعلّقة بالكافي. 4. تقديم الطبعة المحقّقة من كتاب الكافي. 5. تنظيم المعلومات والآثار المكتوبة المتعلقة بالكليني والكافي وتقديمها في قالب أقراص DVD (الأقراص النورية المتعدّدة الأغراض).

ص: 2

والذي توصّلت إليه اللجنة العلمية خلال سنتين ونيف من السعي هو نشر ما يلي تزامناً مع إقامة المؤتمر: أولاً: نسخة الكافي المحقّقة. ثانياً: شروح الكافي والتعليقات عليه. ثالثاً: مجموعة الآثار التي أنتجها المؤتمر. رابعاً: الأعداد الخاصّة من المجلاّت. خامساً: نشرة أخبار المؤتمر. سادساً: أقراص ال-DVD (الأقراص النورية المتعدّدة الأغراض). وسنلقي فيما يلي نظرة عابرة إلى هذه العناوين الستّة:

أولاً: الكافيسيتمّ طبع الكافي طبعة جديدة بعد مقابلته مع المخطوطات القديمة والموثوق بها وبعد التشكيل بالحركات أيضاً، مع تعليقات بهدف رفع الإشكال عن بعض الإسنادات، وبعض الإيضاحات ذات العلاقة بفقه الحديث.

ثانياً: شروح الكافي وتعليقاتهكتب الكثير من الشروح والتعليقات على كتاب الكافي ولم يطبع منها سوى القليل، وقد سعت اللجنة العلمية لأن تحدّد هذه الشروح والتعليقات، وأن تأخذ على عاتقها تحقيقها وعرضها، وسيتمّ تحقيق الكتب التالية وطباعتها وإعدادها لإقامة المؤتمر: 1. الشافي في شرح الكافي، الملاّ خليل بن غازي القزويني، (ت 1089ق) مجلّدان. 2. صافى در شرح كافى (الصافي في شرح الكافي) الملاّ خليل بن غازي القزويني (ت 1089ق) مجلّدان. 3. الحاشية على اُصول الكافي، الملاّ محمد أمين الاسترآبادي (ت 1036ق) مجلّد واحد. 4. الحاشية على اُصول الكافي، السيّد أحمد العلوي العاملي (كان حيّا سنة 1050ق) مجلّد واحد. 5. الحاشية على اُصول الكافي، السيّد بدر الدين الحسيني العاملي (كان حيّا سنة 1060ق) مجلّد واحد. 6. الكشف الوافي في شرح اُصول الكافي، محمد هادي بن محمد معين الدين آصف الشيرازي (ت 1081ق) مجلّد واحد.

ص: 3

7. الحاشية على اُصول الكافي، الميرزا رفيعا (ت 1082ق) مجلّد واحد. 8. الهدايا لشيعة أئمة الهدى (شرح اُصول الكافي) الميرزا محمّد مجذوب التبريزي (ت 1093 ق) مجلّدان. 9. الذريعة إلى حافظ الشريعة (شرح اُصول الكافي) رفيع الدين محمد بن محمد مؤمن الگيلاني (القرن 11ق) مجلّدان 10 و 11. الدرّ المنظوم، الشيخ علي الكبير (ت 1104ق) والحاشية على اُصول الكافي، الشيخ علي الصغير (القرن 12ق) مجلّد واحد. 12. تحفة الأولياء (ترجمة اُصول الكافي) محمد علي بن محمد حسن الفاضل النحوي الأردكاني (كان حياً في 1237ق) 4 مجلّدات. 13. شرح فروع الكافي، محمد هادي بن محمد صالح المازندراني (ت 1120ق) 5 مجلّدات. 14. البضاعة المزجاة (شرح روضة الكافي) محمد حسين بن القار ياغدي (ت 1089ق) مجلّدان. 15. منهج اليقين (شرح وصية الإمام الصادق للشيعة) السيّد علاء الدين محمد گلستانة (ت 1110ق) مجلّد واحد. 16. مجموعة الرسائل في شرح أحاديث الكافي، مجلّدان.

ثالثاً: مجموعة الآثار التي أنتجها المؤتمرالمراد من هذا العنوان الآثار التي أنتجتها اللجنة العلمية، وسيتمّ تقديم الآثار التالية في هذا المجال: 1. حياة الشيخ الكليني، ثامر العميدي، مجلّد واحد. 2. توضيح الأسناد المشكلة في الكتب الأربعة أسناد الكافي ، السيّد محمد جواد الشبيري ، مجلّدان . 3. العنعنة من صيغ الأداء للحديث الشريف في الكافي، السيّد محمد رضا الحسيني الجلالي، مجلّد واحد. 4. كافى پژوهى در عرصه نسخه هاى خطى (دراسات في الكافي وفق النسخ الخطيّة) ، علي صدرائي الخوئي، السيّد صادق الأشكوري، مجلّد واحد. 5. كتاب شناسى كلينى و كتاب الكافى (ببلوغرافيا الكليني وكتابه الكافي) ، محمد قنبري ، مجلّد واحد . 6. شناخت نامه كلينى والكافي (معلومات متناثرة حول الكليني والكافي) محمد قنبري، 4 مجلّدات.

ص: 4

7. كافي پژوهى (تقرير عن الأطروحات ورسائل التخرج المتعلقة بالكليني والكافي) السيّد محمد علي أيازي، مجلّد واحد. 8 . مجموعه مقالات همايش (مجموعة مقالات المؤتمر) مجموعة من الباحثين، 7 مجلّدات. 9 . مصاحبه ها و ميزگردها (الحوارات) مجلّد واحد.

رابعاً: الأعداد الخاصة من المجلاّتسوف تصدر كلّ من مجلّة آينه پژوهش، سفينه، علوم الحديث والبعض الآخر من النشريات، أعداداً خاصة تزامناً مع إقامة المؤتمر.

خامسا: نشرة أخبار المؤتمرسيتمّ طبع أربعة أعداد من نشرة أخبار المؤتمر التي تقوم بمهمّة الإعلام قبل المؤتمر حتى زمان انعقاده.

سادساً. أقراص ال- DVDسوف يتمّ تقديم البرنامج الألكتروني لمجموعة آثار المؤتمر، مع بعض مخطوطات الكافي، وكذلك الشروح والتعليقات والترجمات المطبوعة لكتاب الكافي في قالب أقراص DVD. *** وفي الختام نقدم شكرنا إلى جميع المثقّفين والمفكّرين، والمنظّمات والمؤسّسات العلمية البحثية، التي أسهمت في تحقيق النتائج المرجوّة من هذا المؤتمر، خاصة: سادن روضة السيّد عبدالعظيم عليه السلام ورئيس مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية، سماحة آية اللّه محمد الرَّيشَهري، اللجنة العليا لتعيين أهداف المؤتمر، اللجنة العلمية للمؤتمر، لجنة العلاقات الدولية، اللجنة التنفيذية، مؤسسة البحوث الإسلامية التابعة للروضة الرضوية المقدسة، مركز البحوث الكومبيوترية للعلوم الإسلامية، المدراء العامّين في روضة السيّد عبد العظيم عليه السلام، المدراء والباحثين في مؤسسة علوم الحديث ومعارفه، المسؤولين، الأساتذة والطلاب في كلية علوم الحديث، المسؤولين والعاملين في دار النشر التابعة لدار الحديث. مهدي المهريزي الأمين العام للجنة العلمية شتاء 1429ق

ص: 5

تصدير

تصديرلا يزال الكافي يحتلّ الصدارة الاُولى من بين الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية ، وهو المصدر الأساس الذي لا تنضب مناهله ولا يملّ منه طالبه ، وهو المرجع الذي لا يستغني عنه الفقيه ، ولا العالم ، ولا المعلّم ، ولا المتعلّم ، ولا الخطيب ، ولا الأديب . فقد جمع بين دفّتيه جميع الفنون والعلوم الإلهيّة ، واحتوى على الاُصول والفروع . فمنذ أحد عشر قرنا وإلى الآن اتّكأ الفقه الشيعي الإمامي على هذا المصدر لما فيه من تراث أهل البيت عليهم السلام ، وهو أوّل كتاب جمعت فيه الأحاديث بهذه السعة والترتيب . وبعد ظهور الكافي اضمحلّت حاجة الشيعة إلى الاُصول الأربعمائة ، لوجود مادّتها مرتّبة ، مبوّبة في ذلك الكتاب . ولقد أثنى على ذلك الكتاب القيّم المنيف والسفر الشريف كبار علماء الشيعة ثناءً كثيرا ؛ قال الشيخ المفيد في حقّه : «هو أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة» وتابعه على ذلك من تأخّر عنه . ومن عناية الشيعة الإمامية بهذا الكتاب واهتمامهم به أنّهم شرحوه أكثر من عشرين مرّة ، وتركوا ثلاثين حاشية عليه ، ودرسوا بعض اُموره ، وترجموه إلى غير العربية ، ووضعوا لأحاديثه من الفهارس ما يزيد على عشرات الكتب ، وبلغت مخطوطاته في المكتبات ما يبلغ على ألف وخمسمائة نسخة خطيّة ، وطبعوه ما يزيد على العشرين طبعة . ومن المؤسف أنّ الكافي وشروحه وحواشيه لم تحقّق تحقيقا جامعا لائقا به ، مبتنيا على اُسلوب التحقيق الجديد ، على أنّ كثيرا من شروحه وحواشيه لم تطبع إلى الآن وبقيت مخطوطات على رفوف المكتبات العامّة والخاصّة ، بعيدة عن أيدي الباحثين والطالبين. هذا ، وقد تصدّى قسم إحياء التراث في مركز بحوث دار الحديث تحقيق كتاب

ص: 6

«الكافي» ، وأيضا تصدّى في جنبه تحقيق جميع شروحه وحواشيه - وفي مقدّمها ما لم يطبع - على نحو التسلسل. ومنها هذه الشرح المسّي ب-«الكشف الوافي» لمؤلّفه محمّد هادي بن معين الدين محمّد الشريف الرازي المعروف ب-«آصف«شيراز و قد كان فاضلاً متفتّناً، و يعتبر آيه في الذكاء و الأدب، كما ذكره بعض مترجميه. و يبدأ هذا الشرح ب-«كتاب العقل والجهل» من اُصول الكافي، و ينتهي بانتهاء كتاب التوحيد، سوي أنّه قد سقط منه بعض باب »إطلاق القول بانه شئ» و ما بعده من الأبواب إلي باب البداء. و قد ضمّنه مؤلّفه آراء فريده و تحقيقات عميقه، خصوصاً في المباحث العقليّه. و لمّا تبنّي قسم إحياء التراث التابع لمؤسّسه دار الحديث تحقيق كتاب الكافي و ما يمكن تحقيقه من شروحه و تعليقاته و ما يتربط، فكان له الشرف أن قام بتحقيق هذا السفر علي يد المحقّق الفاضل الشيخ علي الفاضلي، فأتي بما هو جهده فلّله درّه، و عليه اجره. و لا يخفي علي القارئ الكريم أنَّ سماحه الشيخ نعمه الله الجليلي قدّس سِرُّه قد راجع هذا الكتاب، ولكن وافته المنيّه قبل طبعه، و بفقده فقدت الحوزه العلميّه و المؤسّسات التحقيقيّه علماً بارعاً و محقّقاً متضلّعاً، فإنّ قلمه لم يجفّ و همّته لم تضعف إلي آخر لحظه من لحظات حياته، تغمّده الله برحمته و أسكنه فسيح جنّاته. قسم إحياء التراث مركز بحوث دار الحديث محمّد حسين الدرايتي

ص: 7

المؤلّف وما قيل في حقّه

مقدّمة التحقيقالمؤلّف وما قيل في حقّههو محمّد هادي بن معين الدين محمّد (1) الشريف الشيرازي المعروف بآصَف شيراز . قال عنه معاصره ولي قلي شاملو في قصص الخاقاني، ج 2، ص 56: از جمله فضلاى لازم الإعزاز ، حضرت ميرزا محمّد هادى آصف شيراز است كه عندليب بيانش در فنونِ حكمت گسترى ، با نطق فيلسوفان روزگار هم آواز است. جَناب ميرزايى، خلف ارشد ارجمندِ امجدِ ميرزا معين الدين محمّد است كه سابقا در بلاد فارس از جانب اولياى دولت روزافزون ، به شغل وزارت قيام داشت. مولد آن ، منبع بحر دانش ، ملك شيراز است و به تحصيل كمالات صورى و معنوى در خدمت فضلاى آن ديار نموده ، بعد از وفات والد (2) به رتبه منصب وزارت سرافرازى يافته ، به جاى پدر نشست. مدّت ها نقد گرانمايه شباب را صرف آن خدمت نموده ، آخر الأمر به سعايتِ ارباب حقد و حسد «فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّنْ مَسَدٍ» از وزارت معزول و موافق مدّعا به كار افاده و استفاده مشغول شد. از تصانيف آن مخدوم الفقراء... . وقال عنه السيّد علي خان الشيرازي المدني (م 1118) عند ذكر أعيان العجم وأفاضلهم:


1- .صحّف في أمل الآمل، ج 2، ص 310، وفي تعليقة أمل الآمل، ص 310 «محمّد» ب- «محمود». وفي هامش الرياض، ج 5، ص 195 : «في تعاليق أمل الآمل: بل محمّد الشيرازي المعروف بآصف شيراز» .
2- .كذا . والصواب - كما سيأتي عن بعض المصادر - أنّ والده استعفى عن الوزارة .

ص: 8

ومنهم الميرزا محمّد هادي بن معين الدين محمّد ، وزير فارس ، ابن غياث الدين الشيرازي. كان فاضلاً متفنّنا، آيةً في الذُكاء والأدب والمحاضرة (1) . وقال الشيخ حرّ العاملي (م 1104): كان فاضلاً متقنا آية في الذُكاء والأدب... ذكره السيّد علي خان في السُلافة ، وأثنى عليه كثيرا (2) . ووصفه العلّامة المجلسي ب- «بعض السالكين مسلك الفلاسفة» (3) . وأثنى عليه معاصره مير محمّد سعيد المشيزي (البردسيري) في تذكره صفويّه كرمان بقوله: وزير عطارد تدبير و فاضلِ ارسطو نظير ، ميرزا محمّد هادى ، خلفِ ميرزا معين الدين محمّد... ارسطو فطرت ، افلاطون سريرت، جامع المعقول و المنقول، حاوى الفروع و الاُصول، كاشف غوامض جلى و خفى... اركان وزارت را خود به قواعد و قوانين عدالت مشيّد گردانيد، كام جانِ طالبان علوم را به رشحات عرفان و ريعان چشانيد، موالى و اصحاب كبار را به عوارفِ خويش اميدوارى داده و هوشمندان را نقد شايگانِ مدّعا در كنار نهاده، چمنِ آمالِ ارباب و رعايا به آبيارى قايدِ شريعتِ غرّا نزهت بخشيد و بساط ظلم و زور و عدوان را به نيروى توفيقات صمدانى درهم پيچيد. ضبط و نسق ماليات ديوانى را به نحوى مى نمود كه مزيدى بر آن متصوّر نبود و سخن مفسدان و اشرار را مطلقا نمى شنود. خلائق به ذكر مفاخر و مآثرش رَطْب اللسان بودند و جمهورِ سكنه بلده و بلوكات به يُمن نصفتِ (4) كاملش بر بستر آرامش مى غنودند. مجملاً اوقات شريف آن آصَفِ ستوده صفات به اين دستور مصروف بود كه بعد از وظايفِ طاعات و تعقيبات و تلاوتِ قرآنِ مجيد ، وقتِ طلوع آفتاب به مدرسه


1- .سُلافة العصر، ص 491.
2- .أمل الآمل، ج 2، ص 311.
3- .مرآة العقول، ج 2، ص 201.
4- .«نصفت» : انصاف .

ص: 9

نشسته، نايب الصداره و مولانا عوض و مير سلطان محمّد دامغانى و جمعى را درس گفته، همگى [را] به تلمّذِ خوانش محظوظ مى ساخت. و بعد از فراغ تدريس، به خدمات ديوانى و تمشيت مهمّاتِ رعايا مى پرداخت و هنگام ظهر ، حاضرى را در ديوانخانه صرف نموده، متوجّه حرمسرا [مى شد] ، و لحظه اى استراحت كرده، بيرون مى آمد و قدرى به كارهاى جزئى خود رسيده و لحظه اى استراحت كرده، بيرون مى آمد و قدرى به كارهاى جزئى خود رسيده، موالى و اصحابِ تلمّذ و تعلّم و ارباب وفاق حاضر شده، تا وقت نماز مغرب به تحقيق سؤالِ ايشان اقدام مى نمود و به سرانگشتِ راى صائب و ضمير ثاقب، عقده از كار ايشان مى گشود. درين سال [1079] تنگى و قلّت آذوقه در بلدها و بلوكات شايع بود، آصَفِ ستوده صفاتِ كريم الذات، هر شب چند قاب طعام با مقدارى مُعتَدٌّ بِهِ نان، به مسجد جامع مظفّرى مى فرستاد كه فقرا و درويشان صرف نمايند؛ و با خلايق بدينگونه سلوك مى نمود. و از يُمن معدلت او ، باب مرحمتِ الهى مفتوح شده ، آن زمستان على الاتّصال باران مى باريد (1) . وقال عنه معاصره محمّد طاهر النصرآبادي (ت 1027) عند ذكر «فرقه سيّم در ذكر وزرا و مستوفيان»: ميرزا هادى ، ولد امجد ميرزا معين الدين محمّد ، وزير فارس كه صفات او محتاج به تقرير نيست و خلف او از جميع علوم بهره وافى يافته. والدش از وزارت فارس استعفا نموده، وزارت به او مرجوع شد. مدّتى در آن امر در كمال استقلال مشغول بوده، در مراعات قاطبه فضلا و علما و شعرا و فقها به هيچ وجه تقصير ننموده، آنچه لازمه بزرگى بود به عمل مى آورد... اگرچه شعر گفتن دون مرتبه او بود؛ امّا گاهى


1- .تذكره صفويّه كرمان، ص 347 و 350 - 353.

ص: 10

والده و سوانح حياته

في مدح ميرزا معين الدين محمّد وزير سابق فارس

فكر مى كرد. اين رباعى از او مسموع شد... (1) . و مدحه وذكر تاريخ وزارته أيضا ميرزا صادق دستغيب (2) ، كما نقل عنه محمّد طاهر النصرآبادي هكذا: ميرزا صادق دستغيب ، اين تاريخ در باب وزارت آصَف شيراز ، كه نواده غياث كهره است (كمره ايست)، گفت: آن خواجه كه نفرينش دعاى ملك استتاريخ وزارت شهش غيبنك است (1042) بازى بازى فلك بجائيش رساندكامروز بجاى قطعه اش نُه فلك است (3)

والده و سوانح حياتهمدحه شرعي الشيرازي بقصيدة ، كما في ديوانه المخطوط (ص 41 - 42) الموجود في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 7009 (الفهرست، ج 25، ص15) (4) هكذا:

في مدح ميرزا معين الدين محمّد وزير سابق فارس صد بار پيش گفتمت اى عقل خُرده دانچشم وفامدار از اين تيره خاكدان هر لحظه صد شكست ز زال سپهر خوردرستم كه داشت داعيه فتح هفت خوان ايمن ز دستبرد زوالِ خسوف تُستخورشيد را كه چرخ چهارم بُوَد مكان هر چند ز دورى خورشيد سود كردبنگر چگونه يافت ز نزديكيش زيان انگشت مى مَكيم چو طفلان ز قحط شيراز بس كه نيست مادر ايّام مهربان در باغ دهر تا كه بناى شگفتى استايمن نشد بهارِ كس از آفت خزان زير سپهر شِكوِه ز سر گشتگى مكنكاسوده نيست يك نفس ز گردش آسمان كس ره به آشيانه عنقا نبرده استبنشين به گوشه ز مروّت مجو نشان بر مركب توكّل همّت سوار باشمانى چرا پياده به دنبال كاروان عارف به رنگ و بوى جهان كى رود ز راههر چند دل فريب بُوَد زينت جهان مُهر قبول دنيّى دون آتش بودچون اجتناب از آن نكند مرد خُرده دان اى عندليب طبع نواسَنج مدح شوبگشا زبان به وصف وزير رفيع نشان درياى جود آصف دورانِ معين ديناى شرمسار از دل و دست تو بحر و كان دائم زبان خامه تو درگه صَريرنفرين كند به خصم تو كِلك سيه زبان در زير ظلّ بال هماى عدالت استباز و كبوترند مقيم يك آشيان چون تير هر كجى به زمان تو راست روور چلّه اطاعتِ تو سر نهد كمان هر صبحدم بديده بدخواهِ جاه توخورشيد از خطوط شعاعى زند سنان امنيّتى بعهد تو در اين ديار هستتا غايتى كه گرگ بود گلّه را شبان شرعى مديح را به دعا ساز مختتمدر وصف اين يگانه چو قاصر بود زبان يا رب بحقّ فيض دعاهاى بى رياكان را به پيشگاه اجابت بود مكان تا بنده باد كوكب اقبال دولتتتا هست مهر و ماه و زِ ارض و سما نشان * * * قال ميرزا حسن الحسيني الفسائي: در اواخر اين سال [1018] نوّاب اللّه وِردى خان ، وزارت مملكت فارس را به قدوه ارباب دولت و رفعت، ميرزا معين الدين محمّد خلف الصدق ميرزا غياث الدين على شيرازى واگذاشت و كلانترى را به سلاله سادات ميرشاه ، حيدر ثانى ، ولد مير سلطان ابراهيم حسنى حسينى ، كلانتر سابق ، ارزانى داشت (5) .


1- .تذكرة الشعراء، ج 1، ص 101.
2- .ترجم له النصرآبادي في تذكرته ، ج 1، ص 385 وفي طبع وحيد دستگردي، ص 272 .
3- .تذكرة الشعراء، ج 2، ص 696، وفي ط وحيد دستگردي، ص 272.
4- .استنسخها لي فضيلة الاُستاد الدكتور فتح اللّه نجّارزادگان دام إفضاله.
5- .فارسنامه ناصرى، ج 1، ص 457.

ص: 11

وقال أيضا: و در اين سال [1048] نوّاب ، ميرزا معين الدين محمّد شيرازى ، حاكم و وزير فارس ، كاروانسراى خان گركان، بلوك قونقرى ميانه شيراز و اصفهان را براى رضاى خداى تعالى و آسايش مسافران احداث نمود (1) . وقال محمّد يوسف واله القزويني في وقائع سنة 1042 (2) عند ذكر قتل شاه صفي ، إمام قلي خان ولد اللّه وردي خان حاكم فارس و تجزءة ملك فارس: و همچنين كلب على بيك مذكور ، به لقب ارجمند خانى و ايالت ولايت لار سربلند گرديده ، به اتّفاق ميرزا محسن ورزنه ، وزير ناظر بيوتات ميرزا معين الدين محمّد وزير و فولاد بيك ناظرخان مذكور ، به ضبط و محافظت اموال و اسباب خان مشارٌ إليه و اولاد او مأمور شده بودند... الكاى شيراز را به ديوان اعلى منسوب و وزارت و نظم و نسق را به معين الدين محمّد ، وزير امام قلى خان كرامت فرموده... (3) . وقد ذكرت هذه القضيّة بنحو أبسط أيضا في ذيل عالم آراى عبّاسى ، ص 116 - 117 ، إن شئت فراجع هناك .


1- .فارسنامه ناصرى، ج 1، ص 476.
2- .في قصص الخاقاني ، ج 1 ، ص 213 (ذكره في وقائع سنة 1041) .
3- .خلد برين (ايران در زمان شاه صفى و شاه عبّاس دوّم)، ص 149 - 150 . و انظر أيضا : تاريخ عالم آراى عبّاسى، ص 250؛ خلاصة السير، ص 148؛ فارسنامه ناصرى، ج 1، ص 474.

ص: 12

ص: 13

من سوانح حياة المؤلّف

من سوانح حياة المؤلّفقال ميرزا حسن الحسينيّ الفسائي: و در سال 1067 اعلى حضرت شاه جهان، پادشاه ممالك هندوستان كه علاوه بر عارضه پيرى، به مرض فالج مبتلا گشته بود ، اولاد امجاد او درهم ريخته ، هر يك داعيه پادشاهى كرده، درهاى مخالفت را باز نمودند و شاهزاده مرادبخش، اظهار

ص: 14

تشيّع نموده، در مملكت گجرات ، عَلَم اقتدار افراشته، خطبه و سكّه را به نام ائمّه اثنى عشر عليهم السلام قرار داده، حكيم كاظم قمى را به رسالت ايران مأمور داشته، از اعلى حضرت شاه عبّاس مدد و اعانت خواست . و نوّاب محمّد قاسم بيگ (والى شيراز) و ميرزا محمّدهادى وزير فارس، به فرموده پادشاه جم جاه، هزار نفر تفنگچى دشتستانى ولارستانى را براى اعانت او، روانه هندوستان فرمودند و هنوز سپاه فارس به مقصود نارسيده، اخبار گرفتارى شاهزاده مرادبخش به دست برادر خود شاهزاده اورنگ زيب رسيد، آن سپاه ، عود به لارستان و دشتستان نمودند. و هم در اين سال [1067] وزارت مملكت فارس به ميرزا نظام الملك ، پسر ميرزا حسين بيگ جابرى انصارى شيرازى اصفهانى الاصل ، وزير سابق رسيد (1) . وقال الأفندي في تعليقة أمل الآمل في ترجمة المؤلّف : كان وزيرا في فارس في زمن والده بعد عزل والده عن الوزارة (2) ، ثمّ عزل هو أيضا ، وصار في أواخر عمره وزير [بلاد] كرمان، ثمّ عزل وصار مقيّدا محبوسا إلى أن توفّي في الحبس في زماننا. له فوائد وتعليقات وحواشٍ ورسائل (3) . وقال ميرزا حسن الحسينيّ الفسائي: و در همين سال [1052] نوّاب، ميرزا معين الدين محمّد شيرازى ، به طيب خاطر لقب وزارت ، بلكه اعمال ايالت مملكت فارس را به ولد ارجمند خود ميرزا محمدهادى واگذاشته، بقيه عمر را به اعمال خيريّه گذرانيد (4) .


1- .فارسنامه ناصرى، ج 1، ص 482 - 483.
2- .كذا . والصواب - كما ورد في بعض المصادر - أنّه استعفى عن الوزارة .
3- .تعليقة أمل الآمل ، ص 31 - 311 . و انظر أيضا : رياض العلماء، ج 5، ص 196.
4- .فارسنامه ناصرى، ج 1، ص 477.

ص: 15

عزله عن وزارة شيراز

عزله عن وزارة شيرازوقال محمّد يوسف واله القزويني الإصفهاني: ديگر از وقايع اين سال [1066] سعادت اشتمال، مناقشه و معارضه كتّاب دفترخانه همايون با ميرزا هادى، وزير فارس و عزل مشارٌإليه بود. بيان اين سخن آنكه، بعد از سانحه قتل امام قلى خان ، كه مملكت فارس در ميان عمّال و حكّام انقسام يافت، ميرزا معين الدين محمّد (وزيرخان مذكور) به منصب وزارت فارس سربلند گرديده ، بعد از وى اين منصب ارجمند به ميرزا هادى ولد مشاراليه رسيد و سالهاى دراز ، پدر و پسر به اين افسرِ امتياز سرافراز بودند. و پيوسته اوارجه نويس 1 فارس تقرير مى نمود كه بعضى از محال فارس را (كه در نسخه تشخيص زمانِ نوّابِ گيتى ستانِ فردوس آشيان داخل بوده) والد و ولد ابواب جمعِ خود ننموده اند و صورت حال در اين سال ، به عرض شهريارِ بلند اقبال رسيده ، در حين توجّه رايات جاه و جلال به صوب ييلاقات رقم عدالت شيم ، به احضار مشارٌإليه صادر گرديد و بعد از احضار ميرزا هادى مزبور ، چون گمان آن بود كه شهريار جهان، آفتاب سان از افق ولايت شيراز طالع شود و وجود وزير در آن حدود ناگزير بود، تشخيص و تنقيح مناقشه مذكور موقوف ماند و چون الويه دولت و اعلامِ فتح و نصرت ، به مركز دايره خلافت معاودت فرموده ، حركت به آن ولايت صورت پذير نگرديد ، حشرى از عجزه و رعاياى فارس به آستان گردون اساس پيوسته ، زبان به شكوه و شكايت وزير مذكور و كاركنان مشارٌإليه گشودند و

ص: 16

بعض اساتيد المؤلّف و أصدقائه

اين معنى ، علاوه مناقشه اوارجه نويس و مؤمى إليه و مقرّر گرديد كه وزير ديوان اعلى ، مستوفيان عظام را به دربار اقبال آشيان جمع آورده ، بعد از تشخيص و تحقيق مناقشه طرفين ، حقيقت [را ]معروض دارد. و جناب ايران مدارى ، چون به موجب فرمان عمل نمود ، درازدستى هاى وزير مذكور و والدِ مشارٌإليه در اخذ اموال خاصّه به وضوح پيوسته ، بعد از عرض به موجب فرمانِ عدالت بنيان، وزير مذكور در كنج انزواى عزل و بازخواست نشست و آنچه داشت به ازاى باقى ماليات ديوان ، به ضابطان اموال خاصّه شريفه بازگذاشت. و چون دست اقتدار آن وزير غلط كار ، از دامن گيرودار كوتاه شد ، محال فارس را كه با يك نفر بود طريق انقسام به پنج بخش نمود، از آن جمله وزارت دارالعلمِ شيراز و حومه شهر (كه اعظم اقسام خمسه بود) داده به بيك گرجى غلام خاصّه شريفه و قسم ديگر به ميرزا اسماعيل (برادر آن بداختر) مرجوع گرديده ، سه حصّه ديگر به ساير بندگان و فرمان پذيرانِ آستانِ گردون شأن رسيد (1) . وذكر نحوه أيضا محمّد طاهر وحيد القزويني (م 1112) في ضمن شرح حال شاه عبّاس الثاني (2) . و ذكره أيضا النصر آبادي قريبا منه في تذكرته ، ج 1 ، ص 101 ؛ و محمّد سعيد المشيزي (البردسيري) في تذكره صفويّه كرمان (عند ذكر وقائع سنة 1078) بنحو أبسط (3) .

بعض اساتيد المؤلّف و أصدقائهقال النصرآبادي في تذكرته (ج 1، ص 255) في ترجمة ملا محمّد تقي لَلَه: چون پدرش لَلَه ، ميرزا محمّد حسين اُوراجه نويس شيرازى بود، به لَلَه مشهور


1- .خلد برين (ايران در زمان شاه صفى و شاه عبّاس دوّم) ، ص 574 - 575.
2- .راجع : عبّاسنامه (شرح زندگانى 22 ساله شاه عبّاس ثانى)، ص 214 .
3- .راجع : تذكره صفويّه كرمان ، ص 347 - 359 .

ص: 17

مؤلفاته

است؛ در كمال فضل و حال بود، قطع نظر از آگاهى معنوى، صفاى باطن هم داشت كه كم كسى از فضلا را دست دهد. انيس و جليس اكابر شيراز بوده، خصوصا امام قلى خان. و بعد از فوت خان ، از مخصوصان ميرزا معين الدين محمّد بوده، ميرزا هادى شاگرد او بوده، وقتى به اصفهان آمده ، فقير به خدمت او رسيد، حَقّا كه ملكى بود در لباس بشر. در دقّت طبع و سخن فهمى و سخن شناسى مانند نداشت...». قال النصرآبادي في تذكرته (ج 1، ص 501) في ترجمة حاجي محمّد تقي: حاجى محمد تقى ولد حاج مؤمن دامغانى. والدش تحصيل علم فقه نموده، نهايت صلاح داشت. به مكّه معظمه رفت، سه حج كرد بعد از مراجعت در شيراز فوت شد. مجملاً حاج تقى مولدش شيراز بوده، در آنجا تحصيل كمال نموده، مشرب صافيش با مؤمن و كافر از چشمه وحدت آب نوشيده، در هر باب لطيفه پرداز است. مدّتى در شيراز با مرحوم ميرزا هادى معاشر بود. بعد از عزل مشارٌ إليه به اصفهان آمده، در خدمت عاليجاه مستغنى الألقابى ميرزا عليرضا شيخ الاسلام به تحرير مراسلات و مكاتبات مبادرت مى نمود.

مؤلفاته1 . حاشية على الإشارات ذكرها ولي قلي شاملو في قصص الخاقاني، ج 2، ص 56 ؛ وذكرها أيضا المحقّق الطهراني رحمه اللهفي الذريعة وقال: «ألّفه بعد مطالعة شرح الخواجة والحواشي الشريفيّة والمحاكمات . [يوجد] بخطّ محمّد طالب بن محمّد حسين الأميركلائي. كتبه سنة 1121 عند السيّد شهاب الدين النجفي التبريزي في قم». (1) و سيأتي حاشيته على شرح الإشارات، وحلّ مشكلات الإشارات، ومرآة الحقائق؛ ويحتمل اتّحاد الكلّ.


1- .الذريعة، ج 26، ص 282.

ص: 18

حاشية على تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل) ذكرها أفندي بعنوان تعليقات على تفسير البيضاوي (1) . 3 . حاشية على حاشية القديم ذكرها ولي قلي شاملو، (2) والظاهر أنّها حاشية القديم للدواني (م 907) على الشرح الجديد للتجريد للقوشچي، وهي أوّل الحواشي الثلاث التي علّقها الدواني (3) . 4 . حاشية على شرح الإشارات من الطبيعي والإلهي ذكرها الأفندي (4) . ولعلّها متّحدة مع حلّ مشكلات الإشارات الآتي. 5 . حاشية على شرح المطالع ذكرها الأفندي بعنوان تعليقات على شرح المطالع 5 . 6 . حاشية على الشفاء ذكرها ولي قلي شاملو، وقال: هي حواشٍ متفرّقة على الشفاء 6 . 7 . حاشية على مختصر تلخيص المفتاح ذكرها أفندي بعنوان تعليقات على مختصر تلخيص المفتاح 7 . 8 . حلّ مشكلات الإشارات ذكره آغا بزرگ وقال: «هي حاشية على شرح الإشارات، وهو مجلّد موجود في مكتبة فرهاد ميرزا، ورثه عنه حفيده محمود فرهاد - معتمد كما ذكره دانش پژوه في نشريه


1- .اُنظر : تعليقة أمل الآمل، ص 311، وفي المطبوع في رياض العلماء، ج 5، ص 196.
2- .اُنظر : قصص الخاقاني، ج 2، ص 56.
3- .انظر : الذريعة، ج 6، 67؛ كتابشناسى تجريد الاعتقاد لصديقنا المحقّق الشيخ عليّ الصدرائي الخوئي، ص 64.
4- .تعليقة أمل الآمل، ص 311، وفي المطبوع في رياض العلماء، ج 5، ص 196.

ص: 19

كتابخانه مركزى، ج 3، ص 171 - وتاريخ كتابة النسخة 1062، وعليها حاشية «منه سلّمه اللّه ». وهذه حاشية على أوّل النمط الرابع في الإلهيّات» (1) . 9 . رسالة في شبهة الاستلزام وجوابها ذكرها أفندي (2) . 10 . رسالة في المركّب وأجزائه منها نسخة في مكتبة شاه چراغ بشيراز ، كما في فهرستها (ج 2، ص 394). 11 . مرآة الحقائق هي حاشية على شرح الإشارات إلى آخر النمط الخامس ناقدا لحواشي ملّا ميرزا جان الباغنوي ، ألّفه باسم شاه صفيّ الصفوي . منه نسخة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 1488. كتبت في حياة المؤلّف كما يدلّ عليها بعض حواشيه عليه بعنوان «منه عفي عنه» وهي نسخة مصحّحة جيّدة. (الفهرست، ج 4، ص 204 - 205) واستفدت منها في مقدّمتنا. 12 . نقد الحواشي قال عنه المؤلّف في أوائله : أمّا بعد فيقول العبد المذنب المُحوج إلى رحمة ربّه الغني محمّد هادي بن معين الدين محمّد الشيرازي : كنتُ برهةً من الزمان مشتغلاً بمباحثة شرح الجديد للتجريد (3) ، والحاشية القديمة للمولى المحقّق المدقّق العلاّمة الدواني، وما يتعلّق بهما من حاشية العلاّمة النحرير حبيب اللّه الشهير بمولانا ميرزا جان الباغنوي


1- .تعليقة أمل الآمل، ص 311، وفي المطبوع في رياض العلماء، ج 5، ص 196.
2- .طبقات أعلام الشيعة (الروضة النضرة)، ج 5، ص 629.
3- .يعبّر عن شرح القوشجي ب-«شرح الجديد» في قبال شرح القديم المسمّى ب- تسديد تشييد القواعد في شرح تجريد العقائد لشمس الدين محمود بن عبد الرحمان الإصفهاني (م 746) .

ص: 20

الشيرازي، وسائر الحواشي المتعلّقة بهما ووَجَدت نسخها وقد خطر ببالي كثيرا ما رأيت أنّه ملائم للمقام لتحقيق المرام وتقريبه إلى الأفهام، ردّا لما زعمه بعض قاصري الكلام، فجمعتُه بعناية اللّه الملك العلاّم مجيبا لملتمس بعض الأعلان الذين احفظوا (ظ) منّي في بعض مظانّ اللبس ومواقع الارتياب بما يفيد المرام، وسمّيته بنقد الحواشي والاستعانة من اللّه الذي برأ الأنام وعمّهم بالإكرام . منه نسخة في مكتبة سپه سالار برقم 1457 (الفهرست، ج 5، ص 724 - 725) وهي نسخة مصحّحة جيّدة ، وعليها حواشٍ متعدّدة بإمضاء «منه مدّ ظلّه» وبعض الحواشي بإمضاء «منه عفي عنه» وكتبت في حياة المؤلّف في سنة 1074 بخطّ محمّد جعفر بن عناية اللّه الكاتب الشيرازي كما جاء في آخرها: «تمّت الرسالة النفيسة المسمّاة ب- نقد الحواشي على يد العبد الضعيف محمّد بن جعفر عناية اللّه الكاتب الشيرازي في شهر رجب المرجّب سنة 1074». واستفدت منها في مقدّمتنا هذه (1) . ومنه أيضا نسخة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 5336 (الفهرست، ج 16، ص 249) كتبت في رجب 1072 بخطّ أبي طالب بن محمّد الحسيني الإسفرايني. 13 . نقض رسالة تقرير شبهة المركّب لميرزا محمّد بن الحسن الشيرواني (م 1098) وهي أنّ انتفاء جزء من المركّب يساوي انتفاء المركّب، فيجب حينئذٍ أن يكون نقيضاهما متساويين. وأجاب عنه الشيرواني فنقض المترجم له الجواب، وكتب الشيرواني رسالة اُخرى في تقرير الشبهة. وكتب الجميع في حياتهما محمّد أمين الكشميري. والنسخة عند ميرزا نصر اللّه الشبستري بتبريز. قاله آغا بزرگ (2) . 14 . وله أشعار ذكر بعضها معاصره محمّد طاهر النصرآبادي (ت 1027)، منها ما قال في


1- .حصلنا على مصوّرتها وكذا مصوّرة نسخة مرآة الحقائق بتوسّط صديقنا الشفيق الدكتور فتح اللّه نجّارزادگان ، فجزاه اللّه خير الجزاء.
2- .طبقات أعلام الشيعة (الروضة النضرة)، ج 5، ص 629؛ الذريعة، ج 11، ص 153 - 154.

ص: 21

فائدة

موضع من تذكرته هكذا: اگرچه شعر گفتن دون مرتبه او بود؛ امّا گاهى فكر مى كرد. اين رباعى از او مسموع شد: در گلشن جان گلى نچيديم بى توبويى [ز] گلستان نشنيديم بى تو هر چند نظر به اهل عالم كردمبى خود ديدم ولى نديدم بى تو * * * صرّاف عشق در ما گر قلبيى (1) نمى ديددر بوته رياضت كى مى گداخت ما را * * * از صافدلان عرض تجمّل نتراودكس حرف گهر از لب دريا نشنيدست (2)

فائدةقال في الذريعة، ج 16، ص 351 عند ذكر الفوائد الغرويّة في شرح الاثنى عشريّة (3) الموسوم ب- توضيح الأقوال والأدلّة للسيّد الأمير شرف الدين عليّ بن حجّة اللّه بن شرف الدين عليّ بن عبد اللّه الطباطبائيّ الشولستاني (م بعد 1060) (4) : ونسخة منه بخطّ محمّد يوسف بن محمّد قاسم الطبيب النجفيّ النطنزي مسكنا فيت شوّال 1058 وصحّحها المصنّف بنفسه، وكتب شهادة التصحيح بخطّه عنده 1058 ، وقدّمه المصنّف إلى الوزير العالم الفاضل الميرزا محمّد هادي بن الوزير الكبير الميرزا معين الدين محمّد الشيرازي خلّد اللّه ملكه. ونسخة من الفوائد هذا في سپه سالار 6065 بخطّ علاء الدين بن داوود النجفي كتبها في جمعة 3 ربيع الأوّل 1085 كما في


1- .خ : اگر قلبى .
2- .تذكرة الشعراء، ج 1، ص 101.
3- .لصاحب المعالم .
4- .له ترجمة في: رياض العلماء، ج 3، ص 388 - 392؛ و طبقات أعلام الشيعة (الروضة النضرة)، ج 5، ص 402 - 404.

ص: 22

بعض آرائه الخاصّة المستفادة من هذا الكتاب

فهرستها. أقول: رأيت ثلاث نسخ منها (1) ولم تكن باسم مؤلّفنا الوزير ، ويستفاد من بعض النسخ التي عرّفت في الفهارس (2) أنّها لم تكن باسمه.

بعض آرائه الخاصّة المستفادة من هذا الكتاب1 . قال عند تفسير قوله تعالى: «لَا إِلهَ إِلَا هُوَ» : فأحسِنْ تَدبّره؛ فإنّ ذلك ممّا ألهمني اللّه تعالى بحسن توفيقه في تفسير هذا الكلام، واللّه الموفّق للمرام. (ص 20) 2 . قال بعد شرح قوله عليه السلام : «بين المرء والحكمة نعمة العالم، والجاهل شقيّ بينهما»: اعلم أنّ هذا الحلّ الذي أيّدني اللّه تعالى به أليق وأوفق ممّا ذكره الناظرون في هذا المقام، ولا ضير في نقل مقالهم لينكشف لك جليّة الحال. (ص 69) 3 . قال عن إثبات الصفات الكماليّة له تعالى: فإنّي قد تفطّنت بدليل على إثبات هذه الصفات له تعالى تقريره... (ص 309). 4 . قال عند البحث عن إثبات الواجب بالبراهين اللمّيّة: وقد ألهمني اللّه تعالى بحسن توفيقه وعون تأييده مسلكا خاصّا تفرّدت به في إثبات الواجب بالذات بالبراهين اللمّيّة الصريحة على طريقة الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ على الحقّ وعلى غيره، ولا على الحقّ بغيره، ولا يحوم أحد إلى الآن حومَ حمى ذلك المسلك، فلو انتسب أحد بعد ذلك هذه الطريقة الأنيقة الشريفة إلى نفسه، فاعلم أنّه انتحال، وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تمهيد اُصول ثلاث. (ص 315) ثمّ بعد ذكر الاُصول الثلاث قال: أقول بعد تمهيد هذه الاُصول: قد ظهر لك أنّ وجود


1- .منها نسخة مكتبة آية اللّه المرعشي برقم 4325، ونسختا مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي بقم برقمي 1262 و2224.
2- .كما في فهرست مكتبة سپه سالار، ج 5، ص 386 برقم 6065، وفي فهرست مكتبة مجلس، ج 17، ص 327 برقم 1 / 5944، وفهرست مكتبة امام عصر «عج» بشيراز، ص 70.

ص: 23

المبدأ الأوّل الإله الحقّ الواحد الغير المصنوع لغيره، الصانع لكلّ ما يغايره من الموجودات المحقّقة المعبّر عنه بالعالم فطري بديهي، وعلى هذا فنستدلّ على إثبات الواجب بالذات بالبراهين اللمّيّة الصريحة، وعلى توحيده تعالى في الفصلين. (ص 353) ثمّ قال في آخر الفصل الأوّل بعد ذكر قوله تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدا» : الحمد للّه الذي جعلني من المستشهدين بالحقّ وعلى الحقّ وعلى كلّ شيء، وعلّمني بإلهامه تفسير هذه الآية الشريفة، وجعلني من زمرة عبيد المخاطب بهذا الخطاب الشريف: «وَكَفى بِرَبِّكَ هَادِيا وَنَصِيرا» . (ص 356) 5 . تفرّده في تقرير برهان التمانع على وجهٍ لا يرد عليه شيء أصلاً، وقال في آخر التقرير: فعلى هذا التقرير الذي تفرّدت به لا يتوجّه على هذا الوجه إيراد أصلاً. واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد. (ص 342) وكذا قال عند قوله عليه السلام : «لا يخلو قولك...» في البحث عن نفي الشريك عن اللّه تعالى: ممّا تفرّدت به بعون اللّه وحسن هدايته من تقرير برهان التمانع على وجه تامّ لا يرد عليه شيء أصلاً منطبق على ذلك الحديث. (ص 464) 6 . استدلاله على تجرّده تعالى قال: منها: ما سنح لي... (ص 367) 7 . استدلاله على نفي تركيبه تعالى. قال: ومن سوانحي في نفي تركيبه... (ص 379) 8 . تقريره برهان التضايف في إبطال التسلسل على وجه لا يرد عليه شيء. (ص 382) 9 . قال عند الاستدلال بانتظام أجزاء العالم وترتّب الحِكَم والمصالح على وجوده تعالى: وممّا حقّقناه تبيّن وظهر أنّه لا حاجة إلى تأويل الآيات والأحاديث الصريحة في أنّ بعض أفعاله معلّل بالغرض بمجرّد ترتّب ذلك الغرض عليها بدون أن يكون تلك الأفعال لأجله، بل ينبغي أن لا تصرف عن ظواهرها؛ إذ لا محذور في التزام كون تلك الأفعال لأجل غرض أصلاً كما عرفت، كيف، وإنّا نعلم بالضرورة... (ص 419) ثمّ قال في آخر البحث: فالحقّ الحقيق بالتصديق والتحقيق ما حقّقناه ، فإنّه لا يلزم منه استكماله وانفعاله تعالى بالغير وعن الغير أصلاً، ولا كونه غير مستحقّ للحمد، ولا أن لا

ص: 24

يكون حكيما قطعا؛ فاعرفه. وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المقام بحيث خرج عمّا هو المرام؛ لأنّه من اُمّهات مطالب الحكمة والكلام، ومن مزالّ أقدام أفهام أئمّة الأنام من العلماء الأعلام والحكماء العظام، وممّا ينبغي أن يعتنى به؛ لكونه من اُصول عقائد الإسلام. (ص 421) 10 . قال عند البحث عن نفي الشريك عن اللّه تعالى - بعد ذكر إيرادات ثلاثة منها شبهة ابن كمونة، وما ذكره القاضي الميبدي - : وأقول: قد ألهمني اللّه تعالى بحسن هدايته جواب تمام هذه الإيرادات [ممّا] لا يخطر ببال أحد بهذا النحو ، وإن كان بعض مقدّماته ممّا تكلّم به بعض المحقّقين ، وهو... (ص 477) 11 . برهانه على توحيده تعالى ، قال: أقول بعد تمهيد تلك المقدّمات: لنا بتأييد اللّه وحسن توفيقه برهان ملكوتي على توحيده تعالى قد أخبر عنه وتفرّدت به، وهو... ثمّ قال: أقول - بوجهٍ آخر أخصر وسمّيته بهذا النسق بالبرهان الهادي إلى الحقّ... ثمّ قال: ثمّ أقول: تقرير الدليل المشهور على وجه ينطبق بهذه الطريقة الأنيقة أنّه لو كان... ثمّ قال في آخر البحث: وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المقام؛ لأنّه من مزالّ أقدام فحول الأعلام، واللّه الموفِّق للمرام. (ص 482 و 484) 12 . قال عند البحث في إثبات وحدة الواجب بالذات عند ذكر الحجّة الرابعة: الحجّة الرابعة ما حقّقه بعض أعاظم الأعلام ، لكن يرد عليه شيء، وإنّي أتممته بنحو إشراقي يندفع عنه الإيراد. (ص 502) ثمّ قال في أواخر البحث: وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المقام؛ لأنّه من مزالّ أقدام أفهام أجلّة الأعلام، فاعرف ذلك ؛ فإنّ تحقيق هذا المرام بهذا النحو من الكلام ممّا لم يَحُم حولَه أحد من العظام. (ص 507) 13 . قال عند ذكر أنماط ثلاثة عند الاستدلال على وجوده تعالى بوجوه برهانيّة غير إنّيّة ، قال عند ذكر النمط الأوّل: وهو وجه اخترعته - ما نُظر فيه إلى حال الممكن، وأنّه محتاج إلى المؤثّر - فهو بعد ما حقّقناه في إثباته تعالى من البراهين اللمّيّة أولى بأن يكون

ص: 25

وفاته

كتابنا هذا: الكشف الوافي

طريقة الصدّيقين من الوجوه المشهورة... وكذا قال عند ذكر النمط الثاني والثالث: هو أيضا ممّا اخترعته (ابتدعته). (ص 550، و 554) 14 . وقال عند ذكر الدليل الرابع في أنّه تعالى لا يكون محلّاً لغيره: ما تفرّدت بتحريره... (ص 575) 15 . قال عند المسألة الرابعة في أنّه تعالى لا يكون جزءً لغيره من المركّبات الغير الاعتباريّة: وقد سنح لي دليل على ذلك المطلوب وهو أنّه... (ص 583) 16 . وجوه ثلاثة للمؤلّف في نفي المثل عنه تعالى في ذاته. (ص 596)

وفاتهتوفّي رحمه الله في سنة 1081 كما جاء في سُلافة العصر (ص 491) . وما ورد في أمل الآمل (ج 2، ص 310) من أنّ وفاته كانت سنة 1041 ه ، وهو تصحيف قطعا. وقال النصرآبادي في تذكرته (ج 1، ص 101): «از غصّه در حبس فوت شد».

كتابنا هذا: الكشف الوافي (1)صرّح المؤلّف بهذا الاسم في مقدّمة كتابه حيث قال: «هذه تعليقات قد اتّفق منّي في حلّ معضلات اُصول الكافي، وسمّيتها ب- الكشف الوافي». وهو يشتمل على شرح اُصول الكافي إلى آخر كتاب التوحيد، ونسختنا هذه تبتدئ بعد شرح الحديث الرابع من باب إطلاق القول بأنّه شيء، قدرُ نصف صفحة بياض وفاقدة


1- .لا يخفى أنّ للسيّد محمّد صالح بن عضد الدين مسعود الحسني الحسينيّ الشيرازي (الشهير بدستغيب) أيضا كتاب يسمّى ب- الكشف الوافي في حلّ أحاديث الكافي، منه نسخة في مجلس الشورى الإسلامي ، تشتمل على شرح كتاب الحجّ ، فرغ منه في سنة 1050 ه (الشريعة إلى استدراك الذريعة، ج 1، ص 233)، ونسخة في مكتبة العلّامة الطباطبائي بشيراز تشتمل على شرح كتاب الزكاة والصوم من الكافي، فرغ من كتاب الصوم في سنة 1050 ه (نسخه پژوهى، ج 1، ص 38) ومنه مصوّرة عندي حصلنا عليها بتوسّط صديقنا المحقّق الشيخ محمّد بركت.

ص: 26

لشرح بقية أحاديث الباب، وكذا سائر الأبواب التي بعده إلى باب البداء، ولم يشرح أيضا خطبة الكليني على الكافي. والمؤلّف لم يجعل كتابه هذا باسم سلطانٍ كما فعله في كتابيه: مرآة الحقائق ونقد الحواشي كما تقدّم . ولقد اقتبس واستفاد كثيرا في شرحه من حاشية اُصول الكافي لمعاصره ميرزا رفيعا النائيني، وعبّر عنه في بعض المواضع ب- «بعض الفضلاء»، وحيث إنّ حاشية ميرزا رفيعا كانت موجزة مجملة و مشحونة بالتحقيقات والتدقيقات، أوضح المؤلّف مجملاتها ورفع عن مبهماتها ، وكشف عن تدقيقاتها . وقد أحاط المؤلّف بكنه مطالب حاشية النائيني . وهذا الكلام لا يعني أنّه ليس له تحقيق، بل له تحقيقات وآراء ومتفرّدات، سيّما في المباحث العقلية كما تقدّم عند ذكر آرائه وأفكاره المتفرّدة؛ ويشهد لذلك ما اقتبس واستفاد من هذا الشرح العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول، وعبّر في موضع منه عن المؤلّف ب- «بعض السالكين مسلك الفلاسفة» (1) ونقل أيضا عنه بعنوان «قيل» أو «ربّما يقال» أو «يحتمل» وغير ذلك. واستفاد مؤلّفنا أيضا من الشافي في شرح الكافي لمعاصره المولى خليل القزويني، ونقل عنه وعبّر عنه في بعض المواضع ب- «بعض الأعلام»، كما استفاد قليلاً من حاشية محمّد أمين الإسترآبادي، وفي مورد نقل عن حاشية السيّد الداماد وعبّر عنه ب- «بعضهم». والظاهر أنّ حاشية اُصول الكافي للسيّد أحمد العلوي صهر السيّد الداماد أيضا كانت عنده. ولقد أطال الكلام في المباحث العقليّة عند ذكر باب حدوث العالم وإثبات المحدث، أو باب إطلاق القول بأنّه شيء، و أكثر النقل عند هذه المباحث عن الدواني وصاحب الإشراق وشرح المقاصد . ولم يصرّح المؤلّف باسم معاصريه، ولعلّه لمحذورات كانت حاكمة في عصره.


1- .مرآة العقول، ج 2، ص 210.

ص: 27

ونذكر هنا سائر مصادره غير ما تقدّم: 1 . رسالة إثبات الواجب اصول دين ؛ للمولى أحمد الأردبيلي. 2 . رسالة إثبات الواجب ؛ لصدر الدين الدشتكي الشيرازي. 3 . أثولوجيا. 4 . إيضاح الاشتباه. 5 . تجريد الاعتقاد. 6 . التعليقات؛ للشيخ الرئيس. 7 . تفسير البيضاوي. 8 . تفسير القمّي. 9 . الجواهر لبعض المعتزلة. والظاهر نقل عنه بواسطة حاشية اُصول الكافي للسيّد أحمد العلوي. 10 . حكمت علائي ؛ للشيخ الرئيس. 11 . رجال النجاشي. 12 . رسائل إخوان الصفا. 13 . رسالة التشريح ؛ لجالينوس. 14 . بعض رسائل ابن تيمية. 15 . بعض رسائل أبي الحسن العامري. 16 . شرح التجريد؛ للقوشچي. 17 . شرح حكمة الإشراق؛ لقطب الدين الشيرازي. 18 . الشجرة المباركة؛ للشهرزوري. 19 . شرح الإشارات؛ للخواجة نصير الدين الطوسي. 20 . الصحاح؛ للجوهري. 21 . عدّة الاُصول؛ للشيخ الطوسي.

ص: 28

النسخة المعتمدة

كلمة شكر و ثناء

22 . فصل الخطاب؛ للخواجة پارسا. 23 . الفهرست؛ للطوسي. 24 . القاموس المحيط. 25 . مسالك الأفهام. 26 . المطالب العالية؛ لفخر الدين الرازي. 27 . النهاية؛ لابن أثير. واستفاد أيضا من مصادر اُخر لم يصرّح باسم المؤلِّف ولا المؤلَّف.

النسخة المعتمدةاعتمدنا في التصحيح على النسخة الوحيدة الموجودة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 5803 (الفهرست، ج 17، ص 231) وكتبت ظاهرا في حياة المؤلّف بقرينة حواشي «منه عفي عنه»، والنسخة من حيث الاعتبار والصحّة كانت متوسّطة، وثقبت في بعض المواضع، ولذا كانت قراءة بعض الكلمات صعبة.

كلمة شكر و ثناءوأخيرا نشكر فضيلة الأستاد البارع المحقّق الشيخ نعمة اللّه الجليلي دامت توفيقاته حيث راجع عملي واستفدنا من إرشاداته القيّمة، وكذلك صديقنا المحقّق الشيخ محمّد حسين الدرايتي - وفقه اللّه - حيث كان تصحيح الكتاب باقتراحه، فجزاهم اللّه خير الجزاء. تمّت بعون اللّه الملك الوهّاب مقدّمتنا في 12 فروردين 1387 ه . ش الموافق ل- 23 ربيع الأوّل 1429 ه . ق في السنة التي أعلنها سماحة قائد الثورة الإسلامية دام ظلّه الوارف سنة «الإبداع والازدهار» . والحمد للّه أوّلاً وآخرا كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله. قمّ المقدّسة - عليّ الفاضلي

ص: 29

الكشف الوافيفي شرح اُصول الكافي .

ص: 30

ص: 31

مقدّمة الشارح

كتاب العقل والجهل

المراد من العقل في كلام الكليني

كتاب العقل والجهلأخبرنا أبو جعفر محمّد بن يعقوب ، قال :حدّثني عدَّةٌ من أصحابنا منهم : محمّد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و به ثقتي الحمد لوليّه ، والصلاة والسلام على أنبيائه و حججه على خلقه أجمعين. أمّا بعد ، فيقول العبد الراجي إلى رحمة ربّه الغني ابن معين الدين محمّد ، محمّد هادي الشريف الشيرازي عَفى اللّه عنهما : هذه تعليقات قد اتّفق منّي في حلّ معضلات اُصول الكافي وسمّيتُها بالكشف الوافي، والتكلان على التوفيق ، وبيده أزمّة التحقيق .

قوله : (كتاب العقل والجهل)قيل : أي كتاب العقل وما يلحق به ؛ ليندرج فيه أبواب العلم ؛ حذف ذلك اختصارا . أقول : لايذهب عليك أنّ العقل يطلق على العلم ، كما يطلق على معانٍ اُخر . قال في القاموس : «العقل : العلم» . (1) و لايستقيم حمله في كلام المؤلّف على معنى واحد ، بل يجب حمله على معانٍ متعدّدةٍ من باب عموم المجاز ، فينبغي تعميمه بحيث يتناوله العلم أيضا ليندرج فيه أبواب العلم ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير قوله : «و ما يحلق به» .


1- .القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 27 (عقل) .

ص: 32

إطلاق العقل على معان

تقسيم العقل إلى النظري والعملي

هذا بناءً على بعض النسخ الذي ليس في صدر أبواب العلم قوله : «كتاب فضل العلم» . وأمّا في النسخ المصدّرة به ، فلا يحتاج إلى هذه التعميم من هذه الجهة ، لكن احتجنا إليه من جهة إطلاق العقل في بعض مواضع هذا الكتاب على العلم ، كما سيجيء . ويؤيّد النسخَ الثانيةَ ما وجد في آخر هذا الكتاب قوله : «هذا آخر كتاب العقل» وما ذكره هذا القائل من أنّه من زيادة النسّاخ خلافُ الظاهر ، هذا.

ثمّ اقول : اعلم أنّ العقل يطلق على معانٍ :الأوّل: الجوهر المجرّد عَن المادّة في ذاته وفعله. والثاني: الجوهر المجرّد عن المادّة في ذاته دون فعله، ويسمّى بالنفس الناطقة والنفس المجرّدة أيضا. والثالث: الصفة والقوّة التي تختصّ من بين نفوس الحيوانات بالنفس الناطقة الإنسانيّة، وتسمّى (1) بقوّة النطق أيضا، وهي قوّة تُدرك بها النفس الكلّيّات والجزئيّات المجرّدة بلا توسّط آلة، وتميّز بها بين جميع مدركاتها، كلّيا كان أو جزئيا، مجرّدا أو مادّيا، وبالاعتبار الأوّل يسمّى بقوّة إدراك غير آليّ في مقابل القوّة التي يشترك فيها نفوس الإنسان وسائر الحيوانات المسمّاة بقوّة إدراك آليّ، وهي القوّة التي تدرك بها النفوس الجزئيّات المادّيّة بوساطة آلات من المشاعر الخمس الظاهرة، والحواسّ الخمس الباطنة، وبالاعتبار الثاني يسمّى بالقوّة المميّزة. ثمّ ذلك العقل بالمعنى الثالث المسمّى بالقوّة النطقيّة أيضا باعتبار توجّهه إلى معرفة حقائق الموجودات ومعالم الشرعيّات، والإحاطة بأصناف المعقولات، وأقسام المنقولات، والتميز بين الحقّ والباطل، والكمال والنقص، يسمّى بالعقل النظري والقوّة النظريّة. وباعتبار توجّهه إلى التصرّف في الموضوعات واستنباط الصناعات، والتميز بين مصالح


1- .في النسخة: «يختصّ... يسمّى».

ص: 33

الأفعال ومفاسدها وحسنها وقبحها، ودعوته لصاحبه إلى الأفعال الحسنة من غير جبر، ونهيه صاحبه وصرفه له عن الأفعال القبيحة من غير جبر، يسمّى بالعقل العملي والقوّة العمليّة. يتعلّق بالأوّل الحكمة النظريّة، وبالثاني الحكمة العمليّة. وأصل ذلك العقل، أي الصفة المسمّاة بقوّة النطق - سواء كانت كاملة أو ناقصة - هي مناط التكليف الشرعي عند ارتفاع الموانع وتحقّق الشرائط. أمّا الموانع - وهي عوائق النفس الناطقة عن استعمالها - فكالجنون والنوم والإغماء، والمرتبة التي من الطفوليّة لا تميز فيها ونحوها. وأمّا الشرائط فكالوصول إلى سنّ البلوغ بالنسبة إلى جميع التكاليف الشرعيّة، وكالطهر من الحيض والنفاس، وكالصحّة، والكون في الحضر، أو توقّف العشرة، والاستطاعة، وبلوغ النصاب ونحوها بالنسبة إلى بعض التكاليف من التكليف بالصلاة والصوم والحجّ والزكاة ونحوها. فلا يتوهّم أنّ المجنون ومن لا يصل إلى سنّ البلوغ مثلاً وإن كان في غاية التميز فاقدٌ لتلك القوّة كالبهائم، كما يظهر من كلام بعض الأعلام، كيف وفاقد تلك لا يكون إنسانا أصلاً، وشيء من الجنون والصبا مثلاً لا يوجب خروج صاحبه عن نوع الإنسان حتّى بزواله ينقلب ماهيّته، ويندرج في تحت ذلك النوع. ثمّ الإنسان إن استعمل تلك القوّة عند عدم العائق فيما يقتضيها، وبالغ في ذلك الاستعمال حتّى يصل إلى السعادة التي هي غاية إيجاده، كان خيّرا سعيدا، وإن أهمل في استعمالها بالكسل والإعراض، أو بالسعي في طلب ضدّ مقتضاها من مقتضى ضدّها من النفس البهيميّة أو السبعيّة كان شريرا شقيّا. ثمّ لا يذهب عليك أنّ إطلاق العقل على تلك القوّة على سبيل الحقيقة. قال في القاموس: «العقل هو القوّة بها يكون التميز بين الحَسَن والقبيح» ثمّ قال: «والحقّ

ص: 34

مراتب العقل النظري

أنّه نور روحاني به تُدرك النفسُ العلومَ الضروريّةَ والنظريّةَ، وابتداءُ وجوده عند اجتِنانِ الوَلَد، ثمّ لا يزال يَنْمُو إلى أن يَكْمُلَ عند البلوغ (1) » انتهى. والرابع: مراتب العقل النظري وهي أربعة: المرتبة الاُولى: العقل الهيولاني، وهو الاستعداد البعيد من النفس نحوَ الكمالات النظريّة، وذلك محض قابليّتها للإدراكات، كما يكون للطفل من قابليّة الكتابة، ويسمّى النفسَ في هذه المرتبة وقوّتها النظريّة أيضا فيها بهذا الاسم، وكذا الحال في سائر المراتب يطلق الأسماء على المراتب أنفسها، وعلى النفس الناطقة في تلك المراتب، وعلى قوّتها النظريّة فيها. ووجه التسمية بهذا الاسم التشبيه بالهيولى الاُولى الخالية في نفسها عن الصور كلّها، المستعدّة لقبولها. والمرتبة الثانية: العقل بالملكة، وهو استعدادها المتوسّط الراسخ لتحصيل النظريّات بعد حصول الضروريّات، كما يكون للاُمّي المستعدّ لتعلّم الكتابة. والمرتبة الثالثة: العقل بالفعل، وهو استعدادها القريب، وإقدارها على استحضار النظريّات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد؛ لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرّد الالتفات، كما يكون للقادر على الكتابة حين لا يكتب وله أن يكتب متى شاء من غير تجشّم كسب جديد، وإنّما يسمّى بهذا الاسم لشدّة القرب من الفعل. والمرتبة الرابعة: العقل المستفاد، وهو كمالها بأن تحصل النظريّات مشاهدة مستفادة من العقل الفعّال الذي يُخرج نفوسَنا من القوّة إلى الفعل فيما له من الكمالات، كما يكون في الكاتب بالفعل. ثمّ هذه المراتب تعتبر بالقياس إلى كلّ نظري فيختلف الحال؛ إذ قد يكون النفس


1- .القاموس المحيط، ج 4، ص 27 وفيه: «التمييز بين القبح و الحسن».

ص: 35

مراتب العقل العملي

بالقياس إلى بعض النظريّات في مرتبة العقل الهيولاني، وإلى بعضها في مرتبة العقل بالملكة، وإلى بعضها في مرتبة العقل بالفعل، وإلى بعضها في مرتبة العقل المستفاد. وقد يعتبر العقل بالفعل بالقياس إلى جميع المدركات النظريّة أو أكثرها، وذلك المعنى ما هو المأخوذ في تعريف الحكمة، كما سيجيء (1) . وقد يعتبر العقل المستفاد بالقياس إلى جميع المدركات معا، وهو أن يصير جميعها حاضرا مشاهدا بحيث لا يغيب شيء منها أصلاً، وهو بهذا المعنى يكون في دار القرار، وفي دار الدنيا أيضا للنفوس القويّة التي لا يشغلها شأن عن شأن، فكأنّهم في جلابيبَ (2) من أبدانهم قد نضوها (3) وانخرطوا في سلك المجرّدات التي تشاهد معقولاتها دائما، فهو بهذا المعنى إنّما يكون غاية المراتب ومنتهاها. وأمّا إذا اُخذ بالقياس إلى كلّ مدرك، فباعتبار الحدوث مقدّم على العقل بالفعل، وباعتبار البقاء مؤخّر عنه. أمّا الأوّل ، فلأنّ العقل بالفعل استعداد لاسترجاع الكمال واسترداده، فهو متأخّر في الحدوث عن العقل المستفاد؛ لأنّ المدرك ما لم يشاهد مرّاتٍ كثيرة لا يصير ملكة. وأمّا الثاني، فلأنّ المشاهدة تزول بسرعة، فتبقى ملكة الاستحضار مستمرّة، فيتوصّل بتلك الملكة إلى مشاهدته مرّة بعد اُخرى لينتهي إلى بقاء المشاهدة واستمرارها، فمنهم من نظر إلى التقدّم في الحدوث، فجعله مرتبة ثالثة، ومنهم من نظر إلى التأخّر في البقاء، فجعله مرتبة رابعة، والعلّة في وجه جعله المرتبة الرابعة اعتباره بالقياس إلى جميع المدركات معا، كما مرّ آنفا؛ هذا. اعلم أنّ للعقل العملي أيضا أربعَ مراتبَ:


1- .سيجيء في ص 39.
2- .في هامش النسخة: الجلباب كسِرداب: القميص (ق). القاموس المحيط، ج 1، ص 173 (جلب).
3- .في هامش النسخة: نَضَاهُ من ثوبه: جرّده (ق). القاموس المحيط، ج 4، ص 574 (نضو).

ص: 36

اُولاها: تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع النبويّة والنواميس الإلهيّة. و ثانيتها (1) : تهذيب الباطن من الملكات الرديّة، ونقض شواغله عن عالم الغيب. وثالثتها: ما يحصل بعد الاتّصال بعالم الغيب، وهو تحلّي النفس بالصور القدسيّة، الخالصة عن الشكوك والأوهام. ورابعتها: ما يتجلّى له عقيب اكتساب ملكة الاتّصال بعالم المجرّدات، والانفصال عن نفسه بالكلّيّة، وهو ملاحظة جلال اللّه تعالى وجماله، وقصر النظر على كماله حتّى يرى كلّ قدرة مضمحلّة في جنب قدرته الكاملة، وكلَّ علم مستغرقا في علمه الشامل، بل كلّ وجود وكمال إنّما هو فائض من جنابه. والخامس: كمال القوّة النطقيّة. والعقل بالمعنى الثالث بحسب الفطرة والخلقة - وهو العقل الكامل بحسب الفطرة، أي القوّة النطقيّة الكاملة بحسب الخلقة وكماله الفطري - قد يكون باعتبار القوّة النظريّة، وهو العقل النظري الكامل بحسب الفطرة، وقد يكون باعتبار القوّة العمليّة، وهو العقل العملي الكامل بحسب الفطرة، وقد يكون بالاعتبارين معا، ويسمّى بالذكاء والفطنة والفهم، وعبّرنا عنه في كتابنا هذا بالعقل الكامل بحسب الفطرة من غير تقييده بقيدَيِ : النظري والعملي. ولا يذهب عليك أنّ مراتب كماله الفطري ودرجاتهِ ممّا لا يعدّ ولا يحصى، وكذا الحال في مراتب كماله الكسبي، وفي مراتب كماله بحسب الفطرة والكسب معا، وغاية تلك المراتب ومنتهاها في الإنسان مرتبة عقل نبيّنا عليه الصلاة والسلام. ثمّ مدْح الكمال الفطري كمدح اللؤلؤ؛ لعدم اختيار العبد فيه، بخلاف الكسبي. وقيل: يحتمل أن يكون الفطري أيضا بسبب فعل اختياري للنفس في عالم تكليف الأرواح قبل خلق الأبدان، كما يجيء في باب طينة المؤمن والكافر؛ فمدح وجوده لمدح


1- .في النسخة: «وثانيها». وكذا الموارد الآتية: «وثالثها، ورابعها».

ص: 37

الصفات الاختياريّة. والسادس: كمال القوّة النطقيّة بحسب الكسب، وذلك يحصل بالتفكّر والتعلّم والتجارب والعبرة والانتصاح والإتيان بما يدعو العاقل إليه، والانتهاء عمّا ينهى عنه ونحو ذلك، وهو العقل الكامل بحسب الكسب، إمّا باعتبار القوّة النظريّة فقط، وهو العقل النظري الكامل بحسب الكسب، وإمّا باعتبار القوّة العمليّة فقط، وهو العقل العملي الكامل بحسب الكسب، وإمّا باعتبار القوّتين معا، وعبّرنا عنه بالعقل الكامل بحسب الكسب من غير تقييده بقيدَيِ : النظري والعملي. والسابع: كمالها بحسب الفطرة والكسب معا، وذلك أيضا ينقسم إلى أقسام ثلاثة، وأكمله العقل النظري والعملي الكامل بحسب الفطرة والكسب جميعا، ويعبّر عنه في الحديث بالعقل عن اللّه كروح اللّه ، وكقوله تعالى: «وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي» (1) وإن كان جميع العقول والأرواح مخلوقةً للّه تعالى. والثامن: الفهم يعني تصوّر الأشياء على ما هي عليه، وذلك الإطلاق أيضا على سبيل الحقيقة؛ قال في القاموس: «عَقَلَ الشيءَ: فَهِمَه» (2) . والتاسع: العلم، أي اليقين، وهو الاعتقاد الثابت الجازم المطابق للواقع. والعاشر: العلم المنقسم إلى الفهم وإلى اليقين. اعلم أنّ العلم يطلق تارة ويراد به الصورة الحاصلة في الذهن، سواء كان تصوّرا أو تصديقا، وسواء كان التصديق ظنّا أو جهلاً مركّبا أو تقليدا أو يقينا. ويطلق تارة ويراد به اليقين فقط. ويطلق اُخرى ويراد به ما يتناول اليقين والفهم، وهذا هو المعنى العاشر للعقل، وإطلاق العقل عليه على سبيل الحقيقة كما مرّ.


1- .الحجر (15): 29؛ ص (38): 72.
2- .القاموس المحيط، ج 3، ص 27 (عقل).

ص: 38

إطلاق الجهل على معانٍ

وقد يطلق على ما يتناول الفهم واليقين والظنّ فقط. وقد يطلق على التصديق المنقسم إلى اليقين والظنّ فقط. والحادي عشر: كمال ذلك العلم المنقسم إليهما باعتبار الفهم فقط، أو باعتبار اليقين فقط، أو باعتبارهما معا، أي العلم التامّ بالشيء. ثمّ الجهل يطلق على مقابلات تلك المعاني ماعدا الأوّل، فالجهل الذي هو في مقابل المعنى الثاني هو القوّة الواهمة، أو قوّتا: الشهويّة والغضبيّة المندرجتين تحت قوّة التحرّك (1) الإرادي المسمّاة بالهوى، وهي التي مبدأ للتحريك الإرادي، يشترك فيها نفوس الإنسان وسائر الحيوانات. وينقسم إلى قسمين؛ لأنّها إمّا أن تنبعث إلى جذب النفع، وتسمّى بالقوّة الشهويّة والنفس البهيميّة، وفي التنزيل يعبّر عنها بالنفس الأمّارة؛ لكثرة أمرها وإصرارها على نيل المشتهيات من المآكل والمشارب والمناكح ونحوها، أو إلى دفع الضرر، وتسمّى بالقوّة الغضبيّة والنفس السبعيّة، وفي التنزيل يعبّر عنها بالنفس اللوّامة؛ لأنّها (2) بعد الإقدام بالأفعال الذميمة - من مقتضيات الأمّارة بل من مقتضيات نفسها أيضا من القهر والغلبة والانتقام - اشتغلت بملامة ذلك الإقدام والندامة منه، وجعلته قبيحا في نظر البصيرة، ويسمّى القوّة النطقيّة - التي هي العقل بالمعنى الثالث - بالنفس الملكيّة؛ لاقتضائها نيل الصفات الملكيّة من العلم والعمل الصالح إن لم يكن لها عائق، وفي التنزيل يعبّر عنها بالنفس المطمئنّة؛ لاطمئنانها بقرب اللّه وبمعرفته، فإنّ النفس تترقّى في سلسلة الأسباب والمسبّبات إلى الواجب لذاته فتستقرّ عند معرفته، وتستغني به عن غيره، أو إلى الحقّ بحيث لا يريبها شكّ، كما قال اللّه تعالى: «يا أيّتها النفسُ المُطمَئِنَّةُ * ارجِعي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرضيَّةً» (3) . والجهل الذي هو في مقابل المعنى الثالث - أي قوّة النطق - عدم تمكّن النفس من


1- .في النسخة: «تحرّك».
2- .في النسخة: «لأنّ».
3- .الفجر (89): 27 - 28.

ص: 39

استعمالها مطلقا بسبب العوائق الطبيعيّة أو الخارجيّة ، كالمرتبة الأدنى من الصبا ، وكالجنون، والسكر ونحوها، وقد يعبّر عن ذلك المعنى بعدم العقل مجازا، وإلّا لم يمكن انفكاكه عن الإنسان كما مرّ. أو عدم تمكّن النفس من استعمالها كما ينبغي بسبب غلبة القوّة الواهمة، أو قوّتَي: الشهويّة والغضبيّة، ومضادّة الاُولى للقوّة النظريّة، والثانية للعمليّة. والجهل الذي في مقابل المعنى الرابع من مراتب العقل النظري هو عدم تلك المراتب، فإنّ من كان في أقصى الغاية من البلادة، لا يكون له استعداد أصلاً، لا قريبا ولا متوسّطا ولا بعيدا بالنسبة إلى بعض المسائل الغامضة البالغة في غاية الإعضال والدقّة؛ لأنّ إدراكه خارج عن قدرته وإن سعى تمام العمر في تحصيله، فلا يكون له بالنسبة إلى تلك المسألة عقلاً هيولانيا، فضلاً عن سائر المراتب. والجهل الذي في مقابل المعنى الخامس نقص القوّة النطقيّة بحسب الفطرة، وينقسم بانقسام مقابله إلى ثلاثة أقسام: الأوّل: نقصها من جهة القوّة النظريّة بحسب الفطرة، وذلك النقص إمّا من جهة تفريط تلك القوّة النظريّة، ويسمّى بالبلادة، أو من جهة إفراطها في التصوّر مع قصورها في التصديق بالحقّ، ويسمّى بالجُربُزة والفطانة البَتراء. والثاني: نقصها من جهة القوّة العمليّة بحسب الفطرة، ويسمّى بالغباوة. والثالث: نقصها من جهة القوّتين معا بحسب الخلقة، ويسمّى بالبلاهة والحمق، وقد يطلق البلادة والغباوة على ذلك المعنى أيضا إطلاقا للعامّ على الخاصّ. والجهل الذي في مقابل المعنى السادس هو نقص تلك القوّة بحسب الكسب الذي تقتضيه قوّتا (1) : الشهويّةِ والغضبيّةِ ، المانعتان (2) عن العمل بمقتضاها، وهذا ما يسمّى في


1- .في النسخة: «القوّتي».
2- .في النسخة: «المانعة».

ص: 40

شرح الحديث الأوّل

محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :«لمّا خلقَ اللّهُ العقلَ استنطَقَه ، ثمّ قال له : أقبِلْ ، فأقبَلَ ، ثمّ قال له : أدْبِر ، فأدبَرَ ، .........

الحديث بالشيطنة والنَكْراء، وذلك أيضا ينقسم بانقسام ما يقابله إلى ثلاثة أقسام. والجهل الذي في مقابل المعنى السابع نقصها بحسب الفطرة والكسب معا، وهو أيضا ينقسم إلى أقسام ثلاثة، أدونها نقصها من جهتي: القوّة النظريّة والعمليّة معا بحسب الفطرة والكسب جميعا، وذلك في مقابل العقل عن اللّه . والذي في مقابل المعنى الثامن عدم الفهم. والذي في مقابل المعنى التاسع عدم اليقين سواء كان في ضمن جهل البسيط، أو جهل المركّب، أو الظنّ، أو التقليد. والذي في مقابل المعنى العاشر عدم العلم المتناول للفهم واليقين فقط. والذي في مقابل المعنى الحادي عشر نقصان العلم المتناول لهما باعتبار نقصان الفهم فقط، أو نقصان اليقين فقط، أو باعتبار نقصانهما معا من حيث الكمّيّة. قوله عليه السلام : (لمّا خلق اللّهُ العقل) إلخ أقول - واللّه يعلم بحقائق الاُمور - : لعلّ المراد بالعقل هاهنا النفس الناطقة الإنسانيّة تسميةً للمحلّ باسم الحالّ، وحينئذٍ الجهل الذي هو ضدّه في الاقتضاء هو القوّة الواهمة باعتبار مضادّتها للقوّة النظريّة من النفس، أو قوّتا : الشهويّة والغضبيّة الحيوانيّة باعتبار مضادّتهما للقوّة العمليّة منها. وقوله: (استنطقه) أي جعله ناطقا مدركا للمعقولات متميّزا بذلك عن النفوس النباتيّة والحيوانيّة. وقوله: (ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر) أي كن مستعدّا للإقبال على وجه اللّه تعالى وعلى مأموراته فصار كذا، وكن قابلاً للإدبار عن غيره وللكفّ عن منهيّاته فصار كذا.

ص: 41

ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقتُ خلقا هو أحبُّ إليَّ منك ، ولا أكملتُك إلّا فيمن اُحِبُّ ،

وحاصله أنّه جعله بحيث يصحّ أمره ونهيه، أي جعله قابلاً للتكليف بأن جعله ذا قوّة يميّز بها بين مدركاته ومصالح أفعاله ومفاسدها. وليس المراد حقيقةَ أمرٍ وامتثالٍ، بل تمثيل حصول ما تعلّقت به إرادته بلا مُهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقّف، على سياقة قوله تعالى: «إذا أرادَ شَيئا أَنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فَيكونُ» (1) يعني إذا تعلّقت إرادته تعالى جدُّه بإيجاد شيء فيوجد بلا تخلّف وتأخير. وقوله: (ما خلقت خلقا هو أحبّ إليَ منك) أي ما خلقت خلقا في هذا العالم، يعني عالم الملك، هو أحبّ إليّ منك؛ لأنّه أشرف مخلوقاته فيه كما بيّن في موضعه، فهو أحبّ منها إليه تعالى. والمحبّة والحبّ ميل القلب، واستعماله في هذا المقام وأمثاله بطريق الاستعارة، شبّه النسبة والرقيقة - التي بينه تعالى وبين خلقه وهي التي يترتّب عليها حفظ المخلوقات وحراستها ورزقها واُكالها وغير ذلك من المصالح التي تليق بحالها على اختلاف مراتبها بحسب اختلاف قابليّاتها - بالحبّ، وعبّر عنها بهذا اللفظ. ولمّا كانت الآثار المرتّبة على هذه النسبة للمكلّفين من خلق هذا العالم أكثر؛ لزيادة أمرهم بمصالح معاشهم ومعادهم، وقربهم إلى الحقّ تعالى شأنه، ونهيهم عمّا يضرّهم في تلك الاُمور بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإقامة الآيات والحجج، فكانت تلك النسبة بالنظر إليهم أتمّ، عبّر عنها بقوله: «أحبّ» ومن هذا ظهر سرّ قوله: (ولا أكملتك إلّا فيمن اُحبّ) ؛ لأنّه كلّما كانت النفس أكمل - سواء كانت أكمليّتها بحسب الفطرة، أو بحسب الكسب، أو بهما معا - كان استعدادها للتكليف أكثر، فزاد تكليف صاحبها كمّا وكيفا، كما في صاحب النفس القدسيّة، فهو حبيبه بل أحبّ إليه جلّ ذكره.


1- .يس (36): 82.

ص: 42

أما إنّي إيّاك آمُرُ ، وإيّاك أنهى وإيّاك اُعاقبُ ، وإيّاك اُثيبُ» .

وقوله: (أما إنّي إيّاك آمر) أي لمّا جعلتك قابلاً للتكليف أجعلك مكلّفا مأمورا ومنهيا لاستكمالك، ومعاقبا إن عصيت، ومثابا إن أطعت؛ لئلّا تتهاون في نيل كمالك؛ هذا. ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبالَ إلى عالم الملك بتعلّقه بالبدن؛ لاستكمال القوّة النظريّة بحصول العقل بالفعل، واستعمال القوّة العمليّة بالأخلاق والملكات المؤدّية إلى صلاح المعاش والمعاد؛ وبالإدبار الإدبارَ عن هذا العالم وقطع التعلّق عن البدن والرجوع إلى عالم الملكوت (1) ، أي جعله متعلّقا بالبدن؛ لاستكماله بإرادته واختياره، ثمّ قطع علاقته وجعله راجعا إليه سبحانه، فهذا الإقبال والإدبار محبّة وعناية ولطف منه تعالى على عباده، على أنّه لم يكتف بهذا، بل أمرهم بما يصلح لنشأتيهم، ونهاهم عمّا يضرّهم فيهما، ويعاقبهم على المخالفة، ويعطيهم الثواب بالإطاعة؛ ليبالغوا في اكتساب الكمالات العلميّة والعمليّة، الذي يوجب القرب إلى جَنابه، وهي لطفه وحجّته عليهم؛ واللّه رؤُوفٌ بالعباد. ويحتمل أن يكون قوله: «استنطقه» محمولاً على معناه اللغوي، إشارةً إلى ما وقع في يوم الميثاق وإن كان كيفيّته غير معلوم لنا، والمراد بالإقبال الإقبال إلى الحقّ من التصديق بالاُلوهيّة والتوحيد والعدل وغير ذلك ممّا يجب تصديقه، وبالإدبار الإدبار عن الباطل بأن لا يقولوا على اللّه بغير علم وأمثاله، وحينئذٍ لا حاجة في الحديث إلى تأويل. (2) ويحتمل بعيدا أن يكون المراد بالعقل الصفةَ الداعيةَ لصاحبها إلى الأفعال الحسنة بدون جبر، والناهيةَ - أي الصارفة له - عن الأفعال القبيحة من غير جبر، وهي القوّة النطقيّة التي [هي] مناط التكليف عند ارتفاع الموانع ووجود الرابط كما مرّ (3) ، وقد فسّرها المحقّق الطوسي في التجريد ب- «غريزة يلزمها العلم بالضروريّات عند سلامة الآلات». (4) والتعريف الأوّل من جهة القوّة العمليّة، والثاني من جهة القوّة النظريّة.


1- .نقلها في مرآة العقول، ج 1، ص 29 بعنوان «ربما يقال» .
2- .نقلها في مرآة العقول، ج 1، ص 29 بعنوان «قيل».
3- .مرّ في ص 2.
4- .كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 339، في تفسير العقل.

ص: 43

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن عمرو بن عثمان ، عن مفضّل بن صالح ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نُباتةَ ، عن عليّ عليه السلام ، قال :«هبط جبرئيلُ على آدمَ عليه السلام ، فقال :يا آدمُ ، إنّي اُمرتُ أن اُخيِّرَك واحدةً من ثلاثٍ ، فاختَرْها ودَع اثنتين ، فقال له آدمُ : يا جبرئيلُ ، وما الثلاث؟ فقال : العقلُ والحياءُ والدينُ ، فقالَ آدمُ : إنّي قد اخترتُ العقلَ ، فقالَ جبرئيلُ للحياء والدين : انصرفا ودعاه ، فقالا : يا جبرئيل ، إنّا اُمرنا أن نكونَ مع العقل حيث

وقوله: «استنطقه» أي جعله دالّاً لصاحبه إلى اُمور فيها الرشد، سواء كانت متعلّقة بالمعاش أم بالمعاد، فكأنّه ناطق. وقوله: «ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر» استعارة تمثيليّة، والمقصود أنّه جعله بحيث يكون سببا لأن يكون صاحبه قابلاً للتكليف، ومستعدّا لأن يكون مأمورا ومنهيّا، وكونه أحبّ باعتبار كونه سببا للتكليف وإصلاح حالِ من هو أحبّ عنده. وقوله: «أما إنّي» إلخ، أي جعلتك المناط للتكليف، فكأنّه هو المأمور والمنهيّ، والمعاقب والمثاب، وهذا الجهل الأخير بعضه مأخوذ من كلام بعض الأفاضل المعاصرين، و لوهن ما ذكره غيّرناه وأصلحناه كذلك؛ واللّه الموفِّق. قوله: (فقال: العقل والحياء والدين). المراد بالعقل هاهنا القسم الثالث من المعنى السادس، أي كمال القوّة النطقيّة بحسب الكسب باعتبار قوّتي: النظريّة والعمليّة معا؛ لأنّ تكميل القوّة النظريّة بحسب الفطرة ليس باختيار العبد في هذا العالم الجسماني، سواء لم يكن باختياره أصلاً، أو كان باختياره في عالم تكليف الأرواح، كما جوّزه بعض الأعلام، والمقصود توفيق اكتساب ذلك الكمال، والحياءُ صفة ينبعث عنها ترك القبيح عقلاً؛ مخافة الذمّ. واشتقاقه من الحَيْوَة؛ فإنّه انكسار يعتري القوّة الحيوانيّة من الشهويّة والغضبيّة، فيردّها عن أفعالها. والمراد بالدين التصديق بما يجب التصديق به، والعمل بالشرائع والنواميس الإلهيّه. ولا شكّ في أنّ الحياء والدين تابعان، بل لازمان للعقل الكامل بحسب الكسب، ولذلك قالا بلسان الحال: إنّا اُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان.

ص: 44

كان ، قال : فشأنكما ، وعرج» .

أحمد بن إدريس ، عن محمّد بن عبدالجبّار ، عن بعض أصحابنا ، رَفَعَه إلى أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قلت له : ما العقل؟ قال :«ما عُبِدَ به الرحمن ، واكتُسِبَ به الجِنان» قال : قلت : فالذي كانَ في معاويةَ؟ فقال : «تلك النَّكْراءُ ، تلك الشيطنةُ ، وهي شبيهةٌ بالعقل ، وليست بالعقل» .

وقوله: (فشأنكما) أي الزما شأنكما وأمركما. قوله: (قلت له: ما العقل؟). أقول: المراد بالعقل هاهنا بقرينة الجواب العقلُ الكامل، سواء كان كاملاً بحسب الفطرة فقط في أعالي درجات الكمال كعقل عيسى عليه السلام مثلاً في المهد، أو بحسب الكسب فقط، أو بحسبهما معا. وقوله: (ما عُبد) على صيغة المجهول، أي ما عرف (به الرحمان). وذلك ناظر إلى كماله بحسب القوّة النظريّة. وقوله: (واكتسب به الجنان) ناظر إلى كماله بحسب القوّة العمليّة. وقوله: (فالذي كان في معاوية) مبتدأ خبره محذوف، أي ما هو؟ وقوله: (تلك) تأنيثه باعتبار الخبر. و (النَكْراء) بفتح النون والمدّ: المنكر. قال في القاموس: «النُكر - بالضمّ وبضمّتين - : المُنكر كالنَكْراء (1) ». والمقصود من النَكْراء والشيطنة الجهل الذي في مقابل العقل بالمعنى السادس من كمال القوّة النطقيّة بحسب الكسب؛ يعني نقص القوّة النطقيّة بحسب الكسب بسبب اتّباع قوّتي: الشهويّة والغضبيّة، والعمل بمقتضياتهما بحيث يترك ويهاجر عن العمل بما تقتضيه تلك القوّة، وعن اتّباعها بالكلّيّة، ثمّ المبالغة في نيل مقتضيات تينك القوّتين والوصول بمطلوبهما يوجب اشتباه نقص تلك القوّة بكمالها عند العوامّ؛ لما يرون في صاحبه من الوصول إلى المستلذّات الوهميّة والجسمانيّة، فيعبّرون عنه بالعقل الكامل، وفي الواقع هو الجهل


1- .القاموس المحيط، ج 2، ص 208 (نكر).

ص: 45

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ابن فضّال ، عن الحسن بن الجهم ، قال : سمعتُ الرضا عليه السلام يقول :«صديقُ كلّ امرئٍ عقلُه ، وعدوُّه جهلُه» .

وعنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن الحسن بن الجَهْم ، قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام :إنّ عندنا قوما لهم محبّةٌ ، وليستْ لهم تلك العزيمةُ يقولون بهذا القول ، فقال عليه السلام : «ليس اُولئك ممّن عاتَبَ اللّه تعالى، إنّما قال اللّه : « فَاعْتَبِرُواْ يَ-اُوْلِى الْأَبْصَ-رِ» ».

أحمد بن إدريس ، عن محمّد بن حسّان ، عن أبي محمّد الرازيّ ، عن سيف بن عَمِيرَةَ ، عن إسحاق بن عمّار ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«من كانَ عاقلاً كانَ له دينٌ ، ومن كانَ له دينٌ دَخَلَ الجنّةَ» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن الحسن بن عليّ بن يقطين ،

ونقصان العقل. قوله عليه السلام : (صديق كلّ امرءٍ عقله) أي كمال عقله بأحد المعاني السالفة. (وعدوّه جهله) أي نقص عقله. قوله: (لهم محبّة) أي محبّة أهل البيت عليهم السلام (وليست لهم تلك العظيمة) أي العظيمة الراسخة الحاصلة بالبرهان التي لا تزول أبدا، بل هم مستضعفون لو صادفهم مخالف كاد أن يُخرجهم عمّا فيه. (يقولون بهذا القول) أي بإمامة أئمّة الهدى عليهم السلام من غير يقين، بل إمّا بالظنّ أو بالتقليد. (فقال: ليس اُولئك ممّن عاتب اللّه ) أي على عدم تلك العزيمة (إنّما قال اللّه عزّ وجلّ: «فاعْتَبِرُوا يا اُولي الأَبصارِ» (1) ) والاعتبار هو الاستدلال بشيء على شيء، وأصله العبور. والأبصار جمع البصيرة، وهي العقل الكامل بحسب الفطرة، أو بحسب الكسب، أو بحسبهما معا، فمن لم يكن له بصيرة لا يخاطب بذلك الاعتبار. قوله: (من كان عاقلاً كان له دين) أي من كان عقله كاملاً بأحد من المعاني المذكورة ، كان له دين مقبول عند اللّه .


1- .الحشر (59): 2.

ص: 46

عن محمّد بن سنان ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«إنّما يداقُّ اللّهُ العبادَ في الحساب يومَ القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» .

عليُّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر ، عن محمّد بن سليمانَ الديلميّ ، عن أبيه ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : فلانٌ من عبادته ودينه وفضله كذا؟ فقال عليه السلام :«كيف عقله؟» قلت : لا أدري ، فقالَ : «إنّ الثوابَ على قَدْر العقل ، إنّ رجلاً من بني إسرائيل كانَ يعبُدُ اللّه في جزيرة من جزائر البحر ، خضراءَ ، نَضِرَةٍ ، كثيرةِ الشجر ، ظاهرةِ الماءِ ، وإنَّ مَلَكا من المَلائكة مَرَّ به ، فقال : يا ربِّ أرِني ثوابَ عبدِك هذا ، فأراه اللّه تعالى ذلك ، فاستقلّه المَلَكُ ، فأوحى اللّه تعالى إليه : أنِ اصْحَبْه ، فأتاهُ المَلَكُ في صورة إنسيّ ، فقال له : مَن أنت؟ قال : أنا رجلٌ عابِدٌ بَلَغني مكانُك وعبادتُك في هذا المكان ،

قوله: (إنّما يداقّ اللّه ) مأخوذ من الدقّة، قال في القاموس: «المُداقَّةُ أن تُداقَّ صاحِبَكَ الحسابَ» (1) . وقوله: (من العقول في الدنيا) أي من العقول الكاملة بحسب الكسب، أي على قدر ما وفّقهم اللّه باكتساب كمال العقل، فإنّ العقل بذلك المعنى اختياري يستحقّ صاحبه المدح والثواب. قوله: (فلان من عبادته ودينه وفضله). الظرف خبر مبتدأ محذوف، أي كذا وكذا، والمجموع خبر «فلان»، والمقصود أنّه فيها في المرتبة القصوى. وقوله عليه السلام : (كيف عقله؟) أي مرتبة عقله: أهو في مرتبة الكمال، أو النقص؟ لأنّ له مراتبَ لا تحصى. وقوله عليه السلام : (فاستقلّه المَلَكُ) أي عدّه قليلاً في جنب عبادته. وقوله عليه السلام : (فقال له) أي قال الرجل للملك. وقوله: (أنا رجل) باعتبار تصويره بصورة الرجل. وقوله: (بلغني مكانك) أي منزلتك.


1- .القاموس المحيط، ج 3، ص 339 (دقق).

ص: 47

فأتيتُكَ لأعبُدَ اللّهَ مَعَك ، فكانَ معه يومَه ذلك ، فلمّا أصبَحَ ، قالَ له الملك : إنّ مكانَك لنَزِهٌ ، وما يصلُحُ إلّا للعبادة ، فقال له العابد : إنّ لمكاننا هذا عيبا ، فقال له : وما هو؟ قال : ليس لربّنا بهيمةٌ ، فلو كان له حمار رَعَيْناهُ في هذا الموضع ، فإنّ هذا الحشيشَ يَضيعُ ، فقال له ذلك الملكُ : وما لربّك حمارٌ؟ فقال : لو كان له حمارٌ ما كان يَضيعُ مثل هذا الحشيشِ ، فأوحى اللّه تعالى إلى الملك : إنّما اُثيبُهُ على قَدْر عقله» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام : قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :«إذا بَلَغَكم عن رجلٍ حُسْنُ حالٍ ، فَانْظروا في حُسْن عقله ، فإنّما يُجازى بعقله» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عبداللّه بن سنان ، قال : ذكرتُ لأبي عبداللّه عليه السلام رجلاً مُبتلىً بالوضوء والصلاة ، وقلتُ : هو رجلٌ عاقلٌ ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام :«وأيُّ عقلٍ له وهو يُطيعُ الشيطانَ؟» فقلت له : وكيف يُطيعُ الشيطانَ؟ فقال عليه السلام : «سَلْه : هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو ؟ فإنّه يقولُ لك: من عَمَلِ الشيطانِ» .

وقوله: (ليس لربّنا بهيمة) أي مختصّة به مركوبة. وقوله: (وما لربّك حمار) أي حمار مركوب له. وقوله تعالى: (إنّما اُثيبه على قدر عقله) لأنّ الثواب على العمل إنّما هو على قدر العلم والمعرفة؛ لأنّ العمل الخالي عن العلم ضائع باطل، والعلم إنّما هو على قدر العقل، فمن كان عقله ناقصا كان علمه ناقصا، وكان ثوابه على عمله أيضا ناقصا. قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (فإنّما يجازى بعقله) أي بقدر مرتبة عقله من مراتب الكمال والنقصان. قوله: (رجلاً مبتلىً بالوضوء والصلاة) أي كان وسواسيّا فيهما. وقوله: (هذا الذي يأتيه) أي الوسواس. وقوله: (فإنّه يقول لك: من عمل الشيطان) يحتمل أن يكون معناه أنّه يقول في جوابك شيئا يكون ذلك الشيء من عمل الشيطان، فهو تابع له، فليس له عقل كامل. ويحتمل أن يكون معناه أنّه يقول في جوابك: إنّ ذلك الوسواس من عمل الشيطان، فعلمُه بأنّه من عمل الشيطان مع إتيانه به واتّباعه له دليلٌ على نقص عقله.

ص: 48

عِدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد، عن بعض أصحابه، رفعه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :«ما قَسَمَ اللّهُ للعبادِ شيئا أفضلَ من العقل، فنومُ العاقلِ أفضلُ من سَهَرِ الجاهل، وإقامةُ العاقلِ أفضَلُ من شُخُوص الجاهلِ ؛ ولا بَعَثَ اللّهُ نبيّا ولا رسولاً حتّى يَستكمِلَ العقلَ ، ويكون عقلُه أفضلَ من جميع عقولِ اُمّتِهِ ، وما يُضْمِرُ النبيُّ صلى الله عليه و آله في نفسه أفضلُ من اجتهاد المجتهدين ، وما أدّى العبدُ فرائضَ اللّهِ حتّى عَقَلَ عنه ، ولا بَلَغَ جميعُ العابدينَ في فضل عبادتهم ما بَلَغَ العاقلُ ، والعقلاءُ هم اُولوا الألبابِ الّذين قال اللّه تعالى : « وَمَا يَتذَّكَّرُ إِلَا اُوْلُواْ الْأَلْبَ-بِ » » .

قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (أفضل من العقل) أي العقل الكامل بأحد من المعاني المذكورة سالفا. وقوله: (فنوم العاقل) أي كامل العقل (أفضل من سَهَر الجاهل) أي ناقص الجهل. وقوله: (من شخوص الجاهل) أي من ذهابه وحركته من بلد إلى بلد لتحصيل الخير، أو من ارتفاعه واعتلائه في المراتب الدنيويّة. قال في القاموس: «شَخَصَ - كمَنَعَ - شُخُوصا: ارتَفَعَ، ومن بَلَدٍ إلى بلدٍ: ذَهَبَ (1) » انتهى. أو من فكره في المعارف؛ لأنّه يوجب ضلالته غالبا، فالمراد بالإقامة ما يقابل هذه المعاني. وقوله: (حتّى يستكمل العقل) أي يستكمل اللّه تعالى عقله، أي جعل اللّه عقل النبيّ كاملاً في الدرجة العليا بحسب الفطرة، أو يستكمل النبيّ عقله بتوفيقه تعالى بحسب الكسب بعد كماله بحسب الفطرة، والأوّل كلّي، والثاني أغلبي. وقوله: (وما أدّى العبدُ) أي حقّ التأدّي (فرائضَ اللّه حتّى عَقَلَ منه) أي من اللّه ؛ يعني إنّما يؤدّي فرائض اللّه حقّ التأدّي العاقلُ عن اللّه ، وهو الذي يكون عقله كاملاً فطرة وكسبا معا كما مرّ. والألباب جمع اللبّ، (2) وهو العقل الكامل.


1- .القاموس المحيط، ج 2، ص 449 (شخص).
2- .في النسخة: «لبّ».

ص: 49

أبو عبداللّه الأشعريُّ ، عن بعض أصحابنا ، رَفَعَه ، عن هشام بن الحكم، قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام :«يا هشامُ ، إنّ اللّهَ تبارك وتعالى بَشَّرَ أهلَ العقلِ والفهمِ في كتابه ، فقال : « فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَ اُوْلَئِكَ هُمْ اُوْلُواْ الْأَلْبَ-بِ» » .

قوله: (أبو عبد اللّه الأشعري). وفي بعض النسخ: «أبو عليّ الأشعري» والأشعر أبو قبيلة من اليمن هو أشعر بن سبأ بن يشجب [بن يعرب] بن قحطان. والأشعريّون جمع من أصحابنا القمّيين. وأبو عبد اللّه الأشعري هو الحسين بن محمّد الأشعري الذي يروي عنه المؤلّف كثيرا، وقلّما ينقله المؤلّف بهذا العنوان بل باسمه، ولذلك اشتبه على جمع. والظاهر أنّ نسخة «أبو عليّ الأشعري» من تصرّف الناظرين في هذا الكتاب؛ لعدم اطّلاعهم على ما ذكرنا. وقوله: (بَشَّرَ أهلَ العقل) أي العقل الكامل، (والفهم)، إمّا عطف تفسيري للعقل؛ لأنّه قد يطلق عليه، وإمّا المراد به العلم المتناول لليقين والتصوّر. وإطلاق الفهم على العلم معروف. والآية تدلّ (1) على بشارة أهل العلم أيضا كما لا يخفى. وقوله عليه السلام : (فقال) أي قال اللّه تعالى في سورة الزمر. وقوله تعالى: «يستمعونَ القَولَ» (2) أي القرآن، والمراد ب- «أحْسَنَه» محكمه دون متشابهه؛ لأنّه توقيفي، أو ناسخه دون منسوخه، أو ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة. ويحتمل أن يكون ضمير «أحسنه» راجعا إلى الاتّباع، أي أحسن الاتّباع. ويحتمل أن يكون المراد ب- «القول» وباتّباع أحسنه التميزَ بين الحقّ والباطل، وإيثارَ الأفضل فالأفضل من الحقّ، أو اتّباعَ القرآن والحديث؛ لأنّهما أحسن القول. وقوله تعالى: «اُولئك الذين هَداهُم اللّهُ» (3) أي أوصلهم إلى المطلوب الحقّ. وقوله: «واُولئك هُمْ اُولوا الألبابِ» 4 أي ذو العقول الكاملة بحسب الفطرة والكسب،


1- .في النسخة: «يدلّ».
2- .الزمر (39): 18.
3- .تتمّة الآية السابقة.

ص: 50

يا هشام ، إنَّ اللّهَ تبارك وتعالى أكمَلَ للناس الحُجَجَ بالعقول ، ونَصَرَ النبيّين بالبيان ، ودَلَّهم على ربوبيّته بالأدلّةِ ، فقالَ : « وَ إِلَ-هُكُمْ إِلَ-هٌ وَ حِدٌ لَا إِلَ-هَ إِلَا هُوَ .........

السليمةِ عن معارضة الوهم والعادة. وفي ذلك دلالة على أنّ الهداية تحصل بفعل اللّه وقبول النفس لها؛ فأحسِن تدبّره. وقوله عليه السلام : (أكمل للناس الحجج بالعقول) أي أقام للناس الدلائل والبراهين القاطعة على المعارف الإلهيّة والعلوم الدينيّة بسبب وجود العقول الكاملة؛ لأنّه لو لم تكن العقول الكاملة السليمة عن المعارضات الوهميّة والتسويلات الشيطانيّة والمناقضات الطبيعيّة، لم يهتد أحد إلى الحقّ. وقوله عليه السلام : (ونصر النبيين بالبيان) أي ببيان الحقّ وإظهاره وإثباته لكلّ طبقة على وفق رتبتهم وفهمهم على وجوه مختلفة بحيث لا يبقى في قلب أحد شكّ ولا ريب، ولا ينكرهم إلّا بلسانهم لأجل أهوائهم، ولولا ذلك لزم إقحام الأنبياء عليهم السلام . وقوله عليه السلام : (ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة) أي دلّ العقلاء على خالقيّته وموجديّته لكلّ شيء بالأدلّة الإنّيّة، فإنّ كلّ شيء في نظر اللبيب برهان واضح على وجود صانع العالم، بل على وحدته وعلمه وقدرته وسائر صفاته أيضا، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: «وَإِلهُكُم إِلهٌ واحِدٌ» (1) أي المستحقّ لعبادتكم واحد حقيقي لا شريك له، لا في استحقاق العبادة، ولا في وجوب الوجود الذاتي، ولا في صفاته ووحدته الحقيقيّة. وقوله تعالى: «لا إِلهَ إِلّا هُوَ» (2) استيناف لبيان الوحدة، وتعميم، بعد التخصيص؛ إزاحةً لما يتوهّم من جواز أن يكون إله غيركم - أي المستحقّ لعبوديّة غيركم - متعدّدا، فبيّنه بأنّه لا شيء من المستحقّ للعبادة مطلقا - سواء كان لكم ولغيركم - غير ضروري العدم، أي الممكن الوجود بالإمكان العامّ. «إلّا هو» أي إلّا اللّه ، فمرجع ضمير «هو» اللّه المستفاد من «إله واحد» وهو عَلَم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، وليس ذلك إلّا واجب الوجود بالذات وهو واحد،


1- .البقرة (2): 163.
2- .تتمّة الآية السابقة.

ص: 51

الرَّحْمَ-نُ الرَّحِيمُ * .........

فيستحقّ العبوديّة مطلقا، سواء كان لكم ولغيركم، واحد. فكأنّه دليل على ما يعمّ من المدّعى، وصورته: إنّ كلّ ما يستحقّ العبوديّة هو الواجب بالذات، وذلك ضروري لجميع الأديان؛ لاتّفاق كلّ الأنبياء عليهم السلام وجميع الكتب السماويّة على أنّه لا يستحقّ العبوديّة إلّا الذات المستجمع لجميع صفات الكمال الذي هو مدلول لاسم اللّه ، ونقص الإمكان الذاتي وكماليّة الوجوب بالذات ممّا يشهد عليهما البديهة، فانحصار استحقاق العبوديّة للواجب بالذات ممّا علم بالضرورة من جميع الأديان، ولا شيء من الواجب بالذات بمتعدّد بوجه من الوجوه، كما يدلّ عليه البراهين العقليّة، فلا شيء من المستحقّ للعبوديّة بمتعدّد بوجه من الوجوه. فأحسِن تدبّره؛ فإنّه (1) ذلك ممّا ألهمني اللّه تعالى بحسن توفيقه به في تفسير هذا الكلام، واللّه الموفِّق للمرام. وقوله تعالى: «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» (2) خبران لمبتدأ محذوف، أي هو الرحمان الرحيم. ويحتمل أن يكونا خبرين آخَرين لقوله تعالى: «إلهُكُم» ، وهما اسمان بنيا للمبالغة من رحم كالغضبان من غضب، والعليم من علم. والرحمان (3) أبلغ من الرحيم؛ لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى كما في قطع وقطّع، وكبار وكبّار، وتلك الأبلغيّة إنّما تؤخذ تارة باعتبار الكمّيّة، والاُخرى باعتبار الكيفيّة، فعلى الأوّل قيل: يا رحمان الدنيا؛ لأنّه يعمّ المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة؛ لأنّه مختصّ بالمؤمنين، فكمّيّة المرحومين في الدنيا أكثر من كمّيّتهم في الآخرة، وعلى الثاني قيل: يا رحمان الدنيا والآخرة؛ لأنّ كلّ نعم الآخرة وبعض نعم الدنيا جسام، ورحيم الدنيا باعتبار بعض النعم الحقيرة الدنيويّة، فكيفيّة الرحمة في الأوّل أشدّ من الثاني. وإنّما قدّم - والقياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى - لتقدّم رحمة الدنيا، ولأنّه


1- .كذا.
2- .تتمّة الآية السابقة.
3- .في النسخة: + «والرحمان».

ص: 52

إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ-وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَ-فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .........

صار كالعَلَم من حيث إنّه لا يوصف به غيره؛ لأنّ معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتَها، وذلك لا يصدق على غيره؛ لأنّه تعالى هو الجواد الحقيقي الذي يفيد ما ينبغي لما ينبغي له، لا لعوض ولا لغرض، ومن عداه مستفيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب، أو جميل ثناء، أو مزيح رقّة الجنسيّة (1) ، أو حبَّ المال عن القلب على أنّه كان كالواسطة في ذلك؛ لأنّ وجود النعم، والقدرةَ على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكّنَ من الانتفاع بها وغيرَ ذلك من خلقه تعالى، لا يقدر عليها أحد غيره. وقوله: «إِنَّ في خَلقِ السَّمواتِ وَالأَرضِ» (2) الآية، إقامة للدلائل والبراهين على الدعاوي السابقة من الاُلوهيّة المستلزمة الوجوب (3) الذاتي وصانعيّة العالم، ومن التوحيد والرحمانيّة والرحيميّة، كما لا يخفى على قوم يعقلون. وجمْع «السماوات» وإفراد «الأرض» لأنّ تعدّد السماوات تعدّد نوعي، وتعدّد طبقات الأرض تعدّد صنفي كلّها نوع واحد. وقوله تعالى: «وَاخْتِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ» (4) أي مجيئهما وذهابهما، أو تعاقبهما، أو زيادتهما ونقصانهما بإيلاج كلّ منهما وصاحبه، وتأنيث «الفلك» إمّا لأنّه بمعنى السفينة أو لأنّه جمع، وضمّة الجمع غير ضمّة الواحد تقديرا، وقرئ بضمّتين. وقوله تعالى: «بِما يَنْفَعُ النّاسَ» 5 أي بالأقوات والأمتعة التي تجلب من المواضع البعيدة ، وتعيش بها الناس. وقوله: «مِنَ السَّماءِ» 6 أي من العلوّ، أو السحاب، أو من جانب الفلك. وقوله تعالى: «فَأَحْيا بِهِ الأَرضَ» 7 بإنبات النبات بعد موتها بعدم النبات.


1- .أي مزيل غريزة الجنسيّة بإرضائها.
2- .البقرة (2) : 164.
3- .في النسخة: «للوجوب».
4- .تتمّة الآية السابقة.

ص: 53

وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ-حِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَ الْأَرْضِ لَأَيَ-تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . يا هشام ، قد جَعَل اللّهُ ذلك دليلاً على معرفته بأنّ لهم مدبِّرا ، فقال : « وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّرَ ت بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأَيَ-تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . وقالَ : « هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ .........

وقوله: «وَبَثَّ فِيها» (1) عطف على قوله: «فأحيا» أي وانتشر فيها من كلّ نوع دابّة، وتصريفُ الرياح هو تغيّر جهاتها شرقا وغربا، وشمالاً وجنوبا وغير ذلك. وقوله تعالى: «المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ» أي المقيم بينهما بلا إرادة واختيار، أو المسخّر للرياح يقلّبه في الجوّ بمشيّة اللّه تعالى. وقوله تعالى: «لَاياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ» (2) - (3) أي دلائلَ وبراهين للمعارف الإلهيّة ولا سيّما للمدّعيات السالفة لقوم يتّصفون بكمال العقل الغالب على الوهم والطبيعة والعادة. وقوله عليه السلام : (قد جعل اللّه ذلك) أي المذكور في الآية دليلاً على معرفة بأنّ لهم مدبّرا خارجا عن سلسلة الممكنات؛ لأنّ الناظر في هذه الاُمور، المتدبّر فيها يعلم أنّ لها وله صانعا واجب الوجود بالذات، حكيما قادرا مختارا (4) لا شريك له ولا نقص فيه. وقوله عليه السلام : (فقال) أي في سورة النحل: «وَسَخَّرَ لَكُمْ» (5) أي هيّأَ لمنافعكم. وقوله تعالى: «مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» (6) أي لا يعصون اللّه ما أمرهم، وفيه دلالة على شعورهم وإرادتهم، واللام في قوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلِغُوا أَشُدَّكُم» 7 متعلّق بمحذوف تقديره: يبقيكم لتبلغوا أشُدَّكم، أي قوّتكم. وقيل 8 : هو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين، وكذا اللام


1- .تتمّة الآية السابقة.
2- .البقرة (2): 164.
3- .في النسخة: «وله صانع... حكيم قادر مختار».
4- .النحل (16): 12.
5- .غافر (40): 67.
6- .القائل به الجوهري في الصحاح، ج 2، ص 493؛ والفيروزآبادي في القاموس المحيط، ج 1، ص 587 (شدد).

ص: 54

ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا وَ مِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » وقال : «إنّ في اختلاف اللّيلِ والنهارِ* وما أنزلَ اللّهُ مِنَ السماء من رِزْقٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِها* وتصريفِ الرياحِ والسحابِ المسخّرِ بين السماءِ والأرضِ لآيات لقومٍ يعقلونَ» .........

في قوله: «ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيوخا» (1) . وقوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبلُ» (2) أي قبل بلوغ الأشدّ، أو الشيخوخة. وقوله تعالى: «وَلِتَبلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً» 3 أي يفعل ذلك لتبلغوا الوقت المعيّن للموت، أو يوم القيامة. وقوله تعالى: « «وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» 4 أي يحصل لكم بالنظر والتدبّر والفكر في هذه الاُمور [و] المراتب كمالُ العقل بحيث تعرفون الصانع العالم القادر المختار البريء من كلّ نقص. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الجاثية: «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ» إلى آخر الآية. اعلم أنّه ليس فيها لفظتا «إنّ» و«في» بل في السورة المذكورة هكذا: «إِنَّ في السَّمواتِ وَالأَرضِ لَاياتٍ لِلمُؤمِنينَ * وَفِي خَلْقِكُم وَما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ آياتٌ لِقَومٍ يُوقِنونَ * وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ» 5 الآية، ولمّا كان اختلاف الليل والنهار متعلّقا بحركات بعض السماوات حول الأرض، وليس له تعلّق بخلق الإنسان وسائر الحيوانات ، فلعلّه عليه السلام نقلها بالمعنى بإضافة لفظتي «إنّ» و«في» للإشعار بأنّ قوله تعالى: «اختلاف الليل والنهار» معطوف على «السماوات» لا على «خلقكم». وقوله: «في خلقكم» الآية، جملة معترضة. والمراد بالرزق هاهنا هو المطر؛ لأنّه سببه. وقوله: «لآيات لقوم يعقلون» أيضا نقل بالمعنى؛ لأنّ الذي في الجاثية «آيات» بدون اللام، ولعلّ سببه تأكيد الإشعار بأنّ العطف إنّما هو على «السماوات».


1- .تتمّة الآية السابقة.
2- .الجاثية (45): 3 - 5.

ص: 55

وقال : « يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَ-تِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » . وقال : « وَ جَنَّ-تٌ مِّنْ أَعْنَ-بٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَ حِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى

وقوله عليه السلام : (وقال: «يحيي الأرض» ) إلخ، قال جلّ ذكره في سورة الحديد. (1) وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الرعد، قال في القاموس: «صنِوانٌ وهي بهاءٍ: النخلتان فما زاد في الأصل الواحد كلُّ واحدٍ منهما صِنوٌ، ويُضَمُّ، أو عامٌّ في جميع الشجر وهما صُِنوانِ وصَِنيانِ مُثَلَّثين» (2) . وقوله تعالى: «وَنُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعضٍ فِي الاُكُلِ» (3) أي في الثمر شكلاً وقدرا، وريحا وطعما، وذلك ممّا يدلّ على الصانع الحكيم القادر المختار. وقوله تعالى: « «لِقَومٍ يَعقِلُونَ» (4) » أي لقوم لهم عقول كاملة يستعملون عقولهم بالتفكّر. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الروم: «وَمِنْ آياتِهِ يُريكُم [البرقَ]» فيه (5) إمّا تقدير «أن» أي أن يريكم، أو الفعل مُنزل منزل المصدر، أي إراءتكم كقول الشاعر: تَسمعَ بالمعيدي خير من أن تراه (6) . أي سماعك بالمعيدي. وقوله تعالى: «خَوفا وَطَمَعا» (7) أي خوفا من الصاعقة، أو للمسافر، وطمعا في الغيث، أو للمقيم، ونصبهما على الحال، أي خائفين طامعين مثل قولك: كلّمتُه شِفاها، أي مشافهة. وإحياء الأرض عبارة عن إنبات النبات عنها، وموتها هو يبسها كما مرّ.


1- .الحديد (57) : 17.
2- .القاموس المحيط، ج 4، ص 510 (صنو).
3- .الرعد (14) : 4.
4- .تتمة الآية السابقة.
5- .الروم (30) : 24.
6- .مثل مشهور اختلف في قائله، فقيل: المنذر بن ماء السماء. وقيل: النعمان كما اختلف في صيغة المثل، فيروى: «تسمع بالمعيدي» برفع الفعل ونصبه، و«أن تسمع» و«تسمع بالمعيدي لا أن تراه» واختلف في اسم المعيدي، فقيل: صقعب بن عمرو. وقيل: شقة بن ضمرة. وقيل: ضمرة. اُنظر : كتاب العين، ج 2، ص 62 (معد)؛ ترتيب إصلاح المنطق، ص 358 (المعيدي)؛ العقد الفريد، ج 2، ص 271 و401؛ البيان والتبيين، ج 1، ص 171 و237؛ أمالي الزجاجي، ص 200؛ المستقصى في أمثال العرب، ج 1، ص 370 / 1598؛ الصحاح، ج 2، ص 506 (عود)؛ جمهرة الأمثال، ج 1، ص 215 / 369؛ الأمثال للضبي، ص 55 ، وسيأتي في ص 131.
7- .تتمّة الآية السابقة.

ص: 56

الْأُكُلِ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأَيَ-تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » ؟ . وقال : « وَ مِنْ ءَايَ-تِهِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَ طَمَعًا وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِى بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأَيَ-تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . وقال : « قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَا تُشْرِكُواْ بِهِى شَيْئا وَبِالْوَ لِدَيْنِ إِحْسَ-نًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَ-دَكُم مِّنْ إِمْلَ-قٍ ، نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَ حِشَ .........

وقوله تعالى: «إِنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ» (1) أي يستعملون عقولهم الكاملة في استنباط أسبابها وكيفيّة تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الأنعام: «قُلْ تَعالَوا» (2) أمْرٌ من التعالي، وأصله أن يقوله من كان في علوّ لمن كان في سفل، فاتّسع فيه للتعميم. وقوله تعالى: «أَنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئا» 3 أي لا تشركوا باللّه شَيئا صنما كان أو غيره، ومن هذا يستفاد أنّ الريا شرك وإن كان خفيّا. وقوله تعالى: «وَبِالوالِدَينِ إِحْسانا» 4 أي أحسنوا بهما إحسانا. ولمّا كان التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها، فوضع الأمر هاهنا موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة والدلالة على أنّ ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما. ويحتمل أن يكون «بالوالدين» معطوفا على «به»، أي لا تشركوا بالوالدين إحسانا، أي ذا إحسان، عبّر عنه بالإحسان مبالغةً؛ فإنّ المحسن - وإن بالغ وظهر منه جميع أنواع الإحسان - لا يبلغ مرتبة الوالدين. ولا يبعد تفسير الوالدين برسول اللّه ووصيّه صلوات اللّه عليهما؛ لأنّهما أبرّ وأولى من الوالدين على الاُمّة، كما سيظهر من بعض الأحاديث إن شاء اللّه تعالى. وقوله تعالى: «مِنْ إِملاق» 5 أي من أجل فقر، ومن خشيته، وذلك نهي عن إسقاط الجنين ووَأْدِ البنات، كما فعلوا في الجاهليّة. و«الفواحش» كبائر الذنوب.


1- .تتمّة الآية السابقة.
2- .الأنعام (6): 151.

ص: 57

مَاظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَا بِالْحَقِّ ذَ لِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » . وقال : « هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَ-نُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَ-كُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَ لِكَ نُفَصِّلُ الْأَيَ-تِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » .

وقوله تعالى: «ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ» (1) أي سرّا وعلانية، وما حُرّم في كلّ شريعة كالسرقة والزنا، وما ورد [في] الإسلام بتحريمه. وقوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (2) أي ترشدون، فإنّ الرشد كمال العقل، أو لعلّكم تتّبعون مقتضى عقولكم الكاملة في الاجتناب (3) عن محارم اللّه تعالى. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الروم: «هَلْ لَكُم مِمّا مَلَكَتْ أَيمانُكُم» 4 أي من مماليككم، و«من» للتبعيض، وفي قوله: «مِن شُرَكاء» 5 زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. وقوله تعالى: «فِيما رَزَقْناكُم» 6 أي من الأموال وغيرها. وقوله تعالى: «فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواء» 7 أي فتكونون أنتم والعبيد فيما رزقناكم سواءً، يتصرّفون فيه كتصرّفكم مع أنّهم بشر مثلكم، والأموال مُعارة لكم. وقوله تعالى: «تَخافُونَهُم كَخِيفَتِكُم أَنْفُسَكُم» 8 أي تخافون من العبيد أن يستقلّوا في التصرّف فيها، كما يخاف الأحرار الشركاء في الأموال بعضهم عن بعض. وقوله تعالى: «نُفَصِّلُ الآياتِ» 9 أي نُبيّنها؛ فإنّ التمثيل فيما دلّ عليه البرهان ممّا يكشف المعاني، ويدفع المشاغبات والمعارضات الوهميّة. وقوله تعالى: «لِقَومٍ يَعْقِلُونَ» 10 أي يستعملون عقولهم الكاملة في تدبّر الأمثال، فإنّ من راجع عقله الذي كان كاملاً بأحد من المعاني المذكورة سابقا، وتفكّر في هذا المَثَل،


1- .تتمّة الآية السابقة.
2- .في النسخة: «اجتناب».
3- .الروم (30): 28.

ص: 58

يا هشامُ ، ثمّ وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة ، فقال : « وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » . يا هشام ، ثمّ خَوَّفَ الّذين لا يعقلون عقابه ، فقال تعالى : « ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأَخَرِينَ * وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَ بِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » . .........

اطمأنّ قلبه على العلم بأنّ كون اللّه تعالى بالنسبة إلى عبيده كمن يخاف شريكه في تصرّف لا يرضى به يستلزم نقصانا (1) فيه؛ تعالى ذلك عُلوّا كبيرا. وقوله عليه السلام : (وَعَظ) الوعظ (2) تذكير ما يليّن القلب من الثواب والعقاب. وقوله عليه السلام : (فقال) أي في سورة الأنعام: «وَما الحَياةُ الدُّنيا» (3) أي وما أعمالها «إلّا لعبٌ» و (4) لقلّة نفعها وانقطاعها، ولأنّها تلهي الناس وتشغلهم عن اللذّة الحقيقيّة الدائمة. وقوله تعالى: «وَلَلدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ» (5) ؛ لدوامها وخلوص منافعها ولذّاتها، وفي قوله تعالى: «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» (6) تنبيه على أنّ ما ليس من أعمال المتّقين لعب ولهو. وقوله تعالى: «[أ]فَلا تَعْقِلُونَ» (7) أي ليس لهم عقل كامل؛ حيث تركوا الأعلى للأدنى مع العلم اليقيني بالتفاوت بينهما. وقوله عليه السلام : (ثمّ خَوَّفَ الذين لا يعقلون عقابَه) أي خَوَّف الذين لا يتّبعون مقتضى العقل بعقابه، ف «عقابه» مفعول ب- «أن يخوّف». وقوله عليه السلام : (فقال عزّ وجلّ) أي في سورة الصافّات: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخِرينَ» 8 أي أهلكنا قوم لوط. وقوله تعالى: «وَإِنَّكُم» 9 الآية، أي إنّكم يا أهل مكّة لتمرّون على منازلهم في متاجركم إلى الشام؛ فإنّ سَدُومَ في طريقه نهارا وليلاً، أفليس لكم عقل تعتبرون به وتخافون من مثله؟


1- .في النسخة: «نقصان».
2- .في النسخة: «الواعظ».
3- .الأنعام (6): 32.
4- .كذا. ولعلّ لفظة «و» زائدة.
5- .تتمّة الآية السابقة.
6- .الصافّات (37): 136.
7- .الصافّات (37): 137.

ص: 59

وقال : « إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَ لَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَة بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . يا هشام ، إنَّ العقلَ مع العلم ، فقالَ : « وَ تِلْكَ الْأَمْثَ-لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَآ إِلَا الْعَ--لِمُونَ » .

وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة العنكبوت: «إِنّا مُنزلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ القَرْيَةِ» (1) القرية: سَدُوم، وأهلها قوم لوط. والرجز: العذاب. وقوله تعالى: «بِما كانُوا يَفسُقُونَ» (2) أي بسبب استمرارهم على الفسق. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنها» (3) أي من القرية «آيةً بيّنةً» 4 هي ما يعتبر به العاقل من حكايتها الدالّة على قدرة اللّه تعالى وبأسه بالظالمين، أو آثار الديار الخربة. وقوله تعالى: «لِقَوْمٍ يَعْقِلُون» 5 أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار، وهو متعلّق ب- «تركنا» أو «آية». وقوله عليه السلام : (إنّ العقل) أي العقل الكامل (مع العلم) في غاية الظهور؛ لأنّ العقل إن كان كاملاً بحسب الفطرة في أعالي درجات الكمال كعقل النبيّ والأئمّة عليهم السلام ، فعلم صاحبه لدنّي، وإن كان أدون من ذلك، فلا شكّ في أنّه يدعو صاحبه إلى تحصيله في أوّل أوقات الإمكان، ويبالغ فيه فيكون معه، وإن كان كاملاً بحسب الكسب، فهو معلول للعلم؛ لأنّ ذلك الكمال إنّما ينال به، وكذا الحال إن كان عقلاً عن اللّه ، أي كاملاً بحسب الفطرة والكسب معا، فعلى أيّ تقدير يكون مع العلم المتناول لليقين والفهم فقط. وقوله عليه السلام : (فقال) أي فلهذا قال في سورة العنكبوت: «وَتِلكَ الأَمْثالُ» 6 أي مَثَل العنكبوت ونظائره. وقوله تعالى: «وَما يَعْقِلُها إِلّا العالِمُونَ» 7 أي لا تبلغ العقول الكاملة دون غيرهم لما


1- .العنكبوت (29): 34.
2- .تتمّة الآية السابقة.
3- .العنكبوت (29): 43.

ص: 60

يا هشام ، ثمّ ذَمَّ الّذين لا يعقلون ، فقال : « وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئا وَ لَا يَهْتَدُونَ » وقال : «وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَا دُعَآءً وَ نِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ » .........

مرّ من أنّ كمال العقل لا يوجد بدون العلم. وقوله عليه السلام : (ثمّ ذمّ الذين لا يعقلون) أي ضعفاء العقول والجهّال. وقوله عليه السلام : (فقال) أي في سورة البقرة. وقوله تعالى: «أَلْفَينا» (1) أي وجدنا. وقوله تعالى: «أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلُونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدُونَ» (2) الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو للحال، وجواب «لو» محذوف، أي ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الحقّ، أي لا يكون لهم عقل كامل يبلغ إلى شيء من الحقّ ، ولا يهتدون به إلى معرفته - لما مرّ أنّ العقل الكامل مع العلم - لاتّبعوهم. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة البقرة متّصلاً بما مضى، والنعق (3) هو التصويت على البهائم، وقوله تعالى: «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلّا دُعاءً وَنِداءً» (4) أي كمثل البهائم (5) التي تنعق، والمعنى أنّ الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم، ولا يتأمّلون فيما يقرّر معهم، فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فيسمعون الصوت كما يسمع البهائم ولا يعرفون معناه، ويحسّون بالنداء كما تحسّ البهائم، ولا يَفهمون معناه. وقوله تعالى: «صُمٌّ بُكْمٌ عُميٌ» 6 خبر مبتدأ محذوف، أي الكفّار صمّ بكم عُمي عن الحقّ «فهم لا يعقلون» 7 للإخلال بالنظر الموجب للعلم.


1- .البقرة (2): 170.
2- .تتمّة الآية السابقة.
3- .كذا. لعلّ الصواب: «النعيق». اُنظر: الصحاح، ج 3، ص 1559 (نعق).
4- .البقرة (2): 171.
5- .في النسخة: «بهائم».

ص: 61

وقال : « وَ مِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كَانُواْ لَا يَعْقِلُونَ » وقال : « أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَا كَالْأَنْعَ-مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً » . وقال : « لَا يُقَ-تِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُر بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ .........

وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة يونس، وقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيكَ» (1) أي إذا قرأتَ القرآن وعملت الشرائع، ولكن لا يقبلون كالأصمّ الذي لا يسمع أصلاً. وقوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُمَّ» (2) أي تقدر على إسماعهم. وقوله تعالى: «وَلَوْ كانُوا لا يَعقِلُونَ» (3) أي ولو انضمّ إلى صمّهم عدم تعقّلهم؛ لأنّ عقولهم مؤوفة بمعارضة الوهم ومتابعة الألف والتقليد. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الفرقان، وقوله تعالى: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعقِلُونَ» (4) أي بل أتحسب أنّ أكثرهم ينتفعون بالسماع، أو يتدبّرون فيما تلوت عليهم، وهذا تسلية له صلى الله عليه و آله ؛ لأنّه عليه السلام كان شديد الاهتمام بإيمانهم. وقوله تعالى: «إنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعامِ» 5 ؛ لعدم انتفاعهم بما قرع آذانهم، وعدم تدبّرهم في الدلائل والمعجزات. وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً» 6 أي من الأنعام لا يجتنبون ما علموا أنّ ضرره غالب على نفع ضدّه بخلاف الأنعام. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الحشر، وقوله تعالى: «لا يُقاتِلُونكُم» 7 أي اليهود والمنافقون جميعا، أي مجتمعين « «إلّا في قُرىً مُحَصَّنَةٍ» » 8 بالدروب والخنادق «أو من وراء جُدُرٍ» ؛ لفرط رهبتهم. وقوله تعالى: «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُم شَدِيدٌ» 9 أي وليس ذلك لضعفهم وجبنهم؛ فإنّه يشدّ


1- .يونس (10): 41.
2- .تتمّة الآية السابقة.
3- .الفرقان (25): 44.
4- .الحشر (59): 14.

ص: 62

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ » وقال : « وَ تَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَ أَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَ-بَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » .

بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، بل لقذف اللّه تعالى الرعب في قلوبهم «تَحْسَبَهُم جميعا» (1) أي مجتمعين متّفقين « «وقلوبهم شتّى» (2) » أي متفرّقة لا يتّبع بعضهم رأي بعض؛ لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم، «وذلك بأنّهم قومٌ لا يَعقِلُونَ» (3) ما فيه صلاحهم من اتّفاقهم واتّباعهم لرئيس عاقل مطاع يجتمع به الكلمة، ويرتفع به الشتات، ومن المجرّب أنّ السفيه المطاع أنظم للتمدّن من عاقل لا يطاع، بل هم مُعجَبون برأي أنفسهم، وذلك يوجب الشتات، ويخلّ بنظم التمدّن والتعيّش. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة البقرة، وقوله تعالى: «وَتَنْسَونَ أَنْفُسَكُم» 4 أي تتركونها من البرّ كالمنسيّات «وأنتم» 5 يا بني إسرائيل «تَتلون الكتاب» 6 أي التوراة، وفيها بيان الحقّ، فأنتم تعلمون الحقّ، فلِمَ لا تعملون؟ «أفلا تعقلون» 7 أي ليس لكم عقل كامل؛ لترككم الثواب الباقي؛ لأجل الحطام الفاني، والاستفهام تقريري. ولمّا يتوهّم هاهنا أنّه لمّا تبيّن من الآيات السابقة أنّ العقلاء - أي الكاملين منهم - يتّبعون الحقّ، فإذا ذهب أكثر الناس إلى مذهب، فيكون ذلك المذهب حقّا؛ لوجود العقلاء فيهم، ومن ذلك يلزم بطلان ما ذهب إليه الأقلّ كالفرقة الإماميّة مثلاً، فدفع عليه السلام هذا الوهم بقوله: «ثمّ ذمّ اللّه الكثرة» إلخ، والمراد بالكثرة الكثير؛ إطلاقا للمبدأ وإرادةً للمشتقّ. 8 وحاصله أنّ وجود العقلاء الكاملين في أكثر الناس غير لازم حتّى يلزم حقّيّة مذهب الأكثر، وبطلان مذهب الأقلّ، بل أكثر الناس لا يعقلون، وقليلهم يعقلون. أمّا دليل الأوّل، فهو أنّ اللّه تعالى ذمّ الأكثر فقال في سورة الأنعام خطابا إلى النبيّ عليه السلام :


1- .تتمّة الآية السابقة.
2- .البقرة (2): 44.
3- .قارن مرآة العقول، ج 1، ص 49.

ص: 63

يا هشام ، ثمّ ذمّ اللّه الكثرة فقال : « وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ » وقال : « وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَ-وَ تِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ » وقال : « وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ » . يا هشام ، ثمّ مدح القلّة فقال : « وَ قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ » .........

«وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبيلِ اللّه » (1) أي عن شرعه في الاُصول والفروع، وقال في سورة لقمان: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهَ» (2) لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطرّهم إلى إذعانه، وقوله تعالى: «قُلِ الحَمْدُ للّهِ» (3) أي على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم، والذي في سورة لقمان: «بَلْ أَكْثَرُهُم لا يَعلَمُونَ» (4) أي لا يعلمون أنّ ذلك القول منهم يلزمهم، فقوله: «بل أكثرهم لا يعقلون» نقل بالمعنى إشارةً إلى ما مرّ من استلزام العقل الكامل العلم، فانتفاء العلم - الذي هو اللازم - مستلزم لانتفاء العقل الذي هو الملزوم، وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة العنكبوت: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم» (5) الآية، وتفسيره يظهر ممّا مرّ. وأمّا دليل الثاني، فهو أنّ اللّه تعالى مدح القليل، فالمراد بالقلّة في قوله عليه السلام : (ثمّ مدح القلّة) القليل، ولمّا كان ما هو ذمّ للكثرة بحسب المنطوق مدحا (6) للقلّة بحسب المفهوم وبالعكس، فللإشارة إلى هذا وسطَ ما هو منطوقه مدح القلّة فيما هو منطوقه ذمّ الكثرة. وقوله عليه السلام : (فقال) أي في سورة سبأ: «وَقَليلٌ مِنْ عِباديَ الشَكُور» 7 وهو المتوفّر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يوفي حقّه؛ لأنّ توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية؛ ولذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر.


1- .الأنعام (6): 144.
2- .لقمان (31): 25.
3- .تتمّة الآية السابقة.
4- .العنكبوت (29): 61.
5- .في النسخة: «مدح».
6- .سبأ (34): 13.

ص: 64

وقال : « وَ قَلِيلٌ مَّا هُمْ » وقال : « وَ قَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَ-نَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ » وقال : « وَ مَنْ ءَامَنَ وَ مَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلَا قَلِيلٌ » . وقال : « وَلَ-كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ » . وقال : « وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ » وقال : «وأكثرهم لا يشعرون» .

وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة ص: « «وَقَليلٌ ما هُمْ» (1) ما مزيدة للإبهام والتعجّب، أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات قليل في غاية القلّة. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة المؤمن: « «وقال رجلٌ مؤمن» (2) » (3) وقوله تعالى: «أن يَقُولَ رَبِّي اللّه » (4) أي لأن يقول ربّي اللّه وحده. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة هود: «وَمَنْ آمَنَ» (5) أي احمل يا نوح في السفينة من آمن، وما آمن، أي مع نوح إلّا قليل، قيل (6) : كانوا تسعة وسبعين: زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة: سام وحام ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلاً، وامرأة من غيرهم. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة القصص وفي سورة الدخان: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُم لا يَعْلَمُونَ» (7) وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الحجرات: «وَأَكْثَرُهُم لا يَعْقِلُونَ» (8) وقوله عليه السلام أي في سورة (9) « «وَأَكْثَرُهُم لا يَشْعُرُونَ» .


1- .ص (38): 34.
2- .في النسخة: «وقوله تعالى: «رجلاً أراد به موسى»».
3- .غافر (40): 28.
4- .تتمّة الآية السابقة.
5- .هود (11): 40.
6- .نقله أيضا بعنوان «قيل» البيضاوي في تفسيره، ج 3، ص 234.
7- .القصص (28): 13 و 57؛ الدخان (44): 39، و كذا في الأنعام (6): 37؛ الأعراف (7): 34؛ الأنفال (8): 34؛ يونس (10): 55؛ الزمر (39): 49؛ الطور (52): 47 وردت في سور اُخرى.
8- .الحجرات (49): 4؛ المائدة (5): 103، ولفظة «و» لم ترد في آية سورة الحجرات.
9- .بعده في النسخة بياض، و لم ترد في التنزيل العزيز و ورد في كثير من آياته: «هم لا يشعرون» قال المؤلّف في موارد المشابه: نقل بالمعنى.

ص: 65

يا هشام ، ثمّ ذكر اُولي الألبابِ بأحسنِ الذكرِ ، وحَلّاهم بأحسن الحِلْيَةِ ، فقال : « يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَا أُوْلُواْ

ثمّ بعد دفع التوهّم عاد عليه السلام إلى المقصود، وقال: (ثمّ ذكر اُولي الألباب) أي ذوي العقول الخالصة عن شوائب الوهم، والركون إلى متابعة (1) الهوى. وقوله عليه السلام : (وحلّاهم بأحسن الحِلية) أي زيّنهم بأحسن الحلية، وهي - بكسر الحاء المهملة - ما يزيّن به من مصوغ المعدنيّات والحجارة، جمع حليّ؛ والمراد بها هاهنا الصفة الجميلة؛ يعني وصفهم بالجميل بأحسن الصفة الجميلة. وقوله عليه السلام : (فقال) أي في سورة البقرة: «يُؤتي الحِكْمَةَ» (2) أي يعطي كمال قوّتي (3) : النظريّة والعمليّة من النفس بحصول العقل بالفعل، والأخلاق الحسنة، سواء كان ذلك الإعطاء بتوفيق الاستكمال به، أو بحسب الفطرة والخلقة كحكمة النبيّ والأئمّة عليهم السلام . وقوله تعالى: «مَن يَشاء» (4) مفعول أوّل ل- «يُؤتي» اُخّر للاهتمام بالمفعول الثاني. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ» (5) بناء للمفعول؛ لأنّه المقصود، وقراءة يعقوب (6) بالكسر أي ومن يؤته اللّه الحكمة «فَقَدْ اُوتِيَ خَيرا كَثيرا» 7 أي خير كثير يدّخر له في الدارين. وقوله تعالى: «وَما يَذَّكَّر» 8 أي وما يتّعظ بما قُصّ من الآيات، أو ما يتفكّر؛ فإنّ المتفكّر كالمتذكّر؛ لما أودع اللّه في قلبه من العلوم بالقوّة، أو ما ينبّه للفرق بين من اُوتي الحكمة ومن لم يُؤت إلّا اُولوا العقول الخالصة عن شوائب الوهم ومتابعة 9 الهوى، وفيه دلالة على أنّه لا


1- .في النسخة: «مبالغة». و المثبت من مرآة العقول، ج 1، ص 52..
2- .البقرة (2): 269.
3- .في النسخة: «القوّتي».
4- .تتمّة الآية السابقة.
5- .قال في التبيان، ج 2، ص 348 و مجمع البيان، ج 2، ص 193: «قرأ يعقوب من يؤت - بكسر التاء - والباقون بالفتح».
6- .في النسخة: «مشايعة» . والمثبت من مرآة العقول، ج 1، ص 52.

ص: 66

الْأَلْبَ-بِ » وقال : « وَالرَّ سِخُونَ فِى الْعِلْمِ .........

يجوز لمصلحة من المصالح تقديم غير أهل الذكر عليهم في الخلافة. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة آل عمران: «والراسِخُونَ في العلمِ» (1) لما بيّن اللّه تعالى أنّ في القرآن آياتٍ محكمات اُحكمت وحفظت عباراتها من الاحتمال كالنصوص يجوز للرعيّة أن يتّبعوها، ويوجّهوا أفكارهم إلى استنباط معانيها و «هُنَّ اُمُّ الكتابِ» (2) أي أصله يردّ إليها غيرها؛ لأنّ في المحكمات ما يدلّ على أنّ مترجمي المتشابهات هم أهل البيت عليهم السلام كالآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم، فإنّ هذه تدلّ على أنّ تفسير المتشابه بالرأي والظنّ لا يجوز، ويفسّرها قوله عليه السلام : «من فسَّر القرآن برأيه، فقد كفر (3) » وظاهر أنّ غير من علّمه اللّه تعالى صريحا لا يعلم بمراده تعالى «فاسْئَلُوا أَهلَ الذّكْرِ» وأهل الذكر هم الأئمّة عليهم السلام كما سيجيء في كتاب الحجّة، وكقوله تعالى : «وَالرّاسِخُونَ في العِلمِ» 4 في هذه الآية، وهم النبيّ والأئمّة عليهم السلام كما سيجيء فيه، وغير ذلك من الآيات الدالّة على ذلك، كما يظهر من كتاب الحجّة وغيره، وأيضا يبيّن أنّ فيه «اُخَرُ متشابهاتٌ» 5 لا يتّضح مقصودها، وأنّ «الذينَ في قُلوبِهم زَيْغٌ» 6 وعدول عن أهل الحقّ وأهل الذكر حتّى الملاحدة «[فَ-]يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَه منه» 7 فيتعقّلون بظاهره أو بتأويلٍ باطل؛ لأجل أن يفتنوا الناس في دينهم بالتشكيك والتلبيس، وأن يصرفهم عن أهل الذكر بإظهار أنّ العلم بالمتشابه لا يختصّ بهم، ولابتغاء تأويله على ما يشتهونه، فأراد أن يبيّن العالم بتأويله على الوجه الذي يجب أن يحمل عليه وهو مراد اللّه تعالى منه، فبيّنه بقوله: «وَما يَعلَمُ تَأْويلَهُ إلّا اللّهُ والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ» 8 أي النبيّ والأئمّة عليهم السلام ، كما سيجيء في كتاب الحجّة في باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم السلام . قوله: «والراسِخونَ في العلمِ» عطف على «اللّه »، أي لا يعلم مراد اللّه من المتشابه بعده


1- .آل عمران (3): 7.
2- .صدر الآية السابقة.
3- .بحار الأنوار، ج 30، ص 512.

ص: 67

يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَا أُوْلُواْ الْأَلْبَ-بِ » وقال : « إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ-وَ تِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَ-فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأَيَ-تٍ لِّأُوْلِى الْأَلْبَ-بِ » وقال : « أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ .........

تعالى إلّا مَن علّمهم اللّه تعالى بتوقيف؛ لأنّ الناس غير مستقلّين بمعرفته، كما قال تعالى في سورة العنكبوت: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذينَ اُوتُوا العِلْمَ» (1) وهم الأئمّة عليهم السلام كما سيجيء في كتاب الحجّة. وقال في سورة القيامة: «ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» (2) . وقال في سورة طه: «وَلا تَعْجَلْ بِالقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (3) . وقوله تعالى: «يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ» (4) استيناف موضح لحال الراسخين، أو حال منهم، أي آمنّا بجميع المعاني التي يتضمّنها الكتاب من محكماته ومتشابهاته على سبيل التفصيل «كلٌّ مِن عندِ ربِّنا» (5) وذلك لا يمكن إلّا بعد العلم اليقيني بجميع معاني الكتاب مِن محكماته ومتشابهاته وهو ممّا يختصّ بالراسخين في العلم من عباده، ولا يمكن للرعيّة إلّا الإيمان بها في الجملة؛ فإنّ الإيمان بالمحكمات - وإن تيسّر - لبعض الموفّقين بالتفصيل ، لكنّ الإيمان بالمتشابهات لا يمكن لأحد منهم إلّا بالإجمال بأن يصدّق بما أراد اللّه تعالى منها. وقوله تعالى: «وَما يَذَّكَّرُ إِلّا اُولُوا الأَلبابِ» (6) مدح الراسخين بأنّهم اُولوا العقول الكاملة، الصافية عن شوائب الوهم والهوى، البالغة إلى أعالي درجات العلى بحيث استعدّوا للاهتداء إلى تأويل المتشابهات على وجه المراد بتوقيف اللّه تعالى لهم صلوات اللّه عليهم. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة آل عمران: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَاياتٍ لِاُولِي الأَلبابِ» (7) حيث يفضي بهم إلى التصديق بوجود الصانع الواجب الوجود لذاته، الواحد، البريء من كلّ نقص، المتّصف بكلّ كمال. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الرعد: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما اُنْزِلَ إليك مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ» 8


1- .العنكبوت (29): 49.
2- .القيامة (75): 19.
3- .طه (20): 114.
4- .آل عمران (3): 7.
5- .تتمّة الآية السابقة.
6- .آل عمران (3): 190.
7- .الرعد (13): 19.

ص: 68

كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَ-بِ » وقال : « أَمَّنْ هُوَ قَ-نِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَ قَآئِمًا يَحْذَرُ الْأَخِرَةَ وَ يَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ

فيستجيب له «كَمَنْ هو أعْمَى» (1) أي عَمي القلب لا يستبصر، ولا يعلم ذلك «إنّما يَتَذَكَّرُ» (2) أي إنّما يعلم ذلك «اُولوا الألباب» (3) أي ذو والعقول الكاملة المبّراة عن متابعة (4) الإلف، ومعارضة الوهم. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة الزمر: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ» 5 أي قائم بوظائف الطاعات على ما اُمر به «آناءَ اللَّيلِ» 6 أي ساعاته. و«أم» متّصلة بمحذوف، ومعناه: الكافر - كأئمّة الضلالة - خير أمَّن هو قانت؟ أو منقطعة والمعنى: بل أمَّن هو قانت - مثل أئمّتنا عليهم السلام - كمن بضدّه مثل أئمّة الضلالة؟ وقرأ الحجازيّون 7 بتخفيف الميم بمعنى: أمن هو قانتٌ للّهِ كمن جعل له أندادا. وقوله تعالى: «ساجدا وقائما» 8 حالان من ضمير «قانت». وقوله تعالى: «يَحْذَر الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» 9 في موقع الحال، أو الاستيناف للتعليل. وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» 10 نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوّة العلميّة بعد نفيه باعتبار القوّة العمليّة على وجهٍ أبلغَ؛ لمزيد فضل العلم على العمل، أي هل يستوي الذين اُوتوا العلم بالمعارف - الإلهيّة وبتمام الشريعة: اُصولها وفروعها، وبمتشابه القرآن على ما هو عليه - والذين لا يعلمون. وقيل: تقرير للأوّل على سبيل التشبيه، أي كما لا يستوي العالمون بالمعنى الذي ذكرنا والجاهلون، لا يستوي


1- .تتمّة الآية السابقة.
2- .في النسخة: «مشايعة».
3- .الزمر (39): 9.
4- .التبيان، ج 9، ص 11 . قال: قرأ ابن كثير ونافع وحمزة بتخفيف الميم و الباقون بتشديدها. ومن خفّف أراد النداء، وتقديره: يا من هو قانت.

ص: 69

إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَ-بِ » وقال : « كِتَ-بٌ أَنزَلْنَ-هُ إِلَيْكَ مُبَ-رَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَ-تِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَ-بِ » . وقال : « وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَ أَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَ ءِيلَ الْكِتَ-بَ * هُدًى القانتون

والعاصون. وقوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ اُولُوا الأَلْبابِ» (1) أي إنّما يعلم بكمال الشريعة والمعارف الإلهيّة، وبمتشابه القرآن على وجه يجب أن يعلم به اُولوا العقول البالغة إلى أعالي درجات الكمال؛ يعني الأئمّة عليهم السلام ، أو معناه: إنّما يتذكّر ويعلم الفرق بين العالم الذي قد ذكر، وبين الجاهل ذوو العقول الصافية وهم شيعة أهل البيت عليهم السلام . (2) وقوله عليه السلام : (قال) أي في سورة ص: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ [مباركٌ] لِيَدَّبَّروا آياتِهِ» (3) فيعرفوا معاني المحكمات، ثمّ يعرفوا بدلالتها على أهل الذكر عليهم السلام معانَي المتشابهات بوساطتهم بالسماع منهم عليهم السلام «وَلِيَتَذَكَّرَ» (4) أي ليعلم جميع معانيه من محكماته ومتشابهاته بتوقيف اللّه تعالى «اُولُوا الألبابَ» 5 أي اُولو العقول الكاملة البالغة إلى أعالي درجات الكمال وهم أهل البيت عليهم السلام ، أو معناه: وليتذكّر، أي ليعرف ويهتدي بأهل الذكر بوساطة المحكمات ذوو العقول الصافية كعلمائنا رضوان اللّه عليهم. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة المؤمن: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الهُدى» 6 أي ما يهتد[ي ]به في الدين من المعجزات والتوراة والشرائع « «وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسرائيلَ الكِتابَ» 7 أي وتركنا عليهم بعده التوراة «هُدىً وذِكرَى» 8 أي هداية وتذكرة، أو هاديا ومذكّرا «لاُولي الألباب» 9 أي لذوي العقول السليمة عن اتّباع الهوى دون التابعين للهوى؛ لعدم انتفاعهم بالكتاب.


1- .تتمّة الآية السابقة.
2- .من قوله: «أي قائم بوظائف الطاعات» إلى هنا أدرجه في مرآة العقول، ج 1، ص 13.
3- .ص (38): 29.
4- .غافر (40): 53.

ص: 70

وَ ذِكْرَى لِأُوْلِى الْأَلْبَ-بِ » وقال : « وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » . يا هشام ، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه : « إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ » يعني : عقل ، وقال : « وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَ-نَ الْحِكْمَةَ » قال : الفهم والعقل .

ثمّ استدلّ عليه السلام على أنّ اُولي الألباب هم المؤمنون من كلّ اُمّة وطبقة بقوله: (وقال) أي في سورة الذاريات: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذّكْرى» (1) أي التذكرة «تَنفَعُ المؤمنين» (2) . تفصيله: أنّه قد ثبت بالآية السابقة أنّ الذكرى لاُولي الألباب، لمنطوقها، وليس لغيرهم؛ لمفهومها، أي لا ينفع إلّا اُولي الألباب، وثبت في هذه الآية أنّ الذكرى تنفع المؤمنين؛ لمنطوقها، ولا تنفع لغيرهم؛ لمفهومها، فثبت أنّ اُولي الألباب إنّما هم المؤمنون. صورة القياس: أنّ اُولي الألباب إنّما هم الذين لا تنفع الذكرى إلّا لهم بدلالة الآية الاُولى، وكلّما لا تنفع الذكرى إلّا لهم إنّما هم المؤمنون بدلالة الآية الثانية، فاُولوا الألباب إنّما هم المؤمنون لكن مراتبهم متفاوتة، فإنّ بعضهم أئمّة، وبعضهم رعيّة، وفي الرعيّة أيضا مراتب لا تحصى. ولمّا يتوهّم هاهنا سؤالٌ وهو: أنّ الذكرى لا تختصّ باُولي الألباب والمؤمنين؛ لقوله تعالى في سورة ق: «إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلبٌ» (3) ولكلّ واحد من الناس قلب، فالذكرى تشترك بين كلّهم، فأجاب عنه عليه السلام بأنّ المراد بالقلب هو العقل، أي كمال العقل، وفصل عليه السلام هذا عن سابقه بقوله: «يا هشام» إشارةً إلى أنّ إيراد هذا لدفع ما يتوهّم هاهنا، وليس عين المسلك السابق. وقوله عليه السلام : (وقال) أي في سورة لقمان: ( «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ» (4) قال: الفهمَ والعقلَ) يعني قال أبو الحسن عليه السلام : المراد بالحكمة الفهم والعقل، ف- «قال» لفظ هشام، وفاعله ضمير راجع إليه عليه السلام ، والحكمة - كما مرّ (5) - استكمال النفس الإنسانيّة باقتباس


1- .الذاريات (51): 55.
2- .تتمّة الآية السابقة.
3- .ق (50): 37.
4- .لقمان (31): 12.
5- .مرّ في ص 5.

ص: 71

يا هشام ، إنَّ لقمان قال لابنه : تواضَعْ للحقّ تَكُنْ أعقلَ الناسِ ، وإنّ الكَيْسَ لدى الحقّ يسيرٌ ، يا بُنيَّ إنّ الدنيا بَحْر عميقٌ ، قد غَرِقَ فيها عالَم كثير ، فلتكنْ سفينتُك فيها تقوَى اللّه ، وحَشْوُها الإيمانَ ، وشِراعُها التوكّلَ ، وقيّمُها العقلَ ، ودليلُها العلمَ ، وسكّانُها الصبرَ .

العلوم النظريّة بحصول العقل بالفعل، واكتساب الملكة التامّة على الأفعال الفاضلة فقوله عليه السلام : «الفهم» إشارة إلى استكمال القوّة العمليّة. وقوله عليه السلام : «العقل» - أي العقل العملي أو العمل بمقتضى العقل الكامل الملزوم للعلم - وعلى التقديرين إشارة إلى استكمال القوّة العمليّة. وقوله عليه السلام : (إنّ لقمان قال لابنه) إلخ استيناف لبيان قوله: «الفهم والعقل» على طريق اللفّ والنشر الغير المرتّب، فقوله: «تَواضَعْ للحقّ» إلى قوله: «يسير» ناظر إلى العقل العملي، وقوله: (يا بنيّ) إلى قوله: (والصبر) ناظر إلى العقل النظري المشار إليه بقوله: «الفهم»، والتواضع للحقّ هو التذلّل له واتّباعه وإن كان على خلاف هواك. وقوله: (تكن أعقل الناس) أي هو أصل العقل العملي. وقوله: (إنّ الكيّس لدى الحقّ يسير) يحتمل أن يكون الكيّس اسم «إنّ» وخبره مجموع «لدى الحقّ يسير» أي العاقل يكون عند الحقّ ذليلاً، أي متذلّلاً. ويحتمل أن يكون قوله: «لدى الحقّ» متعلّقا ب- «الكيّس» ويكون قوله: «يسير» خبر «إنّ»، أي العاقل عند الحقّ يكون قليلاً. وقوله: (عالم) بفتح اللام، ويحتمل الكسر. وقوله: (فليكن سفينتك فيها) أي في الدنيا (تقوى اللّه ) فإنّه أصل النجاة. وقوله: (وحشوها) أي المتاع الذي تنقله إلى الآخرة. وقوله: (وشِراعها التوكّل) أي التوكّل على اللّه بتفويض الاُمور إليه بدون اتّكال على حول غيره وقوّة غيره. والشِراع - بكسر الشين المعجمة - : الثوب المبسوط في السفينة؛ لتحرّك به الريح السفينة. وقيّم السفينة هو من يقوم بأمرها من الملّاحين ونحوهم. وقوله: (ودليلها العلم) أي معلّمها العلم بمعارف اللّه ، وبأوامره ونواهيه.

ص: 72

يا هشام ، ما بعث اللّه أنبياءَه ورسلَه إلى عبادِه إلّا ليعْقِلوا عن اللّه ، فأحْسَنُهم استجابةً أحْسَنُهم معرفةً ، وأعلَمُهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً ، وأكْمَلُهم عقلاً أرْفَعُهم درجةً في الدنيا والآخرة . يا هشام ، إنّ للّه على الناس حُجّتينِ : حُجّةً ظاهرةً ، وحُجّةً باطنةً ، فأمّا الظاهرةُ فالرُّسُلُ

والسُكّان - بضمّ السين المهملة وتشديد الكاف - : ما يحفظ السفينة عن الانحراف وهو في مؤخّرها. والمطيّة الدابّة المركوبة التي تمطو في سيرها، أي تسرع. وقوله عليه السلام : (التواضع) أي التذلّل للحقّ. وقوله عليه السلام : (وكفى بك) من الخطاب العامّ. وقوله عليه السلام : (نهيت) على صيغة المجهول المخاطب، ويحتمل على صيغة المعلوم المتكلّم. وقوله عليه السلام : (إلّا ليعقلوا عن اللّه ) أي ليعلموا العلوم الشرعيّة بوساطة الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام عن اللّه تعالى، فالعقل هاهنا بمعنى العلم، أو ليصير عقولهم كاملةً بحسب الكسب بهداية اللّه تعالى، سواء كان ذلك الكمال بعد كماله الفطري - وذلك هو العقل عن اللّه - أم لا، لكنّ التفريع بقوله: (فأحسَنُهم استجابةً أحسنُهم معرفةً) ألصقُ بالأوّل، أي فأحسنهم تسليما للّه تعالى فيما بعث أنبياءه لأجله أحسنهم معرفةً بأمر اللّه تعالى. وقوله عليه السلام : (وأعلمهم بأمر اللّه ) أي بشأن اللّه في أحكامه من الأوامر والنواهي وغيرهما، أو بحكم اللّه ؛ فإنّه قد يطلق الأمر على الحكم «أحسنهم عقلاً». وقوله عليه السلام : (فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء) حيث يحتجّ بهم على العصاة يوم القيامة، كما في قوله: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» (1) وقوله: «وَيَقُولُ الأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِم» (2) .


1- .الملك (67): 8.
2- .هود (11): 18.

ص: 73

والأنبياء والأئمّةُ عليهم السلام ، وأمّا الباطنةُ فالعقولُ . يا هشام ، إنّ العاقلَ الذي لا يَشْغَلُ الحلالُ شكرَه ، ولا يَغْلِبُ الحرامُ صبرَه . يا هشام ، مَن سلّطَ ثلاثا على ثلاثٍ فكأنّما أعانَ على هَدْم عقله : من أظلم نورَ تفكّره بطول أمله ، ومحا طرائفَ حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نورَ عِبْرته بشهوات نفسه ، فكأنّما أعانَ هواهُ على هَدْم عقلِه ، ومن هَدَمَ عقْلَه أفسَدَ عليه دينه ودنياه .

وقوله عليه السلام : (وأمّا الباطنة فالعقول) المراد بالعقل هاهنا العقل بالمعنى الثالث، أي القوّة النطقيّة؛ لأنّ وجود العقل - الذي يتميّز به بين الحقّ والباطل والحسن والقبيح مع وجود الدلائل والبراهين على الحقّ - يكفي حجّةً على المنكرين له. وقوله عليه السلام : (لا يَشْغَلُ الحلالُ شكرَه) أي الحلال لا يشغله عن الشكر بأقسامه، ولا يوجب غفوله عنه، وفيه إشارة إلى أنّ الشكر إنّما يكون بإزاء الحلال لا بإزاء الحرام. وقوله عليه السلام : (ولا يَغْلِبُ الحرامُ صبرَه) بأن يتصرّف فيه، ولا يصبر عنه. وقوله عليه السلام : (فكأنّما أعان) هواه. وقوله عليه السلام : (مَن أظلم نورَ تفكّره بطول أمله) أي سلّط طول أمله على نور تفكّره بأن جعل طول الأمل مانعا عن التفكّر بأن قال في نفسه: أتفكّر في هذا المطلب غدا أو شهرَ كذا مثلاً وهكذا، أو جعل مقتضى طول الأمل ماحيا لمقتضى فكره الصائب. وقوله عليه السلام : (ومحا طرائفَ حكمته) أي كلماته المشتملة على الحكمة (بفضول كلامه) فإنّ كثرة الكلام يوجب صدور الهفوات وما لا طائل تحته عن الإنسان. والعبرة الاسم من الاعتبار، أي الاتّعاظ واستنباط عاقبة الأشياء. وقوله عليه السلام : (بشهوات نفسه) بالإتيان بمشتهيات نفسه. وقوله عليه السلام : (أفسد عليه) أي على نفسه دينه ودنياه؛ لما مرّ من قوله: (أكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة).

ص: 74

يا هشام ، كيف يزكو عند اللّه عملُكَ ، وأنت قد شغلتَ قلبَك عن أمر ربّك ، وأطعْتَ هواك على غلبة عقلك؟! يا هشام ، الصبرُ على الوحدةِ علامة قوّةِ العقلِ ، فمن عَقَلَ عن اللّه اعتزلَ أهلَ الدنيا والراغبين فيها ، ورَغِبَ فيما عند اللّهِ ، وكانَ اللّه اُنْسَه في الوحشة ، وصاحبَه في الوحدة ، وغِناهُ في العَيْلَةِ ، ومُعِزَّهُ من غير عَشيرةٍ . يا هشام ، نُصِبَ الحقُّ لطاعة اللّه ، ولا نَجاةَ إلّا بالطاعة ، والطاعةُ بالعلم ، والعلمُ

وقوله عليه السلام : (كيف يزكو (1) [عند اللّه ] عملك) إلخ استدلال على السابق، يعني كيف ينمى عند اللّه تعالى أجرُ عملك؟ وهذا من الخطاب العامّ. وقوله عليه السلام : (وأنت شغلتَ قلبَك عن أمر ربّك) أي شغلت قلبك بالتفكّر في اُمور الدنيا عن التفكّر في شأن ربّك من المعارف الإلهيّة والاُمور الاُخرويّة، وهذا ناظر إلى قوله: «من أظلم نورَ تفكّره بطول أمله» ولمّا كان هذا أهمّ من الثلاث جعل له دليلاً مفردا، ثمّ ذكر للثلاث دليلاً شاملاً وهو قوله: «وأطعت» إلخ. وقوله عليه السلام : (الصبر على الوحدة) أي الاعتزال عن أهل الدنيا بل ترك الدنيا وما فيها بكلّها والفناء في اللّه كما هو من أعلى مقامات العارفين (علامة قوّة العقل) ومنتهى كماله. و«عن» في قوله: (عن اللّه ) إمّا زائدة، أي فمن عرف اللّه كمال المعرفة، أو من عرف اللّه منه تعالى كالنفوس القدسيّة. وقوله: (ورغب فيما عند اللّه ) أي القرب إلى جَنابه بل الفناء في اللّه . وقوله: (مُعِزَّه) مصدر ميمي. وقوله عليه السلام : (نصب الحقّ) على صيغة المجهول، ويحتمل المصدر، أي وضع الشرائع ببعث الأنبياء والرسل لأجل طاعة اللّه في أوامره ونواهيه؛ لأنّ العقل غير مستقلّ بمعرفة حسن الأشياء وقبحها على سبيل التفصيل، فلا بدّ من أن يعرف ذلك بتوقيف اللّه تعالى وإعلامه بوساطة الأنبياء والرسل في صورة الأمر والنهي؛ ليحصل النجاة عن العذاب بطاعة


1- .في النسخة: «تزكو».

ص: 75

بالتعلّم ، والتعلُّمُ بالعقل يُعْتَقَدُ ، ولا عِلْمَ إلّا من عالِمٍ ربّانيٍّ ، ومعرفةُ العلمِ بالعقلِ . يا هشام ، قليلُ العملِ من العالم مقبولٌ مُضاعَفٌ ، وكثيرُ العملِ من أهل الهوى والجهلِ مَردودٌ . يا هشام ، إنَّ العاقلَ رَضِيَ بالدون من الدنيا مع الحكمةِ ، ولم يَرْضَ بالدون من

اللّه في أوامره ونواهيه، وتلك الطاعة لا تحصل (1) إلّا بالعلم بهما، والعلم بهما لا يحصل إلّا بالتعلّم (والتعلّمُ يُعْتَقَلُ) أي يشدّ ويربط (بالعقل) يعني التعلّمُ لا يحصل إلّا بالعقل بالمعنى الثالث. وقوله عليه السلام : (ولا علم) أي لا يحصل العلم، ولا يمكن التعلّم (إلّا من عالم ربّانيّ) أي من المعلّم الذي يعلم جميع أوامر اللّه ونواهيه من اللّه تعالى كالأنبياء والرسل والأئمّة صلوات اللّه عليهم بالوحي أو التحدّث. والربّاني نسبة إلى الربّ بزيادة الألف والنون. وقوله عليه السلام : (ومعرفةُ العلم بالعقل) يحتمل أن يكون معناه: أنّ معرفة العالم بأحكام اللّه تعالى بالعلم اليقيني من غيره بالعقل؛ فإنّ بالعقل يعرف ويتميّز الأنبياء والأئمّة عليهم السلام عن المتنبّئين وأئمّة الضلالة وغيرهم، كما سيجيء في الحديث من أنّ العقل يعرف به الصادق على اللّه فيصدّقه، والكاذب على اللّه فيكذّبه (2) ، فيكون العلم بمعنى العالم من باب المبالغة كقوله: زيد عدل. ويحتمل أن يكون معناه: أنّ العقل هو المميّز الفارق بين العلم اليقيني وما يشبهه من الدعاوي الكاذبة، والأوهام الفاسدة، أو من الظنّ والجهل المركّب والتقليد. وقوله عليه السلام : (إنّ العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة) إلخ، أي رضي بالدنيء من الدنيا مع وجود الحكمة؛ يعني رجّح الحكمة على أعلى مراتب الدنيا، ومع وجود الحكمة اكتفى من الدنيا بأقلّ ما لا بدّ منه من المأكل والملبس ونحوهما من غير عكس، فإنّ مع وجود أقصى مراتب الدنيا لم يكتف بالدنيء والقليل من الحكمة، بل ترك الدنيا لنيل


1- .في النسخة: «لا يحصل».
2- .الكافي، ج 1، ص 25، ح 20.

ص: 76

الحكمةِ مع الدنيا ، فلذلك رَبِحَتْ تِجارَتُهُم . يا هشام ، إنَّ العقلاءَ تَرَكوا فضولَ الدنيا ، فكيف الذنوب ، وتَرْكُ الدنيا من الفَضْلِ ، وتَرْكُ الذنوبِ من الفَرْضِ . يا هشام ، إنَّ العاقلَ نَظَرَ إلى الدنيا وإلى أهلِها ، فعَلِمَ أنَّها لا تُنالُ إلّا بالمشقّة ، ونَظَرَ إلى الآخرة ، فَعَلِمَ أنّها لا تُنالُ إلّا بالمشقّة ، فطَلَبَ بالمشقّة أبقاهما . يا هشام ، إنَّ العقلاءَ زَهِدوا في الدنيا ورَغِبوا في الآخرة ؛ لأنّهم عَلِموا أنّ

الحكمة (فلذلك ربحت) تجارة العقلاء؛ حيث أعطوا العالي من الدنيا، وأخذوا العالي من الحكمة، فضمير (تجارتهم) راجع إلى العقلاء المستفاد من العاقل الذي هو اسم جنس يطلق على الواحد والكثير. وقوله عليه السلام : (تركوا فضولَ الدنيا) من المباحات التي لا تضرّ صاحبها (فكيف الذنوب) أي تركهم الذنوبَ - من محظورات الدنيا ومضرّاتها ونحوها - بطريقٍ أولى. والواو في قوله: (وترك الدنيا من الفضل) للحال، أي ترك فضول الدنيا بل ترك علاقة الدنيا مطلقا من الاُمور الفاضلة المستحبّة. وقوله عليه السلام : (نظر إلى الدنيا وإلى أهلِها) إلخ، لمّا كانت الدنيا في أيدي أهلها، وتحصيلُها غالبا لا يمكن إلّا بإخراجها عن أيديهم بوجه من الوجوه بخلاف الآخرة؛ فإنّ نيلها لا يحتاج إلى سلبها من أحد؛ فلهذا قال: «نظر إلى الدنيا وإلى أهلها» وقال: (ونظر إلى الآخرة) ولم يقل: وإلى أهلها. وأيضا العلم بمشقّة تحصيل الدنيا لمن لا يتوجّه إلى تحصيله إنّما يحصل من ملاحظة مشقّة أهل الدنيا في تحصيلها، فبالنظر إلى الدنيا وأهلها معا يحصل هذا العلم بخلاف العلم بمشقّة تحصيل الآخرة؛ فإنّه لا يحتاج إلى النظر إلى تحصيلها بل معرفة كيفيّة تحصيلها يكفي للعلم بمشقّة نيلها. وقوله عليه السلام : (أبقاهما) أي الآخرة. وقوله عليه السلام : (زَهِدوا في الدنيا ورَغِبوا في الآخرة) أي تركوا الدنيا وطلبوا الآخرة.

ص: 77

الدنيا طالِبةٌ ومطلوبَةٌ ، والآخِرَةَ طالبةٌ ومطلوبةٌ ، فمن طَلَبَ الآخرة ، طَلَبَتْه الدنيا حتّى يَستَوفيَ منها رزقَه، ومن طَلَبَ الدنيا طَلَبَتْه الآخرةُ ، فيأتيه الموتُ ، فيُفْسِدُ عليه دنياهُ وآخرتَهُ. يا هشام ، من أرادَ الغِنى بلا مالٍ ، وراحة القلبِ من الحَسَد ، والسلامةَ في الدين ، فَلْيتضرَّعْ إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يُكَمِّلَ عقلَه ، فمن عَقَلَ قَنِعَ بما يكفيه ، ومن قَنِعَ بما يكفيه استغنى ، ومن لم يَقْنَعْ بما يكفيه لم يُدْرِك الغنى أبدا . يا هشام ، إنّ اللّهَ حكى عن قومٍ صالحينَ أنّهم قالوا : « رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ » حين علموا أنّ القلوبَ تَزيغُ وتَعودُ إلى عماها

وقوله عليه السلام : (الدنيا طالبة ومطلوبة) أي طالبة لتاركها؛ لإيفاء رزقه، ومطلوبة لطالبها والراغب فيها. وقوله عليه السلام : (والآخرة طالبة ومطلوبة) أي طالبة لتاركها؛ والزاهد فيها لقبض روحه، ومطلوبة لطالبها والراغب فيها، ويتبيّن ذلك من قوله عليه السلام : (فمن طلب الآخرة) إلخ. وقوله عليه السلام : (فيفسد عليه دنياه وآخرته) لخروج الدنيا عن يديه وعدم دخول الآخرة فيهما وقوله عليه السلام : (فمن عقل) أي عقل عن اللّه وقد عرفت (1) معناه (قنع بما يكفيه) ولم يطلب الفضول فصُيّر غنيّا بلا مال (ومن قنع بما يكفيه استغنى) عن الناس، فلا يحسد أحدا، وفيه سلامة الدين (ومَن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا) لأنّ كلّما حصل له فضل من فضول الدنيا يتمنّى آخَرَ، وهكذا لا ينتهي إلى حدّ. وقوله تعالى: «لا تُزِغْ قُلُوبَنا» (2) أي لا تُمل قلوبنا عن الحقّ، يقال: زاغ عن الطريق، إذا مال وعدل عنه. وقوله عليه السلام : (أنّ القلوب) أي بعض القلوب؛ لأنّ المهملة في قوّة الجزئيّة (تَزيغُ) أي تميل عن الحقّ (وتَعود (3) إلى عماها) عنه بزوال بصيرتها.


1- .عرفت في نفس الحديث.
2- .آل عمران (3): 8.
3- .في النسخة: «يعود».

ص: 78

ورَداها . إنَّه لم يَخَفِ اللّهَ مَنْ لم يَعْقِلْ عن اللّه ، ومن لم يَعْقِلْ عن اللّه لم يَعْقِدْ قلبَه على معرفةٍ ثابتةٍ يُبْصِرُها ويَجِدُ حقيقتَها في قلبه ، ولا يكونُ أحدٌ كذلك إلّا مَن كان قولُهُ لفعلِهِ مُصدِّقا ، وسرُّهُ لعلانيته موافقا ؛ لأنّ اللّهَ - تبارك اسمه - .........

وقوله عليه السلام : (ورَداها) بفتح الراء المهملة، أي هلاكها، والمراد ما يوجب هلاكها وعذابها في الآخرة من ضلالتها. ولمّا ذكر عليه السلام أنّ بعض القلوب تزيغ فأراد أن يبيّن أنّ من القلوب التي لم يمكن زيغها أصلاً فبيّنه (ظ) بقوله: (إنّه لم يخف اللّه ) إلخ. وقوله: (من لم يَعْقِلْ عن اللّه ) أي من لم يكمل اللّه عقله؛ يعني لم يخف اللّه تعالى حقّ الخوف من لم يجعل اللّه تعالى عقله كاملاً بحسب الفطرة والكسب معا إلّا من استثنى، وهو من كان عقله كاملاً بحسب الفطرة فقط في الدرجة العليا كعيسى عليه السلام مثلاً في المهد، ومن لم يكن عقله كاملاً (لم يَعْقِدْ قلبه على معرفةٍ ثابتةٍ) أي لم يصدّق ذهنه تصديقا يقينيا على معرفة ثابتة من المعارف الإلهيّة والعلوم الدينيّة بحيث لا يضطرب بتشكيك المشكّك ، ولا يمكن أن يعقبه زيغ أصلاً (ويُبصِرُها) بعين بصيرته (ويَجِدُ حقيقتها في قلبه) وذهنه. وقوله عليه السلام : (ولا يكون أحد كذلك) إشارة إلى المنفيّ، أي لا يكون أحد خائفا عاقلاً عن اللّه ، عاقدا قلبه على معرفةٍ حقيقيّة يقينيّة (إلّا من كان قولُه لفعله مصدَّقا) بفتح الدال على صيغة المفعول، أي كان قوله لأجل فعله مصدَّقا بأن يكون فعله مطابقا لقوله، كما سيجي في باب صفة العلماء في تفسير قوله تعالى: «إِنَّما يَخشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ» (1) قال عليه السلام : «يعني بالعلماء من صدّق فعله قوله» (2) . وقيل: بكسر الدال، أي إلّا من إذا سئل عن أيّ فعل من أفعاله: من أين علمتَ حسنَه؟ أجاب بتطبيقه على كتاب اللّه وسنّة رسوله ببرهان قاطع؛ وذلك كما ترى. وقوله عليه السلام : (لأنّ اللّه تبارك اسمه) إلخ دليل على أنّ المتّصف بالخوف وكمال العقل والاعتقاد اليقيني ليس إلّا من كان فعله مطابقا لقوله، وسرّه لعلانيته.


1- .فاطر (35): 28.
2- .الكافي، ج 1، ص 36، باب صفة العلماء، ح 2.

ص: 79

لم يَدُلَّ على الباطن الخفيّ من العقل إلّا بظاهرٍ منه ، وناطقٍ عنه . يا هشام ، كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : ما عُبِدَ اللّهُ بشيء أفضلَ من العقل ، وما تَمَّ عقلُ امرئ حتّى يكونَ فيه خصالٌ شتّى : الكفرُ والشرُّ منه مَأمونان ، والرشدُ والخيرُ منه مَأمولان ، وفضلُ ماله مبذولٌ ، وفضلُ قوله مكفوفٌ ، ونصيبُهُ من الدنيا القوتُ ، لا يَشْبَعُ من العلم دهرَه ، الذلُّ أحبُّ إليه مع اللّه من العزّ مع غيره ، والتواضعُ أحبُّ إليه من الشَرَف ،

وقوله عليه السلام : (لم يَدُلَّ على الباطن الخفيّ من العقل) أي من العاقل من باب المبالغة في كمال عقله؛ يعني لم يجعل دليلاً لنا على الباطن الخفيّ من العاقل من خوفه وكمال عقله ويقينه. وقوله عليه السلام : (بظاهر منه وناطقٍ عنه) أي إلّا ممّا هو ظاهر من العقل، أي العاقل، وبما هو ناطق عن حال باطنه من مطابقة قوله لفعله، وموافقة سرّه لعلانيته، فإنّا إذا رأينا ذينك الأمرين (1) من أحد، حكمنا بخوفه وكمال عقله ويقينه، وإذا رأينا منه ضدّهما، حكمنا بعدم اتّصافه بالأوصاف الفاضلة الباطنة المذكورة. وقوله عليه السلام : (ما عُبِدَ اللّه بشيء) أي بسبب شيء (أفضلَ من العقل) أي العقل بالمعنى الثالث وهو القوّة النطقيّة المميّزة؛ فإنّ العقل والجوارح والقوى أسباب وآلات لعبادة العبد، والعقل أفضل ممّا عداه. وقوله عليه السلام : (وما تَمَّ عقلُ امرئ) أي وما كمل عقل امرئ، وذلك هو العقل عن اللّه . وقوله عليه السلام : (خصالٌ شتّى) أي صفات متعدّدة. وقوله عليه السلام : (الكفر والشرّ منه مأمونان) أي يكون الناس في أمن من كفره وشرّه، أي لا يتصوّر بل لا يمكن منه كفر وشرّ. والرشد هو طريق الخير. وقوله عليه السلام : (وفضلُ مالِه مبذولٌ) أي في سبيل اللّه . وقوله عليه السلام : (ونصيبُه من الدنيا القوتُ) أي يكتفي من الدنيا بالقوت الضروري ومثلِه ممّا لا بدّ منه في الحياة. وقوله عليه السلام : (دهره) أي تمام زمان حياته.


1- .في النسخة: «ذانك الأمران».

ص: 80

يستكثرُ قليلَ المعروفِ من غيره ، ويستقلُّ كثيرَ المعروفِ من نفسه ، ويرى الناسَ كلَّهم خيرا منه ، وأنّه شرُّهم في نفسه ، وهو تمامُ الأمرِ . يا هشام ، إنّ العاقلَ لا يَكْذِبُ وإن كانَ فيه هواه . يا هشام ، لا دينَ لمن لا مروءةَ له ، ولا مروءة لمن لا عقلَ له ، وإنّ أعظمَ الناسِ قدْرا الذي لا يَرى الدنيا لنفسه خطرا ، أما إنَّ أبدانَكُم ليس لها ثمنٌ إلّا الجنّةُ ، فلا تَبيعوها بغيرها . يا هشام ، إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول : إنَّ من علامة العاقل أن يكونَ فيه ثلاثُ خصالٍ : يُجيب إذا سُئلَ ، وينطقُ إذا عجزَ القومُ عن الكلام ، ويُشيرُ بالرأي الذي يكونُ فيه صَلاحُ أهلِه ،فمن لم يكنْ فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمقُ .

وقوله عليه السلام : (وأنّه شرّهم) أي يرى أنّه شرّ الناس. وقوله: (في نفسه) متعلّق ب- «يرى» في الفقرتين، أي يعدّ في نفسه كلّ الناس خيرا منه، ونفسه شرّا من غيره وإن كان خيرا من أكثر الناس في الواقع. وقوله: (وهو تمامُ الأمر) أي الأخير ما يتمّ به كمال العقل. وقوله عليه السلام : (لا دين) والمراد كمال الدين (لمن لا مروّة له) والمروّة مصدر مشتقّ من المرء وهو الرجل، أي الذكورة والإنسانيّة، والمقصود الاتّصاف بالخصال الحميدة. والمراد بالعقل العقل الكامل. والخَطَر - بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة - : السَبَق الذي يتراهنّ عليه، وخَطَرُ الرجل: قدرُه ومنزلتُه وقيمتُه، فقوله: (لا يَرى الدنيا لنفسه خطرا) أي لا يحسب الدنيا لنفسه سبقا، أو قدرا ومنزلة. وقوله عليه السلام : (فلا تَبيعوها بغيرها) أي بغير الجنّة من النار بالمعاصي. وقوله عليه السلام : (إنّ من علامة العاقل) أي العاقل عن اللّه . وقوله عليه السلام : (وينطق إذا عجز القومُ) أي عجزوا عن الكلام في تحقيق المشكلات وغيره. وقوله عليه السلام : (فهو أحمق) أي إن ادّعى التفوّق وطلب التصدّر، كما يدلّ عليه قوله:

ص: 81

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : لا يَجلسُ في صدر المجلس إلّا رجلٌ فيه هذه الخصالُ الثلاث ، أو واحدةٌ منهنّ ، فمن لم يكن فيه شيء منهنّ فجَلَسَ ، فهو أحمقُ . وقال الحسن بن عليّ عليهماالسلام : إذا طَلَبْتُم الحوائجَ فاطلبوها من أهْلِها ، قيلَ : يا ابن رسول اللّه ، ومَن أهلُها؟ قال : الّذين قَصَّ اللّهُ في كتابه وذَكَرَهم ، فقال : « إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَ-بِ » قال : هم أُولوا العقول . وقال عليُّ بن الحسين عليهماالسلام : مجالَسةُ الصالحين داعيةٌ إلى الصلاح ، وآدابُ العلماء زيادةٌ في العقل ، وطاعةُ ولاةِ العدلِ تمامُ العزّ ، واستثمار المال تمامُ المروءة ، وإرشاد

(لا يجلس في صدر المجلس) إلخ. وقوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ» (1) أي إنّما يتذكّر للحقّ والصواب الذي منه قضاء حوائج الإخوان «اُولوا الألباب» (2) . وقوله عليه السلام : (قال) أي قال الحَسَن عليه السلام : (هم اُولو العقول) أي اُولو العقول الكاملة. وقوله عليه السلام : (وآداب العلماء) أي التأدّب بآداب العلماء، أو رعاية الآداب مع العلماء. في بعض النسخ لفظ «أدب» بدل «آداب» (3) . وقوله عليه السلام : (زيادة في العقل) أي موجبة لها، أو دالّة عليها. وقوله عليه السلام : «تمامُ العزّ» أي متمّم العزّ وكماله في الدنيا والآخرة. وقوله عليه السلام : (واستثمار المال) أي تحصيل ثماره ونتائجه بالبذل في سبيل اللّه من الثواب الاُخرويّة والفضائل الدنيويّة، وتكميل النفس باتّصافها بالكرم (تمامُ المروّة) وكمالها. وقيل: استنماؤه تمام المروّة؛ لأنّ المحتاج يلقي ثقله على غيره. وقوله عليه السلام : (قضاءٌ لحقّ النعمة) أي نعمة اللّه عليه بتكميل عقله وجعله من أهل المشورة. المستشير قضاءٌ لحقّ النعمة ، وكفُّ الأذى من كمال العقل ، وفيه راحةُ البدن عاجلاً وآجلاً .


1- .الزمر (39): 9.
2- .تتمّة الآية السابقة.
3- .في النسخة: «الأدب... الآداب».

ص: 82

يا هشام ، إنَّ العاقلَ لا يُحدِّثُ من يَخافُ تكذيبَه ، ولا يسألُ من يَخافُ منعَه ، ولا يَعِدُ ما لا يقدرُ عليه ، ولا يرجو ما يُعنَّفُ برجائه ، ولا يُقْدِمُ على ما يخافُ فوتَه بالعجز عنه» .

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد رَفَعَه قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام :«العقلُ غِطاءٌ ستير ، والفضلُ جمالٌ ظاهرٌ ، فاسْتُرْ خَلَلَ خلقِك بفَضْلك ، وقاتِلْ هواكَ بعقلك ، تَسْلَمْ لك المودّةُ ، وتَظْهرْ لك المحبّةُ» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن حديد ، عن سُماعة بن مهران ، قال : كنتُ عند أبي عبداللّه عليه السلام وعنده جَماعةٌ من مَواليه ، فجرى ذكرُ العقل والجهل ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام :«اعْرِفوا العقلَ وجندَه ، والجهلَ وجندَه تَهتدوا» قال

وقوله عليه السلام : (وكفّ الأذى) أي أذى نفسه عن الناس. وقوله عليه السلام : (لا يُحَدِّثُ مَن يخاف تكذيبَه) استثني من ذلك تبليغ أوامر الشرع ونواهيه ونحوه. وقوله عليه السلام : (ولا يسأل من يخاف منعَه) أي عدم إنجاح سؤاله. وقوله عليه السلام : «ولا يرجو ما يُعَنَّفُ» أي ما يلام ويعيّر برجائه. وقوله عليه السلام : (ولا يُقْدِمُ على ما يخاف فوته بالعجز عنه) أي ولا يتوجّه إلى الإقدام بما يشمّ منه رائحة العجز عن الإتيان به. قوله عليه السلام : (العقل) أي العقل عن اللّه «غِطاءٌ ستير» أي حجاب مستور؛ يعني حجاب بعد حجاب، يراد بذلك كثافة الحجاب، أو حجاب ساتر لاقتضاء الشهوة والغضب. وقوله عليه السلام : (والفضل) يحتمل أن يراد به الكرم والإحسان على الناس، أو العلم، أو مطلق الكمالات النفسانيّة. وقوله عليه السلام : ([تسلم] لك المودّة) أي المودّة للّه . وقوله عليه السلام : (وتَظْهَرْ لك المحبّة) أي المحبّة من اللّه ، وقيل: أي تَسْلَمْ لك المودّة، وتَظْهَرْ لك المحبّةُ من الناس. قوله عليه السلام : (اعرِفوا العقلَ وجندَه) إلخ

ص: 83

سماعة : فقلتُ : جعلتُ فِداك ، لا نَعرفُ إلّا ما عرَّفتنا ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق العقلَ - وهو أوّلُ خَلْق من الروحانيّين - عن يمين العرش من نوره ،

أقول: لعلّ المراد بالعقل هاهنا المعنى الثاني، أي النفس الناطقة الإنسانيّة، وبالجهل - الذي ضدّه في الاقتضاء - هو القوّة الشهويّة والغضبيّة الحيوانيّة والوهم، كما مرّ في شرح الحديث الأوّل. وقوله عليه السلام : (وهو أوّل خلق من الروحانيّين) أي أوّل مخلوق من الروحانيّين الذين ليسوا بجسم ولا جسماني في هذا العالم، أي عالم العناصر، وكونه فيه باعتبار أنّ متعلّقه كائن فيه في غاية الظهور. والمراد بالأوّليّة التقدّم بالرتبة وبالشرف، ولا يبعد أن يؤخذ بالزمان أيضا، بناءً على أن تكون النفوس مخلوقة قبل حدوث الأبدان، كما يظهر من الأحاديث؛ يعني هو أعلى وأشرف بل أسبق زمانا من سائر الروحانيّين الذين في هذا العالم كنفوس الجانّ، فإنّها أيضا مجرّدة عن المادّة في ذواتها، وإلّا لم يكّن مدركة للكلّي، فلم يصحّ تكليفهم، كما لا يخفى على من له بصيرة. أو معناه: أنّه هو أوّل خلق عالم العناصر، أي أعلى وأشرف خلق هذا العالم، فالتنوين عوض من المضاف إليه، وكونه منه باعتبار أنّ متعلّقه منه، وحينئذٍ فقوله: «من الروحانيّين» عطف على قوله: «أوّل خلق» بتقدير العاطف، أي وهو من الروحانيّين. والروحاني - بضمّ الراء - مشتقّ من الروح بضمّها بزيادة الألف والنون نسبةً إلى الملك، وبفتح الراء بمعنى الطيب، وعلى التقديرين المراد بالروحانيين هاهنا المجرّدات. وقوله عليه السلام : (عن يمين العرش) أي عن سنخ يمين العرش ومن قبيله وهو نفسه المجرّدة، وحينئذٍ يساره نفسه المنطبعة. ولا يخفى لطف التعبير عن الاُولى باليمين، وعن الثانية باليسار. وقوله عليه السلام : (من نوره) أي كائن وموجود من نوره؛ لأنّه مسبّب عن نوره، مشروط (1) به،


1- .في النسخة: «مشروطة».

ص: 84

فقال له : أدبِرْ فأدبَرَ ؛ ثمّ قال له : أقبِلْ فأقبَلَ ؛ فقال اللّه تبارك وتعالى : خلقتُكَ خلْقا عظيما ، وكرّمتُكَ على جميع خلقي» . قال : «ثمّ خلَق الجهلَ من البحر الأُجاج .........

وهو العقل بالمعنى الأوّل الذي هو الجوهر المجرّد عن المادّة في ذاته وفعله، ويعبّر عنه بلسان الشرع بالملك، ووجه التعبير (1) عنه بنوره أنّه سبب وشرط لظهور الأشياء وصدورها عنه تعالى، كما أنّ ضوء الشمس ونوره مثلاً شرط لإبصار المبصرات، وظهورها عند الحسّ. ويحتمل أن يكون المراد أنّه خلقه من عالم نوره، أي من عالم الملائكة والعقول المقدّسة، باعتبار تجرّده الذاتي وإدراك المعقولات واقتضاء الخيرات وإن كان مباينا لهم باعتبارات اُخر كالتعلّق بالبدن (2) وغير ذلك. ويحتمل أن يكون المراد أنّه خلقه من نور معرفته كنايةً من أنّه خلقه قابلاً لنيل معرفته، وللتميز بين الحقّ والباطل، أو خلقه من نور هدايته كنايةً من أنّه جعله قابلاً للهداية، أو جعله آلةً لهداية صاحبه يهدي اللّه به من يشاء، كما جعل الجهل آلة لضلالة صاحبه، ويضلّ به من يشاء. وهذا الوجه الأخير بناء على أن يكون المراد بالعقل المعنى الثالثَ منه، أي صفه النفس من القوّة النطقيّة لا نفسها كما سيجيء، وبالجهل عدم تمكّن النفس من استعمالها كما ينبغي إمّا للعوائق الطبيعيّة، أو لغلبة أضدادها من الوهم وقوّتَي (3) : الشهويّة والغضبيّة، وعلى هذا فإجراء الأوصاف السابقة على تلك القوّة على سبيل التوسّع باعتبار اتّصاف محلّها وملزومها بها. وقوله عليه السلام : (فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فأقبل) قد مضى شرحه مستوفى، وفي الحديث الأوّل عكس هذا الترتيب ولا ضير فيه، كما لا يخفى على المتأمّل. وقوله تعالى: (وكرّمتك على جميع خلقي) أي جميع خلقي في هذا العالم. وقوله عليه السلام : (ثمّ جعل الجهل من البحر الاُجاج) قد مرّ معنى الجهل آنفا.


1- .يمكن أن تقرأ : «التغيير».
2- .في النسخة: «بالبدل».
3- .في النسخة: «القوّتي».

ص: 85

ظلمانيّا ، فقال له : أدبِرْ فأدبَرَ ؛ ثمّ قال له : أقبِلْ فلم يُقْبِلْ ، فقالَ له : استكبرتَ ، فلَعَنَهُ ، ثمّ جعل العقل خسمةً وسبعينَ جُندا ، فلمّا رأى الجهلُ ما أكرَمَ اللّه به العقلَ وما أعطاهُ ، أضمَرَ له العداوةَ ، فقال الجهلُ : ياربِّ ، هذا خلقٌ مِثْلي خَلَقْتَه وكرَّمْتَه وقوَّيْتَه ، وأنا ضدُّه ولا قوّةَ لي به ، فأعْطِني من الجُنْد مِثْلَ ما أعطيتَه ، فقال : نعم ، فإن عصيتَ بعد ذلك أخرَجْتُك وجندَك من رحمتي ، .........

والاُجاج - بضمّ الهمزة - : المالح الشديد الملوحة المُرّ، أي من عالم المادّيّات الخسيسة البعيدة عن قرب جنابه تعالى. وقوله: (ظلمانيا) أي خاليا عن نور معرفة صفاته وأفعاله وآثاره، متّصفا بظلمة الجهل بها، أو غير قابل للهداية، أو آلة لضلالة صاحبه. وقوله عليه السلام : (فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فلم يقبل) أي أدبر عن وجه اللّه تعالى، وعن الحقّ، فأدبر وصار كذا، وأقبل إلى وجهه تعالى، وإلى الحقّ فلم يقبل ولم يصر كذا؛ لعدم قابليّته لذلك؛ يعني جعله بحيث يقتضي بالذات جذب ما يلائم الطبيعة ودفع ما ينافرها، أو كما يقتضي إدراك المعاني الجزئيّة المادّيّة البعيدة عن المعارف الإلهيّة، وليس له قابليّة التوجّه إليه تعالى، وإلى الحقّ، ولن يصلح أن يكون مكلّفا، أو آلة لتكليف صاحبه. ويحتمل أن يكون المراد بالإدبار الإدبار عن عالم الملكوت، وبعدم قبول الإقبال عدم إمكان كونه من هذا العالم، أي خلقه من عالم المقارنات للمادّة لا من عالم المفارقات حتّى يكون كالعقل مستكملاً بوساطة البدن بالمعارف الإلهيّة والعلوم الدينيّة، وبالإقدام بمصالح نشأتيه وترك ما يضرّه فيهما باقيا بعد خرابه، راجعا بعينه إلى جنابه تعالى جدّه وقوله عليه السلام (فقال له: استكبرت فلعنه) أي جعله آلة لاستكبار من تبعه، فلعن تابعه بذلك الاستكبار الناشئ عن اتّباعه. وقوله عليه السلام : (خمسة وسبعون جندا) أي أعوانا وأنصارا، لا يقال لواحد منها ولا اثنين: جند. وقوله: (هذا خلق مثلي) أي إنّه مخلوقك، كما أنّي مخلوقك. وقوله تعالى: (فإن عصيتَ بعد ذلك أخرجتُك وجندَك من الرحمة) أي جعله بحيث لو

ص: 86

قال : قد رضيتُ ، فأعطاه خمسةً وسبعينَ جُندا ، فكان ممّا أعطى العقلَ من الخمسة والسبعين الجندَ : الخير ، وهو وزير العقل ، وجعل ضدَّه الشرَّ ، وهو وزير الجهل ؛ والإيمانُ ، وضدَّه

غلب على العقل وعلى جنده غلبة تامّة، أخرجه وجنده من الرحمة بسبب إخراج تابعه وتابع جنده الموصوف بهما منها. والحاصل أنّ المتّصف بالجهل وبالصفات المقوّية له لا يخرج من الرحمة مطلقا، بل إنّما يخرج لو غلب الجهل وأعوانه فيه على العقل وأعوانه غلبة قويّة. وقوله: (قد رضيتُ) أي بالرضاء (1) الفطري؛ يعني قضى أمره بهذا الوجه، هذا. وقيل: المراد بالعقل صفة النفس من القوّة النطقيّة كما مرّ أي صفة داعية لصاحبها إلى الأفعال الحسنة بدون جبر، وناهية أي صارفة له عن الأفعال القبيحة من غير جبر، وبالجهل صفة داعية إلى عكس ذلك، والمقصود أنّه تعالى أعطى بحكمته الكاملة وعلمه الشامل لكلّ مكلّف قوّتين داعيتين: إحداهما العقل وهو الداعي إلى الخير، والاُخرى (2) الجهل وهو الداعي إلى الشرّ، وخلق صفاتٍ حميدةً تقوّي العقل في دعائه إلى الخير وهي خمسة وسبعون، وخلق ضدّها من رذائل تقوّي الجهل في دعائه إلى الشرّ وهي أيضا خمسة وسبعون، وكتب على نفسه الرحمة لمن تبع العقل، وشرط استحقاق الإخراج من الرحمة لمن تبع الجهل. قوله عليه السلام : (وهو وزير العقل) إلخ أي معينه الذي عليه مداره من المؤازرة بمعنى المعاونة. قيل (3) : المراد بالرجاء هو رجاء الرحمة وثواب الآخرة، والطمع هو الطمع لثواب الدنيا، فظهر الفرق بينهما من أنّ الأوّل يتعلّق بالبعيد، والآخر بالقريب. أقول: لا يذهب عليك أنّ هذا التخصيص لا يظهر [ل-]من تتبّع موارد استعمالاتهما، بل


1- .في النسخة: «برضاء».
2- .في النسخة: «الآخر».
3- .القائل به الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 62.

ص: 87

الكفرَ ؛ والتصديقُ ، وضدّه الجحودَ ؛ والرجاءُ ، وضدّه القنوطَ ؛ والعدلُ ، وضدّه الجورَ ؛ والرضا ، وضدّه السخطَ ؛ والشكرُ ، وضدّه الكفرانَ ؛ والطمعُ ، وضدّه اليأسَ ؛ والتوكّلُ ، وضدّه الحرصَ ؛ والرأفةُ ، وضدّها القسوةَ ؛ والرحمةُ ، وضدّها الغضبَ ؛ والعلمُ ، وضدّه الجهلَ ؛ والفهمُ ، وضدّه الحُمْقَ ؛ والعفّة ، وضدّها التهتُّكَ ؛ والزهُد ، وضدّه الرغبةَ ؛ والرفق ، وضدّه الخُرْقَ ؛ والرهبةُ ، وضدّه الجرأةَ ؛ والتواضعُ ، وضدّه الكِبْرَ ؛ والتُّؤَدَةُ ، وضدّها التسرُّعَ ؛ والحلمُ ، وضدّها السَّفَهَ ؛ والصمتُ ، وضدّه الهَذَرَ ؛ والاستسلامُ ، وضدّه الاستكبارَ ؛ والتسليمُ ، وضدّه الشكَّ ؛ والصبرُ ، وضدّه الجَزَعَ ؛ والصفْحُ ، وضدّه الانتقامَ ؛ والغنى ، وضدّه الفقرَ ؛ والتذكّرُ ، وضدّه السهْوَ ؛ والحفظُ ، وضدّه النسيانَ ؛ والتعطّفُ ، وضدّه القطيعةَ ؛ والقنوعُ ، وضدّه الحرصَ ؛ والمؤاساةُ ، وضدّها المنعَ ؛ والمودَّةُ ، وضدَّها العداوةَ ؛ والوفاءُ ، وضدّه الغَدْرَ ؛ والطاعةُ ، وضدّها المعصيةَ؛ والخضوعُ، وضدّه التطاوُلَ؛ والسلامةُ، وضدّها البلاءَ؛ والحُبُّ، وضدّه البغضَ؛ والصدقُ ، وضدّه الكذبَ ؛ والحقُّ ، وضدّه الباطلَ؛ والأمانةُ ، وضدّها الخيانةَ ؛ والإخلاصُ ، وضدّه الشَّوْبَ ؛ والشهامةُ ، وضدّها البلادَةَ ؛ والفهمُ ، وضدّه الغَباوَةَ ؛ والمعرفةُ ، وضدّها الإنكارَ ؛ والمداراةُ ،

الحقّ أن يحمل على عمومهما وحملهما على معنى واحد؛ لأنّ المورود من كلّ فرقة من جنود العقل والجهل هاهنا ثمانية وسبعون، فثلاثة من كلّ واحد من الفرقتين زائدة على ما صرّح به الإمام عليه السلام في صدر الحديث، فينبغي أن يحمل على اتّحاد ثلاثة منها من كلّ فرقة، ثلاثةً اُخرى في المعنى، والتكرار بعبارة اُخرى إمّا للتوضيح والتقريب إلى الفهم، أو لسهو الراوي. فالأوّل ممّا يصلح لذلك الحمل اتّحاد الرجاء، وضدّه القنوط مع الطمع، وضدّه اليأس، فالمراد بالرجاء والطمع هو الطمع ورجاء الرحمة والثواب في الدنيا والآخرة من غير فرق بينهما، وحينئذٍ القنوط واليأس أيضا واحد. والثاني اتّحاد الفهم وضدّه الحمق مع الفهم وضدّه الغباوة؛ فإنّ الفهم في الموضعين واحد وهو القسم الثالث من العقل بالمعنى الخامس؛ يعني كمال القوّة النطقيّة بحسب الفطرة

ص: 88

من جهة قوّتي (1) النظريّة والعمليّة معا، وضدّه الجهل المسمّى بالبلاهة والحمق، وقد عرفت إطلاق الغباوة عليه إطلاقا للعامّ على الخاصّ، فالمراد بالحمق والغباوة في هذا المقام واحد. والثالث اتّحاد السلامة وضدّها البلاء مع العافية وضدّها البلاء؛ فإنّ السلامة والعافية مترادفتان (2) والبلاء في المقامين واحد. ثمّ المراد بالتوكّل تفويض الأمر إلى اللّه تعالى في الرزق ونحوه، فيقتصد في طلبه وضدّه الحرص، أي تكلّف مشاقّ الاُمور في طلب الرزق ونحوه، فالحرص هاهنا من فعل الجوارح، وأمّا الحرص الذي ضدّه القنوع من فعل القلب وهو الهمّ والحزن على عدم وجدان الزائد (3) . وقرأ بعضهم (4) ما يقابل التوكّل: الحَرَض - بفتح الحاء والراء المهملتين وبالضاد المعجمة - معناه الهمّ بالشيء والحزن له. والمراد بالعلم العلم المنقسم إلى الفهم واليقين فقط. والتهتّك هتك ستر النفس. و[المراد] بالزهد الزهد في الدنيا ولذّاتها. قال في القاموس: «الخُرْقُ - بالضمّ وبالتحريك - : ضدُّ الرِفْقِ» (5) . والتُؤَدة - بضمّ التاء المثنّاة من فوق وفتح الهمزة - : التأنّي في الاُمور. والحِلم احتمال الأذى من الغير، والسفه عدم احتماله أصلاً، والمراد بالحلم العقل العملي الكامل؛ لأنّه قد يطلق على العقل أيضا، وحينئذٍ المراد بالسفه نقصان ذلك العقل. والهَذَر: الهذيان. والاستسلام: انقياد الحقّ.


1- .في النسخة: «القوّتي».
2- .في النسخة: «مترادفان».
3- .اُنظر : مرآة العقول، ج 1، ص 68.
4- .هو السيّد الداماد في التعليقة على الكافي، ص 43.
5- .القاموس المحيط، ج 3، ص 330 (خرق).

ص: 89

وضدّها المكاشَفَةَ ؛ وسلامةُ الغيب ، وضدها المماكرة ؛ والكتمان ، وضدّها الإفشاء؛ والصلاةُ ،

والمراد بالتسليم التسليم لما هو خلاف رأيه ممّا يصدر عن الأئمّة عليهم السلام . والغِنى - بالكسر والقصر - : عدم الاحتياج. والمواساة: المعاونة بالمال. والشهامة: شدّة الفهم، قال في القاموس: «الشهم: [ال-]ذكيُّ الفؤاد المُتَوَقِّدُ» (1) . والمعرفة هي العلم الحادث بعد غروب، أي في المرّة الثانية، كما إذا علمت زيدا ، ثمّ غاب عنك مدّة مديدة، ثمّ رأيته فإذا علمت أنّه زيد، فقد عرفته. والمُداراة: المُماشاة، وضدّها المكاشفة، أي التصريح بالمكروه. وسلامة الغيب هو ما يعبّر عنه بحفظ الغيب وهو أن يكون غيبة الشخص عندك كحضوره. وقوله عليه السلام : (والصلاة) أي حفظ حدودها وأوقاتها. والمراد بالنكول الجبن، يقال: نكل العدوّ، أي جبن. ونبذ الميثاق طرح الميثاق والعهد الذي هو في قوله تعالى: «وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» (2) . والمراد بالحقيقة الإتيان ب[م-]أمور به، كما [هو] حقيقته. والتهيئة مصدر قولك: هيّأت الشيء، إذا أصلحته، فمعناه الإصلاح بينه وبين غيره. والبغي: الظلم والاستطالة. والخَلع مضبوط في النسخ بالخاء المعجمة المفتوحة واللام الساكنة أي خلع الحياء كأنّ عدم الحياء خلع الحياء عنه. وقيل: هو بالجيم، قال في الصحاح: «جَلِعَتِ المرأةُ بالكسر، فهي جَلِعَةٌ (3) وجالِعَةٌ أيضا، أي قليلة الحياء تتكلّم (4) بالفحش، وكذلك الرجل» (5) انتهى.


1- .القاموس المحيط، ج 4، ص 193 (شهم).
2- .آل عمران (3): 97.
3- .في النسخة: «جليعة».
4- .في النسخة: «يتكلّم».
5- .القائل به السيّد الداماد في التعليقة على الكافي، ص 41 . وانظر : الصحاح، ج 3، ص 1197.

ص: 90

وضدّها الإضاعَةَ ؛ والصومُ ، وضدّه الإفطارَ ؛ والجهادُ ، وضدّه النكولَ ؛ والحجُّ ، وضدّه نَبْذَ الميثاق ؛ وصَوْنُ الحديث ، وضدّه النميمةَ ؛ وبِرُّ الوالدين ، وضدّه العقوقَ ؛ والحقيقةُ ، وضدّها الرياءَ ؛ والمعروفُ ، وضدّه المنكَرَ ؛ والستْرُ ، وضدّه التبرّجَ ؛ والتقيّةُ ، وضدّها الإذاعةَ ؛ والإنصافُ ، وضدَّه الحميّةَ ؛ والتَهْيِئَةُ ، وضدَّها البَغْيَ ؛ والنظافةُ ، وضدّها القَذَرَ ؛ والحياء ، وضدّها الجَلَعَ ؛ والقصد ، وضدّه العدوانَ ؛ والراحة ، وضدّها التعَبَ ؛ والسهولةُ ، وضدّها الصعوبة ؛ والبركةُ ، وضدّها المَحْقَ ؛ والعافية ، وضدّها البلاءَ ؛ والقَوامُ ، وضدّه المكاثرة ؛ والحكمةُ ، وضدّها الهوى ؛ والوقارُ ، وضدّه الخِفّةَ ؛ والسعادةُ ، وضدّها الشقاوةَ ؛ والتوبةُ ،وضدّها الإصرارَ ؛ والاستغفارُ ، وضدّه الاغترارَ ؛ والمحافَظَةُ ، وضدّها التهاونَ ؛ والدعاءُ ، وضدَّه الاستنكافَ ؛ والنشاطُ ، وضدّه الكَسَلَ ؛ والفَرَحُ ، وضدَّه الحَزَنَ ؛ والأُلْفَةُ ، وضدَّها الفُرْقَةَ ؛ والسخاءُ ، وضدَّه البخْلَ . فلاتجتمعُ هذه الخصالُ كُلُّها من أجنادِ العقلِ إلّا فينبيّ أو وصيّ نبيّ،أو مؤمن قد امتحَنَ اللّهُ قلبَه للإيمان ، وأمّا سائرُ ذلك من موالينا فإنّ أحدَهم لا يخلو من أن يكونَ فيه بعضُ هذه الجنودِ حتّى يَستكملَ ، ويَنْقى من جنود الجهل ، فعند ذلك يكونُ في الدرجة العُليا مع الأنبياء والأوصياء ، وإنّما يُدْرَكُ ذلك بمعرفة العقل وجنوده ، وبُمجانبة الجهل وجنودِه ؛

وأراد بالقصد الاقتصاد، أي التوسّط، وضدّه العدوان، أي التعدّي إلى أحد الطرفين من الإفراط والتفريط. والقَوام بفتح القاف ما يعاش به، أي الاكتفاء بما هو ضروري في المعاش، وضدّه المكاثرة، أي المغالبة مع الناس في الكثرة: في المال والعُدّة أو العدَد أو نحو ذلك، يقال: كاثروهم فكثروهم، أي غالبوهم في الكثرة فغلبوهم. ويحتمل أن يراد بها المبالغة في الكثرة في المال أو العُدّة أو العدد أو نحو ذلك؛ لأنّه قد ينسب الفعل إلى واحد للمبالغة؛ لأنّ الفعل من الاثنين يكون فيه مغالبة غالبا فيكون فيه مغالبة. وقوله عليه السلام : (امتحن اللّه ) أي خلّص اللّه ، وهَذَّبَ قلبه بالإيمان، وحينئذٍ اللام بمعنى الباء، أو لأجل الإيمان من «محنتُ الفضّة»، إذا صفّيتهاوخلّصتها بالنار. وقوله عليه السلام : (إنّما يدرك ذلك) أي إنّما ينال ذلك الاستكمال.

ص: 91

وَفَّقنا اللّهُ وإيّاكم لطاعته ومَرضاتِه» .

جَماعةٌ من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى،عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما كَلَّمَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله العبادَ بكُنْهِ عقله قطُّ» . وقال : «قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إنّا - معاشِرَ الأنبياء - اُمِرْنا أن نُكَلِّمَ الناسَ على قَدْر عقولهم» .

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زيادٍ ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن جعفر ، عن أبيه عليهماالسلام ، قال :«قال أميرالمؤمنين عليه السلام : إنَّ قلوبَ الجُهّالِ تَستفِزُّها الأطماعُ ، وتَرتهنُها المنى ، وتَستعلِقُها الخدائعُ» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ ، عن عبيداللّه الدهقان ، عن دُرُستَ ، عن إبراهيم بن عبدالحميد ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«أكْمَلُ الناسِ عقلاً

قوله عليه السلام : (ما كلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم العباد) أي ممّا (1) عدا أهل البيت عليهم السلام (بكنه عقله قطّ (2) ) لأنّ أحدا من الرعيّة لا يصل إلى كنه عقله عليه السلام ، فلو كلّمهم بكنه عقله، لزم الخطاب بما لا يفهم وهو غير جائز، بل كلّم الناس على وجه يشترك الكلّ في القدر المشترك بين المعاني التي يدلّ كلامه عليها، ويختلف خطابهم على اختلاف طبقاتهم وتباين درجاتهم بالمعاني الصحيحة التي يقدرون على فهمها منه، فكلّ طبقة مخاطب من هذا الكلام بما هو غاية فهمه منه. ومن هذا يظهر اختلاف التكاليف بحسب اختلاف درجات المكلّفين مع اشتراك الكلّ في القدر المشترك بينها؛ فأحسِن تدبّره. قوله عليه السلام : (إنّ قلوب الجهّال) إلخ المراد بالجهّال هاهنا اُولوا العقول الناقصة. وقوله عليه السلام : (تَسْتَفِزُّها) أي تستخفّها الأطماع بخلاف العقلاء؛ فإنّه ليس لهم طمع ليستفزّ قلوبهم. وقوله عليه السلام : (وترتهنها المنى) أي أخذتها الآمال، وجعلتها رهينة لها. وقوله عليه السلام : (تَستعلِقُها) أي تصيدها من «أعلق الصائد» أي عَلَق الصيد في حبالته. وفي


1- .كذا. والأولى: «ممّن».
2- .في النسخة: «فقط».

ص: 92

أحْسَنُهم خُلُقا» .

عليٌّ ، عن أبي هاشم الجعفريّ ، قال : كُنّا عند الرضا عليه السلام فتذاكرنا العقلَ والأدبَ ، فقال :«يا أبا هاشم ، العقلُ حِباءٌ من اللّه ، والأدبُ كُلْفَةٌ ، فمن تكلّفَ الأدبَ قَدَرَ عليه ، ومن تكلّفَ العقلَ ، لم يَزدَدْ بذلك إلّا جهلاً» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن يحيى بن المبارك ، عن عبداللّه بن جَبَلَةَ ، عن إسحاق ابن عمّار ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قلت له : جُعِلْتُ فداك ، إنَّ لي جارا كثيرَ الصلاةِ ، كثيرَ الصدقةِ ، كثيرَ الحجِّ لا بأس به ؟ قال : فقال :«يا إسحاقُ ، كيف عقلُهُ؟» ، قال : قلت له : جعلت

بعض النسخ بدل ذلك: «تستقلقها» من القلق، أي الاضطراب. وقوله عليه السلام : (أحسنهم خلقا) أقول: الخلق ملكة الصفات الفاضلة، كما يظهر من تعريف الحكمة، ويطلق على الدين والمروّة والسجيّة والطبع أيضا، والكلّ مناسب للمقام. قوله عليه السلام : (العقل) أي كمال العقل الفطري (حِباء) أي عطاء من اللّه يعني أمر خلقي لا يمكن كسبه. وقوله عليه السلام : (والأدب) أي حسن العمل «كلفة» أي اكتسابيٌّ اختياريٌّ يمكن للإنسان تحمّله بكلفة، فهو تكليفي. وقوله عليه السلام : (فمن تكلّف الأدب [قَدَر عليه، ومن تكلّف العقل]) أي حمله على نفسه بأن يفعل ما لا ينبغي أن يفعله إلّا العاقل كالتزام تنقيح المباحث والمنازعات في الدقائق العلميّة، والتزام التدابير النافعة في السياسات المنزليّة والمدنيّة ونحو ذلك. وقوله عليه السلام : (لم يزدد بذلك إلّا جهلاً) أي إلّا ظهور جهله ونقصان عقله، بل ذلك التكلّف يوجب أن يزيد النقصان الاكتسابي على النقصان الفطري. قوله عليه السلام : (لا بأس به) أي لا نقص فيه من حيث العمل، أو لا يصل منه ضرر إلى أحد. وقوله عليه السلام : (كيف عقله) أي عقله في أيّ درجة؟ أله عقل كامل اهتدى به إلى الحقّ وكان موافقا، أم ليس كذلك وكان مخالفا؟ وقوله: (ليس له عقل) أي ليس له عقل كامل يوجب هدايته إلى الحقّ.

ص: 93

فداك ليس له عقلٌ ، قال : فقال : «لا يرتفعُ بذلك منه» .

الحسين بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد السيّاريّ ، عن أبي يعقوب البغداديّ ، قال : قال ابنُ السكّيتِ لأبي الحسن عليه السلام لِمَاذا بَعَثَ اللّهُ موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ويَدِهِ البيضاء وآلةِ السحرِ؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ ؟ وبعث محمّدا - صلّى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء - بالكلام والخُطَبِ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام :«إنّ اللّه لمّا بَعَثَ موسى عليه السلام كان الغالبُ على أهلِ عصره السحرَ ،

وقوله عليه السلام : (لا يرتفع بذلك منه) أي لا يرتفع تلك العبادات الكثيرة منه إلى اللّه تعالى بسبب نقص عقله الذي يوجب ضلالته. وفي بعض النسخ بدل هذا هكذا: «لا ينتفع بذاك منه» أي لا ينتفع هذا الشخص بسبب نقص عقله ممّا ذكرت من أنّه كثير الصلاة، كثير الصدقة، كثير الحجّ، فضمير «منه» راجع إلى قوله: «كثير الصلاة» إلخ [والتذكير] باعتبار أنّه (1) ما ذكره المخاطب. وقيل (2) : أي لا ينتفع الجار بذاك، أي بكثرة العباد[ة] «منه» أي من أجل عدم عقله. قوله عليه السلام : (وآلة السحر) الآلة إمّا بمعنى الحالة، أي بعثه بحالة تشبه السحر وليست بسحر، أو بحالة تبطل به السحر. وإمّا بمعنى الأداة، أي بأداة تشبه أداة السحر وليست بأداة السحر، أو بأداة تبطل به السحر. وكذا الحال في قوله: «بآلة الطبّ» أي بحالة تشبه الطبّ وليست بطبّ، أو بأداة تشبه أداة الطبّ وليست بأداته، والمراد يُشبه أداة الطبّ دعاؤه عليه السلام . و[المراد] بأداة الطبّ الأدوية. وشباهة الاُولى بالثانية من حيث اشتراكها في دفع المرض وحصول البرء عقيبهما. وقوله: (بالكلام والخطب) أي بالفصاحة والبلاغة المراعاة فيهما.


1- .كذا.
2- .القائل به الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 98 (مخطوط).

ص: 94

فأتاهم من عنداللّه بما لم يكنْ في وُسْعِهِم مثلُهُ ، وما أبْطَلَ به سحرَهم ، وأثْبَتَ به الحجّةَ عليهم ، وإنّ اللّهَ بَعَثَ عيسى عليه السلام في وقتٍ قد ظهرَتْ فيه الزماناتُ ، واحتاجَ الناسُ إلى الطبّ ، فأتاهم من عنداللّه تعالى بما لم يكن عندهم مثلُه ، وبما أحيا لهم الموتى ، وأبرَأَ الأكمَهَ والأبرصَ بإذن اللّه تعالى ، وأثبَتَ به الحجّةَ عليهم . وإنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلى الله عليه و آله في وقتٍ كان الغالبُ على أهل عصره الخُطَبَ والكلامَ - وأظنُّه قال : الشعر - فأتاهم من عند اللّه تعالى من مواعظه وحِكَمِه ما أبطلَ به قولَهم ، وأثْبَتَ به الحجّةَ عليهم» . قال : فقال ابنُ السكّيتِ : تاللّهِ ما رأيْتُ مثلَكَ قطُّ ، فما الحجّةُ على الخلق اليومَ؟ قال :

وقوله عليه السلام : (وأثبت به) أي بما أتاهم من عند اللّه . و«الزمانات» بفتح الزاي المعجمة جمع الزمانة وهي العاهة، أي الآفات والأمراض. وقوله عليه السلام : (واحتاج الناس إلى الطبّ) فبالغوا في تحصيله. وقوله عليه السلام : (فآتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله) أي آتاهم بسبب دعائه بإذن اللّه من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله من دفع الأمراض والأسقام، وبما أحيا لهم الموتى، وبما أبرأ الأكمه والأبرص، فيكون الصحّة وإحياء الأموات وإبراء الأكمه والأبرص من فعل اللّه تعالى بتوسّط دعاء عيسى عليه السلام ، وذلك الدعاء معلّق على إذنه تعالى، ونسبة تلك (1) الأفعال إلى عيسى عليه السلام مجاز باعتبار سببيّة دعائه عليه السلام ، وكذا الحال في سائر المعجزات وخوارق العادات؛ فإنّها جميعا من أفعال اللّه تعالى بسبب دعاء الأنبياء صلوات اللّه عليهم وإنّما يكون دعاؤهم بإذن اللّه تعالى كما قال في سورة الرعد: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ» (2) ، وفي سورة إبراهيم: «وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ» (3) ، وكذا الحال في كرامات الأولياء والأئمّة عليهم السلام . وقول الراوي: (وأظنّه قال: الشعر) يعني وأظنّه ضمّ الشعر، وقال: الخطب والكلام والشعر. وقوله: (فما الحجّة على الخلق اليوم؟) أي فما الحجّة للإمام على إثبات إمامته على اُمّة


1- .في النسخة: «ذلك».
2- .الرعد (13): 38؛ غافر (40): 78.
3- .إبراهيم (14): 11.

ص: 95

فقال عليه السلام : «العقلُ ، يَعرفُ به الصادقَ على اللّه فيُصدِّقُه ، والكاذبَ على اللّه فيُكذِّبُه» قال : فقال ابنُ السكّيتِ : هذا - واللّه - هو الجوابُ .

الحسين بن محمّد ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن المثنّى الحَنّاط ، عن قُتيبةَ الأعشى ، عن ابن أبي يعفور ، عن مَوْلًى لبني شيبان ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«إذا قامَ قائمُنا وَضَعَ اللّهُ يَدَهُ على رؤوس العباد ، فجَمَعَ بها عقولَهم وكَمَلَتْ به أحلامُهم» .

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن سليمانَ ، عن عليّ بن إبراهيم ،

نبيّنا عليه السلام اليوم الذي ينقضي الوحي، ولا يأتي أحد بمعجزة جديدة على طبق دعواه على رؤوس الأشهاد؛ لأنّ الأئمّة عليهم السلام إنّما أقاموا الكرامات على طبق دعواهم لبعض خواصّهم، لا على رؤوس الأشهاد؛ لحكمة ومصلحة رأوها في ذلك. وقوله عليه السلام : (العقل) أي الحجّة هو العقل الكامل يُعرف به الإمام الحقّ الصادق على اللّه بأن يسأل عنه عن أيّ شيء يراد كالمغيبات والمسائل الدقيقة الغامضة والأحكام الشرعيّة، فيظهر من جوابه حقّيّته وصدقه في دعوى إمامته، كما سيجيء في كتاب الحجّة (فيصدّقه) العاقل الكامل، وكذا يُعرف به الإمام الباطل (الكاذب على اللّه ) بأن يسأل عنه فيظهر من جوابه بطلانه وكذبه في دعواه (فيكذّبه) العاقل. قوله عليه السلام : (وضع اللّه يده على رؤوس العباد) المراد باليد على طريق الاستعارة إمّا اللطف والتوفيق، أو الإمام عليه السلام ، أي جعله كافلاً لمصالحهم. وقوله عليه السلام : (فجمع بها) أي فجمع اللّه باليد، وفي بعض النسخ: «به» أي بوضع اليد (عقولَهم) والمراد بالعقل هاهنا هو المعنى الثالث منه، أي الصفة النطقيّة المشتركة فيما بين كلّ المكلّفين، أي اتّفق عقولهم على الحقّ، وارتفع الخلاف من البين. والتعبير عن المضارع بالماضي لقرب الوقوع. وقوله عليه السلام : (وكَمَلَتْ بها) أي باليد، وفي بعض النسخ: «به» أي بوضع اليد «أحلامُهم» أي عقولهم.

ص: 96

عن عبداللّه بن سنان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«حجّةُ اللّهِ على العِباد النبيُّ ، والحجّةُ فيما بين العباد وبين اللّه العقلُ» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّدٍ مُرسلاً ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«دِعامةُ الإنسانِ العقلُ ، والعقلُ منه الفِطْنَةُ والفهمُ والحفظُ والعلمُ ؛ وبالعقل يَكْمُلُ ، وهو دليلُه ومُبْصِرُه .........

قوله عليه السلام : (حجّة اللّه على العباد) أي حجّته الظاهرة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم، وحجّته المخفيّة العقل. قوله: (دِعامة الإنسان العقل) الدِعامة - بكسر الدال - : عماد البيت، أي دعامة الإنسان الكامل العقل الكامل، سواء كان كاملاً بحسب الفطرة، أو بحسب الكسب، أو بحسبهما معا؛ لأنّ كمال الإنسان إنّما هو بكمال العقل. والمراد بالعقل في قوله: (والعقل منه الفطنة) إلخ، المعنى الأخير وهو العقل عن اللّه ؛ لأنّ العقل الناقص بحسب الفطرة والكسب معا لا يكون منه تلك الصفات، وما وجد في بعض ناقصي العقل ليس إلّا الشيطنة والنَكْراء التي يتأتّى منها ما يشبه تلك الصفات كما مرّ (1) . والمراد بالفطنة هاهنا الحذاقة والمهارة في المعارف الإلهيّة والعلوم الدينيّة وما يتعلّق بهما، أو الانتقال إلى المبادئ المناسبة للمطلوب، أو الانتقال من المبادئ إلى المطالب ويسمّى بالحدس، أو النظر الصحيح، والمراد بكلّ ذلك هاهنا في المسائل الغامضة. والمراد بالفهم تصوّر حقائق الأشياء والأحكام على ما هي عليه، وبالحفظ المحافظة التامّة للعلوم، وبالعلم اليقين في المعارف الإلهيّة ونحوها. وقوله: (وبالعقل) أي العقل الكامل يكمل الإنسان، وكما أنّ مراتب أفراد الإنسان الكامل متفاوتة، كذلك مراتب العقل الكامل إلى أن ينتهي السلسلتان إلى نبيّنا صلى الله عليه و آله وإلى عقله. وقوله عليه السلام : (وهو دليله) أي العقل الكامل دليل الإنسان الكامل إلى الحقّ. وقوله عليه السلام : (ومُبْصِر) بضمّ الميم وسكون الباء الموحّدة وكسر الصاد اسم فاعل من «أبصره»، إذا جعله بصيرا، أي موجب بصيرته؛ لقوله تعالى: «فَلَمّا جاءَتْهُم آياتُنا


1- .مرّ في ص

ص: 97

ومفتاحُ أمرِه ، فإذا كانَ تأييدُ عقلِه من النور كانَ عالما ، حافظا ، ذاكرا ، فَطِنا ، فَهِما ، فعَلِمَ بذلك كيف ولِمَ وحَيْثُ ، وعَرَفَ مَن نَصَحَه ومَن غَشَّه ، .........

مُبْصَرَةً» (1) ، أو بكسر الميم وفتح الصاد اسم آلة، أي ما به بصيرته، أو بفتح الميم والصاد اسم مكان، أي ما فيه بصيرته؛ يعني ما فيه علمه. وقوله عليه السلام : (ومفتاح أمره) أي كلّما اُغلق عليه أمر من مسألة، أو غير ذلك فتحه به. وقوله عليه السلام : (وإذا كان تأييد عقله) أي تأييد عقل الإنسان الكامل (من النور) أي من اللّه جلّ ذكره كما في النفوس القدسيّة المؤيّدة من عند اللّه كالأنبياء والأئمّة عليهم السلام ومن يقرب منهم. وقوله: (كان عالما) أي كان ذلك الإنسان الكامل المؤيّد من عند اللّه عالما ربّانيا بكلّ ما يحتاج إليه «حافظا» لعلمه بحيث لا يتطرّق عليه سهو ولا نسيان (ذاكرا) لربّه بحيث لا يشغله شيء عنه (فَطِنا فَهِما) في غاية الكمال، فكان حكيما إلهيا كاملاً في قوّتي: (2) النظريّة والعمليّة. فقوله عليه السلام : (فعلم) إلى قوله: (فإذا فعل) بيان لكمال قوّته النظريّة. وقوله عليه السلام : (فإذا فعل) إلى قوله: (ويعرف... من أين) بيان لكمال قوّته العمليّة. وقوله عليه السلام : (ويعرف من أين) إلخ، أيضا لبيان الأوّل إشارةً إلى أنّه أشدّ اهتماما من الثاني. وقوله عليه السلام : (بذلك) إشارة إلى العقل المؤيّد، أو إلى التأييد، أي علم الإنسان الكامل بذلك العقل المؤيّد، أو بذلك التأييد «كيف» أي كيفيّة حقائق الأشياء والأحكام «وَلِمَ» أي علل الأشياء والأحكام وأسبابها (وحيث) أي حيثيات الأشياء والأحكام (وَلِمَ) أي العلل (3) المختلفة الموجبة لاختلاف أحوالها. وقوله عليه السلام : (وعرف من نصحه ومن غشّه) أي عرف من نصحه وإن كان عدوّه وكان نصحه من حيث لا يشعرون، ومن غشّه وإن كان صديقه وكان غشّه من حيث لا يشعر،


1- .النمل (27): 13.
2- .في النسخة: «القوّتي».
3- .في النسخة: «علل».

ص: 98

فإذا عَرَفَ ذلك عَرَفَ مَجْراه ومَوْصولَه ومَفْصولَه ، وأخلَصَ الوحدانيّةَ للّه ،

أو عرف صديقه من عدوّه بالحدس الصائب وإن لم يصدر عنها شيء يدلّ على الصداقة أو العداوة، بل علم بعضهم - كالأنبياء والأئمّة عليهم السلام في الدنيا - ضمائر الناس من قصدهم نصحهم أو غشّهم، وموالاتهم أو معاداتهم، وفي الآخرة «يعرفون كُلّاً بسيماهم» (1) ويشهدون بموالاة المؤمنين ومعاداة المنافقين؛ لأنّهم عليهم السلام أشهاد يوم القيامة، وأشار بلفظة «ذلك» في قوله: (فإذا عرف ذلك) إلى قوله: (كيف ولم) إلخ. وقوله عليه السلام : (عرف مجراه) أي مسلكه إلى الحقّ (وموصوله) أي عرف مرجعه وهو الدار الآخرة بل الحقّ، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «إِنّا للّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعُونَ» (2) وذلك مقام وصول العارف إلى الحقّ (ومفصوله) أي عرف مفصوله وهو الدنيا وما فيها بل نفسه. [تقسيم التوحيد إلى العقلي والشرعي] اعلم أنّ التوحيد على قسمين: عقلي وشرعي، والتوحيد العقلي هو ما يستقلّ العقل بمعرفته والقطع به بالبراهين العقليّة وهو أنّ واجب الوجود لذاته لا يشاركه شيء في الوجود الذاتي وعينيّة الوجود وصانعيّة العالم، بل ولا كثرة فيه بوجه من الوجوه. والتوحيد الشرعي هو ما لا يستقلّ العقل بإثباته، بل لا بدّ له من توقيف الشارع وتبليغ النبيّ وهو أنّه لا يشاركه شيء في استحقاق العبوديّة، والمقصد الأقصى من بعث جميع الأنبياء وإرسال جميع الرسل تبليغ هذا المعنى، فقوله عليه السلام : «وأخلص الوحدانيّةَ للّه » هو التوحيد العقلي، أي جزم بالبراهين القطعيّة بأنّ الوحدانيّة الحقيقيّة الشاملة للواحديّة والأحديّة - من أنّه لا يشاركه شيء في الوجوب الذاتي وعينيّة الوجود وصانعيّة العالم، ومن أنّه لا كثرة فيه بوجه من الوجوه لا من الأجزاء الخارجيّة والذهنيّة، ولا من الذات والوجود والوجوب الذاتي والصفات الحقيقيّة، بل ذاته وجود قائم بذاته، وصفاته عين ذاته - مختصّ به تعالى خالص له جلّ ذكره؛ لأنّ فيما عداه - وإن كان عقلاً مجرّدا عن المادّة في ذاته وفعله - كثرةً باعتبار الذات والوجود الزائد على ذاته، وباعتبار الإمكان الذاتي والوجوب بالغير، بل


1- .الأعراف (7): 46.
2- .البقرة (2): 156.

ص: 99

والإقرارَ بالطاعة ، فإذا فَعَلَ ذلك كانَ مُستدركا لما فاتَ ، وواردا على ما هوآتٍ ، يَعْرِفُ ما هو فيه ، ولأيّ شيء هو هاهنا ، ومن أين يَأتيه ، وإلى ما هو صائرٌ ؛ وذلك كلُّه من تأييدِ العقلِ» .

عليُّ بن محمّد ، عن سَهل بن زياد ، عن إسماعيل بن مِهران ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«العقلُ دليلُ المؤمِن» .

باعتبار الصفات الحقيقيّة أيضا على ما هو المشهور من أنّها زائدة على ذاته. وقوله عليه السلام : (والإقرارَ بالطاعة) هو التوحيد الشرعي، أي أخلص الإقرار بالطاعة للّه ؛ يعني جعل الإقرار باستحقاق الطاعة والعبوديّة مختصّا به، خالصا له تعالى لا يشاركه شيء (1) في استحقاق العبوديّة والطاعة، وهذا معنى «لا إله إلّا اللّه ». ولا يذهب عليك أنّ طاعة الرسول والأئمّة عليهم السلام هي طاعة اللّه تعالى، فلا يستحقّ الطاعة والعبوديّة إلّا اللّه تعالى. وقوله عليه السلام : (فإذا فعل) أي إذا فعل الكامل المؤيّد من عند اللّه فعلاً «كان مستدركا» بذلك الفعل «لما فات» عنه «واردا مع ذلك» الفعل باعتبار ثوابه أو باعتبار حصول ملكته وخُلقه للنفس «على ما هو آتٍ» من الموت، أو القيامة. وقوله عليه السلام : (يعرف ما هو فيه) إلخ، أي يعرف الكامل حقيقة ما هو فيه وهو الدنيا، ويعرف (لأيّ شيء هو هاهنا) أي لأيّ شيء هو في الدنيا من استكمال قوّتي: النظريّة والعمليّة بحصول العقل بالفعل والأخلاق، ويعرف (من أين يأتيه) ما هو آت من الموت، أو القيامة، فضمير الفاعل المستتر في «يأتيه» راجع إلى «ما هو آتٍ» والبارز المفعول إلى «العاقل المؤيَّد». وقوله عليه السلام : (وإلى ما هو صائر) ضمير «هو» راجع إلى «العاقل المؤيّد» و«ما» عبارة عن السعادة الأبديّة، أي يعرف السعادة الأبديّة التي هو صائر إليها. وقوله عليه السلام : (من تأييد العقل) إمّا إضافة إلى الفاعل، أي ذلك كلّه من تأييد العقل المؤيّد للإنسان الكامل، أو إضافة إلى المفعول، أي من تأييد النور للعقل الكامل. قوله عليه السلام : (العقل دليل المؤمن) أي العقل الكامل بأحد من المعاني المذكورة سالفا دليل المؤمن إلى الحقّ.


1- .في النسخة: «شيئا».

ص: 100

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمان ، عن السَّرِيِّ بن خالد، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال:«قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : يا عليُّ، لا فَقْرَ أشدُّ من الجَهْل، ولا مالَ أعْودُ من العقلِ» .

محمّد بن الحسن ، عن سَهْل بن زياد ، عن ابن أبي نجرانَ ، عن العلاء بن رزينٍ ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«لمّا خلَقَ اللّهُ العقلَ ، قال له : أقبِلْ ، فأقْبَلَ ، ثمَّ قال له : أدبِرْ ، فأدْبَرَ ، فقال : وعزَّتي وجَلالي ما خلقتُ خَلْقا أحْسَنَ منك ، إيّاك آمُرُ ، و إيّاك أنْهى ، وإيّاك اُثيبُ ، وإيّاكَ اُعاقبُ» .

عِدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد، عن الهَيْثم بن أبي مسروقٍ النهديِّ، عن الحسين بن خالد، عن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : الرجلُ آتِيهِ واُكلِّمُهُ ببعض كلامي ، فيعرِفُهُ كلَّه ، ومنهم مَن آتِيهِ فاُكَلِّمُهُ بالكلام ، فيَسْتَوْفي كلامي كلَّه ، ثمّ يَرُدُّه عَلَيَّ كما كَلَّمْتُهُ ، ومنهم من آتِيهِ فاُكلِّمُهُ ، فيقول : أعِدْ عَلَيَّ ؟ فقال :«يا إسحاقُ ، وما تَدْرِي لِمَ هذا؟» قلت: لا، قال: «الذي تُكَلِّمُهُ ببعض كلامك فيعْرِفُه كُلَّه ، فذاك مَن عُجِنَتْ نطفتُهُ بعقله ؛

قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (لا فقر أشدّ من الجهل) المراد بالجهل هاهنا العقل الناقص. وقوله صلى الله عليه و آله وسلم: (أعود) مشتقّ من العائدة وهي المنفعة، أي أنفع من العقل الكامل؛ لأنّه يوجب تحصيل السعادات الدنيويّة والاُخرويّة. قوله عليه السلام : (لمّا خلق اللّه العقل قال له) إلخ مضى شرحه في الحديث الأوّل. قوله: (واُكلّمه ببعض كلامي فيَعرِفُه كلَّه) أي ما ذكرت وما لم أذكر. وقوله: (فيَستَوفي كلامي كلَّه) أي يفهم بعد الإتمام. وقوله: (ثُمّ يَرُدَّه عليَ كما كلّمتُه) أي ثمّ يجيب على طبق ما كلّمته بحيث يعلم أنّه فهم الكلام من أوّله إلى آخره. والاستفهام في قوله عليه السلام : (وما تدري) مقدّر أي أو ما تدري. وقوله عليه السلام : (من عُجِنَتْ نطفتُه بعقله) كناية عن العقل بالمعنى الخامس في الدرجة العليا، أي عقله كامل بحسب الفطرة في المرتبة القصوى.

ص: 101

وأمّا الذي تُكَلِّمُهُ فيستوفي كلامَك ثمّ يُجِيبُك على كلامك ، فذاك الذي رُكِّبَ عقلُه فيه في بطن اُمّه ؛ وأمّا الذي تُكَلِّمُهُ بالكلام فيقولُ : أعِدْ عَلَيَّ ، فذاك الذي رُكّبَ عقلُه فيه بعدما كَبِرَ ، فهو يقول لك : أعِدْ عَلَيَّ» .

عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن بعض من رَفَعَهَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إذا رأيتم الرجلَ كثيرَ الصلاة ، كثيرَ الصيام ، فلا تُباهوا به حتّى تَنظُروا كيف عقلُه؟».

بعض أصحابنا، رَفَعَه، عن مفضّل بن عمرَ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال:«يا مُفضّلُ، لايُفْلِحُ من لايَعقِلُ، ولا يَعقِلُ من لايعلمُ، وسوفَ يَنْجُبُ من يَفهمُ، ويَظْفَرُ من يَحْلُمُ، والعلمُ

وقوله عليه السلام : (على كلامك) أي على طبق كلامك. وقوله عليه السلام : (الذي رُكّبَ عقلُه فيه في بطن اُمّه) كناية عن العقل بالمعنى الخامس في الدرجة الدنيا، أي عقله كامل بحسب الفطرة لكن مرتبته أدون من الأوّل، فقوله: «ركّب» على صيغة المجهول. وقوله عليه السلام : (فذاك الذي ركّب عقله فيه بعد ما كَبِرَ) كناية عن العقل بالمعنى السادس، أي عقله كامل بحسب الكسب فقط لا بحسب الفطرة. وقوله عليه السلام : (فهو يقول: أعِد عليَ) أي فلذلك هو يقول: أعد عليَ. قوله عليه السلام : (حتّى تنظروا كيف عقله) أي الثواب بإزاء الأعمال بقدر مرتبة العقل؛ لما مرّ من أنّ الثواب بإزائها بقدر العلم، والعلم إنّما يكون بقدر العقل. قوله عليه السلام : (لا يُفلِحُ مَن لا يَعْقِلُ) الفلاح: الفوز، والنجاة، والبقاء، أي لا يفلح من لا يكون عقله كاملاً. وقوله عليه السلام : (لا يَعقِلُ مَن لا يعلم) أي لا يكون عقله كاملاً مَن لا يعلم، أي من لم يكن له علم يقيني بما يجب اليقين به، بل بما يمكن تحصيل اليقين به، أو علم ظنّي بما يجب معرفته، ولا يمكن تحصيل اليقين به كبعض الفروع في زمان الغيبة، فالمراد بالعلم هاهنا العلم التصديقي المنقسم إلى اليقين والظنّ فقط.

ص: 102

جُنَّة، والصدقُ عِزٌّ ، والجهلُ ذُلٌّ ، والفهمُ مَجْدٌ ، والجودُ نُجْحٌ ، وحُسْنُ الخُلُقِ مَجْلَبَةٌ للمودّة ، والعالمُ بزمانه لا تهجُمُ عليه اللوابسُ ، .........

ويحتمل أن يكون المراد به هاهنا العلم اليقيني فقط بما يمكن تحصيل اليقين به، ويكون العلم الظنّي في هذا المقام مسكوتا عنه؛ لمزيد الاعتناء بشأن اليقين. وعلى التقديرين فالدليل على ذلك ما عرفت من استلام كمال العقل العلم ولا سيّما اليقين بما يجب أن يتيقّن. وقوله عليه السلام : (وسوف يَنْجُبُ مَن يَفهم) أي يتصوّر الأشياء على ما هي عليه، والنجيب: الكريم الحسيب. وقوله: (ويَظْفَرُ) أي يظفر بسعادات النشأتين (من يحلم) أن يعقل عن اللّه ، أو يتحمّل الأذى، أو يظفر بمطلبه من كان له وقار. وقوله عليه السلام : (العلمُ جُنَّةٌ) أي العلم الكامل اليقيني جنّة من سهام حوادث الدنيا وعذاب الآخرة، أو العلم - المنقسم إلى اليقين والظنّ - جنّة فى الجملة. والجهل في قوله عليه السلام : (والجهل ذلٌّ) إمّا مقابل الأوّل، أي الجهل الكامل يوجب الذلّ في الدارين، أو مقابل الثاني، أي الجهل في الجملة يوجب الذلّ في الجملة. والمراد به ما يقابل الصدق؛ لأنّ الجهل لمّا كان سببا للكذب، عبّر عنه تسميةً للمسبّب باسم السبب. وقوله عليه السلام : (والفهمُ مَجْدٌ) أي تصوّر الأشياء كما ينبغي مجد، أي كرم وحسب. والنُجح: الظفر بالحوائج. وقوله عليه السلام : (مَجْلَبَةٌ) اسم آلة، أي حسن الخلق آلة لنيل المودّة. وقوله عليه السلام : (العالم بزمانه لا يَهجِم) بكسر الجيم من هجمتُ على الشيء بالفتح هجوما، إذا أخذتَه بغتة (1) (عليه اللوابسُ) أي الشبهات؛ يعني العالم بأهل زمانه بأن يعرف خصالهم ومقاصدهم ومراتبهم، بل العارف بمزاج زمانه ومقتضياته لا تأخذه الشبهات دفعة، ولا يلتبس عليه شيء، ولا يغترّ بأحد، ويعلم أنّ أكثر أهل الزمان على خلاف الحقّ؛ لحبّ


1- .كتب في النسخة تحتها: «أي دفعة».

ص: 103

والحزمُ مَساءةُ الظنِّ، وبين المرء والحكمة نِعْمةُ العالِم، والجاهلُ شقيٌّ بينهما ، واللّهُ وليُّ

الدنيا، وإنّ أظهر بعضهم الحقّ وترك الدنيا للدنيا. وقوله عليه السلام : (والحزمُ مَساءَةُ الظنِّ) أي الاحتياط عدم الاعتماد على أحد حتّى يحصل الجزم بأنّه محلّ الاعتماد، وعدم الاغترار بالكثرة والجماعة؛ لكثرة اختلال رأيهم لاتّباع الهوى وحبّ الدنيا. قوله عليه السلام : (بين المرء والحكمة نعمة العالم، والجاهل شقيّ بينهما) أقول - ومن اللّه التوفيق والهداية - : الحكمة - كما مرّ مرارا (1) - هي استكمال القوّة النظريّة من النفس بحصول العقل بالفعل، واستكمال القوّة العمليّة منها بحصول الأخلاق والملكات المؤدّية إلى صلاح المعاش والمعاد، والنعمة هي السعادة الأبديّة والتشبّه بجناب الأحديّة في الكمالات العلميّة والعمليّة، لا ينال تلك النعمة إلّا المرء المتّصف بالحكمة، ولعلّ المراد بالعالم هاهنا العالم الذي لا يعمل بعلمه، فكلّ واحد من العالم والجاهل شقيّ بينهما، أي بين الحكمة والنعمة لا نصيب له من الحكمة التي هي استكمال القوّتين معا. أمّا العالم فلانتفائها عنه بانتفاء جزئها الأخير، وأمّا الجاهل فلانتفائها عنه بانتفاء الجزء الأوّل، ولا حظّ لكلّ منهما من النعمة والسعادة المترتّبة على الحكمة ؛ لانتفاء المعلول بانتفاء علّته. اعلم أنّ هذا الحلّ - الذي أيّدني اللّه تعالى به - أليق وأوفق ممّا ذكره الناظرون في هذا المقام، ولا ضير في نقل مقالهم لينكشف لك جليّة الحال، فقال بعضهم (2) : لعلّ مراده عليه السلام أنّ النعم تمنع (3) المرء عن تحصيل الحكمة وهي العمل على حسب العلم، والعالم والجاهل شقيّ بين النعم والحكمة، أمّا العالم فشقي بسبب تنعّمه عن العمل بمقتضى علمه،


1- .مرّ في ص
2- .كتب في النسخة تحتها: «م د رحمه الله». المراد به الميرزا محمد الإسترآبادى ظاهرا ، وقد أورد بعض حواشيه على الكافي صهره محمّد أمين الإسترآبادي في حاشيته على اُصول الكافي، ولم أعثر عليها في هذه الحاشية.
3- .في النسخة: «يمنع».

ص: 104

مَن عَرَفَه ، وعدوُّ من تكلَّفَهُ ، والعاقلُ غفورٌ ، والجاهلُ خَتورٌ ، وإن شئتَ أن تُكْرَمَ فَلِنْ، وإن

والجاهل شقي بسبب التنعّم عن تحصيل العلم. وقال بعضهم (1) : أي بين المرء والعلم نعمة هي العالم؛ لكونه السبب الموصل إيّاه إليه، والجاهل العادم العقل ذو القوّة الجاهلة شقي بين العالم والعلم ، ضائع السعي غير نائل إيّاه ولو أراد العالم إيصاله إليه؛ لشقائه الفطري وشقاوته الذاتيّة (2) . وقال بعضهم (3) : يعني أنّ العالم يفرح بكون المرء حكيما، والجاهل يسؤه أن يكون المرء حكيما، فقوله: «نعمة» مضاف إلى «العالم» إضافةً لاميّة، والمراد بالشقاء هاهنا التعب والمشقّة وهو ضدّ النعمة لا ضدّ السعادة الاُخرويّة، وضمير «بينهما» للمرء والحكمة. والحاصل أنّ في الوصلة بين المرء والحكمة نعمةً للعالم؛ لالتذاذه بتلك الوصلة، وشقاءً للجاهل؛ لنفرته عن تلك الوصلة؛ فإنّه يحبّ أن يكون كلّ الناس على السفه وخلاف الحكمة لتيسّر له ترويج جهله، أو ليكون الناس مثله (4) . انتهى. وقوله عليه السلام : (وعدوُّ مَن تَكَلَّفَه) أي تكلّف معرفته بأن يكون جاهلاً بمعرفة اللّه تعالى، وأسندها إلى نفسها بالقول على اللّه بغير علم. وقوله عليه السلام : (والعاقل غفور) أي العاقل الكامل، سواء كان بحسب الفطرة، أو بحسب الكسب، أو بحسبهما معا، والأخير هو العاقل عن اللّه ، غفور. وقوله عليه السلام : (والجاهل خَتور) بفتح الخاء المعجمة، أي غدّار يظهر المغفرة، ويضمر العداوة. وقوله عليه السلام : (تُكْرَم) على صيغة المجهول. وقوله: (لِن) أمر من «لانَ يَلين» والخشونة ضدّ اللين.


1- .كتب في النسخة تحتها: «م ح ق رحمه الله». والمراد به السيّد محمّد باقر الداماد.
2- .التعليقة على الكافي للسيّد الداماد، ص 54.
3- .كتب في النسخة تحتها: «خليل رحمه الله». والمراد به الملّا خليل القزويني صاحب الشافي في شرح الكافي.
4- .الشافي، ص 108 (مخطوط).

ص: 105

شئتَ أن تُهانَ فَاخْشُنْ ، ومن كَرُمَ أصلُه لانَ قْلبُهُ، ومن خَشُنَ عنصرُه غَلُظَ كبدُه، ومن فَرَّطَ تَوَرَّطَ، ومن خافَ العاقبةَ تَثَبَّتَ عن التوغُّلِ فيما لا يَعلَمُ، ومن هَجَمَ على أمرٍ بغير عِلْم جَدَعَ أنفَ نفسه، ومَن لم يعلَمْ لم يفهَمْ، ومَن لم يفهَمْ .........

وقوله عليه السلام : (مَن كَرُمَ أصلُه) أي جبلّته وطبيعته، «لانَ قلبه» فلا يبالغ في القهر والغلبة والتسلّط والترفّع كما فعله قاسي القلب. وقوله عليه السلام : (ومن خَشُنَ عنصرُه) أي طينته باعتبار غلبة الطبيعة على العقل (غلظ كبده) أي قوي شهوته؛ لأنّ الكبد مظهر وآلة للنفس البهيميّة والقوّة الشهويّة، فغلظة الكبد كناية عن شدّة القوّة المذكورة المتعلّقة به؛ لأنّ قوّة الكبد - الذي هو آلة للتغذية، ولتوزيع بدل ما يتحلّل على الأعضاء - يوجب قوّة الرغبة في المشتهيات من المآكل والمشارب والمناكح ونحوها، وضعفه يوجب ضعفها، كما أنّ قساوة القلب عبارة عن شدّة القوّة الغضبيّة؛ لأنّ القلب - الذي هو معدن الحرارة الغريزيّة ومنبع الحياة - مظهر وآلة للنفس السبعيّة والقوّة الغضبيّة، ولذلك ضعف القلب يوجب الجبن، وضعف الرغبة في القهر والغلبة والتسلّط، وأمّا آلة النفس الملكيّة ومظهر القوّة النطقيّة فهو الدماغ؛ لأنّه موضع الفكر والرَوِيّة بضعفه يضعف أثر تلك القوّة من الفكر والرَوِيّة. وقوله عليه السلام : (فرّط) بتشديد الراء مشتقّ من التفريط، والتورّط: الهلاك، أي من فرّط في الاُمور - دنيويا كان، أو اُخرويا، أو كليهما (1) معا - هلك في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما. وقوله عليه السلام : (من خاف العاقبة) أي سوء العاقبة (تَثَبَّتَ) أي امتنع (عن التوغّل) أي الغور، أو المشقّة، أو تصديع نفسه، أو السير المبعد عن الحقّ «فيما لا يعلم». وقوله عليه السلام : (ومَن هَجَم على أمر) أي أخذ أمرا دفعة، سواء كان دينيا، أو دنيويا (بغير علم جَدَع) بالجيم والدال المهملة، أي قطع «أنفَ نفسه» أي أنفه. وقوله عليه السلام : (ومن لم يعلم) أي لم يعلم ذلك من أنّ الهجوم على أمر بغير علم لا يجوز، أو من لم يعلم بالدين «لم يفهم» أي لم يتميّز بين الحسن والقبيح.


1- .في النسخة: «كلاهما».

ص: 106

لم يَسلَمْ، ومن لم يَسلَمْ لم يُكرَمْ ، ومَن لم يُكرَمْ يُهْضَمْ ، ومَن يُهْضَمْ كانَ ألْوَمْ ، ومن كانَ كذلك كانَ أحْرى أن يَنْدَم» .

محمّد بن يحيى رَفَعَه ، قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام :«من استَحكمَتْ لي فيه

وقوله عليه السلام : (لم يسلم) أي لم يسلم من القبيح. وقوله عليه السلام : (لم يُكْرَم) إمّا على صيغة المجهول، أو بفتح ياء المضارعة وضمّ الراء، أي لم يكن كريما شريفا عند اللّه . وقوله عليه السلام : (يَهْضَمْ) (1) على صيغة المجهول مِن «هَضَمْتُ الشيءَ» أي كسرته، وذلك لأنّ غير الكريم يُهان. وقوله عليه السلام : (ألومَ) أي ذا لومة كأحمر، أي ذا حمرة، أي كان ملوما عند اللّه تعالى. قوله عليه السلام : (من استحكمت ليفيه) أي أتقنت لي في نفسه (خصلة من خصال الخير) يعني من ثبت عندي أنّ فيه صفةً من الصفات (2) الجميلة (احْتَمَلْتُه عليها) أي حملته على تلك الخصلة، قال في القاموس: «حَمَلَهُ يَحْمِلُهُ حَمْلاً وحُمْلانا فهو مَحْمولٌ وحَميلٌ واحْتَمَلَهُ» (3) انتهى يعني كان مقبولاً عندي، محبوبا لديّ من أجل تلك الخصلة. وقوله عليه السلام : (واغتفَرتُ فَقْدَ ما سِواها) يعني فقد ما سوى تلك الصفة من صفات الخير لا ينافي ولا يضرّ بقبولي من أجل تلك الصفة، إلّا فقد العقل الكامل بأيّ معنى كان، والدين؛ لأنّ فاقد كلّ واحد منهما غير مقبول عندي وإن كان واجدا لصفات جميلة كثيرة (لأنّ مفارقةَ الدين مفارقةُ الأمن) من العذاب الأبدي. وقوله عليه السلام : (فلا يُتهنَّأُ) على صيغة المجهول من باب التفعّل (4) ، يقال: تهنَّأ بالطعام، إذا لم يكن له فيه تعب، وملخّصه أنّه لست إيمنا منه من العذاب الأبدي، فكيف نقبل ونحبّ وجودا وحياة مع أن نخاف عليه أن يعذّب أبدا.


1- .في النسخه ظبطها: «تُهضِّم».
2- .في النسخة: «صفات».
3- .القاموس المحيط، ج 3، ص 529 (حمل).
4- .في النسخة: «التفعيل».

ص: 107

خَصلةٌ من خصال الخير احتَمَلْتُه عليها ، واغتفَرْتُ فقدَ ما سِواها ، ولا أغْتفِرُ فَقْدَ عقلٍ ولا دينٍ؛ لأنَّ مفارَقةَ الدين مفارَقَةُ الأمن ، فلا يَتهنّاُ بحياة مع مَخافةٍ ، وفَقْدُ العقل فَقْدُ الحياة ، ولا يُقاسُ إلّا بالأموات» .

عليُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن موسى بن إبراهيم المحاربيّ ، عن الحسن بن موسى ، عن موسى بن عبداللّه ، عن ميمون بن عليّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال أميرالمؤمنين عليه السلام : إعجابُ المرءِ بنفسه دليلٌ على ضَعْف عقلِه» .

أبو عبداللّه العاصميّ ، عن عليّ بن الحسن ، عن عليّ بن أسباطٍ ، عن الحسن بن الجَهْم ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال : ذُكر عنده أصحابُنا وذُكر العقلُ ، قال : فقال عليه السلام : «لا يُعْبَاُ بأهل الدين ممّن لا عقْلَ له» . قلت : جُعلت فداك ، إنَّ ممّن يَصف هذا الأمر قوما لا بأسَ بهم عندنا وليستْ لهم تلك العقولُ ؟ فقال :«ليس هؤلاء ممّن خاطَبَ اللّهُ ،

وقوله عليه السلام : (وفقد العقل) أي ضعفه ونقصانه فقد حياة النفس؛ لأنّ حياة النفس كمال عقله، ولا يقاس تلك النفس إلّا بالأموات، والنفس الميّتة لا تقبل الحبّ والقبول. قوله: (وذكر العقل) أي العقل الكامل بأحد من المعاني الثلاث. وقوله عليه السلام : (لا يُعْبَأُ بأهل الدين) أي الدين الحقّ (ممّن لا عقل له) أي لا يكون عقله كاملاً بأحد من المعاني المذكورة سالفا. وفي بعض النسخ: «لا يعبأ أهل الدين» أي الدين الحقّ «بمن لا عقل له» أي بمن ليس له عقل كامل؛ لأنّ ضعفاء العقول لا يقدرون على فهم البرهان حتّى يحصل لهم اليقين، فإن أصابهم مخالف أخرجهم عمّا هم من الحقّ. وقوله: (إنّ ممّن يصف هذا الأمر) أي يصف أمر إمامتكم بالجميل؛ يعني ممّن يقول بأمر إمامتكم. وقوله: (لا بأس بهم عندنا) أي لا نرى فيهم نقصا في اعتقادهم بالفعل وأعمالهم. وقوله: (وليست لهم تلك العقول) أي العقول الكاملة بأيّ وجه من الوجوه المذكورة. وقوله عليه السلام : (ليس هؤلاء ممّن خاطب اللّه ) أي ممّن خاطبهم اللّه تعالى، ولا من الذين

ص: 108

إنَّ اللّه تعالى خلَق العقلَ ، فقال له : أقبِلْ ، فأقبَلَ، وقال له: أدبِرْ، فأدبَرَ، فقال: وعزَّتي وجَلالي ما خلقْتُ شيئا أحسَنَ منك أو أحبَّ إليَّ منك، .........

لهم كرامة وشرف عند من خاطبهم، حذف اختصارا بقرينة أنّ الكلام في مطلق العقل الكامل لا في خصوص العقل عن اللّه في الدرجة العليا الذي يختصّ بمن خاطبهم اللّه تعالى بالوحي أو التحدّث أو الإلهام والكشف كالأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، وكمن هو قريب منهم من الحكماء الإلهيّين والعلماء الربّانيّين، فالاعتناء التامّ إنّما هو بشأن الذين خاطبهم بهذا الخطاب الذي بيّنه بقوله: (إنّ اللّه خلق العقل) إلخ، أو بغير ذلك بأحد الوجوه المذكورة، وهم الذين يتّصفون بكمال العقل النظري والعملي بحسب الفطرة والكسب معا في الدرجة العُليا. ثمّ بعد هؤلاء إنّما يعبأ بشأن الذين عقولهم الكاملة أدون من عقول هؤلاء، سواء كان كمال تلك العقول بحسب الفطرة فقط، أو بحسب الكسب فقط، أو بحسبهما معا في الدرجة الدنيا. وأمّا ضعفاء العقول الذين لا يتّصفون بكمال العقل أصلاً فلا يعبأ بهم مطلقا. وقوله عليه السلام : (إنّ اللّه خلق العقل) إلخ بيان لمن خاطبهم اللّه ، وللخطاب بهم - أي خلق العاقل عن اللّه في الدرجة العليا - عبّر عنه بالمبدأ للمبالغة كقولك: زيد عدل، فقال له بالوحي أو بالتحدّث أو بالكشف والإلهام: (أقبل)، أي أقدم بمعرفتي وبجميع مأموراتي من التكاليف الشرعيّة على وجه الكمال (فأقبل) أي أقدم بجميعها على هذا الوجه (وقال له: أدبر) أي انصرف عن جميع منهيّاتي (فأدبر) أي انصرف عن جميعها بحيث لا يصدر عنه صغيرة ولا كبيرة، أو أدبِرْ عن غيري فأدْبَر، أي ترك الدنيا وتجرّد عنها بكلّيّة، و«أقبل» إليّ «فأقبل» اللّه تعالى بكلّيّته حتّى حصل له مراتب الوصول والاتّصال والفناء في اللّه . ولمّا كانت التخلية قبل التحلية فالترتيب يقتضي تقديم الإدبار على الإقبال، وكلامه عليه السلام لا يدلّ على تقدّم الإقبال على الإدبار؛ لأنّ الواو للجمعيّة ولا تفيد (1) الترتيب. وقوله: (أو أحبّ إليّ منك) ترديد من الراوي.


1- .في النسخة: «لا يفيد».

ص: 109

بك آخُذُ ، وبك اُعطي» .

عليُّ بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال:«ليس بين الإيمان والكفر إلّا قِلّةُ العقلِ» . قيل : وكيف ذاك يابن رسول اللّه ؟ قال : «إنَّ العبدَ يَرفَعُ رغبتَه إلى مخلوق ، فلو أخلَصَ نيّتَه للّه لَأتاهُ الذي يُريدُ في أسرعَ من ذلك» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن عُبيد اللّه الدهقان ، عن أحمدَ بن عمر

وقوله تعالى: (بك آخُذُ وبك اُعطي) أي بمعاداتك آخذ، واُعاقب أعداءك، وبموالاتك اُعطي واُثيب أولياءك، أو بوساطتك أنهى الناس عمّا يضرّهم، وآمرهم إلى ما ينفعهم؛ لأنّ تكليف الناس وإرشادهم إنّما هو بوساطة هؤلاء؛ فتدبّر. ثمّ يمكن تأويله بالوجوه التي أوّلنا نظائره سالفا بأن لا يجعل قوله عليه السلام : «إنّ اللّه خلق العقل» إلخ، تتمّة لسابقه، بل يكون بيانا لمطلب آخر مناسبا للمقام في الجملة، وعلى هذا فقوله عليه السلام : «ليس هؤلاء ممّن خاطب اللّه » أي كلّف اللّه ؛ يعني ليس هؤلاء ممّن خاطبهم اللّه وكلّفهم بكمال الإيمان، بل كلّفهم بالإيمان في الجملة، فالخطاب هاهنا خطاب التكليف. قوله عليه السلام : (ليس بين الإيمان) أي الإيمان الكامل (والكفر) إلّا قلّة العقل؛ لأنّها توجب (1) ضعف الإيمان، والإيمان الضعيف واسطة بين الإيمان الكامل والكفر وهو لا ينفكّ عن موجبه، فهو أيضا واسطة بينهما. وقوله: (كيف ذلك) سؤال عن الكيفيّة وعلامة قلّة العقل، أي ما علامة قلّة العقل؟ فأجاب عنه عليه السلام بقوله: (إنّ العبد) أي العبد الضعيف العقل (يَرفَعُ رغبتَه) أي مرغوبه وحاجته إلى مخلوق؛ يعني علامته رفع العبد المتّصف به حاجته إلى مخلوق، وذلك لضعف عقله؛ لأنّه (لو أخلص نيّته للّه ) ولا يرفع حاجة إلّا إليه تعالى (لآتاه) اللّه (الذي يريد) مِن حاجته (في أسرع من ذلك) أي أسرع من وقت الرفع إلى المخلوق.


1- .في النسخة: «لا يوجب».

ص: 110

الحلبيّ ، عن يحيى بن عمران ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كانَ أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : بالعقل استُخْرِجَ غورُ الحكمة ، وبالحكمة استُخْرِجَ غورُ العقل ، وبحُسْن السياسةِ يكون الأدبُ الصالح» . قال : «وكان يقول : التفكّرُ حَياةُ قلب البصير ، كما يَمشي الماشي في الظلمات بالنور بحُسن التخلّصِ وقلّة التربّصِ» .

قوله عليه السلام : (بالعقل) أي بالعقل الكامل بحسب الفطرة (استُخرِجَ غورُ الحكمة) أي دقائق علم الحكمة النظريّة والعمليّة، أو اكتسب أقصى مراتب الحكمة من استكمال قوّتي: (1) النظريّة والعمليّة بأقصى الغاية. وقوله عليه السلام : (وبالحكمة) أي بجلائل علم الحكمة، أو بالاتّصاف بالحكمة في الجملة من استكمال القوّتين في الجملة لا في غاية القصوى «استخرج غور العقل» أي اكتسب كمال العقل؛ يعني حصل له العقل الكامل بحسب الكسب. وقوله عليه السلام : (وبحسن السياسة) أي بحسن السلوك والمعاملة مع الناس (يكون الأدب الصالح) أي يحصل الخلق الصالح، أي كمال القوّة العمليّة بحصول الأخلاق والملكات المؤدّية إلى صلاح المعاش والمعاد، أو بحسن السياسة من تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع النبويّة، والنواميس الإلهيّة يحصل الأدب الصالح من تهذيب الباطن من الملكات الرديّة، ونقص الشواغل عن عالم الغيب. وقوله عليه السلام : (كما يمشي) إلخ، أي يهتدي النفس البصير ببصر العقل الكامل الفطري في ظلمات علائق الجسمانيّة وعوائق المادّيّة، أو ظلمات الحيرة والضلالة بنور التفكّر «بحسن التخلّص» عن الشبهات والمهالك وب- (قلّة التربّص) في الظلمات برفع العلائق والعوائق بالترك والتجريد إلى السعادة الأبديّة، والتشبّه بجناب الأحديّة في كمالات العلميّة والعمليّة كما يمشي الماشي في الظلمات بنور المصباح مثلاً بحسن التخلّص عن الورطات، وقلّة التربّص في الظلمات؛ يعني لا يتربّص في الظلمات بسبب النور إلّا بقدر مشيه في الطريق إلى أن يصل إلى المنزل، ولا يحصل له فيها تربّص بسبب الحيرة والضلالة؛ واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد.


1- .في النسخة: «القوّتي».

ص: 111

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن عبداللّه البزّاز ، عن محمّد بن عبدالرحمن بن حمّاد ، عن الحسن بن عمّار ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث طويل :«إنَّ أوَّلَ الأُمور ومَبدأَها وقوَّتَها وعِمارتَها - التي لا ينتفع شيء إلّا به - العقلُ الذي جعله اللّهُ زينةً لخَلْقه ونورا لهم ، فبالعقل عَرَفَ العبادُ خالقَهم ، وأنّهم مخلوقون ، وأنّه المدبّر لهم ، وأنّهم المدبَّرون ، وأنّه الباقي وهم الفانون ؛ واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه ، من سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وبأنَّ له ولهم خالقا ومدبِّرا لم يَزَلْ ولا يَزولُ ، وعَرَفوا به الحسنَ من القبيح ، وأنَّ الظلمةَ في الجهل ، وأنَّ النورَ في العلم ، فهذا ما دَلَّهم عليه العقلُ» . قيل له : فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال : «إنَّ العاقلَ لدَلالة عقله - الذي جعله اللّهُ قِوامَه وزينتَه وهدايتَه - عَلِمَ أنَّ اللّهَ هو الحقُّ ، وأنّه هو ربُّه ، وعَلِمَ أنَّ لخالقه محبّةً ، وأنَّ له كَراهِيَةً ، وأنَّ له طاعةً ، وأنَّ له معصيةً ، فلم يَجِدْ عقلَه يَدُلُّهُ على ذلك ، وعَلِمَ أنّه لا يوصَلُ إليه إلّا بالعلم وطَلَبِهِ ، وأنّه لا يَنتفِعُ بعقله إنْ لم يُصِبْ ذلك بعلمه ، فوجب على العاقل طلبُ العلمِ والأدبِ الذي لا قوام له إلّا به» .

عليُّ بن محمّد ، عن بعض أصحابه ، عن ابن أبي عمير ، عن النضر بن سُوَيْدٍ ، عن حُمْرانَ وصفوانَ بن مِهْرانَ الجمّال ، قالا : سمعنا أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«لا غِنى أخصَبُ من العقل ، ولا فَقْرَ أحطُّ من الحُمق ، ولا استظهارَ في أمرٍ بأكثرَ من المشورة فيه» . وهذا آخر كتاب العقل [ والجهل] والحمدللّه وحده وصلّى اللّه على محمّد وآله وسلّم تسليما .

ص: 112

ص: 113

كتاب فضل العلمباب فرض العلم ووجوب طلبه والحَثِّ عليه[كتاب فضل العلم]باب فرض العلم (1)قوله: (كتاب فضل العلم باب فرض العلم)كذا في كثير من النسخ، وموافق لما في النجاشي، حيث عدّ كتاب فضل العلم بعد كتاب العقل من كتب الكافي. قال: «كتاب العقل، كتاب فضل العلم» (2) . وأيضا موافق لقول المؤلّف قبيل ذلك: «هذا آخر كتاب العقل». والقول بأنّه من زيادة النسّاخ خلاف الظاهر. وفي كثير من النسخ: باب فرض العلم بلا زيادة ذكر الكتاب قبله، ويوافقها عدّ الشيخ الطوسي رحمه الله في الفهرست كتاب العقل وفضل العلم كتابا واحدا من كتب الكافي؛ حيث قال: «كتاب العقل وفضل العلم» (3) . ويؤيّدها قول المؤلّف في أوّل الكتاب (4) : «وأوّل ما أبدأ (5) به، وأفتتح به كتابي هذا كتاب العقل وفضائل العلم». لكن يمكن جعل «فضائل العلم» معطوفا على «العقل» فيكون معناه: وكتاب فضائل العلم. والأمر فيه هيّن.


1- .العنوان من هامش النسخة.
2- .رجال النجاشي، ص 377، رقم 1026.
3- .الفهرست، ص 393 - 394، رقم 603.
4- .في آخر خطبة الكتاب.
5- .في الخطبة: «أبتدئ».

ص: 114

أخبرنا محمّد بن يعقوب ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسيّ ، عن عبدالرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسولُ اللّه عليه السلام : طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مُسْلِمٍ ، ألا إنَّ اللّهَ يُحِبُّ بُغاةَ العلم» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبدالرحمن ، عن بعض أصحابه ، قال :سُئل أبوالحسن عليه السلام : هل يَسَعُ الناسَ تَرْكُ المسألة عمّا يَحتاجون إليه؟

اعلم أنّ العلم في هذا الكتاب كثيرا ما يستعمل على اليقين، وقد يستعمل على الفهم وتصوّر الأشياء على ما هي عليه، وقد يستعمل على العلم المنقسم إليهما، وقد يستعمل على ما يتناول اليقين والظنّ (1) ، وقد يستعمل على المعنى المشترك بين الثلاثة، وقد يستعمل على [ما] يتناول التقليد أيضا. قوله صلى الله عليه و آله : (طلب العلم) أي طلب علم الدين باُصوله وفروعه (فريضة)، أمّا اُصوله فاليقين بها فريضة عينيّة (لكلّ مسلم) بالدليل. وأمّا فروعه فاليقين بما يمكن تحصيل اليقين فيه منها أو الظنّ الحاصل من الأدلّة الشرعيّة بما لا يمكن تحصيل اليقين فيه منها، وكذا العلم بالأدلّة المذكورة، وبما يتوقّف عليه ذلك العلم كعلم التفسير واُصول الفقه والرجال والعربيّة والمنطق ونحوها واجب كفائي على المسلمين، وبعد حصوله لبعض سقط ذلك عن الباقين، لكن يجب عليهم وجوبا عينيا العلم بالفروع في الجملة - وإن كان تقليديا - في وقت الاحتياج، أي وقت ضرورة العمل بمقتضاه، والتقييد بالمسلم مع أنّه فريضة على غير المسلم أيضا للإشارة إلى أنّ ترك الطلب مطلقا ينافي الإسلام. وقوله عليه السلام : (إنّ اللّه يُحِبُّ بُغاةَ العلم) أي طلبة العلم النافع مطلقا سواء كان دينيا أو غير ذلك؛ ولا سيّما العلوم الإلهيّة والمعارف الحقيقيّة. قوله: (هل يَسع الناسَ تركُ المسألة عمّا يَحتاجون إليه؟) أي يجوز لهم ترك السؤال عن كيفيّة العمل بما يحتاجون إليه عمّن يصحّ العمل برأيه


1- .تكرّرت هنا في النسخة هذه العبارة: «وقد يستعمل على الفهم وتصوّر الأشياء على ما هي عليه ، وقد يستعمل على العلم المنقسم إليهما ، وقد يستعمل على ما يتناول اليقين والظنّ».

ص: 115

فقال : «لا» .

عليُّ بن محمّد وغيرُه ، عن سهل بن زياد ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، جميعا عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزةَ ، عن أبي إسحاقَ السَّبيعي ، عمّن حَدَّثَه ، قال : سمعتُ أميرَ المؤمنين عليه السلام يقول :«أيّها النّاس ، اعلَموا أنّ كمالَ الدين طلبُ العلم والعملُ به ، ألا وإنَّ طلبَ العلم أوجَبُ عليكم من طلب المال ؛ إنّ المالَ مَقسومٌ مضمونٌ لكم ، قد قَسَمَه عادلٌ بينكم ، وضَمِنَه وسَيَفي لكم ، والعلمُ مخزونٌ عند أهله ، .........

كالأئمّة عليهم السلام ، أو من نصبه الإمام بشخصه لذلك في زمان الحضور، أو المجتهدين في زمان الغيبة بأن يعملوا فيما يحتاجون إليه بأيّ نحو يشاؤون أم لا، بل يجب عليهم السؤال عنهم حتّى يظهر لهم الجائز، ويعملون فيها على وفق الشرع؟ فأجاب عنه عليه السلام باختيار الشقّ الثاني. قوله عليه السلام : (كمال الدين طلب العلم والعمل به) المراد بالعلم هاهنا المعنى المتناول لليقين والظنّ، يعني الدين إنّما يكمل بطلب اليقين فيما يمكن تحصيل اليقين فيه بالبراهين، وتحصيل الظنّ فيما لا يمكن ذلك فيه بالأدلّة الشرعيّة، والعمل بمقتضى ذلك العلم، فمن عمل تقليدا لم يكن دينه كاملاً. أو معناه أنّ كمال الدين هو الحكمة من استكمال قوّتي: (1) النظريّةِ والعمليّة بحصول العقل بالفعل، والأخلاق المؤدّية إلى صلاح المعاش والمعاد. وقوله عليه السلام : (ألا وإنّ طلب العلم) أي علم الدين بل مطلق العلم النافع. وقوله عليه السلام : (أوجَبُ عليكم) فمراده بالوجوب إمّا الوجوب الشرعي الكفائي، أو الوجوب العقلي العيني، أي أحسن وأليق بأنفسكم. والمراد بالمال الرزق لا فضول المال. وقوله: (قد قسمه عادل بينكم وضَمِنَهُ) كقوله تعالى: «وَما مِنْ دابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلّا عَلَى اللّهِ رِزْقُها» (2) . وقوله عليه السلام : (العلم) أي العلم اليقيني (مخزون عند أهله) وهم الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ومن يقرب منهم من الذين أخذوا اليقين منهم كالعلماء الربّانيّين والحكماء الإلهيّين.


1- .في النسخة: «القوّتي».
2- .هود (11): 6.

ص: 116

وقد اُمِرْتُمْ بطلبه من أهله ، فَاطلُبوهُ» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن يعقوبَ بن يزيدَ ، عن أبي عبداللّه - رجلٍ من أصحابنا - رَفَعَه قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام :«قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : طلبُ العلمِ فريضةٌ». وفي حديث آخر ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلّ مسلم ، ألا وإنَّ اللّهَ يُحِبُّ بُغاةَ العلمِ» .

عليُّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن عليّ بن أبي حمزةَ ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«تفقّهوا في الدين ؛ فإنّه من لم يَتفقَّهْ منكم في الدين فهو أعرابيٌّ ؛ إنَّ اللّه تعالى يقول في كتابه : « لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » » .

الحسين بن محمّد ، عن جعفر بن محمّد ، عن القاسم بن الربيع ، عن مفضّل بن عمر ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«عليكم بالتفقّه في دين اللّه ، ولا تكونوا أعرابا ، فإنّه من لم يَتفقَّهْ في دين اللّه لم يَنظُرِ اللّهُ إليه يوم القيامة ، ولم يُزَكِّ له عملاً» .

وقوله عليه السلام : (قد اُمرتم بطلبه من أهله) كما في قوله تعالى: «فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (1) وأهل الذكر - كما سيجيء - هم الأئمّة عليهم السلام . قوله عليه السلام : (تفقّهوا في الدين) أي تعلّموا في الدين سواء كان بنيل اليقين، أو الظنّ الحاصل عن الاجتهاد فيما يتعذّر فيه اليقين. وقوله عليه السلام : (فهو أعرابي) أي هو كالأعرابي وهو ساكن البادية من العرب، وقد ذمّهم اللّه تعالى في آيات؛ لعدم تفقّههم في الدين، كقوله تعالى: «الأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفاقا وَأَجْدَرُ أَنْ لا يَعْلَمُوا حدودَ ما أَنْزَلَ اللّهُ» (2) فمن لم يتفقّه فيه حكمه حكمه. قوله عليه السلام : (لم يَنْظُرِ اللّهُ إليه يومَ القيامة) أي لم ينل قرب الحقّ في يوم القيامة؛ فإنّ النظر كناية عن القرب وعلوّ الدرجة.


1- .النحل (16): 43؛ الأنبياء (21): 7.
2- .التوبة (9): 97.

ص: 117

محمّدُ بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن جَميل بن دَرّاج ، عن أبان بن تَغْلِبَ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«لوَدِدْتُ أنّ أصحابي ضُرِبَتْ رؤوسُهم بالسياط حتّى يَتفقّهوا».

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عمّن رواه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قال له رجل : جُعلت فداك ، رجلٌ عَرَفَ هذا الأمر ، لَزِمَ بيتَه ولم يَتعرَّفْ إلى أحد من إخوانه؟ قال : فقال :«كيف يَتفقَّهْ هذا في دينه؟» .

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماءمحمّد بن الحسن وعليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عُبيد اللّه بن عبداللّه الدهقان،عن دُرُستَ الواسطيّ،عن إبراهيمَ بن عبدالحميد،عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال :«دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله المسجدَ ، فإذا جَماعةٌ قد أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟

وقوله عليه السلام : (ولم يُزَكِّ له عملاً) من التزكية، أي الإنماء؛ يعني لم يضاعف حسناته، ولم يكن ثوابه كثيرا جزيلاً. قوله عليه السلام : (عرف هذا الأمر) أي أمر إمامة أهل البيت عليهم السلام . وقوله: (ولم يَتَعَرَّفْ إلى أحد من إخوانه) أي اعتزل الناس، ولا يعاشر إخوانه في الدين. وقوله عليه السلام : (كيف يتفقّه هذا في دينه؟) أي كيف يتعلّم في دينه؛ لأنّ تحصيل العلم إنّما يتيسّر بالمعاشرة والتعلّم عن العلماء، وذلك لا يجتمع مع التزام البيت، وعدم التعرّف إلى أحد.

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء (1)قوله صلى الله عليه و آله : (ما هذا) لم يقل: «مَن هذا» تخفيفا وإهانة له.


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 118

فقيل : علّامةٌ ، فقال : وما العلّامةُ؟ فقالوا له : أعلَمُ الناس بأنساب العرب ووقائعها ، وأيّام الجاهليّة ، والأشعار العربيَّة ، قال : فقال النبيُّ صلى الله عليه و آله : ذاك علْمٌ لا يَضرُّ مَن جَهِلَه ، ولا يَنفَعُ من عَلِمَه ؛ ثمَّ قال النبيُّ صلى الله عليه و آله : إنّما العلمُ ثلاثةٌ : آيةٌ محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنَّة قائمة ، وما خلاهنّ فهو فَضْلٌ» .

وقوله صلى الله عليه و آله : (وما العلّامة) أي بأيّ شيء تسمّونه علّامة. وقوله عليه السلام : (إنّما العلم) أي العلم النافع (ثلاثةٌ: آيةٌ محكمة) قيل (1) : أي آية من القرآن محكمة غير متشابهة ولا منسوخة. وأقول: أي علامة مفيدة، والمقصود البرهان القطعي على شيء من الأشياء، ولا سيّما في المعارف الإلهيّة، فهذا ناظر إلى الحكمة النظريّة. وقوله عليه السلام : (أو فريضةٌ) إلخ، ناظر إلى الحكمة العمليّة من الشرائع النبويّة والنواميس الإلهيّة. ولمّا كان الأخير منقسما على قسمين: أحدهما ما هو ضروري في صلاح الإنسان كالإتيان بالواجبات وترك المحرّمات، وثانيهما (2) ما هو أليق وأصلح بحاله كالإتيان بالمستحبّات وترك المكروهات، فقوله عليه السلام : (أو فريضة عادلة) - أي فريضة حقّة باقية غير منسوخة - إشارة إلى الثاني. ويحتمل أن يكون المراد بالفريضة العادلة الأحكام الخمسة الباقية المستفادة من الكتاب، والسنّة العادلة الأحكام الخمسة الغير المنسوخة المستفادة من السنّة. وقيل (3) : المراد بالفريضة العادلة ما في سهام المواريث، أي الفريضة المعدّلة في القسمة على السهام المذكورة في الكتاب والسنّة من غير جور. وقيل: ما اتّفق عليه المسلمون.


1- .القائل به الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 96.
2- .في النسخة: «ثانيها».
3- .ذكره ابن الأثير في النهاية، ج 3، ص 433 ؛ وابن منظور في لسان العرب، ج 7، ص 202 (فرض) . وذهب إليه السيّد بدر الدين العاملي في الحاشية على اُصول الكافي، ص 54 - 55. وذكره بعنوان «قيل» الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 96.

ص: 119

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن خالد ، عن أبي البَخْتريّ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«إنّ العلماءَ ورثة الأنبياء، وذاك أنَ الأنبياءَ لم يُورِثوا درهما ولا دينارا ، وإنَّما أورَثوا أحاديثَ من أحاديثهم ، فمَن أخَذَ بشيء منها فقد أخَذَ حظّا وافرا ، .........

وما ذكرناه أقرب (1) . وقوله عليه السلام : (وما خلاهنّ فهو فضل) أي زيادة لا يرتّب نفع يفيد به على حصوله، ولا ضرر على فقده وإن كان في نفسه نوع فضل، وما هذا شأنه لا ينبغي أن يشتغل به عن سائر العلوم الضروريّة المحتاج إليها. قوله عليه السلام : (إنّ العلماء ورثة الأنبياء) المراد بالعلماء الذين اقتبسوا أنوار العلوم من مشكاة النبوّة؛ يعنى لا ورثة للأنبياء من حيث النبوّة إلّا العلماء بقرينة قوله: (وذاك أنّ الأنبياء لم يُورِثوا) بتخفيف الراء المهملة من الإيراث إلى قوله: (فمن أخذ) وحاصله أنّه ليس ميراث النبوّة المال نحو الدرهم والدينار، بل العمدةُ في ميراث الأنبياء - وهو ميراثهم من حيث النبوّة - العلم، وذلك لا ينافي إيراثهم المال؛ لأنّه ليس العمدةَ، ولا من حيث النبوّة. وقوله عليه السلام : (من أحاديثهم) أي من علومهم التي حدّثوا بها، أو من أحاديثهم التي أوحى اللّه تعالى إليهم. وأتى ب- «من» التبعيضيّة؛ لأنّ من أحاديثهم أحاديثَ لم يورثوها إمّا لاختصاصها بهم أو نسخها، فمن أخذ بشيء من الأحاديث الموروثة متمسّكا به (فقد أخذ حظّا وافرا)؛ لأنّه يوجب السعادة الأبديّة، فهو خليق بأن يسمّى وارثا لا من أخذ مالهم فقط. ولمّا بيّن عليه السلام شرافة المأخوذ وفضيلته - حيث إنّه آثره خير الناس من مواريثه التي تركها لخواصّ اُمّته، ولا نجاة لعمومهم إلّا به، ولا غنى لهم عنه، وما كان هذا شأنه فينبغي أن يهتمّ به


1- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 96 . واُنظر : بحار الأنوار، ج 1، ص 211 . وذكره بعنوان «قيل» المجلسي في مرآة العقول، ج 1، ص 103؛ و ابن الأثير في النهاية، ج 3، ص 433 ؛ وابن منظور في لسان العرب، ج 7، ص 203 (فرض).

ص: 120

فانظُروا عِلْمَكم هذا عمّن تأخذونه؟ فإنَّ فينا - أهلَ البيت - في كلّ خَلَفٍ عُدولاً يَنفون عنه تحريفَ الغالين ، وانتحالَ المبطلين ، .........

ويؤخذ من مأخذه ولا يساهل فيه - فنبّه عليه السلام عليه بقوله: (فانظروا عِلْمَكم هذا) أي الأحاديث فإنّها علم الدين (عمّن تأخذونه) (1) أي لا تأخذوه عمّن لم تأخذ عن النبيّ كما ينبغي، بل بالغوا في معرفة الطريق المستقيم الموصل إليه؛ لأنّ التساهل في معرفة طريق الوصول إلى المطلوب تساهل في المطلوب. والخَلف - بفتح اللام وسكونها - : كلّ من يجيء بعد من مضى، إلّا أنّه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشرّ، يقال: خَلَفُ صدقٍ وخَلْفُ سَوءٍ، والمراد في هذا الحديث المفتوح. (والعدول) جمع عدل بمعنى عادل، وصف به للمبالغة، والعادل هاهنا هو الملتزم للطريقة الفاضلة المتوسّطة بين طرفي الإفراط والتفريط، والمراد الإمام عليه السلام . والتحريف: (2) التغيير وصرف الكلام عن وجهه. والغالين: المجاوزين الحدَّ (3) . فقوله عليه السلام : (إنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً) يعني إنّ فينا أهل البيت في كلّ قرن من القرون بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى زمان الغيبة الكبرى أئمّةً، سواء كان اثنين (4) أو أكثر؛ لأنّ القرن قد يطلق على مئة سنة؛ لقوله صلى الله عليه و آله لغلام: عِش قرنا، فعاش مئة سنة (5) ولا شكّ في وجود اثنين أو أكثر منهم عليهم السلام قبل زمان الغيبة الكبرى في كلّ قرن بهذا المعنى بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وقوله عليه السلام : (يَنفون عنه تحريفَ الغالين) ينفون عن العلم للسائلين التابعين لهم


1- .كتب في النسخة ما بين السطور شيئا لا يقرأ.
2- .هنا في النسخة زيادة لفظة «و».
3- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 97 - 98.
4- .في النسخة: «اثنان». وكذا في المورد الآتي.
5- .الفائق في غريب الحديث، ج 3، ص 79 (قرن) . وعنه في مناقب ابن شهرآشوب، ج 1، ص 101 . وعنه في بحار الأنوار، ج 18، ص 39 . وانظر أيضا: النهاية، ج 4، ص 51 (قرن)؛ لسان العرب، ج 13، ص 334 (قرن).

ص: 121

وتأويلَ الجاهلين» .

والمسترشدين بهم كالعلماء المحقّة من الفرقة الناجية تغييرَ المجاوزين الحدَّ من الذين وصل إليهم العلم والحديث، وغيّروه لأهوائهم بالزيادة، أو النقصان، أو التصحيف. والانتحال أن يدّعي لنفسه ما لغيره، كأن يدّعي الآية، أو الحديث الوارد في غيره أنّه فيه، أو يدّعي الذي لم يصل إليه العلم أنّه وصل إليه بأن يكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأسند إليه الأحاديث الموضوعة. والمبطلين الذين ضيّعوا الحقّ وأخفوه، وجاؤوا بالباطل وقرّروه. (وتأويل الجاهلين) تنزيلهم الكلام على خلاف الظاهر من المعاني الباطلة كما فعله الملاحدة مثلاً. والتأويل إنّما يصحّ ويجوز من العالم بل الراسخ في العلم. ثمّ لا يذهب عليك أنّ المراد بأخذ العلم عن الأئمّة عليهم السلام أعمّ من أن يكون بلا واسطة، أو بوساطة العدول من الرواة حتّى تنتهي السلسلة إليهم عليهم السلام ، وحينئذٍ فلا إشكال في زمان الغيبة الكبرى؛ لأنّ الطالب في هذا الزمان يتمكّن من أخذ العلم عنهم بالواسطة، وهذا القدر يكفي للنجاة، كيف لا، وأكثر الطالبين في زمان ظهورهم المتفرّقين في البلاد، بل بعض حاضري البلد أيضا - كما يظهر من تتبّع الأخبار - أخذوا العلم عنهم عليهم السلام بوساطة أصحابهم رضي اللّه عنهم مع تمكّنهم من الوصول إلى جنابهم، فإذا كان هذا كافيا في زمان الحضور، ففي زمان الغيبة بطريق أولى. نعم، ما لم يكن فيه سبيل إلى الأخذ بالواسطة عنهم في هذا الزمان كمسألة لم يصل إلينا دليلها منهم عليهم السلام بأيّ وجه من الوجوه، فالصواب التوقّف فيه وعدم المصير إلى الأخذ عن الجاهل. ويحتمل أن يكون معنى الحديث أنّ في كلّ مدّة وزمان بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى انقراض العالم - ومن جملتها مجموع زمان إمامة حسن بن عليّ العسكري ومحمّد بن الحسن عليهماالسلامإلى انقراض الدنيا - أئمّةً ينفون عن العلم لخواصّهم تحريفَ الغالين إلخ. ولا شكّ في أنّ ذلك المعنى في زمان الغيبة الكبرى أيضا متحقّق بالنسبة إلى خواصّ القائم وخدمه عليه السلام . ويحتمل أن يكون المراد بقوله: (ينفون عنه) إلخ أنّهم عليهم السلام يضبطون العلم كما هو حقّه

ص: 122

الحسينُ بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمانَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا أرادَ اللّهُ بعبد خيرا فَقَّهَه في الدين» .

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعِيّ بن عبداللّه ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال :«الكمالُ كلُّ الكمالِ : التفقّهُ في الدين ، والصبرُ على النائبة ، وتقديرُ المعيشة» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«العلماءُ اُمناءُ ، والأتقياءُ حصونٌ ، والأوصياءُ سادةٌ» .

بحيث لا يضرّه من حيث إنّه محفوظ مضبوط عندهم (تحريف الغالين) إلخ. ويحتمل أن يكون المراد بالعدول العدل الواحد عبرة عنه للمبالغة في كثرة تحقّق ذلك المعنى فيه، ولمّا كان الفعل الصادر عن واحد قد ينسب إلى الجماعة لرضاء الباقين بصدوره عنه قال: ينفون عنه، فمعنى الحديث أنّ فينا أهل البيت في كلّ زمان ومدّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى انقراض العالم عدلاً، أي إماما معصوما (1) ، ينفي عن العلم تحريف الغالين، أي يحفظ ويضبط العلم على ما هو عليه بحيث لا يتطرّق عليه - من حيث هو مضبوط عنده، محفوظ في ذهنه - فسادٌ وخلل، ولا يضرّه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. والمقصود أنّ العلم الحقّ المحفوظ من الفساد والخلل من جميع الوجوه بعد النبيّ إلى انقراض العالم إنّما يكون عند الأئمّة عليهم السلام وليس عند غيرهم، فيجب لطالب الحقّ أن يأخذه منهم سواء كان بلا واسطة أو بوساطة أو بوسائط. قوله عليه السلام : (الصبر على النائبة) [أي] ما ينزل بالإنسان من المهمّات والحوادث. وتقدير الشيء: التفكّر في تسوية أمره وتعديله، فتقدير المعيشة عبارة عن جعلها بين الإسراف والتقتير. قوله عليه السلام : (العلماء) أي الذين علومهم مقتبسة من مشكاة النبوّة (اُمناءُ) أي معتمد عليهم، موثوق بهم فيما آتاهم اللّه من فضله من المعرفة والعلم، فيحفظونه حقّ التحفّظ، ويوصلونه إلى مستحقّه (والأتقياءُ حصونٌ) لأنّ بتقواهم واجتنابهم عن المحرّمات يحصل حفظ الاُمّة


1- .في النسخة: «عدل، أي إمام معصوم».

ص: 123

وفي رواية اُخرى : «العلماءُ مَنارٌ ، والأتقياءُ حصونٌ ، والأوصياءُ سادةٌ» .

أحمدُ بن إدريس ، عن محمّد بن حسّان ، عن إدريس بن الحسن ، عن أبي إسحاقَ الكنديّ ، عن بَشير الدهّان ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«لا خيرَ فيمن لا يتفقّهُ من أصحابنا ، يا بشير ، إنّ الرجلَ منهم إذا لم يَستَغْنِ بفِقْهِهِ احْتاجَ إليهم ، فإذا احْتاجَ إليهم أدخَلوهُ في باب ضَلالتهم وهو لا يَعْلَمُ» .

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن آبائه، قال:«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لا خيرَ في العيش إلّا لرجلين:عالم مُطاع، أو مُستمع واع» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن أبي عمير ، عن سَيف بن عميرة ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :

عن نزول العذاب عليهم في الدنيا، ويدفع اللّه بهم البلاء عن غيرهم كالحِصن بالنسبة إلى المدينة. والسادة جمع السيّد وهو الرئيس المطاع الذي لم يكن لأحد الخروج من طاعته، أي الأوصياء اُمراء على العلماء والأتقياء وغيرهما، يأمرونهم بالتعلّم والحفظ والتعليم والتقوى، وباتّباع العلماء والمتّقين في اُمور الدنيا والدين، وينهونهم عمّا يضادّها. والمنار موضع النور وعَلَمُ الطريق، والمراد به المهتدى به (1) . قوله عليه السلام : (إنّ الرجل منهم) أي من أصحابنا. وقوله: (احتاج إليهم) أي إلى المخالفين في حال شدّة التقيّة، أو في موضع لا يجد أحدا من فقهاء الأصحاب ليستغني عنه (فإذا احتاج إليهم) راجعهم وعاشرهم وجالسهم، وإذا فعل كذلك أدخلوه في باب ضلالتهم (وهو لا يعلم) أي يُحَسّن الشيطان قولهم وعملهم في نظره فيميل إليهم، ويدخل في باب ضلالتهم من حيث لا يشعر (2) . قوله عليه السلام : (أو مُستمع واع) تقول: وعيتُ الحديث، إذا فهمتَه وحفظتَه.


1- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 100.
2- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 100 - 101.

ص: 124

«عالم يُنتفع بعلمه أفضَلُ من سبعين ألف عابدٍ» .

الحسينُ بن محمّد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سَعدانَ بن مسلم ، عن معاوية بن عمّار ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : رجل راوِيَةٌ لحديثكم يَبُثُّ ذلك في الناس ، ويُشَدِّدُهُ في قلوبهم وقلوب شيعتكم ، ولعلّ عابدا من شيعتكم ليسَتْ له هذه الروايةُ ، أيُّهما أفضلُ؟ قال : «الراوِيَةُ لحديثنا يَشُدُّ به قلوبَ شيعتنا أفضلُ من ألفِ عابدٍ» .

قوله عليه السلام : (رجلٌ راوِيَةٌ لحديثكم) الراوية كثير الرواية، والهاء للمبالغة. وقوله: (يَبُثُّ ذلك في الناس ويسدّده) أي ينشر حديثكم فيما بين الناس ويقرّره سديدا، أي مستقيما (في قلوبهم) أي في قلوب الناس سواء كان موافقا أو مخالفا، (و) في (قلوب شيعتكم) من عطف الخاصّ على العامّ؛ لزيادة الاهتمام. وفي بعض النسخ: «يُشَدّده» بالشين المعجمة، أي يوثقه ويجعله ثابتا محكما في قلوب الموافقين والمخالفين. وعلى النسخة الاُولى يحتمل هذا المعنى أيضا؛ لأنّ التسديد قد يراد به التوثيق، بل حمله على هذا أوفق للجواب حيث قال: (الراويةُ لحديثنا يَشُدُّ) بالشين المعجمة، أي يقوّي (به قلوبَ شيعتنا أفضلُ من ألف عابدٍ) فيه إشعار بأنّ الفضيلة باعتبار النشر بين الشيعة وإخبارهم به لا بين المخالفين؛ فإنّه ربما ينافي التقيّة. فإن قلت: لِمَ قال في هذا الحديث: «أفضل من ألف عابد» وفي الحديث السالف «أفضل من سبعين ألف عابد»؟ قلنا: للفرق بين العالم الذي ينتفع ويعمل بعلمه، وبين راوية الحديث الناشر؛ لأنّ الثاني حافظ للحديث ناقل له، ولا يلزم أن يكون عالما بما يرويه ثمّ عاملاً به، فهذا إنّما هو فضل الراوي من حيث الرواية فقط، وما ذكر في الحديث الأوّل إنّما هو فضل العالم العامل بعلمه. ويعلم من الحديثين جميعا أنّ العالم العامل أفضل من سبعين راويةً للحديث يشدّ به قلوب الشيعة. نعم، لو اجتمع الأمران في شخص اجتمع الفضلان فيه، على أنّه قد يعبّر بالألف عن الكثير، وليس المقصود به تعيين العدد (1) .


1- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 101 - 102.

ص: 125

باب أصناف الناسعليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى جميعا ، عن ابن محبوب ، عن أبي اُسامة ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاقَ السَّبيعيّ ، عمّن حدّثه ممّن يوثَقُ به ، قال : سمعتُ أميرَالمؤمنين عليه السلام يقول :«إنّ الناسَ آلوا بعدَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى ثلاثة : آلوا إلى عالِم على هُدًى من اللّه قد أغناه اللّهُ بما عَلِمَ عن عِلْم غيره،وجاهلٍ مُدَّع للعلم لا عِلْمَ له ، مُعجَبٍ بما عنده قد فَتَنَتْهُ الدنيا وفَتَنَ غيرَهُ،

باب أصناف الناس (1)قوله عليه السلام : (إنّ الناس آلوا بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى ثلاثة) إلخ أقول: يمكن حلّ هذا الحديث بوجهين: الأوّل: «إنّ الناس آلوا» أي رجعوا «بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى ثلاثة» أقسام؛ يعني صاروا ثلاثة أصناف: الصنف الأوّل: أئمّة الهدى عليهم السلام ، وإليه أشار بقوله: (عالِم على هُدىً من اللّه ) أي عالم بالمعارف الإلهيّة والعلوم الحقيقيّة والمسائل الشرعيّة الواقعيّة «على هدى من اللّه » أي مستقرّا على هدى من جانب اللّه ؛ يعني كان علمه وهبيا بتأييد من اللّه وحسن هدايته. وقوله عليه السلام : (قد أغناه اللّه بما علم) أي بما علم من اللّه (عن علم غيره) يعني ليس علمه بكسبي. والصنف الثاني: أئمّة الضلال وتوابعهم، وأشار إليه بقوله: (وجاهل مُدَّعٍ للعلم) إلى قوله: (ومتعلّم) والمراد بالجاهل إمّا مقابل العاقل الكامل، أي ناقص العقل، وإمّا من يتّصف بالمعنى المشترك بين جهلَي المركّب والبسيط، فإنّ صاحب الجهل المركّب يدّعي العلم؛ لاشتباه جهله بالعلم ولا علم له، مُعجَب بما عنده من التصوّرات الفاسدة، والتصديقات الباطلة (قد فتنته) أي أضلّته الدنيا عن الحقّ (وفتن) أي أضلّ ذلك الجاهل «غيرَه» من توابعه،


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 126

ومُتعلِّمٍ من عالِم على سبيل هُدًى من اللّه ونَجاةٍ ، ثمَّ هلكَ من ادَّعى ، وخابَ من افْتَرى» .

وصاحب الجهل البسيط يدّعي العلم بإسناده إلى نفسه بالأكاذيب والمفتريات على اللّه وعلى رسوله ونحوها ولا علم له، معجب بما عنده من الجعل والتزوير. والصنف الثالث: توابع أئمّة الهدى عليهم السلام وشيعتهم، وأشار إليه بقوله: (ومتعلّم من عالِم على سبيل هُدىً من اللّه ونجاةٍ) أي من عالم يستقرّ ذلك العالم على سبيل هدى من جانب اللّه وسبيل نجاة منه. والمراد بالتعلّم من العالم أعمّ من أن يكون متعلّما من العالم ابتداءً أو بواسطة أو بوسائط، سواء كان علمه يقينيا برهانيا أو ظنّيا، اجتهاديا أو تقليديا، حاصلاً من اتّباع صاحب أحد العلمين الأوّلين من المتعلّمين. وقوله عليه السلام : (ثمّ هلك من ادّعى، وخاب من افترى) أي بعد انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام، هلك في الآخرة بالعذاب (1) الأبدي القسم الأوّل من الصنف الثاني؛ لعمله بمقتضى جهله، وادّعائه العلمَ من اللّه لنفسه، والبقاء على ضلاله، وإضلاله للناس، وإضاعته للحقّ، وإعلائه للباطل «وخاب» وخسر؛ لقوله على اللّه من غير علم، والإفتاء في حكم اللّه من غير دليل، والافتراء على اللّه كما قال تعالى: «أَرَأيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراما وَحَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ» (2) . وإنّما خصّ القسم الأوّل - يعني أئمّة الضلالة من الصنف الثاني - بالهلاك مع اشتراك القسمين فيه؛ لأنّهم الأصل في العذاب، ولأنّ عذابهم أشدّ من عذاب متّبعهم. والثاني: أنّ الناس اتّبعوا ورجعوا في دينهم بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى ثلاثة أصناف: بعضهم اتّبعوا أئمّة الهدى عليهم السلام بلا واسطة، وإليه أشار بقوله: «آلوا إلى عالم» إلى قوله: «وجاهل». وبعضهم اتّبعوا أئمّة الضلالة، وإليه أشار بقوله: «وجاهل» أي وآلوا إلى جاهل مدّع إلخ. وبعضهم اتّبعوا علماء المحقّة من الفرقة الناجية، وإليه أشار بقوله: «ومتعلّم» أي وآلوا إلى متعلّم من عالم إلخ.


1- .في النسخة: «بعذاب».
2- .يونس (10): 59.

ص: 127

الحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أحمدَ بن عائذ ، عن أبي خديجةَ سالِمِ بن مُكْرَمٍ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«النّاسُ ثلاثَةٌ : عالمٌ ، ومتعلّمٌ ، وغُثاءٌ» .

محمّد بن يحيى ، عن عبداللّه بن محمّد ، عن عليّ بن الحَكَم ، عن العلاء بن رَزينٍ ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي حمزةَ الثمالي ، قال : قال لي أبو عبداللّه عليه السلام :«اغْدُ عالما ، أو متعلّما ، أو أحِبَّ أهلَ العلم ، ولا تكن رابعا فتَهْلِكَ بِبُغْضِهم» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن جميل ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سمعته يقولُ :«يَغدوا النّاسُ على ثلاثة أصنافٍ : عالِمٍ ، ومتعلّمٍ ، وغُثاءٍ ؛ .........

وقوله: «ثمّ هلك» إلخ إشارة إلى أنّ الفرقة الثانية هالكة؛ لهلاك أئمّتهم، وخاسرة؛ لخسرانهم، والفرقتين الباقيتين ناجيتان. قوله عليه السلام : (الناس ثلاثة: عالم) بالعلم اليقيني بالمعارف الإلهيّة والعلوم الحقيقيّة، وجميع الأحكام الشرعيّة الواقعيّة كالأئمّة عليهم السلام . (ومتعلّم) من العالم الحقيقي، سواء كان ابتداءً أو بواسطة أو بوسائط، وسواء كان علمه يقينيا فيما يجب فيه بل يممكن اليقينُ، أو ظنّيا اجتهاديا فيما لا يمكن فيه تحصيل اليقين كعلماء الشيعة، أو تقليديا فيما لا يجب فيه اليقين كعوامّهم، وسواء كان التعلّم صنعة لهم أم لا، بل يستفيدون في الجملة في بعض الأحيان عن العلماء الذين هم يتعلّمون منهم عليهم السلام كعوامّ الشيعة، وهم الذين سيعبّر عنهم آنفا (1) بمحبّ أهل العلم. وأمّا بعض العوامّ الخارج عن ذلك المعنى فإطلاق اسم الشيعة عليه مجاز ليس بشيعة حقيقة؛ لأنّه لا يحبّ أهل العلم، فلا يحبّ أهل البيت، فليس بشيعة، ووجه تخصيص العالم وتعميم المتعلّم في هذا الحديث كما فعلناه.


1- .في الحديث الآتي.

ص: 128

فنحن العلماءُ ، وشيعتُنا المتعلّمون ، وسائرُ الناس غُثاءٌ» .

قوله عليه السلام في الحديث المسطور في آخر الباب: (فنحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون وسائر الناس غثاء) والغُثاء - بضمّ الغين المعجمة وبالثاء المثلّثة والمدّ - : ما يجيء فوق السيل ممّا يحمله من الزبد والوسخ وغيره، فالمراد هاهنا أراذل الناس وسقطهم وأهل البطالة. قوله عليه السلام : (اُغدُ عالما) أي كن في كلّ صباح عالما. وليس المراد بالعالم في هذا الحديث المعنى المذكورَ في حديثي: السابق واللاحق، بل المراد به الذي اكتسب علم الدين من الأئمّة عليهم السلام ابتداءً كان أو بواسطة أو بوسائط؛ يعني اكتسب اليقين منهم فيما يمكن تحصيل اليقين فيه، واكتسب الظنّ منهم فيما لا يمكن ذلك، وهذا أحد أقسام المتعلّم المذكور في الحديثين. وقوله عليه السلام : (أو متعلّما) أي أو اُغد متعلّما من العالم بهذا المعنى. والمراد بالمتعلّم هاهنا من جعل التعلّم صفة له، وهو المعنى العرفي المعبّر عنه بطالب العلم لا المعنى اللغوي الصادق عليه، وعلى من استفاد بعض المسائل في بعض الأحيان. وقوله عليه السلام : (أو أحبّ أهل العلم) أي العالم بالمعنيين والمتعلّم جميعا، فإنّ محبّ أهل العلم محبّ للعلم، ومحبّ العلم يأخذ العلم في الجملة ووقتَ الاحتياج إلى العمل ولو كان تقليدا من أهله، وبذلك يندرج في تحت المتعلّم بالمعنى العامّ، وأيضا محبّ أهل العلم يردّد عندهم ويعاشرهم ويجالسهم، وذلك يوجب استفادته منهم أحيانا، واندراجَه في سلك المتعلّم بالمعنى المذكور، فلا ينافي ذلك تثليث القسمة في حديثي: السابق واللاحق، بل هما أشمل من هذا؛ لأنّ تلك الأقسام الثلاثة مندرجة في تحت المتعلّم المذكور فيهما. والقسم الرابع هو ما يعبّر عنه فيهما بالغُثاء، فبقي القسم الأوّل فيهما وهو العالم بالمعنى الذي يعبّر عنه عن الأئمّة عليهم السلام . وقوله عليه السلام : (ولا تكن رابعا) أي خارجا من سلسلة أهل العلم وأحبّائهم، فتهلك بالعذاب الأبدي بسب أنّ العلماء يبغضونك؛ لأنّ من لم يحبّ أهل العلم - ومن جملتهم

ص: 129

باب ثواب العالم والمتعلّممحمّدُ بن الحسن وعليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد جميعا ، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ ، عن عبداللّه بن ميمون القدّاح ؛ وعليّ بن إبراهيمَ، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن القَدّاح، عن أبيعبدللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من سَلَكَ طريقا يَطلُبُ فيه عِلْما سَلَكَ اللّه به طريقا إلى الجنّة ، وإنَّ الملائكةَ

أهل البيت عليهم السلام يبغضه العلماء، بل يبغضه اللّه ورسله والملائكة أجمعون (1) ، أو لأنّ من لم يحبّهم من حيث إنّهم أهل العلم لم يحبّ المعلّم، ومن لم يحبّ المعلّم يبغضه العلماء، وذلك يوجب هلاكه، وحينئذٍ فقوله: «يبغضهم» إضافة إلى الفاعل. أو معناه فتهلك بسبب أنّك تبغض العلماء. وهذا بناء على أنّ عدم حبّه للعلماء من حيث إنّهم علماء إنّما يكون سببَ عدم حبّ العلم؛ لحبّ الجهل الذي [هو ]صفته، وذلك يقضي لصاحبه إلى بغضهم فهلك، وحينئذٍ فقوله: «يبغضهم» إضافة إلى المفعول.

باب ثواب العالم والمتعلّم (2)قوله عليه السلام : (يغدو الناس) أي يكونون في كلّ صباح على ثلاثة أصناف، وشرح الباقي يظهر ممّا مرّ قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (من سلك طريقا يطلب فيه علما) أي علما نافعا، ولا سيّما علم الدين، والضمير للطريق أو السلوك، والجملة صفة أو حال؛ يعني تفكّر في تحقيق مسألة، أو أخذ العلم من العالم الحقيقي ابتداءً أو بواسطة أو بوسائط، أو مشى إلى أبواب العلماء للتعلّم، أو سافر للوصول إلى موضع تيسّر له فيه تحصيل العلم، أو تصفّح الكتب، أو نحو ذلك. وقوله صلى الله عليه و آله : (سلك اللّه به طريقا إلى الجنّة) أي أدخله اللّه طريقا يوصل سلوكه إلى الجنّة، أو هداه اللّه إلى الحقّ ووفّقه للخير. والمراد بوضع الجناح: خفضه، وهو عبارة عن الشفقة والرحمة والتواضع له، تعظيما لحقّه أو إعانة له في قوله تعالى


1- .في النسخة: «أجمعين».
2- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 130

لتَضَعُ أجنحتَها لطالب العلم رضا به، وإنّه يَستغفرُ لطالب العلم مَن في السماء ومَن في

«وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» (1) . وقوله عليه السلام : (رضا به) أي بطلب العلم أو بطالبه لطلبه؛ يعني لأنّه يرتضي طلب العلم، أو طالبه لطلبه، أو لإرضاء طالبه. وقوله عليه السلام : (يستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض حتّى الحوت). أقول: يعني يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض من الملائكة حتّى الملك الموكّل على الحوت في البحر، والمقصود أنّه يستغفر له جميع الملائكة: ملائكة السماوات وملائكة الأرضين حتّى الملائكة الموكّلين على الحيتان في البحار. ويحتمل أن يكون «يُستغفَر» على صيغة المجهول، ويكون لفظ «بعدد» قبل «من في السماء» مقدّرا، أي يُستغفَر لطالب العلم بعدد من في السماء إلخ؛ يعني يُستغفَر له بعدد كلّ ذي حياة، والمُستَغفر الملك. والتعبير بلفظة «مَن» - وهي لذوي العقول - لتغليب ذوي العقول على غيرهم. ويحتمل أن يقال: لمّا كان غاية وجود الجنّ والإنس المعرفةَ، أو العبادةَ المستلزمة لها - ولو لم يكن التعليم والتعلّم مطلقا - لما بقوا طرفة عين؛ لقوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ» (2) قد يقال: أي ليعرفونِ، وكان بقاء سائر الحيوانات ببركة بقاء العالمين العابدين من المكلّفين كما يظهر من الحديث، وكلّ ذي شعور سواء كان عاقلاً أم غير عاقل يريد بقاءه وصلاحَ حاله وسقوطَ ما ينجرّ إلى زواله وسوء حاله، وكلُّ ما يتوقّف عليه ذلك المطلوب يكون مرادا ومطلوبا له سواء كان مشعورا به (3) أم لا، فطلب ذلك المطلوب ورغبته وإرادته من الجنّ والإنس وسائر الحيوانات متضمّن لطلب ما يتوقّف عليه حصول ذلك المطلوب لهم من إبقاء طالب العلم وإصلاح حاله وإن كان من حيث لا يشعر، فظهر من هذا أنّ كلّ


1- .الإسراء (17): 24.
2- .الذاريات (51): 56.
3- .في مرآة العقول: + «له».

ص: 131

الأرض حتّى الحوت في البحر ، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلةَ البدر ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء ، إنَّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، ولكن ورَّثوا العلمَ ، فمَنْ أخَذَ منه أخذ بحظٍّ وافرٍ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«إنَّ الذي يُعلّم العلمَ منكم له أجرٌ مثلُ أجرِ المتعلّمِ ، وله الفضلُ عليه ، فتعلّموا العلمَ من حَمَلَةِ العلم ، وعلّموه إخوانَكم

ذي شعور من الجنّ والإنس وسائر الحيوانات يطلب المغفرة؛ يعني إصلاح الحال الحاصل من ستر الزلّات والتجاوز عن السيّئات، أو من التثبيت (1) على الصراط المستقيم المفضي إلى البقاء والنجاة لطالب العلم وإن كان طلب بعضهم بل طلب كلّهم في بعض الأوقات من حيث لا يدري. ثمّ الملائكة أيضا يستغفرون له لأمر (2) اللّه تعالى، ولحبّهم العلماء، ولإرادتهم ببقاء (3) ذلك الأنواع، فكلّ عاقل كامل من ذوي العقول - عِلْويا كان أو سِفْليا - يطلب المغفرة لطالب العلم من حيث يدري، وكلّ جاهل ناقص العقل من ذوي العقول وكلّ ما لا يعقل من ذوي الحياة يطلب المغفرة له من حيث لا يدري. (4) ويحتمل أن يكون المراد بطالب العلم المعنى اللغوي الشامل للعرفي وللأنبياء والأوصياء أيضا؛ لأنّ كلّهم يطلبون العلم من اللّه تعالى، وحينئذٍ الاستغفار هو طلب صلاح الحال بالتثبيت على الصراط المستقيم الموجب للبقاء والنجاة. وقوله: (وفضل العالم) إلخ، ظاهر. قوله عليه السلام : (إنّ الذي تعلّم العلم) أي العلم الحقّ النافع، ولا سيّما العلوم الدينيّة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام . وقوله عليه السلام : (وله أجر مثل أجر المتعلّم وله الفضل) ظاهره مساواة أجر التعليم والتعلّم


1- .في المرآة العقول: «و التثبّت».
2- .في مرآة العقول: «بأمر».
3- .في مرآة العقول: «بقاء».
4- .نقل هذه الحاشية بطولها العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول، ج 1، ص 114 بعنوان «قيل».

ص: 132

كما علّمكموه العلماءُ» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أحمدَ بن محمّد البرقي ، عن عليّ بن الحَكمَ ، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول:«مَن عَلَّمَ خيرا فله مثلُ أجر من عَمِلَ به». قلت : فإنْ علَّمَه غيرَه يَجري ذلك له؟ قال : «إن علّمه النّاسَ كلّهم جَرى له» . قلت : فإن مات؟ قال : «وإن مات» .

لكن في الرعيّة؛ لأنّ الكلام فيهم كما يدلّ عليه قوله: (منكم) وعلى هذا ففضل المعلّم على المتعلّم بحسب الرتبة والشرف؛ لأنّ المعطي والمفيض أعلى رتبة وأشرف من المعطى والمفاض. ويحتمل أن يكون المراد بيان أنّ أجر المعلّم أكثر من المتعلّم، فمعناه أنّ للمعلّم مثل ثواب المتعلّم، وله الفضل عليه في الثواب. وقوله عليه السلام : (فتعلّموا العلمَ من حَمَلَة العلم، وعَلِّمُوه إخوانَكم) تفريع على سابقه، أي فتعلّموا وعلّموا لتحوزوا ثوابهما مع فضل التعليم. وقوله: (كما علّمكموه) أي من غير زيادة ونقصان وتصرّف فيه. قوله: (قلت: فإن علّمه غيره) إلخ أي إن علّم المتعلّم ذلك الخير غيره يجري ذلك الفضل للمعلّم الأوّل؟ قال: إن علّم المعلّم الثاني ذلك الخير (الناسَ كلَّهم) ولو بوسائط كثيرة «جرى» ذلك الأجر باعتبار تعلّم كلّ أحد للمعلّم الأوّل؛ لأنّه مبدأ هذا التعليم ومنشؤه. (قلت: فإن مات) المعلّم الأوّل وعلّم الثاني الثالث والثالث الرابع وهكذا جرى ذلك الأجر باعتبار كلّ واحد من التعاليم للمعلّم الأوّل؟ (قال: وإن مات) جرى ذلك الفضل له باعتبار كلّ واحد من التعاليم. ومن هذا عُلم حال سائر المتعلّمين. ويحتمل بعيدا - كما قيل - أن يكون معناه أنّه إن علّم المعلّم ذلك الخير غير من عمل به يجري ذلك الأجر - يعني أجر من عمل به - للمعلّم. وكأنّ السامع توهّم أنّ ذلك الأجر لعلّه إنّما يحصل للمعلّم إذا عمل المتعلّم بذلك

ص: 133

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن عبدالحميد ، عن العلاء بن رزين ، عن أبي عبيدةَ الحَذَّاء ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«من عَلَّمَ بَابَ هُدًى فله مثلُ أجرِ من عَمِلَ به ، ولا يُنقَصُ اُولئك من اُجورهم شيئا ، ومَن عَلَّمَ بابَ ضَلالٍ كانَ عليه مثلُ أوزارِ من عَمِلَ به ، ولا يُنقَصُ اُولئك من أوزارهم شيئا» .

الحسين بن محمّد ، عن عليّ بن محمّد بن سَعْد ، رَفَعَه ، عن أبي حمزةَ ، عن عليّ بن الحسين عليه السلام ، قال :«لو يَعلمُ النّاسُ ما في طلب العلم لَطَلَبوه ولو بسَفْك المُهَجِ وخَوضِ اللُّجَجِ ، إنَّ اللّه - تبارك وتعالى - أوحى إلى دانيال أنَّ أمقَتَ عبيدي إليَّ الجاهلُ المستخِفُّ

الخير، وأمّا إذا لم يعمل فربّما لا يحصل ذلك الأجر له، فأجاب عنه عليه السلام بأنّه إن علّم المعلّم ذلك الخير كلّ الناس - وظاهر أنّ من جملتهم جمع لا يعملون به - جرى باعتبار تعليم كلّ واحد منهم له ذلك الأجرُ. وقوله: (قلت: فإن مات) إلخ، أي فإن مات المعلّم وعمل المتعلّم بذلك الخير بعد موته يجري له مثل أجر هذا العمل الصادر عن المتعلّم بعد فوت المعلّم (قال: وإن مات) يجري له ذلك. قوله عليه السلام : (من علّم بابَ ضلالٍ كان عليه مثلُ أوزارِ مَن عَمِلَ به) أي لأجل هذا التعليم، وليس له شيء من أوزار من عمل به، يدلّ على ذلك قوله: «ولا يُنقَصُ اُولئك من أوزارهم شيئا» فلا ينافي هذا قوله تعالى: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى» (1) . قوله عليه السلام : (لو يعلم الناس ما في طلب العلم) أي من الفضل والشرف والرتبة والثواب (لطلبوه ولو بسَفْك المُهَجِ) أي بإراقة الدماء. والمراد التعرّض للمخوفات التي يسفك فيها الدماء وهي مظنّة. والخوض: الذهاب في قعر الماء. و(اللجج) جمع لجّة بتشديد الجيم وهو معظم البحر وقوله تعالى: (إنّ أمقَتَ عبيدي) أي أبغض عبيدي (إليّ الجاهل) أي ناقص العقل، أو من لم يأخذ العلم من أهله. والمراد بأهل العلم أعمّ من الأئمّة عليهم السلام ، أو من أخذ علمه منهم ابتداءً أو بواسطة أو بوسائط.


1- .الأنعام (6): 164؛ الإسراء (17): 15؛ فاطر (35): 18؛ الزمر (39): 7.

ص: 134

بحقِّ أهل العلم ، التاركُ للاقتداء بهم ، وأنَّ أحَبَّ عبيدي إليَّ التقيُّ الطالبُ للثواب الجزيل ، اللازمُ للعلماء ، التابعُ للحلماء ، القابلُ عن الحكماء» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن سليمانَ بن داود المِنْقَريّ ، عن حفص بن غياث ، قال : قال لي أبو عبداللّه عليه السلام :«مَن تَعَلَّمَ العلمَ ، وعَمِلَ به ، وعَلَّمَ للّه ، دُعِيَ

وجعل «التقيّ» في مقابل «الجاهل»؛ لأنّ التقوى، أي الاجتناب عن المنهيّات، من آثار كمال العقل المقابل للجهل، فكلّ سوء إنّما يصدر من الإنسان بسبب جهله ونقص عقله؛ لغلبة قوّتي (1) الشهويّة والغضبيّة على عقله، ومنعهما العمل بمقتضاه، يدلّ على ذلك قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» (2) أي لمن يعمل سوءً بسبب نقصان العقل المغلوب عن القوّتين، فكلّ من يعمل سوءً إنّما يعمل بجهالة. والمرادُ بطالب الثواب الجزيل: العلمُ، من قبيل التعبير عن السبب باسم المسبّب، أو من باب المبالغة؛ يعني الطالب للعلم. والمرادُ بملازمة العلماء كثرةُ مجالستهم ومصاحبتهم والاستفادة عنهم. و(الحكماء) العقلاء، أي اُولوا العقول الكاملة في أقصى الغاية، والمراد بالحكماء العدول الآخذون بالحقّ والصواب علما وعملاً. والظاهر أنّ المراد بالحلماء هاهنا الأنبياء صلوات اللّه عليهم كما يشعر إليه لفظ «التابع»، وبالحكماء الأوصياء ومن يقرب منهم كلقمان وآصف كما يشعر إليه لفظ «القابل»، وبالعلماء المعنى الشامل لهم ولغيرهم ممّن يأخذ العلم منهم عليهم السلام . ويحتمل أن يكون المراد المعنى المختصّ بمن لا يكون قريبا منهم ويأخذ العلم منهم عليهم السلام . قوله عليه السلام : (من تعلّم العلم وعمل به وعلّم للّه ) الظرف متعلّق بكلّ واحد من الثلاثة كما صرّح به في آخر الحديث. و«الملكوت» فعلوت من الملك، بني للمبالغة كالرهبوت من الرهبة، وهو أعلى


1- .في النسخة: «القوّتي».
2- .النساء (4): 17.

ص: 135

في ملكوت السماوات عظيما ، فقيل : تَعَلَّمَ للّه ، وَعَمِلَ للّه ، وعَلَّمَ للّه » .

باب صفة العلماءمحمّد بن يحيى العطّار ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب عن معاويةَ بن وَهْب ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«اطلبوا العلمَ ، وتَزيّنوا معه بالحلم والوَقار ، وتواضَعوا لمن تُعلِّمونه العلمَ ، وتَواضَعوا لمن طلبتم منه العلمَ ، .........

مراتب[-ه] الجامعة لتوابع المُلك ولوازم السلطنة من كثرة الجنود والأتباع المسخّرين القائمين بأوامر الملك المطيعين له وكثرة آيات العظمة والجلالة، فقد يطلق ويراد به الملك وسلطانه وهو وصف للّه تعالى، وقد يطلق ويراد به آيات العظمة والجلالة وآثار الملك والسلطنة، وقد يطلق ويراد به الجنود المسخّرين. والمراد بملكوت السماوات هاهنا إمّا الآيات كما قيل، فقوله: «دعي في ملكوت السماوات عظيما» أي سمّي في الآيات السماويّة - وهي أعظم الآيات بتسميه أهل السماوات له وهم الملائكة والأرواح العلويّة - عظيما. أو المراد الجنود السماويّة وهم الملائكة والأرواح، أي يسمّى بينهم عظيما، ويذكر بالعظمة بينهم (1) .

باب صفة العلماء (2)قوله عليه السلام : (تزيّنوا معه بالحلم والوقار) الحلم هاهنا إمّا بمعنى العقل، أي كمال العقل بحسب الكسب، أو بمعنى الأناة وترك النزاع والجدال، أو بمعنى الوقار، وحينئذٍ قوله: (والوَقار) يفسّره. وقوله: (تواضعوا لمن تُعلِّمونه العلمَ، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلمَ) يعني تواضعوا


1- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 110 - 111.
2- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 136

ولا تكونوا علماءَ جبّارين فيَذْهَبَ باطلُكُم بحقِّكُمْ» .

عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن حمّاد بن عثمان ، عن الحارث بن المغيرة النصريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه عزَّ وجلَّ : « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَ-ؤُاْ » قال :«يعني بالعلماء من صَدَّقَ فعلُه قولَه ، ومن لم يُصَدِّقْ فعلُه

للمتعلّم قبل التعليم وفي حاله ليتمكّن من السؤال والبحث والفحص والاستكشاف، وتواضعوا للمعلّم بعد الفراغ من التعلّم؛ لأنّه معدّ لتعليم آخر. وقوله: (ولا تكونوا علماء جبّارين) أي متكبّرين (فيَذهَبَ باطلُكم) أي جبّاريّتكم وتكبّركم «بحقّكم» أي بعلمكم، فلا يبقى العلم عندكم، وارتحل عن قلبكم، أو بشرفكم وفضلكم بالعلم، أو بثواب تعليمكم وتعلّمكم؛ فإنّه مع التكبّر لا يبقى، شرف وفضل، ولا يتحقّق استحقاق ثواب التعليم والتعلّم. قوله عليه السلام : (يعني بالعلماء من صدّق فعلُه قولَه) أقول: المراد بمن صدّق فعله قوله مَن استكمل (1) القوّة النظريّة بحيث لا يتكلّم إلّا بالحقّ وعلى وفق علمه، واستكمل القوّة العمليّة بحيث لا يفعل إلّا على وفق علمه وطبق قوله، فيكون فعله مصدّقا لقوله. وبعبارة اُخرى - كما قيل (2) - المراد به من كان ذا علم ومعرفة ثابتة مستقرّة في قلبه استقرارا لا يغلبه معه هواه، وتلك المعرفة الثابتة الراسخة في قلبه كما تدعوه (3) إلى القول والإقرار باللسان، تدعوه إلى الفعل والعمل بالأركان، فيكون فعله مصدّقا لقوله، والعالم بهذا المعنى - وهو الحقيق بأن يسمّى باسم العالم - له خشية من ربّه؛ لأنّ الخشية تقتضي الإطاعة والانقياد قولاً وفعلاً، والجرأة على العصيان - كما يصدر عمّن [لم] يكن عالما بهذا المعنى - لا يجامع الخشية الحقيقيّة، إنّما تكون للعالم بهذا المعنى وهو العالم الكامل في علمه.


1- .في النسخة: «استكمال».
2- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 112.
3- .في النسخة: «يدعوه». وكذا في المورد الآتي.

ص: 137

قولَه فليس بعالم» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن إسماعيل بن مِهرانَ ، عن أبي سعيد القمّاط، عن الحلبيّ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«قال أميرالمؤمنين عليه السلام : ألا اُخبِرُكم بالفقيه حقّ الفقيه؟ من لم يُقَنِّطِ الناسَ من رحمة اللّه ، ولم يُؤمِنْهم من عذاب اللّه ، ولم يُرخّصْ لهم في معاصي اللّه ، ولم يَتركِ القرآنَ رغبةً عنه إلى غيره ، ألا لا خيرَ في علم ليس فيه تَفَهُّمٌ ، ألا لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبُّرٌ ، ألا لا خيرَ في عبادةٍ ليس فيها تَفكُّرٌ» .

قوله عليه السلام : (ألا اُخبركم بالفقيه حقّ الفقيه) بالجرّ بدل من «الفقيه» وحينئذٍ فما بعده خبر مبتدأ محذوف، أي هو من لم يُقنّط الناس، أو بالرفع بالابتداء، فيكون ما بعده خبره. والفقيه الحقيقي - كما يظهر من الحديث - هو العالم بالدين، العامل بعلمه على وجه نبّهه عليه السلام (ظ)، فقوله عليه السلام : (من لم يُقَنِّط) إلى قوله: (ألا لا خير في عبادة) بيان له باعتبار العلم. والمراد أنّ الفقيه الحقيقي باعتبار العلم ليس إلّا من كان متفهّما في علم الدين، مراعيا وملاحظا في كلّ مسألة جميعَ الأدلّة والآيات والأخبار الواردة فيها غير مقتصر على بعضها دون بعض، لا سيّما فيما ورد في الوعيد والوعد والعفو بملاحظة بعضها مع بعض حتّى يتبيّن له المراد منها، وهو التقريب من الطاعة والتبعيد عن المعصية، ولم يقتصر على ملاحظة البعض دون الباقي، ويعتمد على ما يفهمه بتلك الملاحظة حتّى يقنّط الناس من رحمة اللّه بمجرّد ملاحظة ما ورد في الوعيد فقط كما فعله الوعيديّة؛ فإنّ التقنيط يبعّد عن الطاعة، ويقرّب من المعصية، وذلك ضدّ المراد بما ورد في الوعيد، فمن يقنّط لم يكن في علمه تفهّم، أو يؤمنهم من عذاب اللّه بملاحظة ما ورد في الوعد فقط كما فعله أهل الأمانيّ الفارغة؛ فإنّ ذلك كالتقنيط يوجب ضدّ المراد، أو يرخّص لهم في معاصي اللّه بملاحظة ما ورد في العفو كما فعله المرجئة؛ فإنّ ذلك أيضا كأخويه يوجب ضدّ المراد، بل إنّما يحصل المراد بأن يجعلهم بين الخوف والرجاء بالجمع بين الآيات والأخبار الواردة في الوعيد والوعد والعفو. وكذا الفقيه الحقيقي باعتبار العلم ليس إلّا من أخذ بكتاب اللّه وتدبّر فيه، ولم يرغب

ص: 138

وفي رواية اُخرى : «ألا لا خيرَ في علمٍ ليس فيه تَفهُّمٌ ، ألا لا خيرَ في قراءة ليس فيها تَدَبُّرٌ ، ألا لا خيرَ في عبادةٍ لا فِقْهَ فيها ، ألا لا خيرَ في نُسُكٍ لا وَرَعَ فيه» .

عنه إلى غيره من الأحاديث لا تتمّ إلّا بمعرفة كتاب اللّه ، بل الفقيه من تمسّك بالكتاب والسنّة معا، فمن أخذ الدين من السنّة وترك الكتاب آخذ (1) له من غير مأخذه الذي يجب أن يأخذ عنه. وكذلك حال الأخباريين الذين يقولون: «لا يجوز العمل بظواهر القرآن ما لم يوافقه حديث من أهل البيت عليهم السلام » لزعمهم أنّ أحاديثهم قطعيّة السند والدلالة معا بخلاف ظواهر القرآن، فهؤلاء لا يعملون حقيقةً بالظواهر من حيث إنّها ظواهر القرآن، فوجودها وعدمها بالقياس إلى علمهم متساويان. فقوله عليه السلام : (ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم) بيان للأوّل، والمقصود أنّ التقنيط وأخويه وأمثالها إنّما ينشأ من عدم التفهّم في العلم. وقوله عليه السلام : (ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر) بيان للثاني، والمقصود أنّ ترك القرآن وعدم التمسّك به إنّما ينشأ من الاكتفاء منه بالقراءة فقط من غير تدبّر فيها؛ لأنّ المتدبّر فيه يتمسّك به البتّة. وقوله: (ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر) بيان للفقيه الحقيقي باعتبار العمل؛ يعني ليس الفقيه الحقيقي باعتبار العمل من ليس في عبادته تفكّر في عظمة معبوده وآلائه وصفاته وأفعاله، وفي أنّه تعالى ينظر إليه، فلا ينبغي الغفلة عنه وشغل الخاطر بغيره. وفي رواية اُخرى بدل قوله: «ليس فيها تفكّر»: «لا فقه فيها» أي ليس في عبادته معرفة معبوده بصفاته وأفعاله وعظمته وآلائه حاضرةً في قلبه مشاهدة له، بل الفقيه الحقيقي من يكون في تمام أوقات عبادته متذكّرا له تعالى غير غافل عنه، فالمراد من الفقرتين واحد، وإنّما الاختلاف في العبارة. وكذا قوله عليه السلام في الرواية الاُخرى: «ألا لا خير في نُسك لا ورع فيه» بيان للفقيه


1- .في النسخة: «آخذا».

ص: 139

محمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ؛ ومحمّدُ بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان النيسابوريّ جميعا ، عن صفوانَ بن يحيى ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال :«إنَّ من علامات الفقه الحلمَ والصمتَ» .

أحمد بن عبداللّه ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن بعض أصحابه ، رَفَعَه ، قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام :«لا يكونُ السَّفَهُ والغِرَّةُ في قلب العالم» .

الحقيقي باعتبار العمل. والنسك - بضمّ النون وسكون السين المهملة - : الطاعة والعبادة، وكلّ فعل يتقرّب به العبد إلى اللّه تعالى. والوَرع في الأصل الاجتناب عن المحرّمات، ثمّ استعمل للاجتناب عمّا ينبغي الاجتناب عنه، فمنه واجبٌ وهو الاجتناب عن المحرّمات، وذلك أدنى مراتب الورع يشترك فيه جميع المكلّفين، ومنه مندوبٌ وهو الاجتناب عن الشبهات والمكروهات وذلك أوسط مراتبه يشترك فيه أوساط الناس والكاملين، ومنه فضيلةٌ وهو الاجتناب عن فضول الدنيا، والاقتصار على الضروريات، وذلك أعلى مراتبه الظاهرة تختصّ بالكاملين، وأمّا المرتبة الكاملة الباطنة فهي ترك ما سوى اللّه تعالى، والانقطاع عن النفس، والفناء في التوحيد، وذلك الورع الإلهي يختصّ بالأنبياء والأولياء عليهم السلام . قوله عليه السلام : (من علامات الفقيه الحِلم والصَمت) الحِلم - بكسر الحاء المهملة - : العقل، والمراد به هاهنا كمال العقل، ويحتمل أن يكون المراد به ترك النزاع والجدال. والصمت: السكوت عمّا لا يحتاج إليه. قوله عليه السلام : (لا يكون السَفَهُ والغِرَّةُ في قلب العالم) أي العالم الكامل في العلم. والسفه: خفّة العقل. والغرّة - بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء - : الخدعة، وقد جاء بمعنى الغفلة، وكلاهما مناسب للمقام. والمراد بقلب العالم نفسه المجرّدة.

ص: 140

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن سنان ، رفعه ، قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام :«يا معشر الحواريّين ، لي إليكم حاجةٌ اقضوها لي» ، قالوا : قُضِيَتْ حاجتُك يا روح اللّه ، فقام فغَسَلَ أقدامَهم ، فقالوا : كُنّا نحن أحقَّ بهذا يا روح اللّه ، فقال : «إنَّ أحقَّ النّاس بالخدمة العالمُ ، إنّما تواضَعْتُ هكذا لكيما تَتَواضَعوا بعدي في الناس كتواضعي

قوله عليه السلام : (يا معشر الحواريّين) الحواريّين جمع الحواريّ - بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وتشديد الياء وهو الناصر أو ناصر الأنبياء من اُمّتهم، والحميم، والقصّار، ومنه الحواريّون أصحاب المسيح عليه السلام ، أي أنصاره وأحبّاؤه من اُمّته. وقيل: تأويل الحواريّين الذين اُخلِصُوا ونُقُّوا من كلّ عَيب. وقيل: إنّهم كانوا قَصّارين يحوِّرون الثياب، أي يُبَيِّضُونها (1) . أقول: سند هذا النقل غير معلوم، وليس في الكتاب المسمّى بالإنجيل عند النصارى أنّ أحدا منهم كان قصّارا، بل المذكور فيه أنّ أربعة رجال منهم كبُطرس واندراوس ويعقوب بن زبري ويوحنّا، كانت صنعتهم صيد السمك، وواحد منهم - وهو مَتّى - كان آكل الرباء، وصنعة الباقي غير مذكور [ة] فيه. وإنّما قالوا: «قُضِيَت حاجتك» على صيغة الماضي المجهول، ولم يقولوا: «نقضوا حاجتك»؛ لإفادة قرب الوقوع ورعاية الأدب. وقيل: هذه العبارة جملة إنشائيّة للدعاء (2) . وفي أكثر النسخ الصحيحة: (فغسّل أقدامهم) وذلك ملائم للفظ «الخدمة» في قوله عليه السلام : (أحقّ الناس بالخدمة أهل العلم) بخلاف ما وقع في بعض النسخ بدله: «فقبّل أقدامهم» والظاهر أنّه من تصحيفات الكُتّاب. وكون العالم أحقّ الناس بالخدمة من وجوه:


1- .النهاية، ج 1، ص 458 (حور)؛ شرح اُصول الكافي لصدر المتألّهين، ج 2، ص 132؛ الحاشية على اُصول الكافي للسيّد أحمد العلوي، ص 159؛ الشافي لملّا خليل القزويني، ص 237 (مخطوط)؛ مرآة العقول، ج 1، ص 120 - 121.
2- .قال المولى خليل القزويني في الشافي، ص 137 (مخطوط): «بصيغة المجهول للغائبة جملة دعائيّة».

ص: 141

لكم» ثمَّ قال عيسى عليه السلام : «بالتواضع تُعمر الحكمةُ لا بالتكبّر ، وكذلك في السَّهْل يَنْبُتُ الزرْعُ ، لا في الجَبَل» .

الأوّل (1) : أنّه لمّا كان العالم يقتدي به الناس في أفعاله الحسنة، وكلُّ ما فعله يشتهر ويصير دأبا مستمرّا بينهم بخلاف غيره والخدمة من الأفعال الحسنة فهو أولى وأحقّ بالخدمة من الجاهل؛ ليتّبعه الناس وصار ذلك الفعل الحسن منتشرا بينهم؛ يدلّ على ذلك قوله: «إنّما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي [في] الناس كتواضعي لكم» وذلك لا ينافي كونه أحقّ بالمخدوميّة من جهة اُخرى وهي النظر إلى مرتبة العالم والجاهل في نفسهما مع قطع النظر عن إرشاد الناس بحسن الخدمة. والثاني (2) : أنّه يجب للعالم زرع بذر الحكمة في قلوب الناس، وإرشادهم وهدايتهم إلى الحقّ، وذلك لا يؤثّر حقّ التأثير غالبا في قلوبهم القاسية، وأكبادهم الغليظة بغلبة القوّتين: الغضبيّة والشهويّة، فينبغي له أوّلاً أن يرقّق قلوبهم، ويليّن أكبادهم بالتواضع والخدمة والملاطفة، ثمّ أرشدهم وعلّمهم الحقّ حتّى يتأثّروا من كلامه وينتفعوا به، فهو أحقّ الناس بالخدمة والتواضع؛ يدلّ على ذلك قوله عليه السلام : (بالتواضع تُعمر الحكمة) إلخ. والثالث: أنّه لمّا كان المرء يتخلّى عن كثير من الرذائل - كالعجب والتكبّر والترفّع والغلبة والتسلّط ونحوها - بكسر نفسه بالخدمة والتواضع والتذلّل، وبذلك يتحلّى بكثير من الفضائل، فالعالم المستكمل لقوّتيه: النظريّة والعمليّة معا أحقّ الناس بالخدمة والتواضع والتذلّل ليستكمل به قوّته العمليّة، ويتّصف بالحكمة، و ماينطق على هذا المعنى قوله عليه السلام : «بالتواضع تُعمر الحكمةُ» إلخ.


1- .هذا الوجه ذكره الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 137 (مخطوط) ، وورد في هامش بعض نسخ الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 116.
2- .هذا الوجه ذكره في مرآة العقول، ج 1، ص 122 بعنوان «أو يقال».

ص: 142

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عليّ بن معبد ، عمّن ذكره ، عن مُعاويةَ بن وَهْب ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كان أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : يا طالب العلم ، إنَّ للعالم ثلاثَ

والرابع (1) : أنّ التواضع والتذلّل يزيّن فضل العالم وشرفه وعزّه في الدارين؛ لأنّ (2) بذلك يفيض عليه من المبدأ ما يليق به من زيادة الفضل والمنزلة والشرف، فيزيد ثوابه في الاُخرى، ويزيد عزّه ومكانته بجلب القلوب في الدنيا بخلاف الجاهل؛ لأنّه لا يكون له فضل وشرف ليزيد بتواضعه وخدمته، بل تواضعه وخدمته مناسب ولائق بذلّه، فالعالم أحقّ بالتواضع وبالخدمة منه. ونعم ما قال: تواضع ز گردن فرازان نكوستگدا گر تواضع كند خوى اوست 3 والخامس (3) : أنّ نسبة العالم إلى الناس كنسبة الراعي إلى القطيع، فكما أنّ الراعي حقيق بخدمة الغنم، وأكمل الرعاة أكثر خدمةً له (4) ، كذلك العالم حقيق بخدمة الناس بأن يصلح اُمور معادهم ومعاشهم بتعليمهم وإرشادهم إلى الحقّ، وذلك الخدمة أصعب من الخدمة العرفيّة، وأكمل العلماء أشفقهم بالناس، وكمال الشفقة يفضيه إلى الخدمة العرفيّة أيضا، فهو أحقّ الناس بالخدمة؛ لأنّه يتمشّى عنه الخدمتان (5) معا بخلاف غيره؛ فإنّه إنّما يتمشّى عنه الخدمة العرفيّة. وهذا الوجه لا يخلو عن بُعد بالنسبة إلى العبارة. قوله عليه السلام : (يا طالب العلم إنّ للعالم) أي العالم الواقعي المستكمل لقوّتيه: النظريّة والعمليّة معا. وبعبارة اُخرى، أي للعالم (6) -


1- .هذا الوجه ذكره الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 116.
2- .كذا.
3- .هذا الوجه ذكره في مرآة العقول، ج 1، ص 121 بعنوان «قيل».
4- .في المرآة: «من هو أكثر خدمة لها».
5- .في النسخة: «الخدمتين».
6- .في النسخة: «العالم».

ص: 143

علاماتٍ : العلمَ والحلمَ والصمتَ ، وللمتكلّف ثلاثَ علاماتٍ : يُنازِعُ مَن فوقَه بالمعصية ، ويَظلِمُ مَن دونَه بالغَلَبَة ، ويُظاهِرُ الظَّلَمَةَ» .

الذي استقرّ العلم في قلبه بحيث يمنعه عن هواه - ثلاث علامات، فإن رأيت فيه تلك الثلاث فاطلب العلم منه، وإلّا فلم تطلب؛ فإنّه متكلّف، أي مدّع بالأقوال والكلمات العلميّة لاستكمال القوّتين واستقرار العلم في قلبه وفي الواقع ليس بعالم. وقيل: المراد بالعلم في قوله: (العلم والحلم والصمت) المعرفة الظاهرة والتكلّم بالكلمات العلميّة؛ لأنّه من علامات العالم الواقعي باعتبار أنّه يتميّز به عن الجاهل البحت ولا يخفى وهنه؛ لأنّ المقصود امتيازه عن المتكلّف المتّصف بالمعرفة الظاهرة. والحقّ أنّ المراد به اليقين؛ لأنّه يوجب أن لا ينازع صاحبه لمن فوقه بالمعصية؛ لأنّ اليقينيات لا تعارض ولا تناقض بينها لينازع صاحبها لمن فوقه بالمعصية [ومن عليه ]إطاعته بالمعصية، فهو بذلك يتميّز عن الجاهل المتكلّف في العلم، ولا سيّما صاحب الجهل المركّب. ويحتمل أن يكون المراد به محبّة العلم بحذف المضاف للاختصار؛ لأنّها من علامات العالم الواقعي باعتبار أنّه من هذه الجهة لا ينازع من فوقه أبدا، بل يحبّ أن يستفيد منه دائما ويطيعه، بخلاف المتكلّف؛ فإنّه لمّا لم يحبّه ولا يبالي بفقده بل بحصول ضدّه من الجهل المركّب، فهو ينازع من فوقه، ومن عليه إطاعته، وعليه أخذ العلم عنه بالمعصية وترك الإطاعة، فجعْل العلم مقابلاً لقوله: (ينازع من فوقه بالمعصية) قرينةٌ واضحة على ما حملناه من المعنيين. والمراد بالحلم التحمّل عن دونه، وترك المجادلة والغلبة عليه، وإسكاته بالباطل الذي لا يقدر على حلّه، ومقابله قوله: «ويظاهر الظلمة» أي يعاونهم بالكلمات الفاسدة والفتاوى الباطلة.

ص: 144

باب حقّ العالمعليّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن محمّد بن خالد ، عن سليمان بن جعفر الجعفريّ ، عمّن ذَكَرَهُ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كان أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : إنَّ مِن حقّ العالم أن لا تُكثرَ عليه السؤالَ ، ولا تَأخُذَ بثوبه ، وإذا دَخَلْتَ عليه وعندَه قومٌ فسَلِّمْ عليهم جميعا ، وخُصَّهُ بالتحيّة دونَهم ، وَاجْلِسْ بين يديه ، ولا تَجْلِسْ خلفَه ، ولا تَغْمِزْ بعينك ، ولا تُشِرْ بيدك ، ولا تُكْثِرْ من القول : قال فلانٌ وقال فلانٌ ، خلافا لقوله ، ولا تَضْجَرْ بطول صحبته ، فإنّما مَثَلُ العالم مَثَلُ النَّخْلَةِ تَنتظرُها حتّى يَسقُطَ عليك منها شيء ، والعالمُ أعظمُ أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه » .

باب حقّ العالم (1)قوله عليه السلام : (من حقّ العالم أن لا تكثر عليه السؤال) أي لا تسأل إلّا عمّا تحتاج إليه وتحفظه وتضبطه؛ لأنّه يوجب تضييع وقته. ويحتمل أن يكون المراد بالإكثار الإكثار المتضمّن للضرر بأن تكثر ليظهر خطؤه أو عجزه. ويحتمل أن يكون الظرف متعلّقا بالسؤال، أي لا تكثر السؤال عليه من الإيراد والردّ عليه؛ لأنّ كلّاً (2) منهما وكذا الأخذ بثوبه ينافي تعظيمه وتوقيره. والمراد بالجلوس بين يديه الجلوس حيث تواجهه حتّى لا تحتاج في الخطاب والمواجهة إلى الانصراف إلى جانب السائل؛ لأنّه يخلّ بوقاره، ويوجب تشويش باله، وأيضا الجلوس بين يديه أدخل في فهم المقصود؛ فإنّ كيفيّة الأداء قد تكون قرينة على المراد. والمراد بغمز العين الإشارة بها، أو إطباقها للتصديق، والإكثارُ في نقل قول القائلين بخلاف قوله تركُ التعظيم والإجلال للعالم الذي من حقّه أن يعظّم ويبجّل (3) . وقوله عليه السلام : (والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم) أي من الصائم في نهاره والقائم في


1- .العنوان من هامش النسخة.
2- .في النسخة: «كلّ».
3- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 118.

ص: 145

باب فقد العلماءعدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن سليمانَ بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما مِن أحدٍ يموتُ من المؤمنينَ أحَبَّ إلى إبليسَ من موت فقيه» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا ماتَ المؤمنُ الفقيهُ ثُلِمَ في الإسلام ثُلمةٌ لا يَسُدُّها شيءٌ» .

ليله طول دهره؛ لأنّ الصائم إنّما يكفّ نفسه ممّا اُمر بالكفّ عنه، ولا يكفّ نفس غيره منه، والقائم إنّما يفعل ما ينفع لنفسه فقط من العبادة، والعالم يكفّ نفسه ونفوس أصحابه ومن اتّبعه وإن كان بوسائط كثيرة في أزمنة متطاولة من (1) الاعتقادات الباطلة والآراء الفاسدة بالدلائل القاطعة، ويقيم الاعتقادات الحقّة بالبراهين القطعيّة في نفسه وفي نفوسهم، ويوجب إقدام جمع كثير وجمّ غفير بحقّ الصيام والقيام ونحوهما. وكذا الغازي في سبيل اللّه يدفع طغيان أهل الكفر والضلال الذين يجاهدهم فيقاتلهم حتّى يقرّوا بالحقّ، أو يعلموا (2) بالذمّة، أو يدفع غلبتهم عن المسلمين، والعالم يدفع الشبه الموجبة للكفر والضلال والسعي في إزالتها وقلعها عن قلوبهم، فيهتدي بذلك كلّ من وصل إليه قوله، واستمعه، ونظر بعين الإنصاف إلى انقراض الدنيا؛ فلهذا صار العالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه تعالى (3) .

باب فقد العلماء (4)قوله عليه السلام : (إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة) الثلمة - بضمّ الثاء المثلّثة وسكون اللام - : فرجة المكسور والمهدوم، أي ثلم بموته في الإسلام ثلمة (لا يسدّها شيء)؛ لأنّ كلّ واحد من الفقهاء حصن للإسلام؛ فإنّه بوجودهم


1- .في النسخة: «عن».
2- .كذا و الأن: «يعلموا».
3- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 118 - 119.
4- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 146

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن أبي حمزةَ ، قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول :«إذا ماتَ المؤمنُ بَكَتْ عليه الملائكةُ

حصون كثيرة يحفظ بها، فبحدوث فقيه آخر بعد موت الأوّل لا يزول تلك الثلمه؛ لأنّ الآتي حصن آخر له، فلا يقوم مقام الزائل؛ لأنّه لو لم يمت الأوّل إلى حدوث الآخر، لكان بهما للإسلام حصنان، فبموته انهدم حصن لا يقوم مقامه شيء. قوله عليه السلام : (إذا مات المؤمن) أي المؤمن الفقيه بقرينة بعده (بكت عليه الملائكة) أي كلّ الملائكة أو الملائكة الموكّلون بالناس وبأعمالهم؛ لأنّ وجوده فيهم كان مقوّيا لعقائدهم، معينا على صدور الحسنات عنهم، موجبا لانتظام اُمور معاشهم ومعادهم جميعا، مانعا عن نزول العذاب والبلايا عليهم، وفوته يوجب الوهن في كلّ ذلك، فبكى عليه كلّ من يحبّه ويحبّ سائر الناس. والمراد بالبكاء الحزن الموجب لجري الدمع فينا سواء كان هناك مع الحزن جري دموع أم لا. وقوله عليه السلام : (وبقاعُ الأرض التي كان يعبد اللّهَ عليها) إمّا على صيغة المعلوم، أي كان يعبد هذا المؤمن الفقيه عليها، ويحتمل (1) على صيغة المجهول، أي كلّ بقعة يوقع العبادة فيه، والمراد أهل تلك البقاع من الملائكة والأرواح والجانّ والناس العابدين للّه بل سائر الناس والحيوانات أيضا من حيث لا يشعر بالمعنى الذي مرّ في بيان استغفار الحيوانات للعالم (2) . ويحتمل أن يكون المراد نفس تلك البقاع بناءً على أن يكون لكلّ شيء شعور ونفس مدركة كما ذهب إليه بعض، ويدلّ على ذلك ظاهر بعض الآيات والأحاديث كقوله تعالى في سورة بني إسرائيل: «وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (3) .


1- .كذا. والصواب ظاهرا: «وإمّا». أو زيادة «إمّا» في صدر الكلام، قال في مرآة العقول، ج 1، ص 125: «على بناء المعلوم، و ما قيل من احتمال بناء المجهول بعيد».
2- .مرّ في ص 92 - 93.
3- .الإسراء (17): 44.

ص: 147

وبقاعُ الأرض التي كانَ يَعبد اللّهَ عليها ، وأبوابُ السماء التي كانَ يُصعَدُ فيها بأعماله ، وثُلِمَ في الإسلام ثُلمَةٌ لا يَسدُّها شيء ؛ لأنَّ المؤمنين الفقهاءَ حصونُ الإسلام كحِصْن سُورِ المدينة لها» .

وعنه ، عن أحمدَ ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما من أحدٍ يَموتُ من المؤمنين أحَبَّ إلى إبليسَ من مَوْت فقيه» .

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن عليّ بن أسباط ، عن عمّه يعقوبَ بن سالم ، عن داود بن فَرْقَدٍ ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«إنّ أبي كان يقول : إنَّ اللّه - عزَّ وجلَّ - لا يَقْبِضُ العلمَ بعد ما يُهبِطُهُ ، ولكن يموتُ العالمُ فيَذْهَبُ بما يَعلَمُ ، فَتَلِيهِمُ الجُفاة ، فيَضِلّونَ

وقوله عليه السلام : (وأبواب السماء التي كان يُصعَدُ فيها بأعماله) الظرف الثاني فيه قائم مقام الفاعل. ولعلّ المراد بأبواب السماء النفس السماويّة، أو غيرها من العِلْويّات التي توصل الأعمال إلى مقرّها، وتكون (1) وسيلة لوصولها ودخولها وانضباطها فيه، أو مواضع مخصوصة من الفلك. وقوله: (حصون الإسلام) أي الحافظون له بحفظ العقائد الصحيحة والشريعة القويمة، والمانعون عنه دخول الشُبَه والأباطيل والبِدَع فيه. وقوله عليه السلام : (كحصن سور المدينة) الظرف فيه متعلّق بمحذوف يفهم من السابق، أي يحفظون الإسلام كحفظ سور المدينة لها، أي للمدينة، فالمراد بالحصن هاهنا الحفظ تعبيرا عن الحالّ بالمحلّ؛ لأنّ من شأن الحصن الحفظ. قوله عليه السلام : (إنّ اللّه عزّ وجلّ لا يَقْبِضُ العلمَ) إلخ أي لا يقبض العلم من بين الناس بعد هبوطه وإنزاله بل يبقى فيهم، ويكون فيهم دائما من يعلمه، ولكن يموت العالم الذي يقتدي به الناس «فيَذهبُ» مع علمه الذي كان له، وقام بنفسه، فبعد موته يغلب الجفاة والجهّال على العالم الآخر في إمامة الناس (فيؤمّهم الجُفاةُ) وذلك يوجب ضلالتهم.


1- .في النسخة: «و يكون».

ص: 148

ويُضِلّونَ ، ولا خيرَ في شيء ليس له أصل» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن عليّ ، عمّن ذَكَرَهُ ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«كان عليُّ بن الحسين عليهماالسلام يقول : إنّه يُسَخّي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول اللّه : « أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا »وهو ذهابُ العلماء» .

وقيل: أي لا يقبض العلم عن قلب العالم بعد ما يهبطه وينزله في قلبه بموته، ولكن يموت العالم فيذهب مع علمه القائم بنفسه، فبعد موته يؤمّ الناس الجفاة والجهّال، وذلك يوجب ضلالتهم. انتهى. والجفاة جمع الجافي وهو الغليظ اليابس الذي لا يؤثّر فيه الإصلاح والهداية إلى الحقّ. وفي بعض النسخ بدل «فيؤمّهم»: «فَتَلِيَهُم» أي تملك التصرّف في اُمورهم. وقوله عليه السلام : (لا خيرَ في شيء ليس له أصل) أي لا خير في علم ليس له مأخذ حقّ كعلم الجفاة وأئمّة الضلالة، وفيه إشارة إلى أنّ العقل لا يستقلّ بعلم الدين بل لا بدّ من أخذه من النبيّ والأئمّة عليهم السلام ابتداء أو بواسطة أو بوسائط. قوله عليه السلام : (إنّه يُسَخّي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول اللّه ) إلخ السخاوة والسخاء : الجود يقال؛ سخى يسخو وسَخِيَ بالكسر يَسخى بالفتح، قد وقع في بعض النسخ يسخى بتخفيف الخاء من باب المجرّد المؤنّث الغائب، وحينئذٍ فاعله «نفسي» و«قول اللّه » مبتدأ خبره «فينا» وجملة المبتدأ والخبر جملة استينافيّة بيانيّة، أي لأنّ فينا قول اللّه إلخ، وفي بعضها بتشديد الخاء من باب التفعيل، وحينئذٍ فاعله «قول اللّه » ومفعوله «نفسي». وقوله: «في سرعة الموت والقتل» متعلّق بقوله: «يُسخّي» وقوله: «فينا» متعلّق ب- «سرعة الموت والقتل».

ص: 149

باب مجالسة العلماء وصحبتهمعليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، رَفَعَه ، قال : قال لقمان لابنه :«يا بُنيَّ ، اخْتَرِ المجالسَ على عينك ، فإن رأيتَ قوما يذكرونَ اللّه جلَّ وعزَّ فاجْلِسْ معهم ؛ فإن تكن عالما نَفَعَكَ عِلْمُك ، وإن تكنْ جاهلاً عَلَّموكَ ، ولعلّ اللّهَ أن يُظِلَّهم برحمته فيَعُمَّك معهم ، وإذا رأيت قوما لا يذكرون اللّه فلا تَجْلِسْ معهم ، فإن تكن عالما لم يَنْفَعْكَ علمُك ، وإن كنتَ جاهلاً يزيدوك جهلاً ، ولعلَّ اللّهَ أن يُظِلّهم بعقوبة فَيَعُمَّكَ معهم» .

باب مجالسة العلماء (1)قوله: (اخْتَرِ المجالسَ على عينك) أي على بصيرة منك ومعرفة لك بحالها، ثمّ بيّن طريق معرفة خيرها من شرّها بقوله: (فإن رأيت قوما) إلخ وقوله: (يذكرون اللّه جلّ وعزّ) أي يذكرون المعارف الإلهيّة والعلوم الدينيّة. وقوله: (علمك) بدل من الضمير البارز المفعول في (نَفَعَكَ) أي نفع الجلوس معهم علمك؛ لأنّ سماعه مرّة اُخرى يوجب زيادة الحفظ، والبعدَ عن النسيان، وربما يذكر في تلك المعارف والعلوم دقائقُ ولطائفُ أنت في غفلة منها فتستفيد منهم. وقوله: «لعلّ اللّهَ أن يُظِلَّهم» أي يغشّيهم برحمته (فتعمّك الرحمة). هذا إذا كان قوله: «تعمّك» فعلاً مؤنّثا كما في بعض النسخ، وأمّا إذا كان مذكّرا كما في بعضٍ آخَرَ فمعناه: فيعمّك اللّه بالرحمة. وقوله: «لا يذكرون اللّه » أي لا يذكرون المعارف الإلهيّة، والعلوم النافعة الدينيّة، ويذكرون ما لا ينفع بل ما يضرّ لصاحبه. وقوله: (فإن تك عالما) أي بالمعارف الإلهيّة والعلوم الدينيّة (لم ينفعك علمك) أي لم ينفع الجلوس معهم علمك؛ لأنّ أقوالهم الفاسدة لا تنفع بالعلوم الحقّة، وإن تكن جاهلاً


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 150

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ ومحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى جميعا ، عن ابن محبوب ، عن دُرُسْتَ بن أبي منصور ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ، قال :«مُحادَثَةُ العالم على المزابل خيرٌ من مُحادَثَةِ الجاهل على الزرابيّ» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن شريف بن سابق ، عن الفضل بن أبي قُرَّة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قالت الحواريّونَ لعيسى : يا روحَ اللّه ، مَن نُجالِسُ؟ قال من تذكّرُكُم اللّهَ رؤيتُهُ ، ويَزيدُ في علمِكُم منطِقُهُ ، ويُرغِّبُكُمْ في الآخرة عملُه» .

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن حازم، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : مُجالَسَةُ أهل الدين شرفُ الدنيا والآخرة».

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد الأصبهانيّ ، عن سليمان بن داودَ المِنْقَريّ ، عن سفيانَ بن عُيَيْنَةَ ، عن مِسْعَرِ بن كِدامٍ ، قال :سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول :

بالمعارف الحقّة «تزيدوك (1) جهلاً» بحصول الجهل المركّب؛ لأنّ للكلام تأثيرا ووقعا في النفوس فيفسد اعتقادك. قوله عليه السلام : (على الزرابيّ) الزرابي: الوسائد والبُسُط، الواحد الزربيّ بالكسر ويضمّ. قوله عليه السلام : (مجالسة أهل الدين) أي العالم بالدين مَن مأخذه الحقّ العامل بعلمه. قوله: (عن مِسْعَر) بكسر الميم وسكون السين والراء، بينهما عين مفتوحة غير معجمات، وقد يفتح ميمه تفأّلاً: أبو سلمة الكوفي شيخ السفيانيَين: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، مات سنة ثلاث، أو خمس وخمسين بعد المئة ليس من أصحابنا. وكِدام - بالكاف المكسورة والدال المهملة - بن ظهير الهلالي.


1- .في النسخة: «لا ينفع».

ص: 151

«لَمَجْلِسٌ أجْلِسُهُ إلى مَن أثِقُ به أوْثَقُ في نفسي من عَمَلِ سَنَةٍ» .

باب سؤال العالم وتذاكرهعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سألتُه عن مَجدور أصابَتْهُ جَنابةٌ ، فغسّلوه فماتَ ، قال :«قتلوه ألّا سألوا ، فإنَّ دَواءَ العِيِّ السؤالُ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريزٍ ، عن زرارةَ ومحمّد بن مسلم وبريد العجليّ، قالوا : قال أبو عبداللّه عليه السلام لحُمْرانَ بن أعينَ في شيء سَأَلَه :«إنّما يَهْلِكُ النّاسُ لأنّهم لا يَسألونَ» .

عليُّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ، عن عبداللّه بن ميمون القدّاح ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قال :«إنَّ هذا العلمَ عليه قُفْلٌ ، ومفتاحُه المسألةُ» .

وقوله عليه السلام : (أجْلِسُه إلى من أثِقُ به) أي أجلس في ذلك المجلس مع من لا أتّقيه أصلاً (أوْثَقُ في نفسي مِن عَمَلِ سَنَةٍ) لأنّه عليه السلام كان ينشر العلوم الدينيّة عند ثقاته وهو أفضل من عمل سنة.

باب سؤال العالم (1)قوله عليه السلام : (ألّا سألوا، فإنّ دواءَ العِيِ السؤالُ) «ألّا» حرف تحضيض. والعيّ - بكسر العين المهملة وتشديد الياء - : التحيّر في الكلام والجهل، والمراد به هاهنا الجهل يعني لِمَ لَم يسألوا إذا لم يعلموا شيئا؟ فإنّ الجهل داء شديد، وشفاؤه السؤال والتعلّم من العلماء، فكلّ جاهل تعلّم يجد الشفاء. قوله عليه السلام : (إنّما يهلك الناس) أراد بالهلاك هاهنا الضلالة الموجبة للهلاك الأبدي. قوله عليه السلام : (إنّ هذا العلم) أي علم الدين (عليه قفل ومفتاحه المسألة) بيان لعدم استقلال فكر الإنسان بمعرفة


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 152

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام مثلَه .

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونس بن عبدالرحمن ، عن أبي جعفر الأحول ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«لا يَسَعُ الناسَ حتّى يَسألوا ويَتفقّهوا ويَعرفوا إمامَهم ، ويَسعُهم أن يَأخُذوا بما يقولُ وإن كان تقيّةً» .

عليٌّ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عمّن ذَكَرَه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : اُفٍّ لرجل لا يُفَرِّغُ نفسَه في كلّ جُمُعَةٍ لأمر دينه ، فيَتعاهَدَه .........

العلوم الدينيّة بدون الرجوع إلى العلماء كالأنبياء والأئمّة عليهم السلام . قوله عليه السلام : (لا يَسَعُ الناسَ حتّى يسألوا) أي يسألوا في اُصول الدين. وقوله: (يتفقّهوا) أي يتفقهّوا في فروعه. وقوله: (بما يقول) أي بما يقول الإمام عليه السلام وإن كانت المسألة التي ذكرها عليه السلام تقيّة في الواقع إذا لم يعلم العامل الآخذ به أنّه صدر عنه ذلك القول على سبيل التقيّة، أو علم ذلك وعمل بمقتضاه تقيّة. قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (اُفٍّ) - بضمّ الهمزة وكسر الفاء المشدّدة منوّنا والتنوين للتكثير، وقيل (1) : للتنكير، ويجوز حذف التنوين، ويجوز أيضا فتح الفاء مع التنوين وبدونه، ويجوز ضمّ الفاء مع التنوين وبدونه (2) - كلمةُ تَكَرُّهٍ وتَضَجُّرٍ، وأفَّفَ تأفِيفا وتَأَفَّفَ: قالها. وقيل (3) : أصل الاُفّ من وسخ الإصبع إذا غسّل ثمّ يقال: اُفّا له، أي قذرا له. وقوله: (لا يفرغ نفسه) إمّا من باب المجرّد، أي لا يقصد نفسه كلّ جمعة أمر دينه، وإمّا من المزيد، أي لا يجعل نفسه قاصدا لأمر دينه. وتعاهد الشيء: طلب ما يفقد منه وإحداث العهد به. والمراد بالفراغ لأمر الدين ترك


1- .قاله في الصحاح، ج 3، ص 1331 (أفف).
2- .قال في الصحاح، ج 3، ص 1331: «وفيه ستُّ لغات حكاها الأخفش: اُفَّ، اُفِّ، اُفُّ، اُفٍّ، اُفّا، اُفٌّ». وذكر صاحب القاموس فيها أربعين لغةً.
3- .ذكره بعنوان «قيل» في النهاية، ج 1، ص 55 (أفف).

ص: 153

ويسألَ عن دينه» . وفي روايةٍ اُخرى : «لكلّ مُسْلِمٍ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبداللّه بن سِنان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنَّ اللّهَ - عزَّ وجلَّ - يقولُ : تَذاكُرُ العلمِ بين عبادي ممّا تحيا عليه القلوبُ الميتةُ إذا هُمُ انْتَهَوْا فيه إلى أمري» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سِنان ، عن

الاشتغال بالاُمور الدنيويّة للتوجّه إلى العبادة، والاشتغال بالاُمور الدينيّة [و]الاُخرويّة لحضور الجماعة وزيارة العلماء ونحو ذلك. وقوله: (ويسأل عن دينه) بالسؤال الصريح في مجلس العلماء، أو بحضور مجلس الوعظ، أو نحو ذلك. قوله تعالى: (تَذاكُرُ العلم بين عبادي) إلخ المراد بالتذاكر المباحثة والفحص عن الحقّ حتّى ينتهي الكلام إلى الحقّ. وقوله: (ممّا يحيا عليه) أي ممّا يحيا القلوب الميّتة حال كونها ثابتة على التذاكر. ويحتمل أن يكون قوله: «يحيا» من المزيد المجهول من باب الإفعال. وذلك الحياة، أو الإحياء لحصول العلم الذي هو حياة قلب البصير لكن إنّما يكون العلم حياة القلب إذا كان علما ثابتا مستقرّا مأخوذا عن العالم الربّاني يحفظ به النفس عن متابعة الهوى ويؤدّي إلى الإطاعة والانقياد لأمره سبحانه؛ ولهذا قيّده بقوله: «إذا هم انتهوا فيه إلى أمري» أي إذا وصلوا في التذكّر إلى إطاعة أمري وانقيادي، وهذا إذا كان المراد بالأمر حكمه تعالى وتكليفه. ويحتمل أن يكون المراد بالأمر صفاته وأفعاله، أي إذا وصلوا في التذاكر إلى معرفة صفاتي وأفعالي. ويحتمل أن يكون أمره عبارةً عن الروح الذي كان مع رسول اللّه والأئمّة صلوات اللّه عليهم قال اللّه تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أَمْرِنا» (1) أي إذا وصلوا في التذاكر إلى علم


1- .الشورى (42): 52.

ص: 154

أبي الجارود ، قال : سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول :«رَحِمَ اللّهُ عبدا أحيا العلمَ» . قال : قلت : وما إحياؤه؟ قال : «أن يُذاكِرَ به أهلَ الدين وأهلَ الورع» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن عبداللّه بن محمّد الحَجّال ، عن بعض أصحابه ، رَفَعَه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :«تَذاكروا وتَلاقوا وتَحدّثوا ، فإنَّ الحديثَ

الروح المذكور، والمقصود إسناد ما يتذاكرونه من العلوم الدينيّة وانتهاء أخذه إلى الرسول والأئمّة عليهم السلام (1) . قوله عليه السلام : (رحم اللّه عبدا أحيا العلم) المراد بإحياء العلم حفظه بين الناس، سواء كان إحداثا للحفظ وتجديدا له، أو إبقاءً وتثبيتا له؛ لأنّ إبقاء ما هو في معرض الزوال إحياء له، يشهد بذلك قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيا النّاسَ جَمِيعا» (2) . وقوله: (وما إحياؤه؟) أي ما الذي يحيا به العلم. وقوله: (أن يذاكر) بكسر الكاف، والضمير للعبد، أي يذاكر العبد بالعلم مع (أهل الدين وأهل الورع) أي أهل التقوى. والتخصيص بهم لأنّ غيرهم يغيّروه غالبا ويضيّعوه (3) . قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا) قيل (4) : أمر صلى الله عليه و آله وسلم بتذاكر العلم، ولمّا لم يكن صريحا في المراد وهو التحدّث بالعلم؛ لأنّ التفاعل للتشارك في أصل الفعل، والتشارك فيما هو مقابل النسيان وهو الذُكر لا يدلّ على التحدّث والمكالمة، عقّبه بقوله: «وتلاقوا وتحدّثوا» أي بالعلم، بيانا للمراد من التذاكر، وهو أن يتحدّث ويكالم بعضهم على بعض (5) فيما يتعلّق بمعرفة الدين ومعرفة الشريعة القويمة. انتهى.


1- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 126 - 127.
2- .المائدة (5): 32.
3- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 127.
4- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 127 - 128.
5- .في المصدر: «بعضهم بعضا».

ص: 155

جِلاءٌ للقلوب ، إنَّ القلوبَ لترينُ كما يَرين السيفُ ، وجلاؤها الحديث» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن فَضالةَ بن أيّوبَ ، عن عمر بن أبان ، عن منصور الصيقل ، قال : سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول :«تَذاكُرُ العلْمِ دراسةٌ ، والدراسةُ صلاةٌ حَسنةٌ» .

أقول: الأولى أن يقال: معناه تذاكروا العلم، وباحثوا عنه حتّى ينتهي ذلك التذاكر والبحث إلى الحقّ، ويستند علمكم إلى أهل البيت عليهم السلام ، وتلاقوا بعد تحقيق الحقّ قومكم وأهلكم وطلبة العلوم الدينيّة، وتحدّثوا معهم لتعليمهم وإرشادهم إلى الحقّ، فإنّ الحديث ونقل الحقّ (جِلاء للقلوب) بكسر الجيم، أي ما يجلى به القلوب، وُصف بالمصدر مبالغةً. ويحتمل أن يكون معناه تذاكروا العلوم العقليّة، وباحثوا عنه حتّى ينتهي إلى معرفة اللّه تعالى، وتلاقوا الأئمّة عليهم السلام ، سواء كان بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط، وتحمّلوا الأحاديث والعلوم النقليّة عنهم وتحدّثوا، أي تنقلوا الأحاديث عنهم. والرَين: الدنس والوسخ، يقال: رانَت نفسه تَرِينُ رَيْنا، أي خَبُثَتْ. وقوله: (جِلاؤه الحديد) بالدال المهملة أخيرا، أي جلاء السيف الآلة المتّخذة من الحديد للجلاء. وفي بعض النسخ بالثاء المثلّثة أخيرا، وحينئذٍ مرجع الضمير القلب. قوله عليه السلام : (تَذاكُرُ العلمِ دِراسةٌ) وفي بعض النسخ: «دراسته» بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى «العلم». والدراسة: قراءة الكتاب والعلم، ومعناه أنّ تذاكر العلم بحيث يعتدّ به إنّما يكون بالدراسة إن تيسّرت؛ لأنّ بغيرها يمحو عن الخاطر سريعا فلا يعتدّ به؛ لأنّه كالعدم. أو معناه أنّ تذاكر العلم بمنزلة دراسته في الفضل والثواب إن لم يتيسّر الدراسة. وقوله عليه السلام : (والدراسة صلاة حسنة) أي دعاء مستجاب؛ لأنّه يحصل بها من السعادات الدنيويّة والاُخرويّة ما يحصل بأكمل الأدعية المستجابة وهو طلب خيرات النشأتين فهي بمنزلته.

ص: 156

باب بذل العلممحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن منصور بن حازم ، عن طلحةَ بن زيد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قرأتُ في كتاب عليّ عليه السلام : إنَّ اللّهَ لم يَأخُذْ على الجُهّال عهدا بطلب العلم حتّى أخَذَ على العلماء عهدا ببذل العلم للجُهّال ؛ لأنَّ العلمَ كان قبلَ الجهل» .

أو معناه تعظيم للّه جميل؛ لأنّ دراسة العلوم الدينيّة تعظيم ظاهري ينبئ عن تعظيم باطني. أو صلاة مفروضة في الثواب والدرجة الرفيعة وحطّ السيّئات، فالمراد بالحسنة المفروضة كما قيل في قوله تعالى: «إِنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (1) يعني الصلوات الخمس تكفّر ما بينها (2) .

باب بذل العلم (3)قوله عليه السلام : (إنّ اللّه لم يَأْخُذْ على الجهّال) إلخ يعني أنّ اللّه أخذ العهد على العلماء حتّى على ذاته تعالى ببذل العلم قبل تكليف الجهّال بطلبه؛ (لأنّ العلم كان قبل الجهل) بالزمان؛ لأنّ واجب الوجود هو العلم (4) القائم بنفسه وهو سابق بالزمان على الجهل؛ يعني عدم العلم، عمّا (5) من شأنه أن يكون عالما، وكذا خلق العالم - من مخلوقاته كالقلم واللوح 6 والملائكة المقرّبين - سابق بالزمان على خلق الجهّال، فعلمهم سابق على جهل الجهّال، وكذا خلق آدم عليه السلام - وهو خليفة اللّه في أرضه - عالم بأحكامه، مقدّم على الجهّال من أولاده، وعلمه مقدّم على جهلهم.


1- .هود (11): 114.
2- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 128.
3- .العنوان من هامش النسخة.
4- .كذا.
5- .في هامش النسخة: قد يقال: المراد بالقلم العقل الأوّل، وباللوح... فلك الأعظم (منه عفي عنه).

ص: 157

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن أبيه ، عن عبداللّه بن المغيرة ومحمّد بن سِنان ، عن طلحةَ بن زيد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في هذه الآية :« وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ » قال : «ليَكُنْ الناسُ عندك في العلم سَواءً» .

وبهذا الإسناد ، عن أبيه ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«زكاةُ العلم أن تُعلّمَه عبادَ اللّه » .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونسَ بن عبدالرحمن ، عمّن ذَكَرَه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قامَ عيسى بن مريمَ عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل ، فقال :

ويمكن حمل التقدّم على التقدّم بالذات؛ لتقدّم العالم والعلم بالذات على الجاهل والجهل؛ لتقدّمه تعالى بالذات على الجهّال من مخلوقاته. ويحتمل أن يكون المراد التقدّم بالشرف وبالرتبة؛ لأنّ العلم أشرف من الجهل، والعالم أقرب من جنابه سبحانه في الرتبة، ولا يصل العهد والتكليف منه سبحانه إلى الجاهل إلّا بوساطة العالم. والأولى أن يحمل «القبل» على ما يعمّ جميع معانيه؛ فتدبّر. قوله تعالى: «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ» (1) الصَعَر - محرّكة، والتصعّر - : ميل في الوجه، وإمالة الخدّ عن النظر إلى الناس تهاونا. وقوله عليه السلام : (ليَكُنْ الناسُ عندك في العلم سَواء) يعني المقصود منه التسوية بالنسبة إلى طلّاب العلم، فلا يميل وجهه عن أحد منهم؛ لأنّ المقصود من البعثة تبليغ الشرائع وتعليم الدين، وتصعّر الخّد مناف للمقصود الأصلي، فلذلك نهى عنه. قوله عليه السلام : (زكاة العلم أن تعلّمه عباد اللّه ) لأنّ بالتعليم يزيد ملكة المعلّم، ويخطر بباله ما لم يعلمه قبل ذلك، ويزيد ثوابه، فهو موجب لنموّ العلم وزيادة ملكته وثوابه، كما أنّ زكاة المال يوجب نموّه وبركته.


1- .لقمان (31): 18.

ص: 158

يا بني إسرائيل ، لا تُحدّثوا الجُهّالَ بالحكمة فتظلموها ، ولا تَمنعوها أهلَها فتظلموهم» .

باب النهي عن القول بغير علممحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ وعبداللّه ابنَي محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن مفضّل بن يزيد ، قال : قال لي أبو عبداللّه عليه السلام :«أنهاكَ عن خصلتين فيهما هلاك الرجال : أنهاك أن تَدينَ اللّهَ بالباطل ، وتُفتِيَ الناسَ بما لا تَعلمُ» .

قوله عليه السلام : (لا تحدّثوا الجهّال بالحكمة) المراد بالجهّال ما يقابل العقلاء، أي ضعفاء العقول، الذين لم يتمكّنوا من درك الحكمة، بل تحدُّثهم بالحكمة يوجب زيادة ضلالتهم، أو المراد بالجهّال ما يقابل العلماء، والمقصود الجهّال الذين لا يحبّون العلم، ولا يطلبونه، ولا يلتفتون إلى حديث الحكمة لو ذكر لهم. وعلى كلا التقديرين تحدّثهم بالحكمة ظلم عليها؛ لأنّه وضع شيء في غير موضعه. وقوله عليه السلام : (فتظلموهم) أي فتظلموا أهلها ومستحقّها.

باب النهي عن القول بغير علم (1)قوله عليه السلام : (أنهاك أن تدين اللّه بالباطل) إلخ يعني أنهاك أن تعبد اللّه بنحوٍ لا يكون مأخوذا ممّا يجب أن يؤخذ منه كالدلائل السمعيّة، والبراهين العقليّة المفيدة لليقين في اُصول الدين والمعارف الإلهيّة وكالكتاب والسنّة المنقولة المنتهية إلى حجج اللّه صلوات اللّه عليهم وسائر الأدلّة الشرعيّة، سواء كانت قطعيّة أو ظنّيّة في الفروع، فلا يجوز أخذ العلم من غير مأخذه الحقّ، وكذلك لا يجوز للمفتي أن يفتي الناس، أي يجيب في المسائل ويبيّنها لهم، أو يقضي بينهم بما لا يعلمه من مأخذ الحقّ، سواء كان عالما بمأخذه الحقّ، وأفتى بخلافه لهواء الدنيا؛ فإنّه قد خبط العشواء، أو لم يعلم مأخذه الحقّ أصلاً، وأفتى برأيه وبما خطر بباله؛ فإنّه قد ركب متن عمياء.


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 159

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونسَ بن عبدالرَّحمن عن عبدالرَّحمن بن الحَجّاج قال : قال لي أبو عبداللّه عليه السلام :«إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تُفِتيَ الناسَ برأيك ، أو تَدينَ بما لا تَعلَمُ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن أبي عُبيدةَ الحذّاء ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«مَن أفتى الناسَ بغير علمٍ ولا هُدًى لَعَنَتْه ملائكةُ الرَّحمة وملائكةُ العذاب ، ولَحِقَه وِزرُ من عمل بِفُتْياه» .

قوله عليه السلام : (إيّاك أن تفتيَ الناسَ برأيك) أي بما خطر ببالك من غير أخذ المفتي به من مأخذه الحقّ كالأدلّة الشرعيّة الحقّة. وقوله عليه السلام : «أو تَدينَ بما لا تعلم» بيان للخصلة الثانية، أي إيّاك وأن تعبد اللّه بما لا تعلم بثبوته بالبراهين العقليّة، والأدلّة الشرعيّة سواء كان من العقائد، أو من الأعمال. ويحتمل أن يكون معناه إيّاك وأن تتّخذ ما لم تعلم دينا، أو معناه إيّاك وأن تتّخذ الدين متلبّسا بالقول فيه بما لا تعلم، والدين اسم لجميع ما يتعبّد اللّه به والملّة. قوله عليه السلام : (من أفتى الناس بغير علم ولا هُدى) أي من اللّه تعالى «قُلْ إِنَّ الهُدى هُدَى اللّهِ» (1) والمقصود بيان أنّ العلم بما يفتي به - من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة - لا يمكن إلّا بهدى من اللّه ، بمعنى توقيف منه تعالى وبلوغ التوقيف إلى المفتي؛ لأنّ العقل لا يستقلّ (2) بمعرفتها. ويحتمل أن يكون المراد بالإفتاء القول على اللّه ، سواء كان في المعارف الإلهيّة والاُصول الدينيّة ونحوها ممّا يستقلّ العقل بمعرفته، أو في الفروع الفقهيّة التي لا يستقلّ العقل بمعرفتها، وحينئذٍ فالمراد بالعلم العلم فيما يستقلّ العقل بمعرفته، وبالهدى العلم فيما لا يستقلّ. وقوله عليه السلام : (ولَحِقَه وِزرُ مَن عمل بفُتياه) أي منضمّا إلى وزره الحاصل بفتياه؛ لأنّه أصله، ولولا إفتاء غير العالم، لراجعوا إلى العالم وأخذوا منه.


1- .آل عمران (3): 73.
2- .في النسخة: + «العقل».

ص: 160

عدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أبان الأحمر، عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال:«ما عَلِمْتم فقولوا، وما لم تَعْلَموا فقولوا : اللّه أعلم ، إنَّ الرجلَ لَيَنْتَزِعُ الآيةَ من القرآن يَخِرُّ فيها أبعدَ ما بين السماء والأرض» .

قوله عليه السلام : (ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: اللّه أعلم) المخاطب هاهنا علماء الشيعة وهم العالمون بكثير من المسائل، أو أكثرها من مآخذها الحقّة بالفعل، وببعضها بالقوّة القريبة إلى الفعل بسبب الاطّلاع على مآخذه وطريق الأخذ منها، وهم الذين يعبّر عنهم في هذه الأعصار بالمجتهدين، فإنّ هؤلاء إذا قالوا في الجواب عن السؤال بما لا يعلمونه بالفعل: «اللّه أعلم» لا يلزم منه كذب، ولا يضرّ دلالته على نحو علم له به؛ لأنّ العلم بالمآخذ وطريق الأخذ نحو علم بالمأخوذ منها، ويترتّب عليه العلم بما يؤخذ منها ولو بالقوّة القريبة من الفعل، ولأنّ اشتراك أصل العلم فيما بينهم وبين اللّه تعالى - وإن كان العلم بالمسؤول عنه مختصّا به تعالى - يوجب صدق هذا القول منهم، بخلاف العوامّ؛ فإنّه ليس لهم أن يقولوا ذلك، كما صرّح به أبو عبد اللّه عليه السلام في الحديث الذي يتلو ذلك الحديث؛ لإشعاره بادّعاء العلم بالمسؤول في الجملة، أو بادّعاء أصل العلم، وليس لهم من العلم به وبغيره شيء أصلاً، بل ينبغي لهم أن يقولوا في الجواب: «لا أدري» كما صرّح به عليه السلام في الحديث الذي سيجيء بقوله خطابا إلى عوامّ شيعته: «إذا سئل الرجل منكم عمّا لا يعلم فليقل: لا أدري ولا يقل: اللّه أعلم، فيوقع في قلب صاحبه شكّا في أنّه عالم، وإذا قال المسؤول: لا أدري، فلا يَتّهِمُه السائل» أي بأنّه عالم، فحينئذٍ لا منافاة فيما بين الأحاديث الثلاث. وقوله عليه السلام : (إنّ الرجل لَيَنْتَزِع الآيةَ من القرآن) أي يفرزها ويفصّلها منه ويأخذها ليبيّن مراد اللّه تعالى منها، ويفسّرها - كما في استدلالات أهل الأديان الباطلة ولا سيّما الملاحدة - بالآيات. وقوله عليه السلام : (يَخِرُّ فيها أبعدَ ما بين السماء والأرض) إمّا جملة حاليّة عن الضمير في «ينتزع»، أو معطوفة على «ينتزع» بتقدير العاطف، أو خبر بعد الخبر، أي يسقط في تفسير

ص: 161

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعيّ بن عبداللّه ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«للعالم إذا سُئل عن شيء وهو لا يعلمه أن يقول : اللّهُ أعلَمُ ، وليس لغير العالم أن يقولَ ذلك» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حَريز بن عبداللّه ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا سُئل الرَّجلُ منكم عمّا لا يعلم فليَقُلْ: لا أدري، ولا يقل: اللّه أعلم، فَيوقِعَ في قلب صاحبه شكّا، وإذا قال المسؤول: لا أدري، فلا يَتّهِمُه السائلُ» .

الآية على أمر باطل يكون البُعد بينه وبين مراد اللّه تعالى أبعد بُعدَ (1) بين السماء والأرض. قوله عليه السلام : (إذا سئل الرجل منكم عمّا لا يعلم) إلخ يحتمل أن يكون المراد بالرجل من الشيعة هاهنا غير العالم؛ لأنّه ليس في الكلام ما يشعر بعالميّته وهو الغالب الأكثري، فحينئذٍ معنى الحديث: أنّه ينبغي أن يقول الغير العالم في الجواب عن السؤال: (لا أدري)؛ لأنّه تصريح بعدم علمه لا يتوهّم منه كذب، ولا يقول: (اللّه أعلم)؛ لأنّه (يوقع في قلب صاحبه)، أي صاحب الرجل وهو السائل، أو صاحب السؤال (شكّا) في أنّه عالم، فكلامه مشعر بالكذب (وإذا قال المسؤول: لا أدري، فلا يَتّهِمُه السائلُ) بالعلم الذي ليس فيه، فليس في كلامه ما يشعر بالكذب أصلاً. ويحتمل أن يكون المراد بالرجل ما يعمّ من العالم وغيره، والمقصود أنّ قول: «واللّه أعلم» يحتمل الاشتراك في أصل العلم بالمسؤول عنه، فربما توهّم السائل أنّه عالم بالمسؤول عنه، ومعرض عن الجواب لعلّة، بخلاف «لا أدري» فإنّه ليس فيه هذا التوهّم، فلا يتّهم السائل المجيب إذا قاله في جوابه. وعلى هذا فحاصل الأحاديث أنّه لا ينبغي لغير العالم أن يقول في الجواب عن السؤال عمّا لا يعلم: اللّه أعلم، بل ينبغي له أن يقول: لا أدري، والنهي تنزيهي. وأمّا العالم فيجوز له أن يقول في الجواب عنه ذلك القول، وليس فيه كراهية بالنسبة إليه،


1- .كذا.

ص: 162

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن عليّ بن أسباط ، عن جعفر بن سماعة، عن غير واحد ، عن أبان ، عن زرارة بن أعيَن ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام : ما حقُّ اللّهِ على العباد؟ قال :«أن يقولوا ما يعلمون ، ويَقِفوا عند ما لا يعلمونَ» .

لكنّ الأولى أن يقول هو أيضا: لا أدري؛ لأنّ فيه شائبةَ شكّ وتهمة. ثمّ لا يخفى عليك أنّه إذا قال غير العالم في الجواب: اللّه أعلم، يتوهّم من كلامه كذبان: أحدهما أنّه من العلماء. وثانيهما أنّه عالم بخصوص أصل المسألة ومعرض عن الجواب لعلّة، بخلاف العالم؛ فإنّه إذا قال ذلك لا يتوهّم من كلامه إلّا ما يشبه بالكذب باعتبار الأخير. وإنّما قلنا: «ما يشبه بالكذب» لما عرفت أنّ ذلك الإشعار ليس بكذب حقيقةً؛ لأنّ العلم بالمأخذ نحو علم بالمأخوذ؛ فلذا يكره ذلك القول من غير العالم، ويجوز من العالم، والأولى منه لا أدري. قوله: (ما حقُّ اللّه على العباد؟) يعني فيما بين التكاليف ما هو أحقّ بأن يطلق عليه اسم حقّ اللّه على العباد؟ والحقّ هاهنا واحد الحقوق وهو عبارة عن الواجب الثابت الذي يصلح أن يطلب صاحبه عمّن عليه. وقوله عليه السلام : (أن يقولوا ما يعلمون) إلخ، أي الأحقّ بأن يطلق عليه هذا الاسم اقتصار القول بما يعلمون، سواء كان جوابا عن سؤال أم لا، والوقوف عند ما لا يعلمون بأن لا يتعرّضونه نفيا وإثباتا، ولا سيّما في المسائل الدينيّة والأحكام الشرعيّة؛ لأنّ القول في العلوم الدينيّة عند عدم العلم قول على اللّه بغير الحقّ؛ لأنّ القول دالّ على اعتقاد القائل وعلمه بالمقول، وكلّ قول في العلوم الدينيّة قول على اللّه ، فالقول فيها من غير العالم قول على اللّه بغير الحقّ إمّا من جهة عدم مطابقته للواقع، وإمّا من جهة عدم معلوميّته وإن طابق الواقع اتّفاقا، وذلك منهيّ عنه؛ لقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلّا الحَقَّ» (1) أي الثابت الواقع.


1- .الأعراف (7): 105.

ص: 163

عليُّ بن ابراهيمَ ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن يونس [ بن عبدالرحمن ] ، عن أبي يعقوب إسحاقَ بن عبداللّه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال :«إنَّ اللّهَ خَصَّ عبادَه بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا حتّى يعلَموا ، ولا يَرُدُّوا ما لم يعلَموا ، وقال عزّ وجلّ : « أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَ-قُ الْكِتَ-بِ أَن لَايَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَا الْحَقَّ »وقال : « بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِى وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُو »» .

قوله: (إنّ اللّه حضَّ عباده بآيتين من كتابه) الحضّ - بالمعجمة بعد المهملة - : الحثّ، أي حثّ «عباده بآيتين من كتابه» على (أن لا يقولوا) قبل العلم (ولا يردّوا) إلّا بعد العلم، فلفظة «على» في قوله: «أن لا يقولوا» مقدّر. ويحتمل أن يكون لفظة «أن» في قوله: «أن لا يقولوا» حرف التفسير، ويكون قوله: «أن لا يقولوا» تفسيرا لحثّه تعالى؛ لأنّ حثّه يكون بالقول من قبيل قوله تعالى: «وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيم» (1) ف- «لا» في الموضعين للنهي، وعلى الأوّل للنفي. وفي بعض النسخ: «خصّ» بالمهملة بعد المعجمة، وحينئذٍ «أن» للتفسير المخصوص؛ لأنّ فيه معنى القول، أي لم يرخّص لهم التجاوز عنهما إلى غيرهما من مخصّص ونحوه؛ إذ لا تخصيص ولا تأويل فيهما. ويحتمل أن يراد بالخصوص الجنس والحصر، فالباء ليس صلة له بل هي للسببيّة. ويحتمل أن يكون معناه خصّ عباده، أي هذه الاُمّة، والتعبير عنهم بوصف العبوديّة مضافا إليه سبحانه وتعالى لتشريفهم وتعظيمهم من بين الاُمم. وقوله تعالى في سورة الأعراف: «أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلّا الحَقَّ» (2) أي إلّا الثابت الواقع، فلمّا نهاهم عن القول على اللّه ، واستثنى منه الثابت الواقع، فلا يجوز لهم أن يقولوا عليه إلّا بما علموا واعتقدوا أنّه داخل في المستثنى، فقولهم على اللّه قبل العلم واعتقادِ الحقّيّة إتيان بالمنهيّ عنه. وقوله عليه السلام : (وقال) أي قال في سورة يونس، وهذه الآية صريحة في النهي عن ردّ ما


1- .الصافّات (37): 104.
2- .الأعراف (7): 169.

ص: 164

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن داودَ بن فَرقَدٍ ، عمّن حدَّثه ، عن ابن شُبْرُمَةَ ، قال : ما ذكرتُ حديثا سمعتُهُ عن جعفر بن محمّد عليه السلام إلّا كاد أن يَتصدَّعَ قلبي ، قال :«حدَّثني أبي ، عن جدّي ، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله » . قال ابنُ شُبْرُمَةَ : واُقسِمُ باللّه ما كذب أبوه على جدّه ،ولا جدُّه على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من عمل بالمقاييس فقد هَلكَ وأهْلَكَ ، ومن أفتى الناسَ بغير علم وهو لا يعلم الناسخَ من المنسوخ والمحكمَ من المتشابه فقد هَلَكَ وأهلَكَ» .

باب من عَمِلَ بغير علمعدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن محمّد بن سِنان ، عن طلحة بن زيد ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«العاملُ على غير بصيرة

لا يعلم، والتكذيب به. قوله: (عن ابن شُبْرُمَة) بضمّ الشين المعجمة وسكون الباء الموحّدة وضمّ الراء المهملة. يقال: صدعه كمنعه أي شقّه. والمقاييس جمع مقياس وهو ما يقاس به شيء على شيء في حكمه من الوصف الجامع الذي يظنّ أنّه علّة الحكم. وقوله عليه السلام : (فقد هلك وأهلك) أي ضلّ وأضلّ. وقوله عليه السلام : (ومن أفتى الناس) إلخ يعني من أفتى الناس بمجرّد ملاحظة ظاهر القرآن أو الحديث وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ ولا يعلم المحكم، يعني ما ليس له تأويل أو تخصيص، فقد ضلّ وأضلّ.

باب من عمل بغير علم (1)قوله عليه السلام : (العامل على غير بصيرة) إلخ يعني مَن أتى بشيء من الأفعال أو التروك بغير علمٍ بجوازه شرعا، أو بغير علم بأنّه


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 165

كالسائر على غير الطريق ، لا يزيده سرعةُ السير إلّا بُعدا» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سِنان ، عن ابن مُسكان، عن حسين الصيقل ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«لا يَقبلُ اللّهُ عملاً إلّا بمعرفة ، ولا معرفةً إلّا بعمل ، .........

مندرج في تحت أيّ حكم من الأحكام الخمسة من الوجوب (1) والمندوب والحرام والمكروه والمباح، أو بغير علم بأنّ الصورة المأتيّ بها مطابقة لمطلوبه تعالى كمن صلّى بهيئة في زمان ومكان ونيّة وشرائط لا يعلم أنّ تلك الاُمور مطابقة لما أمر به الشارع أم لا، وعلى أيّ تقدير فالمراد بالعلم هاهنا ما يعمّ من القطعي والظنّي المتناول لعلم المجتهد والمقلّد. ويحتمل أن يكون معناه أنّ العامل بجميع الفروع المتعبّد المبالغ في العمل على غير بصيرة وعلم قطعي بالاُصول والمعارف الإلهيّة كالمجسّمة والنواصب ومن يحذو حذوهما (كالسائر على غير الطريق لا يزيده كثرة السير) وفي بعض النسخ بدله: «سرعة السير» (إلّا بُعدا) أي بعدا عن المقصود، أو عن الطريق. قوله: (عن ابن مُسكان) بضمّ الميم وإسكان السين المهملة. وقوله عليه السلام : (لا يقبلُ اللّهُ عملاً إلّا بمعرفة) أي لا يقبل اللّه تعالى عملاً صالحا - سواء كان إقرارا باللسان أو عملاً بالأركان، فعلاً كان كالإتيان بالواجبات والمندوبات، أو كفّا كترك المحرّمات والمكروهات - إلّا بمعرفة اللّه تعالى ومعرفة النبيّ والأئمّة عليهم السلام وسائر اُصول الدين معرفة يقينيّة على اختلاف مراتب العقول وطبقات النفوس. و«لا» في قوله: (ولا معرفة إلّا بعمل) لنفي الجنس، و«معرفة» مبنيّ على الفتح، أي لا يتحقّق كمال المعرفة إلّا بعمل؛ لأنّ العمل يوجب رسوخ المعرفة وملكتها، وكلّما ازداد العمل ازدادت ملكتها، وبه يفتح أبواب المعارف، ويكشف دقائق العلوم وأسرار الأحكام،


1- .في النسخة: «الواجب».

ص: 166

فمن عرف دَلَّتْه المعرفةُ على العمل ، ومن لم يَعْمَلْ فلا معرفةَ له ، ألا إنَّ الإيمانَ بعضُه من بعض» .

عنه ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عمّن رواه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :

وترك العمل يوجب نسيانها وضعفها وطريان الشبه والشكوك عليها؛ أعاذنا اللّه تعالى منها. وقوله: (فمن عرف دَلَّته المعرفةُ على العمل) يعني من حصل له المعرفة اليقينيّة بالمبدأ والمعاد والحجج، وبظاهرها من الاُصول دلّته المعرفة على العمل بحيث يتعسّر عليه التخلّف عن مقتضاها غايةَ التعسّر، وذلك ضروري لمن كان له ذهن مستقيم. وقوله: (ومن لم يَعْمَلْ فلا معرفةَ له) يعني عدم العمل دليل على عدم معرفة صاحبه؛ لما عرفت من أنّ المعرفة اليقينيّة دلّت وألجأت صاحبها على العمل، فمن لم يعمل ليس له معرفة يقينيّة للمبدأ والمعاد، كما ينبغي ويليق. أو معناه ومن لم يعمل فليس له معرفة كاملة بالاُصول؛ لما عرفت من أنّ العمل يوجب رسوخ المعرفة وملكتها، وعدمه يوجب ضعفها ونسيانها. وقوله: (ألا إنّ الإيمان بعضه من بعض) يعني بعضه وهو العمل في الجملة، - وهو ما يتحقّق في ضمن الإقرار باللسان على وجه يقبله اللّه تعالى - ناشٍ من بعض وهو المعرفة اليقينيّة بالاُصول. أو معناه أنّ الإيمان الكامل بعضه وهو العمل - سواء كان باللسان أو بالأركان، فعلاً كان أو كفّا؛ لأنّ العمل بالأركان من كمال الدين - ناشٍ من بعض وهو المعرفة اليقينيّة، هذا. ويحتمل أن يكون المراد بالمعرفة في الحديث العلمَ بالفروع قطعيا كان أو ظنّيا، سواء كان بطريق الاجتهاد، أو بطريق التقليد، وحينئذٍ معناه أنّه لا يقبل اللّه عملاً شرعيا - فعلاً كان أو كفّا - إلّا بمعرفة العلم المتعلّق بهذا العمل المأخوذ من مآخذه الحقّة من كمّياته وكيفيّاته وشرائطه وموانعه وغير ذلك من الاُمور المعتبرة في صحّته شرعا، ولا يتحقّق كمال تلك المعرفة إلّا بعمل؛ لأنّه لمزاولة العمل مدخل عظيم في بقاء العلم المتعلّق به، ولا سيّما في رسوخه وملكته، فمن لم يعمل يزول عنه ذلك العلم سريعا، فمن عرف العلم المتعلّق به،

ص: 167

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : مَن عَمِلَ على غير علم كانَ ما يفسِدُ أكثرَ ممّا يُصلِحُ» .

باب استعمال العلممحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن حمّاد بن عيسى ، عن عُمَرَ بن اُذينةَ ، عن أبان بن أبي عَيّاش ، عن سُلَيْم بن قيس الهلاليّ ، قال : سمعتُ أميرَ المؤمنين عليه السلام يُحدِّثُ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال في كلام له :«العلماءُ رجلان :

ولا سيّما في رسوخه وملكته، فمن لم يعمل على الوجه المطلوب للشارع فلا يبقى له (1) معرفة متعلّقة به «الا إنّ الإيمان»، أي الإيمان الكامل، بعضه - وهو صحّة العمل بالأركان - ناشٍ من بعض وهو العلوم الشرعيّة الفرعيّة سواء كانت بالاجتهاد أو بالتقليد. ولا يذهب عليك أنّه كما أنّ العمل الصحيح بالأركان من كمال الدين كذلك العلوم الشرعيّة المتعلّقة بالعمل أيضا من كماله بطريق أولى؛ لعدم صحّة العمل بدون العلم المتعلّق به. قوله صلى الله عليه و آله : (من عمل على غير علم) إلخ أقول: قد ظهر شرح هذا الحديث بكلّ واحد من الوجهين اللذين ذكرناهما في شرح الحديث السابق، فتدبّر.

باب استعمال العلم (2)قوله: (عن عمر بن اُذينة) بضمّ الهمزة وفتح الذال المعجمة وإسكان الياء المثنّاة من تحت وفتح النون. و«عَيّاش» بفتح العين المهملة وتشديد الياء المثنّاة من تحت والشين المعجمة. و«سُليم» مصغّر. وقوله صلى الله عليه و آله : (العلماء رجلان) أي على صنفين.


1- .هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «رسوخه وملكته فمن لم بالعمل على الوجه المطلوب للشارع ومن لم بعمل فلا يبقى له».
2- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 168

رجلٌ عالمٌ آخِذٌ بعلمه ، فهذا ناج ، وعالمٌ تاركٌ لعلمه ، فهذا هالك ، وإنَّ أهلَ النار لَيَتَأذّونَ من ريح العالم التارك لعلمه ، وإنَّ أشدَّ أهلِ النار نَدامةً وحسرةً رجلٌ دعا عبدا إلى اللّه ، فاستجاب له وقَبِلَ منه ، فأطاع اللّه ، فأدخَلَه اللّهُ الجنّةَ وأدخَلَ الدَّاعِيَ النارَ ب-تَرْكه علمَه ، واتّباعِهِ الهوى وطولِ الأم-ل ، أمّا اتّباعُ اله-وى فيَصُدُّ ع-ن الحقّ ، وطولُ الأمل يُنسي الآخرةَ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن إسماعيلَ بن جابر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«العلمُ مَقرونٌ إلى العمل ، فمَن عَلِمَ عَمِلَ ، ومن عَمِلَ عَلِمَ ،

وقوله: (آخِذٌ بعلمه) أي عامل بمقتضى علمه. وقوله: (تارك لعلمه) أي تارك لمقتضى علمه من الإتيان بالمأمورات، والكفّ عن المنهيّات بل عامل بخلاف علمه بسبب اتّباع الهوى وطول الأمل. و(الهوى) بفتح الهاء والقصر هوى النفس، أي اشتهاؤها وحبّها. قوله عليه السلام : (العلم مقرون إلى العمل) أقول: لعلّ المراد من العمل هاهنا ما يعمّ من القطعي في الاُصول والظنّي في الفروع. وقوله: (مقرونٌ إلى العمل) إلى قوله: (والعلمُ يَهتِفُ) يحتمل أن يكون أمرا في صورة الخبر، والمعنى: أنّه اجعلوا علمكم مقارنا لعملكم حتّى يرتّب عليهما معا النجاة والمغفرة، كما يدلّ على ذلك اقترانه مع العمل في كتاب اللّه تعالى كقوله جلّ ذكره: «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ» وتعليق المغفرة والنجاة عليهما معا، فمن علم يجب أن يعمل بمقتضى علمه، ومن عمل شيئا يجب أن يعمل على طبق علمه لا على خلافه بمقتضى هوى نفسه. والظاهر أن يكون خبرا، وحينئذٍ معناه أنّ العلم مقرون إلى العمل في البقاء لا في الحدوث، والمراد أنّ بقاء العلم بالعمل، فمن علم علما باقيا في مدّة طويلة كان ذلك لاستقراره ورسوخه بسبب علمه، سواء كان ذلك العلم ظنّيا فرعيا متعلّقا بالعمل أم قطعيا اُصوليا؛ لما عرفت من أنّ اُصول الدين إنّما يبقى على وجه الكامل مع العمل، وأمّا مجرّدة عن العمل فيضعف، ويطرأ عليه الغفول والنسيان، ويتطرّق عليه الشبه والشكوك، ومن عمل كان علمه - سواء كان من الاُصول أو الفروع المتعلّقة بالعمل - باقيا في مدّة طويلة مادام

ص: 169

والعلمُ يَهتِفُ بالعمل ، فإن أجابَه ، وإلّا ارتحَل عنه» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عليّ بن محمّد القاسانيّ ، عمّن ذكره ، عن عبداللّه بن القاسم الجعفريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنَّ العالمَ إذا لم يَعمَلْ بعلمه زَلَّتْ موعظتُه عن القلوب كما يَزِلُّ المطرُ عن الصفا» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن المنقريّ ، عن عليّ بن هاشم بن البَريد ، عن أبيه ، قال :جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسين عليه السلام فسَأَلَه عن مسائلَ

يعمل به؛ لأنّ الأعمال الشرعيّة توجب (1) ملكةَ كلا العِلْمَين. وقوله: (العلمُ يَهتِفُ بالعمل) إلخ، أي العلم يصيح ويدعو صاحبه بالعمل (فإن أجابه) استقرّ وبقي معه (وإلّا ارتحل) عن صاحبه بالنسيان ودخول الشكوك والشُبَه عليه ولو في ساعة الارتحال عن الدنيا. قوله: (عن عليّ بن محمّد القاساني) إلخ المراد بالقاسان بالسين المهملة هاهنا ناحية إصبهان، وفي الرجال: عليّ بن محمّد القاساني إصفهاني، قال في القاموس: «قاسانُ بلدٌ بما وراءَ النهرِ، وناحيةٌ بإصبهانَ غيرُ قاسانَ (2) المذكورِ مع قمّ» (3) . والموعظة: النهي عن الدخول في المحارم والمعاصي فعلاً كان أو تركا، أو ذكرُ ما يليّن القلب من الثواب والعقاب. والصفا - بفتح الصاد المهملة والقصر - جمع صفاة وهي الصخرة الملساء، ومعناه أنّ العالم إذا لم يعمل بمقتضى علمه، ونَهى عن ارتكاب ما ارتكبه بترك العمل بعلمه، أو ذكَر الثواب والعقاب لتليين القلوب، لم يؤثّر ذلك في القلوب بل موعظته إنّما تمسّ القلوب، وتزلّ عنها كما يزلّ المطر عن الصفا (4) . قوله: (عن عليّ بن هاشم بن البُريد)


1- .في النسخة: «يوجب».
2- .في المصدر: «قاشان».
3- .القاموس المحيط، ج 2، ص 355 (قوس).
4- .قارن الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 144.

ص: 170

فأجابَ ، ثمَّ عادَ ليَسْأَلَ عن مثلها ، فقالَ عليُّ بن الحسين عليه السلام : «مكتوبٌ في الإنجيل : لا تَطلُبوا علمَ ما لا تعلمون ولمّا تَعْمَلوا بما عَلِمتم ، فإنَّ العلمَ إذا لم يُعملْ به لم يَزدَدْ صاحبُه إلّا كفرا ، ولم يَزدَدْ من اللّه إلّا بُعدا» .

بضمّ الباء الموحّدة وفتح الراء المهملة. و«لمّا» في قوله: (ولمّا تَعْمَلوا بما عَلِمتم) بمعنى «لَم» الجازمة، والجملة حاليّة؛ يعني لا تطلبوا علم ما لا تعملونه من الأعمال والحال أنّكم لم تعملوا بما علمتم. ويحتمل أن يكون بمعنى «إلّا» ويكون ذلك القول أمرا في صورة الخبر، أي لا تطلبوا علم ما لا تعملونه من الأعمال، وإلّا يجب عليكم أن تعملوا (1) بما علمتم. قال في القاموس: «حروف الجزم لَمْ ولمّا وألَم وأَلَمّا. ولَم نفيٌ لما مضى، ولَمّا تكون بمعنى «حين» و«لَم» الجازمة. و«إلّا»، وإنكار الجوهري كونه بمعنى «إلّا» غير جيّد، يقال: سألتُك لمّا فعلتَ، أي إلّا فَعلتَ، ومنه «إنْ كُلُّ نفسٍ لَمّا عَلَيها حافِظٌ» (2) و «إِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَينا مُحْضَرُونَ» (3) وقراءة عبد اللّه : «إن كلّهم (4) لمّا كَذَّبَ الرُسُلَ» (5) انتهى. وحاصل الحديث أنّه إذا كان من شأن علمكم عدم التأثير فيكم، فلا يخلو إمّا أن يكون في قصدكم حين طلبه عدم العمل به، أو العمل به لكن علمتم من أنفسكم بالتجربة، أو بالحدس فتورَ ذلك القصد وتركَ العمل بما علمتم كما صدر عنكم ذلك مرارا، وعلى التقديرين فالأصلح لكم ترك طلبه. أمّا على الأوّل فلأنّه كفر، أي جحود وعدم إقرار بما علمه. وأمّا على الثاني فلأنّه يضعف ويفتر ذلك العلم بالتدريج، ويطرأ عليه الشكوك والشُبَه حتّى يؤدّي بالجحود وعدم الإقرار بما عرفه.


1- .في النسخة : «أن تعلمون» .
2- .الطارق (86): 4.
3- .يس (36): 33.
4- .في المصدر: «كلٌّ» وهو تصحيف؛ لأنّ الآية في سورة ص (38): 14 هكذا: «إنْ كُلٌّ اِلَا كُذِّبَ الرُّسُلَ»
5- .القاموس المحيط، ج 4، ص 250 (لمم).

ص: 171

محمّد بن يحيى، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سِنان، عن المفضّل بن عمرَ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال: قلتُ له: بِمَ يُعرَفُ الناجي؟ قال:«مَن كان فعلُه لقوله موافقا فأثْبِتْ له الشهادةَ ، ومَن لم يَكُنْ فعلُه لقوله موافِقا .........

وذلك الجحود إمّا في القطعيات كاُصول الديانات من الربوبيّة والتوحيد والرسالة وأمثالها، وكضروريات الدين ونحوها من المسائل الشرعيّة القطعيّة، ولا شكّ في أنّه كفر محض. وإمّا في الظنّيات كالفروع المظنونة أنّها متلقّاة من الشارع، ولا شكّ في أنّ الجحود فيها مع الظنّ بكونها متلقّاة منه فسق. وعلى التقديرين فلا شكّ في أنّ هذا العالم أسوء حالاً من الجاهل المحض، ومن الجاهل المنكر؛ لأنّ الإنكار مع العلم أقبح من الجهل الصرف، ومن الإنكار مع الجهل، فهذا لا ينافي حسن المعرفة؛ لأنّ المعرفة في نفسها وإن كانت حسنة لكنّ الجحود بعدها من أقبح القبائح، وإنّما يجب طلب العلم مع قصد العمل [ب-]مقتضاه حين طلبه، وعدم وجدان فتور ذلك القصد من النفس في ذلك الحين بالتجربة أو الحدس. وقوله: (ولم يزدد من اللّه إلّا بُعدا) أي لم يزدد من رحمة اللّه تعالى وثوابه إلاّ بعدا. قوله: (بِمَ يُعْرَفُ الناجي؟) أي من له حسن الخاتمة من الفرقة الناجية التي تكون من الفرق الثلاث والسبعين. وقوله عليه السلام : (من كان فعلُه لقوله موافقا فإنّما له الشهادة) أي من كان فعله لقوله الذي يخبر به عن اعتقاده موافقا فإنّما له الشهادة، أي شهادتنا بالنجاة وحسن الخاتمة له لا لغيره. وتقديم الظرف مع ذكر «إنّما» لتأكيد الحصر، أو شهادة الشاهد بالنجاة وحسن الخاتمة له، وذلك الشاهد هو موافقة الفعل للقول، الدالّةُ على ثبوت الاعتقاد ورسوخه واستقراره حتّى يوصله إلى النجاة، أو المراد بالشهادة عدم غيبة المعرفة وعدم زوالها عن قلبه وحفظه لها فيحصل النجاة بها. وفي بعض النسخ بدل قوله: «فإنّما له الشهادة»: «فأبَّت له الشهادة» بالباء الموحّدة

ص: 172

فإنّما ذلك مُستودَعٌ» .

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، رَفَعَه ، قال : قال أميرُالمؤمنين عليه السلام في كلام له خَطَبَ به على المنبر :«أيُّها الناسُ ، إذا عَلِمْتم فاعمَلوا بما عَلِمْتم لعلّكم تَهتدون ، إنَّ العالِمَ العامِلَ بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يَستفيقُ عن جهله ،

المشدّدة والتاء المثنّاة فوق من البتّ بمعنى القطع، أي فقطع له الشهادة بأحد المعاني المذكورة. وقوله عليه السلام : (فإنّما ذلك مُستودَعٌ) أي اعتقاده الذي يخبر به عن قوله كالوديعة عنده ربّما يضعف ويزول عنه. ويحتمل أن يكون معنى السؤال أنّه بِمَ يعرف الناجي، أي الشيعي الإمامي من الفرق الثلاث والسبعين؟ والمقصود أنّه إذا ادّعى أحد أنّه إمامي بم يعرف أنّه صادق في دعواه ناجٍ؟ وحينئذٍ فمعنى الجواب أنّه من كان فعله لقوله الذي يخبر به عن إيمانه واعتقاده بالحقّ موافقا فإنّما له شهادتنا بأنّه مؤمن ناجٍ لا لغيره، أو له شهادة الشاهد بصدقه ونجاته من موافقة الفعل للقول الذي يخبر به عن إيمانه، أو المراد بالشهادة عدم غيبة المعرفة عن قلبه وصدقه في قوله، ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فإنّما ذلك - أي إيمانه واعتقاده الذي يدّعيه كذبا - مستودع، أي كالوديعة من جهة ترتّب حكم الإيمان على ذلك القول بحسب ظاهر الشرع في الدنيا، وزوال ذلك الحكم عنه وظهور كذبه في الآخرة؛ فتدبّر. قوله عليه السلام : (لعلّكم تَهتَدون) أي تهتدون إلى السعادات الدنيويّة والاُخرويّة، وإلى علوم اُخر؛ فإنّ العمل بما علم يفضي إلى علوم اُخر. وقوله عليه السلام : (إنّ العالم العامل بغيره) أي بغير العلم كالهوى وطول الأمل. والعمل بالشيء إعماله، أو بغير ما يقتضيه العلم من الأعمال كالعمل بما يقتضيه الهوى وطول الأمل. والباء صلة. والحائر هو الذي لا يهتدي بجهة أمره.

ص: 173

بل قد رأيتُ أنَّ الحجَّةَ عليه أعظمُ ، والحسرةَ أدومُ على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهلِ المتحيّرِ في جهله ، وكلاهما حائرٌ بائرٌ ، لا تَرتابوا فَتَشُكّوا ، ولا تَشُكّوا فتَكْفُروا ، .........

والاستفاقة استفعال مِن أفاق، إذا رجع إلى ما شغل عنه، ومنه استفاقة المريض والمجنون والمغمى عليه. وقوله: (بل قد رأيتُ أنّ الحجّة عليه أعظمُ) أي قد علمت علما قريبا من المعاينة أنّ الحجّة على هذا العالم أعظم من الحجّة على هذا الجاهل. وجملة قوله: (والحسرة أدوم على هذا العالم) إلخ، عطف على جملة «قد رأيت» أو على مدخول «أنّ» وقوله: «على هذا العالم» متعلّق بقوله: «أدوم». وقوله: (المنسلخ من علمه) أي المشرف على الانسلاخ، أو معناه المنسلخ من غاية علمه من نيل السعادات الأبديّة. وضمير «منها» راجع إلى «الحسرة». والبائر: الهالك. والمراد بالارتياب هاهنا الوصول إلى الريبة والوقوع فيها. والريبة: قلق النفس واضطرابها ضدّ الطمأنينة، قال في القاموس: «أمرٌ ريّابٌ كشَدَّادٍ مُفْزِعٌ (1) . ومنه قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «[دَعْ] ما يَُريبك إلى ما لا يَُريبك» فإنّ الشكّ ريبة، والصدق طمأنينة (2) . انتهى فمعنى قوله عليه السلام : (لا تَرتابوا فتَشُكّوا) أنّه لا توقعوا أنفسكم في القلق والاضطراب بسبب التوغّل بالشبهات وكثرة الخصومات في العلوم المتيقّنة لكم؛ فإنّه يؤدّي إلى أن تشكّوا فيها. ووجه مناسبة هذه الفقرة لسابقها أنّه قد يكون ترك العمل الذي يقتضيه العلم للارتياب المفضي إلى الشكّ في هذا العلم فنهى عنه. وقوله: (ولا تَشُكُّوا فتَكْفُروا) أي لا توقعوا أنفسكم في الشكّ، واحذروا من طريانه على


1- .القاموس المحيط، ج 1، ص 216 (ريب).
2- .كشف الغمّة، ج 2، ص 332، وأوردنا مصادر الحديث في تعليقنا عليه.

ص: 174

ولا تُرخِّصوا لأنفسكم فَتُدهِنوا ، ولا تُدهِنوا في الحقّ فتَخْسَروا ، وإنَّ من الحقّ أن تَفَقَّهوا ، ومن الفقه أن لا تَغتَرُّوا ، وإنَّ أنصحَكم لنفسه أطوَعُكم لربّه ، وأغَشَّكم لنفسه أعصاكم لربِّه ، ومن يُطِعِ اللّهَ يأمَنْ ويَسْتَبْشِرْ ، ومن يَعْصِ اللّهَ يَخِبْ ويَنْدَمْ» .

العلم «فتكفروا» أي يوصلكم إلى ستر الحقّ، أو ينتهي أمركم إلى الشكّ فيما يكون الشكّ فيه كفرا كالشكّ في اُصول الديانات وضروريات الدين وما يحذو حذوهما. وقوله عليه السلام : (ولا تُرخِّصوا لأنفسكم) أي لا تسهّلوا لأنفسكم أمر الإطاعة والعصيان، ولا تخفّفوا عنها ما شدّد اللّه عليها من حقوقه (فتدهنوا) أي تظهروا وتقولوا خلاف ما تضمرونه (1) ، أو تُلَيّنوا عند إظهار الباطل ولا تنكروه، أو تَغِشّوا الحقّ بترك المبالاة به. قال في القاموس: «المداهنةُ إظهارُ خلافِ ما يُضمَرُ كالإدهان، والغِشُّ». (2) وقوله: (ولا تُدهِنوا في الحقّ فتَخْسَروا) أي لا تدهنوا فيما تعرفونه بالحقّيّة فتخسروا، أي يحصل لكم النقص في المعرفة الحاصلة لكم، أو في إيمانكم، أو يذهب الحقّ من يدكم بالكلّيّة، ويحصل الإدهان فيها عوضَه. وقوله عليه السلام : (وإنّ من الحقّ أن تَفَقَّهُوا) الأصل أن تتفقّهوا حذفت إحدى التاءين، أي من جملة حقوق اللّه - الذي أوجبه عليكم بالعلم الذي يجب العمل به وهو قوله تعالى «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» (3) الآية - أن تفقّهوا، والتفقّه تعلّم الفقه، وتحصيل المعرفة بجميع ما هو معدود من العلوم الشرعيّة: اُصولها وفروعها. وقوله عليه السلام : (ومن الفقه أن لا تَغتَرُّوا) أي لا تتخدّعوا بالباطل، ولا تطمعوا فيه. وقوله عليه السلام : (إنّ أنصحكم لنفسه أطوعُكم لربّه) النصيحة خلاف الغِشّ بالكسر، وهي إرادة الخير للمنصوح له، وهي اسم من النُصح بالضمّ، وهو مصدر معناه فعل النصيحة، والغَشّ - بالفتح - إظهار خلاف ما أضمر، والاسم منه الغِشّ بالكسر. وقوله: (وأغشَّكم لنفسه أعصاكم لربّه) لأنّ دائرة العصيان لا ترجع (4) إلّا إلى نفس العاصي. والخيبة: الحرمان وعدم نيل المطلوب.


1- .في النسخة: «يضمرونه».
2- .القاموس المحيط، ج 4، ص 319 (دهن).
3- .التوبة (9): 122.
4- .في النسخة: «لا يرجع».

ص: 175

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عمَّن ذكره ، عن محمّد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول :«إذا سَمِعتم العلمَ فاستَعْمِلوه ، ولْتَتَّسِعْ قلوبُكم ؛ فإنّ العلمَ إذا كَثُرَ في قلب رجل لا يحتمله قَدِرَ الشيطانُ عليه ، فإذا خاصَمَكم الشيطانُ فأقْبِلوا عليه بما تَعرفونَ ؛ فإنَّ

قوله: (عن محمّد بن عبد الرحمان بن أبي لَيلَى) بفتح اللامين بينهما ياء مثنّاة تحت ساكنة. وقوله عليه السلام : (إذا سَمِعتم العلمَ فاستَعْمِلُوه) عبّر عن الأحاديث المفضية إلى العلم (1) والكلام الدالّ عليه بالعلم. قيل (2) : ويحتمل المراد بالعلم المُذعَنُ به لا نفس التصديق؛ فإنّ التصديق والعلم يطلق على المعلوم المذعَنِ به. وفيه تأمّل؛ لأنّ المعلوم المصدّق به كوجوب الصلاة مثلاً غير مسموع بل المسموع الكلام الدالّ عليه، هذا. والمقصود أنّه بعد حصول العلم ينبغي الاشتغال بإعماله، والعملُ على وفقه لتكونوا عالمين عاملين، وحافظين للعلم من الزوال بمزاولة العمل. وقوله: (ولْتَتَّسِعْ قلوبُكم) أي يجب أن تتّسع قلوبكم لما علمتم، وأن لا يكون طلبكم للعلم إلّا بقدر سعة قلوبكم، ولا تستكثروا منه؛ (فإنّ العلم إذا كَثُرَ في قلب رجل لا يحتمله) ولا يتّسع قلبه لذلك العلم الكثير، ولا يقدر على ضبطه كما ينبغي ويليق (قَدِرَ الشيطانُ) بتلبيس الشبهات (عليه) حتّى أفسد علمه بالتشكيكات، وألزمه ترك العمل به. وقوله عليه السلام : (فإذا خاصمكم الشيطان فأقبِلُوا عليه بما تعرفون) إشارة إلى دفع ما يتوهّم هاهنا من أنّ الاكتفاء بما يتّسعه القلب يوجب العجز عن مخاصمة الشيطان، والاستكثارَ منه من أسباب القوّة على معارضته ودفعه.


1- .كذا. لعلّ الصواب «للعلم».
2- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 150.

ص: 176

كيدَ الشيطانِ كانَ ضعيفا» . فقلت : وما الذي نَعرِفُه؟ قال : «خاصِموه بما ظهَر لكم من قدرة اللّه عزّ وجلّ» .

باب المستأكل بعلمه والمباهي بهفأجاب عنه عليه السلام بأنّ الإقبال على الشيطان بما تعرفون يكفي في دفعه «فإنّ كيد الشيطان كان ضعيفا» وهذا القول اقتباس من القرآن. ولمّا كان المخاطب لم يتفطّن بما أراده عليه السلام من قوله: «بما تعرفون» فسأل عنه بقوله: (وما الذي نَعرِفُه؟) فقال عليه السلام : (خاصموه بما ظهر لكم من قدرة اللّه عزّ وجلّ) أي من قدرة اللّه تعالى وصنعه فينا بإعطائنا العلمَ بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة، والعلمَ بالمغيبات، وإجراءَ خوارق العادات في أيدينا، وجعلنا من أوليائه المعصومين، ومن الراسخين في العلم، وحججا على العالمين وغير ذلك من العطايا الجزيلة، فإنّكم بذلك تتمكّنوا من دفع مخاصمة الشيطان، ودفع جميع شكوكه وشبهه عن علمكم بأن تقولوا: إنّ علمَنا مأخوذ من الحجج، وسمعَنا وتعلّمَنا منهم عليهم السلام ، وكلَّ علمهم حقٌّ لا يتطرّق عليه شبهة وشكّ، فالذي تعلّمنا وسمعنا منهم أيضا كذلك، فبذلك يندفع عنكم كيد الشيطان ومخاصمته في علمكم بسهولة. ولا يذهب عليك أنّ ذلك الدفع إنّما يمكن من العلم المأخوذ منهم عليهم السلام إذا كان قدرا يتّسعه قلب الحامل، ويقدر على ضبطه على وجه الكمال. وأمّا إذا استكثر منه بحيث لا يتمكّن من حقّ ضبطه، فلا شكّ في أنّه في معرض الفساد بسبب النسيان والاشتباه، وسوء الفهم وطريان الشبه والشكوك عليه.

باب المستأكل بالعلم (1)قوله: (باب المستأكل بالعلم والمباهي به) أقول: المراد بالمستأكل هو الذي يفتي بغير علم ولا هُدىً من اللّه ، أو الذي يفتي


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 177

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ؛ وعليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا، عن حمّاد بن عيسى ، عن عُمَرَ بن اُذينةَ ، عن أبان بن أبي عيّاش ، عن سُلَيم بن قيس، قال : سمعتُ أميرَ المؤمنين عليه السلام يقول :«قالَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله : مَنهومانِ لا يَشْبَعانِ : طالبُ دنيا ، وطالبُ علمٍ، .........

بخلاف علمه، أو الذي يأخذ العلم من غير أهله ليصير مرجعا وإماماً، كلّ ذلك طمعا في حطام الدنيا، أو الذي يكون مقصوده من تحصيل العلم الرئاسة واتّباع الجهّال له ورجوع السلاطين والأكابر إليه ليأكل من عطاياهم وجوائزهم، ويرخّصهم لنيل قربهم وأكل سحتهم فيما يريدونه من المحظورات، وبالجملة المستأكل بالعلم هو الذي يجعل العلم آلة لتحصيل الدنيا. وأمّا الذي يأخذ العلم من أهله، ويعمل به لنيل السعادات الأبديّة، وينشر العلم، ويهدي الناس خالصا للّه تعالى لا لنيل الدنيا، فلا يضرّه لو قَبِلَ من أحد من المؤمنين عطيّةً وصِلةً لا يكون فيها شبهة، كما يدلّ على ذلك ما رواه ابن بابويه في معاني الأخبار عن حمزة بن حُمران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «من استأكل بعلمه افتقر» فقلت: جعلت فداك إنّ في شيعتك ومواليك قوما يتحمّلون علومكم ويبثّونها في شيعتكم فلا يُعدِمون على ذلك منهم البرَّ والصلة والإكرام؟ فقال عليه السلام : «ليس اُولئك بمستأكلين، إنّما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم ولا هدىً من اللّه عزّ وجلّ ليبطل به الحقوق طلبا في حطام الدنيا (1) » أو (2) المباهاة: المفاخرة. قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (مَنهومان لا يشبعان: طالب دنيا، وطالب علم) النَهَم - محرّكة - : إفراط الشهوة في الطعام، وأن لا يمتلئ عن الأكل ولا يشبع، نَهِم كفَرِح فهو نَهِمٌ ونَهيمٌ ومَنهومٌ، شبّه إفراط الشهوة في طلب الدنيا وطلب العلم وشدّة الحرص


1- .معاني الأخبار، ص 181، باب معنى الاستئكال بالعلم، ح 1؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 117، ح 14؛ وسائل الشيعة، ج 27، ص 141 - 142، باب 11، ح 12.
2- .هنا كلمة لا تقرأ. ولعلّ في العبارة خللاً، ولعلّ المراد قوله: «المباهي به» ، المباهاة: المفاخرة.

ص: 178

فمن اقتصر من الدنيا على ما أحَلَّ اللّهُ له سَلِمَ،ومن تناوَلَها من غير حِلّها هَلَكَ، إلّا أن يَتوبَ أو يُراجِعَ ، ومن أخَذَ العلمَ من أهله وعَمِلَ بعلمه نجا ، ومن أرادَ به الدنيا فهي حَظُّهُ» .

عليهما بإفراط الشهوة في الطعام وشدّة الحرص عليه، واستعمل اللفظ الموضوع له فيهما. والمراد بطالب الدنيا طالبها لحبّها وللتوسّع والترفّع والثروة لا لأجل رفع الحاجة بقدر الكفاية. والمراد بطالب العلم هاهنا طالبه للمباهاة والتوسّع فيه والجامعيّة والغلبة والرئاسة، وكلّ ذلك يرجع إلى نيل الدنيا لا لتحقيق الحقّ والعمل به ونيل السعادة الاُخرويّة، فهذان لا يشبعان ولا ينتهي أمرهما إلى حدّ تزول شهوتهما في الزيادة؛ لأنّه لا نهاية للعلم، وكذا للدنيا بالنسبة إلى طالبها. وقوله: (فمن اقتصر من الدنيا) إلى قوله: (ومن أخذ العلم) تفصيل لحال مطلق طالب الدنيا، سواء كان طالبها لنفسها وللاُمور المذكورة آنفا وهو الذي لا يشبع، أو لأجل كفاية الحاجة يعني من اقتصر من الدنيا المطلوبة له (على ما أحلّ اللّهُ له) وكفّ عمّا حرّمه عليه - وهو القسم الثاني - (سَلِمَ) عن العقاب الاُخروي وعمّا يقتضيه النَهَم من التعب والنَصَب الدنيوي لتحصيلها في جميع الأوقات (ومَن تناوَلَها من غير حِلّها) كما هو شأن النهم فيها (هلك) بالعقاب الاُخروي والنصب الدنيوي (إلّا أن يتوب) في حقّ اللّه وفي حقّ الناس الذي لم يكن شيء من الحقّ وصاحبه معلوما بوجه من الوجوه (أو يُراجِعَ) ويردّ المال بعينه إذا كان باقيا، أو مثله أو قيمته إن لم يكن باقيا إلى صاحبه إذا كان معلوما؛ فإنّ بحت التوبة في هذه الصورة لم ينجح. وقيل: يحتمل أن يكون قوله: «يتوب أو يراجع» شكّا من الراوي. (1) وهذا بناء على أنّه حمل التوبة على التوبة بشروطها، ولا شكّ في أنّه يحصل بها النجاة لكلّ من يتوب، وحينئذٍ فيكون «يراجع» بمعنى «يتوب» والترديد من الراوي بحسب اختلاف اللفظ، وعلى هذا


1- .القائل به السيّد أحمد العلوي في الحاشية على الكافي، ص 168، و نقله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول، ج 1، ص 148 بعنوان «ربّما يقال».

ص: 179

الحسين بن محمّد بن عامر ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أحمدَ بن عائذ ، عن أبي خديجةَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«من أرادَ الحديثَ لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيبٌ ، ومن أرادَ به خيرَ الآخرة أعطاهُ اللّه خيرَ الدنيا والآخرةِ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد الأصبهانيّ ، عن المِنقَريّ ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«من أرادَ الحديثَ لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نَصيبٌ» .

يحتمل أيضا أن يكون لفظة «أو» بمعنى الواو، ويكون قوله: «يراجع» تفسيرا لقوله: «يتوب». وقيل (1) : «أو يراجع» على البناء للمجهول، أي يُراجِعُهُ اللّهُ بفضله، أو على البناء للفاعل، أي يراجع اللّهَ ذلك المتناولُ من غير الحلّ إذا كان تناوله منه في الجملة، وفي بعض الأحوال دون بعض، ويكون كثيرَ المراجعة إلى اللّه تعالى بالطاعات وبترك أكثر الكبائر من المعاصي، فيرجع اللّه تعالى عليه بفضله؛ لاستحقاقه لذلك الفضل بمراجعته إلى اللّه تعالى كثيرا. انتهى. وقوله: (ومن أخذ العلم) إلخ تفصيل لحال مطلق طالب العلم، سواء كان طالبه لكثرة العلم والجامعيّة والغلبة والرئاسة، أو لتحقيق الحقّ والعمل بمقتضاه ونيل السعادة الاُخرويّة؛ يعني أنّ النجاة لمن أخذ العلم من أهل العلم كالحجج ومن يقربهم - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط - وعمل بعلمه. فالمراد بالعلم المأخوذ هاهنا ما يعمّ من العلوم النقليّة والعقليّة الحقيقيّة لا الآليّة كالأدبيّة والمنطقيّة، وما ذكر إنّما هو القسم الثاني؛ يعني من يريد العلم لحقّيّته وللعمل على وفقه. ومن لم يتقيّد بالأخذ من أهل العلم ولم يعمل بعلمه - وهو القسم الأوّل - لا يكون همّه


1- .قائله الميرزا رفيعا في الحاشية على اُصول الكافي، ص 152.

ص: 180

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم ، عن المنقريّ ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا رأيتم العالمَ مُحبّا لدُنياه فَاتّهِموه على دينكم ، فإنّ كلَّ محبّ لشيء يَحوطُ ما أحَبَّ» .

إلّا أن يقال له: إنّه علّامة ويتبعه الجهّال، ويراجعه السلاطين والاُمراء ليفتي لهم ما يريدونه من القبائح، فيأكل جوائزهم ويترأّس بقربهم على من لا رئاسة له عليه. وبالجملة، ليس غرضه من طلب العلم إلّا أن يجعله آلة لتحصيل الدنيا، فليس حظّه ونصيبه منه إلّا الدنيا، وليس له من تحقيق الحقّ والعمل والنجاة حظّ، أو ليس له في الآخرة نصيب وثواب لأجل طلب العلم؛ فتدبّر. قوله عليه السلام : (إذا رأيتم العالمَ محبّا لدنياه فاتّهِمُوه على دينكم فإنّ كلّ محبّ لشيء يَحوط ما أحَبَّ) تقول: اتّهمتُ زيدا على كذا إذا لم تأمنه عليه، وأسأت ظنّك به فيه، ويقال: حاطه حوطا وحياطة، إذا حفظه وتعهّد أمره وتوفّر على مصالحه، يعني إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه فلم تأمنوه على دينكم وتُسِيؤوا ظنّكم به فيه؛ لأنّ كلّ محبّ لشيء يحفظ ويتعهّد من ذلك الشيء ومن مقابله ما أحبّ، وحبّ أحد المتقابلين المتنافيين يوجب بغض الآخر، فحبّ الدنيا يوجب بغض الآخرة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : «من أحبّ الدنيا وتولّاها أبغض الآخرة وعاداها» (1) وللإشارة إلى ما ذكرناه قال: «يحوط ما أحبّ» ولم يقل: «يحوطه» ولا شكّ في أنّ حفظ الدنيا وتعهّدها لا يجامع في غالب الأوقات إظهار الحقّ والعمل به ممّا يتعلّق به نيل الآخرة وحفظها، فذلك العالم في الغالب يميل إلى الباطل ويقوله، ويعمل به لحفظ دنياه، فلا ينصحكم ولا يراعي جانب دينكم بل يراعي جانب دنياه، فينبغي أن لا يعتمد عليه في أخذ العلوم الدينيّة عنه، وأن لا يعتمد على فتاويه وقضاياه؛ لأنّ كلَّ قول وفعل منه مظنّة كونه من الكثير الغالب الذي هو خلاف الحقّ.


1- .نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 103؛ تحف العقول، ص 212؛ بحار الأنوار، ج 75، ص 51، ح 80.

ص: 181

وقال عليه السلام : «أوحى اللّهُ إلى داودَ عليه السلام : لا تجعَلْ بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا ، فيَصُدَّك عن طريق محبّتي ، فإنَّ اُولئك قُطّاعُ طريقِ عبادي المريدين ، إنَّ أدنى ما أنا صانِعٌ بهم أن أنزِعَ حَلاوَةَ مُناجاتي عن قلوبهم» .

عليٌّ ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الفقهاءُ اُمناءُ الرسلِ ما لم يَدخُلوا في الدنيا ، قيل : يا رسول اللّه ، وما دُخولُهم

وقوله: (قال عليه السلام ) إلخ استيناف بياني لقوله: (إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه) إلخ. وقوله تعالى: (لا تَجْعَلْ بَيني وبينَكَ عالما مفتونا بالدنيا) أي لا تصاحبه، ولا تواخه فيَ، ولا تستنصحه في دينك، والمفتون بالدنيا هو المُعجَب بها. ويحتمل أن يكون هذا حكما للاُمّة وإن كان المخاطب داوود عليه السلام ، أي لا تجعل بيني وبينك وسيلة إلى حصول معرفتي ومعرفة ديني وشريعتي عالما معجبا بالدنيا. والحاصل أنّه يجب للاُمّة أن لا يأخذوا المعارف الإلهيّة والأحكام الدينيّة عن العالم المفتون بالدنيا. وقوله: (فيَصُدَّك عن طريق محبّتي) أي يمنعك عن طريق محبّتي بالترغيب إلى الدنيا، وتهييج الشهوة إلى طلبها، وتشييد محبّتها في القلب. وقوله: (فإنّ اُولئك قُطّاعُ طريقِ عبادي المريدين) أي المريدين لما عندي من القرب والثواب؛ لأنّهم يميلون من الرغبة إلى قربه تعالى ومحبّته، أو من الرغبة إلى الآخرة ونعيم الجنّة إلى الرغبة في الدنيا وأسبابها. وقوله: (إنّ أدنى ما أنا صانع بهم) أي أقلّ ما اُجزيهم بسبب افتتانهم بالدنيا (أن أنزع حلاوة مناجاتي) أي الحكايةِ معي والدعاءِ والذكرِ وعرضِ الحاجات عليَ عن قلبه، وذلك لشغل قلبه بالدنيا عمّن يناجيه، فلا يدرك حلاوة مناجاته، أو لأنّ إدراكه لكيفيّة المناجاة وطعمها مشوب بإدراكه لكيفيّة نيل الدنيا وطعمه، وهي مُرّة وإن وافقت ذائقته، فلا يخلص له حلاوة المناجاة مع ربّه، فهو تعالى بتركه على افتتانه ينزع عن قلبه حلاوة المناجاة.

ص: 182

في الدنيا؟ قال : اتّباعُ السُلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحْذَروهم على دينكم» .

محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعيّ بن عبداللّه ، عمَّن حَدَّثَه، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال:«من طَلَبَ العلمَ ليُباهِيَ به العلماءَ، أو يُمارِيَ به السفهاءَ ، أو يَصْرِفَ به وجوهَ الناس إليه ، .........

قوله عليه السلام : (اتّباع السلطان) يعني اتّخاذ طريقته قدوةً، والاهتمامُ بفعلِ ما يرتضيه وتركِ ما ينكره؛ لطلب قربه ونعمه. وقوله عليه السلام : (فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم) أي فاحذروهم خوفا منهم على دينكم، أو محافظةً على دينكم، ولا تسألوهم عن شيء من المعارف الإلهيّة والمسائل الدينيّة، ولا تعتمدوا على فتاواهم وقضاياهم في الدين. قوله عليه السلام : (من طلب العلم ليُباهيَ به العلماءَ، أو يُمارِيَ به السفهاءَ، أو يَصْرِفَ به وجوهَ الناس إليه) المباهاة: مفاعلة من البهاء بمعنى الحسن، ومعناها المُغالبة في الحُسن، أي فيما يعدّ من المحاسن والمفاخر. والمُماراة: المنازعة والمجادلة. يعني من طلب العلم ليفاخر به العلماء، أو يجادل به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس من العالم الربّاني إليه، وبالجملة المراد أنّه طلب العلم لتحصيل الرئاسة؛ لأنّ الغرض من كلّ واحد من الثلاثة إنّما هو نيل الرئاسة. أمّا الأوّل، فلأنّ المفاخرة وادّعاء الغلبة بالعلم مع العلماء لا يصل إلى حدّ النزاع؛ لأنّهم لا يمارونه؛ لعلمهم بقبح المنازعة، فتسلم له المفاخرة وادّعاء الغلبة، فبذلك يترأّس عليهم ويؤدّي إلى رئاسة العوامّ. وأمّا الثاني، فلأنّ المفاخرة وادّعاء الغلبة مع الجهّال المتلبّسين بلباس العلماء - وهم السفهاء - يورث المماراة والمنازعة، فإذا جادلهم ونازعهم وغلب عليهم صار (1) رئيسا عليهم، ويفضي ذلك إلى رئاسة العوامّ.


1- .في النسخة: «فصار».

ص: 183

فَلْيَتَبَّوأ مَقعدَه من النار ، إنَّ الرئاسةَ لاتَصْلَحُ إلّا لأهلها» .

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليهعليُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن المنقريّ ، عن حَفص بن غياث ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قال :«يا حفصُ ، يُغفَرُ للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يُغفَرَ للعالم ذنبٌ واحدٌ» .

وأمّا الثالث، فلأنّه يحصل له الرئاسة بمراجعة الناس إليه فيما ينبغي المراجعة فيه إلى العالم الربّاني الذي هو بالحقيقة أهل الرئاسة. وقوله: (فَلْيَتَبَوّأ مَقعدَه من النار) أي فليتّخذ مكانه ومقرّه من النار، والمراد أنّه يصير إلى النار البتّة. وقوله عليه السلام : (إنّ الرئاسة لا تَصْلَحُ إلّا لأهلها) وهو مَن أوجب اللّه تعالى على عباده المراجعةَ إليه والأخذَ عنه والتسليمَ لأمره، وتحمّلهم الرئاسة من التكاليف الشاقّة بالنسبة إليهم، وليس لهم في تلك الرئاسة شعف وسرور وهم يفعلون فعل الرؤساء في زيّ الفقراء، ولم تزددهم الرئاسة إلّا كسر أنفسهم كما في دعاء بعض الأئمّة عليهم السلام : «اللّهمّ لا تَجْعَلْ لي عزّةً ظاهرةً إلّا وجعلتَ لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها» (1) .

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه (2)قوله عليه السلام : (يُغْفَرُ للجاهل سبعون ذنبا قبلَ أن يُغفَرَ للعالم ذنبٌ واحدٌ) المراد بالعالم والجاهل المكلّفُ منهما، ولعلّ المراد بهما هاهنا ما يعمّ من العالم والجاهل على الإطلاق الذي لا يصحّ إطلاقُ الجاهل في العرف على الأوّل من غير تقييده بقيد كمسألة خاصّة، وإطلاقُ العالم فيه على الثاني كذلك، ومن العالم والجاهل الإضافيين؛


1- .الصحيفة السجاديّة، ص 100، الدعاء 20 في مكارم الأخلاق، وفيه: «ولا تَرْفَعْني في الناس درجةً إلّا حَطَطْتَني عندَ نفسي مِثْلَها، ولا تُحْدِث لي عزّا ظاهرا إلّا أحْدَثْتَ لي ذِلَّةً باطنةً عند نفسي بِقَدَرِها».
2- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 184

وبهذا الإسناد ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«قال عيسى بن مريم - على نبيّنا وآله وعليه السلام - : ويلٌ للعلماء السوء كيف تَلظّى عليهم النّارُ» .

فإنّه من علم حكما تقليدا عالمٌ بالنسبة إلى من [لم] يعلم أصلاً، وجاهلٌ بالنسبة إلى من علمه من الأدلّة، وكذا من علم ما يترتّب على المعصية من الخذلان والعقاب، وعلى الطاعة من الفضل والثواب - ولو على سبيل التقليد - عالمٌ بالنسبة إلى من لم يعلم ذلك أصلاً، وجاهلٌ بالنسبة إلى من يعلمه من الأدلّة. وعلى أيّ تقدير فالأمر شديد على كلّ عالم بالنسبة إلى من هو جاهل بالنظر إليه؛ إذ لا شكّ في أنّ من يعلم شيئا بخصوصه، ويعلم ما يترتّب على فعله وتركه من الثواب والعقاب من الأدلّة التفصيليّة، ولا يعمل به أشدُّ تبعةً فيه ممّن لا يعلمه أصلاً أو يعلمه ولكن لا يعلم ما يترتّب على فعله وتركه من الثواب والعقاب، أو يعلمهما معا بالتقليد لا من الأدلّة؛ لضعف علمه وقوّة علم الأوّل، وكذا الحال فيمن يعلم حكما بخصوصه، ويعلم ما يترتّب عليه بالتقليد ولم يعمل به؛ فإنّه أشدّ تبعة ممّن لا يعلم ذلك الحكم أصلاً، أو يعلمه ولا يعلم ما يترتّب عليه، هذا. ثمّ لا يذهب عليك أنّ الجاهل - الذي علم وجوب طلب العلم بالأحكام الشرعيّة فلم يعمل بعلمه هذا، ولم يتعلّم الأحكام تقليدا ولم يتفقّه، فترك الواجبات وارتكب المنهيّات لجهله بالأحكام - فذنبه قويّ، وتبعته شديد في ترك طلب العلم؛ لأنّه عالم بوجوب طلبه في الجملة - تقليدا كان أو اجتهادا - ولم يعمل بعلمه في تلك المسألة فهو (ظ) ضعيف بالنسبة إلى العالم بالأحكام في سائر الأحكام؛ لأنّه جاهل بها. قوله عليه السلام : (قال عيسى بن مريم عليهماالسلام: ويل للعلماء السوء) ويلٌ كلمة عذاب، وواد في جهنّم. والسَوء بالفتح والإضافة، ويقال: علماء السوء والعلماء السوء كلاهما بإضافة الصفة إلى معمولها - معرفةً كانت كالضارب الرجل أو غير معرفة - فليس السوء في هذا الموضع صفة بل مضاف إليه. وبضمّ السين الاسم منه. وقوله: (كيف تلظّى عليهم النار) أي كيف تتلهّب وتشتعل عليهم النار؟ فتلظّى فعل

ص: 185

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن جَميل بن دَرّاج ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«إذا بلغت النفسُ هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يَكُنْ للعالم توبةٌ ، ثمَّ قرأ : « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَ--لَةٍ »» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سُوَيْدٍ ، عن يحيى الحلبيّ ، عن أبي سعيد المُكاري ، عن أبي بصير ، عن

مضارع أصله تتلظّى حذفت إحدى التاءين، ويحتمل أن يكون فعلاً ماضيا من باب التفعّل (1) لتحقّق وقوعه كيف تلهّب وتشتعل عليهم النار؟ قوله عليه السلام : (إذا بلغت النفس هاهنا) - وأشار بيده إلى حلقه - أقول: المراد بالنفس الروح الحيواني؛ لأنّه قد يطلق النفس عليه أيضا كما يطلق على النفس المجرّدة. وقيل (2) : المراد ببلوغ النفس إلى الحلق قطع تعلّقها عن الأعضاء، والانتهاء في قطع التعلّق إلى الحلق والرأس (3) وهو في آخر ساعة من الحياة الدنيويّة. انتهى. وقوله: (لم يكن للعالم توبة) أي لن يقبل اللّه توبة العالم بالأحكام وبما يترتّب على العمل فعلاً وتركا من الثواب والعقاب من الأدلّة تضييقا وتشديدا عليه. ولعلّ المقصود أنّه ليس على اللّه قبول توبته كلّيّة إلّا بالتفضّل بخلاف الجاهل المقابل لذلك العالم، فإنّ توبته في تلك الساعة مقبولة كلّيّة. وقوله: (ثمّ قرأ «إِنَّمَا التَّوْبَةُ...» (4) ) إلخ هذه الآية في سورة النساء، تمسّك عليه السلام فيما قاله بتلك الآية؛ لدلالتها على انحصار استحقاق قبول التوبة للجاهلين، وإنّما حمل عليه السلام ذلك الانحصار على خصوص وقت الخروج من الدنيا؛ لدلالة الأدلّة على أنّ توبة غير الجاهل أيضا مقبولة قبل هذا الوقت.


1- .في النسخة: «التفعيل».
2- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 158 - 159.
3- .في المصدر: «إلى حوالَي من الصدر والرأس».
4- .النساء (4): 17

ص: 186

أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزَّ وجلَّ : « فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَ الْغَاوُونَ » قال : «هُمْ قومٌ وصفوا عَدلاً بألسنتهم ثمّ خالَفوه إلى غيره» .

باب النوادرعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البَختريّ ، رَفَعَه ، قال : كانَ أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول :«رَوِّحوا أنفسَكم ببديع الحكمة ، فإنّها تَكِلُّ كما تَكلُّ الأبدانُ» .

قوله تعالى في سورة الشعراء: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغَاوُونَ» (1) يقال: كَبَّه: قَلَبَهُ وصَرَعَه كأكَبَّهُ وكَبْكَبه. والغيّ: الضلال والخيبة، أي فقُلبوا في النار الآلهة، والضالّون الخائبون الذين من جملتهم عَبَدتهم، فإنّهم أيضا مقرّون (ظ) لاُلوهيّة اللّه تعالى، وخالفوه إلى القول باُلوهيّة الأصنام أيضا؛ لأنّ ذلك القول مخالف للقول الأوّل وإن كان أكثرهم لا يشعرون. والكَبْكَبة تكرير الكبّ؛ لتكرير معناه كأنّ من اُلقي في النار ينكبّ مرّة بعد اُخرى حتّى يستقرّ في قعرها. وقوله عليه السلام : (هم قوم) إلخ أي الغاوون قوم وصفوا وبيّنوا عدلاً، أي حقّا ثابتا مستقرّا من العقائد، أو واجبا من الأحكام، وذكروا حقّيّته ووجوبه بألسنتهم، ثمّ خالفوه إلى غيره.

باب النوادر (2)قوله: (باب النوادر) المراد بالنوادر أحاديث متفرّقة مناسبة للأبواب السابقة لا يجمعها عنوان، كما يجمع الأبواب السابقة. قوله عليه السلام : (رَوِّحوا أنفسَكم ببديع الحكمة فإنّها تَكِلُّ كما تَكلُّ الأبدانُ) الترويح مشتقّ من الرَوح بالفتح وهو الراحة، ونسيم الريح ورائحتها الطيّبة. والكلال: الإعياء، أي اجعلوا أنفسكم في راحة، أو صيّروها طيّبة حتّى لا تكلّ أو بعد


1- .الشعراء (26): 94.
2- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 187

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن نوح بن شُعيب النيسابوريّ ، عن عبيداللّه بن عبداللّه الدهقان ، عن دُرُستَ بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العَقَرقوفيّ، عن شعيب ، عن أبي بصير قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«كانَ أميرُالمؤمنين عليه السلام يقول : يا طالبَ العلم ، إنَّ العلمَ ذو فضائلَ كثيرة ؛ فرأسُه التواضعُ ، وعينُه البراءةُ من الحسد ، واُذنُه الفهمُ ، ولسانُه الصدقُ ، .........

الكلال «ببديع الحكمة» أي لطيفها وطريفها وما يكون من الحكمة مبتدعا غير متكرّر بالنسبة إلى نفوسكم؛ فإنّ النفوس تكلّ بحركاتها في المحسوسات والمعقولات، وبالمتكرّر من المعرفة وتكرار تذكّرها، كما تكلّ الأبدان بحركاتها وأفعالها. قوله عليه السلام : (إنّ العلم ذو فضائل كثيرة) يعني أنّ العلم النافع الكامل يتبعه فضائل كثيرة لا ينفكّ عنها، وهي للعلم بعضها بمنزلة الأجزاء والأعضاء، وبعضها بمنزلة القوى، وبعضها بمنزلة الآلات، وبعضها بمنزلة الأسباب، وبعضها بمنزلة الخدم والتبعة والأعوان، ويجب اتّصاف العالم بهذه الفضائل حتّى يبقى علمه، ويتمّ ويكمل فيه، ويظهر بها الآثار المقصودة من العلم من السعادات الدنيويّة والاُخرويّة. وقوله: (فرأسه التواضع) إلخ أي لا يفارق العلمُ الكاملُ وحصولُه التواضعَ، فتوقّعُ حصولِه بلا تواضعٍ كتوقّع وجود شخص وحياته بلا رأس، فمن يريد طلبه فعليه بالتواضع. (وعينه البراءة من الحسد) لأنّ الطالب إذا حسد يُخفي علمه عن غيره، وذلك يوجب عدم تذاكره وعدم ظهور ما يظهر، ويتفطّن به عند التذاكر، وكذا يوجب عدم استعلامه ما لا يعلمه عمّن يعلمه؛ لأنّه مبغضه يحسده فيخفى عليه مواضع الشُبَه، ولا يتميّز حقّه من باطله، وكذا يخفى عليه ما ينقل إليه الذهن عند التذاكر وكثير من المجهولات التي لا يستعملها بحسده. (واُذنه الفهم) أي فهم المراد والمقصود؛ لأنّ الذهن إذا لم يفهم المعنى المقصود،لاأو لم يفهم ما يوصله إليه كالمقدّمات بالنسبة إلى النتيجة، كان كالذي يخاطب بما لا يسمع. (ولسانه الصدق) لأنّه إذا لم يكن مع العلم الصدق، كان كالذي لا لسان له ليفيد غيره.

ص: 188

وحفظُه الفحْصُ ، وقلبُه حُسْنُ النيّة ، وعقلُه معرفةُ الأشياء والأُمور ، .........

(وحفظه الفحص) أي البحث والكشف، فإنّ العلم بدون الفحص كالذي لا حفظ له، فينسى ويغفل عن كثير منه. (وقلبه حسن النيّة) وهي أن لا يكون الغرض منه إلّا تحقيقَ الحقّ والعمل بمقتضاه وانتشارَه وهدايةَ الناس خالصا مخلصا لوجه اللّه تعالى، من غير أن يكون مشوبا بشيء من الأغراض الدنيويّة حتّى يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه كالحياة الأبديّة من قرب جَناب الحقّ، ونيل المثوبات (1) الاُخرويّة، فإذا لم يكن معه حُسن النيّة كان كمن لا قلب له فلا حياة له. (وعقله معرفة الأشياء والاُمور) أقول: لعلّ المراد بعقله نفسه المجرّدة؛ فإنّ إطلاق العقل على النفس المجرّدة (2) كثير شائع، ولمّا شبّه العلم بالإنسان المركّب من الأعضاء وهو مركّب من البدن والنفس، فينبغي أن يبيّن فيه أيضا ما هو بمنزلة النفس المجرّدة في الإنسان، ولمّا كان الإنسان بالحقيقة هو النفس، والبدن آلة لها، وكذا العلم حقيقة هو معرفة الأشياء والاُمور وما عدا ذلك ممّا يتّبعه، فعبّر عن بعض تلك الفضائل - التي يكون أشدّ ارتباطا - بالأعضاء والقوى - التي هي آلات قريبة للنفس، وعن البعض الآخر الذي يكون أضعف ارتباطا به من ذلك البعض - بالسلاح والسيف وبظاهرهما التي هي آلات بعيدة للنفس، وبالأسباب والخدم والأعوان، ولمّا كان تعلّق النفس أوّلاً بالقلب، فبعد ذكر ما هو بمنزلة القلب للعلم، ذكر ما هو بمنزلة نفسه المجرّدة للإشعار بذلك. وعلى هذا الحمل لا يلزم توسيط ذكر بعض القوى وهو القوّة العقليّة فيما بين ذكر الأجزاء، بخلاف ما إذا حمل على القوّة العقليّة المميّزة بين الحسن والقبيح، كما حمله على ذلك أكثر الشرّاح. واعتذر بعضهم (3) عنه بأن عدّ العقل في الأعضاء؛ لكونه المدارَ عليه في


1- .في النسخة: «مثوبات».
2- .في النسخة: «المجرّد». وكذا المورد الآتي.
3- .هو الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 161.

ص: 189

ويدُه الرحمةُ ، ورِجْلُه زيارةُ العلماء ، وهمّتُه السلامةُ ، وحكمتُه الورعُ ، ومستقرُّه النجاةُ ،

الشخص، واحتياجِه إليه أشدَّ من احتياجه إلى الأعضاء. على أنّ حملهم على ذلك لا يخلو عن سَماجة (1) ؛ لأنّ التعبير عن عين العلم - وهو معرفة الأشياء والاُمور - بما هو بمنزلة بعض قواه في غاية الشناعة، هذا. ثمّ أقول: لعلّ المراد بالأشياء ما لا يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا، وبالاُمور ما يكون وجوده كذلك. ويحتمل أن يكون «الاُمور» تفسيرا للأشياء، وحينئذٍ يجب تعميم الأشياء بحيث تتناول القسمين. والأوّل أولى من الثاني كما لا يخفى. (ويدهُ الرحمةُ) أي التعطّف إلى المستحقّين بإيصال فضائله ونوائله بالتعليم والإفادة إليهم؛ فإنّ العلم مع عدم الرحمة كالذي لا يد له، ولا يقدر على ما ينبغي. (ورجله زيارةُ العلماء) ولولا زيارة العلماء لانسدّ باب الإفادة والاستفادة، ولما انتقل العلم من أحد إلى آخر، فكان كمن لا رِجْلَ له، ولا ينتقل من مكانه. وهذا آخر ذكر الأجزاء. (وهمّتُه السلامةُ) الهمّة: القصد والضمير، أي قصده السلامة من مهلكات الآخرة والاُولى. (وحكمتُه الورعُ) المراد بالحكمة هاهنا ما ينبعث منه أن يختار صاحبه الصدق والصواب. والورع: التقوى والاجتناب عن المحرّمات، أي ما به اختياره الصدق والصواب هو التحرّز عن ارتكاب المحرّمات، بل الاجتناب عمّا لا ينبغي ويليق من الاعتقادات والأفعال. ويحتمل أن يكون «حَكَمته» بفتح الحاء والكاف، وهي ما أحاط من اللجام بحنك الدابّة، أي المانع لمركبه - الذي هو العالم - من الخروج عن طريقه والتوجّه إلى خلاف مقصده [الذي هو] الورع. (ومستقرّه) أي مسكنه الذي إذا وصل إليه سكن واستقرّ فيه (النجاةُ) والتخلّص عن


1- .سَمُجَ الشيء سَماجَةً: قبُح.

ص: 190

وقائدُه العافيةُ ، ومركبُه الوفاءُ ، وسلاحُهُ لين الكلمة ، وسيفُه الرضا، وقوسُه المداراةُ، وجيشُه محاوَرَةُ العلماء، ومالُه الأدبُ، وذخيرتُه اجتنابُ الذنوب، .........

المعارضات الوهميّة، الحاصلة من الشُبَه والتشكيكات، وملاحظة طرق الضلال؛ فإنّ التخلّص عنها يوجب استقرار العلم والعالم. هذا إذا كان «مستقرّه» اسم مكان، ويحتمل أن يكون مصدرا ميميا، أي استقراره في قلب العالم يوجب النجاة عن الجهل والعقاب، وحمل المصدر للمبالغة كأنّه نفس النجاة عنهما. (وقائده) أي ما يقوده ويجرّه نحو مستقرّه (العافيةُ) أي البراءة من العاهات والأمراض النفسانيّة الحاصلة من معاشرة الجهّال، ومن المجادلات الواقعة بين السفهاء وغير ذلك من أسباب الآفات النفسانيّة، فإنّ كلّ ذلك صادّ للعلم والعالم عن مستقرّه. (ومركبه) أي ما بركوبه وسَوقه يصل إلى مستقرّه (الوفاء) بما في ذمّته من العمل بما يقتضيه، فبركوبه وسوقه يصل العلم إلى النجاة التي هي مستقرّه. (وسلاحه لين الكلمة) لأنّه بذلك يؤثّر في القلوب القاسية الطالبة للمراء. (وسيفه الرضا) أي الرضا بقضاء اللّه تعالى وحُكْمِه في كلّ الاُمور، فإنّه يقتل ما يهلكه من مقتضيات الشهوة والغضب والمخيّلات والأوهام الفاسدة. ويحتمل أن يكون المراد بالرضا التسليم وترك الجدال مع عدوّه؛ يعني صاحب الجهل المركّب الطالب للمراء، فإنّ ذلك يوجب سكوته والتخلّص عنه، فهو دافعٌ لضرره عن العلم والعالم، وقاتلٌ لجداله الذي هو عدوّ للعلم ومُفسده. (وقوسه) أي ما يرمي به عدوّه من بعيد (المُداراة) أي الملاينة وحسن الخلق مع الخلق. (وجيشه محاورة العلماء) ومكالمتهم ومجاوبتهم؛ فإنّه يقوّيه ويعينه كتقوية الأعوان والأنصار. (وماله) أي بضاعته التي يتّجر بها ويكتسب بها الربح (الأدب) أي رعاية الآداب في التعليم والتعلّم، وفي محاورات العلماء والمعاشرة. (وذخيرته) وهو ما يحرزه الإنسان يوما فيوما لوقت الحاجة (اجتناب الذنوب) فإنّها إذا

ص: 191

وزادُه المعروفُ ، ومأواهُ الموادَعَةُ ، ودليلُه الهدى ، ورفيقُه محبّةُ الأخيار» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن أحمدَ بن محمّد بن أبي نصر ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : نِعْمَ وزيرُ الإيمانِ العلمُ ،

اجتُنبت لم يضعف العلم، ويبقى قوّته بل يزيد (1) دائما، وينتفع به عند إرادة العدوّ من الشياطين: الإنس والجنّ إزالتَه، وكذا ينتفع صاحبه به في النشأتين. (وزاده) وهو ما يتّخذه المسافر من قوته (المعروف) وهو ضدّ المنكر من الأفعال، فبفعل المعروف يقوى على سلوك طريق الآخرة مع صاحبه من غير أن يتطرّق عليه فساد، أو هلاك في الطريق. (وماؤه) وما يسكن به عطشه وحُرقة فؤاده (الموادعة) أي المصالحة، والمقصود الجمع بين المتعارضين، ورفع التنازع والتعارض بينهما مهما أمكن، وذلك يوجب تسكينه. وحقيقة الموادعة المتاركة؛ لأنّ كلّ واحد من المتصالحين يدّعي شيئا من دعواه. (ودليله) أي دليله إلى الحقّ ليستخلص عن الباطل، أو إلى النجاة ليستخلص من الشُبَه والشكوك وطرق الضلال، والمآل واحد (الهُدى) أي هدى اللّه وتوفيقه تعالى بوساطة الكتب والرسل والأوصياء صلوات اللّه عليهم. فهذه هي موازين الحقّ يتخلّص العلم بها من الأباطيل «قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدى» (2) وهو إشارة إلى عدم استقلال العقل بمعرفة الحلال والحرام وخصوصيات الأفعال، وذلك لا ينافي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، كما لا يخفى على من له بصيرة. (ورفيقه) أي ما يؤمن بمرافقته من قطع طريقه إلى العمل عليه (محبّة الأخيار) فإنّها تورث اختيار الخير والاجتناب عن الشرّ، وذلك هو العمل بما يقتضيه؛ واللّه وليّ التوفيق والهداية. قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (نِعْمَ وزيرُ الإيمانِ العلمُ) الوزير: المؤازر، أي المعاون الذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، وتحمّل عنه وزره، أي ثقله.


1- .في النسخة: «تزيد».
2- .البقرة (2): 120.

ص: 192

ونعم وزيرُ العلمِ الحلمُ ، ونعم وزيرُ الحلمِ الرفقُ ، ونعم وزيرُ الرفقِ الصبرُ» .

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ ، عن عبداللّه بن ميمون القَدّاح ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام ، قال :«جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : يا رسول اللّه ، ما العلمُ؟ .........

والإيمان هو التصديق بالاُلوهيّة وبالرسول وجميع ما جاء به النبيّ عليه السلام بحيث لا يجامع الإنكار والجحود. والمراد بالعلم هنا معرفةُ تفاصيل المعارف الإلهيّة والعلوم الدينيّة بأدلّتها عدا العلم بما يؤمن به، وتصديقٌ به، فإنّه نفس الإيمان لا معاونه. و(الحلم) هو الأناة، وهو ملكة نفسانيّة توجب (1) ترك الانتقام والمراء والجدال وعدم استفزاز (2) الغضب. و(الرفق) ضدّ العنف، وهو التلطّف، وتسهيل الأمر وذلك من الأفعال، والأوّل صفة النفس، وقد يتحقّق بدون الحلم مع التحلّم (3) ، أي تكلّف الحلم. و(العبرة) بكسر العين المهملة - الاسم من الاعتبار، وأصله العبور العلمي والانتقال الفكري من الأشياء كترك الرفق وارتكاب العنف إلى ما يرتّب عليها من سوء العاقبة، فالإيمان في استقامة أمره يحتاج إلى إعانة العلم، والعلم يحتاج إلى إعانة الحلم، وهكذا إلى العبرة. وفي بعض النسخ بدل «العبرة»: «الصبر» وهو السكون النفساني الباعث للإنسان على ترك الانتقام وإطفاء الغضب، وعلى هذا فينبغي أن يحمل الحلم على العقل الكامل؛ فتدبّر. قوله: (ما العلم؟) أي ما الذي يجب رعايته في نيل العلم بقاءه والانتفاع به؟


1- .في النسخة: «يوجب».
2- .في النسخة: «استقرار». وفي الحاشية على اُصول الكافي للنائيني: «وأن لا يستفزّه الغضب». قال في الصحاح، ج 2، ص 890: «استفزّه الخوفُ، أي استخفّه، وقعد مُسْتَفِزّا، أي غير مطمئنّ».
3- .في هامش بعض نسخ الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 164: «الرِفق ضدّ العنف، وهو من الأفعال، فالفرق بين الحلم والرفق أنّ الأوّل من صفات النفس وهو الملكة، والثاني من الأفعال، فقد يتحقّق الرفق مع التحلّم».

ص: 193

قال: الإنصاتُ، قال: ثمّ مَهْ؟ قال: الاستماعُ ، قال : ثمّ مَهْ؟ قال : الحفظُ ، قال : ثمّ مَهْ؟ قال : العملُ به ، قال : ثمّ مَهْ يا رسول اللّه ؟ قال : نَشْرُهُ» .

عليُّ بن إبراهيم ، رَفَعَه إلى أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«طلَبَةُ العلم ثلاثَةٌ فَاعْرِفْهم بأعيانهم وصفاتهم: صنفٌ يَطلبُه للجهل والمراء، .........

وقوله عليه السلام (قال: الإنصات) وهو أن يسكت سكوتَ مُستمع، وذلك ممّا يجب رعايته في نيل العلم وتحصيله. وقوله عليه السلام : (ثمّ مَه؟) أي ثمّ ما، قلبت الألف هاءً؛ فإنّ ألف «ما» (1) الاستفهاميّة قد تقلب هاءً. (قال: الاستماع) فإنّه أيضا ممّا يجب رعايته في بقائه، والعمل به ممّا يجب رعايته في البقاء والانتفاع به؛ لأنّ بالعمل يرتقي العالم إلى معارج القرب، وينال السعادة الأبديّة والثواب الاُخروي، ونشره أيضا ممّا يجب رعايته في البقاء والانتفاع به؛ لأنّ بنشره وتعليمه تحصل ملكته ورسوخه في الذهن مع ترتّب الثواب على نشره. قوله عليه السلام : (طلبة العلم ثلاثة) أي ثلاثة أصناف. وقوله عليه السلام : (فَاعْرِفْهم) وفي بعض النسخ: «فاعرفوهم». (بأعيانهم) قيل (2) : أي بخواصّهم وأفعالهم المخصوصة بهم، أو بالشاهد والحاضر من أفعالهم. انتهى. وذلك القول الأخير منه مستند (3) إلى ما قاله في القاموس: «العين: الحاضر من كلّ شيء» (4) . وسكت عن تفسير قوله: (بصفاتهم)، وعلى هذا فالمراد بصفاتهم ما عدا أفعالهم من علاماتهم المتّصفين بها، أو ذلك القول تفسير لقوله: «بأعيانهم».


1- .في النسخة: «الماء».
2- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 165.
3- .في النسخة: «مستندا».
4- .القاموس المحيط، ج 4، ص 356 (عين).

ص: 194

وقيل (1) : «فاعرفهم بأعيانهم» أي أقسامهم ومفهومات أصنافهم، وهي فيما ذكره بقوله: «صنف» إلى قوله: «والعقل». و«صفاتهم» أي علاماتهم التي يعرف بها كلُّ صنف من غيره، وهو فيما ذكره بقوله: «فصاحب الجهل» إلخ انتهى. وأقول: يحتمل أن يكون المرادُ بأعيانهم مناظرَهم من هيآتهم وأوضاعهم كالتسربل بالخشوع والتخلّي من الورع - قال في القاموس: «العين: مَنْظَرُ الرجل» (2) - وبصفاتهم (3) علاماتِهم من أفعالهم. (4) ويحتمل أن يكون الباء للإلصاق، ويكون قوله: «بما نقول» مقدّرا بعد قوله: «وصفاتهم» أي اعرفهم بأشخاصهم وصفاتهم بما نقول. ويحتمل أن يكون معناه: اعرفهم بسبب الحاضر من أفعالهم وعلاماتهم، وتكون الواو في قوله: «وصفاتهم» بمعنى «مع» أي مع صفاتهم وخواصّهم التي خصّهم اللّه تعالى بها ممّا فعله بهم من العقاب على الأوّلين، وإعطاء الثواب على الثالث على الوجه الذي ذكره عليه السلام بعد ذكر علامة كلّ واحد من الأصناف الثلاثة، وحينئذٍ يكون الكلام على سياقة اللفّ والنشر المرتّب أو بالعكس، بأن يكون المراد بأعيانهم خواصّهم التي خصّهم اللّه تعالى بها (5) من العقاب والثواب، وبصفاتهم علاماتهم، ويكون الباء للإلصاق، والواو بمعنى «مع» أو بمعنى العطف، واللفّ على خلاف ترتيب النشر. 6 وذانك التفسيران أحسن من سائر التفاسير، وآخره أولى من أوّله من وجه، وبالعكس من وجه آخر.


1- .نقلها في مرآة العقول، ج 1، ص 159 بعنوان «قيل».
2- .القاموس المحيط، ج 4، ص 356 (عين).
3- .عطف على قوله: «بأعيانهم».
4- .في النسخة: «به».
5- .نقلها في مرآة العقول، ج 1، ص 159 - 160 بعنوان «قيل».

ص: 195

وصنفٌ يطلُبُه للاستطالة والخَتْل، وصنفٌ يطلُبُه للفقه والعقل ، فصاحبُ الجهل والمراء موذٍ ،

وبقي بعدُ احتمالات اُخر في هذا القول، كما لا يخفى على الفطن العارف. وقوله عليه السلام : «صنف يطلبه للجهل والمراء» المراد بالجهل هاهنا ضدّ العقل وهو الصفة الداعية إلى الشرّ. والمراء: الجدال لإظهار الغلبة، فمقصوده من طلبه أن يكون آلة له لنيل الباطل والجدال ومنازعة السفهاء. وقوله: (وصنف يطلبه للاستطالة والخَتَل) الاستطالة هي التطاول والتفضّل والترفّع. والخَتَل - بفتح الخاء المعجمة والتاء المثنّاة فوق - : الخدعة، أي يطلبه للتفوّق والترفّع به على العلماء، والمباهاة به إيّاهم، وللخُدعة بالنسبة إلى أهل الدنيا. وقوله: (وصنف يطلبه للفقه والعقل) ليكون فقيها عارفا في الاُصول والفروع، وليستعمله العقل فيعمل العاقل بمقتضاه؛ فإنّ العلم مقصود بالذات، والعمل به أيضا مقصود، فهذا الطالب يطلبه لنفسه وللعمل به معا. ويحتمل أن يكون المراد بالفقه الفهم والتميز بين الحقّ والباطل والحَسن والقبيح، والمراد بالعقل العقل المكتسبي وهو كمال العقل الفطري من الصفة الداعية للخير (1) ، وتلك الصفة إنّما تكمل (2) بالعلم ومعرفة الخير من الشرّ في خصوصيّات الأفعال؛ لعدم استقلال العقل بذلك كما مرّ آنفا. وقوله عليه السلام : (فصاحبُ الجهل والمراء) إلخ بيان لعلامة كلّ واحد من الأصناف الثلاثة، وما يختصّ بكلّ واحد منها من مآل حالهم، وكيفيّة عاقبة أحوالهم. وقوله: (موذٍ) اسم فاعل للأذيّة، أي المكروه، فيُسمِع مَن يباحثه بما يكرهه «ممارٍ» أي مجادل منازع.


1- .في النسخة: «الخير».
2- .في النسخة: «يكمل».

ص: 196

مُمارٍ ، مُتعرِّضٌ للمقال في أندِيَة الرجال الرجال بتذاكُرِ العلمِ وصفة الحلمِ ، قد تَسَرْبَلَ بالخشوع ، وتَخَلّى من الورع ، فَدَقَّ اللّهُ من هذا خيشومَه ، .........

وقوله: (مُتعرِّضٌ للمقال في أندية الرجال) الأندية جمع نَدِيّ كرغيف وأرغفة والنَدِيّ والنَدوة والمُنتَدى: مجتمع القوم ومجلسهم ومتحدَّثهم، أي متعرّض للمقال في القوم أو الكاملين. (بتذاكر العلم) وذكر المسائل والمعارف بينهم وإظهار العلم بها، أو ببيان أنّ العلم ماذا؟ أي ليس الذي مع غيري من السابقين واللاحقين علما، والعلم إنّما (1) هو معي. والتذاكر: كثرة الذكر، والمبالغة فيه؛ لأنّ التفاعل في الأصل وُضع للنسبة إلى (2) اثنين، ولمّا كان الفعل إذا وقع بين اثنين، كان مظنّة للمبالغة (3) والتكرار، والمبالغة استعمل للتفاعل، واُريد محض المبالغة وإن لم يكن بين اثنين. و«الصفة» في قوله: (وصفة العلم) مصدر وعطف على «تذاكر العلم» أي بوصف العلم وإظهار اتّصافه به، أو ببيان أنّ السابقين واللاحقين لم يكونوا حُلماء؛ لما نقل عنهم من المنازعات والمجادلات، وإنّما كان الحلم معي. وقوله: (قد تَسَرْبَلَ بالخشوع) قال في القاموس: «السِربال - بالكسر - : القَميصُ أو الدِرْعُ أو كلُّ ما لُبِسَ وقد تَسَرْبَلَ به (4) » أي تلبّس به، والمراد بالتلبّس بالخشوع التكلّف له وإظهار الخضوع والتذلّل والتواضع. وقوله: (وتخلّى من الورع) أي من التقوى والاجتناب عن المحرّمات كالرياء وإيذاء العلماء والمراء ومخالفة قوله فعله وغير ذلك. وقوله عليه السلام : (فَدَقَّ اللّهُ من هذا خيشومَه) جملة خبريّة بيان لما يترتّب على طلبه العلمَ للجهل والمراء، والمرادُ بدقّ الخيشوم - وهو أقصى الأنف وأعلاه - إذلالُه واختلال حاله ورفع الانتظام من أفعاله في الدنيا.


1- .في النسخة: «ما» بدل «إنّما».
2- .كذا. والأولى: «بين».
3- .في النسخة: «للمغالبة».
4- .القاموس المحيط، ج 3، ص 579 (سربل).

ص: 197

وقَطَعَ منه حَيزومَه ، وصاحبُ الاستطالة والخَتْلِ ذو خِبٍّ ومَلَقٍ ، يَستطيلُ على مِثْله من أشباهِهِ ، ويَتواضَعُ للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضِمٌ ، ولدينه حاطِمٌ ، .........

والمرادُ بقطع الحَيزُوم - بالحاء المهملة المفتوحة والزاي المعجمة المرفوعة وهو الصدر أو الوسط - قطعُ ما هو مناط الحياة والتعيّش الاُخرويّة من النجاة والثواب المترتّب على العلم عنه. وقوله: (صاحبُ الاستطالة والخَتلِ ذو خِبّ وَمَلَقٍ) الخِبّ - بكسر الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحّدة - : الخدعة والخبث والغِشّ والنفاق، ويقال للخدّاع والذي يسعى بين الناس بالفساد: الخَبّ بالفتح. والمَلَق - بفتح الميم واللام - : المداهنة والملاينة وأن يعطي باللسان ما ليس في القلب. وقوله: (يَستطيلُ على مثله من أشباهِه، ويَتواضَعُ للأغنياء مَن دونه) بيان لخِبّه ومَلقَه، فإنّ خِبّه، أي خباثته وغشّه باستطالته وترفّعه وتفوّقه على من هو مثله في المرتبة والعزّ من العلماء أو الطلبة الذين هم أشباهه، وكذا خداعه بتلك الاستطالة عليهم لغير أهل العلم فإنّهم يتخدّعون بها، ويظنّون علوّ رتبته وسموّ منزلته، ويتّبعونه، وملَقه بالنسبة إلى الأغنياء ومعهم بتواضعه لهم من دونه، أي من غير صنفه وهم طلبة العلم، فالمضاف محذوف، أو ممّن هو دونه ومن هو خسيس وضعيف بالنسبة إليه، ويحتمل أن يكون «مَن» بفتح الميم. وقوله عليه السلام : (فهو لحلوائهم هاضم) الحلواء ما يتّخذ من الحلاوة من الأطعمة اللذيذة. والهضم في الأصل الكسر، ثمّ استعمل في تصرّف الطبيعة في الغِذاء بكسره وإزالة صورته لأن يصير جزءً من المغتذي. وقرأ بعضهم (1) الحُلوان بضمّ الحاء وبالنون وهو اُجرة الدلّال والكاهن وما اُعطي منه نحو رشوة، والمراد هاهنا ما يعطيه الأغنياء، فكأنّه اُجرة لما يفعله بالنسبة إليهم، ورشوة على ما يتوقّعون منه. وقوله عليه السلام : (ولدينه حاطمٌ) أي كاسر ومفسد له.


1- .هو الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 168.

ص: 198

فأعمى اللّهُ على هذا خَبَرَه ، وقَطَعَ من آثار العلماء أثرَه ، وصاحبُ الفقهِ والعقلِ ذوكَآبَةٍ وحَزَنٍ وسَهَرٍ ، قد تَحَنَّكَ في بُرْنُسِهِ ، .........

وقوله عليه السلام : (فأعمى اللّهُ على هذا خُِبْره) الخُِبْر - بضمّ الخاء المعجمة وبكسرها وسكون الباء الموحّدة وبالراء المهملة - : العلم، أي أخفى اللّه تعالى على هذا العالم علمه وأزاله عنه في الدنيا، فلا يميّز بين الحقّ والباطل، ولا يهتدي إلى الحقّ، ولا يرتّب على علمه ما هو أثره. ويحتمل أن يكون «خَبَره» بفتح الخاء والباء، أي أخفى اللّه بناء على هذا أو من أجل فعله هذا خَبَره من بين العلماء، وجعله في الدنيا ذليلاً مجهولاً بحيث لا يعدّه أحد من العلماء. وقوله عليه السلام : (وقطع من آثار العلماء أثرَه) أي قطع من آثار العلماء من الفضل والثواب والقرب والمنزلة المترتّب على علمهم في الآخرة أثره في تلك الاُمور؛ لإفساده علمه. وقوله عليه السلام : (وصاحب الفقه والعقل) أي الذي يطلب العلم للفقه والعقل، وفيه إشارة إلى أنّ من طلب العلم للفقاهة ولكونه آلة ومقوّيا للعقل يحصّل به ما أراده من الفقاهة وقوّة العقل، كما يحصّل من طلبه للجهل والمراء والاستطالة والختل ما أرادهما منه من الاُمور المذكورة، ولهذا عبّر عنهما عن صاحب الجهل والمراء، وعن صاحب الاستطالة والختل. وقوله: (ذو كآبةٍ وحَزَنٍ) أي لخوف أهوال يوم القيامة. والكآبة - بفتح الكاف والهمزة بعدهما ألف وقد يحذف الألف ويسكّن الهمزة - : انكسار النفس من شدّة الحزن والهمّ. والسَهَر - بفتح السين المهملة والهاء - : ضدّ النوم. وقوله عليه السلام : (قد تحنّك في بُرنُسِه) التحنّك: إدارة العِمامة تحت الحنك و (1) الانقياد الكامل، مِن «حَنكتُ الفرسَ» كنصرت وضربت، أي جعلت في حنكه الأسفل وفي فيه حبلاً أقوده. والبُرنُس - بضمّ الباء الموحّدة وسكون الراء المهملة والنون المضمومة والسين المهملة - : كلُّ ثوبٍ رأسُه منه ملتزقٌ دُرّاعةٌ أو جُبّةٌ أو مِمْطَرٌ أو غيره، وقال الجوهري: «هو


1- .في الحاشية على اُصول الكافي للنائيني ص 170: «أو» بدل «و».

ص: 199

وقام الليل في حِنْدِسِه ، يَعمَلُ ويَخْشى .........

قَلنسُوَةٌ طويلة كان يلبسها النُسّاك والعُبّاد في صدر الإسلام» (1) . وهو من البِرس - بكسر الباء - : القطن، والنون زائدة (2) . الظاهر أنّه (3) هو المراد به هاهنا. وقيل (4) : إنّه غير عربي. والتحنّك في البُرنس إدارة المنديل من فوق البرنس تحت الحنك لئلّا يسقط عند الحركات حين العبادة، فهي مستعملة (5) فيما [هو] معناه الحقيقي. ويحتمل أن يكون معناه تحنّك في وقت لبس برنسه بحذف المضاف. وقيل (6) : عند لبسه. والكلّ حسن. ولمّا كان التلبّس بالبرنس في وقت النوم والاستراحة وفي الخلوات، فمعناه أنّه تحنّك فيه للرياضة والاشتغال بالعبادات في الخلوات، وفي أوقات لا يشوبها شوب الرياء خالصا مخلصا لوجه اللّه تعالى، أو انقاد كمال الانقياد في وقت لبسه، أو عند لبسه بالاشتغال بالعبادات في الخلوات إلى آخر ما ذكرناه. وقوله عليه السلام : (وقام الليل في حِنْدِسه) الحندس - بالحاء المهملة المكسورة والنون الساكنة والدال المهملة المكسورة والسين المهملة - : ظلمة الليل، وقد يطلق على الليل المظلمة. والضمير راجع إلى «الليل» أي قام الليل للتهجّد والمناجاة وأنحاء العبادات في ظلمة الليل، أو «إلى صاحب الفقه»، أي قام الليل للاشتغال بالعبادة في ليلته المظلمة، أو في ظلمة ليله. وقوله عليه السلام : (يَعْمَلُ ويَخشَى) إلخ أي يعمل للّه ، ويخشى من عقابه حال كونه «وَجِلاً» أي خائفا من عدم قبول طاعته بسبب من الأسباب كعدم الخلوص الذي يليق بعبادته حتّى أن


1- .الصحاح، ج 2، ص 908 (برنس).
2- .النهاية في غريب الحديث، ج 1، ص 132؛ لسان العرب، ج 6، ص 26 (برنس).
3- .هنا في النسخة زيادة «و».
4- .ذكره بعنوان «قيل» ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث، ج 1، ص 132؛ وابن منظور في لسان العرب، ج 6، ص 26؛ والطريحي في مجمع البحرين، ج 1، ص 193 (برنس).
5- .في النسخة: «مستعمل».
6- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 170.

ص: 200

وَجِلاً داعِيا مُشفِقا ، مُقبِلاً على شأنه ، عارفا بأهل زمانه ، مُسْتَوْحِشا من أوثق إخوانه ، فشدَّ اللّهُ من هذا أركانَه ، وأعطاه يومَ القيامة أمانَه» . وحدَّثني به محمّدُ بن محمودٍ أبو عبداللّه القزوينيّ ، عن عدَّة من أصحابنا منهم جعفر بن محمّد الصيقل بقزوين ، عن أحمد بن عيسى العَلَوِيّ ، عن عَبّاد بن صُهَيب البصريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام .

يكون منظور قلبه في بعض الأحيان دفع عقاب، أو نيل ثواب مثلاً بتلك العبادة، وذلك ينافي الخلوص والقربة، ومن عدم دوامها وزوالها في أثناء عمره وغير ذلك من الأخاويف. (داعيا) أي طالبا منه سبحانه توفيقه للاهتداء بالهداية والثبات على الإيمان ونيل العفو والمغفرة والسعادة الأبديّة. (مشفقا) أي خائفا من الانتهاء إلى الضلال والشقاء وفساد الاعتقاد وسوء العاقبة. ويحتمل أن يكون معناه داعيا لغيره ممّن له استعداد وقابليّة للاهتداء إلى الحقّ، سواء كان بحسب النطق والمقال، أو بلسان الحال، فإنّ بعض الناس من أهل السعادة إذا رأى من أحد حسن العبادة مال إليه واقتفى أثره، فكأنّ حسن عبادته دعوة لغيره إلى ذلك مشفقا ناصحا لغيره من أهل الاستعداد بدعوته إلى الحقّ بالمقال، أو بلسان الحال. وعلى هذا فالمشفق بمعنى الشفيق من الشفق بمعنى حرص الناصح على إصلاح المنصوح. (مقبلاً على شأنه) وإصلاح حاله، حذرا ممّا يشفق ويخاف منه. (عارفا بأهل زمانه) فلا ينخدع ولا يغترّ بهم. وأيضا يعلم أنّ أكثرهم أهل الباطل لا يؤثّر فيهم الكلام، ولا يحفظون الأسرار فيتحرّز عنهم (مستوحشا من أوثق إخوانه) لما يعرف من أهل زمانه من الخداع والنفاق والبطلان والإفساد وإفشاء الأسرار فلا يطّلعه على سرّه؛ لأنّه ينافي كمال التقيّة. وقوله عليه السلام : (فشدّ اللّه ) إلخ أي فشدّ اللّه من هذا العالم (أركانه) أي أصلح حاله في الدنيا بإفاضة المعرفة وإكمال العقل ، وتمكّنه من إعمال العلم والعمل على وفقه، وأصلح حاله في الآخرة بإعطاء الأمان على طبق ما كان يطلب العلم له خير جزاء في الدنيا والآخرة.

ص: 201

عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، قال: سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول:«إنَّ رُواةَ الكتاب كثيرٌ ، وإنَّ رعاتَه قليلٌ، وكم من مُسْتَنْصِحٍ للحديث مُستَغِشٌّ للكتاب ، فالعلماءُ يَحْزُنُهُم تركُ الرعاية ، والجهّالُ يَحْزُنُهم حفظُ الرواية ،

وقوله عليه السلام : (إنّ رواة الكتاب كثير وإنّ رعاته قليل) المراد برواة الكتاب رواة القرآن، قراءة كانت أو تفسيرا، بأن يكون راويا لتفسيره من الأحاديث من غير تدبّر فيها للعمل بها، والمراد برعاته مَن يتدبّر ويتفكّر فيه ويتنبّه لمقصوده، ويعمل على طباقه. وقوله عليه السلام : (وكم مستنصح للحديث مستغشّ للكتاب) جملة معترضة و«كم» للتكثير، يقال: استنصحه، أي عدّه نصحا خالصا عن الغشّ، واستغشّه، أي عدّه مغشوشا، أي وكم من عامل بالحديث المخالف للقرآن، فيكون مستغشّا للقرآن. والمقصود أنّ الحديث إذا كان مخالفا لمحكمات القرآن وظواهره يجب تأويله وطرحه، ولا يجوز تأويل محكماته وظواهره بالحديث المخالف له. وقوله عليه السلام : (فالعلماء يَحزُنُهم تركُ الرعاية، والجهّالُ يحزنهم حفظُ الرواية). أقول: لعلّ المراد بالعلماء هاهنا أصحاب الفقه والعقل من طلبة العلم الذين يعملون بعلمهم؛ لأنّهم يستحقّون بهذه التسمية؛ لانتفاعهم بعلمهم الكامل، وبالجهّال الصنفان الآخران: أعني أصحاب الجهل والمراء، وأصحاب الاستطالة والخَتَل، فإنّهم - لتضرّرهم وتشديد عقابهم بعلمهم بالنسبة إلى الجهّال الذين لا يعلمون الكتاب أصلاً - يستحقّون بتلك التسمية. يقال: أحزنه وحَزَنَه كنصَرَه، إذا جعله محزونا، أي العلماء الذين يكون مطلوبهم معرفة مطالب الكتاب ومقاصده، والعملَ على طباقها يحزنهم ترك الرعاية والتدبّر والتفكّر في القرآن وعدم معرفة مطالبه، الذي يفضي إلى عدم العمل به عاجلاً في الدنيا؛ حيث يعلمون ما في الترك من سوء العاقبة، وآجلاً في العقبى عند ظهور ما يرتّب على تفريطه، فهؤلاء يحزنون بترك مطلوبهم، وفعل (1) [ما ]يوجب مسرّتهم وعلوّ رتبتهم في


1- .في النسخة: «فعله».

ص: 202

فَراعٍ يَرْعى حياتَه ، وراعٍ يرعى هَلَكَتَه ، فَعِند ذلك اختَلَفَ الراعيانِ ، وتَغايَرَ الفريقانِ» .

النشأتين، والجهّال الذين يكون مطلوبهم حفظ رواية الكتاب ورواية الأخبار الواردة في تفسيره للجهل والمراء، أو الاستطالة والختل، ولا يتفكّرون في مقاصده للفقه والعقل، ولا يريدون علمه للعمل بمقتضاه، يحزنهم حفظ الرواية عاجلاً بإذلالهم وإزالة علمهم عنهم في الدنيا، وآجلاً بأليم عقابهم وتشديد الأمر عليهم بسبب الاطّلاع على الكتاب، والعلم به في الجملة، وترك التدبّر فيه ليعرف مطالبه وعدم العمل به، فهؤلاء يحزنهم مطلوبهم من حفظ الرواية. والحاصل أنّ مطلوب العلماء ما هو تركه يوجب حزنهم، ومطلوب الجهّال ما هو فعله يوجب حزنهم. وقوله عليه السلام : (فَراعٍ يَرعى) إلخ أي فراعٍ يرعى حياته، أي حياة نفسه أبدا، ونجاته - وهو الذي يراعي الكتاب ويتدبّر فيه ويعمل بما عرفه منه - بعد التفكّر فيه (وراعٍ يرعى هَلَكَتَه) بالتحريك، أي هلاك نفسه وعقابه الاُخروي وهو الذي يحفظ روايته للجهل والمراء، أو الاستطالة والختل، ولا يتدبّر فيه، ولا يعمل بمقتضاه. وقوله عليه السلام : (وعند ذلك اختلف الراعيانِ، وتغايَرَ الفريقانِ) فريق في الجنّة، وفريق في الجحيم. والمذكور في رسالة أبي جعفر عليه السلام إلى سعد الخير ونقلها الكليني في كتاب الروضة هكذا: «الجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» (1) وذلك لا ينافي لهذا الحديث على ما بيّناه كما لا يخفى، هذا. قال بعض الأعلام (2) : يحتمل أن يكون المراد أنّ العلماء ترك رعاية الكتاب مكروههم ويوجب حزنهم، والجهّال ترك حفظ الرواية مكروههم ويوجب حزنهم، بحذف المضاف؛ لدلالة قرينة المقام عليه، فيكون موجب الحزن في الموضعين المكروه، وقد يكون المحبوب المطلوب أيضا موجبا للحزن؛ لخوف فوته.


1- .الكافي، ج 8، ص 53، ح 16.
2- .المراد به ملّا خليل القزويني صاحب الشافي.

ص: 203

الحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن محمّد بن جمهور ، عن عبدالرحمن بن أبي نجرانَ ، عمّن ذكره ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«مَن حَفِظَ من أحاديثنا أربعينَ حديثا ، بَعَثَه اللّهُ يومَ القيامة عالما فقيها» .

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عمَّن ذكره ، عن زيد الشحّام ، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ :« فَلْيَنظُرِ الْاءِنسَ-نُ إِلَى طَعَامِهِى » قال : قلت ما طَعامُه؟ .........

ثمّ قال: وبعض الأصحاب (1) كتب فوق لفظ (2) «ترك» في قوله: «ترك الرعاية» لفظة «كذا» ومقصوده أنّ الظاهر أن يقال: فالعلماء يحزنهم الرعاية ليكون الموجب للحزن في الموضعين المحبوب (3) ، وفي كتاب السرائر لابن إدريس فيما استطرفه من كتاب اُنس العالم تصنيف الصفواني نقل هذه الرواية بتعبير عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام وفيها: «العلماء يحزنهم الدراية، والجهّال يحزنهم الرواية». ثمّ قال: «فراعٍ يرعى حياته» أي حياة نفسه وهو راعي الكتاب «وراع يرعى هلكته» بالتحريك، أي هلاك نفسه وهو راعي الحديث المخالف للكتاب (4) . انتهى، فتدبّر. قوله عليه السلام : (من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا) إلخ أي الأحاديث المرويّة عنّا حججَ اللّه تعالى على خلقه من هذه الاُمّة، وأخذها منّا أهلَ البيت - ولو بالواسطة - بشرط التدبّر فيها والعمل بها، ونشرها كما يستفاد تلك الشرائط من الأحاديث السالفة (بعثه اللّهُ تعالى يوم القيامة) في زمرة العلماء بالمعارف الإلهيّة، والفقهاء بالأحكام الدينيّة. قوله: (قلت: ما طعامه؟) إلخ أي ما طعامه الذي يجب أن ينظر إليه؟


1- .في هامش النسخة: هو مولانا محمّد أمين الإسترآبادي صاحب كتاب الفوائد المدنيّة (منه عفي عنه). وكذا في هامش نسخة المصدر و أورد الإسترآبادي في حاشيته على اُصول الكافي (المطبوع في ميراث حديث شيعه، ج 8، ص 285) روايةَ السرائر فقط من دون توضيح.
2- .في المصدر: «لفظة».
3- .في المصدر: «لتكون النسبة في الموضعين إلى المحبوب».
4- .الشافي، ص 180 - 181 (مخطوط) ولم يرد صدر كلامه في المخطوطة ، ولعلّه ورد في بعض نسخه.

ص: 204

قال : «عِلْمُه الذي يأخُذُه ، عمّن يأخُذُه» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن النعمان ، عن عبداللّه بن مسكان ، عن داودَ بن فَرقد ، عن أبي سعيد الزُّهْريّ ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«الوقوفُ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكَةِ ، وتركُك حديثا لم تَرْوِهِ

(قال: علمه الذي يأخُذُه عمّن يأخُذُه) أي المرادُ بالطعام في الآية - وهو ما يُدرَك طعمه ويُغتذى به - أعمُّ من الطعام الجسماني والروحاني، أي النفساني، والأهمّ النفساني منه، فكأنّه هو المقصود الأصلي، وهو العلم الذي تدركه النفس وتغتذي (1) به؛ لأنّه يقوّيها ويكمّلها كما أنّ الطعام الجسماني يقوّي الجسم ويكمّله. و«مَن» في قوله: «عمّن يأخذه» استفهاميّة. فمراده عليه السلام أنّ الطعامَ المهتمّ به - الذي يجب أن ينظر الإنسان إليه - علمُه الذي يأخذه، [ف-]يجب أن ينظر إليه عمّن يأخذه؛ فإنّه لا يحلّ أخذه إلّا من مأخذه الحقّ ولو بالواسطة. قوله: (عن أبي سعيد الزُهْري) بالزاي المعجمة المضمومة والهاء الساكنة والراء المهملة. وقوله عليه السلام : (الوقوفُ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكَة) «الاقتحام»: الدخول في الشيء من غير رويّة. و«الهَلَكة» - محرّكة - : الهلاك، والمراد بالهلاك هاهنا الضلال، أي التوقّف والتثبّت عند الشبهة حتّى يتبيّن الحقّ «خير من الدخول» وإلقاء نفسه فُجأةً في الضلال؛ إذ الدخول في الشبهة وما لا يكون معلومَ الثبوت - عقلاً ولا شرعا، لا ابتداءً وفي بادئ الرأي، ولا ثانيا بعد النظر، اعتقادا كان أو قولاً أو فعلاً - هلاكٌ وضلال. وقوله عليه السلام : (وتركُكَ حديثا لم تُروه) الظاهر أنّ قوله: «لم تُروه» على صيغة المجهول من باب الإفعال (2) أو التفعيل (3) صفة لقوله: «حديثا» أي تركك حديثا لم تُحمل على روايته.


1- .في النسخة: «يدركه... يغتذي».
2- .أي لم تُرْوَهُ.
3- .أي لم تُرَوّه. وعلى هذا ضبطت في النسخة.

ص: 205

خيرٌ من روايتك حديثا لم تُحْصِهِ» .

وكونه محمولاً على روايته عبارة عن كونه متحمّلاً للحديث المضبوط المصحّح بحيث يجوز له، أو يجب عليه روايته. أو على صيغة المعلوم من أحد البابين، يقال: روّيتُهُ الشعرَ، أي حملته على روايته، وأرويته أيضا كذلك، أي تركك حديثا لم يحملك من يرويه لك على روايته، ولم يصيّرك بحيث يجوز لك، أو يجب عليك روايته. ويحتمل أن يكون على صيغة المعلوم المجرّد، أو المجهول صفةً لقوله: «حديثا» أي تركك حديثا لم تكن راويا له، ولم يكن لك إصلاحه روايته (1) ؛ لعدم تحمّلك إيّاه عن المشايخ إلى أن ينتهي إلى مأخذه بوجه من وجوه التحمّل، وعدم تصحيحك وضبطك متنه وسنده، وبالجملة، لعدم رعاية ما يجب رعايته في رواية الحديث، أو تركك حديثا لم يرو لك إيّاه أحد من الرواة على حاله فلا ترويه. وقوله عليه السلام : (خيرٌ من روايتك حديثا لم تُحْصِه) خبر لقوله: «تركك» و«لم تحصه» صفة لقوله: «حديثا» والإحصاء: العدّ والحفظ. والمقصود العلم بجميع أحواله متنا وسندا، وتحمّله من أهله مسندا إلى أن ينتهي إلى مأخذه الحقّ. فقوله: «حديثا لم تُحْصِه» إظهار في موضع الإضمار، لكثرة الاعتناء بشأنه؛ لأنّه عبارة اُخرى من معنى قوله: «حديثا لم تروه» فمعناه تركك رواية حديث لم تحمّله خير من روايتك له. فالمقصود النهي عن رواية الحديث قبل تحمّله وضبطه وتصحيحه سندا ومتنا؛ فتدبّر. وقيل: «لم تَروِه» حال عن الحديث، وقوله: «لم تُحصِه» حال من الحديث الثاني لا صفة له؛ لمناسبة قوله: «لم تروه» لأنّه لا يحسن كونه صفة. والمقصود النهي عن الرواية لما ليس محفوظا عنده أنّه من مسموعاته. انتهى. وفيه تأمّل؛ فتأمّل فيه.


1- .كذا.

ص: 206

محمّدٌ ، عن أحمدَ ، عن ابن فضّال ، عن ابن بكير ، عن حمزةَ بن الطيّار ، أنّه عَرَضَ على أبي عبدللّه عليه السلام بعضَ خُطب أبيه ، حتّى إذا بلَغ موضعا منها ، قال له :«كُفَّ واسْكُتْ» ثمَّ قال أبو عبداللّه عليه السلام : «لا يَسَعُكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمونَ إلّا الكَفُّ عنه، والتثبّتُ والرَّدُّ إلى أئمّة الهدى حتّى يَحمِلوكم فيه على القصد ، .........

قوله: (عن حمزة بن طيّار) بفتح الطاء وتشديد الياء المثنّاة تحت، وهذا منافٍ لما قيل (1) من أنّ الطيّار لقب حمزة لا أبيه. وقوله: (عرض على أبي عبد اللّه عليه السلام بعضَ خُطب أبيه) الغرض من عرضه عليه عليه السلام إمّا تصحيح اللفظ، أو فهم معناه، أو إظهار ما فهمه عنه؛ ليخبر (2) عن صحّته وفساده. وقوله: (قال له: كُفَّ واسكُتْ) أي كفّ نفسك عن عرض الخطبة، واسكت للاستماع بما أقول. وأمره عليه السلام بالكفّ والسكوت عن العرض للاستماع بما أفاده إمّا لخطئه وسوء فهمه ما في هذا الموضع من الخطبة، أو لعدم فهمه (3) له أصلاً، فأفاد عليه السلام أنّ المواضع المشكلة والمتشابهة - التي لا تعلمونها أصلاً، أو لا تعلمونها بحقيقتها - لا ينبغي لكم إلّا الكفّ عن روايتها على نحوٍ يوهم علمكم بها، أو على سبيل الإفتاء بها، وإلّا التوقّف فيها. أو لا ينبغي لكم إلّا الكفّ عن حملها على معنىً، وإلّا التثبّت والتوقّف في معناها لئلّا تضلّوا بتأويلاتكم الفاسدة. (والردّ إلى أئمّة الهدى عليهم السلام حتّى يحملوكم فيها على القصد) أي على العدل، ويهدوكم إلى الطريق المستقيم. والقصد هو استقامة الطريق، أو الوسط بين طرفي


1- .قال المامقاني في تنقيح المقال، ج 1، ص 374: «قد وقع الخلاف هنا في كونه لقب حمزة أو لقب أبيه، فصريح الكافي للكليني أنّه بالأصل لقب أبيه حيث عبّر بمثل ما عنونّاه به وهو حمزة بن الطيّار، وكذلك العلّامة في الخلاصة . وظاهر الشيخ رحمه الله في باب أصحاب الباقر عليه السلام من رجاله أنّه صفة الابن حيث عدّ منهم حمزة الطيّار، ثمّ قال معترضا على العلّامة ما لفظه: كذا في خطّ الشيخ رحمه الله ، وبعض أصحابنا أثبته حمزة بن الطيّار وهو التباس. والظاهر أنّه رأى في كتاب الرجال حمزة بن محمّد الطيّار ، فظنّه صفة أبيه وهو له» انتهى.
2- .في حاشية النائيني، ص 175: «ليختبر».
3- .في النسخة: «لعدم به وفهمه».

ص: 207

ويَجْلوا عنكم فيه العمى ، ويُعَرِّفوكم فيه الحقَّ ، قال اللّه تعالى : « فَسْئلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن المِنقريّ ، عن سفيان بن عُيينة ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«وجدتُ علم الناس كلَّه في أربع : أوّلها :

الإفراط والتفريط وهو العدل. ويحتمل أن يكون المراد به قصد القائل، أي حتّى يطلعوكم فيه على ما قصده قائله وأراد به. (ويجلوا عنكم فيه العمى) أي الجهل - بسيطا كان، أو مركّبا - ؛ لأنّه عمى البصيرة. (ويُعَرِّفُوكم فيه الحقَّ) ويحتمل أن يكون معنى هذا الموضع من الخطبة ما أفاده عليه السلام ولكن لمّا كان عبارتُه في غاية الإيجاز والإعضال، وفهمُه يحتاج إلى بيان وتفصيل وظَهَرَ عليه عليه السلام من حال الراوي عدم فهمه، أمَرَهُ عليه السلام بالسكوت وشَرَحَه بقوله: «لا يَسَعُكم» إلخ. وقوله عليه السلام : (قال اللّه تعالى) أي في سورة النحل. والمراد بأهل الذكر أهل العلم بكتاب اللّه ، وهم أئمّة الهدى عليهم السلام ، أي ما لا تعلمونه من المتشابهات والمشكلات، وممّا لا يصل إليكم حكمه بخصوصه أصلاً من الكتاب وقول الرسول وسائر الأدلّة الشرعيّة فاسألوا أهل الذكر واعلموا منهم ولو بالواسطة. ولا ينافي ذلك إذا لم يتيسّر السؤال عنهم عليهم السلام الاستدلال بالعمومات الكتابيّة والحديثيّة المرويّة عنهم عليهم السلام والرجوع إلى حكم الأصل، أو إلى القياسين المعتبرين عندنا فيما لم يصل إلينا عنهم عليهم السلام - سواء كان في ضمن الإجماع أم لا - ولا من القرآن فيه حكم بخصوصه. قوله عليه السلام : (وجدتُ علمَ الناس كلّه) إلخ أي وجدت ما يجب على الناس من العلم - سواء كان وجوبا عقليا وهو استحقاق الذمّ على تركه، أو وجوبا شرعيا وهو استحقاق العقاب الاُخروي على تركه - منحصرا في أربع معارف. وقوله: «كلّه» إمّا بدل من «العلم» أو من «الناس». وتأنيث «الأربع» باعتبار المعرفة المفهومة من قوله: «أن تعرف» في المواضع الآتية.

ص: 208

أن تَعرفَ ربَّك ، والثاني : أن تَعرفَ ما صنَع بك ، والثالث : أن تعرف ما أرادَ منك ، والرابع : أن تعرف ما يُخرجك من دينك» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم، قال :قلت

«أوّلها» أي أوّل الأربع، وتذكير «الأوّل» وأخواته حينئذٍ باعتبار العلم، أو أوّل أقسامها؛ حيث عرّف انقسامها بالأقسام. (أن تعرفَ ربَّك) بكونه أزليا أبديا لا يحتاج في وجوده ولا في شيء من صفاته الحقيقيّة الكماليّة إلى غيره، واحدا أحدا عالما قادرا وبسائر صفات ذاته وصفات فعله. وليس المقصود معرفة أنّ للعالم صانعا، أو أنّ لنا ربّا؛ فإنّ تلك المعرفة بديهيّة حاصلة لكلّ من بلغ سنّ التميز قبل البلوغ وقبل التكليف العقلي، كما يدلّ على ذلك قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ» (1) . ويتوقّف عليها التكليف الشرعي وليست مكلّفا بها شرعا، كما سيجيء في باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة، وباب آخر بعده. والثاني من الأقسام معرفتك بما صنع بك من إعطاء العقل والحواسّ والقدرة والرزق والهداية واللطف بإرسال الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك من النعم العظام التي توجب العبادة والشكر. والثالث منها معرفتك بما أراد منك من العقائد الصالحة واتّباع الرسل والأئمّة وأخذ العلوم الدينيّة منهم، ومن الإقدام بأوامر اللّه تعالى والكفّ عن نواهيه. والرابع منها معرفتك بما يُخرجك من دينك كإنكار اُصول الديانات والضروريات والمسائل الإجماعيّة المتيقّنة، واتّباع الطواغيت، وأخذ المعارف والعلوم الدينيّة من غير مأخذه.


1- .مصباح الشريعة، ص 13 في العلم؛ عيون الحكم والمواعظ، ص 430؛ شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين لابن ميثم البحراني، ص 57، الكلمة الثانية؛ عوالي اللآلي، ج 4، ص 102، ح 149؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 32، ح 22؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 20، ص 292، ح 339 في الحكم المنسوبة لأمير المؤمنين؛ كشف الخفاء للعجلوني، ج 2، ص 262 وفيه : «بحث فيه» ثمّ قال: «وللحافظ السيوطي فيه تأليف لطيف سمّاه القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ص: 209

لأبي عبداللّه عليه السلام : ما حقُّ اللّه على خلقه؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويَكُفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدُّوا إلى اللّه حقَّه» .

محمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد ، عن ابن سنان ، عن محمّد بن مروان العِجْليّ ، عن عليّ بن حنظلةَ ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«اعرِفوا منازلَ الناس على قَدْرِ روايتهم عنّا» .

الحسين بن الحسن، عن محمّد بن زكريّا الغَلابيّ، عن ابن عائشة البصريّ ،

قوله: (ما حقُّ اللّه على خلقه؟) أي ما هو أحقّ بأن يطلق عليه حقّ اللّه تعالى على خلقه من سائر حقوقه؟ وقوله عليه السلام : (أن تقولوا ما تعلمون، وتكُفّوا عمّا لا تعلمون) لعلّ المراد بالقول ما يعمّ من القول اللساني والقلبي، أي أن تعترفوا - قلبا ولسانا - بما تعلمونه من الاُصول والفروع بحيث يكون فعلكم مطابقا لقولكم، وتكفّوا - نفيا وإثباتا، قولاً وفعلاً واعتقادا - عمّا لا تعلمون حتّى يتبيّن لكم الحقّ من مأخذه. ولا شكّ في أنّ ذلك يفضي إلى اتّباع الأئمّة عليهم السلام ، وذلك يؤدّي إلى أداء حقوق اللّه تعالى. قوله: (عن عليّ بن حَنْظلة) بفتح الحاء المهملة والنون الساكنة والظاء المعجمة المفتوحة. وقوله عليه السلام : (اعرِفُوا منازلَ الناس) أي مراتبهم عند اللّه تعالى. وقوله عليه السلام : (على قَدْرِ روايتهم عنّا) وفي بعض النسخ: «رواياتهم» ليس المراد به محض كثرة الرواية، بل المراد كثرة رواية أحاديثهم مع رعايتها من تصحيحِ متنها وسندها والتفكّرِ فيها والتنبّهِ بمقاصدها والعملِ بها. وكلّما زادت الرواية عنهم عليهم السلام على هذا النحو ازدادت صاحبها قدرا ومنزلة عند اللّه تعالى. قوله: (عن محمّد بن زكريّا الغَلابي) بالغين المعجمة المفتوحة واللام المخفّفة ثمّ الألف ثمّ الباء الموحّدة وهو غلاب، قبيلة بالبصرة من بني نصر بن معاوية.

ص: 210

رفعه ، أنَّ أميرَ المؤمنين عليه السلام قال في بعض خُطَبه: «أيّها الناس، اعلَموا أنّه ليس بعاقل من انْزَعَجَ من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه؛ الناس .........

وقوله: (اعلموا أنّه ليس بعاقل من انْزَعَجَ من قول الزور فيه) يقال: أزعجه، أي أقلقه وقلعه من مكانه وانزعج بنفسه، ويكون ذلك للمكروه وللمحبوب. و«الزور»: الكذب، أي ليس بعاقل من قلق، وخرج من مكانه من قول الكذب والمائل عن الحقّ فيه، أو في صديقه، أو في عدوّه - ذمّا كان أو مدحا - ؛ لأنّه إذا كان فيه كمال ونفاه الكاذب، أو لم يكن فيه منقصة وأثبتها له، لم ينتف عنه بذلك القول كماله، ولم يحصل له به منقصة، بل إنّما يحصل للكاذب منقصة واستحقاق العذاب، وكذا إذا لم يكن فيه كمال وأثبته له، أو كان فيه منقصة ونفاها عنه، لم يحصل له بذلك القول كمال، ولم ينتف عنه به المنقصة، وكذا الحال في صديقه وعدوّه، فالعقل يمنع من الانزعاج بما يعلم عدم ضرّه من قول الزور في ذمّه، وبما يعلم عدم نفعه من قول الكذب في مدحه. وقوله عليه السلام : (ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه) لأنّ الحكيم عالم بأسباب الأشياء ومسبّباتها، ويعلم مخالفة الجهل والجاهل للعلم والعالم، ويعلم أنّ التخالف يوجب التنافر في الطبائع، فيعرف أنّ الجاهل لا يحبّ العالم، ولا يميل إلّا إلى مُشاكله، ولا يثني من خلوص الاعتقاد إلّا على الجاهل، فثناؤه عليه إمّا لأن يعتقد جهله ومناسبته له، وإمّا لأن يستهزئ به باعتقاده، أو لأن يخدعه باعتقاده، وظاهر أنّ الحكيم لا يرضى بشيء من ذلك، فالحكمة لا تجامع الرضا بثناء الجاهل، والعقل لا يجامع الانزعاج من قول الزور، فظهر أنّ الانزعاج من قول الزور أقبح من الرضا بثناء الجاهل؛ لأنّ الأوّل يدلّ على عدم العقل، والثاني على عدم الحكمة، هذا. ثمّ أقول: يمكن تفسيره بوجه آخر وهو أنّه لمّا كان الجاهل عاجز[ا] عن حقّ إدراك العلم والحكمة والصفات الكماليّة التي يتّصف الحكيم بها بل كلّ ما يتصوّره من تلك الكمالات فإنّما يتصوّره على وجه هو في الواقع منقصة، فثناؤه عليه إنّما هو بالمعاني المذمومة التي تصوّرها من تلك الكمالات وقَصَدَها بالعبارات الدالّة على الثناء ففي

ص: 211

أبناءُ ما يُحسنونَ، .........

الحقيقة مدحُه ذمٌّ، وثناؤه هجاءٌ، وظاهر أنّ الحكيم العارف بحقيقة الأحوال لا يرضى بمثل هذا الثناء. (1) ومن هذا ظهر أنّ ثناء العارف على اللّه تعالى بأسمائه الحسنى إنّما هو بقصد المعنى الذي أراده اللّه تعالى من تلك الأسماء لا بقصد المعاني التي تمكّن العارف من فهمها، وحَمَلَ تلك الأسماء عليها؛ فإنّها نقص بالنسبة إليه؛ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، فهو - جلّ ذكره - عالم بحقيقة العلم الذي أراده من ذلك اللفظ ولا يعلمها إلّا هو بل العلم بها ممتنع لغيره تعالى، وكذلك قادر بحقيقة القدرة التي أراده ها من ذلك اللفظ، ويمتنع أن يكون غيره عالما بها، وعلى هذا فقس. وهذا سرّ قولهم عليهم السلام : «لا اُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك» (2) . وقوله عليه السلام : (أبناءُ ما يُحسنون) أي يحسنونه، فالعائد المنصوب محذوف. قال في القاموس: «وهو يُحْسِنُ الشيءَ إحسانا، أي يَعْلَمُه» (3) . يعني الناس أبناء ما يعلمونه من الصنائع والمعارف كما هو حقّه. وقيل: معناه: الناس أبناء ما يأتون به حسنا، يقال: أحسن الشيء، إذا أتى به حسنا وكما هو حقّه، انتهى.


1- .نقلها في مرآة العقول، ج 1، ص 171 - 172 بعنوان «قيل».
2- .الكافي، ج 3، ص 325، باب السجود والتسبيح والدعاء فيه، ح 12؛ مصباح الشريعة، ص 56 في الذكر؛ بحار الأنوار، ج 16، ص 253؛ وج 22، ص 245، ح 14 ؛ وج 82، ص 170، ح 7. وروته العامّة بطرق كثيرة منها في : مسند أحمد، ج 1، ص 96 و118 و150 ؛ وج 6، ص 201؛ صحيح مسلم، ج 2، ص 51؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 373، ح 1179 ؛ وج 2، ص 1263، ح 3841؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 201، ح 879 ؛ وص 321، ح 1427؛ سنن التِرمذي، ج 5، ص 187، ح 3562، وص 221، ح 3637؛ سنن النَسائي، ج 1، ص 102 - 103، وج 2، ص 210 و223 ؛ وج 3، ص 249؛ مستدرك الحاكم، ج 1، ص 306؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج 1، ص 127؛ وج 3، ص 42؛ كنز العمّال، ج 1، ص 486 - 487، ح 2131؛ وج 2، ص 183، ح 3652 ؛ وج 8، ص 63، ح 21885 وص 226 و227، ح 22668 و22671.
3- .القاموس المحيط، ج 4، ص 305 (حسن).

ص: 212

وقَدْرُ كلِّ امرئ ما يُحسِنُ ، فتَكَلّموا في العلم تَبَيَّنْ أقدارُكم» .

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن أبان بن عثمان ، عن عبداللّه بن سليمان ، قال : سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول وعنده رجلٌ من أهل البصرة يقال له :«عثمان الأعمى» وهو يقول : إنَّ الحسنَ البصريّ يَزعُمُ أنَّ الذين يكتمونَ العلمَ يُؤذي ريحُ بطونهم أهلَ النار ، .........

شبّه ما يحسن بالأب؛ لأنّ المرء يعرف بما يُحسنه وينتفع عنه، وينتظم حاله به ويفتخر ويحدّث به شكر نعمة (1) ربّه، كما يقال: فلان الكاتب، وفلان الأديب مثلاً، وكلّ واحد منهما ينتفع عن صناعته، وينتظم حاله بها، ويفتخر ويحدّث بها كما يعرف الابن بالأب، ويقال: فلان بن فلان ، وينتفع عنه وينتظم حاله به، ويفتخر به. وقوله عليه السلام : (وقدرُ كلّ امرئ ما يُحسن) أي قيمته ورتبته في العزّ والشرف والذلّ والخسّة ما يعلمه كما هو حقّه، أو ما أتى به حسنا فإن كان ما يحسنه أمرا خسيسا كصنائع الدنيّة، كان المرء خسيسا ذليلاً، وإن كان عزيزا شريفا، كالعلم بالمعارف الإلهيّة والمسائل الدينيّة كان المرء عزيزا شريفا. (فتكلّموا في العلم) أي تكلّموا في كسب العلم، وتذاكروه وتباحثوا فيه وتحدّثوا به. فالمراد بالعلم أعمّ من المعارف العقليّة الحقيقيّة والعلوم النقليّة الدينيّة للعمل بمقتضاها. و«تبيّنْ» في قوله عليه السلام : (تَبَيَّنْ أقدارُكم) مجزوم بجواب الأمر، وأصله تتبيّن حذف إحدى التاءين من باب التفعّل (2) . والبَين: البُعد، يقال: تبيّن، إذا انفرد وبَعُدَ عن أمثاله. والمقصود: يرتفع أقداركم جدّا؛ فإنّ التفاوت بين قدر من يحسن المعارف العقليّة والعلوم النقليّة الدينيّة ليعمل بها، ومن يحسن شيئا غير هذا أظهر من أن يخفى، أو معناه يتّضح أقداركم فلا حاجة لكم إلى المدح والثناء، ولا سيّما من الجهّال؛ فتدبّر. قوله: (إنّ الحسن البصري يَزعُمُ أنّ الذين يكتمون العلمَ يُؤذي ريحُ بطونهم أهلَ النار) مقصود الحسن من هذا القول أنّه لم يكن عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم علم سوى ما اشتهر بين


1- .في النسخة: «النعمة».
2- .في النسخة : «التفعيل» .

ص: 213

فقال أبو جعفر عليه السلام : «فهَلَكَ إذَنْ مؤمنُ آل فرعونَ ، ما زال العلمُ مكتوما منذُ بعث اللّه نوحا عليه السلام ، فليذهب الحَسَنُ يمينا و شمالاً ، فواللّه ما يوجد العلمُ إلّا هاهنا» .

الناس وفي أيديهم من أحاديثه، وكذلك لم يكن عند أمير المؤمنين عليه السلام علم بغير ما هو المشهور منه، وغرضه تكذيب الأئمّة عليهم السلام من ادّعائهم أنّ علمهم علم من علوم النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمغير ما في أيدي الناس والتشنيع عليهم في التقيّة؛ لأنّه من كتمان العلم. وقوله عليه السلام : (فهلك إذا مؤمنُ آل فرعونَ) بكتمانه إيمانه ومعرفته باللّه كما قال تعالى: «يَكْتُمُ إِيْمانَهُ» (1) . وقوله عليه السلام : (ما زال العلمُ مكتوما منذُ بعث اللّه نوحا) كما قال اللّه تعالى حكايةً عن نوح: «ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرارا» (2) والحاصل أنّه كيف يكون الكتمان قبيحا موجبا للعقاب وكان المؤمنون يكتمونه تقيّة كمؤمن آل فرعون، وقد يكون الحكمة مقتضية لكتمان بعض العلوم الحقيقيّة الفائضة من المبدأ على اُولي العزم، فإنّه مكتوم عن عامّة الناس، ولا يجوز إظهاره بينهم (وما زال هذا العلم مكتوما منذُ بعث اللّهُ نوحا إلى الآن). وقوله عليه السلام : (فليذهب الحَسَنُ يمينا وشمالاً) إلخ، أي فليذهب الحسن دائما إلى خلاف الحقّ وفي غير الجادّة، والمقصود أنّه دائما في ضلال مبين، أو معناه فليذهب الحسن الذي يزعم انحصار العلم فيما أيدي الناس «يمينا وشمالاً» أي إلى كلّ جانب ليطلبه من الناس، فإنّه لا يوجد عندهم أكثر العلوم المتعارفة الدينيّة (فواللّه لا يوجد العلم إلّا هاهنا) أي إلّا عند أهل البيت الذي ائتمنهم رسول اللّه على علومه وهي عندهم مكتومة.


1- .غافر (40): 28.
2- .نوح (71): 9.

ص: 214

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتبعلىُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونسَ ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام قول اللّه جلّ ثناؤه : « الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُو »؟ قال :«هو الرَّجل يَسمع الحديث، فيُحدّثُ به كما سَمِعَه ، لا يَزيدُ فيه ولا يَنقصُ منه» .

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب (1)قوله: (قال: هو الرجل يَستمع الحديث فيحدّث به) إلخ ضمير «هو» راجع إلى الفرد الذي يتضمّنه «الذين». واتّباع القول عبارة عن أن يسلك بحذاء ما سمعه، وأن يقتفي لأثره بلا زيادة ونقصان قولاً وفعلاً واعتقادا، لكن لمّا كان المقصود هاهنا بيان الاتّباع بحسب القول وكيفيّة رواية الحديث، اكتفى بذكره بقوله: «هو الرجل يستمع الحديث» إلخ، أي المستمع للقول المتّبع أحسنه هو الرجل يسمع الحديث ويحفظه، فيرويه بلفظه، أو بمعناه فقط، ويحدّث به غيره كما سمعه بلا زيادة ونقصان في اللفظ، أو في المعنى فقط إذا كان نقله بالمعنى، وأحسنُ القول: أكثرُه حُسنا وهو المحكم الباقي مدَّ الدهور، فقوله تعالى: «أَحْسَنَهُ» مفعول قوله: «فَيَتَّبِعُونَ» (2) كما في قوله تعالى: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما اُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (3) . وقيل: هو الرجل يسمع الحديث، فيحدّث به كما سمعه أي بلفظه لا بمعناه فقط «لا يزيد فيه ولا ينقص منه» أي لا لفظا ولا معنىً، وفيه دلالة على أنّ مفعول «يتّبعون» محذوف، والتقدير: فيتّبعونه، أي القول، وعلى أنّ قوله: «أحسنه» مفعول مطلق من غير اللفظ، وضميره راجع إلى الاتّباع المذكور في ضمن قوله: «فيتّبعون» أي فيتّبعون القول أحسن اتّباع، وإنّما


1- .العنوان من هامش النسخة.
2- .الزمر (39): 18.
3- .الزمر (39): 55.

ص: 215

محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن اُذينةَ ، عن محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : أسمَعُ الحديثَ منك فأزيدُ وأنقُصُ؟ قال :«إن كنتَ تُريد معانيه ، فلا بأسَ» .

وعنه ، عن محمّد بن الحسين ، عن ابن سنان ، عن داود بن فَرقد ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : إنّي أسمَعُ الكلامَ منك ، فاُريدُ أن أروِيَهُ كما سمعتُه منك فلا يَجيءُ؟ قال :«فَتعَمَّدُ ذلك؟» قلت : لا ، .........

كان هذا أحسن اتّباع إمّا (1) لأنّه بعد الاتّباع في العمل به وهو اتّباع حسن، والنقل باللفظ أحسن اتّباع. انتهى. وما ذكرناه في تفسير هذا الحديث أظهر من هذا كما لا يخفى. قوله: (أسمَعُ الحديثَ منك فأزيدُ وأنقُصُ؟) أي عند روايته ونقله. والمقصود استعلام جواز الزيادة والنقصان فيما يسمع من الحديث عند نقله وروايته. وقوله عليه السلام : (إن كنتَ تُريد معانيه فلا بأس) أي إن كنت تقصد وتطلب بالزيادة والنقصان في اللفظ إفادة معاني الحديث كما هو حقّها، ويكون ذلك أدخل في فهم المخاطب، أو إن كنت تقصد وتراعي ضبط معانيه وحفظها بحيث لا يختلّ شيء من جهاتها المقصودة منه، فلا بأس بالزيادة والنقصان فيه مع عدم تغيّر في معناه أصلاً، ولا شكّ في أنّ ذلك إنّما يتيسّر لنقّادي الكلام والمَهَرة من الأعلام، فذلك الحديث الصحيح يدلّ على جواز النقل بالمعنى وإن كان النقل باللفظ إذا فهمه المخاطب أحسن. قوله: (إنّي أسمَعُ الكلامَ منك، فاُريد أن أروِيَه كما سمعتُه منك فلا يجيءُ؟) أي لا يجيء لفظه كما سمعته إلى ذهني في أثناء الرواية؛ لنسياني اللفظ بالكلّيّة، هل يجوز أن أرويه بلفظ آخر؟ وقوله: (قال: فتعَمَّدُ ذلك؟ قلت: لا) المضبوط في أكثر النسخ الصحيحة فتعمّد بالتاء


1- .لم يذكر عِدْل «إمّا».

ص: 216

الواحدة المثنّاة من فوق، وفي نسخة: «فتتعمّد» بالتاءين، قيل (1) : أي تقصد ذلك (2) مِن «تعمّده» إذا قصده، وأصله تتعمّد حذف إحدى التاءين من باب التفعّل (3) ، أو مِن «عَمَدَه» كضَرَبَه، إذا قصده. ولمّا كان في ظاهره مناقشة من أنّ عدم العمد معلوم من قول الراوي فلا وجه للسؤال، فقيل (4) : تُعمِدُ على صيغة المخاطب من باب الإفعال، أو تُعمّد من باب التفعيل مِن «عَمِدَ البعيرُ» كعلم إذا انفضح داخلُ سَنامِه من الركوب وظاهره صحيح، فهو بعير عَمِدٌ بفتح العين وكسر الميم (5) . فمعناه أفتجعل ذلك الحديث فاسد الباطن صحيح الظاهر؛ لنسيان اللفظ المسموع، والتعبير عنه بلفظ آخر بأن يفضي ذلك إلى الاختلال ببعض معانيه. انتهى. وأقول: الأولى أن يقال: معناه: أفتقصد ذلك اللفظ الذي يجيء إلى ذهنك، وتريد روايته به، والمحافظة عليه من غير ضبط المعنى؟ والحاصل أنّ مقصودك المحافظة على ألفاظك التي أقمتها من عندك مقام ألفاظ الحديث وإن كان يؤدّي ذلك إلى الاختلال بمعانيه؟ فقال السائل: «لا» فيكون قوله: «فتعمّد» من باب التفعّل (6) بحذف إحدى التاءين، ويؤيّده نسخة «فتتعمّد» بالتاءين، أو مِن «عمده» كضربه، إذا قصده. وقيل 7 : يحتمل أن يكون قوله: «فتعمد» من المجرّد، يقال: عمدتُ الشيء، أي أقمتُه


1- .كتب تحتها: هو صاحب الفوائد المدنيّة (منه عفي عنه). ونقله عنه الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 192 (مخطوط) ونقله السيّد أحمد العلوي في حاشية على اُصول الكافي ص 180 عن «بعض من عاصرناه» ، ومراده منه الإسترآبادي كما يظهر من سائر موارده أيضا. و لم ترد هذه الحاشية في حاشيته على اُصول الكافي المطبوع في ميراث حديث شيعه، ج 8.
2- .هنا في الشافي: «انتهى» ؛ يعني انتهاء كلام الإسترآبادي ، وبقية الكلام توضيحات من القزويني.
3- .في النسخة: «التفعيل».
4- .القائل به الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 192 (مخطوط).
5- .اُنظر: الصحاح، ج 2، ص 512 (عمد).
6- .قائله الميرزا رفيعا في الحاشية على اُصول الكافي، ص 182.

ص: 217

فقال : «تريد المعاني؟» قلت : نعم ، قال : «فلا بأس» .

وعنه ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمّد ، عن عليّ بن أبي حمزةَ ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : الحديثُ أسمَعُه منك أرْوِيهِ عن أبيك ، أو أسمَعُه من أبيك أرْوِيهِ عنك؟ قال :«سواءٌ ، .........

بعماد، أو «فتعمد» من باب الإفعال، يقال: أعمدتُه أي جعلتُ تحته عمادا، أو يكون المعنى: أفتضمّ إليه شيئا من عندك تقيمه به وتصلحه، كما يقام الشيء بعماد يعتمد (1) عليه من غير المحافظة على معناه؟ فقال السائل: «لا». انتهى. وقوله: (فقال: تريد المعاني؟) أي تقصد المحافظةَ على معانيه وضبطها حقّ الضبط، والتعبيرَ عنها كما ينبغي من غير زيادة ونقصان فيها بأيّ عبارة كانت؟ فقال السائل: «نعم». وقوله عليه السلام : (فلا بأس) أي لا بأس في النقل بالمعنى مع ضبطه وحفظه من الزيادة والنقصان. فهذا الحديث الصحيح أيضا دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى بشرط رعاية حقّ حفظه وضبطه. قوله: (الحديثُ أسمَعُه منك) إلخ يعني هل يجوز أن أروي عن أبيك ما كان سماعه منك، وأن أروي منك ما كان سماعه من أبيك، أم لا؟ وقوله: (قال: سَواء) بفتح السين والمدّ، أي نسبة المسموع إلى المسموع منه ونسبته إلى الآخر منّا سواء في الجواز، فأخبر عليه السلام مجملاً بأنّ كلّ ما يقول به أحد من الحجج عليهم السلام يقول به الآخر، وأنّ أحاديثهم واحد لا يختلف، فيجوز نسبة الحديث المسموع من كلّ واحد منهم إلى الآخر.


1- .في النسخة: «يعمد»، والمثبت من المصدر.

ص: 218

إلّا أنّك تَرويه عن أبي أحَبُّ إليَّ» . وقال أبو عبداللّه عليه السلام لجميل : «ما سمعتَ منّي فاروِه عن أبي» .

وعنه ، عن أحمد بن محمّد ؛ ومحمّد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن عبداللّه بن

وقوله عليه السلام : (إلّا أنّك تَرويه عن أبي أحبُّ إليَ) الظاهر تعلّقه بالقرينتين معا؛ يعني رواية كلّ من المسموع منّي ومن أبي عن أبي أحبّ إليّ من روايته عنّي، وذلك من وجوه: الأوّل: لأنّ الرواية عمّن مضى أوفق للتقيّة. والثاني: لأنّ اشتهار الرواية عن الأعلى يوجب قلّة إنكار (1) أهل الزمان لها، وذانك الوجهان في صورتي السماع منه ومن أبيه جميعا عليهماالسلام. والثالث: للتحرّز عن إيهام الكذب في صورة السماع من الأب من سماعه بخصوصه من الابن، وذلك لأنّ كلّ مقول لأبي عبد اللّه عليه السلام مقول لأبيه لفظا، فالمسموع منه عليه السلام مسموع من أبيه ولو بالواسطة بخلاف العكس؛ لأنّه يجوز عدم تلفّظه ببعض ما سمعه من أبيه بعدُ وإن كان موافقا لعلمه واعتقاده. ويحتمل تعلّقه بالأخيرة فقط يعني رواية المسموع من أبي عنه أحبّ إليّ من روايته عنّي للوجوه الثلاثة المذكورة، ولا سيّما للوجه الثالث. فقوله: «تَرويه» منصوب بتقدير «أن» الناصبة. ويحتمل رفعه على أنّه خبر بتأويل أمر كقولهم: تَسمعُ بالمُعَيْدِي خيرٌ مِن أن تراه (2) . وقوله: (وقال أبو عبد اللّه عليه السلام لجميل) الظاهر أنّ هذا كلام أبي بصير فيكون مسندا. ويحتمل أن يكون حديثا على حدة ذكره الكليني رحمه الله مرسلاً. وقوله عليه السلام : (ما سمعتَ منّي فاروِه عن أبي) للوجهين الأوّلين، ولا شكّ في صدق ذلك الإسناد بوساطته عليه السلام وإن لم يذكر الواسطة.


1- .في النسخة: «الإنكار».
2- .مثل مشهور تقدّم تخريجه في ص 19.

ص: 219

سنان ، قال : قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام يَجيئني القومُ فيَستمعون منّي حديثَكم ، فأضْجَرُ ولا أقْوى ، قال :«فاقْرَأ عليهم من أوّله حديثا ، ومن وَسَطِه حديثا ، ومن آخِره حديثا» .

عنه ، بإسناده عن أحمد بن عمر الحلّال ، قال : قلت لأبي الحسن الرّضا عليه السلام : الرجلُ من أصحابنا يُعطيني الكتابَ ولا يقول :«اروِهِ عنّي» يجوزُ لي أن أروِيَه عنه؟ قال : فقال : «إذا علمتَ أنّ الكتابَ له ، فارْوِهِ عنه» .

قوله: (يَجيئني القومُ فيَسمعون منّي حديثَكم، فأضْجَرُ ولا أقوى) أي يجيئني القوم لسماع كتب حديثكم منّي فأقوم بقضاء حاجتهم، ويسمعون حديثكم منّي في الجملة فأضْجَرُ ولا أقوى على مرادهم من سماع جميع ما رويته من أحاديثكم؛ لمانع يمنعني من ذلك كالخوف من اطّلاع المخالفين عليه، أو غيره من سائر الموانع، فما أفعل في إنجاح مطلوبهم؟ وقوله عليه السلام : (فاقرأ عليهم من أوّله) أي من أوّل كتاب الحديث حديثا، ومن وسطه حديثا، ومن آخره حديثا؛ يعني إذا لم تَقْوَ على مرادهم من السماع الكامل، فاكتف بذلك ليحصل لهم فضل السماع في الجملة، وليقنعوا بما به يجوز العمل والرواية من الإجازة أو المناولة أو نحوهما من أنحاء تحمّل الحديث كما ورد في الأخبار عدا السماع والعَرْض الكاملين المنافيين للتقيّة ونحوها من الموانع. قوله: (إنّ الرجل من أصحابنا يُعطيني الكتابَ) إلخ أي يعطيني كتاب الحديث. وهذا القسم من أقسام تحمّل الحديث يسمّى بالمناولة. وقوله عليه السلام : (إذا علمت أنّ الكتاب له فاروِه عنه) أي العلم بأنّ الكتاب له ومن مرويّاته كافٍ للرواية عنه، ولا يلزم في جواز الرواية عنه أن يقول صاحبه: اروه عنّي، سواء كان ذلك العلم مع إعطاء الكتاب - ويسمّى بالمناولة - أم لا بأن ينتقل ذلك الكتاب إليك بوجه آخر، ويسمّى بالوجادة. وعلى التقديرين لا يجوز أن تقول حين الرواية عنه: أخبرني أو حدّثني فلان بل تقول: روى، وأمثاله.

ص: 220

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ وعن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام :«إذا حَدَّثْتم بحديث فأسْنِدوه إلى الذي حدّثَكم ، فإن كان حقّا فلكم ، وإن كان كذبا فعليه» .

عليُّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبي أيّوب المدنيّ ، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«القلبُ يَتَّكِلُ على الكتابة».

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن عاصم بن حُميد ، عن أبي بصير ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«اكْتُبوا ، .........

قوله: (إذا حَدّثتم بحديث فأسْنِدوه إلى الذي حدّثكم) أي كلّما تحدّثون بحديث فأسندوه عند روايته إلى الذي حدّثكم به. ويحتمل أن يكون «حُدّثتم» مجهولاً، أي إذا سمعتم الحديث فأسندوه عند روايته إلى الذي حدّثكم به بأن تقولوا: حدّثني أو أخبرني فلان، فإن كان حقّا وصدقا فثوابه لكم، وإن كان كذبا فعقابه على الذي حدّثكم به. ويحتمل أن يكون المراد بالحديث هاهنا ما يعمّ أحاديث الحجج عليهم السلام وأخبار سائر الناس. قوله: (عن حسين الأحْمَسي) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الميم ثمّ السين المهملة، وبنو أحمس بطن من ضبيعة، وقيل: (1) من بجيلة. وقوله عليه السلام : (القلبُ يَتَّكِلُ) أي يعتمد على الكتابة. وأقول: هذا الحديث لا يخلو عن دلالة على صحّة تحمّل الحديث بالمناولة والوجادة والمكاتبة وإن كان الأظهر أن يكون المراد به الأمر بكتابة الحديث وعدم الاعتماد على الحافظة والاكتفاء بالحفظ. قوله عليه السلام : (اكتُبُوا) أي ما يسمعون من أحاديثنا وغير ذلك ممّا أردتم ضبطه وحفظه؛ فإنّكم لا تحفظون ولا


1- .قائله النجاشي في الرجال، ص 54، رقم 123.

ص: 221

فإنّكم لا تَحفظون حتّى تَكتبوا» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن ابن بكير ، عن عُبَيد بن زرارة ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«احتفِظوا بكُتُبكم ، فإنّكم سوف تَحتاجون إليها» .

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد البرقيّ ، عن بعض أصحابه ، عن أبي سعيد الخَيبريّ ، عن المفضّل بن عمرَ ، قال : قال لي أبو عبداللّه عليه السلام :«اكتُبْ وبُثَّ علمَك في إخوانك ، فإن مِتَّ فأوْرِثْ كُتُبَكَ بَنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنَسون فيه إلّا بكُتُبِهم» .

تضبطون كما ينبغي ويليق حتّى تَكتُبوا. قوله عليه السلام : (فإنّكم سوف تحتاجون إليها) أي في زمان الغيبة وعدم تمكّن الناس من المراجعة إلى الحجّة، وعند هذا لا بدّ من الرجوع إلى الكتب المصنّفة في أحاديثهم عليهم السلام أو قبله أيضا؛ لأنّ الحفظ في الخاطر لا يفي بالأحاديث. ويحتمل أن يكون المراد احتفاظ الأحاديث وغيرها من المطالب المهتمّ بها بالكتب؛ للاحتياج إلى الكتب عند نسيانها. قوله: (اكتُبْ وبُثَّ علمَك في إخوانك) أي الشيعة. وقوله عليه السلام : (فأورِثْ كُتُبَك بَنيك) أي اجعلها بحيث تصل إليهم بعد موتك. ويحتمل أن يكون الفعل مجهولاً، و«بُنَيَّك» مصغّرا. وأقول: هذا يدلّ على صحّة تحمّل الحديث بالوجادة كما لا يخفى. وقوله عليه السلام : (فإنّه يأتي على الناس زمان هرج) أي زمان الفتنة واختلاط الحقّ بالباطل والاشتباه بحيث لا يمكن فيه التوسّل إلى الحجّة والحقّ الصريح. والمراد زمان الغيبة، وما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: «بين يدي الساعة هرج» (1) إشارة إلى ذلك الزمان.


1- .النهاية، ج 5، ص 257 (هرج)؛ لسان العرب، ج 2، ص 389 (هرج)؛ بحار الأنوار، ج 33، ص 368 عن النهاية.

ص: 222

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن عليّ ، رَفَعَه ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام :«إيّاكم والكَذِبَ المُفترعَ». قيل له : وما الكَذِبُ المفترع؟ قال : «أن يُحدِّثَك الرجلُ بالحديث فتَتْرُكَه وتَروِيَه عن الذي حَدَّثَك عنه» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن أحمدَ بن محمّد بن أبي نصر ، عن جميل بن دَرّاج ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«أعْرِبوا حديثَنا ، فإنّا قومٌ فصحاءُ» .

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن عُمَرَ بن عبدالعزيز ، عن هشام بن سالم و حمّاد بن عثمان وغيره ، قالوا : سمعنا أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«حديثي حديثُ أبي ، وحديثُ أبي حديثُ جَدّي ، وحديثُ جَدّي حديثُ الحسين ، وحديثُ الحسين حديثُ الحسن ، وحديثُ الحسن حديثُ أميرِالمؤمنين عليهم السلام وحديثُ أميرالمؤمنين حديثُ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله وحديثُ رسولِ اللّه قولُ اللّه عزّ وجلّ» .

وقوله عليه السلام : «لا يأنَسون فيه» أي في ذلك الزمان «إلّا بكُتُبهم» وفي بعض النسخ: «إلّا بكتبكم» إذ لا يتيسّر فيه الوصول إلى الحجّة، فلا بدّ من التوسّل بأحاديثهم عليهم السلام بالكتب. قوله عليه السلام : (إيّاكم والكذبَ المُفترَعَ) على صيغة اسم المفعول من باب الافتعال، قال الجوهري: «افتَرَعْتُ البِكْرَ، إذا افتضضتَها» (1) . أي الكذب المبتذل الذي سبقكم به غيركم. وذلك إشارة إلى وقوع هذا القسم من الكذب من السابقين من رواة الحديث. قوله عليه السلام : (أَعرِبُوا أحاديثنا) الإعراب: الإيضاح، ويقال: أعرب كلامه، إذا لم يلحن في الإعراب، أي اكتسبوا واضبطوا إعرابها على الطريق الجاري على ألسنتنا وإن كان ربّما يخفى عليكم وجهه وسببه، ولا تغيّروه (2) من قبل أنفسكم (فإنّا قومٌ فصحاءُ) أقاويلنا معادن الحقيقة، فإذا غيّرتموها فاتتكم أسرار الحقيقة. قوله عليه السلام : (حديثي حديثُ أبي) إلخ أي أحاديث كلّ واحد منّا ينتهي إلى قول اللّه عزّ وجلّ، ولا يكون منشؤها اجتهادا


1- .الصحاح، ج 3، ص 1258.
2- .في النسخة: «ولا يغيّروه».

ص: 223

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شينُولَةَ ، قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليهم السلام : جعلت فداك ، إنّ مشايخَنا رَوَوْا عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهماالسلاموكانتِ التقيّةُ شديدةً ، فكَتَموا كُتُبَهم ولم تُرْوَ عنهم ، فلمّا ماتوا صارَتِ الكُتُبُ إلينا ، فقال :«حَدِّثوا بها ، فإنّها حقٌّ» .

ورأيا، فلا رجوع ولا اختلاف فيها، والمرويّ عن كلّ واحد منّا موافق للمرويّ عن الآخر. قوله: (عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شَيْنُولَةَ) قال في الإيضاح: محمّد بن الحسن بن أبي خالد المعروف بشينولة بفتح الشين المعجمة وإسكان الياء المنقّطة تحتها نقطتين وضمّ النون وإسكان الواو (1) . انتهى. وقوله: «رَوَوا عن أبي جعفر وعن أبي عبد اللّه » أي رووا عنهم، وكتبوا رواياتهم في كتبهم التي ألّفوها (2) في الحديث بقرينة بعده. وقوله: (فَلَم تُرْوَ عنهم) على صيغة المجهول، أي لم تُروَ عنهم تلك الكتب، ولم تصل إلينا برواية الرواة عنهم. وقوله: (فلمّا ماتوا صارت الكتبُ إلينا) أي وصلت كتبهم إلينا، ونحن نعرف أنّها كتبهم بالقرائن المفيدة للعلم، أو بشهادة الثقات على أنّها كتبهم، أيجوز لنا روايتها، أم لا؟ وقوله: (فقال: حدّثوا بها فإنّها حقٌّ) أي حدّثوا بتلك الروايات المسطورة في كتبهم عنهم بأنّ فلانا روى في كتابه كذا؛ فإنّ تلك الروايات «حقٌّ»، أي معتبرة ثابتة عنهم، وعمّن رَووا عنهم من الرواة الذين أسندوها إليهم في كتبهم. وهذا الحديث أيضا يدلّ على صحّة تحمّل الحديث بالوجادة.


1- .إيضاح الاشتباه، ص 266، رقم 567.
2- .في النسخة: «الذي ألّفوهم».

ص: 224

باب التقليدعدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عبداللّه بن يحيى ، عن ابن مُسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قلت له : « اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ-نَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ »؟ فقال :«أما واللّه ، ما دَعَوْهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دَعَوْهم ما أجابوهم، ولكن أحَلّوا لهم حراما، وحَرَّموا عليهم حلالاً، .........

باب التقليد (1)قوله: باب التقليد أي باب بيان من لا يجوز تقليده، ومن يجوز ويجب تقليده. والتقليد: العمل بقول الغير وحكمه من غير طلب دليل. قوله: (قلت له: «اتَّخَذُوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابا مِن دونِ اللّهِ» (2) ) أي سألته عن معنى هذه الآية وقلت: ما معنى اتّخاذ النصارى الأحبار والرهبان أربابا؟ والأحبار جمع حِبر بكسر الحاء (3) وفتحها وهو العالم. والرُهبان جمع راهب وهو المرتاض التارك لأشغال الدنيا وملاذّها، المعتزل عن أهلها. وقوله عليه السلام : (ما دَعَوْهم إلى عبادة أنفسهم) أي صريحا (ولو دَعَوْهم) أي إلى عبادة أنفسهم صريحا ما أجابوهم على وفْق دعوتهم وما عبدوهم. وقوله عليه السلام : (ولكن أحَلّوا لهم حراما، وحَرَّموا عليهم حلالاً) أي أحَلّوا لهم ما حرّمه اللّه عليهم، وحرّموا عليهم ما حلّله لهم على وفق هوائهم وميلهم إلى استرضاء أهل الدنيا، أو إلى أن لا يظنّ أنّهم لا يعلمون. ويحتمل أن يكون قوله: «أحلّوا لهم حراما» ناظرا إلى العلماء، وقوله: «وحرّموا عليهم حلالاً» ناظرا إلى الرهبان.


1- .العنوان من هامش النسخة.
2- .التوبة (9): 31.
3- .في النسخة: «الباء».

ص: 225

فَعَبَدُوهم من حيثُ لا يَشعرون».

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن إبراهيمَ بن محمّد الهمذانيّ ، عن محمّد بن عُبيدة ، قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام :«يا محمّد ، أنتم أشدُّ تقليدا ، أم المرجئة؟»

وقوله عليه السلام : (فَعَبَدُوهم من حيث لا يشعرون) المراد بالعبادة الإطاعة والانقياد والتقليد للأوامر والنواهي لأحد - من حيث هي أمر ونهي له (1) ، لا من حيث إنّه أوجب اللّه تعالى عليه ذلك الانقياد والإطاعة والتقليد لذلك الشخص؛ فإنّ ذلك عبادة له تعالى لا عبادة لذلك الشخص كإطاعة الحجج عليهم السلام ونوّابهم - فعبادتهم عبارة عن اتّباعهم وإطاعتهم فيما يقولونه خصوصا فيما يخالف حكم اللّه تعالى: «فعبدوهم من حيث لا يشعرون» أنّها عبادة لهم؛ لعدم تفكّرهم ومساهلتهم في أمر دينهم، بل بعضهم علموا بمعجزات النبيّ صلى الله عليه و آله وحقّيّة الإسلام أنّ إطاعتهم وتقليدهم حرام، وأصرّوا على ذلك عمدا، وإنّما لا يشعرون بكون إطاعتهم وتقليدهم عبادة لهم؛ فتدبّر. قوله: (عن إبراهيم بن محمّد الهَمَذاني) بالهاء والميم المفتوحتين والذال المعجمة، نسبة إلى بلد بناه هَمَذان بن الفلّوج بن سام بن نوح. وقوله عليه السلام : (أنتم أشدّ تقليدا، أم المرجئة؟) المراد بالتقليد الإطاعة والانقياد في الأحكام من غير طلب دليل. والإرجاء: التأخير، والمراد بالمرجئة هاهنا جماهير المؤخّرين عليّا عليه السلام عن الدرجة الاُولى إلى المرتبة الرابعة، فهم والشيعة طائفتان متقابلتان، لا ما هو مصطلح أهل الكلام من الفرقة المقابلة للوعيديّة بخصوصها، وهم الذين يقولون لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، أي أنتم أشدّ إطاعةً وانقيادا لأئمّتكم. أم المرجئة؟


1- .هنا في النسخة زيادة: «لا من حيث هي أمر ونهي له».

ص: 226

قال: قلت قلَّدْنا وَقَلَّدوا ، فقال: «لم أسْألكَ عن هذا ، فلم يَكُنْ عندي جوابٌ أكثَرُ من الجواب الأوّل» فقال أبو الحسن عليه السلام : «إنّ المرجئةَ نصبت رجلاً لم تَفْرِضْ طاعتَه وقلّدوه ، وأنتم نَصَبْتُم رجلاً وفَرَضْتم طاعتَه ثم لم تُقلّدوه ، فهم أشدُّ منكم تقليدا» .

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعيّ بن عبداللّه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه جلّ وعزّ : « اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ-نَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ » فقال :«واللّه ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما ، وحرَّموا عليهم حلالاً ، فاتَّبَعوهم» .

وقوله: (قلت: قَلَّدْنا وقَلَّدوا) أي أطعنا أئمّتنا، وأطاعوا أئمّتهم (فقال: لم أسألك عن هذا) أي ليس سؤالي عن أصل التقليد والإطاعة، بل عن التفاوت بينكم وبينهم في التقليد والانقياد. وقوله: (فلم يكن عندي جوابٌ أكثرُ من الجواب الأوّل) يعني فسكتّ عن الجواب ثانيا. وقوله عليه السلام : (إنّ المرجئة نصبت رجلاً) أي عيّنوه وأقاموه من عند أنفسهم للإمامة والإمارة من غير أن يكون معيّنا من عند اللّه تعالى وعند الرسول صلى الله عليه و آله وسلمكالخليفة العبّاسيّة في عصره عليه السلام . وقوله عليه السلام : «لم يفترض طاعته» أي من عند اللّه تعالى أصلاً في الواقع، ولا من عندهم بخصوصه؛ لأنّ اعتقادهم أنّ خلفاءهم وأئمّتهم مجتهدون، ويجوز إقامة الآخرين مقامهم. وقوله عليه السلام : «وقلّدوه» أي انقادوا لجميع أوامره ونواهيه، وأطاعوه غاية الإطاعة. وقوله عليه السلام : (وأنتم نصبتم رجلاً) إلخ، أي أنتم عيّنتموه للإمامة وقلتم بإمامته (وفرضتم طاعتَه) أي قلتم بأنّه واجب الطاعة بخصوصه، معصوم عن الخطأ (ثمّ لم يقلّدوه) ولم يطيعوه في جميع أوامره ونواهيه، بل خالفوه في بعض أحكامه. و«ثمّ» للتعجّب «فهم أشدّ منكم تقليدا» وإطاعة. فهذا شكاية منه عليه السلام عن بعض الشيعة.

ص: 227

باب البدع والرأي والمقاييسالحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ؛ وعدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال جميعا ، عن عاصم بن حُميد ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«خَطَبَ أميرُالمؤمنين عليه السلام الناسَ ، فقال : أيّها الناسُ ، إنّما بَدْءُ وقوع الفتن أهواءٌ تُتَّبَعُ ، وأحكام تُبْتَدَعُ ، يُخالَفُ فيها كتابُ اللّه ، .........

باب البدع والرأي والمقاييس (1)قوله: (في قول اللّه عزّ وجلّ: اتّخذوا) إلخ ظهر شرحه ممّا مرّ. قوله عليه السلام : (إنّما بَدْءُ وقوعِ الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبَعُ وأحكامٌ تُبْتَدَعُ) البَدء - بفتح الباء الموحّدة وسكون الدال ثمّ الهمزة - : الأوّل من كلّ شيء، أو بمعنى الابتداء مِن «بدأتُ الشيءَ» إذا فعلتَه ابتداءً، أو بمعنى ما يُبتدأ به، والمبتدأ مِن «بدأتُ بالشيء»؛ إذا ابتدأتَ به. و«الفتن» جمع الفتنة وهي الاختبار والامتحان، ثمّ كثر استعماله لما يختبر به من المكروه، ثمّ كثر استعماله بمعنى الضلال والكفر والقتال ونحوها. والأهواء جمع هوى وهو بالقصر الحبّ المفرط وميل النفس إلى شيء خيرا كان أو شرّا، أي إنّ أوّل وقوع الفتن وقوع أهواء بحذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، أو الحمل مجاز. أو معناه أنّ أوّل الفتن أهواء. ولفظ «الوقوع» مقتحم، أو ابتداء وقوع الفتن من أهواء، أو منشأ وقوع الفتن ومُبتدؤها أهواء. «تتّبع» على صيغة المجهول من باب الافتعال أو التفعيل، أي يتّبعها صاحبوها، ويتّخذونها آراء وأحكام تبتدع، على صيغة المجهول من باب الافتعال، أي تبتدع على طبق الأهواء واتّباعها. وقوله: (يُخالف فيها كتاب اللّه ) على صيغة المجهول بيان وتوضيح لقوله: «تبتدع» أي


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 228

يتولّى فيها رجالٌ رجالاً ، فلو أنّ الباطلَ خَلَصَ لم يَخْفَ على ذي حِجى ، ولو أنَّ الحقَّ خَلَصَ لم يكن اختلافٌ ، ولكن يُؤخَذُ من هذا ضِغثٌ ومن هذا ضِغثٌ فيُمزَجان فيجيئان معا ، فهُنالِك استَحْوَذَ الشيطانُ على أوليائه ، ونجا الذين سبَقَتْ لهم من اللّه الحُسنى» .

يخالف في الأحكام المبتدعة كتاب اللّه . وقوله: (يتولّى فيها رجالٌ رجالاً) يقال: تولّاه، إذا اتّخذه وليّا، أي يتّخذ في تلك الأحكام المبتدعة رجالٌ - هم المقلّدون - رجالاً - هم صاحبو الأحكام - حبيبهم، أو ناصرهم، أو أولى بتصرّفهم. والحاصل أنّ المقلّدين والمطيعين لصاحب تلك الأحكام يقلّدونهم ويطيعونهم فيها. قد ذكر عليه السلام ثلاثة أنواع من الفتنة، أو ممّا يوجبها: الأوّل: الأهواء المتّبعة وهي فتنة، أو منشؤها لصاحبيها. والثاني: الأحكام المبتدعة وهي فتنة، أو منشؤها لصاحبيها، ولمقلّد[ي-]هم أيضا. والثالث: تولّي المقلّدين للمبتدئين، وذلك فتنة، أو مبتدؤها لهما ولغيرهما أيضا؛ لأنّه يوجب إفساد حال غيرهما أيضا من الإضلال والإهلاك والإضرار كما لا يخفى. وقوله عليه السلام : (فلو أنّ الباطل لم يَخْفَ على ذي حِجى) إلخ بيان لأنّ الأهواء المتّبعة والأحكام المبتدعة إنّما هو بدء وقوع الفتن وموقعة للضلال؛ لسبب خلطها، ومزجها بالحقّ، والافتتان باجتماعهما؛ فإنّ الباطل الخالص لا يخفى بطلانه «على ذي حِجى» أي ذي عقل وفطانة - وهو بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم مقصورا - والحقّ الخالص واحد لا يكون فيه اختلاف، ولا يؤدّي إلى ضلال، (ولكن يُؤخَذُ من هذا) الباطل (ضِغثٌ) أي قبضة وحصّة مختلطة - قال في القاموس: «ضَغَثَ الحديثَ: خَلَطَهُ، والضِغث - بالكسر - قُبْضَةٌ من الحشيش مُختَلَط (1) الرَطْبِ باليابس» (2) (ومن هذا) الحقّ (ضغث فيمتزجان) ويختلطان (فيجيئان معا) أي مقارنَيْن، فيحصل الاشتباه (فهُنالِك استحوذ) أي غلب (الشيطانُ على أوليائه) أي محبّيه وأتباعه باتّباعهم الأهواء والبدع (ونجا الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى)


1- .في المصدر: «قبضة حشيشٍ مُخْتَلطَةُ».
2- .القاموس المحيط، ج 1، ص 362.

ص: 229

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن محمّد بن جمهورٍ العَمِّيِّ يَرْفَعُه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :«إذا ظَهَرَتِ البِدَعُ في اُمّتي ، فَلْيُظْهِرِ العالمُ علْمَه ، فمن لم يَفْعَلْ فَعليه لعنةُ اللّه » .

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن جمهور ، رَفَعَه ، قال :«من أتى ذا بِدعَةٍ فعَظَّمَه ، فإنّما يَسعى في هَدم الإسلام» .

وبهذا الإسناد عن محمّد بن جمهور ، رَفَعَه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :«أبى اللّهُ لصاحب البِدعة بالتوبة» . قيل : يا رسول اللّه ، وكيف ذلك؟ قال : «إنّه قد اُشربَ قلبُه حُبَّها» .

أي في مشيّته وقَدَره وقضائه، أو الكلمة الحسنى وهي التوفيق كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» (1) وهي التوفيق. قوله: (عن محمّد بن جمهور العَمّي) بالعين المهملة المفتوحة وتشديد الميم، نسبة إلى موضع بين حلب وأنطاكية. (إذا ظَهَرَتِ البِدَعُ في اُمّتي فَلْيُظْهِرِ العالمُ علمَه) أي إن تمكّن ولم يكن تقيّة وخوف (2) على نفسه، أو على غيره من المؤمنين. وقوله عليه السلام : (فمن لم يَفْعَلْ) أي فمن لم يظهر علمه مع الشرط المذكور. قوله عليه السلام : (من أتى ذا بدعةٍ فَعَظَّمه) أي لا لتقيّة، أو عظّمه؛ لكونه ذا بدعة. وقوله عليه السلام : (فإنّما يَسعى في هدم الإسلام) لأنّ تعظيمه تقوية في ترويج بدعته (3) ، ورواج البدعة مبطل للشريعة، وإدخال لما ليس من الشرع فيه. قوله صلى الله عليه و آله : (أبى اللّهُ لصاحب البدعة التوبةَ) المراد بصاحب البدعة المزاول لها، أي لا يوفّقه اللّه تعالى للتوبة. وقوله: (وكيف ذلك؟) سؤال عن سبب ذلك. وقوله صلى الله عليه و آله : (إنّه قد أشرب قلبه حبّها) على صيغة المعلوم أو المجهول، و«قلبه» بالنصب


1- .الأعراف (7): 137.
2- .في النسخة: «خوفا».
3- .في النسخة: «بدعه».

ص: 230

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ عند كلّ بِدعة - تكون من بعدي يُكادُ بها الإيمانُ - وليّا من أهل بيتي موكَّلاً به يَذُبُّ عنه ، يَنطق بإلهام من اللّه ، ويُعلِنُ الحقَّ ويُنَوِّرُه ، ويَرُدُّ كيدَ الكائدين ، يُعَبّرُ عن الضعفاء ،

أو الرفع، وفاعله «صاحب البدعة» أي خالط حبَّها قلبَه، يقال: اُشرب فلانٌ حبَّ فلان، أي خالط قلبه فتعمى بصيرته عن إدراك قبحه، أو فساده وبطلانه، فلا يندم على فعله، ولا يهتدي إلى الصراط المستقيم ليتوب عن البدعة. قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (إنّ عند كلّ بدعة تكون (1) من بعدي) أي إلى آخر الزمان، والجملة صفة ل- «بدعة». وقوله عليه السلام : (يُكاد بها الإيمان) صفة اُخرى لها، والفعل مجهول مشتقّ من الكيد، أي بها يمكر، أو يحارب الإيمان. وقوله عليه السلام : (وليّا) اسم «إنّ» أي ناصرا للإيمان من أهل بيتي، والمراد الأئمّة عليهم السلام . ولا شكّ في أنّ الصاحب عليه السلام في زمان الغيبة أيضا ناصر للإيمان لبعض الموفّقين لكن على وجه لا يعرفه أحد. وقوله عليه السلام : (موكّلاً به) الموكّل بالشيء هو الذي جعل حافظا له. والمعنى جُعل حافظا للإيمان. وقوله عليه السلام : (يَذُبُّ عنه) أي يدفع عن الإيمان شُبَه المبطلين وأهل البدع، وبالجملة يدفع عنه ضرر أهل البدع. وقوله عليه السلام : (يُعلِنُ الحقَّ ويُنَوِّرُه) أي يظهر الحقّ ويجعله بيّنا واضحا بالبراهين والأدلّة. وقوله عليه السلام : (ويَرُدُّ كيدَ الكائدين) أي يردّ كيد المبتدعين في ترويج البدع وإفساد الإيمان عنه. وقوله عليه السلام : (يُعَبّرُ عن الضعفاء) تقول: عبّرتُ عن فلان تعبيرا، إذا تكلّمت عنه، أي


1- .في النسخة كانت مهملة.

ص: 231

فاعتَبِروا يا اُولي الأبصار ، وتوكّلوا على اللّه » .

محمّد بن يحيى ، عن بعض أصحابه ؛ وعليُّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ؛ وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن محبوب، رَفَعه، عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال:«إنَّ من أبغض الخلق إلى اللّه عزّوجلّ لَرجلين: رجلٌ وَكَلَه اللّه

يتكلّم عن المؤمنين الذين ضعفوا عن إظهار الحقّ وإبانته بالأدلّة، ولا يقدرون على دفع الشكوك والشُبَه. قيل (1) : يحتمل أن يكون «يعبّر عن الضعفاء» ابتداء كلام من الصادق عليه السلام ، والمعنى أنّه صلى الله عليه و آله بقوله ذلك يعبّر عن الضعفاء، أي الأئمّة الذين ظُلموا واستُضعِفوا في الأرض. انتهى. وقوله: (فاعتَبِروا يا اُولي الأبصار) الظاهر أنّه كلام الصادق عليه السلام ، وتعجّب من أمر الاُمّة حيث إنّهم مع سماعهم أمثال هذه من نبيّهم، كيف تركوا أهل بيته بل خذلوهم وقتلوهم؟ وقوله عليه السلام : (وتوكّلوا على اللّه ) أي للاحتراز عن مخالفتهم عليهم السلام . قوله: (رفعه) أي رفعه إلى [أبي] عبد اللّه عليه السلام . وقوله عليه السلام : (إنّ من أبغض الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ لَرجلين) البغض ضدّ الحبّ، تقول: فلان باغض لي، إذا مَقَتَكَ، ومبغوض إليَ، إذا أمقتَّه. أقول: هذا تقسيم لبعض أهل الضلال من المسلمين الذي هو من جملة أبغض الخلق إلى اللّه تعالى إلى صنفين: أوّلهما: عبّادهم المبتدعون في العمل والعبادة، المعتمدون في الإصلاح على ما يهوونه ويرونه إصلاحا كالمتصوّفة والمرتاضين بالرياضات الغير المشروعة، والسالكين بالمسالك المبتدعة، وهؤلاء شبيه رهبان النصارى في «رَهبانيّةً ابتدعوها» (2) . وثانيهما: علماؤهم الآخذون للعلم من غير مأخذه، المستندون بالجهالات والشُبَه، والقياسات الباطلة، والروايات الفاسدة، والأقوال الكاذبة في أحكامهم وفتاويهم كعلماء


1- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 194.
2- .الحديد (57): 27.

ص: 232

إلى نفسه ، فهو جائرٌ عن قَصْد السبيلِ ، مَشعوفٌ بكلام بدعة ، قد لَهِجَ بالصوم والصلاة ؛ فهو فتنة لمن افْتَتَنَ به ، .........

المخالفين، ومن يحذو حذوهم، وهؤلاء شبيه أحبار النصارى الذين «يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عن مواضعه» (1) . وقوله عليه السلام : (رجل وكله اللّه إلى نفسه) يقال: وَكَلَ إليه الأمر، أي سلّمه وتركه. فالتقدير وكل اللّه أمره إلى نفسه؛ يعني خلّاه ونفسه، وترك إصلاحه وتوفيقه، وصرف أمره إليه. وقوله عليه السلام : (فهو جائر عن قَصْد السبيل) إلى قوله: «فهو فتنة» تفصيل وبيان لوكول أمره إليه. والجور: الميل عن القصد والحقّ. والقصد: الوسط من كلّ شيء وهو بين الإفراط والتفريط، أي مائل عن سبيل الحقّ، وعن السبيل المستقيم. وقوله عليه السلام : (مشعوف بكلام بدعة) بالعين المهملة من شعفني حبّه، أي غشي الحبُّ القلب من فوقه، أو بالغين المعجمة مِن «شَغفه الحُبُّ» أي بلغ الحُبُّ شَغافَه. والشَغاف - كسحاب - : غلاف القلب. وقيل (2) : سويداؤه. وقوله عليه السلام : (قد لَهِجَ بالصوم والصلاة) اللَهْج بالشيء - بفتح اللام وسكون الهاء - : الولوع به والمواظبة عليه والحرص فيه، والفعل كعلم، أي قد ولع بالصوم والصلاة حريصا فيهما؛ لافتتان الناس به، فهذا أصل الافتتان به. وكذا فرّع عليه قوله: «فهو فتنة لمن افتتن به» والفتنة: الاختبار والامتحان والإضلال والضلال والإثم والعذاب، يقال: فتنه وأفتنه وافتتنه، إذا اختبره وامتحنه وأضلّه وأوقعه في الضلال والإثم والعذاب. وقوله: (لمن افتتن به) على صيغة المجهول المتعدّي، أو المعلوم اللازم؛ لأنّه لازم ومتعدّ.


1- .النساء (4): 46؛ المائدة (5): 13.
2- .نقله في القاموس المحيط، ج 3، ص 232.

ص: 233

ضالٌّ عن هَدْي من كان قبلَه ، مُضلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته ، حمّالُ خطايا غيرِهِ ، رَهْنٌ بخطيئته . ورجل قَمَشَ جهلاً في جُهّال الناس ، عانَ بأغباش الفتنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالما ، ولم

وقوله عليه السلام : (ضالٌّ عن هَدْي مَن كان قلبه) من أهل الحقّ ببدعته (مُضلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته) بفتنته. وقوله عليه السلام : (حمّال خطايا غيرِه، رهنٌ بخطيئته) أي يعود إليه مثل عقاب خطايا غيره من المقتفين لأثره؛ لأنّه سبب لها وعقاب خطيئته. وقوله عليه السلام : (ورجل قَمَشَ جهلاً) إلخ تفصيل وبيان لحال الصنف الثاني. والقَمش جمع الشيء من هاهنا وهاهنا، وكذا التقميش، وذلك الشيء قماش. والمراد بالجهل الجهل المركّب وهو العقائد والأحكام الغير المأخوذة من مأخذها (1) الذي يجب أن تؤخذ عنه، فلا يكون الاعتماد فيها إلّا على توهّمات فاسدة، أو قياسات كاسدة، أو ظنون باطلة، أو روايات غير ثابتة ممّن هو الحجّة، فيَضلّ هو بها، ويُضلّ غيرَه (2) . والمراد بالجهّال هاهنا أعمّ ممّن يقابل العلماء، وممّن يقابل العقلاء؛ يعني ضعفاء العقول. وقوله عليه السلام : (عان بأغباش الفتنة) يحتمل أن يكون «عانٍ» اسم فاعل من الناقص من «عنا يعنو»، إذا خضع وذلّ. والعاني: الأسير. فالباء للسببيّة. ويحتمل أن يكون مِن «عنيتُ بحاجتك فأنا عانٍ» أي اهتممتُ بها واشتغلتُ. والأغباش جمع الغَبَش محرّكة بالباء الموحّدة بين المعجمتين وهو بقيّة الليل [أو ]ظلمة آخره. عبّر بها عمّا بقي من آثار سلفهم من الجهالات والشبهات الموسوسة، أي أسير بسبب بقايا الفتنة المظلمة، أو بسبب ظلمات آخرها، أو معناه مهتمّ مشتغل ببقاياها، أو بظلمات آخرها. وقوله عليه السلام : (قد سمّاه أشباه الناس عالما) والمراد بأشباه الناس الذين يماثلونهم في الشكل والتكلّم والحركة والمشاعر الظاهرة والحواسّ الباطنة، ويخالفونهم في التميز


1- .في النسخة: «مأخذه».
2- .في النسخة: «غيرها».

ص: 234

يَغْنَ فيه يوما سالما ، بكَّرَ فاستَكْثَرَ ، ما قَلَّ منه خيرٌ ممّا كَثُرَ ، حتّى إذا ارتوى من آجِنٍ واكْتَنَزَ من غير طائل جَلَسَ بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ،

العقلي والتفكّر والتدبّر في الاُمور وعواقبها، فهؤلاء لعدم تميزهم يسمّونه عالما، ومن له أدنى تميز يعدّه من أجهل الجهّال. وقوله عليه السلام : (ولم يَغْنَ فيه يوما سالما) قال في النهاية الأثيريّة: «في حديث عليّ: ورجل سمّاه الناس عالما، ولم يغن في العلم يوما سالما أي لم يلبث في العلم يوما تامّا، من قولك: غَنيْتُ بالمكان [أغني]، إذا أقمتَ فيه (1) » انتهى. وفي نسخة: «لم يعنِ» بالمهملة أي لم يهتمّ في العلم يوما تامّا، بل يصرف أوقاته على قَمش الجهل والاشتغال بالفتنة. وقوله عليه السلام : (بكّر فاستكثر) التبكير: الإتيان في أوّل اليوم، تقول: استكثرتُ من الشيء، إذا أكثرتَ منه، يعني بادر وسارع كلّ يوم إلى تحصيل الجهالات وجمعها، فاستكثر وحصّل كثيرا منها. وقوله عليه السلام : (ما قلّ منه خيرٌ ممّا كثر) جملة معترضة، أي ما قلّ صدوره من ذلك الرجل، ولم يهتمّ به كسائر أفعاله أيّ فعلٍ كان خير ممّا كثر صدوره منه، واهتمّ به من قَمش الجهل والاشتغال بالفتنة، فعدمه خير من وجوده. وقوله عليه السلام : (حتّى إذا ارتوى من آجِنٍ) متعلّق بقوله: «بكّر» و«استكثر» والارتواء: الشرب من الماء بقدر الحاجة. والآجن: الماء المتغيّر الطعم واللون. شبّه الجهالاتِ بالآجن، وقَمشَها وجمعَها بقدر يكفيه باعتقاده بالارتواء. وقوله عليه السلام : (واكتنز) أي اجتمع وامتلأ (من غير طائل) أي من غير نافع، يعني ممّا لا نفع فيه. وقوله عليه السلام : (جلس بين الناس قاضيا) أي حاكما ماضيا نافذا حكمه. وقوله عليه السلام : (ضامنا لتخليص ما التبس على غيره) أي ضامنا لتخليص الحقّ الملتبس


1- .النهاية، ج 3، ص 392 (غنا).

ص: 235

وإن خالَفَ قاضيا سَبَقَه ، لم يأمَنْ أن يَنقُضَ حكمَه مَن يأتي بعدَه كفِعْلِهِ بمَن كانَ قبلَه ، وإن نزلَتْ به إحدى المبهمات المعضلات هَيَّأَ لها حشوا من رأيه ، ثمّ قطع به ، فهو من لَبْس الشبهات في مثل غَزْلِ العنكبوت لا يدري أصابَ أم أخْطَأ ،

على غيره من الشكوك والشُبَه والالتباس. وهذه في الفتاوى، كما أنّ الاُولى في الأحكام. وقوله عليه السلام : (وإن خالف قاضيا سَبَقَه لم يأمَنْ أن يَنقُضَ حكمَه مَن يأتي بعدَه كفعله لمن كان قبلَه) كما يدلّ عليه قوله: «كما تدين تُدان» وهذا من أحوال القاضي، وناظر إلى قوله: «جلس بين الناس قاضيا». وقوله عليه السلام : (وإن نزلَتْ به إحدى المبهمات المعضلات هَيَّأَ لها حشوا من رأيه ثمّ قطع) من أحوال المفتي وناظر إلى قوله: «ضامنا لتخليص ما التبس على غيره». و«المبهمات» على صيغة المفعول «المغلقات» ، يقال: أبهمتُ الباب، إذا أغلقتَه، ويقال: أمرٌ مبهمٌ، أي لا مأتيّ له. و«المُعضلات» على صيغة الفاعل، أي المشكلات، قال الجوهري: «أعْضَلَني، أي أعياني أمره، وقد أعْضَلَ الأمر [أي] اشتدّ واستغلق، وأمرٌ مُعْضِلٌ: لا يُهْتَدَى لوجهه، والمُعْضِلاتُ (1) : الشدائد (2) » انتهى. والحشو ما يُحشى به الفرش وغيره من القطن والصوف، والمراد به هاهنا الضائع الركيك من رأيه. وقوله: (ثمّ قطع) أي فَصَلَ واستخرج الفروع المعضلة من اُصوله الفاسدة، وأفتى بها. وقوله عليه السلام : (فهو من لَبس الشبهات) بفتح اللام أي من خلط الشبهات بعضها ببعض، أو من خلطها بغيرها «في مثل غَزْلِ العنكبوت» أشبه الشبهات بغزل العنكبوت، كلّ شبهة بطاقة منه. والظرف خبر المبتدأ. وقوله عليه السلام : (لا يدري أصاب أم أخْطَأ) حيث يفتي بما لا يعلم أنّه مأخوذ من مأخذه الذي ينبغي أن يؤخذ منه، بل يأخذه ممّا يميل بهواه إلى الاعتماد عليه من الأوهام والظنون


1- .في النسخة كتب تحتها: بالتشديد كمفرّدات (منه عفي عنه).
2- .الصحاح، ج 3، ص 1766.

ص: 236

لا يَحسَبُ العلمَ في شيء ممّا أنكَرَ ، ولا يَرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهبا ، إن قاس شيئا بشيء لم يُكذِّبْ نظرَه ، وإن أظلم عليه أمرٌ اكْتَتَمَ به؛لما يعلم من جهل نفسه،لكيلا يقال له: لا يعلم، ثمّ جَسَرَ فقضى، فهو مفتاح عَشَواتٍ ، رَكّابُ شبهاتٍ ، خبّاطُ جهالاتٍ ، .........

والقياسات الفاسدة والروايات الباطلة. وقوله عليه السلام : (لا يَحسَبُ العلمَ في شيء ممّا أنكر) أي لا يحسب أن يكون لأحد العلم في شيء ممّا أنكره ولا يعلمه. وقوله عليه السلام : (ولا يَرى أنّ وراء ما بلغ فيه) أي من جميع الجهالات وخلط الشبهات، أو مرتبة قضائه وفتوائه (مذهبا). وقوله عليه السلام : (إن قاس شيئا بشيء لم يُكَذِّبْ نظرَه) أي في جواز العمل بالقياس؛ لاعتقاده أنّ ما يستدلّ به على جواز العمل بمطلق القياس تمام. وفي هذه الفقرة إشارة إلى كمال وهن القياس. وقوله عليه السلام : (وإن أظلم عليه أمرٌ) أي لا يحصل في ذهنه منه شيء أصلاً، ولا يقع نظره فيه على شيء من الشُبَه والأوهام والمآخذ الفاسدة حتّى يستدلّ بشيء منها على ذلك الأمر بزعمه (اكْتَتَم به) أي سَتَرَهُ، فالباء للتقوية «لما يعلم من جهل نفسه لكي لا يقال له: لا يعلم» ذلك الأمر، ولم يظهر جهله به. (ثمّ) بعد ما كان على هذا الحال (جَسَرَ) أي جَرَأَ إذا رُجِع إليه في هذه المسألة المجهولة المكتومة على الأمر الخطير من القضاء بالحكم بين الناس، أو الإفتاء (فقضى) بأحد الوجهين ممّا يجري على لسانه مع خلوّ ذهنه عنها بالكلّيّة. وقوله عليه السلام : (فهو مفتاح عَشَوات) جمع العشوة - وهي بتثليث المهملة وتسكين المعجمة - : أن يركب المرء أمرا يجهله ولا يعرف وجهه. مأخوذ من عشوة الليل وهي ظلمته. وهذا ناظر إلى قوله: «وإن أظلم عليه» إلخ. وقوله عليه السلام : (رَكّابُ شبهاتٍ) ناظر إلى قوله: «وإن خالف» إلى قوله: «وإن أظلم». وقوله عليه السلام : (خبّاطُ جهالاتٍ) ناظر إلى قوله: «قمش جهلاً» فالنشر على خلاف ترتيب اللفّ.

ص: 237

لا يَعتذِرُ ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يَعَضُّ في العلم بضِرْسٍ قاطِعٍ فيَغْنَمَ ، يَذري الرواياتِ ذَرْوَ الريح الهَشيم ، تبكي منه المواريثُ ، وتَصرُخُ منه الدماء ؛ يُستحلُّ بقضائه الفَرْجُ الحرام ، ويُحرَّمُ بقضائه الفَرْج الحلال ، لامَلِيءٌ بإصدار ما عليه وَرَدَ ، .........

والخبّاط بتشديد الباء الموحّدة للمبالغة، قال الجوهري: «خَبَطَ البعيرُ الأرضَ بيده خَبْطا: ضربها، ومنه قيل: خَبْطَ عَشْواءَ، وهي الناقة التي في بَصَرها ضعفٌ، تَخْبِطُ إذا مَشَتْ لا تتوقّى شيئا. وخَبَطَ الرجل، إذا طَرَحَ نفسَه حيث كان لينامَ» (1) . وقوله عليه السلام : (لا يَعتذِرُ ممّا لا يعلم) إذا سئل عنه (فيسلم) أي ليسلم من القول على اللّه بغير علم، أو من الافتضاح إذا ظهر خلافه. وهذا ناظر إلى قوله: «مفتاح عشوات». وقوله عليه السلام : (ولا يَعَضُّ في العلم بضرسٍ قاطعٍ فَيَغْنم) العضّ: الأخذ بالأسنان، والمقصود أنّه ليس في كسب العلم - اُصولاً كان أو فروعا - قويّا حتّى يحصل له فائدة منه، بل إنّما الحاصلُ له من ذلك الكسب الجهلُ. وهذا ناظر إلى «خبّاط جهالات». وقوله عليه السلام : (يَذري الرواياتِ ذَرْوَ الريح الهَشيم) يقال: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا، أي طيّرته. والهشيم من النبات: اليابس المتكسّر. والمراد تأويل الروايات على الهوى، وتقديم القياس على الخبر الواحد كما هو رأي أبي حنيفة، وعدم رعاية الجمع بين متعارضاتها مهما أمكن. وهذا إلى آخر الحديث ناظر إلى قوليه من «ركّاب شبهات» و«خبّاط جهالات». وقوله عليه السلام : (تبكي منه المواريثُ، وتَصرُخُ منه الدماء) أي حين يحكم فيهما بخلاف الحقّ بالشبهات والجهالات. والصُراخ - بالضمّ - : الصوت. وقوله عليه السلام : (يُستحلّ بقضائه الفرجُ الحرامُ) على صيغة المجهول، وكذا قوله: «يُحرَّم» كما في الإخلال بشرائط الطلاق وطواف النساء ونحو ذلك. وقوله عليه السلام : (لا مَلِيءٌ بإصدار ما عليه ورد) المليء - بفتح الميم وكسر اللام وسكون الياء وآخره همزة - : الغنيّ المتموّل. والإصدار: الإرجاع، أي بإرجاع ما ورد عليه. والمراد أنّه


1- .الصحاح، ج 2، ص 1121.

ص: 238

ولا هو أهلٌ لما منه فَرَطَ ، مِن ادّعائه علمَ الحقّ» .

الحسين بن محمّد ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي شيبةَ الخراسانيّ ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«إنّ أصحابَ المقاييس طلبوا العلمَ بالمقاييس ، فلم تَزِدْهم المقاييس من الحقّ إلّا بُعدا ، وإنَّ دين اللّه لا يُصابُ بالمقاييس» .

لا يقدر على حلّ ما سئل عنه على ما هو الحقّ. وقوله عليه السلام : (ولا هو أهلٌ لما منه فَرَطَ من ادّعائه علمَ الحقّ) يقال: فرط في الأمر كنصر، إذا قصّر فيه وضيّعه حتّى فات، أي ليس هو أهلاً لعلم الحقّ الذي قصّر فيه وضيّعه حتّى فات عنه، من جهة ادّعائه علم الحقّ كذبا، وانتسابه إلى نفسه زورا. ويحتمل أن يكون المراد ب- «فَرَط» سَبَق، يقال: فرط منّي إليه قول، أي سبق من غير احتياط، ويكون «من» بيانا ل- «ما» أي ليس أهلاً لدعوى علم الحقّ. قوله: (عن أبي شَيبة الخراساني) بفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة تحت وفتح الباء الموحّدة ثمّ الهاء. وقوله عليه السلام : (إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلمَ) أي المسائل الشرعيّة «بالمقاييس». وقوله عليه السلام : (فلم تَزِدْهم المقاييس) أي لم تزد مراعاتهم المقاييس واستدلالهم بها على المسائل الشرعيّة ولا سيّما ترجيحها على الخبر الواحد كما ذهب إليه أبو حنيفة، أو جعلها معارضا له، أو مرجّحا للضعيف على القويّ من الأخبار «إلّا بُعدا» من الحقّ ليست من الأدلّة والأمارات في الشرعيّات، كيف، وأكثر الأحكام الثابتة في الشرع إذا لوحظ مخالف لقياسهم، ويستثنى من ذلك قياس منصوص العلّة وطريق الأولويّة؛ فإنّ العمل بهما حقيقةً يرجع (1) إلى العمل بالكتاب والسنّة، فيجوز العمل بهما كما بيّن في موضعه. وقوله عليه السلام : (إنّ دين اللّه لا يُصابُ بالمقاييس) إذ ما لم يرد فيه حكم فهو على الإباحة، ولا يجوز لأحد إثبات حكم فيه بالقياس، اللّهمّ إلّا أن يجري فيه أحد القياسين المذكورين،


1- .في النسخة: «يرجعان».

ص: 239

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ ومحمّدُ بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، رَفَعَه ، عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهماالسلام قالا:«كلُّ بدعةٍ ضَلالةٌ ، وكلُّ ضلالَةٍ سبيلُها إلى النار» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمّد بن حكيم ، قال :قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام : جُعلتُ فداك ، فُقِّهْنا في الدين وأغْنانا اللّه بكم عن الناس ، حتّى أنَّ الجماعةَ منّا لتكون في المجلس ما يسأل رجلٌ صاحبَه تَحضُرُه المسألةُ ويَحضره جوابُها

وما ورد فيه حكم من الشارع، فلا يجوز لأحد ترك طلبه وأخذه من حَمَلَته والاعتماد فيه على القياس. قوله: (عن محمّد بن حُكيم) قال في الإيضاح: «بضمّ الحاء المهملة والياء بعد الكاف. وقيل: حَكيم بفتح الحاء المهملة (1) » انتهى. وقوله: (فُقِّهْنا) على صيغة المجهول من باب التفعيل، أو على صيغة المعلوم من «فَقُهَ» كَكَرُم، إذا صار فقيها. وقوله: (عن الناس) أي عن المخالفين. وقوله: (حتّى إنّ الجماعة منّا) أي الجماعة من الشيعة. و«إنّ» بكسر الهمزة و«حتّى» هي الداخلة على الجُمل. وقوله: (لَتكون في المجلس) بفتح اللام للتأكيد، وبالتاء المثنّاة فوقُ للمضارعة. وقوله: (ما يسأل رجلٌ صاحبَه تَحضُرُه المسألةُ ويَحضره جوابُها) أي «وما يسأل» ف- «ما» موصولة وهي مبتدأ، والجملة معطوفة (2) على «تكون» بتقدير العاطف. ويحتمل أن يكون الجملة حاليّة عن فاعل «تكون» والعائد مقدّر، أي رجل منهم، أو صفة للمجلس؛ لأنّه في حكم النكرة والعائد مقدّر، أي ليسأل فيه. وعلى التقادير [ف] ضمير «تحضره» و«يحضره» للصاحب. وقيل (3) : «ما» نافية، أي لا حاجة له إلى سؤال، فيكون قوله: «يحضره» استينافا


1- .الإيضاح، ص 280، رقم 629.
2- .في النسخة: «معطوف».
3- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 199، وهي إحدى الاحتمالات في كلامه في حاشيته على كتابه بعنوان «منه».

ص: 240

فيما مَنّ اللّهُ علينا بكم ، فربّما وَرَدَ علينا الشيءُ لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شيءٌ ، فنظَرْنا إلى أحسنِ ما يَحضرُنا وأوفَقِ الأشياء لما جاءنا عنكم ، فنأخذ به؟ فقال :«هيهاتَ هيهاتَ ، في ذلك واللّه هَلَكَ من هَلَكَ يا ابْنَ حكيم» . قال : ثمَّ قال : «لَعَنَ اللّهُ أبا حنيفَةَ ، كان يقول : قال عليٌّ ، وقلتُ» . قال محمّد بن حكيم لهشام بن الحكم : واللّهِ ما أردتُ إلّا أن يُرَخِّصَ لي في القياس .

بيانيا، والضميران ل- «رجل». وعلى أيّ تقدير فتمهيد هذه المقدّمة لبيان أنّ احتياجنا إلى القياس نادر حتّى يأذن عليه السلام في القياس. وقوله: (فربّما ورد علينا الشيء) أي ربما سئلنا عن مسألة، أو ربّما وصلنا في العمل إلى موضع (لم يأتنا فيه) أي في ذلك الشيء (عنك ولا عن آبائك شيءٌ) أي حكم. والجملة صفة «الشيء» لأنّه في حكم النكرة. وقوله: (فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا) من أحاديثكم وهو ما لا يكون فيه تقيّة، ولا يعرضه تغيّر؛ ليصلح أن يكون أصلاً في القياس. وقوله: (وأوفَقِ الأشياء لما جاءنا عنكم) من أحسن أحاديثكم قياسا عليه «فنأخذ به؟» أي نجيب بذلك الجواب الذي هو أوفق لحديثكم قياسا عليه وهو جواب يكون بينه وبين الحديث جامع يعتبر في القياس، أو نعمل فيه بالذي هو كذلك. وقوله عليه السلام : (هيهات هيهات) اسم فعل، أي بَعُدَ عن المسلك المستقيم وإصابة الحقّ، والثاني تأكيد للأوّل. وقوله عليه السلام : (في ذلك) أي في الأخذ بالأوفق للحديث قياسا عليه؛ يعني في الأخذ بالقياس. وقوله عليه السلام : (هَلَكَ من هلك) أي من القائلين بالقياس. وقوله عليه السلام : (كان يقول : قال عليٌ وقلتُ) ظاهر السياق أنّه كان يقول ذلك إذا أراد قياس شيء على قول عليّ عليه السلام في شيء آخر، فمعناه أنّه قال عليّ في مسألة كذا هكذا، وفي مسألة اُخرى هكذا قياسا على قوله في المسألة الاُولى.

ص: 241

محمّد بن أبي عبداللّه ، رَفَعَه ، عن يونس بن عبدالرّحمن ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام : بما اُوَحِّدُ اللّهَ؟ فقال :«يا يونس ، لا تكونَنّ مُبتدِعا ، مَن نَظَرَ برأيه هَلَكَ ،

وقيل (1) : ظاهره أنّه كان يقول: قال عليّ قياسا، وقلت قياسا، فأخذ بالقياس وظنّ بعليّ عليه السلام (2) ذلك. انتهى. ويحتمل أن يكون معناه ترجيح قياسه على الخبر الواحد المرويّ عن عليّ عليه السلام ؛ لأنّ من مذهبه ترجيحَ القياس على الخبر الواحد. وأمّا احتمال أنّه ردّ على عليّ عليه السلام في مسألة بترجيح قياس نفسه على حكم عليّ عليه السلام فيها، سواء كان حكمه عليه السلام فيها بطريق القياس كما ظنّ به عليه السلام ذلك، أو بطريق الرواية عن النبيّ؛ لظنّه بالنبيّ صلى الله عليه و آله أنّه كان يقول بالقياس، وترجيح قياس نفسه على قياسه صلى الله عليه و آله وسلم، أو لترجيح قياسه على رواية عليّ عليه السلام فبعيد جدّا؛ لاشتمال كلّ ذلك على ضلال وطغيان قلّما يرتكبه ويظهره. قوله: (بما اُوحِّدُ اللّهَ عزّ وجلّ؟) على صيغة المتكلّم وحده من باب التفعيل، والمراد بما يوحَّدُ شروط التوحيد من اُصول الدين التي لا يقبل اللّه توحيده إلّا بها، كما يدلّ على ذلك روايات عنهم عليهم السلام . وقوله عليه السلام : (لا تكونَنَّ مُبتدِعا) أي مثبتا حكما من عندك لا بالكتاب والسنّة وسائر الأدلّة الشرعيّة بل برأيك. وقوله عليه السلام : (مَن نَظَرَ برأيه هَلَكَ) أقول: أي من نظر في العلوم الدينيّة برأيه وبدعته، وجعل الرأي والقياس مأخذها (3) كما فعله المخالفون فقد ضلّ؛ لأنّ ذلك مسبّب عن ترك أهل البيت عليهم السلام وإنكار إمامتهم وعدم أخذ المعارف والأحكام الدينيّة عنهم، فاحتاج إلى الرجوع إلى القياس والرأي، فهو تارك لأهل البيت عليهم السلام ، ومن ترك أهل بيت نبيّه صلى الله عليه و آله لم يأخذ العلوم الشرعيّة عنهم عليهم السلام - أوّلاً أو بواسطة أو وسائط - ضلّ؛ لعدم تمكّنه من الوصول إلى


1- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 200.
2- .في النسخة: «لعلي».
3- .في المرآة: «مأخذه».

ص: 242

ومن تَرَكَ أهلَ بيت نبيّه صلى الله عليه و آله ضَلَّ ، ومن تَرَكَ كتابَ اللّهِ وقولِ نبيّه كَفَرَ» .

الحقّ فيها؛ حيث ترك السبيل إليها وهو الأخذ عنهم عليهم السلام ، فينتج: من نظر برأيه ضلّ. فهذا قياس على هيئة الشَكل الأوّل، وصغراه مطويّة؛ لظهورها (1) . وملخّص الدليل أنّه من نظر برأيه فقد ترك أهل بيت نبيّه صلى الله عليه و آله ، ومن ترك أهل بيت نبيّه صلى الله عليه و آله وسلمضلّ، فمن نظر برأيه ضلّ. وقوله عليه السلام : (مَن تَرَكَ كتابَ اللّهِ وقول نبيّه كَفَرَ) كبرى لقياس آخر على هيئة الشَكل الأوّل، وصغراه مطويّة لظهورها وهي (2) أنّه من ترك أهل بيت نبيّه صلى الله عليه و آله فقد ترك كتاب اللّه وقوانينه (3) ؛ لدلالة الكتاب والأحاديث المتواترة عن النبيّ صلى الله عليه و آله بإمامتهم (4) ووجوب اتّباعهم وأخذ العلوم الدينيّة عنهم، فتاركهم تارك لما علم ثبوته من الكتاب وقول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم، ومن ترك كتاب اللّه وقول نبيّه كفر، فمن ترك أهل بيت نبيّه صلى الله عليه و آله وسلمكفر. ومن كلا القياسين يتلخّص قياس ثالث على [هيئة الشكل] (5) المذكور ينتج: من نظر برأيه كفر، كما لا يخفى. (6) فإن قلت: على هذا يلزم كفر أهل الخلاف وهم من زمرة المسلمين على رأي أكثر أصحابنا. قلنا: لا خلاف بين علمائنا في كفرهم بمعنى أنّهم يخلّدون في النار كسائر الكفّار، كيف لا، والإمامة من اُصول الدين باتّفاق الفرقة المحقّة الناجية، ومنكر أصل من اُصول الدين كافر، إنّما الخلاف في إجراء حكم الكافر عليهم في الدنيا، فذهب بعض أصحابنا


1- .في النسخة: «معلويّ لظهوره».
2- .في النسخة: «معلويّ لظهوره و هو».
3- .في المرآة: «وقول نبيّه».
4- .في المرآة: «على إمامتهم».
5- .موضع ما بين المعقوفين في النسخة سواد غير مقروءة.
6- .نقلها بطولها في مرآة العقول، ج 1، ص 195 بعنوان «قيل».

ص: 243

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الوشّاء،عن مُثنّى الحَنّاط، عن أبي بصير، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : تَرِدُ علينا أشياءُ ليس نَعرِفُها في كتاب اللّه ، ولا سنّةٍ ، فنَنظرُ فيها؟ فقال :«لا ، أما إنّك إن أصَبْتَ لم تُؤْجَرْ ، .........

كالمرتضى رحمه الله إلى ذلك 1 ، وذهب الأكثرون إلى خلافه؛ للزوم الحرج، وللأخبار الدالّة على هذا، وهذا لا ينافي كفرهم كما لا يخفى. قوله: (تَرِدُ علينا أشياءُ) أي مسائل وأحكام. وقوله: (ولا سنّةٍ) أي ولا نعرفها في سنّة من أحاديث النبيّ وأحاديث أهل البيت عليهم السلام . والمراد بقوله: (فننظر فيها؟) النظر فيها بالرأي والقياس، وحرف الاستفهام مقدّر. وقوله عليه السلام : (إن أصَبْتَ لم تُؤْجَر) أي إن أصبت في حكمك اتّفاقا لم تؤجر على الإصابة؛ لأنّ الأجر إنّما يترتّب على الإصابة إذا كان الحكم الصائب مأخوذا من المأخذ الذي ينبغي أن يؤخذ منه، كما يترتّب على أخذه من المأخذ المذكور أيضا، فللمصيب حينئذٍ أجران، وللمخطئ - الآخذ من المأخذ الذي ينبغي له أن يأخذ منه - أجر واحد بإزاء اجتهاده وأخذ

ص: 244

وإن أخْطَأتَ كذبتَ على اللّه عزّ وجلّ» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عن عُمرَ بن أبانٍ الكلبيّ ، عن عبدالرحيم القصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : كلّ بِدعةٍ ضَلالةٌ ، وكلّ ضَلالةٍ في النار» .

عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونس بن عبدالرحمن ، عن سَماعة بن مِهران ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال : قلت : أصلحك اللّهُ، إنّا نَجتمعُ فنتذاكَرُ ما عندنا ، فلا يَرِدُ علينا شيءٌ إلّا وعندنا فيه شيءٌ مُسَطَّرٌ ، وذلك ممّا أنعمَ اللّهُ به علينا بكم ، ثمّ يَرِدُ علينا الشيءُ الصغيرُ ليس عندنا فيه شيءٌ ، فيَنظُرُ بعضُنا إلى بعضٍ ، وعندنا ما يُشْبِهُهُ ، فنقيسُ على أحسنه؟ فقال :«وما لكم وللقياس؟ إنّما هَلَك مَن هَلَكَ مِن قبلِكم بالقياس» ثمّ

الحكم من مأخذه، وخطؤه مغتفر. وليس مراده عليه السلام أنّ الإثم غير حاصل في هذه الصورة أصلاً بل هو آثم بسبب أخذ هذا الحكم وإن كان صوابا اتّفاقا من غير مأخذه. وقوله عليه السلام : (وإن أخطأت كذبت على اللّه عزّ وجلّ) فيكون له إثمان: أحدهما من جهة الكذب على اللّه ، وثانيهما من جهة أخذ الحكم من غير مأخذه. قوله: (وعندنا فيه شيء مُسَطَّرٌ) من التسطير، أي شيء مكتوب من حكمكم وحديثكم. والمراد بالشيء الصغير المسألة التي لا يُعبأ بها، وقلّما يحتاج الناس إليها. وقوله: (فنقيس على أحسنه؟) أي أحسن ما عندنا من أحاديثكم وأحكامكم في المسائل التي تشابهه. وقد عرفت أنّ المراد بالأحسن ما لا يكون فيه تقيّة وتغيّر ليصلح أن يكون أصلاً في القياس. ويحتمل أن يكون المراد به هاهنا الأوفق للفرع باعتبار الجامع، وما يظنّ أنّه عليه الحكم في الأصل. وقوله عليه السلام : (وما لكم وللقياس؟) يقال: ما لك ولزيد، أي أيّ شيء تريد بمصاحبته؟ ولِمَ لا تتركه؟

ص: 245

قال : «إذا جاءكم ما تَعلمون ، فقولوا به ، وإن جاءكم مالا تَعلمون فها» وأهوى بيده إلى فيه ، ثمَّ قال : «لَعَنَ اللّهُ أبا حنيفةَ ، كان يقول : قالَ عليٌّ وقلتُ أنا ، وقالت الصحابة وقلت» ثمَ قال: «أكُنْتَ تَجلسُ إليه؟» فقلتُ: لا، ولكن هذا كلامُه. فقلت: أصلَحَكَ اللّهُ، أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله الناسَ بما يَكتفون به في عهده؟ قال : «نعم ، وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة» .

وقوله عليه السلام : «وإن جاءكم ما لا تعلمون فها - وأهوى بيده إلى فيه - ) قال في القاموس: « ها تكون اسما لفعلٍ وهو خُذْ، وتُمَدُّ، ويُستعملان بكاف الخطاب، ويجوز في الممدودة أن يُسْتَغْنى عن الكاف بتصريف همزتها تصاريفَ الكاف، هاءَ للمذكّر وهاءِ للمؤنّث وهاؤُما وهاؤُنَ وهاؤُم ومنه «هاؤُمُ اقْرَؤُوا» (1) » (2) انتهى. فالمعنى: خذ منّي واسمع الجواب مِن فيّ. هذا إذا كان «فَها» للمفرد، ويكون المذكور بعده «وأهوى بيده إلى فيه» كما هو الظاهر. وقيل (3) : يحتمل أن يكون فَهاؤوا للجمع، ويكون المذكور بعده «هوى بيده إلى فيه» وحينئذٍ الباء للتعدية، والجملة حاليّة، أي مدّ ورفع يده مشيرا إلى فيه. يقال: هَوَت يدي له وأهوَت، إذا امتدّت وارتفعت. وعلى هذا فالمعنى إن جاءكم ما لا تعلمون فخذوا من أفواهنا. انتهى. وأقول: هذا سهو؛ لأنّ هاؤا لم يجيء جمعَ هاء بل جمعه هاؤم وهاؤن. وقوله عليه السلام : (أكُنتَ تَجلسُ إليه؟) عدّي ب- «إلى» لتضمين معنى التوجّه، أي أكنت تجلس معه متوجّها إليه حتّى سمعت منه ذلك. وقوله: (فقال: نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة) أي نعم أتى بما يكتفون به في عهده، وبما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: «اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» (4) ، وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرسولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» (5)


1- .الحاقّة (69): 19.
2- .القاموس المحيط، ج 4، ص 603.
3- .قائله الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 202.
4- .المائدة (5): 3.
5- .المائدة (5): 67.

ص: 246

فقلت : فضاعَ من ذلك شيء؟ فقال : «لا ، هو عند أهلِه» .

عنه ، عن محمّد ، عن يونس ، عن أبان ، عن أبي شيبةَ ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«ضَلَّ عِلْمُ ابن شُبْرُمَةَ عند الجامعة ، إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام بيده ، إنَّ

فإنّه سبحانه قد أكمل الدين، وبيّن لنبيّه جميع الأحكام الشرعيّة، وأنزلها إليه. ولمّا أمره بتبليغ ما اُنزل إليه بلّغ صلى الله عليه و آله ما أمكن تبليغه إلى من أمكن تبليغه إليه، وحمّل بعضا ليبلّغ الآخرين، فلم يبق حكم من أحكام اللّه إلّا وقد أتى به رسول اللّه صلى الله عليه و آله اُمّته. وقوله عليه السلام : (هو عند أهله) أي أهل بيته صلى الله عليه و آله ، أو أهل ذلك العلم، أو عند من حمّله رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك التبليغ، وهو أهل للتحمّل والتبليغ، وهو أمير المؤمنين وأوصياؤه عليهم السلام . تصديق ذلك قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه ، وعترتي» وقوله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (1) وقوله: «لن يفترقا: كتاب اللّه ، وعترتي حتّى يردا عليّ الحوضَ» (2) وأمثال ذلك كثير. قوله عليه السلام : (ضلّ علمُ ابنِ شبرمة) إلخ قال في القاموس: «الشُبرُم - كقُنفُذ - : القصيرُ - ويُفْتَحُ - والبخيلُ ثمّ قال: والشُبْرُمَةُ - بالضمّ - : السِنُّورَةُ (3) » انتهى. أقول: لمّا كان ابن شبرمة من أصحاب الرأي والقياس، وزعم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يأت بكلّ ما يحتاج إليه الاُمّة من الحلال والحرام بل فوّض الأمر إلى أهل القياس والرأي والتخمين، وكان أكثر علمه في المسائل مأخوذا من الرأي والقياس، قال عليه السلام : «ضلّ علمُ ابنِ شبرمة» أي علمه بالمسائل والأحكام الدينيّة بالقياس والرأي فاسد ضائع هالك عندما أتى به رسول اللّه صلى الله عليه و آله من تلك المسائل والأحكام المثبتة في الجامعة؛ لمخالفته لعلمه، أو ظهر ضلال علمه وخروجه عن الطريقة المستقيمة عندما ثبت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو مثبت في الجامعة؛ لمخالفته إيّاه.


1- .ورد الحديث بطرق كثيرة جمعها المير السيّد حامد حسين في عبقات الأنوار في مجلّد ضخم.
2- .حديث الثقلين متواتر، وقد جمع مصادره لُجنة التحقيق في مدرسة الإمام باقر العلوم وصدر بتوسّط انتشارات «دليل ما».
3- .القاموس المحيط، ج 4، ص 190 (شبرم).

ص: 247

الجامعة لم تَدَعْ لأحد كلاما ، فيها علمُ الحلالِ والحرامِ ، إنّ أصحابَ القياس طَلَبوا العلمَ بالقياس ، فلم يَزدادوا من الحقّ إلّا بُعدا ، إنَّ دينَ اللّهِ لا يُصابُ بالقياس» .

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنّ السنّةَ لا تُقاسُ ، ألا تَرى أنّ المرأة تَقْضِي صومَها ولا تَقضي صلاتَها ؛ يا أبانُ ، .........

وقيل (1) : معناه ضلّ ما سمّاه ابن شبرمة علما وهو أنّه لم يأت رسول اللّه بكلّ ما يحتاج إليه الاُمّة من الحلال والحرام بل فوّض الأمر إلى أهل القياس والرأي. انتهى. وقوله عليه السلام : (إنّ دينَ اللّه لا يُصابُ بالقياس) لأنّه يكون في كلّ مسألة حكما خاصّا صادرا (2) من الشارع قلّما يطابقه ما يقاس؛ لأنّ العلل في الأحكام الشرعيّة غير منتظمة، فقلّما يفارق النظر فيها عن الالتباس. قوله عليه السلام : (إنّ السنّةَ لا تُقاسُ) أي لا يجوز الحكم فيها بالقياس. وقوله عليه السلام : (ألا تَرى أنّ المرأة تَقْضي صومَها ولا تقضي صلاتَها) دليل على هذه الدعوى. وأقول: يمكن تقريره بوجهين: الأوّل: أنّ كثيرا ما يكون في السنّة ضمّ المختلفات في الصفات الظاهرة، وتفريق المتشاكلات والمتشاركات في الأحوال الواضحة، كما في قضاء صوم الحائض، وعدم قضاء صلاتها، وكلّ ما يكون كذلك فالقياس فيه باطل غير مطابق للحقّ غالبا؛ لافتراق الأصل والفرع غالبا في الحكم مع اشتراكهما في الصفة الجامعة الظاهرة - التي يظنّ أنّها علّة الحكم في الأصل - ولفساد ذلك الظنّ غالبا، ولا شكّ في أنّ كلّ ما يكون فيه القياس باطلاً في الغالب لا يجوز الحكم فيه به، فلا يجوز الحكم في السنّة بالقياس. والثاني: أنّ السنّة عُلم أنّ فيها ضمَّ المختلفات، وتفريقَ المتشاركات كما في هذا


1- .قائله الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 223 - 224 (مخطوط).
2- .كذا. والصواب: «حكم خاصّ صادر».

ص: 248

إنّ السُنَّةَ إذا قيسَتْ مُحِقَ الدينُ» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن القياس ، فقال :«ما لكم والقياسَ ، إنّ اللّه لا يُسألُ كيف أحَلَّ وكيف حَرَّم» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مَسعدةَ بن صدقة ، قال : حدّثني جعفرٌ ، عن أبيه عليهماالسلام :«أنَّ عليّا - صلوات اللّه عليه - قال : مَن نَصَبَ نفسَه للقياس، لم يَزَلْ دهرَه في التِباسٍ ، ومن دانَ اللّهَ بالرأي، لم يَزَلْ دهرَه في ارتماسٍ» .

المثال، ولا شكّ في أنّ القياس فيما علم أنّه كذلك لا يفيد ظنّا أصلاً فضلاً عن العلم، وما لا يفيد الظنّ والعلم لا يجوز الحكم به في السنّة، فلا يجوز الحكم فيها بالقياس. وقوله عليه السلام : (إنّ السنّة إذا قِيسَتْ) أي اُثبتت بالقياس «مُحق» على صيغة المجهول، أي مُحي واُبطل الدين شيئا فشيئا بإدخال ما ليس منه فيه، وإخراج ما يكون منه عنه حتّى يؤدّي إكثارُ ذلك إلى تركِ الدين بالكلّيّة والعملِ بالقياس. قوله عليه السلام : (إنّ اللّه لا يُسألُ كيف أحَلَّ وكيف حَرَّم) أي لا يكون علّة أحكامه تعالى في حلّ الأشياء وحرمتها ما يوافق مدارك عامّة العباد حتّى لو سئل عنه تعالى من علّتها أجاب بما هو مرغوبُ مداركِهم ومستحسنُ طِباعِهم ليلزم من ذلك أن يكون ما زعمه أهل القياس - من علّة الحكم في الأصل وإلحاق الفرع به في الحكم لوجودها فيه - مطابقا للواقع، بل في أحكامه تعالى حِكَم ومصالح لا يصل إليها أفهام أكثر الناس من العوامّ والخواصّ فضلاً عن أهل القياس، فبطل القياس، وظهر أنّه لا يفيد في الشريعة ظنّا أصلاً، ولا ينشأ إلّا من شرّ الوسواس الخنّاس. قوله عليه السلام : (مَن نَصَبَ نفسَه للقياس لم يَزَلْ دهرَه في التباس) أي من أقام نفسه للعمل بالقياس، وجعله عادة لنفسه (لم يزل دهره) بالنصب، أي في دهره، أو بالرفع، والنسبة مجاز (في التباس) أي اشتباه وخلط بين الباطل والحقّ. وقوله عليه السلام : (ومَن دانَ اللّهَ بالرأي) أي من أخذ دين اللّه وشريعته بالرأي بالظنّ المنبعث من الاستحسانيات العقليّة والقياسات الفقهيّة، لا من الأدلّة والمآخذ المنتهية إلى الشارع (لم يَزَلْ دهرَه في ارتماس) أي انغماس في الباطل ودخول فيه بحيث يحيط به إحاطة تامّة.

ص: 249

قال : وقال أبو جعفر عليه السلام : «من أفتى الناسَ برأيه، فقد دانَ اللّه بما لا يَعلَمُ ، ومن دانَ اللّهَ بما لا يَعلَمُ ، فقد ضادَّ اللّهَ ؛ حيث أحَلَّ وحَرَّمَ فيما لا يَعلمُ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ بن يقطين ، عن الحسين بن مَيّاح ، عن أبيه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنّ إبليسَ قاسَ نفسَه بآدمَ ، فقال : خَلَقتنيمن نار وخلقتَه من طين ، .........

وقوله عليه السلام : (مَن أفتى الناس برأيه) أي بمظنونه المأخوذ، لا من المأخذ الذي يجب أن يؤخذ منها، بل من القياسات والاستحسانيات والروايات الباطلة والأوهام الفاسدة (فقد دان اللّه بما لا يَعْلَمُ) أي أخذ دينه واعتقد شريعته بما لا يعلم أنّه من اللّه تعالى، وقال على اللّه ما لا يعلم (ومن دان اللّه بما لا يعلم) وأدخل في دينه ما ليس منه، وأخرج عنه ما هو منه (فقد ضادّ اللّه ؛ حيث أحلّ وحَرَّم (1) ) من عند نفسه (فيما لا يَعْلَمُ) حكمَه من اللّه ، وجعل نفسه شريكا للّه في وضع الشريعة لعباده. قوله: (عن الحسين بن مَيّاح) بفتح الميم وتشديد الياء المثنّاة تحت ثمّ الحاء المهملة. وقوله عليه السلام : (إنّ إبليسَ قاس نفسَه بآدمَ) القياس هاهنا بالمعنى اللغوي لا القياس الفقهي (2) ، تقول: قستُ الشيءَ بالشيء، إذا قدّرتَه عليه لتعتبر أيزيد عليه أو ينقص عنه أو يساويه لتعمل في كلّ صورة ما يقتضيه، وذلك أيضا باطل في الدين، بل أهون وأضعف من القياس الفقهي. وقوله عليه السلام : «فقال: «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (3) ) فقاس ما بين النار والطين، فعمل بالقياس وترك السجود لآدم مع أنّه كان داخلاً في ظاهر الخطاب فقال اللّه تعالى: «ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ [إذ أمرتك] قالَ [أنا خيرٌ منه ]خَلَقْتَنِي» (4) إلخ، أي ظننت بالقياس أنّي مستثنى فعملت بظنّي.


1- .في النسخة: «أحرم».
2- .في هامش النسخة: هو إجراء حكم الأصل في الفرع... ليس في حكم الأصل من الفرع لانتفائه... بحكم في الأصل عنه؛ لأنّه نفى وجوب... متى أوجبه اللّه تعالى على الملائكة... انتفاء العلّة يستلزم انتفاء المعلول (منه عفي عنه).
3- .الأعراف (7): 12.
4- .صدر الآية السابقة.

ص: 250

ولو قاسَ الجوهَرَ الذي خَلَقَ اللّهُ منه آدمَ بالنار ، كانَ ذلك أكثرَ نورا وضياءً من النار» .

وليعلم أنّ إبليس لم يفعل زائدا على ما يفعله أهل القياس؛ فإنّه لم يكن قياسه في مقابله نصّ بل كان في مقابله ظاهر عموم خصّصه بالقياس، فإنّه سمع الخطاب (1) العامّ لجمع هو أحدهم أن «اسْجُدُوا لآدَم» (2) ، فظنّ أنّه خارج عن المراد وإن كان داخلاً في ظاهر الخطاب بأن قاس نفسه بآدم فيما وقع الخلق منه، وظنّ أنّ علّة الحكم شرف المخلوق منه، ورأى أنّ ما خلق هو منه زائد في الشرف على ما خلق آدم منه، فظنّ أنّ أمره بالسجود له قبيح ليس مراد اللّه تعالى. وقوله عليه السلام : (فلو قاس الجوهَرَ الذي خَلَقَ اللّهُ منه آدمَ بالنار، كان ذلك أكثر نورا وضياءً من النار) المراد بذلك الجوهر هو نور عظمته الذي خلق منه روح آدم، كما سيجيء في باب خلق أبدان الأئمّة وأرواحهم وقلوبهم. وبعبارة اُخرى هو الجوهر العقلاني الذي خلق اللّه تعالى منه نفس آدم، ولا شكّ في أنّ ذلك الجوهر أكثر نورا وضياءً، وأشرف وأكرم وأكمل من الجوهر الذي خلق نفس الشيطان وسائر الجانّ منه ومن النار الذي خلق أبدانهم منه، كيف، ومن أوصافه ما يظهر به ما لا يظهر بالنار كالمعقولات، وبه يظهر كلّ ما يظهر بالنار كالمحسوسات، فهو أكثر نورا وضياءً من النار. فحاصل الحديث أنّ القياس وإن كان باطلاً في الدين والشريعة في نفسه، ولم يكن الحكم بسجود آدم إلّا لحكمة ومصلحة مخفيّة لا يعلمها إلّا اللّه ، ولم يكن علّته شرافة عنصره ومادّته التي خلق منها، كما ظنّه إبليس وقاس وتمرّد، فمع ذلك غلط إبليس في قياسه؛ لأنّ الشرافة إنّما تكون باعتبار النفس لا باعتبار البدن الذي هو آلتها وكالثوب لها، فعلى تقدير تسليم علّية شرافة ما خلق منه للسجود لكان النظر الصحيح يقتضي قياس ما خلق منه نفس آدم على ما خلق منه نفسه، أو على ما هو الأشرف من سنخ نفسه وعنصر بدنه على سبيل التنزّل والمماشاة، ولا شكّ في أنّ ما خلق منه نفس آدم أشرف وأضوأ وأنور


1- .في النسخة: «خطاب».
2- .الأعراف (7): 11، و كذا ورت في آيات اُخر.

ص: 251

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونسَ ، عن حريزٍ ، عن زرارةَ ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الحلال والحرام؟ فقال :«حلالُ محمدٍ حلالٌ أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامُه حرامٌ أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكونُ غيرُه ولا يجيءُ غيرُه» . وقال : «قال عليُّ عليه السلام : ما أحدٌ ابْتَدَعَ بِدعةً إلّا تَرَكَ بها سُنّةً» .

من النار وممّا خلق منه نفس إبليس، فلو قاس إبليس قياسا صحيحا لن يتمرّد اتّفاقا وإن كان الدين لا يقاس. قوله: (سألت [أبا عبد اللّه عليه السلام ] عن الحلال والحرام) أي قلت له: هل يتبدّل ويختلف الحلال والحرام في الواقع بحسب اختلاف آراء المجتهدين، ويحكم كلّ مجتهد بالحكم الواقعي كما هو مذهب المصوّبة من أنّه ليس للشارع حكم معيّن في كلّ فرع، بل فوّض الأحكام الشرعيّة الفرعيّة إلى آراء المجتهدين، فحكمُ كلِّ مجتهد في كلّ فرع هو حكم اللّه الواقعي في حقّه وفي حقّ من يقلّده، أم لا يتبدّلان ولا يخلتفان في الواقع، بل إنّما يختلف بحسب اختلافهم أحكامُهم الواصليّة كما هو مذهب المُخَطِّئَة من أنّ الشارع قد حكم في كلّ فرع بحكم معيّن والمجتهد بعد استفراغ الوسع قد يصيب وقد يخطئ، والمخطئ مثاب؛ لبذله جهده واجتهاده، وخطاؤه مغتفر، وللمصيب أجران: أحدهما لإصابته، والآخر لاجتهاده وبذل جهده في الاستنباط؟ وقوله عليه السلام : (حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيرُه) أي لا يكون في الواقع حكم في الدين القويم غير ما حكم به (ولا يجيءُ غيرُه) أي لا يجيء ولا يتجدّد في الواقع حكم في الشرع المستقيم غير حكمه بحسب تجدّد آراء المجتهدين واختلافهم، فلا يختلف بذلك حكمه الواقعي، فهذا بيان لبطلان المذهب المصوّبة، واختيار لصحّة ما يقابله من المذهب الآخر. وقوله عليه السلام : (قال عليٌ عليه السلام : ما أحدٌ ابتَدَعَ بدعةً إلّا ترك بها سُنّةً) لأنّه لمّا كان في كلّ مسألة بيان من الشارع وحكم منه في الواقع فمن قال بما لم يكن في الشرع من عند نفسه وابتدع شيئا، ترك به سنّة وحكما من أحكامه في الواقع، فلو كان الأمر كما زعمه المصوّبة، فلا

ص: 252

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمدَ بن عبداللّه العقيليّ ، عن عيسى بن عبداللّه القُرَشيّ،قال: دَخل أبوحنيفةَ على أبي عبداللّه عليه السلام ، فقال له:«يا أباحنيفةَ، بلَغني أنّك تَقيسُ؟» قال : نعم ، قال : «لا تَقِسْ ، فإنَّ أوّلَ من قاسَ إبليسُ حين قال : خلقتَني من نار وخلقتَه من طين ، فقاسَ ما بين النار والطين ، ولو قاسَ نوريّةَ آدمَ بنوريّة النار عَرَفَ فَضْلَ ما بين النورَيْنِ ، وصَفاءَ أحدهما على الآخَر» .

عليٌ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن قُتيبةَ ، قال : سأل رجلٌ أبا عبداللّه عليه السلام عن مسألةٍ، فأجابَه فيها ، فقال الرجل : أرأيتَ إن كان كذا وكذا ما يكونُ القولُ فيها؟ فقال له :«مَهْ ، ما أجَبتُك فيه من شيء فهو عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله لسنا من أرأيتَ في شى ءٍ» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، مرسلاً ، قال : قال

يكون البدعة موجبا لترك السنّة كما قال عليّ عليه السلام ؛ لعدم وجود سنّة وحكم شرعي معيّن في مسألة من المسائل الفرعيّة في الواقع على زعمهم، فهذا القول منه عليه السلام استدلال على بطلان مذهبهم بقول عليّ عليه السلام ؛ فتدبّر. قوله: (عن أحمد بن عبد اللّه العُقيلي) بضمّ العين المهملة وفتح القاف نسبة إلى قبيلة. وقوله عليه السلام : (وصفاء أحدهما على الآخر) أي زيادة صفاء أحدهما على الآخر. لمّا بيّن عليه السلام عدم جواز القياس في الدين رأسا، أراد أن يدفع عن المخاطب توهّم حصول قوّة الظنّ بالقياس فبيّن أنّ القائس يكثر منه الخطأ؛ فإنّ أوّل من سنَّ القياس - وهو شيخ القائسين - قد أخطأ خطأً ظاهرا، فما ظنّك بتابعيه في ذلك؟! وقد ظهر شرحه ممّا سلف مستوفىً. قوله: (أرأيتَ إن كان كذا وكذا ما يكون القولُ فيها؟) أي أخبرني عن رأيك فيما ينبغي أن يقال في هذه المسألة. وقوله: (فقال له: مَهْ) بفتح الميم وسكون الهاء، أي اُكفُف واسكت، فإنّا لا نقول إلّا ما وصل إلينا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم. وقوله عليه السلام : (لسنا مِن أرأيتَ في شيء) أي لسنا ممّن يقال له: أرأيت في شيء، ولسنا من أهل الرأي والاجتهاد في شيء من الأحكام.

ص: 253

أبو جعفر عليه السلام :«لاتَتّخِذوا من دون اللّه وليجةً فلا تكونوا مؤمنين ، فإنّ كلّ سَبَبٍ ونَسَبٍ وقَرابةٍ ووَليجَةٍ وبِدعَةٍ وشُبهَةٍ مُنقَطِعٌ إلّا ما أثبَتَهُ القرآنُ» .

قوله عليه السلام : (لا تَتّخِذوا من دون اللّه وليجةً فلا تكونوا مؤمنين) وليجة الرجل من يتّخذه معتمدا عليه. والمراد هاهنا المعتمد عليه في أمر الدين، ومن يعتمد في أمر الدين ووضع الشريعة وقرارها على غير اللّه يكون متعبّدا لغير اللّه ، والمتعبّد لغير اللّه لا يكون مؤمنا باللّه وباليوم الآخر، فظهر من ذلك أنّ كلَّ سببٍ ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة لم يثبت القرآن حجّيته في الدين بظواهره، أو ببواطنه، الذي أحاديث الحجج عليهم السلام كاشفة عنها منقطعٌ عن الحقّ لا يبقى ولا ينتفع بها في الآخرة، فلا يجوز الاستناد إليه في أحكام اللّه تعالى؛ لأنّه يؤدّي إلى التشريعِ والاعتمادِ على غير اللّه في أمر الدين والتعبّدِ لغيره تعالى، وهو كفر كما فعله المخالفون من الاستناد بالطواغيت والقياس والشُبَه والآراء الفاسدة في أحكام الشرع. فقوله عليه السلام : (إلّا ما أثبتَهُ القرآنُ) يعني إلّا ما أثبت القرآن من تلك الاُمور حجّيته كأئمّة الهدى عليهم السلام والإجماع وخبر الواحد العدل. ويحتمل أن يكون معناه أنّ كلّ ما لم يثبته القرآن من سبب ونسب ووليجة وبدعة وشبهة فهو منقطع عن أحكام الشرع والدين، بمعنى أنّه لا يترتّب عليها الأحكام الشرعيّة المترتّبة على ما أثبته القرآن من تلك الاُمور. والحاصل أنّ كلّ حكم في كلّ مسألة لم يثبته القرآن بظاهره، أو بباطنه، فهو منقطع عن دين الإسلام، هذا. والسبب كلّ شيء يتوصّل به إلى الغير. والمراد بالنسب هو ما بين الأبوين والولد. والقَرابة بفتح القاف من ذكر العامّ بعد الخاصّ، أو خاصّ بما عدا النسب، أو بكسر القاف - كما قيل - أي الدنوّة لمصاحبه مثلاً. (1)


1- .كذا.

ص: 254

باب الرّد إلى الكتاب والسُنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحراممحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن حديد ، عن مُرازِمٍ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنّ اللّهَ تبارك وتعالى أنزَلَ في القرآن تبيانَ كلِّ شيء ، حتّى واللّه ما تَرَكَ اللّهُ شيئا يَحتاجُ إليه العبادُ .........

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة (1)قوله: (باب الردّ إلى الكتاب والسنّة) إلخ فاعل الردّ الأئمّة عليهم السلام ، أي باب أنّ الأئمّة ردّوا كلّ حكم إلى الكتاب والسنّة، أي قالوا: إنّ كلّ حكم شرعي فرعي من فروع الفقه مذكور بخصوصه في كلّ واحد من الكتاب، ومن سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله وهو محفوظ عند أهله. وقوله: (وأنّه ليس) إلخ عطف تفسير. وقوله: (أو سنّة) لمنع الخلوّ لا الجمع. قوله: (عن مُرازِم) بضمّ الميم وفتح الراء المهملة والألف والزاي المكسورة والميم. وقوله: (تبيانَ كلّ شيء) أي كلّ حكم من الأحكام (2) الخمسة، وكلّ ما يحتاج إليه العباد، بقرينة ما بعده. وقوله عليه السلام : (ما ترك اللّهُ شيئا يحتاج إليه العبادُ) إلخ، قال في القاموس: «تَرَكَهُ تَرْكا: وَدَعَهُ، ثمّ قال فيه: التَرْكُ: الجَعْل كأنّه ضدّ «وتركنا عليه في الآخرين» (3) أي أبقينا» (4) انتهى. أقول: يعني ما جعل اللّه شيئا يحتاج إليه العباد، أو ما أبقى اللّه على شيء يحتاج إليه العباد،


1- .العنوان من هامش النسخة.
2- .في النسخة: «أحكام».
3- .الصافّات (37): 78 و108 و129.
4- .القاموس المحيط، ج 3، ص 431.

ص: 255

حتّى لا يَستطيعَ عبدٌ يقول : لو كان هذا اُنزلَ فيالقرآن - إلّا وقد أنزَلَه اللّهُ فيه» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن حسين بن المنذر ، عن عُمَر بن قيس ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سمعته يقول :«إنّ اللّهَ تبارك وتعالى لم يَدَعْ شيئا يحتاج إليه الأُمّةُ إلّا أنزلَه في كتابه، وبَيَّنَهُ لرسوله صلى الله عليه و آله وجعَل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلاً يَدلُّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدَّ حَدًّا» .

وحينئذٍ يكون «شيئا» منصوبا بنزع الخافض، أو ما وَدَع اللّه شيئا يحتاج إليه العباد على حاله من كونه محتاجا إليه إلّا وقد أنزله اللّه في القرآن. فقوله عليه السلام : (إلّا وقد أنزله اللّهُ فيه) استثناء من قوله: «ما ترك اللّه شيئا» وتوسيطُ الغاية بينهما - وهي قوله: «حتّى لا يستطيع» إلخ - رعايةٌ لاتّصالها بذي الغاية. وقوله عليه السلام : (حتّى لا يستطيع عبد يقول) أي لا يستطيع عبد يقول قولاً صادقا في أحاديث الأئمّة عليهم السلام ، أو في أمر حقّ: لو كان هذا حقّا اُنزل في القرآن. ويحتمل أن يكون «كان» تامّة، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تقدير الخبر. ويحتمل أن يكون قوله: (لو كان هذا اُنزل في القرآن) للتمنّي، أي لو كان هذا اُنزل في القرآن لكان حسنا؛ يعني لا يستطيع عبد يقول قولاً صحيحا في شيء من الأحكام والمسائل المحتاج إليه: لَيْتَ هذا اُنزل في القرآن. قوله عليه السلام : (وجعل لكلّ شيء حدّا) أي جعل لكلّ شيء ممّا يحتاج إليه العباد، وبيّنه في الكتاب منتهىً معيّنا لا يتجاوزه ولا يقصر عنه ذلك الشيء. وقوله: (وجعل عليه) أي على ذلك الحدّ (دليلاً) يدلّ عليه (وبيّنه) للناس كالنبيّ صلى الله عليه و آله في زمانه والأئمّة عليهم السلام بعده، فعلى الناس أن يراجعوا الدليل ويأخذوا منه، أو معناه جعل عليه دليلاً من الكتاب. وقوله عليه السلام : (وجعل [على] من تعدّى ذلك الحدَّ) أي تركه ولم يقل به ولم يأخذه من دليله ولم يراجعه حدّا من العقاب والنكال، فمن سعى في أخذ ذلك الحدّ من دليله ومأخذه الذي ينبغي أن يؤخذ منه، ولم يتركه بالكلّيّة، ولم ينكره رأسا، لم يكن له عقاب بعد

ص: 256

عليٌّ ، عن محمّد ، عن يونسَ ، عن أبان ، عن سليمان بن هارون ، قال : سمعت أباعبداللّه عليه السلام يقول:«ما خلَق اللّهُ حلالاً ولاحراما إلّا وله حَدٌّ كحدّ الدار،فما كانَ من الطريق فهو من الطريق ، وما كان من الدار فهو من الدار حتّى أرش الخَدْشِ فما سواه ، والجَلْدَةِ ونصف الجَلْدَةِ» .

عليٌّ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن حمّاد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سمعته يقول :«ما من شيء إلّا وفيه كتابٌ أو سُنَّةٌ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن حمّاد ، عن عبداللّه بن

استفراغ الوسع وبذل الجهد وإن أخطأ في الحكم الواقعي، فاندفع ما قيل (1) من أنّ هذا يدلّ على أنّه لا يجوز العمل إلّا مع يقين (2) بالحكم الواقعي، وإلّا يلزم التعدّي عن الحدّ؛ لما عرفت من أنّه ليس المراد بالتعدّي عن الحدّ التعدّيَ عن إصابته ولو بعد استفراغ الوسع في استنباطه من الأدلّة، بل المراد تركه بالكلّيّة وإنكاره رأسا. وقد يجاب عنه (3) أيضا بأنّ أحكام اللّه تعالى على قسمين: واقعيّة وواصليّة، وقد جعل لكلّ منهما حدّا، فالمجتهد المخطئ أيضا لم يتعدّ عن الحدّ الواصلي، كما أنّ المصيب لم يتعدّ عن الحدّ الواقعي؛ فتدبّر. قوله عليه السلام : (ما خلق اللّهُ حلالاً ولا حراما إلّا وله حدّ كحدّ الدار) إلخ أي له نهاية يتميّز به عن غيره كحدّ الدار؛ فإنّه يتميّز به الطريق عن الدار (فما كان من الطريق فهو) معلوم أنّه (من الطريق) بسبب الحدّ (وما كان من الدار فهو) معلوم أنّه (من الدار) بسببه، وكذلك الحلال والحرام لا اشتباه فيهما في بيانه تعالى لنبيّه. وقوله عليه السلام : (فما سواه) الضمير للخدش، أو للأرش (نصف الجَلْدَة) أن يؤخذ في وسط الدرّة ويضرب بها. قوله عليه السلام : (ما من شيء) أي ممّا يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة إلّا وفيه كتاب، أو سنّة على سبيل منع الخلوّ.


1- .كتب تحتها: صاحب الفوائد المدنيّة (منه عفي عنه).
2- .في المرآة: «اليقين».
3- .نقله في مرآة العقول، ج 1، ص 203 بعنوان «واُجيب» كما نقله كلام الإسترآبادي بعنوان «ربما يستدلّ».

ص: 257

سنان ، عن أبي الجارود ، قال : قال أبو جعفر عليه السلام :«إذا حَدَّثْتُكُمْ بشيء فاسألوني من كتاب اللّه » ثمّ قال في بعض حديثه : «إنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن القيل والقال ، وفسادِ المال ، وكثرةِ السؤال» . فقيل له : يا ابن رسول اللّه أين هذا من كتاب اللّه ؟ قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : « لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَل-هُمْ إِلَا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَ-حِم بَيْنَ النَّاسِ »وقال : « وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَ لَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَ-مًا » وقال : « لَا تَسْئلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ »» .

قوله عليه السلام : (إذا حدّثتُكم بشيء فسلوني من كتاب اللّه ) أي قولوا: أين هو من كتاب اللّه ؟ يعني كلّ ما حدّثتكم موجود مبيّن في كتاب اللّه ، فسلوني عنه حتّى يتّسع عليكم. وقوله عليه السلام : (نهى عن القيل والقال) اسمان اُخذا من فعلين ماضيين فاُعربا على إجرائهما مجرى الأسماء. والمراد نقل القصص والحكايات والكلمات التي لا نفع فيها كما يقال في المجالس: قيل كذا وقيل كذا، وقال فلان كذا وقال فلان كذا في نقل الوقائع وأقوال بعضهم في بعض كما هو الشائع، وهكذا حال المتناجين من البطلة في المجالس العامّة تَرى كلّ اثنين منهم أو أكثر يتحدّثون بأمثال هذه الخرافات بحيث لا يسمع كلّ المجلس لئلّا يخلّ بتحديث آخرين بمثلها لا تعليم المسائل العلميّة، أو تذكيره وغير ذلك ممّا ينتفع بها. والمراد بفساد المال صرفه في غير مصرفه وترك إصلاحه. والمراد بكثرة السؤال السؤال عن كثير ممّا لا يحتاج إليه كأن يجري بين اثنين كلام لم تسمعه فتسألهما، أو ثالثا عمّا جرى بينهما، أو أن تسأل رجلاً وتقول له: ما قال فلان في حقّي وأمثال ذلك ممّا يحتمل السوء في الكشف عنه، وليس المراد السؤال عن المعارف واُمور الدين. وقوله تعالى: « «جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياما» (1) » أي ما يقوم أمر معاشكم به.


1- .النساء (4): 5.

ص: 258

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن ثعلبةَ بن ميمون ، عمّن حدّثه ، عن المعلّى بن خُنيس ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«ما من أمر يَختلفُ فيه اثنان إلّا وله أصلٌ في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، ولكن لا تَبلُغُه عقولُ الرجال» .

محمّدُ بن يحيى ، عن بعض أصحابه ، عن هارونَ بن مسلم، عن مسعدة بن صدقةَ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال أميرُالمؤمنين عليه السلام : أيّها الناسُ ، إنّ اللّهَ - تبارك وتعالى - أرسَلَ إليكم الرسولَ صلى الله عليه و آله وأنزَلَ إليه الكتابَ بالحقّ وأنتم اُمّيّون عن الكتاب ومَن أنزَلَه ، وعن الرّسول ومَن أرسَلَه ، على حين فَترةٍ من الرسل ، .........

قوله: (عن المعلّى بن خُنَيس) بضمّ الخاء المعجمة وفتح النون ثمّ الياء المثنّاة تحت ثمّ السين. وقوله عليه السلام : (ولكن لا تبلغه عقول الرجال) أي لا يقدر أكثرهم على أن يستنبط جميعه بل إنّما يقدر على ذلك الكُمَّلُ منهم كالنبيّ والأئمّة عليهم السلام ، وقد يبلغ على بعضه من هداه اللّه إليه، وخصّه بمزيد فضله. قوله: (وأنتم اُمّيّون عن الكتاب) إلخ يقال للعرب: اُمّيّون؛ لنسبتهم إلى ما عليه اُمّة العرب وجماعتهم من ترك تعلّم الكتابة وجهلهم بالكتاب وغفلتهم عنه، ثمّ غلّب فيمن لا يكتب. وقد يقال: الاُمّي منسوب إلى الاُمّ، أي من هو باق على حالته الجبلّيّة التي ولد عليها ولم يكتب. واللام في «الكتاب» و«الرسول» للجنس؛ يعنى أنتم جاهلون وغافلون عمّا أنزل اللّه تعالى من الكتب السماويّة ومن الرسل. وقوله عليه السلام : (على حين فَترةٍ من الرُسُل) الظرف متعلّق بقوله: «أرسل إليكم الرسول». والفترة - بفتح الفاء وسكون التاء المثنّاة فوق - : السكون والضعف و الزمان الخالي من الرسول بين الرسولين، أي على طرف زمان خالٍ من الرسول بين الرسولين، أو في زمان (1) خالٍ من الرسل وشريعتهم الباقية المحفوظة.


1- .في هامش النسخة: زمان... يجيء بمعنى الظرف (منه عفي عنه).

ص: 259

وطول هَجعةٍ من الأُمم ، وانبساطٍ من الجهل ، واعتراضٍ من الفتنة ، وانتِقاضٍ من المبرَم ، وعَمىً عن الحقِّ ، واعتِسافٍ من الجور ، وامتِحاقٍ من الدين ، وتَلَظٍّ من الحروب ، على حين اصفرارٍ من رياض جَنّاتِ الدنيا ، ويُبْسٍ من أغصانها ، وانتثارٍ من وَرَقِها ، ويأسٍ من ثمرها ، واغورارٍ من مائها ، .........

وقوله عليه السلام : (وطول هَجْعَةٍ من الاُمم) أي طول غفلة من الاُمم. والهجعة - بفتح الهاء وسكون الجيم وفتح العين المهملة - : النوم بالليل، عبّر بها عن الغفلة بالجهالة. وقوله عليه السلام : (وانبساطٍِ) أي انتشار (من الجهل) والاعتراض: المنع، فالمراد باعتراض الفتنة إفضاؤها إلى ترك كلّ حقّ. وقوله عليه السلام : (وانتقاضٍ من المبرَم) أي المحكم من الشريعة السابقة. والاعتساف: الظلم. والجور نقيض العدل وضدّ القصد، فقوله: (واعتسافٍ من الجور) أي ظلم ناشٍ من الانحراف عن الشريعة والسبيل المستقيم. وقيل (1) : نسبة الاعتساف إلى الجور مجاز، وفيه مبالغة كقولهم: جدّ جدّه (2) . وقوله عليه السلام : (تَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ) أي تلهّب من الحروب. وتلظّي النار: تلهّبها، حذفت الياء لالتقاء الساكنين: الياء والتنوين. شبّه الحروب بالنيران على الاستعارة بالكناية، وذكر التلظّي ترشيح، ولو شبّه الحروب بالنيران المتلظّية، كان ذكر التلظّي تخييلاً. وقوله عليه السلام : (على حين اصفرارٍ من رياض جنّات الدنيا) معطوف على قوله: «على حين فترة» بحذف العاطف. والمقصود بيان أنّ الناس قبل البعثة كانوا في ضيق وقحط وبلاء. ويحتمل أن يكون الظرف متعلّقا ب- «تلظّ». والرياض جمع روضة وهي ما ينبت فيه البقل والعشب. والجنّة: البستان، والعرب يسمّي النخيل جنّة. والدنيا فُعلى من الدنوّ وهو القرب سمّيت؛ لقربها منّا بالنسبة إلى الآخرة، والتأنيث باعتبار أنّ موصوفها النشأة.


1- .قائله الملّا خليل القزويني.
2- .الشافي، ص 240 (مخطوط)، وقريبه في الحاشية على اُصول الكافي للسيّد أحمد العلوي، ص 195.

ص: 260

قد دَرَسَتْ أعلامُ الهدى ، فَظَهَرَتْ أعلامُ الردى ، فالدنيا مُتهجِّمَةٌ في وجوه أهلِها ، مُكفَهِرَّةٌ ، مُدبِرَةٌ غيرُ مُقِبلَةٍ ، ثمرتُها الفتنةُ ، وطعامُها الجيفةُ ، وشِعارُها الخوفُ ، ودِثارُها السيفُ ، مُزِّقْتُم كلَّ مُمَزَّقٍ ، وقد أعمَتْ عيون أهلِها ، وأظلَمَتْ عليها أيّامُها ، قد قَطعوا أرحامَهم ، وسَفَكوا دماءَهم ، ودَفَنوا في التراب الموؤودةَ بينهم من أولادهم ،

وقوله عليه السلام : (قد دَرَسَتْ أعلامُ الهدى) إلخ استيناف بياني لما تقدّم، فدروس أعلام الهدى وزواله وظهور أعلام الردى ناظر إلى خلوّ الزمان عن الرسل والشرائع القويمة وغفلة الاُمم وانبساط الجهل، وبالجملة ناظر إلى قوله: «على حين فترة» إلخ، ويترتّب على ذلك ويتفرّع عليه تهجّمُ الدنيا واكفهرارُها في وجوه أهلها كما قال: (فالدنيا مُتَهَجِّمَةٌ) على صيغة اسم الفاعل من باب التفعّل، أي منهدمة خربة، يقال: هجم البيت وانهجم، أي انهدم (في وجوه أهلها مُكْفَهِرَّةٌ) الظرف متعلّق بمكفهرّة، يقال: اكفهرّ الرجل كاقشعرّ، إذا عَبَسَ، أي في وجوه أهلها عابِس، يعني ناظر إلى وجوههم بوجهٍ عابس. ويحتمل أن يكون قوله: «فالدنيا متهجّمة» إلخ ناظرا إلى قوله: «على حين اصفرار» إلخ، وقولِه عليه السلام : «وطعامها الجيفةُ»؛ لأنّهم كانوا يأكلون الجيف في سِنِي المجاعة. والشِعار - بكسر الشين المعجمة - : الثوب الذي يلي الجسد؛ لأنّه يلي شعره. والدثار - بكسر الدال المهملة - : الثوب الذي فوق الشِعار. وقوله عليه السلام : (مُزّقتم كلَّ مُمَزَّقٍ) التمزيق: الخرق أو التفريق. والممزّق كمعظّم مصدر كالتمزيق، وهو مفعول مطلق، اُقيم مضافه - وهو «كلّ» - مقامه واُعرب بإعرابه، أي فرّقتم كلّ تفريق. وقوله عليه السلام : (وقد أعمت) أي الدنيا (عيونَ أهلها) أي الراغبين إليها (وأظلمت) أي الدنيا (عليها أيّامَها) أي على أهلها، وضمير «أيّامها» راجع إلى «أهلها» أو إلى «الدنيا» والضمير في قوله: «قد قطعوا» ونظائره لأهل الدنيا. وقوله عليه السلام : (ودفنوا في التراب الموؤدةَ بينهم) الوَأد: دفن البنت حيّةً وهي مَوْؤُدَة. وقوله: «بينهم» متعلّق بالدفن، أو بالموؤدة بتضمين معنى الشيوع، وذكره لزيادة التفظيع

ص: 261

يَجتازُ دونَهم طيبُ العيش ورَفاهِيَةُ خُفوضِ الدنيا ؛ لا يَرجونَ من اللّه ثوابا ، ولا يَخافونَ واللّهِ منه عقابا ؛ حَيُّهُم أعمى نَجِسٌ ، وَميِّتُهم في النار مُبْلِسٌ ، فجاءهم بنُسخَة ما في الصُّحُف الأُولى ، .........

حيث لم يكونوا يخفون هذا القبيح، بل كانوا يظهرون في محضر جماعتهم، ولا ينهى عنه أحد منهم، وكذا قوله: «من أولادهم» لزيادة التفظيع. وقوله عليه السلام : (يختار دونهم طيبُ العيش) في أكثر النسخ «يختار» بالخاء المعجمة والراء المهملة. والدون إمّا مرفوع على أنّه فاعل، والمراد به الخسيس؛ يعني يختار الخسيس منهم بذلك الوأد طيب العيش، أو منصوب، والمراد به الغير يعني يختار بذلك الوأد لغيرهم. - والضمير للأولاد الموؤدة - طيب العيش. وفي بعض النسخ: «يحتاز» بالحاء المهملة والزاي، أي يجمع ويمسك. وفي بعضٍ بالجيم والزاي قال الجوهري: «الاجتياز: السلوك» (1) . وفي بعض النسخ: «العيش» بدل «الطيب». وقوله عليه السلام : (ورفاهيةُ خُفوضِ الدنيا) الخفوض - بضمّ الخاء المعجمة وبالضاد المعجمة - : الدعة والسعة، أي رفاهية الدعة ووسعة الدنيا. وقوله عليه السلام : (لا يرجون من اللّه ثوابا، ولا يخافون واللّهِ منه عقابا) إشارة إلى حالهم من عدم معرفتهم العقائد الدينيّة. وقوله عليه السلام : (حَيُّهم أعمى بَخْسٌ) بفتح الباء الموحّدة وسكون الخاء المعجمة ثمّ سين مهملة، أي ناقص، عديم المعرفة. وفي بعض النسخ بالنون والحاء المهملة. وقوله عليه السلام : (وميّتُهم في النار مُبْلِسٌ) على صيغة اسم الفاعل مِن أبلس، إذا يئس، ومنه سمّي إبليس؛ ليأسه من رحمة اللّه تعالى. وقوله عليه السلام : (فجاءهم بنُسخة ما في الصُحُف الاُولى) أي بنسخة مشتملة على جميع ما في الصحف الاُولى.


1- .الصحاح، ج 2، ص 870.

ص: 262

وتصديقِ الذي بين يديه ، وتفصيلِ الحلالِ من رَيب الحرامِ . ذلك القرآنُ فاستَنْطِقوه ولن ينطقَ لكم ، اُخبِرُكم عنه ، إنّ فيه علمَ ما مضى ، وعلمَ ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحُكمَ ما بينَكم ، وبيانَ ما أصْبَحْتم فيه تَختلفونَ ، فلوسَأَلتُموني عنه لَعَلَّمْتُكم» .

محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن عبدالجبّار ، عن ابن فضّال ، عن حمّاد بن عثمانَ ، عن عبدالأعلى بن أعيَنَ ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«قد وَلَدَني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله وأنا أعلَمُ كتابَ اللّه ، وفيه بَدءُ الخلقِ ، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة ، وفيه خَبَرُ السماء وخَبَرُ

وقوله عليه السلام : (وتصديق الذي بين يديه) أي وبمصدّق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل، أو وصف بالمصدر مبالغة كزيد عدل. وقوله عليه السلام : (ولن ينطقَ لكم) إلخ، إشارة إلى أنّ الاهتداء بالكتاب موقوف على بيان الإمام عليه السلام كما بيّنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم. قوله: (قد ولدني رسول اللّه ) صلى الله عليه و آله هذا يدلّ على أنّ ولد البنت ولد حقيقةً؛ ردّا على من أنكر ذلك، كما لا يخفى على العارف الخبير. وقوله عليه السلام : (وفيه بدء الخلق) إلخ، أي ذكر فيه أوّل الخلق منذ (1) بدأ اللّه الخلق. والمراد كلّ ما اتّصف بالوجود فيما مضى من الذوات (وما هو كائنٌ) أي ما يتّصف بالوجود من الذوات في الحال وفي المستقبل (إلى يوم القيامة و) ذكر (فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنّة وخبر النار) أي أحوالها (وخبر ما كان وما هو كائن) أي ذكر فيه أحوال ما كان في الماضي وما هو كائن في الحال والمستقبل، ويندرج في ذلك الوقائعُ والشرائع والعقائد والأحكام وغير ذلك. فهذا من ذكر العامّ بعد ذكر الخاصّ، فذكر أوّلاً اشتمال الكتاب على الذوات، ثمّ ذكر اشتماله على أخبارها وأحوالها مبتدئا بالعمدة في الدنيويات، أي السماء


1- .في حاشية النائيني، ص 212: «منه» بدل «منذ».

ص: 263

الأرض ، وخَبَرُ الجنّة وخَبَرُ النار ، وخَبَرُ ما كانَ ، وَ خَبَرُ ما هو كائنٌ ، أعلَمُ ذلك كما أنظُرُ إلى كَفّي ، إنّ اللّهَ يقول : « فيه تبيانُ كلّ شيء »» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن النعمان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كتابُ اللّه فيه نباُ ما قبلكم ، وخبرُ ما بعدَكم ، وفَصْلُ ما بينَكم ، ونحنُ نَعلَمُهُ» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مِهرانَ ، عن سيف بن عَميرة ، عن أبي المغراء ، عن سَماعةَ ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال : قلت له : أكلُّ شيء في كتاب اللّهِ وسُنّة نبيِّهِ صلى الله عليه و آله أو تقولون فيه؟ قال :«بل كلُّ شيءٍ في كتاب اللّه وسنَّةِ نبيّه صلى الله عليه و آله » .

والأرض، والعمدة في الاُخرويات، أي الجنّة والنار، ثمّ عمّم بقوله: «وخبر ما كان وما هو كائن». وقوله عليه السلام : (إنّ اللّه يقول: «فيه تبيانُ كلّ شيء» (1) ) دليل على المطلبين: أحدهما: اشتمال الكتاب على هذه الاُمور وهو ظاهر، وثانيهما: علمه عليه السلام بها، وذلك لأنّ التبيان فوق البيان، ولا يتصوّر ذلك بدون علم أحد بمضمونه في كلّ عصر حتّى الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام ، وإلّا يلزم أن لا يكون فيه تبيان كلّ شيء في بعض الأوقات بل في أكثرها وهو باطل كما لا يخفى؛ فأحسِن تدبّره. قوله عليه السلام : (وفَصْلُ ما بينكم) من الحكم بالقضايا الشرعيّة قوله: (عن أبي المَغْرا) بفتح الميم وإسكان الغين المعجمة وما بعدها راء مهملة ثمّ ألف مقصور، وقيل ممدود. وقوله: (أو يقولون فيه) أي أو قول يقول الناس في شأن الكتاب والسنّة وليس في الواقع كذلك.


1- .في التنزيل العزيز في سورة النحل (16): 89: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانَا لِكُلِّ شَيْءٍ» .

ص: 264

باب اختلاف الحديثعليُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيمَ بن عُمر اليمانيّ ، عن أبان بن أبي عَيّاش ، عن سُليم بن قيس الهلاليّ، قال : قلت لأميرالمؤمنين عليه السلام :إنّي سمعتُ من سلمانَ والمقدادِ وأبي ذرٍّ شيئا من تفسير القرآن وأحاديثَ عن نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله غيرَ ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعتُ منك تصديقَ ما سمعتُ منهم ، ورأيتُ في أيدي الناس أشياءَ كثيرةً من تفسير القرآن ، ومن الأحاديث عن نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله أنتم تُخالفونَهم فيها ، وتَزعُمونَ أنّ ذلك كلَّه باطلٌ ؛ أفَتَرى الناسَ يَكذِبونَ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله مُتعمِّدين ، ويُفسّرونَ القرآنَ بآرائهم؟

باب اختلاف الحديث (1)قوله: (باب اختلاف الحديث) أي باب بيان سرّ اختلاف الحديث وبيان كيفيّة العمل مع الاختلاف. قوله: (وأحاديثَ) عطف على قوله: «شيئا». وقوله: (غيرَ) منصوب، وصفة لكلٍّ من قوله: «شيئا» و«أحاديثَ». وضمير «منهم» راجع إلى سلمان ومقداد وأبي ذرّ. وقوله: (أنتم) أي أنت وشيعتك. وقوله: (وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطلٌ) أي تدّعون أنّ ذلك المذكور من الأشياء الكثيرة كلّه باطل. فهذا لا ينافي أن يكون في أيدي الناس حقّ وباطل (2) .


1- .العنوان من هامش النسخة.
2- .في النسخة: «حقّا و باطلاً».

ص: 265

قال : فأقبَلَ عَلَيَّ ، فقال : «قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلاً ، وصِدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعامّا وخاصّا، ومحكما ومتشابها، وحِفظا ووَهما ، وقد كُذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله على عهده حتّى قام خطيبا ، فقال : أيّها النّاس ، قد كَثُرَتْ علَيَّ الكَذّابَةُ ، فمن كَذَبَ علَيَّ مُتعمّدا فَلْيتبوَّأ مَقعدَه من النار ، ثمّ كُذِبَ عليه من بعده ،

وقوله: (فأقبل عليّ) أي فتوجّه إليّ. وقوله عليه السلام : (حقّا وباطلاً) أي من حيث الاعتقاد والرأي (وصدقا وكذبا) أي من حيث النقل والرواية. وقوله عليه السلام : (ومحكما ومتشابها) المحكم هو ما له ظاهر مراد، والمتشابه ما ليس له ظاهر مراد، ويتناول مثل المقطّعات القرآنيّة، والمجملات والمأوّلات التي لها ظاهر غير مراد. وقوله عليه السلام : (وحفظا ووهما) أي محفوظا عند الراوي متيقّنا له أنّه سمعه كذلك، وموهوما عنده غير متيقّن الانحفاظ، فينقله على ما يتوهّم أنّه سمعه كذلك، سواء وافق الحقّ (1) رجما بالغيب، أم لا. وقوله عليه السلام : (وقد كُذِب على رسول اللّه ) على صيغة المجهول بيانٌ لقوله عليه السلام : «كذبا» وجوابٌ لقوله: «أفترى الناسَ يَكذِبون» إلخ. وقوله صلى الله عليه و آله : (قد كَثُرَتْ عليَ الكِذابة) الكِذابة - ككِتابة - مصدر، أي كثر الكذب. ويحتمل أن يكون على صيغة المبالغة، فحينئذٍ فالتاء إمّا يكون للمبالغة كعلّامة، أو للتأنيث لكون الموصوف مؤنّثا، أي اجتمعت عليَ الطائفة الكذّابة، فالظرف متعلّق بقوله: «كثرت»؛ لتضمينه معنى اجتمع. وفيه دلالة على أنّه لا يجوز التمسّك في الأحكام بما رووه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بغير طرق أهل البيت عليهم السلام ، كما صرّح به الشيخ الطوسي رحمه اللهفي العدّة (2) . وقوله صلى الله عليه و آله : (مَن كَذِبَ عليَ مُتَعَمِّدا) أي لا عن وَهْمٍ أو تقيّة (فَلْيَتبوَّأ مَقعَدَه من النار) يقال:


1- .في النسخة: «الوافق»، و المثبت من حاشية النائيني، ص 214.
2- .عدّة الاُصول، ج 1، ص 126.

ص: 266

وإنّما أتاكم الحديثُ من أربعةٍ ليس لهم خامس : رجلٍ منافقٍ يُظهر الإيمانَ ، مُتصنِّعٍ بالإسلام ، لا يَتأثَّمُ ولا يَتحرَّجُ أن يَكذبَ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله .........

بَوَّأه اللّهُ منزلَنا، أي أسكنه إيّاه. ومعناه أنّه ليتّخذ منزله ومحلّه من النار. والمقصود الإخبار بأنّ منزله في النار البتّة. وقوله عليه السلام : (إنّما أتاكم الحديثُ من أربعة) إلخ، وجه الضبط أنّ الراوي الذي يؤخذ منه الحديث، ويعتمد على روايته إمّا كاذب أو صادق. والكاذب إمّا أن لا يتحرّج ولا يكفّ عن إثم (1) الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله متعمّدا - وقد أخبر سبحانه بوجودهم في عصره صلى الله عليه و آله ووصفهم بما وصفهم، ثمّ بقوا بعده - وإمّا أن يتحرّج ويكفّ عن ذنب الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله متعمّدا، ولكن يتوهّم ويغلط حيث لم يحفظ الحديث على وجهه، فيكذب عليه من حيث لا يدري. والصادق إمّا غير عالم بالناسخ والمنسوخ، فيحدّث بالمنسوخ ويقول به، أو عالم بالناسخ والمنسوخ، حافظ للحديث على وجهه، فلا يحدّث إلّا بالناسخ أو بالمنسوخ على أنّه منسوخ متروك القول والعمل به بعد أن حفظه على وجهه الذي حدّث به رسول اللّه صلى الله عليه و آله من العموم والخصوص، والوجه المراد من الكلام الذي له وجهان. وقوله عليه السلام : (لا يَتأثَّمُ ولا يَتحرَّجُ أن يَكذبَ على رسول اللّه ) التأثّم: الكفّ عن الإثم والذنب، وكذلك التحرّج؛ لأنّه كفّ عن الحرج بمعنى الإثم، قال الجوهري: «تأثَّم، أي تَحَرَّجَ عنه (2) وكفّ» (3) . وقال في القاموس: «تَأَثَّمَ: تاب منه (4) وتَحَرَّجَ (5) » انتهى.


1- .في النسخة: «الإثم».
2- .كتب تحت الكلمة في النسخة: أي عن الإثم (منه عفي عنه).
3- .الصحاح، ج 3، ص 1858 (أثم).
4- .كتب تحت الكلمة في النسخة: أي من الإثم (منه عفي عنه).
5- .القاموس المحيط، ج 4، ص 99 (أثم).

ص: 267

متعمّدا ؛ فلو عَلِمَ الناسُ أنّه منافق كذّاب ، لم يَقبلوا منه ولم يُصدّقوه ، ولكنّهم قالوا هذا قد صَحِبَ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله ورآه وسَمِعَ منه ، وأخَذوا عنه وهم لا يَعرفون حالَه . وقد أخبَرَه اللّه عن المنافقين بما أخبَرَه ، ووَصَفَهم بما وَصَفَهم ، فقال عزّ وجلّ : « وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ » ثمَّ بَقوا بعدَه ، فَتَقَرَّبوا إلى أئمّة الضلالة والدُّعاةِ إلى النار بالزور والكَذِب والبهتان ، فَوَلّوهم الأعمالَ ، وحَمَلُوهم

وقال الجوهري: «الحَرَجُ: الإثمُ. وتَحَرَّجَ، أي تأثَّم» (1) انتهى. و«أن» في قوله: «أن يكذب» مصدريّة. ومعناه: لا يكفّ عن إثم الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله متعمّدا، أو لا يتوب ولا يرجع عن معصية الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله متعمّدا. وقيل: أي لا يتأثّم ولا يتحرّج عن أن يكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ لتضمين معنى التحرّز. وقوله عليه السلام : (لم يقبلوا منه) أي لم يقبلوا الحديث منه، وكذا قوله: «وأخذوا عنه» أي الناس أخذوا الحديث عنه. وقوله عليه السلام : (وقد أخبره اللّهُ عن المنافقين) استدلال على أنّ بعض الأصحاب كانوا منافقين. والضمير راجع إلى الرسول. وقوله: (بما أخبره) أي بما أخبره في القرآن من وجودهم في عصره بنحو قوله سبحانه: «وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُم» (2) وفيه إشارة إلى أنّ الرسول إذا لم يعلمهم فكيف يعلمهم الناس؟ وقوله عليه السلام : (ووصفهم بما وصفهم) أي في القرآن، «فقال عزّ وجلّ» أي في سورة المنافقين. والفاء لتفصيل الوصف. وقوله تعالى: «تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» (3) لضخامتها وحسن ظاهرها «وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم» (4) لكونهم بين الناس معظّمين. وقوله عليه السلام : (ثمّ بَقوا بعدَه) أي ثمّ هؤلاء المنافقون الكذّابون (5) بقوا بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .


1- .الصحاح، ج 1، ص 305 و306 (حرج).
2- .التوبة (9): 101.
3- .المنافقون (63): 4.
4- .تتمّة الآية السابقة.
5- .في النسخة: «المنافقين الكذّابين».

ص: 268

على رِقاب الناس ، وأكُلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناسُ مع الملوك والدنيا إلّا مَن عَصَمَ اللّه ، فهذا أحدُ الأربعة . ورجلٍ سَمِعَ من رسول اللّه شيئا لم يَحْمِلْه على وجهه ووَهِمَ فيه ، ولم يَتعمَّدْ كذبا ، فهو في يده ، يقول به ، ويَعمل به ، ويَرويه ، فيقول : أنا سمعتُه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلو عَلِمَ المسلمون أنّه وَهِمَ لم يَقبَلوه ، ولو عَلِمَ هو أنّه وَهِمَ لرَفَضَه . ورجلٍ ثالثٍ سَمِعَ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله شيئا أمَرَ به ثمَّ نهى عنه وهو لا يعلَمُ ، أو سَمِعَه ينهى عن شيء ثمَّ أمر به وهو لا يعلم ، فحَفِظَ منسوخَه ولم يَحفَظِ الناسخَ ، ولو علم أنّه منسوخ لرَفَضَه ، ولو علم المسلمونَ إذ سمعوه منه أنّه منسوخٌ لَرَفَضُوه . وآخَرَ رابعٍ لم يَكْذِبْ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، مُبغضٍ للكذب خوفا من اللّه وتعظيما لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لم يَنْسَه ، بل حَفِظَ ما سمِع على وجهه ، فجاء به كما سمِع ، لم يَزِدْ

وقوله عليه السلام : (وأكلوا بهم الدنيا) الضمير الأوّل للمنافقين، والثاني لأئمّة الضلالة، أو بالعكس؛ يعني أئمّة الضلالة أكلوا بسبب زورهم وكذبهم الدنيا. وقوله عليه السلام : (وإنّما الناس مع الملوك والدنيا) إشارة إلى أنّ ميل الناس قبول قولهم واتّباعهم قد ازداد بسبب التقرّب إلى الملوك وجمع مال الدنيا، أو تولّي أعمالها. وقوله عليه السلام : (إلّا مَن عَصَمَ اللّه ) أي حفظه اللّه عن الضلال، ووفّقه وعرف أنّ الكون مع الملوك والدنيا يضرّ بدين المؤمن. وقوله عليه السلام : (ووَهِمَ فيه) أي غلط فيه. وقوله عليه السلام : (فهو) أي الموهوم (في يده يقول به) أي يفتي ويحكم به. وضمير «منسوخه» راجع إلى الرسول. وقوله عليه السلام : (ولم يَحْفَظِ الناسخَ) وفي بعض النسخ بدله: «ولم يعلم الناسخ» والمآل واحد. وقوله عليه السلام : (لم يَكْذِبْ) إلى قوله: (لم يَنْسَه) للتميز عن القسم الأوّل. وقوله: (لم ينسه) - وفي بعض النسخ بدله: «لم يسه» - إلى قوله: (وعلم الناسخ) للتميز عن القسم الثاني. وقوله عليه السلام : (فجاء به كما سمع) أي نقله ورواه كما سمع.

ص: 269

فيه ولم يَنقُصْ منه ، وعلِم الناسخ من المنسوخ ، فعمِلَ بالناسخ ورَفَضَ المنسوخَ ، فإنَّ أمْرَ النبيّ صلى الله عليه و آله مثلُ القرآنِ ناسخٌ ومنسوخٌ ، وخاصٌّ وعامٌّ ، ومحكمٌ ومُتشابِهٌ ، قد كان يكون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلامُ له وجهان : كلامٌ عامٌّ ، وكلامٌ خاصٌّ مثلُ القرآن ،

وقوله: (وعلم الناسخ) إلى قوله: (فإنّ (1) أمر النبيّ) للتميز عن القسم الثالث. وقوله عليه السلام : (فإنّ أمر النبيّ صلى الله عليه و آله ) - أي حكمه من أوامره ونواهيه (مثل القرآن) أي مثل حكم القرآن ناسخ ومنسوخ - إلى قوله: (وقال اللّه عزّ وجلّ) بيان لوجود القسم الثاني والقسم الثالث؛ فإنّ وجود القسم الثالث مسبّب عن وجود الناسخ والمنسوخ في كلامه صلى الله عليه و آله وسلم، ووجود القسم الثاني مسبّب عن وجود العامّ والخاصّ، والمحكم والمتشابه، والكلام الذي له وجهان في كلامه صلى الله عليه و آله كأن يكون كلاما عامّا مخصّصا ونسي الراوي، أو لَم يفهم تخصيصه وحدّث عنه صلى الله عليه و آله ، أو كلاما خاصّا وحمله على العموم لسوء فهمه، أو لنسيانه فنقله عنه صلى الله عليه و آله ، أو ظاهرا مع ما يدلّ على تأويله فنسي أو لم يفهم ما يدلّ عليه ورواه عنه صلى الله عليه و آله ، أو مجملاً مع مبيّنه فنسي، أو لم يفهم المبيّن وحمله على معنى آخر فأخبره عنه صلى الله عليه و آله ، أو كلاما له وجهان فحمل على غير المراد ونسبه إليه صلى الله عليه و آله ونحو ذلك. وقوله عليه السلام : (قد كان يكون من رسول اللّه ) إلى قوله: (وقال اللّه عزّ وجلّ) من قبيل التعميم بعد ذكر الخاصّ وهو قوله: «فإنّ أمر النبيّ» إلخ؛ لأنّه عليه السلام قد ذكر أوّلاً أنّ أمر النبيّ، أي حكمه من أوامره ونواهيه مثل حكم القرآن من أوامره ونواهيه يكون ناسخا ومنسوخا، وعامّا وخاصّا، ومحكما ومتشابها. ثمّ ذكر ثانيا أنّ ما عدا الناسخ والمنسوخ اللذين يختصّان بالحكم ممّا ذكر لا اختصاص له بحكم النبيّ صلى الله عليه و آله ، بل يجري في سائر كلامه أيضا كما يجري في سائر القرآن، فإنّه قد كان في كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم - سواء كان حكما، أو غير حكم كالخبر وغيره - عامّ وخاصّ، ومتشابه وهو الذي يعبّر عنه بالكلام له وجهان، واكتفى عن ذكر المحكم بظهوره، كما كان ذلك في حكم القرآن وفي غير حكمه أيضا، هذا.


1- .في النسخة: «و» بدل «فإنّ».

ص: 270

وقال اللّه عزَّ وجلَّ في كتابه : « وَ مَآ ءَاتَ-ل-كُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَ-ل-كُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ »فيَشْتَبِهُ على من لم يعرِفْ ولم يَدرِ ما عَنَى اللّهُ به ورسولهُ صلى الله عليه و آله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله

ثمّ إقحام لفظ «يكون» هاهنا للدلالة على الاستمرار في الماضي. وقوله عليه السلام : (وقال اللّه عزّ وجلّ في كتابه) - أي في سورة الحشر: «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» (1) إلى آخر الحديث - بيان لأنّ المرجع في بيان الكتاب والمبيّن له هو الرسول صلى الله عليه و آله وسلم؛ لقوله تعالى: «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (2) . ثمّ المرجع في بيان الكتاب والسنّة معا هو الأئمّة عليهم السلام ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد أودع بيان كلّ ما يحتاج إلى البيان من الكتاب والسنّة عند أهل بيته عليهم السلام ، فكلّ ما يحتاج إليه الناس محفوظ عندهم، ولا يسع الناسَ تركُ الأخذ عنهم، والاستبداد بآرائهم، والاعتماد على ظنونهم في الأخذ عن الكتاب والأحاديث النبويّة، بل عليهم أن يراجعوا أهل البيت فيما فيه احتمال تخصيص، أو إرادة وجه دون وجه ، أو وقوع نسخ، فبعد المراجعة إليهم إذا علم عدم تخصيصه بقي العامّ على عمومه، وإذا علم عدم إرادة وجه آخر يحمل على هذا الوجه، وإذا علم عدم وقوع نسخ عمل به. وأمّا صنيع الجماهير من ترك (3) المراجعة إليهم، والاستبداد بآرائهم، والاعتماد على ظنونهم وقياساتهم، ففيه من الاستهانة بأمر الدين ما لا ينبغي للمتديّن، وخصوصا بعد الاطّلاع على قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «يا أيّها الناس إنّي تركت (4) فيكم مَن إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل البيت»، وقوله صلى الله عليه و آله : «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي» وقوله صلى الله عليه و آله : «لن يفترقا: كتاب اللّه وعترتي حتّى يردا عليَّ الحوضَ» (5) . وقوله عليه السلام : (فيَشْتَبِهُ على من لم يَعرِفْ ولم يَدرِ ما عَنَى اللّهُ به ورسولُه صلى الله عليه و آله ) يعني فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والخاصّ من


1- .الحشر (59): 7.
2- .تتمة الآية السابقة.
3- .في النسخة زيادة: «الجماعة».
4- .في النسخة: «تركتم».
5- .تقدّمت الأحاديث في ص

ص: 271

كان يسألُه عن الشيء فيَفهَمُ ، وكانَ منهم من يسألُه ولا يَستَفهِمهُ ، حتّى أن كانوا ليُحِبّونَ أن يَجيءَ الأعرابيُ والطارِئُ ، فيسألَ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله حتّى يَسمعوا . وقد كنتُ أدخلُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله كلَّ يومٍ دَخْلَةً وكلَّ ليلةٍ دَخْلَةً ، فيُخليني فيها ، أدورُ معه حيث دارَ ، وقد عَلِمَ أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه لم يَصْنَعْ ذلك بأحدٍ من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله .........

القرآن ومن الأحاديث النبويّة ما عنى اللّه به، أي بكلامه جلّ ذكره، وما عنى رسوله بكلامه صلى الله عليه و آله ، سواء كان في تفسير القرآن، أو غير ذلك، فقوله: «ورسوله» عطف على اللّه . والأوّل ناظر إلى قوله: «قد كان يكون من رسول اللّه » إلخ، وقوله عليه السلام : (ليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله يسأله عن الشيء فيفهم) على صيغة المعلوم من باب الإفعال، أي فيُفهِمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك الشيء. ويحتمل أن يكون من المجرّد، أي فيفهم السائل الجواب. وعلى التقديرين النفي إمّا راجع إلى السؤال، أو إلى الإفهام، وذلك فيما لا يتعلّق بالسائل، أو إلى الفهم، وذلك كما روى محمّد بن مسلم في صحيحه عن الثاني أنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله مكرّرا عن الكلام ولم يفهم الجواب (1) . و(الأعرابي): ساكن البادية. و(الطارِئُ) بالهمز: من يجيء من البلاد البعيدة. وقوله عليه السلام : (دَخْلةً) بفتح الدال، أي مرّة من الدخول. وقوله عليه السلام : (فيخلّيني) بتشديد اللام، أي فيتركني ولا يمنعني من السؤال (فيها) أي في الداخلة، أو بتخفيفها من باب الإفعال من الخلوة. وقوله عليه السلام : (أدورُ معه حيث دارَ) أي أتعلّم منه كلّ ما علّمني كما عَلِمَه، أو أتعلّم منه في كلّ مسألة جميع الجهات المعلومة له. وقوله عليه السلام : (فربّما كان في بيتي يأتيني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله ) بتقديم الظرف على متعلّقه، أي فربّما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأتيني في بيتي. فقوله: «رسول اللّه صلى الله عليه و آله » اسم «كان» والجملة خبره قدّم على الاسم، ولا يلزم الإضمار قبل الذكر؛ لأنّ مرجع ضمير «يأتيني» مقدّم بحسب


1- .لم أعثر عليه.

ص: 272

أكثَرُ ذلك في بيتي ، وكنتُ إذا دخلتُ عليه بعضَ منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تَقُمْ عنّي فاطمةُ ولا أحدٌ من بَنِيَّ ، وكنتُ إذا سألتُهُ أجابَني ، وإذا سَكَتُّ عنه وفَنِيَتْ مسائلي ابْتَدَأني ، فما نزلَتْ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله آيةٌ من القرآن إلّا أقْرَأنيها وأملاها عَلَيَّ ، فكتبتُها بخطّي ، وعَلَّمَني تأويلَها وتفسيرَها ، وناسخَها ومنسوخَها ، ومحكمَها ومتشابِهَها ، وخاصّها وعامَّها، ودعا اللّه أن يُعطِيَني فهمَها وحفظَها، فما نسيتُ آيةً من كتاب اللّه ولاعلما أملاه عَلَيَّ وكتبْتُه منذُ دعا اللّه لي بما دعا ، وما ترك

الرتبة، وذلك كافٍ في صحّة الإضمار. وقوله: (أكثر ذلك في بيتي) يعني أكثر الدور معه حيث دار، وأكثر التعلّم عنه كان في بيتي. وفي بعض النسخ: «أكثر من ذلك» والمعنى واحد. وقيل: معناه فربّما كان الدور معه حيث دار في بيتي. وقوله: «يأتيني رسول اللّه صلى الله عليه و آله » استيناف بياني لكون الدور معه في بيتي. وقوله: «أكثَرَ ذلك» جملة معترضة بين الفعل والظرف المتعلّق به، و«أكثَرَ» فعل ماض من باب الإفعال. ولفظة «ذلك» إشارة إلى إتيان الرسول إيّاه عليهماالسلام (1) . انتهى. وقوله عليه السلام : (أخلاني) على صيغة الماضي من باب الإفعال ونون الوقاية قبل ياء المتكلّم. وفي بعض النسخ: «أخلا بي» بالباء الموحّدة قبل ياء المتكلّم. وقوله عليه السلام : (وفَنِيَتْ مسائلي) أي لم يبق في ذهني ما أردت السؤال عنه، ولم يخطر غيره (ابتدأني) بتعليم المسائل. وقوله عليه السلام : (أقْرَأنيها) أي حملني على أن أقرأها عليه. ويحتمل أن يكون معناه: حملني على ضبطها وجمعها مع أخواتها؛ لأنّ القراءة في الأصل الجمع، سمّي القرآن؛ لأنّه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور بعضها إلى بعض. والإملاء أن يقرأ أحد كلاما ليكتبه آخر. وقوله عليه السلام : (ولا علما) أي كلاما فيه علم وهي الأحاديث.


1- .اُنظر: الشافي للقزويني، 258 (مخطوط).

ص: 273

شيئا علَّمَه اللّهُ من حلال ولا حرام ، ولا أمرٍ ولا نهيٍ ، كان أو يكون ، ولا كتابٍ مُنزَلٍ على أحد قبلَه من طاعة أو معصية إلّا عَلَّمَنيه وحَفِظْتُه ، فلم أنسَ حرفا واحدا ، ثمّ وَضَعَ يدَه على صدري ودعا اللّهَ لي أن يَمْلَأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت : يا نبيّ اللّه ، بأبي أنت واُمّي ، منذُ دعوتَ اللّهَ لي بما دعوتَ لم أنْسَ شيئا ، ولم يَفُتْني شيءٌ لم أكْتُبْهُ ، أفتتخَوَّفُ عَلَيَّ النسيانَ فيما بعدُ؟ فقال : لا ، لستُ أتخوَّفُ عليك النسيانَ والجهلَ» .

وقوله عليه السلام : (ولا كتابٍ مُنزَل على أحد قبلَه) كالتوراة والإنجيل ونحوهما. وقوله عليه السلام : (من طاعة أو معصية) متعلّق بمحذوف مقدّر، أي ولا شيئا من طاعة أو معصية. ويحتمل أن يكون «من» بيانيّة بيانا للكتاب باعتبار ما فيه من القصص في طاعة أقوام ومعصية آخرين، ولو حُمل «كتاب» على أعمّ من جميع التوراة مثلاً وبعضِه، أمكن جعل «من» سببيّةً. ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب ما أنزله اللّه تعالى على الاُمم السابقة من البشرى والرحمة والعذاب، فإنّه مكتوب، أي واجب باقتضاء الحكمة، وقد يعبّر عن الوجوب بالكتابة، كما في قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ» (1) «كَتَبَ عَلى نفسِه الرَّحْمَةَ» (2) . فالمراد بأحد أحد من الاُمم، وحينئذٍ يكون «من» سببيّة، ومتعلّقة بقوله: «مُنزَلٍ». وقوله عليه السلام : (ثمّ وَضَعَ يدَه على صدري) أي بعد تعليم الجميع، وفي آخر عمره صلى الله عليه و آله . والحُكم - بضمّ الحاء المهملة وسكون الكاف - : القضاء بالعدل، أو بمعنى الحكمة. وقوله عليه السلام : (بأبي أنت واُمّي) أصله: فُديتَ بأبي واُمّي على صيغة المجهول المخاطب حذف الفعل، وجعل الضمير المتّصل منفصلاً، واُخّر. وقوله عليه السلام : (منذ دعوتَ اللّهَ لي بما دعوتَ) أي الدعاء الذي سبق في قوله: «ودعا اللّهَ أن يُعطِيَني». وقوله عليه السلام : (لم يَفُتني شيءٌ لم أكتبه) فضلاً عمّا أكتبه.


1- .البقرة (2): 183.
2- .الأنعام (6): 12.

ص: 274

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي أيّوب الخرّاز ، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال: قلت له: ما بالُ أقوامٍ يَرْوونَ عن فلان وفلان عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله لا يُتَّهَمونَ بالكذب ، فيجيءُ منكم خلافُه؟ قال :«إنَّ الحديثَ يُنسَخُ كما يُنسَخُ القرآنُ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي نجران ، عن عاصم بن حُميد ، عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ما بالي أسألُكَ عن المسألة فتُجيبُني فيها بالجواب ، ثمَّ يَجيئُك غيري فتُجيبُه فيها بجواب آخَرَ؟ فقال :«إنّا نُجيبُ الناسَ على الزيادة والنقصان» . قال : قلت : فأخبِرْني عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله صَدَقوا على محمّد صلى الله عليه و آله

قوله: (قلت: ما بالُ أقوامٍ) أي ما حال أقوام. يقال: ما بالك، أي ما حالك. (و [لا] يتّهمون) على صيغة المجهول. والضمير فيه لأقوام ولفلان وفلان جميعا، والجملة حاليّة. ولمّا كان السؤال عن غير الكاذبين من الرواة - عمدا كان أو غلطا - أو عن غير الكاذبين عمدا فيما لا يجري فيه الاشتباه الناشئ عن العموم والخصوص، أو كون الكلام ذا وجهين، أسند عليه السلام بطلان قولهم: «وخلافه لهم» إلى نسخ الحديث النبوي. قوله: (فتُجيبُه بجوابٍ آخَرَ) مغاير له، سواء كانت المغايرة باعتبار المضادّة، أو باعتبار بيان الشقوق والاحتمالات في أحدهما دون الآخر، أو غير ذلك. وقوله عليه السلام : (إنّا نُجيب الناسَ على الزيادة والنقصان) أي بحسب الكيفيّة وبحسب الكمّية بناء على اختلاف عقولهم في إدراك المسائل، وتفاوت حاجاتهم في بيان الشقوق والاحتمالات وعدمه، وتباين مراتبهم في حفظ السرّ في المسائل المخالفة لمذاهب العامّة وإفشائه، واختلاف مذاهبهم من الحقّ والباطل، فاُجيب أهل الحقّ بالحقّ، وأهل الباطل بما يقتضيه التقيّة. وقوله: (صدقوا) بتخفيف الدال المهملة، وتعديته ب- «على» لتضمين معنى الدعوى.

ص: 275

أم كَذَبوا؟ قال : «بل صدقوا» . قال : قلت : فما بالُهم اختلفوا؟ فقال : «أما تَعلَمُ أنَّ الرجلَ كان يأتي رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله فيسألُه عن المسألة ، فيُجيبُه فيها بالجواب ، ثم يُجيبُه بعد ذلك ما يَنسَخُ ذلك الجوابَ ؛ فَنَسَخَتِ الأحاديثُ بعضُها بعضا» .

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن أبي عُبيدة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال لي :«يا زياد ، ما تقولُ لو أفتَيْنا رجلاً ممَّن يَتوَلّانا بشيء من التقيّة؟» . قال : قلت له : أنت أعلمُ ، جعلتُ فداك . قال : «إن أخَذَ به فهو خيرٌ له وأعظمُ أجرا» .

وفي رواية اُخرى :«إن أخَذَ به اُوجِرَ ، وإن تَرَكَه واللّهِ أثِمَ» .

وقوله عليه السلام : (ثمّ يجيئه) أي يجيء رسول اللّه صلى الله عليه و آله من اللّه تعالى (بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب) فيأتيه رجل آخر فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بجواب آخر. وقوله عليه السلام : (قد نَسَخَتِ الأحاديثُ) أي الأحاديث النبويّة (بعضُها بعضا) وهذا الحديث يحتمل أن يكون مثل سابقه بأن يكون السؤال عن بعض أصحابه الذي لا يكذب عليه عمدا ولا غلطا. ويحتمل أن يكون السؤال عن مطلق الأصحاب. واقتصاره عليه السلام في الجواب بهذا وعدم تفصيله ببيان سائر الأقسام المذكورة في أوّل الباب للتقيّة. والتقيّة قد تكون مع غير المخالف أيضا خوفا من إفشاء السرّ. قوله عليه السلام : (بشيء من التقيّة) أي ممّا يتّقى به من العامّة؛ يعني ما تقول: هل يثاب ويؤجر على العمل بذلك الفتوى، ويبرأ ذمّته من المكلّف به على زعمك، أم لا؟ وقوله عليه السلام : (إن أخذ به فهو خير له) أي في الدنيا (وأعظم أجرا) في الآخرة من العمل بالمكلّف به على وجهه عند عدم التقيّة، أو عندها إن قلنا بصحّته حينئذٍ. وقوله عليه السلام : (إن أخذ به اُوجرَ) على صيغة المجهول، أي اُوجر على فعل ما فيه التقيّة أجرَ العمل بالمأمور به على وجهه، وعلى ارتكاب التقيّة. وقوله عليه السلام : (وإن تركه واللّهِ أثِمَ) أي أثم على ترك التقيّة، أو أثم عليه وعلى الإتيان

ص: 276

أحمدُ بن إدريس ، عن محمّد بن عبدالجبّار ، عن الحسن بن عليّ ، عن ثَعْلَبَةَ بن ميمون ، عن زرارةَ بن أعيَنَ ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاءه رجلٌ فسَألَهُ عنها ، فأجابه بخلاف ما أجابَني ، ثمَّ جاء رجلٌ آخر ، فأجابه بخلاف ما أجابَني وأجابَ صاحبي ، فلمّا خَرَجَ الرجلان قلت : يا ابن رسول اللّه ، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قَدِما يسألانِ ، فأجبتَ كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجَبْتَ به صاحِبَهُ؟ فقال :«يا زرارة ، إنّ هذا خيرٌ لنا ، وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتَمَعتُم على أمرٍ واحدٍ لصَدَّقَكُم الناسُ علينا ، ولكان أقَلَّ لبقائنا وبقائكم» . قال : ثمّ قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : شيعتُكم لو حَمَلْتُموهم على الأسِنَّةِ أو على النارِ لَمَضَوْا ، وهم يَخرُجون من عندكم مُختلِفينَ ، قال : فأجابَني بمثل جواب أبيه .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ، عن نصر الخَثْعَميّ ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«من عَرَفَ أنّا لا نقولُ إلّا حَقّا فليَكْتَفِ بما يَعلَمُ منّا ، فإن سَمِعَ منّا خلاف ما يَعلَمُ ، فليَعْلَمْ أنّ ذلك دفاعٌ منّا عنه» .

بخلافه بترك الواجب إن قلنا بعدم صحّة المأتيّ به على وجهه عند التقيّة. قوله عليه السلام : (لصدّقكم الناسُ علينا) أي لحكموا بصدقكم علينا، فحكموا بموالاتكم لنا، وإن كنتم مختلفين في الرواية لم يحكموا بصدقكم علينا، فلم يحكموا بموالاتكم لنا. وقوله عليه السلام : (ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم) أي لكان حكمهم بصدقكم علينا وموالاتكم لنا يوجب عدم بقائنا وبقائكم. وقوله: (لو حَمَلتُموهم) بتخفيف الميم، يقال: حمله على كذا، إذا أمره به. و(الأسنّة) جمع سنان. قوله عليه السلام : (فَلْيَكْتَفِ بما يَعْلَمُ منّا) إلخ أي فليكتف بما يعلم صدوره عنّا - قولاً كان أو فعلاً - ولا يفتّش عن مستنده ومأخذه، أو لا يفتّش عن أنّه هل صدر ذلك عن تقيّة، أم لا؟ (فإن سَمِعَ منّا خلاف ما يعلم) صدوره عنّا (فليَعْلَمْ أنّ ذلك) أي قولنا بخلاف ما يعلم صدوره عنّا (دفاعٌ منّا عنه) أي مدافعة للضرر عنه واقعة منّا.

ص: 277

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى ، والحسن بن محبوب جميعا ، عن سَماعَةَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سألتُه عن رَجل اختَلَفَ عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهُما يرويه : أحدُهما يأمُرُ بأخذه ، والآخَرُ ينهاه عنه ، كيف يَصنَعُ؟ فقال :«يُرْجِئُه حتّى يلقى من يُخبرُه ، فهو في سَعَةٍ حتّى يلقاه» .

والمقصود أنّ ذلك القول المخالف لما علمه منّا إنّما هو للتقيّة ودفع الضرر عن السامع. هذا إذا كان الصادر عنه أوّلاً مطابقا للحكم الواقعي والمسموع عنه ثانيا للتقيّة. ولو حمل على عكس ذلك، كان لفظ «ذلك» إشارة إلى قوله: «ما يعلم منّا». ويحتمل تعميم كلّ واحد من الأوّل والثاني بحيث يتناول الحكم الواقعي والتقيّة على سبيل الاحتمال بأن لا يكون شيء منهما متعيّنا لشيء من الحكم الواقعي والتقيّة، وحينئذٍ لفظة «ذلك» إشارة إلى الخلاف المفهوم من الكلام، أي فليعلم أنّ تلك المخالفة الواقعة منّا للتقيّة، ولدفع الضرر عنه؛ فتدبّر. قوله: (كيف يصنع؟) أي كيف يصنع في هذه الصورة؟ وبم يعمل؟ وهذا إذا كان السؤال عن حال المقلّد، أو بم يقول ويفتي؟ وهذا إذا كان السؤال عن حال المجتهد. وقوله عليه السلام : (يرجئه) - بالهمز أو بالياء؛ قال الجوهري: «أرجأت الأمر: أخّرته يهمز ولا يهمز» (1) انتهى - يؤخّر العمل والأخذ بأحدهما بناء على الأوّل «حتّى يلقى من يُخبره» من أهل القول والفتيا، فيعمل حينئذٍ بفتياه «فهو في سعة» في العمل حتّى يلقى من يعمل بقوله من أهل القول والاجتهاد. أو يؤخّر في الترجيح والفتيا بناء على الثاني (حتّى يلقى من يخبره) من أهل الرواية، فيخبره برواية اُخرى يترجّح بها إحدى الروايتين على الاُخرى، فيقول ويفتي بالراجح، وهذا في صورة عدم ترجيح إحداهما على الاُخرى بوجه آخر من سائر وجوه الترجيح «فهو في سعة» في الترجيح والفتيا حتّى يلقى من يروي ما يترجّح به إحداهما على


1- .الصحاح، ج 1، ص 52 (رجأ) ؛ وج 4، ص 2352 (رجا)، وفي هذا الموضع: «أرْجَيْتُ».

ص: 278

وفي رواية اُخرى : «بأيِّهِما أخَذْتَ من بابِ التسليم وَسَعَكَ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى ، ع-ن الحسين ب-ن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«أرأيتَكَ لوحدَّثْتُك بحديثٍ العامَ ، ثمَّ جئتَني من قابِلٍ ، فحدَّثْتُكَ بخلافه ، بأيِّهِما كنتَ تأخُذُ؟» قال : قلت : كنتُ آخُذُ بالأخير . فقال لي : «رَحِمَكَ اللّهُ» .

وعنه ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مَرّارٍ ، عن يونسَ ، عن داودَ بن فَرقَدٍ ، عن المعلّى بن خُنيس ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : إذا جاء حديثٌ عن أوَّلكم ، وحديثٌ عن آخركم ، بأيِّهما نأخُذُ؟ فقال :«خُذوا به حتّى يَبلُغَكم عن الحيّ ، فإن بَلَغَكم عن الحيّ ، فَخُذُوا

الاُخرى فيفتي بالراجح، وهذا دليل التوقّف في صورة تعارض الدليلين. وعلى التقديرين يحتمل أن يكون المراد بمن يخبره الحجّةَ عليه السلام ، وذلك في زمان ظهور الحجّة. وقوله: (وفي رواية اُخرى) أي في مثل هذا المقام (بأيّهما) أي بأيّ الروايتين (أخذتَ من باب التسليم) أي من باب الانقياد والإطاعة للمرويّ عنه من الحجج عليهم السلام والرضاء بما ورد عنهم من الاختلاف، لا من حيث تعيين أحدهما بخصوصه للعمل بالهوى، أو لا من حيث ترجيحه بخصوصه بالرأي والقياس والأوهام الفاسدة (وَسَعَك) وجاز لك. وهذا دليل التخيير. قوله عليه السلام : (أرأيتَكَ) بهمز الاستفهام وفتح التاء المثنّاة فوق للخطاب. والمعنى: أخبرني عنك. وقوله عليه السلام : (العام) المنصوب على الظرفيّة، أي في هذا العام. وقوله عليه السلام : (من قابِلٍ) أي من عام قابل. وقوله: (فقال لي: رَحِمَكَ اللّهُ) لأنّ الأخير حكم له في ذلك الوقت، فيجب العمل به فيه، سواء كان موافقا للحكم الواقعي، أو للتقيّة؛ لأنّه لا يفتي في كلّ وقت إلّا بما هو الحقّ الذي يجب العمل به في ذلك الوقت. قوله عليه السلام : (خُذوا به) أي بالحديث عن آخرنا؛ فإنّ حكمه حقّ ورافع لحكم الأوّل؛ لحكمة ومصلحة رآه إلى

ص: 279

بقوله» . قال : ثمَّ قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّا - واللّه - لا نُدخِلُكم إلّا فيما يَسَعُكُم» .

وفي حديث آخر :«خُذوا بالأحدَثِ» .

محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صَفوانَ بن يحيى ، عن داودَ بن الحُصين ، عن عمرَ بن حنظلةَ ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن رجلَيْنِ من أصحابنا بينهما مُنازَعَةٌ في دَيْنٍ أو ميراثٍ ، فتحا كما إلى السلطان .........

أن يظهر عنهم عليهم السلام ما يرفع الثاني أيضا بحدوث سبب رفعه، وأشار إليه عليه السلام بقوله: «حتّى يبلغكم» إلخ. وقوله عليه السلام : (إنّا واللّهِ لا نُدخلكم إلّا فيما يَسَعُكم) أي فيما ليس عليكم في الفتيا والقول، أو العمل به عقاب في الآخرة، ولا ضرر في الدنيا. قوله: (بينهما منازعةٌ في دَيْنٍ أو ميراثٍ) إلخ اعلم أنّ المنازعة في العين، أو منفعتها مع علم المدّعي بأنّها حقّ له، أو لا يكون كذلك. والثاني إمّا في الدين المعلوم ثبوته وحقّيّته له، أو لا يكون كذلك. والثالث هو أن يكون المنازعة في أمر لا يكون حقّيّته معلوما له - عينا كان أو دينا - سواء كان مشكوك الحقّيّة، أو مظنون الحقّيّة، أو ثابت الحقّيّة عنده بحكم الحاكم بأن يكون المنازعة بسبب جهلهم، أو جهل أحدهما بالمسألة التي اختلف فيها، كالنزاع في ثبوت الإرث بحصول ظنّ الحاكم به بإقامة الشهود مع عدم علم المدّعي بوراثته. ففي هذه الصور كلّها لا يجوز التحاكمُ إلى السلطان الجائر وإلى قُضاته، والأخذُ بحكمهم؛ فإنّ الأخذ بحكمهم يعني إزالة يد المدّعى عليه عن المدّعى به، واستقرارُ اليد عليه بحكمهم حرامٌ غير جائز، لكنّ المأخوذ في القسم الأوّل حلال؛ يعني التصرّف فيه جائز، وفي القسم الثاني المأخوذ أيضا حرام لا يجوز التصرّف فيه؛ فإنّه حقّ للمدّعى عليه، فتصرّفه تصرّف في مال الغير عدوانا، وبقي بعدُ حقُّ المدّعي في ذمّته. لكن يمكن التخلّص عن حرمة الأخذ والمأخوذ في الصورتين بالتقاصّ بجبر الجائر وقُضاته بأن يجعل حكمهم سببا لتقاصّ حقّه فيأخذ حقّه بواسطتهم تقاصّا لا من حيث

ص: 280

وإلى القضاة ، أيحِلُ ذلك؟ قال :«من تَحاكَمَ إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنّما تَحاكَمَ إلى الطاغوت ، وما يَحْكُمُ له فإنّما يأخُذُ سُحْتا وإن كانَ حقّا ثابتا له ؛ لأنّه أخَذَه بحكم الطاغوت ، وقد أمَرَ اللّهُ أن يَكْفُروا .........

حكمهم، وفي القسم الثالث أيضا المأخوذ حرام وإن كان في الواقع حقّه، ولا يمكن حينئذٍ التخلّص عن حرمة الأخذ والمأخوذ بوجهٍ؛ لعدم جريان التقاصّ في هذه الصورة؛ لأنّه لا يعلم أنّه حقّ شرعي له. إذا عرفت هذا فيحتمل أن يكون المراد بالمنازعة في قوله: «بينهما منازعة في دين أو ميراث» المنازعةَ مطلقا بحيث يتناول الأقسام الثلاثة. ويحتمل أن يكون المراد بها خصوص القسمين الأخيرين. وعلى التقديرين فذكر الدين والميراث على سبيل التمثيل. وذكر الواو في قوله: (وإلى القضاة) لأنّ سلاطين الجور يحيلون المتحاكمين إليهم إلى قضاتهم في الأكثر. ويحتمل أن يكون الواو بمعنى «أو». وقوله عليه السلام في الجواب: (من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل) يحتمل العموم والشمول للأقسام الثلاثة، وحينئذٍ فمعنى قوله: (وما يحكم له فإنّما يأخُذُ سُحْتا) أنّ ما يحكم الطاغوت للمتحاكم فإن أخذه إنّما يأخذ أخذا سُحتا، أي حراما؛ لما عرفت من أنّ المدّعى به إذا كان عينا معلوم الحقّيّة للمدّعي إنّما يكون أخذه بحكم الجائر حراما، ولا يكون المأخوذ حراما. ويحتمل تخصيصه بالقسمين الأخيرين، وحينئذٍ معناه إنّما يأخذ مالاً سحتا حراما لا يجوز التصرّف فيه «وإن كان حقّا» له في نفس الأمر «ثابتا له» أي معلوما له حقّيّته وكان خصمه منكرا هذا. قال الشهيد الثاني في شرح الشرائع: قد ظهر من تلك الرواية الحكم بتخطئة التحاكم إلى أهل الجور، ويستثنى منه ما لو توقّف حصول حقّه عليه، فيجوز الاستعانة على تحصيل الحقّ بغير القاضي، والنهي في الأخبار محمول على الترافع إليهم اختيارا مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحقّ، وقد صرّح به في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «أيّما رجل

ص: 281

كان بينه وبين أخٍ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال اللّه عزّ وجل: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» (1) الآية (2) انتهى. ولا يذهب عليك أنّ هذا الحديث لا يدلّ على الاستثناء المذكور وجواز الأخذ بحكم هؤلاء في صورة عدم التمكّن من الرجوع إلى أهل الحقّ؛ لأنّ السكوت عن حال الرافع إلى هؤلاء في هذه الصورة لا يدلّ [على] جواز الرفع إليهم، على أنّ جواز الرفع إليهم لا يستلزم جواز الأخذ بحكمهم؛ لجواز أن يكون الرفع لأجل تقاصّ حقّه بالاستعانة بحكمهم، لا لجواز الأخذ بحكمهم في هذه الصورة، فلا وجه لتخصيص الحكم مع عموم الدليل وعدم تقييد حرمة التحاكم إليهم بصورة الاختيار. اللّهمّ إلّا أن يحمل قوله على جواز تقاصّ حقّه المعلوم له باستعانتهم، لا أخذه لأجل حكمهم، كما يشعر به قوله: (فيجوز الاستعانة على تحصيل الحقّ بغير القاضي) فتدبّر. و«الطاغوت» على وزن لاهوت بمنزلة الرَغَبُوتِ والرَهَبُوتِ إلّا أنّه مقلوب؛ لأنّه من طَغَا يَطْغى ويَطْغُو طُغيانا، أي جاوز الحدّ، وكذا طَغِيَ يَطْغى كعَلِم فهو طَغَوْت من الطَغَووت كفَعَلُوت. ولاهوت غير مقلوب؛ لأنّه مِن لاه يليه ليها، إذا تستّر وعلا وارتفع. والطاغوت قد يكون واحدا و[قد يكون] جمعا، والجمع [الطواغيت وهو ]كلُّ رأسٍ في الضلال، ومَرَدَةُ أهلِ الكتابِ، سمّي بذلك لفرط طغيانهم، أو لتشبيههم بالشيطان. ويحتمل أن يكون المراد به هاهنا الشيطان؛ لأنّ التحاكم إلى الجائر هو التحاكم إلى الشيطان من حيث إنّه الحامل عليه. ويحتمل أن يكون المراد به ما عُبد من دون اللّه كالأصنام؛ لأنّ التحاكم إلى الجائر


1- .النساء (4): 60.
2- .مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، ج 13، ص 335 - 336.

ص: 282

به ، قال اللّه تعالى : « يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّ-غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِى »» . قلت : فكيف يصنعان؟ قال : «ينظران إلى من كانَ منكم ممّن قد روى حديثَنا ، ونَظَرَ في حلالنا وحرامنا وعَرَفَ أحكامَنا ، .........

تحاكم إلى هوى نفسه؛ لأنّه الباعث إلى ذلك، والمتحاكم إلى هوى نفسه كان متّخذا هواه إلها ومعبودا، فكان المتحاكم إلى الجائر متحاكما إلى الطاغوت. وقوله عليه السلام : (وقد أمر اللّهُ أن يكفروا به) على صيغة المجهول، والظرف قائم مقام الفاعل، أي أن لا يصدّق بشيء من أحكامه في الدين. والآية في سورة النساء. وقوله عليه السلام : (ينظران) من المجرّد، أي يتأمّلان في اختيار من اتّصف بهذه الصفات، أو يرتقبان حضوره، تقول: نظرتُه وأنتظرتُه، إذا ارتقبتَ حضوره. ويحتمل أن يكون من باب الإفعال أو التفعيل، أي يجعلانه ناظرا في حقّهما، ويؤيّد هذا قوله بعدُ: «الناظرين في حقّهما». وقوله عليه السلام : (من كان منكم ممّن قد روى حديثنا) إلخ، اعتبر كونه من الشيعة الإماميّة عالما بروايات أهل البيت، ناظرا متفكّرا في حلالهم وحرامهم، عارفا بأحكامهم التي تستنبط (1) من أدلّتها كالكتاب والأحاديث وسائر الأدلّة الشرعيّة التي ثبت حجّيّتها بأحاديثهم عليهم السلام . والموصوف بهذه الصفات هو المعبّر عنه بالفقيه عند السلف، وبالمجتهد في هذه الأعصار عند الإماميّة، وإن كان المجتهد في العصر الأوّل بينهم مستعملاً في العامل بالقياس والرأي والاستحسانات العقليّة ونحوها؛ ولذلك منعوا عن الاجتهاد، فالمجتهد عبارة عن العارف بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة بالنظر في الحلال والحرام من الأدلّة التفصيليّة من الكتاب والروايات وسائر الأدلّة التي ثبت حجّيّتها بأحاديث الحجج عليهم السلام بعد جمع الأدلّة وترجيحها. وفي قوله: (وعرف أحكامنا) دلالة على بلوغه إلى مرتبة معرفة جميع الأحكام، أو القدر المعتدّ به بحسب الوسع - سواء كانت معرفة بالفعل، أو بالقوّة القريبة منها - بحيث يصحّ إطلاق المعرفة على تلك المرتبة. وتلك المعرفة تحصل بعد الفطنة القويمة والعلم


1- .في النسخة: «يستنبط».

ص: 283

فَلْيَرْضَوْا به حَكَما ، .........

بأساليب الكلام بممارسة ملاحظة الأحاديث، ونهج بيانهم للأحكام، وملازمة العلماء ذوي البصائر والاستمداد منهم. وقد سعى السلف في جمع (1) ما يستمدّ به في معرفة أساليب الكلام ومعانيها وترجيح الأخبار وجمعها شكر اللّه مساعيهم، ولكن لا يغني ذلك الخلف من تلك الممارسة والملازمة؛ لأنّ المجتهد يجب أن لا يعتمد إلّا على تحدّسه بالمراد، وظنّه الحاصل من النظر في الأدلّة، وإذا حصل له تلك المعرفة اطّلع من جانب اللّه تعالى بإلهام وإعلام على جواز عمله بما يفهمه من الروايات، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء. وقوله عليه السلام : (فَلْيَرْضَوْا به حَكَما) إلخ، ضمير الجمع راجع إلى المتحاكمين وأمثالهما من الشيعة. والحَكَم: القاضي. وهذا دليل على نفوذ قضاء الفقيه العدل الإمامي الجامع لسائر شرائط الفتوى عدا نصب الإمام عليه السلام إيّاه بخصوصه وإن لم يتراض الخصمان بحكمه في زمان الغيبة، وفي زمان الحضور أيضا مع عدم تمكّنه عليه السلام من نصب القضاة المعيّنة في البلاد. ويدلّ على ذلك أيضا قول أبي عبد اللّه عليه السلام لأبي خديجة: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» (2) . وفي طريق الخبرين ضعف؛ لأنّ في الطريق الأوّل داوود بن الحصين وهو ضعيف، ومحمّد بن عيسى وفيه قول، والأصحّ ضعفه، وعمر بن حنظلة ممّن لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل وقد وثّقه الشهيد الثاني (3) ؛ لقول الصادق عليه السلام فيه في حديث الوقت: «إذا لا


1- .في النسخة: «جميع».
2- .الكافي، ج 7، ص 412، ح 4؛ الفقيه، ج 3، ص 2 - 3، ح 3216؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 219، ح 516؛ دعائم الإسلام، ج 2، ص 530 - 531؛ وسائل الشيعة، ج 27، ص 13 - 14، باب 1، ح 5.
3- .الرعاية (رسائل في علم الدراية)، ج 1، ص 192، وفي ط بقال، ص 132؛ منتقى الجمان، ج 1، ص 19.

ص: 284

فإنّي قد جعلتُه عليكم حاكما ، .........

يكذب علينا» (1) لكنّ الحديث المذكور ضعيف الطريق (2) . وفي الطريق الثاني المعلّى بن محمّد وهو ضعيف، والحسين بن محمّد وهو مشترك بين الثقة والضعيف، لكنّهما مشتهران بين الأصحاب اتّفقوا على العمل بمضمونهما. والرواية الاُولى تسمّى مقبولة عمر بن حنظلة، ومعناه أنّ أصحابنا تلقّتها بالقبول، وعليها المدار في العمل، فكان ذلك جابرا لضعفها عندهم. ورواية أبي بصير المتقدّمة أيضا لا تخلو (3) عن دلالة على المطلوب. فقوله عليه السلام : (فإنّي قد جعلتُه عليكم حاكما) وكذا قوله: (فإنّي قد جعلتُه قاضيا) أي قد صيّرته حاكما وقاضيا عليكم كما هو الظاهر من العبارة، فحينئذٍ يكون كلّ مجتهد مستجمع للشرائط منصوبا للحكم والقضاء من جانب الإمام عليه السلام بنصبٍ عامّ. والنصب الخاصّ لمعيّن إنّما يكون في زمان حضور الحجّة مع تمكّنه من النصب، فيكون ذلك الحكم باقيا إلى ظهور القائم عليه السلام ؛ لأنّه إمّا أن يحمل الحديثان على نصبه عليه السلام الفقيه في عصره وفي الأعصار بعده كما هو الظاهر من كلامه، أو على نصبه في عصره، وعلى الأوّل قد يكون الفقيه منصوبا لم ينعزل بعزله، ولا بعزل من يقوم مقامه؛ لعدم دليل على ذلك، والأصل بقاء ما كان حتّى يظهر خلافه، وكذلك على الثاني أيضا؛ لأنّه لا ينقضي أيّام نصبه بانقضاء أيّامه عليه السلام وتجدّد أيّام إمام آخر ما لم ينعزل؛ لاتّحاد طريقتهم واستحسان اللاحق ما حسّنه السابق منهم، وكون المتأخّر خليفة المتقدّم، فما لم يظهر منه خلاف ما جاء من المتقدّم حُكم ببقائه. ويحتمل أن يكون معنى العبارتين: إنّي قد حكمت بحكومته وقضائه، وسمّيته بالحاكم والقاضي، يقال: جعل فلان زيدا أعلمَ الناس، إذا وصفه بذلك وحكم به. ومنه قوله تعالى:


1- .الكافي، ج 3، ص 275، ح 1 وص 279، ح 6؛ الاستبصار، ج 1، ص 260، ح 932 وص 267، ح 965؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 20، ح 56 وص 31، ح 95؛ وسائل الشيعة، ج 4، ص 133، باب 5، ح 6 وص 156، باب 10، ح 1 وج 27، ص 85، ح 8.
2- .لمكان يزيد بن خليفة.
3- .في النسخة: «المتقدّم... لا يخلو».

ص: 285

فإذا حَكَمَ بحُكمِنا فلم يَقْبَلْهُ منه فإنّما استخَفَّ بحكم اللّه وعلينا رَدَّ ، .........

«وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إناثا» (1) أي وصفوهم بذلك وحكموا بكونهم إناثا. والأوّل أولى؛ لأنّ على الثاني يكون المجتهد متّصفا بالحكومة، ويكون قوله عليه السلام مبيّنا لاتّصافه لا بنصب الإمام عليه السلام إيّاه. والظاهر من الحديث أنّه منصوب بنصب الإمام؛ فتدبّر. ثمّ الظاهر من الحاكم القاضي - وهو الذي يحكم حكما شرعيا في الوقائع الخاصّة، ويُنفذ الحكم كالحَكَم - لا المفتي، وهو الذي يفتي الحكم الشرعي عموما. يشعر بذلك قولُ الجوهري: «الحُكْمُ: مصدر قولك: حَكَمَ بينهم يَحْكُمُ، أي قضى» (2) . وقول صاحب القاموس: «الحاكمُ: مُنَفِّذُ الحكم كالحَكَم محرّكة» (3) انتهى. وقيل (4) : الحاكم يستعمل في الأعمّ من المُفتي والقاضي بخلاف الحَكَم؛ فإنّ أكثر استعماله في القاضي، فقوله: «قد جعلته عليكم حاكما» إشارة إلى أنّ هذا مفتٍ أيضا. انتهى. وقوله عليه السلام : (فإذا حَكَمَ بحُكمِنا) أي إذا قضى بالحكم الشرعي الذي وصل منّا إليه (فلم يَقْبَلْه منه) أي لم يقبل المحكوم عليه الحكم منه (فإنّما استخَفَّ بحكم اللّه ) حيث لم يطع حكم الفقيه الجامع لشرائط الحكم، وقد أوجب اللّه تعالى إطاعته بالوحي على الرسول الذي يكشف عنه أحاديث الحجج عليهم السلام ، أو بإيجاب طاعتهم عليهم السلام حيث قال في محكم كتابه: «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» (5) وهم ينصبون نصبا عامّا، ويحكمون بوجوب إطاعته، فإطاعته إطاعتهم، وإطاعتهم حكم اللّه تعالى، فإطاعته حكم اللّه تعالى، ومخالفته استخفاف بحكمه تعالى. وقوله عليه السلام : (وعلينا رَدَّ) لأنّه ردّ قضاء من نصبوه، أو وصفوه بالحكومة، وحكموا بحكومته وقضائه.


1- .الزخرف (43): 19.
2- .الصحاح، ج 4، ص 1901 (حكم).
3- .القاموس المحيط، ج 4، ص 136 (حكم).
4- .القائل الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 270 (مخطوط).
5- .النساء (4): 59.

ص: 286

والرادُّ علينا الرادُّ على اللّه ، وهو على حدّ الشركِ باللّه » . قلت : فإن كانَ كلُّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرَضِيا أن يكونا الناظِرَيْنِ في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختَلَفا في حديثكم؟

وقوله عليه السلام : (والرادُّ علينا الرادُّ على اللّه ) لأنّهم لم يقولوا إلّا بما جاء من عند اللّه تعالى (وهو) أي المستخفّ بحكم اللّه الرادّ على اللّه «على حدّ الشرك باللّه » أي على مرتبة من الضلالة، لا مرتبة فيها أشدّ منها وفوقها في الآخرة إلّا مرتبة الشرك باللّه تعالى؛ لأنّه باستخفافه بحكم اللّه وبردّه على اللّه الناشئ من ردّه على الأئمّة عليهم السلام يخرج عن الإيمان، وبخروجه عن الإيمان يكفر ويخلد في النار كما يخلد المشرك فيها إلّا أنّ عذاب المشرك أشدّ من عذاب جميع من عداه، فلم يبق له إلّا إطلاق اسم المسلم عليه في الدنيا، وإجراء أحكام المسلمين عليه فيها من حَقْن الدم والمال ونحوهما على رأي جمع من أصحابنا، وإلّا فهو في الواقع كافر ومخلّد في النار؛ لإنكاره أصلاً من اُصول الدين. ويحتمل أن يكون المرادُ بحدّ الشرك باللّه حدَّ الشرك وما في حكمه من أنواع الكفر الذي لا يجري على صاحبه أحكام المسلمين في الدنيا. وذكر خصوص الشرك لاتّباع القرآن كما قال اللّه تعالى: «إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» (1) الآية، والمقصود أنّه لا تكون مرتبة فوق هذه الضلالة في الدنيا والآخرة إلّا مرتبة الكفر المذكور لإجراء أحكام المسلمين على صاحبها في الدنيا بخلاف صاحب الكفر المذكور. وهذان التفسيران على ما هو المشهور بين الفقهاء، وأمّا على رأي السيّد رحمه الله (2) من الحكم بإجراء أحكام الكفّار على أهل الخلاف في الدنيا فتفسيره أنّه لا تكون مرتبة فوق هذه الضلالة في الدنيا والآخرة إلّا مرتبة الشرك باللّه ؛ لأنّ المشرك أشدّ عذابا من جميع من عداه. وقوله: (فإنّ كلّ واحد) وفي بعض النسخ: «كلّ رجل». وقوله: (واختلفا فيما حكما، وكلاهما) وقع الاختلاف (بينهما في حديثكم؟) يعني اختلافهما في الحكم استند إلى اختلافهما في الحديث.


1- .النساء (4): 48 و116.
2- .تقدّم تخريجه في ص 200.

ص: 287

قال : الحكمُ ما حَكَمَ به أعدلُهما وأفقهُهما وأصدقُهما في الحديث وأورعُهما ،

وقوله عليه السلام : (الحكم ما حَكَمَ به أعدلهما وأفقهُهما وأصدقُهما في الحديث وأورعُهما) ظاهر العبارة الحكم [ب-]ترجيح من اتّصف بالصفات الأربع جميعا، وحينئذٍ يكون الحكمُ بالرجحان على تقدير اتّصافه ببعضها دون بعض - كأن يكون أعدل من الآخر مثلاً ومساويا له في الثلاثة الباقية - مسكوتا عنه، ولا يبعد أن يكون الواو بمعنى «أو» وحينئذٍ يكون المراد الحكم بترجيح من اتّصف بواحد منها، وعلى هذا يكون الحكم بترتيب الرجحان فيما إذا كان أحدهما متّصفا ببعض منها، والآخر متّصفا ببعض آخر مسكوتا عنه. اللّهمّ إلّا أن يستدلّ على ذلك بالترتيب الذكري؛ ولا يخفى ضعفه. والعدالة: ملكة نفسانيّة تنبعث عن ملازمة التقوى والمروّة. والتقوى هو الاجتنابُ عن الكبائر، وعدمُ الإصرار على الصغائر. والمروّة: عدم ارتكاب ما يدلّ على خسّة النفس ودناءة الهمّة، سواء كانت (1) صغيرة كسرقة لقمة وتطفيف في الوزن ببخسه (2) ، أو مكروها، أو مباحا كالاجتماع مع الأراذل والحِرف الدنيّة كالحياكة والدباغة والحجامة، وكالأكل في السوق ممّن لا يليق به ذلك من غير ضرورة تحمله على ذلك؛ لأنّ مرتكبها لا يجتنب الكذب غالبا. وقد مرّ معنى الفقه والاجتهاد. والأصدق في الحديث من يكون أرعى للفظ المعصوم، وأقلَّ عدولاً عنه إلى لفظ آخر وإن كان موافقا له في المعنى، أو من يكون حديثه أصحّ من حديث الآخر بأن ينقله من أعدل، أو بأن تكون أكثر رواياته من العدول والثقات، أو من لا يعتمد في الحكم إلّا على الأحاديث الصحيحة دون الموثّق والحسن فضلاً عن الضعيف. والأخير أنسب بالمقام. والأورع هو الأتقى والأبعد عن المعاصي باجتناب الشبهات والمكروهات.


1- .في النسخة: «دناء... كان».
2- .البَخْسُ: الناقص. يقال: «شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» . وقد بَخَسَهُ حقَّه يَبْخَسُهُ بَخْسا، إذا نَقَصَهُ . اُنظر: الصحاح، ج 2، ص 907 (بخس).

ص: 288

ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» . قال : قلت : فإنّهما عَدْلانِ مَرضيّانِ عند أصحابنا ، لا يُفضَّلُ واحدٌ منهما على الآخَرِ؟ قال : فقال : «يُنْظَرُ إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخَذُ به من حكمنا ، ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمَعَ عليه لا ريبَ فيه ؛ وإنّما الأُمور ثلاثةٌ : أمرٌ بَيِّنٌ رشدُه فيُتَّبَعُ ، وأمرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ

وقوله: (لا يفضّل) على صيغة المجهول من باب التفعيل، أو المعلوم من المجرّد (واحدٌ منهما على صاحبه) وفي بعض النسخ: «على الآخر» أي لا يفضّل في شيء من الصفات الأربع فبحكم أيّهما يؤخذ؟ فأجاب عليه السلام وبيّن له وجها (1) آخر للترجيح بقوله: (يُنْظَرُ إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك) يعني ينظر إلى حديث كان ذلك الحديث المجمع عليه، أي المشهور من أصحابك من جملة رواية الأصحاب عنّا في ذلك الأمر المتنازع فيه الذي حكم الحاكمان فيه (فيُؤخَذُ) بالمشهور (من حكمنا) بين الشيعة (ويُترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك) أي الشيعة الإماميّة. ف- «كان» ناقصة، واسمه ضمير مستتر فيه راجع إلى «ما» وخبره «المجمع عليه» والباء في قوله: «حكما به» بمعنى «في» والمراد بالمجمع عليه هاهنا المشهور روايته بين الأصحاب والأكثر رواةً، لا ما يكون العمل به أشهر والعامل به أكثر؛ لقوله عليه السلام : «ما كان من روايتهم عنّا» ولقول السائل فيما بعد «فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكما» ولا ما أجمع عليه بالإجماع المصطلح بقرينة قوله عليه السلام : «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك». وقوله عليه السلام : (فإنّ المجمع عليه) أي المشهور (لا ريب فيه) أي لا ريب في جواز العمل به؛ لأنّه أبعد عن الغلط، ويفيد غلبة الظنّ بصحّة الرواية وهي مناط الترجيح، فيجب استناد الحكم بالرواية الصحيحة، وكلّما كانت أصحّ كانت أرجح. وقوله عليه السلام : (إنّما الاُمور) أي العقائد والأحكام الشرعيّة (ثلاثة) أقسام (أمرٌ بَيِّنٌ رشدُه)


1- .في النسخة: «وجه».

ص: 289

فيُجْتَنَبُ ، وأمرٌ مشكلٌ يُرَدُّ علمُه إلى اللّه وإلى رسوله ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : حلالٌ بَيِّنٌ وحرامٌ بَيِّنٌ وشبهاتٌ بين ذلك ، فمن تَرَكَ الشبهاتِ نجا من المحرّمات ، ومن أخَذَ بالشبهاتِ ارتَكَبَ المحرّماتِ ، وهَلَكَ من حيثُ لا يَعلَمُ» . قلت : فإن كانَ الخَبَرانِ عنكما مشهورَيْنِ قد رواهما الثقاتُ عنكم؟ .........

أي رشد من اتّبعه، وهو الظاهر حقّيّته؛ لغلبة الظنّ، أو العلم بصحّة الرواية المتضمّنة له، أو بدلالة الكتاب، أو غير ذلك من الأدلّة المعتبرة في الشرع عليه (فيُتَّبَعُ، وأمر بيّنٌ غَيُّه) أي غيّ من اتّبعه، وهو الظاهر بطلانه؛ لغلبة الظنّ، أو العلم بصحّة الرواية المتضمّنة لبطلانه، أو بدلالة الكتاب، أو غير ذلك من الأدلّة الشرعيّة الثابتة حجّيّتها من الحجج عليهم السلام على بطلانه (فيجتنب، وأمرٌ مشكل) وهو ما لا يغلب الظنّ بحقّيّته، أو بطلانه فضلاً عن العلم من أدلّته؛ لعدم وضوح دلالة الكتاب عليه، وعدمِ وجدان الحديث الصحيح الدالّ عليه، وعدمِ دلالة سائر الأدلّة عليه، فهذا لا يحكم فيه ولا يفتى به بالرأي والقياس والاستحسانات العقليّة وأمثالها كما فعله العامّة، بل يجب أن يتوقّف فيه و(يُردُّ علمُه إلى اللّه ) تعالى وإلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بأن يقال: اللّه ورسوله يعلم. وقوله عليه السلام : (قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : حلال بيّن) إلخ، استشهاد لما ذكره. وقوله صلى الله عليه و آله : (فمن تَرَكَ الشبهاتِ) إلخ، أعمّ مأخذا ممّا ذكره عليه السلام بقوله: «يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله »؛ لاختصاص الأوّل بالحكم والفتيا، واشتمال ذلك لهما وللعمل أيضا «فمن ترك الشبهات» أي فتيا وحكما وعملاً (نجا من المحرّمات) فإنّ الفتيا بالمشتبه حرام، وكذا الحكم به، وكذا العمل به، على أنّه مطلوب الشارع. وفي هذا القول دلالة على فضل ترك ما فيه شبهة الحرمة «ومن أخذ بالشبهات» أي فتيا أو حكما أو عملاً (ارتكب المحرّمات، وهلك) أي ضلّ (من حيث لا يعلم) لأنّه حينئذٍ متعبّد لهواه والشيطان، وهو على حدّ الشرك باللّه . وقوله: (فإن كان الخبرانِ عنكما) كذا في النسخ المعتبرة، والمراد الصادق وأبوه (1) عليهماالسلام.


1- .في النسخة: «أبيه».

ص: 290

قال : «يُنظرُ ، فما وافَقَ حكمُه حكْمَ الكتاب والسنّة وخالَفَ العامّةَ ، فيُؤخَذُ به ، ويُترَكُ ما خالَفَ حكمُهُ حكمَ الكتاب والسنّة ووافَقَ العامّة» . قلت : جُعلت فداك ، أرأيتَ إن كان الفقيهان عَرَفا حُكمَه من الكتاب والسنّة ، ووَجَدْنا أحدَ الخبَريْنِ موافقا للعامّة والآخَرَ مخالفا لهم ، بأيّ الخَبَرَيْنِ يُؤخَذُ؟ .........

وتخصيصهما بالذكر لاشتهار الروايات عنهما، وشيوع الأخذ عن أهل البيت في زمانهما دون السابقين؛ لشدّة التقيّة في زمانهم، وتعلّق الأغراض بتركهم والأخذ عن غيرهم. وفي بعض النسخ: «عنهما» والضمير للحاكمين. وقوله عليه السلام : (يُنْظَرُ فما وَافَقَ) إلخ، وجه آخر للترجيح، وهو أنّه إذا كان الخبران المتعارضان مشهورين غلب الظنّ بصحّتهما، ويكون أحدهما موافقا للكتاب والسنّة الثابتة المقطوع بها باحتمال الدخول في المراد منهما، والكون من محاملهما عندنا، لا بأن يكون ممّا يدلّ عليه صريحهما، وإلّا فلا عبرة بالترجيحات السابقة واللاحقة؛ لدلالة الدليل القطعي على ذلك، وتعيّن العمل به، وعدم الاعتبار بما يخالفه بوجه من الوجوه. أو موافقا للسنّة المظنون ثبوتها - والسنّة هي قول النبيّ ، أو فعله، أو تقريره، والمراد بها هاهنا الحديث النبوي - ويكون الآخر موافقا للعامّة، أي لمذاهب المخالفين وآرائهم للتقيّة، فيؤخذ الموافق لهما المخالف للعامّة، ويترك المخالف لهما الموافق لهم. وفي قوله: (وخالف العامّة) إشارة إلى أنّ أحكامهم مخالفة للكتاب والسنّة غالبا وإن لم يفهموه، فإنّ كلّ شيء مذكور في الكتاب والسنّة إلّا أنّه لا يبلغه عقول الرجال. وقوله: (أرأيت) أي أخبرني (إن كان الفقيهان عرفا) أي بزعمهما، حكمه من الكتاب والسنّة المقطوع بها، بأن أخذ كلّ واحد منهما حكمه منهما بنوع من التوجيه والحمل. وقيل: يحتمل أن يكون «عُزِفا» بالزاي المعجمة على صيغة المجهول مِن عزفت الشيء، أي منعته وصرفته، أي مُنعا حكمَه. والمقصود أنّهما لم يعرفا حكمه من الكتاب والسنّة المقطوع بها. انتهى. ولا يخفى بُعده.

ص: 291

قال : «ما خالَفَ العامَّةَ ففيه الرَّشادُ» . فقلت : جُعلت فداك ، فإن وافَقَهما الخبرانِ جميعا؟ قال : «يُنظَرُ إلى ما هم إليه أميَلُ حكّامُهُم وقضاتُهم ، فَيُتْرَكُ ويُؤخَذُ بالآخَرِ» . قلت : فإن وافَقَ حُكّامُهم الخبرين جميعا؟ قال : «إذا كان ذلك فَأرْجِهْ حتّى تَلْقى إمامَكَ ، فإنّ الوقوفَ عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكاتِ» .

وقوله عليه السلام : (ما خالف العامّة ففيه الرشاد) وجه آخر للترجيح، وذلك لأنّ أخذ المخالف للعامّة وترك الموافق لهم طريق الجمع بين الخبرين بحمل الموافق لهم على التقيّة. وقوله: (فإن وافقهما) أي وافق العامّة الخبران جميعا بأن تكون المسألة بين العامّة مختلفا فيها، ووافق كلّ خبر منهما بعضا من العامّة، فبأيّ الخبرين يُؤخذ؟ وقوله عليه السلام : (يُنظر إلى ما هم إليه أميلُ حكّامهم وقضاتهم، فيُترك ويُؤخَذُ بالآخر) أي ينظر إلى ما إليه حكّامهم وقضاتهم أميل. ف- «حكّامهم وقضاتهم» بدل البعض من الضمير المنفصل في قوله: «ما هم» و«قضاتهم» تفسير ل- «حكّامهم». ويحتمل أن يكون المراد بالحاكم هاهنا المعنى الأعمّ، فحينئذٍ يكون من ذكر الخاصّ بعد العامّ. وذلك الترجيح لأنّ ما أميل إليه حكّامهم وقضاتهم أولى بالتقيّة، فذلك أيضا طريق الجمع بين الخبرين. وقوله: (فإن وافق حُكّامُهم الخبرين جميعا) أي كان ميل حكّامهم إلى ما في الخبرين من الحكم سواء، فبأيّ الخبرين يؤخذ؟ وقوله عليه السلام : (فأرجه) أي أخّر الحكم والفتيا في هذه المسألة، ولا تحكم ولا تُفْتِ بأحدهما (حتّى تلقى إمامَك) وحينئذٍ طريق قطع النزاع ينحصر في الصلح. وقوله عليه السلام : (فإنّ الوقوف عند الشبهات) أي تركها عملاً وفتيا وحكما وترك ترجيح أحد الطرفين مع الاشتباه بغير مرجّح شرعي بل بالرأي والقياس والاستحسانات العقليّة ونحوها (خير من الاقتحام) أي الدخول (في الهَلَكات) بأخذها عملاً وفتيا وحكما، وترجيح

ص: 292

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتابعليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :

أحدهما بغير مرجّح ثبت حجّيّته من الحجج عليهم السلام . والهلكات جمع هَلَكَة محرّكة وهي الهلاك. والمراد الدخول في الضلالة الموجبة للعقاب والنكال.

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب (1)قوله: (باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب) أي باب وجوب أن يكون الأخذ في الاُمور الشرعيّة بالسنّة وشواهد الكتاب، أي دلائله. والباء للسببيّة أو الاستعانة. والمراد الاستناد إليهما، أو إلى أحدهما فيها، سواء كان بلا واسطة كالإتيان بصلاة الظهر ووجوب إطاعة الإمام عليه السلام مثلاً، فإنّ السنّة والكتاب يدلّان عليهما صريحا بحيث نفهم ونعلم ذانك منهما قطعا، أو بواسطة كالحكم الذي لا يبلغه عقولنا في الكتاب، ولا يصل إلينا من السنّة على الوجه المعتبر، ويكون مستندا إلى الإمام عليه السلام قطعا، سواء كان القطع به بالسماع عنه شفاها مع صراحة دلالة العبارة على المعنى، فإنّه قطعي بالنسبة إلى السامع، أو بالتواتر عنه لفظا مع الشرط المذكور أو معنىً، أو بالإجماع الكاشف عن قوله عليه السلام جزما، فإنّ حجّية الإجماع عندنا لدخول المعصوم فيه، وقد ثبت في الكتاب والسنّة وجوب إطاعته عليه السلام ، فالحكم المذكور على أيّ تقدير مستند إليهما بواسطة قول الإمام عليه السلام عندنا. وأمّا عند العامّة الحكم الثابت بالإجماع مستند إليهما بوساطة نفس الإجماع، فإنّه في نفسه عندهم حجّة بدلالة الكتاب والسنّة على حجّيته في نفسه على زعمهم. وأمّا وجوب العمل بخبر الواحد الجامع للشرائط المذكورة في محلّه لو ثبت بالكتاب


1- .العنوان من هامش النسخة.

ص: 293

فالفرع الثابت بذلك الخبر أيضا من هذا القبيل من أنّه مستند إلى الكتاب بواسطة واحدة، ولو ثبت بالإجماع فالفرع المذكور مستند إليهما بواسطتين؛ لأنّه مستند إلى خبر الواحد المستند إلى الإجماع المستند إليهما، ولا ينافي ذلك كذب الراوي في الواقع؛ لأنّ الحكم أعمّ من الواقعي والواصلي، ولا نتعبّد في أكثر الفروع إلّا بالحكم الواصلي، سواء كان واقعيا أيضا، أم لا. وتفصيل المقام أنّ جواز التعبّد بخبر الواحد ثابت بالإجماع عندنا. وأمّا وقوعُ التعبّد به - يعني إيجاب الشارع العمل بمقتضاه - مختلفٌ فيه بيننا وبين العامّة، فمنعه المرتضى وابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس (1) وفاقا لكثير من قدمائنا، وقال به المتأخّرون وكثير من قدمائنا رضوان اللّه عليهم. واستدلّ المثبتون عليه بوجهين: أحدهما: دلالة ظواهر الكتاب عليه كقوله تعالى في سورة الحجرات: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جائَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا» (2) أي فتعرّفوا وتفصّحوا، وقرأ حمزة والكسائي: «فَثَبَّتُوا» (3) أي فتوقّفوا إلى أن يتبيّن لكم الحال، وقولِه تعالى في سورة التوبة: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (4) وقوله تعالى في سورة البقرة: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِن البَيِّناتِ وَالهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ اُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ» (5) - (6) .


1- .نقله عنهم الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول، ج 1، ص 240، و في هامش ورد مصادره.
2- .الحجرات (49): 6.
3- .التبيان، ج 3، ص 297 ، في ذيل آية 94 من سورة النساء ، وفيه: «وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما «فتثبتوا» بالثاء، من الثبوت في الموضعين هاهنا وفي الحجرات». وكذا قال في مجمع البيان، ج 3، ص 162.
4- .التوبة (9): 122.
5- .البقرة (2): 159.
6- .في هامش النسخة: لا يخفى عليك دلالة هذه الآية على جواز لعن الذين يكتمون أمر خلافة عليّ عليه السلام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقد بيّنها اللّه تعالى للناس في الكتاب والسنّة بلسان النبيّ صلى الله عليه و آله مرارا (منه عفي عنه).

ص: 294

وثانيهما: إجماع أصحاب أئمّتنا عليهم السلام ومن يليهم عليه قبل ظهور المخالف، قالوا في بيان الإجماع: قد شاع وذاع عن أصحاب أئمّتنا عليهم السلام ومن يليهم شدّة الاهتمام بأخبار الآحاد وتدوينها والاعتناء بشأنها نقلاً وتصحيحا، والبحث عن حال رواتها ذمّا ومدحا وتعديلاً وجرحا، ولم يكن ذاك إلّا للعمل، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك، فهذا إجماع سكوتي عليه، ولا ينافي ذلك مخالفة بعض الفقهاء بعده؛ لعدم اطّلاعهم على انعقاد الإجماع عليه. وأدلّة المانعين عن العمل به مدفوعة (1) كما بيّن في موضعه. وعندي أنّ جوازَ العمل بخبر الواحدالثقة الإمامي العدل متواترٌ عن أئمّتنا عليهم السلام ؛ لأنّ القدرَ المشترك بين أخبارهم الدالّة على ذلك متواترٌ وإن كان كلّ واحد منها خبر الواحد كما يظهر من التتبّع والتدبّر فيها. وإذا ثبت جواز العمل به شرعا ثبت وجوبه؛ لأنّ القول بجواز العمل به وعدم وجوبه خرق الإجماع المركّب. وعدمُ نقل ذلك الدليل عن أصحابنا رحمهم اللّه لا يضرّنا، فإنّه كم ترك الأوّل للآخر. أو بوسائط كعمل المقلّد في الفرع المذكور بقول المجتهد الجامع للشرائط، فإنّ عمله فيه مستند إلى حكم المجتهد وفتواه، وحكمه وفتواه مستند إلى خبر الواحد، وهو مستند إلى قول الإمام عليه السلام المستند إلى الكتاب والسنّة. هذا من حيثيّة ثبوت العمل بخبر الواحد بقول الإمام عليه السلام . وأمّا من حيثيّة ثبوته بظواهر القرآن فعمل المقلّد في الفرع المذكور مستند إليه بواسطتين. وأمّا الفرع المستند إلى القياس المنصوص العلّة، أو طريق الأولويّة فإن كانت العلّة منصوصا بنصّ الكتاب أو السنّة، أو كان ما يستدلّ به على المطلوب على طريق الأولويّة كتابا أو سنّة، فهو مستند إلى أحدهما بلا واسطة، وإن كانت العلّة منصوصا بقولٍ قطعي عن


1- .في النسخة: «مدفوع».

ص: 295

الأئمّة عليهم السلام ، أو كان ما يستدلّ به على المطلوب على سبيل الأولويّة قولاً كذلك، فهو مستند إليهما بواسطة واحدة، وإن كان المستند في القياسين خبرا واحدا جامعا للشرائط، فهو مستند إلى الكتاب بواسطة واحدة من حيث ثبوت الخبر المذكور بالكتاب، وإليهما معا بواسطتين من حيث ثبوته بقول الأئمّة عليهم السلام . ومن هذا ظهر أنّ هذين القياسين (1) يرجعان إلى القرآن، أو الحديث على سبيل منع الخلوّ، وليسا دليلين شرعيين (2) برأسهما؛ فتدبّر. والسنّة في اللغة: الطريقة والسيرة، والسنّة من اللّه حكمه وأمره ونهيه، وفي الاصطلاح عبارة عن قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمأو فعله أو تقريره، غير قرآن ولا عادي كطلب الماء والغذاء والقيام والقعود والتقرير عليها وأمثالها، وهي عندنا مطابقة (3) للكتاب وكاشفة (4) عمّا يتضمّنه الكتاب - ظاهره وباطنه - لأنّه «لا رطبٍ ولا يابسٍ إلّا في كتابٍ مبينٍ» (5) والنبيّ صلى الله عليه و آله «ما يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إن هُوَ (6) إلّا وحيٌ يُوحَى» (7) فلا شيء من السنّة إلّا وهو موجود في الكتاب، لكن لمّا لم تبلغ عقولنا أكثر ما في الكتاب بيّنه عليه السلام بالسنّة، وقال في النهاية الأثيريّة: «السنّة إذا اُطلقت في الشرع فإنّما يراد بها ما أمر به النبيّ صلى الله عليه و آله ، ونهى عنه وندب إليه (8) - قولاً وفعلاً - ممّا لم ينطق به الكتاب العزيز؛ ولهذا يقال في أدلّة الشرع: الكتاب والسنّة، أي القرآن والحديث» (9) انتهى. والحديث لغةً يرادف الخبر كما ذكر في الصحاح والقاموس (10) . وفي الاصطلاح الحديث النبوي هو قوله صلى الله عليه و آله وسلم، أو ما يحكي السنّة من حيث هو حكاية عنها، والحديث المطلق عندنا هو قول المعصوم، أو كلام يحكي قوله أو فعله أو تقريره، غير قرآن ولا عادي من حيث هو


1- .في النسخة: «هذان القياسان».
2- .في النسخة: «دليلان شرعيّان».
3- .في النسخة: «مطابق».
4- .في النسخة: «كاشف».
5- .الأنعام (6): 59.
6- .كتب تحتها: أي الذي ينطق به (منه عفي عنه).
7- .النجم (53): 3 - 4.
8- .في هامش النسخة: نَدَبَهُ إلى الأمرِ - كنصره - : دعاه وحَثَّهُ. والمندوب: المستحبّ (ق). [القاموس المحيط، ج 1، ص 294 (ندب)].
9- .النهاية في غريب الحديث، ج 2، ص 409 (سنن).
10- .الصحاح، ج 1، ص 278؛ القاموس المحيط، ج 1، ص 354 (حدث).

ص: 296

حكاية عنها، وعند المخالفين هو قول النبيّ صلى الله عليه و آله أو الصحابي أو التابعي وما يحكي قولهم أو فعلهم أو تقريرهم، غير قرآن ولا عادي من حيث هو حكاية عنها. فلا ينتقض طرده - بناء على جواز نقل الحديث بالمعنى - ببعض عبارات الفقهاء وهي التي تفيد معنى الحديث مع أنّها لا تسمّى بالحديث؛ لأنّ تلك العبارات إن اعتبرت من حيث كونها حكاية قول المعصوم فهي داخلة في الحديث وتسمّى به، وإن اعتبرت من حيث كونها مؤدّى اجتهادهم فهي خارجة عنه، ولا تسمّى به. ومرادنا بقول النبيّ وقول المعصوم في التعريفات المذكورة هو نوع الكلام الذي تكلّموا به، سواء كان تحقّقه في ضمن الأفراد القائمة بلسانهم عليهم السلام ، أو في ضمن الأفراد القائمة بلسان من نقل عنهم بعبارتهم، فإنّ ذلك نفس كلامهم لا مثله وحكايته - كما قيل - بناء على حمل قولهم على الأشخاص القائمة بلسانهم؛ لصدق قول النبيّ على كلامه صلى الله عليه و آله إذا نقله عنه غيره بأن يقال: هذا قول النبيّ، وتخطئة من أنكر ذلك في العرف، وكذا الحال في قول المعصوم، كما أنّ كلّ شعر وكتاب وكلام ينسب إلى صاحبه إذا قرأه أو نقله أيّ قارٍ وناقل كان بأن يقال: هذا شعر المتنبّي، وهذا كتاب أبي تمام، وهذا كلام سَحبان مثلاً، ولو قيل: هذا مثل شعره، أو كتابه، أو كلامه، وحكاية شعره لا نفسه ليخطّأ قائلُه في العرف، وكذا الحال في إطلاق القرآن، أو كلام اللّه على المؤلّف المخصوص إذا قرأه أيّ قارٍ كان على التحقيق، وما اُورد على ذلك مندفع في محلّه. ومرادنا بما يحكي قول النبيّ، أو قول المعصوم ترجمة قولهم بعبارة اُخرى لا نقل عباراتهم عليهم السلام ، وهذا التعريف بناء على ما هو الحقّ عندنا من جواز نقل الحديث بالمعنى إذا تحقّق شرائطه في الناقل، وإلّا فلا حاجة في ذكر حكاية القول في تعريف الحديث. والنسبة بين السنّة والحديث عموم من وجه؛ لتصادقهما في قول النبيّ صلى الله عليه و آله ، وافتراق السنّة من الحديث في فعله صلى الله عليه و آله وتقريره، وافتراق الحديث عن السنّة في حكاية قول النبيّ والإمام، وحكاية فعلهما وتقريرهما عليهماالسلام، وفي قول الإمام إذا لم يكن نقل عبارة النبيّ صلى الله عليه و آله ، هذا.

ص: 297

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنَّ على كلّ حقٍّ حقيقةً ، وعلى كلّ صوابٍ نورا ، فما وافَقَ كتابَ اللّه فخُذوه ، وما خالَفَ كتابَ اللّه فدَعوه» .

محمّد بن يحيى ، عن عبداللّه بن محمّد ، عن عليّ بن الحَكَم ، عن أبان بن عثمانَ ، عن عبداللّه بن أبي يعفور ، قال : وحدّثني حسينُ بنُ أبي العلاء أنّه حضَر ابن أبي يعفورٍ

لكن كلّ ما هو حديث في الواقع إمّا نفس السنّة، أو كاشف عنها؛ لأنّه [لا] شيء من الاُمور الدينيّة إلّا وفيه سنّة، كما أنّه لا شيء منه إلّا وفيه كتاب؛ ولذلك قد تطلق السنّة على الحديث مطلقا كما يقال: هذا الحكم ثابت عندي بالسنّة إذا ثبت بمادّة افتراق الحديث عنها ذلك ما نقلناه آنفا من النهاية. قوله صلى الله عليه و آله وسلم: (على كلّ حقّ حقيقة) إلخ الحقّ: كلّ أمر ثابت في نفس الأمر، سواء كان من الاُمور الشرعيّة أو غيرها، والمقصود هاهنا الاُمور الشرعيّة. والصواب: كلّ اعتقاد مطابق للواقع، والمراد هاهنا العقائد الدينيّة. والمراد بالحقيقة هاهنا ما يكون مصير ثبوت الأمر ومرجع بيانه إليه، أي ينتهي ثبوته وبيانه إليه، وبالنور مبدأ ظهور صحّة العقائد ومبيّنها وكاشفها. وبالجملة المراد بهما الدليل الشرعي. فذكر «على» في الموضعين لتضمين الحقيقة والنور معنى الدليل؛ يعني على كلّ حقّ من الاُمور الشرعيّة، وعلى كلّ اعتقاد من العقائد الدينيّة دليل بيّن من الكتاب والسنّة يبلغه عقول الرعيّة سواء كانت الدلالة بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط كما مرّ آنفا (فما وافق كتابَ اللّه ) أي ينتهي في البيان والاستدلال إليه، أو إلى ما يوافقه من السنّة (فخذوه، وما خالف كتاب اللّه ) أي ينتهي بيانه إلى ما خالف كتاب اللّه ، ولا ينتهي إليه ولا إلى ما يوافقه (فدعوه). وفي الاكتفاء بذكر كتاب اللّه من غير انضمام ذكر سنّة الرسول إليه إشارة إلى أنّ كلّ ما هو موجود في السنّة موجود في الكتاب، وموافقة السنّة موافقة له كما مرّ بيانه. قوله: (قال: وحدّثني حسين بن أبي العلاء أنّه حضر) إلخ

ص: 298

في هذا المجلس ، قال : سألتُ أبا عبداللّه عليه السلام عن اختلافِ الحديثِ يَرْويه من نَثِقُ به

يعني قال أبان: وحدّثني حسين بن أبي العلاء أنّه - أي الحسين - حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس الذي سأل ابن أبي يعفور أبا عبد اللّه عليه السلام . وقيل (1) : يحتمل أن يكون معناه: قال عليّ بن الحكم: وحدّثني حسين بن أبي العلاء أنّه - أي الحسين - حضر ابن أبي يعفور في المجلس الذي سمع منه أبان. انتهى. ولا يخفى بُعده. وقوله: (قال: سألت) أي قال ابن أبي يعفور: سألت (أبا عبد اللّه عليه السلام عن اختلاف الحديث) إلخ. أقول: يمكن تفسير هذا الكلام بوجوه: أحدها: أن يكون معناه أنّه إذا وقع الاختلاف والتعارض في مضمون حديث بسبب اختلاف نقل الراوي بأن ينقله أحد الراويين بنحوٍ، ورواه الآخر بنحو آخر، ونسب كلّ واحد منهما إلى الآخر السهو فيه، ويكون الراويان عدلين إماميّين لا ترجيح لأحدهما على الآخر بوجه، ويكون من جملة رواة ذلك الحديث الذي وقع الاختلاف فيه غير الثقة أيضا بأن يكون روايته مطابقا لقول أحد الراويين المرضييّن، ومخالفا لقول الآخر، أيجوز ترجيح ما يوافقه قول من لا نثق به لتأييده وتقويته إيّاه أم لا، بل لترجيح قول أحدهما على الآخر طريقٌ آخر؟ وثانيها: أن يكون معناه إذا وقع الاختلاف والتعارض في متن الحديثين فصاعدا مع تساوي روايتهما في الوثوق بهما والاعتماد عليهما بأن يكونا عدلين إماميّين لا يفضل أحدهما على صاحبه، ويكون من جملة رواة الحديثين غير الثقة أيضا بأن يروي أحد الحديثين ويكون مصدّقا له، أيفيد ذلك لترجيح ذلك الحديث على الآخر أم لا؟ فقوله: (يرويه من نثق به) أي يروي الحديث المختلف من نثق به، سواء كان حديثا واحدا وقع


1- .قائله الميرزا رفيعا النائيني رحمه الله في الحاشية على اُصول الكافي، ص 231، والوجه الذي اختار المؤلّف هو الوجه الثاني من الوجوه التي ذكرها النائيني.

ص: 299

ومنهم من لا نَثِقُ به؟ قال : «إذا وَرَدَ عليكم حديثٌ ، فوَجَدْتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن النضر بن سُوَيد ، عن يحيى الحلبيّ ، عن أيّوبَ بن الحرّ ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : .........

الاختلاف فيه باختلاف الرواة، أو متعدّدا مختلفا؛ لأنّ الحديث اسم جنس يقع على الواحد والمتعدّد. وقوله: (ومنهم من لا نثق به) جملة حاليّة، أي من جملة رواة ذلك الحديث الواحد المختلف فيه، أو الحديث المتعدّد المختلف المضمون من لا نثق به. وعلى هذين الوجهين فحاصل الجواب أنّه لا تأثير لقول من لا وثوق بقوله في الترجيح، بل طريق الترجيح الرجوع إلى الكتاب والسنّة الثابتة لا الغير الثابتة التي رواها العامّة، فما وافق أحدهما فخذوه، وما خالفهما فدعوه. وهذا موافق لما مرّ في مقبولة عمر بن حنظلة. وثالثها: أن لا يكون المراد باختلاف الحديث هاهنا الاختلاف بحسب المضمون والمتن، بل يكون المراد به الاختلاف بحسب الصحّة وعدمها بأن يكون بعض الأحاديث صحيحا، وبعضها غير صحيح وإن لم يكن فيما بينهما تعاند وتعارض، والمقصود السؤال عن كيفيّة أخذ الحديث باعتبار السند، وحينئذٍ فيكون حاصل الجواب أنّه لا عبرة بصحّة السند وضعفه إذا كان بعضها موافقا للكتاب والسنّة الثابتة، وبعضها مخالفا لهما فإنّ ذلك مناط الترجيح حينئذٍ، فالموافق لأحدهما راجح وإن كان ضعيف السند، ومخالفهما مرجوح وإن كان صحيح السند؛ فتأمّل فيه. وتفصيلُ الجواب على الوجوه الثلاثة قولُه عليه السلام : (فإذا ورد عليكم حديثٌ فوجدتم له)أي لصدقه أو لجواز العمل به (شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله ) أي من سنّته الثابتة - وتخصيص القول بالذكر لزيادة الاعتناء بشأنه - (فاقبلوه) وخذوه واعملوا به، سواء كان شهادة الكتاب والسنّة عليه بلا واسطة أو بالواسطة. وجزاء الشرط في الكلام محذوف (وإلّا) أي وإن لم تجدوا له شاهدا منهما بأن يكون مخالفا لهما، فلا تقبلوا ولا تأخذوا من الذي جاءكم به، وردّوه عليه؛ فإنّه أولى بروايته.

ص: 300

«كلُّ شيءٍ مَردودٌ إلى الكتابِ والسنَّةِ ، وكلُّ حديثٍ لا يُوافِقُ كتابَ اللّه فهو زُخْرُفٌ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن ابن فَضّالٍ ، عن عليِّ بن عُقْبَةَ ، عن أيّوب بن راشد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما لم يُوافِقْ من الحديث القرآنَ فهو زُخْرُفٌ» .

محمّد بن إسماعيلَ ، عن الفضل بن شاذانَ ، عن ابن أبي عميرٍ ، عن هِشام بن الحَكَم وغيره ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«خطَب النبيُّ صلى الله عليه و آله بمنى ، فقال : أيّها الناسُ ، ما جاءَكم عنّي يُوافِقُ كتابَ اللّه فأنا قُلْتُه ، وما جاءَكم يُخالِفُ كتابَ اللّه فلم أقُلْهُ» .

وبهذا الإسناد ، عن ابن أبي عميرٍ ، عن بعض أصحابه ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«من خالَفَ كتابَ اللّه وسُنَّةَ محمّدٍ صلى الله عليه و آله فقد كَفَرَ» .

قوله عليه السلام : (كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة) إلخ أي كلّ شيء من الشريعة والاُمور الدينيّة يجب أن ينتهي إلى الكتاب والسنّة، وأن يكون مأخوذا عنهما بالواسطة أو بدونها، (وكلّ حديثٍ لا يُوافِقُ كتابَ اللّه ) أي لا بالواسطة ولا بدونها بل يخالفه (فهو زخرف) أي تمويه وتلبيس، وأصله الذهب ويطلق على المذهَّب. والمراد أنّه كذب مزيّن بإسناده إلى الرسول أو الأئمّة عليهم السلام . قوله عليه السلام : (من خالف كتاب اللّه وسنّة محمّد صلى الله عليه و آله ) أي من خالفهما عالما عامدا بالمخالفة، معتقدا لحقّيّة ما يخالفهما (فقد كفر) باللّه ورسوله، سواء كانت المخالفة في الفتيا أو الحكم أو العمل، وسواء كانت في الاُصول أو الفروع، وسواء كانت في ضروريات الدين أو غيرها؛ لأنّ الاعتقاد باللّه وبرسوله لا يجامع الاعتقاد بخلاف ما أنزل اللّه في الكتاب وما أتى به النبيّ صلى الله عليه و آله عالما بالمخالفة، ولا فرق في ذلك بين المخالفة في القطعيّات والظنّيّات؛ لأنّ مخالفة ما هو المظنون من الشرع عامدا من حيث هو من الشرع كفر؛ لأنّه لا ينشأ ذلك إلّا من الاعتقاد ببطلان الشرع. ويحتمل أن يكون المراد بالمخالفة هاهنا إنكار ما علم قطعا أنّه منهما كإنكار أصل من اُصول الدين، أو إنكار ما علم بالضرورة أنّه من الدين، أو إنكار ما أجمعت عليه المسلمون كإنكار الإمامة أو المعاد وإنكار صلاة الظهر وإنكار حرمة شرب الخمر.

ص: 301

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبَيْدٍ ، عن يونس ، رَفَعَه ، قال : قال عليُّ بن الحسين عليه السلام :«إنَّ أفْضَلَ الأعمالِ عند اللّهِ ما عُمِلَ بالسنّة وإن قَلّ» .

عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القَمّاط وصالح بن سعيد ، عن أبان بن تَغْلِبَ ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه سُئلَ عن مسألة فأجابَ فيها ، قال : فقال الرجال : إنَّ الفقهاءَ لا يقولونَ هذا ، فقال :«يا ويحك ، وهل رأيتَ فقيها قطُّ؟! إنّ الفقيهَ حقَّ الفقيهِ الزاهدُ في الدنيا ، الراغبُ في الآخرة ،

قوله عليه السلام : (إنّ أفضل الأعمال عند اللّه ما عُمل بالسنّة) على صيغة المجهول، والضمير المستتر فيه الراجع إلى «ما» قائم مقام الفاعل. والباء للسببيّة أو الاستعانة، أي شيء فُعل بسبب السنّة، أو باستعانتها. ويحتمل أن يكون «ما» مصدريّة، أي العمل بما جاء في السنّة سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة. وإنّما اكتفى بالسنّة؛ لأنّ العمل به مستلزم للعمل بالكتاب. وقوله عليه السلام : «وإن قلّ» أي وإن قلّ ذلك المعنى فيما بين الناس. قوله عليه السلام : (يا ويحك) ويح كلمة رحمة، وويل كلمة عذاب، تَرفَعُهما على الابتداء، وذلك أن تقول: ويحا لزيد، وويلاً لزيد، فتنصبهما بإضمار فعل كأنّك قلت: ألزمه اللّه ويحا وويلاً ونحو ذلك. ولك أن تقول: ويحك ووَيح زيد، وويلكَ ووَيل زيد بالإضافة، فتنصبهما أيضا بإضمار فعل ويقال: ياويحَ زيد بالنداء وهو مسامحة. وقد يضاف مع النداء إلى المخاطب كقولك: يا ويحك، وهو كالجمع بين المخاطبين كلّ واحد منهما مخاطب في خطاب واحد، ففيه مسامحتان. وقوله عليه السلام : (وهل رأيت فقيها) أي بين العامّة (قَطُّ) ومعنى قطُّ: الدهر، ولا يستعمل إلّا مع النفي، أو معناه، يقال: ما رأيت زيدا قطّ، أي في دهري، وما رأى زيد عمرا قطّ، أي في دهره، وبني على الضمّ؛ لأنّه مقطوع عن الإضافة. وقوله عليه السلام : (حقَّ) منصوب على أنّه بدل للفقيه بدلَ الكلّ. وقوله عليه السلام : (الزاهد في الدنيا) إلخ، لأنّ من استقرّ العلم في قلبه كان عاملاً بمقتضى

ص: 302

المتمسّكُ بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله » .

عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن أبي إسماعيلَ إبراهيمَ بن إسحاق الأزدِيّ ، عن أبي عثمان العَبْديّ ، عن جعفرٍ ، عن آبائه ، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام ، قال :«قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : لا قولَ إلّا بعَمَلٍ ، ولا قولَ ولا عملَ إلّا بنيّةٍ ، ولا قولَ ولا عملَ ولا نيّةَ إلّا بإصابة السنّةِ» .

علمه، والعلم يقتضي الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والتمسّك بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله ، سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة. قوله عليه السلام : (لا قول (1) إلّا بعمل) أي لا يجدي القول والإقرار والاعتقاد في العمليّات - نفعا وثوابا وتأثيرا في الغير، سواء كان القول ما يذكر في الوعظ من التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو ذلك، أو في الفتوى والحكم، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إلّا إذا عمل به. ولا يجدي القول والعمل (إلّا بنيّة) أي بقصد صالح متعلّق بالفعل من أنّ الإتيان به من جهة الإطاعة والانقياد للّه سبحانه كما تواتر منه صلى الله عليه و آله معنى قوله: «إنّما الأعمال بالنيّات» (2) . ولا ينفع مجموع القول والعمل والنيّة الصالحة (إلّا بإصابة السنّة) أي بالأخذ من السنّة والإتيان بما يرافقها، سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة، وإن لم يكن العمل موافقا لها كان صاحبه من الأخسرين «أعمالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُم في الحياة الدنيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعا» (3) وقد عرفت أنّ موافق السنّة موافق للكتاب أيضا؛ فلذا اكتفى بذكرها.


1- .في هامش النسخة: قد يطلق القول على الاعتقاد؛ يقال: فلان قال به، إذا اعتقده (منه عفي عنه).
2- .مسائل عليّ بن جعفر، ص 346، ح 852؛ الهداية للصدوق، ص 62، باب النيّة؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 83، ح 218؛ وج 4، ص 186، ح 518 و519؛ الأمالي للطوسي، ص 618، المجلس 29، ح 10؛ مصباح الشريعة، ص 53، باب النيّة؛ الفصول المختارة، ص 191؛ دعائم الإسلام، ج 1، ص 4 و156؛ وسائل الشيعة، ج 1، ص 48، باب 5، ح 6 و7 و10 ؛ وج 6، ص 5، باب 1، ح 2 و3 ؛ وج 10، ص 13، باب 2، ح 11 و12. وورد في كثير من مصادر العامّة.
3- .الكهف (18): 102.

ص: 303

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن أحمدَ بن النَّضْر ، عن عَمْرِو بن شِمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال :«ما من أحدٍ إلّا وله شِرَّةٌ وفَتْرَةٌ ، فمن كانَتْ فَتْرَتُه إلى سنّةٍ فقد اهْتَدى ، ومن كانت فَتْرَتُه إلى بِدْعَةٍ فقد غَوى» .

عليُّ بن محمّد ، عن أحمدَ بن محمّد البرقيّ ، عن عليّ بن حَسّان ؛ ومحمّد بن يحيى عن سَلَمَةَ بن الخَطّابِ ، عن عليّ بن حَسّان ، عن موسى بن بَكْرٍ ، عن زُرارةَ بن أعْيَنَ ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«كلُّ من تَعَدَّى السنَّةَ رُدَّ إلى السنّةِ» .

قوله عليه السلام : (ما من أحد إلّا وله شِرَّةٌ وفَترةٌ) إلخ الشرّة: النشاط والرغبة وغلبة الحرص، والمقصود هاهنا الرغبة والحرص في طلب الدين وطلب الحقّ بأن تتبّع المآخذ حتّى يصل إلى الحقّ. والفَترة - بفتح الفاء وسكون التاء المثنّاة فوق - : السكون بعد الطلب، واللين بعد الشدّة، والمراد بالفترة إلى السنّة السكونُ إليها والاستقرارُ عند الوصول إليها، أو إلى ما ينتهي إليها. والمقصود أنّه من انتهى طلبه الحقّ من مأخذه إلى سنّة، وإلى ما ينتهي إليها، واعتقد أنّها حقّ، وتشبّث بها، وأخذ منها الاُمور الدينيّة (فقد اهتدي، ومن) كان انتهاء طلبه وسكونه إلى بدعة وأخذ الشريعة منها (فقد غوى). وقد عرفت مرارا أنّ في الاكتفاء بذكر السنّة إشارةً إلى أنّ كلّ ما يوافق السنّة موافق للكتاب وبالعكس، فما ينتهي إلى الكتاب ينتهي إلى السنّة أيضا. قوله عليه السلام : (كلُّ مَن تَعَدَّى السنّةَ رُدَّ إلى السنّة) على صيغة المجهول من الماضي. ويحتمل أن يكون مصدرا، أي مردود. قيل (1) : أي يجب على الناس ردّه وإرجاعه إلى السنّة ونهيه عن مخالفتها، أو يجب عليه إرجاع نفسه إلى السنّة (2) . وأقول: الأظهر أن يقال: معناه أنّه ردّ أمر المتجاوز والمتعدّي عن السنّة إلى ما وقع في حقّه في السنّة في الدنيا والآخرة.


1- .قائله الملّا خليل القزويني.
2- .الشافي، ص 288 - 289 (مخطوط).

ص: 304

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه ، عن آبائه عليهم السلام ، قال :«قالَ أميرالمؤمنين عليه السلام : السنّةُ سُنَّتانِ : سنَّةٌ في فريضةٍ ، الأخْذُ بها هُدًى ، وتَرْكُها ضَلالَةٌ ؛ وسنّةٌ في غير فريضةٍ ، الأخْذُ بها فضيلَةٌ ، وتَرْكُها إلى غير خطيئةٍ» .

أمّا في الدنيا كقتله إن كان مستحلّاً فتجاوز عنها، وكسائر الحدود والتعزيرات الواقعة في الشرع كرجم الزاني وقطع السارق وجلد القاذف وتعزير الغاصب وأمثالها. وأمّا في الآخرة كأنحاء العقاب والنكال الاُخرويّة التي أخبر عنها الحجج عليهم السلام . والمراد بالتعدّي عن السنّة مخالفتها بأيّ نحوٍ كان، سواء كان بإفراط كصوم العيدين، أو بتفريط كالإفطار في يوم شهر رمضان بغير عذر، أو بغيرهما. قوله عليه السلام : (السنّة سنّتان: سنّة في فريضة) يحتمل أن يكون المراد بالسنّة الطريقة المنسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله ، فكونُها في فريضة كونُ العامّ في خاصّ من خواصّها، أي سنّة تكون في فريضة. ويحتمل أن يكون المراد بها الحديث المرويّ عنه صلى الله عليه و آله ، وحينئذٍ يكون معناه سنّة في بيان فريضة؛ يعني سنّة تكون مبيّنة لفريضة. والمراد بالفريضة ما يعمّ الواجبات والمحرّمات؛ يعني ما يجب فعله أو تركه. وقوله عليه السلام : (الأخذ بها) أي العمل على وفقها والقول بوجوبها، أو بوجوب مفادها (هُدىً). وقوله عليه السلام : (وتَرْكُها) أي فعلاً وقولاً (ضلالةٌ). وقوله عليه السلام : (وسنّةٌ في غير فريضة) أي سنّة كائنة في غير فريضة كون العامّ في خاصّه، أو في بيان غيرها، أي مبيّنة لغير فريضة. والمراد بذلك ما يعمّ المستحبّات والمكروهات؛ يعني ما يرجّح فعله على تركه، أو تركه على فعله رجحانا شرعيا لا ينتهي إلى حدّ الوجوب. وقوله عليه السلام : (الأخذُ بها) أي العمل على وفقها والقول برجحانها، أو برجحان مفادها (فضيلة) وموجب للثواب. وقوله عليه السلام : (وتركها إلى غير خطيئة) أي عدم العمل على وفقها وعدم القول بها لعدم الاطّلاع عليها، وترك تحصيل العلم والاعتقاد بأنّ هذه من السنّة، أو مفادها ينتهي إلى أمر

ص: 305

تمّ كتاب فضلِ العلم ، والحمدُ للّه ربِّ العالمينَ ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين .

هو غير خطيئة من عدم نيل فضلها وثوابها والإتيان بخلاف الاُولى، وليس شيء منهما خطيئة. أو «إلى» بمعنى «مع» أي تركها مع غيرٍ خطيئةٌ وإثم. أو بمعنى «من» أي تركها مستند إلى غير خطيئة وناشٍ من غير خطيئة. أو معناه تركها غير خطيئة؛ لأنّه ترك ما جوّز الشارع تركه. وأمّا عدم القول بها للإنكار بعد العلم بكونها من السنّة، فعلى حدّ الشرك باللّه تعالى. قوله: (تمّ كتاب العقل) أي تمّ كتاب العقل وما اُلحق به من أبواب العلم. وهذا موافق لما في فهرست الشيخ الطوسي رحمه الله (1) حيث عدّ فيه قبل كتاب التوحيد كتاب العقل وفضل العلم كتابا واحدا. وفي بعض النسخ بدل هذا هكذا: «هذا آخر كتاب فضل العلم من كتاب الكافي لأبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله» وهذا موافق لما في النجاشي حيث قال: «كتاب العقل، كتاب فضل العلم، كتاب التوحيد» (2) . وممّا ألحقه الكتّاب، أو التلامذة.


1- .الفهرست، ص 393 - 394، رقم 603.
2- .رجال النجاشي، ص 377، رقم 1026.

ص: 306

ص: 307

كتاب التوحيد

إطلاق التوحيد على معان

كتاب التوحيدكتاب التوحيداعلم أنّ التوحيد قد يطلق على معانٍ: أحدها: نفي الشريك وتنزيهه تعالى عنه، وذلك على ثلاثة أقسام: الأوّل: نفي الشريك في الإلهيّة؛ يعني استحقاق العبادة، وهي أقصى غاية التذلّل والخضوع؛ ولذلك لا تستعمل إلّا في التذلّل للّه تعالى؛ لأنّه مولي أعظم النعم (1) بل جميعها، دنيويا كان أو اُخرويا، سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة، فكان هو حقيقا بأقصى غاية الخضوع والتذلّل لا غيره، وهذا هو التوحيد الشرعي الذي لا يستقلّ العقل بإثباته، وقد بعث اللّه تعالى جميع الأنبياء والمرسلين لتبليغه حيث قال في محكم كتابه في سورة حم السجدة: «إذ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا اللّهَ» (2) وهو المقصود أوّلاً للنبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في صدر الإسلام بقوله: «اُمرت أن اُقاتل الناسَ حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم» لأنّ المخالفين فيه هم مشركو العرب الوثنيّة بعد علمهم بأنّ صانع العالم واحد، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ» (3) . والثاني: نفي الشريك في صانعيّة العالم، أي صانعيّة جميع ما يغايره تعالى، وهو معنى


1- .في مرآة العقول، ج 1، ص 234: «المولي لأعظم النعم».
2- .فصّلت (41): 14.
3- .لقمان (31): 25.

ص: 308

قوله تعالى: «رَبِّ العالَمِينَ» (1) وقوله: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ» (2) وأمثالهما، وذلك هو التوحيد العقلي الذي استدلَّ الحجج عليهم السلام عليه بالبراهين العقليّة، ومن جملتها برهان التمانع الذي يكشف عنه قوله تعالى في سورة الأنبياء: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّهُ لَفَسَدَتا» (3) وذلك معنى قول المحقّقين من الحكماء: «لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه ». وقد خالف في ذلك فِرقٌ أعظمُها الثنويّةُ؛ فإنّهم قالوا: نجد في العالم خيرا كثيرا، وشرّا كثيرا، والواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا، فلكلّ منهما فاعل على حدة، والمانويّةُ والديصانيّة منهم قالوا: فاعل الخير هو النور ، وفاعل الشرّ هو الظلمة، وقالوا: النور حيّ عالم قادر سميع بصير، والظلمة ميّت جاهل موجَب لا يسمع ولا يبصر، والمجوسُ منهم ذهبوا إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان، وفاعل الشرّ هو أهرمن، ويعنون به الشيطان. والجواب منع لزوم كون الواحد خيّرا وشرّيرا؛ يعني من يغلب خيره على شرّه، وشرّه على خيره؛ لأنّ اللازم إنّما هو صدور الخير الكثير والشرّ الكثير عنه. وأمّا غلبة شرّه على خيره فممتنع، بل إنّما يصدر عنه تعالى الخير المحض والخير الغالب، ولا يصدر عنه الشرّ المحض ولا الشرّ الغالب، فهو - جلّ ذكره - خيّر محض وليس بشرّير. والثالث: نفي الشريك في الوجوب الذاتي، يدلّ عليه سورة التوحيد، وقوله تعالى في سورة المؤمن: «لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلّهِ الواحِدِ القَهّارِ» (4) ، وقوله تعالى في سورة الزمر: «سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ» (5) ونحو ذلك؛ لأنّ لفظ «اللّه » عَلَم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، المتنزّه عن جميع النقائص، وذلك لا يكون إلّا الواجب بالذات، لما ثبت في موضعه من أنّ الواجب بالذات ذاته كافٍ فيما له من الصفات، وأنّ الإمكان الذاتي - الذي هو علّة الاحتياج إلى الغير في الوجود - نقص، فكلّ ما هو واجب بالذات ذات مستجمع لجميع


1- .وردت الآية في مواضع كثيرة من التنزيل العزيز.
2- .الإسراء (17): 111.
3- .الأنبياء (21): 22.
4- .غافر (40): 16.
5- .الزمر (39): 4.

ص: 309

الكمالات، ومتنزّه عن جميع النقائص، ويسمّى لفظ «اللّه »، وما هو كذلك واحد، للآيات الدالّة على وحدة اللّه تعالى، فالواجب بالذات واحد. وهذا القسم من التوحيد أيضا توحيد عقلي يستقلّ العقل بإثباته، وبُرهِنَ عليه ببراهين كثيرة في الكتب الحِكميّة والكلاميّة، وقد استدلّ عليه الإمام عليه السلام أيضا بالبرهان العقلي كما سيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى. ومقابلُ التوحيد بأحد من هذه المعاني الثلاثةِ الشركُ باللّه ، ومنكره مشرك، وحينئذٍ فتنزيهه تعالى عن سائر ما لا يليق به باعتبار كمال ذاته - عدا تنزيهه عن الشريك كتنزيهه عن الجهل والعجز ونحوهما - يسمّى نعتا، وقد يطلق النعت على توصيفه بالصفات الثبوتيّة والسلبيّة مطلقا. وثانيها: المعنى الشامل لنفي الشريك وللنعت بالمعنى الأوّل؛ يعني تنزيهه تعالى عمّا لا يليق به باعتبار كمال ذاته سواء كان شريكا، أو غيره من الجهل والعجز والمكان ونحوها. وعلى التقديرين فتنزيهه تعالى عمّا لا يليق به باعتبار فعله وتركه كالظلم وترك اللطف يسمّى بإثبات العدل. وإلى هذا المعنى ناظر ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام «التوحيدُ أن لا تَتَوَهَّمَهُ، والعدلُ أن لا تَتَّهِمَه» (1) وما روي عن الصادق عليه السلام «التوحيد أن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك، والعدل أن لا تنسب إلى صانعك ما لا مك عليه» (2) . وثالثها: المعنى الشامل للمعنى الثاني وللعدل أيضا، وهو تنزيهه تعالى عمّا لا يليق به في صفاته وأفعاله، أي عمّا يستحيل عليه، سواء كان وجوديا كالشريك والابن والظلم، أو عدميا كالعجز والجهل وترك الأصلح. ورابعها: كلّ ما يتعلّق بأحواله تعالى، فإنّه قد شاع استعماله على ذلك المعنى في لسان أهل الشرع. والمقصود من هذا الكتاب إثباته تعالى وتوحيده بالإلهيّة وصانعيّة العالم والوجوب


1- .نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 470؛ بحار الأنوار، ج 5، ص 52، ح 86.
2- .معاني الأخبار، ص 11، ح 2؛ التوحيد، ص 96، باب 5، ح 1؛ بحار الأنوار، ج 4، ص 264، ح 13 ؛ وج 5، ص 17، ح 23، وفي هذه المصادر : «إلى خالقك» بدل «إلى صانعك».

ص: 310

باب حدوث العالم و إثبات المحدثأخبرَنا أبو جعفر محمّد بن يعقوب ، قال : حدّثني عليُّ بن إبراهيمَ بن هاشم ، عن أبيه ، عن الحسن بن إبراهيمَ ، عن يونُسَ بن عبدالرحمن ، عن عليّ بن منصورٍ ، قال : قال لي هِشامُ بن الحَكَم :كانَ بمصرَ زنديقٌ .........

الذاتي، وبيان ما يصحّ له من الصفات والأسماء والأفعال، وما يجب تنزيهه عنه منها. فالمراد بالتوحيد هاهنا إمّا المعنى الثالث - كما قيل - وحينئذٍ تسمية الكتاب بكتاب التوحيد تسمية للكلّ باسم الجزء والركن الأعظم؛ لكثرة الاهتمام بشأنه، أو المعنى الرابع، وحينئذٍ لا تجوّز في التسمية.

[باب حدوث العالم وإثبات المحدث]قوله: (باب حدوث العالَم وإثبات المحدث) المراد بالعالَم هاهنا جميع الممكنات الموجودة، وإنّما سمّي عالَما؛ لأنّه يُعلَم به الصانع، والفاعَل - بفتح العين - اسم لما يُفعَل به كالقالَب لما يُقلب به. والمقصود من هذا الباب إثبات المحدِث والصانع الواحد للعالم، أي لجميع ما يغايره تعالى، والاستدلال عليه بحدوث ما لا ريب في حدوثه من الحوادث الزمانيّة. والمراد بالحدوث هاهنا الخروج من العدم، ومن مرتبة الخلوّ من الوجود إلى الموجوديّة ومرتبة الخلط بالوجود؛ فتدبّر. قوله: (أخبرنا أبو جعفر محمّد بن يعقوب قال:) أقول: هذه الفقرة من زيادة تلاميذ المؤلّف رحمه اللّه تعالى. وقوله: (كان بمصر زنديق) قال في القاموس: «الزِندِيق - بالكسر - من الثَنَوِيّة، أو القائلُ بالنور والظلمة، أو من لا يُؤْمِنُ بالآخرة وبالربوبيّة، أو مَن يُبْطِنُ الكفرَ ويُظهِرُ الإيمانَ، أو هو مُعَرَّبُ زَنْ دِين، أي دين المرأة» (1) انتهى.


1- .القاموس المحيط، ج 3، ص 353 (زنديق).

ص: 311

تَبْلُغُه عن أبي عبداللّه عليه السلام أشياءُ ، فخَرَجَ إلى المدينة ليُناظِرَه ،فلم يصادِفْه بها ، وقيل له : إنّه خارجٌ بمكّةَ ، فَخرَجَ إلى مكّةَ ونحن مع أبي عبداللّه ، فصادَفَنا ونحن مع أبي عبداللّه عليه السلام في الطواف ، وكان اسمه «عبد الملِك» و كنيته «أبو عبداللّه » فضرب كَتِفَه كَتِفَ أبي عبداللّه عليه السلام ، فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «ما اسمُكَ؟» فقال: اسمي عبدُ الملِك ، قال : «فما كنيتُك؟» قال: كنيتي أبو عبداللّه ، فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «فمَن هذاالملِكُ الذي أنت عبدُه؟ أمِنْ ملوكِ

وقال الجوهري: «الزنديق من الثنويّة، وهو معرّب، والجمع الزنادِقَةُ، والهاء عوضٌ من الياء المحذوفة، وأصله الزَنادِيقُ (1) » انتهى. وأقول: يحتمل أن يكون معرّب زَند دين، والزَنْد كتاب المجوس. والمراد به هاهنا هو المنكر لأن يكون للعالم صانع قادر مختار (2) ، وبالجملة هو المنكر لوجوده تعالى جَدُّه (3) . وقوله: (أشياءُ) أي أشياء دالّة على كمال علمه عليه السلام وجدّه في نصرة الإيمان باللّه تعالى وإبطال الزندقة. وقوله: (ليناظره) أي في مذهبه. وقوله: (إنّه خارجٌ بمكّةَ) أي خارج من المدينة، وأنّه بمكّة الحالَ. وقوله: (بمكّة) خبر بعد خبر. وقوله: (كَتفَه) منصوب بنزع الخافض، أي فضرب بكتفه كتف أبي عبد اللّه عليه السلام ليتكلّم عليه السلام معه، فيعرّفه اعتقاده من إنكار وجود الصانع القادر المختار، فعرف ذلك عليه السلام قبل تعريفه فابتدأه وقال له: (ما اسمك) إلخ. اعلم أنّه عليه السلام قد تكلّم معه بثلاثة أنواع من الكلام: الأوّل: تنبيهه وجود الإله الحقّ الذي [هو] صانع العالم، وإعلامه بأنّ هذا من البديهيّات المركوزة في كلّ عقل، ولا ينكره أحد إلّا باللسان، ولا يحتاج فيه إلى البرهان، بل كلّ ما يذكر في بيانه تنبيهات، وإنّما يحتاج إلى البرهان إثبات الصانع القادر المتنزّهِ عن جميع النقائص التي أصلها الإمكان الموجب للاحتياج إلى الغير في الوجود، المتّصفِ بجميع الكمالات


1- .الصحاح، ج 3، ص 1489 (زندق).
2- .في النسخة: «صانعا قادرا مختارا».
3- .أي عظمته.

ص: 312

التي رأسها الوجوب الذاتي؛ لأنّ كلّ أحد خلّى نفسَه عن الوساوس والأوهام المشوّشة تفطّن وعرف أنّه يعرف ويعلم ذاتا يتّكل ويعتمد عليه، ويتضرّع ويتوسّل في المضائق إليه، ويرجى منه النجاة والخلاص في المحن والمصائب، وذلك إلهه والعلّة (1) الاُولى وفاعله وموجده وصانع السماوات والأرضين وما فيهنّ، إلّا أنّه لضعف علمه لا يعلمه إلّا بإنّيّته على سبيل الإجمال، ولا يعلم بخصوصيّته وما له من الصفات والحالات والكمالات على سبيل التفصيل. روي أنّ زنديقا دخل على الصادق عليه السلام فسأله عن دليل إثبات الصانع فأعرض عليه السلام عنه، ثمّ التفت إليه وسأله: «من أين أقبلت؟ وما قصّتك؟» فقال الزنديق: إنّي كنت مسافرا في البحر فعصفت علينا الريح، وتقلّبت بنا الأمواج، فانكسرت سفينتنا فتعلّقت بساجة منها، ولم يزل الموج يقلّبها حتّى قذفت (2) إلى الساحل فنجوت عليها فقال عليه السلام : «أرأيت الذي كان قلبك إذ انكسرت السفينة وتلاطمت عليكم الأمواج فزعا عليه، مخلصا له في التضرّع، طالبا منه النجاة فهو إلهك.» فاعترف الزنديق بذلك وحسن اعتقاده، وذلك من قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: «إِذا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلّا إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُم إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الإِنْسانُ كَفُورا» (3) - (4) . ونقل عن الأعرابي قال: البَعرَة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فِجاج (5) أما لا يدلّان على الصانع اللطيف الخبير؟ (6) انتهى، ولا ريب في


1- .في النسخة: «علّيّة».
2- .في الوافي: + «بي».
3- .الإسراء (17): 67.
4- .لم أعثر عليه إلّا في الوافي للفيض، ج 1، ص 477. وأورد نحوه الفخر الرازي في المطالب العالية، ج 1، ص 240 في الفصل الثاني ، في حكاية كلمات منقولة عن أكابر الناس.
5- .في هامش النسخة: الفجّ: الطريق الواسع بين الجبلين، والجمع فِجاج (ص) [الصحاح، ج 1، ص 333 (فجج)].
6- .روضة الواعظين، ص 731 (نحوه)؛ بحار الأنوار، ج 3، ص 55، ح 27 (وفيه عن جامع الأخبار عن عليّ عليه السلام نحوه)؛ حقائق الإيمان، ص 60؛ تفسير الثعلبي، ج 3، ص 32 في ذيل آية «شَهِدَ اللّه ُ» ؛ تفسير الرازي، ج 2، ص 99؛ المطالب العالية، ج 1، ص 242؛ المواقف للإيجي، ج 1، ص 151؛ شرح المقاصد، ج 2، ص 60.

ص: 313

أنّ هذا من الفطريّات. والثاني: تنبيهه على أنّه لا يجوز أن يكون في حدّ الإنكار للصانع - لقادر المختار المتنزّه عن جميع النقائص - وجحدِه؛ لأنّ غاية ما تقتضي حاله أن يكون شاكّا فيه، وذلك لأنّه لم يثبت عنده دليل يدلّ على نفيه، فأزال بذلك إنكاره، وأخرجه من حدّ الجحد إلى مرتبة الشكّ. وإنّما ذكر ذلك عليه السلام قبل إقامة الدليل على المطلوب؛ لأنّ خلوّ الذهن عن ضدّ المقصود من الإنكار والجحود قبل الشروع في الاستدلال شرط في حصول اليقين. والثالث: الاستدلال على وجود ذلك الصانع القادر المختار، المتنزّه عن جميع النقائص، الخارج عن سلسلة الممكنات بالبرهان. إذا عرفت ذلك فالمقصود من قوله عليه السلام : (ما اسمك) إلخ، تنبيهه على أنّه منكر لما هو مركوز في كلّ عقل، ومسلّم عند كلّ شخص إذا خلّي وعقله، وتسميته وتكنيته مبنيّ على ذلك. وقد اُشير إلى ذلك فيما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (1) أي من بلغ حدّ التميز - وهو المراد بمعرفة النفس - عرف أنّ للعالم صانعا، وإنّما الجاحد لصانع العالم جاحد في لسانه، مقرّ قلبه به كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام : «وهو الذي تشهد له أعلامُ الوجودِ على إقرارِ قَلبِ ذي الجُحُودِ» (2) يعني معرفة اللّه تعالى فطريّة وحاصلة لكلّ أحد وإن جحد وأنكر طائفة، فإنّه قد يكون في قلب الإنسان علم أو معرفة أو محبّة أو إرادة، ويخفى ذلك عليه حتّى ينكره، وهذا مثل أهل الوسواس في النيّة، فإنّ قصد الصلاة مثلاً حاصل في قلوبهم بالضرورة؛ لأنّ كلّ من فعل فعلاً باختياره وهو يعلم أنّه يفعله فلا بدّ أن ينويه ويقصده ضرورة، ومع هذا نجد كثيرا من المنتسبين إلى العلم يشكّ في أنّه هل حصل في قلبه قصد ما يفعله من الاغتسال، أو الوضوء أو الصلاة، أم لا؟ فالقصد - وهو إرادة


1- .تقدّم تخريجه في ص؟
2- .نهج البلاغة، باب الخطب، الرقم 49؛ شرح الأخبار، ج 2، ص 312، الرقم 640؛ بحار الأنوار، ج 4، ص 308، ح 36 ؛ وج 74، ص 304، ح 8.

ص: 314

الأرض ، أم من ملوكِ السماء؟ وأخبِرْني عن ابْنِكَ ، عَبْدُ إله السماء ، أم عَبْدُ إله الأرض؟ قل : ما شئتَ تُخْصَمْ» . قال هشامُ بن الحكم : فقلت للزنديق : أما تَرُدُّ عليه ، قال : فقَبَّحَ قولي . فقال أبو عبداللّه : «إذا فرَغْت من الطواف فَأتِنا» . فلمّا فَرَغَ أبو عبداللّه أتاهُ الزنديقُ ، فقَعَدَ بين يدي أبي عبداللّه و نحن مجتمعون عنده ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام للزنديق :

الفعل وهي النيّة - حاصل في قلبه، ومع هذا قد خفي عليه ذلك، وزعم أنّها ليست حاصلة له ويطلب حصولها، فكذلك العلم بوجود صانع العالم ومعرفته حاصلة للمعطّلة، ومع هذا ينكرونه ويجحدونه، وخفي عليهم ما هو في قلوبهم من العلم بوجوده تعالى. وقوله عليه السلام : (أم من ملوك السماء) على سبيل عدّ الأقسام المحتملة عند المخاطب، أو المراد بملوك السماء الملائكة المقرّبون كقوله تعالى: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (1) . وقوله عليه السلام : (تُخْصَم) على صيغة المجهول، أي تصير مغلوبا ملزما؛ لظهور بطلان كلّ من الشقّين، فيثبت المطلوب، وهو أنّه عبد ملك السماء والأرض جميعا، وابنه عبد إله السماء والأرض معا، وهو صانع العالم. ويحتمل (2) أن يكون على صيغة المعلوم، أي تَخصِم نفسك؛ لأنّ في نفسك ليس شيء من الشقّين بل إنّما هو الشقّ الثالث وهو المطلوب. وقوله: (قال هشام بن الحكم) كلام عليّ بن منصور. وقوله: (فقلت للزنديق) أي لمّا بقي متحيّرا ساكتا (أما تَرُدُّ) الجواب (عليه؟ قال: فَقَبَّحَ قولي) أي قال هشام: فنسب الزنديق قولي إلى القبيح، وهذا لأنّه لا ينبغي التعجيل على طالب الحقّ المتأمّل لتحرّي الصواب في الجواب هكذا قيل (3) . وأقول: الظاهر أنّ ضمير «قال» راجع إلى «الزنديق»، أي قال الزنديق: قبّح أبو عبد اللّه قولي في نظري فكيف اُجيب عنه؟


1- .التكوير (81): 21.
2- .نقله بعنوان «قيل» في مرآة العقول، ج 1، ص 237.
3- .القائل الملّا خليل القزويني في الشافي، 299 (مخطوط).

ص: 315

«أتَعلَمُ أنَّ للأرض تحتا وفوقا؟» قال : نعم ، قال : «فدَخَلْتَ تحتها؟» قال : لا ، قال : «فما يُدريكَ ما تحتَها؟» قال :لا أدري ، إلّا أنّي أظُنُّ أن ليس تحتَها شيءٌ . فقال : أبو عبداللّه عليه السلام : «فالظنُّ عَجْزٌ لما لا تَستيقِنُ» . ثمَّ قال أبو عبداللّه : «أفَصَعِدْتَ السماءَ؟» قال : لا ، قال : «أفَتَدْري ما فيها؟» قال : لا ؛ قال :

والمقصود من قوله عليه السلام : (أتعلم أنّ للأرض تحتا وفوقا؟) إلخ إزالةُ إنكاره لوجود الصانع القادر المتنزّه عن الإمكان وسائر النقائص، وإخراجُه عن مرتبة الإنكار إلى مرتبة الشكّ؛ ليستعدّ نفسه للإقبال على الحقّ؛ لأنّ الإنكار والجحود من الآفات المانعة للنفس عن إدراك الحقّ والإذعان به على ما عليه في نفس الأمر، فأزال إنكاره بأنّه غير عالم بما في تحت الأرض - والمراد بالتحت هاهنا المعنى اللغوي هو الطرف المقابل لما هو فوق عندنا - وليس له سبيل إلى الجزم بأن ليس تحتها شيء، فلعلّ الصانع يكون موجودا فيها. وقوله عليه السلام : (فما يُدريك ما تحتها؟) أي أيّ دليل يعلمك ما الذي تحتها؟ وحينئذٍ ما استفهاميّة، أو ما هو تحتها، وحينئذٍ موصولة. ويحتمل أن يكون نافية، أي ما تحتها شيء. وهذا أبعد لفظا وأقرب معنىً وقوله عليه السلام : (فالظنُّ عجزٌ لما لا يستيقن) الفاء فصيحة في جواب شرط محذوف، وقد حذف الجزاء أيضا، واُقيم دليله مقامه، و«ما» مصدريّة، أي إذا كان غاية ما حصل لك الظنّ فأنت عاجز؛ لأنّ الظنّ عجز؛ لعدم استيقان الظانّ. ويحتمل (1) أن يكون بلفظ الخطاب، أي لعدم استيقانك. وفي بعض النسخ: «لمن لا يستيقن» ومعناه أنّ الظنّ عجز لمن لا يقدر على اليقين. فلمّا تقرّر هذا في ذهنه، زاده عليه السلام بيانا بأنّ السماء التي لم تصعدها كيف يكون له الجزم والمعرفة بما فيها وما ليس فيها، فلعلّ الصانع يكون موجودا فيها؟ فلمّا تقرّر هذا أيضا في ذهنه، وأقرّ بأنّه ليس له معرفة بما فيها أقبل عليه السلام عليه بتوبيخه؛ لإنكاره لوجود إله صانع للسماوات والأرضين وما فيهنّ الذي لا دليل له على نفسه بقوله:


1- .القائل الملّا خليل القزويني في الشافي، 300 (مخطوط).

ص: 316

«عَجَبا لك لم تَبلُغِ المشرقَ ، ولم تَبلُغِ المغربَ ، ولم تَنزِلِ الأرضَ ، ولم تَصْعَدِ السماءَ ، ولم تَجُزْ هناك فتَعرِف ما خلفهنَّ وأنت جاحدٌ بما فيهنَّ ، وهل يَجحدُ العاقلُ ما لا يَعرِفُ؟!» . قال الزنديق: ما كَلَّمَني بهذا أحدٌ غيرُك . فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «فأنت من ذلك في شكّ ، فلعلّه هو و لعلّه ليس هو؟» فقال الزنديق : ولعلَّ ذلك . فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «أيّها الرجلُ ، ليس لمن لا يعلَمُ حُجَّةٌ على من يَعلَمُ ، ولا حجّةَ للجاهل .

(عجبا لك) إلخ، أي عجبت عجبا لك. وقوله عليه السلام : (لم تَبلُغِ المشرقَ، ولم تَبلُغِ المغربَ) بناء على المعلوم من حاله عنده عليه السلام أنّه لم يبلغ المشرق والمغرب. وقوله عليه السلام : (لم تَجُزْ هناك) أي مكّة؛ لأنّها كانت منتهى سفره. وقيل (1) : «هناك» إشارة إلى المكان المعمور من وجه الأرض. وقوله عليه السلام : (فتعرف) منصوب بتقدير «أن» بعد النفي (ما خلفهنّ) أي ما خلف المشرق والمغرب والأرض والسماء (وأنت جاحدٌ بما فيهنَّ) أي في خلقهنّ، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف وجوده وعدمه بدون دليل يدلّ على عدمه، وليس لك ولأحد على عدمه برهان؟ وقوله: (ما كَلَّمَني بهذا أحدٌ) إقرار منه بأنّ الجحد فاسد باطل، ولو كلّمه أحد بهذا لم يجحد، فلمّا عرف الزنديق قبح إنكاره لما لا معرفة له فيه، وتنزّل من الإنكار إلى الشكّ، وأقرّ بأنّه شاكّ بقوله: (ولعلّ ذلك) تصديقا لقوله عليه السلام : (فأنت من ذلك في شكّ، فلعلّ هو) أي فلعلّ الحقّ، أو الشأن أنّ للعالم صانعا قادرا مختارا، متنزّها (2) عن الإمكان وسائر النقائص (ولعلّه ليس هو) أي ولعلّ الحقّ أو الشأن أنّه ليس للعالم صانع كذلك. فأخذ عليه السلام في هدايته وقال: (أيّها الرجل، ليس لمن لا يعلم) أي ليس للشاكّ دليل وحجّة أصلاً فضلاً على من يعلم (ولا حجّة للجاهل) فليس لك إلّا طلب الدليل على ما هو حقّ فكن طالبا واستمع


1- .نقل هذا الوجه وكذا ما قبله في مرآة العقول، ج 1، ص 239 وقال: «لا يخفى بعدهما».
2- .في النسخة: «صانع قادر مختار متنزّه».

ص: 317

يا أخا أهل مصر ، تَفهَّمْ عنّي ، فإنّا لا نَشُكُّ في اللّه أبدا ، أما ترى الشمسَ والقمرَ والليلَ

و(تَفَهَّمْ عنّي، فإنّا) نتيقّن بوجود الصانع و(لا نشكّ) فيه (أبدا) فيجب على الشاكّ الرجوع إلى المتيقّن؛ ليبيّن له الحقّ، ويهديه إلى سبيل الرشاد. والمقصود من قوله: (أما تَرى الشمسَ والقمرَ) إلخ إقامة البرهان والاستدلال على وجود الصانع القادر المختار، والمتنزّه عن الإمكان وسائر النقائص؛ يعني واجب الوجود بالذات، بوجود حوادث من أحوال العالم من العِلْويّات والسِفْليّات كحركات الأفلاك وإفناء الناس وإعادتهم وما هو من هذا القبيل، وبوجود ثوابت من أحوالهما المختلفة كرفع السماء ووضع الأرض، بوجوه ثلاثة ليتبيّن أنّه تعالى صانع لجميع العالم: حوادثه ومتغيّراته وقدمائه وثوابته لو كان في العالم قديما ثابتا؛ ليظهر بطلان ما توهّمه هؤلاء أنّ القديم الزماني - ولو كان ممكنا ذاتيا - لا يحتاج في الوجود إلى صانع مؤثّر، بل موجود من عند نفسه من غير استناده إلى فاعل وجاعل، وإنّما يحتاج إلى المبدأ الحوادثُ الزمانيّة السفليّة، ويزعمون أنّ مبدأها هو الدهر، والحوادث العلويّة كالدورات الفلكيّة مستندة إلى ذواتها القديمة. وقبل (1) الخوض في المطلوب لا بدّ من تمهيد مقدّمات مرتكزة في العقول السليمة، لا يشكّ فيها من له عقل مستقيم إلّا عند الاشتباه الناشئ من ورود الشُبَه التي لا يُقدر على حلّها؛ للعجز عن التفصيل والتبيان اللذَيْن بهما يتبيّن انحلالها، ولم يتوجّه عليه السلام إلى بيان تلك المقدّمات؛ لأنّ المخاطب لم يتوقّف في التصديق للشكّ فيها، ولقد وقع الاحتياج إليها في زماننا؛ لشيوع الشُبَه وكثرةِ ذكرها بين المتأخّرين وكثرة (2) نفع بيان تلك المقدّمات للطالبين، فرأيت أن اُوردها لينتفع بها في إثبات المبدأ الأوّل. المقدّمة الاُولى: أنّ الموجود بحسب التقسيم العقلي لا يخلو إمّا أن يكون ذاته كافية في كونه موجودا، بمعنى أنّه إذا اُخذ ذاته من حيث هي هي يكون موجودا في حدّ ذاته ونفسه، ويكون موجوديّته ووجوده عين ذاته، ولا يحتاج في موجوديّته إلى أمر آخر من الوجود


1- .اُنظر: الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 244 - 247.
2- .في حاشية النائيني: «كثر».

ص: 318

الزائد على ذاته، واتّصافه بذلك الوجود، وانضمام الوجود إليه، بل يكون هو وجودا قائما بنفسه، موجودا بذاته، وظاهرٌ أنّ ذلك الموجود لا يمكن انفكاك الوجود عنه في الواقع، ولا يمكن تصوّر انفكاكه عنه أيضا؛ لامتناع تصوّر انفكاك الشيء عن نفسه، فلا يمكن ولا يتصوّر كونه معلولاً لا لذاته ولا لغيره؛ لأنّ توسّط الجعل بين الشيء ونفسه ممتنع بالذات، وتصوّره أيضا محال، وذلك الموجود هو المسمّى بواجب الوجود بالذات. أو ذاته غير كافية في كونه موجودا، بمعنى أنّه إذا اُخذ ذاته من حيث هي هي لم يكن موجودا في حدّ ذاته ونفسه، بل إنّما يكون موجوديّته بصيرورته موجودا بعد أن لم يكن في حدّ ذاته ونفسه موجودا، فبالضرورة يكون موجوديّته مغايرة لنفس ذاته، وهذا هو المسمّى بالممكن الوجود لذاته، ولا شكّ في أنّ كلّ موجود يكون كذلك يحتاج في أن يصير موجودا إلى علّة ومرجّح؛ إذ كلّ ما يغاير الشيء - فإنّ ثبوته لذلك الشيء، أو اتّصاف ذلك الشيء، أو اتّصاف ذلك الشيء به، أو انضمامه إليه، أو انتزاعه عنه، أو كونه هو باعتبار اتّحادهما في الوجود، أو ما شئت فسمّه - أمرٌ لا يستغني عن العلّة، سواء كانت العلّة أحدهما، أو أمرا ثالثا (1) ، فإنّ الإنسان - مثلاً - لا يحتاج إلى ما يجعله إنسانا؛ لاستحالة توسّط الجعل بين الشيء ونفسه. وأمّا في كونه شيئا آخر، وصيرورته (2) أمرا آخر مغايرا لنفسه بعد أن لم يكن في نفسه كذلك، فيحتاج إلى سبب وعلّة بالبديهة، فتبيّن بهذا احتياجُ كلّ ممكن إلى مؤثّر. ولا يرد عليه شبهة الأولويّة الذاتيّة؛ لأنّ ما هو مناط ذلك الاستدلال - وهو أنّ موجوديّة الممكن بصيرورته (3) موجودا بعد أن لم يكن في نفسه كذلك - أمرٌ بيّنُ الثبوت للممكن؛ إذ الممكن هو الذي لا يكون موجودا في حدّ ذاته ونفسه، فبالضرورة يكون وجوده بهذا الوجه، بخلاف ما هو مناط استدلال (4) المشهور من تساوي نسبة الوجود والعدم إلى ذات


1- .في النسخة: «أمر ثالث».
2- .في النسخة: «صيروية».
3- .في النسخة: «بصيروريّة».
4- .في النسخة: «الاستدلال».

ص: 319

الممكن، فإنّه أمر غير بيّن الثبوت لها، بل يحتاج إثباته لها إلى بيان، ولذلك اشتغل القوم بإبطال الأولويّة الذاتيّة، وقد ذهب بعضهم إلى أنّ احتياج الممكن إلى المؤثّر، والحادث إلى المحدث بديهيّ فطري لا يحتاج إلى الاستدلال، وهو حقّ؛ لأنّ الفطرة الصحيحة تشهد بامتناع أن يكون أمر واحد بعينه تارة معدوما بنفسه، وتارة موجودا بنفسه من غير جهة خارجة؛ لأنّ هذا نحو من ترجّح بلا مرجّح، وهو ضروري الامتناع، بديهي البطلان. المقدّمة الثانية: أنّه لا يجوز أن يكون علّة موجوديّة الممكن واتّصافه بالوجود - يعني علّة كونه بحيث يصحّ انتزاع الوجود عنه والحكم باتّصافه به - ذلك الوجود المنتزع العقلي؛ لأنّ علّة كون الشيء موجودا في الخارج لا يكون إلّا ما هو موجود فيه؛ لامتناع تأثير المعدوم في الموجود الخارجي بالبديهة فضلاً عن تأثير ما لا يتصوّر وجوده فيه؛ لكونه من المعقولات الثانية. ولا يجوز أن يكون علّته الماهيّة الممكنة الخالية عن الوجود في حدّ ذاتها، أي الماهيّة المأخوذة بحيث لا يصحّ أن ينتزع عنها الوجود؛ لأنّ المعدوم لا يصحّ إيجاده لشيء فضلاً عن أن يُوجِد ذاتَه بديهةً؛ فالعلّة المؤثّرة لاتّصاف الماهيّة الممكنة الخالية عن الوجود في حدّ ذاتها بالوجود وصيرورتها بحيث يصحّ انتزاع الوجود عنها لا يكون إلّا موجودا آخر مباينا له. وقد استعمل هذا المعنى أبو عبد اللّه عليه السلام كما رواه الصدوق ابن بابويه عن هشام بن الحكم أنّه قال أبو شاكر الديصاني لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما الدليل على أنّ لك صانعا؟ فقال: «وجدتُ نفسي لا تخلو من إحد[ى] جهتين: إمّا أن أكون صنعتها أنا، فلا أخلو من أحد معنيين: إمّا أن أكون صنعتُها وكانت موجودة، أو صنعتُها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتُها وكانت موجودة فقد استغنيت لوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئا، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعا وهو اللّه ربّ العالمين» (1) .


1- .التوحيد، ص 290، باب 41، ح 10.

ص: 320

المقدّمة الثالثة: أنّ الموجودات - التي يحتاج كلّ واحد منها إلى موجد مباين له - يحتاج مجموعها - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - إلى الموجد المباين لذلك المجموع الخارج عن الكلّ، وحكم الواحد والجملة لا يختلف في هذا المعنى؛ لأنّ مجموعها ماهيّات يصحّ على جميع تلك الماهيّات أن يكون خالية عن الوجود؛ فإنّه كما أنّ كلّ واحد منها لا يكون موجودا في حدّ ذاته ونفسه، ويحتاج في صيرورته موجودا إلى أمر موجود مباين له، كذلك جملة تلك الآحاد ومجموعها - متناهية كانت أو غير متناهية - لا تكون موجودةً في حدّ ذاتها ونفسها، وتحتاج في صيرورتها موجودة (1) إلى أمر مباين لها خارج عنها؛ فإنّ العقل لا يفرّق في هذا الحكم بين كلّ واحد منها وبين الجملة المتناهية منها بالضرورة، وكذلك لا يفرّق بين الجملة المتناهية وبين الجملة الغير المتناهية منها بالبديهة. وبالجملة، جميع الممكنات الصرفة - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - في حكم ممكن واحد في إمكان طريان الانعدام عليها بالكلّيّة، فالكلّ يحتاج إلى مؤثّر موجود خارج عنه، وهذا من ضروريّات الفطرة السليمة التي لا تختلّ بسوء الاستعداد، ولا تشاب (2) بشوائب الشكوك والشبهات. وأقول: بهذه المقدّمات قد تبيّن إثبات الواجب بالذات بحيث لا يحتاج إلى أخذ الدور والتسلسل في بيانه، تقريره أنّه إن كان في سلسلة الموجودات واجب الوجود بالذات فهو المطلوب، وإلّا فانحصر الموجود الخارجي في الممكنات، والتالي باطل، فالمقدّم مثله. أمّا الملازمة فضروريّة (3) ، وأمّا بيان بطلان التالي فأقول فيه: جميع الموجودات الممكنة - بحيث لا يشذّ عنها فرد - ممكن خالٍ عن الوجود في حدّ ذاته ونفسه، وكلُّ ما هو ممكن غير موجود في حدّ ذاته ونفسه - سواء كان واحدا أو متعدّدا، متناهيا أو غير متناهٍ - محتاج في صيرورته موجودا إلى مؤثّر موجود مباين له، خارجٍ عنه بحكم المقدّمات الثلاث، فجميعُ


1- .في النسخة: «لا يكون موجودا... ويحتاج... موجودا».
2- .في النسخة: «لا يختل... لا يشاب».
3- .في النسخة: «فضروري».

ص: 321

والليلَ والنهارَ يَلِجان فلا يَشتبهان ويَرجِعان ، قد اضطُرّا ، ليس لهما مكانٌ إلّا مكانُهما ،

الموجودات الممكنة - بحيث لا يشذّ عنها فرد - محتاجٌ في صيرورته موجودا إلى موثّر موجود خارج عنها، والموجود الخارج عن سلسلة جميع الممكنات واجب الوجود بالذات، فثبت أنّ واجب الوجود بالذات موجود في الخارج، فالموجود الخارجي لا ينحصر في الممكنات، هذا خلف. وبطريق آخر أقول: جميع الموجودات الممكنة - ولو كانت غير متناهية - يمكن طريان العدم عليها بالكلّيّة، أو يمكن أن يكون معدوما رأسا وبالكلّيّة بدل كونها موجودا، وكلّ ما هو كذلك فله مؤثّر موجود خارج عنه، مباين له، بحكم المقدّمات المذكورة، والموجود الخارج عن الممكنات جملة وجميعها هو واجب الوجود بالذات، فلا ينحصر الموجود الخارجي في الممكنات، هذا خلف. ولا يتوهّم شبهة ما فوق المعلول الأخير هاهنا أصلاً كما لا يخفى. إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تقرير الوجوه الثلاثة التي استدلّ بها عليه السلام على إثبات الصانع القادر المختار العالم الواجب بالذات. أمّا الوجه الأوّل فأشار إليه عليه السلام بقوله: «أما تَرى الشمس والقمر» إلى قوله: «وأكبر» «أما» حرف تنبيه. ويحتمل أن يكون الهمزة للاستفهام الإنكاري و«ما» نافية. و«الشمس» منصوب مفعول أوّل ل- «ترى». و«الليل» مرفوع بالابتداء. و«يلجان» خبر عن الليل والنهار، والجملة حاليّة. و«قد اُضطرّا» على صيغة المجهول مفعول ثانٍ ل- «ترى» أي تعلم الشمس والقمر قد اضطرّا في حركتهما والحال أنّ الليل والنهار يلجان، أي يلج كلّ واحد منهما في صاحبه بأن يدخل شيء من الوقت والقدر الذي كان داخلاً في الليل في النهار في أيّام طول النهار، وبالعكس في أيّام طول الليل، فلا يشتبه قدرهما بالدخول والخلط، بل محفوظ على نسق واحد، ويرجعان إلى مثل ما كانا عليه أوّلاً من استوائهما وعدم الولوج في كلّ سنة مرّتين عند تحويل الشمس إلى أوّل الحَمَل، وعند تحويلها إلى أوّل الميزان. وقوله عليه السلام : (ليس لهما مكان) إلخ دليل على اضطرارهما، أي ليس للشمس والقمر

ص: 322

فإن كانا يَقدِرانِ على أن يَذهَبا فَلِمَ يرجعانِ؟ وإن كانا غيرَ مُضطرَّيْنِ فَلِمَ لا يَصيرُ الليلُ

مكان في سيرهما إلّا مكانهما الذي هما عليه في السير ذهابا ورجوعا يعني لهما في الحركة انتظام وانتساق واحد لا يتجاوزانه أبدا، فتلك الحركة لا يجوز أن تكون (1) طبيعيّة؛ لأنّهما (إن كانا يقدران) أي يقويان (على أن يذهبا) بالطبع (فلِمَ يرجعان؟). والحاصل أنّ طبيعتهما إن اقتضيتا الذهاب من حدّ، والتوجّه إلى حدّ آخر، فلِمَ يرجعان عن حدّ المتوجّه إليه إلى الحدّ المذهوب عنه؟ توضيح ذلك أنّ الحركة الطبيعيّة هرب عن حالة منافرة، وطلب لحالة ملائمة، وكلّ من الهرب والطلب في الحركة المستديرة محال. أمّا أنّه لا يمكن أن تكون تلك الحركة هربا، فلأنّ ترك كلّ نقطة، أو وضعٍ في الحركة المستديرة، وهربَه عن كلّ منهما عين التوجّه إلى ذلك النقطة، أو إلى مثل ذلك الوضع. والهرب عن الشيء بالطبع استحال أن يكون توجّها إليه. وأمّا أنّه لا يمكن أن يكون طلبا لحالة ملائمة، فلأنّ طلب كلّ نقطة، أو وضع في الحركة المستديرة، والتوجّه إلى كلّ منهما عين تركه وهربه عن تلك النقطة، أو عن مثل ذلك الوضع. والتوجّه إلى الشيء بالطبع استحال أن يكون هربا عنه، ولأنّ الطبيعة إذا أوصلت الجسم بالحركة إلى الحالة المطلوبة سكّنته، وحينئذٍ يلزم دوام الليل، أو دوام النهار وصيرورة أحدهما آخر. ولا يجوز أن يكون قسريّة؛ لأنّ القسر على خلاف ميل يقتضيه الطبع، فحيث لا طبع لا قسر. ولمّا كان نفي الحركة الطبيعيّةً مستلزما (2) لنفي القسريّة اكتفى عليه السلام بذكر الأوّل، ولم يتعرّض للتصريح بالثاني، فقوله عليه السلام : «فإن كانا يقدران» إلى قوله: «وإن كانا» برهان على نفي هاتين (3) الحركتين عن الشمسين. ولا يجوز أن يكون اختياريّة، أي إراديّة محضة غير اضطراريّة؛ لأنّ العاقل متى رأى


1- .في النسخة: «أن يكون».
2- .في النسخة: «مستلزم».
3- .في النسخة: «هذين».

ص: 323

نَهارا والنهارُ ليلاً؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهلِ مصرَ إلى دوامهما ، والذي اضطَرَّهما أحكَمُ منهما .........

حركة منضبطة على نسق واحد لا يتغيّر أبدا يتحدّس من ذلك بأن التحرّك بها غير مختار، كما يتحدّس من عدم اختلاف مقتضيات الجمادات - إذا خلّيت بطبائعها - بعدم اختيارها، فلو كانت حركتهما اختياريّة، وكانا غير مضطرّين في انضباط حركتهما لتختلف حركتهما، كما يشهد عليه الحدس الصائب، فيصير ما يكون ليلاً عند الاتّساق كلّه، أو بعضه نهارا، وما يكون نهارا عند الانضباط كلّه، أو بعضه ليلاً، والتالي ظاهر البطلان، فكذا المقدّم، فبقي أنّ حركتهما إراديّة اضطراريّة وهما مضطرّان في الانضباط، فقوله: «وإن كانا» إلى قوله: «اُضطرّا» دليل على أنّ حركتهما ليست اختياريّة وإراديّة صرفة. وقولُه عليه السلام : (اُضطرّا واللّهِ يا أخا أهل مصر إلى دوامهما) أي استمرارهما على النسق الذي هما عليه، نتيجةٌ للدليل. وتأكيده بالقَسَم إشارة إلى أنّه حكم متيقّن بالبرهان، وليس من المظنونات. وإذا كانا مضطرّين في الحركة كان (الذي اضطَرَّهما) وجعلهما مضطرّين - يعني المحرّك الأوّل والمبدأ الأوّل لهاتين الحركتين الاضطراريّتين، سواء كان مبدأ لهما بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط، متناهية كانت تلك الوسائط؛ لاستحالة آلته، أو غير متناهية على تقديرٍ محالٍ - (أحكمُ منهما) أي أشدّ إحكاما، وأقوى وأقدر منهما وممّا يحذو حذوهما من سائر الأجرام الفلكيّة المشاركة لهما في لزوم المكان والاضطرار؛ لأنّ الغالب القاهر أقوى من المغلوب المقهور بالضرورة، ولا شكّ في أنّ ما هو أقوى من الأجرام العِلويّة الفلكيّة لا يكون جسما ولا جسمانيا، فلا يكون له مكان ومحلّ وموضوع وغير ذلك من خواصّ الأجسام والجسمانيّات، فثبت أنّه مجرّد. وقد بُني التفضيل من المزيد فيه على الشذوذ كما في «أخصر» من الاختصار، وفي «أفلس» من الإفلاس. وقيل: «أحكم» هاهنا مشتقّ من الحكمة، يعني أنّ هذه الآثار يترتّب عليها مصالح

ص: 324

وأكبَرُ» . فقال الزنديق : صَدَقْتَ .

عظيمة كثيرة لا يمكن أن تصدر إلّا عن حكيم قادر أحكمَ وأقدرَ من المخلوقات بأسرها. وقوله عليه السلام : (أكبر) أي أكبر من أن يتّصف بصفات المضطرّ لا سيّما صفة يوجب اضطراره في التغيّر والخروج من مرتبة الخلوّ عن الوجود إلى مرتبة الخلط والاتّصاف به وهي الإمكان، فيجب أن يستند حركتهما إلى محرّك أوّلَ، ومبدأ أوّل غير متحرّك ولا متغيّر بالخروج من العدم إلى الوجود، أو بالخروج من مرتبة الخلوّ عن الوجود إلى مرتبة الخلط والاتّصاف به؛ لأنّ كلّ ما هو ممكن - سواء كان واحدا أو كثيرا، متناهيا أو غير متناهٍ، حادثا أو قديما زمانيا على تقدير وجوده - يحتاج إلى مؤثّر موجود خارج عن سلسلة جميع الممكنات بحكم المقدّمات الثلاث، وذلك هو واجب الوجود بالذات، ويسمّى بالمحرّك الأوّل عند المحقّقين من الطبيعيين القائلين بوجود الواجب، وبالمبدأ الأوّل عند الإلهيين، فثبت بهذا البرهان وجود مجرّد، أو حكيم قادر صانع للعالم واجب الوجود بالذات، من غير توقّفه على إبطال التسلسل وبطلان الدور، ولا يتوهّم فيه شبهة الأولويّة الذاتيّة، وشبهة ما فوق المعلول الأخير. وقد استدلّ عليه السلام أوّلاً على وجوده تعالى بالحركة؛ لضرورة احتياجها إلى المحرّك والعلّة؛ لأنّ خروجها من العدم إلى الوجود ضروري بخلاف الأجسام. واستدلّ بحركات العِلْويّات دون السِفْليّات لوجوه: الأوّل: للإشارة إلى أنّ الدهر الذي هو مبدأ للسِفْليّات عندهم معلول له تعالى؛ لأنّه مقدار حركة الفلك التي يدلّ هذا الدليل على أنّها معلول له تعالى؛ لأنّه يدلّ على استناد جميع الحركات السماويّة إليه تعالى، فمقدار تلك الحركة وما هو معلول لذلك المقدار من السِفْليّات على زعمهم يكون معلولاً له تعالى بطريق أولى؛ لأنّ معلول معلول الشيء معلول له بالضرورة. والثاني: لأنّ ما توهّموه أن لا مبدأ له هي العِلْويّات دون السِفْليّات، لأنّهم قائلون بأنّ الدهر مبدأ للسفليّات.

ص: 325

ثمّ قال أبو عبداللّه عليه السلام : «يا أخا أهلِ مصرَ ، إنّ الذي تَذهبونَ إليه وتَظُنّونَ أنّه الدهرُ إن كان الدهرُ يَذهبُ بهم لِمَ لا يَرُدُّهم ؟ وإن كان يَرُدّهم لِمَ لا يذهب بهم؟ القومُ مُضطرُّون

والثالث: لأنّ الغالب القاهر على الأجسام العلويّة أحقّ بالغلبة والقهر على السفليّات الظاهر تأثّرها من العلويّات دون العكس. وأمّا الوجه الثاني فأشار إليه عليه السلام بقوله: (يا أخا أهل مصر إنّ الذي) إلى قوله: (القوم مضطرّون) وهذا الوجه مشتمل على إبطالِ مذهب الخصم من القول بمبدئيّة الدهر للكائنات الفاسدات كما في قولهم: إن يهلكنا إلّا الدهر، وإثباتِ مذهب الحقّ من أنّ صانع الكلّ هو القادر المختار العالِم الواجب بالذات. وتقرير الدليل أنّ الدهر هو الزمان، وليس للزمان شعور وإرادة بالضرورة والاتّفاق، والناس يذهبون، أي يخرجون من الوجود إلى العدم، ويعودون بعد ذلك بالاتّفاق، لكن على معتقدنا في الآخرة، وعلى زعمكم في الدنيا على سبيل التناسخ، فلا بدّ من أن يكون الصانع يصدر عنه الأفعال المختلفة المتقابلة، والأفعال المختلفة المتقابلة لا يمكن أن تصدر (1) عن عديم الاختيار فضلاً عن عديم الشعور، فالدهر لو كان علّة لذهابهم فلِمَ لا يَرُدُّهم؟ وإن كان علّة لردّهم فلِمَ لا يكون علّة لذهابهم؟ مع أنّ علّة ذهابهم وعودهم واحد بالاتّفاق، فيجب أن يكون المبدأ للسفليّات مختارا ذا شعور يكون علّة للأفعال المختلفة من ذهابهم وردّهم. و(القوم مضطرّون) في الخروج من الوجود إلى العدم، ومن العدم إلى الوجود؛ لخلوّ ذواتهم في أنفسها عن الوجود والعدم، فلا بدّ من أن يكون الواحد الذي يفنيهم ويوجدهم موجودا متنزّها عن الاضطرار، وما هو مبدؤه ومنشؤه من الإمكان الذاتي؛ لأنّ كلّ ممكن بالذات مضطرّ ومحتاج في الخروج من الوجود إلى العدم، ومن العدم إلى الوجود، بل في الخروج من مرتبة الخلوّ عن الوجود إلى مرتبة الخلط به بموجود قاهر غالب على إفنائه وإيجاده؛ لضرورة امتناع تأثير المعدوم في الموجود، ولا بدّ أن لا يكون متّصفا بالإمكان


1- .في النسخة: «أن يصدر».

ص: 326

يا أخا أهل مصر ، لِمَ السماءُ مرفوعَةٌ والأرضُ مَوضوعَةٌ ؟ لِمَ لا يَسقطُ السماءُ على الأرض ؟

الذاتي الذي هو علّة للاضطرار والاحتياج إلى الغير في الوجود، وإلاّ فهو أيضا محتاج ومضطرّ في اتّصافه بالوجود إلى موجود آخر، وينقل الكلام إليه فإن لم يكن له مبدأ فهو الواجب بالذات، وإلّا فيجب أن ينتهي إليه بحكم المقدّمة الثالثة (1) ، أو لاستحالة الدور والتسلسل، وبناء على المقدّمة الثالثة 2 جليلة كثيرة من تركيب المركّبات وحدوث الحادثات وحصول الأنواع المركّبة من الإنسان والحيوان والنبات والمعادن إلى غير ذلك ممّا لا تعدّ ولا تحصى. ولا شكّ في أنّهما صفتان ممكنتان، وكلّ ممكن موجود محتاج إلى مؤثّر موجود بحكم المقدّمة الاُولى، ومؤثّرهما لا يجوز أن يكون عديم الاختيار والشعور؛ لما عرفت من أنّ الاُمور المختلفة المتقابلة لا تصدر عن غير المختار فضلاً عن عديم الشعور. ولا يجوز أن يكون عديم الحكمة والمصلحة؛ لأنّ العقل حاكم بالضرورة على أنّ ما يشتمل على حِكَم ومصالح كثيرة لا يمكن صدوره عن غير الحكيم.


1- .كذا. قال المؤلّف بعد ذكر المقدّمات: «وأقول: بهذه المقدّمات قد تبيّن إثبات الواجب بالذات بحيث لا يحتاج إلى أخذ الدور والتسلسل».

ص: 327

لِمَ لا تَنْحَدِرُ الأرضُ فوقَ طِباقِها ، ولا يَتماسكانِ ، ولا يَتماسَك مَن عليها؟» ، قال الزنديق : أمْسَكَهما اللّهُ ربُّهما وسيّدُهما . قال : فآمَنَ الزنديقُ على يَدَيْ أبي عبداللّه عليه السلام . فقال له حُمرانُ : جُعِلتُ فداك ، إن آمَنَتِ الزنادقةُ على يَدِكَ .........

ولا يجوز أن يكون غير الواجب بالذات؛ لما عرفت من أنّ الممكن - سواء كان واحدا أو متعدّدا، متناهيا أو غير متناهٍ - يجب أن يستند في الوجود إلى الواجب بالذات، فثبت أنّ مؤثّرهما وصانعهما - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط كثيرة - يجب أن يكون صانعا قادرا مختارا حكيما واجب الوجود بالذات، وذلك لا ينافي استنادهما أوّلاً بطبيعة السماء والأرض. وقوله عليه السلام : (لِمَ لا تَنْحَدِرُ الأرضُ؟) معطوف على قوله: (لِمَ لا تَسْقطُ السماءُ على الأرض؟) بحذف العاطف. وقوله عليه السلام : (فوق طِباقِها) منصوب بنزع الخافض، أي لِمَ لا تنحدر هذه الطبقة من الأرض عن فوق سائر طبقاتها، أو مرفوع بدلاً عن الأرض، أي لِمَ لا تنحدر الطبقة الفوقانيّة من الأرض إلى الماء مع أنّ مكان طبيعيّ الماء فوقها، فكشف اللّه تعالى بحكمته الكاملة وتدبّره للعالم الطبقةَ الفوقانيّة، ورفعها فوق الماء ليتكوّن المعادن والنبات والحيوان والإنسان، وتتعيّش الحيوانات فيها. وقوله عليه السلام : (فلا يَتماسكانِ) أي السماء والأرض. وقوله عليه السلام : (ولا يَتَماسَك مَن عليها) أي من على الأرض على سبيل تغليب ذوي العقول على غيرهم. فلمّا بلغ اليقين (1) الحاصل للزنديق بالدليل الأوّل إلى أقصى الغاية بتكرار الدليل والاستدلال على المطلوب بوجوه مختلفة ، آمن الزنديق وصرّح بكلمة الإيمان. وقوله: (إن آمَنَتِ الزنادقةُ على يديك) جزاؤه محذوف اُقيم دليله مقامه، أي فلا


1- .في النسخة: «يقين».

ص: 328

فقد آمَنَ الكفّارُ على يَدَيْ أبيك ، فقالَ المؤمنُ الذي آمَنَ على يَدَيْ أبي عبداللّه عليه السلام : اجْعَلْني من تلامذتك ، فقال أبو عبداللّه : «يا هشام بن الحكم ، خُذْهُ إليك وعَلِّمْه» ، فَعَلَّمَه هشامٌ ، فكانَ مُعلّمَ أهلِ الشام وأهلِ مصرَ الإيمانَ ، وحَسنَتْ طهارتُه حتّى رَضِيَ بها أبو عبداللّه .

تعجب؛ لأنّه (قد آمَنَ الكفّارُ على يَدَيْ أبيك) يعني رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وقوله عليه السلام : (خُذْهُ إليك) أي ضمّه إليك. وقوله: (فَعَلَّمه هشامٌ وكان) أي كان هشام (مُعلّمَ أهلِ الشام) إلخ، كلام عليّ بن منصور. ثمّ يمكن حمل الدليل الثالث - على ما استدلّ به بعض الفضلاء - على وجود الصانع الحكيم، وهو: أنّ كلّ جزء من أجزاء العالم واقع على النحو الواجب في حصول الكمال الكلّي النافع في نظام الكلّ بحيث حصل منها جملة منتظمة متّسقة متقنة كوقوع كلّ جزء من أجزاء بدن الإنسان في موقعه النافع في نظام كلّ البدن، مثلاً وقع كلّ من الشمس والقمر وسائر الكواكب بحركاتها المختلفة والأرض والماء والهواء والنار بوجهٍ يعدّ بجملتها لتركّب المركّبات وحدوث الحادثات وحصول الأنواع المركّبة من الإنسان والحيوان والنبات والمعادن إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المستبصرين. فوقوع كلّ منها على هذا النحو الواقع لأحد اُمور ثلاثة: إمّا باختيار كلّ منها ما هو عليه؛ لعلمه بأنّ الصلاح الكلّي في ذلك. وإمّا لأنّ طبيعة كلّ منها واقعة اتّفاقا على النحو الواجب النافع في الصلاح الكلّي. وإمّا لأنّ صانعا حكيما فعلها وفطر طبائعها على النحو الواجب النافع في حصول الكمال الكلّي المنتج للأنواع الكاملة. أمّا الأوّل فلا يتوقّف عاقل في الحكم بانتفائه؛ لأنّا نعلم أنّه ليس لشيء من هذه الجمادات من الحكمة بحيث علم وأحاط بالكلّ، وعلم أنّ الصلاح الكلّي كريم

ص: 329

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن عليّ ، عن عبد الرحمن بن محمّد بن أبي هاشم، عن أحمدَ بن مُحَسِّنٍ الميثميِّ، قال : كنت عند أبي منصور المتطبّب،فقال: أخبَرَني رجلٌ من أصحابي قال:كنتُ أنا وابن أبي العوجاء وعبداللّه بن المقَفَّعِ

السجيّة، فبذل نفسه في تحصيلها، هذه لا شكّ في انتفائها (1) ، كيف، والإنسان الذي على الكلّ لا يحيط بمثل هذا إلّا [بعض ]الأفراد، بل ولا إلّا على نحو مجمل، وأيضا كيف يتّفق كلّ منها مع اختلاف حقائقها وتباين مقتضياتها في اختيار ذلك الصلاح الكلّي بعينه؟ ومن هذا يتفطّن الألمعي الذكيّ بوحدة الإله أيضا؛ فتدبّر. وأمّا الثاني فكذلك لا يخفى، فإنّ جزالة مثل هذا الخَطْب (2) الجسيم، والأمر العظيم الشأن الشريف، والغاية العظمى إلى محض الاتّفاق ممّا يستحيل عند العقل، وغاية مجال الاتّفاق معلوم، فتعيّن الثالث وهو المراد فاعرف. انتهى كلامه. ولا يذهب عليك أنّ حمله على ما ذكرناه أكمل وأتمّ من حمله على هذا؛ فتدبّر، واللّه وليّ التوفيق والهداية. قوله: (عن أحمد بن محسن الميثمي) بفتح الميم والثاء المثلّثة المفتوحة بينهما ياء مثنّاة تحت ساكنة كذا في الخلاصة (3) في ترجمة أحمد بن ميثم وفي الإيضاح (4) أحمد بن ميتم بكسر الميم وإسكان الياء الخاتمة وفتح التاء المنقّطة فوقها نقطتين، وفيه ترجمة ميثم بن يحيى بكسر الميم وبالثاء المثلّثة، وهذا موافق لما في القاموس حيث ذكر فيه: «ميثم اسمٌ». وصحّحه بكسر الميم (5) . وقوله: (أبي منصور المتطبِّب) على صيغة اسم الفاعل من باب التفعّل، قالوا: ليس للتكلّف، بل للمبالغة في تعلّم الطبّ. و(ابن أبي العوجاء) اسمه عبد الكريم. و(المُقفّع)


1- .في النسخة: «انتفائه».
2- .في هامش النسخة: الخَطْبُ: الشأنُ والأمرُ صَغُرَ أو عَظُمَ (ق). [القاموس المحيط، ج 1، ص 195 (خطب)].
3- .الخلاصة، ص 15، الرقم 12.
4- .إيضاح الاشتباه، ص 105، الرقم 70. وانظر أيضا ، ص 113، الرقم 93.
5- .القاموس المحيط، ج 4، ص 261 (وثم) . وفيه: «ميثم اسمٌ وثِم لها بالكسر، أي أجمع لها».

ص: 330

في المسجد الحرام ، فقال ابن المقفّع : تَرَوْنَ هذا الخلق - وأوْمَأَ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحدٌ أوجِبُ له اسمَ الانسانيّة إلّا ذلك الشيخُ الجالسُ - يعني أبا عبدللّه جعفر بن محمّد عليهماالسلام - فأمّا الباقونَ فرَعاعٌ وبهائمُ . فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوْجَبْتَ هذا الاسم لهذا الشيخ دونَ هؤلاء؟ قال : لأنّي رأيتُ عنده ما لم أرَهُ عندهم . فقال له ابن أبي العوجاء : لابُدَّ من اختبار ما قلتَ فيه منه ، قال : فقال له ابن المقفّع : لا تفعَلْ ، فإنّي أخافُ أن يُفسِدَ عليك ما في يدك ، فقال : ليس ذا رأيَكَ ، ولكن تَخافُ أن يَضعُفَ رأيُك عندي في إحلالك إيّاه المحلَّ الذي وَصَفْتَ؟ فقال ابن المقفّع : أمّا .........

بالميم المضمومة والقاف المفتوحة والفاء المشدّدة المفتوحة. وقوله: (وأومأ بيده إلى موضع الطواف) أي أشار إلى الطائفين جميعا. وقوله: (اُوجِبُ) على صيغة المتكلّم من باب الإفعال. والرَعاع كسحاب اسم جمع، أي الأداني والأراذل الحمّاق الذين لا عقل لهم. وقيل (1) : أي الذين يخدمون بطعام بطونهم، ويتّبعون كلّ أحد. وقوله: (وبهائمُ) أي في البلادة. وقوله: (لا بدّ من اختبار ما قلتَ فيه منه) أي لا بدّ من امتحان ما قلت في شأنه منه. ف- «فيه» متعلّق ب- «قلتَ» و«منه» متعلّق ب- «اختبار». وقوله: (يفسد) من الإفساد، أو من الفساد. و(ما في يدك) مفعول «يفسد» على الأوّل، أو فاعله على الثاني، والمراد مذهبه ومعتقده، أو ما يتمسّك به على مذهبه. وقوله: (ليس ذا) أي الخوف على هذا (رأيك). وقوله: (في إحلالك) بالحاء المهملة إلخ أي في إنزالك إيّاه المنزلة التي وصفت له. وقوله: (أما) إمّا بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف تنبيه، ويسمّى حرف استفتاح أيضا، أو بتشديد الميم وهي حرف للشرط نحو قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» (2) ، وللتفصيل - وهو غالب أحواله - ومنه «وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ»


1- .القائل الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 308 (مخطوط).
2- .البقرة (2): 26.

ص: 331

إذا تَوَهَّمْتَ عليَّ هذا فقُمْ إليه وتَحَفَّظْ ما استطعتَ من الزلل ، ولا تَثْني عنانَك إلى استرسالٍ فيُسَلِّمَكَ إلى عِقالٍ ، .........

«وَأَمَّا الغُلامُ» «وَأَمَّا الجِدارُ» (1) الآيات، وقد يترك تكرارها استغناءً بذكر أحد الشقّين عن الآخر نحو قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» (2) أي وأمّا الذين كفروا باللّه كذا وكذا، وللتأكيد كقولك: أمّا زيد فذهب، إذا أردتَ أنّه ذاهب لا محالة، وأنّه منه عزيمة. يعني مهما يكن من شيء ف- (إذا تَوهَّمتَ عليّ هذا فقُمْ إليه وتَحفَّظْ) إلخ وإذا لم تتوهّم عليّ هذا فكأنّك. ف- «أمّا» مشتملة على المعاني الثلاثة، وفعله محذوف، ومجموع الشرط والجزاء - الذي بعدها - جواب لذلك الشرط. ويترك تكرارها باعتبار معنى التفصيل استغناءً بذكر الأوّل عن الثاني. وذكر «على» لتضمين التوهّم معنى الكذب والافتراء، أو «على» للإضرار، أي إذا أسأت توهّمك في حقّي. و«إليه» متعلّق ب- «قم» لتضمينه معنى المشي. وقوله: (وتحفّظ) على صيغة الأمر من باب التفعّل، أي احفظ نفسك ولا تغفل (ما استطعت) أي ما دمت مستطيعا. وقوله: (من الزلل) متعلّق ب- «تحفّظ» و«لا» في قوله: «ولا تَثْنِ» نهي. وفي بعض النسخ: «لا تثني» وحينئذٍ إمّا أن يكون نهيا، والأصل «لا تثن» اُشبعت الكسرة فتولّدت الياء، فوزنه لا تفعي، أو يكون نفيا ويراد به النهي، فوزنه لا تفعل، فهو إنشاء في قالب الخبر، نحو: صلّى اللّه على محمّد وآله، أي ولا تعطف (عنانك) والعِنان - بكسر العين - : سَيْر اللجام الذي يُمسك به الدابّة، والمراد به هاهنا ما يُمسك به نفسه. والعنان أيضا المعانة وهي المعارضة. وقوله: (إلى استرسال) متعلّق ب- «لا تثنِ» يقال: استرسل إليه، إذا انبسط واستأنس، والمقصود أنّه لا تُمِل إلى الرفق والمساهلة (فيُسلمك إلى عقالٍ) من التسليم أو الإسلام، يقال: أسلم أمره إلى اللّه ، أي سلّمه.


1- .الكهف (18): 79 - 81.
2- .النساء (4): 175.

ص: 332

وسِمْهُ ما لَك أو عليك . قال : فقام ابن أبي العوجاء وبقيتُ أنا وابن المقفّع جالِسَيْنِ ، فلمّا

وقوله: (وسِمةٍ مالك وعليك) أقول: الواو للعطف على «عقال». والسِمَة - بكسر السين - : العلامة. قال في القاموس: «السُومةُ بالضمّ والسِمة والسِيمةُ والسِيماءُ بكسرهنّ: العلامة (1) »انتهى. أو أثر الكَيّ قال في الصحاح: «وَسَمه وَسْما وسِمَةً، إذا أثّر فيه بسمة وكَيٍّ. والهاء عوض من الواو» (2) . وقال في القاموس: «الوَسْم أثرُ الكَيِ ج (3) وُسوم وسَمَه يَسِمُه وَسْما وَسِمَةً فاتَّسَمَ والوِسامُ والسِمَةُ بكسرها (4) ما وُسِم به الحيوان (5) » انتهى. و«ما» إمّا نافية، وحينئذٍ معناه: يُسلمك (6) إلى علامة ليست لك، والحال أنّها عليك، أي لا ينفعك بل يضرّك. وإمّا موصولة يضاف إليها السِمة، يعني يسلمك إلى عار شيء هو لك وعليك بأن يتبيّن أنّ ما هو لك بزعمك وما هو مستندك إنّما هو عليك وناقض لدعواك. والحاصل أنّه يستدلّ على بطلان مذهبك بما هو مستندك فيه، ومسلّم عندك. قيل: يريد ويسلمك إلى عار مالك وعليك بإفساد مالك عليك، كما في قوله: «أن يفسد عليك ما في يدك» وبإتمام ما عليك عليك. وصحّحه بعضهم (7) بالشين المعجمة المفتوحة أو المضمومة وتشديد الميم وبالضمير أمرا من شمّ يشمّ، وجعله نحو قولهم: شاممتُ فلانا، إذا قاربتَه وتعرّفت ما عنده بالاختبار


1- .القاموس المحيط، ج 4، ص 188 (سوم) . وفيه: «السومة بالضمّ والسيمة والسيماء والسيمياء».
2- .الصحاح، ج 4، ص 2051 (وسم).
3- .هي علامة الجمع.
4- .في المصدر: «بكسرهما».
5- .القاموس المحيط، ج 4، ص 263 (وسم).
6- .ضبطها في النسخة وكذا في الموارد الآتية: «يُسلّمك» ، وتقدّم أنّها من التسليم أو الإسلام.
7- .نقله السيّد أحمد العلوي في الحاشية على اُصول الكافي، ص 216، عن «بعض من عاصرناه سالفا و مراه في موارد المشابه منه محمّد أمين الإسترآبادي ، ولكن لم أعثر عليه في حاشية على اصول الكافي، ونقله في مرآة العقول، ج 1، ص 245 عن بعض الأفاضل.

ص: 333

والكشف كأنّك تشمّ ما عنده، ويشمّ ما عندك لتعملا بمقتضى ذلك، وعلى هذا «ما» استفهاميّة أو موصولة بدل من الضمير، أي شمّ وتعرف مالك وما عليك من أنواع الكلام الذي تريد أن تورده عليه. انتهى. أقول: وبناء على التصحيف يحتمل أن يكون وَشمه بفتح الواو وسكون الشين المعجمة وفتح الميم وبالهاء، أي كلّمه، قال الجوهري: «ما عَصَيتُه وَشْمَةً، أي كلمةً (1) » وحينئذٍ يكون العقال مضافا إليها، أي يسلمك إلى عقالِ كلمةٍ لا ينفعك ويضرّك بأن يجرّ الكلام إلى أن تتكلّم بكلمة كذا، هذا إذا كانت «ما» نافية. ويحتمل أيضا أن يكون موصولة يضاف إليها الوَشْمة. وقرأ بعض الأعلام (2) : وسُمْه أمرا مِن سام يسوم مع الضمير والعطف، وقال: السوم أن يجعل الشيء في معرض البيع والشرى، ويُتعرّض للمعاملة بأخذه أو إعطائه. والمراد بقوله: «وسُمْهُ مالك وعليك» تحفّظ ولا تساهل وساوِمه فيما لك وما عليك، أي اعرض عليه ما لك، واستمع منه ما عليك ناظرا فيهما بنظر البصيرة لئلّا تُغلَب (3) وتصير محجوبا (4) . انتهى. «ويل» كلمة عذاب بمعنى الحزن والهلاك وحلول الشرّ والمشقّة من العذاب. وويحٌ كلمةُ رحمةٍ بمعنى السرور والحياة وحلول الخير والراحة من الثواب، وقال اليزيدي: هما (5) بمعنىً واحد (6) . انتهى. تقول: ويلٌ لزيد وويحٌ لزيد ترفعهما على الابتداء، ولك أن تقول: ويلاً لزيد، وويحا لزيد، فتنصبهما أيضا بإضمار فعلٍ، كأنّك قلت: ألزمه اللّه ويلاً وويحا، ونحو ذلك. ولك أن تقول: وَيْلَه وَوَيْلَكَ ووَيلي وَويلَ زيدٍ، وفي النُدبة: ويلاه. ووَيْحَه ووَيْحَك وَويحي وويحَ زيدٍ بالإضافة، فتنصبهما أيضا بإضمار الفعل.


1- .الصحاح، ج 4، ص 2052 (وشم).
2- .كتب تحتها في النسخة: ميرزا رفيعا (12). قاله في الحاشية على اُصول الكافي، ص 248.
3- .في النسخة: «يغلب».
4- .كتب تحتها: «أي مغلوبا».
5- .أي ويل وويح.
6- .الصحاح، ج 1، ص 417 (ويح).

ص: 334

رجَع إلينا ابن أبي العوجاء قال : ويلك يا ابن المقفّع ، ما هذا ببَشَرٍ ، وإن كان في الدنيا روحانيٌّ يَتَجَسَّدُ إذا شاءَ ظاهرا و يَتَرَوَّحُ إذا شاء باطنا فهو هذا . فقال له : وكيف ذلك؟ قال : جلستُ إليه ، فلمّا لم يَبْقَ عنده غيري ابْتَدَأني فقال : «إن يَكن الأمرُ على ما يقول هؤلاء ، وهو على ما يقولونَ - يعني أهلَ الطواف - فقد سَلِموا وعَطِبْتم ، وإن يكن الأمرُ على ما تقولون - وليس كما تقولون - فقد استَوَيْتم و هُم» .

قال عطاء بن يسار: الويلُ: وادٍ في جهنّم، لو اُرسِلتْ فيها الجبالُ لماعَت (1) مِن حرّها (2) . فقوله: «ويلك يا ابن المقفّع» أي ألزمك اللّه ويلاً يا ابن المقفّع. وقوله: (ما هذا ببشر) تعجّب من تفرّسه وإحاطته عليه السلام بأنواع الأدلّة. و(روحاني) بضمّ الراء نسبة إلى الروح بمعنى الملك والجنّ. وقوله: (يتجسّد إذا شاء ظهر) أي يصير ذا جسد وبدن يُبصر به ويُرى إذا شاء أن يظهر على الناس (وَيَتَرَوَّحُ) أي يصير روحا صرفا يبطن ويخفى عن الأبصار والعيون (إذا شاء باطنا)، فقوله: «باطنا» مفعول به ل- «شاء» كما قيل. ويحتمل أن يكون خبرا ليكون مقدّرا في الكلام، أي إذا شاء أن يكون باطنا مخفيّا عن الناس. وقوله: (إليه) متعلّق ب- «جلست» لتضمينه معنى توجّهت. وقوله عليه السلام : (إن يكن الأمرُ على ما يقول هؤلاء) أي إن يكن الواقع على نحوٍ يقول هؤلاء من أنّ للعالم صانعا مدبّرا إلها، ولهم معادا وثوابا وعقابا، وغير ذلك من الاُمور الدينيّة. وقوله عليه السلام : (وهو على ما يقولون) جملة حاليّة معترضة بين الشرط والجزاء، أي والحال أنّ الأمر والواقع على ما يقولون. وقوله: (يعني أهل الطواف) الظاهر أنّه كلام ابن أبي العوجاء وهو لتفسير هؤلاء، و«عَطِبتم» على صيغة الفاعل من باب علم، أي هلكتم. وقوله عليه السلام : (وإن يكن الأمر كما تقولون) من نفي الصانع والإله والمعاد والثواب والعقاب وسائر الأحكام الدينيّة (وليس الأمر كما تقولون) جملة حاليّة معترضة بين الشرط والجزاء،


1- .في هامش النسخة: ماع السمن، أي ذاب (ص) [الصحاح، ج 3، ص 1287 (ميع)].
2- .الصحاح، ج 3، ص 1846 (ويل).

ص: 335

فقلتُ له : يرحمك اللّه وأيَّ شيءٍ نَقولُ ، وأيَّ شيءٍ يقولون؟ ما قولي وقولُهم إلّا واحد . فقال: «وكيف يكونُ قولُك وقولُهم واحدا، وهم يقولون: إنَ لهم مَعادا وثَوابا وعِقابا،ويدينون بأنَّ في السماء إلها وأنّها عُمْرانٌ ، وأنتم تَزعُمونَ أنَّ السماءَ خَرابٌ ليس فيها أحدٌ؟!» . قال : فَاغْتَنَمْتُها منه ، فقلتُ له : ما مَنَعَه - إن كان الأمرُ كما يقولونَ - أن يَظهَرَ لخلقه

وكاف التشبيه هنا مثلها في قولنا: «وإنّ الدين كما وُصِف» ويكتفي التغاير الاعتباري باعتبار اختلاف التعبيرات بالألفاظ. وقوله: (ما قولي وقولُهم إلاّ واحد) إنكار لإنكاره للصانع والدين. وقوله عليه السلام : (ويدينون بأنّ في السماء إلها) أي للسماء صانعا مدبّرا معبودا يُعبد ويستحقّ لأن يكون معبودا لكلّ أحد؛ فلذلك أرسل الرسل، ودعا خلقه إلى عبادته، وشرع لهم الشرائع. وقوله عليه السلام : (وأنّها عُمران) بضمّ العين جمع عامر بمعنى المعمور، كدافق بمعنى المدفوق. ولمّا كان المراد بالسماء الجنس جاز كونه خبرا عنها، كما جاز باعتبار لفظها جعل الخراب خبرا عنها؛ يعني لها أهلاً وهم الذين يعبدون الإله، ويطيعونه فيها كالملائكة. ويحتمل أن يكون المراد به أنّ لها حافظا ومدبّرا؛ لأنّ الدار التي لها مدبّر حافظ معمورة البتّة، فعبّر بكونها عمرانا عن أنّ لها حافظا مدبّرا تعبيرا عن الملزوم باللازم، وكذلك قوله عليه السلام : (وأنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد) أي ليس فيها أحد يعبدونه ويطيعونه، أو ليس لها أحد يدبّرها ويحفظها، فلا يكون بزعمكم صانع مدبّر معبود يُعبد فيها، ويستحقّ لأن يكون معبودا لكلّ أحد، فلا رسالة ولا شريعة. وقوله: (فاغتنمتُها منه) أي اغتنمت تلك الكلمة، أو المسألة منه؛ حيث ذكرها بدون تصريح منّي. وقوله: (ما منعه) إلخ، شبهة من الزنديق على مطلوبه بقياس استثنائي تقريرها أنّه كان الأمر كما يقولون - يعني أهل الطواف من أنّ للعالم صانعا قادرا على الممكنات مدبّرا مستحقّا للعبادة حتّى بنوا على ذلك القول دلائل الرسالة والشريعة - فما منعه أن يظهر

ص: 336

بخلقه غاية الظهور، لا بصيرورته محسوسا، بل بأيّ نحوٍ يمكن من نصب الدلائل الواضحة على وجوده قبل إرسال الرسل، ويدعوهم إلى عبادته بعد ظهوره لخلقه بنصب الدلائل وإن كانت تلك الدعوة بوساطة الرسل، أو معناه ويدعوهم إلى عبادته بنفسه بنصب الدلائل الواضحة على وجوب عبادته وإن كان نحو عبادته وكيفيّتها بتعليم معلّم. والحاصل أنّه لو كان الأمر كما يقولون لوجب عليه أن يظهر على خلقه، ويدعوهم إلى عبادته في الجملة قبل إرسال الرسل بنصب الدلائل الواضحة حتّى يكون إرسال الرسول لتعليم خصوصيّات عبادته، وتبيينِ أحكامه وإعلام سائر الاُمور المخفيّة عن نظر العقل. دليل الملازمة أنّ ذلك أمر ممكن مقدور يتوقّف عليه مطلوبه من معرفة العباد وسائر التكاليف الموقوفة عليها، وهو قادر على جميع الممكنات، ولا مانع له عن شيء من مقدوراته، فيجب عليه الإتيان بما يتوقّف عليه حصول مطلوبه. والتالي باطل، وإلّا ف- «لِمَ احتجب عنهم، وأرسل إليهم الرسل؟» أي لِمَ لم ينصب دليلاً على وجوده قبل إرسال الرسل، وإنّما احتجّ على وجوده بقول الرسل. ولا يخفى أنّه دور ظاهر، ولو باشرهم بنفسه، ونصب لهم أدلّة على وجوده كان أقرب إلى الإيمان، فظهر بطلان المقدّم، فبناء شبهة الزنديق على أنّه زعم أنّ أهل الإسلام وسائر الأديان والملل إنّما استندوا في إثبات الصانع الأوّل الإله الحقّ بقول الرسول وليس لهم دليل عقلي قبل إرسال الرسل على وجوده تعالى، فحكم ببطلان ذلك؛ للزوم الدور الظاهر. وحاصل جواب الإمام عليه السلام منع بطلان التالي، وبيان وقوعه بأنّه تعالى قد نصب الدلائل الواضحة، والبراهين الظاهرة القاطعة التي لا تعدّ ولا تحصى في نفس كلّ فرد من أفراد الإنسان فضلاً عمّا هو خارج عنها على وجوده وثبوته بحيث صار الحكم لوجود الصانع المدبّر للعالم الإله الحقّ بديهيّا، والمسألة لا تقبل النزاع والخلاف، والمنازع مخالف

ص: 337

بلسانه، مقرّ بقلبه، ومكابر لمقتضى (1) عقله - وهل هذا بالنسبة إلى بعضهم إلّا كالوسواس في النيّة؟ - بل نصب الدلائل الواضحة على وجوب أصل عبادته أيضا وجوبا عقليا، وأحال بيان كيفيّاتها وخصوصيّاتها على الرسول، ومن تلك (2) الدلائل الواضحة الكاشفة عن وجوده تعالى - ببديهة العقل التي نسبتها إلى ظهور الصانع للفطرة الإنسانيّة وأوّل البصيرة كنسبة ضوء الشمس إلى ظهورها للمبصر - آثارُ قدرته الظاهرة لك في نفسك، وهي الأفعال الاختياريّة التي ليست من مقدوراتك بالبديهة، فكيف احتجب وخفي عن بديهة عقلك وفطرتك «من أراك قدرته» أي آثار قدرته «في نفسك» ودلالة الأثر على المؤثّر، والمصنوع على الصانع، كدلالة البناء على البنّاء، من أجلى البديهيّات، فلو رجعت إلى نفسك علمت أنّ لك صانعا بارئا بالضرورة، وهو إلهك. وعدّد عليه السلام آثار القدرة التي في نفسه من الأفعال الاختياريّة التي ليست من مقدوراته بالضرورة، فقال: «نُشُوءَك بعد ما لم تكن» إلخ، يقال: نَشَأَ نَشْأً، أي حَيِيَ وَرَبا، يعني من تلك الآثار وجودك وحياتك بعد ما لم تكن موجودا وحيّا. يقال: تأنّى في الأمر، أي تنظّر وترفّق. والاسم الأناة مثل قناة، وأصل الهمزة الواو من الوَني بمعنى الضعف والسكون. وفي بعض النسخ بدل «أناتك وأناتك»: «إنابتك وإنابتك». والمراد بالكراهة هنا النفرة؛ لأنّها مقابل للشهوة، والكراهة مقابل للإرادة. والرهبة: الخوف. والخاطر من الخطور، وهو حصول الشيء مشعورا به في الذهن، والخاطر في الأصل للمشعور به الحاصل في الذهن، ثمّ شاع استعماله في المشعر المدرك له (3) من حيث هو شاعر به، واستعمله هاهنا في الإدراك والشعور.


1- .في النسخة: «لمقضي».
2- .في النسخة: «ذلك».
3- .أي للمشعور به.

ص: 338

ويَدْعُوَهم إلى عبادته حتّى لا يَختَلِفَ منهم اثنانِ؟ ولِمَ احتَجَبَ عنهم وأرسَلَ إليهم الرسلَ؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرَبَ إلى الإيمان به . فقال لي : «ويلك وكيف احْتَجَبَ عنك مَن أراك قدرتَه في نفسك : نُشُوءَكَ ولم تَكُنْ ، وكِبَرَك بعد صِغَرِكَ ، وقُوَّتَك بعد ضَعْفِك ، وضَعْفَكَ بعد قوّتِك ، وسُقْمَك بعد صِحّتِك ، وصحّتَكَ بعد سُقْمك ، ورضاك بعد غَضَبِك ، وغَضَبَك بعد رضاك ، وحُزنَك بعد فَرَحِك ، وفرحَك بعد حُزْنك ، وحُبَّك بعد بغضك ، وبُغضَك بعد حُبّك ، وعَزْمَك بعد أناتك ، وأناتَك بعد عزمك ، وشهوتَك بعد كراهتك ، وكراهتَك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتَك بعد رغبتك ، ورجاءَك بعد يأسك ، ويأسَك بعد رجائك ، وخاطرَك بما لم يَكُنْ في وهمك ، وعُزُوبَ ما أنت مُعتَقِدُه عن ذهنك» . وما زالَ يُعَدِّدُ عَلَيَّ قدرتَه التي هي في نفسي التي لا أدفَعُها حتّى ظننتُ أنّه سيَظْهَرُ فيما بيني وبينه .

أو استعمل الخاطر على صيغة الفاعل بمعنى المصدر، كما في قمتُ قائما، ويكون المعنى خطورك بما لم يكن في وهمك، من باب القلب؛ فإنّ الأصل خطور ما لم يكن في وهمك ببالك. وهذا إشارة إلى ما يحصل في الذهن بعدما لم يكن في شيء من المدارك أصلاً حتّى الوهم. والعزوب - بضمّ العين المهملة والزاي - : الغيبة، يقال: عزب عنّي فلان، أي بَعُدَ وغاب، والمراد زوال ما كان قويّ الثبوت في الذهن، فلا يكون يزول عنه إلّا بمزيل. وقوله: (يُعَدِّدُ عَلَيَ قدرتَه) أي آثار قدرته. وقوله: (لا أدفَعُها) أي لا يمكنني دفعها وإنكارها؛ لبداهتها. وقوله: (حتّى ظننتُ أنّه) أي صانع العالم الإله الحقّ (سيظهر) مشاهدا محسوسا (فيما بيني وبينه) وهذا على سبيل المبالغة في كمال ظهوره - تعالى شأنه - بهذه التنبيهات والبيانات، والحمد للّه الذي برهانه أن ليس شأن ليس فيه شأنه. وتحقيق المقام أنّ في كلامه عليه السلام في هذا المقام تنبيهاتٍ على وجود الصانع الإله الحقّ، ودلائلَ على قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته وكونه مستحقّا للعبادة، وإشاراتٍ إلى براهين إثبات الواجب بالذات، بل كلّ ما وقع في الكلام المجيد والأحاديث من بيان

ص: 339

وجوده تعالى وثبوته بالأفلاك والكواكب والعناصر والمركّبات المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة والنفوس الإنسانيّة واختلاف صفاتها وأحوالها، وقد وقع ذلك في أكثر من ثمانين موضعا من كتاب اللّه تعالى كقوله تعالى في سورة البقرة: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ لَاياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (1) وكقوله تعالى في سورة النحل: «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَاياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (2) وكقوله تعالى في سورة فصّلت: «سُنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ» (3) وكقوله تعالى في سورة المرسلات: «أَلَمْ نَخْلُقكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» (4) وكقوله تعالى في سورة الروم: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَاياتٍ لِلْعالَمِينَ» إلى غير ذلك بصريحها تنبيهات على وجود الصانع الإله الحقّ البديهي الوجود الفطري؛ لأنّ هذا القدر كافٍ للعوامّ، ومبنى الكلّ على أنّ دلالة الأثر على المؤثّر، والمصنوع على الصانع، كدلالة البناء على الباني، مع أنّه من العلل المُعدّة على التحقيق من خلائل (5) البديهيّات، وحديث الأعرابي الذي قد مرّ ذكره (6) مبتنٍ على ذلك. وقال بعض المحقّقين: مبناه على أنّ افتقار الممكن إلى الموجد، والحادث إلى المحدث ضروريٌ يشهد به الفطرة، وأشارت إلى وجود الواجب بالذات للخواصّ. أمّا بناءً على مسلكنا - كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى - فبالاستدلال بالصانع على كونه واجب الوجود بالذات بالبرهان اللمّي - الصريح الذي هو الاستدلال بالعلّة على المعلول - وهو أشرف وأوثق؛ لأنّه أوفق البراهين في إعطاء اليقين.


1- .البقرة (2): 164.
2- .النحل (16): 12.
3- .فصّلت (41): 53.
4- .المرسلات (77): 20.
5- .كذا.
6- .مرّ في ص؟؟؟

ص: 340

عنه ، عن بعض أصحابنا ، رَفَعَهَ ، وزادَ في حديث ابن أبي العوجاء حين سَألَه أبو عبداللّه عليه السلام قال : عادَ ابن أبي العوجاء في اليوم الثاني إلى مجلس أبي عبداللّه عليه السلام فجَلَسَ وهو ساكتٌ لا يَنطقُ ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «كأنَّكَ جئتَ تُعيدبعض ما كُنّا فيه؟» فقال : أردتُ ذلك يا ابن رسول اللّه . فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «ما أعجَبَ هذا ، تُنْكِرُ اللّهَ وتَشهَدُ أنّي ابنُ رسولِ اللّه !» . فقال : العادةُ تَحْمِلُني على ذلك . فقال له العالم عليه السلام : «فما يَمنَعُكَ من الكلام؟» قال : إجلالاً لك ومَهابةً ما يَنطلِقُ لساني بين يديك ، فإنّي شاهَدْتُ العلماءَ وناظرتُ المتكلّمين فما تَداخَلَني هيبةٌ قطُّ مثلُ ما تَداخَلَني من هيبتك ، قال : «يكونُ ذلك ، ولكن أفتَحُ عليك بسؤال» وأقبَلَ عليه ، فقال له : «أمصنوعٌ أنت أو غيرُ مصنوعٍ؟» فقال عبدُالكريم بن أبي العوجاء : بل أنا غيرُ مصنوعٍ ، فقال له العالم عليه السلام : «فصِفْ لي لو كنتَ مصنوعا كيف كنتَ تكون؟» فبَقِيَ عبدالكريم مَلِيّا لا يُحير جوابا ، و وَلعَ بخَشَبَةٍ كانت بين يديه ، وهو يقول : طويلٌ ، عريضٌ ، عميقٌ ، قصيرٌ ، متحرّكٌ ، ساكنٌ ، كلُّ ذلك صِفَةُ خَلْقه ، فقالَ له العالم : «فإن كنتَ لم تَعْلَمْ صِفَةَ الصَّنْعَةِ غيرَها ، فَاجْعَلْ نفسَك مصنوعا لما تَجِدُ في نفسك ممّا يَحْدُثُ من هذه الأُمورِ» .

وأمّا بناءً على سائر المسالك فبانضمام بعض المقدّمات المطويّة في الكلام إلى كلّ واحد من هذه الآيات والأحاديث حتّى صار برهانا تامّا على وجود الواجب. وفي تصريحه تعالى في كثير من المواضع بأنّ تلك الآيات (1) إنّما هي لقوم يعقلون إشارةً إلى أنّ الخواصّ يتفطّنون بهذه الضمائم المطويّة، ويبرهنون على وجود الواجب. وهذا بأن يقال: هذا الصانع إن كان هو الواجب الخالق فذاك، وإن كان ممكنا فله علّة موجودة؛ لأنّ كلّ ممكن موجودٍ محتاج إلى مؤثّر موجود مباين، إمّا بالضرورة - كما هو الحقّ الذي صرّح به جمع من المحقّقين - أو بحكم المقدّمات الثلاث السالفة إن كان نظريا، وحينئذٍ ننقل الكلام إلى علّته، ويجب أن ينتهي إلى الواجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل. أو يقال: وإن كان ممكنا فلا بدّ له من مبدأ مباين له واجب بالذات؛ لما برهن عليه سابقا في شرح الحديث الأوّل من أنّ الممكن - سواء كان واحدا أو متعدّدا، متناهيا أو غير


1- .في هامش النسخة: فهي آيات، أي دلائل وبراهين لهم المبهمات للجميع (منه عفي عنه).

ص: 341

دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على وجود الصانع

متناهٍ - يجب أن يستند في الوجود إلى الواجب بالذات، سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة. إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تقرير كلامه عليه السلام على وجه يظهر منه جميع المطالب المذكورة وهو أنّه لمّا وجدتَ في نفسك هذه الأفعال الحادثة المختلفة المتبدّلة المحكمة المتقنة غايةَ الإتقان، المتضمّنة لحِكَم ومصالح كثيرة لا تعدّ ولا تحصى لا سيّما ممّا يتعلّق بأجزائك وأعضائك، وهي ليست من مقدوراتك وأفعالك ضرورةً، علمت أنّ لها بارئا صانعا واجبا بالذات قادرا مختارا مريدا عالما حكيما مستحقّا للعبادة. [دلالة الأفعال الحادثة الصانع] أمّا دلالتها على وجود الصانع بالضرورة على وجود الواجب بطريق البرهان، فقد مرّ بيانهما آنفا. فإن قلت: الأحوال الحادثة التي عدّدها عليه السلام لا شكّ في أنّها ليست من فعل النفس الإنسانيّة، وأنّها من فاعل مباين قادر على إحداثها بعد ما لم يكن، ولا يجوز إنكار ذلك على من يعدّ من العقلاء، إلّا قوله عليه السلام : (وعزمك بعد أناتك، وأناتك بعد عزمك) فإنّه قد قيل: إنّ العزم من الأفعال الاختياريّة للعباد. قلنا: العزم هو توطين النفس على أحد الأمرين بعد سابقة التردّد فيهما، وذلك التوطين يقبل الشدّة والضعف، ويتقوّى شيئا فشيئا حتّى يبلغ إلى درجة الجزم، ثمّ بعد ذلك ينتهي إلى مرتبة قصد الفعل، وهو ما نجد من أنفسنا حين إيجاد الفعل، فالعزم هو إرادة سابقة على الفعل بالزمان، والقصد هو إرادة مقارنة للفعل، فلا يكون العزم مغايرا للإرادة كما توهّمته الأشاعرة، بل إنّما هو من مراتب الإرادة المخصّصة المرجّحة لأحد طرفي المقدور على الآخر، سواء كانت نفسَ الداعي إلى الفعل - كما ذهب إليه أكثر المعتزلة والمحقّق

ص: 342

الطوسي رحمه الله 1 وهو اعتقادُ النفع، أو ظنُّه ممّن يؤثّر الخير بحيث يمكن حصول ذلك النفع إذا لم يكن هناك نافع، وحينئذٍ يكون الكراهة نفس الداعي إلى الترك وهو اعتقادُ الضرّ، أو ظنُّه ممّن يؤثّر تركه إذا لم يكن هناك مانع - أو ميلاً يعقب اعتقادَ النفع، أو ظنَّه، وحينئذٍ يكون الكراهة انقباضا يعقب اعتقادَ الضرّ، أو ظنَّه كما ذهب إليه بعض المعتزلة، أو أمرا ثالثا كما ذهب إليه الأشاعرة. وعلى أيّ تقدير لا يجوز أن يكون الإرادة مقدورةً للعبد، وإلّا لكانت مسبوقة لمرجّح منه، والمرجّحُ القريب لكلّ فعل اختياري إرادةُ الفاعل وعزمُه عليه، وننقل الكلام إلى تلك الإرادة والعزم حتّى تنتهي إلى إرادة وعزم غير مستند إلى العبد؛ لاستحالة التسلسل، على أنّا نعلم بالضرورة عدم تعدّد العزم والإرادة، وأنّ لنا عزم واحد (1) على الفعل. وما توهّمه الجبائي 3 - من جواز وقوع الإرادة والعزم بقدرة العبد على تقدير إقدار اللّه تعالى إيّانا على الإرادة بلا ترجيح بالإرادة بالعزم - يؤدّي إلى تجويز الترجّح بلا مرجّح، أو عدّ ما يستند إلى العبد لا بإرادة منه فعلاً اختياريا مقدورا له، ولم يذهب وهم واهم إلى


1- .كذا. والأولى: «عزما واحدا».

ص: 343

دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على قدرته واختياره تعالى

أحدهما، فثبت أنّ إرادة العبد وعزمه ليست (1) من فعل نفسه كما توهّمه بعض القاصرين، بل من فاعل مباين قادر، ولا يوجب ذلك الجبرَ كما سيجيء تحقيقه إن شاء اللّه تعالى. ثمّ هذا الكلام منه عليه السلام إجمال لما فصّله أمير المؤمنين عليه السلام في الحديث الذي نقله ابن بابويه في كتاب التوحيد حيث قال: إنّ رجلاً قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين بِمَ عرفت ربّك؟ قال: «بفسخ العزم ونقض الهمم (2) ، لمّا همّمت فحيل بيني وبين همّي، وعزمت فخالف القضاء عزمي، علمت أنّ المدبّر غيري» (3) . [دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على قدرته و اختياره تعالى] وأمّا دلالتها على قدرته واختياره فلوجوه: الأوّل: أنّ هذه الأفعال اُمورٌ حادثةٌ بعد ما لم تكن، متبدّلةٌ متغيّرةٌ غير ثابتة على حالة واحدة، فيجب أن يكون فاعلها قادرا مختارا يفعل بمشيّته؛ لأنّه قد أحدث تلك الاُمور بعد ما لم تكن (4) ، ثمّ أزالها بعد إثباتها، ثمّ أثبتها بعد إزالتها، وبالضرورة أثر الموجب لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأنّه يمتنع انفكاكه عنه. فإن قلت: هذا إنّما يتمّ إذا كان صانع هذه الآثار واحدا، لِمَ لا يجوز أن يكون لكلّ فعل منها صانع موجب مغاير لصانع الآخر؟ قلنا: هذا باطل من وجهين: أوّلهما: أنّ ما هو الضروري الفطري هو وجود الصانع الواحد للعالم، وهذه وأمثالها منبّهات على وجود ذلك الصانع الواحد كما سيجيء تفصيله إن شاء اللّه تعالى. وثانيهما: أنّ تلاؤم ما في الشخص الإنساني - من الأجزاء والأعضاء والقوى والآلات


1- .في النسخة: «ليس».
2- .في بعض المصادر: «الهمّ».
3- .كتاب التوحيد، ص 288، باب 41، ح 6؛ الخصال، ص 33، باب الاثنين، ح 1؛ مختصر بصائر الدرجات، ص 132؛ بحار الأنوار، ج 3، ص 42، ح 17.
4- .في النسخة: «لم يكن».

ص: 344

والأحوال على ما يشهد عليه علم التشريح - يدلّك على وحدة صانعه. وقد سلك بعض الفضلاء هذا المسلك في بيان وحدة الإله الخالق للعالم وقال: قد سلكه أرسطاطاليس فإنّه استدلّ على وحدة الإله بوحدة العالم، ولعلّ هذا المسلك أنفع للعبادة من توحيد الواجب بالذات، ثمّ قال: فنقول: مقدّمة [اُولى]: الأمر الواحد في نفس الأمر قسمان: أوّلهما أن يكون له أجزاء بالفعل. وثانيهما أن يكون بسيطا لا جزء له بالفعل. ثمّ القسم الأوّل ينقسم بحسب الاحتمال إلى قسمين: أوّلهما: أن يكون لبعض تلك الأجزاء حاجة إلى بعض آخر، وتلك الحاجة إمّا في الذات، أو في الصفات، أو في الآثار والأفعال. وعلى كلّ حال يكون الأجزاء متعلّقة مرتبطة بعضها ببعض، منتفعة بعضها من بعضٍ، بوجه لا ينتظم حال بعض دون غيره كأعضاء حيوان واحد مثل الإنسان، فإنّ من عرف التشريح عرف ارتباطَ الأعضاء وانتفاعَ بعضها من بعض، وعدمَ انتظام حال بعض بدون آخر، وكيفيّةَ الربط والتعلّق بحيث يتأثّر كلّ بتأثّر صاحبه، فيتألّم بألمه، ويلتذّ بلذّته، ويرسل الدم إلى عضو فيه ضعف. وثانيهما: أن لا يكون كذلك، ولم يكن لشيء من أجزائه احتياج إلى شيء بوجه. مقدّمة ثانية: أنّ الاُمور المتعدّدة إذا كانت مرتبطة متعلّقة بعضها (1) ببعض، منتفعة بعضها عن بعض، لا ينتظم حال بعضها بدون غيره، كأعضاء حيوان واحد إذا كانت مصنوعا (2) كان صانعها واحدا؛ لشهادة الفطرة بأنّ الاُمور المرتبطة المتّسقة المنتظمة المترتّبة على تعانقها وانتظامها فوائدُه بوجهٍ كأنّها أمر واحد لا يكون إلّا فعلاً لفاعل واحد، وهذا الحكم مثل الحكم بأنّ فاعل الفعل المتقن عالم، بل نقول: إنّ العلماء


1- .في النسخة: زيادة: «منتفعة بعضها».
2- .الظاهر : «مصنوعة».

ص: 345

حتّى الحكماء صرّحوا بأنّ فاعل الأفعال المحكمة المتقنة عالم مريد، والشيخ الرئيس في النجاة صرّح بأنّ أعضاء الحيوانات لما فيها من الدقائق والمنافع والارتباط والانتفاع - غير صادرة عن الطبيعة، وإنّما هي صادرة عن علم وإرادة. ولا يخفى على من أنصف أنّ هذا التصريح والاعتراف متضمّن للاعتراف بالحكم الذي أشرنا إليه، فإنّ إتقان الأفعال لا يدلّ على علم فاعلها إلّا إذا كان ذلك الفاعل واحدا. وأمّا إذا كان كلّ جزء من الفعل صادرا عن فاعل آخر، فلا يلزم من الإحكام والإتقان علم فاعل. وبالجملة، دعوانا أنّ الحكم بوحدة فاعلِ مثلِ تلك الاُمور المرتبطة المتعانقة - التي [هي ]بمنزلة أمر واحد - ليس أبعد ولا أخفى من الحكم، بعلم فاعل الفعل المحكم بل لعلّه أجلى، وهو معتبر ضمنا في الحكم بعلم الفاعل الذي فعله محكم. ثمّ بعد المقدّمتين نقول: إنّ النظر في السماوات والأرض وسائر أجزاء العالم يفيد الحكم بأنّها مرتبطة متعلّقة بعضها ببعض، منتفعة بعضها عن بعض، مترتّبةٌ على نظامها وتعانقها فوائدُ كأنّها أمر واحد. وفي رسائل إخوان الصفا (1) بيان أنّ العالم كلّه حيوان واحد. والعظيم أرسطاطاليس صرّح بأنّ العالم حيوان واحد (2) . وفي تفسيري الكبير والنيشابوري بيانات لمنافع السماوات والأرضين. فبالمقدّمة الثانية يعلم أنّ العالم لو كان مصنوعا كان صانعه واحدا، لكنّه مصنوع مخلوق فخالقه وصانعه واحد، وهذا ما أردناه.


1- .رسائل إخوان الصفاء وخلّان الوفاء، ج 2، ص 24 - 25، الرسالة الثانية من الجسمانيّات، فصل في بيان معرفة قول الحكماء: «إنّ العالم إنسان كبير»؛ وج 3، ص 212، الرسالة الثالثة من النفسانيّات العقليّات في معنى قول الحكماء: «إنّ العالم إنسان كبير».
2- .اثولوجيا، ص 78.

ص: 346

لا يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون كلّ جزء من أجزائه مصنوعا لصانع آخر، وصانع الكلّ يأخذ تلك الأجزاء، وينظّمها ويربط بعضها ببعض، بوجهٍ ينتفع بعضها من بعض كصانع البيت؟ لأنّا نقول: تلك الأجزاء مخلوقة بالربط والتعلّق، وبالجملة بوجه لا يحصل الانتفاع منها إلّا بخلقها كأعضاء الإنسان، لا أنّ الانتفاع يعرضها بعد الخلق كأجزاء البيت، ولهذا يتأثّر بعضها عن بعض بخلاف أجزاء البيت؛ فتأمّل. انتهى كلامه. والثاني: أنّ صانع العالم - الذي قد نبّه عليه السلام على وجوده بهذه الأفعال - قديم لا محالة؛ لأنّه لو كان حادثا فيحتاج إلى صانع آخر، والكلام في صانع الكلّ، وأيضا يلزم أن يكون من العالم فلا يكون صانعا له، وأيضا قد أشار إليه بأنّه واجب الوجود بالذات كما مرّ بيانه، وهو قديم بالضرورة. وأثر الموجب القديم لا يمكن أن يكون حادثا، سواء كان ذلك الحادث مستندا إليه بلا واسطة أو بالواسطة، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، أو التسلسل، سواء كان في الاُمور المجتمعة في الوجود، أو المتعاقبة. والحقّ أنّه بكلا القسمين محال كما بيّن في موضعه، وسيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى. والقولُ بتوسّط القديم القادر المختار الممكن بين صانع العالم الموجب، أو الواجب الموجب، وبين الحوادث قولٌ بتفضيل المخلوق على الخالق، وهو خلاف الضرورة، مع أنّه لم يذهب ذاهب إليه. والثالث: أنّ العالم بجميع أجزائه - كوجود المخاطب وسائر أحواله المذكورة - حادث كما ثبت في موضعه، والواسطة غير معقولة، فلا يمكن أن يكون صانعه القديم موجَبا. وهذا إنّما يتمّ في هذا المقام إذا كان المخاطب قائلاً بحدوث العالم. والرابع: أنّ هذه أفعال مختلفة متقابلة، وأثر الموجب لا يمكن أن يكون كذلك. والخامس: أنّ هذه الأفعال اُمور زائلة غير باقية أبدا، وأثر الموجب القديم لا يمكن أن يكون كذلك، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن تمام علّته، أو التسلسل، أو التوسّط، والكلّ

ص: 347

دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على إرادته تعالى

محال كما مرّ آنفا. والسادس: أنّ صانع الشخص الإنساني على ما فيه - من لطائف الصنع وكمال الانتظام والإحكام والإتقان، كما يشهد عليه علم التشريح - عالمٌ قادر بحكم الضرورة. والسابع - محاذيا لما قرّره بعض العلماء - : (1) أنّ صانع الشخص الإنساني وأعضائه على صورها وأشكالها يجب أن يكون قادرا مختارا؛ إذ لو كان طبيعة النطفة (2) أمرا خارجا موجبا، لزم أن يكون الحيوان على شكل الكرة إن كانت النطفة بسيطة؛ لأنّ ذلك مقتضى الطبيعة، ونسبة الموجب إلى أجزاء البسيط على السويّة، وعلى شكل كرات مضمومة بعضها إلى البعض إن كانت النطفة مركّبة من البسائط بمثل ما ذكر (3) . وأمّا دلالتها على إرادته فغنيّ عن البيان؛ لأنّ القادر المختار لا يفعل بقدرته واختياره إلّا بالإرادة المرجّحة لأحد طرفي المقدور على الآخر بالضرورة، قال في شرح المقاصد: اتّفق المتكلّمون والحكماء وجميع الفِرق على إطلاق القول بأنّه مريد، وشاع ذلك في كلام اللّه تعالى وكلام الأنبياء، ودلّ عليه ما ثبت من كونه تعالى فاعلاً بالاختيار؛ لأنّ معناه القصد والإرادة مع ملاحظة ما للطرف الآخر، فكأنّ المختار ينظر إلى الطرفين ويميل إلى أحدهما، والمريد ينظر إلى الطرف الذي يريده (4) . انتهى. وقد يقال (5) في إثباتها: إنّ تخصيص بعض الممكنات بالوقوع دون البعض في بعض الأوقات دون البعض مع استواء نسبة الذات إلى الكلّ لا بدّ أن يكون لصفة شأنها التخصيص؛ لامتناع التخصيص بلا مخصّص، وامتناع احتياج الواجب في فاعليّته إلى أمر منفصل، وتلك الصفة هي المسمّاة بالإرادة 6 ، هذا. اعلم أنّ الحقّ أنّ الصفات الكماليّة الحقيقيّة - كالقدرة والإرادة وغيرهما - عين ذاته


1- .المراد به التفتازاني.
2- .في النسخة: + «أو».
3- .شرح المقاصد، ج 2، ص 82.
4- .شرح المقاصد، ج 2، ص 94.
5- .قاله التفتازاني.

ص: 348

دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على علمه تعالى

تعالى، وذلك - كما حقّقه بعض المحقّقين - لا ينافي حدوث العالم؛ لأنّ الإرادة متعلّقة في الأزل بوجود الفعل فيما لا يزال دون الأزل، ضرورة أنّ القدرة تؤثّر على وفق الإرادة، ويكون مرجّح تعلّق الإرادة بوجود الفعل في ذلك الوقت هو كونه أصلح على نحو ما قال الحكماء في نظام العالم. وهذا هو بعينه ما قال الغزالي في جواب الخيّام حيث سأل الخيّام منه عن مخصّص إيجاد العالم في الآن الذي أوجده وليس قبله زمان، بعد أن سأل الغزالي منه عن مخصّص مقدار الفلك الأعلى، ومخصّصات مناطق الأفلاك، ومخصّصات مقادير حركاتها، وأجاب عنه بأنّ تلك الاُمور هي من مقتضيات النظام الأعلى. فقال الغزالي: وجود العالم في الآن الذي أوجده فيه هو أيضا من مقتضيات النظام الأعلى، بل نقول: إرادته تعالى هو عين علمه بأصلحيّة إيجاد العالم فيما لا يزال، وإيجاد كلّ معلول في وقته، وحينئذٍ لا حاجة إلى القول بتعلّق الإرادة أصلاً، فليس هنا إلّا الإرادة التي هي عين الداعي وعين ذاته تعالى، فليس إرادته تعالى إرادةَ إيجاد العالم مطلقا ليلزم من قِدمها قدم العالم؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن تمام علّته، بل إنّما هي إرادةُ إيجادِ العالم فيما لا يزال، وإيجادِ كلّ شيء في وقت خاصّ، فلا يلزم من قدمها إلّا حدوث المراد؛ فأحسِن تدبّره. [دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على علمه تعالى] وأمّا دلالتها على علمه تعالى فلوجهين: أحدهما: ما ذكرنا في الدليل السادس لإثبات القدرة، وتقريره من حيث العموم - كما هو المسطور في الكتب الكلاميّة - هو أنّه تعالى فاعل فعلاً محكما متقنا، وكلّ من كان كذلك فهو عالم. أمّا الكبرى فبالضرورة، وينبّه عليه أنّ من رأى خطوطا مليحة، أو سمع ألفاظا فصيحة ينبئ عن معانٍ دقيقة، وأغراض صحيحة، علم قطعا أنّ فاعلها عالم.

ص: 349

وأمّا الصغرى فلما ثبت من أنّه خالق للأفلاك والعناصر بما فيها من الأعراض والجواهر وأنواع المعادن والنبات وأصناف الحيوانات على اتّساق وانتظام وإتقان وإحكام تحيّر فيه العقول والأفهام، ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام على ما يشهد بذلك علم الهيئة وعلم التشريح وعلم الآثار العِلويّة والسفليّة وعلم الحيوان والنبات، مع أنّ الإنسان لم يُؤْتَ من العلم إلّا قليلاً، ولم يجد إلى الكثير سبيلاً، فكيف إذا رقى إلى عالم الروحانيّات من الأرضيّات والسماويّات، وإلى ما يقول به الحكماء من العقول المجرّدة؟ فإن قيل: إنّ ما اُريد الانتظام والإحكام من كلّ وجه بمعنى أنّ تلك الآثار مرتّبةٌ ترتيبا لا خلل فيه أصلاً، وملائمةٌ للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصوّر ما هو أوفق منه وأصلح، فظاهر أنّها ليست كذلك بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات، وإن اُريد في الجملة ومن بعض الوجوه، فجلّ آثار المؤثّرات من غير العقلاء بل كلّها كذلك، فإنّ تبريد الماء وتسخين النار ينتفع بهما. قلنا: المراد اشتمال الأفعال والآثار على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملاءَمة للمنافع، والمطابقة للمصالح على وجه الكمال وإن اشتمل بالعرض على نوع من الخلل، وجوّز في بادئ الرأي وأوّل النظر أن يكون فوقه ما هو أكمل والعلم بأنّ مثل ذلك لم يصدر إلّا عن العالم الضروري سيّما إذا تكرّر وتكثّر، وخفاء الضروري على بعض العقلاء جائز (1) . فإن قيل: قد يصدر عن بعض الحيوانات العُجم أفعال متقنة محكمة في ترتيب مساكنها، وتدبير معايشها كما للنحل وكثير من الوحوش والطيور على ما هو في الكتب مسطور، وفيما بين الناس مشهور، مع أنّها ليست من اُولي العلم. قلنا: لو سلّم أنّ موجد هذه الآثار هو هذه (ظ) الحيوانات فلِمَ لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما تهتدي إلى ذلك بأن يخلقها اللّه تعالى عالمة بذلك، أو يلهمها حين ذلك الفعل.


1- .في هامش النسخة: وإن كان بعد التأمّل في النظر في الزمان يحكم العاقل بأنّ نظام الموجودات على وجه لا يمكن أن توجد إلّا منه (منه عفي عنه).

ص: 350

وأقول: الحقّ أنّ هذه الحيوانات ليست موجدة لتلك الآثار، وإنّما تكون مباشرة لها ومعدّات، لكن هذا أيضا يقتضي علمها كدلالة البناء على علم الباني، وعلم الحيوانات العجم بمعاشها ضروري، والمنازع مكابر. وثانيهما: أنّ الفعل الصادر عن الفاعل بالقصد والاختيار لا يتصوّر إلّا مع العلم بالمقصود. ثمّ أقول: الحقّ الحقيق بالتحقيق أنّه تعالى عالم بجميع الأشياء كلّيّاتها وجزئيّاتها على الوجه الجزئي ذواتها وصفاتها وأحوالها بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء بعلم هو عين ذاته تعالى، بمعنى أنّ ذاته بذاته مبدأ لانكشاف ذاته وسائر الأشياء موجودةً كانت، أو معدومة لذاته على سبيل التفصيل، ولانكشاف الجزئيّات على الوجه الجزئي، فهو عالم بالمبصرات على الوجه الجزئي، وذلك معنى بصره، وعالم بالمسموعات على ذلك الوجه، وذلك معنى سمعه، ونسبة علمه إلى المعلوم قبل وجوده في الخارج كنسبته إليه بعد وجوده لا يتغيّر أصلاً، فعلمه مباين بالحقيقة لعلمِ غيره كعلم الإنسان، ولجميعِ معلوماته ما عدا ذاته؛ لأنّ ذاته المباينة بالحقيقة لجميع الأشياء مبدأ لانكشاف الأشياء لها، وفي الإنسان الصور الحاصلة في الذهن مبدأ لانكشاف ذي الصور له، فعلمه مجهول الكُنْه، ممتنعٌ لغيره تصوّره بالكُنه، واجب بالذات كذاته، وإنّما هو فرد لمفهوم العلم الذي هو مبدأ لانكشاف الأشياء للعالم، وذلك المفهوم عرضي لذلك الفرد ولسائر أفراده، ونسبته إليه تعالى كنسبة الوجود المطلق إلى الوجود الخاصّ الذي هو عين ذاته تعالى، وهذا معنى قول المعلّم الثاني: واجب الوجود وجود كلّه، علم كلّه، قدرة كلّه، إرادة كلّه. والأحاديث ناطقة بذلك كما سيجيء بيانها إن شاء اللّه تعالى، فعلمه بذاته علم وعالم ومعلوم، وبغيره علم وعالم ومغاير بالحقيقة للمعلوم، والواقع عبارة عن علمه تعالى وعن الخارج. وما قيل في شأنه - من أنّ علمه حضوري أو حصولي أو إجمالي، أو علمه بالبعض كعلمه بالمعلول الأوّل تفصيلي، وبما عداه إجمالي، أو لا يعلم الجزئيّات إلّا بالوجه الكلّي،

ص: 351

دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على حكمته تعالى

والمفاسد الواردة على كلّ مذهب - مبنيّ على قياس الغائب بالشاهد، وقياس نحو علمه بنحو علم الإنسان تعالى عن ذلك، بل هو مباين بالحقيقة لنحو علم غيره في علمه بغيره ليس بحضوري ولا حصولي ولا إجمالي بل تفصيل عين ذاته، ويكون طورا وراء طور العقل، وكذا الحال في علمه بذاته فإنّه أيضا ليس بحصولي ولا حضوري، كيف وحصول الشيء في الشيء، أو حضور الشيء عند نفسه مغاير لنفسه بالضرورة، فلا يكون حينئذٍ علمه عين ذاته، بل يكون زائدا على ذاته، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. فالعلم بالمعلولات هنالك على عكس العلم عندنا، وإنّ المعلوم هنالك يجري من العلم مجرى الظلّ من الأصل؛ لأنّ نسبة مصدر الشيء إلى الشيء نسبة الأصل إلى العكس، ولا ريب في أنّ الأصل في شيئيّة العكس أتمّ من العكس في شيئيّة نفسه، يتّضح ذلك من نسبة الأمر الخارجي إلى ما في المرآة منه، فالعلم هنالك في شيئيّة المعلوم أقوى من المعلوم في شيئيّة نفسه. نعم فإنّه مُشيّيء (ظ) الشيء، ومحقّق الحقيقة، والشيء مع نفسه بالإمكان، فإنّه بين أن يكون، وبين أن لا يكون، ومع مشيّته بالوجوب وتأكّد الشيء فوق الشيء؛ فإنّه الشيء ويزيد وإن كان فهم ذلك يحتاج إلى تلطيف شديد، فعلمه تعالى بالكلّيّات والجزئيّات من حيث إنّها جزئيّة بذاته بمعنى كونه عين ذاته أتمّ وأكمل من علمه بها بحضور أنفسها عنده، ويجب إسناد ما هو الأتمّ والأكمل إليه تعالى؛ فتدبّر «وَاسْتَقِمْ كَمَا اُمِرْتَ» (1) فإنّ ذلك مسلك صحيح، وصراط مستقيم لا غبار عليه أصلاً. [دلالة الأفعال الحادثة المتقنه على حكمته تعالى] وأمّا دلالتها على حكمته، فلأنّ العقل يحكم بالضرورة على أنّ ما يشتمل على حِكَم ومصالح لا تحصى لا يمكن صدوره إلّا عن الحكيم.


1- .الشورى (42): 15.

ص: 352

دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على حياته تعالى

دليل المؤلّف على إثبات هذه الصفات له تعالى

دلالة الأفعال المحدثة المتقنة على استحقاقه تعالى للعبادة

[دلالة الأفعال الحادثة المتقنة على حياته تعالى]وأمّا دلالتها على حياته، فلأنّ كلّ قادر عالم حيّ بالضرورة. والمراد بالحياة هاهنا كونه بحيث يصحّ أن يعلم ويقدر كما ذهب إليه الحكماء، وقال جمهور المتكلّمين: إنّها صفة توجب (1) صحّة العلم والقدرة.

[دليل المؤلّف على إثبات هذه الصفات له تعالى]فإنّي قد تفطّنت بدليل على إثبات هذه الصفات له تعالى، تقريره أنّه لا شكّ في وجود الحيّ القادر المختار المريد العالم الحكيم في العالم. وقول الجبريّة في نفي القدرة الحادثة مكابرة؛ لأنّ الفرق بين حركتي الرعشة والبطش، وحركتي السقوط والنزول ضروري، ونعلم بالبديهة أنّ هذه الصفات - أي الحياة والقدرة والاختيار والإرادة والعلم والحكمة - صفات كمال، ومقابلاتها - من الممات والعجز وكراهة الفاعل لما فعله والجهل والسفه - سمات نقص، فلو كان صانع العالم خاليا عن هذه الصفات الكماليّة تعالى عن ذلك، لزم أن يكون المعلول والمصنوع أكمل وأشرف وأعلى من صانعه، والصانع أنقص وأخسّ وأدنى من مصنوعه، والبديهة تشهد ببطلانه، فثبت أنّه تعالى متّصف بهذه الصفات الكماليّة وإن كانت حقيقة هذه الصفات فيه تعالى مغايرة لحقيقتها في المصنوعات، وكان صدق هذه المفهومات المشتركة بحقيقتها في المصنوعات، وكان صدق هذه المفهومات المشتركة على بعض أفرادها الذي هو الواجب بالذات صدقا عرضيا، والحديث لا يخلو عن إيماء إلى هذا الدليل كما لا يخفى على من له أدنى مُسكة.

[دلالة الأفعال المحدثة المتقنة على استحقاقة تعالى للعبادة]وأمّا دلالتها على استحقاقه تعالى للعبادة، فلأنّ العاقل إذا تأمّل في صانعه وخالقه المتّصف بهذه الصفات، وعلم أنّ جميع اُموره بيده وقدرته يحكم قطعا بأنّه مستحقّ للعبادة؛ لأنّه موجده ومحييه ورازقه ومُولي جميع نعمه: عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، ويحكم على


1- .في النسخة: «يوجب».

ص: 353

وجوب عبادته له ورجحانها وجوبا عقليا، وأنّها توجب سعادته، ويعلم أنّ تاركها مستحقّ للذمّ، لكنّ العقل لا يبلغ إلى معرفة كيفيّة عبادته ونحوها، وإلى العلم بمراتب العبادات وتفاصيل السعادات المترتّبة عليها، بل يجب عليه أن يتعلّم ذلك من الشارع بوساطة الأنبياء والأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين.

هداية إلهيّةقال اللّه تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ» (1) هذا هو حال المستدلّين بالمصنوع من آيات الآفاق والأنفس كأحوال الأجسام والصور والأعراض والحركات وأحكام النفوس الإنسيّة وأمثالها من جهة الإمكان الذاتي أو الحدوث الزماني على وجود الصانع الإله الحقّ الواجب بالذات، فإنّهم يستدلّون بالبراهين الإنّيّة اليقينيّة على وجود الواجب كما هو المشهور بينهم، وقال تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ» (2) وهذا هو حال الصدّيقين المستشهدين بالحقّ على الحقّ، وبالحقّ على غيره، وهم الذين يستدلّون بالبراهين اللمّيّة على وجود الواجب بالذات. والبرهان اللمّي هو الاستدلال بالعلّة على المعلول، والإنّي ما عداه. توضيح ذلك أنّ الحدّ الأوسط في البرهان لا بدّ وأن يكون علّة لحصول التصديق بالحكم الذي هو المطلوب، وإلّا لم يكن برهانا على ذلك المطلوب؛ ولذلك يقال له: الواسطة في الإثبات، والواسطة في التصديق، فإن كان مع ذلك في الثبوت أيضا - أي علّة لثبوت ذلك الحكم في الخارج كتعفّن الأخلاط هذا (3) قولك: هذا متعفّن الأخلاط، وكلّ متعفّن الأخلاط محموم، فهذا محموم - فالبرهان لمّيٌ، وإلّا فإنّيٌ، سواء كان ذلك الأوسط معلولاً لثبوت الحكم في الخارج كالحمّى في قولك: هذا محموم، وكلّ محموم متعفّن الأخلاط، فهذا متعفّن الأخلاط، ويسمّى دليلاً، أو لا يكون معلولاً له كما أنّه ليس علّة له،


1- .فصّلت (41): 53.
2- .تتمّة الآية السابقة.
3- .كذا. ولعلّ الأولى: «في» بدل «هذا».

ص: 354

هداية إلهية

براهين إثبات الواجب على قسمين

تقرير براهين ثلاث من البراهين اللمّية على المشهور

كما يقال: هذه الحمّى تشتدّ غبّا، وكلّ حمّى كذلك محرقة، فهي محرقة؛ فإنّ الاشتداد غبّا ليس معلولاً للإحراق ولا علّة له، بل كلاهما معلولان للصفراء المتعفّنة خارج العروق، وذلك لا يختصّ باسم، وإنّما سمّيتا ب- «لمّ» و«إنّ» لأنّ اللمّيّة هي العلّيّة، والإنّيّة هي الثبوت، وبرهان «لمّ» يفيد علّة الحكم ذهنا وخارجا، فسمّي باسم اللمّ الدالّ على العلّيّة، وبرهان «إنّ» إنّما يفيد علّة الحكم ذهنا لا خارجا، فهو إنّما يفيد ثبوت الحكم في الخارج، وأمّا أنّ علّته ماذا، فهو لا يفيد ذلك، فسمّي باسم «إنّ» الدالّ على الثبوت. والبرهان اللمّي أشرف وأوثق من الإنّي؛ لما مرّ من أنّ أوفق البراهين في إعطاء اليقين إنّما هو الاستدلال بالعلّة على المعلول، وأمّا الاستدلال بالمعلول على العلّة، فإنّه قد لا يكون مفيدا لليقين، وذلك فيما له سبب، وقد يكون ذلك فيما لا سبب له، كما بيّن في موضعه. ثمّ براهين إثبات الواجب على قسمين: أحدهما ما اُخذ فيه حال الممكن، أو الحادث وكونهما محتاجين (1) إلى مؤثّر وعلّة كما مرّ بعض أفراده. وثانيهما ما لم يؤخذ فيه ذلك كتقسيم مفهوم الوجود، أو الموجود وإثبات الواجب بهذا التقسيم، أو غير ذلك كما سيجيء ذكر بعضه إن شاء اللّه تعالى. والمشهور بينهم تسمية القسم الأوّل بالبرهان الإنّي، والقسم الثاني بالبرهان اللمّي. ولا يذهب عليك أنّ القسم الأوّل - من حيث إنّه استدلال بالممكن أو الحادث على أنّ له علّة وصانعا (2) واجب الوجود بالذات - برهانٌ لمّي واستدلالٌ بالعلّة على المعلول؛ لأنّ كون الشيء ممكنا أو حادثا علّة لكونه ذا علّة واجب الوجود بالذات، ومن ذلك يحصل العلم بوجود الواجب، وقد صرّح به الشيخ في الشفاء حيث قال: المؤلَّف في قولك: كلّ جسم مؤلَّف من هيولى وصورة، وكلّ مؤلَّف فله مؤلِّف ليس هو الحدّ الأكبر بل إنّ له مؤلِّفا، وهذا هو المحمول على الأوسط؛ فإنّك لا


1- .في النسخة: «محتاجان».
2- .في النسخة: «صانع».

ص: 355

تقول: المؤلَّف مؤلِّف، بل ذو مؤلِّف، فالمؤلَّف علّة لوجود ذي المؤلِّف للجسم وإن كان جزء من ذي المؤلِّف - وهو المؤلِّف - علّة للمؤلَّف، فيكون اليقين حاصلاً من جهة العلّة. انتهى. ومن حيث إنّه استدلال بالممكن، أو الحادث على وجود الواجب لا على كونهما ذا علّة وصانع واجب الوجود بالذات برهان إنّي، وليس استدلالاً بالعلّة على المعلول، كما أنّ القسم الثاني أيضا ليس استدلالاً بالعلّة على المعلول؛ لأنّه ليس لوجوده تعالى علّة حتّى يتصوّر الاستدلال بعلّته على وجوده تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، فتخصيص تسمية القسم الأوّل بالبرهان الإنّي، والقسم الثاني بالبرهان اللمّي تحكّمٌ بحتٌ. ومجرّدُ أنّ القسم الثاني ليس استدلالاً بالمعلول على العلّة على تقدير تسليمه لا يوجب أن يكون برهان «لم» ولا يخرج عن حدّ برهان الإنّ؛ لما عرفت من أنّ برهان الإنّ أعمّ من ذلك، فإنّه ما عدا برهان اللمّ. ومن جملة أقسامه ما ذكره الشيخ في الشفاء حيث قال: الشيء إذا كان له سبب لم يتيقّن إلّا من سببه فإن كان الأكبر للأصغر لا بسبب بل لذاته لكنّه ليس بيّن الوجود له والأوسط كذلك للأصغر إلّا أنّه بيّن الوجود للأصغر ثمّ الأكبر بيّن الوجود للأوسط فينعقد برهان يقيني، ويكون برهان «إنّ» وليس برهان «لم». انتهى كلامه. ولا يذهب عليك أنّ أقصى البراهين التي ادّعوا أنّها لمّيّة على هذا المقصد لا يتجاوز عن هذه المرتبة وهي من مراتب الإنّي، فظهر أنّ تسمية القسم الأوّل باللمّي والثاني بالإنّي على عكس ما هو المشهور أولى. اللّهمّ إلّا أن يكون مرادهم بالإنّي الاستدلال بالمعلول على العلّة واللمّ ما عدا ذلك، وهذا اصطلاح آخر لا مشاحّة فيه ولا يضرّنا؛ لأنّ مقصودنا أنّه ليس شيء منها في إثبات وجود الواجب استدلالاً بالعلّة على المعلول سواء سمّيت باللمّ أو الإنّ. وإن كان الاستدلال على كون الممكن، أو الحادث ذا علّة واجبة الوجود استدلالاً بالعلّة

ص: 356

على المعلول فلنقرّر (1) هنا ثلاث براهين من القسم الثاني المسمّى باللمّي على المشهور ليتّضح لك جليّة الحال. الأوّل: أنّ مفهوم الموجود من حيث هو موجود ينقسم بالتقسيم العقلي إلى الموجود بالذات - وهو الذي لا يحتاج في وجوده إلى غيره، بمعنى أن يكون ذاته بذاته كافيا في انتزاع الوجود عنه - وإلى الموجود بالغير بمعنى أنّه يحتاج في وجوده إلى الغير ولا يكون ذاته كافيا في انتزاع الوجود عنه، فلو كان الفرد الأوّل منه موجودا متحقّقا في الواقع ثبت المطلوب؛ لأنّه معنى الواجب بالذات، وإلّا فيجب أن يستند الفرد الثاني منه في الوجود إلى انفراد الأوّل، سواء كان بالواسطة - أو بدونها؛ لاستحالة الدور والتسلسل، هذا خلف محال. الثاني: أنّ مفهوم الوجود ينقسم إلى الوجود بالذات، أي وجود غير مستفاد من الغير، وإلى الوجود بالغير، أي الوجود المستفاد من الغير، فإن كان القسم الأوّل متحقّقا فهو المطلوب؛ لأنّ ذلك واجب بالذات، وإلّا فالقسم الثاني يجب أن ينتهي إلى الأوّل؛ لأنّه يجب أن يستند إلى موجود لم يكن وجوده مستفادا (2) من الغير، بل يكون وجوده وجودا بالذات بلا واسطة كان أو بالواسطة؛ لاستحالة الدور والتسلسل، هذا خلف محال. الثالث: أنّ مفهوم الوجود وحقيقته ينقسم بحسب التقسيم العقلي إلى الوجود القائم بنفسه، أي غير قائم بغيره، وإلى الوجود القائم بغيره بأن يكون نعتا لغيره، سواء كان قيامه بالغير واتّصاف الغير به انضماميا أو انتزاعيا، والثاني معلول بالضرورة، وعلّته لا يمكن أن يكون نفسه وذلك ظاهر، ولا محلّه وموصوفه؛ لأنّ العلّة يجب أن يكون مقدّما على المعلول بالوجود بالضرورة، وحينئذٍ فمحلّه وموصوفه إمّا أن يتقدّم عليه بنفس ذلك الوجود وهو دور محال، أو بوجود آخر غيره، وحينئذٍ ننقل الكلام إلى ذلك الموجود وهكذا، وحينئذٍ يلزم التسلسل وكون الشيء موجودا بوجودات متعدّدة، وهما محالان، فثبت أن يكون أمرا مباينا له، وننقل الكلام إلى ذلك المباين فإن كان وجودا قائما بنفسه فهو


1- .في النسخة: «ولنقرّر».
2- .في النسخة: «مستفاد».

ص: 357

مسلك خاصّ للمؤلّف في إثبات الواجب بالذات بالبراهين اللمّية على طريق الصدّيقين

قبل الخوض في المقصود لابدّ من تمهيد اُصول ثلاث:

الأصل الأوّل

المطلوب، وإن كان موجودا بوجود زائد عليه قائم به فهو أيضا معلول في وجوده، وهكذا ننقل الكلام إلى علّته حتّى ننتهي إلى الوجود القائم بنفسه؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهو المطلوب؛ لأنّ الوجود القائم بنفسه وجود وموجود بذاته، كما أنّ الضوء القائم بنفسه لو وجد، لكان ضوءا ومضيئا بالذات، والموجود بذاته واجب الوجود بالذات. ولا يخفى أنّ الدليلين الأخيرين يدلّان على وجود الواجب، وعلى عينيّة وجوده أيضا. ثمّ لا يذهب عليك أنّ الدليل الأوّل قد نُظر فيه أوّلاً إلى المفهوم الموجود المطلق وطبيعته بما هو موجود، ولا شكّ في أنّ ذلك المفهوم والطبيعة لا يقتضي شيئا من العلّيّة والمعلوليّة؛ لأنّ بعض أفراده لا يكون علّة أصلاً كالمعلول الأخير الذي لا يكون علّة لشيء، وبعض أفراده لا يكون معلولاً قطعا كالواجب بالذات، وكذا الحال في مفهوم الوجود المطلق الذي قد نظر في الدليلين الأخيرين إليه أوّلاً، فكما أنّ هذه الدلائل الثلاث من حيث الاستدلال بهذين المفهومين على الواجب بالذات ليست استدلالاً بالمعلول على العلّة، كذلك ليست استدلالاً بالعلّة على المعلول أيضا، فكيف تكون من البرهان اللمّي بل إنّما هي براهين إنّيّة، وكذا حال سائر الأدلّة التي عدّت من القسم الثاني. وقد ألهمني اللّه تعالى بحسن توفيقه وعون تأييده مسلكا خاصّا تفرّدت به في إثبات الواجب بالذات بالبراهين اللمّيّة الصريحة على طريقة الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ على الحقّ وعلى غيره، لا على الحقّ بغيره، ولا يحوم أحد إلى الآن حومَ حمى ذلك المسلك، فلو انتسب أحد بعد ذلك هذه الطريقة الأنيقة الشريفة إلى نفسه، فاعلم أنّه انتحال، وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تمهيد اُصول ثلاث:

الأصل الأوّل:الحقّ أنّ وجود الإله الحقّ الصانع للعالم بديهيّ لا يحتاج إلى الإثبات بالدليل، وقد ذهب إليه جمع من المحقّقين ومنهم الإمام الرازي في المطالب العالية وأبو حامد الغزالي، وقد مرّ ذكر بعض من التنبيهات على ذلك المطلب، وننقل هنا لزيادة التوضيح تنبيهاتٍ اُخر:

ص: 358

ومنها: ما ذكره بعض المحقّقين من العارفين وهو: أنّ العلم يحصل بالتواتر وهو إخبار جمع كثير عن أمر محسوس، وما ذلك إلّا لأنّ العقل يحيل اجتماعهم على الكذب، أو على غلط الحسّ، فنقول: أجمع جميع الأنبياء والأولياء بل كلّ العلماء والحكماء، بل كافّة العقلاء على وجود الصانع، فيوجد العلم الضروري بوجوده؛ لأنّ العقل يحيل اجتماعهم على الكذب والغلط في هذا المعقول، فكما يعلم أمن الحسّ الكثير عن الغلط في رؤية بصريّة يعلم أمن أمثال ذلك (1) العقول على كثرتها من الاجتماع على غلط في البصيرة، وأمّا العلم باجتماعهم على ذلك فإنّما يحصل بإخبارهم، والعلم بإخبارهم حاصل بالتواتر الحسّي، واللّه يهديك السبيل (2) . انتهى. قال أبو الحسن ابن يوسف العامري في بعض رسائله: إنّ الخاصّ والعامّ من الاُمم المختلفة متى وجدوا في الدهور المتناسخة على عقيدة واحدة في وضع من الأوضاع، ثمّ لم يكن موجب العقل رافعا لها، فإنّ اتّفاقهم عليها يقوم مقام الشواهد العرفانيّة (ظ) التي يستغنى في تصحيحها عن الأدلّة العقليّة، ويصير المعاند لها والمعرض عن قبولها معدودا من جملة المتجاهلة، وأنّ الإقرار بأزليّة البارئ ووجوده جلّ وجهه، والتصديق بوحدانيّته، والاعتراف بأنّ له عبادا روحانيّين أخيارا مميّزين، وأنّ الأمر الإلهي يتّصل أوّلاً بطبقاتهم، ثمّ يتنزّل إلى سائر الخليقة من عندهم معروف بأنّه من هذا القبيل فبالحريّ أن تغنينا شهرته عن طلب الدليل عليه (3) . انتهى كلامه. وقال بعضهم بالفارسيّة: از بعضى عرفا منقول است كه وجود واجب - تعالى شأنه - احتياج به اثبات ندارد


1- .في مرآة العقول: «تلك».
2- .نقله عنه أيضا في مرآة العقول، ج 1، ص 278.
3- .لم أعثر عليه في بعض رسائله المطبوعة.

ص: 359

وآن را بيان نموده اند، و آنچه مؤلّف كتاب را در اين باب به خاطر، خطور كند آن است كه ارباب تجارت و اصحاب مسالك وممالك چنان خبر دادند كه در اقاليم سبعه مثل حبشه ويمن و زنج وبربر و عرب وعجم وترك وفرنگ و روم و سقلاب و يونان و هند و سند هيچ عاقل نيست كه قايل به وجود إله نباشد إلّا آنكه هر طايفه به حسب دانش و بينش خود صفاتى كه نزد ايشان كمال است آن را از براى او اثبات مى كنند، و آنچه در مدرك ايشان نقص است آن را از ذات او نفى مى كنند تا به حدّى كه چون در خيال بعضى سرگشتگان باديه گمراهى متمكّن گشته كه كمال در جسميّت است، اله را به صورت جسمى تصوّر نموده اند تعالى اللّه عمّا يقول الجاهلون علوّا كبيرا و چون وجود واجب را منكرى و معاندى نباشد و فطرت عقلا همانا به آن قايل باشد محتاج به اثبات نباشد. انتهى كلامه. ومنها: ما قاله بعض العارفين وهو أنّك لا تشكّ في أنّ لك مستندا (1) في وجودك (2) . وقال في مقام آخر ما ملخّصه: إنّ كلّ أحد يعلم بالفطرة الأصليّة دون تردّد أنّ له مستندا في وجوده (3) . انتهى. أقول: إنّ هذين القولين مطابقان لقوله تعالى: «أَفِي اللّهِ شَكٌّ» (4) . ثمّ قال: الإنسان فقير بالذات، وأنّه دائما طالب ومتوجّه إلى ربّه من حيث يدري ومن حيث لا يدري (5) . وقال أيضا: فلا غنى له عن الركون إلى أمر يستند إليه، ويربط نفسه به، ويقول عليه. انتهى. وقال بعض الأعاظم في رسالته في الأخلاق بالفارسيّة:


1- .في النسخة: «مستند»، والمثبت من المصدر.
2- .مصباح الاُنس، ص 501.
3- .مصباح الاُنس، ص 308 و626؛ نقد النصوص، ص 280، فصّ (27).
4- .إبراهيم (14): 10.
5- .مصباح الاُنس، ص 307.

ص: 360

اكثر كفّار و جهّال اگرچه در ظاهر حال منكر وجود مبدأاند، باطنا به تحقّق حقيقت و ثبوت وجودش مقرّ و معترف اند؛ و لهذا اختلاف در وجود مبدأ از هيچ عاقل معتدٌّ به مروى نيست. و توضيح كلام در مرام آنكه به اتّفاق شرع و عقل و تعاضد برهان و نقل حضرت حق تعالى و تقدّس از آن برتر و بزرگوارتر است كه به كنه ذات محاط علم غير گردد، امّا به واسطه رابطه اضافى كه ميان مالك و عبيد متحقّق است، و به جهت علاقه افاضت رحمت بى غايت كه زلال نوالش از ينابيع علم و قدرت به مجارى حكمت و ارادت پيوسته جارى و روان است، جبلّت و طبيعت مخلوقات، مفطور ومجبول است بر اذعان و قبول وجود صانع. و از اين جهت در هنگام صدمت وقوع وقايع و وقت اضطراب بى سبق رويت روى استعانت و فزع به نگاه دارنده خود مى آورد به وجهى طبيعى كه تعمّل و تكلّفى در آن نيست. و از اين جهت آن حالت مظهر استجابت دعا مى باشد چنانچه كريمه «أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ» (1) به آن ناطق است. و انزعاج حيوانات عُجْم درگاهِ عروضِ خوف، و گريز انسان در حال استيلاى وهم و هراس به حقيقت از اين قبيل است، و لهذا طوايف مختلفه و امم متخالفه كه در عهد و اوان و در هر دين از اديان بوده اند خلاف در وجود مبدأ از هيچ عاقل مروى نيست، بلكه محال (2) خلاف احوال و اوصاف اوست. ومنها: ما قاله صاحب إخوان الصفا في بعض رسائله: وأمّا علم الإنسان بالبارئ جلّ جلاله وتعالى ذكره فبأحد الطريقين: أحدهما عموم، والآخر خصوص، فالعموم هو (3) المعرفة الغريزيّة التي في طباع الخلق أجمع بهويّته، وذلك أنّ الناس كلَّهم: العالِمَ والجاهلَ، المؤمنَ والكافر يقرّون بالصانع،


1- .النمل (27): 62.
2- .كذا.
3- .في المصدر: «هي».

ص: 361

ويفزعون إليه بالرغبة والدعاء والتضرّع في كلّ المواضع، حتّى الحيوان أيضا قد قيل: إنّها في سِني الجَدْب ترفع رؤوسها إلى السماء تطلب (1) الغيث. وأمّا معرفة الخصوص وهو الوصف بالتحميد والتنزيه وهي التي بطريق البرهان (2) ويختصّ بها فضلاء الناس، وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والأخيار والأتقياء والأبرار (3) . انتهى. قال الإمام الرازي في المطالب العالية: رأيت في بعض الكتب أنّ في بعض الأوقات اشتدّ القحط وعظم حرّ الصيف، والناس خرجوا إلى الاستسقاء في المرآة: كالاستقساء فما أفلحوا، قال: فخرجت إلى بعض الجبال فرأيت ظبية جاءت إلى موضع كان في الماضي من الزمان مملوءً من الماء، ولعلّ تلك الظبية كانت (4) تشرب منه، فلمّا وصلت الظبية إليه ما وجدت فيه شيئا من الماء، وكان أثر العطش الشديد ظاهرا على تلك الظبية، فوقفت وحرّكت في المرآة: رفعت رأسها إلى جانب السماء مرارا، فأطبق الغيم، وجاء الغيث الكثير، وملأت الغدير، (5) فشربت الماء وذهبت (6) . انتهى. وروي أنّ واحدا من الصيّادين قال: إنّي وجدت بقر وحش معه عِجْل صغير يشرب اللبن من ثديه، فعدوت إليه فهرب البقر وأبقى العجل فأخذته، ولمّا انقلب البقر ورأى عِجْله بيدي اضطرب، وأقبل إلى السماء كأنّه يتضرّع ويتوسّل ويسأل ويدعو، فوقع في مسيري حفرة فسقطت وخلص العِجْل وعادت اُمّه وذهبت به. انتهى.


1- .في النسخة: «يرفع... يطلب»، والمثبت من مرآة العقول، ج 1، ص 278 - 279.
2- .في المصدر: «فهي بالوصف له والتجريد والتنزيه والتوحيد، وهي التي بطرق البرهان».
3- .رسائل إخوان الصفا، ج 3، ص 233 ، في الرسالة الرابعة من النفسانيّات العقليّات في العقل والمعقول.
4- .في النسخة: «كان».
5- .في المرآة: «فأطبق الغيم و نزلت الأمطار الغزيرة حتّى ملأت الغدير».
6- .لم أعثر عليه في المطالب العالية . و نقله عنه أيضا في مرآة العقول، ج 1، ص 279 ، والظاهر نقله عن شرحنا هذا.

ص: 362

فالحقّ أنّ كلّ عالم يعلم ذاته إذا كان أثرا وفيضا (1) لغيره فإنّه يتفطّن ويشعر بمفيضه وبما يتعلّق إليه بعلاقة المعلوليّة وإن كان كثيرا ما لا يعلمه بخصوصه متعيّنا متفرّدا متميّزا عن غيره، وإنّما يشعر ويتوجّه إليه بوجه لا يشخّصه، ولا يعيّنه في ذلك التوجّه والتضرع والتولّع. فإن قلت: هذا التوجّه متوجّه متصوّر في الإنسان الذي له نفس مجرّدة، فإنّه توجّه بوجهٍ إجمالي إلى شيء غير معلوم بخصوصه، وأمّا في الجسماني العالم بنفسه كأرواح الحيوانات فهذا التوجّه مشكل. قلنا: أمّا على رأينا من أنّ الحقّ أنّ لكلّ حيوان نفسا مجرّدة والإدراك - سواء كان كلّيا أو جزئيا، مجرّدا أو مادّيا - لا يتمشّى إلّا من المجرّد إلّا أنّه يدرك الجزئيّات المادّيّة بوساطة الآلات وغيرها لا بواسطتها، كما حقّق في موضعه، وذهب إليه بعض المحقّقين فلا إشكال رأسا. وأمّا بناء عل الأشهر من خلوّ سائر الحيوانات عن النفس المجرّدة فالجواب ما أفاده بعض الأعاظم من أنّه يحتمل أن يتمثّل لذلك الجسماني مثال خيالي يتوهّم أنّ ذلك المثال مبدؤه، وتكون بمثل ذلك المثال في الأجرام السماويّة؛ ولهذا يتوجّه بعض الحيوانات العُجْم في التضرّعات إلى السماوات كما نقل آنفا، بل الإنسان طبعا يتوجّه في الدعاء إلى نحو السماء، وكثير من الناس يتوهّم المبدأ جسمانيا بهذا الوجه مع أنّ له قوّة مجرّدة، فما لم يكن له قوّة مجرّدة لا يبعد أن يتوهّم ذلك. ومنها ما قاله بعض المحقّقين وهو أنّ فطرة النفوس تشهد بكونها مقدورة بحسب تسخير الغير وتصرّفه فيه بمقتضى تدبيره، وذلك إلهه وفاعله، قال اللّه سبحانه: «أَفِي اللّهِ شَكٌّ» (2) ولهذا بعث الأنبياء عليهم السلام كلّهم لدعوة الخلق إلى التوحيد ليقولوا: «لا إله إلّا اللّه » وما اُمروا ليقولوا: «لنا إله، وللعالم إله» فإنّ ذلك كان مجبولاً في فطرة عقولهم من مبدأ نشأتهم في عنفوان شبابهم؛ ولذلك قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ


1- .كذا.
2- .إبراهيم (14): 10.

ص: 363

اللّهُ» (1) وقال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفا فِطْرَةَ اللّهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها» (2) فإذاً في فطرة الناس - كما يشهد عليه القرآن - ما يغني عن إقامة البرهان، هذا كلامه. والتنبيه على ما أفاده - من أنّ فطرة النفوس تشهد بكونها مقدورة بحسب تسخير الغير وتصرّفه بمقتضى تدبيره - أنّ كلّ أحد إذا راجع وجدانه يعلم أنّه دائم التغيّر والانتقال في الإرادات والعزمات، ولا يثبت بحال في حال قطعا، وأنّه لا يستقلّ في ذلك، بل لا يقدر عليه أصلاً، بل كان غيره يقلّبه من حال إلى حال، ويصرّفه من إرادة إلى إرادة، ويغيّر عزمه إلى آخر، فكم من عازم على فعل في اليوم نقض إقبالُ الليل عزمَه، وكم من مشتاق إلى أمر ليلاً بغّضه إليه ضوء النهار، ولذلك قال عزّ من قال: «عرفت اللّه بفسخ العزائم ونقض الهمم» (3) فافهم. ومنها: الإلهامات الحاصلة دفعة في العلوم والسياسات، وفي الأطفال الإنسيّة وعجم الحيوانات في معالجات أمراضها بالحشائش والأدوية، ومعرفة مصالحها وقصد الثَدْي عند الولادة، والحَبّ عند انكسار البيضة وتغميضها العين عند قصدها بالإصبع أو بحديدة، وغير ذلك من الإلهامات والعجائب الموجودة في أنواع الحيوانات المتعلّقة بمصالحها ومنافعها اللائقة بها على ما هو مذكور في كتاب الحيوان تدلّ دلالة ظاهرة على وجود مدبّر حافظ مُلهِم لتلك الأنواع ما يليق بها من المصالح والمنافع، وهو الإله المدبّر للعالم، قال اللّه تعالى: «وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» (4) بل نقول: إنّك بعد التفحّص والاستقراء التامّ تجد أنّ كلّ واحد من الجواهر والأجسام العالية والسافلة تهتدي بخصائص مصالحه بلا تعلّم واكتسابٍ اهتداءً طبيعيا أو نفسانيا، فالهادي لكلّ منها إلى خصائص مصالح ذاته ليس إلّا مدبّر الكلّ، وتلك الهداية السارية في جميع جواهر العالم ليست إلّا فعل الحافظ لها المعتني بشأنها، قال اللّه تعالى شأنه: «أَعْطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (5) .


1- .لقمان (31): 25؛ الزمر (39): 38.
2- .الروم (30): 30.
3- .تقدّم تخريجه في ص
4- .الشمس (91): 6.
5- .طه (20): 50.

ص: 364

وفي بعض الرسائل لأبي الحسن العامري: لولا إفاضة اللّه تعالى بنور المعرفة لما اهتدت الطبائع والأنفس لما يلائمها من المصالح (1) . ومنها: أنّ الارتباط الخاصّ والانتظام المخصوص الذي بين أجزاء العالم بحيث حصل منها جملة متّسقة منتظمة متعانقة متعلّقة بعضها ببعض، منتفعة شطرا منها من شطر، كأنّها موجود واحد، مترتّبة على تعانقها واجتماعها حِكَم ومصالح تدلّ بحكم الفطرة السليمة على أنّها مفعولات ومعلولات لفاعل وعلّة واحدة، هي الإله الحقّ الصانع للعالم؛ فإنّه لو لم يكن كذلك، فإن لم يكنّ معلولةً ومفعولة أصلاً بل يكون كلّ منها موجودا بالاتّفاق، أو بالوجوب الذاتي، فكان كلّ منها مستقلّاً في الوجود ومستبدّا بذاته، لم يكن بينها هذه الارتباط الخاصّ والانتظام المخصوص أصلاً؛ فإنّ الاُمور المستقلّة المستبدّة - التي لا تعلّق لبعضها ببعض في الوجود أصلاً بل يكون كلّ منها موجودة بالاتّفاق، أو يكون كلّ منها واجبة بالذات - لا يحصل بينها مثل هذا الارتباط والانتظام الخاصّ التي (2) جعلها في حكم الموجود الواحد المترتّب على اجتماعها وارتباطها وتعانقها الحِكَم والمصالح الجليلة الجسيمة بالضرورة، يشهد بذلك الفطرةُ الصحيحة، وكذا إن كانت مفعولة ومعلولة لفواعل غير منتهية إلى علّة واحدة، لم يحصل بينها مثل هذا الارتباط والتعانق أيضا بالضرورة. ومنها: أنّ إجابة دعوة المضطّرين، وإغاثة تضرّع الملهوفين، وكشف كُرَب المكروبين حين اضطرارهم وضيق حالهم وشدّة كربهم يدلّ دلالة ظاهرة على وجود خبير بحالهم عارف باضطرارهم، عالم بسؤالهم ودعائهم حالاً ومقالاً، قادر على كشف ما بهم من الضيق والشدّة والكرب، ومعتنٍ بشأنهم، معين وحافظ ومدبّر لهم هو الإله الحقّ الصانع للعالم؛ ولهذا قيل (3) : ربّما يستدلّ عليه أرباب المشاهدات من جهة المكاشفات، وأصحاب


1- .لم أعثر عليه في بعض رسائله المطبوعة.
2- .كذا. ولعلّ الصواب : «الذي».
3- .قاله الفخر الرازي في المطالب العالية، ج 1، ص 271.

ص: 365

الحاجات بطريق مشاهدة الآثار والآيات، قال اللّه تعالى: «أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ» (1) . ومنها: أنّ الإنسان يعلم ويعرف طبائعَ الأشياء المتكوّنة على وجه الأرض وخواصَّها، وتلك المعرفة إمّا بالقياس، أو بالتجربة، أو بإلهام وإعلام من المدبّر للعالم، لا سبيل إلى الأوّل؛ فإنّ القياس لا يجري ولا يتمّ في معرفة كلّ شيء وخاصيّتّه وذلك ظاهر، ولا إلى الثاني؛ لأنّ التجربة لا تفي بمعرفة كلّها، وكيف قدر شخص أو أشخاص على تبليغ جميع البلدان، فذاقوا شجرها شجرة شجرة ونباتا نباتا، فعلموا خاصّيّتها وطبائعها، وهي عقاقير مختلفة وألوان متباينة في بلدان متباعدة، منها عروق، ومنها لحاء، ومنها ثمر، ومنها غصن، ومنها صمغ، وكثيرة منها سموم قاتلة في تجربتها خطر عظيم ومضرّة كثيرة، وأهل هذه البلدان متفرّقون متعادون مختلفون متغالبون بالقتل والقهر والسبي والأسر، وكيف قدروا على خلطها وعرفوا قدرها حتّى علموا وزنها وحدّ مثاقيلها ووزن قراريطها، وجلّها سمّ قاتل إن زيد على قدره قَتل، وإن نقص من وزنه بطل، وكيف عرفوا مرار الطير وسائر أجزائه وسباع البرّ ودوابّ البحر طائرا طائرا وسبعا سبعا ودابّة دابّة بقتلها، وتجربة مراراتها وسائر أجزائها وأغصانها. لا أقول: لا يعرف شيء منها بالتجربة، بل أقول: لا تفي بمعرفة كلّها. لا أظنّك في مِرية من هذا بعد التأمّل والإنصاف. فبقي أن يكون بإعلام وإلهام ممّن هو مدبّر وصانع للعالم معتنٍ بشأنه ونظامه. وأيضا من يتأمّل في معرفة أحكام النجوم يعلم أنّه لا يعرف بالقياس وهو ظاهر، كيف، وأكثرها مخالفة للقياس... (2) والتجربة لا يحصل لها التكرارات الكثيرة للأدوار العظيمة كأدوار الكواكب الثابتة التي لا يفي بها إلّا عمل الصورة فيما (ظ) علم إلّا إعلام وإلهام من الإله الحقّ المدبّر الصانع للكلّ.


1- .النمل (27): 62.
2- .هنا كلمة لا تقرأ.

ص: 366

وكذا معرفة الصنائع المفيدة والحرف النافعة في نظام نوع الإنسان يدلّ على وجود المدبّر للعالم المعتني بشأنه ونظامه؛ فإنّ في التجربة تغيّر بل تعذّر (1) ، وبالجملة في استعلام الحوادث الآتية من أوضاع الفلكيات، والهداية إلى بدائع الصناعات وغرائب المعالجات وتركيب المعجونات واستخراجات الترياقات وغير ذلك دلائل واضحة على وجود المدبّر الصانع للأرض والسماوات، وأنّها إنّما حصلت بإعلامه وإلهامه، كما يحكى أنّه كان لجالينوس وجع في الكبد فرأى في المنام كأنّ آمرا أمره بفصد الشريان الذي على ظهر الكفّ اليمنى بين السبّابة والإبهام، ففعل فعوفي (2) إلى غير ذلك من الحكايات. ومنها: ما قال بعض العارفين: إنّ جميع أرباب الإرصاد الروحانيّة من الأنبياء والأولياء وأساطين الحكماء قديما وجديدا من الاُمم المختلفة في الدهور المتناسخة يدّعون مشاهدة الأنوار المجرّدة العقليّة ونور الأنوار مشاهدة حضوريّة، كما نقل عنهم... (3) برصد شخص أو شخصين في اُمور فلكيّة يعتمد أصحاب النجوم والهيئة على رصد بطلميوس وبرجس وغيرهما، فكيف لا يعتمد على أساطين الحكمة والنبوّة في مشاهداتهم الروحانيّة، ومكاشفاتهم النورانيّة مع أنّ الرصد كالرصد، والإخبار كالإخبار، والطريق المؤدّي إلى معرفة حركات الكواكب وأبعادها بالرصد كالطريق المؤدّي إلى معرفة الروحانيّات بالرصد الروحاني، بل الرصد الجسماني قد يتأتّى فيه الغلط لأسباب كثيرة مذكورة في المجسطي، وأمّا الرصد الروحاني إذا أدّى إلى ملكة خلع البدن، فإنّه لا يمكن الغلط فيه، بل لا بدّ من مشاهدة الروحانيّات عند خمود القوى البدنيّة؛ فاعرف. ومنها: أنّه يصدر عن الأنبياء صلوات اللّه عليهم في مقام التحدّي، وعن الأولياء أيضا اُمور خارقة للعادة التي يعلم بالضرورة أنّ أمثال تلك الاُمور لا تصدر (4) عن البشر بل لا تصدر (5)


1- .كذا. والأولى: «تغيّرا بل تعذّرا».
2- .نقله الشيخ الرئيس في القانون، ج 1، ص 209، الفصل العشرون في الفصد.
3- .هنا كلمة لا تقرأ.
4- .في النسخة: «لا يصدر». وكذا في المورد الآتي.
5- .هنا في النسخة زيادة: «إلّا عن البشر بل لا يصدر».

ص: 367

إلّا عن صانع قادر حكيم مدبّر للعالم، وذلك كانفلاق البحر لموسى عليه السلام على الوجه المشهور، فإنّه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل فخرج بهم فصبّحهم فرعون وجنوده، فصادفهم على شاطئ البحر، فأوحى اللّه إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها، فقالوا: يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولم نعلم (1) ، ففتح اللّه لهم كُوىً فتراؤوا حتّى عبروا البحر. ثمّ لمّا وصل إليه فرعون ورآه منفلقا، اقتحم فيه [هو] (2) وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين. ومن المعلوم أنّ انفلاق البحر على هذا الوجه لا يمكن حصوله إلّا من صانع قادر حكيم مدبّر للعالم؛ ولهذا قال القاضي في تفسيره: اعلم أنّ هذه الواقعة من أعظم ما أنعم اللّه تعالى به على بني إسرائيل، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه السلام (3) . بل نقول: الشرائع التي جاءت بها الأنبياء عليهم السلام سيّما نبيّنا محمّد صلوات اللّه عليه وآله المشتملة على جميع مصالح الدنيا والآخرة من العلوم والمعارف وقوانين الدين من سياسة الخلق من العامّة والخاصّة ومصالح الاُمّة بوجه صان بها أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وهداهم إلى محاسن الأخلاق ومحامد الآداب، ودبّر اُمور بواطنهم وظواهرهم، وأفاض عليهم من العلوم الحقيقيّة والمعارف الإلهيّة وغيرها من العلوم والحِكَم المحتاج إليها الناس في دينهم ودنياهم بدون تعلّم سَبَق، ولا ممارسة تقدّمت، ولا مطالعة للكتب يدلّ دلالة ظاهرة واضحة على أنّها من عند عليم قدير حكيم خبير، عارف بمصالح الخلق في معاشهم ومعادهم، مدبّر لهم، معتنٍ بشأنهم، وهو ما أردناه. واستبان من ذلك أنّه يمكن أن يستفاد من ملاحظة الشرائع بالدلائل العقليّة علمُ الإله الحقّ وحكمتُه وقدرته وكثير من صفاته، بل أصل وضعها من جملة المنبّهات، بل وجوده


1- .في تفسير البيضاوي: «لا نعلم».
2- .أثبتناه من تفسير البيضاوي.
3- .تفسير البيضاوي، ج 1، ص 333.

ص: 368

الأصل الثاني

البديهيّ، كما لا يخفى على من له فطرة صحيحة. وبالجملة، جميع أجزاء العالم منبّهات على وجود المبدأ الأوّل الصانع الواحد العالم (1) . ونعم ما قال: برگ درختان سبز در نظر هوشيارهر ورقش دفتريست معرفت كردكار 2 واللّه وليّ الهداية.

الأصل الثانيلا شكّ في أنّ معنى صانع العالم الإله الحقّ البديهيّ الوجود هو الخالق الواحد لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة الوجود بلا واسطة كان أو بالواسطة؛ لأنّ ما تشهد (2) عليه الفطرة الإنسانيّة وبديهة العقل هو أنّ في الوجود شيئا واحدا مبدءا وصانعا (3) لجميع ما سواه من الموجودات المحقّقة في أحد الأزمنة المعبّر عنه بالعالم، فالبديهة حاكمة بأنّ العالم - أي جميع ما سوى المبدأ الواحد الإله الحقّ المركوز في الأذهان والطباع - مصنوعٌ ومخلوق لذلك المبدأ الواحد المركوز فيها، وذلك الواحد هو الصانع والمبدأ الأوّل للكلّ، فظهر أنّ وحدة صانع العالم كوجوده بديهيّ، بل وحدته مأخوذ في هذا المفهوم البديهيّ وجزئه، والمنبّهات السالفة تنبيهات على وجود هذا المعنى، وهذا هو المركوز في فطرة الناس على الإجمال؛ فإنّ كلّ أحد يقول بلسانه بأيّ عبارة كان: إنّه تعالى خالق الأشياء كلّها، فذلك أيضا ممّا لا يحتاج إلى دليل، وكلّ ما يقال في بيانه - كدليل التمانع ونحوه من جملته ما نقلناه سالفا عن بعض الفضلاء - منبّهات، وإنّما المحوج إلى البرهان وحدة الواجب بالذات كوجوده؛ لأنّ وحدة الصانع لا يوجب وحدة الواجب؛ لجواز تعدّد الثاني مع وحدة الأوّل، كما أنّ


1- .في النسخة: «للعالم».
2- .في النسخة: «يشهد».
3- .في النسخة: «شيء واحد مبدأ و صانع».

ص: 369

وجوده لا يوجب وجوده إلّا بالبرهان. والتوحيدُ الذي بعث الأنبياء كلّهم لدعوة الخلق إليه ليقولوا: «لا إله إلّا اللّه » إنّما هو التوحيد الشرعي الذي عبارة عن نفي الشريك في استحقاق العبادة وغاية الخضوع والتذلّل، فإنّ المشركين كعبدة الكواكب والأصنام يعتقدون أنّها آلهة، بمعنى أنّها مستحقّة للعبادة باعتبار أنّها شفعاءُ لهم بزعمهم عند ربّ الأرباب، وإله الآلهة الذي هو الصانع الواحد للعالم، ووسائطُ بينهم وبينه تعالى. وهذا ممّا لا يستقلّ العقل بمعرفته لا بالبديهة ولا بالنظر، ويحتاج إلى تعليم الشارع. وأمّا وحدة صانع العالم فبديهيّ مركوز في الأذهان كوجوده، لا ينكره أحد ممّن يعتدّ به، وهي «فطرة اللّه التي فَطَرَ الناسَ عليها» (1) ولذلك قال اللّه تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه » (2) . والثنويّة لعنهم اللّه يكابرون بألسنتهم لمقتضى عقولهم، ويجحدون للشبهة الطارئة لهم ما في قلوبهم، وهل هذا الإنكار بالنسبة إلى بعضهم كإنكار بعض الزنادقة خذلهم اللّه تعالى أجمعين في أصل وجوده تعالى إلّا كالوسواس في النيّة؟ وأدنى تنبيه يكفيهم في رفع وسواسهم وإقرارهم بالحقّ إن لم يعاندوا ويجادلوا بألسنتهم. على أنّ طائفة كثيرة ممّن يحذو حذوهم - من القائلين بوجود الأصلين من النور والظلمة ويزدان وأهرمن - قائلون بوحدة صانع الكلّ؛ فإنّ المجوس الأصليّة زعموا أنّ النور أزلي، والظلمة محدثة مخلوقة للنور، والكيومرثيّة أثبتوا أصلين: يزدان وأهرمن، وقالوا: «يزدان أزلي قديم، وأهرمن محدث مخلوق» قالوا: «إنّ يزدان فكّر في نفسه أنّه لو كان له منازع كيف يكون، وهذه الفكرة رديئة غير مناسبة لطبيعة النور، فحدث الظلام من هذه [الفكرة] (3) ، وسمّي أهرمن، فكان مطبوعا على الشرّ والفتنة والفساد والضرر والإضرار».


1- .الأنعام (6): 79.
2- .لقمان (31): 25؛ الزمر (39): 38.
3- .أثبتناه من الملل والنحل.

ص: 370

والزروانيّة قالوا: «إنّ النور أبدع أشخاصا من نور كلّها روحانيّه نورانيّة ربّانيّة، ولكنّ الشخص الأعظم الذي اسمه زروان شكّ في شيء من الأشياء، فحدث أهرمن الشيطان من ذلك الشكّ» (1) . والزرادشتيّة قالوا: «البارئ تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له» (2) . ثمّ بعد ذلك حصلت لبعضهم شبهة وهي أنّ النور ويزدان خيّر فكيف يصبح صدور الظلمة وأهرمن الذي هو مبدأ لجميع الشرور والآفات عنه؟» وقالوا: «لو كان كذلك يلزم أن يكون واحد خيّرا وشريرا، وهذا غير جائز» فلمّا عجزوا عن دفعها نازعوا لما في أنفسهم بلسانهم، وقالوا بقدم الظلمة وأهرمن وعدم صدوره عن شيء وسمّيت بالثنويّة (3) . وافترقوا بفرق من المانويّة والديصانيّة والمَرقوبيّة والكَيْنويّة، وقد مرّ دفع شبهتهم. ولا يذهب عليك أنّ هذا الجحد اللساني لا ينافي لبداهة وحدة صانع العالم المركوزة في الفطرة الإنسانيّة، وقد صرّح ببداهة ذلك جمع من المحقّقين، قال بعض الفضلاء: العالم كلّه أجلى قائد للعقل إلى وجود الصانع ووحدته، وإدراك هذا المعنى مركوز في الجبلّات، وهو الذي يضطرّهم إلى دعاء اللّه في مواقع الحاجات والضرورات، فإنكار المنكرين وجحود الجاحدين إنّما هو من خذلان ربّ العالمين. انتهى. وبالحريّ أن نذكر هنا تنبيهات مزيلة للشبهات الفاسدة والأوهام الكاسدة: منها: قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا» (4) لعلّ معناه أنّه لو تعدّد الإله الخالق للعالم الصانع له لفسد العالم، وخرج عن النظام الذي هو عليه، وبطل الارتباط الذي (5) بين أجزاء العالم، واختلّ نظمها واتّساقها فلم يكن بينها هذا النظام والانتظام، ولم يحصل ذلك


1- .قاله الشهرستاني في الملل والنحل، ج 1، ص 233 - 234.
2- .الملل والنحل، ج 1، ص 237.
3- .الملل والنحل، ج 1، ص 244.
4- .الأنبياء (21): 22.
5- .في النسخة: «التي».

ص: 371

الارتباط والاتّساق، ولم يوجد ذلك (1) الصلاح الوحداني والائتلاف الطبيعي، بل يوجد الوضع منتشرا، والصنع متبدّدا والرؤساء متكثرة، ويختلّ الارتباط والاتّساق والسياسة التي بين أجزائه، ويفسد النظام الواحد والانتظام والائتلاف الطبيعي الواقع بينها، كما تشهد (2) به الفطرة السليمة، وتحكم (3) عليه الفطنة الصحيحة القويمة. قال في فصل الخطاب بالفارسيّة: عقلا كه در (4) كَوْن گرديده بوحدانيت مكوّن جَلَّ ذِكرُه سفر كردند. طريق سفر ايشان آن بود كه چون نهاد عالم را بديدند كه به يك تدبير مى رود و از نهاد خويش همى نگردد، مثلاً، آفتاب نكاهد و ماه كاهد و افزايد، و روز و شب بر يك تدبير مى روند (5) . و (6) خلقت حيوانات بر يك نهاد است، و منافع آسمان با منافع زمين متصل است. قال اللّه تعالى: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُت» (7) نمى بينى اى بيننده در آفرينش خداوند بخشاينده جلّ ذكره هيچ خلل و عدم مناسبت و ملايمت، و كاينات در گشت يك نظم دارد، و چون يك سلسله است و هر چند به اجزاء متعدّد و (8) متفرّق است؛ در تعلّقِ بعضى به بعضى (9) يك روى دارد و يك مزه دارد، درست شد ايشان را كه مدبّر عالم جَلَّ ذِكرُه يكى است. هر كارى كه مدبّر وى بيش از يكى باشد در آن كار اختلاف افتد و خلل به آن كار راه يابد، و چون مدبّر يكى بود آن كار متّسق و منتظم بود، و قرآن كريم به اين معنى اشاره فرموده: قال اللّه تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا سُبْحانَ اللّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ» 10


1- .في النسخة: «تلك».
2- .في النسخة: «يشهد».
3- .في النسخة: «يحكم».
4- .في المصدر: «از».
5- .في المصدر: «همى گردند».
6- .في المصدر: - «و».
7- .الملك (67): 3.
8- .في المصدر: «در تعلّق بعض ببعض و حاجت بعض ببعض».
9- .الأنبياء (21): 22.

ص: 372

وقال عزّ من قائل: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ» (1) - (2) انتهى. وقال العلّامة الدواني: اگر كسى ديده تبصّر و اعتبار بگشايد، و گِرد سراپاى عالم برآيد، از مفتتح آن، كه عالم روحانيات است تا منتهى، كه عالم جسمانيات است همه را يك سلسله مشبّك منتظم بيند، بعضى در بعضى فرورفته و هر يك بتاى (3) خود مرتبط، بلكه همه به هم مرتبط، چنانچه پندارى يك خانه است. و بر اصحاب بصيرت ناقده مخفى نيست كه مِثل اين ارتباط و التيام جز به وحدت صانع صورت انجام نپذيرد، چنانچه از ملاحظه صنايع صنّاع متعدّده، متبصّر تيزهوش را اين معنى منكشف گردد كه با وجود آن كه به حقيقت موجد همه يكى است؛ چه نزد محققان اهل دانش و بينش مقرر است كه مؤثر حقيقى در همه اشياء جز واحد احد نيست، به واسطه آن كه مصدر صورى مختلف است بسى منافرت و مناكرت ميان مصنوعات ايشان ظاهر مى گردد، و از ملاحظه اين معنى و اخوات آن متفطّن هوشمند را معلوم گردد كه اين چنين وحدت و انتظام كه در اجزاء عالم واقع است جز به وحدت صانع آن نمى تواند بود، چنانچه مضمون كريمه: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا» (4) مُنبئ از آن است. و اهل اعتبار را ادنى تنبيهى كافيست كه «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَاياتٍ لِاُولِي الأَلْبابِ» (5) و از اينجاست كه بعضى از اصحاب نفوس مشرّفه گويند: كذبت الثنويّة وأيم اللّه لو كان إله آخر فأبى شمسته أبى النظام شمسين فكيف لا يأبى إلهين. انتهى كلامه.


1- .فصّلت (41): 53.
2- .فصل الخطاب لخواجه محمّد پارسا، ص 121.
3- .كذا.
4- .الأنبياء (21): 22.
5- .آل عمران (3): 190.

ص: 373

وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة أنّه لو كان فيهما آلهة إلّا اللّه فيتعدّد الإله المؤثّر فيهما لفسدَتا، أي لخرجتا عن هذا النظام الوحداني وذلك (1) الارتباط والائتلاف الطبيعي، واختلّ انتظامهما وبطل اتّساقهما. ولا يتوهّم [أنّها ]آية إقناعي؛ إذ الفطرة السليمة تشهد بأنّ الاُمور (2) المرتبطة المتّسقة المنتظمة المترتّبة على تعانقها وارتباطها وانتظامها فوائد بوجه كأنّها أمر واحد لا يكون إلّا فعلاً لفاعل واحد. قال أبو الحسن العامري في بعض رسائله: ثمّ قالوا لولا ارتباط بعض الموجودات بالبعض على الوصف الحقيقي والنظم الحِكمي، لما دلّت الجبلّة على أنّ مبدعها واحد محض، فحالها في ارتباطها إذا قربته الشبه (3) من حال الثورين المضمومين للفَدّان (4) وتمسّكه في تكريب (5) المزارع (6) . انتهى. وممّا ذكرنا ظهر وتبيّن أنّ صانع العالم ومبدعه لغايته بهداية المكوّنات أوجد الموجودات المتكثّرة مع تخالفها وتباينها على وجه ونحو يشهد كلّ فطرة سليمة على وحدة صانعها ومبدعها ومدبّرها. وفي كلّ شيء له آيةٌتدلّ على أنّه واحد (7) ومنها (8) : ما هو المشهور ببرهان التمانع، تقريره أنّه لو وجد إلهان بصفات الاُلوهيّة فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلاً فإمّا أن يتمكّن الآخر من إرادة ضدّه، أو لا، وكلاهما محال.


1- .في النسخة: «تلك».
2- .كذا. ولعلّ الصواب : «للاُمور».
3- .كذا.
4- .في هامش النسخة: الفَدّانُ: آلة الثَوْرَيْنِ للحرث (ص) [الصحاح، ج 4، ص 2176 (فدن)].
5- .في هامش النسخة: الكَرْب: قلب الأرض بالحرث (ص) [الصحاح، ج 1، ص 211 (كرب)].
6- .لم أعثر عليه في بعض رسائله المطبوعة.
7- .البيت لأبي العتاهية كما في ديوانه، ص 122 . وورد في ترجمته من الأغاني، ج 4، ص 35؛ وتاريخ بغداد، ج 6، ص 253.
8- .هذا الوجه ذكره التفتازاني.

ص: 374

أمّا الأوّل، فلأنّه لو فرض تعلّق إرادته بذلك الضدّ فإمّا أن يقع مرادهما، وهو محال؛ لاستلزامه اجتماع الضدّين، أو لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال؛ لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض، ولاستلزامه ارتفاع الضدّين المفروض امتناع خلوّ المحلّ عنهما كحركة الجسم وسكونه في زمان معيّن، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وهو محال؛ لاستلزامه الترجّح بلا مرجّح، وعجز من فرض قادرا؛ حيث لم يقع مراده. وأمّا ثانيا (1) ، فلأنّه يستلزم عجز الآخر؛ حيث لم يقدر على ما هو ممكن في نفسه، أعني إرادة الضدّ (2) . وقد يقال (3) : قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا» (4) إشارة إلى هذا، تقريره أنّه لو تعدّد الإله لكان بينهما التنازع، وتميز صنع كلّ عن صنع الآخر بحكم اللزوم العادي، فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام (5) ، ويختلّ الانتظام الذي به بقاء الأنواع وثبوت الآثار (6) . قال العلّامة الدواني في شرحه للعقائد العضديّة: قد قيل: إنّه دليل إقناعي؛ لجواز أن يتّفقا فلا يلزم الفساد. ويمكن أن يقال: إنّ التعدّد يستلزم إمكان التخالف، وعلى تقدير التخالف إمّا أن يحصل مراد أحدهما، أو كليهما، أو لا يحصل شيء منهما، والكلّ محال. أمّا الأوّل، فلاستلزامه كون الآخر عاجزا فلا يكون خالقا وقد فرض [كونه خالقا ]هذا خلف.


1- .في شرح المقاصد: «الثاني».
2- .شرح المقاصد، ج 2، ص 62.
3- .قاله التفتازاني في شرح المقاصد، ج 2، ص 63 . وفيه: «وإن اُريد بالفساد [في الآية ]والخروج عمّا هما عليه من النظام ، فتقريره أنّه لو تعدّد الإله...».
4- .الأنبياء (21): 22.
5- .في شرح المقاصد: «الالتئام الذي باعتباره صار الكلّ بمنزلة شخص واحد».
6- .في شرح المقاصد: «ترتّب الآثار».

ص: 375

وأمّا الثاني، فلاستلزامه اجتماع النقيضين. وأمّا الثالث، فلاستلزامه ارتفاع النقيضين؛ فإنّ منع استلزامه إمكان التخالف؛ لجواز أن يكونا متّفقين (1) في الإرادة بحيث يستحيل اختلافهما إمّا لأنّ مقتضاهما إيجاد الخير، أو [إيجاد] ما الغالب فيه الخير، وإمّا لأنّ ذاتهما تقتضي الاتّفاق. فالجواب أنّه لا يخلو [إمّا] أن يكون قدرة كلّ واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم، أو لا شيء منهما كافٍ (2) ، أو أحدهما كافٍ (3) فقط، فعلى الأوّل يلزم اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول (4) ، وعلى الثاني يلزم عجزهما؛ لأنّهما لا يمكن لهما التأثير إلّا باشتراك الآخر، وعلى الثالث لا يكون الآخر خالقا، فلا يكون إلها «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ» (5) . لا يقال: إنّما يلزم العجز إذا انتفى (6) القدرة على الإيجاد بالاستقلال، أمّا إذا كان كلّ منهما قادرا على الإيجاد بالاستقلال ولكن يتّفقا على الإيجاد بالاشتراك، فلا يلزم العجز، كما أنّ القادرين على حمل خشبة بالانفراد قد يشتركان في حملها، وذلك لا يستلزم عجزهما؛ لأنّ إرادتهما تعلّقت بالاشتراك، وإنّما يلزم العجز لو أرادا (7) الاستقلال ولم يحصل. لأنّا نقول: تعلّق إرادة كلّ واحد منهما إن كان كافيا، لزم المحذور الأوّل، وإن لم يكن كافيا، لزم المحذور الثاني، والملازمتان بيّنتان لا يقبل (8) المنع. وما أوردتم من المثال في سند المنع لا يصلح للسنديّة؛ إذ في هذه الصورة ينقّص [ميل] (9) كلّ منهما من


1- .في المصدر: «متوافقان»، والصواب: «متوافقين».
2- .في المصدر: «كافية».
3- .في المصدر: «أو إحداهما كافية».
4- .في المصدر: «معلول واحد».
5- .النحل (16): 17.
6- .في نقل البحار: «انتفت».
7- .في النسخة والمصدر: «أراد».
8- .كذا. وفي المصدر والبحار: «لا تقبلان».
9- .في نقل البحار: «الميل».

ص: 376

الميل الذي يستقلّ به في الحمل قدرَ ما يتمّ بالميل (1) الصادر (2) عن الآخر حتّى ينقل الخشبة بمجموع الميلين، وليس واحد منهما بهذا القدر من الميل فاعلاً مستقلّاً، وفي مبحثنا هذا ليس المؤثّر إلّا تعلّق الإرادة والقدرة، ولا يتصوّر الزيادة والنقصان في شيء منهما. وهذا وجه متين من سوانح الوقت لا يبقى فيه للمنصف ريبة؛ واللّه ولي التوفيق (3) . هذا ما أفاده وفيه نظر؛ لأنّه لا يلزم من كفاية مجرّد القدرة والإرادة من كليهما في وجود العالم اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد، وإنّما يلزم هذا [فيما] (4) تعلّق مع ذلك إرادة كلّ منهما بوجود العالم بتمامه وهو ظاهر، ولعلّه لا يتعلّق إرادة كلّ منهما بوجود ما تعلّق به إرادة الآخر، بل إنّما يتعلّق إرادة أحدهما بوجود بعض من أجزاء العالم مغاير لما تعلّق به إرادة الآخر، فلا يلزم اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد، ولا عجز أحدهما، ولا عدم كونهما خالقين (5) ، نعم لو تعلّق إرادة كلّ منهما بوجود العالم بتمامه كان كافيا، لكن لا يتعلّق إرادة كليهما به، فلا يلزم اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد بالفعل أصلاً. فإن قيل: يجوز أن يتعلّق إرادة كليهما بوجود تمام العالم عاد المنع بعينه؛ فتأمّل. فالأولى أن يوجّه الدليل بأنّه لا يخلو أن يكون قدرة كلّ واحد منهما وتعلّق إرادته كافية في وجود العالم، أو لا شيء منهما بكافٍ، أو أحدهما كافٍ فقط، فعلى الثاني والثالث يلزم عجزهما، أو عجز أحدهما وعدم كونه خالقا، وعلى الأوّل يلزم استناد العالم إلى ما لا يتوقّف عليه وجوده بخصوصه، لكنّ الحقّ أنّ المعلول لا يستند إلّا إلى ما يتوقّف عليه بخصوصه؛ إذ لو أمكن كون أحد الأمرين أو الاُمور كافيا في وجوده، كان العلّة بالحقيقة هو


1- .في نقل البحار: «الميل».
2- .في المصدر: + «من الصادر».
3- .شرح العقائد العضديّة، ص 94 (مصحّحة بعض الأصدقاء) ، وما بين المعاقيف منه. و عنه في بحار الأنوار، ج 3، ص 233.
4- .بدل ما بين المعقوفين في النسخة كلمة لا تقرأ.
5- .في النسخة: «خالقا».

ص: 377

القدر المشترك، فيلزم أن يكون الواحد بالعموم علّة للواحد بالعدد، وهو ممتنع محال، وقد صرّح المحقّق الدواني بذلك في حواشيه على التجريد. لكن بقي بعدُ نظرُ دقيق لا يندفع بما غيّر من التوجيه وهو أن يقال: إنّا نختار أنّ قدرة كلّ منهما وإرادته غير كافية في وجود هذا العالم بعينه وشخصه، بل قدرة واحد منهما وإرادته كافية فيه، ولا يلزم عجز الآخر إلّا إذا لم يكن الآخر قادرا على إيجاد مثل هذا العالم، ولا يلزم من عدم قدرته على إيجاد عينه عجزُه عن إيجاد مثله، فإنّ كونَ أحد القادرين قادرا على إيجاد عين أثر الآخر ممتنعٌ محال، ولا يلزم من كون كلّ منهما قادرا على إيجاد مثل هذا العالم اجتماعُ المؤثّرين التامّين على معلول واحد شخصي، بل إنّما جواز اجتماعهما على معلول واحد نوعي، ولا محذور فيه على ما هو المشهور. والحاصل أنّه لو كان هذا العالم بعينه أثر الواحد منهما، ويكون الآخر قادرا على إيجاد مثله لا عينه، لا يلزم عجز الآخر، ولا اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد شخصي. فإن قيل: إذا كان العالم أثرا لأحدهما ولا يكون للآخر أثر، لم يكن إلها للعالم؛ إذ المراد بالإله هو الخالق للعالم، والمطلوب هاهنا نفي تعدّد الإله الخالق للعالم لا نفي تعدّد الواجب بالذات. ويلزم من ذلك نفي تعدّد الإله ولا محذور فيه لو لم يلزم منه مطلب آخر. قلنا: لِمَ لا يجوز أن يكون أحدهما خالقا لبعض أجزاء العالم، والآخر خالقا لبعض آخر، ويكون كلّ منهما قادرا على مثل فعل الآخر لا على عينه، فلا يلزم عجز أحدهما، ولا اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد شخصي، ولا عدم كون أحدهما إلها خالقا كما لا يخفى؟ وحينئذٍ يرد على ما قرّر من التوجيه أيضا أنّ قدرة كلّ منهما وتعلّق إرادته غير كافية في وجود ما تعلّق به إرادة الآخر وقدرته بعينه وشخصه، ولا يلزم عجز أحدهما إلّا إذا لم يكن الآخر قادرا على مثل ما أوجده الآخر وهو ممنوع، بل كون أحد القادرين قادرا على عين فعل الآخر وشخصه أمر محال؛ لأنّ المشخّص على ما هو التحقيق إنّما هو نشأة الوجود، ولا ريب أنّ نشأة وجود الصادر من «أ» مثلاً مغايرة لنشأة وجود الصادر من «ب»

ص: 378

وإن فرض اتّحاد الصادرين في تمام الحقيقة وفي جميع المشخّصات المشهودة (ظ)، فلا يتصوّر أن يكون الصادر عن «أ» بعينه صادرا عن «ب» أصلاً. أقول: يمكن دفع هذا بأن يقال: إذا أوجد أحدهما بعض العالم، فلا شكّ في أنّ الآخر لا يتمكّن من إيجاد مثل ذلك البعض في محلّه؛ لاستحالة اجتماع المثلين في محلّ واحد، وذلك إنّما نشأ من إيجاد الأوّل البعض الذي أوجده في محلّه، فهو عجز ناشٍ من فعل الأوّل. وتمكّنه من إيجاد مثل ذلك البعض في محلّه بدلاً عنه لا يغني؛ لأنّه بسبب وجود ذلك البعض الذي أوجده الأوّل في محلّه ممنوع بالفعل عن إيجاد مثله في محلّه، ولا شكّ في أنّ هذا عجز بتعجيز الأوّل إيّاه عن خلق مثله في محلّه بالفعل، وهذا منافٍ للإلهيّة. وكذا الحال في إيجاد الثاني البعض الآخر؛ فإنّه أيضا يوجب عدم تمكّن الأوّل من إيجاد مثل البعض الثاني في محلّه، فهو عجز ناشٍ من فعل الثاني، فيلزم عجز الإلهين بتعجيز كلّ واحد منهما صاحبه. وتمكّن كلّ واحد من مثل فعل الآخر في محلّ آخر في عالم آخر لا ينفع؛ لأنّ عجز كلّ واحد عن إيجاد مثل فعل الآخر في هذا العالم بتعجيز كلّ منهما صاحبه كافٍ في المطلوب. على أنّه يوجب بخلهما وخسّتهما وسدّ أبواب كثير من فيضهما؛ لأنّ (1) كلّاً منهما حينئذٍ متمكّن من إيجاد عالم بتمامه، فشركتهما في عالم واحد وعدم تفرّد كلّ منهما بخلق عالم مع تمكّنهما من ذلك خسّة ونقص ينافي الإلهيّة إذا لم يكن إيجادهما معا في العالمين منافٍ (2) للحكمة والمصلحة، وإذا كان كذلك فإيجاد أحدهما - وهو الذي قد وقع - منافٍ لحكمة إيجاد الآخر ومصلحته، وهو الذي لم يقع، فَفِعْلُ فاعل ذلك المثل مانعٌ عن فعل فاعل المثل الآخر، فيلزم عجز الثاني عن فعله بتعجيز الأوّل إيّاه، وكذا عجز الأوّل بالقياس إلى مثل الفعل الواقع من الثاني بتعجيز الثاني إيّاه. فأقول في تقريره على وجه لا يرد عليه شيء أصلاً (3) : إنّه لو وجد صانعان إلهان ويتّصفان


1- .في النسخة: «كلّ».
2- .كذا، لعلّ الصواب : «منافيا».
3- .سيأتي أيضا تفرّده بتقرير برهان التمانع في ص 464.

ص: 379

لا محالة بصفات الاُلوهيّة من كمال القدرة والعلم والإرادة وغير ذلك، فلا يخلو من أنّ التخالف بينهما ممكن أو ممتنع، وعلى الأوّل إذا أراد أحدهما شيئا، والآخر نقيضه كوجود زيد وعدمه، فإمّا أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فيلزم الترجّحُ بلا مرجّح، أو عجزُ الآخر، فلا يكون إلها قادرا على جميع الممكنات، وإمّا أن يحصل مراد كليهما، أو لا يحصل مراد شيء منهما، وهما محالان؛ لاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، مع أنّ الأخير يوجب عجزهما معا. وعلى الثاني فإمّا أن يكون قدرة كلّ واحد منهما وتعلّق إرادته كافية في وجود العالم، أو لم يكن شيء منهما بكافٍ، أو أحدهما كافٍ فقط، وعلى الأوّل فإمّا أن تعلّق إرادة كلّ منهما بوجود العالم بتمامه، أو تعلّق إرادة كلّ منهما ببعض منه مغاير لما تعلّق به إرادة الآخر، وعلى التقديرين يلزم استناد العالم إلى ما لا يتوقّف عليه وجوده بخصوصه، لكنّ الحقّ أنّ المعلول لا يستند إلّا إلى ما يتوقّف عليه بخصوصه؛ إذ لو أمكن كون أحد الأمرين، أو الاُمور كافيا في وجوده، كان العلّة بالحقيقة هو القدر المشترك، فيلزم أن يكون الواحد بالعموم علّة للواحد بالعدد وهو محال، على أنّ على التقدير الأوّل يلزم فساد آخر وهو اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد شخصي، وعلى الثاني وهو أنّ قدرة كلّ منهما وتعلّق إرادته غير كافية في وجود تمام العالم، بل كلّ منهما إنّما يقدر على إيجاد بعض من العالم، ولا يقدر على إيجاد ما تعلّق بوجوده إرادة الآخر وقدرته بعينه وشخصه؛ لاستحالة كون أحد القادرين قادرا على عين فعل الآخر وشخصه، وحينئذٍ فلا يخلو إمّا أن يكون كلّاً منهما قادرا على مثل فعل الآخر أو لا، وعلى الثاني لزوم عجزهما ظاهر، وعلى الأوّل فلا شكّ في أنّ كلاًّ (1) منهما لا يقدر على إيجاد مثل فعل الآخر في محلّه الذي فعله الأوّل فيه حين وجوده فيه، كإيجاد مثل هذه الأرض في هذا المكان مع وجوده فيه؛ لاستحالة اجتماع المثلين في محلّ واحد وإن


1- .في النسخة: «كلّ».

ص: 380

كان قادرا على إيجاده فيه بدلاً عنه. وعدم تلك القدرة إنّما نشأ من فعل الأوّل وإيجاده ما أوجده في ذلك المحلّ، فالثاني عاجز في خلق ذلك المثل بتعجيز الأوّل إيّاه، وكذا بالعكس. والتمكّن من إيجاد مثله في محلّ آخر في عالم آخر لا ينفع أصلاً؛ لأنّ عجز كلّ واحد عن إيجاد مثل فعل الآخر في هذا العالم بتعجيز كلّ منهما صاحبه كافٍ في المطلوب، على أنّه يوجب بخلهما وخسّتهما وسدّ كثير من أبواب فيضهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما لم يتمكّن من إيجاد عالم بتمامه، فشركتهما في عالم واحد وعدم تفرّد كلّ منهما بعالم بخل وخسّة ونقص عظيم منافٍ للاُلوهيّة، هذا إذا لم يكن إيجاد المثلين معا في العالمين منافيا للحكمة والمصلحة، وإذا كان كذلك فإيجاد أحدهما - وهو الذي قد وقع - منافٍ لحكمة إيجاد الآخر ومصلحته، ففِعْلُ فاعل ذلك المثل مانعٌ عن فعل فاعل المثل، فيلزم عجز الثاني عن فعله بتعجيز الأوّل إيّاه، وكذا عجز الأوّل بالقياس إلى مثل الفعل الواقع من الثاني بتعجيز الثاني إيّاه. والقولُ بأنّه لعلّ أن يكون للإله الآخر عالَمٌ (1) لا يعلمه غيرُ معقول؛ لأنّ المراد بالعالَم ما عدا الإلهين المفروضين، سواء كان معلوما أم لا... (2) . وعلى الثالث يلزم عجز الآخر وعدم كونه إلها خالقا لهذا العالَم، هذا خلف. فإن قيل: ما ذكرتم من العجز لازم في الواحد أيضا، إذا أوجد المقدور؛ فإنّه لا يبقى قادرا عليه؛ ضرورةَ امتناع إيجاد الموجود، فيلزم أن لا يصلح للاُلوهيّة. قلنا: عدم القدرة بناءً على تنفيذ القدرة ليس عجزا بل كمالاً للقدرة بخلاف عدم القدرة بناءً على سدّ الغير طريق القدرة عليه، فإنّه عجز بتعجيز الغير إيّاه. فعلى هذا التقرير الذي تفرّدت به لا يتوجّه على هذا الوجه إيراد أصلاً. واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد. ومنها (3) : أنّه لو وجد إلهان يتّصفان لا محالة بصفات الاُلوهيّة من العلم والقدرة والإرادة


1- .في النسخة: «عالَما».
2- .كلمة لا تقرأ.
3- .هذا الوجه ذكره التفتازاني.

ص: 381

وغيرها، فإذا قصدا إلى إيجاد مقدور معيّن كحركة جسم معيّن في زمان معيّن فوقوعه إمّا أن يكون بهما، فيلزم مقدور بين قادرين مستقلّين، بمعنى استقلال كلّ منهما بإيجاده، وذلك محال، وإمّا أن يكون بأحدهما، فيلزم الترجّح بلا مرجّح؛ لأنّ المقتضي للقادريّة ذات الإله، وللمقدوريّة إمكان الممكن، فنسبة الممكنات إلى الإلهين المفروضين على السويّة من غير رجحان. لا يقال: يجوز أن لا يقع مثل هذا المقدور، للزوم المحال، أو يقع بهما جميعا لا بكلّ منهما ليلزم المحال. لأنّا نقول: الأوّل باطل؛ للزوم عجزهما، ولأنّ المانع من وقوعه بأحدهما ليس إلّا وقوعه بالآخر، فيلزم من عدم وقوعه بهما وقوعه بهما، وكذا الثاني؛ لأنّ التقدير استقلال كلّ منهما بالقدرة والإرادة (1) . وقد يقال (2) : إليه الإشارة بقوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا» (3) وتقريره أنّه لو تعدّد (4) الإله لم تتكوّن السماء والأرض؛ لأنّ تكوّنهما إمّا بمجموع القدرتين، أو بكلّ منهما، أو بأحدهما، والكلّ باطل. أمّا الأوّل فلأنّ من شأن الإله كمال القدرة، وأمّا الآخران فلما مرّ (5) . وفيه نظر، والجواب (6) قد ظهر لك ممّا مرّ. ومنها (7) : أنّه لو تعدّد الإله فما به التمايز لا يجوز أن يكون من لوازم الإلهيّة؛ ضرورة اشتراكهما فيها، بل من العوارض فيجوز مفارقته فيرتفع الاثنينيّة، فيلزم جواز وحدة الاثنين وهو محال (8) .


1- .شرح المقاصد، ج 2، ص 63 (الوجه الرابع).
2- .قاله التفتازاني بعد ذكر برهان التمانع.
3- .الأنبياء (21): 22.
4- .في شرح المقاصد: «فإن اُريد بالفساد عدم التكوّن ، فتقريره أنّه لو تعدّد...».
5- .شرح المقاصد، ج 2، ص 63.
6- .في النسخة: «جواب».
7- .هذا الوجه ذكره التفتازاني.
8- .شرح المقاصد، ج 2، ص 63 (الوجه السابع) وفيه: «اشتراكها بل... مفارقتها... فترتفع».

ص: 382

الأصل الثالث

وفيه نظر ظاهر، لكن هذا القدر بما يكفي للتنبيه على المطلوب البديهيّ؛ فتدبّر. ومنها: أنّه لا أولويّة لعدد دون عدد، فلو تعدّد لم ينحصر في عدد، واللازم باطل؛ لما ثبت عند المتكلّمين بالدليل من تناهي كلّ ما دخل تحت الموجود (1) . ومنها: أنّ بعثة الأنبياء وصدقهم بدلالة المعجزات لا يتوقّف على الوحدانيّة، فيجوز التمسّك بالأدلّة السمعيّة كإجماع الأنبياء على الدعوة إلى توحيد خالق العالم ونفي الشريك، وكالنصوص القطعيّة من كتاب اللّه تعالى على ذلك (2) .

الأصل الثالثقد ظهر بالأصلين السابقين أنّ وجود موجود واحد يكون مبدءً وصانعا لجميع ما عداه من الموجودات المحقّقة المعبّر عنه بالعالم بديهيّ فطري، فظهر أنّ استناد جميع ما عدا الإله الحقّ الواحد الصانع للعالم من الموجودات المحقّقة إليه بديهيّ، سواء كان ذلك الاستناد إليه بلا واسطة أو بالواسطة، وكذا ظهر أنّ ذلك الصانع الواحد مغاير ومباين لكلّ ما هو من العالم بالضرورة، وظهر أيضا أنّه غير مخلوق وغير مصنوع لغيره بالبديهة؛ لأنّه خالق لجميع ما يغايره، والبديهة حاكمة بأنّ خالق الشيء لا يكون مخلوقا لمخلوقه. والحاصل أنّ كونه تعالى غير مخلوق لغيره بديهيّ معتبر في مفهوم صانع العالم البديهيّ الوجود، ولا أقلّ من أنّه لازم بيّن له، وهذا هو معنى لفظ «خداى» في الفارسيّة. قال الفاضل الأردبيلي في رسالته في إثبات الواجب بالفارسيّة: گفته اند كه خداى در اصل خودآى است؛ يعنى خود آمده، و در وجود و پيدا شدنِ


1- .هذا الوجه ذكره التفتازاني في شرح المقاصد، ج 2، ص 63 (الوجه التاسع) وفيه: «تحت الوجود».
2- .هذا الوجه ذكره التفتازاني في شرح المقاصد، ج 2، ص 63 (الوجه العاشر).

ص: 383

خود محتاج به غيرى نيست كه او را پيدا كند (1) . ثمّ قال: مجملاً بودن خداى تعالى ظاهر است و احتياج به دليل ندارد و مى تواند بود كه اين يك معنى «مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّه» (2) باشد؛ يعنى هر كه آن مقدار عقل دارد كه علم به وجود خود پيدا كند و داند كه او هست به يقين، و شك در وجود خود نكند علم به وجود خداى تعالى پيدا مى كند بى شك. (3) انتهى. وما مرّ من المنبّهات على بداهة وجود الصانع أكثرها منبّهات على بداهة وجود المبدأ الأوّل والصانع الغير المصنوع لغيره؛ فإنّ كلّ أحد إذا خلّى نفسه عن الوساوس والأوهام المشوّشة تفطّن وعرف أنّه يعرف ذاتا غنيّا ليس مثله مصنوعا معلولاً محتاجا في الوجود إلى غيره، يتّكل ويعتمد عليه، ويتضرّع ويتوسّل في المضائق إليه، وترجى منه النجاة والخلاص في المحن والمصائب، ويعلم أنّ ذلك إلهه وموجده وعلّته الاُولى وخالق السماوات والأرض وما فيهنّ، وليس مثلهنّ مصنوعا ومخلوقا لغيره إلّا أنّه لضعف علمه لا يعلمه إلّا بإنّيّته وثبوته على هذا الوجه على سبيل الإجمال، ولا يعلم تفاصيل مآله من الصفات والكمالات، وكذلك حال حديث التواتر الذي قد مرّ نقله عن بعض المحقّقين (4) ، فإنّ الكلّ متّفقون على وجود صانع غير مصنوع لغيره، وكذلك حال بعض آخر المنبّهات المذكورة، كما يظهر بالرجوع إليها. وأيضا لم يجحد أحد بلسانه بعد القول بأنّ الصانع موجود عدمَ مصنوعيّته لغيره، ولم


1- .قال الفخر الرازي في المطالب العالية، ج 3، ص 247: «قولنا واجب الوجود لذاته، وذلك يفيد أنّه يستحقّ الوجود من ذاته المخصوصة، ولذاته المخصوصة، وقريب من هذا اللفظ قولنا بالفارسية: «خداى» وأصل هذه اللفظة قولهم: «خود آى» ومعناه: بنفسه جاء، والمراد من هذا المجيء: الوجود، فصار قولنا: «خداى» أي بنفسه وجد. وذلك هو اللفظ المطابق لقولنا: واجب الوجود لذاته».
2- .تقدّم تخريجه في ص
3- .رساله اُصول الدين، ص 234 - 235 (فصل اوّل در اثبات واجب الوجود) المطبوع في هفده رساله.
4- .مرّ في ص؟؟؟

ص: 384

يقل أحد بعد القول بوجوده بأنّه مخلوق لغيره. والزنادقة إنّما جحدوا بلسانهم أصل وجوده، فظهر أنّ كون الصانع غير مصنوع لغيره أجلى وأظهر من أصل وجوده البديهيّ. وأيضا كلّ من له أدنى عقل وتميز حتّى الصبيان المميّزين من كلّ ملل ونحل ما عدا الزنادقة والمعطّلة المتجاهلة بأصل وجوده تعالى إذا سئل عن كون الصانع والخالق للعالم مخلوقا ومصنوعا لغيره أم لا، يجيب في بادئ الرأي بلا تأمّل وفكر بأنّ خالق العالم غير مخلوق لغيره وهذا معنى قول المحقّقين حيث قالوا: «معرفة صانع العالم بديهيّ، وإنّما يحتاج إلى البرهان إثبات كونه واجبا لذاته» وقد صرّح بعضهم بذلك حيث قال: «وجود الإله الأوّل الحقّ بديهيّ» وقال بعضهم: إنّا نعلم بالحدس أنّ الصانع لمثل هذا العالم لا يكون إلّا غنيّا مطلقا يفتقر إليه كلّ شيء، ولا يفتقر هو إلى (1) شيء. نقل عن بعض التّجار أنّه قال: سألت جمعا من صبايا أهل الكفر من اُمم مختلفة كان سنّ كبيرهم اثني عشر سنة، وقلت بألسنتهم: مَن خالق الربّ؟ فتعجّب كلّ واحدة منهنّ من هذا السؤال غاية التعجّب، وأسندت بعضهنّ هذا السؤال إلى الهذيان، وأجابت عنّي كلّ واحدة منهنّ بجواب، فقالت إحداهنّ: الربّ خالق؟ وضحكت اُخرى، وقالت لصاحبتها: اسمعي ما يقول هذا، يقول: مَن خالق الربّ؟ وقال لي اُخرى: أتزعم أنّي لست بإنسان تسألني مثل هذا السؤال؟ ظاهرٌ أنّه ليس للربّ خالق، وقالت اُخرى: كيف يكون الربّ مخلوقا وهكذا. انتهى. فظهر أنّ العلمَ بوجود المبدأ الأوّل وصانع العالم الذي ليس بمخلوق لغيره بديهيٌّ فطري. والوساوس والأوهام والشبهات الموهم لنظريّته (ظ) وهذه التنبيهات وأمثالها ممّا لا يخفى على اُولي النهى بكشف الغطاء عن هذه المخدّرة لمن له أدنى بصيرة. وكذا ظهر أنّ كلّ ما هو مصنوع ومعلول لغيره هو من العالم ومغاير للصانع بالبديهة.


1- .في النسخة: «إليه».

ص: 385

فإن قلت: لا معنى للواجب بالذات إلّا الموجود المستغني في وجوده عن الغير، فإذا كان وجود المبدأ الأوّل والصانع الغير المصنوع لغيره بديهيّا، فقد كان وجود الواجب بالذات بديهيّا. قلنا: مجرّد الاستغناء عن الغير في الوجود لا يقتضي وجوبَ الوجود بالذات وامتناعَ العدم بالذات مطلقا، بل إنّما يقتضي ذلك على تقدير بطلان الترجّح بلا مرجّح، وإلّا لجاز أن يكون المستغني في وجوده عن الغير يوجد تارة، ويعدم اُخرى من غير أن يكون ذلك الوجود والعدم لذاته ولا لغيره، بل بمجرّد الاتّفاق. وبداهة بطلانه لا يضرّنا. وأيضا على تقدير بطلان الأولويّة الذاتيّة، وإلّا لجاز أن يكون المستغني في وجوده عن الغير يوجد تارة، ويعدم اُخرى بالأولويّة الناشئة عن الذات الغير المنتهية إلى حدّ الوجوب، فيكون في وجوده مستغنيا عن الغير مع أنّه ليس واجبَ الوجود بالذات وممتنعَ العدم بالذات، بل كلّ واحد من وجوده وعدمه حينئذٍ ممكن بالنسبة إلى ذاته، فالاستغناء عن الغير في وجوده لا ينافي الإمكان الذاتي. وبالجملة، الاستغناء عن الغير في الوجود إنّما يقتضي الوجوب الذاتي بعد ثبوت كون الإمكان علّة للاحتياج إلى الغير، المباين لوجود الممكن الخارج عنه، كيف لا؟ وقد ذهبت الطبيعيّون الدهريّون بعدم مصنوعيّة القدماء مع أنّهم قائلون بإمكانها، ومنكرون الواجب بالذات. فظهر أنّ الموجود المستغني عن الغير في وجوده ليس هو معنى الواجب بالذات حتّى يكون بداهة وجود الأوّل بداهة وجود الثاني، بل إنّما يلزم من انضمام تلك المقدّمات - سواء كانت بديهيّة أو نظريّة - إلى المعنى الأوّل أن يكون ذلك المعنى واجب الوجود بالذات كما سيجيء بيانه، وهل هذا إلّا معنى النظري؟ فظهر أنّ قولهم: «الواجب هو الموجود المستغني عن الغير في وجوده» ينعكس كلّيا في بادئ الرأي قبل إقامة البرهان عليه، وبناء الإيراد إنّما هو على توهّم انعكاسه كلّيا في أوّل النظر.

ص: 386

فإن قلت: فما معنى الواجب لذاته؟ قلت: أمّا على رأي جمهور المتكلّمين فمعناه ما يقتضي ذاته وجوده، ولا شكّ في أنّه لا يلزم من بداهة وجود الموجود المستغني عن غيره في الوجود بداهةُ كون ذاته مقتضيا لوجوده؛ لجواز أن يكون موجودا لا يكون ذاته ولا غيره مقتضيا لوجوده، بل لو كان تفسير الواجب بهذا حقّا فبالدليل يثبت أنّ المعنى البديهي الوجود هو فرد لمفهوم هذا المعنى. وأمّا على مذهب الحكماء والمحقّقين [ف-]هو الوجود المستغني عن الغير، وظاهرٌ أنّ بداهة وجود الموجود المستغني عن غيره في وجوده لا يستلزم بداهة تحقق الوجود المستغني عن الغير؛ لجواز أن يكون ذلك الموجود البديهي الوجود ممكنا مستغنيا عن الغير كما مرّ، ولجواز أن يكون وجوده مستندا إلى ذاته، كما هو مذهب المتكلّمين، فلا يكون وجوده وجودا مستغنيا عن الغير، بل وجود محتاج إلى ذات موصوفه وإن كان ذلك الموجود في وجوده مستغنيا عن غيره. وكونُ ذلك الوجود المستغني عن الغير موجودا مستغنيا عن الغير - لأنّ الوجود القائم بنفسه وجود وموجود، فيكون موجودا مستغنيا عن الغير - لا يستلزم أن يكون كلّ موجود مستغنٍ عن الغير وجودا مستغنيا عن الغير في بادئ الرأي حتّى يكون الثاني لازما بيّنا للأوّل، ويكون بداهة الأوّل مستلزما لبداهة الثاني، بل إنّما يلزم ذلك بعد انضمام بعض المقدّمات إلى بعض، وإقامة البرهان عليه، فظهر نظريّة وجود الواجب بالذات مع بداهة وجود المبدأ الأوّل، والصانع الغير المصنوع لغيره للعالم.

تحقيق مقام وتبيين مرامقال بعض المحقّقين: مراتب الموجودات في الموجوديّة بحسب التقسيم العقلي ثلاث لا مزيد عليها: أدناها الموجود بالغير، أي الذي يوجده غيره، فهذا الموجود له ذات ووجود (1) يغاير ذاته وموجد يغايرهما، فإذا نُظر إلى ذاته وقُطع النظر عن موجده أمكن في


1- .في النسخة: «ذات ووجد».

ص: 387

نفس الأمر انفكاك الموجود عنه، ولا شبهة في أنّه يمكن أيضا تصوّر انفكاكه عنه، فالتصوّر والمتصوّر كلاهما ممكن، وهذه حال المهيّات الممكنة كما هو المشهور. وأوسطها الموجود بالذات بوجود هو غيره، أي الذي يقتضي ذاته وجوده اقتضاءً تامّا يستحيل معه انفكاك الوجود عنه، فهذا الموجود له ذات ووجود يغاير ذاته، فيمتنع انفكاك الوجود عنه بالنظر إلى ذاته، لكن يمكن تصوّر هذا الانفكاك، فالمتصوّر محال، والتصوّر ممكن، وهذه حال الواجب الوجود على مذهب جمهور المتكلّمين. وأعلاها الموجود بالذات بوجود هو عينه، أي الذي وجوده عين ذاته، فهذا الموجود ليس له وجود يغاير ذاته، فلا يمكن تصوّر انفكاك الموجود عنه، بل الانفكاك وتصوّره كلاهما محالان. ولا يخفى على ذي مُسكة أن لا مرتبة في الموجوديّة أقوى من هذه المرتبة الثالثة التي هي حال الواجب تعالى عند جماعة ذوي بصائر ثاقبة وأنظار صائبة. وإن أردت مزيد توضيح لما صوّرناه في المراتب الثلاث في الموجوديّة فاستوضح الحال فيما نورد في هذا المثال وهو أنّ مراتب المضيء في كونه مضيئا ثلاث... (1) الاُولى المضيء بالغير، أي الذي استفاد الضوء من غيره، كوجه الأرض الذي استضاء بمقابلة الشمس، فهنا مضيء وضوء يغايره وشيء ثالث أفاد الضوء. الثانية المضيء بالذات بضوء هو غيره أي الذي يقتضي ذاته ضوء واقتضاء بحيث يمتنع تخلّفه عنه كجرم الشمس إذا فرض اقتضاؤه لضوئه، فهذه (2) المضيء له ذات وضوء يغاير ذاته. الثالثة المضيء بالذات بضوء هو عينه، كضوء الشمس مثلاً فإنّه


1- .كلمة لا تقرأ.
2- .كذا. لعلّ الأولى : «فهذا».

ص: 388

وهم وتنبيه

مضيء بذاته لا بضوء زائد على ذاته، فهذا أعلى وأقوى ممّا يتصوّر في كون الشيء شيئا. فإن قيل: كيف يوصف الضوء بأنّه مضيء مع أنّ معنى المضيء - كما يتبادر إليهم الأفهام - ما قام به الضوء. قلنا: ذلك المعنى هو الذي يتعارفه العامّة، وقد وضع له لفظ المضيء في اللغة وليس كلامنا فيه؛ فإنّا إذا قلنا: الضوء مضيء بذاته، لم نرد به أنّه قام به ضوء آخر، وصار مضيئا بذلك الضوء، بل أردنا به أنّ ما كان حاصلاً لكلّ واحد من المضيء بغيره والمضيء (1) بضوء هو غيره - أعني الظهور على الأبصار بسبب الضوء - فهو حاصل للضوء في نفسه بحسب ذاته لا بما هو زائد على ذاته، بل الظهور في الضوء أقوى وأكمل، فإنّه ظاهر بذاته ظهورا (ظ) لا خفاء فيه أصلاً، ومظهرا لغيره على حسب قابليّته للظهور، وإذا انكشف لك حال هذه المراتب الثلاث في الاُمور المحسوسة فقس عليها حالها في الاُمور المعنويّة المعقولة، ومن البيّن - كما يشهد به بديهة العقل - أنّ الواجب الوجود تعالى شأنه يجب أن يكون في أعلى مراتب الموجوديّة. انتهى كلامه. سعد مطوّع الحقّ 2 من اُفق البيان واجب الوجود هو الوجود المستغني عن الغير الموجود بذاته لا الموجود المستغني عن الغير؛ فتدبّر. وهم وتنبيه فإن قلت: إن كان وجود المبدأ الأوّل الواحد الغير المصنوع لغيره الصانع لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة المعبّر عنه بالعالم بديهيّا فما هذه الدلائل والحجج التي يذكرونها على وجوده تعالى وعلى توحيده؟


1- .كذا.

ص: 389

قلنا: قد قيل: إنّه كدلائل الحدسيّات أو كدلائل قضايا قياساتها معها. وأقول: الحقّ في الجواب أن يقال: أمّا دلائل الحكماء والمحقّقين على هذين المطلبين فإنّما هي دلائل إثبات الواجب بالذات وإثبات توحيده، ولا شكّ في أنّهما نظريان، ولا يلزم من بداهة وجود المبدأ الأوّل للعالم وبداهة وحدة ذلك المبدأ بداهة كونه واجب الوجود بالذات، وبداهة وحدة الواجب تعدّده (1) في بادئ الرأي وإن لم يكن أحدهما صانعا للعالم، فلا بدّ لإثباتهما من البرهان. وأمّا دلائل بعض المتكلّمين على الحكمين... (2) فهي بالحقيقة - كما ذكرناه - تنبيهات على ما هو بديهي وفطري إجمالاً؛ لإزالة الشبهات والأوهام الطارئة عليه ونسمّيها 3 بالدليل والبرهان. أمّا عند المحقّقين والكاملين فعلى سبيل التشبيه والتجوّز؛ لاشتراكها مع الدليل في إزالة الأوهام الفاسدة، وفي إلزام الخصم المتجاهل الجاحد بلسانه. وأمّا عند القاصرين فكما أنّ البديهي هذا (ظ) يشتبه عليهم بالنظري بسبب الشبهات والأوهام وإن لم تخلّ (ظ) تلك الشبهات في القطع بالمطلوب، كذلك منبّهاته المزيلة لتلك الشبهات تشتبه عليهم بالدليل والبرهان، فلذلك يحكمون بنظريّة البديهي وحجّيّة المنبّه(؟). توضيح ذلك أنّ أعظميّة الكلّ من الجزء من أجلى البديهيّات مع أنّ شبهة داء الفيل توجب تشويش بعض الأذهان القاصرة ولو اُورد عليها الشبهة بوجه آخر - بأن يقال: واجب الوجود جزء لمجموع المركّب منه ومن سائر الموجودات، وذلك المجموع مغاير للواجب الذي هو جزء منه؛ لضرورة مغايرة الكلّ للجزء، مع أنّه أعظم من المجموع؛ لأنّه أعظم من غيره مطلقا بالضرورة والاتّفاق، فيلزم أن لا يكون الكلّ أعظم من الجزء كلّيّة، بل قد يكون الأمر على عكس ذلك - لزاد تشويش هذه الأذهان القاصرة في هذا الأمر القطعي الأوّلي،


1- .كذا.
2- .كلمتان لا تقرآن.

ص: 390

تبيان بعد تمهيد هذه الاُصول

استدلال المؤلّف على إثبات الواجب بالذات بالبراهين اللمّية على توحيده تعالى في فصلين:

الفصل الأوّل في البراهين اللمّية على إثبات الواجب بالذات

ويوجب اضطرابها وإن كان اندفاع أمثال هذه الشبهة بالنظر إلى بعض آخر في غاية الظهور، حتّى لو بيّن لهم دفعها بتفصيل معنى الكلّ والجزء والأعظميّة لربّما يتوهّمون أنّ هذا برهان قاطع على هذا المطلب النظري، مع أنّ الشبهة لا تؤثّر في قطعهم أصلاً، ولا توجب شكّهم في أصل المطلب رأسا، بل إنّما توجب تشويش أذهانهم واضطرابهم؛ لعدم تمكّنهم من التفصّي عنها، فكذا الحال في نسبة (ظ) هذه المنبّهات إلى وجود الصانع الغير المصنوع ووحدته وكونه صانعا لجميع ما يغايره، فإنّ جميع ذلك معلوم لهم علما فطريا بديهيّا على سبيل الإجمال إلّا أنّ لقصور أذهانهم وعدم تمكّنهم من دفع الشُبَه والأوهام توهّموا أنّ المطلوب نظري وما يقال في بيانه برهان وحجّة، فعبّروا عنه بالدليل والبرهان؛ واللّه المستعان، وعليه التُّكْلانُ.

تبيانأقول: بعد تمهيد هذه الاُصول قد ظهر لك أنّ وجود المبدأ الأوّل الإله الحقّ الواحد الغير المصنوع لغيره، الصانع لكلّ ما يغايره من الموجودات المحقّقة المعبّر عنه بالعالم فطري بديهي، وعلى هذا فنستدلّ على إثبات الواجب بالذات بالبراهين اللمّيّة الصريحة، وعلى توحيده تعالى في الفصلين:

الفصل الأول في البراهين اللمّيّة على إثبات الواجب بالذاتوهي خمسة، ثلاثة منها - وهي الأوّل والثاني والثالث - لا يتوقّف على الأصل الثالث، والرابع والخامس يتوقّفان عليه. البرهان الأوّل: أقول: لا شكّ في وجود صانع العالم الذي هو صانع لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة بحكم الأصلين الأوّلين، فإن كان واجبا ثبت المطلوب، وإلّا فكان ممكنا، وكلّ ممكن موجود محتاج في وجوده إلى مؤثّر موجود مباين له خارج عنه إمّا

ص: 391

بحكم المقدّمات الثلاث - التي بيّناها في شرح الحديث الأوّل - أو بحكم الضرورة كما ذهب إليه بعض، وكلّ ما هو كذلك فهو معلول ومصنوع لذلك المؤثّر الموجود المباين بالضرورة، ويجب أن يكون ذلك الموجود المباين معلولاً له أيضا؛ لأنّ المفروض أنّه صانع لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة، فيلزم الدور وهو محال، فثبت أنّه واجب لذاته. البرهان الثاني: أقول: لا شكّ في وجود صانع العالم الذي هو صانع لكلّ ما يغايره من الموجودات المحقّقة بحكم الأصلين الأوّلين، فإن كان واجبا فهو المطلوب، وإلّا فكان ممكنا محتاجا في وجوده إلى مؤثّر موجود مباين له خارج عنه بحكم المقدّمات الثلاث السالفة في شرح الحديث الأوّل، وكلّ ما هو كذلك فهو معلول لذلك المباين (1) بالضرورة، ولا شكّ في أنّه لا يجوز أن يكون علّة لذلك الموجود المباين؛ لاستحالة الدور، فيلزم أن لا يكون ما هو صانع العالم، أي ما هو صانع لجميع ما عداه من الموجودات المحقّقة صانعا للعالم، أي صانعا لجميع ما عداه منها، هذا خلف محال. البرهان الثالث: أقول: لا شكّ في أنّ صانع العالم - الذي هو علّة لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة - واحد بحكم الأصل الثاني، فإن كان واجبا ثبت المطلوب، وإلّا فكان ممكنا محتاجا في وجوده إلى مؤثّر موجود مباين له خارج عنه بحكم المقدّمات الثلاث السابقة، وكلّ ما هو كذلك فهو معلول لذلك الموجود المباين بالضرورة، ويجب أن يكون ذلك الموجود المباين معلولاً له أيضا؛ لأنّ المفروض أنّه صانع لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة وإن كان بالواسطة، وذلك معنى صانع العالم، فيلزم تعدّد صانع العالم، هذا خلف محال، فثبت أنّه واجب لذاته. البرهان الرابع: أقول: لا شكّ في وجود المبدأ الأوّل الغير المصنوع لغيره للعالم بحكم الأصل الأوّل والثالث، فإن كان واجب الوجود بالذات فهو المطلوب، وإلّا فكان ممكنا، وكلّ


1- .في النسخة: «بالمباين».

ص: 392

ممكن موجود محتاج في وجوده إلى مؤثّر موجود مباين له خارج عنه بحكم المقدّمات الثلاث الماضية في شرح الحديث الأوّل، وكلّ ما هو كذلك فهو مصنوع ومعلول لغيره بالضرورة، فيلزم أن يكون المبدأ الأوّل والصانع الذي غير مصنوع لغيره مصنوعا معلولاً لغيره، هذا خلف محال. وبعبارة اُخرى: لا شكّ في وجود موجود غير مخلوق لغيره وهو المبدأ الأوّل البديهي الوجود بحكم الأصلين المذكورين، فإن كان واجبا ثبت المطلوب، وإلّا فيكون ممكنا محتاجا في وجوده إلى مؤثّر موجود خارج عنه مباين له بحكم المقدّمات الثلاث المذكورة، وكلّ ما هو كذلك معلول مخلوق لغيره بالضرورة، فيلزم أن يكون ما فرضناه غير مخلوق لغيره، هذا خلف محال، فثبت أنّه واجب بالذات. البرهان الخامس: أقول: لا شكّ في وجود صانع العالم بحكم الأصل الأوّل، فإن كان واجب الوجود بالذات فهو المطلوب، وإلّا فكان ممكنا، وكلّ ممكن موجود محتاج في وجوده إلى مؤثّر موجود مباين له خارج عنه بحكم المقدّمات الثلاث السابقة، وكلّ ما هو كذلك فهو معلول ومصنوع لغيره بالضرورة، وكلّ ما هو مصنوع لغيره فهو من العالم بحكم الأصل الثالث، فيلزم أن يكون صانع العالم من جملة العالم وهو ضروري البطلان بحكم الأصل الثاني من أنّ صانع العالم مباين لكلّ ما هو منه بالبديهة، فثبت أنّه ليس بممكن، فهو واجب بالذات. تبصرة: لا يذهب عليك أنّ كلّ واحد من هذه البراهين الخمس استدلالٌ بوجوده تعالى من حيث إنّه بديهي على كونه مصداقا لمفهوم واجب الوجود بالذات، ولا شكّ في أنّه تعالى فردٌ لهذا المفهوم وعلّةٌ لاتّصافه به، كما أنّه فردٌ لمفهوم الوجود المطلق ومفهوم الموجود المطلق ومفهوم الوجوب بالذات، وعلّةٌ لاتّصافه بهذه المفهومات، فكلّ منها استدلال بوجود العلّة - التي هي ذاته المعلومة لنا أنّه صانع للعالم وموجود بالبديهة - على المعلول الذي هو اتّصافه بمفهوم الواجب بالذات الذي هو عرضي لفرده المجهول الكُنْه

ص: 393

الفصل الثاني في برهان توحيد الواجب بالذات على هذا المسلك الشريف

الذي هو عين لذاته تعالى. ولا يذهب عليك أنّ عرضيّة المفهوم لا تنافي (1) عينيّة الفرد. فهذه براهين لمّيّة صريحة غير مبتنية على بطلان التسلسل على إثبات الواجب بالذات، واستشهاد بالحقّ على الحقّ. ثمّ بعد ذلك يستدلّ بما يلزم الوجوب الذاتي على صفاته، ثمّ بالنظر إلى صفاته تعالى على كيفيّة صدور أفعاله عنه واحدا بعد واحد، كما هو المذكور في كتب المحقّقين، وسيجيء ذكر بعضه إن شاء اللّه تعالى، فعلى هذا ظهر تفسير قوله تعالى في سورة فصّلت: «أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدا» (2) الحمد للّه الذي جعلني من المستشهدين بالحقّ على الحقّ وعلى كلّ شيء، وعلّمني بإلهامه تفسير هذه الآية الشريفة، وجعلني من زمرة عبيد المخاطب بهذا الخطاب الشريف «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِيا وَنَصِيرا» (3) .

الفصل الثاني في برهان توحيد الواجب بالذات على هذا المسلك الشريفأقول: قد ثبت آنفا بالبراهين المذكورة أنّ صانع العالم البديهي الوجود - الذي هو صانع لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة - واجب الوجود بالذات، فلو كان واجبٌ (4) آخر غيره يلزم أن يكون ذلك الصانع علّة وصانعا له؛ لأنّه علّة لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة - بلا واسطة كان أو بالواسطة - بالضرورة بحكم الأصل الثاني، فيلزم أن يكون ذلك الواجب بالذات الآخر معلولاً ومصنوعا للأوّل، وهو محال بالضرورة، أو نقول: فيلزم أن يكون ذلك الواجب الآخر معلولاً لغيره، وكلّ ما هو معلول لغيره ممكن بالذات بالضرورة، فيلزم أن يكون الواجب بالذات ممكنا بالذات، هذا خلف محال، فثبت أنّ الواجب بالذات


1- .في النسخة: «لا ينافي».
2- .فصّلت (41): 53.
3- .الفرقان (25): 31.
4- .في النسخة: «واجبا».

ص: 394

تذييل

واحد لا شريك له في الوجوب الذاتي. تذييل: هذه منبّهات بناء على هذا المسلك الشريف على توحيد صانع العالم الذي قد عرفت أنّه بديهي كوجوده: الأوّل: أقول: قد عرفت أنّ صانع العالم البديهي الوجود هو المبدأ الأوّل الغير المصنوع لغيره الصانع لجميع ما عداه من الموجودات المحقّقة المعبّر عنه بالعالم، فإن كان ذلك واحدا فهو المطلوب، وإن كان متعدّدا فلا يخلو إمّا أن يكون كلّ واحد منهما علّة للآخر، أو أحدهما علّة للآخر من غير عكس، أو لا يكون شيء منهما علّة للآخر. لا سبيل إلى الأوّل؛ لاستحالة الدور، ولا سبيل إلى الثاني والثالث؛ لأنّه حينئذٍ لا يكون أحدهما أو شيء منهما صانعا للعالم، أي صانعا لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة، والمفروض أنّ كلّ واحد منهما صانع له، هذا خلف محال. الثاني: أقول: لو كان الصانع متعدّدا فإمّا أن يكون كلّ واحد منهما صانعا للعالم، أي لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة، أو أحدهما صانع للعالم، والآخر صانع لبعضه، أو أحدهما صانع لبعض، والآخر صانع لبعض آخر، أو كلاهما بالاشتراك صانع للعالم. لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّه يلزم أن يكون كلّ واحد منهما علّة للآخر؛ لأنّ كلّ واحد منهما مغاير للآخر، والمفروض أنّ كلّ واحد منهما علّة لجميع ما يغايره، فيلزم الدور، ولا سبيل إلى الثاني والثالث؛ لأنّه يلزم أن لا يكون الآخر أو شي منهما صانعا للعالم؛ لأنّ العالم عبارة عن جميع ما عدا الصانع، هذا خلف، ولا سبيل إلى الرابع؛ لأنّه حينئذٍ لا يخلو إمّا أن يكون المجموع من حيث المجموع صانعا له، ولا يصدق على كلّ واحد منهما أنّه صانع له، فحينئذٍ يكون الصانع واحدا وهو المجموع، غايته أنّه مركّب من جزءين وليس الكلام في بساطته وتركيبه، بل إنّما الكلام في تعدّده، فحينئذٍ لا يكون الصانع متعدّدا بل واحدا، هذا خلف. أو يكون كلّ واحد منهما صانعا له بشركة الآخر، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما صانعا للآخر بشركة الآخر؛ لأنّه حينئذٍ يصدق على كلّ واحد منهما أنّه صانع لجميع ما يغايره

ص: 395

بشركة الآخر، وكلّ منهما مغاير للآخر، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما صانعا وعلّة لنفسه بشركة الآخر، وهو محال. الثالث: أقول: لو كان الصانع متعدّدا ليصدق على كلّ واحد منهما أنّه مغاير لصانع العالم، كما يصدق على كلّ واحد منهما أنّه صانع للعالم؛ لأنّ كلّاً (1) من الصانعين مغاير للآخر، وكلّ ما هو مغاير لصانع العالم فهو من العالم بالضرورة بحكم الأصل الثاني، ولا شيء من العالم بصانع العالم بالضرورة بحكم الأصل المذكور، فيلزم أن لا يكون شيء منهما صانعا للعالم، هذا خلف. الرابع: تقرير القياس بحاله، ويلزم أن يكون كلّ واحد منهما صانعا للعالم وليس بصانع له، فيلزم اجتماع النقيضين في كلّ واحد منهما، وهو محال. الخامس: أقول: لو كان الصانع متعدّدا فإمّا أن يكون كلّ واحد منهما بانفراده صانعا للعالم، أي لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة، أو أحدهما صانع (2) له والآخر لبعضه، أو أحدهما صانع 3 لبعض منه، والآخر لبعض آخر، أو يكون كلاهما بالاشتراك صانعا له. لا سبيل إلى الأوّل والثاني؛ لاستحالة توارد العلّتين المستقلّتين بالتأثير على المعلول الواحد الشخصي، مع لزوم الخلف أيضا في الثاني، ولا سبيل إلى الثالث؛ لأنّه يلزم أن لا يكون شيء منهما صانعا للعالم، أي لجميع ما يغايره من الموجودات المحقّقة، هذا خلف، ولا سبيل إلى الرابع؛ للزوم وحدة الصانع على تقدير تعدّده إن كان المجموع من حيث المجموع صانعا له، هذا خلف، وللزوم الدور إن كان كلّ واحد منهما بشركة الآخر صانعا له - كما مرّ مفصّلاً في المنبّه الثاني - وهو محال. ولم نتعرّض لذكر احتمالات اُخر؛ لغاية ظهور فسادها؛ واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


1- .في النسخة: «كلّ».
2- .كذا. والأولى : «صانعا».

ص: 396

فقال له عبدالكريم : سألتني عن مسألة لم يَسْألْنِي عنها أحَدٌ قبلَك ، ولا يَسْألُنِي أحدٌ بعدَك عن مثلِها ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «هَبْكَ عَلِمتَ أنّك لم تُسألْ فيما مضى ، فما عَلَّمَكَ أنّك لا تُسألُ فيما بعدُ ، على أنّك يا عبدالكريم نَقَضْتَ قولَك ؛ لأنّك تَزعُمُ أنَّ الأشياءَ من الأوَّل سواء ، فكيف قدّمْتَ وأخّرتَ؟!» . ثمَّ قال : «يا عبدالكريم ، أزيدُك وضوحا : أرأيتَ لو كان معك كِيسٌ فيه جواهرُ ، فقال لك قائلٌ : هل في الكيس دينارٌ؟ فَنَفَيْتَ كونَ الدينار في الكيس ، فقالَ لك صِفْ لي الدينار وكنتَ غير عالم بصفته ، هل كانَ لك أن تنفي كون الدينار عن الكيس وأنت لا تعلم؟» قال : لا ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «فالعالَمُ أكبرُ وأطولُ وأعرضُ من الكيس ، فلعلَّ في العالم صَنعةً من حيثُ لا تَعلَمُ صِفَةَ الصنعةِ من غير الصنعة». فَانْقَطَعَ عبدُالكريم، وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه، وبقي معه بعض. فعادَ في اليوم الثالث ، فقال : أقْلِبُ السؤالَ ، فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «سَلْ عمّا شئتَ» . فقال : ما الدليلُ على حَدَثِ الأجسام؟ فقال : «إنّي ما وَجَدْتُ شيئا صغيرا ولا كبيرا إلّا وإذا ضُمَّ إليه مِثلُه صارَ أكبَرَ ، وفي ذلك زوالٌ وانتقالٌ عن الحالة الاُولى ، ولو كانَ قديما ما زالَ ولا حالَ ؛ لأنَّ الذي يَزولُ ويَحولُ يَجوزُ أن يوجَدَ ويُبْطَلَ فيكونُ بوجوده بعد عدمِه دخول في الحَدَث ، وفي كونه في الأزل دخولُه في العدم ، ولن تجتمعَ صفةُ الأزلِ والعدم والحدوث والقدم في شيءواحد» . فقال عبدالكريم : هَبْكَ علمتَ في جَرْي الحالتينِ والزمانينِ على ما ذكرتَ واستدللتَ بذلك على حدوثها ، فلو بَقِيَتِ الأشياءُ على صِغَرها من أين كان لك أن تَستدلَّ على حدوثهنَّ؟ فقال العالم عليه السلام : «إنّما نتكلّم على هذا العالَم الموضوعِ ، فلو رفعناه ووضعنا عالَما آخَرَ كانَ لا شيءَ أدَلَّ على الحدث من رَفْعِنا إيّاه ووَضعنا غيرَه ، ولكن اُجيبُك من حيث قَدَّرْتَ أن تُلْزِمَنا ، فنقول : إنَّ الأشياءَ لو دامَتْ على صِغَرِها لكانَ في الوهم أنّه متى ضُمَّ شيءٌ إلى مثله كانَ أكبر ، وفي جواز التغيير عليه خروجُه من القِدَم ، كما أنّ في تغييره دخولَه في الحَدَث ليس لك وراءَه شيءٌ يا عبدالكريم» فانقطع وخزي . .........

ص: 397

فلمّا كان من العام القابل التَقَى معه في الحَرَم ، فقال له بعض شيعته : إنَّ ابن أبي العوجاء قد أسْلَمَ ، فقالَ العالِمُ عليه السلام : «هو أعمى من ذلك لا يُسْلِمُ» . فلمّا بَصُرَ بالعالم قال : سيّدي ومولاي ، فقال له العالم عليه السلام : «ما جاء بك إلى هذا الموضع؟» فقال : عادةُ الجَسَدِ ، وسنّةُ البَلَدِ ، ولِنَنْظُرَ ما الناسُ فيه من الجنون والحَلْق ورَمْي الحجارة؟ فقال له العالم عليه السلام : «أنت بعدُ على عُتُوِّكَ وضَلالِك يا عبدالكريم» . فذهب يتكلّم ، فقال له عليه السلام : «لا جدال في الحجّ» ونَفَضَ رداءه من يده وقال : «إن يكن الأمرُ كما تَقولُ وليس كما تَقولُ ، نجونا ونجوتَ ، وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول ، نجونا وهلكتَ» . فأقبل عبدالكريم على مَن معه ، فقال : وجدت في قلبي حزازةً فرُدُّوني ، فَرَدُّوه ، فماتَ لارَحِمَهُ اللّهُ .

حدَّثني محمّد بن جعفر الأسديّ ، عن محمّد بن إسماعيل البرمكيّ الرازيّ ، عن الحسين بن الحسن بن بُرْدٍ الدينوري ، عن محمّد بن عليّ ، عن محمّد بن عبداللّه الخراسانيّ خادمِ الرضا عليه السلام قال : دَخَلَ رجلٌ من الزنادقة على أبي الحسن عليه السلام وعندَه جَماعةٌ . فقال أبو الحسن عليه السلام :«أيّها الرجلُ ، أرأيتَ إن كانَ القولُ قولَكم ، وليس هو كما تقولونَ ، ألَسْنا

قوله: (عن محمّد بن إسماعيل البرمكي الرازي) «البرمكي» - بفتح الباء وسكون الراء المهملة وفتح الميم - نسبة إلى جدّ يحيى بن خالد وهم البرامكة. و«الرازي» نسبة إلى الريّ بغير قياس. و«بُرد» بضمّ الباء الموحّدة وسكون الراء المهملة ثمّ دال المهملة. و«الدِينوري» - بكسر الدال المهملة وسكون الياء المثنّاة تحت وفتح النون والواو ثمّ راء مهملة - نسبة إلى بلد قرب همدان. وقوله عليه السلام : (أيّها الرجل أرأيت) بهمزة الاستفهام وفتح الضمير للمخاطب، أي أخبرني. وقوله عليه السلام : (إن كان القول قولكم) أي إن كان قول الحقّ قولكم وهو أن ليس للعالم صانع (1) . وزيادة كاف التشبيه في قوله عليه السلام : (وليس هو كما تقولون) للدلالة على أنّ قولهم بعيد عن الحقّ.


1- .في النسخة: «صانعا».

ص: 398

وإيّاكم شَرَعا سَواءً ، لا يَضُرُّنا ما صَلَّينا وصُمْنا وزَكَّيْنا وأقْرَرْنا؟» . فسَكَتَ الرجلُ ، ثمّ قال أبو الحسن عليه السلام : «وإن كانَ القولُ قولَنا ، وهو قولُنا ، ألَستُم قد هَلَكْتُمْ ونَجَوْنا؟» . فقال : رَحِمَكَ اللّهُ ، أوجِدْني كيف هو ؟ وأين هو؟ .........

والواو في قوله عليه السلام : (وإيّاكم) بمعنى «مع». و(شَرَعا) بفتح الشين المعجمة وفتح الراء المهملة ويجوز سكونها أيضا، يقال: هم في هذا الأمر شَرَع، أي متساوون لا فضل لأحدهم على الآخر، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث. و(سَواء) بفتح السين المهملة والمدّ، يقال: هما في هذا الأمر سواء وإن شئت سواءان، وهم سواء للجمع وهم أسواء، أي متساوون. و«ما» في قوله عليه السلام : (لا يَضُرُّنا ما صلّينا وصُمْنا وزكّينا) مصدريّة، يقال: زكّى ماله تزكية، أي أدّى عنه زكاته. وقوله عليه السلام : (وأقررنا) أي بوجود الصانع للعالم، وبما ترتّب على وجوده من سائر الاُصول والفروع الدينيّة، وذلك لأنّ الحياة منقطعة فبعد زوالها لا يبقى أثر. وفرق بين من فعل هذه الأشياء واعتقد، وبين من لم يفعل ولم يعتقد على رأي الزنادقة. وقوله: (فسكت الرجل) أي للتأمّل فيما قاله عليه السلام . وقوله: (ثمّ قال عليه السلام ) أي بعد مهلة لتأمّله (وإن كان القول) أي قول الحقّ (قولَنا) وهو أنّ صانع العالم موجود، وترتّب على وجوده ما ترتّب من إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع، ومنكريه مخلّدون في النار. وقوله: (وهو قولنا) أي قول الحقّ قولنا. لم يزد كاف التشبيه هنا وقد زاد في السابق للدلالة على أنّ قولنا هو الحقّ بعينه ليس إلّا. وقول الزنديق: (يرحمك اللّه ) بناء على عادة أهل الزمان وقد يصدر عن الجاحد للّه تعالى أيضا، أو دعاء للمخاطب على وفق معتقده وميله. وقوله: (أوجِدْني كيف هو؟ وأين هو؟) قال في الصحاح: «أوجَده اللّهُ مطلوبَه، أي أظفره [به] (1) ». يعني بيّن لي كيفيّة ذلك الصانع الذي تقولون به ومكانه، وأظفرني بمطلبي الذي


1- .الصحاح، ج 2، ص 547 (وجد).

ص: 399

فقال : «ويلك ، إنّ الذى ذَهَبْتَ إليه غلطٌ ، هو أيَّنَ الأينَ بلا أينٍ ، وكَيَّفَ الكيفَ بلا كيف ،

هو العلم بكيفيّته وإنّيّته. وغرضه من ذلك السؤال التوسّل بجوابه إلى نفي الصانع بزعمه؛ لأنّه إن نفى عنه الكيف والمكان - كما هو معتقد أهل الحقّ - فيتمسّك به في نفيه وعدمه؛ لأنّ الموجود عندهم إنّما هو المحسوس، وما لا يناله الحسّ بجوهره ففرض وجوده فرض محال، والمحسوس لا يخلو عن الكيف والمكان، فكلّ ما ليس له كيف ومكان معدوم على زعمهم، فيلزم من نفي الكيف والمكان عنه نفيه على زعمه؛ ولذا لمّا نفى عليه السلام عنه تعالى الكيف والأين، قال الزنديق (فإذا أنّه لا شيء إذا لم يُدْرَكْ بحاسّةٍ من الحواسّ) ولو قيل بثبوت الكيف والمكان له يتمسّك بنفي احتياجه في الوجود إلى الغير مع كونه كسائر الأجسام متكيّفا متمكّنا في استغناء الأجسام عن المبدأ، فحينئذٍ لا حاجة إلى وجود الصانع بزعمه. وقوله عليه السلام : (ويلك إنّ الذي ذَهبتَ إليه غلطٌ) أي ألزمك اللّه ويلاً وعقابا، إنّ الذي ذهبت إليه - من أنّ كلّاً (1) من نفي الكيف والأين عنه، وإثباتهما له يوجب نفيه وعدمه - غلط، بل إنّا نختار ما هو الحقّ من نفيهما عنه؛ لأنّه (أيَّنَ الأَيْنَ، وكَيَّفَ الكَيْفَ بلا كيف) أي أوجد حقيقة الأين، بمعنى أنّه جعل حقيقته وفعلها، وأوجد حقيقة الكيف؛ يعني فعل حقيقته وجعلها بلا مدخليّة الكيف في جعله وإيجاده بأن يكون الكيف معتبرا في جانب علّته؛ يعني يكون ذاته المتّصفة بالكيف علّة لإيجاد الكيف، وإلّا يلزم أن يكون الكيف علّة لنفسه إذا كان الكيف إلّا هو بعينه ما يعتبر في جانب علّته، وهو محال؛ لاستحالة تقدّم الشيء، أو توقّفه على نفسه، أو يلزم التسلسل إذا كان إيجاد كلّ كيف لاحق مسبوقا بكيف سابق لا إلى النهاية، وهو أيضا محال كما مرّ بيانه، أو يلزم انتهاء سلسلة إيجاد الكيف إلى كيف غير مسبوق بكيف آخر، وهو المطلوب؛ لأنّه يصدق عليه تعالى حينئذٍ أنّه أوجد الكيف بلا كيف؛ يعني حين كونه مجرّدا عن الكيف، وفي مرتبة تجرّده عنه. وكذا الحال في الأين، ف- «بلا أين» (2) مقدّر في


1- .في النسخة: «كلّ».
2- .في الكافي المطبوع: «موجود».

ص: 400

فلا يُعْرَفُ بالكيفوفيّةِ ولا بأينونيةٍ ، .........

كلامه عليه السلام ، اكتفى بذكر أحد النظيرين عن الآخر. هذا إذا كان «أَيَّنَ» و«كَيَّفَ» فعلاً ماضيا. (1) ويحتمل أن يكون «أيِّنُ» بكسر الياء المشدّدة المثنّاة تحت وضمّ النون، وكذا الحال في «كيِّفٌ» وحينئذٍ معناه أنّه موجدُ الأين وجاعلُ حقيقته بلا أين، أي بلا مدخليّة الأين في إيجاده له، وفاعلُ الكيف وموجد حقيقته بلا كيف، أي بلا مدخليّة الكيف في إيجاده له. (فلا يُعْرَفُ بالكيفوفيّة ولا بأينونيّة) أي لا يعرف الاتّصاف بالكيف وكونه ذا كيف عند إيجاده الكيف، ولا بالاتّصاف بالأين وكونه ذا أين ومكان عند إيجاده الأين، فظهر أنّه تعالى في مرتبة إيجاده لهما مجرّد عنهما، فهو في ذاته لا يحتاج إليهما. ومن هذا يعلم أنّه (2) بعد إيجادهما أيضا لا يتّصف بهما؛ لأنّ خالق الشيء وموجده متعالٍ عن الاتّصاف به، وإلّا يلزم أن يكون الشيء الواحد قابلاً وفاعلاً لشيء واحد وهو باطل كما بيّن في موضعه، ولأنّ اتّصافهما به لا يخلو إمّا أن يكون كمالاً له أو نقصا، لا سبيل إلى الثاني؛ لاستحالة اتّصاف الواجب بالذات بالنقص، ولأنّ الناقص لا يصلح للاُلوهيّة وصانعيّة العالم، ولا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّا نعلم بالضرورة أنّ الاحتياج إلى الكيف والمكان نقص، ولأنّه لو كان الاتّصاف بهما كمالاً، يلزم أن يكون ناقصا في مرتبة إيجاده لهما؛ لخلوّه عن الاتّصاف بهما في تلك المرتبة وهو محال، وأيضا يلزم استكماله بمخلوقه من الكيف والأين، فلا يكون كاملاً بالذات بل مستكملاً بغيره، والواجب بالذات لا يكون كذلك، وما هو كذلك لا يصلح أن يكون إلها حقّا خالقا للعالم. ولا يذهب عليك أنّ هذين الدليلين يدلّان على عدم اتّصافه تعالى بالصفات الحقيقيّة الزائدة على ذاته مطلقا؛ فتدبّر. ولأنّ الأين لا يكون إلّا لمتقدّر، ولا يجوز عليه تعالى التقدّر بالمقدار كما سنبيّنه، ولأنّ المكان والحيّز - وهو الوضع وقبول الإشارة الحسّية - من خواصّ الأجسام والجسمانيّات،


1- .في النسخة: «فعل ماضى».
2- .في النسخة: «أنّ».

ص: 401

الاستدلال على نفي التحيّز والتمكّن عنه تعالى بوجوه

وهو تعالى ليس بجسم ولا جسماني، كما سيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى.

[الاستدلال على نفي التحيّز والتمكّن عنه تعالى]واستدلّوا على نفي الحيّز والتمكّن عنه تعالى بوجوه: الأوّل: ما أقول في تقريره من أنّه لو كان الواجب متمكّنا، لزم إمكان الواجب ووجوب الممكن؛ لأنّه لو كان في مكان، لكان المكان من لوازم وجوده، وكان الواجب في تمكّنه محتاجا إلى المكان بالضرورة، ولا شكّ في أنّ التمكّن؛ يعني كون المتمكّن في المكان، وحصوله فيه من الصفات الحقيقيّة الكماليّة للمتمكّن من حيث إنّه متمكّن، ويمتنع وجوده بدونه، فيلزم احتياجه في الصفة الحقيقيّة الكماليّة اللازمة لوجوده إلى الغير، وما يحتاج في شيء من الصفات الحقيقيّة الكماليّة إلى الغير لا يصلح أن يكون واجبا؛ لما ثبت في موضعه من أنّ الواجب بالذات ذاته كافٍ فيما له من الصفات الحقيقيّة، ومن أنّه كامل الذات بذاته لا يحتاج في وجوده ولا في شيء من كمالاته إلى غيره، بل بديهة العقل يحكم على أنّ كلّ ما لا يفتقر في الوجود الذي هو منبع الكمالات إلى الغير لا يفتقر في الكمالات التابعة له أيضا إلى الغير كما صرّح به بعض المحقّقين، فإذا لم يكن واجبا لكان ممكنا؛ لانحصار الموجود فيهما، فيلزم إمكان الواجب وهو محال، ولكان المكان مستغنيا عنه؛ لأنّ المكان قد يوجد بدون متمكّن خاصّ، كمكان زيد مثلاً؛ فإنّه قد ينتقل عنه زيد، ويحصل فيه عمرو. وبالجملة، لا شكّ في إمكان خلوّ كلّ مكان بالنظر إلى طبعه وذاته عن المتمكّن الخاصّ، واستحالة الخلأ إنّما يقتضي امتناع خلوّه عن مطلق المتمكّن لا عن خصوص ذلك المتمكّن مثلاً، والمستغني عن الواجب يكون واجبا بالضرورة؛ لأنّه لو كان ممكنا لزم تحقّق ممكن بلا سبب وهو محال، وحينئذٍ يلزم تعدّد الواجب أحدهما المتمكّن والآخر المكان وهو محال. هذا غاية تقرير هذا الدليل بحيث لا ينتهي على إمكان الخلأ كما قرّره بعضهم، وبحيث يندفع عنه ما اُورد على بيان المحذور الأوّل من أنّ اللازم من تحيّز الواجب هو الاحتياج

ص: 402

إلى الغير في التمكّن لا في الوجود، والممكن هو المحتاج إلى الغير في الوجود لا في أمر آخر غيره، فلا يلزم إمكان الواجب؛ لأنّه قد ثبت أنّ الواجب بالذات لا يحتاج في شيء من صفاته الحقيقيّة إلى الغير، كما لا يحتاج في وجوده إليه، فذلك الاحتياج أيضا يستلزم إمكانه كما مرّ بيانه. لكن يرد على بيان المحذور الثاني أنّه لا يلزم من استغناء مكان الواجب عن حصوله تعالى فيه استغناؤه في وجوده عنه تعالى، فيجوز احتياج مكانه في وجوده إليه مع استغنائه عن خصوص حصوله فيه، فلا يلزم تعدّد الواجب. ولا يذهب عليك أنّ هذا الإيراد لا يضرّ المدّعى؛ لأنّه ثابت بمجرّد لزوم المحذور الأوّل من غير احتياج إلى الثاني؛ فتدبّر. الثاني: أنّه لو كان الواجب متحيّزا، لزم قدم المكان؛ ضرورة امتناع المتمكّن بدون المكان، واللازم باطل؛ لما ثبت من حدوث العالم. الثالث: أنّه لو كان الواجب في حيّز وجهة، فإمّا أن يكون في جميع الأحياز والجهات، فيلزم تداخل المتحيّزات ومخالطة الواجب ما لا ينبغي، وإمّا أن يكون في البعض دون البعض، فإن كان المخصّص موجودا (1) في بعض الأمكنة دون بعض؛ لأنّ إرادة بعضها دون بعض لا يتصوّر إلّا بوجود مرجّح في بعض دون الآخر، فيلزم احتياجه في تمكّنه الذي هو من صفاته الحقيقيّة إلى الغير، والواجب بالذات لا يكون كذلك، وإن لم يكن بمخصّص، لزم الترجّح بلا مرجّح وهو محال بالضرورة. الرابع: أنّه لو كان متحيّزا، لكان متحيّزا بالذات؛ لأنّه لو كان متحيّزا بالتبع فيكون عرضا، والواجب يستحيل أن يكون عرضا، والمتحيّز بالذات هو الجوهر، فحينئذٍ إمّا أن لا يقبل القسمة أصلاً ويكون جزءً لا يتجزّى وهو محال، وعلى تقدير وجوده فهو أحقر الأشياء تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، أو يقبل القسمة وحينئذٍ يكون جسما، وكلّ جسم حادثٌ؛ لما ثبت عندهم من حدوث الأجسام، ومركّبٌ أيضا، فيلزم حدوث الواجب وتركيبه، وكلّ ذلك محال.


1- .في النسخة: «موجود».

ص: 403

ولا يُدرَكُ بحاسَّةٍ ، ولا يُقاسُ بشيءٍ» . فقال الرجل : فإذا إنّه لا شيءَ إذا لم يُدْرَكْ بحاسّةٍ من الحواسّ؟ فقالَ أبو الحسن عليه السلام : «ويلك ، لمّا عَجَزَتْ حواسُّك عن إدراكه أنكرتَ ربوبيَّتَه ونحن إذا عَجَزَتْ حواسُّنا عن إدراكه أيْقَنّا أنّه ربُّنا ، بخلاف شيءٍ من الأشياء» .

وقوله عليه السلام : (ولا يدرك بحاسّة) إذ لا كيفيّة له ولا إحساس إلّا بإدراك الكيفيّة (ولا يقاس بشيء) أي لا في ذاته ولا في حقيقة صفاته الكماليّة الحقيقيّة، بل إنّما هو في ذاته وفي حقيقة صفاته الحقيقيّة التي هي عين ذاته مباين بالحقيقة لجميع ما عداه، ممتنعٌ تصوّره، فلا يمكن قياسه بشيء. وقال بعض الأعلام: أي لا يعرف قدره بمقياس؛ إذ لا أين له ولا مقدار (1) . وقوله: (فإذاً إنّه لا شيء إذا لم يُدْرَكْ بحاسّةٍ من الحواسّ) يعني أردت بيان شأن ربّك، ونفيت عنه الكيف والأين والإحساس، وذلك يوجب نفيه؛ لأنّ الموجود منحصر في المحسوس، وما لا يمكن إحساسه لا يكون موجودا. ف- «إذا» للمفاجأة. و«إنّه» بكسر الهمزة. و«لا شيء» مرفوع خبرا، لأنّهما جعلا كاسم واحد. وقوله: (إذا لم يُدْرَكْ بحاسّة) من الحواسّ كان لا شيئا، فهذا استدلال منه على نفي الصانع. وقوله عليه السلام : (لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه) إلخ، أي جعلتَ تعاليه عن أن يدرك بالحواسّ وعجزَها عن إدراكه دليلاً على عدمه، فأنكرت ربوبيّته، ونحن إذا عرفناه بتعاليه عن أن يدرك بالحواسّ، وعلمنا عجز حواسّنا عن إدراكه، أيقنّا أنّه ربّنا، بخلاف شيء من الأشياء المحسوسة؛ يعني ليس شيء من الأشياء المحسوسة ربّنا، وذلك لوجهين: أحدهما: أنّ الربّ هو المبدأ الأوّل، والمبدأ الأوّل لا يمكن أن يكون محسوسا؛ لأنّ كلّ محسوس ذو وضع، أي قابل للإشارة الحسّيّة بالضرورة، وكلّ ذي (2) وضع إمّا (3) موجود


1- .الحاشية على اُصول الكافي للنائيني، ص 255.
2- .في النسخة: «ذو».
3- .لم يذكر عِدْل «إمّا».

ص: 404

بالاستقلال يحتاج في وجوده إلى غيره، وكلّ ما هو كذلك فهو معلول مصنوع لغيره كما مرّ، وكلّ ما هو كذلك لا يكون مبدءً أوّلاً؛ بل يكون مخلوقا لمبدأ آخر، هذا خلف، ولا سبيل إلى الأوّل (1) ؛ لأنّ الوضعي الموجود بالاستقلال منقسم بالقوّة بأيّ نحو كان من أنحاء الانقسام إلى أجزاء مقداريّة لا إلى نهاية لها، أو ينتهي إلى ما هو كذلك؛ لاستحالة الجوهر الفرد، وكلّ منقسم بالقوّة إلى أجزاء مقداريّة يكون له أجزاء متشاركة في المهيّة، ومشاركة للكلّ فيها، فيكون له مهيّة كلّيّة مشتركة بين أجزائه الفرضيّة المتباينة بالوضع، وكلّ ما يكون له مهيّة كلّيّة مشتركة بينه وبين غيره يكون وجوده زائدا على ذاته؛ لأنّ الكلّي مبهم، والمبهم لا يوجد ما لم يتعيّن ولم يصر جزئيا حقيقيا، فنفس الكلّي غير وجوده وتعيّنه وإن كان تعيّنه نحو وجوده الخاصّ به، فحينئذٍ لم يكن ذاته من حيث هي مصداقا للوجود والموجوديّة، وكلّ ما هو كذلك لم يكن في نفسه وفي حدّ ذاته موجودا، بل يكون في مرتبة ذاته ونفسه خاليا عن الوجود، محتاجا إلى فاعل وجاعل يجعله موجودا كما مرّ في بيان احتياج الممكن إلى المؤثّر، وذلك الجاعل لا يمكن أن يكون نفسه؛ لاستحالة تقدّم الشيء، أو توقّفه على نفسه، فيكون غيره، ومعلول الغير لا يكون مبدءً أوّلاً، بل يكون مخلوقا ذا مبدء، هذا خلف، فمبدأ الأوّل لا يصحّ عليه الإحساس، فثبت أنّ الربّ لا يكون محسوسا. وهذا إنّما يدلّ على عدم إحساسه تعالى بالحواسّ الظاهرة، كما هو المتبادر من الإحساس، وهو المطلوب هنا، ولا يدلّ على عدم كونه موهوما. وثانيهما: أنّه قد ثبت بالبراهين السابقة أنّ الربّ واجب الوجود بالذات، والواجب بالذات مجرّد عن المادّة وعلائقها، بمعنى أنّه ليس بجسم ولا جسماني، والمجرّد لا يمكن إحساسه بشيء من الحواسّ الظاهرة والباطنة؛ لانحصار المحسوسات في الجزئيات المادّيّة، سواء كانت صورا جزئيّة أو معانَي (2) جزئيّة مادّيّة، فالربّ لا يمكن إحساسه بشيء منها.


1- .كذا.
2- .في النسخة: «معانيا».

ص: 405

الاستدلال على تجرّده تعالى بوجوه

.........

[الاستدلال على تجرّده تعالى]والاستدلال على تجرّده بوجوه: منها: ما سنح لي وهو أنّ الواجب ليس بجوهر؛ لأنّ معنى الجوهر ممكن يستغني عن الموضوع، أو مهيّة إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع، فيكون في وجود الجوهر زائدا (1) على ذاته، والواجب وجوده عين ذاته؛ لما عرفت من أنّ كلّ ما هو وجوده زائد على ذاته ممكن محتاج إلى المؤثّر ليس بواجب. قال الشيخ في الحكمة العلائيّة: جوهر آن بود كه چون موجود شود حقيقت او را (2) وجود نه در (3) موضوع بود نه آن كه او را وجودى است حاصل نه در موضوع، و از اين جهت (4) شكّ نكنى كه جسم جوهر است، و شكّ توانى كرد (5) كه آن جسم كه جوهر است موجود است يا نه (6) . پس جوهر آن است كه او را مهيّتى هست چون جسمى و نفسى و انسانى و فرسى، و آن مهيّت را حال آنست كه إنّيتش در موضوع نيست (7) خواه بدانى كه او را إنّيت هست يا نيست، و هر چه چنين باشد (8) او را مهيتى غير (9) إنّيت باشد (10) ، پس هر چه او را مهيتى غير إنّيت نباشد جوهر نباشد (11) .


1- .كذا.
2- .في المصدر: «ورا» بدل «او را» . و كذا في الموارد الآتية.
3- .في المصدر: «اندر» . وكذا في الموردين الآتين.
4- .في المصدر: «و قبل را».
5- .في المصدر: «كردن».
6- .في المصدر: «يا نيست تا آنگاه كه وجود وى اندر موضوع است يا نيست».
7- .في المصدر: «نبود».
8- .في المصدر: «بود».
9- .في المصدر: «جز»، وكذا في المورد الآتي.
10- .في المصدر: «است».
11- .دانش نامه علائى المعروف ب- «حكمت علائى»، ص 113، وفيه: «پس آنچه ورا ماهيت جز انّيت نيست وى جوهر نيست».

ص: 406

فالواجب ليس بجوهر، وإطلاق النصارى الجوهر عليه تعالى فاسد، ولا يكون مبنيّا على إذن المسيح عليه السلام فهو من بدعهم الفاسدة، ولا بعرض؛ لأنّ كلّ عرض يحتاج في وجوده إلى محلّه وموضوعه، وكلّ محتاج إلى الغير في وجوده ممكن، فالواجب ليس بعرض، وكلُّ جسم وجسماني بل كلّ مادّي ولو كان محتاجا إلى مادّة في فعله فقط كالنفس المجرّدة عن المادّة في ذاتهما لا يخلو من أنّه جوهر أو عرض، فالواجب ليس بجسم ولا جسماني بل ليس بمادّي مطلقا لا في ذاته، ولا في فعله مجرّد عنها فيهما معا. فهذا الدليل كما يدلّ على أنّه تعالى ليس بجسم وجسماني يدلّ على أنّه ليس بنفس، بل على أنّه ليس بعقل أيضا؛ لأنّ العقل جوهر مجرّد عنها في ذاته وفعله، والواجب ليس بجوهر. ومنها: أنّه ليس بجسم؛ لأنّ الجسم مركّب من أجزاء عقليّةٍ هي الجنس والفصل، ووجوديّةٍ عند الأكثر كالهيولى والصورة عند المشّائين، والجواهر الفردة عند المتكلّمين، ومقداريّةٍ هي الأبعاض، بل أقول: لا أقلّ من أنّ كلّ جسم جزئي موجود في الخارج مركّب إمّا من ثلاثة أجزاء هي الجسميّة المشتركة بين جميع الأجسام والصورة النوعيّة والتعيّن، أو من اثنين وهي الجسميّة والتعيّن، فكلّ جسم جزئي موجود في الخارج مركّب، وكلّ مركّب محتاج في وجوده إلى جزئه، وكلّ ما يحتاج في وجوده إلى غيره ممكن ليس بواجب بالذات، فالواجب ليس بجسم. وليس بمادّة؛ لأنّها ضعيفة الوجود لا تتقوّم بنفسها بل بما حلّ فيها، ولأنّها محض القوّة والفاقة، والواجب تعالى محض الفعليّة والتحصّل، فلا يكون الواجب مادّة. ولا صورة؛ لاحتياجها في تشخّصها إلى الهيولى كما بيّن في موضعه، والواجب مستغنٍ عن الغير في الوجود والتشخّص، بل تشخّصه كوجوده عين ذاته، بل ليس بحالّ مطلقا سواء كانت صورة جسميّة أو نوعيّة أو شخصيّة على تقدير كون التشخّص موجودا في الخارج أو عرضا؛ لأنّ كلّ حالّ محتاج إلى المحلّ، والواجب غير محتاج إلى شيء. ولا جوهر فرد؛ لاستحالته، ولأنّه على تقدير وجوده أحقر الأشياء، فهو متعال عن

ص: 407

ذلك علوّا كبيرا. فثبت أنّه تعالى مجرّد، لانحصار المادّي، أي الجسم والجسماني فيما ذكر. ومنها: أنّ كلّ واحد من الأجسام والجسمانيات ماهيّته غير إنّيّته، والواجب ماهيّته إنّيّته، قال الشيخ في الحكمة العلائيّة: واجب الوجود در هيچ مقوله نيست؛ زيرا كه مقوله را وجود، عرضى و زايد است بر ماهيت و بيرون از ماهيت است، و واجب الوجود را وجود ماهيت است (1) . ومنها: ما ذكره صدر المحقّقين في رسالته على إثبات الواجب وهو: أنّ واجب الوجود لا يقبل القسمة إلى الأجزاء أصلاً، وقد يعبّر عن هذا المعنى بالأحديّة، ويعبّر عن عدم قبول القسمة بالحمل على كثيرين بالعدد بالواحديّة، قال المعلّم الثاني في الفصوص: وجوب الوجود لا يقبل القسمة إلى أجزاء القوام مقداريا كان أو معنويا، وإلّا لكان كلّ جزء من أجزائه إمّا واجب الوجود، فكثر واجب الوجود، وإمّا غير واجب الوجود وهي أقدم بالذات من الجملة، فيكون الجملة أبعد من الوجود. هذا كلامه. وبيان الخلف في الشقّ الثاني أنّ الواجب والممكن إذا قاسهما العقل إلى الوجود يجد الواجب أقرب من الوجود، فيحكم بأنّه وجد الواجب فوجد الممكن، ولو كان جزء الواجب ممكنا، يلزم أن ينعكس الأمر؛ فإنّ العقل يحكم بتقدّم جزء الجملة عليها، فيحكم بأنّ الممكن الذي هو جزء الواجب على هذا التقدير مقدّم عليه، هذا خلف. فإن قلت: إن أردتم بتقدّم جزء الجملة عليها الكلّيّة فغير مسلّم؛ إذ الجزء التحليلي ليس مقدّما على الجملة بل متأخّر عنه (2) ؛ ضرورة أنّه ما لم يكن شيء لم يكن (3)


1- .دانش نامه علائى المعروف ب- «حكمت علائى»، ص 113 مع اختلاف في اللفظ.
2- .في المصدر المخطوط: «عنها».
3- .في المصدر المخطوط: «لا يمكن».

ص: 408

تقسيمه وتحليله إلى أجزاء، وما لم يُحلّل ولم يقسّم إليها لم يحصل الجزء التحليلي. وإن أردتم الجزئيّة فمسلّم لكن لا يلزم حينئذٍ من الدليل أن لا يقبل الواجب القسمة إلى الأجزاء التحليليّة كالجنس والفصل. قلت: المراد الكلّيّة والجملة وذات الجزء التحليلي [مقدّم على الجملة، بأنّ الجملة وذات جزئها التحليلي] (1) إذا قاسهما العقل إلى الوجود يحكم بتقدّم ذات جزء الجملة عليها، وذلك لا ينافي تأخّر وصف الجزئيّة عنها، فذات الجزء بدون وصف الجزئيّة مقدّم على الجملة، ومع وصف الجزئيّة ليس مقدّما عليها، كما أنّ ذات العلّة بدون صفة العلّيّة مقدّم على المعلول، ومع صفة العلّيّة ليس مقدّما عليه بناء على المضايفة. واُورد على هذا المسلك أنّ الأجزاء التحليليّة كالجنس والفصل ليس (2) جزءً للشيء مطلقا ولا بحسب الخارج؛ فإنّ الأمر البسيط - الذي لا تعدّد فيه أصلاً بحسب الخارج لا في ذاته ولا في وجوده - إذا وجُد في العقل فصّله العقل إلى مفهومين متمايزين، وهذا التفصيل والتعدّد إنّما يحصل في هذا الوجود دون الوجود الخارجي، فيكون البساطة لازمة للمهيّة بالنظر إلى الوجود الخارجي، والتركيب بحسب الوجود الذهني فلا يكون المهيّةُ مطلقا ولا بحسب الخارج محتاجةً إلى غيرها في ذاتها ووجودها الخارجي بل عند حصولها في الذهن، ولا نسلّم استحالته ولزومه الإمكان. وأقول: ذلك الإيراد غير وارد، وتبيينه يستدعي تحقيق أمرين: أحدهما الأجزاء العقليّة، والثاني تقدّم العلّة على المعلول.


1- .من المصدر المخطوط.
2- .في المصدر المخطوط: «ليست».

ص: 409

اعلم أنّ الأجزاء العقليّة للشيء ليست أجزاء له حال حصوله في الذهن - كما حسبه المُورِد - حتّى يكون ما يحصل من الإنسان في الذهن حيوانا ناطقا هناك؛ فإنّ هناك كيفيّة نفسانيّة - على ما ذهب إليه المحقّقون - وليس حيوانا هناك ولا ناطقا، بل الأجزاء العقليّة أجزاء يقسّم العقل الشيء إليها، مثلاً يقسّم الإنسان حيث يكون إنسانا وهو [في] (1) الخارج إلى الحيوان الناطق فهو في الخارج حيوان ناطق لكنّهما ليسا جزءين يحصل الإنسان من تركيبهما، بل جزءين يقسّم العقل الإنسان إليهما بضرب من التقسيم، فذات الجزءين حاصل قبل التقسيم لكنّهما حينئذٍ أمر واحد هو ذلك الشيء، وذات كلّ واحد منهما بعض من أمر واحد، لا أمرٌ واحد على حدة، وحصوله بعض من حصول ذلك الأمر، وبعد تقسيم العقل إيّاه يتّصف ذوات الأجزاء بصفة الجزئيّة، ويتكثّر ذلك الواحد ضربا من التكثّر. ثمّ اعلم أنّ تقدّم العلّة على المعلول ليس بحسب وجودهما في نفس الأمر، فإنّهما هناك يوجدان معا، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، هذا خلف، بل بحسب مقايسة العقل؛ فإنّ العقل إذا قاس العلّة ومعلولها إلى الوجود، يجد العلّة أقرب منه والمعلول أبعد، ويعبّر عن هذا القرب والبعد بأنّه وجد العلّة فوجد المعلول، وهذا الحكم شامل للأجزاء التحليليّة أيضا؛ فإنّ العقل إذا قاس الشيء وذات جزئه التحليلي إلى الوجود، يجزم بأنّه ما لم يوجد ذات الجزء لم يوجد الشيء، مثلاً يحكم بأنّه وجد ذات نصف الفلك، فوجد الفلك وإن كان وجود النصف في ضمن وجود الفلك، وليس أمرا وراءه [في نفس الأمر] (2) ؛ لأنّ هذا التقدّم ليس بحسب نفس الأمر حتّى يقتضي أمرين متغايرين فيها، فيجوز 3 أن يكون في نفس


1- .من المصدر المخطوط.
2- .في المصدر: «فجاز».

ص: 410

الأمر واحدا (1) ، والعقل يعتبر (2) جزءً فيه وينسبه (3) مع ذلك الجزء إلى الوجود، فيجد الجزء أقرب من الوجود. وكذلك يحكم بأنّه وجد الحيوان، فوجد الإنسان وإن كانا أمرا واحدا في الخارج، فإنّ هذا الأمر من حيث إنّه حيوان يجده العقل أقرب من الوجود منه من حيث إنّه إنسان. إذا عرفت ذلك، فلا خلاف في أنّ سلسلة العلل والمعلولات مترتّبة عند العقل بحسب القرب من الوجود والبعد عنه، فإنّه يحكم بأنّه وجد العلّة فوجد معلولها (4) ، وهلمّ جرّا. ولا في أنّ كلّ ما (5) في هذه السلسلة فيكون معلولاً سوى ما كان مبدءً (6) ، فلو كان للواجب بالذات أجزاء عقليّة، أو غير عقليّة، كانت متقدّمة عليه؛ لما مرّ، فيكون الواجب في غير مبدأ السلسلة، فيكون معلولاً، هذا خلف. ولمّا لم يقبل الواجب بالذات القسمة إلى أجزاء القوام ولا موضوع له، وكانت المادّة من تلك الأجزاء، كان مجرّدا عن المادّة ولواحقها غير مخلوطة بها، بخلاف المادّيّات؛ فإنّها محفوفة بالغواشي الغريبة المادّيّة، مخلوطة بها، مغمورة فيها بحيث لا يحسّ إلّا معها، فكأنّ المادّيّات كائنة في لباس الغواشي الغريبة، والمجرّد عن المادّة ظاهرٌ عارٍ عن اللباس. قال المعلّم الثاني في الفصوص: واجب الوجود لا موضوع له ولا عوارض له ولا لُبس له، فهو صُِراح (7) ، فهو ظاهر (8) . ولمّا كانت حواسّنا محفوفة بالغواشي الغريبة المادّيّة، ولا تدرك إلّا ما هو كذلك، صار المجرّد بواسطة تجرّده عن لباس الغواشي


1- .في المصدر المخطوط: «في نفس الأمر أمرٌ واحد».
2- .في المصدر المخطوط: «يعين».
3- .في المصدر: «يعينه».
4- .في المصدر المخطوط: «وجد العلّة فوجد المعلول ثمّ وجد معلول، ثمّ وُجد معلول معلولها، ثمّ وجد معلول معلول معلولها».
5- .في المصدر المخطوط: + «هو».
6- .في المصدر المخطوط: «مبدئها».
7- .كذا ضبطه في النسخة وكتب فوقها : «معا».
8- .فصوص الحكم، ص 53 - 54، فص 10.

ص: 411

غائبا عن الحواسّ، فيكون ظهوره منشأ خفائه. انتهى (1) كلامه (2) . لا يقال: يلزم على هذا تجويز كون العلّة أمرا بالقوّة، وهذا - كما تَرى - يفضي إلى اُمور شنيعة كتجويز كون المبدأ أمرا تحليليا. وأيضا ما قرّره يستلزم أن يكون لكلّ جسم علل غير متناهية هي الأجزاء التحليليّة المقداريّة، وهل هذا إلّا التسلسل المحال؟ لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّ العلّيّة وإن كانت بما هي عليّة غير مستلزمة لكون العلّة موجودا برأسه على حدة إلّا أنّ الفاعليّة التي هي أخصّ منها تستلزم هذا كما لا يخفى، فالمبدأ الأوّل لوجوب كونه فاعلاً يجب أن يكون أمرا بالفعل، فلا يكون تحليليا أصلاً، بل يكون أصلاً لكلّ أصل. وعن الثاني بأنّ الكثرة فرضيّة، فالأجزاء غير متكثّرة بل الكلّ واحد، فلم يكن عللاً مترتّبة. وتنشئ الإشكال أخذ ما بالقوّة مكان ما بالفعل، فظهر أنّه تعالى ليس له أجزاء خارجيّة ولا أجزء تحليليّة عقليّة ولا مقداريّة، فلم يكن له مادّة ولا صورة ولا تعيّنا زائدا (3) ولا جنسا ولا فصلاً ولا نوعا ولا كمّا وليس بمتكمّم فهو الأحد الواحد الفرد المجرّد. قال العلّامة الدواني في رسالته على إثبات الواجب بعد ما أورد على هذا الدليل الإيراد الذي نقله صدر المحقّقين بقوله: واُورد على هذا المسلك إلخ: ويمكن الاستدلال على هذا المطلب بأنّه لمّا كان الوجود عين الواجب (4) فجزؤه التحليلي إمّا وجود، (5) أو أمر آخر، وعلى الأوّل يلزم كونه واجبا، وعلى الثاني يكون ذلك الجزء ممكنا؛ لأنّ ما عدا الوجود المتأكّد القائم بنفسه لا يكون واجبا، فيكون


1- .رسالة إثبات الواجب لصدر الدين الدشتكي (مخطوط)، ص 11 - 15.
2- .في هامش النسخة: أي كلام صدر المحقّقين (منه عفي عنه).
3- .كذا. والصواب ظاهرا: «تعيّنٌ زائدٌ» . وكذا في الموارد الآتية.
4- .في المصدر: «كان الواجب هو الوجود المتأكّد». و في هامش النسخة: يعني وجود متاكّد قائم بنفسه «منه عفي عنه».
5- .في المصدر: + «المتأكّد».

ص: 412

ممكنا، وقد يقرّر (1) عندهم أنّ الجزء التحليلي (2) لا يخالف الكلّ في الحقيقة. قال بهمنيار في التحصيل: اعلم أنّ الماء - مثلاً - والخمر (3) لا يصحّ أن يكون بينهما وحدة بالاتّصال حقيقة؛ فإنّ الموضوع المتّصل (4) بالحقيقة جسم بسيط متّفق بالطبع. انتهى. والحكماء ردّوا مذهب ذيمقراطيس بأنّ الأجزاء الفرضيّة لتلك الأجسام الصغار تشارك الكلّ في الحقيقة، وتتشارك مع باقي الأجزاء، فيصحّ عليها من الافتراق [والاتّصال] (5) ما يصحّ على الكلّ (6) . إذا تمهّد ذلك فنقول: لا يتصوّر أن يكون له جزء تحليلي؛ لأنّه يستلزم أن يكون جزءً خارجيا (7) ، فيكون الواجب مفتقرا إلى الجزء الخارجي، هذا خلف. بيان الملازمة أنّ ذلك الجزء إن كان وجودا متأكّدا يكون (8) واجبا فيكون موجودا بالفعل (9) . وإن كان غير الوجود المذكور (10) يكون ممكنا فيغاير الكلّ بالحقيقة، وأيضا فإن كان معدوما لم يجز كونه جزءً من الواجب، وإن كان موجودا فيكون جزءً خارجيا لا تحليليا؛ لما سبق من التمهيد، بل نقول: لو كان غير الوجود المذكور، لكان ممكنا، فيكون جزء الواجب ممكنا، هذا خلف. ولا يبعد حمل كلام المعلّم


1- .في المصدر: «تقرّر».
2- .في هامش النسخة: الجزء التحليلي المقداري... (منه عفي عنه).
3- .في المصدر: «الماء والخمر مثلاً».
4- .في المصدر: «للمتّصل».
5- .من المصدر.
6- .في المصدر: «على غيرها».
7- .في المصدر: «تحليلي لا يلزم (في بعض نسخه: يلزم) أن يكون له جزء خارجي».
8- .في المصدر: «كان».
9- .في المصدر: + «لا جزء تحليليّا مع أنّه يلزم تعدّد الواجب».
10- .في المصدر: «المتأكّد».

ص: 413

الثاني على ذلك. هذا في الجزء المقداري (1) . وأمّا الجزء العقلي (2) كالجنس والفصل، فيظهر امتناعه (3) بأنّ الجنس مبهم إنّما يتحصّل بالفصل، فالجنس لا يكون موجودا بذاته؛ لاحتياجه إلى الفصل والمحصّل له. وقد يقرّر (4) بما سبق أنّ الواجب تعالى عين الوجود المتأكّد، فيكون ما فرض جنسا خارجا عن حقيقته. وبوجه آخر مفصّل: لا يخلو أن يكون أحد الجزءين فقط عين الوجود المتأكّد، أو كلاهما عينه، أو لا شيء منهما عينه، وعلى الأوّل يكون الواجب ذلك الجزء الذي هو عين الوجود، والجزء الآخر خارجا عنه، وعلى الثاني يلزم تعدّد الواجب، وعلى الثالث لا يكون المركّب منهما واجبا؛ لأنّه ليس وجودا متأكّدا؛ لاحتياجه في قوامه إلى الأجزاء التي ليست عين الوجود، بل يلزم تركّب الواجب من الممكن، هذا خلف. وأيضا لو تركّب الواجب من جزءين عقليّين، لجاز للعقل تحليله إلى شيء غير الآخر (5) ، مثلاً يكون جنسه «الألف» وفصله «الباء» فيكون «ألفا» موجودا و «باءً» موجودا، وقد تبيّن لك أنّ كلّ ما هو كذلك فهو ممكن. وهذان الوجهان يدلّان على امتناع تركّبه من الأجزاء المتساوية أيضا. والحاصل أنّ الواجب تعالى ليس فيه حيثيّة القوّة بحسب ذاته، بل هو فعل محض بريء عن شوائب القوّة؛ ولذلك حكم الحكماء بأنّه لا مهيّة له سوى الوجود؛ فإنّ ما له مهيّة مغايرة له، فهو من حيث مهيّته ليس موجودا، وإنّما يوجد


1- .في المصدر: «فيغاير الكلّ بالحقيقة، فيكون جزءً خارجيّا أيضا لا تحليليّا، مع أنّه يلزم تركّب الواجب من الممكن، وهذا هو تحقيق ما قال المعلّم الثاني. وظهر أنّه لا ينقسم إلى الأجزاء المقداريّة».
2- .في المصدر: «الأجزاء العقليّة».
3- .في المصدر: «امتناع انقسامه إليها».
4- .في المصدر: «تقرّر».
5- .في المصدر: «إلى شيء ووجود».

ص: 414

استدلال المؤلّف على نفي تركيبه تعالى

استدلال قدماء المتكلّمين على نفي جسميّته تعالى بوجوه

بالفاعل (1) . انتهى.

[استدلال المؤلّف على نفي تركيبه تعالى]ومن سوانحي في نفي تركيبه من الأجزاء التحليليّة العقليّة أنّ كلّ واحد من تلك الأجزاء إمّا واجب، أو ممكن، أو بعضها ذاك، وبعضها ذلك؛ لامتناع خلوّ موجود منهما، والأوّل باطل لبراهين الواحديّة، والثاني والثالث أيضا باطلان؛ لاستحالة احتياج الواجب في الوجود إلى الممكن إن احتاج الكلّ إلى الجزء المحمول عليه في الوجود من حيث إنّ نسبة هذا الوجود إلى الجزء متقدّم على نسبته إلى الكلّ، ولاستحالة كون الجزء في الموجوديّة ممكنا محتاجا إلى الغير، والكلّ لا يحتاج في تلك الموجوديّة بعينها إن كان الجزء المحمول متّحدا مع الكلّ في الموجوديّة، على أنّ الثالث أيضا يوجب تعدّده، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. هذا، وقد استدلّ بدليل آخر على تجرّده تعالى، وسيجيء ذكره إن شاء اللّه تعالى.

[استدلال قدماء المتكلّمين على نفي جسميّته تعالى]واستدلّ قدماء المتكلّمين على نفي جسميّته تعالى بوجوه: الأوّل: أنّ كلّ جسم حادث للدليل الذي استدلّوا به على حدوث الأجسام، والواجب قديم، فالواجب ليس بجسم. الثاني: أنّ كلّ جسم متحيّز بالضرورة، والواجب ليس كذلك؛ لما مرّ من الدلائل التي لا... (2) على نفي جسميّته تعالى. الثالث: أنّ الواجب لو كان جسما فإمّا أن يتّصف بجميع صفات الأجسام، فيلزم اجتماع


1- .رسالة إثبات الواجب الجديدة (المطبوع في سبع رسائل) ص 137 - 139.
2- .كلمة لا تقرأ، وظاهرها : «تبتني».

ص: 415

الضدّين كالحركة والسكون ونحوهما، وإمّا أن لا يتّصف بشيء، فيلزم انتفاء بعض لوازم الأجسام، مع أنّ الضدّين قد يكونان بحيث يمتنع خلوّ الجسم عنهما، وإمّا أن يتّصف بالبعض دون البعض، فيلزم احتياج الواجب في صفاته إن كان ذلك لمخصّص، ويلزم الترجيح بلا مرجّح إن كان لا لمخصّص. الرابع: أنّه لو كان جسما لكان متناهيا؛ لما ثبت في موضعه من تناهي الأبعاد، فيكون شَكلاً؛ لأنّ الشَكل عبارة عن هيئة إحاطة النهاية بالجسم، وحينئذٍ إمّا أن يكون على جميع الأشكال وهو محال، أو على البعض دون البعض لمخصّص، فيلزم الاحتياج أوّلاً لمخصّص، فيلزم الترجيح بلا مرجّح. لا يقال: هذا وارد في اتّصاف الواجب بصفاته دون أضدادها؛ لأنّا نقول: صفاته صفات كمال يتّصف بها لذاته، وأضدادها صفات نقص يتنزّه عنها لذاته، بخلاف الأضداد المتواردة على الأجسام، فإنّها قد تكون متساوية الأقدام. إذا عرفت هذه، فلنرجع إلى المطلوب، فحاصل قوله عليه السلام أنّ المتعالي عن الإحساس - الذي جعلتَه مانعا للربوبيّة وباعثا على إنكارك - مصحّحٌ للربوبيّة، ودالٌّ على اختصاصه بصحّة الربوبيّة بالنسبة إلى الأشياء التي يصحّ عليها أن يحسّ. ولمّا أزال عليه السلام وهمه من جهة الكيفيّة والأينيّة، أراد الإيراد من جهة الزمان، وقال الرجل: «فأخبِرْني متى كان؟» وهذا سؤال عن ابتداء زمان وجوده وكونه. وسقط من نسخ الكافي التي رأيناها جواب هذا السؤال، والسؤالُ الذي أجاب عنه عليه السلام بقوله: «إنّي لمّا نظرت إلى جسدي» إلخ والساقط موافقا لما أورده الصدوق من هذه الرواية في عيون أخبار الرضا هكذا: «قال أبو الحسن عليه السلام : أخبرني متى لم يكن فاُخبرك متى كان؟ قال الرجل: فما الدليل عليه؟» (1) انتهى (2) .


1- .عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1، ص 120، باب 11، ح 28؛ كتاب التوحيد، ص 251، باب 36، ح 3.
2- .هذه العبارة وردت في الكافي المطبوع.

ص: 416

قوله عليه السلام: «إنّيلمّانظرت إلى جسدي» تنبيه على وجود الصانع وبرهان على وجود الواجب بوجوه

الوجه الأوّل استدلال بما يجده في بدنه من أحواله وانتظام تركيبه

قال الرجل : فأخبِرْني متى كانَ؟ قال أبوالحسن عليه السلام : «أخبرني متى لم يَكُنْ فأخبِرَك متى كانَ» . قال الرجل: فما الدليل عليه؟ فقال أبوالحسن عليه السلام : «إنّيلمّا نظرتُ إلى جسدي ولم يُمْكِنّي فيه زيادَةٌ ولا نُقصانٌ في العَرْض والطول ، ودفعِ المكارهِ عنه ، وجَرِّ المنفعةِ إليه ، عَلِمْتُ أنَّ لهذا البُنيانِ بانيا ، فأقررتُ به ، .........

وحاصل الجواب أنّه إنّما يقال: «متى كان» لما لم يكن ثمّ كان، والمبدأ الأوّل الواجب بالذات يستحيل عليه العدم، ولم يصحّ أن يقال فيه: «لم يكن» حتّى يصحّ أن يقال فيه: «متى كان». ولمّا زالت شبهة الرجل في إنكار المبدأ الواجب ووهمه فيه، سأل عن الدليل على وجوده تعالى بقوله: (فما الدليل عليه؟) وأجابه عليه السلام بقوله: (إنّي لمّا نظرتُ إلى جسدي) إلخ. وهذا تنبيه على وجود الصانع المبدأ الأوّل، وبرهان على وجود الواجب بالذات بوجوه:

الوجه الأوّل- وهو ما أشار إليه عليه السلام بقوله: (إنّي لمّا نظرتُ إلى جسدي) إلى قوله: (مع ما أرى من دوران الفلك) - استدلال بما يجده في بدنه من أحواله وانتظام تركيبه واشتماله على ما به صلاحُه ونظامه وعدم استنادها إلى نفسه؛ لكونها من آثار القدرة وعدم قدرته عليها. على أنّ لهذا البنيان بانيا صانعا قادرا على إيجاده، فإن كان صانعه واجب الوجود بالذات فهو المطلوب، وإلّا فكان ممكنا، وكلّ ممكن موجود محتاج في وجوده إلى مؤثّر موجود مباين له خارج عنه بالضرورة، أو بحكم المقدّمات السالفة، وننقل الكلام إلى مؤثّره وهكذا، فإمّا أن تنتهي سلسلة الممكنات المعلولة إلى الواجب وهو المطلوب، أو يدور وهو محال؛ لاستحالة توقّف الشيء، أو تقدّمه على نفسه، أو يتسلسل ويلزم منه وجود معلول بلا علّة؛ لأنّ سلسلة المعلولات على هذا التقدير زائد على سلسلة العلل بواحد هو المعلول الأخير، وهو محال؛ لاستحالة تحقّق المعلول بدون العلّة بالضرورة. توضيح ذلك أنّ العلّة والمعلول متضايفان لا يمكن تحقّق علّة من حيث هي علّة بدون

ص: 417

معلول، ولا تحقّق معلول من حيث هو معلول بدون علّة، فبالضرورة يجب تساوي عدد العلل والمعلولات، سواء كانتا متناهيتين أو غير متناهيتين. فلو ذهبت سلسلة العلل والمعلولات إلى غير النهاية، ولا شكّ في أنّ سلسلةَ المعلولات - وهي مجموع المعلول الأخير مع ما فوقه إلى غير النهاية - زائدٌ على سلسلة العلل - وهي ما فوق المعلول الأخير إلى غير النهاية - بواحد فيلزم (1) تحقّق معلول لا تكون بإزائه علّة في تلك السلسلة، وهو محال؛ لاستحالة تحقّق المعلول بدون العلّة. وهذا ما هو المشهور [ب] برهان التضايف في إبطال التسلسل، وعلى ما قرّرناه لا يرد عليه شيء كما لا يخفى على المتدبّر. ولا يذهب عليك أنّ هذا البرهان يدلّ على امتناع ترتّب اُمور غير متناهية، سواء كانت مجتمعة في الوجود أو متعاقبة. وهذا ما وعدناك بيانه في إبطال مطلق التسلسل، سواء كان على سبيل الاجتماع، أو التعاقب. ويمكن تقرير الحديث بوجه آخر بأن يقال: معناه أنّه إذا نظرنا إلى بدننا ورأينا تركيبه وتغيّره وحدوثه بعد ما لم يكن، جزمنا بأنّه ممكن وحادث زماني، وأنّا نعلم أنّ كلّ ممكن، أو حادث محتاج إلى مؤثّر موجود مباين له خارج عنه إمّا بالضرورة، أو بحكم المقدّمات السابقة المركوزة إجمالاً في الفطرة الصحيحة، فمؤثّره إن كان واجبا فهو المطلوب، وإن كان ممكنا، فننقل (2) الكلام إليه وهكذا، فإمّا أن ننتهي إلى الواجب بالذات وهو المطلوب، أو يدور، وهو محال؛ لاستحالة تقدّم الشيء، أو توقّفه على نفسه، أو يتسلسل، وحينئذٍ إمّا يلزم انتهاء السلسلة على تقدير عدم نهايتها، أو مساواة الجزء للكلّ، وهما محالان. بيان الملازمة أنّه لو تسلسلت العلل والمعلولات إلى غير النهاية فنفرض من معلول معيّن بطريق التصاعد سلسلةً غير متناهية، ومن الذي فوقه سلسلةً اُخرى إلى غير النهاية أيضا، ثمّ نطبّق الجملتين من مبدئهما بأن نفرض الأوّل من الثانية بإزاء الأوّل من الاُولى،


1- .جواب «لو».
2- .في النسخة: «وننقل».

ص: 418

والثاني بإزاء الثاني وهكذا، فإن كان بإزاء كلّ من الاُولى أحد من الثانية، لزم تساوي الجزء للكلّ وهو محال، وإن لم يكن، فقد وجد في الاُولى جزء لا يوجد بإزائه جزء من الثانية، فيتناهى الناقصة أوّلاً، ويلزم منه تناهي الزائدة أيضا؛ لأنّ زيادتها بقدر متناه هو قدر ما بين المبدأين، والزائد على المتناهي بقدر المتناهي متناهٍ، فيلزم انقطاع السلسلتين، وقد فرضناهما غير متناهيتين، هذا خلف. وهذا البرهان في إبطال التسلسل هو المشهور [ب] برهان التطبيق. واعترض عليه من وجهين: الوجه الأوّل: النقض بمراتب الأعداد. والجواب عنه أنّها موهوم محض؛ إذ لم يضبطها وجود أصلاً، فينقطع بانقطاع التوهّم والاعتبار، فلا يجري فيه التطبيق. الوجه الثاني أنّا لا نسلّم أنّ الثانية إن لم تنطبق (1) على تمام الاُولى انقطعت؛ فإنّه يجوز أن يكون عدم انطباقها عليها لعجزنا عن توهّم مقابلة أجزائها بأجزائها لا لكون الاُولى أطول من الثانية في جهة عدم التناهي. والجواب عنه أنّا لا نعني بالتطبيق كما أشرنا إليه في تقرير الدليل إلّا أنّ العقل يلاحظ شيئا بإزاء شيء ولو على وجه الإجمال. ولا يخفى أنّ العقل يمكنه أن يلاحظ كلّاً من آحاد إحدى السلسلتين بإزاء واحد من الاُخرى على الإجمال، وبذلك يتمّ الغرض؛ إذ حينئذٍ لا يخلو إمّا أن يكون بإزاء كلّ من الاُولى شيء من الثانية أو لا، والأوّل يستلزم التساوي حينئذٍ، والثاني يستلزم المطلوب. ويمكن تقرير البرهان بوجه آخر وهو أنّ تلك السلسلة ما خلا المعلول الأخير علل غير متناهية باعتبار، ومعلولات غير متناهية باعتبار آخر، فالمعلول الأخير مبدأ لسلسلة المعلوليّة، والذي فوقه مبدأ لسلسلة العلّيّة، فإذا فرضنا تطبيقهما - بحيث ينطق كلّ معلول


1- .في النسخة: «لم ينطبق».

ص: 419

على علّته - لزم أن يزيد سلسلة المعلوليّة على سلسلة العلّيّة بواحد من جانب التصاعد؛ ضرورة أنّ كلّ علّة فرضت لها معلوليّة وهي بهذا الاعتبار داخلة في سلسلة المعلول، والمعلول الأخير داخل في جانب المبدأ في سلسلة المعلول دون العلّة، فلمّا لم يكن تلك الزيادة بعد التطبيق من جانب المبدأ كانت في جانب الآخر لا محالة؛ لامتناع كونها في الوسط لاتّساق النظام، فيلزم أن يوجد معلول بدون علّة سابقة عليه، وهو محال مع أنّه محقّق للمطلوب وهو الانقطاع. ولا يذهب عليك أنّ هذا البرهان يجري في الاُمور المتعاقبة في الوجود أيضا؛ لأنّ التطبيق في الوهم لا يقتضي الاجتماع في الوجود الخارجي بل العقل بمعونة الوهم إذا أخذ جملة من الحوادث المترتّبة إلى غير النهاية، وجملة اُخرى غير متناهية من الحادث الذي قبل مبدأ الجملة الاُولى أو بعده، وتوهّم انطباق مبدأ الجملة الاُولى على مبدأ الجملة الثانية ينطبق سائر الآحاد الاُولى على سائر الآحاد الثانية ونسوق الدليل إلى آخره، فإن كان تجويز الحكماء التسلسل في الاُمور المتعاقبة لعدم جريان الدليل بناء على امتناع التطبيق، فقد ظهر فساده، وإن كان ذلك لأنّ السلسلة الغير المتناهية غير موجودة هناك، فالدليل وإن كان جاريا لكنّ المدّعى غير متخلّف؛ لأنّ غير المتناهي غير موجود هناك، وليس المدّعى إلّا امتناع السلسلة الغير المتناهية، ولمّا لم يجتمع الآحاد لا تكون السلسلة الغير المتناهية موجودة، فيرد عليه أنّ مقتضى الدليل عدم وجودها أصلاً لا على سبيل الاجتماع ولا على سبيل التعاقب، والسلسلة الغير المتناهية المفروضة هاهنا وإن لم تكن (1) موجودة مجتمعة فهي موجودة متعاقبة؛ فإنّ جميع الحوادث موجودة في جميع الأزمنة، بمعنى أنّ كلّ واحد من آحادها موجود في جزء من تلك الأزمنة، والوجود أعمّ من أن يكون في الآن، أو في الزمان، والوجود في الزمان أعمّ من أن يكون على سبيل الاجتماع، أو على سبيل التعاقب.


1- .في النسخة: «لم يكن».

ص: 420

شرط الفلاسفة في بطلان التسلسل

ثمّ لا يخفى أنّه إذا ثبت جريان التطبيق فالمحذور الذي يظهر منه هو إمّا الانتهاء على تقدير عدمه، أو مساواة الجزء للكلّ. وهذان المحذوران يجريان في صورة التعاقب أيضا؛ فإنّ العدد الذي يساوي جزؤه كلّه مستحيل في نفس الأمر، بمعنى أنّه يستحيل عروضه في نفس الأمر لشيء من الأشياء سواء كان آحاده مجتمعة، أو غير مجتمعة؛ فإنّ البديهة حاكمة بأنّ طبيعة العدد بل الكمّ مطلقا يأبى عن قبول مساواة جزئه لكلّه؛ فليتأمّل.

[شرط الفلاسفة في بطلان التسلسل]واعلم أنّ الفلاسفة شرطوا في بطلان التسلسل الاجتماع والترتّب، وقد سبق آنفا حال الشرط الأوّل، وأمّا الشرط الثاني فقد وجّهوا اشتراطه بأنّه لو لم يكن بين الآحاد ترتّب لم يمكن للعقل التطبيق؛ إذ لا نظام فيها مضبوطا حتّى يلزم من تطبيق بعضها على بعضٍ انطباقُ الكلّ على الكلّ، بخلاف الآحاد المترتّبة؛ فإنّه يلزم هناك من تطبيق المبدأ على المبدأ انطباق كلّ واحد من آحاد السلسلة الثانية على نظيره من آحاد السلسلة الاُولى. واستوضح ذلك بسلسلة ممتدّة وكفّ من الحصى ، فإنّه يكفي في الأوّل تطبيق المبدأ على المبدأ، وفي الثانية لا بدّ من تطبيق كلّ واحد على سبيل التفصيل، وذلك ممّا يعجز عنه العقل في صورة عدم التناهي. وعلى هذا الشرط اعتمدوا في قولهم بعدم تناهي النفوس الناطقة المجرّدة. ويرد عليه أنّه إن كفى التطبيق الإجمالي فهو جارٍ في غير المرتّبة بأن يلاحظ العقل أنّ كلّ واحد من تلك الجملة إمّا أن يكون بإزائه واحد آخر أو لا، وعلى الأوّل يلزم المساواة، وعلى الثاني يلزم الانقطاع، وإن لم يكف التطبيق الإجمالي لم يمكن في صورة الترتّب أيضا؛ إذ لا يتمكّن العقل من ملاحظة كلّ واحد واحد بإزاء واحد واحد مفصّلاً. ودعوى أنّ التطبيق الإجمالي كافٍ في المرتّبة دون غير المرتّبة تحكّمٌ، بل لهم أن يدفعوا ذلك بأنّه في السلسلة المرتّبة ينتقل الزيادة إلى طرف اللاتناهي، فيظهر الانقطاع، وفي غير

ص: 421

المرتّبة لا يظهر الانتقال؛ لأنّ الزيادة ربّما يكون في الأوساط؛ لعدم اتّساق آحادها، فلا يلزم الانقطاع. وبعبارة اُخرى أنّ الجملتين لا شكّ في زيادة أحدهما على الاُخرى في جهة التناهي، وبالتطبيق تنتقل تلك الزيادة إلى الجهة الاُخرى، فيلزم الانقطاع، ولمّا لم يكن لغير المرتّبة اتّساق نظام، لم يكن التطبيق بحيث يُظهر انتقال تلك الزيادة إلى الجهة الاُخرى. ويمكن دفع ذلك بأن يقال: الاُمور الغير المتناهية مطلقا تستلزم (1) الترتّب؛ لأنّ المجموع متوقّف على المجموع بلا واحد، وهذا المجموع متوقّف على المجموع بلا اثنين وهكذا، فإذا توهّم تطبيق المجموعات المترتّبة، يظهر التناهي في المجموعات، والمجموع الذي ينتهي إليه سلسلة المجموعات يكون لا محالة مجموعا لا يكون بعده مجموع آخر، وذلك هو الاثنان، فالمجموعات الموجودة هناك تنتهي بعدّة متناهية إلى الاثنين، فيكون المجموع الأوّل متناهيا. وإن شئت قلت: لا بدّ من تحقّق الواحد والاثنين والثلاثة وهكذا إلى غير النهاية فتنطبق السلسلة المبتدأة من الواحد على السلسلة المبتدأة ممّا فوقه. فإن قلت: إنّما يلزم ما ذكرت لو كان العدد مركّبا من الأعداد التي تحته وهو ممنوع، كما اشتهر عن أرسطاطاليس أنّ العدد مركّب من الوحدات لا من الأعداد التي هي أقلّ منه؛ فإنّ تركّب العشرة من أربعة وستّة ليس أولى من تركّبه من الثمانية والاثنين، ولا من غيرها من الأعداد التي تحتها، فإمّا أن يقال: تركّبه منها جميعا، فيلزم أن يكون له أجزاء متخالفة متغايرة، فيتعدّد (ظ) تمام مهيّة شيء واحد وهو محال، وإمّا أن يقال بنفي تركّبه منها. ولمّا بطل الأوّل تعيّن الثاني. قلت: هذا الكلام (2) إنّما يتمشّى إذا كان لكلّ عدد صورة نوعيّة مغايرة لوحداته. أمّا إذا


1- .في النسخة: «يستلزم».
2- .في النسخة: «للكلام».

ص: 422

كان محض الآحاد، فلا يتصوّر ذلك، وحينئذٍ يكون كلّ مرتبة من الأعداد نوعا آخر متميّزا عن سائر المراتب بخصوصيّة المادّة فقط لا بصورة مغايرة لمادّتها، ويكون هذا من خواصّ الكمّ المنفصل. والعجب أنّ بعض المتأخّرين - مع تصريحه بأنّ العدد محض الوحدات وليس فيه صورة نوعيّة - نفى تركّبه من الأعداد. ومن البيّن أنّ واحدا وواحدا يكون جزءَ واحدٍ وواحدٍ وواحدٍ. ثمّ عدم تركّب العدد من الأعداد التي تحته لا ينافي تركّب معروض العدد من معروض تلك الأعداد؛ فإنّا نعلم بديهةً أنّ زيدا وعمرا جزءُ زيد وعمرو وخالد، فإنّ مجموعَ زيد وعمرو، أي معروض الهيئة الاجتماعيّة، مغايرٌ لمجموع زيد وعمرو وخالد؛ أعني معروض تلك الهيئة الاجتماعيّة، وليس المعروض الاُولى خارجا عن المعروض الثانية، ولا عينا له فيكون جزءً منه. وعلى ذلك يبتني ما اختاره بعض المحقّقين في مذهب الفلاسفة من استناد المعلولات المتكثّرة إلى الاُمور الموجودة دون الاعتبارات العقليّة بأن يصدر عن «أ» وَحْده «ب» وعن «ب» وَحْده «ج» وعن مجموع «أ ب» «د» حتّى تحصل (1) معلولات متكثّرة في مرتبة واحدة، وعلّة يبتني البرهان المشهور على إثبات الواجب من غير توقّف على إبطال الدور والتسلسل. تقريره أنّه لا شكّ في وجود ممكن مّا كالمركّبات، فإن كان مستندا إلى الواجب ابتداءً أو بواسطة، ثبت المطلوب، وإلّا فلا يخلو إمّا أن يذهب سلسلة العلل إلى غير النهاية؛ إذ كلّ ممكن فله علّة، أو يدور سلسلة الاستناد في شيء من المراتب، وعلى كلّ واحد من تقديري التسلسل والدور نقول: جميعُ الممكنات - أي تلك الآحاد بأسرها بحيث لا يشذّ عنها ممكن - موجودٌ؛ إذ لو كان معدوما، لكان جزءٌ من أجزائه معدوما؛ ضرورة أنّ ما يوجد جميع أجزائه فهو موجود، ونحن ما اعتبرنا إلّا تلك الآحاد الموجودة فقط لا المجموع


1- .في النسخة: «يحصل».

ص: 423

المأخوذ فيه الهيئة الاجتماعيّة الاعتباريّة المعدومة، فالأجزاء بأسرها موجودة، فيكون المجموع بهذا المعنى موجودا، ولا شكّ في أنّه ممكن؛ لاحتياجه إلى كلّ واحد من الممكنات المأخوذة فيه، والمحتاج - خصوصا إلى الممكن - ممكن، فله علّة فاعليّة مستقلّة في الإيجاد، بأن لا يستند وجود شيء من أجزائه إلّا إليه، أو إلى ما هو صادر عنه؛ لضرورة احتياج كلّ معلول إلى علّة كذلك، فعلّته إمّا نفس المجموع، أو جزؤه، أو أمر خارج عنه، والأوّل باطل (1) ضرورة وجوب تقدّم العلّة على المعلول، وامتناع تقدّم الشيء على نفسه، والثاني أيضا باطل من وجهين: أحدهما: لأنّ علّة الكلّ يجب أن تكون (2) علّة لكلّ جزء إذا كان كلّ واحد من أجزائه ممكنا؛ لأنّ كلّ ممكن محتاج إلى علّة، فلو لم يكن علّة المجموع علّة لكلّ جزء، لكان بعض الأجزاء معلّلاً بعلّة اُخرى، فلا يكون ما فرض علّة للمجموع وحده علّةً له بل لبعضه فقط، وإذا كان علّة لكلّ جزء، فيكون ذلك الجزء علّة لنفسه بل لعلله أيضا. وثانيهما: لأنّ كلّ جزء فرض علّة للمجموع، فإنّ علّته أولى منه بالعلّيّة؛ لأنّها أكثر تأثيرا منه؛ لكون ذلك الجزء أثرها، وليس أثرا لنفسه، فيلزم ترجيح المرجوع على تقدير التسلسل، وترجيحُ المساوي - وهو في الفساد شريك لترجيح المرجوح - على تقدير الدور، وحينئذٍ تندفع شبهة ما فوق المعلول الأخير؛ لأنّه جزء الجملة (3) . وإذا بطل القسمان تعيّن الثالث،


1- .في النسخة: «بطل».
2- .في النسخة: «يكون».
3- .في هامش النسخة: ويمكن دفع شبهة ما فوق المعلول الأخير بوجهٍ مشهور تلخيصه : أنّ كلّ ما هو علّة ومعلول وسط بين الطرفين الخارجين؛ لأنّه لمّا كان علّة فبالضرورة يكون لا معلول، ولمّا كان معلولاً فبالضرورة يكون لا علّة، والمفروض أنّ مجموع سلسلة ما فوق المعلول الأخير إلى غير النهاية علّة للمعلول الأخير وهو معلول أيضا؛ لأنّه مركّب، وكلّ مركّب معلول، فلا بدّ من معلول خارج عنه وهو المعلول الأخير، و... علّة خارج عنه وهي علّة غير معلول؛ فإنّ كلّ ما فرض أنّه علّة ومعلول داخل في تلك السلسلة، وهذا مع أنّه مثبت لوجوب الواجب مستلزم لكون الغير المتناهي محصورا بين الحاصرين وهو محال. وعلى هذا فهذا الدليل وإن لم يكن مبتنيا على بطلان التسلل لكنّه مستلزم لبطلانه وذلك لا يضرّنا كما لا يخفى على المتأمّل (منه عفي عنه).

ص: 424

فيكون علّته أمرا موجودا خارجا عن السلسلة، والموجود الخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته وهو المطلوب. وفي هذا البرهان أنظار وأجوبة ذِكْرُها يوجب التطويل، وبهذا التقرير يندفع كثير منها، فعلم أنّ المتعدّد الأقلّ جزء من المتعدّد الأكثر، وما يتوهّم - من أنّه ليس هناك إلّا الآحاد - وهْمٌ فاسد مخالف لحكم العقل. فإن قلت: فعلى ما ذكرت يلزم أن يكون معلومات اللّه تعالى متناهية، وإلّا انتقض البرهان به. قلت: لو كان علم الواجب بالأشياء بصور مفصّلة، لكان الأمر كما ذكرت، لكن ذلك ممنوع، بل الحقّ - كما مرّ تحقيقه - أنّ علمه تعالى واحد بسيط عين ذاته تعالى، كما ذهب إليه المحقّقون، فلا تعدّد في المعلومات بحسب علمه، فلا يتصوّر التطبيق. فإن قلت: معلومات اللّه تعالى غير متناهية، سواء كان العلم المتعلّق بها واحدا، أو متعدّدا، فيجري التطبيق في المعلومات. قلت: على تقدير حدوث العالم كما هو الحقّ تكون الممكنات المتّصفة بالوجود الخارجي متناهية؛ لأنّ الحوادث لها مبدأ، والحوادث الاستقباليّة لا تبلغ مبلغ اللاتناهي؛ فإنّها ليست غير متناهية وإن كانت غير واقفة عند حدّ، فالتطبيق إن كان بحسب وجودها في علم اللّه تعالى، فهي هناك متّحدة غير متكثّرة، وإن كان بحسب وجودها في الخارج، فهي متناهية. وكذا مقدوراته تعالى والأعداد فإنّها غير متناهية لا يقفيّة، والموجود منها دائما متناهي (1) ، فلا يجري التطبيق في شيء منها، هذا. اعلم أنّه كما أنّ البعد المكاني متناهٍ ومع ذلك ارتكز في العقل المشوب بالوهم أنّ هاهنا امتدادا غير متناهية، والعالم واقع في جزء من أجزائه، كذلك الامتداد الزماني متناهٍ وإن كان


1- .كذا. والصواب ظاهرا : «متناهٍ».

ص: 425

الوهم ينبو (1) عن تناهيه، ويتوهّم أنّ هاهنا امتدادا زمانيا غير متناهٍ، كما ينبو عن تناهي الامتداد المكاني، ويتوهّم أنّ هاهنا امتدادا مكانيا غير متناهٍ، فكما لا عبرة بحكم الوهم في الامتداد المكاني لا عبرة به في الامتداد الزماني أيضا، وإذا كان الزمان متناهيا لم يكن شيء قبله لا لأنّه غير متناهٍ، كما أنّه ليس فوق المجرّد (ظ) شيء لا لأنّ المكان غير متناهٍ، فاللّه تعالى متقدّم على الزمان لا بالزمان، بل بنحو آخر من التقدّم لا يبعد أن يسمّى تقدّما ذاتيا كما ذكره المتكلّمون. وهذه مقدّمات إذا لاحظها الذكيّ، انقلع من نفسه الركون إلى قدم العالم؛ واللّه الموفِّق لنيل الصواب. تذييل من براهين إبطال التسلسل ما يسمّى بالبرهان العرشي استخرجه صاحب الإشراق (2) . تقريره أن يقال: لو ترتّب اُمور غير متناهية، كان ما بين مبدئها وكلّ واحد من الذي قبله متناهيا؛ لأنّه محصور بين حاصرين، فيكون الكلّ متناهيا؛ لأنّ الكلّ لا يزيد على ما بين المبدأ وكلّ واحد إلّا بالطرفين. واعترض عليه بأنّه لا يلزم من تناهي كلّ واحد من أجزاء السلسلة الواقعة بين المبدأين تناهي السلسلة بأسرها، فإنّ هذا الحكم من قبل (3) أن يقال: ما بين «أ» و«ب» أقلّ من ذراع، وما بين «ب» و«ج» أقلّ منه، فيلزم أن يكون ما بين «أ» و«ج» أقلّ منه، فإنّه غير صحيح. واُجيب (4) عنه بأنّه ليس من هذا القبيل؛ لأنّ المبدأ هناك واحد بخلافه في المثال، بل من


1- .في هامش النسخة: نَبا السيف عن الضريبة: كلَّ. وجنبُه عن الفِراش: لم يَطْمَئِنَّ عليه. والسهمُ عن الهدف: قصّر. من (ق) [القاموس، ج 4، ص 570 (نبو)].
2- .كتاب التلويحات (مجموعه مصنّفات شيخ اشراق) ج 1، ص 20.
3- .في رسالة إثبات الواجب للدواني (المطبوع في رسائل سبع) ص 103: «قبيل».
4- .المجيب هو الإيجي في المواقف، ج 1، ص 458.

ص: 426

الوجه الثاني استدلال بالعلويات وحركاته المنتظمة وبما يحدث بينها وبين السفليات وانتظام الجميع استدلّ عليه السلام على وجود الواجب بالذات هنا بأربع مسالك

مع ما أرى من دَوَران الفَلَكِ بقدرته ، وإنشاء السَّحابِ ، وتصريفِ الرياحِ ، ومَجْرَى الشمسِ والقمرِ والنجومِ ، .........

قبيل أن يقال: ما بين «أ» و«ب» أقلّ من ذراع، وكذا ما بين «أ» و«ج» فإنّه يلزم منه أنّه إذا اُخذ «ج» مع الواقع بينه وبين «أ» لم يزد على الأقلّ من ذراع إلّا بالطرف الذي هو «ج» وهو حكم صحيح. وفيه نظر؛ لأنّ الحكم في هذه الصورة بيّن بخلاف الصورة المبحوث عنها؛ إذ لا يلزم من تناهي كلّ جزء من الأجزاء الواقعة بين النقطتين تناهي الكلّ؛ لأنّه غير واقع بين الطرفين أصلاً. وقيل (1) في جوابه: إنّ هذا البرهان حدسي، وصاحب القوّة الحدسيّة يعلم أنّ هناك واحدة من العلل هي مع الطرف يحيطان بما عداهما وإن لم تتعيّن تلك الواحدة عنده، ولم يمكن له الإشارة إليه على التعيين. واُورد عليه (2) أنّ الفطن اللبيب يعلم ما في هذا الاعتذار؛ فإنّ هذه المقدّمة - يعني وجوب توسّط الكلّ بين المبدأ وواحد - ليس أجلى من المطلوب حتّى يثبت به، أو ينبّه عليه بل يكاد يكون عينه؛ إذ لا معنى للانتهاء إلّا إحاطة النهاية به، وكيف يعتري الخفاء في هذا المطلب مع جلاء تلك المقدّمة؟!

الوجه الثاني (3)وهو ما أشار إليه عليه السلام بقوله: (مع ما أرى) وفي بعض النسخ بدله «على ما أرى» إلى قوله: «وغير ذلك» - استدلال بالعِلْويات وحركاتها المنتظمة المتّسقة، وبما يحدث بينها وبين


1- .قائله الإيجي في المواقف، ج 1، ص 458.
2- .المورد الدواني في رسالة إثبات الواجب القديمة (المطبوعة في رسائل سبع) ص 103. اقتبس المؤلّف هذا البرهان بهذه العبارات من هذه الرسالة.
3- .أي في البرهان على وجود الواجب بالذات، وتقدّم الوجه الأوّل في ص 280.

ص: 427

المسلك الأوّل في الاستدلال على وجوده تعالى بأحوال الجسم وأوصافه، وفيه طرق

الطريق الأوّل

السِفْليات، وانتظام الجميع نظما دالّاً على وحدة ناظمها ومدبّرها، على (1) أنّ لهذا العالم - المنتظِم المشاهَد من السماوات والأرضين وما فيهنّ وما بينهنّ - مقدِّرا ومُنشئا واجب الوجود بالذات، ينتظم النظام بتقديره، ويوجد الأشياء بإنشائه. فهو عليه السلام استدلّ على وجود الواجب بالذات هنا بأربع مسالك: الأوّل الاستدلال بأحوال الأجسام وأوصافه على وجوده تعالى. والثاني الاستدلال بوجود الحركة على وجوده تعالى. والثالث الاستدلال بحدوث الحوادث على وجوده تعالى. والرابع الاستدلال بانتظام أجزاء العالم واتّساقها وترتّب الحِكَم والمصالح التي لا تعدّ ولا تحصى عليه على وجوده تعالى، وبالحريّ أن نذكرها هاهنا مفصّلاً:

المسلك الأوّل في الاستدلال على وجوده تعالى بأحوال الجسم وأوصافه، وفيه طرقالطريق الأوّل على مذاق المشّائين وهو أنّ كلّ جسم مركّب من المادّة الاُولى والصورة الجسميّة، وبين الصورة والمادّة تلازم ومعيّة بالذات في مرتبة الوجود على ما حقّقهم كلّ ذلك في مظانّه، والمتلازمان يجب أن يكون أحدهما علّة للآخر، أو يكونا معلولي علّة ثالثة، فلا يكون بين الواجبات المتعدّدة على تقدير وجودها والاُمور الاتّفاقيّة تلازم أصلاً، والمادّة والصورة لمعيّتهما في مرتبة الوجود لا يكون أحداهما علّة للاُخرى، فلا بدّ أن تكونا معلولينن (2) لعلّة ثالثة، فكلّ منهما معلول ممكن، فالجسم المركّب منهما - لكونه محض الممكنات المعلولة - ممكن معلول، فعلّة الجسم إن كان جسما آخر، يتسلسل الأمر إلى غير النهاية، أو يدور وهما محالان، وإن كان أمرا آخر غير الجسم، ننقل الكلام إليه فإن كان


1- .متعلّقة بقوله: «استدلال».
2- .في النسخة: «أن يكونا معلولين».

ص: 428

الطريق الثاني

واجبا بالذات ثبت المطلوب، وإن كان ممكنا ينتهي إلى الواجب؛ لاستحالة الدور والتسلسل، بل نقول: كلّ واحد من الأجسام النوعيّة مركّب من المادّة والصورة، سواء قلنا بمادّة أبسط من الجسم، كما ذهب إليه المشّاؤون، (1) أم لا، كما هو مذهب الإشراقيين، وسواء اعترفنا بالصور الجوهريّة المنوّعة لمحلّها، أو لم نعترف، فإنّه لا بدّ من وجود هيئات واُمور زائدة على الأجسام، بها امتازت الأجسام، والمجموع المركّب من الجسم من حيث هو جسم ومن تلك الاُمور المميّزة هو الجسم النوعي، فكلّ جسم نوعي مركّب منهما، فنقول: لا يمكن تحقّق الجسميّة المطلقة؛ أعني الجسم من حيث هو جسم، في مرتبة من مراتب الوجود بدون تلك الصور والهيئات؛ ضرورة امتناع تحقّق المبهم على إبهامه في الخارج في مرتبة من المراتب. وكذا لا يمكن تحقّق الصور والهيئات بدون الجسم المطلق، التي هي محلّها؛ لقيامها بها، بل لو تحقّقت الصور والهيئات بدون الجسميّة في مرتبة من المراتب، لزم صيرورة المجرّد مادّيا، وهو محال على ما حقّق في موضعه، فبين الجسم من حيث هو جسم - وهو المسمّى بالمادّة الثانية عند المشّائين، والمادّة الاُولى عند الإشراقيين - وتلك الهيئات والصور تلازم ومعيّة بالذات في مرتبة الوجود، والمتلازمان كما مرّ آنفا يجب أن يكون أحدهما علّة للآخر، أو يكونا معلولي علّة ثالثة، أو علل متلازمة، وذلك يرجع بالأخرة إلى الثاني، ولا يكون بين الواجبين والأمرين الاتّفاقيين تلازم أصلاً؛ لما بيّن في موضعه. ولا يمكن أن يكون الجسميّة المطلقة علّة لتلك الصور والهيئات. أمّا أوّلاً فلكونها معها في مرتبة الوجود على ما مرّ، وأمّا ثانيا فلأنّ الجسم من حيث هو جسم مشترك بين الأجسام، متشابه فيها، والصور والهيئات اُمور مختلفة متباينة ولا يصدر من العلل المتشابهة الاُمور المختلفة المتباينة بالضرورة. ولا يمكن أيضا أن يكون الصور والهيئات علّة للجسم من حيث هو جسم. أمّا أوّلاً


1- .في النسخة: «المشّائين».

ص: 429

الطريق الثالث

فلكونهما معا في الوجود على ما مرّ آنفا، وأمّا ثانيا فلأنّ الصور والهيئات اُمور مختلفة متباينة لا يمكن أن يكون علّة لأمر واحد متشابه على ما بيّن في موضعه. وإذا لم يكن كلّ (1) من الجسميّة المطلقة والصور والهيئات اللازمة علّةً للآخر، فلا بدّ أن يكونا معلولي علّة ثالثة، فيكون الأجسام النوعيّة ممكنا معلولاً بالضرورة. وكذا الحال في عوارضها؛ لاحتياجها في الوجود إليها، وننقل الكلام إلى علّتها، فيدور، أو يتسلسل، أو ينتهي إلى الواجب بالذات غير جسماني، والأوّلان محالان، فثبت الثالث؛ فتأمّل. [الطريق الثاني:] (2) كلّ جسم وجسماني له مهيّة كلّيّة؛ لاشتراك حقيقته بين أجزائه الوهميّة والفرضيّة، فإنّ كلّ جسماني منقسم على ما بيّن في موضعه ولو وهما وفرضا. والنقطة غير موجودة في الخارج على ما حقّق في محلّه، وما هو المشهور عند الجمهور فيه قصور، وما له مهيّة كلّيّة يمتنع أن يكون واجبا بالذات؛ لأنّ الواجب هو الموجود البحت، لا الشيء الموجود، ولو كان له مهيّة كلّيّة، لكان شيئا موجودا لا الموجود البحت، هذا خلف، فكلّ جسم وجسماني ممكن، وكلّ ممكن موجود لا بدّ له من علّة، فإن كانت علّته واجبا بالذات غير جسماني، ثبت المطلوب، وإلّا فننقل الكلام إليها حتّى ينتهي إلى الواجب بالذات الغير الجسماني؛ لاستحالة الدور والتسلسل. الطريق الثالث أيضا على مذهب المشّائين وهو أنّ كلّ جسم وجسماني إمّا متّصل بالذات، أو متّصل بالغير، والمتّصل بالغير يجب أن يكون له معيّة ذاتيّة في مرتبة الوجود بالمتّصل بالذات، أو يكون متأخّرا عنه في المرتبة بالضرورة، والمتّصل بالذات - وهو الصورة الجسميّة - مهيّته غير إنّيّته. أمّا أوّلاً فلكون الصورة الجسميّة مشتركة بين الأجسام كلّها على ما حقّق ذلك في محلّه، وأمّا ثانيا فلما قيل من أنّ المتّصل بذاته ذاتُه من حيث هي هي، وبمحض نفس ذاته مصداق للمتّصليّة والاتّصال، والمتّصليّة والاتّصال من لوازم


1- .في النسخة: «كلّاً».
2- .موضعه في النسخة بياض.

ص: 430

الطريق الرابع

القريبة لحقيقته ومهيّته، فإنّ ذاته بذاته ومن حيث هي هي مبدأ لانتزاع المتّصليّة والاتّصال، وما يكون نفس ذاته من حيث هي مبدأ لانتزاع المتّصليّة والاتّصال لا يكون نفس ذاته مبدأ لانتزاع الوجود والموجوديّة بالضرورة (1) ، وما يكون مهيّته إنّيته يجب أن يكون نفس ذاته من حيث هي مبدءً لانتزاع الوجود والموجوديّة، فالمتّصل بذاته مهيّته غير إنّيّته، وكلّ ما له مهيّة غير الإنّيّة فهو معلول كما مرّ بيانه، فالمتّصل بذاته معلول، فكذا ما هو معه بالذات في مرتبة الوجود، أو ما هو متأخّر عنه؛ أعني المتّصل بالغير، فكلّ جسم وجسماني معلول ممكن لا بدّ له من علّة، فإمّا أن يدور، أو يتسلسل، أو ينتهي إلى الواجب بالذات الغير الجسماني، والأوّلان محالان، فثبت الثالث وهو المطلوب. الطريق الرابع ما ذكره بعض المحقّقين بالفارسيّة على طريقة الإشراقيين آخذا بما ذكره صاحب الإشراق في إشراقه حيث قال: غواسق برزخيه را، يعنى اجسام، امرى چند لازم است كه مشخِّص ايشان است، مثل اَشكال و نهايات كه به آنها از يكديگر ممتاز مى شوند، و شكّ نيست كه علّت اين امور، نفس مهيّت جسمى نيست وإلّا اختلاف نبودى؛ چه مهيّت در همه افراد يكى است، و نه لازم مهيّت؛ چه همه در آن شريكند. و نمى تواند كه علّت هر يك از اين اُمور هويت آن شخص باشد؛ چه هويّت او را به واسطه اينهاست، پس اگر اينها به سبب هويت او باشند دور لازم آيد. و نمى تواند كه اختصاص هر جسمى به شكلى وهيئتى به سبب جسمى ديگر باشد؛ چه حدس صائب حاكم است به آنكه جسمى علّت هويت جسمى نيست، و ديگر آنكه اجسام متناهى است پس دور لازم آيد. و نمى تواند كه به واسطه هيولى باشد يا صورت نوعى؛ چه اينها بر اصول اشراقيان


1- .في هامش النسخة في هذه المواضع: فيه تأمّل؛ فتأمّل فيه (منه عفي عنه).

ص: 431

موجود نيستند، و بر تقدير وجود ايشان هيولى در عناصر مشترك است بشخصه و صورت بنوعه، پس مخصّص هيولى نمى تواند بود، و نوع صورت جسمى هم نتواند بود، و سخن در اشخاص صورت جسميه همان سخن در اشخاص اجسام است كه سبب اختصاص هر يك به آن اَشكال و هيئات چيست، وهكذا إلى الآخر. و نمى تواند كه عرض باشد - قائم به او يا به غير - از براى لزوم دور يا تسلسل. پس ثابت شد كه مخصّص هر جسمى به هيئتى نه جسم است و نه عارض او و نه اجزاى او بر تقدير وجود اجزاء، پس امرى خواهد بود نه جسم و جسمانى بلكه نور مجرّد، و اين نور مجرّد اگر مفتقر به غير نيست پس واجب الوجود ثابت باشد، و اگر مفتقر باشد هر آينه مفتقر به برازخ نخواهد بود چه اخسّ علّت اشرف نتواند بود، بلكه به نورى ديگر اشرف و انور از او مفتقر خواهد بود، و تسلسل باطل است پس منتهى شود به نورى كه مفتقر به غير نباشد و اشرف از آن نباشد كه آن نور الانوار است و نور اعظم و نور قيّوم و نور محيط و نور اعلى و نور قهّار و او غنى مطلق است و غير او همه به او مفتقر؛ چه هر چه غير او است پرتوى است از نور او يا پرتوى از پرتو نور او انتهى كلامه. ولا يخفى على اُولي النهى مواقع النظر فيه. وقال الشهرزوري في الشجرة الإلهيّة: الأجسام مشتركة في الجسميّة، فالامتياز بينها إنّما هو بالصفات، واختصاص بعضها ببعض الأجسام إن لم يكن لعلّة، كان ذلك الاختصاص بالبعض دون البعض ترجّحا (1) من غير مرجّح وذلك ممنوع (2) ، وإن كان الاختصاص لعلّة فإن


1- .في المصدر: «ترجيحا».
2- .في النسخة: «مم» . و في المصدر: «محال».

ص: 432

كانت العلّة نفس الجسميّة فلا تكون (1) تلك الصفة مختصّة بالبعض دون البعض الآخر، بل كانت الصفة التي بها الامتياز لازمةً لكلّ جسم، فلا تكون الصفة المميّزة مميّزة، هذا خلف. وإن كانت العلّة خارجة فإن كانت واجبة ثبت المطلوب، وإن كانت ممكنة، فلا بدّ من الانتهاء إلى علّة واجبة الوجود لذاتها (2) . انتهى. وفيه تأمّل كما لا يخفى. فالأولى أن يقال: الجسماني إمّا متّصل بالغير وهو مع المتّصل بالذات، أو متأخّر عنه، واختصاصه بمقدار معيّن تابع للمتّصل بالذات، وإمّا متّصل بالذات، ولا ريب أنّ طبيعة المتّصل بالذات يمكن تعدّد أنحاء وقوعاتها وحصولاتها، كما هو المشهور باختلاف مراتبها مدّا وبسطا، واختلاف أجزائها قلّة وكثرة على ما هو الحقّ عند الإشراقيين، أو باختلاف مقاديرها الخارجة عنها، كما هو مذهب المشّائين، فلا بدّ في وقوعه في كلّ مرّة بنحو خاصّ من المدّ والبسط، وقلّة الأجزاء وكثرتها، أو بحدّ معيّن من المقدار من مرجّح مقتضٍ لها، أو له (ظ) بخصوصه، أو بعينه، وإلّا يلزم ترجّح بلا مرجّح؛ ضرورة أنّه لا يمكن أن يكون طبيعة المتّصل بالذات مقتضيا لنحو خاصّ من تلك الأنحاء، أو حدّ معيّن من المقدار؛ إذ هي مشتركة بين الكلّ والجزء المختلفين في المدّ والبسط، أو في المقدار، وإذا كان كذلك يكون كلّ متّصل بذاته معلولاً ممكنا. وكذا المتّصل بالغير الذي هو معه، أو متأخّر عنه بالذات، فكلّ جسم وجسماني معلول، فعلّته إن كان مجرّدا واجبا بالذات فهو المطلوب، وإن كان جسما أو جسمانيا آخر، فننقل الكلام إليها حتّى ينتهي إلى مجرّد هو الواجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل. فإن قيل: إذا كان اختلاف وقوع المتّصل بالذات باختلاف مراتبه في المدّ والبسط ، وقلّة


1- .في النسخة: «فلا يكون». وكذا في المورد الآتي.
2- .الشجرة الإلهيّة، ج 3، ص 248، في الفنّ الثاني، الفصل الأوّل في إثبات واجب الوجود.

ص: 433

الأجزاء وكثرتها، يلزم أن يكون المتّصل بالذات معلولاً ممكنا كما ذكرت. وأمّا إذا كان باختلاف المقدار زيادة ونقصانا - على ما حرّرت من الاحتمال على ما هو المشهور - فلا يلزم إلّا معلوليّة المقدار لا المتّصل بذاته. نقول: مخصّص هذا المقدار المعيّن لا يكون طبيعة المتّصل بالذات على ما مرّ، ولا ما هو متّصل باتّصال هذا المتّصل بالذات، أو متقدّر بمقداره، وإلّا لكان متقدّما على ذلك الاتّصال والمقدار بالذات بالضرورة، فيلزم صيرورة المجرّد مادّيا على ما حقّق في موضعه وهو ممنوع. ولا يكون متّصلاً مغايرا لهذا المتّصل؛ لتناهي المتّصلات، فينتهي إلى المجرّد الواجب بالذات الذي هو المطلوب. على أنّ الحقّ عند الإشراقيين هو الاحتمال الأوّل، وهذا البرهان على طريقتهم؛ فلا تغفل. فإن قلت: لِمَ لا يجوز أن يكون المتّصل بالذات مختلفا بالكمال والنقص بحسب اختلافه في المدّ والبسط، ويكون بعض مراتبه الكاملة واجبا، فلا يلزم التسلسل، ولا الانتهاء إلى مجرّد واجب بالذات كما هو المطلوب؟ قلنا: لا يجوز ذلك؛ لما قيل من أنّ طبيعةَ المتّصل بذاته، المشتركة بين جميع أفراده المختلفة بالكمال والنقص إن كان لأنّه متّصل بالذات واجبا لازما أن يكون (1) في غاية الكمال، كان كلّ مرتبة من مراتب هذا المعنى كذلك، فلا يتعدّد ولا يختلف أصلاً؛ لأنّ لازم المعنى الواحد لا يتخلّف عنه قطعا، وإن لم يجب؛ لأنّه متّصل بالذات، وبمحضه أن يكون في غاية الكمال، يحتاج كونه في غاية الكمال أيضا إلى علّة بالضرورة، فلم يكن الكامل واجبا بالذات.


1- .خبر لقوله: «أنّ طبيعة المتّصل».

ص: 434

وفيه بحث؛ لأنّه قد عرفت أنّ هذا الدليل على طريقة الإشراقيين، وهذا الجواب وإن كان صحيحا في نفسه لكنّه مخالف لما قال صاحب الإشراق في إشراقه من أنّ الطبيعة المشتركة بين تلك المراتب معنىً كلّي موجود في الذهن، وليست بمشتركة في الخارج بينها، فإنّ ما في الخارج ليس مركّبا من أصل المهيّة وكمالها مثلاً بل تلك المهيّة والطبيعة تارة بنفسها كاملة، وتارة ناقصة من غير تميز في الخارج بين أصل المهيّة وكمالها، أو نقصها، فالمراتب المختلفة متباينة في الخارج، فإنّ ذات الكامل مباين لذات الناقص من غير أمر مشترك بينهما في الخارج، فيجوز أن تختلف تلك المراتب في اللوازم، والاشتباه إنّما نشأ من أخذ ما في الذهن مكان ما في الخارج، هذا ما ذكره صاحب الإشراق. و لي فيه نظر؛ لأنّ الحقّ الحقيق بالتصديق أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج، ففي الخارج أمر لو حصل في الذهن عرض له الكلّيّة المنطقيّة والاشتراك بين الكثيرين، فالأمر المشترك موجود في الخارج وإن كان ظرف عروض الاشتراك إنّما هو الذهن. ثمّ المعنى الواحد المختلف بالكمال والنقص ذاتي لأفراده ومراتبه المختلفة كما هو مذهب صاحب الإشراق وأتباعه على ما صرّحوا به، فيكون ذلك المعنى - وهو الطبيعة من حيث هي هي - على هذا التقدير موجودا في الخارج في ضمن كلّ مرتبة من مراتبه الكاملة والناقصة؛ لكونه ذاتيا لتلك المراتب. فنقول: ذلك المعنى وتلك الطبيعة المتحقّقة في ضمن كلّ فرد ومرتبة إن كانت مقتضية للكمال، يجب أن يكون في كلّ مرتبة وكلّ فرد كاملاً؛ لتحقّق المقتضي للكمال في الكلّ، وإن كانت مقتضية للنقص يجب أن يكون في الكلّ ناقصا؛ لما عرفت من تحقّق المقتضي للنقص في الكلّ، وإن لم يكن مقتضيا لشيء منهما، كان كلّ منهما لعلّة ومرجّح، وهو خلاف الفرض. اللّهمّ إلّا أن يفرق بين الذاتي إن كان متواطئا، وبينه إن كان مشكّكا، ويقال: على تقدير

ص: 435

التشكيك الطبيعة المشتركة لا تتحقّق (1) في الخارج؛ إذ ما به الاختلاف في المقول بالتشكيك من جنس ما به الاشتراك من غير امتياز بينهما في الخارج أصلاً، ففي الخارج تارة ليس إلّا الكامل، وتارة ليس إلّا الناقص، وليست في الخارج الطبيعة المطلقة المشتركة أصلاً، بخلاف ما إذا كان متواطئا؛ فإنّ ما به الاختلاف فيه ليس من جنس ما به الاشتراك، بل أمر خارج عنه، فيكون الطبيعة المطلقة فيه موجودة في الخارج، بخلاف الطبيعة المطلقة في المشكّك؛ فإنّه إنّما حصلت بمحض تعمّل العقل واختراعه كما ذهب إليه بعض الأفاضل. لكنّ الحقّ - كما ثبت وحقّق في موضعه - أنّ الذاتي لا يكون مقولاً بالتشكيك بالنظر إلى ما هو ذاتي له أصلاً. وبالجملة، فالجواب المذكور وإن كان حقّا في الواقع لكنّه غير مطابق لما ذكره صاحب الإشراق، فالأصوب أن يجاب عنه بما أقول وهو أنّه لا يتصوّر ذلك في المتّصل بذاته أصلاً؛ فإنّ كلّ مرتبة كاملة من المتّصل بذاته فرضت أنّها واجبة الوجود، فلا ريب في أنّه يتصوّر أكمل منها في المدّ والبسط، فهو أولى بأن يكون واجبا بالذات، فلا يتعيّن الواجب بالذات أصلاً، فإمّا أن يكون كلّ مرتبة من مراتبه واجبا بالذات، أو لا يكون شيء منها واجبا بالذات، والثاني هو المطلوب، والأوّل - مع أنّه باطل بالضرورة - مستلزم لعدم تناهي الأبعاد، ممتنع على ما بيّن في موضعه؛ فتدبّر. ويمكن تقرير هذا الدليل بعبارة اُخرى فنقول: الجسم والجسماني إمّا متّصل بالغير أو متّصل بالذات، والمتّصل بالذات لا يكون واجبا بذاته؛ فإنّ لكلّ متّصل بالذات بسطا وامتدادا ونظما خاصّا، فلو وجب وجوبا ذاتيا أن يكون طبيعة الواجب المتّصل بالذات بهذا البسط والامتداد الخاصّ لا أقلّ ولا أكثر، يلزم أن يكون كلّ جزء منه مثل الكلّ في هذا البسط، فيكون الجزء مساويا للكلّ، ولو لم يجب أن يكون الكلّ بهذا الامتداد والبسط


1- .في النسخة: «لا يتحقّق».

ص: 436

الطريق الخامس

الخاصّ، بل يكون ممكنا أن يكون وأن لا يكون، يحتاج في كونه على هذا البسط الخاصّ إلى علّة مغايرة لطبيعته، وإلّا لزم مساواة الكلّ والجزء، فيلزم إمكانه وكونه معلولاً لغيره، هذا خلف. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون هذا البسط واجبا إذا كان المتّصل بذاته مستقلّاً منفردا في الوجود؟ وأمّا حال كونه جزءا، فلا يكون واجبا. قلنا: إنّ طبيعة المتّصل بذاته إذا أمكن أن يكون منفردا وأن لا يكون، احتياج (1) كلّ منهما إلى علّة موجبة، فلم يكن واجبا. ولو قيل: إنّ طبيعة المتّصل بذاته حال الاستقلال مستلزم لبسط خاصّ. نقول: فلا بدّ أن يكون ذلك المتّصل بذاته متميّزا متعيّنا موجودا من غير هذا البسط ليكون مستلزما له، وذلك محال؛ ضرورة أنّ المتّصل في شيء من مراتب الوجود لا يمكن أن يتحقّق من غير بسط خاصّ. لا يقال: يحتمل أن يكون غير هذا البسط حال الاستقلال ممتنعا. لأنّا نقول: امتناع الغير لا يغنيه عن السبب؛ فإنّ كلّ ممكن يحتاج إلى علّة موجودة تخصّه بالوجود وتوجده (2) بخصوصه، وامتناع الغير لا يفيد وجود أمر بخصوصه، وإلّا لأمكن أن يوجد ممكن بلا علّة. وأمّا المتّصل بالغير فلكونه إمّا مع المتّصل بالذات، أو متأخّر عنه، والمتّصل بالذات ممكن لا يكون واجبا بالذات أيضا، وهو ظاهر بيّن، فالجسم والجسماني مطلقا لا يكون واجبا بالذات أصلاً، بل يكون ممكنا، فيحتاج إلى علّة مجرّدة واجبة بالذات، أو منتهية إليه؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهو المطلوب. الطريق الخامس: العالم الجسماني بجميع أجزائه ممكن العدم؛ لأنّ كلّ جسماني فهو إمّا


1- .في النسخة: «احتاج».
2- .في النسخة: «يخصّه بالوجود و يوجده».

ص: 437

متّصل بالذات، أو متّصل بالغير، وكلّ منهما ممكن العدم، أمّا المتّصل بالغير فلكونه مع المتّصل بالذات، أو متأخّرا عنه في الوجود، وإذا أمكن عدم المتّصل بالذات أمكن عدمه بالضرورة، وأمّا المتّصل بالذات فلأنّه في حدّ ذاته وبنفس ذاته نظرا إلى نفس ذاته من غير اعتبار غيره قابل للقسمة الوهميّة والفرضيّة بأن يفرض فيه شيء دون شيء، وكلّ قابل للقسمة الوهميّة والفرضيّة فهو بنفس ذاته من حيث هو من غير اعتبار أمر خارج عنه يمكن انفصال أجزائه الوهميّة والفرضيّة بعضها عن بعض ولو فطرة؛ لما بيّن في إبطال مذهب ذيمقراطيس (1) ، وإذا جاز انفصال أجزائه الوهميّة والفرضيّة بحسب الفطرة، فيمكن أن يكون كلّ منها موجودا برأسه في أصل الفطرة، فيكون عدم الكلّ بأن لا يوجد بكلّيّته ويوجد أجزاؤه الوهميّة والفرضيّة مستقلّة ممكنا بالضرورة، فالمتّصل بذاته يكون ممكن العدم قطعا. فإن قيل: إنّما يتمّ ذلك لو كان المتّصل بالذات متعدّدا وهو ممنوع لِمَ لا يجوز أن يكون المتّصل بالذات واحدا لا يتعدّد أصلاً، فيكون العالم الجسماني جسما واحدا مصوّرا بصور مختلفة؟ قلت: على هذا التقدير أيضا يمكن إثبات جواز انفصال أجزائه الوهميّة والفرضيّة بعضها عن بعض، بأنّا نقول: المتّصل بذاته الذي هو الكلّ لا يأبى بالنظر إلى نفس ذاته من حيث هو عن الاستقلال في الوجود، فكلّ من أجزائه الوهميّة والفرضيّة المتّحدة طبيعته مع طبيعة الكلّ لا يأبى بالنظر إلى نفس ذاته من حيث هو عن الاستقلال في الوجود أيضا، فيجوز انفصال تلك الأجزاء بعضها عن بعض بحسب الفطرة، فيجوز عدم الكلّ بأن لا يوجد أصلاً، ويوجد أجزاؤه الوهميّة والفرضيّة. على أنّه على هذا التقدير لا شكّ في وقوع الانفصال بين أجزاء ذلك المتّصل الواحد،


1- .أشار إلى إبطال مذهبه في ص 277.

ص: 438

الطريق السادس

وهو مستلزم لانعدامه وإمكان عدمه بالضرورة، ولا يمكن أن يكون الانفصال فطريا، وإلّا يلزم خلاف المفروض في وحدة المتّصل بالذات، وهو ظاهر. فظهر وتبيّن أنّ المتّصل بالذات ممكن العدم قطعا، وكذا المتّصل بالغير، والجسماني منحصر فيهما، فالعالم الجسماني بجميع أجزائه من المادّة والصورة الجسميّة والنوعيّة والجسم والأعراض ممكن بالذات يحتاج إلى علّة غير جسماني واجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهو المطلوب. الطريق السادس: العالم الجسماني إمّا أن يكون أجساما متكثّرة مختلفة الذوات، أو جسما واحدا مصوّرا بصور مختلفة، فإن كان جسما واحدا مصوّرا بصور مختلفة يكون ممكنا بالذات؛ فإنّه لا ريب في وقوع الانفصال الخارجي بين أجزاء ذلك البُعد المتّصل، أي ذلك الجسم الواحد، ولا يمكن على هذا التقدير أن يكون الانفصال واقعا في أصل الفطرة، وإلّا يلزم خلاف المفروض من وحدة الجسم والبعد الجوهري المتّصل بالذات؛ لأنّه حينئذٍ يكون البعد والجسم متعدّدا لا محالة لا واحدا، وهو ظاهر، فالانفصال الخارجي طارٍ على هذا البعد والجسم المتّصل بالذات، فيعدم بالضرورة عند طريان الانفصال على ما هو المشهور، فيكون ممكنا بالذات، محتاجا إلى علّة وموجد بالضرورة، فعلّته وموجده لا يكون جسما آخر، وهو ظاهر؛ لعدمه فرضا، ولا جسمانيا؛ لأنّ كلّ جسماني إمّا متأخّر بالذات عن الجسم المفروض أو معه معيّةً بالذات، والمعلول والمتأخّر لا يكون علّة للمعلول الآخر وللمتقدّم بالضرورة، وأيضا الجسم والجسماني لا يكون علّة للجسم الآخر كما سيجيء آنفا، فعلّته وموجده مجرّد فإن كان واجبا ثبت المطلوب، وإن كان ممكنا ينتهي إلى الواجب المجرّد، وإن كان أجساما متعدّدة متكثّرة مختلفة الذوات، يكون بين ذوات تلك الأجسام تلازم، وإلّا لزم الخلأ على ما حقّق في مظانّه، والمتلازمان يجب أن يكون أحدهما علّة للآخر، أو يكونا معلولين لعلّة ثالثة، أو علل متلازمة بالضرورة، والأجسام لا يكون بعضها علّة لبعض؛ إذ أثر الجسم والقوّة الجسميّة يجب أن يكون حاصلاً في بُعدٍ

ص: 439

وجسمٍ له نسبة وضعيّة إلى ذلك الجسم المؤثّر، وتلك القوّة المؤثّرة تحصّل ذلك الأثر لأجل تلك النسبة الوضعيّة على ما حقّق في موضعه، فتلك الأجسام المتعدّدة المتكثّرة معلولة لعلّة واحدة مجرّدة بشروط متكثّرة، أو علل متلازمة مجرّدة، وحينئذٍ يجب الاستناد إلى المجرّد الواجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهو المطلوب. الطريق السابع: الصور الجسميّة - وهي البعد الجوهري المتّصل بالذات - قد ينعدم (1) من مادّة، ويحدث فيها صورة اُخرى، وبُعد آخر على ما صرّح به القوم في صورة انقلاب العناصر بعضها إلى بعض، وذلك الانعدام والحدوث هو التخلخل والتكاثف الحقيقيان عندهم. قال الشيخ في تعليقاته: الصورة الجسميّة - التي هي الاتّصال تبطل (2) مع بطلان الصورة المقترنة بها المقيمة إيّاها (3) - موجودة بالفعل كالنار مثلاً فإنّ الصورة الجسميّة التي في هيولاها المقترنة بالصورة الناريّة إذا بطلت صورة النار وحدثت صورة الهواء تبطل الصورة الجسميّة معها، وتحدث صورة جسميّة اُخرى مع حدوث الصورة الهوائيّة. والدليل على ذلك أنّ الأبعاد التي هي الاتّصالات نفسها، أو أشياء تعرض للاتّصالات تتغير وتبطل بالتكاثف والتخلخل، فإنّه (4) إذا تخلخلت بالصورة الناريّة تلك الهيولى القابلة للاتّصال، كان الاتّصال غير الاتّصال الذي كان عندما كانت قابلة للهوائيّة، فإنّها امتدّت وتزايدت في الأقطار، فإذا (5) تكاثفت الهيولى بطلت تلك الصورة الناريّة وصورة الاتّصال معها، وحدثت الصورة (6) الهوائيّة مثلاً، واتّصال آخر يكون الصورة الجسميّة، فيجتمع الهيولى وتتكاثف وتتقلّص أقطارها، فتغيّر الأبعاد دليل على بطلان الاتّصال الذي هو الصورة الجسميّة،


1- .التذكير باعتبار «البُعد».
2- .في النسخة: «يبطل».
3- .أي الصورة الجسميّة.
4- .في المصدر: «فإنّها».
5- .في المصدر: «وإذا».
6- .في النسخة: «صورة».

ص: 440

وعلى حدوث اتّصال آخر (1) . هذا كلامه. وهو صريح في أنّ مجرّد تغيّر الأبعاد يستلزم بطلان الاتّصال والصورة الجسميّة فحيثما يتغيّر الأبعاد، يلزم زوال الصورة الجسميّة والاتّصال، سواء كان تغيّر الأبعاد بزوال الصورة النوعيّة، أو بأمر آخر كالبرد المفرط مثلاً. والفرقُ بين الصورتين في ذلك تحكّمٌ. فلعلّ الحقّ أنّ التخلخل والتكاثف مطلقا يستلزم زوال صورة الجسميّة والاتّصال وإن كان في ذلك التعميم إشكال. وبعد ذلك نقول: الصورة الجسميّة الحادثة المتجدّدة، بل المنعدمة أيضا في صورتي التخلخل والتكاثف الحقيقيين على ما هو المشهور وعلى زعم الشيخ، وفي التخلخل والتكاثف مطلقا على ما هو الأظهر ممكنةٌ لحدوث إحداهما، وانعدام الاُخرى، فيحتاج وجودهما إلى فاعل وعلّة، وعلّتها الفاعليّة الموجدة ليست أمرا جسمانيا؛ لما بيّن في موضعه على ما مرّ من أنّ الأمر الجسماني مطلقا لا يمكن أن يكون علّة لبعد جوهري وصورة جسميّة، فعلّتها الفاعليّة مجرّد هو الواجب بالذات، أو منتهية إليه، وهو المطلوب. الطريق الثامن: العالم الجسماني بجميع أجزائه إن كان حادثا زمانيا - كما هو مذهب جمهور الملّيين - يحتاج بالضرورة إلى محدث غير جسماني واجب بالذات، أو منتهٍ إليه، وإن كان ببعض أجزائه قديما - كالأفلاك والكواكب المركوزة فيها ويكون علّة فاعليّة للاُمور الكائنة الفاسدة بحركاتها وأوضاعها كما هو المنقول عن الدهريّة - فنقول: تلك الاُمور الكائنة الفاسدة غير متناهية بالضرورة على هذا التقدير، وكذا حركات الأفلاك وأوضاعها، وقد بيّن في موضعه أنّ الأمر الجسماني لا يكون علّة للاُمور الغير المتناهية عدّة ومدّة، فلا بدّ من وجود مجرّد فإن كان واجبا بالذات فهو المطلوب، وإلّا ينتهي إلى مجرّد واجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل.


1- .التعليقات، ص 71.

ص: 441

المسلك الثاني في الاستدلال بوجود الحركة على وجود الواجب بالذات

المسلك الثالث في الاستدلال بحدوث الحوادث على وجوده تعالى وفيه طريقان

.........

المسلك الثاني في الاستدلال بوجود الحركة على وجود الواجب بالذاتوهو أنّ علّة الحركة ليست نفس الجسميّة، وإلّا لدامت بدوامها، وكان كلّ جسم متحرّكا، وتكون الحركات متّفقة غير مختلفة؛ لاتّفاق الأجسام في الجسميّة وتشابه المعلول عند تشابه العلّة، فيجب أن يكون للحركة علّيّة غير الجسميّة، وتلك العلّة إن كانت جسمانيّة غير منتهية إلى مجرّد يلزم التسلسل؛ لإمكان كلّ جسماني كما مرّ بيانه، وإن كانت منتهية إلى مجرّد فهو إمّا واجب بالذات، أو منتهٍ (1) إليه، وهو المطلوب.

المسلك الثالث في الاستدلال بحدوث الحوادث على وجوده تعالىوفيه طريقان: الأوّل طريقة المتكلّمين وهي أن يقال: لا شكّ في تحقّق بعض الحوادث وهو بيّن بديهيّ، وكلّ حادث يحتاج إلى علّة بالضرورة، فعلّته إن كانت بجميع أجزائها حادثا نقلنا الكلام إليها حتّى يلزم ترتّب اُمور غير متناهية مجتمعة، وهو ممتنع محال، وإن كانت ببعض أجزائها قديمة فذلك القديم إمّا واجب، أو ينتهي إلى الواجب بالذات، وهو المطلوب. الثاني طريقة الحكماء وهي أن يقال: إنّ علّة الحادث بجميع أجزائها وتمامها ليست بقديمة، وإلّا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وهو محال، فهي ببعض أجزائها حادثة بالضرورة، وننقل الكلام إليه حتّى يذهب الأمر إلى غير النهاية، وقد ثبت أنّ اجتماع الاُمور المترتّبة الغير المتناهية محال، فلا بدّ من ترتّب اُمور متعاقبة غير مجتمعة غير متناهية. وذلك يتصوّر بصورتين: إحداهما (2) : أن يكون تلك الاُمور متباينة في الوجود، ويكون


1- .في النسخة: «منتهي».
2- .في النسخة: «أحدهما».

ص: 442

السابق منها علّة للّاحق، وهو محال على ما حقّق في موضعه. وثانيتها (1) : أن لا يكون تلك الاُمور متباينة في الوجود، بل تكون (2) مع تعاقبها متّصلة، فيكون أمرا غير قارٍ وهو الحركة التي قيل في شأنها: لولا الحركة ما يصحّ صدور الحادث عن القديم. وتلك الحركة غير متناهية بالضرورة، وهي ممكنة؛ لامتناع أن يكون الأمر الغير القارّ، واجبا بالذات، فلها علّة، وعلّتها لا تكون (3) قوّة جسميّة؛ لامتناع صدور الأمر الغير المتناهي عن القوّة الجسميّة على ما بيّن ذلك في الحكمة، فعلّتها أمر مجرّد، فهو إمّا واجب بالذات، أو منتهٍ إليه وهو المطلوب. ثمّ نزيد ونقول على طريقة الحكماء: إنّا نجد ونشاهد حوادث مختلفة متفنّنة (ظ) غير متشابهة، والأمر التدريجي - الذي هو واسطة صدور الحادث عن القديم - واحد بسيط متشابه، فلا يصدر عن ذلك الأمر وحده تلك الاُمور المختلفة الغير المتشابهة، فلا بدّ من اُمور مختلفة كثيرة قديمة، بل حركات مختلفة قديمة سرمديّة بتلك الحركات المختلفة يحصل أوضاع مختلفة بين أجسام مختلفة ليصوّر حدوث حوادث مختلفة غير متشابهة. وبالجملة، ثبت ولزم وجود أربعة أصناف مختلفة: الأوّل: حركات مختلفة قديمة. الثاني: أجسام مختلفة قديمة بأوضاعها المختلفة يحدث الحوادث المختلفة. الثالث: علل تلك الأجسام المختلفة السرمديّة لكونها اُمورا ممكنة. الرابع: علل تلك الحركات المختلفة السرمديّة لكونها أيضا ممكنة، وعلل تلك الحركات المختلفة لا بدّ أن تكون (4) اُمورا مجرّدة؛ لما مرّ 5 من أنّ القوّة الجسمانيّة لا يصدر عنها أمر غير متناهٍ مدّة وعدّة، وكذا علل تلك الأجسام المختلفة السرمديّة أيضا اُمور مختلفة


1- .في النسخة: «ثانيهما».
2- .في النسخة: «يكون».
3- .في النسخة: «لا يكون».
4- .مرّ في السطور السابقة.

ص: 443

مجرّدة، أو منتهية إلى الاُمور المجرّدة. أمّا أوّلاً فلما مرّ من الوجوه الوجيهة الدالّة على أنّ كلّ جسماني ممكن، فلو لم تنته تلك العلل إلى الاُمور المجرّدة، يلزم التسلسل وهو محال. وأمّا ثانيا فلأنّ تلك الأجسام كلّها سرمديّة، فلو كانت عللها قوّة جسمانيّة، يلزم أن يصدر عن الجسماني أثر في زمان غير متناهٍ وهو محال على ما بيّن في موضعه. فإن قيل: الدليل الدالّ على أنّ القوّة الجسمانيّة لا يصدر عنها (1) أثر في زمان غير متناهٍ إنّما يتمّ إذا كان التأثير زمانيا، وأمّا إذا لم يكن كذلك، فلا فائدة ولا أثر لمضيّ المدّة وامتداد الزمان، بل كلّ من تأثير الكلّ والجزء المفروضين في الدليل المذكور ليس في زمان، وإذا لم يكن شيء من تأثيرهما زمانيا لم يلزم نقصان في تأثير الجزء، بل الزمان ظرف والتأثير ليس بحسبه، فيحتمل أن يكون الزمان الغير المتناهي ظرفا للتأثيرين، كما أنّ زمان واحد يكون ظرفا لتأثيرات مختلفة من مؤثّرات مختلفة، بل ظرفيّة الزمان فيما نحن فيه أيضا ممنوعة؛ لأنّ الزمان ليس ظرفا لجسم أصلاً. قلت: يكفي في اتّصاف التأثير بالنقصان وعدمه والقلّة والكثرة كون التأثير مع الزمان في الوجود مستمرّا مع استمراره، ولا يلزم أن يكون التأثير بحسب الزمان بل ولا كون الزمان ظرفا له أيضا؛ فإنّ الحقّ أنّ ما هو غير زماني يتّصف أيضا بالدوام وعدم الدوام والتناهي وعدمه. قال المحقّق الشهرزوري في كتابه المسمّى بالشجرة الإلهيّة: نسبة الاُمور الثابتة إلى المتغيّرات التي هي الزمان هو الدهر، ونسبة الاُمور الثابتة إلى الثابتة هو السرمد، والسرمد في اُفق الدهر، والدهر في اُفق الزمان الذي هو معلول (2) الدهر الذي هو معلول 3 السرمد؛ لأنّه لولا دوام نسبة المجرّدات بعضها إلى بعض، وإلى مبدئها ما تصوّر وجود الأجسام ولا حركاتها، وكذلك لولا دوام نسبة الزمان إلى مبدئه ما أمكن وجود الزمان، فالسرمد علّة للدهر، والدهر علّة


1- .في النسخة: «عنه».
2- .في المصدر: «كمعلول».

ص: 444

المسلك الرابع في الاستدلال بانتظام أجزاء العالم واتّساقها وترتّب الحِكَم والمصالح على وجوده تعالى

للزمان. ودوام الوجود في الماضي يسمّى الأزل، وفي المستقبل (1) الأبد، والدوام المطلق يعمّ الدهر والسرمد والزمان (2) . هذا كلامه وهو صريح كما ذكرنا في أنّ الاُمور الثابتة تتّصف (3) بالدوام مع قطع النظر عن الزمان، ولا يخفى على اُولي النهى أنّها إذا اتّصفت بالدوام وعدمه يجري فيها القلّة والكثرة، والزيادة والنقصان، فيتمّ الدليل المذكور، فثبت بما ذكرنا مجرّدات كثيرة تكون (4) علّة لتلك الأجسام المختلفة والحركات المتباينة. قالوا: وضرب من الحدس والتجربة والمشاهدة يدلّ على أنّ تلك الأجسام المختلفة هي الأفلاك التسعة بحركاتها والكواكب المركوزة فيها، وفيه ما فيه. وبعد ذلك نقول: لو كان واحد من تلك المجرّدات هو الواجب بالذات ثبت المطلوب، وإلّا ينتهي إليه بالضرورة.

المسلك الرابع في الاستدلال بانتظام أجزاء العالم واتّساقها وترتّب الحِكَم والمصالح التي لا تعدّ ولا تحصى عليه على (5) وجوده تعالىوهو أنّ من تأمّل وتدبّر في العالم المحسوس بأجزائه من الأرض والسماء وغيرهما علم أنّ وقوع كلّ منها بهذا النحو والوجه الخاصّ يشتمل على منافع ومصالح وحِكَم وغايات لا تعدّ ولا تحصى (6) ، وقد فصّل ذلك في مظانّها، والفطن الخبير يعلم من اشتمال كلّ منها على تلك المصالح والمنافع والحكم والغايات أنّ وقوعه بهذا النحو الخاصّ والوجه المخصوص من بين سائر الأنحاء التي يمكن أن يقع هو عليها بحيث يؤدّي إلى تلك


1- .في المصدر: + «يسمّى».
2- .الشجرة الإلهيّة، ج 2، ص 194، القسم الأوّل في الاُمور العامّة لجميع الأجسام، الفصل العاشر في الزمان وأحواله.
3- .في النسخة: «يتّصف».
4- .في النسخة: «يكون».
5- .متعلّقة بقوله: «الاستدلال».
6- .في النسخة: «لا يعدّ ولا يحصى».

ص: 445

المصالح والحكم دون نحو ووجه آخر لا يؤدّي إليها ليس إلّا لأجل تلك المصالح والغايات بالضرورة، ولم يبق له ريب وشكّ في أنّ وجود كلّ منها بهذا النحو المخصوص معلّل (1) بتلك الحِكَم والمصالح، وأنّ وقوعه على هذا الوجه المخصوص - مع أنّه يمكن أن لا يقع على هذا الوجه - ليس إلّا لهذه الغايات، وليس ترتّب تلك الغايات عليه باتّفاقي محض، ومَن توقّف في هذا الحكم فقد خرج عن الفطرة الإنسانيّة. قال المعلم الأوّل: إنّ النظام البديع - الذي توجد لأجزاء العالم بعضها مع بعض - يدلّ على أنّ العالم ليس وجوده بالاتّفاق والبخت (2) . وقد قال الشيخ في الشفاء: من تأمّل منافع أعضاء الحيوان وأجزاء النبات لم يبق له شكّ في أنّ الاُمور الطبيعيّة لغاية 3 . وكذلك نحن نقول: من تأمّل منافع أجزاء العالم ومصالحها وغاياتها، لم يبق له ريب في أنّها لهذه الغايات والحِكَم والمصالح. ثمّ لا ريب في أنّه لو لم يكن تلك المصالح والمنافع والحِكَم مقتضية لوجوده بهذا النحو والوجه المخصوص، لما حكم العقل بأنّ وجوده بهذا الوجه الخاصّ لأجلها ومعلّل بها أصلاً. قال المحقّق الطوسي في شرحه للإشارات: استناد الأفعال الطبيعيّة إلى غاياتها الواجبة مع القول بالعناية الإلهيّة على الوجه


1- .في النسخة: «معلّل».
2- .اُثولوجيا، ص 127.

ص: 446

المذكور كافٍ في إثبات إنّيّة تلك الأفعال، ولذلك يعلّلون الأفعال بغاياتها كتعريض بعض الأسنان مثلاً لصلاحية المضغ التي هي غايتها، فلولا كون تلك الغاية مقتضية لوجود الفعل، لما صحّ التعليل بها (1) . هذا كلامه وهو نصّ فيما ذكرناه من أنّه لو لم يكن تلك المصالح والمنافع والحِكَم مقتضية لوجود كلّ من أجزاء العالم بهذا النحو الخاصّ لم يمكن التعليل بها أصلاً. ثمّ لا يخفى على اُولي النهى أنّ تلك المنافع والمصالح والحِكَم ما لم تكن (2) موجودة بنحو من أنحاء الوجود لم تكن مقتضية لوجود هذه الأجزاء بهذه الأنحاء؛ ضرورة أنّ المعدوم المطلق لا يقتضي شيئا، وليس لها قبل وجوده العيني وجود في الخارج بديهة، فلا بدّ أن تكون (3) موجودة بالوجود العلمي، فتصير تلك الحِكَم والمصالح بماهيّاتها على ما هو شأن العلل الغائيّة موجبا (4) لصدور كلّ واحد منها بهذا النحو الخاصّ عن فاعله وموجده، فلا بدّ للعالم بجميع أجزائه من موجد حكيم عليم بهذه الحكم والمصالح، خبيرٍ بصير بهذه المنافع، قديرٍ على مراعاتها، وهو الإله المدبّر للعالم، فإن كان ذلك المدبّر واجب الوجود بالذات فهو المطلوب، وإلّا فهو ممكن محتاج إلى علّة ومدبّر آخر، وننقل الكلام إلى علّته ومدبّره حتّى ينتهي إلى الإله المدبّر للعالم بجميع أجزائه الواجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون مراعي تلك المصالح والمنافع الطبيعةَ كما هو زعم بعض الطبيعيين؟ قلت: ذلك باطل من جهتين: أمّا أوّلاً فلما مرّ أنّ الطبيعة ممكنة محتاجة إلى علّة ومدبّر، والكلام إنّما هو في مدبّر الكلّ الواجب بالذات.


1- .شرح الإشارات، ج 3، ص 374.
2- .في النسخة: «لم يكن» . وكذا في المورد الآتي.
3- .في النسخة: «أن يكون».
4- .الظاهر : «موجبةً».

ص: 447

وأمّا ثانيا فلأنّ الكلام ليس في مصالح الأفعال (1) الصادرة عن تلك الأجزاء حتّى يمكن أن يقال: مراعي تلك المصالح إنّما هو طبائعها، بل الكلام في وجودها ووقوعها بالأنحاء الخاصّة ، والوجوه المخصوصة التي من جملتها كونها ذا طبائع خاصّة مخصوصة. والحاصل أنّ وقوعها بهذه الطبائع المخصوصة مثلاً بحيث يترتّب عليها (2) تلك الحِكَم والمصالح يدلّ على أنّ وجودها بهذه الوجوه المخصوصة - التي من جملتها كونها ذا طبائع خاصّة - معلّلة بتلك الحِكَم والمصالح، فلا بدّ لها بالضرورة من فاعل مراعٍ لتلك الحِكَم غير طبائعها وهو ظاهر، وغير طبيعة الكلّ بما هو كلّ أيضا، كيف لا، وطبيعة الكلّ بما هو كلّ إمّا متأخّرة عن وجود الأجزاء بهذه الوجوه المخصوصة، أو هي معها، وعلى كلا التقديرين لا يمكن أن تكون مراعيا (3) لمصالح وجود الأجزاء أصلاً على ما لا يخفى على اُولي النهى؛ فافهم (4) . فإن قلت: إنّ طبيعة الكلّ متأخّرة عن وجود موادّ الأجزاء، أو معها لكن لا نسلّم أنّها متأخّرة عن طبيعة الأجزاء، أو معها في الوجود، لِمَ لا يجوز أن يكون مصدر طبيعة الأجزاء طبيعة الكلّ بما هو كلّ، فيكون مراعيا لتلك الحِكَم والمصالح التي اشتملت عليها الأجزاء لصدور الطبائع (5) الجزئيّة التي يترتّب عليها تلك الحِكَم والمصالح في الحقيقة منها، فإنّ الطبيعة الكلّيّة في عرفهم قوّة سارية في الأجسام الطبيعيّة السِفْليّة والأجرام العِلْويّة، فاعلة لصورها المنطبعة في موادّها الهيولانيّة على ما صرّح به بعض المحقّقين.


1- .في النسخة: «أفعال».
2- .أي على الطبائع.
3- .الأولى: «مراعية».
4- .في هامش النسخة: بيان ذلك أنّ الطبيعة - سواء كانت كلّيّة أو جزئيّة - لكونها قوّة جسمانيّة تكون مع المتّصل بالذات، أو مؤخّرة عنه، وإلّا يلزم صيرورة المجرّد ماديّا ، وهو ممنوع على ما حقّق في مظانّه و... على التقدير الثاني ظاهر، وكذا على التقدير الأوّل؛ لأنّ كلّ أمر يكون مع الآخر معيّة بالذات يكون ممكنا؛ لامتناع المعيّة بين الواجبين، وبين الواجب والممكن على ما حقّق في موضعه؛ فتدبّر (منه عفي عنه).
5- .في النسخة: «طبائع».

ص: 448

قلت: الطبيعة الكلّيّة - كما سلّمت - قوّة سارية حالّة في الأجسام كلّها، وهي على ما صرّحوا به عديمة الشعور، فلا يكون مراعيا (1) لحكمة ومصلحة أصلاً، ولو سلّم أنّها ذو (2) شعور ضعيف - كما هو الحقّ وصرّح به بعضهم - فلا ريب في أنّها قوّة جسمانيّة لا يمكن أن تكون (3) عالمة بالكلّيات قطعا، فكيف يكون مراعيا (4) لأمثال تلك الحِكَم والمصالح الجزيلة العظيمة التي تقتضي مراعاتها إدراك الكلّيات قطعا بالضرورة، فمن قال: إنّها فاعلة لصورها المنطبعة لعلّه أراد أنّها واسطةٌ في صدور الصور المنطبعة التي للأجسام العلويّة والسفليّة عن فاعلها، وشرطٌ لصدورها عنها، لا أنّها فاعلة لهم بالحقيقة. فإن قلت: ملخّص هذا الاستدلال أنّ ملاحظة أجزاء العالم على الوجوه والأنحاء الواقعة يدلّ على أنّها معلّلة بحِكَم ومصالح لا تحصى، فيكون معلولاً ومفعولاً لفاعل فعلها لأجل تلك الحِكَم والمصالح، ومن ذلك يلزم أن يكون أفعال الواجب الحقّ معلّلة بالعلل الغائيّة، والأغراض وهو خلاف ما ذهب إليه أكثر الحكماء والمتكلّمين والصوفيّة، كيف، ولو كان كذلك يلزم استكماله تعالى بالغير، وكون الغير مؤثّرا في ذاته على ما بيّن في موضعه، وكلّ منهما محال. قلت: غاية ما يلزم من ذلك أن يكون علمه تعالى بتلك الحِكَم والمصالح سببا لتلك الأفعال، ولا يلزم منه - على ما قال المحقّق الدواني رحمه الله في شرح رباعيّاته - إلّا توقّف فاعليّته تعالى - التي هي صفته الإضافيّة - على علمه الذي هو صفته الذاتيّة، ولا يلزم منه كونه مستكملاً بالغير، ولا منفعلاً عنه، ومخالفة الجمهور إذا أدّى إليها قاطع البرهان لا محذور فيها. والأولى عندي أن يقال: العلّة الغائيّة الأوّليّة لأفعاله تعالى إنّما هي ذاته المقدّسة، فإنّه إنّما يفعل ما يفعل لأجل ذاته إمّا لكونه محبّا لذاته فيحبّ آثاره وأفعاله، وإمّا لأنّه يحبّ أن


1- .الأولى: «فلا تكون مراعية».
2- .في النسخة: «ذي». و لعلّ الأولى: «ذات».
3- .في النسخة: «يكون».
4- .الأولى: «يكون مراعية».

ص: 449

يُعرف ذاته، فخلق الخلق ليُعرف على ما دلّ عليه الحديث القدسي وهو قوله تعالى: كُنْتُ كَنْزا مَخْفِيّا فَأَحْبَبْتُ أَنْ اُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الخَلْقَ لِاُعْرَفَ 1 . انتهى. ولا يمتنع أن يكون تلك الأفعالُ - التي فعلها لأجل ذاته المقدّسة بالقصد الأوّل وبالذات - معلّلة باُمور اُخرى بالقصد الثاني وبالتبع، وذلك كما إذا أراد أحد منّا أن يسافر إلى بلد ليحصّل العلم، ولا يمكن له الوصول إلى ذلك البلد إلّا بمركوب فاشترى للوصول إليه مركوبا يوصله إليه، فيكون اشتراء ذلك المركوب معلّلةً أوّلاً وبالذات بتحصيل العلم وهو الباعث على ذلك حقيقة، ومعلّلةً ثانيا وبالتبع بالوصول إلى البلد، وحينئذٍ لو قيل: إنّ اشتراء هذا المركوب لأجل تحصيل العلم لصحّ، ولو قيل: لأجل الوصول إلى البلد لصحّ، كلّ بوجه وجيه. فعلى هذا لا يبعد أن يقال: إنّ الواجب الحقّ - تعالى شأنه - أوجد العالم بتمامه لأجل ذاته المقدّسة بأحد الوجهين المذكورين، ولمّا لم يكن انتظام العالم ونظامه إلّا على هذا النحو الواقع من إيجاد كلّ واحد من أجزائه على وجه خاصّ ونحو مخصوص، أوجد كلّ واحد منها لا محالة على هذا الوجه الواقع هو عليه لأجل مصالح العالم ومنافعه، فما هو الباعث

ص: 450

حقيقة لإيجاد أجزاء العالم على الوجوه المخصوصة ليس إلّا ذاته المقدّسة، وحصول تلك المصالح والمنافع إنّما هو الباعث الثانوي، فهو ما لأجله الفعل ثانيا وبالتبع، فلا يلزم استكماله تعالى بالغير؛ إذ الاستكمال لو لزم فإنّما يلزم بما يكون الفعل لأجله أوّلاً وبالذات، لا بما يكون الفعل ثانيا وبالتبع. وكذا لا يلزم انفعاله تعالى عن الغير وتأثير الغير في ذاته المقدّسة، فإنّ الباعث والموجب حقيقة وبالذات لفعله إنّما هو ذاته المتعالية لا الغير، والمصلحة إنّما هي موجب وباعث (1) ثانيا وبالتبع، فلا يلزم انفعاله عن الغير حقيقة؛ فاعرف ذلك فإنّه الحقّ الحقيق بالتصديق. وممّا حقّقناه تبيّن وظهر أنّه لا حاجة إلى تأويل الآيات والأحاديث الصريحة في أنّ بعض أفعاله معلّلة (2) بالغرض بمجرّد ترتّب ذلك الغرض عليها بدون أن يكون تلك الأفعال لأجله، بل ينبغي أن لا تصرف (3) عن ظواهرها؛ إذ لا محذور في التزام كون تلك الأفعال لأجل غرض أصلاً كما عرفت، كيف، وإنّا نعلم بالضرورة أنّ إيجاب بعض الحدود والكفّارات على المرتكبين لبعض المنهيّات من اللّه تعالى ليس إلّا لغرض الانزجار عن تلك المعاصي، والمنازعُ مكابرٌ، وكذا نعلم يقينا عند التأمّل في منافع أعضاء الإنسان بل الحيوان والنبات لأجل تلك المنافع، وكذا لا يشكّ المتدبّر في كيفيّة خلق السماوات والأرض أنّ خلقها على تلك الوجوه المخصوصة الواقعة هي عليها إنّما هي لحِكَم ومصالح لا تعدّ ولا تحصى، ومن أنكر فقد كابر مقتضى عقله، ويلزم من القول بأنّ أفعاله تعالى ليست معلّلة بالأغراض مطلقا - كما هو مذهب أكثر الأشاعرة - أن لا يكون الواجب الحقّ - تعالى شأنه - حكيما أصلاً، ولا مستحقّا للحمد على ما صرّح به بعض المحقّقين من أهل السنّة وهو أبو العبّاس أحمد بن تيميّة في بعض رسائله حيث قال ما ملخّصه: وأمّا نفاة الحكم والأسباب من مثبتة القدر فهم في الحقيقة لا يثبتون له حمدا كما لا


1- .كذا. والأولى : «موجبة وباعثة».
2- .كذا. ولعلّ الصواب: «معلّل».
3- .في النسخة: «يصرف».

ص: 451

يثبتون له حكمة. أمّا الحكمة فإنّما تكون (1) في حقّ من يفعل شيئا لشيء، فيريد بفعل الأوّل الحكمة الحاصلة بفعله، فأمّا من لا يفعل شيئا لشيء، فلا يتصوّر في حقّه الحكمة، وهؤلاء يقولون: ليس في أفعاله وأحكامه لام تعليل ولا سبب، وعندهم ما اقترن ببعض المفعولات من نعمة، أو طبيعة فهو شاء وجوده معه لا أنّ هذا لأجل هذا، فلم يشأ السبب لأجل الحكم، ولا شاء الحكم لأجل الحكمة؛ ولهذا يقولون: القادر المختار يرجّح مِثْلاً على مِثْلٍ بدون مرجّح أصلاً، وهؤلاء يقولون : ما في الشريعة من المصالح والحِكَم لم يشرع الربّ - عزّ وجلّ - الأحكام لأجل تلك المصالح والحِكَم، بل اقترنت بها فقط عادة، كما يقولون ذلك في المخلوقات قالوا: فإذا وجدنا الأحكام غلب ظنّنّا أنّ مع الحُكم مصلحةً وإن لم نقل إنّه شرع لأجلها، والعلل عندهم أمارات محضة. والعجب أنّ هؤلاء يقولون في اُصول الدين: إنّ الإحكام والإتقان يدلّ على علم الفاعل، لكن هذا تناقض منهم؛ فإنّ ذاك إنّما يكون فيمن يقصد أن يفعل المفعول على وجه مخصوص لأجل الحكمة المطلوبة، فإذا قالوا: لا يفعل الحكمة امتنع عندهم أن يكون الإحكام دليلاً على العلم، وأيضا فعلى قولهم: يمتنع أن يكون له حمد؛ لأنّ ما حصل للعباد من نفع فهو لم يقصد عندهم خلقه لنفع العباد أصلاً، بل قصد مجرّد وجوده لا لنفع أحد ولا لضرره ولا لمقصود أصلاً، فكيف يتصوّر في مثل هذا حمد. انتهى. فالحقّ الحقيق بالتصديق والتحقيق ما حقّقناه فإنّه لا يلزم منه استكماله وانفعاله تعالى بالغير وعن الغير أصلاً، ولا كونه غير مستحقّ للحمد، ولا أن لا يكون حكيما قطعا؛ فاعرفه. وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المقام بحيث خرج عمّا هو المرام؛ لأنّه من اُمّهات مطالب الحكمة والكلام، ومن مزالّ أقدام أفهام أئمّة الأنام، من العلماء الأعلام، والحكماء العظام، وممّا ينبغي أن يعتنى به؛ لكونه من اُصول عقائد الإسلام.


1- .في النسخة: «يكون».

ص: 452

الوجه الثالث استدلال بأنحاء اُخر من البراهين الإنّية

هذا الوجه مشتمل على مناهج كثيرة اقتصر الشارح بذكر أربعة عشر منهجا

المنهج الأوّل في الاستدلال على وجوده تعالى بالنفوس الإنسيّة وأحوالها، وفيه طرق

الطريق الأوّل

وغيرِ ذلك من الآيات العجيبات المبيِّنات ، عَلِمْتُ أنَّ لهذا مقدِّرا ومُنْشِئا» .

الوجه الثالث (1)وهو ما أشار إليه عليه السلام بقوله: (وغير ذلك من الآيات العجيبات المبيّنات) استدلال بأنحاء اُخر من البراهين الإنّيّة كالاستدلال بالنفوس الإنسيّة وأحوالها وغير ذلك [على] وجوده تعالى. ولعلّ المراد بالعجيبات هي الخارجة عن أن يحكم العقل الصحيح باستنادها إلى غير الإله الحقّ المدبّر للعالم من الطبائع وغيرها. و«المبيّنات» على صيغة المفعول من باب التفعيل، أو الفاعل منه. قيل: قوله عليه السلام : «علمتُ» إنشاء في موضع شهدتُ وأشهد. وأقول: لا ضير في حمله على ظاهره. وقوله عليه السلام : (أنّ لهذا) أي لهذا العالم المنتظم من السماوات والأرضين وما فيهما وبينهما مُقدِّرا يتنظم بتقديره، ومُنشِئا يوجد بإنشائه. ثمّ هذا الوجه مشتمل على مناهج كثيرة، وقد اقتصرت بذكر أربعة عشر منهجا:

المنهج الأوّل في الاستدلال على وجوده تعالى بالنفوس الإنسيّة وأحوالها، وفيه طرقالطريق الأوّل: أنّ النفس الإنساني جوهر مجرّد؛ إذ لو كانت أمرا جسمانيا وقوّة جسميّة، يلزم أن لا تكون (2) مدركة للاُمور المعقولة الغير المنقسمة المجرّدة؛ لأنّ كلّ ما يظهر من قوّة جسمانيّة - أثرا كان أو تأثيرا، فعلاً أو انفعالاً أو تأثّرا أو إدراكا - إنّما يظهر منها بذاتها وتمام أجزائها؛ إذ الكلّ ليس إلّا ذوات الأجزاء، والمجموع بما هو مجموع اعتبار عقلي ليس بموجود خارجي، فلا يظهر منه شيء في الخارج، لا فعل ولا انفعال ولا تأثير ولا تأثّر ولا


1- .تقدّم الوجه الثاني في ص 289.
2- .في النسخة: «أن لا يكون».

ص: 453

إدراك، فإذا أدركت قوّة جسمانيّة أمرا، لزم أن يدركه بأجزائها، فيكون لكلّ جزء من تلك القوّة إدراك، وإلّا لم يكن القوّة بتمامها مدركة، أو لم يكن القوّة مدركة أصلاً، هذا خلف. فالذي يدركه الجزء ويعلمه إمّا أن يكون خارجا عمّا يعلمه الكلّ ويدركه، أو عينه، أو جزءه، فعلى الأوّل لم يكن القوّة بتمامها مدركا عالما (1) بهذا المعلوم، وبطلانه ظاهر. وعلى الثاني - وهو أن يكون كلّ جزء مدركا عالما بتمام المعلوم بعينه - يلزم محذورات ومحالات: الأوّل: ما ذكره بعض المحقّقين من أنّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون ذلك المدرك المعلوم معلوما (2) أصلاً؛ فإنّه إذا كانت القوّة الجسمانيّة مدركة عالمة بذلك المعلوم الغير المنقسم بتمام أجزائها (3) ، كان هذا المعلوم بعينه مدركا معلوما لكلّ جزء، ولكلّ جزء من القوّة أجزاء غير متناهية، فأيّ جزء فرض من القوّة أنّه يكون عالما مدركا ، فعلم ذلك الجزء - لكونه جسمانيا منقسما بوجوه غير متناهية - إنّما يكون بإدراك أجزائه، وللأجزاء أيضا أجزاء كذلك، فلا يتصوّر ظهور إدراك جزء؛ لكون ذلك الإدراك يتصوّر بوجوه غير متناهية لا يخصّص بشيء منها، فيلزم حصول الكثير بدون الواحد؛ حيث لا يتصوّر إدراك واحد من جزء واحد؛ إذ كلّ جزء فرض أنّه مدرك عالم لا يمكن أن يظهر منه إدراك واحد؛ لأنّ إدراك هذا الجزء إدراكات غير متناهية بأجزاء غير متناهية بصور غير متناهية لا يخصّص بشيء منها (4) ، فكيف يمكن ويتصوّر أن يوجد واحد لا يمكن أن يوجد ذلك الواحد إلّا باُمور كثيرة غير متناهية، وكلّ من تلك الاُمور الغير المتناهية لا يوجد إلّا باُمور غير متناهية اُخرى، وهكذا إلى غير النهاية، فلا يمكن ولا يتصوّر أن يظهر إدراك واحد غير منقسم بعينه من قوّة جسمانيّة يكون كلّ جزء منها مدركا عالما بذلك الأمر بعينه.


1- .كذا. والصواب ظاهرا : «مدركة عالمة»؛ لتطابق الاسم والخبر. كما تقدّم نظيره في السطور السابقة و سيأتى في السطور الآتية.
2- .في النسخة: «معلوم».
3- .أي أجزاء القوّة الجسمانية.
4- .أي من إدراكات غير متناهية.

ص: 454

الثاني: ما يستفاد من كلام الرئيس من أنّه يلزم أن يكون ذلك المعلوم معلوما مرّات غير متناهية، فإن قال قائل بمنع بطلان اللازم، قلنا: نعلم أنّه ليس في قوّة هذا الإدراك أن ينفصل إلى إدراكات كثيرة. الثالث: أنّه معلوم ظاهر أنّ كلّ ما يظهر من كلّ فهو أكثر ممّا يظهر من جزئه، فلو أدركت قوّة جسمانيّة أمرا غير منقسم، وأدرك كلّ جزء منها هذا الأمر بعينه، لزم أن يكون ما ظهر من الجزء مثل ما ظهر من الكلّ، وإذا بطل الاحتمال الأوّل والثاني تعيّن الثالث، وهو أن يكون ما يدركه بعض القوّة الجسميّة بعضا ممّا يدركه كلّاً فلم يكن ما تدركه القوّة الجسميّة أمرا غير قابل للقسمة، وإذا كان ما يدركه (1) القوّة الجسميّة منقسما كان كلّ جزء من القوّة مدركا لجزء من ذلك الأمر، كلّ جزء بإزاء جزء منقسم بانقسامه كأنّه منطبق عليه، فلم يلزم محذور. فظهر وثبت أنّ القوّة الجسميّة لا تدرك الأمر الغير المنقسم أصلاً، ولا ريب أنّ النفس الإنسيّة تدرك (2) كثيرا من الاُمور المعقولة الغير المنقسمة، فإنّا نعلم ضرورة أنّا نعلم اُمورَ كثيرةٍ مفهومات، ومعاني عديدة لا يقبل شيء منها قسمة أصلاً، مثل معنى الحصول والشيئيّة، والإمكان والوجوب، والنسبة والإضافة، والثبوت والتحقّق، والنفي والسلب، ومعنى كلمة «لا» والرجحان والزيادة والنقصان، والمرّة والكرّة والأفضليّة والتفضيل، والتجرّد والضمّ، والاشتراط والإفاضة، والعلّيّة والمعلوليّة، والوحدة والأوّل والآخر. وبالجملة، معلوم بالضرورة أنّ في معلوماتنا اُمورا (3) ومعانيَ غير قابلة للقسمة أصلاً بوجه، فالنفس الإنسيّة قوّة مجرّدة لا أمر جسماني، وإلّا لم تكن (4) مدركة لها أصلاً. ثمّ تلك النفوس المجرّدة الإنسيّة ليست بواجبة بالذات. أمّا أوّلاً فلما مرّ من أنّ كلّ نفس إذا رجعت وجدانها تعلم أنّ لها أمرا أو ذاتا تتّكل


1- .في النسخة: «يدركه».
2- .في النسخة: «يدرك».
3- .في النسخة: «اُمور».
4- .في النسخة: «لم يكن».

ص: 455

الطريق الثاني

عليها، وتتضرّع (1) إليها في المضائق وهو إلهها وعلّتها وفاعلها. وأمّا ثانيا فلأنّ الواجب بالذات لا يمكن أن يتعدّد، والنفوس البشريّة متعدّدة متكثّرة. وأمّا ثالثا فلما حقّق في موضعه من أنّ الواجب بالذات لا يمكن أن يكون نفسا أصلاً، فهي ممكنة، وتنتهي إلى الواجب بالذات المجرّد وهو المطلوب؛ فتأمّل (2) . الطريق الثاني: هو الاستدلال على وجوده تعالى بحصول العلوم البديهيّة وبعض النظريّة للنفوس الإنسيّة، وذلك بأن يقال: إنّ المعاني الكلّيّة الأوّليّة حصلت في النفوس الإنسيّة بعد ما لم تكن (3) ، فإمّا أن حصل-[ت] بتصفّح الجزئيات، أو بفيض علوي إلهي يتّصل بها على طريق الإلهام، لكنّ المعاني الكلّيّة الأوّليّة كمعنى قولك: الكلّ أعظم من جزئه، لو كانت تستفاد باستقراء الجزئيات، لما كان بها ثقة واعتماد، بل وما كانت كلّيّات بالحقيقة؛ إذ لا يؤمن وجود شيء مخالفٍ لحكم ما أدركته، ومن البيّن أنّ هذه المعاني هي في غاية الثقة والصحّة وهي علّة الوثوق بغيرها، فإذا حصولها بفيض علوي ونور إلهي يتّصل بها، فيخرجها من حدّ القوّة إلى حدّ الفعل، بل نقول: إنّ النفس الإنسانيّة قد تتردّد (4) في معرفة أمر وحكمته إيجابا وسلبا، ثمّ إذا توجّهت واستفاضت، علمت حكمه بإيجاب، أو سلب بإفاضة غيرها على سبيل الإلهام، والنفس لتردّدها لم تكن 5 مستعدّة قابلة مستدعية لأحدهما بخصوصه، فالمفيض يخصّص أحد الحكمين بالإفاضة، وإنّما يتأتّى هذا التخصيص بالعناية، أو الإرادة من مفيض مجرّد؛ إذ الفيض أمر معقول لا يمكن أن يحصل بأمر جسماني، كوضع جسماني أو طبيعة جسمانيّة على ما حقّق في موضعه، فالمفيض أمر مجرّد أفاضه بعناية أو إرادة؛ إذ من المستبعد المستنكر أن يحصل هذا الحكم المخصوص


1- .في النسخة: «يعلم... يتّكل... يتضرّع».
2- .في هامش النسخة: لأنّ علّة المجرّد وعلّة علّته ، وهكذا لا يمكن أن يكون مادّيا، وإلّا لزم تعليل الأشرف بالأخسّ، وهو أجلّ (منه عفي عنه).
3- .في النسخة: «لم يكن».
4- .في النسخة: «قد يتردّد».

ص: 456

الطريق الثالث

بإيجاب طبيعة المفيض، والتخصيص بالعناية والإرادة مستلزم لعلم المفيض بالحكم، فالمفيض مجرّد عالم ويفيض ما له من العلم، فإمّا أن يكون واجبا، أو ينتهي إلى مجرّد عالم واجب بالذات، هذا. وأنت خبير بأنّ مجرّد تجرّد المفيض لتلك العلوم كافٍ فيما نحن بصدده هاهنا من إثبات المجرّد الواجب بالذات، ولا حاجة لنا في هذا المطلب إلى إثبات علمه، فما ذكرناه في بيان علم ذلك المفيض لعلّه تكلّف مستغنٍ عنه؛ فافهم. الطريق الثالث: العلوم الكسبيّة اليقينيّة قد تحصل للنفوس الإنسيّة بعد ما لم تكن (1) حاصلاً، وفاعل حصوله (2) ليس القياس (3) ، لا لما قيل من أنّ المقدّمتين المركّبتين لا تفيدان (4) العلم بالنتيجة؛ لأنّا نجد كثيرا من الأقيسة يعرض على بعض الأشخاص فلا يفيده ظنّا فضلاً عن العلم، ويعرض على شخص آخر فيفيده علما يقينيا يزول معه الريب، ولو كان موجبا للعلم، لكان أينما وجد العلم بالقياس وجد العلم بالنتيجة، فحصول العلم بالنتيجة لأحد الشخصين دون الآخر يدلّ على أنّ الأقيسة وسائط معدّة لقبول العلم من العقل المجرّد؛ لأنّه منظور فيه؛ فإنّ الأقيسة لو كانت معدّة أيضا لقبول العلم، لوجب أن يكون كلّيا لا لبعض النفوس. فإن قيل: إنّما يكون حصول المقدّمتين في النفس معدّا لحصول العلم بالنتيجة بشرط كونها (5) قابلاً (6) للفيض القدسي الموجب لليقين، فمرادهم من كون المقدّمات معدّة إنّما هو عند استعدادها وقابليّتها، وإلّا فقد يعرض على بعضهم مقدّمات بيّنة فيسلّمها، ويمنع النتيجة؛ لوجود مانع يمنعها (7) عن قبولها 8 ، وهو فساد الوهم وكدورة المزاج وأحوال اُخرى. قلت: ما ذكرته في إعداد المقدّمتين لبعض النفوس دون بعض يجري بعينه في إيجابهما


1- .في النسخة: «قد يحصل... ما لم يكن».
2- .كذا. والصواب ظاهرا : «حصولها».
3- .الدليل عليه قوله: «بل لما أقول».
4- .في النسخة: «لا يفيدان».
5- .أي النفس.
6- .كذا، ولعلّ الصواب : «قابلة» لتطابق الاسم والخبر.
7- .أي النتيجة.

ص: 457

الطريق الرابع

لبعض النفوس دون بعض؛ لأنّا نقول: استعداد القابل شرط في حصول المعدّة من العلّة الفاعليّة، فيجوز أن يكون المقدّمتان علّة فاعليّة موجبة للعلم بالنتيجة في بعض النفوس القابلة لذلك العلم دون النفوس الغير القابلة. بل لما أقول (1) : وهو أنّ العلم بالنتيجة قد يبقى في النفوس الإنسيّة بعد زوال القياس والمقدّمتين عن تلك النفوس والأذهان، وبعد نسيانهما بالكلّيّة كما يظهر من التفحّص والرجوع إلى الوجدان؛ ولهذا قد يشكّ في بداهة بعض العلوم اليقينيّة ونظريّته، وذلك لنسيان طريق حصوله حتّى يستدلّون على بداهته، أو نظريّته كما هو المشهور في الكتب، ولو كان القياس والمقدّمتان علّة فاعليّة للعلم بالنتيجة، لما كان كذلك؛ ضرورة انعدام المعلول عند انعدام علّته الفاعليّة، فالقياس والمقدّمتان علّة معدّة للعلوم النظريّة الكسبيّة لا موجبة، فلا بدّ لها (2) من علّة فاعليّة موجبة مجرّدة لتجرّدها 3 ، وتلك العلّة المجرّدة إن كانت واجبة بالذات، ثبت المطلوب، [وإلّا تنتهي ]إلى علّة مجرّدة واجبة بالذات بالضرورة؛ فافهم. الطريق الرابع: النفوس الإنسيّة تتذكّر المعقولات بعد ذهولها عنها من غير نسيان، فالصور العقليّة المعقولة التي ذهلت عنها موجودة، وإلّا لكانت منسيّة لا مذهولة عنها؛ فإنّ الفرق بين الذهول والنسيان أنّ المذهول عنها موجودة، والمنسيّ غير موجودة، ففي الصور الحسّيّة الصور المذهولة عنها موجودة في القوّة الحافظة، فعند التذكّر يلتفت إليها ويعيدها إلى المدركة، وليس للصور المعقولة من القوى الإنسيّة محلّ غير العاقلة، فلو كانت في العاقلة، لكانت معلومة من غير ذهول، فتلك الصور المعقولة مرتسمة في أمر مجرّد؛ لامتناع ارتسامها في الجسم والجسماني على ما بيّن في موضعه، وذلك الأمر المجرّد المرتسم فيه صور المعقولات أجمع إنّما هو العقل الفعّال، والإنسان عند التذكّر يلتفت إلى تلك الصورة التي في العقل الفعّال فيحضرها ويعيدها إلى العاقلة فيدركها، فيكون العقل الفعّال قوّة له


1- .دليل لقوله: «وفاعل حصوله ليس القياس».
2- .أي للنفس.

ص: 458

كالحافظة، هذا هو المشهور عند جمهور المحصّلين. ولئن اُورد على ذلك ويقال: إنّه عند التحصيل غير محصّل: أمّا أوّلاً، فلأنّه لا معنى ولا محصّل للالتفات إلّا القصد والتوجّه إلى مدرك وتعيينه بالتوجّه من بين الاُمور المعلومة والمدركة بالعلم والإدراك الإجمالي، أو التفصيلي المحيط بتلك المدركات، وظاهرٌ أنّ كلّ نفس بشري يتذكّر شيئا لا يعلم، ولا يحيط علمه بالصور التي في العقل الفعّال لا إجمالاً ولا تفصيلاً. وأمّا ثانيا، فلأنّ صيرورة العقل الفعّال قوّة لكلّ نفس بشري يتذكّر - مع أنّه مستنكر - دلّ دلائل كثيرة على استحالته. وأمّا ثالثا، فلأنّه يُشكِل بالكواذب؛ فإنّها ليست فيه. وأمّا رابعا، فلأنّه لِمَ يلزم أن يكون المجرّد الذي ارتسمت الصور المتذكّرة فيه (1) هو العقل الفعّال؟ ولِمَ لا يجوز أن يكون مفيض الصور غير محلّها؛ فإنّ القوّة الحافظة محلّ للصور المحفوظة، وليست مفيضها؟ وأمّا خامسا، فلما أقول من أنّه حينئذٍ يلزم زوال صورة ما نسيه الإنسان عن العقل الفعّال، فيلزم أن يصير العقل جاهلاً به بعد كونه عالما به، بل يلزم أن يكون جاهلاً وعالما به في زمان واحد إذا نسيه زيد ولم ينسه عمرو، وكلاهما ظاهر البطلان. نقول: لا ريب في تحقّق الفرق بين حالتي الذهول والنسيان، فإن لم يكن على الطريقة المشهورة لما ذكر من الوجوه، فليس الفرق بينهما إلّا بما قال بعض أعاظم الأعلام وهو أنّ للنفس الإنسيّة في حالة الذهول عن الصور المعقولة ملكة استحضار الصور التي أدركتها أوّلاً بخلاف حالة النسيان، وتكون حقيقة الحفظ تلك الملكة الحاصلة الباقية في حالة الذهول الغير الحاصلة، أو الزائلة في حالة النسيان، وذلك بأن يكون تلك الملكة معدّة


1- .أي في المجرّد.

ص: 459

الطريق الخامس

المنهج الثاني

لحصول تلك الصور العقليّة متى أرادت النفس، فإنّه لا يتصوّر التفرقة بين تينك الحالتين إلّا بذلك. ثمّ لا يخفى على اُولي النهى وجود مفيد تلك الصور العقليّة ثانيا بإعداد الملكة بناءً على هذا التحقيق، وبإعداد الالتفات بناءً على المشهور، ومفيدها ليست النفس الإنسيّة؛ فإنّها حاصلة فيها قابلة لها بالضرورة، فلو كانت فاعلة لها أيضا، يلزم أن يكون أمر واحد (1) قابلاً وفاعلاً لشيء واحد، هذا خلف. وأيضا لمّا كان حصول الصور العقليّة أوّلاً بإفادة غيرها على ما مرّ، فبالضرورة يكون استحضارها أيضا بعد زوالها بإفادة غيرها، فيكون مفيدها أمرا مفارقا؛ لامتناع فيضان الصور المعقولة من الأمر الجسماني، وذلك الأمر إن كان واجبا ثبت المطلوب، وإلّا ينتهي إلى المفارق الواجب بالذات بالآخرة؛ فتأمّل. الطريق الخامس: نسبة الأفعال الحسّيّة إلى وجود الملكة الفاضلة كنسبة التأمّلات والأفكار في وجود اليقين، فكما أنّ التأمّلات لا تُوجدِ اليقين بل تعدّ (2) النفس لقبول اليقين على ما عرفت، فكذلك الأفعال الحسّيّة تعدّ (3) النفس لقبول الملكة الفاضلة من عند واهب الصور، وهو مجرّد لتجرّد تلك الملكات الحاصلة في النفوس المجرّدة، فهو إمّا أن يكون واجبا بالذات، [أو ينتهي إليه] وهو المطلوب.

المنهج الثانيهو أن يقال: إنّ العالم بجميع أجزائه من الأجسام والنفوس والعقول متغيّر. أمّا الأجسام العنصريّة فالتغيّر فيها ظاهر؛ لما نشاهد من انقلاب بعضها إلى بعض والكون والفساد فيها وتغيّر حالاتها وصفاتها.


1- .في النسخة: «أمرا واحدا».
2- .في النسخة: «لا يوجد... يعدّ».
3- .في النسخة: «يعدّ».

ص: 460

وأمّا الأجسام الفلكيّة ، فلتغيّرها في الأوضاع بواسطة الحركات، بل لتغيّر نفوسها أيضا؛ لأنّ تغيّر الأوضاع بواسطة الحركات الإراديّة لا يتصوّر إلّا بتغيّر مبدأ تلك الحركات، أي نفوسها، بالضرورة. وأمّا النفوس الإنسيّة والحيوانيّة، فتغيّرها أيضا ظاهر من تغيّر حركاتها وإراداتها وغيرهما. وأمّا تغيّر العقول، فباعتبار اتّصاف ذواتها الخالية عن الوجود والوجوب بالوجود الزائد على ذاته والوجوب بالغير. وكذا الحال في سائر الموجودات الممكنة، وكلّ متغيّر فهو تحت متصرّف يغيّره على التغلّب، ويحوّله من الحال إلى الحال؛ لأنّ الشيء بنفسه يستحيل أن يوجب الخروج عمّا هو عليه، وإلّا امتنع دخوله فيه، وكلّ ما هو تحت تصرّف الغير - ولا سيّما في وجوده ووجوبه - فهو معلول بالضرورة، فحينئذٍ نقول: العالم بجميع أجزائه متغيّر، وكلّ متغيّر معلول، فالعالم بجميع أجزائه معلول. قيل: ولعلّ هذا مرادهم ممّا اشتهر بينهم وهو قولهم: العالم متغيّر، وكلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث، فأرادوا بالحدوث الذاتيّ لا الزماني كما يتوهّم، فعلّة العالم يجب أن يكون أمرا موجودا غير متغيّر أصلاً، وليس ذلك إلّا واجب الوجود بالذات، لما عرفت من أنّ كلّ ممكن موجود يتغيّر ذاته الخالي عن الوجود والوجوب بالاتّصاف بهما بسبب موجده وموجبه؛ فتأمّل (1) .


1- .في هامش النسخة: قد اقتصر بعضهم في هذا الدليل بذكر تغيّر الأجسام والنفوس بما ذكرناه من غير التعرّض بذكر تغيّر العقول بما حرّرناه، و... انّ المقدّمة القائلة بأنّ كلّ ما هو تحت تصرّف الغير في ذاته أو صفاته وأحواله معلول حدسيّة يحكم بها كلّ ذي فطرة سليمة وفطنة قويمة. ثمّ أتمّ الدليل هكذا: فعلّة العالم أمر غير متغيّر، فهو إمّا واجب أو ينتهي إليه وهو المطلوب؛ فتأمّل (منه عفي عنه).

ص: 461

المنهج الثالث

.........

المنهج الثالثكلّ ما يقع تحت مقولة من المقولات - جوهرا كان أو كمّا أو كيفا أو غيرها، وبالجملة كلّ ما يكون شيئا موجودا، وعلى هذا فيكون له مهيّة لا يأبى محض نفسها من حيث هي أن يحصل في ذهن من الأذهان، ولا يمتنع ذلك بالنظر إلى محوضتها وصرافتها (1) - يكون ممكنا؛ لأنّ كلّ أمر يحصل في ذهن ما، أو أمكن أن يحصل فيه نظرا إلى نفس ذاته يتجرّد عن الوجود العيني، أو أمكن أن يتجرّد ويتعرّى عنه؛ ضرورة أنّه حال وجوده في الذهن لا يكون موجودا عينيا، وإذا أمكن أن يتعرّى ويتجرّد عن الوجود العيني، لم يكن ذاته بذاته موجودا عينيا، وإلّا لما تجرّد عنه؛ فإنّ كلّ ما يكون بذاته موجودا عينيا، ويكون ذاته من حيث هي مبدءا لانتزاع الوجود، ومصداقا لصدق الموجود، لا يمكن أن يتجرّد عن الوجود والموجوديّة أصلاً بأيّ وجه كان، وفي أيّ ظرف يكون بالضرورة، وإذا لم يكن ذاته موجودا ويحتاج في موجوديّته إلى جاعل وفاعل بالضرورة، فيكون ممكنا معلولاً، فكلّ ما يقع تحت مقولة من المقولات - من السماوات والأرضين وغيرهما من الموجودات المشاهدة المعلومة بذواتها بالفعل أو التي يمكن أن تعلم، ولا تأبى (2) نفس ذواتها عن المعلوميّة - يكون ممكنا معلولاً. فنقول: علّته يجب أن تنتهي (3) إلى ما لا يكون شيئا موجودا، بل يكون موجودا بحتا لا يمكن أن يحصل منه في ذهن من الأذهان إلّا ما هو عرضي له، ويمتنع أن يحصل بنفس ذاته في ذهن ما؛ لامتناع تجرّده عن الموجوديّة العينيّة في مرتبة من المراتب، وكلّ ما يكون كذلك يكون واجبا بالذات؛ لكونه موجودا بذاته وبنفس مهيّته وهو المطلوب. ولعلّ


1- .في هامش النسخة: كلّ ذي مهيّة يمكن أن يحصل في مدرك من المدارك ، ولا يأبى محض نفسها من حيث هي عن ذلك، وإنّما يأبى عن ذلك ما هو مجرّد الوجود وبحتُه بالضرورة لا غير (منه عفي عنه).
2- .في النسخة: «أن يعلم ولا يأبى».
3- .في النسخة: «أن ينتهي».

ص: 462

المنهج الرابع

إلى ما ذكرناه أشار أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في بعض خطبه حيث قال: «كلّ معروف بنفسه مصنوع» (1) فتأمّل تعرف.

المنهج الرابعوهو مبنيّ على مقدّمتين: المقدّمة الاُولى: كلّ مركّب له وحدة حقيقيّة يكون ممكنا معلولاً لوجوه: أمّا أوّلاً على المشهور عند الجمهور، فلأنّه محتاج إلى أجزائه في الوجود العيني، والأجزاء مقدّم (2) عليه بالذات بحسب الوجود الخارجي، فهو معلول للأجزاء في الخارج. وأمّا ثانيا على ما ذهب إليه بعض أعاظم الأعلام - من أنّ تقدّم الجزء على الكلّ ليس تقدّما ذاتيا بحسب الخارج، وإلّا يلزم تقدّم الشيء على نفسه (3) ؛ إذ الكلّ ليس إلّا جميع الأجزاء، فتقدّم الجزء عليه إنّما هو تقدّم ذاتي عقلي، وتقدّم بالطبع بحسب الخارج - فلأنّ الواجب يمتنع أن يتقدّم عليه شيء تقدّما ذاتيا عقليا أيضا، وكذا تقدّما طبيعيا بحسب الخارج، وإلّا لكان لوجوده علّة عقليّة وكذا لعدمه؛ فإنّ من أمارات تقدّم الطبيعي - على ما


1- .نهج البلاغة، باب الخطب، الرقم 186؛ تحف العقول، ص 62. ورواه الصدوق عن الرضا عليه السلام في التوحيد، ص 35، باب 2، ح 2 ؛ وعيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1، ص 136، ح 51.
2- .كذا . والأولى: «مقدّمة».
3- .في هامش النسخة: أقول: إنّما يلزم الدور لو كان الجزء مقدّما على جميع الأجزاء بتقدّمات [كذا] متعدّد، بأن يكون متقدّما على كلّ واحد منها، وأمّا إذا كان متقدّما على جميعها بتقدّم واحد فإنّما يلزم تقدّم وجود الجزء على وجود جميعها، ولا شكّ في أنّ وجود جميع الأجزاء في الخارج - إذا كان المركّب واحدا حقيقيّا مغايرا - وجود كلّ واحد من أجزائه الخارجيّة، وليس وجود الكلّ فيه مجموع وجودات الأجزاء الخارجيّة، وإلّا فلا يكون المركّب واحدا حقيقيّا، ولا يكون التركيب طبيعيّا، بل يكون التركيب والوحدة حينئذٍ صناعيّا أو اعتباريّا، هذا خلف. ولو سلّم (ظ) من وجوده مجموع وجودات الأجزاء فإنّما يلزم تقدّم وجود الجزء من حيث الانفراد على نفسه من حيث اجتماعه وانضمامه مع سائر وجودات الأجزاء... ولا محذور فيه (منه عفي عنه).

ص: 463

بيّن في موضعه - أن يكون عدم المتقدّم مقدّما بالذات على عدم المتأخّر تقدّما ذاتيا بحسب العقل، وإذا كان لوجوده وعدمه علّة عقليّة لا يجب وجوده، ولا يمتنع عدمه تصوّرا وعقلاً، والواجب بالذات يجب أن يكون وجوده واجبا وعدمه ممتنعا عقلاً وتصوّرا، كما أنّه يجب وجوده، ويمتنع عدمه خارجا وعينا؛ لأنّ الواجب بالذات - لما ثبت في محلّه - يجب أن يكون موجودا بحتا يمتنع تصوّر انفكاك الوجود عنه، ولو كان لوجوده، أو عدمه علّة عقليّة لا يمتنع تصوّر عدمه بالضرورة. هذا ما يستفاد من كلماته قدس سره. ولعلّ مراده بالتقدّم والعلّيّة العقليّة وجودا وعدما هي الأحقّيّة والإجزائيّة والأقربيّة التي يجدها العقل بين بعض الاُمور بحسب الوجود، أو العدم في نفس الأمر كعلّة الأجزاء العقليّة للمركّب فيها وتقدّمها عليه؛ إذ قد فسّر بعضهم التقدّم الذاتي مطلقا بتلك الأحقّيّة والأقربيّة وهي لا تنافي اتّحاد تلك الاُمور في الوجود الخارجي على ما قيل، وإلّا لم يكن لها معنى محصّل (1) أصلاً. قيل: كيفيّة تقدّم الجزء على الكلّ بالتقدّم العقلي على زعمي أنّ الواحد الطبيعي وما له وحدة حقيقيّة يكون واحدا في الخارج بخلاف الواحد الصناعي والاعتباري، ففي المركّب الذي [له] وحدة حقيقيّة يكون نفس ذات الجزء مقدّما على جميع الأجزاء من حيث إنّه واحد في الخارج تقدّما يجده العقل ويحكم عليه، ولا محذور فيه. فإن قيل: فيكون الجزء مقدّما على نفسه. قلنا: كلّا بل غاية ما لزم أن يكون نفس ذات الجزء مقدّما على نفسه من حيث إنّه متّحد بسائر الأجزاء بالوحدة الخارجيّة، ولا يخفى على اُولي النهى أنّ تقدّم أمر على الواجب بالذات بمثل هذا التقدّم أيضا وجودا وعدما ينافي وجوبه الذاتي. انتهى، فتأمّل.


1- .في النسخة: «محصّلاً».

ص: 464

وأمّا ثالثا على ما تفطنت به، فلأنّه لا بدّ في مثل هذا المركّب أن يكون بين أجزائه ارتباط وتعلّق خاصّ، بل استلزام واحتياج على ما ادّعوه بالضرورة، والمنازع في ذلك مكابر، وذلك الارتباط والتعلّق الذي لا بدّ أن يكون بين أجزاء ذلك المركّب لا يكون واجبا بالذات؛ ضرورة امتناع تحقّقه بدون تلك الأجزاء، فيكون ممكنا معلولاً لتلك الأجزاء، أو لبعض منها، أو لغيرها، وعلى كلّ تقدير يكون ذلك الواحد الحقيقي المركّب من تلك الاُمور من حيث إنّه واحد ممكنا معلولاً بالضرورة، بل الأولى أن يقال: إنّه لا بدّ كما مرّ من الاستلزام بل الاحتياج بين أجزاء ذلك المركّب، ولا يكون بين الواجبات المحضة، ولا بين الاُمور الاتّفاقيّة استلزام ولا تلازم على ما حقّق في موضعه وسيجيء أيضا، بل ولا احتياج أصلاً، وهو ظاهر، فكلّ مركّب له وحدة حقيقيّة إمّا محض الممكنات المعلولة، أو ممكن وواجب إن أمكن ذلك، وعلى كلّ تقدير يكون ممكنا بالضرورة، فكلّ مركّب له وحدة حقيقيّة يكون ممكنا معلولاً قطعا، وهو المطلوب. المقدّمة الثانية (1) : للعالم الجسماني بجميع أجزائه واحد طبيعي له وحدة حقيقيّة يكون؛ لأنّه لا يخفى على المتأمّل في أحوال العالم والمتدبّر فيها أنّ الطبائع والقوى المختلفة التي في الأجزاء المتباينة التي للعالم مع اختلاف مقتضياتها يؤثّر في شخص وأمر واحد كأنّها متعاونة في التأثير في هذا الشخص المعيّن والأمر الواحد ويدبّره تدبيرا وحدانيا، فلا بدّ أن يكون هناك قوّة قويّة على إعمال تلك القوى المتباينة المختلفة وصرفها وجبرها على تباين آثارها واختلاف مقتضياتها على التأثير في ذلك الأمر الواحد ليكون تلك القوّة عاملة مستعملة لتلك القوى المختلفة، فيكون تلك القوى المختلفة كلّها بمنزلة الآلات والقوى لتلك القوّة الواحدة المتصرّفة، وإلّا لم يتحقّق بينها (2) هذا التعاون في التأثير والاتّفاق في التدبير، ولم يتصوّر من هذه القوى والطبائع المختلفة المتباينة هذا التدبير الوحداني أصلاً


1- .في النسخة: «المنهج الرابع»، وهو تصحيف.
2- .أي بين القوى المختلفة.

ص: 465

بالضرورة؛ ولهذا لا يجوّز من له فطرة سليمة أن يكون موجد شخص واحد فواعل متعدّدة على ما سيجيء التنبيه عليه في موضعه، وتلك القوّة المتصرّفة العمّالة العاملة هي الطبيعة، فللعالم بجميع أجزائه طبيعة واحدة كلّيّة شاملة لها، فاشية فيها. وبوجه آخر قيل: لا ريب في أنّ اُصول أجزاء العالم بأسرها وتمامها علّة تامّة لكلّ واحد من الحوادث الواقعة الكائنة فيه، والعلّة التامّة إذا كانت متضمّنة لكثرة لا بدّ أن يكون بين تلك الاُمور الكثيرة ربط وعلاقة بها يصير الكلّ علّة واحدة موجبة لحصول معلول معيّن واحد على ما يحكم به الفطرة السليمة والفطرة القويمة المستقيمة، وما يحصل به الارتباط المذكور ليس إلّا الطبيعة الواحدة الكلّيّة الشاملة للكلّ، الفاشية فيها. انتهى كلام هذا القائل في بيان هذا المطلب. وأقول: فيه نظر ظاهر كما لا يخفى على الناظر فيه. فإن قيل: لا نسلّم أنّ القوّة المتصرّفة العمّالة وما به يحصل الارتباط المذكور ليس إلّا الطبيعة الكلّيّة، ولِمَ لا يجوز أن يكون نفسا للكلّ على ما سيجيء؟ قلنا: على هذا التقدير أيضا يثبت وحدة العالم الجسماني الذي هو المطلوب كما لا يخفى. وبوجه آخر أقول: لا شكّ في أنّ بين أجزاء العالم ارتباطا وائتلافا طبيعيا (1) ، وكلّ منها مرتبط بالآخر، بل لكلّ منها ارتباط بكلّ منها بحيث حصل منها جملة مرتبطة متّسقة منتظمة مؤتلفة ائتلافا طبيعيا، فلا بدّ أن يكون هناك أمر به يرتبط تلك الأجزاء بعضها ببعض، وينضمّ شطر منها إلى شطر، وإلّا لما وجد هذا (2) الائتلاف والارتباط الطبيعي، بل وجد الوضع منتشرا، والصنع متبدّدا، والرؤساء متكثّرة ، والنظام والانتظام والارتباط والاتّساق والسياسة


1- .في النسخة: «ارتباط و ائتلاف طبيعي».
2- .في النسخة: «هذه».

ص: 466

مختلفة، وليس ما به يحصل ذلك الارتباط والانتظام بين تلك الأجزاء إلّا الطبيعة الواحدة الكلّيّة الشاملة للجميع الفاشية فيه. والحاصل أنّ بين ذوات أجزاء العالم الجسماني ارتباطا وانتظاما خاصّا وتعلّقا وائتلافا طبيعيا (1) بحيث حصل منها جملة متّسقة منتظمة مرتبطة بعضها ببعض، بل كلّ بكلّ، وكذا بين تأثيراتها تعاون واتّفاق كأنّها تحت تدبير مدبّر واحد، وكلّ واحد من الارتباط بين نفس ذوات الأجزاء، ومن التعاون في التأثير والاتّفاق في التدبير يستدعي أمرا واحدا به يرتبط بعضها ببعض بحسب الذات، وبتعاون كلّ بالآخر في التأثير والاقتضاء، وما ذلك إلّا الطبيعة الواحدة الكلّيّة الشاملة للجميع الفاشية فيه التي بها يرتبط ذوات الأجزاء، ويتعاون في الاقتضاء والتأثير ويتّفق في التدبّر، فتدبّر. وإذا كانت للعالم بجميع أجزائه طبيعة واحدة كلّيّة شاملة لها، فاشية فيها يكون أمرا واحدا طبيعيا له وحدة حقيقيّة بالضرورة، وهو ما أردناه. وبعد تحقيق هاتين المقدّمتين نقول: العالم الجسماني كلّه مركّب، له وحدة طبيعيّة وحقيقيّة بناءً على المقدّمة الثانية، وكلّ مركّب له وحدة حقيقيّة فهو ممكن، فالعالم بكلّيّته ومجموعه ممكن، وعلّته إمّا مركّب، أو بسيط، لا سبيل إلى الأوّل، وإلّا تسلسل الأمر إلى غير النهاية، وإن كانت بسيطة، فلا يخلو إمّا أن يكون جسمانيا، أو مجرّدا، لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ البسيط الجسماني إمّا أن يكون مادّة، أو صورة اتّصاليّة أو نوعيّة أو عرضا حالّاً في الجسم، والصورة الاتّصاليّة ممكن؛ لأنّ كلّ متّصل بذاته يكون له أجزاء وهميّة، وتلك الأجزاء الوهميّة يمكن أن تكون (2) بحسب الفطرة متّصلة، وأن تكون منفصلة على ما بيّن في إبطال مذهب ذيمقراطيس، فلا بدّ لاتّصالها الفطري من علّة، وإلّا يلزم الترجّح بلا مرجّح بالضرورة، فالمتّصل بذاته لا يكون واجبا بالذات بل هو ممكن، فكذا ما هو معه بالذات، أو متأخّر عنه بالذات من المادّة والصورة النوعيّة، والعرض الجسماني على ما حقّق في


1- .في النسخة: «ارتباط و انتظام خاصّ و تعلّق و ائتلاف طبيعي».
2- .في النسخة: «يكون» . وكذا في المورد الآتي.

ص: 467

المنهج الخامس

موضعه، فننقل الكلام إلى علّته حتّى يتسلسل، وإن كان علّته بسيطا مجرّدا فإمّا أن يكون واجبا بالذات، أو ينتهي (1) إلى مجرّد واجب بالذات وهو المطلوب.

المنهج الخامسإنّا قد بيّنّا أنّ للعالم الجسماني بجملته وجميع أجزائه طبيعةً واحدة كلّيّة سارية في جميع أجزائه، فاشية فيها على ما سبق، وتلك الطبيعة الواحدة الكلّيّة ممكنة؛ لكونها مع المتّصل بالذات، أو متأخّر عنه بالذات، وهو يستلزم إمكانه؛ لما مرّ. فنقول: علّة تلك الطبيعة الواحدة الكلّيّة الحالّة السارية في جميع أجزاء العالم ليست المادّة الاُولى، ولا الصورة الاتّصاليّة، ولا الصورة النوعيّة التي لأجزاء العالم، وإلّا يلزم أن يكون القابل فاعلاً لما يقبله؛ لأنّ الطبيعة الكلّيّة حالّة سارية في الصورة النوعيّة للأجزاء، وفي صورها الاتّصاليّة، وفي موادّها في بعضها بتوسّط بعض؛ إذ الهيولى مادّة أوّليّة لها، وهي مع الصور الاتّصاليّة مادّة ثانية، وهما مع الصور النوعيّة مادّة ثالثة على ما حقّق في موضعه. وكون القابل فاعلاً لما يقبله محال؛ لما بيّن في موضعه، وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى امتناعه في بعض خطبه حيث قال: «لا يَجرِي عليه السكونُ والحركةُ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ويبدو (2) فيه ما هو أبداه، ويَحْدُثُ فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته، ولَتَجَزَّأَ كنهه، ولامْتَنَعَ مِنَ الأزل معناه» (3) وهو نصّ في المدّعى مع الإشارة إلى الدليل المشهور عليه، وليست علّتها أمرا جسمانيا آخر حالّاً في هذه المواد؛ لأنّه أيضا أمر ممكن؛ لما مرّ في الطبيعة الكلّيّة، فننقل الكلام إليه حتّى يتسلسل الأمر إلى غير النهاية وهو محال، فعلّتها أمر


1- .كذا. والصواب ظاهرا: «وإن كان علّته بسيطة مجرّدة ، فإمّا أن تكون واجبة بالذات أو تنتهي».
2- .في المصادر: «يعود».
3- .نهج البلاغة، باب الخطب، رالقم 186؛ إعلام الدين في صفات المؤمنين، ص 59؛ بحار الأنوار، ج 4، ص 255، ح 8 ؛ وج 54، ص 30، ح 6 ؛ وج 57، ص 95، ح 31 ؛ وج 74، ص 311، ح 14.

ص: 468

المنهج السادس

مجرّد واجب بالذات، أو منتهٍ إلى مجرّد واجب بالذات، وهو المراد. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون الصور النوعيّة حالّةً في المادّة الاُولى بالذات لا بتوسّط الصور الاتّصاليّة كما جوّز بعضهم؟ فحينئذٍ يجوز أن يكون علّة الطبيعة الكلّيّة الصور الاتّصاليّة، ولا يلزم أن يكون القابل فاعلاً لما يقبله، والقول بأنّ هذا الاحتمال خلاف ما ذهب إليه الجمهور لا ينجح بل لا بدّ لنفيه من دليل. قلنا: الصورة الاتّصاليّة ممكنة لوجوه مضت، ولوجوه اُخر أيضا ذكرت في موضعها، فننقل الكلام إلى علّتها، فيتسلسل، أو ينتهي إلى مجرّد واجب، وهو المطلوب؛ فتأمّل.

المنهج السادسمقدّمة: قد علم بالتجربة بوجه لا يبقى فيه ريب أنّ لأجزاء الفلك الأعظم المحيط - من البروج والدرجات والحدود والوجوه والبيوت والأشراف - خواصَّ مختلفةً متباينة جدّا، وذلك الاختلاف ليس باعتبار الثوابت المحاذية لها على ما يتوهّم؛ لأنّ خواصّ الدرجات والحدود والبيوت والأشراف اُمور ثابتة غير منتقلة بانتقال الثوابت على ما هو المشاهد في هذا الزمان من انتقال الثوابت عن مواضعها مع بقاء خواصّ البروج والدرجات والحدود على نحوٍ ذكرها القدماء كالبطليموس مثلاً بحالها، فهو إمّا لأجل تركّب ذلك الفلك المحيط من أجزاء مختلفة، مختلفة الآثار، وإمّا لأجل أجرام مختلفة مرتكزة كالكواكب والتداوير مضيئة لم يظهر للحواسّ، أو غير مضيئة. وبالجملة، لاختلاف صور نوعيّة كوكبيّة، أو فلكيّة، أو غيرها، أو لاختلاف أعراض فيها، أو لتعلّق مجرّدات بها. فنقول: على كلّ تقدير من تلك التقادير لا بدّ من واجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل. وأمّا على التقدير الرابع فالأمر أظهر؛ لأنّ في تلك المجرّدات إن كان واجبا فهو المطلوب، وإلّا يجب أن ينتهي إلى مجرّد واجب بالذات؛ فتدبّر.

ص: 469

المنهج السابع

.........

المنهج السابعكلّ من تأمّل في خلق الإنسان وكيفيّته، بل في سائر الحيوان أيضا، وعرف اشتماله على أفعال محكمة متقنة على نظام مشاهد بديع غريب من الصور العجيبة والنفوس المؤتلفة والألوان المختلفة وما روعي فيها من حِكَم ومصالح قد تحيّرت فيها الأوهام وعجزت عن إدراكه العقول والأفهام على ما شرحه التشريح عند شرح منافع الأعضاء، وقد بلغ المدوّن منها خمسة آلاف مع أنّ ما لم يعلم منها أكثر ممّا قد علم كما لا يخفى على ذي الحدس الكامل، علم أنّه ليس إلّا فعل فاعل حكيم عليم قدير، وأنّ استناد أمثال تلك الأفعال المشتملة على تلك الحِكَم والمصالح إلى المصوّرة - وهي قوّة عديمة الشعور، أو ضعيفة الشعور عند بعض وإن فرض أنّها مركّبة - بطل بالبديهة، فمن تبصّر يعلم ويرى أنّ أمثال هذا التصوير والأفعال ما ظهر إلّا من المصوّر القديم العليم الحكيم الخبير البصير (1) . هر كه بيند جان من داند كه اينها كار كيست ولهذا قال جالينوس الحكيم في آخر كتاب ألّفه للتشريح وشرح منافع أعضاء الإنسان: إنّي بعد ما عرفت هذه المنافع تنبّهت بأنّ خلق الإنسان وأعضائه ليس باتّفاق، بل روعي فيه تلك المنافع ومصالح اُخرى، وليس إلّا فعل فاعل حكيم عليم قدير خبير (2) . ولا يخفى على اُولي النهى أنّ مثل ذلك الحكيم العليم الخبير القدير ليس أمرا جسمانيا؛ لما حقّق في مظانّه من أنّ القوّة الجسمانيّة بل الجسماني مطلقا عديمة الشعور، وعند بعضهم ضعيفة الشعور، فليس لها شعور بأمثال هذه الحِكَم والمصالح التي لا بدّ في رعايتها من تصوّر الاُمور الكلّيّة، فهو أمر مجرّد واجب بالذات، أو ينتهي إلى مجرّد واجب بالذات، وهو المطلوب.


1- .في النسخة: + «ع»، والظاهر أنّه رمز إلى «مصرع».
2- .راجعت بعض مخطوطاته ولم أعثر عليه.

ص: 470

المنهج الثامن

بل نقول: كلّ من يتأمّل في الأفعال المنسوبة إلى كثير من القوى الإنسانيّة بل الحيوانيّة أيضا كالغاذية والهاضمة والدافعة والمغيّرة الاُولى والثانية يعلم أنّها ليس إلّا فعل فاعل عليم حكيم؛ فإنّ في كيفيّة التنمية والتغذية بغذاء واحد لأعضاء مختلفة كلّ يوجّه ويميّز (1) النافع من الضارّ ودفع الثاني ورفضه وجذب الأوّل وإمساكه وبدرقة الماء للغذاء وجريانه في المجاري للاتّصال ثمّ الرجوع والانفصال اُمور عجيبة غريبة يشهد كلّ فطرة سليمة بأنّها ما هي إلّا فعل فاعل عليم حكيم قدير خبير بوسائط ظاهريّة وأسباب عادية لحِكَم خفيّة؛ ولهذا نسب الإشراقيون تلك الأفعال إلى أرباب الأنواع وجعلوها من أدلّة وجودها. ولا يخفى على اُولي النهى أنّ ذلك العليم الخبير ليس إلّا مجرّدا واجبا بالذات، أو منتهيا (2) إلى مجرّد واجب بالذات؛ فتأمّل.

المنهج الثامنمبنيّ على رأي بعض الحكماء من أنّ للعالم الجسماني بجميع أجزائه من الأفلاك والعناصر نفسا كلّيّة متعلّقة بالكلّ. واستدلّوا على ذلك بحجّة حدسيّة، تقريرها أنّ الاُمور الحادثة في هذا العالم - على ما يشهد به التبليغ والتفحّص - قسمان: أحدهما: الاُمور الحادثة لا عن الأسباب الطبيعيّة وعلى المجرى الطبيعي من الاستعدادات السابقة والأوضاع الفلكيّة، كهلاك بعض الظلمة والأشرار المتغلّبة إذا أكثر الفساد، وانتعاش الأخيار وبقاء أهل الخير والصلاح والسداد، وتأثير دعاء المظلوم في دفعه ونفع البرّ ونزول الأمطار في وقت شدّة الحاجة إليها وأمثالها ممّا يقع عند اضطرار الناس فجأة لا عن أسباب مقدّمة، وأمثال تلك الاُمور لا يمكن أن تستند (3) إلى الواجب والعقول الفعّالة، وإلّا يلزم صدور الكثير عن الواحد، ولا إلى النفوس الفلكيّة، وإلّا لكانت حادثة


1- .في النسخة: «تميز».
2- .في النسخة: «مجرّد واجب بالذات أو منته».
3- .في النسخة: «يستند».

ص: 471

بالأسباب الطبيعيّة من الأوضاع الفلكيّة والاستعدادات المادّيّة، فتكون من القسم الأوّل لا الثاني، هذا خلف، فلا بدّ أن يكون لها مبدأ آخر غير تلك المبادئ. ولكون (1) تلك الاُمور الحادثة مشابهة للاُمور الحادثة في أبداننا في الحدوث لا على المجرى الطبيعي، ولا عن الأسباب المتقدّمة من الاستعدادات، بل عن مبادئ نفسانيّة يشبه أن يكون مبدؤها نفسا للعالم بجملته وكلّيّته وهي نفس الكلّ؛ فإنّ حدوث تلك الحوادث شبيهة بحدوث اُمور غريبة نادرة في أبداننا عن مبادئ نفسانيّة لا على المجرى الطبيعي، فإنّه كما أنّ من شأن أبداننا أن تحدث فيها حرارة، أو برودة وحركة وسكون على مقتضى الاُمور الطبيعيّة، ويكون ذلك متولّدا عن أسباب بعد أسباب في مدّة محدودة، فقد يحدث فيها لا عن أسباب طبيعيّة بل عن توهّمات نفسانيّة كالغضب فإنّه يُحدِث حرارة في الأعضاء ليس سببها طبيعيّة، والخوف فإنّه يُحدث برودة في الأعضاء ليس سببها طبيعيّة، وكذلك الخيال الشهواني يحرّك أعضاء وإن لم يكن عن امتلاء طبيعي، ويحدث ريحا وإن لم يكن ذلك عن أسباب متقدّمة طبيعيّة. والدليل على ذلك أنّ هذه كلّها يحدث عمّا ذكرنا في وقت لو لم يكن ما ذكرناه لم يحدث، فكذلك حال نفس العالم بجملته عند بدنه، فهلاك بعض الأشرار المتغلّبة إذا كثر فيه الفساد، وحدوث نار، أو زلزلة من غير الأسباب المعتادة، ونزول المطر عند شدّة حاجة الخلق إليه ونفع البرّ، وبالجملة الاُمور الحادثة في العالم لا عن الأسباب المتقدّمة على المجرى الطبيعي الشبيهة بالصادرة عن المبادئ النفسانيّة في أبداننا إنّما صدرت وحدثت عن نفس العالم بجملته، لمشابهة تلك الاُمور مع الاُمور الحادثة في أبداننا لا على المجرى الطبيعي، بل عن المبادئ النفسانيّة مشابهة تامّة، فللعالم بجميع أجزائه من الأفلاك والعناصر نفس كلّيّة هي مبدأ أمثال تلك الاُمور.


1- .كذا. وفي العبارة خلل، ولم يذكر «ثانيهما».

ص: 472

فإن قيل: ما ذكرت إنّما يدلّ على أنّ مبدأ أمثال تلك الاُمور نفس (1) ، وأمّا أنّه نفس للعالم بكلّيّته فلا، ولِمَ لا يجوز أن يكون نفسا لعالم العناصر بجملته لا لكلّيّة العالم على ما ادّعيت؟ قلنا: لا يجوز ذلك؛ لأنّ الأشبه أنّ تلك النفس المبدأ لتلك الحوادث لا بدّ أن تكون مدركة للجزئيات، فتحسّ (2) بها (3) إحساسا يليق بها ليكون مشاهدة لتغيّرات في سكّان هذا العالم (4) يحدث فيها منها تعقّل للأمر الذي يدفع به ذلك النقص والشرّ، ويجلب الخير، فيتبع ذلك المتعقَّل وجود الشيء المتعقّل، فإنّ عناية مثل هذا الجوهر يجب أن يكون لدفع كلّ نقص وشرّ يدخل في هذا العالم وأجزائه ليتبع تلك العناية ما يلزمها من الخير والنظام، فلا يجب أن يختصّ ذلك بشيء دون شيء، فإن كان دعاء لا يستجاب أو شرّ لا يدفع، فهناك شيء لا يطّلع عليه، ولمّا كان تعقّل هذا الجوهر يتبعه الصور المادّيّة في المادّة، فلا يبعد أن يهلك به شريرٌ، أو يعيش (5) خيرٌ، أو يحدث نارٌ، أو زلزلة إلى غير ذلك بدون الأسباب المعتادة، فيجب أن تكون (6) مدركة للجزئيات، فلها آلات جسمانيّة بها تدرك (7) تلك الجزئيات؛ لامتناع إدراك الجزئي من حيث إنّه جزئي من النفس بدون الآلات الجسمانيّة، فلا بدّ لها من جِرم يمكن أن يكون موضوعا لانتقاش صور تلك الجزئيات، ومقرّا لتخيّلها، ومحلّاً لتلك الآلات الجسمانيّة، وليس في العالم العنصري جسم كذلك؛ لسرعة فساد الأجسام العنصريّة وعدم ثباتها وبقائها، وهو ظاهر. وممّا ذكرنا ظهر أيضا أنّ لهذه النفس آلاتٍ وقوى جسمانيّةً هي وَهْم الكلّ وخيال الكلّ وحسّ الكلّ على ما أثبته بعض المحقّقين؛ لأنّها على ما عرفت لا بدّ أن تكون 8 مدركة للجزئيات. والجزئيات ثلاثة أنواع: منها ما يدرك بالوهم، ومنها ما يدرك بالخيال، ومنها


1- .في النسخة: «نفسا».
2- .في النسخة: «أن يكون... فيحسّ».
3- .أي بالجزئيّات.
4- .في النسخة: «العام».
5- .في النسخة: «تعيش».
6- .في النسخة: «يكون».
7- .في النسخة: «يدرك».

ص: 473

المنهج التاسع

ما يدرك بالحسّ، فلها (1) تلك القوى بأسرها لتكون (2) مدركة للجزئيات بأقسامها وأنواعها. فتحقّق أنّ العالم الجسماني بجملة أجزائه حيوان واحد طبيعي مرتبط الأجزاء، إذا حصل في جزء من أجزائه حالة غير ملائمة لذلك الجزء، أو يحصل أمر وحالة غير ملائمة لطبيعة العالم ومقتضاها أحسّت بتلك الحالة المنافية إحساسا يليق بها فوجّهت نفسه توجّها تامّا إلى دفعها وإصلاحها كدفع الظلمة والأشرار إذا كثر منهم الفساد والإفساد في العالم إلى غير ذلك. ولا يخفى أنّ بهذا الذي قرّرناه يظهر أسرار كثيرة ووجوه للمكافأة والجزاء ودفع الظلمة، ومنع أرباب الفساد، وتأثير دعاء المظلوم، ونفع البرّ والخير وغيرها من أمثالها. وإذا ثبت أنّ للعالم الجسماني بكلّيّته نفس كلّيّة (3) فنقول: تلك النفس الكلّيّة مجرّدة؛ لاستحالة صدور هذه الأفعال من القوى الجسمانيّة والنفوس الجزئيّة العديمة الشعور مطلقا، أو بأمثال (4) هذه المصالح والمنافع الكلّيّة، ولمّا لم يمكن أن يكون الواجب بالذات نفسا فهي ممكنة، وعلّتها إمّا مجرّد حقّ واجب بالذات، أو ينتهي إليه، وهو المطلوب.

المنهج التاسعأنّا نعلم بالضرورة أنّه يمكن أن يقع كلّ من الموجودات التي نشاهد ونعلم من الأجسام والجسمانيات على وجوه وأنحاء غير الوجه الذي وقع عليه هو بالفعل وليس ذلك الوجه والنحو الواقع كلّ منها عليه مقتضى مهيّاتها؛ لأنّ كلامنا ليس في لوازم المهيّات، فلو لم يكن علّة أوّليّة لا يتصوّر أن يقع على خلاف ما هي عليه حتّى يمتنع أن يكون علّة إلّا لأمر معيّن على وجه خاصّ، أو اُمور متعيّنة على وجوه مخصوصة يلزم من وقوع كلّ من تلك


1- .أي فللنفس.
2- .في النسخة: «ليكون».
3- .كذا. والأولى: «نفسا كلّيّة».
4- .كذا.

ص: 474

المنهج العاشر

الموجودات - التي يمكن أن يقع على خلاف ما هو عليه - ترجّح بلا مرجّح بالضرورة، بخلاف ما إذا انتهى كلّ موجود من تلك الموجودات إلى علّة لا يتصوّر أن يقع على خلاف ما هي عليه، فيمتنع أن يكون علّة إلّا لأمر معيّن على وجه مخصوص، أو اُمور معيّنة على وجوه مخصوصة؛ فإنّ كلّاً من تلك الموجودات على هذا التقدير لا يمكن أن يكون إلّا على وجه اقتضته علّته، فلا يلزم ترجّح بلا مرجّح أصلاً كما لا يخفى. وتلك العلّة - التي لا يمكن أن تقع على خلاف ما هي عليه - مجرّدة، فهي إمّا واجبة بالذات، أو منتهية إلى المجرّد الواجب بالذات، وهو المطلوب. واستبان من ذلك أنّ كلّ موجود يمكن أن يقع على خلاف ما هو عليه فهو ممكن، فالعالم الجسماني بجميع أجزائه ممكن، والواجب بالذات يجب أن لا يمكن، بل لا يتصوّر أن يقع على خلاف ما هو عليه في الواقع؛ فتأمّل تعرف. وأقول: استبان أيضا من هذا الدليل أنّ وجود الممكنات على غير الوجه الذي وقعت عليه - سواء فرض أنّه أتمّ من ذلك الوجه الواقع أو أنقص - محال ممتنع بالنظر إلى نفس الأمر والواقع وإن كان ممكنا بحسب ذواتها؛ لأنّ العلّة لا يمكن أن يوجد منها أيّ معلول اتّفق، بل لكلّ علّة معلول خاصّ يناسبه، والعلّة الأوّليّة - التي هي واجب بالذات، ولا يتصوّر وقوعها على خلاف ما هي عليه من جميع الوجوه - هي التي اقتضت وقوع تلك الممكنات على الوجوه الواقعة هي عليها، فوقوعها (1) على غير هذه الوجوه ممتنع بالنظر إلى نفس الأمر، فيستحيل نظام آخر أصلح للعالم وأكمل من ذلك الواقع بالفعل في نفس الأمر؛ فتدبّر.

المنهج العاشرقد بيّن أنّ النفوس الناطقة الإنسيّة مجرّدة، وهي مع تجرّدها ممكنة محتاجة إلى العلّة على ما يظهر بالرجوع إلى الوجدان كما سلف، والأجرام التي هي أخسّ وأضعف وجودا


1- .أي الممكنات.

ص: 475

المنهج الحادي عشر

منها أولى بالإمكان والاحتياج إلى العلّة، وإذا كانت تلك النفوس المجرّدة مع كونها حيّة بالذات تقصر عن إيجاد الجسم، وهو ظاهر لمن يراجع وجدانه، فكيف لا يقصر الجسم الذي هو جوهر ميّت عن إيجاد جسم، فالأجسام كلّها ممكنة معلولة لأمر مجرّد هو أعلى وأشرف من النفوس الإنسيّة، وهو إمّا واجب بالذات، أو منتهٍ إلى مجرّد واجب بالذات، وهوالمطلوب. وهذا الوجه يحتاج إلى معاضدة حدس؛ فتحدّس.

المنهج الحادي عشراعلم أنّ للأجسام لوازم لا تنفكّ عنها في مرتبة من مراتب الوجود كالوضع والحيّز، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ الجسم في أيّ مرتبة فرض لا بدّ له من وضع وحيّز ولا يخلو عنهما في شيء من مراتب الوجود، وكذا كلّ جسماني منطبع فيه بالضرورة. فإذا عرفت هذه نقول: علّة تلك اللوازم ليست نفس ذلك الجسم ولا جسماني منطبع فيه صورة كانت أو غيرها، وإلّا لتقدّم ذلك الجسم، أو الجسماني على تلك اللوازم بالذات، ففي المرتبة المتقدّمة يتجرّد ذلك الجسم، أو الجسماني عن هذه اللوازم بالضرورة، هذا خلف، وعلّتها ليست جسما ولا جسمانيا آخر خارجا عن ذلك الجسم؛ لأنّا نعلم ضرورة أنّ تلك اللوازم منبعثة حاصلة من نفس ذلك الجسم لا من خارج، وكلّما زال شيء منها بقاسرٍ عادت بذات ذلك الجسم وطباعه لا بأمر خارج، فعلّتها مجرّد (1) مرتبط بذلك الجسم مدبّر له مخصّص معيّن لهذه اللوازم دون غيرها في ذلك الجسم دون غيره، فلكلّ جسم نفس مجرّد كما ذهب إليه جمع من المحقّقين، ونطق به الكلام المجيد حيث قال اللّه تعالى في محكم كتابه: «وَإن مِنْ شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحِمْدِهِ (2) » (3) إلّا أنّ شعور بعض النفوس ضعيف، وبعضها


1- .كذا. والصواب ظاهرا : «مجرّدة»، وكذا الأوصاف التي تذكر لها.
2- .في النسخة: «وما من شيء إلّا يسبّح بحمده ويقدّس له».
3- .الإسراء (17): 44.

ص: 476

المنهج الثاني عشر

قويّ، وبعضها أقوى. قال بعض الفضلاء: لا معنى للصورة النوعيّة إلّا ذلك، فلكلّ جسم صورة نوعيّة مجرّدة. انتهى. أقول: حاصله أنّ الصورة النوعيّة لكلّ جسم على ضربين: أحدهما: الصورة النوعيّة الجسمانيّة المنطبعة فيه. وثانيهما: الصورة النوعيّة المجرّدة المتعلّقة به، وهي النفس المجرّدة لكلّ جسم، ومرادهم من إسناد الوضع والحيّز إلى الصورة النوعيّة إنّما هو إسنادهم إلى الصورة النوعيّة بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأوّل. إذا عرفت هذا فنقول: تلك النفوس المجرّدة لإمكانها محتاجة إلى علّة مجرّدة، وعلّتها إمّا واجبة (1) بالذات، أو منتهية إلى المجرّد الواجب بالذات، وهو المطلوب.

المنهج الثاني عشرإنّ كلّ جسم له ما يحفظ اتّصاله ونظم أجزائه، فإنّ الجسم إذا انفصل عاد إلى اتّصاله بذاته إن لم يمنع عنه مانع من غير معيد مفيد من خارج، ففي الجسم فاعل للإعادة، ومفيد للاتّصال، وقابل يقبل الاتّصال والانفصال. فالقابل لهما هو الهيولى الاُولى على ما قرّره الحكماء. وأمّا الفاعل لعود الاتّصال، فليس شيء من الجسمانيات الخارجة، وهو ظاهر، وليس هو (2) الهيولى؛ لأنّها قابلة منفعلة، ونسبتها إلى الاتّصال والانفصال واحد، والانفصال حاصل، وأيضا يلزم أن تكون (3) قابلة وفاعلة لشيء واحد وهو محال، وليس هو الصورة الجسميّة؛ لأنّها إمّا أن تتقدّم وتزول (4) حال الانفصال، ويحدث صورتان اُخريان على ما هو المشهور عند الجمهور، وإمّا أن يتباعد أجزاؤها، فعلى الأوّل فاعل الإعادة لا يجوز أن يكون هي


1- .في النسخة: «واجب».
2- .الأولى: «ليست هي». وكذا في الموردالآتي.
3- .في النسخة: «يكون».
4- .في النسخة: «يتقدّم و يزول».

ص: 477

الصورة المعدومة، وذلك ظاهر، ولا الصورتان الموجودتان الآن؛ إذ ليس في شيء من أجزاء الصورة الجسميّة ميل وحركة إلى مثله وجزء آخر، وإلّا لزم أن يكون لطبيعة واحدة في حالة واحدة ميول مختلفة إلى جهات مختلفة كما لا يخفى على المتدبّر. وبهذا يظهر أنّ الأجزاء المتباعدة من الصورة لا تكون (1) فاعلة لاتّصالها وتلاقيها. وبمثل ذلك يظهر أنّ فاعل الإعادة ليس شيئا من الأعراض الحالّة في ذلك الجسم، حيث ينفصل كلّ منها بانفصاله. وإذا لم يكن المعيد المفيد للإعادة جسما ولا جسمانيا كان مجرّدا، فهو إمّا مجرّد له تعلّق وربط خاصّ بذلك الجسم وبغيره كالنفس الكلّيّة، أو مجرّد له زيادة خصوصيّة بذلك الجسم، لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّا نعلم قطعا ضروريا أنّ في كلّ جسم خاصّ أمر مختصّ به (2) يقتضي حفظ وضع أجزائه واتّصاله، فتعيّن الثاني. فإن قلت: إنّ الجسم المتّصل إذا تفرّق، دخل في خللها (3) جسم آخر كالهواء مثلاً فطبع الجسم لقصد إخراجه يقرّب أجزاءه ليتّصل فيخرج ذلك الجسم من بينها. قلنا: غرضنا إثبات هذا الطبع الذي يقتضي إخراج ما ليس من جنس الجسم عن خلاله وأثناء أجزائه، وأنّه ليس شيء من الاُمور المنطبعة في الجسم؛ لما قدّمناه، فهو طبع وصورة نوعيّة مجرّدة متعلّقة به. ثمّ إخراج ذلك الخارجي من بين الأجزاء إنّما يكون ضروريا من طبع الجسم إذا كان ذلك الخارجي ثقيلاً فوقه أو خفيفا تحته كالهواء تحت جزء، أو الماء فوق جزء ليطلب ذلك الجزء حيّزه. وأمّا إذا لم يكن كذلك الإخراج لم يكن لطلب الحيّز، فيحتاج إلى علّة اُخرى، ففي طبع الجسم أمر يقتضي حفظ وضع أجزائه واتّصالها، وليس ذلك شيئا (4) من الجسمانيات؛ لما تقدّم، فهو مجرّد له زيادة ربط وخصوصيّة بذلك الجسم، فهو نفسه، فلكلّ جسم طبيعي محفوظ الأجزاء نفس مجرّدة حافظة لاتّصاله ولنظم أجزائه ولإمكانها؛ لما


1- .في النسخة: «لا يكون».
2- .كذا. والصواب ظاهرا: «أمرا مختصّا به».
3- .كذا.
4- .في النسخة: «شيء».

ص: 478

المنهج الثالث عشر

بيّن من أنّ النفس لا يمكن أن تكون واجبة (1) واجبا محتاجة إلى علّة مجرّدة، وهي الواجب بالذات، أو منتهية إلى المجرّد الواجب بالذات، وهو المطلوب؛ فتأمّل.

المنهج الثالث عشرقال بعض الفضلاء: قد يحدث في الجسم المقسور بالقاسر كيفيّة منافية لما تقتضيه طبيعة المقسور كحرارة، أو برودة، أو ميل غريب، فمفيد تلك الكيفيّة الغريبة ومبقيها ليس القاسر؛ لانتفاء القاسر مع بقاء الكيفيّة الغريبة في المقسور، فالقاسر معدّ فقط. وليس طبيعةَ المقسور؛ لأنّ طبيعة المقسور تقتضي حصول آثارها فيه، فكيف تفيد أثرا ينافي مقتضاها؟ فإنّ الحدس بل الفطرة الصحيحة حاكمة بأنّ الأمر الواحد لا يقتضي بذاته شيئا مبهما، وطبيعة مبهمة يصدق على أفراد متنافية متضادّة يمتنع اجتماعها في موضوع واحد وإن كانت حصول المتنافيات بشروط مختلفة، فإنّ تلك الشروط لا تؤثّر (2) في اقتضاء الذات بالذات. وليس الكيفيّة الاستعداديّة لو سلّم حصولها؛ إذ كلّ ممكن موجود يحتاج إلى علّة فاعليّة، والاستعداد ليس بموجد، على أنّا ننقل الكلام في مفيد الكيفيّة الاستعداديّة ومبقيها (3) . وليس شيئا من الأجسام والجسمانيات المغايرة للقاسر والمقسور؛ لما بيّن في موضعه من امتناع حصول كيفيّة في جسم من جسماني مباين له بأن يكون علّة فاعليّة لها، فمفيدها أمر مجرّد واجب بالذات، أو منتهٍ إلى مجرّد واجب بالذات، وهو المطلوب؛ فتأمّل فيه.


1- .في النسخة: «يكون واجبا».
2- .في النسخة: «لا يؤثّر».
3- .في النسخة: «مبقها».

ص: 479

المنهج الرابع عشر

.........

المنهج الرابع عشرمبنيّ على مذهب بعض الحكماء، تقريره - كما قال بعض الأفاضل - : أنّ من الاُصول الحِكميّة الفطريّة التي يحكم عليها كلّ فطرة سليمة وفطنة صحيحة قويمة أنّ تشابه الآثار يدلّ على تشابه المؤثّرات، وتشابه المؤثّرات يدلّ على تشابه الآثار، وأنّ الآثار المتشابهة لا تحصل (1) إلّا من مؤثّرات متشابهة، وأنّ المؤثّرات المتشابهة آثارها متشابهة ضرورة، فاختلاف الآثار يدلّ على اختلاف المؤثّرات، واختلاف المؤثّرات يدلّ على اختلاف الآثار؛ ولهذا يحكم باختلاف القوى لاختلاف آثارها، ويحكم باختلاف آثار القوى لاختلافها، ويحكم باختلاف حقائق الأنواع كالإنسان والفرس ؛ لمشاهدة اختلاف آثارها. وإذا تمهّد هذه المقدّمة نقول: لا شكّ في تحقّق أنواع مختلفة جسمانيّة عنصريّة وفلكيّة، وتلك الأنواع لجسمانيّتها ممكنة؛ لما مرّ غير مرّة من أنّ كلّ جسماني ممكن، فلا بدّ لتلك الأنواع المختلفة لإمكانها من علل فاعليّة مختلفة؛ لأنّ تعدّد الاستعدادات المختلفة المتنوّعة من المحلّ القابل لا يكفي في صدور المعلولات المختلفة الأنواع من العلّة الواحدة، بل يجب أن يكون في الفاعل أيضا اختلاف؛ فإنّ الفطرة السليمة الصحيحة تحكم بوجوب اختلاف العلّة الفاعليّة المؤثّرة عند اختلاف المعلولات نوعا؛ لما سبق من أنّ اختلاف الأثر يدلّ على اختلاف المؤثّر، وليس شيء من الاستعدادات المادّيّة بمؤثّر (2) أصلاً، فلكلّ نوع منها فاعل مباين في الحقيقة لفاعل نوع آخر، وتلك الفواعل المختلفة المتباينة لا بدّ أن تكون (3) مجرّدة؛ لأنّ المؤثّر في الصور النوعيّة الجسمانيّة السارية في المادّة، بل الأمر الجسماني الساري في المادّة مطلقا - سواء كان صورة، أو كيفيّة - لا يمكن أن يكون أمرا


1- .في النسخة: «لا يحصل».
2- .في النسخة: «بمؤثّرة».
3- .في النسخة: «يكون».

ص: 480

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن إسحاقَ الخَفّافِ أو عن أبيه ، عن محمّد بن إسحاق ، قال : إنَّ عبداللّه الدَّيَصانيَّ سألَ هِشامَ بن الحَكَم ، فقال له :أ لك ربّ؟ فقال : بلى ، قال أ قادرٌ هو؟ قال : نعم قادرٌ قاهرٌ ، قال : يقدر أن يُدْخِلَ الدنيا كلَّها البَيْضَةَ لا تَكبُرُ البيضَةُ ولا تَصغُرُ الدنيا؟ قال هشام : النَّظِرَةَ ، .........

جسمانيا؛ لما حقّق في موضعه، وفي تلك المجرّدات المختلفة المتباينة - إن كانت واجبة بالذات - ثبت المطلوب، وإلّا ينتهي إلى المجرّد الواجب بالذات، وهو المطلوب؛ فتأمّل فيه. اعلم أنّ أكثر هذه الدلائل برهاني، وبعضها إلزامي، فلو كان بعض مقدّمات القسم الثاني مخالفا للحقّ لا يضرّنا؛ فلا تغفل. قوله: (أو عن أبيه) يعني أو روى بوساطة أبيه إبراهيم بن هاشم عن محمّد بن إسحاق. و«الدَيَصاني» - بفتح الياء المثنّاة من تحت بعد الدال المهملة المفتوحة - ، أي الملحد. يقال: داص يديص دَيَصانا، أي مال وحاد. وإنّما قال: (بلى) في جواب السؤال بالإثبات مع أنّها حرف وضعت لترك النفي؛ لأنّ السائل يعتقد النفي. وقوله: (أقادر هو) أي على كلّ ما هو ممكن الوجود، أو على كلّ شيء بكونه مهيّة ومعنى محصّلاً حتّى يصحّ أن يكون متعلّق مطلق القدرة. والدنيا مؤنّث الأدنى، أي القريب، سمّيت؛ لدنوّها، والتأنيث باعتبار النشأة. والمراد بها هاهنا العالم الجسماني الموجود الآن. وقوله: (ويقدر أن يُدخِلَ الدنيا كلَّها البيضةَ) أي في مقدار البيضة و(لا تكبر) بتخفيف الباء الموحّدة، والبيضة فاعله، وكذا الحال في (لا تصغر) وحاصله السؤال عن القدرة على إدخال الكبير في الصغير باقيَيْن على الكِبَر والصِغَر، ولمّا لم يكن عند الهشام جوابه قال: (النظرة) بفتح النون وكسر الظاء المعجمة، أي أسألك النظرة، أي التأخير والإمهال في المطالبة بالجواب.

ص: 481

فقال له : قد أنظَرْتُكَ حَوْلاً . ثم خَرَجَ عنه ، فرَكِبَ هشامٌ إلى أبي عبداللّه عليه السلام فاستأذَنَ عليه ، فأذِنَ له ، فقال له : يا ابن رسول اللّه ، أتاني عبدُاللّه الدَّيَصانيّ بمسألة ليس المعُوَّلُ فيها إلّا على اللّه وعليك . فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «عمّا ذا سَألَكَ؟» فقال : قال لي : كَيْتَ وكَيْتَ ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «يا هشام ، كم حواسُّك؟ قال خَمْسٌ ، قال : «أيّها أصغَر؟» قال : الناظر ، قال : «وكم قدرُ الناظِرِ» قال : مثل العَدَسَةِ أو أقَلُّ منها ، فقال له : «يا هشام ، فانظُرْ أمامَك وفوقَك وأخبِرْني بماترى» فقال : أرى سماءً وأرضا ودُورا وقُصورا وبَراري وجِبالاً وأنهارا ، فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «إنَّ الذي قَدَرَ أن يُدْخِلَ .........

وقوله: (قد أنظرتك حولاً) إشارة إلى أنّه لا يقدر على جوابه. وقوله: (فاستأذن عليه) أي للدخول عليه (فأذِنَ له) بفتح الهمزة أو ضمّها. و«المعوّل» مصدر ميمي أي التعويل والاعتماد. وقوله: (قال لي: كيت وكيت) أي نقل له الحكاية بتمامها. وقوله عليه السلام : (كم حواسّك؟) أي الظاهرة. وقوله عليه السلام : (أيّها أصغر؟) أي محلّ أيّها أصغر. و«الناظر» محلّ القوّة الباصرة، قال في الصحاح: «الناظر في المقلة: السواد الأصغر الذي فيه إنسانُ العين (1) ». قيل (2) : صغره بالنسبة إلى محلّ اللامسة والذائقة ظاهر، وأمّا بالنسبة إلى محلّ السامعة والشامّة فباعتبار أنّ قضاء الصماخ والمنخر أكبر من الناظر، وهما محلّان لهما في الظاهر (3) . انتهى. ولعلّه لا حاجة إلى هذا الاعتذار، فتدبّر. وقوله: (أرى سماء) إلخ، أي نظر فقال: أرى سماء إلخ. وقوله عليه السلام : (قدر أن يدخل) أي قدر على أن يدخل، وحذف حرف الجرّ عن «أن» وأنّه (4) قياسي.


1- .الصحاح، ج 2، ص 831 (نظر).
2- .القائل الملّا خليل القزويني في الشافي، ص 320 (مخطوط).
3- .في المصدر: «والشامّة فإمّا باعتبار أنّ قضاء الصِماخ والمنخر أكبر من الناظر ، وهما محلّان لهما في الظاهر، وإمّا باعتبار الحقيقة».
4- .في النسخة: «أنّ».

ص: 482

الذي تَراه العَدَسَةَ أو أقَلَّ منها قادرٌ أن يُدْخِلَ الدنيا كلَّها البَيْضَةَ ، لا تَصغُرُ الدنيا ولا تَكبُرُ البيضَةُ» .........

وقوله عليه السلام : (لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة) جملة حاليّة. أقول: اعلم أنّ هذه المسألة يمكن تقريرها بوجهين: أحدهما: أن يكون المسؤول عنه أمرا محالاً فيه تهافت وتساقط وتناقض لا يكون له معنى محصّلاً وهو دخول الكبير في الصغير بحسب الوجود العيني دخولاً لا يوجب كون الكبير صغيرا، ولا كون الصغير كبيرا في الخارج، وحينئذٍ يرجع إلى أن يكون الشيء الواحد في حالة واحدة من جهة واحدة كبيرا وأن لا يكون كبيرا، وأن يكون صغيرا وأن لا يكون صغيرا، وأن يكون كبيرا وصغيرا معا، وأن لا يكون كبيرا وصغيرا أصلاً. فالجواب عنه حينئذٍ أن يقال: هذا ممتنع محال ليس له مهيّة محصّلة، ولفظ لا معنى له أصلاً، وهو تعالى قادر على كلّ شيء له معنى ومهيّة، وعلى كلّ ممكن، ومن ذلك لا يلزم العجز؛ لأنّ العجز في اللغة إنّما هو عدم القدرة على الممكن، وعلى الشيء الذي له معنى محصّل، فعدم القدرة على ما ليس كذلك لا يكون عجزا ونقصا. على أنّه لو اُطلق العجز على عدم القدرة على المحال مجازا لم يكن نقصا، لكن لا رخصة في إطلاقه على اللّه تعالى؛ لأنّه يوهم نسبته تعالى إلى النقص والعجز الحقيقي. ومن هذا القبيل سؤالاً وجوابا ما رواه أبو جعفر بن بابويه القمّي في كتاب التوحيد بإسناده عن عمر بن اُذينة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا وتكبر البيضة؟ (1) قال: إنّ اللّه لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون (2) » يعني أنّ اللّه تعالى لا يعجز عن ممكن وعن شيء، أي كلّ ممكن وكلّ ما يكون له معنى محصّل (3) فهو سبحانه لا يعجز عنه، ومعنى قوله: «والذي


1- .في المصدر: «أن يُصَغِّرَ الدنيا ويُكبِّرَ البيضةَ».
2- .التوحيد، ص 130، باب 9، ح 9؛ بحار الأنوار، ج 4، ص 143، ح 10.
3- .في النسخة: «محصّلاً».

ص: 483

سألتني» أي أردت بسؤالك «لا يكون» أنّه لا يكون ممكنا، أو لا يكون له معنىً ومهيّة محصّلة، أو لا يصحّ نسبة الكون والوجود إليه حتّى يجري فيه العجز. وكذا ما رواه في الكتاب المذكور بإسناده عن أبان بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: أيقدر اللّه أن يدخل الأرض في بيضة ولا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ (1) فقال له: ويلك، إنّ اللّه لا يوصف بعجز، ومَن أقدر ممّن يُلطّف الأرضَ، ويُعظّم البيضةَ (2) ». وفيه إشارة إلى أنّ الممكن المتصوّر المحصّل لمعنى من دخول الكبير في الصغير بحسب الوجود العيني صيرورة الكبير صغيرا كتلطيف الأرض وجعلها صغيرة، أو بالعكس كجعل البيضة عظيمة، وهذا الممكن المتصوّر لا شكّ في أنّه مقدور له سبحانه، وهو قادر على كلّ ما لا يستحيل، وأمّا المستحيل فليس له معنى ومهيّة، فعدم تعلّق القدرة به لا ينافي كونه قادرا على كلّ شيء وكلّ ممكن، ولا يلزم منه عجز. وثانيهما: أن يكون المسؤول عنه أمرا ممكنا في ذاته يكون له معنى ومهيّة محصّلة من غير لزوم تهافت وتناقض فيه، وهو دخول الكبير في الصغير بحسب الوجود الظلّي دخولاً لا يوجب كون الكبير صغيرا، ولا كون الصغير كبيرا في الواقع. وهذا الحديث الذي نحن في صدد بيانه مبنيّ على ذلك، فحينئذٍ يرجع السؤال إلى أنّ هل لدخول الكبير في الصغير في الجملة دخولاً لا يوجب صيرورة الكبير صغيرا وبالعكس معنىً محصّل ممكن أم لا؟ وعلى تقدير إمكانه فهو مقدور لربّك أم لا؟ فأجاب عليه السلام ببيان الفرد الممكن من هذا المفهوم وكونه مقدورا له تعالى، صادرا عنه، وهو دخول الصورة المحسوسة المتقدّرة بالمقدار الكبير بنحو الوجود الظلّي (3) في مادّة الحاسّة، ومحلّها


1- .في المصدر: «لا يُصَغِّر الأرضَ ولا يُكبِّر البيضةَ» . وما في المتن مطابق لنقل البحار أيضا.
2- .كتاب التوحيد، ص 130، باب 9، ح 10؛ بحار الأنوار، ج 4، ص 143، ح 11.
3- .في هامش النسخة: بنحو الوجود الظلّي متعلّق بالدخول؛ فلا تغفل (منه).

ص: 484

الموصوف بالمقدار الصغير بنحو الوجود العيني مع عدم تقدّر القوّة الحاسّة في ذاتها بمقدار أصلاً، ولا استحالة فيه؛ إذ كون الصورة الكبيرة في الحاسّة بالوجود الظلّي لا يوجب اتّصاف مادّتها ومحلّها (1) بالمقدار الكبير، بل إنّما يوجب هذا الاتّصاف حصولَ المقدار الكبير فيها بالوجود العيني. وهذا يدلّ على أنّ الإبصار بانطباع صورة المبصَر في الحاسّة ووجودها فيها (2) وجودا ظلّيا كما هو مذهب المشّائين، لا بخروج الشعاع كما هو رأي الإشراقيين؛ فتدبّر. والدليل على أنّ منظور السائل ما يشمل هذا النحو من الدخول، ولم يكن نظره مقصورا على الوجود العيني أنّه بعد ما أجاب عليه السلام بقدرته سبحانه عليه وصدور مثل ذلك عنه أصغاه السائل بسمع القبول، ولم يراجع، ولم يقل: مرادي الدخول بحسب الوجود العيني، والدخول في الحاسّة ليس من هذا القبيل. ومثل هذه الرواية ما رواه ابن بابويه في كتاب التوحيد بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: جاء رجل إلى الرضا عليه السلام فقال: هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: «نعم، وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينك وهي أقلّ من البيضة؛ لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء أعماك عنها (3) » وفي قوله عليه السلام : «ولو شاء أعماك عنها» دلالة على أنّ حصولها في عين المخاطب بقدرته وفعله تعالى؛ لأنّه متمكّن من هذا ومن تركه حيث لو شاء أعماه عنها؛ فتدبّر. قال بعض الأعلام في هذا المقام ما ملخّصه: إنّ للقدرة معنيين: أحدهما: ما ذهب إليه المتكلّمون وهو صحّة الفعل والترك. وقال: ذلك مناط المحمدة واللائمة.


1- .أي مادّة الحاسّة ومحلّ الحاسّة.
2- .أي في الحاسّة.
3- .التوحيد، ص 130، باب 9، ح 11؛ بحار الأنوار، ج 4، ص 143، ح 12.

ص: 485

وثانيهما: ما ذهب إليه الحكماء وهو كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل. وقال: ذلك المعنى أعمّ من المعنى الأوّل، وحمل دخول الكبير في الصغير دخولاً لا يوجب كون الكبير صغيرا، ولا كون الصغير كبيرا في الأحاديث المذكورة جميعا على الدخول بحسب الوجود العيني، وحمل القدرة التي نفيت عن ذلك الدخول - كما في الحديثين المرويّين عليه السلام - على القدرة بالمعنى الأوّل، وحمل القدرة التي اُثبتت عليه - كما في هذا الحديث وفي مثله - على القدرة بالمعنى الثاني. وقال: إنّه تعالى إن شاء محالاً كان المحال ممكنا في نفسه وفعله؛ فإنّ صدق الشرطيّة لا ينافي استحالة الطرفين، سواء كانا محالين في نفسهما، أو لغيرهما، أو أحدهما محالاً في نفسه والآخر لغيره. ونظير هذا أنّه قيل لعالم: هل لو عذّب اللّه الأطفال كان ظالما؟ قال: لا بل كان الأطفال بالغين. ولا يخفى أنّ هذه الشرطيّة غير صادقة في حقّ من يمكن فيه نقص من جهة من الجهات فتخصيصه عليه السلام الرؤية والعدسة بالذكر لمناسبة السؤال لا لتوقّف البيان عليه. انتهى. ولا يذهب عليك أنّ كلّ من فسّر القدرة بهذا المعنى لا يجوز تعلّقها بالمحال، على أنّه حينئذٍ يلزم اختلال نظم الحديث؛ لأنّ ما هو مناط الجواب من بيان معنى القدرة لا أثر له فيه، وما لا دخل له فيه من ذكر الرؤية والعدسة مذكور فيمقام الجواب؛ فتأمّل. ثمّ شرح الحديث بوجه آخر حيث قال: إنّه عليه السلام عرف أنّ مقصود الدَيَصاني ليس ما يفهم من ظاهر اللفظ؛ لأنّ كونه محالاً في نفسه ظاهر على مثله، وإنّما مقصوده طلب نظير ذلك كما يكون في الألغاز والأحاجي وهي اُغلوطة يتعاطاها الناس بينهم للامتحان، فالجواب حينئذٍ أنّه تعالى قادر على أن يخلق كالناظر جسما على قدر البيضة يرى جميع الأجسام الموجودة الآن دفعة واحدة. انتهى.

ص: 486

فأكَبَّ هشامٌ عليه وقَبَّلَ يَدَيْهِ ورأسَه ورِجلَيْه ، وقال : حسبي يا ابن رسول اللّه ، وانصَرَفَ إلى منزله ؛ وغَدا عليه الدَّيَصانيّ ، فقال له : يا هشام ، إنّي جئتُك مُسَلِّما ولم أجِئْكَ مُتقاضيا للجواب ، فقال له هشامٌ : إن كنتَ جئتَ متقاضيا فهاك الجوابَ ، فخرج الدّيَصانيُّ عنه حتّى أتى بابَ أبي عبداللّه عليه السلام فاستأذَنَ عليه ، فأذِنَ له ، فلمّا قَعَدَ قالَ له : يا جعفر بن محمّد ، دُلَّني على معبودي فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «ما اسمُك؟» فخَرَجَ عنه ولم يُخبِرهُ باسمه ، فقال له أصحابه : كيف لم تُخْبرهُ باسمك؟ قال : لو كنتُ قلتُ له : عبدُاللّه ، كان يقول : من هذا الذي أنت له عبد ، فقالوا : له عُد إليه وقل له : يَدُلُّكَ على معبودك ولا يَسألُكَ عن اسمك ، فرَجَعَ إليه ، فقال له : يا جعفر بن محمّد ، دُلَّني على معبودي ولا تَسألْني عن اسمي فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «اجْلِسْ» وإذا غلام له صغير في كفّه بَيضَةٌ يَلعَبُ بها ، فقالَ له أبو عبداللّه عليه السلام : «ناوِلْني يا غلام البيضة» فناوَلَه إيّاها فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «يا دَيَصانيّ : هذا حِصْنٌ

وقوله: (فأكبّ هشام) يقال: كبّه، أي صرعه لوجهه فأكبّ هو، وهذا من النوادر أن يكون «فعل» متعدّيا و«أفعل» لازما. والحاصل أنّه أقبل عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه. وقوله: (حسبي) أي يكفيني ذلك في الجواب عنه، ولا نحتاج إلى مزيد تفصيل. وقوله: (وغدا عليه الدَيَصاني) أي أتاه بكرة للتبختر والتعجيز. والغدوة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والغدو نقيض الرواح. وزيادة «كنتَ» في قوله: (إن كنتَ جئتَ) لنقل مدخول «إن» عن الاستقبال إلى الماضي. وقوله: (فهاك) «ها» مقصورةً اسم فعل بمعنى خُذ، ويلحق بها كاف الخطاب. و«الجواب» منصوب على المفعوليّة. وقوله: (فخرج الدَيَصاني عنه) أي بعد سماع الجواب والعلم بأنّه تعلّمه من أبي عبداللّه عليه السلام . وقوله: (دُلّني على معبودي) أي من عليّ عبادتُه في الواقع، أو بزعمك. وقوله عليه السلام : (ما اسمك؟) إيناس له بالإصغاء إلى الدليل، وإشارة إلى أنّ العلم بالصانع مركوز في ذهن كلّ عاقل، وإنّما إنكار الجاحد له باللسان دون الجنان. وقوله: (كيف لم تخبره؟) أي لِمَ لم تخبره؟

ص: 487

مكنونٌ له جِلدٌ غليظ ، وتحتَ الجلدِ الغليظِ جِلدٌ رقيقٌ ، وتحتَ الجلدِ الرقيقِ ذَهَبَةٌ مائعَةٌ وفِضَّةٌ ذائبةٌ ، فلا الذهَبَةُ المائعةُ تَخْتَلِطُ بالفضّة الذائبةِ ، ولا الفضّةُ الذائبة تَختلِطُ بالذهبةِ المائعة ، فهي على حالها لم يَخرُجْ منها خارجٌ .........

قوله: (إذا) للمفاجأة. والحِصن - بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين - في الأصل كلّ موضع له سور مع سوره. وقوله عليه السلام : (مكنون) أي مستور من جميع الجهات ليس [له] باب أصلاً لئلّا يخرج منه شيء، ولا يدخل فيه شيء. وقوله عليه السلام : (له جلد غليظ) لئلّا ينكسر بأدنى شيء، ولا ينفذ فيه الهواء بحيث يفسده، وليس (1) غلظته بحيث لا يتمكّن الدجاجة من كسره في وقت الانفلاق، ولا تؤثّر حرارتها المعدّة لتكوّن الفرخ فيه، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق مناسب في الملاءمة (2) لما فيه برزخ بينه وبين الجلد الغليظ لئلّا يفسد ما فيه بمماسة الجلد الغليظ الصلب. وقوله عليه السلام : (وتحتَ الجلدِ الرقيق ذَهَبَةٌ مائعةٌ، وفضّة ذائبةٌ) أي تحته جسم شبيه بالذهبة المائعة، وجسم شبيه بالفضّة الذائبة. والذوب ضدّ الجمود، ويقاربه المَيَعان لغةً، لكنّ الذوب يستعمل فيما من طبيعته الجمود، والمَيَعان يستعمل فيه وفي غيره، ولمّا كان من طبع الفضّة الجمودُ (3) ذكر معه الذوبَ، وذكر الميعانَ مع الذهب؛ لأنّه ليس من طبعه ما من طبع الفضّة من الجمود. والفاء في قوله عليه السلام : (فلا الذَهَبةُ المائعة) للتفريع على ما قبله، أو للتعقيب والتعقيب باعتبار اشتمال ما قبله على الميع والذوب. وقوله عليه السلام : (فهي على حالها) أي الحصن، والتأنيث باعتبار البيضة. وقوله عليه السلام : (لم يخرج منها خارج) يصلح استيناف بياني، أي لم يخرج من البيضة - بسبب إحاطة الجلدين بجميع أطرافها بحيث لم يبق لها ثقبة وباب أصلاً - أمرٌ محسوس


1- .في المرآة: «ليست».
2- .في المرآة: «للملائمة».
3- .في النسخة: «من الجمود» . والمثبت من حاشية النائيني، ص 261.

ص: 488

مُصلِحٌ فَيُخْبِرَ عن صلاحها ، ولا دَخَلَ فيها مُفسِدٌ فَيُخْبِرَ عن فسادها ، لا يُدْرَى للذَّكَر خُلِقَت ، أم للأُنثى ، تَنْفَلِقُ عن مثل ألوان الطواويسِ ، أترى لها مُدَبِّرا؟» .........

من الأجسام والجسمانيات التي زعمت الزنادقة بانحصار الموجود فيها يكون مصلحها وحافظها في زمان صلاحها بحيث لا يختلط بسببه شيء من الذهبة المائعة بالفضّة الذائبة وبالعكس (فيُخْبِرَ عن صلاحها) ويدلّ على أنّ صلاحها معه ولم يدخل فيها مُفْسِدٌ من الأجسام والجسمانيات عند فساد صورتي الذهبة المائعة والفضّة الذائبة، وحدوث صور اُخرى حتّى ينتهي إلى صورة الفرخ، وتنفلق عن مثل ألوان الطواويس (فيخبر عن فسادها) ويدلّ على أنّ فسادها معه (لا يُدرى أللذكر خلقت أم للاُنثى؟) لتشابهها وتشابه أجزاء كلّ واحد من جزئها. وقوله عليه السلام : (أترى له مدبّرا؟) استفهام تقريري؛ يعني ظاهر أنّ تلك الحِكَم والمصالح والأحكام والإتقان لا يمكن أن يصدر عن الطبع الذي لا شعور له أصلاً، أو له شعور في غاية الضعف. وقد عرفت أنّها غير مستندة بشيء من الأجسام والجسمانيات الخارجة عن البيضة كالدجاجة الموكّلة بها، أو الإنسان ونحوه من المباشرين، بل له مدبّر ليس في تدبيره آلة ومباشرة وفعل علاجي، فهو مدبّر مجرّد بحت حكيم عليم خبير بصير. ومن تنبّه لما في البيضة تنبّه لما في العِلْويات والسِفْليات من الكواكب وحركاتها وأحوالها والمواليد وقواها وأفعالها وسائر ما في العالم من الإحكام والإتقان والاتّساق والانتظام والحِكَم والمصالح التي لا يشكّ معها في استنادها إلى مبدءٍ مجرّد عالم حكيم قدير خبير بما فيها قاهرٍ لما يشاء على ما يشاء، وهو الصانع الإله الحقّ الذي يجب عبادته. فهذا الحديث كنظائره السالفة تنبيه على وجود صانع العالم، وبرهان على كونه واجب الوجود بالذات بانضمام بعض المقدّمات المطويّة التي قد اطّلع عليه الخواصّ البتّة (ظ) فهي (1) آيات لقوم يعقلون. وتقرير البرهان أنّ ذلك المدبّر المجرّد إن كان واجبا بالذات فهو المطلوب، وإلّا يجب


1- .كتب تحتها: أي هذا الحديث ونظائره (منه عفي عنه).

ص: 489

قال : فأطرَقَ مَلِيّا ، ثمَّ قال : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريكَ له ، وأنَّ محمّدا عبدُه ورسولُه وأنّك إمامٌ وحُجَّةٌ من اللّه على خلقه ، وأنا تائبٌ ممّا كنتُ فيه .

أن ينتهي إلى مدبّر مجرّد واجب بالذات؛ لاستحالة الدور والتسلسل، أو لوجوه اُخر قد مرّ تفصيلها، هذا. وقوله: (فأطرق مَلِيّا) بفتح الميم وكسر اللام وتشديد الياء المثنّاة من تحت، أي طويلاً من الزمان ليتفكّر في ما ذكر، ويتعرّف الحقّ. وإنّما أخذ عليه السلام يستدلّ من المحسوسات - التي لا يشكّ فيها ذو حاسّة - على المبدأ الأوّل في الكلام مع الزنادقة، ولم يستعمل المقدّمات الكلّيّة البرهانيّة من غير التفات إلى المحسوسات؛ لأنّهم ما كانوا يقبلون ما لا يدركون بحاسّتهم، أو لا يكون من المتقرّرات في أذهانهم، كما فيما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن عليّ بن منصور عن هشام بن الحكم أنّه دخل أبو شاكر الدَيَصاني على أبي عبد اللّه عليه السلام ثمّ قال: ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال أبو عبد اللّه : «نستدلّ عليه بأقرب الأشياء» وقال: وما هو؟ قال: فدعا أبو عبداللّه عليه السلام ببيضة فوضعها على راحته فقال: «هذا حصن ملموم داخله غِرْقِئٌ رقيق نظيف، فيه (1) فضّة سائلة وذهبة مائعة، ثمّ تنفلق عن مثل الطاووس، أدخلها شيء؟» قال: لا، قال: «فهذا الدليل على حدوث العالم». قال: أخبرتَ فأوجزتَ، وقلتَ فأحسنتَ، وقد علمتُ أنّا لا نقبل إلّا ما أدركناه بأبصارنا، أو سمعناه بآذاننا، أو شممناه بمناخرنا، أو أذقناه بأفواهنا، أو لمسناه بأكفّنا، أو يصوّر في القلوب بيانا، أو استنبطه بالروايات (2) إيقانا. قال أبو عبد اللّه عليه السلام : «ذكرت الحواسّ الخمس وهي لا تنفع شيئا بغير دليل، كما لا يُقطع


1- .في المصدر: «لطيف به». وفي الأمالي والإرشاد: «تطيف به».
2- .في المصدر: «الرويات». وفي بعضه نسخه: «الروايات».

ص: 490

استدلال الإمام عليه السلام على نفي شريكه تعالى بثلاثة وجوه

الوجه الأوّل يمكن تقريره بطرق

الطريق الأوّل

عليُّ بن إبراهيمَ عن أبيه ، عن عبّاس بن عمرٍو الفُقَيْمي ، عن هشام بن الحَكَم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبداللّه عليه السلام وكان من قول أبي عبداللّه عليه السلام :«لا يخلو قولُك

الظلمة بغير مصباح» (1) انتهى. ولا يذهب عليك أنّ المراد بالحدوث هاهنا كون الشيء مخلوقا ومصنوعا لغيره، وهو ما يعبّر عنه بالحدوث الذاتي. وتلخيص التنبيه على المطلوب قياس حال جميع العالم على حال البيضة كما مرّ تفصيله. والملموم: المجتمع المدوّر المضموم. والغِرْقِئ: قشر البيض الذي تحت القشر الأعلى. قوله: (عن العبّاس بن عمرو الفُقَيمي) بضمّ الفاء وفتح القاف وسكون الياء المثنّاة تحت، نسبةً إلى فُقَيم دارم، والنسبة إلى فقيم كَنانة - الذين هم نساة الشهور في الجاهليّة - فُقمِيّ مثل هُذلِيّ. وقوله: (وكان من قول أبي عبد اللّه عليه السلام ) لفظ هشام. كان الزنديق قال قبل إثبات وجوده تعالى: لو كان وجوده تعالى ثابتا، لجاز عليه الشريك وكونهما اثنين، فلِمَ قلتم بوحدته؟ وما دليلكم على توحيده وجوده (2) ؟ فاستدلّ عليه السلام على نفي شريكه تعالى بثلاثة وجوه: الوجه الأوّل هو قوله عليه السلام : (لا يخلو قولك) إلى قوله: (فإن قلت) ويمكن تقريره بطرق: الطريق الأوّل - ممّا تفرّدت به بعون اللّه وحسن هدايته من تقرير برهان التمانع على وجه تمام لا يرد عليه شيء أصلاً منطبق على ذلك الحديث - (3) وهو أنّه لو كان المبدأ الأوّل


1- .التوحيد، ص 292، باب 42، ح 1؛ أمالي الصدوق، ص 433، مجلس 56، ح 5؛ الإرشاد، ج 2، ص 201 - 203؛ روضة الواعظين، ص 22؛ إعلام الورى، ج 1، ص 543 - 544؛ كشف الغمّة، ج 3، ص 191 - 192؛ بحار الأنوار، ج 3، ص 39، ح 13؛ وج 10، ص 211، ح 12 .
2- .كذا.
3- .تقدّم ذكره برهان التمانع و تفرّده بذلك في ص 342 . و نقله في مرآة العقول، ج 1، ص 270 - 272 مع تلخيص و قال: «هو قريب من بعض الوجوه السابقة. وتقد».

ص: 491

الإله الحقّ الصانع للعالم اثنين، فلا يخلو من أن يكون كلّ واحد منهما قديما بالذات قويّا قادرا على [إيجاد] (1) كلّ ممكن، وبالجملة يكون متّصفا بصفات الاُلوهيّة من كمال القدرة والحكمة والإرادة وغير ذلك، متنزّها عن جميع النقائص التي رأسها الإمكان حتّى يكون قدرة كلّ واحد منهما وحكمته وإرادته مع تعلّق إرادته كافية في وجود جميع العالم على الوجه الأصلح المشتمل على الحِكَم والمصالح التي لا تعدّ ولا تحصى كما هو واقع كذلك. أو لا يكون كلّ واحد منهما كذلك، وحينئذٍ إمّا أن يكون كلّ منهما ضعيفا عن إيجاد جميع العالم بانفراده كذلك، أو يكون أحدهما قويّا على ذلك، والآخر ضعيفا عنه. وعلى الأوّل «فلِمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه» من (2) إيجاد العالم «ويتفرّد بالتدبير» والإيجاد حتّى يلزم منه عدم العالم بالكلّيّة؛ يعني بالضرورة يكون إيجاد كلّ واحد منهما العالم وتأثيره وتدبيره فيه منافيا لإيجاد الآخر له وتأثيره وتدبيره فيه؛ لاستحالة توارد العلّتين المستقلّتين بالتأثير على المعلول الواحد الشخصي - أي على مجموع العالم - ؛ لما عرفت من أنّه واحد حقيقي يحصى، بل على كلّ واحد من جزئياته (3) أيضا، فإيجاد (4) هذا مانع عن إيجاد ذلك وبالعكس، فيتحقّق التمانع بينهما، ويلزم على تقدير إيجادهما للعالم عدم إيجادهما له، فيلزم من تعدّد (5) الصانع عدم العالم رأسا وبالكلّيّة، كما نطق به كلام المجيد حيث قال: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا» (6) . وعلى الثاني - وهو أن لا يكون كلّ واحد منهما كافيا في وجود جميع العالم على الوجه الواقع عليه، سواء كان عدم كفايته فيه باعتبار عدم شمول قدرته أو حكمته أو إرادته أو عدم شمول تعلّق إرادته عليه - يلزم أن يكونا ضعيفين ناقصين عاجزين باعتبار


1- .من المرآة.
2- .في المرآة: «من».
3- .في المرآة: «أجزائه».
4- .في المرآة: «وإيجاد».
5- .المثبت من المرآة وفي النسخة : «عدد».
6- .الأنبياء (21): 22.

ص: 492

أيّ صفة كانت بالضرورة، وما يكون كذلك لا يكون مبدءً أوّلاً (1) صانعا للعالم صالحا للاُلوهيّة، هذا خلف. توضيح ذلك أنّ عدم تفرّد كلّ منهما بخلق جميع العالم على الوجه الأصلح الذي لا يمكن أن يكون أصلح منه وشركتهما في خلقه إمّا أن يكون على وجه الاضطرار؛ لعدم تمكّن كلّ واحد منهما على الانفراد عن ذلك، أو على وجه الإرادة والاختيار. وعلى الأوّل العجز (2) والضعف والنقص ظاهر؛ لأنّ جميع العالم على هذا الوجه ممكن، فكلّ منهما لا يقدر على كلّ ممكن. وعلى الثاني فإمّا أن يكون في شركتهما حكمة ومصلحة لا تكون تلك الحكمة والمصلحة في الانفراد أم لا، وعلى الأوّل يلزم أن يكون كلّ واحد منهما بانفراده فائتا لتلك الحكمة والمصلحة، وهذا أيضا ضعف وعجز ونقص في كلّ واحد منهما بالضرورة، بل هذا القسم أيضا يرجع (3) إلى الشقّ الأوّل كما لا يخفى. وعلى الثاني يلزم أن يكون شركتهما سفها وعبثا، فيلزم خلوّهما عن الحكمة، وهو ضعف وعجز عن رعاية الحكمة ونقص عظيم. والحاصل أنّا نعلم بالضرورة أنّ الشركةَ في خلق شيء - على أيّ وجه كانت - نقصٌ، والتفرّد فيه كمال، والمنازع مكابر، وكلّ ما هو عاجز ضعيف ناقص لا يصلح أن يكون إلها حقّا ومبدءً أوّلاً صانعا للعالم؛ لما عرفت من أنّه مستجمع لجميع الكمالات الغير المتناهية، ومتنزّه عن جميع النقائص، ولأنّ المبدأ الأوّل الصانع للعالم يجب أن يكون واجب الوجود بالذات الذي هو موجود بحت لا شيء موجود، وإلّا لم يكن مبدءً أوّلاً صانعا للعالم، بل يكون مصنوعا ومن جملة العالم كما مرّ تفصيله، هذا خلف. وقد أشار عليه السلام [إليه] بقوله: (قديمين) أي قديمين بالذات.


1- .في المرآة: + «و».
2- .في النسخة: «والعجز والمثبت من المرآة».
3- .في النسخة: «راجع».

ص: 493

ولمّا كان الوجود مستتبعا لسائر الكمالات فالموجود البحت الذي لا يتصوّر خلوّه عن مرتبة من مراتب الكمال حتّى يتصوّر فيه نقص، فكلّ ما يكون فيه بل يتصوّر فيه نقص، فهو شيء موجود وليس موجود بحت (1) ، وكلّ ما هو شيء موجود فهو ممكن كما مرّ بيانه، فحينئذٍ يلزم إمكان الصانعين وعدم كونهما صانعا للعالم أصلاً على فرض كونهما صانعا له، هذا خلف؛ فتدبّر. وعلى الثالث - وهو أن يكون أحدهما قديما بالذات قويّا قادرا على إيجاد جميع العالم كافيا فيه ، والآخر ضعيفا عاجزا عن إيجاد الكلّ ناقصا غير كافٍ فيه - يلزم المطلوب، وهو وحدة صانع العالم؛ للعجز الظاهر في الضعيف، وقد عرفت أنّ كلّ عاجز وناقص ممكن لا يصلح أن يكون مبدءً أوّلاً (2) صانعا للعالم صالحا للاُلوهيّة. ولمّا كان فساد القسم الثاني يظهر من بيان فساد الشقّ الثاني من الثالث لم يتعرّض عليه السلام للتصريح بذكره؛ فتدبّر؛ فإنّ هذا برهان تمام على وحدة الإله الصانع للعالم الواجب بالذات. وتقريره على سبيل الإجمال أنّه لو كان المبدأ الأوّل الإله الحقّ الصانع للعالم اثنين فإمّا أن يكون كلّ واحد منهما كافيا في وجوده على الوجه الأصلح الذي لا يمكن أن يكون أصلح منه، ولا يكون شيء منهما كافيا في وجوده، بل كلّ واحد منهما علّة لبعض العالم، وكلاهما علّة للمجموع، أو يكون أحدهما كافيا دون الآخر. فعلى الأوّل يلزم توارد العلّتين المستقلّتين بالتأثير على المعلول الواحد الشخصي؛ لأنّ مجموع العالم واحد شخصي كما مرّ، ومع قطع النظر عن ذلك يلزم التوارد في كلّ جزئي من جزئيات العالم، وذلك ظاهر، ولمّا كان وقوعه بكلّ منهما مستلزما لعدم وقوعه بالآخر؛ لاستحالة التوارد، فكلّ منهما مانع عن وقوعه بالآخر، فيتحقّق التمانع بينهما، ويلزم من ذلك عدم وقوعه بالكلّيّة، هذا خلف.


1- .كذا. ولعلّ الصواب : «موجودا بحتا».
2- .في المرآة: «مبدءً و لا صانعا».

ص: 494

الطريق الثاني

إنّهما اثنان من أن يكونا قديمَيْن قويَّيْن ، أو يكونا ضعيفَيْن ، أو يكونَ أحدُهما قويّا والآخَرُ ضعيفا ، فإن كانا قويّين فِلمَ لا يَدفَعُ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَهُ ويَتَفَرَّد بالتدبير ، وإن زعمتَ أنّ أحدَهما قويٌّ والآخَرَ ضعيفٌ ثَبَتَ أنّه واحدٌ كما نقول ؛

وعلى الثاني يلزم نقص كلّ منهما؛ لأنّا نعلم بالضرورة أنّ التفرّد في خلق جميع العالم على الوجه الأصلح الأكمل المراعى فيه جميع الحِكَم والمصالح الواقعة فيه كمال، والشركة فيه نقص، سواء كانت الشركة اضطراريّة، أو إراديّة اختياريّة ناشئة عن رعاية حكمة ومصلحة ليست في التفرّد أم لا، والناقص لا يكون مبدءً أوّلاً موجودا بحتا ولا يصلح للاُلوهيّة وصانعيّة العالم، بل يكون ممكنا معلولاً من جملة العالم؛ لوجوب تنزّه المبدأ الأوّل الإله الحقّ الصانع للعالم عن جميع النقائص، واستجماعه لجميع مراتب الكمالات كما بيّن سالفا، فيلزم أن لا يكون شيء منهما مبدءً أوّلاً إلها حقّا صانعا للعالم، هذا خلف. وعلى الثالث يلزم أن يكون ما هو كافٍ (1) في وجوده هو الصانعَ دون الآخر؛ لما ذكر آنفا، فلا يكون الصانع متعدّدا، هذا خلف (2) . الطريق الثاني: هو برهان التمانع على النهج المشهور، تقريره أنّه (لا يخلو قولك: إنّهما اثنان) أي على تقدير القول باثنينيّة الصانع المتّصف بصفات الاُلوهيّة من استجماعه لجميع الكمالات، وتنزّهه عن جميع النقائص (لا يخلو من أن يكونا قديمين بالذات قويّين) قادرين على الإتيان بمرادهما على تقدير التخالف بينهما والتناقض بين مراديهما؛ لأنّ التعدّد يستلزم إمكان التخالف بينهما، (أو يكونا ضعيفين) عاجزين عن الإتيان بمرادهما على ذلك التقدير، (أو يكون أحدهما قويّا) قادرا على الإتيان بمراده على ذلك التقدير (والآخر ضعيفا) عاجزا عن الإتيان بمراده. فعلى الأوّل - وهو أن يكونا قويّين قادرين - (فلِمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه) عن الإتيان بمراده حتّى يحصل مراده (ويتفرّد بالتدبير)؛ يعني إتيان كلّ واحد بمراده - وهو أحد النقيضين - مانع عن إتيان الآخر بمراده، وهو النقيض الآخر؛ لاستحالة اجتماع النقيضين،


1- .في النسخة: «كافيا».
2- .لأنّه قد فرض أنّه اثنان.

ص: 495

للعجز الظاهر في الثاني ، فإن قلت : إنّهما اثنان ، لم يَخْلُ من أن يكونا مُتّفقَيْن من كلّ جهةٍ ،

ففِعْل كلّ واحد منهما دافع لفعل الآخر، فيتحقّق التمانع والتدافع بين الفعلين وكذا بين الفاعلين، فيلزم عدم تحقّق مرادهما على فرض تحقّقه، هذا خلف. وأيضا يلزم ارتفاع النقيضين، وهو محال. وعلى الثاني - وهو أن يكونا ضعيفين عاجزين عن الإتيان بمرادهما - يلزم أن لا يكون شيء منهما إلها حقّا خالقا للعالم، هذا خلف. على أنّه يلزم ارتفاع النقيضين أيضا، وهو محال. وعلى الثالث يكون الأوّل إلها حقّا صانعا للعالم دون الثاني؛ (للعجز الظاهر) المنافي للاُلوهيّة وصانعيّة العالم فيه (1) ، فيكون الإله الصانع واحدا كما نقول وقد فرض أنّه اثنان هذا خلف. وقد مرّ وجه عدم تعرّضه عليه السلام للتصريح بإبطال القسم الثاني، وفيه أبحاث وأجوبة قد مرّ تفصيلها في التنبيه الثاني من الأصل الثاني من الهداية الإلهيّة فارجع إليه. قال صاحب الفوائد المدنيّة في شرح الكافي: حاصل هذا الدليل أنّه لو كان الإله اثنين، لدفع الآخر قول هذا الإله المرسِل للرسل لإقرار الناس بأنّه لا شريك له بمثل فعله من إرسال رسل اُخر؛ لإقرارهم بأنّ له شريكا (2) ولم يدفع. (3) انتهى. وأقول: لا يذهب عليك أنّه خطابة، وذِكْره في هذا المقام في غاية السخافة؛ لأنّ الزنديق مكذّب للرسل، غير مصدّق لواحد منهم، فكيف يصحّ الاحتجاج بقولهم هاهنا؟! نعم، هذا نافع لمن قال بوجود الرسول في الجملة كالملّيين. وأقول: يمكن الاستدلال بهذه الطريقة بأن يقال: لو كان الإله اثنين، لكان كلاهما، أو واحد منهما كاذبا في إخبار الاُمم بوساطة الرسل بأنّه لا شريك له، ولا شكّ في أنّ الكاذب ناقص، والناقص غير صانع للعالم وغير صالح للاُلوهيّة؛ لما مرّ. ولا يخفى أنّ هذا الدليل وإن لم


1- .أي في الثاني.
2- .في النسخة: «شريك».
3- .الحاشية على اُصول الكافي (المطبوع في ميراث حديث شيعه) ج 8، ص 299.

ص: 496

الطريق الثالث

يصلح أن يكون شرحا لهذا الحديث لكنّه في نفسه أتمّ ممّا ذكره صاحب الفوائد. الطريق الثالث: ما ذكره بعض الأعلام (1) في شرحه حيث قال: حاصله أنّ الصانع لا بآلة ومباشرة وفعل علاجي يستحيل بديهةً أن يكون ناقصا، والاثنينيّة فيه يستلزم النقص؛ لأنّه لو كانا اثنين، فلا شكّ أنّ كلّاً منهما قديم بالذات؛ لأنّ الاحتياج في الوجود إلى الغير أصل كلّ نقص، فلم يكن أحد الشريكين من مصنوعات الآخر. وهذا إشارة إلى إبطال مذهب المجوس في الاثنينيّة وهو أنّ صانع الخيرات بلا آلةٍ يزدان وهو اللّه تعالى، وصانع الشرّ بلا آلةٍ أهرمن وهو الشيطان، وأهرمن من محدثات يزدان ومصنوعاته، وكلّ منهما مستقلّ في القدرة على فعله، وحينئذٍ نقول: «لا يخلو» هذان القديمان من «أن يكونا قويّين» أي مستقلّين بالقدرة، على كلّ ممكن في نفسه، سواء كان موافقا للمصلحة أو مخالفا، «أو يكونا ضعيفين» ولو في ممكن من الممكنات، أي غير مستقلّين بالقدرة على ممكن ما في نفسه «أو يكون أحدهما قويّا» على ممكن (2) في نفسه «والآخر ضعيفا» في ممكن من الممكنات، «فإن كانا قويّين فلِمَ لا يدفع» الاستفهام للإنكار، أي يدفع البتّة «كلّ [واحد ]منهما صاحبه» عن الشركة «ويتفرّد بالتدبير» لأنّ كون كلّ منهما قويّا في مقدور واحد مشتمل على التدافع، أي التنافي، فضلاً عن كون كلّ منهما قويّا في كلّ ممكن؛ لأنّ معنى القوّة والقدرة بالاستقلال كون شخص بحيث لو أراد أيّ مقدوريّة مِن فعلٍ وترك لم يقدر غيره على منافي مراده، فقوّة كلّ منهما في كلّ ممكن مستلزم (3) لضعف الآخر في كلّ ممكن، وأن لا يصدر عن الآخر ممكن إلّا بتمكين الأوّل إيّاه وعدم إرادته ضدّه، وهذا تفرّد بالتدبير في كلّ ممكن.


1- .هو المولى خليل القزويني.
2- .في المصدر المخطوط: «كلّ ممكن».
3- .في المصدر المخطوط: «مستلزمة».

ص: 497

الوجه الثاني

ويحتمل أن يراد بدفع كلّ منهما صاحبه دفعُه عن القوّة، أو عن إرادته ضدّ مراد الأوّل، ومآل الكلّ واحد. «وإن زعمتَ أنّ أحدهما قويّ» أي على كلّ ممكن في نفسه «والآخر ضعيف» أي في ممكن ما «ثبت أنّه» أي المدبّر بلا آلة ومباشرة وفعل علاجي (1) «واحد كما نقول؛ للعجز الظاهر في الثاني» وبطلان الشقّ الثالث مستلزم لبطلان الشقّ الثاني بطريق أولى، ولذا لم يذكره (2) . انتهى. فتأمّل فيه. الوجه الثاني (3) هو قوله عليه السلام : (فإن قلت) وفي بعض النسخ بدل الفاء الواو إلى قوله: (ثمّ يلزمك) أقول في تقريره: إنّه (إن قلت): إنّ الإله الحقّ الصانع للعالم المدبّر له (اثنان لم يَخْلُ من أن يكونا متّفقين من كلّ وجه) - وفي بعض النسخ بدله «من كلّ جهة» - أي متّفقين من جميع الوجوه من (4) الذات والصفات بحيث لا تمايز بينهما أصلاً، وحينئذٍ يلزم وحدة الاثنين وارتفاع الاثنينيّة وهو بديهيّ البطلان. ولظهور فساده لم يتعرّض عليه السلام لذكره. ويحتمل أن يكون معنى اتّفاقهما من كلّ جهة أنّ نسبة كلّ واحد واحد من المعلولات إلى كلّ واحد منهما متساوية من جميع الوجوه بأن لا يكون في كلّ منهما ولا في واحد منهما ما يختصّ به، ويرجّح صدور معلول عنه على صدوره عن الآخر من المصلحة أو الداعي أو القدرة (5) أو غير ذلك، وحينئذٍ فلا يخلو إمّا أن يكون كلّ واحد منهما مؤثّرا مستقلّاً في كلّ معلول، فيلزم توارد العلّتين المستقلّتين بالتأثير على المعلول الواحد الشخصي، أو


1- .في المصدر المخطوط: «أي المحدث المثبت للعالم».
2- .الشافي، ص 323 (مخطوط) مع تلخيص بعض الفقرات.
3- .تقدّم الوجه الأوّل في ص 341.
4- .في المرآة: «أي» بدل «من».
5- .في النسخة: «لقدرة».

ص: 498

كلّ واحد منهما مؤثّرا في بعض دون بعض بأن يكون أثر كلّ منهما مغايرا لأثر الكلّ، وحينئذٍ يلزم الترجيح بلا مرجّح، وكلاهما محالان «أو» يكونا «مفترقين من كلّ جهة» أي من كلّ جهة كانت؛ يعني أو يكونا مفترقين من أيّ جهة كانت، سواء كان الافتراق في ذاتهما أو في صفاتهما أو فيهما معا، فمعناه أنّه أو لا يكونا متّفقين من جميع الجهات، بل يكونا مفترقين في الجملة، فالحصر حاصر. ويحتمل أن يكون معناه: أو لا يكون نسبة كلّ واحد واحد من المعلولات إلى كلّ واحد منهما متساوية، بل يكون في كلّ منهما ما يختصّ به معلوله دون معلول الآخر. وعلى التقديرين فذلك باطل من وجهين: أحدهما: لأنّه يلزم من تعدّده فساد العالم وخروجه عن النظام الذي هو عليه، وبطل الارتباط الذي (1) بين أجزاء العالم، واختلّ انتظامها واتّساقها، فلم يكن بينها هذا النظام والانتظام، ولم يحصل ذلك الارتباط والاتّساق، ولم يوجد ذلك (2) الصلاح الوحداني، بل يوجد الوضع منتشرا، والصنع متبدّدا، والرؤساء متكثّرا، ويختلّ (3) الارتباط والسياسة التي بين أجزائه كما يشهد به الفطرة السليمة، ويحكم به الفطنة الصحيحة القويمة، ونطق به الآية الكريمة حيث قال عزّ من قال: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّهُ لَفَسَدَتا» (4) وقد مرّ تفصيل ذلك في التنبيه الأوّل من الأصل الثاني من الهداية الإلهيّة (5) . والتالي باطل فكذا المقدّم؛ لأنّا «لمّا رأينا الخلقَ منتظما، والفَلَكَ جاريا، والتدبيرَ واحدا، و» رأينا «الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ» في غاية الارتباط والانتظام والاتّساق «دلّ صحّةُ الأمرِ والتدبيرِ وائتلافُ الأمر على أنّ المدبِّرَ واحدٌ». وثانيهما: لأنّه قد مرّ فيما سبق أنّ العالم الجسماني واحد طبيعي، وأنّه حيوان واحد،


1- .في النسخة: «التي».
2- .في النسخة: «تلك».
3- .في النسخة: «ويحتمل».
4- .الأنبياء (21): 22.
5- .مرّ في ص؟؟؟

ص: 499

أو مفترقَيْن من كلّ جهة ، فلمّا رَأيْنا الخلقَ مُنتظِما ، والفَلَكَ جاريا ، والتدبيرَ واحدا، والليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ ، دَلَّ صحّةُ الأمرِ والتدبيرِ وائتلافُ الأمر على أنَّ المدبِّرَ واحدٌ ،

والفطرة السليمة تحكم بأنّ الواحد الطبيعي - وإن كان ذا (1) أجزاء مختلفة - إذا كان مصنوعا يكون صانعه واحدا؛ فإنّه لا يجوّز عاقل أن يكون فاعل شخص واحد من الحيوان مثلاً وموجده متعدّدا، بل يحكم حكما حتما جزما بأنّه ما صدر ذلك الشخص الواحد إلّا من فاعل واحد بالضرورة، ومن يجوّز أن يكون فاعل شخص واحد طبيعي متعدّدا، فقد خرج عن الفطرة الإنسانيّة، والعالم الجسماني ممكن بجميع أجزائه؛ لما سبق من الدلائل والبراهين، فيكون مصنوعا، له فاعل، وفاعله وموجده ومدبّره لا بدّ أن يكون واحدا؛ لأنّه على ما مرّ واحد طبيعي وحيوان واحد شخصي، فكما أنّ العقل الصريح يحكم بأنّ خالق شخص واحد من الإنسان كزيد مثلاً لا يكون متعدّدا، كذلك يحكم بأنّ خالق العالم الجسماني بأسره - وهو حيوان واحد شخصي - لا يكون متعدّدا أصلاً بل هو واحد. لا يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون كلّ جزء من أجزائه مصنوعا لصانع آخر، وصانع الكلّ يأخذ تلك الأجزاء وينظّمها ويربط بعضها ببعض كصانع البيت؟ لأنّا نقول: تلك الأجزاء مخلوقة بالربط والتعلّق، وبالجملة بوجه لا يحصل الارتباط بينها إلّا بوجودها كأعضاء الإنسان الواحد لا أنّ الارتباط يعرضها بعد وجودها وخلقها كأجزاء البيت. والحاصل أنّ تلك الأجزاء وجدت مرتبطة منتظمة متعلّقة بعضها ببعض لا أنّها وجدت ثمّ ارتبطت وانتظمت؛ فتأمّل. إذا عرفت هذا فنقول: يحتمل أن يكون قوله عليه السلام : (لمّا رأينا الخلق منتظما) إلى قوله: (دلّ صحّة الأمر) إشارة إلى أنّ العالم الجسماني واحد طبيعي، وأنّه حيوان واحد شخصي، ويكون قوله عليه السلام : «دلّ صحّة الأمر» إلخ إشارة إلى أنّ صانع الواحد الطبيعي والحيوان الواحد الشخصي ومدبّره يجب أن يكون واحدا، فيجب أن يكون صانع العالم واحدا. فإن قلت: هذا الدليل إنّما يدلّ على وحدة صانع العالم الجسماني، لا وحدة صانع


1- .في النسخة: «ذي».

ص: 500

الوجه الثالث، ويمكن تقريره بنحوين

النحو الأوّل

ثمّ يَلْزَمُك إن ادّعيتَ اثنين فُرْجَةٌ ما بينهما حتّى يكونا اثنين ، فصارت الفُرجَةُ ثالثا بينهما قديما معهما ، فيلزَمُك ثلاثةٌ ، فإن ادَّعيتَ ثلاثَةً لَزِمَك ما قلت في الاثنين حتّى تكونَ بينهم

العالم مطلقا. قلنا: هذا القدر كافٍ لهؤلاء الزنادقة؛ لأنّ الموجود عندهم محصور في العالم الجسماني كما مرّ فيما رواه الصدوق في كتاب التوحيد عن عليّ بن منصور (1) ؛ فتدبّر. الوجه الثالث: هو قوله عليه السلام : (ثمّ يَلْزَمُك) إلخ ويمكن تقريره بنحوين: النحو الأوّل: أقول: يعني «يَلْزَمُك إن ادّعيتَ» أنّ المبدأ الأوّل الواجب بالذات اثنان «فرجةٌ ما بينهما حتّى يكونا (2) اثنين» أي يلزمك أن يكون ما بينهما ما يمتاز به ويتعيّن كلّ واحد منهما عن الآخر حتّى تتحقّق فيهما الاثنينيّة؛ لاشتراكهما في الوجوب الذاتي، فلو كان الوجوب بالذات تمام حقيقتهما ولم يكن مميّزا فاصلاً بينهما لا يكونا اثنين؛ لامتناع الاثنينيّة بلا مميّز بينهما. وقد عبّر عليه السلام عن المميّز الفاصل بالفرجة؛ حيث إنّ الفاصل بين الأجسام يعبّر عنه بالفرجة، واُولئك الزنادقة لم يكونوا يدركون غير المحسوسات، تنبيها على أنّكم لا تستحقّون أن تخاطبوا إلّا بما يليق استعماله في المحسوسات. وذلك المميّز لا بدّ أن يكون وجوديا داخلاً في حقيقة أحدهما؛ إذ لا يجوز التعدّد مع الاتّفاق في تمام الحقيقة كما ذكرناه. ولا يجوز أن يكون ذلك المميّز ذا حقيقة يصحّ انفكاكها عن الوجود وخلوُّها عنه ولو عقلاً وبحسب التصوّر، وإلّا لكان معلولاً محتاجا إلى المبدأ، فلا يكون مبدءً أوّلاً ولا داخلاً فيه، فيكون المميّز الفاصل بينهما موجودا قديما بذاته كما به الاشتراك وما فيه الاتّفاق، فيكون الواحد المشتمل على المميّز الوجودي اثنين لا واحدا، ويكون الاثنان اللذان ادّعيتهما ثلاثةً. (فإن) قلت به و(ادّعيت ثلاثةً لزمك ما قلت في الاثنين) من تحقّق المميّز بين الثلاثة،


1- .تقدّم في ص 341.
2- .في النسخة: «يكون».

ص: 501

فُرجَةٌ ، فيكونوا خمسَةً ، ثمَّ يَتَناهى في العَدَدِ إلى ما لا نهاية له في الكثرة» .

ولا بدّ من مميّزين وجوديين حتّى يكون بين الثلاثة فرجتان، ولا بدّ من كونهما قديمي الذات (1) كما مرّ (فيكونوا خمسة) وهكذا. (ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة) أي يبلغ عدده إلى كثرة غير متناهية، وذلك - مع أنّه خلاف ما فرضت من كونه اثنين - باطل من وجهين: أحدهما: لأنّه يلزم على هذا وجود عدد بلا واحد، وكثرة بلا وحدة؛ لأنّه يلزم حينئذٍ من كون الواجب اثنين كثير غير متناهٍ لا نهاية له في مراتب الكثرة، فيلزم اشتمال واجب واحد - وهو ما يدخل فيه المميّز - على أجزاء غير متناهية واجبة الوجود التي يشتمل كلّ واحد منها على أجزاء غير متناهية كذلك، وهكذا إلى غير النهاية، فيلزم وجود كثير بلا واحد، وكثرة بلا وحدة ، وذلك بديهيّ البطلان. وثانيهما: التسلسل؛ لتوقّف وجود الواجب المشتمل على المميّز على وجود مميّزات، كلّ واحد منها موقوف على مميّزات اُخر، وهكذا إلى غير النهاية، وهو محال. فإن قلت: على تقدير كونهما اثنين إنّما يلزم وجود مميّزين يكون أحدهما داخلاً في هذا الواجب، والآخر داخلاً في الآخر، فكيف اقتصر بذكر المميّز الواحد وألزم وجوب الثلاثة؟ بل إنّما يلزم على هذا التقدير أن يكون الاثنان أربعة، والأربعة ثمانية، وهكذا في كلّ مرتبة يلزم ضِعف ضِعف المفروض. قلنا: إنّما يلزم ذلك إذا كان ما به الاشتراك ممكنا مبهما محتاجا في تحصيله إلى ما به الامتياز، فلا بدّ في كلّ فرد منه من مميّز داخل فيه متعيّن ومتحصّل به كلّ واحد منه، وأمّا إذا كان ما به الاشتراك موجودا بحتا واجبا بالذات متحصّلاً بنفسه - كما هو المفروض على تقدير تعدّد الواجب بناءً على أنّ جزء الواجب لا يجوز أن يكون ممكنا مبهما متحصّلاً بغيره - فلا حاجة إلى المميّز إلّا لأجل تحقّق الاثنينيّة فقط، وفي تحقّقها يكفي وجود مميّز


1- .في النسخة: «بالذات».

ص: 502

واحد داخل في أحدهما؛ فإنّ (1) بمجرّد ذلك صار هذا الواجب المركّب من المتّفق فيه والمميّز مغايرا للواجب الآخر الذي هو بحت المتّفق فيه. ومن هذا ظهر أنّه لو كان الواجب ثلاثة إنّما يلزم وجود مميّزين حتّى صار خمسة، ولو كان خمسة إنّما يلزم وجود أربع مميّزات حتّى صار تسعة، وهكذا على ترتيب الفُرَج بين الأجسام. على أنّ هذا القدر كافٍ في لزوم المحذور، مع أنّه قريب لفهم المخاطب القاصر عن إدراك ما ليس بمحسوس، والزائد عليه البعيد عن فهمه غير محتاج إليه، هذا. لا يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون الوجوب الذاتي المشترك بينهما خارجا عن حقيقة كلّ واحد منهما عارضا لهما، ويكون امتياز كلّ منهما عن الآخر بتمام حقيقته، فحينئذٍ لا يلزم أن يكون ما به الامتياز داخلاً في أحدهما حتّى يلزم المحال. لأنّا نقول: وجوب الوجود هو عين حقيقة واجب الوجود، فلا يجوز أن يكون خارجا عنها. والدليل على كونه عين حقيقته تعالى أنّه لو كان زائدا عليها عارضا لها، لكان مفتقرا إلى الغير الذي هو معروضه، فيكون ممكنا لذاته مستندا إلى علّته، فلا بدّ له من مؤثّر، وذلك المؤثّر إن كان غير تلك الحقيقة، يلزم أن يكون الواجب لذاته محتاجا إلى الغير في الوجوب، وهذا محال. وإن كان عينها، يلزم تقدّم وجوب الوجود بالذات على نفسه؛ لأنّ العلّة ما لم يجب وجودها استحال وجودها، فاستحال أن يوجد المعلول، فلو كان علّة لوجوبه بالذات، لزم تقدّمه بالوجوب على الوجوب، فيكون وجوب الموجود بالذات قبل نفسه، وهو محال. ولو كان داخلاً في حقيقته، لزم التركيب، وقد أقمنا الدليل على أنّ التركيب مطلقا - سواء كان من الأجزاء الذهنيّة أو الخارجيّة - مستلزم للإمكان، وإمكان الواجب محال، فثبت أنّه عين حقيقته، وهو المطلوب.


1- .كذا.

ص: 503

وهاهنا بحث من وجوه: الأوّل: ما ذكره القاضي الميبدي وهو أنّه معنى قولهم: «وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود وعينها» أنّه يظهر من نفس تلك الحقيقة أثر صفة وجوب الوجود، لا أنّ تلك الحقيقة عين هذه الصفة، فلا يكون اشتراك موجودين واجبي الوجود في وجوب الوجود إلّا أن يظهر من نفس كلّ منهما أثر صفة الوجوب، فلا منافاة بين اشتراكهما في وجوب الوجود، وتمايزهما بتمام الحقيقة. والثاني: ما ينسب إلى ابن كمونة، وهو الذي سمّاه بعضهم بافتخار الشياطين؛ لابدائه تلك الشبهة وهي شبهة سهلة العقد عويصة الحلّ، تقريرها أنّه لِمَ لا يجوز أنّ (1) هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنه، مختلفتان بتمام المهيّة يكون كلّ منهما واجبا بذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما، مقولاً عليهما قولاً عرضيا. والثالث: ما قيل من أنّه لِمَ لا يجوز أن يكون ما به الامتياز حينئذٍ أمرا عارضا لا مقوّما، فلا يلزم من إمكانه محذور؟ وهذا ظاهر الدفع؛ لأنّه يوجب أن يكون التعيّن عارضا وهو خلاف ما ثبت بالبرهان. وأقول: قد ألهمني اللّه تعالى بحسن هدايته جواب تمام عن هذه الإيرادات لا يخطر ببال أحد بهذا النحو وإن كان بعض مقدّماته ممّا تكلّم به بعض المحقّقين وهو أنّه ليس معنى عينيّة الوجوب لذاته تعالى في هذا المقام أنّ هذا المعنى المصدري عينه، وكذا الحال في معنى عينيّة الوجود والتعيّن على ما فهمه المتأخّرون حتّى يرد عليه ما اُورد، بل المراد عينيّة مفهوم الواجب والموجود والمعيّن ونظائرها من قبل إطلاق المبدأ وإرادة المشتقّ، ومعنى العينيّة هاهنا أنّ كلّ واحد من هذه المفهومات متّحد معه؛ لصحّة حمله عليه مواطاة، وليس مصداق الحكم به ومطابقه إلّا ذاته بذاته من دون انضمام أمر آخر إليه، ومن غير ملاحظة


1- .كذا. لعلّ الصواب: «أن يكون».

ص: 504

حيثيّة اُخرى غير ذاته أيّة حيثيّة كانت، حقيقيّة أو إضافيّة أو سلبيّة، فالمراد بعينيّة مبادئ اشتقاق تلك المفهومات ليس إلّا أنّ ذاته بذاته من غير ملاحظة أمر آخر منشأ لانتزاع هذه المبادئ عنه، والحكم بأنّه هو هذه المشتقّات، فذاته بذاته مجرّد حيثيّة انتزاع تلك المبادئ وتطابق تلك المشتقّات ومصداقها، فهو بحت تلك المشتقّات؛ يعني واجب بحت، وموجود بحت (1) ، ومعيّن بحت، فلا يكون منقسما إلى معروض وعرضي هو مفهوم الواجب والموجود والمعيّن (2) ، كما أنّه غير منقسم إلى الأجزاء الخارجيّة، وإلى الأجزاء العقليّة، وإلى الأجزاء الوهميّة والفرضيّة كما مرّ مفصّلاً، كيف، ولو كانت هذه المفهومات عرضيّة له، لكان ذاته بذاته خاليا عن الوجوب والوجود والتعيّن؛ يعني لا يكون واجبا وموجودا ومعيّنا في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن جميع الاعتبارات والحيثيات والانضمامات والانتسابات؛ لأنّ العرضي لا يكون في مرتبة ذات ما هو عرضي له بالضرورة، وقد مرّ سالفا أنّ كلّ ما هو كذلك ممكن محتاج إلى مؤثّر، وجاعل يجعله واجبا وموجودا ومعيّنا وقد فرضناه واجبا بالذات، هذا خلف. وأمّا الممكن فإنّه ليس كذلك، بل إنّما يكون منشأ انتزاعها عنه ذاته المجعولة بجعل الجاعل بحيث يصحّ انتزاعها عنه، ومصداق الحكم بأنّه واجب وموجود ومعيّن ذاته من حيث هو مجعول الجاعل، ومنسوب إلى الفاعل، فهو شيء جعله الجاعل واجبا وموجودا ومعيّنا، وهذا معنى كون مفهوم الواجب والموجود [و]المعيّن زائدا في الممكن. فمن هذا ظهر أنّه تعالى واجب بحت، وموجود بحت كما أنّه معيّن ومشخّص بحت، لا أنّه شيء يكون ذلك الشيء واجبا وموجودا كما أنّه تعالى ليس شيئا يكون ذلك الشيء معيّنا، وقس عليها حال سائر الصفات الحقيقيّة الكماليّة فهو عالم بحت، قادر بحت، مريد


1- .في النسخة: + «وموجود بحت».
2- .في النسخة: «ومفهوم الموجود ومفهوم المعيّن» . وكتب على كلمة «مفهوم» في الموردين علامة «ز» وهو رمز إلى الزائد.

ص: 505

بحت. وهذا معنى قول المعلّم الثاني: واجب الوجود علم كلّه، قدرة كلّه، إرادة كلّه. كيف ولو لم يكن كذلك، لزم خلوّ ذاته بذاته في مرتبة ذاته عن تلك الكمالات؛ يعني لزم أن لا يكون عالما قادرا مثلاً في مرتبة ذاته، وذلك نقص عظيم نعلم بالبديهة أنّه متعال عن ذلك علوّا كبيرا. على أنّ النقص مستلزم للإمكان؛ لأنّه مستلزم لضعف الوجود؛ لأنّ الوجود مستتبع للكمال، فكلّما كان أقوى وجودا كان أكمل، وكلّما كان أضعف وجودا كان أنقص، وضعف الوجود لا يتصوّر إلّا فيما كان ذاته بذاته خاليا عنه، وأمّا ما لا يكون كذلك، فلا يتصوّر فيه ضعف قطعا، والأوّل ممكن لما مرّ بيانه، فالناقص الضعيف الوجود ممكن، فثبت أنّ النقص مستلزم للإمكان. وأمّا السلوب والإضافات فإنّها عبارات عن هذه الصفات الحقيقيّة باعتبار نسبتها إلى الغير وترتّب الآثار إليها، وليست حقيقة صفات اُخر حتّى يلزم اتّصافه بالصفات الزائدة على ذاته ويلزم النقص، سواء كانت كماليّة أو غير كماليّة. أمّا على الأوّل فلما مرّ. وأمّا على الثاني، فلأنّه لا يخلو إمّا أن يكون صفة نقص أم لا، والأوّل ظاهر، والثاني مستلزم للنقص؛ لأنّ اتّصافه به عبث ولغو، وذلك نقص؛ فإنّ السلوب كلّها يرجع إلى نفي الإمكان المترتّب على الوجوب الذاتي، والإضافات إلى سائر الصفات الحقيقيّة كالعلم والقدرة والإرادة (1) . وهذا معنى الواجب بالذات والموجود بالذات والمعيّن بالذات والعالم بالذات ونحو ذلك، لا ما هو الظاهر من العبارة المشهورة عندهم في تفسيرها وهي ما يقتضي ذاته وجوبه ووجوده وتعيّنه وعلمه ونحو ذلك؛ لأنّ الثلاثة الاُول مستلزم للدور الظاهر، ومستلزم لخلوّ ذاته في مرتبة علّيّته لها عنها؛ لوجوب تقدّم العلّة على المعلول، وهذا موجب لإمكانه، والبواقي مستلزم لخلوّه في مرتبة علّيته لها عن هذه الصفات، وقد عرفت أنّه نقص عظيم


1- .في هامش النسخة: لا يقال: لِمَ لا يجوز أن تكون تلك الصفات أيضا عينه كالصفات الحقيقيّة... لا يتصوّر ذلك. أمّا السلوب، فلأنّها عدميّة، والعدميّة لا يمكن أن تكون نفس الوجود الخارجي. وأمّا الإضافات، فلأنّها ثابتة للشيء بالقياس إلى غيره، ومايكون كذلك لا يمكن أن يكون نفس ذلك الشيء بالضرورة (منه عفي عنه).

ص: 506

نعلم بالبديهة تنزّهه تعالى عنه. ولا ما ذكره المتأخّرون في تأويل هذه العبارة وهو ما لا يحتاج في وجوبه ووجوده وتعيّنه وعلمه ومثل ذلك إلى الغير؛ لأنّ عدم الاحتياج في الثلاثة الاُول إلى الغير لا يفيد المعنى المقصود من هذه الكلمات، وهو ما لا يكون ذاته بذاته خاليا عن هذه المفهومات حتّى لا يمكن انفكاكها عن ذاته ولو بحسب التصوّر؛ لأنّ هذا هو المعنى المقصود من الواجب بالذات، وكلّ ما ليس كذلك، فهو ممكن غير واجب، وكذا الحال في البواقي؛ لأنّ عدم الاحتياج في العلم مثلاً لا يوجب العينيّة المطلوبة التي توجب تنزّهه عن نقصٍ خلوَّ ذاته في مرتبة من المراتب عن العلم، فمعنى هذه العبارة هو أن يكون ذاته بذاته منشأ لانتزاع (1) تلك المبادئ من غير اعتبار أمر آخر فيه أصلاً، والحكم بأنّه هو بحت تلك المشتقّات من غير تكثّر فيه أصلاً بوجه من وجوه التكثّر، وقد صحّ إطلاق المبدأ على المشتقّ البحت، كما صحّ إطلاق المشتقّ على المبدأ القائم بنفسه؛ إذ المبدأ القائم بنفسه إنّما هو المشتقّ البحت، فهو وجوب وواجب، ووجود وموجود، وتعيّن ومعيّن، وعلم وعالم ونحو ذلك في سائر الصفات الحقيقيّة. ومعنى قولهم: «الواجب وجود قائم بنفسه» أنّه موجود بحت، لا شيء موجود حتّى يلزم أن يكون له وجود زائد قائم بغيره الذي هو ذلك الشيء، أو يكون له انتساب إلى الموجود البحت الذي هو حضرة الوجود كما في الممكنات. فظهر أنّ معنى عينيّة الوجوب والوجود والتعيّن لذاته تعالى، ومعنى كونه وجوبا قائما بنفسه ووجودا قائما بنفسه وتعيّنا قائما بنفسه، ومعنى كونه واجبا بالذات وموجودا بالذات ومعيّنا بالذات جميعا أنّه واجب بحت، وموجود محض، ومعيّن صرف، لا شيء واجب، وشيء موجود، وشيء معيّن، بخلاف الممكن فإنّه إمّا سماء واجب وموجود ومعيّن، أو أرض واجب وموجود ومعيّن، أو مهيّة اُخرى كذلك.


1- .في النسخة: «لإنزاع».

ص: 507

البرهان الملكوتي للشارح على التوحيد

والحاصل أنّ الواجب البحت والموجود البحت والمعيّن البحت ونظائرها هو الذي لا يكون فيه كثرة أصلاً لا بأن يكون هذه المفهومات ومفهومات الصفات الكماليّة كمفهوم العالم والقادر والمريد عرضيا له خارجا عنه زائدا عليه، ولا بأن يكون شيء داخلاً فيه جزءً له، سواء كان جزءا عقليا أو خارجيا، ولا بأن يكون له أجزاء فرضيّة ووهميّة؛ لأنّ كلّ ذلك يوجب إمكانه؛ لما مرّ سالفا، وكلّ ممكن موجود، فهو شيء واجب وموجود ومعيّن لا واجب بحت وموجود بحت ومعيّن بحت.

البرهان الملكوتي (1) [للمؤلّف على التوحيد]أقول بعد تمهيد تلك المقدّمات: لنا بتأييد اللّه وحسن توفيقه برهان ملكوتي على توحيده تعالى قد اُخبر عنه وتفرّدت به وهو أنّه لو تعدّد الواجب بالذات، لتعدّد الواجب البحت؛ لما مرّ من أنّه واجب بحت، والقول بتعدّد الواجب البحت قول بالتناقض؛ لأنّ التعدّد مستلزم للتغاير بينهما، وإلّا ارتفع التعدّد على فرض تحقّقه، وهو محال، والتغاير بينهما مع تشاركهما في مفهوم الواجب البحت يوجب التكثّر بأيّ وجه كان في الواجب البحت الذي لا يكثر فيه بوجه من الوجوه، فهو ممكن وشيء واجب لا واجب بحت، فتعدّده يوجب أن يكون فيه كثرة وأن لا يكون فيه كثرة أصلاً، وأن يكون واجبا بحتا، وأن يكون شيئا واجبا لا واجبا بحتا، وأن يكون واجبا بالذات وأن يكون ممكنا ليس بواجب بالذات. وهذه محالات إنّما تنشأ من فرض تعدّده تعالى، فظهر أنّ في القول بتعدّد الواجب بالذات تهافتا وتدافعا (2) ليس له معنى محصّل أصلاً؛ فتدبّر؛ فإنّه حقّ حقيق بالتدبّر. وأقول - بوجه آخر أخصر وسمّيته بهذا النسق بالبرهان الهادي إلى الحقّ - : الواجب بالذات واجب بحت، وإلّا فلا يكون واجبا بالذات، بل يكون ممكنا؛ لما بيّنّاه آنفا، هذا


1- .العنوان من هامش النسخة.
2- .في النسخة: «تهافت و تدافع».

ص: 508

خلف. والواجب البحت أحديّ الذات والصفات جميعا لا كثرة فيه بوجه أصلاً، وما لا كثرة فيه أصلاً لا يتعدّد قطعا، فالواجب بالذات واحد لا تعدّد فيه، ولا شريك له جزما. ثمّ أقول: تقرير الدليل المشهور على وجه ينطبق بهذه الطريقة الأنيقة أنّه لو كان الواجب بالذات - الذي هو واجب بحت لا تكثّر فيه بوجه من الوجوه - اثنين، لكانا بالضرورة متشاركين في مفهوم الواجب بالذات، ذاتيا كان ذلك المفهوم لهما، أو عرضيا، فلا بدّ هاهنا لتحقّق الاثنينيّة من مميّز وجودي، سواء كان المميّز أيضا ذاتيا أو عرضيا، وسواء كان واحدا متحقّقا في أحدهما دون الآخر، أو متعدّدا متحقّقا في كلّ واحد منهما، وعلى أيّ تقدير يلزم التكثّر والتركيب في الواجب البحت، أي يلزم أن يكون شيئا واجبا لا واجبا بحتا، فالمراد بالتركيب هاهنا إنّما هو هذا المعنى، أي كونه شيئا واجبا. وبالجملة المراد بالتركيب التركيب والتكثّر المطلق لا التركيب في الذات حتّى يلزم الإيرادات المذكورة. والتركيب بهذا المعنى مستلزم لإمكان كلّ واحد من الواجبين المفروضين. أمّا إمكان الواجب المشتمل على المميّز، فظاهر. وأمّا إمكان الواجب الآخر الغير المشتمل عليه، فلأنّه إنّما يتميّز عن هذا الواجب المشتمل على المميّز بهذا المميّز؛ لأنّه ليس إلّا ما به الاشتراك فقط كما هو المفروض، فيلزم احتياجه في تميّزه عن الآخر إلى غيره وهو المميّز الذي في الآخر، وذلك - مع أنّه محال في نفسه - مستلزم لإمكانه تعالى بالضرورة، فعلى هذا يلزم إمكان كلّ واحد منهما، وعدم كون شيء منهما واجبا بحتا؛ لأنّ كلّ ممكن فهو شيء واجب بالضرورة، فيلزم انتفاء الواجب بالذات بالكلّيّة على تقدير تعدّده، ومن انتفائه يلزم انتفاء العالم بالضرورة. ويحتمل أن يكون هذا معنى قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّهُ لَفَسَدَتا» (1) لأنّ تعدّده مستلزم لانتفائه، وانتفاؤه مستلزم لانتفاء الأرض والسماء وسائر الممكنات، فيكون المراد


1- .الأنبياء (21): 22.

ص: 509

بالفساد الانتفاء رأسا وبالكلّيّة؛ فأحسِن تدبّره (1) . ثمّ أقول - في تقرير الدليل على محاذاة الحديث - : إنّ كلّ واحد من المشترك فيه والمميّز يجب أن يكون واجبا بالذات. أمّا المتّفق فيه، فلما عرفت من أنّ مفهوم الواجب بالذات لا يجوز أن يكون عرضيا له خارجا عنه تعالى، وإلّا يلزم خلوّ ذاته عنه، ويلزم إمكانه، فيجب أن يكون داخلاً فيه، وجزء الواجب يجب أن يكون واجبا بالضرورة؛ لأنّ احتياج الجزء إلى العلّة مستلزم لاحتياج الكلّ إليه بالضرورة. فلو كان الجزء ممكنا، يلزم أن يكون الكلّ ممكنا محتاجا، هذا خلف. وأمّا المميّز، فلأنّه يجب أن يكون وجوديا داخلاً في أحدهما؛ لاشتراكهما في مفهوم الواجب بالذات الذي لا يكون عرضيا خارجا عن حقيقتهما، فلو كان ذلك المعنى تمام حقيقة جزئيّة كلّ واحد منهما، فلم يكن (2) مميّزا وجوديا داخلاً في أحدهما، فاصلاً بينهما ليرتفع الاثنينيّة بين هذين الحقيقيين الجزئيين بالضرورة، وذلك المميّز الداخل في الواجب لو لم يكن واجبا، لزم إمكان الواجب بالذات كما مرّ آنفا، وهو محال. وعلى هذا فيكون الواجب الواحد المشتمل على المميّز الوجودي الداخل اثنين لا واحدا، ويكون الاثنان اللذان ادّعيتهما ثلاثةً، وعلى تقدير كونه ثلاثةً يلزم أن يكونوا خمسة وهكذا إلى غير النهاية وقد عرفت استحالته. وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المقام؛ لأنّه من مزالّ أقدام فحول الأعلام، واللّه الموفِّق للمرام. وأجاب بعض الفضلاء (3) عن هذه الشبهة ب- : أنّ مفهوم واجب الوجود لا يخلو إمّا أن يكون انتزاعه عن نفس ذات كلّ منهما من


1- .في هامش النسخة: فلا يرد عليه شيء من الإيرادات، وظهر أنّ منشأ الشبهة المشهورة... تقرير المتأخّرين كلام... وإلّا فكيف يليق بهؤلاء الحكماء المتبحّرين المحقّقين أن يستندوا على أعظم المطالب بمثل هذا الدليل الذي يرد عليه شبهة ظاهرة... ببال أكثر الأطفال... فهم الدليل على التقرير المشهور؛ فتأمّل (منه عفي عنه).
2- .في النسخة: «ولم يكن».
3- .هو صدر المتألّهين.

ص: 510

دون اعتبار حيثيّة خارجة عن نفس الذات أيّة حيثيّة كانت، أو مع اعتبار تلك الحيثيّة، وكلا الشقّين محال. أمّا الثاني، فلما ثبت من أنّ كلّ ما لم يكن ذاته مجرّد حيثيّة انتزاع الوجوب، (1) فهو ممكن في ذاته. وأمّا الأوّل، فلأنّ مصداق حمل مفهوم واحد، ومطابق صدقه بالذات (2) مع قطع النظر عن أيّة حيثيّة كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات (3) غير مشتركة في ذاتي أصلاً. وظنّي أنّ كلّ سليم الفطرة يحكم بأنّ الاُمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثيّة جامعة لا تكون مصداقا لحكم واحد محكيّا عنها به. نعم، يجوز ذلك إذا كانت تلك الاُمور متماثلة من جهة كونها متماثلة كالحكم على زيد وعمرو بالإنسانيّة من جهة اشتراكهما في تمام المهيّة لا من حيث اختلافهما بالعوارض المشخّصة. أو كانت مشتركة في ذاتي من جهة كونها كذلك كالحكم على الإنسان والفرس بالحيوانيّة من جهة اشتمالهما على تلك الحقيقة الجنسيّة، أو في عَرَضي كالحكم على الثلج والعاج بالأبيضيّة من جهة اتّصافهما بالبياض. أو كانت تلك الاُمور المتباينة متّفقة في انتسابها إلى شيء واحد كالحكم على مقولات الممكنات بالوجود من حيث انتسابها إلى الوجود الحقّ جلّ مجده عند من يجعل وجود الممكنات أمرا عقليا انتزاعيا، أو كانت متّفقة في أمر سلبي


1- .في الحكمة المتعالية: «انتزاع الوجود والوجوب والفعليّة والتمام».
2- .في الحكمة المتعالية: + «وبالجملة ما منه الحكاية بذلك المعنى وبحسبه التعبير عنه به».
3- .في النسخة زيادة: «مع قطع النظر عن أيّة حيثيّة كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات» ، وهي زائدة.

ص: 511

النحو الثاني

كالحكم عليها بالإمكان؛ لسلب ضرورة الوجود عن الجميع لذواتها. وأمّا ما سوى أشباه تلك الوجوه المذكورة، فلا يتصوّر فيها ذلك ضرورة، بل نقول: لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المصدري المعلوم بوجه من الوجوه بديهةً أدّانا النظر والبحث إلى أنّ حقيقته وما ينتزع منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحقّ والوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدّد؛ إذ كلّ ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود فرضا مباينةٌ أصلاً ولا تغاير، فلا يكون اثنان، بل يكون هناك ذات واحدة ووجود [واحد] (1) .انتهى كلامه. فتأمّل فيه. النحو الثاني (2) : أنّه لو كان المبدأ الأوّل الإله الحقّ الصانع للعالم اثنين، يلزم منه أن يكون العالم اثنين؛ لأنّه يجب أن يصدر عن كلّ واحد منهما عالما تامّا مشتملاً على جميع ما في هذا العالم من الحِكَم والمصالح، وإلّا فيكون كلاهما، أو أحدهما ناقصا بوجه من الوجوه بالضرورة، والنقص فيه محال كما مرّ بيانه. ومن ذلك يلزم أن يكون العالم الجسماني اثنين، ومن [اثنينيّته يلزم] اثنينيّة الفلك الأعلى الذي يحيط كلّ واحد منه بجميع أجسام عالمه، وهما كرتان، فبالضرورة يتحقّق بينهما بُعد وفرجة واحدة لو لم تكن الكرتان متماسّتين، أو فرجتان لو كانتا متماسّتين بنقطة واحدة كما هو من شأن تماسّ الكرتين، فبالضرورة لا أقلّ من أن يكون بينهما بُعد أو فرجة، ولاستحالة الخلأ يجب أن يكون الشاغل لتلك الفرجة جسما آخر، ولوجوب استناد الجسم إلى مجرّد واجب بالذات، أو مجرّد منتهٍ إليه - لما مرّ مفصّلاً - يجب أن يكون علّته وصانعه واجبا، ويجب أن يكون ثالثَ الصانعين المفروضين؛ لأنّ ذلك الجسم خارج عن جميع مخلوقات


1- .الحكمة المتعالية، ج 2، ص 133 - 135 مع تلخيص.
2- .تقدّم النحو الأوّل في ص ونقله في مرآة العقول، ج 1، ص 272 - 273.

ص: 512

كلّ واحد منهما؛ لأنّ عالمه عبارة عن جميع مخلوقاته. وعلى هذا فيلزم أن يكون ذلك الجسم المالئ لتلك الفرجة عالما جسمانيا آخر مثل هذا العالم، وإلّا يلزم النقص في صانعه الذي هو واجب بالذات بوجه من الوجوه، والنقص في الواجب محال، فمن اثنينيّة الصانع يلزم الفرجة بين العالمين الجسمانيين وهي مستلزمة لوجود صانع واجب آخر موجد لعالم جسماني آخر شاغل لها، ومن وجود العالم الجسماني الثالث يلزم فرجتان اُخريان مستلزمتان لصانعين آخرين (1) ، وهكذا فمن كون الصانع اثنين يلزم كونه ثلاثة، ومن كونه ثلاثة يلزم كونه خمسة وهكذا إلى غير النهاية. وذلك باطل (2) من وجهين: أمّا أوّلاً، فلاستلزامه وجود البُعد الغير المتناهي وهو محال. وأمّا ثانيا، فللزوم التسلسل؛ لتحقّق اللزوم بين العالمين وبين العالم الثالث، وكذا بينه وبين العالمين الآخرين (3) وهكذا، وذلك كافٍ في تحقّق التسلسل المحال؛ فتدبّر. وعلى هذا فقوله عليه السلام : (فرجة ما بينهما) أي فرجة ما بين عالميهما الجسمانيين. وقوله عليه السلام : (فصارت الفرجةُ ثالثا بينهما قديما معهما) أي فصارت علّة شاغل الفرجة ثالثا بين الصانعين، قديما بالذات معهما (فيلزمك) أن يكون الصانع القديم (ثلاثة). وقوله عليه السلام : (حتّى تكونَ بينهم فرجتان (4) ) أي حتّى يكون بين مصنوعيهم وعالميهم (5) فرجتان شاغلتان لعالمين جسمانيين آخرين، فيكون الصانع خمسة، وهكذا يزيد عدده بإزاء الفرج الحاصلة بين الكرات. ولا يذهب عليك ما فيه من التكلّفات؛ فتأمّل فيه.

تذنيبأقول: لمّا كان توحيده تعالى من أعظم المقاصد الإلهيّة وأجلّ المطالب الدينيّة فالحريّ


1- .المثبت من المرآة ، و في النسخة: «لصانعان آخران».
2- .المثبت من المرآة و في النسخة: «بطل».
3- .المثبت من المرآة ، و في النسخة: «الاخرى».
4- .في الكافي المطبوع: «فرجة».
5- .في المرآة: «مصنوعيهما» ، ولم يرد فيه : «وعالميهم».

ص: 513

تذنيب في بيان وجوه اُخر من البراهين على وحدة الواجب بالذات، وذلك في الفصلين

الفصل الأوّل في إثبات وحدة الواجب بالذات وفيه حجج

الحجّة الاُولى

أن نذكر هاهنا وجوها اُخر من البراهين والدلائل الدالّة على وحدة الواجب بالذات، وعلى وحدة المبدأ الأوّل الإله الحقّ الخالق للعالم في الفصلين:

الفصل الأوّل: في إثبات وحدة الواجب بالذات وفيه حجج:الحجّة الاُولى: ما حقّقه بعض الأفاضل وبيانه موقوف على مقدّمات: المقدّمة الاُولى: لا يمكن أن ينتزع من نفس حقيقةٍ اُمورٌ مختلفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلاً مع قطع النظر عن انتسابها إلى أمر واحد، أو اُمور متشابهة [بل ينتزع] أمر واحد بعينه، أي لا يكون حقائق مختلفة من حيث إنّها مختلفة، ومنشأ وموجبا لحصول معنى محصّل واحد بعينه في العقل، والمنازع في ذلك مكابرُ مقتضى عقله؛ فإنّ الفطرة السليمة حاكمة بأنّ الاُمور المختلفة المتباينة - من حيث إنّها مختلفة متباينة وباعتبار محض ذواتها المتباينة - لا تكون (1) منشأ ومبدءً وباعثا ومستلزما لحصول معنى واحد بعينه في العقل (2) ، ولا يصحّ أن يكون مصداقا لصدق مفهوم واحد بعينه عليها، بل المفهوم الواحد لا يمكن أن ينتزع من الاُمور المتعدّدة، ولا يحصل منها في العقل بطريق اللزوم معنى محصّل واحد، إلّا إذا كانت تلك الاُمور متماثلة، أو مشتملة على الاُمور المتماثلة، أو يكون الاختلاف بين تلك الاُمور بمحض الاختلاف في أنحاء الحصول على ما قيل في المقول بالتشكيك، أو يكون تلك الاُمور المتباينة منتسبةً إلى أمر واحد، أو اُمور متشابهة، فإذا كان المتعلّق والمنسوب إليه واحدا، أو كيفيّة النسبة متشابهة يحصل باعتبار ذلك المنسوب إليه الواحد، أو المتشابه والنسب المتشابهة (3) صورة واحدة، وينتزع أمر


1- .في النسخة: «لا يكون».
2- .في هامش النسخة: ولا ينافي ذلك أن ينتزع العقل من اُمور مختلفة مفهوما واحدا من غير لزوم حصول منها في العقل، بل يكون حصوله فيه بمحض تعمّل العقل إيّاه (منه عفي عنه).
3- .كذا.

ص: 514

واحد. وأمّا بغير تلك الوجوه، فلا يتصوّر ذلك قطعا بديهة. فإن قلت: ليس الشيئيّة والإمكان ونظائرهما من الاُمور العامّة تنتزع (1) من نفس حقائق مختلفة متباينة غير مشتركة في ذاتي أصلاً. قلت: كلّ واحد من تلك الاُمور العامّة لا ينتزع من محض ذوات الاُمور المتباينة، بل إنّما ينتزع منها باعتبار الوجود المشترك بينها؛ فإنّها من لواحق الوجود كما يظهر للفطن المتأمّل. ويحتمل أن يكون في بعض منها بالقياس إلى أمر واحد آخر، وأمّا الوجود ومفهوم الموجود فإنّما ينتزع من الحقائق المتباينة باعتبار ارتباطها وانتسابها إلى الوجود الحقيقي الواحد. فإن قيل: فما تقول في المقول بالتشكيك كالنور مثلاً فإنّه مفهوم واحد بعينه منتزع من أنوار مختلفة شدّة وضعفا، وتلك الأنوار مختلفة الحقائق؟ قلت: أفراد المقول بالتشكيك إمّا مشتركة في تمام الحقيقة، وإنّما الاختلاف بينها في نحو الحصول بالكمال والضعف كما هو مذهب صاحب الإشراق وهو الحقّ الحقيق بالتصديق، والإشكال على هذا التقدير [لا يرد] أصلاً، وإمّا أنواع مشتركة في ذاتي على ما صرّح به المحقّق الدواني ضرورة أنّ المهيّات المتباينة لا يقاس بعضها إلى بعض بالشدّة والضعف، والكمال والنقص، فمن قال: ويتأتّى التشكيك بتقارب الحقيقيين فقد سها؛ لأنّ المنتزع من نفس الاُمور المتقاربة لا يكون واحدا بعينه، بل يكون اُمورا متقاربة. وعلى هذا التحقيق إنّما انتزع المقول بالتشكيك من ذلك الذاتي المشترك، فلا إشكال أيضا. فإن قيل: على التقدير الثاني لا تنحسم مادّة الإشكال أصلاً؛ فإنّ الأنوار المختلفة مثلاً حقائق بسيطة في الخارج، وليس بينها جزء مشترك في الخارج أصلاً


1- .في النسخة: «ينتزع».

ص: 515

لبساطتها، والأجزاء التحليليّة - على ما ذهب إليه بعضهم - لا معنى لها في التحقيق على ما حقّق في موضعه، بل الذاتيات كالجنس والفصل في البسائط الخارجيّة - على ما حقّقه بعض الأعاظم - ليسا مأخوذين عن نفس ذوات البسائط، بل إنّما يؤخذ عنها باعتبار لوازمها بأن يكون اللازم المشترك هو الجنس، والمختّص هو الفصل، وتلك البسائط متباينة الذوات بالضرورة، فكيف يكون لها لازم واحد مشترك يكون جنسا؟ ومن المعلوم أنّ اللازم الذي يكون بمنزلة الجنس لا يحصل لها باعتبار غير ذواتها حتّى يقال: إنّه لازم لتلك الحقائق باعتبار أمر واحد مغاير، فيلزم صحّة انتزاع أمر واحد من نفس حقائق مختلفة، بل لزوم أمر واحد لحقائق متباينة. قلنا: رفع هذا الإشكال بالكلّيّة يتوقّف على تحقيق معنى الجنس والفصل في البسائط الخارجيّة على ما حقّقه بعض الأعاظم وهو الحقّ بأن يقال: البسيط الخارجي قد يكون له لوازم مختلفة بعضها معلوم الاختصاص به جزئيا، وبعضها ممّا يتوهّم ويحسب اشتراكه بينه وبين غيره، فإذا اُخذ من اللازم المتوهّم الاشتراك معنى كان جنسا، وكان المأخوذ من المجزوم الاختصاص فصلاً، مثلاً إذا نظر إلى كلّ من السواد والبياض، وجد لكلّ منهما لازمان: الأوّل في السواد معنى اللون، والثاني قبض البصر، والأوّل في البياض معنى اللون، والثاني تفريق البصر، والأوّل في كلّ منهما غير متميّز عنه في الآخر، فيتوهّم ويحسب اشتراكه بينهما، فيكون الأوّل لتوهّم اشتراكه وعدم تميّزه جنسا، والثاني فصلاً، والمركّب منهما مهيّة منطقيّة لا حقيقيّة، فحصّة اللون المعتبر في السواد حقيقة غير متشابهة لحصّة اللون التي في البياض، وليس اختلافهما بوساطة الفصل، بل هما مختلفان بذاتهما أيضا، وهذا الاختلاف الذاتي غير ظاهر لكلّ مدرك، فيظنّ التشابه وهو اشتباه. فظهر أنّ الجنس على هذا التقدير لا يكون مشتركا حقيقة، فلا يلزم إشكال أيضا

ص: 516

كما لا يخفى. المقدّمة الثانية: الوجود والموجود معنى واحد محصّل مشترك بين جميع الموجودات بالضرورة، ويدلّ عليه الدلائل والتنبيهات المذكورة في كتب القوم المشهورة بين الطلبة. لا يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون الوجود والموجود كالجنس في البسائط لا يكون مشتركا حقيقة، بل ممّا يتوهّم اشتراكه لعدم التميز؟ لأنّا نقول: الفطرة الصحيحة حاكمة بوحدة معنى الوجود والموجوديّة واشتراكه حقيقة بين جميع الموجودات، فإنّا نعلم بالضرورة والوجدان أنّ جميعَ الموجودات - من حيث إنّها موجودة - مشتركةٌ في معنى واحد هو معنى الوجود والموجوديّة، يحتاج الممكن منها في ذلك المعنى إلى علّة ومؤثّر، ويستغني الواجب فيه بعينه عن العلّة والمؤثّر مطلقا، والمنازع في ذلك مكابر، فوحدة معنى الوجود والموجوديّة بديهيّ ضروريّ يحكم به الفطرة السليمة بخلاف أجناس البسائط؛ فتأمّل (1) . المقدّمة الثالثة: الوجود والموجوديّة إنّما ينتزع من نفس حقيقة الواجب بالذات ومحوضة ذاته وصرافة هويّته بلا اعتبار نسبته وارتباطه إلى أمر مغاير له مطلقا؛ ضرورة أنّه الموجود البحت لا الشيء الموجود، فحقيقته من حيث هي إنّما هي نفس حقيقة انتزاع الوجود عنها، ومصداق لصدق الموجود عليها، وإلّا لم يكن واجبا بالذات بالضرورة. وبعد تقرير تلك المقدّمات نقول: لو تعدّد أفراد الواجب بالذات لا بدّ أن يتحقّق بينها ذاتي مشترك، وإلّا لا يمكن أن ينتزع من نفس حقائقها المتباينة مفهوم


1- .في هامش النسخة: «أقول: فيه تأمّل فتأمّل».

ص: 517

الوجود والموجوديّة التي هي معنى محصّل واحد؛ لما مرّ في المقدّمة الاُولى، ولو انتزع عنها باعتبار أمر واحد مغاير لها، لم تكن (1) واجبة بالذات؛ لما مرّ في المقدّمة الثالثة من أنّ الوجود والموجوديّة إنّما ينتزع في الواجب بالذات من نفس حقيقته وصرافة ذاته، وإلّا لم يكن واجبا بالذات، فلو لم يتحقّق بينها ذاتي مشترك لا يمكن انتزاع الوجود عنها أصلاً فلا، تكون (2) موجودة قطعا. وذلك الذاتي المشترك الذي هو الموجود البحت إمّا أن يكون نفس حقيقة تلك الأفراد، أو جزءها، وعلى كلا التقديرين يلزم إمكان الواجب بالذات. أمّا على التقدير الأوّل، فظاهر؛ إذ لا يكون للواجب حينئذٍ مهيّة كلّيّة، وكونه ذا (3) مهيّة كلّيّة مستلزم لإمكانه، وإن كان واجبا بالذات لا بدّ من تحقّق الجزء المشترك فيه أيضا، والجزء المشترك ممكن بالضرورة، فيكون له جزء مختصّ واجب بالذات، وذلك الجزء المختصّ الواجب بالذات لا بدّ أن يتحقّق فيه الجزء المشترك، فلا بدّ له من جزء مختصّ واجب بالذات، فننقل الكلام إليه حتّى نذهب إلى غير النهاية، فيلزم أن يكون للواجب أجزاء غير متناهية يكون لكلّ واحد من تلك الأجزاء أيضا أجزاء غير متناهية، وذلك مستلزم لانتفاء الواحد، وانتفاء الواحد مستلزم لانتفاء الكثير؛ ضرورة أنّه لو لم يتحقّق الوحدة لم يتحقّق الكثرة أصلاً، هذا خلف؛ فتأمّل. انتهى كلامه. أقول: الأصوب إبطال الشقّ الأوّل وهو أن يكون الذاتي المشترك نفس حقيقة الأفراد؛ يعني نفس حقيقتها الجزئيّة لا نفس مهيّتها الكلّيّة، وإلّا فيرجع إلى الشقّ الثاني؛ لثلاثة وجوه: الأوّل: لأنّه يلزم إمكان الواجب لا لاشتماله على المهيّة الكلّيّة كما ذكره هذا الفاضل، بل لأنّه حينئذٍ يكون نفس المهيّة الكلّيّة، والمهيّة الكلّيّة ممكنة غير واجبة. والثاني: لأنّه يلزم أن يكون الشيء الواحد - وهو ذلك الذاتي المشترك - كلّيا، أو جزئيا حقيقيا؛ لأنّه لمّا كان مشتركا فهو كلّي، ولمّا كان تمام حقيقته الجزئيّة، فهو جزئي حقيقي.


1- .في النسخة: «يكن».
2- .في النسخة: «يكون».
3- .في النسخة: «ذي».

ص: 518

الحجّة الثانية

والثالث: لأنّه يلزم نفي تعدّد الواجب على فرض تعدّده، هذا خلف. وإبطال الشقّ الثاني - وهو أن يكون الذاتي المشترك جزء حقيقة تلك الأفراد - لوجهين: أحدهما: لأنّه يلزم أن يكون ذلك الجزء واجبا وممكنا معا، أمّا كونه واجبا؛ لأنّه جزء الواجب بالضرورة، وجزء الواجب لا يمكن أن يكون ممكنا، وإلّا يلزم إمكان الواجب؛ لأنّ احتياج الجزء في الوجود إلى الغير مستلزم لاحتياج الكلّ فيه إليه بالضرورة. وأمّا كونه ممكنا، فلأنّه مهيّة كلّيّة والمهيّة الكلّيّة ممكنة كما ثبت في موضعه. وثانيهما: لأنّ الجزء (1) المختصّ أيضا يجب أن يكون واجبا بالذات؛ لأنّ إمكان الجزء كما عرفت مستلزم لإمكان الكلّ، ومن ذلك يلزم وجود الكثير بدون الواحد، وهو محال؛ فتدبّر. الحجّة الثانية: تقريرها موقوف على مقدّمتين: المقدّمة الاُولى: إذا استلزم أمر لمعنى وحالٍ يجب أن يكون ذلك الأمر متعيّنا متميّزا بدون ذلك المعنى والحال، ويقطع النظر عنهما، وإلّا لم يتعيّن ولم يتخصّص ذلك الأمر بأن يكون مستلزما لهذا المعنى والحال بالضرورة، بل يجب أن يكون تميّزه مقدّما على ذلك المعنى والحال؛ فإنّه لو لم يكن لخصوصيّة ذلك الأمر مدخل في هذا الاستلزام، كان كغيره، وإن كان له مدخل فيه، يلزم تقدّم تميّزه عليهما بالضرورة. ومن ذلك يظهر أنّ الشيء لا يستلزم وجوبه؛ لأنّه لو كان كذلك، لزم تقدّم تميّز ذلك الشيء - أعني وجوده - على وجوبه؛ لأنّ الشيء لا يستلزم شيئا إلّا بعد تميّزه وتعيّنه؛ لما مرّ من أنّه لو لم يكن لخصوصيّة ذلك الشيء مدخل بوجه في هذا الاستلزام كان كغير ذلك الشيء، فيلزم ترجّح بلا مرجّح، وإن كان له مدخل بوجه، لزم تقدّم تميّزه ووجوده على وجوبه، وهو ممتنع محال؛ إذ الوجوب لو لم يكن مقدّما على الوجود - كما هو المشهور - لا يكون مؤخّرا عنه البتّة؛ لأنّ الشيء لا يصير واجبا بعد كونه موجودا بالضرورة.


1- .في النسخة: «جزء».

ص: 519

المقدّمة الثانية: الشيء لا يجب في مرتبة من مراتب الوجود - سواء كان وجوبا ذاتيا أو غيريا - إذا تحقّق غيره في تلك المرتبة أيضا، إلّا بأن يكون وجوبه بحسب نشأة معيّنة، ومرّة مخصوصة مختصّة به في تلك المرتبة؛ لأنّه لو لم يكن كذلك بل يكون وجوبه مطلقا غير مختصّ بنشأة دون نشأة، ومرّة غير مرّة، لكان وجود غيره في تلك المرتبة منافيا لوجوبه فيها؛ فإنّه حيث تحقّق الغير ووجد في تلك المرتبة لم يتحقّق ولم يوجد هو فيها، فلا يكون وجوده في تلك المرتبة واجبا مطلقا، وإلّا لم يمكن عدم تحقّقه في تلك المرتبة بوجه من الوجوه أصلاً، بخلاف ما لو اختصّ وجوبه بنشأة معيّنة ومرّة مخصوصة به في تلك المرتبة؛ فإنّ عدم تحقّقه بحسب نشأة معيّنة اُخرى، ومرّة مخصوصة غيرها لا ينافي وجوبه بحسب النشأة المعيّنة، والمرّات المختصّة به، وهذا ظاهر. وبعد تمهيد تينك المقدّمتين أقول: إذا تعدّد الواجب بالذات في مرتبة من مراتب الوجود ك- «أ» و«ب» فإن كان وجوب «أ» وجوبا مطلقا غير مختصّة بالمرّة المعيّنة والنشأة المخصوصة، لم يكن كلّ من «أ» و«ب» واجبا بالذات قطعا، لما مرّ في المقدّمة الثانية آنفا. وإن كان وجوب «أ» في مرّة مخصوصة، وبحسب نشأة معيّنة في تلك المرتبة لا غير وكذا وجوب «ب» بحسب نشأة معيّنة اُخرى، وفي مرّة مخصوصة غيرها نقول: تعيّن تلك المرّة - التي اختصّ وجوب «أ» بها وبحسبها - وتميّزها عن المرّة المختصّة بوجوب «ب»: إمّا بنفس حقيقة «أ» و«ب»، أو بغيرهما من الاُمور الخارجة عن حقيقتهما، فإن كان بنفس حقيقة «أ» و«ب»، يكون لكلّ من حقيقة «أ» و«ب» مدخل (1) في وجوبهما بالضرورة، فيلزم تميّز حقيقتهما قبل وجودهما بل وجوبهما، هذا خلف؛ لما مرّ في المقدّمة الاُولى. وإن كان تميّز مرّة «أ» عن مرّة «ب» بغير حقيقتهما، بل بأمر خارج عنهما يكون لذلك الغير مدخل في وجوب «أ» و«ب» ووجودهما بالضرورة، فلا يكون «أ» واجبا بالذات وكذا «ب»، هذا خلف؛ فتأمّل تعرف.


1- .في النسخة: «مدخلاً».

ص: 520

[ب-]عبارة اُخرى لو تعدّد الواجب بالذات، فوجب «أ» و«ب» معا بالذات في مرتبة، فإن كان وجوب كلّ منهما وجوبا مطلقا غير مقيّد ولا مختصة بنشأة معيّنة ومرّة مخصوصة، فيكون «أ» في مرتبة معيّنة واجبا مطلقا لا بحسب نشأة ومرّة دون نشأة ومرّة فيها (1) ، وفي تلك المرتبة بعينها أيضا يكون «ب» واجبا مطلقا لا في نشأة دون نشأة ومرّة دون مرّة، يكون كلّ من «أ» و«ب» واجب التعيّن والتميّز في هذه المرتبة مطلقا من غير تميّز نشأة وجوب تعيّن «أ» عن نشأة وجوب تعيّن «ب»، فحيث يجب تعيّن «أ» تعيّن «ب»، وتعيّن «ب» غير تعيّن «أ»، فحيث يجب تعيّن «أ» لم يجب تعيّن «أ» وإلّا لم يتعيّن «ب»، وكذلك نقول في وجوب تعيّن «ب»: فحيث يجب تعيّن «ب» لم يجب تعيّن «ب» أيضا، فلم يكن كلّ من «أ» و«ب» واجبا في هذه المرتبة، هذا خلف. وإن كان وجوب كلّ منهما مختصّا (2) بمرّة مخصوصة، وبحسب نشأة معيّنة، فيكون «أ» واجبا بالذات في مرّة معيّنة، و«ب» واجبا بالذات في مرّة مخصوصة اُخرى، فنقول: تميّز مرّة وجوب «أ» عن مرّة وجوب «ب» إمّا بنفس حقيقة «أ» و«ب» فيلزم تقدّم وجود كلّ من «أ» و«ب» على وجوبه بالذات وهو محال، وإن كان بغير حقيقة «أ» و«ب» لكان لذلك الغير مدخل في وجود «أ» و«ب» بالضرورة، فيكون كلّ من «أ» و«ب» ممكنا لا واجبا بالذات، هذا خلف. بل نقول: إذا تحقّق واجبان بالذات في مرتبة من مراتب الوجود، فإمّا أن يكون كلّ منهما واجبا (3) في التحقّق في كلّ مرّة من مرّات الوجود المفروضة في تلك المرتبة، فيلزم إمكان كلّ منهما، وإمّا أن يكون كلّ منهما واجب التحقّق في مرّة غير معيّنة، وذلك مع أنّه غير معقول مستلزم لإمكانهما أيضا كما لا يخفى، وإمّا أن يكون كلّ منهما واجب التحقّق في مرّة معيّنة ونشأة مخصوصة مغايرة لنشأة وجوب تحقّق الآخر، فننقل الكلام إلى ما تميّز إحدى


1- .أي في مرتبة معيّنة.
2- .في النسخة: «مختصّ».
3- .في النسخة: «واجب».

ص: 521

الحجّة الثالثة

المرّتين المخصوصتين عن الاُخرى، ويتمّ الكلام على ما هو غير مرّة؛ فتدبّر. الحجّة الثالثة: تقريرها يتوقّف على تمهيد مقدّمات: مقدّمة [اُولى]: كلّ موجود - واجبا كان أو ممكنا - يجب أن يكون في مرتبة وجوده ونشأة موجوديّته وحيث هو موجود متعيّنا ومتخصّصا وجوبا أو إيجابا بأن يوجد؛ فإنّه لو لم يكن متعيّنا ومتخصّصا بالوجود في تلك المرتبة، يلزم ترجّح بلا مرجّح، فإنّه لم لا يتحقّق بدله شيء آخر؟ وكيف يتحقّق أمر معيّن في مرتبة ولم يتعيّن منها، وهذا ظاهر لا سترة به. مقدّمة ثانية: إذا تعدّد الموجود في مرتبة من المراتب يجب أن يكون نشأة تخصّص أحدهما فيها بوجوب التعيّن والتميّز مغايرة لنشأة وجوب تعيّن الآخر بالضرورة، وكيف يتحقّق «أ» مثلاً في نشأةٍ تعيّن فيها «ب» بالوجود، ولو كان كذلك لم يتميّز «أ» عن «ب» بل يكون «أ» «ب» و«ب» «أ» وكلّ منهما كليهما. مقدّمة ثالثة: ما تميّز مرّة وجود بعض الموجودات ونشأته عن مرّة وجود بعض آخر منها ونشأته إمّا الاُمور الخارجيّة عن حقائقها وهويّاتها، أو نفس حقائقها وهويّاتها، ولا مجال لاحتمال آخر بالضرورة. مقدّمة رابعة: لا يمكن أن يكون اختلاف الحقيقة موجبا لتعدّد الوجود وامتياز نشأة الوجود ومرّة الموجوديّة بعضها عن بعض؛ لأنّه يمتنع أن يتعيّن ويتميّز موجود قبل وجوده ووجوبه بالضرورة، ويمتنع أن يوجد قبل أن يتعيّن، بل يجب ويلزم أن يكون بين تعيّنه ووجوده معيّة ذاتيّة، فيكون مرتبة تعيّنه بعينها مرتبة وجوده، فالحقيقة إنّما يتحقّق في مرتبة الوجود، فكيف يكون موجبا لتعدّد الوجود؟ فإن قيل: فما تقول (1) فيما هو المشهور عند الجمهور من أنّ ما به التشخّص والامتياز قد يكون نفس المهيّة؟


1- .في النسخة: «يقول».

ص: 522

قلت: كلامهم في هذا المقام مبنيّ على التسامح، يدلّ على ذلك ما ذكروه هناك وهو ظاهر لمن تأمّل فيه. ولعلّ مرادهم ما به التشخّص والامتياز في نظرنا وبحسبه لا ما بسببه يحصل التشخّص والامتياز في نفس الأمر، و [ما] يتميّز به نشأة وجود أحد الموجودين عن الآخر حقيقةً إنّما هو العلّة على ما صرّح به بعضهم. فإن قلت: إنّ المفروض أنّ ما به امتياز نشأة «أ» مثلاً عن نشأة «ب» إنّما هو نفس حقيقة «أ» و«ب» وحينئذٍ لقائل أن يقول: إنّ ما به الامتياز لا يجب تقدّمه على الامتياز، وإنّما يجب لو كان سببا له، فيكون الباء فيه للسببيّة وهو ممنوع، ولِمَ لا يجوز أن يكون مرتبة ما به الامتياز بعينه مرتبة الامتياز، فلا يكون الباء فيه للسببيّة بل للمصاحبة. أقول: نحن نعلم بالضرورة أنّه لا بدّ أن يكون نشأة يجب تعيّن «أ» مثلاً فيها وبحسبها متميّزة مع قطع النظر عن خصوصيّه حقيقة «أ» وبدون خصوصها حتّى يكون مختصّة بتعيّن «أ» فيها، فإنّه لو كان تميّزها بنفس خصوصيّة «أ» كيف يتخصّص بوجوبٍ تعيّن «أ» فيها دون «ب» وكيف يتعيّن «أ» بحسبها وهو ظاهر، فلا يمكن أن يكون نشأة يجب فيها تعيّن «أ» متميّزة بنفس حقيقة «أ» وخصوصها؛ فافهم. وإذا عرفت هذه المقدّمات نقول: إذا تعدّد الواجب بالذات في مرتبة من المراتب، لم يكن هناك ما تميّز نشأة وجود أحدهما ووجوبه عن نشأة وجود الآخر مطلقا؛ فإنّه لا تتميّز نشأة وجود أحد الواجبين عن نشأة وجود الآخر باختلاف الحقيقة والهويّة؛ لما مرّ من أنّ مرتبة تعيّن الحقيقة بعينه مرتبة الوجود، فكيف يكون اختلاف الحقيقة موجبا لتعدّد الوجود، بل نقول: إنّ نشأة وجود أحدهما يجب أن تكون (1) متميّزة بدون خصوصيّته ومع قطع النظر عن حقيقته ليكون وجوب تعيّن حقيقته مختصّة بهذه النشأة المعيّنة دون نشأة اُخرى، وإلّا لم يتصوّر ذلك بالضرورة على ما مرّ، ولا يمكن أن تتميّز نشأة وجود أحدهما عن نشأة وجود


1- .في النسخة: «يكون».

ص: 523

الآخر بالاُمور الخارجة عن حقيقتهما وهويّتهما أيضا، وإلّا لكان للاُمور الخارجيّة مدخل في وجودهما بالضرورة، فلم يكونا واجبين، هذا خلف. وإذا لم يتحقّق ما تميّز نشأة وجود أحدهما، ومرّة موجوديّته عن مرّة موجوديّة الآخر أصلاً، ولم يكن هناك ما تميّز المرّات والنشآت والمراتب مطلقا، فحيث يجب تعيّن أحدهما بالوجود، ويجب تعيّن الآخر لعدم تميّز المرّات مطلقا، ولا شكّ أنّ وجود أحدهما غير وجود الآخر، فحيث تحقّق أحدهما وفي نشأة وجوده وتحقّقه لم يتحقّق الآخر مع أنّ تعيّن الآخر بالوجود كان واجبا في هذه النشأة والمرّة والمرتبة أيضا؛ لما عرفت من عدم تعدّد المرّات هناك أصلاً؛ لعدم تميّزها مطلقا، فيلزم ترجّح بلا مرجّح، فإنّه حيث تحقّق أحدهما لِمَ لا يتحقّق الآخر مع أنّه كان واجب التحقّق والتعيّن هناك أيضا؟ بل يجب أن يكون كلّ منهما هو الآخر، وكلّ منهما كليهما؛ لأنّهم حيث وجب تعيّن أحدهما وجب تعيّن الآخر من غير امتياز بينهما في المرّة والمرتبة؛ فتدبّر تعرف فإنّه دقيق. إجمال في مرّة وجود أحد الواجبين إن لم يتعيّن وجوده، يلزم الترجّح بلا مرجّح؛ حيث وجد ما لم يتعيّن بالوجود، وكيف يوجد متعيّن لم يتعيّن؟ وإن تعيّن كان كلّ ما يوجد في هذه المرّة والمرتبة هذا المعنى لا غير، فكان كلّ منهما هو الآخر، وكلّ واحد المجموع. وإن قيل: وجد كلّ في مرّة. قلنا: لا يتصوّر ذلك إلّا بتميّز المرّات بالضرورة، فإن كان ذلك لاختلاف الحقيقة يلزم تقدّم تميّز الحقيقة على وجودها وبقطع النظر عنه، وذلك محال، وإن كان بغيرها لم يكن كلّ منهما واجبا بالذات، وهو ظاهر. تبيين وتوضيح بعبارة فارسيّة هيچ شكى نيست كه تا امرى - خواه ممكن باشد و خواه واجب - متعيّن نباشد در حين وجود و مرتبه وجود به موجوديت موجود نخواهد بود در آن حين و مرتبه، وإلّا ترجّح

ص: 524

الحجّة الرابعة

بلا مرجّح لازم مى آيد، واين به غايت ظاهر است. و بعد از تقرير و تقرّر اين مقدّمه مى گوييم كه اگر واجب بالذات متعدّد باشد مثلاً «أ» و «ب» هر دو واجب بالذات باشند هر دو در يك مرتبه از مراتب وجود متعيّن خواهند بود به موجوديت، و اين ظاهر است. پس اگر مرّه و نشأه (1) تعيّن «أ» از نشأه و مرّه تعيّن «ب» ممتاز نيست لازم مى آيد كه «أ» «ب» و «ب» «أ» بلكه كلّ واحد هر دو باشند؛ لأنّه حيث تعيّن «أ» تعيّن «ب» و حيث تعيّن «ب» تعيّن «أ»، واگر نشأه «أ» و «ب» و مرّه وجود ايشان از يكديگر ممتاز است آيا امتياز اين مرّه از آن مرّه به نفس حقيقت «أ» و «ب» خواهد بود يا بغير، و بر تقدير اوّل لازم مى آيد تميّز حقيقت «أ» و «ب» قبل از تميّز ايشان، و اين ظاهر است لزوما و محذورا، و بر تقدير ثانى لازم مى آيد كه تعين حقيقت «أ» و «ب» موقوف بر غير باشد. پس واجب الوجود نباشند، و اين خلاف مفروض است؛ فتأمّل. الحجّة الرابعة: ما حقّقه بعض أعاظم الأعلام لكن يرد عليه شيء، وإنّي أتممته بنحو إشراقي يندفع عنه الإيراد وهو: أنّ فرد الموجود بلا سبب - أعني الواجب بالذات - إن وجب ولزم بمجرّد أنّه فرده أن يكون هذا المعيّن ك- «أ» مثلاً لم يكن إلّا «أ» فلم يتعدّد، وإن لم يجب ولم يلزم، كان هذا بسبب، فلم يكن واجبا بالذات، هذا خلف. وبعبارة اُخرى الموجود بلا سبب - أعني الواجب بالذات من حيث هو هو - إن وجب ولزم أن يكون متعيّنا وليكن «أ» لم يتعدّد ولم يكن غير «أ»، وإن وجب ولزم أن يكون «ب» أيضا وهو غير «أ» كان «أ» «ب» و«ب» «أ» وكلّ منهما كليهما، وإن لم يجب ولم يستلزم من حيث هو لشيء من «أ» و«ب» كان كلّ منهما بعلّة وسبب، فلم يكن واجبا بالذات.


1- .في النسخة: «مرّة ونشأة». وكذا في الموارد الآتية.

ص: 525

وهذا الدليل يتوقّف على مقدّمة وهي أنّه إذا كان حال وأمر حاصلاً لفرد معنى واحد كلّي بمجرّد أنّه فرده لا غير، كان ذلك الأمر والحال حاصلاً لكلّ فرد من أفراد ذلك المعنى، ذاتيا كان ذلك المعنى لأفراده، أو عرضيا متواطئا، أو مشكّكا. وقد ادّعى هذا العظيم (1) بداهة تلك المقدّمة وبالغ في ذلك، ونقل عن الشيخ الرئيس والعلّامة الدواني وغيرهما من العلماء العظام القول بتلك المقدّمة والتصريح بها، والمستفاد من كلام صاحب الإشراق أنّه محلّ نظر، والحكم ببداهته لعلّه من بديهة الوهم، وذلك لأنّ المعنى الواحد الكلّي المشترك موجود في الذهن، وليس بمشترك في الخارج بين أفراده الخارجيّة مختلفة الحقائق أو المراتب، فلا يلزم أن يحصل ما حصل لحقيقة، أو مرتبة مخالفة لها، فالاشتباه إنّما نشأ من أخذ ما في الذهن مكان ما في الخارج. وقال هذا العظيم: الحقّ أنّ هذا حكم حقّ حتم يحكم به بديهة العقل فإنّ العقل، يحكم حتما جزما بأنّ كلّ ما حصل لفرد مفهوم واحد كلّي مجرّد أنّه فرد هذا المعنى لا غير، يلزم أن يحصل لكلّ فرد من أفراد هذا المعنى الكلّي؛ إذ منشأ الحصول وعلامته هي الفرديّة، فيلزم تحقّق الحصول كلّما تحقّقت الفرديّة ضرورة. وتوضيحه وتنقيحه أنّ كلّ فرد لكلّ مفهوم ومعنى عقلي هو الأمر الخارجي الصالح لأن يكون معدّا لحصول صورة هذا المعنى في الذهن، ونحن نعلم ضرورة ونظرا كثيرا من أحوال الاُمور الخارجيّة وأحكامها ولوازمها بملاحظة مفهوماتها العقليّة، فإنّا نعلم أنّ النور في الخارج يستلزم الحرارة، فإذا علم عالم أنّ شيئا موجودا في الخارج صالح لأن يكون معدّا لحصول صورة في الذهن، وذلك الشيء الخارجي بمجرّد أنّه صالح لهذا الإعداد لا غير، ولا خصوصيّة اُخرى، استلزم وحصل له


1- .يعني بعض الأعاظم.

ص: 526

بمحض هذه الصلاحية أمر وحال بحسب الخارج، كان ذلك الأمر والحال، أو مثله حاصلاً لازما لكلّ صالح لهذا الإعداد، وهو إعداد حصول تلك الصورة؛ فإنّه ضروري أنّه إذا كان حال وأمر خارجي حاصلاً لازما لشيء بمجرّد أنّه صالح لإعداد صورة ذهنيّة، لزم أن يكون ذلك الحال والأمر حاصلاً لازما لكلّ صالح لإعداد تلك الصورة؛ فإنّه إذا كان منشؤ لزوم ذلك اللازم وحصوله لحقيقةٍ خارجيّةٍ صلاحيةَ تلك الحقيقة لذلك الإعداد، كان كلّ صالح لهذا الإعداد يلزم هذا اللازم، ويحصل له هذا الحاصل؛ لتحقّق ذلك المنشأ الموجب لذلك اللزوم فيه، مثلاً إذا كان «ج» شيئا موجودا في الخارج صالحا لأن يعدّ حصول صورة معيّنة منه في الذهن، وهي صورة «ه»، ثمّ كان بمجرّد أنّه صالح لهذا الإعداد مستلزما لأن يكون له أمر مثل «د» وأن يحصل له «د» كان كلّ موجود خارجي صالح لإعداد حصول «ه» مستلزما له ولحصول «د» أو مثله له، فإنّه بين أنّه إذا كان موجب حصوله «ج» أو استلزم «ج» له ليس إلّا أنّ «ج» صالح لأن يكون معدّا لحصول صورة «ه» كان كلّ صالح لإعداد صورة «ه» مستلزما له ولحصوله؛ لتحقّق موجب الاستلزام والحصول فيه؛ ضرورة أنّ تحقّق الملزوم - وهو تلك الصلاحية - مستلزم لتحقّق اللازم وهو «د»، فإذا كانت هذه الصلاحية والإعداد بحسب الخارج مستلزما للزوم «د» وحصوله، كان كلّ موجود خارجي له تلك الصلاحية مستلزما له ولحصول «د» له، فإنّه كلّما تحقّق الملزوم تحقّق اللازم في أيّ صورة ومادّة كان، مثلاً إذا كان نور بمجرّد أنّه نور مستتبعا لحرارة، كان كلّ نور كذلك، ذاتيا كان معنى النور، أو عرضيا متواطئا، أو مشكّكا. وهذه الشرطيّة بديهيّة يحكم بها بديهة العقل، غاية الأمر أنّه إذا اختلفت أفراد النور اختلفت أفراد الحرارة التابعة. انتهى ما أفاده في هذا المقام. وأقول: جريان ما أفاده قدس سره في المقولة بالتشكيك لعلّه غير مسلّم؛ إذ مفهوم المقول

ص: 527

بالتشكيك - على ما حقّق في موضعه - في جميع أفراده المختلفة بالكمال والنقص واحد، وكلّ واحد من تلك الأفراد محض هذا المفهوم ومجرّده، والتفاوت والاختلاف إنّما هو بنفس هذا المعنى وصدقه عليها لا غير، فالنور الكامل والناقص كلاهما محض النور ومجرّده، غايته أنّ أحدهما نور كامل، والآخر نور ناقص، وصدق النور عليهما مختلف بالكمال والنقص، فما يحصل للنور الكامل بذاته ولذاته إنّما حصل بمجرّد أنّه نور، وبمحض أنّه فرد للنور، وكذا ما يحصل للنور الناقص لذاته إنّما حصل بمجرّد أنّه نور، وبمحض أنّه فرد للنور، ومع ذلك نقول: لا يلزم أن يحصل ما حصل للنور الكامل بمجرّد أنّه نور ، وبمحض أنّه فرد للنور للنور الناقص؛ إذ جهة الفرديّة فيهما مختلف بالكمال والنقص؛ فإنّ صدق هذا المفهوم على الكامل أشدّ من صدقه على الناقص، فيجوز أن يكون النور الكامل بمجرّد أنّه نور وفرد منه مستلزما لأمر، ولا يكون النور الناقص مستلزما له أصلاً؛ إذ التفاوت بينهما على ما عرفت إنّما هو بنفس معنى النور، فما يستلزمه النور الكامل من حيث إنّه كامل يصدق أنّه مستلزم له من حيث إنّه نور وبمجرّد أنّه فرد للنور، ولا شكّ أنّ النور الكامل من حيث إنّه كامل يجوز أن يستلزم لأمر لا يستلزمه النور الناقص من حيث إنّه ناقص، فيجوز أن يكون النور الكامل - من حيث إنّه نور وبمجرّد أنّه فرد للنور - مستلزما لأمر لا يكون النور الناقص مستلزما له؛ إذ ليس معنى الحيثيّتين والمفهوم منهما واحد. وممّا ذكرنا تبيّن أنّ منشأ الاستلزام والحصول وإن كان محض الفرديّة لكنّها ليست مشتركة محضة، بل هي مختلفة لوجه، فاشتراك منشأ لزوم ذلك اللازم وإن فرض أنّه محض الفرديّة ومجرّدها للمفهوم الكلّي لعلّه غير مسلّم؛ إذ جهة الفرديّة مختلفة على ما عرفت، فلا يلزم اشتراك اللازم أصلاً. وقد صرّح ذلك العظيم (1) بأنّ صلاحية إعداد المعنى الواحد الكلّي اللازم لتلك الحقائق


1- .يعني بعض الأعاظم.

ص: 528

والمراتب المختلفة الخارجيّة - وهي جهة صدق ذلك المعنى الواحد الكلّي عليها وجهة فرديّتها له - غيرُ متشابهة. ولا يخفى على اُولي النهى أنّه إذا كانت لصلاحية الإعداد مراتب مختلفة يجوز أن يستلزم اُمورا مختلفة، فلا يلزم أن يحصل ما حصل لفرد خارجي بمجرّد صلاحيته لإعداد مفهوم كلّي لكلّ ما له تلك الصلاحية إذا كانت مراتب الصلاحية غير متشابهة، وهو ظاهر. فإن قلت: نفس هذا المعنى إن كان مقتضيا لأمر مخصوص، يلزم اشتراك هذا الأمر بين جميع أفراده. قلت: نفس هذا المعنى من حيث هو تارة عين الكامل يستلزم أمرا مخصوصا، وتارة عين الناقص ويستلزم أمرا آخر، ولا يستلزم اشتراكَ هذين الأمرين بين الكامل والناقص. ولو قيل: الكلام في منطق هذا المفهوم من حيث هو. قلنا: مطلق هذا المفهوم يستلزم تارة حالاً مخصوصا، وتارة حالاً خاصّا آخر، ولا محذور في ذلك. والحاصل أنّ مجرّد نفس هذا المفهوم المقول بالتشكيك لو استلزم تارة بشرط الكمال أمرا خاصّا، وتارة بشرط النقص أمرا آخر لا يخرجه هذان الشرطان عن الإطلاق وكونه محض نفس هذا المفهوم، ويكون المستلزم حقيقة لهذين الأمرين مجرّد هذا المفهوم ومحضه، بخلاف المتواطئ؛ فإنّه بأيّ شرط اُخذ يخرج عن الإطلاق، وينافي ذلك كونه من حيث هو، فلو استلزم بهذا الشرط شيئا لا يكون مجرّد مفهومه مستلزما له. والسرّ في ذلك على ما عرفت أنّ الاختلاف بالكمال والنقص في المعنى المقول بالتشكيك اختلاف بنفس هذا المعنى لا بأمر خارج عنه بخلاف الاختلاف بالشروط في المتواطئ؛ فإنّه اختلاف بالخارجيّات لا محالة، فالتقييد بالكمال والنقص في نفس المهيّة لا ينافي إطلاق المفهوم المقول بالتشكيك بخلاف المتواطئ؛ فتأمّل فإنّه دقيق، وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المقام؛ لأنّه من مزالّ أقدام أفهام أجلّة الأعلام، فاعرف ذلك فإنّ تحقيق هذا

ص: 529

المرام بهذا النحو من الكلام ممّا لم يَحُم حولَه أحد من العظام. وممّا حقّقناه تبيّن أنّ هذه المقدّمة - التي يتوقّف صحّة هذا الدليل عليها بهذا العموم - محلّ ناظر وتأمّل بل هو ممتنع، فلا يتمّ هذا الدليل أصلاً. وممّا يؤيّد ذلك أنّه لو صحّ هذا الدليل يلزم انحصار مطلق الموجود في الواجب بالذات، فإنّا نقول: فرد الموجود من حيث إنّه فرد الموجود، وبمجرّد أنّه فرده إن كان مستلزما لأن يكون واحدا معيّنا - أعني الواجب الأوّل - لا يكون غيره أصلاً، وإن لم يكن مستلزما له، كان هو بعلّة، فلم يكن واجبا بالذات، هذا خلف. وما أفاد هذا العظيم قدس سره في دفع هذا النقض حيث قال: وإنّي أرى في ردّ هذا الإيراد وجهين: الأوّل أنّ الموجود إذا خلّي وذاته، كان موجودا بلا سبب، وعند تحقّق غيره موجود بسبب. فإن قيل: الموجود وفرد الموجود بمجرّد أنّه فرده يجب ويلزم أن يكون خاليا بذاته أو لا، فعلى الأوّل يكون كلّ موجود خاليا بذاته، فلم يتعدّد الموجود، وعلى الثاني كان لخلوّه بذاته سبب، فيكون للموجود بلا سبب - أعني الواجب بالذات - سببٌ. قلنا: إنّ الخلوّ بذاته طرف عدمي من طرفي الوجود، فلا يحتاج إلى سبب. الوجه الثاني أنّ الموجود بمجرّد أنّه موجود يجب أن يكون في أوّل وجوده حقيقة فرده وجودا بلا علّة، فيكون ذلك الفرد موجودا بلا سبب، ولا يمكن أن يكون حقيقة فردين، لما بيّن ذلك في موضعه. منظورٌ فيه (1) . أمّا الوجه الأوّل، فلأنّه لمّا سلّم أنّ فرد الموجود عند الخلوّ وبشرطه يجب أن يكون بلا سبب، وقد سلّم أنّ الخلوّ غير واجب، فلا يكون ما هو واجب عنده وبشرطه واجبا أيضا بالضرورة، فلا يجب أن يكون فرد الموجود موجودا بلا سبب، بل يكون كونه كذلك


1- .خبر لقوله: «ما أفاد».

ص: 530

ممكنا، فيحتاج فرد الموجود في كونه كذلك - أعني كونه بلا سبب - إلى علّة وسبب؛ إذ كونه بلا سبب ليس بأمر عدمي لا يحتاج إلى سبب وعلّة، فيكون الواجب في كونه واجبا محتاجا إلى علّة وسبب، هذا خلف. وأمّا الوجه الثاني فلأنّا نقول: إنّ الموجود بمجرّد أنّه موجود هل يجب أن يكون في أوّل مرتبة الوجود أو لا؟ فعلى الأوّل يلزم أن يكون كلّ موجود موجودا في تلك المرتبة، وعلى الثاني كان لكونه في أوّل المرتبة سبب، ولا يمكن أن يقال: إنّه عدمي كما قال في الخلوّ، فيكون الموجود بلا سبب موجودا لسبب، هذا خلف. ولو قيل: إنّ الموجود يجب أن يكون في أوّل المراتب عند الخلوّ يرجع إلى الوجه الأوّل، ويرد عليه ما يرد عليه؛ فتأمّل. فالأصوب أن لا نسلّم تلك المقدّمة بهذا العموم كما هو الحقّ لما مرّ، ولئلّا يرد هذا النقض قطعا، ولا يحتاج في الجواب عنه إلى هذه التعسّفات أصلاً. فانهدم بما حقّقناه بنيان هذا الدليل بهذا التحرير رأسا، ولكن لا يبعد أن يقال: مفهوم الواجب بالذات إمّا أن يكون متواطئا أو مشكّكا، فإن كان متواطئا، لا يمكن أن يكون متعدّدا أصلاً؛ لأنّ فرد مفهوم المتواطئ من حيث إنّه فرده ومفهومه من حيث هو هو إن وجب ولزم أن يكون واحدا معيّنا ك- «أ» مثلاً لم يتعدّد أصلاً، وإن لم يجب أن يكون واحدا معيّنا يكون ذلك الواحد - أعني «أ» - بعلّة وسبب، فلا يكون واجبا بالذات، هذا خلف. وما ذكرنا في المقول بالتشكيك لا يجري في المتواطئ على ما لا يخفى (1) . وإن كان مشكّكا، لاختلف أفراد الواجب بالذات بالكمال والنقص، فيكون أحد الفردين كاملاً، والآخر ناقصا، فنقول: الفرد الناقص لا يكون واجبا بالذات أصلاً؛ إذ الواجب بالذات


1- .في هامش النسخة: لا يذهب عليك أنّ هذا التقرير لا يختصّ بالواجب بالذات، بل يجري في الموجود بالذات أيضا؛ لأنّه لا يجوز أن يكون مشكّكا؛ فتدبّر (منه عفي عنه).

ص: 531

لا بدّ أن يكون غير متناهٍ (1) في الكمال، بمعنى أنّه لا يمكن أن يتصوّر فوق مرتبته مرتبة اُخرى أكمل من تلك المرتبة وأشدّ منها؛ فإنّه لو لم يكن كذلك بل يكون متناهيا في الكمال، فيكون فوق مرتبته في الكمال مرتبة اُخرى، أو يمكن أن يتصوّر ذلك لاحتاج بالضرورة إلى مخصّص قاهر يخصّصه على تلك المرتبة المخصوصة ويقهره على ذلك الحدّ المعيّن (ظ). وهذه مقدّمة إشراقيّة يحكم به الذوق الصحيح، بل الفطرة السليمة لا ينكرها إلّا من لم يكن له ذوق صحيح إشراقي، فالمناقشة فيها غير مسموعة، قال في الإشراق: فنور الأنوار شدّته وكمال نوريّته لا يتناهى، فلا يتسلّط عليه بالإحاطة شيء، واحتجابه عنّا إنّما هو لكمال نوره وضعف قوانا لإطفائه (2) ، فلا يتحصّص شدّته عند حدّ يمكن أن يتوهّم وراءه نور، فيكون له حدّ وتحصّص يستدعي لمحصّصٍ وقاهر له يقهره على ذلك الحدّ، فلا يتجاوز منه وهو محال، بل هو القاهر بنوره لجميع الأشياء (3) . وقال الشهرزوري في الشجرة الإلهيّة: ولا يجوز أن يتحصّص (4) شدّة نوريّته عند حدّ بحيث يمكن أن يتوهّم وراءه نور، فإنّه لو كان كذلك، لزم أن يكون له حدّ وتحصّص (5) فيستدعي محصّصا (6) يكون أشدّ نوريّة وقاهرا له،ه (7) بل هو القاهر لشدّة (8) نوريّته لجميع الأنوار (9) . انتهى.


1- .في النسخة: «غير متناهية».
2- .في المصدر: «لا لخفائه».
3- .حكمة الإشراق (مجموعة مصنّفات شيخ اشراق)، ج 2، ص 168، وفيه: «مستدعٍ لمخصّصٍ وقاهر له، بل هو القاهر بنوره لجميع الأشياء».
4- .في المصدر: «يتخصّص».
5- .في المصدر: «تخصّص».
6- .في المصدر: «مخصّصا».
7- .في المصدر: + «وذلك محال».
8- .في المصدر: «بشدّة».
9- .الشجرة الإلهيّة، ج 3، ص 446، الفنّ الثاني، الفصل العاشر في تحقيق المثل الأفلاطونيّة.

ص: 532

فتبيّن وظهر أنّ الفرد الناقص يكون معلولاً البتّة، فلا يكون واجبا بالذات، هذا خلف. فالواجب بالذات لا يمكن أن يتعدّد أصلاً، وهو المطلوب. ولا يخفى على اُولي النهى أنّ ما ذكرناه في بيان أنّ الناقص لا يكون واجبا بالذات هو الأصوب. والأولى ممّا ذكره [ما ذكر] المحقّق الدواني في مثل هذا المقام في بعض رسائله حيث قال بالفارسيّة: چون اين مقدمه تمهيد يافت كه اختلاف ميان أنوار بالنوع نيست بلكه به كمال و نقصان در نفس حقيقت ايشان است با اتحاد حقيقت، گوييم كه نمى تواند كه نور غنىّ مطلق متعدّد باشد؛ چه اگر متعدّد باشد تمايز ايشان به سبب حقيقت و لوازم آن نتواند بود؛ زيرا كه مشترك است ميان (1) ايشان چنانچه گذشت، و به عوارض نتواند بود؛ زيرا كه سبب اختصاص هر يك (2) به عارضى، يا حقيقت ايشان باشد، يا هويت، يا امرى خارج. اوّل باطل است؛ زيرا كه حقيقت هر دو يكى است، و ثانى ظاهر البطلان؛ چه تحصيل هويت، موقوف بر آن عارض است، و ثالث باطل؛ زيرا كه ايشان حينئذٍ در تحصيل هويت مفتقر به غير باشند. پس غنى مطلق نباشند. و تمايز به كمال و نقصان نتواند بود؛ زيرا كه مفروض آن است كه هر دو نور، غنى مطلق اند، و حينئذٍ ناقص، غنى مطلق نباشد؛ چه ناقص بالذات مفتقر است به كمال. و همانا تدقيق فروشان شور بازار جدال گويند: چرا نشايد كه نور ناقص را آن كمال ممكن نباشد، پس او را افتقار به كمال نباشد؛ چه افتقار، در امر ممكن تواند بود. ولئن سلّمنا كه افتقار به كمال دارد چرا نشايد كه نور ناقص اگر چه مفتقر است


1- .في المصدر: «ميانه».
2- .في المصدر: «يكى».

ص: 533

به كمال، مفتقر به نور كامل در ذات خود نباشد، به اين معنى كه پرتو نور كامل نباشد. گوييم: به اتفاق كافّه عقلا از متكلّمان و مشّائيان و غيرهم نقص بر واجب الوجود محال است؛ چه نقص مستلزم امكان است، و بديهه عقل حاكم است به آنكه هر چيز كه او را در وجود كه منبع كمالات است افتقار به غير نباشد، در توابع آن به غير مفتقر نخواهد بود. و اين دعوى مخصوص اشراقيان نيست (1) . وإنّما قلنا: إنّ ما ذكرناه أولى؛ لما لا يخفى على اُولي النهى. قيل: وما أفاده في جواب الإيراد الذي أورده منظور فيه؛ فإنّ نقصان الناقص في حدّ ذاته ممنوع، وبالنظر إلى الكامل مسلّم، لكنّه لا نسلّم أنّه مخالف للاتّفاق؛ إذ من المعلوم أنّه ما وقع الاتّفاق، على أنّه لا يكون الواجب أنقص من واجب آخر على تقدير تعدّده، وذلك ظاهر. أقول: فيه تأمّل؛ فتأمّل. وأيضا قيل - على مذاق الإشراق - : كلّ من النقص والكمال غير ذات الناقص والكامل، فلا معنى لقوله: «هر چيز كه او را در وجود كه منبع كمالات است افتقار به غير نباشد در توابع آن مفتقر نخواهد بود» في هذا المقام أصلاً، بل لا معنى لكلّ ما أفاده هاهنا من الدليل والنظر على ما لا يخفى على العارف بقواعد الإشراق. انتهى. فتأمّل فيه، فالأصوب كما ذكرناه أن يستدلّ على عدم امتيازهما بالكمال والنقص بما ذكرناه من المقدّمة الإشراقيّة التي يحكم بها كلّ ذوق صحيح على ما أشرنا إليه.


1- .رسالة تهليليّة للدواني، ص 53 - 54، وفي المطبوع في مجموعه رسائل فارسى ج 2، ص 27 - 28.

ص: 534

الحجّة الخامسة

الحجّة الخامسة البرهان الذي تفرّد به بعض الأفاضل، وتقريره يستدعي تمهيد [مقدّمتين]: [مقدّمة اُولى]: هي أنّ الأحكام والأحوال النفس الأمريّة الجارية على الاعتبارات العقليّة والاُمور الانتزاعيّة لا تكون (1) في الحقيقة أحكاما وأحوالاً لتلك الاعتبارات العقليّة والاُمور الانتزاعيّة نفسها بل أحكاما وأحوالاً لمبادئ انتزاعها ومصداقاتها. قال بعض المحقّقين من العارفين في شرحه للزوراء: العقل قد يخترع معاني يستعين بها في تفهّم أنحاء بسيطة خارجيّة، وتلك المعاني تسمّى (2) اعتبارات منسوبةً إلى نفس الأمر؛ لأنّك إذا وقفت منها على مفهوماتها على أنّها مشيرة إلى أنفسها كانت اعتباريّة؛ لأنّها حينئذٍ طبائع معقولة يمتنع وجودها واتّصاف شيء بها كشريك الباري واجتماع النقيضين، وإن تجاوزت بها إلى ذلك النحو البسيط الخارجي الذي يشير إليه العقل بذلك المعنى يُحسَب كأنّه اضمحلّ ذلك المعنى من نحو نفسه من البين، وبقيت ناظرا إلى ذلك النحو البسيط الخارجي مستعينا به عليه كان حقّا مطابقا لنفس الأمر، وهذه الصور هي التي سمّيناها صورا انتزاعيّة ومعقولات ثانية، إلّا أنّا تكلّمنا عليها من نحو الخارج فجعلناها محاذية للطبائع الخارجيّة، ولم نجعل لها طبائع مخصوصة هي طبائعها، ولكن متى نظر إليها من نحو العقل، وجد لها طبائع مخصوصة، ووجد العقل يربط تلك الطبائع إلى الأشياء ربطَ العارض بالمعروض، كقولك: الإنسان أبيض، ولكن لا يقصد بذلك أنّ ذلك كذلك حاصل في نفس الأمر؛ فإنّه يستحيل أن يوجد طبيعة هي الشيء مثلاً عارضة لما هو شيء كما مرّ متبيّنا، ولكنّه يستعين بذلك على أداء حالة بسيطة خارجيّة، كما يستعين مثلاً بمفهوم الابتداء في تفهّم معنى «من» فينبغي أن يترك الأداء ويتجاوز إلى المؤدّى. وإذا عرفت هذا يتبيّن لك أنّ الزائد العقلي لا يتّصف به شيء في نفس الأمر، وإنّما يصف العقل الأشياء به تفهيما، وإشارة إلى نحو بسيط خارجي.


1- .في النسخة: «لا يكون».
2- .في النسخة: «يسمّى».

ص: 535

وقال هذا المحقّق أيضا في موضع آخر: أقول - والتوفيق من اللّه مسؤول - : اعلم أنّ العقل إذا أدرك شيئا فإنّ من فطرته وجبلّته أن يخترع معنى ما في معرض البيان يشير إلى ما أدركه ويعبّر به عمّا ناله، لا اُريد البيان اللساني بل البيان النطقي العقلي. ثمّ إنّه يستعمل ذلك المعنى محاذيا لما أدركه ومحاكيا له، ومن شأن الحكاية أن يذهل عنها نفسها ويضمحلّ في البين ويتوجّه منها إلى المحكيّ، فإذا يحكم عليه بجميع أحكام المحكيّ؛ لأنّه مضمحلّ في البين والمنظور إليه المحكيّ لا غير، وتلك الأحوال أحواله، فإن استمعه المستمع من حيث ما يقوله القائل يصدّقه، وإن اتّفق له أن نظر إلى نفسها ونظر إليها بما هي ولم يضمحلّ في البين، وجد جميع الأحكام كاذبة، فهذه المفهومات مخترعات ومنتزعات، وحيث كانت لها مطابقات قصدت بها حكاياتها كانت نفس أمريات، وإلّا فلا. انتهى. أقول: هذا الكلام دقيق حقيق بالتصديق صدر عن محصّله. وملخّصه ما ذكرنا من أنّ للاُمور الاعتباريّة الانتزاعيّة اعتبارين: أحدهما: اعتبارها من حيث نفس مفهوماتها وبهذا الاعتبار ليست اُمورا يتّصف بها الأشياء في نفس الأمر، ولا هي تتّصف (1) بالاُمور النفس الأمريّة إلّا باعتبار وجودها في الذهن. وثانيهما: اعتبارها من حيث إنّها تكون (2) آلة لملاحظة مبادئ انتزاعها ومصداقاتها، وحينئذٍ تكون منسوبة إلى نفس الأمر؛ ولهذا اشتهر أنّ تلك الاُمور إن كانت لها مبدأ انتزاع فنفس أمريّة، وإلّا فلا، فالأحكام والأحوال النفس الأمريّة - التي [هي] جارية على تلك الاُمور، لا باعتبار خصوص الوجود الذهني - لا تصدق (3) حقيقة إلّا باعتبار مبادئ انتزاعها


1- .في النسخة: «يتّصف».
2- .في النسخة: «يكون». و كذا في المورد الآتي.
3- .في النسخة: «لا يصدق».

ص: 536

ومصداقاتها، بل تكون في الحقيقة أحكاما وأحوالاً لها لا لتلك الاُمور الانتزاعيّة نفسها؛ فإنّها كما عرفت مضمحلّة في البين قصدت بها حكايات مصداقاتها ومبادئ انتزاعها، يشهد بذلك الفطرة السليمة، والفطنة القويمة المستقيمة. مقدّمة ثانية: أنّا نعلم بالضرورة والوجدان أنّ جميع الموجودات من حيث إنّها موجودة مشتركة في معنى واحد يحتاج الممكن منها في ذلك المعنى إلى علّة ومؤثّر وفاعل، ويستغني الواجب فيه بعينه عن العلّة والمؤثّر مطلقا، والمنازع في ذلك مكابر مقتضى عقله، وذلك المعنى الواحد المتّصف بالحقيقة بالاشتراك بين جميع الموجودات من حيث إنّها موجود، وبالاحتياج إلى العلّة في الممكن، وبالاستغناء عنها في الواجب إمّا الوجود بالمعنى المصدري، أو مفهوم الموجود بالمعنى المعلوم الاعتباريين كما هو الظاهر بحسب ظاهر النظر، وإمّا أمر عيني يكون مبدءً لانتزاعهما ومصداقا لصدقهما. لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ الوحدة والاشتراك والاحتياج والاستغناء حالات وصفات نفس أمريّة ثابتة في نفس الأمر لهذا المعنى، وقد مرّ في المقدّمة الاُولى أنّ الاُمور الانتزاعيّة الاعتباريّة لا تتّصف (1) بالحالات والصفات النفس الأمريّة أصلاً باعتبار نفس ذواتها، وأنّ الأحكام والأحوال النفس الأمريّة الجارية عليها تكون (2) في الحقيقة أحكاما وأحوالاً لمصداقاتها ومبادئ انتزاعها، فهو أمر عيني يكون مبدءً لانتزاع الوجود، ومصداقا لصدق الموجود، ومشتركا بين جميع الموجودات بوجه ما؛ ضرورة أنّ الاشتراك بينها أيضا من الصفات الثابتة لهذا المعنى على ما مرّ، وذلك الأمر العيني - المشترك بين جميع الموجودات من الواجب والممكنات الذي هو مبدأ انتزاع الوجود - لا يمكن أن يكون مغايرا لحقيقة الواجب، خارجا عنها، عرضيا لها، وإلّا لم يكن ذات الواجب في نفسها مصداقا للموجوديّة، فلم يكن واجبا بالذات، بل يجب أن يكون ذاتيا لها تحقيقا لمعنى الوجوب.


1- .في النسخة: «لا يتّصف».
2- .في النسخة: «يكون».

ص: 537

الحجّة السادسة

وإذا ثبت هذا نقول: لو تعدّد أفراد الواجب بالذات، لا بدّ أن يتحقّق بينها ذاتي مشترك هو مبدأ انتزاع الوجود؛ أعني الوجود الحقيقي؛ لما مرّ، وتلك الذاتي إمّا نفس حقيقة تلك الأفراد أو جزؤها. وعلى التقديرين يلزم إمكان تلك الأفراد. أمّا على التقدير الأوّل، فلأنّه يلزم أن يكون للواجب مهيّة كلّيّة، وكونه ذا (1) مهيّة كلّيّة مستلزم لإمكانه كما سبق. وأمّا على التقدير الثاني، فلأنّ الجزء المشترك بينها ممكن بالضرورة؛ لما مرّ، والجزء المختصّ بكلّ منها إن لم يكن واجبا بالذات أيضا، يلزم أن يكون حقيقة الواجب بالذات محض الممكنات، وهو مستلزم لإمكان الواجب بالبديهة، وإن كان واجبا بالذات لا بدّ من تحقّق الجزء المشترك فيه أيضا، فلا بدّ له من جزء مختصّ، وننقل الكلام إليه حتّى يذهب إلى غير النهاية، فيلزم تحقّق الكثير (2) بدون الواحد، هذا خلف. فالواجب بالذات واحد، وهو المطلوب؛ فتدبّر. فإن قيل: الوجود الحقيقي عين ذات الواجب، وهي جزئي حقيقي، فكيف يكون مشتركا بين جميع الموجودات من الواجب والممكنات؟ قلنا: تحقّقه في الممكنات واشتراكه بينها عبارة عن ارتباط خاصّ بينه وبين جميع الممكنات الموجودة، ونسبة مخصوصة مجهول الكيفيّة، وهذا القدر من الارتباط كافٍ في الاشتراك (3) الذي ادّعيناه، وما قلنا: إنّه مشترك بين الموجودات اشتراك الكلّي بين الجزئيات؛ فافهم. وأنت خبير بأنّ هذا البرهان والبرهان الأوّل كما يدلّ على توحيد ذات الواجب يدلّ على وحدة الوجود كما هو مذهب الإشراقيين والمحقّقين من المتأخّرين؛ فتأمّل. الحجّة السادسة: ما حقّقه الدواني رحمه الله وهو:


1- .في النسخة: «ذي».
2- .في النسخة: «الكبير».
3- .في النسخة: «اشتراك».

ص: 538

أنّه لو تعدّد الواجب فإمّا أن يتّحد المهيّة في ذلك المتعدّد، أو يختلف. وعلى الأوّل لا يكون قولها على كثيرين لذاته، وإلّا لما كانت ماهيّتها (1) بواحدة، فيلزم تحقّق الكثير بدون الواحد، وهو باطل قطعا؛ إذ لا معنى للكثير إلّا ما يتركّب من الوحدات. قال الشيخ أبو نصر الفارابي: والمعنى الوحداني لا يتكثّر بذاته، وإلّا لم يوجد واحد منه؛ لأنّ كلّ واحد منه يكون على طباع ذلك المعنى، وإذا لم يكن واحدا، لم يكن كثيرا أيضا؛ لأنّ الكثرة تتركّب (2) من الآحاد، فإذا فرضنا أنّ المعنى الواحد يتكثّر بذاته، أبطلنا الكثرة (3) . وعلى الثاني يكون وجوب الوجود عارضا لها، وكلّ عارض معلول إمّا لمعروضه فقط، أو بمداخلة غيره، والقسمان باطلان. أمّا الأوّل فلاستلزامه كون الشيء علّة الوجود نفسه. وأمّا الثاني فأفحش. قال الشيخ في التعليقات: وجوب الوجود لا ينقسم بالحمل على كثيرين مختلفين بالعدد، وإلّا لكان معلولاً، (4) وهذا مجمل ما ذكرناه مفصّلاً، وهو برهان متين مختصر لا يتأتّى عليه ما ذكره ابن كمونة في بعض تصانيفه [من] (5) أنّ البراهين التي ذكروها إنّما تدلّ (6) على امتناع تعدّد الواجب مع اتّحاد المهيّة. وأمّا إذا اختلف، فلا بدّ له من برهان آخر، ولم أظفر به إلى الآن. ثمّ حقّق في هذا المقام تحقيقا حقّا حقيقا بأن ننقله هاهنا قال:


1- .في المصدر: «ماهيتهما».
2- .في النسخة: «يتركّب».
3- .من قوله: «وهو باطل قطعا» إلى هنا لم يرد في المصدر.
4- .هذه العبارة وردت في فصوص الحكم للفارابي، ص 52 ، فصّ 7.
5- .من المصدر.
6- .في النسخة: «الذي... يدلّ»، والمثبت من المصدر.

ص: 539

مقدّمة: إنّ الحقائق لا تقتنص (1) من قبل الإطلاقات العرفيّة فقد يطلق في العرف على معنى من المعاني لفظ يوهم ما لا يساعده البرهان بل يحكم بخلافه ونظير ذلك كثير: منه: أنّ لفظ العلم إنّما يطلق في اللغة على ما يعبّر عنه بالفارسيّة ب- «دانستن ودانش» ومرادفاتها (2) ممّا يوهم أنّه من قبيل النسب. ثمّ البحث المحقّق والنظر الحِكمي يقضي بأنّ حقيقته هو الصورة المجرّدة، وربّما يكون جوهرا كما في العلم بالجوهر، بل ربّما لا يكون قائما بالعالم، بل قائما بذاته كما في علم النفس وسائر المجرّدات بذواتها، بل ربّما يكون عين الواجب [كعلم الواجب] (3) تعالى بذاته. ومنه: أنّ الفصول الجوهريّة يعبّر عنها بألفاظ يوهم أنّها إضافات عارضة لتلك الجواهر، كما يعبّر عن فصل الإنسان بالناطق والمدرك للكلّيات، وعن فصل الحيوان بالحسّاس والمتحرّك بالإرادة، والتحقيق أنّها ليست من النسب والإضافات في شيء، بل هي جواهر؛ فإنّ جزء الجوهر لا يكون إلّا جوهرا كما تقرّر عندهم. وبعد ذلك نمهّد مقدّمة اُخرى وهي: أنّ صدق المشتقّ على شيء لا يقتضي قيام مبدأ الاشتقاق به وإن كان عرف اللغة يوهم ذلك حتّى فسّر أهل العربيّة بما يدلّ على أمر قائم (4) به المشتقّ منه، وهو بمعزل عن التحقيق؛ فإنّ صدق الحدّاد إنّما هو بسبب كون الحديد موضوع صناعته على ما صرّح به الشيخ وغيره، وصدق المشمّس على الماء مستند إلى نسبة الماء إلى الشمس بتسخينه (5) بسبب مقابلتها.


1- .في النسخة: «يقتنص».
2- .في المصدر: «مرادفاتهما».
3- .من المصدر.
4- .في المصدر: «قام».
5- .في المصدر: «بتسخّنه».

ص: 540

وبعد تمهيد هاتين المقدّمتين نقول: يجوز أن يكون الوجود - الذي هو مبدأ اشتقاق الموجود - أمرا قائما بذاته هو حقيقة الواجب تعالى. ووجود غيره تعالى عبارة عن انتساب ذلك الغير إليه، فيكون الموجود أعمّ من تلك الحقيقة ومن غيرها المنتسب إليه. وذلك المفهوم العامّ أمر اعتباري عدّ من المعقولات الثانية، وجعل أوّل البديهيات. فإن قلت: كيف يتصوّر كون تلك الحقيقة موجودة في الخارج مع أنّها كما ذكرتم عين الوجود؟ وكيف يعقل كون الموجود أعمّ من تلك الحقيقة وغيرها؟ قلت: ليس معنى الموجود ما يتبادر إلى الوهم، ويوهمه العرف من أن يكون أمرا مغايرا للوجود، بل معناه ما يعبّر عنه بالفارسيّة (1) ب- «هست» ومرادفاته، فإذا فرض الوجود مجرّدا عن غيره قائما بذاته، كان وجودا لنفسه، فيكون موجودا بذاته، كما أنّ الصورة المجرّدة إذا قامت بنفسها، كانت علما بنفسها، فكانت علما (2) وعالما ومعلوما كالنفوس والعقول، بل الواجب تعالى. وممّا يوضح ذلك أنّه لو فرض تجرّد الحرارة عن النار، كان حارّا وحرارة؛ إذ الحارّ ما يؤثّر تلك الآثار المخصوصة من الإحراق وغيره، والحرارة على تقدير تجرّدها كذلك، وقد صرّح بهمنيار في كتاب البهجة والسعادة بأنّه لو تجرّدت الصورة المحسوسة عن الحسّ، وكانت قائمة بنفسها، كان (3) حاسّة ومحسوسة؛ ولذلك ذكروا أنّه لا يعلم كون الوجود زائدا على الموجود إلّا ببيان، مثل أن يعلم أنّ بعض الأشياء قد يكون موجودا وقد يكون معدوما، فيعلم أنّه ليس عين الوجود، أو (4) يعلم أنّ ما هو عين الوجود يكون واجبا بالذات، ومن الموجودات ما لا يكون واجبا (5) .


1- .في المصدر: + «وغيرها».
2- .في المصدر: - «بنفسها فكانت علما».
3- .في المصدر: «كانت».
4- .في المصدر: «و».
5- .في المصدر: + «ويزيد الوجود عليه».

ص: 541

فإن قلت: كيف يتصوّر أن يكون هذا المعنى أعمّ (1) من نفس الوجود القائم بذاته وما (2) هو منتسب إليه؟ قلت: يمكن أن يكون هذا المعنى أحد الأمرين من الوجود القائم بذاته وما هو منتسب إليه انتسابا مخصوصا، ومعيار ذلك أن يكون مبدءً للآثار، ومظهرا للأحكام. ويمكن أن يقال: إنّ هذا المعنى ما قام به الوجود أعمَّ من أن يكون وجودا قائما بنفسه، فيكون قيام الوجود به قيام الشيء بنفسه، ومن أن يكون من قبيل قيام الاُمور المنتزعة العقليّة بعروضاتها (3) كقيام الاُمور (4) الاعتباريّة مثل الكلّيّة والجزئيّة ونظائرهما. ولا يلزم من كون إطلاق القيام على هذا المعنى مجازا أن يكون إطلاق الموجود عليه مجازا كما لا يخفى. على أنّ الكلام هاهنا ليس في المعنى اللغوي وأنّ إطلاق الموجود عليه حقيقة لغة أو مجاز؛ فإنّ ذلك ليس من المباحث العقليّة في شيء. فيتلخّص من هذا أنّ الوجود الذي هو مبدأ اشتقاق الموجود أمر واحد في نفسه وهو حقيقة خارجيّة، والموجود أعمّ من هذا الوجود القائم بنفسه وممّا هو منتسب إليه انتسابا خاصّا. وإذا حمل كلام الحكماء على ذلك لم يتوجّه عليه أنّ المعقول من الوجود أمر اعتباري وهو وصف للموجودات (5) وهو الذي جعلوه أوّل الأوائل البديهيّة فإطلاق الوجود على تلك الحقيقة القائمة بذاتها إنّما يكون بالمجاز، أو بوضع آخر، ولا يجدي ذلك في استغناء الواجب عن عروض الوجود، والمفهوم المذكور أمر اعتباري، فلا يكون حقيقةَ الواجب تعالى عن


1- .في المصدر: «هو الأعمّ».
2- .في المصدر: «ممّا».
3- .في المصدر: «بمعروضاتها».
4- .في المصدر: «سائر الاُمور».
5- .في المصدر: «الموجودات».

ص: 542

ذلك [علوّا كبيرا] (1) . وإذا حمل كلامهم على ما ذكرنا يتحصّل منه أمر معقول، ويندفع الهرج والمرج الذي يعرض للناظرين [في كلامهم بحيث] (2) يتشوّش الذهن ويتبلّد الطبع. فإن قلت: ما ذكرته من أنّه يمكن حمل كلامهم على ذلك لا يكفي، بل لا بدّ من الدليل على أنّ الأمر كذلك في الواقع. قلت: لمّا دلّ البرهان على أنّ وجود الواجب عينه، ومن البيّن أنّ المفهوم البديهيّ المشترك لا يصلح لذلك، فلا يكون الأمر إلّا كذلك. فإن قلت: لِمَ لا يجوز أن يكون هويّتان يكون كلّ منهما واجبا لذاته ويكون مفهوم واجب الوجود مقولاً عليهما قولاً عرضيا. قلت: لو كان كذلك (3) ، لكان عروض هذا المفهوم إمّا معلّلاً بذاته، فيلزم تقدّمه بالوجود على نفسه، أو بغيره فيكون أفحش، وقد تحقّق وتقرّر أنّ ما يعرضه الوجود، أو الوجوب فهو ممكن، فإذا [كان] (4) واجب الوجود هو نفس الوجود المتأكّد الواجب (5) بذاته. وإذا قلنا: واجب الوجود موجود، فالمراد به ما ذكرناه 6 لا أنّه أمر يعرضه الوجود، ولهذا صرّح المعلّم الثاني والشيخ بأنّ 7 ما يوهمه عرف اللغة - من إطلاق الموجود عليه تعالى - مجاز. إذا تمهّد ذلك ظهر أنّه لا يجوز أن يكون هويّتان كلّ منهما وجود قائم بذاته


1- .من المصدر.
2- .في المصدر: «يكفي في دفع هذا الوهم تذكّر المقدّمات السابقة وتفطّن المقدّمات اللاحقة؛ إذ قد علمت أنّه لو كان كذلك».
3- .في المصدر: «القائم».
4- .في بعض نسخ المصدر: + «من أنّ وجوده عينه».
5- .في المصدر: «على أنّ».

ص: 543

واجب لذاته؛ إذ حينئذٍ يكون وجوب الوجود عارضا مشتركا بينهما، فيلزم المفاسد المذكورة. بل نقول: نظرنا في نفس الوجود المعلوم بوجه ما بديهة، فأدّانا البحث والنظر إلى أنّه (1) أمر قائم بذاته هو الواجب. ومحصّله أنّا نظرنا في (2) الوجود المشترك بين الموجودات، فعلمنا أنّ اشتراكه ليس اشتراكا عروضيا، بل اشتراكا من حيث النسبة، فظهر أنّ الوجود - الذي ينسب إليه جميع الماهيّات - أمر قائم بذاته غير عارض لغيره واجب لذاته، كما أنّا لو نظرنا إلى مفهوم الحدّاد والمشمّس و (3) توهّمنا في بادئ النظر أنّ الحديد والشمس مشتركان بين أفراد الحدّادين والمشمّسات بحسب العروض بناءً على ما يوهمه ظاهر عرف اللغة، ثمّ تفطّنّا أنّ الحديد والشمس ليسا بمشتركين بحسب العروض، بل اشتراكهما بحسب نسبة كلّ من تلك الأفراد إليهما، ظهر أنّ توهّم العروض كان باطلاً، وأنّ ما حسبناه عارضا مشتركا، فهو في الواقع غير عارض، بل أمر قائم بذاته، ولتلك الأفراد نسبة خاصّة إليه، وليس هناك شمسان ولا حديدان. وأنت خبير بأنّ كون الوجود عارضا للمهيّات - على ما هو المشهور الذي ينساق إليه النظر الأوّلي - لا يصفو عن الكدورات المشوّشة للأذهان السليمة لا سيّما على [ما] (4) تقرّر عند المتأخّرين من أنّ ثبوت الشيء للشيء وعروضه له فرع لثبوت المثبت له في نفسه؛ إذ الكلام في الوجود المطلق، وليس للمهيّة قبل الوجود المطلق وجود حتّى يكون الاتّصاف به فرعا على ذلك الوجود. وما قاله بعضهم - من أنّ الاتّصاف بالوجود إنّما هو في الذهن - لا يجديهم نفعا؛ لأنّه إذا نقل الكلام إلى الاتّصاف بالوجود الذهني لم يبق لهم مهرب.


1- .أي الوجود المعلوم.
2- .في المصدر: + «مفهوم».
3- .في المصدر: - «و».
4- .من المصدر.

ص: 544

الحجّة السابعة

واستثناء الوجود من المقدّمة القائلة بالفرعيّة تحكّم. على أنّ مشاهيرهم قدحوا في هذا الاستثناء. والقول بأنّ ثبوت الشيء لغيره إنّما يقتضي ثبوت ذلك الغير إذا كان ثبوته له على نحو ثبوت الأعراض لمحالّها لا على نحو ثبوت الأوصاف الاعتباريّة لموصوفاتها يقدح في إثبات الوجود الذهني؛ إذ مداره على أنّ المعدومات الخارجيّة متّصفة بحسب نفس الأمر بصفات ثبوتيّة فيكون (1) موجودة في نفس الأمر، وإذ ليس لها وجود في الخارج فهي في الذهن، ومن البيّن أنّ المعدومات الخارجيّة لا يتّصف (2) بالأعراض، بل إنّما يتّصف بالصفات الاعتباريّة فقط. ثمّ من البيّن أنّه إذا كان الوجود وصفا للمهيّة، وكان أثر الفاعل هو اتّصاف المهيّة بالوجود - على ما تقرّر واشتهر بينهم - لزم أن يكون الصادر عن الفاعل هو ذلك الأمر النسبي، وظاهرٌ أنّ النسبة فرع المنتسبين، فلا يصحّ كونها أوّل الصوادر إلى غير ذلك من الظلمات التي تعرض من القول بعروض الوجود للمهيّات. وعلى ما ذكرنا لا يتوجّه شيء من الشبهات. هذا نظري في حقيقة ما ذهب إليه الحكماء (3) . الحجّة السابعة: وهي أيضا ما ذكره المحقّق الدواني رحمه الله: لو تعدّد الواجب، كان الاثنان منه - أعني معروض الاثنينيّة بدون العارض - إمّا واجبا أو ممكنا. والأوّل باطل؛ لافتقار هذا المعروض إلى كلّ واحد من الآحاد، والافتقار ينافي الوجوب. وكذا الثاني؛ لأنّ الممكن لا بدّ له من علّة فاعليّة تامّة، فتلك العلّة إمّا نفس هذا المعروض، فيلزم كون الشيء فاعلاً لنفسه ومتقدّما عليه، وإمّا خارج عنهما وبطلانه ظاهر؛ إذ ليس هناك شيء آخر يصلح لكونه علّة له (4) ،


1- .كذا في النسخة والمصدر ولعلّ الصواب «فتكون».
2- .كذا في النسخة والمصدر، والصواب «تتّصف» وكذا في المورد الآتي.
3- .رسالة إثبات الواجب الجديدة (المطبوع في سبع رسائل) ص 127 - 133.
4- .في المصدر: - «وإمّا خارج عنهما... لكونه علّة له».

ص: 545

وإمّا كلّ واحد منهما وهو باطل؛ لافتقار المجموع إلى الواحد الآخر، وليس الترديد في العلّة التامّة حتّى نختار (1) أنّه عينه - بناء على المشهور من أنّ العلّة التامّة لا يجب تقدّمها على المعلول - فلا مانع أن يكون عينه، كما أنّ مجموع الواجب والمعلول الأوّل مثلاً علّته التامّة عين ذلك المجموع. لا يقال: ليس هاهنا مجموع، بل الموجود هو هذا الواحد وذلك (2) الواحد، من غير أن يتحقّق شيء آخر هو المجموع. لأنّا نقول: وجود المجموع - أعني معروض المجموعيّة بدون العارض - بديهيّ؛ فإنّ انتفاء المتعدّد إنّما يكون بانتفاء واحد من آحاده، والآحاد بالأسر هاهنا موجودة؛ ولذلك تقرّر في موضعه أنّه يمكن أن يصدر عن الواجب شيء، وعن المعلول الأوّل شيء آخر، وعن مجموعهما شيء ثالث حتّى يكون في المرتبة الثانية شيئان في درجة واحدة وهكذا كما قرّروه في صدور الكثرة عن الواجب (3) الحقيقي بدون الاستعانة بالاعتبارات التي يشتمل عليها المعلول الأوّل على ما هو المشهور، فلو لم يكن سوى كلّ واحد شيء، لم يجز أن يصدر عن مجموع الواحد ومعلوله شيء ثالث. وهذا الدليل على التوحيد نسبه بعض إلى المغالطة، وظنّي أنّ هذه النسبة غلط؛ فإنّ هذا الدليل مبنيّ على عدّة مقدّمات: الاُولى: أنّ المجموع بالمعنى المذكور موجود كما مرّ. الثانية: أنّه ممكن وذلك ظاهر؛ لافتقاره إلى كلّ واحد من الآحاد. الثالثة: أنّ كلّ ممكن محتاج إلى علّة مستقلّة وهي أيضا بيّنة لا تقبل (4) المنع. الرابعة: أنّه لا شيء من المجموع وكلّ واحد بمؤثّر مستقلّ فيه، فلا يكون له علّة


1- .في المصدر: «يختار».
2- .في المصدر: «ذاك».
3- .في المصدر: «الواحد».
4- .في المصدر: «بيّن لا يقبل».

ص: 546

مستقلّة، وذلك أيضا بيّن؛ إذ ليس هناك شيء آخر يصلح لكونه علّة مستقلّة. ومنهم من تكلّف منع المقدّمة القائلة بوجود المجموع قائلاً: إنّه ليس هناك إلّا الآحاد؛ أعني واحدا واحدا (1) ، وقد عُرف حاله. ومنهم من يقول: إنّ (2) المتعدّد يؤخذ (3) تارة مجملاً، واُخرى مفصّلاً، وهو بالاعتبار الثاني علّة له [لا] بالاعتبار الأوّل، وإن نقل الكلام إليه مأخوذا بالاعتبار الثاني، فهو بهذا الاعتبار اثنان كلّ منهما واجب لذاته، فليس هناك ممكن؛ إذ الموجود هذا الواجب، وذلك الواجب، وكلّ منهما مستغنٍ عن العلّة. أقول: إنّ الإجمال والتفصيل إنّما يوجبان التغاير في الملاحظة لا في الاُمور الملحوظة (4) ، فالموجود في الخارج في صورتي الإجمال والتفصيل أمر واحد لا يجوز (5) كون أحدهما علّة للآخر بحسب الوجود الخارجي، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: علّة مجموع الممكنات من حيث الإجمال نفس ذلك المجموع من حيث التفصيل، فلا يثبت احتياج الممكنات المتسلسلة إلى علّة فاعليّة مستقلّة اُخرى، وقد أطبق العقلاء على خلاف ذلك، وإنّما جاز كون أجزاء الحدّ مفصّلاً علّة لها مجملاً؛ لأنّ المجمل والمفصّل مختلفان في الوجود الذهني، فيجوز أن يكون أحدهما علّة للآخر بحسب ذلك الوجود، لكنّهما في الوجود الخارجي متّحدان، فلا يصحّ كون أحدهما علّة للآخر بحسب ذلك الوجود. بل نقول: الموجود في هذه الصورة «أ» [و] (6) «ب» مثلاً فإن اُريد بكونهما علّة مستقلّة كون [كلّ منهما كذلك، فهو بيّن البطلان. وإن اُريد كون الكلّ المجموعي منهما كذلك، كان الشيء علّة لنفسه] 7 سواء اُريد بالكلّ المجموعي هما معا


1- .في المصدر: - «قائلاً... واحدا».
2- .في المصدر: «يقول على منوال ما سبق بأنّ».
3- .في المصدر: «يوجد».
4- .في المصدر: «الأمر الملحوظ».
5- .في المصدر: «فلا يجوز».
6- .من المصدر.

ص: 547

الحجّة الثامنة

مجملاً، أو مفصّلاً واعتبر ذلك بالعشرة (1) فإنّها نفس الآحاد البالغة هذا المبلغ، وليس هناك إلّا كلّ واحد من الآحاد وما صدق عليه العشرة؛ أعني الكلّ المجموعي، فليس في الواقع إلّا كلّ واحد واحد من الآحاد والمجموع، ولا يصلح شيء منهما للعلّيّة المستقلّة للمجموع. أمّا الأوّل فلاحتياج المعلول إلى غيره. وأمّا الثاني فلأنّه عينه. ومنهم من منع احتياج هذا المجموع إلى فاعل مستقلّ تخصيصا للمقدّمة - القائلة بأنّ كلّ ممكن محتاج إلى فاعل مستقلّ - بما إذا لم يكن ذلك الأمر (2) الممكن مركّبا من الواجبين، وهو تخصيص في المقدّمة الكلّيّة الضروريّة من غير سند معتمد؛ فإنّا إذا عرضنا هذه المقدّمة على العقل حكم بها حكما كلّيا من غير استثناء، ولو صحّ ذلك لانفتح باب التخصيص في كلّ مقدّمة كلّيّة بما عدا صورة النزاع، فلا يتمّ شيء من البراهين في شيء من المراد. قال الشيخ في التعليقات: كلّ اثنين فالواحد منهما متقدّم عليه طبعا؛ أعني (3) أنّه يتصوّر وجود واحد منهما دون وجود الاثنين ولا يتصوّر وجود الاثنين إلّا والواحد موجود. وهذه مقدّمة كلّيّة إذا اُضيف إليها أنّ الواجب (4) الوجود لا يجوز أن يوجد شيء قبله أيّة قبليّة فرضت، اُنتج منها (5) أنّه لا يتصوّر موجودان متّصفان بوجوب الوجود. (6) هذه عبارته وهو مجمل ما ذكرناه مفصّلاً؛ فتدبّر تَدرِ. الحجّة الثامنة: ما يعبّر عنه بوجوب الوجود وواجب الوجود إمّا أن يتعيّن ويقتضي لذاته


1- .في المصدر: «في العشرة».
2- .في المصدر: - «الأمر».
3- .في المصدر: + «به».
4- .في المصدر: «واجب».
5- .في المصدر: «منهما».
6- .رسالة إثبات الواجب الجديدة (المطبوع في رسائل سبع) ص 133 - 136.

ص: 548

الحجّة التاسعة

الحجّة العاشرة

أن يكون عين الموجود الواجد في الخارج، بل لا يمكن أن يتحقّق إلّا أن يكون عين ذلك الموجود الوجداني، فلا يوجد في غيره، أو أمكن. وعلى الأوّل لزم انحصار واجب الوجود في واحد وهو المطلوب. وعلى الثاني لا يخلو إمّا أن يكون ذلك الواحد يقتضي أن يكون واجب الوجود، فلزم إيجاد الشيء لنفسه وهو محال، وإمّا أن يقتضي غيره كونه واجب الوجود، فيكون ممكنا، هذا خلف. الحجّة التاسعة: كون الموجود الواحد واجب الوجود بالذات إمّا أن يكون عين كون ذلك الواحد هو أن يكون معنى قولنا: «هو واجب الوجود» هو بعينه معنى قوله: «هو هو» أو لا، بأن يكون للقولين المذكورين معنيان. وعلى الأوّل لزم انحصار واجب الوجود في واحد وهو المطلوب. وعلى الثاني لا يخلو إمّا أن يكون علّة مقارنة ذينك المعنيين وجوبَ الوجود لذاته، فلزم أيضا انحصاره في ذلك الواحد، وإمّا أن يكون علّتها ذلك الواحدَ الذي فرض كونه واجب الوجود، هذا خلف. الحجّة العاشرة: ليس لواجب الوجود مهيّة ولا هويّة مغايرة للوجود الحقيقي الذي هو بذاته مانع لبطلان الذات وانعدامه. قال الشيخ في الشفاء ما محصّله: إنّ واجب الوجود لا يجوز أن يكون على وجه يكون فيه تركيب بأن يكون هنا مهيّة ما، ويكون تلك المهيّة واجب الوجود، فيكون لتلك المهيّة معنى غير حقيقتها، وذلك المعنى وجوب الوجود، وحينئذٍ لا يخلو إمّا أن يكون لقولنا: «واجب الوجود» هناك حقيقة أو لا، ومحال أن لا يكون لهذا المعنى حقيقة وهو مبدأ كلّ حقيقة، بل هو تأكّد الحقيقة وتصحّحها، فإن كانت له حقيقة وهي غير تلك المهيّة، فهي إن كانت متعلّقة بتلك المهيّة ولا تجب بدونها، كان معنى واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود ليس بواجب الوجود؛ لأنّ له شيئا به يجب،

ص: 549

الحجّة الإحدى عشرة

الحجّة الاثنتا عشرة

وإن لم يحتج إلى تلك المهيّة، كانت تلك المهيّة عارضة لها وقد فرضت أنّها مهيّة لواجب الوجود، هذا خلف (1) . قلت: في قوله «ومحال أن لا يكون لهذا المعنى حقيقة» إشارة إلى إثبات الوجود الحقيقي الذي يعبّر عنه بوجوب الوجود والموجود من حيث هو واجب الوجود. ولمّا كان الدليل المذكور في نفي التركيب في الواجب من المهيّة والوجود الحقيقي دالّاً على نفي التركيب من الهويّة والوجود الحقيقي، ثبت أنّ ذات واجب الوجود إنّما هو محض الوجود الحقيقي الذي هو وجوب الوجود باعتبار. وبعد تمهيد هذه المقدّمة نقول: لا يجوز تعدّد الواجب بالذات، وإلّا لزم أن يكون لكلٍّ هويّةٌ مغايرة لهويّة الآخر مع الاشتراك في معنى واجب الوجود، فلزم أن يكون الواجب ذا هويّة مغايرة لمعنى واجب الوجود، وذلك مناف للوجوب الذاتي؛ لما مرّ. الحجّة الإحدى عشر[ة]: وجوب الوجود الذي هو الوجود الحقيقي لا يمكن أن يكون مشتركا بين الاثنين؛ لأنّهما إمّا أن يتّحدا في الحقيقة، أو يختلفا فيها. وعلى الأوّل لزم أن يكون علّة اختلافهما في الأعراض أمرا غير الوجود الحقيقي وغير حقيقتهما، فلزم إمكانهما. وعلى الثاني لزم أن يكون الوجود الحقيقي عارضا لحقيقتهما، أو جزء مشتركا بينهما، فلزم أيضا إمكانهما؛ لأنّهما لا يكونان موجودين باعتبار الذات؛ ضرورة احتياجهما إلى الوجود الحقيقي والجزء المختصّ. الحجّة الاثنتا (2) عشر[ة]: معنى الوجود الحقيقي لا يمكن أن يكون معنى جنسيا تحته أنواع، ولا أن يكون معنى نوعيا تحته أشخاص؛ لأنّ النوع لا يحتاج إلى الفصل في كونه متّصفاً بالمعنى الجنسي، بل يحتاج إليه في كونه موجودا، وكذلك الشخص لا يحتاج إلى المتشخّص في كونه متّصفا بالمعنى النوعي، بل يحتاج إليه في كونه موجودا، فلا يمكن أن


1- .الشفاء، ص 345، الفصل الرابع من المقالة الثامنة.
2- .في النسخة: «الاثنا».

ص: 550

الحجّة الثالثة عشرة

الحجّة الرابعة عشرة

الحجّة الخامسة عشرة

الحجّة السادسة عشرة

يكون معنى الموجود جنسا، وإلّا لزم أن يكون النوع محتاجا إلى الفصل في المعنى الذي هو الجنس، ولا أن يكون نوعا، وإلّا لزم كون الشخص محتاجا إلى المتشخّص في المعنى الذي هو النوع، فتعيّن أن يكون معنى الموجود الذي هو الوجود الحقيقي معنى شخصيا مانعا من وقوع الشركة بذاته؛ ضرورة أنّه لا يمكن أن يكون معنى عرضيا لذات واجب الوجود، وإلّا لم يكن الذات باعتبار ذاته موجودا. و (1) أن يكون فصلاً للذات، فهو في حكم كونه نوعا له في المحذور المذكور. الحجّة الثالثة عشر[ة]: الوجود الحقيقي الذي هو موجود باعتبار ذاته إمّا أن يكون بذاته مانعا من وقوع الشركة أو لا. والثاني محال، وإلّا لم يوجد في الخارج بمحوضته وصرافته، والأوّل مستلزم لوحدة الذات. الحجّة الرابعة عشر[ة]: معنى واجب الوجود إمّا أن يقتضي الوحدة لذاته بالاقتضاء التامّ، أو يقتضي التعدّد لذاته، أو لا يقتضي شيئا منهما. والثاني محال؛ لأنّه لا يمكن تعدّده بدون اُمور زائدة عليه؛ لأنّه حينئذٍ لا يتحقّق في واحد. والحاصل أنّ الثاني مستلزم لتحقّق الكثير بدون الواحد وهو محال. والثالث مستلزم لإمكان الذات؛ لاحتياجه في الوحدة والتعدّد إلى الغير، فتعيّن الأوّل، وهو مستلزم للمطلوب. الحجّة الخامسة عشر[ة]: لمّا كان الوجود الحقيقي بصرافته ومحوضته عينا للموجود الذي هو واجب الوجود بالذات، وليس زائدا عليه لا في الخارج ولا في التعقّل، ولا يمكن في محوضة المعنى تعدّد لا في الخارج ولا في التصوّر، فلا يمكن تعدّد واجب الوجود لا في الخارج، ولا في التعقّل. الحجّة السادسة عشر[ة]: الوجود الحقيقي بصرافته إمّا أن يمتنع تعدّده أو لا. وعلى الأوّل لزم المطلوب. وعلى الثاني لزم أن يكون نسبة جميع مراتب الأعداد - التي فوق الواحد -


1- .في النسخة: + «أمّا».

ص: 551

الفصل الثاني في إثبات وحدة المبدأ الأوّل الإله الحقّ الخالق للعالم وفيه دلائل

الدليل الأوّل

إليه واحدة في إمكان الوقوع، فلزم أن يكون ترجيح الاثنين، أو عدد آخر مثلاً - متناهيا كان، أو غير متناهٍ - على باقي الأعداد بالنظر إلى محوضته ترجيحا بلا مرجّح، وهو محال، فتعيّن الأوّل، أي امتناع تعدّده بمحوضته وصرافته. والحاصل أنّ المعنى كما يكون في تعدّده يحتاج إلى الغير، فكذلك في وقوع عدد مخصوص دون غيره يحتاج إلى علّة، ومن ذينك الاحتياجين علم أنّ الوجود الحقيقي - الذي هو بصرافته واجب الوجود بالذات - لا يمكن تعدّده.

الفصل الثاني: في إثبات وحدة المبدأ الأوّل الإله الحقّ الخالق للعالم وفيه دلائل:الدليل الأوّل: مقدّمة اُولى: أنّ الاُمور المتلازمة يجب أن يكون بعضها علّة لبعض، أو يكون كلّها معلولة لعلل متلازمة، أو علّة واحدة بجهات متلازمة بالضرورة. ثمّ إنّ اللزوم كالتلازم في استلزام العلّيّة بل المنشأ هو اللزوم بحكم الفطرة. مقدّمة ثانية: لا يمكن أن يكون بين واجبين بالذات تلازم؛ إذ التلازم امتناع الانفكاك بوجه يكون الانفكاك بما هو انفكاك وافتراق مستلزما لمحال، فلو كان بين واجبين تلازم يمتنع انفكاك كلّ عن صاحبه امتناعا لازما من الانفكاك، كان بينهما علاقة علّيّة بحكم المقدّمة الاُولى، فلو امتنع انعدام واجب، لم يكن ذلك تلازما، بل ذلك الامتناع لامتناع عدم الواجب لا لامتناع الانفكاك، بما هو انفكاك وإلّا يلزم علّيّة بينهما وهو ممتنع محال. مقدّمة ثالثة: لا يمكن أن يكون جسماني علّةً مؤثّرة في الجسم والبُعد الجوهري، وقد حقّق ذلك في موضعه. مقدّمة رابعة: أنّ بين الأجسام العظام التي في هذا العالم تلازما، وكذا بينها وبين أعراضها، بل بين أكثر الأعراض ومحالّها؛ لما حقّق في مظانّه، ولو كان عالم آخر، أمكن إثبات التلازم بين أجسامها العظام وأجسام هذا العالم.

ص: 552

وبعد تمهيد تلك المقدّمات نقول: لمّا كان بين الأجسام المختلفة التي في هذا العالم تلازم لا بدّ أن يكون بينها علاقة علّيّة؛ لما مرّ، ولا يمكن أن يكون بعضها علّة لبعض؛ لما مرّ في المقدّمة الثالثة، فلا بدّ أن يكون كلّها معلولاً لعلّة واحدة مجرّدة بجهات متلازمة، أو مجرّدات متلازمة، ولا يمكن انتهاء الاُمور المتلازمة إلى الواجبين؛ لما مرّ في المقدّمة الثانية من أنّه لا تلازم بين الواجبين، ولا بدّ من التلازم في علل الاُمور المتلازمة، فمنتهى علل أجسام هذا العالم واجب مجرّد واحد، وهو المطلوب. بل نقول: التلازم واللزوم بين الاُمور الجسمانيّة - من الأعراض والصور الجوهريّة ومحالّها - والمجرّدات التي تعلّقت بهذه الأجسام والجسمانيّات على تقدير وجودها؛ لما بيّن [في ]محلّه يلزم أن يكون منتهى سلسلة ممكنات هذا العالم كلّها إلى واجب واحد، بل لو فرض عالم جسماني آخر يجب انتهاء الكلّ أيضا إلى الواجب الواحد؛ فتدبّر. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن لا يكون أجسام هذا العالم مختلفةَ الذوات متعدّدة، بل يكون بُعدا واحدا مصوّرا بصور مختلفة متباينة، فيكون هذا العالم جسما واحدا، والصور متعدّدة مختلفة. قلنا: هذا الجسم المتّصل الواحد والبُعد الجوهري مركّب من أجزاء متلازمة، هي الهيولى والصورة الجسميّة على رأي المشّائين وهذا الدليل مبنيّ عليه، فلا بدّ أن ينتهي علّته وعلل أجزائه إلى واجب مجرّد واحد، وأيضا بين هذا الجسم المتّصل الواحد وبين الصور المتعدّدة المختلفة الحاصلة فيه لزوم بل تلازم، فلا بدّ أن ينتهي عللها إلى واجب مجرّد. على أنّه لا شكّ في وقوع الانفصال بين أجزاء هذا الجسم المتّصل، وعلى هذا التقدير لا يكون ذلك الانفصال واردا على مفصّل بين أجزاء هذا الجسم فطرة؛ لأنّه خلاف المفروض من وحدة الجسم والبُعد الجوهري، فالانفصالُ طارئٌ على هذا البُعد المتّصل، وبطريانه ينعدم هذا الجسم الواحد، ويحدث جسمان متّصلان وبُعدان آخران، وبين هذين

ص: 553

الدليل الثاني

الجسمين والبُعدين الحادثين تلازم، وإلّا يلزم الخلأ، فلا بدّ أن ينتهي علّتهما إلى واجب واحد، وهو المطلوب؛ فتأمّل. الدليل الثاني: مقدّمة [اُولى]: الواجب بالذات يجب أن يكون موجودا بحتا لا شيئا موجودا؛ إذ الواجب الحقّ لا بدّ أن يكون نفس ذاته وحقيقته من حيث هي حيثيّة انتزاع الوجود والموجوديّة، فهو الذي يكون نفس ذاته بذاته حيثيّةً مصحّحةً لانتزاع الوجود، ومصداقا لصدق الموجود عليها؛ بخلاف الممكن؛ فإنّ نفس ذاته التي هي مهيّته ليست حيثيّة مصحّحة لانتزاع الوجود، والحيثيّة المصحّحة مغايرة لها مكتسبة من الفاعل على ما صرّح به المحقّق الدواني، فالممكن شيء موجود، والواجب موجود بحت؛ إذ نفس حقيقته (1) من حيث هي مصحّحة لانتزاع الوجود، ومصداق لصدق الموجود وهو معرّى عن ملابسة ما بالقوّة والإمكان؛ أعني المهيّة. والحاصل أنّ الوجود والموجود كما يطلق على هذين المفهومين المعلومين بالبديهة كذلك يطلق على حيثيّة انتزاعهما ومصداق صدقهما، بل هي الوجود الحقيقي حقيقة. والمراد بالمهيّة ما يكون في حدّ ذاته معرّى عن تلك الحيثيّة؛ أعني حيثيّة انتزاع الوجود، فهي بإزاء الوجود بهذا المعنى ومقابل له. ولمّا كان الواجب نفس ذاته من حيث هي هي حيثيّة صحّة انتزاع الوجود، ومصداقا لصدق الموجود لا يكون له مهيّة بهذا المعنى، بل يكون موجودا بحتا؛ إذ ليس نفس ذاته إلّا الوجود الحقيقي؛ أعني حيثيّة انتزاع الوجود، بخلاف الممكن؛ فإنّه مشتمل على ما هو معرّى في ذاته بدون اعتبار الغير عن حيثيّة انتزاع الوجود، وعلى تلك الحيثيّة باعتبار الفاعل، فإنّها (2) مكتسبة من الفاعل على ما تقدّم، فهو مهيّة موجودة، والواجب موجود بحت. مقدّمة ثانية: الموجود البحت لا يكون مختلفا بالحقيقة أصلاً، فإنّ الموجود البحت كما


1- .في النسخة: «حقيقيّة».
2- .أي تلك الحيثيّة.

ص: 554

مرّ ما يكون نفس حقيقته من حيث هي هي ومحوضة ذاته وصرافتها حيثيّةً لانتزاع الوجود، ومصداقا لصدق الموجود، ومن البيّن أنّ نفس الاُمور المختلفة المتباينة من غير اشتراك في ذاتي لا تكون (1) حيثيّة انتزاع معنى واحد، وهو الوجود والموجوديّة، ولا يكون اُمور متباينة غير مشتركة في ذاتي من حيث إنّها متباينة مصداقا لصدق معنى واحد قطعا على ما يشهد به الفطرة السليمة، وكيف تختلف حيثيّة انتزاع معنى واحد كما حقّقنا ذلك فيما سبق. وبعد تمهيد هاتين المقدّمتين نقول: لو تكثّر الواجب الحقّ المؤثّر في العالم، فيكون له أفراد متعدّدة يكون كلّها موجودا بحتا، والموجود البحت على ما مرّ لا يكون مختلفا بالحقيقة، فيكون الجميع متماثلة متوافقة الحقيقة، فلو كانت كلّها مؤثّرة، وآثار الاُمور المتشابهة متشابهة، يلزم أن يصدر عن كلّ منها ما صدر عن مثله، فيجب أن يكون لهذا العالم أمثال متشابهة بعدّة الواجبات المتماثلة، لكنّ العالم واحد، فالواجب المؤثّر في العالم واحد. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون الإله الخالق المتعدّد المؤثّر في العالم واجبا وممكنا؟ (2) وليس فيما ذكرت ما يدلّ على بطلان هذا الاحتمال. قلنا: هذا الممكن الخالق المؤثّر لا يمكن أن يستند إلى ذلك الواجب الواحد؛ فإنّه لو استند إلى واجب آخر، يلزم ما مرّ من تعدّد العالم الجسماني، وإذا كان مستندا إلى ذلك الواجب، يكون ذلك الممكن غير مستقلّ في فعله وتأثيره، فإنّه إذا فرض فاعلان يكون أسباب فعل أحدهما من الآخر، لم يكونا شريكين في الفعل، بل يكون الذي تهيّأ أسباب فعله من الآخر واسطة وآلة للآخر، ولا يخفى أنّ وجود الفاعل من أسباب فعله وكذا قدرته وتمكّنه من الفعل، ولأنّ الممكن لا يؤثّر بإمكانه، بل لا يؤثّر إلّا بعد أن يكون واجبا، فإذاً كان غيره موجبا موجدا له، وتأثير العلّة في حال وجود المعلول، ووجوده منوط مربوط بعلّته،


1- .في النسخة: «لا يكون».
2- .في النسخة: «واجب و ممكن».

ص: 555

الدليل الثالث

والإيجاد فرع الوجود، فيكون إيجاده بغيره، فلم يكن مستقلّاً في الإيجاد، فلم يكن شريكا لموجده ومبقيه وحافظه وممكّنه عن التأثير، بل يكون بمنزلة آلة لموجده ومن يجعله بحيث يؤثّر ويمكّنه من التأثير بتهيئة أسباب تأثيره وفعله، مثلاً يقال: المنشار شريك للنجّار في النشر، والقلم شريك للكاتب في الكتابة، بل نقول: إذا حصل من مؤثّر وليكن «أ» أثر وليكن «ب» ثمّ حصل من «ب» أثر آخر وليكن «ج» فمن تبصّر وتفطّن بأنّ تأثير العلّة في المعلول حال وجود المعلول، وأنّ الأثر متقوّم متحصّل في تمام زمان وجوده بعلّته ومؤثّره، ولم يتقوّم آنا من غير مؤثّره، فتفطّن وتبصّر بأنّ «ج» إنّما حصل ووجد من «أ» حقيقة، وأنّه متقوّمة ومتحصّلة بالمؤثّر الأوّل وهو «أ». ومن هذا القبيل إذا أشرقت الشمس على موضع، وأنار بنورها شيئا، ثمّ حصل من ذلك النور نور آخر أو حرارة، فكلّ عاقل بصير يعلم أنّ النور الثاني والحرارة الثانية من الشمس، ويسندهما إليها. فأثر الممكن المفروض من الواجب المؤثّر في الممكن حقيقة، فالكلّ منه بل الكلّ من عنده، فلا يتعدّد على هذا التقدير أيضا الإله الخالق للعالم، فثبت بما ذكرنا ما هو المطلوب؛ فتأمّل. الدليل الثالث: ما أشار إليه قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّهُ لَفَسَدَتا» (1) فإنّه لو كان في السماوات والأرض إلهان واجبا الوجود بالذات، فإمّا أن يوجد ويؤثّر كلّ منهما في السماوات والأرض، وإمّا أن يوجد ويؤثّر أحدهما في السماء، والآخر في الأرض. وعلى الأوّل يلزم توارد العلّتين المستقلّتين (2) على معلول واحد شخصي. وعلى الثاني يلزم الترجيح بلا مرجّح.


1- .الأنبياء (21): 22.
2- .في النسخة: «المستقلّين».

ص: 556

خاتمة في بيان ما يتعلّق بالكلمة الدالّة على التوحيد، أي كلمة لا إله إلاّ اللّه

.........

خاتمةفي بيان ما يتعلّق بالكلمة الدالّة على التوحيد، أي كلمة لا إله إلّا اللّهاعلم أنّ «لا» فيه لنفي الجنس. وإله صفة عند الراغب (1) من «أَلَه» بمعنى «عَبَدَ»، واسم جنس عند صاحب الكشّاف؛ لعدم وقوعه صفة، ووقوعه موصوفا. قيل: اللّه علم للذات المقدّسة؛ إذ لو جعل اسما للجنس أو علما له، لم يفد التوحيد. لا يقال: على هذا يكون معنى «قل هو اللّه أحد» (2) أنّ هذا الشخص المعيّن واحد ولا معنى له. لأنّا نقول: ليس معنى الأحد معنى الواحد، بل يجوز أن يكون معناه أنّه أحديّ الذات لا جزء له أصلاً، فيكون المقصود بيان أحديّته تعالى لا وحدانيّته، أو معناه أنّه ليس له شريك. نعم، يشكل هذا ظاهرا بورود «اللّه » خبرا في مواضع لا يحسن فيها وقوع العَلَم خبرا، كقوله تعالى: «هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلّا هُوَ» (3) وقوله تعالى: «هُوَ اللّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ» (4) وغير ذلك من الآيات. انتهى. أقول: يمكن الجواب عنه بوجهين: الأوّل: اختيار أنّ «اللّه » عَلَم للجنس، أي للذات المستجمعة لجميع الصفات الكماليّة التي منها الوجوب الذاتي، وهو واحد عند المشركين كعبدة الأصنام وغيرهم، فالكلمة تفيد


1- .مفردات ألفاظ القرآن، ص 82 (أله) . وعنه الدواني في رسالة تهليليّه المطبوع في مجموعه رسائل فارسى، ج 2، ص 16 . وكذا استفاد من سائر مباحثها في ذيل هذا البحث.
2- .الإخلاص (112): 1.
3- .الحشر (59): 22 و23.
4- .الحشر (59): 24.

ص: 557

التوحيد؛ لأنّ معناه حينئذٍ أنّه لا يستحقّ العبوديّة إلّا الذات المستجمعة لجميع الكمالات التي تنحصر (1) في فرد. والثاني: اختيار أنّه عَلَم للذات المقدّسة باعتبار كثرة استعماله فيها، بل باعتبار انحصار مفهومه في هذا الفرد، وكان أصله عَلَما للجنس، ففي كلمة التوحيد مستعمل في المعنى الأوّل، وفي المواضع الاُخر في المعنى الثاني، وحينئذٍ ارتفع الإشكال بالكلّيّة، هذا. ثمّ اختلف في أنّ «لا» هذه تستدعي (2) خبرا أم لا؟ فهنا مسلكان: الأوّل: أن يكون لها خبر وهو إمّا محذوف، أو مذكور. فعلى الأوّل يرد عليه إشكال وهو أنّ الخبر المحذوف إمّا «موجود» يعني لا إله موجود إلّا اللّه ، فلا يلزم منه نفي إمكان إله غير اللّه ، ولا شكّ في أنّ القول بإمكانه كفر، فلا تفي الكلمة بالتوحيد. أو «ممكن» يعنى لا إله ممكن إلّا اللّه ، فلا يدلّ على وجوده تعالى، فلا تفي بالتوحيد؛ لأنّ التوحيد إنّما هو التصديق بوجوده تعالى ونفي الشريك عنه. على أنّه حينئذٍ يدلّ على إمكانه تعالى، وهو باطل قطعا، إلّا أن يحمل الإمكان على الإمكان العامّ المقيّد بجانب الوجود؛ أعني سلب ضرورة الطرف المقابل له؛ يعني طرف العدم، وحينئذٍ يكون معناه: ليس إله لا يكون ضروري العدم إلّا اللّه . ولا يذهب عليك أنّه على هذا وإن لم يلزم إمكانه المحال، ويدلّ على امتناع شريكه تعالى لكن لا يدلّ صريحا على وجوده تعالى؛ لأنّ عدم ضرورة عدمه أعمّ من ضرورة وجوده وعدم ضرورة وجوده أيضا، فلا تفي بالتوحيد. أو أمر مخصوص مثل «لنا» أو «للخلق»؛ يعني لا إله لنا أو للخلق إلّا اللّه . فمع عدم القرينة المحذور باقٍ (3) .


1- .في النسخة: «ينحصر».
2- .في النسخة: «يستدعي».
3- .وهو أنّه لا يلزم منه نفي إمكان إله غير اللّه ، والقول بإمكانه كفر، فلا تفي الكلمة بالتوحيد.

ص: 558

فإن قيل: حُذِف الخبر ليذهب ذهن السامع كلّ مذهب ممكن كما في «إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» (1) وحينئذٍ يلزم نفي إمكان إله غيره تعالى مع إثبات وجوده. اُجيب بأنّه على تقدير الحذف يذهب ذهن السامع إلى كلّ خبر على سبيل البدل، وعلى كلّ تقدير يلزم محذور. ودفع بعضهم الإشكال باختيار تقدير «موجود»؛ لأنّه يلزم منه نفي الإمكان؛ إذ الإله إنّما يكون واجب الوجود، فما لم يوجد لا يكون إلها، فلا يمكن إله لم يوجد. واُورد عليه أنّ القائل بالملزوم لا يجب أن يكون قائلاً باللازم، فلا يجب أن يكون من قال بإمكان إله آخر لم يوجد قائلاً بوجوبه وإن استلزم الأوّل الثاني، كيف، والمشركون لم يعتقدوا وجوب وجود أصنامهم، وهذه الكلمة ردّ عليهم. وعلى الثاني - وهو أن يكون الخبر مذكورا؛ أعني قوله: إلّا اللّه - ف- «إلّا» لا يجوز أن يكون للاستثناء؛ لأنّ المستثنى لا يقع خبرا عن المستثنى منه، فهو بمعنى «غير». واُورد عليه أنّ الجنس يغاير الفرد ضرورة، فكيف يصحّ سلب مغايرتهما؟ واُجيب بأنّ المراد نفي المغايرة في الوجود. الثاني (2) : أن لا يكون لها خبر أصلاً ف- «لا» لتضمّنها معنى صيغة «انتفى» كان في قوّة الفعل، فيكون الجملة كلاما، والمآل انتفى غير هذا الفرد من الجنس، أو يقال: «اللّه » مبتدأ و«إله» خبره، أي اللّه مستحقّ للعبادة، اُدخل «لا» و«إلّا» لإفادة الحصر. ويقرب منه ما اختاره بعض من أنّ الخبر المحذوف «مستحقّ للعبادة». لكن يرد عليه أنّ معنى الإله هو المستحقّ للعبادة، فعلى تقدير ما ذكره يكون التقدير لا إله إله إلّا اللّه ، ولا يخفى بشاعته. أقول: الحقّ في الجواب إمّا اختيار أنّ الخبرَ المحذوف «موجود» والقولَ بأنّ الكلمة


1- .الفاتحة (1): 4.
2- .أي المسلك الثاني.

ص: 559

تذنيب في بيان تتمة الحديث

ليست نافية لجميع شقوق الكفر، كيف؟ والقول بها على أيّ تقدير لا ينفي الكفر الناشئ عن إنكار ضروري من ضروريات الدين كإنكار الصلاة أو الصوم مثلاً، فنفي إمكان إله آخر إنّما هو بأدلّة اُخرى من النصوص والإجماع. أو اختيار أنّ الخبر المحذوف «ممكن» والتصديق بوجوده تعالى إنّما هو بأدلّة اُخرى، بل قد عرفت أنّ وجوده بعنوان أنّه صانع للعالم بديهيّ لا ينكره أحد من المشركين، فلا حاجة إلى التكليف بالتصديق بوجوده، بل المحتاج إليه إنّما هو الإذعان بنفي شريكه؛ فتأمّل. وقد أجاب عن الإيراد بعضهم بأنّ «اللّه » عَلَم للذات الواجب بالذات، والعَلَم لكونه معرفة قد يشار به إلى الذات الموجودة المقدّسة. فعلى هذا نختار أن الخبر المحذوف «ممكن» والمعنى: لا يمكن إله غير تلك الذات المقدّسة، فمن حيث الإشارة والتعيين علم وجود اللّه تعالى لا بمجرّد الاستثناء، وهذا كما يقال: لا يمكن أن يوجد شجاع مثل عليّ، أو أن يوجد كريم مثله، فإنّ كلّاً منهما دالّ على وجوده عليه السلام ، وأمثال هذا كثير. وهذا جواب تحقيقي قالع لمادّة الشبهة؛ فتأمّل. تذنيب: لنرجع إلى بيان تتمّة الحديث، فقوله: «فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه؟» يعني بما ذكرت قد ثبت وحدة المبدأ الأوّل للعالَم على تقدير وجوده فما الدليل على وجوده؟ فأجابه عليه السلام بأنّ «وجود الأفاعيل» هي جمع اُفعول (1) ، وهو الفعل العجيب الذي روعي فيه الحكمة كخلق الإنسان وأعضائه وعروقه وأحشائه وعضلاته وآلات القبض والبسط ونحو ذلك ممّا لا يتأتّى إلّا من قادر حكيم؛ يعني وجود الأفعال المحكمة المتقنة المتّسقة المنتظمة يدلّ على وجود صانع لها قادر حكيم، ونبّه عليه بأنّك «إذا نظرت إلى بناء مُشَيَّد» إلخ.


1- .في مرآة العقول، ج 1، ص 274: «اُفعوله».

ص: 560

والمشيّد - بضمّ الميم وفتح الشين وتشديد الياء المفتوحة - : المطوّل والمستحكم. ولمّا كان البناء قد يستعمل لغير المبنيّ - كما أنّه قد يطلق على المعنى المقابل للهدم، وقد يطلق على النَطْع وغير ذلك - أردفه بقوله: «مبنيّ» فإنّ الناظر إلى البناء المطوّل المستحكم العالي يعلم أنّ له بانيا وإن لم ير الباني ولم يشاهده. وقوله: «فما هو؟» إمّا سؤال عن حقيقته بالكُنه كما هو الظاهر، وحينئذٍ ففي الجواب إشارة إلى أنّه لا يعرف بكنهه إنّما يعرف بوجه يمتاز به عن جميع ما عداه كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون وموسى عليه السلام : «قالَ [فِرعونُ ]وَما رَبُّ العالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ.... * قالَ إِنَّ رَسُولَكُم الَّذِي اُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون» (1) لتوهّمه أنّ الجواب غير مطابق للسؤال. أو سؤال عن حقيقته بالوجه الذي يمتاز به عن جميع ما عداه. وعلى التقديرين فالجواب بيان الوجه الذي به الامتياز (2) عمّا عداه وهو أنّه «شيء بخلاف الأشياء» ليس مثل الحقائق الممكنة المعلولة لا في ذاته، ولا في صفاته الحقيقيّة، ولا في نحو اتّصافها بالصفات. وقوله عليه السلام : «أرجع» على صيغة المتكلّم وحده. وقوله: «بقولي» وهو أنّه شيء بخلاف الأشياء «إلى إثبات معنىً» أي إلى إثبات موجودٍ في الخارج ومقصودٍ باللفظ فيه «و» إلى «أنّه شيء بحقيقة الشيئيّة» يعنى أقصد بهذا القول أنّه ذات موجودة في الخارج، وشيء بحقيقة الشيئيّة؛ يعني أنّ حقيقة الشيئيّة عين ذاته تعالى، فهي شيئيّة قائمة بذاتها، كما أنّ حقيقة الوجود المجهول الكنه المعلوم بالوجه بديهة عينه تعالى وهو وجود قائم بنفسه، فهو تعالى شيء بحقيقة الشيئيّة التي هي عينه كما أنّه موجود بحقيقة الوجود الذي هو عينه بخلاف ما عداه من الممكنات المعلولة فإنّه شيء بالانتساب


1- .الشعراء (26): 23 - 24 و27.
2- .في المرآة: «يمتاز».

ص: 561

إلى الشيئيّة الحقيقيّة كما أنّه موجود بالانتساب إلى حضرة الوجود لا موجود بنفس الوجود وإن لم يكن حقيقة ذلك الانتساب معلوما لنا. أو معناه أنّ الشيئيّة لا يمكن انتزاعها منه تعالى انتزاعا بتجرّد ذاته عن الشيئيّة منه ولو في اللحاظ العقلي، بل ذاته بذاته حيثيّة انتزاع الشيئيّة منه كما أنّ ذاته بذاته حيثيّة انتزاع الوجود منه، فهو كما أنّه موجود بذاته شيء بذاته. وهذا معنى عينيّة الشيئيّة والوجود لذاته تعالى عندهم (1) ، بخلاف المهيّات الممكنة فإنّها كما تصير (2) في اللحاظ العقلي مجرّدة عن الوجود وتعقل (3) غير مخلوطة به ولا تكون (4) بذاتها حيثيّة انتزاع الوجود، بل إنّما جعلها الجاعل بحيث يصحّ انتزاعه عنها، كذلك تصير في اللحاظ العقلي مجرّدة عن الشيئيّة، وتعقل غير مخلوطة بها، ولا تكون بذاتها حيثيّة انتزاع الشيئيّة، بل إنّما جعلها الجاعل بحيث يصحّ انتزاعها عنها، فهي كما أنّها موجود بغيرها شيء بغيرها. وهذا معنى زيادة الوجود والشيئيّة على ذواتها. قال بعض الفضلاء (5) ما ملخّصه: إنّ «الشيء» مساوٍ ل- «لموجود» إذا اُخذ الوجود أعمّ من الذهني والخارجي، وأعمّ من الموجود الخارجي. والفرق بينهما أنّ المخلوط بالوجود هو الذي يصحّ انتزاع الوجود منه، سواء كان بتجريده (6) عن الوجود الخارجي أو بدونه، فالمخلوط بالوجود مطلقا من حيث الخلط شيء، وشيئيّته كونه بحيث يصحّ خلطه بالوجود، والوجود هو المعنى البديهيّ المنتزع من الحقيقة المخلوطة به. فهنا مخلوط، ومخلوط به، وخلط، فالمخلوط هو المنتزع منه، والمخلوط به هو المنتزع، والخلط صحّة الانتزاع، فهو بما هو منتزع منه شيءٌ، وبخلطه بالوجود موجود.


1- .في المرآة: «عند جماعة من المحقّقين».
2- .في النسخة: «يصير»، والمثبت من المرآة.
3- .في النسخة: «يعقل».
4- .في النسخة: «لا يكون»، والمثبت من المرآة.
5- .هو الميرزا رفيعا النائيني.
6- .في المصدر: «بتجريدها».

ص: 562

قال هشام : فكان من سؤال الزنديق أن قال : فما الدليلُ عليه؟ فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «وجودُ الأفاعيل دَلَّتْ على أنَّ صانعا صَنَعَها ، ألاترى أنّك إذا نظرتَ إلى بناءٍ مُشَيَّدٍ مَبْنِيٍّ ، علمتَ أنّ له بانيا ، وإن كنتَ لم تَرَ البانِيَ ولم تُشاهِدْهُ» . قال : فما هو ؟ قال : «شيءٌ بخلاف الأشياء ، ارْجِعْ بقولي إلى إثبات معنىً وأنّه شيءٌ بحقيقة الشيئيّة ، غير أنّه لا جسمٌ ولا صورةٌ ، ولا يُحَسُّ .........

فظهر الفرق بين الشيء والموجود، والشاهد على تغايرهما كما ذكرنا صحّة قولك: «شيء موجود» دون «موجود شيء» ولو لم يكن بينهما تغاير لزم صحّة الثاني أيضا كالأوّل وهو باطل، ولشدّة الاتّصال بين المعنيين وصعوبة التميز بينهما قال بعض بالعينيّة، وبعض بالمساوقة، وحقيقة الأمر ما بيّنّاه. (1) انتهى. ثمّ لمّا بيّن عليه السلام أنّه تعالى شيء بحقيقة الشيئيّة، فنفى عليه السلام عنه جميع ما عداه من ذوات الممكنات المعلولة كالجسم والصورة وأمثالهما، ومن صفاتها كالإحساس والإجساس ونحو ذلك؛ لأنّ الممكن لا يكون شيئا بحقيقة الشيئيّة، بل إنّما يكون شيئا بالانتساب إلى الشيئيّة كما هو التحقيق، أو بالاتّصاف بها بجعل الجاعل لا بذاته كما هو المشهور عندهم. وعلى أيّ تقدير، فلا يكون شيئا بحقيقة الشيئيّة. فمن هذا ظهر أنّ نفي الجسم والصورة ، ونفي بعض صفات الممكنات هاهنا عنه تعالى على سبيل التمثيل؛ فتدبّر. وقوله عليه السلام : (ولا يُحَسُّ) أي ليس من شأنه أن يدرك بحاسّة البصر كبعض الأجسام والجسمانيّات؛ لأنّ الإحساس في اللغة الإبصار؛ قال في الغريبين: «قوله تعالى: «فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الكُفْرَ» (2) أي عَلِمَه وهو في اللغة: أَبْصَرَهُ. ثمّ وُضِعَ مَوضِعَ العِلْم والوجود. ومنه قوله تعالى: «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ» (3) أي هل ترى. يقال: هل أحْسَسْتَ فلانا، أي هل رأيته (4) » انتهى.


1- .الحاشية على اُصول الكافي، ص 267.
2- .آل عمران (3): 52.
3- .مريم (19): 98.
4- .الغريبين، ج 2، ص 440 (حسس).

ص: 563

ولا يُجَسُّ ، ولا يُدرَكُ بالحواسّ الخمس ، لا تُدْرِكُهُ الأوهامُ ، ولا تَنْقُصُه الدُّهورُ ، ولا تُغَيِّرُهُ الأزمانُ» .

وقوله عليه السلام : (ولا يُجَسُّ) أي لا يمكن مسّه باليد. قال في القاموس: «الجسّ: المسّ باليد كالإجساس (1) ». وقوله عليه السلام : (ولا يُدرَكُ بالحواسّ الخمس) أي الظاهرة؛ لتجرّده وخلوّه عن الكيفيّات مطلقا لا سيّما المحسوسة، فهذا من قبيل التعميم بعد التخصيص. ثمّ نفى كونه تعالى مدركا بالحواسّ الخمس الباطنيّة بقوله تعالى: «لا تدركه الأوهام» لأنّ الوهم رئيس الحواسّ الباطنيّة يدرك بعض الجزئيّات بواسطة بعض الحواسّ كالصور الجزئيّة بوساطة الحسّ المشترك، ويدرك المعاني الجزئيّة المادّيّة بلا واسطة. فمن نفي كونه مدركا بالوهم، لزم كونه غير مدرك بشيء من الحواسّ الباطنيّة. (2) وقوله عليه السلام : (ولا ينقصه الدهور) أي بالهرم وضعف القوى ونحو ذلك كما يقع في الإنسان وسائر الحيوانات بمرّ الدهور (ولا يغيّره الأزمان) بحصول الأوصاف الخالية عنها فيه، أو بزوال الأوصاف الحاصلة فيه عنه. (3) قال بعض الفضلاء (4) في شرح هذا المقام: أراد عليه السلام تنزيهه عن النقص والتغيّر، فقال: «ولا ينقصه الدهور، ولا يغيّره الأزمان» ولمّا كان الدهر ظرف الثابت بالنسبة إلى المتغيّر، ويعبّر عنه بنسبة الثابت إلى المتغيّر، والزمان ظرفَ المتغيّر بما هو متغيّر، ويعبّر عنه بنسبة المتغيّر إلى المتغيّر، وكلّ ما في الدهر يتّصف بالنقص، أي يخلو عمّا يقبله ويستحقّه، أو يتّصف بما لا يليق به، والأحرى به الخلوّ عنه؛ لكونه موضوعا للمتغيّر، وكلّ ما في الزمان واقع


1- .القاموس المحيط، ج 2، ص 296 (جسّ) وفيه: «كالاجتساس».
2- .بعده في المرآة: «مع أنّه في اللغة يطلق الوهم على جميع الحواسّ الباطنة، بل على ما يعمّ العقل أيضا أحيانا».
3- .نقل هذه الحاشية بعنوان «قيل» المجلسي في مرآة العقول، ج 1، ص 275 - 276 من قوله: «حقيقة الشيئية عين ذاته تعالى» إلى هنا مع حذف كلام بعض الفضلاء.
4- .هو الميرزا رفيعا النائيني.

ص: 564

محمّد بن يعقوب ، قال : حدّثني عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد البرقيّ ، عن أبيه ، عن عليّ بن النعمان ، عن ابن مُسكان ، عن داودَ بن فَرْقَدٍ ، عن أبي سعيد الزُّهرِيّ ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :«كَفى لأُولي الألباب - بخَلْق الربِّ المسَخِّرِ ، ومُلكِ الربِّ القاهِرِ ، وجلالِ

في التغيّر، فبقوله: «ولا ينقصه الدهور» نفى كونه واقعا في الدهر، وموضوعا للمتغيّر، أو مرتبطا بما في الدهر ارتباطا يوجب الاتّصاف بما يتّصف به الواقع في الدهر، وبقوله: «ولا يغيّره الأزمان» نفى كونه واقعا في الزمان، أو مرتبطا بما في الزمان ارتباطا يوجب اتّصافه بصفات متغيّرة (1) . قوله عليه السلام : (كفى لاُولي الألباب) الألباب جمع لُبّ وهو العقل. والمراد بالخلق إمّا الإنشاء والإبداع، أو المخلوق. وقيل (2) : المراد به التقدير؛ تقول: خلقتُ الأديم، إذا قدّرته قبل القطع. وعلى الأوّل والثالث فالمسخّر اسم فاعل صفة للخلق أو الربّ. وعلى الثاني اسم مفعول إذا جُعل صفة للخلق. ولا ريب في أنّ كلّ مخلوق مقهور مذلَّل تحت قدرة خالقه وقاهره لا يملك لنفسه ما يخلّصه من القهر والغلبة فهو مسخّر له. فهذا استدلال بالآثار مطلقا على المؤثّر. ويحتمل أن يكون مراده عليه السلام الاستدلال بالخلق المسخّر المتحرّك بالاضطرار كالشمس والقمر ونحو ذلك على وجود قاهره يقهره بالغلبة والعزّ والسلطنة، فهو إله ومستحقّ لأن يعبد كما في الحديث الذي قد مرّ في صدر الباب. والمُلك - بضمّ الميم وسكون اللام - : السلطنة والعزّ والقهر والغلبة. والقاهر صفة للمُلك أو الربّ. وهذا استدلال بملكوت السماوات والأرض، وأنّه لا يُبدّل حكمته الوسائل، ويعجز عن


1- .الحاشية على اُصول الكافي، ص 269.
2- .قائله السيّد أحمد العلوي في الحاشية على اُصول الكافي، ص 223، والمولى خليل القزويني في الشافي، ص 328 (مخطوط).

ص: 565

معارضته كلّ أحد على وجود الربّ القادر على كلّ شيء. والجلال: العظمة والرفعة والعلوّ. والظاهر بمعنى المبيّن، أو بمعنى العالي الغالب، أو بمعنى العالم بالاُمور. وعلى الأوّل صفة للجلال. وعلى الأخيرين صفة للربّ. فهو استدلال بعظمته في مخلوقاته، أي خلقه اُمورا عظيمة على وجوده تعالى. وذلك ظاهر عند كلّ عاقل. قال بعض الفضلاء (1) : يعني جلاله وعظمته وتعاليه عن أن يشارك غيره في الاُلوهيّة يدلّ على وحدته (2) . انتهى. والنور: ما به يظهر ويبصر الخفيّات المحجوبات عن الأبصار كنور الشمس والقمر ونحوهما. والبهر: الإضاءة أو الغلبة؛ يقال: بَهَرَ القمرُ، إذا أضاء حتّى غلب ضَوْؤه ضَوْءَ الكوكب. وبَهَرَ فلانٌ أترابَه، إذا غلبهم حُسْنا. فالباهر على الأوّل صفة نور. وعلى الثاني يحتمل أن يكون صفة الربّ. قيل: هذا استدلال بالحِكم المرعيّة في خلق الأنوار الباهرة. وقال بعض الفضلاء 3 : المراد بنور الربّ القوّة العقليّة الحاصلة للنفس بإشراق من المبادئ العقليّة عليها، الغالبة على الإدراك الحسّي والوهمي 4 . وأقول: الأولى أن يحمل النور على الوجود، وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد به وجود المخلوقات ليكون البرهان إنّيّا. ويحتمل أن يكون المراد به وجوده تعالى باعتبار أنّه ربّ العالم وصانعه حتّى يكون البرهان لمّيّا، واستدلالاً بوجود ربّ العالم وصانعه على كونه واجب الوجود بالذات


1- .هو الميرزا رفيعا النائيني.
2- .الحاشية على اُصول الكافي، ص 270.

ص: 566

كما مرّ منّا تحقيقه سالفا. أو يكون إشارة إلى وجه آخر من وجوه براهين غير إنّيّة التي سيجيء ذكرها إن شاء اللّه تعالى. والبرهان: الحجّة. والصادق صفته. فيحتمل (1) أن يكون المراد بالبرهان الصادق: حججه على خلقه من الأنبياء والأئمّة الصادقين في جميع أحكامهم، وحينئذٍ الاستدلال به على وجوده تعالى بوجهين: أحدهما: إخبارهم بوجوده تعالى مع قطعنا بصدقهم من ظهور خوارق العادات في أيديهم، فإنّ المعجزة في نفسها تفيد الجزم بصدق صاحبها، ولا حاجة إلى الدليل على أنّها لا تجري في يد كاذب، ولا يتوقّف تصديق صاحبها على إثبات الواجب كما صرّح به بعض أجلّة الأفاضل (2) - (3) . وثانيهما: أنّ أصل خلقتهم مع عِظم شأنهم، واتّصافهم بالكمالات الموهبيّة الجليلة، والأوصاف القدسيّة العظيمة، وخروج خلقهم عن مجرى أفعال الطبيعة والمادّيّة من أعظم الدلائل على صانع العالم البريء من كلّ نقص. ويحتمل أن يكون المراد به - كما شرحه بعض الأفاضل (4) - المقدّمات الحقّة الضروريّة التي يبتنى عليها إثبات الاُلوهيّة والتوحيد.


1- .ذهب إليه المولى خليل القزويني في الشافي، ص 329 (مخطوط).
2- .في النسخة: «الفاضل».
3- .قال الإسترآبادي في الحاشية على اُصول الكافي (ميراث حديث شيعه، ج 8، ص 299): «هذا الكلام ونظائره في كلامهم عليهم السلام دليل على أنّ دعوى النبيّ أنّه رسول الخالق، لدعوة الخلق ؛ إلى الإقرار - أي الاعتراف بأنّ في الموجودات خالقا واحدا ، والباقي مخلوق مع معجزته - دليل مستقلّ على أنّ لنا خالقا، وعلى علمه وقدرته. فما اشتهر عند علماء الكلام - أنّه لا تثبت النبوّة بالمعجزة إلّا عند أحد ثبت عنده أوّلاً أنّ له خالقا عالما قادرا على كلّ شيء - باطل».
4- .هو الميرزا رفيعا النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 270.

ص: 567

تتميم في الاستدلال على وجوده تعالى بوجوه غير إنّية، وفيه أنماط

النمط الأوّل وهو وجه اخترعه الشارح

الربِّ الظاهرِ ، ونورِ الربِّ الباهِرِ ، وبرهانِ الربِّ الصادقِ ، وما أنْطَقَ به ألسُنَ العباد ، وما أرسَلَ به الرُّسُلَ ، وما أنْزَلَ على العباد - دليلاً على الربّ» .

ويحتمل أن يكون المراد به كلّ موجود من المخلوقات عظيمها وحقيرها، كبيرها وصغيرها؛ فإنّ كلّ مخلوق من مخلوقات العالم برهان صادق، وحجّة ناطقة على وجوده تعالى. وأقول: المراد ب- (ما أنْطَقَ به ألسُنَ العباد) اتّفاقهم وتواطؤهم بحكم بداهة عقولهم على وجود صانع العالم المتوحّد بالصانعيّة كما مرّ تفصيله، (1) أو التجاؤهم إلى اللّه تعالى وتوسّلهم به في المضائق والمحن والمصائب كما مرّ. 2 ويحتمل أن يكون المراد به اللغاتِ واللهجات المختلفةَ. والمراد بما أرسل به الرسل الشرائع المشتملة على الحِكَم والمصالح التي لا تحصى؛ فإنّ وضع أصل الشريعة المحكمة المتقنة الخارجة عن قدرة البشر دليل قويّ عند من له أدنى تميز على وجود الشارع الصانع للعالم المستحقّ للعبوديّة. أو المراد به الآيات وخوارق العادات؛ فإنّها دالّة على الصانع قبل إخبار الرسل به. والمراد ب- (ما أنزل على العباد) البلايا والمصائب النازلة على الاُمم عند خروجهم عن الإطاعة والانقياد وطغيانهم وعدوانهم من الاُمور الخارجة عن الأفعال الطبيعيّة والعاديّة كالطوفان وطير أبابيل وأمثالهما. وفيها من الدلالة على وجوده تعالى، وعلى إلهيّته متوحّدا ما لا يخفى.

تتميمهذا ما وعدناك آنفا من الاستدلال على وجوده تعالى شأنه بوجوه برهانيّة غير إنّيّة، وفيه أنماط: النمط الأوّل: وهو وجه وجيه اخترعته - ما نُظر فيه إلى حال الممكن، وأنّه محتاج إلى المؤثّر - فهو بعدما حقّقناه في إثباته تعالى من البراهين اللمّيّة أولى بأن يكون طريقة


1- .مرّ في ص

ص: 568

الصدّيقين من الوجوه المشهورة؛ فإنّها لا تخلو (1) عن النظر إلى الممكن بوجه ما على ما لا يخفى. فأقول: مقدّمة: كلّ مفهوم يصدق على أمر في نفس الأمر، فإمّا أن يكون ذاتيا لذلك الأمر، أو عرضيا. وإن كان عرضيا فصدقه عليه إمّا باعتبار نفس ذلك الأمر، فيكون هو بذاته مصداقا له، أو باعتبار غيره. وذلك الغير إمّا أن يكون أمرا انتزاعيا، أو أمرا عينيا موجودا في الخارج، وإلّا لم يكن نفسَ أمريٍّ وهو ظاهر. وذلك الأمر العيني إمّا أن يكون نفس ذلك الأمر الذي يصدق عليه هذا المفهوم في نفس الأمر أو غيره. والأمر العيني الموجود في الخارج على التقديرين - سواء كان هو بذاته مصداقا لصدق هذا المفهوم، أو يكون مبدأ انتزاع لما هو مصداقه - إمّا أن يكون أمرا مباينا لذلك الأمر، بمعنى أن لا يكون بينهما تعلّق الحلول بوجه أصلاً، سواء كان بينهما ارتباط بوجه آخر أو لا، أو يكون أمرا مغايرا له [بمعنى أن يكون] بينهما تعلّق الحلول بأن يكون أحدهما حالّاً في الآخر، أو يكونا معا حانّين (2) في ثالث. وهذا حصر عقلي لا مجال لاحتمال آخر فيه أصلاً، وهو ظاهر بيّن. وإذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: صدق مفهوم الوجود على فرده الموجود في الخارج أيضا لا يخلو عن إحدى هذه الاحتمالات الضروريّة. وعلى بعض تلك الاحتمالات يلزم تحقّق الواجب بالذات، وعلى بعض آخر يلزم التسلسل وهو ممتنع، فلا بدّ أن ينتهي إلى بعض الاحتمالات المستلزمة لتحقّق الواجب بالذات. فعلى كلّ تقدير واحتمال يلزم تحقّق الواجب بالذات ووجوده، وهو المطلوب. بيان ذلك أنّه على الاحتمال الأوّل، والأوّل من الثاني، والاحتمال الأوّل من ثاني الثاني يكون الواجب بالذات لا محالة موجودا.


1- .في النسخة: «لا يخلو».
2- .في النسخة: «أو يكون معا حالاً».

ص: 569

أمّا على الاحتمال الأوّل - وهو كون مفهوم الموجود ذاتيا لفرده - فيكون ذلك الفرد على هذا التقدير ممتنع الانعدام؛ لامتناع سلب الذاتي عمّا هو ذاتي له، وهو ظاهر، فيكون ذلك الفرد واجبا بالذات. وأمّا على الاحتمال الأوّل من الثاني - وهو كون نفس ذات ذلك الأمر مصداقا لصدق مفهوم الموجود - فلأنّه إذا كان نفس ذاته مصداقا لصدق مفهوم الموجود عليه يكون لا محالة واجبا بالذات؛ لأنّ الواجب بالذات ما يكون ذاته بذاته مبدءً لانتزاع الموجوديّة، ومصداقا لصدق مفهوم الموجود على ما حقّق في موضعه. وأمّا على الاحتمال الثالث - أي الأوّل من ثاني الثاني، وهو كون نفس ذلك الأمر الذي يصدق عليه مفهوم الموجود في نفس الأمر مبدءً لانتزاع ما هو مصداق صدقه - فلأنّه إذا كان نفس ذاته مبدءً لانتزاع ما هو مصداق لصدق الموجود يكون نفس ذاته في الحقيقة مصداقا لصدق مفهوم الموجود، فيكون واجبا بالذات أيضا بالضرورة. وعلى سائر الاحتمالات الباقية يلزم التسلسل، أو الانتهاء إلى الواجب بالذات. فإنّا نقول: صدق مفهوم الموجود على ذلك الأمر العيني الموجود في الخارج - الذي فرض أنّه مصداق لصدق مفهوم الموجود على ذلك الأمر الأوّل الذي صدق عليه هذا المفهوم، أو أنّه مبدأ انتزاع لما هو مصداق صدقه، سواء كان مباينا له (1) أو حالّاً فيه (2) أو محلّاً له 3 أو حالّاً في محلّه - لا يخلو عن إحدى تلك الاحتمالات بالضرورة. وعلى الأوّل والثاني والثالث منها يلزم تحقّق الواجب بالذات وهو المطلوب. وعلى سائر الاحتمالات الباقية ننقل الكلام إلى ذلك الأمر العيني الموجود في الخارج أيضا وهكذا إلى غير النهاية حتّى يلزم التسلسل في تلك الاُمور الموجودة في الخارج، سواء كان مباينة لذلك الأمر الذي هو فرد الموجود، أو حالّة فيه، أو محلّاً له، أو حالّة في محلّه، والتسلسل محال، فلا بدّ أن


1- .أي للأمر الأوّل.
2- .أي في الأمر الأوّل.

ص: 570

ينتهي إلى إحدى الاحتمالات الثلاثة المذكورة سابقا، فيتحقّق الواجب بالذات قطعا كما ذكرنا آنفا. فإن قيل: ترتّب الاُمور الغير المتناهية المجتمعة محال، والترتّب فيما نحن فيه ممنوع. قلت: لا ريب في أنّ صدق الموجوديّة على ما هو مصداق لصدق مفهوم الموجود على هذا الأمر مقدّم بالذات على صدقه على ذلك الأمر بالضرورة؛ فإنّه ما لم يتحقّق أوّلاً مصداق صدق موجوديّة أمر لا يتحقّق ذلك الأمر بالضرورة، وهو ظاهر. على أنّ الترتّب والتقدّم الطبيعي بين الحالّ والمحلّ ضروري. ثمّ إنّا نعلم بالضرورة أنّه لو كان صدق مفهوم الموجود على كلّ موجود باعتبار ارتباطه بالأمر المباين له، لم يصدق مفهوم الموجود على شيء أصلاً قطعا، فظهر وتبيّن أنّ وجود الواجب بالذات على كلّ احتمال من تلك الاحتمالات التي تجري في صدق مفهوم الموجود على الموجودات ضروري لازم قطعا وهو ما أردناه. لا يقال: لو تمّ هذا الدليل لدلّ على عدم تحقّق الممكن مطلقا، وانحصار الموجود في الواجب بالذات؛ إذ الاحتمالات المتصوّرة في صدق مفهوم الموجود على فرده منحصر فيما ذكرت، وعلى بعض الاحتمالات ذلك الفرد الموجود واجب بالذات، وعلى بعض آخر من تلك الاحتمالات يلزم موجوديّة الممكن بكون الوجود حالّاً فيه، أو محلّاً له، أو بارتباطه بالأمر المباين له. وكلّ من تلك الاحتمالات ممّا تقرّر بطلانه عندهم على ما صرّحوا به في كتبهم، فيلزم انحصار الموجود في الواجب بالذات، هذا خلف. لأنّا نقول: على ما اخترناه الممكن موجود بارتباطه بالأمر المباين له ارتباطا خاصّا غير الحالّيّة والمحلّيّة، وذلك الأمر المباين له هو الموجود الذي يكون ذاته مصداقا لصدق مفهوم الموجود، فهو الواجب بالذات. ولا محذور في ذلك أصلاً، ولا إشكال قطعا على ما حقّق في موضعه.

ص: 571

النمط الثاني وهو أيضا وجه اخترعه الشارع

وهذا الوجه أحد (1) الاحتمالات المذكورة في صدق مفهوم الموجود على فرده وهو ظاهر. وأمّا على رأي الجمهور فيختار أنّ صدق مفهوم الموجود على الممكن الموجود باعتبار أمر انتزاعي هو الوجود ومبدأ انتزاعه هو الممكن لا من حيث هو، بل باعتبار نسبته إلى الجاعل الموجود المباين له؛ لأنّ موجوديّة الممكنات عندهم إنّما هو بجعل الجاعل وفعل الفاعل إيّاها، فهو أيضا من تلك الاحتمالات؛ فتدبّر تعرف. النمط الثاني: وهو أيضا ممّا اخترعته، فأقول: لا بدّ أن يتحقّق في الموجودات ما يكون نفس ذاته بذاته مبدءً لانتزاع الوجود والموجوديّة؛ فإنّه لو انحصر الموجودات فيما لم يكن نفس ذاته من حيث هي هي مبدءً لانتزاع الوجود والموجوديّة، فلم يكن تلك الموجودات في حدّ ذواتها بذاتها موجودة، فإذا وجدت فقد صارت موجودة بعد ما لم تكن (2) في أنفسها كذلك، وليس هذه الصيرورة لا تغيّر عمّا كانت هي في أنفسها عليه، لاحتاجت كلّ منها في صيرورته موجودا إلى ما به التغيّر من ضمّ ضميمة إليه أو ارتباطه بأمر آخر؛ لأنّه كما لا بدّ في كلّ تغيّر من مغيّر وفاعل له، ولهذا يحتاج كلّ ممكن موجود إلى علّة، كذلك لا بدّ فيه ممّا به التغيّر بديهة، والمنازع في ذلك مكابر مقتضى عقله، وما به التغيّر لا بدّ أن يكون موجودا، ولا يكونَ متغيّرا في ذاته أصلاً، وإلّا لاحتاج إلى أمر آخر به يتغيّر عمّا كان عليه في نفسه، فيلزم التسلسل، وهو محال. وإذا لم يكن متغيّرا يكون نفس ذاته من حيث هي هي مبدءً لانتزاع الوجود والموجوديّة بالضرورة، فقد تحقّق في الموجودات ما يكون نفس ذاته من حيث [هي] مبدءً لانتزاع الوجود والموجوديّة، وقد فرض أنّه ليس في الموجودات ما هو كذلك، هذا خلف. وكلّ ما يكون نفس ذاته من حيث هي مبدءً لانتزاع الوجود يكون واجبا بالذات، فالواجب بالذات موجود، وهو المطلوب.


1- .في النسخة: «إحدى».
2- .في النسخة: «لم يكن».

ص: 572

النمط الثالث وهو أيضا وجه ابتدعه الشارع

النمط الثالث: وهو أيضا ممّا ابتدعته، فأقول: لو انحصر الموجود في الممكن وذهبت سلسلة الممكنات إلى غير النهاية، يجوز في الواقع عدم تلك السلسلة الواقعة بالفعل بأن يكون كلّ واحد من أجزاء هذه السلسلة المفروضة بدلاً عمّا يناسبه من أجزاء تلك الجملة المتحقّقة بالفعل، ففي وقوع هذه السلسلة - الواقعة المتحقّقة بالفعل واختصاصها بالوجود والتحقّق، دون السلسلة المفروضة المغايرة لها مع إمكان أن يقع في نفس الأمر الجملة المفروضة، ولا يقع الجملة الموجودة رأسا - لا بدّ من مرجّح معيّن مخصّص لها بالوجود والوقوع، خارج عنها، وإلّا لترجّح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجّح، هذا خلف. والمرجّح الخارج عن جميع الممكنات هو الواجب بالذات تعالى شأنه. فإن قيل: إمكان وجود ممكنات اُخرى بالوجه الذي ذكرته بدلاً عمّا هو الواقع في الواقع ممنوع، بل ما هو واقع في الواقع من الأفلاك والكواكب والعناصر وغيرها بالوجه الذي وقعت عليه كمّا وكيفا وكمالاً أو نقصا هو الذي يمكن وجوده، ولا يمكن وجود ما هو مغاير لها أصلاً. قلت: الكلام في الإمكان الذاتي، ومنعه مكابرة سيّما إذا كانت المخالفة والمغايرة بالتشخّصات والعوارض، أو الكمال والنقص؛ لأنّ كلّ ما له مهيّة مغايرة لموجوديّته يجوز بالنظر إلى ذاته ومهيّته أن يكون له أفراد اُخر مغايرة للفرد الواقعي في الهويّة، أو المرتبة، أو غير ذلك؛ إذ لو كانت ممتنعة، امتنع ذلك الفرد الواقعي أيضا؛ لمشاركته معها في تمام المهيّة، والمشارك في تمام المهيّة والحقيقة للممتنع ممتنع بالضرورة. فإن قلت: يلزم على تقدير وجود الواجب وانتهاء سلسلة الممكنات إليه ترجّح بلا مرجّح أيضا؛ لأنّه إذا جاز وجود ممكنات اُخرى بدلاً عن هذه الممكنات الموجودة فلِمَ اختارها على غيرها؟ قلت: يجوز أن يكون اختياره لها دون غيرها لحكمة ومصلحة خفيّة، وعلى تقدير عدم الواجب - تعالى عن ذلك - لا يمكن أن يقال مثل ذلك؛ لأنّه إذا جاز تبدّل كلّ الموجودات

ص: 573

النمط الرابع

النمط الخامس

النمط السادس

رأسا، ووجود موجودات اُخرى بدلها، فمن الذي لاحظ تلك المصلحة والحكمة الخفيّة؟ ويجوز في نفس الأمر عدم تلك المصلحة بانتفاء تلك الموجودات كما يجوز وجودها بجودها، بخلاف ما إذا انتهى تلك الممكنات المعيّنة إلى الواجب الذي هو موجد الكلّ ومقدّره، فيوجده على الوجه الذي يقتضيه الحكمة والمصلحة؛ فإنّه لا يلزم ترجّح بلا مرجّح أصلاً؛ فتدبّر تعرف؛ فإنّه مع وضوحه دقيق. النمط الرابع - ذكره بعضهم - : تَحقَّقَ بعضُ الممكنات لا كلّها، فلا بدّ من واجب الوجود بالذات لترجّح وجود ذلك البعض - الذي هو كالسماوات والأرض الكائنتين على الترتيب الذي هما عليه مع عللهما الممكنة - على البعض الآخر، وإلّا لزم إمّا وجود جميع الممكنات، أو عدم الكلّ بالكلّيّة؛ لأنّ الممكن الذي صار موجودا ليس أحقّ بالوجود من الممكن المعدوم دائما باعتبار ذاتهما، وإلى مثل هذا البرهان أشار بقوله تعالى: «أَفِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرٍ السَّمواتِ وَالأَرْضِ» (1) . النمط الخامس: لو انتفى الواجب بالذات - تعالى عن ذلك - وذهب سلسلة وجود الممكنات إلى غير النهاية، فلا شكّ في جواز انتفاء تلك السلسلة بأسرها في نفس الأمر بأن لا يوجد أصلاً؛ لإمكانها في ذواتها وعدم وجوبها بالنظر إلى الغير؛ إذ لا غير فرضا، وإذا جاز انتفاء تلك السلسلة بأسرها في نفس الأمر لا يجب وجودها فيه، ولا وجود جزء منها؛ إذ الشيء ما لم يمتنع جميع أنحاء عدمه لم يجب، وقد بيّن في موضعه أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، فلا يمكن وجود تلك السلسلة بأسرها، ولا جزء منها بدون الواجب بالذات؛ فافهم. وقد مرّ تقرير هذا البرهان بوجه آخر، فتذكّر. النمط السادس: كلّ كثير لا بدّ أن ينتهي إلى واحد بسيط لا جزء له أصلاً؛ فإنّه لو لم ينته


1- .إبراهيم (14): 10.

ص: 574

النمط السابع

إلى واحد كذلك، ينتفي الوحدة قطعا، فيلزم انتفاء الكثرة بالضرورة، كيف، والكثرة إنّما هي اجتماع الوحدات، فإذ لا وحدة أصلاً لا يكون كثرة قطعا، وهو ظاهر بيّن. وبعد تمهيد تلك المقدّمة نقول: الموجودات المتحقّقة كثيرة، فلا بدّ فيها من واحد لا كثرة فيه أصلاً، وهو الواحد الحقيقي، وما ذلك الواحد الحقيقي إلّا الواجب بالذات؛ إذ كلّ ما عداه من الممكنات - وإن كان بسيطا - فهو مركّب الهويّة ممّا ليس في حدّ ذاته مبدءً لانتزاع الوجود؛ أعني المهيّة، وإلّا لكان واجبا بالذات، هذا خلف، ومن الوجود (1) الذي هو مصداق للموجوديّة ومبدأ انتزاعها، وإلّا لم يكن موجودا بالفعل، وهو خلاف المفروض؛ إذ الكلام في الموجودات، فهو في الحقيقة كثير. قال الشيخ الرئيس في الشفاء: والذي يجب وجوده لغيره دائما، فهو أيضا غير بسيط الحقيقة؛ لأنّ الذي له باعتبار ذاته، فإنّه غير الذي له من غيره، وهو حاصل الهويّة منهما جميعا في الوجود؛ فلذلك لا شيء غير واجب الوجود يعرى عن ملابسة ما بالقوّة والإمكان باعتبار نفسه وهو الفرد الحقيقي، وغيره زوج تركيبي (2) . فتبيّن أنّه لا بدّ في الموجودات الكثيرة من واحد حقيقي هو الموجود البحت لا الشيء الموجود، وهو الواجب بالذات، وذلك ما أردناه. النمط السابع: الممكن لا يستقلّ بنفسه في وجوده وهو ظاهر، ولا في إيجاده لغيره؛ لأنّ مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود؛ فإنّ الشيء ما لم يوجَد لم يوجِد، فلو انحصر الموجود في الممكن، لزم أن لا يوجد شيء أصلاً؛ لأنّ الممكن وإن كان متعدّدا لا يستقلّ بوجود ولا إيجاد، وإذ لا وجود ولا إيجاد، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره، فلا بدّ من الواجب بالذات، وهو المطلوب.


1- .عطف على قوله: «من واحد».
2- .الشفاء، ص 47، الفصل السابع في أنّ واجب الوجود واحد.

ص: 575

النمط الثامن

النمط الثامن: مرتبة وجود كلّ علّة متقدّمة، على مرتبة وجود معلولها (1) ضرورة، فلا يمكن أن توجد علّة مع معلولها في مرتبة واحدة بديهة. وبعد تلك المقدّمة نقول: إذا ترتّبت علل ممكنة غير متناهية لا أوّل لها، فإمّا أن يوجد كلّها معا في مرتبة واحدة، أو لا، بل يوجد بعضها قبل بعض. فعلى الأوّل يلزم خلاف ما تقدّم في المقدّمة. وعلى الثاني إن كان لتلك السلسلة أوّلٌ حاصل موجود قبل الكلّ، لم يكن غير متناهٍ، هذا خلف. وإن لم يكن للسلسلة أوّلٌ وجد قبل الكلّ، لزم أن يكون وجود كلّ واحد منها مسبوقا بوجود اُمور غير متناهية، وذلك مستلزم لامتناع وجود شيء منها؛ فإنّه بديهيّ أنّه ما لم يوجد واحد منها لم يوجد شيء أصلاً، فيجب ضرورة أن يوجد أوّلاً واحد (2) حتّى يتبعه غيره، وليس للسلسلة الغير المتناهية أوّلٌ؛ إذ كلّ ما فرض أوّلاً فعلّته قبله، فلم يكن أوّلاً، ويلزم من ذلك أن لا يكون للسلسلة الغير المتناهية وجود؛ إذ لو كان له وجود، لكان فيه أوّلٌ، وتحقّق الأوّل فيها ممتنع، فوجودها ممتنع؛ ضرورة امتناع ما يستلزم ممتنعا. والحاصل أنّا نعلم بالضرورة أنّه ما لم يوجد أوّلاً واحد يتبعه غيره، لم يوجد غيره أصلاً، فإذا لم يكن في سلسلة أوّل، لم يوجد قطعا، وليس للسلسلة الغير المتناهية أوّلٌ؛ إذ كلّ ما فرض أوّل فعلّته قبله، فلم يكن أوّلاً، فلا بدّ في الموجودات من أوّل لا يكون قبله غيره، وهو الواجب بالذات؛ فتأمّل. وبعبارة اُخرى: لو لم ينته سلسلة الموجودات إلى الواجب بالذات، يكون كلّ واحد من آحاد تلك السلسلة محتاجا إلى مرجّح، فيكون للطرف حكم الوسط في الاحتياج إلى المرجّح، وما دام كذلك فمن أين يحصل ممكن حتّى يحصل منه ممكن آخر؟ ولو قيل: إنّه يحصل بممكن آخر، وذلك الآخر بالآخر وهكذا إلى غير النهاية.


1- .في النسخة: «معلوله». وكذا في المورد الثاني.
2- .في النسخة: «واحدا».

ص: 576

تذنيب

نقول: هذا الاحتمال إنّما يجوّزه العقل إذا اعتبر استناد بعض الممكنات إلى بعض مفصّلاً بأن يلاحظ هذا من ذاك، وذاك من ذلك وهلم جرّا، فإنّ (1) بهذا الطريق لا يحيط بجميعها؛ لعدم تناهيها، ولا يظهر الخلف عنده. وأمّا إذا لاحظ جميعها إجمالاً وتذكّر أنّ شيئا منها لا يحصل بالفعل ما لم يحصل واحد آخر بالفعل، فلا يشكّ في أنّه مادام للطرف حكم الوسط لا يحصل شيء منها بالفعل حتّى يحصل منه شيء آخر، فلا يوجد شيء من الممكنات أصلاً؛ فافهم. تذنيب: لمّا ثبت وجود الواجب بالذات الحقّ الأوّل، فنقول: إنّ الواجب بالذات لا بدّ أن يكون بسيطا؛ لأنّ كلّ مركّب ممكنٌ على ما مرّ، ويجب أن يكون غير متناهي الفعل والتأثير؛ فإنّ فعله تعالى لو لم يكن غير متناهٍ من جانب الأزل، فلا ريب في أنّه لا آخر ولا نهاية له من جانب الأبد، وأن لا يكون فعله زمانيا، وإلّا لما يصدر عنه ما يسبق وجوده على الزمان، وأن لا يكون متغيّرا، وإلّا لكان له مغيّر وهو محال، وأن لا يمكن معرفته، ولا يحصل حقيقته في ذهن من الأذهان على ما مرّ إليه إشارة، وأن لا يكون له مهيّة كلّيّة، وإلّا لكان ممكنا؛ لما مرّ، وأن لا يكون له بالقوّة أصلاً لا في ذاته ولا في صفاته، كيف؟ وهو الموجود البحت كما مرّ، وأن لا يكون له صفات زائدة على ذاته وإلّا لكان فاعلاً وقابلاً معا وهو ممتنع، وأن لا يكون تأثيره بالوضع، وإلّا لما صدر عنه المادّة والصورة الجسميّة كما مرّ، وأن يكون عالما بالكلّيّات والجزئيّات بوجه يليق بشأنه؛ لما حقّق في موضعه، وأن يكون غير متناهية في الكمال والمجد والعظمة؛ لما بيّن في مظانّه، وأن لا يتصوّر وقوعه على خلاف ما هو عليه في الواقع، وإلّا يلزم الترجّح بلا مرجّح. ولا يخفى على اُولي النهى أنّ الأجسام مركّبة من المادّة والصورة متناهي الفعل (2) والتأثير، متغيّر يمكن معرفتها، لها مهيّات كلّيّة ليست بالفعل في حدّ ذواتها، وصفاتها زائدة عليها،


1- .كذا.
2- .في النسخة: «العقل».

ص: 577

وتأثيراتها بالوضع بل بالزمان أيضا، غير عالمة بالكلّيّات، بل بالجزئيّات أيضا بمحض ذواتها، متناهية في الكمال والمجد، متصوّر وقوعها على خلاف ما هو عليها في الصغر والكبر والقلّة والكثرة وغيرها من الأحوال والأوضاع، فلا تكون (1) واجبة بالذات أصلاً كما توهّم. قال الشيخ في تعليقاته: الإنسان لمّا اعتاد أن يدرك الأشياء بالحسّ، صار يعتقد أنّ ما لا يدركه حسّا لا حقيقة له، ولا يصدّق بوجود النفس والعقل وكلّ صورة مجرّدة؛ لأنّه اعتاد أن يرى الصور الجسمانيّة، ويراها محمولة في شيء غير مجرّد (2) ، هذا مع ما يراه من فعل الطبيعة وفعل العقل والنفس اعتبارا، لكنّه بوجود الطبيعة أوثق منه بوجود النفس والعقل؛ لأنّه يشاهد الأجسام الطبيعيّة، ويرى الأفعال (3) الطبيعيّة فيها ظاهرة، وفعل النفس أخفى من فعل الطبيعة؛ لأنّها أشدّ تجرّدا من الطبيعة، وكذا فعل العقل؛ لأنّه أشدّ تجرّدا منهما؛ فكلّ ما هو أظهر فعلاً في الأجسام فإنّه بوجوده أوثق. وبالجملة، فإنّه يعتقد أن لا وجود لجوهر مجرّد ولا حقيقة له، وأنّ الحقيقة إنّما هي للجسم المحسوس؛ لأنّ الحسّ يدركه. ولعمري أنّ الحسّ لا يدرك المعقول؛ لأنّه مجرّد (4) ، ولا يدركه إلّا مجرّد (5) . وأمّا غير (6) المجرّد، فلا يدرك إلّا غير المجرّد، ويكاد يعتقد في الجسم أنّه واجب الوجود غير معلول لا سيّما الفلك الأعلى؛ لبساطته، فلا يجوز (7) أن لا يكون معلولاً؛ لأنّه مركّب من هيولى وصورة. وهنالك ثلاثة أشياء: هيولى وطبيعتها العدم، وصورة يقيم الهيولى بالفعل ويظهر في الهيولى ويكون (8) محمولة (9) ، وتأليف. فلا


1- .في النسخة: «فلا يكون».
2- .في المصدر: «غير محدود».
3- .في المصدر: «أفعال».
4- .في المصدر: «محدود».
5- .في المصدر: «محدودا».
6- .في النسخة: «الغير». وكذا المورد الآتي.
7- .في المصدر: «ولا يجوز».
8- .في المصدر: «تقيم... وتظهر... وتكون».
9- .في المصدر: + «فيها».

ص: 578

يجوز (1) أن يكون الجسم علّة فاعليّة لنفسه، وأيضا (2) يجب أن يقترن به صورة اُخرى حتّى يظهر وجوده على ما عرفت، والجسم لا فعل له بذاته، بل بقواه التي تكون فيها (3) ، وهو (4) محدود متناهٍ، والمحدود يجب أن يكون محدود القوّة والقدرة، متناهيَ الفعل، ويكون فعله زمانيا وشيئا بعد شيء لا إبداعيا، ويكون متغيّرا لا محالة؛ لأنّه متحرّك، والحركة تغيّر [و] فائت ولاحق، والجسماني يحاط به، ويدرك أحواله، ويمكن معرفته، لأنّه يكون متناهيا (5) ، والمتناهي محاط به، فلا يوصف بالعلوّ الغير المتناهي، وبالمجد والقدرة والعظمة الغير المتناهية، وبالعلم البسيط المحيط بجميع الأشياء، وبالفعل المطلق؛ لأنّ فيه ما بالقوّة، ويكون لا محالة له قوىً إمّا طبيعيّة وإمّا نفسانيّة، ويكون له تخيّل وتوهّم، وبعض القوى يصدّه عن استعمال بعض القوى. وعلى الجملة، فإنّه لا يكون متحقّقا بذاته ولوازم ذاته، ويوصف بالانبعاث للفعل بعد أن لم يكن، وبالتغيّر، وبالإدراك الجزئي، وفعل الجزئي، ويوصف باكتناف الأعراض له، وأنّه يفعل أفعاله بمجموع مادّته وصورته وطبيعته أو (6) نفسه، ولا يفعل (7) إلّا بعد أن يستشرك المادّة في فعله، ويفعل بمباشرة ووضع. والجسم الفلكي وإن كان يفعل في كلّ جسم فلأنّ لكلّ جسم عنده وضعا؛ فلذلك يؤثّر فيه؛ لأنّه محيط، والجسماني لا قدر (8) له إذا قيس بالمجرّد؛ فإنّه لا يكون له تلك الكبرياء والعظمة والقدرة والجلالة الغير المحدودة والأفعال الإبداعيّة تعالى اللّه عن أن يوصف بصفة طبيعيّة أو نفسانيّة أو عقليّة، وبأن يكون ذاته ذاتا يؤثّر فيها شيء، أو


1- .في المصدر: «ولا يجوز».
2- .في المصدر: + «فإنّه».
3- .أي في ذاته. وفي المصدر: «فيه».
4- .أي الجسم.
5- .في المصدر: «معرفتها؛ لأنّها لا تكون متناهية».
6- .في المصدر: «و».
7- .في المصدر: «ولا يعقل».
8- .في المصدر: «قدرة».

ص: 579

باب إطلاق القول بأنّه شيءباب إطلاق القول بأنّه شيءمحمّد بن يعقوب ، عن عليّ بن ابراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن عبدالرحمن بن أبي

يلحقها (1) لاحق من خارج، أو يوصف بانفعال البتّة، بل هو فعل محض، فلا يوصف إلّا بالخيريّة، لا على أنّها (2) شيء يلحق ذاته، بل هي نفس ذاته، فهي سبب إيجاده لكلّ موجود، والأجسام الفلكيّة يعمّها جميعا الجسميّة والشكل المستدير والحركة على الاستدارة، وأنّ أفعالها (3) بالطبيعة لا بالقصد، فإنّ ما يقع (4) عنها إنّما يقع من طبيعة حركاتها وقواها إلّا أنّها عالمة بما يقع من حركاتها وتشكّلها بأشكالها المختلفة وممازجاتها (5) . انتهى كلامه، فتأمّل.

[باب إطلاق القول بأنّه شيء]قوله: (باب إطلاق القول بأنّه شيءٌ) أقول: هذا الباب ردّ على ما ذهب إليه بعض القدماء من المتكلّمين؛ فإنّهم بالغوا في التنزيه حتّى امتنعوا عن إطلاق اسم الشيء بل العالم والقادر وغيرهما على اللّه تعالى؛ زعما منهم أنّه يوجب إثبات المثل له تعالى، وليس كذلك؛ لأنّ المماثلة إنّما تلزم لو كان المعنى المشترك بينه وبين غيره فيهما على السواء، ولا تساوي بين شيئيّته وشيئيّة غيره، ولا بين علمه وعلم غيره، وكذا جميع الصفات كما صرّح به الأئمّة عليهم السلام . وأشنع من ذلك امتناع الملاحدة عن إطلاق اسم الموجود عليه تعالى. ثمّ معنى إطلاق القول أنّه لا يحتاج إطلاق لفظ «شيء» فيه إلى قرينة كاحتياج إطلاق


1- .في المصدر: «يلحقه».
2- .أي الخيريّة. وكذا مرجع ضميري «هي».
3- .في المصدر: «فعالها».
4- .في المصدر: «يقال».
5- .التعليقات، ص 32 - 33.

ص: 580

نجران ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن التوحيد ، فقلت : أتَوَهَّمُ شيئا؟ فقال :«نعم ، غيرَ معقولٍ ولا محدودٍ ، .........

الألفاظ المشتركة والمجازيّة إليها (1) ، فهو مشترك معنوي كالموجود والوجود. (2) ولمّا كان القول بأنّ الشيء والموجود فيه تعالى مشترك لفظي، أو مجاز آخر، أحاله إلى حدّ النفي والتعطيل وهو ينافي ثبوت الصانع. ذكر هذا الباب عقيب باب حدوث العالم وإثبات المحدث لكمال الربط. قوله: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن التوحيد) أقول: المراد بالتوحيد هنا ما يتعلّق بمعرفته تعالى أيّ مسألة كانت من المسائل الإلهيّة، كما مرّ أنّ إطلاق التوحيد على هذا المعنى شائع في لسان أهل الشرع. قال بعض الفضلاء (3) : أي عن معرفته تعالى متوحّدا بحقيقته وصفاته متنزّها عن غيره (4) ، فتأمّل. وقوله: (أتوَهَّمُ شيئا) خبر (5) ، والمراد بالتوهّم هاهنا التصوّر، أي أتصوّره شيئاوأصفه بالشيئيّة، ويجوز أن يكون الهمزة للاستفهام والفعل ماضيا مجهولاً، أو مضارعا معلوما مخاطبا بحذف أحد التاءين. وقوله عليه السلام : (نعم غير معقول ولا محدود) أي نعم إنّه تعالى شيء لكنّه غير معقول بالكنه، ولا محدود بالحدود العقليّة ولا بالحدود الحسّيّة الظاهريّة والباطنيّة من السطوح والخطوط والنقاط والأشكال والنهاية ونحو ذلك ممّا يتعلّق بالجزئيات المادّيّة المدركة بالحواسّ الظاهرة والباطنة. (6) ولا يذهب عليك أنّ المعاني الجزئيّة المادّيّة الموهومة أيضا محدودة بحدود وهميّة قابلة للزيادة والنقصان كالصداقة والعداوة الجزئيّة.


1- .أي إلى القرينة.
2- .نقلها في مرآة العقول، ج 1، ص 280 بعنوان «قيل» من قوله: «ثمّ معنى إطلاق القول» إلى هنا.
3- .هو الميرزا رفيعا النائيني.
4- .الحاشية على اُصول الكافي، ص 271.
5- .نقلها في مرآة العقول، ج 1، ص 281 بعنوان «قيل».
6- .أدرجها في مرآة العقول، ج 1، ص 281.

ص: 581

فما وَقَعَ وهمُك عليه من شيء فهو خلافُه ، لا يُشبِهُهُ شيءٌ ولا تُدرِكُه الأوهامُ ، كيف تُدرِكُه الأوهامُ وهو خلافُ ما يُعْقَلُ ، وخلافُ ما يتَصَوَّرُ في الأوهام؟! إنّما يُتَوَهَّمُ شيءٌ غيرُ معقولٍ ولا محدودٍ» .

محمّد بن أبي عبداللّه ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن الحسين بن الحسن ، عن بكر بن صالح ، عن الحسين بن سعيد ، قال :سُئلَ أبوجعفرٍ الثاني عليه السلام : يجوز أن يقالَ للّه : إنّه

أو معناه نعم توهّمه وتصوّره شيئا غير معقول ولا محدود. وقوله عليه السلام : (فما وقع وهمك عليه) إلخ، تفريع على قوله: «ولا محدود» أي كلّ شيء وقع وهمك عليه وتدركه بالوهم - سواء كان بلا واسطة كالمعاني الجزئيّة المادّيّة، أو بواسطة الآلة كالصور الجزئيّة - فهو تعالى خلافه. وقوله عليه السلام : (لا يشبهه شيء) استيناف بياني، أي لا يشبهه شيء من الممكنات والمخلوقات لا في ذاته ولا في صفاته ولا في نحو الاتّصاف بها؛ لما مرّ مفصّلاً. وقيل: لأنّ معنى الشبه هو أن يكون أمر موجود في الخارج مشتركا معنويا بينه تعالى وبين خلقه، والبرهان قائم على نفي ذلك. وقوله عليه السلام : (ولا تدركه الأوهام) توضيح وبيان لما سبق. وقوله عليه السلام : (كيف تدركه الأوهام) إلخ إشارة إلى دليل على هذا المدّعى، تقريره أنّه كيف تدركه الأوهام وهو ذات خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصوّر في الأوهام؛ لأنّه يجوز على كلّ معقول ومتصوّر بالوهم - بلا واسطة كان، أو بالواسطة - تجريدُ العقل إيّاه عن الإنّيّة والوجود بخلافه سبحانه كما مرّ بيانه. وقوله عليه السلام : (إنّما يتوهّم شيء غير معقول ولا محدود) إعادة للمدّعى بعنوان الحصر ونتيجة للدليل. قوله: (سئل أبو جعفر الثاني عليه السلام يجوز أن يقال) إلخ أقول: أي سئل محمّد الجواد عليه السلام . وقيل: يجوز أن يقال للّه : إنّه شيء بقول مطلق من غير تقييده بقيد، أو من غير الفحص والتفتيش عن أنّه أيّ شيء هو في ذاته، أو في حقيقة صفاته الحقيقيّة. فلفظ «قيل» مقدّر هنا.

ص: 582

شيء؟ قال : «نعم ، يُخرِجُه من الحَدَّيْنِ : حَدِّ التعطيل ، وحدِّ التشبيه» .

والتعطيل في اللغة الإخلاء عن الحُلي قال امرؤ القيس: وجِيدٍ كجِيدِ الرَيْم (1) ليس بفاحشإذا هي نَصَّتْه ولا بمُعَطَّلِ (2) والمراد به هاهنا الإخلاء عن الوجود، وعن الصفات الحقيقيّة الكماليّة التي هي عين ذاته تعالى كما ذهب إليه المنكرون لوجوده تعالى كالمعطّلة والملاحدة لعنهم اللّه تعالى. والمراد بالتشبيه التشبيه بالممكنات، واتّصافه بصفة الإمكان، فقوله عليه السلام : (نعم يخرجه من الحدّين: حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه) معناه أنّه يجوز أن يقال له تعالى: إنّه شيء بقول مطلق، ولا يجوز تقييده ببعض القيود كموجود وعالم وقادر ونحو ذلك من الصفات الحقيقيّة؛ فإنّ الاكتفاء بهذا الإطلاق والكفّ عن تقييده به وعدم تجويز ذلك «يخرجه من الحدّين» أي الطرفين «حدّ التعطيل» ونفي وجوده تعالى ونفي صفاته الكماليّة اللازم من نفي وجوده؛ لأنّ كلّ شيء موجود، فالحكم بشيئيّته المساوقة لوجوده يخرجه من الحكم بنفيه ونفي صفاته، اللازِم من نفيه «وحدّ التشبيه» بالممكنات واتّصافه بصفة الإمكان؛ لأنّ كلّ شيء موجود، فهو ممكن؛ لزيادة وجوده وموجوديّته على ذاته، وذلك مستلزم للإمكان كما مرّ. وكلّ شيء عالم، أو شيء قادر، أو نحو ذلك شبيه بالممكن في النقص اللازم من زيادة صفاته الكماليّة على ذاته، وقد عرفت أنّه تعالى موجود بحت وعالم بحت وقادر بحت ، لا شيء موجود وشيء عالم وشيء قادر ونحو ذلك، فالاكتفاء بإطلاق الشيء عليه تعالى وعدم تجويز تقييده بهذه القيود يخرجه من حدّ التشبيه بالممكن والاتّصاف بالإمكان. أو معناه أنّه يجوز أن يقال له تعالى: إنّه شيء والاكتفاء به، ولا يجوز الفحص والتفتيش


1- .في هامش النسخة: الرَيْم: الظَبْيُ الخالص البياض (ق) [القاموس المحيط، ج 4، ص 173 (ريم)]. وضبطها في ديوانه: «الرِّئم».
2- .ديوانه، ص 44 من المعلّقة. وفي هامشه: «النصّ: الرفع، ومنه سمّي ما تجلى عليه العروس منصّة، ومنه النصّ في السير وهو حمل البعير على سير شديد. ونصصت الحديث أنصّه نصّا: رفعته. الفاحش: ما جاوز القدر المحمود من كلّ شيء، يقول: وتبدي عن عنق كعنق الظبي غير متجاوز قدره المحمود ، إذا ما رفعت عنقها ، وهو غير معطّل عن الحلي، فشبّه عنقها بعنق الظبية في حال رفعها عنقها، ثمّ ذكر أنّه لا يشبَه عنق الظبي في التعطّل عن الحلي».

ص: 583

عليُّ بن ابراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن أبي المَغْراءِ ، رَفَعَه ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال :«إنّ اللّه خِلْوٌ من خَلْقه ، وخَلْقُه خِلْوٌ منه ، وكلّ ما وقع عليه اسمُ شيءٍ فهو مخلوقٌ ما خلا اللّه » .

عن أنّه أيّ شيء هو في ذاته، أو في حقيقة صفاته الحقيقيّة؛ فإنّ الاكتفاء بهذا الإطلاق وعدم تجويز الفحص «يخرجه من (1) الحدّين: حدّ التعطيل» كما مرّ «وحدّ التشبيه» بالممكنات؛ لأنّ كلّ ما يمكن ويجوز للممكن معرفة كنهه، أو معرفة حقيقة صفته الحقيقيّة الكماليّة فهو ممكن؛ لما مرّ، فعدم تجويز الفحص عن كنهه وكنه صفاته الحقيقيّة يخرجه من حدّ التشبيه بالممكن؛ فتدبّر. والأولى أن يقال (2) : معنى قوله عليه السلام : «نعم يخرجه» إلخ أنّه يجوز أن يقال للّه : إنّه شيء، ويجب أن يخرجه القائل من الحدّين، فحينئذٍ قوله عليه السلام : «يخرجه» إنشاء في قالب الخبر. والمراد بحدّ التعطيل الخروجُ عن الوجود، وعن الصفات الكماليّة والفعليّة والإضافيّة كما ذهب إليه المعطّلة، وبحدّ التشبيه الاتّصافُ بصفات الممكن والاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات كما ذهب إليه المشبّهة والمجسّمة والقائلون بزيادة الصفات. وعلى هذا لا حاجة إلى التكلّفات المذكورة في البيانين الأوّلين؛ فتدبّر. قوله: (عن أبي المغرا) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة ثمّ الراء المهملة، اسمه حُميد بن المثنّى، ثقة. وقوله عليه السلام : (إن اللّه خِلْوٌ من خلقه، وخَلْقُه خِلْوٌ منه، وكلّ ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا اللّه ) الخِلو - بكسر الخاء المعجمة وسكون اللام - : الخالي. والمقصود إقامة الدليل على أنّه لا يكون محلّاً لغيره، ولا يتقوّم به، ولا يكون حالّاً في غيره، ولا جزءً له، ولا متّحدا مع غيره؛ لأنّ كلّ شيء مغاير له مخلوق له؛ لامتناع تعدّد المبدأ الأوّل الواجب بالذات؛ لما مرّ، فكلّ موجود مغاير له تعالى ممكن محتاج إليه في وجوده مخلوق له، والخلط بمخلوقه الممكن نقص مستحيل يجب تنزيهه تعالى عنه كما يحكم عليه الفطرة


1- .في النسخة: «عن».
2- .قاله النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 271.

ص: 584

بيّن عليه السلام هاهنا خمس مسائل

المسألة الاُولى في أنّه تعالى لا يكون محلاًّ لغيره

استدلّ على ذلك بوجوه:

الأوّل برهان المشهور

السليمة والفطنة القويمة، فخلطه بغيره محال، فلا يكون محلّاً لغيره، ولا حالّاً فيه، ولا متقوّما به، ولا جزءً له، ولا متّحدا معه، فالنتيجة في كلامه عليه السلام مطويّة بعد الدليل وهي أنّه تعالى خِلْوٌ من غيره، وغيره خِلْوٌ منه. ومناسبة هذا الحديث مع الحديثين المذكورين بعده للباب باعتبار اشتمالها على قوله: «ما خلا اللّه » فإنّه يدلّ على أنّه يقع عليه اسم «شيء». فبيّن عليه السلام هاهنا خمس مسائل، وأقام دليلاً واحدا مشتركا على الكلّ، وبالحريّ أن نذكر هنا الأدلّة المخصوصة بكلّ واحد منها. المسألة الاُولى أنّه تعالى لا يكون محلّاً لغيره؛ ردّا على الأشاعرة القائلين بزيادة الصفات الحقيقيّة، أي الصفات الموجودة في الخارج، لا الإضافيّة والسلبيّة والاعتباريّة الانتزاعيّة، وعلى الكرّاميّة القائلين باتّصافه بالحادث، أي الموجود بعد العدم، فإنّ بعض الصفات الحقيقيّة عندهم حادثة، وعلى ما يفهم من ظاهر كلام بعض الصوفيّة من عروض المهيّات الممكنة للوجود القائم بالذات تعالى عن ذلك علوّا كبيرا كما قال السهروردي 1 : من و تو عارض ذات وجوديممشبّكهاى مشكات وجوديم واستدلّ على ذلك بوجوه: الأوّل: البرهان المشهور، وتقريره موقوف على مقدّمة وهي كما حرّره بعض الأفاضل أنّه لا يجوز أن يكون أمر واحد بسيط فاعلاً وقابلاً لأمر واحد؛ لأنّ وجود المعلول إن توقّف على كلّ واحد من علله لكنّ الفاعل هو الذي يقتضيه ويجعله واجب الحصول، ويوجده دون غيره؛ ولذلك يقال له: «المقتضي» و«الموجد» و«ما منه الوجود» و«الموجب» والقابل لا يقتضي المقبول، ولا يجعله واجب الحصول، بل ليس له إلّا استحقاق وجود المقبول وهو

ص: 585

ضرب من الإمكان. ومن ثمّة قيل: إنّ نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان، فالفاعل من حيث إنّه فاعل يوجب وجود المقبول ويقتضيه، والقابل من حيث هو قابل لا يقتضي وجود المقبول ولا يوجبه، فلا يكون القابل بعينه فاعلاً؛ لتنافي لازميهما، وكيف يكون ذات واحدة بسيطة مقتضيا لأمر وغير مقتضٍ له معا، هذا. واعترض عليه بعض المتأخّرين بأنّه إن اُريد أنّ الفاعل من حيث هو فاعل موجب لمفعوله أنّ نفس مفهوم الفاعل من حيث هو موجب، فهو باطل في جميع الصور قطعا بالضرورة. وإن اُريد أنّ ذات الفاعل - مقيّدا بحيثيّة الفاعليّة أو معلّلاً بها - يكون موجبا فهو ممنوع، بل ظاهر أنّ التقييد بالفاعليّة أو التعليل بها لا مدخل لشيء منهما في إيجاب الفاعل له واقتضائه. وإن اُريد أنّ ذات الفاعل - من حيث هو كالشمس بعينها - موجب، فهذا مسلّم لا شكّ فيه، ولكن لِمَ لا يجوز أن يكون ذات القابل من حيث هو كالشمس موجبا في بعض الصور؟ وهل هذا إلّا أوّل المسألة (1) ، وليس يتصوّر في هذا التصوّر اجتماع المتنافيين؛ إذ ليس فيه إلاّ اقتضاء ذات ما من حيث هو لصفة ما في نفسه 2 ، وكما أنّه ليس لصفة القابليّة مدخل في هذا الإيجاب والاقتضاء لا تقييدا ولا تعليلاً، كذلك ليس لصفة الفاعليّة مدخل فيه كذلك، فيؤول الأمر إلى أنّ نفس القابل لصفة ما موجبة لهذه الصفة فيها مع قطع النظر عن القابليّة والفاعليّة تقييدا وتعليلاً، وليس فيه محذور أصلاً. وأقول: منشأ هذا الاعتراض والإيراد هو الغفلة عن تحقيق معنى الحيثيّة التقييديّة والمقصود منها، فلنحقّق ذلك أوّلاً ونقول: إنّ العقل إذا لاحظ شيئا واعتبره بوجه معيّن، كان ذلك الشيء مأخوذا من حيث ذلك الوجه ومقيّدا به.


1- .كذا.

ص: 586

ثمّ إنّه قد يراد به المفهوم المقيّد كما في قولك: الحيوان من حيث إنّه ناطق عين النوع، فإنّ المراد نفس مفهوم الحيوان المقيّد، وقد يراد به ما صدق عليه هذا المفهوم المقيّد كما في قولهم: المجرّد من حيث إنّه حضر عنده مجرّد عالمٌ، ومن حيث إنّه حضر عند مجرّد معلومٌ فإنّه لا يراد به أنّ مفهوم النفس مقيّدا بهذا القيد عالمٌ، ومقيّدا بذلك القيد معلومٌ؛ ضرورة أنّه ليس هذا المفهوم المقيّد الاعتباري عالما، وليس ذلك المفهوم المقيّد الاعتباري معلوما، كيف؟ وليس ذلك النفسَ، فليس علم النفس به علما بنفسه، بل المراد أنّ ذات النفس باعتبار يصدق عليها أنّه يحضر عندها مجرّد وفرد لهذا المفهوم معلوم. وبعد تحقيق ذلك نقول: إنّ معنى قوله: «الفاعل من حيث إنّه فاعل موجب للمفعول» أنّ فرد الفاعل باعتبار أنّه فرد الفاعل مع قطع النظر عن كونه فردا للقابل موجب للمفعول، وكذلك نقول في القابل: إنّ فرد القابل باعتبار أنّه فرد له مع قطع النظر عن كونه فردا للفاعل لا يوجبه ولا يقتضيه أصلاً. والحاصل أنّ هاهنا فردين مختلفين بالاعتبار أحدهما الفاعل المخصوص، والثاني القابل المخصوص، وفرد الفاعل موجب للمفعول دون فرد القابل؛ فإنّ العقل إذا لاحظ فرد الفاعل، وأغمض عن كونه فرد القابل، يجده مقتضيا لمفعوله، وإذا لاحظ فرد القابل، وأغمض عن كونه فرد الفاعل، لا يجده موجبا لمقبوله، بل يجده غير مقتضٍ له، فلا يمكن أن يكون شيء واحد بسيط من جهة واحدة فردا للقابل والفاعل معا بالنسبة إلى أمر واحد، وإلّا لكان موجبا له غير موجب له معا، وهذا بديهيّ البطلان، ضروريّ الامتناع؛ فتأمّل فإنّه دقيق. واعترض عليه المحقّق الدواني أيضا بأنّهم جوّزوا كون علمه تعالى - مع أنّه عين ذاته وذاته واحد بسيط حقيقي - قدرةً باعتبار صحّة الفعل والترك، وإرادةً باعتبار وجوب الفعل عنه، فلِمَ لا يجوز أن يكون الأمر في الفاعليّة والقابليّة أيضا كذلك، فيكون باعتبار الفاعليّة يجب له الصفة، وباعتبار القبول لم تجب.

ص: 587

والجواب عنه أنّ الكلام في الواحد الحقيقي وليس فيه تعدّد بحسب الخارج، والتعدّد الاعتباري بحسب الجهات العقليّة والحيثيّات الانتزاعيّة إنّما هو تعدّد وتكثّر عقلي لا يتحقّق في نفس الأمر إلّا بعد اعتبار العقل وانتزاعه، وليس تعدّدا بحسب نفس الأمر بالفعل، فكيف يكون مصحّحا لاجتماع المتنافيين في محلّ واحد؟ فإنّه يقتضي تعدّدا وتكثّرا بحسب نفس الأمر بل الخارج، ولا تكفي الكثرة الاعتباريّة المتحقّقة بعد اعتبار العقل. ثمّ إنّ كلّ جهة اعتباريّة فرضت في الواجب يكون اتّصاف الواجب بها معلولاً لذاته؛ لما هو المشهور من أنّ الاُمور الاعتباريّة أيضا تحتاج إلى علّة، وننقل الكلام إليها فيتسلسل؛ فتأمّل فيه. واعترض بعض الأعاظم (1) على هذا الدليل أيضا بأنّ التنافي بين الوجوب والإمكان فيما نحن فيه ممنوع؛ إذ الإيجاد إيجاب المعلول لوجوده في حدّ ذاته، والقبول إمكان حصول المقبول في القابل، فالإمكان إمكان الوجود لغيره، والوجوب وجوب الوجود في نفسه، فأين التنافي؟ وأيضا الفاعل يوجب وجود المعلول، والقابل لا يسلب هذا الوجوب والإيجاب، بل يصحّح وجوده بالحصول في القابل، فالتنافي غير مسلّم (2) . وأقول: كما أنّ وجود المعلول في نفسه أمر ممكن يحتاج إلى علّة وموجب، كذلك وجود المعلول في غيره أمر ممكن يحتاج إلى موجب، ولا شكّ أنّ القابل من حيث هو قابل لا يوجب وجود المقبول في القابل، فموجب وجوده في غيره أيضا هو الفاعل، فكما أنّه يوجب وجود المعلول في نفسه كذلك يوجب وجوده لغيره وفي غيره، بل الوجود في نفسه ولغيره متّحدان حقيقة، فالتنافي ثابت بيّن. ثمّ لا يخفى على المتأمّل ثبوت التنافي بين الإيجاب واللا إيجاب، والاقتضاء واللا اقتضاء فمنع التنافي مستندا بأنّ الفاعل يوجب المعلول، والقابل لا يسلب هذا


1- .لعلّ مراده صدر المتألّهين حيث ذكره في الحكمة المتعالية.
2- .ذكره صدر المتألّهين في الحكمة المتعالية، ج 8، ص 129 - 130.

ص: 588

الوجوب مكابرة؛ إذ المنافاة غير مختصّ بما بين الشيء ورفعه. على أنّ تحرير الدليل - كما أشرنا إليه - لا يتوقّف على ادّعاء التنافي بين الوجوب والإمكان؛ فإنّ محصّله أنّ فرد الفاعل من حيث إنّه فرد الفاعل مع قطع النظر عن كونه فرد القابل يوجب لوجود المعلول، وفرد القابل من حيث هو كذلك مع قطع النظر عن كونه فرد الفاعل لا يوجبه، فلو كان أمر بسيط فاعلاً وقابلاً لشيء بعينه، لكان موجبا لأمر بعينه غير موجب له أيضا وهذا ضروري الامتناع. وإذا عرفت هذه المقدّمة نقول: لو كان الواجب محلّاً لغيره، لكان ذلك الغير ممكنا معلولاً له، فيلزم أن يكون أمر بسيط فاعلاً وقابلاً لأمر واحد بعينه وهو محال. فإن قلت: مسلّم أنّ جميع ما عدا الواجب ممكن يحتاج إلى علّة أمّا كون كلّ ممكن معلولاً لذات الواجب بلا واسطة فممنوع، فيجوز أن يكون الواجب محلّاً لمعلول معلوله؛ إذ الدليل لا يجري فيه. قلت: قد ثبت في موضعه أنّ نسبة ذات الواجب إلى كلّ ما عداه من الممكنات - سواء كان معلوله، أو معلول معلوله - نسبة الوجوب، وأنّ الواجب موجب لمعلول معلوله أيضا، فيجري الدليل فيه قطعا كما لا يخفى على اُولي النهى. على أنّ الحقّ أنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه ، فهو الفاعل الحقيقي للكلّ؛ فتدبّر، هذا. ثمّ لا يتوهّم أنّه يلزم من امتناع كونه محلّاً لغيره عدم اتّصافه بالصفات مطلقا ونفي الصفات عنه رأسا، بل اللازم من ذلك امتناع اتّصافه بالصفات الحقيقيّة المغايرة لذاته، فلا صفة حقيقيّة له متقرّرة في ذاته، ولا صفة حقيقيّة يلزمها إضافة. وأمّا الصفاتُ الإضافيّة كالمبدئيّة والمبدعيّة والعلّيّة وأمثالها، والسلبيةُ كالقدّوسيّة، والفرديّةُ الاعتباريّة كالوجود والوحدة والشيئيّة وغيرها من الاعتبارات العقليّة، فيصحّ عليه، بل يجب له؛ فإنّها لا تخلّ بوحدانيّة اللّه تعالى. وممّا يجب أن يعلم أنّه لا يجوز أن يلحقه إضافات مختلفة توجب (1) حيثيّات مختلفةً


1- .في النسخة: «يوجب».

ص: 589

الثاني

الثالث

فيتركّب ذاته تعالى، بل له إضافة واحدة تصحّح (1) جميع الإضافات كالمبدئيّة اللازمة للقدرة الناشئة عنها، المصحّحة لباقي الإضافات كالرازقيّة والخالقيّة والمصوّريّة وغيرها. وكذا لا يجوز عليه سلوب مختلفة توجب (2) حيثيّات مختلفة يقتضي ذلك تكثّرا في الذات الأحديّة، بل له سلب واحد، وهو سلب الإمكان اللازم للوجوب الذاتي المنبعث عنه يتبعه جميع السلوب كسلب الجسميّة والمادّيّة والعرضيّة وغيرها. وكذا الحال في الاعتباريّات اللازمة للوجود الخاصّ القائم بذاته المنتزعة عنه. والحقّ أنّ كلّ ذلك شؤون واعتبارات انتزاعيّة عن الذات الواحد الحقيقي. هذا ملخّص ما أفاده الشهرزوري في الشجرة الإلهيّة والعلّامة الشيرازي في شرح حكمة الإشراق (3) ، فافهم. الثاني: ما ذكره بعض الفضلاء (4) وهو: أنّ كلّ ما يمكن أن يكون محلّاً لشيء ومتّصفا به يكون فيه استعداد ذلك الشيء، والمستعدّ للشيء فاقد له معنى يكون ذاته بذاته خاليا عنه بالضرورة، والفاقد للشيء وللأتمّ والاكمل منه لا يتأتّى منه إعطاؤه بالضرورة، فإن كان الأوّل سبحانه موصوفا في حدّ ذاته بحقيقة الصفة، فحقيقتها موجودة بذاته، متّحدة بالواجب تعالى، فكيف يخلقها؟ وإن كان موصوفا بالأتمّ والأكمل، فكيف يتّصف بالناقص المضادّ للكامل (5) . فتأمّل. الثالث: أنّ ما حلّ فيه - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - إن لم يكن كمالاً له يجب نفيه عنه؛ لتنزّهه عمّا لا يكون كمالاً بالضرورة والاتّفاق، وإن كان كمالاً يلزم استكماله تعالى بالغير وهو يوجب النقصان بالذات، أي يلزم أن يكون في مرتبة ذاته ناقصا خاليا عن الكمال، وهو محال بالضرورة.


1- .في النسخة: «يصحّح».
2- .في النسخة: «يوجب».
3- .الشجرة الإلهيّة، ج 3، ص 289 الفنّ الثاني، الفصل الثالث في الأسماء و الصفات؛ شرح حكمة الإشراق، ص 304 في المقالة الاُولى في النور ونور الأنوار وما يصدر منه.
4- .هو الميرزا رفيعا النائيني.
5- .الحاشية على اُصول الكافي، ص 272 - 273.

ص: 590

الرابع ما تفرّد الشارح بتحريره

الخامس

الرابع: ما تفرّدت بتحريره وهو أنّ كلّ ما حلّ فيه لا يخلو إمّا أن يكون معلولاً له تعالى، أم [لا]؛ والأوّل مستلزم لكون الشيء الواحد من جميع الجهات فاعلاً وقابلاً لشيء واحد وقد مرّ آنفا استحالته. والثاني مستلزم لأحد الاُمور الممتنعة من تعدّد الواجب، وخلاف الفرض، والتسلسل، والدور؛ لأنّ ذلك الحالّ إمّا واجب بالذات، أو ممكن معلول. وعلى الثاني فإمّا أن يكون معلولاً لواجب آخر، أو لذلك الواجب الذي هو محلّ له سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة، أو لا ينتهي سلسلة علله إلى واجب أصلاً. والحصر عقلي لا مجال لاحتمال آخر. وعلى الأوّل والثاني يلزم تعدّد الواجب. وعلى الثالث (1) يلزم خلاف المفروض. وعلى الرابع يلزم التسلسل، أو الدور والكلّ محال. الخامس (2) : أنّ ما حلّ فيه إمّا أن يكون حادثا وهو محال لوجهين: أحدهما: أنّ الاتّصاف بالحادث تغيّر، وهو على اللّه تعالى محال؛ لما سيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى. وثانيهما: أنّه لو جاز اتّصافه بالحادث، لجاز النقصان عليه وهو باطل بالضرورة والإجماع. وجه اللزوم أنّ ذلك الحادث إن كان من صفات الكمال الخلوّ عنه مع جواز الاتّصاف به نقصا (3) بالاتّفاق وقد خلا عنه قبل حدوثه. وإن لم يكن من صفات الكمال، امتنع اتّصاف الواجب به للاتّفاق. على أنّ كلّ ما يتّصف هو به يلزم أن يكون صفة كمال. واعترض بأنّا لا نسلّم أنّ الخلوّ عن صفة الكمال نقص، وإنّما يكون لو لم يكن حال الخلوّ متّصفا بكمال يكون زواله شرطا لحدوث هذا الكمال، وذلك بأن يتّصف دائما بنوع


1- .في النسخة: «الثاني».
2- .ذكره التفتازاني.
3- .في شرح المقاصد: «نقصانا».

ص: 591

المسألة الثانية في أنّه تعالى لا يكون متقوّما بغيره

كمال يتعاقب أفراده بغير بداية ونهاية، ويكون حصول كلّ لاحق مشروطا بزوال السابق على ما ذكره الحكماء من حركات الأفلاك، فالخلوّ عن كلّ فرد يكون شرطا لحصول كمال، بل لاستمرار كمالات غير متناهية، فلا يكون نقصا (1) . وأقول: هذا مدفوع من وجهين: أحدهما: أنّ هذا الدليل على طريقة المتكلّمين ومبنيّ على امتناع التسلسل مطلقا، سواء كان على سبيل الاجتماع في الوجود، أو على سبيل التعاقب، وقد مرّ الدلالة على ذلك. وثانيهما: أنّ (2) على هذا يلزم قِدَم نوع الكمال المغاير لذات الواجب، فيلزم القول بتعدّد القديم وهو باطل مطلقا بإجماع الاُمّة. وإمّا (3) أن يكون قديما، فيلزم تعدّد القدماء وهو كفر بإجماع المسلمين. قيل: لا نسلّم أنّ القول بتعدّد القديم مطلقا كفر بالإجماع، بل إنّما يكون الإجماع على كفر من قال بتعدّد القديم الذاتي - أي ما لا يكون مسبوقا بغيره - لا بتعدّد القديم الزماني، أي ما لا يكون مسبوقا بالعدم. وذلك كما ترى؛ فتأمّل فيه. المسألة الثانية أنّه تعالى لا يكون متقوّما بغيره، وقد مرّ الدلالة على نفي تركيبه تعالى ببعض الوجوه، وقد استدلّ عليه بوجه آخر، وقيل: اعلم أنّ الجزء إمّا فعلي تركيبي، أو معنوي ذهني، أو تحليلي وهمي، والواجب - تعالى شأنه - منزّه عن جميع أنواعه. أمّا أنّه منزّه عن الأجزاء التحليليّة الوهميّة، فلأنّ الواجب - على ما مرّ - ليس بجسم ولا جسماني، والأجزاء التحليليّة الوهميّة الوضعيّة مختصّة بالجسم والجسمانيات. وأمّا كونه متنزّها عن الأجزاء المعنويّة الذهنيّة، فلأنّه عبارة عن الأجزاء المحمولة، وهي متغايرة في المفهوم، متّحدة بحسب الوجود، فيحتاج اتّحادهما في الوجود إلى علّة؛ ضرورة


1- .شرح المقاصد، ج 2، ص 71.
2- .كذا.
3- .عطف على قوله في ابتداء الوجه الخامس: «إمّا أن يكون حادثا».

ص: 592

أنّ كلّ أمر يغاير أمرا آخر فاتّحاده معه واتّصافه به، أو كونه هو يحتاج إلى العلّة؛ فإنّ توسّط الجعل بين الشيء ونفسه ممتنع بالذات. وأمّا كونه شيئا آخر، فيحتاج إلى علّة بالضرورة كما مرّ مرارا، فالواجب لو تركّب من الأجزاء المحمولة، لكان معلولاً - تعالى عن ذلك - ؛ لأنّ وجوده عين وجود الأجزاء. والحاصل أنّ كلّ واحد من الأجزاء المحمولة عرضي للآخر، والعرضي مجعول معلول بالضرورة والاتّفاق، وإذا كان اتّحاد الأجزاء بعضها مع بعض معلولاً، لكان الواجب أيضا معلولاً، فيكون ممكنا، هذا خلف. واُورد عليه بأنّه لا يلزم من معلوليّة الاتّحاد معلوليّة الواجب؛ إذ الاتّحاد نسبة، والنسبة متأخّرة عن الطرفين، خارجة عنهما. واُجيب عنه بأنّه لا أعني بالاتّحاد هذا المعنى النسبي، بل المراد به الوحدة التي بينها في نفس الأمر. وردّ بأنّه يجوز كون (1) ذلك الوجود من حيث تعلّقه بالجزء معلولاً محتاجا إلى الفاعل وإن لم يكن من حيث تعلّقه بالكلّ - وهو الواجب - معلولاً ولا محتاجا أصلاً. والجواب عنه أنّه لا يخفى على اُولي النهى أنّه لا معنى لمعلوليّة الوحدة والاتّحاد إلّا كون الوجود الواحد المتعلّق بالأجزاء أثرا للفاعل؛ وذلك الوجود بعينه وجود الكلّ، فيكون الكلّ أيضا أثرا للفاعل حقيقة. على أنّ إمكان الاتّحاد مستلزم لإمكان الواجب؛ لما لا يخفى على المتفطّن، هذا. واستدلّ المحقّق الدواني قدس سره على نفي تلك الأجزاء بما ملخّصه: أنّه إن كان كلّ من الجزءين عين وجوده، لم يصحّ حمل أحد الجزءين على الآخر؛ لتغاير وجودهما، ولا على الكلّ أيضا؛ لذلك. وإن كان أحدهما فقط عين وجوده، كان هو الواجب، فلا تركيب فيه. وإن كان كلاهما غير الوجود، كان الواجب ممكنا.


1- .في النسخة: «أنّ».

ص: 593

تفريع

ويمكن أن تجعل المحذور في جميع الشقوق امتناع الحمل الذاتي كما لا يخفى على الفطن. انتهى. قيل: الأولى أن يقال: إنّ الأجزاء المعنويّة المحمولة إمّا مأخوذة عن الأجزاء الخارجيّة ويلزم من نفي التركيب الخارجي - كما سيجيء - نفيها، وإمّا غير مأخوذة عنها بل يكون الكلّ بسيطا في الخارج، وحينئذٍ لا يتعلّق بنفيها عن الواجب غرض يعتدّ به؛ إذ مثل تلك الأجزاء - كما حقّق في موضعه - إنّما يؤخذ حقيقة من لوازم ذلك البسيط الخارجي، ولا مانع من أن يكون للواجب البسيط في الخارج لوازم كذلك على ما لا يخفى. وأمّا أنّه تعالى منزّه عن الأجزاء التركيبيّة الخارجيّة، فلوجهين: أحدهما: أنّ الأجزاء الخارجيّة - على ما هو المشهور المقرّر عند الجمهور - مقدّمة على الكلّ بحسب الوجود في الخارج، والكلّ في الوجود محتاج إليها، وتحقّق تلك الأجزاء في الواجب بالذات مستلزم لإمكانه وكون غيره مقدّما عليه بحسب الوجود الخارجي، والواجب يجب أن يكون مقدّما على كلّ ما عداه وجودا. وثانيهماّ : أنّه لو كان للواجب أجزاء موجودة تركّب منها الواجب، فتلك الأجزاء إمّا واجبة، أو ممكنة، أو بعضها كواحد منها واجب، وبعض آخر ممكن. فعلى الأوّل - وهو أن يكون كلّها واجبة - لزم تعدّد الواجب وبرهان التوحيد ينفيه. وعلى الثاني - وهو أن يكون كلّها ممكنة - لم يكن المجموع واجبا؛ إذ الكلّ ليس إلّا جميع الأجزاء، وأيضا يمتنع تقدّم الكلّ على الجزء بالذات، فيمتنع أن يكون جزء الواجب ممكنا؛ لأنّ الواجب واحد مقدّم على كلّ ممكن بالذات. وبهذا يظهر بطلان الثالث أنّه على هذا التقدير يكون الجزء الواجب هو المبدأ الأوّل، والجزء الممكن في سلسلة الممكنات، ومجموع الواجب والممكن يمتنع أن يكون مقدّما بالذات على شيء من أجزائه. تفريع إذا ثبت أن لا جزء للواجب تعالى في الأعيان ولا في الأذهان، ظهر أنّ لا جنس له ولا

ص: 594

المسألة الثالثة في أنّه تعالى لا يكون حالاًّ في غيره

فصل، فلا حدّ له؛ لأنّ المحدود يجب أن يكون مركّبا من جنس وفصل، ولمّا كان الواجب لذاته منفصل الحقيقة عمّا عداه، فلا يكون له لازم يوصل تصوّره العقل إلى حقيقته، فلا وصول للعقول إلى حقيقته من هذا الطريق، فلا تعريف له يقوم مقام الحدّ فاعرفه. المسألة الثالثة أنّه تعالى لا يكون حالّاً في غيره، فلا يكون عرضا ولا صورة، وذهب بعضُ المتصوّفة إلى أنّه تعالى يحلّ في العارفين، وبعضُ النصارى إلى حلوله في عيسى عليه السلام كما سيجيء نقله مفصّلاً. قال بعض الأفاضل: المشهور عند الجمهور في الاستدلال على أنّه تعالى ليس بحالّ أنّ كلّ حالّ يحتاج في وجوده، أو تشخّصه إلى المحلّ ضرورة، والاحتياج في الوجود، أو التشخّص ينافي الوجوب الذاتي. وقد يمنع بداهة احتياج كلّ حالّ إلى المحلّ في الوجود، أو التشخّص. فإن قيل: المشهور المقرّر عند الجمهور أنّ ثبوت شيء لشيء فرع لوجود المثبت، فيكون وجود كلّ حالّ متأخّرا عن وجود محلّه بالذات، محتاجا إليه. قلنا: في المشهور قصور؛ فإنّ الفرعيّة غير مسلّمة، والاستلزام غير نافع. فالأولى أن يستدلّ عليه بما يستفاد من كلام بعض الأعاظم، وتقريره يستدعي تمهيد مقدّمات: الاُولى: أنّ الجهة التي تكون (1) جهة لاتّصاف الذات بحالة، أو صفة، وبها يثبت للذات حالةٌ قسمان: الأوّل: أن يكون شريكة للذات في الاتّصاف حتّى تكون تلك الصفة والحالة ثابتة للذات مع تلك الجهة، فيكون الموصوف تلك الذات والجهة معا.


1- .في النسخة: «يكون».

ص: 595

الثاني: أن تكون تلك الجهة موجبةً ومنشأ لاتّصاف الذات وحدها بتلك الصفة، فيكون الموصوف نفس الذات فقط، والجهة علّة وموجبة، ولم يكن موصوفه. والأوّل يسمّى بالحيثيّة التقييديّة والثاني بالتعليليّة. ثمّ إنّ خصوصيّة بعض الصفات في الموصوف بالحيثيّة التقييديّة قد تكون (1) مستلزمة لاتّصاف نفس الموصوف فقط بهذه الصفة أيضا، وذلك كالحلول في شيء والمقارنة له، فإنّ اتّصاف المقيّد مع القيد بالحلول والمقارنة لا يتصوّر إلّا باتّصاف كلّ من المقيّد والقيد بهما أيضا بالضرورة، فنفس ذات الحال ولو مع ألف قيد مقارن أيضا لذات محلّه. الثانية: نسبةُ ذات الواجب إلى كلّ ما عداه من الممكنات نسبةُ الوجوب، وذلك إذا كان الممكن معلولاً له بانفراده بلا مشاركة غير ومدخليّته ظاهر لا يخفى. وأمّا إذا لم يكن معلولاً له بالانفراد، بل يكون له علّة اُخرى، أو يكون أمر آخر بمشاركة الواجب علّة له، فلأنّ كلّ ما يفرض أن يكون علّة لهذا الممكن، أو له شركة في علّيّته؛ لإمكانه وانحصار الواجب في واحد، يجب أن يكون معلولاً لذات الواجب أيضا ولو بالواسطة، فهذا الممكن أيضا وجب بإيجابه حقيقة؛ لأنّه موجب لموجبه بالاستقلال، فهو الموجب لكلّ ما عداه مطلقا، وتحقّق الواسطة بينهما لا ينافي ذلك. نعم، لو جاز أن يكون علّة وجود ممكن، أو شريك علّته أمرا لا ينتهي إلى الواجب لا يكون نسبة الواجب إليه نسبة الوجوب لكن ذلك ممتنع؛ لأنّ كلّ ما سواه - وإن فرض أنّه صفة له - مستند إليه كما لا يخفى. الثالثة: لا يجوز أن يكون أمر واحد بعينه إذا نسب إلى أمر آخر بعينه من غير اختلاف وتغيير فيهما موجبا له غير موجب أيضا؛ فإنّ ذلك بيّن البطلان بديهيّ الامتناع. الرابعة: المقارن من حيث إنّه مقارن لا يوجب وجود المقارن الآخر؛ فإنّ نسبة المقارنة والحلول غير نسبة العلّيّة والإيجاد والإيجاب، وذلك ظاهر.


1- .في النسخة: «يكون».

ص: 596

المسألة الرابعة في أنّه تعالى لا يكون جزءً لغيره من المركّبات الغير الاعتبارية

وبعد تمهيد المقدّمات نقول: لا يجوز أن يكون الواجب حالّاً في أمر مقارنا له، وإلّا لكان حالّاً في ممكن، وقد مرّ أنّ الواجب بالذات موجب لجميع الممكنات، فلو حلّ في ممكن وقارنه، يتعيّن (1) نسبته إليه؛ فإنّه من حيث إنّه مقارن له لا يوجبه، فيلزم أن يكون أمر بعينه - وهو الواجب - موجبا لمحلّه غير موجب له تعيّنه معا، هذا خلف. ولا يخفى على المتأمّل في المقدّمات السالفة أنّ انضمام الاُمور المتعدّدة إلى الواجب ليختلف الحيثيّة لا يقدح فيما ذكرناه؛ فتأمّل. فإن قيل: على ما ذكرت يلزم أن لا يكون الواجب الحقّ عالما لمعلوماته أصلاً، وإلّا يلزم تعيّن (2) نسبته إليها. قلت: كونه عالما بها لازم من لوازم كونه فاعلاً موجدا لها على ما حقّق في موضعه، فلا يلزم تعيّن (3) النسبة أصلاً؛ فافهم. اعلم أنّ هذا الدليل كما يدلّ على عدم حلوله في غيره حلولَ العرض في موضوعه، وحلول الصورة في مادّته يدلّ على عدم حلوله فيه أيضا حلول الجسم في المكان، ومن هذا القبيل حلول امتزاج كحلول الماء في الورد، فإنّ ذلك من خواصّ الأجسام، ومفضٍ إلى الانقسام، وعائد إلى حلول الجسم في المكان. ثمّ اعلم أنّ أنّه 4 كما يستحيل حلول ذاته تعالى في غيره يستحيل حلول صفاته الحقيقيّة أيضا فيه؛ لأنّها عين الذات على التحقيق. وأمّا على رأي من قال بزيادتها فلاستحالة انتقال الصفة كما ثبت في موضعه؛ فتأمّل. المسألة الرابعة أنّه تعالى لا يكون جزءً لغيره من المركّبات الغير الاعتباريّة، فإنّ المركّب الاعتباري ليس بمركّب حقيقة، بل إنّما يكون تركيبه بمحض اعتبار العقل بأن يكون هناك عدّة اُمور


1- .في النسخة: «يتفنّن».
2- .في النسخة: «تفنّن».
3- .كذا.

ص: 597

يعتبرها العقل أمرا واحدا وإن لم تكن (1) واحدا في الحقيقة كالعسكر، ولا ضير في كونه تعالى جزءً من هذا المركّب كالمركّب من الواجب والممكن الذي اعتبره العقل. وقد سنح لي دليل على ذلك المطلوب وهو أنّه لو كان الواجب جزءً لغيره من المركّب الغير الاعتباري، فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك الغير واجبا، أو ممكنا. لا سبيل إلى الأوّل؛ لامتناع تعدّد الواجب، ولاستحالة تركّبه؛ لما مرّ. ولا سبيل إلى الثاني؛ لأنّه حينئذٍ إمّا أن يكون جزءً مقداريا - أي وهميا تحليليا - ، أو جزءً عقليا، أو جزءً خارجيا، والكلّ باطل. أمّا الأوّل، فلأنّ الجزء المقداري لا يكون إلّا جسما أو جسمانيا، وقد مرّت الدلالة على أنّه تعالى مجرّد ليس بجسم ولا جسماني. وأمّا الثاني، فلأنّ الجزء العقلي مهيّة كلّيّة وهي ممكنة غير واجبة؛ لأنّ تشخّص الواجب عين ذاته، فلا يمكن أن يكون جزءً عقليا. وأيضا بناءً على مذهب المنكرين لوجود الكلّي الطبيعي في الخارج يلزم أن لا يكون الواجب بالذات موجودا في الخارج وهو محال، وعلى مذهب القائلين بأنّه موجود بوجود الكلّ واتحادهما في الوجود يلزم أن يكون الواجب موجودا بوجود غيره ومتّحدا مع غيره في الوجود، فيلزم أن يكون شيئا موجودا بوجود زائد على ذاته - كما هو شأن الأجزاء العقليّة - لا موجودا بحتا ووجودا بحتا، فيلزم أن لا يكون الواجب بالذات، واجبا بالذات ، بل ممكنا هذا خلف. وأيضا يلزم امتناع الحمل الذاتي؛ لامتناع حمل الجزء الواجب - الذي هو عين الوجود - على الجزء الآخر الذي ليس عين الوجود، بناءً على وحدته تعالى، بل موجود بوجود زائد على ذاته، وعلى الكلّ الذي هو أيضا كذلك؛ لتغاير وجوديهما كما مرّ من المحقّق الدواني (2) . وأمّا الثالث فلوجوه: الأوّل: لأنّ الواجب تعالى علّة فاعليّة لجميع الموجودات الممكنة إمّا بلا واسطة فاعل


1- .في النسخة: «لم يكن».
2- .مرّ في ص 578.

ص: 598

حقيقي آخر - كما ذهب إليه القائلون بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه تعالى - أو أعمّ من أن يكون بلا واسطة، أو بالواسطة كما ذهب إليه الآخرون، ونسبة الفاعل من حيث إنّه فاعل إلى معلوله نسبة الإيجاب والإيجاد وإفاضة الوجود، وليس نسبة شيء من أجزاء المركّب إليه من حيث إنّه جزء نسبةَ الإيجاب والإيجاد؛ لأنّ الجزء من حيث إنّه جزء غير موجد الكلّ، فلو كان الواجب جزءً لمركّب حقيقي، يلزم أن يكون موجبا وموجدا له، وغير موجب وغير موجد له، فيلزم تعيّن (1) نسبته إليه، وذلك في الواجب محال؛ لأنّه واحد من جميع الجهات، ويستحيل اتّصاف أمر واحد من جهة واحدة بالمتنافيين. فإن قلت: على هذا يلزم أن لا يكون الواجب علّة غائيّة لمعلوله بعين ما ذكرت، وذلك منافٍ لتصريحاتهم من أنّه تعالى غاية الغايات. قلنا: معنى قولهم هذا أنّ ذاته بذاته كافٍ في فاعليّته، ولا يحتاج فيها إلى أمر خارج عن ذاته، فذلك بالحقيقة يرجع إلى نفي العلّة الغائيّة عن فعله تعالى. وتحقيق ذلك أنّ العلّة الغائيّة لفعله إنّما هو علمه الذي عين ذاته، فليس هاهنا صفتان متنافيتان ليلزم تكثّر الجهات فيه تعالى بخلاف ما إذا كان جزء المركّب؛ فتأمّل. والثاني: لأنّ الواجب كما مرّ فاعل لجميع ما عداه، وقد عرّفوا الفاعل بما يحتاج إليه الشيء الخارج عنه كما صرّح به الشارح الجديد للتجريد، فلا يجوز أن يكون جزء الشيء، وإلّا يلزم أن يكون خارجا عنه داخلاً فيه معا، هذا خلف، فتأمّل فيه (2) . والثالث: لأنّ الجزء الخارجي في المركّب الحقيقي المعروض للوحدة الحقيقيّة - سواء كان التركيب طبيعيا وخلقيا أو صناعيا - لا يخلو إمّا (3) أن يكون علّة مادّيّة، وهي ما يكون الشيء به بالفعل، والعلّة المادّيّة محلّ للصوريّة، والصوريّة حالّ فيه فيما عدا المركّب من


1- .في النسخة: «تفنّن».
2- .في النسخة: «عنه».
3- .لم يذكر عِدْل «إمّا».

ص: 599

البدن والنفس المجرّدة، وقد مرّت الدلالة على أنّه تعالى لا يكون محلّاً لشيء ولا حالّاً فيه.وأمّا المركّب من البدن والنفس المجرّدة المتعلّقة به فقد مرّ الدليل على أنّه تعالى ليس بجسم، وسيجيء الدلالة على أنّه لا يكون نفسا لجرم من الأجرام، فلا يكون جزءً خارجيا لمركّب حقيقي أصلاً؛ فتأمّل فيه. ويمكن تقريره بوجه آخر بأن يقال: الجزء الخارجي إمّا مادّة أو صورة أو موضوع أو عرض أو بدن أو نفس بحكم الاستقراء. واحتمال جزء المجرّد كجزء العقل، أو النفس لا يضرّنا؛ لأنّ الكلام هاهنا في المركّب المتحقّق الوقوع لا فيما لا يكون تركيبه معلوما، والكلّ باطل؛ لأنّ كلّ ذلك متغيّر وتحت متصرّف يغيّره على التغليب (ظ)، وكلّ ما هو كذلك ممكن غير واجب كما مرّ. ولأنّ هذه الاُمور بعضها جوهر وبعضها عرض، والواجب لا يكون جوهرا ولا عرضا؛ فتأمّل. ولأنّ المادّة والموضوع محلّ، والصورة والعرض حالّ وقد عرفت أنّ الواجب لا يمكن أن يكون محلّاً ولا حالّاً، وكلّ من المادّة والصورة والبدن جسماني وقد عرفت أنّه تعالى مجرّد ليس بجسماني، وكلّ من المادّة والصورة والعرض والبدن في تقوّمه ووجوده، أو في تشخّصه، أو في حياته محتاج إلى غيره، وما هو كذلك ليس بواجب بالذات، بل ممكن، وكلّ ما يكون نفسا لجرم من الأجرام ممكن، فهي ليست بواجبة. واستدلّ عليه بعد تمهيد مقدّمتين: المقدّمة الاُولى: أنّ نسبة النفس إلى بدنها ليست نسبة العلّة إلى معلولها، وإلّا لكان كلّ علّة نفسا لمعلولها، وذلك الواضح البطلان، بل بين النفس والبدن تعلّق وارتباط خاصّ موجب لتأثّر كلّ منهما عن صاحبه، بل موجب لأن يحصل منهما واحد طبيعي، وأن يكون شعورها

ص: 600

بنفسها وبدنها شعورا واحدا يتألّف من الإدراكين واحد (1) على ما صرّح به بهمنيار؛ ولهذا ينسب كلّ من الأفعال الصادرة من ذاتها وبدنها إلى نفسها، فنقول: أدركت وقعدت، وظاهر بيّن أنّ كلّ واحد من تلك الاُمور التي ذكرنا لا يمكن أن يتحقّق بين العلّة ومعلولها، بل نقول: إنّ النفس كالقوّة الجسمانيّة في التأثير لا يحصل أثره إلّا في موضوع بعد أن يكون لذلك الموضوع وضع، فلا يظهر أثر نفس في مجرّد ولا في جسماني بمادّته وصورته، فلا يكون علّة موجدة لبدنها. نعم، البدن موضوع تصرّفات النفس، ويجوز أن يكون القوى الحاصلة فيه من معلولاتها لا البدن بأجزائه، فثبت أنّ تعلّق النفس بالبدن ليس تعلّق العلّيّة والمعلوليّة ونسبتهما بل نسبة اُخرى مغايرة ومباينة لها. المقدّمة الثانية: قد مرّ أنّ للواجب بالذات نسبةً واحدة، وإضافة خاصّة إلى جميع الممكنات، هي نسبة العلّيّة والإيجاب والاستتباع، ولا يمكن أن يكون له نسبة وإضافة اُخرى إليها لا يكون تلك النسبة مستلزمة لها ومتضمّنة إيّاها على ما نقل عن العلّامة الشيرازي والمحقّق الشهرزوري (2) فإنّ ما عدا تلك النسبة من النسب الإمكانيّة، والواجب لبساطته لا يمكن أن يكون له إلى أمر واحد نسبتان متباينتان متنافيتان، وذلك ظاهر. وبعد ذلك نقول: لو كان الواجب تعالى شأنه نفسا لجسم من الأجسام - وقد مرّ أنّ تعلّق النفس إلى البدن نسبة مباينة بل منافية لنسبة العلّة إلى المعلول - يلزم أن يكون لذاته


1- .في هامش النسخة: قال صاحب الإشراق: «بين النفس والبدن علاقة ، وليس علاقتها به علاقة جرم بمثله، ولا عرض بمحلّه؛ لكونها مجرّدة، ولا تعلّق العلّة والمعلول، فلا يوجدها البدن؛ لأنّ تأثيره يختصّ بلا مناسبة وضعا، وليست علّته ، وإلّا امتازت دونه ، فهي علاقة شوقيّة بمناسبة بينها وبين البدن، فاقتضت العلاقة الشوقيّة أن يفيض من النفس على البدن ما يمكنه قبوله من القوى البدنيّة التي [هي] نظائر الكمالات النفسيّة والاعتبارات العقليّة». انتهى (منه عفي عنه).
2- .الشجرة الإلهيّة، ج 3، ص 289، الفنّ الثاني، الفصل الثالث في الأسماء والصفات. وتقدّم نقله عنه في ص 423.

ص: 601

المسألة الخامسة في أنّه تعالى لا يكون متّحدا مع غيره

البسيطة إلى ذلك الجسم بعينه الذي هو بدنه تعالى عن ذلك نسبتان متباينتان متنافيتان. أحدهما النسبة التعلّقيّة التي من النسب الإمكانيّة، وثانيهما النسبة والإضافة التي بين العلّة ومعلولها المنافية للنسبة الإمكانيّة، وهذا محال. قال العلّامة شارح الإشراق: وممّا يجب أن تعلمه أنّه لا يجوز أن يلحق (1) للواجب إضافات مختلفة توجب اختلافات حيثيات فيه، بل له إضافة واحدة هي المبدئيّة تصحّح (2) جميع الإضافات كالرازقيّة والمصوّريّة وغيرهما (3) . فظهر أنّ الواجب تعالى يمتنع أن يكون نفسا لجسم، وإلّا لكان له إضافة اُخرى غير إضافة العلّيّة والمبدئيّة منافية لها وهو مستلزم لتركّبه، تعالى عن ذلك؛ فتدبّر. المسألة الخامسة أنّه تعالى لا يكون متّحدا مع غيره كما ذهب إليه بعض النصارى حيث قال بإيجاده تعالى مع المسيح، كما يفهم من ظاهر كلام بعض المتصوّفة حيث قال: إذا انتهى العارف نهاية مراتب العرفان، انتفى هويّته فصار الموجود هو اللّه تعالى وحده، وهذه المرتبة هي الفناء في التوحيد، وذلك لأنّه لا شكّ في أنّ اتّحاد الاثنين بوجه يستلزم انعدامها وحصول ثالث، أو انعدام أحدهما وبقاء الآخر ليس باتّحاد الاثنين، فاتحاد الاثنين غير متصوّر مطلقا سيّما في الواجب، فهو بديهيّ البطلان. وأقول: يمكن بيان استحالته بوجه آخر وهو أنّه إذا صار الواجب متّحدا مع غيره فذلك الغير ممكن؛ لما ثبت من توحيده تعالى، وحينئذٍ لا يخلو إمّا أن يصير ذلك الممكن المتّحد معه واجبا لذاته، وهو محال؛ لاستحالة الانقلاب من الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي، أو بقى على إمكانه، وحينئذٍ إمّا أن يصير الواجب ممكنا أو مركّبا من الواجب والممكن، وكلاهما محال؛ فتدبّر.


1- .في المصدر: «تلحق».
2- .في النسخة: «يصحّح».
3- .شرح حكمة الإشراق، ص 304 في القسم الثاني في الأنوار الإلهيّة في المقالة الاُولى.

ص: 602

والاتّحاد بالمعنى المختصّ بالجسمانيات كالاتّصال وما في معناه لا يجري في الواجب؛ لما ثبت من تجرّده وتنزّهه عن لوازم الأجسام، وإن اُريد به معنىً آخر، فلا يمكن إثباته ولا نفيه إلّا بعد تصويره. وقال صاحب المطارحات بعد نفي الاتّحاد: بلى لا مانع عن أمرٍ أقُولُه وهو أنّ النفس وإن لم تكن في البدن لكن لمّا كان بينهما وبين البدن علاقةٌ شديدةٌ أشارت إلى البدن ب- «أنا» حتّى أنّ أكثر النفوس نسيت أنفسَها وظنّت أنّ هويّاتها هي البدن، كذلك (1) لا مانع من أن يحصل للنفس مع الباري (2) علاقةٌ شوقيّةٌ نوريّةٌ لاهوتيّةٌ يحكم عليها شعاعٌ قيّوميٌ طامسٌ يمحو عنها الالتفات إلى شيء بحيث تشير إلى مبدئها ب- «أنا» إشارةً روحانيّة، فيستغرق الإنّيات [في النور الأقهر الغير المتناهي] (3) انتهى. وأقول: هذا معنى قول المحقّقين من الصوفيّة: إنّ السالك إذا انتهى سلوكه إلى اللّه تعالى وفي اللّه ، استغرق (4) في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته، ويغيب عن كلّ ما سواه، ولا يرى في الوجود إلّا اللّه . وهذا الذي يسمّونه الفناء في التوحيد، وإليه يشير الحديث القدسي: أنّ العبد لا يزال يتقرّب إليّ حتّى [اُحبّه فإذا] أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر (5) . وحينئذٍ ربّما يصدر عنه عبارات تشعر بالحلول والاتّحاد؛ لقصور العبارة عن تلك الحال، وتعذّرِ الكشف عنها بالمقال، وليس ذلك منهما في شيء أصلاً، ونحن على ساحل التمنّي نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان،


1- .في المصدر: «فكذلك».
2- .في المصدر: «المبادئ».
3- .كتاب المشارع والمطارحات، في المشرع السابع (مجموعه مصنّفات شيخ اشراق)، ج 2، ص 501 - 502 وما بين المعقوفين منه.
4- .في شرح المقاصد: «يستغرق».
5- .تقدّم تخريجه في ص

ص: 603

تذنيب

ونعترف بأنّ طريق الفناء فيه العيان دون البرهان؛ واللّه الموفِّق والمستعان (1) . تذنيب (2) الاحتمالات التي تذهب إليها (3) أوهام المخالفين في الحلول والاتّحاد ثمانية: حلول ذات الواجب، أو حلول صفته في بدن الإنسان، أو روحه، وكذا الاتّحاد. والمخالفون منهم نصارى، ومنهم منتمون إلى الإسلام. أمّا النصارى فقد ذهبوا إلى أنّ اللّه تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم، هي: الوجود والعلم والحياة، المعبّر عنها عندهم بالأب والابن وروح القدس على ما يقولون أبًا ابنًا روحًا قدسًا ويعنون بالجوهر القائمَ بنفسه، وبالاُقنوم الصفةَ، وجعل الواحد ثلاثة جهالة، أو ميل إلى أنّ الصفات نفس (4) الذات، لكنّه لا يستقيم ذلك مع سائر كلماتهم (5) ، واقتصارهم على العلم والحياة دون القدرة وغيرها جهالة اُخرى، وكأنّهم يجعلون القدرة راجعة إلى الحياة، والسمع والبصر إلى العلم. ثمّ قالوا: إنّ الكلمة - وهي اُقنوم العلم - اتّحدت بجسد المسيح، وتدرّعت بناسوته بطريق الامتزاج كالخمر بالماء عند الملكائيّة، وبطريق الإشراق كما يشرق الشمس من كوّة على بلّور عند النسطوريّة، وبطريق الانقلاب لحما ودما بحيث صار الإله هو المسيح عند اليعقوبيّة. ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت كما يظهر الملك في صورة البشر.


1- .من قوله: «إنّ السالك إذا انتهى...» إلى هنا أخذه من شرح المقاصد، ج 2، ص 70.
2- .هذا التذنيب أخذه من شرح المقاصد، ج 2، ص 69 - 70، إلى أواخر التذنيب عند قوله : «لا بطريق الانقسام». واقتبسه المجلسي رحمه الله في مرآة العقول، ج 1، ص 282 - 284 من هذا الشرح.
3- .المثبت من شرح المقاصد وهو الصواب، و في النسخة: «إليه».
4- .في المرآة: «عين».
5- .قوله: «لكنّه لا يستقيم... سائر كلماتهم» استدراك من المؤلّف.

ص: 604

وقيل: تركّب (1) اللاهوت والناسوت كالنفس مع البدن. وقيل: إنّ الكلمة قد تداخل الجسد، فيصدر عنه خوارق العادات، وقد يفارقه فيحلّه (2) الآلام والآفات إلى غير ذلك من الهذيانات. وأمّا المنتمون إلى الإسلام، فمنهم الغلاة (3) القائلون بأنّه لا يمتنع ظهور الروحاني بالجسماني كجبرئيل في صورة دحية الكلبي، وكبعض الجنّ والشياطين في صورة الأناسي، فلا يبعد أن يظهر اللّه تعالى في صورة بعض الكاملين، وأولى الناس بذلك عليّ عليه السلام وأولاده المخصوصون الذين هم خير البريّة والعَلَم في الكمالات (4) العلميّة والعمليّة؛ فلهذا كان يصدر عنهم العلوم (5) والأعمال ما هو فوق الطاقة البشريّة. ومنهم بعض المتصوّفة القائلون بأنّ السالك إذا أمعن في السلوك، وخاض لجّة الوصول فربّما يحلّ اللّه - تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا - فيه كالنار في الجمر بحيث لا تمايز، أو يتّحد به بحيث لا اثنينيّة ولا تغاير، وصحّ أن يقول: «هو أنا، وأنا هو» وحينئذٍ يرتفع الأمر والنهي، ويظهر من الغرائب والعجائب ما لا يتصوّر من البشر. وقد مرّ بيان فساد الرأيين، هذا. ثمّ المفهوم من ظاهر كلام بعض المتصوّفة وهو أنّ الواجب هو الموجود المطلق وهو واحد لا كثرة فيه أصلاً، وإنّما الكثرة في الإضافات والتعيّنات التي هي بمنزلة الخيال والسراب؛ إذ الكلّ في الحقيقة [واحد] (6) يتكرّر على المظاهر لا بطريق المخالطة، ويتكثّر في النواظر لا بطريق الانقسام، فأمره دائر بين القول بإتّحاد (7) جميع الموجودات مع الواجب


1- .في المرآة: «تركّبت» .
2- .في المرآة: «تفارقه فتحلّه».
3- .في شرح المقاصد: «بعض غلاة الشيعة» . وفى المرآة: «بعض الغلاة».
4- .في المرآة: «في العلم و الكمالات».
5- .في شرح المقاصد: «في العلوم». وفي المرآة: «من العلوم».
6- .من شرح المقاصد والمرآة.
7- .المثبت من المرآة، وفي النسخة: «بإيجاد».

ص: 605

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد البرقيّ ، عن أبيه ، عن النضر بن سُوَيْدٍ ، عن يحيى الحلبيّ ، عن ابن مُسكان ، عن زرارةَ بن أعْيَنَ ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«إنَّ اللّه خِلْوٌ من خَلْقِه وخَلْقُه خِلْوٌ منه ، وكلُّ ما وقع عليه اسم شيء ما خلا اللّهَ فهو مخلوقٌ ، واللّه خالق كلِّ شيء ، تباركَ الذي ليس كمِثْله شيءٌ .........

تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - (1) والقول بعدم تحقّق موجود آخر غير الواجب في الواقع، وكلّ منهما سفسطة تحكم بديهةُ العقل ببطلانه، وضرورةُ الدين بفساده وطغيانه، فهو خارج عن طريق العقل والشرع. قوله عليه السلام : (واللّه خالق كلّ شيء) أقول: الظاهر المتبادر من العبارة أنّه خالق كلّ شيء ابتداءً لا الأعمّ من أن يكون خالقا بغير واسطة أو بالواسطة وإن كان ذلك أيضا محتملاً من العبارة احتمالاً بعيدا. وقوله عليه السلام : (تبارك الذي ليس كمثله شيء) أي تقدّس وتنزّه الذي ليس شيء مثله، فالكاف زائدة، والبطلة (2) يقولون: الكاف ليست زائدة والمعنى كما أنّه ليس مثله موجودا ليس شيء غيره موجودا، فيعطون «ليس» حكم «كان» التامّة، أو يقدّرون الخبر. قيل: هذا القول منه عليه السلام هنا بيان لحسن التجوّز في الإطلاق بأنّه خالق كلّ شيء مع أنّه ليس خالقا لنفسه وهو «شيء»، وهذا الإطلاق وقع في القرآن أيضا، أي ليس يقاس تعالى بغيره، فهو مستثنى استثناءً ظاهرا وإن لم يذكر الاستثناء. ونظير هذا ما رواه ابن بابويه في معاني الأخبار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال في جواب من سأله عن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ» وقال: فأين رسول اللّه وأمير المؤمنين والحسن والحسين؟ [قال]: «إنّا أهل بيت لا يقاس بنا أحد (3) » انتهى. وأقول: الظاهر أنّ هذا القول بيان لكونه تعالى خالقا لجميع المخلوقات ابتداءً كما هو المتبادر من العبارة؛ لأنّه لو لم يكن كذلك، لكان غيره خالقا لشيء، فيكون له مثل في


1- .في المرآة: «أو».
2- .مقلوب الطلبة.
3- .معاني الأخبار، ص 179، ح 2.

ص: 606

الخالقيّة والإيجاد، بل الإلهيّة لخلقه أيضا، وليس له مثل أصلاً لا في ذاته، ولا في صفاته مطلقا كما سيجيء. اعلم أنّ الخالق في صفاته تعالى عند التحقيق عبارة عن الفاعل الحقيقي. وأمّا الفاعل المطلق وفي الجملة، فهو (1) ما يطلق عليه لفظ الفاعل بحسب اللغة والعرف العامّ هو أعمّ من الموجد والقابل والشرط والآلة والمعدّ؛ فإنّه يقال: الواجب فاعل للفلك، ويقال: الحجر فاعل لحركته، فإنّه يطلق فاعل الحركة على المتحرّك المتّصف بها القابل لها، ويقال: النار فاعل لسخونة الماء، مع أنّ مجاورتها شرط لإيجاد الفاعل الحقيقي للسخونة فيه، ويقال: السيف قاطع وفاعل للقطع، مع أنّه آلة له، ويقال: البنّاء، مع أنّه علّة معدّة له في الحقيقة. وبالجملة قد يطلق الفاعل على أكثر العلل والأسباب. وأمّا الفاعل الحقيقي عند أهل العلم إنّما هو الموجب الموجد للشيء حقيقة، وذلك عند التحقيق منحصر في الواجب تعالى عند جميعهم. أمّا بناءً على المذهب الحقّ - وهو أن يكون موجوديّة الممكنات بالانتساب إلى حضرة الوجود وعدم اتّصافها به - فنقول: قد ثبت في موضعه أنّ الواجب - هو الوجود الحقيقي والموجود في حدّ ذاته وغيره - ليس في نفسه موجودا، وإنّما هو موجود باعتبار ارتباطه به، وأنّ التأثير والإيجاد حقيقة إنّما هو إفادة الفاعل نفس ذات المعلول متعلّقا مرتبطا بنفسه بحيث يصير بارتباطه به مبدءً لانتزاع الوجود، ومصداقا للموجود، فقد ثبت أنّ التأثير والإيجاد الحقيقي والفاعليّة الحقيقيّة مخصوصة به تعالى شأنه؛ فإنّ الشيء ما لم يكن وجودا وموجودا في نفسه لا يصير أمر آخر بارتباطه به موجودا وذلك الظاهر للمتدبّر. وأمّا بناءً على المشهور من اتّصاف المهيّات المعلولة بالوجود فبناءً على مذهب من قال بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه ، وذهب إلى أنّ المفيض للوجود إنّما هو الواجب بالذات


1- .في النسخة: «وهو».

ص: 607

فظاهر؛ لأنّ الموجد إنّما هو المفيد للوجود وهو منحصر فيه تعالى عنده. وأمّا بناءً على مذهب من قال بأنّ غيره تعالى أيضا يتّصف بالاتّحاد وإفادة الوجود، فلأنّ المعلول ما لم يجب من فاعله لم يوجد، والوجوب بالغير الذي يصحّح الموجوديّة إنّما هو الوجوب السابق لا الوجوب اللاحق، وهو صفة للغير حقيقة، وإلّا فيتأخّر عن وجود المعلول؛ لأنّ الوجوب الذي هو صفة للمعلول إنّما هو كيفيّة لنسبة وجوده إلى مهيّته وهي متأخّرة عنهما، فيكون وجوبا لاحقا لا سابقا مصحّحا للموجوديّة، وكذلك حال الفاعل إذا كان هو أيضا واجبا بالغير، فإنّ وجوبه أيضا صفة للغير حتّى ينتهي السلسلة إلى فاعل واجب بالذات، فثبت أنّ كلّ واجب بالغير إنّما يجب وجوده من الواجب بالذات، فالموجب بالحقيقة إنّما هو الواجب بالذات، وهو المراد بالفاعل الحقيقي، أي الفاعل الذي يكون موجبا لوجود المعلول بالحقيقة؛ فتأمّل. وقال بعض الفضلاء (1) : هو منزّه عن أن يشاركه شيء في الخالقيّة؛ لأنّ المشارك في الخالقيّة يجب أن يكون مشاركا له في الإيجاب، ولا إيجاب إلّا ممّا له الوجوب، والوجوب بالغير صفة للغير حقيقيّة، وإلّا فيتأخّر عن الوجود، فيكون وجوبا لاحقا لا سابقا مصحّحا للموجوديّة والإيجاب والإيجاد (2) . انتهى كلامه؛ فتأمّل. ومن ذلك لا يلزم أن لا يكون غيره فاعلاً مطلقا، وإنّما يلزم منه نفي الفاعليّة الحقيقيّة عن غيره، فلا محذور فيه على ما هو المشهور من أنّ العبد فاعل فعله، فظهر أنّ الفاعل الحقيقي إنّما هو الواجب بالذات، وذلك هو معنى الخالق، فهو خالق كلّ شيء لا خالق غيره أصلاً، فما ذكره في القاموس من أنّ الخالق في صفاته تعالى هو المُبْدعُ للشيء، المخترعُ على غير مثال سَبَقَ (3) . لا ينافي لما حقّقناه؛ لأنّ شيئا (4) من أفعاله تعالى غير مسبوق بمثال صدر عن


1- .هو الميرزا رفيعا النائيني.
2- .الحاشية على اُصول الكافي، ص 273.
3- .القاموس المحيط، ج 3، ص 333 (خلق).
4- .في النسخة: «شيء».

ص: 608

في نفي المثل عنه تعالى، وبيان ذلك يستدعى فصلين:

الفصل الأوّل في نفي المثل عنه تعالى في ذاته

غيره؛ فأحسن تدبيره. وقد يطلق الخالق ويراد به المقدِّر؛ لأنّ الخلق قد يجيء بمعنى التقدير وهو غير مناسب لهذا المقام. ثمّ اعلم أنّ المثل هو مشارك الشيء في ذاتي، أو عرضي على السواء. قال في القاموس: «المِثْلُ - بالكسر والتحريك وكأمير - : الشِبْهُ (1) » انتهى. وفي اصطلاح المتكلّمين عبارة عن مشاركة في الطبيعة النوعيّة. والواجب نفي المثل بالمعنى الأوّل عنه تعالى كما هو الظاهر من عبارات القرآن والأحاديث، لا الاقتصار على نفي المعنى الثاني عنه، كيف لا؟ ومماثلته مع غيره في الجملة نقص بالضرورة، ويجب تنزيهه عن النقائص، فنقول: لا مثل له تعالى أصلاً لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقيّة، ولا في صفاته الإضافيّة والسلبيّة والاعتباريّة الانتزاعيّة، وبيان ذلك يستدعي فصلين:

الفصل الأوّل : في نفي المثل عنه تعالى في ذاتهيعني لا يشاركه شيء في الطبيعة النوعيّة، بل في ذاتيّ من الذاتيّات أصلاً، والدلالة على ذلك بوجوه: الأوّل: ما أقول: وهو أنّ كلّاً (2) من الجنس والفصل والنوع مهيّات كلّيّة، وقد مرّ الدليل على أن ليس مهيّته كلّيّة، وأنّ تعيّنه عين ذاته. والثاني أيضا ما أقول: وهو أنّه لو كان له تعالى مثل - أي مشارك في الطبيعة الجنسيّة أو النوعيّة - فيجب امتياز كلّ واحد منهما عن صاحبه بما هو مغاير لتلك الطبيعة؛ لضرورة


1- .القاموس المحيط، ج 4، ص 65 (مثل).
2- .في النسخة: «كلّ».

ص: 609

استحالة اثنينيّة الواحد وتعدّده من حيث إنّه واحد، فيلزم تركّبه من الجنس والفصل، أو من الطبيعة النوعيّة والتعيّن، وهو محال؛ لما مرّ. والثالث أيضا ما أقول: وهو أنّ الوجوب بالذات والإمكان من لوازم المهيّات، فتلك المهيّة المشتركة بين الواجب ومثله إن كانت واجبة بالذات وكان ذاتها مقتضيا للوجود، فكان كلّ حصّة وفرد منها واجبا بالذات، فيلزم أن يكون مثله أيضا واجبا بالذات، وذلك باطل؛ لما مرّ من استحالة تعدّد الواجب بالذات. وإن كانت ممكنة بالذات وذاتها لا يكون مقتضيا لشيء من الوجود والعدم يلزم إمكان الواجب بالذات، وهو ضروري الاستحالة. وإن كانت واجبة وممكنة معا، فيلزم أن يكون ذاته بذاته مقتضيا لوجوده وغير مقتضٍ له، وهو محال؛ لامتناع اجتماع النقيضين. والرابع: ما ذكر في الشرح الجديد للتجريد وهو أنّه لا يكون له مثل، وإلّا لكان لكلّ المثلين مهيّة مشتركة بينهما ووجود عارض؛ لامتناع تركّب الواجب، لكنّ الواجب لا يكون وجوده عارضا (1) . وأقول: يرد عليه أنّه يجوز أن يكون تلك المهيّة المشتركة هو الوجود، فلا يلزم عروضه. فإن قلت: حينئذٍ يلزم تركّبه من ما به الاشتراك وما به الامتياز، وهو محال. قلنا: على هذا يرجع إلى الدليل الثاني الذي ذكرناه، فحدث عروض الوجود فيه مستدرك؛ فتأمّل. والخامس: ما ذكره بعض الأفاضل وهو أنّه لو كان له مثل فإن كان مثله واجبا بالذات، لزم تعدّده، وهو باطل. وإن كان ممكنا، لزم خلاف المفروض؛ إذ الوجوب والإمكان من لوازم المهيّات، فحقيقة الواجب يجب أن يكون بمحض ذاته، ونظرا إلى نفس حقيقته - من


1- .شرح تجريد العقائد، ص 424 عند قوله: «ونفي المثل» ط الحجري سنة 1307 ق تبريز بخطّ عبد الفتّاح بن عبد الرحيم.

ص: 610

تبصرة

حيث هي ممتنع العدم والانعدام - واجب الوجود (1) ، وبيّن ظاهر أنّه إذا كانت حقيقة في ذاتها ومن حيث هي هي واجبة، كان كلّ حصّة وفرد من تلك الحقيقة واجبا بالذات أيضا، هذا خلف. والسادس: حجّة حدسيّة ذكرها أيضا هذا الفاضل وهي أنّه لو كان للواجب مثل، لكان ممكنا معلولاً له؛ لامتناع تعدّد الواجب، ولا يمكن ذلك؛ لامتناع علّة أحد المثلين للآخر؛ إذ العلّة لا بدّ أن تكون (2) أقوى من المعلول؛ فإنّه ظلّ للعلّة. لا يقال: لا يجوز أن يكون ذلك المثل معلولاً لمعلوله لا معلوله بلا واسطة. لأنّا نقول: المحذور أفحش كما لا يخفى على اُولي النهى. تبصرة ذات الواجب بالذات ليست مرتبة كاملة من حقيقة واحدة مختلفة المراتب بالكمال والنقص كما ذهب إليه صاحب الإشراق زاعما أنّ الوجود والنور حقيقة واحدة مختلفة المراتب بالكمال والنقص، والمرتبة التي أكمل من سائر المراتب لكمالها واجبة بالذات، وسائر المراتب لنقصانها ممكن معلول؛ لأنّ ذلك مستلزم لإمكانه واحتياجه في الوجود إلى مرجّح وعلّة؛ إذ تلك الحقيقةُ المختلفة المراتب بالكمال والنقص من حيث هي مع قطع النظر عن الاختلاف واحدةٌ مشتركة بين تلك المراتب المختلفة وقعت وحصلت في كلّ مرّة من مرّات تحقّقها ووجودها بنحو واحد ومرتبة مخصوصة من الكمال والنقص، ففي مرّة ونشأة وقعت وحصلت في غاية الكمال بلا علّة وهي المرتبة الواجبة لا بدّ لها أيضا من مرجّح مقتضٍ لتلك المرتبة بخصوصها، وإلّا لزم ترجّح بلا مرجّح ضرورة؛ فإنّه لِمَ وقعت في تلك المرّة بتلك المرتبة المخصوصة ولم تقع (3) بنحو آخر ومرتبة اُخرى من سائر المراتب الناقصة مع تساوي نسبتها إلى جميع تلك المراتب المختلفة والأنحاء المتعدّدة،


1- .في العبارة خلل.
2- .في النسخة: «يكون».
3- .في النسخة: «لم يقع».

ص: 611

وإذا كانت في وقوعها بتلك المرتبة أيضا محتاجا إلى مرجّح لا يكون في تلك المرتبة أيضا واجبا كسائر المراتب، هذا خلف. لا يقال: لا نسلّم تساوي نسبتها إلى جميع المراتب، ولِمَ لا يجوز أن يكون المرتبة الكاملة التي فوق سائر المراتب مقتضيا (1) لها؟؛ لأنّه لو كان كذلك لا يختلف مراتب تلك الحقيقة أصلاً، ولا يتحقّق إلّا تلك المرتبة التي لا أكمل منها، وذلك ظاهر. [ب-]عبارة اُخرى: هذا المعنى الواحد المشترك بين جميع تلك المراتب المختلفة إن كان - لأنّه هذا المعنى - واجبا لازما أن يكون في غاية الكمال، كان كلّ مرتبة من مراتب هذا المعنى كذلك، فلا يتعدّد ولا يختلف أصلاً؛ لأنّ لازم المعنى الواحد لا يتخلّف عنه قطعا، وإن لم يجب - لأنّه هذا المعنى ولمحضه - أن يكون في غاية الكمال يحتاج كونه في غاية الكمال أيضا إلى علّة بالضرورة، فلم يكن الكامل واجبا بالذات أيضا؛ فتدبّر. قيل: فيه نظر من وجهين: أمّا أوّلاً، فلأنّه منقوض بمفهوم الموجود المشترك بين جميع الموجودات؛ فإنّ فرد مفهوم الموجود إن كان - لأنّه موجود ويصدق عليه مفهوم الموجود - يجب أن يكون واجبا بالذات ينحصر الموجودات في الواجب ولا يتعدّد أصلاً، وإن لم يجب - لأنّه موجود - أن يكون واجبا بالذات يحتاج في كونه واجبا بالذات إلى علّة أيضا. وأقول: هذا مدفوع بأنّ ذلك المفهوم أمر عرضي اعتباري بالنسبة إلى أفراده، فلا يلزم منه (2) احتياج الواجب إلى علّة، بل ذلك لازم إذا كان له مهيّة مشتركة بينه وبين غيره، موجودة في الخارج، كما لا يخفى على المتدبّر. وأمّا ثانيا، فلأنّ صاحب الإشراق أورد مثل هذا الكلام إيرادا على نفسه وأجاب عنه


1- .في النسخة: «مقتضي».
2- .في النسخة: «من».

ص: 612

بما ملخّصه أنّ المهيّة المشتركة بين تلك المراتب معنىً كلّي موجود في الذهن، وليس بمشترك في الخارج بينها؛ فإنّ ما في الخارج ليس مركّبا من أصل المهيّة وكمالها مثلاً حتّى يجب أن يحصل ما هو حاصل لمرتبة مخصوصة منها لمرتبة اُخرى، بل المراتب والأفراد المختلفة متباينة في الخارج؛ فإنّ ذات الكامل مباين لذات الناقص، فيجوز أن تختلف تلك الأفراد في اللوازم، والاشتباه إنّما نشأ من أخذ ما في الذهن مكان ما في الخارج. وأقول: هذا أيضا مدفوع؛ لأنّ هذا القول مبنيّ على عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج والحقّ خلافه. ثمّ سلك بعض الأفاضل في إبطال ما ذهب إليه صاحب الإشراق مسلكا آخر بعد تمهيد مقدّمة هي: أنّ ما به الاختلاف في المراتب المختلفة من حقيقة واحدة مختلفةٌ بالكمال والنقص من حقيقة ما به الاشتراك وليس بخارج عنها على ما حقّقه في موضعه؛ فإنّه يجوز أن تختلف حقيقة واحدة زيادةً ونقصانا وقلّةً وكثرةً كالمقدار العظيم والصغير، وقوّةً وضعفا وكمالاً ونقصا كمراتب (1) الأنوار والحرارات، فما به الاشتراك أصل الحقيقة والمعنى، وما به الاختلاف هو هذا المعنى بعينه وتلك الحقيقة بعينها لا أمر خارج عن تلك الحقيقة؛ فإنّ النور القويّ زائد (2) على الضعيف بحقيقة النور لا بأمر خارج عن معنى النور. وقال: إذا عرفت هذه المقدّمة نقول: الحقيقة المشتركة بين تلك المراتب المختلفة إذا اُخذت من حيث هي إن كانت في حدّ ذاتها وفي نفسها بحيث يصحّ انتزاع الوجود والموجوديّة عنها يجب أن يكون في جميع المراتب كذلك، فيكون كلّ من تلك المراتب واجبا بالذات بالبديهة؛ إذ لا نعني بالواجب بالذات إلّا ما يكون


1- .في النسخة: «لمراتب».
2- .في النسخة: «زائدا».

ص: 613

الفصل الثاني في نفي المثل عنه تعالى في صفاته

في نفسه وفي حدّ ذاته مصداقا لصدق الموجود ومبدءً لانتزاع الوجود. وإن كانت من حيث هي وفي حدّ نفسها لا يصحّ انتزاع الوجود والموجوديّة عنها، ولا يكون مصداقا لصدق الموجود، لم يكن في شيء من المراتب مصداقا له ومبدءً لانتزاعهما، فلا يكون شيء من تلك المراتب واجبا بالذات أصلاً، بل كلّ منهما ممكنا بالذات؛ لما مرّ من أنّ مهيّة الواجب يجب أن تكون (1) من حيث هي كذلك. فإن قيل: المرتبة الكاملة في حدّ ذاتها يصحّ انتزاع الوجود عنها دون الضعيفة. قلت: قد مرّ أنّ ما به الاختلاف بين تلك المراتب من حقيقة ما به الاشتراك، وبيّن بديهيّ أنّه إذا لم يكن تلك الحقيقة في حدّ ذاتها مصداقا للموجوديّة لم يكن المرتبة الكاملة منها مصداقا لها أيضا؛ ضرورة أنّها محض تلك الحقيقة. وأيضا وجوب تلك المرتبة إن كان من جهة كمالها وبواسطته، يلزم أن يكون الكمال قبل الوجوب، فيكون متميّزا موجودا قبل كونه واجبا، فيكون ممكنا ثمّ ينقلب واجبا وهذا محال. وإن كان لأصل الحقيقة يلزم وجوب الممكن. انتهى؛ فتأمّل فيه.

الفصل الثاني : في نفي المثل عنه تعالى في صفاتهأقول: أمّا نفي المثل عنه تعالى في صفاته الحقيقيّة العينيّة فظاهر؛ لما مرّ من أنّه لا مثل له في ذاته، وتلك الصفات عين ذاته، فلا مثل له فيها. وأمّا في صفاته الإضافيّة، فلأنّ كلّها يرجع إلى الخالقيّة والمبدئيّة الحقيقيّة الخالقيّة (2) والمنبعثة عن قدرته، وقد عرفت أنّها مختصّة به تعالى لا يشاركه غيره فيها. وأمّا في صفاته السلبيّة، فلأنّ كلّها في الواجب يرجع إلى نفي الإمكان الذاتي اللازم


1- .في النسخة: «أن يكون».
2- .كذا.

ص: 614

وهو السميع البصير» .

للوجوب الذاتي، وأمّا في غيره - كسلب الجماديّة عن زيد مثلاً - فإنّما هو للأسباب التي لا تنافي (1) الإمكان، فلا تساوي بين صفات سلبّيته وصفات سلبّية غيره. وأمّا في صفاته الاعتباريّة الانتزاعيّة كالوجود المطلق والشيئيّة والموجود والشيء فلأنّها منتزعة عنه تعالى بمجرّد ملاحظة ذاته بذاته، بمعنى أنّ ذاته بذاته مع قطع النظر عن جميع ما عداه منشأ لانتزاع العقل إيّاها عنه، والحكم باتّصافه بها بخلاف غيره؛ فإنّه إنّما يصحّ انتزاعها عنه بجعل الجاعل وفعل الفاعل، فهو مصحّح لانتزاعها عن غيره تعالى. وبعبارة اُخرى نقول: اتّصافه تعالى بها إنّما هو باعتبار أنّه تعالى موجود بحت، بخلاف غيره؛ فإنّ اتّصافه بها إنّما يكون باعتبار أنّه شيء موجود لا موجود بحت، فلا تساوي بين شيء من صفاته تعالى وصفات غيره، وذلك هو المعتبر في المماثلة. قال في شرح المقاصد: المماثلة إنّما يلزم (2) لو كان المعنى المشترك بينه وبين غيره فيهما على السواء، ولا تساوي بين شيئيّته وشيئيّة غيره، ولا بين علمه وعلم غيره، وكذا جميع الصفات (3) . انتهى. فظهر أنّه لا مثل له في شيء من الصفات، كما لا مثل له في الذات، فثبت أنّه ليس كمثله شيء. وقوله عليه السلام : (وهو السميع البصير) أي وهو السميع البصير حقيقة، وفي أقصى مراتب الكمال من المعنيين لا غيره؛ لأنّه سميع، أي عالم بالمسموعات بعين ذاته، وبصير، أي عالم بالمبصرات بنفس ذاته لا بقوّة وآلة وصفة زائدة على ذاته كما هو شأن غيره. فهذا إشارة إلى أنّ كونه سميعا بصيرا لا يوجب مشاركته ومماثلته لغيره من خلقه، ولا اتّصافه بمخلوق كما في المخلوق (4) .


1- .في النسخة: «لا ينافي».
2- .في المصدر: «تلزم».
3- .شرح المقاصد، ج 2، ص 62.
4- .هنا في النسخة قدر نصف صفحة بياض، والنسخة فاقدة لشرح بقيّة أحاديث الباب وكذا سائر الأبواب التي بعده إلى باب البداء.

ص: 615

باب البداء[باب البداء]قوله: (باب البداء) أقول: البداء - بفتح الباء الموحّدة والدال المهملة والمدّ - في اللغة مصدر قولك: بدا له في هذا الأمر يبدو، أي نشأ له فيه رأي. والإبداء: الإنشاء، يقال: اللّه (1) تعالى المبدئ، أي المنشئ والموجد. وقيل (2) : معنى البداء للّه تعالى أن يتجدّد له أثر لم يعلم أحد من خلقه قبل صدوره عنه أنّه يصدر عنه. انتهى. وقيل (3) : هذا بعض إطلاقاته وإنّما يطلق عليه بقرينة (4) ، وقد يطلق البداء له تعالى على تجدّد أثر لم يعلم بعض خلقه قبل صدوره أنّه يصدر عنه، وإنّما يطلق عليه البداء بالنسبة إلى هذا البعض. وربّما اعتبر في البداء ظنّه بأنّه لا يصدر ومن نسب إلينا من مخالفينا نسبة بداء الندامة إلى اللّه تعالى (5) فقد غفل أو تغافل (6) . أقول: الظاهر أنّ معنى البداء له تعالى أنّ جميع الموجودات والحوادث تصدر عنه تعالى، ولا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه على ترتيب يقع في أزمنة وجودها وحدوثها كما قال جلّ ذكره: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (7) ولم يعلم أحد


1- .في النسخة: «للّه ».
2- .القائل هو المولى محمّد أمين الإسترآبادي كما نقله عنه المولى خليل القزويني في الشافي، ص 515 (مخطوط). وفي حاشيته المطبوعة في ميراث حديث شيعه، ج 8، ص 319 : «معنى البداء في حقّه تعالى ظهور إرادة وتقدير عند الخلق لم تكن ظاهرة قبل، سواء كان مظنونهم خلافها أو لم يكن».
3- .القائل هو المولى خليل القزويني.
4- .في المصدر: «بقرينة [حديث] تاسع الباب».
5- .في المصدر: «إثبات بداء الندامة للّه تعالى».
6- .الشافي، ص 515 - 516 (مخطوط).
7- .الرحمان (55): 29.

ص: 616

عنه، بل ربّما يظنّ بأنّه لا يصدر عنه ممّا ذكره هذا القائل بعض معناه، والأحاديث الواقعة في هذا الباب بعضها ناظر إلى جميع معناه، وبعضها ناظر إلى بعض معناه. والقول بالبداء ردٌّ على بعض الفلاسفة القائلين بأنّه تعالى خلق العقل الأوّل، ثمّ العقل الأوّل خلق العقل الثاني والفلك الأوّل، وقس على هذا إلى أن ينتهي إلى العقل العاشر الخالق لفلك التاسع والهيولى عالم الكون والفساد. وأمّا المحقّقون منهم يقولون بأنّ تلك العقول بعضها واسطة لإيجاده تعالى بعضا آخر وفلكا، ويقولون بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه . وردٌّ على اليهود حيث نفوا البداء عنه تعالى قالوا: إنّ اللّه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهريّة لا ترتّب فيها باعتبار الصدور عنه، بل إنّما ترتّبها في الزمان فقط، كما أنّه لا يترتّب الأجسام المجتمعة زمانا إنّما ترتّبها في المكان فقط. وأمّا المحقّقون منهم فيقولون على خلاف ذلك، ويقولون: كلّ يوم هو في شأن. وردٌّ على مذهب النظّام من المتكلّمين حيث قال: إنّ اللّه تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليها الآن معادنَ ونباتا وحيوانا وإنسانا لم يتقدّم خلق آدم خلق أولاده غير أنّ اللّه تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدّم والتأخّر إنّما يقع في ظهورها من مَكامِنِها دون حدوثها ووجودها. انتهى. ثمّ أقول: يحتمل احتمالاً قريبا أن يكون المراد بالبداء المعنى الشامل المتناول للنسخ، سواء كان في الأحكام كانتهاء زمان حكم، وحدوث زمان حكم آخر، أو في الأعيان وسائر الحوادث والوقائع كانتهاء زمان وجود بعض الأشخاص وبعض الحوادث، وحدوث زمان وجود بعض آخر، وكتقييد المطلق، وكتخصيص العامّ، ردّا على اليهود حيث ينكرون النسخ في الأحكام. وسيجيء إن شاء اللّه تعالى تطبيق جميع الأحاديث الواقعة في هذا الباب على هذا المعنى أيضا، واللّه وليّ التوفيق والهداية.

ص: 617

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحَجّالِ ، عن أبي إسحاقَ ثَعْلَبَةَ ، عن زرارةَ بن أعينَ ، عن أحدهما عليهماالسلام قال :«ما عُبِدَ اللّهُ بشيءٍ مثلِ البداء» . وفي رواية ابن أبي عمير ، عن هِشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : «ما عُظِّمَ اللّهُ بمِثْلِ البداء».

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هِشام بن سالم وحفص بن البُختريّ وغيرهما ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في هذه الآية : « يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَ يُثْبِتُ » قال : فقال :«وهل يُمحى إلّا ما كان ثابتا ، وهل يُثْبَتُ إلّا ما لم يَكُنْ؟» .

قوله عليه السلام : (مثل البداء) أي مثل التصديق بالبداء والإذعان له؛ لأنّ إنكار البداء على المعنى الأوّل يتضمّن إنكار قدرته تعالى على جميع الموجودات والحوادث، ويتضمّن القول بتعطيله تعالى بعد خلق العالم حين خلقه (1) إلى أبد الآباد، ويتضمّن القول بعدم اختصاصه بعلم الغيب وسرّ القدر، ويتضمّن القول بالتغيّر في علمه إذا حدّث النبيّ أو الإمام من عند الفهم بالقرآن والأمارات مثلاً، لا بالوحي بشيء وصدر عنه تعالى خلاف ما حدّثه، فالتصديق بالبداء رأس كلّ عبادة. وأمّا على الثاني فإنّه يتضمّن إنكار قدرته تعالى على إعدام بعض (2) الموجودات والحوادث، وإيجاد بعضها كلٍّ في وقته، ويتضمّن إنكار القرآن والنبيّ والأئمّة صلوات اللّه عليهم؛ لأنّ كلّهم جاؤوا على نسخ كثير من الشرائع السالفة، ولأنّه يتضمّن القول بالتناقض والتهافت في كلامه تعالى وكلامهم لو لم يكن تقييد المطلق وتخصيص العامّ، فالتصديق به أصل كلّ عبادة. قوله عليه السلام : (ما عظّم بمثل البداء) أي بمثل التصديق به؛ لأنّ القول به على أيّ من المعنيين أصل كلّ تعظيم، واُمّ كلّ محمدة. قوله عليه السلام : (وهل يُمحى) إلخ


1- .كذا ، و لعلّ زيادة «حين خلقه».
2- .في النسخة: «نقص».

ص: 618

عليّ ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«ما بَعَثَ اللّهُ نبيّا حتّى يأخُذَ عليه ثلاثَ خصال : الاقرارَ له بالعبوديّة ، وخَلْعَ الأنداد ، وأنَّ اللّه يُقَدِّمُ ما يشاء ويُؤخِّرُ ما يشاءُ».

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن ابن بُكير ، عن زرارةَ، عن حُمرانَ ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألتُه عن قول اللّه عزّ وجلّ : « قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ » قالَ :«هما أجَلانِ : أجَلٌ محتومٌ ، وأجَلٌ موقوفٌ» .

يعني كلّ ما يطرأ عليه العدم إنّما يكون بإعدام اللّه تعالى، وكلّ ما يتّصف بالوجود إنّما يكون بإيجاد اللّه تعالى. والحاصل أنّ الآية دالّة على تجدّد آثاره تعالى بمشيّته في كلّ حين. وفي لفظ (ما يشاء) إشعار بأنّ كلّ ذلك غير معلوم لأحد، بل بعضها ممّا استأثره اللّه تعالى بعلمه. هذا بناءً على المعنيين. ويختصّ بالمعنى الثاني بأن يقال: معناه أنّه لا يجعل منسوخا إلّا ما كان ثابتا وشريعة سابقا، ولا يصير ناسخا إلّا ما لم يكن شريعة من قبل ذلك، بل الأمر الذي يقابله - وهو المنسوخ - كان مشروعا قبل ورود ذلك الناسخ. قوله عليه السلام : (يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء) أي يقدّم الإيجاد أو الإعدام لما يشاء تقدّم إيجاده أو إعدامه، ويؤخّر الإيجاد أو الإعدام لما يشاء تأخير إيجاده أو إعدامه بحسب الزمان، أو يقدّم ما يشاء تقديمه بالذات أو بالرتبة أو بالشرف في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا؛ ويؤخّر ما يشاء تأخّره كذلك. وظاهرٌ أنّ مشيّته تعالى ليست بحادثة بل قديم، فمن ذلك لا يلزم تغيير في علمه. أو معناه أنّه يقدّم بحسب الرتبة ما يشاء من الناسخ، ويؤخّر بالرتبة ما يشاء من المنسوخ؛ لأنّه جعل الناسخ نافذا مشروعا معمولاً به، والمنسوخ منتهي زمانه متروكا عنه باعتبار اختلاف أمزجة الأزمنة وأهلها الذي لا يعلمه إلّا اللّه تعالى. قوله: (قضى أجلاً) إلخ الأجل: الوقت المعيّن لصدور الحوادث، وقد يخصّص بالوقت المعيّن لموت الحيوان. ومعناه أنّ الأجل قد يكون حتميا يجب وقوعه في ذلك الوقت من غير اشتراطه بشيء، وقد

ص: 619

أحمد بن مِهرانَ ، عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ ، عن عليّ بن أسباطٍ ، عن خَلَفِ بن حمّاد ، عن ابن مُسكانَ ، عن مالك الجُهَنِيّ قال : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه تعالى : « أولم ير الانسان أنّا خلقناه من قبل ولم يكُ شيئا » قال : فقال :«لا مُقدَّرا ولا مُكوَّنا» . قال : وسألتُه عن قوله : « هَلْ أَتَى عَلَى الْاءِنسَ-نِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئا مَّذْكُورًا » .........

يكون معلّقا مشروطا بشرط ربّما لا يعلم ذلك الشرط إلّا اللّه تعالى. ومن ذلك ما نقل عن موسى على نبيّنا وعليه السلام أنّه مرّ مع أصحابه بحَطّاب وأخبرهم بموته في اليوم بلدغ حيّة، ثمّ رجع الحطّاب عليهم المساء صحيحا، فسأله عليه السلام عمّا فعله في ذلك اليوم، فقال: تصدّقت بخبز، فأمره بحلّ حمله، فخرج منه الحيّة مسدود الفاه بشوك، فقال عليه السلام : ذلك التصدّق رفع عنه تلك البليّة (1) . هذا بناءً على المعنى الأوّل. وأمّا على الثاني أنّ للأعيان الموجودة والأحكام الشرعيّة أجلاً محتوما وهو قيام الساعة. والمراد به أعمّ من معناه الحقيقي و (2) المجازي، أي الزمان الغير المتناهي، من باب عموم المجاز، وتلك الأعيان هي السماوات والأرضون وأمثالهما، وهذه الأحكام هي التي لا تنسخ (3) أبدا، بل لا تقبل النسخ كالتصديق بالاُمور الاعتقاديّة من التوحيد والعلم والقدرة وأمثالها. و(أجل موقوف) (4) أي وقت معيّن ينتهي في الدنيا كزيد وعمرو مثلاً، وكالأحكام المنسوخة. قوله عليه السلام : (لا مقدَّرا ولا مُكوَّنا) أي خلقناه من قبل ولم يكن ذا مقدار، أي لم يكن بدنه موجودا «ولا مكوّنا» أي لم يكن نفسه موجودة. ومعناه أنّه أخرجنا بدنه ونفسه من العدم إلى الوجود. أو معناه أنّا خلقناه قبل خلق بدنه ونفسه باعتبار خلق النطفة والعَلَقة مثلاً هذا إذا كانت النفس حادثة بحدوث البدن.


1- .روى نحوه مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، الكلينى في الكافي، ج 4، ص 5، ح 3 . و عنه في بحار الأنوار، ج 4، ص 121 - 122، ح 67 و ج 18، ص 21، ح 48 . وروى نحوه مع عيسى، الصدوق في الأمالي، ص 589 - 590، المجلس 75، ح 13.
2- .في النسخة: «أو».
3- .في النسخة: «لا ينسخ».
4- .في النسخة: «أجل محتوم».

ص: 620

فقالَ : «كان مُقَدَّرا غيرَ مذكورٍ» .

محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى، عن رِبْعِيّ بن عبد اللّه ، عن الفُضيل بن يَسار ، قالَ : سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول :«العلمُ علمانِ : فعلمٌ عند اللّه مَخزونٌ لم يُطْلِعْ .........

ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «لا مكوّنا» عدم تكوّنه بتعلّق النفس إلى بدنه، أو عدم تكوّنه بنفخ الروح في جسده. وعلى أيّ التقادير ربّما لا يعلم بوجود إنسان قبل خلق جسده ونفسه إلّا اللّه تعالى. والاستفهام في قوله: «هل أتى» (1) للتقرير. والمراد بقوله: (كان مُقَدَّرا غير مذكور) أي مجسّما ذا مقدار بخلق اللّه تعالى بدنه في الرحم غير مذكور اسمه فيما بين الخلائق؛ لأنّه لا تتعلّق (2) النفس به، ولا ينفخ الروح في جسده بعدُ، وهذا ممّا يعلمه الخلق في الجملة. فظهر أنّ وجود النطفة والعَلَقة والمضغة والبدن وحلول الروح فيه وخلق النفس وتعلّقها بالبدن وسائر المراتب حتّى يكون شيئا مذكورا بإيجاد اللّه تعالى، وخلقه على الترتيب الواقع في الزمان في بعض المراتب مخفيّ عن غيره، وفي بعضها معلوم، وهذا هو البداء بالمعنى الأوّل. ولمّا كان كلّ من المراتب اللاحقة المذكورة في خلق الإنسان ناسخة للمرتبة السابقة، فالحديث منطبق على البداء بالمعنى الثاني أيضا. قوله عليه السلام : (العلم علمان) إلخ أقول: دلالةُ هذا الحديث على البداء بالمعنى الأوّل - وهو أن يكون بعض العلوم مختصّا (3) به تعالى، وبعضها ممّا علمه غيره، وأنّ الأشياء صادرة عنه تعالى بالترتيب الواقع في الزمان بأن يقدّم ما يشاء على بعض، ويؤخّر ما يشاء عن الآخر، ويثبت أي يخلق ما يشاء وإن اعتقد غيره أنّه لا يوجد - ظاهرٌ. وأمّا دلالته على المعنى الثاني، فبأن يقال: (العلم علمان: علم عند اللّه مخزون لم يطلع


1- .الإنسان (76): 1.
2- .في النسخة: «لا يتعلّق».
3- .في النسخة: «مختصّ».

ص: 621

عليه أحدا من خَلْقه ، وعلمٌ عَلَّمَه ملائكتَه ورُسُلَه ، فما علَّمه ملائكتَه ورسلَه فإنّه سيكونُ ، لا يُكَذِّبُ نفسَه ولا ملائكتَه ولا رُسُلَه ، وعلمٌ عنده مَخزونٌ يُقَدِّمُ منه ما يشاءُ ، ويُؤخِّرُ منه ما يشاءُ ، ويُثْبِتُ ما يشاءُ» .

وبهذا الإسناد ، عن حمّادٍ ، عن رِبْعيّ ، عن الفُضيل ، قال : سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول :«من الأُمورِ اُمورٌ موقوفة عند اللّه ، يُقَدِّمُ منها ما يَشاءُ ، ويُؤخِّرُ منها ما يَشاءُ» .

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن جعفر بن عثمان ، عن سَماعَةَ ، عن أبي بصير ووُهَيْبِ بن حَفصِ ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام

عليه أحد) إلّا بعد إعلامه جلّ ذكره في زمان معيّن كالعلم بتفاصيل أحكام شريعة موسى عليه السلام في زمان نوح عليه السلام ، والعلم بتفاصيل أحكام شريعة نبيّنا صلى الله عليه و آله في زماني موسى وعيسى عليهماالسلام. والمقصود القسم الثاني من الشقّ الأوّل (وعلمٌ عَلَّمه ملائكته ورسله) في بدو خلقتهم، وهو الاعتقادات الحقّة كتوحيده تعالى وعلمه وقدرته وأمثال ذلك (فما علَّمه ملائكته ورسلَه) من الاعتقادات الحقّة المطابقة للواقع (فإنّه سيكون) والسين زائدة، أي يكون على وفق اعتقادهم في نفس الأمر (لا يُكَذِّبُ نفسَه ولا ملائكتَه ولا رسلَه) بإيقاع النسخ فيه، فيستحيل النسخ في هذا العلم؛ لاستحالة الكذب عليهم لا سيّما عليه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا (وعلم عنده مخزون) وهو الشقّ الثاني من القسم الأوّل، أي الأحكام الشرعيّة من جزئيّات العبادات وخصوصيّاتها وكيفيّة العقود والإيقاعات، فإنّه قد يقع فيه النسخ «يُقدِّم ما يشاء» أي جعل ما يشاء ناسخا ومقدّما على الآخر بالرتبة (ويؤخّر ما يشاء) أي جعل ما يشاء منسوخا ومؤخّرا عن الآخر كذلك (ويُثبِت ما يشاء) فارغا عن طريان النسخ عليه، وكذا الحال في انتهاء وجود بعض الأعيان والحوادث، وحدوث زمان وجود بعض آخر في الدنيا وذلك نسخ لها كما عرفت، وإثبات بعض الموجودات إلى قيام الساعة وذلك خالٍ عن النسخ. قوله عليه السلام : (من الاُمور موقوفة عند اللّه ) أي لم يطّلع عليها أحد من خلقه. قد عرفت بما مرّ وجه انطباق هذا الحديث على كلا المعنيين من البداء.

ص: 622

قال : «إنّ للّه عِلْمين : علمٌ مكنونٌ مَخزونٌ ، لا يَعْلَمُه إلّا هو ، مِن ذلك يَكونُ البداءُ ، وعلمٌ علَّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه ، فنحنُ نَعْلَمُهُ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد، عن الحسين بن سعيد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«ما بدا للّه في شيء إلّا كان في علمِه قبلَ أن يَبْدُوَ له» .

عنه ، عن أحمدَ ، عن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن داودَ بن فَرقَدٍ ، عن عَمرِو بن عثمان الجُهَنيّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«إنّ اللّه لم يَبْدُ له من جهل» .

قوله عليه السلام : (من ذلك يكون البداء) أي ذلك العلم المخزون، وهو العلم بمصالح إيجاد الموجودات على الترتيب الواقع في الزمان، وبمصالح تشريع الشرائع على تفاصيلها في كلّ زمان المسمّى بسرّ القدر الذي استأثره اللّه تعالى بعلمه. يكون البداء لكلّ واحد من المعنيين (وعلمٌ علَّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) ولا يكون البداء بأيّ واحد من المعنيين مستندا إليه، بل مستندا إلى سرّ القدر. قوله عليه السلام : (ما بدا للّه في شيء) أي في شيء من الأعيان على المعنى الأوّل، أو من الأعيان والأحكام على المعنى الثاني (إلّا كان في علمه قبل أن يَبْدُو) له أي قبل أن يجعل البداء له، يعني علمه قديم متعلّق بالبداء بأيّ واحد من المعنيين، غير متغيّر ولا متبدّل به. وهذا ردٌّ على ما زعمه بعض العامّة من أنّه فهم (ظ) من لفظ البداء الندامة، ونسبها إلى الشيعة، وردٌّ على اليهود؛ لأنّهم قالوا: إنّ اللّه ندم على خلق بني آدم، فأرسل إليهم الطوفان، ثمّ ندم على الطوفان، وردٌّ على من زعم أنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات إلّا حين وقوعها، وأمّا قبل وقوعها، فلا يعلم إلّا المهيّة الكلّيّة. قوله عليه السلام : (إنّ اللّه لم يَبْدُ له من جهل) على كلّ واحد من المعنيين مستقيم. والمقصود الردّ على من توهّم أنّ نسبة البداء إليه نسبة الندامة، وعلى من نسب إليه الندامة كاليهود.

ص: 623

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ . عن منصور بن حازم ، قال : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام هل يكونُ اليومَ شيءٌ لم يَكُنْ في علم اللّه بالأمس؟ قال :«لا ، مَن قالَ هذا فأخزاه اللّهُ» . قلتُ : أرأيتَ ما كانَ وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة أليس في علم اللّه ؟ قال : «بلى ، قبلَ أن يَخْلُقَ الخلقَ» .

عليٌّ ، عن محمّد، عن يونسَ ، عن مالك الجُهَنيّ قال : سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقولُ :لو علم الناسُ ما في القول بالبداء من الأجر ما فَتَروا عن الكلام فيه» .

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن بعض أصحابنا ، عن محمّد بن عَمْرٍو الكوفيّ أخي يحيى ، عن مُرازم بن حكيم ، قالَ : سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :«ما تَنَبَّأَ

قوله عليه السلام : (هل يكون اليوم شيء) إلخ هذا الحديث ردٌّ على بعض المخالفين حيث نسبوا إلينا بداء الندامة، وردٌّ على من نسب إليه تعالى الندامة كاليهود، وردٌّ على من زعم أنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات إلّا حين وقوعها. ويحتمل أن يكون المراد بيوم القيامة معناه الحقيقيَّ وهو الزمان المخصوص، ويحتمل أن يكون المراد به المعنى المجازي الشائع وهو الزمان الغير المتناهي؛ لأنّه قد يستعمل فيه عرفا. و«ليس» في قوله: (أليس في علم اللّه ) زائدة. و«ما» في قوله: (ما كان وما هو كائن) موصولة، أو «ليس» بمعناه، و«ما» في الموضعين نافية. ومعناه: أرأيت ليس شيء كان ولا شيء هو كائن إلى يوم القيامة ليس في علم اللّه قال: بلى جميع الموجودات في علمه قبل أن يخلق الخلق. قوله عليه السلام : (لو علم الناس ما في القول بالبداء) بأيّ واحد من المعنيين اللذين ذكرناهما (من الأجر) وقد مرّ وجه ثواب القول لكلّ واحد منهما (ما فتروا) أي ما حصل لهم الانكسار والضعف (عن الكلام فيه) مع المخالفين والموافقين؛ لأنّ كلّ ما يتوفّر الدواعي إليه لا يحصل لقائله فيه فتور وإن شقّ.

ص: 624

نبيٌ قطُّ حتّى يُقِرَّ للّه بخمس خصال : بالبداءِ ، والمشيئةِ ، والسجودِ ، والعبوديّةِ ، والطاعةِ» .

وبهذا الإسناد ، عن أحمدَ بن محمّد، عن جعفر بن محمّد، عن يونسَ ، عن جَهْمِ بن أبي جَهْمَةَ ، عمّن حَدَّثَه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«إنَّ اللّهَ - عزّ وجلّ - أخبَرَ محمّدا صلى الله عليه و آله بما كانَ منذ كانت الدنيا ، وبما يَكونُ إلى انقضاء الدنيا ، .........

قوله عليه السلام : (حتّى يقرّ للّه بخمس [خصال] بالبداء) بأيّ واحد من المعنيين اللذين ذكرناهما، وقد عرفت أنّ كليهما (1) ردّ على اليهود، والأوّل يختصّ بالردّ على بعض الفلاسفة وبعض المتكلّمين. (وبالمشيّة) أي بأنّه كلّ المخلوقات بمشيّته تعالى فما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن. (وبالسجود) أي بتخصيص السجود وهو سجود وضع الجبهة على الأرض لا سجود الانحناء للّه تعالى. ويحتمل أن يكون المراد أنّه يسجد له ما في السماوات وما في الأرض، أي ينقاد له وقدرته نافذة في جميعه. (والعبودية) أي بتخصيص استحقاق العبوديّة له. (والطاعة) قد يقال: أي وبأنّه لا يسقط التكليف في الدنيا عن أحد بكمال، بل تكليف الأنبياء بطاعتهم وتحمّل أعباء النبوّة كان أعظم ثمّ الأوصياء ثمّ الأمثل فالأمثل، وهذا ردّ على الصوفيّة حيث قالوا: إنّ الأعمال الشرعيّة ساقطة عن الكاملين؛ فإنّها بمنزلة أعمال أهل الكيميا إنّما يحتاج إليها النحّاس ما لم يصر ذهبا، وبمنزلة معالجات الأطبّاء للمرضى إنّما يحتاج إليه المريض ما لم يصر صحيحا، وليس لهم دليل على عقائدهم إلّا الشعريّات. قوله عليه السلام : (أخبر محمّدا صلى الله عليه و آله بما كان مذ كانت الدنيا، وبما يكون إلى انقضاء الدنيا) أي أخبره بما صَدَر عنه تعالى من الاُمور الكلّيّة والوقائع العظيمة وكثير من الجزئيّات في الزمان الماضي وخلقه مذ كانت الدنيا إلى الآن على الترتيب الواقع في الزمان، وبما يصدر عنه من حين إخباره إلى انقضاء الدنيا من الاُمور الكلّيّة والحوادث العظيمة


1- .في النسخة: «كلاهما».

ص: 625

وأخْبَرَه بالمحتوم من ذلك ، واستثنى عليه فيما سِواه» .

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن الريّان بن الصَّلْت ، قال : سمعتُ الرضا عليه السلام يقولُ :«ما بَعَثَ اللّهُ نبيّا قطُّ إلّا بتحريم الخمر ، وأن يُقِرَّ للّه بالبداء» .

وكثير من الجزئيّات. وذلك لا ينافي اختصاصه تعالى بعلم لا يعلمه إلّا غيره لا سيّما اختصاصه بسرّ القدر وهو العلم بمصالح إيجاد الموجودات وإحداث الشرائع والأحكام والقضايا والسوانح على الترتيب المذكور. (وأخبره بالمحتوم من ذلك) الاُمور وبما يجب صدوره في وقته من غير تعلّقه بشرط خارج عنه، أو بالمحتوم من تلك الشرائع والأحكام من الاُمور التي لا تنسخ، بل لا تقبل (1) النسخ كالاعتقادات الحقّة. (واستثنى عليه عليه السلام فيما سواه) أي فيما سوى المحتوم. ومعنى الاستثناء بيان أنّه ليس محتوما يجب وقوعه بمجرّد حلول أجله ووقته، بل معلّق مشروطة (2) بشرط معيّن لا يعلمه إلّا اللّه تعالى كما مرّ في حديث موسى عليه السلام (3) ، أو ليس محتوما لا يقبل ولا يتعلّق إليه النسخ كخصوصيّات العبادات وكيفيّات العقود والإيقاعات. وحاصله أنّه أخبره بالفرق بين المحتوم وغير المحتوم بالمعنيين، فهذا الحديث منطبق على البداء بأيّ واحد من المعنيين اللذين ذكرناهما. قوله عليه السلام : (ما بعث اللّه ) إلخ هذا الحديث بظاهره يدلّ على تحريم الخمر على جميع المذاهب والأديان لا سيّما على الأنبياء عليهم السلام ردّا على من قال: إنّها كانت في الشرائع السالفة حلالاً حتّى على الأنبياء، ونسب شربه إلى موسى عليه السلام ، ونسب شربه إلى لوط إلى أن ينتهي إلى حدّ الإسكار في التوراة المحرّف، ونسب إليه بهذا السبب الدخول بابنتيه. وهذا كافٍ دليلاً على تحريفها. قوله: (وأن يقرّ للّه بالبداء) بأيّ واحد من المعنيين اللذين ذكرناهما.


1- .في النسخة: «لا ينسخ... يقبل».
2- .كذا.
3- .مرّ في ص 607.

ص: 626

الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، قالَ : سُئلَ العالمُ عليه السلام : كيف عِلمُ اللّه ؟ قال :«عَلِمَ وشاءَ ، وأرادَ ، .........

قوله: (سئل العالم) الكاظم عليه السلام وهو (كيف علم اللّه ) أي كيف علمه تعالى بالجزئيّات، أهو سابق عليها أن يحدث مع حدوثها كما زعمه بعض؟ (قال: عَلِمَ وشاء) إلخ. وحاصل الجواب أنّ علمه بالجزئيّات أزلي سابق على القدرة والإرادة، وتعلّقها الأزليّة السابقة على قضاء الحوادث الجزئيّة، وإيجادها السابق على إمضائها، أي جعله ماضيا؛ يعني إبقاءها، فهو مقدّم على وجود الحوادث بمراتب. ولمّا كان اللّه تعالى وجود كلّه علم كلّه قدرة كلّه إرادة كلّه فمقصوده عليه السلام من هذا الكلام أنّ ذاته تعالى من حيث إنّه علم مقدّم على ذاته من حيث إنّه قدرة، ومن تلك الحيثية مقدّم على ذاته من حيث إنّه علم. فهذا الكلام بيان لمراتب (1) ذاته تعالى وموافق لكلام أمير المؤمنين عليه السلام (2) من عينيّة الصفات الراجعة إلى نفيها، وإن احتمل بعيدا أن يكون عليه السلام أجرى الكلام على قدر فهم السائل، وبناه على ما زعمه الناس من زيادة الصفات فأقام الحجّة على تقديم علمه تعالى على الجزئيّات على زعم السائل، ولعلّه عليه السلام عبّر عن القدرة بالمشيّة، فقوله: «شاء» بمعنى قَدَر بتخفيف الدال المهملة المفتوحة فعلاً ماضيا من القدرة؛ لأنّ المشيّة معتبرة في مفهومها (3) - وهو كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل - وإن كان معنى المشيّة بحسب اللغة الإرادة. ويحتمل أن يكون المراد بالمشيّة إرادته تعالى في ذاته لا بالقياس إلى الغير، وبالإرادة إرادته بالقياس إلى وجود المادّة واستعدادها.


1- .في النسخة: «المراتب».
2- .في الخطبة الاُولى من نهج البلاغة حيث قال عليه السلام : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه».
3- .أي مفهوم القدرة.

ص: 627

وقَدَّرَ ، وقَضى ، وأمضى ؛ فأمضى ما قضى ، وقَضى ما قدَّر ، وقدَّر ما أرادَ ، فبعِلْمه كانت المشيئةُ ، وبمشيئته كانت الإرادةُ ، وبإرادته كانَ التقديرُ ، وبتقديره كانَ القضاءُ ، وبقضائه كانَ الإمضاء ؛ والعلمُ مُتقدِّمٌ على المشيئة ، والمشئيةُ ثانيةٌ ، والإرادةُ ثالثةٌ ، والتقديرُ واقِعٌ على القضاء بالإمضاء. فللّه - تبارَكَ وتعالى - البداءُ .........

وقوله: (وقدّر) إشارة إلى تعلّق إرادته في الأزل إلى وجود كلّ حادث فيما لا يزال كلٌّ في الوقت الذي يقتضيه العلم بالمصلحة. وقوله: (وقضى) أي أوجد. وقوله: (وأمضى) أي وأبقى وجعله ماضيا. قوله: (فأمضى ما قضى) إلخ توضيح للعبارة السابقة، أي فأبقى ما أوجد وأحدث (وقضى) أي أوجد (ما قدّر) أي ما تعلّق به إرادته (وقدّر) أي تعلّق إرادته (ما أراد) أي بما أراد. وتمام الكلام مطويّ للاختصار، وهو قوله: وأراد ما شاء، وشاء ما علم أي أراد ما قَدَر - بتخفيف الدال المهملة - وقدر ما علم. قوله: (فبعلمه كانت المشيّة) تصريح بما علم ضمنا من السببيّة والمسببيّة، بين تلك الصفات، بل بين تلك الحيثيّات والمراتب. وقوله: (والعلم متقدّم المشيّة) إلخ، تصريح بما علم ضمنا من تحقّق التقدّم والتأخّر بينها، وتأكيد لسابقه. و«على» في قوله: (والتقدير واقع على القضاء) للاستعلاء؛ يعني أنّ التقدير - أي تعلّق الإرادة - مسلّط على القضاء، أي على الإيجاد؛ فإنّ تعلّق الإرادة بإيجاد الحادث في وقت معيّن علّة لإيجاده في ذلك الوقت. والباء في قوله: (بالإمضاء) للمصاحبة، أي القضاء مصاحب وملازم للإمضاء؛ لامتناع انفكاك الإبقاء المعبّر عنه بالإمضاء عن الإيجاد المعبّر عنه بالقضاء. وقوله: (فللّه تبارك وتعالى البداءُ) أي ينسب البداء إليه تعالى، ويتّصف هو بالإبداء

ص: 628

فيما عَلِمَ متى شاء ، وفيما أرادَ لتقدير الأشياء ، فإذا وقَع القضاءُ بالإمضاء فلا بداءَ ، فالعِلْمُ في المعلوم قبلَ كَوْنِه ، والمشيئةُ في المنشَأ قبلَ عينه ، والإرادةُ في المراد قبلَ قيامه ، والتقديرُ لهذه المعلوماتِ قبلَ تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا ، والقضاءُ بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ، ذَوات الأجسامِ المدرَكاتِ بالحواسّ من ذَوِي لونٍ وريحٍ ووزنٍ وكَيْلٍ وما

والإنشاء؛ يعني إيجاد الحوادث وإيقاع الوقائع على الترتيب الواقع في الزمان ولم يعلم أحد من خلقه بصدور بعضها عنه، بل ربّما يظنّ بعدم صدوره، وكذا نسخ بعض الأحكام وإنزال ما ينسخه، بل نسخ بعض مراتب الوجود السابقة ببعض المراتب اللاحقة في الأعيان كما مرّ بيانه. (فيما عَلِمَ متى شاء) يعنى إنّما يكون ذلك البداء فيما يكون معلوما للّه تعالى متى شاء وقَدَر بتخفيف الدال (وفيما أراد لتقدير الأشياء) أي لأجل تعلّق إرادته بإيجاد الأشياء. والحاصل أنّ البداء إنّما يكون في معلوماته تعالى في مرتبة القدرة والإرادة وتعلّقها، فأمّا بعد وقوع (القضاء بالإمضاء) أي بعد إيجاد الحوادث ووقوع الوقائع وتحقّق النسخ وحين وجودها وبقائها (فلا بداء) أي لا إيجاد ولا إحداث ولا نسخ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل. ولا يختصّ العلم بها بالواجب تعالى؛ لأنّ بعد تحقّق ذلك الأشياء يعلم بها غيره أيضا، فقوله: «فللّه تبارك وتعالى البداء» إلى قوله: «فالعلم بالمعلوم» جملة معترضة يناسب ذكرها في أثناء الجواب. وقوله: (فالعلم بالمعلوم) إلى قوله: (فللّه تبارك وتعالى فيه البداء) تتمّة للجواب. والمقصود أنّ العلمَ والمشيّة - أي القدرة والإرادة - والتقدير - أي تعلّق الإرادة - كلّها مقدّم على كون الحادث ووجوده تقدّما ذاتيا وزمانيا معا. وأمّا القضاء بالإمضاء - يعني الإيجاد اللازم للإبقاء - فإنّما هو مع وجود الحادث في الزمان وإن كان مقدّما عليه بالذات. و(المبرم) إمّا مصدر ميمي بمعنى الإبرام والإحكام على سبيل المبالغة، وإمّا اسم فاعل، أي المتقِن والمحكم. و«من» للتبعيض، أي هو المحقّق لوجود بعض (المفعولات ذوات الأجسام) ووجه التخصيص بهذا القسم من المفعولات لفرط ظهورها وتيقّن وجودها عند المخاطبين.

ص: 629

دَبَّ ودَرَجَ من إنسٍ وجنٍّ وطيرٍ وسِباعٍ ، وغير ذلك ممّا يُدرَكُ بالحواسّ . فللّه - تبارك وتعالى - فيه البداءُ ممّا لا عينَ له ، فإذا وَقَعَ العينُ المفهومُ المدرَكُ فلا بَداءَ ، واللّهُ يَفعلُ ما يشاء ، فبالعلمِ عَلِمَ الأشياءَ قبلَ كونها ، وبالمشيئةِ عَرَّفَ صفاتِها وحدودَها ، وأنشأها قبلَ إظهارها ، وبالإرادةِ مَيَّزَ أنفسَها في ألوانها وصفاتها ، .........

وقوله: (درج) عطف تفسيري ل- «دبّ» ومعناهما مشى. وقوله: (فللّه تبارك وتعالى فيه البداء) إلى قوله: (فبالعلم) تبيين وتوضيح للجملة المعترضة، أي يثبت للّه تعالى البداء بالمعنيين اللذين ذكرناهما آنفا (فيه) أي في المعلوم (ممّا لا عين له)؛ يعني يثبت البداء في بعض معلوماته تعالى الذي «لا عين له» أي لا خارج له؛ يعني لا يوجد بعد في الخارج (فإذا وقع) في الخارج (العين المفهوم المدرَك) أي الشخص المفهوم بالذهن المدرك بالحواسّ (فلا بداء) أي لا إيجاد ولا إيقاع ولا نسخ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل، ولا خفاء على جميع ما عداه كما لا يخفى. وقوله: (فبالعلم علم الأشياء) إلخ، تتمّة للجواب، أي بالعلم الذي هو عين لذاته تعالى علم الأشياء بذاته. (وبالمشيّة) أي القدرة الذاتيّة (عرّف) العقول والنفوس (صفاتِها وحدودَها) وينبغي حمل الحدود على ما يعمّ من الحدّ والرسم والحدود المحيطة بالمقدار. (وأنشأها) أي أوجدها في الأذهان وجودا ذهنيا، أو في اللوح المحفوظ وجودا في الكتابة قبل إظهارها وإيجادها في الخارج؛ فإنّ ذلك التعرّف إنّما يكون بقدرة اللّه تعالى، وذلك لا ينافي اختصاصه تعالى ببعض العلوم؛ لأنّه لا يلزم من ذلك تعرّف جميع المعلومات، بل يكفي تعرّف بعض الأشياء، فيكون بعضها مخفيّا عن غيره لا سيّما العلم بمصالح وجودها الذي يسمّى بسرّ القدر، أي سرّ تعلّق الإرادة بالأمر المعيّن على الوجه المخصوص. (وبالإرادة ميّز أنفسَها) أي بسبب الإرادة الذاتيّة ميّز الأشياء بعضها عن بعض في نفس الأمر ب- (ألوانها وصفاتها) وتشخّصاتها.

ص: 630

وبالتقديرِ قَدَّرَ أقواتَها وعَرَّفَ أوَّلَها وآخرَها ، وبالقضاء أبانَ للناس أماكِنَها ودَلَّهُم عليها ، وبالإمضاءِ شَرَحَ عِلَلَها وأبانَ أمرَها ، وذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ» .

باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلّا بسبعةعدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ؛ ومحمّد بن يحيى ، عن

(وبالتقدير) أي بسبب تعلّق الإرادة في الأزل على وجود الأشياء فيما لا يزال كلٌّ في وقته (قَدَّر أقواتها) أي جعل مقادير أقواتها معيّنا (وعرّف) العقول والنفوس (أوّلها وآخرها) أي أوّل زمان حدوثها وآخر زمان بقائها؛ لأنّ تلك الاُمور إنّما تكون (1) بعد تعلّق الإرادة بوجود الحادث. (وبالقضاء) أي بسبب الإيجاد (أبان للناس أماكن) الأشياء (ودلّهم عليها) وقد عرفت أنّ الكلام هاهنا في الأجسام الحادثة لا سيّما الحيوان. (وبالإمضاء) أي الإبقاء (شرح عللها) أي كشف عن عللها الغائيّة، كالمعرفة المترتّبة على وجود الإنسان مثلاً (وأبان أمرها) أي الحكمة المرعيّة فيها (وذلك تقدير العزيز) أي تعلّق إرادة البالغ في القدرة (العليم) أي البالغ في العلم؛ واللّه الموفِّق والمعين.

(باب في أنّه لا يكون شيء) إلخقوله عليه السلام : (لا يكون شيء في الأرض) إلخ أقول: يعني لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء من الحوادث (إلّا) بسبب (هذه الخصال) أي الصفات السبع، سواء كان من أفعال اللّه تعالى، أو من أفعال العباد. وعرفت أنّ المراد بالمشيّة القدرة، وهي كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل. والمراد بالقدر تعلّق الإرادة، وبالقضاء الإيجاد كما مرّ. ولعلّ المراد بالإذن عدم المانع ورفعه. والمراد بالكتاب هو العلم. وبالأجل هو وقت


1- .في النسخة: «لأنّ تلك الاُمور إنّما يكون».

ص: 631

أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ومحمّد بن خالد ، جميعا عن فَضالةَ بن أيّوبَ عن محمّد بن عمارة ، عن حَريز بن عبد اللّه وعبد اللّه بن مُسكان جميعا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال :«لا يكونُ شيءٌ في الأرض ولا في السماء إلّا بهذه الخصال السَّبْع : بمشيئةٍ ، وإرادةٍ ، وقدرٍ ، وقضاءٍ ، وإذْنٍ ، وكتابٍ ، وأجَلٍ ، فمن زعم أنّه يَقدِرُ على نقض واحدةٍ فقد كَفَرَ» . ورواه عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن حفص ، عن محمّد بن عُمارةَ ، عن حريز بن عبد اللّه وابن مُسكان مِثلَه .

ورواه أيضا ، عن أبيه ، عن محمّد بن خالد ، عن زكريّا بن عِمرانَ ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام قال :«لا يكونُ شيءٌ في السماوات ولا في الأرض إلّا بسبعٍ : بقضاءٍ ، وقَدَرٍ ، وإرادةٍ ، ومشيئةٍ ، وكتابٍ ، وأجَلٍ ، وإذْنٍ ، فمن زَعَمَ غيرَ هذا فقد كَذَبَ على اللّه ، أو رَدَّ على اللّه عزّ وجلّ».

باب المشيئة والإرادةعليُّ بن محمّد بن عبد اللّه ، عن أحمدَ بن أبي عبد اللّه ، عن أبيه ، عن محمّد بن سليمان

حدوث الحوادث. والترتيب غير مقصود بيانه في هذا المقام، وإلّا فالعلم مقدّم على الكلّ، بل المقصود أنّ هذه الاُمور ممّا يتوقّف عليه وجود الحوادث. قوله عليه السلام : (فقد كذب على اللّه ، أو ردّ على اللّه عزّ وجلّ) أقول: الشكّ من الراوي ومعناه أنّه ينافي ما في القرآن صريحا في آيات كثيرة.

[باب المشيّة والإرادة]قوله: (باب المشيّة والإرادة) اعلم أنّ المشيّة في اللغة الإرادة، ومجازا يطلق على القدرة؛ لاشتمال مفهومه عليها كما مرّ، ففي كلّ موضع لا مانع عن حمله على المعنى اللغوي ينبغي حمله، ومع وجود القرينة الصارفة عن حمله على المعنى المذكور ينبغي حمله على المعنى المجازي كما مرّ منّا سابقا، فالمراد بالمشيّة في هذا الباب معناه اللغوي. وقوله: «والإرادة» عطف تفسيري له.

ص: 632

الديلميّ ، عن عليّ بن إبراهيم الهاشميّ قال : سمعتُ أبا الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام يقول : «لا يكون شيءٌ إلّا ما شاءَ اللّهُ وأرادَ وقَدَّرَ وقضى» . قلتُ : ما معنى «شاء؟» قال : «ابتداءُ الفعلِ» . قلتُ : ما معنى «قدَّر؟» قال : «تقديرُ الشيء من طولِه وعرضِه» . قلتُ : ما معنى «قضى؟» قال : «إذا قضى أمْضاهُ ، فذلك الذي لا مَرَدَّ له».

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ بن عبد الرحمن ، عن أبان ، عن أبيبصير قال: قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : شاءَ وأرادَ وقَدَّرَ وقضى؟ قال:«نعم». قلتُ: وأحَبَّ؟

قوله: (قلت: ما معنى «شاء») إلخ المقصود بالذات السؤال عن المشيّة؛ لأنّ معنى المشتقّ بعد العلم بالمبدأ ظاهر؛ ولذا قال: (ابتداء الفعل) أي مبدؤه؛ فإنّ الإرادة مبدأ لتخصيص وقوع الفعل على الترك في بعض الأوقات دون بعض، فالمشيّة في هذا الحديث - بناءً على هذه النسخة بحسب الظاهر - بمعنى الإرادة، وقد وقع في كتاب المحاسن للبرقي رحمه الله في هذه الرواية بعد هذا. قلت: فما معنى «أراد؟» قال: الثبوت عليه (1) . انتهى. فعلى هذه الرواية ينبغي حمل المشيّة على معناه المجازي من القدرة وكونها مبدءً للفعل ظاهر، وحينئذٍ فمعنى الثبوت عليه هو تخصيص وقوع الفعل على الترك في بعض الأوقات دون بعض، فعبّر عن الإرادة - وهي المخصّص لذلك التخصيص - بأثره، تعبيرا عن السبب بالمسبّب مجازا. ولمّا كان «تقدير الشيء من طوله وعرضه» وزمان حدوثه وزمان بقائه وأمثال ذلك في مرتبة تعلّق الإرادة، ففسّر القدر الذي هو تعلّق الإرادة بذلك. ولمّا كان القضاء - أي الإيجاد - مصاحبا وملازما للإمضاء والإبقاء، فكشف عن معنى القضاء بقوله: (إذا قضى أمضاه). قوله: (فذلك لا مردّ له) أي لا رادّ لقضائه كلّما أوجده لا مانع له من إيجاده. قوله: (قلت: وأحبّ) إلخ لمّا كانت المشيّة والإرادة وتعلّقها وإيقاع الفعل في الإنسان مقارنا لمحبّته وشوقه وميل قلبه لذلك الفعل، فتوهّم السائل أنّ له تعالى في خلق الأشياء صفة زائدة على ما ذكره


1- .المحاسن، ص 244، ح 237؛ بحار الأنوار، ج 5، ص 122، ح 68.

ص: 633

قال : «لا» . قلتُ : وكيف شاء وأرادَ وقدَّر وقضى ولم يُحِبَّ؟! قال : «هكذا خَرَجَ إلينا».

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن عليّ بن مَعبدٍ ، عن واصِلِ بن سليمان ، عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سمعتُه يقول :«أمَرَ اللّه ولم يَشَأْ ؛ .........

وهي المحبّة والشوق وميل القلب - لإيجادها، فأجاب عنه عليه السلام أنّه ليس له تعالى محبّة؛ يعني ليس له شوق وميل قلب ولا صفة زائدة على ما ذكر في خلق الأشياء يعبّر عنه بالمحبّة، بل إسناد المحبّة إليه تعالى مجاز وكناية عن ثوابه ومدحه وأمره أو عدم نهيه. وقوله: (هكذا خرج إلينا) من مشكاة النبوّة ومن البراهين والحجج البيّنة. ويمكن حلّه بوجه آخر وهو أن يقال: لمّا كان جميع الموجودات - حتّى أفعال العباد ومنها الكفر والمعاصي - بمشيّة اللّه تعالى وإرادته وقضائه وقدره وإن لم يكن مجموع تلك الاُمور علّة تامّة مستقلّة لأفعالهم، بل علّة ناقصة لها، وإنّما يتمّ بقدرة العبد ومحبّته وشوقه وميل قلبه وإرادته المؤثّرة حتّى يكون العبد شريكا لعلّة الفاعليّة لأفعالهم الاختياريّة، ومن ذلك لا يلزم صدور القبيح عنه تعالى ولا معلوله (1) تعالى عن ذلك علوّا كبيرا كما سيجي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى، توهّم (2) السائل أنّه كما لا يتحقّق فعل اختياري للعبد بدون المحبّة لا يتحقّق صدور شيء منها عنه تعالى أيضا بدونها حتّى يلزم أن يكون محبّا للكفر والعصيان من الكافر والعاصي تعالى عن ذلك، فأجاب عليه السلام بأنّه ليس كذلك؛ لأنّ المحبّة إذا نسب إليه تعالى يكون بمعنى الثواب والمدح والأمر، أو عدم النهي، وذلك لا يكون في جميع الحوادث كما خرج ذلك من القرآن حيث قال تعالى: «لا يُحِبُّ اللّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ» (3) وأمثال ذلك. قوله: (أمر اللّه ولم يشأ) إلخ أقول: اعلم أنّ الفعل كما اُسند إلى الفاعل فقد يسند إلى المعدّ كإسناد البِناء إلى البنّاء، وإسناد التسخين والتبريد إلى النار والماء وإلى الأدوية وأمثالها، وقد يسند إلى الشرط


1- .في النسخة: «معلومه».
2- .جواب «لمّا».
3- .النساء (4): 148.

ص: 634

كإسناد الإضاءة إلى الشمس والسراج مثلاً، فبعض الأفعال الصادرة عن الطبائع النوعيّة كالحركات الطبيعيّة والقسريّة والأفعال الاختياريّة لا سيّما للإنسان، بل الأفعال الصادرة عن النفوس الفلكيّة والعقول المجرّدة بناءً على القول بوجودهما، فذهب بعضهم إلى أنّ كلّ واحد منهم فاعل مؤثّر بالاستقلال لفعله، وذهب بعضهم إلى أنّ كلّ واحد من تلك الاُمور - لا سيّما إرادة النفوس الحيوانيّة والإنسانيّة والفلكيّة بل إرادة العقول مع عدم المانع - شرطٌ وواسطة لصدور تلك الأفعال من مفيض الوجود مع الاتّفاق، على أنّها أفعال لتلك الاُمور؛ إذ المحرّك والمنمي والقائم والقاعد والآكل والشارب مثلاً هو من قام به الفعل لا من أوجده، فإسناد الأفعال إلى تلك الاُمور عند هؤلاء من قبيل إسناد الفعل إلى الشرائط والوسائط لا الى الفاعل والموجد. وأمّا ما يستفاد من كلام الحكماء المحقّقين الإلهيين لا سيّما من كلام الأئمّة عليهم السلام أنّ أفعال تلك الاُمور إنّما يوجد بمجموع تأثير المبدأ الأوّل وتأثير تلك الاُمور، فكلّ واحد منها شريك لعلّة فاعليّة فعله كما صرّح الحكيم بذلك المعنى في الصورة حيث قال: وبرهن على أنّ الصورة شريكة لعلّة فاعليّة الهيولى، ففعل العبد واقع بمجموع القدرتين والإرادتين وتعلّقهما والتأثيرين (1) ، والعبد لا يستقلّ في إيجاد فعله بحيث لا دخل لقدرة اللّه تعالى فيه أصلاً، بمعنى أنّه أقدر العبد على فعله بحيث يخرج عن يده أزمّة الفعل المقدور للعبد مطلقا كما ذهب إليه المفوّضة، أو لا تأثير لقدرته تعالى فيه وإن كان قادرا على طاعة العاصي جبرا؛ لعدم تعلّق إرادته بجبره في أفعاله الاختياريّة كما ذهب إليه المعتزلة، وهذا أيضا نحو من التفويض وقولٌ بالقدر كما سيجيء تحقيقه إن شاء اللّه تعالى وبطلانه ظاهر، كيف لا، ولقدرة خالق العبد وموجده تأثير في فعل العبد بلا شبهة كما يحكم عليه (2) الحدس الصائب، وليس قدرة العبد بحيث لا تأثير له في فعله أصلاً، سواء كانت كاسبة كما ذهب إليه الأشعري


1- .في المرآة: + «من العبد ومن الربّ سبحانه».
2- .في المرآة: «به».

ص: 635

ويؤول مذهبه إلى الجبر كما يظهر بأدنى تأمّل، أم لا تكون كاسبة أيضا، بمعنى أن لا يكون له قدرة واختيار أصلاً بحيث لا فرق بين مشي زيد وحركة المرتعش كما ذهب إليه الجبريّة وهم: جهم بن صفوان الترمذي (1) ومن تبعه. فهذا ما يستفاد من كلام الأئمّة عليهم السلام من أنّه لا جبر ولا تفويض ولا قدر ولكن أمر بين أمرين، ومعنى (2) قول الحكماء الإلهيين حيث قالوا: «لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه » [فمعناه] (3) أنّه لا يوجد شيء إلّا بإيجاد اللّه تعالى وتأثيره في وجوده بأن يكون فاعلاً قريبا له - سواء كان بلا مشاركة تأثير غيره فيه كما في أفعاله تعالى كخلق زيد مثلاً، أو بمشاركة تأثير غيره فيه كخلقه فعل زيد مثلاً - فجميع الكائنات حتّى أفعال العباد بمشيّته تعالى وإرادته وقدره، أي تعلّق إرادته وقضائه، أي إيجاده وتأثيره في وجوده، ولمّا كان (4) مشيّة العبد وإرادته وتأثيره في فعله، بل تأثير كلّ واحد من الاُمور المذكورة آنفا في أفعالها جزءَ أخيرٍ (5) للعلّة التامّة لأفعالها، وإنّما يكون تحقّق الفعل والترك مع وجود ذلك التأثير وعدمه، فينتفي صدور القبيح عن اللّه تعالى، بل إنّما يتحقّق بالمشيّة والإرادة الحادثة، وبالتأثير من العبد الذي هو متمّم للعلّة التامّة، ومع عدم تأثير العبد والكفّ عنه بإرادته واختياره لا يتحقّق فعله بمجرّد مشيّة اللّه تعالى وإرادته وقدره، بل لا يتحقّق حينئذٍ مشيّة وإرادة [و] (6) تعلّق إرادة منه تعالى بذلك الفعل، ولا يتعلّق جعله ولا تأثيره في وجود ذلك الفعل (7) مجرّدا عن تأثير العبد، فحينئذٍ الفعل لا سيّما القبيح مستند إلى العبد، ولمّا كان مراده تعالى من إقداره العبد في فعله وتمكينه له فيه صدورَ الأفعال عنه باختياره وإرادته إذا لم يكن مانعا 8 ، أيّ فعل أراد واختار


1- .اُنظر: رسائل السيّد المرتضى، ج 2، ص 181؛ بحار الأنوار، ج 27، ص 71؛ شرح المواقف للجرجاني، ج 8، ص 398؛ فتح الباري، ج 13، ص 290.
2- .المثبت من المرآة، وفي النسخة: «فمعنى».
3- .من المرآة.
4- .في المرآة: «كانت».
5- .في المرآة: «جزءً أخيرا».
6- .المثبت من المرآة ، و في النسخة: «العقل».
7- .في نقل المرآة: «مانع».

ص: 636

من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، ولم يرد منه خصوص شيء من الطاعة والمعصية، ولم يرد جبره في أفعاله ليصحّ تكليفه لأجل المصلحة المقتضية له، ولا يعلم تلك المصلحة إلّا اللّه تعالى، وكلّفه بعد ذلك الإقدار بإعلامه بمصالح أفعاله ومفاسده في صورة الأمر والنهي؛ لأنّهما من اللّه تعالى من قبيل أمر الطبيب للمريض بشرب الدواء النافع، ونهيه عن أكل الغذاء الضارّ، وذلك ليس بأمر ونهي حقيقة، بل إعلام بما هو نافع وضارّ له، فمن صدور الكفر والعصيان عن العبد بإرادته المؤثّرة واستحقاقه بذلك العقاب لا يلزم أن يكون العبد غالبا عليه تعالى، ولا يلزم عجزه تعالى كما لا يلزم غلبة المريض على الطبيب، ولا عجز طبيب إذا خالفه المريض وهلك، ولا يلزم أن يكون في ملكه أمرٌ (1) لا يكون بمشيّة اللّه وإرادته، ولا يلزم الظلم في عقابه؛ لأنّ (2) فعل القبيح بإرادته المؤثّرة، وطبيعة ذلك الفعل توجب أن يستحقّ فاعله العقاب. ولمّا كان مع ذلك الإعلام من الأمر والنهي بوساطة الحجج البيّنة اللطف والتوفيق في الخيرات والطاعات من اللّه جلّ ذكره، فما فعل الإنسان من حسنة فالأولى أن يسند وينسب إليه تعالى؛ لأنّ (3) مع إقداره وتمكّنه (4) له وتوفيقه للحسنات أعلمه بمصالح الإتيان بالحسنات ومضارّ تركها والكفّ عنها بأوامره، وما فعله من سيّئة فمن نفسه؛ لأنّه مع ذلك أعلمه بمفاسد الإتيان بالسيّئات ومنافع الكفّ عنها بنواهيه. وهذا من قبيل إطاعة الطبيب ومخالفته، فإنّه من أطاعه وبرئ من المرض يقال له: عالجه الطبيب وجعله (5) صحيحا، ومن خالفه وهلك يقال له: هلك نفسه بمخالفته للطبيب. والحقّ إسناد الحسنات إلى اللّه تعالى وإسناد السيّئات إلى العبد. هذا ممّا وفّقني اللّه تعالى بتحقيقه، وجعلني متفرّدا في فهمه من أحاديث أهل البيت عليهم السلام ومنطبق على ظواهر جميع الآيات الواردة في هذا الباب ولا مخالفة حينئذٍ


1- .المثبت من المرآة ، وفي النسخة: «أمرا».
2- .في المرآة: «لأنّه».
3- .في الموضع الأوّل من المرآة: «لأنّه».
4- .في المرآة: «تمكينه».
5- .في المرآة: «صيّره».

ص: 637

وشاءَ ولم يَأمُرْ ، أمَرَ إبليسَ أن يَسجُدَ لآدمَ وشاءَ أن لا يَسجُدَ ، ولو شاءَ لَسَجَدَ ، .........

فيما بين ظواهرها حتّى يحتاج إلى تأويل كما فعله الأشاعرة والمعتزلة. إذا عرفت هذا فنقول: معنى قوله عليه السلام : «أمر اللّه ولم يشأ» أنّه أعلم العباد وأخبرهم بالأفعال (1) النافعة لهم كالإيمان والطاعة، ولم يشأ صدور خصوص تلك الأفعال عنهم، كيف ولو شاء ولم يصدر عن بعضهم، لزم عجزه ومغلوبيّته، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، بل إنّما يشاء (2) صدور الأفعال عنهم بقدرتهم واختيارهم أيّ فعل يريدونه (3) ، فما شاء اللّه كان. ومعنى قوله: (وشاء ولم يأمر) أنّه شاء صدور الأفعال عن العباد باختيارهم أيّ فعل يريدونه (4) ، ولم يأمر كلّ ما يريدونه، يعني لم يعلمهم بنفع كلّ ما يريدونه، بل ربّما أعلمهم بمضرّة معصيته كالكفر والعصيان، وهذا معنى النهي كما مرّ، فقوله: (أمر إبليس أن يسجد لآدم) أي أعلمه بأنّ سجدته لآدم نافع له، وكفّه عنه ضارّ له (وشاء أن لا يسجد) يعني لم يشأ خصوص السجود عنه (ولو شاء) خصوص السجود عنه (لسجد) لاستحالة عجزه وغلبة إبليس عليه، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، بل إنّما شاء صدور أيّ واحد من السجود وتركه - أي كفّه عنه - بإرادته واختياره، ولمّا لم يسجد إبليس، أي كفّ عن السجود بإرادته، فهو تعالى لأجل ذلك شاء كفّه السجود باختياره، ولمّا كان الكفّ عن السجود إنّما تحقّق 5 بمشيّة إبليس وإرادته المؤثّرة - وهي جزؤ أخير للعلّة التامّة - وبمجرّد مشيّة اللّه تعالى لا يجب تحقّقه؛ فلذلك يستحقّ إبليس الذمّ والعقاب، والقبيح صادر عنه، ولا يلزم صدور القبيح عن اللّه تعالى 6 .


1- .في المرآة: «بالأعمال».
2- .في المرآة: «شاء».
3- .في المرآة: «أرادوه».
4- .في المرآة: «يتحقّق».

ص: 638

ونهى آدمَ عن أكْلِ الشجرةِ ، وشاءَ أن يَأكُلَ منها ، ولو لم يَشَأْ لم يَأكُلْ».

عليُّ بن إبراهيم ، عن المختار بن محمّد الهمدانيّ ؛ ومحمّد بن الحسن ، عن عبد اللّه بن الحسن العلويّ جميعا ، عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ ، عن أبي الحسن عليه السلام قال :«إنَّ للّه إرادتين ومشيئتين : إرادةَ حتمٍ وإرادةَ عَزمٍ ، يَنهى وهو يَشاءُ ، ويَأمُرُ وهو لا يشاءُ ، أو ما

وقوله: (ونهى آدم عن أكل الشجرة) أي أعلم آدم عليه السلام أنّ أكل الشجرة مضرّ له، وكفّه عنه نافع له (وشاء أن يأكل منها) بسبب أنّه شاء صدور الفعل والترك عنه بإرادته واختياره ولم يشأ جبره في صدور خصوص أحد طرفي الفعل والترك عنه، ولمّا تعلّق الإرادة المؤثّرة من آدم عليه السلام بأكل الشجرة، فهو تعالى شاء أكله بإرادته (ولو لم يشأ أكله لم يأكل) لاستحالة غلبة مشيّة آدم عليه السلام على مشيّته وعجزه تعالى عن ذلك، فما لم يشأ لم يكن، فسبحان من تنزّه عن الفحشاء، وسبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء، هذا. وقد أوَّلَ الشيخ ميثم البحراني نهي آدم وزوجته عن أكل الشجرة في شرحه الكبير لنهج البلاغة (1) بنهي أولادهما عن قرب شجرة العصيان، وأوَّلَ الجنّةَ برضوان اللّه ؛ لأنّ هذا أقرب من جعل النهي للتنزيه مع قوله تعالى: «عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» (2) ونحو ذلك. قوله عليه السلام : (إنّ للّه إرادتين ومشيّتين: إرادةَ حتمٍ وإرادةَ عزمٍ) إلخ أقول: قوله: «ومشيّتين» عطف تفسيري لقوله: «إرادتين» وإرادة الحتم هو إرادته في


1- .لم أعثر عليه في شرحه، ونقله عنه أيضا السيّد أحمد العلوي في الحاشية على الكافي، ص 356.
2- .طه (20): 121.

ص: 639

رأيتَ أنّه نهى آدمَ وزوجتَه أن يأكلا من الشجرة ، وشاءَ ذلك ، ولو لم يَشَأْ أن يأكُلا لما غَلَبَتْ مَشيئتُهُما مشيئةَ اللّه تعالى ، وأمَرَ إبراهيمَ أن يَذبَحَ إسحاقَ ، ولم يَشَأْ أن يَذبَحَهُ ، ولو شاء لما غَلَبَتْ مَشيئةُ إبراهيمَ مشيئةَ اللّه تعالى».

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن عليّ بن مَعبَدٍ ، عن دُرُسْتَ بن أبي منصور ، عن فُضيل بن يسار ، قالَ : سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :«شاءَ وأرادَ ولم يُحِبَّ ولم يَرْضَ : شاء أن لا يكونَ شيءٌ إلّا بعلمه ، وأرادَ مثل ذلك ، ولم يُحِبَّ أن يقال : ثالثُ ثلاثةٍ ، ولم يَرْضَ لعباده الكفرَ».

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قالَ : قالَ أبو الحسن الرضا عليه السلام :«قالَ اللّه : يا ابنَ آدمَ بمشيئتي كنتَ أنت الذي تَشاءُ لنفسك ما تَشاءُ،

أفعاله تعالى، وإرادة العزم هو إرادته تعالى في أفعال العباد، فإنّه لمّا كان تحقّق أفعال العباد وأمثاله بمجموع إرادة اللّه تعالى وإرادة المؤثّرة للعبد، وليس إرادة اللّه تعالى مستقلّة في التأثير هاهنا، سمّاه بإرادة العزم، بخلاف الإرادة الاُولى فإنّها مستقلّة في التأثير من غير مشاركة إرادة آخر لها فيه، ولذا سمّي بإرادة الحتم. وشرح باقي الحديث يظهر ممّا مرّ؛ فأحسن تدبّره. قوله: (ولم يحبّ ولم يرض) أي لم يأمر بها، بل جعله منهيّا عنه، ولم يجعله بحيث يترتّب (1) عليه النفع، بل يكون بحيث يترتّب عليه الضرر (2) . قوله: (بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء) يعني بمشيّتي كنت قادرا على صدور الأفعال عنك بإرادتك واختيارك، وتلك هي مشيّة حتم؛ لأنّه متعلّق بفعله تعالى. ومن هذا ظهر أنّ مشيّة اللّه تعالى إنّما تتعلّق (3) بصدور الأفعال عن العباد بإرادتهم واختيارهم سواء كان نافعا لهم كالإيمان والطاعة أو ضارّا لهم كالكفر والمعصية، ولا تتعلّق مشيّته بخصوص فعل عنهم فتدبّر. وشرح باقي الحديث يظهر ممّا مرّ.


1- .في النسخة: «ترتّب»، وكذا ظاهر المورد الثاني.
2- .نقلها في مرآة العقول، ج 2، ص 162 وفيه: «لم يأمر بهما بل جعلهما منهيّا عنهما» وكذا سائر الضمائر.
3- .في النسخة: «يتعلّق». وكذا المورد الآتي.

ص: 640

وبقوّتي أدَّيْتَ فرائضي ، وبنعمتي قَوِيتَ على معصيتي ، جَعَلْتُك سميعا ، بصيرا ، قويّا ؛ ما أصابَك من حَسَنَةٍ فمن اللّه ، وما أصابَك من سيّئةٍ فمِنْ نفسك ، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتِك منّي ، وذاك أنّني لا اُسْأَلُ عمّا أفعَلُ وهم يُسألون» .

باب الابتلاء والاختبارعليُّ بن إبراهيمَ بن هاشم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ بن عبد الرحمن ، عن حمزةَ بن محمّد الطيّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«ما من قَبْضٍ ولا بَسْطٍ إلّا وللّه فيه مشيئةٌ وقضاءٌ وابتلاءٌ» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن فَضالَةَ بن أيّوبَ ، عن حمزةَ بن محمّد الطيّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«إنّه ليس شيءٌ فيه قَبْضٌ أو بَسْطٌ ممّا أمَرَ اللّهُ به أو نَهى عنه إلّا وفيه للّه عزّ وجلّ ابتلاءٌ وقضاءٌ».

باب السعادة والشقاءمحمّد بن إسماعيلَ ، عن الفَضل بن شاذان ، عن صفوانَ بن يحيى ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«إنّ اللّه خَلَقَ السعادةَ والشقاءَ قبل أن يَخلُقَ خَلْقَه ، فمَن

[باب الابتلاء والاختبار]قوله عليه السلام : (وابتلاء) الابتلاء والامتحان إنّما يكون بالنسبة إلى المخلوقات بأن تصير أحوالهم مكشوفا عندهم لإتمام الحجّة لا بالنظر إليه تعالى؛ لأنّه تعالى عالم في الأزل بجميع الكلّيات والجزئيّات.

باب السعادة والشقاءقوله عليه السلام : (إنّ اللّه خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه) إلخ لعلّ المراد بالسعادة ما هو مبدأ للإيمان بالاختيار من جودة العقل - أي القوّة التي تكون النفس تدرك بها المعقولات، وتميّز بها بين الحقّ والباطل - وشرافةِ النفس وقوّتها وغلبتها

ص: 641

خَلَقَه اللّهُ سعيدا لم يُبْغِضْهُ أبدا ، وإن عَمِلَ شرّا أبغَضَ عملَه ولم يُبْغِضْهُ ، وإن كانَ شَقيّا لم يُحِبَّه أبدا ، وإن عَمِلَ صالحا أحَبَّ عملَه وأبغضَه لما يَصيرُ إليه، فإذا أحبَّ اللّهُ شيئا لم يُبْغِضْهُ أبدا وإذا أبْغَضَ شيئا لم يُحِبَّهُ أبدا».

على قوّتي الغضبيّة والشهويّة، وبالشقاء ما هو مبدأ للكفر بالاختيار من رداءة العقل وخسّة النفس وضعفها ومغلوبيّتها عن القوّتين المذكورتين. والمراد بقوله: «قبل أن يخلق خلقه» قبل خلق البدن، يعني خلق البدن (1) ، يعني خلق بعض النفوس جيّد العقل شريفا قويّا بحيث يختار الإيمان بعد تعلّقه بالبدن وبلوغه إلى سنّ التكليف وإن كان في آخر حياته، ويصير خاتمته بالخير، وخلق بعضها رديء العقل خسيسا ضعيفا بحيث يختار الكفر وإن كان في آخر حياته، ويصير خاتمته بالشرّ. هذا إذا كانت النفس مخلوقة قبل خلق البدن. وأمّا على رأيمن قال بحدوثها عند حدوث البدن، فالمراد بالسعادة والشقاء استعداد المادّة قبل خلق النفس والبدن لتعلّق النوع، أو الصنف من النفس، أو الثاني بالبدن بعد وجودهما، وقد مرّ أنّ الحبّ إذا اُسند إليه تعالى معناه الثواب والمدح والأمر وعدم النهي، فالبغض إذا اُسند إليه تعالى معناه ما يقابل ذلك من العقاب والذمّ والنهي، فالمراد بقوله: (من خلقه اللّه سعيدا) إلخ أنّه من خلقه جيّد العقل شريفا قويّا نفسه بحيث يكون خاتمته بالخير بسبب خروجه عن الدنيا بالإيمان (لم يبغضه أبدا) أي لم يجعله مخلّدا في النار أصلاً. ولا يبعد أن يكون المراد لم يعذّبه مطلقا بسبب تفضّله الكاملة (وإن) صدر عنه (عمل شرّا أبغض عمله) بمعنى أنّه يكون منهيّا عنه مذموما (ولم يبغضه) أي لم يجعل ذلك الشخص مخلّدا في النار، أو لم يعذّبه أصلاً بسبب ذلك العمل لخيريّة خاتمته. والمراد بقوله: (إن كان شقيّا) إلخ أنّه إن كان رديء العقل خسيسا ضعيفا نفسه بحيث يكون خاتمته بالشرّ بسبب خروجه عن الدنيا بالكفر (لم يحبّه أبدا) أي لم يدخله في الجنّة أصلاً (وإن) صدر عنه (عمل) خير (أحبّ عمله) بمعنى أنّه يكون مأمورا به ممدوحا،


1- .كذا.

ص: 642

عليُّ بن محمّد، رَفَعَه ، عن شعيب العَقَرْقوفيِّ ، عن أبي بصير قال : كنت بين يدي أبي عبد اللّه عليه السلام جالسا وقد سَألَه سائلٌ ، فقال :جُعلتُ فداك يا ابن رسولِ اللّه من أين لَحِقَ الشقاءُ أهلَ المعصية حتّى حَكَمَ اللّه لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : «أيُّها السائلُ حُكْمُ اللّه - عزّ وجلّ - لا يَقومُ له أحَدٌ من خلقه بحقّه ، فلمّا حَكَمَ بذلك

وأبغض نفسه؛ لما تصير إليه من الكفر وسوء خاتمته (فإذا أحبّ اللّه شيئا) وجعل الجنّة مثواه (لم يبغضه أبدا) ولم يجعله مخلّدا في النار بالضرورة، أو لم يعذّبه بفضله تعالى أصلاً (وإذا أبغض شيئا) وجعله مخلّدا في النار (لم يحبّه أبدا) ولم يدخله الجنّة بالضرورة. ومن هذا ظهر معنى الحديث المشهور عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: «السعيد من سعد في بطن اُمّه، والشقيّ من شقي في بطن اُمّه» (1) ، هذا. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه» أنّه تعالى علم بسعادة السعيد وشقاوة الشقيّ في الأزل قبل أن يخلق خلقه، عبّر عن العلم بلفظ الخلق مجازا، فحينئذٍ معنى قوله: (فمن خلقه اللّه سعيدا) من علمه اللّه سعيدا. ويحتمل أن يكون معناه كتب سعادة السعيد وشقاوة الشقيّ في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق خلقه، فعبّر عن الوجود في الكتابة بالخلق، فمعنى قوله: «من خلقه اللّه سعيدا» من كتبه اللّه سعيدا؛ فتدبّر. قوله: (من أين لحق الشقاء أهل المعصية) «من» هذه للتعليل نحو قوله تعالى: «مِمّا خَطِيئاتِهِمْ اُغْرِقُوا» (2) أي بأيّ سبب لحق الشقاء أهل المعصية والذين خاتمتهم بالسوء (حتّى حكم اللّه تعالى لهم في علمه) الأزلي (بالعذاب على عملهم) وحتم ووجب لهم العذاب في علمه كما يجيء في روايات كثيرة منها ما في باب طينة المؤمن والكافر أنّه قال تعالى فيهم: (هؤلاء للنار ولا اُبالي). وفي قوله عليه السلام : (أيّها السائل) تعنيف وإشارة إلى تجاسره بالسؤال عمّا لا يجوز السؤال


1- .الكافي، ج 8، ص 81، ح 39؛ التوحيد، ص 356، باب 58، ح 3؛ كتاب الزهد، ص 14، ح 28؛ بحار الأنوار، ج 5، ص 9، ح 13 ؛ وص 157، ح 10؛ كنز العمّال، ج 1، ص 107، ح 491 ؛ وج 8، ص 467، ح 23690.
2- .نوح (71): 25.

ص: 643

وَهَبَ لأهل محبّته القوّةَ على معرفته ، ووَضَعَ عنهم ثِقْلَ العمل بحقيقة ما هم أهلُه ، ووَهَبَ لأهل المعصية القوّةَ على معصيتهم لِسَبْقِ عِلْمِه فيهم ، ومَنَعَهُم إطاقةَ القبول منه ، فوافَقوا ما سَبَقَ لهم في علمه ، ولم يَقْدِروا أن يَأتوا حالاً تُنْجيهم من عذابه ؛ لأنّ علمَه أولى بحقيقةِ التصديقِ ، وهو معنى شاء ما شاء ، وهو سِرُّه» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن النضر بن سُوَيدٍ ، عن يحيى بن عِمرانَ الحلبيّ ، عن مُعلّى أبي عثمان ، عن عليّ بن حَنظلةَ ، عن أبيعبد اللّه عليه السلام ، أنّه قال :«يُسْلَكُ بالسعيد في طريقِ الأشقياء حتّى يقولَ الناس : ما أشْبَهَهُ بهم بل هو منهم ثمّ يَتَدارَكُه السعادةُ ، وقد يُسْلَكُ بالشقيّ في طريق السعداء حتّى يقولَ الناس : ما أشْبَهَهُ بهم ، بل هو منهم ثمّ يَتدارَكُه الشقاءُ ، إنّ مَن كَتَبَهُ اللّهُ سعيدا وإن لم يَبْقَ من الدنيا إلّا فُوَاقُ ناقةٍ خَتَمَ له بالسعادة».

باب الخير والشرّعدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن ابن محبوب وعليّ بن الحكم ، عن معاويةَ بن وَهْبٍ ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :«إنَّ ممّا أوحى اللّه إلى موسى عليه السلام وأنزَلَ عليه في التوراة : أنّي أنا اللّه لا إلهَ إلّا أنا ، خلقتُ الخلقَ وخلقتُ الخيرَ وأجرَيْتُه على يَدَيْ من اُحِبُّ ، فطوبى لمن أجْرَيْتُه على يديه ، وأنا اللّه لا إله إلّا أنا ، خَلقتُ الخلقَ وخَلقتُ الشرَّ وأجْرَيْتُه على يَدَيْ من اُريدُه ، فويلٌ لمن أجْرَيْتُه على يَدَيْه».

عدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد، عن أبيه ، عن ابن أبي عُمير ، عن محمّد بن حكيم ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول :«إنّ في بعض ما أنْزَلَ اللّهُ مِنْ كُتُبه أنّي أنا اللّهُ لا إلهَ إلّا أنا ، خَلقتُ الخيرَ وخَلقتُ الشرَّ ، فطوبى لمن أجْرَيْتُ على يديه الخيرَ ، وويلٌ لمن أجْرَيْتُ على يديه الشرَّ ، وويلٌ لمن يقول : كيف ذا وكيف ذا».

عليُّ بن محمّد، رَفَعَه ، عن شعيب العَقَرْقوفيِّ ، عن أبي بصير قال : كنت بين يدي أبي عبد اللّه عليه السلام جالسا وقد سَألَه سائلٌ ، فقال : جُعلتُ فداك يا ابن رسولِ اللّه من أين لَحِقَ الشقاءُ أهلَ المعصية حتّى حَكَمَ اللّه لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام :

عنه كما مرّ في باب المشيّة والإرادة، ويجيء في الحديث الثاني من باب الخير والشرّ قوله: (ويل لمن يقول: كيف ذا وكيف ذا).

ص: 644

«أيُّها السائلُ حُكْمُ اللّه - عزّ وجلّ - لا يَقومُ له أحَدٌ من خلقه بحقّه ، فلمّا حَكَمَ بذلك وَهَبَ لأهل محبّته القوّةَ على معرفته ، ووَضَعَ عنهم ثِقْلَ العمل بحقيقة ما هم أهلُه ، ووَهَبَ لأهل المعصية القوّةَ على معصيتهم لِسَبْقِ عِلْمِه فيهم ، ومَنَعَهُم إطاقةَ القبول منه ، فوافَقوا ما سَبَقَ لهم في علمه ، .........

وقوله: (حكم اللّه عزّ وجلّ) أي حكم اللّه تعالى مطلقا سواء كان حكمه في أهل العصيان بالعذاب على عملهم، أو حكمه في أهل الطاعة بالثواب على عملهم. (لا يقوم له) أي لمعرفته (أحد من خلقه بحقّه) أي بحقّ القيام، أي لا يمكن لأحد أن يعرف الحكمة في حكم اللّه تعالى من كلّ وجه، وعلى سبيل التفصيل، بل إنّما نعلم على الإجمال أنّ أحكامه تعالى مبنيّة على حِكم ومصالح. وقوله: (فلمّا حكم بذلك) أي حكم بالعذاب على عمل أهل المعصية، وحكم بالثواب على عمل أهل الطاعة (وهب لأهل محبّته) أي المستحقّين جنّته في علمه من أهل الطاعة والسعادة التي هي عبارة عن جودة العقل التي هي (القوّة على معرفته) وعن شرافة النفس وقوّتها التي (وضع عنهم ثقل العمل بحقيقة) تلك القوّة التي هم أهلها، فالمراد بالموصول في قوله: (ما هم أهله) تلك القوّة، وفي قوله: (ووهب لأهل المعصية) إشارة إلى أنّ ذلك باستحقاقهم، فكأنّهم طلبوه بلسان الاستعداد والاستحقاق، فاُعطوه. والمراد بالقوّة على المعصية الشقاء التي هي عبارة عن رداءة العقل وخسّة النفس وضعفها ومغلوبيّتها عن قوّتي الشهويّة والغضبيّة. وقوله: (لسبق علمه فيهم) أي بسبب علمه السابق الأزلي بأنّهم يستعدّون ويستحقّون هبة القوّة على معصيتهم. وقوله: (ومنعهم إطاقة القبول منه) أي إطاقة القبول من اللّه أوامره ونواهيه باختيارهم بسبب تلك الشقاء. وقوله: (فواقعوا) بالقاف والعين المهملة من المواقعة. وفي نسخة: «فوافقوا» بالفاء والقاف من الموافقة. وقوله: (ما سبق لهم في علمه) أي صدر عنهم ما كان في علمه السابق الأزلي أنّه يصدر

ص: 645

ولم يَقْدِروا أن يَأتوا حالاً تُنْجيهم من عذابه ؛ لأنّ علمَه أولى بحقيقةِ التصديقِ ، وهو معنى شاء ما شاء ، وهو سِرُّه» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن النضر بن سُوَيدٍ ، عن يحيى بن عِمرانَ الحلبيّ ، عن مُعلّى أبي عثمان ، عن عليّ بن حَنظلةَ ، عن أبيعبد اللّه عليه السلام ، أنّه قال :«يُسْلَكُ بالسعيد في طريقِ الأشقياء حتّى يقولَ الناس : ما أشْبَهَهُ

عنهم. قال بعض الفضلاء: أي ليس أفعالهم بغلبتهم على اللّه ، أو غفلة منه. ويحتمل أن يراد أنّه لا يواقع الأشقياء بشقائهم ما لم يعلمه اللّه تعالى بعلمه السابق الأزلي فيندم تعالى على خلق الشقاء فيهم؛ لمحاربتهم اللّه . انتهى. وذلك كما ترى. وقوله: (ولم يقدروا أن يأتوا) إلخ أي لم يقدروا أن يأتوا (حالاً) أي السعادة في أنفسهم (تنجيهم من عذابه). وقوله: (لأنّ علمه) إلخ أي لأنّ علمه تعالى باستحقاقهم واستعدادهم لوجود الشقاء فيهم، وعدم استحقاقهم واستعدادهم لوجود السعادة فيهم (أولى) بالوقوع أولويّةً تنتهي إلى حدّ الوجوب، فيجب أن يقع في الواقع ما في علمه تعالى، ولن يقدروا بإحداث السعادة في أنفسهم، فينجيهم عن عذابه، عبّر عن الواقع (بحقيقة التصديق) مجازا؛ لأنّ التصديق اليقيني إنّما يكون إذا كان مطابقا للواقع، فكان الواقع هو حقيقة التصديق. وقوله: (وهو معنى شاء ما شاء) أي خلق السعادة لبعض، والشقاء لبعض باستحقاقهم معنى شاء ما شاء، وسرّ ذلك الاستحقاق لا يعلمه إلّا اللّه تعالى، ولا يجوز السؤال عنه، وويل لمن يقول: كيف وكيف. قوله: (يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء) وهو طريق المعاصي بل الكفر (حتّى يقول الناس: ما أشبهه بهم) حين ظنّوا أنّه ليس منهم

ص: 646

بهم بل هو منهم ثمّ يَتَدارَكُه السعادةُ ، وقد يُسْلَكُ بالشقيّ في طريق السعداء حتّى يقولَ الناس : ما أشْبَهَهُ بهم ، بل هو منهم ثمّ يَتدارَكُه الشقاءُ ، إنّ مَن كَتَبَهُ اللّهُ سعيدا وإن لم يَبْقَ من الدنيا إلّا فُوَاقُ ناقةٍ خَتَمَ له بالسعادة».

باب الخير والشرّعدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن ابن محبوب وعليّ بن الحكم ، عن معاويةَ بن وَهْبٍ ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :«إنَّ ممّا أوحى اللّه إلى موسى عليه السلام وأنزَلَ عليه في التوراة : أنّي أنا اللّه لا إلهَ إلّا أنا ، خلقتُ الخلقَ وخلقتُ الخيرَ وأجرَيْتُه على يَدَيْ من اُحِبُّ ، فطوبى لمن أجْرَيْتُه على يديه ، وأنا اللّه لا إله إلّا أنا ، خَلقتُ الخلقَ وخَلقتُ

(بل هو منهم) أي بل حتّى يقولوا هو منهم حين ظنّوا أنّه منهم (ثمّ يتداركه السعادة) الفطريّة بالتوبة والرجوع إلى الحقّ، وصارت خاتمته بالخير. والمراد بقوله: (ثمّ يتداركه الشقاء) أنّه يتداركه الرجوع عن الحقّ إلى الباطل من المعصية والكفر. وقوله: (من كتبه اللّه سعيدا) إمّا المراد من علمه اللّه سعيدا، أو من كتبه اللّه في اللوح المحفوظ سعيدا، أو من جعله وخلقه اللّه سعيدا بالمعنى الذي ذكرنا آنفا. الفُواق - كغراب وقد يفتح - : ما بين الحَلْبَتَيْن من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع. وقوله: (ختم له بالسعادة) أي ختم له بمقتضى السعادة من الخير، وفي الكلام اختصار، أي ومن كتبه اللّه شقيّا وإن لم يَبْقَ من الدنيا إلّا فُواقُ ناقةٍ ختم له بالشقاء.

[باب الخير والشرّ]قوله: (وخلقتُ الخير) أي فعل الحسن؛ لما عرفت من أنّ أفعال العباد بمجموع القدرتين والإرادتين المؤثّرتين (وأجريته على يدي من اُحبّ) أي أجريته بالإقدار والتمكين على يدي من اُريد، واُحبّ

ص: 647

الشرَّ وأجْرَيْتُه على يَدَيْ من اُريدُه ، فويلٌ لمن أجْرَيْتُه على يَدَيْه».

عدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد، عن أبيه ، عن ابن أبي عُمير ، عن محمّد بن حكيم ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول :«إنّ في بعض ما أنْزَلَ اللّهُ مِنْ كُتُبه أنّي أنا اللّهُ لا إلهَ إلّا أنا ، خَلقتُ الخيرَ وخَلقتُ الشرَّ ، فطوبى لمن أجْرَيْتُ على يديه الخيرَ ، وويلٌ لمن أجْرَيْتُ على يديه الشرَّ ، وويلٌ لمن يقول : كيف ذا وكيف ذا».

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن بَكّار بن كَرْدَمٍ ، عن مُفضّل بن عُمَرَ ، وعبد المؤمن الأنصاريّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«قال اللّه عزّ وجلّ : أنا اللّه لا إله إلّا أنا ، خالقُ الخير والشرّ ، فطوبى لمن أجْرَيْتُ على يديه الخيرَ ، وويلٌ لمن أجْرَيْتُ على يديه الشرّ ، وويلٌ لمن يقول : كيف ذا وكيف هذا» . قال يونس : يعني من يُنْكِرُ هذا الأمرَ بتفقُّهٍ فيه .

إجراءه على يديه بإرادته واختياره المؤثّرة. وقوله: (طوبى) فُعلى من الطِيب قلبوا الياء واوا للضمّة قبلها. وطوبى أيضا اسم شجرة في الجنّة (1) . وقيل: اسم الجنّة (2) . (وخلقت الشرّ) أي فعله القبيح. وقوله: (من اُريد) أي اُريد إجراءه (على يديه) و(ويل) كلمة عذاب. وقوله: (كيف ذا) أي لِمَ أجرى الخير في يدي هذا؟ (وكيف ذا) أي لم أجرى الشرّ على يدي هذا؟ صريحٌ بأنّه لا يجوز الاستكشاف عن سرّ خلقه تعالى الخير والشرّ؛ لعدم قابليّة العباد لمعرفة سرّه، وربّما يؤدّي إلى سوء اعتقادهم وإنكارهم خلقه تعالى الخير والشرّ كالمعتزلة. قوله: (قال يونس) هذا كلام محمّد بن عيسى. وقوله: (يعني من ينكر هذا الأمر بتفقّه فيه) أي يقصد بقوله... (3) قوله: كيف هذا من ينكر هذا الأمر من أنّه تعالى خلق الخير والشرّ، وبتفقّه فيه بأن


1- .نقله من الصحاح، ج 1، ص 173 (طيب).
2- .من قوله: «فُعلى» إلى هنا ورد أيضا في الشافي للمولى خليل القزويني، ص 555 (مخطوط).
3- .كلمة لا تقرأ.

ص: 648

باب الجبر والقَدَر والأمر بين الأمرينعليُّ بن محمّد، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمّد وغيرهما ، رَفَعوه ، قال : كان أمير المؤمنين عليه السلام جالسا بالكوفة بعد مُنْصَرِفِه من صفّين إذ أقْبَلَ شيخٌ فَجَثا بين يَدَيْه ، ثمَّ قال له : يا أميرَ المؤمنين ، أخبِرْنا عن مسيرنا إلى أهل الشام ، أبقضاءٍ من اللّه وقَدَرٍ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام«أجَلْ يا شيخُ ، ما عَلَوْتُم تَلْعَةً ولا هَبَطْتُم بَطْنَ وادٍ إلّا بقضاء من اللّه وقَدَرٍ» . فقال له الشيخ : عند اللّه أحْتَسِبُ عَنائي يا أمير المؤمنين؟ .........

يقول: لِمَ خصّ بعضا بالخير، وبعضا بالشرّ، وكلّ من الإنكار والتفقّه بمعنى المذكور في تلك المسألة منهيّ عنه غير جائز.

[باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين]قوله: (من صفّين) بكسر الصاد المهملة وكسر الفاء المشدّدة اسم موضع قرب الرقّة شاطئ الفرات كانت به الواقعة العظمى بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين معاوية لعنه اللّه . و(جثا) بالجيم والثاء المثلّثة كرمى (1) ، أي جلس على ركبتيه. والمراد بأهل الشام معاوية وعسكره. وقوله: (بقضاء من اللّه وقدره) أي بإيجاد وخلق من اللّه وتعلّق إرادته. و(أجل) أي نعم. والتلعة - بفتح التاء المثنّاة فوق وسكون اللام ثمّ العين المهملة - : ما ارتفع من الأرض وقيل: التِلاعُ (2) : مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية (3) . و«بطن» ما بين طرفيه من الأرض المنخفض. ولمّا توهّم الشيخ من جوابه عليه السلام الجبر فقال له: (عند اللّه أحتسب عنائي) وأحتسب على


1- .كذا. والصواب ظاهرا: «كدَعا».
2- .في النسخة: «الطلاع»، وهو تصحيف.
3- .نقله في الصحاح، ج 3، ص 1192 (تلع) عن أبي عمرو. وعنه في الشافي للقزويني، ص 559 (مخطوط).

ص: 649

فقال له : «مَهْ يا شيخُ ، فواللّه لقد عَظَّمَ اللّهُ الأجرَ في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامِكم وأنتم مقيمون ، وفي مُنصرفِكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيءٍ من حالاتكم مُكرَهين ولا إليه مُضطرّين» . فقال له الشيخ : وكيف لم نَكُنْ فيشيءمن حالاتنا مُكرَهين ولا إليه مُضطرّينَ وكان بالقضاء

صيغة المتكلّم وحده. والعناء - بفتح العين المهملة والنون - : النَصَب والتعب. كيف أحتسب تعبي في المسير إلى أهل الشام عند اللّه ، وأتوقّع الأجر والثواب عنه تعالى بإزائه، وليس ذلك المسير كما قلت إلّا بقضاء اللّه وقدره، فأنا مجبور فيه وليس للمجبور أجر في فعله وإن كان له عوض بإزاء الجبر عليه. وقوله: (مه) بفتح الميم وسكون الهاء بمعنى اسكت، وقال الجوهري: «بمعنى اكفُفْ» (1) أي مه عن مثل هذا الكلام الدالّ على أنّه لا أجر لعبد في عمل. وقوله: (فواللّه لقد عظّم اللّه ) بتشديد الظاء المعجمة (لكم الأجر في مسيركم) أي سيركم مصدر ميمي (إلى أهل الشام وأنتم سائرون) أي أنتم سائرون بقدرتكم وإرادتكم المؤثّرة وعلّة فاعليّة للسير بالشركة، يعني شركاء للعلّة الفاعليّة له، وجزء أخير للعلّة التامّة له، والسير قائم بكم لا بغيركم. وقوله: (وفي مقامكم) أي عظّم اللّه أجركم في مقامكم، يعني لبثكم بحذاء العدوّ بصفّين (وأنتم مقيمون) بالمعنى الذي مرّ في السائرون، وكذا قوله: (وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين) كما زعمه صفوان بن جهم وأتباعه من الجبريّة الصرفة (ولا إليه مضطرّين) كما ذهب إليه الأشاعرة، ويؤول مذهبهم إلى الجبر حتّى يلزم من ذلك بطلان الأجر. ولمّا كان الإكراه أشدّ من الاضطرار، فالأوّل مناسب للأوّل، والثاني للثاني. ولمّا توهّم الشيخ من الجوابين التدافع والتناقض بينهما، فقال له: (فكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين) إلخ فأجاب عنه عليه السلام في الردّ على التناقض الذي توهّمه بقوله: «وتظنّ أنّه كان قضاءً حتما» إلخ والقضاء الحتم - كما مرّ - هو القضاء الذي لا يكون لفعل


1- .الصحاح، ج 4، ص 2250 (مهه).

ص: 650

الغير فيه تأثير كقضائه وإيجاده أفعاله تعالى. وأمّا قضاؤه في فعل العبد، فلمّا كان مع تأثير العبد في فعله، ولم يتحقّق الفعل بمجرّد تأثيره تعالى فيه، فهو غير حتم ويسمّى بالقضاء العزم وبالقضاء الاختياري، والقدر اللازم هو تعلّق إرادته بفعله الذي لا يتوقّف على إرادة غيره به. وأمّا تعلّق إرادته بفعل العبد، لمّا كان مع تعلّق الإرادة المؤثّرة بفعله، ولا يتعلّق به مجرّدا عن تعلّق إرادة العبد به، فهو قدر غير لازم. واستدلّ له على ذلك المطلوب بوجوه: الأوّل: أنّه لو كان صدور الأفعال عن العباد بالقضاء الحتم والقدر اللازم من غير تأثير لإرادة العباد وقدرتهم فيها - كما هو مذهب الجبريّة والأشاعرة - لبطل الثواب والعقاب؛ لأنّ الثوابَ والأجر هو نفع مقارن للتعظيم والمحمدة، والعقابَ ضرّ مقارن للإهانة واللوم، ولا يتصوّران مع شيء من معنيي الجبر؛ لأنّ كلّاً (1) منهما مع بيّنة وحجّة بالغة، وإلّا كان سفها، تعالى عن ذلك. وبهذا يحصل الفرق بين الأجر والعوض، ففي نهج البلاغة: وقال عليه السلام لبعض أصحابه في علّة اعتلّها: «جَعَلَ اللّهُ ما كان مِن شكواك حَطّا لسيّئاتك، فإنّ المرضَ لا أجرَ فيه [ولكنّه ]يَحُطُّ السيّئاتِ، ويَحُتُّها حتَّ الأوراقِ، وإنّما الأجرُ في القول باللسان، والعملِ بالأيدي والأقدام، وإنّ اللّه سبحانه يُدْخِلُ بصدقِ النيّة والسريرةِ الصالحة مَن يشاء من عباده الجنّة». وقال فيه السيّد الرضيّ رحمه الله: وأقول: صدق عليه السلام أنّ المرض لا أجر فيه؛ لأنّه من قبيل ما يستحقّ عليه العوض؛ لأنّ العوض يستحقّ على ما كان في مقابلة فعل اللّه تعالى بالعبد من الآلام والأمراض وما يجري مجرى ذلك، والأجر والثواب يستحقّان على ما كان في


1- .في النسخة: «كلّ».

ص: 651

والقَدَرِ مَسيرُنا ومُنقلبُنا ومُنصَرَفُنا؟ فقال له: «وتَظُنُ أنّه كانَ قضاءً حتما وقدرا لازما؟ إنّه لو كانَ كذلك لبَطَلَ الثوابُ والعقابُ والأمرُ والنهيُ والزجرُ من اللّه ، وسَقَطَ معنى الوعد والوعيد ، فلم تَكُنْ لائمَةٌ للمذنِب ولا مَحمَدَةٌ للمحسن ، .........

مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بيّنه عليه السلام كما يقتضيه علمه الثاقب ورأيه الصائب (1) . انتهى. والثاني: أنّه لو كان كذلك لبطل الأمر والنهي؛ لأنّهما عبارتان عن الإعلام بمصالح بعض الأفعال ومنافعها، وبمفاسد بعضها ومضارّها، يختار العبد ما فيه المصلحة والمنفعة، ويترك ما فيه المفسدة والمضرّة، وظاهر أنّ ذلك الإعلام في صورة الجبر وعدم تأثير الاختيار والإرادة سفه وعبث، تعالى اللّه عن ذلك. والثالث: أنّه لو كان كذلك لبطل الزجر، وزواجر اللّه تعالى بلاياه النازلة على العصاة بإزاء عصيانهم، وأحكامه في القصاص والحدود ونحو ذلك. تقرير الدليل أنّ زجر المجبور بأحد المعاني المذكورة سفه وقبيح في نفسه، تعالى عنه. والرابع: أنّه سقط معنى الوعد والوعيد، أي المقصود من الوعد والوعيد من إتيان الحسنات وترك السيّئات؛ لأنّ ذلك لا يعقل من المجبور في أفعاله، فالوعد والوعيد سفه وعبث، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا. قوله: (فلم يكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن) دليل خامس عليه متفرّع على الأدلّة الأربعة، يعني إذا سقط وبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي، والزجر والوعد والوعيد بسبب كون العبد مجبورا في أفعاله، فلم يكن ولم يصحّ لائمة للمذنب، ولا محمدة للمحسن؛ لأنّ المحمدة هو الثناء على الجميل الاختياري، واللائمة هي ما يقابله من الذمّ على القبيح الاختياري وهي التثريب والتنديم، ومعلوم بديهة أنّه لا يستحقّهما المجبور.


1- .نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 42.

ص: 652

ولكانَ المذنبُ أولى بالإحسان من المحسن ، ولكانَ المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ،

قوله: (ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب) دليل سادس عليه عطف على الخامس متفرّع على الأدلّة الأربعة السابقة، يعني إذا سقط وبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر والوعد والوعيد، لكان المذنب أولى بالإحسان. ووجه الأولويّة أنّه لم يبق حينئذٍ إلّا الإحسان والعقوبة الدنيويّة، والمذنب - كالسلطان القاهر الصحيح الذي يكون في غاية التنعّم والترفّه - يأتي بكلّ ما يشتهيه من الشرب والزنا والقتل والقذف وأخذ أموال الناس وغير ذلك، وليس له مشقّة التكاليف الشرعيّة، والمحسن كالفقير المريض - الذي يكون في التعب والنصب من التكاليف الشرعيّة من الإتيان بالمأمورات والانتهاء عن المنهيّات ومن قلّة المؤونة وتحصيل المعيشة من الحلال - في غاية المشقّة، فحينئذٍ الإحسان الواقع للمذنب أكثر ممّا وقع للمحسن، فهو أولى بالإحسان من المحسن، والعقوبة الواقعة على المحسن أكثر ممّا وقع على المذنب، فهو أولى بالعقوبة من المذنب (1) . قال بعض الفضلاء (2) : حاصله أنّه لو كان جبر مع تحقّق ثواب وعقاب - كما هو المتّفق عليه بين كلّ المسلمين - لكان المذنب إلخ (3) . ووجه الأولويّتين أنّ المذنب قد اُجبر على قبيح وهو شرّ، والمحسن قد اُجبر على حسن وهو خير، فحسبهما هذا الشرّ وهذا الخير، فلو كان مع الجبر ثواب وعقاب اُخروي (4) ، لكان الأولى التلافي وجبر


1- .قارن مرآة العقول، ج 2، ص 175 - 176.
2- .هو المولى خليل القزويني.
3- .بعده في المصدر: «وهو باطل، ولا يجوز للخصم أن يقول: إنّ فرض الثواب والعقاب مع الجبر فرض محال، وذلك لأنّه إقرار بفساد الجبر؛ لأنّ ثبوت الثواب والعقاب متّفق عليه ومعلوم. ويحتمل أن يراد بالإحسان النفع، وبالعقوبة الإيلام مطلقا».
4- .في المصدر: «أو نفع وضرر» بدل «اُخروي».

ص: 653

تلك مَقالةُ إخوانِ عَبَدَةِ الأوثانِ ، .........

الجبرين، على هذا الفرض للمحال (1) . انتهى (2) . أقول: هذا مزيّف أمّا أوّلاً فلأنّه عليه السلام صرّح في نفي الثواب والعقاب وبطلانهما على تقدير الجبر وبنى الكلام عليه، وما ذكره مبنيّ على وقوعهما على ذلك التقدير، فهو مخالف لقوله عليه السلام . وأمّا ثانيا، فلأنّ شرّيّة القبيح وخيريّة الحسن إنّما هو باعتبار العقاب والثواب الاُخروي، فقوله (3) : «فحسبهما هذا الشرّ والخير» أي حسبهما هذا العقاب المترتّب على القبيح، وهذا الثواب المترتّب على الحسن، فلو كان مع الخير ثواب وعقاب ، فيحصل الثواب للمحسن، والعقاب للمسيء، فكيف ينعكس الأمر، وهل هذا إلّا توهّم فاسد؟! وأمّا ثالثا، فعلى تقدير تسليم صحّة تلافي جبر المذنب بالإحسان والثواب في الآخرة، فكيف يصحّ تلافي جبر المحسن بالعقوبة في الآخرة، وهذا الطبيب أجبر المريض بشرب دواء البشع وصحّ المريض بذلك الشرب الجبري، ثمّ الطبيب قطع يد ذلك المريض بتلافي جبره في شرب دواء البشع وحصول صحّته، وهل هذا إلّا سفه؟! فتدبّر. وقوله: (تلك) أي كون القضاء في الأفعال للعباد حتما، والقدر لازما وهو القول بالجبر. والتأنيث باعتبار الجبر (مقالة إخوان عبدة الأوثان) والمراد بعبدة الأوثان هنا الجبريّة من المشركين الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بدليل قوله تعالى في سورة الأعراف: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها» (4) أي جعلنا اللّه مجبورا بها، فعبّر عن الجبريّة الصرفة من المسلمين، وعن الأشاعرة بإخوان عبدة الأوثان؛ لتشابههم وتوافقهم في الاعتقاد في تلك المسألة. وقوله: (وخصماء الرحمان) عطف على (عبدة الأوثان) لا على (إخوان)؛ لأنّ الأوّل أقرب إلى المعطوف من الثاني، ولأنّ المراد بخصماء الرحمان هم المفوّضة والمعتزلة؛


1- .بعده في المصدر: «أو الممكن».
2- .الشافي للقزويني، ص 562 - 563 (مخطوط).
3- .أي قول القزويني.
4- .الأعراف (7): 28.

ص: 654

وخُصَماء الرحمنِ ، وحِزْبِ الشيطانِ ، وقَدَرِيَّةِ هذه الأُمّة ومجوسِها .

لأنّه قد تكرّر في الحديث أنّهم خصماء اللّه في قدره، وأنّهم مضادّو اللّه في ملكه (1) . فحينئذٍ لا يصحّ عطفه على «إخوان» حتّى يصير وصفا للجبريّة. فمعناه أنّ تلك مقالة إخوان خصماء الرحمان من المفوّضة والمعتزلة. وتخصيص اسم الرحمان بالذكر؛ لأنّ معناه من أعطى كلّ شيء خلقه، فهو خالق كلّ شيء على وفق الحكمة غير عاجز ولا مغلوب. والاُخوّة بين الجبريّة والمفوّضة والمعتزلة باعتبار أنّ كلّاً منهما على طرف خارج عن الحقّ الذي بينهما، فهما يشركان (2) في بطلان الرأي في تلك المسألة، فيتحقّق الاُخوّة بينهما في الباطل كما يتحقّق الاُخوّة بين المؤمنين في الحقّ، وورد فيهم «إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (3) . فالباطلون في الرأي أيضا إخوة (4) . قال بعض الفضلاء (5) في وجه الاُخوّة بينهما: يقال للمتقابلين: إنّهما مُتشابهان كما قيل: (6) إنّ قصّة سورة براءة تشابه قصّة سورة الأنفال وتناسبها (7) ؛ لأنّ في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذها، فضمّت إليها (8) . انتهى. وقوله: (وحزب الشيطان وقدريّة هذه الاُمّة ومجوسها) عطف على (خصماء الرحمان) وأوصاف للمفوّضة والمعتزلة، أي تلك مقالة إخوان حزب الشيطان وإخوان قدريّة هذه الاُمّة ومجوسها من المفوّضة والمعتزلة. وقد عرفت وجه الاُخوّة بين الجبريّة وبينهما. وقوله: (وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها) دليل آخر على أنّه لا يصحّ العطف على الإخوان؛


1- .مستدرك الوسائل، ج 18، ص 185، ح 38؛ كتاب السنّة لابن أبي عاصم، ص 148، ح 336؛ المعجم الأوسط، ج 6، ص 317 وج 7، ص 162؛ كنز العمّال، ج 1، ص 120، ح 569 و ص 940، ح 668؛ المواقف، ج 3، ص 652 و659؛ شرح المقاصد، ج 2، ص 143 . وفي هذه المصادر ورد صدره من دون ذيله مع اختلاف.
2- .في المرآة: «يشتركان».
3- .الحجرات (49): 10.
4- .قارن مرآة العقول، ج 2، ص 180.
5- .هو المولى خليل القزويني.
6- .في هامش النسخة وهامش المصدر: القائل البيضاوي في تفسيره [ج 3، ص 127]».
7- .في النسخة: «يشابه... يناسبها».
8- .الشافي، ص 564 (مخطوط).

ص: 655

لأنّ القدريّة هم المفوّضة والمعتزلة لا الجبريّة والأشاعرة كما توهّمه بعض العلماء لوجوه: أمّا أوّلاً، فلأنّه وقع في روايات كثيرة - بحيث يكاد أن يكون القدر المشترك بينها متواترا - أنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة (1) . والمجوس ذهبوا إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان، وفاعل الشرّ هو أهرمن، فالقدري هو من قال بتعدّد الفاعل المستقلّ بالتأثير، وباستقلال إرادة العبد وقدرته في فعله كالمفوّضة والمعتزلة ليكون موافقا للمجوس ومشابها لهم لأمر نفي الفاعليّة والتأثير عن غير اللّه تعالى مطلقا كالجبريّة والأشاعرة، فلا يصحّ إطلاق المجوس على من لا يكون موافقا ومشابها لهم أصلاً، بل يكون مخالفا ومباينا عنهم بالكلّيّة. وأمّا ثانيا، فلأنّه وقع في الأحاديث الآتية القدر في مقابل الجبر، فظهر أنّ معناهما متقابلان، فإذا كان الجبر نفي تأثير إرادة العبد في فعله - سواء كان له إرادة أم لا - فيكون القدر إثبات تأثير إرادة العبد فيه بالاستقلال من غير تأثير إرادة اللّه تعالى فيه، فظهر أنّ القدري من يقابل الجبري من المفوّضة والمعتزلة. وأمّا ثالثا، فلما رواه ابن بابويه في كتاب التوحيد في باب القضاء والقدر عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر * إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَر» » (2) على أنّ المؤلّف أيضا - وهو من عظماء أصحابنا - هكذا فهم من القدر حيث جعله مقابلاً للجبر، وقال: باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين. لا يقال: إنّ المحقّق الطوسي رحمه الله اختار مذهب المعتزلة في تلك المسألة، فيلزم أن يكون قدريا. لأنّا نقول: هذا الإسناد من توهّمات الشارحين بكلامه، وليس مذهبه في تلك المسألة إلّا ما تعلّمه من أحاديث أهل البيت عليهم السلام من الأمر بين الأمرين كما حقّقناه وحرّرناه، وما نسب إليه محض توهّم وغلط، بل كما هو منكرٌ لمذهب الجبريّة الصرفة والأشاعرة منكرٌ لمذهب


1- .التوحيد، ص 382، باب 59، ح 29.
2- .القمر (54): 48 - 49.

ص: 656

إنَّ اللّه تبارك وتعالى .........

المعتزلة والمفوّضة أيضا، كيف لا وقد قال في مسألة القضاء والقدر: قد بيّنه أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الأصبغ (1) . انتهى وهذا الحديث صريح في الردّ على المعتزلة والمفوّضة كما أنّه صريح في الردّ على الجبريّة والأشاعرة، فهذا الإسناد إليه فرية بلا مرية، وقد شرحنا كلامه في تلك المسألة في حواشينا على إلهيّات التجريد، فارجع إليها. قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في مقدّمات تفسير القرآن: وأمّا الردّ على المعتزلة، فإنّ الردّ في القرآن عليهم كثير، وذلك أنّ المعتزلة قالوا: نحن نخلق أفعالنا، وليس للّه فيها صنع ولا مشيّة ولا إرادة، ويكون ما شاء إبليس، ولا يكون ما شاء اللّه (2) . انتهى. ومن هذا الكلام يظهر معنى قوله عليه السلام في شأن المعتزلة: «إنّهم حزب الشيطان» لأنّهم قالوا - كالمجوس - : إنّ الشيطان مستقلّ في القدرة على فعله، وقد يقع ما شاء الشيطان، ولا يقع ما شاء اللّه ، والفضل بن شاذان قال في كتاب - كما قيل (3) : في كتاب الإيضاح - كما قال عليّ بن إبراهيم، وقد عدّ أصحاب كتب الرجال من كتب هشام بن الحكم كتاب الجبر والقدر، وكتاب الردّ على المعتزلة، وأمثال ذلك كثيرة، وغرضنا من نقل هذه الأقاويل أنّ أكثر قدماء علمائنا المتكلّمين والمحقّقين أبطلوا مذهب المعتزلة في تلك المسألة وذهبوا بالأمر بين الأمرين، فلا يتوهّم أنّ جميع الشيعة في تلك المسألة موافق لهم، بل الموافق لهم من علمائنا هو من لا يتدبّر فيها كمال التدبّر، وإنّما جرّهم إلى ذلك قلّة مبالاتهم بأحاديث الاُصول والتأمّل في معانيها، وفي المراد بالتفويض، وفي المراد بالواسطة بين الجبر والتفويض. وقوله: (إنّ اللّه تبارك وتعالى) إلخ استيناف لبيان بطلان مقالة الجبريّة أوّلاً؛ لأنّ أصل الكلام فيها، ثمّ بيان بطلان زعم المفوّضة والمعتزلة من الطائفتين اللتين يكون الجبريّة


1- .كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 433.
2- .تفسير القمّي، ج 1، ص 33. وعنه في الشافي للقزويني، ص 565 (مخطوط).
3- .القائل المولى خليل القزويني في الشافي، ص 565 (مخطوط).

ص: 657

كَلَّفَ تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعْص مغلوبا ، ولم يُطعْ مُكرها ، ولم يملكْ مُفَوِّضا ، .........

إخوانهما؛ لأنّه أهمّ من إبطال مذهب عبدة الأوثان من الطائفتين، فقوله: (كلّف تخييرا، ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا) لبيان بطلان الجبر، أي كلّف العباد بالإتيان بما هو حسن ونافع لهم باختيارهم وإرادتهم، ونهاهم عن القبائح بأن حذّرهم وأعلمهم أنّها قبيح ضارّ لهم، ولا يجامع التخيير ولا إعلام النافع والضارّ في فعل المجبور، والمراد بإعطاء الكثير على القليل الوعد له عليه للترغيب في أعمال الخير للقادر على الخير والشرّ، فلا يجامع ذلك الوعد والترغيب مع الجبر كما مرّ آنفا (1) . وقوله: (ولم يُعصَ مغلوبا [ولم يُطع مكرها] ولم يُملّك مفوّضا) لبيان بطلان زعم المفوّضة والمعتزلة المعبّر عنهم بخصماء الرحمان والقدريّة المذكورين سابقا بتقريب ذكر إخوانهم، أي الجبريّة، فقوله: «لم يُعْصَ» على صيغة المجهول و«فيه» ضمير راجع إلى اللّه . والمقصود أنّه لو كانت قدرة العبد وإرادته مستقلّة في التأثير، ولا يكون لقدرته تعالى تأثير في فعله، ولا يتعلّق إرادته بالكفر والمعصية مطلقا، بل يكون الكفر والمعصية خلاف مشيّته، والإيمان والطاعة متعلّقا لإرادته، فلزم أن يكون الكافر العاصي غالبا على اللّه ؛ لوقوع ما شاء به، وعدم وقوع ما شاء اللّه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وقوله: «لم يطع» على صيغة المجهول، والضمير راجع إلى اللّه تعالى. والمكره بكسر الراء ردّ على الجبريّة فيما بين الفقرتين الدالّتين على بطلان مذهب المعتزلة والمفوّضة؛ لكثرة الاعتناء بشأنه. وجعل بعض الفضلاء هذا أيضا ردّا عليهما وقال: المكرَه بفتح الراء، يعني يلزم ممّا ذهب إليه المعتزلة والمفوّضة أنّ العبد لو أراد الطاعة وأراد اللّه تعالى منه تركها على فرض محال، كان اللّه تعالى مطاعا بإكراهٍ، تعالى عن ذلك. وقوله: «ولم يملِّك مفوِّضا» بكسر اللام والواو، يعني لم يملّك القدرة والإرادة مفوّضا


1- .قارن الشافي للقزويني، ص 567 (مخطوط).

ص: 658

ولم يَخْلُقِ السماواتِ والأرضَ وما بينهما باطلاً ، ولم يَبْعَثِ النبيّينَ مبشّرينَ ومنذرينَ عَبَثا ؛ ذلك ظنُّ الّذين كفروا ، فويلٌ للّذين كَفَروا من النارِ» ، فأنشَأَ الشيخُ يقول : أنت الإمام الذي نرجو بطاعتهيومَ النجاةِ من الرحمن غُفرانا أوضَحْتَ من أمرنا ما كانَ مُلْتَبِساجَزاكَ رَبُّكَ بالإحسانِ إحسانا

الأفعال الاختياريّة إلى الناس بحيث لا تأثير لقدرة اللّه تعالى ومشيّته فيما فعلهم في ملكه كما ذهب إليه القدريّة من المعتزلة والمفوّضة. وقوله: (ولم يخلق السماوات والأرض) إلخ ردّ على ظنّ عبدة الأوثان المذكورين سابقا بتقريب إخوانهم، وهذا إشارة إلى ما في قوله تعالى في سورة ص: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالمُفْسِدينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجّارِ» (1) . ويحتمل أن يكون قوله: «ولم يبعث النبيين مبشّرين ومنذرين عبثا» جملة معترضة في أثناء الردّ على عبدة الأوثان ردّا على الجبريّة. روى ابن بابويه في كتاب التوحيد فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين فما القضاء والقدر اللذان ساقانا وما هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلّا بهما؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : «الأمر من اللّه والحكم». ثمّ تلا هذه الآية: «وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحْسانا» (2) انتهى (3) . أقول: ليس المراد بالأمر والحكم ما يقابل النهي، وإلّا لم يستقم الكلام؛ لأنّ كلّ ما وقع من المأمور به والمنهيّ، عنه بالقضاء والقدر، فالمراد بهما تعلّق إرادته تعالى وتأثيره وإيجاده مقارنا لتعلّق إرادة المؤثّرة للعبد وتأثيره، فمعنى قوله تعالى على هذا أنّ عدم عبادتكم إلّا إيّاه وإحسانكم بالوالدين بقضاء اللّه تعالى، أي بإيجاده ومشاركة تأثيره تعالى لتأثيركم، واللّه تعالى يعلم.


1- .ص (38): 27 - 28.
2- .الإسراء (17): 23.
3- .كتاب التوحيد، ص 382، باب 60، ح 28.

ص: 659

الحسين بن محمّد ، عن مُعلّى بن محمّد، عن الحسين بن عليّ الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمانَ ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه قال :«من زَعَمَ أنّ اللّهَ يَأمُرُ بالفحشاء فقد كَذَبَ على اللّه ، ومن زَعَمَ أنَّ الخيرَ والشرَّ إليه فقد كَذَبَ على اللّه ».

قوله عليه السلام : (من زعم) أي ادّعى - وأكثر استعماله في دعوى الباطل - (أنّ اللّه يأمر بالفحشاء). أقول: الظاهر أن يكون المراد بالأمر معناه الظاهر الحقيقي، فالحديث إنّما يناسب الباب باعتبار الفقرة الأخيرة الدالّة على بطلان مذهب المعتزلة والمفوّضة، وحمل بعض الفضلاء (1) الأمر على الجبر قال: أي يجبر على ما يستحقّ فاعله اللوم عليه، واستعمال الأمر على هذا المعنى على طبق القرآن حكاية لقول مشركين من العرب كانوا جبريّة غير مصدّقين بأمر تكليفي من اللّه على لسان نبيّ قال ، تعالى في سورة الأعراف: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تعَلَمُونَ» (2) انتهى. وقوله: (ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه) أي مفوّض إليه كما ذهب إليه المعتزلة والمفوّضة. فإن قلت: ورد في الدعاء المأثور: «الخير في يديك والشرّ ليس إليك» (3) . قلنا: هذا إشارة إلى أنّ اللّه تعالى أولى بحسنات العبد منه، والعبد أولى بسيّئاته من اللّه (4) كما مرّ تفسيره. ويحتمل أن يكون المراد أنّ الشرّ لا يتقرّب به إليك، ولا يبتغى به وجهك، أو أنّ الشرّ


1- .المراد به ظاهرا السيّد أحمد العلوي في الحاشية على الكافي، ص 383 - 384.
2- .الأعراف (7): 28.
3- .الكافي، ج 3، ص 310، ح 7؛ الفقيه، ج 1، ص 304، ح 916؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 67، ح 244؛ بحار الأنوار، ج 81، ص 206 وص 366، ح 21.
4- .من قوله: «إن قلت» إلى هنا ورد في الحاشية على اُصول الكافي للسيّد أحمد العلوي، ص 384.

ص: 660

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : سألتُه فقلتُ : اللّهُ فَوَّضَ الأمرَ إلى العبادِ؟ قال :«اللّه أعزُّ من ذلك» . قلتُ : فجَبَرَهم على المعاصي؟ قال : «اللّه أعدلُ وأحكمُ من ذلك» ، قال : ثمَّ قال : «قال اللّه : يا ابنَ آدمَ أنا أولى بحسناتِك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عَمِلْتَ المعاصِيَ بقوّتي الّتي جعلتُها فيك» .

لا يصعد إليك، وإنّما يصعد إليك الطيّب من القول والفعل. قوله عليه السلام : (اللّه أعزّ من ذلك) أي أغلب قدرة وأقوى ملكا من أن يفوّض الاُمور إلى العباد، ويخرجه من سلطانه. وقوله: (وأحكم) من الحكمة، أي الجبرُ على المعاصي - التي نهى اللّه عنه ويعاقب عليه - ظلمٌ وسفه منافٍ لعدله وحكمته. وقد عرفت شرح الباقي. قوله عليه السلام : (يا يونس لا تقل) إلخ كان يونس بن عبد الرحمان من فضلاء متكلّمي أصحابنا رضوان اللّه عليهم. ولمّا استشعر الإمام عليه السلام أنّه تحرّز أن يقول: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن؛ لتوهّمه أنّ ذلك يستلزم الجبر، ويستلزم تعلّق مشيّته بالمعاصي، وتوهّم أنّه على إطلاقه قبيح غير جائز، وذلك الاحتراز يفضي إلى القول بالتفويض والقدر كما هو مذهب المعتزلة، فأراد عليه السلام تحقيق الحقّ له. وحاصل الكلام الاستدلال على بطلان قول القدريّة الذين يقولون بعدم تأثير قدرة اللّه تعالى وإرادته في أفعال العباد، وباستقلال قدرة العبد وإرادته في التأثير بآيات (1) ثلاث حكى اللّه تعالى فيها أقوال أهل الجنّة وأهل النار وإبليس على سبيل التقرير؛ لأنّ القدر المشترك بينها هو أنّ للّه تعالى تأثيرا (2) في أفعالهم، والقدريّة ينكرون ذلك؛ لأنّ الهداية هنا هو الإيصال إلى المطلوب، وظاهر أنّه إذا كان اللّه تعالى موصلاً بوساطة الطاعات والاعتقادات الحقّة، فيكون مؤثّرا فيها، وقد عرفت أنّه تعالى خلق السعادة والشقاء.


1- .متعلّق لقوله: «الاستدلال».
2- .في النسخة: «تأثير».

ص: 661

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن إسماعيلَ بن مَرّارٍ ، عن يونسَ بن عبد الرحمن ، قال : قال لي أبو الحسن الرضا عليه السلام : يا يونس ، لا تَقُلْ بقول القَدَرِيَّةِ ، فإنّ القَدَرِيَّةِ لم يقولوا بقولِ أهلِ الجنّةِ ، ولا بقول أهلِ النارِ ، ولا بقولِ إبليسَ ، فإنَّ أهل الجنّةِ قالوا « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلآَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ » وقال أهل النار : « رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ » وقال إبليس : « رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى » » . فقلتُ : واللّه ما أقولُ بقولهم ، ولكنّي أقول : لا يكون إلّا بما شاءَ اللّهُ وأرادَ وقَدَّرَ وقضى ، فقال :«يا يونس ، ليس هكذا ، لا يكونُ إلّا ما شاء اللّهُ وأرادَ وقَدَّرَ وقضى . يا يونس ، تَعْلَمُ ما المشيئة؟» قلتُ : لا ، قال : «هي

فقوله: (غلبت علينا شقوتنا) أي جذبتنا إلى الشرّ. والمقصود أنّهم فعلوا ما يقتضيه الشقوة باختيارهم. وقوله: (أغويتني) أي أشقيتني أو أضللتني، وليس فعل الشرّ من الشقيّ والضالّ بالجبر، بل بالاختيار. والمراد بالمشيّة في هذا الحديث معناه المجازي، أي القدرة. وقوله: (لا يكون إلّا بما شاء اللّه وأراد وقدّر وقضى) أي لا يكون شيء من أفعال العباد ونحوها إلّا بسبب أمر آخر شاءه اللّه ، أي قدّر اللّه عليه وأراده كإيجاد القدرة والإرادة فيهم مثلاً، وهو يفضي إلى اختيار العبد المعاصي. ومقصوده أن يأتي بكلام يدلّ على نفي التفويض بدون أن يشتمل على أنّ مشيّته - أي قدرته وإرادته - تتعلّق (1) بالمعاصي، فردّ عليه عليه السلام بقوله: (ليس هكذا) وبيّن ما هو الحقّ له بقوله: (لا يكون إلّا ما شاء اللّه وأراد وقدّر وقضى) يعني لا يكون شيء من أفعال العباد ونحوها في الأرض ولا في السماء إلّا بقدرة اللّه تعالى وإرادته وتعلّقها وإيجاده وإن كان بمشاركة القدرة المؤثّرة لغيره وتعلّق إرادة ذلك الغير وتأثير[ه]، ومن ذلك لا يلزم إسناد القبيح إليه تعالى كما مرّ. قال في القاموس: «الذكر: الثناء والشرف» (2) . وقال: «الشرف: المجد وعلوّ الحسب» (3) . فالمراد بالذكر الأوّل الشرف والكمال الأوّل، ولمّا كانت القدرة أهمّ وأعظم صفاته الحقيقيّة


1- .في النسخة: «يتعلّق».
2- .القاموس المحيط، ج 2، ص 51 (ذكر).
3- .القاموس المحيط، ج 3، ص 229 (شرف).

ص: 662

الذكرُ الأوّل، فَتَعْلَمُ ما الإرادةُ؟» قلتُ : لا ، قال : «هي العزيمةُ على ما يشاء ، فَتَعْلَمُ ما القَدَرُ ؟» قلتُ : لا ، قال : «هي الهَنْدَسَةُ ووَضْعُ الحدودِ من البقاء والفَناء» ، قال : ثمّ قال : «والقضاء هو الإبرامُ وإقامةُ العينِ» . قالَ : فَاسْتَأذَنْتُهُ أن اُقَبِّلَ رأسَه ، وقلتُ : فَتَحْتَ لي شيئا كنتُ عنه في غفلةٍ .

محمّد بن إسماعيلَ ، عن الفضل بن شاذان ، عن حَمّاد بن عيسى ، عن إبراهيمَ بن عُمرَ اليمانيّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«إنَّ اللّهَ خَلَقَ الخَلْقَ فَعَلِمَ ما هم صائرون إليه، وأمَرَهم ونَهاهم ، فما أمَرَهم به من شيءٍ فقد جَعَلَ لهم السبيلَ إلى تَرْكِه ، ولا يكونونَ

عند الملّيين، وإثباتها معظم اُصولهم، وأوّل مسألة خلافيّة يتكلّم فيها في صفاته تعالى، فبهذا الاعتبار قيّده بالأوّل. ويحتمل أن يكون الذكر بمعنى الثناء، وحينئذٍ فالمراد ما يثنى به، أي أوّل ما يثنى به اللّه تعالى. وقوله: (هي العزيمة على ما يشاء) أي هي العزيمة على ما يقدر. والهندسة على وزن دحرجة مشتقّ من الهنداز معرّب «انداز» فاُبدلت الزاي سينا؛ لأنّه ليس في كلام دالٌ بعدها زاي، فالهندسة معرّب «اندازه» أي المقدار، وقد عرفت أنّ المراد بالقدر تعلّق الإرادة، ولمّا كان إرادة اللّه تعالى تعلّق في الأزل بإيجاد الحادث - سواء كان من أفعال العباد أو غيرها - في وقت معيّن على قدر معيّن بتعيّن زمان بقائها وزمان فنائها وأمثال ذلك بذلك المتعلّق للإرادة، فكشف عن حال السبب - أعني التعلّق - بذكر مسبّباته وقال: (هي الهندسة) إلخ. وقوله: (والقضاء هو الإبرام وإقامة العين) أي هو إحكام المراد، وإقامة عينه، أي إيجاده. وإنّما قال: (فتحت عليّ شيئا كنت عنه في غفلة) لتوهّمه أنّ تعلّق قدرته وإرادته تعالى بالمعاصي قبيح، أو يوجب الجبر، فلمّا علم حقيقة الحال، علم أنّهما يتعلّقان بكلّ كائن بدون جبر وقبح. قوله عليه السلام : (فقد جعل لهم السبيل إلى تركه) وذلك هو القدرة والإرادة المؤثّرة للعبد وإن لم تكونا مستقلّتين بالتأثير، فهذا الكلام ردّ على المجبّرة، والفاء يدلّ على أنّه يندفع بذلك شبهة المجبرة وتمسّكهم بالعلم الأزلي،

ص: 663

آخذينَ ولا تاركينَ إلّا بإذنِ اللّه ».

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ بن عبد الرحمن ، عن حفص بن قُرْطٍ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من زَعَمَ أنَّ اللّهَ يَأمُرُ بالسوء والفحشاء فقد كَذَبَ على اللّه ، ومن زَعَمَ أنَّ الخيرَ والشرَّ بغير مشيئة اللّه فقد أخْرَجَ اللّه من سلطانه ، ومن زَعَمَ أنَّ المعاصِيَ بغير قوّةِ اللّه فقد كَذَبَ على اللّه ، ومن كَذَبَ على اللّه أدْخَلَه اللّهُ النارَ».

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن أبي عبد اللّه ، عن عُثمان بن عيسى ، عن إسماعيلَ بن جابرٍ ، قال : كان في مسجد المدينة رجلٌ يَتَكَلَّمُ في القَدَرِ والناسُ مُجتمعونَ ، قال : فقلت : يا هذا ، أسألُك؟ قال :«سَلْ» . قلتُ : يكونُ في مُلك اللّه تبارك وتعالى ما لا يُريدُ؟ قال : فأطْرَقَ طويلاً ، ثمَّ رَفَعَ رأسَه إلَيَّ ، فقال لي : «يا هذا ، لئن قلتُ إنّه يكون في مُلكِهِ ما لا يُريدُ ، إنّه لمقهورٌ ، ولئن قلتُ لا يكونُ في ملكه إلّا ما يُريدُ، أقْرَرْتُ لك بالمعاصي» . قال : فقلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : سألتُ هذا القَدَرِيَّ ، فكانَ من جوابه كذا وكذا ، فقال : «لنفسه نَظَرَ ، أما لو قالَ غيرَ ما قالَ لَهَلَكَ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد، عن محمّد بن الحسن زَعْلانَ ، عن أبي طالب القمّي ، عن رجلٍ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلتُ أجْبَرَ اللّهُ العبادَ على المعاصي؟ قال :«لا» . قلتُ : ففَوَّضَ إليهم الأمرَ؟ قال : قال : «لا» . قالَ : قلتُ : فماذا ؟ قالَ : «لطفٌ من ربِّك بينَ ذلك».

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ بن عبد الرحمن ، عن غير واحد ، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهماالسلامقالا :«إنّ اللّه أرْحَمُ بخَلْقِه من أن يُجْبِرَ خَلْقَه على الذنوب ثمَّ يُعَذِّبَهُم عليها ، واللّهُ أعَزُّ من أن يُريدَ أمرا فلا يكونَ» قال : فَسُئلا عليهماالسلام: هل بين الجَبْرِ

فإنّ العلم باختيار عبد شيئا لا ينافي اختياره فيه بالضرورة. وقوله: (إلّا بإذن اللّه ) أي برفع اللّه تعالى موانع الفعل أو الترك. قوله: (فأطرق) أي أرخى عينه ينظر إلى الأرض. وقوله: (لنفسه نظر) أي تأمّل واحتاط لنفع نفسه. وقوله: (ولو قال غير ما قال لهلك) أي لو حكم بمذهبه ولم يرجع عنه ولم يتردّد فيه، لهلك باستحقاقه النار.

ص: 664

والقَدَرِ منزلةٌ ثالثة؟ قالا : «نعم ، أوسَعُ ممّا بين السماء والأرضِ».

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ بن عبد الرحمن ، عن صالح بن سهل ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قالَ ، سُئلَ عن الجبرِ والقَدَرِ ، فقال :«لا جَبْرَ ولا قَدَرَ ، ولكن مَنزِلَةٌ بينهما ، فيها الحَقُّ التي بينهما ، لا يَعْلَمُها إلّا العالمُ ، أو مَن عَلَّمَها إيّاه العالمُ» .

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن يونسَ ، عن عِدَّةٍ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال له رجلٌ : جُعِلْتُ فِداك ، أجْبَرَ اللّهُ العبادَ على المعاصي؟ فقال :«اللّهُ أعدلُ من أن يُجْبِرَهم على المعاصي ثمَّ يُعَذِّبَهم عليها» . فقالَ له : جُعِلتُ فداكَ ، فَفَوَّضَ اللّهُ إلى العباد؟ قال : فقال : «لو فَوَّضَ إليهم لم يَحْصُرْهم بالأمر والنهي» . فقالَ له : جُعِلْتُ فداك ، فبينهما منزلةٌ ، قال : فقال : «نعم ، أوسَعُ ما بين السماء والأرضِ» .

قوله عليه السلام : (لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي) أي لم يحصرهم بسلطنته وملكه، ويلزم خروجهم باعتبار التفويض عن سلطان اللّه تعالى، ولمّا كانت السلطنة علّة للأمر والنهي، فعبّر عنها (1) بهما مجازا؛ تسميةً للسبب باسم المسبّب (2) . ويحتمل أن يكون المراد بالتفويض في خصوص هذا الحديث المعنى الخاصّ منه - كما ذهب إليه شرذمة من المفوّضة - وهو أنّه تعالى بعد خلق العالم وإرسال الرسل فوّض جميع الاُمور إليهم عليهم الصلاة والسلام، فالإيجاد والإعدام ووقوع جميع الحوادث وتشريع الشرائع والأمر والنهي كلّها على وهمهم صادر عنهم، واللّه تعالى من بعد ذلك معطّل محض، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، فيمكن أن يكون مراد السائل بقوله: (ففوّض اللّه إلى العباد) التفويض الخاصّ إلى الأنبياء، ويكون المراد بالعباد خصوص الأنبياء (ظ)، وكان ذلك الرجل قائلاً بأنّ الأمر والنهي وغير ذلك صادر عن اللّه تعالى، فأجابه أنّه لو فوّض إليهم لم يحصرهم اللّه بالأمر والنهي، وإنّك قائل بأنّ اللّه حصرهم بهما.


1- .في النسخة: «عنهما».
2- .نقلها في مرآة العقول، ج 2، ص 194 بعنوان «قيل» ثمّ قال: «ولا يخفى بُعده».

ص: 665

محمّد بن أبي عبد اللّه وغيره ، عن سهل بن زياد ، عن أحمدَ بن محمّد بن أبي نصر قال : قلتُ لأبي الحسن الرضا عليه السلام : إنَّ بعضَ أصحابنا يقولُ بالجَبْرِ ، وبعضهم يقول بالاستطاعة ، قال : فقال لي :«اُكْتُبْ : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قال عليُّ بن الحسين : قال اللّه عزّ وجلّ : يا ابن آدم ، بمشيئتي كنتَ أنت الذي تشاءُ ، وبقوّتي أدَّيْتَ إلَيَّ فرائضي ، وبنعمتي قَوِيتَ على معصيتي ، جَعَلْتُك سميعا بصيرا ، ما أصابَك من حَسَنَةٍ فمِنَ اللّهِ ، وما أصابَك من سيّئةٍ فمِنْ نفسِك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنتَ أولى بسيّئاتك منّي ، وذلك أنّي لا اُسْألُ عمّا أفعَلُ وهم يُسألونَ . قد نَظَمْتُ لك كلَّ شيءٍ تُريدُ».

محمّد بن أبي عبد اللّه ، عن حسين بن محمّد، عن محمّد بن يحيى ، عمّن حَدَّثَه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«لا جَبْرَ ولا تفويضَ ، ولكن أمرٌ بين أمرين» . قال : قلتُ وما أمرٌ بين أمرين؟ قال : «مثل ذلك رجلٌ رأيتَه على معصية فنهيتَه فلم يَنْتَهِ فتركتَه ، ففَعَلَ تلك

قوله: (وبعضهم يقول بالاستطاعة) إلخ الاستطاعة لا تستعمل (1) إلّا في الخلق، وقول الحواريين: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ» (2) صدر عنهم في وقت لم يكونوا على تحقيق واستحكام معرفة وقد عاتبهم عيسى عليه السلام وقال: «اتَّقُوا اللّهَ إن كنتم مؤمنين» (3) - (4) . ويطلق على ثلاثة معانٍ: الأوّل: القدرة الزائدة على ذات القادر. والثاني: آلة تحصل (5) معها القدرة على الشيء كالزاد والراحلة وتخلية السرب وصحّة البدن في استطاعة الحجّ. الثالث: التفويض كما هو مذهب القدريّة والمراد هنا المعنى الثالث (6) . وقوله: (قد نظمت لك كلّ شيء تريد) من كلام الرضا عليه السلام .


1- .في النسخة: «لا يستعمل».
2- .المائدة (5): 12.
3- .تتمة الآية السابقة.
4- .هذا الوجه ذكره السيّد أحمد العلوي في الحاشية على اُصول الكافي، ص 390 - 391.
5- .في النسخة: «يحصل».
6- .نقله من قوله: «ويطلق على ثلاثة» إلى هنا المجلسي في مرآة العقول، ج 2، ص 195.

ص: 666

المعصيةَ ، فليس حيثُ لم يَقْبَلْ منك فتركتَه كنتَ أنت الذي أمرتَه بالمعصية» .

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد البرقيِّ ، عن عليّ بن الحَكَمِ ، عن هِشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«اللّهُ أكرمُ من أن يُكَلِّفَ الناسَ ما لا يُطيقونَ ، واللّهُ أعزُّ من أن يكونَ في سلطانه ما لا يُريدُ» .

باب الاستطاعةعليُّ بن إبراهيمَ ، عن الحسن بن محمّد، عن عليّ بن محمّد القاسانيّ ، عن عليّ بن أسباطٍ ، قالَ : سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الاستطاعة ، فقال :«يَستطيعُ العبدُ بعدَ أربعِ خصالٍ : أن يكونَ مُخلَّى السِّرْبِ ، صحيحَ الجسمِ ، سَليمَ الجوارحِ ، له سَبَبٌ واردٌ من اللّه » .

قوله عليه السلام : (اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون) أي لا يقدرون عليه قدرة مؤثّرة، فهذا لإبطال المذهبين في الجبر، فإنّ مذهبهم إمّا عدم القدرة للعبد، وإمّا مستلزم له كما مرّ. وقوله: (اللّه أعزّ) إلخ لإبطال التفويض.

[باب الاستطاعة]قوله: (عن الاستطاعة) إلخ المراد بالاستطاعة المعنى الثاني (1) . والخصال - بكسر الخاء المعجمة - : جمع خَصلة بفتحها وهي الحالة والصفة. والسِرب - بكسر السين وسكون الراء المهملتين - : البال والقلب والنفس، أي يكون مخلّى بالطبع، أو فارغ البال، وعلى التقديرين المقصود أنّه يكون غير مشغول الخاطر بما يصرفه عن الفعل. وحملُه (2) على تخلية الطريق غيرُ مناسب؛ لدخوله في تحت السبب الوارد من اللّه تعالى.


1- .أي آلة تحصل معها القدرة على الشيء، كما تقدّم في السطور السابقة.
2- .الحامل النائيني في الحاشية على اُصول الكافي، ص 508.

ص: 667

قالَ : قلتُ : جُعِلْتُ فداك فَسِّرْ لي هذا . قال : «أن يكونَ العبدُ مُخَلَّى السِّرْبِ ، صحيحَ الجسم ، سليمَ الجوارح ، يُريدُ أن يَزنِيَ فلا يَجِدُ امْرَأةً ثمَّ يَجِدُها ، فإمّا أن يَعْصِمَ نفسَه فيَمْتَنِعَ كما امْتَنَعَ يوسفُ عليه السلام ، أو يُخَلِّيَ بينه وبين إرادتِه ، فَيَزْني فيُسَمَّى زانيا ، ولم يُطِعِ اللّهَ بإكراهٍ ، ولم يَعْصِهِ بغَلَبَةٍ».

والفرق بين صحّة الجسم وسلامة الجوارح ظاهر؛ لأنّ المراد بالأوّل أنّه لا يكون له مرض لا يقدر معه على الفعل، والثاني أنّه ليس في الجارحة التي يحتاج إليها في الفعل آفة كقطع الذكر في مثال الزنا. والمراد بالسبب الوارد من اللّه تعالى إذنه، أي رفعه المانع عن كلّ واحد من فعل العبد إذا أراد العبد الفعل، أو تركه وكفّه إذا أراد الترك. وقوله: (فسّر لي هذا) أي بيّن لي هذا الذي ذكرته في ضمن مثال. وقوله: (قال: أن يكون) أي مثاله أن يكون إلخ. وقوله: (فلا يجد امرأة) مثال لتخلّف الإذن عن الثلاث؛ لأنّ عدم وجدان الامرأة مانع عن الزنا، واللّه تعالى يرفعه بوجدانه. وقوله: «ثمّ يجدها» أي يفرض بعد ذلك أنّه يجدها، (1) وهذا مثال لوجود الإذن (2) ورفع المانع مع الثلاثة، فمقصوده أنّ قدرة العبد لا تستقلّ (3) في الزنا مثلاً حتّى يكون الاستطاعة تفويضا كما زعمه القدريّة، بل يتوقّف فعله على الإذن من اللّه تعالى. ثمّ بيّن عليه السلام أنّ الاستطاعة لا توجب (4) الجبر على الفعل بقوله: (فإمّا أن يعصم نفسه) إلخ. وقوله: (ولم يطع اللّه بإكراه) ناظر إلى قوله: «فإمّا أن يعصم» وفاعل الإكراه العبد. وقوله: (ولم يعصه بغلبة) ناظر إلى قوله: «أو يخلّي».


1- .في النسخة زيادة: «أي يفرض بعد ذلك أنّه يجدها».
2- .نقل هذه الحاشية من أوّلها إلى هنا المجلسي في مرآة العقول، ج 2، ص 214 بعنوان «يحتمل».
3- .في النسخة: «لا يستقلّ».
4- .في النسخة: «لا يوجب».

ص: 668

محمّد بن يحيى وعليُّ بن إبراهيمَ جميعا ، عن أحمدَ بن محمّد، عن عليّ بن الحكم وعبد اللّه بن يزيد جميعا ، عن رجلٍ من أهل البصرة ، قالَ : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الاستطاعة ، فقال :«أتَستطيعُ أن تَعمَلَ ما لم يُكَوَّنْ؟» قال : لا ، قال : «فتستطيعُ أن تَنْتَهِيَ عمّا قد كُوِّنَ؟» قال : لا ، قال ، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام : «فمتى أنتَ مستطيعٌ؟» قال : لا أدري ، قال : فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام : «إنَّ اللّهَ خَلَقَ خَلْقا ، فَجَعَلَ فيهم آلةَ الاستطاعة ، ثمَّ لم يُفَوِّضْ إليهم ، فهم مُستطيعونَ للفعل وقتَ الفعل مع الفعل إذا فَعَلوا ذلك الفعلَ ، فإذا لم

قوله: (سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الاستطاعة) أي عن وقت الاستطاعة بقرينة الجواب. والمراد بالاستطاعة هاهنا الاستطاعة التامّة، أي القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير والمرتفعة عنها موانعه بحيث لا يتوقّف على أمر لا يحصل. وحاصل الجواب أنّها لا تكون (1) قبل وجود الفعل؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، ولا بعده؛ لاستحالة تحصيل الحاصل بين الشقّ الأوّل في صورة الفعل والشقّ الثاني في صورة الترك والكفّ حيث قال: (فتستطيع أن تنتهي عمّا قد كوِّن؟) أي تستطيع أن تترك وتكفّ (2) عمّا قد كوّن وحصل كفّه وتركه منك، بل يكون استطاعة الفعل في وقت الفعل مع الفعل، واستطاعة الترك والكفّ في وقت الكفّ مع الكفّ. وقوله: (فجعل فيهم آلة الاستطاعة) أي ما يتوقّف عليه حصولها من تخلية السرب وصحّة الجسم وسلامة الجوارح ونحو ذلك على حسب الأفعال المستطاع لها. وأشار بقوله: (ثمّ لم يفوّض إليهم) بالسبب الوارد من اللّه تعالى من الإذن كما مرّ، وبأنّ لقدرة اللّه وإرادته وقضائه وقدره تأثيرا (3) في فعل العبد، ولا يكون قدرة العبد مستقلّة في التأثير كما زعمه المعتزلة والمفوّضة.


1- .في النسخة: «لا يكون».
2- .في النسخة: «فيستطيع... ينتهي... يستطيع... يترك ويكفّ».
3- .في النسخة: «تأثير».

ص: 669

يَفْعَلوه في مُلْكه لم يكونوا مستطيعينَ أن يَفَعَلوا فعلاً لم يَفْعَلُوه ، لأنّ اللّهَ - عزّ وجلّ - أعَزُّ من أن يُضادَّه في ملكه أحدٌ» . قال البصريّ ، فالناسُ مَجبورونَ؟ قال : «لو كانوا مجبورينَ كانوا مَعذورين» ، قال : فَفَوَّضَ إليهم ، قال : «لا» . قالَ : فماهم؟ قال : «عَلِمَ منهم فعلاً فَجَعَلَ فيهم آلةَ الفعل ، فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مُستطيعينَ» . قال البصريُّ : أشهد أنّه الحقُّ وأنّكم أهلُ بيتِ النبوَّة والرسالة .

وقوله: (لأنّ اللّه عزّ وجلّ أعزّ) إلخ استدلال على قوله: «ثمّ لم يفوّض إليهم» بعد التصريح بالمقصود من أنّ الاستطاعة مع الفعل. ولمّا توهّم البصري أنّه بعد إبطال التفويض لم يبق إلّا الجبر قال: (فالناس مجبورون؟) فأجاب عليه السلام بقوله: (لو كانوا مجبورين) ل- (كانوا معذورين) فبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والمحمدة واللوم والوعد والوعيد، بل إرسال الرسل وإنزال الكتب. ولمّا توهّم أنّه لم يكن منزلة بين المنزلتين، وأبطل عليه السلام الجبر فأورد بأنّه حينئذٍ يلزم القول بالتفويض وهو مناقض لما ذكرت آنفا من نفي التفويض، فأجاب عليه السلام بنفي التفويض مرتبة اُخرى، ولم يذكر عليه دليلاً اكتفاء بما مرّ من قوله: (لأنّ اللّه عزّ وجلّ أعزّ) إلخ فعرّفه أنّ الواسطة هي الحقّ. فسأل البصري عن الواسطة بقوله: (فما هم؟) أي إذا لم يكونوا مجبورين ولا مفوّضا إليهم، فما الذي هم عليه من المنزلة الثالثة؟ والمراد بآلة العقل ما مرّ من الاُمور الأربعة التي رابعها هو السبب الوارد من اللّه تعالى، أي إذنه تعالى، فلا يكون قدرة العبد مستقلّة بالتأثير، بل لا بدّ من إذنه تعالى أيضا مع تعلّق قدرته تعالى وإرادته وقدره وقضائه، واكتفى عليه السلام بالإذن هاهنا؛ لأنّ مجرّده يبطل التفويض وهو المطلوب. قال صاحب كتاب الجواهر من المعتزلة: قيل: إنّ الحسن البصري كتب إلى الإمام الحسن بن عليّ عليهماالسلام: من الحسن البصري الى الحسن بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ أمّا بعد فإنّكم معاشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة مصابيح الدجى وأعلام الهدى والأئمّة القادة الذين

ص: 670

محمّد بن أبي عبد اللّه ، عن سهل بن زياد ؛ وعليُّ بن إبراهيم ، عن أحمدَ بن محمّد؛ ومحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد جميعا ، عن عليّ بن الحكم ، عن صالح النيليّ ، قال :

من تبعهم نجا، والسفينة التي يؤول (1) إليها المؤمنون وينجو (2) فيها المتمسّكون، قد كثر يا ابن رسول اللّه عندنا الكلام في القدر واختلافنا في الاستطاعة، فتعلّمنا ما ترى عليه رأيك ورأي آبائك، فإنّكم ذرّيّة بعضها من بعض، مِن عِلم اللّه علمتم وهو الشاهد عليكم، وأنتم الشهداء على الناس والسلام. فأجابه الحسن بن عليّ عليهماالسلام: «من الحسن بن عليّ إلى الحسن البصري، أمّا بعد فقد انتهى إليّ كتابك عند حيرتك وحيرة من زعمت من اُمّتنا، [وكيف ترجعون إلينا ]وأنتم بالقول دون العمل؟! واعلم أنّه لولا ما تناهى إليّ من حيرتك وحيرة الاُمّة من قبلك، لأمسكت عن الجواب، ولكنّي الناصح ابن الناصح الأمين، والذي أنا عليه أنّه من لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه فقد كفر، ومن حمل المعاصي على اللّه عزّ وجلّ فقد فجر، إنّ اللّه سبحانه لا يطاع بإكراه، ولا يعصى بغلبة، ولا أهمل العباد من الملكة (3) ، ولكنّه عزّ وجلّ المالك لما ملّكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن اللّه عزّ وجلّ لهم صادّا، ولا عنها مانعا، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء سبحانه أن يمنّ عليهم فيحول بينهم وبينها فعل، وإن لم يفعل، فليس هو حملهم عليهم إجبارا، ولا ألزمهم بها إكراها، بل احتجاجه جلّ ذكره عليهم أن عرّفهم، وجعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه، وترك ما نهاهم عنه، وللّهِ الحجّة البالغة والسلام (4) » انتهى. قوله: (مثل الزنا)


1- .في النسخة: «تؤول».
2- .في النسخة: «تنجو».
3- .في حاشية العلوي: «المملكة».
4- .أورده أيضا السيّد أحمد العلوي في الحاشية على اُصول الكافي، ص 396 - 397 من كتاب الجواهر. وأورده أيضا ابن شعبة في تحف العقول، ص 231، والكراجكي في كنز الفوائد، ص 171.

ص: 671

سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام : هل للعباد من الاستطاعة شيءٌ؟ قال : فقال لي : «إذا فعلوا الفعلَ كانوا مستطيعينَ بالاستطاعة التي جَعَلَها اللّهُ فيهم» . قالَ : قلتُ وما هي؟ قال : «الآلةُ مثلُ الزاني إذا زنى كانَ مُستطيعا للزنى حين للزنى ، ولو أنَّه تَرَكَ الزنى ولم يَزْنِ كانَ مستطيعا لتَرْكِه إذا ترك» ، قال : ثمّ قال : «ليس له من الاستطاعة قبلَ الفعلِ قليلٌ ولا كثيرٌ ، ولكن من الفعلِ والتركِ كانَ مُستطيعا» . قلتُ : فعلى ماذا يُعَذِّبُهُ؟ قال : «بالحجّةِ البالغةِ والآلةِ التي رَكَّبَ فيهم ، إنّ اللّه لم يُجْبِرْ أحدا على معصيته ، ولا أرادَ - إرادةَ حَتْمٍ - الكفرَ من أحدٍ ، ولكن حينَ كَفَرَ كانَ في إرادة اللّه أن يَكْفُرَ ، وهم في إرادةِ اللّه وفي عِلْمِه أن لا يَصيروا إلى شيء من الخير» . قلتُ : أرادَ منهم أن يكفروا؟ قال : «ليس هكذا أقولُ ، ولكنّي أقول : عَلِمَ أنّهم سَيَكْفُرونَ ، فأرادَ الكفرَ لعِلْمِه فيهم ، وليست هي إرادة حَتْمٍ ، إنّما هي إرادةُ اختيارٍ» .

هذا مثال لقوله: (إذا فعلوا الفعل) إلخ وليس مثالاً لتفسير الاستطاعة، ولمّا توهّم السائل من قوله عليه السلام - : (كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها اللّه فيهم) ومن أنّ الاستطاعة مع الفعل لا قبله - الجبرَ، فسأل عنه بقوله: (فعلى ماذا يعذّبه؟) أي يعذّب الزاني. والمراد بالحجّة البالغة أوامر اللّه تعالى ونواهيه وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأئمّة في إعلام (1) الناس بالأفعال النافعة والضارّة. والمراد بالآلة التي ركّب فيهم القدرة والإرادة المؤثّرة (2) اللتين خلقهما اللّه تعالى في العباد (3) (ولكن حين كفر كان في إرادة اللّه تعالى أن يكفر) أي لمّا كفر باختياره من غير جبر، كان في إرادة اللّه تعالى أن يكفر باختياره، بمعنى أنّ إرادة اللّه تعالى الكفر من أحد تابع لإرادته المؤثّرة واختياره الكفر، كما أنّ علمه بأفعال غيره تابع للمعلوم، وكذا الحال في قدرته تعالى وقدره وقضائه بالنسبة إلى أفعال العباد. وقوله: (أن لا يصيروا إلى شيء من الخير) أي باختيارهم وإرادتهم المؤثّرة. ولمّا توهّم السائل من قوله عليه السلام : (إنّ إرادته تعالى للكفر إرادة حتم) سأل عنه ذلك وأجاب عليه السلام بأنّها ليست إرادة حتم توجب صدور الفعل عن العبد بمجرّده حتّى يلزم الجبر،


1- .في المرآة: «لإعلام».
2- .في المرآة: «المؤثّرتين».
3- .أدرج هذه الحاشية المجلسي رحمه الله في مرآة العقول، ج 2، ص 219.

ص: 672

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن بعض أصحابنا ، عن عُبيد بن زرارةَ ، قالَ : حَدَّثَني حمزةُ بن حُمرانَ ، قالَ : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الاستطاعة ، فلم يُجِبْني ، فَدَخَلْتُ عليه دَخْلَةً اُخرى ، فقلتُ : أصْلَحَكَ اللّهُ ، إنّه قد وَقَعَ في قلبي منها شيءٌ لا يُخْرِجُه إلّا شيءٌ أسْمَعُهُ منك ، قال :«فإنّه لا يَضُرُّكَ ما كانَ في قلبك» . قلتُ : أصْلَحَكَ اللّهُ إنّي أقول : إنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يُكَلِّفِ العبادَ ما لا يَستطيعونَ ، ولم يُكَلِّفْهُمْ إلّا ما يُطيقونَ ، وإنّهم لا يَصنعونَ شيئا من ذلك إلّا بإرادةِ اللّهِ ومشيئته وقضائه وقَدَرِه ، قال : فقال : «هذا دينُ اللّه الذي أنا عليه وآبائي» أو كما قالَ .

باب البيان والتعريف ولزوم الحجّةمحمّد بن يحيى وغيره ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عُمير ، عن جميل بن دَرّاج ، عن ابن الطيّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«إنّ اللّه احتَجَّ على الناس بما آتاهم وعَرَّفَهم» .

بل إرادة اختيار تابعة لإرادة العبد واختياره، وذلك لأنّه لمّا علم أنّه سيكفرون بإرادتهم المؤثّرة وإرادته تعالى في فعلهم تابع لإرادتهم، فأراد الكفر إرادة تابعة لعلمه فيهم أنّهم سيكفرون باختيارهم. قوله: (وكما قال) الشكّ للراوي، يعني أو قال هذا دين اللّه الذي أنا عليه وكما قال آبائي.

[باب البيان ولزوم التعريف ولزوم الحجّة]قوله عليه السلام : (احتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم) أي أقام الحجّة على الناس بما أعطاهم وعرّفهم من مصالح أفعالهم ومضارّها بالأوامر والنواهي والأحكام الشرعيّة بوساطة القرآن والرسول والأئمّة صلوات اللّه عليهم، ومن المعارف (1) الإلهيّة بوساطتهم ووساطة المعلولات والآيات الدالّة عليها بعد النظر والفكر، فيختلف


1- .في النسخة: «معارف».

ص: 673

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذانَ ، عن ابن أبي عُمير ، عن جميل بن دَرّاجٍ مثلَه .

محمّد بن يحيى وغيرُه ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن أبي عُمير ، عن محمّد بن حكيم ، قال : قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : المعرفةُ من صُنْعِ مَن هي؟ قال :«مِن صُنعِ اللّه ، ليس للعباد فيها صُنعٌ» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن ابن فضّال ، عن ثَعلبةَ بن ميمون ، عن حمزةَ بن محمّد الطيّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : « وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ » .........

مراتب التكليف باعتبار اختلاف مراتب العلم والمعرفة وإن كان القدر المشترك بين تلك المراتب مشترك فيما بين الكلّ؛ فتدبّر. قوله: (المعرفة من صنع من هي؟) هذا سؤال عن صانع المعرفة وفاعلها كان السائل توهّم أنّ العلّة (1) الفاعليّة للمعرفة هي العبد، فأجاب عليه السلام (من صنع اللّه ، ليس للعباد فيها صنع) فإنّ مطلق المعرفة والعلم - تصوّريا كان أو تصديقيا، بديهيا كان أو نظريا، شرعيا كان أو غيره - إنّما يفيض من اللّه تعالى في الذهن بعد حصول استعداد له بسبب الإحساس أو التجربة أو النظر والفكر أو الاستماع من المعلّم أو غير ذلك، فالإحساس والتجربة والنظر والفكر والاستماع وما يحذو حذوها معدّات، والعبد كاسب للمعرفة لا موجدها (2) . قوله: (وما كان اللّه ليضلّ قوما) إلخ


1- .في النسخة: «علّة».
2- .نقلها في مرآة العقول، ج 2، ص 222 حيث قال: «وذهب الحكماء إلى أنّ العلّة الفاعليّة للمعرفة... تصوّريا... إنّما يفيض... ثمّ قال: والظاهر من أكثر الأخبار أنّ العباد إنّما كلّفوا بالانقياد للحقّ وترك الاستكبار عن قبوله، فأمّا المعارف فإنّها بأسرها ممّا يلقيه اللّه سبحانه في قلوب عباده بعد اختيارهم للحقّ، ثمّ يكمل ذلك يوما فيوما بقدر أعمالهم وطاعاتهم حتّى يوصلهم إلى درجة اليقين، وحسبك في ذلك ما وصل إليك من سيرة النبيّين وأئمّة الدين في تكميل اُممهم وأصحابهم؛ فإنّهم لم يحيلوهم على الاكتساب والنظر وتتبّع كتب الفلاسفة وغيرهم، بل إنّما دعوهم أوّلاً إلى الإقرار بالتوحيد وسائر العقائد، ثمّ إلى تكميل النفس بالطاعات والرياضات حتّى فازوا بما سعدوا به من أعالي درجات السعادات».

ص: 674

قال : «حتّى يُعَرِّفَهم ما يُرضيه وما يُسخِطُه ، وقال : « فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا » قالَ : بَيَّنَ لها ما تأتي وما تَتْرُكُ ، وقال : « إِنَّا هَدَيْنَ-هُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا » قال : عَرَّفْناه إمّا آخِذٌ وإمّا تارِكٌ» . وعن قوله : « وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَ-هُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى » قال : «عَرَّفْناهم فاستحبّوا العَمى على الهُدى وهم يَعْرِفونَ» . وفي رواية : «بَيَّنّا لهم» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ بن عبدالرحمن ، عن ابن بكير ،

يحتمل أن يكون الهداية هاهنا بمعنى الإيصال إلى المطلوب، فمعناه أنّ اللّه لا يخذل قوما، أو لا يحتجّ على قوم، ولا يحكم بضلالتهم بعد إذ أوصلهم إلى المطلوب (حتّى يعرّفهم ما يرضيه) فيعملوا به (وما يسخطه) فيجتنبوا عنه، أي حتّى يوفّقهم لكلّ خير، ويعصمهم من كلّ شرّ؛ فما بعد «حتّى» داخل فيما قبلها. ويحتمل أن يكون بمعنى إراءة الطريق، فمعناه أنّه تعالى لا يخذل قوما، أو لا يحتجّ عليهم، ولا يحكم بضلالتهم بعد إذ هداهم إلى الإيمان إلّا بعد أن يعلّمهم ما يرضيه وما يسخطه، فما بعد «حتّى» خارج عن حكم ما قبلها (1) . وقوله: (قال: «فألهمها» ) من كلام ثعلبة، وضميره راجع إلى حمزة، أي وسأله عن قوله تعالى في سورة الشمس: «فَأَلْهَمَها» (2) وضميره راجع إلى النفس. والمراد بفجورها وتقواها ما فيه فجورها، وما فيه تقواها. وقوله: (بيّن لها ما تأتي وما تترك) أي المراد بالإلهام هو بيان اللّه تعالى وإعلامه بما ينبغي للنفس أن تأتي به ممّا ينفع لها بالأمر، وبما ينبغي لها أن تتركه (3) ممّا يضرّها بالنهي، فالنشر على خلاف ترتيب اللفّ. وقوله: (إمّا آخذ) أي آخذ سبيل الحقّ. وقوله: (وفي رواية بيّنّا لهم) أي بدل عرّفناهم.


1- .نقلها في مرآة العقول، ج 2، ص 224 بعنوان «قيل»، وكذا أدرج في المرآة بقيّة الحاشية.
2- .الشمس (91): 8.
3- .المثبت من المرآة، وفي النسخة: «يتركه».

ص: 675

عن حمزةَ بن محمّد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألتُه عن قول اللّه عزّ وجلّ: « وَ هَدَيْنَ-هُ النَّجْدَيْنِ » قال :«نَجْدَ الخيرِ والشرّ» .

وبهذا الإسناد ، عن يونسَ ، عن حمّادٍ ، عن عبد الأعلى قال : قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام :«أصْلَحَكَ اللّهُ ، هل جعلَ في الناس أداةٌ يَنالونَ بها المعرفةَ؟ قال : فقال : «لا» ، قلتُ : فهل كُلِّفُوا المعرفةَ؟ قال : «لا ، على اللّهِ البيانُ « لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَا وُسْعَهَا » « وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَا مَآ ءَاتَاهَا » » ، قال : وسألتُه عن قوله : « وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ » قال : «حتّى يُعَرِّفَهم ما يُرضيه وما يُسخِطُه».

وبهذا الإسناد ، عن يونسَ ، عن سَعدانَ ، رَفَعَه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«إنّ اللّهَ لم يُنْعِمْ على عبدٍ نعمةً إلّا وقد ألْزَمَه فيها الحجّةَ من اللّه ، فمَنْ مَنَّ اللّهُ عليه فجعله قويّا ،

قوله: (وهديناه النجدين) النجد: الطريق الواضح المرتفع. قوله: (هل جعل في الناس أداة ينالون فيها المعرفة؟) أي جعل للناس قوّة وآلة يكون تلك القوّة علّة فاعليّة، وموجدة للمعرفة والعلم أيّ قسم كان من أقسامه، فأجاب عليه السلام بقوله: (لا) فليس العبد مكلّفا بإيجاد العلم والمعرفة لا سيّما في الأحكام الشرعيّة و(على اللّه البيان) لكنّه يجب عليه تحصيلها واكتسابها لا سيّما العلم بها بعد بيانه تعالى للرسول والأئمّة صلوات اللّه عليهم، فالعبد مكلّف باكتساب المعرفة لا بإيجادها. قوله: (وقد ألزمه فيها الحجّة من اللّه ) أي زاد بسببها تكليفا له، فزاد إلزام الحجّة فيها عليه بعد البيان والتعريف. وقوله: (فجعله قويّا) أي في بدنه. والمراد بما كلّفه كالجهاد والحجّ ونحوهما من الاُمور التي لا تتأتّى (1) عن الضعيف، فلا يكلّف بها إلّا القويّ. وجعل المكلّف به نفس الحجّة مجازا باعتبار أنّه باعث الحجّة باعتبار الترك، أو باعتبار الفعل أيضا إن جعلنا الحجّة أعمّ من بيّنة هلاك الهالك ونجاة الناجي.


1- .في النسخة: «لا يتأتّى».

ص: 676

فحُجَّتُه عليه القيامُ بما كَلَّفَه ، واحتمالُ من هو دونَه ممّن هو أضعَفُ منه ، ومَن مَنَّ اللّهُ عليه فَجَعَلَه مُوَسَّعا عليه فحجَّتُه عليه مالُه ، ثمّ تَعاهُدُه الفقراءَ بعدُ بنوافِلِه ، ومَن مَنَّ اللّهُ عليه فجَعَلَه شريفا في بيته ، جميلاً في صورته ، فحجَّتُه عليه أن يَحْمَدَ اللّهَ تعالى على ذلك ، وأن لا يتطاولَ على غيره ، فيَمنَعَ حقوقَ الضعفاء لحال شَرَفِه وجمالِه» .

باب اختلاف الحجّة على عبادهمحمّد بن أبي عبد اللّه ، عن سهل بن زياد ، عن عليّ بن أسباط ، عن الحسين بن زيد ، عن دُرُسْتَ بن أبي منصور ، عمّن حَدَّثَه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«ستّةُ أشياءَ

وقوله: (واحتمال ثقل من هو دونه ممّن هو أضعف منه) أي تحمّل ثقل من هو قريب منه في القوّة ممّن هو أضعف منه، يعني لا يقتصر في الاحتمال على احتمال الضعيف المتهالك كما في إغاثة المستغيث، بل ينبغي أن يحتمل ثقل من هو قوّته أقلّ من قوّته وإن كانت قريبة لقوّته كما في دفع القويّ من الخصم عن الضعيف من المسلمين في الجهاد إذا أحسّ من نفسه قوّة بدن أكثر. وقوله: (مُوَسَّعا) بتشديد السين المهملة على صيغة المجهول. وقوله: (فحجّته عليه ماله) أي حقوق ماله المفروضة كالزكاة والخمس. وقوله: (شريفا) أي كريما ذا مجد وعلوّ باعتبار كمال العلم وغيره من الكمالات. وقوله: (لا يتطاول) أي لا ينظر نظر إهانة (على غير[ه])؛ لأنّه يمنع حقوق الضعفاء من إكرام مؤمنيهم وزيارتهم وعيادة مرضاهم وا ءرشاد ضالّهم وإدراك لهيفهم ونحو ذلك. وقوله: (لحال شرفه وجماله)... (1) ذلك التطاول، فإنّهما يوجبان زيادة رعاية في الحقوق، فلا نجعله سببا للنقصان.

[باب اختلاف الحجّة على عباده]قوله عليه السلام : (ستّة أشياء) إلخ


1- .كلمتان لا تقرءان.

ص: 677

ليس للعباد فيها صُنْعٌ : المعرفةُ ، والجهلُ ، والرضا ، والغضبُ ، والنومُ ، واليَقظَةُ» .

باب حجج اللّه على خلقهمحمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن أبي شُعَيْبٍ المَحامِليّ ، عن دُرُسْتَ ابن أبي منصور ، عن بُرَيدِ بن معاويةَ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«ليس للّه على خَلْقِه أن يَعرِفوا ، وللخَلْق على اللّه أن يُعَرِّفَهُم ، وللّه على الخلق إذا عَرَّفَهم أن يَقْبَلوا» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحَجّال ، عن ثَعْلَبَةَ بن مَيمون ، عن عبد الأعلى بن أعْيَنَ ، قالَ : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام مَن لم يَعْرِفْ شيئا هل عليه شيءٌ؟ قال :«لا» .

أي ممّا يتوهّم أنّه يكون للعباد فيها صنع، ويكون علّتها الفاعليّة والمؤثّرة هو العبد (1) (وليس للعباد فيها صنع) وتأثير ستّة أشياء لئلّا ينقض الحصر بنحو الصحّة (ظ) والمرض.

[باب حجج اللّه على خلقه]قوله: (باب حجج اللّه على خلقه) المقصود من هذا الباب أنّ المعارف بأقسامها - التي لا تحصل إلّا بصنع اللّه بعد حصولها للعبد - حجج للّه تعالى على خلقه، ولمّا كانت المعارف أسبابا للحجج، فعبّر عنها بها على سبيل المبالغة مجازا. قوله: (ليس للّه على خلقه أن يعرفوا) أي يوجدوا المعرفة في أنفسهم؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق (وللخلق على اللّه أن يعرّفهم) ويعلّمهم بما يكلّفهم به، نعم (للّه على الخلق) كسب المعرفة وتحصيلها، وللّه عليهم (إذا عرّفهم أن يقبلوا) أي يعترفوا ويقرّوا به ويعملوا به. قوله: (من لم يعرف [شيئا هل] عليه شيء؟) أي إثم بإزاء عدم المعرفة، قال: (لا) بل الإثم في بعض الأحكام إنّما يكون بإزاء عدم التحصيل.


1- .في النسخة زيادة: «وليس للعباد فيها صنع ، ويكون علّتها الفاعليّة ، والمؤثّرة هو العبد».

ص: 678

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن ابن فَضّال ، عن داودَ بن فَرْقَد ، عن أبي الحسن زكريّا بن يحيى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :«ما حَجَبَ اللّهُ عن العباد فهو موضوعٌ عنهم» .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عليّ بن الحَكَم ، عن أبانٍ الأحمر ، عن حمزةَ بن الطيّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال لي :«اُكْتُبْ» فأمْلى عَلَيَّ : «إنّ مِن قولنا إنَّ اللّهَ يَحْتَجُّ على العباد بما آتاهم وعَرَّفَهم ، ثمَّ أرْسَلَ إليهم رسولاً وأنْزَلَ عليهم الكتابَ ، فأمَرَ فيه ونَهى ، أمَرَ فيه بالصلاة والصيام ، فنامَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الصلاة ، فقال : أنا اُنِيمُك وأنا اُوقِظُك ، فإذا قُمْتَ فَصَلِّ لِيَعْلَموا إذا أصابَهم ذلك كيف يَصنَعونَ ، ليس كما يقولون : إذا نامَ هَلَكَ ، وكذلك الصيام أنا اُمْرِضُك وأنا اُصِحُّك ، فإذا شَفَيْتُك فَاقْضِه» . ثمّ قالَ أبو عبد اللّه عليه السلام : «وكذلك إذا نَظَرْتَ في جميع الأشياء لم تَجِدْ أحدا في ضِيقٍ ، ولم تَجِدْ أحدا إلّا وللّه عليه الحُجَّةُ وللّه فيه المشيئةُ ، ولا أقولُ : إنّهم ما شاؤوا صَنَعوا» ، ثمّ قالَ :

قوله: (فهو موضوع عنهم) أي لا إثم لهم في عدم العمل به إذا حجبه اللّه تعالى، ولم يبيّن مطلقا. قوله: (فأملى) إلخ الإملاء أن يقول أحد شيئا، ويكتب آخر. قوله: (إنّ اللّه يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم) أي بما أعطاهم وعرّفهم في الجملة بحيث جعلهم بتلك المعرفة قابلاً للتكليف. وقوله: (ثمّ أرسل إليهم رسولاً) أي ثمّ يحتجّ عليهم بأنّه أرسل إليهم رسولاً، فأمر في ذلك الإرسال بالأفعال والأحكام النافعة لهم، ونهى فيه عن الأفعال والأحكام الضارّة لهم. وتخصيص الصلاة والصيام بالذكر لأنّهما العمدة، وروي أنّ الصلاة (1) التي نام رسول اللّه صلى الله عليه و آله عنها هي صلاة الصبح (2) . وقوله: (ولا أقول: إنّهم ما شاؤوا صنعوا) أي بحيث لا يتوقّف فعلهم على إذن اللّه تعالى،


1- .في النسخة: «صلاة».
2- .قال المجلسي في مرآة العقول، ج 2، ص 236: «رواه العامّة والخاصّة أنّه صلى الله عليه و آله نام في المعرس حتّى طلعت الشمس، ومن أنكر سهو النبيّ لم ينكر هذا كما ذكره الشهيد رحمه الله ، لكنّه ينافي ظاهرا ما عدّ من خصائصه صلى الله عليه و آله أنّه كان ينام عينه، ولا ينام قلبه، فيلزم ترك الصلاة متعمّدا. واُجيب عنه بوجوه...».

ص: 679

«إنَّ اللّه يَهدي ويُضلُّ» وقال : «وما اُمِرُوا إلّا بدون سَعَتِهم ، وكُلُّ شيءٍ اُمِرَ الناسُ به فَهُمْ يَسَعونَ له ، وكُلُّ شيءٍ لا يَسَعونَ له فهو موضوعٌ عنهم ، ولكنّ الناسَ لاخيرَ فيهم» ثمّ تلا عليه السلام : « لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ » فوضع عنهم « مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ » قال : «فوضع عنهم لأنّهم لا يَجِدونَ».

باب الهداية أنّها من اللّه عزّ وجلّعدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن أبي إسماعيل السرّاج ، عن ابن مُسكانَ ، عن ثابتٍ أبي سعيد ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام :«يا ثابت، ما لكم وللناسِ، كُفُّوا عن الناس ولا تَدْعُوا أحدا إلى أمْرِكم، فواللّه لو أنّ أهلَ السماوات وأهلَ الأرضين اجْتَمَعُوا على أن يَهْدُوا عبدا يُريدُ اللّهُ ضلالتَه ما استطاعوا على أن يَهْدوه ، ولو أنَّ أهلَ السماوات وأهلَ الأرضين اجتمعوا على أن يُضِلّوا عبدا يُريدُ اللّهُ هدايتَه

وتكون قدرتهم مستقلّة في التأثير بحيث لا تأثير لقدرة اللّه تعالى في أفعالهم. وقوله: (إنّ اللّه يهدي ويضلّ) أي يوصل إلى المطلوب ولا يوصل، أو يوفّق ويخذل بدون لزوم جبر، أو (ظ) يخلق السعادة والشقاء بدون لزوم جبر. وقوله: (وما اُمروا إلّا بدون سعتهم) أي ما اُمروا بالجبر، بل مع القدرة المؤثّرة وعند السعة. وقوله: (ولكنّ الناس لا خير فيهم) أي العصاة، أو أكثر الناس لا خير فيهم... (1) والحرج: الضيق.

[باب الهداية أنّها من اللّه عزّ وجلّ]قوله عليه السلام : (ولا تدعوا أحدا إلى أمركم) أي دينكم، والمراد النهي عن ذلك في زمن التقيّة، والمراد بالهداية في قوله عليه السلام : (أن يهدوا عبدا) وفي قوله: (على أن يهدوه) وفي قوله: (يريد اللّه هدايته) الإيصال إلى المطلوب


1- .كلمتان لا تقرءان.

ص: 680

ما استطاعوا أن يُضِلّوه ، كُفُّوا عن الناس ولا يقولُ أحدٌ : عمّي وأخي وابن عمّي وجاري ؛ فإنَّ اللّه إذا أرادَ بعبدٍ خيرا طَيَّبَ روحَه ، فلا يَسْمَعُ معروفا إلّا عَرَفَه ، ولا مُنْكَرا إلّا أنْكَرَه ، ثمَّ يَقذِفُ اللّهُ في قلبه كلمةً يَجمَعُ بها أمرَه».

عليُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمّد بن حُمرانَ ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال :«إنّ اللّه - عزّ وجلّ - إذا أراد بعبدٍ خيرا نَكَتَ في قلبه نُكتةً من نورٍ ، وفَتَحَ مَسامِعَ قلبِه ، ووَكَّلَ به مَلَكا يُسَدِّدُه ، وإذا أرادَ بعبدٍ سوءا نَكَتَ في قلبه نُكتةً سوداءَ ، وسَدَّ مَسامِعَ قلبِه ، ووَكَّلَ به شيطانا يُضِلُّهُ» ثمّ تلا هذه الآية : « فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْاءِسْلَ-مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ » .

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد، عن ابن فضّال ، عن عليّ بن عُقْبَةَ ، عن أبيه ، قال : سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :«اجْعَلوا أمرَكم للّه ، ولا تَجْعلوه للناس ، فإنّه ما كانَ للّه فهو للّه ، وما كانَ للناس فلا يَصْعَدُ إلى اللّه ، ولا تُخاصِموا الناسَ لدينكم ، فإنّ المخاصَمَةَ

لا إراءة الطريق، وذلك ظاهر. وقوله: (يريد اللّه ضلالته) أي يريد اللّه ضلالته باختيار ذلك العبد ضلالته. والمراد بالاستطاعة في قوله: (ما استطاعوا) القدرة. والمراد بقوله: (طيّب روحه) أي (ظ) خلق نفسه وروحه سعيدا. وقوله: (ثمّ يقذف اللّه في قلبه كلمة يجمع بها أمره) أي ثمّ يقذف اللّه بالتوفيق في قلبه كلمة التقوى وهي المعرفة الكاملة يجمع بها أمره من الإتيان بما ينفعه، والكفّ عمّا يضرّه. قوله عليه السلام : (نكت في قلبه نكتة من نور) إلخ أي خلق في نفسه السعادة. والنكتة (1) السوداء هي الشقاوة. و(فتح مسامع قلبه) كناية عن سماعه للحقّ. و(سدّ) كناية عن عدم سماعه. والملك كناية عن التوفيق، والشيطان عن... (2) تخلية نفسه مع طبعها.


1- .في النسخة: «نكتة».
2- .كلمة لا تقرأ.

ص: 681

ممْرَضَةٌ للقلب ، إنّ اللّه تعالى قال لنبيّه صلى الله عليه و آله : « إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَ-كِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ » وقال : « أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » ذَروا الناسَ ، فإنَّ الناسَ أخذوا عن الناس، وإنّكم أخَذْتُم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إنّي سمعتُ أبي عليه السلام يقول : إنّ اللّه - عزّ وجلّ - إذا كَتَبَ على عبدٍ أن يَدْخُلَ في هذا الأمر كانَ أسرع إليه من الطير إلى وَكْرِهِ».

أبو عليّ الأشعريّ ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوانَ بن يحيى ، عن محمّد بن مروان ، عن فُضيل بن يَسارٍ ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : نَدعو الناسَ إلى هذا الأمر؟ فقال :«لا ، يا فضيل إنّ اللّهَ إذا أراد بعبدٍ خيرا أمَرَ مَلَكا فأخَذَ بعُنُقِه ، فأدْخَلَه في هذا الأمر طائعا أو كارها».

قوله تعالى: «إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» (1) المراد بالهداية هاهنا الإيصال إلى المطلوب. وقوله: (أخذوا عن الناس) أيكبرائهم وهم أئمّة الضلالة، أو عن أمثالهم من المخالفين للحقّ. وقوله: (إنّكم أخذتم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ) أي بواسطة الأئمّة عليهم السلام . ووَكْر الطائر - بفتح الواو وسكون الكاف - : العُشُّ له. قوله: (ندعو الناس إلى هذا الأمر؟) سؤال عن إفشاء الدعوة وعدم المبالاة، ونهيه عنه لوجوب التقيّة. والمراد بالملك الآخذ بعنقه التوفيق؛ واللّه وليّ الهداية والتوفيق.


1- .القصص (28): 56.

ص: 682

ص: 683

ص: 684

ص: 685

ص: 686

ص: 687

ص: 688

ص: 689

ص: 690

ص: 691

ص: 692

ص: 693

ص: 694

ص: 695

ص: 696

ص: 697

ص: 698

ص: 699

ص: 700

ص: 701

ص: 702

ص: 703

ص: 704

ص: 705

ص: 706

ص: 707

ص: 708

ص: 709

ص: 710

ص: 711

ص: 712

ص: 713

ص: 714

ص: 715

ص: 716

ص: 717

ص: 718

ص: 719

فهرس مصادر التحقيق1 . اُثولوجيا ، أفل-وطين ، ت : عبد الرحم-ان ب-دوى ، قم انتشارات بيدار ، ط 1 ، 1413 ه ، بالاُوفست . 2 . الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد ، محمّد بن محمّد بن النعمان، الشيخ المفيد (م 413)، تحقيق و نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ط 1، 1413 ه . 3 . الاستبصار فيما اختلف من الأخبار ، محمد بن الحسن، الشيخ الطوسي (م 460)، ت: السيد حسن الموسوي الخِرسان، طهران، دارالكتب الإسلامية، ط 4، 1363 ش . 4 . اسناد و مكاتبات سياسى ايران از سال 1038 - 1105 ، باهتمام عبد الحسين نوائى، انتشارات بنياد فرهنگ ايران، 1360 ش . 5 . أعلام الدين في صفات المؤمنين ، الحسن بن أبي الحسن الديلمى (ق 8)، تحقيق و نشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ط 1، 1417 ه . 6 . إعلام الورى بأعلام الهدى ، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (م 548)، تحقيق و نشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ط 1، 1408 ه . 7 . الأغاني ، أبو الفرج علي بن الحسين الإصفهانى (م 356)، دار الكتب المصرية . 8 . الأمالي ، أبو القاسم عبد الرحمان بن القاسم الزجّاجي (م 340)، ت: عبد السلام هارون، بيروت، دار الجيل . 9 . الأمالي ، محمد بن علي ابن بابويه، الشيخ الصدوق (م 381) ؛ تحقيق و نشر: مؤسّسة البعثة، قم، ط 1، 1417 ه .

ص: 720

10 . أمثال العرب، المفضّل بن محمّد الضبيّ (م 171)، ت: إحسان عبّاس، بيروت، دار الرائد، ط 1، 1401 ه - 1981 م . 11 . أمل الآمل، محمد بن الحسن، الحرّ العاملي (م 1104)، ت: السيّد أحمد الحسيني، بغداد، مكتبة الأندلس . أنوار التنزيل تفسير البيضاوي 12 . إيضاح الإشتباه، حسن بن يوسف، العلاّمة الحلّى (م 726)، ت: محمّد الحسّون، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، ط 1، 1411 ه . 13 . إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، محمد بن الحسن بن المطهّر الحلّي، فخر المحقّقين (م 771)، ت: السيّد حسين الموسوي الكرماني و...، قم، ط 1، 1387 ه . 14 . بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي (م 1110)، بيروت، مؤسّسة الوفاء، ط 2، 1403 ه - 1983م . 15 . البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (م 255)، ت: عبد السلام محمّد هارون، بيروت، دار الجيل، 1410 ه . 16 . تاج العروس، الزبيدى (م 1205)، بيروت، دارالفكر، 1414 ق - 1994 م . 17 . تاريخ بغداد (مدينة السلام)، أحمد بن علي بن ثابت، الخطيب البغدادي (م 463)، المدينة المنوّرة، المكتبة السلفية . 18 . تاريخ جهان آراى عباسى، ميرزا محمد طاهر وحيد قزوينى (1015 - 1112 ق)، ت: سعيد مير محمد صادق، تهران، پژوهشگاه علوم انسانى و مطالعات فرهنگى، ط 1، 1383 ه . ش . 19 . التبيان في تفسير القرآن، محمد بن حسن الطوسي، الشيخ الطوسي (م 460)، ت: أحمد حبيب قصير، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، ط 1، الأوفست عن طبع بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1409 ه .

ص: 721

20 . تحف العقول عن آل الرسول، أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني (ق 4)، ت: علي أكبر الغفّاري، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط 2، 1404 ه . 21 . تذكرة الشعراء (تذكره نصر آبادى)، محمد طاهر نصرآبادي (ت 1027 - ...)، ت: محسن ناجى نصر آبادي، تهران، انتشارات اساطير، ط 1، 1378 . وأحيانا من طبع كتابفروشى فروغي بتصحيح وحيد دستگردي . 22 . تذكره صفويه كرمان، مير محمد سعيد المشيزي (البردسيري) (ق 11)، ت: محمد إبراهيم باستاني پاريزي، تهران، نشر علم، ط 1، 1369 ش . 23 . تذكرة الفقهاء، حسن بن يوسف، العلاّمة الحلّي (م 726)، تحقيق و نشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ط 1 . 24 . ترتيب إصلاح المنطق، ابن السكيت الأهوازي (م 244) رتّبه محمد حسن بكائي، مشهد، مجمع البحوث الإسلامية، ط 1، 1412 ه . 25 . التعليقات، أبو علي حسين بن علي بن سينا (م 428) ت: عبد الرحمان بدوي، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، بالاُوفست. 26 . تعلية أمل الآمل، عبد اللّه أفندي الإصفهاني (م / ح 1130)، ت: السيّد أحمد الحسيني، قم مكتبة آية اللّه المرعشي، ط 1، 1410 ه . 27 . التعليقة على كتاب الكافي، السيّد محمد باقر الحسيني، الميرداماد (م 1041)، ت: السيّد مهدي الرجائي، قم، طبع مكتبة الخيّام، 1403 ه . 28 . تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل)، عبد اللّه بن عمر الشيرازي البيضاوي (م 791)، بيروت، دارالفكر . 29 . تفسير الثعلبي (الكشف والبيان)، أبو إسحاق أحمد بن محمّد الثعلبي النيسابوري (م 427)، ت: أبوأحمد بن عاشور، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1422 ه - 2002 م . 30 . تفسير القمّي، علي بن إبراهيم القمي (ق 3 - 4)، ت: السيّد طيّب الموسوي الجزائري، قم، مؤسّسة دار الكتب، ط 3، 1404 ه .

ص: 722

31 . التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، لفخر الدين محمّد بن عمر الرازي (م 606)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 3 . 32 . تنقيح المقال في علم الرجال، عبد اللّه بن حسن المامقاني (م 1351)، النجف الأشرف، المطبعة المرتضوية . 33 . التلويحات، شهاب الدين السهروردي (م 587)، المطبوع في مجموعه مصنّفات شيخ اشراق . 34 . التوحيد، محمد بن علي ابن بابويه، الشيخ الصدوق (م 381)، ت: السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين . 35 . تهذيب الأحكام، محمد بن الحسن الطوسي، الشيخ الطوسي (م 460)، ت: السيّد حسن الموسوي الخِرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط 3، 1364 ش . 36 . جامع الأسرار ومنبع الأنوار، السيّد حيدر الآملي (كان حيّا سنة 787)، ت: هنري كربين و عثمان إسماعيل يحيى، شركت انتشارات علمى و فرهنگى وانجمن ايرانشناسى، ط 2، 1368 ش . 37 . جامع السعادات، محمّد مهدي النراقي (م 1209)، ت: السيّد محمّد كلانتر، تقديم: محمّد رضا المظفّر، النجف الأشرف، دار النعمان للطباعة والنشر . 38 . جامع المقاصد في شرح القواعد، علي بن الحسين، المحقّق الكركي (م 940)، تحقيق و نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ط 1 . 39 . جمهرة الأمثال، أبو هلال الحسن بن عبد اللّه بن سهل العسكري (كان حيا سنة 395)، ت: أحمد عبد السلام، بيروت، دار الكتب العلمية، ط 1، 1408 ه . 40 . جواهر الكلام، محمد حسن بن محمد باقر النجفي (م 1266)، ت: عبّاس القوچاني، دار الكتب الإسلامية، ط 2، 1365 ش . 41 . الحاشية على اُصول الكافي، السيّد أحمد بن زين العابدين العلوي العاملي (كان حيّا سنة 1054)، ت: السيّد صادق الحسيني الإشكوري، قم، دار الحديث، 1427 ق - 1385 ش . 42 . الحاشية على اُصول الكافي، السيّد بدر الدين بن أحمد الحسيني العاملي (كان حيّا سنة 1060) جمعها و رتّبها السيّد محمّد تقي الموسوي سنة 1094، ت: علي الفاضلي، قم، دارالحديث، ط 1، 1424 ق - 1382 ش .

ص: 723

43 . الحاشية على اُصول الكافي، محمد أمين الإسترآبادي (م 1036)، ت: علي الفاضلي، المطبوع في ج 8 ميراث حديث شيعه، قم، دار الحديث، ط 1، 1381 ش . 44 . الحاشية على اُصول الكافي، رفيع الدين محمّد بن حيدر النائيني (م 1082؟)، ت: محمّد حسين الدرايتي، قم، دار الحديث، ط 1، 1424 ق - 1382 ش . 45 . الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف البحراني (م 1186)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين. 46 . حقائق الايمان، زين الدين بن علي العاملي، الشهيد الثاني (م 965)1، ت: السيّد مهدي الرجائي، قم، مكتبة آية اللّه المرعشي، ط 1، 1409 ه . 47 . حكمة الإشراق، شهاب الدين السهروردي (م 587)، المطبوع في مجموعه مصنّفات شيخ اشراق . حكمت علائى دانشنامه علائى 48 . الحكمة المتعالية في أسفار العقليّة الأربعة، صدر الدين محمّد الشرازي (م 1050)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1981 م بالاُوفست عن طبع مكتبة المصطفوي بقم . 49 . الخصال، محمّد بن علي ابن بابويه، الشيخ الصدوق (م 381)، ت: علي أكبر الغفّاري، قم منشورات جماعة المدرّسين، 1403 ه . 50 . خلاصة السير، محمد معصوم بن خواجگي الإصفهاني، ت: إشراف بإيرج افشار، انتشارات علمى، ط 1 . 51 . خلد برين (ايران در زمان شاه صفى و شاه عبادس دوم 1038 - 1071)، محمد يوسف واله قزويني اصفهاني (ت 988 -؟؟؟)، ت: محمد رضا نصيرى، انجمن آثار و مفاخر فرهنگى، ط 1، 1380 ه . ش .

ص: 724

52 . دانشنامه علائى (حكمت علائى)، أبو على سينا (م 428) ت: أحمد خراسانى، طهران، كتابخانه فارابى، 1360 ش . 53 . دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل بيت رسول اللّه عليه وعليهم أفضل السلام، القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي (م 363) ت: آصف بن علي أصغر فيضي، القاهرة، دارالمعارف، 1383 ه . 54 . ديوان امرئ القيس، بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، 1406 ه - 1986 م . 55 . ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، محمّد باقر السبزواري (م 1090)، ط 1، الحجري . 56 . الذريعة إلى تصانيف الشيعة، محمد محسن، آغا بزرگ الطهراني (م 1389) قم، مؤسّسة إسماعيليان. 57 . ذيل تاريخ عالم آراى عباسى، اسكندر بيك تركمان شهير به منشى و محمد يوسف مورّخ، ت: سهيلى خوانسارى، تهران، كتابفروشى اسلاميه، 1317 ه . ش . 58 . رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنّفي الشيعة)، أحمد بن علي النجاشي (م 450) ت: السيّد موسى الشبيري الزنجاني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، ط 6، 1418 ه . 59 . رسالة إثبات الواجب الجديدة، جلال الدين الدواني (م 908) المطبوع في سبع رسائل . 60 . رسالة إثبات الواجب القديمة، جلال الدين الدواني (م 908) المطبوع في سبع رسائل . 61 . رسالة إثبات الواجب، صدر الدين الدشتكي (م 903)، مخطوطة مكتبة آية اللّه المرعشي . 62 . رسالة اصول دين، أحمد الأردبيلي (م 998) المطبوع في هفده رساله . 63 . رسالة تهليلية (شرح لا إله إلاّ اللّه )، جلال الدين الدواني (م 908)، ت: فرشته فريدونى فروزنده، تهران، انتشارات كيهان، ط 1، 1373 ش. وفي المطبوع في مجموعه رسائل فارسى، ج 2، ت: سيّد أحمد تويسركانى، بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى، 1368 ش.

ص: 725

64 . رسائل إخوان الصفا وخُلاّن الوفاء، دار صادر - دار بيروت، 1376 ه - 1957 م . 65 . رسائل الشجرة الإلهية في علوم الحقائق الربّانية، شمس الدين محمد الشهرزوري(ق 7)، ت: نجفقلي حبيبي، مؤسّسه پژوهشى حكمت و فلسفه ايران، ط 1، 1385 ش . 66 . رسائل الشريف المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين (م 436)، ت: السيّد مهدي الرجائي، قم، نشر دار القرآن الكريم، 1405 ه . 67 . رسائل في دراية الحديث، إعداد: أبي الفضل حافظيان البابلي، قم دار الحديث، ط 1، 1424 ق - 1382 ش . 68 . الرعاية في شرح البداية، زين الدين بن علي العاملي، الشهيد الثاني (م 965)،ت: غلام حسين قيصريّه ها، المطبوع في رسائل في دراية الحديث، قم ، دار الحديث، ط 1، 1424 ق - 1382 ش. 69 . روضة الواعظين، محمد بن الحسن بن علي الفتّال النيشابوري (م 508) تقديم: محمد مهدي الخِرسان، قم، منشورات الرضي . 70 . رياض العلماء و حياض الفضلاء ، عبد اللّه الأفندي الإصفهاني (م / ح 1130)، ت: السيّد أحمد الحسيني، قم، مطبعة الخيّام، 1401 ه . 71 . كتاب الزهد، الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي (ق 2 - 3)، ت: غلامرضا عرفانيان، قم، المطبعة العلمية، ط 1، 1399 ه . 72 . سبع رسائل، جلال الدين محمّد الدواني (م 908)، ت: السيّد أحمد التويسركاني، تهران، مركز نشر ميراث مكتوب، 1381 ش - 1423 ق - 2002 م . 73 . السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (م 598)، تحقيق و نشر : مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1417 ه . 74 . سلافة العصر في محاسن الشعراء بكلّ مصر، السيّد علي خان المدني الشيرازي (م 1118)، تهران ، المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، ط 2، 1383 ش، بالاُوفست عن طبع مصر .

ص: 726

75 . السنن، أحمد بن شعيب النّسائي (م 303) بيروت، دار الفكر، ط 1، 1348 ه - 1930 م . 76 . السنن، أبو داوود سليمان بن الأشعث السجستاني (م 275)، ت: سيّد محمّد اللحام، بيروت دار الفكر، ط 1، ص 1410 ه - 1990 م . 77 . السنن، محمّد بن عيسى التِرمِذي (م 279)، ت: عبد الوهّاب عبد اللطيف، بيروت، دارالفكر، ط 2، 1403 ه - 1983 م . 78 . السنن، محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (م 275)، ت: فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار الفكر. 79 . السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي (م 458)، بيروت دارالفكر . 80 . السنّة، أحمد بن عمرو بن أبي عاصم (م 287) ت: محمد ناصر الدين الألباني، بيروت، مكتب الإعلام الإسلامي، ط 3، 1413 ه - 1993 م . 81 . الشافي في شرح الكافي، المولى خليل القزويني (م 1089) مخطوطة مكتبة سيّد جواد العلوي بقزوين ومنها مصوّرة في مركز إحياءالتراث الإسلاميبقم، وهي نسخة مصحّحة قوبل ثانيا مع نسخة القزويني عند حضوره . 82 . شرح الإشارات، خواجه نصير الدين الطوسي (م ) . 83 . شرح اُصول الكافي، صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050) ت: محمد الخواجوئي، تهران، مؤسّسه مطالعات و تحقيقات فرهنگى، ط 1، 1366 - 1370 ه . ش . 84 . شرح تجريد العقائد، علاء الدين علي بن محمّد القوشچي (م 879)، ط الحجري، تبريز، 1307 ه . 85 . شرح حكمة الإشراق، قطب الدين الشيرازي (م 710)، ت: علي شيرواني، تهران، انتشارات حكمت، 1380 ش . 86 . شرح العقائد العضدية، جلال الدين الدواني (م 908)، مخطوطة بعض أصدقائنا . 87 . شرح المقاصد، سعد الدين مسعود بن عمد التفتازاني (م 793)، پاكستان، دار المعارف النعمانية، ط 1، 1401 ه - 1981 م . 88 . شرح المواقف، علي بن محمّد الجرجاني (م 812)، مصر، مطبعة السعادة، ط 1، 1325 ه - 1907 م .

ص: 727

89 . شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (م 679)، ت:السيّد جلال الدين المحدّث الاُرموي، قم، منشورات جماعة المدرّسين . 90 . شرح نهج البلاغة، عزّ الدين عبد الحميد بن محمّد بن أبي الحديد المعتزلي (م 656) ت: محمّد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دارالكتب العربية، 1385 ه . 91 . شرح نهج البلاغة، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (م 679)، عني بتصحيحه جمع من الأفاضل، دفتر نشر الكتاب، ط 2، 1404 ه . 92 . الشريعة إلى استدراك الذريعة، محمّد الطباطبائي البهبهاني (ت 1352 - ؟؟؟) تهران كتابخانه و مركز اسناد مجلس شوراى اسلامى، ط 1، 1383 . 93 . الشفاء، ابن سينا (م 428)، ت: الأب قنوانى، سعيد زائد، راجعه وقدّم له الدكتور ابراهيم مدكور، قم منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، 1404 ق، بالاُوفست عن طالقاهرة . 94 . الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)، ت: أحمد عبد الغفور عطّار، بيروت، دارالعلم للملاّيين، ط 4، 1407 ه . 95 . الصحيح، مسلم بن حجّاج النيسابوري (م 261)، بيروت، دارالفكر . 96 . طبقات أعلام الشيعة، محمّد محسن، آغا بزرگ الطهراني (م 1389)، تحقيق و إضافات ولده علي نقي المنزوي، قم، مؤسّسة إسماعيليان . 97 . عباسنامه يا شرح زندگانى 22 ساله شاه عباس ثانى (1052 - 1073)، محمّد طاهر وحيد قزوينى (1015 - 1112)، ت: ابراهيم دهگان، كتابفروشى داودى اراك (فردوسى سابق) 1329 ه . ش . 98 . عدّة الاُصول، محمّد بن الحسن الطوسي، الشيخ الطوسي (م 460)، تحقيق و نشر: محمد رضا الأنصاري القمي، ط 1، 1417 ه . ق - 1376 ش . 99 . العقد الفريد، أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي (م 327) ت: أحمد أمين و...، بيروت، دار الكتاب العربي، ط 1، 1411 ه - 1991م .

ص: 728

100 . عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، علي بن إبراهيم الإحسائي، ابن أبي جمهور (م 880)، ت: مجتبى العراقي، قم، مطبعة السيّد الشهداء، ط 1، 1403 ه - 1983 م . 101 . كتاب العين، أبو عبد الرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي (م 175) ت: مهدي المخزومي و إبراهيم السامرائي، قم ، مؤسّسة دارالهجرة، ط 1، 1405 ه بالاُوفست . 102 . عيون أخبار الرضا عليه السلام، محمّد بن علي ابن بابويه، الشيخ الصدوق (م 381)، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، 1404 ه . 103 . عيون الحكم والمواعظ، كافي الدين أبو الحسن علي بن محمّد الليثي الواسطي (ق 6) ت: حسين الحسني البيرجندي، قم، مؤسّسة دار الحديث، ط 1، 1376 ش . 104 . فارسنامه ناصرى، السيّد حسن الحسيني الفسائي (م 1316)، ت: منصور رستگار الفسائي، تهران، مؤسسه انتشارات امير كبير، ط 1، 1367 ش . 105 . الفائق في غريب الحديث، محمد بن عمر الزمخشري (م 538) ت: علي محمّد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار الفكر، 1414 ه . 106 . فتح الباري في شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (م 852) ت: محبّ الدين الخطيب، بيروت، دار المعرفة، ط 2 . 107 . فرائد الاُصول، مرتضى الأنصاري (م 1281)، تحقيق ونشر: مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 5، 1424 ه . 108 . فرهنگ معين، محمد معين (م 1350 ش)، تهران، انتشارات امير كبير، ط 8، 1371 ش . 109 . فصل الخطاب، خواجه محمد پارسا (م 822) ت: جليل مسگر نژاد، تهران، مركز نشر دانشگاهى، ط 1، 1381 ش . 110 . فصوص الحكم، أبو نصر الفارابي (م 339) ت: محمد حسن آل ياسين، قم، انتشارات بيدار ، بالأوفست عن ط بغداد / مطبعة المعارف، 1396 ه . 111 . فهرست كتب الشيعة واُصولهم وأسماء المصنّفين، محمد بن الحسن، الشيخ الطوسي (م 460) ت: السيّد عبدالعزيز الطباطبائي، إعداد ونشر: مكتبة المحقّق الطباطبائي، قم، ط 1، 1420 ه .

ص: 729

112 . القاموس المحيط، محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (م 816 أو 817)، بيروت، دارإحياء التراث العربي، ط 1، 1412 ه - 1991 م . 113 . القانون، أبو علي حسين ابن سينا (م 428) بيروت، دار صادر. 114 . قصص الخاقاني، ولي قلي بن داود قلى شاملو (كان حيّا سنة 1085)، ت: سيد حسن سادات ناصرى، تهران، سازمان چاپ و نشر وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامى، ط 2، 1375 ش . 115 . الكافي، محمد بن يعقوب الكليني الرازي (م 329) ت: علي أكبر الغفّاري، طهران، دارالكتب الإسلامية، ط 5، 1363 ش . 116 . كشف الخفاء ومزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، إسماعيل بن محمد العجلوني (م 1162)، بيروت ، دار الكتب العلمية، ط 3، 1408 ه - 1988 م . 117 . كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، علي بن عيسى الإربلي (م 692)، ت: علي آل كوثر، علي الفاضلي، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام ، ط 1، 1426 ه . 118 . كشف اللثام عن قواعد الأحكام، محمّد بن الحسن الإصفهاني، الفاضل الهندي (م 1137)، تحقيق و نشر : مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، ط 1 . 119 . كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، حسن بن يوسف، العلاّمة الحلّي (م 726)ت: حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، ط 7، 1417 ه . الكشف والبيان تفسير الثعلبي 120 . كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (م 975)، ت: صفوة السقا، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ط 5، 1405 ه . 121 . كنز الفوائد، محمّد بن علي بن عثمان الكراجكي (م 449)، قم مكتبة المصطفوي، ط 2، 1369 ش، بالاُوفست عن ط الحجري . 122 . لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور المصري (م 711)، قم، نشر أدب الحوزة ، 1405 ق - 1363 ش، بالاُوفست . 123 . مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي (م 1085)، ت: السيّد أحمد الحسيني، ترتيب محمود عادل، مكتب النشر الثقافة الإسلامية، ط 2، 1408 ق - 1367 ش .

ص: 730

124 . مجمع البيان لعلوم القرآن، فضل بن الحسن الطبرسي (م 548)، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي، ط 1، 1415 ه - 1995 م . 125 . مجموعه مصنّفات شيخ اشراق، شهاب الدين يحيى السهروردي، ت: هنرى كربين وسيد حسين نصر، تهران، انجمن فلسفه ايران، 1396 ه . 126 . المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي (م 274 أو 280) ت: السيّد جلال الدين المحدّث، قم، دار الكتب الإسلامية، ط 2 . 127 . مختصر بصائر الدرجات، حسن بن سليمان الكوفي (ق 9) النجف الأشرف، منشورات المطبعة الحيدرية، ط 1، 1370 ه - 1950 م . 128 . مرآة الحقائق، للمؤلّف محمد هادي الشيرازي (م 1081) مخطوطة مكتبه مجلس الشورى الإسلامي برقم 1488 . 129 . مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محمد باقر المجلسي (م 1110) ت: السيّد هاشم الرسولي و... ، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط 2، 1404 ه . 130 . مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، زين الدين بن علي العاملي، الشهيد الثاني (م 965)، تحقيق ونشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية، ط 1 . 131 . مسائل علي بن جعفر، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ط 1، 1409 ه . 132 . المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (م 405)، إشراف: يوسف عبدالرحمان المرعشلي، بيروت، دار المعرفة . 133 . مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، حسين النوري الطبرسي (م 1320) تحقيق و نشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، بيروت، ط 1، 1408 ه . 134 . المستقصى في أمثال العرب، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (م 538)، بيروت، دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 ه . 135 . المسند، أحمد بن حنبل (م 241)، بيروت، دارصادر .

ص: 731

136 . كتاب المشارع والمطارحات، شهاب الدين السهروردي (م 587) المطبوع في مجموعة مصنّفات شيخ اشراق . 137 . الملل والنحل، محمد بن عبدالكريم الشهرستاني (م 548)، ت: محمّد سيد گيلانى، بيروت دار المعرفة . 138 . المواقف، الإيجي (م 756)، ت: عبد الرحمان عميرة، بيروت، دارالجيل، ط 1، 1417 ه - 1997 م . 139 . مصباح الاُنس بين المعقول والمشهود، محمد بن حمزة الفناري (م 834)، ت: محمّدالخواجوي، طهران، انتشارات مولى، ط 1، 1416 ق - 1374 ش . 140 . مصباح الشريعة، المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، ط 1، 1400 ه - 1980 م . 141 . المطالب العالية، فخر الدين الرازي (م 606) ، ت: رائدحجازي السقا، بيروت، دارالكتاب العربي، ط 1، 1407 ه - 1987 م . 142 . معاني الأخبار، محمّد بن علي بن بابويه، الشيخ الصدوق (م 381) ت: علي أكبر الغفّاري، قم، منشورات جماعة المدرّسين، ط 1، 1361 ش . 143 . المعتبر في شرح المختصر، جعفر بن الحسن، المحقّق الحلّي (م 676)، ت: بإشراف ناصر مكارم الشيرازي، قم، مؤسّسة سيّد الشهداء عليه السلام، ط 1، 1364 ش . 144 . المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني (م 360)، دار الحرمين، 1415 ه - 1995 م . 145 . مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الإصفهاني (م ح 425) ت: صفوان عدنان داوودي، دمشق، دار القلم - بيروت، الدار الشامية، ط 1، 1416 ه - 1996 م . 146 . مناقب آل أبي طالب، محمّد بن عليّ بن شهر آشوب السروي المازندراني (م 588)، ت: السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي، قم، مؤسّسة انتشارات علاّمه . 147 . كتاب من لا يحضره الفقيه، محمد بن علي بن بابويه، الشيخ الصدوق (م 381)، ت: علي أكبر الغفّاري، قم، منشورات جماعة المدرّسين، ط 2 . 148 . ميراث حديث شيعه، ج 8، مهدي مهريزي وعلي الصدرائي الخوئي، قم، دار الحديث، ط 1، 1381 ش .

ص: 732

149 . نسخه پژوهى، أبو الفضل حافظيان البابلي (ت 1349) ، قم، مؤسسه اطلاع رسانى مرجع، خانه پژوهش، 1383 ش . 150 . نفس الرحمن في فضائل سلمان، حسين النوري (م 1320) ت: جواد القيّومي ، قم، مؤسّسة آفاق، ط 1، 1411 ق - 1369 ش . 151 . نقد الحواشى، للمؤلّف محمّد هادي الشيرازي (م 1081) مخطوطة مكتبة سپه سالار برقم 1457 . 152 . نقد النصوص في شرح نقش الفصوص، عبد الرحمان بن احمد جامى (م 898) ت: ويليام چيتيك، تهران، ط 2، 1370 ه . ش. 153 . النهاية في غريب الحديث والأثر، مبارك بن محمد الجزري، ابن الأثير (م 606)، ت: ظاهر أحمد الزاوي، قم، مؤسّسة إسماعيليان، ط 4، 1367 ش، بالاُوفست . 154 . نهج البلاغة، أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوي، الشريف الرضي (م 406) ت: صبحي الصالح . 155 . نهج الحقّ وكشف الصدق، حسن بن يوسف، العلاّمة الحلّي (م 726)، ت: عين اللّه الحسني الاُرموي، تقديم: السيّد رضا الصدر، قم، دار الهجرة، ط 5 ، 1414 ه - 1372 ش . 156 . الوافي، محسن الفيض الكاشاني (م 1091) ت: ضياء الدين العلاّمة، إصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، ط 1 . 157 . وسائل الشيعة، محمّد بن الحسن، الحرّ العاملي (م 1104)، تحقيق و نشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام. 158 . الهداية، محمّد بن علي بن بابويه، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق ونشر: مؤسّسة الإمام الهادي، قم، ط 1، 1418 ه . 159 . هفده رساله، أحمد الأردبيلي، المحقّق الأردبيلي (م 993) كنگره بزرگداشت مقدّس اردبيلى، 1375 ش .

ص: 733

فهرس المطالب .

ص: 734

ص: 735

ص: 736

ص: 737

ص: 738

ص: 739

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.