الرسائل الفقهيه: من تقريرات بحث العلمين الايتين النائيني و العراقي قدس سرهما

اشارة

سرشناسه : نجم آبادي، ابوالفضل، 1344 - 1287

عنوان و نام پديدآور : الرسائل الفقهيه: من تقريرات بحث العلمين الايتين النائيني و العراقي قدس سرهما/ ابوالفضل النجم آبادي؛ اعداد موسسه آيه الله العظمي البروجردي لنشر معالم اهل البيت عليهم السلام

مشخصات نشر : قم: موسسه معارف اسلامي امام رضا عليهم السلام، 1421 - ق. = - 1379.

فروست : (مجموعه آثار آيه الله الحاج الميرزا ابوالفضل النجم آبادي)3)

شابك : 964-93094-1-1(دوره)

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه

موضوع : فقه جعفري -- قرن 14

شناسه افزوده : عراقي، ضياآالدين، 1321 - 1240

شناسه افزوده : نائيني، محمدحسين، 1315 - 1239

شناسه افزوده : موسسه آيت الله عظمي بروجردي. نشر معالم اهل البيت(ع)

شناسه افزوده : موسسه معارف اسلامي امام رضا(ع)

رده بندي كنگره : BP183/5/ن3ر5 1379

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 79-20200

ص: 1

[مقدمة الناشر]

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على عباده الّذين اصطفى من خلقه محمّد و آله الطيبين الطاهرين، سيّما بقيّة اللّه في الأرضين أرواحنا و أرواح العالمين له الفداء، و اللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

يعتبر علم الفقه من أوسع العلوم الإسلاميّة و أشهرها لارتباطه اليوميّ بحياة الفرد المسلم. في عباداته و معاملاته و علاقاته ببني نوعه.

و قد أولى علماء الإسلام المتقدّمين و المتأخّرين، اقتداء بنبيّهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أئمّتهم عليهم السّلام اهتماما بالغا بهذا العلم الشريف، و يتبيّن هذا الاهتمام جليّا في ما دوّنوه من مؤلّفات قيّمة في هذا المضمار، و كان من جملة هؤلاء العلماء آية اللّه الحاج ميرزا أبو الفضل النجم آبادي رحمه اللّه.

فقد ترك لنا هذا العالم الجليل آثارا قيّمة في هذا المجال، تأليفا و تحقيقا، و تقريرا.

و من جملة ما سطّره يراعه الشريف رسائل متفرّقة في الفقه هي تقريراته لدروس أساتذته خصوصا العلمين الآيتين النائيني و العراقي رحمه اللّه، زوّدنا بنسخها خلفه الفاضل الدكتور محمّد علي النجم آبادي، و قد جمعناها بعد ترتيبها تحت عنوان «الرسائل الفقهيّة» و هي الّتي بين يديك.

ص: 6

«الرسائل الفقهيّة»: هو الإصدار الثالث الّذي يصدر عن مؤسسة آية اللّه العظمى البروجردي قدّس سرّه من آثار المرحوم النجم آبادي رحمه اللّه.

نسخ الكتاب

نسخ هذه الرسائل مليئة بالمشاكل و الأخطاء و التصحيفات بالإضافة إلى عدم الترتيب، و يمكن درجها على النحو التالي:

1- رسالة (لباس المصلّي): مخرومة الأوّل و الآخر.

2- رسالة (صلاة الجماعة): مخرومة الآخر.

3- رسالة (الخمس): تعرّض المؤلّف رحمه اللّه فيها لقسم من البحث في المسألة و لم يشر في آخرها إلى انتهائه.

4- رسالة (الوقف): لم يصرّح رحمه اللّه فيها باسم أحد من أساتذته، نعم؛ في الصفحة (248) من هذا الكتاب (رسالة الوقف) تطالعنا هذه العبارة: «كما حقّقنا ذلك في رسالة الغصب» و بما أنّ رسالة الغصب هي تقريره لدروس المرحوم آقا ضياء الدين العراقي، فيكون الظنّ الغالب أنّ هذه الرسالة أيضا هي تقريره لأستاذه المذكور حيث حرّرها في تأريخ: العشر الآخر من ذي القعدة الحرام 1347 ه. ق، و اللّه أعلم. و هذه الرسالة تامّة الأوّل و الآخر.

5- رسالة (الإجارة): لا نقطع بنسبة هذه الرسالة إلى المؤلّف رحمه اللّه لعدم تمامها أوّلا و خطّها السقيم الغير مقروء إلّا بصعوبة بالغة، على أيّة حال، فقد كانت هي و لاحقتها رسالة (الوكالة) ضمن النسخ التي زوّدنا بها ولد المؤلّف كما أسلفنا، و قد كان عملنا فيهما شاقّا للأسباب المذكورة.

ص: 7

6- رسالة (الوكالة): و قد تقدّم الحديث عنها في الفقرة السابقة.

7- رسالة (تصرّفات المريض): تامّة الأوّل و الآخر و لم يشر فيها إلى تأريخ تحريرها.

8- رسالة (الغصب): مخرومة الأوّل و قال في آخرها: و قد وقع الفراغ في العشر الآخر من شعبان من سنة 1344 ه. ق، و عليه التكلان.

عملنا في الكتاب

تركّز عمل الإخوة المحقّقين الأفاضل في هذه الرسائل بالدرجة الأولى على ترتيب أوراق كلّ رسالة من خلال قراءة المتن بدقّة لربط كلّ صفحة بالّتي سبقتها، ثمّ رفع الأخطاء اللغويّة و التصحيفات، و إيراد كلام ملائم للرسائل المخرومة الأوّل لتتميم البحث و وصله، و قد أشرنا إلى كلّ في موضعه.

و خلاصة القول: فقد بذل الإخوة المحقّقون الأفاضل جهودا مضاعفة و تحمّلوا مشاقّ العمل في إخراج و ترتيب و تبويب و فهرسة الكتاب و ترتيب الرسائل حسب التسلسل المتعارف في أبواب الفقه، ليخرج هذا الكتاب بهذه الصورة.

و المؤسّسة إذ تضع هذا السفر بين يدي العلماء الأعلام و المحقّقين الكرام و طلبة علوم أهل البيت عليهم السّلام لا تدّعي أنّه خال تماما من الأخطاء و الاشتباهات فإن وجد فيه نقص فإنّ الكمال للّه وحده، كما تتقدّم بالشكر الجزيل و الامتنان إلى أصحاب السماحة: حجج الإسلام و المسلمين: السيّد محمّد الحسيني، و الشيخ محمّد الرسولي، و الشيخ علي آيةاللهي، و الشيخ علي طاهرپور، و الإخوة

ص: 8

الأفاضل: الحاج عبد الحسين التبريزيان، و محمّد حسين الرحيميان، و كريم راضي الواسطي، و قد كان العمل في هذا الكتاب بجميع مراحله تحت إشراف و توجيه سماحة الشيخ عبد اللّه المحمّدي، فللّه درّهم جميعا و عليه أجرهم، و وفّقنا اللّه جميعا لخدمة علوم أهل البيت عليهم السّلام إنّه خير ناصر و معين.

مؤسسة آية اللّه العظمى البروجردي رحمه اللّه لنشر معالم أهل البيت عليهم السّلام

ص: 9

نماذج من النسخ الخطيّة

ص: 10

ص: 11

<> صورة الصفحة الأخيرة من نسخة رسالة الطهارة

ص: 12

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة الطهارة

ص: 13

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة لباس المصلّي

ص: 14

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة صلاة الجماعة

ص: 15

<> صورة الصفحة الأخيرة من نسخة رسالة صلاة الجماعة

ص: 16

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة الخمس

ص: 17

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة الوقف

ص: 18

<> صورة الصفحة الأخيرة من نسخة رسالة الوقف

ص: 19

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة الإجارة

ص: 20

<> صورة الصفحة الأخيرة من نسخة رسالة الإجارة

ص: 21

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة الوكالة

ص: 22

<> صورة الصفحة الأخيرة من نسخة رسالة الوكالة

ص: 23

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة منجّزات المريض

ص: 24

<> صورة الصفحة الأخيرة من نسخة رسالة منجّزات المريض

ص: 25

<> صورة الصفحة الأولى من نسخة رسالة الغصب

ص: 26

<> صورة الصفحة الأخيرة من نسخة رسالة الغصب

ص: 27

الفهرس الإجمالي

1- رسالة الطهارة (29- 86)

2- رسالة الصلاة (87- 220)

3- رسالة الخمس (221- 243)

4- رسالة الوقف (245- 356)

5- رسالة الاجارة (357- 364)

6- رسالة الوكالة (365- 468)

7- رسالة الوصايا (469- 510)

8- رسالة الغصب (511- 684)

ص: 28

ص: 29

رسالة الطهارة

اشارة

حكم الماء القليل

حكم شرب الماء النجس و بيعه

حكم الغسالة

جواز البدار لذوي الأعذار و عدمه

حكم خرء الطير و بوله

نجاسة المني

نجاسة الميتة

نجاسة الدم

حكم العصير العنبي

نجاسة الكافر

تطهير الأواني

ما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات

جواز بيع المتنجّس و عدمه

ص: 30

ص: 31

بسم اللّه الرحمن الرحيم [الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على محمّد و آله الطيّبين الطاهرين].

حكم الماء القليل

لا خلاف بل لا إشكال في انفعال الماء القليل بالنجاسة في الجملة، و الأخبار الخاصّة الدالّة عليه كثيرة، بحيث تكون فوق حدّ الاستفاضة، كما تدلّ عليه أخبار [الماء] الكثير و الماء الكرّ (1) بتقريب آخر غير ما قرّرناه، و هو: أنّه لمّا كان الظاهر منها التحديد، خصوصا ما وقع منها في جواب الأسئلة، فيدلّ ذلك على انحصار القلّة [و] أنّ الّذي لا ينفعل هو الكرّ.

فيستفاد من مفهوم تلك الأخبار أنّ القليل غير عاصم، و ينجس بكلّ ما لا ينجس به الكثير، بمعنى أنّه كما أنّ لفظ الشي ء في المنطوق عامّ كذلك المفهوم، و لا إهمال فيه؛ لأنّ المفهوم و إن كان مدلولا عقليّا إلّا أنّ كيفيّة الاستفادة موكول إلى العرف، و من المعلوم أنّ العرف يفهم في المقام أنّ كلّ ما ليس بمنجّس للكثير منجّس للقليل.

و بعبارة اخرى؛ ليس نفي التنجيس في المنطوق عن جنس النجاسات،


1- وسائل الشيعة: 1/ 143 الباب 5 و 158 الباب 9 من أبواب الماء المطلق.

ص: 32

و يكون مفاد القضيّة سبب العموم حتّى يكون نقيضه ثابتا في المفهوم، و هو إثبات التنجيس لبعض النجاسات، بل المفاد للسالبة الكليّة سلب الحكم عن كلّ فرد من النجاسات، فيكون المستفاد من مفهومها إثبات الحكم و التنجيس لكلّ فرد منها، إلى ذلك أشار الشيخ قدّس سرّه في طهارته (1).

هذا مضافا إلى أنّ الإهمال ينافي التحديد، بل الظاهر منه أنّه في مقام بيان تمام الحكم، بحيث لا يبقى السائل في الحيرة من جهة أصلا.

و تدلّ على انفعال الماء القليل أيضا الأخبار الخاصّة- كما أشرنا إليها- الواردة في الماء الّذي شرب منه الكلب و الخنزير، أو وقع فيه القذر أو الخمر أو غيره، من الميتة و نحوها (2)، و لا خصوصيّة لشي ء منها، بداهة أنّ الملاك كلّه ملاقاة النجاسة.

و كيف كان؛ الدليل القطعيّ في مقابل قول ابن [أبي] عقيل (3) موجود، إنّما الكلام في تنجّس القليل بمطلق النجس بحيث يعمّ المتنجّس، و هو الّذي وقع البحث فيه، و بنى على عدم الانفعال بالمتنجّسات بعض القدماء (4) و جمع من المتأخّرين (5). و اشتدّ الخلاف فيه بين متأخري المتأخّرين، و ذهب إلى عدم الانفعال بها في الجملة جمع من أعاظم من عاصرناهم، منهم الفقيه الزاهد الهمداني (6) قدّس سرّه.


1- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 1/ 115 و 116.
2- وسائل الشيعة: 1/ 158 الباب 9 من أبواب الماء المطلق.
3- نقل عنه في مختلف الشيعة: 1/ 176.
4- نقل عنه في مختلف الشيعة: 1/ 176.
5- انظر! مفتاح الكرامة: 1/ 73، مفاتيح الشرائع: 1/ 83.
6- مصباح الفقيه: 1/ 83.

ص: 33

و حاصل مقالة هؤلاء الجماعة عدم وجود الدليل على الانفعال، و إنّما القدر المتيقّن من الأدلّة هو تأثير الأعيان النجسة و بعض أقسام المتنجّس، كالمائع منه الملاقي للنجس، كما يدلّ عليه الأخبار الدالّة على غسل الإناء الواقع فيها النجاسة أو شرب منها الكلب، مع الالتزام بعدم الملازمة بين شربه و مسّه نفس الإناء و الكأس، و أمّا المتنجّسات الجامدة الّتي ليست فيها عين النجاسة كالمتنجّس بالدم أو القذر الّذي يبس و ذهب عينهما، فلا دليل على التنجّس بها حينئذ و لو كان الملاقي رطبا، و أمّا الأوامر الواردة في غسل الثياب و نحوه فإنّما هي لاشتراط طهارته في الصلاة، فلا يتوهّم أنّها لدفع السراية حتّى يتمسّك بإطلاقها و شمولها لما إذا يبست النجاسة و ذهبت عينها من الثوب.

هذا؛ و لكن هذا الجواب و إن سلّم في مثل الثوب، و لكن لا يتمّ بالنسبة إلى تطهير الفرش و البساط و غيرهما من الآلات، مضافا إلى أنّ نفس تلك الأخبار الدالّة على لزوم غسل الإناء و نحوها، الشاملة لحال تجدّد النجاسة و يبوسة الإناء تكفي للدلالة على المدّعى، كما لا يخفى.

و أمّا حملها على التنزّه عن النجاسات مطلقا في الأكل و الشرب كما ترى، على أنّ الظاهر أنّ المسألة إجماعيّة، بل السيرة العمليّة على الاجتناب عن ملاقي المتنجّسات مطلقا المنتهية إلى زمان المعصوم عليه السّلام محقّقة، كما ادّعى شيخنا قدّس سرّه استاد الأساطين في طهارته في بحث الماء المضاف كون المسألة ضروريّة (1)، فعلى هذا لا ينبغي ترك الاحتياط في المسألة، و إن كان الالتزام بالنجاسة فيما إذا تعدّت الواسطة و تجاوزت عن الأولى و الثانية في غاية الإشكال؛ لعدم شمول الأدلّة لها، فراجع و تدبّر.


1- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 1/ 301.

ص: 34

ص: 35

حكم شرب الماء النجس و بيعه

... فالتحقيق (1) عدم الفرق بين المختلفتين و المتساويتين سوى باب المخاصمات؛ لما ورد فيها من الأخبار الخاصّة (2)، ففي المقام تسقط البيّنتان مطلقا للتعارض، و يراجع إلى الأصل كما عليه الأصحاب قدّس سرّه، و لا موجب للترجيح أصلا و إن كان مقتضى ما يظهر من كلام السيّد- طاب رمسه الشريف- في قضاء «العروة» في بحث تعارض البيّنات الالتزام بالمرجّحات الداخليّة مطلقا، حيث أفتى قدّس سرّه بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها (3)؛ لما أشرنا إليه من أنّ حجيّة البيّنة لمّا كانت لإفادتها الظنّ النوعيّ و ليس كالأصل تعبّديّا محضا، فكلّما أوجب قوّة الظنّ لا بدّ من الترجيح به، و يظهر منه بناؤه عليه في تعارض الأخبار أيضا.

و الحاصل؛ أنّ المستفاد من مقالته في ذاك الباب البناء على الرجوع إلى المرجّحات في تعارض الأمارات مطلقا، و منها المقام، و لكن لم يظهر لنا إلى الآن التزام الأصحاب به فيه و سائر المقامات، و رفع اليد عن مقتضى القاعدة في الأدلّة المتعارضة سوى باب المخاصمات و الأخبار المتعارضة، فالحقّ ما عليه الجلّ.


1- كما يظهر من السياق، هنا سقطة من الكلام.
2- وسائل الشيعة: 27/ 249 الباب 12 من أبواب كيفيّة الحكم.
3- العروة الوثقى: 3/ 149 و 150.

ص: 36

و قد عرفت أنّ الدليل أيضا لا يقتضي التجاوز عن البابين و العدول عن الأصل في المقام.

فرع:

قالوا: لا يجوز شرب الماء النجس للمكلّفين، بل يحرم سقيه للأطفال، و يجوز بيعه مع الإعلام. فهنا مقامات:

الأوّل؛ عدم جواز تناول النجس للمكلّفين.

و الثاني؛ حرمة التسبيب له للغير بالغا كان أو غيره.

الثالث؛ اشتراط صحّة بيعه بالإعلام.

أمّا الدليل على الأوّل- مضافا إلى الإجماع المحقّق، بل هو ضروريّ الدين و أنّه من الخبائث- الأخبار الخاصّة الواردة في مثل الماء النجس و السمن و غيرهما، حيث أمروا عليهم السّلام بالإراقة (1)، و في جملة منها نهوا عليهم السّلام عن الشرب و غيره (2).

إنّما الكلام في حرمة التسبيب لتناول الغير؛ إذ يمكن أن يقال: إذا كان الغير جاهلا بالنجاسة فهو معذور في تناوله و لا إثم عليه، فلا معصية، و على هذا لا محذور فيه و لا منع.

و فيه أوّلا: إنّ المعذوريّة لا ترفع الحرمة الواقعيّة المترتّبة على الموضوعات الخارجيّة، و الإيقاع على الحرام النفس الأمريّ يكون كالإضلال قبيح عقلا و حرام شرعا؛ إذ القذارة و النجاسة من الامور الواقعيّة و المفاسد


1- وسائل الشيعة: 1/ 150 الباب 8 من أبواب الماء المطلق.
2- وسائل الشيعة: 1/ 137 الباب 3 من أبواب الماء المطلق.

ص: 37

الخارجيّة الّتي نشأت [منها] الحرمة، و لا دخل فيها للعلم و الجهل.

و بالجملة؛ المسبّب لوقوع الغير في الحرام مرتكب للحرام، فلا يجوز له الإقدام.

و ثانيا: الخبر الوارد في المرق الواقع فيه الجرذ و الفأرة أمر عليه السّلام فيه بإهراق المرق (1) مع أنّه لو كان يجوز تناول الجاهل لكان ينهى عليه السّلام عن تناول السائل، فيستفاد من أمره عدم جواز الاستفادة منه بوجه، فتأمّل.

و ثالثا: الأخبار الواردة في الدهن النجس و الميتة (2) صريحة في عدم جواز البيع إلّا أن يبيّن للمشتري و يعلمه (3) بالنجاسة حتّى لا يصرفه إلّا في الاستصباح.

و من المعلوم على ما بيّنه شيخنا قدّس سرّه في «المكاسب» عدم ترتّب بين الإعلام و الاستصباح بوجه (4)، فليس المقصود إلّا تبيينه للمشتري حتّى لا يأكله و لا يصرفه في ما هو مشروط بالطهارة.

و أما المقام الثاني؛ فقد اتّضح ممّا بيّنا حكم التسبيب بالنسبة إلى المكلّفين، و أمّا بالنسبة إلى الأطفال في غير مثل الخمر فيشكل الأمر فيه، إذ لا أمر و لا نهي لهم، إلّا أن يتمسّك بإطلاق مادّة الأدلّة بالنسبة إليهم، أو من إطلاق قوله عليه السّلام بإهراق المرق المتنجّس، أو بعموم آية الرجز (5) على أحد معانيه، و هو


1- وسائل الشيعة: 24/ 196 الحديث 30330.
2- وسائل الشيعة: 17/ 97 الباب 6 من أبواب ما يكتسب به.
3- في بعضها قال عليه السّلام: «حتّى تبيّنه» (وسائل الشيعة: 17/ 98 الحديث 22078) و في بعضها: «حتّى تعلمه» (وسائل الشيعة: 17/ 98 الحديث 22076) و نحوه (وسائل الشيعة: 17/ 98 الحديث 22077)، «منه رحمه اللّه».
4- المكاسب: 1/ 73.
5- المدّثّر (74): 4.

ص: 38

القذر و النجس، كما يمكن الاستدلال بها بناء عليه؛ لحرمة التسبيب مطلقا، و كيف كان؛ فلا ينبغي ترك الاحتياط بالنسبة إلى الأطفال.

و أما المقام الثالث؛ فالّذي يدلّ على وجوب الإعلام لبيع النجس الروايات المعتبرة بين الصحيحة و الموثّقة و غيرهما أوردها في «الحدائق» (1) أشرنا إلى بعضها هنا و أوردها في «الوسائل» في الأبواب المتفرّقة (2).

و حاصل ما يستفاد منها وجوب الإعلام في بيع الدهن النجس، و من المعلوم أنّه لا خصوصيّة للدهن أو الميتة، بل المقطوع به أنّ السبب هو النجاسة حتّى لا يستعمل في غير الاستصباح.

فعلى هذا؛ الأقوى وجوب الإعلام في بيع المائعات النجسة، بل كلّ ما يكون أهمّ منافعه و أظهر خواصّه مشروطا بالطهارة، و إلّا فلا، كما أفتى بذلك جلّ الأصحاب في الكتب المفصّلة و الرسائل العمليّة، فلا يتوهّم أنّ البائع لمّا لم يكن من ناحيته تسبيب و المشتري جاهل بالنجاسة و معذور فلا محذور في بيع النجس؛ إذ قد عرفت أنّ الوجوب الإعلام من جهة الروايات، فافهم.


1- الحدائق الناضرة: 18/ 86- 88.
2- وسائل الشيعة: 17/ 97 الباب 6 من أبواب ما يكتسب به و 24/ 194 الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة.

ص: 39

حكم الغسالة

هذه مسألة معضلة، مثل مسألة نجاسة ماء البئر إذا وقعت فيها نجاسة، حيث إنّ المشهور نجاستهما مع أنّ الدليل لا يساعد عليها، ففي البئر الأخبار معارضة جدّا، بل الأدلّة على طهارتها أقوى.

و قد تعرّض له قدّس سرّه في «مصباح الفقيه» و أشبع الكلام فيه، و قال: إنّ شهرة القدماء من جهة الرواية غير محقّقة حتّى تثبت بها ضعف أخبار الطهارة، مضافا إلى كثرة القرائن في أخبار النجاسة الدالّة على استحباب النزح (1)، و كيف كان فنحن في المباحثة بنينا على الطهارة.

و أمّا الغسالة (2) فالظاهر أنّه لا خلاف في نجاسة الغسلة المزيلة إلّا من يرى عدم انفعال الماء القليل كالعماني (3)، و إنّما البحث في الغسلة الثانية و المطهّرة للمحلّ، لا إشكال أنّ الالتزام بنجاستها مبنيّ على عموم أو إطلاق في أدلّة تنجيس النجاسات، بحيث يشمل الملاقي للنجس، و هو متوقّف على هذين الأمرين من شمول الأخبار الواردة في المواقع الخاصّة في تنجيس النجاسات، أو الالتزام بالمفهوم للنبويّ المشهور المتلقّى بالقبول، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «الماء إذا


1- مصباح الفقيه: 1/ 31- 35.
2- هذه المسائل الثلاث من انفعال الماء القليل و نجاسة الغسالة و تنجيس المتنجّسات كلّ واحدة منها مرتبطة بالاخرى من حيث المبنى و المستند و الحكم، «منه رحمه اللّه».
3- نقل عنه في مختلف الشيعة: 1/ 176.

ص: 40

بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» (1).

أمّا الأوّل؛ فالإنصاف أنّه ليس في تلك الأخبار ما يشمل المتنجّسات، كما يظهر للمتتبّع، فإنّ جلّها مشتملة على أعيان النجاسات، كالدم و القذر و البول و نحوها.

نعم؛ روايتان منها يمكن استفادة الإطلاق منهما، إحداهما رواية العيص (2) بناء على عدم ظهور البول و القذر في أعيانهما، كما يشعر بذلك عدم وقوع لفظ المتنجّس في السؤال و الجواب في الأخبار، بل التعبير عنه وقع فيها بأعيان النجاسات أيضا.

و الاخرى موثّقة عمّار (3)، حيث اعتبر فيها في تطهير الإناء و الكوز بالتفريغ ثلاث مرّات، فإنّه و لو قلنا: إنّه اعتبر لحصول التعدّد، و لكن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الاوليين، و أمّا بالنسبة إلى الثالثة الّتي رتّب التطهير عليه السّلام عليها فمعلوم أنّه لا يتوقّف عليه.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه حكم تعبّديّ محض، لا لكون الماء متنجّسا، فتأمّل.

و أمّا الثاني؛ فلإنكار أصل المفهوم في المقام مجال (4) مضافا إلى أنّه بناء عليه أيضا لا يثبت المدّعى، إذ ثبوته متوقّف على عموم لفظة «الشي ء» في المفهوم، مع أنّه لا مقتضي له كما في المنطوق من وقوع النكرة في سياق النفي، فيصير المفهوم من هذه الجهة مهملة، و لا بدّ فيها من الأخذ بالقدر المتيقّن، و هو أعيان النجاسات.


1- عوالي اللآلي: 1/ 76 الحديث 156 مع اختلاف يسير.
2- وسائل الشيعة: 1/ 215 الحديث 552.
3- وسائل الشيعة: 3/ 496 الحديث 4276.
4- كما اعترف قدّس سرّه به، في «مصباح الفقيه»، «منه رحمه اللّه»؛ (مصباح الفقيه: 1/ 17 و 18 و 26).

ص: 41

فعلى هذا؛ القول بطهارة الغسالة في غير الغسلة المزيلة قويّ، إلّا أن يدّعى الملازمة بين نجاسة الشي ء و ملاقيه.

بيان ذلك: أنّه لمّا كان المفروض أنّ الشارع أمر بالغسل بعد ذهاب العين أيضا، فيدلّ ذلك على بقاء المحلّ على النجاسة بعد.

فحينئذ؛ كيف يمكن الالتزام بطهارة ملاقي النجس ماء كان أو غيره، مع أنّ السراية أمر عرفيّ ارتكازيّ؟

هذا؛ و يضعّفه أنّه لا إشكال في طهارة ما بقي من الغسالة في المحلّ، و مع ذلك لا يجوز الحكم بنجاسة ما انفصل منه؛ لأنّه يلزم القول باختلاف الماء الواحد في الحكم.

و قد أشار إلى ذلك السيّد قدّس سرّه في «الناصريّات» (1).

و بالجملة؛ فما قوّيناه من طهارة الغسالة أقوى، و إن كان الاحتياط حسنا، كما عليه المعظم (2).

و ربّما يستدلّ ببعض الروايات الواردة في الماء القليل، مثل ما أجاب الإمام عليه السّلام عن السؤال بأنّ الجنب إذا أدخل يده في الماء قبل الغسل، فقال عليه السّلام:

«إن كان أصاب يده جنابة فليهرق الماء» (3) و ما أمر بغسل إناء الماء فيها، فيستفاد من ذلك عدم نجاسة الإناء و عدم كون المتنجّس منجّسا (4).

و فيه ما لا يخفى، إذ ليس السؤال و الجواب إلّا عن الماء و بيان حكمه، لا أمر آخر، و سيجي ء في بحث الماء القليل ماله دخل في المقام إن شاء اللّه تعالى.


1- الناصريّات (الجوامع الفقهيّة): 179.
2- انظر! مدارك الأحكام: 1/ 118- 120.
3- وسائل الشيعة: 1/ 154 الحديث 384، نقله بالمعنى.
4- لاحظ! مصباح الفقيه: 1/ 61 ط. ق.

ص: 42

ص: 43

جواز البدار لذوي الأعذار و عدمه

هذه المسألة من المعضلات، و قد اختلف الأصحاب فيها، فكل ذهب إلى قول من الجواز و المنع، و التفصيل بين رجاء زوال العذر أو العلم به و عدمه، و ذهب بعضهم إلى التفصيل بين باب التيمّم و سائر الأبواب، فالتزموا بالجواز في الأوّل نظرا إلى أنّ التيمّم بدل عن الطهارة، بل مصداق لها، فيجوز، بخلاف سائر الأبواب، حيث إنّ بدليّة الفاقد للشرط من الاضطرار المحض، فلا يجوز البدار ما لم يكن الاضطرار مستوعبا (1).

و على كلّ حال؛ لا ينبغي استناد أحد الوجوه إلى المشهور و إن ادّعي الشهرة بالنسبة إلى المنع (2).

و كيف كان؛ لا بدّ من البحث أوّلا في ما هو مقتضى القواعد العامّة، ثم في ما تقتضيه الأخبار و الأدلّة الخاصّة في كلّ باب.

فنقول: يمكن الدعوى قريبا بأنّ إطلاقات الصلاة الشاملة للمكلّفين في كلّ زمان بين الحدّين تدلّ على جواز البدار، و التشكيك فيها من حيث عدم كونها في مقام بيان القدرة على إيجاد الشرط و عدمه بل هي في مقام أصل التشريع ليس في محلّه؛ إذ لا إشكال في أنّ مثل أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ


1- الحدائق الناضرة: 4/ 247.
2- جواهر الكلام: 5/ 158.

ص: 44

اللَّيْلِ (1) مطلق بالنسبة إلى كلّ آن بين الحدّين و إن قيّد من جهة أصل التكليف بقيود كالعقل و نحوه، و أيضا قيّد من ناحية المكلّف به، إلّا أنّ تقييده من الجهة الثانية لمّا كان بالعرض فيؤخذ فيها بالقدر المتيقّن، و هو حال الاختيار.

و بالجملة؛ إطلاقات الصلاة بالنسبة إلى القيود الزائدة على المعلوم منها الواردة عليها باقية على حالها، فلا مانع من التمسّك بها عند الشكّ.

و هكذا قوله تعالى في باب التيمّم: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً (2) .. إلى آخره، فكلّ زمان يصدق عدم الوجدان يصحّ الإتيان بالصلاة و البدار عليها.

و دعوى عدم صدقه مع رجاء رفع العذر باطلة بالوجدان، و على مدّعيها إثباتها.

هذا مقتضى العمومات، و أمّا الأدلّة الخاصّة فتختلف بحسب الأبواب، ففي باب التيمّم من أمعن النظر إلى أخبارها يستفيد الجواز و إن كان بعض أخبارها يوهم المنع (3) إلّا أنّه لا إطلاق لها، بل غاية مدلولها لزوم التأخير مع رجاء زوال العذر فينبغي التأخير عنده، مع أنّ المستفيضة المعتبرة المعلّلة بأنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد (4) مصرّحة بعدم لزوم الإعادة مع بقاء الوقت.

و أمّا الأخبار الخاصّة فتختلف بحسب الأبواب، ففي مسألة عدم وجود الساتر الأخبار مطلقة في الإتيان بالصلاة عاريا (5)، و تقييدها بالاضطرار


1- الإسراء (17): 78.
2- النساء (4): 43، المائدة (5): 6.
3- وسائل الشيعة: 3/ 384 الباب 22 من أبواب التيمّم.
4- وسائل الشيعة: 3/ 370 الحديث 3895 و 3897.
5- وسائل الشيعة: 4/ 448 الباب 50 من أبواب لباس المصلّي.

ص: 45

المستوعب و عدم وجدان الساتر في تمام الوقت لا موجب له، و هكذا بالنسبة إلى الساتر النجس و إن كان يظهر منهم وجوب التأخير فيه (1).

و لكنّ الظاهر منهم في مسألة الاضطرار إلى السجود على النجس تسالمهم على عدم لزوم الإعادة مع التمكّن إلى الطاهر في الوقت (2)، فراجع.

بل لنا دعوى ذلك بالنسبة إلى مطلق الشروط، حيث إنّ القدر المتيقّن منها اختصاصها بحال التمكّن و الاختيار و القدرة على إيجاد الشروط، و قد أشار إلى ذلك المحقّق اليزدي الحائري قدّس سرّه في صلاته (3).


1- الحدائق الناضرة: 5/ 350.
2- العروة الوثقى: 1/ 100 المسألة 12.
3- كتاب الصلاة للشيخ الحائري اليزدي: 263.

ص: 46

ص: 47

حكم خرء الطير و بوله

فرع:

اختلفوا في نجاسة خرء الطير الغير المأكول، نسبت النجاسة إلى المشهور (1) استنادا إلى إطلاق الروايات الدالّة على نجاسة أبوال غير المأكول (2)، ثم التعدّي منها إلى خرء الطير للإجماع المركّب، و خصوص بعض الروايات الدالّة على نجاسة مطلق العذرة (3)، و فيها ما لا يخفى.

فالتحقيق؛ طهارة بوله و خرئه لصحيحة أبي بصير الصريحة فيهما (4)، لما عمل بها جمع من القدماء و المتأخّرين (5) و إن كانت النسبة بينها و الروايات المقابلة العموم من وجه، إلّا أنّ الترجيح لهذه الرواية من جهات، أظهرها التعبير فيها بالطير لا المأكول، فلولا له خصوصيّة لكان التعبير بغيره أولى، مضافا إلى انصراف غير المأكول عن الطير، و لو سلّمنا التكافؤ فتتساقطان، فقاعدة الطهارة محكمة.


1- مختلف الشيعة: 1/ 456.
2- وسائل الشيعة: 3/ 404 باب 8 من أبواب النجاسات.
3- بحار الأنوار: 80/ 127 الحديث 2.
4- وسائل الشيعة: 3/ 412 الحديث 4015.
5- من لا يحضره الفقيه: 1/ 41، المقنع: 14، المبسوط: 1/ 39، و نقل عن ابن أبي عقيل و الجعفي في ذكرى الشيعة: 1/ 110، كشف اللثام: 1/ 390، و مدارك الأحكام: 2/ 262، و نقل عن جماعة من المتأخّرين في جواهر الكلام: 5/ 275.

ص: 48

و دعوى كون روايات النجاسة موافقة للمشهور (1)، فاسدة؛ إذ الشهرة في المسألة فتوائيّ، لا من جهة الرواية.

نعم؛ في خصوص الخفّاش وردت الرواية الّتي رواها الشيخ (2)، و لكنّها غير صريحة في النجاسة، بل فيها أمر بالغسل، مع أنّها معارضة بما هي صريحة في الطهارة، و الشهرة على النجاسة في بوله و إن كانت محقّقة، إلّا أنّ الكلام هنا كما تقدّم، و لم يثبت الشهرة الاستناديّة (3).

فرع:

لا إشكال في تعميم الحكم بالنسبة إلى غير المأكول أن تكون حرمة الأكل ذاتيّا أم عرضيّا، إنّما الكلام في أبوال غير المأكول و غائطه ممّا لا نفس له، فإنّ دعوى انصراف غير المأكول عن مثل الحيّة و الوزغة و نحوهما في محلّها، مع أنّه لم يثبت أن يكون لأمثاله بول، مع أنّه قد عرفت عمدة مستند نجاسة غائط غير المأكول و خرئه؛ الإجماع، و لا إطلاق و لا عموم له، فلا مانع من قاعدة الطهارة،


1- لاحظ! جواهر الكلام: 5/ 277، المعتبر: 1/ 411.
2- تهذيب الأحكام: 1/ 281 الحديث 777، وسائل الشيعة: 3/ 412 الحديث 4018.
3- «كلّ شي ء يطير لا بأس بخرئه و بوله» مضافا إلى عمومات أدلّة النجاسة «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (وسائل الشيعة: 3/ 405 الحديث 3988 و 3989) و الروايات الّتي علّق حليّة الأكل على مأكول اللحم (وسائل الشيعة: 25/ 81 الباب 40 من أبواب الأطعمة المباحة). و أمّا قول العلّامة: إنّ الرواية الاولى الّتي استدلّ بها الآخرون فلا بدّ من تخصيصها بالخفّاش قطعا فيلحق به غيره (مختلف الشيعة: 1/ 457)، فلا يتمّ إلّا أن يستكشف المناط القطعيّ، و لا بدّ من ملاحظة النسبة بين الروايتين: الموثّقة و الحسنة، و رعاية الترجيح لهما بعد العجز عن الجمع الدلاليّ بينهما، مع أنّه بمثابة من الإمكان، لظهور الأولى في الطير، و كونه تمام الموضوع للحكم لا المأكول منه، بخلاف الحسنة، فإنّها منصرفة إلى مأكول اللحم من غير الطير، بل هو الظاهر منها؛ بخلاف الأولى الّتي لا يبعد دعوى الصراحة في الطير، كما أشرنا إليه، «منه رحمه اللّه».

ص: 49

كما أنّه تجري بالنسبة إلى الغائط و بول الحيوان المشتبه حرمة و حليّة، سواء كانت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة.

و هكذا في جميع أقسام الشكّ من كونهما ممّا لا نفس له أو غيره، و إن كان الأصل في مثله في الشكّ في حليّة الأكل و نجاسة ميتته الحرمة و النجاسة، على التفصيل في محلّه من حيث الشكّ في قابليّته للذبح أو وقوع الذبح، و أنّ القابليّة هي من شرائط الذبح أو أمر خارج عنه، و أنّه بناء على الأخير فيما إذا احرز الذبح تجري أصالة الحلّ، و لا مجال لجريان أصالة الحرمة الثابت حال الحياة (1)، لأن المفروض عدم الاشتباه في الأمور الخارجيّة، بل الشبهة من حيث الحكم، بناء على جريان أصالة الحلّ في الشبهات الحكميّة، كما هو التحقيق.


1- و إن كان الأمر كذلك، و لا يجوز أكل الحيوان الحيّ كما صرّحوا به في السمك (جواهر الكلام: 36/ 170) و يظهر منهم في غيره أنّ الحكم ثابت أيضا. فراجع، «منه رحمه اللّه».

ص: 50

ص: 51

نجاسة المني

فرع:

لا إشكال عندهم في نجاسة المنيّ من كلّ حيوان ذي نفس، إنّما البحث في دليله، إذ الظاهر من الأخبار هو منيّ الإنسان (1)، و لا إطلاق لها حتّى تشمل غيره، مضافا إلى تصريح جملة من الروايات أنّ ما أكل لحمه لا بأس بما يخرج منه (2).

فحينئذ إن ثبت الإجماع بالنسبة إلى ما لا نفس له مطلقا فلا محيص عن الالتزام بالنجاسة، و إلّا فقاعدة الطهارة بالنسبة إلى منيّ غير الإنسان محكمة، و الاحتياط لا ينبغي تركه، خصوصا في غير المأكول من الحيوان.


1- وسائل الشيعة: 3/ 423 الباب 16 من أبواب النجاسات.
2- وسائل الشيعة: 3/ 409 الحديث 4005 و 414 الحديث 4022.

ص: 52

ص: 53

نجاسة الميتة

من النجاسات الميتة، البحث فيها من جهات:

الاولى؛ قالوا: ميتة ماله نفس سائلة نجسة، الّتي يقال [لها] بالفارسيّة:

(خون جهنده) مع أنّ الروايات مطلقة (1)، و هكذا الآية (2).

نعم؛ في رواية أبي بصير قال عليه السّلام: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» (3) و مقتضى الصناعة تقييد سائر الروايات بها؛ إذ المراد بالنفس هو الدم، و السائل [ما له] الجريان، و أنت خبير بأنّ غاية ما يستفاد منها اعتبار الدم الجاري، و أما ما يخرج بالدفع و الحدّة فلا، إلّا أن يقال: إنّ ما لا يخرج بالدفع و الشدّة هو الرشح لا السيلان، و إنّما السائل هو الكثير الجاري لا مثل دم السمك و نحوه.

و الحاصل؛ أنّه إذا كان المراد بالنفس- كما في أكثر الروايات- الدم (4)، و هو كيفما كان له جريان في الجملة، فإذا قيّدت بالسيلان- كما في بعض


1- وسائل الشيعة: 3/ 461 و 462 الحديث 4178 و 4179.
2- البقرة (2): 173، المائدة (5): 3، الأنعام (6): 145، النحل (16): 115.
3- وسائل الشيعة: 3/ 464 الحديث 4184 و 4187، و لم ترد هذه الرواية عن أبي بصير في الجوامع الحديثيّة.
4- وسائل الشيعة: 3/ 463 الباب 35 من أبواب النجاسات.

ص: 54

الروايات (1)- فالمراد بالمجموع يكون ما اعتبروا من الدم الكثير الّذي يخرج بالدفع لا مطلق الدم الجاري، فتدبّر!

الثانية؛ لا إشكال في نجاسة أجزاء الميتة في الجملة، عدا ما استثني، إنّما الكلام في الأجزاء المبانة من الحيّ كالأليات المقطوعة من الغنم و نحوها، و أنّ حكمها في النجاسة حكم الميتة مطلقا، المشهور أنّها كذلك، لإطلاق الميتة على الأجزاء المبانة في جملة من الروايات، مثل قوله عليه السّلام: «فما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميّت» (2).

و فيه؛ أنّه يتمّ لو كان المراد منه التنزيل من جميع الجهات، مع أنّ القرينة فيها على أنّ المراد منها حرمة الأكل، موجودة، مضافا إلى أنّ الالتزام بإطلاق التنزيل فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقّن.

إن قلت: إنّ الذبح إنّما هو لحليّة الأجزاء، فلو لم تكن القطعة المبانة هي الميتة لأمكن تقطيع الحيوان إلى قطعات بلا احتياج إلى الذبح.

قلت: لا ننكر أنّ الحليّة متوقّفة على الذبح، و بدونه القطعات المبانة محرّمة، إنّما الكلام في نجاسة القطعة المبانة، و أنّ طهارتها أيضا تتوقّف على الذبح، و أنّها بحكم الميتة من جميع الجهات.

هذا؛ و لكن لمّا كانت الميتة في الشريعة ليست هي ما مات حتف أنفه، بل هي في اصطلاح المتشرّعة كلّ ما لم يذكّ، و من المعلوم أنّ القطعة المبانة يصدق عليها هذا العنوان، فهي ميتة، فتأمّل!


1- وسائل الشيعة: 3/ 464 الحديث 4184 و 4187.
2- وسائل الشيعة: 23/ 376 الحديث 29790- 29792.

ص: 55

و يمكن أيضا استفادة الحكم عن الروايات الدالّة على أنّ أليات الغنم المقطوعة لا ينتفع بها، و لا يستصبح، لأنّها تصيب الثوب و اليد (1)، و إن كانت تلك الروايات ضعيفة السند، كما أشار إليها في «الحدائق» (2) و أيضا الإجماع و السيرة العمليّة على نجاستها محقّقة، فعلى هذا ينبغي الاجتناب عن القطعة المبانة، و لكن لا القطعات الصغار كالبثور و الثالول و ما ينفصل عن الجسد عند الحكّ و نحوها؛ إذ الأدلّة المتقدّمة قاصرة عن شمول مثلها جدّا، و القدر المتيقّن من السيرة غيرها، كما لا يخفى.

الثالثة؛ لا خلاف في استثناء بعض أجزاء الميتة عنها، كالشعر و الوبر و القرن و غيرها ممّا لا روح لها، و إنّما الإشكال في بعض مصاديقها كالإنفحة و اللبن و الفارة.

أمّا الاولى؛ فوقع الكلام في المراد بها، و أنّها المائع المجتمع في كرش الحمل و الجدي ما لم يأكلا، و يكونا رضيعا، أو هو و ظرفه، أو المراد بها الظرف فقط (3).

و التحقيق؛ استثناء نفس المائع الّذي يتبدّل اللبن الّذي يشربه الرضيع من الحيوان به، و هو الّذي يعمل منه الجبن، إذ هو القدر المتيقّن من النصوص و كلام اللغويّين (4)، و لا بدّ حينئذ من الالتزام بطهارة باطن الجلدة؛ للملازمة العرفيّة، و أمّا ظاهرها فلا، بل ينبغي تطهيرها؛ للشكّ في خروج أصل الجلدة، كما عرفت، و يكون حكمها كسائر الأجزاء.


1- وسائل الشيعة: 24/ 71 الباب 30 من أبواب الذبائح.
2- الحدائق الناضرة: 5/ 72- 74.
3- الحدائق الناضرة: 5/ 86.
4- وسائل الشيعة: 24/ 179 الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرّمة، و انظر! الحدائق الناضرة: 5/ 86، المصباح المنير: 616 (نفح).

ص: 56

و من المعلوم أنّها ليست ممّا لا روح لها حتّى يخرج عن حكم الميتة بالتعليل الوارد في أخبار المستثنيات، بل الجلدة كالمعدة و سائر الأعضاء الداخليّة.

هذا؛ و أمّا ما ورد من الأخبار الدالّة على طهارة الجبن المشترى من السوق للشكّ في كون الميتة فيه (1)، الّذي يستفاد منها ثبوت نجاسة أصل المائع و الإنفحة، و إنّما حكم الطهارة للمشكوك من الجبن، فالظاهر أن تلك الأخبار وردت تقيّة، كما يظهر بالمراجعة إليها، خصوصا الرواية المشتملة على السؤال و الجواب عن هذا الموضوع (2)، و السائل هو قتادة، و الظاهر أنّه من رجال العامّة (3).

و أمّا الثاني؛ و هو اللبن؛ لا إشكال فيه دليلا، حيث إنّ الأخبار المستفيضة المعمول بها مشتملة على استثنائه (4)، و إنّما المخالف هو ابن إدريس و بعض آخر (5) و العجب من شيخنا الأنصاري كيف خالف (6)؟! و أعجب من ذلك جعله قدّس سرّه نجاسة الملاقي للنجس من القواعد الّتي غير قابلة للاستثناء كالقواعد العقليّة، و جعلها مثل قاعدة «الناس مسلّطون» أو قاعدة «حرمة الدباء» فكما أنّه لا يجوز الخروج عن أمثالهما إلّا بدليل قطعيّ قويّ، فكذلك ضابطة نجاسة الملاقي للنجس (7).


1- وسائل الشيعة: 24/ 179 الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
2- وسائل الشيعة: 24/ 179 الحديث 30286.
3- انظر! تنقيح المقال: 2/ 27.
4- وسائل الشيعة: 24/ 180 الحديث 30288 و 182 الحديث 30294 و 30295.
5- السرائر: 3/ 112، المراسم: 211.
6- المكاسب: 1/ 35.
7- بظهور المناط فيها، و هو السراية كما في تلك، «منه رحمه اللّه».

ص: 57

و أنت خبير بأنّ هذه القاعدة ليست كذلك (بهذه المثابة)، و الاستثناء عنها ليس بعزيز، مضافا إلى أنّه يمكن الدعوى قريبا بأنّ النجاسة ليست أمرا حقيقيّا واقعيّا، بل أمر تعبّديّ، كما يظهر ذلك من كيفية تنجيس النجاسات و توسعة المطهّرات، مع أنّها لو كانت امورا واقعيّة العقل و العرف لا يساعدان على تطهير الأرض- مثلا- باطن النعل و الرجل و إن بقي أثر النجاسة، و هكذا طهارة غسالة الاستنجاء بل مطلقا، و التطهير في نحو المركن، و غير ذلك من الأحكام المسلّمة في باب الطهارة، فتأمّل.

و أمّا المسك؛ لا يخفى أنّه ليس كسائر المستثنيات، بأن يدلّ عليه دليل خاصّ، بل خروجه إنّما هو لما يستفاد من طهارة المسك و جواز استعماله من الأخبار و السيرة القطعيّة إلى زمان المعصوم عليه السّلام، فعلى هذا لا ينبغي البحث فيه إلّا على ما تقتضيه القاعدة.

فنقول: تارة الكلام في نفس المسك، و اخرى في فارته و ظرفه.

أمّا الجهة الاولى؛ فالمسك بأقسامه الأربعة إن كان هو دم الظبي المخصوص يكون محلّ الإشكال، إلّا أنّ يتيقّن باستحالته، كما لا ريب فيه بالنسبة إلى بعض صوره، و هو ما إذا يبست فأرته و انجمد المسك فيه، إلّا أنّ مجال إنكار كونه دما أصلا واسع، بل هو أمر آخر يشبه بعض أقسامه لون الدم، مضافا إلى أنّ الشكّ فيه يكفي للحكم بطهارته؛ لكون الشبهة موضوعيّة، مع أنّه لا عموم لنجاسة مطلق الدم على ما سيأتي إن شاء اللّه.

و أمّا فأرته، أمّا في حال حياة الظبي فإذا يبست و انقطع بنفسها أو بعلاج، بحيث يعدّ أمرا خارجا عن أجزاء الظبي فهي طاهرة، و تكون كسائر الأجزاء

ص: 58

المبانة من الحيوان الّتي يعدّ من ثمراته و فضلاته، و كذلك إذا يبست في حياته و انفصلت بعد موته، فحينئذ أيضا طاهر؛ لأنّه يكون من أجزاء الميتة الّتي لا روح لها.

و أمّا قبل اليبوسة فهي نجسة، سواء في حياته أو موته؛ لأنّها من أجزاء الحيوان.

نعم؛ إذا شكّ في ذلك فهي محكوم بالطهارة؛ لكون الشبهة موضوعيّة، فلا يحتاج إلى الأمارة.

تذييل: قالوا: سوق الإسلام و يد المسلم أمارة التذكية، و يدلّ عليهما- مضافا إلى السيرة القطعيّة الشرعيّة و العقلائيّة- الأخبار الخاصّة، مثل رواية الصدوق قدّس سرّه عن سليمان بن جعفر (1)، و رواية الكليني عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: سألته عليه السّلام عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أ ذكيّة هي أم غير ذكيّة، أ يصلّي فيها؟ قال: «نعم ليس عليكم المسألة» (2) .. إلى آخره.

و خبر إسماعيل بن عيسى قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الجلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال: «عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» (3) و غير ذلك من الأخبار الّتي حاصل ما يستفاد منها أنّ بلد المسلمين من سوقهم و غيره، بل كلّ محلّ غالب أهله


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 167 الحديث 787، وسائل الشيعة: 3/ 491 الحديث 4262.
2- لم نعثر عليها في الكافي، و إنّما رواها الشيخ في تهذيب الأحكام: 2/ 396 الحديث 1529، عنه وسائل الشيعة: 3/ 491 الحديث 4262.
3- وسائل الشيعة: 3/ 492 الحديث 4266.

ص: 59

المسلمون، الجلود و غيرها من أجزاء الحيوان محكوم بالتذكية (1).

فإنّ بلد الإسلام طريق إليها و إن اخذت من يد مجهول الحال، لا ما إذا اخذ من الكافر، أو كان مسبوقا بيده، إلّا إذا كان المسلم الّذي أخذ منه رؤي أنّه يعامل معه معاملة التذكية، كأن يصلّي فيه.

فالسوق طريق إلى اليد الّتي هي بنفسها أمارة التذكية، كما أنّ معاملة المسلم في ما كان مسبوقا بيد الكافر معاملة التذكية أيضا محمولة على الصحّة و طريق إليها أيضا للآخرين، و في غير هاتين الصورتين أصالة عدم التذكية محكّمة.


1- وسائل الشيعة: 3/ 490 الباب 50 من أبواب النجاسات.

ص: 60

ص: 61

نجاسة الدم

يقع البحث فيه من جهات:

الاولى- و هي عمدتها- إثبات النجاسة مطلقا، بحيث يكون الأصل فيه ذلك حتّى يرجع إليه في موارد الشكّ، و الحقّ أنّه ليس لنا دليل عليه، إذ الأخبار الواردة فيه ليست إلّا ما تشتمل على السؤال و الجواب في الموارد الخاصّة، و الإطلاق فيها وارد مورد حكم آخر، إلّا أن يدّعى الإطلاق المقاميّ، و أنّ العرف يفهم منها ذلك، و أنّ مناط النجاسة ليس إلّا طبيعة الدم من أيّ شي ء و في أيّ محلّ، و إثبات ذلك في غاية الإشكال.

ثانيها؛ في الدّم المستثنى، و هو دم غير ذي النفس، و الظاهر أنّه لا كلام في طهارته، و إنّما البحث في الدليل عليها، فإنّ مثل ما ورد في دم ميتة ذي النفس (1) و اعتبر في الموثّقة ماله نفس (2)، لم يرد هنا، و لذلك تشبّث كلّ إلى وجه بعد كون الحكم قطعيّا.

و الّذي توجّه إليه نظري القاصر هو أنّ في جملة أخبار المستثنيات من الميتة قال عليه السّلام: «إنّه لا دم له» (3) مع أنا نرى حسّا أنّ لها دم في الجملة، فيستفاد


1- وسائل الشيعة: 3/ 527 الباب 82 من أبواب النجاسات.
2- وسائل الشيعة: 3/ 527 الحديث 4368.
3- وسائل الشيعة: 3/ 463 الحديث 4183، مع اختلاف يسير، مستدرك الوسائل: 2/ 580 الحديث 2785.

ص: 62

من ذلك أنّ المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فيصير ذلك حاكما على أدلّة نجاسة الدم، فتأمّل. مع أنّ الأمر بعد إنكار العموم و الإطلاق في الدم سهل.

الجهة الثالثة؛ في حكم الدم و غيره من النجاسات في البواطن، و هذا من أهمّ مباحث النجاسات (1).

و مجمل القول فيه حيثما تقتضيه القواعد هو الالتزام بالطهارة على أحد الوجهين: إمّا أن يبنى على نجاسة الدم مطلقا، بأن نقول: و إن كان أصل الحكم مصطادا من الموارد الجزئيّة و المواقع الخاصّة، إلّا أنه ليس شأن حكم الدم إلّا كسائر الأحكام الشرعيّة الكليّة من الموارد الخاصّة، فإنّ العرف إذا قيل له: دم البقر مثلا نجس لا يفرّق بينه و بين دم الغنم و سائر الحيوانات، و كذلك لا يفرّق بين محالّه من الظاهر و الباطن، كما إذا قيل: هذا الخمر حرام، فأينما كانت يفهم منه الحرمة مطلقا و إن كان المشار إليه إناء مخصوصا.

فعلى هذا لا يبقى مجال للتشكيك من حيث إطلاق نجاسة الدم و البول و نحوه في البواطن، إلّا أنّه لمّا كان شرط تأثير النجس قابليّة المحلّ للتنجّس، فكلّ ما يشكّ فيها فلمّا لا أصل و لا دليل [في المقام] يثبت القابليّة، فقاعدة الطهارة محكمة (2).

فعلى هذا نفس البواطن لا ينبغي الحكم بنجاستها، كباطن الفم و الأنف و غيرهما إذا خرج منهما الدم؛ لإمكان أن يكون البواطن كالأجسام الصقيلة


1- و اختلف الأصحاب فيها جدّا، و أفتى كلّ بفتوى مخصوصة. فراجع، «منه رحمه اللّه».
2- و لا يلزم منه تقييد في إطلاق نجاسة الدم، كما إذا قيل: الكرّ لا ينفعل، لا يوجب التخصيص في عموم النجاسات؛ لأنّ الكرّ غير قابل للانفعال، «منه رحمه اللّه».

ص: 63

كالزئبق الغير القابلة للتنجّس، و قد عرفت، بل الشكّ يكفي للحكم بطهارتها.

نعم؛ إذا ادخل شي ء من الخارج و لاقى الدم أو البول ينجس بمقتضى ما بيّنا و إن لم يكن عليه في الخارج أثر النجاسة، هذا حاصل ما حقّقه صاحب «الحدائق» على ما نقل (1).

و الوجه الثاني؛ هو أن يقال: إنّ حكم الدم استفيد عن الموارد الّتي وقع في السؤال و الجواب إصابة الثوب أو البدن و نحوهما الدم، و غاية ما تدلّ عليه مجموع هذه الأسئلة و الأجوبة أنّ ملاقاة أمثال ما ذكر الدم توجب نجاسة الملاقى، فلا بدّ أن يكون هنا ملاقى- بالفتح- و ملاق- بالكسر- و لا خفاء أنّ الدم و كذلك البول ما داما في الباطن لا يصدق عليهما هذا المفهوم، فلا يثبت الحكم حينئذ.

و الحاصل؛ أنّ الظاهر عدم وجود دليل يستكشف منه نجاسة صرف وجود الدم، بل الدليل على خلافه، كما في أخبار الرعاف و غيره قال عليه السّلام: «إنّما عليك أن تغسل الظاهر دون الباطن» (2).

فعلى هذا؛ لقد أحسن و أجاد من أفتى بعدم النجاسة في البواطن؛ فبنى على طهارة النوى الخارج، و كذلك زجاج الحقنة إذا خرجا نقيّا و إن علم بملاقاتهما البول و العذرة، و كذلك طهارة الإبرة و نحوها إذا ادخلت في البدن و خرجت نقيّة (3)، بخلاف الوجه السابق، فعليه التزم بالنجاسة في هذا الفرع.

و بالجملة؛ على الوجه السابق لا بدّ من التفصيل بخلاف الّذي قرّرنا، حيث


1- الحدائق الناضرة: 5/ 343- 344.
2- وسائل الشيعة: 3/ 438 الحديث 4098 و 4099.
3- العروة الوثقى: 1/ 56 المسألة 1، و 65 المسألة 12.

ص: 64

إنّ القاعدة هي الطهارة كليّة ما لم يلاق شيئا [من] الدم و غيره في الخارج.

نعم؛ في بعض الموارد تكون الشبهة مصداقيّة، كما في باطن الفم أو القسمة الداخليّة المقدّمة من الأنف، حيث اختلفت الفتوى فيها أيضا، و لكن على كلا التقريبين (1) مقتضى القاعدة فيهما أيضا الطهارة، و هكذا إذا ادخل نجاسة من الخارج إلى الداخل، فإذا زالت عينها فالباطن باق على طهارته و إن ورد إدخال الماء في الفم فهو لإخراج عين النجاسة لا للتطهير، فافهم!


1- و إمّا من جهة الشكّ في القابليّة، أو التشكيك في الإطلاق، «منه رحمه اللّه».

ص: 65

حكم العصير العنبي

الإشكال في باب العصير العنبي من حيث النجاسة من جهات:

الاولى: من جهة الكبرى، أي أصل النجاسة، و أنّها من مصاديق الخمر أم هو أمر آخر في عرضها، و الشارع حرّمها و حكم بنجاستها تعبّدا؟ على خلاف.

الثانية: من جهة الصغرى؛ من حيث إنّ العصير بمجرّد الغليان و النشيش و إن لم يثخن يحرم و ينجس، أو يعتبر فيها الثخونة، بل الاشتداد؟

ثمّ إنّه هل النجاسة مترتّبة على الغليان مطلقا، سواء كان بنفسه أم بالنار، أو يختصّ بالأوّل؟

ثمّ إنّه هنا جهة اخرى، و هي إشكال أخبار الباب من حيث فقه بعضها، و اضطراب بعض آخر متنا و سندا.

أما الجهة الاولى (1) فالالتزام بكون العصير العنبيّ مطلقا من مصاديق الخمر تحكّم محض، لا يساعد عليه اللغة و لا العرف، فإنّ الخمر لها طريق معمول مرسوم مثل الخلّ، لا ربط له بالعصير، كما هو واضح.

نعم؛ قد يتوهّم إلحاقه بها (2) من جهة بعض الأخبار (3)، كما في خبر معاوية


1- من جهات الصغرى، «منه رحمه اللّه».
2- شرائع الإسلام: 1/ 52، مدارك الأحكام: 2/ 292 و 293.
3- وسائل الشيعة: 25/ 292 الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة.

ص: 66

ابن عمّار، حيث قال عليه السّلام في جواب سؤاله عن البختج قبل ذهاب ثلثيه: «إنّه خمر» (1).

و لكن- مع الغضّ عن اضطرابه متنا و أنّه ليس في نسخة «الكافي» (2) هذه اللفظة- أنّه لا يستفاد منها إلّا التنزيل، لا إلحاقه بالخمر موضوعا من باب الإخبار عن أمر واقعيّ خارجيّ أو من باب التعبّد.

و بالجملة؛ لا إشكال في أنّ العصير ليس خمرا مطلقا و إن كان قد تتصادق عليه، كما نشير إليه، و لذلك عقدوا له بابا خاصّا قديما و حديثا، كما أنّ له عنوانا على حدة في الأخبار (3).

و أمّا الجهة الثانية؛ لا إشكال في أنّ العصير قد يطبخ حتّى يجعل دبسا و ربّا فيغلى بالنار، و هذا هو الّذي وقع سؤالا و جوابا في الأخبار، و قد حكم فيها بالحرمة قبل ذهاب ثلثيه (4)، و ليس في هذه الأخبار دلالة بل إشعار بالنجاسة.

و قسم (5) من العصير يوضع حتّى يغلى بنفسه بحيث يحتمل أن يسكر، فيصير مصداقا للخمر، و لا ريب أنّه حينئذ يصير حراما و نجسا، لأنّه إمّا خمر حقيقة، و إمّا مائع مسكر، و لكنّ الحكمين متوقّفان على العلم بالأمور المذكورة، و إلّا فمع الشكّ استصحاب الحلّ و الطهارة هو المرجع بلا كلام، و الاحتمال لا يؤثّر شيئا.


1- تهذيب الأحكام: 9/ 143 الحديث 526.
2- الكافي: 6/ 421 الحديث 7، وسائل الشيعة: 25/ 293 الحديث 31940.
3- وسائل الشيعة: 25/ 292 الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة.
4- وسائل الشيعة: 25/ 282 الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة.
5- و هذا هو الّذي بنى عليه ابن حمزة رحمه اللّه كلامه و حكم بالحرمة و النجاسة (الوسيلة: 365)، و أفتى به بعض المعاصرين، و قالوا بأنّ حلّيته و طهارته متوقّفة على التخليل، بل كلمات القدماء طرّا يرجع إلى ذلك، حسبما نقلها شيخ الشريعة قدّس سرّه في رسالته، «منه رحمه اللّه».

ص: 67

نعم؛ مع الغليان و النشيش و حصول صفة الإسكار يثبت الحكمان بلا احتياج إلى الاشتداد و الثخونة، كما يكون كذلك- يعني حكم الحرمة فقط ثابت- في القسم الأوّل أيضا بمجرّد الغليان بالنار و إن لم يحصل الاشتداد، و لا يحلّ إلّا بعد التثليث، فتدلّ عليه الأخبار المصرّحة المفصّلة بين ما إذا غلى العصير بالنار، و بين ما إذا غلى بنفسه، حيث جعلت غاية الحلّيّة في الاولى ذهاب الثلثين؛ و الثانية بأن تصير خلًّا، كما تدلّ عليه كلمات الفقهاء، و أمّا في الأخبار، فالغاية غير مذكورة في الأخيرة.

و ذلك كلّه لعدم الدليل على اعتبار ذلك الاشتداد (1) من الأخبار، و الّذي يدلّ عليه هو الغليان، بأن يصير أسفله أعلاه (2) و بالعكس (3).

و على كلّ حال لا دليل على نجاسة العصير (4) بأيّ قسم منه أصلا، و أمّا دعوى الإجماع في المسألة- مع أنّها غير معنونة في كلمات القدماء أصلا- عجيبة، و كذلك ادّعاء الشهرة، فإنّ شهرة النجاسة ليست إلّا من المتأخّرين، و من المعلوم أنّها لا تكون دليلا، و لذلك اشتهرت طهارة العصير بين متأخّري المتأخّرين.

و الّذي يحتمل قويّا أنّ منشأ الحكم بالنجاسة هو فتوى الشيخ قدّس سرّه الّذي هو مبدأ المتأخّرين و رئيسهم.


1- بمعنى الغلظة؛ نعم؛ المراد به الثخونة و الحدّة الّتي هي الإسكار معتبر، كما يظهر ذلك بالتأمّل في الأخبار و كلمات الأعلام الأخيار، و بالجملة فهذه الأوصاف الأربعة، أعني الشدّة و النشيش و التغيّر و الزبد ملازمة بينها و هي ملازمة للإسكار، «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 25/ 287 الحديث 31926.
3- كما أشار إليه بعض الأخبار، «منه رحمه اللّه».
4- بعنوان العصير، «منه رحمه اللّه».

ص: 68

و منشأ فتواه قدّس سرّه قوله عليه السّلام في رواية عمّار: «هو خمر» (1) بناء على روايته، مع أنّ هذه اللفظة ليست في الحديث على رواية «الكافي» (2) الّذي هو أضبط على المشهور.

مضافا إلى أنّه مع التسليم بكونه جزء الحديث من حيث الدلالة فيه جهات من البحث؛ إذ لعلّه عليه السّلام حكم بكون نوع خاصّ من العصير خمرا لا مطلقا؛ لأنّ الراوي يسأل عن البختج الّذي قيل: هو معرّب «مى پخته» (3)، و غير ذلك من جهات الإشكال في الحديث الّذي [هو] حديث زيد النرسي، حيث وقع فيه تصحيف عجيب، و زيد فيه جملة تدلّ على إطلاق حكم النجاسة بالنسبة إلى ما إذا غلى العصير بنفسه أو بالنار.

مع أنّه ليس في أصل هذا الراوي الجليل- على ما ذكره المجلسي و غيره (4)- أثر من الجملة المذكورة، بل هو أيضا موافق لسائر الأخبار، و ذكر حكم العصير المطبوخ.

كما يشعر بذلك أيضا الأخبار المشتملة على قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «كلّ مسكر حرام» (5) بحيث يستفاد منها الحصر كما يستشعر أيضا عن الأخبار الّتي مبتن حكمة التثليث في العصير المطبوخ بالنار بأنّه يحفظ و يمنع عن الفساد و حصول


1- تهذيب الأحكام: 9/ 143 الحديث 526.
2- الكافي: 6/ 421 الحديث 7، وسائل الشيعة: 25/ 293 الحديث 31940.
3- لسان العرب: 2/ 211.
4- بحار الأنوار: 79/ 177 الحديث 8، مستدرك الوسائل: 38/ 20676.
5- وسائل الشيعة: 25/ 325 باب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة.

ص: 69

حالة الإسكار، فيصير شرابا طيّبا و إن بقي سنة (1).

و يدفع ذلك كلّه إطلاقات الباب، مثل قوله عليه السّلام: «كلّ ما غلى بالنّار فقد حرم» (2) بل عمومها، بناء على عدم تقييدها و تخصيصها بما يستفاد من مجموع الأخبار المشار إليها المستفاد منها أنّ المناط هو حصول وصف الإسكار فعلا أو صيرورة العصير بعد الغليان مظنّة الفساد.

و يمكن الدعوى بأنّ الوصفين- أعني الغليان مطلقا (3) و الشدّة- ملازم لحصول وصف الإسكار و الخمريّة، كما ادّعاه العلّامة الطباطبائي (4)؛ فحينئذ يرتفع الخلاف، و لكن الشأن إثباتها.

و بالجملة؛ ما استظهرنا من كلمات جلّ الفقهاء من التفصيل بين ما إذا غلى بالنار، أو بنفسه، ففي الأوّل لا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه، و في الثاني حليّته بصيرورته خلًّا هو الّذي يستفاد من أخبار الباب أيضا، فإنّ من أمعن النظر إليها يرى أنّ كلّ ما كان الكلام فيها عن العصير المطبوخ فحليّته مغيّاة بالتثليث، بخلاف ما كان الكلام عن العصير المغليّ بنفسه.

نعم؛ في رواية زيد النرسيّ (5) ما يستفاد منها التعميم، و لكنّها محرّفة- على ما حقّقه شيخ الشريعة قدّس سرّه- و إنّ النسخة الصحيحة منها توافق سائر الروايات.

و أمّا اعتبار أصله و رواياته فممّا لا إشكال فيه أصلا، و قد تعرّض له


1- وسائل الشيعة: 25/ 288 الباب 5 و 295 الباب 8 من أبواب الأشربة المحرّمة.
2- مستدرك الوسائل: 17/ 38 ذيل الحديث 20676 مع اختلاف.
3- بالنار أو بالنفس، «منه رحمه اللّه».
4- رياض المسائل: 1/ 487.
5- وسائل الشيعة: 25/ 291 الحديث 31935.

ص: 70

العلّامتان: الوحيد البهبهاني و الطباطبائي، و غيرهما من الأعاظم (1) رحمة اللّه عليهم و أنّ أصله منقول عن ابن أبي عمير الّذي هو من أصحاب الإجماع، و لا يروي إلّا عن الثقة (2).

فعلى كلّ حال من جهة الحجيّة و الاعتبار لا مرية في أصل زيد النرسي، و إنّما الكلام في متنه و دلالته، و قد تبيّن أخيرا أنّه مصحّف على نقل متأخّري المتأخرين، و الصحيح المضبوط منه لا يخالف سائر الأخبار (3).


1- تعليقات على منهج المقال: 143، رجال بحر العلوم: 2/ 365- 378، و لاحظ! جامع الرواة: 1/ 343.
2- الفهرست للشيخ الطوسي: 172، جامع الرواة: 1/ 343.
3- وسائل الشيعة: 25/ 282 الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة.

ص: 71

نجاسة الكافر

هذا المبحث أيضا من المشكلات، قال بعضهم بنجاسته مطلقا، مستدلّا بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ (1) و وجهه واضح (2).

و استشكل فيها من جهة الكبرى

أوّلا؛ بأن المراد من «النجس» ليست النجاسة الاصطلاحيّة الشرعيّة، لأنّها مستحدثة من عصر الأئمّة عليهم السّلام إلى بعد، و أمّا وقت نزول الآية فلم يكن المراد من «النجس» إلّا القذارة، و هي المعنى اللغوي، و لمّا لم يكن للكافر قذارة ظاهريّة حتّى ينطبق على اللغويّ فلا بدّ أن يحمل على النجاسة الحكميّة و القذارة الباطنيّة، كما لم يرد لفظ «النجس» في الأخبار بالمعنى المصطلح أيضا.

قالوا: و يؤيّد ذلك ذيل الآية؛ إذ لو كان المراد المعنى المصطلح فلا بدّ من تخصيص الحكم، و هو عدم قرب الكافر و عدم دخولهم في المسجد الحرام بما إذا كانوا رطبا بمثل العرق و غيره حتّى لا يلوّث بهم المسجد الحرام؛ إذ لا خلاف في أنّ كلّ يابس ذكيّ، كما أنّ الحكم في مطلق النجاسات ذلك (3).


1- التوبة (9): 28.
2- تذكرة الفقهاء: 1/ 67.
3- الحدائق الناضرة: 5/ 164، لاحظ! جواهر الكلام: 6/ 42.

ص: 72

و بالجملة؛ لا سبيل إلى حمل النجس في الآية على المعنى المصطلح، فلا محيص عن الحمل إلى القذارة المعنويّة و هي نجاسة الكفر.

هذا حاصل ما اورد على الآية.

و فيه؛ أنّ هذا وارد إذا كان المراد من النجاسة الشرعيّة مفهوما مباينا لمعناها اللغويّ، و أمّا إذا كان من مصاديق ذلك المعنى، بأن كانت النجاسة الشرعيّة عين المفهوم اللغوي، غايته أنّ الشرع تصرّف فيها، بأن جعل لها حدودا خاصّة و وسّع دائرة المفهوم اللغويّ أو ضيّقه، فحينئذ لا منافاة بين المعنى اللغويّ و الشرعيّ حتّى لا يجوز الجمع بينهما إلّا بالقرينة و المئونة، فالمراد بالنجس في الآية هو النجاسة الشرعيّة الّتي هي بين مصاديق القذارة اللغويّة.

و أمّا ذيل الآية و الحكم بعدم جواز دخول الكافر المسجد أيضا لا ينافي هذا المعنى، بل هو مخصوص بهذا الفرد من النجاسات للفرار و إن لم يكن ملوّثا، و لا يلزم تخصيص الحكم بما إذا كان الكافر نجاسة مسرية، فيكون حاصل معنى الآية- و اللّه أعلم-: أنّ الكافر قذر لسراية نجاسته الباطنيّة إلى ظاهره، فلا يجوز أن يدخل المسجد الحرام، و لا مانع من هذا المعنى، و لا مبعد له سوى دعوى القطع بأنّ النجاسات الشرعيّة مطلقا إنّما يحرم إدخالها المسجد إذا كانت متعدّية، و إلّا فلا، و إثباتها كليّا على مدّعيها.

و أمّا ثانيا؛ فالإشكال في الآية من جهة الصغرى، حيث إنّ الحكم على فرض التسليم مخصوص بالمشرك، فلا يعمّ الكافر بأقسامه من أهل الكتاب و غيره، و لذلك قيل بأنّهم أيضا مشركون، كما يدلّ ذيل آية اخرى، و هو قوله

ص: 73

تعالى: سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (1) (2).

و فيه؛ أنّ هذا خلاف المعنى المصطلح من الشرك و المشرك؛ إذ الظاهر منه هو الّذي يرى في عرض ذاته تعالى شريكا في خالقيّته و تدبيره، و هذا المعنى يختصّ بالوثنيّ و الصنميّ و كلّ من اعتقد للموجودات و عالم التكوين مبدءين، و أمّا مثل اليهود و النصارى القائلين بأنّ اللّه تعالى اتّخذ عزيزا أو المسيح ولدا، و كذلك من اعتقد بالواسطة و المقرّب إليه تعالى، فإطلاق الشرك عليهم إنّما يكون بالعناية، و الإطلاق أعمّ، كما اطلق على المرائي المشرك، مع أنّه لا يعبد إلّا اللّه، و إنّما يرائي عبادته لا أن يكون الناس معبودا.

و بالجملة؛ فهذه الجهات لمّا ينافي الخلوص و أنّه ساحته تعالى بري ء عن شئون الإمكان من اتّخاذ الولد و نحوه، فلذلك جعل تعالى الالتزام بها من الشرك، لا أن يكون المعتقد بها مشركا حقيقيّا، و لذلك جعل المشرك في القرآن غالبا في عرض أهل الكتاب.

فعلى هذا يخرج أهل الكتاب عن مساق الآية، و لا بدّ من البحث فيهم مستقلّا، كما عليه بناء الأصحاب.

و لقد أجاد المحقّق الهمداني قدّس سرّه في «مصباح الفقيه» في البحث عن أهل الكتاب، و نقل عمدة الأخبار و استدلال الفريقين القائلين بطهارتهم و نجاستهم.

و حاصل ما أفاد: أنّ الأخبار الّتي تمسّكوا بها لنجاستهم غير دالّة على نجاستهم الذاتيّة، بل فيها ما يستفاد منه طهارتهم من هذه الجهة، كقوله عليه السّلام في


1- التوبة (9): 31.
2- الحدائق الناضرة: 5/ 166.

ص: 74

رواية ابن مسلم: «لا تأكلوا في آنيتهم و لا من طعامهم الّذي يطبخون، و لا في آنيتهم الّتي يشربون فيها الخمر (1)» (2).

و لكنّ أخبار طهارتهم ظاهرة فيها، و مشتملة على شواهد دالّة على أنّ أخبار النجاسة في مقام بيان نجاستهم العرضيّة لا الذاتيّة، فهي على حجّيّتها باقية؛ إذ لا قصور في دلالتها و كذلك في سندها؛ لأنّها صحاح مستفيضة، و المفروض أنّ الطائفة الاولى لقصور دلالتها- كما أشرنا- لا تصلح لمعارضتها.

نعم؛ الذي يضعّفها ذهاب المشهور إلى نجاستهم، فبناء على أنّ الشهرة الفتوائيّة على الخلاف يوجب سبب الوثوق و الاطمينان عن الرواية، يشكل القول بالطهارة، و المسألة تحتاج إلى المراجعة و مزيد تأمّل حتّى يظهر الأمر و حقيقة الحال، و هو العالم.

بقي الكلام في معنى الكفر و الكافر، فإنّ بعض مصاديقه مشكوك؛ إذ الكفر لغة بل اصطلاحا معناه: الجحود و الإكفار (3). و عليه لا يصدق الكافر على الشاكّ و المتردّد في أركان الدين، و ينحصر بالجاحد و المعاند، كما نرى في القرآن بالعيان أنّ خطاباته و زجره متوجّه إليهما، مثل الآيات الكريمة: وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (4) و يٰا أَهْلَ الْكِتٰابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ وَ تَكْتُمُونَ


1- وسائل الشيعة: 3/ 419 الحديث 4040، انظر! مصباح الفقيه (كتاب الطهارة): 558 و 559 ط. ق.
2- الظاهر أنّ هذه الأخبار ليست لبيان الطهارة و النجاسة، بل هي في مقام الحكم بالاجتناب عن اليهود و النصارى، و عدم الخلطة معهم، و حاصلها: أنّها أحكام أخلاقية، «منه رحمه اللّه».
3- مجمع البحرين: 3/ 474.
4- النمل (27): 14.

ص: 75

الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1) و غيرهما (2).

و بالجملة؛ الشاكّ في اللّه و رسوله و الأمور الضروريّة من الدين وجدانا ممكن، و صريح كثير من الأخبار إحالة الكفر على الجحود، بحيث ما لم ينكروا لم يكفروا.

فحينئذ لا مجال لإنكار الواسطة بين الكفر و الإسلام، و إن كان يظهر من الكتب الكلاميّة بل الفقهيّة إنكارها و إلحاق الشاكّ بالجاحد (3)، و جعلوا الإسلام مقابل الكفر (4).

فعلى هذا مقتضى القاعدة في الشاكّ الّذي لا ينكر الاصول التفصيل في الأحكام، فما كان منها مترتّبة على الإسلام مثل النكاح و نحوه، لا يثبت للشاكّ، و ما كانت ثابتة للكافر مثل النجاسة أيضا لا تثبت.

و لا فرق في ذلك بين المنتحلين للإسلام- كما جعل هؤلاء مفاد الأخبار- و غيرهم.

إن قلت: إنّ الأخبار الّتي تدلّ على أنّ ما يحقن به الدماء و يجري عليه المواريث هو الإقرار بالشهادتين، و أنّ به يمتاز الكافر عن الإسلام (5)، ترفع الواسطة و تبيّن الضابطة.


1- آل عمران (3): 71.
2- العنكبوت (29): 47، 49.
3- جواهر الكلام: 6/ 48.
4- الحدائق الناضرة: 5/ 162، و نقل في «مصباح الفقيه» تسالمهم عليه، و لذلك أوّل الأخبار الّتي أشرنا إليها، «منه رحمه اللّه»، مصباح الفقيه (كتاب الطهارة): 557 ط. ق.
5- الكافي: 2/ 24 الحديث 1.

ص: 76

قلنا: أوّلا؛ لا منافاة بينها و الأخبار الّتي علّقت الكفر على الجحود (1)، و قد اعترفنا بأنّ أحكام الإسلام لا تترتّب على الشاكّ.

و ثانيا؛ إنّه لا بدّ من تقييد تلك الأخبار بالّتي ذكرنا، بمعنى أنّه و إن كان مفادها أنّ غير المقرّ بالشهادتين كافر، إلّا أنّه يقيّد بما إذا جحد، و أمّا الساكت فلا يترتّب عليه أحكام الكفر. فتأمّل جيّدا!


1- الكافي: 2/ 33 الحديث 2.

ص: 77

تطهير الأواني

فرع: يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا أولاهنّ، بالتراب.

أقول: هذا الحكم في الجملة من المسلّمات، إلّا أنّه كلّما تفحّصنا ما عثرنا على رواية يستفاد منها الحكم بهذه الخصوصيّات؛ إذ ليس في أخبار الباب (1) إلّا رواية أبي العباس (2)، مع أنّه ليس فيها لفظة الولوغ أوّلا، بل قال عليه السّلام: «لا تتوضّئوا من فضله» إلّا أن يقال: إنّه مساوق للولوغ الّذي هو شرب المائع باللسان، كما يشعر به النهي عن التّوضّؤ به، فتأمّل. فإنّه بيان لبعض آثاره، و لذلك يجري الحكم في سائر المائعات.

و ثانيا- و هو العمدة- ليس فيها ما يدلّ على اعتبار الغسل ثلاثا، بل الظاهر منها اعتبار الغسل فقط بعد التعفير بالتراب.

نعم؛ على رواية المحقّق في «المعتبر» حيث نقل هكذا: «ثمّ بالماء مرّتين» (3) يتمّ الفتوى، إلّا أنّ الشأن إثبات كون هذه الرواية مستندا لفتوى الأصحاب، مع أنّها على ما في كتب الأحاديث خالية عن هذا القيد.

إن قلت: يمكن أن يكون مستندهم بالغسل ثلاثا رواية عمّار (4) الّتي هي


1- ما يمكن أن يتمسّك بها من المعتبرات، «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 1/ 226 الحديث 574.
3- المعتبر: 1/ 458.
4- وسائل الشيعة: 25/ 368 الحديث 32142 و 32143.

ص: 78

المستند لاعتبار الثلاث في مطلق الإناء.

قلت: فعلى هذا لا بدّ من الفتوى بالغسل ثلاثا بعد التراب، مع أنّهم ما التزموا بذلك، مضافا إلى أنّ تلك الموثّقة صريحة أو ظاهرة في بيان تمام المراد، كما أنّ رواية أبي العبّاس كذلك، و تأبى عن التقييد جدّا.

فعلى هذا لا دليل على الحكم المزبور إلّا الإجماع المدّعى في الباب، فإن تمّ فهو، و إلّا فيشكل الأمر جدّا.

ثمّ إنّه على [أنّه] يتعدّى الحكم إلى لطع الكلب الإناء، أو وقوع لعاب فمه فيه، كما عليه جمع (1)، يمكن الالتزام بالتعدّي و التعميم، بناء على أن يكون المستند رواية أبي العباس، حيث إنّ من قوله عليه السّلام أوّلا: «رجس نجس» «لا تتوضّئوا بفضله» «و اصبب ذلك الماء» (2) .. إلى آخره، يستفاد من مجموع ذلك أنّ في فم الكلب مطلقا قذارة خاصّة إذا أصابت الإناء لا تزول إلّا بالتعفير.

ثمّ إنّه هل يلحق الخنزير بالكلب في لزوم التعفير و الغسل ثلاثا، أم لا؟

الّذي يظهر من قدماء الأصحاب ذلك (3)، و لكن لم يظهر لنا دليل عليه من رواية و لا غيرها ممّا يعتدّ به.

و أمّا المشهور بين المتأخّرين وجوب الغسل سبع مرّات (4)، مستندا إلى صحيحة عليّ بن جعفر (5) عليه السّلام و هو رواية تامّة الدلالة، و مع ذلك العجب من


1- جواهر الكلام: 6/ 357.
2- وسائل الشيعة: 1/ 226 الحديث 574.
3- الخلاف: 1/ 186 المسألة 143.
4- مختلف الشيعة: 1/ 496 المسألة 258.
5- وسائل الشيعة: 1/ 225 الحديث 572.

ص: 79

القدماء كيف لم يعتمدوا عليها؟! و لذلك يشكل الأمر جدّا، حيث إنّه إن ثبت إعراض الأصحاب عنها فكيف عمل بها مشهور المتأخّرين؟ و إن لم يثبت، فلا بدّ من المصير إليها.

و على كلّ حال لا مستند للقدماء من وجوب التعفير، و أمّا الغسل ثلاثا فيمكن أن يكون مستندهم رواية عمّار الواردة في مطلق الإناء (1)، فتأمّل!

فرع: مثل الحنطة و الأرزّ بل الصابون ممّا لا يقبل العصر إذا تنجّست هل يطهر أم لا؟ فقال بعضهم بقبوله مطلقا (2)، و فصّل بعضهم بين الماء الكثير و الجاري [و القليل]، فالتزموا بقبوله التطهير [في الماء الكثير و الجاري] دون القليل (3).

و معلوم أنّ الخلاف فيما إذا تعدّت و سرت النجاسة إلى باطن ما ذكر، و نقول: إنّ البحث في المقام من جهات:

الاولى؛ إنّ الأمور المذكورة غير قابلة للعصر، فالغسالة لا يخرج منها.

و الثانية؛ أنّ ما يدخل في جوفها إنّما هو الرطوبة لا الماء، فلا يصدق الغسل.

الثالثة؛ أنّ وجود الرطوبة فيها مانعة عن تأثير المطهّر، بل يصير مضافا بالنسبة إلى بعضها.

الرابعة؛ عدم وجود إطلاق أو عموم يدلّ على قبول كلّ متنجّس للتطهير.


1- وسائل الشيعة: 25/ 368 الحديث 32143.
2- جواهر الكلام: 6/ 151 و 152، فقد نسب القول فيه إلى الأردبيلي و الكاشاني و النراقي و استقواه.
3- جواهر الكلام: 6/ 150.

ص: 80

هذه عمدة جهات الإشكال في المسألة، و لكن بعضها يختصّ بالتطهير بالقليل كالاولى، حيث إنّ المطهّر القليل لمّا ينفعل فلا بدّ من خروج الغسالة في الجملة (1) حتّى يتطهّر المحلّ، و من المعلوم أنّ الكرّ و الجاري لا ينفعل، و لذلك بنينا على عدم لزوم العصر فيهما، و بعضها يعمّ الكثير مثل الثانية.

و الحقّ أنّ تلك الجهة من الإشكال غير قابلة للذبّ؛ بداهة أنّه لا يصدق الغسل بالماء على مثل الحنطة و الصابون إذا تنجّست و سرت النجاسة إليها بوضعهما في الكرّ أو الجاري لا عقلا و لا عرفا، و إن أصرّ قدّس سرّه في «مصباح الفقيه» على صدقه بتقريب له (2).

هذا؛ و أمّا الجهتان الاخريان فليستا بشي ء، كما يظهر للمتأمّل.

و مع ذلك؛ فالتحقيق أنّ الأشياء المذكورة قابلة للتطهير؛ لأنّ باب التطهير كالتنجيس أمر تعبّديّ، بمعنى: كما أنّه ليس كلّ شي ء منجّسا إلّا أن يدلّ عليه دليل شرعيّ، كذلك كيفيّة التطهير في الجملة، و تعيين أصل المطهّر إنّما هما بيد الشرع، فلما نرى أنّه جعل الأرض مطهّرا لباطن الكفّ و النعل مع بقاء الأثر، أو رشح الماء و صبّه في بعض المتنجّسات كذلك.

و هكذا باب الاستنجاء و التطهير بالأحجار مع بقاء الأثر، مثل الطشت من الماء و ما اعتبر ورود المطهّر، بمعنى أنّه اكتفي إلى صدق الورود ابتداءً لا استدامة، كما هو المسلّم و عليه الأصحاب.

و إنّما الخلاف في ما إذا كان المتنجّس واردا من الأوّل، فكذلك في تطهير


1- و ذلك؛ لأنّ الخروج رأسا لا يتحقّق في مطلق المتنجّسات، «منه رحمه اللّه».
2- مصباح الفقيه: 602 ط. ق.

ص: 81

المتنجّسات المذكورة يكفي ورود الماء عليها و صدق الإصابة في الجملة و إن لم يصدق الغسل عقلا بل عرفا؛ إذ عرفت أنّه ليس مدار الأحكام الشرعيّة على الدقّة العقليّة، فما ذكر من الموانع ليست إلّا الاستبعادات المحضة الّتي لا تعارض الأدلّة المطلقة بل العامّة، مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «خلق اللّه الماء طهورا» (1).

هذا؛ مضافا إلى الروايات الخاصّة في المقام، مثل روايات طهارة السطح النجس بالمطر، و السقف، حيث قال عليه السّلام بأنّ ما يكف منه و يتقاطر منه طاهر (2) مع أنّ ماء المطر لا يسري إلى الطرف الداخل من السقف و السطح إلّا بالرطوبة.

و كذلك أمره عليه السّلام بتطهير اللحم المتنجّس في القدر بالماء (3)، و أمثال ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة، و قد أفتى بمضمونها الجلّ.

فعلى هذا يندفع شبهة اعتبار خروج الغسالة أيضا، فتدبّر.

هذا؛ و لكن في التطهير بالقليل لا ينبغي ترك الاحتياط، خصوصا في مثل الصابون، و أمّا قابليّة تطهير ظاهر ما ذكر بالماء مطلقا فهي مسلّمة، و شبهة سراية نجاسة الباطن إلى الظاهر مندفعة.


1- وسائل الشيعة: 1/ 135 الحديث 330.
2- وسائل الشيعة: 1/ 144 الباب 6 من أبواب الماء المطلق، نقله بالمعنى.
3- وسائل الشيعة: 1/ 206 الحديث 529.

ص: 82

ص: 83

ما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات

الأوّل: دم القروح و الجروح (1) و عمدة البحث فيه من جهة أنّ العفو عنهما مختصّ بما إذا كان في التطهير مشقّة بحيث تكون أدلّتها مساوقة لأدلّة الحرج، أم لا، بل الأمر أوسع منه، فيكون معفوّا عنه حتّى يبرأ، و ما دام مقتضى سيلان الدم موجودا فدم القروح لا يلزم تطهيره؟ الّذي يظهر من أكثر أخبار الباب و عمدتها الثاني، و لا دليل على التقييد بالمشقّة سوى دعوى الانصراف أو الاستفادة من مناسبة الحكم و الموضوع.

نعم ما يمكن أن يستدلّ به من الدليل اللفظي المقيّد لإطلاقات الباب موثّقة سماعة المضمرة (2)، حيث علّل الإمام عليه السّلام عدم لزوم التطهير بأنّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة، و من المعلوم أنّه ظاهر في التقييد، و لكن يفترق المقام مع أدلّة الحرج أنّ فيها المناط الحرج الشخصي، و لذلك تكون حاكمة على سائر الأدلّة، إذ ميزان الحكومة صدق العنوان الموجب للتوسعة أو التضييق على التفصيل في محلّه، بخلاف المقام، فغاية ما نلتزم به هي المشقّة النوعيّة، كما يستفاد من التعليل المذكور.

الثاني: الدم مطلقا غير الدماء الثلاثة، و البحث فيه ...


1- الّذي يظهر من اللغة أنّهما بمعنى واحد، و هو الجراحة (مجمع البحرين: 2/ 403)، فمثل الدماميل لها عنوان على حدة، «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 3/ 433 الحديث 4082.

ص: 84

ص: 85

جواز بيع المتنجّس و عدمه

فرع:

قالوا: لا يجوز التسبيب في ارتكاب النجس، و نحن بيّنّا سابقا ما هو مقتضى الأدلة في هذه المسألة، و الغرض هنا بيان ما فرّعوا عليها من عدم جواز بيع النّجس و إعارته.

فنقول: التحقيق أنّ الحكم يختلف بالنسبة إلى ما يتصوّر من الأقسام؛ إذ التنجّس إن كان ممّا لا يقبل التطهير أصلا كالسمن المائع أو العسل الّذي فيه نجاسة، ففي مثله لمّا كان يخرج عن الماليّة رأسا و يصير كالأعيان النجسة، فمقتضى قوله عليه السّلام: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» (1) عدم جواز بيعه و كذا إعارته؛ لأنّه إيقاع في الحرام الذي قلنا: إنّه بحكم الشرع و العقل قبيح و حرام.

و أمّا في ما يقبل التطهير فهو على قسمين: أحدهما ما يكون استعماله مشروطا بالطهارة، كالأواني و نحوها، فلا بدّ فيه من الإعلام؛ إذ المفروض ملازمة الاستعمال في مثله مع الطهارة، فتكون من المصاديق الواضحة لتسبيب الحرام.

إنّما الكلام في بطلان المعاملة فيه، لا أرى له وجها سوى النهي المستفاد من التسبيب المنطبق على البيع و نحوه، مع أنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على


1- عوالي اللآلي: 2/ 110 الحديث 301، و 3/ 472 الحديث 48.

ص: 86

الفساد، كما هو التحقيق، و المسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل.

و ثانيهما؛ ما لم يشترط في استعماله الطهارة، كالفرش و اللحاف، بل و اللباس الّذي يكون استعماله في المشروط بالطهارة اتّفاقيّا أو كثيرا، ففي أمثاله لمّا لا يصدق التسبيب فلا حرمة، و لا يجب الإعلام أيضا عند البيع و نحوه.

و الحاصل؛ أنّ الحكم دائر مدار التسبيب، و إلّا فلا حرمة، فلا يجب رفع المانع، و الإعلام في ما لو علم بابتلاء الغير بالنجاسة حتّى في بيت نفسه، فتدبّر!

و اعلم! أنّه يدلّ على بطلان البيع مع عدم الإعلام في القسم الأوّل من القسمين الأخبار الخاصّة الواردة في بيع الدهن النجس، قال عليه السّلام: «يبيّنه (1) لمن يشتريه (2) ليستصبح به» (3) و إن ناقش فيه شيخنا قدّس سرّه بأنّه لا ملازمة بين البيان و الاستصباح، إلّا أنّه سلّم أنّ غاية التقييد عدم استعماله في الأكل و نحوه (4)، و المستفاد من التقييد و الأمر بالبيان هو الاشتراط، كما هو الأصل في المركّبات.

ثمّ إنّ التحقيق أنّ الأصل في النجاسات عدم جواز الانتفاع و بيعها إلّا ما دلّ عليه الدليل، كما أنّ الأصل في المتنجّسات هو العكس.


1- في المصدر: «و بيّنه».
2- في المصدر: «اشتراه».
3- وسائل الشيعة: 17/ 98 الحديث 22077، و 24/ 194 الحديث 30323.
4- المكاسب: 1/ 73.

ص: 87

رسالة الصلاة

اشارة

لباس المصلّي

صلاة الجماعة

ص: 88

ص: 89

لباس المصلّي

اشارة

[لا يخفى أنّه وقع التسالم بين الفقهاء على جريان أصالة عدم التذكية عند الشكّ في اللحوم و الجلود فلا تجري فيها أصالة الحليّة و الطهارة، فلا تصحّ فيها الصلاة للنهي عن الصلاة في غير المذكّى، و هو كما يحرز بالوجدان يحرز بالأصل أيضا، فعند الشكّ في التذكية تجري أصالة عدم التذكية.

فاللازم هنا بيان امور:

الأوّل: أنّ الأصل عند الشكّ هو عدم التذكية، لأنّ الحيوان لم يكن مذكّى في زمان و يشكّ الآن في وقوع التذكية عليه، و أنّه مات بالتذكية و الذبح مع الشرائط أم لا؟ فيستصحب عدمها.

و لا يقال: إنّ عنوان الميتة أمر وجودي فلا يثبت باستصحاب عدم التذكية إلّا على القول بالأصل المثبت.

فإنّه يقال: كما أنّ الحكم بالحرمة و النجاسة رتّب في الأدلّة على عنوان الميتة كذلك رتّب على غير المذكّى، فعند الشكّ يستصحب عدم التذكية، و هذا الأصل هو المرجع عند الشكّ ما دام ليس على اللحم أو الجلد] (1) أثر استعمال المسلم حتّى تصير واردا و حاكما على الأصل.


1- ما بين المعقوفتين أوردناه لتتميم البحث.

ص: 90

و لا يخفى أنّ الظاهر من الأدلّة (1) مانعيّة [مثل قوله عليه السّلام: «لا تصلّ فيها» (2) و غيره كما يظهر لمن تأمّل في الأدلّة] الميتة، و إن كان يظهر من ذيل رواية ابن بكير (3) اشتراط التذكية، إلّا أنّه بعد كونها مصدّرة بحكم آخر، فالظاهر أنّها ليس في مقام تأسيس الشرطيّة و اهتمام فيها مستقلّا، بل يكون إشارة إلى مدخليّة التذكية.

فكيف كان، فقد عرفت عدم الفرق، فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا مجال للمناقشة في الاستصحاب المذكور إمّا من جهة كونه معارضا بعد ما عرفت من توقّف حليّة الأكل على التذكية، مع أنّ في الأخبار وارد أنّ: «كلّ ما لم يذكّ فهو ميتة» (4)، و إمّا من جهة تعدّد الموضوع و تبدّله؛ لأنّه بعد الغضّ عمّا ذكرنا في جوابه للإشكال فيه، بأنّ ما هو موضوع للحكم هو العدم النعتي، و لا ربط له بالعدم المحمولي فإنّه قد تغيّر يقينا.

فأقول: إنّما العدم النعتي الّذي كان مقارنا للحياة، و ما تغيّر ذاك العدم قطعا، فإنّ من الواضح أنّ العدم في جميع هذه الأحوال واحد، و إنّما الوجودات و الأحوال مقارنات له، و لا يكون لها دخل في قوام حقيقته حتّى يقال: إنّه إذا كان حيّا كان عدم آخر غير حال موته، فإنّه لا أثر لهذا التبدّل أصلا.

و بالجملة، فنقول: إنّ هذا الحيوان إذا كان حيّا ما كان فعل التذكية واقعا


1- وسائل الشيعة: 4/ 345 الباب 2 من أبواب لباس المصلّي.
2- الكافي: 3/ 397 الحديث 3، وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5345.
3- الكافي: 3/ 397 الحديث 1، تهذيب الأحكام: 2/ 222 الحديث 818، وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.
4- وسائل الشيعة: 23/ 376 الباب 24 من أبواب الصيد، نقله بالمعنى.

ص: 91

عليه، فيستصحب عدم هذا الفعل إلى بعد الموت.

الثاني: اختلفوا في أنّ القابليّة في الحيوان- أي كونه مأكول اللحم- أن يكون من مقوّمات التذكية الشرعيّة و أجزائها، أم لا، بل هي إنّما الأفعال الخاصّة، و هو خارج عنها؟

يمكن استفادة الثاني من الأخبار؛ لأنّه إذا يسأل الراوي من الإمام عليه السّلام و يقول: أ ليس التذكية بالحديد؟ فيقول عليه السّلام: «نعم إذا علمت أنّه مأكول اللحم» (1) فالظاهر من الرواية أنّه شرط خارج و غير ذلك من الأدلّة ممّا يأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

و كيف كان، تظهر الثمرة في أنّه إذا قلنا بالأوّل، فإذا شككنا في المأكوليّة (القابليّة) فالمرجع أصالة عدم التذكية؛ لأنّ الشكّ فيها يرجع إلى الشكّ في التذكية، بناء عليه فيقال: إذا كان هذا الحيوان حيّا ما كان هذا المعنى- أي التذكية- واقعا فيستصحب.

فلا يقال: إذا احرز فعل الذابح و شكّ في القابليّة فلا بدّ أن يرجع إلى القاعدة.

لأنّا نقول: الأصل الموضوعي هنا حاكم، فالشكّ في الأجزاء يوجب الشكّ في الموضوع، بخلاف الثاني، فإذا شككنا فيها بناء عليه، فالمرجع قاعدة الحليّة و الطهارة؛ لأنّه ليس للمشكوك حالة سابقة حتّى تلاحظ، فإذا علمنا بتذكية حيوان و شككنا في مأكوليّة لحمه، فهو محكوم بالحليّة و الطهارة، لأنّه لا مانع من الأصلين مع عدم أصل موضوعيّ حاكم، فإذا شكّ في التذكية؛ فإمّا أن يكون المنشأ مأكوليّة اللحم و عدمه، و إمّا أن يكون الفعل الواقع، أي من جهة


1- وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5345، و 348 الحديث 5354، نقله بالمعنى.

ص: 92

سائر الشرائط المعتبرة فيها، مع فرض القطع بكون الحيوان من مأكول اللحم، و على كليهما فالمرجع أيضا أصالة عدم التذكية؛ لأنّه في الصورة الاولى يكون الشكّ، و إمّا يكون على الأوّل منشأ الشكّ هو فعل الذابح مع القطع بالقابليّة، فالمرجع أيضا أصالة عدم التذكية؛ لأنّ الشكّ في الأجزاء يرجع إلى الشكّ في المركّب، و على الثاني أيضا إمّا أن يكون منشأ الشكّ وقوع الفعل عليه فالمرجع أيضا أصالة عدم التذكية، فالصور أربع، و على كلّ حال فلا يثمر هذا النزاع في مقامنا، و لا يمنع من إجراء الأصل إلّا في صورة واحدة كما عرفت.

و اختلاف آخر واقع في المقام و هو أنّ غير مأكول اللحم من الحيوان يقع عليه التذكية أم [لا؟]، و الأقوال المعروفة في المسألة أربعة، يتبيّن كلّها مع مداركها في محلّه.

و الّذي استقرّ عليه رأي الأستاذ- دام ظله- هو أنّ ما عدا الحشرات و نجس العين يقع عليه التذكية؛ لورود خبرين صحيحين بوقوعها على السباع (1) مع الرواية الدالّة على أنّ أكثرها مسوخ (2)، يثبت المدّعى.

اعلم! أنّ ما حكمنا به من لزوم العلم و اشتراطه بعدم كون لباس المصلّي من الميتة، أو قيام الأمارة عليه، استفدناه من الأخبار (3)، و أمّا ما ورد في بعض الأخبار من أنّ كلّ ما شكّ في كونه ميتة يحكم بصحّة الصلاة فيه (4) و لا يخفى أنّها لا تثبت الطهارة و الحليّة لأنّه لا يصير الشك أمارة حتّى يثبت جميع الآثار، و كيف


1- وسائل الشيعة: 24/ 114 الحديث 30113، و 185 الحديث 30302.
2- وسائل الشيعة: 4/ 347 الحديث 5350، و فيها: «ما لا يؤكل لحمه لأن أكثرها مسوخ».
3- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 343 الباب 1 من أبواب لباس المصلّي.
4- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 427 الباب 38 و 455 الباب 55 من أبواب لباس المصلّي.

ص: 93

كان فهي منزّلة على صورة قيام الأمارة؛ لأنّها و إن كانت مطلقة إلّا أنّها مقيّدة، لأنّ مساقها يقتضي ذلك، فإنّ منشأ السؤال كانت الجهات الثلاث:

إمّا لأنّ الجماعة يطهّرون جلد الميتة بالدباغ.

و إمّا لأنّهم يستحلّون ذبائح الكفّار.

و إمّا لأن الكفار كانوا مخلوطين في بلاد المسلمين فيشتبه حكم كثير من الجلود، و لتلك الاحتمالات كانوا يسألون من الإمام عليه السّلام فقال عليه السّلام: «كلّ ما أخذتم من المسلمين و شككتم فيه من هذه الجهات فلا تعتنوا به، و احملوا فعلهم على الصحّة و رتّبوا عليه أثر الواقع لا أثر اعتقاده» (1).

كلّ ذلك، إذا كان مسلما أو سوق المسلمين، فإنّ المراد من لفظ السوق هو هذا لا مطلق السوق؛ و مع ذلك كلّه مقيّدة بالصحاح المقيّدة (2).

الثالث: اختلفوا في أنّه كما تكون يد المسلم أمارة على الحلّ و الطهارة (3) كذلك تكون يد الكفار أمارة على عدم التذكية، أم لا بل تكون لا أمارة، و تظهر الثمرة في مسألة التعارض إذا وردتا على الجلد؟ الأظهر الثاني، لأنّ المستفاد من الأخبار لا يكون أكثر من ذلك، فإنّ الإمام عليه السّلام يأمر الآخذ من يد الكافر بالتحقيق، مع أنّا ما استكشفنا ذلك إلّا من اختصاص أدلّة الأماريّة بيد المسلم، و هي لا تثبت أكثر ممّا ذكرنا.

مسألة: هل تكون أرض المسلمين أمارة عرضيّة في مقابل يدهم أم لا، بل هي راجعة و طريق إلى اليد؟


1- لاحظ! مستند الشيعة: 15/ 147- 149، ظاهر العبارة مستفاد من روايات و اصول، وسائل الشيعة: 3/ 490 الباب 50 من أبواب النجاسات.
2- وسائل الشيعة: 3/ 490 الباب 50 من أبواب النجاسات، و 24/ 70 الباب 29 من أبواب الذبائح.
3- الحدائق الناضرة: 7/ 52- 54.

ص: 94

من اشتراط بعضهم وجود أثر الاستعمال على المطروح فيها يظهر الثاني، و من إطلاق بعض آخر يظهر الأوّل، و مدرك أصل المسألة رواية السكوني (1)، و هو و إن كان عاميّا ممدوحا إلّا أنّهم اختلفوا في العمل برواياته، ففي بعض المقامات يعملون به و في بعض آخر لا يعملون بها، لأنّ رواياته تحتمل التقيّة مطلقا، و لكن لمّا كان منشأ السؤال إحدى الجهات الّتي قلنا، و الإمام عليه السّلام كان في مقام بيان حمل فعل المسلم على الصحّة، و لذا يبيّن عليه السّلام أنّ اليد أمارة، و معلوم أنّ الأرض من حيث هي أرض لا تكون أمارة، فلا بدّ أن يحمل على ما لو كان عليه أثر الاستعمال حتّى يرجع إلى اليد، مع إمكان حملها على التقيّة.

و بالجملة؛ هي لا تكون دليلا معتبرا يوجب رفع اليد عن الأصل المستفاد عن المعتبرات، و الأخذ بإطلاقها، مع إمكان تقييدها و تخصيصها.

مع أنّه يمكن أن يكون السؤال عن النجاسة و الطهارة لا من جهة التذكية و الميتة، لأنّ من الواضحات أنّه لا يمكن الحكم بكون مطلق المطروح من المذكّى، مع احتمال كونه من بقيّة ما أكلته الكلاب و غيره، و الأخذ بإطلاق هذه الرواية، و الجمود على ظاهرها يوجب القول به.

فالإنصاف أنّها مجملة، و إلحاق الأرض بالسوق لا محصّل له، لأنّ السوق أيضا طريق إلى اليد، لا أن يكون بنفسه أمارة موضوعيّة، فلو أخذ الجلد من يد الكافر من سوق المسلم لا يكون محكوما بالتذكية ما لم يكن مسبوقا بيد المسلم أو مجهول الحال حتّى يوجب الحكم بالتذكية بها للغلبة في الأخير، و في الأوّل باستصحاب اليد.


1- الكافي: 6/ 297 الحديث 2، وسائل الشيعة: 24/ 90 الحديث 30077.

ص: 95

متى تصير يد المسلم أمارة؟

مسألة: إنّما يد المسلم مفيدة و تصير أمارة إذا لم يكن الجلد المأخوذ منه مسبوقا بيد الكافر أو مجلوبا من أرضهم، فلو كان المأخوذ من يد المسلم هكذا لم يكن محكوما بالتذكية، و ذلك لأنّ الأدلّة الدالّة على حجيّة اليد لا تدلّ على كون الحكم واقعيّا، فإنّ الأدلّة إمّا أن تكون في مقام بيان قضايا حقيقيّة واقعيّة، و إمّا أن تكون قضايا خارجيّة، فيصير مفاد الاولى بيان الحكم الكلّي، و الثانية الحكم الجزئي الخارجي و بعد أن عرفت أنّ أخبار اليد ناظرة إلى ما كانوا مبتلين به و سألوا عنه، و من المسلّم أنّه ما كان في زمن ورود الروايات الجلود مجلوبة من بلاد الكفر، بل كان [من] بلد المسلمين و كان المسلمون فيها أغلب، بخلاف ما يجلب في عصرنا من الجلود و نحوها من بلاد الكفر، و يقطع بكون أصل منشأها تلك البلاد الّتي لا يفرّق فيها بين المأكول مأكول اللحم و غيره، و لا بين المذبوح و الميتة، و ما يكون فيها سلطنة للمسلمين.

و بالجملة، شمول أدلّة السوق و اليد لمثلها في غاية الإشكال، فالأقوى الاجتناب، إلّا أن يظنّ بأنّ من اشترى من المسلمين منهم أوّلا قد تحرّى و ثبت عنده عدم كون المجلوب من الميتة، فيحمل على الصحّة و يجوز الاستعمال.

و لا يخفى أنّه لا يجوز في المقام التمسّك بالإطلاق المستفاد من ترك الاستفصال، فإنّ مقام التمسّك إنّما هو إذا كان للمسئول حين السؤال فردان أو أكثر، حتّى يحمل الجواب على كلّ الأفراد، و قد قلنا: إنّ حمل الجلود و نحوه ما كان معمولا من البلاد المختصّة بالكفّار في عصر ورود الأخبار.

ص: 96

الرابع: اختلفوا في أنّ الميتة من حيث هي عنوان للمانعيّة بنفسها، أم هي راجعة إلى النجاسة؟ فإن قلنا بالأوّل؛ فلا يجوز الصلاة في جلد الميتة الّتي لا نفس سائلة لها مثل السمك و غيره، و إلّا فلا.

الّذي يستفاد من الأدلّة الثاني، فإنّه بعد ما عرفت وجه السؤال عن الميتة و الصلاة فيها من الموجبات فلا يبقى مجال لجعلها مانعا بنفسه (1) كما هو ظاهر بعض أخبار الباب و إن كان فيها مطلقا مثل قوله عليه السّلام: «لا تصلّ في شي ء من الميتة» (2) فيحمل على المقيّدات.

فرع: الظاهر أنّ اعتبار اليد (3) هنا إنّما يكون من باب حمل الفعل على الصحّة (4)؛ لأنّه القدر المتيقّن من الأدلّة، لا من باب الملكيّة، بأن يقال: إنّ الميتة لا يملكه المسلم فيكشف كونه مذكّى إذا كان على يده، حتّى لا يحتاج أن يكون عليه أثر الاستعمال، بل يكون صرف القبض كاشفا، و لو احتمل إرادة إراقته بخلاف الأوّل فلا بد أن يكون عليه أثر الاستعمال، و يعامل معه معاملة لا يعامل المسلم مع الميتة كما يشعر به قوله عليه السّلام: «إذا رأيت منهم يصلّون فيه» (5) و كذلك


1- أي نجاسته و مانعيّته من هذه الجهة، لا كونه عنوانا مستقلّا، «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 4/ 343 الحديث 5341.
3- أقول: في المقام صاحب «الجواهر» قدّس سرّه يفرّق بين المقتضى على المبنيين، فعلى كونها من باب أمارة الملكيّة يحكم بعدم لزوم أثر الاستعمال بخلاف كونها من باب الحمل على الصحّة (جواهر الكلام: 8/ 56)، و لكن رأيت في بعض تعليقات «الرسائل» في بحث تعارض الاستصحابين لبعض الأجلّة قدّس سرّهم ينقل عن مجلس درس صاحب «الجواهر» رحمه اللّه بجعله قاعدة اليد من جزئيّات حمل فعل المسلم على الصحّة، «منه رحمه اللّه».
4- جواهر الكلام: 8/ 54- 55.
5- وسائل الشيعة: 3/ 492 الحديث 4266.

ص: 97

اعتراضه في السوق يكون في معرض البيع و غير ذلك، فلو شكّ في شي ء فلا بدّ أن يرجع إلى أصالة عدم التذكية الّتي لا يعارضها صرف الأخذ باليد و السلطنة عليه الّتي هي علامة للملك.

فرع آخر: لو سبقت على جلد يد المسلم و لحقته يد الكافر أو بالعكس، أو تشاركتا، يحكم بتذكيته؛ لأنّ يد الكافر ليست بأمارة على ما قلنا، كما هو المفهوم من قوله عليه السّلام: «حتّى تسألوا» (1) فلا يعارض مع الأمارة، و إن كان يمكن القول بتقدّم يد المسلم أيضا و إن قلنا بأماريّة يد الكافر- كما يظهر عن بعض (2)- لأنّ أماريّته لا يفيد إلّا النفي، فتأمّل! و في قبال المشهور تفاصيل ثلاثة تمسّكوا بأخبار مؤوّلة (3) مع أنّها ليست قابلة لما تمسّك به المشهور بوجه أصلا مذكورة في «الجواهر» (4) فالحريّ الدخول في بيان الأمر. لا يقال: يد الحادثة متقدّمة لأنّها أمارة ترفع بها أثر الأمارة السابقة، كما في الملك.

لأنّنا نقول بعدم الحكم بكونه مذكّى لسبق يد المسلم عليه، فلا ينقلب المذكّى إلى الميتة، و لا يتصوّر له موجب بخلاف الملك، فيكون للانقلاب فيه موجبات كثيرة.

الخامس: و هو اشتراط كون الملبوس و المحمول من مأكول اللحم في الجملة، فلا يجوز الصلاة في جلود السباع و لا المسوخ مطلقا، و لا في شعرها


1- تهذيب الأحكام: 2/ 399 الحديث 1544، وسائل الشيعة: 3/ 492 الحديث 4266، و فيه: «أن تسألوا».
2- ذكرى الشيعة: 3/ 28.
3- وسائل الشيعة: 3/ 490 الحديث 4261 و 493 الحديث 4268.
4- جواهر الكلام: 6/ 346 و 8/ 53- 55.

ص: 98

و لا في سائر أجزائها، و العمدة في الدليل هي الموثّقات (1) أو الصحاح المستفيضة (2).

إنّما الإشكال في المقام هو أنّه علّل في رواية السنجاب بأنّه يجوز الصلاة فيه لأنّه «لا يأكل اللحم» (3) فيتخيّل كونها مخصّصة لروايات المنع، فهي دالّة على عدم الجواز في أجزاء السباع خاصّة لا مطلق ما لا يؤكل إذا ذكّي.

و فيه؛ أنّه علّل في رواية مضمونها: «لا يجوز الصلاة في ما لا يؤكل بأنّ أكثرها المسوخ» (4) فيستفاد من مفهوم هذه الرواية كون العلّة أعمّ ممّا هي مذكورة في رواية السنجاب، و كونها علّة للتشريع لا علّة للحكم حتّى يدور مدارها، لظهور أنّه إمّا أن تكون النسبة بينهما (بين الروايتين) عموما من وجه أو التباين، و لا معارضة بينهما على ما ذكرنا من عدم انحصار العلّة، حتّى يخصّص.

لا يقال: العلّة في الاولى أخصّ من الثانية، فلا بدّ [من] العمل فيها بما يعمل في مطلق العامّ و الخاصّ.

لأنّا نقول: ليس الأمر كذلك، فإنّه إذا وردت علّتان للحكم بحيث يكون أحدهما أخصّ و الآخر أعمّ يستكشف ذلك عن كون العلّة شيئين، و عدم انحصار العليّة بالأولى، لعدم التعارض بينهما لأنّ تخصيص العامّ بالخاصّ في غير مورد العلّة إنّما يكون للتعارض، فإنّ المقام يصير من قبيل ما لو قال: أكرم العلماء ثمّ


1- وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5345، و 353 الحديث 5367، و 354 الحديث 5370.
2- وسائل الشيعة: 4/ 355 الحديث 5375، و 347 الحديث 5351، و 345 الحديث 5344.
3- الكافي: 3/ 397 الحديث 3، و 401 الحديث 16، وسائل الشيعة: 4/ 348 الحديث 5353 و 5354.
4- علل الشرائع: 342 الحديث 1، الباب 43، وسائل الشيعة: 4/ 347 الحديث 5350.

ص: 99

قال: أكرم زيدا و كان منهم، فيصير نتيجة ذكره إمّا أهميّته أو غير ذلك.

لا يقال: إنّ العلّة في الاولى ظاهرة في كونها علّة للحكم، بخلاف الثانية فإنّها ظاهرة في كونها علّة للتشريع لقوله عليه السّلام: «لأنّ أكثرها مسوخ» (1) فلو لم تكن علّة للتشريع فاللازم عدم المنع عمّا لم يكن من السباع مسوخا، فكيف يرفع اليد عمّا هو ظاهر و يصرفه إلى خلافه لما هو خلاف الظاهر.

لأنّا نقول: ظهور الاولى في العليّة و الانحصار إنّما كان بمقدّمات الحكمة، بأن يقال: إنّما كان عليه السّلام في مقام البيان و قد ذكر هذه العلّة، و لو كانت علّة اخرى لكان اللازم أن يذكر، و غير ذلك، كما هو طريق استفادة انحصار العلّة في باب المفاهيم و غيرها، فعلى هذا فلو ثبتت من دليل آخر علّة اخرى أعمّ فتبطل المقدّمات من أصلها، فلا يبقى للانحصار مجال، و تصير العلّة الثانية بالنسبة إلى المسوخ نصّا، فيدور الحكم مدارها نفيا و إثباتا، مثل ما لو قال: لا تأكل الرمّان لأنّه حامض، بخلاف الاولى إنّما يدور الحكم مداره ثبوتا.

و تظهر الثمرة فيما لو كان ذا مخلب و لم يكن مسوخا، مع أنّ الجمود بظاهر العلّية في الاولى يوجب استهجانها؛ لظهور تعليق الجواز بعدم أكله اللحم، مع أنّ كثيرا ممّا جوّز فيه هذه القضيّة يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، فتأمّل!

فالمحصّل؛ أنّه لا يجوز الصلاة في أجزاء غير المأكول مطلقا إلّا السنجاب و الخزّ، لورود الروايات الصحيحة (2) المعمول بها على الجواز فيهما، أمّا السنجاب فالظاهر أنّه الّذي الآن موجود، و أمّا الخزّ فهو اسم لحيوان بحريّ قد


1- مرّ آنفا.
2- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 347 الباب 3، و 359 الباب 8 من أبواب لباس المصلّي.

ص: 100

كان وبره في غاية اللطافة و الرقّة، قد كان معمولا في قديم الزمان يأخذون من وبره و منسوجه ألبسة و أثوابا ثمينة- غالي القيمة- حتّى كانوا لكثرة لطافته و نعومته يخلطونه بوبر الأرنب و الثعلب، و الظاهر أنّه ليس الآن بموجود، بل من زمن بعد العباسيّة صار مفقودا على ما قاله- دام ظلّه- فلو شكّ في جلد في زماننا أنّه منه أو من غيره فلا بدّ أن يرجع إلى الأصول العمليّة.

و أمّا الصلاة في غيرهما مثل الثعالب و الأرانب فلا إشكال في عدم جواز الصلاة فيهما، و لا في غيرهما ممّا لا يؤكل لحمه، عملا بالإطلاقات (1)، فلا بدّ من حمل ما دلّ على الجواز على التقيّة (2)، إذ ليست قابلة للتعارض مع العمومات؛ لإعراض المشهور عنها و موافقتها لمذهب العامّة، مع معارضتها لما دلّت بالخصوص على المنع (3)، و مع ذلك كلّه فلدفع شبهة مخصّصية رواية السنجاب فنقول: إنّ ما ذكر فيها بصورة التعليل ليس مسوقا للعليّة، بل المراد من ذكره أنّه لمّا كانت للسنجاب سبلة و صورة كصورة السنّور و السباع فيتوهّم كونه منها، فقال: إنّه ليس منها، لأنّها تأكل اللحم و لها ناب و مخلب، و السنجاب لا يكون له هذه الآثار، فعلى هذا لا يستفاد منه العليّة أصلا.

و مع الغضّ عن ذلك فأقول: لا بدّ أن يعلم أنّ لكلّ قضيّة تعليليّة أمران:

عموم مستفاد من منطوقه، و مفهوم مستفاد من دليله، و لا ريب في المقام أنّه لا تعارض بين مفهوم هذه العلّة و ما يقوله عليه السّلام: «لأنّ أكثرها مسوخ» (4) في رواية ما


1- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 352 الباب 5 من أبواب لباس المصلّي.
2- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 350 الباب 4 من أبواب لباس المصلّي.
3- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 355 الباب 7 من أبواب لباس المصلّي.
4- مرّ آنفا.

ص: 101

لا يؤكل لحمه، لأنّ مفهوم الأوّل- و هو عدم الجواز في ما يأكل اللحم- لا يعارض مع علّية المسوخيّة، لعدم الجواز أيضا كما هو المستفاد من الثانية؛ لأنّهما علّتان ذكرنا كلّ واحدة منهما في رواية (1)، و إنّما التعارض البدوي يكون بين منطوقهما، فإنّ الأولى يستفاد منها جواز الصلاة في ما لا يأكل و لو كان مسوخا، و الثانية يستفاد منها عدم الجواز في المسوخ مطلقا، و لا ريب أنّ الثانية أخصّ فتخصّص الاولى بها.

إن قلت: إنّ الثانية أيضا أعمّ من الآكل و غيره، فتصير النسبة عموما من وجه.

قلت: كلتاهما متصادقتان في الآكل المسوخ، و إنّما التعارض و الاجتماع إنّما يكون في المسوخ الّتي لا تأكل، فهو الّذي يستفاد من الاولى الجواز في أجزائه لأعميّته عن الثانية، و الثانية يستفاد منها العدم و هي مخصّصة للاولى؛ لأنّه لا تبقى الأعميّة في الثانية بعد التصادق.

و الحاصل؛ إنّا نقول بملازمة عدم جواز أكل اللحم مع عدم جواز الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل، و السبب للحرمة غالبا يكون واحدا من الثلاثة:

المسوخيّة، و كون الحيوان آكلا للّحم، [و كونه من] الحشرات، و كلّ واحد منها يكون موجبا لعدم جواز الصلاة في أجزائه، و لا يخفى أنّ العلّة في الثانية تصير بعد علّة للحكم لا للتشريع، لأنّ ما يقوله عليه السّلام: «لأنّ أكثرها مسوخ» (2) لأنّ الباقية تكون من الحشرات، فلا يكون في مقام بيان كلّ ما هو موجب للحرمة، و لكن بالنسبة إلى ما يشمله من المسوخ يكون الحكم كليّا، و المسوخيّة علّة له.


1- وسائل الشيعة: 4/ 347 الحديث 5350، و 348 الحديث 5353.
2- تقدّم في الصفحة: 98 من هذا الكتاب.

ص: 102

و العجب أنّه بعد ذلك كلّه قال- دام ظلّه-: قد ظفرنا بنسخة مصحّحة من «الكافي» فوجدنا جاءت رواية السنجاب [على] غير ما ذكرنا، و هو أنّ السائل يسأل عمّا يؤكل من غير الغنم فيقول عليه السّلام: «لا بأس بالسنجاب» (1) .. إلى آخرها، فالإمام عليه السّلام يكون في مقام بيان مأكول اللحم من الحيوان من غير الغنم أو النعم (2) على اختلاف في النسخ، فهذا موافق لسائر الروايات الّتي دلّت على حلّية أكل لحمه، مع أنّ ذيل الرواية أيضا شاهد على كون الرواية هكذا؛ لأنّه عليه السّلام يقول:

«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن كلّ ذي ناب و مخلب» (3) مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما نهى إلّا عن أكلهما، فالعلّة إنّما سيقت لبيان حليّة الأكل لا لجواز الصلاة، فالرواية مشتملة على بيان حكمين.

و الأخبار في حليّة أكل السنجاب و جواز الصلاة في جلده مختلفة؛ بعضها تدلّ على جوازهما (4)، و بعضها تدلّ على عدم جوازهما (5)، و الاخرى دالّة على حرمة الأوّل و جواز الثاني (6)، و لذلك اختلفت الفتاوى و الأقوال فيه أيضا (7).


1- الكافي: 3/ 397 الحديث 3، وسائل الشيعة: 4/ 348 الحديث 5354.
2- و الأنسب هو الغنم لأنّه ما كان المعمول أن يؤخذ الجلد من غيره من الأنعام، و لا يخفى أنّ نسخة «الوافي» (الوافي: 7/ 402 الحديث 6193)، و غيره موافق لهذا، أي ليس فيها كلمة «لا» فالنسخة معتبرة «منه رحمه اللّه».
3- الكافي: 3/ 397 الحديث 3، تهذيب الأحكام: 2/ 216 الحديث 797، وسائل الشيعة: 4/ 348 الحديث 5354.
4- وسائل الشيعة: 4/ 347 الباب 3 من أبواب لباس المصلّي.
5- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 345 الباب 2 من أبواب لباس المصلّي.
6- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 347 الباب 3 من أبواب لباس المصلّي.
7- جواهر الكلام: 8/ 96- 101، جامع المقاصد: 2/ 79.

ص: 103

و بذلك ظهر ما في كلام [صاحب] «الجواهر» رحمه اللّه من النقل عن بعض بعدم جواز الاستدلال بهذه الرواية من جهة اشتمالها لما هو مخالف للإجماع (1).

و كذلك ما نقله قدّس سرّه أيضا من ضعف هذه الرواية لمعارضته للموثّقة (2)، فإنّها صريحة في عدم جواز الصلاة في السنجاب فإنّ مورد السؤال فيها إنّما هو السنجاب مع غيره، و الإمام عليه السّلام يطبّق الحكم- و هو عدم جواز الصلاة في ما لا يؤكل لحمه- بهذه الامور، و العمل بهذه الرواية يوجب التخصيص المستهجن بالنسبة إلى الموثّقة، و هو إخراج المورد عن الحكم.

فإنّ هذا الكلام مردود من جهة أنّه لو كان مورد السؤال في الموثّقة منحصرا بالسنجاب يلزم ما ذكر، و لكن لمّا كانت مشتملة على امور منها هذا، فإخراجه لا يوجب استهجانا أصلا.

و يمكن أن يقال: مع تسليم صحّة نسخة «الوسائل»- زيادة على ما ذكرنا آنفا بأنّه العلّة- إنّما هي مختصّة بالسنجاب؛ لخروجه عن سائر ما سئل عنه، فلا يجوز التعدّي عنه إلى كلّ ما هو مثل ذلك، و هذا جار في كلّ قضيّة استثنائيّة علّلت المستثنى بشي ء، بخلاف ما لو كانت القضيّة المعقودة إيجابيّة محضة أو سلبيّة كذلك، و هذا يصير نظير ما لو سئل الطبيب عن أشياء فينهى عنها إلّا عن واحد منها لعلّة، فلا يجوز التعدّي إلى غيره، لأنّه يحتمل أن يكون لجنس المسئول عنه خصوصيّة.


1- جواهر الكلام: 8/ 99.
2- الكافي: 3/ 397 الحديث 1، تهذيب الأحكام: 2/ 222 الحديث 818، وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.

ص: 104

مع أنّا قد بيّنا أنّ النسبة بين رواية السنجاب و رواية المسوخ إنّما تكون عموما مطلقا، فيصير المرجع رواية المسوخ، و مع الإغماض عن ذلك و تسليم كون النسبة عموما من وجه فنقول: أيضا يجب تقديم رواية المسوخ، لأنّه قد حرّر في محلّه أنّه لو كانت النسبة بين المتعارضين عموما و خصوصا من وجه، و العمل بأحدهما يوجب طرح الآخر رأسا يلزم تقديم ما يوجب طرحه، حفظا لكلام الحكيم عن اللغويّة، و المقام يكون من هذا القبيل لأنّهما في المسوخ (1) الآكل متضادّتان، و الآكل الغير المسوخ مشمول برواية السنجاب (2)، كما أنّ الأوّل أيضا مشمولها، فلا يبقى لرواية المسوخ مورد لو قلنا بالجواز في المسوخ.

حكم الثوب الملقى عليه شعر ما لا يؤكل لحمه

فرع: لا يجوز الصلاة مع الثوب الملقى عليه شعر ما لا يؤكل لحمه؛ للشهرة المستفيضة، بل الإجماع، و لعموم الموثّقة لابن بكير (3) بعد الخروج عن معنى الظرفيّة الحقيقيّة (4) و التزام معنى مجازيّ و هو مطلق الملابسة، لأنّ الالتزام بهذا ممّا لا بدّ منه بالنسبة إلى الروث و بعض الفقرات الاخر، فيشمل المنسوج من الشعر و الملقى منه.

و ممّا يؤيّد الالتزام المذكور هو صحيحة الهمداني الّتي هي نصّ في


1- الكافي: 3/ 397 الحديث 1، وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.
2- الكافي: 3/ 397 الحديث 3، وسائل الشيعة: 4/ 348 الحديث 5354.
3- مرّ آنفا.
4- و المقام يكون من باب المعارضة بين عقد الوضع و الحمل، و الحمل نظير: لا تضرب أحدا، و لا يكون قاعدة مطّردة لترجيح أحدهما على الآخر، بل لا بدّ من الرجوع إلى القرائن الخارجيّة، «منه رحمه اللّه».

ص: 105

المقام (1)، و يؤكّد أن يكون المراد من الظرفيّة التبعيّة، و كذلك لا تجوز في المخلوط منه و لو أقلّ قليل و لو لم يتميّز، لأنّ المناط في المانعيّة هو وجوده الواقعي.

و أمّا ما يتوهّم من أنّ المستهلك منه لا يضرّ، فإن كان المراد من المستهلك هو تبديل الصورة النوعيّة فمقبول، إلّا أنّ الظاهر أنّه غير متصوّر في المقام، و إن كان المراد عدم التميّز فمردود لما عرفت، و لأنّ الروايات الدالّة على المنع من الصلاة في الخزّ المغشوش (2) أعمّ من أن يكون الغشّ قليلا أو كثيرا، مع أنّ المعمول من الغشّ هو ما لا يتميّز غالبا، و كذلك لا تجوز الصلاة في المحمول منه كعروة السكّين (3) و غيرها لعموم الموثقة (4) أيضا، لو كان بارزا، و أمّا ما كان منه ملفوفا في شي ء أو موضوعا في قارورة- مثلا- فالقول بالمنع لا يخلو عن إشكال، كلّ ذلك لأنّ الالتزام بالتوسعة في معنى الظرفيّة المستفادة من الموثّقة ممّا لا بدّ منه، و لكن بحدّ لا مطلقا، بل بمقدار يساعده العرف و اللغة.

بيان ذلك: أنّ مراتب الظرفيّة مختلفة.

الأوّل: إسناد الظرفيّة الزمانيّة و المكانيّة إلى الجواهر و الموجودات الحقيقيّة.


1- فإنّها مرويّة في «الكافي»، و المرويّات فيه صحاح باصطلاح القدماء، و معمول بها، فلا مجال للخدشة في سندها على ما قاله- دام ظلّه- «منه رحمه اللّه»، و لا يخفى أنّ هذا وهم، حيث لم نعثر على رواية للهمداني في هذا الباب في «الكافي»، بل هي في تهذيب الأحكام: 2/ 223 الحديث 819 و الاستبصار: 1/ 384 الحديث 1455.
2- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 361، الباب 9 من أبواب لباس المصلّي.
3- مجمع الفائدة و البرهان: 2/ 95، جواهر الكلام: 8/ 79.
4- وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.

ص: 106

الثاني: إسناد الأعراض إليها كبياض الثلج، وضوء النهار.

الثالث: إسناد الأحوال و الأفعال- أي وقوعهما فيهما- إلى الزمان و المكان كصلاة الليل، و الضرب في الميدان و كذلك تتصاعد التوسعة إلى أن يصل إلى إسناد الأفعال إلى توابع الوجود و الأحوال إلى ملابسات الموجودات الخارجيّة، مثل الصلاة في الثوب، بل إلى مطلق الملابس مثل الصلاة في القلنسوة أو التكّة، فإنّهما و إن لم يكونا محيطين بالمصلّي إلّا أنّ إطلاق الظرفيّة بهما شائع.

إلّا أنّ مساعدة العرف و اللغة في التوسعة- بحيث تشمل الظرفيّة [على] الفرض الأخير- بعيد جدّا، و لذا استشكلنا في المنع فيه، و لكن قلنا بالمنع في الشعر الملقى؛ لأنّ الرواية بنفسها قد تعرّضت لبيان حكم نظيره و هو البول و اللبن إذا أصابا البدن أو اللباس، و هما يكونان من قبيل إطلاق الظرفيّة إلى توابع الوجود فإنّهما إذا أصابا يفرض لهما نحو إحاطة، و لذا يطلق الظرفيّة بالنسبة إلى الأفعال و هو الصلاة فيهما، و كذلك الشعر الملقى.

و أمّا ما قاله صاحب «الجواهر» قدّس سرّه من الالتزام بالمجازيّة في بعض المدخولات مثل الروث و غيره (1) فلا ترجيح له على ما ذكرنا؛ لأنّه لا محيص عنه بالنسبة إلى جلّ فقرات الموثّقة (2) مع أنّ ما ذكرنا راجح لتأييده بالروايات الخاصّة الّتي العمل بها يقتضي التعميم في معنى هذه الرواية، كما لا يخفى.

و كذلك ما قاله الاستاد الأكبر قدّس سرّه من إخراج «في» عن معناه رأسا و إشرابه


1- جواهر الكلام: 8/ 77.
2- مرّ آنفا.

ص: 107

معنى المصاحبة و المعيّة، لا حاجة إليه (1)، مع أنّه خلاف الأصل، و يوجب إخراج بعض الفروع عن الرواية مع أنّه داخل قطعا.

فرع؛ لا تجوز الصلاة في ما لا تتمّ الصلاة به منفردا، كالتكّة و القلنسوة إذا كان معمولا ممّا لا يؤكل لحمه، لعموم الموثّقة (2) و صحيحة زرارة (3)، و للأخبار الخاصّة (4) و أمّا حديث محمّد بن عبد الجبّار (5) فليس قابلا للمعارضة، مع أنّه مطروح؛ لخصوص رواية الهمداني الّتي تعارض جزء منه، و هو ما إذا كان عليه (الثوب) شعر ملقى ممّا لا يؤكل لحمه (6)، و مكاتبة ابن مهزيار (7) الّتي تعارض جزءه الآخر، و هو في ما لا تتمّ الصلاة فيه إذا كان معمولا ممّا لا يؤكل، فيصير الحديث من العامّ الّذي يعارض خاصّين اللذين يستوعبان جميع أفراده، فيصير التعارض تباينيّا، و لا ريب أنّ هنا يكون الترجيح للخاصّين، لموافقتهما للمعتبرات الاخر (8)، و لموافقته التقيّة و مذهب العامّة، و لأنّ الظاهر من عمومه مخالف لإجماع الفريقين كما أشار قدّس سرّه إلى كلّ ذلك و امور اخر في «الجواهر» (9).

مع أنّه لا بدّ من أن يرجّح غيره عليه، لكونه مشافهة، و هو مكاتبة، لكنّا لم


1- كتاب الصلاة للشيخ الحائري اليزدي: 53.
2- وسائل الشيعة: 3/ 456 الحديث 4163.
3- وسائل الشيعة: 3/ 455 الحديث 4160.
4- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 376 الباب 14 من أبواب لباس المصلّي.
5- وسائل الشيعة: 4/ 377 الحديث 5442.
6- وسائل الشيعة: 4/ 346 الحديث 5347.
7- وسائل الشيعة: 4/ 377 الحديث 5441.
8- راجع! وسائل الشيعة: 4/ 352 الباب 5 و 354 الباب 6 من أبواب لباس المصلّي.
9- جواهر الكلام: 8/ 76 و 78.

ص: 108

نعثر في الباب على رواية خاصّة تكون مشافهة.

أقول: و لعلّ مراده قدّس سرّه هي الموثّقة (1).

الأمر السادس: قد أشرنا إلى استثناء الخزّ و السنجاب عن عموم المنع، إلّا أنّ الإشكال في الأوّل في شمول عموم الجواز على الموجود منه الآن، لأنّه لا يستفاد من الأخبار ضابطة متقنة معيّنة في تعريفه، و كذلك كلمات الأصحاب فيه مختلفة، فبعضها تدلّ على كونه بحريّا (2)، و الآخر على كونه برّيا (3)، و بعضها على كونه ممّا يعيش فيهما (4)، و كذلك اختلاف أهل اللغة و التجّار، كما أنّ المستفاد من بعض الأخبار و الكلمات أنّ له نفس سائلة (5)، و الاخرى أنّه ليس له نفس سائلة (6).

و بالجملة؛ إنّ كلمات الأعيان فيه مضطربة، مع أنّ المنقول عن البعض أنّه منذ زمان يكون قد فقد (7) مع أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه، و لا ريب أنّ كلّ ذلك لا أقلّ يورث الشكّ، و الأصل في المقام المنع، فالأقوى الاجتناب عمّا يسمّى في زماننا بالخزّ في الصلاة.

و أمّا الثاني؛ فللشكّ في أصل الحكم فيه؛ لأنّ الأخبار الخاصّة فيه متعارضة؛ و العامّة منها- مثل: موثّقة ابن بكير (8) بقرينة السؤال- صريح في


1- مرّ آنفا.
2- راجع! مدارك الأحكام: 3/ 167 و 168 و مستند الشيعة: 4/ 324 و 325.
3- راجع! الحدائق الناضرة: 7/ 65- 67.
4- راجع! مدارك الأحكام: 3/ 167 و 168، الحدائق الناضرة: 7/ 65- 68، مستند الشيعة: 4/ 324 و 325.
5- الحدائق الناضرة: 7/ 66 و 67.
6- الحدائق الناضرة: 7/ 66 و 67.
7- جواهر الكلام: 8/ 92.
8- وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.

ص: 109

المنع، و لأنّ المشهور بين القدماء و جملة من المتأخّرين المنع فيه (1)، مع أنّه إلى الأكثر نسب الشهيد قدّس سرّه (2)، مع أنّ الإجماع عليه منقول، و يشهد بذلك كلّه التتبّع في الأخبار (3) و كلمات الأخيار قدّس أسرارهم (4)، فالأقوى فيه المنع أيضا.

و أمّا ما تمسّك به صاحب «الجواهر» قدّس سرّه للجواز في الأوّل (5)، و هو عمدة دليله من أصالة عدم النقل، فلا وجه له؛ لأنّه إنّما يستدلّ بها لإثبات معنى سابق مثل المعنى اللغوي، و عدم حدوث اصطلاح معنى للّفظ، مثل ما يقال: إنّ الصعيد قد كان يطلق في اللغة على مطلق ما في وجه الأرض، ثمّ يشكّ في نقله إلى التراب الخالص (6)، فيتمسّك بها لإثبات الأوّل، و أمّا المقام فهو عكس ذلك فهو من قبيل الاستصحاب القهقرى؛ لأنّ الشكّ إنّما يكون في تسمية ما هو يسمّى الآن بالخزّ في القديم، أي في عصر ورود الأخبار به أيضا، مع أنّ المستند في التسمية غير معلوم، فتأمّل!

حكم لبس المشكوك ممّا لا يؤكل لحمه

الأمر السابع: اختلف الأصحاب في جواز لبس المشكوك ممّا لا يؤكل لحمه في الصلاة و عدمه، و وقع الخلاف في كون المأكوليّة شرطا أو عدمه مانعا،


1- جامع المقاصد: 2/ 79، الحدائق الناضرة: 7/ 71، مستند الشيعة: 4/ 328.
2- روض الجنان: 207، لاحظ! مستند الشيعة: 4/ 328، الحدائق الناضرة: 7/ 68.
3- لاحظ! وسائل الشيعة: 4/ 345 الباب 2 و 350 الباب 4 من أبواب لباس المصلّي.
4- لاحظ! جامع المقاصد: 2/ 79، جواهر الكلام: 8/ 96 و 97، مستند الشيعة: 4/ 328.
5- جواهر الكلام: 8/ 91.
6- مجمع البحرين: 3/ 85.

ص: 110

و لتوضيح الأمر يقدّم امور:

الأوّل: هل يكون للأحكام الوضعيّة بحذاء الأحكام التكليفيّة جعل و وضع على حدة، أم هي منتزعة منها؟ و الظاهر أنّ الثاني هو الحقّ، كما عليه المحقّقون، و أنّ الاختلاف فيه إنّما يكون في البديهيّات، كما يظهر لمن رجع إلى وجدانه أنّ من يكون في مقام إنشاء أمر مركّب من امور، أو تكليف مشروط بامور وجودا أو عدما، فإمّا أن يتعقّل و يتصوّر هذه الامور فيحكم و يكلّف عليها، أو لا، فعلى الأوّل؛ فإذا أنشأ فينتزع منه الحكم الوضعي، أي الجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة و نظائرها، و لا يحتاج بعد ذلك إلى جعل آخر حتّى يقول: جعلت هذا جزء لذاك أو شرطا، لأنّه يصير لغوا، و هو محال على الحكيم، و على الثاني فانضمام ذاك الامور يوجب الخلف.

نعم؛ يمكن ذلك بالبداء و هو محال أيضا، فإنّه لا بدّ لمن هو عالم بعواقب الامور من بيان كلّ ماله دخل في مطلوبه من أوّل الأمر، فلو أنشأ و كلّف بما هو مركّب أو مشروط بأربعة امور، لا يعقل أن يضمّ إليه خامسا، و يقول: جعلته جزء أو شرطا، بل عليه أن يحكم من الأوّل بالمركّب معه.

و بالجملة؛ من نفس إنشائه وجوب الصلاة عند الدلوك ينتزع السببيّة، [و وجوبها] مع السورة ينتزع الجزئيّة، و إن أبيت فراجع إلى الموالي الظاهريّة إذا يقول: أكرم زيدا إن جاءك هل يحكم بأمرين، و هما سببيّة المجي ء للإكرام و وجوبه عند المجي ء، أم لا، بل ينشئ امرا واحدا و هو وجوب الإكرام عند المجي ء ثمّ ينتزع العبد منه السببيّة؟

و بما ذكرنا ظهر أنّها ليست قابلة للجعل في عالم التصوّر أيضا، فإنّ فيه

ص: 111

أيضا إذا تصوّر عدّة امور و اعتبر اجتماعها، أو تصوّر أمرا مقيّدا بأمر وجوديّ أو عدميّ ينتزع منه الجزئيّة و الشرطيّة، فإنّ تصوّرها هكذا عين الجزئيّة و الشرطيّة، و لا يحتاج إلى تصوّر جزئيّته أو شرطيّته، و لو لم يتصوّر يلزم البداء و الخلف، كما ذكرنا، و لو سلّم جعلها في عالم التصوّر، لا ينتج بالنسبة إلى الخارج بعلم.

و بعبارة اخرى؛ فرق بين الامور الاعتباريّة و الانتزاعيّة، فإنّ الأوّل لها وجود متأصّل باعتبار ما يعتبر فيها، و لو لم يعتبر معتبر، فإنّ الفوق فوق، و التحتيّة للتحت ثابتة، و لو لم يعتبرهما أحد.

و يمكن أن يقال: إنّ وجودها يكون من قبيل وجود الأعراض؛ و بالجملة لها حظّ من الوجود مثل الوجودات الحقيقيّة، بخلاف الثانية، فإنّها ليس لها وجود إلّا بالانتزاع، و ليس لها وجود في موطن من المواطن، فليست قابلة للجعل تأصّلا تشريعا، فإنّه إذا قال الشارع: اغسل ثوبك من النجاسة الفلانيّة مرّتين، ينتزع منه شرطيّتهما في الطهارة، و كذلك إذا قال: الصلاة (1) مشتمل على قراءة [الحمد] و سورة و غيره ينتزع منه الجزئيّة، و كذلك إذا قال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) ينتزع منه سببيّة العقد للتمليك (3) و التملّك.

و الظاهر أنّ من الواضحات إنّه لا تنال يد الجعل لهذه الامور إلّا تبعا، و المخالف مكابر جدّا، و إن كان في تصويرها (دخلها) و ارتباطها بالماهيّة ترتّب، فإنّ الجزء مقدّم على الشرط فإنّه من مقوّمات الذات، و التقييد و القيد كلاهما


1- و إن كان نفسها قابلا للجعل؛ لأنّهما من الامور الاعتباريّة، كما قرّر في الاصول، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».
2- المائدة (5): 1.
3- و كذلك مقدميّة المقدّمة، فإنّها ليست قابلة للجعل و بوجوب ذي المقدّمة تجب هي قهرا، مع أنّها لها وجود على حدة في حيال وجود ذي المقدّمة، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».

ص: 112

داخلان فيه، بخلاف الشرط فإنّه متأخّر، و لذا قد يقال: إذا تعارض في الوجود بين إحرازهما يقدّم الأوّل، فتأمّل!

و من البديهة أنّ ذلك لا يكشف عن مجعوليّتها أصالة، و قد كتبت في بحث الاصول من البرهان زيادة عمّا علّقت و نقلت هاهنا.

الثاني: قد نقلنا عنه- دام ظلّه- سابقا عدم إمكان جعل عدم شي ء مانعا لشي ء بعد جعل وجوده شرطا للزوم اللغويّة، و نقول تأكيدا للأمر: إنّ هذا محال ملاكا و خطابا و أثرا، لأنّه لا بدّ أن يعلم أنّ عدم المعلول إمّا أن يكون لعدم المقتضي أو يكون لوجود المانع، و من الواضح أنّه إذا لم يكن المقتضي موجودا، و لو كان المانع موجودا ينسب عدم المعلول إلى عدم المقتضي، لا إلى وجود المانع، فإنّه لا أثر له مع عدمه، و لا يكون له دخل في عدم المعلول أصلا، و الشرط إنّما يكون من أجزاء المقتضي، فبانعدامه ينعدم، فإذا جعل عدمه مانعا فلا يقال في هذه الصورة: انعدام المعلول إنّما يكون من جهة وجود المانع، بل يكون من جهة عدم الشرط الموجب لعدم المقتضي. و بذلك ظهر النظر في جملة من كلمات صاحب «الجواهر» في المقام و غيره (1)، فتأمّل!

و بالجملة؛ من تأمّل في معنى المانع يظهر له بداهة ما بيّنا، فإنّ المانع هو الّذي يمنع عن تأثير المقتضي و ترشّحه ماله أن يترشّح، فلمّا لم يوجد المقتضي من جهة عدم شرطه فاستثناء عدم الأثر إليه- أي إلى المانع- يكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

برهان آخر: لا إشكال أنّه إذا كانت العلّة مركّبة من امور تدريجيّة فيكون


1- جواهر الكلام: 8/ 87- 93.

ص: 113

بين أجزاء العلّة الترتّب قهرا، و لذا يقال: إنّ الجزء الأخير هو العلّة التامّة، أي هو ما به يتمّ تماميّة العلّة و يوجد أثرها، و من المعلوم أنّ أجزاء العلّة المقتضي مقدّم على شروطها، و كذا الشروط مقدّم على المانع.

لا يقال: إنّه ليس بين المعلول و العلّة إلّا تخلّل «فاء» واحد، و ما ذكرت يقتضي أن يكون بينها و بين العلّة إذا كانت مركّبة تخلّل فاءات و تأخّرات، و هذا خلاف التحقيق.

لأنّا نقول: عدم تأخّر رتبة المعلول عن العلّة إلّا بمرتبة واحدة لا ينافي الترتّب بين أجزاء العلّة إذا كانت مركّبة من امور تدريجيّة، فإنّ من البديهة أنّه إذا كان السلّم- مثلا- علّة للذهاب على السطح لا يتخلّل بين الكون عليه و السلّم إلّا فاء واحد، مع أنّ بين درجات السلّم ترتيب، و الطفرة محال، و السرّ في ذلك ما أشرنا إليه من كون الجزء الأخير هو العلّة.

و الحاصل؛ أنّ الترتيب بين المعدّات إنّما هو من الواضحات، فقد تبيّن بذلك محاليّة جعل الضدّ مانعا ملاكا، كما أنّ بذلك بيّنوا عدم كون الضدّ مقدّمة و علّة للآخر، فإنّهما إنّما يكونان معلولا للعلّة الثالثة، و الضدّ و عدمه إنّما يكونان في رتبة واحدة، مع أنّ المقدّمة و العلّة مقدّمة على المعلول رتبة، و منشأ التوهّم أنّه لمّا لا يجتمع الشي ء مع ضدّه في الوجود، و يكون وجود كلّ واحد منهما مساوقا لعدم الآخر توهّمت المقدّمية، و إلّا لو كان كما توهّم يلزم الدور كما هو واضح، و أمّا عدم جواز الجعل خطابا، للزوم اللغويّة، و أمّا أثرا، لكونه تحصيلا للحاصل.

الأمر الثالث: الّذي يستظهر من جملة من الأخبار كون غير مأكول اللحم

ص: 114

مانعا لا كون المأكول شرطا، فإنّ طائفة منها تدلّ على حرمة لبسها في الصلاة (1) و معلوم أنّ الحرمة فيها تشريعيّة (2)، فهو صريح في المانعيّة.

و منها؛ لسانها عدم جواز اللبس في الصلاة (3)، و الجواز هو المجاوزة و التعدّي، فالمراد بها هو أنّ لبسها في الصلاة مانع عن الخروج عن عهدة التكليف.

و منها؛ لسانها النهي عن لبسها في الصلاة (4) مثل: «لا تصلّ فيها» و غيره (5)، و لا ريب أنّ النهي هاهنا غيريّ، و المراد بالطلب الغيري هو أنّ في المطلوب مدخليّة في تحقّق المأمور به، فيصير مفاد النهي الغيري هو أنّ المنهيّ عنه- أي ما طلب عدمه في المأمور به- مانع عن انتقال المأمور به، و من الواضح أنّ النهي الغيري لا يدلّ إلّا على المانعيّة، و كذلك غيره ممّا عرفت.

إنّما الّذي يمكن أن يستفاد منه الشرطيّة من الأخبار- كما قد تمسّك به بعضهم (6)- هو رواية عليّ بن [أبي] حمزة (7) و ذيل موثّقة ابن بكير (8)، و لكن لا


1- وسائل الشيعة: 4/ 345، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي.
2- لأنّ الحرمة الذاتيّة في العبادات لفقدان شرط منها غير ثابت، بل غايته اللغوية إلّا في باب الصلاة بدون الطهارة، على ما يظهر من رواية. «منه رحمه اللّه».
3- وسائل الشيعة: 4/ 353، الحديث 5367 و 5368.
4- كأنّ هذه الجملة هي عين الاولى؛ لأنّ الحرمة إنّما هي مستفادة من هذه الأخبار، فالجملة الاخرى هي ما عبّر فيها بلفظ الفساد، فهي أيضا صريح في كون المأمور به لاقترانه بالمانع فقد فسد، و إرجاعها إلى الشرط محتاج إلى الخروج عن ظاهر اللفظ، كما هو واضح، «منه رحمه اللّه».
5- وسائل الشيعة: 4/ 354 الحديث 5371.
6- مستند الشيعة: 4/ 329.
7- وسائل الشيعة: 4/ 348 الحديث 5354.
8- الكافي: 3/ 397 الحديث 1، تهذيب الأحكام: 2/ 222 الحديث 818، وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.

ص: 115

يخفى أنّ الاولى إنّما تصير دليلا إذا أرجعنا قوله عليه السّلام: «إذا كان ممّا يؤكل لحمه» (1) إلى الجزء الأوّل من الرواية، و جعلنا قوله عليه السّلام: «بلى» مع سؤال الراوي (أ ليس التذكية بالحديد؟) (2) جملة معترضة، و يصير من قبيل ما لم يتمّ كلام الإمام عليه السّلام، قد استعجل الراوي في السؤال بسؤال آخر، ثمّ أجابه عليه السّلام فرجع عليه السّلام بعد ذلك إلى تتميم جواب السؤال الأوّل، و كلّ ذلك خلاف الظاهر، فليس قابلا لصرف ظهور الروايات الاولى، فلا بدّ أن يرجع القيد إلى الجزء الأخير من الرواية، أي يجعل القابليّة من قيود التذكية، كما يقتضيه ظاهر الكلام و القاعدة اللفظيّة، فيصير معارضا لما يدلّ على عدم اشتراط القابليّة في التذكية، كما هو الحقّ، و دلّ الدليل على قابليّة تذكية كلّ حيوان ما عدا الحشرات و نجس العين، فيطرح ذيل هذه الرواية- كما أشرنا إليه سابقا- إن لم يقبل التأويل، و شرح الكلام في محلّه، و كيف كان ليست الرواية دليلا لما ذكروا.

و أمّا الثاني؛ و هو ذيل الموثّقة (3)، فهو إمّا أن يكون تأكيدا للصدر أو تأسيسا، فإن جعلناه تأكيدا فيمكن أن يكون الصدر قرينة على الذيل أو بالعكس، كلاهما محتمل فلا يتمّ الدليليّة، و إن جعلناه تأسيسا- كما هو أولى- فالظاهر كونه مسوقا لبيان حكم الناسي إذا صلّى فيه، كما يشهد به قوله عليه السّلام:

«تلك» فإنّ الظاهر كونها إشارة إلى ما هو واقع في الخارج نسيانا، فيقول عليه السّلام:

«لا يقبل الصلاة» (4) الّتي وقعت في الخارج و إلّا فأصل الحكم معلوم مبيّن من صدر الرواية، فعلى هذا غير مرتبط بالشرطيّة، و يصير دليلا للمشهور حيث أفتوا


1- مرّ آنفا، و هي موثّقة ابن بكير.
2- مرّ آنفا، و هي رواية علي بن أبي حمزة.
3- مرّ آنفا و هي موثّقة ابن بكير.
4- مرّ آنفا و هي موثّقة ابن بكير.

ص: 116

بأنّ من صلّى ناسيا في ما لا يؤكل فعليه الإعادة (1)، مع أنّ إطلاق صحيحة «لا تعاد» (2) يقتضي عدم الإعادة، و لذلك توهّم كونه فتوى بلا مدرك، فلعلّ نظرهم و استفادتهم يكون من هذا الذيل، و إن كانت النسبة بينها و بين الصحيحة عموما من وجه، لأنّ الذيل يقتضي الإعادة ناسيا أو جاهلا، و الصحيحة تدلّ على عدم إعادة الناسي بناء على اختصاص دلالتها به، و أعمّ من الذيل من جهة دلالتها على غير ما لا يؤكل من الموانع إلّا أنّه يجب تقديم الذيل عليها، لأنّ رواية ابن الحجّاج (3) تدلّ على عدم لزوم إعادة الجاهل، فإنّه لمّا يسأل من الإمام عليه السّلام عن الصلاة جاهلا في فضلات ما لا يؤكل، فيقول عليه السّلام بعدم وجوب الإعادة، مع أنّها نجسة، فتدلّ على أجزائها الطاهرة بالأولويّة القطعيّة، فعلى ذلك يختصّ الذيل بالناسي فتنقلب النسبة فيخصّص الذيل صحيحة زرارة (4) مع أنّه لو قدّمت لا يبقى للذيل مورد.

و الحاصل؛ أنّ الذيل دليل لما أفتى به المشهور، و لا ربط له بالمقام، و مع التسليم إنّ الصدر و الذيل متعارضان، فيصير المرجع الروايات الدالّة على المانعيّة، كما أشرنا إليها، فلا تغفل.

اعلم! أنّ الشرطيّة ملازمة لأحد الامور الثلاثة: إمّا القول بلزوم كون لباس المصلّي من الحيوان المأكول، فلا يجوز في القطن و غيره، و إمّا القول بكون


1- جواهر الكلام: 8/ 79.
2- وسائل الشيعة: 7/ 234 الحديث 9204.
3- وسائل الشيعة: 3/ 475 الحديث 4218، و فيه: «عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه» بدلا عن: «ابن الحجّاج».
4- مرّ مرارا، وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.

ص: 117

الاشتراط بالنسبة إلى غير الحيوان من السالبة بانتفاء الموضوع، و إمّا جعل الشرط أحد الامور المأكوليّة أو القطن أو الكتّان.

أمّا الأوّل، فهو خلاف الإجماع و الضرورة.

و أمّا الثالث؛ فلم يثبت من الأدلّة هكذا، بل اشترط الساتر للمصلّي، ثمّ جعل غير المأكول مانعا كما هو ظاهر الأدلّة.

و أمّا الثاني؛ فهو خلاف الأصل مع أنّها في المقام قريب من الاستهجان، فإنّه إذا قيل: يشترط في لباس الرجل إذا كان مصلّيا أن لا يكون من الحرير (1) إنّما لوحظت الشرطيّة فيه بالنسبة إلى المرأة إذا كانت مصلّية لا إلى حالها ما لم تقرأ الصلاة (2).

مع أنّ مفاد الشرطيّة إنّما يكون التقييد، و التقييد إنّما يتصوّر حيث [كان] الإطلاق جائزا، و من المعلوم أنّه بعد ما ثبت جواز الصلاة في غير الجلد من الحيوان- مثل القطن- فالإطلاق غير جار (3).

مع أنّ لازم الشرطيّة إنّما هو الخصوصيّة الوجوديّة بخلاف المانعيّة، و قد علمت أنّه لا خصوصيّة في اللباس كونه من الحيوان أصلا.

و بالجملة؛ من تأمّل يرى أنّ محذورات الشرطيّة كثيرة مع أنّ الدليل لا يساعدها، و مع التسليم فدلالة ذيل الموثّقة (4) ليست تامّة، لأنّ الظاهر من لفظ


1- فإنّه يكون في قباله صنف يجوز صلاته فيه، «منه رحمه اللّه».
2- و لازم الشرطيّة في المقام صيرورته نظير الآخر، فلا بدّ أن يقال: لوحظت الشرطيّة بالنسبة إلى الصلاة في الحيوان، و مقابله حال قراءة الصلاة في القطن و شبهه، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».
3- لأنّه لا يقال: يشترط في اللباس من المصلّي الجلد، سواء كان من المأكول أو غيره، «منه رحمه اللّه».
4- وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344، مرّت الإشارة إلى مصادرها مرارا.

ص: 118

«من» في قوله عليه السّلام: «ممّا أحلّ اللّه أكله» هو البيانيّة لا تقييديّة، فإذا صارت بيانيّة فتكون في مقام بيان لفظ الغير الواقع قبلها، فلا يستفاد منها الشرطيّة.

تذنيب: بعض من منع الصلاة في المشكوك نظرا إلى إحرازه الشرطيّة من الأدلّة أرجع الروايات الدالّة على الفساد و في غير المأكول و حرمة الصلاة فيه و غيرها، الّتي استفدنا منها المانعيّة، إلى الشرطيّة و ساقها مساق الذيل [من] الموثّقة ببيان أنّ المراد منها عدم الحليّة و انتفاعها الّتي يجب إحرازها، لا أن يكون المراد ظواهر هذه الألفاظ، و لكن ما عرفنا وجه هذا الالتزام، فإنّه إخراج اللفظ عن ظاهره بلا دليل، و تكلّف بلا موجب.

نعم؛ توهّم ذلك بالنسبة إلى الحلّ و الإباحة بزعم أنّهما أمران عدميّان، فإنّهما عبارتان عن عدم الوجوب أو الحرام، و لكن تبيّن في محلّه أنّ الزعم فاسد بالنسبة إليهما. أيضا، فإنّهما أمران وجوديّان يعبّر عنهما بإرخاء العنان و تحويل الأمر إلى الطرف، و جعله باختيار من بيده العنان و الأمر، و من البديهة أنّ مثل هذا التوهّم لم يجر في مثل الحرام و الفاسد.

الأمر الرابع: استدلّ جملة من المجوّزين باستعمال المشكوك في الصلاة بدلالة الألفاظ على المعاني المعلومة، و قد بيّنوا مرادهم باحتمالات خمسة:

أحدها: وضع الألفاظ للمعاني المعلومة.

ثانيها: انصرافها في مقام التكليف إليها.

ثالثها: كون المانع من امتثال أوامر العبادة بتنجّز النهي عن العبادة إذا فقد الشرط، و من المعلوم أنّه إذا كان الموضوع مشكوكا لا يتنجّز النهي، و لعلّ إلى ذلك يرجع ما قرّره- دام ظلّه- في الأمر الآتي في مقام تأسيس الأصل.

ص: 119

الرابع: تنزيلها بصورة العلم من جهة قبح تكليف الجاهل.

خامسها: دعوى صراحة خصوص الأخبار (1) في ذلك.

الثلاثة الاولى بعيدة عنهم، فالمهمّ بيان الاحتمالين الأخيرين نقلا عن الفاضل النراقي و المحقّق القمّي قدّس سرّهما.

الأوّل: أنّه لمّا تعلّقت التكاليف بمفاهيم الألفاظ الّتي منها لفظ غير المأكول، فلا بدّ أن يحمل على المعلوم منه؛ لأنّ التكليف بالمجهول قبيح، و لذلك اخذ في جملة الشرائط العامّة العلم (2).

و جوابه: أنّ التكليف بالمجهول قبيح إن كان مجهولا (3) رأسا بحيث لا يمكن امتثاله، أو امتثاله يوجب العسر و الحرج، مثل أن يقال: جئني بشي ء و اريد شي ء معيّن، و أمّا إذا لم يصل بهذا الحدّ، بل كان يمكن امتثاله بطريق الاحتياط أو الفحص فلا يلزم محذور.

مع أنّ كليّة التكاليف قد تعلّقت بالعباد في حال جهلهم و إلّا لم يكن واجبا الفحص و التحصيل.

و أمّا حديث أخذ العلم (4) في جملة الشرائط العامّة إنّما هو في مقام التنجّز و العقاب على فرض التسليم.

الثاني: استفادة المانعيّة في المعلوم مطلقا من الأخبار، مثل: رواية عبد الرحمن بن الحجّاج يسأل عن الإمام عليه السّلام أن يقرأ صلاته في عذرة الإنسان


1- راجع! وسائل الشيعة: 4/ 455 الباب 55 من أبواب لباس المصلّي.
2- مستند الشيعة: 4/ 316.
3- و هو ما يرجع إلى عدم القدرة «منه رحمه اللّه».
4- وسائل الشيعة: 4/ 345 الحديث 5344.

ص: 120

و الكلب و هو لا يعلم، فيقول عليه السّلام: «صلاته صحيحة» (1) فيستفاد منه- و غير ذلك من الأخبار الّتي عمدتها هذا- أنّ الصلاة في غير المأكول لا تجوز إذا كان معلوما (2)، و بعبارة اخرى: مانعيّة هذه الامور مشروطة بصورة العلم.

و فيه: أنّ الرواية إنّما تكون في مقام بيان الإجزاء، بمعنى أنّ من دخل في صلاته و هو جاهل بوجود المانع معها، ثمّ تبيّن بعد الصلاة وجود المانع، فلا يجب عليه الإعادة، و لم يظهر منه أنّ من هو من أوّل الأمر شاكّ بوجود المانع، فدخل في العمل أن يكون دخوله جائزا حتّى يصير عمله صحيحا.

و الحاصل؛ أنّه قد يدّعى كون الرواية في مقام بيان أنّ أجزاء غير المأكول مانعة عن الصلاة إذا كانت معلومة و إلّا فلا، فقد سيقت لبيان الضابطة و الحكم الكلّي، و هذا احتمال أنّى لهم بإثباته و تعيينه، مضافا إلى أنّ ما ذكرنا من كونه مسوقا لبيان الإجزاء، بمعنى إتيان الفعل بداعي امتثال الواقع فتبيّن خلافه، فيحكم عليه السّلام بإجزائه عن الواقع، هو الظاهر من الرواية، فلا ربط له بالمقام.

هذه عمدة الروايات الّتي استدلّوا لإثبات دعواهم، فقد عرفت حالها، و الباقي أسوأ حالا من تلك الرواية، فراجع!

و الاحتمالات الاخر لإثبات مدّعاهم- من كون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة أو كون المراد منها في مقام تنجّز التكاليف المعلومة منها- واضحة الفساد غنيّة عن البيان، فلا ينبغي التمسّك بمثل هذه الموضوعات لجواز


1- الكافي: 3/ 406 الحديث 11، وسائل الشيعة: 3/ 475 الحديث 4218، و فيه: عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه بدلا عن: عبد الرحمن بن الحجّاج.
2- وسائل الشيعة: 4/ 345 الباب 2 من أبواب لباس المصلّي.

ص: 121

استعمال المشكوك، فالحريّ الاستفادة ممّا سنؤسّس من الأصل.

الأمر الخامس: في تأسيس الأصل في المسألة، و لا بدّ من التكلّم فيه في مقامات:

الأوّل: في كونها مجرى للبراءة أو الاشتغال، و جريان البراءة فيها موقوف بأمرين: أحدهما: جريان البراءة في الارتباطيّات، و قد تبيّن في محلّه جريانها فيها، لأنّ كلّ واحد من الأوامر المتعلّقة بالأجزاء و الشرائط يكون بمنزلة الأحكام المستقلّة، و فرض الارتباط كالعدم.

ثانيهما: انحلال كلّ من الأحكام الكليّة إلى التكاليف الجزئيّة باعتبار كلّ واحد من مصاديقها، مثل: لا تشرب الخمر، ففي المقام أصالتها أو انتزاعيّتها و تبعيّتها لا تثمر شيئا، كما لا يخفى.

و كيف كان؛ فإن ثبت كون لسان الأمارات على الوجه الرابع، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب، إنّما الكلام فيما لو لم يثبت، و كان على أحد الأنحاء الثلاثة.

فقد يقال في وجه تقديمها: و سرّه هو أنّه لا إشكال في أنّ النسبة بين أدلّة الأمارات و الاستصحاب العموم من وجه، و السبب في الحكم بالتعارض في العامّين من وجه، و عدم تقديم أحدهما على الآخر و ترجيحه، هو أنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح، لأنّ كلّا يقتضي العمل بظاهره، فلا بدّ إمّا من الحكم بالتساقط أو الرجوع إلى المرجّح الخارجي مع وجوده.

و قد ذكروا من جملة الشرائط في الحكم بالتعارض بينهما هو أن لا يلزم من ترجيح أحدهما إلغاء الآخر رأسا، و إلّا فيرجّح هذا لعدم لزوم الترجيح بلا

ص: 122

مرجّح، و عدم تحيّر العرف في ذلك و حكمه بتقديمه؛ لأنّه يصير بمنزلة العامّ الآبي عن التخصيص، فيوجب كونه نصّا في مدلوله و الآخر ظاهر، فيخصّص بهذا.

ففي المقام لو خصّص الخبر الواحد أو اليد بالاستصحاب لزم لغويّة هذه الأمارات و عدم بقاء المورد لها، مع فرض ثبوت عدم الفرق بين الاستصحاب و سائر الاصول بالإجماع، فإذا قام الخبر أو اليد- مثلا- على نجاسة شي ء، فإن كان مسبوقا بالطهارة فيجب العمل بالحالة السابقة و طرح الخبر أو اليد، و إن لم يكن له حالة سابقة فيجب الرجوع إلى سائر الاصول، من أصالة الطهارة و غيرها، فيلزم التخصيص المستوعب، فلا بدّ من ترجيح الأمارة عليه و تخصيص الاستصحاب بها، حتّى لا يلزم هذا المحذور، و المحذور الآخر فقد عرفت أنّه مرتفع بحكم العرف.

و القاعدة المذكورة لا تختصّ بالمقام بل نظائرها كثيرة؛ منها: التعارض بين مفهوم قاعدة طهارة الماء إذا بلغ قدر كرّ، و منطوق الدليل الدالّ على طهارة الجاري، و غير ذلك من الموارد.

هذا؛ و لكن تسجيل هذا الوجه مبتن على أن نقول: مع اختصاص الشبهات في الأموال و الشبهات المشوبة بالعلم الإجمالي بمدلول الأمارات، و عدم مجرى للاصول فيها، و كذلك إذا كان مجراهما (1) متوافقين و ترجيح الاصول عليها يوجب التخصيص المستهجن و لغويّة أدلّة الأمارات أيضا بعد ذلك كلّه، مع أنّ موارد الشبهات المذكورة كثيرة.

إلى هنا كنّا في مقام تصوير الوجوه و الاحتمالات الآتية في لسان الأمارات، و نقل الأقوال في المسألة، فالآن نرجع إلى بيان ما هو الحقّ.


1- فإنّ هاهنا أيضا عمل بالأمارة «منه رحمه اللّه».

ص: 123

فأقول: ملخّص ما استفدت عن الاستاد- دام ظلّه- أنّه قال: مع الغضّ عمّا يرد على القول بورود الأمارات على الاستصحاب من العدول أوّلا عمّا هو ظاهر من معنى الشكّ الواقع في حديث الاستصحاب (1)، و إخراجه إلى غيره من جعل الحكم أعمّ من الظاهري و الواقعي، مع أنّ ذلك خلاف ما تسالموا عليه، لأنّهم بنوا أنّ الشكّ متعلّق بما تعلّق به لفظ اليقين الواقع في صدر الحديث حتّى لا يختلف متعلّقهما كما يقتضيه ظاهر القضيّة الاستصحابيّة، و كذلك إخراج اليقين عن المعنى الظاهر فيه ثانيا، لأنّ استناد النقض به يقتضي كونه بنفسه سببا و موجبا له لا أن يكون شرطا لتحقّق ما هو ناقض حقيقة، و كيف، لو كان متعلّق اليقين الحكم الظاهر- الّذي هو مفاد الأمارات الظنيّة- يكون النقض مستندا إليها؛ لأنّها توجب التنجيز، و اليقين بها يصير شرطا لتحقّق المنجّز، بخلاف ما لو كان العلم طريقا إلى الواقع، فعند ذلك لمّا لم يكن منجّز غيره استند النقض إلى نفس اليقين، فإنّه على هذا يصير العلم بمنزلة الأمارات الّتي هي كاشفة عن الواقع، و تحقيق ذلك في بيان جعل الطرق.

و الحاصل؛ أنّه لمّا كان ظاهر كلّ عنوان اخذ في موضوع يقتضي كونه بنفسه دخيلا في ثبوت الحكم و مؤثّرا له، فالقاعدة حاكمة بكون المراد من اليقين هو الكاشف عن الواقع و الدالّ عليه، لما عرفت، كما كان هذا مدلول لفظ اليقين الواقع في صدر الحديث، فالسياق أيضا مساعد لما ذكر.

فمع تسليم ذلك كلّه فنقول: قد عرفت أنّ مبنى كلام القائل بكون أدلّة حجيّة الخبر- مثلا- واردا على الاستصحاب هو التصرّف في لفظ الشكّ و اليقين، و لكن لا يفيده ذلك؛ لأنّ لسان أدلّة اعتبار الأمارات إن كان من قبيل الرابع، و هو


1- تهذيب الأحكام: 1/ 8 الحديث 11، وسائل الشيعة: 1/ 245 الحديث 631.

ص: 124

سلب الشكّ و جعل الشاكّ بمنزلة المتيقّن، فمن البديهة أنّ دليل الاستصحاب الدالّ على عدم نقض اليقين بالشكّ الأعمّ من الواقعي و الظاهريّ، أنّ هذا الدليل لا يشمل نفسه.

بمعنى أنّه يدلّ على الحكم و هو عدم النقض بسبب الشكّ من غير ناحية هذا الدليل، لأنّه لا يكون حكم حافظا لموضوع نفسه، بل لا يعقل ذلك، فإذا كان لسان الدليل للأمارة هو نفي الشكّ فلا يجوز التمسّك بدليل الاستصحاب لإثبات الحكم الظاهري حتّى يقال: إنّ السالبة الكليّة تنتقض بالموجبة الجزئيّة، و المفروض أنّ لسان دليل الخبر أيضا لا يثبت حكما، و إنّما لسانه نفي الشكّ، مع أنّ الشكّ بالوجدان مع قيام الخبر على خلاف الحكم الثابت بالاستصحاب باق، و ليس من رأسه مرفوعا، فالموضوع باق و ما تغيّر عمّا كان عليه، نعم الحكم الثابت بالاستصحاب مرفوع، و هذا إنّما كان مناطا للحكومة لا الورود، و مناط الورود إنّما كان تعليق جريان أحد الدليلين على عدم الآخر الّذي كان قد يعبّر عنه بتبدّل الموضوع و تغييره، فعلى تقدير كون لسان دليل الخبر هو المعنى الرابع لا يكون مجال للورود، بل حاكم بكونه ناظرا و شارحا كما عرفت من نفيه الحكم بلسان نفي الموضوع.

نعم؛ إن كان لسان أدلّة حجيّة الأخبار هو المعاني الثلاثة الاولى، فلا يبعد الورود؛ لأنّها بنفسها تثبت حكما ظاهريّا، فانتقاض السلب الكلّي المستفاد من الشكّ إنّما يكون من غير ناحية الاستصحاب و دليله، فالموضوع ينقلب و يتغيّر، فيحقّق مناط الورود، و لكن أنّى لهم بإثبات كون لسان الأدلّة و الأمارات هكذا، لا من الوجه الرابع (1).


1- إلى هنا تمّت الرسالة.

ص: 125

بسم الله الرحمن الرحيم ربّ وفّقني الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين المعصومين.

الصلوات المشروعة فيها الجماعة

اشارة

المقصد السادس: في الجماعة، و فيه أبحاث.

الأوّل: في ما شرّع فيه الجماعة: لا إشكال في مشروعيّتها في الفرائض اليوميّة و استحبابها مؤكّدا فيها، خصوصا في الصبح و المغرب منها. و إنّما البحث في موارد.

الأوّل: المنذورة من الصلوات المندوبة، و الأقوى فيها عدم المشروعيّة؛ لظهور أدلّة الفريضة في الأصليّة منها، حيث إنّ الّذي يدلّ على المشروعيّة فيها مطلقا ليس إلّا صحيح زرارة و الفضيل: قلنا له: الصلاة في جماعة فريضة هي؟

فقال: «الصلوات فريضة، و ليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلّها، و لكنّها سنّة» (1) .. إلى آخره.

و هو أمره دائر بين أن يكون المراد من المنفيّ العموم المجموعي أو


1- وسائل الشيعة: 8/ 285 الحديث 10676.

ص: 126

الانحلالي في مقابل الفريضة الّتي يجب فيها الجماعة، كالعيدين، فحينئذ قوله:

«و لكنّها سنّة» يكون تابعا له، و لمّا كان الظاهر منه هو الاحتمال الثاني لكونه في مقام رفع توهّم السائل من كون الجماعة فرضا في كلّ فريضة فالإمام عليه السّلام قال:

ليس كذلك.

فيستفاد من إطلاق الجواب في مورد المسئول عنه الّذي هو الفريضة أنّها سنّة فيها سوى ما استثني منها، و ثبت وجوبها فيها من الفرائض.

و كيف كان؛ لا إشكال في أنّ هذا الإطلاق لا يشمل الفرض بالمعارض، فلا دليل حينئذ على مشروعيّتها في المنذورة سوى ما في عبارة «الذكرى» من دعواه الإجماع (1).

و لكنّه يتوقّف على أن يكون مراده من قوله: «عندنا» هو الإجماع المصطلح، و لمّا لم يثبت؛ لمكان أنّ عادته و غيره من أساطين المتأخّرين في المسائل الإجماعيّة التعبير ب «عند علمائنا أجمع» و نحوه، و هو الّذي لو وقع في كلماتهم قدّس سرّهم لا ريب في ثبوت الإجماع به، و أمّا لفظ «عندنا» فإنّما يعبّرون عنه فيما كان الأمر متسالما و لم يبلغ إلى حدّ الإجماع، فحينئذ الإجماع في المسألة أيضا لا يتمّ، فبقي تحت الأصل.

لا يقال: كيف و أنتم في أكثر المقامات ألحقتم المنذورة بالفريضة الأصليّة، فما الفرق بينها و [بين] مسألة الجماعة؟

لأنّا نقول: أمّا في مثل ما أسقط فيه الشروط كالقيام و الاستقرار و الاستقبال و هكذا مسألة الشكّ؛ فلمّا كان استفدنا من مناسبة الحكم و الموضوع كون تلك


1- ذكرى الشيعة: 4/ 374.

ص: 127

الأحكام تسهيلا للندب فيدور الحكم مدار الوصف، فلذلك بنينا على أنّه عند زواله فيرتفع، بخلاف المقام لعدم مناسبة في البين تقتضي ذلك.

و بالجملة؛ فمقتضى أصالة عدم المشروعيّة عدم الإتيان بالمنذورة جماعة.

الثاني: صلاة الطواف، و الأقوى فيها المشروعيّة، و ذلك لشمول الإطلاق لها على التقريب المذكور.

و أمّا الّذي صار منشأ لتشكيك بعض فيها من جهة عدم النقل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإتيانها جماعة في حجّة الوداع، مع أنّ جميع أفعالها فيها منقولة، بل المنقول أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد الطواف توجّه إلى مقام إبراهيم عليه السّلام و قرأ الآية و صلّى ركعتين (1).

ففيه: مع أنّه كما لم ينقل إتيانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بها جماعة كذلك لم ينقل فرادى، و مع تسليمه، لعلّه لم يمكن الاجتماع من ضيق المكان أو عدم التوافق عند إتمام الطواف بين فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سائر الناس، [مع] أنّ عدم النقل لا يصير دليلا على عدم المشروعيّة، بحيث يعارض الإطلاق، كما لا يخفى.

الثالث: النوافل، أما نوافل شهر رمضان، فالظاهر أنّه لا إشكال في عدم مشروعيّتها فيها، لتظافر الأخبار بها مثل ما ورد من أمر أمير المؤمنين الحسن عليهما السّلام بالنداء في الناس أنّه لا جماعة في نوافل رمضان (2).

و بهذا المضمون و غيره الدالّ على عدم مشروعيّة الجماعة فيها؛ الأخبار


1- جواهر الكلام: 19/ 300 و 301.
2- وسائل الشيعة: 8/ 46 الحديث 10063.

ص: 128

مستفيضة (1) مضافا إلى صحّة كلّ منها.

و إنّما الإشكال في غيرها من النوافل، و الأقوى فيها أيضا عدم المشروعيّة سوى ما استثني منها، و ذلك لما ادّعى من الإجماع في «المنتهى» قال: إنّ عدم جواز الجماعة في النوافل عدا صلاة الاستسقاء و العيدين هو مذهب علمائنا أجمع، و استدلّ عليه بما في صحيحة الفضلاء: زرارة و محمّد بن مسلم و الفضيل عن الصادق عليه السّلام (2).

و لكن لا يخفى ما في استدلاله، و لما روى إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السّلام؛ و سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ هذه الصلاة نافلة و لن يجتمع للنافلة» (3).

و إبراهيم بن هاشم (4)، عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال للحسن عليه السّلام: «و أعلمهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة» (5).

و عن «الخصال» في حديث شرائع الدين: «و لا يصلّى التطوّع في جماعة قال: «ذلك بدعة» (6).

و عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون: «لا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة، فإنّ ذلك بدعة، و كلّ بدعة ضلالة» (7).


1- وسائل الشيعة: 8/ 45 الباب 10 من أبواب نافلة شهر رمضان.
2- وسائل الشيعة: 8/ 45 الحديث 10062، منتهى المطلب: 1/ 364.
3- وسائل الشيعة: 8/ 32 الحديث 10040.
4- في المصدر: إبراهيم بن عثمان.
5- وسائل الشيعة: 8/ 46 الحديث 10065.
6- الخصال: 606 الحديث 9، و فيه: «لأنّ ذلك بدلا من: قال: ذلك».
7- وسائل الشيعة: 8/ 335 الحديث 830.

ص: 129

و عن محمّد بن سليمان قال: إنّ عدّة من أصحابنا أجمعوا على هذا الحديث، منهم يونس بن عبد الرحمن، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و صباح الحذّاء، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السّلام.

و سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

قال: سألت الرضا عليه السّلام عن هذا الحديث و أخبرني به- و متن الرواية عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-: «إنّ هذه الصلاة نافلة و لن يجتمع للنافلة» .. إلى أن قال: «و اعلموا أنّه لا جماعة في نافلة» (1) و غير ذلك من الأخبار (2).

فحينئذ؛ لا يبقى شكّ (3) في عدم مشروعيّة الجماعة في النافلة، مضافا إلى أنّ الأصل يكفي فيها مع عدم إطلاق في البين ظاهرا، و اللّه العالم.

الرابع: صلاة الغدير؛ فقد قيل بخروجها عن الحكم الكلّي المزبور، بل لا يبعد دعوى الشهرة فيها، كما عن الأردبيلي (4)، بل عن «إيضاح النافع» أنّ عمل الشيعة عليه (5)، و الأصل في ذلك لا يبعد أن يكون المرسل الّذي نقله في «التذكرة» عن أبي الصلاح (6).


1- وسائل الشيعة: 8/ 32 الحديث 10040.
2- وسائل الشيعة: 8/ 45 الباب 10 من أبواب نافلة شهر رمضان.
3- و العجب من صاحب «المدارك» رحمه اللّه مع أنّ مذهبه في الأصول معلوم، مال في هذه المسألة إلى الجواز (مدارك الأحكام: 4/ 315)، نظرا إلى ما يشعر به كلام «الذكرى» (ذكرى الشيعة: 4/ 383) من وجود القائل به، و إلى الروايتين اللتين مضافا إلى ظهورهما في التقيّة و يشمله ثانيهما على ما هو خلاف المتسالم عندهم، معرض عنهما، فراجع، «منه رحمه اللّه».
4- مجمع الفائدة و البرهان: 3/ 243.
5- لم نقف على هذا الكتاب.
6- الكافي في الفقه: 160، تذكرة الفقهاء: 2/ 285.

ص: 130

و لكن لمّا لم تثبت المرسلة لنا، فحينئذ لا يبقى لنا دليل سوى عمل المشهور و ما ادّعي من مسألة التسامح في أدلّة السنن، و كلاهما لا ينفع شيئا في المقام.

أمّا الأوّل؛ فلما هو المسلّم من أنّ الشهرة في حدّ نفسها ليست دليلا، و إنّما تصلح للجابريّة، مع أنّه لم يثبت لنا مجبور.

و أمّا مرسل أبي الصلاح الّذي احتملنا كونه مدركا للمشهور؛ فيمكن أن يكون ما هو المنقول عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في يوم الغدير من صلاته بالناس ركعتين، بعد أمرهم الاجتماع (1)، مع أنّه يحتمل أن يكون هو صلاة الظهر الفريضة، لا نافلة يوم الغدير، بل هو الأقرب، حيث إنّ اجتماع الناس إلى قبل الظهر بعد النداء من طرفه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع التفرقة الكثيرة الّتي كانت بينهم بعيد جدّا.

و أمّا الثاني: فلأنّ مورد قاعدة التسامح إنّما يكون إذا كان الشكّ في مشروعيّة العبادة فقط، بحيث يحتمل عدم طلب الشارع له، فحينئذ ببركة القاعدة يثبت الطلب و الإحراز.

و أمّا فيما لم يكن كذلك، بل يثبت مبغوضيّة الفعل و إحراز حاله ذاتا، كما في المقام، حيث دلّت الأخبار المتقدّمة على كون النافلة مطلقا بدعة و ضلالة (2)، فالقاعدة لا تثمر؛ إذ لا ترفع الحكم الأوّلي الثابت للذات، بل تحتاج إلى دليل خاصّ يتكفّل ذلك، فيصير بيانا للحكم الثانويّ لها، كما يكون كذلك بالنسبة إلى بعض النوافل ستأتي الإشارة إليها.

فعلى هذا؛ الاحتياط قويّا ترك صلاة الغدير [جماعة] و اللّه العالم.


1- الكافي في الفقه: 160.
2- وسائل الشيعة: 8/ 333 الباب 20 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 131

الجماعة في صلاة العيدين

الخامس: صلاة العيدين، ففيهما أوّلا بحث من جهة كونهما فرضا طرأ عليهما النفل، أو كونهما نوعان من جهة زمان الحضور و بسط يد المعصوم عليه السّلام فيجب، و بالنسبة إلى زمان الغيبة و عدم اجتماع الشرائط فيستحبّ.

فمن ذلك يظهر أنّ مشروعيّتهما في الجملة في عصر الغيبة ممّا لا إشكال فيه، و إنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما جماعة، فإنّه نسب إلى بعض المنع عنه (1).

و لكنّ الأقوى؛ مشروعيّته، و ذلك لأنّه مضافا إلى عدم ثبوت الخلاف لنا ممّن نسب إليه، بل ثبت خلافه، كما سيظهر لك أنّ ما ذكر دليلا للمنع عنها لا يصلح له؛ إذ ليس هو إلّا جملة من الأخبار الّتي مضمونها أنّه أمر المعصوم عليه السّلام أصحابه و قال لهم: صلّ وحدك (2)، و هذا يحتمل فيه وجهان: فإمّا [أن] يكون المراد من الوحدة في مقابل الجماعة المشروعة، أي الصلاة مع المعصوم عليه السّلام و الإمام الحقّ، و إمّا أن يكون المراد من الوحدة الفرادى.

و المعنى الثاني و إن كان أظهر، إلّا أنّه لا محيص عن رفع اليد عنه و حملها على الأوّل، لما ورد من الأخبار الّتي نصّت على مشروعيّتها جماعة و فرادى (3)، و لا يمكن حملها على الجماعة الّتي اجتمعت فيها شرائط الوجوب أي مع


1- مفتاح الكرامة: 3/ 196.
2- انظر! وسائل الشيعة: 7/ 424 الباب 3 من أبواب صلاة العيد.
3- وسائل الشيعة: 7/ 424 الباب 3، من أبواب صلاة العيد.

ص: 132

الإمام عليه السّلام، لورودها في العصر الّذي لم يكن المعصوم عليه السّلام فيه مبسوط اليد.

منها: ما رواه في «الإقبال» عن محمّد بن أبي قرّة، بإسناده إلى الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن صلاة الأضحى و الفطر فقال: «صلّهما ركعتين في جماعة و غير جماعة» (1).

و منها: مرسل ابن مغيرة مضمونه كسابقه (2).

و أمّا جعل موثّقة عمّار الّتي هي أنّه سئل: هل يؤمّ الرجل بأهله؟ فقال: «لا يؤمّ لهنّ و لا يخرجن» (3).

و هكذا موثّق سماعة: «و إن صلّيت وحدك فلا بأس» (4) معارضا، فالإنصاف أنّهما لا يصلحان، أمّا الثاني منهما فلما عرفت أنّ بهذا المضمون بل أظهر منها أخبار كثيرة (5)، و لا بدّ من رفع اليد عن ظاهرها.

و أمّا الأوّل؛ فلأنّه محمول على عدم وجوب صلاة العيدين على النساء، حيث توهّم السائل أنّه إذا لم يجب عليهنّ في جماعة الرجال فهل يجب عليهنّ ذلك في بيوتهنّ؟ فأجاب عليه السّلام بعدم وجوب كليهما عليهنّ، فتأمّل!

هذا كلّه؛ مضافا إلى أنّه يظهر من عبارات جماعة من الأساطين من المتقدّمين و المتأخّرين كون المسألة إجماعيّة، منهم المفيد قدّس سرّه، و العجب أنّه الّذي نسب إليه المنع قال في «المقنعة» على ما حكي عنه: (و للفقهاء من شيعة آل


1- إقبال الأعمال: 285، وسائل الشيعة: 7/ 425 الحديث 9757.
2- وسائل الشيعة: 7/ 426 الحديث 9759.
3- وسائل الشيعة: 7/ 471 الحديث 9888، و فيه: لا يؤمّ بهنّ.
4- وسائل الشيعة: 7/ 422 الحديث 9747.
5- وسائل الشيعة: 7/ 421 الباب 2 من أبواب صلاة العيد.

ص: 133

محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمس و صلوات الأعياد و الاستسقاء و الخسوف و الكسوف) (1).

و منهم ابن إدريس، فعن «السرائر»: أنّ إجماع أصحابنا و هو قولهم بأجمعهم: يستحبّ في زمان الغيبة لفقهاء الشيعة أن يجمعوا بهم صلوات الأعياد (2).

و منهم الراوندي، فعنه أنّه بعد نقل إنكار الجماعة في صلاة العيدين عن بعض قال: الإماميّة يصلّون هاتين الصلاتين جماعة، و عملهم حجّة (3).

ثمّ إنّ هنا فروعا اخر من حيث اعتبار المجانسة بين صلاة المأموم و الإمام قضاء و أداء و فرضا و نفلا في ما يجوز فيه من النوافل كالعيدين مع صلاة الخسوف و الكسوف و غير ذلك من الجهات أشار إليها- دام ظلّه- و لم يعتبرها إلّا فيما كان توافقهما اتّفاقيّا، كالاستسقاء و أحد العيدين، حيث إنّه نادر جدّا أن يجتمع أسبابهما فيشكل شمول الإطلاقات لها، فتدبّر! و اللّه العالم.

ما يدرك به الجماعة

اشارة

البحث الثاني: في ما يدرك به الجماعة

إدراك الجماعة تارة يبحث من حيث إدراكه أصل الجماعة، و اخرى من حيث ركعاتها، أمّا الأوّل: فيدرك الجماعة بإدراك الإمام في تشهّده الأخير،


1- المقنعة: 811، حكاه صاحب جواهر الكلام: 11/ 350.
2- السرائر: 1/ 316، مع اختلاف في الألفاظ.
3- نقل عنه البحراني في الحدائق الناضرة: 10/ 215.

ص: 134

و كذلك قبل السجدة الأخيرة، بل السجدتين، إلّا أنّه إشكال فيها من حيث زيادة الركن.

و على كلّ حال؛ فحينئذ يكبّر و يدخل في الصلاة و يتبع الإمام حتّى يفرغ من صلاته فيقيم و يتمّ صلاته من دون تجديد و استيناف تكبيرة الإحرام، و ذلك لما دلّت عليه روايات صحاح تبلغ حدّ الاستفاضة (1) و في «الجواهر» تعرّض لهذه المسألة في آخر بحث الجماعة (2) و نحن أيضا نزيد الكلام فيها في ما يأتي إن شاء اللّه.

و أمّا الثاني: في إدراك الركعة؛ الأقوال ثلاثة:

أحدها: ما هو المشهور المنصور، و هو أنّ آخر ما تدرك به الركعة هو قبل رفع الإمام رأسه من الركوع.

ثانيها: إدراك تكبيرته للركوع.

ثالثها: إدراك تسبيحة ركوعه، و منشأها اختلاف الأخبار.

و الأقوى قول المشهور، و الأخبار الدالّة عليه كثيرة، منها: ما رواه المشايخ الثلاثة عن الصادق عليه السّلام «إذا أدركت الإمام و قد ركع فكبّرت قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدركت الركعة، و إن رفع رأسه قبل أن تركع فقد فاتتك الركعة» (3).

و منها: عنه عليه السّلام أيضا في الرجل: «إذا أدرك الإمام و هو راكع فكبّر الرجل


1- وسائل الشيعة: 8/ 392 الباب 49 من أبواب صلاة الجماعة.
2- جواهر الكلام: 14/ 54.
3- وسائل الشيعة: 8/ 382 الحديث 10963.

ص: 135

و هو مقيم صلبه، ثم ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الركعة» (1) و غير ذلك من الأخبار (2)، و دلالتها على المطلوب واضحة.

و الدليل على القول الثاني أيضا أخبار:

الأوّل: صحيحة محمّد بن مسلم، عن الباقر عليه السّلام قال: قال لي: «إن لم تدرك القوم قبل أن يكبّر الإمام للركعة فلا تدخل معهم في تلك الركعة» (3).

هذا؛ مضافا إلى عدم تعرّضه لمسألة الإدراك و إنّما هو النهي المحمول على الكراهة من لفظ «القوم» فيه، يستفاد سوقه للنهي عن الدخول معهم في الصلاة تقيّة؛ لاستلزامه حينئذ فوت القراءة.

الثاني: عنه عليه السّلام أيضا: «إذا لم تدرك تكبيرة الركوع فلا تدخل في تلك الركعة» (4) و هذا أيضا مشترك مع الأوّل في الجهة الاولى من الكراهة.

الثالث: عنه عليه السّلام أيضا: «لا تعتدّ بالركعة الّتي لم تشهد تكبيرها مع الإمام» (5)، و هذا مثلهما محمول على الكراهة، أو إرشاد إلى عدم الوصول بالركوع، و احتمال أن يفوت، فهذه التلبية راويها هو الّذي روي عنه في الطائفة الاولى أيضا، و بعد أن كان صريحها إدراك الركعة بما عرفت، فلا محيص عن حمل هذه على الكراهة و نحوها.

الرابع: صحيح آخر عنه عليه السّلام: «إذا أدركت التكبيرة قبل أن يركع الإمام فقد


1- وسائل الشيعة: 8/ 382 الحديث 10962.
2- وسائل الشيعة: 8/ 382 الباب 45 من أبواب صلاة الجماعة.
3- وسائل الشيعة: 8/ 381 الحديث 10959.
4- وسائل الشيعة: 8/ 382 الحديث 10961.
5- وسائل الشيعة: 8/ 381 الحديث 10960.

ص: 136

أدركت الصلاة» (1).

و هذا لا ربط له بما نحن فيه، و إنّما هو ينفي عدم إدراك الصلاة أصلا، فهو يعارض بظاهره الأخبار الدالّة على الجهة الاولى الّتي هي راجحة عليه سندا و دلالة فلا بدّ من رفع اليد ببركتها عن مفهومه.

الخامس: حسنة الحلبي الواردة في الجمعة (2)، و هي إن كانت دلالتها على مسألتنا تامّة إلّا أنّه بعد أن كانت بالمفهوم الّذي يتوقّف على تماميّة إطلاق المنطوق بمقدّمات الحكمة حتّى تختصّ العلّة بالمذكور في القضيّة، و معلوم أنّ ظهور تلك الأخبار و دلالتها في وجود سبب آخر يصير بيانا و يمتنع عن انعقاد الإطلاق.

فعلى هذا؛ هذه الخمسة لا تصلح لمعارضة الطائفة الاولى دلالة، و مع الغضّ عن ذلك فالمرجّحات السنديّة فيها أيضا موجودة، من الشهرة الروايتي- كما تظهر من رواية «الاحتجاج» (3)- و الفتوائي، حيث إنّه لم يعمل بهذه الطائفة من القدماء إلّا الشيخ قدّس سرّه (4)، و من حيث العدد و الكثرة، فلا مجال لرفع اليد عنها و العمل بها، كما لا يخفى.

و الدليل على القول الثالث رواية «الاحتجاج» عن الحميري عن مولانا صاحب الزمان- أرواحنا له الفداء- (5).


1- وسائل الشيعة: 8/ 381 الحديث 10958.
2- وسائل الشيعة: 7/ 345 الحديث 9536.
3- الاحتجاج: 2/ 310، وسائل الشيعة: 8/ 383 الحديث 10966.
4- المبسوط: 1/ 158.
5- الاحتجاج: 2/ 310، وسائل الشيعة: 8/ 383 الحديث 10966.

ص: 137

و هو مضافا إلى ما في أصل سنده- حيث إنّ روايات «الاحتجاج» و إن كانت صحاحا عنده حسبما صرّح به في أوّل كتابه، من أنها غنيّة عن ذكر سندها (1)، إلّا أنّها بالنسبة إلينا لا تخرج عن كونها مرسلة- أنّ النسبة بينها و بين الطائفة الاولى من قبيل: «إذا خفي الأذان فقصّر» (2)، و «إذا خفي الجدران فقصّر (3)» (4) لمكان أنّ كليهما في مقام التحديد، غايته أنّ مفاد الاولى أعمّ، و حينئذ لو أخذنا برواية «الاحتجاج» يوجب طرح الأخبار الاولى مع كثرتها رأسا، إذ المفروض أنه لم يعمل بالحدّ الذي يستفاد منها مع كونها ظاهرا في النجاسة، و معاملة الإطلاق و التقييد إنّما يجري في غير مقام، مما لم يكن المطلق الدالّ على الأزيد و الأكثر في مقام التحديد، حتّى تستلزم تلك المعاملة و الجمع طرح أحد الدليلين، و هو المطلق فلا محيص عن جعلها قرينة لهذه الرواية، و رفع اليد عن مفهومها، فتأمّل! و اللّه العالم.

فروع:

الأوّل: لا ينبغي التأمّل في أنّ حدّ الركوع الّذي يدرك به الجماعة هو ما لو اجتمع ركوع المأموم مع ركوع الإمام، أي يصل المأموم إلى حدّ الراكع و لم يأخذ الإمام بالرفع فيدركه فيه، و إلّا فلا يصدق الإدراك بأن يصل المأموم إلى حدّ الراكع و الإمام آخذ بالرفع، أو يكون هو في حال الهويّ و الإمام في حال الرفع.


1- الاحتجاج: 1/ 4.
2- و إن كان فرق بين المقامين من جهة لما تقدّم في بحث صلاة المسافر من أنّ واقع الشرطين أمر واحد و إنّما يكون الاختلاف في مراتب الشرطين مفهوما، «منه رحمه اللّه».
3- أي: من جهة تعدّد الشرط و اتّحاد الجزاء، «منه رحمه اللّه».
4- وسائل الشيعة: 8/ 470 الباب 6 من أبواب صلاة المسافر.

ص: 138

و ذلك؛ لأنّه: أوّلا: أنّ الظاهر من الفعل الماضي في قوله عليه السّلام: «إذا ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه» (1) النسبة التحقيقيّة لا التلبسيّة، و من المعلوم أنّ ذلك لا يصدق إلّا في الصورة الاولى لا الأخيرين.

و ثانيا: أنّ إدراك الركوع منصرف عنهما، إذ الظاهر منه هو الركوع الحقيقي لا ما يجزي عنه في بعض المواقع كالاضطرار و نحوه، حيث يكتفى ببعض مراتبه.

و بالجملة؛ كون المأموم راكعا في حال أخذ الإمام في الرفع لا يصدق أنّه أدرك الإمام راكعا، بمعنى أنّ الدليل منصرف عنه، ففيما لو كان هو في حال الهوي و الإمام آخذا في الرفع؛ الأمر أوضح.

الثاني: المراد بأنّ آخر ما يدرك به الركعة في الجماعة أيّ شي ء هل هذا مختصّ بابتداء الصلاة أو مطلق يشمل تمام الركعات؟ ثمّ إنّه هل هذا حكم تعبّدي في الركعة الاولى بحيث يكون لا بدّ من إدراك ركوع الإمام مطلقا على كلّ حال، و لا يجزي إدراك الإمام قبل الركوع لو لم يدركه، أم لا، بل لا موضوعيّة في البين، و المراد أنّ آخر ما يدرك به الركعة هو هذه الحالة، فهو لبيان الحدّ، فلو لم يدرك ركوع الإمام و لا قبله فالجماعة غير مدركة؟ احتمالات، بل أقوال ثلاثة:

أحدها: أن يكون حكما تعبّديّا مختصّا بالركعة الاولى بحيث لو لم يدرك ركوع الإمام فيها و لو أدركه قبله فلا يتحقّق إدراك الركعة.

ثانيها: أن يكون تحديدا لها، بأن يعتبر ذلك لإدراك خصوص الركعة الاولى، من حيث إنّه آخر ما يدرك به الركعة الاولى هو حدّ إدراك ركوع الإمام، فهذا هو الحدّ له فلو أدركه قبله فقد أدرك الركعة و ما فاتته.


1- وسائل الشيعة: 8/ 382 الحديث 10962.

ص: 139

ثالثها: أن يكون تحديدا لمطلق الركعات لا خصوص الاولى، و هذا هو الحقّ، و عليه المشهور.

فهنا دعويان:

الاولى: أنّه يكفي لإدراك الركعة إدراك أحد أفعال الإمام إلى أن يرفع رأسه عن ركوع كلّ ركعة فيجزيه إدراكه و لو قبل الركوع، و الركوع هو آخر الحدّ لا أن يكون أمرا تعبّديّا يعتبر مطلقا.

و يدلّ عليها روايات (1) عن عبد الرحمن بن حجّاج و غيره مضمونها: أنّه سئل عن المعصوم عليه السّلام أنّه كان رجل مصلّيا مع الإمام فمنعه الزحام عن الركوع معه حتّى سجد هل فاتته الركعة؟ فأجاب عليه السّلام بأنّه «لا» (2).

فهذه قرينة على أنّ المراد بالأخبار الدالّة على أنّه إذا لم يدرك ركوع الإمام فقد فاتت الركعة هو التحديد و بيان آخر حدّ يمكن اللحوق بالإمام في الركعة، لا أن يكون تعبّدا في البين.

هذا مع ما عليه الأصحاب في باب الجمعة و غيرها من أنّ إدراك الركعة لا يتوقف على الركوع، فراجع!

الثانية: أنّه إذا لم يدرك الإمام في الركعة أصلا إلى الركوع فقد قامت الركعة، سواء كان في الركعة الاولى أو غيرها، و عليها و إن لم يكن دليل بالخصوص إلّا أنّ مقتضى الأصل ذلك، حيث إنّه إذا كان المفروض عدم إدراك شي ء من الركعة مع الإمام فلا دليل على إدراك الركعة و يكفي في الحكم بالعدم عدم الدليل.


1- أوردها في «الوسائل» في باب الجمعة ظاهرا، «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 7/ 335 الحديث 9514، و 336 الحديث 9516.

ص: 140

و أمّا الأدلّة الدالّة على أنّ فوت ركن واحد أو أزيد في الجماعة فلا يضرّ، فلا ينفع شيئا، لمكان أنّها فيما إذا كانت الركعة مدركة قبل الركن و من غير جهته.

هذا؛ مضافا إلى أنّ مناسبة الحكم و الموضوع من جهة أنّ تسمية الركعة بها لاشتمالها على الركوع يقتضي ذلك، و يصير قرينة على إلغاء خصوصيّة الركعة الاولى في الأخبار المشتملة عليها، كما في بعض ما روي عن ابن حجّاج (1).

فعلى هذا؛ التحقيق ما بنينا عليه، فما في « [وسيلة] النجاة» (2) من اختصاصه بالركعة الاولى، و كذلك في «العروة»، لا وجه له (3).

الثالث: الأقوى عدم بطلان الصلاة فيما إذا ركع بقصد إدراك ركوع الإمام فرفع رأسه و لم يدركه، فهذا و إن لم يحتسب له ركوع إلّا أنّه ليست زيادة مبطلة، بل ملحقة بزيادة الركن الّتي لا يضرّ في الجماعة.

و ذلك؛ فلعموم أدلّتها و عدم وجود شي ء فيها أنّها تختصّ بالزيادة الّتي أدرك الإمام و تحقّق التبعيّة فعلا، بل يكفي قصد الإدراك و التبعيّة، و يؤيّد إطلاقها رواية حفص الواردة في باب الجمعة في من لم يدرك الإمام في سجدة الركعة الاولى، و بقي على حاله إلى أن لحقه الإمام لسجود الركعة الثانية فيجب عليه متابعته حينئذ في السجود و ينوي بهما للاولى.

و قال عليه السّلام: إنّه «و إن كان لم ينو السجدتين في الركعة الاولى لم تجز عنه الاولى و [لا] الثانية، و عليه أن يسجد» (4) ... إلى آخره، فما حكم عليه السّلام ببطلان


1- وسائل الشيعة: 8/ 387 الحديث 10975.
2- وسيلة النجاة: 1/ 250 المسألة 10.
3- العروة الوثقى: 1/ 790 المسألة 23.
4- وسائل الشيعة: 7/ 335 الحديث 9515، مع اختلاف يسير.

ص: 141

الصلاة مع أنّ السجدتين ركن، و المفروض عدم تحقّق التبعيّة فعلا، لمكان وجوبهما عليه ثانيا و إتيان ركعة تامّة بعده، و المسألة و إن كانت خلافيّة إلّا أنّ الرواية معتبرة و عمل بها جمع.

مضافا إلى أنّه لا إشكال في أنّه لو رفع المأموم رأسه من الركوع ساهيا قبل الإمام ثمّ رجع ثانيا، مع أنّ الإمام كان رافعا رأسه فلم يدركه، هذه الزيادة لا تبطل الصلاة، فهذه أيضا تدلّ على أنّ المغتفر قصد الإدراك، و بالجملة؛ فما أفتى به في « [وسيلة] النجاة» (1) من بطلان الصلاة و تبعه في «العروة» (2) لا وجه له.

و أمّا الأدلّة و الأخبار المعتبرة منها إدراك ركوع الإمام فلا تدلّ على بطلان الصلاة، بل غاية مدلولها أنّه فاتته الركعة (3).

الرابع: في المسألة السابقة فبناء على التحقيق من عدم بطلان الصلاة لا إشكال أنّه يجوز للمأموم أن ينفرد حينئذ و يجوز له المتابعة و البقاء على الجماعة، و عليه فهل يجب عليه متابعة الإمام في السجدتين أولا، بل يتعيّن عليه التوقّف حتّى يخلص الإمام من تلك الركعة فيتبعه في الركعة اللاحقة؟

الّذي يظهر من عبارات بعض أساطين الفقهاء كالعلّامة قدّس سرّه الأوّل (4)، نظرا إلى عموم «فاركعوا حين يركع و اسجدوا إذا سجد» (5).

و فيه- مع الغضّ عمّا في سند الدليل المزبور- أنّه: لا يدلّ- كما سيأتي


1- وسيلة النجاة: 1/ 255 المسألة 12.
2- العروة الوثقى: 1/ 786 المسألة 10.
3- وسائل الشيعة: 8/ 390 الباب 48 من أبواب صلاة الجماعة.
4- تذكرة الفقهاء: 4/ 345.
5- سنن ابن ماجة: 1/ 276.

ص: 142

توضيحه- على ما ذكر، حيث إنّه ليس مشرّعا للركوع و السجود، بل هو في مقام بيان تشريع التبعيّة و حكمها، و أنّ ما يجب على المأموم من إجراء صلاته فعليه الإتيان بها تابعا للإمام، لا أنّه يجب عليه ذلك، و لو لم يكن على نفسه شي ء كما في المقام.

و على هذا؛ فيتعيّن الوجه الثاني؛ لعدم الدليل على جواز الاتّباع و الإتيان بالركن الزائد اختيارا، و لذلك لا يجب متابعة الإمام فيما إذا ابتدأ المأموم في صلاته المغرب بعشائه في الركعة الأخيرة منها بلا إشكال.

و بالجملة؛ الأخبار الدالّة على أنّه يسجد مع الإمام السجدتين، إذا أدركه بعد الركوع (1) إنما هي لبيان درك فضل الجماعة و يحمل على الاستحباب، جمعا بينها و بين الطائفة الاخرى الدالّة على لزوم الوقوف في حال القيام، و عدم السجود مع الإمام، كما يأتي تفصيل ذلك في محلّه إن شاء اللّه.

مضافا؛ إلى أنّه على فرض الالتزام بلزوم المتابعة أو رجحانها بالنسبة إلى السجدتين، فسيأتي أنّه لا دليل على بطلان الصلاة بذلك، و أنّ الأخبار الّتي مفادها أنّه (فاسجد مع الإمام لا تعتدّ بها) (2)، فهي لا تدلّ إلّا على أنّه لا تعتدّ بالسجود و الركعة، و على فرض القول بالبطلان بها أو بالخروج عن الصلاة لمتابعته في السلام، فليس ذلك دليلا على عدم مشروعيّة الايتمام، و عدم جواز تكبيرة الإحرام بعد ورود الأمر بها، لأنّه يمكن أن يكون ذلك من باب اعتبار التكبيرة للدخول، و لو في جزء من الصلاة كما اعتبر في أصلها، كما لا يخفى، و اللّه العالم.


1- وسائل الشيعة: 8/ 392 الباب 49 من أبواب صلاة الجماعة.
2- وسائل الشيعة: 8/ 392 الباب 49 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 143

الخامس: لا إشكال في أنّه يجوز الدخول في الجماعة في أيّ حال مطلقا، سواء احتمل أنّه يدرك الإمام فعلا أم لا، بل مع القطع بالعدم لأنّه لو لم يدركه في الحال فله أن يصبر فيلحقه في الركعة الآتية، و له أن ينفرد و لا محذور في شي ء من ذلك أصلا، فلا يحتاج إلى إجراء أصل و نحوه، حتّى يحرز بقاء الإمام على حاله الّذي يكون عليه.

فعلى هذا؛ عنوان المسألة بأنّه هل يجوز الاقتداء و يمكن إحراز البقاء بالأصل أم لا؟ كما في بعض العبارات، لا وجه له، بل العنوان أنّه هل يجوز أن يؤتى بالركوع بقصد التبعيّة مع عدم العلم بالإدراك؟ و هل يصحّ إحراز ذلك باستصحاب بقاء الإمام على حاله حتّى يلحقه المأموم كما ببركته يحكم ببقائه على صفاته المعتبرة فيه إلى أن يتمّ الصلاة، بل به يحكم على بقاء مطلق الامور في الزمان المستقبل ممّا لا يمكن إحرازه بالوجدان، لعدم خلوّها عن الحوادث من الموانع الّتي بها يمكن زوال الوصف، أم لا يصحّ ذلك في خصوص المقام؟ قد استشكل فيه شيخنا قدّس سرّه نظرا إلى أنّه و إن قلنا بقيام بعض الاصول و الأمارات مقام العلم الطريقي، و لكن إنّما يكون ذلك فيما إذا لم يعتبر الإحراز الوجداني (1).

و بعبارة اخرى: الاطمينان و الاستصحاب و إن كان من الاصول المحرزة إلّا أنّه لمّا لا يحصل الاطمينان فلا يترتّب الأثر الشرعي عليه في المقام، و سيأتي سرّ ذلك، و تنقيح هذه المسألة في الفرع الآتي و اللّه المؤيّد.


1- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 331.

ص: 144

الشكّ في إدراك ركوع الإمام

السادس: إذا ركع المأموم و شكّ في إدراكه ركوع الإمام، بأن لم يرفع رأسه قبله، فهل يصحّ الحكم بإدراكه بالأصل، بأن يستصحب بقاء الإمام راكعا، أم لا؟ فقد يجعل مبنى المسألة على مسألة استصحاب مجهول التأريخ و معلومه، و سنشير إلى وجهه.

و على كلّ تقدير؛ جريان الأصل في المقام و عدمه يقتضي بيان ضابطة جريان الاستصحاب في الحادثين المجتمعين في الوجود فيترتّب عليه الأثر الشرعي بحيث لا يلزم مثبت.

فنقول: كلّما كان الأثر الشرعي لنفس اجتماع حادثين في الزمان عناية اخرى، كما لو فرضنا في المقام بأن يكون الحكم مترتّبا على حصول ركوع المأموم في زمان حصول ركوع الإمام، فحينئذ لو احرز أحدهما بالوجدان و شكّ في الآخر من حيث حدوثه و اجتماعه معه و عدمه، فهنا يحكم به بالأصل و تكون المسألة من صغريات الموضوعات المركّبة الّتي أحرز أحد جزأيها بالأصل و الآخر بالوجدان، كما حكموا به في مسألة العلم بإسلام الوارث مع الشكّ في موت مورّثه قبله أو بعده، لكون الأثر مترتّبا على الإسلام في زمان حياة المورّث.

و كلّما كان الأثر مترتّبا على حال من أحوال أحد الحادثين عند حادث آخر و لم يكن صرف الاجتماع في الوجود، بأن اخذ أحد العنوانين نعتا للآخر، كما يمكن ذلك في العرض و محلّه، لا في الجوهرين و لا في العرضين موضوع كلّ منهما غير الآخر، بل في مثلهما المعقول هو الشقّ الأوّل حسبما أوضحناه في محلّه.

ص: 145

و كيف كان؛ في هذا القسم الاستصحاب لا مجرى له، كما لو فرضنا أن يكون المقام من هذا القبيل بأن اعتبر ركوع المأموم حال ركوع الإمام، أو يتحقّق ركوعه قبل أن يرفع رأسه، فهنا ترتّب الأثر لمّا كان يتوقّف على إحراز العنوان المأخوذ في الدليل و الأصل- أي استصحاب بقاء ركوع الإمام- لا يحرز ذلك؛ لكونه أمرا عقليّا إلّا بناء على المثبت، فلذلك الأصل لا سبيل إليه إلّا أن يجعل العنوان المأخوذ كناية عن الاجتماع في الوجود، و لا يكون له خصوصيّة، و يدخل في القسم الأوّل، و على هذا، يمكن إدراك المسألة في معلوم التأريخ و مجهوله.

توضيح ذلك: أنّه إذا فرضنا أن يكون وقت ركوع الإمام معلوما بأنّه في الثانية الفلانيّة؛ فحينئذ إذا شكّ المأموم في تحقّق ركوع نفسه قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، فلمّا كان هو معلوما حاله و لا مجرى للأصل فيه و الطرف الآخر مشكوك من حيث لحوق المأموم به و عدمه، فالأصل يجري فيه و يحكم بعدم الإدراك لأصالة عدم تحقّق ركوع المأموم قبل رفع الإمام رأسه.

و لو كان الأمر بالعكس فالحكم كذلك، بأن كان زمان ركوع نفسه معلوما و ركوع الإمام مجهولا، فهنا بأصالة بقاء ركوع الإمام يحكم باللحوق و إدراك المأموم ركوعه، و لو كان زمان كليهما مجهولا فيتعارض الأصلان، أو لا يجريان رأسا، على الخلاف في المسألة.

و لكن كلّ ذلك بناء على إلغاء خصوصيّة القبليّة و نحوها من العنوان المأخوذ في الدليل و جعله كناية عن الاجتماع في الوجود فقط، و إلّا فهذا التفصيل أيضا لا يثمر شيئا، إذ بالأصل على كلّ حال لا يثبت العنوان و هو القبليّة، كما لا يخفى.

ص: 146

ثمّ إنّ هذا التفصيل بعينه يجري في الفرع السابق أيضا في جواز الإتيان بالركوع بقصد التبعيّة، كما بنى عليه شيخنا قدّس سرّه في بعض كلماته (1)، فلو بني على إلغاء خصوصيّة العنوان ففيه: الأصل ينفع؛ لجواز التبعيّة مع الشكّ في الإدراك إذا لم يكن حدّ ركوع الإمام معلوما حتّى يصير زمان رفع رأسه معلوما، و إلّا فيصير نتيجة الأصل بالعكس، حيث إنّه إذ كان حدّ ركوع الإمام معلوما و ركوع نفسه مشكوكا، فلا بدّ أن يجري أصالة عدم اللحوق فيعمل بمقتضاه، هذا هو أساس الأمر في كلا الفرعين.

إذا تبيّن ذلك فنقول: الحقّ عدم جريان الأصل في كلا المقامين، أما في الأوّل؛ فلأنّه مضافا إلى أنّه استصحاب في المستقبل و هو لا يخلو عن الإشكال كما يظهر من بعض كلمات «الجواهر» (2) لانصراف أدلّته إلى ما يكون متعلّق الشكّ و اليقين موجودا في الحال أو لا، قد عرفت أنّ جريان الأصل مبنيّ على إلغاء قيد الخصوصيّة، و جعل عنوان القبليّة المأخوذ في الأدلّة كناية عن صرف الاجتماع في الوجود و هو خلاف الظاهر، فلا سبيل إليه، و إلّا فيجري ذلك في مطلق العناوين المأخوذة في أدلّة الأحكام، فبهذه المئونة يلغى كلّها عن الموضوعيّة.

و ثانيا: مع الغضّ عن ذلك أنّ الأصل المذكور لا يثمر شيئا؛ لمكان أنّ جواز الاقتداء و الإتيان بالركوع بقصد التبعيّة يتوقّف على إحراز الإدراك و هو لا يحرزه.


1- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 333 و 334.
2- جواهر الكلام: 12/ 325.

ص: 147

و بعبارة اخرى: كما أنّ أصل الصلاة يتوقّف على الجزم في النيّة بالنسبة إلى الامور الّتي تحت اختيار المكلّف، فهكذا في أجزائها، فما لم يجزم بها يشكل جواز الإتيان بها، بمعنى أنّ المسألة تدخل في جواز الإتيان بامتثال الاحتمال مع إمكان الامتثال العلمي.

و بالجملة؛ أصل جواز الاقتداء في كلّ حال لا ربط له بمسألة قصد المتابعة في جزء مع الشكّ في تحقّقها، و عدم إحراز الإدراك، و الأصل لا ينفع في ذلك لأنّه إنّما يجري في أمثال المقام في ما لا يمكن إحرازه وجدانا، بمعنى أنّها خارجة عن اختيار الشخص، و أمّا في ما هو باختياره، و داخلة في موضوع النيّة و ما يعتبر فيه الجزم، فلا محيص عن تحصيل الاطمئنان.

و من ذلك؛ ظهر أنّه لا يمكن أن يقال: لمّا لا يضرّ هذا الركوع و لو لم يحصل الإدراك لما بنيتم أنّه زيادة مغتفرة، فلا مانع عن الإتيان به و لو بقصد المتابعة، لأنّ ذلك إنّما يثمر فيما إذا دخل و أتى بالركوع على وجه مشروع و اتّفق عدم الإدراك، و الإشكال في المقام في أصل مشروعيّة الإتيان به من الأوّل، فتأمّل في ما ذكرنا حتّى يظهر لك ما في ما أفاده الشيخ قدّس سرّه في المقام (1)، و الظاهر؛ إنّ ما سلكنا هو ما عليه المشهور، و اللّه العالم.

شرائط الجماعة

اشارة

البحث الثالث: في شرائط الجماعة، و هي بين أمرين و قسمين:

أحدهما: ما يرجع إلى الشرط العرفي في أصل تحقّق كلّ اجتماع و صدقه،


1- المبسوط: 1/ 159.

ص: 148

بحيث يكون تصرّف الشارع حينئذ من باب التحديد و تعيين أحد مصاديق ما هو المعتبر عند العرف في الجملة، و هو أمران: الاجتماع و عدم البعد بين الإمام و المأموم زائدا على المقدار المعيّن، و عدم وجود الحاجب.

ثانيهما: ما يكون شرطا شرعيّا و تعبّديا محضا كعدم انخفاض مكان الإمام عن المأمومين.

أمّا القسم الأوّل:
فالأوّل من الشرطين- و هو عدم وجود الحائل بين الإمام و المأموم
اشارة

إذا كان من الرجال- هو أن لا يكون بينهما ما يمنع عن المشاهدة غير الصفوف في سائر الحالات، و الجامع عدم وجود السترة المانعة عن المشاهدة.

و الأصل فيه- مضافا إلى الإجماعات المنقولة البالغة إلى حدّ الاستفاضة في المسألة:- صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام ففيها: «إن صلّى قوم و بينهم و بين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام، و أيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة إمام و بينهم و بين الصفّ الّذي يتقدّمهم قدر ما لا يتخطّى فليس تلك لهم بصلاة، و إن كان بينهم سترة أو جدار، فليس تلك لهم بصلاة إلّا من كان بحيال الباب» و قال: «و هذه المقاصير لم يكن في زمان أحد من الناس و إنّما أحدثها الجبّارون، و ليس لمن صلّى خلفها يقتدي (1) بصلاة من فيها صلاة» (2).

و دلالتها على المطلوب- و هو اعتبار عدم الحائل المانع عن المشاهدة- واضحة؛ لأنّ المراد من السترة و الجدار فيها ليس إلّا بيانا للمثال، و المقصود من


1- في من لا يحضره الفقيه: مقتديا.
2- من لا يحضره الفقيه: 1/ 253 الحديث 1144، وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11039 و 407 الحديث 11033.

ص: 149

ذكرهما أنّه كلّ ما يكون موجبا لتحقّق الستر بين الإمام و المأموم.

و من المعلوم؛ أنّ صدق الستر و الجدار لا يتحقّق إلّا بأن يكون الحائل يمنع عن المشاهدة، فلو لم يكن كذلك مثل الحائط القصير، كما لو كان ارتفاعه بمقدار الشبر فلا يصدق عليه أنّ بينهما سترة أو جدار، و المراد من «المقصورة الّتي أحدثها الجبّارون» هو الحجرة الّتي كانوا يبنون مكان المحراب، و كان له باب من خارج المسجد على وجه لا يحتاج الإمام للدخول فيه بالدخول في المسجد و إن كان له باب آخر في المسجد أيضا.

و قوله عليه السّلام: «إلّا من كان بحيال الباب» يحتمل أن يكون المراد منه باب المقصورة فيكون توطئة لقوله عليه السّلام: «و هذه المقاصير» .. إلى آخره.

و يحتمل أن يكون المراد منه باب المسجد الّذي يصلّي فيه الإمام، و هذا أظهر، كما سيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه.

ثمّ إنّ هذا أصل موضوع الشرط، و يتفرّع عليه امور نذكرها في طيّ

مسائل:
الاولى: أنّه قد عرفت لا إشكال [في] أنّه لو كان بين الإمام و المأموم حائل يمنع المشاهدة رأسا تبطل الصلاة

حينئذ، و أمّا لو كان على نحو يمنع عن المشاهدة في بعض الحالات كحالة الجلوس أو القيام فقط، فقد يقال بأنّه لا يضرّ نظرا إلى أنّ المراد صدق الحائل على وجه الكلّي.

و فيه: أنّه قد علّق الحكم بعدم كون الصلاة صلاة يكون بينهما ساتر على نحو صرف الوجود.

و بعبارة اخرى: المستفاد من الرواية اعتبار عدم الساتر بين الإمام

ص: 150

و المأموم في صحّة صلاة المأموم جماعة على نحو السالبة الكليّة، و من المعلوم أنّه يكفي في رفع ذلك تحقّق الستر و لو في بعض الحالات؛ لصدق تحقّق الساتر بين الإمام و المأموم، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ قوله في الرواية: «إن كان بينهم سترة أو جدار» عطف على قوله: «و كان بينهم قدر ما لا يتخطّى» فيصير من قبيل الحال، و المعنى يصير حينئذ: أنّه إن صلّى قوم و كان بينهم و بين الإمام سترة أو جدار، و كلّ شي ء كان مفيدا لحكاية الحال يدلّ على اقتران الحال مع الفعل الّذي كان هذا الحال حالا له على نحو الاستيعاب، كما سيجي ء ذلك بالنسبة إلى مسألة ما لا يتخطّى.

فعلى هذا؛ فلو كان الحائل مانعا في بعض الحالات لا يضرّ إلّا على نحو يلحق بالعدم، بحيث كان مانعا بالنسبة إلى معظم الحالات، و أمّا في مثل حال الجلوس فقط و نحوه فلا، و لعلّ ذلك منشأ ذهاب المعظم إلى عدم مضرّيّة الحائل في هذه الحالة.

نعم؛ و لو لم نقل بذلك، و بنينا على الأوّل: إذا كان الحائل على نحو يمنع عن المشاهدة في خصوص حال السجود، بأن يكون ارتفاعه بمقدار شبر أو أنقص، فلا يكون مشمولا للرواية، لعدم صدق الجدار و الحائل، و إن صدق أنّ بينهما شي ء، و بعد عدم شمول الرواية لمثله فلا بدّ من الالتزام بعدم كونه مانعا لو كان لنا عموم في باب الجماعة و أمكن الرجوع إليه.

و لكن قد تقدّم في صدر الباب أنّه ليس لنا عموم قابلا لرفع الشكّ إذا شكّ في اعتبار شي ء لانعقاد الجماعة عرفا أو شرعا، و لا إشكال في ثبوت الشكّ في اعتبار أمثال هذه الأمور، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول العمليّة، و مقتضاها في

ص: 151

أمثال المقام الاحتياط لا البراءة.

ضرورة أنّ صلاة الجماعة فرد من الصلوات الواجبة عينا، فإذا شكّ في اعتبار شي ء فيها، فمرجع ذلك إلى الشكّ في المحصّل لا إلى الأقلّ و الأكثر الارتباطيّين حتّى يرجع إلى البراءة، كما لا يخفى.

إذا كان الحائل بحيث لا يمنع عن المشاهدة

المسألة الثانية: إذا كان الحائل مخرّما

مثل الشبابيك و أمثالها، فتارة؛ يكون على نحو [تكون] فرجه في غاية الضيق، مثل ما إذا كان من بعض أنواع الحصر و نحوه فإنّ هذا مثل ما لا يكون له الفرج أصلا لصدق الحائل و السترة عليه، كما لا يخفى.

و اخرى؛ يكون على وجه [تكون] فرجه واسعة لا تمنع عن المشاهدة، كالشبابيك الموجودة في الرواقات؛ ففي أمثالها لا ينبغي الريب في عدم شمول الرواية لها؛ لعدم صدق الساتر و الجدار عليها.

و توهّم إمكان دخوله من جهة قوله في صدرها: «و إن كان بينه و بين الإمام ما لا يتخطّى» بناء على أن يكون المراد منه ما لا يمكن أن يتخطّى، سواء كان ذلك لعدم المقتضي- كما إذا كان الفصل لبعد المسافة- أو كان لوجود المانع كالشبابيك المذكورة، مدفوع بأنّ المراد من «ما لا يتخطّى» على ما سيأتي- ليس عدم التخطّي بل المراد منه ما يقدّر بعدم التخطّي من حيث البعد و المسافة، و يشهد له قوله: «و إن كان بينهم و بين الصفّ الّذي يتقدّمهم بمقدار ما لا يتخطّى» فلا تدلّ الرواية على حكم مثل الشبابيك و غيرها ممّا لا يمنع عن المشاهدة،

ص: 152

فحينئذ يبقى مورد للشكّ فيرجع إلى الأصل.

الثالثة: لو كان الحائل جسما شفّافا

لا يمنع [من] المشاهدة مثل الزجاج، فهل يلحق بالجدار و السترة أم لا؟ وجهان: و الأقوى عدم الإلحاق، إذ لا ظهور للرواية فيما يشمله، لعدم صدق السترة و الجدار عليه.

و ابتناء المسألة على كون الإبصار بخروج الشعاع أو الانطباع، فعلى الأوّل لا يكون ساترا، و على الثاني يكون حائلا، لا وجه له، إذ ليست المسائل الشرعيّة مبتنية على مثل هذه الدقائق الحكميّة، بل إنّما تدور مدار صدق العناوين العرفيّة، و عليها قد عرفت أنّها غير محقّقة.

إلّا أن يقال بأنّ مانعيّة الستر و الحائل ليست لأجل أنّه معه يحجب الإمام عن المأموم، و أنّه لا يطّلع على ما يفعل، بل لأجل كونه موجبا لتعدّد المجلس، و هذا المعنى متحقّق عند تحقّق الحيلولة بمثل الزجاج.

و لكن فيه: أنّ هذا حدس محض لا دليل عليه؛ إذ لا دلالة للرواية عليه، فالإنصاف أنّه أيضا مورد للشكّ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل و هو الاشتغال كما تقدّم، و لكن يمكن إثبات الأصل اللفظي و إطلاق في باب الجماعة يرجع إليه عند الشك لتصحيح العبادة و إن منعناه سابقا.

توضيح ذلك: إنّ الشكّ في باب الجماعة و انعقادها إن كان راجعا إلى اعتبار ما يكون شرطا لانعقاد الجماعة عند العرف، بحيث لولاه لصدق الجماعة عرفا، فلا إشكال في عدم دفع الشكّ بالرجوع إلى الإطلاقات، و إن كان راجعا إلى اعتبار شي ء شرعا و تعبّدا زائدا عمّا عليه العرف، فهذا لا مانع من دفعه بالرجوع إلى ما تقدّم من إطلاق صحيحة زرارة المتقدّمة في أوّل بحث الجماعة

ص: 153

من قوله عليه السّلام في ذيلها: «و لكنّ الجماعة سنّة في الصلاة من تركها رغبة عنها و عن جماعة المؤمنين من غير علّة فلا صلاة له» (1). فتأمّل! إذ لا دلالة و لا إطلاق لها من الجهة الّتي نحن فيها، بل الظاهر منها أنّها وردت لمشروعيّة الجماعة فقط.

الرابعة: لا فرق في الحائل بين أن يكون في تمام الصلاة أو كان في بعضها،

فلو كان مع رفعه في الأثناء فلا تنعقد الجماعة، و كذلك لو لم يكن ابتداءً و حدث في الأثناء يوجب بطلانها، و ذلك لإطلاق الرواية.

نعم؛ لو دخل في الجماعة على وجه المشروعيّة ثمّ حدث الحائل في الأثناء و إن تبطل الجماعة حينئذ، و لكنّه لا تبطل أصل الصلاة بل يصير المأموم منفردا قهرا، كما في سائر المقامات الّتي يتعذّر البقاء [فيها] على الجماعة.

الخامسة: لا يعتبر في الحائل المانع عن المشاهدة الموجب لعدم تحقّق الجماعة أن يكون غير إنسان،

لأنّ المدار في الحائل ما يوجب الستر بين الإمام و المأموم، فلو حصلت الحيلولة بقيام إنسان بينهما على الوجه المذكور تبطل الجماعة، إلّا أن [يكون] هو أيضا مأموما، كما سيجي ء وجهه.

نعم، لو كان الحائل آدميّا لا بدّ و أن يكون مستقرّا، فلو حصلت الحيلولة بمجرّد مرور إنسان أو غيره بينهما فلا يضرّ ذلك؛ لعدم صدق المانع، إذ الحائل لا بدّ و أن يكون له الاستقرار عرفا، إلّا إذا صدق الاستقرار حينئذ، كما إذا كان مرور أشخاص متعدّدين بحيث يكونون متّصلين، و لا يكون بينهم فصل أصلا، فيلحق ذلك بالحائل المستقرّ لصدق السترة حينئذ، و لا فرق في الإنسان الّذي يحصل به الحيلولة بين أن يكون مصلّيا منفردا أو غير مصلّ رأسا [أصلا]، أو


1- وسائل الشيعة: 8/ 285 الحديث 10676.

ص: 154

كان مقتديا بذلك الإمام مع علم المأموم ببطلان صلاته، إذ المغتفر في حيلولة سائر المأمومين فيما إذا كانت جماعته صحيحة، و إلّا فهو كغيره من الساتر، كما لا يخفى.

و أمّا إذا شكّ في صحّة صلاة الواسطة و أجزاء الصفّ المتقدّم الحائل بينه و بين الإمام، فلا مانع من الحكم بها ببركة أصالة الصحّة، فحينئذ تصحّ صلاته جماعة، و لو كانت صلاته فاسدة واقعا، كما ذهب إليه في «المسالك» (1) لما سيأتي في مسألة بطلان صلاة الإمام واقعا مع عدم علم المأمومين به فإنّه لا يوجب بطلان صلاة المأمومين لعدم كون موضع صحّة الاقتداء إلّا إحراز صحّة صلاة الإمام، ففي ما نحن فيه الأمر أظهر.

و ذلك؛ لأنّ من الأدلّة الدالّة على عدم مضرّيّة الحيلولة بالمأمومين و أنّ مشاهدة من يشاهد الإمام تكفي لصحّة الاقتداء و جوازه؛ يستفاد أنّ كلّ مأموم يشاهد الإمام يقوم مقام الإمام بالنسبة إلى المأموم الآخر الّذي خلفه أو على يمينه أو شماله، فكما أنّ إحراز كون صلاة الإمام صحيحة يكفي في انعقاد الجماعة الصحيحة حقيقة و لو كانت فاسدة واقعا، و هكذا الحال بالنسبة إلى المأموم الحائل بين الإمام و من خلفه.

و بذلك ظهر اندفاع ما أورده في «الجواهر» على «المسالك» قدّس سرّهما بأنّه بعد البناء و تسليم حصول الحيلولة بحائليّة المأموم المعلوم فساد صلاته؛ فلا بدّ من الالتزام بعدم الفرق بين العلم بفساد صلاته و عدم العلم به، مع فساده واقعا، كما


1- مسالك الإفهام: 1/ 305.

ص: 155

إذا ظهر ذلك بعد الصلاة، إذ الحائل بوجوده الواقعي مانع (1).

وجه الاندفاع ما سمعت من أنّ المأموم المشاهد للإمام لمّا يصير بمنزلة نفس الإمام بالنسبة إلى من خلفه فيكون حاله حال الإمام، فتأمّل! فإنّ ذلك الّذي أفاده- دام ظلّه- لا يخلو عن القياس، إذ الاكتفاء بمشاهدة من يشاهد الإمام و التنزيل المزبور لا يستلزم التنزيل من الجهة الّتي نحن فيها أيضا، و لا ملازمة عرفا بين الدليل الدالّ على عدم مضرّيّة الحيلولة الحاصلة بالمأموم و هذه الجهة أصلا، فالاحتياط لا ينبغي تركه، و اللّه العالم.

أحكام الحائل

المسألة السادسة: لا إشكال أنّه يكفي في صحّة الجماعة و عدم صدق الحائل أن يكون المأموم على وجه كان مشاهدا للإمام أو مشاهدا لمن يشاهده

و لو بوسائط متعدّدة كثيرة، على وجه لو لا الوسائط كان المأموم يشاهد الإمام من أحد الجوانب الثلاثة من المقدّم أو اليمين أو اليسار.

و ذلك: لما تقدّم من أنّ ما جعل مانعا عبارة عمّا يكون حائلا بين الإمام و المأموم على وجه يكون مانعا عن المشاهدة لو لا احتجاب الإمام عن المأمومين بسبب غيرهم، فحينئذ لا يحصل الحائل في الصفّ الأوّل المنعقد خلف الإمام، و لو طال عرضا على وجه لا يرى الإمام المأموم الّذي في آخر الصفّ لطوله، و لكن كان متّصلا بالصفّ على وجه لا يحصل بينه و بينه ما لا يتخطّى، و كذلك بالنسبة إلى الصفّ الثاني إذا كان أطول من الأوّل إذا لم يحجب


1- جواهر الكلام: 13/ 159.

ص: 156

بينه و الإمام غير الصفّ الأوّل، و هكذا الصفوف اللاحقة إلى أن تخرج من المسجد، و كان الصفّ الواقع في خارج المسجد بحيال الباب على وجه يكونون يرون الإمام بلا حائل لو لا الصفوف المتقدّمة عليهم، فالحكم في جميع ذلك ممّا لا إشكال فيه عند أحدهم بعد البناء على أنّ الحيلولة بالمأمومين لا يضرّ إجماعا.

و إنّما الإشكال و الخلاف من جهة اخرى، و هي أنّه هل يكفي مشاهدة الإمام أو مشاهدة من يشاهده من المأمومين و لو بوسائط من كلّ واحد من الجوانب الثلاث و لو بحيث لو لا مشاهدتهم لم يكن يشاهد الإمام أيضا لوجود الحائل، كما إذا كان خلف اسطوانة يشاهد من طرف يمينه أو يساره أو قدّامه من يشاهد الإمام، و كما في الصفّ المنعقد بحيال باب المسجد بالنسبة إلى من لم يكن من أجزاء هذا الصفّ بحيال الباب، بأن يكون مشاهدا من طرف يمينه أو يساره من هو بحيال الباب فقط، و كما في الصفّ المنعقد خلف الإمام إذا كان الإمام في محراب يكون جانباه مستورا بالجدار و له باب واقفا قدّامه منفتحا بحيث لا يراه، إلّا من كان بحيال الباب، أو لا يكفي ذلك، بل لا بدّ و أن يكون بحيث لو لا احتجاب الإمام بالمأمومين لكان مشاهدا له؟ و عليه لا يصحّ من يصلّي بين الاسطوانات لو كانت على وجه تكون حائلا، و كذا في المثالين لا يصحّ إلّا صلاة من هو بحيال الباب و مقابله.

فذهب المشهور- على ما نقل عن كثير، بل ربما ادّعي الاتّفاق- إلى الأوّل، كما يستفاد ذلك من كثير عباراتهم المذكورة في مسألة الاقتداء بإمام كان في محراب داخل في المسجد، و في مسألة من كان يصلّي خارج المسجد بحيال الباب.

ص: 157

ففي «المنتهى» عن العلّامة قدّس سرّه قال: (لو لم يشاهد الإمام و شاهد المأموم صحّت صلاته، و إلّا بطلت صلاة الصفّ الثاني و لا نعرف فيه خلافا) (1).

و قال في موضع آخر منه «و التذكرة»- و هكذا في «المسالك» «و المدارك» و غيره-: (لو وقف المأموم خارج المسجد حذاء الباب و هو مفتوح يشاهد المأمومين في المسجد صحّت صلاته، و صلّى قوم على يمينه أو شماله أو ورائه صحّت صلاتهم؛ لأنّهم يرون من يرى الإمام، و لو وقف بين يدي هذا الصفّ صفّ آخر عن يمين الباب أو يساره بحيث لا يشاهدون من في المسجد لم تصحّ صلاتهم) (2).

ثم قال: (و لو لم يكن المأموم في قبلته، بل على جانبه، فإن اتّصلت الصفوف به صحّت صلاته و إلّا فلا، ذكره الشيخ في «المبسوط») (3)- إلى أن قال-: (التاسع: لا بأس بالوقوف بين الأساطين) (4).

و ذهب بعض آخر كصاحب «الذخيرة» و «الرياض» و جماعة اخرى، و تبعهم في «الجواهر» لو لا الإجماع على ما ذهب إليه المشهور (5).

و ذكر في وجهه: أنّه لا دليل على ما ذهب إليه المشهور إلّا توهّم كون المراد من قوله عليه السّلام: «إلّا من كان بحيال الباب» بعد قوله عليه السّلام: «إن كان بينهم سترة أو


1- منتهى المطلب: 1/ 365 ط. ق.
2- منتهى المطلب: 1/ 365، تذكرة الفقهاء: 4/ 258، مسالك الافهام: 1/ 305، مدارك الأحكام: 4/ 318، مجمع الفائدة و البرهان: 3/ 277.
3- منتهى المطلب: 1/ 365، المبسوط: 1/ 156.
4- منتهى المطلب: 1/ 365.
5- ذخيرة المعاد: 393، رياض المسائل: 3/ 26، كفاية الأحكام: 31، جواهر الكلام: 13/ 160.

ص: 158

جدار» (1) فذلك ليس لهم بصلاة هو الصفّ الّذي بحيال الباب خارج المسجد مقابل الصفّ المنعقد على جانبي الباب من اليمين و اليسار (2).

و من المعلوم؛ أنّ هذا الصفّ لا يرون إلّا من يرى مشاهد الإمام من جانبي اليمين و اليسار بحيث لو لا المأمومين كان بين الإمام و المأمومين حائل يمنع المشاهدة.

و هذا مدفوع بأنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة حصر الحكم بالصحّة على خصوص من كان بحيال الباب من الصفّ لا الحكم بصحّة صلاة الصفّ الّذي كان بحيال الباب، و دعوى كون المراد الحصر بالإضافة إلى الصفّ السابق على هذا الصفّ لا شاهد لها فحينئذ قوله عليه السّلام: «إن كان بينهم سترة أو جدار فليس ذلك لهم بصلاة» (3) يكون محكّما، و إلّا صحيحة الحلبي الواردة بعدم البأس عن الصلاة جماعة بين الأسطوانتين (4)، بتقريب أنّ من يقف بين الاسطوانات كثيرا ما لا يشاهد من يشاهد الإمام من طرف قدّامه، بل إنّما يشاهد من يشاهد الإمام من طرف يمينه أو يساره، بحيث لو لا الاكتفاء بمطلق المشاهدة لكان بينه و بين الإمام حائل و هو الاسطوانة.

و فيه: أنّ الواقف بين الأساطين لو كان على وجه كان بينه و بين الإمام حائل غير المأمومين، فلا إشكال في فساد صلاته بل هو عين مسألتنا، فحينئذ لا بدّ من أن تحمل الرواية و هكذا كلمات من صرّح بعدم البأس بالوقوف بين


1- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11039 و 407 الحديث 11033.
2- الحدائق الناضرة: 11/ 99 و 100.
3- مرّ آنفا.
4- وسائل الشيعة: 8/ 408 الحديث 11034.

ص: 159

الأساطين (1) على ما لا ينافي لعدم حصول الحيلولة بأنّ المراد من الصلاة بين الأساطين البنية الّتي لا تكون بها حائل، بأن يكون المصلّي متوسّطا بينهما، أي بعضها على يمينه و أخرى على شماله، لا أمامه أو خلفه.

هذا ملخّص ما أفاد ردّا على المشهور، و لكنّه فاسد، فلأنّ حمل قوله عليه السّلام:

«إلّا من كان بحيال الباب» (2) على خصوص من يكون في قبال الباب عن بعض الصفّ المنعقد في حيال الباب لا على مجموع هذا الصفّ، مبنيّ على أن يكون المراد من الحيال خصوص المقابل في قبال اليمين و اليسار.

مع أنّه لا وجه له أصلا، لأنّه أمّا في اللغة فقد فسّر بالحذاء، و الحذاء بالإزاء، ثمّ فسّر الإزاء بالحذاء على نحو الدور، فلم يعلم تفسير يتّضح به المعنى.

و أمّا بحسب موارد الاستعمال فمختلف، حيث إنّه قد يستعمل و يراد منه القبال، مثل قوله عليه السّلام في باب القنوت: «ثمّ يرفع يديه بحيال وجهه» (3).

و قد يستعمل و يراد منه المقابلة لطرف اليمين و اليسار كما في الخبر الوارد في باب السجود: «يضع كفّيه في حيال وجهه» (4).

و أمّا في لسان أهل عصرنا هذا فما عثرنا على شي ء في موارد استعمالاتهم، إلّا استعماله في مثل الشطّ إذا امتلأ إلى حدّ لو تجاوز عنه فيخرب البنيان فيقال: امتلأ من الماء إلى حياله، فحينئذ لم يتّضح للّفظ معنى مبيّن و لم يستقرّ ظهوره في معنى المقابل، بل الظاهر منه في الرواية هو الأعمّ، حيث إنّه


1- منتهى المطلب: 1/ 365، جواهر الكلام: 13/ 160.
2- مرّ آنفا.
3- وسائل الشيعة: 6/ 282 الحديث 7972.
4- وسائل الشيعة: 6/ 461 الحديث 7078.

ص: 160

استعمل في مقابل من يقف على جناحي الباب ممّن لا يشاهد من في المسجد من المأمومين، لا أن يكون المراد خصوص بعض الصفّ المنعقد في مقابل الباب، و إلّا فلو كان المراد به ذلك فلا معنى لاستثنائه عن قوله عليه السّلام: «و إن كان بينهم سترة أو جدار فليس تلك بصلاة لهم» (1) لدخول من كان بحيال الباب عن بعض الصفّ المنعقد في قباله في من لا يكون بينه و بين الإمام حائل، فتأمّل!

نعم؛ بناء على أن يكون استثناء عن قوله عليه السّلام بعد ذلك من حكم المقاصير و هو قوله عليه السّلام: «و ليس لمن صلّى خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة» (2) بأن يكون المراد استثناء خصوص من كان في مقابل باب المقصورة دون غيرهم، يتمّ الدعوى.

و لكنّه أوّلا: خلاف الظاهر و بعيد جدّا و لا دليل على ارتكابه.

و ثانيا: على فرض تسليمه إنّما يتمّ لو فرض أنّه كان للمقصورة باب في ذلك الزمان من المسجد، و قد تقدّم أنّ المعهود منها كون بابها من خارج المسجد و أنّ الإمام كان يدخل فيها منه.

و ذلك لأنّهم أبدعوها مخافة من المأمومين في المسجد؛ لأن لا يصنع بهم ما اصيب بمولى الموالي عليه السّلام، فكانوا يدخلونها من الخارج بلا أن يراهم المأمومون و كان المكبّر يخبرهم به، كما أنّه رأينا المقاصير على هذا الأساس في الساتر في مساجد خلفاء بني العبّاس بعد ما تفحّصنا عنه.

و الحاصل: لا يمكن الاعتماد على الاستدلال المزبور للحكم المذكور،


1- مرّ آنفا.
2- مرّ آنفا.

ص: 161

بل الظاهر الاكتفاء بالمشاهدة من أحد الجوانب الثلاثة و لو لمن يشاهد الإمام كذلك، و ذلك؛ لأنّه مضافا إلى ما تقدّم أنّ قوله عليه السّلام: «و إن كان بينهم سترة أو جدار» و في بعض النسخ بالفاء بدل الواو، يكون ظاهرا في بيان حكم الحائل على نحو ما بيّن قبله حكم البعد من قوله عليه السّلام: «إن صلّى قوم و بينهم و بين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بإمام» (1) إلى آخره، و يستفاد منه أحكام ثلاثة:

أحدها: عدم البعد بين الإمام و بين من يكون خلفه من الصفّ الأوّل.

ثانيها: اعتبار عدم البعد بين كلّ صفّ و الصفّ السابق عليه بالمقدار المزبور بالإضافة إلى الصفوف اللاحقة، و هما يستفادان من منطوق الرواية.

ثالثها: اعتبار عدم البعد بين المأموم و غيره من المأمومين من طرفي اليمين و اليسار إذا كان بينه و بين الصفّ السابق عليه أزيد ممّا يتخطّى، و هذا يستفاد من لازم الرواية.

و بعبارة اخرى: يستفاد من الرواية من جهة اعتبار عدم البعد أنّه يعتبر عدم البعد بمقدار ما لا يتخطّى من جميع الجوانب، و أنّه يكفي الاتّصال بالإمام أو المأموم المقتدى به عن أحد الجوانب الثلاثة، فحينئذ قوله عليه السّلام في حكم الحائل:

«فإن كان بينهم سترة أو جدار» أيضا يكون تابعا لسابقه، و أنّه لو كان الحائل بين المأموم و الإمام في الصفّ أو بينه و بين غيره من المأمومين في الصفوف اللاحقة ما يكون حائلا يمنع المشاهدة من جميع الجوانب الثلاثة، فصلاته ليست بصلاة، فيستفاد منه اعتبار عدم الحائل و كفاية المشاهدة من إحدى الجوانب.

هذا، مضافا إلى ما ورد من عدم البأس بالصلاة بين الأساطين عن


1- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11039 و 411 الحديث 11041.

ص: 162

جماعة (1)، فإنّه بإطلاقه يشمل ما إذا كانت الاسطوانة حائلا بين المأموم و قدّامه، و لكنّه يشاهد الإمام من طرف اليمين أو اليسار.

فتلخّص: أنّ حكم شرطيّة عدم الحائل و مانعيّته و وجود الحائل من الجهة الّتي نحن فيها من حيث الكيفيّة، حكم مانعيّة البعد و كيفيّة اعتبار عدمه، فكما أنّه يكتفى في صدق عدم البعد تحقّق عدم ما لا يتخطّى من طرف القدّام أو اليمين أو اليسار، و يستفاد ذلك من الرواية مجموع دلالتها المطابقي متضمّنة بالالتزامي، و كذلك بالنسبة إلى عدم الحائل و اعتبار المشاهدة؛ يكتفى به عن إحدى الجوانب الثلاثة، كما لا يخفى، و يستفاد هذا من الرواية أيضا.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه أحسن و أجاد ما عنون في «التذكرة» في حكم من يقتدي خارج باب المسجد بمن فيه، من المسائل الثلاث:

الاولى: من يقتدي خارج باب المسجد إذا كان الباب على خلاف القبلة قال: تصحّ صلاته؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من طرف قدّامه، و تصحّ صلاة من على جانبيه؛ لكونه يشاهد من يشاهد الإمام و لو بالواسطة من اليمين أو اليسار.

الثانية: من يقتدي خارج الباب الّذي في طرف اليمين فإنّه أيضا تصحّ صلاته؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من طرف اليسار.

الثالثة: من يقتدي من الخارج من طرف اليسار فهو أيضا تصحّ صلاته؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من اليمين، فتأمّل جيّدا! (2)


1- منتهى المطلب: 1/ 365، جواهر الكلام: 13/ 160.
2- تذكرة الفقهاء: 4/ 258.

ص: 163

المسألة السابعة: من كان في الصفوف اللاحقة على وجه كان بينه و بين الإمام بعد يمنع عن الاقتداء

لو لا اتّصاله بالصفّ المتقدّم عليه إذا كان مشاهدا لمن يتّصل به من طرف قدّامه أو يمينه أو يساره، فقد عرفت بأنّه تصحّ صلاته. و لو كان بينه و بين الإمام حائل يمنع المشاهدة.

و أمّا لو لم يكن مشاهدا لمن يتّصل به، بل كان بينه و من يتّصل به حائل يمنع المشاهدة، و لكن مشاهد للإمام الّذي اقتدى به مع فرض تحقّق البعد بينه و بين الإمام، فهل تكفي هذه المشاهدة أيضا، أو تعتبر مشاهدة من يتّصل به من المأمومين الّذي كان به ارتفع المنع عن البعد؟

الأقوى الثاني؛ و أنّه لا يكفي مجرّد مشاهدة الإمام مطلقا، و ذلك لما عرفت من قوله عليه السّلام في حكم الحائل: «فإن كان بينه و بين الإمام سترة أو جدار» ..

إلى آخره يكون تابعا في جميع ما يعتبر لصدر الرواية و هو قوله عليه السّلام: «إن صلّى قوم و بينهم و بين الإمام قدر ما لا يتخطّى» (1) فكما أنّه من جهة البعد اعتبر عدم البعد بين المأموم و بين من يتّصل به من أحد الجوانب في الصفوف اللاحقة، فكذلك مجموع ما في الصدر قد جمعه في الذيل فقال عليه السّلام: «إن كان بينهم و بين الإمام سترة أو جدار» فيرجع محصّل مفاد الذيل إلى أنّه يعتبر عدم الحائل على نحو اعتبار عدم البعد، كما لا يخفى.

و بعبارة اخرى؛ يستفاد من اعتبار عدم الحائل بجملته مجموع ما ذكر في بيان حكم ما لا يتخطّى بتلك العبارة الّتي بمنزلة التفريع على ما تقدّم، خصوصا على نسخة ضبطت «بالفاء» أنّه يعتبر عدم الحائل بين المأموم و الإمام أو من


1- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11039.

ص: 164

يشاهد الإمام من الجهة الّتي كان المأموم متّصلا به بلا واسطة أو مع الواسطة لا مجرّد عدم الحائل مطلقا و لو لا من هذه الجهة، فيكون مسألة عدم البعد و عدم ما لا يتخطّى من قبيل المقدّمة لاعتبار عدم الحائل.

و من هنا ظهر فساد توهّم أنّ كلّا من البعد و الحائل مانع مستقلّ، و ليسا يرجعان إلى أمر واحد، و المفروض فقدهما في المقام نظرا إلى أنّه يكفي في رفع الأوّل منهما أن يكون المأموم مشاهدا للإمام أو من يشاهده و هو حاصل في المقام باعتبار كون المأموم مشاهدا للإمام، و في رفع الثاني أن يكون المأموم متّصلا بالإمام أو بمن هو بينه و بين الإمام و لو بألف واسطة، و هو أيضا حاصل باعتبار كونه متّصلا بمن يكون بينه و بينه الحائل المفروض، و على هذا فلا مانع من صحّة الصلاة في الصورة المفروضة.

وجه الدفع: أنّ المستفاد من الرواية اعتبار عدم الحائل بين المأموم و الإمام أو من يتّصل به بالإمام من الجهة الاتّصاليّة لا مطلقا، و المفروض في المقام وجود الحائل من تلك الجهة و مشاهدة الإمام من غيرها لا يفيد شيئا، كما لا يخفى.

الشكّ في وجود الحائل

الثامنة: إذا شكّ المأموم في وجود الحائل

فتارة يكون ذلك قبل اشتغاله بالصلاة و قبل الاقتداء، و اخرى ما يكون حادثا في الأثناء، فهل يصحّ علاجه بالأصل أم لا؟

قد يقال: نعم مطلقا إذا كان هنا حالة سابقة عدميّة، كما يجري الأصل

ص: 165

بالنسبة إلى سائر ما يعتبر في الصلاة من الشرائط و الموانع إذا كانت له حالة سابقة، مثل الطهارة الّتي كانت متيقّنة سابقا ثمّ شكّ فيها قبل الصلاة أو في أثنائها فيستصحب بقاءها، و كذا فيما لو كان في أوّل الدخول في الصلاة مستقبل القبلة و شكّ في انحرافه عنها في أثناء الصلاة بلا إشكال في أنّه يجوز التمسّك بالاستصحاب، و كذلك لو كان في السابق غير مصاحب لما لا يؤكل لحمه، و شكّ بعد ذلك قبل الشروع في الصلاة أو في الأثناء في طروّ ذلك عليه، فالمقام أيضا كذلك لا مانع من الشكّ بالاستصحاب للحكم بعدم وجود الحائل، سواء كان شكّه فيه قبل الصلاة أو في أثنائها.

هذا؛ و لكن الظاهر أنّ المقام ليس من قبيل ما ذكر من الأمثلة حيث إنّها بنفسها متعلّقة للحكم الشرعي، فإذا احرز لها الحالة السابقة فببركة الأصل أمكن علاج الشكّ فيها بخلاف المقام، فإنّ مسألة الحائل و اعتبار عدمه بين الإمام و المأموم من قبيل العناوين البسيطة الّتي انتزع من المركّب من أمرين، و يكون نظير المسألة السابقة فيما إذا شكّ في إدراك ركوع الإمام، و قد بينّا هناك أنّ جريان الأصل في أمثالها ممنوع، و أنّه لا مجال لأن يقال: إذا أحرزنا أحد جزأي الموضوع بالوجدان، و الجزء الآخر يحرز بالأصل، فبضمّهما احرز الموضوع بتمامه، لما تقدّم من أنّ ذلك إنّما يجوز إذا كان الجزءان بأنفسهما موضوعا و الأثر يكون لهما لمحض اجتماعهما في الزمان.

و أمّا لو كان الأثر للعنوان المنتزع عنهما مثل الحال و نحوه فلا يجري ما ذكر، بل يكون الأصل بالنسبة إليه مثبتا، و هكذا ما نحن فيه، حيث إنّ الأثر ليس لعدم الحائل بين الإمام و المأموم، بل الظاهر من قوله عليه السّلام في صدر الرواية:

ص: 166

«إن كان [بينهم سترة أو جدار]»- الّذي يكون مسألة الحائل حاله حال عدم البعد، و حكمه يستفاد من الصدر و لا مجال لتوهّم استقلال الثاني و كونه بنفسه متعلّقا للحكم- أنّه لا بدّ و أن تكون الجماعة في حال عدم الحائل فحينئذ إجراء الأصل في الحائل، لا ينفع بالنسبة إلى الحالة المذكورة و لا يحرزها.

إلّا أن يقال مثل ما أفاده شيخنا استاد الأساطين قدّس سرّه في تلك المسألة من أنّ التعبير بالقبليّة و الحالة و أمثالهما من باب سهولة التعبير، و ليس لها خصوصيّة في الحكم، بل تمام المناط صرف الاجتماع في الزمان و أنّ منشأ النزاع [في] تلك العناوين هو متعلّق الحكم.

فعلى هذا؛ لا مضايقة في إجراء الأصل خصوصا في مثل التعبير بلفظ الحال، حيث إنّ التعبير به من باب ضيق العبارة، و أنّه لا يمكن التعبير بالعنوان الأوّلي- و هو اجتماع الجزءين في الزمان- بغير لفظ الحال و نحوه، كما هو المستظهر في المقام أيضا إذ الظاهر من قوله عليه السّلام: «إن كان بينهم» .. إلى آخره هو اجتماع الأمرين في الزمان، و لا لفظ يحكي عن هذا المعنى غيره.

لا بأس بالحائل بين الإمام و النساء المأمومات

هذا كلّه في أصل اشتراط عدم الحائل و ما يتفرّع عليه، ثمّ لا ينبغي التأمّل في أنّه إنّما يجري بالنسبة إلى الرجال، و أمّا لو كان المأمومون النساء فلا يعتبر الشرط المزبور و لا بأس بالحائل بينهنّ و الإمام، إذا كان رجلا.

و ذلك؛ لأنّه مضافا إلى عدم جريان ما ذكرنا في مسألة جماعة الرجال بالنسبة إليهم رأسا من أنّه اعتبار هذا الشرط مرجعه إلى اعتبار أمر عرفيّ، بحيث

ص: 167

يوجب الحائل تعدّد المجلس و لا يصدق الجماعة حينئذ، و الشارع في اعتباره هذا الشرط ما أعمل محض التعبّد، بل أجرى ما هو المعتبر عند العرف.

و من المعلوم؛ أنّ ما ذكر إنّما يجري بالنسبة إلى مجالس الرجال و مجامعهم، و أمّا مجامع النساء مع الرجال فلا يعتبر ذلك عند العرف أيضا، بمعنى أنّ وجود الحائل بينهم و بين الرجال لا يضرّ بوحدة المجلس، بل بناؤهم على إيجاده في المجلس الواحد الّذي يجتمع فيه الرجال و النساء، فليس ذلك إلّا من جهة ما ذكرنا من أنّ وجود الحائل لا يرفع عنوان وحدة المجلس، كما لا يخفى.

فيصير ذلك قرينة عرفيّة على اختصاص الأدلّة الّتي يستفاد منها الشرط المزبور بالرجال، حيث إنّ الحكم بتعميمها من جهة الإجماع على عدم الاختصاص كليّا، أو للقطع باشتراك النساء مع الرجال في كلّ حكم، إنّما يكون إذا لم يكن في البين قرينة قطعيّة و ما يقرب منها تدلّ على الاختصاص، و في المقام لا إشكال أنّ الارتكاز المزبور هو قرينة على التخصيص، و أنّ قوله عليه السّلام في الرواية المتقدّمة: «فإن كان بينهم» .. إلى آخره، لا يعمّ النساء، [مع] أنّه دلّت الأدلّة الخاصّة على عدم اعتبار الشرط المزبور بالنسبة إلى المرأة، و هي الرواية المرسلة (1) المتلقّاة بالقبول عند الأصحاب، و الإجماع المنقول أو المحصّل، حيث لم يظهر في المسألة خلاف إلّا من الحلّي قدّس سرّه (2) بناء على أصله من عدم الاعتناء بأخبار الآحاد مطلقا.

بقي الكلام في موضوع المسألة و هو: أنّ الحائل بأيّ مقدار منه لا يضرّ؟


1- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11039.
2- السرائر: 1/ 289.

ص: 168

الّذي يظهر من كلمات الأصحاب قدّس سرّهم أنّه إذا كان بحيث لا يوجب أن يكون المأمومون أجانب عن الإمام رأسا، بأن يكون الحائل ثخينا جدّا كبعض الجدران الّتي فيها أسطوانة و أمثالها، بل لا بدّ و أن يكون بحيث يكونون مطّلعين- أي المأموم و الإمام- في الجملة عن حال الآخر، بأن يكون بينهم حائطا صفيقا أو أمرا محدثا كما هو المعمول.

و لقد أجادوا في ما استظهروا و أفادوا، لأنّ ما ذكرنا في الاعتبار العرفي لا يستفاد منه اغتفار الحائل أزيد من ذلك، كما أنّ المرسلة المشار إليها فيها لفظ «الحائط» و هو غير الجدران، بل هو مثل الحفاظ الّتي يحدث في حوالي البساتين غالبا، فالمسألة لا غبار عليها إن شاء اللّه تعالى، و لا مجال لتزلزل [صاحب] «الجواهر» (1) قدّس سرّه أيضا، و اللّه العالم.

اشتراط عدم البعد بين الإمام و المأموم
اشارة

الثاني من الشرطين اللذين مرجعهما إلى اعتبار أمر عرفي في الجملة هو مسألة اعتبار عدم البعد بين الإمام و المأموم، أصل الشرط لا إشكال فيه، بل المسألة إجماعيّة في الجملة، بل الكلام في تحديده فإنّها من هذه الجهة من المشكلات، بمعنى أنّها نظير ما في مسألة المسافر الّذي يرجع ليومه إلى محلّه أنّه مع وجود الأخبار المعتبرة الواضحة الدلالة فيها الأصحاب اضطربوا في المسألة، و أحالوا تحديد الموضوع إلى العرف، فهكذا في المقام من أنّه مع وجود


1- جواهر الكلام: 13/ 164- 165.

ص: 169

المدرك الصحيح- و هو رواية زرارة المتقدّمة (1) واضحة الدلالة، حيث إنّه حدّد فيها البعد بما لا يتخطّى- الأصحاب كأنّهم أعرضوا عنها و أرجعوا الأمر إلى العرف، مع أنّه لا وجه له و لا عذر لهم في ذلك.

و أعجب من ذلك تعبير بعضهم في المسألة بالاستبعاد، مع أنّه لا محلّ له أصلا؛ ضرورة أنّ المقام ليس إلّا كسائر التحديدات الشرعيّة حسبما تقدّم، و ليس أمرا حادثا غريبا مضافا إلى انسداد باب العلم إلى ملاكات الأحكام بالنسبة إلينا.

و بالجملة؛ الظاهر أنّ نظرهم في ذلك- أي إرجاع التحديد إلى العرف و عدم التزامهم بما يظهر من الرواية- إلى تحكيم ما في ذيل الرواية على بعض النسخ على صدرها؛ لمكان التعبير في الذيل بلفظ «ينبغي» الظاهر في الاستحباب، فيستفاد منه أنّ ما في الصدر من أنّه لا يكون بين الإمام و المأموم مقدار ما لا يتخطّى، المراد به كراهة البعد بهذا المقدار، لا أن يكون حكما إلزاميّا.

و لعلّ استبعاد بعض الأعاظم أيضا يرجع إلى ذلك، فاستبعد أن يكون الأمر بالعكس، و يكون الصدر شاهدا على الذيل، و إلّا فشأنهم من رجوع الاستبعاد إلى أصل تشريع الحكم، كما لا يخفى.

و كيف كان؛ ما ذكروا إنّما يتمّ بناء على أن تكون معارضة بين الصدر و الذيل، مع أنّه ليس كذلك أصلا.

و ذلك؛ لأنّه أمّا الصدر فهو راجع إلى بيان حكم كلّ من الإمام و المأمومين بأنفسهم، من حيث ما يعتبر بينهم من المقارنة و الاتّصال، و ليس متعرّضا لما بين الصفوف لأمرين:


1- وسائل الشيعة: 8/ 411 الحديث 11041.

ص: 170

أحدهما: أنّه قوله عليه السّلام: «ما لا يتخطّى» من جهة كونه نكرة في سياق النفي يدلّ على عدم إمكان التخطّي كليّا و من المعلوم أنّ ذلك يصير أزيد من مقدار ذراع الشاة حيث إنّ الخطى المعمولة تكون أزيد من ثلاثة أرباع الذراع- أي مع احتساب محلّ القدمين- فحينئذ ما لا يتخطّى أبدا لا بدّ و أن يكون أزيد من الذراع.

ثانيهما: أنّه لا إشكال في أنّ الحكم المزبور مرعيّ بالنسبة إلى جميع حالات المأمومين، مع إمامهم الّتي منها حال سجودهم، و لا يعقل التفكيك بينها، ففي هذه الحالة أيضا البعد بين الإمام و المأموم و بين أنفسهم مغتفر، بمعنى أنّه لو كان بين مسجدهم و محلّ قدم الإمام أو المأمومين أزيد من الذراع، و لا يمكن أن يتخطّى، فالجماعة غير متحقّقة لوجود مانع البعد.

هذا بالنسبة إلى الصدر، و أمّا الذيل فالظاهر منه أنّه روعي التحديد المزبور الّذي قليل جدّا بالنسبة إلى الأوّل، حيث إنّ المستفاد من قوله عليه السّلام: «يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان» (1) هو اتّصال مسجد المأموم بموقف الإمام و قدمه، و هكذا المأمومون بالنسبة إلى أنفسهم، و أين ذلك و اغتفار المقدار من البعد؟

[فإنّ] المستفاد من الصدر إنّما يكون موضوع هذا التحديد بين الصفوف، و لا ربط له بنفس الإمام و المأموم، و المأمومين بينهم، كما هو الظاهر من قوله عليه السّلام:

«و ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة» (2) .. إلى آخره، فعلى هذا؛ يختلف الصدر و الذيل موضوعا و حكما.

و الأوّل؛ لما تبيّن من الاختلاف الفاحش بين التحديدين، و كون المحدود


1- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11038.
2- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11038.

ص: 171

هو نفس الإمام و المأموم.

و الثاني؛ فلأنّ الصدر ظاهر في الوجوب، بل التشديد في الحكم، و الذيل ظاهر في الاستحباب. كما استظهروا أيضا، فارتفعت المعارضة من البين بعون اللّه تعالى، بل يقرب التحديد المزبور المستفاد من الصدر إلى التحديد العرفي أيضا.

مع أنّه لا نستوحش من عدم اتحادهما و اختلاف العرف و الشرع في المسألة أصلا لو لم يرجع إليه، لما أشرنا [إليه] من أنّ المسألة بخصوصيّاتها- و هي كيفيّة صدق الجماعة- نظر العرف أجنبيّ عنها؛ لكونها مفهوما لها مصاديق مختلفة بحسب الأمكنة و الدواعي الخارجيّة و غيرها، فحينئذ طريق إحرازها و أنّها على أيّ نحو اعتبر يتوقّف على بيان الشرع لا غير.

فاتّضح- بعون اللّه تعالى- أنّ المسألة لا غبار عليها أصلا، و أنّ ما أفاده في «الجواهر» (1) في المقام لا وجه له، من أنّ الرواية على ما يظهر من صدرها معرض عنها، و أنّه يلزم رفع اليد عنه بذيلها، و أنّه وردت رواية اخرى منطبقة على مضمون الذيل، شاهدة على ما استفاده من الرواية الاولى، و أنّه يلزم في مثل الموارد الرجوع إلى العرف، فإنّه أمّا مسألة الإعراض فهي دعوى عجيبة، حيث إنّ التزامهم على خلاف ما يظهر من صدر الرواية ليس من جهة المناقشة في سندها، بل من جهة التصرّف في دلالتها و جعل ذيلها الظاهر في الاستحباب مع اشتماله على لفظ «ما لا يتخطّى» أيضا، كما في الصدر، و أنّ ما يستفاد منه هو الاتّصال الحقيقي الّذي لا يمكن اعتبار القرب أزيد منه، فلا محيص من حمله


1- جواهر الكلام: 13/ 171.

ص: 172

على الاستحباب، فجعلوه قرينة على الصدر و أنّ المراد بما لا يتخطّى فيه أيضا ما هو المراد به في الذيل من الاتّصال الحقيقي، فأنكروا لذلك استفادة الحكم الإلزامي و العزيمة من الرواية.

مع أنّك قد عرفت فساد هذا الاستظهار جدّا، و أنّه لا ربط للصدر بالذيل؛ لاختلاف موضوعهما.

و كيف كان؛ لا إعراض في البين أصلا؛ و أمّا وجود رواية شاهدة للاولى و هي صحيحة ابن سنان (1) فلا أصل لهذا الكلام أيضا؛ إذ لا ربط لها بالمقام، بل هي في مساق سائر الروايات الواردة بمضمونها في باب القبلة راجعة إليها، و المراد بلفظه فيها الارتفاع الّذي قدّام المصلّي، و أمّا مسألة الرجوع إلى العرف فقد عرفت فساده.

ثم إنّ هذا كلّه؛ بالنسبة إلى البعد الّذي بين الإمام و المأمومين و بين أنفسهم في الصفوف اللاحقة، فقد عرفت ظهور الرواية في حكمه، و أمّا الكلام بالنسبة إلى أشخاص الصفّ الواحد الّذي حكمه المستفاد من الدلالة الالتزاميّة للرواية كما تقدّم، و معلوم أنّ البعد بالنسبة إليهم لا بدّ أن يلاحظ من طرف العرض.

فحينئذ؛ هل يستخرج حكمهم من الرواية أيضا أم لا؟ الظاهر أنّه لا إشكال في هذه الجهة أيضا، حيث إنّه لمّا كان يستفاد أصل حكمهم من لازم الرواية، فهكذا يثبت لها ما يتفرّع عليه، فما يثبت للصفّ المتقدّم و المتأخّر فكذلك بالنسبة إلى الصفّ الواحد فيعتبر البعد بينهم بمقدار ما لا يتخطّى بالنسبة إلى وسط أحوالهم و هو حال القيام أو القعود، و لا يلزم الدقّة فيه أزيد من هذه


1- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11040.

ص: 173

الجهة بأن يلاحظ حال سجودهم أو غيره، بل يتسامح فيه، إذ ليس بناء الأحكام على الدقّة العقليّة مطلقا.

إحرام البعيد قبل القريب في الجماعة

بقي الكلام بالنسبة إلى إحرام البعيد قبل إحرام القريب الّذي به يتحقّق الاتّصال المعتبر، فهل يعتبر تأخّره عنه، أم لا، بل يكفي نفس تهيّؤ القريب و إشرافه على الدخول في الجماعة؟

الأقوى الثاني، نظرا إلى أنّه مضافا إلى عدم إمكان حصول الترتيب بين المقدّم و المؤخّر و القريب و البعيد عادة، خصوصا في الجماعات العظيمة و ما فيها الزحام، فإنّ ذلك- أي اعتبار الترتيب في الإحرام- أمر عسر حرجيّ [على] أنّه قامت السيرة عليه، حيث إنّه من عصر المعصوم عليه السّلام إلى الآن كان البناء في الجماعات دخول اللاحق في الجماعة بتهيّؤ السابق و لم يثبت أنّهم كانوا ينتظرون حتّى يحرم القريب.

نعم؛ يعتبر أن يكونوا مشرفين على الدخول و الإحرام للصلاة و لا يكفي مطلقا انعقاد الصفوف، و لو كانوا مشتغلين بالتكلّم و نحوه، فتأمّل!

ثمّ إنّه نقل عن العلّامة البهبهاني قدّس سرّه و بعض آخر أنّهم استشكلوا في جواز أن يكون الصفّ اللاحق أطول من السابق (1)، بحيث يكون البعد الّذي بين ما زيد من المتأخّر و بين الصفّ المتقدّم زائدا على المقدار المغتفر من البعد، و ذلك للجمود على ظاهر الرواية المتقدّمة، حيث نطقت بأنّه إذا كان البعد بين الإمام


1- نقله صاحب جواهر الكلام: 13/ 179، مفتاح الكرامة: 3/ 423- 424.

ص: 174

و المأمومين أو الصفوف مقدار ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بصلاة (1).

و أنت خبير بفساده؛ لما تقدّم من المدلول الالتزامي للرواية، و حاصله: أنّ البعد المزبور مانع إذا كان بين المأموم و من يتّصل به بالإمام لا مطلقا، و المفروض أنّ أشخاص الصفّ المتأخّر كلّهم متّصلون و ليس بينهم الفصل المضرّ.

هذا؛ مع أنّه و لو سلّمنا عدم الاكتفاء بالاتّصال من طرف العرض أنّه لا يصدق البعد المضرّ في المثال، حيث إنّ الصفّ عبارة عن مجموع ما يكون بين مبدئه و منتهاه، فإذا لم يصدق البعد المضرّ بالنسبة إلى قطعة منه، و الصفّ السابق لا يصدق بالنسبة إلى مجموعه، فلا يحسب القطعة الزائدة من اللاحق على السابق صفّا مستقلّا، بل هي بعضه، كما لا يخفى.

و القسم الثاني من شرائط الجماعة أيضا أمران:
الأوّل: أنّه يعتبر عدم علوّ مكان الإمام و محلّ صلاته على محلّ المأموم،

و الدليل عليه موثّقة عمّار (2) الّتي لا مجال للمناقشة في سندها أصلا و إن كانت من حيث المتن و الدلالة مضطربة جدّا.

و لا يخفى أنّه من سوء تعبيرات عمّار كما يكون كذلك أكثر رواياته، مع ما فيها في المقام من اختلاف النسخ في فقرة منها و هي قوله عليه السّلام: «و إن كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ، إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» (3) .. إلى آخره،


1- وسائل الشيعة: 8/ 410 الحديث 11039 و فيه: تلك بدلا من: ذلك.
2- وسائل الشيعة: 8/ 411 الحديث 11042.
3- وسائل الشيعة: 8/ 411 الحديث 11042.

ص: 175

فإنّها رويت على وجوه أربعة، كما نقلها في «الجواهر» (1).

و كيف كان؛ فالّذي ينبغي أن يقال: إنّه لا يجوز العلوّ أزيد من مقدار الشبر، و أنّه لو كان مكان الإمام مرتفعا أزيد تبطل الصلاة، و ذلك؛ لأنّ القدر المتيقّن من الرواية و المجموع المتحصّل من تمام النسخ المنقولة اعتبار عدم العلوّ بالمقدار المزبور، و أنّ الزائد على الشبر مانع، و أمّا بالنسبة إلى الشبر و أقلّ منه فمن الرواية لا يستفاد شي ء؛ لإجمال الفقرة المذكورة من جهة الاختلاف المزبور، مع أنّ بعضها لا يستقيم أصلا، كما أنّه بالنسبة إلى الجملة المتقدّمة على محلّ الخلاف بناء على أن يكون بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ، فإنّ مثل هذا التعبير بعيد عن ساحة المعصوم عليه السّلام، خصوصا من جهة التعبير بالإصبع حيث إنّ الأقلّ من عرض إصبع لا يناسب المقام، و إن كان توهّم بعض [أنّ] المراد به طول الإصبع (2)، و هو كما ترى.

مضافا إلى أنّه لفظة «إن» ليست معلومة أنّها وصليّة أو شرطيّة، مع أنّه على الشرطيّة- كما هو الأظهر- لا جواب لها، فحينئذ مقتضى الصناعة أن يقال: لا بأس بالارتفاع الأقلّ من الشبر نظرا إلى إطلاق أدلّة الجماعة، لو كان إطلاق يتمسّك به بالنسبة [إلى] الشكّ في الشروط الغير العرفيّة، و إلّا فمقتضى قاعدة الاشتغال الّتي أشرنا إليها غير مرّة، الاحتياط.

و أمّا الزائد على الشبر فلمّا كان القدر المتيقّن الّذي يستفاد من الرواية هو الشبر، بل الأقلّ فهو مضرّ يبطل الجماعة، حيث إنّ مقتضى صدر الرواية أنّه لا


1- جواهر الكلام: 13/ 167.
2- التنقيح الرائع: 1/ 271، جواهر الكلام: 13/ 169.

ص: 176

يجوز أن يكون موضع الإمام أرفع من المأموم مطلقا إلّا بالمقدار الّذي استثني، و قد عرفت أنّ القدر المتيقّن هو ما دون الشبر، فحينئذ بالنسبة إلى الشبر و ما زاد عليه لا ينبغي التأمّل في عدم جوازه حسبما هو المستفاد من مجموع الرواية و الأصل أيضا.

هذا كلّه؛ في العلوّ الدفعي و التسريحي بل التسنيمي الّذي هو كصفحة الجبل الملحق به، و أمّا في الانحداري فلا بأس به، كما هو صريح الرواية.

هذا؛ ممّا لا إشكال فيه، و إنّما البحث في عكس المسألة، و هو ما لو كان مكان المأموم أرفع من الإمام، فهو في الجملة أيضا ممّا لا ريب في اغتفاره، بل و لو كان كثيرا كما هو أيضا صريح الرواية، و لكنّ الإشكال في حدّ الكثرة المغتفرة، فإنها ربّما تبلغ إلى حدّ يضرّ الوحدة العرفيّة المعتبرة في صدق الجماعة، فهل يلتزم باغتفارها عملا بإطلاق الدليل أو لا؟ مجال التأمّل- بل و لو لم تبلغ إلى الحدّ المزبور- واسع، و الاحتياط في المقام لا ينبغي تركه، و اللّه العالم (1).

متابعة المأموم الإمام في الجماعة

الأمر الثاني: الّذي يمكن عدّه شرطا عرفيّا أيضا هو وجوب المتابعة،
اشارة

فاعتبار متابعة المأموم للإمام في الجملة ممّا لا كلام فيه، و إنّما الإشكال في أصل كيفيّتها و بعض صغريات المسألة، فينبغي أوّلا البحث في مدرك المسألة و دلالتها حتّى يتّضح الأمر.


1- و لمّا وصل التحرير إلى هنا توفّيت والدتي رحمها اللّه و كان ذلك في عشر من ذي القعدة 47 [ه ق]، «منه رحمه اللّه».

ص: 177

فنقول- و من اللّه التوفيق-: إنّ الأصل في ذلك النبويّ المتلقّى بالقبول عند الأصحاب و علمائنا- قدّس اللّه أسرارهم- على اختلاف ما فيه من النسخ، حيث إنّه روي كذلك على رواية أنّه «إنما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به» (1) و في اخرى اضيف إليه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «فإذا ركع فاركعوا و إذا سجد فاسجدوا» (2) و في ثالثة اضيف إليها أيضا: «و إذا كبّر فكبّروا» (3).

فالبحث يقع أوّلا في معنى المتابعة و أنّها كيف تتحقّق، هل يعتبر تقدّم الإمام زمانا في كلّ ما يصدر عنه على المأموم، أم يكفي عدم تأخّره عنه؟ بحيث يكتفى بمقارنة كلّ ما يصدر عنهما زمانا.

و ثانيا: في أنّه على أحد المعنيين هل يعمّ اعتبار ذلك بالنسبة إلى الأفعال و الأقوال مطلقا، أو يختصّ بالاولى، أو يعمّ الثانية أيضا في الجملة كما بالنسبة إلى الأقوال المسموعة؟

و نقول: أمّا الكلام بالنسبة إلى صدر الحديث- و هو مسألة الائتمام و الاقتداء مطلقا مع قطع النظر عمّا في ذيله من المثال- أنّه تارة؛ يقع في الأفعال الصادرة عن الإمام بلا أن يكون شركة بينه و بين المأموم. و اخرى؛ في الأفعال المشتركة بينهما، أمّا بالنسبة إلى الاولى فلا خفاء في أنّه لمّا كان إيجاد الفعل بيد الإمام فلا بدّ و أن يتبعه المأموم في أصل إيجاد الفعل و لا تصل النوبة إلى البحث في كيفيّة الصدور و أن يقال: إنّه من جهتها يتبعه، إذ المفروض أنّه لا موضوع في


1- عوالي اللآلي: 2/ 225 الحديث 42.
2- سنن ابن ماجة: 1/ 276 الحديث 846، بحار الأنوار: 80/ 301 الحديث 2.
3- صحيح مسلم: 2/ 18 باب ائتمام المأموم بالإمام.

ص: 178

البين حتّى تعرضه الأحوال المختلفة، فلا محيص حينئذ من اتّباعه في أصل الوجود، و لازم ذلك أن يتأخّر عنه في الإيجاد.

و أمّا بالنسبة إلى القسم الثاني؛ فلا يعتبر ذلك حيث إنّ المفروض اشتراك الإمام و المأموم في أصل الإيجاد، فتنحصر حينئذ المتابعة في الكيفيّة فقط، و من المعلوم أنّه يكفي في ذلك عدم تقدّم المأموم في الإيجاد، بل إذا أوجده مقارنا يصدق ذلك أيضا.

هذا؛ هو مقتضى الصدر، و لكن قد يقال: إنّ التفصيل و إن كان في حدّ نفسه تامّا إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عنه لما ذكر في ذيل الحديث؛ لمكان أنّ الأمثلة المذكورة لمّا كانت ذكرت على نحو القضيّة الشرطيّة المؤدّاة بصيغة الماضي الدالّة على النسبة التحقيقيّة، فيلزم تقدّم أفعال الإمام على المأموم مطلقا، إذ النسبة التحقيقيّة الّتي هي مدلول الشرط؛ صدقها يتوقّف على ذلك، أي تقدّم الشرط على الجزاء زمانا.

هذا؛ و لكن أصل التفصيل و هكذا الإشكال عليه فاسد، أمّا الأوّل؛ فلأنّ عدم صدق التبعيّة في الوجود إلّا مع التأخّر الزماني بين التابع و المتبوع إنّما يتمّ لو انحصر المترتّب به، مع أنّا نرى خلافه بالوجدان في التكوينيّات، حيث إنّه لا إشكال في الترتّب بين العلل و معلولاتها الخارجيّة و صدق تبعيّة كلّ موجود بالنسبة إلى معدّاتها، بل هي أظهر التبعيّة، مع أنّه لا تخلّل بينها زمانا أصلا، بل في الخارج يتحقّقان في عرض واحد، و إنّما الترتّب بينهما و التبعيّة رتبيّة، فهكذا نقول بالنسبة إلى تلك القضيّة الشرعيّة، و أنّه لا يتوقّف صدق الائتمام و تبعيّة المأموم على صدور الفعل عن الإمام سابقا في الخارج، بل يكفي فيما إذا كان

ص: 179

مستند إيجاد المأموم إيجاد الإمام ذاك الفعل؛ إذ ليس ذلك أزيد من العلل و المعلولات في التكوينيّات، فيصدق التبعيّة (الائتمام) و الاقتداء، و لو كان الإيجادان مقترنين زمانا، و تكون العليّة و المعلوليّة محفوظة، بأن يكون استناد فعل المأموم فعل الإمام، كما إذا علم و أحرز أنّه سيوجد الإمام الفعل الفلاني فشرع المأموم بإيجاده أيضا مقارنا له.

فعلى هذا؛ لا فرق بين القسمين، و لا دلالة لصدر الرواية إلّا على لزوم حفظ الائتمام و أنّه لا يجوز أن يسبق المأموم الإمام و يتقدّم عليه مطلقا.

و أمّا الثاني؛ و هو مسألة استفادة لزوم حفظ الرتبة الزمانيّة بين فعلها عن ذيل الرواية فمنشؤه توهّم دلالة القضيّة الشرطيّة على الزمان، و أنّه لمّا كان الشرط فعلا ماضيا فلا بدّ من تحقّقه قبل تحقّق الجزاء، و لكنّا قد حرّرنا فساد ذلك في بحث الاصول، و أنّه لا دلالة للفعل على الزمان أصلا.

نعم؛ الزمان من اللوازم العقليّة للأفعال، مثلا: الفعل الماضي لمّا كان دالّا على النسبة التحقيقيّة فلازمه وقوعه في الماضي، و هذا ليس إلّا في القضايا الخبريّة.

و بالجملة؛ القضايا الشرطيّة مسوقة لبيان الارتباط بين الشرط و الجزاء فقط، و ليست إناطة من حيث الزمان في البين، فحينئذ يجري هنا مثل ما تقدّم من أنّه لا يعتبر في الشرط و الجزاء أيضا إلّا حفظ الرتبة بينهما، بأن يكون مستند وجود الجزاء وجود الشرط.

و من المعلوم؛ أنّ ذلك يصدق و لو اقترنا زمانا، و لكن كانت جهة العليّة و المعلوليّة محفوظة، و هذا سرّ ما بنينا في باب الشروط مطلقا، بل هو المتسالم

ص: 180

عند الأصحاب أيضا من أنّه لا يعتبر تحقّق الشرط قبل المشروط زمانا، بل يمكن إيجادهما مقارنا كما في مسألة شرطيّة الوقت للصلاة حيث إنّه يجوز الدخول فيها، و لو في الآن الأوّل الحقيقي للوقت؛ مثل زوال الظهر.

و على هذا؛ تتطابق القضيّة الشرطيّة الّتي في ذيل الرواية مع ما في صدرها، و أنّه لا يستفاد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «فإذا ركع فاركعوا» (1) .. إلى آخره، إلّا أن يكون مستند ركوع المأموم ركوع الإمام و تبعيّته فلا يجوز تقديمه عليه، و أمّا أنّه يعتبر تأخّره عنه فلا دليل عليه، فصدر الرواية و ذيلها متوافقان، كما أنّه لا دليل عقلا أيضا على اعتبار التأخّر.

و أمّا ما يستدلّ له بما دلّ على اعتبار التأخّر بالنسبة إلى تكبيرة الاحرام ففيه- مع ما في دلالته بالنسبة إلى نفس تكبيرة الإحرام كما ستعرف-: أنّه لا مجال لمقايسة الأفعال بها، حيث إنّه لو سلّمنا فيها فإنّما هو لعدم انعقاد الجماعة بعد، فما لم يحرز تلبّس الإمام بالصلاة خارجا و لم يدخل فيها لم يصدق الاقتداء.

و لا فرق من هذه الجهة بين أن يكون الدليل على التكبيرة ذيل هذه الرواية العامّية، كما أشرنا إليها (2)، و أنّه مشتمل عليها على بعض النسخ، أو الدليل الآخر.

و دعوى أنّه بناء على الأوّل و استفادة اعتبار التأخّر من ذيل الرواية- لا محيص من الالتزام به بالنسبة إلى الأفعال أيضا، لأنّ مساق الرواية واحد-


1- بحار الأنوار: 80/ 301 الحديث 2، جواهر الكلام: 13/ 201، رياض المسائل: 3/ 37.
2- صحيح مسلم: 2/ 18، راجع! الصفحة: 177 من هذا الكتاب.

ص: 181

فاسدة، لأنّه أوّلا؛ الرواية على ما رواها أصحابنا (1) غير مشتملة على هذا الذيل إلّا نادرا، و ثانيا؛ لما عرفت من الفرق، فتأمّل!

هذا حال الأفعال و حكمها و أمّا الأقوال؛ فالظاهر أنّ فيها التفصيل، أمّا بالنسبة إلى تكبيرة الإحرام فقد استدلّ على اعتبار التأخّر فيها و أنّه لا يجوز التقديم بل و لا المقارنة، برواية «قرب الإسناد» قال عليه السّلام فيها: «لا يكبّر إلّا مع الإمام فإن كبّر قبله أعاد» (2) و هذه الرواية و إن كانت مشتملة على ما هو خلاف الإجماع ظاهرا من جهة أنّ التكبيرة قبل الإمام توجب عدم انعقاد الجماعة لا بطلان أصل الصلاة حتّى تجوز الإعادة.

و لكن هذه الجهة لا تضرّ بها، إذ كثيرا ما تكون رواية معرض عنها بالنسبة إلى بعض فقراتها، و لا يوجب سقوطها عن الاعتبار رأسا، بل لا يزال بناؤهم على التمسّك بأمثالها.

نعم؛ إنّما الإشكال في دلالتها، فإنّها بظاهرها ليست دلالتها أزيد ممّا تقدّم في الرواية العاميّة، و أنّه لا يجوز تقدّم تكبير المأموم على الإمام.

و أمّا حديث «المحاسن» المرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أنّ ظاهره يقتضي ذلك لمكان قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «و إذا قال إمامكم: اللّه أكبر، فقولوا: اللّه أكبر» (3) إلّا أنّ استفادة الحكم الإلزامي منه مشكل، لا لاشتمال الحديث على الأحكام الغير الإلزاميّة، إذ ذلك لا يوجب رفع اليد عن سائر فقرات الحديث إذا كانت ظاهرة في الإلزام،


1- لاحظ! جواهر الكلام: 13/ 201.
2- قرب الإسناد: 218 الحديث 854، وسائل الشيعة: 3/ 101 الحديث 3133.
3- أمالي الصدوق: 265 الحديث 10، وسائل الشيعة: 8/ 423 الحديث 11075، و فيه: المجالس بدلا من: المحاسن.

ص: 182

بل لأنّ الظاهر منه صدرا و ذيلا أنّه مسوق لبيان الأحكام الاستحبابيّة مطلقا، فحينئذ لا دليل نقلا يقتضي اعتبار تأخّر تكبيرة المأموم عن الإمام، و عدم الاكتفاء بتلبّسه بها.

نعم؛ نظرا إلى الشبهة العقليّة و أنّه ما لم يصدر التكبيرة عنه لم يتحقّق الإمامة بعد- و لعلّ لذلك أفتى جماعة من الأساطين باعتبار التأخّر للاحتياط شديدا (1)- عدم [جواز] شروع المأموم بالتكبيرة إلّا بعد شروع الإمام بها، و الأولى منه عدم إتيانه بها إلّا بعد فراغه عنها، و اللّه العالم.

هذا؛ بالنسبة إلى تكبيرة الإحرام. و أمّا بالنسبة إلى سائر الأقوال فقد اتّضح حكمها منها، و أنّه لا بأس بتقدّم المأموم الإمام بالنسبة إليها، إذ لا دليل على المنع بل السيرة و غيرها مثل رواية الحلبي الّتي مضمونها: أنّه إذا كان الإمام يطيل في تشهّده لا بأس للمأموم أن يخفّف و يسلّم (2)، يدلّ على الجواز، و ليس شي ء يقتضي من الشبهة الجارية في التكبيرة للافتتاح، حملها على ما إذا كان ذلك لحاجة، أو أنّ المراد أن يقصد المأموم الانفراد و أمثال ذلك، ممّا هي مخالفة للظاهر.

التأخّر كثيرا في الائتمام
اشارة

هذا كلّه؛ بالنسبة إلى تقدّم عمل المأموم على الإمام، و أمّا من حيث التأخّر فهل يجوز ذلك زائدا عمّا يصدق عليه البعديّة عرفا، أم لا؟

ثمّ إنّه بناء على عدم الجواز هل تبطل الجماعة به أم لا؟ المسألة في غاية


1- مفاتيح الشرائع: 1/ 162، جواهر الكلام: 13/ 208، رياض المسائل: 3/ 37.
2- وسائل الشيعة: 8/ 413 الحديث 11048.

ص: 183

الإشكال و الاضطراب، حيث إنّ المنقول عن الشهيد قدّس سرّه أنّه لا يفوت القدوة بفوات ركن أو ركنين عندنا (1)، مع أنّه- كما ذكروا- بناء المشهور على التفصيل في المسألة، من حيث عدم البأس بالتأخّر في الجملة، و حرمته إذا كان فاحشا، و كونه موجبا للبطلان إذا بلغ إلى مثابة يضرّ بصدق المتابعة عرفا.

و التحقيق: أنّه أمّا بالنسبة إلى الركوع مطلقا عدم جواز التأخير؛ لما دلّ عليه الروايات الكثيرة، مثل ما في «الدعائم» (2) و صحيحة معاوية بن عمّار (3) و صحيحة زرارة (4) الّتي مضمونها بجملتها: أنّه إذا لم يمهله الإمام القراءة يؤخّرها و يدرك الركوع، و هكذا السورة.

و معلوم؛ أنّه ما لم يكن إدراك الركوع واجبا شرعا لم يجز ترك السورة لأجلها؛ إذ هو ليس أمرا مضطرّا إليه خارجا، و حملها على خصوص الركوع الأوّل حتّى يدرك ركعة من صلاة الإمام لا دليل عليه، و لا وجه له أصلا، كما لا يخفى.

و أمّا مسألة الشرطيّة بالنسبة إلى الأفعال- ركوعا كان أو غيره لنفس الصلاة بمجموعها أو الجزء الفائت حتّى يوجب عدم إدراكه بطلان خصوصه- لا دليل عليه أصلا، خصوصا الأخير، حيث إنّه مع عدم كون الجماعة بالنسبة إلى الصلاة من قبيل الاستغراقي الانحلالي؛ بل هي من قبيل العامّ المجموعي، فحينئذ فهذا الاحتمال ساقط رأسا، مضافا إلى وجود الدليل على عدم اعتبار


1- البيان: 144، الدروس الشرعيّة: 1/ 224، مع اختلاف يسير.
2- دعائم الإسلام: 1/ 191، مستدرك الوسائل: 6/ 489 الحديث 7330.
3- وسائل الشيعة: 8/ 388 الحديث 10978، و فيه: معاوية بن وهب.
4- وسائل الشيعة: 8/ 388 الحديث 10977.

ص: 184

الإدراك مطلقا، كما يستفاد ذلك من بعض الفروع المتسالم عندهم، كما دلّ الدليل عليه أيضا، مثل ما إذا سبق المأموم الإمام في الركوع عمدا فيجب البقاء عليه حتّى يلحقه الإمام و مثل ما بنوا عليه في صلاة الجمعة من أنّه في حال السجود لو لم يمكنه أن يقوم مع الإمام و بقي على حاله حتّى فرغ الإمام من الركعة التالية و لحقه في سجود الثانية يقتدي به في السجدة الّتي بيده، و يجعلها الاولى لنفسه، فيحسب ذلك له ركعة تلفيقيّة.

و معلوم؛ أنّ لازم ذلك فوات ركنين له، من سجدتي الركعة الاولى و الركوع الثاني، فإذا كان المفروض بقاء القدوة بعد، فحينئذ أي التأخّر الفاحش يبقى حتّى يكون موجبا لبطلان الجماعة أو أصل الصلاة؟ و شيخنا قدّس سرّه لمّا رأى أنّه لا يمكن الالتزام بأحدهما فعدل، و جعل التبعيّة شرطا للجزء، و قد عرفت أنّه غير معقول.

مضافا إلى أنّه دلّ الدليل على عدمه؛ لما سمعت فيما لو تقدّم على الإمام في الركوع يلزم البقاء حتّى يلحقه الإمام، فلو كان الجزء المسبوق به باطلا فما معنى لزوم البقاء؟

و بالجملة؛ فالاحتمالات الثلاثة بأن تكون التبعيّة شرطا لأصل الصلاة، أو للجماعة، أو للجزء فقط؛ باطلة، لما تقدّم، مضافا إلى ما سمعت من دعوى الشهيد الإجماع على عدم فوات القدوة بفوات ركن أو ركنين (1)، فلا يبقى إلّا احتمال رابع- كما وقع في كلام الشيخ قدّس سرّه أيضا- و هو أن يكون لزوم الاتّباع و عدم


1- البيان: 144، الدروس الشرعيّة: 57، مع اختلاف يسير.

ص: 185

التخلّف بالسبق أو التأخّر زائدا عمّا يغتفر عرفا حكما تعبّديا (1)، و هو الحقّ.

و ذلك: لما تقدّم في أوّل الباب من أنّ الأصل في المسألة هو النبويّ (2)، و هو لا يدلّ على أزيد من ذلك، و لا يستفاد منه الشرطيّة أصلا، لأنّه و إن بنينا في محلّه من أنّ الأوامر و النواهي الواردة في الماهيّات المركّبة منقلبة عمّا هو الأصل فيها من الدلالة على الحكم النفسي، بل ظاهرها الشرطيّة و المانعيّة فيها.

إلّا أنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا كان الحكم و الأمر و النهي متعلّقا ابتداءً بشي ء في مركّب عباديّ أم معاملي، و المقام ليس كذلك، بل الأمر الأوّلي هو نفس الائتمام، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «فإذا ركع فاركعوا» (3) .. إلى آخره؛ من توابع الأمر الأوّل، و لا يستفاد منه إلّا لزوم هذا الأمر، أي المتابعة في الجملة، و عدم التخلّف عن الإمام بالسبق أو التأخّر الفاحش، فهذا نظير توابع التبعيّة، حيث إنّه إذا تحقّقت المتابعة فنفسها تقتضي العمل بآثارها، و مع ذلك فإذا ورد أمر أو نهي عليها لا تكون هي تكاليف نفسيّة، بل من قبيل الإرشاد إلى ما تقتضيها نفس المتابعة، فلا يترتّب عليها ما يترتّب على الأوامر و النواهي النفسيّة أي المنشأة ابتداءً، فتأمّل!

فالحاصل: لا دليل على اشتراط المتابعة أصلا، بل قد سمعت أنّ الدليل على خلافه، و غاية ما دلّ عليه الدليل- و هو النبوي- كون لزوم المتابعة واجبا نفسيّا و حكما تعبديّا، فحينئذ التخلّف عن الإمام بأيّ مقدار يكون لا يضرّ بالصلاة أو الجماعة بوجه، كما عليه أساطين الفقهاء أيضا.


1- المبسوط: 1/ 159.
2- تقدّم في الصفحة: 177 من هذا الكتاب.
3- سنن ابن ماجه: 1/ 276 الحديث 846.

ص: 186

بقي الكلام في أنّ اقتضاء هذا الحكم التعبّدي هل هو بطلان أصل الصلاة، أو الجزء فقط لو خولف، لكون الجزء الّذي سبق به أو تأخّر منهيّا عنه، أم ليس اقتضاؤه ذلك؟

قد يتوهّم أنّ المقام لمّا كان من باب الضدّ و أنّ التقدّم أو التأخّر لمّا يوجب فوت الواجب الّذي هو الاتّباع؛ فمقتضى القاعدة بطلان العمل.

و فيه: أنّ ذلك أوّلا اجتهاد في مقابل النصّ، لما تقدّم ممّا يدلّ على أنّهما لا يضرّان بشي ء.

و ثانيا: أنّ المقام موضوعا خارج عن مسألة الضدّ رأسا؛ لما حرّرنا في محلّه من أنّ ضابطه أن يكون فعل أحد الضدّين و الاشتغال به يوجب سلب القدرة عن الآخر، و هذا مفقود هنا، لمكان بقاء القدرة على الاتّباع فيما إذا تقدّم، بأن يأتي بما تخلّف عنه ثانيا، و فيما لو تأخّر أصلا لا يصدق المضادّة؛ إذ المفروض فوات المتابعة، فلا مضادّة بالنسبة إلى الفعل الّذي يأتي به الآن مع المتابعة الفائتة.

نعم؛ بالنسبة إلى ما إذا تقدّم، لمّا كان الدليل الشرعي قائما على عدم الرجوع و الاكتفاء به؛ فلذلك لا يقدر على الإتيان ثانيا، و هذا من الغرائب لو كان ذلك وجه عدّ المقام من باب الضدّ.

و بالجملة؛ خروج المقام عن مسألة الضدّ واضح، ضرورة أنّه إنّما يكون إذا كان الأمران المكلّف بهما زمانا في عرض واحد، و لا إشكال أنّ ما نحن فيه من هذه الجهة طوليّان، فعلى هذا؛ لا يترتّب على التقدّم أو التأخّر سوى الإثم إذا تعمّد فيهما.

ص: 187

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل المسألة؛ بقي الكلام في الفروع الّتي تترتّب عليها، فإنّه إذا فرضنا أنّه أثم و تقدّم أو تأخّر، فحينئذ أيّ شي ء وظيفته؟ أمّا بالنسبة إلى التأخّر فلا يترتّب عليه شي ء، سوى أنّه يجب عليه المبادرة باللحوق آنا فآنا، و إنّما الإشكال فيما لو تقدّم، فهل يجب عليه العود و اللحوق بالإمام بالنسبة إلى الجزء الّذي تخلّف عنه، أم لا، بل يبقى على حاله حتّى يلحقه الإمام؟

الظاهر أنّه يختلف الحكم في ذلك من حيث العمد و السهو كما عليه جلّ الفقهاء حسبما استظهروا من الأدلّة، و ذلك؛ أنّه أمّا إذا تقدّم عامدا- كما إذا سبق الإمام في رفع رأسه عن الركوع أو السجود- فيجب عليه أن يستمرّ على حاله حتّى يلحق الإمام و لا يجوز له العود، و أمّا لو كان ساهيا فيجب عليه العود و اللحوق بالإمام و الرفع معه ثانيا.

هذا ما عليه الفتوى، و لكنّ الإشكال في استفادة هذا التفصيل من أخبار الباب، فإنّها بظاهر [ها] متباينة، حيث إنّ جملة منها كرواية عليّ بن يقطين (1) و الفضيل (2) و خبر الأشعري بظاهرها (3) مطلقة تدلّ على لزوم العود إذا تخلّف، و رواية اخرى لغياث بن إبراهيم (4) تقتضي عدم العود، و لزوم البقاء على حاله مطلقا حتّى يلحقه الإمام، فهي بظاهرها متعارضة مع الطائفة الاولى.

و لكن الإنصاف أنّه ليس لهذه الرواية كمال ظهور في الإطلاق، بل الظاهر


1- وسائل الشيعة: 8/ 391 الحديث 10984.
2- وسائل الشيعة: 8/ 390 الحديث 10982.
3- وسائل الشيعة: 8/ 390 الحديث 10983.
4- وسائل الشيعة: 8/ 391 الحديث 10987.

ص: 188

منها بقرينة قوله عليه السّلام: «إذا أبطأ الإمام» هو العمد حيث المستظهر منها أنّه كان المأموم يزعم و يعتقد أنّ الإمام الآن يرفع رأسه لتماميّة ذكره الّذي كان عادته الإتيان، فرفع المأموم رأسه عمدا معتقدا أنّ الإمام أيضا يلحقه، و لكن تخلّف زعمه و أبطأ الإمام، فحينئذ تصير هذه الرواية ظاهرة في العمد، فيقيّد بها إطلاق الطائفة الاولى، مضافا إلى انصرافها بنفسها أيضا إلى السهو لاستبعاد التعمّد بذلك عن المأمومين مع بنائهم على الائتمام و الاقتداء.

و بالجملة؛ فما ذكرنا (1) يمكن أن يكون وجه ما بنى عليه الأصحاب قدّس اللّه أسرارهم، و مع الغضّ عن ذلك فنقول: إنّ دعوى الإجماع على هذا التفصيل في المسألة قريبة جدّا، لأنّه فتوى أساطين الفقهاء و أئمّتهم قديما و حديثا (2)، و المخالف جماعة شاذّة من متأخّري المتأخّرين (3)، فحينئذ ببركته لا محيص عن رفع اليد عن إطلاق الطائفة الاولى، فتنقلب النسبة قهرا و إلّا لا يبقى لها مورد لو بني بقاؤها على ظهورها و تقديم رواية غياث عليها تصير مختصّة بغير العامد فيخصّص بها رواية غياث فتصير النتيجة كالأوّل، فعلى كلّ حال؛ لا محيص عمّا هو المشهور في المسألة، فتدبّر!


1- من استظهار العمد عن رواية غياث و اختصاص الروايات الاولى بالساهي حيث إنّه استفادة العمد منها ببركة ترك الاستفصال، و هو إنّما يفيد إذا لم يكن في البين انصراف يوجب التخصيص، و قد أشرنا إلى وجهه، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».
2- السرائر: 1/ 288، ذكرى الشيعة: 4/ 445، البيان: 138، جواهر الكلام: 13/ 212.
3- الحدائق الناضرة: 11/ 142.

ص: 189

فروع:

ثمّ إنّ هنا فروعا:

الأوّل: قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا أنّه عدم الفرق بين أنحاء التقدّم على الإمام من أن يتقدّم عليه بالرفع عن الركوع أو السجود، أو يتقدّم بالوضع و الهويّ لهما؛ لوجود الأخبار بالنسبة إلى كليهما، و دلالة بعضها على الأوّل و الآخر على الثاني (1)، مضافا إلى عدم القول بالفصل في المسألة، كما لا يخفى فحينئذ إذا كان التقدّم عمديّا يجب الاستمرار و عدم العود مطلقا و إن كان عن سهو يجب العود و متابعة الإمام.

الثاني: لو تخلّف فلم يستمرّ فيما إذا سبق بالنسبة إلى الركوع أو السجود عمدا فرجع و أعادهما مع الإمام تبطل الصلاة للزيادة عمدا، و لا فرق في ذلك بين أن يكون أتى بالذكر أوّلا أو لم يأت، غايته من الجهتين في الثاني تبطل فتبطل صلاته، سواء أعاد أم لم يعد.

الثالث: لو تخلّف في صورة السهو الّذي يجب عليه العود و لم يرجع فالظاهر أنّه لا يترتّب على ذلك سوى الإثم، لما تقدّم أنّ ذلك ليس يجب إلّا للمتابعة الّتي وجوبها ليس شرطيّا، و أمّا الركوع و السجود فقد تحقّقا و لا فرق بين أن يكون آتيا بذكر الواجب فيهما أم لم يأت به، بأن تركه سهوا أيضا، أمّا أصل عدم البطلان مع أنّه ترك واجبا فلما عرفت من أنّ المتابعة واجب نفسيّ، تركها لا يوجب إلّا الإثم، و المفروض أنّ وجوب الرجوع هنا لا يجب إلّا لذلك، و إلّا فالواجب من الركوع أو السجود قد اتي به و هو الّذي تحقّق أوّلا، فحينئذ و لو كان


1- وسائل الشيعة: 8/ 390 الباب 48 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 190

ذكرهما فالترك أيضا لا يضرّ بشي ء، لأنّ الرفع تحقّق سهوا، فهكذا الذكر الواجب، فلا يجب العود لتداركه؛ إذ بعد البناء على تحقّق الركوع و السجود فلا يبقى مجال لتداركه.

و من هنا نقول: إنّه و لو عاد و لحق بالإمام لا يجوز له الإتيان بالذكر في الركوع أو السجود الثاني بقصد الورود و الوظيفة الواجبة؛ لمكان فوات محلّه، و هذا الّذي يأتي به ثانيا ليس ركوعا صلاتيّا بل لحصول المتابعة.

و دعوى أنّ الشارع نزّل الركوع أو السجود الأوّل منزلة العدم أو جعلهما بمنزلة ركوع واحد مستمرّ؛ باطلة، إذ دون إثباتهما من الأخبار خرط القتاد، حيث إنّها لا تدلّ إلّا على وجوب العود و لو كان ورد ذلك بلفظ (يعود [في] ركوعه أو سجوده) و لكن مع ذلك استفادة التنزيل منها في غاية الإشكال، و صرف التسمية لا يدلّ على ذلك، كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّه لا إشكال في أنّه لو شرع المأموم بالعود و الإمام في إتيانه رفع رأسه، لا يجوز له الإتيان بالركوع أو السجود ثانيا لتدارك الذكر الفائت، و لا يضرّه فوته أصلا، فحينئذ لا ينبغي التأمّل في أنّه لو أتى به يأتي بقصد الذكر المطلق.

ثمّ إنّه لا فرق في ما ذكرنا- من أنّه لو تقدّم على الإمام في الركوع من وجوب الاستمرار لو كان عن عمد و وجوب الرفع عنه و الإعادة مع الإمام ثانيا و أنّه في الصورة الثانية لو لم يرجع و ترك المتابعة لا يترتّب عليه سوى الإثم- بين أن يكون الإمام فارغا من قراءته أو لم يكن كذلك، بل كان في أثنائها.

و ذلك: لأنّه على كلّ تقدير حينئذ ما ترك إلّا متابعة الإمام في تمام القيام،

ص: 191

و هو لا يخلو إمّا أن يكون واجبا نفسيّا حال القيام كما هو الأقوى و المشهور أيضا، و إمّا أن يكون شرطا للقراءة و يعتبر في حالها، و من المعلوم؛ أنّ ترك شي ء منهما لا يوجب بطلان الصلاة على الأوّل، فلما تقدّم من أنّه إذا لم يكن شي ء واجبا شرطيّا للصّلاة أو الجماعة تركه لا يضرّ بأحدهما.

هذا؛ مضافا إلى أنّه إنّما يثبت بالدليل وجوب القيام وجوبا نفسيّا حال القراءة إذا كان المصلّي بنفسه يقرؤها، و أمّا إذا كان غيره متحمّلا لها فمجال المناقشة في وجوبه حينئذ واسع.

و أمّا على الثاني؛ فلأنّه قد تحقّق أنّ الإمام كما يتحمّل نفس القراءة عن المأموم هكذا يتحمّل عنه كلّ ما يكون شرطا لها من الطمأنينة و الاستقرار و غيرهما.

فعلى هذا؛ لا يبقى وجه لبطلان صلاة المأموم أصلا، سواء كان تركه للمتابعة في أثناء قراءة الإمام عن عمد، بأن ركع قبله عمدا، أو كان عن سهو، أو لا و لكن لم يعد و لم يرجع حتّى تحصل المتابعة بل استمرّ على حاله.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما أتى به في «العروة» في المسألة، فإنّه فصّل بين الفرعين و احتاط في بطلان الصلاة في الصورة الثانية، و في الاولى قال بأنّه الأقوى على ما يستفاد من عبارته مع ما فيها من الاندماج (1).

وجه الفساد: قد عرفت أنّه على كلّ من القولين في مسألة القيام تركه لا يضرّ شيئا، مضافا إلى أنّه ما عرفنا وجه التزامه بالتفصيل، فإنّه إذا كان المفروض


1- و في «النجاة» (وسيلة النجاة: 1/ 255 المسألة 9) تعرّض لهما أوضح ممّا في «العروة» (العروة الوثقى: 1/ 786 المسألة 12)، «منه رحمه اللّه».

ص: 192

أنّ المتابعة و لو كان استمرار تركها مستندا إلى الاختيار و العمد، فحينئذ بناء على الالتزام بالبطلان الفرق بين الصورتين لا مجال له، كما هو واضح.

نعم؛ قد يقال: إنّ الوجه في بطلان الصلاة في الصورة المذكورة إنّما هو لفوات الترتيب تعمّدا نظرا إلى أنّه لا إشكال في أنّ محلّ الركوع بعد القراءة، فلو قدّمه عليها تبطل الصلاة، فهكذا بالنسبة إلى ما هو بدل القراءة فيعتبر فيها الترتيب أيضا، و لمّا كان قراءة الإمام بدلا عن قراءة المأموم فلا يجوز له تقديم ركوعه على قراءته أيضا؛ لاقتضاء التنزيل ذلك، و إلّا تبطل الصلاة، كما لو أتى به قبل أن يتمّ قراءة نفسه في صورة الانفراد.

هذا غاية ما يمكن أن يكون مدركا للفتوى المذكورة، و لكنّه بناء على تماميّته مختصّ بما لو تعمّد في التقدّم من أوّل الأمر لا في الصورة الاولى، و هو ما لو كان حدوث التقدّم سهويّا، و لكن كان بقاؤه عمديّا، حيث إنّ المفروض أنّ فوات الترتيب حينئذ وقع من غير اختيار، و وجوب العود إنّما هو للمتابعة لا لحفظ الترتيب، و قد عرفت أنّ تركها لا يوجب إلّا الإثم، فالاحتياط في هذه الصورة ليس له وجه أصلا، مضافا إلى عدم تماميّته في حدّ نفسه.

و ذلك؛ لأنّ هذا الوجه مبنيّ على مقدّمات ثلاثة، و اثنتان منها- و هما وجوب الترتيب بين القراءة و الركوع، و كون قراءة الإمام بمنزلة قراءة المأموم- و إن كانتا تامّتين، و لكن الإشكال في الثالثة، و هي لزوم الترتيب بين ما هو بدل القراءة و الركوع أيضا، و مجال منعها واسع؛ لأنّ غاية ما يقتضيه دليل التنزيل أنّ قراءة الإمام تجزي عن قراءة المأموم و أنّها بدل عن قراءته، و أمّا أنّها منزّلة منزلتها في جميع الجهات حتّى في لزوم الترتيب بينهما فليس له عموم بهذه

ص: 193

الدرجة، كما هو واضح، فلا يبقى إلّا لزوم المتابعة، و قد عرفت أنّها لا تقتضي شيئا.

و بالجملة؛ فهذا الوجه أيضا لا يثمر شيئا، و هكذا ما أشار إليه في «العروة» الّذي يصير في الحقيقة وجها ثالثا، و هو أنّ التقدّم في أثناء قراءة الإمام لمّا يوجب فوات القراءة بنفسها و بدلها عمدا فلذلك تبطل الصلاة.

و فساد ذلك يظهر ممّا ذكرنا في الوجه الأوّل، حيث إنّ فوت القراءة ببدلها إنّما يتوقّف على أن يكون قيام المأموم معتبرا عند قراءة الإمام، و إلّا فلا بدليّة، و قد عرفت عدم تماميّة ذلك و أنّ الإمام يتحمّل قراءة المأموم بما لها من الشرائط و لذلك يجوز له جرّ رجليه عند قراءته مع أنّ الاستقرار شرط فيها.

فعلى هذا؛ مقتضى القاعدة في الفروع المتقدّمة ما ذكرنا، و أنّه لا فرق في التقدّم بين أن يكون قبل تماميّة قراءة الإمام أو بعدها.

ما هو مقتضى القاعدة في المتابعة؟

ثمّ إنّه ظهر من مطاوي ما ذكرنا ما هو الأصل في المسألة، و أنّ مقتضى القاعدة في صورة التقدّم على الإمام في الركوع أو السجود فيما إذا كان عن سهو و يجب فيه العود، أيّ شي ء هو؟ و قد أشرنا إلى أنّ الركوع هو الّذي يتحقّق أوّلا، و الثاني لا يجب إلّا للمتابعة، فليس هو ركوعا و لا كلاهما ركوعا واحدا، فكأنّه استمرار للأوّل، و ذلك؛ لأنّه ليس لنا دليل يقتضي جواز الرجوع و وجوبه في صورة السهو إلّا الأخبار الخاصّة المتقدّمة و شي ء منها لا يدلّ على أحد الوجهين، حيث إنّ أصرحها هي رواية الأشعري لاشتمالها على قوله عليه السّلام: «يعيد

ص: 194

ركوعه معه» (1)، و هذا لا يدلّ على أنّ ما وقع أوّلا هو فعل لغو، و هو ليس بركوع أو أنّه و الثاني الّذي يأتي به، كلاهما بمنزلة ركوع و كأنّ الفصل لم يقع، بل غاية مدلول ذلك وجوب إعادة الركوع للمتابعة.

و بعبارة اخرى: ليس مدلول تلك الأخبار إلّا حكم نفسيّ تعبّديّ لا نفي عنوان الركوع أو السجود عن فعل المكلّف (المأموم) فيما إذا تخلّف عن الإمام، و هكذا قد تبيّن أنّ صدق هذه العناوين على فعل المأموم و صحّتها لا يتوقّف على فراغ الإمام من قراءته، فحينئذ مقتضى القاعدة إنّما يصدر عن المأموم و يصلح أن يكون ركوعا أو سجودا، وقوعهما و تحقّقهما سواء كان قبل فعل الإمام أو بعده.

فعلى هذا؛ في الفروع المتقدّمة- أي إذا فرضنا أن يكون ذكره الواجب في الركوع الّذي يأتي به أوّلا أو السجود كذلك فات سهوا- فلا يبقى محلّ لتداركه حتّى يقال: إنّه يأتي به في الركوع أو السجود الّذي يعيدهما، لأنّ المفروض أنّهما ليسا فعلا صلاتيّا، و لا يضرّ فوت الذكر حينئذ شيئا، و لذلك لو اتفق أنّه إذا شرع المأموم بالعود و الإمام رفع رأسه منهما فلا يجوز له أن يأتي بهما، و لا يضرّه ترك الذكر شيئا قطعا.

الأفعال المختصّة بالإمام في الجماعة

هذا تمام الكلام في الأفعال الّتي يشترك المأموم فيها مع الإمام، و قد اتّضح حالها بحمد اللّه تعالى و هو وليّ التوفيق، و أمّا بالنسبة إلى الأفعال الغير المشتركة


1- وسائل الشيعة: 8/ 390 الحديث 10983.

ص: 195

و المختصّة بالإمام، فهل يجري دليل المتابعة فيها أيضا، أم لا؟

فنقول: إنّ الأفعال المختصّة به على أقسام؛ فإمّا أن يكون ما يأتي في خارج الصلاة، و إمّا أن يأتي بها في أثنائها، و هذا لا يخلو عن وجوه، فإمّا أن يكون فعل يعدّ زيادة يوجب بطلان صلاة الإمام مطلقا، أو ليس كذلك، بل إبطاله مختصّ بما لو أتاه تعمّدا.

ثمّ إنّ ذلك تارة يكون فعلا صلاتيّا مشتملا على زيادة، و اخرى ليس كذلك.

أمّا القسم الأوّل؛ و هو كسجدة السهو الّتي يأتي بها الإمام بعد الصلاة لحصول موجبها عنه في أثنائها، فهذا لا إشكال في عدم وجوب المتابعة فيها لعدم الدليل.

و توهّم جريان قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به» (1) .. إلى آخره؛ فيها، كما ترى.

و أما في صور القسم الثاني؛ ففي الاولى منها فالحكم واضح أيضا، و هو مثل ما إذا زاد الإمام ركوعا في صلاته، و في الثانية منها أيضا بديهيّ أنّه لا يجب على المأموم متابعة الإمام، و هو كما إذا كان الإمام يأتي بسجدة واحدة زائدة سهوا، أو تشهّد كذلك، حيث إنّ هذه الزيادة بالنسبة إلى الإمام و إن كانت سهويّة و لكنّها بالنسبة إلى المأموم- المفروض أنّه لو أتى بها كانت عمديّة- لا دليل على اغتفارها.

و ذلك؛ لأنّه أمّا الأدلّة العامّة مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّما جعل الإمام إماما» ..

إلى آخره، فهي ليست بمشرّعة حتّى تكون حاكمة على أدلّة الزيادة، بل غاية


1- سنن ابن ماجة: 1/ 276 الحديث 846.

ص: 196

مدلولها أنّه يجب المتابعة بالنسبة إلى الأفعال الصلاتي الّتي هي وظيفة المأموم أيضا فيتبعه فيها.

و أمّا الأخبار الخاصّة المتقدّمة الدالّة على وجوب العود فيما إذا تقدّم على الإمام فهي إنّما تدلّ على اغتفار الزيادة في الصور المذكورة فيها من التقدّم في الركوع أو السجود لا مطلق الزيادة، فهي أيضا ليست بمشرّعة حتّى تثمر بالنسبة إلى أمثال ما نحن فيه، كما لا يخفى.

و أمّا الصورة الثالثة؛ و هي مثل ما إذا كان الإمام يأتي بتشهّد زائد سهوا أو يأتي بقنوت كذلك، أو كان جزءا واجبا على الإمام فقط دون المأموم، كما إذا كان المأموم مسبوقا، بأن كانت له الركعة الاولى أو الثالثة، و للإمام الثانية أو الرابعة، فهنا قد يكون خفاء في المسألة من حيث إنّ لزوم المتابعة يقتضي أن يقف المأموم مع الإمام في حال ثبوته، و هكذا أن يجلس معه في حال التشهّد؛ لأنّ المفروض أنّه فعل صلاتيّ من حيث إنّه إمّا قيام طال لاشتغال الإمام بالقنوت، و إمّا جلسة الاستراحة، و إن لم يكن بخصوص عنوان التشهّد أو القنوت فعلا صلاتيّا، أمّا بالنسبة إلى كلتيهما كما في صورة سهو الإمام، و أمّا بالنسبة إلى المأموم خاصّة كما إذا كان مسبوقا، و لكن من حيث إطالة القيام أو جلسة الاستراحة فعل لهما، بحيث لا يجوز للمأموم التخلّف عن الإمام مطلقا، فلذلك قد يستشكل و يتوهّم أنّه يجب على المأموم متابعة الإمام فيهما و إن لم يجز عليه نفس الفعل.

هذا، و لكنّه فاسد حيث إنّه تقدّم أنّ القيام و هكذا الجلوس الّذي فعل صلاتي أنّهما هما في الجملة لا مطلقا بحيث يكون القيام الّذي يأتي به الإمام من

ص: 197

أوّله إلى آخره فعلا صلاتيّا يجب على المأموم من هذه الجهة أيضا، بل عدم جواز رفع يد المأموم عنه إنّما يكون لعدم جواز تقدّمه على الإمام إلى الركوع و هكذا من الجلوس إلى القيام.

فعلى هذا؛ لا يبقى شي ء يدلّ على لزوم المتابعة في هذه الصورة، لأنّه أمّا الأدلّة العامّة مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّما جعل الإمام» (1) .. إلى آخره، فقد عرفت أنّها مختصّة بالأفعال المشتركة كما يظهر من صدرها و ذيلها، و أمّا غيرها فالمفروض فقده، فحينئذ لا يجوز على المأموم في الفروع المذكورة مطلقا التقدّم على الإمام في الركوع أو القيام من جلوس، و أمّا متابعته في نفس الأفعال فلا.

نعم؛ بالنسبة إلى المأموم المسبوق و أنّه هل يجب عليه الجلوس في حال تشهّد الإمام منفرجا أو غيره؟ وردت روايات خاصّة (2) يأتي البحث فيه في أحكام الجماعة إن شاء اللّه تعالى.

شرائط الإمام

اشارة

البحث الرابع: في شرائط الإمام و هي امور:

الإسلام و الإيمان، فهما ممّا لا كلام فيهما موضوعا و حكما أصلا.

ثالثها: طهارة المولد، و هي أيضا في الجملة ممّا لا إشكال، فإنّ الأخبار و إن لم يرد فيها إلّا مثل قوله عليه السّلام: «لا تصلّ خلف ابن الزنا» (3) إلّا أنّه لا يبعد أن


1- مرّ آنفا.
2- وسائل الشيعة: 8/ 392 الباب 49 و 416 الباب 66 من أبواب صلاة الجماعة.
3- وسائل الشيعة: 8/ 321 الحديث 10784 مع اختلاف يسير.

ص: 198

يكون المراد بها من لم يعرف حاله، كما فهم الأصحاب كذلك أيضا، فحينئذ لا يجوز الصلاة خلف مجهول الحال إذا لم يكن في البين أصل أو أمارة بهما يحرز حاله، فتأمّل!

رابعها: العدالة و يقع فيها البحث من جهات:

الاولى: أنّه هل المستفاد من الأخبار اشتراطها، أو مانعيّة الفسق، أو الاقتراف في المعاصي و نحوهما؟ الأقوى الأوّل، كما عليه المشهور، بل كاد أن تكون المسألة إجماعيّة.

و ذلك؛ لأنّه و إن كان في جملة من الأخبار ورد أنّه: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و أمانته (1)» (2) أو أنّه: «قدّموا خياركم» (3) و نحوهما (4)، إلّا أنّه مضافا إلى أنّ المراد بأمثالها أيضا أن يكون موثوقا به في عمله و متديّنا فيه، رواية سماعة (5) الّتي في غاية الاعتبار صريحة في اشتراط العدالة، و هكذا الإجماعات المنقولة بحدّ الاستفاضة الّتي هي كاف في المسألة، فتأمّل! بل و لو بني على اعتبار رواية


1- وسائل الشيعة: 8/ 309 الحديث 10750.
2- و هي و إن كانت في ذيلها ما يشعر بكون المراد بالعدل في مقابل الإمام الّذي يكون من العامّة إلّا أنّ صدرها مطلقة في أنّ الإمام يعتبر فيه العدالة منّا أو من غيرنا كما فهم الأصحاب كذلك أيضا. مضافا إلى أنّ الشيخ رحمه اللّه في تهذيبه نقل رواية صريحة في المطلوب (تهذيب الأحكام: 3/ 293 الحديث 755) و قد نقله شيخنا قدّس سرّه دلالتها و إن ناقش في الأولى و كذلك الثانية، بل قوى أنّه في الأخبار ليس ما هو يصرّح بالعدالة، فراجع! (كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 250 و 274) «منه رحمه اللّه».
3- وسائل الشيعة: 8/ 315 الحديث 10770.
4- وسائل الشيعة: 8/ 313 الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة.
5- وسائل الشيعة: 8/ 315 الحديث 10772.

ص: 199

السيّاري (1) يستفاد منها فوق العدالة، كما لا يخفى.

الثانية: الأقوى أنّ العدالة شرط في الإمام بالنسبة إلى المأمومين لا نفسه، لأنّها أمر راجع إليهم و لا ربط [لها] بوظائف الإمامة أصلا، و إنّما يكون في الجماعة ما هو قوام بالنسبة إليه أن يقف في محلّ يمكن للمأمومين أن يأتمّوا به و إلّا فسائر الجهات من شرائط الإمامة و الجماعة راجعة إليهم، فلو لم ير الإمام نفسه عادلا لا بأس عليه بأن يعرض نفسه للجماعة، و لذلك بناؤهم الالتزام بتحقّقها مطلقا، حيث لم يثبت أن يشكل أحد في جواز رجوع الإمام إلى المأمومين في شكوكه في الصلاة، إذ لا يرى نفسه عادلا، و هكذا في صلاة الجمعة الّتي يكون العدد فيها معتبرا ففيما إذا كان الإمام أحد السبع الّذين بهم يتحقّق شرط الجمعة؛ فلو لم يكن الإمام يرى نفسه ليس يلتزم أحد بعدم تحقّق الجمعة حينئذ لفقد الشرط، و غير ذلك من آثار الجماعة.

فمنها يستكشف أنّ العدالة شرط راجع إلى المأمومين، و يكون أمرا إحرازيّا لا واقعيّا حتّى لو لم يكن في الواقع محقّقا يضرّ بصلاة الإمام أو المأمومين، كما يدلّ على ذلك ظواهر أدلّة المقام مثل قوله عليه السّلام: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق به» (2) حيث جعل الوثوق به تمام الموضوع، و كذلك قصّة الصلاة وراء اليهودي من خراسان إلى الكوفة، كما في رواية ابن أبي عمير (3)، صريحة في المطلوب.

و بالجملة؛ مضافا إلى أنّ الأصل في أمثال المقامات- كما سنشير إليه- أن


1- وسائل الشيعة: 8/ 316 الحديث 10775 و 349 الحديث 10874.
2- وسائل الشيعة: 8/ 315 الحديث 10771، و فيه: من تثق بدينه.
3- وسائل الشيعة: 8/ 374 الحديث 10941.

ص: 200

يكون الشرط إحرازيّا لا واقعيّا أنّ الأدلّة الخاصّة في المقام مساعد مع الجهتين:

إحداهما: عدم اعتبار العدالة بالنسبة إلى صحّة صلاة الإمام و تحقّق الجماعة، بل إنّما هي شرط بالنسبة إلى المأمومين.

ثانيتهما: الّتي هي لازم الاولى تقريبا عدم الاشتراط بالنسبة إليهم واقعيّا، بل شرط إحرازيّ، لما سمعت من الوجوه، خصوصا مرسلة ابن [أبي] عمير (1) الّتي بمدلولها شاهدة للثانية، و ببركة ترك الاستفصال للاولى، فتأمّل!

و أمّا رواية السيّاري (2) الّتي قد يتمسّك بها لإثبات العدالة الواقعيّة، فهي- مع الغضّ عمّا في سندها- رواية مجملة لا يستظهر منها شي ء؛ لمكان أنّ روايته الاولى يستفاد منها اعتبار أمر فوق العدالة، و لا يلتزم به أحد، و الثانية مجملة رأسا، لأنّه لم يعلم المراد به بقوله عليه السّلام: «إن كانت قلوبهم واحدة فلا بأس» أيّ شي ء هو؟

هذا كلّه؛ مع أنّ صلاة الجماعة الّتي ورد الترغيب بها كثيرا غاية الكثرة لا تناسب اشتراط هذا الأمر فيها واقعا لأنّه نادر جدّا أحد يرى نفسه عادلا بينه و بين اللّه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه وقع لصاحب «الجواهر» قدّس سرّه في المقام كلام لا يخلو من الغرابة، فإنّه حيث سلّم عدم اعتبار العدالة الواقعيّة في الإمام لعدم كون الإمامة من المناصب الّتي يعتبر فيها العدالة و لا يجوز للفاسق القيام عليها، قال: بل و كذلك مسألة الإفتاء فلا يعتبر في المفتي أيضا العدالة حتّى فيما لو حصل للمستفتي الظنّ


1- مرّت آنفا.
2- مرّت آنفا.

ص: 201

بصدق إخباره يجوز تقليده، و إن كان فاسقا (1).

وجه الغرابة: أنّه أيّ منصب أعظم من مسألة تولّي الإفتاء؟ مع أنّه قال عليه السّلام لأبان: «اجلس أفت الناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» (2) حيث خصّ عليه السّلام هذه الوظيفة بمثل أبان.

و أظهر منه ما في «الاحتجاج» عن «تفسير العسكري عليه السّلام» (3)، بل المستفاد من الأوصاف الأربعة المذكورة فيها كون العدالة [شرطا].

هذا كلّه؛ مع أنّه ليس لنا إطلاق أصلا يمكن التمسّك به في باب التقليد بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن كما لا يخفى.

و هكذا مسألة القضاء فإنّه مضافا إلى كونه منصبا يستفاد من مقبولة عمر ابن حنظلة (4) صدرا و ذيلا أنّ اعتبار العدالة أمر مسلّم، و هكذا يدلّ عليه قوله عليه السّلام:

«لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ أو شقيّ» (5).

و أمّا باب الشهادة، فهي لمّا كان من صغريات قاعدة الإحراز فالمناط فيها العدالة الظاهريّة.

توضيح ذلك: أنّه في الموارد (6) الّتي اعتبر إحراز العدالة و غيرها من


1- جواهر الكلام: 13/ 278.
2- مستدرك الوسائل: 17/ 315 الحديث 21452، و فيه: اجلس في مسجد المدينة.
3- الاحتجاج: 2/ 52، وسائل الشيعة: 8/ 317 الحديث 10777.
4- وسائل الشيعة: 27/ 106 الحديث 33334.
5- وسائل الشيعة: 27/ 17 الحديث 33091، و فيه: أو وصيّ نبيّ.
6- ما أفاده هنا- دام ظلّه- و إن أصرّ عليه في موارد اخر أيضا إلّا أنّه من حيث الكبرى و الصغرى لا يخلو عن التأمّل كما يظهر بالمراجعة إلى كلمات الأصحاب في مظانّها، فتدبر! و الظاهر أنّ الأمر مسلّم عندهم بالنسبة إلى باب متولّي الأوقاف و هكذا في باب الأولياء، و إن عثرنا على مورد نقض بالنسبة إليهم، فإنّ ظاهر الأصحاب فيما لو زوّج الوليّ الصغيرة من به أحد العيوب السبعة مع العلم و المصلحة أنّه إذا كبرت لها الخيار، و أمّا في باب الشهود في الدعاوي و المرافعات فبناؤهم مطلقا على أنّه إذا تبيّن فسق الشاهدين نقض الحكم. مع أنّه يمكن تقريب ما أفاده- دام ظلّه- بالنسبة إليه أيضا، حيث إنّه أو كل عنوان أمر عدالة الشهود إلى شخص و هو الحاكم، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».

ص: 202

العناوين مثل المصلحة في التصرّف في مال الصغير أو المسافة في توجّه تكليف القصر؛ نظر المحرز يكون تمام الموضوع في إثبات الحكم المترتّب على تلك الامور، لأنّه إذا اوكل عنوان إلى شخص و خوطب به فلازم ذلك عرفا أن يكون إحرازه لذلك العنوان موضوع الحكم و منشأ الأثر.

و منها؛ مسألة عدالة الشهود المستفاد من قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (1) و غيره، فالمناط فيها العدالة عند المطلّق، سواء كان هو الزوج أو الوكيل المفوّض إليه، فلو كان الشهود عنده عدولا يكفي، و لو لم يحرزه الزوج بنفسه، فلا فرق بينه و بين ما نحن فيه، غايته أنّ هنا الأخبار الخاصّة مثل قوله عليه السّلام: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق به» (2) موافقة أيضا لما تقتضيه القاعدة في أمثاله.

و بالجملة؛ في الموارد المذكورة لمّا كان اعتبار العناوين مثل العدالة و الوثوق و المصلحة و نحوها بما لها من الواقع يوجب الهرج و المرج و لا تستقرّ الامور أصلا؛ فهي بنفس إحرازها تكفي و تترتّب الآثار عليها مطلقا.

و من العجب أنّ في «الجواهر» ألحق مسألة الشهود في الطلاق إلى باب


1- الطلاق (65): 2.
2- وسائل الشيعة: 8/ 315 الحديث 10771، و فيه: من تثق بدينه.

ص: 203

المناصب و اعتبر فيها العدالة الواقعيّة (1)، مع أنّه أنكرها في المفتي مطلقا (2)، كما سمعت و اللّه العالم.

حقيقة العدالة

الجهة الثالثة: في حقيقة العدالة، و قد نقل فيها أقوال ثلاثة: من كونها الملكة الباعثة على ترك المعاصي أو نفس ترك المعاصي، و لو لم تكن عن ملكة، أو الملكة الملازمة مع تركها فعلا.

فهذه الأقوال الثلاثة هي الّتي يمكن عدّها اختلافا و قولا في حقيقة العدالة، و أمّا القولان الآخران فالظاهر أنّهما ليسا اختلافا فيها، كما استظهر كذلك شيخنا قدّس سرّه، و غيره من كلماتهم (3).

من أنّها هي الإسلام، أو مطلق حسن الظاهر، إنّما هما اختلاف في طريق العدالة، كما يدلّ عليه كلمات القائلين بهما، ففيها شواهد على أنّ من عبّر عنها بهما فليس مراده أنّ حسن الظاهر أو ظهور الإسلام هما نفس العدالة.

هذا؛ بل نقول: إنّ الأقوال الثلاثة الاولى أيضا راجعة إلى واحد، و إنّ العدالة ليست إلّا الملكة الباعثة على ترك المعاصي فعلا، لا أحدهما فقط، و ليس أحد من أصحابنا يلتزم بالتفكيك، و ذلك لأنّه ما أظنّ أحدا يلتزم بأنّ من له ملكة العدالة و لم يكن فعلا مجتنبا عن المعصية باقيا على عدالته، و هكذا عكسه.


1- جواهر الكلام: 13/ 279.
2- جواهر الكلام: 13/ 278.
3- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 248.

ص: 204

فأيضا لا يلتزم أحد بأنّ من لم يكن ذا ملكة و لكن اتّفق أنّه ترك المعاصي برهة من الزمان إما لعدم المقتضي لها أو لوجود الموانع؛ أنّه عادل، فمن هنا يستكشف أنّ من عبّر عن العدالة بأحد الأمرين فليس بناؤه على التفكيك، بل إنّما عبّر بأحد المتلازمين أو وقعت المسامحة في التعبير.

و بالجملة؛ فالظاهر أنّ العدالة عند الجميع هي عبارة عن كلا الأمرين، من الباعث، و هو الملكة، و المنبعث، و لا يكتفى بأحدهما.

و أمّا ما يتوهّم من أنّ صدور المعصية لمّا لا يضرّ بالملكة إذا تعقّبت بالتوبة فيمكن الالتزام بالتفكيك و البناء على أنّ العدالة هي نفس الملكة؛ ففيه أنّه لا إشكال في أنّ التوبة توجب عدم مضرّيّة المعصية، و إلّا فما لم يتب العدالة زائلة، و أمّا إذا تاب فلمّا يصدق الترك فعلا فمحكوم بالعدالة فعلا، و لكن لا مطلقا، بل فيما إذا كان تركه سابقا مستندا إلى الملكة، فالأمران من كلا الطرفين متلازمان، كما لا يخفى.

فعلى هذا؛ العدالة عبارة عن قوّة نفسانيّة باعثة للملازمة على التقوى الموجبة للاجتناب عن محارم اللّه، و القيام بأوامره عادة، و احترزنا بالأوّل عن أنّها ليست صرف الاجتناب، كما أنّه من القيد الثاني يستفاد لزوم الاجتناب عن المعصية فعلا، و أردنا من الثالث الاحتراز عمّا يصدر عن العباد في بعض الأوقات ما هو الخارج عن العادة البشريّة بحيث يحتاج إلى إكمال نفس فوق العادة يقرب إلى افق العصمة حتّى يحترز الشخص عمّا يتقدّم إليه مثل ما وقع من السؤال و الجواب بالنسبة إلى المقدّس الأردبيلي قدّس سرّه (1).


1- روضات الجنّات: 1/ 89 و 90.

ص: 205

فهنا امور أربعة من أنّ القوّة الّتي تعتبر هي القوّة العادية لا ما يقرب إلى افق العصمة، و أنّ الامور الّتي لا بدّ من أن يجتنب عنها هي أيضا تكون من الامور (1) العادية بحيث يمكن التحرّز عنها لنوع الناس.

و هذان الأمران وجههما واضح، ضرورة أنّ العدالة هي الأمر الّذي تعمّ به البلوى كما وردت من الترغيبات الكثيرة بالنسبة إلى صلاة الجماعة و كذلك أمر محتاج إليها بالنسبة إلى سائر المقامات لباب الشهادات للمرافعات و الطلاق و غيرها، فحينئذ لا يمكن أن تكون هي أمرا وجودها كالعنقاء، بل لا بدّ و أن تكون أمرا تناله اليد غالبا، فهي من حيث الباعث و المنبعث لا مجال لاعتبارها أزيد ممّا هو مجرى العادة، بأن تكون المعصية ناشئة عن الدواعي العادية، فحينئذ يضرّ بالعدالة و إن لم يوجب زوال الملكة، لأنّها بمرّة واحدة من المعصية لا تزول، و إلّا جعل العدالة مركّبة من أمرين غلط، بل تكون هي الملكة فقط.

الأمر الثالث: مسألة اعتبار وجود الملكة فعلا بحيث تزول بالمعصية.

و الرابع: أنّها تعود بالتوبة، فهي توجب بقاء عدالة من كان مسبوقا بالملكة لا مطلقا، كما أنّ قوله عليه السّلام: «التائب عن الذنب كمن لا ذنب له» (2) ناظر إلى ذلك أيضا.

و بالجملة؛ فعلى الملازمة الّتي ادّعيناها بين الملكة و الاجتناب الفعلي في حقيقة العدالة و حملنا عليها كلمات الأصحاب أيضا، فالنزاع في أنّها هي الملكة


1- و إن كانت المعصية مطلقا توجب زوال العدالة و إن لم تضرّ بالملكة، و كذلك لا بدّ من التوبة، كما هو واضح، «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 16/ 74 الحديث 21016 و 75 الحديث 21022.

ص: 206

الباعثة أو الاجتناب المنبعث عنها يكون بحثا علميّا، و لا يترتّب عليه أثر عملي.

ثمّ إنّ البحث في استفادة ما ذكرنا من الأدلّة، فنقول- و من اللّه التأييد-: إنّ الأقوى و الأظهر من الأدلّة بالنسبة إلى ما نحن فيه هو رواية عبد اللّه بن أبي يعفور (1) الّذي هو من أجلّاء الأصحاب، و قد ورد توصيفه عن المعصوم بما لا يرد لغيره (2).

و كيف كان؛ لا مناقشة فيها سندا أصلا، و دلالتها على المطلوب واضحة المطلوب، و ذلك؛ لأنّ ظاهر السؤال عن الراوي في صدرها أنّه «بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين؟» .. إلى آخره، هو السؤال عن «ما» الحقيقيّة على اصطلاح أهل المعقول و الاستعلام عن حقيقة المفهوم، فأجاب عنه الإمام عليه السّلام أوّلا: «بأن تعرفوه بالستر و العفاف».

و من المعلوم؛ أنّ المراد بالستر في المقام ليس الاستتار الظاهري، بل المراد منه هي الحالة النفسانيّة الّتي يعبّر عنها بالحياء الّذي إذا وجد في العبد يستحيي من اللّه تعالى فيجتنب عمّا يسخطه، كما يدلّ على ذلك ما أردفه بقوله عليه السّلام: «و العفاف» فهذه هي الّتي نعبّر عنها بالملكة، ثمّ قال عليه السّلام و عطف عليه قوله: «و كفّ البطن و الفرج» و البطن في هذا تتمّة لما سبق، و أنّه مضافا إلى الصفة النفسانيّة الباعثة على ترك المناهي يعتبر عدم صدورها فعلا اختياريّا، بأن يكفّ جوارحه عن المحرّمات، فدلالة هاتين الفقرتين على المطلوب واضحة، و لا يحتاج إثباته و استظهار أنّ في العدالة يعتبر الأمران إلى مئونة زائدة و تطويل بلا


1- وسائل الشيعة: 27/ 391 الحديث 34032.
2- جامع الرواة: 1/ 467.

ص: 207

طائل، كما صنعه الشيخ قدّس سرّه في المقام (1).

ثمّ إنّه عليه السّلام ما اكتفى بذلك- أي بيان حقيقة العدالة و ما هو محقّق لها واقعا- بل بيّن علامة لها إمّا من جهة اشتمال السؤال عنها أو أنّه عليه السّلام بنفسه أبدع فقال:

«و تعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد اللّه تعالى عليها النار» (2) أي يعرف الأمران بذلك، فهذه علامة للمعرّف و لا ربط له بالمعرّف أصلا حتّى يشكل الأمر من جهة كونها مخالفة لما ذكره عليه السّلام أوّلا، أو غيرها، كما قد يتوهّم.

هذا تمام الكلام في حقيقة العدالة، و أمّا مسألة اعتبار المروّة و عدمها فسيأتي البحث فيها.

تحديد الكبائر و بيان الإصرار على الصغائر

بقي الكلام في تحديد الكبائر الّتي انيطت العدالة بالاجتناب عنها، و لقد أحسن شيخنا قدّس سرّه في تحقيق هذه المسألة، حيث جعل الضابط لها أحد الوجوه الخمسة (3) فهي الّتي تسلم عن الإشكال طردا و عكسا، إذ من تقدّم عليه اكتفى ببعضها فحينئذ أورد بعدم الجامع أو عدم المانع (4)، فهو إذا جعل جميع الخمسة الّتي ثلاثة منها يرجع إلى تعيّنها بالنصّ الصريح، و واحدها بحكم العقل، و الآخر بالاستفادة من الدلالة الالتزاميّة من النصّ و هو ما ورد النصّ بعدم قبول شهادة من ارتكبه، أو عدم جواز الصلاة خلفه و غير ذلك ممّا يعتبر فيه العدالة، حيث إنّ ذلك


1- المبسوط: 8/ 217.
2- وسائل الشيعة: 27/ 391 الحديث 34032.
3- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 266.
4- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 266.

ص: 208

من قبيل عكس النقيض يكشف عن أنّ العمل الّذي ارتكبه يضرّ بالعدالة فيعتبر عدمه فيها.

و من المعلوم؛ أنّه حينئذ لا يرد شي ء على التحديد كما هو واضح، فلقد أجاد قدّس سرّه حيث رفع الإشكال و الاختلاف رأسا (1).

و إنّما الإشكال في تحديد الإصرار بالصغيرة الّتي هي أيضا تضرّ بالعدالة و تعدّ من الكبائر، كما نصّ عليه الأخبار (2)، فهل يعتبر في تحقّق الإصرار تكرّر الفعل خارجا، بأن يكون باقيا على معناه العرفي، أو يتحقّق بصرف العزم على التكرّر، أم يكفي عدم تعقّب الصغيرة بالندم و التوبة؟ فهذه هي الوجوه المحتملة، و الّذي يبدو في النظر هو الاحتمال الأخير لأنّ ترك التوبة معصية فيتحقّق الإصرار بنفسه إذا لم يتعقّب المعصية به.

و لكنّ الإشكال في أنّ وجوب التوبة بحكم العقل أو الشرع، و ليس للشرع تصرّف فيه، و قد جعلنا في محلّه الضابط للأحكام العقليّة المستقلّة أنّه كلّما كان الحكم منجعلا بالذات، بحيث كان سائر التكاليف بالنسبة إليه غيريّا و لولاه لم تجب كباب الإطاعة، حيث إنّها أمر عقليّ لزوم امتثال التكاليف يتوقّف عليها و حكم العقل بها، و لذلك لا يترتّب عليها من الثواب و العقاب سوى ما يترتّب على نفس التكليف الممتثل و تركه، فمثل ذلك من الأحكام العقليّة الّتي منجعلة بالذات، نظير حجيّة القطع و تعلّق الحكم الشرعي بها غير معقول.

فحينئذ مسألة لزوم التوبة إن كانت من شئون الإطاعة، كما هو الظاهر،


1- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 266.
2- وسائل الشيعة: 15/ 329 الحديث 20660 و 331 الحديث 20663، و 335 الحديث 20674.

ص: 209

حيث إنّها إمّا من جهة حطّ الذنب السابق بها، و إمّا من جهة الرجوع بها إلى الطاعة، حيث إنّ بالمعصية خرج عنها، و كلاهما من سنخ الإطاعة و لا يترتّب لا على الأوّل و لا على الثاني عقاب على تركه سوى ما يترتّب على الذنب الصادر أوّلا.

و أمّا الاحتمال الثالث بأن تكون التوبة بنفسها مطلوبة حتّى يجب تعبّدا، فلا دليل عليه.

و بالجملة؛ فتصير التوبة من المستقلّات العقليّة، لا من قبيل الصدق الّذي قابل لأن يتعلّق به التكليف المولوي، فعلى هذا ترك التوبة عن الصغائر- لو سلّمنا أنّه يلزم ذلك- مع أنّ فيه ما سيجي ء من أنّه لا عقوبة على الصغائر يشكل كونه معصية حتّى يصدق الإصرار به الّذي هو المدّعى، إلّا أن يقال: إنّ صدق الإصرار به لا يتوقّف على كون الترك بنفسه معصية، بل يكفي لصدقه إمّا استكشافه عن بناء التارك على الاستمرار على المعصية الّتي أتى بها، و إمّا لتركه ما يستحسنه العقل و يلزم من الرجوع إلى المولى بالتوبة بعد الانقطاع عنه، فتأمّل!

هذا؛ مضافا إلى أنّه جملة من الأخبار نطقت بلزوم التوبة من الصغيرة و أنّ تركها إصرار (1)، حيث إنّ بعضها و إن كان ظاهرها الاختصاص بالكبيرة، و لكن بعضها مطلقة دالّة على أنّ ترك التوبة إصرار على المعصية، كما أنّ فعلها ترك الإصرار، فحينئذ يتحقّق الوجوب الشرعي للتوبة عن الصغائر.

و لكن الإشكال أوّلا: في استلزام الصغائر العقاب حتّى يلزم التوبة، مع أنّه


1- وسائل الشيعة: 15/ 337 الباب 48 من أبواب جهاد النفس.

ص: 210

قال اللّه تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ (1).

و ثانيا: قد عرفت أنّ ملاك التوبة هو الأمر العقلي الّذي يرجع إلى شئون الإطاعة، فلا موقع لتعلّق التكليف المولوي به لكونه تحصيلا للحاصل، فلا بدّ من حمل الأخبار الدالة على لزوم التوبة (2) على الإرشاد (3).

ثمّ إنّه يقع الكلام في صدق الإصرار عرفا و أنّه لا بدّ من تكرّر الفعل في الخارج أم يكفي العزم على التكرّر؟

ثمّ إنّ ذلك هل يعمّ العزم على الأعمّ من المعصية الاولى و غيرها، أو يختصّ بالعزم على الإتيان بنوع المعصية الاولى؟ قد جعل شيخنا قدّس سرّه المدار على الأعمّ (4)، مع أنه لا يخلو عن الإشكال، و بالجملة؛ أصل المسألة بعد يحتاج إلى التأمّل، و اللّه الهادي.

اعتبار المروءة في العدالة

بقي الكلام في مسألة المروّة و أنّها هل تعتبر في العدالة ثبوتا أم لا؟ و هذا الأمر اعتباره يظهر من كلمات المتأخّرين (5)، و أمّا الّذي عليه المتقدّمون فهما


1- النساء (4): 31.
2- و الّذي يسهّل الخطب؛ أمّا بالنسبة إلى الشبهة الاولى أنّ التكفير لا يلازم عدم العقاب، إذ من يطمئنّ بنفسه أنّه يجتنب الكبائر، و أمّا بالنسبة إلى الثانية؛ فإنّ عدم وجود الملاك الشرعي للتوبة لا ينافي كون تركها إصرارا تعبّدا و لو لم يكن معصية، فلا مجال لرفع اليد عن الأخبار، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».
3- وسائل الشيعة: 15/ 337 الباب 48 من أبواب جهاد النفس.
4- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 266 و 270.
5- ذخيرة المعاد: 305، جواهر الكلام: 13/ 301.

ص: 211

الأمران اللذان تقدّما من الملكة و الاجتناب عن الكبائر (1).

و كيف كان؛ الشأن في استظهارها من الأدلّة، و أنّها هل يعتبر في مرحلة الكاشف، أو هو و المنكشف، أم لا؟ و سيأتي الكلام فيه و استفادة بعض السادة الأجلّة إيّاها من رواية عبد اللّه بن أبي يعفور (2)، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل و هو البحث عن حقيقة العدالة في مرحلة الثبوت.

و أما المقام الثاني؛ و هو مرحلة الإثبات و ما هو الكاشف عن العدالة، فنقول: إنّه قد تقدّم في صدر البحث قد يظهر من بعض عبارات القدماء كالشيخ رحمه اللّه أنّ العدالة ثبوتا و إثباتا بمعنى واحد، و أنّه ليس عبارة إلّا عن حسن الظاهر و عدم ظهور الفسق (3).

بل قد يستظهر من بعض كلماته: أنّ الأصل في كلّ مسلم هو العدالة، لأنّها ليست عبارة إلّا عن الإسلام (4).

و لكنّك قد عرفت في المرحلة الاولى أنّه ليس الأمر كما توهّم، بل في عباراتهم ما يكون شواهد (5) أنّ العدالة هي الملكة، و أنّه لا بدّ من الاجتناب من الكبائر أيضا، كما هو مذهب الجلّ بل الكلّ، و إنّما مرادهم في ما ذكر هو في مرحلة الكاشف، و أنّ الطريق إلى العدالة ليس إلّا حسن الظاهر مثلا و عدم ظهور


1- المبسوط: 8/ 217.
2- وسائل الشيعة: 27/ 391 الحديث 34032.
3- الخلاف: 6/ 217 المسألة 10.
4- الخلاف: 6/ 217 المسألة 10.
5- أحسن ما يكون من الشواهد هو الّذي أوردها قدّس سرّه في «الجواهر» في كتاب الطلاق (جواهر الكلام: 32/ 108- 112)، «منه رحمه اللّه».

ص: 212

الفسق، و أنّ إحراز الاجتناب عن الكبائر أو غيرها ممّا سنذكر، لا يعتبر في إثباتها.

و بالجملة؛ ينبغي البحث هنا في مفاد الأدلّة أيضا لكونها متكفّلة لهذه المرحلة أيضا.

أمّا جملة من الأخبار بل كثير و إن كانت توافق ما بنى عليه شيخ الطائفة قدّس سرّه (1)، مثل قوله عليه السّلام: «من صلّى الخمس في جماعة فظنّوا به كلّ خير» (2) أو «فظنّوا به خيرا و أجيزوا شهادته» (3).

و قوله في رواية اخرى أنّه يقول عليه السّلام: «إذا كان الرجل لا تعرفه يؤمّ الناس يقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه» (4) و غير ذلك من الأخبار الكثيرة (5) الظاهرة في ما ذكر، بل في النبوي أنّه: «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الأنبياء [و الأوصياء عليهم السّلام]» (6).

و لكن لا بدّ من الخروج عن هذه الإطلاقات لظاهر رواية ابن أبي يعفور و غيره، حيث إنّ ذيله بل و ما قبله، و هو قوله عليه السّلام: «و يعرف ذلك باجتناب الكبائر التي أوعد» (7) و قوله عليه السّلام: «و الدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه بحيث لا يجوز التفتيش [عنه] و إذا سئل عنه [في قبيلته و] محلّته قالوا: إنّا لا نعرف منه إلّا


1- الخلاف: 6/ 217 المسألة 10.
2- وسائل الشيعة: 8/ 286 الحديث 10678، مع اختلاف يسير.
3- وسائل الشيعة: 27/ 395 الحديث 34043 مع اختلاف.
4- وسائل الشيعة: 8/ 319 الحديث 10781، مع اختلاف يسير.
5- وسائل الشيعة: 8/ 313 الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة.
6- وسائل الشيعة: 27/ 395 الحديث 34044 و هو عن الصادق عليه السّلام.
7- وسائل الشيعة: 27/ 391 الحديث 34032، مع اختلاف يسير.

ص: 213

خيرا» (1) .. إلى آخره؛ لأنّه بعد أن بيّن الإمام عليه السّلام حقيقة العدالة فذكر له طريق إثباتها أيضا بما ذكر من الفقرتين بإحراز الاجتناب عن المعاصي و ستره عيوبه، و هكذا غيرها من الأخبار الّتي دالّة على اعتبار الإحراز.

فمن هذه الجهة لا إشكال في المسألة، إنّما الكلام في أنّ الإحراز اعتباره من باب التعبّد أم من جهة الوثوق؟

و بعبارة اخرى: أنّه مضافا إلى إحراز الاجتناب و الستر هل يعتبر حصول الوثوق و الظنّ بوجود الملكة أيضا؟ أمّا بالنسبة إلى المقام و عدالة الإمام فالظاهر أنّه يعتبر ذلك؛ لدلالة قوله عليه السّلام: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» (2) و نحوه (3) فحينئذ مقتضى صناعة الإطلاق و التقييد أيضا تقييد الإطلاقات الثانية الّتي ظاهرها الاكتفاء بالإحراز.

نعم؛ يمكن الدعوى بأنّ مثل هذه الرواية ليست في مقام التقييد، بل ناظرة إلى التوسعة في باب الجماعة و أنّه يكفي فيها الوثوق بالأمانة، و لكنّ هذا احتمال لا يوجب رفع اليد عن مقتضى الصناعة.

ثمّ إنّه إذا ثبت ذلك في باب الجماعة يثبت اعتباره في سائر المقامات أيضا لعدم التفصيل في حقيقة الجماعة، كما لا يخفى.

و بالجملة؛ فهنا ثلاث درجات بل أزيد من حيث الإطلاق و التقييد، مقتضى الصناعة و الجمع بينها هو أنّه بالنسبة إلى مرحلة الإثبات للعدالة لا بدّ من


1- وسائل الشيعة: 27/ 391 الحديث 34032، مع اختلاف يسير.
2- وسائل الشيعة: 8/ 315 الحديث 10771.
3- وسائل الشيعة: 8/ 313 الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 214

إحراز الاجتناب عن المعاصي و ستر العيوب و حصول الظنّ و الوثوق.

بقي الكلام في أنّه هل يكتفى في ثبوت العدالة بالفعل، كما لو رأى أنّه يقتدي عادلان بشخص، أم لا بدّ من الإشهاد و التعديل باللفظ؟

أمّا بالنسبة إلى المقام- أي عدالة الإمام- فالأقوى أنّه يكفي العمل و الفعل إذا أوجب الوثوق، و لا فرق بينه و بين القول، حيث إنّه قد عرفت أنّ ما يعتبر هنا بالأخرة هو الوثوق و الظنّ، فحينئذ لا وجه للاختصاص بسبب دون آخر، و لكن يشكل الأمر بالنسبة إلى سائر الأبواب كالشهادة، حيث إنّ ظاهر أدلّتها و لزوم تصديق العادل تصديقه في شهادته و قوله، كما أنّ أخبار العادل الّذي يلزم تصديقه ظاهرها التلفّظ فآية النبأ (1) لا تدلّ على أزيد من لزوم تصديق النبأ الّذي لا يشمل الفعل.

و أمّا مسألة تعديلات أهل الرجال و تصديق الرواة ففيه بحث عظيم، و الّذي ثبت في وجه حجيّة تعديلاتهم هو كونها من باب الظنون الاجتهادية، و لا ربط له بمسألة الشهادة.

و بالجملة؛ أدلّة باب الشهادة قاصرة لأن تشمل التصديق و التعديل الفعلي، فلذلك تسرية الحكم ممّا نحن فيه إلى سائر الأبواب ممنوع، إذ مثل ما ورد هنا من أنّه: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و أمانته» (2) لم يرد في سائر الأبواب حتّى يكتفى فيها أيضا بكلّ ما يحصل الوثوق، و غاية ما تثبت من الاشتراك بين عدالة المقام و سائر المقامات هو أنّها من حيث الحقيقة واحدة، و لا فرق فيها من


1- الحجرات (49): 6.
2- وسائل الشيعة: 8/ 309 الحديث 10750.

ص: 215

حيث إنّها هي الملكة الباعثة على ملازمة التقوى مطلقا، و أمّا من حيث الطريق و أنّها تثبت بالوثوق مطلقا فلا، فتختصّ العدالة الثابتة بالفعل بهذا الأثر فقط، و هو جواز الجماعة، خلفه.

اللهمّ إلّا أن يدّعى بوجود دليل في باب الشهادات بكونها تثبت بكلّ ما ينبئ عن الواقع و يكشف عن العدالة و غيرها من الامور، فتأمّل!

ثمّ إنّه هل يعتبر المروّة في باب العدالة أم لا، من حيث الكاشف أو المنكشف أيضا؟ هذا الأمر في المقام من المشكلات، و ذلك: لأنّ اعتبارها قد وقع في كلمات المتأخّرين (1) و لم يظهر من القدماء اعتبارهم ذلك في مفهوم العدالة، مع أنّ الظاهر عدم مساعدة دليل لما عليه المتأخّرون.

نعم؛ ذكر في ذلك وجها السيّد الجليل محمّد باقر الأصفهاني قدّس سرّه في كتابه «الفقه» (2).

و حاصله: أنّ ظاهر الفقرة الّتي في ذيل حديث ابن أبي يعفور (3) من أنّه:

«و الدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه» .. إلى آخره، هو مطلق العيوب أعمّ من العيوب الشرعيّة و العرفيّة، حيث إنّ عدم الاجتناب عمّا هو قبيح عند الناس من مثل الأكل في السوق و نحوه يكشف عن أنّ الشخص ليس مالكا لنفسه بحيث تقاوم في مقابل مشتهياتها سرّا و علانية.

فمن هنا يستكشف إنّا أنّ المروّة معتبرة في حقيقة العدالة و أنّ الستر


1- ذخيرة المعاد: 305، جواهر الكلام: 13/ 301.
2- لم نعثر على هذا الكتاب.
3- وسائل الشيعة: 27/ 391 الحديث 34032.

ص: 216

و العفاف الّذي يكون في صدر الرواية هو الستر و العفّة عن مطلق العيوب، فعلى هذا تعتبر المروّة في كلا المقامين.

و ناقش فيه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه بأنّ المراد من الستر و العفاف- حسبما تقدّم- لمّا كان الاستحياء في مقابل المناهي الشرعيّة و العيوب المأثورة لا مطلقا فيكشف من ذلك لمّا عدم اعتبار غير العيوب الشرعيّة بالنسبة إلى مرحلة الإثبات (1) أيضا.

و لكن الإنصاف بطلان هذه المناقشة حيث إنّ ما أفاده السيّد من أنّ الملكة لو كانت محقّقة فلا يفرق بين العيوب الشرعيّة و العرفيّة، بل لمّا كانت القوّة العقليّة صارت كاملة فتقاوم في مقابل جميع المشتهيات مطلقا، و إلّا فلا يمكنه الاجتناب مطلقا (2)، في كمال المتانة.

مضافا؛ إلى عموم اللفظ، بل ما أفاده الشيخ قدّس سرّه في لفظ الستر تخصيص بلا وجه، فحينئذ الأقوى ما بنى عليه المتأخّرون، و أنّ العدالة عبارة ممّا تقدّم في المقام الأوّل و المروّة، و بالنسبة إلى عالم الكاشف أنّه لا بدّ من استكشاف وجود اللجام الإلهي للشخص، بحيث يردعه عن الإقدام إلى المشتهيات النفسانيّة المخالفة للشرع و العرف بإعانة اللّه تعالى و هو وليّ التوفيق.

هذا تمام البحث في العدالة، و لم يبق من شرائط الإمام أمر يحتاج إلى البحث فيه، إذ الذكوريّة في الجملة و البلوغ واضحان حكما و موضوعا.


1- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 7/ 548.
2- لم نعثر عليه كتابه.

ص: 217

أحكام الجماعة

بقي امور راجعة إلى أحكام الجماعة نذكرها في طيّ مسائل:

الاولى: الأقوى جواز الانفراد في أثناء الجماعة مطلقا، لأنّه مضافا إلى أنّه موافق للأصل، إذ لا يتصوّر محذور له بعد أن كانت الجماعة من قبيل العامّ الاصولي لا المجموعي، حيث إنّ الصلاة مركّب تدريجي، فهكذا الجماعة شرّعت بالنسبة إليها و ليست أمرا يوجب التنويع حتّى يلزم محذور من هذه الجهة أيضا، بل هي من الخصوصيّات الخارجة عن حقيقة الصلاة و توجب زيادة الفضل بالنسبة إليها كالمسجديّة و نحوها.

و بالجملة؛ فالأصل يقتضي جواز قصد الانفراد و تدلّ عليه الروايات (1) مثل: ما ورد في جواز التقدّم على الإمام في التشهّد الأخير؛ و الخروج عن الصلاة بالسلام إذا كان الإمام يطيل تشهّده، حيث إنّه و إن لم يكن فيها لفظ الانفراد، و لكن من المعلوم انطباق هذا العنوان على الفعل المذكور قهرا، كما يكون كذلك بالنسبة إلى جملة من العناوين في كثير من الموارد، كما في مسألة الفسخ بالفعل، و هكذا المعاطاة و مسألة الرجوع في العدّة بالفعل و غيرها من الأمور.

فجميع هذه الموارد ترتضع من ثدي واحد، بمعنى أنّه إذا كان يؤتى بهذه الأفعال عن قصد و اختيار ينطبق عنوان الفسخ و البيع و الرجوع عليها قهرا، بلا احتياج إلى قصد العناوين بخصوصيّاتها، فهكذا في المقام؛ لأنّ الخروج عن الصلاة بالسلام قهريّ فالانفراد يتحقّق تكوينا، فدلالة الرواية على المدّعى واضحة، من جواز الانفراد اختيارا في جميع الأحوال، غاية الأمر أنّ في سائر


1- وسائل الشيعة: 8/ 413 الباب 64 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 218

الموارد صرف التقدّم و التأخّر بلا قصد الانفراد لا يكفي، إذ المفروض عدم الخروج عن الصلاة بهما حتّى يكون انطباق العنوان قهريّا، كما في تلك الصورة.

هذا؛ فيما إذا عرض له القصد في الأثناء، أو كان قاصدا من أوّل الصلاة لا على نحو التحديد، و أمّا لو كان قصده ذلك من الأوّل بنحو يرجع إلى التحديد و التقييد فلا تخلو عن الإشكال؛ للشكّ في مشروعيّة الجماعة كذلك، فالاحتياط أن يأتي فرادى من أوّل الأمر.

الثانية: الظاهر أنّه لا إشكال في مشروعيّة الجماعة ابتداءً و استدامة بأن يأتي بعض صلاته منفردا ثمّ يقصد الائتمام من أثنائها، لما عرفت من الأصل في الجماعة و كيفيّة تشريعها، فعليه لا فرق بين الصورتين من أن يأتي جماعة الجزء الأوّل من صلاته أو الجزء الآخر منها، و لما هو مقتضى الدليل الدالّ على جواز الاقتداء في بقيّة الصلاة إلى إمام آخر، إذا عرض له العذر في الأثناء، حيث يكون عليه أن يعيّن إماما آخر من المأمومين أو من الخارج.

فلو نوقش بأنّ الأوّل لا ربط له بالمقام، إذ الإمام اللاحق لمّا كان من جزء الجماعة مع أنّ صلاتهم بمنزلة صلاة واحدة فكأنّ إمامته كانت من أوّل الأمر فلا يصير دليلا لما نحن فيه.

الصورة الثانية: و هي ما إذا كان الإمام الثاني شخصا خارجيّا هي عين ما نحن فيه، إذ المفروض أنّه مع إمكان قصدهم الانفراد و الإتيان ببقيّة الصلاة منفردا يجوز لهم الاقتداء بالنسبة إليها بإمام آخر اختيارا، فالمسألة من حيث الدليل لا إشكال فيها، و لكن لمّا لم يثبت ذهاب الأساطين إليها فالاحتياط لا ينبغي تركه.

الثالثة: صلاة المعاداة لا تخلو عن صور، فإمّا أن يكون المنفرد- أي الّذي

ص: 219

أتى بصلاته كذلك- يعيد بأن يصير إماما أو مأموما، و إمّا أن يكون من أتى بصلاته جماعة يعيدها على أحد الوجهين، و إمّا أن يكون من أتى بها إماما يريد أن يعيد بأحد الوجهين أيضا، فالصور ستّ.

فالظاهر؛ أن الإعادة في جميعها مشروعة؛ لإطلاق دليلها إلّا فيما إذا كان المعيد إماما كان أتى بصلاته أوّلا أيضا كذلك، لأنّ في شمول الدليل له تأمّل، و لكنّ الرواية الّتي مضمونها أنّه ورد شخص في المسجد للجماعة مع أنّها انتهت فقال عليه السّلام: من يتصدّق على هذا الرجل بأن يعيد صلاته جماعة (1) مع أنّ فيهم من هو شأنه الإمامة مشعر بجواز إعادة للإمام مطلقا.

و بالجملة؛ ينبغي رعاية أخبار الباب (2)، فتدبّر فيها!

الرابعة: المأموم المسبوق بركعة أو ركعتين أو أزيد يجعل الركعات الأخيرة للإمام أوّل صلاة نفسه، فيأتي فيها بالقراءة كما هو المعروف عندنا بلا كلام، إنّما الاشكال في أنّه إذا لم يمهله الإمام لإتمام القراءة و السورة و دخل في الركوع يجوز له إتمامها ثمّ اللحوق به و لو بعد الركوع، أم عليه أن يقطعهما و يتركهما فيدرك ركوع الإمام؟

الأقوى الثاني؛ لأنّه قد تقدّم في صدر الباب في ما يدرك به الجماعة أنّ المستفاد من أدلّة الباب أنّ للركوع بالنسبة إلى سائر الأجزاء خصوصيّة بها يجب ادراكه مع الإمام و لا يجوز تأخيره عنه، فهكذا في المقام و إن كان التزاحم بين واجبين و هما القراءة و المتابعة، إلّا أنّ مذاق الفقاهة يقتضي ترجيح الثانية،


1- مستدرك الوسائل: 6/ 495 الحديث 7345.
2- مستدرك الوسائل: 6/ 495 الباب 43 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 220

مضافا إلى دلالة بعض الأخبار عليه أيضا كالمنقول عن «الدعائم» (1) و صحيحة معاوية بن وهب (2).


1- دعائم الإسلام: 1/ 191، مستدرك الوسائل: 6/ 489 الحديث 7330.
2- وسائل الشيعة: 8/ 388 الحديث 10978، إلى هنا تمّت الرسالة.

ص: 221

رسالة الخمس

اشارة

ص: 222

ص: 223

بسم اللّه الرحمن الرحيم

خمس أرباح المكاسب

ممّا يجب فيه الخمس؛ أرباح المكاسب و بقيّة الاستفادات الحاصلة من التكسّبات، بعد إخراج مئونة السنة منها.

و هنا مسائل؛ الاولى: في أنّه بعد ظهور الربح يتعلّق الخمس بالعين أو بالذمّة، و بعد فرض تعلّقه بالعين يكون على نحو الحقيّة أم على نحو الملكيّة و الاشتراك؟ فإذا وقع معاملة على ما تعلّق به الخمس؛ هل تكون صحّته مراعاة بإخراج الحقّ منه، أو يكون صحيحا، لكن جواز التصرّف للمشتري مراعى بإخراج الحقّ؟

ثمّ بعد فرض كونه على نحو الملكيّة و الاشتراك؛ هل يكون المالك مأذونا شرعا في التصرّفات الواردة على مقدار الخمس، فإذا باع ما تعلّق به الخمس كان ما قابله من الثمن خمسا، و يكون مأذونا في التصرّفات في بدله إلى أن ينقضي الحول، أم يكون المعاملة الواقعة على مقدار الخمس فضوليّا يتوقّف صحّته على إذن الحاكم؟

ثمّ بعد ذلك، إن ظهر ربح بين المعاملات الواقعة عليه، يكون من المالك أو من أرباب الخمس؟

الثانية: هل يعدّ من المئونة الّتي تعلّق الخمس بعد إخراجها، جبران

ص: 224

الخسران الّذي وقع على المالك في الحول أم لا؟

و على فرض الجبران؛ هل يفرق بين أن يكون الخسران في المادّة الّتي حصل منها الربح، كما إذا كان الربح من تجارة ثمّ وقع الخسران على هذه التجارة، و بين أن يكون الربح في مادّة ثمّ وقع الخسران على غيرها، سواء كان مشتركا معها في النوع، كما إذا وقع الخسران في تجارة اخرى، أو لم يكن مشتركا معها في النوع، كما إذا وقع أحدهما في التجارة و الآخر في الزراعة، سواء كان مشتركا في الجنس أم لا، أو كان الخسران هدم الدار- مثلا- و الربح في التجارة؟

الثالثة: المساكن و المناكح و المتاجر الّتي أحلّ الخمس فيها للشيعة؛ هل يختصّ بما إذا كان الانتقال من أهل السنّة، أو يعمّها و ما كان من الكفّار أيضا؟

هل يتعلّق الخمس بالعين أو بالذمّة؟

أمّا الاولى: فاعلم! أوّلا أنّ وقت ظهور الربح الّذي يعتبر في تعلّق الخمس هو بعد انقضاء الحول، كما يظهر من الأخبار الّتي دلّت على وجوب الخمس بعد إخراج مئونة السنة (1)، فإنّ الحال غالبا عدم تعيّن مقدار الربح الّذي يكفي مئونة السنة و زاد عنها إلّا بعد انقضاء الحول، بل الأغلب عدم حصوله قبل تمامه أيضا.

نعم؛ لو حصل له في أثناء الحول ربح يقطع بكفاية مئونة السنة مع الزيادة، فعليه أن يردّ الخمس إن لم يحتمل طروّ الخسران له لا يزيد الزائد عن جبره، فإن احتمل؛ فذلك الموضع الّذي فيه يتوسّع وقت الخمس فيصبر حتّى ينقضي الحول و ينكشف الحال.


1- وسائل الشيعة: 9/ 499 الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس.

ص: 225

فانقدح بذلك أنّه لا إشكال في التصرّفات الّتي تقع عن المالك في الأرباح في أثناء السنة، بناء على عدم حصول ربح يقطع بزيادته عن مئونة السنة، لعدم تعلّق الخمس بماله في أثناء الحول [السنة].

ثمّ بعد وصول وقت التعلّق فهل يتعلّق بالعين على نحو الحقيّة أو على نحو الملكيّة، بعد الفراغ عن عدم تعلّقه بالذمّة، لبعد دلالة الأخبار عليه؟ فظاهر قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ (1) هو كونه على نحو الملكيّة، لظهور «اللام» فيه، لكن يعارضه ظهور أنّ تعلّق الحكم بالموضوع في حال ثبوت الموضوع و بقاء عنوانه كما كان قبله، فإنّه بناء على الأخذ بما أفاده «اللام» من الملكيّة يكون مفاد الآية: أنّ ما ملكتموه غنيمة ينتقل خمسه من ملككم إلى ملك اللّه و رسوله، فالموضوع لوجوب الخمس هو ملك الناس، و بعد تعلّق الحكم لا يكون وصف الموضوع باقيا، و هو خلاف ما هو ظاهر حال الحكم مع موضوعه، و لا يعتدّ بما خرج عن هذه القاعدة، كسوّدت الأبيض و أغنيت الفقير و غيرهما، لقلّته و لوجود القرينة.

ثمّ بعد تعارض الظهورين لا يبعد تقدّم ظهور حال تعلّق الحكم بالموضوع، و يحمل على أنّ التعلّق بنحو الحقيّة، فإنّ مفاد الآية حينئذ: أنّ ما ملكتموه غنيمة فإنّه يتعلّق للّه و للرسول حقّ عليه، كان ذلك الحقّ بمقدار خمسه في حال كونه ملكا لكم، و بعد منع الرجحان و تساقط الظهورين بالمعارضة فالمرجع هو الأصل، فيستصحب بقاء ملكيّة المالك، و ثمرة كون تعلّقه على نحو الحقيّة هو صحّة التصرّفات و عدم كون العقد الواقع عليه فضوليّا.


1- الأنفال (8): 41.

ص: 226

نعم؛ لزومه مراعى على أداء حقّ من له الخمس أو إجازته، و دعوى إجازة الشارع للتصرّف في هذا المال و انتقال الخمس- سواء كان ملكا أو حقّا- إلى الذمّة، غير بيّن البرهان.

نعم، يمكن الاستدلال عليه برواية أبي يسار الدالّة على تصرّفه في الغوص الّذي أخرجه من البحر ببيعه، و لذا جاء بثمنه إلى الإمام عليه السّلام (1).

إلّا أنّ احتمال استجازته من الإمام عليه السّلام قبل البيع، أو اختصاص الإجازة العمومي- على فرض دلالتها- بما يغوص من الجواهرات؛ لتعسّر إخراج خمسه قبل البيع، أو عدم تعيّن صحّته قبله، يبعّد الاستدلال به على ما نحن فيه.

و التمسّك برواية القصب (2) أضعف، لقوّة احتمال كون البيع في أثناء السنة و قبل تعلّق الخمس به.

و الحاصل: أنّه لا يبعد القول بأنّ الخمس أيضا حقّ يتعلّق بأرباح المكاسب و غيرها ممّا يجب فيه الخمس كالزكاة، و يدلّ عليه- مضافا إلى ما ذكر- الرواية الواردة في من أخرج ركازا فباعه بدراهم و شياه (3) .. إلى آخره، فإنّ حكمه عليه السّلام بصحّة المعاملة و استيفاء الخمس من الثمن الّذي أخذه البائع ظاهر في أنّه على نحو الحقيّة، و إلّا فاللازم أخذ مقدار الخمس من عين الركاز.

و احتمال انتقال البائع الخمس إلى الذمّة قبل البيع؛ مندفع بظهور حاله في القصد إلى عدم إخراجه.


1- وسائل الشيعة: 9/ 548 الحديث 12686.
2- وسائل الشيعة: 9/ 504 الحديث 12587.
3- وسائل الشيعة: 9/ 497 الحديث 12575.

ص: 227

و على أيّ حال؛ فبناء على كون الخمس حقّا متعلّقا بالمال يكون مانعا عن نفوذ التصرّفات الواقعة عليه ما دام الحقّ باقيا، فلو أوقع المالك على ماله الغير المخمّس عقدا مع تضييق وقت إخراج الخمس و عدم نقله إلى الذمّة- بناء على جوازه- فتكون صحّة ذلك العقد مراعاة بإخراج الخمس عنه [قبل العقد]، فلو أخرج كان صحيحا و إلّا لبطل، فلو وقع على هذا المال عقد واحد من المالك ثمّ أخرج الخمس عنه أو وقع عليه عقود مترتّبة ثمنا و مثمنا، ثمّ أخرج خمسه فمقتضى القاعدة كون العقود باطلة.

أمّا الصورة الاولى؛ فلأنّ وقوع العقد حين تعلّق الحقّ غير مجد، و بعده لم يقع عقد آخر، فهو كما إذا باع الشي ء المرهون ثمّ فكّ رهنه.

و أمّا الصورة الثانية؛ فيضاف إلى هذه الجهة من وجود المانع عدم المقتضي أيضا بالنسبة إلى العقود اللاحقة، و هو ملكيّة الناقل و البائع.

و لكن يمكن أن يقال بصحّة العقود الواقعة عليه و نفوذها بعد إخراج خمسه مهما كانت بمقتضى الرواية الواردة عن أبي جعفر عليه السّلام: «لا يحلّ لأحد أن يشتري من مال (1) الخمس شيئا حتّى يصل إلينا حقّنا» (2).

و رواية اخرى لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا يعذر عبد اشترى من مال (3) الخمس شيئا أن يقول: يا ربّ! اشتريته بمالي، حتّى يأذن له أهل الخمس» (4).

و تقريب الاستدلال يتوقّف على مقدّمات:


1- لم ترد في المصدر: مال.
2- وسائل الشيعة: 9/ 484 الحديث 12543- 12550.
3- لم ترد في المصدر: مال.
4- وسائل الشيعة: 9/ 542 الحديث 12674.

ص: 228

الاولى: لا ريب أنّ أمر البيع أمر شرعيّ يجوز للشارع أن يتصرّف فيه كيف شاء، بمعنى أنّه يمكن له أن يمضي البيع الّذي لم يكن جامعا للشرائط، كيف؟! و من يجعل شيئا شرطا أو مانعا يمكنه إلغاء شرطيّته و مانعيّته مهما شاء.

الثانية: انحصار المانع من نفوذ هذا البيع كونه متعلّقا للخمس، غاية الأمر تارة يكون هو فقط، و اخرى يتولّد منه عدم المقتضي أيضا.

الثالثة: أنّ المراد من الحلّيّة في قوله عليه السّلام: «لا يحلّ» هي الحلّيّة التكليفيّة، و من «الاشتراء» هو التصرّف في المال الّذي أخذه من البائع، فحرمة التصرّف فيه تدلّ على عدم نفوذ بيعه فعلا، و ظاهر أنّ المراد ليس هو إنشاء نقل الملكيّة، و إلّا لم يكن فيه عقاب حتّى لا يكون المشتري معذورا عند اللّه.

فبعد هذه المقدّمات نأخذ بإطلاق الخبرين و نقول: إذا وقع عقود مترتّبة أو عقد واحد على هذا المال الّذي لم يؤدّ خمسه، فحلّيّة تصرّف كلّ واحد منهم موقوف على أداء الخمس، من دون توقّف على شي ء آخر، كما هو قضيّة جعل حرمة التصرّف مغيّاة بعدم وصول الحقّ إلى أهله، فجوازه حاصل عند حصول غاية الحرمة، و مقتضى حلّيّة التصرّف للمشتري الثاني- مثلا- هو انتقاله إلى ملكه بالعقد الّذي وقع عليه قبل إخراج الخمس و لازمه إلغاء بعض شرائط البيع، و هو جائز للشارع، كما عرفت، و لازم الطريق حجّة، فتأمّل!

و ممّا يمكن الاستدلال به على كونه على نحو الحقيّة، هو الرواية الّتي سئل عن المعصوم عليه السّلام: عن بستان صرف بعض فاكهتها في مئونة عياله و باع بعضها، فقال عليه السّلام: «ما بعت منه فخمّسه!» (1)؛


1- وسائل الشيعة: 9/ 504 الحديث 12588، نقله بالمعنى.

ص: 229

فإنّه لو كان الخمس متعلّقا بالعين فحينئذ للإمام عليه السّلام أن يسأل و يقول: فما تفعل بالخمس إذا تريد البيع؟ فعدم سؤاله يدلّ على جواز بيعه، و هو يدلّ على أنّ الخمس يكون على نحو الحقيّة.

و احتمال أن يكون صحّة البيع في هذه الموارد بسبب إمضائه و إجازته عليه السّلام؛ مدفوع بأنّ الظاهر تسليم صحّة العقود الّتي وقعت على هذه الأموال، و لذا اطلق على ما يكون بإزائها الثمن، و الظاهر أنّها ثمن بمجرّد وقوع العقد عليها، لا أنّها تصير ثمنا بعد إجازته.

ثمّ بعد ذلك يحتمل أن يكون البيع صحيحا من أوّل الأمر و لم تتوقّف صحّته على إجازته، و يحتمل أن يكون صحّته موقوفة على إجازته، لكون المال متعلّقا لحقّه، كما في حقّ الرهانة و أمثالها، و الظاهر من الأدلّة- كما عرفت من إطلاق لفظ «الثمن» على ما يقابل المال الخمسي و غيره- هو صحّة البيع و حصول الانتقال بمجرّد وقوع العقد.

ثمّ مع تسليم صحّة العقد؛ هل ينتقل العين الخمسي إلى المشتري متعلّقا للحقّ، أو ينتقل الحقّ منها إلى الثمن؟ وجهان: من دلالة الأخبار (1) على حرمة تصرّف المشتري قبل وصول الخمس إلى أهله، و هو علامة بقاء الحقّ متعلّقا عليه؛ و من إمكان انتقال الحقّ [إلى] الثمن، و كون حرمة تصرّفه تعبّدا.

و يدلّ على ما قلنا أمرهم عليهم السّلام بإخراج الخمس من الثمن في بعض الأخبار (2)، و احتمال أن يكون المراد من الثمن القيمة، فيدلّ على جواز إخراج


1- وسائل الشيعة: 9/ 484 الحديث 12543 و 12544 و 487 الحديث 12550 و 542 الحديث 12674.
2- وسائل الشيعة: 9/ 498 الحديث 12575.

ص: 230

الخمس من قيمة ما تعلّق به، لكون الغالب مطابقة الثمن للقيمة الواقعيّة خلاف الظاهر.

و كيف كان؛ فهل كون تعلّق الخمس بالمال- سواء كان على نحو الحقيّة أم على نحو الملكيّة- على نحو الإشاعة، أم [على]؛ نحو الكلّي في المعيّن؟

فعلى الأوّل؛ لا يجوز للمالك التصرّف في المال المتعلّق للخمس بوجه.

و على الثاني؛ يجوز له التصرّف إلى أن يبقى بمقدار الخمس منه، وجهان؛ من أنّ الأصل جواز تصرّف كلّ أحد في ماله، فيختصّ المنع بالمقدار المتيقّن و هو مقدار الخمس، و من ظهور لفظ الخمس- الّذي هو أحد الكسور- في الإشاعة.

و الأقوى هو الثاني؛ نظرا إلى الروايات الدالّة على حرمة التصرّف (1)، فكلّ جزء من أجزاء المال المتعلّق للخمس ممّا لا يعذر اللّه المالك أن يشتري به شيئا حتّى يصل مالهم إليهم عليهم السّلام.

ثمّ على فرض كونه من قبيل الكلّي في المعيّن، فيجوز للمالك التصرّف إلى أن يبقى منه مقداره، و لا يحتاج إلى قصد إخراج الخمس من الباقي، كما هو قاعدة هذا الباب، فما ذكره السيّد قدّس سرّه في موضعين من كلامه في «العروة» من تقييد جواز التصرّف بصورة القصد بأداء الخمس من الباقي (2)، لا نعرف له وجها، فتدبّر!


1- وسائل الشيعة: 9/ 484 الحديث 12543 و 12544 و 487 الحديث 12550 و 542 الحديث 12674.
2- العروة الوثقى: 2/ 399 المسألة 76، و 401 المسألة 80.

ص: 231

ما هو المراد ممّا احلّ فيه الخمس للشيعة؟

و أمّا المسألة الثالثة (1)؛ فمجمل القول فيها: أنّ الأخبار الواردة في باب الخمس على ثلاثة أقسام:

منها: ما يدلّ على أصل مشروعيّته (2).

و منها: ما يدلّ على عدم تحليله مطلقا صريحا (3).

و منها: ما يدلّ على التحليل (4).

و طريق الجمع بينهما حمل ما دلّ على التحليل على المناكح و المساكن و المتاجر الّتي وقع في أيدينا من الكفّار و من لا يعتقد الخمس، بل لا يبعد أن يقال: إنّ أصل مصبّ أخبار التحليل هو هذا المورد و لا يحتاج إلى الجمع أيضا.

لا إشكال في تحليل ما وقع في أيدينا من أهل السنّة، فهل يختصّ التحليل بهم أو يعمّهم و الكفّار الّذين لا يعتقدون أصل الإسلام أيضا، و أيضا هل يختصّ التحليل بما إذا وقع منهم أو يعمّه و ما إذا حصل الاشتراك بيننا و بينهم في ما يجب في سهم الخمس؟

الأقوى؛ ثبوت التحليل في الصورتين، نظرا إلى التعليل الّذي ذكره عليه السّلام في ذيل بعض أخبار التحليل، مثل الخبر الّذي سئل عليه السّلام فيه عن أرباح المكاسب


1- لا يخفى أنّ المصنّف رحمه اللّه ما راعى الترتيب في ذكر المسائل، و المسألة الثانية تأتي في الصفحة: 238 من هذا الكتاب.
2- وسائل الشيعة: 9/ 483 الحديث 12541.
3- وسائل الشيعة: 9/ 484 الحديث 12543 و 12545.
4- وسائل الشيعة: 9/ 543 الباب 4 من أبواب الأنفال.

ص: 232

الّتي تقع في أيدي الشيعة، قال عليه السّلام: «ما أنصفناهم إن كلّفناهم ذلك اليوم» (1) دلّ على أنّ كلّ مورد يكون عدم تحليل الخمس فيه خلاف المرحمة و اللطف القديمة الّتي كانت منهم عليهم السّلام بالنسبة إلى شيعتهم كان الخمس فيه محلّا.

فإذن؛ المعادن الّتي كانت في أيدي الكفّار و لا يؤدّون خمس ما أخرجوا منها، فإمّا أن يمنعوا الشيعة من المعاملة معهم أو يكلّفوهم بالأداء من مالهم أو أحلّوا لهم.

و لا ريب أنّ كلا الشقّين الأوّلين خلاف اللطف و المرحمة، فتعيّن الشقّ الثالث، و كذا إذا كان أرضا مشتركا بين الاثنين، فباع أحدهما سهمه من ذمّيّ و لم يقدر أهل الإسلام بأخذ خمسها منه، فإذن لا بدّ إمّا من حكمهم بعدم جواز تصرّف المسلم في سهمه المشترك مع مقدار الخمس، أو أداء الخمس من ماله أو إحلالهم عليهم السّلام الخمس له، و ظاهر أنّ الأوّلين خلاف مرحمتهم، فتعيّن الثالث.

و هل يختصّ التحليل في باب الخمس بالمواضع الثلاثة المذكورة أو يعمّها و سائر موارد الخمس، نظرا إلى إطلاق بعض الأخبار؟

الأقوى هو الأوّل، و بيانه يتوقّف على مقدّمة، و هي: أنّه إذا ورد عامّ واحد و خاصّ متعدّد فالظاهر عرض هذه الخاصّات أجمع على العامّ، و تخصيص حجّته بما عداها لو لم يلزم تخصيص الأكثر أو إلغاء العامّ بالكليّة، و إن لزم ذلك عمل بينهما عمل التعارض، و لا يجوز أن يعرض على العامّ بعض الخاصّات متقدّما حتّى تنقلب النسبة مع الخاصّ الآخر إلى العموم من وجه.

و أمّا إذا ورد عامّان متعارضان في بادي النظر، و ورد ما هو أخصّ من


1- وسائل الشيعة: 9/ 545 الحديث 12680، و فيه: ما أنصفناكم إن كلّفناكم.

ص: 233

أحدهما، فالظاهر تخصيص هذا العامّ أوّلا بهذا الخاصّ، ثمّ ملاحظة النسبة بينه و بين العامّ الآخر و العمل بمقتضاه. كيف كان؛ لأنّ الدليل لا يعارض الآخر ما لم يستقرّ حجّيته من جميع الجهات، و العامّ الّذي ورد في مقابله خاصّ لم يكن حجّة في مقدار الخاصّ أصلا، فكيف يمكن أن يعارض الدليل الآخر المستقرّ حجيّته في كلّ الأفراد؟ كيف و لا يمكن عمل التعارض بينهما مع عدم استقرار ظهوره و حجيّته؟ فحينئذ بعد تخصيص أحد العامّين بالخاصّ الوارد في مقابله كثيرا ما ينقلب النسبة بينهما إلى العموم و الخصوص المطلق، فتنحصر حجيّة العامّ الآخر في غير مورد هذا العامّ بعد التخصيص بصيرورته أظهر، بل نصّا في بعض المقامات بعد التخصيص في الأفراد الباقية تحته، فلا يعارضه ظهور العامّ في هذه الموارد.

إذا عرفت ذلك؛ فنقول: الأخبار الواردة في هذا الباب على ثلاثة أنحاء:

منها: ما يدلّ على عدم التحليل مطلقا، كما في رواية عليّ بن راشد: قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم:

و أيّ شي ء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه.

فقال عليه السّلام: «يجب عليهم الخمس».

فقلت: ففي أيّ شي ء؟

فقال عليه السّلام: «في أمتعتهم و صنائعهم».

قلت: و التاجر و الصانع بيده؟

قال عليه السّلام: «إذا أمكنهم بعد مئونتهم» (1).


1- وسائل الشيعة: 9/ 500 الحديث 12581.

ص: 234

و مثلها غير واحد من الروايات (1).

و منها: ما يدلّ على التحليل في موضع خاصّ، و هو المناكح و المساكن و المتاجر إذا وقع في أيدي الشيعة ممّن لا يعتقد الخمس من الكفّار أو العامّة؛ فمنها: رواية يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من القمّاطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال و الأرباح و تجارات نعرف (2) أنّ حقّك فيها ثابت، و أنّا عن ذلك مقصّرون.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» (3).

و الظاهر؛ أنّ المراد من «ذلك اليوم» وقت تسلّط الكافرين و الغاصبين، حيث يعملون بالتقيّة، و يحتمل أن يكون المراد يوم القيامة أيضا، لكنّه بعيد، و في معناها غير واحد من الأخبار (4).

و منها: ما يدلّ على التحليل مطلقا، كرواية حكيم، مؤذّن بني عيس، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (5) قال: هي و اللّه الإفادة يوما فيوما (6)، إلّا أنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» (7).


1- انظر! وسائل الشيعة: 9/ 499 الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس.
2- في المصدر: نعلم.
3- وسائل الشيعة: 9/ 545 الحديث 12680.
4- انظر! وسائل الشيعة: 9/ 543 الباب 4 من أبواب الأنفال.
5- الأنفال (8): 47.
6- في المصدر: يوما بيوم.
7- وسائل الشيعة: 9/ 546 الحديث 12682.

ص: 235

و في معناها أخبار متعدّدة (1).

فنقول: القسم الأوّل مع القسم الأخير متعارضان، و القسم الأوسط يخصّ القسم الأوّل في الموارد المذكورة، فتصير نسبته مع الأخير عموما مطلقا، فيخصّص به عمومات التحليل و تقيّد إطلاقاته.

ثمّ إذا عرفت كيفيّة الجمع بين الأخبار، و كيفيّة الاستدلال بها لحلّ المناكح و المساكن و المتاجر على الوجه الأحسن تعرف أنّه لا حاجة إلى الاستدلال بمرسلة «عوالي اللآلي» الّتي استدلّ بها الشيخ قدّس سرّه في المواضع الثلاثة، و هي على ما حكاه في مسألة حلّ المناكح من خمسه عن «عوالي اللآلي» قال: سئل الصادق عليه السّلام، فقيل له: يا ابن رسول اللّه! ما حال شيعتكم في ما خصّكم اللّه به إذا غاب غائبكم و استتر قائمكم؟

فقال: «ما أنصفناهم إن أخذناهم (2)، و لا أحسنّاهم (3) إن عاقبناهم، بل نبيح لهم المساكن لتصحّ عباداتهم (4) و نبيح لهم المناكح لتطيب ولادتهم، و نبيح لهم المتاجر ليزكوا أموالهم» (5).

مع إمكان أن يناقش فيه تارة بإرساله، و اخرى بأنّ سياقه يأبى عن حمله على خصوص هذه الثلاثة بالمعنى الّذي ذكرناه و هو ما إذا وقع في أيدينا عن يد من لا يعتقد الخمس، لأنّ تحليل هذه الثلاثة لا يختصّ بحال الحضور حتّى


1- انظر! وسائل الشيعة: 9/ 543 الباب 4 من أبواب الأنفال.
2- في المصدر: إن و اخذناهم.
3- في المصدر: و لا أجبناهم.
4- في المصدر: عبادتهم.
5- عوالي اللآلي: 4/ 5 الحديث 2، مستدرك الوسائل: 7/ 303 الحديث 8272.

ص: 236

يتوحّش السائل الشيعي بعد الغيبة و يسأل عنه بخصوصه، بل ظاهره السؤال عن مطلق الخمس، فإنّه لمّا شاهد السائل أنّ الشيعة مرسلون خمسهم في حال الحضور بخدمتهم، أو يعيّنون الوكيل لأخذه فصار بصدد تعيين تكليفهم في حال الغيبة، فتحليل الإمام عليه السّلام يرجع إلى كليّة الخمس، لا خصوص المناكح و المساكن و المتاجر بالمعنى الّذي ذكرناه.

و قلّ العامل بهذا الحديث، فطرحه وفاقا «للتذكرة» (1) لا يخلو عن قوّة، مضافا إلى ما حكي أنّ «الحدائق» لم يذكره أصلا مع جمعه لأخبار الخمس مستوفى، و راجع فتدبّر!

تتميم: قد يتوهّم في إباحتهم الخمس للشيعة إشكالان:

أحدهما: أنّ الخمس بتمامه ليس حقّا لهم، بل نصفه حقّهم و نصفه الآخر حقّ للسادات، فكيف يبيحون الخمس أجمع؟

و يمكن دفعه تارة بأنّ تمامه لهم و السادات جميعا عيالهم، كما يشهد به بعض الأخبار (2)، و قد خصّ نصفه بهم موهوبا منهم عليهم السّلام.

و اخرى؛ بأنّه على فرض كون نصفه مختصّا بالسادة، لهم الولاية المطلقة للتصرّف في أموال الناس جميعا، و كيف بالسادة؟! فإنّهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أموالهم.

ثانيهما: أنّه كيف تنطبق هذه الإباحة للشيعة مع القواعد؟ من وجوه:

الأوّل: أنّ الإباحة لا تفيد الملكيّة، مع دعوى الإجماع على أنّ الشيعة


1- تذكرة الفقهاء: 5/ 444.
2- وسائل الشيعة: 9/ 518 الحديث 12618.

ص: 237

يصيرون مالكا في الموارد المذكورة، و لذا يجوز لهم الوطء و العتق و البيع.

الثاني: أنّ الإباحة و التمليك يستدعي لا أقلّ وجود الملك، مع أنّه لا شي ء منهما في زمن الأئمّة عليهم السّلام حتّى يصحّ التمليك.

الثالث: أنّه على فرض صحّة التمليك فهو ليس للأفراد، بل بعنوان الشيعة، كملك المفتوح عنوة الّذي هو ملك لعنوان المسلم، فلا يجوز تصرّف كلّ أحد بنفسه فيه، بل يجب أن يجمع في بيت المال، ثمّ يصرف بإذن الحاكم في مصالح الشيعة.

و أنت خبير بأنّه بعد دلالة الأخبار على أنّ الخمس متعلّق بالأموال على نحو الحقيّة لا وقع لواحد من الإشكالات، و قد عرفت أنّ الأقوى نفوذ التصرّفات الواقعة على المال المخمّس قبل الإخراج، غاية الأمر حرمة التصرّف للمشتري قبل وصول الحقّ إليهم، فمعنى تحليلهم عليهم السّلام؛ إغماضهم عن حقّهم فيحلّ به التصرّفات قبل الوصول، مضافا إلى أنّ معنى تعلّق حقّهم بالمال أنّهم مختارون و حريّون بتملّك خمس هذا المال، و معنى تحليلهم عليهم السّلام، إذنهم للشيعة بتملّك سهمهم و نقل هذا الاختيار إليهم.

نعم؛ لو استفيد من الأخبار كون الخمس ملكا لهم و كونهم شركاء مع المالك (1)- كما هو المشهور- يشكل دفع الإشكالات.

لكن يجاب تارة؛ بأنّ هذا نحو تمليك خاصّ للشيعة ورد به النصّ الخاصّ (2) فلا يلزم أن ينطبق على القواعد.


1- وسائل الشيعة: 9/ 483 الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس.
2- لاحظ! وسائل الشيعة: 9/ 543 الباب 4 من أبواب الأنفال.

ص: 238

و اخرى؛ بكونه دفعا، لا رفعا، بمعنى أنّ اللّه تعالى لم يكلّف الشيعة بالخمس في هذه الموارد من أوّل الأمر، و غير ذلك من الأجوبة المذكورة في المفصّلات.

هل يجبر الخسران الوارد على المالك في الحول من الربح؟

الثانية من المسائل الّتي ذكرناها في صدر البحث هو أنّ الخسران هل يجبر بالربح مطلقا أو يفصّل؟

لا إشكال في جبر خسران تجارة واحدة بربحها، فهل يجبر خسران إحدى التجارتين بربح اخرى؟ بل و هل يجبر خسران ضيعته كالزراعة بربح التجارة مثلا؟ بل و هل يجبر الخسران الواقع على المالك و لو لم يكن في كسبه، كهدم داره و موت دابّته من الربح الحاصل من استفاداته أم لا؟

لا إشكال أنّه لو أخذنا في عنوان ما يجب فيه الخمس من الأرباح هو أرباح الاكتسابات، لا يجوز جبران الخسران الوارد على المالك عن غير طريق الاكتساب، لصدق حصول الربح من الاكتساب مع هدم داره، و لكن لو جعلنا العنوان هو مطلق الفائدة، كما هو مضمون بعض الأخبار (1) و المعنون في كلمات الأخيار، و حمل ما ورد منها في تقييد الربح بالاكتساب بذكرها من باب المصداقيّة، لكونها أغلب أفراد ما يفيد.

فيمكن القول بملاحظة الفائدة بعد جبر الخسارة عن أيّ جهة كانت، فإنّ الملحوظ حينئذ فائدة سنة المالك، و معنى الفائدة في السنة هو ما يحصل له فيها


1- وسائل الشيعة: 9/ 503 الحديث 12585.

ص: 239

زائدا على ما يملكه في السنة السابقة و بعد حصول مائة درهم من الاكتساب، و موت دابّة له يوازي قيمتها هذا المقدار لم يصدق أنّه حصل له الفائدة في هذه السنة، بل يصدق لم يقع عليه ضرر.

نعم؛ ذكر السيّد قدّس سرّه في «العروة» أنّه لا إشكال في عدم جبران الخسارة الّتي كانت من قبيل هدم الدار و موت الدابّة، و أمّا الخسران الوارد في إحدى التجارتين الأحوط عدم الجبران بربح الاخرى و إن كان الجبران لا يخلو عن قوّة، و كذا نفى الإشكال عن جبران خسران التجارة بربحها (1).

أقول: لو اخذ في العنوان وجوب خمس الزائد عن ربح الاكتساب فإمّا أن يؤخذ بنحو العموم المجموعي فمعناه ربح جميع الاكتسابات في السنة فلا إشكال في جبران خسارة إحدى التجارتين بربح الاخرى، لأنّه مع عدم الجبران لا يصدق ربح الاكتسابات.

و إمّا أن يؤخذ بنحو العموم الاستغراقي في ربح كلّ استفادة بخصوصه موردا للخمس، فمقتضاه عدم جبران خسران التجارة بربحها أيضا، لأنّه يصدق أنّه ربح من اكتسابه الفلاني كذا و كذا.

و لو أخذ في العنوان خمس الفوائد- كما أنّه ليس ببعيد، و يدلّ عليه جملة من الأخبار الدالّة على وجوب الخمس في الجائزة و الهديّة و الصدقة (2)- فإنّها لا تعدّ اكتسابا على الأقوى، فإنّه طلب المال من حيث الماليّة و طلب الرزق مثلا،


1- العروة الوثقى: 2/ 397 و 398.
2- وسائل الشيعة: 9/ 501 الحديث 12583، و 503 الحديث 12585، و 504 الحديث 12588، و 508 الحديث 12596.

ص: 240

و لذا لا يعدّ صيد السلطان اكتسابا، بل هو فائدة، فلا يبعد القول بجبر كلّ خسران ورد على المالك من أيّ جهة كان، لعدم صدق حصول الفائدة مع الخسارة، كما مرّ، فتأمّل!

ثمّ إنّه لا إشكال في خروج الميراث إذا لم يكن ممّا لا يحتسب عن عنوان الفائدة فلا يجب فيه الخمس، لأنّه يعدّ مال المورّث مال الوارث طولا بل يعدّ وجود المورّث مانعا عن إجراء آثار الماليّة و لم يعدّ انتقاله إليه فائدة، فالأظهر عدم وجوب الخمس في الميراث، وفاقا «للتذكرة» (1).

نعم؛ استثنى بعض الأصحاب فيما إذا كان الميراث ممّن لا يحتسب (2) و يدلّ عليه بعض الأخبار أيضا (3).

و أمّا ما زاد عن المئونة من الزكاة و الخمس و أمثالهما؛ فالظاهر عدم وجوب الخمس فيه، لعدم عدّه فائدة، لأنّ الفائدة ما حصل و لم يكن شي ء بإزائه، كالزائد على رأس المال في التجارة و الهديّة و أمثالهما.

و أمّا الخمس و الزكاة؛ فكأنّهما طلب و دين من المستحقّ على المالك فأدّاه بتعيّنه في ذلك المستحقّ فهو حقّه الثابت في ذمّة المالك قد أدّاه، و ليس شي ء و لم يكن بإزائه شي ء حتّى تعدّ فائدة، فهو كما إذا كان له في ذمّته دين و قد استقرضه منه.

و بعبارة اخرى: الزكاة إذا نسبت إلى نوع الفقراء كانت فائدة، لأنّه لم يكن


1- تذكرة الفقهاء: 5/ 421.
2- جواهر الكلام: 16/ 56، العروة الوثقى: 2/ 389 المسألة 49.
3- وسائل الشيعة: 9/ 499 الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، انظر! جواهر الكلام: 16/ 56.

ص: 241

بإزائها شي ء، و لكنّ النوع ليس قابلا لأخذ الزكاة، و إذا نسبت إلى الشخص عدّت من قبيل استيفاء الحقّ و الطلب و لم تكن فائدة يجب فيها الخمس كنفس الدين، فتأمّل جيّدا!

و بالجملة؛ فالأظهر جبران المال الفائت و كلّ خسران وارد على المالك في كلّ معاملة بالأرباح و اعتبار الخمس ممّا بقي بعده، لما عرفت من ظهور النصوص و الفتاوى في كون موضوعه مطلق الفائدة لا الفائدة المقيّدة بكونها من الاكتساب و الاستفادة.

مسألة: لا خلاف في اعتبار الخمس في الأرباح و الفوائد بعد إخراج مئونة الشخص، و مئونة التحصيل مقوّمة لأصل عنوان الفائدة، فقبل إخراجها لا يسمّى الحاصل فائدة، و هذا ظاهر، و لذا لا خلاف في أنّ المراد بالمئونة هي مئونة السنة، لأنّها المتبادر عند إطلاقها، و يشهد لذلك قولهم: كسب فلان لا يفي بمئونته، مضافا إلى دعوى الإجماع من غير واحد، إنّما الإشكال و الخلاف في جهتين:

إحداهما: في بيان المراد [من السنة] هل هي شمسي أو قمري؟

و الاخرى: في بيان المراد من المئونة، هل المراد منها مقدارها و لو تبرّع بها متبرّع، أو قتّر على نفسه، أو أخرج من ماله الآخر، أو المراد منها ما يصرفه فعلا في مخارجه، فلا يجب له في الصورة المذكورة شي ء؟

و لا بدّ أوّلا من بيان الأصل في المسألة، ثمّ بيان ما هو ظاهر الأدلّة.

فنقول: أمّا الأصل العقلي فهو البراءة في الجهتين، لدوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر الاستقلاليّين و هو جعل المئونة مقدارها، و السنة شمسيّة، فتأمّل!

ص: 242

و أمّا الأصل اللفظي؛ فبملاحظة عمومات وجوب الخمس و عدم العفو عنه، لو اجمل المخصّص و المقيّد يرجع إلى الإطلاق و العموم، و يؤخذ بالقدر المتيقّن من المخصّص و المقيّد، و مقتضاه جعل السنة قمريّة، و المئونة شخصيّة و ما تصرف فعلا.

هذا مقتضى الأصل اللفظي؛ لكنّ الظاهر من السنة في المقام هو السنة الشمسيّة، لأنّ المقام؛ مقام تعيين مئونة السنة و إخراجها، و المعتبر فيه اعتبار السنة تماما، و اعتبار القمريّة منها يفضي إلى إلغاء العشرة (عشرة أيّام) من السنة، مع أنّه لا وجه له، و اعتبار الشمسيّة ربّما يفضي إلى عدم وجوب الخمس الذي يجب لو اعتبرت السنة قمريّة، كما إذا حصل له فائدة زادت مقدار المئونة، و لم يظهر خسران حتّى مضيّ الحول القمري. ثمّ قبل إتمام السنة الشمسيّة ظهر خسران لا يزيد الربح الباقي عن جبره، و قد يكون بالعكس، كما إذا حصل بعد مضيّ القمري و قبل إتمام الشمسي ربح يزيد عن المئونة، و لاعتبارها ثمرات اخر تظهر بالتأمّل!

و أمّا الثاني: فقبل بيانه لا بدّ من تقديم أمر و فرع يرتبط بالمقام، و هو أنّه لو كان له مال آخر لم يتعلّق به الخمس أصلا أو تعلّق و أخرجه، فهل يعتبر حينئذ إخراج المئونة من الربح أو منه أو منهما؟ وجوه: أقواها أقدمها إلّا فيما لو كان المال الآخر معدّا للصرف في المئونة و كان ممّا يعتاد صرفه في المئونة.

قال العلّامة الأنصاري في تحقيق المسألة: إنّ المال الآخر تارة يكون من رأس المال و إن لم يكن فعلا ممّا يتّجر به، فلا إشكال في عدم احتساب الربح منه.

و اخرى لم يكن منه، لكن لم يعتد صرفه في المئونة كالدار و الأرض،

ص: 243

و اخرى لم يكن منه، لكن لم يعتد صرفه في المئونة كالدار و الأرض، فحكمه كالقسم الأوّل.

و ثالثة: يكون ممّا اعتيد صرفه في المئونة كالزائد من الحنطة و الدراهم المهيّأة للمئونة في السنة السابقة، فلا إشكال في اعتبار المئونة منه، و وضع ما زاد من المئونة عنه من الربح و إخراج الخمس من الباقي.

و رابعة: لم يكن المال الآخر داخلا في واحد من العناوين، بل تارة؛ منه إخراج المئونة، و اخرى؛ لم يتّفق كالمال المقترض مثلا.

قال قدّس سرّه: ففي عدم اعتبار الخمس منه إشكال؛ لاحتمال كون تعيين المئونة الربح في الأخبار مبنيّا على الغالب، من الاحتياج في أخذ المئونة منه.

لكن يمكن منعه أوّلا بمنع الغلبة، و اخرى بمنع كونه بحيث يصير سببا لخروج المورد من تحت الأدلّة، فالقول باعتبار المئونة من الربح فقط معه لا يخلو من قوّة، فتأمّل جيّدا! (1)


1- السرائر: 1/ 486.

ص: 244

ص: 245

رسالة الوقف

اشارة

ص: 246

ص: 247

الكلام في القبض في الوقف

اشارة

قال في «الشرائع»: (فلا يلزم إلّا بالإقباض) (1). (2)

و نقول- بعونه تعالى و هداية أوليائه عليهم السّلام-: فيه جهات من الكلام من حيث الحكم التكليفي و الوضعي و موضوعه و غيرها.

الاولى: في معنى القبض كلّيا من حيث كونه هو الأمر العدمي- و هو التخلية و رفع اليد و أمثالهما- أو لا، بل يشمل الأمر الوجودي أيضا؟

لا إشكال في أنّ حقيقة القبض لا يتحقّق فيما لو اعتبر (3) ب «رفع اليد عن الشي ء»، كما في القبض المعبّر [به] في البيع و الهبة و الرهن و غيرها؛ إذ هو مساوق للتسليم و الأداء اللذين [هما] عبارتان عن التخلية و جعل الشي ء تحت استيلاء الغير، كما عبّر بلفظهما في أكثر من هذه المقامات، منها ما نحن فيه حيث عبّر في أخبار الوقف بلفظ التسليم (4).

نعم؛ قد يكتفى بالأمر العدمي كما بالنسبة إلى الحكم التكليفي مثل باب


1- شرائع الإسلام: 2/ 212.
2- و لذا بني على أنّ رضا المالك بكون المال تحت يد الغاصب لا يخرج يده عن الضمان إلّا أن يوكّله في القبض من قبل نفسه أيضا؛ إذ يده كدونه اقتضت الضمان، فلا تثمر صيرورتها الآن أمانيّة، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».
3- كذا، و الصحيح: عبّر.
4- وسائل الشيعة: 19/ 181 الحديث 24399.

ص: 248

الغصب، حيث إنّ الحرمة لمّا كانت ناشئة من قبل وضع اليد على مال الغير فترتفع برفع اليد عنه، و لكن هنا أيضا الحكم الوضعي- و هو الضمان- لا يرتفع إلّا بتسليم المال إلى صاحبه و إيصاله إليه، حيث إنّ الغاية المأخوذة في قاعدة اليد هي الأداء.

و بالجملة؛ تختلف المقامات من حيث ارتفاع الحكم التكليفي و الوضعي بالاكتفاء بالأمر العدمي أو الاحتياج إلى الوجودي أيضا، و لكن كلّما اعتبر القبض لا بدّ من الأمر الوجودي، ففي باب الضمانات مطلقا، الحكم التكليفي يرتفع بمجرّد رفع اليد عن المال المضمون، و لكنّ الحكم الوضعي لا يرتفع إلّا بعد تسليم المال إلى صاحبه و وصوله إليه، فهنا محلّ التفكيك بين الحكمين و منه يقع التفكيك بين الأمرين أيضا بحيث لو رفع الغاصب يده عن المال المغصوب و تاب فلا عصيان عليه؛ لارتفاع موضوع الحرمة الّذي هو التصرّف في مال الغير المستفادة من الأدلّة كقوله عليه السّلام: «لا يحلّ مال امرئ [مسلم] إلّا بطيب [من] نفسه» و أمثاله (1).

الثانية: في موضوعه؛ لا خفاء في أنّه أيضا يختلف بحسب الصغريات، أمّا في مثل المنقولات بالظاهر إنّه يتوقّف على الإيصال و استقرار العين تحت يد القابض الّتي هي كناية عن الاستيلاء الخارجي، و ليس المراد بها الجارحة المخصوصة، كما حقّقنا ذلك في بحث الغصب، فما لم تقع الأشياء المنقولة تحت استيلاء القابض خارجا عرفا، لا يصدق القبض حينئذ و أنّ العين مقبوضة


1- عوالي اللآلي: 1/ 222 الحديث 98 و 2/ 113 الحديث 309، و 2/ 240 الحديث 6 و 3/ 473 الحديث 3.

ص: 249

بالضرورة، و هذا هو المراد من الأمر الوجودي المعتبر في مفهوم القبض، هذا في المنقول.

و أمّا غيره؛ فهو على قسمين؛ فإمّا أن يكون ممّا له الحرز، كالدار الّتي لها المفتاح، أو البستان كذلك، و إمّا ليس كذلك، كالأراضي المتّسعة.

أمّا في الأوّل؛ فقبضه و جعله تحت استيلاء القابض إنّما يكون بتسليم الحرز و المفتاح إليه، إذ نفس المبيع أو العين الموقوفة و إن لم يكن قابلا لأن تقع تحت اليد إلّا أنّه لمّا كان ما يحرزه و ما هو بمنزلة نفس العين قابلا لذلك، فقبضها عرفا إنّما يكون بقبضه و جعله تحت الاستيلاء الّذي هو أمر اعتباري لا بدّ له من كاشف و طريق ليس في ما نحن فيه إلّا ذلك.

و أمّا القسم الثاني؛ فهو و إن لم يكن له طريق مبرز قطع علاقة البائع أو الواقف عن العين المبيعة أو الموقوفة، و حدوث العلاقة للغير بالنسبة إليها و صيرورته تحت استيلائه كالاوليين، إلّا أنّه لا إشكال أنّ هنا أيضا لا بدّ من مبرز ذلك بأيّ نحو يمكن؛ لما هو المسلّم من الكبرى الكلّي أنّ في الأمور المشتركة و المشتبهة خارجا لا بدّ من ترتيبها بحيث بها ترتفع الشبهة و يتشخّص الأمر، فهنا لمّا كان الأمر كذلك، بمعنى أنّه لم يتبيّن خروج العين الموقوفة- كالآبار أو الأراضي المتّسعة- أنّها خرجت عن استيلاء الواقف و دخلت تحت استيلاء الموقوف عليهم- الّذي هذا معنى القبض المفروض اعتباره مطلقا- فلا محيص عن إيجاد المبرز بما أمكن، و لو بأن يجتمعا عند الموقوفة، و بعده يبقى الموقوف عليه أو وليّه و يخرج الواقف و هكذا البائع و المشتري و غيرهما، أو بأمثال ذلك ممّا يرتفع به الترديد و يصدق القبض عرفا.

ص: 250

فالحاصل؛ أنّ في جميع المقامات الثلاثة لا بدّ من إعمال ما ذكرنا، حيث إنّه مقتضى الدليل حسب ما عرفت، و لو شكّ فيها مقتضى الأصل أيضا عدم الاكتفاء بأقلّ ما ذكرنا في القبض؛ إذ الأصل الموضوعي و إن لم يكن في البين لكون الشكّ في مفهوم اللفظ، و لا أصل يجري فيه، لعدم أثر شرعي له، و المصداق أيضا لا مجرى له، لكون أمره دائرا بين المقطوع عدم تحقّقه و المتيقّن وجوده، كما في نظائره من الشبهات المفهوميّة كاليوم و الليل، و الكرّ و العدّة و نحوها، و قد أوضحنا ذلك في بحث الاصول أيضا إلّا أنّ الاصول الحكميّة الجارية في هذه المقامات عند الشكّ كأصالة عدم تحقّق الوقف أو الانتقال تقتضي ما ذكرنا.

نعم؛ فيما إذا كان المتولّي نفس الواقف فالظاهر أنّه حينئذ لا يحتاج إلى المبرز مطلقا بل، يكفي القصد و نيّة تبدّل اليد المالكي بعنوان التولية.

الثالثة: في حكم القبض من حيث كونه شرط صحّة الوقف أو لزومه، و قد وقع الخلاف في ذلك، و لكنّه يمكن الجمع بين الكلمات بحمل كلام من اعتبره من حيث اللزوم على الصحّة الفعليّة لمكان أنّه متلازم معها و لا ينفكّ اللزوم في العقود اللازمة على الصحّة الفعليّة فلذلك عبّر باللازم، فحينئذ ارتفع الخلاف إذ من يراه شرطا للصحّة لا ينكر صحّة التأهليّة للوقف أيضا عند إجراء الصيغة له إلى أن تقبض، كما أنّه جمع بذلك أيضا بين الكلمات في نظائر الباب كالرهن و الهبة و غيرهما.

و بالجملة؛ هذا الجمع حسن لو لم يعارضه صريح الكلمات، و الظاهر أنّه كذلك، بل ظاهرهم الإتقان على توقّف الصحّة الفعليّة عليه.

ص: 251

و كيف كان؛ ينبغي التكلّم في ما تقتضيه أدلّة الباب، فنقول- بعونه تعالى جلّ شأنه و توجّه أوليائه-: ثمّ إنّه تارة يقع الكلام في الأدلّة الخاصّة و ما تقتضيه أخبار الباب، و اخرى في الأدلّة العقليّة و مقتضى القواعد، و قبل الشروع في البحث لا بدّ أن يعلم أوّلا أنّ المتسالم عندهم بطلان الوقف بموت الواقف قبل القبض إمّا من جهة كونه عقدا جائزا فيبطل بموت المتعاقدين، و إمّا من عدم وقوعه رأسا؛ لعدم اجتماع شرائطه.

و ثانيا: لا إشكال أنّ العقود جائزا كان أو لازما بحدوثها يؤثّر أثره الأبدي، و لذلك إبطال هذا الأثر يتوقّف على الرجوع عن مضمونه بأخذ العين الّتي تعلّق بها العقد و ردّها، كما في المعاطاة، أو الفسخ كما في العقود الجائزة أو اللازمة، و إلّا فلا ينحلّ العقد و لو ندم بعد حين، فكلّ عقد وقع صحيحا مطلقا حلّه و إبطال أثره لا يمكن إلّا بأحد الأمرين: بالرجوع إلى العين بقصد الفسخ، أو إنشائه، و لا ثالث لهما، كما هو واضح.

إذا تبيّن ذلك فنقول: أمّا الأدلّة الخاصّة؛ فمنها أخبار باب الصدقة (1)، حيث إنّ بناءهم على العمل بها في باب الوقف (2)، إمّا من جهة شمولها له لفظا كما هو الظاهر؛ لورود هذه اللفظة في نفس أخبار الوقف أيضا، و إمّا لإلحاقه بها مناطا.

فعلى كلّ حال؛ يجرون أحكام الصدقة هنا إلّا ما خرج، و قد ورد في


1- وسائل الشيعة: 19/ 171 الباب 1 من أبواب الوقوف و الصدقات.
2- جواهر الكلام: 28/ 2.

ص: 252

أخبار الصدقة أنّه لو مات المتصدّق قبل التسليم فهو ميراث (1).

و من المعلوم؛ أنّ العناية الّتي في هذا التعبير تقتضي كون القبض شرطا للصحّة بالمعنى الّذي ذكرنا، و به جمعنا بين الكلمات، و هي الصحّة الفعليّة حيث إنّ الميراث هو الّذي ينتقل عن المتصدّق بلا واسطة إلى الوارث، و لو كان هو شرطا لا للّزوم و كان العقد من العقود الجائزة صحّ، فلا بدّ و أن يقول عليه السّلام: إنّ المال بالموت ينتقل إلى الوليّ و المورّث للانفساخ، ثمّ إلى الوارث، لما عرفت أنّ الوقف بناء على الشرائط لزومه بالقبض يكون من العقود الجائزة.

و بالجملة؛ طبع هذه القضيّة يقتضي أنّ بالموت ينتقل المال إلى الورثة و يكون كسائر أموال الميّت و لم يخرج عن كيسه أصلا، كما عبّر بمثله في نظائر المقام مثل- على ما ببالي- ما ورد في الوصيّة الزائدة على الثلث (2) أنّه كسبيل ماله يستكشف في المقام أنّ المال على حاله و لم يخرج عن ملك الميّت أصلا لبطلان العقد.

و منها؛ ما ورد في خصوص باب الوقف ممّا يدلّ على اعتبار القبض و هو رواية صفوان، ففيها: سألته عن الرجل يوقف (3) الضيعة ثمّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا- إلى أن قال عليه السّلام-: «و إن كانوا كبارا و لم يسلّمها إليهم و لم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها» (4).

فيستفاد من مفهوم جواز الرجوع بالبدو قبل القبض أيضا أنّه شرط للصحّة


1- وسائل الشيعة: 19/ 178 الحديث 24392 و 180 الحديث 24396.
2- وسائل الشيعة: 19/ 275 الباب 11 من كتاب الوصايا.
3- في المصدر: يقف.
4- وسائل الشيعة: 19/ 180 الحديث 24395.

ص: 253

و أنّه لولاه فكأنّه ما وقع عقد، لما عرفت من أنّ البداء و الندم بالنسبة إلى إبطال المعاملة لا يثمر شيئا، و لو كان العقد جائزا حيث إنّ بحدوثه أثّر أثره فارتفاعه متوقّف على الفسخ الّذي به ينحلّ، مع أنّ ظاهر المفهوم المزبور عدم الاحتياج إليه، و جواز الرجوع بصرف البدو، فتأمّل.

و أيضا ورد في ذيل رواية اخرى: «فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز» (1) لأنّ الوالد هو الّذي يلي الأمر حيث إنّه لمّا كان الجواز بمعنى النفوذ المساوق للصحّة، و قد علّق ذلك بقبض الوالد فيستكشف منه أنّ الجواز موقوف على القبض، هذا مقتضى الأدلّة الخاصّة.

و أمّا قواعد الباب الّتي ليست قاعدة في البين إلّا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) و أمثاله (3) لعدم عمومات نفس باب الوقف في مقام تشريع السبب، مثل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها، فمقتضاها أنّ القبض شرط اللزوم؛ لمكان أنّ هذا العموم- أي وجوب الوفاء بالعقد- و إن كان قد خصّص، إلّا أنّه لمّا كان الأمر مردّدا من حيث تخصيص أدلّة القبض جميع مراتب عقد الوقف حتّى صحّته الّذي مقتضاه عدم لزوم الوفاء و لو كان العقد باقيا و لم يرفع بالفسخ، أو بعض مراتبه و هو اللزوم بعد الفسخ، فالقدر المتيقّن من هذا التخصيص هو الأخير، بمعنى أنّه بعد ما كانت الأدلّة شاملة للعقود الجائزة قطعا؛ لأنّها عقد و مصداق، فعلى هذا العقود اللازمة أيضا داخلة في الأدلّة، و ما دام موضوعها باقيا يجب


1- وسائل الشيعة: 19/ 178 الحديث 24392.
2- البقرة (2): 40، الرعد (13): 20، النحل (16): 91.
3- المائدة (5): 1.

ص: 254

الوفاء بها، فهي بمرتبة يجب الوفاء بها، و لها اللزوم الموقّت، و العقود اللازمة بجميع مراتبها يجب الوفاء بها، كما أنّ العقد الباطل بكلّ مرتبة منه غير مشمول لها، فحينئذ إذا بني على التخصيص القدر المتيقّن منه هو تخصيص بعض المراتب، حيث إنّ اللزوم هو قول الصحّة و مشتمل عليها، و مقتضى ذلك صيرورة العقد من العقود الجائزة لا بطلانه، إن لم يقبض من أصله.

و لمّا كان المخصّص منفصلا فلا يوجب إجمال العامّ أيضا، حتّى يسقط عن الاعتبار من هذه الجهة، فإن لم تتمّ الأدلّة الخاصّة و أمكن المناقشة فيها فالمرجع هذه القاعدة الّتي تبيّن كون مقتضاها كونه شرطا (1) لا للّزوم، و ليس هنا دليل خاصّ يدلّ عليه، و إن كان قد توهّم ذلك بالنسبة إلى الرواية الاخرى الواردة في خصوص المقام، و هي رواية العمري حيث إنّ فيها: «فصاحبه فيه بالخيار» (2) .. إلى آخره، فقد استظهر من لفظة «الخيار» كونه من العقود الجائزة.

و لكن هذا واضح الفساد؛ ضرورة أنّ المراد من الخيار في المقام- كما في سائر المقامات، مثل قوله في بيع ما يملك و ما لا يملك أو غيره (3): إن شاء أخذ و إن شاء ترك- الاختيار، و جواز رفع اليد عن المضمون لا الخيار الاصطلاحي، فهذه الرواية و إن لم تكن دليلا لنا كسائر الروايات، و لكن كونها دليلا للخصم أيضا ممنوع.

و أمّا مقتضى الأصل في المقام؛ فقد تقدّم أنّه و إن لم يكن أصل موضوعيّ


1- كما مال إليه في «الجواهر» و يلوح منه ما بيّنا (جواهر الكلام: 28/ 10) فراجع و تأمّل! «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 19/ 181 الحديث 24399.
3- لاحظ! وسائل الشيعة: 17/ 339 الباب 2 من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 255

و لكن مقتضى الأصل الحكم بعدم تحقّق الوقف.

هذا؛ ثمّ إنّه بناء على كون القبض شرطا للصحّة- كما هو الظاهر- هل هو كاشف أو ناقل؟ و هنا يقع الكلام في مقامات من حيث إمكان أصل الكشف و مقتضى القواعد و الأدلّة الخاصّة و أخبارها.

أمّا المقام الأوّل؛ فقد حقّقنا البحث فيه في باب البيع و من أراد التفصيل فليرجع إليه، و حاصل الكلام في ذلك: أنّه إن بنينا على كون الأسباب الشرعيّة من قبيل التأثير و التأثّرات الخارجيّة، فالحقّ أنّ الكشف بجميع المعاني لا يعقل، لا في مسألة إجازة الفضولي في البيع، و لا في القبض بالنسبة إلى المقام و سائر المقامات؛ لاستحالة تحقّق الشي ء سابقا مع عدم تماميّة علّته و تأخّر معدّاته و أسبابه عن وجوده، فعلى هذا؛ الشرط المتأخّر لا معنى له، لا على ما ذهب إليه [صاحب] «الفصول» من جعل الشرط هو تعقّب الأمر بوجود الشرط كلّما كان (1)، و لا على ما ذهب إليه المشهور، كما هو واضح.

و إن بنينا على كونها من قبيل الامور الاعتباريّة و أنّ أمرها موقوف على الاعتبار و تابع للكيفيّة، فحينئذ لا إشكال في تصوير الشرط المتأخّر و إمكان تأثير المتأخّر في المتقدّم، و ذلك لأنّه على هذا؛ كلّ ما اقتضاه الاعتبار و الجعل الّذي تكون المصلحة فيه نظير الاعتباريّات الخارجيّة كالقيام للتعظيم أو التوهين و نحوهما.

و بالجملة؛ بناء على اعتباريّة الأسباب فلا فرق في الشرط المتقدّم و المقارن و المتأخّر، فكما أنّ للمعتبر أن يجعل وجود شي ء مقارن للمشروط فيه


1- الفصول الغرويّة: 73.

ص: 256

شرطا و سببا لتحقّقه، كذلك له أن يعتبره مقدّما أو مؤخّرا، كما يكون في باب الاستصحاب، فيما لو فرضنا كان يقينا سابقا و عمل بمقتضاه، ثمّ بعد الخروج عن محلّ الابتلاء بالنسبة إلى ما عمل حدث الشكّ، كذلك فلا إشكال أنّ دليل الاستصحاب الّذي موضوعه الشاكّ حينئذ يجري، مع أنّ اليقين كان سابقا.

و بعبارة اخرى؛ كلا العنوانين لهما المدخليّة في ثبوت الحكم الشرعي، مع أنّه فصّل بينهما و رتّب الأمر على العمل السابق، و ليس ذلك إلّا لكون ظرف الجعل فعليّا و المجعول ظرفه سابق، لوجود المصلحة في الإنشاء بهذه الكيفيّة، و الاعتبار كذلك، فهو ليس تابعا لوجود المصلحة في ما تعلّق به الحكم، فعلى هذا يمكن الالتزام بالكشف و تأثير الأمر المتأخّر في ما حصل سابقا، أي يتمّ الشرط المتأخّر و لا محذور فيه.

و لمّا كان التحقيق كون الأسباب الشرعيّة من قبيل الثاني؛ لعدم تعقّل التأثير الخارجي الحقيقي فيما لو كان المؤثّر أمرا تدريجيّا بحيث يتوقّف تحقّق الجزء اللاحق على انعدام الجزء السابق، و إلّا يلزم أن يؤثّر المعدوم، فأمكن الالتزام بالكشف الحقيقي و البناء على تحقّق مضمون المشروط فيه سابقا، إذا تحقّق الشرط لاحقا؛ لكون شرطيّته من باب الاعتبار، و لا مانع عقلي (1) من ذلك، و لا دليل على استحالته، فيصير هذا الحكم مقتضى القاعدة، بحيث لو لم


1- كيف لا يكون المانع العقلي، مع أنّه يلزم تقدّم المعلول على العلّة، حيث إنّه للشرط المتأخّر له الدخل إمّا في الإنشاء أو في المنشأ، فعلى الأوّل الإنشاء لا يكون فعليّا، و على الثاني المنشأ لا يكون كذلك، و إن أجاب عن ذلك- دام ظلّه- بأنّ هذه المحذورات بالنسبة إلى الأسباب الخارجيّة، و نقض بمثل باب الوصيّة الّتي التأثير معلّق على الموت، و لكن مع ذلك كلّه بعد محلّ التأمّل واسع، و باب الوصيّة غير المقام، كما لا يخفى، «منه رحمه اللّه».

ص: 257

يعارضه الدليل و وافقه القواعد بما يلتزم به، و لا يختصّ ذلك بباب البيع و الإجازة لورود الأخبار الخاصّة فيها، كما توهّم.

أمّا المقام الثاني؛ فبعد أن اتّضح في المقام الأوّل إمكان الشرط المتأخّر و الكشف الحقيقي، بمعنى أن يكون التأثير بتمامه لنفس العقد الواقع سابقا مع اشتراط الإجازة أو القبض في المقام لو كنّا و الجمود بظاهر عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) لكان المقتضى الحكم بالكشف الحقيقي على المعنى الّذي التزم به [صاحب] الفصول قدّس سرّه و هو أن يكون الشرط هو تعقّب الإجازة أو القبض (2).

فحينئذ كلّ ما تحقّق الشرط في الخارج يجب الالتزام بمضمون العقد الّذي إطلاقه يقتضي التأثير من حين وقوعه، و كذا إذا علم بتحقّق الشرط في ما سيأتي و لو لم يتحقّق فعلا، و الوجه في كون ذلك هو مقتضى عموم الدليل هو عدم لزوم التخصيص فيه على هذا أصلا و لو من زمان حصول العقد إلى لحوق الإجازة أو القبض، بل يجوز التصرّف في هذا البين بخلاف معنى المشهور، حيث إنّه يلزم عليه التخصيص بهذا المقدار.

و لكن لمّا كان المعنى المزبور خلاف ما يستفاد من ظاهر أخبار الشرط و معاقد الإجماعات، حيث إنّ ظاهرها كون الإجازة و غيرها من الشروط بوجودها الخارجي معتبرا في تأثير العقد، فلا محيص حينئذ من الالتزام بتخصيص العموم بهذا المقدار.

و الحكم بالكشف؛ إذا تحقّق الشرط في الخارج، بتقريب أنّه بعد أن أمكن


1- المائدة (5): 1.
2- الفصول الغرويّة: 73.

ص: 258

الشرط المتأخّر و تأثير اللاحق في السابق، فحينئذ نقول: إنّه لا إشكال في أنّ مقتضى العقد هو أن يؤثّر من حين تحقّقه، و هذا مضمونه، غايته أنّه قيّد ذلك و اشترط بالإجازة أو القبض، فإذا تحقّق الشرط بمقتضى عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يكون تأثير العقد من وقوعه من حيث انتقال العين و ما لها من التوابع.

و الالتزام بالنقل لمّا يستلزم تخصيصه، فأصالة عدمه يردّه فيتعيّن الكشف كما لا يخفى، فتأمّل.

المقام الثالث؛ في ما يستظهر من الأدلّة الخاصّة، أمّا خصوص أخبار الباب؛ فالإنصاف أنّها تناسب الأمرين و تجتمع مع الكشف و النقل.

نعم؛ وردت في باب الهبة روايات مفادها أنّه ما لم تقبض فلا هبة (1) فظاهرها نفي الحقيقة رأسا إذا لم يقبض، و يكون نظير ما قلنا في المشتقّ حيث إنّه نفى الجري و الاتّصاف ما لم يتحقّق الشرط، و لا ريب أنّ الهبة من مصاديق الصدقة فكلّما يكون الحكم لجنس الصدقة، و المفروض أيضا تسالم الأصحاب من إجراء حكم الصدقة في الوقف، بل عدّه منها فحينئذ؛ بناء على التعدّي من الهبة إلى الصدقة (2) و منها إلى الوقف- كما هو التحقيق- فلا محيص من تخصيص القاعدة المستفادة من عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بالأخبار المذكورة، و اللّه العالم.


1- وسائل الشيعة: 19/ 232 الباب 4 من كتاب الهبات.
2- بل يمكن أن يستفاد من بعض أخبار الصدقة حيث إنّ ظاهر ما وردت فيها من أنّها ميراث إذا لم يقبض أنّه لم تخرج عن الملك رأسا، «منه رحمه اللّه».

ص: 259

من هو القابض في الوقف؟

الجهة الرابعة في القابض؛ لا إشكال أنّ في الأوقاف الخاصّة القابض هو الموقوف عليهم، إنّما الكلام في أنّه هل يلزم قبض الحاضرين و الموجودين بأجمعهم، أو يكفي قبض بعضهم؟

الأقوى أنّه يكفي قبض البعض، و ذلك لأنّه بالنسبة إلى القبول و إن بنينا على لزوم قبض الجميع إلّا أنّه كان وجهه فيه ما يستفاد من قضيّة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ حيث إنّها لمّا كانت في مكان «اوفوا بعقودكم» فهذه الإضافة لا تتحقّق إلّا بقبض الجميع، فلولاه فإنّما يصدق العقد بالنسبة إلى من قبض.

و هذا بخلاف المقام؛ لعدم كون دليل القبض أدلّة العقد، بل الأدلّة الخاصّة، كما تقدّم و من المعلوم؛ أنّ غاية ما يستفاد منها اعتبار القبض على نحو صرف الوجود الّذي ينطبق على البعض، و ما كان فيها ما يدلّ على اعتبار قبض جميع الموقوف عليهم، فحينئذ لا ينبغي التأمّل في أنّه يكفي القبض في الجملة، كما هو الموافق للأصل أيضا، فتأمّل! فإنّه إن استظهر من الأدلّة إضافة القبض إلى الموقوف عليهم، فهذا ينصرف إلى قبض الجميع.

و أمّا في الأوقاف العامّة سواء كان الوقف على الجهة، كالمسجد و القنطرة، أو على الطبيعة و الأشخاص، فلا بدّ من قبض الحاكم أو قيّمه، أو متولّي الوقف و ناظره، أي كلّ من له التصرّف فيه و لا يكفي فيها قبض الأشخاص و مصاديق الطبيعة.

نعم؛ في مثل وقف المسجد و المقبرة يكفي في تحقّق القبض بالنسبة إليها

ص: 260

أن يصلّي أحد المسلمين فيها أو يدفن حسبما ادّعي في ذلك من الإجماع (1).

هذا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في مناقشة لصاحب «الجواهر» قدّس سرّه في المقام من حيث الاكتفاء بقبض المتولّي، و حاصلها: أنّه لم يدلّ على وجود مثل هذه السلطنة له دليل، إذ ذلك يستلزم الولاية على الموقوف عليهم الّتي هي منحصرة بالوليّ العامّ و هو الحاكم، و كونه ناظرا و وليّا على الوقف لا يستلزم الولاية عليهم، بل ثبوت ولايته عليه يتوقّف على تماميّة الوقف، و المفروض توقّف ذلك على القبض، فكيف يمكن أن يجعل قبضه من متمّماته و يكتفى به (2).

و فيها: أنّه بعد أن لا إشكال في أنّ اعتبار باب الوقف إنّما هو من حيث التفكيك بين أنحاء السلطنة و الحقوق الّتي للمالك بالنسبة إلى العين، فلا يبقى مجال لهذه المناقشة.

توضيح ذلك: أنّ للمالك السلطنة على المال، و منها ينتزع عنوان الملكيّة، كما أنّه بذلك [له] التصرّف فيه بأيّ نحو شاء، و له النظارة عليه بما أراد، و إذا فرضنا أنّه يفكّك بين هذه الجهات و له ذلك بحيث إمضاء الشارع أيضا، مضافا إلى اعتبار العقلاء بأن يجعل ملكيّة عينه لشخص و اختيارها لشخص آخر، بأن يحرّم من حوّل ملكيّتها إليه عن التصرّفات رأسا، و يستقلّ غيره فيه، كما أنّ له أن يجعل ما لنفسه من النظر الاستصوابي و الإشرافي على المال الثالث، فيعبّر عن الأوّل بالموقوف عليه، و عن الثاني بالمتولّي أو الناظر، و عن الثالث بالمشرف أو المستصوب، فكلّ منهم قائم مقام المالك من جهة، فحينئذ لمّا كان لكلّ من


1- مفتاح الكرامة: 9/ 28.
2- جواهر الكلام: 28/ 24 و 25.

ص: 261

هؤلاء حقّ في المال و إن لم يكن لبعضهم التصرّف فيه على نحو الاستقلال، فيكفي قبض كلّ منهم إذا كان له التصرّف فيه، فيصير قبضه قبضا للوقف، و لمّا كان غاية ما يستفاد من الأدلّة اعتبار القبض في الجملة لا شخص خاصّ، فلا مانع من الاكتفاء بقبض المتولّي و كلّ من قام مقامه، فتأمّل! فإنّ ما أفاده- دام ظلّه- موقوف على عدم ظهور الأدلّة و انصرافها إلى قبض الموقوف عليهم، مع أنّ إنكاره مشكل مضافا إلى أنّ عمدة نظر صاحب «الجواهر» قدّس سرّه فيما لو جعل المتولّي قيّما لخصوص القبض لا أن يكون متولّيا و ناظرا على الوقف، مع أنّ مقتضى البيان المذكور الاكتفاء بقبضه أيضا، كما صرّح بذلك قدّس سرّه (1) إذا اشكلت عليه، و هو كما ترى، و لعلّه يأتي الكلام في هذه الفروع مزيدا على ذلك إن شاء اللّه تعالى.

شرائط الموقوف

اشارة

المبحث الثالث: في شرائط الموقوف، و هي أربعة: أن تكون عينا مملوكة ينتفع بها مع بقاء عينها، و يصحّ إقباضها، هذه الامور لا كلام في اعتبارها في الجملة، و إنّما الكلام في الشرط الرابع، حيث فرّعوا عليه امورا يجمعها عدم صحّة الوقف الكلّي، و ذكروا لذلك وجوها كلّها ضعيفة.

و التحقيق؛ أن يقال: إنّه لمّا لا اشكال في أنّ القبض لا بدّ و أن يتعلّق بما ورد عليه العقد لا ما مغايره، فحينئذ إذا فرضنا كون العقد واقعا على الكلّي الّذي غير قابل للتحقّق إلّا في ضمن الفرد، فيكون القبض تعلّق بالفرد الّذي هو المتشخّص


1- جواهر الكلام: 28/ 65 و 66.

ص: 262

بخصوصيّته الفرديّة فيلزم أن يكون المقبوض غير مورد العقد، و هذا لا ينافي كون الفرد عين الكلّي حيث إنّه مع ذلك في الجملة المغايرة محفوظة، و لذلك لا يملك الكلّي ما لم يتشخّص، سواء كان في البيع أو في مثل الزكاة الّتي تتعلّق بالمال، فالفقير لا يملك شيئا ما لم يتعيّن.

و بالجملة؛ لا بدّ في الكلّي من أنّ يتشخّص نحو تشخّص حتّى يتعلّق به علقة الكليّة و غيرها، فمن ذلك يستكشف أنّ الكلّي بما هو غير قابل لأن يتعلّق به الإيجاب و القبول، و بينه و بين الفرد نحو مغايرة، و لذلك لا يكتفى به في ما يعتبر القبض فيه في أبواب المعاملات من الرهن و الهبة و غيرهما سوى باب الصرف، و له خصوصيّة قد أشرنا إليها في محلّه، و إلّا فمطلقا كان أو غيره لا يجوز كون الثمن كليّا، و ما ذكرنا هو سرّه، حيث إنّ في هذه المقامات لمّا كان لا بدّ و أن يكون الثمن و العوض نقدا و لا يصدق ذلك على الكلّي لمكان أنّه ما لم يتشخّص لا يملك، فلذلك التزموا بعدم الاكتفاء به، هكذا أفاد- دام ظلّه-.

و فيه ما لا يخفى؛ حيث إنّ ذلك مبنيّ على عدم وجود الطبيعي في الخارج و المغايرة بين مصاديقه و نفسه، مع أنّ كليهما خلاف التحقيق، و قد طعن- مدّ ظلّه- على المحقّق القمّي قدّس سرّه لمّا عبّر عن الفرد بكونه مقدّمة للكلّي (1) مرارا من جهة أنّها مستلزمة للمغايرة و لا أقلّ من تخلّل «الفاء» في التحقّق بين المقدّمة و ذي المقدّمة حتّى يصدق هذا المعنى، و اللّه العالم.

فروع

الأوّل: إنّه هل تجري الفضولي في الوقف أم لا؟ فيه تفصيل؛ فإن قلنا بأنّ


1- قوانين الاصول: 1/ 63.

ص: 263

الفضولي في البيع و نحوه على القاعدة و ليس أمرا تعبديّا محضا، كما هو الظاهر، حيث إنّه لمّا كان بالإجازة العقد يضاف إلى المجيز فيشمله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فيصير كسائر العقود الصادرة عن الأصيل، و ليس فيه أمر يخالف القواعد، و لكن هذا مبنيّ على أن يكون الوقف من العقود حتّى يعتبر فيه البقاء لا الإبقاء، حيث إنّه أمر حدوثيّ محض، و لذلك لا يجري فيه الفسخ و نحوه ممّا يتوقّف على وجود أمر فعليّ حتّى ينحلّ، و إن مال إلى جريانه فيه أيضا صاحب «الجواهر» في الطلاق (1)، و لكن حقّقنا البحث فيه و منعنا عن جريانه في الإيقاعات مطلقا؛ لما أشرنا إليه من عدم اعتبار البقاء فيها حتّى تجري ما هو ملزومها.

و حيث قد بينّا في أوّل الباب أنّ الوقف من العقود و يعتبر فيه القبول، فمن هذه الجهة لا يبقى فيه إشكال لمكان استكشاف بقائه منه اعتبارا، و إن كان أمرا حدوثيّا حقيقة كسائر العقود.

و لكن يبقى إشكال من جهة اخرى و هي: أنّه لو كان الوجه في اعتبار القبول فيه هي الإجماعات و إطلاق معاقدها فلمّا كان يثبت بها اللوازم أيضا الّتي منها وجود الفعلي للعقد و لا بدّ من إحرازه في المقام فيتمّ الأمر، و أمّا إن كان دليل اعتباره الأصل كما كان ذلك هو الوجه في اعتبار القبول بالنسبة إلى الأوقاف العامّة، فحينئذ يشكل الأمر من جهة عدم ثبوت اللوازم به و هو الوجود الفعلي له.

و بالجملة؛ فلو كان إشكال في المسألة من هذه الجهة و الظاهر أنّه لا يدفع عنه، و أمّا مسألة قصد القربة فلا إشكال فيه لأنّه نمنع أوّلا اعتباره في مطلق


1- جواهر الكلام: 32/ 3.

ص: 264

الوقف بل إنّما يعتبر بالنسبة إلى المعدّ منه للخيرات لا كالوقف على الأولاد حيث إنّ الارتكاز في أمثاله هو التمليك و رعاية الأولاد، و ثانيا؛ أنّه حين الإجازة لا مانع من قصده القربة، كما لا يخفى.

الثاني: يجوز وقف المشاع كما هو المشهور، و إن كان قد يشكل فيه من حيث كون المشاع ملزوما للقسمة، فينافي التأبيد المعتبر في الوقف؛ لمكان أنّه عند القسمة لا بدّ من التبادل فيملّك كلّ من الشريكين حصّته في كلّ جزء إلى الآخر في مقابل تمليكه حصّته فيه، و التبادل ينافي الوقفيّة بالضرورة.

فعلى هذا في وقف المتاع لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين: إمّا أن يبنى على عدم كون مثل هذا المشاع ملزوما للقسمة، أو عدم مقتضى (1) مثل هذا الوقف التأبيد.

و لكن هذا يتوجّه لو كان اعتبار القسمة هو التبادل و هو خلاف التحقيق؛ حيث إنّ اعتبارها هو التميّز، و جمع ما هو المبسوط، فكأنّ ملك كلّ الشريكين و حصّتهما كان منبسطا في تمام العين فبالتقسيم تجمعها في طرف، و يتميّز ما هو المخلوط، فحينئذ ليس شي ء في البين ينافي التأبيد.

الثالث: وقع الخلاف في جواز وقف من ينعتق على الموقوف عليه؛ و الأقوى الجواز، و ذلك لأنّ الاحتمالات المتصوّرة فيه ثلاثة: عدم صحّة الوقف، صحّته و عدم تحقق العتق، صحّته و الانعتاق.

أمّا الأوّل؛ نظرا إلى أنّ الوقف لمّا كان التأبيد في حقيقته مأخوذا، و المفروض أنّه لا يمكن في المقام، حيث إنّ مقتضى دليل العتق و عمومه انعتاق


1- كذا، و الأحسن: اقتضاء.

ص: 265

الوقف بالانتقال إلى الموقوف عليه فيكون باطلا.

أمّا الثالث؛ فلأنّه الجمع بين الدليلين غايته أنّ جهة التأبيد في مثل هذا الوقف مفقودة، فيصير من قبيل الوقف الّذي لا يستعدّ في حدّ نفسه إلّا للبقاء مدّة لا أبدا، فلمّا كان الأمر دائرا بين رفع اليد عن أصل أحد دليلي الوقف و العتق أو هذا الشرط فالثاني متعيّن، لما عرفت من أنّه بعد انقطاعه ليس من جهة شرط و نحوه حتّى ينافي حقيقة الوقف، بل من قبيل الوقف الّذي في حدّ ذاته قاصر عن البقاء أبدا، فلا يصير ذلك مانعا من وقوع الوقف أو العتق، و لا أحدهما عن الآخر، بعد أن عمل بمقتضى كلّ منهما.

و أمّا الثاني الّذي هو الحقّ؛ فلأنّ الأمر لمّا كان دائرا بين التخصيص و التخصّص و الثاني هو المتعيّن فتكون النتيجة ما قوّيناه؛ لمكان أنّه لو قدّم الوقف عملا بعموم السلطنة، و دليل «اوفوا» فلا يبقى حينئذ موضوع للانعتاق؛ حيث إنّ ظاهر أدلّته هو انعتاق المملوك الطلق- أي الخالص- و لو قدّم دليل العتق يكون تخصيصا لأدلّة السلطنة و غيرها.

و لا ريب أنّ تخصيصه له يتوقّف على عدم جريان تلك الأدلّة، فيستلزم الدور، كما في كلّ ما دار الأمر بين التخصيص و التخصّص، و من ذلك ظهر ضعف الوجهين الآخرين، أمّا الأوّل فواضح؛ ضرورة أنّ عدم صحّة الوقف فرع وجود المانع، و قد علمت عدم وجود شي ء قابل للمنع عنه، و هكذا الأخير حيث إنّ رفع اليد عن مقتضى عقد الوقف و هو التأبيد يتوقّف على قصوره في نفسه على التقريب المذكور و هو يتوقّف على حصول الانعتاق، و على ما ذكرنا ليس له موضوع كما لا يخفى.

ص: 266

شرائط الواقف

المبحث الرابع: في شرائط الواقف، و فيه مسائل:

الاولى، لا إشكال في أنّ للواقف أن يجعل النظارة- التي حسب اصطلاحهم بمعنى تولية الأمر- لنفسه كما له أن يجعلها لغيره، لما تقدّم من أنّ الوقف اعتباره هو البسط فما كان للمالك من الاعتبارات و العلقة من الملكيّة و السلطنة و النظر على العين، و كانت مجتمعة فيها، فعند الوقف تبسط هذه الأمور و يجعل كلّ واحد من هذه الشئون لأحد، كما له أن يجعلها لواحد فكذلك له أن يجعل هذا المقام لنفسه، فكأنّه من أوّل الأمر لا يسلب هذه المرتبة من العلاقة و الشأن عن نفسه فحينئذ لا مانع من ذلك، كما يوافقه العمومات أيضا (1).

نعم؛ وقع الإشكال و الخلاف في أنّه هل له أن يجعل الحقّ لنفسه كما لغيره من النظّار، أم لا؟ فمنعه بعض نظرا إلى أنّ ذلك يكون وقفا على النفس (2) الّذي لا ريب في بطلانه، و لكنّ الأقوى عدم الإشكال من هذه الجهة أيضا، حيث إنّ حقّ النّظارة و التولية اعتباره الجعل و حقّ العمل، فكأنّه استثناء عن الوقف الّذي يجوز ذلك في الجملة كما يدلّ عليه عموم «النّاس» (3)، و «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (4).

فبالنسبة إلى ما لو كان الواقف هو الناظر بنفسه أيضا. لمّا كان اعتباره ما


1- وسائل الشيعة: 19/ 175 الباب 2 من أبواب الوقوف و الصدقات.
2- السرائر: 3/ 156.
3- عوالي اللآلي: 1/ 222 الحديث 99.
4- وسائل الشيعة: 19/ 175 الحديث 24386.

ص: 267

ذكر، و خارجا عن حقيقة الوقف يجوز ذلك، و اللّه العالم.

الثانية: لا يعتبر في المتولّي العدالة، بل و لا الإسلام و إن زعمه جمع، و ذلك لأنّ منشأ توهّم اعتبارها كون النظارة و التولية من باب الولاية، فحيث كانت شرافة هذا المنصب تنافي الفسق و الكفر (1)، كما زعموا ذلك في كثير من الموارد كالوصيّ و المقسّم و أمثالهما، فمنعوا عنهما و اعتبروا ما هو مشروط في الأولياء، لكن لمّا كان المبنى فاسدا فلا وجه للمنع المزبور، حيث إنّ النظارة اعتبارها هو الولاية على الأمر من الجمع و التقسيم و غير ذلك، كلّما كان شأن المباشرين من الترتيب و التنظيم.

و يدلّ على هذا المعنى التوقيع المبارك مضمونه: «و أمّا ما سألت من أمر الرجل الّذي يجعل لناحيتنا ضيعة و يسلّمها من قيّم يقوم فيها و يعمرها و يؤدّي من دخلها خراجها و مئونتها» (2) .. إلى آخره.

و بالجملة؛ قد عرفت أنّ عنوان التولية هو الشأن الّذي لنفس الواقف من الاختيار على المال فحين الوقف و بسطه شئونه يجعل شأنه هذا لمن يريد، و ليس له المنصب حتّى أمكنه جعل الولاية، فيقال: ليس للفاسق و [لا] للكافر تولّي هذا الأمر أصلا، مضافا إلى استلزامه السبيل، فإنّ ذلك ممتنع بالنسبة إلى من لا ولاية له، و هكذا باب الوصيّة و أمثالها، فلا وجه للتوهّم المزبور، و لا غبار في المسألة إن شاء اللّه تعالى.

الثالثة: الناظر إذا قبل؛ يلزم عليه، كما هو مقتضى عموم أَوْفُوا


1- إن لم يكن بالنسبة إليه اجماع، فراجع! «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 19/ 181 الحديث 24399.

ص: 268

بِالْعُقُودِ (1)، إذ لا إشكال في أنّ الناظر و المتولّي أيضا طرف للعقد كالموقوف عليه، و لا فرق بين هذا العقد و سائر العقود إلّا أنّ لذلك يمكن تصوير أطراف، كما تقدّم حيثيّة اعتباره، و لو سلّمنا المناقشة فيه من جهة عدم كونه طرفا حقيقيّا للعقد، فنقول: لا أقلّ من كون اعتباره اعتبار الشرط و نحوه، فكيف كان له تعلّق بالعقد فيشمله العموم.

نعم؛ لو لم يجعل له حقّ فله أن يأخذ أجرة مثل عمله عن الوقف لا لاحترام عمله و تضمين الواقف، كما قد يتوهّم، لفساد ذلك، حيث إنّ المفروض أنّ عمله إنّما يكون بأمر الواقف، و لا ربط له بالموقوف عليهم الّذين العين انتقل إليهم، و لا أمر صدر عنهم فيكون عمله بالنسبة إليهم كمن أقدم على عمل لشخص مجّانا، بل لأنّه عند القبول لمّا كان قبل العمل الجامع بين كونه مجّانا و غير مجّان- كما يقتضيه إطلاق الإنشاء و الإيجاب ما لم يصرّح الموجب بشي ء- فله أن يختار كلّا من الفردين، فتأمّل! فإنّه ربما يكون الموجب و القابل غافلا عن هذه الجهة رأسا مضافا إلى كون ذلك منافيا لما اختاره- مدّ ظلّه- من اعتبار حقّ التولية و النظارة، كما سنشير إليه.

الرابعة: الظاهر؛ أنّ حقّ النظارة اعتباره من باب الوظيفة، و أنّه يكون من قبيل المستمرّي و المصرف، لا أنّه من باب الاجرة و الجعل في مقابل العمل، بمعنى أنّ طبعه الأوّلي لا يقتضي ذلك و إن أمكن الجعل بعنوان الأجرة أيضا، و لكنّ الغرض غالبا ليس إلّا كونه من جملة المصارف قد استثني من الوقف للعنوان المزبور، و لو بأن يصير داعيا على قيام الناظر و ما يلحقه على وظيفته.


1- المائدة (5): 1.

ص: 269

و على كلّ تقدير تظهر الثمرة في أنّه على الأوّل لو انكشف العين الموقوفة مستحقّا للغير، و قد كان الناظر لم يأخذ حقّه فليس على الواقف شي ء، بل و لو أخذ و كانت العين باقية يجب ردّها إلى مالك العين، فلو كان عمل بوظيفته ليس له أن يطالب الواقف اجرة حيث إنّه لا ربط له بعد الانكشاف إلّا من جهة غروره.

فيمكن أن يقال بمقتضى قاعدة الغرر، له الرجوع، و له مطالبة اجرة المثل، بخلاف الثاني، فعليه مطالبة اجرة المثل و ليس له إعادة ما اخذ.

الخامسة: إذا اعتبر الواقف العدالة في الناظر فهل ينعزل بخروجه عن الوصف و فسقه أم لا؟ و هذا على قسمين: فتارة يعيّن شخصا خاصّا مع اشتراطه وصف العدالة فيه، و اخرى لا بل يجعل الأمر للعنوان، لا إشكال في انعزاله على كلّ تقدير بزوال الوصف.

إنّما الكلام في أنّه هل يلزم حينئذ على الحاكم أن ينضمّ إليه عادل أو يجعل شخصا آخر وليّا على الوقف مستقلّا أم لا؟

الظاهر؛ أنّ الحكم بذلك- أي لزوم أحد الأمرين- يتوقّف على إحراز نظر الواقف من حيث تعدّد المطلوب، و أنّه أراد أن يتولّى هذا الشخص إذا كان عادلا، و إلّا فشخص آخر، و هكذا في الصورة الثانية أراد الناظر لوقفه، فإن أمكن العادل فهو، و إلّا فغيره.

فعلى هذا؛ يلزم على الحاكم تعيين شخص آخر، و أمّا لو لم يكن كذلك، بل كان منظوره وحدة المطلوب فلا.

ثمّ إنّ ولاية الحاكم في أمثال هذه المقامات من باب عدم لزوم نقض الغرض و حفظ مصلحة الوقف حسبما عمّمنا دائرة الولاية، و بنينا على أنّ كلّ ما

ص: 270

يتولّاه حكّام الجور من العزل و النصب و غيرهما بمناط عدم الردع مشروع لحكّامنا أيضا.

و من ذلك نقول: لو رأى الحاكم المصلحة في عزل الناظر المنصوب لخيانته أو يضمّ إليه آخر؛ له ذلك إن لم يكن الواقف حين العقد لم يعلم بذلك، و لم يوقف على نحو الإطلاق، و الناظر كذلك فإنّ الأقوى أنّ له ذلك بأن يجعل الناظر مختارا فيفعل كيفما شاء، ما لم يضرّ بحقيقة الوقف، و لم يناف التسبيل و اللّه العالم.

السادسة: لو جعل الناظر اثنين فمات أحدهما فهل يلزم ضمّ آخر إليه من قبل الحاكم أم يستقلّ الثاني؟ أو اشترط العدالة فيهما ففسق أحدهما.

الاحتمالات المتصورة ثبوتا لا يخلو عن وجوه: فتارة؛ يجعل النظارة للجامع بين الشخصين بحيث ينطبق على أوّل الفردين.

و اخرى؛ يجعلها لهما على نحو الشريك.

و ثالثة؛ يجعل لهما على نحو الاستقلال بأن يكون كلّ منهما ذا النظر التامّ.

و رابعة؛ يجعلهما كذلك إلّا أنّه يشترط في تصرّفهما نظر الآخر.

و الفرق بين الوجوه الأربعة؛ في أنّه على الثاني جميع التصرّفات يتوقّف على نظر كليهما، و لا ينفذ أيّ تصرف كان منهما إلّا بتصويب الآخر، حيث إنّهما بمنزلة متولّ واحد، فلا يجوز لأحدهما أن يسبق إلى عمل إلّا أن يجيز الآخر.

و على الثالث: يكون لكلّ منهما التصرّف، فلو سبق أحدهما إلى عمل ينفذ، و ليس للآخر المنع أصلا.

نعم؛ ما لم يختم الأمر يجوز للآخر المزاحمة فيما بقي من العمل، و لو تشاحّا ينتهي الأمر إلى الحاكم.

ص: 271

و على الرابع: ليس لأحدهما التصرّف إلّا برضى الآخر و إذنه، و إن كان له الاستقلال، و لكن مشروط بنظر الآخر حتّى في مقدّمات العمل، و على الأوّل كذلك أي لكلّ منهما الاستقلال لانطباق الطبيعة، على أوّل الأفراد و لا يشترط بشي ء.

هذا كلّه؛ بالنسبة إلى عالم الثبوت، و أمّا من حيث الإثبات يمكن الدعوى قريبا بأنّ إطلاق الجعل يشمل الصورة الثالثة، و أنّ ظاهره كونهما مستقلّين، فعلى هذا إذا مات أحدهما أو فسق لا يلزم الضمّ إلى الباقي، و لكن بناء على استظهار الشريك أيضا لا يمكن الحكم القطعي بلزوم الضمّ حيث إنّ ذلك يتوقّف على إحراز تعدّد المطلوب و أنّ الواقف أراد مطلق الاثنين، و هو خلاف الظاهر بل الظاهر؛ وحدة المطلوب و أنّ إرادته ما تعدّى عمّا عيّنهما إلى غيرهما، و هذا لا ينافي بقاء الباقي و الواحد الآخر على نظارته و ولايته، و إن كان قد يقال: إنّه بناء على وحدة المطلوب يلزم زوال نظارته أيضا لفقد الجزء المراد كما قالوا بمثله في الوصيّين، و لكن هذا مدخول، حيث إنّ الظاهر من هذه الجهة هو تعدّد المطلوب بأن يجعل الناظر كليهما ما داما موجودين و أحدهما إذا فقد الآخر.

و كيف كان؛ الالتزام بالضمّ يحتاج إلى الدليل الّذي لم يثبت لنا، مع أنّ الأصل أيضا بقاء الآخر على ما كان عليه من النظر، و هكذا في باب الوصيّ فتأمّل!

السابعة: إذا لم يعيّن الواقف ناظرا فهل ولايته تبقى له، أو تكون للموقوف عليه أو للحاكم؟ قد يتوهّم- بناء على ما ذكرنا من أنّ للواقف بسط شئونه و جمعه- أنّه حينئذ لمّا لم يعيّن ناظرا فيبقى هذا الشأن لنفسه حيث لم يسلب عن نفسه.

ص: 272

و لكنّه؛ مدفوع من جهة أنّ ما قلناه إنّما هو بالنسبة إلى أوّل الأمر الذي تكون هذه الشئون جميعها له تبعا لمالكيّته، و إذا فرضنا أنّه سلب العلقة الأصليّة عن نفسه، و جعلها لغيره بلا نظر إلى شئونه الاخر، فهي أيضا تسلب عنه لكونها تابعة للملكيّة الزائلة.

فمن ذلك، يظهر أنّ الأقوى هو القول الثاني، ضرورة أنّ إطلاق النقل يقتضي انتقال جميع الشئون الّتي للمالك إلى المنتقل إليه تبعا لانتقال الملكيّة إليه، و لكن هذا لا مطلقا، بأن يكون للمنتقل إليه الفعلي و الموقوف عليه الموجود تمام السلطنة على العين و لو استلزم التصرّف في المنافع و حقوق البطون اللاحقة، لمكان أنّ ذلك مقتضى الانتقال المطلق.

و أمّا إذا لم يكن كذلك؛ هل الملكيّة تكون تقطيعيّة- كما هو المفروض في الوقف- على البطون فحينئذ تصير السلطنة و النظارة أيضا منقطعة كما هو مقتضى التبعيّة، فليس للبطن الأوّل النظارة على الملك إلّا بالنسبة إلى زمانهم، و أمّا بالنسبة إلى البطون اللّاحقة فليست تصرّفاتهم نافذة أصلا.

نعم؛ لو اقتضت المصلحة ذلك أي تصرّفا في العين بحيث يشمل حقّهم للحاكم أن يلي الأمر حينئذ لإطلاق ولايته.

و بالجملة؛ ولاية أمر الوقف في كلّ زمان للموقوف عليهم الموجودين فيه لا للحاكم، و لا للواقف هكذا ينبغي أن يحرّر المقام و اللّه وليّ الإنعام.

شرائط لموقوف عليهم

اشارة

المبحث الرابع: في شرائط الموقوف عليهم الّذي يعتبر فيهم المعلوميّة،

ص: 273

إنّما الإشكال في ما اشترطوا فيهم من أنّه لا بدّ و أن يكونوا عند العقد موجودين، فينقض ذلك بامور، و قبل الخوض في المقصد ينبغي ذكر صور المعدوم.

أحدها: المعدوم الّذي ليس قابلا للوجود رأسا، بحيث يستحيل أن يوجد عادة، و ليس له اقتضاء الوجود أصلا.

ثانيها: ما ليس بموجود فعلا إلّا أنّ له اقتضاء الوجود كالوقف على أولاد الأولاد مع عدمهم الآن، و لكن آباؤهم موجودون.

ثالثها: الوقف على المعدومين تبعا لهم على الموجودين.

أمّا الصورة الاولى؛ فالظاهر أنّه لا خلاف و لا إشكال في أنّه لا يصحّ الوقف، و وجهه واضح حيث أنّه لمّا كان الوقف اعتباره التمليك، فكما أنّه لا بد له من مملّك و مملوك، فكذلك لا بد له من المتملّك، و المعدوم المطلق ليس قابلا له بحيث يصير أوّلا و بالذّات معروضا لهذا الوصف، و لا يعتبره العقلاء لذلك كما لا يخفى.

و أمّا الصورة الثانية؛ فهكذا فإنّه و إن كان مقتضى الوجود لهم محقّقا إلّا أنّه مع ذلك؛ المعدوم ليس قابلا للتملّك، و صرف الاقتضاء له ليس محلّا لاعتبار العقلاء.

ثمّ إنّه تارة ينتقض هذه الصورة بباب المنافع، حيث إنّها مع عدم تحقّقها فعلا يعتبرون لها الوجود، و لذلك تؤجر بل تباع، كما في بيع الأثمار، و تضمن في المنافع الغير المستوفاة، مع أنّه لا فرق بين المملوك و المتملك من هذه الجهة أي لا بدّ فيهما من الوجود.

و فيه؛ إنّه كمال الفرق بين باب المنافع و المقام، حيث أنّ فيها لوجود

ص: 274

المقتضي- و هو العين القابلة لخروج المنافع و الثمرة عنها كالدار، و الأشجار المثمرة و نحوهما- العقلاء يعتبرون لها الوجود بحيث يرون المالك للعين مالكا لها فعلا بل يبذلون بإزائها المال، بخلاف المقام فإنّه بوجود الآباء و الامّهات لا يعتبرون الوجود الفعلي للأولاد، كما لا يخفى.

و اخرى؛ بالوقف على البطون اللاحقة الغير الموجودة فعلا فكيف يعتبر الملكيّة الفعليّة لهم عند انقراض البطن الأوّل أو عدمه مع اعتبار شريكهم لهم بعد بالوجود؟ فلو كان وجه المنع في المعدوم الابتدائي عدم قابليّته للتملّك فهذا المناط بعينه جار بالنسبة إليهم و كونهم تبعا، لا يندفع به الإشكال، ضرورة أنّ المفروض اعتبار تملّك العين لهم في زمان وجودهم الآن، فالتبعيّة (1) أيّ ثمرة لها في ذلك؟

هذا؛ و لكن يمكن دفع ذلك أيضا بمنع كون التمليك بالنسبة إلى المعدوم فعلا متجزّئا.

توضيح ذلك: أنّه إمّا بناء على عدم كون الوقف تمليكا بل إيقافا، و التمليك إنّما يتعلّق بالمنافع كما قوّيناه و اختاره في «العروة» أيضا (2)، فلأنّه لمّا كانت المنافع وجودها تدريجيّا بحيث تمرّ مع الزمان و تتقطّع به؛ فحينئذ يعتبر لها وجودات متباينة، فبالنسبة إلى كلّ قطعة من الزمان لها وجود غير الوجود السابق، فإذا اضيفت المنافع- الّتي اعتبارها كذلك- إلى الطبقات المتعاقبة و انتقلت إليهم فتكون حينئذ تمليكات متعدّدة بتعدّد الطبقات.


1- بل يمكن منع معنى التبعيّة هنا خصوصا في الوقف الترتيبي أصلا، «منه رحمه اللّه».
2- العروة الوثقى: 2/ 574.

ص: 275

و من المعلوم؛ أنّ لازم ذلك هو تعليق تمليك كلّ طبقة إلى وجودهم، و تكون هذه حقيقة الوقف الترتيبي، بأنّه يكون التمليك إلى كلّ بطن مشروطا بمجي ء زمانهم و وجودهم، بل يكون كذلك بالنسبة إلى المعدومين المشاركين مع الموجودين بعد وجودهم، غايته أنّه بالنسبة إليهم توسعة و تضيّق في تمليك واحد، فهما يختلفان باختلاف مراتب الطبقات كثرة و قلّة.

و بالجملة؛ فليس على هذا تمليك متجزّئ مع فقد المتملّك، بل [يكون] التنجيز فقط بالنسبة إلى البطن الموجود، و بالنسبة إلى غيره تعليق و لا يضرّ هذا بشي ء حيث إنّ القدر المتيقّن من الإجماع المانع عن التعليق إنّما هو في الوقف الابتدائي و بالنسبة إلى الطبقة الاولى.

و أمّا بالنسبة إلى الطبقات اللاحقة فلا مانع، لا شرعا و لا عقلا، حسبما هو التحقيق من أنّ التعليق في العقود لا استحالة لها.

و أمّا بناء على كون الوقف تمليكا كما ينسب إلى المشهور فنقول: إنّه و إن كانت العين ليس لها وجود تدريجيّ، حتّى يجري فيها التقطيع، بل وجودها قارّ و الزمان يمرّ عليها فلذلك يصير التمليك المتعلّق بها أيضا من الامور القارّة لا يعقل التقطيع فيها، إلّا أنّه لمّا لا إشكال في أنّ التمليك الواحد يمكن تصوير المراتب له حيث إنّه قد لا يكون للملكيّة أمد فهي المطلقة، و قد يكون لها الأمد و هي تختلف بحسب اختلاف الاعتبار، إذ حقيقة التمليك ليس إلّا أمرا اعتباريّا، فهو تابع لكيفيّة الاعتبار الّتي في باب الوقف تمليكات على البطون المتعاقبة، غايته أنّه بالنسبة إلى البطن الأوّل الموجود متنجّز، و بالنسبة إلى البطون اللاحقة معلّق في الحقيقة على وجودهم، و قد تقدّم أنّ هذا التعليق لا يضرّ بشي ء.

ص: 276

فالحاصل؛ أنّه كمال الفرق بين الوقف على المعدوم ابتداء، و ما إذا كان كذلك بعد الوقف على الموجود و مترتّبا عليه، حيث إنّ في الأوّل التنجّز، بل لا بدّ من التعليق الموجب للبطلان بخلاف الثاني الّذي لا يضرّه التعليق، فلا مجال للمقايسة، فتدبّر!

و ثالثة: ينتقض بمسألة الوقف على الطبيعة الغير الموجود لها فرد فعلا حين إجراء العقد.

و فيه؛ أنّها لو كانت ممّا لا يتحقّق لها مصداق أصلا كالوقف على طبيعة العالم بما كان و ما يكون، و ما هو كائن (1) فهذا باطل بلا كلام، و لو كانت ممّا يمكن أن يوجد لها مصداق كالوقف على العالم؛ فهذا و إن لم يكن له فرد فعلا إلّا أنّ إمكان تحقّقه له و قابلية تحقّق الطبيعة يوجب اعتبار الوجود لها عند العقلاء فعلا، و لا يتوقّف ذلك على وجود الفرد الفعلي لها كما لا يخفى، فتأمّل!

ثمّ إنّه إذا انضم المعدوم إلى الموجود فهل مقتضى القاعدة بطلان الوقف مطلقا، أو يصحّ بالنسبة إلى الموجود، أو التفصيل بين الوقف الترتيبي و التشريكي؟

المشهور: البطلان بالنسبة إلى الجميع في الوقف الترتيبي، و أمّا في التشريكي فقد أسند في «الجواهر» صحّته إلى الأكثر (2).

و لكنّه يمكن الالتزام بالوجه الثاني مع التفصيل بين ما لو كانت الطبقة الاولى المعدومة يفرض لها الانقراض على فرض وجودهم فيصحّ حينئذ، و ما لم


1- مستثنى منه صاحب الزمان أرواحنا له الفداء «منه رحمه اللّه».
2- جواهر الكلام: 28/ 28.

ص: 277

يفرض لها الانقراض فيبطل حتّى بالنسبة إلى الموجودين.

توضيح ذلك، التفصيل مبناه مسألة تحليل الإنشاء و المنشأ و البناء على استظهار تعدّد المطلوب و لكن ضيق المجال لم يسعني أن أذكر الوجه فيه مع ما أفاد- دام ظلّه- من الوجوه المختلفة و الفروع الكثيرة في المقام و اللّه الموفّق.

الوقف على المملوك

و أمّا الوقف على المملوك؛ فالّذي عليه الأصحاب بطلانه مطلقا بناء على عدم تملّك العبد شيئا و عدم انصرافه إلى مولاه، و مع قطع النظر عن ذلك فنقول بعد الاستعانة به تعالى: أمّا بناء على كون حقيقة الوقف هو الإيقاف بالنسبة إلى العين و التمليك، إنّما هو من حيث منافعه فيمكن أن يقال: مقتضى القاعدة صحّة الوقف من جهة أنّ العبد و إن لم يكن قابلا لتملّك المنافع، إلّا أنّه لا قصور فيه من حيث صيرورته مصرفا له، نظير سائر الأوقاف على المصارف، غايته أنّ فيها على حسب أصل الوقف و اعتبار الواقف، و في المقام من حيث تصوّر المقتضي نفسه بحيث لولاه كان مقتضى الإطلاق التملّك الحقيقي للمنفعة، فهذا يكون من قبيل إطلاق اليد على عين حيث إنّها مقتضى الملكيّة المطلقة لصاحبها، و إذا انتفاها ذو اليد فتصير يده عليها أمانيّة، و إذا نفاها أيضا فلا يحكم بغصبيّته، و لا يجوز أخذها منه إلى أن يصل حتّى يثبت كون يده عدوانيّا.

فهذه مراتب لليد، بحيث زوال اعتبار مرتبتها السابقة لا يستلزم زوال أثارها اللّاحقة، فكذلك في ما نحن فيه لمّا كان لتملّك المنفعة مراتب من تملّك نفسها أو الانتفاع بها إلى أن يصير الشخص مصرفا لها بحيث لم يكن له تصرّف

ص: 278

فيها أصلا، بل كان من قبيل الصغير الّذي يصرف له غيره.

فحينئذ؛ كلّ مرتبة منها لم يمكن أن يتحقّق إمّا كقصور في المقتضي، أو لوجود المانع فينتهي الأمر إلى الأخرى، و هنا لمّا كان المفروض عدم إمكان تملّك العبد فيصير مصرفا له لعدم مانع عنه أصلا.

و أمّا بناء على كون حقيقته هو التمليك كما هو ظاهرهم، خصوصا في الأوقاف الخاصّة، فبناء على كون الملكيّة من الامور الغير القارّة التدريجيّة فالوقف على الطبقات إنّما هي ملكيّة واحدة لجميعها من قبيل تمليك المنافع، كما مال إليه بعض فالتزموا بالتقطيع في الملكيّة (1)، فحينئذ لو كان الوقف على العبد من حيث كونه إحدى الطبقات، فلمّا ليست له ملكيّة مطلقة للعين بل عنوانه عليها من قبيل الشركة الطوليّة، و الأدلّة المستفادة منها حجره؛ منصرفة عن مثل هذه الملكيّة فيمكن الحكم بصحّة الوقف أيضا.

نعم؛ بناء على كون الملكيّة مطلقة، كما هو التحقيق فلمّا تصير حينئذ تملّكه للعين مطلقة، و إن لم يكن له عليها سلطنة تامّة، من حيث تعلّق حقّ بقيّة الطبقات بها فالأدلّة حينئذ ليست قاصرة عن الحجر عنها، فيشكل الأمر و لا محيص عن الحكم بالبطلان.

هذا؛ و لكن يمكن تصحيحه على هذا أيضا بأن يقال: لمّا لا إشكال في أنّ مقتضى التملّك بالنسبة إلى العبد موجود، كما هو ظاهر أدلّة حجر العبد مثل قوله: (العبد و ماله لمولاه) (2) حيث إنّ ظاهر مفاده أنّ له المال، و لكن هو و ماله


1- جواهر الكلام: 28/ 29.
2- انظر! وسائل الشيعة: 18/ 257 الحديث 23621.

ص: 279

لمالكه، فيكون تملّك العبد ممّا اقتضاؤه تامّا؟، و المانع يمنع عنه دواما، و يكون من قبيل انتقال المال عن المورّث إلى الوارث قهرا.

فعلى هذا؛ لا مانع من تأثير عقد الوقف و الحكم بصحّته، غايته أنّه لمّا لم يكن المحلّ قابلا لأعلى مرتبة التملّك فالعقد يؤثّر بمقدار ما يكون في المحلّ من القابليّة، و ليس في المقام إلّا الملكيّة الاقتضائيّة، ثمّ بعد تحقّق الوقف و وقوعه بمقتضى عمومات التملّك لمال العبد ينتقل إلى مالكه، و يصير وقفا عليه قهرا من قبيل الانتقال بالإرث.

و لا يتوهّم؛ أنّ ذلك مخالف لمقتضى العقد حيث إنّ المقصود به تملّك العبد و وقوع الوقف عليه، لأنّه قد أشرنا أنّ هذا الانتقال ليس من أثر العقد، بل هو يقع على ما هو قصد، و إنّما الانتقال من آثار تملّك العبد له لقصوره أن يتملّكه دائما.

ثمّ إنّه بناء على الصحّة هل يتوقّف صحّة قبول العبد على إذن مولاه أم لا؟

الأقوى لزوم الإذن، و توهّم أنّ اختيار تكلّمه بيده بالضرورة و السيرة المستمرّة،- و من المعلوم أنّ القبول منه فلا يتوقّف على إذن المولى- فاسد لما ذكرنا في محلّه من أنّ غاية ما قامت السيرة على ذلك تنطّقه و تكلّمه من حيث إظهاره لما في ضميره.

و أمّا لو كان مشتملا على أمر زائد عليه و يعدّ من التصرّفات فليس للعبد ذلك، بل يتوقّف على إذن مولاه، و لذلك لا يجوز أن يوكّل عن الغير و لو في إجراء الصيغة فقط، و القبول في المقام من هذا القبيل لا ممّا اضطرّ إليه من إظهار ما في ضميره، كما لا يخفى.

ص: 280

الوقف على الحربي

و ممّا يتفرّع على شرائط الموقوف عليه من حيث قابليّته للتملّك؛ الوقف على الحربي فقد وقع فيه الخلاف، و كلّ تمسّكوا بوجوه ضعيفة لا تثمر شيئا و سنشير إليها.

و التحقيق: هو أن يبحث في العمومات المتكفّلة لبيان الأسباب و المسبّبات، أمّا عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (1)، فالحقّ أنّه لا ينفع شيئا حيث إنّه لبيان حكم الوقف الفارغ وقفيّته كسائر العمومات المتكفّلة لبيان حكم عنوان وقع خارجا، مثل: «اقض ما فات كما فات» و نحوه (2) ممّا يكون متكفّلا لكيفيّة العمل و الوظيفة.

و بالجملة؛ فمفاد مثل هذه العمومات و نسبتها إلى ما رتّبت عليه؛ نسبة الحكم و الموضوع، و ليست في مقام بيان أصل السبب أصلا.

و أمّا العمومات المتكفّلة لحكم الأسباب مثل: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) فهو و إن كان من حيث حكم السبب تامّا، إلّا أنّه أيضا لمّا لم يكن مشتملا على بيان قابليّة المحلّ و إثباتها فهو أيضا لا يثمر.

حيث إنّ المفروض أنّ الشكّ في المقام؛ في قابليّة الحربي لأن يوقف عليه من حيث تملّكه أو كونه مراد بالنسبة إليه و نحوهما، فحينئذ العمومات المتكفّلة


1- وسائل الشيعة: 19/ 175 الحديث 24386 و 24387.
2- مستدرك الوسائل: 6/ 435 الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات.
3- المائدة (5): 1.

ص: 281

للأسباب إذا لم تؤثّر فلا محيص عن الحكم بالبطلان لما هو الأصل، و المفروض فقدان أصل يحرز به القابليّة أو يتكفّل حكم المسبّب، نظير أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1) فيكون الأصل العملي المقتضي للفساد هو المحكّم.

فإن تمّ ما ذكرنا فيتمّ ما ذهب إليه المشهور، و إلّا فالوجوه الاخر، فالإنصاف أنّها غير تامّة، كما أفاده في «الجواهر» (2).

مع أنّه لو سلّمنا كون الوقف عليه مرادا له فلذلك يصير بنفسه منهيّا عنه، حيث إنّ المفروض كونه مقدّمة لذلك العنوان، فقهرا النهي المتعلّق بذي المقدّمة يسري إليها، إلّا أنّه لمّا كان هذا النهي نفيا محضا، و ليس إرشادا و مشتملا على وضع أصلا، فلا يقتضي فساد الوقف من وجه.

و أمّا مسألة قصد القربة؛ فلا دليل على اعتبارها رأسا حتّى ينافيها، فتأمّل! فإنّه و لو سلّمنا ذلك- أي عدم اعتبار القربة مطلقا- فلا أقلّ من اعتبار الرجحان فيه، كما في مطلق الصدقة، و النهي يضادّه بلا كلام و اللّه وليّ الإنعام.

ثمّ إنّه إن بنينا على صحّة الوقف على الحربي لما كان يقع التعارض بين دليل الوقف و الدوام المعتبر فيه (3)، و أدلّة: أنّ ماله في ء للمسلمين (4)، و تكون النسبة عموما من وجه فيشكل الأمر حينئذ.

و الإنصاف؛ أنّه لا إشكال في المسألة من هذه الجهة عندنا بحمد اللّه تعالى أصلا و ذلك؛ لأنّه بناء على كون حقيقة الوقف إيقافا لا تمليكا للعين، فمعلوم أنّه


1- البقرة (2): 275.
2- لاحظ! جواهر الكلام: 28/ 30 و 31.
3- الحدائق الناضرة: 22/ 193 و 194.
4- جواهر الكلام: 28/ 31.

ص: 282

بالنسبة إلى العين مقتضى تملّك المسلم لها لمّا لم يكن محقّقا فلا تعارض بين الدليلين.

و أمّا بالنسبة إلى المنافع و إن كان التحقيق فيها ما سنشير إليه و لكن مع الغضّ عنه، نقول: لا مانع من الالتزام بأنّه كلّما يستحقّ منها فيأخذها المسلمون أيضا [و] يتملّكون عنها شيئا فشيئا، بحيث يكون هو مقتضيا و معدّا لتملّكهم، و كونه مخالفا لغرض الواقف، مضافا إلى كونه مخالفا لداعيه، فقصور نفس المحلّ و عدم قابليّته أوجب ذلك، كما لا يخفى.

و أمّا بناء على كونه تمليكا؛ فعلى هذا المبنى الّذي هو المشهور فقد توهّم وقوع التعارض بين أدلّة الوقف و أدلّة الفي ء، و من الواضح أنّ ذلك يتمّ لو اجري في المقام أدلّة الفي ء فيجوز للمسلمين تملّك العين.

مع أنّه ممنوع؛ حيث أنّ أدلّة الفي ء إنّما تجري بالنّسبة إلى الملك الطلق الّذي لا مانع من تملّكه، و دليل الوقف لو اجري لا يبقي الموضوع لها، فإن اجري أدلّة الفي ء لا بدّ من تخصيصه مع بقاء موضوعه فيكون من باب دوران الأمر بين التخصّص و التخصيص، فلا محيص عن تقديم أدلّة الوقف، فانقدح أنّه لا تعارض بين الدليلين على هذا أيضا، حيث إنّه يتوقّف على تساوي نسبتهما إلى المورد، و ليس هنا كذلك فتأمّل!

بقي الكلام بالنسبة إلى المنافع على المبنى المذكور فهل يجوز تملّكها عنه بعنوان الفي ء على ما احتملنا فيما تقدّم قريبا، أم لا؟

الأقوى؛ أنّه لا يجوز مطلقا و تحقيق ذلك يتوقّف على ذكر امور:

أحدها: أنّه قد أوضحنا في طيّ بحث البيع أنّ العين المسلوبة السلطنة عنها

ص: 283

من الشخص مطلقا بحيث لم يكن له عليها سلطنة من جهة أصلا، لا يعتبر لها لهذا الشخص ملكيّة عند العقلاء، و لذلك لا يجوز له ترتيب آثار الملكيّة عليها من البيع و غيره، كما أنّ السلطنة على الشي ء من جميع الجهات؛ كأن يكون له بيعه و تلفه بأيّ نحو شاء ملزوم للملكيّة، و بذلك قد صحّحنا مسألة بيع المعاطاة؛ حيث إنّ البائع لمّا سلّط المشتري على أنحاء السلطنة على العين فقد سلّطه على الملازم للملكيّة.

ثانيها: أنّ من العقود ما تكون الملكيّة من نتائج نفسها كأكثرها مثل البيع و الصلح و غيرهما، و منها ما لا تكون هي ترتّب على نفسها، بل الملكيّة ملازمة لما يترتّب عليها بالواسطة كما في المعاطاة على التحقيق، فإنّها ليست أوّلا تفيد التمليك و التملّك في عقد البيع المصطلح و الهبة، حيث أنّ مفاد نفسها النقل و الانتقال، بل لمّا كانت مفادها التسليط المطلق الّذي ملزوم للملكيّة فلذلك قد تكون تفيد الملكيّة.

ثالثها: قد أثبتنا في أوّل الباب أنّ الوقف من حيث المنافع ليس مفاده التمليك لها، بل إنّما هو إطلاق المنفعة و جعلها تحت سلطنة الموقوف عليه، كما يقتضيه لفظ «التسبيل» في أدلّته، فحينئذ لا يختلف معناه بالنسبة إلى المقامات في الأوقاف العامّة و الخاصة، و الوقف للمصرف فإنّه في جميعها هو إطلاق المنفعة، و إلّا فلو فسّرنا «التسبيل» بالتمليك يلزم الاختلاف في معنى الحديث بالنسبة إلى تلك الموارد، مع أنّ ميثاقه واحد، كما لا يخفى.

إذا عرفت هذه الامور فنقول: لا إشكال في أنّه ليس للحربي السلطنة المطلقة على منافع الوقف، بل لمّا كان للمسلمين أن يأخذوها عنه و يتملّكون،

ص: 284

و ليس له أن يمنعهم عنه، فمن هذه الجهة تنتقض سلطنته فتخرج عن قابليّته لأن يصير مالكا لها.

و قد تبيّن أنّ حقيقة الوقف أيضا ليست التمليك بالنسبة إلى المنافع بل هي التسبيل الّذي له أرض عريضة يجتمع مع الملكيّة لعينها و ملك الانتفاع و المراتب النازلة عنها، فحينئذ ينحصر مصداق التسبيل بالنسبة إلى ملك الانتفاع لقصور المحل و عدم الاقتضاء فيه، كما قد يكون كذلك بجعل الواقف فيكون الوقف على الحربي كأنّه من أوّل الأمر وقف عليه، بأن ينتفع منه لا أن يملك منافعه، و لو نوقش في ذلك أيضا يكون ممّا هو المصرف له.

فعلى كلّ تقدير؛ التسليط المطلق الملزوم للملكيّة لمّا لا يمكن بالنسبة إليه فلا يصير مالكا لعين المنافع.

و على هذا؛ لا تجري أدلّة الفي ء، إذ مفادها جواز تملّك مال الحربي، و لم يثبت إطلاقها حتّى يشمل الحقّ له، أو المال الّذي هو مصرف له بلا سلطنة له عليه أصلا، كما هو المفروض، فتدبّر!

فتحصّل من ذلك كلّه: أنّه بناء على صحّة الوقف على الحربي، أدلّة الفي ء على كلّ حال غير جارية مطلقا من حيث المنافع أو العين، هكذا أفاد- دام ظلّه- و لكن بعد يحتاج إلى التأمّل في المباني المذكورة و المراجعة إلى أدلّة الفي ء حتّى يتّضح الأمر، و اللّه العالم.

الوقف على الذمّي

و أمّا الوقف على الذمّي فظاهر المشهور فيه على الجواز، بل كاد أن تكون

ص: 285

المسألة إجماعيّة، و الفرق بينه و بين الوقف على الحربي أنّه شبهة عدم القابليّة من الجهة الّتي المشهور منعوا عنه فيه؛ هنا غير جارية و هي مسألة تملّكه، ضرورة أنّ الذمّي مالك لما تحت يده مطلقا، فحينئذ العمومات بالنسبة إليه لا مانع من جريانها.

نعم؛ بناء على ما استشكلنا من أنّه يحتمل أن يكون منشأ عدم القابليّة كون الوقف عليه موادّة و برّا، فعدم جريانه هنا مبنيّ على عدم حرمة الموادّة و نحوها مع الذمّي، و جواز الإحسان و البرّ إليه كما لا يبعد، و إلّا فلا فرق بينهما كما لا يخفى.

الوقف على الكنائس

و أمّا الوقف على الكنائس و البيع و نحوهما، و إن أمكن أن يقال: لا بأس به من حيث الموادّة و غيرها من الوجوه المتقدّمة، أو لم يقصد به الإعانة و الترويج؛ إلّا أنّه لمّا كان أصل هذا الفعل محرّما على المسلم لكونه ترويجا للباطل، و لا ينافي ذلك جواز إبقائه بمقتضى شرائط الذمّة كما هو واضح، فيكون أصل المصرف حراما، فيصير من قبيل ما تعلّق النهي بنتيجة المعاملة الكاشفة عن عدم إمضاء السبب، فيبطل الوقف من هذه الجهة بلا كلام.

و من هنا؛ ظهر حكم الوقف على كلّ مصرف محرّم من الوقف على قطّاع الطريق و شارب الخمر و معونة الزناة و أمثال ذلك، ممّا يكون أصل الصرف منهيّا عنه، فهذا هو سرّ منع الأصحاب عن الوقف لأحد هذه الوجوه، و حكمهم

ص: 286

ببطلانه (1)، و لو كان الوقف للكنائس أو الكتب الضالّة من الكفّار فالظاهر أنّه لا إشكال في صحّته لما هو مقتضى التقرير، و الإشكال فيه من جهة قصد القربة و نحوها، كما ترى.

و إنّما الكلام فيما لو وقف الحربي على مثله فهل يجري فيه الوجوه المتقدّمة من الموادّة و غيرها أم لا؟ لا ريب في أنّه مبنيّ على أن يكون النهي عن الموادّة عامّا يشمل المسلم و الكافر من جهة كونهم معاقبون على الفروع أيضا، أم يخصّ المسلم؟ و الظاهر ذلك حيث إنّ مقتضى المناسبة و الاقتران هو النهي عن قرب المسلم للكافر و موادّته حتّى لا يتخلّق بأخلاقه و يتأثّر هو عن هذا الانزجار أيضا، فينتهي عن عمله و يميل إلى الإسلام.

هذا تمام الكلام في جملة من شرائط الموقوف عليهم و مهمّاتها و اللّه العالم بالأحكام.

تعيين مدلول العنوان في الموقوف عليهم

ثمّ إنّه؛ جرى في المقام و كذلك في باب الوصايا و أمثالهما دأبهم في البحث عن بعض العناوين الواقعة موضوعا للعقد، كعنوان الفقير و الجيران و المسلم و غيرها، و أنّ مدلولها أيّ شي ء؟ فهل ينصرف الفقير- مثلا- إلى الفقير من نحلة الموصي و الواقف أم يعمّ؟

مع أنّ هذه كلّها مفاهيم عرفيّة ليس شأن الفقيه البحث عنها، لعدم كونها


1- و من هنا ظهر حال ما لو كان الوقف على الحربي بحيث يكون مصرفا له، فإنّ فيه يجري هذا الإشكال أيضا، كما لا يخفى، «منه رحمه اللّه».

ص: 287

موضوعا تامّا للأحكام الكلّيّة، بل إنّما تنتج حكما جزئيّا، و شأن المجتهد البحث عن الموضوعات الّتي تنتج حكما كلّيّا، أي ما رتّبه الشارع عليها؛ كالركوع و السجود و الصعيد و أمثالها.

و من المعلوم؛ أنّ تلك المفاهيم ليست كذلك، بل نتيجة البحث فيها انطباق الكبرى الكلّي عليها، كعمومات الوقف في المقام.

فكذلك قد يقال: إنّ وجه اعتبار قول الفقيه في أمثالها إنّما هو من باب اعتبار قول أهل الخبرة من جهة كون الفقيه مشخّصا لمصاديق تلك المفاهيم كما في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة.

و لكن يقع إشكال آخر حينئذ من جهة اخرى، حيث إنّه على هذا لا بدّ و أن يتعدّد الفقيه المشخّص لعدم اعتبار قول الواحد في الموضوعات، مع أنّ السيرة الاكتفاء بقول الفقيه الواحد، كما أنّه لا يزال يستفتون عن العلماء و الفقيه عن الامور المذكورة و مفاهيمها بلا احتياج إلى تعدّدهم أصلا، فهذا لا يحسم مادّة الإشكال، فلا بدّ و أن يكون وجه آخر، و تنقيحه يحتاج إلى ذكر مقدمة.

و هي: أنّه قد حقّقنا في بحث اعتبار قول أهل الخبرة أنّ حصول هذه الملكيّة و الخبرويّة في أمر تكون من جهة كثرة ممارسته في الامور المحسوسة و استقراء النظائر، كما يكون كذلك بالنسبة إلى تقويم الأبنية و الدور و اعتبار قول مقوّميها.

و اخرى تكون من جهة الحدس و إعمال النظر في الامور الخفيّة الغير الراجعة إلى الحس، كما يمكن أن يكون من هذا القبيل مسألة تقويم الجواهر و اللآلي، فهذا لا خفاء في أنّ وجه اعتبار قول أهل الخبرة يمكن أن يكون من أحد الوجهين:

ص: 288

أمّا بالنسبة إلى القسم الأوّل، فلمّا كان القول يرجع إلى الإخبار عن الخارج و الأمر الحسّي بحيث لم يكن للرأي فيه دخل أصلا فيجري فيه حكم سائر موارد الإخبار عن الموضوعات الخارجيّة.

و أمّا في القسم الثاني؛ فلا إشكال أنّ وجه الحجيّة فيه إنّما هو مسألة الرأي و النظر بحيث يكون القول طريقا إلى الرأي الّذي هو طريق إلى الواقع، بخلاف الأوّل الّذي ليس القول إلّا طريقا بلا واسطة إلى الواقع، ففي هذا القسم للرأي كمال المدخليّة.

فبناء على جريان هذا التفصيل في مسألة أهل الخبرة- كما هو التحقيق- فلمّا يصير مناط حجيّة قولهم في القسم الثاني ما هو المناط في باب حجيّة قول المجتهد للمقلّدين، و ليس هو إلّا حكم العقل برجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى العالم به بحيث يكون ذلك ارتكازيّا لكلّ أحد، فكذلك يكون قوله و رأيه في المقام للمختبرين حجّة كما في قول المجتهد للمقلّدين.

إذا تبيّن ذلك فنقول: إنّه لا إشكال في أنّ مسألة تشخيص المفاهيم المذكورة ليست من قبيل الامور المحسوسة بل لمّا كان يرجع إلى تمييز ما هو المفهوم العرفي للألفاظ المذكورة و تشخيص الظهورات فيها، بحيث يكون للنظر و الرأي كمال المدخليّة لها، و لا يمكن حصول ذلك للعوام من الناس، و لو كانت المفاهيم عرفيّة، كما ربّما يكون هكذا في موضوعات الأحكام الكلّيّة كالصعيد و نحوه، حيث إنّه و إن كان معنى لغويّا و مفهوما عرفيّا، و لكن مع ذلك لمّا كان فيه خفاء و منشأ للاشتباه، بحيث لا يمكن رفعهما و تشخيص المدلول الحقيقي إلّا بإعمال الفكر و الرويّة فينحصر ذلك بالفقيه و يصير من شئونه، فإذا انتهى الأمر

ص: 289

إلى ذلك، فيصير قوله حجّة على غيره، لما عرفت من الارتكاز و بناء العقلاء، و لا يحتاج إلى التعدد أيضا إذ المفروض عدم رجوع الأمر إلى باب الشهادة، بل صيرورته من قبيل الفتوى.

و على هذا أيضا؛ يترتّب ثمرة اخرى من حيث جواز حكم الفقيه و قضاء المجتهد برأيه، بناء على كون وجه حجيّة قوله هو ذلك لا من باب الشهادة لجواز أن يحكم القاضي برأيه في المرافعات بخلاف مسألة الشهادة، إذ ليس ما يراه الشاهد حجّة على الغير، كما لا يخفى.

و بالجملة؛ فالتحقيق حجيّة رأي الفقيه و نظره في موضوعات الأحكام مطلقا كما هو المعروف، سواء كان منتجا للحكم الكلّي أو الجزئي و كلاهما من واد واحد، و هو أنّه لمّا كان على كلّ حاكم تشخيص موضوع حكمه؛ فعلى الفقيه ذلك أيضا، فلا فرق في الموضوعات المستنبطة بين الكلّيّة و الجزئيّة فتدبر!

تفسير عناوين الموقوف عليهم

إذا اتّضحت الكبرى بعونه سبحانه و تعالى فينبغي البحث عن بعض الصغريات الّتي وقع الكلام فيها.

منها: لفظ الفقراء، حيث إنّه مع كونه عامّا يشمل كلّ فقير من أيّ قوم و نحلة المتسالم عندهم انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف، و لم يدّعوا ذلك في لفظ المسلمين و بني آدم و أمثالهما، مع أنّ الظاهر وجود وجه الانصراف فيها أيضا، فيمكن أن يكون الفرق من جهة أنّ جميع هذه الألفاظ و إن كانت من حيث وضعها مطلقة و مقتضية للتعميم- إلّا أن يمنع عنها الانصراف الّذي من قبيل التقييد- إلّا

ص: 290

أنّه لا إشكال في جهة فرق بين نفقة الفقير و غيره كالمسلمين، حيث إنّ الفقير ليس تحته نوع أو صنف أخصّ بحيث يكون للمتكلّم العدول عنه، و التعبير به- بل لو أراده- فلا بدّ له من تقييد نفس اللفظ بالعنوان الأخصّ كالمؤمن أو العالم و أمثالهما، و هذا بخلاف لفظ المسلمين، فلمّا يكون تحته نوع خاصّ كالمؤمنين بحيث له التعبير عنه لو أراده، فلم يحتج إلى التعبير به مقيّدا.

فعلى هذا؛ اللفظان و إن كانا مشتركين في وجه الانصراف- و هو الاسترحام و الرّأفة إلى من يصلح لهما الّذي هو فقراء نحلة نفس المتكلّم و الواقف- و لكنّ العدول عن لفظ في مثل المسلم و التعبير به يكشف عن إرادته العام، فيصير هذا مانعا عن المانع و هو الانصراف، فاللفظ يبقى على ظهوره الأوّلي من الإطلاق.

و أمّا في لفظ الفقراء و العالم و غيرهما فلا مانع عن الانصراف، فلمّا لم يكن، و يحتمل اعتماد المتكلم عدم تقييده بهذا الانصراف فالمانع على حاله باق و لم يؤثّر الإطلاق المقتضي الوضع، فتأمّل!

و منها: لفظ المؤمن لا إشكال أنّه و إن كان ظاهرا فيمن يعتقد بالأئمّة الاثني عشر عليهم السّلام، و لكن ليس بحيث لم يكن قابلا للمناقشة و التأمّل، بل الاصطلاح فيه في الجملة أيضا مختلف فيه قديما و حديثا، و هكذا لفظ الشيعة فقد وقع الخلاف فيه أيضا أنّه هل ينصرف إلى المعتقدين بإمامة اثني عشر أو يعمّ سائر أصناف الإماميّة فلا بدّ و أن يلاحظ حال الواقف و معتقده أوّلا، بل يؤخذ مطلقا بما هو معنى اللفظ واقعا.

و تنقيح البحث في ذلك: هو أنّه إن قلنا: إنّ إطلاق هذه الألفاظ و استعمالها

ص: 291

في غير معناها الأصلي للاعتقاد المستعمل كونه هو المعنى الحقيقي الأوّلي كاستعمال طائفة الإسماعيليّة لفظ المؤمن فيمن يعتقد بأنّه إسماعيل بن الصادق عليه السّلام من قبيل الخطأ في التطبيق، و نظير الشبهة المصداقيّة في ما يوجّه أحد حكمه إلى العنوان و طبّقه على شخص متّصف بنقيضه معتقدا بأنّه موصوف به كالآمر و المجيز بدخول العادل داره و تصريحه بدخول زيد معتقدا بأنّه منهم مع كونه فاسقا واقعا، أو ليس من هذا القبيل بل من باب استعمال اللفظ و إطلاقه على معنى يعتقد أنّه المعنى الحقيقي بحيث لم يكن من باب تطبيق العنوان عليه بل من تطبيق اللفظ على الموضوع له بلا رعاية واسطة و عنوان في البين؟

فإن بنينا على كونه من الأوّل فلا محيص عن حمل اللفظ على الموضوع له الأصلي مطلقا بلا رعاية حال الواقف، كما هو الضابط في كلّ ما يكون من الخطأ في التطبيق، و قد عنونوه في مسألة تعارض الوصف و الإشارة.

و إن قلنا: إنّه من الثاني فلا بدّ أن يحمل على معتقد الواقف عملا بمقصوده.

و الظاهر؛ أنّه من هذا القبيل حيث إنّ احتمال المعنى الأوّل بعيد هنا، إذ لازمه أن يكون المتكلم أراد الموضوع له الأصلي أوّلا، و لو إجمالا ثمّ أراد ما هو معتقده من معنى اللفظ و النقل منه إليه حتّى يقال: إنّ هذا انتقاله لما كان من الخطأ في التطبيق فلا يرتّب عليه الأثر، مع أنّه ليس كذلك بل المستعمل لا يرى للفظ معنى، سواء معتقده، و لا يحتمله أصلا فيطبّق اللفظ عليه من أوّل الأمر.

فعلى هذا؛ لا وجه لما قوّاه في «الجواهر» في المقام قدّس سرّه (1)، بل عليه في الحقيقة هو الأخذ بتنقيص مقصود الواقف، كما لا يخفى فتأمّل!


1- جواهر الكلام: 28/ 38 و 39.

ص: 292

و أمّا الشيعة؛ فهي و إن كانت في عصرنا تنصرف إلى الفرقة الناجية من الإماميّة، و ليست باقية على ما لها من المعنى في الصدر الأوّل و هو مطلق من شايع عليّا عليه السّلام و قدّمه على غيره، و لكن يقع الكلام فيها أيضا من حيث إنّه تنصرف إليهم مطلقا و لو كان الواقف من غيرنا من فرق الشيعة أو لا، بل فيه من الجهة المذكورة ينصرف إلى أهل نحلته.

و ما يوضح البحث هو أنّه: لو كان الوجه في الإطلاق (1) المزبور هو الانصراف لا النّقل عن معناه الأصلي فحينئذ لا ينبغي التأمّل في أنّه من كلّ طائفة يصدر؛ يحمل على معناه العامّ لما بيّنا في لفظ المسلمين، فهنا أيضا لأجل وجود نوع الأخصّ تحت لفظة الشيعة، فالعدول عنه و التعبير بها يكشف عن إرادة المعنى العامّ و تصير قرينة عليها، فيمنع عن تأثير الانصراف الناشئ عن النفقة و الاسترحام، أو لا أقلّ من أن يزاحمه فيؤثّر ما هو المقتضى لطبع اللفظ من الإطلاق، و لو كان سبب ظهورها و دلالتها على المعنى المصطلح فعلا هو كثرة الاستعمال و الإطلاق أو النقل بحيث صار المعنى الخاص بمعنى الوضع الثانوي؛ فحينئذ لا محيص عن حمله عليه عن كل طائفة يصدر سواء كانت من الفرقة المحقّة أو سائر الفرق، ضرورة أنّ اللفظ يحمل على المعنى الموضوع له و لا اختصاص له بنحلة دون نحلة.

و لمّا كان الظاهر هو الاحتمال الثاني فلا بد من العمل بما يكون اللفظ ظاهرا فيه، سواء كان الواقف من الفرقة المحقّة للشيعة أو غيرها، فهكذا ينبغي تحرير المقام كما لا يخفى و اللّه العالم.


1- ظهوره في المعنى الخاص، «منه رحمه اللّه».

ص: 293

و منها: ما لو انتسب إلى محلّ- كالعالم النجفي- فالحكم حينئذ معلوم، إلّا أنّه قد يقع الإشكال فيما لو لم يكن الموقوف عليه موجودا بل يكون ذلك وقفا على المعدوم فيبطل، أو يصحّ و يحمل على تعدد المطلوب كما مال إليه بعض من عاصرناهم (1) أو لا؟

و التحقيق أن يقال: إن جعلنا العنوان المأخوذ في حيّز العقد عنوانا مشيرا كقول القائل: «أكرم من في الصحن» بأن يكون اللفظ إشارة إلى العالمين الموجودين في النجف بأشخاصهم؛ فهذا يكون من باب الوقف على المعدوم، و لا مجال للحمل على تعدّد المطلوب بأن يصرف الوقف إلى غير العلماء من أهل النجف، إذ لا معنى له بالنسبة إلى الأشخاص.

و إن جعلنا نفس العنوان موضوعا فحينئذ إن قلنا بأنّ العناوين الكليّة و إن لم تكن لها أفراد فعليّة، و لكن كانت قابلة لأن تتحقق لها الأفراد، فهذا يعتبر لها الوجود فعلا كما بنينا عليه سابقا فيصحّ الوقف، و لا بدّ أن يحفظ الثمرة إلى أن يوجد الأفراد و لا سبيل إلى الصرف في غيرهم ما لم يوجد، و لضرورة أنّه ينافي اعتبار الوجود الفعلي للعنوان، و إن لم نبن على ذلك، فحينئذ يجري كلام الحمل على تعدد المطلوب و عدمه من حيث الصرف في علماء غير النجف لا في فقرائه مثلا، كما لا يخفى.

و منها: لفظ الجيران؛ فقد وقع الخلاف فيه من حيث حمله على المعنى العرفي أو على المعنى الشرعي، ثمّ بالنسبة إليه أيضا يكون الخلاف، كما سنشير إليه.


1- لم نعثر على هذا القول.

ص: 294

لا إشكال أوّلا؛ أنّ بالنسبة إلى معناه العرفي ليس له مفهوم معيّن بل هو يختلف من حيث الموارد جدّا، إذ اعتبار الجار في العقود الصغيرة غير اعتباره بالنسبة إلى الدور الواقعة في الشوارع و الجوادّ العظيمة، كما أنّ اعتباره من حيث نفس الدور من جهة الصغر و الكبر يختلف كثيرا، فحينئذ اجتماعه مع التحديد الشرعي- و هو أربعين ذراعا و تصادقهما- نادر غايته، فلذلك يشكل الأخذ بالحدّ الشرعي و طرح المعنى العرفي رأسا.

إلّا أن يقال: إنّه من هذا الاختلاف الكثير في المفهوم العرفي و مصاديقه نشأ التحديد الشرعي، كما في غيره من الموارد، فإنّ الشارع العالم بالواقع لمّا رأى الاختلاف فقد حدّد و عيّن المصداق الواقعي.

ثمّ إنّه بالنسبة إلى التحديد الشرعي أيضا؛ يقع البحث في أنّه [هل هو] إخبار عن الواقع و تعيين لما هو المصداق الواقعي، حيث إنّه ما من مفهوم إلّا له مصاديق مشكوكة حتّى بالنسبة إلى نفس الواضع من حيث الشكّ في حدّ المفهوم المسمّى بالشكّ في الصدق الملحق بالشبهة المفهوميّة، فلذلك؛ الشارع العارف بالواقع يعيّن ماله من الحدّ الواقعي، أم لا، بل هو تنزيل شرعي كسائر التنزيلات و لا نظر إلى الواقع أصلا؟ و قد التزم بذلك بعض من عاصرناه قدّس سرّه فقال:

على هذا لا مجال للأخذ بالتحديد الشرعي في غير الآثار الّتي نفس الشارع رتّبها على الموضوع (1) مثل ما ورد في رعاية حقّ الجار و غيره (2).

و فيه: أوّلا: أنّ الظاهر من هذا التحديد- كما في غيره من الموارد، مثل


1- لم نعثر على هذا القول.
2- وسائل الشيعة: 12/ 128 الباب 87 من أبواب أحكام العشرة.

ص: 295

الكرّ و السفر و حدّ الوطن- هو الإخبار عن الواقع و التعيين للمصداق، فحينئذ لا فرق بين الآثار الشرعيّة الّتي رتّبها الشارع و ما رتّبها المكلّفون، كما لا يخفى.

و ثانيا: مع تسليم المعنى الثاني بأن يكون تعبّدا محضا لا وجه لانصرافه إلى ما ذكر من الآثار بل يشمل كلّ ما وقع اللفظ موضوعا للأمر الشرعي، كما في المقام حيث إنّ ببركة تحديد الشارع يتعيّن موضوع أَوْفُوا .. إلى آخره.

نعم؛ لا بدّ حينئذ من التفصيل بين الشك في الزيادة على ما حدّده الشارع و نقصانه فإذا اقتضى التحديد العرفي مثلا (1).

هذا كلّه؛ فيما إذا احرز كون نظر الواقف إلى الموضوع الواقعي، لا للفظ و استعماله في المفهوم العرفي بلا أن يرى له حدّا خاصّا، و إلّا فالمناط ما هو منظوره، و لا وجه لانصرافه إلى غيره سواء كان تحديدا حقيقيّا شرعيّا، أو مفهوميّا عرفيّا لأنّ الوقوف تابعة للقصود، و قد تقدّم الوجه فيه أيضا و كيف كان؛ مسألة جريان التحديد من الخارج إنّما يكون عند الاشتباه و إطلاق المراد.

ثمّ إنّ المناط في التحديد الشرعي بناء على المصير إليه كما هو التحقيق ما عليه المشهور من أربعين ذراعا (2) لأربعين دارا و إن كان ذهب إليه بعض (3)، و لكنّه شاذّ و الأخبار الواردة عليه معرض عنها (4).

و يؤيّد الأوّل؛- مضافا إلى ما تقدّم- أنّه لا خفاء في أنّ لفظ «الجيران»


1- العبارة هنا غير وافية، و نقصانها من أصل الرسالة.
2- و لكن إلى الآن مدركه لم يظهر لنا و إن قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: له مدرك ضعيف، فحينئذ يلزم المراجعة إن شاء اللّه، «منه رحمه اللّه»، مسالك الإفهام: 5/ 343.
3- شرائع الإسلام: 2/ 215، جواهر الكلام: 28/ 41 و 42.
4- وسائل الشيعة: 12/ 132 الباب 90 من أبواب أحكام العشرة.

ص: 296

مفهومه يختلف بالإضافة كما في لفظة «عند» الواردة في بعض المقامات مثل المبيت عند عليّ عليه السّلام .. إلى آخره، حيث إنّ من كان في الحرم الشريف يكون عنده بالنسبة إلى من في الصحن، كما أنّ من في الصحن يصدق أنّه عنده بالنسبة إلى من في خارج الصحن، و هكذا من كان في البلد يصدق عليه المفهوم بالنسبة إلى من في خارجه و يكون من هذا القبيل لفظ الجيران فمن في العقد جار مطلقا، و من كان في المحلة جار فيها و من كان في البلد جار مع الإنسان فيه و هكذا إلى ما فوق.

ثمّ إنّ الّذي يصدق مطلقا بين المراتب هو الّذي جار في العقد، بحيث يكون القدر المتيقّن منه ما يكون الفصل بينه و بين الشخص أربعين ذراعا فحينئذ إذا عبّر الواقف باللفظ المطلق فمقتضى القاعدة حمله على معناه الإطلاقي أي ما يكون جارا على كلّ حال، فإلى ذلك يرجع التحديد الشرعي أيضا بلا إعمال تعبّد خاصّ في البين، كما أنّه على هذا لا يلزم طرح الروايات الدالّة على التحديد بأربعين دار، إذ لا ريب في الصدق عليها بالنسبة إلى بعض المراتب و إن لم يصدق مطلقا.

ثمّ إنّه بناء على الأخذ بالذراع فقد يقع الشكّ في مثل ما لو لم تكن الدار الأخيرة بتمامها داخلة في الحدّ بل بجزء منها، فهل يسري الحكم إليها حينئذ أم لا، بل محكومة بالأصل؟

الأقوى: دخولها إذا كان بمقدار يصدق لا أن يكون قليلا بحيث يلحق بالعدم، و ذلك لأنّه لا إشكال في الفرق بين بعض الألفاظ مع بعض الاخر من حيث إضافتها إلى أمر، فمثل قول القائل: إذا مسحت الدار أو ذرعتها ظاهر في

ص: 297

الجميع، و مثل: إذا مسست الدار أو دخلتها لو لم يكن ظاهرا في البعض لا أقلّ من كونه أعمّ منه و الجميع.

و من الواضح؛ أنّ التعبير عن الحكم المزبور بقولهم: لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا من قبيل الثاني، فحينئذ ما تكون بعضها داخلة ملحقة بما هي بتمامها في الحدّ إذا كان يصدق الدخول عرفا كما أشرنا، فافهم!

ثمّ إنّ هنا فروعا اخر، و الحقّ ما بنى عليه في «الجواهر» قدّس سرّه (1) و اللّه العالم!

حكم الشكّ في عنوان من عناوين الموقوف عليهم

اشارة

بقي في المقام حكم الشكّ و أنّ مقتضى الأصل العملي بالنسبة إلى تلك الموارد أيّ شي ء؟ و نذكر ذلك في طيّ أمرين:

الأوّل: أنّه إذا شكّ في مثل لفظة «الشيعة» أنّها قد استعملت في الوقف بعد حجر معناها الأوّل أو قبله، فحينئذ أصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل و إن لم تجر لكونها لا تثبت تأخّره عنه، و لكنّ الحقّ- كما عليه جمع- عدم مانع لجريان أصالة عدم النقل و إن كان قد يتوهّم أنّها مثبت أيضا فلا يجري.

و أنت خبير؛ بأنّ ذلك إنّما يتمّ لو بنينا على أنّها من الاصول التعبّدية و من مصاديق الاستصحاب، و لكنّ التحقيق أنّها من قبيل أصالة عدم القرينيّة و الأمارات الجارية في الألفاظ، و عليه بناء العقلاء، و لذلك قد يعبّر عنها بتشابه الأزمان.

و بالجملة؛ لا ربط لهذا الأصل بالاستصحاب بل أمارة عقلائيّة بحيث


1- جواهر الكلام: 28/ 41- 43.

ص: 298

يكون مثبتها أيضا حجّة فحينئذ ببركتها يحكم بتأخّر النقل عن الاستعمال و يؤخذ بلازمه، فتأمّل!

الثاني: أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ و الأكثر في الموارد المذكورة، كما إذا شكّ اختصاص لفظ بالفرقة المحقّة، أو يعمّ غيرها، فحينئذ قد يشكل في جريان أصالة عدم الوقف على الزائد، نظرا إلى معارضتها بأصالة عدم وقف الحصّة الزائدة المشكوكة على من تيقّن دخولها في العنوان.

مثلا: إذا فرض كون منافع الوقف تبلغ خمسين تومانا، و معلوم كون ثلثين منها للفرقة المحقّة، فإذا شكّ في البقيّة فالأصل عدم كونها لهم لأصالة عدم الوقف عليهم من العين بمقدار ما يقابله، و لازم ذلك التشريك.

و من الواضح؛ أنّه لا اختصاص لهذا الإشكال بالمقام، بل سيّال في مقامات كثيرة، كما في باب الإرث إذا شكّ في وجود وارث آخر غير المعلومين الحاضرين، و لمّا كان مرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في انحصار الحقّ على المعلومين و عدمه.

فالتحقيق؛ في دفع الإشكال أن يقال: إنّ الموضوع على هذا يصير مركّبا لا بسيطا، حيث إنّ موضوع الوقف بناء على الاختصاص- مثلا- هو الفرقة المحقّة الّتي لم يكن معهم غيرهم، و في الإرث الانحصار إنّما يثبت للورّاث الموجودين إذا لم يكن معهم غيرهم، و هكذا الموارد فتكون من الموضوعات المركّبة الّتي أحد جزأيه يحرز بالأصل و الآخر بالوجدان، فالمحرز بالأصل في هذه المقامات هو العقد السببي، إذ ببركة أصالة عدم الوقف على غير الموجودين المعلومين يثبت، و المفروض أنّ جزء الآخر محرز بالوجدان فيرتفع الإشكال بحذافيره فتأمّل! و اللّه العالم.

ص: 299

فروع:
لو وقع الوقف على مصرف كالمسجد و القنطرة فاندرسا

بحيث لم يكن صرفه إليهما فهل يبطل الوقف من حين الاندراس و يرجع إلى ورثة الواقف، أو لا بل يبقى على حاله فيصرف في مسجد آخر أو قنطرة اخرى ممّا يكون الأقرب إلى نظر الواقف، أو يصرف في مطلق البرّ؟ وجوه بل أقوال.

و نظير هذا الاختلاف وقع في الوقف المنقطع الآخر، إلّا أنّ المشهور فيه- كما سيأتي إن شاء اللّه- ليس ما هو المشهور في المقام، و هو الوجه الثالث.

و الفرق فيه؛ من حيث أنّ في المقام، [يكون] المانع من جهة اندراس رسم مصرف التسبيل و الثمرة، و هناك اندراس مصرف نفس العين، و عدم وجود من يتلقّى الوقف، إمّا لعدم تعيين الواقف أو لغيره.

و كيف كان؛ مبنى الإشكال في المقام هو أنّه بعد فرض استفادة الدوام من الوقف إمّا لجعله إيقافا كما هو التحقيق، خصوصا في الوقف على الجهة، أو لكون نفس الوقف للدوام، بناء على كونه تمليكا، بحيث يكون كالحجر الموضوع في مكان المقتضي بطبعه الدّوام، فهل اندراس رسم المصرف قابل للمنع عن هذا الاقتضاء و قاصر لطبع الوقف حتّى يوجب ذلك بطلانه من حين طروّه أم لا، أو يفصّل بين ما هو القابل للدوام و البقاء عادة، و ما ليس قابلا له فيلتزم فيه بالبطلان، و لو لم يلتزم به مطلقا؟ نظرا إلى جعل الوقف كذلك كاشفا عن عدم الإخراج المطلق، و لمّا لم يبرز الواقف ما نواه فلا يضرّ شيئا من جهة عدم التأبيد.

و الجهة الاخرى من الإشكال [الّذي] يكون في المقام و هو أنّه بعد البناء

ص: 300

على إبقاء الوقف و صحّته هل اعمل تعبّد في المقام من جهة مصرف هنا أيضا كما في باب الوصيّة بأن يتعدّى منه إلى هنا أم لا، بل حينئذ يعمل على مقتضى القواعد من رعاية ما هو الأقرب إلى غرض الواقف؟

و الأقوى في الجهة الاولى؛ ما عليه المشهور حيث أنّ مقتضى طبع الوقف الدوام، ضرورة أنّ المالك حين وقفه يقطع نظره عن العين كليّا و يخرجه عن ملكه رأسا، بحيث لا يرى لنفسه و لا لمن يتعقّبه بالنسبة إليها علاقة أصلا، فحينئذ هذه الغلبة و الظّهور تصير مرتّبة على كون ارتكازه من حيث المصرف الّذي يعيّنها هو تعدّد المطلوب، و أنّه لو انقرض المصرف يصرف في غيره، و لا يختصّ به حقّ يستلزم ذلك بطلانه عند الاندراس و رجوع العين إلى ملك وارثه مثلا.

فعلى هذا؛ لا وجه للتفصيل بين ما هو القابل للدوام و البقاء عادة، و ما ليس قابلا له، إذ ما يقتضيه طبع الوقف لا يفرّق فيه، و القرينيّة جارية مطلقا.

و من ذلك ظهر أنّ مقتضى القاعدة- حيث أحرزنا من الوقف- تعدّد المطلوب هو رعاية غرض الواقف في المصرف، و أنّه لا بدّ من تقديم الأقرب فالأقرب و لا يجوز العدول المتباين، كما يكون كذلك مسألة مطلق البرّ بالنسبة إلى الوقف على المسجد و نحوه، فحينئذ عند اندراس المسجد المعيّن لا بدّ من صرف الوقف في مسجد آخر، إن كان قريبا بالنسبة إلى المسجد الأوّل مكانا أو الجهات الاخر، و إن لم يكن ففي مكان آخر و لو كان بعيدا عن الأوّل، حيث أنّ ذلك و إن كان من مصاديق الخير إلّا أنّه لمّا يحتمل كون منظوره خصوص هذا الخير فلا بدّ من رعايته حتّى الإمكان، إلّا أن يدّعى أنّ المستفاد من الروايات الّتي أشرنا إليها لمّا كانت الضابطة الكليّة من حيث إنّ الشارع تكفّل تعيين

ص: 301

مصداق المصرف في أمثال هذه المقامات فيستكشف منه إلقاء الخصوصيّة، و أنّه لا يجب رعايتها.

و لكنّ الكلام في الاستظهار المذكور أوّلا في نفس موردها، و ثانيا في جواز التعدّي عنه، حيث أنّ الخبر الأوّل (1) فيما لو كان أحد وجوه الوصيّة معلوما و الجهل بالنسبة إلى الوجوه الاخر، لا فيما لم يكن أصل المصرف معلوما كما هو محلّ الكلام.

فحينئذ يمكن أن يقال بالنسبة إلى الوجوه الاخر: لمّا كان من باب دوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر و هو مطلق البرّ أو برّ خاصّ، فالإمام عليه السّلام حكم بمقتضى القاعدة على الأخذ بالأقلّ المتيقّن فتأمّل! فإنّ الرواية مطلقة و لا اختصاص لها بهذه الصورة، بل تشمل ما يكون الحكم المذكور فيه مخالفا للقاعدة حيث مقتضاها في المتباينين القرعة.

و أمّا الثاني: يمكن أن يكون الإمام عليه السّلام لمّا استكشف اشتغال ذمّة الموصي بمظالم العباد فأمر عليه السّلام بالتصدّق عنه لذلك، و إلّا فمقتضى القاعدة صيرورة المال للورثة إذا لم يف بموصى له، إلّا ان يقال: إنّ هذا المعنى خلاف ظاهر إطلاق الحديث فلا بدّ من حمله على الحكم بتعدّد المطلوب من جهة أنّ باب الوصيّة لمّا كان من قبيل الوقف و مقتضى طبعها الخروج القطعي عن ملك الموصي فإذا لم يف بالموصى به فيصرف في محلّ آخر عيّنه الإمام عليه السّلام، فحينئذ يمكن أن يصير دليلا لما نحن فيه، و لكن بعد مجال التأمّل واسع و اللّه العالم.


1- على الترتيب المذكور في الجواهر: (28/ 46)، «منه رحمه اللّه».

ص: 302

الفرع الثاني:

في «الشرائع»: و لو وقف على وجوه البرّ و اطلق، صرف في الفقراء و المساكين (1) .. إلى آخره.

لا يخفى: أنّ فيه من البحث جهات: الاولى: أنّه هل البرّ يعمّ مطلق الفعل و لو كان مباحا، أو لا بدّ فيه من وجود الرّجحان، ثم بناء على اعتبار الرّجحان هل يعمّ الرجحان المقدمي، أو الّذي يلزم الرجحان بما يكون ذاتا كذلك.

ثمّ إنّه في الراجح؛ هل يعتبر أن يكون قريبا أم لا؟ و تكون جهات اخر تظهر في طيّ البحث فنقول بعونه تعالى: أمّا الكلام في الجهة الاولى فيمكن الدعوى قريبا بأنّ لفظ «البرّ» المرادف للخير منصرف إلى الفعل الّذي فيه جهة رجحان و لا يعمّ المباح.

و بعبارة اخرى: أنّ ظاهره يأبى شمول ما ليس مبغوضا فقط، بل البرّ يطلق على ما يكون مضافا عليه راجحا و محبوبا، كما أنّ الظاهر خروج القسم الثالث عن عنوان البرّ و هو الملازم، مثل أن يعطى مال من يترك الصلاة الملازم اتّفاقا إيجادها فعلا واجبا، مثل «الإزالة» فالبرّ منصرف عن مثل هذا الإعطاء أي في مقابل ترك الصلاة مع كونه حراما ذاتا، و ذلك لعدم سراية العنوان عن الملازم إلى الملازم.

فيبقى الكلام بالنسبة إلى القسم المتوسط، فهل يصدق البرّ على الأفعال المقدميّة أم لا؟ كمن يعطي المال إلى الحاكم الجائر ليسلم من ضرره على نفسه أو عرضه، و هذا على قسمين:


1- شرائع الإسلام: 2/ 215.

ص: 303

فتارة؛ يقصد بالإعطاء التوصّل به إلى ذي المقدمة الّذي هو الرّاجح بحيث يجعله نفسه وجهة لعمله، و لا يجعل المقدمة إلّا طريقا للوصول إليه؛ فهذا لا إشكال فيه و ملحق بالأوّل، حيث إنّ المفروض أنّ المقصود في نفسه راجح ذاتا فعلا.

و اخرى: يقصد عنوان نفس المقدّمة، كما إذا لم يجعل في المثال قصده متوجّها إلى ذي المقدّمة و لو كان يعلم أنّ من فوائده سلامة نفسه و عرضه عن شرّ المعطى عليه قهرا، فهنا يشكل شمول البرّ لهذا الفعل من حيث دعوى انصرافه إلى غيره، و لكن لا يبعد الشمول، إذ ترتّب ذي المقدّمة الّذي حسن بل راجح في نفسه قهريّ، فالمقدّمة أيضا يصير محسّنا، غايته أنّ حسنه غيريّ لا نفسي، و لا سبيل إلى دعوى انصراف اللفظ إلى الثاني.

نعم؛ بناء على اعتبار القربة حينئذ قد يستشكل كما في كلّ عبادة و عمل قربيّ ذات مقدمة فينكر الإجزاء بقصد القربة بالنسبة إلى المقدمة، بل صيرورته قريبا يتوقّف على قصد التقرّب في نفس ذي المقدمة، نظرا إلى أنّ الإطاعة لمّا كانت من المطاوعة التي هي عبارة عن جعل العبد إرادته مطاوعا و تبعا لإرادة المولى؛ فلا بدّ من حفظ جهة المشابهة و المماثلة بين الإرادتين، فحينئذ لا يبقى المجال لقصد التقرّب بالنسبة إلى المقدّمة، إذ المفروض عدم تعلّق إرادة المولى بها إلّا تبعيّا، و جعله وصلة لذي المقدمة التي هي عباديّ، فلا معنى لجعلها العبد مرادا مستقلّا بحيث يتقرّب بنفسها.

و لكن نحن لمّا أبطلنا هذا الأساس في محلّه، حيث إنّ الأحكام و الإرادات مطلقا كلّها مرجعها إلى المقدميّة الّتي هي استراحة النفس في هذه النشأة أو

ص: 304

النشأتين، فحينئذ يلزم عدم جواز قصد التقرّب بجلّ العبادات و غيرها على التفصيل المذكور في محلّه، فنحن في سعة عن هذه الجهة، فيبقى الإشكال في الانصراف المذكور و لا يبعد إنكاره فتأمّل! فالظاهر؛ أنّه لا ربط لهذا الإشكال إلّا بالمقام.

و أمّا الجهة الثالثة و هي: أنّه لا بدّ أن يتقرّب الصارف و المباشر في عمله أم لا، بل يكفي الرجحان الذاتي للمصرف؟ إثبات اعتبار ذلك يتوقّف على الاستظهار من كلام الواقف أنّه قصد الحسن الفاعلي للفعل، و هذا لمّا يتوقّف على إتيان الفعل لحسنه، و إلّا فمطلق صدور الفعل الحسن عن الشخص لا يتّصف موجده بالحسن، بل هو موقوف على قصده إصدار الفعل كذلك؛ فلا بدّ أن يتقرّب فيه الفاعل، و أمّا نفس عنوان البرّ و الفعل الخير فلا يتوقّف على ما ذكر كما لا يخفى، فإن تمّ الاستظهار المزبور فلا بدّ منه و إلّا فلا، و اللّه العالم.

الفرع الثالث:

في «الشرائع»: و كذا لو وقف على غير معيّن كأن يقول على أحد هذين إلى آخر (1) أي يبطل.

و هذا يمكن على أقسام: فتارة يقصد أحدهما معيّنا و لكنّ الصيغة يجريها كذلك، و هذا لا مانع عن صحّته، غايته أنّه لو بقي على الجهالة للتالي ينتهي الأمر إلى القرعة للتّعيين، و القابل في هذه الصّورة هو الوليّ في الأوقاف العامّة، أو على غير البالغ، و أحد الطرفين أصالة و نيابة في الأوقاف الخاصّة لمن هو الموقوف عليه واقعا، أو يقبل كلاهما رجاء.


1- شرائع الإسلام: 2/ 216.

ص: 305

و كيف كان؛ لا إشكال في المسألة من هذه الجهة و إنّما الكلام من حيث الترديد المفروض عدمه واقعا، و إنّما يكون الترديد صورة و هو لا يضرّ شيئا، و الإجماع المدّعى على البطلان في الصورة الآتية لا يكون هنا، فتأمّل!

و اخرى: لا يقصد المعيّن أصلا بل يجعل الوقف على الأحد بعنوانه الفردي، بحيث يكون قابلا للانطباق على كليهما، و لكن لا من جهة كونهما تحت الجنس، لأنّه لم يقصد جنس «الأحد»، بل اريد النكرة المعبّر عنها بالفرد المنتشر، فحينئذ الانطباق على كلّ منهما إنّما هو من جهة كونه إحدى الخصوصيّتين المرادة على سبيل البدل، فهنا الظاهر قيام الإجماع على البطلان.

و أمّا ما ذكر من الوجه من أنّ الوقف عرض فلا بدّ له من جوهر معيّن، يرد عليه فلا يتمّ، بل هو من قبيل الاستحسانات، و النكتة بعد الوقوع- حيث إنّها أوضحت في محلّها- أنّ حال عناوين العقود و الإيقاعات حال الوجوب، فكما أنّه يمكن فيه الترديد في متعلّقه فهكذا فيها، و لذلك ورد في الشرع كثيرا كما في نكاح إحدى المرأتين، أو طلاق إحدى الزّوجتين (1)، أو الوصية بعتق أحد العبدين (2) بل في العتق التخييري- على ما حكي أيضا- ورد (3)، و كما في بيع الصبرة (4) حسبما نشير إليه و غير ذلك من الموارد، مع أنّه لو لم يكن معقولا لا معنى لوقوعها في الشرع فتأمّل!


1- الحدائق الناضرة: 25/ 181، وسائل الشيعة: 20/ 297 الباب 20 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد و 22/ 37 الباب 15 من أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه.
2- وسائل الشيعة: 19/ 408 الباب 75 من كتاب الوصايا.
3- جواهر الكلام: 34/ 125، وسائل الشيعة: 23/ 93 الحديث 29177.
4- جواهر الكلام: 22/ 445- 446، وسائل الشيعة: 17/ 354 الباب 12 من أبواب عقد البيع.

ص: 306

و ثالثة يقصد الأحد بعنوان الجنس بأن يكون الأحد محدّدا للموقوف عليه لا أن يكون عنوانا له كما في النّكرة.

و بعبارة اخرى: الفرق بين الصورة السابقة و هذه الصورة هو الفرق بين مطلق الجنس و النكرة، من أنّ الخصوصيّة داخلة فيها بخلاف الجنس، فلا يراد منه إلّا الطبيعة الصرفة، و لذلك في موارد التكليف في النكرة لو قصد الخصوصيّة يتحقّق الامتثال و لا تشريع، بخلاف ما لو كان المكلّف به الجنس، فقصد الخصوصيّة تشريع موجب لبطلان العمل.

و كيف كان؛ الأحد إمّا أن يعتبر لا بشرط، و إما بشرط [لا] بحيث يكون لو انضم إليه آخر لا ينقلب العنوان أو ينقلب، كما في بيع الصبرة حيث أنّ بيع صاع منها لمّا كان اعتبر بشرط لا، فذلك لو سلّم إلى المشتري صيعانا لا يتملّك إلّا أحدها، مع أنّه لو كان لا بشرط لا بد أن يتملّك جميعها، حيث إنّ الواحد الجنسي في جميعها محفوظ.

و بالجملة؛ لا ينبغي التأمّل في الصحّة في هذه الصّورة مطلقا كما سلّمه في «الجواهر» (1) أيضا، لعدم قيام الإجماع المحقّق في الصورة السابقة هنا، و الإمكان العقلي قد عرفته فيها، فهنا بطريق الأولى كما لا يخفى.

الرابع: لو وقف على من كان قريبا إليه من الناس، لا إشكال أنّه يشمل إلى الطبقة الرابعة من الأقارب، أي من كانت الواسطة بينه و بين الواقف ثلاثة، كما لو كان من أولاد حفيدة عمّه، و إنّما الكلام في الطبقة الخامسة، حيث إنّ الإشكال في شمول العنوان لها عرفا، و يكفي في الحكم بالعدم الشك في شمول اللفظ،


1- جواهر الكلام: 28/ 49.

ص: 307

لأصالة عدم الوقف على الزائد عن المتيقّن كما تقدم تنقيح هذا الأصل.

هذا كلّه؛ بالنسبة إلى غير الأولاد و الآباء، فيشمل لفظ القريب لها و لو تحقّق مائة واسطة، كما هو واضح.

الخامس: و لو وقف على أقرب النّاس إليه ففيه جهتان من الإشكال:

الأولى: أنّ المناط هو الأقرب حال الوقف أو مطلقا، فإن كان الأوّل فحينئذ يقع الوقف بالنسبة إلى من كان موجودا منهم حال الوقف على الترتيب في باب الإرث، فإذا انقرضوا فيصير الوقف حاله حال منقطع الآخر و لا ينتقل إلى الأقرب بعدهم، إذ المفروض اعتباره كذلك، و الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها.

نعم؛ لو كان الملحوظ الأقرب مطلقا فحينئذ عند الفرائض؛ كلّ طبقة ينتقل إلى من هو الأقرب بعدهم، فعلى هذا لو كان شاهد أو قرينة يدلّ على الثاني فيؤخذ بها، و لو لم يكن و شكّ فمقتضى الأصل الحكم بالأوّل كما عرفت.

الثانية: هل يلزم مراعاة الوصف التفصيلي مطلقا بحيث لا يصرف الوقف على الطبقة الأخيرة التي ليس بعدها قريب، بل كليّا يحفظ طبقة؛ بعد من يصرف فيهم حتّى يتحقّق معنى الأقربيّة الفعليّة، أو لا يلزم ذلك، بل و لو لم يكن إلّا طبقة واحدة و لو كانت أخيرة [يكون]؛ الوقف لهم؟ و هذا نظير الأكبر المعتبر في مستحقّ الحبوة، و كذلك الأعلم في التقليد مثلا، فوقع الإشكال فيهما أيضا، و منشأ الكلّ أنّ المراد بالوصف التفصيلي في هذه المقامات الأفضليّة الفعليّة، أو المراد عدم وجود من هو أكبر، أو أعلم أو أقرب، لا أنّ الوصف مناط مطلقا.

لا خفاء؛ أنّ الجمود على ظاهر اللفظ يقتضي الأوّل، و لكن لمّا كان الارتكاز العرفي على الثاني، حيث إنّه معلوم أنّ المراد أنّه ما دام الأفضل و الأكبر

ص: 308

في الأولاد، أو الأعلم في مسألة التقليد موجودا لا يعطى الحبوة و لا يرجع في التقليد إلى غيره، فلذلك لا بدّ من العدول عمّا يقتضيه الظاهر، فهكذا هنا حيث أنّ المتبادر أنّه ما يكون الأقرب لا يعطى الوقف إلى غيرهم كما لا يخفى.

بقي شي ء و هو: أنّه هل المناط في الأقرب مطلقا ما هو المناط في باب الإرث، بحيث لا يلاحظ معنى العرفي له أصلا بل المتبع ما عيّنه الشارع؟ أمّا فيما لا اختلاف بينهما كما هو الأغلب فإنّ في المتقرّب بالأبوين و تقديمه على المتقرّب من أحدهما، كما أنّ الشرع قدّمه و جعله أقرب، و العرف يساعده أيضا، فلا بحث، و إنّما الإشكال فيما لا يساعد كما في ابن عم الأبوين- مثلا- على العمّ الأبي فإنّ الظاهر أنّ العرف فيه يقدّم العمّ.

فقد يتوهّم؛ أنّ الوجهين مبنيّان على أنّ تقديم الشارع و تصرّفه في أمثاله هل يكون من باب التعبّد أو تعيين للمصداق و إخبار عن الواقع، حيث إنّ مفهوم الأقرب لمّا كان له واقع فالشارع بقوله: أُولُوا الْأَرْحٰامِ (1) و غيره كشف عن الواقع و أخبر عن معنى الحقيقي للفظ؟

فعلى الأوّل: فلا مجال للتعدّي و لا محيص عن الوقوف على مورد النصّ كما هو الأصل في مطلق باب التعبّدات، بخلاف الثاني فلمّا يصير عليه بيان الشارع ضابطا كليّا فيكون المناط مطلقا ما عيّنه من الأقرب.

و لكن تقدّم منّا؛ أنّ هذا يتمّ بناء على أن يكون ما في نظر الواقف من المعنى العرفي للفظ من باب الشبهة في المصداق و الخطأ في التطبيق، بحيث ما أراد من لفظ الأقرب إلّا ماله من المعنى الواقعي، غايته أنّه خطأ طبّقه على ما يراه


1- الأنفال (8): 75.

ص: 309

مصداقا، و أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان من باب الخطأ في حدّ مفهوم اللفظ- كما هو الحال في أمثال المقامات- فالبيان الشرعي أيضا لا يوجد لصرف اللفظ عمّا هو الظاهر فيه بزعم المستعمل إلى المعنى الشرعي، بل يكون حاله حينئذ حال ما لو كان ما قرّره الشارع من الأعمال تعبّديا فعلى هذا، التفصيل المذكور لا ينفع بالنسبة إلى أمثال المقام بل المتّبع مطلقا منظور العامّة و مقصود الواقف يكون صحيحا، و اللّه العالم.

السادس: لو كان لفظ «الوقف» إنّه: وقفت على أولادي نسلا بعد نسل و بطنا بعد بطن، هل تقتضي ظاهر هذه العبارة التشريك أو الترتيب؟ الّذي أفتى به جماعة من الأساطين ممّن عاصرناهم هو الأوّل (1)، و هو الأقوى و ذلك بوجهين:

أمّا أوّلا: فلأنّ الأمر دائر بين أن تكون عبارة الذيل و هي قوله: (نسلا بعد نسل) قيدا للأولاد، أو لكلمة «وقفت»، فعلى الأوّل الّذي مقتضاه التشريك، حيث إنّه حينئذ يصير بيانا للأولاد، و المراد بها جميع الطبقات، يلزم تقييده فقط، و يبقى جملة «وقفت» على إطلاقها، و لا يلزم فيه تقييد إذ بإنشاء واحد أوقع الوقف على الجميع، بخلاف ما لو حملناه على الترتيب فلا محيص حينئذ عن جعل القيد قيدا لوقفت، بحيث يكون الوقف على كلّ طبقة من الأولاد مترتّبا على الطبقة السابقة، و هذا لا يمكن إلّا بأن يكون إنشاؤه مترتّبا، و هذا يلزم تقييد لفظة الأولاد أيضا و حملها على الترتيب، فكما أنّ الإنشاء لا يعقل أن يتعلّق بالطّبقات المتعاقبة على نسق واحد، فهكذا لفظ الأولاد قهرا يقيّد، و لا يمكن إرادة المجموع منه فحينئذ يصير المقام من قبيل دوران الأمر بين تقييد الهيئة


1- انظر! الحدائق الناظرة: 22/ 172 و 173.

ص: 310

حتّى يلزم تقييدان، أو المادّة فقط حتّى لا يكون إلّا تقييدها، و من المعلوم؛ أنّ الثاني مقدّم، فكذلك هنا يتعيّن الأوّل المستلزم للتشريك كما عرفت.

و أمّا ثانيا: فلأنّه لا إشكال في أنّ لازم الترتيب إرادة إنشائيّات متعدّدة على نحو الإجمال من «وقفت» بحيث يكون بالنسبة إلى الطبقة الاولى الموجودين [حال] الإنشاء منجّزا، و بالنسبة إلى الطبقات اللّاحقة معلّقا، كلّ طبقة على انقراض الاخرى، غايته أنّ هذا التعليق لمّا كان متعيّنا لا يضرّ، و قد تقدّم شرح ذلك.

و أمّا التشريك؛ فليس لازمه إلّا الإنشاء و التمليك، الواحد بالنسبة إلى جميع الطبقات، لأجل أنّ المفروض عدم اعتبار الترتيب بين الموقوف عليهم، بل يكون حينئذ كلّما يوجد من أشخاصهم ينبسط الوقف و يتحقّق الموضوع للتملّك، فعلى هذا؛ يصير من باب دوران الأمر بين التنجيز و التّعليق و لا ريب في أنّ الأوّل متعيّن.

هذا؛ بناء على التحقيق من كون الوقف من قبيل الملكيّة و أنّه من الامور القارّة و المالك له يختلف و يتعدّد بالنسبة إلى اختلاف الزمان حسب اعتبار الواقف، كما اعتبر الشارع مثله في الإرث أو عدم كون الوقف تمليكا رأسا بل إيقاف.

و أمّا بناء على أنّ الوقف تمليك و الملكيّة من الامور التدريجيّة و إن كان لا يلزم التّعليق حينئذ حتّى بالنسبة إلى الطبقات اللّاحقة، بل يكون نظير المنافع التدريجيّة التي يتملّك كلّ أحد منفعة زمان، و يمكن تمليكها بإنشاء واحد يتجزّى إلى الطبقات اللّاحقة، إلّا أنّه تقدّم فساد هذا المبنى، و اللّه العالم.

ص: 311

شرائط الوقف

اشارة

المبحث الخامس: في شرائط الوقف:

الأوّل: التأبيد و هو بمعنيين: أحدهما التأبيد باعتبار دوام العين بأن لا يؤقّته ما دام العين باقية، بل يطلق على طبيعتها، و الآخر باعتبار الموقوف عليه بأن لا يقيّد الوقف على طبقة إذا انقرضوا لم يعلم حال الوقف بعده.

و بعبارة اخرى: عدم اختصاص الوقف بالطبقة التي تنقرض، و هذا يقع الكلام فيه في الفرع الآتي، و الكلام الآن في القسم الأوّل و له صور:

فتارة؛ يعبّر بلفظ الوقف و يؤقّته قصدا و إنشاء، و اخرى يؤقّته لفظا لا قصدا، و ثالثة: بالعكس، و رابعة: يعبّر بلفظ الحبس و يقصد به الوقف و لا يؤقّت، و خامسة: يؤقّت، و سادسة: يعبّر بلفظ الحبس و لا يؤقّت.

أمّا الصورة الاولى؛ فيمكن أن يقال: قدر المتيقّن من معاقد الإجماعات بطلانه كما يقول: وقفت الدّار الفلانيّة إلى خمسين سنة، بحيث يقصد في عالم إنشائه و قصده أيضا هذا المعنى، فإنّ المستظهر من الكلمات كافة بحيث لم يكن خلاف أصلا، أو كان و لا يعتدّ به، أنّ في هذه الصورة لا يقع وقفا و لا حبسا، حيث أنّ المفروض عدم قصده إلّا الوقف الّذي لمضادّته ذاتا مع التوقيت لا يقع، و أمّا الحبس فما قصده رأسا.

ثمّ إنّ الّذي يستفاد من الإجماع في هذه الصورة مضادّة حقيقة الوقف للتّوقيت، و أمّا الصورة النافية فقد يتبادر في النظر صحّتها من جهة عدم دخولها في معقد الإجماع المزبور، حيث إنّ المتيقّن منه ما تكون الامور الثلاثة مجتمعة،

ص: 312

و المفروض هنا فقد القصد الّذي هو أهمّها، و إنّما عبّر بالتوقيت من جهة غفلة أو خطأ و نحوهما، فغايته أنّه يصير هذا القيد لغوا لا يؤثّر شيئا.

و لكنّ التحقيق بطلانها أيضا من جهة دخولها في كبرى إجماع آخر، و هو أنّه لا بدّ و أن يكون العقد بألفاظ صريحة بحيث يعلم المخاطب بما خوطب به، و معلوم؛ أنّ لفظ الصريح في باب الوقف هو أن لا يكون مقيّدا بالزمان، فلو اقرن به يوجب ذلك قلب ظهور اللفظ فلم يعلم المخاطب بم خوطب من جهة المعنى المراد من الإنشاء، فلو لم تتمّ هذه الجهة فالإنصاف أنّه لا إطلاق للإجماع المزبور حتّى يشمل هذه الصورة.

و أمّا الصورة الثالثة: فالظّاهر فيها الفساد أيضا، نظرا إلى أنّ المفروض عدم قصد الوقف إلّا مؤقّتا و هو يضادّ ذات الوقف، فحينئذ لو حملناه على الصحّة من جهة الإطلاق لفظا، مع أنّ العقد تابع للقصد فيكون من باب ما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

نعم؛ لا يبعد أن تكون هذه المسألة من قبيل ما هو المتسالم عندهم ظاهرا في باب النّكاح، من أنّه لو نسي الأجل ينقلب دائما، بحيث لو قلنا أنّها تتمّ على القاعدة و ليست تعبديّا محضا، فيمكن أن يقول به هنا، و نحن قد بنينا في تلك المسألة على القاعدة نظرا إلى أنّ النكاح الدائم و المنقطع ليسا حقيقتين متباينتين، بل الجامع بينهما حقيقة واحدة و هي العلقة الزوجيّة، فلو اقترنت بالأجل يتحقّق فرد منه و هو المنقطع، و إلّا فعلى مقتضى طبعها باقية، حيث أنّ الزّوجيّة من قبيل الملكيّة التي مقتضى طبعها البقاء، بحيث لا يزول إلّا بقسر القاسر كالحجر الموضوع على الأرض، و ليست قوامها بالقصد حتّى لو لم يقصد

ص: 313

الدّوام فلا توجد، فحينئذ القدر المتيقّن من الأدلّة التي ثبت، هو كون الإنشاء اللّفظي قابلا لأن يمنع عن تأثير ملك العلقة على مقتضى ذاتها و نشكّ في أنّ القصد قابل لأن يمنع عنها أم لا، فالأصل عدمه.

فعلى هذا الأساس؛ بعونه تعالى قد أتممنا تلك المسألة و حقّقنا أنّه ليس مبناها الإجماع التعبّدي فهنا أيضا نقول بمثله من جهة أنّ طبع الوقف يقتضي الدّوام، بحيث يكفي في تحقّقه- كالنكاح- القصد لأصل حقيقته، و نشكّ في أنّ قصد التوقيت يمنع عن تحقّقها، فمقتضى الأصل الحكم بعدمه.

و أمّا الإجماع المزبور فقد عرفت أنّ المتيقّن منه هو ما لو كان الزّمان داخلا في حيّز الإنشاء لفظا، فحينئذ ليس شيئا ظاهرا يقتضي بطلان هذه الصّورة.

هذا، و لكنّه لا خفاء في الفرق بين المقام و باب النّكاح من جهة أنّ فيه ثبت اتّحاد نوعين منه، و أنّ حقيقتهما فاردة و لا يميّز بينهما إلّا بالحدّ كالخطّ القصير و الطويل، بخلاف مسألة الوقف حيث لم يثبت له إلّا نوع واحد و هو المؤبّد، و أمّا الجامع بينه و المؤقّت فلم نحرزه، بل أحرزنا خلافه، و أنّ المؤقّت منه باطل، فحينئذ لا يبقى المجال لمقايسة ما نحن فيه بمسألة النكاح، لأنّ المفروض أنّه لم يقصد إلّا الباطل منه، الغير القابل للانطباق على حقيقته، فالحق في هذه الصورة ما عليه المشهور.

نعم؛ هل يمكن الإلزام بوقوعه حبسا في هذه الصورة أو السابقة بعد بطلان احتمال وقوعها وقفا أم لا؟ قد يحتمل ذلك نظرا إلى أنّ الوقف قوام حقيقته بأمرين؛ الإخراج و التحبيس، فليس أمرا بسيطا محضا، فإذا بني على عدم تحقّق جهة إخراجه لفقد شرطه فلا مانع للحكم بتحقق الجهة الاخرى و هو

ص: 314

التحبيس، نظير ما يقال في الأمر: أنّ بنسخ مرتبة خاصّة من الطلب لا يرتفع جميع مراتبه.

هذا؛ و لكنّه مبني على إحراز تعدّد المطلوب في تلك الموارد و هو في غاية الإشكال كما لا يخفى، و يتمسّك لذلك بصحيحي ابن مهزيار (1) و ابن الصفّار (2)، مع أنّه لا دلالة لهما على ما ادّعي أصلا.

أمّا الأوّل؛ قلت: روى بعض مواليك عن آبائك عليهم السّلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة، و كلّ وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة، و أنت أعلم بقول آبائك عليهم السّلام فكتب عليه السّلام: «هكذا هو عندي» (3).

فهو مجمل لا دلالة له، و إنّما يشرحه الصحيح الآخر، مع أنّه لو كان المراد التمسّك بجزء الأوّل منه بحمل المؤقّت فيه على المؤقّت بالمعنى المزبور، فما معنى الجزء الأخير منه؟ و عليه لا محيص عن حمل غير المؤقّت فيه على المؤبّد، و قد حكم الإمام عليه السّلام ببطلانه و هو فاسد، بل لا سبيل إلى هذا المعنى بالضرورة.

فحينئذ؛ لا بدّ أن يرجع في تفسيره إلى الصّحيح الآخر، و هو عن [ابن] الصفّار.

قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة، و إذا كان مؤقّتا


1- وسائل الشيعة: 19/ 192 الحديث 24414.
2- وسائل الشيعة: 19/ 192 الحديث 24415.
3- وسائل الشيعة: 19/ 192 الحديث 24414.

ص: 315

فهو صحيح ممضي، و قال قوم: أنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان و عقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء و المساكين إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها، قال: و قال آخرون: هو مؤقّت إذا ذكر أنّه لفلان و عقبه ما بقوا، و لم يذكر في آخره للفقراء و المساكين إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها، و الّذي هو غير مؤقّت أن يقول: هذا وقف و لم يذكر أحدا فما الذي يصحّ من ذلك؟ و ما الّذي يبطل؟

فوقّع عليه السّلام «الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها، إن شاء اللّه» (1).

مع أنّك ترى لا مساس لهذه الرّواية و لا تعرّض فيها للمؤقّت بمعنى توقيت الوقف زمانا كما هو محلّ البحث، هل هو بمعنى آخر الّذي يثمر في المسألة الآتية التي هي معركة آراء، فمنها أيضا؛ يظهر المراد من الصحيح الأوّل الذي لا ربط له بما نحن فيه كما سمعت فتأمّل! و استقم! و اللّه العالم.

و أمّا الصورة الرابعة: فهو مبنيّ على مسألة اعتبار الصراحة في ألفاظ العقود في نفسها لا بالقرائن، فإن قلنا أنّها تصير صريحة في الوقف فيقع العقد وقفا، و إلّا فلا، و من غير هذه الجهة لا إشكال فيها كما لا يخفى.

و أمّا [الصورة] الخامسة: فباطلة لأنّه مضافا إلى جريان المانع المزبور فيه قد عرفت أنّه في حدّ نفسه ليس قابلا لأن يقع وقفا إجماعا و لا حبسا، لكون المفروض إرادة معنى الوقف المباين معه و لا جامع لهما.

و أمّا [الصورة] السادسة: فأيضا باطلة كما يظهر من السابقة، نعم لو أراد معنى الحبس فيها لا الوقف يمكن البناء على صحّته حبسا إن لم يعتبر التّوقيت في حقيقته، فتأمّل جيدا! و اللّه الهادي.


1- وسائل الشيعة: 19/ 192 الحديث 24415.

ص: 316

الثاني من شرائط الوقف؛ عدم التعليق؛ و هذا شرط معتبر في مطلق العقود، و لكن ليس وجهه عدم إمكانه عقلا كما تقدّم منّا بطلان توهّمه، لعدم كون أسباب العقود مؤثّرات خارجيّة، بل هي امور اعتباريّة تأثيرها تابع لكيفيّة اعتبارها، و إنّما الدّليل عليه الإجماع كما اعترف شيخنا قدّس سرّه به (1).

ثمّ إنّ التعليق على أقسام ثلاثة: أحدها: ما لو كان المعلّق عليه أمرا محقق الوقوع.

ثانيها: ما كان مقطوعا عدم تحقّقه فعلا و إن كان يحتمل وقوعه بعد.

ثالثها: ما كان مشكوك الوقوع.

أمّا القسم الأوّل: فالظاهر أنّه لا إشكال في خروجه عن معقد الإجماع كما أنّه لا إشكال في دخول الثاني أي ما كان عدم تحقّقه فعلا مقطوعا به، فإنّه القدر المتيقّن من مقصد الإجماع.

و إنّما الكلام في القسم الأخير و التعليق على الأمر المشكوك على صور، فقد يعلّق نفس الإنشاء، بأن يكون المعلّق على مجي ء الحاجّ مثلا الإرادة، بحيث صارت هي منوطة، و قد يعلّق المنشأ بأن تكون الإرادة مطلقا كما في تعليق الوقف على مجيئهم، فيفرض أن يكون إنشاء الوقف فعليّا، و إنّما علّق ظرف تحقّقه على الشرط، و قد لا يكون أحد الأمرين بل يجعل المعلّق عليه داعيا على عمله، و هذا نظيره في مسألة قصد المسافة قد تصوّرناه.

فتارة؛ يجعل قصد سفره معلّقا على سفر زيد، و اخرى يجعله داعيا و علّة لسفر نفسه.


1- المكاسب: 3/ 162.

ص: 317

فالقدر المتيقّن من هذه الصّور؛ أنّ القسم الأوّل منها داخل في معقد الإجماع و ملحق بالقسم الأوّل، و أمّا الثاني؛ فلم يظهر إلحاقه به، حيث إنّه بمحض تعليق المنشأ مع عدم إناطة الإنشاء أصلا لا مجال لدعوى انعقاد الإجماع على بطلان العقد حينئذ، إلّا أن يقال: لمّا كان نظر المجمعين إلى المسألة عدم إمكان التفكيك بين الأثر و المؤثّر فيشمل كلامهم لهذه الصورة.

و لكن يمكن الدعوى بخروج الصورة الاولى عن كلامهم لعدم جريان الشبهة المذكورة فيها، فتحقق الجزاء و العقد بالنسبة إليها يتوقّف على ثبوت وجود الواقعي للمعلّق، فإن انكشف وقوعه فيكشف عن وقوع العقد و إلّا فلا.

و أمّا الصورة الثالثة: فمعلوم أنّه لا محذور فيه أصلا فتصحّ بلا إشكال إذ المفروض عدم تعليق في البين، و لذا بنينا في مسألة المسافر أنّه إذا كان قصده كذلك يجري عليه حكم السفر من أوّل الأمر، هذا مجمل الكلام في المقام و التفصيل يطلب من محلّه.

فرع:

في «الشرائع»: لو جعله- الوقف- لمن ينقرض غالبا .. إلى آخره (1).

لا يخفى؛ أنّه وقع هنا تقديم و تأخير في عبارة المحقّق قدّس سرّه، و كيف كان هذه هي المسألة المعروفة و هي الوقف المنقرض الآخر، و الإشكال فيها من جهتين:

إحداهما؛ في وقوعه وقفا مؤقّتا أو حبسا، أو بطلانه رأسا.

و الاخرى- بناء على الصحّة بأحد الوجهين- فما يعامل به بعد انقراض الموقوف عليه.


1- شرائع الإسلام: 2/ 216.

ص: 318

أمّا الكلام من الجهة الاولى: فالذي يمكن أن يستظهر من كلماتهم من حيث المجموع، عدم اعتبار الدّوام في حقيقة الوقف من هذه الجهة، بل هي الجامع بين القصير و الطويل على ما استظهره صاحب «الجواهر» قدّس سرّه من عبارات القوم أنّه يقع وقفا في حكم الحبس، و الابتناء على الوجه الثاني من وقوعه حبسا كما يظهر من بعضهم (1)، فحينئذ؛ الحكم بذلك- مع أنّ المفروض ظهور الصيغة في إرادة معنى الوقف- مبنيّ على أحد الأمرين:

الأوّل: على ما ذكرنا سابقا و احتملناه في القسم الأوّل من الوقت بحمله على الحبس و لو أراد المالك الوقف من جهة الاستظهار و تعدّد المطلوب و الأخذ ببعضه إذا لم يمكن الأخذ بتمام المفهوم.

الثاني: بأن يجعل ذلك- أي عدم ذكر بعض الطبقة- للموقوف عليه و جعل المصرف ممّا يتعرّض قرينته على إرادة الحبس من لفظ الوقف.

ثمّ إنّ حكمهم بالصحّة- مع أنّ لفظ العقد غير صريح- يجعل كاشفا عن عدم اعتباره في الحبس و يخصّص الإجماع عليه لسائر العقود، أو يسلّم شمول الإجماع له، و دخوله في معقده، إلّا أنّه لمّا بنوا على صيرورة نفس اللفظ من جهة القرينيّة المذكورة صريحا، حيث إنّ مناطه ليس إلّا أن يعلم المخاطب بم خوطب؟ و هذان الوجهان مع ما فيهما من الإشكال أصل مبناهما فاسد، لكون الفرض خارجا عن محلّ النزاع، و هكذا الاحتمال الأوّل لما تقدّم أنّ استفادة تعدّد المطلوب في غاية الإشكال، كما أنّ احتمال البطلان رأسا أيضا لا وجه له، فحينئذ يتعيّن القول بوقوعه وقفا، إلّا أنّ الذي يبعّده أنّ المرتكز في الأذهان في


1- جواهر الكلام: 28/ 54 و 55.

ص: 319

معنى الوقف هو الخروج الأبدي و قطع العلاقة عن الوقف رأسا.

و لكن، يمكن حمله على الغالب في الأوقاف لا أن يكون المفهوم منحصرا به مطلقا.

ثم إنّ ممّا ذكرنا ظهر الأمر في الجهة الثانية أيضا في الجملة، و أنّ احتمال الصرف في وجوه البرّ بعد الانقراض- كما احتمله بعضهم (1)- لا وجه له أصلا إذ هو يتوقّف على الخروج المطلق عن الملك فينحصر الأمر بأحد الوجهين الآخرين.

و لكنّه يتولّد حينئذ إشكال آخر و هو أنّه قد عرفت في مسألة ما لو بطل رسم الموقوف عليه، و قد أشرنا هناك أنّ لها جهة اشتراك مع هذه المسألة، أنّ بناء المشهور فيها هو صرف الوقف بعد الانقراض في وجوه البرّ مطلقا، سواء كان الموقوف عليه ممّا هو القابل للبقاء، أو من المنقرض عادة فيطالب الفرق بين المقامين.

و يمكن أن يكون الوجه فيه؛ أنّ في تلك المسألة لمّا كان من ذكر المصرف الدائميّ؛ يستكشف [منه] إرادة الواقف الإخراج بقول مطلق، فحينئذ؛ أمّا بناء على أنّ في الأوقاف العامّة تملّك المسلمين الوقف، فالأمر واضح، حيث إنّه يحكم بتمليكهم إلى الأبد، و بناء على كونها إيقافا- كما هو التحقيق- فيكون المصرف المذكور قرينة على الإيقاف الأبدي، لا في بعض الأزمان، فلذلك استقرّ رأي المشهور هناك على ما ذكر، بخلافه هنا.

و لكن لا يخفى أنّ ذلك لا يتمّ مطلقا بل لا بدّ من التفصيل بين ما كان المصرف ممّا لا ينقرض غالبا، و ما لا يكون كذلك، مع أنّ في الفرق مطلقا يمكن


1- غنية النزوع: 1/ 299.

ص: 320

المناقشة في أنّ ذكر المصرف القابل للبقاء أيضا لا يصير كاشفا على الإخراج المطلق لمكان تقيّد الإنشاء و إرادة الوقف واقعا بالمصرف المعهود، فحينئذ و لو اتّفق بطلان رسمه، مع ذلك لا مجال لاستظهار الإرادة المطلقة، فلا بدّ بعده من صرفه في وجوه البرّ أو الأقرب إلى غرض الواقف، فعلى هذا يتعيّن الوجه الأوّل في دفع الإشكال على مسلك «الجواهر» من كون الوقف العامّ تمليكا للمسلمين، و الملكيّة لمّا كانت أمرا قارّا لا تدريجيّا؛ فإذا تحقّقت تبقى على طبعها إلى الأبد (1) و اللّه العالم، هذا تمام الكلام في الجهة الاولى.

و أمّا الجهة الثانية فقد عرفت في طيّ البحث أنّ احتمال صرف الوقف في المقام بعد الانقراض في وجوه البرّ لا مجال له، إذ المفروض بطلان الوقف حينئذ، و إنّما الأمر يدور بين رجوعه إلى ورثة الواقف حينئذ أو الموقوف عليه، و الأوّل منهما مبنيّ على أن تكون الملكيّة أمرا تدريجيّا نظير المنافع، بحيث كان إضافة كلّ قطعة من هذه الامور التدريجية إلى طبقة تتوقّف على اعتبارها، فحينئذ لمّا كان المفروض عدم اعتبارها إلّا بطبقة واحدة، أو أزيد فلا وجه لانتقال الملك إلى ورثتهم، بل لا بدّ من أن يرجع إلى ورثة الواقف لما يقتضيه طبع الملك بعد انقضاء طرف الاعتبار.

و أمّا على ما هو التحقيق؛ من كون الملكيّة من الامور القارّة بحيث إذا اعتبرت بإحداث العلقة بين شخص و شي ء، فهي ثابتة على مقتضى طبعها بلا احتياج إلى مئونة زائدة فلا محيص عن الالتزام بالوجه الثاني، حيث إنّ العلقة قد حصلت بين الطبقة الاولى و العين باعتبار الواقف، فمقتضاها بقاؤها و عدم


1- جواهر الكلام: 28/ 44.

ص: 321

خروجها إلّا بسبب، فالمفروض حينئذ إذا مات فيدخل في عموم ما تركه الميّت فهو لوارثه لوجود المقتضي و عدم المانع، أمّا الأوّل فقد يثبت بهذا البيان، و أمّا الثاني فلأنّ المانع لانتقاله إليهم لم يكن إلّا حياة المورّث التي زالت، هكذا أفاد دام ظلّه، و لكن لا يخفى انصراف أدلّة الإرث عن مثل هذا الملك.

ثمّ إنّ هذا كلّه؛ كان البحث في المسألة على ما تقتضيها القواعد الأصليّة في كلا المقامين، و فيها روايتان قد أشرنا إليهما سابقا و نقلناهما بعينهما:

أمّا الاولى منهما: فلمّا كانت مجملة فلا يمكن أن يستفاد منها شي ء، بل هي الّتي أشير إليها في جزء الأوّل من الثانية بقوله: (روى) (1) إلى آخره، فعلى هذا لا بدّ من البحث في الرواية الثانية.

فنقول: إنّ المحتملات فيها أنّه إمّا أن يكون للجزء الثاني منها مفهوم بأن يكون غير الموقّت مطلقا داخلا فيه، سواء كان غير موقّت رأسا بأن لم يذكر المصرف أصلا، أو ذكر و لكن كان من المنقرض، بأن لم يذكر المصرف له إلى أن يرث اللّه فيكون القسم الثاني من غير المؤقّت داخلا في مفهوم الأوّل، أو لم يكن له المفهوم، فعلى الأوّل يدخل القسم الثاني من غير المؤقّت فيما هو الباطل المردود فحينئذ باطل من أصله أو من حين الانقراض يحتمل كلاهما.

و أمّا ترجيح الثاني: نظرا إلى ما ذكره في «الجواهر» قدّس سرّه من قوله عليه السّلام:

«مردود على الورثة» (2) فلا وجه له حيث إنّه لا ريب في دخول الغير المؤقّت بقول مطلق فيما يكون باطلا، و هو باطل من الأوّل، و حينئذ الجمود على ظاهر


1- وسائل الشيعة: 19/ 192 الحديث 24414.
2- جواهر الكلام: 28/ 57، وسائل الشيعة: 19/ 192 الحديث 24415.

ص: 322

قوله: (باطل مردود على الورثة) غير ممكن، فلا محيص عن حمله على البطلان بحيث لا ينافي هذه الصورة بأن يكون المراد من البطلان أعمّ من الحالتين.

و في القسم الأخير؛ لكون الصحّة و البطلان بعد موت الواقف صار محلّا للابتلاء، فكذلك قال عليه السّلام فيه: «إنّه يردّ على الورثة»، فالمراد بالردّ ليس الردّ الملكي حتّى ينافي الصورة المذكورة، فحينئذ تخرج الرواية من الجهة الّتي ذكرها في «الجواهر» عن قابليّة استفادة حكم صورة المنقرضة الاخرى عنها من البطلان رأسا أو من حين الانقراض.

و لكن يمكن استفادته من الجهة الاخرى و هي أنّه بناء على إرجاع الرواية الاولى إلى الثانية، فلمّا كان فيها قوله عليه السّلام: «جهل مجهول» (1) ذكر تعليلا لبطلان غير المؤقّت، بحيث يدور الحكم مداره، فبالنسبة إلى ما كان غير مؤقّت فصدق هذا الوصف عليه باطل من أصله، و بالنسبة إلى المنقرض الآخر باطل من حينه لصدقه عليه حينئذ كما هو واضح.

و أمّا على الثاني: بأن لا تكون للجزء الثاني، مع أنّه خلاف الظاهر، فأيضا لا يفرق الحال حيث إنّه حينئذ و إن كان كلا القسمين من المؤقّت المحكوم بالصحّة ببركة جواب الإمام عليه السّلام، و لكنّه في الشقّ الأخير لمّا كان ينطبق عليه التعليل المزبور من حين انقراض الطبقة الاولى فتصير النتيجة مثل ما تقدّم، فعلى كلّ تقدير مفاد الرواية تنطبق على القاعدة أيضا فتأمّل!

فرع آخر:

لو وقف على زيد ثمّ على عبيده، ثمّ على الفقراء فهل يصحّ الوقف مطلقا؟


1- وسائل الشيعة: 19/ 192 الحديث 24414.

ص: 323

أي من غير جهة الوسط، فإنّ الظاهر أنّه لا إشكال عندهم في بطلانه بالنسبة إلى الوسط لعدم قابليّة العبد للتملّك، و لكنّا قد قوّينا سابقا صحّته، أو يبطل مطلقا أو يفصّل بين الأوّل و الآخر.

و الثاني مبنيّ على استفادة وحدة المطلوب من الوقف بحيث كانت الطبقات الثلاث مرتبطة عند الواقف في إنشائه، و حينئذ فلمّا كان يبطل بالنسبة إلى الوسط يقينا فيلزم بطلانه رأسا، و لكن لمّا كان هذا خلاف الظاهر فهذا الاحتمال لا وجه له، و هكذا التفصيل فهو أيضا لا يتمّ، إذ بعد استظهار تعدّد المطلوب و عدم توقّف صحّة اللاحق على السابق فلا وجه لبطلانه بالنسبة إلى الآخر، حيث إنّ المفروض اجتماع شرائط الوقف في هذه الجهة، فالأقوى صحّة الوقف بالنسبة إلى الطرفين و إن كان باطلا من حيث الوسط.

أقول: الإشكال في أنّ التفكيك كيف يعقل في عقد واحد بأنّ يؤثّر في الأوّل و الآخر دون الوسط؟ و إن أجاب عن ذلك- دام ظله- بأنّ عدم تأثيره في الوسط من جهة المانع، فهذا مرجعه إلى التعليق في العقد أي في المنشأ و إلّا فالإنشاء تامّ محقّق فتأمّل!

ثمّ إنّه: إذا بطل بالنسبة إلى الوسط فحينئذ؛ هل ينتقل الوقف في هذه القطعة من الزمان إلى الواقف، أو إلى ورثة الموقوف عليه الأوّل، أو إلى الطبقة الأخيرة، أو يصرف في وجوه البرّ، أو الأقرب إلى غرض الواقف؟ وجوه:

أمّا الآخر فلا وجه له لما تقدّم، و هكذا سابقه، إذ الواقف اعتبر الطبقة الأخيرة بعد الوسط، فيدور الأمر بين الأوّلين.

أمّا رجوعه إلى الواقف فيتوقّف على إحراز وحدة المطلوب من طرفه من

ص: 324

جهة اخرى، و هي أنّه إذا بطل الوقف بالنسبة إلى الوسط فلا وقف و لا إخراج في زمانه، و لمّا كان إحراز ذلك مشكلا فيتعيّن الوجه الثاني لما ذكرنا سابقا من أنّ لازم الملكيّة أن تكون أمرا قارّا، فإذا عدمت لكلّ أحد، فتنتقل بعده إلى ورثته، بقي هنا فروع لم نتعرّضها لوضوحها، و اللّه العالم و هو وليّ التأييد.

الوقف على النفس

اشارة

المبحث السادس: في الوقف على النفس و ما يستتبعه، نذكره في طيّ امور:

الأوّل: لا يخفى أنّ في الوقف على النفس جهات من الشبهة مصداقا و حكما،

أمّا الجهة الاولى لا إشكال أنّه إذا وقف على عنوان كلّي كالعلماء و نحوه، و انطبق على نفسه لا يعدّ ذلك من الوقف على النفس، لعدم صدقه عليه و انصراف الأدلّة الدالّة على بطلانه من الإجماع و غيره عنه، و إنّما المصداق الواضح منه أن يقول: وقفت على نفسي.

ثمّ إنّه: ينبغي أوّلا البحث في ذلك من حيث مقتضى القاعدة فنقول بعونه تعالى: أمّا بناء على أن يكون الوقف هو التمليك- كما هو المشهور خصوصا في الأوقاف الخاصّة- فحينئذ إمّا أن يبنى على أنّ الملكيّة حقيقة واحدة و إنّما يثبت بالوقف و ما ثبت للواقف من حيث أصله بالإرث أو غيره لا اختلاف بينهما ذاتا، و إنما الاختلاف من حيث اللوازم و الحدود.

و بعبارة اخرى: أنّها حقيقة بقوله بالتشكيك أوّلا، بل هي حقائق متباينة و أن الّذي سببه الإرث أو التسرّي غير الّذي سببه الوقف، فعلى الثاني: لا إشكال

ص: 325

في أنّ مقتضى القاعدة صحّة الوقف على النفس إذ لا يلزم تحصيل حاصل و غيره، حيث أنّ المفروض زوال الملكيّة الأوّليّة الثابتة للواقف بالوقف، و حدوث ملكيّة اخرى متباينة معها، بحيث ليس له بعد أن يهبه أو يبيعه، مع أنّه كان له ذلك قبلا.

و لكن لا ريب في بطلان هذا الاحتمال، ضرورة؛ أنّ الملكيّة ليست إلّا أمرا عرفيّا اعتباريّا، و هي عبارة عن العلقة إلى صلة بين الشخص و المملوك لا اختلاف في حقيقتها.

فعلى هذا ينحصر بالأوّل و عليه إن قلنا بأنّ الملكيّة الحاصلة بالوقف ليست ذاتها تحدث به بل تحصيل حدّها به، فعليه يصحّ الوقف إذ لا يلزم المحذور، لأنّ المفروض أنّ الملكيّة الأصليّة للواقف شخص، و الذي تحصّل بالوقف شخص آخر.

و لكن لمّا كان هذا الاحتمال بعيدا لأنّ أسباب الملكيّة تتعلّق بذاتها لا بحدودها. فالحقّ: أنّه بناء على أن يكون مفاد الوقف التمليك، بطلانه مطلقا.

و أمّا بناء على أنّ حقيقة الوقف هو الإيقاف- كما هو التحقيق- لا كلام فيه من حيث أصل العين، و الإشكال من حيث المنافع.

و لكن لا ريب في أنّها ليست مملوكة بالذات بل مملوكيّتها تابعة للعين، و لذلك يمكن الدعوى بأنّه من جهتها أيضا لا محذور، لأنّ تملّك المالك لها الّذي كان أوّلا، قد زال بزوال العين، و خروجها عن الملك بالوقف المفروض صحّته، و إنّما تملّكه الآن تملّك جديد سببه الوقف، غايته أنّه بقاء مستند إليه لا حدوثا، و ليس معنى تبدّل الملك إلّا الخلع و اللبس و لو بقاء، و لا يمكن أن يقال بمثله

ص: 326

بالنسبة إلى نفس العين حتّى يقال بصحّة الوقف و لو بناء على الملكيّة، لأنّه بالنسبة إليها مقتضى البقاء موجود و هو الملكيّة الحادثة بسببها الأصلي، و هذا بخلاف المنافع، لزوال مقتضيها بسبب إيقاف العين المخرج عن الملك، فتصير قابلة لتأثير سبب آخر فيها، و لكن لمّا لم يتخلّل العدم بين تملّكها القديم و الجديد فالسبب الجديد لا يؤثّر فيها إلّا بقاء.

ثمّ إنّ مع الغضّ عن ذلك و تسليم عدم صحّة اعتبار تملّك المنافع لهذه الشبهة أو غيرها؛ فنقول: قد تقدّم في مسألة الوقف على العبد و الحربيّ، أنّه مع وجود المانع لتملّك العين ينصرف الوقف إلى المنافع، و مع المانع لها ينصرف إلى الصرف، حيث إنّ المانع يؤثّر بمقدار ما له الأثر، فهكذا في ما نحن فيه، فإذا كان المفروض صحّة الوقف بالنسبة إلى نفس العين، فبالنسبة إلى المنافع إذا لم يمكن أن يتملّكها الموقوف عليه فقهرا يصير مصرفا له، و يصير حاله حال المسجد أو القنطرة.

هذا كلّه؛ على مقتضى القاعدة، و قد اتّضح أنّه على مسلك التحقيق في باب الوقف لا مانع عنه، بل يمكن تصحيحه على كلّ حال.

و لكنّ الّذي يظهر من إطلاق كلمات الأصحاب و معاقد الإجماعات بطلانه مطلقا، حيث إنّه مع اختلافهم في المبنى تمليكا أو إيقافا أطلقوا الحكم ببطلان الوقف على النفس و لم يفصّل أحد، و اللّه العالم.

الأمر الثاني: أنّه إذا اعتبر الواقف انتفاعه من الوقف و ما يستتبعه، فهل يصح ذلك أم لا؟

و هنا صور، فتارة؛ يشترط ذلك في متن العقد على نحو الاستفتاء، كما لو

ص: 327

اشترط أن يؤتي مقدارا من منافعه إلى مصرف الزكاة أو الخمس الّذي عليه، و كان نظره إلى إخراج هذا المقدار عن أصل الوقف، و يكون بالنسبة إليه مسلوب المنفعة، هذا لا إشكال فيه و لا مانع عنه، لعدم شمول معاقد الإجماعات له أصلا.

و اخرى: يشترط ذلك على الموقوف عليه، و هذا يكون على قسمين: فقد يشترط عليهم ببذل المقدار المعيّن من مال أنفسهم إلى ما يعيّنه من المصرف، و قد يشترط ذلك عليهم من منافع الوقف، و الظاهر، أنّه لا إشكال في هذه الصورة أيضا، و أنّها تصحّ بكلا شقّيها، و ذلك لأنّه على كلّ شقّيه إلزام خارجي لا ربط له بمنافع الوقف، و ليس مصداقا لما هو محلّ البحث.

و إنّما الإشكال؛ فيما لو أطلق و عيّن لنفسه مصارف من الوقف كأداء ديونه الإلهيّة أو الخلقيّة، فالظاهر أنّ المنصرف إليه من مثل هذه العبارة اعتبار الوجوه المذكورة مصرفا فيصير مصداقا للوقف على النفس، فإن بني على شمول إطلاق معاقد الإجماعات للصورة الاولى أي الوقف على النفس، و لو على نحو المصرف، فهذه الصورة أيضا تبطل، إذ مرجع ذلك إليه.

و الالتزام بالفرق بين أن يقول: وقفت على نفسي، و العبارة المذكورة كما ترى، فهذه الصورة أيضا حكمها واضح، و تكون هنا بعض الصور الخفيّة غير ما ذكر.

منها: أنّه لو عيّن ظرف أداء الوجوه المذكورة بعد موته، فقد يتوهّم خروجها عن محلّ النزاع أيضا، نظرا إلى أنّ بالموت لمّا ينعدم الشخص عرفا فيخرج عن كونه وقفا على النفس، و الفرق بينه و [بين] حال حياته أنّ بالنسبة إليه باعتبار اشتغال ذمّته فعلا بالوجوه، و كانت تأديتها إفراغا لها، فيصير من

ص: 328

الوقف على النفس، و هذا بخلاف [ما] بعد الموت إذ لا ذمّة هناك بل هي زالت تبعا لزوال الشخص، و حكم الشارع بوجوب الأداء حينئذ أيضا تعبّد محض لا ربط [له] ببقاء الذمّة، و لو بنينا و سلّمنا اعتبار بقائها أيضا فإنّما هو تنزيل من جهة خاصّة لا يترتّب عليه مطلق الآثار.

هذا غاية توجيه الفرق و أنت خبير بفساده، أمّا أوّلا فلعدم انعدام الشخص و بقائه ببقاء نفسه الناطقة.

و ثانيا: أنّ حكم الشارع ليس من باب التنزيل حتّى يتمّ ما ذكر، و إنّما هو من باب اعتبار بقاء تلك الذمّة الثابتة حال الحياة، بحيث يرى نفسها باقية و لا يرى فرقا بين الحالتين.

فعلى هذا لا يبقى مجال لما ذكر، إذ [هذا] يصير من مصاديق الكبرى السابقة و هي الوقف على النفس، لا أن يكون ممّا يرجع إليه منافعه و لو بوسائط.

و منها: ما لو اشترط أداء ديونه الإلهيّة؛ و الظاهر أنّ ذلك أيضا بحكم الصورة السابقة و بقيّة الصور يظهر حكمها ممّا تقدّم.

الأمر الثالث؛
اشارة

قال في «الشرائع»: لو شرط عوده إليه عند حاجته صحّ الشرط و بطل الوقف .. إلى آخره (1).

قد حقّقنا سابقا أنّه لا بأس بتحديد الوقف بحيث لا يرجع إلى التوقيت و أخذ الزمان قيدا، و هكذا يصحّ كلّ شرط لم يكن مرجعه إليه بل كان تحديدا للوقف أو الموقوف عليه، فحينئذ يصحّ هذا الشرط أيضا، و الوقف على حاله لو


1- شرائع الإسلام: 2/ 217.

ص: 329

كان المراد به أحد الأمرين المساوق لأخذ عنوان في الوقف، لعموم أدلّة الشرط و خصوص الوقوف [تكون] على حسب ما يوقفها أهلها (1) و اللّه العالم.

فروع:

الأوّل: قال في «الشرائع»: و لو شرط إخراج من يريد بطل [الوقف] (2)، و لو شرط إدخال من سيولد مع الموقوف عليهم جاز (3).

قد يشكل الفرق بين الفرعين في بادئ النظر، و لكنّه هو التحقيق، و هذا يظهر بعد الإشارة إلى أمرين.

الأوّل: قد أشاروا إلى الفرق بين باب المعاملات و الأحكام في باب المفهوم من حيث كون إطلاق المعاملة يقتضي انحصار الملك إلى من انتقل إليه، و عدم كونه بعد قابلا للنقل إلى الآخر، و ذلك لعدم كون العين الشخصي قابلة إلّا لتعلّق سلطنة واحدة مستقلّة بها، بخلاف الأحكام، فيمكن أن تجب الصلاة على زيد، و هكذا على عمرو بوجوب آخر، و كذلك إلى آخر أفراد المكلّفين.

الثاني: لا إشكال أنّ الشروط كليّا إنّما تؤثّر إذا لم يكن في مقابلها مقتض، فهي إنّما تشرع في ظرف عدم الاقتضاء، و لذا بنينا في محلّه في «باب الشروط» إنّما يصح الشرط في مقابل الأحكام الاقتضائيّة، و إلّا فباطل.

إذا ظهر ذلك فنقول: إنّ في الفرع الأوّل إذا كان المفروض أنّه وقف على عشرة نفرات، و شرط أن يكون إخراج كلّ منهم عن الوقف بيده، فلمّا كان


1- وسائل الشيعة: 19/ 175 الحديث 24386.
2- ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.
3- شرائع الإسلام: 2/ 217.

ص: 330

بمقتضى انطباق عنوان الوقف عليهم أوّلا صيرورة كلّ واحد منهم موقوفا عليه، بحيث يكون الوقف بمقتضى عموم أدلّة اقتضائه بالنسبة إلى كلّ منهم تامّا، فحينئذ لا يبقى موقع لتأثير الشرط لما تقدّم من أنّه إنّما يصحّ إذا لم يكن في البين مؤثّر و مقتض في الرتبة السابقة عليه.

و أمّا في الفرع الثاني: فلأنّه لمّا كان انحصار الوقف إلى من عيّنه في متن العقد لا يتمّ إلّا إذا سكت المتكلّم و لم يأت في كلامه تقييد ينافيه، فحينئذ بمقتضى الأمر الأوّل يثبت الانحصار، و أمّا إذا أتى بما ينافيه كما يكون له ذلك إذ حجيّة كلامه بعد سكوته و عدم الإتيان بما ينافي ظهور كلامه متّصلا أو منفصلا، و إلّا فهو بمنزلة الشارح له، و يصير مدلول المجموع هو الحجّة، و المفروض أنّ فيما نحن فيه أتى متّصلا بما يدفع اختصاص الوقف عن جعلهم في مصبّ العقد، فلذلك يثبت له الاختيار حسبما شرط بمقتضى عموم أدلّة الوقف و أنّه حسبما يوقفها أهلها (1)، و عموم الشرط (2) فتأمّل! فإنّ ما أفاده- دام ظلّه- في الفرع الثاني بعينه يجري في الأوّل، فإنّ تماميّة العقد و اقتضاءه بحيث يفيد التمليك للموقوف عليه أبدا يتوقّف على عدم اتّصال الشرط بالكلام، و إلّا فلا اقتضاء له كذلك و لا تقدّم في البين لا رتبة و لا غيرها.

الثاني؛ في «الشرائع»: لو شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى من سيولد لم يجز و بطل الوقف (3).


1- انظر! وسائل الشيعة: 19/ 175 الحديث 24386.
2- شرائع الإسلام: 2/ 217.
3- شرائع الإسلام: 2/ 217.

ص: 331

[هذا] إذا كان مرجعه إلى الانتقال عن موقوف عليهم إلى من سيوجد، بحيث يكون الوقف بالنسبة إليهم تامّا أبديّا، أو إلى أن يكون هو بنفسه ناقلا لأنّ كليهما خلاف مقتضى العقد، و الشرط لا يترتّب عليه مثل هذا الأثر، لأنّه ليس شرعا كما هو واضح، و أمّا إذا كان المراد به تحديد أمد الوقف أو الموقوف عليه فيصحّ و لا مانع عنه لما مرّ مرارا أنّ ذلك ليس تحديدا يضرّ بالوقف فلا بأس به، و اللّه العالم.

الثالث: و فيه أيضا: قيل: إذا وقف على أولاده الأصاغر جاز له أن يشرك معهم (1) .. إلى آخره.

لا يخفى؛ أنّه عند إجراء الوقف، تارة: يجعل الوقف على أولاده الموجودين و يقيّده بهم بلا أن يكون نظره إلى غيرهم.

و اخرى: يجعل موضوع الوقف عنوان الأولاد بلا تقييد بالموجودين.

فعلى الأوّل؛ لا يجوز له الاشتراك أصلا إذ المفروض تخصيص الوقف بالحاضرين، فالتعدّي خلاف أدلّة الوقف و التبديل، و على الثاني ليس له عدم الاشتراك، بل يلزم ذلك و يزيد أسهام الوقف بازدياد الأولاد، كما هو [المستفاد من] عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (2).

فعلى كلّ تقدير؛ قول القيل هذا لا يتمّ و يخالف القواعد، فيمكن أن يكون نظر القائل عن الشيخ قدّس سرّه و من تبعه (3) إلى بعض الأخبار الخاصّة في المقام (4).


1- شرائع الإسلام: 2/ 217.
2- انظر! وسائل الشيعة: 19/ 175 الباب 2 من أبواب وجوب العمل بشرط الواقف و عدم جواز تغييره.
3- جواهر الكلام: 28/ 80.
4- انظر! وسائل الشيعة: 19/ 183 الباب 5 من أبواب الوقوف و الصدقات.

ص: 332

و لكن مجال المنع من حيث دلالتها أيضا واسع إذ هي جملة من الروايات التي أوردها في «الجواهر» (1) و ليس فيها لفظ «الوقف» أوّلا، إلّا أن تحمل الصدقة عليه، و معه أيضا لا يتمّ الاستدلال لأنّها بين مطلقات كخبر سهل الّذي مفاده جواز الاشتراك مطلقا (2)، و تقيّدات كذيل رواية ابن يقطين الّذي مفاده أنّه مع إبائه الصدقة و إقباضها لا يجوز الاشتراك (3)، فلا محيص عن حمل الأوّل على ما إذا لم يتمّ الوقف لعدم حصول القبض.

و أمّا رواية «قرب الإسناد» (4) فهي لا ربط لها بالمقام أصلا، بل مساقها مساق قوله: «أنت و مالك لأبيك» (5) و أنّ للوليّ أن يتصرّف في منافع الوقف الّذي مال الصغار كيف شاء، و اللّه العالم.

الفرع الرّابع: في «الشرائع»: و لو وقف مسجدا صحّ الوقف و لو صلّى فيه واحد (6) .. إلى آخره.

الكلام في القبض تقدّم في صدر الباب مفصّلا، و قد حقّقنا هناك أنّه لا دليل على اعتباره في الصحّة أو اللزوم إلّا الإجماع الذي لا إطلاق له، فكلّما شكّ يؤخذ بالقدر المتيقّن، و لذلك اكتفينا بقبض المتولّي و الناظر للوقف، بل من يعيّنه الواقف له و بعض الأشخاص الموقوف عليهم، و قلنا: إنّه فرق بين مسألة القبول


1- جواهر الكلام: 28/ 80.
2- وسائل الشيعة: 19/ 183 الحديث 24401، جواهر الكلام: 28/ 80- 81.
3- وسائل الشيعة: 19/ 183 الحديث 24400.
4- قرب الإسناد: 285 الحديث 1126، وسائل الشيعة: 19/ 184 الحديث 24404.
5- سنن ابن ماجة: 2/ 769 الحديث 2291 و 2292، مسند أحمد: 2/ 179 و 204 و 214.
6- شرائع الإسلام: 2/ 217.

ص: 333

و القبض، فلا يكتفى في الأوّل بقبول بعضهم و لا الطبقة الاولى، بل يعتبر قبض الجميع بأنفسهم أو وليّهم، و ذلك لأنّ مقتضى العقد الذي عبارة عن الإيجاب و القبول، المفروض انحلاله بعدد أشخاص المتعاقدين حتّى يصحّ أوفوا بعقودكم هو ما ذكرنا.

و هذا بخلاف القبض، حيث إنّه لا يجري فيه الاعتبار المتقدّم بل هو حكم تعبّدي قام الإجماع عليه فيؤخذ بالقدر المتيقّن، فلذلك يتمّ ما أفاده المحقّق قدّس سرّه في المقام، و أنّه يكفي في تحقّق قبض المسجد إقامة صلاة واحدة فيه، و هكذا في المقبرة بدفن واحد من الموقوف عليهم إذ هو القدر المتيقّن من اعتبار القبض (1)، فلا يرد ما أورده في «الجواهر» قدّس سرّه (2).

جريان المعاطاة في الوقف

ثمّ قال المحقّق قدّس سرّه: و لو صرف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن و لم يتلفّظ بصيغة الوقف لم يخرج عن ملكه (3) إلى آخره.

ما ذكره قدّس سرّه مبنيّ على عدم جريان المعاطاة في الوقف، فعلى هذا ينبغي البحث فيها.

و لا يخفى أوّلا أنّ المحتملات في هذه العبارة خمسة:

الأوّل: أن لا يقصد بأمره و إجازته للناس للصلاة في المسجد الذي بناه


1- شرائع الإسلام: 2/ 217- 218.
2- جواهر الكلام: 28/ 85.
3- شرائع الإسلام: 2/ 218.

ص: 334

سوى إقامة الصلاة فيها بلا نظر إلى حيث الوقف بأمره أو فعل المجاز أو غيره أصلا، فلا إشكال في أنّه لا يحصل الوقف حينئذ و لا أظنّ أن يتوهّمه أحد.

الثاني: أن يقصد بإيجاد الطرف الفعل في الخارج الوقف، و وقوعه إمّا بأن يجعله عن نفسه نائبا بحيث هو يقصد بذلك الفعل الوقف أو هو بنفسه يقصد، و لكن يستند فعله إلى نفسه، فهذه الصورة بكلا شقّيها تكون من مصاديق المعاطاة، حيث إنّه بالفعل يقصد تحقّق المعاملة الخاصّة و هو الوقف.

فنقول: إنّ في باب المعاطاة مسلكين:

أحدهما: ما يظهر من كلمات شيخنا قدّس سرّه إنّ صحّة المعاطاة على مقتضى القاعدة و إنّها مشمولة لأدلّة العقود، حيث إنّها ليست إلّا عبارة عن العهود و البناء، و أنّها أعمّ من أن يكون الدالّ عليها فعلا و عملا أو قولا و لفظا، فحينئذ مقتضى القاعدة في المعاملات الّتي تحصل بالفعل مثل ما تحصل بالقول هو اللزوم، و إنّما خرج عنها في العقود الفعليّة بالسيرة، حيث إنّها قامت [على] كون العقد المعاطاتي جائزا فخصّصت بها أدلّة العقود، و لذلك يكتفى بالقدر المتيقّن منها في موارد الشكّ و في الزائد عليه، الأصل اللزوم.

ثانيهما: هو اختصاص أدلّة العقود بالعقود اللفظيّة، و البناء على أنّ المعاطاة خلاف الأصل، و أنّ مشروعيّتها ببركة السيرة، و على هذا تصير المعاطاة عكس الأوّل بمعنى أنّه لا يلتزم بها إلّا بمقدار دلّ الدليل عليه، و أمّا في ما شكّ فيه؛ فالأصل عدم مشروعيّتها.

إذا تبيّن ذلك؛ فنقول: التحقيق جريان المعاطاة في الوقف على كلا المسلكين.

ص: 335

أمّا على الأوّل فواضح، و كذلك على الثاني، لما نرى بالوجدان من قيام السيرة على الاكتفاء بالمعاطاة في الوقف، كما في حصر المساجد و الفراش للمشاهد المشرّفة و غيرها من السراج و القناديل و نحوها، و هكذا في وقف الطرق و الشوارع و الخانات، بل و المساجد، حيث إنّه لم يعهد إلى الآن أن يكون النّاس ملتزمين بإجراء العقد اللفظي في مثل هذه الامور، بل يكتفون بإيجادهم الخارجي لها و إحداثها بلا مئونة اخرى قديما و حديثا، إلّا أن يقال: إنّها من باب الوقف بالسراية و أنّ إجراء العقد في أصل الموقوفة يكفي في توابعها، و لو لم تكن محدثة.

و لكنّا بعد تسليمه إنّما يتمّ بالنسبة إلى التوابع كحصر المسجد و نحوها، و أمّا في الامور (1) الاستقلاليّة و الابتدائيّة كالقناطر و نحوها ممّا مثّلنا، فلا يتمّ كما هو واضح، مع أنّه لم يعهد فيها إجراء عقد الوقف بل بناء العرف و المتشرّعة على الاكتفاء بصرف إيجادها الخارجي، أو إيجاد فعل فيها كالمرور على القناطر.

و بالجملة، لا مجال لمنع جريان السيرة في الوقف من بين المعاملات رأسا و الالتزام بها في المحقّرات لكونها المقدار المتيقّن دون الامور الخطيرة و اختصاصها بغيرها إذ لا خصوصيّة لها، و أمّا عدم الاكتفاء بالمعاطاة في مثل وقف القرى و القصبات و أمثالها، فليس من باب عدم اكتفائهم بالمعاطاة في أصل الوقف و عدم مشروعيّتها، بل هو من جهة الاحتياط و تشديد الأمر كما يعملونه من جهة الامور الأخر أيضا، كالإشهاد و تنظيم الأوراق و غيرهما.


1- يمكن دعوى منع كون ما ذكر من الأمثلة من باب الوقف، بل هي من قبيل الإباحة و يؤيّده إجراؤهم أحكام المساجد عليها في باب إحياء الموات، فراجع و تأمّل! «منه رحمه اللّه».

ص: 336

فعلى هذا، حال الوقف حال سائر المعاملات، تجري فيه المعاطاة مطلقا كما ذهب إليه جمع (1).

و أمّا مقايسة المقام بباب النكاح كما يظهر من [صاحب] «جامع المقاصد» قدّس سرّه (2) فلا وجه له، ضرورة أنّ في النكاح لا يجوز شرعا أصل الفعل الذي يقصد به العقد، مثل القبلة و الجماع و نحوهما، بل بدون تحقّق النكاح في الرتبة السابقة حرام و لا سلطنة للشخص بالنسبة إليها، و السبب إنّما يؤثّر إذا كان للفاعل عليه السلطنة، فلذلك يفرق باب النكاح عن سائر المعاملات، و هكذا ما يلحق بها من الإيقاعات كالطلاق.

الثالث: أن لا يقصد الواقف بالفعل الوقف بل يجعل إذنه طريقا إلى رضاه و قصده الوقف الاكتفاء بذلك، و الالتزام بوقوع الوقف في هذه الصورة مبنيّ على تحقّق المعاطاة بهذا المقدار و هو خلاف التحقيق، حيث إنّها من الامور الإيقاعيّة و الإنشائيّة، فهي تحتاج إلى المبرز و لا تقع بصرف القصد، فما يظهر من «المبسوط» (3) ضعيف.

الرابع: أن يجعل صرف أمره بالدفن و إذنه في الصلاة كناية عن إيقاع الوقف فيصير بذلك عقدا لفظيّا لا معاطاتيّا، و الأقوى؛ أيضا عدم الاكتفاء به، و عدم وقوع الوقف حينئذ، لأنّ المستفاد من معاقد إجماعاتهم في اعتبار اللفظ في العقود هو الألفاظ الصريحة لا غيرها.


1- راجع! المكاسب: 3/ 95.
2- جامع المقاصد: 9/ 12.
3- المبسوط: 3/ 291.

ص: 337

هذه المحتملات الأربعة. أو الخمسة، في عبارة المتن، و قد عرفت أنّ التحقيق صحّة الوقف و وقوعه في الصورتين منها دون الثلاثة الاخر، و لا يبعد أن يكون مراد المحقّق أحدها، و كيف كان؛ قد ظهر ما هو الحق، هكذا أفاد- دام ظلّه-.

و لكن يمكن المناقشة، لأنّه أوّلا: إنّ الاكتفاء بالمعاطاة في الوقف و جريانها فيه ينسب إلى أبي حنيفة (1) و القائل به منّا جماعة قليلة (2).

و ثانيا: قد ادّعى أنّ طبع الوقف يقتضي اللزوم و هو ينافي المعاطاة الّتي يقتضي طبعها الجواز.

و ثالثا: لم تثبت السيرة الّتي ادّعاها، فإنّ ما ذكر من النقوض و الأمثلة يمكن الدعوى خروجها عن الوقف رأسا و أنّها من قبيل المباحات.

نعم؛ بناء على الملك الأوّل في باب المعاطاة، كما يظهر من الشيخ استاد الأساطين قدّس سرّه في مكاسبه ميله إليه (3) و هكذا السيّد في حاشيته (4) لا مجال للمناقشة فيما أفاد أصلا، و اللّه العالم.


1- المبسوط للسرخسي: 12/ 35 و 36.
2- انظر! المكاسب: 3/ 95.
3- المكاسب: 3/ 94.
4- حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي: 1/ 81.

ص: 338

أحكام الوقف

اشارة

المبحث السابع: في جملة من الأحكام.

[الاولى:] في «الشرائع»: الوقف [إذا تمّ زال عن ملك الواقف و] (1) ينتقل إلى ملك الموقوف عليه (2) إلى آخره.

قد تقدّم الكلام من هذه الجهة في الفوائد الّتي ذكرها- دام ظلّه- في صدر الباب، و حاصله: أنّ الأدلّة و إطلاقات باب الوقف مثل قوله عليه السّلام: «حبّس الأصل و سبّل الثمرة» (3) لا تقتضي أزيد من خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف، و أمّا دخولها في ملك الموقوف عليهم [فلا]، بل يمكن الدعوى بأنّ ظاهر لفظ التحبيس خلافه.

و بالجملة؛ مقتضى طبع الوقف و الإيقاف هو التحبيس و التحرير، و من هنا قلنا: بأنّه لا فرق بين الأوقاف الخاصّة و العامّة و الوقف على الجهات، و أمّا بناء على كونه مقيّدا للملكيّة فيلزم التفكيك بين هذه الأنواع، أو الالتزام بكون المالك في الوقف على الجهات- كالقناطر و المشاهد المشرّفة- هو المسلمون و هو كما ترى.

ضرورة؛ أنّه خلاف ارتكاز الواقف فيها، حيث إنّه لا يخطر بباله تملّكهم لها أصلا، بل تمام نظره صرف الوقف في الجهات المذكورة و انتفاع المسلمين منها.


1- ما بين المعقوفتين من جواهر الكلام: 28/ 88.
2- شرائع الإسلام: 2/ 218.
3- مستدرك الوسائل: 14/ 47 الحديث 16074.

ص: 339

و أمّا أنّه لمّا لا يمكن أن يصير الملك بلا مالك فلا بدّ من الالتزام بتملّك الموقوف عليه، و أمثاله من الوجوه، فأيضا لا يسمن و لا يغني من جوع، إذ الكلام أوّلا في تحقّق علقة الملكيّة بالوقف رأسا كما عرفت، بل حال الوقف حال المباحات الأصليّة، غايته أنّها قابلة للتملّك بأسبابه دون الوقف.

نعم؛ إنّما يمكن أن يتمسّك به للدعوى المذكورة هو بعض الأخبار الّتي اطلق فيها لفظ «الصدقة» على الوقف، كما في وقف الكاظم عليه السّلام (1) و وقف أمير المؤمنين عليه السّلام (2) لمّا جاءه بعين [ينبع] البشير حيث إنّ لفظة «الصدقة» ظاهرة في التمليك و التملّك، و لكنّه يتمّ لو لم يكن اللفظ مستعملا بعناية في تلك الأخبار، بمعنى أنّ الوقف لمّا كان يفيد تمليك المنافع اطلق عليه لفظة «الصدقة» لكون العين بنفسها و إن لم تكن تدخل في ملك الموقوف عليه إلّا أنّها لمّا كانت ببعض مراتبها و هي منفعته قد دخلت في ملكه فصحّ إطلاق اللفظ عليه، و أمّا من جهة أنّه بالوقف خرجت العين عن سلطنة المالك رأسا فهو مثل الصدقة.

و الّذي يؤيّد كون الاستعمال على وجه العناية ما ذكرنا من أنّ الارتكاز في الأوقاف العامّة و الوقف على الجهات ليس إلّا الإخراج، و انتفاع الموقوف عليهم منها، بلا نظر إلى التمليك أصلا، مضافا إلى أنّه ليس للفظ «الصدقة» ظهورا تامّا فيما ادعي فتأمّل!

الثانية: قال في «الشرائع»: فلو وقف حصّه من عبد ثمّ أعتقه لم يصحّ-


1- وسائل الشيعة: 19/ 202 الحديث 24427.
2- وسائل الشيعة: 19/ 186 الحديث 24406.

ص: 340

إلى أن قال- و لو أعتقه الشريك مضى العتق في حصّته و لم يقوّم عليه (1) .. إلى آخره.

ما أفاده قدّس سرّه في الفرع؛ فعلى مسلكنا من عدم انتقال الوقف إلى ملك الموقوف عليه فلا محيص عنه بل هو التحقيق، إذ لا عتق إلّا في ملك، و أمّا على ما ينسب إلى المشهور من الانتقال فلا يتمّ، إذ المفروض أنّ العبد صار ملكا للموقوف عليه بلا نقض فيه، فيطبّق عليه كبرى العتق، غايته أنّه ملك تقطيعيّ إلّا أن يدّعى انصراف قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا عتق إلّا في ملك» (2) عن مثل هذا الملك، بل الظاهر منه هو المطلق، بحيث لا يكون لأحد فيه و لو فيما يأتي، خصوصا مع ما ورد في أخبار الوقف من أنّه لا تباع و لا توهب، إذ نعلم بأنّهما من باب المثال و المراد عدم صحّة التصرّفات الناقلة بوجه أصلا.

و أمّا الفرع الثاني: فالتحقيق فيه ما أفاده في آخر كلامه و تردّد فيه (3)، و ذلك لأنّه ليس لنا دليل منع عن أصل العتق الاختياري أو العتق بالسراية إلّا ما تقدّم من قوله عليه السّلام «لا تباع و لا توهب و لا تورث» (4) فتصير حاكمة على أدلّة الأسباب الاخر، إذ لا خصوصيّة للامور المذكورة فتتعدّى إلى كلّ سبب ناقل، اختياريّا كان أو قهريّا.

و لكن لمّا لا إشكال أنّه إنّما يتعدّى عن الامور المذكورة إلى كلّ ما هو من سنخه أي التصرّفات الناقلة في طرف وجود بقاء العين و عدم تلفه، و أمّا في


1- شرائع الإسلام: 2/ 218.
2- عوالي اللآلي: 2/ 299 الحديث 4، و 3/ 421 الحديث 3.
3- شرائع الإسلام: 2/ 218.
4- وسائل الشيعة: 19/ 186 الحديث 24406.

ص: 341

صورة تلفها فلا يجري الدليل المزبور، و لذلك لو جنى مثل هذا العبد بما يوجب القصاص اقتصّ منه، و إن لم يجز استرقاقه.

فمن هنا يثبت أنّه لو تعدّينا عن الامور المذكورة فإنّما ينبغي التعدّي إلى كلّ تصرّف ناقل في طرف وجود العين لا مع تلفها و ما هو الملحق به.

إذا ظهر ذلك فنقول: إنّه لمّا لا إشكال في أنّ تحرير العبد و انعتاقه بمنزلة تلفه، فلا يبقى له اعتبار ماليّة أصلا كسائر الأحرار، و لذلك قد عبّر عنه في مسألة العتق بالسراية بأنّه قوّم عليه، فإنّه لا خفاء في عناية هذا التعبير، و أنّه لمّا أوجب تلف ماليّة العبد فعليه ضمانه و قيمته، فعلى هذا يفرق باب الانعتاق عن سائر الأسباب و أنّه يكون في حكم التلف و عدم بقاء الموضوع، و يخرج عن كونه مصداقا للتصرّفات الممنوعة عنها مما هي من قبيل البيع و الهبة و الإرث، و إنّما العتق ابتداء مباشرة من قبلها، و أمّا العتق القهري الحاصل بالسراية فهو خارج عنها، فلا محيص عن الالتزام بحصول العتق في النقص الآخر من العبد الذي وقف.

المسألة الثالثة: في «الشرائع» لو جني عليه فإن أوجبت [الجناية] (1) أرشا فللموجودين من الموقوف عليهم .. إلى آخره (2).

هنا جهات من الكلام ينبغي البحث عنها:

الاولى: في وجه اختصاص الأرش بالموجودين، فقد قيل (3): إنّه لمّا كان من


1- ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.
2- شرائع الإسلام: 2/ 219.
3- جواهر الكلام: 28/ 98.

ص: 342

قبيل المنافع، و لا خفاء في أنّ منافع كلّ زمان مختصّة بالموجودين في ذاك الزمان، فلذلك يختصّ الأرش بهم.

و لكن هذا الوجه لا يتمّ، بل مقتضى القاعدة اشتراك الموجودين و المعدومين فيه، و حال الأرش حال الدية مطلقا، سواء كانت موجبة لنقص في العين أو زوال الوصف، و ذلك لأنّه أمّا في الأوصاف فلأنّها و إن لم يقابل بشي ء و لا يعتبر فيها البدليّة بل غايتها أنّها [موجبة ل] زيادة الرغبة في العين و نقصانها، و لذا ينتقص قيمتها و يزيد، و لكنّ العين لمّا كانت مشتركة بين جميع الطبقات بما لها الخصوصيّات، بحيث يكون وجود وصف في العين يوجب قابليّتها لأن ينتفع منها بما لا يمكن الانتفاع عنها عند زواله، بل يخرج عن تلك القابليّة، فحينئذ يكون الطبقات كلّها مستحقّة للانتفاع عن القابليّة المفروضة، و زوال الوصف يوجب الضرر على الجميع، و خروج شي ء عن كيسهم، فحينئذ كلّما يقوم مقامه و يوجب تدارك النقص لا بدّ و أن يدخل في كيسهم حتّى يصدق الجبر بالنسبة إلى الجميع.

و لمّا لا إشكال في أنّ مسألة الأرش ليس حكما تعبّديا محضا، بل نعلم أنّ ملاكه ما ذكرنا من الجبر و التدارك؛ فلا وجه لاختصاص الموجودين به بمحض كون الحكم تعبديّا، و أمّا في نقص العين فممّا ذكرنا ظهر حاله، و أنّ الأرش المأخوذ من جهته بالطريق الأولى لا بدّ و أن يشترك فيها جميع الطبقات و يجري فيه ما يجري في الدّية.

نعم؛ على ما حقّقنا لا بدّ من التفصيل بين النقص و العيب المستمرّ إلى عصر الطبقات الاخر، و غيره الّذي مختصّ بعصر الموجودين، ففي الأوّل لا محيص

ص: 343

عما ذكرنا، و في الثاني هو لا يجري، بل يختصّ الأرش بالموجودين إذ المفروض ورود الضرر عليهم فقط فتأمّل!

الجهة الثانية: في حكم الجناية الموجبة للقتل؛ لا إشكال أنّه بناء على كون الوقف ملكا للموقوف عليه أنّ للموجودين القصاص و قتل الجاني و تعلّق حقّ البطلان اللاحقة به لا يمنع عنه، إذ هذه الشركة طوليّ، و معناه أنّه في ظرف وجود العين الموقوفة و بقائه و وجود البطون اللاحقة يتعلّق حقّهم به، و الحقّ إنّما يثبت بطبيعة المولى، و المفروض صدقها على الموجودين.

و أمّا بناء على عدم الملك، و التحقيق من كون حقيقة الوقف هو الإيقاف، فيمكن أن يدّعى أيضا بأنّ للموجودين القصاص، حيث إنّه و إن لم يكونوا مالكين للرقبة إلّا أنّه لمّا كان جميع شئون السلطنة و المولويّة ثابتة لهم، و يكفي ذلك لصدق أنّهم الموالي، فينطبق عليهم كبرى أنّ القصاص بيد المولى.

و لو سلّمنا عدمه للمناقشة فيه بدعوى انصراف الأدلّة إلى مالك الرقبة، فلا بدّ من الالتزام بكون الاقتصاص بيد الحاكم، نظرا إلى عموم ولايته و أنّه لا يطلّ (1) دم المسلم.

نعم، على هذا المبنى قد يستشكل في مسألة الأرش و الدية لو انتهى الأمر إليهما، حيث إنّهما بدل الماليّة و الملكيّة، و المفروض أنّ الموقوف عليهم ليسوا مالكين للمجنيّ عليه، و أنّ هذه الاضافة مفقودة بالنسبة إليهما.

و لكنّك خبير بأنّ ذلك مبنيّ على باب الضمان، و أنّ مورد قاعدة الإتلاف إنّما يكون إذا كان للتالف علقة و إضافة للغير، و إلّا فلا يصدق قوله: «من أتلف


1- أي لا يهدر.

ص: 344

مال الغير فهو له ضامن» (1).

مع أنّ هذا المبنى فاسد، لأنّه نعلم بالوجدان أنّ الضمان إنّما جعل بإزاء احترام المال و إن لم يكن له إضافة إلى الغير، و أنّ التعبير بلفظ «الغير» في الحديث بلحاظ ما هو الغالب، و حينئذ في المقام لا إشكال أنّ العبد الموقوف و إن لم تكن إضافة لرقبته للغير و هو الموقوف عليه، و لكنّهم مالكون لمنافعه فأصل ماليّته و احترامها محفوظة، فيتحقق موضوع الضمان، و لهم الأرش أو الدية حتّى على المبنى المزبور كما لا يخفى.

الجهة الثالثة: قد عرفت أنّه على كلّ تقدير للموقوف عليهم الموجودين القصاص عن الجاني قتلا كان أو دونه، و أخذ الأرش و الدية في محلّهما، فالأمر بيدهم لكون الحكم ثابتا لطبيعة المولى.

بقي الكلام في أنّه: إذا أعرضوا عن حقّهم و أسقطوا القصاص و الدّية فهل يسقط رأسا أو يبقى الحق للطبقات اللّاحقة؟

التحقيق أنّه لا يبقى موضوع لهم، و ذلك لما هو المقرّر من أنّ الفارق بين الحق و الحكم هو أنّ الثاني مثل السلطنة، و الملكيّة غير قابل للاسقاط و رفع اليد، و الأوّل قابل له.

و معنى قابليّته؛ أنّ زمام أمره إبقاء و إعداما بيد ذي الحقّ، و على هذا إذا فرضنا أنّ الحقّ للموالي الموجودين الّذين هم الموقوف عليهم فعلا لكونهم مصداق الطبيعة، فإذا أسقطوا لا يبقى بعد محلّ للطبقات اللاحقة بالمناط المزبور.


1- القواعد الفقهيّة: 2/ 28 و 7/ 117.

ص: 345

الثالثة: (1) في حكم الدية الّتي تؤخذ للجناية على العبد الموقوف، قد تقدّم الكلام في مسألة الأرش و أنّه لا بدّ و أن يلحق بالوقف و يصير جزء، نظرا إلى كونه بدلا عن النقص الوارد على الوقف، فهكذا حال الدية، بل بالنسبة إليها يمكن دعوى الأولويّة من الجهة المذكورة، إذ بدليّتها أظهر، غايته أنّها بدل مقدّر شرعا و لا يختلف، بخلاف الأرش.

فعلى هذا؛ تقوم الدية مقام الوقف بنفسها بلا احتياج إلى وقف جديد، بل لا بدّ و أن يشترى بها ما هو المماثل للوقف الأصلي و يجعل في محلّه.

هذا؛ و لكنّه يتمّ بناء على عدم الاستظهار من أدلّة الدية أنّها جزاء نقدي و بدل عن نفس الجاني، بل بدل عن المجنيّ عليه و أنّه أحد فردي التخيير بينه و بين القصاص، و إلّا فيصير حالها حال القصاص، و الحقّ يختص بالموقوف عليهم الحاضرين و لا يتعدّى عنهم، بل ينتقل إلى ورثتهم مع عدم استيفائهم، و حينئذ يصير الأرش حكمه أظهر و أولى من الدية في صيرورته جزء للوقف، عكس ما ينسب إلى جماعة أو المشهور، و اللّه العالم.

ثمّ إنّه إن لم يستوف الموجودون حقّهم و ما أسقطوه بقي على حاله إلى أن انتهت النوبة إلى الطبقات اللاحقة، فحينئذ مع بقاء الموضوع و العبد إلى عصرهم، لكون الجناية عليه دون النفس، فهل ينتقل الحقّ إلى ورثة الموجودين في وقت الجناية أو الطبقات اللاحقة تسقط رأسا؟ وجوه مبنيّة على أن يكون الموضوع و العنوان الثابت لهم الحقّ هو ذوات الموالي الطبقة الاولى لكونهم موالي، و لازمه الانتقال إلى ورثتهم أو نفس عنوان المولى الموجود في وقت الجناية لازمه


1- كذا، و الظاهر أنّها الجهة الرابعة.

ص: 346

السقوط بموتهم، أو عنوان المولى المطلق و لازمه الوجه الثاني، و الأقوى هو الأخير كما هو واضح، فتأمّل جيّدا!

المسألة الرابعة: قال في «الشرائع»: إذا وقف مسجدا فخرب أو خربت القرية (1) .. إلى آخره.

الظاهر؛ أنّه لا إشكال في أنّ المسجد لا يجوز التصرّف فيه بوجه أصلا في جميع الأحوال و لو خرب بناؤه و لم يبق من آثاره شي ء، أو خرب المحل الّذي هو فيه، بل هو على حاله باق و لو لم يبق منه إلّا عرصته.

و لا كلام لأحد في ذلك إلّا في المساجد التي في الأراضي المفتوحة عنوة، و أمّا بالنسبة إلى غيرها، فالظاهر؛ أنّ المتسالم بين الأصحاب قد تمّ أنّ أرض المسجد لا تخرج عن المسجديّة مطلقا، و لو أخذها الماء أو تصير آجاما و نحوهما، بل يرون أحكام المسجديّة عليها مترتّبة من عدم جواز تنجيسها، أو عدم دخول الجنب فيها، و كلماتهم في جواز بيع الوقف عند الخراب و غيره منصرف عن المسجد مطلقا، بل مخصوصة و مقصورة على عنوان الوقف لا ما يزيد عليه، مثل عنوان المسجديّة، فإنّه من قبيل العنوان الطارئ على عنوان آخر، الّذي لا يزول حكمه في حال كما يوافقه الاستصحاب، بخلاف أصل عنوان الوقف.

و إنّما الكلام في المسألة الثانية الّتي ذكرها في «الشرائع» من خراب الدار و نحوها، و أنّه يجوز حينئذ بيع أرضها أم لا؟ و لمّا كان ذلك من صغريات مسألة جواز بيع الوقف و مستثنياته فلا بأس بصرف الكلام إلى أصل تلك المسألة، و تحريرها في الجملة.


1- شرائع الإسلام: 2/ 220.

ص: 347

فنقول بعونه تعالى: إنّ تنقيح البحث في ذلك، و أنّه كيف يجوز الخروج عن حرمة بيع الوقف يقتضي ذكر مقدمة أوّلا و هي: أنّه أوّلا هل الأدلّة الدالّة على حرمة بيع الوقف تدلّ عليها مطلقا بمعنى أنّها تنفي جوازه و لو مع طروّ أيّ عنوان عليه من الخراب و غيره من العناوين، أو ليست ناظرة إلى هذه الجهة، بل غايتها أنّه لا يجوز بيع الوقف لعدم المقتضي فيه كما يكون في سائر الأملاك و الأموال؟

ثمّ بناء على الأوّل؛ أيّ مقدار من الدلالة لها هل تكون مطلقة أو مختصّة؟

فهذا أصل مبنى المسألة، بحيث لو ثبت الأوّل ففي موارد الشكّ لا يجوز التمسّك بأدلّة الأسباب مثل عموم: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) لعدم كونها متكفّلة لبيان قابليّة المحلّ بل سقوطها عن صلاحيّة التمسّك بها مطلقا حتّى الثاني.

نعم؛ عليه الظاهر أنّه لا بأس بالتمسّك بأدلّة المسبّبات مثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2) إذا فرضنا صدق البيع عرفا، بل بإطلاق الدليل و عموم الإمضاء يمكن إحراز الصدق و استكشافه، نعم؛ على الأوّل لا مجال للتمسّك بهذه الأدلّة أيضا، إذ عليه تصير ما دلّ على عدم جواز شراء البيع حاكما على أدلّة المسبّبات، فلا طريق للإحراز.

ثم إنّ العناوين الطارئة الّتي يمكن صلاحيّتها لترخيص البيع لا تخلو من امور:

منها: مسألة الخراب و له مراتب، فتارة يحصل الخراب بحيث يلحق الوقف بالمعدوم فعلا و يصدق عليه التلف مثل الحصر و الجذوع البالية للمسجد و غيره.


1- المائدة (5): 1.
2- البقرة (2): 275.

ص: 348

و اخرى: لا يصل بهذه الدرجة، بل يقرب بها لانتفاع معظم منافعه، كما لو فرضنا أن تتنزّل المنافع البالغة ألف تومان إلى مائة تومانا.

و ثالثة: ما لا يصل تلك الدرجة أيضا، بل تقلّ منافعه، و لا يبعد أن يكون هذا القسم من مصاديق ما يكون التبديل أعود، و هكذا سائر العناوين مثل الحاجة، و مسألة المزاحمة بين حفظ الوقف و تلف الأموال الكثيرة أو النفوس، فلها مراتب يختلف بالنسبة إليها لسان الأدلّة اللفظيّة و الاصول العمليّة، فإنّه يمكن المناقشة في صدق عنوان الوقف و بقائه بالنسبة إلى بعض مراتب الخراب كما سيأتي تفصيلها في طيّ البحث إن شاء اللّه تعالى.

حكم بيع الوقف

إذا عرفت ذلك فنقول: ينبغي البحث أوّلا في ما يقتضيه طبع الوقف، و أن ارتكاز الواقف أيّ شي ء يكون حين الوقف؟ و الاحتمالات فيه ثلاثة أو أربعة:

فإمّا أن يكون نظره إلى حبس العين بماليّتها ما دامت باقية بلا نظر إلى خصوصيّة العين بحيث يكون مقتضى طبعه الانتفاع من ماليّتها.

و إمّا أن يكون نظره منبسطا على الأمرين على نحو الضمنيّة بلا قصر على أحدهما.

ثمّ على كلّ من هذين التقديرين. إمّا أن يكون منظور الواقف حبس العين بقول مطلق، بأن لا يتطرّق عليه قلب و انقلاب أصلا، أي و لو مع طروّ أيّ عنوان.

و إمّا أن لا يكون كذلك؛ بل ارتكازه عدم طروّ القلب و الانقلاب ما دامت العين أو هي و المالية تصلحان للبقاء، بمعنى أنّ معنى الحبس هو عدم اقتضاء

ص: 349

الأمرين في الوقف بنفسه، كما يكون في سائر الأموال بلا نظر إلى طروّ العناوين الأخر عليه.

ثم إنّه لا خفاء في أنّ كلّ واحد من الاحتمالات يختلف بحسب اللوازم؛ إذ على الأوّل يصير مفاد الأدلّة الشرعيّة المانعة عن بيع الوقف و نحوه حكما تعبّديا محضا و ليس فيه إمضاء؛ إذ المفروض قصر نظر الواقف إلى الماليّة فقط و حفظها في أيّ صورة، فحينئذ الوقف من حيث نفسه لا مانع من نقل عينه و انتقالها اختيارا مع حفظ ماليّتها في ضمن أيّ تشخّص أمكن، كما يكون لازم ذلك أيضا ورود البيع على الوقف لا بطلانه في الرتبة السابقة عليه، بل العنوان محفوظ و إنّما يبطل الوقف بعد ورود البيع عليه، و عليه يتمّ ما اختاره الشيخ قدّس سرّه في مكاسبه في المسألة (1).

و على الثاني؛ تصير الأدلّة و قوله عليه السّلام: «لا تباع و لا تورث و لا توهب» (2) .. إلى آخره، حكما إمضاء ورد على ما عليه ارتكاز الواقف و ليس فيه إعمال تعبّد، و هكذا عليه يصحّ ما اختاره صاحب «الجواهر» قدّس سرّه من بطلان الوقف في صورة جواز بيعه في الرتبة السابقة عليه ثمّ يطرأ البيع على العين (3)؛ إذ على هذا المبنى الوقف يباين جواز البيع ذاتا، فما لم يخرج عن عنوانه لا يصحّ بيعه.

ثمّ لا خفاء في أنّه على الاحتمالين الأخيرين يجري الأمران بعينهما مع اختلاف يسير، حيث إنّه بناء على أن يكون نظر الواقف أعلى درجات الحبس


1- المكاسب: 4/ 86.
2- وسائل الشيعة: 19/ 186 الحديث 24406.
3- جواهر الكلام: 28/ 109 و 110.

ص: 350

- بحيث يزاحم كلّ عنوان الأدلّة المانعة من البيع و غيره- يصير حكما إمضائيّا، كما أنّه على الثاني بأن يكون نظره إلى مرتبة خاصّة من الحبس، و هي أنّه ما دامت العين قابلة للبقاء أيضا ليست الأدلّة تعبديّة.

نعم؛ على الأوّل الأدلّة المرخّصة لجواز البيع في بعض المقامات بطروّ بعض العناوين مطلقا تصير تعبديّة حاكمة على الأدلّة المانعة، و على الثاني يختلف من حيث العناوين، فمثل عنوان الخراب و ما يلحق به؛ فجواز البيع حينئذ من أحكام نفس الوقف و بيان لحقيقته و ليس تعبّد في البين.

و أمّا مثل عنوان الأعوديّة و الأنفعيّة، و هكذا الاضطرار و حاجة الموقوف عليهم إلى البيع أو تأدّي بقاء الوقف إلى الخلف بين أربابه بحيث يوجب قتل النفوس و أمثاله من المفاسد، فهي أحكام تعبديّة من طرف الشارع ما تعلّق بها غرض الواقف أصلا، فلا بدّ أن يلتزم أنّ الشارع في أمثال هذه الموارد من باب ولايته على الواقف و الموقوف عليهم لعلمه بالمصالح رخّص في البيع، بناء على جوازه فيها.

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّ رفع المحذور في الموارد المذكورة تارة يكون برفع اليد عن شخص الوقف مع بقاء ماليّته و تبديلها إلى مثله، و اخرى يتوقّف على إسقاطها و إتلافها أيضا، و ثالثة، يتوقّف على تبديل المماثل بغيره، و هكذا من المراتب الّتي يفرض، فالوقف إنّما يبطل بالنسبة إلى مرتبة يتوقّف رفع المحذور برفع اليد عنها و الدرجات اللاحقة الّتي كان الوقف يشملها ضمنا، باقية على حالها، و لذلك لا يحتاج إلى عقد جديد أصلا، إذ المفروض أنّ البدل هو بعينه الوقف الأوّل مع تغيّر بعض عوارضه، و هي خصوصيّة العين فليس وقفا جديدا

ص: 351

حتّى يحتاج إلى أساس على حدة.

و بالجملة؛ فهكذا كلّه بالنسبة إلى عالم التصوّر، و أمّا تحقيق الأمر؛ فلمّا كان مرجع النزاع في الحقيقة إلى أنّه نظر الواقف و ارتكازه هل يكون مقصورا إلى حبس العين بشخصها، أو هي و ماليّتها، بلا نظر إلى كونها مقدّمة للتسبيل أم لا، بل يكون مركوزه حبس العين لأن يتسبّل ثمرتها، و تكون مقدّمة لانتفاع الموقوف عليه عنها؟

و من المعلوم وجدانا أنّ منظور الواقف هو الثاني، فيتعيّن من كلّ من الاحتمالين ثانيهما، أي ليس نظر الواقف مقصورا على العين فقط، بل هي بما لها من الماليّة، كما أنّ المتبادر منه أنّ الوقف إنّما يكون ما دامت العين قابلة للبقاء، و أنّه في نفسه ليس فيه مقتضى القلب و الانقلاب لا مطلقا، أي و لو مع طروّ كلّ عنوان عليه.

ضرورة؛ أنّ الثاني ينافي كون الوقف مقدّمة لتسبيل الثمرة حسبما هو الارتكاز، بل مفاد الأدلّة (1) أيضا، فعلى هذا يصير مفاد الأدلّة المانعة عن بيع الوقف حكما إمضائيّا: و بيانا لحقيقة الوقف، كما هو ظاهر قول عليّ عليه السّلام في وقفه: «صدقة لا تباع و لا توهب» (2) .. إلى آخره، و أنّه بنوعه لا مقتضي فيه للبيع و غيره من أنواع النقل، و أيضا ظاهره الإجراء على ما هو مرتكز الواقف من أنّه لا قلب و انقلاب فيه ما دام الوقف قابلا للبقاء، و ليس للأدلّة الشرعيّة أزيد من ذلك دلالة حتّى يعارض جواز بيعه عند طروّ العناوين المجوّزة له فتأمل!


1- حيث تقول: حبّس الأصل و سبّل الثمرة، «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 19/ 187 الحديث 24408.

ص: 352

نعم، قد أشرنا إلى أنّه عليه أيضا لا يجوز بيع الوقف إلّا إذا خرب أو نقصت منافعه بحيث يلحق بالعدم إمّا بنفسه أو لخلف بين أربابه، و أمّا في غير هذه الصورة (1) من العناوين، فالبيع يكون خلاف مقتضى طبع الوقف بل الأدلّة الشرعيّة أيضا، و يحتاج إلى دليل خاص حاكم أو عامّ كذلك، كما يمكن أن يدّعى بوجوده في مثل ما إذا كان الوقف يزاحم تلف النفوس أو هتك الأعراض، بل تلف الأموال الكثيرة أيضا مع إشكال فيه، حيث إنّ الظاهر أنّ الشارع رجّح حفظ هذه الامور على كلّ شي ء و يرى مصلحتها أهمّ من مفسدة بيع الوقف، و سائر المحاذير.

ثم إنّ هذا كلّه مقتضى القواعد الأوّليّة؛ على ما هو التحقيق من أنّ حقيقة الوقف هو التحبيس و الإيقاف، و ليس فيه تمليك، بل عليه أيضا- بناء على أن يكون حبسا- يفيد التمليك، فهو لا يختلف أيضا مع الإيقاف في ما ذكر.

و أمّا بناء على كونها تمليكا محضا للطبقات فقد يقال أيضا: مقتضاه ما ذكر؛ إذ المفروض أنّ التمليك ليس للموجودين فقط، بل لهم و لما يلحقهم من الطبقات، فالحقّ لجميعها فلا سلطنة للطبقة السابقة حتّى يكون له القلب و الانقلاب و لو كان مالكا له.

و فيه: أنّه على هذا لا بدّ و أن يكون للوليّ العامّ ذلك، حيث إنّ الحاكم كما أنّه وليّ على الغائب و كلّ قاصر، كذلك له الولاية على المعدومين، فلا بدّ أن


1- حتّى الشرط- أي اشتراط بيع الوقف الحاجة إليه- حيث إنّ الشرط إنّما يؤثّر إذا لم يكن في البين مؤثّر و مقتض يضادّه في الرتبة السابقة، و قد ظهر أنّ مقتضى طبع الوقف و ما هو الظاهر من الأدلّة جواز بيعه مطلقا، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».

ص: 353

يجوز له القلب و انقلاب الوقف مع الموقوف عليهم الموجودين إلى ما يكون أعود و أنفع، و كذلك عند اضطرار الموقوف عليهم و نحوه من مقتضيات التغيير، إذ المفروض أنّ عدم جواز القلب و الانقلاب ليس بنقص في العين الموقوف، بل هو ملك لهم و إنّما المنع من جهة قصور سلطنة الموجودين و تعلّق حقّ البطون اللاحقة بها، و إذا [كان] لهم وليّ في البين فيرتفع المحذور من جهته أيضا.

نعم؛ لو لم يكن الحاكم و انتهت النوبة إلى ولاية عدول المؤمنين، يمكن منع ذلك، حيث إنّ ولايتهم مقصورة على الامور الحسبيّة و هي الّتي يقطع بعدم رضا الشارع على تعطيلها، و الموارد المذكورة الّتي محلّ النقص ليست منها.

و بالجملة؛ فعلى المبنى المذكور يترتّب عليه ما عرفت من الفساد، فهو يختلف من هذه الجهة أيضا، مع المسلكين الأوّلين، فتأمّل!

مقتضى قواعد الباب في بيع الوقف

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم جواز بيع الوقف حسبما تقتضيه قواعد الباب إلّا في صورة خرابه و ما يلحق به، هل يعمّ بدله أيضا فيما إذا بدّل، أم لا، بل مخصوص بنفس العين الموقوفة أوّلا، و إلّا فبالنسبة إلى بدلها يجوز القلب و الانقلاب فيها بالتبديل بالأحسن و نحوه؟

الأقوى؛ اختصاص الحكم بنفس العين الموقوفة أوّلا، و ذلك لأنّ الحكم الّذي بنينا عليه إنّما استفدناه من عقد الوقف، و أنّ مقتضى لفظه من حيث ارتكاز الواقف بقاء العين مطلقا ما دامت قابلة له، إلّا أن تصل إلى درجة التلف أو تنقص منافعه بحيث لا يعدّ عند العرف أنّه منافع الوقف، و لا يصدق أنّها الثمرة الّتي

ص: 354

سبّلها الواقف، و من المعلوم أنّ ذلك مقصور على العين، و أمّا بدلها فلا؛ حيث إنّ اللفظ لا يشمله، و الالتزام به و جعله وقفا من جهة تعلّق غرض الواقف بحفظ ماليّتها.

و بعبارة اخرى؛ صيرورة البدل وقفا لاستكشاف المناط و غرض الواقف، فليس في البين لفظ يكون مقتضاه المنع عن القلب و انقلاب البدل كما بالنسبة إلى المبدل منه.

فعلى هذا؛ لا مانع في البدل من جواز التصرّفات فيه ما لم ينته إلى تلفه فيلزم نقض غرض (1) الواقف هكذا أفاد دام ظلّه.

و لكن للتأمّل فيه مجال حسبما أفاد سابقا في تقريب صيرورة البدل بنفسه وقفا بلا احتياج إلى عقد جديد، مع أنّ الّذي أفاد هنا خلاف الاحتياط، و المسألة تحتاج إلى المراجعة، و اللّه العالم.

هذا كلّه؛ حسبما تقتضيه قواعد الباب و الأدلّة العامّة، و أمّا الأخبار الخاصّة الّتي قد يتوهّم دلالتها على خلاف ما تقتضيه القواعد، و أنّه يجوز بيع الوقف في الموارد الاخر غير ما تقدّم، كما إذا احتاج الموقوف عليه إلى بيعه و نحوه، فالإنصاف أنّها قاصرة عن إثباته.

و الخروج عما يقتضيه الأصل و القواعد لأحد الامور الثلاثة: من جهة ضعف السند، أو الدلالة، أو كليهما، و قد أورد في «الجواهر» قدّس سرّه في بحث بيع


1- كان تأريخ تحرير هذه الورقة عصر يوم الثالث عشر من ذي القعدة و اشتدّ مرض والدتي حينئذ فماتت غدا قريب الساعة الثامنة من النهار في النجف الأشرف رحمها اللّه و إيّانا، «منه رحمه اللّه».

ص: 355

الوقف جميع ما يصلح أن يتمسّك بها للخروج عن الأصل المذكور (1)، فراجع و تأمّل فيها! فهي بين ما هو ضعيف سندا من حيث إعراض الأصحاب، و إن كان من حيث الدلالة واضحة، كالخبر المشتمل على وقف عليّ عليه السّلام و جعل أمره بيد ولده الحسن عليه السّلام و أنّ له أن يبيعه إذا احتاج إليه (2) فإنّ الظاهر أنّه غير معمول به.

و بين ما هو غير واضح الدلالة، كما يكون كذلك مكاتبة عليّ بن مهزيار (3)، حيث إنّه لم يتّضح أن يكون السؤال ناظرا إلى صورة تمام الوقف من حيث القبض و نحوه، و هكذا من طرف الجواب فيمكن أن يكون كلاهما ناظرا إلى بيان حال الوقف قبل لزومه.

و مثله البعض الآخر؛ مع احتمال أن يكون أصل إطلاق لفظ الوقف في جملة منها مجازا عني به الوصيّة لمشابهتهما (4) من حيث الإخراج لزوما، كما لا يبعد أن يكون في اصطلاح العرف العامّ و إطلاقاتهم كذلك.

و بين ما هو جامع الجهتين، كما يظهر للمتأمّل فيها.

فعلى هذا؛ لا ينبغي الخروج عن الأصل المذكور لفقد الدليل، مضافا إلى كونه خلاف الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة، و اللّه العالم، و الهادي إلى سبيل الرشاد.

هذه جملة من الكلام في جهات باب الوقف، و قد منعني تشتّت البال و ضيق المجال عن استيفاء تمام إفاداته- مدّ ظله- في هذا المبحث، أرجو من اللّه


1- جواهر الكلام: 28/ 109- 112.
2- وسائل الشيعة: 19/ 199 الحديث 24426.
3- وسائل الشيعة: 19/ 180 الحديث 24397.
4- انظر! وسائل الشيعة: 19/ 188 الحديث 24410.

ص: 356

التوفيق و الرشاد لاحتواء سائر إفاداته في سائر الأبواب، بمحمّد و آله الأمجاد، و كان اختتام ذلك في العشر الآخر من ذي القعدة الحرام سنة 1347 في النجف الأشرف على ساكنها ألف الصلاة و السلام.

ص: 357

رسالة الإجارة

اشارة

ص: 258

ص: 359

بسم اللّه خير الأسماء

التنازع بين المؤجر و المستأجر

الكلام في التنازع في الإجارة بعد تسليم أصل الإجارة يتوقّف على بيان تصوير أقسامه، فنقول: في مورد النزاع إمّا أن تكون الإجارة متّحدة أو متعدّدة.

فعلى الأوّل؛ لا بدّ أن يكون الشي ء المستأجر متعدّدا فإمّا أن يكون الأقلّ و الأكثر، أو يكون مورد الإجارة متباينين، كأن يقول: آجرتك الدار بمائة درهم، فيقول: بل استاجرت ذلك الثوب معها بمائة درهم.

أو يقول في دعوى الإيجاب المذكور: بل استأجرت تلك الدار غير ما تدّعيه بمائة درهم.

و على الثاني؛ إمّا أن يكون من قبيل الأقلّ و الأكثر، أو من قبيل المتباينين، و على كلّ منهما، إمّا أن يكون الشي ء المستأجر متّحدا- أي مسلّم الاتّحاد- أو متعدّدا، أي النزاع واقع فيه أيضا، كما هو واقع في الأجرة.

فالصور أربع، مضافا إلى الصورتين المذكورتين، فمجموعها ستّ.

و على فرض التعدّد من الطرفين، إمّا أن تكون الاجرتان إذا كانتا من قبيل الأقلّ و الأكثر بطريق التوزيع على الشيئين المتنازع في كونهما موردا لها، أو لا يكون كذلك.

فإذا كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل الأقلّ و الأكثر، و المستأجر- بالفتح-

ص: 360

متّحدا، كأن يقول: آجرتك هذه الدار بمائة درهم، فيقول: بل بخمسين درهما، أو كانت الاجرة من قبيل المتباينين، و المستأجر كالسابق، كأن يقول: آجرتك الدار بمائة درهم، فيقول: بل بمائة دينار، أو بخمسين دينارا، فإنّ الاعتبار بالمتعلّق لا بنفس العدد.

و أمّا إذا كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل الأوّل، و الشي ء المستأجر متعدّدا، فإمّا أن يكون من قبيل الأقلّ و الأكثر، مثل أن يقول: آجرتك هذه الدار بمائة درهم، فيقول: بل استأجرت هاتين الدارين بمائة و خمسين درهما.

و إمّا أن يكون من قبيل المتباينين؛ مثل أن يقول: آجرتك هذه الدار بخمسين درهما، فيقول: بل هذه الدار غير ما تدّعيه بمائة درهم، أو بالعكس في طرف الاجرة، و إن كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل المتباينين، فالشي ء المستأجر المتعدّد كذلك، إمّا أن يكون من مثل الاجرة، مثل أن يقول: آجرتك هذه الدار بمائة درهم، فيقول: بل هذا الثوب بمائة دينار [أو] غيرها، بل يكون من قبيل الأقلّ و الأكثر، مثل أن يقول: آجرتك هذه الدار بمائة درهم، فيقول: بل هذه و هذه بمائة دينار.

ففي جميع صور التباين؛ سواء كان في الطرفين أو في طرف واحد، فالحكم هو التخالف، لعدم اتّفاقها على أمر جامع، إذ حصول الاتّفاق على طرف كالعوض، مع الاختلاف في الطرف الآخر غير مفيد في سقوط الدعوى من طرف.

و في غيرها يتوجّه الحلف على المنكر بالنسبة إلى الزائد، و لا يسقط شي ء من الاجرة لو كان الاختلاف في طرف الشي ء المستأجر، فسقوط الزائد

ص: 361

لاتّفاقهما على استحقاق المؤجر إيّاه أجمع و انتقالها إليه.

و كذا لا تسقط من إجارة العين المستأجرة لو كان الاختلاف في الاجرة إلّا في صورة كون الاجرة و العين متعدّدتين مطلقا، فإنّ الحكم هنا التحالف أيضا مع احتمال التفصيل على ما حكي عن العلّامة (1) بل رأيناه في «قواعده» (2) بين صورتي التوزيع، فالحلف لاجتماعهما على أمر جامع و عدمه، فالتحالف لو كان النزاع في المدّة زيادة و نقصانا مع كون الاجرة متّحدة أو متعدّدة، فافهم!

و ضابطة التحالف إن كان مورد النزاع أمرا واحدا ذا جهتين يترتّب على كلّ منهما أثر مالي أو عرضيّ أو حقّ، كالعقد على الثوب أو الجارية، و أمّا إن كان مورد النزاع أمرين مختلفين، فهنا توجّهت الدعويان، كما لو ادّعى عليه عبد أو ادّعت عليه جارية من غير أن يكون النزاع في العقد.

ثمّ اعلم! أنّ الحكم المذكور في صورة كون الاجرة من قبيل الأقلّ و الأكثر مع عدم التباين في الطرف الآخر من كون القول قول منكر الزيادة بيمينه إنّما هو إذا كانتا كلتاهما مضمونتين.

و أمّا لو كانتا متعيّنتين فالحكم التحالف، و إن كان أقلّ و أكثر، لعدم اتّفاقهما على أمر جامع لتشخّص العقد بتشخّص المتعلّق.

و كذا الكلام في العين المستأجرة؛ فإنّها لو كانت مضمونة و كان مورد النزاع منها أقلّ و أكثر فالحلف بوجود قدر جامع.


1- حكاه عنه في الحدائق الناضرة: 21/ 639.
2- قواعد الأحكام: 1/ 236 و 237.

ص: 362

و أمّا إن كانتا متعيّنتين فالتحالف، و في بعض تحقيقات العلّامة رحمه اللّه (1): أنّ ما ذكرنا من أحكام صور الأقلّ و الأكثر من الحلف لا التحالف، إنّما هو إذا كان الغرض من النزاع هو المال، أمّا لو كان محلّ النزاع نفس العقدين و الغرض ترتيب آثار كلّ من العقدين غير مسألة الاجرة أو العين المستأجرة، كما لو كان العقد المتشخّص بالاجرة الّتي يدّعيها أحدهما مشروطا في عقد آخر، فالغرض هنا إثبات الخيار بالنسبة إلى العقد المشروط و نفيه.

فلا يقال: إنّ القول هنا قول منكر الزيادة، كما لا يخفى.

ثمّ لمّا كان في الغالب العين المستأجرة في الإجارة كونها متعيّنة و النزاع ماليّ؛ أطلقوا الحكم، لكون القول قول المالك، كما أنّ الغالب لمّا كان في طرف الاجرة كونها في الذمّة أطلقوا الحكم بكون القول قول المستأجر في نفي الزيادة، و لو كانت الإجارة بالنسبة إلى العين مضمونة، أو كانت الاجرتان المتنازع فيهما متعيّنتين انعكس الحكم في المقامين.

موارد القرعة عند التنازع بين المؤجر و المستأجر

و لمّا ذكر في المقام في بعض صور المسألة بالقرعة، فلا بدّ من بيان موردها حتّى يعلم وجه ترجيحها عند القائل بها و عدمه عند الجماعة (2).

فنقول: إنّ القرعة لبيان موضوع الحكم، أو لتعيين الأمارة، أو لترجيح إحدى الأمارتين.


1- تذكرة الفقهاء: 2/ 330 ط. ق.
2- لاحظ! الحدائق الناضرة: 21/ 637 و 638.

ص: 363

فالأوّل: مثل القرعة في تعيين المطلّقة، و تعيين العين الموصى بها، لتردّدها بين اثنتين أو أزيد، كما لو أوصى بعتق ثلث عبيده أو عدد منهم.

و الثاني: مثل ما ذكروا في تعيين ذي اليد فيما لو تنازعا في سقف البيت.

و الثالث: مثل ما ذكروا من تعارض البيّنتين بعد عدم المرجّح من الأعدليّة و الأكثريّة، فلعلّ نظر القائل بالقرعة في مسألة التنازع في قدر الاجرة و أنّه من خرج اسمه حلف، إلى أنّ قول كلّ منهما مخالف للأصل فلا بدّ من تعيين المنكر، و فيه نظر.

و الحاصل؛ أنّ القضاء شرّع لإقامة المعروف، فإنّه من أفراد الأمر بالمعروف، و لدفع النزاع و انتظام العالم، و ذلك يتحقّق بإثبات المطلب و الواقع إمّا واقعا أو تعبّدا و بحكم الشارع كالبيّنة و القرعة، فتأمّل!

و إمّا أن تفصل الخصومة باليمين، و لذلك عمل الأصحاب في بعض الموارد بما يقتضي رفع النزاع و الخصومات، و إن كان أمرا استحسانيّا كمسألة تخليد المدّعي للتلف في الحبس لو لم يقبل قوله في دعواه، و مسألة الوديعة حيث حكم بقبول قول المدّعي للردّ، لكون الوديعة مبنيّة على الإخفاء.

فلذا لو لم يشهد في الردّ [إلى] الوكيل في الوديعة لمال شخص عند آخر لم يضمن، و لذا لو أنكرها من غير الودعي مع سؤال الودعيّ عنه لم يضمن، مع أنّ الإنكار من أسباب الضمان لصيرورة المنكر بذلك خائنا (1).


1- لاحظ! الحدائق الناضرة: 21/ 458.

ص: 364

ص: 365

رسالة الوكالة

اشارة

ص: 366

ص: 367

بسم اللّه تعالى

أقسام الوكالة

اعلم! أنّ العقود إمّا تمليكيّة أو غير تمليكيّة.

و الأوّل إمّا معاوضيّة، أو شبه معاوضيّة، بأن كان فيها شائبة عبادة، بمعنى أن يكون الحقّ فيها بحيث يورد (1) المتعاوضين، و لذا لا تقبل التقايل كالنكاح، فإنّ فيه حقّا لغير المتعاقدين، أعني للّه، و هو أمر النسب، و لذا لو تصادقا على عدم النكاح بعد الإقرار لم يسمع و لا يرتفع النسب، بخلاف المال، أو غير معاوضيّة، مجانيّة أو لابشرطيّة، كالقرض!

و المعاوضيّة إمّا لازمة أو جائزة.

قيل: و كذا الثانية، كالخلع و المباراة، لا كالنكاح المشروط فيه بعض الامور الموجب تخلّفها للخيار، إلّا أنّ جواز الرجوع حكم شرعي غير موجب لكونها جائزة، فتأمّل!

و العقود الغير التمليكيّة إمّا إذنيّة، و إمّا مثبتة للحقّ، كالرهن و العارية، و الاهتمام في الألفاظ في العقود التمليكيّة المعاوضيّة الشبيهة بالعبادة أكثر منها من غير الشبيهة لها و مطلق، و المعاوضيّة أكثر من غيرها، و مطلق التمليكيّة أكثر من غيرها، و المثبتة للحقّ من غيرها أكثر من الإذنيّة.


1- كذا في النسخة.

ص: 368

و أحسن العقود الإذنيّة الوكالة، لعدم كفاية الفعل أو الإشارة مع عدم العجز في إيجاب عقد من العقود مطلقا غيرها، و نعني بالاهتمام المذكور بالألفاظ من حيث الصراحة و الفوريّة و الفعليّة أو الاسميّة، و أمّا التعليق فمبطل في العقود مطلقا، لعموم دليله على ما حقّق في محلّه.

نعم؛ في كلّ عقد مبناه و حقيقته على التعليق، كالوصيّة صحّ التعليق فيه، كما أنّ كلّ شرط يشترط في العقود مطلقا في غير العقود الّتي مبناها على خلاف ذلك الشرط، كالسكنى و العمرى بالنسبة إلى المدّة المجهولة المضروبة فيها، و كالثمار في بيعها حيث جاز مطلقا أو على بعض الوجوه.

و سيأتي دليل بطلان التعليق فيها.

اشتراط فوريّة القبول في الوكالة و عدمها

و اعلم! أنّه ذكروا في الوكالة عدم اشتراط الفوريّة معلّلا بأنّ حكمة جعلها هو تسهيل الامور للغائبين في قضاء وطرهم بها، فاعتبارها فيها مناف لأصل الحكمة، كما أنّ مفاد الوصيّة هو التمليك الحاصل بعد الموت، فبطلان صحّة الإيجاب التأهليّة به مخالف لوضعها و إن كان مبطلا للصحيح التأهّلي، و الإيجاب قبل القبول كذلك، و هذا مع قول المحقّق و الشهيد الأوّلين في بيان عدم اشتراطها، فإنّ الغائب يوكّل (1)، فلا دور و لا مناقشة كما توهّم، فافهم!

و هل يشترط في الوكالة عدم ردّ القابل للإيجاب؟ الأقوى نعم، لأنّ أثر العقد تابع لتحقّقه، و الإيجاب قبل القبول صحيح تأهّلي يبطل تأهّله بالردّ، إذ


1- المختصر النافع: 178، اللمعة الدمشقيّة: 97.

ص: 369

معنى التأهّل كونه بحيث لو تعقّبه القبول لأثّر، و لو تعقّبه الردّ بطل، فمع الردّ لا عقد، كما لا يخفى، فكيف لو ردّ بعد القبول، و أمّا جواز القبول بعد الردّ في حياة الموصي فلما مرّ من كون وضع الوصيّة على التمليك بعد الموت، و المتأخّر لم يقع بعد، و هذا على القول باعتبار تأخّر القبول عن الحياة، فلا اعتبار لردّه السابق.

أمّا على تقدير جواز تقديمه في حال الحياة، فينبغي القول بمثل الوكالة من تأثير الردّ كالهبة، فيبطل الإيجاب السابق، و لو قبل بعد الحياة.

و لو قيل: إنّ عدم اشتراط المقارنة في الوصيّة اتّفاقا مانع هناك بخلاف الهبة، قلنا مثل ذلك في الوكالة.

و الحاصل؛ أنّ الوكالة و الهبة و الوصيّة و غيرها سواء في بطلان الإيجاب بالردّ لو قلنا بجواز تقديم القبول على الوفاة، كما هو مذهب الشهيد الأوّل (1).

و أمّا على القول في الوصيّة باشتراط مقارنته للوفاة فعدم تأثير الردّ متوجّه، لأنّ الإيجاب فيها يتعلّق بعد الوفاة، فلو قبل قبله لم يطابق الإيجاب، فلا أثر لردّه و ليس هذا الاحتمال في غيرها، فالقول ببطلان الأثر العقدي متّجه، و لذا قيل في انتقال حقّ القبول إلى الوارث مطلقا بأنّ ذلك للنصّ (2)، و لولاه لما تمّ؛ لأنّه في صورة عدم موت الموصي قبل الموصى له يمكن القول بذلك؛ لما ذكر في تعليل المشهور لاشتراط القبول بعد الوفاة.

و أمّا لو مات الموصى له بعد موت الموصي و لم يقبل بعد، فقد بطل صحّة


1- اللمعة الدمشقيّة: 97 و 104، الدروس الشرعيّة: 2/ 285 و 286 و 326.
2- وسائل الشيعة: 19/ 333 الحديث 24716، لاحظ! الحدائق الناضرة: 22/ 395.

ص: 370

الإيجاب التأهليّة بموت الموصى له، و ليس موته مثل موت الموصي محقّقا لموضوع الوصيّة، فافهم!

و القول المذكور هو المشهور، و إن كان الأقوى هو التفصيل بين ما لو تعلّق غرضه بشخص الموصى له و عدمه، وفاقا لثاني الشهيدين (1)، خصوصا لو كان موته بعد موت الموصي، لإمكان القول بأنّ سكوت الموصي مع علمه بموته إمضاء لوصيّته بالنسبة إلى الوارث أو قرينة على عدم تعلّق غرضه بشخص، فافهم.

و أمّا جواز التصرّف بالعقد السابق، فلكفاية كلّ كاشف للإذن في جواز التصرّف، بل العلم به كاف، بخلاف العقود.

نعم؛ في إيقاع العقد يكفي العلم بالرضا به، لا بالنسبة إلى أثر العقد، فلا يجوز البيع و الإقراض بالعلم برضاه، و يجوز إيقاع عقدهما به، فتدبّر!

فلو لم يحصل من الإيجاب السابق إذن، و حصل بشاهد الحال، كفى، و هذا نظير الإذن الحاصل في الوكالة الباطلة، فإنّ الإذن ليس إلّا من جهة كفاية الكاشف الفاسد لحصول المناط.

و كذا المضاربة الفاسدة و غيرها، لأنّ حقيقة الوكالة هي الاستنابة في التصرّف المستلزم لجوازه، فالإذن الحاصل فيها حاصل في ضمن الاستنابة و ليس استنابة و إذن.

و كذا في القراض، بل حقيقتها لغيرها ليست إلّا أمرا مستلزما للإذن، فمتى بطلت الاستنابة بطل الإذن الحاصل في ضمنها، و الفصل محصّل للجنس، و كيف


1- مسالك الإفهام: 6/ 129.

ص: 371

يبقى بدونه و ليس ذلك مثل مشخّصات زيد الّتي لا يوجب ذهابها ذهاب الإنسانيّة أو ليست المشخّصات محصّلة لها، مع أنّ ذلك أيضا غير معقول، كما لا يخفى، فتأمّل!

و لكن ذلك العقد الباطل بالنسبة إلى الاستنابة، كاشف عن الإذن.

وكالة المتبرّع

نعم؛ بالنسبة إلى الوديعة المنضمّة لها في الوكالة و القراض ليست حقيقتهما جنسا، و لذا لو تعدّى فيهما ضمن، مع عدم بطلانهما، قال المحقّق في «المختصر»: (و لا حكم لوكالة المتبرّع) (1).

أقول: أي و لا أثر للوكالة لو تبرّع الوكيل في وكالته، و هذا ردّ على العامّة حيث جوّزوا أن يتوكّل متبرّع عن الغائب في الخصومات حسبة، بيان ذلك أنّهم يقولون: إنّ الامور الشرعيّة على ثلاثة أقسام:

قسم؛ أراد الشارع حصوله من مباشر معيّن بحيث لا تترتّب الآثار المختصّة به إلّا مع صدورها من مباشر معيّن كالصلاة و الطهارة.

و قسم؛ أراد حصوله من المكلّف أو من نائبه سابقا أو لاحقا لتشمل الإجازة بصيرورة الفضولي بها وكيلا بحيث يترتّب الأثر الشرعي على حصوله منه أو من نائبه، و ذلك كالبيع و غيره من العقود القابلة للنيابة، فإنّ رضى المالك معتبر في ترتيب آثارها فمتى حصل [يترتّب الأثر الشرعي عليه]، سواء قام بها بنفسه أو بنائبه.


1- المختصر النافع: 178.

ص: 372

و قسم؛ أراد الشارع حصوله في الخارج بأيّ نحو كان و رتّب الأثر الشرعي عليه، و ذلك كإزالة النجاسة عن الثوب أو البدن، كما أنّ حصول الحرج أو التهمة موجب لنقض الحكم، سواء قام بهما المدّعى عليه أو غيره، و لو بغير إذنه، أو علم الحاكم بنفسه.

فكذا قيام الغير بالنسبة إلى استماع بيّنة المدّعي و جرحها و غيرهما، إذ المقصود ثبوت الحقّ و إبطال الباطل بالبيّنة أو اليمين حيث أمكنت كالمردودة، كما يجوز للحاكم ذلك بطلب المدّعي مع غيبة المدّعي، و الحكم مع إبقاء الحجّة للغائب، فالوكيل المتبرّع إذا استمع حسبة تسقط حجّته، كما يجوز ذلك في بعض الامور الحسبيّة، كحفظ مال اليتيم.

فذكر المحقّق أنّ تلك الوكالة لا أثر لها (1).

و بيان ذلك؛ أنّ الوكيل إمّا أن يتوكّل في إتمام حكم المدّعي أو في رفع دعواه، و حكم الحاكم فإن كان في استماع الدعوى و إتمام حكمه كما كان للحاكم نفسه ذلك، فلا يسقط ذلك حجّة الغائب، كما لا يخفى. مع وجود التهمة، مع عدم اطّلاع الغائب في كونه وكيلا.

و إن كان في رفع الحكم- كما هو الظاهر من كلماتهم كما قيل- فهو مبنيّ على أنّه هل يجوز للحاكم مطالبة المدّعي أو المنكر بالبيّنة أو اليمين مع عدم مطالبة المقابل حيث كان عالما بوجوب البيّنة أو اليمين لأنّ ذلك وظيفته، أم لا لانحصار الحقّ له، فليس له التبرّع؛ لاتّهامه لو فعل مع عدم المطالبة؟


1- مرّ آنفا.

ص: 373

و لعلّ هذا أقوى وفاقا لجماعة، كالعلّامة و غيره (1).

فإن قلنا بذلك، فلا يجوز له استماع ما يقيمه الوكيل المتبرّع من الجرح أو البيّنة لكون ذلك حقّا للمدّعى عليه و لم يطالب، فلم يمكن الحكم، فتدبّر!

و إن قلنا بنقيض ذلك، فلا نقول به في الجرح، لكونه هتكا لحرمة المؤمن الغير الجائز أو مطالب لماليّة المدّعي المثبتة للحقّ أو المردودة بالنسبة إلى غير ذي الحقّ.

نعم؛ لو قام الوكيل بأمر لو حصل من المدّعى عليه أو الوكيل كالشركة لتهمة مثلا جاز، لكن هذا لا ربط له بالوكالة، و لا يسقط حجّة الغائب في نفي حجّة لو صدر الحكم بها، فلا أثر للوكالة التبرعيّة مطلقا عنه.

تعليق الوكالة و تنجيزها

قالوا: و يجوز تنجيز الوكالة و تعليق التصرّف إلى أمد (2).

الفرق بين التعليق في الوكالة و التعليق في التصرّف؛ أنّ النيابة في الأوّل بعد العقد و قبل حصول المعلّق عليه غير حاصلة بعد، و في الثاني هي حاصلة بعده و قبله، و لكنّ الإذن في التصرّف غير حاصل و يختلف بالتعبير، فلو قال:

وكّلتك في بيع داري؛ فالبطلان، و لو قال: وكّلتك في بيع داري غدا؛ فالصحّة.

نعم؛ لو شرط أو نهى عن التصرّف دائما بطلب الوكالة، لاشتراطها لما ينافي مقتضاها، كما لو شرط في البيع عدم التصرّف في الجملة أو دائما [فيبطل]،


1- تذكرة الفقهاء: 2/ 114 و 115 ط. ق، شرائع الإسلام: 2/ 193، الحدائق الناضرة: 22/ 10.
2- المختصر النافع: 178.

ص: 374

فقد اتّضح الفرق بين التعليقين، فدعوى كون تعليق التصرّف في معنى تعليق الوكالة غير واضحة، بل الواضح خلافها.

فكما أنّ عدم جواز التصرّف في بعض الأوقات قد يكون لمنع شرعيّ منه، أو لعدم قابليّة المتعلّق للتصرّف حال العقد، كما لو وكّل المفلّس في بيع متاعه بعد زوال الحجر أو وكّل رجلا جنبا في إيقاع عقد في المسجد، أو إدخال شي ء فيه، أو وكّل في طلاق امرأته الحائض، و لا يمنع ذلك من جواز الوكالة، كذلك لو أذن و علّق التصرّف على وقت أو حصول شرط، و لم يدلّ دليل اشتراط التنجّز في العقود على اشتراطه في مطلق الإذن، إذ هو إمّا الإجماع، فهو ظاهر، و إمّا ما ذكره جماعة من المحقّقين كالشيخ صاحب «الجواهر» من أنّه كما لا يجوز التعليق في الأسباب العقليّة و العاديّة، كأن يقال: النار محرقة إن جاء زيد، و إلّا لزم خروج السبب و العلّة عن السببيّة و العلّيّة، بل يكون هو مع الشرط سببا، كذلك الأسباب الشرعيّة، و إن كانت معرّفات لو كانت معلّقة (1).

فإن قلنا بترتّب آثارها الشرعيّة قبل حصول المعلّق عليه فلا أثر للتعليق، و إن رتّب الآثار بعد حصوله فقد خرج السبب عن السببيّة و المعرّفيّة، إذ هو مع حصول غيره صار سببا و معرّفا.

مثلا قولك: إن جاء زيد أو طلع الشمس فقد بعته، البيع و المجي ء أو الطلوع سبب للنقل لا نفس البيع، مع عدم جعل الشارع سببا له إلّا البيع.

و إلى هذا أشار الشهيد الثاني في مسألة كاشفيّة الإجازة لا ناقليّتها أنّ


1- لاحظ! جواهر الكلام: 32/ 78- 81.

ص: 375

الشارع جعل العقد سببا (1).

فلو قلنا بعدم حصول النقل إلّا بعد حصولها، لزم خروج السبب عن كونه سببا.

نعم؛ لو شرط الشارع أمرا في حصول النقل كالقبض في الصرف و الهبة و الوقف، لم يكن العقد بنفسه سببا، بخلاف الإجازة، و كان هذا هو السرّ في ما ذكره جماعة من كون الإجازة شرطا للّزوم، مع قولهم بأنّ مثل القبض شرط في الصحّة و إن كان ترتيب آثار الصحّة في زمان الإجازة من زمان الإجازة.

و أمّا التمسّك ب «الناس مسلّطون على أموالهم» (2) و حلّيّة مال امرئ (3) في جواز العقد التعليقي بعد تخصيصها بالعقود الّتي هي سبب النقل لا جريانها مطلقا- كما هو ظاهر- فغير صحيح جدّا، إذ مجرّد ذلك غير مجد و إلّا لجاز التمليك بغيرها، و لذا قالوا: إنّ التعليق على أمر معلّق عليه العقد عند الشارع غير مضرّ، لكون العقد مع ذلك المعلّق عليه مؤثّرا في الواقع، و كذا لا يضرّ في العبادات تعليقها على ما هو شرط فيها عند الشارع، كأن يشترط في نيّة الصلاة عدم الحيض أو الحياة أو عدم الجنون، لعدم منافاتها للجزم في النيّة.

و أمّا التعليل بعدم حصول الرضا عند حصول المعلّق عليه، و حصولها بمضمون العقد عنده غير مجد، فكلام ظاهر، إذ الرضا في التعلّق بأمر مستقبل، و لو كان المعلّق عليه مشكوك الحصول عند العاقد حينه، متحقّق الوجود حال


1- الروضة البهيّة: 3/ 229.
2- عوالي اللآلي: 1/ 222 الحديث 99.
3- عوالي اللآلي: 3/ 473 الحديث 3.

ص: 376

العقد، لم يصحّ أيضا، لتخليل قصد العاقد إلى أنّ العقد مع الشرط سبب، و لعدم الرضا منجّزا حاله، كما ذكره الشهيد في «قواعده» (1)، فتأمّل!

و تمام الكلام في باب البيع، و ليس هذا يقتضي بطلان تعليق الإذن.

نعم؛ لو لم يكن الآذن مالكا للتصرّف حين العقد و أوجد الوكالة و إن نجزّها و علّق التصرّف على زمان حصول التصرّف له بطلت الوكالة و الإذن، كما لو وكّل في طلاق امرأة سينكحها، أو كان محرما، أو وكّل محرما أو محلّا في شراء الصيد، أو العقد بعد إحرام الموكّل، لعدم أهليّة الموكّل للتوكيل.

كما لو وكّل العبد غيره في التصرّف في ماله بعد عتقه، لعدم أهليّة الموكّل للتصرّف في ما وكّل غيره بنفسه، أو بغيره أو وكّله في بيع فاسد، فإنّه لا يملكه الوكيل، كما لم يكن الموكّل مالكا له، بخلاف ما لو وكّلت المرأة الحائض غيرها في إيقاع عقد في المسجد، لكونها مالكا له بغيره، و كما يمنع عدم أهليّة الموكّل، كذلك يمنع عدم أهليّة الوكيل، كما لو كان محرما أو وكّل في عقد النكاح أو شراء العبيد.

هذا؛ ثمّ إنّ الاستنابة على قسمين:

قسم؛ يوجب الولاية للنائب، بعد سقوط ولاية الموكّل في ما وكّله، فلا تثبت ولايته ما دام ولاية الموكّل كالإيصاء، فإنّ ولاية الموصي ما دامت ثابتة لم تثبت ولاية الوصيّ و تسقط ولايته إذا مات و تثبت للوصيّ.

و قسم؛ توجبها له مع بقائها للموكّل، و ذلك في وكالة الأحرار.

و أمّا استنابة العبيد؛ فليست إثبات الولاية، لا لعدم قابليّتها لها، لجواز


1- القواعد و الفوائد: 20 و 21.

ص: 377

الإيصاء إليه بإذن مولاه، بل لكونها بمنزلة الآلة.

و لذا قالوا: إنّه لا يحمل إذن العبد في التصرّف على كونه وكالة، لأنّه استخدام و إن كان قابلا لها، فإذا وقع عقد الوكالة بلفظها كالاستنابة أو الوكالة حملت عليها مطلقا.

و لو وقع بلفظ الإذن؛ فإن كان المخاطب حرّا يحمل عليها أيضا إلّا مع القرينة على إرادة الإذن المجرّد، لا الولاية، و إن كان المخاطب عبدا فهو استخدام لا ولاية.

فإذا وقع التعليق أو أمر آخر موجب لبطلان الوكالة، فإن كان الواقع لفظ الوكالة، فبطلانها يبطل الإذن المستلزم له، إلّا أن يقال: إنّ التصرّف يكفي فيه رضا المالك، فمتى حصل- و لو حصل بكاشف فاسد بالنسبة إلى أمر آخر- جاز التصرّف.

نعم؛ لو كان الموكّل جاهلا بفساد الوكالة و لم يكشف الرضا بأمر آخر غير لفظ «وكّلتك» لم يجز التصرّف، بخلاف ما لو كان عالما، و إن كان الواقع بلفظ الإذن و كان المخاطب حرّا، بطلت الوكالة الظاهر فيها، بقرينة المخاطب.

و أمّا جواز التصرّف؛ فإن اكتفينا في حصول الرضا بكاشف فاسد أو حصل من غير لفظ الإذن، فلا إشكال في جوازه و إن كانت الوكالة الظاهرة من هذا اللفظ باطلة، و كذا الإذن المستلزمة هي له.

و يحتمل أن يقال بحمل كلام المتكلّم على الصحيح: إنّ المراد من هذا اللفظ الإذن لا الوكالة، فحمل الكلام على الصحيح قرينة على صرف الكلام عن الوكالة الظاهر فيها، كما يفعل ذلك في باب الإقرار و البيع، كما لا يخفى على الفقيه المتتبّع.

ص: 378

و لو كان المخاطب عبدا صحّ بلا إشكال لظهور الإذن معه في غير الوكالة، و قد مرّ أنّ التعليق غير مضرّ في مطلق الإذن، كما لا يخفى على الفقيه المتفطّن.

ثمّ إنّ بعض العقود ما هو معاوضيّة، و بعضها غير معاوضيّة، و إن ذكر فيها العوض كالنكاح و الخلع، و بعضها محتمل للأمرين كالصلح، فافهم!

و ليست الوكالة باعتبار اشتراط الجعل فيها و عدمه من هذا القسم، بل هي معه من العقود التضمينيّة لا المعاوضيّة، كالجعالة و النكاح في قول.

و لذا لو فسد الجعل في الوكالة المشروط فيها الجعل لم تفسد الوكالة، و إن كانت موجبة للضمان لو كانت فاسدة بقاعدة «ما يضمن» كالهبة المشروط فيها العوض، و العارية المشروط فيها الضمان.

مع أنّهما ليستا من العقود المعاوضيّة، و ليست القاعدة كلّ عقد معاوضيّ يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، فتدبّر!

أقسام الاستنابة

فقد علم أنّ الإذن و الاستنابة على ثلاثة أقسام:

قسم؛ يفيد إثبات الولاية و تفويضها بعد سقوطها عن نفسه.

و هذا القسم إنّما يكفي إذا لم يكن هناك ولاية مقدّمة على ولاية هذا المستناب، كما لو كان هناك جدّ و أوصى إلى أحد على صغاره.

و أمّا ولاية الحاكم؛ فهي متأخّرة عن جميع الولايات كإرثه، و ذلك لأنّ جعل الولاية له لعدم تعطيل الامور و الأحكام، كما أنّ إرثه لعدم كون المال بلا مالك، و لذا لا يرث إن أمكن تحصيل الوارث، و لو بأن يشترى و يعتق و يرث،

ص: 379

فكما أنّ ولاية الأب أو الجدّ مقدّم على ولايته، كذلك ولاية الوالي منهما- و هو الوصيّ- مقدّم عليه.

و قسم؛ يفيد إثبات الولاية له مع بقاء ولايته، بل ما دامت ولايته ثابتة تثبت له، و هذه هي الوكالة، فحيث إنّها ولاية عمّن له الولاية على أمر فيشترط كونهما قابلا للولاية بمعنى كون الموكّل مالكا للتعالي بنفسه و لغيره، و الوكيل قابلا للتعالي و إن لم يكن قابلا للتعالي لنفسه، فإنّ السفيه يتوكّل، فلو لم يكن أحدهما قابلا لها بطلت الوكالة.

و كذا لو عرض بعد القابليّة ما يمنع منها، كما لو جنّ أو مات أو اغمي على أحدهما، ثمّ لو عرض الموكّل، صار تصرّف الوكيل فضوليّا موقوفا على إجازة الوليّ الفعلي لذلك التصرّف أو إجازته بعد زوال المانع، و لو عرض الوكيل فتصرّفه حيث أمكن كان لغوا، للغويّة عبارة المجنون و المغمى عليه إلّا في مثل العارية ممّا يصحّ كون المجنون آلة كالصبيّ.

فقد عرفت من ذلك أنّ كلّ عقد مشتمل على مثل هذه الولاية و هي الوكالة تبطل بما يبطل بمثل ما ذكر، بل و إن كان لازما، كأن كان مشروطا في عقد لازم، فإنّ الوكالة المشروطة في البيع تبطل بالموت و الجنون و الإغماء من كلّ منهما، فالمناط في البطلان بالامور المذكورة بعروضها في العقود الإذنيّة مطلقا، لا مطلق العقود الجائزة، فإنّ الهبة جائزة، و كذا القرض، و لا تبطل بها.

نعم؛ لو عرض مانع من التصرّف في مدّة، سواء كان في المتعلّق كحيض المرأة الموكّلة في طلاقها، أو في الوكيل أو الموكّل، كأن صار الموكّل محرما، أو الوكيل، بعد ما وكّله في عقد نكاح أو شراء صيد.

ص: 380

و أمّا كون الإحرام في حال الوكالة مانعا من تحقّق الوكالة، فلعلّه من جهة حرمة الاستمتاع بالنساء لكلّ وجه حتّى الشهادة عليه، و لعدم قابليّة المحرم للتملّك للصيد، فتأمّل!

ثمّ اعلم! أنّ الإذن و الاستنابة حيث أفادت الولاية تكون عقدا يفتقر إلى إيجاب و قبول قوليّ أو فعليّ، و أمّا مسألة لزوم الإيصاء حيث لم يعلم الوصيّ إلّا بعد الموت، أو ردّ و لمّا يبلغ الردّ، و كذا عدم انعزال الوكيل بعزل الموكّل فأمر ثابت بالدليل القطعي الاعتبار، مثل النصوص (1) و الإجماعات.

و أمّا القسم الثالث من الإذن، فهو إيقاع لو كان بلفظ الأمر، مثل بع، و اشتر، أو افعل، و لذا يجب على العبد القبول، و كذا يجب الحجّ بالبذل لا الهبة.

و أمّا البيع في الوكالة بمجرّد الأمر أو الإيجاب- بعد الغضّ عن عدم كون مثله إيجاب وكالة، كما صرّح به في «التذكرة» (2)، بل مجرّد إذن، و تسليم كونه إيجاب وكالة- فلأنّه و كذا كلّ عقد يحصل، ممّا يجوز في إيقاعه بمجرّد الرضا من المالك و لو بشاهد الحال.

و أمّا تحقّق الانتقال، فلمّا كان موقوفا على رضا المالك و إنشائه أو من هو وليّ عنه، منه أو من الشارع فهنا إنشاء الوكيل؛ فوكالته و ولايته حين البيع و لو بنفس البيع، فلا يقال: إنّ الوكالة و الاستنابة عقد، فما لم تتحقّق لم يتحقّق، إلّا أن يقال: إنّه يصير بإرادة البيع- مثلا- وكيلا و يجري العقد، نظير بيع الواهب و وطء المطلّق، أو قبلته زوجته المطلّقة رجعيّا، و لذا كلّ تصرّف موقوف على الإذن


1- وسائل الشيعة: 19/ 162 الباب 2 من كتاب الوكالة.
2- تذكرة الفقهاء: 2/ 114 ط. ق.

ص: 381

يكفي الإذن هناك إيقاعا.

كلّ ذا بالنسبة إلى الموت و الجنون و الإغماء، و كذا عدم البلوغ الّذي يرجع إلى عدم المقتضي للعقد لسلب العبارة من متّصفيهم، و لا يختصّ بالوكالة بل في جميع العقود و الإيقاعات من العبادات و المعاملات.

و أمّا غيرها ممّا يرجع إلى وجود المانع كالسفه و الفلس و الإحرام و المرض و الرقّ و وجود المانع في متعلّق الوكالة كالحيض و الخمريّة في الموكّل و عدم المالكيّة لما يوكّل فيه فيهما- أي في الموكّل و الوكيل- فوجودها على ما ذكر في حال العقد، مع وجودها زمان التصرّف.

و أمّا إن علّق التصرّف بزمان يرفع المانع في ذلك الزمان؛ فإن ثبت من دليل كون المانع مانعا ارتفاع المالكيّة و التأهليّة به، فمن هو فيه لم تصحّ الوكالة كالإحرام، فإنّ النساء حرام عليه بكلّ استمتاع، و هو غير قابل لملك الصيد، فليس المحرم مالكا لها و للصيد، فليس لها التوكيل و التوكّل، لما عرفت من معنى الوكالة من كونه إثبات ولاية لغيره في أمر للموكّل الولاية فيه بنفسه و لغيره، و للوكيل التولّي فيه بنفسه و لو لغيره، و الإحرام مانع من الولاية، و إن لم يثبت ذلك كسائر الموانع.

و لعلّ الرقّ من قبيل الإحرام، كما هو الأقوى، فتصحّ الوكالة، بل و لو كان مانعا في الموكّل دون الوكيل كما لو وكّل الجنب أو الكافر غيره الطاهر أو المسلم في إيقاع عقد في المسجد، و أمّا عروض الموانع في الأثناء- أي بعد الوكالة الواقعة صحيحة- فالظاهر عدم الفرق بين الموانع في عدم بطلانها إلى أن يزول المانع حتّى الإحرام حتّى في زمان الإحرام إذا كان الموكّل مالكا له، كالنائي عن

ص: 382

بلد الصيد، فإنّ وكالة وكيله في بلده لا تبطل بإحرامه.

و أمّا وجود المحرّمات فبالنسبة إلى الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي المسبّب عن حصول سبب في المباشر يوجب ذلك الحكم- كالإثم و الضمان- فغير قابلة للوكالة.

و أمّا لو كان لأحدهما بالنسبة إلى الموكّل أثر، كما لو وكّل الناذر لعدم بيعه عبده- مثلا- غيره في بيعه، فإنّ الإثم و الحنث يحصل بالنسبة إلى الموكّل، لكن هذا المثال غير صالح للنقض، كما قيل، لتعلّق حقّ اللّه بالعبد الموجب لبطلان البيع (1).

و المسألة غير مستحضرة عندي، فليفرض فيما كان كذلك، و هو ما إذا حلف على نفي البيع و قصد النقل و الانتقال لا المعنى العرفي و هو العقد، و كما لو وكّل الراهن أو الواهب في إقباض المشاع، فإنّ الإثم و إن اختصّ بالمباشر لكن صحّة العقد و لزومه بالنسبة إلى الموكّل أثر شرعي للإقباض على القول بكفاية قبض الشريك الراهن بغير إذن شريكه في الحكم الوضعي.

و أمّا الفرق بين ما لو قال: وكّلتك في طلاق امرأة سأنكحها، و بين ما لو قال: وكّلتك في تزويج امرأة و طلاقها، أو شراء عبد و عتقه، فلأنّ العقود المترتّبة في كلّ عقد لو جازت لوجب أن لا يشرط في العقود المترتّبة بالشرط في الاستقلاليّة، و منها العقود المترتّبة عليها عقود اخر، و إلّا فلا معنى لتشريع مثل تلك العقود.

مثلا إذا صحّ الوقف المؤبّد على أشخاص بالدليل المستلزم لكون بعض


1- مفتاح الكرامة: 7/ 529 و 530.

ص: 383

الموقوف عليهم في بعض الطبقات غير موجودين حال العقد، اقتضى ذلك الدليل سقوط اشتراط الوجود في الموقوف عليهم لو كان أصلا في الموقوف عليهم تبعا و كذا القبول و القبض، و كذا إذا اقتضى الدليل صحّة البيع و رهن المبيع بعقد واحد، كقوله: بعتك الدار و أرهنتكها فلا بدّ من الاكتفاء بتقدّم ملك المرتهن للرهن بحسب الذات و إن كان مقارنا للرهن زمانا، فافهم!

و كذا الوكالة المترتّبة، و إن كانت معلّقة بل غير مملوك للوكيل متعلّق الوكالة، فعلى هذا لو وكّل في أمر يصحّ فيه الوكالة و وكّل في امور اخر مترتّبة عليه، و إن لم يكن له ذلك لو كانت الامور غير مترتّبة.

فهذا هو الفرق في الوقف بين الوقف على المعدوم ابتداءً و الوصيّة و بينها عليه تبعا، و في الوكالة بين التوكيل في طلاق امرأة سينكحها و التوكيل في التزويج و الطلاق أو الشراء و العتق.

ما تصحّ الوكالة فيه

اشارة

قالوا: و كلّ أمر لا يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر معيّن تصحّ الوكالة فيه (1).

أقول: كلّ أمر يقع في الخارج، إمّا فعل من أفعال الجوارح، و إمّا إنشاء و نيّة، فإن كان فعلا؛ فإمّا أن يكون الأثر المترتّب عليه شرعا أو عرفا مترتّبا على فاعله من حيث صدوره منه، بحيث لا يكفي في ترتّبه عليه انتسابه إليه، فذلك لا تصحّ الوكالة فيه، و ذلك واضح وجهه.


1- مفتاح الكرامة: 7/ 527.

ص: 384

و إمّا أن يكفي في ترتّبه عليه انتسابه إليه، فهذا تصحّ فيه الوكالة، و كذا النيّة و الإنشاء، منها ما يترتّب عليه الأثر المترتّب عليه من حيث صدورها من المنشئ و الناوي، و منها ما يترتّب على المنتسب إليه الإنشاء و النيّة.

فالطهارة فعل يرتّب الأثر الشرعي، و هو استباحة الصلاة أو الطهارة من القذارة على الصادر منه هذه، لا المنتسب إليه.

و كذا الصلاة الواجبة حال الحياة، فإنّ الأثر الّذي يترتّب عليها و هو التذلّل و الانقياد و حصول الكمال و التقرّب إنّما هو على الصادرة منه، يعني أنّ مباشرة الصلاة يوجب التذلّل و الكمال.

و كذا الصلاة المندوبة، كصلاة الليل- مثلا- فالتقرّب لازم لفعله بنفسه، بخلاف الزكاة مطلقا، فإنّ الغرض منها ارتفاع شحّ النفس و ارتفاق الفقراء و المستحقّين لها، فيحصل هذان الأثران بمجرّد حصول الفعل، و هو التزكية و لو من الغير، لحصول الارتفاق و ارتفاع الشحّ من المالك، و لو أخرج زكاته غيره.

و أمّا النيّة و قصد التقرّب، فحيث إنّ التقرّب أثر يترتّب على المنتسب إليه التزكية و هو المالك، فيجزي قصد الوكيل تقرّبه حين دفعه إلى مستحقّه.

و من ذلك؛ الوقف و العتق، فيجزي قصد الوكيل تقرّب الواقف و المعتق.

نعم؛ لو لم يكن مأذونا منه، بل واليا عليه من قبل الشارع، كمن وقع مال غيره في يده غير مزكّى و هو ممتنع فزكّى منه ما يجب على المالك، فيترتّب على قصده بها تقرّب المالك تقرّبه إلى اللّه تعالى أيضا.

و من هذا القبيل الجهاد، حيث جازت الاستنابة فيه، فإنّ الغرض من تكليفه على العباد إقامة الإسلام و إظهار شعائره، فيحصل هذا الغرض من

ص: 385

المباشر و إقامة غيره مقامه و ينوي في ذلك تقرّب المنوب عنه كالزكاة، لكن يشترط أن لا يكون واجبا على النائب و لو كفائيّا، و إلّا لم يجز التوكيل فيه.

و قيل: إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من هذا القبيل لو لم يكن واجبا على النائب، لكنّه محلّ نظر، لأنّ هذا التوكيل نوع من الأمر بالمعروف لا استنابة فيه، فتدبّر!

و أمّا الحجّ الواجب، فالمقصود و الأثر المترتّب عليه هو إنفاق المال في هذه الجهة و إذلال النفس و الانقياد بإتيان الواجب بنفسه، فلا تجزي الاستنابة؛ لعدم حصول الغرض بتمامه فيها، و قصد القربة من النائب، بعد ما كان التقرّب غير حاصل إلّا من المباشر، غير مفيد له.

نعم؛ لو عجز بنفسه سقط الغرض الأخير، فيحصل التقرّب و لو بفعل غيره، و يترتّب عليه الغرض الأوّل، فينوي النائب القربة في حجّه و يترتّب عليه تقرّب المنوب عنه عكس الزكاة، إذ التقرّب بهذه الأفعال تابعة لصدورها أوّلا و إلى السبب المنتسبة إليه هذه الأفعال و يشير إلى هذا ما ورد من أنّ للنائب تسعة أعشار أجر الحجّ و ثوابه، و للمنوب عنه و السبب أجر (1).

و أمّا الحجّ المندوب، فلمّا كان أصل الحجّ هو زيارة بيت اللّه جاز التوكيل فيه كسائر الزيارات المستحبّة، و السرّ في ذلك أنّ الزيارة مركّبة من امور: طيّ الطريق، و إبلاغ السلام، و الإهداء.

فأمّا طيّ الطريق؛ فحيث إنّ الغرض منه التوصّل إلى الأمرين الأخيرين كان مقتضى الأصل جواز الاستنابة فيه، إلّا أن تكون أصل الزيارة واجبا،


1- وسائل الشيعة: 11/ 165 الحديث 14537.

ص: 386

فيلاحظ فيها مباشرة طيّ المسافة لتبادرها من الواجب، كما في الحجّ الواجب، لوجود غرض في تعلّق الوجوب بها الموجب لمباشرتها بتمام أجزائها.

و أمّا الغرضان الآخران فممّا يحصل بالنيابة مطلقا، كما هو معمول الآن في تفقّد الأكابر من أحوال أمثالهم، أو ممّن هو دونهم بإرسال خادمهم و تبليغ السلام و سؤال أحوالهم، فهذا النائب للزيارة يبلّغ سلامه إليه.

و أمّا صلواته المهدى بها فينوي بها لنفسه و يقصد تقرّب نفسه بها لحصول زيارته لنفسه أيضا بنيابته للغير لكنّه يهدي بهذا الفعل المتقرّب به عن المنوب عنه، و يمكن أن ينوي النائب جميع أفعاله و سلامه لنفسه و يهدي ثواب المجموع إليه أي إلى المنوب عنه.

و يستفاد من الأخبار (1) كلا القسمين في الاستنابة للزيارة لقبور الأئمّة عليهم السّلام و بيت اللّه لكن ما ورد من جواز أن يستنيب جماعة شخصا واحدا للحجّ المندوب (2) منزّل على القسم الثاني؛ لعدم جواز استنابة شخص إلّا عن واحد، فتدبّر! فيجوز في الحجّ المندوب الاستنابة فينوي في جميع الأفعال تقرّب نفسه و يترتّب عليه تقرّب المنوب عنه، فيستأجره لأن يفعل هذه الأفعال لنفسه متقرّبا بها إلى اللّه بتقرّب هذا الشخص إليه، أو ليفعلها و يفوّض ثوابها إليه.

و أمّا في الواجب لمّا كان التذلّل مسبّبا عن مباشرة طيّ الطريق و إتيان الأفعال بنفسها لم يجز التوكيل فيه، و كذا لو نذر الزيارة- مثلا- اشترطت المباشرة قطعا، إلّا أن يكون متعلّق النذر أعمّ.


1- وسائل الشيعة: 14/ 442 الباب 42 من أبواب المزار و ما يناسبه.
2- وسائل الشيعة: 11/ 202 الباب 28 من أبواب النيابة في الحجّ.

ص: 387

و ممّا ذكرنا في صلاة الإهداء اتّضح جواز الصلاة المندوبة بقصد الثواب الدنيوي كتوسعة الرزق و صلاة الحاجة، فإنّ هذا الأمر إنّما هو على الفعل المتقرّب به، لا على المطلق، فهو ينوي ترتّب الأثر الدنيوي و يطلبه من اللّه بهذا الفعل الّذي يتقرّب به، و كذا مثل الجنّة و النار اللتين ادّعى الشهيد الأوّل في قواعده- على ما قيل- (1) الإجماع على بطلان العبادة بجعلهما غاية لها، فإنّ قصدهما- على ما قلنا- غير مضرّ إجماعا، و مراده قدّس سرّه قصدهما على وجه يجعلهما غاية للعبادة بلا توسّط القربة، بأن يصلّي للجنّة لا للّه، و يقصد بهذه الصلاة المتقرّب بها الجنّة أو الخلاص من النار، فافهم!

و أمّا الحجّ الواجب عن الميّت و كذا الصلاة الواجبة بعد الحياة؛ فالاستيجار و التوكيل غير مناف لقصد قربة الفاعل، فإنّ الفعل بعد ما كان مشروعا مطلوبا للشارع و هو إتيان واجب الغير بعد حياته، و رتّب الشارع عليه الأثر الّذي كان يترتّب على المفعول له لو كان فاعلا على فعل هذا النائب و هو البراءة جاز أخذ الاجرة على هذا الفعل.

فكما أنّه قبل الاستيجار لو ينوي بفعله له تقرّبه و تقرّب غيره مترتّبا و كان يبرئ ذمّته لو كان واجبا عليه، فكذا يجوز أخذ الاجرة عليه، كما أنّ متعلّق النذر قبل النذر لا بدّ أن يكون مطلوبا و مشروعا و به يصير واجبا، فكلّ قيد كان فيه قبله فهو باق بعده حتّى الوجوب و الندب.

و هل يجب في نذر الواجب و المندوب حين فعلهما أن ينوي وجوبهما النذري غير الوجوب أو الندب الأصلي؟ قولان، و لعلّ الاكتفاء بالفعل لو كان


1- الأربعون للشيخ البهائي: 225 و 226.

ص: 388

غافلا حينه أقوى، أمّا لو كان ملتفتا به حينه فغير شرط جزما.

فالحاصل؛ أنّ الأجرة على هذا الفعل المتقرّب به الّذي يأتي به بقصد النيابة و براءة ذمّة المنوب عنه، فهذا معنى قولهم: إنّ الاجرة على جعله نفسه نائبا لا على أصل الفعل، لكن لو كان هذا الفاعل الّذي يجعل نفسه نائبا ممّن يجب عليه ذلك لم يجز أخذ الاجرة عليه كالوليّ، لكنّه يجوز استيجار غيره.

و أمّا الغرض الّذي كان في الحجّ و الصلاة الواجبين حال الحياة، فقد انتفى بعدها، حيث إنّ الشارع حكم بوجوبهما على الوليّ عنهما، و منفعة هذه الأفعال الّتي واجبة على الوليّ و إن كان غير راجعة إليه حقيقة، لكنّها راجعة إليه حكما، لسقوطها عنه بفعله.

و هذا المقدار كاف في تملّك المستأجر للمنفعة و رجوعها إليه، كما لو استأجر شخص من شخص داره ليسكن المؤجر فيها، فإنّها بمنزلة العارية من مالك المنفعة، إلّا أن يشترط فيها ذلك- فتأمّل- و أمره ببناء دار غيره لا ببناء دار نفسه، فافهم!

و أمّا الأذان و الإقامة و الصلاة المندوبة؛ فلمّا لم يكن أصلها عن الغير مشروعا لم يجز الاستنابة فيها و لو على نحو ما ينوي في الصلاة عن الميّت و زيارة قبور الأئمّة عليهم السّلام، فلا تغفل! فإنّ ضابطة الاستنابة ما كان للمنوب عنه التولّي بنفسه و بغيره، و للنائب أن يتولّاه عن غيره، و لم يثبت و لم يدلّ دليل على ذلك في ما نحن فيه، كما في الواجبات بعد حياة المنوب عنه.

فروع

من العبادات ما يثبت من الشرع الإتيان بها و إهداء ثوابها إلى الغير، و من

ص: 389

ذلك تلاوة كلام اللّه المجيد و الحجّ المندوب على أحد الوجهين، و لا يجوز في مثل التلاوة النيابة، لعدم قيام دليل على مشروعيّته و جواز التولّي في القراءة.

و أمّا صلاة ليلة الدفن و إن كان المكلّف بها جميع المسلمين سوى الوليّ، لكن حيث شرّع ذلك بقصد الإهداء لا بقصد النيابة عن الوليّ- فافهم- جاز أخذ الاجرة من الوليّ لهذا الفعل المتقرّب به على نحو ما حقّقناه في صلاة الاستيجار.

و أمّا النذر فغير قابل للنيابة، إذ الأثر و قصد القربة مترتّب على الفعل من حيث صدوره، لا من حيث الانتساب كما في المعاملات، فإنّ حقيقة البيع- مثلا- إدخال المبيع في ملك الغير بإزاء الثمن، و هذا لا يشترط فيه صدور الإيجاب من المالك، بل يكفي إنشاء الوكيل و لو لم يقصد النيابة، بخلاف النذر، فإنّه لا يمكن أن يقصد الوكيل تقرّب الموكّل بهذا اللفظ الّذي صدر منه و يحصل به تقرّب اللافظ.

و أمّا الظهار فلمّا كان معصية- و قد مرّ عدم جواز التوكيل في المعاصي- لكنّه حيث يكون هذا الفعل من الوكيل أيضا معصية، و ليس كذلك الظهار.

و أمّا حرمة الطلاق للحائض من الوكيل، القول بوقوعه و إن أثم المطلّق- كما هو مذهب العامّة (1)- فلإيجاده هذا الفعل المحرّم و إعانته على الإثم.

و أمّا الظهار؛ فلمّا لم يصحّ التوكيل فيه و لم يترتّب عليه أثره بالنسبة إلى الزوج لم يكن هذا الفعل من الوكيل محرّما، فتأمّل!

و لكنّ التحقيق أنّه لو لا الإجماع على عدم جواز التوكيل فيه لأمكن المناقشة فيه، و المناقضة بمثل طلاق الحائض على مذاهب العامّة حيث يقولون


1- الأم: 5/ 181، المغني لابن قدامة: 8/ 237 و 238، الشرح الكبير: 8/ 253 و 254.

ص: 390

بانعقاده مع كونه محرّما (1).

فمقتضى ذلك تأثير التوكيل هنا و إن كان محرّما بالنسبة إلى الموكّل بل هنا أولى، لما ذكرنا من عدم المعصية بالنسبة إلى الوكيل بخلافه هناك، إلّا أن يقال:

إنّ الحكم الوضعيّ للظهار تابع لحرمته، بمعنى أنّ الظهار المحرّم موجب للفراق و وجوب الكفّارة، و ليس الظهار الواقع من الوكيل محرّما.

و هذا أيضا ضعيف، لكونه بالنسبة إلى الموكّل محرّما لو جاز التوكيل فيه، و وجوب الكفّارة لازم له لا للوكيل.

فالعمدة هو الإجماع في المسألة.

و بالجملة؛ المسألة محتاجة إلى التأمّل و ليس مجال لنا الآن.

و أمّا اللعان؛ فمبنيّ على أنّه شهادة أم يمين، فينبغي التكلّم أوّلا في الشهادة، فنقول: إنّ الإخبار إن كان عن حقّ للغير على نفسه، فهو إقرار، و إن كان عن حقّ له على غيره، فهو ادّعاء، و إن كان عن حقّ الغير على الغير، فهو شهادة، و لا يمكن التوكيل في الإخبار، لأنّ كاشفيّة الخبر عن الواقع أمر قائم بصدور الخبر، فالتوكيل في الإخبار غير مفيد، لعدم حصول الكشف في إخبار الوكيل.

نعم؛ إخباره يكشف عن أنّ المخبر قد أخبر بذلك، لأنّ المخبر به للوكيل هو إخبار الموكّل.

و أمّا شهادة الفرع، فهي من هذا القسم، و لكن لمّا كان حضور الشاهد عند الحاكم شرطا لم يجز التوكيل إلّا عند الضرورة، فتدبّر! حتّى يتّضح أن ليس ذلك توكيلا، لأنّ الشهادة نوع من الإخبار، و لا يصحّ التوكيل فيه حسب ما مرّ.


1- بداية المجتهد: 2/ 64.

ص: 391

و أمّا التوكيل في الدعاوى؛ فهو توكيل في الخصومة و الترافع و إقامة الشهود و جرحهم، و هذه امور يكون له التولّي بنفسه و بغيره، لأنّ هذه ولاية فله إرجاعها إلى غيره، بخلاف أصل تحرير الدعوى فقط، إلّا أن يكون من باب المقدّمة، فيصحّ التوكيل فيه تبعا للامور المذكورة.

فلو و كلّه فيه لا فيها بطلت قطعا، لأنّه إن حرّر الدعوى من قبل نفسه، بأن يقول: فلان يدّعي عليك كذا، فهذه الدعوى غير مسموعة، لعدم الخصومة معه.

و إن قال: أنا وكيل في هذه الدعوى فقد عرفت بطلانه، لعدم ولاية للمخبر في الإخبار حتّى يفوّضها إلى غيره، و أمّا الإقرار فكذلك غير قابل لها إجماعا، و إنّما النزاع في أنّ التوكيل فيه إقرار أم لا؟

و لعلّه من باب الإقرار المعلّق، كأن يقول: إن جاء رأس الشهر فله عليّ كذا.

فنقول: إنّه إذا قال: اذهب و أقرّ عنّي لفلان، معناه: إنّه إذا أقرّ الوكيل بكذا، فله عليّ كذا، فافهم.

فلعلّ هذا مراد الشيخ رحمه اللّه حيث حكم بأنّ التوكيل فيه إقرار (1)، قال العلّامة في «القواعد»: و في التوكيل على الإقرار إشكال، فإن أبطلناه ففي جعله مقرّا بنفس التوكيل نظر (2)، انتهى.

و الحاصل؛ إنّ التوكيل غير معقول في الإخبارات، بل مختصّ بالإنشاءات، إذ لا ولاية للموكّل في الإخبارات حتّى يوكّلها و يفوّضها إلى غيره،


1- المبسوط: 3/ 32.
2- قواعد الأحكام: 1/ 254.

ص: 392

لأنّ الإخبار إن كان عن حقّ للغير على غيره و هي الشهادة، فإخبار الشهادة فيه قد اخذ على وجه الموضوعيّة للحكم و حضور الشاهد جزء الموضوع، فلا يمكن التوكيل فيها.

أمّا شهادة الفرع فعلى ثلاثة أقسام:

أعلاها: الاستدعاء (1)، و هو أن يقول: اشهد عنّي عند الحاكم بكذا.

و ثانيها: أن يسمع شهادته عند الحاكم فينقلها عند غيره.

و ثالثها: أن يكون التقاول و الشهادة بين الشاهد و السامع.

و هذان القسمان و إن كانا أخفض من الأوّل، لكنّهما معتبران إلّا القسم الأخير، إذ لم يشتمل على ذكر السبب، مثل أن يقول عن ثمن ثوب أو عقار، و كذا القسم الأوّل لكن إن كان مقام الاضطرار، فليس من باب التوكيل، لأنّ حجّية الإخبار من جهة كاشفيّة الخبر عن الواقع، و هذه الصفة غير قائمة بخبر الوكيل.

نعم، يكشف خبره عن خبره الكاشف عن الواقع، و ليس هذا توكيلا في شي ء، و إن كان عن حقّ لازم على نفسه للغير و هو الإقرار، فهو و إن كان إنشاء في وجه لكن حجّيته باعتبار كاشفيّته عن الواقع، فلا يمكن التوكيل فيه.

و أمّا شاهد الإقرار؛ فهو كاشف بنفسه عن إقراره لا عن الواقع، فتدبّر!

و الحاصل؛ أنّ إخبار الوكيل بإقرار الموكّل إمّا إخبار عن حقّ الغير على الغير، و إمّا إخبار عن حقّ لازم للغير على المخبر، و الأوّل شهادة، و بطلان الثاني بيّن، و بطلان اجتماعهما أبين.


1- لا لتماس الشاهد الأصل رعاية شهادته و الشهادة بها «منه رحمه اللّه».

ص: 393

فلو قال: اشهد عنّي أنّ لفلان عليّ كذا، لا يدلّ على الإقرار، لأنّ التوكيل إنشاء و هو إخبار حقيقة إلّا أن يقال بدلالته عليه التزاما، حيث إنّه يضمّ الإخبار فيكون إقرارا.

قال المحقّق الثاني في شرح قول العلّامة المتقدّم ذكره بعد ما ذكر وجهي الإشكال: و فيه نظر، أي في دليل كونه إقرارا بما أشرنا إليه أخيرا من أنّ التوكيل يتضمّن الإخبار.

قال: لأنّ ما تضمّنه التوكيل هو صورة الإخبار، و ليس إخبارا حقيقة، للعلم بأنّ قوله: لزيد عندي كذا، في قوله: وكّلتك بأن تقرّ عنّي بأنّ لزيد عندي كذا، لم يأت به للإخبار، بل لبيان اللفظ الّذي يخبر به، فهو في الحقيقة من تتمّة بيان الموكّل فيه، و الأصحّ أنّه لا يكون إقرارا (1)، انتهى.

قد سبق أنّه يحتمل أن يكون هذا من باب الإقرار المعلّق، و سيجي ء ما يدلّ عليه و إن كان في إطلاقه نظر، و إن كان الإخبار ادّعاء فقد ظهر وجهه- أي وجه عدم التوكيل فيه- ممّا ذكر في الإقرار و الشهادة، بل في مطلق الإخبار (2).


1- جامع المقاصد: 8/ 220.
2- قال في محكي «الخلاف» يصحّ إقراره و يلزم الموكّل بالمقرّ به إذا كان معلوما، و بتفسيره إن كان مجهولا، لعدم المانع منه و الأصل جوازه. مضافا إلى عموم «المؤمنون عند شروطهم» الخلاف: 3/ 344 المسألة 5، و هذا شرط أنّه يلزم ما يقرّبه الوكيل. أقول: الظاهر أنّ مراده من الأصل هو الصحّة و الجواز المستفاد من عمومات الوكالة، فمعارضته بأصالة البراءة- كما قيل- في غير محلّه، لما حقّق في محلّه من ورود الأدلّة الاجتهاديّة على الفقاهتيّة، لأنّها دليل حيث لا دليل، إذ موضوعها- و هو المشكوك- يرتفع بها.- - و قول السيّد صاحب «الرياض»: إنّ في هذا الأصل نظرا، لعدم الدليل عليه رياض المسائل: 6/ 64 لعلّه من جهة أنّه فهم منه أصل الجواز الغير المستفاد من العمومات. و أنت خبير بأنّ الحكم التكليفي الّذي يستنبط منه الحكم الوضعي كإباحة التصرّف و حلّيته و تسلّط الناس على أموالهم إنّما هو في الحكم المستفاد من دليل اجتهاديّ، لا من دليل فقاهتي، فتدبّر! فلا ينبغي للشيخ البناء في الصحّة على مثل هذا الأصل الفقاهتي الّذي فهمه هذا السيّد السند مع ظهور قوله و لا مانع من إرادة المقتضي من الأصل، و إن كان استدلال الشيخ محلّ نظر، و بيانه موقوف على مقدّمة، و هي: المخصّص المجمل، إمّا مجمل من حيث المصداق، و إمّا من حيث المفهوم. ففي الأوّل؛ قيل: يتمسّك بالعموم، كما هو منقول بناء القدماء، إذ لا يرفع اليد من العموم إلّا بمخصّص متيقّن، فكأنّه قال مثلا: أكرم العلماء إلّا زيدا المعلوم، أو كقولك: أكرم العلماء لا تكرم الفسّاق، فشكّ في أنّ زيدا- مثلا- فاسق أم غير فاسق؟ فالمشكوك أنّه زيد أو لا، غير مخرج عن العموم، بل الأصل عدم كونه زيدا. و الّذي بنى عليه المحقّقون من المتأخّرين هو الوقف، لأنّ الكبرى لا يثبت الصغرى- فتأمّل- و لأنّ مرجع هذا التخصيص إلى تنويع العامّ، فكأنّه قال: لا تكرم زيدا العالم، و أكرم العلماء غير زيد، فأصالة عدم كونه زيدا معارض بعدم كونه غير زيد، لكونهما أمرين وجوديّين. و أمّا المشكوك بالمخصّص المجمل المفهومي فالتحقيق فيه- كما عليه أهله- هو الأخذ في التخصيص، و العمل بالعموم بالمتيقّن، و الوقف في المشكوك، لأنّ إجمال المخصّص يوجب الإجمال في العامّ، فلا مجال للتمسّك به، فافهم، و تمام الكلام في محلّه. فإذا تمهّدت هذه فنقول: مع أنّه لا عموم و لا إطلاق في باب الوكالة، بل مشروعيّتها تثبت من موارد خاصّة ورد من الشارع إمضاؤها فعلا أو قولا أو تقريرا لو سلّمنا العموم، و لو من عموم الحكمة في بعض الإطلاقات- كما قيل- لا شكّ في تخصيصها بما لا يقبل النيابة لترتّب الشارع الغرض و الأثر على المباشرة، فهذا أمر مجمل مفهوما أو مصداقا، فلا يجوز في ما شكّ أنّه ممّا يقبلها أو ممّا لا يقبلها التمسّك بالعموم. و هذا نظير أنّه لو شكّ- مثلا- في أنّ بعض الأشياء مال أم لا؟ فلا يجوز التمسّك لجواز بيعه بعموماته، لأنّ بالكبرى لا يثبت الصغرى.نعم؛ عند الشكّ في شرطيّة شي ء أو مانعيّته يجوز التمسّك بالعموم، لأنّه شكّ في المخصّص رأسا، لا عند الشكّ في وجود ركن العقد و عدمه، فالإقرار مشكوك في قابليّته لها، فلا يجوز التمسّك بعموماتها، لأنّ الموضوع غير محرز، فإجراء الحكم غير مقدور، فلا أصل يقتضي الجواز، لا أنّ المانع محتمل حتّى يدفعه عموم المقتضي. و أمّا التمسّك بالشرط؛ فالشرط هو الالتزام في عقد لازم كالبيع و نحوه لو اريد ظاهر هذا الكلام، و هو الأخذ بالوجوب، لعدم وجوب الوفاء بمطلق الشرط إلّا ما ذكرنا. و لو قيل: إنّه العهد و الالتزام لوجب حمل الخبر (الاستبصار: 3/ 232 الحديث 835) على مطلق الرجحان، أو طرحه؛ للإجماع على عدم بقائه على عمومه بخروج أكثر أفراده الموهن للتمسّك به، مع بناء العلماء على التمسّك به للوجوب، فنحو هذا الشرط غير لازم الوفاء قطعا، لعدم كونه مشروطا في ضمن عقد لازم، و لا يلزم من استحباب الوفاء التزامه بذلك، و عدم وجود الإجماع على الوجوب في المقام الموجب لتخصّصه لو لم يحمل على الوجوب بالوجه الّذي ذكرنا من حمل الشرط على المعنى المذكور، و هو الالتزام في ضمن عقد لازم كالبيع و نحوه «منه رحمه اللّه».

ص: 394

ص: 395

هذا، و أمّا النذور و الأيمان و العهود فهي من العبادات غير قابلة للتوكيل، و تحقيق المقام يقتضي بيان حقائقها، فنقول: إنّ النذر هو الالتزام و إلزام أمر على النفس من قبل اللّه تعالى، فمعنى «للّه عليّ كذا»: أنّه بعد ما أذن الشارع بأدلّة تشريعيّة النذر أن يلتزم عنه تعالى بأمر، و يلزمه عنه على نفسه، مثل: أن فوّض تشريع بعض العبادات على الناس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو على نفسه، فإذا أوجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمرا عليهم عنه تعالى فقد فعل هذا بأمره و صار هذا واجبا يكون أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمره تعالى.

فكما أنّ أحدا لو فوّض تعيين أمر إلى غيره فعيّن، يقال: إنّه معيّن، فكذلك ما شرّعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بإذنه تعالى الكلّي كان تشريعا من اللّه، فانظر إلى ما يشرّعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يقول مثلا: من فعل كذا فله أجر كذا، فهذا إنشاء منه في جعل الحكم و في جعل الثواب المعيّن، و ليس إخبارا قطعا، إذ لو لا تشريعه ذلك الحكم لم

ص: 396

يكن الثواب مترتّبا على فاعله.

و هذان الإنشاء ان بعد إذنه تعالى له في التشريع، فكأنّه قال: اجعل عنّي كلّ حكم تريد و تراه صلاحا، و اجعل ثوابا تراه عليه، فما جعله هو ما جعله اللّه تعالى، فهذا الناذر قد أذن اللّه تعالى أن يجعل، و يوجب عنه عليه أمرا لكن لا مطلقا بل ما لم يكن محرّما و كان مأذونا عنّي مع قطع النظر عن التزامك به، فهذا يقول: قد أوجبت عن اللّه على نفسي كذا، المستفاد هذا من قوله: للّه عليّ كذا، كما يقال: لك عليّ أن أفعل كذا.

فكما أنّه لو أمرك شخص بأن تفعل كذا بكذا فقلت: لك عليّ أن أفعل كذا بكذا، يصير هذا التزاما منك عنه، لكنّه بالأخرة التزام منه عليك، فكذلك ما نحن فيه بعد تشريع أن يلتزم الإنسان أمرا راجحا على نفسه يكون ذلك الأمر الملتزم ملتزما من اللّه تعالى، غاية الأمر بلسانه و اختياره، حيث إنّ معنى قوله: للّه، هو امتثال أوامر تشريع النذر، فلا احتياج إلى قصد القربة، إذ دليل اشتراطها لم يدلّ إلّا على كون الفعل للّه تعالى غير محتاج إلى اللفظ بالتقرّب أو إخطار هذا المعنى، بل المحتاج إليه في حصولها هو إتيان الأمر في الخاطر حين الفعل و قصده امتثاله.

و هذا أمر حاصل بقوله: للّه، كما يقول: أصلّي صلاة الصبح لأنّ الشارع أمرني بها، و لهذا لم يذكر جماعة في النذر اشتراطها غاية، كالشهيد الأوّل في «اللمعة» (1) مع كونها شرطا فيه في الجملة إجماعا، و استقر بهما الشهيدان في «الدروس» و «الروضة» (2)، لكنّه قد يقال: بأنّ قوله: للّه، لبيان أن الالتزام من قبل


1- اللمعة الدمشقيّة: 97.
2- الدروس الشرعيّة: 2/ 150 و 154، الروضة البهيّة: 3/ 36.

ص: 397

اللّه و بإذنه، و أمّا أنّ هذا الالتزام للتقرّب إليه تعالى أو لغيره فأمر آخر لا بدّ منه.

فلو نوى في صلاته الصبح- مثلا- كونه مأمورا به غير ناو بفعله التقرّب، لم تكن صحيحة.

أقول: إنّما الكلام في انفكاك حصول التقرّب عن قصد الامتثال للأمر و إتيان الفعل بعنوان أنّه مأمور به، قال اللّه تعالى: وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (1) و لم يقل إلّا ليقصدوا التقرّب و الإخلاص في الأوامر.

نعم؛ حصول الإخلاص متوقّف على إتيان المأمور به بعنوان أنّه مأمور به.

و بالجملة؛ المسألة غير خالية عن الإشكال و لم يحصل الترجيح لنا الآن فلا بدّ من ملاحظة الاحتياط حين النذر و بعده، فتأمّل!

فحيث قد حقّق كون النذر عبادة و مأمورا به فقد يناقش فيه، بناء على كونه مكروها مع عدم اجتماع الكراهة مع العبادة؛ لكونها راجحة في ذاتها، و معنى الكراهة هو المرجوحيّة في حدّ ذاتها، و الكراهة في بعض العبادات كالصلاة في الأرض السبخة- مثلا- معناها المرجوحيّة بالنسبة المعبّر عنها بالأقليّة ثوابا، فالصلاة فيها مرجوحة بالنسبة إليها في غيرها، عكس الاستحباب في الواجب.

فنقول: إنّ معنى كراهة النذر معناها مرجوحيّة الالتزام و فعل الملتزم به بالنسبة إلى عدم الالتزام، و فعله بأمره الندبي و أرجحيّة المندوب على الواجب في نظر الشارع غير مستبعد، كما يومي إلى ذلك ما ورد من أنّ ثواب زيارة قبر


1- البيّنة (98): 5.

ص: 398

الحسين عليه السّلام أضعاف ثواب الحجّ و العمرة (1).

و إن قيل في جواب الإشكال الوارد في المقام من أنّ ثواب المندوب كيف يكون أضعاف ثواب الواجب، مع كون الأوامر و النواهي تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمريّة؟ فلو كان مصلحة المندوب أكثر لوجب أن يكون هو الواجب بأنّ المراد من الحجّ، الحجّ المندوب لا الواجب؟

لكنّ المحقّقين أعرضوا عن هذا الجواب، و قالوا: إنّ وجود المفسدة في ترك أمر مع وجود مصلحة فيه كافية في الوجوب، مع كون بعض الأفعال المندوبة غير مشتمل على الفساد في تركها ذا مصالح متعدّدة متكثّرة، توجب أضعاف ثواب الواجب المترتّب على مصلحة.

و هذا ممّا يشهد به العقل أيضا، فإنّ إتيان الفعل المأمور به غير إلزامي، بل غير مأمور به، لكنّه مرضيّ للآمر، يدلّ على أطوعيّة المأمور الفاعل للآمر من إتيانه المأمور به الإلزامي، و قد ورد في الأخبار أنّه تعالى يباهي ملائكته إذا صلّى العبد صلاة الليل، فيقول: انظروا إلى عبدي مع أنّي ما أوجبت عليه كيف يقوم في هذه الظلمة و البرد و يحرّم على نفسه النوم و يلزمها بالسهر (2).

و قد ورد فيها وجه و معنى آخر للكراهة، و هو مرجوحيّته من جهة تضييقه الأمر على نفسه، و احتمال أن لا يفعل و يعصي و لم تكن المعصية حاصلة لو لا الالتزام.

و هذا نظير الأوامر بإقامة المعروف و كراهة الالتقاط و نظير الأعمال


1- وسائل الشيعة: 14/ 445 الباب 45 من أبواب المزار و ما يناسبه.
2- وسائل الشيعة: 8/ 151 الحديث 10277 و 157 الحديث 10297، نقله بالمضمون.

ص: 399

و الصناعات المكروهة، مع كونها واجبة كفائيّة و توهّم كونها واجبة توصّليّة فلا منافاة لها مع الكراهة، لعدم كونها عبادة، فاسد، كيف لا؟ و عدم اجتماعها معها من جهة اشتمالها على مصلحة راجحة و الكراهة حاصلة من مفسدة راجحة غير ملزمة.

و هاتان الجهتان قد حصلتا من الأمر و النهي و التوصّليّات المكروهة من هذا القبيل، و مجرّد اشتراط القربة فيها دونها غير فارق، فتدبّر!

و أمّا العهد؛ فمعناه الجعل بينه و بينه تعالى، فكأنّه بعد ما أذنه تعالى في أن يعاهد معه تعالى، صار وكيلا عنه تعالى، فيقول: عاهدت و أوجبت له عليّ أن أفعل كذا، قالوا: و لا يشترط فيه و في اليمين القربة و لا كون متعلّقهما طاعة.

و ممّا يدلّ على كفاية قوله: للّه عليّ كذا في النذر و عدم لزوم قصد القربة غاية للفعل، هذا الّذي ذكروه من اشتراطهم كونه في النذر طاعة، بخلافه فيهما، إذ لا يمكن أن يلزم على نفسه عنه شيئا إلّا و كان مرضيّا له و راجحا عنده، و ليس الراجح و المرضيّ عنده إلّا ما يقرّب العبد وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (1) وَ مٰا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ* إِلَّا ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ (2).

و اليمين على أمر مستقبل معناه فقدان اللّه (3) لو تخلّف عن المحلوف عليه، لأنّ معنى القسم في قوله: أقسم باللّه أفعل كذا هو الفقدان (4)، و المراد منه هنا هو البعد عنه تعالى.


1- البيّنة (98): 5.
2- الليل (92): 19 و 20.
3- كذا في النسخة.
4- كذا في النسخة.

ص: 400

و أمّا اليمين و الدعاوى؛ فهي إخبار لا إنشاء، لأنّها حلف على أمر ماض.

إذا تحقّق ما ذكر فنقول: إنّ الالتزام و المعاهدة و الحلف أمر ربطيّ بينه تعالى و بين الناذر و امتثال للأوامر الإذنيّة و التشريعيّة، و ظاهر الأمر هو المباشرة، و لذا قلنا: إنّ الأصل في العبادات عدم جواز الاستنابة حتّى يستفاد من الدليل إلغاء جهة المباشرة، كما أمر الشارع عليه السّلام الوليّ بإيجاد الحجّ من مال الميّت بالاستيجار و قضاء صلواته الفائتة حتّى أنّا مع أنّه جوّزنا في الحجّ المندوب و الزيارات المندوبة الاستئجار ابتداءً، بخلاف الواجبة بالنذر، فإنّها تجب فيها المباشرة.

و إن أردت توضيح المطلب فانظر إلى حال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم المأذون له التشريع في الأحكام هل له أن يوكّل غيره في امتثال أمر اللّه الّذي مفاده الإذن في التشريع؟

و قصد الوكيل قربة الموكّل غير ممكن لعدم حصول امتثال أوامر النذر منه.

و الحاصل؛ أنّ الإذن و الأمر لشخص في فعل، ظاهر في المباشرة، و لذا حكموا بعدم جواز التوكيل من الوكيل إلّا بالإذن من الموكّل، أو قيام القرينة، لأنّ الإذن نوع ولاية مطلقا و إثبات ولاية خصوصا في غير العبد و لا يثبت إلّا لمن نصّ له بذلك.

التوكيل في المباحات

و أمّا التوكيل في المباحات؛ فمنها ما هو مباح الأصل.

و منها ما هو مسبوق بملك الغير كالالتقاط و الإحياء.

فالقسم الأوّل قد وقع فيه الخلاف من جهة دلالة أدلّة الإباحة مثل: «من

ص: 401

حاز شيئا فهو له» (1) على اشتراط صدور الحيازة من الشخص أو يكفي الانتساب، و من أنّ التملّك بالحيازة مفتقر إلى نيّة التملّك أو عدم نيّة عدمه، أو كونه ملكا للغير.

لكنّ الّذي يقوّي الإذن في النظر هو جواز التوكيل فيه، و اشتراط نيّة التملّك بالحيازة محلّ تأمّل، إذ ليس الدليل عليه إلّا الإجماع المتوهّم، و الإجماع مظنون عدمه، كما في «الجواهر» (2)، أو دعوى التبادر من النصوص و لا أقلّ من الشكّ و هي واضحة المنع، بل قيل: المتبادر خلافه و هو سببيّة الفعل من غير شرط.

نعم؛ القدر المتيقّن أن لا يكون لاغيا في فعله، و قوله عليه السّلام: «من حاز» (3) مباح الأصل المستظهر منه قصد الحيازة.

و أمّا تملّك المحوز فلا، و حصول التملّك و الملك من غير قصد إليه يفعله بعد كونه من الأسباب المملّكة غير مستبعد، إلّا أن يقال بأنّ الأسباب الاختياريّة للملك منوط بالقصد بالاستقراء و بالاعتبار، و الثابت من الدليل كون الفعل مقتضيا جزء سبب له، كما أنّ ألفاظ العقود أو أفعالها كذلك، إذ الثابت كونها مقتضيات لما ترتّب عليها، و اشتراط القصد هناك ضروري فكذا هنا.

و الحاصل؛ أنّ الدليل على اشتراط نيّة التملّك بالحيازة هنا هو الدليل على اشتراطها في العقود بالألفاظ، و توهّم كون الحيازة من الأسباب المملّكة قهرا


1- القواعد الفقهيّة: 4/ 174، مع اختلاف يسير، و انظر! جواهر الكلام: 26/ 291.
2- جواهر الكلام: 27/ 381.
3- مرّ آنفا.

ص: 402

كالموت في الإرث ضعيف جدّا، و إلّا لوجب ثبوته مع نيّة عدمه، مع أنّه ليس كذلك، كمن حوّل ترابا عن طريق أو حجرا أو نحو ذلك مريدا التمكّن من عبوره أو غير ذلك ممّا لا يريد إدخال المباح تحت اليد، مع كون مثل هذا اليد موجبا للضمان في موارده.

قال الشيخ في محكيّ «المبسوط»: و لو نزل قوم أرضا من الموات فحفروا بها بئرا ليشربوا منها و يسقوا غنمهم و مواشيهم مدّة مقامهم بها، و لم يقصدوا التملّك بالإحياء، فإنّهم لا يملكون بالإحياء، بل إنّما يملكون بها إذا قصدوا التملّك، انتهى (1).

و هذا و إن دلّ على أنّ عدم التملّك من جهة عدم قصد التملّك، لكنّه يدلّ على عدمه مع نيّة عدمه بطريق أولى، فافهم!

بل دعوى الأولويّة [في] المحيز بما حازه مع عدم القصد بحيث يكون لاغيا في فعله ممنوعة، كما صرّح به الشهيد في «الروضة» (2).

نعم؛ صدر من بعض المحقّقين في المقام كلام لا يخلو من متانة، فنذكره مزجا بما عندنا من التحقيق، و أنّه بعد ما يستظهر من الأدلّة مثل قوله تعالى:

خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (3) خرج المملوك للغير المسبوق بالملك، و ظاهر اللام هو التمليك و قوله عليه السّلام: «الناس شركاء في ثلاثة: النار و الكلأ و الماء» (4) إنّ المباحات ملك لكافة الناس، فتكون الحيازة نظير أخذ الفقير


1- المبسوط: 3/ 281، و حكى عنه في مسالك الإفهام: 12/ 445، و في جواهر الكلام: 38/ 117.
2- الروضة البهيّة: 7/ 160.
3- البقرة (2): 29.
4- انظر! وسائل الشيعة: 25/ 417 الباب 5 من أبواب إحياء الموات.

ص: 403

الزكاة، فكما أنّها ملك للفقراء و يملكه الآخذ، بمعنى أنّه يكون أولى بها من غيرها، و معنى الأولويّة ثبوت الملكيّة الغير المتزاحمة كما كانت قبله، و لا يشترط في آخذه قصده ذلك، أي الأخذ من حيث إنّه مال الزكاة و يقصد التملّك، بل لا يشترط نيّته أصلا.

نعم؛ يشترط قصده أو الوكيل إلى أصل الفعل، فكذلك إثبات اليد على المباحات المملوكة المشتركة بقيد أولويّته بالمعنى المذكور، لكن بشرط القصد بالحيازة أو إدخال المحوز تحت الحوز و السلطنة العرفيّة على نحو أخذ المستحقّ الزكاة، حيث إنّه يجب أن يقصد بالأخذ الدخول تحت اليد، بحيث يتصرّف فيها كيف يشاء فيتبعها الملك الشرعي.

و لعلّ هذا المقدار من القصد مراد القائلين باشتراط النيّة، كما قيل (1)، لكنّ الأمر على خلافه كما سمعت من كلام الشيخ و كلام غيره منهم كذلك (2).

نعم؛ عبارة «اللمعة» في باب الإحياء: و من حفر بئرا ملك الماء بوصوله إليه، و لو قصد الانتفاع و المفارقة فهو أولى به ما دام نازلا عليه (3).

و مثلها عبارة «القواعد» لكن بزيادة: لا للتملّك (4) قبل «قصد الانتفاع» ظاهر في ما ذكره، فتأمّل!

و أمّا قصد تملّكها كما في الملتقط؛ فممنوع اشتراطه، و لو سلّم اشتراطه فالوكيل يقصد تملّك موكّله بحيازته، فنيّة التملّك موجودة، و خصوصا على ما


1- جواهر الكلام: 27/ 404.
2- مرّ آنفا.
3- اللمعة الدمشقيّة: 147.
4- قواعد الأحكام: 1/ 222.

ص: 404

سبق من تحقيق كونها للناس كافّة، و ثبوت الأولويّة بالحيازة مع قصد المحيز الإدخال تحت اليد و السلطنة، و قد قصد هنا دخولها تحت يده الّتي هي يد الموكّل بقصده له.

بل يمكن دعوى السيرة من العلماء و غيرهم بذلك، حيث يرى أنّهم يأمرون خدّامهم في الأسفار في الأراضي المباحة بحفر البئر و حيازة المباحات لهم، و لا فرق على ذلك بين ما يثبت بالحيازة أو لسبق الأولويّة بالمعنى المذكور و بين ما يثبت بهما الأولويّة بالمعنى الأعمّ، كما في غير المملوكات كالمساجد أو المملوكات الّتي لا يوجب السبق الملك كالرباط و المدارس، فحيث ثبتت الوكالة ثبت جواز الاستيجار، و [ثبت العقد] الفضولي بعد الإجازة.

و إن توهّم الفرق بين الاستيجار و بينها من جهة أنّها في الاستيجار يكون منفعة المؤجر للمستأجر فيكون يده يده، بخلاف الوكيل و إن كان بجعل، فإنّها حينئذ جعالة و هي من العقود التضمينيّة- كما حقّق في محلّه- لا تمليك المنفعة.

و هذا التوهّم ضعيف بعد الإحاطة بما حقّقنا، لتوهّم الفرق بينهما و بين الفضولي من جهة أنّ الثابت من جوازه في العقود و بعض الإيقاعات، لأنّ مقتضى السببيّة، كما هو شأنها ترتّب مسبّباتها عليها من غير توقّف على شي ء إلّا أن يثبت بدليل تعقيب ترتيبها عليها بطريق الكشف الحكمي و هو غير موجود في المقام و اللقطة.

و ضعف هذا من جهة أنّ الفضولي منطبق على القواعد غير خارج عنها بالإجماع أو بغيره على ما توهّم، كما عليه أهل التحقيق، فيكون فعله و يده بعد الإجازة فعل المجيز و يده.

ص: 405

فقد ظهر أنّ في مسألة الحيازة أقوالا أربعة- كما قيل (1)-: جواز النيابة مطلقا (2)، و عدمه كذلك، و التفصيل- و هو مختار المحقّق في «الشرائع» (3) بين الاستيجار، فالأوّل، و غيره، فالثاني، و بين الفضولي فالثاني، و بين غيره فالأوّل.

و أمّا الكلام في الالتقاط و الإحياء و هو القسم الثاني، و إن كان الثاني من القسم الأوّل من وجه، فالظاهر من بعضهم عدم الجواز، و لعلّه من جهة استظهار اعتبار المباشرة من أدلّتهما إلّا أنّه قيل بأنّه لا يخفى ما فيه إن لم يكن إجماعيّا (4).

أقول: في الالتقاط و في الإحياء أمر زائد على ما ذكر في الحيازة للمنع، و هو اشتراط النيّة للتملّك، كما حكى المحقّق الثاني (5) و ذلك للمنع و ظهور اعتبار المباشرة، و الأمر هو أنّه في المقام إثبات ولاية من الشارع وراء الإذن و هو مختصّ بذي اليد، و لذا لو التقط العبد وجب أن يعرّفه بنفسه أو بنائبه، و ليس للمولى تكليف في المقام، و الموات ملك للإمام و قد أذن للناس في إحيائها، لكن إلحاقها بالحيازة أقوى، كما أنّ المنع في الالتقاط أقوى، و إن كان بنحو الاستيجار.

و أمّا الاختيار و الرجعة فجواز التوكيل فيهما مبنيّ على أنّ الملحوظ في نظر الشارع هو الجهة الراجعة إلى الشهوات النفسانيّة و الاستمتاع أم لا؟ مثل النكاح، فإنّه و إن كان متضمّنا للاستمتاع إلّا أنّ الملحوظ الأصلي فيه ليس


1- لاحظ! مفتاح الكرامة: 7/ 559 و 560.
2- و هو ما اخترناه، و خيرة «الجواهر» و غيره (جواهر الكلام: 27/ 380 و 381، جامع المقاصد: 8/ 218) «منه رحمه اللّه».
3- شرائع الإسلام: 2/ 195.
4- جواهر الكلام: 27/ 381.
5- جامع المقاصد: 8/ 218.

ص: 406

منحصرا فيه، فلو وكّل في الاختيار أو الرجعة بمعنى إيقاع صيغتهما كان هذا اللفظ رجعة و اختيارا؛ لكفاية ما يدلّ عليهما التزاما مع عدم الاحتياج إلى اللفظ.

و إن قيل: أنت مختار في الرجوع و اختيار أيّتهما شئت، كما لو فوّض تعيين المطلّقة المبهمة- لو قلنا بجواز الطلاق مع عدم تعيين المطلّقة كالشيخ رحمه اللّه (1)- و لو قلنا بعدم جواز الاستنابة فيهما لا يجوزان من الولي أيضا.

إلّا أن يقال- بل قيل- بأنّ الاختيار فيه يكون منوطا بالمصلحة، كسقوط النفقة من الغير المختارة فيمكن صدوره من الوليّ بخلاف الرجعة، بل الأمر و المصلحة فيهما على الخلاف.

و لا يحضرني كلماتهم في المقام الآن.

طلاق الغائب

و قال الشيخ رحمه اللّه: لا يجوز طلاق الغائب، و استدلّ له بقوله: «الطلاق بيد من أخذ بالساق» (2).

أقول: يحتمل هذا الكلام لمعان ثلاث:

الأوّل: أنّ مباشرة الطلاق بيد من أخذ بالساق فلا يجوز من غيره، وكيلا كان أو وليّا أو فضوليّا، و لذا حكم الشيخ رحمه اللّه بعدم جواز طلاق الوليّ عن المجنون المطبق، خلافا للمشهور (3)، بل المجمع عليه، كما عن فخر المحقّقين (4)، و إن


1- نقله عنه في الحدائق الناضرة: 25/ 181، و جواهر الكلام: 32/ 46.
2- النهاية للشيخ الطوسي: 511، الخلاف: 4/ 424، عوالي اللآلي: 1/ 234 الحديث 137.
3- الخلاف: 4/ 442 المسألة 29.
4- إيضاح الفوائد: 3/ 292.

ص: 407

ادّعى الشيخ أيضا في «الخلاف»- على ما في الروضة (1)- الإجماع على عدم جوازه، لكنّه موهون بما لا يخفى.

و الثاني: أنّ أمره و اختياره بيد من أخذ بالساق نظير: «لا بيع إلّا في ملك» (2) و «لا عتق إلّا [في] ملك» (3)، حيث إنّ المراد هناك أنّ أمرهما بيد المالك، فيخرج الفضولي و يدخل الوكيل و الوليّ من باب حكومة أدلّة الولاية و الوكالة عليه، كحكومتهما على أدلّة اشتراط وقوع البيع و العتق من المالك، و إن قام الدليل على جواز الفضولي بحيث يكون حاكما على هذا الكلام، و يوجب حمل الأمر و الاختيار على اللزوم و ترتيب الأثر، كما ثبت في نظيره و هو البيع، اتّبع، و إلّا كما هو المفروض في المقام و العتق فيبطل الفضولي.

و حاصل هذا المعنى أنّ الطلاق و كذا العتق في قوله: «لا عتق إلّا في ملك» لا يصدران إلّا من الزوج و المالك أو من قام مقامهما، و قد ثبت بأدلّة الولاية و عموم أدلّة الوكالة قيام الوليّ و الوكيل مقام المولّى عليه و الموكّل، لكن على هذا المعنى يكون طلاق الوليّ عن المجنون بمقتضى القاعدة و عن الصبيّ خارجا عنه بدليل كالإجماع و بعض الملاحظات في النكاح، فتأمّل! فيبطل الفضولي.

قيل: عدم القول بالطلاق الفضوليّ، لكونه إيقاعا كالعتق (4).

و فيه النقض ببعض أفراد الوقف كالمسجد و ما شابهه، سواء كان تحريرا و هو المتّفق على عدم احتياج الإيجاب فيه إلى القبول، أو غيره، كأن كان وقفا


1- الروضة البهيّة: 6/ 18.
2- عوالي اللآلي: 2/ 247 الحديث 16، مع اختلاف يسير.
3- عوالي اللآلي: 2/ 299 الحديث 4.
4- لاحظ! جواهر الكلام: 32/ 16.

ص: 408

عامّا كالمدارس و الرباط على المشهور فيه، بل قيل: مجمع عليه أيضا.

و إن توهّم كون القول في الأوّل هو الأدلّة الآذنة لمثل هذا الوقف، و في الثاني مثله و قبول وليّه يقينا، و هو الإمام.

و ضعف هذا التوهم غير محتاج إلى البيان، بل المناط في جواز الفضولي و عدمه أنّ كلّ عقد لا يدخله الخيار بنحو لا يقع الفضولي فيه، و كلّ عقد يدخله الخيار و يمكن وقوعه متزلزلا صحّ الفضولي فيه، لأنّه قيل: الإجازة متزلزلة، فما لم يقبله كيف يصحّ الفضولي فيه، فتدبّر!

و الثالث: أنّ ولاية الطلاق لمن أخذ بالساق، فيثبت بهذا الدليل ولاية الآخذ فيه، فالصبيّ لا يجوز له الطلاق فعلا، لكون أفعاله ملغاة عند الشارع كأقواله و عباراته، لكنّه أخذ بالساق، فولايته فيه غير منافية لعدم نفوذه منه، كالمفلّس و المريض و الراهن، فافهم!

فطلاق الوكيل صحيح، و كذا الفضولي بعد الإجازة؛ لكونه صادرا عن الوليّ الفعلي بتوسّط تفويض الوليّ ولايته فيه إليه سابقا أو لاحقا، بخلاف الوليّ، فإنّ طلاقه لم يصدر عمّن هو وليّ فعلا، و هذا الدليل حاكم على أدلّة الولاية، كما لا يخفى، لاعتبار المباشرة أو صدوره عن أمره على هذا المعنى لا عنه أو عمّن هو قائم مقامه، فتدبّر!

و هذا هو المعروف في معناه- كما قيل- فليس للمولى طلاق زوجة عبده إلّا ما خرج بالدليل، فجواز طلاقه عن المجنون لقاعدة لا ضرر (1) أو الإجماع


1- القواعد الفقهيّة: 1/ 211.

ص: 409

المدّعى و المنقول في كلام جماعة (1).

و اعلم! أنّه لو أتى الموكّل في كلامه [شيئا] من حيث المتعلّق أو الزمان أو المكان فما علم كونه قيدا لجهة المعاملة و التصرّف فيكون الغرض مترتّبا على خصوص المعاملة فغيره فضولي غير مأمور به، و ما علم كونه قيدا لجهة الحفظ، أو علم ذكره من باب المثال من غير تعلّق غرض به من جهة الحفظ، أو من جهة المعاملة [فليس كذلك].

قالوا: لو عيّن زمانا للمعاملة لم يكن للوكيل التجاوز إلى غيره، و يكون الواقع في غير ذلك الزمان فضوليّا، لدلالة العرف على كونه قيدا للرضا بالمعاملة بحيث يفهم منه أنّ الغرض المتعلّق به من حيث المعاملة، فالمعاملة الواقعة فيه مأذون فيها لا غيره، و كذا لو عيّن زيدا أو غيره أو عيّن النقد أو التأجيل، إلّا أن يكون هناك غرض يتعلّق بالتأجيل، كما لو كان زمان غرق أو نهب.

و لو عيّن المكان لم يكن له التجاوز، و يقع العقد في غيره للموكّل لازما، لكنّه مضمون على الوكيل قبل العقد بالتخلّف، كما لو خالف في الوديعة عن موضع الحفظ الّذي عيّنه المالك مع عدم خوف التلف فيه، و عدم كون المنقول إليه أحفظ أو مساويا، لو قلنا بجواز النقل فيهما، و إلّا- كما هو الأقوى في الأخير- لم يجز النقل مطلقا، فيسقط الضمان بالتصرّف المأذون فيه و لا ينتقل إلى البدل؛ لكونه أمرا مسبّبا من امور خاصّة عارضة لمتعلّقه كإثبات اليد عليه عدوانا أو الإتلاف مباشرة أو تسبيبا ليس من قبيل الشركة، و تعلّق الحقّ به كالرهن أو الوقف، فحيث كان مأذونا في نقله و قبض سببه فيده على العوض غير عدوان بل


1- إيضاح الفوائد: 3/ 292، الروضة البهيّة: 6/ 18.

ص: 410

مأذون فيه، و لو كان مقيّدا لجهة المعاملة أو لجهة الحفظ، بل ما كان من باب المثال من غير تعلّق غرض به صحّ العقد و لا ضمان فيه.

و من هنا اتّضح ما ذكره الأصحاب و ورد عليه النصوص (1) في باب المضاربة من أنّه لو خالف طريقا عيّنه المالك إلى غيره ضمن، و الربح على الشرط (2).

هذا؛ و قد يقرّر المطلب بوجه آخر و هو أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الأمر بالشي ء على القول باقتضائه النهي عن ضدّه لا ينافي القول بصحّة الضدّ، لجواز أن يكون مطلوبا للشارع مترتّبا على عصيان العبد و مخالفته للنهي، مثلا النهي عن الصلاة مع وجوب الإزالة، لا يوجب رفع الأمر و المحبوبيّة عنها.

غاية الأمر أنّها غير محبوبة الآن لأمره بشي ء آخر فوريّ غير ممكن الاجتماع، فالمبغوضيّة عرضيّة لها غير ذاتيّة، فلو عصى ذلك الأمر كان ذلك الفعل محبوبا فعلا، كما كان محبوبا ذاتا قبل العصيان.

و نظير ذلك في العرف أن يقول المولى لعبده: اسكن الدار و لا تدخل السوق، فإن عصيت و دخلته فاشتر الشي ء الفلاني، فتأمّل! فذلك أمر بجهة، فيقتضي النهي عن غيرها، لكن [إن] عصى و خالف ثبت الضمان من جهة، لكن أصل المعاملة محبوب فعلا، حيث وجد الباذل لأزيد ممّا عليه المالك أو ثمن المثل فيما لو كان قد أطلق، فليس هذا التصرّف مبغوضا له غير مأذون فيه، و إن كان محبوبيّته مترتّبا على عصيانه.


1- وسائل الشيعة: 19/ 15 الباب 1 من كتاب المضاربة.
2- الحدائق الناضرة: 21/ 205، جواهر الكلام: 26/ 353.

ص: 411

و هذا التقرير إن رجع إلى ما ذكرنا، و إلّا فمحلّ مناقشة.

و قد يقرّر بوجه آخر؛ و هو أنّ ذلك نظير الخوف للضرر الّذي لم يجز معه الصوم أو الحجّ أو مطلق العبادة، فكما أنّ النهي عن ارتكاب المخوف ظاهريّ لاحتمال الضرر، فلو فعل المأمور به المخصّص بهذا النهي الظاهر، و تبيّن أن لم يكن هنا ضرر، تبيّن أن لم يكن نهي و مخصّص، فالأمر يقتضي الإجزاء و سقوط القضاء، فكذلك النهي عن الجهة لاحتمال الضرر و الحظر فيها، فلمّا خالف هذا النهي و لم يترتّب عليه ضرر تبيّن أن لم يكن نهي.

و أنت خبير بأنّ الخوف و احتمال الضرر في أمثال المقام مأخوذ في النهي على وجه الموضوعيّة لا على وجه الطريقيّة، و هذا الموضوع قد كان في زمان ارتكاب المنهيّ موجودا و إن تبيّن عدم الضرر، و لذا لا يجوز الارتكاب، لأنّ الموضوع المنهيّ هو محتمل الضرر أو المظنون لا الضرر المقطوع الواقع.

و لذا قالوا بعدم إمكان قصد التقرّب.

نعم؛ لو لم يلتفت إلى النهي صحّ الفعل مع حصول التقرّب، و ذلك إنّما هو من جهة عدم توجّه النهي الظاهري إليه فعلا، كالمصلّي الجاهل بالغصب.

فإن قلت: إنّ الجاهل بالموضوع معذور؛ لعدم وجوب الفحص عليه بخلاف الجاهل بالحكم، و لذا حكموا ببطلان صلاة العالم بالغصب الجاهل بالحكم، و في ما نحن فيه- أعني إتيان العبادة مع الخوف- الجهل من جهة الحكم كما هو المفروض.

نعم؛ لو لم يحتمل الضرر و لا ظنّ، و أتى بالمأمور به صحّ، بلا إشكال، و إن ترتّب عليه الضرر واقعا.

ص: 412

قلت: إنّ الجهل بأمثال هذا الحكم الظاهري مثل الجهل بالموضوع، لأنّ هذا الحكم إرشاديّ و توصّلي إلى عدم الوقوع في الضرر لا تعبّدي، و الجاهل بالأحكام الإلزاميّة التعبديّة غير معذور، و لذا قالوا بأنّ الجاهل بالخيار في العيوب في النكاح معذور بالنسبة إلى سقوطه بالتأخير.

و كذا في الأمة المعتقة المزوّجة، فإنّ خيارها في النكاح فوري، و الجاهلة بفوريّتها كالجاهل بأصل الخيار معذورة، مع أنّ الجاهل بالفوريّة أو بأصل الحكم في أمثال الصلاة غير معذور.

فقد اتّضح أنّ النهي الصادر من المالك صريحا أو اقتضاء من جهة الحفظ و احتمال تلف المال نهي إلزامي، فلا يجوز التعدّي.

و توهّم تبيّن عدم الضرر و التلف يكشف عن عدم ضعف جدا بيّن بطلانه قطعا. و لذا لو تلف بآفة سماويّة غير مسبّبة عن أمر في ذلك الطريق المخالف كان مضمونا قطعا، فتدبّر!

قالوا: و يشترط في الموكّل أن يكون مكلّفا إلّا في الطلاق و الوصيّة و الوقف، فيصحّ من البالغ عشرا، لأنّه بعد ما ثبت له الولاية في الامور المذكورة دخل في ما تقبل النيابة (1).

و قد مرّ أنّ الأصل في خطابات الشرع غير العبادات أن [يكون] قابلا للنيابة، لأنّ الظاهر من إرادة فعل حصوله في الخارج من غير مدخليّة للمباشرة، و كذا الخطابات العرفيّة إلّا ما كان العرف على خلافه، كالوكالة و الاستيجار للحجّ أو غيره من العبادة.


1- جواهر الكلام: 27/ 387.

ص: 413

مع أنّ الوليّ المأمور من الشارع بإيقاعها عن الميّت مخيّر بين المباشرة و الاستنابة، فلا إشكال في المقام بعد جوازها.

و توهّم اختصاص الجواز في المباشرة ضعيف جدّا.

نعم؛ ذهب جماعة كالمحقّق في «الشرائع» (1) و شارحه صاحب «الجواهر» و غيرهما (2) إلى جواز توكيل مثله في الامور المذكورة، و لعلّه من جهة أنّ هذه الامور قد ثبت التولّي فيها من الصبيّ البالغ عشرا، فاحتمال اختصاص اعتبار لفظه فيه لنفسه بعيد عن مذاق الفقه، بل لو كان الصبيّ البالغ عشرا وكيلا من البالغ الرشيد فيها جاز أيضا، كما صرّح بذلك الجماعة (3).

لكنّه قد يقال بأنّ اعتبار لفظه و توكيله و عدم لغوية عبارته تبعا لنفوذ التصرّفات المذكورة، فاعتبار مباشرته خارج عن القانون المذكور و عن مذاق الفقه، كما قيل (4)، إلّا أنّ إثبات جواز التولّي فيها و لو لغيره من تلك الأدلّة يحتاج إلى التأمّل.

ألا ترى أنّه لم يعتبر قوله مطلقا، بل في المذكورات، فليس ذلك إلّا من جهة تبعيّة الأدلّة المجوّزة لها، إذ لا مجال من الإنشاء لها بنفسه أو بغيره، فالقول بجواز توكّله لغيره فيها بالاستنباط موجب للقول باعتبار ألفاظه في غيرها، و لو كان لنفسه.


1- شرائع الإسلام: 2/ 197.
2- جواهر الكلام: 27/ 387، جامع المقاصد: 8/ 184، الحدائق الناضرة: 22/ 47.
3- جواهر الكلام: 27/ 387، الحدائق الناضرة: 22/ 47.
4- تذكرة الفقهاء: 2/ 116 ط. ق، جامع المقاصد: 8/ 184.

ص: 414

توكيل الوكيل غيره

قالوا: و لا يجوز للوكيل أن يوكّل غيره (1).

أقول: إمّا من جهة أنّ الأصل في إرادة الأفعال المباشرة فيها إمّا مطلقا أو في خصوص الخطابات العرفيّة إلّا ما خرج بالتصريح أو دليل خارج، و إمّا من جهة أنّه و إن كان مقتضى الأصل إرادة الإتيان بها من غير تعلّق غرض بإيقاعها مباشرة مطلقا إلّا ما خرج، إلّا أنّه العرف مستقرّ على إرادة المباشرة في أوامرهم.

و إمّا من جهة أنّ توكيل الوكيل إمّا عن الموكّل و لا إشكال في عدم جوازه لعدم دلالة «وكّلتك في بيع داري» على «وكّلتك في التوكيل»، لاختلاف المتعلّقين مع عدم قرينة في المقام كعجزه عنه، أو ترفّع شأنه عن المباشرة.

و أمّا عن الوكيل؛ فيمنع إمّا من جهة ظهور قوله: «في بيع داري» في المباشرة، كما سبق، لعدم دخول هذا النوع من التصرّف في المأذون، و إمّا من جهة عدم جواز التوكيل عن الوكيل أصلا، لأنّ الولاية التبعيّة غير قابلة للانتقال و التفويض، فلو صرّح بالإذن في التوكيل انصرف إلى أخذه عن الموكّل، لأنّ الإنشاء اللفظي الّذي فوّض ولايته فيه إليه غير مملوك للوكيل إلّا من إذن المالك، فلا يمكن تفويضه إلى غيره.

و بعبارة اخرى: الولاية تابعة للملك و ليس الوكيل مالكا، و لذا يقولون: إنّ للأولياء أن يوكّلوا عمّن لهم الولاية عليهم، فالوكيل يتصرّف عن المالكين بإذن الأولياء لا عنهم، كما أنّهم يتصرّفون عنهم بإذن اللّه تعالى.


1- المختصر النافع: 178، تذكرة الفقهاء: 2/ 116 ط. ق.

ص: 415

فهذا قرينة على أنّ الولاية و تفويضها تابعة للملك، و الوكيل ليس مالكا فليس له التوكيل عن نفسه.

و بالجملة؛ قيل: على القول بجواز التوكيل عن الوكيل- و كما هو المشهور- فإمّا أن يصرّح الموكّل بالتوكيل عنه، أو عن الوكيل، أو يطلق، فإمّا أن يحمل الإطلاق على التوكيل عنه أو عن الوكيل، أو على التخيير.

لكنّه لا يخفى أنّه لو قلنا بجواز التوكيل عن الوكيل لا يحمل الإطلاق إلّا على التوكيل عن الموكّل، لأنّه المتبادر منه و المنصرف إليه إطلاق توكيل الأولياء، فتدبّر!

و أمّا ما توهّم من أنّه لو كان الإذن فيه مستفادا من الفحوى كان احتمال كون الوكيل وكيلا عن الوكيل أقوى؛ فضعيف؛ لأنّ الفحوى راجعة إلى اللفظ، فترفّع الوكيل أو عجزه أو اتّساع متعلّقها قرينة على إرادته من قوله: أنت وكيل في هذه الامور، التوكيل فيها بنفسه أو بغيره، فلا يزيد هذا على التصريح مع الإطلاق.

و قد عرفت أنّ الوليّ المأذون في التصرّف مطلقا يوكّل غيره عمّن له الولاية عليه.

ثمّ على التقادير المذكورة في التوكيل الأوّل مع جواز توكيل الغير، فهل يحمل توكيل الوكيل لو أطلق على التوكيل عن الموكّل، أو عن الوكيل؟ وجهان، من أنّ الظاهر من استنابته عن نفسه، و من التبادر، مضافا إلى ما مرّ من تبعيّة الولاية للملك، فتكون الولاية الثابتة له عن المالك.

ألا ترى أنّ وكيل الوصيّ إنّما يبيع عن الميّت مع عدم قابليّته للولاية حينه،

ص: 416

لكن بإذن الوليّ، لا عن الوصيّ، لأنّه ليس مالكا حتّى يبيع عنه.

و بالجملة؛ المسألة معنويّة، فإنّ المقصود أنّ هذه الولاية الثابتة له بتوكيل الوكيل ولاية عنه، أو عن الموكّل حتّى يترتّب على كلّ أثره، لا لفظيّة، فلا يحتاج إلى التصريح.

نعم؛ يمكن أن يقال: لو صرّح الموكّل بأحدهما و خالف الوكيل في اللفظ بأن قال الموكّل: خذ عنّي وكيلا فقال له: أنت وكيلي في هذا الأمر، بطل هذا.

و لو قلنا بأنّ إطلاق الوكيل ينصرف إلى الوكالة عن الموكّل قطعا فصرّح بكونه وكيلا عنه لا عن الموكّل بطل أيضا، لأنّ ما وقع لم يصحّ، و ما صحّ لم يقع، كما لو صرّح الوليّ بالوكالة عن نفسه، فتأمّل (1)!

قال المحقّق في «المختصر»: و لا يوكّل العبد إلّا بإذن مولاه و لا الوكيل إلّا أن يؤذن له (2) و فيه يذكر- تقريبا تنظيرا لما ذكر من تبعيّة الولاية في التصرّف للمال- ما حقّق في محلّه من أنّ خيار المجلس حقّ ماليّ تابع للمالك لا للعامّة فلو عقد الوكيلان فالمعتبر مفارقة المالكين لا هما.

نعم؛ لو كان وكيلا عنه في جميع الامور كالعامل أو لم يكن المالك حاضرا في مجلس العقد، فالمعتبر مفارقته لا مطلقا، و ذلك بخلاف تفرّق المتعاقدين في الصرف و التقابض فيه كالخيار فيعتبر تقابض المالكين إمّا بنفسه أو وكيله، فتأمّل!

و لذلك تراهم لا يتعرّضون في الوكيل في البيع أنّه [هل] له إسقاط خيار


1- لكنّ التحقيق أنّه بعد كون المسألة معنويّة و جواز الولاية له عن الموكّل لو صرّح فضلا عمّا لو أطلق بكونه وكيلا عنه صار وكيلا عن الموكّل، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».
2- المختصر النافع: 178.

ص: 417

المجلس أم لا، و ليس ذلك إلّا لعدمه له أصلا و عدم دلالة التوكيل في البيع على جعل الخيار لنفسه عنه، كما يتعرّضون أنّ له القبض أم لا، و يتعرّضون أنّ للمضارب إسقاط الخيار في البيع و غيره مع المصلحة أو ظهور الربح.

و قول المحقّق في «المختصر»: و لا يوكّل العبد إلّا بإذن مولاه و لا الوكيل إلّا أن يؤذن له (1).

احتمل في العبارة أن يقرأ الفعل في المقامين مجهولا، فالمعنى إثبات الحكم التكليفي للموكّل بأن لا يجوز توكيل عبد الغير إلّا بإذن مولاه، لأنّه تصرّف و إعمال لمال الغير بغير إذنه، لكنّه لو فعل عصى العبد لتصرّفه في لسانه الّذي مال الغير لكنّه صحّ التصرّف، لأنّ النهي في المعاملات إن كان راجعا إلى ترتيب آثارها فيوجب فسادها لامتناع وجود المؤثّر بدون الآثار، و إن لم يكن كذلك، بل لقبح في نفس ذلك التصرّف و التلفّظ مع قطع النظر عن الآثار، أو لانطباق أمر محرّم عليه كالبيع وقت النداء، فلا يوجب الفساد و إن عصى، فبيع العبد لغير مولاه كالبيع في الدار المغصوبة.

ثمّ إن كان الفعل الصادر من العبد ممّا له اجرة بطل المسمّى إن كان، و يثبت للمالك اجرة المثل مطلقا، و يخيّر في الرجوع بأيّهما شاء، فإن رجع على الموكّل رجع في الحال.

و أمّا الوكيل فإن كان وكيلا خاصّا أو عامّا بغير جعل فلا إشكال في جواز توكيله، و يكفي في الأوّل إبطال التوكيل الأوّل، و إن كان خاصّا لازما إمّا بجعل أو بغيره، فإن كان الفعل ممّا لا ينافي العمل الموكّل فيه صحّ التوكيل الثاني و يستحقّ


1- المختصر النافع: 178.

ص: 418

الاجرة إن كان حاله ذلك، لكن لو قيل بأنّ تمام منافعه المتصوّرة للغير، أو فرض كذلك بأن وقع العقد الأوّل كذلك، أمكن القول بثبوت الاجرة له لا للوكيل، أو الخيار، و إن كان منافيا له فلا يجوز ذلك من حيث الحكم التكليفي.

و أمّا الحكم الوضعي فكما مرّ في العبد، لكن سياق كلام الفقهاء في مثل هذا المقام في الإجارة و هنا هكذا، و يجوز للمستأجر و الوكيل أن يعملا لغير المؤجر و الموكّل إلّا أن يكونا خاصّا.

و قد سبق أنّه من جهة ظهورهما في عدم تعيين المباشرة و المدّة و إن كان لهما المطالبة فورا إلّا في ما يلاحظ فيه بعض الخصوصيّات في المستأجر، كما لو كان العمل عبادة لملاحظة العدالة و الديانة و علمه بالأفعال و المسائل و غيرها.

و إن احتمل في المسألة وجه آخر، و هو التفصيل بين ما لو وقع العقد بلفظ يدلّ على المباشرة أو على الأعمّ كاستأجرتك، أو تقبّلت.

توكيل الحاكم عن السفهاء و المجانين و البله

قالوا: و للحاكم أن يوكّل عن السفهاء و المجانين و البله من يتولّى (1).

لا شبهة في جواز ذلك لهم بعد ما قرّر من ظهور الإذن و تفويض الولاية في أمر في حصول ذلك، سواء كان بطريق المباشرة أو بالاستنابة، فلا حاجة إلى الاستدلال بالإجماع.

نعم؛ لو قلنا بظهور ذلك في المباشرة احتجنا في الخروج عن مقتضى هذا الأصل إلى الدليل، لكن لا يخفى أنّ أخذ الوكيل في الفعل بطريق يكون النظر


1- المختصر النافع: 178.

ص: 419

إليهم لا إلى الوكيل إلّا أن يكون الفعل خاصّا.

و الحاصل؛ أنّ في أخذهم الوكيل تفصيلا يأتي في توكيل الوصيّ.

قالوا: يشترط في الوصيّ أن لا يمنعه الموصي من التوكيل، فيتّبع متّبعه في العموم و الخصوص، و التفصيل الموعود: أنّ الوصيّ إمّا أن يفوّض الولاية و الأمر إلى الغير في نفس الأفعال و في النظر- أي يفوّض التصرّف مطلقا و النظر- و إمّا أن يفوّض التصرّف مطلقا دون النظر مطلقا، و إمّا أن يفوّض التصرّف في بعض الامور و النظر، أو دون النظر.

و ينبغي بيان مدرك جوازه أو عدمه، فنقول: إن قلنا: إنّ الوصاية تفويض ولايته الدائمة المنقطعة بالموت لو لم يفوّض، فكما كان للموصي التوكيل مطلقا فكذلك للوصيّ، و لو قلنا: إنّ الوصاية تفويض الولاية مع اشتراط نظره بحيث كان هذا الوصف ملحوظا عنده، كما هو الأقوى، و صرّح به العلّامة في محكيّ بعض كتبه (1)، فلا يجوز توكيل الامور إلى الغير مع تفويض النظر، و يجوز توكيله في التصرّفات مطلقا من غير تفويض النظر إليه، بل كان النظر في كلّ أمر لنفسه، و أولى بالجواز ما لو فوّض بعض الامور دون النظر.

و أمّا لو فوّض التصرّف و النظر في بعض الامور؛ فلا يبعد القول به حتّى على ما اخترناه، لأنّ تفويض النظر إلى الغير قد يكون مصلحة.

فإن قلت: فيجوز التوكيل في التصرّف و النظر مطلقا، لأنّ تفويض النظر مصلحة، فلو رأى غيره أبصر في الامور مطلقا من نفسه جاز.

قلت: إنّ العلم الإجمالي بأصلحيّة نظره في الامور غير كاف في تحقّق


1- تبصرة المتعلّمين: 129، تذكرة الفقهاء: 2/ 508، ط. ق.

ص: 420

المصلحة في جميع الامور، فلعلّ في بعض الامور يرى المصلحة على خلاف ما يراه الوكيل مصلحة.

و أمّا إذا كان الأمر معيّنا كبيع دار معيّنة يمكن أن يكون الوكيل أبصر بالغبطة، و يعلم بذلك الوصيّ فيفوّض النظر إليه.

فمن ذلك كلّه ينقدح حكم توكيل الحاكم و سائر الأولياء في أنّه لا ريب في اعتبار الشارع نظرهم في ذلك من غير إرادة مجرّد حصول أفعال القصّر في الخارج بمباشرتهم أو بإذنهم، فيجي ء في توكيلهم التفصيل المذكور، فتأمّل جيّدا.

أقسام التوكيل من الحاكم

و أمّا التوكيل من الحاكم في الخصومات فعلى أقسام:

منها: التوكيل في المرافعات و استماع الشهود و جرحهم، و الإحلاف و الحكم.

و منها: التوكيل في استماع الشهود.

و منها: التوكيل في التحليف.

و منها: التوكيل في الحكم.

و منها: التوكيل في استماع الإقرار.

و ليعلم أوّلا أنّه لا يجوز توكيل الحاكم لمثله إلّا في زمان الحضور مع وجود التصريح من الإمام أو قرينة على الإذن من الإمام و لو فحوى، كاتّساع المتعلّق، و أمّا في زمان الغيبة فالجميع سواء، فليس أحدهما أولى من الآخر حتّى يستحلف غيره.

نعم؛ قد يتصوّر ذلك بناء على عدم اشتراط بعض الشروط الثمانية فيه،

ص: 421

كالكتابة أو البصر، فيأخذ حاكما جامعا له.

و قد يتصوّر على القول بإمكان التجزّي، و عدم حجّيّة لدلالة دليل حجّيّة قول المجتهد على المطلق، لظهور قوله عليه السّلام: «عرف أحكامنا» (1) في العموم، و كذا سائر سياقاتها، فيأخذ المطلق المتجزّي في المسألة المجتهد فيها، فتأمّل!

و أمّا استحلاف المقلّد في نفس [الأمر]؛ فغير صحيح إجماعا، لكونه من وظائف الإمامة فلا يجوز من غير إمام و من نصبه لذلك، و أذن له عموما أو خصوصا.

و أمّا في استماع البيّنة بعد علمه بشرائطها، لأنّ المناط قيامها بعد التماس المدّعي و إذن الحاكم، و كذا الحلف إذا تعذّر حضور الحالف.

و أمّا التوكيل في الإقرار؛ فغير جائز، لأنّ أثر الإقرار ليس مترتّبا على سماعه حتّى يوكّل فيه، بل على ثبوته عنده و لو بغير الشاهد بخلاف البيّنة، فإنّ المناط فيها هو استماعها، فلا يكفي علم الحاكم بشهادتها.

نعم؛ لو عيّن شاهدين على استماع إقراره ثبت إقراره بشهادتهما، و لا يثبت بشهادة الواحد، لأنّ المناط ثبوته و هو به غير ممكن، فتدبّر!

و تمام الكلام في باب القضاء و الشهادات.

اشتراط العقل في الوكيل و الموكّل

قالوا: و يشترط في كلّ من الوكيل و الموكّل كمال العقل (2).


1- بحار الأنوار: 2/ 220 و 221.
2- المختصر النافع: 179.

ص: 422

توضيح الفرق بين المجنون و السفيه و المغفّل و المغصوب الّذي حكموا ببطلان بعض الألفاظ الصادر منه في ذلك الحال، كالظهار و الإيلاء، و يتوقّف على رسم مقدّمة، و هي أنّ الأفعال الصادرة عن الإنسان على ثلاثة أقسام- كما حكي عن الغزالي-: اضطراري، و إرادي، و اختياري.

فالاضطراري: ما لا يستند الفعل إليه، كوقوع النازل من شاهق- مثلا-.

و الإرادي: ما يصدر عن إرادة و مقتضى الطبيعة من غير سبق بالاختيار، كحركة الأجفان عند وصول سهم إليها، أو إرادة إهراق شي ء في العين.

فالتكليف بالنسبة إلى الأفعال الاضطراريّة قبيح، لأنّه تكليف بالمحال، و بالنسبة إلى الثاني إن كان ممّا يمكن إزالته و لو بالرياضات أو بغيرها من الامور القاهرة على مقتضى الطبيعة فليس التكليف به محالا، و إلّا فلا.

و الفعل الاختياري ما يصدر منه باختيار و تروّؤ و الالتفات إليه.

و توضيح ذلك: أنّ كلّ فعل غير اضطراري إنّما يصدر من الشخص الملتفت بعد الالتفات إليه و العلم به، ثمّ الالتفات و العلم بآثاره المحبوبة عنده، ثمّ توجب ذلك الأثر المحبوب المرضيّ عنده إرادته إلى الفعل الموجب له، بمعنى العزم عليه، فإن كان ذلك الفعل محتاجا حصوله إلى مقدّمات فيشتغل الإنسان بإيجادها ثمّ بعدها لا بدّ من حصولها من إرادة مقارنة له، ليخرج بها عن الغافل و الساهي، فإنّ الاعتبار بالغفلة و عدم الغفلة بالفعل بتلك النسبة و القصد و الإرادة بالفعل، لا الإرادة الأوّليّة الداعية إلى تحصيل الفعل بمقدّماته.

و لا ينافي ذلك ما بنينا عليه في العبادات من كون النيّة فيها هو الداعي لا الإخطار، فإنّ المقصود الالتفات إلى الغرض و الأثر الموجب للإرادة عند الفعل،

ص: 423

كما عرّفوها بأنّها الإرادة المنبعثة المؤثّرة في إيجاد الفعل المنبعثة عمّا في نفسه من الغايات على وجه يخرج بها عن الساهي و الغافل، ففي الحقيقة مقارنة تلك الإرادة المذكورة للفعل موجب لإيجاد نفس [النيّة] بها يكون الفاعل قاصدا، و لذا اعتبروا المقارنة فيها بعد اعتبار النيّة، و ليس هي إلّا القصد.

و أمّا الإرادة المنبعثة على تحصيل مقدّمات الفعل المسبوق بالعلم إلى الغاية فهو من لوازم العقل و عدم صدور الفعل من العاقل من غير ملاحظة فائدة، و وجود ذلك غير مقارن لنفس الفعل حين وجوده لا يخرج الفاعل عن الساهي و الغافل إلى القاصد.

لكنّ المراد بالنيّة في العبادات أمر مركّب من القصد إلى الفعل- كما فصّلناه- و إلى التقرّب لاشتراط تحقّق العبادة بقصد إتيانها على وجه الامتثال؛ لأنّها ما يتوقّف على قصد القربة.

و أمّا نيّة المأمور به و أوصافه فلم يدلّ دليل على وجوبها، كما صرّح به الشهيد الثاني في «الروضة» (1).

نعم؛ لو كان المأمور به متعدّدا اشترط التعيين؛ لتوقّف الامتثال عليه، و لذا ذكر صاحب «الجواهر» في شرح «الجواهر» المسمّى ب «نجاة العباد» في كتاب الصوم و غيره: بعد ما ذكرنا أنّه لو نوى شيئا من الأوصاف في محلّ ضدّه على وجه لا ينافي التعيين و لا يقتضي تغيير النوع صحّ، حتّى لو كان مشرّعا و إن أثم بتشريعه (2).


1- الروضة البهيّة: 1/ 72.
2- نجاة العباد في يوم المعاد: 42 و 111 و 190.

ص: 424

و صدر عن بعض المحشّين عليه من الفحول كالشيخ الراضي و المرتضى ما أوجب إشكالا في العبارة، و إن كان كلامهما أيضا محلّ إشكال، لكنّ المقصود ذكر كلامه قدّس سرّه تقريبا لما ذكرنا، و إن اتّفق مجال نحرّر إن شاء اللّه كلاما مبسوطا لشرح كلامهم، و ليس الآن [مجاله].

و أمّا الاستدامة الحكميّة فمعناها أن لا يقصد في جزء من العبادة غير التقرّب الّذي هو أحد أجزائها، و أن لا يقصد بفعله فعلا يغيّر تلك الإرادة المنبعثة، لكنّ الالتفات إليها في كلّ جزء منها غير لازم، لعدم الإمكان، و [لزوم] العسر و الحرج، بل يكفي وجود تلك الإرادة حكما، بحيث لو سئل لقال بها، و لذا لو غفل بحيث خرج عن ذلك بطل.

و كذا لا يقصد بفعله غير الأمر الأوّل الذي نوى امتثاله أوّلا و هذا مراد قولهم: أن لا يقصد في بعض أفعاله ما ينافيها أو خلافها.

و ممّا ذكرنا في معنى النيّة للأفعال و المقارنة ظهر أنّه لو نوى الجنب الغسل و ذهب إلى الحمّام و نسي حين الغسل النيّة لم يجز ذلك الغسل.

هذا كلّه في العبادات، و أمّا المعاملات؛ فاللازم فيها كسائر الأفعال الصادرة عن التفات لا بدّ فيها من العلم بالشي ء، ثمّ بغرضه ثمّ الإرادة و العزم عليه الموجب للاشتغال بمقدّماته، فإن كان مقدّمته فعلا كاشفا عنه اعتبر الالتفات إلى ذلك الفعل الدالّ الكاشف، كلفظ البيع و نحوه، فلو صدر من غير التفات كالساهي لغى، و الالتفات إلى المعنى المكشوف عنه فلو لم يلتفت إليه لغى أيضا كالهازل و كون اللفظ كاشفا- أي صريحا- في المعنى المراد.

ثمّ إنّ الأثر و الغرض الداعي إلى الفعل، و لو حصل من أمر غير مرضيّ- أي

ص: 425

صار أمر غير مرضيّ سببا و داعيا لمحبوبيّة أثر ذلك الفعل- كأن يجبر على إعطاء مال لظالم فيبيع داره من غير [أن] يجبر عليه، فهذا النوع من البيع صحيح، لأنّ الإكراه على مقدّمات الفعل لا على نفسه.

و قد صرّحوا بأنّ مثل هذا الإكراه خارج عن بيع المكره المنعقد على بطلانه الإجماع (1)، و النصّ (2)، و لو لم يحصل الغرض و الداعي و لو من أمر غير مرضيّ على بيع ماله بل أوجد الفعل بغير داع فهذا هو المكره الّذي باطل عقده.

ثمّ إن كان الإكراه لحقّ كأن يجبر المحتكر على بيع الطعام، و الممتنع عن إنفاق واجبي النفقة أو المملوك أو قضاء الدين مع يساره، صحّ هذا البيع بلا إشكال، لأنّ المعتبر في الأفعال الإرادة و القصد إليها بحيث يخرج بها عن الساهي و اللاغي و لم يثبت من الأدلّة العامّة غير ذلك.

و أمّا لزوم كون ذلك لداع و غرض، فلم يثبت دليل عليه.

نعم؛ يثبت في المكره لغير حقّ بالنصّ و الإجماع عدم إمضاء الشارع لعقده، فهو يريد في قوله: بعتك، النقل و الانتقال بهذا اللفظ الكاشف، لكن لا يريد ترتيب الأثر عليه، لعدم داع له إلّا الإكراه، فلم يمض الشارع إلّا أن يرضى به و لو بعد ذلك، فهو حين العقد كالفضولي، فإنّه أيضا قاصد إلى اللفظ و المعنى باللفظ الكاشف.

و هذا من شروط العاقد لا المالك، لكنّ الرضا بالاشتراط لا بدّ أن يصدر من المالك، فحيث حصل أثّر العقد أثره، فمقتضى إرادته المعنى باللفظ الكاشف


1- جواهر الكلام: 23/ 10.
2- وسائل الشيعة: 17/ 333 الباب 1 من أبواب عقد البيع.

ص: 426

فأثره في الانتقال، لكنّ الشارع اعتبر الرضا و طيب النفس بأثر الفعل في بعض الموارد.

فظهر أنّ بيع المكره جوازه خارج عن مقتضى القاعدة بالإجماع و النصّ (1)، و لولاه لما كان للرضا بعده و تأثيره معنى، و تمام الكلام في البيع قد حرّرناه.

و إذ قد ظهر معنى الفعل الاختياري بأنّه الصادر عن عمد و قصد سواء كان بداع أو بغير داع، فالفاعل لا عن قصد غير عاقل، فإن كان بحيث يكون في جميع أفعاله التكليفيّة و المتعلّقة بالأموال و غيرها و أقواله غير قاصد إلى ما يصدر منه، و لو كان في بعض أفعاله أو أقواله مميّزا، فهذا هو المجنون المحجور عليه المرفوع عنه القلم في العبادات و غيرها، و إن كان في بعض أفعاله المتعلّقة بالعبادات ككثير السهو، فهذا معفوّ عنه قلم السهو و حكمه، فلا حكم فيه في العبادات دون غيرها لأنّه قاصد في أفعاله.

و لو كان قاصدا في ما يصدر عنه لكنّه لغير داع أو لداع غير الدواعي الّتي توجب صدور الأفعال من العقلاء، فهذا نوع من الجنون، فإن كان في خصوص الأموال و ما يتعلّق بها كذلك دون ما يتعلّق بالبدن أو بغيره كالسفيه، فإنّه قاصد في أفعاله و أقواله مطلقا، لكن قصده في ما يتعلّق بالمال غير مقترن بداع عقلائي دون ما يتعلّق بالبدن، فهذا محجور في ماله، لأنّه نوع من الجنون، و غير محجور في ما يتعلّق بالبدن، فهو مكلّف في الأحكام البدنيّة دون الماليّة.

لكن لو استلزم الأحكام البدنيّة على المال تصرّف الوليّ في المال.

نعم؛ لو أوجب أمرا يوجب أمرا بدنيّا أو ماليّا مخيّرا كالنذر فحنث، كفّر بما


1- مرّ آنفا.

ص: 427

يتعلّق بالبدن، و ليس الوليّ مكلّفا بإخراج المال عنه، فحيث إنّ المانع فيه عدم الداعي العقلائي في أمواله و كان محجورا عليه، فلا مانع من توكّله فيما يتعلّق بها لغيره، أو في ماله بإذن الوليّ.

لكن على تفصيل في مال الغير، و هو أنّه إن فوّض إيقاع العقد دون النظر، فلا ريب في صحّته، و إن فوّض النظر مع ذلك فخلاف، أقربه ذلك، لأنّ الموكّل عاقل قاصد، فلعلّه رأى مصلحة في ذلك لنفسه أو لغيره و لا أقلّ من إتلاف ماله لمصلحة عقلائيّة، و السفيه كان ممنوعا من التصرّف في ماله لعدم مبالاته في إتلافه لغير غرض عقلائي. و هذا التفصيل جار بعينه في ماله بالنسبة إلى إذن الوليّ.

قال في «القواعد»: و لو أذن له الوليّ فإن عيّن صحّ؛ لعدم تفويض النظر إليه أو فوّض و رأى المصلحة في ذلك و إلّا فلغو إلّا أنّ الوليّ غير مأذون في إتلاف ماله (1)، فتأمّل!

نعم؛ لو فرض أنّ هذا التوكيل منه سفاهة و ليس فيه مصلحة بطل التوكيل، لأنّه داخل في المعاملات السفهيّة الّتي لا يجوز التوكيل فيها لعدم الولاية للموكّل في متعلّق الوكالة.

و الفرق بين معاملة السفيه و المعاملة السفهيّة أنّ السفيه لكونه غير قاصد في فعله لغرض عقلائي صار محجورا عليه كليّا، و لو اتّفق في قضيّة شخصيّة إن كانت المعاملة عقلائيّة، و المعاملة السفهيّة ما كانت لغير داع و مصلحة في تلك المعاملة الخاصّة و إن كان المعامل عاقلا، و الدليل على بطلانها عدم شمول الأدلّة


1- قواعد الأحكام: 1/ 169، ط. ق.

ص: 428

لها، فالبيع المحاباتي إن اشتمل على مصلحة صحّ و إلّا فلا.

فمن هذا البيع الخاصّ لا يحكم بسفهه، و إن حكم ببطلانه، إلّا أن يحرز ذهاب الملكة المعتبرة في الرشد، كما أنّه لا يحكم في معاملة السفيه- المشتملة على الإصلاح و المصلحة في تلك المعاملة الشخصيّة- برشده، إلّا أن يحرز كشفه عن الملكة فيتبعه صحّة المعاملة و عدمها.

لكنّ الفرق بين العقل و السفه ثابت في ابتداء البلوغ، فيحكم بالعقل مع الشكّ، دون السفه، و ذلك لأنّ الأصل في الإنسان العقل، و ذلك من جهة الغلبة أو من جهة أنّه بمقتضى الآيات فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا (1) و غيرها (2) و الأخبار (3) لتخمير الإنسان من العقل، قد ثبت أنّ الاستعداد ثابت في كلّ إنسان، فكلّ إنسان عاقل، إلّا أنّ الصبيّ المميّز قد الغيت أفعاله و إن كان عاقلا، فإذا بلغ ارتفع الحجر عنه مع وجود المقتضي فيه، و الشكّ في الرافع هل اختصّ ذلك الاستعداد أم لا؟ و الأصل عدمه.

و أمّا السفه، و إن كان مقتضى القاعدة كذلك، إلّا أنّ الشارع أوجب إحراز عدم المانع قبل البلوغ، فقال وَ ابْتَلُوا الْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ (4) فقبل الإحراز لا يجوز، فهو بالنسبة إلى التكاليف بعد البلوغ غير متوقّف على إحراز عقله، فيجيزه الوليّ، لكنّه بالنسبة إلى التكاليف الماليّة محجور لا يجوز للولي إيكال اموره إلى نفسه إلّا أن يحرز إصلاحه في ماله.


1- الروم (30): 30.
2- البقرة (2): 138.
3- انظر! بحار الأنوار: 1/ 86 الحديث 8، و 96 الباب 2، و 3/ 276 الباب 11.
4- النساء (4): 6.

ص: 429

ثمّ إنّه لا فرق في وجوب كون صدور الأفعال مسبوقا بتعقّل داع، بين ما يكون الداعي أمرا مباحا أو أمرا محرّما، فالعاصي ليس بسفيه، لأنّه يلاحظ في أفعاله غرضا و مصلحة يرتّب عليه أمثاله من العقلاء أفعالا، و لو كانت المصلحة معصية أو كان نفس الفعل معصية كالزنا، فإنّ المقصود منه استلذاذ النفس و إن كان محرّما على هذا الوجه لكنّه يترتّب على مثله من الأغراض النفسانيّة أفعال.

نعم؛ لو كان البالغ في أوّل بلوغه صارفا ماله في الجهة المحرّمة ينكشف عن عدم الملكة- فتأمّل!- لو لم يكشف الملكة تغيّره، و لو عرض للإنسان أحيانا حالة أوجبت صدور فعل عنه بغير قصد أو بغير داع كالمغضب بقسميه لهيجان سودائه و غلبته، فهذا بالنسبة إلى الأفعال الصادرة منه في تلك الحالة محجور عليه مرفوع القلم [عنه] غير مترتّب عليها الأحكام الوضعيّة، فلو طلّق أو ظاهر أو آلى، بطل، لكنّه لا يخرج عن حدود التكاليف.

فمعنى كمال العقل أن يكون قاصدا في أقواله و أفعاله مطلقا، صادرة عنه لداع و غرض عقلائي رافعا عنه الحجر، ممضيّ منه تلك الأفعال و الأقوال و هو البالغ العاقل الرشيد.

فائدة

قالوا: و لا يضمن صاحب الحمّام الثياب (1).

أقول: توضيح المطلب يتوقّف على مقدّمتين:

الاولى: بما أن عدم كون ما في الحمام داخلا تحت يد الحمامي ما دام


1- النهاية للشيخ الطوسي: 449، السرائر: 2/ 470، المختصر النافع: 177، شرائع الإسلام: 2/ 188.

ص: 430

الناس فيه شرعا في كونهم مأذونين في دخوله و خروجه، بحيث يكون كالشارع لهم لا إذا منعهم أو أقفل باب الحمّام، و لذا ذكروا: إنّ ما يوجد في الحمّام كاللقطة لا يملكه الحمّامي كما يملكه غيره في ملكه.

و الضابطة أنّ ما يوجد في صندوق المالك أو داره أو غيرهما من أملاكه و لا يعرفه فهو لقطة، مع مشاركة الغير و لا معه حاصل له، فما يوجد في الحمّام لقطة ما دام المشاركة، لا بدونها.

الثانية: لا يكفي في العقود اللازمة و غيرها الإذنيّة و التمليكيّة شاهد الحال، بل لا بدّ فيها من كاشف قوليّ أو فعليّ، و لذا لو علم شخص رضا أخيه بأن يكون ماله ملكا له بعوض أو لا معه؛ لم يصحّ له التصرّف فيه بنقل أو غيره.

نعم؛ يكفي شاهد الحال في جواز التصرّف، بحيث يستند الإذن إليه في غير ما تضمّنته الآية، و فيه حتّى مع جهل الحال بالرضا و عدمه؛ للإذن شرعا، كالأكل ممّا يمرّ به من ثمرة النخل و الفواكه و الزرع مع عدم الإفساد و الحمل، حيث إنّ الإذن من الشارع في صورة الجهل بالحال جوّز التصرّف، بخلاف ما لو علم حال المالك في المقامين، فإنّه غير صحيح فيه التصرّف، و لما ذكرنا لو طرح شيئا عنده لم تصر وديعة و إن قصد الدافع الوديعة، بل [و لو] أوقع الإيجاب؛ لعدم حصول القبول و لو فعلا من المدفوع عنده.

نعم؛ لو طرحها في ملكه عنده بحيث يكون تحت يده، يجب حفظه لو غاب المالك و خيف عليها التلف من باب المعاونة على البرّ، لكن لا ضمان عليه، لكونه مستأمنا من جانب الشارع و لا يصير بقبضه بعد وجوبه وديعة لعدم الكاشف لقبول ذلك الإيجاب الّذي حصل بعد غياب الموجب، فافهم.

ص: 431

إذا تقرّر ذلك فنقول: إنّه لا يجب على الحمّامي حفظ ما وضعه السالخ من الثياب و لا ما وجد فيه بل يكون لقطة، بل يكره أخذها، بل يكون هو و غيره شرعا في ذلك.

أمّا الأوّل، فلعدم كون الحمّام كالملك العامّ، فلم يدخل الثياب تحت يده حتّى يجب عليه الحفظ من باب المعاونة، فلا يتوجّه دعوى التفريط من المالك إليه، لو لم يحصل منه إيجاب ك (احفظها) و لا يضمن بترك الحفظ، فلا يقال: إنّ طرح الثياب عنده إيجاب للوديعة عنده مع سكوته، و مشاهدته قبول منه، فيجب عليه الحفظ لما ذكر إن لم نقل بصيرورتها وديعة بذلك، أي بسبب طرحها في ملكه مع عدم الردّ.

فإن قلت: كما أنّ إلقاء الإزار في الحمّام ردّ للأمانة الّتي وقع إيجابها بالإعطاء أو الطرح، كذلك إلقاء الثياب عند الحمّامي كاف في الإيجاب، و سكوت الحمّامي كاف في قبوله.

قلت: إنّ سكوته مع اطّلاعه و عدم مطالبته قرينة على الرضا بذلك و إسقاط لحقّه، بخلاف السكوت عند نزع الثياب، فإنّه لا يكفي في ثبوت الحقّ على نفسه و تحقّق القبول منه.

و الحاصل؛ إنّه يكفي عن الإسقاط السكوت مع المشاهدة، نعم؛ لو لم يشاهد الإزار حال إلقائه توجّه ضمانه له حتّى يثبت الردّ.

ص: 432

ضابطة في تعيين المنكر و المدّعي

و المشهور في بيان الضابط أنّ المدّعي من خالف قوله الظاهر أو الأصل، و مقابله المنكر، فوقعوا من ذلك في موارد اليمين المتّفق عليها فيها لتوجيهها عليها، في تكلّفات غير مرضيّة و لا محصّلة.

و التحقيق على ما حصّلناه من مواردها و الأخبار في ميزان المنكر، أنّ [المنكر] من وافق قوله الأصل أو الظاهر أو أمارة، كاليد، أو قاعدتي الإحسان، و الأمانة، و تخليد الحبس، و كون أمر المدّعي أمرا لا يعلم إلّا من قبله، أو غيرها لتعذّر إقامة البيّنة الشرعيّة (1).

فمثال الأوّل: ما لو ادّعى شخص على أحد دينا.

و الثاني: كما لو ادّعى الزوج عدم الدخول و الزوجة تدّعيه، فالقول قولها مع الخلوة التامّة على ما استقر به الشهيد في «اللمعة» (2) عملا بالظاهر مع ورود الأخبار الدالّة على وجوب المهر بالخلوة التامّة (3) بحملها على كونه دخل بشهادة الظاهر، و إن كان الأشهر تقديم قوله مطلقا ترجيحا للأصل، إلّا أنّ المقصود بيان توجّه اليمين على من وافق قوله الظاهر مع مخالفته للأصل في الجملة.

و من هذا القبيل: ما لو ادّعى زوجيّة امرأة و ادّعت اختها عليه الزوجيّة مع الدخول بالمدّعية فيما لو لم يكن بيّنة لأحدهما، أو مع تعارض البيّنة مع عدم


1- قيل: و يجمع ما ذكرنا تعريف المشهور المدّعي بالّذي يترك لو ترك الخصومة، و المنكر مقابله، «منه رحمه اللّه».
2- اللمعة الدمشقيّة: 117.
3- لاحظ! وسائل الشيعة: 21/ 321 الحديث 27191، و 322 الحديث 27192 و 27193.

ص: 433

تقدّم تأريخ بيّنة، فإنّ الحكم تقديم قول المدّعية بالظاهر على ما هو المشهور، و ما ذكروا في بيان اشتراط تعيين الزوج و الزوجة أنّه لو كانت له بنات و زوّجه واحدة و أبهم و عيّن في نفسه و اختلفا في المعقود عليها حلف الأب، إلّا إذا كان الزوج رآهنّ و إلّا بطل العقد (1).

و الثالث: كما لو ثبت كون العين مثلا في يد عمرو سابقا مع كونها في الحال في يد زيد، فإنّ الحكم هو أنّ استصحاب اليد الحاليّة مقدّم على استصحاب اليد القديمة، فليثبت ذو اليد القديمة غصبيّتها، سواء قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا على الملكيّة؛ لغلبة كون ذي اليد في مواردها مالكا أو نائبا عنه، و قلّة اليد الغير المستقلّة بالنسبة إليها، و أنّ الشارع اعتبرها- أي الغلبة- تسهيلا على العباد و قد حقّق في الأصول أنّ أدلّة الأمارات حاكمة على أدلّة الاستصحاب و ليس تخصيصا، و لا متخصّصة و لا مخصّصة بها.

أو قلنا بأنّ اليد غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة، أو كاشفة لكن اعتبارها ليس من باب الكشف بل جعلها في موارد الشكّ تعبّدا لتوقّف الانتظام و استقامة امور العباد على اعتبارها، نظير أصالة الطهارة، كما يشير إليه قوله في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما بيد المسلمين «و لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» (2).

و لذا لو لم يكن لذي اليد مدّع حكم بها له و يترتّب عليه آثار الملكيّة، و إن علم سبق ملكيّة الغير.


1- النهاية للشيخ الطوسي: 468، المهذّب لابن البراج: 2/ 196، المختصر النافع: 194.
2- وسائل الشيعة: 27/ 292 الحديث 33780، مع اختلاف يسير.

ص: 434

نعم؛ لو اعترف بسبق الملك له انتزعت العين من يده حتّى يثبت الناقل، و ذلك ليس من باب تقديم الاستصحاب على اليد، بل من جهة أنّه باعترافه بذلك صار مدّعيا و المدّعي منكرا فعليه البيّنة.

ألا ترى أنّه لو لم يعترف بذلك و تمسّك في ملكيّته باليد لم تنقض اليد و إن علم الحاكم سبق يد المدّعي عليه، فافهم!

و بالجملة؛ فكون ذي اليد منكرا و توجّه اليمين عليه مع كون قوله مخالفا للأصل في مورد العلم بسبق ملك الغير، لمكان اليد، و لو قيل: إنّ دليل اعتبارها أبطل الأصل السابق فليس هناك أصل حتّى يلزم مخالفة الأصل المعتبر.

ففيه مع أنّه كلام ظاهري إلّا أن يرجع إلى ما حقّقناه من الحكومة ففيه ثبوت المطلوب على أيّ تقدير؛ إذ هو كون المنكر متوجّها عليه اليمين لوجود اليد، سواء كان هناك مخالفة أصل أم لم يكن أصل هناك أصلا، فافهم!

و من الرابع: تقديم قول الودعيّ في الردّ، توضيحه: إن أخذه لمجرّد مصلحة الدافع فهو محسن محض، و مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (1)، مع أنّ بناء الوديعة على الإخفاء، و لذا لو لم يشهد في الردّ لم يضمن، فلو لم يقبل قوله في ذلك لسدّ باب هذا المعروف.

و من الخامس: تقديم قول الأمين في الأمانات الشرعيّة و المالكيّة في التلف، مع أنّ الأصل عدمه فإنّ ذلك لمكان الأمانة، و ليس على الأمين ضمان، فتأمّل.

و من السادس: تقديم قول الغاصب في التلف مع كون الأصل عدمه، و ذلك لأنّه لو لم يقدّم قوله في دعواه ذلك و كلّف بردّ العين و كان في الواقع صادقا، لزم


1- التوبة (9): 91.

ص: 435

تخليده في الحبس و كذا في دعوى الإعسار إذا كان الدعوى بغير مال.

و من السابع: تقديم قول الدائن الّذي عليه دينان مرهون بهما، أو مرهون بأحدهما دون الآخر، فدفع إلى المديون أحدهما و أطلق في ما قصده، و ذلك لكون الأمر ممّا لا يعلم إلّا من قبله، مع كون الأصل خلافه، و إن كان معارضا بمثله.

و كذا تقديم قول الزوج في ما لو دفع إليها شيئا من جنس مهرها أنّه قصد به مهرها.

و بالجملة؛ تقديم قول الدافع على الآخذ فيما قصده غير عزيز في أبواب الفقه مع كون الأصل بخلافه و هو أصالة اشتغال ذمّة الدافع فيما لو كان، و أمّا كون الأصل خلاف ما يدّعيه الدافع فمعارض بمثله دائما، و كسماع دعوى المعير في دعواه الإعسار لو كان أصل الدعوى بغير مال و القناعة بحلف فتأمّل! مع كون الأصل عدم الإعسار، فتأمّل!

و أمّا غير المذكورات من أسباب الإنكار فلم يحضرني الآن مثاله كأصالة الصحّة في الأحكام و الموضوعات و كتقديم قول المشتري في قدر الثمن لو اختلف هو و الشفيع للقهر عليه بإزالة الملك من يده قهرا عليه، فافهم. و كما في اختلاف المعتق نصيبه من العبد المشترك بينه و بين غيره معه في قيمته.

تذنيب

معنى قوله عليه السّلام: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» (1) إلزام المدّعي


1- مستدرك الوسائل: 17/ 368 الحديث 21601.

ص: 436

على إقامتها و رخصة المنكر في رفع الاحتمال و سقوط المخاصمة بيمينه، و السبب في ذلك أنّ المدّعي دائما يدّعي أمرا على خلاف الدليل و المنكر يدّعي أمرا مع دليل أو أمارة أو أصل أو ظاهر يكون حجّة بورود الأخبار على تقديمه لا مطلقا، و لذا يقدّم الأصل على الظاهر في غير ما ورد من الشرع حجّيته- فافهم- فالزم المدّعي على دليل رافع لدليل المنكر الظاهري المستند إليه دعواه و قنع من المنكر لاحتمال كون الواقع خلاف ما يقتضيه دليله في الظاهر لو ردّ دليل المدّعى عليه، و لذا يقدّم قوله مع البيّنة بلا إشكال، مع كون المنكر مستندا إلى دليل.

فلو أقام المنكر بيّنة سمع منه، و لذا ذكر في «الدروس» أنّه لو التمس ذو اليد من الحاكم أن يستمع لشهوده للتسجيل جاز له ذلك، و إن لم يكن هناك مدّع بالفعل (1).

و بالجملة؛ معنى الرواية: أنّ من كان معه أصل- أي دليل اجتهادي أو فقاهتي- سواء كان دليلا لفظيّا أو غيره، أو كان قوله حجّة لحكم الشارع بها، أو استلزم سماع دعوى مقابله محذورا، كتخليد الحبس في باب الغصب و غيره، أو عدم إمكان صدق دعواه، كما لو كان المدّعى به أمرا لا يعلم إلّا من قبل الفاعل و لم يدّع إقراره بما يدّعيه من قصده (2).


1- الدروس الشرعيّة: 2/ 77.
2- هنا بياض في الأصل.

ص: 437

التنازع بين الوكيل و الموكّل

قال المحقّق في «المختصر النافع»: و لو تنازعا في الاستيجار فالقول قول المنكر مع يمينه (1).

أقول: إمّا أن يكون النزاع قبل استيفاء شي ء من المنفعة أو بعده أو بعد استيفاء الجميع، و في كلّ من التقادير إمّا أن يكون المدّعي المالك أو المستأجر، و يتصوّر النزاع في كلّ من الصور الستّ، أمّا لو كان المدّعي المالك فقبل الاستيفاء يدّعي استحقاق الاجرة بانتقال المنفعة إليه، فهنا إذا حلف، حكم بانفساخها ظاهرا و يتصرّف فيها قصاصا، إلّا أنّها لو كانت اجرة مثلها أزيد من المسمّى وجب عليه- لو كان صادقا- أن يدسّ الزائد في مال المستأجر، و إن كانت الاجرة أنقص من المسمّى فله أخذ الناقص متى تمكّن مقاصّة، هذا على القول بالانفساخ ظاهرا.

لكنّ التحقيق هو الانفساخ واقعا، كما سيجي ء.

و إن كان بعد استيفائها أجمع فكذلك المالك يدّعي الاجرة و المستأجر ينفيها، فإن ادّعى مع ذلك جواز تصرّفه فيها مجّانا إمّا عارية أو غيرها، بأن كان جوابه لدعوى المالك أنّها عارية أو سكنى، و نعني بها الجائزة لا اللازمة فإنّها مورد التحالف، كما لا يخفى.

فقد قيل: إنّ المشهور بعد حلفه سقوط الاجرة، لأصالة براءة ذمّته، كما هو ظاهر إطلاقهم لحلف الراكب و سقوط الاجرة فيما لو قال الراكب: أعرتنيها، و قال


1- المختصر النافع: 177.

ص: 438

المالك: آجرتكها (1).

و قيل في مثل المقام كالمثال المفروض في كلماتهم: بل يحلف المالك، لأنّ المنافع أموال كالأعيان، فهي بالأصالة للمالك، فادّعاء غيره لها بغير عوض على خلاف الأصل (2)، فيوجّه الحلف عليه في عدم إذنه للتصرّف و الاستيفاء و عدم الانتقال إليه مجّانا- مثلا- فافهم.

و قوّاه الشهيد الأوّل مع إثباته له اجرة المثل إلّا أن تزيد على ما ادّعاه (3).

و فيه نظر؛ إذ النزاع في السبب و هو الإجارة و العارية، و يتفرّع على كلّ منهما أثر شرعيّ، فأصالة العدم جارية بالنسبة إلى كلّ منهما إلّا أنّ أصالة عدم العارية الّتي هي مع المالك لا يترتّب عليه أثر إلّا بعد ثبوت الإجارة، أو تكون المنفعة مالا محترما لمالك العين، كما قرّره الشهيد الثاني في وجه تقوية الشهيد الأوّل (4)، و هذا أصل مثبت غير معتبر عند أكثر الاصوليّين، كما هو المحقّق في محلّه.

و أمّا أصالة عدم الإجارة الّتي مع المنكر للإجارة فالأثر المترتّب عليها بلا واسطة و هو عدم الضمان لها، إلّا أن يقال: إنّ مجرّد نفي الإجارة لا يستلزم نفيه، إلّا أن يثبت كونها مجّانا و هو غير معلوم، بل المعلوم هنا خلافه، لاستيفائها مع كونها للمالك و أصالة البراءة مورودة بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي، و هو أصالة ضمان الأموال الّتي منها المنافع.


1- الخلاف: 3/ 388 المسألة 2.
2- مسالك الإفهام: 5/ 164، الروضة البهيّة: 4/ 269.
3- اللمعة الدمشقيّة: 91.
4- الروضة البهيّة: 4/ 270- 271.

ص: 439

أو يقال بأنّ الأصل المثبت معتبر عند المشهور، كما يظهر من فروعهم المذكورة في أبواب الفقه في آخرها في مسألة التنازع.

أو يقال بأنّ الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفيّة فلا شبهة في اعتبارها، و الواسطة بين أصالة عدم العارية و الضمان خفيّة، فتأمّل!

و الحاصل؛ أنّ الأصلين متماثلان، لكونهما أصلين مثبتين إمّا معتبرين أو غير معتبرين، فيتساقطان، فيرجع إلى الأصل الموجود في المقام إن لم يكن دليل فيه، و إلّا فهو المرجع، كما في ما نحن فيه، فيتمّ كلام الشهيد و من تابعه.

و ظنّي أنّ مراد المشهور من إطلاقهم لتلك المسألة إنّما هو صورة عدم استيفاء المنفعة أو بعد استيفاء شي ء منها، لكن بالنسبة إلى ما بعد، لا بالنسبة إلى ما قبل، فتأمّل جيّدا!

و إن لم يكن جواب المستأجر ما يوجب المجانيّة توجّه اليمين عليه و يحكم بعدم وقوع العقد، فإن كان قبض اجرة المسمّى المتعيّنة وجب عليه ردّها إن كان مغايرا لاجرة المثل، لأنّ اليمين ذهبت بما فيه و طالبه اجرة المثل، و إن كان من جنسه لزم المالك أخذه إن أذن له المستأجر أو لم يكن قبضها فدفعها إليه، و إن لم يقبضها جاز له التصرّف فيه مقاصّة.

و من هاتين الصورتين يتّضح حكم الصورة الثالثة، و هو ما لو كان النزاع في الأثناء، فبالنسبة إلى المدّة الماضية يأتي حكم الصورة الثانية، و بالنسبة إلى المدّة الباقية يأتي حكم الاولى، و لكن بحلف واحد يستحقّ اجرة مثل المدّة الماضية و ينفسخ بالنسبة إلى الباقية.

و لو كان المدّعي المستأجر و كان قبل الاستيفاء كان مقصوده المنفعة فإذا

ص: 440

حلف المؤجر رجعت الأجرة إلى المستأجر، فيتصرّف فيها مقاصّة.

فإن قلت: إنّ المقاصّة بعد اليمين غير جائزة لذهابها بما فيها.

قلت: ليس هذه المقاصّة من الّتي تحرم بعدها، إذ ليس الواجب بعد الحلف و لا وجوب التصديق و ترتيب آثار الصدق عليه، فإذا حلف المديون على عدم اشتغال ذمّته لزيد مثلا، فلا يجوز له المقاصّة و الأخذ من مال المديون لوجوب تصديقه المنافي لذلك، و أخذ المستأجر الاجرة لا ينافي صدق المؤجر الحالف على عدم استحقاق المستأجر للمنفعة، و إن كان بعد استيفاء المنفعة.

فإن أنكر المؤجر لادّعائه اجرة المثل، و ذلك حيث أنكر الإذن في التصرّف فتوجّه الدعوى ظاهر، و إن اعترف بالإذن فإن لم يترتّب على الدعوى أثر، مثل أن يقول المالك: أعرتكها، فيقول المستأجر: بل آجرتنيها، لم يسمع الدعوى، لعدم كونها ملزمة لشي ء، و إن ترتّب عليها أثر مثل أن كانت الإجارة مشروطة في عقد لازم على المستأجر، فيقول المستأجر: وفيت بالشرط، فينكره المؤجر، فمقصود المستأجر عدم ثبوت الخيار للمؤجر و هو يثبته.

و لذا لو كان النزاع بعد انقضاء مدّة، لكن المنفعة غير مستوفاة للمستأجر و كانت العين في تلك المدّة في يده توجّهت الدعوى أيضا مع اعترافه بالإذن إن رتّب عليها أثر، مثل أن كان جواب المؤجر كونها سكنى و قد شرطت تلك على المؤجر في عقد لازم، فيقول المستأجر: ما وفيت بشرطك فلي الخيار، لكون العين مستأجرة، فيقول المؤجر: كانت هي سكنى فلا خيار.

و من الصورتين يعلم حكم النزاع بعد استيفاء شي ء من المنفعة، فليتأمّل!

لكن ليعلم أنّ انفساخ العقد بعد الحلف لو كان هنا في الواقع من أيّ سبب

ص: 441

هو أ واقعي أم ظاهري، و الّذي ينبغي أن يقال- و هو المستظهر من كلماتهم و المصرّح من بعضهم (1)- هو الانفساخ الواقعي، و ذلك لتنزّل تعذّر العوض بعد الحلف منزلة التلف، بل التعذّر الشرعي أقوى من التعذّر الواقعي، فينفسخ العقد.

و قيل: بل يتخيّر غير الحالف، لتعذّر تسليم العوض بالحلف بين الفسخ و الإمضاء (2)، و على هذا يتوجّه جميع ما سبق من وجوب الدسّ و جواز المقاصّة في صورة الزيادة و النقيصة لو لم يفسخ.

و أمّا لو فسخ- أو قلنا بالانفساخ- فمقتضاهما رجوع كلّ عوض إلى مالكه.

ثمّ اعلم! أنّ الإنكار في باب الوديعة و الأمانة موجب للضمان، لكون المنكر به خائنا، فلا يسمع دعواه بعد ذلك التلف أو الردّ، لكنّه إذا كان متعلّق الإنكار موضوع الأمانة، بأن يقول: ليس عندي شي ء و أمّا إن كان متعلّقه الأمانيّة فليس الإنكار موجبا لضمانه، و لذا لو أنكر الإجارة لم يضمن؛ لإنكاره الأمانيّة الثابتة بالإجارة لا نفس العين المستأجرة.

ثمّ إنّه في جميع صور إنكار المالك للإجارة و الإذن تكون العين مضمونة لعموم «على اليد» (3) من غير استيمان من المالك أو غيره.

و في جميع صور إنكار المستأجر و ادّعاء المؤجر لها لا يحكم بضمانها، لاعتراف المالك بكونها أمانة، إلّا أن يدّعي إجارة مضمونة، و قلنا بصحّتها- كما


1- المهذّب لابن البرّاج: 1/ 474.
2- جواهر الكلام: 27/ 206.
3- عوالي اللآلي: 1/ 224 الحديث 106، و 389 الحديث 22، و 2/ 345 الحديث 10، و 3/ 246 الحديث 2، و 251 الحديث 3.

ص: 442

اختارها السيّد صاحب «الرياض» (1)- فتكون أيضا مضمونة.

و اعلم أيضا! أنّ الحكم بالانفساخ في الصور الممكن فيها ذلك بعد الحلف أو التحالف؛ لتعذّر تسلّم العوض إنّما هو في ما إذا كان النزاع قبل الاستيفاء لا بعده، فإنّ الانفساخ بالنسبة إلى المدّة الماضية المستوفاة غير متصوّر، و لذا لو كانت الاجرة المسمّاة المدّعى بها معيّنة لم ترجع بعد الحلف إلى المستأجر، و لم يحكم أحد بذلك، بل أجروا عليها حكم مجهول المالك مع ثبوت اجرة المثل عليه للمنافع و لدخولها تحتها بتبعيّة العين- فتأمّل!- و لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» (2)، فكما أنّ المنفعة كانت مضمونة على المستأجر لو كانت الإجارة صحيحة و إن لم يستوفها، كذلك مضمونة عليه مع فسادها.

هذا لو قلنا بأنّ تلك القاعدة من باب الإقدام، كما يستظهر من الشيخ رحمه اللّه (3).

و أمّا إن قلنا بها من باب اليد أو احترام الأموال- كما هو الظاهر المبيّن في محلّه- فالدليل هو عموم «على اليد» (4) إن قلنا بشمولها للمنافع، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم:

«لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» (5) بناء على صدق المال على المنفعة، كما هو الأقوى.

فإن قيل: إنّ المنافع المستوفاة في البيع الفاسد لقاعدة «على اليد» (6) أو الإتلاف، و في الإجارة الفاسدة مضمونة لقاعدة الإتلاف، بل و لو فرض عدم


1- رياض المسائل: 6/ 18.
2- المكاسب: 3/ 182.
3- المبسوط: 3/ 65.
4- مرّ آنفا.
5- عوالي اللآلي: 1/ 222 الحديث 98، مع اختلاف يسير.
6- مرّ آنفا.

ص: 443

ثبوت اليد على العين الموجبة لضمانها فلو لم يجر فيها قاعدة «ما يضمن» (1) سواء قلنا بها من باب اليد أو من باب الإقدام كفى في ضمانها قاعدة الإتلاف.

لكن المنافع الغير المستوفاة في المبيع داخلة في ما لا يضمن لو قلنا بها من باب الإقدام أو من باب اليد. فلو قلنا بعدم ضمانها هناك ينبغي القول به هنا أيضا.

قلنا: المنفعة هنا نفسها مورد للإجارة، فلا يتوهّم كونها ممّا لا يضمن، فهي كنفس العين في باب البيع.

و أمّا حكم الإجارة الواقعة على عمل الحرّ فاسدة، فإن استوفاها المستأجر [و كان المؤجر و المستأجر] عالمين [بالفساد] أو جاهلين- كما في الصورة السابقة من الإجارة الفاسدة- فلا إشكال في ضمان ذلك العمل الواقع في الخارج بأمر المستأجر، و الأمر بالعمل من جملة الأسباب المقتضية لضمانه، لاحترام عمل المسلم بناء على كون الأمر المستفاد من لفظ الإجارة الفاسدة لم يحصل من غيره- سابقا عليه أو لاحقا- كافيا في تحقّق السبب و إن بطلت الإجارة.

كما قالوا في عدم بطلان الإذن في الوكالة الباطلة ببطلانها (2)، فيستحقّ اجرة المثل لو جعل فيها أجر و ترتّب عليه جميع تصرّفاته الموقوفة على الإذن.

مع أنّ قاعدة «ما يضمن» جارية في أمثال المقام، إلّا أنّه لو قلنا بالضمان


1- مرّ آنفا.
2- تذكرة الفقهاء: 2/ 114 ط. ق، جامع المقاصد: 8/ 181، الروضة البهيّة: 4/ 369، مسالك الإفهام: 5/ 240.

ص: 444

في الفاسد من باب اليد، فهنا في فاسده هو الأمر، و أمّا لو قلنا بها من باب الإقدام، فلا فرق بين هذا و ما سبق، فافهم! و حيث قد حقّقنا سابقا أنّ أسباب الضمان منحصرة في الثلاثة: اليد و المباشرة و التسبيب، و دليل اليد مطلق، و كذا دليل المباشرة بقاعدة «من أتلف» (1) المجمع عليها الواردة في مواردها الجزئيّة الأخبار المتكثّرة، مثل تغريم شاهد الزور (2) و غيره (3) [و المسبّب] و إن كان سببا إلّا أنّ دليل السبب هو دليل المباشرة، حيث إنّ السبب ما لم يضعف، المباشر بإكراهه أو غروره لا يضمن، لعدم صدق المتلف عليه حقيقة، فقد ظهر دليل ضمان السبب في مورده.

ثمّ لا فرق في الغرور بين كون الغارّ عالما أو جاهلا، و لذا حكموا بوجوب الدية على الشهود لو رجعوا بعد الحكم و الاستيفاء، بأن قالوا: أخطأنا في الشهادة (4)، و كذا في صورة اغترام المشتري بالبيع الفضولي للمالك مع جهله أطلقوا الحكم بجواز رجوعه على البائع، لقاعدة الغرور (5).

نعم؛ يجب كون ما يوجب غروره ممّا يجوز للمغرور ترتّب الأثر عليه، مثل أن كان- في البيع الفضولي- البائع ذا اليد للمبيع، سواء سكت أو ادّعى إذنه من المالك، و السرّ في ذلك ما كرّرناه في تضاعيف تحريراتنا من أنّ هذه القاعدة مجعولة من الشارع لتدارك الحكم الضرري الناشئ منه، فحيث جعل قول ذي


1- انظر! جواهر الكلام: 27/ 246، القواعد الفقهيّة: 2/ 28 و 29.
2- وسائل الشيعة: 27/ 327 الباب 11 من أبواب كتاب الشهادات.
3- لاحظ! وسائل الشيعة: 18/ 389 الباب 6 و 7 من أبواب كتاب الرهن.
4- المبسوط: 8/ 246، شرائع الإسلام: 4/ 143، اللمعة الدمشقيّة: 56، مسالك الإفهام: 14/ 300.
5- انظر! المكاسب: 3/ 292 و 493.

ص: 445

اليد حجّة فلو تضرّر منه تداركه بأن حكم برجوعه عليه.

و كما في ضمان الطبيب الحاذق حيث إنّه لو لم يكن حاذقا لا يضمن ما ترتّب على قوله، لعدم جعله حجّة، فلم يحصل التضرّر من الشارع، بل إنّما حصل لسوء اختيار المكلّف حيث عمل بقوله.

و أنت إذا راجعت موارد هذه القاعدة تجد صدق قولنا في الإطلاق، و كذا السرّ الّذي استنبطناه من موارد الحكم.

و الحاصل؛ أنّ الغارّ سبب للإتلاف فهو المتلف حقيقة لضعف المباشر.

و قد خرجنا بطول الكلام عمّا قصدناه فلنرجع إليه، فنقول: إنّ الأمر بالعمل ممّا جعله الشارع سببا لضمان العمل دون الأعيان، إلّا في مثل مسألة:

ألق متاعك في البحر و عليّ ضمانه، لمسيس الحاجة، لعدم صحّة ضمان ما لم يجب، و إنّما الكلام في صورة بذل العين المتعلّقة بها المنفعة المطلقة أو المقيّدة بوقت معيّن و عدم قبض المستأجر لها، و في صورة وقوع الإجارة على عمل الحرّ فبذل نفسه له و لم يستوفها، و لا بدّ من تأسيس أصل في باب الضمانات لكونه هو المعوّل في مواردها.

فنقول: أسباب الضمان في الأعيان ثلاثة: اليد، و المباشرة، و التسبيب.

و أمّا الضمان العقدي فليس فيه سبب إلّا اليد إلّا أنّ العقد مشخّص للمضمون و المتدارك به، و لذا لا يثبت الضمان في القرض إلّا بالقبض إجماعا، و كذا يكون الضمان عوضا في البيع و نحوه من العقود المعاوضيّة، بل العقود الشبيهة بالمعاوضة مثل النكاح و الخلع بالنسبة إلى العوض المسمّى على من انتقل عنه مع حصول العقد الموجب لكون الضمان على من انتقل إليه.

ص: 446

و ليس ذلك إلّا لكون يده يد ضمان و العقد إن عيّن المضمون به و هو البدل الّذي تواطأ عليه المتعاقدان و أمضاه الشارع، و لولاه لكان المضمون به ما عيّنه الشارع في موارد الضمانات على وجه الكليّة.

و أمّا المباشرة فهو الإتلاف.

و أمّا التسبيب؛ فإن كان بحيث يوجب استناد الإتلاف شرعا أو عرفا إلى السبب، بأن لم يكن هناك مباشر، أو كان و لكنّه معذور إمّا لكونه مكرها أو جاهلا، فالضمان عليه، و إن لم يكن كذلك كان الضمان على المباشر إن كان، و إلّا فلا يكون الضمان على أحد، و أمّا عقد الضمان فلكون الضامن سببا لسقوط حقّ المضمون عنه، و لذا لو لم يكن حقّه موجودا في زمان العقد بطل العقد.

نعم؛ قد يجب في بعض الموارد تداركه من الشارع إمّا من بيت المال أو من غيره، كما لو حفر بئرا في ملكه فوقع فيه غيره من غير مباشرة من أحد.

و أمّا أسباب الضمان في المنافع و الأوصاف أيضا ثلاثة: اليد، إذا دخل متعلّقها تحت اليد، فتدخل المنافع و الأوصاف تحتها بتبعها، و المباشرة، و التسبيب.

و قد تتصوّر اليد في الأوصاف إذا لم تكن اليد بالنسبة إلى متعلّقها غصبا، كما إذا كانت العين لشخص و الوصف لآخر فتصرّف فيها صاحبها من دون إذن صاحب الوصف، و إن كان قد يتصوّر مثل هذا في المنفعة، كما إذا امتنع المؤجر من قبض العين المستأجرة لكنّها بالسبب أشبه.

و لذا قيل فيها بالخيار، و من قال بالبطلان نظر إلى كون المنفعة متلفة تحت يده الضامنة، نظير تلف المبيع قبل قبضه مع امتناع البائع من قبضه.

و أمّا المباشرة فالمراد منها في المنافع هو الاستيفاء و في الأوصاف

ص: 447

الإتلاف كالأعيان و الأعمال، و سبب ضمان المنافع فيما إذا كان هناك يد هو اليد، و إن كان ذو اليد العادية سببا في التلف أيضا، و كذا في الأوصاف.

و أمّا إذا لم يكن هناك يد فالسبب هو الإتلاف، و دليله هو قاعدة «من أتلف مال غيره» (1) الشامل للمنافع و الأوصاف.

و أمّا التسبيب؛ فإن كان بحيث يصدق على السبب أنّه متلف صحّ الضمان و إلّا فلا.

و الكلام في ضمانها بالعقد، كما ذكر في الأعيان، و أمّا الأعمال فسبب الضمان إمّا المباشرة و الاستيفاء أو التسبيب، و لا يتصوّر اليد هنا، لعدم دخولها تحتها لا أصالة و لا تبعا، لأنّها صادرة من الحرّ و هو لا يدخل تحت اليد.

و أمّا عمل العبد؛ فداخل تحت المنافع، و يكفي في السبب الأمر، بل الإذن كاف في السبب، و السرّ في ذلك أنّ احترام عمل المسلم أوجب ضمانها إذا لم يقصد التبرّع أو لم يكن ذلك العمل بغير إذن المعمول له.

ثمّ لا فرق في كفاية الإذن بالعمل في السببيّة بين استيفائه له، كما لو كشف رأسه بين يدي الحلّاق فحلق رأسه، و بين عدم استيفائها، كما لو كشف رأس غيره بين يدي الحلّاق فحلق، و لا بين أن يكون العمل راجعا إلى السبب أم لا يرجع إليه بعد كون العمل ممّا له اجرة في العادة.

نعم؛ لو رجع إلى نفس العامل فقط بحيث لا يرجع نفع إلى السبب أصلا لا يوجب الضمان، حتّى لو أمر، لعدم صدق الإتلاف الموجب لذهابه من كيسه المنافي لاحترامه كاحترام ماله و دمه، كما لو أمره ببناء دار العامل.


1- انظر! جواهر الكلام: 27/ 246، القواعد الفقهيّة: 2/ 28 و 29.

ص: 448

و من هنا يظهر وجه حكم المحقّق و الشيخ في المسابقة الفاسدة- و المشهور في المضاربة الفاسدة- اجرة المثل للسابق و العامل (1).

و يظهر أيضا فساد ما أورده الشهيد الثاني هناك بأنّ الحكم في المضاربة موجّه لحصول الأمر من المالك بالعمل فيها (2)، بخلاف المسابقة، إذ لم يحصل من المسبوق إلّا العقد المتضمّن للعوض الغير السالم من غير أمر.

و ذلك لما قلنا من كفاية الإذن في ضمان الأعمال، و إن كان غير راجع نفعها إلى الضامن بعد صدق ذهاب العمل من كيس المضمون، و المفروض في ما نحن فيه كذلك، بخلاف ما لو أذن أو أمر غيره ببناء داره، فإنّ مقابل عمله أمر موجود قابل للمالية، فتأمّل جيّدا!

تنبيه:

لا يجوز إسقاط الضمان ما لم يكن مستقرّا فلا يجوز إسقاط ضمان اليد لكونه تعليقيّا، و توهّم كون متعلّقها هو الضمان التعليقي أيضا فاسد، إذ ليس هناك أمر ثابت يسقطه، إذ ليس حق ماليّ، و لذا لا يجوز المعاوضة عليه، بل حكم شرعيّ، و لذا قلنا بعدم جواز اشتراط هذا النوع من الضمان في العقود كالإجارة و نحوها بحيث يكون الضمان من جهة الشرط.

فإن قلت: لعلّ عدم جواز إسقاطه عدم فائدته تعدّد سببه بعد الإسقاط، نظير تملّك الابن الأب الكافر بعد السبي.


1- شرائع الإسلام: 2/ 240، و 143، المبسوط: 6/ 302، النهاية للشيخ الطوسي: 428.
2- الروضة البهيّة: 4/ 213.

ص: 449

قلت: بل لو فرض في مورد لا يكون اليد المتجدّدة يد ضمان، كما لو أسقطه بعد إرهانه فيما لو كان الرهن بيد المرتهن قبله عدوانا.

هذا؛ و التحقيق هناك أن يقال: إن قلنا بانقلاب اليد بعد الرهن يد أمانة فيسقط الضمان التعليقي بنفس العقد، و إلّا فلا يثمر الإسقاط السبب آنا فآنا، فتأمّل!

كما حكم بذلك المحقّق و العلّامة أي بصحّة الرهن مع إبقاء الضمان (1)، فإذا تحقّقت هذه المذكورات فنقول: لا شبهة في عدم ضمان العمل الغير المتلف المستوفى بالإجارة الفاسدة، سواء كانت متشخّصة بالوقت أو بغيره، لما عرفت من أنّ سبب ضمان الأعمال إمّا الاستيفاء و ليس، و إمّا الأمر، و إن كان هناك إلّا الأمر الغير المتعقّب بالعمل لا يوجب الضمان.

نعم؛ لو فرض في المتشخّص بالوقت اعتقاد المستأجر له؛ كان له وجه، لكنّه ضعيف في غايته.

فروع:

بقي الكلام في بعض فروع الإجارة الفاسدة.

منها: ما ذكره بعض (2)، و استشكله آخر كالعلّامة (3)، من أنّه لو كانت الاجرة أنقص من اجرة المثل، فإنّ إقدام المؤجر على الأقلّ مع علمه بالفساد إسقاط للضمان بالنسبة إلى الزائد.


1- شرائع الإسلام: 2/ 82، مختلف الشيعة: 5/ 425.
2- جامع المقاصد: 7/ 288- 291.
3- قواعد الأحكام: 1/ 236 ط. ق.

ص: 450

و بعبارة اخرى: المستأجر إن كان جاهلا فهو مغرور بالنسبة إلى الزائد من المسمّى عن اجرة المثل، كما يرجع المشتري المغرور المغترم للقيمة للمالك على البائع الفضولي بالزائد منها عن الثمن، و إن كان عالما فالمؤجر العالم قد أقدم على عدم الضمان بالنسبة إلى الزائد.

و فيه؛ أنّ علمه بذلك يشبه بالوعد لبذل الزائد من اجرة المثل عن المسمّاة، و ليس الغرور هنا متصوّر لاستناده إلى جهله لا إلى المؤجر، كذا قيل (1).

و لكن التحقيق أن يقال: إنّ العالم بالفساد في المعاملة مقدم على أن يكون المال مضمونا على الآخر، و كذا الآخر مقدم على ذلك قاصدا، جاهلا كان أو عالما، و تواطئا على أن يكون المضمون و المتدارك به هو المسمّى، فقد أقدما على الضمان فإن أمضى الشارع ما تواطئا عليه من المضمون به فهو، و إلّا رجع إلى المضمون به العامّ الثابت في موارد الضمانات.

و أمّا مسألة الغرور؛ فقد حرّرنا في تضاعيف كلماتنا مرارا أنّ هذه القاعدة مجعولة من الشارع، لتدارك الحكم الضرري الناشئ منه مع كون الغارّ سببا لتضرّره بحيث يستند الفعل إليه، مع كون المباشر غيره، سواء علم الغارّ أو لم يعلم، فلو فرض كون السبب هو الجهل مع عدم العذر من الشارع فلا معنى لرجوع المغرور على الغارّ، مثلا إذا جعل اليد حجّة في سماع قول ذيها فالمشتري الجاهل إذا اشترى من ذي اليد شيئا و تبيّن فساده باستحقاقه للغير، أو بإخباره بأنّه خلّ- مثلا- فبان خمرا، فالجاهل المغرور يرجع على البائع بغروره، سواء كان عالما أو جاهلا، إذ لا مدخليّة للعلم و الجهل في سببيّة الضمان.


1- جواهر الكلام: 27/ 305.

ص: 451

و في مسألة الإجارة جهل المستأجر بالفساد سبب لتضرّره من غير استناد إلى المؤجر لعدم كونه معذورا.

فتبيّن من هذا التحقيق أن لا غرور في مثل المقام من المؤجر، و قاعدة «ما يضمن» جارية في المقام، لوجود الإقدام على الضمان.

و أمّا التواطؤ على المضمون به فلم يسلّم لهما، و لم يكن له دخل في القاعدة، و لذا قلنا: إنّ القاعدة ليس فيها تفكيك بالنسبة إلى جزأي القضيّة، حيث إنّ المضمون به في الجزء الأوّل هو المسمّى، و المضمون به في الآخر هو المثل، و ذلك لأنّ المراد أن يكون في صحيحه ضمان يكون في فساده أيضا ضمان من غير تعرّض للمضمون به فيها.

و الحاصل؛ أنّ الإقدام على الضمان في الصحيح ثابت في الفاسد فالتلازم في الشرطيّة بسبب معلوليّة الطرفين لأمر ثالث و هو الإقدام، و نظير ذلك في البيع ما لو باع المالك بالبيع الفاسد بأقلّ من ثمن المثل، فإنّه يرجع به لا بالمسمّى، و أمّا البائع الفضولي إذا وقع العقد أوجب الضمان صحيحا أو فاسدا بالنسبة إلى المالك، فلذا لا يرجع المشتري على البائع مع عدم الإجازة و تلف العين بقدر المسمّى من ثمن المثل الّذي دفعه إلى المالك؛ لإقدامه على الضمان، مع أنّ الرجوع إلى الزائد عن ثمن المثل محلّ كلام، لما ذكرنا من إقدامه على الضمان للمالك و دفعه المسمّى إلى البائع بتوهّم كونه مالكا، و ذكر غير واحد من الجماعة كالكركيّ (1) و الشهيد الأوّل في محكي حواشيه (2) و الشهيد الثاني (3) بعدم ضمان


1- جامع المقاصد: 7/ 290 و 291.
2- لم نعثر عليه.
3- مسالك الإفهام: 5/ 183 و 184.

ص: 452

المستأجر باجرة المثل للمؤجر العالم بالفساد من حيث اشتراط عدم الاجرة، و استحسنه السيّد صاحب «الرياض» (1).

فإن قلت: إنّهم ذكروا أنّ المشتري لو كان عالما بالاستحقاق و أنّ البائع غاصب و دفع الثمن إليه، لا يرجع به عليه مع التلف إجماعا، كما في «التذكرة» (2) و إن استبعده في صورة توقّع الإجازة الشهيد في «اللمعة» (3)، فقاعدة «ما يضمن» جارية بالنسبة إليه.

و توهّم المشتري كونه البائع غير قادح في ذلك، فافهم! مع عدم التلف على قول (4)، و ذكروا في بيع غير المملوك مع علم المشتري بذلك كالخمر و الخنزير أنّ له الرجوع على البائع بالثمن عالما كان أو جاهلا تالفا كان الثمن أم باقيا (5)، فما الفرق بين المقامين؟ مع أنّه لعلمه بذلك سلّطه على التلف و دفعه مجّانا، ضرورة لغويّة قصده إلى العوض، و لذا حكم الشهيد في محكيّ الحواشي المنسوبة إليه في حكم المشهور بتبعّض الصفقة و تقسيط الثمن في بيع ما يقبل الملك و ما لا يقبله، بأنّ هذا الحكم مقيّد بجهل المشتري بعين المبيع و حكمه، و إلّا لكان البدل بإزاء المملوك، ضرورة أنّ القصد إلى الممتنع كلا قصد (6).

قلت: إنّ المشتري في بيع الفضولي أقدم على ضمانين: للمالك الواقعي


1- رياض المسائل: 6/ 39.
2- تذكرة الفقهاء: 1/ 463 ط. ق.
3- اللمعة الدمشقيّة: 62.
4- رياض المسائل: 6/ 40.
5- لاحظ! مسالك الإفهام: 3/ 163.
6- نسب القول إلى البعض في جواهر الكلام: 22/ 315.

ص: 453

و للمالك الجعلي الّذي تبانيا عليه، و هو الغاصب، فدفعه الثمن إليه لذلك هبة و تسليط منه له على الثمن، فكأنّه قال: اشتريته بهذا الثمن فتصرّف فيه إن أجازه المالك، و إلّا فعليّ ضمانه و إن حرم عليه أكله، لكونه خبيثا حيث إنّ كلّ مال دفع إلى شخص لداع محرّم، فإنّه حرام أكله خبيث غير مضمون، كالطعام الّذي يطعمه الزاني للزانية، فإنّه حرام عليها أكله، لكن غير مضمون عليها، ففي الحقيقة لم يقدم المشتري على أن يكون الثمن مضمونا عليه إلّا في صورة إجازة المالك للبيع و القبض، بل أقدم على كونه مجّانا له في غير الصورة المذكورة.

و أمّا في مسألة بيع الخمر أقدما على الضمان بهذا الشي ء الّذي جعلاها مملوكا و تبانيا على كونها مضمونا أيضا، فلم يدفع المشتري العالم الثمن مجّانا بل بإزاء هذا المملوك الجعلي فلم يحصل منه استيمان و إباحة مجانيّة، فلا مقتضي لسقوط الضمان الثابت باليد، إذ لا مانع هنا، كما كان في المسألة السابقة و هو إقدام المشتري على أن يكون له مجّانا، و هذه القاعدة جارية في جميع العقود الفاسدة المعاوضيّة الموجبة للإعطاء على وجه الضمان، فاجرة الزانية مضمونة، و الرشوة مضمونة، و مطعوم الحاكم لداعي الحكم حرام خبيث غير مضمون.

ففي القسم الأوّل وقع العقد مع المالك و المضمون له الجعلي الّذي جعلاه كذلك، و في الثاني وقع العقد على المملوك و المضمون الجعلي، فدقّق النظر.

فلو آجر الفضولي مع علم المستأجر و دفع الاجرة، فلا يجوز له الرجوع مع التلف، لعين ما مرّ في البيع مع كون الموجر ذا اليد للعين المستأجرة، و لو آجر مع عمله بالفساد و علم المستأجر أيضا بالفساد لم يكن الموجر متبرّعا بالمنفعة

ص: 454

و لا المستأجر واهبا بالنسبة إلى دفع الاجرة؛ لإقدامهما على ضمان كلّ من المنفعة و الاجرة بمضمون جعلي غير سالم ممضيّ من الشارع، إمّا لعدم قابلية أحد الطرفين للعقد، أو لعدم تحقّق شرائط العوضين، أو لعدم تحقّق شرائط العقد كالعربيّة و الصراحة فلم يقدم على عدم الضمان حقيقة.

نعم؛ يشترط في ضمان الإجارة الفاسدة بالاستيفاء- لو كان علّة الفساد عدم قابليّة أحد الطرفين- أن لا يكون بحيث يستند التلف إلى المؤجر كأن يكون غير بالغ، بحيث يكون هو آلة في الاستيفاء، فتأمّل! و لا يكون العقد إذا كان جهة فساده عدم تحقّق شرائط العقد مع وجوب سائر الشرائط معاطاة بالتسليم، كما توهّم (1)، لأنّه فرق بين هذا التسليم و بين تسليم المعاطاة، حيث إنّ التسليم في المعاطاة إنشاء فعليّ دالّ على الرضا و تمليك فعلي.

و أمّا التسليم هنا؛ فهو على أنّه ملك للمستأجر و لو جعلا، فلم يصدر عن المالك إنشاء فعليّ أو قوليّ صحيح.

و لذا لم يفصّل أحد في البيع الفاسد بين ما يكون من هذا القسم و بين غيره، [و] يكون البيع على القسم الأوّل معاطاة دون الثاني.

فقد ظهر من تحقيقاتنا في بيان مراد المشهور ضعف تقوية الشهيد الثاني القول بجواز رجوع المشتري بالثمن، باقيا كان أو تالفا، إن لم يثبت الإجماع على خلافه متعجّبا من تحريم تصرّفه على البائع؛ لأنّه أكل مال بالباطل مع عدم رجوع المشتري عليه لما ذكر في دفع المال لداع محرّم كمطعوم الزانية (2)، و كذا


1- مرّ آنفا.
2- الروضة البهيّة: 4/ 340 و 341، مسالك الإفهام: 5/ 186.

ص: 455

ضعف استبعاد الشهيد الأوّل مع توقّع الإجازة (1)، لأنّ دفع الثمن مع توقّع الإجازة إن كان على وجه النهي عن التصرّف فيه بحيث يكون عنده أمانة إلى وقت الإجازة فهذا متّجه مسلّم، و ليس مراد الفقهاء هذه الصورة، و إن كان توقّع الإجازة مع الإذن في التصرّف، فالكلام الكلام.

و ضعّف محكيّ الحواشي المنسوبة إليه (2)، و كذا ضعّف مختار السيّد صاحب «الرياض» (3) في الإجارة الفاسدة المستوفاة للمنفعة مع علم المؤجر من عدم استحقاقه للاجرة، لكونه متبرّعا مع علمه و مع علم المستأجر من عدم وجوب دفع الاجرة، و أنّه لو دفع كان هبة و ليس له على ذلك موافق من الأصحاب في المنفعة- على ما قيل- مع أنّ ظهور كلامه شامل لها و للعمل (4)، لكن احتمال إرادة صورة الإجارة على العمل ممكن بقرائن في كلامه صالحة لذلك.

قيل: و له وجه لكون الأجير العامل العالم بالفساد مباشر الإتلاف مع علمه بعدم سببيّة الغير بخلاف المنفعة، فإنّ المباشر لإتلافها هو المستأجر (5).

و هذا الوجه غير وجيه بعد الإحاطة بما أسلفناه؛ إذ إقدامه على الإتلاف على كونه مضمونا على المستأجر أمر تشريعيّ جعليّ، لا تبرّعيّ، و فرق بين وقوع أمر على عنوان التبرّع و وقوعه بعنوان معاملة فاسدة تشريعيّة.


1- اللمعة الدمشقيّة: 95، غاية المراد: 2/ 318 و 319.
2- نقله صاحب مفتاح الكرامة: 7/ 174، جواهر الكلام: 27/ 312.
3- رياض المسائل: 6/ 26 و 27.
4- جواهر الكلام: 27/ 336.
5- انظر! مسالك الإفهام: 5/ 223.

ص: 456

و كذا ظهر ضعف توهّم بعض كون الإجارة الفاسدة بعدم ذكر الاجرة عارية، أو بشرط عدمها و إن كان القول بها في الثاني أوجه، لوجود القرينة فيها دون الاولى إلّا عدم الذكر المحتمل للغفلة (1).

وجه الضعف؛ أنّا لو قلنا بكفاية كلّ لفظ في العقود الجائزة الإذنيّة، بل مطلق العقود في الجملة، فإنّما المراد الألفاظ المجازيّة الغير المستهجنة المشتملة على العنوانات الدائرة على لسان الشارع في كلّ عقد.

و قد صرّح بذلك غير واحد من الأصحاب و لذا ترى كثيرا من المسامحين في ألفاظ بعض العقود يتأمّلون في بعضها، كما لا يخفى على المتتبّع، و ليس لي مجال حتّى أنقل كلماتهم لصدق مقالتي، و لكن راجع «مكاسب» شيخ أساتيدنا الشيخ المرتضى (2).

فلو استعملت اللفظ الموضوع في عقد في آخر لم يصحّ، لكونه مجازا مستهجنا كالبيع في الإجارة و الهبة في المتعة، فلو قال: خذه قراضا و الربح لي، لم يكن بضاعة أو قال: و الربح لك، لم يكن قرضا، مع كفاية كلّ لفظ في البضاعة و القرض، و من هذا القبيل: آجرتك بلا اجرة في العارية، نعم لمّا يكفي فيها كلّ ما دلّ على إباحة التصرّف و الإذن فيه لم يبعد القول بها بعد تعقّبه بالقبض بإذنه، فافهم!

فإن قلت: فقد حكم جماعة كالعلّامة و الشهيد الثاني في مسألة البيع بلا


1- جواهر الكلام: 27/ 326.
2- المكاسب: 6/ 11.

ص: 457

ثمن بعدم الضمان، و أنّها هبة (1).

قلت: ليس المقصود تنزيلها عليها بقرينة المجانيّة.

قالوا: و لو باع الوكيل بثمن فأنكر الموكّل بهذا القدر حلف، و تستعاد العين إن كانت موجودة، و إلّا فمثلها أو قيمتها (2).

أقول: إمّا أن يقول الموكّل في مقام تحرير النزاع: ما وكّلت بخمسة- مثلا- بل وكّلت بعشرة و بعت بعشرة فيعترف بوقوع البيع عليها، لكنّه يقول: ما أذنت و لا أجزت؛ فالوكيل غاصب لها، و كذا المشتري إن كان حاضرا، و إمّا أن لا يعترف بوقوع البيع عليها، بل يعتقد أنّه باعه بعشرة لكنّه لو اعترف بأنّه باع كذلك لصار النزاع في تصرّف الوكيل فيكون القول قوله، فلذلك يقول: ما وكّلتك إلّا بخمسة.

و على الأوّل؛ فإمّا أن يكون قيمة العين أزيد من العشرة المبيعة بها كعشرين- مثلا- و إمّا أن يكون أنقص كسبعة- مثلا-.

و على التقادير الثلاثة: إمّا أن يكون النزاع مع الوكيل، أو مع المشتري، فإن كان الترافع مع المشتري و قال: اشتريتها بخمسة ممّن هو وكيل في هذا القدر، فيقول: إنّما وكّلته بعشرة، فإن قال: ما أدري بكم اشتريت بعشرة أو خمسة! أو اعترف بوقوعه بخمسة، فيحلف على عدم توكيله في خمسة و تستعاد العين أو بدلها، و إن قال: بل اشتريته بعشرة، كان القول قول الموكّل، لأنّ الموكّل يقول: إنّ الثمن عشرة، و المشتري يقول: إنّه خمسة.


1- مختلف الشيعة: 5/ 68، مسالك الإفهام: 3/ 239.
2- انظر! المختصر النافع: 178.

ص: 458

و قد قالوا: إنّه لو تنازع البائع و المشتري في قدر الثمن، فالقول قول البائع فيه مع بقاء العين، لأصالة عدم وقوع البيع إلّا بما يعترف [به] البائع، و مع بقاء العين لا إشكال، و مع تلفها قالوا: إنّ القول قول المشتري.

فيشكل الحكم هنا، مع أنّ هذا من أفراد ذاك، و للتأمّل مجال واسع.

و لو كان قبض الثمن- أعني الخمسة- ردّها عليه، و إلّا ارتجعها المشتري من الوكيل.

و لو كان النزاع مع الوكيل، و قال: بعته بخمسة، فقال المالك: ما وكّلتك فيها بل بعشرة، فيحلف على عدمه، فيصير الوكيل بحكم الغاصب، فيلزمه ما يلزمه، و ليس للموكّل استعادة العين من المشتري، لعدم كون النزاع معه، و لا يرفع يده منها بيمينه لغيره، لاختلاف المدّعيين، كما لو وقع النزاع من المالك مع واحد من ذوي الأيدي المتعاقبة و انفصلت الخصومة من واحد باليمين فلا تسقط دعواه مع آخرين.

نعم؛ لو أقام المالك البيّنة على وقوع البيع بخمسة بمحضر المشتري أو باستماع الوكيل بإمضائه، بحيث يكون قد أسقط حقّه و صدر الحكم من غير توقّف على شي ء نفذ فتستعاد العين من المشتري، لكن المكلّف بها الوكيل لاعترافه بكونها في يده بحقّ، بل يطالب هو بالبدل لثبوت يده عليه غصبا، و المطالب بها هو المشتري، لكن يكون دركها على الوكيل لو كان عند العقد [و] لم يخبر بكونه وكيلا، و إن كان قد أخبر أو كان المشتري عالما بوكالته، فهو غير مطالب بالثمن المدفوع، بل المالك، لاعتقاده وصوله إليه و إلى وكيله الّذي يده يده.

ص: 459

و لو كان عالما بعدم وكالته و لم يخبر بذلك و باع، فالكلام في الثمن هو ما حقّق في باب الفضولي و بيع الغاصب، و لما ذكرنا قيّد بعض الشرّاح إطلاق المتون في استعادة العين من المشتري بعد حلف المالك بفرض اعتراف المشتري بالوكالة أو حلف المالك له اليمين المردودة منه أو ادّعى عليه العلم (1).

و لو أقام المالك البيّنة بغيبة المشتري و عدم اطّلاعه و إمضائه لاستماع الوكيل، و صدر الحكم، لكن نفوذه من جهة الرجوع على الوكيل بالبدل؛ لثبوت كون يده يد غصب غير متوقّف على أمر، و أمّا نفوذه على المشتري متوقّف على حجّيته.

و لو كان المالك معترفا بوقوع العقد بعشرة لا بخمسة، و يقول الوكيل وقع بخمسة، لكن يعتبر الموكّل النزاع بعدم توكيله فيها لئلّا يكون القول قول الوكيل في تصرّفه فتذهب الخمسة الزائدة بيمينه، فالقول قوله، و يحلف على عدم ما يدّعيه الوكيل و يرجع عليه بالبدل على ما هو ظاهر اطلاق كلامهم في المقام، و لا يكلّف بردّ العين مع بقائها في يد المشتري لتوهّم أن اليمين قد أبطلت الوكالة، لأنّ هذا التوهّم ضعيف من أصله كما سبق، خصوصا هنا، لأنّ صورة الدعوى هنا أن يقول الوكيل: وكّلتني بخمسة و بعتها بها، و الموكّل يقول: وكّلتك بعشرة، و قد بعتها بعشرة فهو غير مطالب في الحقيقة للعين أصلا، بل إنّما يطالب العشرة فلو حصل في يده العين لم يكن له التصرّف إلّا أن يعلم بعدم قبض الوكيل الثمن بتمامه، فيأخذها مقاصّة.

لكن لو اعتقد أو اعترف بعد هذا الجواب بقبضه تمامه فالمطالب به هو


1- الحدائق الناضرة: 22/ 112.

ص: 460

الوكيل فيحلف على عدم توكيله بخمسة فيبطل استيمانه الموجب لتقدّم قوله في قدر الثمن فيطالب باعترافه وقوع العقد. و لو فضوليّا بعشرة فيطالبه بإتمام الخمسة المقرّ بها من الوكيل إلى العشرة.

و لعلّ هذا مراد الشيخ حيث حكم بوجوب الإتمام على الوكيل بما يقوله الموكّل و حلف عليه بل قوله: يجب إتمام ما حلف عليه المالك، قرينة على كون متعلّق حلفه أمرا مثبتا للزيادة، إذ [في] غير هذه الصورة إنّما يحلف المالك على نفي توكيله بخمسة و ثبوت البدل الشرعي من الحكم بغصبيّة اليد بعد الحلف (1).

فهنا لا بدّ أن يحلف يمينا جامعا بين النفي و الإثبات هكذا فيحلف على عدم توكيله بخمسة و بيعه بعشرة، كما أنّ حمل إطلاق كلامهم أيضا على غير هذه الصورة متعيّن.

و من هنا يعلم حكم الصور المحتملة في مسألة دعوى الوكالة.

قالوا: و لو اختلفا في الوكالة، حلف المنكر لها، فإنّ الدعوى إمّا بين الموكّل و الوكيل، و المنكر إمّا الوكيل كما لو كانت الوكالة مشروطة في عقد لازم فعلا لا نتيجة، فافهم! فالغرض من إنكارها ثبوت الخيار لنفسه إن قلنا به بتخلّف الشرط فيما لم يمكن تلافيها.

و لا فرق على هذا بين وقوع الفعل المدّعى فيه الوكالة و عدمه بعد عدم إمكان التلافي.

و إمّا الموكّل؛ فيريد إثبات عدوانيّة يد الوكيل الموجبة لغرامة القيمة إن تلفت العين أو تصرّف فيها بإيقاع الفعل المدّعى فيه الوكالة فيثبت بحلفه ذلك


1- المبسوط: 2/ 378.

ص: 461

فيأخذ قيمة المتلف، أو بدله مع وجوده عند المشتري لثبوت حيلولته بالتصرّف بحلف الموكّل.

و ليس للموكّل أن يرجع على المشتري بحلفه للوكيل ما لم يكن طرفا للدعوى، إذ لا يثبت بحلف أحد مال على غير من حلف له، ثمّ يرجع الوكيل على المشتري بما دفع إلى المالك إن كان أقلّ من الثمن أو القيمة، و لا يرجع بالزائد عمّا دفعه من الثمن، لأنّه كان ضامنا لبدل الحيلولة للمالك عن المشتري، لأنّ استقرار البدل الحيلولي عليه، و هذا يغرم عنه.

و من هنا يرجع الغاصب الغارم للمالك على الغاصب منه، لأنّه غرم البدل الّذي كان بدلا عن البدل الّذي كان مستقرّا عند الغاصب من الغاصب، فيرجع بالمبدل و هو بدل البدل لا نفس العين لبقائها على ملك مالكها، فتدبّر!

و إن كان ما دفعه إلى الموكّل أزيد لم يرجع إلّا بالقيمة أو الثمن و إن كانا أقلّ، و يتصوّر ذلك في القيمة أو اختلف زمان الغرامة و زمان تصرّف المشتري، أو زمان تصرّف الوكيل و المشتري قيمته؛ لاعترافه بأخذ الموكّل البدل ظلما.

ثمّ إنّه لو كان الدعوى المذكورة بينهما قبل الفعل إذا ترتّب عليه الأثر سمعت، و إلّا فلا.

و إمّا أن يكون بين المشتري و الموكّل، و المنكر الموكّل، فيريد العين أو البدل تغريما لا تعويضا، فيحلف الموكّل و يأخذ ما كان يريد من دعواه.

ثمّ إن كان دفع الثمن إلى الوكيل و كان معترفا بوكالته و بوصوله إلى يد الموكّل لم يرجع على الوكيل، لاعترافه بأخذ الموكّل ما أخذه ثانيا بالحلف ظلما.

ص: 462

و لو لم يكن عالما بوكالته و كان عالما بكون العين للغير و لم يدّع الوكيل الوكالة و الإذن، لم يرجع على الوكيل بالثمن مع التلف.

و مع البقاء على التفصيل المذكور في الفضولي و إن ادّعى الوكالة حيث كان قوله حجّة و ذلك إذا كان ذا يد على العين المدّعي وكالته في التصرّف فيها، على المشهور، لا إذا لم يكن كذلك، فلم يغرم الوكيل له بل فيه التفصيل المذكور في صورة اعترافه بوكالته.

و إن لم يدّع و لم يكن عالما بها رجع عليه بما اغترم، لأنّ المغرور يرجع على من غرّ و إن كان جاهلا بعد فرض سببيّة له في الغرم، و قد قصر الوكيل في عدم ذكره وكالته، و إن كان المنكر المشتري، فإن كان غرض الموكّل مطالبته بالعوض المسمّى، سواء كان المعوّض موجودا أو تالفا، أو دفع الضمان عن نفسه لكون التلف- مثلا- بعد القبض، فهو من المشتري، فيحلف المشتري و يدفع العين أو البدل الواقعي أو يبرأ من الضمان.

قالوا: و لو اختلفا في العزل و الإعلام و التفريط، حلف الوكيل لو تصوّر في النزاع (العزل و الإعلام) أثر، كغرامة الوكيل إذا كان الموكّل فيه مالا سمع الدعوى و إلّا فلا، كما لو كان النزاع في النكاح.

نعم؛ بين الزوجين هذا النزاع في عزل الوكيل و إعلامه متصوّر، لكن لو قلنا بغرامة نصف المهر على الوكيل فيما لو ادّعى الوكالة عن الزوج و أنكرت المنصوصة الظاهرة في كون الدعوى بين الزوجين فيحلف الزوج على عدم التوكيل فيحصل الفراق به ظاهرا، فيغرم الوكيل.

و سيأتي تفصيل هذا- إن شاء اللّه- و قلنا بها في عكسها، و هو ما لو ادّعى

ص: 463

الوكيل الوكالة عن الزوجة فأنكرت و حلف الزوج لو كان النزاع بينهما أمكن ترتّب الأثر على نزاعها مع الوكيل، فيثبت بحلف الزوجة المردود عليها أو بيّنتها ما ذكر، لكنّ الأصل محلّ تأمّل، و لمخالفته للقواعد طرح بعض الأصحاب العمل به.

و لو سلّم فهو من الدليل و هو النصّ، فلا يتعدّى إلى غيره؛ فالضابط ما ذكرنا في دعوى الموكّل و الوكيل فيهما.

فما ورد في امرأة وكّلت أخاها ليزوّجها (1) إلى آخر ما ذكر في «الرياض» و غيره (2)، من مطالبة الإمام الشهود من المدّعية للعزل و الإعلام؛ لثبوت الزوجيّة، لا لثبوت الوكالة في العقد، فتأمّل!

و أمّا في دعوى التفريط، فتقديم قول الوكيل من جهة أنّه كان أمينا، و الأمين ليس عليه إلّا اليمين، و إن لم يقبل الموكّل أمانته حين النزاع، بل يدّعي كونه خائنا، لكن أمانته الشأنيّة مانعة من توجّه غير اليمين عليه.

و إن شئت قلت: إنّه يدّعي عليه صدور ما يوجب التفريط عنه و الأصل عدمه، فيقدّم قوله لذلك.

و لو اختلفا في التلف و لا بيّنة، حلف الوكيل، للإجماع على تقديم قول مدّعي التلف إذا كان أمينا، مع أنّه ليس عليه اليمين، قيل: و لتعذّر إقامة البيّنة نوعا فاقتنع بقوله.

و لعلّه إشارة إلى ما ذكروا في باب الغصب من قبول قول الغاصب في التلف


1- تهذيب الأحكام: 6/ 240 الحديث 130، وسائل الشيعة: 19/ 163 الحديث 24369.
2- رياض المسائل: 6/ 73.

ص: 464

لئلّا يخلّد في الحبس، لاحتمال كونه صادقا (1). و لما كان هذا الاحتمال هناك متوجّها نوعا و إن احتمل إمكانها في بعض الأوقات.

و لو اختلفا في الردّ فالقول قول الموكّل مع يمينه، و قيل: قول الوكيل، إلّا أن يكون بجعل (2)، و وجه القول الأوّل أصالة عدم الردّ، و الوكيل مدّع له فعليه البيّنة، و ليس معنى الوكالة على الإخفاء كالوديعة حتّى لا يجب عليه الإشهاد.

و لذا حكموا بضمان الوكيل في قضاء الدين و تسليم المبيع أو الثمن من غير إشهاد، و لم يكن في الحكم المذكور سدّ لباب المعروف، كما ذكر هذا وجها في باب الوديعة (3)، فعموم «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» (4) يشمله.

و لذا قيل بتخصيصها بالإجماع على قبول قول الودعيّ في الردّ (5)، و في التلف به و بما ذكرنا فيه سابقا.

و هذه القاعدة شرعت لقطع النزاع و التشاجر و [رعاية] النظام، فتعميمها بالنسبة إليهما ينافي ذلك، كما أنّ تكثير تخصيصها كذلك، فليس المناط في الوديعة قبضها لمحض مصلحة المالك حتّى يقال بالتفصيل في المقام.

و لو قيل بأنّ الجعل في باب الوكالة ليس للقبض و الحفظ، بل للعمل، و لذا لو يفعل المأمور به لم يستحقّ الجعل، و لو ظهر فساده لم يحكم بفسادها، لكنّه غير تامّ، إذ لا ريب أنّه بعد الجعل يكون القبض لمصلحتهما كما أنّ العين في


1- جواهر الكلام: 37/ 235 المسألة الخامسة.
2- جواهر الكلام: 27/ 432.
3- جواهر الكلام: 27/ 428.
4- مستدرك الوسائل: 17/ 368 الحديث 21601.
5- جواهر الكلام: 27/ 122 و 123.

ص: 465

المستأجر المحكوم يكون القول قول المالك في الردّ إجماعا مقبوض لمصلحة القابض أيضا، مع كون العوض للمنفعة لا لها.

و أمّا كون الوكيل أمينا فغير مستلزم لذلك، و إلّا لما توجّه التفصيل، لأنّ النزاع بين المالك و القابض قد يكون في أصل الأمانة، و قد يكون بعد تسليم المالك الأمانة الشأنيّة، و قد يكون بعد تسليم الأمانة الفعليّة أيضا.

فالأوّل: مثل ما لو ادّعى المالك غصبيّته و المنكر يدّعي أمانته.

و الثاني: مثل أنّه ادّعى تفريطه بعد اعترافه بكونه أمانة عنده عند القبض.

و الثالث: مثل ما ادّعى القابض تلفه بعد كونه أمينا باعتراف المالك.

ففي القسم الأوّل؛ لا شبهة في تقديم قول المالك، كما أنّه لا شبهة في تقديم قول القابض في القسم الثاني، لكونه أمينا، مع أصالة عدم التفريط.

و في الثالث كذلك، للأمانة و لتعذّر إقامة البيّنة أحيانا فاقتنع بقوله، و مسألة الردّ من القسم الأوّل، لأنّ المالك يدّعي عليه مالا كان عنده أمانة، و القابض ينكره، و لمّا كان القابض معترفا بقبضه الزم بالبيّنة، كما لو ائتمنه المالك في زمان على مال و قبضه ثمّ ادّعى عليه بذلك المال و اعترف بقبضه ثانيا لم يوجب الاستيمان الأوّل قبول قوله في هذه الدعوى.

و قد يقال: إنّ المالك في مسألة التلف يدّعي خيانته بدعواه التلف، فكما أنّ أمانته أوجبت قبول قوله، فكذلك في مسألة الردّ يدّعي المالك خيانته، لصيرورته بذلك خائنا كالإنكار، و لذا لو ادّعى الردّ فيما يقبل قوله في مكان أو حصره بمعيّن و أشهد المالك البيّنة على عدمه أو على كونه عنده حين الدعوى، ثبت إقراره بذلك ضمن قطعا، لأنّه بمعنى المنكر، فأمانته في هذا المال باعتراف

ص: 466

مالكه يوجب قبول قوله.

و فيه نظر؛ لأنّ الخيانة تثبت بنفس جواب المالك في دعوى المال و طلبه بخلاف التفريط، فتبصّر و لاحظ.

فالتحقيق أن يقال: إنّ مسألة الردّ مثل مسألة التلف في كون الدعوى بعد تسليم المالك و اعترافه بكونه أمينا، و مقتضاه قبول قوله لقاعدة الأمانة، لكن الأمين يقدّم قوله في ما يتعلّق بفعله، فالقابض في مسألة التلف يدّعي تلفه عنده و هو ينكره، و كذا في التفريط، و في دعوى المالك إنكاره في زمان يوجب الضمان، لأنّه كما يكون بالتفريط خائنا فيكون يده يد ضمان، كذلك بإنكاره أيضا يصير خائنا، كما أنّه بتأخير التسليم مع المطالبة ضامن حيث لم يكن التأخير لحقّ، كإرادة الإشهاد، و لم يكن منافيا للفوري العرفي، و إن كان منافيا للفوري الحقيقي، كما لو كان في حمّام أو مطعم أو غيره، فإنّه يقضي حاجته ثمّ يردّه فورا.

و أمّا لو كان ممّا لا يتعلّق بفعله، بل بفعل غيره فلا يوجب أمانته قبول قوله، و هنا يدّعي القابض فعل غيره، و هو قبض مالكه.

نعم؛ لو ادّعى: أنّي أقبضته و لم تقبض أنت فتلف، فيتوجّه قبول قوله بغير إشكال.

و من هنا قلنا: إنّ مسألة الردّ في باب الوديعة خرجت من عموم «البيّنة [على من ادّعى]» (1) .. إلى آخره بالإجماع لا بغيره بل تمسّك جماعة هناك بمسألة الأمانة مع أنّ الودعيّ مدّع بكلّ وجه، فتدبّر!


1- مستدرك الوسائل: 17/ 368 الحديث 21601.

ص: 467

فإن قلت: كما أنّ الودعيّ يدّعي فعل غيره في مسألة الردّ، كذلك في مسألة التلف إذا كان سببه فعل غيره كالسرقة أو غيرها ممّا يرجع إلى دعواه إتلاف غيره له لا التلف بنفسه، فالمتّجه حينئذ التفصيل فيهما، فلا يقبل قوله في دعواه الإتلاف، لعدم منافاته مسألة الأمانة، كما ذكرت، و يقبل قوله في دعوى التلف لا بفعل الغير.

قلت: مقصود الودعيّ في التلف و في الردّ براءة ذمّته، و ذلك يحصل في الأوّل بنفس التلف، فإن ذكر متلفا فهو من باب المثال، و لا يتعلّق به غرض أصلي، و في الثاني لا يحصل إلّا بقبض المالك، و إن ذكر فعل نفسه فهو من باب المثال و المقدّمة، لحصول قبضه.

فالمدّعى في الأوّل هو حصول الفعل عنده الموجب لبراءته، و إن استلزم فعل غيره في بعض الموارد، كما لو ادّعاه بإتلاف متلف يصدّق في ذلك، لكونه منتسبا إليه، بخلاف الثاني، فإنّ المدّعى فيه نفس فعل الغير، سواء استلزم فعله أم لا، كما لو ادّعى وصولها إليه و لو لم يدّع إقباضه، فتدبّر! (1)


1- إلى هنا انتهت الرسالة.

ص: 468

ص: 469

رسالة الوصايا

اشارة

ص: 470

ص: 471

بسم الله الرحمن الرحيم

تصرّفات المريض

بعد الحمد و الصلاة فنقول: إنّ تصرّفات الإنسان في مرض موته في أمواله على قسمين: معلّقة و منجّزة، و الغرض الآن البحث عن الثانية، إلّا أنّه لا بأس للتعرّض لجملة من الكلام في الاولى، و لعلّه تفيد في تنقيح ما هو الغرض المهمّ.

اعلم! أنّ التصرّفات المعلّقة المسمّاة بالوصيّة على نحوين، لأنّها إمّا أن تكون مشتملة على التمليك و نقل مال إلى آخر، و إمّا أن لم تكن كذلك، بل هي جعل ولاية و وكالة للغير في تصرّفاته بعد وفاة الموصي في أمواله و غيرها، فهي الوصيّة العهديّة، كما أنّ الاولى تمليكيّة.

أمّا العهديّة المعبّر عنها بالإيصاء فهي في الحقيقة بمنزلة التوكيل في حال الحياة، فكما أنّ الوكيل له التصرّف في ما وكّل فيه كيفما شاء مع رعاية المصلحة، فكذلك للوصيّ التصرّف في المتعلّق بنحو ما ذكر، فهو بدل تنزيليّ للموصي أقامه الموصي مقامه، بأن جعل له ما لنفسه من التصرّف في المأذون فيه.

فالفرق بينهما أنّ ولاية الموصي على أمواله و غيرها ذاتيّة مجعولة من قبل اللّه تعالى، بخلاف الوصيّ فولايته عرضيّة، و لذلك تحدّ الثانية في الجملة بما لا تحدّ الاولى.

و أمّا التمليكيّة؛ فإمّا أن تكون الوصيّة على نفس التمليك، أو على سببه، كما

ص: 472

في باب الشرط، و قد اصطلح فيه بشرط النتيجة و الفعل، فكذلك الوصيّة إمّا هي بالتمليك المطلق الغير المحتاج إلى السبب الخاصّ، و إمّا أن يكون محتاجا إليه، و التمليك إمّا هو بغير عوض أو مع العوض، و لذلك ربّما يقال: إنّ الوصيّة يمكن أن تفيد ما يفيد كلّ واحد من المعاملات، فقد تكون ثمرتها مثل البيع، و قد تكون مثل الصلح، و قد تكون مثل الإجارة و غيرها على حسب اختلاف أنحاء الوصيّة التمليكيّة.

ثمّ إنّه لو أحرزنا كون الموصى به ممّا هو محتاج إلى السبب الخاصّ بحيث لا تؤثّر الوصيّة بنفسها في تحقّقه، فلا إشكال أنّ الوصيّة بالنتيجة باطلة، و أمّا لو لم نحرز و شككنا فيه، فهو- أي الشكّ- إمّا هو راجع إلى الموضوع العرفي أو الشرعيّ.

بيان ذلك: أنّ الشكّ في تحقّق الموصى به بلا سبب خاصّ؛ إمّا أن يكون في احتياجه إليه عرفا و عدم وقوعه بدون إجراء صيغة خاصّة عندهم. ضرورة؛ أنّه قد تحقّق في باب المعاملات أنّه كما تثبت في الشريعة كونها محتاجة إلى أسباب خاصّة بعناوينها الخاصّة كالبيع و الهبة و الإجارة و نحوها دون التمليكات المطلقة، فكذلك ربّما يكون جملة منها محتاجة إليها عرفا أيضا، بحيث لو لم يتحقّق لم يوجد أصل موضوع المعاملة عند العرف، فلا يعقل أن يترتّب النتيجة، كما لا يخفى.

فعلى ذلك؛ لو شكّ في تحقّق الموصى به بلا سبب خاصّ عرفا مع قطع النظر عن الاحتياج إليه شرعا فلمّا يرجع الشكّ إلى الشكّ في تحقّق الموضوع و المصداق، فلا يبقى مجال للتمسّك بالعمومات و الإطلاقات إلّا على مذهب من

ص: 473

جوّز التمسّك بها في إحراز شرط الصحّة عند الشكّ فيها، كما في باب النذر إذا شكّ في موضوع كونه راجحا- حتّى يصحّ تعلّق النذر به- أم لا، قد تمسّك بعض (1) في صحّة مثله بعموم: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (2).

و هذا مبنيّ على أن يكون العامّ- مضافا إلى كونه متكفّلا لبيان الحكم الكلّي أيضا- مشتملا على بيان الصغرى.

و بعبارة اخرى؛ على بيان كون المحلّ قابلا لتعلّق هذا الحكم الكلّي من النذر و غيره به، فكذلك في المقام يتمسّك لصحّة مثل الوصيّة المذكورة بعمومات الوصيّة، و أمّا لو قلنا بعدم جواز التمسّك بالعمومات في مثل هذه الموارد- كما هو التحقيق- فلا محيص عن الحكم ببطلان الوصيّة المذكورة، لما عرفت.

و أمّا إن لم يرجع الشكّ إلى المعنى العرفي، بل احرز عدم احتياج تحقّق الموصى به عند العرف إلى السبب الخاصّ، و لكن شكّ في احتياجه إليه شرعا فالظاهر أنّه لا مانع من الحكم بالصحّة تمسّكا بأصالة عدم احتياجه، كما تمسّكوا في باب الشرط عند الشكّ في صحّته من جهة كونه مخالفا للكتاب و السنّة بأصالة عدم المخالفة (3).

و لمّا يرجع الشكّ في ما نحن فيه أيضا إلى كون الوصيّة المعهودة مخالفة لهما؛ لاحتياج تحقّق الموصى به إلى السبب الخاصّ و عدم تحقّقه بصرف الوصيّة، فكذلك لا بأس بالتمسّك بأصالة عدم المخالفة فيه، كما لا يخفى.


1- جواهر الكلام: 35/ 356.
2- الإنسان (76): 7.
3- على الإشكال المعروف فيه، «منه رحمه اللّه».

ص: 474

ثمّ اعلم! أنّ حال النذر المتعلّق بالفعل أو النتيجة كحال الوصيّة في ما ذكر، إلّا أنّه فيه إشكال من جهة اخرى، و هو أنّه لا شبهة في أنّ التمليكات القصديّة الاختياريّة لا تتحقّق بدون القبول، و إن كان التملّك القهري يقع بدونه، كما في الإرث، فعلى ذلك؛ كيف يلتزم بتحقّق النذر المتعلّق بالتمليك المطلق؟ و لو كان غير محتاج إلى السبب الخاصّ إلّا أنّ تحقّق أصل التمليك موقوف على قبول المتملّك، فلا بدّ في الحكم بصحّة النذر المفيد للتمليك إمّا بالالتزام باشتراط النذر المذكور و صحّته بالقبول، أو عدم احتياج التملّك الاختياري إلى القبول، و لا ريب أنّ كليهما مخالف للارتكاز و الإجماع.

فمن ذلك ظهر أنّ الإشكال سار في باب الوصيّة التمليكيّة أيضا بناء على القول بعدم احتياجها إلى القبول، و كونها من مقولة الإيقاع، إلّا أنّ الّذي يسهّل الأمر فيها احتياجها إلى القبول إجماعا، إمّا بعنوان الشرطيّة أو الجزئيّة، و إن كانت الاولى أقوى، لأنّ الظاهر كون الوصيّة من سنخ الإيقاعات لا العقود.

أقول: أوّلا في انقسام الوصيّة التمليكيّة إلى ما ذكر نظر، و ذلك لأنّ الوصيّة التمليكيّة على ما يستفاد من أدلّتها، و يظهر من كلمات الأصحاب هي ما تفيد نقل الشي ء بلا عوض، فالمأخوذ في موضوعها هو التبرّع، و لذلك جعل بعض الأساطين من جملة أجزاء تعريفها قيد التبرّع (1).

فعلى ذلك كيف يلتزم بإفادتها في بعض الموارد الانتقال مع العوض، إلّا أن يرجع ذلك إلى أقسام الوصيّة العهديّة، فيكون مرجعها إلى جعل الولاية للوصيّ على تبديل بعض أمواله بأحد عناوين المعاملات إلى شي ء آخر.


1- تذكرة الفقهاء: 2/ 452 ط. ق، جواهر الكلام: 28/ 242.

ص: 475

و ثانيا: أنّه قد اتّضح في باب الشرط و نحوه أنّ الالتزام بأمر يحتاج وقوع الملتزم به إلى إقدام شخصين و قيامهما عليه، يكون مرجع التزام أحد بإيجاد مثل هذا الأمر إلى الالتزام بإيجاد المقتضي من قبل نفسه و رفعه مانع وجوده، فمثل الالتزام بالبيع يكون مفاده الالتزام بإنشائه الإيجاب- مثلا- و كذلك غيره من الامور المتوقّف تحقّقها على قيام شخصين على إيجادها، فعليه يرتفع إشكال النذر المتعلّق بالتمليك، لأنّ مرجعه إلى الالتزام بإيجاد ما هو تحت اختياره، و أمّا تملّك الغير و قبوله فليس متعلّقا للنذر رأسا.

مضافا إلى أنّه يمكن الدعوى بأنّ مفاد مثل هذه النذور و كذلك الوصيّة بناء على عدم احتياجها إلى القبول مطلقا إنّما هو الالتزام بالبذل و الإباحة، غاية ما فيه أنّه بذل معلّق، فبناء على عدم الإشكال من هذه الجهة فعليه يرتفع الإشكال أيضا، لعدم احتياج البذل إلى القبول، فافهم!

متعلّق الوصيّة

ثمّ إنّ متعلّق الوصيّة التمليكيّة إمّا تبرّعي أو واجب، و لا إشكال في خروج الأوّل من الثلث، و أمّا الثاني فيظهر حاله بعد ذكر أقسامه.

فنقول: إنّ له أقساما أربعة، و ذلك لأنّ متعلّقها إمّا واجب مالي و حقوق خلقيّة، مثل الدين، و كذلك الوصيّة بالزكاة و الخمس و نحوها، ممّا هي أموال مستقرّة على الذمّة المنتزعة عن ثبوتها على العهدة الحكم التكليفي، بحيث يكون الأثر الثابت أوّلا و بالذات اشتغال العهدة بالمال و تحقّق الحكم الوضعي، ثمّ يترتّب عليه وجوب الردّ و تحصيل البراءة عمّا اشتغلت الذمّة به، فقد يكون

ص: 476

متعلّق الوصيّة مثل هذه الامور.

و إمّا أن يكون الدين الثابت على الذمّة العمل الّذي يبذل بإزائه المال فيوصي بأداء مثل هذا الدين، كما إذا أوصى بخياطة ثوب مشخّص المشتغل بها في حياته، و نحوها من الأعمال المتعلّق بها الإجارة الموجب لاشتغال الذمّة لصاحب العمل.

و إمّا أن يكون متعلّق الوصيّة التطبيق، كما إذا أوصى بأداء دينه من ماله الخاصّ، مثل داره أو بستانه و غيرهما.

و إمّا أنّ متعلّقها مثل أداء الكفّارات الواجبة على الموصي، أو إكرام من أمره والداه بإكرامه، أو تأدية الصدقة المنذورة، و نحوها ممّا ليس الثابت بها على الذمّة أوّلا و بالذات مال، بل إنّما أثرها الحكم التكليفيّ المحض لا أن يثبت على عهدته لأحد حقّ حتّى يدخل في الواجبات الماليّة بمعنى الديون، كما في الأمثلة المذكورة، فإنّ التحقيق أنّ في مثل الكفّارات بل و كذلك النذر و غيره و لو كان مورد النذر شخصيّا معيّنا، لا يثبت بسبب وجوب الكفّارة و النذر حقّ لأحد على المكفّر و الناذر، و لذلك ليس للفقير و لا للمنذور له مطالبتهما الكفّارة و المال المتعلّق للنذر.

و بالجملة؛ فليس هذه الأصناف من الواجبات الماليّة من سنخ الديون، بل إنّما هي واجبات و تكاليف شرعيّة نشأت من أسبابها، فتثبت على عهدة المكلّف بلا إحداث حقّ ماليّ لأحد عليه.

نعم؛ لمّا يتوقّف امتثال مثل هذه التكاليف على صرف المال فصار مقدّمة له، فعدّ من الواجبات الماليّة، لا أن يكون حقيقتها متقوّمة بالمال حتّى يكون

ص: 477

التكليف منتزعا من الوضع، كما في القسمين الأوّلين، فهذه أصناف متعلّق الوصيّة التمليكيّة.

موارد إخراج الدين من الأصل أو الثلث

ثمّ لا خفاء في كون الدين مخرجا من أصل المال في الجملة، و لكن لمّا كان بعض الصور مشكوكة فلا بدّ من تأسيس الأصل أوّلا في أنّ الأصل يقتضي إخراج الموصى به من الأصل أو الثلث، حتّى يرجع إليه عند الشكّ.

فنقول: إنّ الأصل في الباب هو ما ذكروا في باب الدين من أنّ الدين [هل هو] مانع عن أصل انتقال مال المورّث إلى الورثة بمقدار الدين، أم لا، بل المال ينتقل إلى الورثة، و إنّما الدين مانع عن التسهيم؟

فإن بنينا على الأوّل فلمّا كان حال الوصيّة حال الدين و لازمه عدم انتقال المال إلى الورثة رأسا إلّا ما زاد عن الوصيّة، فمقتضى القاعدة خروج الموارد المشكوكة عن الأصل، لأنّ الشكّ- فيما لو أوصى بتطبيق الدين على مال خاصّ للموصي، مثلا: الّذي كان نفوذ مثله في ما زاد عن الثلث من الموارد المشكوكة- هو في أصل انتقال عين المال إلى الورثة، و لا خفاء أنّ الأصل (1) عدمه إلّا ما زاد عن الوصيّة.

هذا؛ بناء على عدم تماميّة الأدلّة الاجتهاديّة، مع أنّ الظاهر أنّه لا قصور فيها، حيث إنّه و لو نوقش في آية الإرث (2) من جهة كونها مقيّدة بعدم الوصيّة


1- بمعنى استصحاب عدم الانتقال الثابت حال حياة الموصي، «منه رحمه اللّه».
2- النساء (4): 11 و 12.

ص: 478

و الدين، إلّا أنّه لا قصور في عموم «ما تركه الميّت فهو لوارثه» (1).

و أمّا إن بني على الثاني- كما هو التحقيق- فمقتضى ذلك خروج المشكوك عن الثلث؛ إذ المفروض أنّ أعيان المال انتقل إلى الورثة فثبت كونها مالا لهم، فقاعدة السلطنة لمّا كانت محكّمة فلا يجوز الخروج عنها إلّا بالمقدار المتيقّن و هو الثلث، كما لا يخفى، هذا ما يقتضيه الأصل.

و أمّا الحكم بحسب الدليل؛ فنقول: إنّ الحكم في الواجبات الماليّة- أي التكاليف الّتي مآلها يكون إلى الالتزام بصرف المال في مثل الكفّارات و نحوها من القسم الرابع في الوصيّة بخروجها من صلب المال أو ثلثه- لمّا كان تابعا لصدق الدين عليها (2) و عدمه، فلا بدّ من البحث في ذلك.

فنقول: إنّ الدين عبارة عن اشتغال الذمّة بالمال، بحيث إذا يتحقّق الدين فالعهدة يفرض عند العرف بمنزلة وعاء في الخارج موضوع عليها الشي ء الموجود فيه، بحيث يوجد أوّلا علقة بين المال و العهدة، فيكون أثر ذلك ثبوت الحقّ للغير على الذمّة، ثمّ يترتّب على ذلك الحكم الشرعي التكليفي بالأداء.

و لا ريب أنّ هذا المعنى لا يعقل في الأحكام التكليفيّة لأنّه قد أوضحنا في محلّه أنّ التكاليف إنّما يتعلّق بالأمر المعدوم لا بالموجود، و إلّا يلزم تحصيل الحاصل، فالمتعلّق به التكليف و إن لم يكن معدوما مطلقا؛ لأنّه إنّما يتعلّق بالصور الذهنيّة الثابتة في ذهن المكلّف فيأمر بإيجادها في الخارج، إلّا أنّ ذلك


1- مسند أحمد: 2/ 453، سنن ابن ماجة: 2/ 914 الحديث 2738، مع اختلاف يسير.
2- الّذي وقع في كلمات الأصحاب و معاقد الإجماعات هو إنّما يخرج من صلب المال الواجبات الماليّة، و عليه يمكن أن يختلف مع ما في لسان الأدلّة، و لكنّ الظاهر رجوع كلماتهم إليها أيضا، فراجع!، «منه رحمه اللّه».

ص: 479

لا يوجب تحقّقه في الخارج قبل إيجاده المكلّف [به]، فالخارج ظرف لسقوط المأمور به لا لثبوته، فإذا امتنع وجود المأمور به في الخارج قبل إيجاده فلا يتصوّر في الأحكام التكليفيّة ما هو الملاك في معنى الدين و صدقه، بل هو مختصّ بالوضعيّات الّتي لها نحو ثبوت و اعتبار وجود في الخارج، بخلاف التكاليف الّتي لا يعقل الوجود لها في الخارج لا في الذمّة و لا في غيرها.

بل بعد تعلّق التكليف من طرف الشارع بها و حكم العقل حينئذ بلزوم الإطاعة، فحينئذ يعتبر أمر كلّي ليس له مساس بالغير لا تكليفا و لا وضعا، فلا يطلق الدين إلّا على المال الثابت في الذمّة- الّذي قد عرفت أنّ الحكم التكليفي يكون تابعا له- لا في الواجبات الّتي يكون بذل المال مقدّمة لامتثالها بلا أن تكون الذمّة مشتغلة بالمال في الحقيقة، كما في الديون.

أقول: يمكن الدعوى بأنّه كما أنّه عند تعلّق حقّ الغير على الذمّة بسبب أخذ ماله أو التصرّف في حقّه يرى عند العرف اشتغال العهدة بالمأخوذ بحيث يرى لذلك بعناية نقلا على العهدة في الخارج؛ كذلك بتلك العناية أيضا يرى ثبوت شي ء على العهدة عند تعلّق التكليف الشرعي بالشخص، خصوصا إذا كان متعلّق التكليف هو بذل المال، و لذلك يعبّر عند تعلّق الطلب؛ بالتكليف المشتقّ من الكلفة المساوق مع النقل.

و إن أجاب عن ذلك- دام ظلّه- بأنّ التكليف عبارة عن إلزام العقل في أثر إلزام الشرع.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ إلزامه بالامتثال ليس إلّا أنّه يرى عهدة العبد مشتغلا بالمأمور به عند تعلّق طلب الشارع، فالتعبير عن التكليف أيضا هو بهذه العناية.

ص: 480

و أمّا أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بما ليس بموجود؛ فلا ينافي ذلك ما ادّعيناه، لأنّ امتناع تحقّق المكلّف به في الخارج لا يستلزم عدم اعتبار وجوده (لا يمنع عن اعتبار وجود) على العهدة، ضرورة أنّ تحقّقها في الخارج يوجب تعلّق الطلب بالموجود، لا في الذمّة، كما لا يخفى.

ثمّ أفاد- دام ظلّه- بأنّه بعد أن اتّضح حال الدين و حقيقته، و أنّ سنخ وجوده غير سنخ التكاليف و الواجبات، فظهر ذلك أنّ الّذي تقتضيه القاعدة من الحكم بخروج الواجب المالي من الأصل في الأقسام الأربعة من الوصيّة، هو في القسمين الأوّلين؛ لما عرفت من تطبيق معنى الدين عليهما، و أمّا غيرهما محلّ إشكال، بل الأقوى الحكم في القسم الرابع من الواجبات الّتي تؤول إلى صرف المال بخروجها من الثلث، و لذلك لو لم يوص بالأوّلين أيضا يجب تأديتهما و إخراجهما من أصل المال، بخلاف الآخرين.

و أمّا الكلام في النذر فيما لو كان واجبا عليه عتق رقبة، فأوصى بإعتاقه- مثلا- أو نذر أن يهب شيئا لأحد، فأوصى بالهبة.

و بالجملة؛ فيما لو كان النذر متعلّقا بالفعل فإن قلنا بأنّه يعتبر لنفس هذا الفعل- أي الهبة مثلا- الماليّة العرفيّة، كما قيل بمثله في بعض الأعمال أيضا و لو لم تكن بصيغة، فتصير حكم نذر مثل هذه الأفعال حكم القسم الثاني.

و إن لم نقل بذلك، بل بني على كون اعتبار الماليّة في نتيجته، لا في أصل العمل، فحكمه حكم سائر الواجبات الّتي مآلها يكون إلى صرف المال.

بقي الكلام في تحقيق ما يظهر من بعض الأخبار من إطلاق الدين على

ص: 481

مطلق الواجبات (1)، فإنّه قد يتوهّم أنّه يستفاد منها كون حكمها حكم الدين، مثل ما ورد في أخبار الحجّ من أنّه دين اللّه و دين اللّه أحقّ أن يقضى (2).

و قد يجاب عن ذلك بأنّ تنزيل الحجّ منزلة الدين لا يدلّ على كون مطلق الواجبات حالها حال الدين و كونها بمنزلته، فيمكن أن يكون له نحو خصوصيّة، بحيث صار لذلك من الوضعيّات حتّى يكون الوجوب التكليفي له منتزعا من الوضع، و لذلك أجمعوا على كونه مخرجا من صلب المال.

و فيه: أنّه ورد في باب أخبار الصلاة أيضا ما يستفاد منه هذا المضمون، مثل قوله عليه السّلام: «لا تؤخّر الصلاة فإنّها دين اللّه» (3)، و من جهة عدم القول بالفصل يتمّ المدّعى في سائر الواجبات.

فحقّ الجواب أن يقال: أوّلا؛ بأنّه إنّما يتمّ المدّعى إذا ثبت عموم المنزلة، بمعنى أن يكون التكليف الإلهي مثل الدين في جميع الآثار (4)، أي حتّى من حيث اعتبار الوجود لها في الذمّة، حتّى يكون لازم ذلك تأديته من أصل المال.

و من المعلوم؛ أنّه لم يثبت ذلك، إذ يحتمل أن يكون التنزيل بلحاظ وجوب القضاء فقط، كما يمكن أن يكون تنزيل الصلاة أيضا بلحاظ عدم جواز تأخيره، لا من جميع الجهات، إذ لا يستفاد من التنزيلين عموم أو إطلاق.


1- لاحظ! وسائل الشيعة: 19/ 426 الباب 91 من أبواب الوصايا.
2- كنز العمّال: 8/ 495 الحديث 23804، تذكرة الفقهاء: 7/ 99.
3- الكافي: 8/ 348 الحديث 547، مع اختلاف في الألفاظ.
4- و يشهد على ذلك أنّهم ما التزموا بمطلق الآثار الّتي للديون العباديّة؛ للديون الإلهيّة كخروج المستثنيات (كعدم خروج المستثنيات في مثل الكفّارات) في الكفّارات و غيرها؛ للانصراف و غيره، كما هو الظاهر، و المسألة تحتاج إلى المراجعة، و اللّه وليّ التوفيق، «منه رحمه اللّه».

ص: 482

و ثانيا: مع تسليم استفادة عموم التنزيل، يمكن أن يكون ذلك في خصوص الحجّ، بالبيان الّذي احتمله كلام المجيب، كما يؤيّد ذلك ورود الأخبار المتظافرة في وجوب إخراجها من صلب المال (1) فتأمّل!

و ثالثا: أنّه لا بدّ أن يعلم المراد من أنّ المفضّل عليه المستفاد من لفظ «أحقّ أن يقضى» (2) أيّ شي ء؟ فإن كان المراد تفضيلها على مطلق الديون حتّى حقوق الناس و ديون العباد فهو ليس بمراد قطعا، للإجماع على تقدّم الدين على الحجّ، فتعيّن أنّ المراد به إمّا التجريد من معنى التفضيل مطلقا، أو الترجيح على التبرّعيّات، فيكون المراد: أنّه إذا أوصى بثلث ماله لصرفها في التبرّعيّات و الحجّ، و لم يف ثلث المال بالمجموع، فالحجّ مقدّم، فعلى ذلك يسقط الاستدلال بمثل هذه الفقرة على وجوب إخراج الواجب المالي من الأصل، إذ ليس ناظرا إليه.

أقول: و فيه ما لا يخفى، لأنّه أوّلا من قال بتقدّم الدين على الحجّ؟ بل الحجّ مشارك مع الغرماء على ما عليه الأصحاب، و ثانيا إنّ الحجّ لا يزاحم التبرّعيّات لو أوصى بصرف ثلث المال فيها، بل الحجّ عند ذلك يستخرج من الأصل لو لم يف الثلث بهما، فظهر من ذلك إشكال ثالث، و هو: أنّه لا مجال لتنزيل هذه الفقرة على مورد الثلث لا الأصل، مضافا إلى تظافر الأخبار في إطلاق الدين على الحجّ (3) عند الحكم بوجوب إخراجها من أصل المال، و لا يختصّ التعبير به بالمضمون المتقدّم، كما يظهر ذلك لمن راجع أخبار باب الحجّ.


1- وسائل الشيعة: 19/ 357 الباب 41 من أبواب الوصايا.
2- مرّ آنفا.
3- مرّ آنفا.

ص: 483

فرع: لو أوصى أحد بإعطاء زيد دينارا و تردّد أمر ذلك بين كونه إعطاء تبرعيّا أو دينا واجبا عليه أداؤه، و لم يظهر منه ما يدلّ على أحدهما، هل الأصل يقتضي كونه تبرعيّا، و لازمه الخروج من الثلث، أو دينا واجبا، حتّى يستخرج من الأصل؟

قد يقال بالثاني، نظرا إلى أنّ عمومات الوصيّة تقتضي خروج الوصيّة من الأصل مطلقا، ثمّ خصّص ذلك بالتبرعيّات، فإذا ارتفع كونها تبرعيّا بالأصل فتصير عمومات الوصيّة محكمة.

و لكن ذلك خلاف التحقيق، و ذلك لأنّه لا إشكال في أنّ لنا عمومات اخر في مقابل عمومات الوصيّة، و هي ما يدلّ على ردّ الوصيّة إلى الثلث الّتي أوجبت تخصيص عمومات الوصيّة، ثمّ خصّصت هذه العمومات أيضا بما دلّ على وجوب إخراج الزكاة من صلب المال، لكونها واجبا ماليّا، فلمّا تصير نتيجة الطوائف الثلاثة من العمومات أنّ الوصيّة تستخرج من الثلث إلّا ما هي واجب ماليّ، فيصير تمام الموضوع للحكم بالخروج من الصلب هو كون الوصيّة على الواجب المالي، فلا يبقى أثر للتبرّعيّة و عدمها، فيصير مقتضى القاعدة الخروج من الثلث حتّى يثبت كونها واجبا ماليّا، و من المعلوم؛ أنّ الأصل موافق مع عدمه.

و بالجملة؛ فيصير المرجع عند الشكّ هو العمومات الدالّة على ردّ الوصيّة إلى الثلث؛ لسقوط عمومات الوصيّة عن المرجعيّة بعد ثبوت التخصيص.

أقول: يظهر من السيّد قدّس سرّه في المقام عدم جواز التمسّك بالعمومات مطلقا في المقام، لكونها من باب التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة، و لذلك جعل

ص: 484

المرجع هي الأصول العمليّة عند الشكّ، فجعل الأصل في المقام هي أصالة عدم النفوذ و الإنفاذ و عدم انتقال الموصى به إلى الموصى له.

و أنت خبير بأنّ الرجوع إلى العمومات ليس من جهة تعيين المصداق، لما ظهر لك من أنّ المشكوك فيه لمّا كان أمره مردّدا بين أن يكون من أفراد المخصّص بالفتح أو المخصّص بالكسر، ثمّ بالأصل أثبتنا عدم كونه من أفراد الثاني، فجعل بعد ذلك المرجع [هي] العمومات الدالّة على الردّ بالثلث، ففي الحقيقة تعيين الموضوع إنّما يثبت بمئونة الأصل، و التمسّك بالعامّ إنّما هو لإثبات الحكم كما هو الدأب في كلّ ما لو كان منشأ الشكّ هو احتمال كون الفرد المشكوك فيه من مصاديق المخصّص و أمكننا نفيه عنها بالأصل، فتأمّل! (1).

ثمّ إنّه جعل- دام ظلّه- خاتمة البحث في الوصيّة التكلّم في سائر أنواع التصرّفات المعلّقة على الموت مثل العتق المعلّق عليه المسمّى بالتدبير، أو النذر المعلّق عليه أيضا، و صار محصّل إفاداته كونهما من أفراد الوصيّة في الجملة أيضا، بشرط ما لو كان النذر معلّقا على موت الناذر لا مطلقا، فافهم!

معنى التنجيز

فلنصرف الكلام إلى ما هو المقصد بالبحث فنقول: جهات من البحث في المنجّزات ينبغي التكلّم فيها، فقولهم: و في منع المريض من التبرّع المنجّز .. إلى آخره (2).


1- و ذلك مبنيّ على دفع الإشكال المعروف في مثل أصالة عدم القرشيّة و نحوها، «منه رحمه اللّه».
2- تذكرة الفقهاء: 2/ 487، جواهر الكلام: 28/ 468.

ص: 485

الجهة الاولى؛ في تحقيق المراد من ألفاظ هذا العنوان، فهل المراد من التنجيز هو المنجّز بقول مطلق، بحيث لم يكن في التصرّف الواقع في حال المرض تعليق من جهة أصلا، حتّى فيما لو نذر فعلّقه على أمر واقع في حال حياته يخرج عن المنجّز و عن محلّ الخلاف، أم لا، بل المراد من المنجّز أن لا يكون التصرّف معلّقا على الموت؟

الظاهر؛ أنّه لا ينبغي التأمّل (1) في أنّ ملاك المنجّز هو المعنى الثاني، لا الأوّل، فالنذر المذكور ليس داخلا في التصرّفات المعلّقة حتّى يدخل في عنوان الوصيّة، بل التحقيق [أنّه] من مصاديق المنجّزات، و داخل في محلّ الخلاف.

و إنّما الكلام في بعض الأفراد، مثل ما لو نذر و علّقه على موت نفسه، ففي مثله يقع الإشكال في كونه وصيّة معلّقة، أو معدودة من المنجّزة، إذ الوصيّة عبارة عن التصرّفات المعلّقة على الموت بحيث يقع الموصى به بعده، لا ما إذا كان الموت مشروطا عليه، إذ المفروض أنّه نذر أنّه لو مات في المحلّ الفلاني- مثلا- فيكون مقدار من ماله لزيد، لا أن يكون المال المعيّن لزيد بعد موته، بحيث يكون «بعد الموت» ظرفا لوقوع التصرّف و أثره في الخارج.

و لا ريب أنّ المنساق من أدلّة الوصيّة هذا المعنى، لا ما إذا كان الموت شرطا له بالمعنى المذكور، فلذلك يستشكل في كونه وصيّة، و كذلك ليس منجّزا، إذ المستفاد من دليله أيضا غير هذا المعنى، إذ التصرّف و إن لم يكن معلّقا وقوعه على بعد الموت، إلّا أنّه ليس واقعا قبل الموت أيضا، كما هو الظاهر من معنى التنجيز.


1- كما يظهر ذلك بالمراجعة في أدلّة الباب و كلمات الأصحاب، «منه رحمه اللّه».

ص: 486

و لكن لا ريب أنّ مناط المنجّز هو كون مثل هذا التصرّف في حال مرض الموت إضرارا على الورثة، و كذلك يشمله ما يدلّ على أنّ المريض محجور عن التصرّف في ما زاد عن الثلث، و إن لم تشمله العناوين الخاصّة للمنجّزات، مثل الهبة و العتق و الصلح و نحوها، و كذلك فيما لو نذر و علّقه على موته، كما لو نذر أن يكون مقدار من ماله لزيد بعد موته، أيضا في كونه من مصاديق التصرّف المعلّق أو المنجّز غموض، إذ قد عرفت أنّ الوصيّة عبارة عن الإنشاء الفعلي المعلّق على الموت.

و أمّا النذر بأن يكون ماله الفلاني موهوبا لزيد بعد وفاته؛ فهذا يرجع في الحقيقة إلى النذر بالوصيّة، لا أن يكون وصيّة، و كذلك ليس منجّزا؛ لعدم انطباق أدلّته الخاصّة له و إن شملته أدلّته العامّة، و كذلك فيما نذر هبة شي ء لأحد و علّقه على أمر اتّفق وقوعه بعد موته، و أيضا فيما لو نذر و تحقّق المعلّق عليه في حياته و حال مرضه الّذي هو محلّ الكلام في جميع الأمثلة.

و كيف كان؛ فعدم كونهما من التصرّف المعلّق حتّى يدخل في الوصيّة معلوم، و كذلك دخولهما في مصاديق المنجّز إشكال.

ففي جميع هذه الصور، و كذلك مثلها، فإن بنينا على كونها من أفراد المنجّز فيدخل في محلّ الخلاف، و إن بنينا على كونها شقّا ثالثا، فالتحقيق هو الحكم بالنفوذ مطلقا و خروجها من الأصل؛ لجريان الأصول المقتضية لذلك في جميع الأفراد المشكوكة من قاعدة «السلطنة» لو كان منشأ الشكّ قصور السلطنة، و كذلك أصالة عدم تعلّق حقّ الغير، لو كان المنشأ تعلّق حقّ الورثة،

ص: 487

و أدلّة المعاملات و نحوها من العمومات مثل: «أوفوا بالنذر» (1)، و غيره (2)، لو كان المنشأ تحقّق المسبّب، و سيأتي البحث عن كلّ واحد من هذه الاصول إن شاء اللّه تعالى.

معنى الحجر

اشارة

و أمّا المراد من التصرّف الممنوع؛ فلا خلاف في كون التبرّعيّات مطلقا منه، و كذلك المعاملات المحاباتيّة، أي ما يكون الثمن المسمّى فيها أقلّ من ثمن المثل، و إنّما الإشكال في بعض أنواع التصرّف من إسقاط بعض الحقوق و غيرها، و لكنّ الضابط المستفاد من أدلّة الباب الّذي هو الجامع للمصاديق هو التصرّف المستلزم للإضرار على الورثة مع انطباقه على العناوين الخاصّة في الباب، فافهم!

و أمّا المراد بالمرض؛ فقد وقع الخلاف فيه من جهتين، بل جهات، الاولى: في أنّه هل المناط في الحجر و عدمه هو المرض أم لا، بل الإنسان عند موته مطلقا محجور عن التصرّف في ما زاد عن الثلث؟

الثانية: بعد البناء على الأوّل، هل المرض مطلقا مناط، أم المخوف منه؟

الثالثة: هل الحكم مختصّ بأواخر المرض ممّا هو قريب بالموت، أم يكون أعمّ منه و أوائله و إن طال المرض.

و تنقيح البحث يظهر بعد التكلّم في المنساق من أدلّة الباب.


1- إشارة إلى قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ الإنسان (76): 7.
2- و لعلّه إشارة إلى قوله تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ الحجّ (22): 29.

ص: 488

فنقول: إنّ أخبار الباب بين طوائف ثلاث:

إحداها: ما يستفاد منها حجر المريض عمّا زاد عن الثلث.

اخراها: المستفاد من سؤال الراوي و جواب الإمام عليه السّلام أنّ الرجل إذا حضره الموت فمحجور عمّا زاد عن الثلث.

ثالثها: قريب ذلك من قبيل «عند موته» أو «عند وفاته» (1).

ثمّ إنّ كلّ واحد من هذه العناوين الواقع في لسان طائفة خاصّة من الأخبار مطلقة، بمعنى أنّه ليس أحدها مقيّدا بالآخر، و لا ريب أنّ النسبة بينها عموم من وجه، فلا وجه لحمل أحدها على الآخر بحسب المدلول اللفظي، و إنّما الإجماع قائم على كون المراد بالمرض، ليس مطلقا، بل هو المرض المتّصل بالموت، و إن أمكن استفادة ذلك من اللفظ بعناية أيضا، و أمّا العنوان الآخر- و هو حضور الموت أو عند الوفاة- و إن كان أيضا مطلقا يشمل مثل المحكوم بالقتل بالقصاص أو الحدّ، أو من كان في مرماة، فلازم ظهوره عدم نفوذ وصيّتهم في ما زاد عن الثلث أيضا.

و لكنّ الّذي يبعّد كون الإطلاق مرادا دعوى الانصراف في هذه الألفاظ و غلبة إطلاق «من حضره الوفاة» و كذلك لفظ «عند الموت» على المريض، و ندرة تلك الموجبات وجودا و إطلاقا، و من ذلك ظهر أمر آخر، و هو عدم كون المرض بإطلاقه مناطا، بل لا بدّ و أن يكون مخوفا منه حتّى يؤثّر في الحجر؛ إذ قول السائل: (حضره الوفاة) (2) لا يسأل إلّا عن حال مريض يكون مخوفا منه،


1- وسائل الشيعة: 18/ 412 الباب 3 من أبواب الحجر.
2- وسائل الشيعة: 19/ 276 الحديث 24582 و 24583 و 301 الحديث 24647.

ص: 489

فظهور السؤال مع الجواب المنزّل عليه دالّ على ذلك، فمرجع هذا يكون إلى دعوى انصراف آخر.

فانقدح ممّا ذكرنا؛ أنّ التحقيق هو ما ذهب إليه الشيخ قدّس سرّه (1) من اشتراط مخوفيّة المرض، و أيضا عدم كون حضور الموت علّة مستقلّة للحجر كما زعمه بعض (2)، نظرا بالإطلاق الصوري- لما عرفت من الأدلّة- غفلة عن القرينة الحاليّة الّتي احتفّ الكلام به الموجب لانصراف اللفظ إلى الوجه الأخصّ، فالموضوع لعنوان المسألة- الّذي هو محلّ للخلاف- هو المرض المتّصل بالوفاة، لا المرض المطلق، بلا خلاف، و لا مطلق حضور الموت؛ لعدم مساعدة الدليل عليه، كما أوضحنا.

بقي الكلام في أنّه بناء على الحجر، هل الحكم ثابت لمطلق أيّام المرض، أم مختصّ بآخره القريب بالوفاة؟ فمثل مرض الدقّ و نحوه الّذي يمكن أن يطول مدّة من الزمان، فلو أوصى في أوائله، فحكمه مثل حمّى العفن الّذي لو انتهى إلى الموت لا يطول غالبا، أم لا، بل الحجر في مرض الدقّ و أمثاله منحصر بالأواخر الّذي يقال عرفا: إنّه قرب موته؟ فهذه المسألة أيضا صارت منشأ للإشكال و الخلاف.

ثمّ لا يخفى أوّلا أنّ مقتضى ظواهر الأدلّة أيضا الإطلاق، و لا مجال لدعوى الانصراف و نحوه للاختصاص من اقتضاء الإطلاق و التقييد ذلك، إذ قد يتوهّم أنّه بعد البناء على كون المراد من حضور الموت و الوفاة هو المرض الّذي


1- حكى عنه في جواهر الكلام: 26/ 74 و في جامع المقاصد: 11/ 96.
2- نقل عن القواعد في جواهر الكلام: 26/ 74.

ص: 490

انتهى إليهما، فعلى ذلك؛ لا يستفاد منها إلّا ثبوت الحكم للمريض الّذي قرب موته، فلا بدّ لذلك من رفع اليد عن ظهور الإطلاق في سائر الأدلّة الدالّة على الحجر في مطلق المرض.

و دفع ذلك؛ هو أنّه إنّما يصار إلى التقييد إذا ثبتت وحدة المطلوب، و أمّا إذا لم يثبت تلك كما في ما نحن فيه؛ بل أمكن أن يكون كلّ واحد من المرض بإطلاقه- أي و لو كان أوائله الّتي بعيدة عن الموت، و آخره المتّصل بالوفاة- موجبا للحجر [فلا يصار إلى التقييد].

و بالجملة؛ فإن لم نلتزم بالمفهوم في ظواهر الأدلّة، مثل ما يعبّر فيه «بحضور الموت» (1) أو «عند الوفاة» قلنا: إنّها من قبيل اللقب و لا مفهوم لها، فلا تعارض بين الأدلّة أصلا، أو يصير- على ذلك- مناط الحكم هو المرض المتّصل بالموت بجميع أحواله.

و إن قلنا بأنّ هذه الألفاظ لمّا كانت واردة في مقام التحديد فلا بدّ من الالتزام بالمفهوم فيها الموجب لإثبات خصوصيّة في التعبير «بحين الموت» و لكن مع ذلك أيضا لا موجب للحمل؛ لعدم ثبوت وحدة المطلوب، و لكن؛ لمّا كان مناط وحدة المطلوب ثابتا في المقام، فلا بدّ من الحمل.

و توضيح ذلك: هو أنّه لو أخذنا بإطلاق ما يدلّ على كون المرض موجبا للحجر، و لو كان أوائله، فلا يبقى محلّ لكون المرض مقيّدا بحال الوفاة- الّذي يدلّ عليه الطائفة الاخرى- سببا للحجر أيضا؛ بحيث يكون ذلك سببا آخر.


1- أي: عدم الالتزام بخصوصيّة في هذه الألفاظ، بل هي عبارة عن المرض المقارن للموت، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».

ص: 491

ضرورة؛ أنّه بعد أن كان المرض بإطلاقه مؤثّرا في ذلك، فلا يعقل أن يؤثّر حين الموت منه بخصوصيّة في الرتبة المتأخّرة في ما أوجبه أوائل المرض، لعدم إمكان توارد العلّتين المستقلّتين الّذي هو محلّ النزاع في ذلك، فلا بدّ و أن يكون أحدهما ملغى عن التأثير.

و لا يتوهّم أنّ تأثير الثاني إنّما هو إذا لم يكن مسبوقا بالأوّل، إذ مع ذلك لا يعقل أن يؤثّر الخصوصيّة المدّعاة، ضرورة أنّ محلّ البحث إنّما هو الواقع لا الخارج، فإنّا [إذا قلنا] بأنّه لا بدّ و أن يكون أحد المقتضيين مؤثّرا في الوجود، فإنّه بناء على الالتزام يكون المرض مطلقا علّة للحجر، ففي الفرض المذكور فهو أوجب الحجر لا خصوصيّة حين الموت، فسقوطه عن التأثير ليس مختصّا بما لو كانت الوصيّة حين الموت مسبوقة في الخارج بالوصيّة أوّل المرض.

و بالجملة؛ فيدور الأمر- على ذلك- بين رفع اليد عن إطلاق المرض و تقييده بالحالة المقارنة للموت، أو الأخذ بإطلاقه و رفع اليد عن سائر الأدلّة و إلغائها، و لا ريب أنّه عند ذلك، الأوّل متعيّن؛ لصيرورته موجبا للعمل بالدليلين في الجملة.

فالتحقيق: هو البناء على كون الموجب للحجر آخر المرض الّذي يقال عرفا: إنّه قريب بالموت و حضرت وفاته، و في كلّ ما إذا شكّ فالمرجع هو الاصول الّتي سنحرّرها لأصل المسألة.

هذا؛ و هل يكون مطلق الموت الواقع في حال المرض موجبا للحجر بناء عليه، و إن لم يكن مستندا إلى ذلك المرض، أم لا، بل المناط هو كون المرض مستندا إليه الموت، و إلّا ففيما لو قتل المريض قاتل أو لدغته الحيّة فمات،

ص: 492

و نحوه كلّ ما لم يكن الموت مستندا إلى المرض بحيث يكون هو سببه، لم يوجب مثل ذلك الحجر؟

قد يقال بالثاني بدعوى انصراف الأدلّة إليه، بمعنى أنّه لا يقال: مرض الموت إلّا لمّا كان الموت مستندا إلى نفس المرض لا إلى أمر خارجي، و لكن لا يتمّ هذا الكلام بإطلاقه، فإنّ إنكار الاستناد في مثل ما لو لم يكن المرض مهلكا، و لكن انتهى إليه، كما لو أخطأ الطبيب في العلاج و الدواء حتّى أوجب ذلك انقلاب المرض إلى المرض المهلك، باطل، إذ لا يخفى أنّ في مثله الموت مستند إلى كلا الأمرين؛ أي المرض الأوّل و المرض الثاني، فإنّ المرض الأوّل هو بمنزلة المقتضي لإيجاب الثاني الموت، حتّى لو لم يكن لم يوجب الأمر الخارجي تحقّق المرض الثاني.

فالإنصاف؛ أنّ في مثله لمّا يستند الموت إلى كلا المرضين فالحكم جار فيهما، حتّى لو أوصى في المرض الأوّل يدخل في محلّ النزاع.

أقول: لا يخلو ذلك عن تأمّل؛ إذ كون المرض الأوّل مقتضيا لتحقّق الثاني لم يوجب استناد الموت إليهما؛ إذ الشي ء يستند إلى الجزء الأخير من علّته، و ما قبلها إنّما هو المعدّات الّتي لا تطلق عليها العلّة، و لا يراها العرف سببا، فعلى ذلك ضمّ المرض الأوّل إلى الثاني هو كالحجر الموضوع في جنب الإنسان لا أثر له في الاستناد، كيف و لو كان مستندا إليه، لا بدّ و أن يكون كذلك عند التفكيك أيضا، فتأمّل!

إذا تبيّن ذلك؛ فلا بدّ من البحث في أصل المسألة و لنقدّم أوّلا ما يقتضيه الأصل في المقام، بحيث يكون هو المرجع عند تعارض الأدلّة، و هذه [هي]

ص: 493

الجهة الثانية من البحث.

فنقول: لا إشكال في أنّ الاصول تختلف بحسب اختلاف الاحتمالات ممّا يحتمل كونه مانعا عن تأثير الوصيّة و نفوذها في ما هو المتنازع فيه، و الاحتمالات الموجبة لعدم النفوذ عن أحد امور ثلاثة:

أحدها: هو ثبوت إضافة بين المال و الورثة بحيث أوجب ذلك قصر سلطنة المالك المتصرّف، و منع عن استقلاله فيه الّذي كان له قبل أن يمرض، و كان له أن يفعل به كيف شاء، فالآن- أي عند عروض المرض- لمّا انقلبت إضافته التامّة؛ لتحقّق إضافة بين المال و الورثة أيضا فانقطعت سلطنته التامّة، فلا تنفذ تصرّفاته في ما زاد عن الثلث، كما لو كان أوصى بها.

و بالجملة؛ العلقة الحادثة بين الورثة و أعيان الأموال- المسمّاة هذه العلقة بالحقّ- منعت عن نفوذ التصرّف في ما زاد عن الثلث.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم هذه الكيفيّة من العلقة الّتي يعبّر عنها بالحقّ قابليّتها للسقوط بإسقاط الورثة و قابليّتها للردّ أيضا كلاهما في حياة المالك المتصرّف.

ثانيها: ثبوت هذه العلقة و الإضافة أيضا، و لكن لا بحيث يوجب ثبوت الحقّ القابل للإسقاط، بل يدّعى الاستفادة من أدلّة المنع حدوث العلاقة الموجبة لإخراج المال عن الطلقيّة، و منع صاحب المال عن الاستقلال في التصرّف المسمّى ذلك بالحكم، و لازم هذه الكيفيّة من الإضافة قابليّتها لإمضاء التصرّف [و] عدم قابليّتها للإسقاط، كما في مطلق الأحكام، مثل حجر الصغير و المجنون الموجب لثبوت إضافة و علاقة بين أمواله و وليّه، و هذه الولاية حكم شرعيّ غير قابل للسقوط.

ص: 494

ثالثها: كون المرض مانعا تعبّدا، بلا أن يحدث الحجر علاقة و إضافة بين المال و الورثة، بل يكون المرض العارض القريب بالموت حاجزا عن استقلال المالك في تصرّفاته.

ثمّ إنّ المنشأ إن كان الأخير؛ فيمكن التمسّك بالأصول بأنواعها لإثبات نفوذ التصرّف و ارتفاع مانعيّة ما يحتمل كونه مانعا من قاعدة سلطنة الناس على أموالهم، فإنّ من شأنها رفع المانع عن نفوذ التصرّفات الصادرة عن المالك على ماله التامّ الماليّة، و كذلك عمومات المعاملات، فإنّ المفروض صدور عقد الهبة أو البيع- مثلا- من أهله مع كونه مجتمعا للشرائط الشرعيّة، فاحتمل كون حال خاصّ من أحوال المتعاقدين مانعا عن تأثير العقد، فما لم يثبت مانعيّته فأدلّة وجوب الوفاء بالعقد تقتضي لزومه المترتّب عليه النفوذ و صحّة التصرّف، و كذلك استصحاب حال صحّته من بقاء سلطنته و نفوذ تصرّفاته لو كان ناقلا لما له في تلك الحالة- مثلا- الّذي يرجع ذلك إلى الاستصحاب التعليقي على إشكال فيه سنشير إليه.

و أمّا على الاحتمال الثاني و كذا الأوّل، فلمّا يرجع الشكّ إلى تعلّق حقّ الغير بالمال و خروج المال عن الطلقيّة، فلا يبقى المجال للتمسّك بالاصول السابقة.

ضرورة؛ أنّ قاعدة السلطنة محلّها ما إذا ثبتت الماليّة التامّة حتّى تجري هي فيثبت بها نفوذ التصرّفات الواردة على المال، و أمّا على الفرض المزبور فأصل الموضوع مشكوك فيه، فكيف يمكن التمسّك بها؟ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، لازم ذلك كون المال طلقا، لا على مال الغير، و كذلك أدلّة العقود

ص: 495

ليس لها مجرى عموما و خصوصا، و ذلك لانصرافها إلى ما يكون موضوعها الأموال الّتي سلطنة المتعاقدين عليها تامّة، بل ينحصر الأصل على هذين الاحتمالين بالأصل الموضوعي و استصحاب عدم تعلّق حقّ الغير الثابت للمال في زمن صحّة المالك، و استصحاب سلطنة المالك كذلك، الموجبان لرفع الشكّ و إثبات النفوذ.

نعم؛ قد يستشكل هذا الاستصحاب الّذي مرجعه إلى استصحاب القدرة التامّة للصحيح لإثباتها في حال المرض بما لو كان المريض مسبوقا بالصغر أو الجنون، فإنّه ليس له سلطنة في الزمان السابق على الزمن المشكوك فيه السلطنة حتّى يستصحب تلك السلطنة الثابتة، فكيف يمكن جعل ذلك أصلا كليّا يرجع إليه مطلقا؟

و أمّا الفرق بين المريض الّذي كان مسبوقا بأحد الحالين، و من كان مسبوقا بالبلوغ و العقل فهو باطل؛ ضرورة أنّا نعلم أنّ حكم المريض ليس مختلفا إجماعا، بل إمّا محجور عن الزائد على الثلث مطلقا، أو ليس كذلك مطلقا.

و لكن يمكن دفع ذلك أوّلا، بأن يقال: إنّ عدم التفصيل في الحكم الواقعي لو كان موجبا لقيام الإجماع على عدم التفصيل في الحكم الظاهري أيضا، فلا ريب أنّ الإشكال لا مدفع له من هذه الجهة، و أمّا لو منعنا ذلك و قلنا بأنّ الإجماع على عدم التفصيل في الحكم الواقعي لا يلازم عدم جواز التفصيل في الحكم الظاهري، فلا مانع من إجراء الأصلين على حسب المقامين.

و لكنّ ذلك بهذا المقدار لا يتمّ، بل هو مبنيّ على أن نقول: إنّه لا مانع من إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي ما لم ينته إلى المخالفة العمليّة، و أمّا لو

ص: 496

بني على المنع عنه مطلقا، فلا.

بيان ذلك: أنّه إنّا نعلم إجمالا بأنّ تصرّفات المريض في ما زاد عن الثلث إمّا نافذ مطلقا، أو ليس بنافذ كذلك، فيكون من باب العلم الإجمالي بدوران الأمر بين المحذورين، و قد ظهر أنّ إجراء أصالة عدم النفوذ في المريض المسبوق بالصغر و الجنون، و أصالة النفوذ في المسبوق بالبلوغ و العقل، يوجب مخالفة هذا المعلوم بالإجمال.

و لكن لمّا كان التحقيق في إجراء الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو الاحتمال الأوّل، فبعد تماميّة المقدّمة الاولى و هذه الأخيرة أيضا فلا بدّ من الرجوع إلى الأصلين على ما يقتضيه المقامان، لعدم لزوم المخالفة العمليّة، و عدم ابتلاء أحد الموردين بالآخر.

نظير ما لو توضّأ بالماء المشتبه بالبول، فبنوا على إجراء أصالة طهارة البدن و استصحاب بقاء الحدث بلا محذور، مع أنّ مقتضى العلم الإجمالي عدم جواز التفكيك فيه، بل لا بدّ من البناء إمّا على طهارة البدن و ارتفاع الحدث، و إمّا على نجاسته و بقائه، و لكن لجريان الملاك المذكور و عدم لزوم المخالفة العمليّة تعدم المعارضة.

جريان الاستصحاب في المقام

و ثانيا بإجراء استصحاب القدرة و السلطنة في كلتا الصورتين بتقريب أن يجرى الاستصحاب في الموضوع الكلّي- و هو بقاء سلطنة العاقل البالغ الّتي تكون له حين صحّته إلى حين مرضه- ثمّ ينطبق ذلك على المورد، لأنّ التحقيق

ص: 497

هو ثبوت الأحكام للطبائع الكليّة ثمّ منها يسري إلى الأفراد، ففي ما نحن فيه لمّا كان الحكم- و هو السلطنة- ثابتة لطبيعة العاقل البالغ فإذا شكّ في بقاء سلطنة هذه الطبيعة في حال من أحوالها فلا بأس باستصحابها في تلك الحالة، فإذا أجرينا الاستصحاب في الطبيعة و أثبتنا الحكم لها في الحالة اللاحقة فيتبيّن حال الفرد المشكوك فيه قهرا، لانطباق تلك الطبيعة له حسب الفرض.

و لا ريب أنّه يكفي في الاستصحاب انطباق الحكم على الموضوع في أحد جزئي الزمان، فلا يتوهّم أنّه إذا لم تكن السلطنة لشخص المريض المشكوك فيه في الحالة السابقة رأسا موجودة [لا يجري الاستصحاب]، لأنّ المفروض أنّه لم يكن قابلا لها، إذ يكفي انطباقه عليه في الآن اللاحق، بعد كون المفروض كون الحكم في الحقيقة ثابتا للطبيعة، و هي في كلا الزمانين مورد للحكم.

نظير ذلك ما لو أمر بإكرام العلماء ثمّ شككنا بعد زمان في تقيّده بالعدول، و لذلك ارتفع الحكم عن العالم المطلق، و لذا نشكّ في إكرام زيد الّذي لم يكن بعالم في سابق الزمان و الآن صار عالما مع اتّصافه بالفسق، فلا إشكال أنّ مقتضى «لا تنتقض اليقين» (1) عدم جواز رفع اليد عن الحكم الثابت أوّلا، و عدم الاعتناء باحتمال التقيّد المذكور فيجب إكرام مطلق العلماء فيستكشف حال زيد.

نعم؛ قد يردّ هذا الاستصحاب لمعارضته باستصحاب الحالة السابقة لشخص المستصحب لأنّ المفروض أنّ شخص هذا المريض الّذي مسبوق بالصغر أو الجنون كان قبل مرضه محجورا عن التصرّف، و ممنوعا عن


1- تهذيب الأحكام: 1/ 7 الحديث 11، وسائل الشيعة: 1/ 245 الحديث 631.

ص: 498

الاستقلال، فبعد بلوغه مع اتّصافه بالمرض يشكّ في ارتفاع حجره و عدمه، و لا ريب أنّ المتيقّن منه هو ارتفاعه في الثلث و الباقي مشكوك فيه فيستصحب الحكم الثابت فيه له قبل مرضه.

و أنت خبير بضعف ذلك؛ لأنّ الشكّ في شخص المريض و تصرّفاته إنّما هو ناشئ عن الشكّ في الحكم الكلّي المتعلّق بطبيعة العاقل البالغ الّذي عرضه المرض، بحيث لو ارتفع الشكّ عن ذاك الموضوع الكلّي لا يبقى الشكّ في هذا الشخص أبدا.

ضرورة؛ أنّ مفروض الكلام عدم كون أفراد المريض مختلف الحكم حتّى يوجب ذلك خصوصيّة في الشخص، فإذا كان ارتفاع الشكّ عن الفرد يرتفع بتبيّن حكم الموضوع الكلّي، فالاستصحاب فيه يكون حاكما على الاستصحاب الجاري في الفرد، لكونه رافعا للشكّ عنه و متكفّلا لبيان حكم استصحاب حال الفرد.

فانقدح من ذلك؛ صحّة استصحاب الحكم الكلّي الثابت لطبيعة العاقل البالغ، و عدم المانع عنه، حتّى لاستظهار حكم المريض الّذي غير مسبوق باستقلال التصرّف في أمواله، و عدم انطباق هذا الحكم الكلّي للموضوع المشكوك فيه سابقا لا يضرّ بالاستصحاب إذا كان منطبقا عليه في الزمان اللاحق، إذ قد أشرنا إلى أنّه ثبت في محلّه أنّه يكفي في الاستصحاب انطباق الحكم على الموضوع في أحد عمودي الزمان فثبت من ذلك؛ أنّ الأصل نفوذ تصرّفات المريض مطلقا في مرضه، لو كانت منجّزة.

و قد يتمسّك لدفع الإشكال بالاستصحاب التعليقي، كما أنّه تمسّك به

ص: 499

لإثبات الحكم في أصل المسألة أي استصحاب حكم حال الصحّة مطلقا، و تنقيح المقام موقوف على ذكر جملة من الكلام في أصل الاستصحاب التعليقي.

فنقول: إنّ المستصحب كذلك إمّا هو حكم تكليفي أو وضعيّ، أمّا في الأوّل؛ فالاستصحاب التعليقي و جوازه فيه موقوف على ما هو التحقيق عندنا من كون الحكم و الإرادة فيها متعلّقة بالصورة الذهنيّة دون الخارجيّة، إذ قد سبق أنّ تعلّق الإرادة بالخارجيّات يكون تحصيلا للحاصل، بل إنّما المتعلّق به في الأحكام التكليفيّة هو الخارج الزعمي.

فعلى ذلك؛ لما كان الموضوع فيها كذلك محقّقا دائما، و لذلك بنينا في محلّه على عدم صحّة ما هو المعروف من أنّ الواجبات المشروطة بعد تحقّق شرطها تنقلب و تصير مطلقة، و ليس ذلك إلّا توهّم كون متعلّق الأحكام هو الخارجيّات، و منها المعلّق عليه في الواجبات المشروطة، و هذا توهّم فاسد، بل الإرادة فيها، سنخها غير سنخ الإرادات المطلقة، إذ هي في الواجبات المشروطة إنّما هي الإرادة المنوطة، بمعنى أنّه قد يتعلّق الطلب المطلق بالصلاة، و قد يكون الطلب مقيّدا بشي ء أو حال متعلّقا [بشي ء]، مثل الطلب المتعلّق بالصلاة عند دلوك الشمس، لا بأن لا تكون الإرادة قبل الدلوك محقّقة، و لا بأن يكون المتعلّق به، الدلوك الخارجي، بل الإرادة من أوّل الإنشاء محقّقة بحيث يرى الدلوك موجودا فعلا، ففي ظرف وجوده تطلب الصلاة عنده.

فلمّا كانت هذه الإرادة من حين تحقّقها موجودة بلا أن تنقلب عن كيفيّتها من الإناطة و ردّ المنوط عليه في ظرف الإناطة- و هي عالم الإنشاء- مفروض الوجود، ففي مثل هذه الأحكام و الإرادات لا بأس باستصحابها، و لو لم يكن

ص: 500

معلّق عليه الإرادة موجودا في صفحة الخارج.

نعم؛ تحقّقه في الخارج موجب للتنجّز و بعث العقل إلى العمل، و هذا لا ربط له بمقام الإرادة، حتّى لا تكون لها الفعليّة إلّا بذلك، كما توهّم، بحيث تكون- قبل تحقّق المعلّق عليه في الخارج- الإرادة شأنيّة محضة.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الاستصحاب التعليقي في الأحكام التكليفيّة على ما هو التحقيق من كيفيّة الطلب فيهما لا محذور، و أمّا على القول بكون المتعلّق للطلب فيها الخارجيّات بحيث لا تكون فعليّة للطلب ما دام لم يوجد المتعلّق عليه في الخارج حتّى يكون الخارج ظرفا للتنجّز أو البعث العقلي، بل الخارج ظرف لتحقّق الطلب فتكون الأحكام التكليفيّة حكمها مثل الوضعيّة على ما سيجي ء.

و أمّا الأحكام الوضعيّة فلا إشكال في كون متعلّقاتها إنّما هي الخارجيّات أو السلطنة ثابتة للشخص على المال الموجود في الخارج، و كذلك النجاسة ثابتة للعصير الغالي الخارجي، و كذلك الوفاء متعلّق بالعقد الموجود في الخارج و نحوها من الوضعيّات.

فنقول: إنّما يصحّ الاستصحاب التعليقي فيها على القول بكون المراد من «لا تنقض اليقين» هو المتيقّن، فيكون مفاد الاستصحاب هو التنزيل و جعل المتيقّن.

فعلى ذلك؛ فبعد أن أوضحنا بأنّه لا بأس بتصرّف الشارع في الامور العقليّة رفعا و وضعا إذا كان منشأ الأمر الشرعي، فلا مانع من استصحاب الملازمة الثابتة بين العصير المغليّ و النجاسة، و كذلك وجوب الوفاء بالعقد الواقع

ص: 501

في حال الصحّة أو البلوغ.

فمن ذلك تثبت نجاسة عصير الزبيب المغليّ باستصحاب الأوّل بعد فرض كون الزبيبيّة من الأعراض الغير المغيّرة لحقيقة العنبيّة، و كذلك يستصحب في المغليّ فيحكم بوجوب الوفاء بالعقد الواقع من المريض، و ذلك؛ لأنّ أثر الاستصحاب، إذا كان جعل تلك الملازمة الثابتة عند اليقين في ظرف الشكّ حقيقة. و من المعلوم؛ أنّ من آثاره العلم الحاصل من جهة الاستصحاب بالملازمة العلم بالملزوم، و هو الغليان مثلا، فإذا ثبت الملزوم فاللازم يثبت بذلك، فيكون استصحاب الملازمة الثابتة بين العنب المغليّ و النجاسة من قبيل استصحاب ما ثبت أحد جزأي الموضوع بالوجدان، و هو العنبيّة، بناء على المسامحة، و الآخر بالاستصحاب.

و بالجملة؛ فعلى هذا المسلك في باب الاستصحاب؛ فلا مانع من الاستصحاب التعليقي أبدا، و أمّا على المسلك؛ التحقيق فيه من كون الاستصحاب من باب الأمر بالمعاملة، لا جعلا و تنزيلا، فلا يبقى المجال للاستصحاب التعليقي، إذ قد ظهر أنّه موقوف على العلم بوجود الملزوم الحاصل على التقدير الأوّل من جعل الملازمة، و أمّا على هذا التقدير فليست الملازمة في نفسها ثابتة حتّى يثبت الملزوم بتبعها، بل الثابت إنّما هو اليقين التنزيلي.

و من المعلوم؛ أنّه لا ملازمة بين ذلك و إثبات الملازمة أو الملزوم لا عقلا و لا شرعا إلّا على القول بالأصل المثبت، بخلاف الفرض الأوّل؛ إذ الملازمة الحقيقيّة الّتي كانت ثابتة بجعل التنازع ملازما لوجود الملزوم، فإذا لم يكن الملزوم هنا ثابتا فلا يثبت اللازم و هو الحكم، فلا يبقى الموقع للاستصحاب.

ص: 502

مقتضى الأخبار في المقام

فإذا تمّ البحث في ما يقتضيه الأصل في المسألة فلنشرع في ذكر ما [هو] مقتضى الأدلّة الخاصّة في الباب من الأخبار، فنقول [أوّلا]: لا يخفى أنّ أخبار الباب بحسب اللحاظ الأوّلي و النظر البدويّ متعارضة، و لذلك اختلفت أقوال العلماء قدس اللّه أسرارهم في المسألة، فاختار كلّ فريق طائفة منها و رجّحها على الاخرى سندا أو دلالة، فأفتى بمفاد الراجحة بنظره.

فالمشهور بين القدماء (1)، بل نقل في كلماتهم الإجماع على خروج المنجّزات من الأصل (2)، و أمّا الشهرة المتأخّرة فقد استقرّت على خلافه (3).

أمّا الأخبار الدالّة على الأوّل فهي القريبة بحدّ الاستفاضة.

منها: حديث صفوان (4)، فهي و إن لم تكن صريحة في الدلالة على الخروج من الأصل؛ إذ يحتمل أن يكون المراد من المرض غير مرض الوفاة، فيكون السؤال عن غيره؛ لكون حال المرض غالبا يوجب قلّة الحرص و انقطاع العلاقة من المال، و لذلك يعمل بأمواله- أي المريض- في حاله هذا ما لا يعمل به في صحّته.

و الجواب لا بدّ و أن يكون ناظرا إليه؛ فلذلك لا يصير صريحا في المطلوب، نعم؛ بمقدّمات ترك الاستفصال يدلّ عليه أيضا، إلّا أنّ ذلك لا يزيد عن الإطلاق


1- و كذلك طائفة من متأخّري الأخباريّين، «منه رحمه اللّه».
2- الحدائق الناضرة: 22/ 599.
3- مسالك الإفهام: 6/ 305، و نقله صاحب الحدائق الناضرة: 22/ 599.
4- وسائل الشيعة: 19/ 291 الحديث 24621.

ص: 503

و لا يوجب صيرورته نصّا، كما لا يخفى.

و منها: حديث أبي بصير (1) و دلالته على المطلوب تامّة و قريب من الصراحة.

و منها: حديث سماعة (2) و دلالته على المدّعى إنّما هو بالإطلاق (3).

و منها: الموثّقات الأربع لعمّار (4)، فهي و إن كانت من حيث السند تامّة إلّا أنّ في دلالتها جهات من الكلام، إذ يحتمل أن يكون المراد من الإبانة هي الإبانة الخارجيّة لا الاعتباريّة المراد بها المنجّز الواقع بأحد عناوين المعاملات، فعلى الاحتمال الأوّل لا يتمّ المدّعى بها، إذ يكون المراد بها عليه أنّه إذا كانت الإبانة الخارجيّة في المنجّز واقعة، بمعنى أن يكون أقبضه إلى المنتقل إليه في حياته الكاشف ذلك عن إمضاء الورثة و عدم ردّهم، و إلّا كان لهم المنع، فلا يكون فيها دلالة على المطلوب، فتأمّل!

نعم؛ تتمّ دلالته بناء على استظهار الاحتمال الثاني.

و ثانيا: اختلف نقل متن أحدها من كونه «تعدّى» أو «بعدي»، و لا ريب أنّه على إحدى النسختين لا دلالة فيها على المطلوب أيضا، و على ذلك تصير


1- وسائل الشيعة: 19/ 297 الحديث 24636.
2- وسائل الشيعة: 19/ 296 الحديث 24635.
3- لا يخفى ضعف دلالته إذ يحتمل أن يكون [ «ما» في] قوله عليه السّلام: «ماله»؛ «ما» الموصولة، فتكون كناية عن ثلث ماله الّذي هو له، فأجاب الإمام عليه السّلام: «هو ماله» أي الثلث ماله يصنع به ما شاء، و على فرض التسليم فدلالته إنّما هو بالإطلاق القابل للتقييد جدّا، «منه رحمه اللّه».
4- وسائل الشيعة: 19/ 278 الحديث 24591 و 298 الحديث 24639 و 299 الحديث 24641 و 300 الحديث 24644.

ص: 504

الرواية (1) بحكم المجمل، إذ على تقدير الأوّل بناء على أن يكون الغرض من التعدّي التجاوز عن الثلث، لا الحياة لمّا يصير الكلام ممّا يصلح للقرينيّة الصارفة للّفظ عن معناه الظاهر فيه، فيصير طرفا للعلم الإجمالي، فلا يمكن الأخذ بالطرف الآخر.

و ثالثا: يحتمل قويّا كون الموثّقات الأربع- الّتي يكون ناقلها شخصا واحدا، و كذا المنقول عنه- موثّقة واحدة، و إنّما نقلها مكرّرة، فلا يحصل الوثوق بكلّ واحد منها الّذي هو مناط الاعتبار.

ثمّ إذا احتمل كونها منحصرة بواحدة، و بعد أن يحتمل كون تلك الواحدة هي الّتي قد اختلفت نسخته، الموجب ذلك لسقوطها عن الاعتبار، فكيف يمكن التمسّك بهذه الموثّقات و الركون إليها؟

و منها: ما رواه المحمّدون الثلاثة (2).

و منها: صحيح إبراهيم بن هاشم (3).

و منها: خبر ابن أبي السمّاك (4)، و دلالة هذه الطائفة أيضا تكون بالإطلاق، مع جريان احتمال التفكيك في لفظ «ماله» أيضا فيها.

نعم؛ هذا الاحتمال في بعض هذه الروايات، و هي ما كانت في ذيلها لفظ «فإن أوصى» (5) و نحوه؛ بعيد بل في غاية الضعف، و أمّا في هذه الروايات


1- وسائل الشيعة: 19/ 278 الحديث 24591.
2- وسائل الشيعة: 19/ 333 الحديث 24716، جواهر الكلام: 28/ 259.
3- وسائل الشيعة: 19/ 299 الحديث 24642.
4- وسائل الشيعة: 19/ 297 الحديث 24637.
5- وسائل الشيعة: 19/ 299 الحديث 24641.

ص: 505

الأخيرة فقريبة بل قويّة مع لحاظها مع ما يدلّ من الروايات الآتية على حرمان الشخص في مرض موته عن الزائد عن الثلث.

و منها: الأحاديث الثلاثة المشتملة على العتق و لما كان تقريب دلالة هذه الطائفة على المطلوب حكم الإمام عليه السّلام بكونه نافذا مطلقا، مع احتمال كونه زائدا عن الثلث، و أيضا يحتمل كونه مؤخّرا عن الوصايا، مع ذلك يحكم عليه السّلام بكونه نافذا مطلقا و لا يتمّ ذلك إلّا لكونه من التصرّفات المنجّزة.

فيمكن أن يجاب عن ذلك أوّلا بأنّ الحكم بنفوذ العتق مطلقا لكون بنائه على التغليب.

و ثانيا: يحتمل كونه مقدّما على سائر الوصايا بحسب الوصيّة فلذلك حكم الإمام عليه السّلام بكونه نافذا.

و ثالثا: و لو فرض كون العتق من التصرّفات المنجّزة، مع ذلك حكم الإمام عليه السّلام بنفوذه مطلقا لا يستكشف كونه من الأصل، بل يجتمع ذلك- أي تقديمه و تنفيذه- مع كونه من الثلث أيضا، و ذلك لأنّه يمكن أن يكون وجه التقديم هو دوران الأمر بين المقتضى التنجيزي- و هو العتق- و التعليقي و هو الوصيّة، و لمّا كان المقتضى التنجيزي يؤثّر في الرتبة السابقة فلا تصل النوبة إلى الوصيّة، لعدم بقاء المحلّ له، إذ الثلث الّذي هو مصرفه إنّما صرف في العتق لما عرفت.

و أمّا الأخبار الدالّة على الثاني فبين طوائف (1)، الاولى: ما تدلّ بإطلاقها


1- قد ادّعى تواترها «صاحب الجواهر» نقلا عن «جامع المقاصد» (جواهر الكلام: 28/ 468 و لاحظ! جامع المقاصد: 11/ 96 و 109- 111) و إن لم تتحقّق هذه الدعوى عن «جامع المقاصد» على حسب الفحص في أطراف كلماته، كما اعترف بذلك بعض من كتب في المسألة رسالة.

ص: 506

على حرمان الرجل عمّا زاد عن الثلث (1).

منها: صحيح يعقوب بن شعيب (2).

و منها: صحيحة ابن يقطين (3).

و منها: خبر عبد اللّه بن سنان (4)، و غير ذلك ممّا لا يسع هذا المختصر لنقلها.

أمّا الكلام في سند هذه الأخبار فلا ينبغي البحث فيه؛ لاشتمالها على الصحيح و نحوه، و أمّا دلالتها فلمّا كان مضمون غالبها هو: «رجل يموت» أو «ماله عند موته» و من هذا القبيل، فالنفي الوارد على هذه المضامين إمّا أن يكون المراد به نفي السلطنة في ما زاد عن الثلث، و إمّا أن يكون هو نفي الماليّة رأسا.

أمّا الأوّل: فهو موقوف أن يكون المراد من مجموع السؤال و الجواب هو سلب السلطنة في زمن الحياة المتعلّقة بالتصرّف المنجّز و المعلّق كليهما.

و على هذا التقدير؛ قد يتوهّم كونها حاكمة على الأخبار الدالّة على خروج المنجّز من الأصل؛ لكون دلالتها بالإطلاق فيقيّد قوله عليه السّلام: «الإنسان أحقّ بماله ما دام فيه شي ء من الروح» (5) بتصرّفه المتعلّق بثلث ماله دون زائده، و لكن هذا مردود.

أو فيها يكون ما ليس يقبل ذلك، مثل حديث أبي بصير الدالّ على نفوذ


1- وسائل الشيعة: 19/ 271 الباب 10 من أبواب الوصايا.
2- وسائل الشيعة: 19/ 272 الحديث 24571.
3- وسائل الشيعة: 19/ 274 الحديث 24577.
4- وسائل الشيعة: 19/ 273 الحديث 24576.
5- وسائل الشيعة: 19/ 299 الحديث 24642.

ص: 507

تصرّفات الشخص مطلقا، و في ذيله: «فإن أوصى فليس له إلّا الثلث» (1)، و قد أشرنا إلى كون مضمون هذا الحديث نصّا في المدّعى، فكيف يمكن تقييده بنحو ما ذكر؟ و لذلك قد يتوهّم حكومة تلك الأخبار على هذه الطائفة و تقييدها بالتصرّفات المعلّقة على الموت، فهي الّتي نفت السلطنة عمّا زاد عن الثلث فيها.

و لكن هذا أيضا فاسد؛ و ذلك؛ لأنّه إذا كان وقوع متعلّق الوصيّة و تحقّقه بعد موت الموصي لا في حياته، فمرجع سلب السلطنة عن الإنسان و إثباتها له في ثلث ماله يكون إلى إثبات السلطنة له في ثلث ماله بعد موته، و هذا لغو غير معقول، بل لا بدّ أن يلاحظ النفي و الإثبات بالنسبة إلى زمن الحياة، كما لا يخفى.

فإذا انتهى الأمر إلى ذلك فيقع التعارض الحقيقي بين الطائفتين على هذا التقدير، إذ يكون مفاد أخبار الأصل إثبات السلطنة الكليّة ما دامت الروح في بدن الإنسان، و مفاد هذه الأخبار هي السلطنة عنه في ما زاد عن الثلث كذلك.

و أمّا على التقدير الثاني- و هو أن يكون المراد من النفي في هذه الأخبار نفي الماليّة- و لا ريب أنّ ذلك إنّما هو مبنيّ على أن يكون المراد من قوله عليه السّلام:

«عند الموت» أو قوله عليه السّلام: «يموت» و غير ذلك من هذه المضامين بعد الموت، إذ فيه إنّما تنقطع يد الإنسان عن ماله فيصحّ نفيه عنه، و أمّا قبله فالظاهر أنّ بقاء المال على ملك صاحبه و عدم تعلّق حقّ الورثة به إجماعي، فعلى ذلك يبقى النفي بحاله على معناه الأصلي من نفي حقيقة الماليّة لا نفي السلطنة باعتبار نفي الآثار، و يرتفع التعارض أيضا، إذ يختلف موضوع الإثبات المستفاد من أخبار الأصل و النفي الدالّ عليه هذه الأدلّة، فيدور الأمر بين أن يرفع اليد من ظاهر


1- وسائل الشيعة: 19/ 297 الحديث 24636.

ص: 508

أخبار الأصل بحملها على غير مرض الموت و تقييد السلطنة المستفادة منها بالثلث، و بين التصرّف في بعض هذه الأخبار، مثل قوله عليه السّلام: «عند موته» و حمله على بعد الموت، و إلّا فمثل قوله عليه السّلام: «يموت» لا يحتاج إلى التصرّف؛ إذ هو ظاهر في ذلك.

و لا إشكال أنّ الثاني أولى، بل متعيّن؛ إذ عليه يبقى النفي أوّلا على معناه الظاهر، و في هذه الأخبار يكون ما يدلّ على كون المراد، التصرّفات المعلّقة على الموت مثل قوله عليه السّلام: «فإذا أوصى بأكثر من الثلث» (1) .. إلى آخره، و كذلك قوله عليه السّلام: «فإن لم يوص» (2) .. إلى آخره.

ثانيا: و الجمود على ظواهرها يوجب تخصيص الأكثر أو الالتزام بما هو المخالف للسيرة القطعيّة، و منع المالك عن تصرّفه في مرضه عن مطلق التصرّفات إلّا بمقدار الثلث و حجره عن إعطائه أجرة الطبيب أو بعض النذور، أو صرفه لنفسه و لعياله، و غير ذلك ممّا هو مرغوب عنه عند الكلّ ثالثا.

فالتحقيق الالتزام بظهور أخبار الأصل، لعدم كون هذه الأخبار قابلة لمعارضتها كما عرفت، و أمّا بقيّة الطوائف فلا ريب في عدم قابليّتها للمعارضة أيضا كما يظهر للمتدبّر فيها، و قد تعرّض لذكرها و الجواب عنها السيّد المحشّي قدّس سرّه (3) بما لا مزيد عنه فراجع!

و لكن لا يخفى؛ أنّه بعد ما أشرنا إلى ما في أخبار الأصل أيضا هي غير


1- وسائل الشيعة: 19/ 284 الحديث 24602.
2- لاحظ! وسائل الشيعة: 19/ 273 الحديث 24576.
3- لم نعثر على هذا القول.

ص: 509

تامّة الدلالة أو السند، و إن استقرّ رأي الأستاد- مد ظلّه- على تقويتها مؤيّدا بغيرها ممّا أشرنا إليها قبل التعرّض لذكر الأخبار، و اللّه العالم، و هو الموفّق و المعين.

قد وقع الفراغ من هذا البحث في أخير عشر الثاني من [شهر] رمضان المبارك 1344 الهجريّة.

ص: 510

ص: 511

رسالة الغصب

اشارة

ص: 512

ص: 513

غصب المسجد

[و لا يخفى أنّه إذا كان الشي ء متعلّق حقّ الانتفاع لشخص أو جماعة و لم يكن مملوكا لهم لا عينا و لا منفعة فهل يكون غصبه كغصب المملوك عينا أو منفعة بحيث تبطل صلاة الغاصب في ذلك المكان مطلقا، و صلاة غيره إذا لم يكن جاهلا بالغصب، أو ناسيا، أو لا يكون كغصب المملوك؟ فإنّه معركة الآراء، فقيل بعدم الفرق، و قيل بالفرق و أنّ الصلاة لا تبطل إلّا فيما إذا كان مملوكا عينا أو منفعة فلا تبطل الصلاة فيما لم يكن ملكا] (1) عينا أم منفعة، بل إنّما تعلّق حقّ انتفاعهم عنها بلا أن يثبت لهم ماليّة فيها أصلا، و لذلك قالوا في مسألة من سبق إلى مكان من المسجد و نحوه فهو أولى به (2)، بأنّه لو أزعجه آخر عن مكانه فصلّى فيه تكون صلاته صحيحة، و ليس ذلك إلّا لأنّ للسابق حقّ انتفاع من الأرض بلا ثبوت ماليّة له فيها، و لا ثبوت حكم وضعيّ لهذه الأرض بالنسبة إلى السابق، بل إنّما أولويّته حكم تكليفي صرف، و هو حرمة إزعاجه الغير الّذي نشأ ذلك من جهة جعل الشارع له أولويّة الانتفاع.

نعم؛ هل يتوقّف صدق عنوان الغصب على أن تكون يد الغاصب موضوعة على المال و الملك، بحيث لو لم تكن اليد العادية واردة على ما ليس بمال لأحد


1- ما بين المعقوفتين أوردناه لتتميم البحث.
2- ليست المسألة اتّفاقية بل خلافيّة، بل المشهور بطلان الصلاة، «منه رحمه اللّه».

ص: 514

لم يتحقّق الغصب، أم لا، بل لا يتوقّف على ذلك، بل ما يصدق عليه أعمّ من أن يكون مالا أو شيئا فيه نحو اختصاص بالغير، بحيث للغير أن يرفع اليد العادية و يمنعه عن التصرّف فيه لا بعنوان الأمر بالمعروف بل بعنوان أنّ حقّه تعلّق به فهو ذو حقّ فيه و له إضافة خاصّة إلى الشي ء الّذي وردت عليه اليد العادية.

و لا يخفى؛ أنّه ما اعتبر أحد في مفهوم الغصب المعنى الأوّل، بل معناه اللغوي و كذلك كلماتهم ظاهرة في المعنى الأعمّ، و لا ريب أنّ العرف أيضا مساعد معه، فيصدق على من تصرّف في المسجد عمّا هو عليه، و لو لم يكن فيه ماليّة لأحد أي مال للناس، أنّه غصبه، لما يرون فيه للناس حقّ اختصاص به.

و بعبارة اخرى: أنّ الأوقاف العامّة ليست كالمباحات الأصليّة الّتي ليس لأحد أن يمنع المتصرّف فيها عن التصرّف، بل لهم لما يكون للناس جميعا فيها حقّ و سلطنة أن يمنعوا المانع عن استنقاذ حقّهم، و كذلك ليس كمنفعة الحرّ الّتي ليست ملكا و لا متعلّقا لحقّ أحد، بل إنّما سلطنته على نفسه حكم محض بلا اعتبار ماليّة أو حقّ فيه، و لذلك لا يضمن منافع الحرّ، و ليس ذلك إلّا لاختلاف نحو العلقة الحاصلة بين الناس و بين المباحات، و بين العلقة الثابتة بين الأوقاف العامّة و الموقوف عليهم؛ لأنّ العلقة الثابتة بينهم و بين المباحات إنّما تكون نحو اختصاص، بحيث لو سبق إليها كلّ شخص تكون تلك المباح له، و له أن يقلّبه كيف شاء؛ لصيرورته ملكا له، بخلاف الأوقاف العامّة فإنّ الناس فيها شرع سواء، و إن كانت علقة الاختصاص هنا أيضا بتحقيق للسابق إلّا نحوها تكون بحيث له الانتفاع منها فقط، بلا أن يكون له تقلّبها بأيّ نحو شاء بعنوان الملكية، بل لو تصرّف هكذا لما كان يتصرّف في متعلّق حقّ الغير، فللغير أن يمنعه و يرفع

ص: 515

يده عن الزائد عمّا له الحقّ أن يتصرّف فيه كغيره من الموقوف عليهم.

و أمّا الفرق بينها و بين منافع الحرّ؛ فلما عرفت من أنّ العقلاء لا يعتبرون لمنافعها الماليّة، و لا العلقة الحاصلة بينه و بين منافعه العلقة الملكيّة و المالكيّة، كما أنّ الشارع ما اعتبر لمنافعه إلّا حكما تكليفيّا محضا، بمعنى أنّ سلطنة الحرّ على نفسه و منافعه (1) ليست إلّا قدرة محضة بلا اعتبار حكم وضعي له و لمنافعه.

و ممّا ذكرنا ظهر لك أنّه يكفي في حرمة التصرّفات الزائدة على مصرف الوقف أو المعتبرة له، ما دلّ على أنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها، فلو لم يكن لنا دليل الغصب، أو لم يصدق العنوان على المقام، ما يكون من قبيل هذه الأدلّة كافية لإثبات عدم جواز التعدّي في الأوقاف العامّة و منع اليد العادية عنه، كيف و قد أوضحنا صدق عنوان القضيّة عليها، و عدم توقّف ذلك على أن يكون الوقف تمليكا كما زعمه بعض (2)، بل و لو قلنا بكون الأوقاف العامّة تحريرا و إيقافا يصدق عنوان الغصبيّة أيضا؛ لصيرورتها بذلك- أي بالتحرير- متعلّقا لحقّ الناس، و لو لم يكن ملكا لهم، كما أنّ ظاهر معاقد الإجماعات قد عبّر فيها عن الحقّ، أي: للناس حقّ الصلاة في المساجد أو حقّ السكنى في الخانات.

فلا يتوهّم أنّ إضافتهم بها يكون كإضافتهم بالمباحات قبل تصرّفهم فيها، حتّى يكون حكما محضا بلا ثبوت حقّ ليس الأمر كذلك، بل يعتبرون للناس في الأوقاف العامّة الحقوق و نحو اختصاص و إضافة ماليّة بحيث لو منعهم أحد عنها


1- و إن كان ظاهرهم اعتبار الماليّة لمنافعه بعد صيرورتها مصبّا للمعاملة و الإجارة، حتّى جوّز بعض جعلها بدلا و عوضا في البيع، و بالجملة؛ اعتبر فيها جميع اعتبارات الماليّة، فراجع أوّل البيع! «منه رحمه اللّه».
2- المكاسب: 4/ 54.

ص: 516

يصدق عليه أنّه غصب حقوقهم.

بل هكذا القول في الأوقاف الخاصّة، أي لا نلتزم فيها بالتمليك، مع ذلك نلتزم فيها بصدق عنوان الغصبيّة، كما أنّ ظاهر الحديث و كذلك عبارات الفقهاء في حقيقة الوقف هو أنّه تحبيس الأصل و تسبيل الثمرة، فينكشف من ذلك أنّهم اعتبروا للتمليك مراتب.

منها: تمليك العين بجميع تشخّصات وجودها و مراتب وجودها، كما في التمليك في البيع و الهبة و نحوهما.

[و] منها: تمليكها بجهة من وجودها؛ مثل تمليك منافعها مثل الإجارة، و الأوقاف الخاصّة، فهذه الحيثيّة من وجود العين فيهما يصير ملكا للمستأجر و الموقوف عليهم، و لذلك لهم القلب و الانقلاب في هذه الحيثيّة من الوجود بأيّ نحو شاءوا، و لكن بحيث لم يتعدّ عن المنافع و يصل التصرّف بالعين.

و لعلّه لمّا رأوا أنّ للموقوف عليهم في الأوقاف الخاصّة التصرّف فيها- أي في منافعها- بأيّ نحو شاءوا فالتزموا بالتمليك فيها، فأشكل عليهم الأمر، و وردت عليهم الإشكالات المذكورة في محلّها.

و قد تبيّن أنّه لا داعي لذلك، و لا ضرورة تقتضيه، مع أنّه يلزم أن نجعل للواقف حقائق مختلفة، ففي الأوقاف العامّة نلتزم بالتحرير و الإيقاف، و في الخاصّة بالتمليك.

و منها: ما يكون تمليكا لجهة من وجود العين أضعف من الجهة الثانية، و هي جهة الانتفاع من العين كما في العارية و الأوقاف العامّة، ففي مثلهما ليس تمليكا للمنفعة و لا العين، و لذلك ليس للمستعير و لا الموقوف عليهم القلب

ص: 517

و الانقلاب فيهما بل يكون أثر هذا التمليك صرف جعل حقّ الانتفاع لهم، فيستحقّون أن يعملوا في العين العمل الّذي اعير العين و اوقف له، فلا يتوقّف استحقاقهم ذلك أن يكون العين أو المنفعة ملكا لهم، بل فيه تسبيل الانتفاع و تمليكه، و هذا أمر اعتبره العقلاء، و الشارع أيضا أمضاه.

و أمّا جهة الضمان- أي ضمان العين- فقد تبيّن لك صدق عنوان الغصب على تغليب الأوقاف العامّة و تغييرها عن هيئتها الموقوفة عليها، و قد ذكرنا في صدر الباب أنّ الغصب مساوق لليد، و لا يخفى أنّه بعد لحاظ العلقة المذكورة بين الأوقاف المذكورة و الموقوف عليهم، فيصدق أيضا على اليد العادية فيها قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1) و لا إشكال أنّ أخذ كلّ شي ء بحسبه، فأخذ العين يكون بوضع اليد عليها، و أخذ الانتفاع يكون بوضع اليد على ما ينتفع منه، و منع المستحقّين عن انتفاعهم [منه].

هذا اعتبار الأخذ، و أمّا اعتبار الأداء فيها؛ فإنّما يكون بردّ ما ينتفع به إليهم، فإن كان بدّله أو جعله محلّا لانتفاع شخصه فيردّه إلى ذوي الحقوق، و يجعله في محلّه حتّى يستفيد ذوو الحقوق منها كما عيّن بحسب ما أوقفها أهلها لمصرفها، هذا بخلاف مثل منافع الحرّ؛ فإنّه و إن كان يتصوّر الاستيلاء بالنسبة إلى الحرّ، إلّا أنّه لا يصدق الضمان على منافعه الفائتة زمن الاستيلاء عليه و حسبه، و علّة ذلك أنّ الإضافة الاختصاصيّة الّتي تكون في الأوقاف، بحيث يكون منشأ تلك الإضافة الحكم الوضعي الّذي اعتبر فيها باعتبار حقوق الموقوف عليهم المتعلّقة بالأعيان الموقوفة الّتي صارت تلك الإضافة منشأ


1- عوالي اللآلي: 1/ 224 الحديث 106، مستدرك الوسائل: 17/ 88 الحديث 20819.

ص: 518

لاعتبار نحو ماليّة فيها لهم تلك الإضافة، ما اعتبر بين الحرّ و منافعه، و لذلك قلنا:

إنّ سلطنته على نفسه ليست إلّا قدرة محضة و حكما صرفا، فلذلك؛ و إن صدق الأخذ على الاستيلاء على الحرّ بوضع اليد عليه، إلّا أنّ غاية قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «على اليد» و هي «حتّى تؤدّي» لا يصدق، لأنّ التأدية موقوفة على أن يكون المؤدّى مالا أو حقّا حتّى يردّ، فيتحقّق الأداء، و قد أوضحنا: لا اعتبار ماليّة أصلا بالنسبة إلى منافع الحرّ، فتأمّل! (1)

فانقدح بما ذكرنا تحقيق الضمان باستيلاء اليد على الأوقاف العامّة، و صدق الغصبيّة عليها عند ذلك، فللموقوف عليهم إلزام الغاصب على ردّ الأعيان الموقوفة و أخذها منه؛ لصدق قاعدة «اليد» على عمله ذلك.

و من البديهة أنّ الضمان لا يتوقّف على مئونة أزيد من ذلك، و كذلك يضمن العادي و الغاصب منافعها المستوفاة بالملاك الّذي بيّنا في ضمانه أصل العين الموقوفة؛ لأنّه و إن لم يكن منافع المسجد- مثلا- ملكا للمسلمين، بل لهم فيه حقّ الانتفاع، إلّا أنّ تلك الإضافة الّتي تعتبر عند العقلاء بين العين و الموقوف عليهم، كذلك تعتبر بينهم و بين منافعه.

فإن آجر الغاصب المسجد- مثلا- و أخذ مال الإجارة يجب عليه، بمعنى أنّه ضامن أن يصرفها في الأعيان الموقوفة، بل للمسلمين إلزامه، بأن يأخذوا عنه المنافع، لا لكونها مالا لهم بل لكونها متعلّقا لحقوقهم، فيصرفوها في العين الموقوفة من حصير المسجد أو تعميره و غير ذلك، و لكن لهم ذلك بعنوان الأمر بالمعروف، أو يكون منعهم بعنوان النهي عن المنكر، بل فوق ذلك، بمعنى أنّهم


1- الالتزام بالفرق في غاية الإشكال، «منه رحمه اللّه».

ص: 519

يمنعونه عن التصرّف في حقوقهم و يأخذون منه كذلك حقوقهم الّتي لا تتحقّق تلك إلّا بأخذ ما ينشأ منه هذه الحقوق، عينا كان أم منفعة، أمّا العين فهو واضح كيف يكون منشأ لحقوقهم و أمّا المنافع؛ فلأنّ السنة الّتي آجر فيها المسجد الغاصب- مثلا- كان للموقوف عليهم في هذه السنة الانتفاع من المسجد، فقد منعهم الغاصب عن ذلك، فاستوفى تلك [المنافع] من متعلّق حقوقهم، ففي الحقيقة هذه المنفعة نشأت من منع حقوقهم و اختصاص الانتفاع بنفسه، الّذي يكون غيره شريكا [معه] فيه، فغير الغاصب يأخذ منه هذه المنافع و يصرفها في الوقف؛ لكونها أيضا متعلّقة لحقّه، فتأمّل!

و أمّا لحاظ الإتلاف فيها؛ و إن كان المعروف أنّه «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (1) و المفروض أنّ الموقوفات العامّة ليست ملكا (مالا) لأحد و لكن لا إشكال في أنّ هذه القضيّة ليست حديثا مأثورا حتّى نلتزم في تطبيقها على الموارد برعاية ألفاظها و مدلولها الظاهرة فيه، و لا نتجاوز عن ظاهرها أصلا، بل هي قاعدة مستفادة من تطبيقها على الموارد الخاصّة الّتي منها قوله عليه السّلام: «من أضرّ بطريق المسلمين فهو ضامن» (2).

و لا ريب أنّ هذا ملاكه بعينه متحقّق في مثل إضرارهم بإتلاف مطلق متعلّق حقوقهم، كالمسجد و الرباط و الخان و غيرها، فمن خرّب مسجدا أو نحوه فهو ضامن له، و للمسلمين إلزامه على بنائه ثانيا و تعميره؛ لجريان قاعدة الإتلاف هنا أيضا، كما يجري في مثل الإضرار بطريق المسلمين و جريان ملاكه في مثل


1- جواهر الكلام: 37/ 60، و لاحظ! القواعد الفقهية: 2/ 28.
2- وسائل الشيعة: 29/ 241 الحديث 35540.

ص: 520

المسجد أيضا، لأنّ الطريق مع أنّه ليس مالا لهم بل فقط متعلّق لحقّهم، و إضافة بينه و بينهم، و قد اعتبروا فيه الماليّة حتّى استفادوا القاعدة المعروفة عن مثله، كذلك قد عرفت أنّ هذه الإضافة و العلقة متحقّقة بين الأوقاف العامّة و الموقوف عليهم، مع أنّه لا ريب في أنّ في لفظ «المال المأخوذ» في القاعدة توسعة تشمل الحقوق أيضا، بل يعتبر عند العرف و العقلاء في الحقوق اعتبار الماليّة، بحيث يستفاد منه تسامحهم في لفظ المال كلّ المسامحة، و عليك بالتتبّع في الموارد.

فكيف كان؛ فقد ظهر لك من مطاوي ما ذكرنا حال الرهن و أمثاله كلّ ما يكون متعلّقا لحقّ الغير و له مساس بالغير و لو على نحو الوثيقة، فالراهن إذا أخذ العين المرهونة عن المرتهن قبل تأدية الدين عدوانا يصدق على عمله ذلك عنوان الغصب و الأخذ، فهو ضامن له و عليه أن يؤدّيه، و كذلك لو أتلف العين المرهونة يجب عليه التدارك، و للمرتهن إلزامه على ذلك لجريان جميع الاعتبارات المذكورة و التقريبات السابقة فيه.

تعاقب الأيدي في الغصب

اشارة

الأمر الخامس: في تعاقب الأيدي، قال في «الشرائع»: (و لو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب تخيّر المالك في إلزام أيّهم شاء، أو إلزام الجميع بدلا واحدا) (1).

نقول: في المقام إشكالات ثلاثة لا بدّ من تنقيح البحث بنحو ترتفع الإشكالات، حتّى نخرج عن المسألة فارغا عن الشبهات كلّها.


1- شرائع الإسلام: 3/ 236.

ص: 521

أمّا الإشكال الأوّل؛ فهو أنّه كيف يتصوّر للمال الواحد أبدال متعدّدة، فتشتغل بكلّ واحد منها ذمّة مستقلّة، مع أنّه ما خرج عن كيس المالك إلّا مال واحد، و ما قطع عنه إلّا سلطنة واحدة؟ فلا بدّ أن لا تشغل إلّا ذمّة واحدة المترتبة عليها للمالك سلطنة واحدة.

و المفروض أنّ بناء على ضمان جميع الأيادي المتعاقبة لازمه أن تثبت له أملاك متعدّدة بالنسبة إلى الأبدال المفروضة على الذمم المتعدّدة، و لذلك التزم صاحب «الجواهر» قدّس سرّه بأنّ اشتغال الذمّة ليس إلّا لمن استقرّ الضمان عليه، و هو من يكون المال عنده أو تلف في يده، و أمّا غيره فليس له اشتغال ذمّة، بل إنّما ضمانه شرعيّ ناشئ عن حكم تكليفي محض بوجوب الأداء (1).

أمّا الثاني؛ و هو أنّ البدل الّذي يكون على ذمّة كلّ واحد معلّق على تلف العين، بحيث لو انقطعت سلطنة المالك عن أصل العين لتلفها فتوجد له سلطنة جديدة على بدلها المستقرّ على ذمّة الضامن، و ما دام لم يتلف العين و تكون في يد اللاحق فكيف يستقرّ ضامن البدل على ذمّة ذي اليد السابق؟ مع أنّ القضيّة التعليقيّة المتعلّقة بالبدل- بمعنى أنّ مضمونيّة البدل كانت موقوفة على تلف المال- لم يتنجّز بعد؛ لأنّ عين المال موجودة في اليد اللاحقة، فكيف يجوز للمالك أن يرجع إلى اليد السابقة؟ مع أنّ العين ليست عنده، و سلطنته لم تكن إلّا بالنسبة إليها ما دامت باقية (2)، و المفروض أنّ ذمّته لم تشتغل بالبدل بعد.


1- جواهر الكلام: 37/ 34.
2- و لذلك التزم بعض في حاشيته على «المكاسب» بتصوير ضمان الأيدي المتعاقبة في نفس العين بتقريب له (انظر! حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي: 1/ 184)، «منه رحمه اللّه».

ص: 522

و أمّا الثالث؛ و هو أنّ الأصحاب بنوا على أنّ استقرار الضمان إنّما يكون على من تلف المال في يده، بمعنى أنّه لو رجع المالك إلى غيره، للغير أن يرجع إلى من تلف المال في يده و يأخذ عنه بدل ما أعطاه للمالك، بخلاف ما لو رجع المالك إلى من تلف في يده، فليس له أن يرجع إلى غيره.

مع أنّ بعد التلف تستقرّ ذمم الجميع بالنسبة إلى البدل دفعة واحدة بلا تعاقب و ترتّب بين الأيدي، فأيّ ترجيح لليد المتلفة عند صاحب المال حتّى يقال: باستقرار الضمان عليه؟ و الحال أنّ الكلّ متساوون بالنسبة إلى التعهّد و اشتغال الذمّة؛ لأنّ القضيّة التعليقيّة المتصوّرة، على كلّ من الأيادي، و هي: أنّه عين وضع اليد العادية على مال الغير.

قلنا بأنّه من آثار هذا اليد هو أنّه تتحقّق قضيّة، و هي: أنّه لو تلفت العين تشتغل ذمّة ذي اليد على البدل، و هذه القضيّة التعليقيّة الّتي انتزعت عن الآثار المترتّبة على كلّ واحد من الأيادي بعد التلف تتنجّز في آن واحد بالنسبة إلى جميعها، بلا سبق لأحد من الأيادي على الاخرى، فكيف الالتزام باستقرار الضمان على من تلف المال عنده؟

و لذلك منع بعض- كالسيّد المحشّي «المكاسب» على ما نقل (1)- عن ذلك رأسا، و أنكر استقرار الضمان عليه، و جعل من تلف المال عنده كغيره، هذه ملخّص الإشكالات الثلاثة، و قد تعرّض كلّ إلى دفعها بنحو سنشير إليه.


1- لاحظ! حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي: 1/ 177.

ص: 523

قاعدة اليد

و أمّا نحن فنتعرّض أوّلا بشرح «قاعدة اليد» بمالها ربط بالمقام؛ لأنّك عرفت أنّ العمدة من الدليل في باب الضمان هي هذه القاعدة، و أنّ الغصب الّذي عرّفناه في صدر الباب أيضا مساوق له، ثمّ نتعرّض لدفع الإشكالات و تثبيت حكم الضمان بما أفتى به المشهور في المقام.

فاعلم! أنّ الّذي يستفاد من ظاهر هذه القاعدة أنّ اليد الغاصبة إذا ترد على شي ء و تأخذه من مال الغير، فمن آثار هذا الورود و وضع اليد على مال الغير أنّه يثبت- مضافا إلى ما سيجي ء في اليد- شي ء آخر فوق اليد، و هذا الّذي يثبت فوق اليد ليس إلّا بدل هذا الشي ء الّذي يكون في اليد، بحيث لو تلف فعلى اليد العادية أن تردّ إلى صاحب المال بدلا عمّا كان في يده، هذا الّذي يثبت له بحكم الشارع فوق يده و على يده.

و هذا الّذي ادّعيناه إنّما يستفاد من عناية لفظ «على» المشتمل عليها الحديث (1)، لأنّ المال الّذي أخذه الغاصب يكون في يده و تحت يده لا فوق يده، المستفاد ذلك من كلمة «على» الدالّة على الاستعلاء، فكأنّ الشارع ألزمه على فعله ذلك، بأن جعل لصاحب المال على عهدة الغاصب بدلا (2) لماله المترتّب على ذلك سلطنة اخرى له عليه، مضافا إلى سلطنته على عين ماله، بحيث لو


1- عوالي اللآلي: 1/ 224 الحديث 106، مستدرك الوسائل: 17/ 88 الحديث 20819.
2- لا بدلا بل وسّع في دائرة تملّكه و جعل وجودا له، مضافا إلى الوجود العيني للملك على عهدة الغاصب، «منه رحمه اللّه».

ص: 524

تلف عين ماله في يده فانقطعت سلطنته عنه، تكون له سلطنة اخرى على بدله الّذي يكون موجودا فوق يد الغاصب الّذي قد اعتبره الشارع، فالشارع في عالم التشريع فعل ما له أن يفعل في عالم التكوين، فكما أنّ له إذا يأخذ الغاصب مالا للغير في يده أن يوجد- مثلا- له فوق يده، يكون ذلك أيضا لصاحب ما في اليد بدلا له.

و بالجملة؛ فعلى ما يستفاد من ظاهر القاعدة أنّه إذا وضع الغاصب يده على مال الغير يترتّب على فعله ذلك امور: أخذ الغاصب المال، و سلطنة للمالك على المال المغصوبة الّتي كانت قبل خارجة عمّا في يد الغاصب، فإذا انتقل المال إلى يده لا ريب أن سلطنته الخارجيّة الّتي كانت تابعة للمال قد انتقلت إلى ما في يد الغاصب.

بمعنى أنّه لمّا كانت اليد في المقام كناية عن العهدة، فإذا تصرّف الغاصب في مال الغير فلما يترتّب على ذلك اشتغال ذمّته بعين المال أوّلا فيحدث للمالك سلطنة على عهدة المالك و عنقه، تبعا لسلطنته على ماله، فتأمّل.

و أيضا؛ يترتّب على فعل الغاصب بأن يثبت وجود للمال المأخوذ على الغاصب، بحيث إذا يأخذ الغاصب المال في يده فكأنّه ينعكس منه مال آخر ظهر اليد، و يكون ذلك من الآثار الوضعيّة للتصرّف في مال الغير المعبّر عن ذلك بالضمان، فالمال الّذي يكون في اليد علّة لحدوث مال آخر فوق اليد بدلا عن الّذي يكون في اليد المستتبعة حدوث هذه المرتبة الاخرى من الوجود لشي ء آخر، و هو الأمر الرابع الّذي يترتّب على التصرّف في مال الغير، و هو ثبوت سلطنة اخرى للمالك على هذا البدل عند تعذّر العين، أو تلفها.

ص: 525

و لا يخفى؛ أنّ ثبوت هذا البدل الّذي قد عرفت أنّه وجود تنزيليّ للعين، إنّما يثبت على ذمّة الغاصب من أوّل ما يضع يده على العين في عرض ثبوت العين، إلّا أنّ سلطنته على العين فعليّ تنجيزيّ، بخلاف سلطنته على المنعكس عنه، فمعلّقة على تلف العين، و أمّا أثر هذا ثبوت البدل فوق اليد أيّ شي ء يكون؛ فنشير إليه.

و الآن نكون في مقام ما يستفاد من ظاهر لفظ «على اليد» فكيف كان هاهنا يفترق بين يد الضمان و يد الأمانة، فإنّ فيها ليس يثبت على عهدة الأمين سوى نفس العين، و لذلك لو تلفت بلا تفريطه و تعدّيه ليس عليه شي ء إلّا إذا صارت يده أيضا متعدّية.

هذا كلّه؛ بالنسبة إلى اليد الاولى العادية، و كذلك يترتّب هذه الامور الأربعة أيضا على اليد الثانية، و كذلك الثالثة إلى أن ينتهي، و يستقرّ الضمان على الآخرة.

فالّذي تقتضيه القاعدة؛ هو ترتّب الأبدال على الأيادي المتعاقبة العادية، بحيث تكون سلطنة للمالك على كلّ واحد من الأبدال بمجموعها، مضافا إلى سلطنته على عين ماله عند كلّ من تكون، لو لم تكن تابعة.

ثمّ من آثار ثبوت هذه الأبدال على ذمّتهم ثبوت حقّ للمالك أن يرجع إلى كلّ واحد منهم و يطالب عن كلّ منهم ماله، فعليه يحكم «على اليد» أن تردّ إليه عين ماله إن أمكنت و لو بأن يرجع إلى غيره و يأخذ منه العين، و إلّا فالأقرب إليها حتّى ينتهي إلى القيمة، و من المعلوم أنّه لا ينتهي إليها إلّا بعد العجز عن العين أو ما هو أقرب إليها من القيمة، كما أنّه ليس للمالك أيضا إلزامه على ردّ القيمة مع

ص: 526

تسليمه العين أو مثله، لأنّ نحو ثبوته على يده المكنّى بها عن العهدة ليس إلّا بهذا النحو؛ لأنّه سنذكر أنّ هذا البدل ليس بدلا معاوضيّا، كما يثبت في المعاملات بالتراضي، بل هو غرامة من الشارع ألزمها على الغاصب تداركا عن العين المغصوبة، و طبيعة الضمان تقتضي ردّ العين، كما أنّ طبيعة الغرامة تقتضي ردّ ما هو أقرب إليها، و لا مدخليّة لرضاء المالك فيها، و سنشير إلى توضيح ذلك في بحث القيمي و المثلي إن شاء اللّه.

ثمّ إنّه يتولّد هنا الإشكال الأوّل، و أنّ ذممهم المتعدّدة كيف يمكن أن تشتغل لتلف مال واحد و عين فاردة؟

فنقول في دفعه: إنّه لو التزمنا بثبوت أموال متعدّدة الّذي يكون مرجع ذلك إلى الالتزام بثبوت كلّ واحد من الأبدال على العهدات تعيّنيّا، فلا ريب أنّ الإشكال يكون واردا، و أمّا لو لم نقل إلّا بثبوت بدل واحد على الجميع، و مرجع ذلك يكون إلى ثبوت جامع من الأبدال على المجموع، إلّا أنّه لمّا فرض لهذا الجامع مصاديق متعدّدة تكون كلّ واحد منها على أحد الذمم، و لكن لا بكونه وجودا شخصيّا معيّنا في مقابل الأفراد الاخر، بل لكونه أحد مصاديق الجامع، فإذا يرجع المالك إلى كلّ واحد منهم و يطالب عنه ماله، ففي الحقيقة لا يطالب عنه إلّا الجامع المنتزع من هذه المصاديق الّذي اعتبرها الشارع، و لذلك لو أدّى أحدهم العين أو البدل تبرأ ذمّة الآخرين، و ليس للمالك مطالبتهم بعد بشي ء أصلا.

و لمزيد التوضيح؛ نفرض هذه الذمم بمنزلة أعيان خارجيّة، منها ضدّ وجوداتها، و كأنّه قد تعلّق [حقّ] المالك بأحدها لا على التعيين كتملّكه صاعا من الصبرة، بمعنى أنّ ملكه شخص أحدها بنحو ذلك، و لا ريب أنّه يصير مالكا

ص: 527

لجميعها، و لكن لا بمجموعها، بل بنحو الطبيعة السارية يصير أحدها ملكا له و متعلّقا لحقّه كلّه، بحيث له أن يختار كلّ واحد منها، فإذا اختار أحدها ينقطع حقّه عن الباقي، و ما دام لم يختر يكون غيره ممنوعا عن التصرّف في جميعها.

و يمكن أن يعبّر عن ذلك بما لو أخذ المبهم نظير الشبهة المحصورة، و يكون حقّ رجوع المالك إلى كلّ واحد منهم، نظير وجوب الاجتناب و الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة، فتأمّل!

و لا شبهة أنّ ذلك بمكان من الإمكان؛ و لا يتوقّف تملّكه كذلك على أن يكون مالكا لكلّ واحد منها تعيينا، بل يكفي و إن كان تملّكه على نحو البدل الّذي قد عرفت أنّ ذلك يرجع إلى تملّكه الجامع.

و نظير ذلك في التكاليف هو الواجب الكفائي، فإنّ التكليف فيه ليس إلّا تكليفا واحدا نشأ عن مصلحة واحدة، و مع ذلك يتعلّق هذا الواحد البسيط إلى متعدّدة كثيرة غاية الكثرة، و لا ريب أنّ هناك العهدات بجميعها أيضا مشغولة ما لم يقم أحد أن يؤدّي التكليف، ففيه أيضا لا يتصوّر ذلك إلّا أن يكون هذا التكليف الواحد متعلّقا بمجموع المكلّفين على نحو البدليّة، و نعبّر عن ذلك بالجامع في الخارج الحاكي عن نحو تعلّق التكليف و كيفيّته الحقيقيّة، و هذا الجامع يتحقّق بأوّل الوجودات، فكذلك نفرض الحكم الوضعي و لا استحالة فيه.

فإذا أمكن ذلك في عالم الاعتبار، و لم يستحله العقل- لأنّ أمر الاعتبار سهل، و لا يحتاج إلى زيادة مئونة- فنحمل كلام الشارع عليه بلا أن نحمله على المسامحة، فيكون معنى قاعدة «على اليد» بعناية لفظ «على» ما عرفت، و أعظم شاهد عليه فهم أساطين الفقهاء ذلك من القاعدة، كما يستكشف ذلك من

ص: 528

فتاويهم، و لا داعي على حمله على خلاف ظاهره، فتأمّل.

فإن قلت: هكذا دفعت الإشكال الأوّل فما تقول في وجه أصل جواز رجوع المالك إلى اليد السابقة، مع كون عين ماله موجودة في اليد اللاحقة، و المفروض أنّ ضمان السابق البدل كان موقوفا على تلف ماله، فكيف يجوز له الرجوع إليه مع بقاء عين ماله عند غير من يرجع إليه الآن؟

قلت: قد أشرنا في طيّ الكلام إلى أنّ ثبوت البدل على الضامن إنّما يكون من أوّل وضع يده على مال الغير، ففي عرض ثبوت العين في اليد يحدث بدلها أيضا فوق اليد، بحيث يكون ما في اليد علّة لثبوت بدله، فوقه بدل له فوق اليد العادية.

و لكن لا يخفى؛ أنّه علّة له حدوثا لا بقاء، بمعنى أنّ وجود البدل ليس دائرا مدار وجود العين تحت اليد، بل و لو خرجت عن اليد بتلف أو غيره فالبدل ثابت، و لا يسقط إلّا بردّ العين أو الأقرب بها كلّ ما يكون.

و على كلّ حال؛ فمن أوّل أخذ الغاصب مال الغير يتوسّع دائرة سلطنة المالك و تتبدّل من العين يقينا إلى سلطنة مردّدة كونها على نفس العين و بدلها، و لا ينافي ذلك كون وجوب ردّ البدل معلّقا على تلف العين، لأنّ الرد إنّما هو من آثار الضمان، و أمّا نفس الضمان فتنجيزيّ قد عرفت ظاهر «على اليد» يقتضيه، مع أنّه لو كان معلّقا فهذا المقدار من الأثر- و هو ثبوت السلطنة للمالك- على الآخذ، بأن يرجع إلى شخصه و يطالب عنه ماله، و لو كانت عينه باقية في يد غير الآخذ الأوّل، فهذا الأثر ثابت للقضيّة التعليقيّة.

و الدليل عليه هو ظاهر قاعدة «على اليد» فإنّ لسانها حاكمة بأنّ على

ص: 529

عهدة الآخذ سلطنة المالك ثابتة ما لم يؤدّ ماله إليه، و ذمّته مشغولة ما لم يصل مال المالك إليه، و لا يتصوّر ذلك مع بقاء عين ماله في يد الغير و عدم انقطاع سلطنته عنه، مع أنّ السلطنة مستتبعة للملك، فمع بقاء ملكيّته على العين كيف يتجاوز عنها إلّا بنحو ما قلناه في دفع الإشكال الأوّل، و هو أن نلتزم بأنّ معنى توسعة ملكيّة المالك و تجاوزه عن العين إلى البدل حتّى في ظرف وجود العين، هو أنّه انتقل بحكم الشارع ملكيّته عن العين تعيّنا إلى الجامع بينها و بين البدل من يوم الغصب و تسلّط الغير على ماله، بأن يكون كلّ منهما على البدل ملكا له و مصداقا للجامع.

فهنا قد يتوهّم بأنّه يلزم من ذلك أن يكون المالك الّذي قد خرج المال الواحد عن كيسه، أن يصير مالكا لشيئين، و يكون مسلّطا على أمرين، لأنّ لازم تملّكه البدل و المبدل منه من يوم الغصب و ثبوت سلطنته على كليهما ليس إلّا أن يكون كلاهما مملوكا له.

فنقول في دفعه- بعد كون ذلك هو الإشكال الثاني-: إنّ الإبدال و جعل الشي ء عوضا عن شي ء يتصوّر على وجوه، أوضحها هو التبادل الّذي يقع بين العوضين في أبواب المعاملات، فإنّ في باب البيع؛ إذا يخرج البائع المبيع عن ملكه بإزاء ما يقبله عوضا عنه من الثمن و غيره فهو لمّا يكون بانيا على أن يكون دخول العوض في ملكه مشروطا و موقوفا على خروج المعوّض عن ملكه، بأن يتبدّل تشخّصات العوض و المعوّض، فكأنّه اعتبر بأن يتلوّن المبيع بألوان الثمن، فيتلوّن ماله بألوان مال الطرف الآخر، و كذلك يبني المشتري على ذلك بعينه، و هذا هو معنى البدليّة حقيقة، و لذلك نقول بأنّه يستحيل أن يجمع بين العوض

ص: 530

و المعوّض؛ لاعتبار البدليّة فيهما.

و منها؛ أن يعتبر هذا المعنى بعينه في قاعدة «على اليد» باعتبار الشارع، بأن يقال بأنّ الشارع اعتبر حين أخذ الغاصب مال الغير و جعله توجّهه إليه و استيلاءه عليه، بأن يكون مال الغير في يده تبدّل ما في يده إلى مال اعتبر الشارع وجوده فوق اليد، بأن يكون ذلك عوضا عنه فيجري فيهما جميع ما هو من لوازم المعاوضات الحقيقيّة، فعلى ذلك أيضا يستحيل أن تبقى العين الثابتة في اليد العادية في ملك المالك و تحت سلطنته، مع أن يكون البدل الّذي يثبت بحكم الشارع فوق اليد يصير ملكا للمالك و يجي ء تحت سلطنته، لما عرفت من برهان الاستحالة.

و منها؛ أن لا يعتبر كذلك، بل تعتبر الملكيّة و البدليّة بالمعنى الّذي قلنا، و هو أن يوسّع الشارع دائرة الملكيّة المنحصرة بالعين الشخصيّة و يسريها منها إلى بدل الملك المفروض وجوده على اليد، بمعنى أنّه كما أنّ للشارع في عالم التكوين أن يجعل الجسم الصغير كبيرا و يطوّل ما هو نصف الذراع- مثلا- إلى ذراع أو أزيد، فكذلك في عالم التشريع، فكأنّه بسّط العين (1) المغصوبة عمّا في يد الغاصب و أتاه إلى فوق يده، و نعبّر عن هذا الوجود البسيط بالجامع.

و بالجملة؛ فليس في هذا الفرض عنوان التبديل حتّى يقال بأنّه كيف يجمع بين البدل و المبدل منه؟ بل ثبوت البدل الجائي في الحقيقة من قبل بسط دائرة


1- و نظير ذلك في باب الاستصحاب، فكما أنّ فيه الحياة الحقيقيّة الثابتة لزيد في طرف العلم بها، الشارع، يعتبرها أيضا في طرف الشكّ، و مرجع ذلك يكون في الحقيقة إلى جرّ الحياة من طرف العلم إلى طرف الشكّ، المعبّر عن ذلك بجعل المماثل، فيصير أحكام الحياة للجامع بين الحقيقي و الاعتباري، كذلك هذا الاعتبار ثابت في ما نحن فيه، «منه رحمه اللّه».

ص: 531

الملكيّة إنّما هو غرامة و ثبوت تدارك عن عين ماله بحيث لو كان عين ماله في يد اللاحق و رجع إلى السابق و لم يمكن وصول عين ماله فأخذ عنه غرامة ماله، لم تخرج تلك العين عن ملكه و سلطنته، بل هي بما لها من التشخّصات باقية على ملكه، و يكون البدل المأخوذ نظير بدل الحيلولة، فكما أنّ فيه لمّا لم يكن تأدية مال المالك بما له من جميع التشخّصات بعينها، فيتدارك مرتبة منها، و هي مرتبة ماليّتها و لا يلزم [من] ذلك خروج ماليّة العين عن ملكه لوصول بدله من جهة بدل الحيلولة،- و عدم لزومه يأتي إن شاء اللّه- و كيف كان؛ فكذلك يكون حال بدل المال المأخوذ من اليد السابقة مع بقاء عين ماله الموجود في اليد اللاحقة تحت سلطنته.

فمحصّل البحث في رفع الإشكالين صار بأنّه لا استحالة عقلا أبدا أن يثبت للمال الواحد أبدال متعدّدة على نحو ما عرفت، الّذي صار مرجع ذلك إلى إثبات غرامة واحدة على الذمم المتعدّدة، و كذلك لا استحالة أن يثبت بدل المال الواحد ما هو الجامع بين العين و بدلها مع بقاء العين، بأن تكون الذمّة مشغولة بهما على البدليّة، و قد أشرنا إلى أنّ إبقاء كلام الشارع على ظاهره لا يحتاج إلى أزيد من عدم استحالة المعنى المستفاد من ظاهر لفظه عقلا، كما لا يخفى.

فيترتّب على كلّ من الأيادي الغاصبة و على جميعها لوازمها من أحكام الضمان، كما فهم الأصحاب من جواز الرجوع للمالك على كل واحد منها، سواء كانت العين باقية أم تالفة، و سواء كان المطالب منه ذا يد على العين أو تمكّن من أخذها عن الآخر و لو لم يكن ذا اليد، أو لم يكن كذلك.

و كذلك له الرجوع إلى كلّ واحد منهم بمقدار، و على الآخر بمقدار آخر،

ص: 532

و كذلك جميعهم حتّى يحصل له البدل من المجموع، فكلّ مقدار أعطى أحدهم تبرأ ذمّة الآخرين و نفسه عن المالك بهذا المقدار، لأنّه إذا كانت الذمم مشغولة بالكلّ، و يجوز له الرجوع إلى كلّ [واحد] منهم و مطالبة تمام البدل، فالرجوع ببعضه يجوز بطريق أولى.

كلّ ذلك لما عرفت أنّ اشتغال ذمّة الجميع يرجع إلى اشتغالهم مجموعا بالجامع بين الأبدال المنتزع من الذمم المتعدّدة، فكلّ منهم يؤدّي شيئا من البدل يؤدّي مقدارا من الجامع.

ثم هذا كلّه؛ حكم المالك و بيان كيفيّة حقّه و سلطنته، أمّا حكم الغاصب و تكليفه فلا يخفى أنّ تسليمه العين المغصوبة إنّما يتحقّق برفع يده عنها و تخليتها، و لا يحتاج إلى أزيد من ذلك، كما بنينا عليه في باب قبض المبيع بأنّ قبضه يتحقّق برفع البائع يده عنه، و أما الإيصال و الأداء أو النقل و الإقباض في المنقول فهي امور زائدة على القبض، و لا يتوقّف عليها، فكذلك في ما نحن فيه قبض العين يحصل برفع الغاصب يده عمّا في يده، و لكن بدل العين الّذي قلنا:

اعتبره الشارع من يوم قبض العين فوق اليد، فقبضه متوقّف على الأداء و إيصال العين بأداء الأقرب منه فالأقرب إلى المالك.

و الدليل عليه هو ذيل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1) فإنّ قبض ما على اليد مغيّا بغاية، و هي الأداء، و لمّا كان يجب عليه أوّلا تسليم العين الّتي هي أحد مصاديق الجامع بينها و بدله الثابت على ذمّته من يوم غصبه، فيجب عليه أوّلا تسليم العين إن أمكنت، و لذلك يجب عليه الرجوع إلى من


1- عوالي اللآلي: 1/ 224 الحديث 106، مستدرك الوسائل: 17/ 88 الحديث 20819.

ص: 533

كانت عنده، بل و لو كان أخذه منه متوقّفا على مقدّمات يجب تحصيلها، فإن لم يمكن فعليه أن يؤدّي ما هو الأقرب إليها حتّى ينتهي إلى القيمة، و بالجملة؛ فلا يحصل له براءة الذمّة إلّا أن يعمل بهذا الترتيب و يوصل مال الغير إلى صاحبه.

تنبيه: إنّ الّذي أشرنا [إليه] في مطاوي الكلمات من تعبير عنوان البدليّة عمّا يثبت على اليد، فقد وقعت مسامحة في التعبير، ضرورة أنّ البدليّة تقتضي أن يكون للبدل وجود مستقلّ في مقابل المبدل منه الّذي يكون تحت اليد، و مثل ذلك لا يستفاد من القاعدة، مع لزوم محذور آخر، و هو عدم فرض جامع بين الوجود الحقيقي و الوجود الاعتباري الّذي جعلنا ذلك منشأ لجواز رجوع المالك إلى غير ذي اليد؛ لثبوت بدل المال عليه من يوم أخذه مال الغير، فيتردّد أمره بين ضمان أحد الأمرين من العين أو البدل.

فحقّ التعبير أن يقال: يستفاد من لفظ «على» في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «على اليد» مع أنّ المال يكون تحت اليد بالبيان الّذي أسلفنا أنّ الشارع وسّع وجود العين حتّى جعلها على اليد، فأتى بما هو موجود تحت اليد إلى فوق اليد الّتي هي عبارة عن العهدة، فهذا الوجود الّذي يثبت على العهدة ليس في قبال العين، بل إنّما هي نفسها بمرتبة من مراتب وجودها الّتي لو لا اعتبار الشارع لها لم يكن لها وجود سوى وجودها العيني، فباعتبار الشارع الّذي قلنا: له أن يوسّع في الوجود في عالم التكوين، فكذلك وسّع فيه في عالم التشريع بأنّ هذا الوجود الخارجي الّذي يكون مالا للغير مفروض الوجود على اليد، و نقله ثابت على العهدة حتّى يردّها إلى صاحبها.

بمعنى أنّه اعتبر الشارع بأنّ العين المغصوبة و لو تلفت بحرق أو غرق، أو

ص: 534

صارت بحكم التلف، بمعنى أنّها خرجت [من] تحت سلطنة الغاصب و دخلت تحت سلطنة الغير لا تخرج بذلك عن العهدة، و سلطنة المالك على عهدته ثابتة باقية، و لا تنقطع سلطنته هذه عليها حتّى يردّ إليه ماله بخصوصيّاته إن أمكن، و إلّا الأقرب فالأقرب.

و لذلك قلنا بأنّ للمالك الرجوع إلى كلّ من ذوي الأيادي، بجريان هذا الملاك في جميعها، و قد دفعنا الإشكال الأوّل بأنّ لازم ذلك مع كون المال التالف واحدا هو اشتغال الجامع بين الذمم، و الجامع بين المراتب الثابتة على كلّ من ذوي الأيدي، و يندفع بذلك أيضا الإشكال الّذي أشرنا إليه من عدم التصوير الجامع بين الوجود العيني و الاعتباري، لما عرفت من أنّ ما اعتبره الشارع على الذمّة ليس وجودا على حدة في مقابل العين حتّى يفرض جامع بينهما، بل إنّما هو عينه بسعة وجودها الّتي اعتبرها الشارع.

ثمّ إنّه أشرنا إلى أنّه كما أنّ سلطنة المالك عن العين لا تنقطع ما دامت موجودة و لو لم تصل يده إليها، كذلك عند الأداء يجب على الغاصب أداؤها بحيث لو كانت موجودة عند غيره يجب عليه تحصيلها، و كما أنّه يجب عليه من باب المقدّمة أخذ العين عن الغير يجب على الغير تسليمه إليه (1)، فتأمّل!

ثمّ إنّه إن أمكنه أخذ العين عن الغير و تسليمها، فيجب، و إلّا فللمالك أن يطالب عنه بدله، و هذا البدل الّذي يأخذه منه ليس بدلا حقيقيّا عن المال من قبيل


1- و قد قال- دام ظلّه-: إنّ وجه وجوب ردّ الغير به هو أنّ المقام يكون من قبيل أنّه كما يجب على النساء عدم كتمان ما خلق في أرحامهنّ، كذلك يجب على السائلين القبول عنهنّ ذلك، و لكن لا يخلو ذلك عن التأمّل، كما لا يخفى، «منه رحمه اللّه».

ص: 535

الأبدال في باب المعاوضات حتّى يوجب خروج العين عن سلطنته، بل إنّما هو غرامة و جبران عمّا فات منه من الماليّة.

و توضيح ذلك: أنّه لمّا قلنا: إنّ حسب ما يستفاد من قاعدة اليد أنّ المال المغصوب عهدته على الغاصب بجميع خصوصيّاته حتّى يردّه كذلك إلى صاحبه، فإذا لم يمكنه كذلك فطبيعة الضمان تقتضي أن يردّ إليه ما أمكنه من مراتب وجود ما أخذه، فإذا لم يمكن ردّ الملك بخصوصيّاته و أمكنه ردّ ماليّته يجب عليه أن يدفع كذلك، فكأنّ هذه الماليّة يكون خلاصة وجود العين الّتي لم يمكن ردّها الآن، و ليس بدلا عنه حتّى يوجب خروج العين عن ملكه و سلطنته، بل هي بخصوصيّتها باقية تحت سلطنته، و لكن ماليّته مسلوبة عنه، لأنّ الماليّة أمر عرفي إنّما يعتبر وجودها إذا كان المال منشأ للآثار ممّا يتوقّع عن المال من الأكل و الشرب و القلب و الانقلاب و غيرها.

و من المعلوم؛ أنّ هذه الآثار مسلوبة عن المال المغصوب الّذي لم يمكن التصرّف فيه الآن، بخلاف الملكيّة فإنّها ليست مترتّبة على شي ء، بل إنّما يعتبرها العرف، و لو لم يكن تحت التصرّف و السلطنة، و لذلك لا يجوز له التصرّفات المتوقّفة على الماليّة، مثل البيع و غيره و إن كان بناء المشهور على جواز بيعه للغاصب أو غيره، أو لو أمكن له القبض و إخراج العين عن تحت يد الغاصب، و كذلك يجوز عتق العبد المغصوب، و لكنّه لا ينافي ذلك ما أفاده- دام ظلّه- أو الأوّل مبنيّ على كفاية القدرة على التسليم في صحّة البيع كما هو المشهور، و الثاني [ليس كذلك] لأنّ العتق من آثار الملك و لا يعتبر فيه الماليّة أصلا بخلاف البيع فإنّه و إن كان هو مبادلة مال بمال إلّا أنّ قدرة التسليم يكفي في اعتبار الماليّة.

ص: 536

و بالجملة؛ فإذا صارت العين بالنسبة إلى المالك مسلوبة الماليّة فما يأخذه من الغاصب إنّما هو قائم مقام ماليّة عين ماله و تدارك عنه، لا أن يكون تداركا و بدلا عن العين بجميع مراتب وجودها و تشخّصاتها لأنّ ملكيّة العين بخصوصيّتها باقية على ملكه و سلطنته، و إنّما ماليّتها فقط خرجت عن سلطنته و لذلك تتدارك.

فظهر من ذلك؛ أنّ باب الضمان إنّما يكون من قبيل باب قاعدة الميسور في التكاليف، فكما أنّ فيها لمّا لم يمكن امتثال التكليف بنحو المطلوب كاملا فيكتفى بقدر المقدور منه، فكذلك باب الضمان.

و أمّا ظاهر المشهور- كما يستفاد من كلام الشيخ قدّس سرّه أيضا في مبحث البيع الفاسد و ضمان تلف المبيع فيه- كون ما يعطيه الضامن تداركا عن الماليّة المسلوبة الآن إنّما هو بدل عنها و عوض عن الانتفاعات الفائتة من المالك عن ملكه لكونه ممنوع التصرّف عنه، و إن كان قد سومح في عبارة الشيخ رحمه اللّه هنا من كون التدارك بدلا عن السلطنة الفائتة، مع أنّ التدارك إنّما يقع عن نفس الانتفاعات الفائتة عن السلطنة عليها، و إن كانت هي تتدارك تبعا أيضا.

و كيف كان؛ و على كلّ حال فالتزموا في باب بدل الحيلولة كونه بدلا عن الماليّة، و قالوا بأنّه حسب ما تقتضيه قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ثبوت حقّ مطالبة المالك لماليّته، و لا يمنعه عن ذلك عدم تمكّن الغاصب أن يعطيه ماليّته بشخصه إليه، بل عليه أن يردّ إليه بدله، فما يعطيه من البدل يصير بدلا عن ماليّته، فلا يصير ملكا؛ لعدم خروج عين ماله عن ملكه، فلمّا يلزم بالنسبة إلى الملكيّة الجمع بين البدل [و المبدل منه] فلا يصير ما يأخذه بدلا عن ماليّته ملكا، بل يكون من قبيل ما يباح له التصرّف فيه.

ص: 537

نعم؛ في ما يكون تصرّفه فيه و استفادته من ماليّته متوقّفا على الملكيّة مثل البيع و نحوه، فيلتزمون بتملّكه على نحو تملّك المبيع في المعاطاة.

فالمحصّل؛ أنّ ظاهرهم في باب الضمانات أنّهم ملتزمون بصفتين من البدل: أحدهما الطولي و الآخر العرضي، أمّا البدل الطولي؛ فهو الّذي يقع عوضا عن مال الغير بعد تلفه تحت اليد العادية، و أمّا البدل العرضي فهو ما يقع عوضا عن ماليّة ملك الغير مع بقاء عين ماله و بقاء سلطنته، فهذا لمّا يكون جبرانا عن الماليّة الفائتة الآن مع بقاء الملكيّة، فكأنّه بدل في عرض المبدل منه، ففي الأوّل تملّكه البدل متوقّف على تلف المبدل منه، بخلاف الثاني فإنّه يجوز التصرّف فيه و إن كانت العين باقية، فتأمّل!

هكذا يستفاد من ظاهر كلام شيخنا رحمه اللّه و البعض الآخر (1)، و لكن لا يخفى أنّ البدل يقوم مقام المبدل منه على نحو وجود المبدل منه، فلو كانت الماليّة الفائتة فائتة على الإطلاق، بل أمكن استفادة بعض أنحاء الماليّة عن العين المغصوبة، فلا بدّ على حسب ما تقتضيه قاعدة البدليّة أن يكون المالك ممنوعا عن التصرّف في بدل الحيلولة بقدر ما أمكنه تصرّف الماليّة في ملكه المغصوب، مثل ما لو أمكنه أن يبيعه على الغاصب بناء على الاكتفاء في اشتراط تسليم المبيع تمكّن المشتري عن الاستيفاء، و كذلك يمكنه عتقه، فلازم البدليّة أن يكون المالك ممنوعا عن التصرّف في البدل بمثل هذه التصرّفات، مع أنّهم لم يلتزموا بذلك، بل ظاهرهم الاتّفاق على جواز تصرّفه فيه بأيّ نحو شاء.

و انقدح بذلك؛ أنّ التحقيق في باب الضمان و بدل الحيلولة هو ما قلناه من


1- راجع! المكاسب: 3/ 505- 511.

ص: 538

كونه نظير قاعدة «الميسور» في باب التكاليف، من كون ما يأخذه المالك عوضا عن ماليّة ملكه ليس عنوانه عنوان البدليّة، بل هي غرامة و جبران عن ماله، بحيث لمّا لم يمكن استيفاء ملكه و ماله بماله من الخصوصيّات بجميع مراتب وجوده، فيتداركه و يأخذه بقدر الميسور منه، و هو خلاصة ماليّة، فالمأخوذ الآن بتمام حيثيّات وجوده مرتبطة من عين ماله بنفسه، فهذا الّذي يقبضه الآن يملكه بتمام وجوده (1)، لا ماليّته فقط؛ لما عرفت أنّ عنوانه ليس عنوان البدليّة، حتّى يفكّك بين جهة الملكيّة و الماليّة، بل المأخوذ مرتبة من نفس وجود المال المغصوب، و قد قرّرنا سابقا أنّ الماليّة ليست أمرا قابلا للتملّك، بل هي تتملّك تبعا للملك، فذلك بشراشر وجوده مملوك لصاحب المال، لما عرفت من أنّه بحيثيّة وجوده جبران للماليّة الفائتة.

نعم؛ لمّا لم تكن ملكيّته ملكيّة مستقرّة، بل إنّما المأخوذ جبران لما فات من الماليّة ما دامت فائتة، فإذا تمكّن [من] تسليم المال و ارتفع المانع فعليه أن يسلّم عين ماله، فلمّا يسلّم ففي ضمن تسليم العين تلك المرتبطة الفائتة أيضا تسلّم، فلذلك إلى الغاصب يرجع أيضا ما تدارك به الفائت، على التفصيل المذكور في باب بدل الحيلولة.

و أمّا الجواب عن الإشكال الثالث فيظهر بعد ذكر مقدّمتين:


1- و لذلك يجوز له التصرّف فيه جميع أنحاء التصرّفات، و لا يتوهّم أنّه حينئذ يلزم الجمع بين العوض و المعوّض؛ إذ المفروض بقاء خصوصيّة العين المغصوبة على ملكه أيضا، و رفعه: أنّ الممنوع من الجمع بينهما إنّما هو فيما له الماليّة، و المفروض لا يعتبر الماليّة للعين المغصوبة، للحجر عن التصرّف، فالخصوصيّة إنّما هي ملك محض، و الملكيّة المحضة ليست محلّا لاعتبار العقلاء، و إلّا فمن هذه الجهة الإشكال بين المشهور و مسلكنا مشترك، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».

ص: 539

الاولى: أنّه بعد أن استفدنا من ظهور لفظ «على اليد» بأنّ الشارع اعتبر على يد الغاصب وجود العين المغصوبة الّذي هو ثابت على ذمته حتّى يردّ المال إلى صاحبه، كما أنّ ظاهر القاعدة أيضا كان مقتضيا لثبوت هذا الوجود الاعتباري الّذي كان مرجعه إلى توسعة الوجود في ما أخذه الغاصب على كلّ من الأيادي المتعاقبة الواردة على العين المغصوبة، و قلنا: إنّ لازم ذلك كون الجامع بين هذه الوجودات الاعتباريّة متعلّقا لحقّ صاحب العين لا كلّ واحد من العهدات تعيّنا.

و بالجملة؛ فهذا الوجود العيني إذا يأخذه الغاصب فاعتبر الشارع له وجودا سوى وجوده الخارجي على عهدة الغاصب، فيصير هذا الوجود الاعتباري من شئون العين و لوازمه الغير المنفكّة عنها، إذ قد عرفت أنّه من مراتبها لا أمر خارج عنها، فيكون بمنزلة جسم كان له نصف ذراع من الطول، فبعد اعتبار الشارع اضيف إليه نصف ذراع آخر، فصار بمجموعه ذراعا واحدا، فكلّما انتقل هذا الجسم بعد ذلك ما لم يصل إلى يد مالكه يكون مقداره ذراعا، بل كلّما يتوارد عليه اليد يضاف إليه حسب ما اعتبر لكلّ واحد من الأيادي نصف ذراع آخر زائدا على المقدار السابق حتّى يستقرّ في يد، فالعهدة السابقة و إن كانت مشغولة إلّا أنّ ما فيها من الوجود الاعتباري لمّا كان من شئون العين فينتقل إلى اليد اللاحقة و عهدة ذيها.

و لا يتوهّم هنا أنّه بعد أن كان الوجود الاعتباري السابق من شئون العين و تبعاتها، فبعد انتقال نفس العين إلى اليد اللاحقة فلا ريب أنّها منتقلة بتبعاتها، فلازمه أن لا يبقى على اليد السابقة شي ء و تخلّص عهدته و تشتغل ذمّة ذي اليد

ص: 540

الثانية اللاحقة، و كذلك تنتقل الوجودات و تتبدّل العهدات بتوارد الأيادي على المال إلى أن استقرّ في يد.

و دفع؛ أنّه لا نقول: كما أنّ العين الخارجيّة الّتي تكون تحت اليد السابقة تتبدّل عن مكانها و تجي ء تحت اليد اللاحقة فيتبدّل التولّي و الاستيلاء على العين، كذلك العهدة السابقة أيضا تتبدّل، لا بل هي بحالها باقية و الذمّة مشغولة بمقتضى «على اليد» حتّى يصل المال إلى صاحبه، و إنّما المتبدّل و ما يجي ء في اليد اللاحقة هو ما على العهدة، بمعنى أنّه كما أنّ العهدة بعد استيلاء اليد على مال الغير تصير مشغولة و يعتبر على اليد المكنّى عنها باليد وجود مثاليّ لنفس العين، كذلك يعتبر أيضا وجود لوجودها الاعتباري المفروض على العهدة السابقة، لما أوضحنا من أنّ الوجود الاعتباري صار من شئون العين و مراتب وجودها، و هذا الوجود الاعتباري لمّا لم يكن اعتباريّا محضا بحيث لم يكن منشأ لآثار، ليس كذلك بل هو منشأ للآثار الشرعيّة الخارجيّة، فهذا الوجود الاعتباري ثابت للعين غير منفكّ عنه حتّى يرجع المال إلى يد صاحبه، و لذلك هذه العين إذا تدخل تحت سلطنة كلّ أحد غير مالكها فتدخل مع وجودها الاعتباريّة المعتبرة لها بحسب توارد الأيادي عليها.

و بالجملة؛ صدق الاستيلاء و اليد على العين الخارجي بجميع مراتب وجودها لا يتوقّف على أن تكون العين كذلك تحت اليد الخارجيّة حتّى يصدق الاستيلاء عليها، بل الاستيلاء عليها يكون كالاستيلاء على ما إذا كان جسم خارجي له خمس أذرع، فوضع أحد يده عليه بعنوان المالكيّة و السلطنة، فيصدق على الواضع عرفا أنّه مستول عليه، مع أنّه ما وقع من الوجود الخارجي

ص: 541

لهذا الجسم تحت يده إلّا شبر منه- مثلا- فكذلك استيلاء اليد اللاحقة على العين المغصوبة بجميع مراتب وجودها الحقيقيّة و الاعتباريّة لا يتوقّف على خروج المال عن اليد السابقة بوجودها العيني، و كذلك عن عهدتها بوجودها الاعتباري، بل يصدق عرفا بصرف وضع اليد على وجودها الخارجي و إدخالها كذلك تحت الاستيلاء، كما عرفت.

الثانية: لا إشكال أنّه يمكن أن يكون متعلّق الحقّ و الماليّة كليّا خارجيّا جامعا بين الخصوصيّات بلا أن تكون الخصوصيّات بوجوداتها ملكا لذي الحقّ كما في بيع الصبرة فإنّ التحقيق فيه: أنّ من يشتري صاعا من صبرة إنّما يصحّ ذلك إذا لم يكن مراده و كذا [مراد] البائع فرد من الصيعان على نحو التنكير، و إلّا فيبطل كما حقّق في محلّه، و إنّما المناط في الصحّة هو ما إذا كان المبيع كليّا و صاعا مشاعا، و لذلك بنوا على أنّ اختيار التعيين إنما هو بيد البائع، و ليس ذلك إلّا أنّ الماليّة للمشتري لم يتعلّق إلّا بصرف الجامع، و لازم ذلك أنّ ما يسلّمه البائع و يعيّن ماله و مبيعه في كلّ فرد، إنّما يسلّم الفرد و الخصوصيّة إلى المشتري من باب المقدّمة و توطئة لإيصال ماليّة به، و إلّا فلو كان أمكن التفكيك بينهما لما كان عليه ردّ الخصوصيّة.

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل ذلك، ضرورة أنّه لمّا لم يكن متعلّق حقّ المغصوب عنه إلّا إحدى الذمم و الأيادي معيّنة فليس إلّا الجامع بينها، كما أشرنا إلى ذلك في دفع الإشكال الأوّل، فعلى ذلك إذا رجع المالك بعد تلف ماله إلى كلّ واحد من ذوي الأيادي فليس عليه أن يؤدّي إليه خصوصيّة من ماله، و كذلك ليس له أخذ خصوصيّة ماله.

ص: 542

نعم؛ لمّا لم يمكن قبض ماله و حقّه إلّا في ضمن إحدى الخصوصيّات- كما أشرنا- فيجب عليه تسليم الخصوصيّة أيضا تبعا و مقدّمة، و من المعلوم، أنّه إذا رجع المالك إلى اليد السابقة مع انتقال المال من يده إلى غيره فيأخذ عنه بدل ماله مع عدم تلف المال في يده، فما يعطيه من الخصوصيّة هي الخصوصيّة الّتي ضمّنها اليد اللاحقة و انتقل إلى ذمّته تبعا للوجود العيني.

الكلام في تعاقب الأيدي في الغصب

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول: إنّ غير ذي اليد إذا يرجع إليه بعد تلف المال فما يؤدّيه إلى المالك، و إن كان حقّا له، و له الرجوع إليه و لو كان المال تالفا عند غيره بمقتضى «على اليد» و لذلك يجب عليه أيضا الأداء، و لكن لمّا تكون الخصوصيّة المؤدّاة إلى المالك ليست حقّا له، و إنّما يؤدّيها مقدّمة لإيصال ماله إليه و تبعا لما له، تصير الخصوصيّة أيضا ملكا له، و لا تخرج أيضا عن كيس المؤدّي، بل تكون خسارتهما على من أخذ المال ثانيا من يده سواء إن استقرّ المال بالتلف عليه أو انتقل إلى يد آخر، و هكذا، لأنّ هذه الخصوصيّة هي الوجود الاعتباري الّذي استقرّ على يد الغاصب بحكم الشارع و تضمينه إيّاه، فإذا انتقل أصل المال من يده إلى غيره قد عرفت بحكم المقدّمة الأولى أنّ العين بجميع شئوناتها تنتقل إلى يد الغير، فاليد الثانية كما تصير بمقتضى «على اليد» ضامنا لنفس العين، كذلك تصير متعهّدة لشئونها الاعتباريّة أيضا بمقتضى «على اليد» فإنّ في لسان هذه القاعدة و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ما أخذت» عناية يستكشف منها مزيد اعتبار الشارع بكون جميع خصوصيّات العين المردودة محفوظة و مرعيّة حين الردّ.

ص: 543

مع أنّ الشارع أيضا بنفسه اعتبر ذاك الوجود الاعتباري، و قد قلنا: إنّه ليس اعتباريّا محضا- كأنياب الأغوال- و كذلك لا ينفكّ هذا الوجود الاعتباري عن العيني، و نظير هذا الوجود الاعتباري- الّذي يكون منشأ للآثار الشرعيّة، بل العرف أيضا يراه موجودا- إنّما هو مسألة المنافع الغير المستوفاة و ضمانها على من كان ضامنا للعين، فإنّ في ضمان هذه المنافع أقوال، ذهب بعض إلى العدم (1).

و العمدة في استدلالهم هي أنّ المنافع أمر متصرّم الحدوث، فما لم يوجد منها من حيث عدم انقضاء زمان فأمر معدوم، و كذلك ما انقضى زمانها، و المفروض أنّ ذا اليد على العين ما استوفى شيئا فصار معدوما، و الضمان لا بدّ و أن يتعلّق بأمر موجود.

و ذهب الآخرون إلى ضمانها، مستدلّين بأنّها في ذاتها و إن كانت معدومة إلّا أنّه باعتبار قابليّة وجودها و المفروض؛ أنّ قابليّة وجودها فعليّة، فيراها العرف بهذا الاعتبار أمرا موجودا، و يكفي في وجود الامور المتصرّمة اعتبار الوجود كذلك، أي تحقّق قابليّة نفسها و وجود منشأ انتزاعها فعلا (2).

و لذلك ترى العرف مع مثل هذه الامور الاعتباريّة يعاملون معاملتهم مع الموجود الحقيقي الخارجي، و الشارع أيضا أمضى معاملتهم كذلك، فإنّه يجوز لصاحب الأملاك أن يؤجر أو يهب منافع أملاكه إذا كان الآن مهجورا عن منافعها إلى سنين متمادية، منافعها المحدثة لها بعد هذه السنوات، ليس ذلك إلّا أنّ العرف يراها الآن موجودة بوجود قابليّتها، و كون منشأ اعتبار وجودها الآن ملكا و مالا للمؤجر و الموهب.


1- لاحظ! جواهر الكلام: 37/ 168.
2- جامع المقاصد: 6/ 273.

ص: 544

و بالجملة؛ فيستكشف من نظائر الباب أنّ ترتيب آثار الوجود (1)؛ في الامور الاعتباريّة لا يحتاج إلى زيادة مئونة، بل يكفي فيها قابليّة وجودها، خصوصا إذا كان معتبرها الشارع كما في ما نحن فيه، فالخصوصيّة المنتقلة إلى عهدة اليد اللاحقة إذا لم تكن ملكا لمالك العين، بل إنّما الشارع اعتبر وجودها على اليد العادية، لأنّ تعيين المالك ماله فيها لو تلفت العين المغصوبة بلا أن تصير هذه الخصوصيّة المعتبرة على العهدة الأوليّة ملكا للمالك بحكم المقدّمة الثانية، نعم هي متعلّقة لحقّه فيجوز له مطالبة ماله عن تلك العهدة فلا تخرج هذه الخصوصيّة الماليّة الّتي اعتبرها الشارع على عهدة الآخذ عن كونها مالا له، و وجوب ردّها إلى المالك مقدّمة لإيصال حقّه لا يوجب ذلك، كما أوضحنا ذلك عند بيان المقدّمة.

فالحاصل؛ أنّ الخصوصيّة الماليّة إذا كانت باقية على ملك الآخذ الأوّل، و قد كانت هذه الخصوصيّة المنتزعة عن العهدة منتقلة إلى يد الآخذ الثاني و على عهدته تبعا للعين، فالعهدة الثانية صارت مضمّنا لأمرين على البدل؛ إمّا نفس العين المأخوذة، و إمّا مرتبتها المعتبر وجودها على العهدة الاولى، و لذلك فإن رجع مالك العين و أخذ منه عين ماله، و إلّا فبدلها و المرتبة الاخرى الّتي هي عينها بالاعتبار، فليس للأوّل الرجوع إلى الثاني؛ لعدم خروج شي ء عن كيسه، و إلّا فإن رجع إلى الأوّل و أخذ منه ماله التالف في اليد الثانية أو غيرها فللأوّل الرجوع إلى الثانية لأدائه خصوصيّة ماله، مع كون الثاني ضامنا لهذه الخصوصيّة أيضا مضافا إلى ضمانه العين.


1- شرعيّة كانت أم عرفيّة، «منه رحمه اللّه».

ص: 545

نعم؛ للثاني أيضا الرجوع إلى لاحقه لجريان عين ما جرى بينه و بين سابقه، بينه و بين لاحقه كذلك، إلى أن يستقرّ الضمان في يد من تلف المال بيده، فليس له الرجوع إلى غيره لعدم عهدة مضمّنة له لاحقة عليه حتّى يرجع إليه، فهذا سرّ ما ذهب إليه المشهور من كون قرار الضمان بيد من تلفت العين المغصوبة في يده، فافهم!

و قد يشكل الأمر؛ في مثل ما لو استقرّ الضمان في يد أحد، بمعنى أنّه ما أخذ المال عن يده آخر، بل انتهى التعاقب إليه، ثم أتلفه أحد الأيادي السابقة الّتي يكون بسبب أخذه سابقا الآن ضامنا، ففي مثل هذه الصورة؛ فلو رجع المالك إلى من استقرّ الضمان في يده، فعلى ما بيّنا من وجه رجوع السابق إلى اللاحق كون اللاحق ضامنا لما في العهدة السابقة، فليس لليد الآخرة الّتي استقرّ الضمان عليها الرجوع إلى المتلف؛ لعدم كونه بضمانه الأوّل ضامنا له، بل هو ضامن لسابقه و صاحب المال، و بسبب الإتلاف لا يعقل أن يصير ضامنا ثانيا، لكونه تحصيلا للحاصل بالنسبة إلى المالك.

و أمّا بالنسبة إلى من استقرّ الضمان في يده فأيضا لا أثر له، بمعنى أنّه لا يصير بذلك عهدته مشغولة باللاحقة؛ لأنّ المفروض أنّ اليد اللاحقة أيضا ضامن للمتلف؛ لكون يده سابقا عليه، فالمتلف بإتلافه و إن صار ضامنا له إلّا أن اليد اللاحقة و قد كانت ضامنا له لترتّب يده على يده، فتتهاتر العهدتان و يتساقط الضمان من الطرفين، فلا حقّ لأحدهما على الآخر، لما عرفت من كون كلّ منهما متعهّدا للخصوصيّة الّتي تكون على الذمّة الاخرى الّتي هي منشأ ضمانهما للمالك و كلّ منهما للآخر.

ص: 546

و لكنّك خبير بأنّ الإشكال إنّما نشأ من المغالطة في تهاتر العهدتين، و جعل عهدة كلّ من المتلف و من استقرّ عليه الضمان و اشتغال ذمّتهما بالنسبة إلى الآخر متساويا، مع أنّ الأمر ليس كذلك، ضرورة أنّ الإتلاف بنفسه سبب للضمان، و يجعل العهدة مشغولة، فالعهدة لمن استقرّ عليه الضمان و إن كانت مشغولة لما اشتغلت به عهدة المتلف، فتصير عهدة المستقرّ عليه الضمان مشغولة بأداء خصوصيّتين: خصوصيّة نشأت من وضع يده على العين المغصوبة، و الاخرى من أخذه عن اليد السابقة الّذي صار ذلك منشأ لاشتغال ذمّته باليد السابقة.

و لكن لا ريب أنّ المتلف بإتلافه اشتغلت ذمّته بهاتين الخصوصيّتين أيضا، و إن لم تشتغل ذمّته ثانيا بذلك بالنسبة إلى المالك لكونه تحصيلا للحاصل، و لكن بالنسبة إلى من استقرّ عليه الضمان ليس كذلك؛ لأنّه بالنسبة إليه لم تكن ذمّة المتلف مسبوقة باشتغال ذمّته له، بل يصير الآن عهدته مشغولة به.

و أمّا التهاتر؛ إنّما يلزم إذا كانت العهدتان متساويتين في الاشتغال، مع أنّ عهدة من استقرّ عليه الضمان لم تكن مشغولة إلّا بخصوصيّتين، و المتلف بإتلافه يصير عهدته مشغولة بهاتين الخصوصيّتين، مضافا إلى اشتغال ذمّته الآن بخصوصيّة زائدة عليهما بالنسبة إلى مجموع ما اشتغلت به ذمّة المستقرّ عليه الضمان.

و بالجملة؛ قاعدة الإتلاف تكون كقاعدة اليد، فكما أنّها تلاحظ بالنسبة إلى العين بجميع شئونها، كذلك تلاحظ الإتلاف بالنسبة إلى المال بجميع شئونه، فالالتزام بضمان المتلف و إن كان بالنسبة إلى العين تحصيلا للحاصل إلّا أنّه بالنسبة إلى مرتبة من المال الّذي اعتبر في ذمّة من استقرّ عليه الضمان ليس تحصيلا للحاصل.

ص: 547

مثال ذلك: أنّه إذا كان المال في يد المستقرّ عليه الضمان كان كجسم له ذراعان، ثمّ بإتلاف ذي اليد السابقة صار بمنزلة جسم يكون له ثلاثة أذرع، فلهذه الخصوصيّة الزائدة الّتي نشأت من قبل الإتلاف و تعهّد المتلف ما استقرّ عليه ذمّة المستقرّ عليه الضمان، للمستقرّ عليه الضمان الرجوع على المتلف، فتأمّل!

ثمّ إنّ جملة ما استفدنا من كلامه- دام ظلّه- إلى هنا من أوّل هذه المسألة و إن كان اعتبارات و تصوّرات يجوّز العقل وقوعها في الخارج فقط، و ما قام برهان عقليّ عليها، إلّا أنّه أشرنا في طيّ الكلام إلى أنّه يكفي في إثبات الأحكام الشرعيّة ما يستفاد من ظواهر أدلّتها ما لم يقم برهان عقليّ على استحالة ما يستفاد من الأدلّة، و لا ريب أنّ كلّ ما أفاده- دام ظلّه- يستفاد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم:

«على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1) لمن أمعن النظر فيه.

هكذا ينبغي أن يحرّر المقام حتّى تندفع به الإشكالات، لا كما أفاده شيخنا قدّس سرّه في مكاسبه من اعتبار البدل لما أحدث على عهدة الآخذ (2)، حتّى يرد عليه ما أورده المحشّون (3) فراجع!

هذا كلّه؛ فيما لو كان الآخذ عالما بالغصبيّة، أمّا لو لم يكن كذلك، بل كان مغرورا و إن كان للمالك الرجوع إليه؛ لظاهر قوله: «على اليد» و كذلك: «من أتلف مال الغير» ... إلى آخره (4)، و لكن لو أخذ المالك عنه البدل و الغرامة فله


1- مستدرك الوسائل: 17/ 88 الحديث 20819.
2- لاحظ! المكاسب: 3/ 507.
3- حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي: 177.
4- جواهر الكلام: 37/ 60، انظر! القواعد الفقهيّة: 2/ 28.

ص: 548

الرجوع إلى الغارّ، فلا يتوهّم أنّ قاعدة الغرور تمنع عن رجوع المالك إليه؛ لعدم التنافي بينهما، فتدبّر!

ضمان منافع الحرّ و عدمه

الأمر السادس: قال في «الشرائع»: (و الحرّ لا يضمن بالغصب و لو كان صغيرا) (1).

اعلم! أنّ في هذه المسألة جهات من البحث:

الاولى: في ضمان نفس الحرّ.

الثانية: في منافعه، و هي تتصوّر على وجوه؛ لأنّ الحرّ المأخوذ إمّا أن يكون صانعا أو غير صانع، ففي كلّ منهما إمّا أن يستوفي الآخذ منافعه أو لم يستوف.

ثمّ إنّ في كلّ من الصور الأربع: إمّا أن يكون المأخوذ أجيرا، أو ليس كذلك.

أمّا الكلام في غصب الحرّ نفسه فنقول: إنّ أخذ الحرّ و السلطنة عليه يكون على نحوين:

أحدهما: أن يأخذه و يحبسه بحيث لا يقصّر في الإقامة بأداء وظائف بقائه و إمرار حياته شيئا، حتّى لو تلف لم يستند عرفا بالآخذ و الحابس؛ و لو بسبب حبسه في مكان مظلم حتّى يستوحش فيموت لأجله، بل كان من هذه الجهة أيضا مأمونا، ففي مثل هذه الصورة؛ لو تلف الحرّ لم يكن الحابس ضامنا، سواء


1- شرائع الإسلام: 3/ 236.

ص: 549

كان المحبوس صغيرا أم كبيرا مجنونا أو عاقلا، و لكن لا لعدم صدق معنى الغصبيّة على آخذه أو عدم صدق اليد عليه، لما حقّقنا من أنّ الغصبيّة لا يتوقّف صدقها إلّا على استيلاء اليد على الشي ء و هو صادق على حبس الحرّ و أخذه، فإنّ من كان له عبد فأعتقه، و لكن لم يخل سبيله بل حبسه، فالعرف لا يرى فرقا بين استيلائه السابق الّذي كان له عليه حين كونه عبدا و بين استيلائه عليه الآن بعد ما صار حرّا، و كذلك يصدق على فعله ذلك و حبسه الحرّ أنّه ذو يد عليه، و أنّه أخذه و استولى عليه، بل لأنّ مناط الضمان في باب الغصب على ما بيّنا من كونه مساوقا لقاعدة اليد أنّه لا يوجب أخذ شي ء و الاستيلاء عليه الضمان إلّا أن تصدق هذه القاعدة عليه صدرا و ذيلا، و في حبس الحرّ و الاستيلاء عليه و إن كان يصدق الأخذ إلّا أنّه يصدق ذيل القاعدة و هو الأداء، فإنّه يتوقّف على أن يكون المأخوذ غير المأخوذ منه حتّى يؤدّي إليه.

و أمّا الكلام في منافعه ففيما إذا لم يكن صانعا، و ما استوفى الآخذ منه شيئا، فالأمر فيه واضح، و يظهر حكمه ممّا قلنا في عدم الضمان.

و ثانيهما: هو أن يأخذه و يستولي عليه و يحبسه في محلّ مخطور من مسبعة أو غيرها بحيث يكون ذاك المحلّ غير مأمون عادة، أو يحبسه و يقصّر في القيام بأداء وظائف المحبوس ممّا يتوقّف عليه حياته عادة، و هذا يختلف باختلاف الأشخاص صغرا و كبرا، قوّة و ضعفا أو غيرها.

و بالجملة؛ فلو لم يقم الحابس على أداء ما يتوقّف عليه تعيّش المحبوس و إمرار حياته، بحيث لو مات لم يستند عند العرف إلى موته حتف أنفه، فلا ريب في كون الحابس في هذه الصورة ضامنا للحرّ لو تلف، و يدخل في باب القصاص و الديات، فتأمّل!

ص: 550

و أمّا الكلام في ضمان منافعه، و فيما إذا لم يكن الحرّ صاحب صنعة، و ما استوفى الحابس و الآخذ منه شيئا، فيظهر حكمه ممّا قلنا من عدم الضمان بالنسبة إلى نفسه، و ليس سبب عدم الضمان أيضا بعدم صدق الأخذ و اليد بالنسبة إلى الحرّ حتّى يقال بأنّه إذا لا يصدقان على أصله فالمنافع تابعة له، لما عرفت من بطلان هذا الكلام، بل المناط في عدم الضمان هو عدم صدق الأداء بالنسبة إلى منافعه أيضا؛ لأنّ الأداء إنّما يتوقّف بأن يكون المؤدّي غير المؤدّي إليه، و لا يصدق ذلك في أداء منافع الشخص بالنسبة إلى نفسه، مع أنّه سابقا أشرنا إلى أنّه لا تعتبر الماليّة لمنافع الحرّ، و إنّما سلطنته على نفسه حكم شرعي، و قدرة محضة بلا اعتبار حكم وضعيّ يورث الضمان أصلا.

و أمّا فيما إذا استوفى منه منافع، فالظاهر ضمانه اجرة منافعه المستوفاة منه، لأنّ عدم اعتبار الماليّة لمنافعها و عدم الضمان بالنسبة إليها تبعا لعدم ضمان نفسه إنّما كان ما لم تجئ المنافع في عالم الوجود، و إلّا فبعد تحقّقها في الخارج فكما يبذل بإزائها المال فكذلك يعتبر لها الماليّة، فيدخل في باب الإتلاف مضافا إلى احترام عمل المسلم.

و أمّا لو كان المحبوس ذا صنعة و لم يستوف الحابس منه شيئا، فقد يتوهّم لكونه ذا صنعة و قد منعه عن استيفائه من منافعه، و ليست منافعه كمن ليس ذا صنعة؛ لأنّه لا يفرض له منافع فعليّة، بل هو على قابليّته الصرفة لأن يوجد له المنافع، فيصير ذا مال باق، فمنافع الحرّ الّذي ليس صاحب صنعة فعلا هي قوّة محضة، و لذلك لا يعتبر لمثلها عند العرف الماليّة، بخلاف الحرّ الّذي صاحب صنعة بحيث لو خلّي سبيله لكان يستفيد من صنعته كلّ يوم مقدارا من المال،

ص: 551

و الحال أنّه منعه الحابس عن ذلك، فكأنّه أتلف منه مالا فعليّا موجودا الآن في الخارج.

هذا؛ و لكنّك خبير بأنّ ذلك و هم باطل؛ ضرورة؛ أنّ الإتلاف يتوقّف صدقه على إعدام أمر موجود أو استيفاء الموجود، و منع الغير عن استيفائه عن منافعه القابلة لأن يوجد، إنّما هو منع إيجاد المعدوم، لا إعدام لأمر موجود حتّى يصدق الإتلاف، و إنّما يكون ذلك كمن كان له رأس مال فمنع صاحبه عن اكتسابه به بحبس أو غيره، بحيث لو خلّي سبيله لكان يستفيد من رأس ماله هذا الّذي ليس إلّا مائة تومان في كلّ سنة ألف تومان، فكما أنّ حبس مالكه و منعه من استفادته من رأس ماله لا يقال: إنّ الحابس و المانع أتلف من المحبوس شيئا، كذلك منع ذي الصنعة من استيفائه من صنعته إتلافا لشي ء.

و بالجملة؛ فلا إشكال في عدم الضمان في هذه الصورة أيضا؛ لعدم المقتضي له أصلا ممّا هو قابل لأن يصير مقتضيا، و لذلك ذهب إليه المشهور، بل كادت أن تكون المسألة إجماعيّة، و ما جعله بعض في المقام مقتضيا للضمان- و قد نقله في «الجواهر» (1)- فلا يسمن و لا يغني من جوع، فراجع!

ضمان منافع الأجير

و أمّا فيما إذا حبس الأجير و منعه عن استيفاء مستأجره عنه، و هذا يتصوّر على أقسام، لأنّ زمان العمل إمّا محدود فيمنعه الحابس عن عمله في زمان الإجارة، أو لا يكون له زمان معيّن، و في كلّ منهما إمّا أن يكون المستأجر


1- جواهر الكلام: 37/ 36.

ص: 552

الحابس نفسه، أو غيره.

أمّا فيما إذا كان زمان العمل معيّنا و حبسه الغاصب في ذاك، بحيث لم يقدر الأجير أن يعمل في الحبس، ففي هذه الصورة لمّا كان الامتناع نشأ من قبل الحابس، و المؤجر كان حاضرا للوفاء بعقد الإجارة و تسليم ما يؤجر له، فالظاهر أنّ الأجير يستحقّ الاجرة، و إنّما ضمانها على الحابس، و ذلك لأنّ الأجير تملّك الاجرة بعقد الإجارة و العقد بحاله باق، لأنّ المفروض أنّ المؤجر ما امتنع عن الوفاء حتّى ينفسخ العقد، فإذا استحقّ الاجرة فيأخذها من مؤجره، فإن كان هو نفس الحابس فليس له شي ء؛ لأنّه بنفسه أقدم على منع نفسه عن استيفاء حقّه، و إن كان غيره فهو يرجع على الحابس.

فكيف كان؛ المؤجر يستحقّ الاجرة لما يقتضيه عقد الإجارة، لا للإتلاف حتّى يقال بأنّه لم يتحقّق شي ء في الخارج من العمل حتّى يصدق أنّ الحابس أتلفه، فتأمّل!

و أمّا فيما لم يكن للعمل زمان محدود، بل إنّما استأجره المستأجر لخياطة ثوب- مثلا- بلا أن يشترطه في زمان خاصّ، ففيه لا إشكال أنّه بالحبس لا يستحقّ من الاجرة شيئا؛ لعدم إيجاده العمل المؤجر له، و عدم انقضاء زمانه أيضا، و العقد ما وقع على العمل إلّا على نحو الإطلاق، فهو بعد قادر على تسليم العمل، و ما لم يسلّمه لا يستحقّ الاجرة، و لا يتملّكه مستقرّا.

و بالجملة؛ فبالحبس لا تشتغل ذمّة الحابس بشي ء؛ لأنّ اشتغال ذمّته فرع استحقاق المؤجر شيئا، و المفروض أنّه ما لم يف بالعقد لم يستحقّ شيئا و في الصورة السابقة إنّما كان ممنوعا عن الوفاء بالعقد، و لذلك كان يستحقّ الاجرة،

ص: 553

و لا فرق في ذلك أيضا بين أن يكون الحابس هو المستأجر أو غيره.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا حكم ما لو حبسه في الصورة السابقة مقدارا من الزمان، بحيث يتضيّق زمان العمل و يسقط عن العمل مقدار منه لا كلّه، ففيه تستحقّ من الاجرة مقدار ما حبس بالنسبة إلى مجموع العمل لا كلّها، و أمّا استحقاقه بقيّتها فموقوف على تسليم العمل بمقدار ما بقي من الوقت و حرمان خيار التبعّض هنا و عدمه، فيستفاد حكمه من محلّه.

ضمان منافع الدابّة

و في «الشرائع»: (و لا كذلك لو استأجر دابّة فحبسها بقدر الانتفاع) (1).

بمعنى أنّه و لو كانت الدابّة استأجرت لعمل على الإطلاق- أي في غير زمان معيّن- إلّا أنّه لو حبسها المستأجر بمقدار زمان العمل الّذي استؤجرت له فيضمن بذلك الحابس الاجرة و مؤجرها يستحقّ الاجرة، و إن لم يستوف المستأجر منها العمل، و لو كان زمان الإجارة مطلقا.

و الفرق بين ذلك و سابقه- أي فيما كان المؤجر حرّا- أنّه لمّا لم تكن اليد الواردة على الحرّ يدا مضمّنة فالحرّ بسبب حبسه- أي صيرورته محبوسا- قد عرفت أنّه لا يستحقّ شيئا، بخلاف المملوك، فإنّ اليد الواردة عليه لمّا كانت مضمّنة لنفسه و كذلك لمنافعه تبعا له فعلى ذلك؛ فالحابس إذا كان يحبس الدابّة الّتي استأجرها لعمل فبسبب الحبس تشتغل ذمّته بمنافعها بمقدار زمان الحبس فيستحقّها صاحب الدابّة، فلو كان الحابس يستحقّ على صاحبه بمقدار ما يتعلّق


1- شرائع الإسلام: 3/ 236.

ص: 554

بذمّته الاجرة لحبسها استيفاء المنافع منها فذمّة صاحب الدابّة مشغولة بأداء تلك المنافع من دابّته، فتهاترت العهدتان تهاترا قهرا لو كان ما يستحقّ كلّ منهما على الآخر مساويا لما يستحقّه الآخر و إلّا فبالنسبة.

ضمان الخمر و عدمه

الأمر السابع: قال في «الشرائع»: (و لا يضمن الخمر إذا غصبت من مسلم) (1) .. إلى آخره.

اعلم! أنّ صور هذه المسألة أربعة، لأنّ الغاصب و المغصوب منه إمّا أن يكون كلاهما مسلما أو كلاهما كافرا، أو يكون الغاصب مسلما و المغصوب منه كافرا، أو بالعكس.

أمّا الصورة الاولى؛ فلا إشكال في أنّه لا يستحقّ المغصوب منه شيئا، لأنّ استحقاقه شيئا من قيمة المغصوب منه أو مثله فرع لكون المغصوب منه ملكا و مالا له حتّى يصدق بسبب أخذه عنه «على اليد» (2) فيشتغل عهدة الآخذ بما أخذ، كما عرفت، و بعد أنّ الشارع قد حرّم جميع منافع الخمر، بحيث لو كان بقي له منافع تكون من قبيل النادر، فلا يبقى لها ماليّة لأن يرى ماليّة الشي ء باعتبار منافعه، فإذا لم يفرض للشي ء منافع لسلبها الشارع عنه، فلا يعتبر له ماليّة حتّى يترتّب عليها ما لها من الآثار، و هذا واضح لا سترة فيه.

مع أنّ المسألة إجماعيّة؛ إنّما الكلام في الخمر المتّخذة للتخليل، فظاهر


1- شرائع الإسلام: 3/ 236.
2- مستدرك الوسائل: 17/ 88 الحديث 20819.

ص: 555

«الجواهر»- بل ادّعى الإجماع- أنّ غصبها أيضا لا يوجب الضمان (1).

نقول: إنّ الخمر المتّخذة للتخليل و إن لم يكن لها الآن ماليّة إلّا أنّه باعتبار بقائها و صيرورتها خلًّا لا يبعد الدعوى بأنّ العرف لذلك يعتبر لها الماليّة، و لا يراها مثل ما ليست لذلك، بل إنّما أعدّت للخمريّة، بل لقابليّتها لأن ينتفع منها بعد في زمان قريب يكون كاعتبار العرف الماليّة لمنافع العين الّتي لم توجد تتحقّق تلك المنافع بعد لمالك العين، و ليس ذلك إلّا لأنّه لمّا كانت العين قابلة لأن تبقى و تصير صاحبة تلك المنافع فيرونها كأنّها الآن موجودة، فكذلك الخمر المتّخذة للتخليل و إن كانت مسلوبة المنافع الآن من جميع الجهات فعلا، إلّا أنّه لا ريب أنّه إذا كانت قريبة لأن تنقلب و تصير خلًّا مثل نصف الساعة مثلا، فالعرف يراها الآن باعتبار انقلابها، مالا و ذات منفعة، و أنّ حكم الشارع بحرمة جميع الانتفاعات عنها فعلا لا يوجب سلب ماليّته مطلقا، مع كونها كذلك، و إذا استكشفنا كون العرف مساعدا في اعتبار الماليّة لها في مثل هذا الحال- أي، فيما كان بين حال الخمريّة و انقلابها خلًّا زمان قليل- فيستكشف من ذلك اعتبار الماليّة للخمر المعدّة للتخليل، لأنّ الظاهر عدم خصوصيّة لذلك، بل المناط التهيّؤ و كونها مادّة قريبة قابلة لأن تصير شيئا ينتفع به، فيصير لذلك مالا.

و بالجملة؛ فسلب الماليّة عن مطلق الخمر حتّى المتّخذة للخلّ مشكل جدّا؛ لعدم المقتضي له ظاهرا، فالحكم بعدم الضمان مطلقا بعيد.

نعم، لو تمّ الإجماع المدّعى في المقام على عدمه- و إن لم يكن نظر المجمعين في ما نحن فيه و كذلك في البيع إلى ما يزعمون من عدم اعتبار الماليّة


1- جواهر الكلام: 37/ 44.

ص: 556

لها، فلذلك لا يجوز بيعها و لا يضمن غاصبها، بل كان إجماعا تعبّديّا لو تمّت دلالة رواية «تحف العقول» (1) و سندها؛ يتمّ الحكم بعدم الضمان، و إلّا فالأولى الحكم بالضمان، كما لا يخفى، فتأمّل!

أمّا فيما لو كان المغصوب منه ذميّا و الغاصب مسلما، فهنا بحسب ما تقتضيه القاعدة- لما عرفت- سلب الماليّة عن الخمر، بل يجب إراقتها (2) و إن كان لا بدّ و أن يحكم بعدم الضمان، إلّا أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في ضمان الغاصب في هذه الصورة، و العلّة في ذهاب الأصحاب في المسألة إلى خلاف الأصل هي ما ذكروه في باب الجهاد من استفادتهم من آية الجزية المغيّى بقوله تعالى: حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ (3) بأنّ محاربة الكفّار و نهب أموالهم إنّما تجب ما دام كونهم محاربين، و بعد انعدام هذا العنوان عنهم بإعطائهم الجزية و العمل بشرائطها، فكما يحفظ بذلك دماؤهم و أموالهم كذلك يعامل معهم و دينهم [معاملة] دين الحقّ، بمعنى أنّ كلّ ما يرونه من شريعتهم و يرون أنّه من أحكامهم مثل أنّهم يستحلّون الانتفاع من الخمر- مثلا- و لذلك يكون لها عندهم الماليّة، نحن ملتزمون بأن نعامل معهم بالنسبة إلى أنفسهم في ذلك كلّه كما يعاملون أنفسهم فيما بينهم، فيترتّب على ذلك الالتزام بالأحكام الوضعيّة على حسب أحكامهم.

و مرجع ذلك يكون إلى أنّ الشارع نزّل أحكامهم الباطلة منزلة الأحكام


1- تحف العقول: 331، وسائل الشيعة: 17/ 83 الحديث 22047.
2- و لأنّهم معاقبون على الفروع كما يعاقبون على الأصول، فالاشتراك في الأحكام التكليفيّة يقتضي الاشتراك في الوضعيّة، سواء كانت مستتبعة أم لم تكن كذلك، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».
3- التوبة (9): 29.

ص: 557

الحقّة في الجملة بالنسبة إلى بعض الامور الدنيويّة؛ لما تقتضيه السياسة الشرعيّة، فلذلك لو غصب المسلم خمرا من الذمّي و كذلك الخنزير فهو ضامن.

إنّما الكلام في أنّ جريان قاعدة اليد في المسألة المترتّبة على هذا التنزيل أيّ مقدار يقتضي من ضمان المثل أو القيمة؟ لأنّ الخمر مثليّ و ضمان المثلي لا ينقلب إلى القيمة إلّا بعد العجز عن أداء المثل، فالقاعدة تقتضي الحكم بضمان المثل.

و لكن يشكل الالتزام بذلك من جهة اخرى، و هي أنّ العهدة تشتغل بما له ماليّة، و المفروض أن الخمر لا ماليّة لها بالنسبة إلى المسلم.

و بعبارة اخرى: أنّه قد بيّنا أنّه عند وضع اليد على مال الغير اعتبر الشارع لهذا المال وجودا اعتباريّا على يد الغاصب، بحسب أنّ هذا الوجود الاعتباري على يده باق حتّى يردّ المال بنفسه إلى صاحبه أو مرتبة منه عند تلفه، و يكون لهذا الوجود الاعتباري إضافة ملكيّة إلى الغاصب، و إضافة اخرى إلى المالك، فلو ردّ عين ماله إليه ليس له حقّ بعده بالنسبة [إلى] ذاك الوجود الاعتباري، و لذلك نقول: إنّ لهذا الوجود من أوّل؛ إضافة ملكيّة إلى الغاصب، و بعد أن عرفت أنّه لا اعتبار ملكيّة و لا ماليّة للخمر بالنسبة إلى المسلم، فكيف يعقل أن يعتبر على يده وجودا اعتباريّا له فيشتغل به ذمّته؟!

فالّذي يسهّل الخطب؛ هو أنّه لا بدّ أن يلاحظ ذاك الدليل للتنزيل من أنّه أيّ مقدار يقتضي؟ فإذا نزّلت الخمر الّتي لا ماليّة لها منزلة المال لاعتبار الماليّة لها عند الكفّار؛ بل التنزيل يقتضي اعتبار جميع خصوصيّات الماليّة لها حتّى لو غصبها المسلم يشتغل ذمّته بمثلها، أم ليس يقتضي ذلك؟ و لا إشكال أنّه لا

ص: 558

إطلاق و لا عموم لدليل التنزيل حتّى يقتضي ذلك، بل استفاده الأصحاب من الآية المباركة و غيرها في الجملة (1).

و لمّا يكون الحكم على ما عرفت مخالفا للقاعدة؛ لأنّ ما ثبت من أصل الشريعة أنّه لا ماليّة للخمر خرجنا عن الأصل لقيام الدليل الخاصّ على اعتبار الماليّة لها بالنسبة إلى الذمّي، فلا بدّ أن [يكون] بالقدر المتيقّن من الدليل و القدر المتيقّن في المقام هو القيمة.

بمعنى أن يبنى أنّ القدر المتيقّن ممّا اعتبر من الوجود للخمر المغصوبة على اليد اعتبار وجود القيمة لها، و لا ينافي ذلك ما بنينا عليه، من أنّ ما يجي ء على اليد حين وضعها على مال الغير هو نفس العين، فاعتبر الشارع وجودها بنفسها على اليد، لأنّك عرفت أنّ للعين اعتبرت مراتب من الوجود، فإذا امتنع اعتبار وجود نفسها على اليد لما ظهر من اقتضاء الأصل و الدليل الخاصّ أيضا ما اقتضى إلّا اعتبار مرتبة ضعيفة منها، و هي القيمة، فلا محيص عن الالتزام بضمان قيمة الخمر المغصوبة من الذميّ لا مثلها، فيجب ردّ عينها إليه ما دامت باقية،- لعدم انقطاع سلطنته عنها- و (2) قيمتها إن كانت تالفة، فتأمّل!

و قد ظهر من هذه الصورة حكم ما لو كان الغاصب و المغصوب منه ذمّيّين و تحاكما عندنا.

و أمّا الصورة الرابعة؛ و هو ما لو كان المغصوب منه مسلما و الغاصب ذمّيّا و إن كان- دام ظلّه- أجرى دليلا فيها أيضا، بمعنى أنّه أفاد- دام ظلّه- بأنّ الذمّي


1- لاحظ! جواهر الكلام: 37/ 44- 45.
2- كذا، و الأصحّ: أو.

ص: 559

لمّا غصب من المسلم ما هو مال عنده، و الشارع أيضا أمضى و اعتبر ماليّته و نزّل الخمر عندهم منزلة المال، فلذلك يلزم بضمانه للمسلم لأخذه منه ما يعتقده مالا له، فيجري عليه قاعدة اليد، إلّا أنّه لا إشكال هنا في ضمانه القيمة دون المثل.

و الأمر في هذه الصورة أوضح من الثانية من هذه الجهة، لأنّ ارتفاع ضمان الغاصب إنّما يكون بأداء ما غصب إلى المالك و قبضه إيّاه دون التخلية فقط، كما أشرنا سابقا، و المفروض أنّ الخمر لا تصير مقبوضا للمسلم و لا تجي ء تحت يده، و لا تتعلّق بها سلطنته لعدم كونها مالا بالنسبة إليه.

أقول: و لا يخلو ما أفاده- مدّ ظلّه- من النظر الواضح، لأنّه مضافا إلى كون ما أفاده مخالفا للإجماع، لأنّه لا خلاف ظاهرا في عدم تعلّق الضمان بالخمر مطلقا إذا كان المغصوب منه مسلما، أنّ التنزيل إنّما يفيد في اعتبار الماليّة بالنسبة إلى المغصوب منه لا الغاصب، بمعنى أنّ تنزيل ما ليس بمال للمسلم مالا للذّمي كيف يثمر بالنسبة إلى المسلم الّذي هو المأخوذ منه؟ و التنزيل عند الغاصب أيّ ربط له بالمغصوب منه؟ و الموجب للضمان إنّما يكون إذا كان المغصوب مالا حقيقيّا له، أو تنزيليّا عنده، كما لا يخفى، و يؤيّد ذلك ما أفاده أخيرا من عدم صحّة قبض الخمر لو كان القابض مسلما، فافهم!

المباشرة و التسبيب

اشارة

الجهة الثانية من البحث: في سائر موجبات الضمان سوى اليد و عنوان الغصبيّة.

الأوّل منها: مباشرة الإتلاف، و إن لم يكن المتلف تحت اليد.

ص: 560

الثاني: التسبيب، و الكلام فيه يتوقّف على تمهيد مقدّمة، و هي: أنّه لا إشكال في أنّه ما وقع عنوان السبب أو المباشر في حديث و لا نصّ من أخبار الباب، و كذلك ما ورد نصّ خاصّ يدلّ على القاعدة المعروفة، و هي: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (1) بمعنى أن يكون متكفّلا لذكر القاعدة بألفاظها، بل أشرنا سابقا بأنّ هذه إنّما وقعت في معاقد الإجماعات و استفادها الأصحاب من الموارد الخاصّة الواردة فيها النصوص الّتي تستخرج منها بالمناط القطعي هذه القاعدة؛ و إن كان قد يصدق عنوان الإتلاف في بعض الموارد لمساعدة العرف، و إن لم ينطبق على ما ورد فيه النصّ، كما سنشير إليه.

و كيف كان؛ ليس الإتلاف موضوعا شرعيّا و عنوانا معبّرا به في لسان الشريعة، حتّى نبحث عن معناه، لكونه من العرف الخاصّ، و كذلك ليس للفظ السبب أيضا معنى اصطلاحيّا شرعيّا حتّى ندور مداره، و أنّ ما ورد في لسان الأخبار عناوين خاصّة أو عامّة قد تنطبق على هذه العناوين اللغويّة و العرفيّة، و قد لا تنطبق، فإنّ ما ورد في الأخبار الّتي ذكرها في «الجواهر» عند تنقيح هذا البحث (2) هو أنّ:

منها؛ قوله عليه السّلام: «من أضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن» (3).

و منها؛ صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أخرج ميزابا أو كنيفا، أو أوتد وتدا، أو أوثق دابّة، أو حفر شيئا في طريق


1- جواهر الكلام: 37/ 60، انظر! القواعد الفقهيّة: 2/ 28.
2- جواهر الكلام: 37/ 46.
3- وسائل الشيعة: 29/ 241 الحديث 35540.

ص: 561

المسلمين فأصاب شيئا فعطب، فهو له ضامن» (1).

و منها؛ لسانها كذلك: «من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان» (2).

ضرورة؛ أنّ «من حفر بئرا في غير ملكه» مثل برّ أو فلاة لم يتوقّع مرور أحد فيهما، بحيث كان اتّفاق عبور أحد فيهما خلاف العادة، فاتّفق أنّه مرّ أحد منها فوقع فيه فهلك، فإنّه لا إشكال ظاهرا في عدم صدق نسبة الإتلاف إلى الحافر عرفا، فلا يرونه في مثله ضامنا، كما أنّ من حفر بئرا في ملكه الّذي اعتاد العبور عليه، و لو كان داره فمرّ أحد فوقع فيه، أو لم يكن المعمول العبور عليه و لكن اذن أحد بالدخول في داره بحيث لا يصدق عنوان الغرور، بل جعل اختيار الورود بيده، أو كان معمولا دخول غنم جاره في داره لو كان بابها مفتوحة و لم يكن راعيه معه فدخل المأذون في الدار، أو الغنم فيها كذلك مع مسامحته في سدّ بابه فوقعا في البئر، فإنّه يصدق عرفا في هذه الصورة أنّ صاحب الدار الحافر أتلفهما.

مع أنّه لا ينطبق عليه ما وقع في الحديث من كون الضمان معلّقا على حفر البئر في ملك الغير، و قد يتصادق الإتلاف عرفا مع ما يستفاد من الأخبار من التحديد مثل ما لو حفر بئرا في غير ملكه مع كونه من الطرق المعتادة العبور عليه، فوقع فيه أحد من العابرين (3)، و غير ذلك من الموارد الّتي قد يجتمعان و قد يختلفان.

فمن ذلك؛ ظهر أنّ النسبة بين ما يراه العرف تلفا و المعنى الّذي يكون ملاكا لاستناد التلف عند العقلاء، و [بين] ما يستفاد من التحديد من الأخبار، عموما


1- وسائل الشيعة: 29/ 245 الحديث 35547.
2- وسائل الشيعة: 29/ 241 الحديث 35539.
3- وسائل الشيعة: 29/ 241 الباب 8 من أبواب موجبات الضمان.

ص: 562

من وجه لو أبقيناهما على ظهورهما، فيقع التعارض بين الجمود على ظواهر الأخبار- مع أنّ جملة منها ظاهرة في كون المحدث في غير الملك قابلا لصحّة استناد التلف إلى المحدث- و الأخذ بها (1) و [بين] ما يراه العرف و العقلاء ملاكا لصحّة استناد التلف، و لو كان الموجب له في ملك نفسه بحيث لا يصدق المباشرة.

فيدور الأمر بين حمل ما يظهر من بعض الأخبار من بيان الحدّ على التنظير و التمثيل، و تعيين المصداق العرفي مقدّمة لبيان الحكم لا للتحديد، أو حملها على تعيين الضابط و ردع العقلاء عمّا هو ملاك صدق الإتلاف عندهم.

و لا إشكال في أنّه لمّا كان الإتلاف معنى عرفيّا و موضوعا عقليّا لا ربط له بالشارع، و لا مدخليّة لتصرّفه فيه، لكونه مفهوما ارتكازيّا، فلا بدّ من حمل الأخبار الظاهرة في خلاف المعنى الارتكازي، مثل ما يستفاد منها كون ملاك الضمان في حفر البئر هو أن يكون البئر في غير الملك، على ما لو كان ذلك موجبا لصحّة استناد التلف إلى الحافر و لو كان المباشر غيره، إلّا أنّه يقع بحيث يرى اختيار المباشر الّذي هو سبب قريب تحت اختيار السبب البعيد و هو الحافر، لا ما إذا لم يكن كذلك مثل ما مثّلنا به من حفر البئر في برّ غير معتاد العبور منه أصلا، أو كان في طريق المسلمين، و لكن كان ذلك لأن ينتفعوا به، بمعنى أنّ الحفر يرجع إلى مصالحهم، مع عدم تقصير الحافر في ما هو من لوازم إيجاد البئر في الطريق بحيث يكون الناس مأمونين عن الوقوع فيه، و غير ذلك من الموارد الّتي لا ينطبق عليها المعنى الارتكازي العرفي للإتلاف، بحيث يصحّ الاستناد إلى محدث البئر.


1- مرّ آنفا.

ص: 563

فانقدح بما ذكرنا؛ أنّ الإتلاف معنى عرفيّ ليس فيه اصطلاح؛ صدقه متوقّف على نظر العرف، و صحّة الاستناد عند أهله و مصاديقه مختلفة، فقد يصحّ الاستناد بإيجاد شرطه، و قد يستند بإيجاد سببه، كما أنّه يصحّ الاستناد بمباشرة الإتلاف، فهذه كلّها مصاديق للإتلاف يتوقّف صدق النسبة بها على مساعدة العرف بلا أن يكون لأحدهما اصطلاح شرعيّ حتّى يكون لها موضوعيّة، فيبحث عنها لاستكشاف المعنى الاصطلاحي لها، كما لا يخفى، بل إنّما الباحث عنها إنّما يبحث لتعيين مصداق الإتلاف و تحديده عرفا.

فمن ذلك كلّه؛ ظهر النظر في ما في كلام صاحب «الجواهر» قدّس سرّه في المقام (1)، حيث اعترض على الأصحاب لتعرّضهم في تعيين معنى السبب بأنّه لا فائدة في هذا التعرّض؛ لعدم ورود هذا اللفظ في النصّ، و لا ثمرة في تحديد الضابط به، بل الضابط إنّما هو يستفاد من الأخبار.

وجه النظر؛ أنّه قد عرفت أنّه ليس تعرّض الأصحاب لتحديد السبب بلحاظ معناه الشرعي و التزامهم بموضوعيّته، بل لأنّه كما أنّه لم يرد به نصّ، كذلك لم يقع لفظ المباشر و التلف أيضا في نصّ، و لما رأوا إنّما هو ملاك للضمان في كلمات السلف و معاقد الإجماعات ليس إلّا عنوان التلف، و لا ينطبق على معناه العرفي ما يستفاد من ملاك الضمان من ظواهر بعض الأخبار (2)، مع عدم كون هذه الأخبار صريحة في تحديد ضابط الضمان مختصّا بما لهجت به، فبمقدّمات عدم الردع استفادوا كون الملاك عنوان الإتلاف و ما استقرّ عليه بناء


1- جواهر الكلام: 37/ 50.
2- لاحظ! وسائل الشيعة: 29/ 241 الباب 8 و 9 من أبواب الضمان.

ص: 564

العقلاء من المعنى لهذا العنوان، فتعرّضوا لتعيين مصاديقه الّتي منها عنوان السبب، فتأمّل!

ثمّ إنّ الظاهر؛ أنّ مرادهم من السبب هو معناه الاصطلاحي، أي ما يلزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم، و ضابطه الكلّي لهذا المعنى أنّ سبب الإتلاف هو ما ينتهي إليه موجب التلف، بمعنى أن يكون هو مستندا إلى اختياره بحيث و لو كان للغير دخلا في التلف، إلّا أنّ اختياره يكون تحت اختياره، بأن يفعل عملا يستند التلف إلى عمله عادة، كأن يحدث بئرا في طريق معتاد من غير أن [يكون العابرون محفوظين عن الوقوع فيه] أو بالوعة من غير أن تجعلها بحيث يكون العابرون محفوظين عن الوقوع فيها، و غير ذلك من الموارد الّتي لو وقع تلف يكون المحدث موجبا له عادة (1).

إذا عرفت ذلك؛ فهنا فروع لا بدّ من أن نتعرّضها. الأوّل: ذكر في «الجواهر» أنّ إحداث البئر في غير الملك مطلقا- سواء كان عدوانا محضا أو يكون فيه صلاح للمسلمين- هل يوجب الضمان لو وقع به تلف، أم لا؟ و نقل فيه التفصيل عن بعض بين ما كان صلاحا للمسلمين و أحدث في طريقهم، و ما لم يكن كذلك (2).

و الّذي هو بنفسه قوّاه هو الضمان، بناء على مسلكه قدّس سرّه من الجمود على ظاهر النصّ، لكونه محدثا في ملك الغير، أو لكونه مضرّا بطريق المسلمين، بناء


1- و من المعلوم؛ أنّه لا يتوقّف في ذلك قصد وقوع التلف، بل تمام المناط انتهاء الأمر إلى الشخص عادة، «منه رحمه اللّه».
2- جواهر الكلام: 37/ 52 و 53.

ص: 565

على كون المراد به أحدث شيئا بسببه أضرّ المسلمين، فتأمّل!

و بالجملة؛ فقد استظهر الضمان مطلقا فيه و في الملك المشترك في الجملة.

و لكن الّذي ينبغي أن يقال: هو التفصيل، كما أفاده (استحسنه) المحقّق و أفتى به جماعة من الأعاظم غيرهم- قدّس سرّهم- (1)، لأنّه إذا أحدث البئر لمصلحة المسلمين في طريقهم مع عدم تقصيره في شي ء ممّا يوقع الناس في الهلكة فاتّفق على خلاف العادة أنّه وقع فيه أحد فتلف، فبمقتضى قوله تعالى:

مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (2) عدم ضمانه؛ لعدم كون عمله ذلك مشتملا على عدوان و تعدّ أصلا، بل هو محسن فيه فقط بلا أن يكون تصرّفه ظلما على أحد، فهو إحسان محض، فلا موجب للضمان، بخلاف ما لو أحدثه فيه لصلاح نفسه، أو أحدثه لا لذلك و لكن قصّر في الأداء بوظائفه من طمّ فم البئر و غيره، فإنّه لمّا لم يكن عمله ذلك مشتملا على الإحسان فليس شي ء يمنع عن الضمان، حسب ما يقتضيه أصل هذا العمل.

و من ذلك ظهر؛ أنّ إحداث البئر في ملكه لا يوجب الضمان لو وقع فيه أحد كان داخلا فيه بغير إذنه، فإنّه يكون بمنزلة إحداث البئر في طريق المسلمين و إحاطته بحائط فصعد عليه أحد فوقع فيه، فإنّ الحافر ليس ضامنا؛ لعدم كون التلف مستندا إليه عادة، و كذلك دار الشخص و ملكه لمّا كان تسلّط عليه و عدم جواز دخول أحد فيه بغير إذنه فيه بمنزلة ذلك الحائط المحيط بالبئر الواقع، فمن دخل فيه بغير إذنه فوقع في البئر فيكون كمن ألقى نفسه في البئر بلا توجّه ضمان


1- شرائع الإسلام: 3/ 237، جواهر الكلام: 37/ 53.
2- التوبة (9): 91.

ص: 566

على الغير و لو كان الغير سببا، و لكن لمّا كانت جهة السببيّة في مثل هذه الصورة ملغاة في نظر العرف و لذلك يكون التلف مستندا إلى المباشر نفسه.

و بالجملة؛ فلمّا بنينا على كون المراد من السبب في المقام هو بمعناه الاصطلاحي من كون المناط (1) في استناد الضمان صحّة نسبة الإتلاف إلى السبب، بأن يكون بحيث يلزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم، و لكن لا بالنسبة إلى مادّة التلف بل بالنسبة إلى هيئة الإتلاف، بمعنى أنّه و لو كان يصحّ استناد المادّة إلى غيره كما إذا قدّم أحد طعاما مسموما إلى غيره و أمره بأكله مع كون الآكل جاهلا به رأسا، فإنّه و إن لم يكن التلف مستندا إلى الآمر إلّا أنّه لا إشكال في أنّ الإتلاف مستند إليه، ففي الصورة المذكورة لمّا كان الإتلاف أيضا مستندا إلى الداخل بغير إذن المالك فيصير من المقامات الّتي يكون المباشر أقوى من السبب هذا.

تقديم المباشر على السبب و بالعكس

الفرع الثاني: قال في «الشرائع»: (لكن إذا اجتمع السبب و المباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب) (2) .. إلى آخره.

اعلم! أنّ هنا صورا أربعا نتعرّضها،


1- فالمناط في صدق النسبة و صحّته هو أن يصحّ استناد هيئة الإتلاف به بالسبب، و إن كان بالنسبة إلى المادّة، و هي و التلف شرطا أو مقتضيا كحفر البئر في الطريق المعمورة عدوانا، فإنّ الحفر لا يلزم من وجوده الوقوع في البئر، و من عدمه عدمه، بل هو شرط أو مقتض بالنسبة إلى التلف، و لكنّه بالنسبة إلى الإتلاف عرفا يكون يلزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم «منه رحمه اللّه».
2- شرائع الإسلام: 3/ 237.

ص: 567

الأوّل: هو أن يكون المباشر مقدّما على السبب، كما إذا حفر أحد بئرا في غير ملكه عدوانا فألقى آخر أحدا فيه، فإنّه لمّا يكون التلف، و كذلك الإتلاف مستندا إلى الملقي، و إن كان الحفر شرطا بالنسبة إلى التلف، مع ذلك يكون الملقي لقوّته ضامنا، لما عرفت من أنّ الشرط و المقتضي لا يؤثّران بالنسبة إلى الضمان، بل هو تابع لصدق عنوان الإتلاف المتحقّق بالمباشرة أو التسبيب بلا أن يكون لهما موضوعيّة، و قد أوضحنا مناط صدق التسبيب، و من المعلوم أنّه بمعناه في الصورة المفروضة لقوّة المباشر لا يصدق، فلا مقتضي لضمان غير المباشر استقلالا و لا اشتراكا.

و من ذلك؛ ظهر النظر في ما مال إليه في المقام صاحب «الرياض» قدّس سرّه خلافا للمشهور، فإنّه قدّس سرّه لمّا زعم كون التسبيب عنوانا مستقلّا في عرض عنوان الإتلاف فمال هنا إلى اشتراك الحافر و الملقي في الضمان (1)، و قد عرفت ضعف ذلك بما لا مزيد عليه، بل قد ظهر من ذلك أيضا حكم ما لو صدق على فعله- أي المسبّب- الإعانة، ففيه أيضا يكون المباشر هو الضامن؛ لأنّ الإعانة مثل نصب السكّين و نحوه لا يخرج عن كونه مقتضيا أو شرطا (2) و قد قلنا: إنّه لا مدخليّة لهما في الضمان.

و بالجملة؛ فما لم يصدق عنوان الإتلاف استقلالا أو اشتراكا فلا يوجب الضمان، فعلى فعل المعين إن صدق الاشتراك فيصير شريكا في الضمان، و إلّا


1- رياض المسائل: 8/ 335.
2- بعد صدق الإتلاف على المباشر، «منه رحمه اللّه».

ص: 568

فلا، فانقدح أنّه لا وجه لتأمّل صاحب «الجواهر» في المقام (1)، فتأمّل!

الثانية: هي ما يقدّم السبب في الضمان، كمن حفر بئرا في طريق المسلمين فوقع فيه أحد من العابرين فعطب، فهنا و إن كان مباشر التلف نفس العابر؛ لاستناد مادّة التلف إلى حركته باختياره، و لكنّ اختياره هذا بالنسبة إلى الإتلاف كلا اختيار في جنب اختيار الحافر؛ لانطباق ما هو مناط السببيّة على فعله ذلك، و عدم تأثير لحركة المباشر بالنسبة إلى الإتلاف، بل هو مستند عند العرف على الحافر، مع كون ذلك من مصاديق ما يستفاد من أخبار الضمان.

اجتماع السببين

الثالثة: هي ما لو اجتمع السببان، كما إذا حفر أحد بئرا و وضع آخر عنده حجرا فعثر به إنسان فوقع في البئر إنسان فهلك، بحيث يكون الهلاك مستندا إليهما، و يكون كلّ منهما دخيلا في التأثير، بمعنى أنّه لو لم يكن المعثر لما كان يقع أحد في البئر، و كذلك لو لم يكن البئر فالمعثر لا يوجب الهلاك.

فقد اشكل الأمر في هذه الصورة، و كذلك الصورة الآتية في صدق الاستناد، و صحّته بهما جميعا، أو بالسابق في التأثير، أو بالسابق زمانا، و نشير أوّلا إلى توضيح عبارة وقعت في المقام من «المسالك» و «التذكرة» ثمّ نذكر ما هو التحقيق من الحكم في المسألة.

قال في «المسالك»: (فإن اتّفقا في وقت واحد اشتركا في الضمان لعدم


1- جواهر الكلام: 37/ 55.

ص: 569

الترجيح، و إن تعاقبا فالضمان على المتقدّم في التأثير لاستقلاله أوّلا) (1) .. إلى آخره (2). و قريب [من] ذلك عبارة «التذكرة» (3).

نقول: إن كان مرادهما من «اتّفقا» هو اتّفاق حدوث السببين زمانا، بأن يكون حفر البئر مع وضع الحجر في زمان واحد، فأيّ معنى لقولهما في صورة التعاقب: كون الضمان على المتقدّم في التأثير؟ ضرورة أنّه كما يكون أحدهما في صورة التعاقب في الإحداث متقدّما في التأثير، كذلك يكون في صورة الاتّفاق في الحدوث، إذ لا ملازمة بين اتّفاق زمان إحداث السببين و اتّفاقهما في التأثير كما لا يخفى، و إن كان مرادهما- قدّس سرّهما- من «الاتّفاق»، اتّفاقهما في التأثير، فلا معنى لتقابل العبارة بقولهما: (و إن تعاقبا) .. إلى آخره، إذ قد عرفت أنّه كما يمكن أن يترتّبا في التأثير عند التعاقب في الحدوث كذلك أمكن عند اتّفاق زمان الحدوث الترتيب أيضا.

و بالجملة؛ إن كان المناط في الاختصاص بالضمان عند اجتماع السببين هو الأسبقيّة من حيث الزمان فلا مجال للقول بالاختصاص في صورة التعاقب المتقدّم في التأثير، و إن كان المناط هو الأسبقيّة في التأثير فلا مجال لإطلاق القول باشتراكهما في الضمان عند اتّفاق السببين من حيث زمان حدوثهما.

أقول: الظاهر أنّه استشكل- دام ظلّه- (4) على العبارة هكذا، و لكن الظاهر أنّ مرادهما من «اتّفقا» هو اتّفاق السببين في التأثير بلا أن يكون أحدهما مقدّما


1- في المصدر: لاشتغاله بالضمان.
2- مسالك الإفهام: 12/ 164.
3- تذكرة الفقهاء: 2/ 374 ط. ق.
4- الظاهر أنّ استشكاله في العبارة هو ما ذكرنا. «منه رحمه اللّه».

ص: 570

على الآخر، و لذلك حكما باشتراكهما في الضمان، و من التعاقب أيضا التعاقب في التأثير، و لذا أشرنا باختصاص الضمان بالمتقدّم تأثيرا، و الشاهد على ذلك هو استدلالهما بعد ذلك بما يؤيّد ما ذكرنا.

و عليه؛ لا إشكال في العبارة و إن لم يخل أصل ما فرضنا من إشكال، و كأنّه يستظهر من هذه العبارة في ذيل ما نقلنا و هو قوله: (فالضمان على المتقدّم في التأثير) كون المراد من الاتّفاق و التعاقب في كلامهما إنّما هما من حيث الزمان، فيستشكل عليهما، فتأمّل!

و أمّا حكم أصل المسألة؛ فقد يحتمل أن يكون الضمان على مسبّب السبب الأوّل، و هو واضع الحجر في المثال، لأنّه و إن كان الوقوع في البئر أيضا سببا للهلاك فموجد البئر أيضا دخيل في الوقوع و الهلكة، إلّا أنّه لمّا كانت السببيّة الثانية مستندة إلى الاولى، بحيث لو لم يكن الحجر الموجب للعثور لما يتحقّق الوقوع في البئر الموجب للعطب، ففي الحقيقة التلف مستند إلى السبب الأوّل فهو ضامن.

و قد يحتمل ضعيفا أن يكون الضمان على السبب الثاني- الّذي هو البئر في المثال- لأنّ العثور و إن أوجب الوقوع في البئر إلّا أنّه لمّا كان منشأ التلف هو الحركة المتحقّقة من أوّل العثور إلى الوقوع تحت البئر، و الهلكة إنّما تقع حين الوقوع في البئر و القرار فيه، فهو الجزء الأخير للعلّة التامّة، و من المعلوم أنّ الشي ء يستند إلى الجزء الأخير من علّته، ففي الحقيقة البئر أوجب العطب، و لذلك يستقرّ الضمان على حافره.

و لكنّ التحقيق؛ يقتضي الاشتراك في الضمان، ضرورة أنّه بعد أن عرفت

ص: 571

كيفيّة تأثير كلّ من السببين في التلف، بمعنى أنّه لو لم يكن الحجر موضوعا لم يتحقّق الوقوع، و كذلك لو لم يكن البئر لم يكن العثور موجبا للعطب فيصير كلّ من أجزاء العلّة من قبيل المعدّات، و لا شبهة أنّه في المعدّات يكون المعلول المترتّب عليها مستندا بالجامع بينها، و لا يلاحظ تقدّم وجود بعضها خارجا حتّى يستند لتقدّمها كذلك إليها المعلول، و كذلك بالنسبة إلى الأخيرة.

ففي المقام؛ لمّا كان في الحقيقة سبب الوقوع في البئر، و كذلك العثور هو حركة العابر و سيره من الجانب الّذي هما واقعان فيه، فالسبب الحقيقي للتلف هو نفس الحركة المتحقّقة من حين ابتداء العثور إلى الوقوع في البئر المستندة هذه الحركة إلى اختيار العابر، إلّا أنّه لمّا كان مطلق الحركة لا يوجب الهلكة، بل إنّما الموجب لها هو الحركة الخاصّة المكيّفة بكيفيّة الوقوع في البئر، و الموجب لصيرورة الحركة المطلقة هذه الحركة الخاصّة المتلفة هو كون الحجر في طريقه و هكذا البئر، فالحجر الموجب للعثور و البئر المحفور هما شرطان بالنسبة إلى التلف و مقتضيان لتحقّق هذه الحركة، و لا ترجيح لأحد الشرطين على الآخر، بل هما متساويان في التأثير، فيكون الجامع بينهما هو شرطا و مقتضيا، فسببيّة السبب مستندة إلى هذا الجامع و لذلك يسمّى الشرطان بالسبب، فتصير نتيجة ذلك هو اشتراك الحافر و واضع الحجر في الضمان، لما اتّضح من تساوي العثور و الوقوع في صدق تسببيّة الإتلاف بهما.

ثمّ إنّه؛ بعد أن انقدح ممّا ذكرنا اشتراك السببين في الضمان- كما قوّاه صاحب «الجواهر» قدّس سرّه (1) أيضا- فلا بدّ من البحث في كيفيّة الاشتراك، هل يكون


1- جواهر الكلام: 37/ 56.

ص: 572

كلّ منهما ضامنا للتالف مستقلا، أو يشتركان في تضمّنهما بشي ء واحد شخصيّا (1) أم بدلا كليّا للتالف؟

و الأقوى الأخير؛ لعدم مقتض لغيره، أمّا استقلالهما في الضمان فلأنّه تابع للاستقلال في الإتلاف، و قد عرفت أنّهما محدثان للجامع بين مقتضي السببيّة، فالجامع هاهنا يكون سببا بعد عدم تعقّل استقلالهما في التأثير، فلا دليل و لا موجب لاستقلالهما في الضمان.

و أمّا عدم ضمانهما لشخص التالف فلأنّه قد التزمنا بذلك في باب اليد- خلافا للمشهور- و اعتبرنا وجودا اعتباريّا على اليد، لما كان يقتضيه ظاهر قاعدة اليد، و أمّا في باب الإتلاف فلا داعي لذلك، مع أنّه لا منشأ لانتزاع ذلك الوجود الاعتباري في المقام، بل هنا حسب ما تقتضيه القضيّة التعليقيّة الّتي هي معنى الضمان في باب الإتلاف- كما فهمها الأصحاب من لفظ الضمان- هو اشتغال ذمّة بكلّي في الذمّة بدلا عن التالف عند التلف، إلّا أنّه إذا كان المتلف لمال الغير شخصا واحدا فتكون ذمّته منفردا مشغولة بذلك الكلّي، و إذا كان التلف من شخصين أو أزيد ناشئا فذمّتهم مجموعا مشغولة بذاك الكلّي، فظهر من ذلك عدم دليل للاحتمال الثاني أيضا، فيتعيّن الثالث.

هذا؛ و لكن ما أفاده- دام ظلّه- بعد لا يخلو عن تأمّل، أمّا في أصل المسألة؛ فلأنّه لمّا كان تأثير السبب الثاني ناشئا عن تأثير الأوّل بحيث تستند شرطيّة البئر للتلف إلى تحقّق شرطيّة العثور، فالعرف يرى العثور بنفسه سببا تامّا لإسنادهم الشي ء إلى السبب الأوّل، و لا يرونهما من قبيل المعدّات، فالحقّ هو ما


1- حسب ما قلنا في قاعدة اليد، «منه رحمه اللّه».

ص: 573

أفتى به العلّامة في «التذكرة» و كذلك غيره (1).

و أمّا في كيفيّة الضمان؛ فلأنّ ظاهر القاعدة المسلّمة المستفادة من أخبار الأئمّة عليهم السّلام و هي «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (2) لرجوع ضمير «له» إلى المال المتلف يقتضي هنا أيضا اعتبار وجود للعين على العهدة، و اشتغال الذمّة بنفس العين كان تقتضيه لفظة «ما الموصولة» و غيرها في قاعدة «على اليد»، فما وجه الفرق (3) بين المقامين؟ فتأمّل!

الصورة الرابعة: و هي ما لو اجتمع السببان، و لكن بحيث يكون سببيّة الثانية مستندة إلى الاولى، و بمعنى أنّه لم يكن السبب الثاني الّذي هو مباشر الإتلاف مصداقا للسبب بالمعنى الّذي قلنا، بأن يكون التلف مستندا إلى اختياره، بل كان لاختيار الغير في وقوع التلف تمام التأثير، بحيث يكون اختيار الثاني تحت اختياره إمّا بإجباره إيّاه أو بإغفاله، ففي الحقيقة يكون ذلك من اجتماع السبب و المباشر.

و تفصيل القول في ذلك: أمّا في الإغفال المسمّى بالغرور ففي ضمان الغارّ أو المغرور أو كليهما احتمالات (4)، و لا يخفى أوّلا أنّ المغرور على قسمين؛ لأنّه إمّا أن يكون مغرورا في إتلاف مال الغير أو في إتلاف مال نفسه.


1- تذكرة الفقهاء: 2/ 374 ط. ق، جواهر الكلام: 37/ 56.
2- جواهر الكلام: 37/ 60، انظر! القواعد الفقهية: 2/ 28.
3- و أمّا الضمان فحقيقته معنى اعتباري تابع لكيفيّة اعتباره و منشأ انتزاعه، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».
4- و قد ذكر في «الشرائع» بعد عدّة فروع في مسألة بدل الحيلولة جواز الرجوع للمالك إلى كليهما و عليه المشهور، بل على ما يظهر من «الجواهر» إجماعيّة و ارتضاه- دام ظلّه- أيضا فتأمّل «منه رحمه اللّه» (شرائع الإسلام: 3/ 245 و 246، جواهر الكلام: 37/ 57 و 58).

ص: 574

أمّا في الأوّل؛ فأقوى الاحتمالات على حسب ما تقتضيه القاعدة هو الاحتمال الثاني.

بيان ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ المغرور اختياره بالنسبة إلى نفس الفعل المتحقّق به ذات التلف تامّ، و ليس من هذه الجهة نقص في إرادة المباشر المغرور.

نعم؛ إرادته بالنسبة إلى عنوان مال الغير ناقصة، بمعنى أنّه من هذه الجهة ليس له اختيارها، بل مقهور للغارّ فيصدق على فعله إتلاف المال، و إن لم يصدق عنوان كونه مال الغير، و يكفي الأوّل في استناد التلف إلى المغرور، فيصير ضامنا للمالك، ضرورة أنّ الضمان ليس معلّقا على الإتلاف المقيّد بكون المتلف مالا للغير، بل الإتلاف في ظرف كونه كذلك- أي مالا للغير يوجب الضمان، و لذلك يضمن النائم و الساهي- يوجب الضمان، فتأمّل!

نعم؛ لمّا يصدق الإتلاف على فعل الغارّ أيضا بحيث يستند الإتلاف إلى من قدّم طعاما للغير عند إنسان و أمره بأكله بعنوان كونه مالا لنفسه، فيرى العرف المقدّم ضامنا أيضا مع كون إرادته بالنسبة إلى الآكل أتمّ، بمعنى أنّه يصدق على فعل الآكل- كما بيّنا- إتلاف المال فقط، و لكن يصدق على فعل الغارّ المقدّم إتلاف مال الغير، فمن هذه الجهة إرادته أيضا موجودة، كما بالنسبة إلى ذات الإتلاف متحقّقة، فلتماميّة إرادته بالنسبة إلى المغرور- حتّى لا يكون له اختيار من هذه الجهة أصلا، بل هو مقهور صرف للغارّ- فللمغرور الرجوع إلى الغارّ.

أقول: و لمّا لم يخل هذا البيان عن النظر، و لعلّه لذلك عدل- دام ظلّه- عن ذلك إلى بيان آخر، و هو أنّه لا إشكال أنّ الإرادة إذا توجّهت إلى فعل يكون

ص: 575

الغرض إيجاد مادّة هذا الفعل، فإذا توجّهت الإرادة إلى التلف فيكون الغرض إيجاد هذه المادّة في الخارج، فلذلك يسند الفعل إلى مريد هذا الفعل إذا أوجده، و كذلك إذا تعلّقت الإرادة بالإتلاف فلمّا يكون الغرض إيجاد ذلك فيقال: إنّه أوجد الإتلاف، فكذلك يستند إيجاده إلى مريده أنّه أوجد الإتلاف بعد تحقّق المادّة في الخارج.

إذا تبيّن ذلك فنقول: إنّ المغرور إذا توجّهت إرادته إلى أكل مال الغير فأكله بأمر الغارّ، فلمّا يصدق على فعله ذلك إتلاف مال الغير، فيصير ضامنا لصاحب المال (1)، و كذلك الغارّ بعد أمر المغرور على أكل المال و إغراره فيه، لما يصدق على عمله أنّه أوجد الإتلاف، فالخسارة الّتي تتوجّه على المغرور لتضمين صاحب المال إيّاه أوجبها الغارّ، و لذلك يجب عليه تدارك خسارته، فكما أنّ المغرور أتلف مال الغير فكذلك الغارّ أتلف مال المغرور فيضمن ما يعطيه بالمالك، فيرجع إلى الغارّ بعد أدائه.

فانقدح من ذلك؛ أنّ المتلف لمال الغير حقيقة إنّما هو المغرور، و لذلك ليس لصاحب المال الرجوع إلى غيره، و الغارّ إنّما هو متلف لمال المغرور، و هو ما يؤدّيه عوضا عمّا أتلف، فتتوجّه عليه الخسارة، و لذلك ليس له الرجوع إلى الغارّ قبل أدائه شيئا، ففي الحقيقة ما يعطيه الغارّ إنّما هو غرامة عمّا أوجب فواته عن المغرور لا أن يكون هو ضامنا لصاحب المال.

فظهر أنّ ما يستفاد من النصّ بدلالة الالتزام، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «المغرور يرجع


1- فليس اختيار المغرور في ما فعل بالنسبة إلى اختيار الغارّ كلا اختيار، فتكون إرادته تحت إرادته الّذي كان ذلك ملاكا لصحّة سلب الإتلاف عن فعل المباشر و استناده إلى السبب، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».

ص: 576

إلى من غرّ» (1) من إثبات رجوع حقّ للمالك إلى المغرور إنّما هو موافق لما تقتضيه القاعدة.

و تبيّن ممّا ذكرنا حكم الصورة الثانية؛ و هي أن يصير مغرورا في إتلاف مال نفسه فإنّه يجري هنا أيضا ما بيّناه في ما تقدّم إذا كان مباشرته لإتلاف مال نفسه بأكله أو غيره تحت اختيار السبب الأوّل، و هو الغارّ فلمّا يستند الإتلاف إليه فيصير ضامنا للمغرور.

ضمان المكره و عدمه

و أمّا الثاني؛ و هو ما إذا كان السبب الثاني الّذي هو المباشر مكرها، فالكلام فيه في مقامين:

الأوّل: في الحكم التكليفي له؛ قد أشرنا عند بيان قاعدة «لا ضرر» أنّ الرافع للحكم التكليفي في باب المحرّمات ليس إلّا قاعدة الحرج، فهي إذا صدقت يرتفع التكليف و يجوز ارتكاب المحرّمات، و لا إشكال أنّ مسألتنا- و هو إتلاف مال الغير- إنّما هي أيضا من المحرّمات، فارتفاع الحرمة عن عمل المكره إنّما يتوقّف على أن يكون المكره عليه حرجيّا، بأن يترتّب على تركه الضرر الحالي أو العرضي على المكره لا مطلق الضرر ما لم يصل إلى حدّ الحرج، هذا بالنسبة إلى المكره و عمله.

و أمّا بالنسبة إلى المكره- بالكسر- فالتحقيق أنّه لا يتوقّف كون فعله و إكراهه حراما على كون المتوعّد عليه أمرا حرجيّا، بل يكون فعله حراما مطلقا،


1- النهاية لابن الأثير: 3/ 356، القواعد الفقهيّة: 1/ 270.

ص: 577

و لو لم يوجب إكراهه و إلزامه عند ترك المكره- بالفتح- إلّا توجّه الضرر اليسير عليه، و لو بأن يكون شاغلا على عمل غير قابل الآن رفع اليد عنه من غير أن يترتّب على رفع يده عنه ضررا عليه، بل أوجب ذلك صدور الفعل المكره عليه عنه عن كره فقط.

و بالجملة؛ فمناط كلّ من الحكم الوضعي و التكليفي في المقام مختلف، فلا إشكال في أنّ إلزام الغير على إصداره فعلا بغير رضاه لا عن طيب نفسه حرام و لو لم يقع بتركه ذلك في أمر حرجيّ، و لكن هذا المقدار من الإكراه لا يوجب ارتفاع الحكم الوضعي- و هو الضمان- عن المكره، و جعله على عهدة المكره- بالكسر- لما هو المحقّق من أنّ أدلّة الحرج هي الّتي تكون حاكما على أدلّة المحرّمات.

و لكن في المقام هذه القاعدة أيضا لا تثمر بالنسبة إلى رفع الضمان عن المكره- بالفتح- و ذلك لأنّه قد أوضحنا سابقا أنّ القواعد الّتي وردت في مقام الامتنان مثل قاعدة الحرج، و كذلك قاعدة السلطنة و غيرها لا يتقدّم أحدها على الاخرى، و لذلك لا ترتفع و لا تسقط سلطنة المالك عن ماله المستتبعة لسلطنته على متلفه و هو المكره، لكون تركه التلف يوجب وقوعه في الأمر الحرجي.

نعم؛ قد أشرنا أنّه يسقط الحكم التكليفي عنه لحكومة أدلّة الحرج على الأحكام التكليفيّة، و أمّا ضمانه فقد ظهر أنّه لإتلافه ثابت، و على حسب القاعدة ليس للمالك الرجوع إلى غيره لكونه باختياره أتلف مال الغير، و يصح نسبة الإتلاف إليه، فالحكم بضمان المكره- بالكسر- أو المكره في المقام تابع لصدق نسبة الإتلاف إليهما، فعلى أيّ منهما صدق نسبة الإتلاف فهو ضامن، و إلّا

ص: 578

فقاعدة الحرج و نحوها لا تعارض الضمان المسبّب عن سلطنة المالك على ماله و متلفه، و لا إشكال أنّ النسبة بين صدق الحرج و صدق الإتلاف في مورد المكره عموما من وجه، لأنّه ربّما يصدق الحرج بلا صدق الإتلاف، كما إذا أوعد المكره على أمر يكون ضررا عليه من ضرر حالي و غيره، و لكن لا يصحّ سلب نسبة إتلاف المال عنه بمعنى أن يصدر الفعل عنه عن اختيار.

و لا يتوهّم أنّ المكره مطلقا لا يكون مختارا في الإتلاف و إنّما اختياره يكون تحت إرادة الغير و هو المكره- بالكسر- فمطلقا هو غير مختار في الإتلاف سواء كان المتوعّد عليه ضرريّا أم حرجيّا أو فوقهما.

و دفع ذلك هو أنّه لا خفاء أنّ صدق نسبة الإتلاف و صحّته دائر مدار صدور الفعل عن قصد و إرادة، و من المعلوم أنّ إيعاد المكره على إتلافه مال الغير لا يوجب ذلك سلب الإرادة عنه مطلقا، و لو كانت إرادته تحت إرادة الغير، و ذلك لأنّه بيّنا في محلّه أنّ المكره على أمر لكونه متوعّدا على المكروه إنّما يكون في الحقيقة مكرها على الجامع بين المكره عليه و المتوعّد عليه، بحيث يكون كلّ واحد منهما في ظرف عدم الآخر تحت طلب المكره و إرادته، فكلّ منهما بخصوصيّته يكون تحت إرادة المكره- بالفتح- و اختياره، فإذا اختار المكره عليه لما كان بخصوصيّة تحت إرادته و اختياره، و لذلك تصحّ نسبة إتلاف المال إليه (1).

فإذا صدق ذلك و إن كان لو لم يفعل ذلك ليقع في الضرر و الحرج، فمقتضى


1- و بذلك صحّحنا معاملة مكره و قلنا بأنّ الالتزام بصحّته عند الإجازة هو الموافق للقاعدة، لا العكس، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».

ص: 579

القاعدة الحكم بضمانه خاصّة دون المكره، بعد ما عرفت من عدم منع قاعدة الحرج عن جريان قاعدة السلطنة.

و قد تصدق نسبة الإتلاف إليه بلا لزوم الحرج عليه عند تركه الإتلاف، و هو كما إذا كان المكره مسلوب الإرادة في الفعل حتّى في اختياره الخصوصيّة، و هذا الّذي نحكم بضمان المكره- بالكسر- و نلتزم به على حسب القاعدة، سواء صدق الحرج أم لا، و قد لا يصدق الحرج و لا الإتلاف، و هو ما لو كان المتوعّد عليه أمرا ضرريّا مطلقا بلا وصوله إلى حدّ الحرج، و هنا و في الصورة الاولى لا مقتضي لضمان المكره- بالكسر- بل على القاعدة إنّما يكون ضمان التلف على المكره بالفتح.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ ما أضاف في «المسالك» هنا في صدق الإكراه زائدا على ما يعتبرون في صدقه في سائر المقامات من كون الضرر المتوعّد عليه حاليّا إنّما يقيّد ذلك (1)، بالنسبة إلى رفع الحكم التكليفي عن المكره، و إلّا فبالنسبة إلى الضمان و رفعه فلا يثمر شيئا، فالتحقيق في المقام هو الحكم بضمان المكره- بالفتح- على حسب القاعدة دون المكره، كما أفاده في «الجواهر» و قال: إنّ مقتضى القاعدة ضمان المكره- بالفتح- دون المكره إلّا أن يمنع من ذلك انعقاد الإجماع على الخلاف، فإن تحقّق فهو المحكم.

نعم؛ يمكن جريان ما ذكرنا في وجه ضمان الغارّ هنا أيضا، و عليه فيتمّ ضمان المكره- بالكسر- لما أوجب بإكرامه إتلاف مال المكره على القاعدة. قد ذكر الأصحاب ميزان صدق الإكراه في كتاب الطلاق، و اشترطوا فيه شرائط


1- مسالك الإفهام: 12/ 165.

ص: 580

ثلاثة و أشار إليها شيخنا قدّس سرّه في «المكاسب» عند ذكر شرائط صحّة البيع أيضا (1)، و الفرق بين الإكراه و الاضطرار هو أنّ الثاني يكون من الدواعي غالبا، و لذلك لا يجري دليل رفع الاضطرار في المعاملات؛ لعدم خلوّها عن الدواعي الاضطراريّة غالبا مع عدم المدخليّة للدواعي في المعاملات، و لكن تجري في التكاليف.

و أمّا الأوّل و هو الإكراه فهو إلزام على نفس الفعل، و لذلك لمّا يخرج الفعل عن الاختيار فيسقط عن المؤثريّة، فهو يجري في المعاملات و التكاليف كليهما، و إن كان يختلف من بعض الجهات، كما أشرنا إليه.

و لو أرسل في ملكه ماء فأغرق .. إلى آخره.

هنا صور، لأنّ إرسال الماء و تأجيج النار إمّا أن يكون للحاجة و لم يتجاوز عن حدّها، أو لم يكن كذلك، و في كلتا الصورتين إمّا أن يكون المالك- أي مرسل الماء و غيره- عالما بالتعدّي، أو ظانّا به، أو لم يكن كذلك، و الحكم الجامع لجميع الصور هو أنّ الضمان لتلف مال الغير المسبّب عن إرسال الماء في ملك نفسه أو تأجيج النار فيه تابع لصدق الإتلاف، و لا يختلف في ذلك تجاوز إرسال الماء عن قدر الحاجة و عدمه، و لا العلم أو الظنّ بسببيّة ذلك للتلف و لا عدمهما، و ذلك لما بيّنا سابقا من أنّ الضمان الحاصل بسبب الإتلاف ليس تابعا للعلم، بل هو من الأحكام الوضعيّة الثابتة، و لو في ظرف جهل مسبّب التلف، و كذلك لا تمنع قاعدة «السلطنة» عن الضمان أيضا فيما إذا لم يتجاوز الماء أو النار عن قدر الحاجة فأوجب مع ذلك تلف مال الغير؛ لأنّه قد تحقّق في السلف


1- المكاسب: 3/ 327.

ص: 581

أيضا أنّ الناس مسلّطون على أموالهم ما لم يوجب سلطنتهم و تصرّفهم فيها تلف مال الغير، فيمنع عن سلطنته على ماله الموجب لتضمينه متلف ماله.

و بالجملة إتلاف مال الغير و لو انطبق على حفظ مال نفسه، موجب للضمان، و قاعدة السلطنة ليست قابلة أن تمنع عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم!

ثمّ إنّ بعد ذلك ذكر فروعا في «الشرائع» تعرّضنا لجلّها في أوّل الباب، و لعلّه في طيّ المباحث الآتية يأتي ما ينتفع [به] و يرتبط بهذه الفروع (1) إن شاء اللّه أيضا حتّى يفي ببعض ما لم نتعرّضه لوضوحه.

ردّ المغصوب

الجهة الثالثة من البحث: هي البحث عن وجوب إرجاع المال المغصوب لصاحبه عينا و عدم انقطاع سلطنة المالك عن عين ماله بتصرّف الغاصب فيه، و لا يخفى أنّه يتصوّر لهذه المسألة صور:

الاولى: أن لا يكون ردّ العين المغصوبة مستلزما لضرر على الغاصب أو غيره.

الثانية: أن يكون مستلزما لذلك، و هذا يكون على وجوه؛ لأنّ المتضرّر إمّا أن يكون هو الغاصب أو غيره، و الغير إمّا أن يكون معيّنا للغاصب أو لم يكن كذلك، و الضرر المتوجّه إمّا نفسيّ أو مالي، و الضرر المالي إمّا أن يكون بنحو يستلزم تخليص العين المغصوبة؛ سقوط المال المزاحم للتخليص عن الماليّة رأسا، و هذا كالخشبة المغصوبة الموضوعة تحت بناء و جدار بنيا من الطين


1- من حيث المبنى وجهة السببيّة و غيرها، «منه رحمه اللّه».

ص: 582

و الجصّ، فإنّه بعد تخريب مثل هذا الجدار لتخليص الخشبة لا يبقى للتراب المجتمع و كذلك الجصّ قيمة و ماليّة، أو لم يكن كذلك، مثل ما لو كان البناء من الحجر و الآجرّ أو كالسفينة، و في كلّ منها إمّا أن يكون الغاصب عالما بالغصب أو لم يكن كذلك.

أمّا الكلام في الأوّل- و هو ما لو لم يكن ردّ العين مستلزما للضرر لكون العين باقية على حالها- فلا شبهة في وجوب الردّ في هذه الصورة، و كذلك فيما إذا كان مستلزما للضرر على الغاصب، سواء كان عالما بالغصب أو جاهلا، و كان حين التصرّف في المغصوب و وضعه تحت البناء- مثلا- في الواقع غاصبا و غير ذي حقّ.

و الدليل على ذلك هو أنّه لا إشكال في أنّ البناء على المغصوب حرام؛ لكونه تصرّفا في مال الغير، فإذا صار أصل البناء حراما فليس له احترام، فإذا لم يبق للبناء حرمة فليس شي ء يزاحم مع سلطنة المالك و صاحب العين المغصوبة المبنيّ عليها، فهو بمقتضى سلطنته على ماله يطالب ماله، و له أن يأخذه بأيّ نحو كان، و لا يبقى للغاصب سلطنة على بنائه حتّى يمنع بذلك مالك العين و يلزمه بأخذ القيمة كما توهّمه أبو حنيفة (1) لأنّ السلطنة فرع لالتزام المال، بل يجب على الغاصب تخريب بنائه مقدّمة لردّ العين، و لا فرق في ذلك بين الجاهل و العالم.

ضرورة أنّ الضمان و كذلك غيره من الأحكام الوضعيّة ليس دائرا مدار العلم و الجهل، بل هو تابع للحقّ الواقعي و عدمه، و لا مدخليّة للعلم و الجهل في باب الضمان أصلا.


1- بداية المجتهد: 2/ 317.

ص: 583

هذا ما تقتضيه القاعدة، و النصّ أيضا مطابق معها، و هو قوله عليه السّلام: «ليس لعرق ظالم حقّ» (1) و كذلك قوله عليه السّلام: «الحجر المغصوب رهن [على خرابها]» (2) و من المعلوم أنّ المراد من الظالم المعناه الواقعي، أي غير ذي حقّ، لا أن يكون المراد به المأخوذ فيه العدوان الملازم لكون العادي عالما بعدم كونه ذا حقّ فتأمّل!

و لا يتوهّم أنّ الدليل في المقام إنّما هو قاعدة الإقدام حتّى يمنع جريانها في صورة الجهل؛ لأنّ أصل جريان قاعدة الإقدام في ما نحن فيه دوريّ.

ضرورة؛ أنّ صدق هذا العنوان و إقدام الغاصب على ضرره موقوف على أن يكون مالك العين المغصوبة مسلّطا على تخريب بنائه، و ذا حقّ بالنسبة على خرابه، و إثبات هذا الحقّ له بقاعدة الإقدام يلزم منه الدور كما لا يخفى، فلا يجوز التمسّك بقاعدة الإقدام في المقام أصلا.

هذا إذا كان حين الإحداث غير ذي حقّ، أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان عند إحداثه البناء ذا حقّ ثمّ انقطع حقّه كما إذا اشترى أحجارا بالبيع الخياري، ثمّ بنى عليها ففسخ بائعها فهاهنا لمّا لم يكن بالنسبة إلى الحدوث غاصبا و لكن من حيث الإبقاء و البقاء يصدق عليه الغصبيّة بصيرورة الأحجار المبنيّ عليها بعد الفسخ ملكا و متعلّقا لحقّ الغير، فإبقاء البناء عليها يكون إبقاء في مال الغير (3).

فيدخل هذه الصورة في باب تزاحم الحقوق، و هذا بحث سيّال في جملة من أبواب الفقه، و قد ذكرنا جملة من الكلام في ذلك في باب البيع عند البحث


1- وسائل الشيعة: 25/ 388 الحديث 32194.
2- وسائل الشيعة: 25/ 386 الحديث 32191، و فيه: الحجر الغصب في الدار.
3- مع أنّ إحداثه كان عن حقّ و لم يكن فيه عدوان و تخريب في مال الغير «منه رحمه اللّه».

ص: 584

عن خيار الغبن، و نزيد هنا توضيحا بقدر ما يناسب المقام، و هو أنّه لا إشكال في أنّ صاحب البناء الّذي يصدق عليه الغاصب فعلا في نفس إبقاء بنائه، لمّا كان أساسه مالا للغير يصدق عليه أنّه متصرّف في مال الغير.

ضرورة أنّه ليس حقّه من حيث البناء إلّا هذه الهيئة الثابتة على القضاء القائم بنيانه على مال الغير، و كونه في القضاء و إن لم يكن بهذه الحيثيّة متعلّقا لحقّ غير الباني، بل مال لنفسه، و لكنّه لمّا كان جزؤه المتّصل بالأرض بتوسّط الحجر المغصوب- حيث هذا الجزء من هيئة البناء الّذي هو حصّة من الهيئة متعدّ فعلا- و صاحب البناء غاصب بهذه الحيثيّة. و المفروض؛ أنّ كون باقي أجزائه على الهواء لا يثمر في بقائه بعد تفريق هذا الجزء منه، فلمّا يصدق لذلك أنّ أصل كينونيّة هذا البناء بروز الهيئة ثابتة في مال الغير، فإمّا يكون لهذه الهيئة احترام، لأنّ احترام المال و الماليّة إنّما هو باق ما دام لم يكن في مال الغير، فيصير المقام من قبيل ما لو فرض أن تكون أرض ملكا لأحد و هواؤه للآخر، فصاحب الهواء بنى في هذه الأرض بلا إذن صاحبه، لأنّه لا فرق في هذه الجهة بين الإحداث و الإبقاء فكما أنّ البناء حدوثا في مال الغير يكون غصبا و لا احترام لهذا البناء و الهيئة الكائنة، كذلك لو كان عند الحدوث مأذونا فيه فانقطع الإذن بعده، فبالنسبة إلى ما بعد الانقطاع و هو بقاؤه، فلمّا يصدق الغصب، فلا احترام له أيضا بالنسبة إلى تصرّف صاحب البناء.

و أمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر و تصرّفه بتخليص حجره فليس في تخليصه و إخراجه حجره بعين هذا التخليص متصرّفا في مال الغير كما كان في الأوّل، فإنّه بنفس الإبقاء كان متصرّفا في مال الغير فكان إبقاء ماله مع تصرّفه في

ص: 585

مال الغير متّحدا وجودا، و أمّا صاحب الحجر فليس كذلك، بل إخراجه حجره تصرّف في مال نفسه.

نعم؛ تصرّفه هذا مستلزم للتصرّف في مال الغير و هو الهيئة البنائيّة، و لكنّه ظهر أنّه لا احترام لهذه الهيئة في الرتبة السابقة على تخليصه ماله، فإذا يتصرّف صاحب الحجر في ماله فتصرّفه ذلك مستلزم لتصرّفه في مال الغير الساقط عن الاحترام في الرتبة السابقة على تصرّف المغصوب منه في حجره.

تزاحم الحقوق

إذا تمّ ذلك و انكشف موضوع الحقّين المتزاحمين فنقول: إنّه ليس لنا قاعدة بمئونتها ترتفع الغائلة و يرجّح أحد المتزاحمين على الآخر الّذي هو الموجب لوقوع التزاحم أيضا سوى قاعدة تسلّط الناس على أموالهم، و لا إشكال أنّ تطبيق هذه القاعدة على مال صاحب البناء دوريّ.

بيان ذلك: أنّ سلطنته على ماله موقوف على عدم احترام الحجر القائم عليه البناء، و عدم احترامه موقوف على عدم السلطنة لصاحبه عليه، و نفي سلطنة صاحب الحجر على ماله و سقوط سلطنته لا بدّ أن يثبت من الخارج، و لا يعقل أن يثبت عدم سلطنته بسلطنة صاحب البناء على هيئة بنائه؛ لأنّ إثبات أحد النقيضين بالآخر دور، كما لا يخفى، و لمّا لم يكن في الخارج أيضا دليل على سقوط سلطنته فتثبت سلطنته، فإذا ثبتت سلطنته هذه فتسقط سلطنة صاحب البناء إذا لم يكن دليل يثبت سلطنته، و أمّا تطبيق أصل القاعدة- و قد عرفت- على سلطنته دوريّ، هذا بالنسبة إلى صاحب البناء.

ص: 586

و أمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر فلا مانع من تطبيق القاعدة عليه، ضرورة أنّ سلطنته على ماله و إن كانت موقوفة على عدم احترام مال صاحب البناء، إلّا أنّ عدم احترامه قد يثبت في الرتبة السابقة بسبب كون البناء في مال الغير، فلا يتوقّف إثبات سلطنة صاحب الحجر على إسقاط سلطنة صاحب البناء، بل لمّا كانت سلطنته على ماله ساقطة سابقا لسقوط احترامه، فتصرّف صاحب الحجر لتخليص ماله من مال الغير يقع حين سقوط سلطنة الغير من الخارج، لما سنشير من أنّ إثبات سلطنة الشخص على مال نفسه لا يوجب و لا يقتضي حفظه الناشئ من قبل سلطنته عليه أن يتصرّف في مال الغير لحفظ ماله، بل إنّما يوجب حرمة تصرّف الغير في هذا المال، و المفروض أنّ مال صاحب البناء سقط عن الحرمة، فانتفى بذلك ما كان يقتضي حرمة تصرّف صاحب الحجر فيه لو لا سقوطه عن الاحترام.

و بالجملة؛ لمّا كان جواز تصرّف صاحب البناء في بنائه بإبقائه مقرونا بالمانع عينا بخلاف صاحب الحجر، فيصير المقام بالنسبة إلى القاعدة الّتي هي المرجع- و هي «الناس مسلّطون» (1) .. إلى آخره- من باب دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص، لما عرفت من أنّ هذه القاعدة بالنسبة إلى صاحب البناء بعد سقوط احترام ماله، فلا مقتضي لجريانها؛ لأنّ موضوع هذه القاعدة إنّما هو المال المحترم، و أمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر فالمقتضي لجريانها تامّ لبقاء الموضوع، و إنّما المانع المتصوّر أن يخصّص سلطنته بسلطنة صاحب البناء، و من المعلوم أنّه عند دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص؛ الثاني متعيّن.


1- عوالي اللآلي: 1/ 222 الحديث 99.

ص: 587

فانقدح ممّا ذكرنا؛ أنّ حكم الغاصب العرضي- أي من لم يكن غاصبا ابتداءً عند إحداث تصرّفه- حكم الغاصب الابتدائي، فيجوز للمغصوب منه أن يتصرّف في ماله كيف شاء، و لا يزاحم تصرّفه الحقّ السابق للغاصب.

و ببيان آخر: يكون المقام من باب دوران الأمر بين تأثير المقتضي التنجيزي و التعليقي، ضرورة أنّ اقتضاء القاعدة و سلطنة صاحب الحجر على ماله تنجيزيّ، بعد أن كان تصرّفه و سلطنته على ماله المستلزم للتصرّف في مال الغير مالا لا احترام له، فاقتضاء سلطنته تامّ، و أمّا تصرّف صاحب البناء في ماله الّذي هو عين تصرّفه في مال الغير إنّما يثبت إذا لم يكن صاحب الحجر سلطانا على ماله، فتصير سلطنته معلّقة، و لا ريب أنّ المقتضي التعليقي لا يمكن أن يزاحم التنجيزي فيمنعه عن تأثيره.

هذا؛ و لقد أجاد- دام ظلّه- في ما أفاد في بيان سرّ المسألة، و أصل فتواه في المسألة مطابق لفتوى الأصحاب أيضا، و لكنّ العمدة في تماميّة كلا البيانين هي ما ذكرنا من المقدّمة، و هي كون تصرّف صاحب البناء في ماله عين تصرّفه في مال الغير، بخلاف تصرّف صاحب الحجر فهو ليس كذلك، بل هو مستلزم للتصرّف في مال الغير، و أنت خبير بأنّ مجال المنع لهذه المقدّمة [واسع]، و قد أشرنا إلى ذلك في بحث الخيارات.

هذا كلّه؛ بالنسبة إلى جواز تصرّف المغصوب منه في ماله، و لو كان مستلزما للتصرّف في مال الغير المترتّب ذلك على سقوط سلطنة صاحب البناء، و لكن لا يخفى أنّ صاحب البناء لمّا كان في أصل إحداث بنائه فيما يجوز له

ص: 588

الإحداث عن حقّ، و لم يكن عاديا في أصله (1)، فليس كالغاصب الأصلي حتّى


1- قد اضطربت كلمات الأصحاب في نظائر المسألة في أبواب متفرّقة من العارية و الشفعة و الإجارة و الصلح و المفلّس و خيار الغبن، و إن كان ظاهر المشهور على ما في «اللمعة» اللمعة الدمشقيّة: 142 و «الشرائع» شرائع الإسلام: 3/ 247 و «القواعد» قواعد الأحكام: 1/ 206 و غيرها هو جواز الرجوع للمالك، و له إلزام صاحب الشجر و البناء و نحوهما على قلعهما و تخليص الأرض، كما أنّ ظاهر المشهور أيضا أنّ على الملزم الأرش و إن استبعد صاحب «الجواهر» قدّس سرّه جواهر الكلام: 37/ 202 الجمع بين الفتويين، و لقد أفاد قدّس سرّه جواهر الكلام: 26/ 257- 259 في تحقيق المسألة في باب الصلح و مال إلى خلاف ما عليه المشهور، و جعل مسألة الغرس و البناء نظير استعارة الأرض للدفن أو الرهن أو الصلاة، و أنّهما من واد واحد، حيث إنّه كما أنّه ليس له الرجوع بالنسبة إلى الإذن السابق فهكذا كلّ ما هو من آثاره و لوازمه، فراجع و تأمّل! [و] ملخّص ما أفاد في «الجواهر»: هو أنّ الآذن لمّا كان بإذنه أوّلا و إقدامه أدخل نفسه في حكم شرعي فليس له الرجوع بعده، و بهذا التقريب أيضا- على ما ببالي- دفع الإشكال الاستاذ الأعظم النائيني كتاب الصلاة للميرزا النائيني: 2/ 10 في بحث الصلاة في مسألة جواز رجوع المالك الآذن للغير بقراءة الصلاة في ملكه بعد دخوله في الصلاة، و قوّى عدم جواز الرجوع لما ذكرنا، و إن أجاب عن ذلك الاستاذ العراقي- دام ظلّه- عن ذلك حيث نقلنا عنه ما أفاده النائيني- مدّ ظلّه- بأنّ الحكم الشرعي لا يوجب منع صاحب الحقّ و حرمانه عنه، كما يكون كذلك في حقوق الناس، بل الحكم- لو سلّمنا- يوجب الإلزام فقط، و قد أشار إلى ما أفاده- دام ظلّه- شيخنا قدّس سرّه في مكاسبه المكاسب: 2/ 125 في طيّ بحث الاجرة على الواجب و دفع الإشكال عنها، فراجع! هذا مضافا إلى منع دخول المالك في الحكم الشرعي و هو حرمة الإبطال و حرمة النبش و غيرهما بالإذن، لأنّ الحرمة موقوفة على عدم بقاء حقّ الرجوع له، و هو أوّل الكلام، مع أنّه لا إطلاق لدليلهما، كما لا يخفى. اللهمّ إلّا أن يرجع كلام [صاحب] «الجواهر» قدّس سرّه إلى أنّه لمّا كان الإذن في الشي ء إذنا في لوازمه فلذلك ليس للآذن حقّ الرجوع في مسألة الإذن في الصلاة و نحوهما لهذه القاعدة العرفيّة، و هكذا في مسألة العارية للغرس و الرهن و نحوهما، حيث إنّ بناء المتعاملين على بقاء الأرض مشغولة ما دام الشجر باقيا، و هكذا بالنسبة إلى الرهن و الدفن و نظائرهما، كما يكون عكس ذلك في المقامات، مثل مسألة البيع الخياري، فإنّ بناء المتعاملين في مثله بقاء العين إلى انقضاء الخيار و عدم إتلافها أو نقلها بأحد النوافل، فتدبّر و راجع «مصباح الفقيه» للمرحوم المدقّق الهمداني مصباح الفقيه «كتاب الصلاة»: 176 ط. ق، و لقد أفاد في باب الصلاة ماله دخل في المقام، رحمه اللّه و إيّانا، «منه رحمه اللّه».

ص: 589

لا يكون لماليّته احترام أصلا؛ لأنّه إلى حين الفسخ كان ذا حقّ و بعد الفسخ صار غير ذي حقّ، فاحترام أصل ماله باق، نعم لمّا [ثبت] حديث المزاحمة من حين الفسخ و قد رجّحنا طرف صاحب الحجر، و المفروض أنّ المزاحمة ليست إلّا بين شخصيّة البناء و الحجر المملوك للغير الموضوع تحته، لا أن تكون مزاحمة في أصل ماليّته، فتسقط سلطنة صاحب البناء عن شخص بنائه، و تثبت السلطنة لصاحب الحجر على خصوصيّة البناء، و جواز تصرّفه في الخصوصيّة لا في أصل الماليّة، فلذلك إذا خرب البناء لتخليص حجره فعليه أن يتدارك ماليّة بنائه كلّما يكون له الماليّة فعلا، فلو كان لبقائه اعتبار ماليّة اخرى فليس عليه تداركها، لما عرفت من أنّه ليس له من حين الفسخ حقّ الإبقاء كما قالوا ذلك في الأرض المستعارة للغرس، فيرجع صاحب الأرض بعد غرس المستعير و صيرورته شجرا، فبعد بنائهم على ثبوت حقّ القلع للمعير قالوا بأنّ عليه أن يتدارك خسارة صاحب الشجر بأن يردّ إليه تفاوت قيمة الشجر بين كونه ثابتا و كونه مقلوعا.

و بالجملة؛ فلاحظوا حال الفعلي للشجر لا كونه باقيا، و ليس ذلك إلّا لعدم ثبوت حقّ البقاء له بعد رجوع المستعير، فكذلك في ما نحن فيه، فإنّ محلّ الكلام إنّما هو ما إذا كان صاحب البناء إذا حقّ عند إحداث بنائه ثمّ عرضه عنوان الغصبيّة، ثمّ إنّه إن سقطت هيئة البناء عن الماليّة عند إحداث بنائه ثمّ عرضه عنوان الغصبيّة، ثمّ إنّه إن سقطت هيئة البناء عن الماليّة دون مادّته، كما مثّلنا لذلك عند التقسيم، فعلى المغصوب منه أن يتدارك قيمتها فقط، و إن سقطت المادّة كذلك يجب تداركها قيمتها أيضا لو كانت لها قيمة في مقابل الهيئة، و إن كان تخليص

ص: 590

مال الفاسخ يتوقّف على تلف نفس المفسوخ عليه أو غيره فلا يجوز التخليص، بل يجب عليه الإبقاء حتّى لو خلّص ماله، كما لو قلع خشب السفينة في لجّة البحر فتلف المفسوخ عليه أو غيره للغرق و نحوه، فيكون القالع الفاسخ ضامنا، ضرورة أنّه انقطعت سلطنة المفسوخ عليه عن الخشبة فعلا، فلا تزاحم سلطنته المالك الفاسخ إلّا أنّ مسألة حفظ النفس و أهميّته لا ربط له بباب المزاحمة، بل هو واجب في كلّ حال و على كلّ أحد، و لا يزاحمه شي ء من الحقوق و الأموال، بل هو مرجّح على كلّ شي ء، و المفروض أنّ المفسوخ عليه ليس غاصبا أصليّا حتّى يكون باغيا و عاديا فتسقط نفسه عن الاحترام، كما يحتمل أن يقال ذلك في الصورة الآتية، بل هو غاصب عرضا فنفسه و كذلك غيره على الاحترام باق، فيجب على نفسه و كذلك على الفاسخ حفظ نفسه بأيّ نحو كان، و لو أوجب تلف المال بلا إشكال.

و أمّا لو لم يكن الغاصب في الإحداث ذا حقّ، فقد أشرنا إلى جواز تخليص المغصوب منه ماله و لو أوجب تلف مال الغاصب، و أمّا لو استلزم ذلك تلف نفسه فعلى حسب ما تقتضيه قاعدة باب المزاحمة أيضا جواز تخليصه، مع قطع النظر عن مسألة الأهميّة الخارجيّة الثابتة للنفس.

بيان ذلك: إنّ السلطنة الثابتة للناس على نفوسهم بالأولويّة الثابتة على أموالهم أو بغيرها أيضا تكون هذه السلطنة ذات مراتب، كما في السلطنة على الأموال، منها ما لا ينطبق على التصرّف في مال الغير، و منها ما ينطبق، فبهذا الاعتبار أيضا تصير السلطنة على أنفسهم ذات مراتب، فكما قلنا: إنّ الناس مسلّطون على جميع هذه المراتب- أي مراتب أموالهم- إلّا المرتبة الّتي أوجب

ص: 591

التصرّف فيها التصرّف في مال الغير، فإنّه عند ذلك سلطنة الغير على ماله لمّا أوجبت حرمة تصرّف الغير في ماله فلذلك تنقطع سلطنة الشخص على ماله في هذه المرتبة الموجبة للتصرّف في المال المحترم للغير، فكذلك سلطنة الناس على أنفسهم ثابتة حتّى تنتهي إلى التصرّف في المال المحترم للغير، هذا ما تقتضيه قاعدة السلطنة.

تقدّم حفظ نفس الغاصب على الأموال

و أمّا مسألة أهميّة النفوس و تقدّمها على الأموال فنقول: هذه الصورة ليست في الوضوح و جريان قاعدة أهميّة النفوس كالصورة السابقة؛ لأنّ في هذه الصورة لمّا كان الغاصب غاصبا من أوّل الأمر فالقاعدة المعروفة المستفادة من الأخبار- و هي ما وقعت في ألسنة الفقهاء من (أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال) (1) تجري في هذه الصورة دون الصورة السابقة.

فإن قلنا: إنّ المراد بها أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال حتّى حال تلف نفسه، فيجوز هنا للمغصوب منه تخليص ماله و قلع الخشبة من السفينة في المثال المذكور.

و إن قلنا بأنّه ليس المراد بها ذلك، بل المراد بها أنّ الغاصب في ظرف وجود نفسه و بقائه يؤخذ بأشقّ الأحوال حتّى لو أوجب تلف ماله كثيرا، أو وقوع نفسه في التعب لا فيما أوجب تلف نفسه، فليس للمغصوب منه ذلك، بل يجب عليه الصبر حتّى يخلص عن الهلكة، و لا يجوز للغاصب ردّه لكون حفظ نفسه


1- جواهر الكلام: 37/ 10.

ص: 592

واجبا على نفسه مطلقا.

و لمّا كان ظاهر سياق القاعدة هو ملاحظة المشقّة بالنسبة إلى أحوال الغاصب العارضة على وجوده، و هو فرع لحفظ وجوده، فالأقوى هو الاحتمال الثاني، مضافا إلى أنّ ما يثبت من الخارج من عادة الشرع وجوب حفظ النفوس حتّى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا تقيّة في الدماء» (1) يصير قرينة على كون المراد من القاعدة هو المعنى الثاني.

أقول: و أنت خبير بأنّه لا أصل لهذه القاعدة، و ما وردت بهذا المضمون رواية، بل هي وقعت في كلام بعض و لم يعمل بها أحد من الأساطين، و قد طعنوا عليها عند التزام بعض بضمان الغاصب أعلى القيم تمسّكا بهذه القاعدة، فراجع كلمات «الجواهر» و شيخنا الأنصاري (2) قدّس سرّهما.

فالتحقيق في المسألة المراجعة إلى ما تقتضيه أدلّة وجوب حفظ النفس من أنّه أيّ مقدار و أيّ مقام حفظ النفس و احترامه واجب، أما أصل اقتضائه فهو إنّما يكون فيما إذا كان الآدميّ مضطرّا و لم يكن بنحو سقط احترامه في الرتبة السابقة على اضطراره، إمّا بإقدام نفسه فعلا كالسارق اللجوج الّذي لا يرفع اليد عن الإنسان إلّا بقتله، أو بإقدامه سابقا، و لو لم يكن الآن مقدّما، أو كما إذا ارتكب عملا فاستحقّ القتل، كمن غصب خشبة في الساحل و وصل به سفينته فأجراها في البحر فقدر المغصوب منه أخذه منه في اللجّة، بحيث يوجب قلع خشبته من السفينة غرق نفس الغاصب.


1- المحاسن: 1/ 259 الحديث 310، وسائل الشيعة: 16/ 234 الحديث 21445، مع اختلاف.
2- جواهر الكلام: 37/ 107، المكاسب: 3/ 230- 232.

ص: 593

ففي مثل هذه المقامات لا يجب على المسروق منه أو المغصوب منه رفع اليد عن ماله و بذله لحفظ نفس السارق و الغاصب، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى:

غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ (1) على ما هو ظاهر الآية و التفسير المستفاد من الأخبار لها، من كون المراد بهما الخارج على الإمام و قاطع الطريق و السارق.

و قد اعترض على هذا المعنى من التفسير بأنّ حفظ النفس واجب، و هو أهمّ من المال بلا إشكال، فأجاب عنه أصحابنا بأنّ حفظ النفس و احترامه واجب ما لم يكن التالف معرّضا نفسه للتلف (2)، و كما أنّهم تسالموا في مسألة ما لو توقّف الخلاص من يد السارق على قتله يجوز قتله، و ظاهرهم أنّ هذا (3) هو ما تقتضيه القاعدة.

و سرّ ذلك كلّه هو: أنّ مسألة حفظ النفس و احترامه حكم امتنانيّ من الشرع، و من البداهة أنّه لا امتنان على نفس ألقت نفسه بإقدامه في الهلكة، فلو لم يرد تفسير من أهل البيت عليهم السّلام للآية من باب مناسبة الحكم و الموضوع الّذي هو العادي، لكان يستفاد ذلك من الآية، كما لا يخفى من أنّه لا يجب حفظ نفس العادي الّذي من مصاديقه الغاصب المعرّض نفسه للتلف، خصوصا فيما إذا احتمل الغاصب في المثال المذكور قدرة المغصوب منه على قلع الخشبة في اللّجة، و فعل المغصوب منه ذلك، أو لم يتمكّن المغصوب منه أخذه إلّا في مثله- أي اللجّة- فإنّه لا إشكال في عدم امتنان في مثله، مع كونه مخالفا للامتنان على


1- الأنعام (6): 145، النحل (16): 115.
2- جواهر الكلام: 37/ 78.
3- فيكشف من بنائهم ذلك أنّهم لا يلتزمون بترجيح حفظ النفس على المال مطلقا و أهميّتها عليه دائما فتدبّر! «منه رحمه اللّه».

ص: 594

المغصوب منه، فتأمّل! و من المعلوم عدم التفصيل في باب العدوان بين مثله و غيره.

و بالجملة؛ هذا سرّ عدم جريان قاعدة حفظ النفس و وجوبه في مثل الغاصب، و لهذه الجهة مال- دام ظلّه- في آخر كلامه إلى ما ذكرنا.

هذا مضافا إلى أنّ وجوب بذل المال لحفظ النفس حكم مخالف للأصل لا بدّ من الوقوف على موضع اليقين.

و أمّا إذا كان الغاصب حين التصرّف جاهلا، كما إذا زعم- في المثال المذكور- كون الخشبة مالا لنفسه موروثا له من أبيه، أو ظنّ الحجر كذلك فوضعه تحت البناء، أمّا إذا كان يتوقّف في هذه الصورة حفظ نفس الغاصب على إبقاء بنائه في المغصوب، فلا شبهة في أنّه لا يجوز للمغصوب منه مطالبة ماله و أخذه، لعدم كون الغاصب عاديا حتّى ينتفي احترام نفسه لإقدامه.

و أمّا حفظ ماله و احترامه بأن يقال: هل لصاحب الحجر أخذ حجره و لو أوجب تلف مال الغاصب من خراب بنائه من غير تدارك خسارته، أم ليس له ذلك، بل لمّا يصير سببا لتلف ماله بتخليص مال نفسه فعليه التدارك؟

أمّا ما قلناه في الصورة الاولى من عدم احترام مثل هذا المال المبنيّ في مال الغير، و لذلك تثبت السلطنة للمغصوب منه على خراب بنائه، فإنّما هو كلام بالنسبة إلى خصوصيّة العين المبنيّة لا إلى أصل الماليّة.

و أمّا الكلام في أصل ماليّته فقال- دام ظلّه-: فإنّما هو مبنيّ على جريان مثل «ليس لعرق ظالم حقّ» (1) و نظيره فيه و عدمه (2)، فإن قلنا بأنّ المراد بها عدم


1- وسائل الشيعة: 25/ 388 الحديث 32194.
2- كما أجريناه بالنسبة إلى أصل خصوصيّة بنائه و ماله، «منه رحمه اللّه».

ص: 595

ثبوت الحقّ المستلزم لسلب احترام المال للغاصب الواقعي، أي ما كان متعدّيا واقعا و لو كان جاهلا في الظاهر، فلا ضمان على المغصوب منه المخلّص ماله في تخريب بناء الغير.

و إن قلنا: إنّ المراد به هو ما كان غاصبا ظاهرا أيضا، فلازمه القول بالضمان.

و الأقوى الثاني؛ لصحّة سلب هذا العنوان و مثله عن الجاهل المتصرّف في مال الغير، بل لا يصدق عنوان الغاصب و الطاغي أيضا عليه، كما لا يخفى، فإذا لم تسقط ماليّة بنائه عن الاحترام، فلمّا كان تخريب بنائه يرجع إلى نفع صاحب الحجر ففي الحقيقة هو سبب لتلف ماله، و يستند التلف إليه، فبمقتضى قاعدة الإتلاف يكون لماليّته [ضمان]، فيجب عليه تدارك قيمة بنائه على التفصيل الّذي قلنا فيما لو كان الغاصب في الإحداث ذا حقّ، هكذا أفاد- دام ظلّه- هنا، و في الفرع الآتي؛ و هو ما لو خاط ثوبه بخيط مغصوب جهلا و ألزم المالك إخراج الخيط فاستلزم ذلك فساد الثوب، فالتزم فيه أيضا بضمان صاحب الخيط المغصوب منه جهلا قيمة الثوب للغاصب الجاهل.

أقول: بعد أن بيّنا في أوّل الباب أنّ مسألة الضمان الناشئ من ناحية الغصب، و كذلك الثابت بمقتضى «على اليد» (1) ليس مختصّا بالعالم، بل حكم سار في جميع المقامات كسائر الأحكام الوضعيّة، خصوصا باب الضمان الّذي لا مدخليّة للعلم و الجهل و كذلك البلوغ و عدمه فيه أصلا، فمقتضى ذلك؛ الحكم


1- عوالي اللآلي: 1/ 224 الحديث 106، و 389 الحديث 22، و 2/ 345 الحديث 10، و 3/ 246 الحديث 2، و 251 الحديث 3.

ص: 596

بضمان الغاصب مطلقا، و يجب عليه ردّ العين المغصوبة على صاحبه و لو استلزم ردّه ضررا عليه، حتّى لو احتاج ذلك إلى صرف المئونة يجب عليه ذلك، و لا ربط لها بالمغصوب منه، بل و لا يوجب التعسّر، و باحتياج إيصال العين إلى مئونة زائدة لا تنقلب العين إلى القيمة ما لم يرض المالك.

و بالجملة، لا يسقط حقّ المالك عن العين ما دامت باقية، و لو استتبع ذلك- أي الردّ- الضرر على الغاصب، و ليس على المغصوب منه تدارك ذلك أصلا، كما لا يخفى.

و من المعلوم؛ أنّه لا فرق في هذه الجهة بين الجاهل بالغصب و عالمه، كما بالنسبة إلى أصل الضمان، فلا وجه للتفصيل بين الجاهل و العالم في الخسارة المتوجّهة إليهما المستتبعة لردّ العين إلى صاحبها.

و أمّا حديث أنّ تخريب البناء لمّا كان لنفع المغصوب منه فهو سبب للتلف و أوجب الضرر على صاحب البناء، فبمقتضى قاعدة «من أتلف» (1) يجب عليه تدارك الخسارة فلا أصل له، ضرورة أنّ جهالة الباني أوجبت إقدامه على البناء في مال الغير، فهو بنفسه متلف لماله بجهله، و أيّ ربط له بالمغصوب منه، و إنّما هو بحسب اقتضاء سلطنته على ماله يطالب ماله و يأخذه، و لو أوجب إيصال ماله إليه إتلاف مال على الغاصب الّذي بناؤه هذا في ملك الغير جهلا كالبناء في المسألة الموجب ذلك تلف ماله، فلا وجه لتضمينه المغصوب منه، أو منعه عن ماله و سلطنته عليه، فإنّ إلزام المغصوب منه على أدائه الخسارة يرجع إلى إلزامه بأحد الأمرين، من أخذ بدل مال أو قيمته، أو أخذ عين ماله مع ضمانه ما يستتبع


1- جواهر الكلام: 37/ 60.

ص: 597

وصول ماله به الضرر المتوجّه إلى المالك.

و الأوّل منفيّ بالإجماع بل الضرورة؛ لعدم مجوّز شرعيّ على منع المالك عن عين ماله و حرمانه عنه و تبديله إيّاه في مثل المقام، بل ربّما لا يرضى الغاصب على ذلك أو لا يقدر، فيصير المحذور أشدّ.

و الثاني؛ أيضا منفيّ قهرا مع عدم المقتضي له أصلا، كما عرفت، هذا ما أدّى إليه نظري القاصر في المقام، و لعلّه يأتي بعد ذلك إن شاء اللّه من إفاداته- دام ظلّه- ما يكشف به القناع عن المرام، فإن المسألة من أهمّ المسائل، و اللّه العالم بحقائق الأحكام.

و أمّا معين الغاصب، فظهر حاله من الصور السابقة، فإنّه إن كان عالما بالغصب فحاله حال الغاصب في ضمانه و عدم احترام ماله فيما إذا توقّف تخلّص المال المغصوب على تلفه، و إن لم يكن كذلك فهذه الأحكام مختصّة بالغاصب، ففي مثل السفينة الجارية في البحر الّتي قد غصبت فأراد صاحبها أخذها في لجّة مع أنّه يتوقّف على أخذه إتلاف المال، فإن كان [المال] للغاصب قد عرفت أنّه لا احترام لمثل ماله هذا، فلا يمنع ذلك المغصوب منه عن مطالبة ماله و أخذه السفينة.

و إن توقّف تلف مال غير الغاصب عليه فإن لم يكن مغرورا من طرف غاصب السفينة فحاله حال الغاصب الجاهل، و إن كان مغرورا من طرفه فضمان تلف ماله على غارّه فيرجع إليه.

و لا يخفى أنّه لا فرق في ما ذكرنا في جميع الصور فيما يجوز إتلاف مال الغير و ما لا يجوز بين أن كان تلف المال رأسا بمادّته و هيئته، أو بهيئته فقط،

ص: 598

فضمان المتلف و عدمه تابع لمورده، بمعنى أنّه إن كان يجوز له- أي المغصوب منه- تخريب البناء لتخليص ماله بلا ضمان، فيجوز له ذلك، و لو لم يبق من المادّة و لا الهيئة شي ء، و إن جاز له ذلك مع الضمان فهو تابع لمقدار الخسارة الواردة هيئة و مادّة، و إن لم يكن له ذلك أصلا فمعلوم حكمه، فتأمّل!

و أمّا فيما توقّف تخليص المال على إتلاف حيوان، فيأتي حكمه و صوره في الفرع الآتي.

حكم الخيط المغصوب في الثوب

الفرع الثاني: قال في «الشرائع»: (و لو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة فإن أمكن نزعها) .. إلى آخره (1).

إنّ لهذه المسألة صورا؛ لأنّ الخيّاط إمّا أن يكون عالما بغصبيّة الخيط أو يكون جاهلا، و في كلّ منهما إمّا أن يكون الثوب لنفسه أو لغيره، و في كلّ منها إخراج الخيط إمّا أنّه موجب لفساده أم لا؟

أمّا الصورة الاولى؛ و هي ما لو كان الغاصب عالما بالغصب و كان الثوب لنفسه، فلا إشكال في وجوب نزع الخيط و إن أوجب فساد نفسه و فساد الثوب، و لا يتفاوت في ذلك بين أن لا يبقى للخيط بعد الإخراج قيمة أو بقي له، فعلى كلّ حال يجب على الغاصب بذل التفاوت و ردّ نفس العين، و إن لم يبق لها بعد الإخراج ماليّة.

أمّا الأرش فلأنّ فعل الغاصب أوّلا أوجب تلف الخيط و فساده، و إن كان


1- شرائع الإسلام: 3/ 239.

ص: 599

فساده فعلا إنّما هو للإخراج المستند إلى أمر المالك إلّا أنّ ذلك لا يوجب استناد التلف إليه، و ذلك لأنّه ليس يأمر بالتلف، بل إنّما هو يطالب ماله المستلزم وصوله إليه تلفه المستتبع للضرر على الغاصب، و ذلك إنّما يكون كما إذا حمل الغاصب العين إلى بلاد نائية فطالبها مالكها فيستلزم إيصالها إليه إلى صرف المئونة، فلا ريب أنّه لا يقال في مثل ذلك: إنّ أمر المالك و مطالبته ماله أوجب الخسارة على الغاصب، فكذلك في ما نحن فيه.

و بالجملة، ما دامت عين ماله باقية فللمالك مطالبتها و أخذها بخصوصيّتها أو بمرتبته منها بقدر الإمكان، مع تدارك باقي مراتبها التالفة منها بالأرش، و لا دليل لسقوط حقّه عنها أصلا.

و ممّا ذكرنا ظهر وجه وجوب إخراج الخيوط و ردّها إلى مالكها و لو لم يبق لها قيمة بعد الإخراج، و ذلك لما عرفت من أنّ ما دامت عين مال المالك موجودة فله مطالبتها، و على الغاصب إيصالها إليه، و لا موجب لخروجها عن ملكه و دخولها في ملك الغاصب.

و أمّا ما يؤدّيه الغاصب و يلزمه من الأرش أو القيمة بعد الإخراج (1) فأوّلا؛ لا يوجب ذلك خروج عين المال الموجود فعلا عن ملك مالكه، و أمّا أنّه لمّا يستلزم إخراجه تلف ماليّته بعد ذلك الموجب لسقوط العين عن الاحترام فأيّ ربط له بالحال الفعلي- و هو حال وجود الخيط في الثوب- فأيّ موجب لسقوط حقّه عن ماله الموجود؟

و ثانيا؛ إنّ باب الضمانات لا ربط له بباب المعاوضات، فإنّ ما يعطيه


1- فيما لو نقصت قيمته أو تلف رأسا، «منه رحمه اللّه».

ص: 600

الضامن بدلا عن التالف إنّما هو غرامة لا عوض حتّى يوجب ذلك دخول ما بقي من التالف- و هو العين- في ملك الغارم، بل ما يغرمه إنّما هو عوض عن ماليّة العين الفائتة و تدارك عنها، لا أن يكون بدلا عنها فيوجب ذلك خروج المبدل منه عن ملك المالك.

فانقدح بذلك؛ التحقيق أنّ للمالك مطالبة ماله المغصوب و لو انجرّ إيصاله إليه إلى نقص فيه، أو سقوطه عن الماليّة رأسا، بل يجب على الغاصب ردّ ما بقي من أجزائه إليه و لو لم يكن لها قيمة كالكأس المكسور، ضرورة أنّ السلطنة الثابتة للمالك على ماله ليست دائرة مدار الماليّة، بل هي تابعة للملكيّة، و من البديهة أنّها أعمّ من الماليّة، فما لم يعرض المالك عن ملكه أو لم ينقل ماله بأحد النواقل الشرعيّة لا يقتضي شي ء انقطاع سلطنته عن ملكه و سقوط حقّ مطالبته ماله.

و من ذلك؛ ظهر النظر في كلام المحقّق قدّس سرّه في المقام و كذلك صاحب «الجواهر» (1) و قد أصرّ قدّس سرّه تبعا للماتن في أنّه إذا كان إخراج الخيط مستلزما لتلفه فتنقلب العين إلى القيمة؛ لأنّ ما يعطيه الغاصب بعد الإخراج إنّما جعل ذلك بحكم الشارع عوضا عن التالف، فيكون بدلا عنه فمع ذلك لو وجب عليه الإخراج ثمّ ردّه مع قيمته، يلزم الجمع بين العوض و المعوّض، ثمّ حكم بجواز الصلاة بعد ردّ قيمة الخيط في مثل هذا الثوب، و قايس المقام رحمه اللّه بما لو توضّأ بماء مغصوب جاهلا فالتفت إليه بعد تماميّة غسله، فيجوز له المسح بالرطوبة الباقية عن هذا الماء لجريان عين مناطه، و هو عدم غصب موجود الآن يجب ردّه في هذا الثوب


1- جواهر الكلام: 37/ 79.

ص: 601

المخيط بخيط مغصوب بعد ردّ قيمته.

و أنت خبير؛ بأنّه لا مجال لهذا الكلام بعد ما عرفت من أنّ باب التضمينات لا يرتبط بباب المعاوضات، و أنّ ما يلزم على الضامن ليس إلّا الغرامة و لم يعهد من الشرع أبدا أن يكون تضمين المالك من المخرجات، خصوصا مثل المقام الّذي قد عرفت أنّ عين مال المالك موجودة، فكيف يمكن أن يقال بأنّ ما على الغاصب من الغرامة بعد الإخراج عوض عن الخيط قبل أن يخرج؟

و أمّا قياسه المقام بالماء المغصوب المتوضّأ به؛ فبعد التسليم في المقيس عليه يمكن الدعوى جدّا بالفرق بينهما، فإنّ الماء المتوضّأ به بعد الفراغ عن الغسل ليس بعد شيئا موجودا، بل العرف يراه معدوما، و لذلك ينقلب إلى البدل قهرا، بخلاف الخيط في الثوب فإنّه بعد إخراجه و تقطيعه بحيث يسقط عن الماليّة يراه العرف موجودا، فكيف بحال عدم إخراجه و ثبوته بحاله في الثوب، فالحقّ عدم جواز صلاته في الثوب من هذه الجهة ما لم يرض المالك.

أقول: يمكن أن يكون نظر المحقّق قدّس سرّه و تابعيه إلى أنّه عند إخراج الخيط عن الثوب الموجب ذلك لتلفه و إن كان بمباشرة الغاصب، إلّا أنّه لمّا يفعل ذلك بأمر المالك و إلزامه فيصير السبب أقوى، فلذلك يمكن الدعوى بأنّ التلف يستند إلى المالك الآمر، و ليس يستند إلى المباشر، لا بفعله الآن لما عرفت من أنّه ملزم و مأمور، و لا بفعله السابق لأنّ خياطته ما أوجبت تلف الخيط، و لذلك يرى الخيط الآن في الثوب بشخصيّته و ماليّته موجودا (1)، فيصير الموجب للتلف شخص المالك بأمره، فإذا صار هو بنفسه متلفا لما له فلم يلزم المباشر بالغرامة؟


1- كما كان ذلك مبنى الحكم بوجوب ردّ العين، «منه رحمه اللّه».

ص: 602

و بتقريب آخر؛ إنّ الدليل على وجوب ردّ العين إنّما هو «قاعدة اليد» المقتضية لوجوب ردّ العين ما دامت موجودة لأن تصل إلى صاحبها فهي إنّما تجري فيما إذا أمكن ذلك.

و أمّا إذا لم يمكن ذلك، كما إذا توقّف إيصال العين إلى صاحبها على تلفها المستلزم ذلك لعدم وصولها إليه- كما في ما نحن فيه- فكيف تجري هذه القاعدة، مع أنّه بناء على إلزام الإيصال، يستلزم عدم الإيصال فيصير من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه؟ فلا محيص من أن يلتزم بأنّ نتيجة جريان «قاعدة اليد» في المقام إنّما هو ضمان الغاصب المثل أو القيمة، و لا يقاس المقام بما إذا استلزم الردّ مصارف، فكيف يكون هناك خسارتها على الغاصب حتّى تصل العين إلى صاحبها، فكذا إذا أوجب إيصال العين تلفها، و ذلك- أي وجه الفرق- هو أنّ خسارة الإيصال بمعنى أنّ مقدّمة وصول المال إلى صاحبه إنّما تكون على الغاصب فيما إذا أمكن وصول المال، لا فيما إذا كان مقدّمة إيصاله عين إتلافه، و المحذور أنّه كيف يجري في مثله عنوان المقدّمية؟ فلا تغفل!

و بالجملة؛ فهؤلاء الأساطين كالمحقّق و العلّامة و الشهيد الأوّل قدّس اللّه أسرارهم، و بعض من تأخّر عنهم لمّا لم يروا في المسألة مقتضيا للحكم بضمان الغاصب قيمة الخيط بعد تلفه بإخراجه بأمر المالك، فالتزموا من أوّل الأمر بضمانه القيمة و انتقال الخيط المغصوب إلى الغاصب بالمعاوضة القهريّة (1) فكأنّهم رأوه بحكم التالف، و تعبير صاحب «الجواهر» قدّس سرّه بالعوض و المعوّض (2)


1- شرائع الإسلام: 3/ 239، تذكرة الفقهاء: 2/ 396 ط. ق، الدروس الشرعيّة: 3/ 109 و 110.
2- جواهر الكلام: 37/ 80.

ص: 603

ليس مراده قدّس سرّه بعنوانهما المعاملي، بل المراد هو ما أشرنا [إليه] من المعاوضة القهريّة.

نعم، إنّما الإشكال في أنّه مع بقاء المال بعينه و عدم صيرورته تالفا حقيقة، و لا بحكم التلف كالمال الغريق، فأيّ موجب لانتقاله إلى القيمة في ظرف وجود العين و بقاء ماليّتها؟

و لمّا لم يكن عدم جريان قاعدة لعدم المقتضي- و هو عدم وجود العين- أو عدم احترامها، بل كان للمانع، و كذلك استناد الإتلاف لو اخرج بإلزام المغصوب منه بعد ذلك إلى المالك؛ ليس ذلك أيضا موجبا لخروج المال عن تحت سلطنة المالك فعلا و انقلابه بالقيمة، كما لا يخفى.

فلذلك لا يبعد الدعوى أنّ القاعدة تقتضي الحكم بالشركة، أي شركة صاحب الخيط مع صاحب الثوب فيه بنسبة قيمة الخيط، نظير ما لو اختلط مال المغصوب منه مع مال الغاصب بحيث لا يمكن تمييزهما، و إن لم يحتمل ذلك على الظاهر.

و لكن لمّا لم يكن في المسألة نصّ يخالفه ما احتملناه، و كذلك لم تكن المسألة إجماعيّة، فلا ينبغي الوحشة عن الانفراد، بعد ما عرفت من عدم مساعدة الدليل و القاعدة لما أفتى به الطرفان، بل مقالة كلّ منهما مخالفة للقاعدة من جهة، و لكن هذا إذا كان إيصال المال و إخراج الخيط مستلزما لسقوطه عن الماليّة رأسا، حتّى لا يبقى له قيمة و لا صفة الملكيّة الموجب ذلك محذورا آخر، مضافا إلى ما ذكرنا، و هو مسألة التبذير المحرّم.

و أمّا إذا لم يوجب ذلك بل يبقى له مقدار من الماليّة، فالحقّ هو ما أفتى به-

ص: 604

دام ظلّه- وفاقا للمشهور، و وجهه يظهر ممّا ذكرنا.

و أمّا ما أفاده- دام ظلّه- من الفرق بين المقام و الماء المغصوب المتوضّأ به فلا يخلو عن التأمّل أيضا، و ذلك لأنّ حكم العرف بكون الماء تالفا بعد الغسل كيف يوجب الحكم بجواز الانتفاع بما بقي من آثار المغصوب؟ لأنّ المفروض أنّ باب الضمان ليس من باب المعاوضة حتّى يجوز الانتفاع بما يبقى من العين ما لم يرض المالك به، فما المصحّح لهذا الانتفاع بعد تسليم عدم انتقال العين و ما يبقى منها إلى الغاصب، و لو مع دفعه الغرامة؟ مع إمكان منع الحكم بصيرورته تالفا بقول مطلق، و إلّا لم يمكن الانتفاع منه، و لا إشكال أنّ انتفاع كلّ شي ء بحسبه و المسح نوع من الانتفاع، فيستكشف من ذلك بقاء مرتبة و درجة من العين.

هذا؛ إذا كان الغاصب عالما، و أمّا إذا كان جاهلا فظاهر كلامهم يعطي عدم الفرق بينهما، و أمّا ما احتمله من الاشتراك و الشركة تجري في هذه الصورة بطريق أولى، كما لا يخفى.

و أمّا حكم الثوب لو استلزم إخراج الخيط خرق الثوب (تخريقه) فظاهر ما استفدت من كلامه- دام ظلّه- الفرق بين ما لو كان الغاصب جاهلا و عالما، فالتزم في الثاني بعدم ضمان صاحب الخيط لخسارة الثوب، مستدلّا بقوله عليه السّلام: «ليس لعرق ظالم حقّ» (1) و نظيره، من كونه بإقدامه أتلف ماله و أضرّ بنفسه، بخلاف ما لو كان جاهلا، فلمّا يستند خرق الثوب في صورة جهل الغاصب إلى المغصوب منه، فيكون ضامنا للخسارة المتوجّهة إلى صاحب الثوب بسبب إخراج الخيط.


1- وسائل الشيعة: 25/ 388 الحديث 32194.

ص: 605

و هذا على مبنى كلامه السابق، و قد أوضحنا عدم تماميّة هذا الكلام.

و أمّا لو كان الثوب لغير غاصب الخيط، فإن كان الغير عالما بالغصب فحكمه حكم الغاصب، و إن كان جاهلا فليس عليه شي ء، و ضمان تخريق ثوبه لو استلزم على الخيّاط مع علمه، و إلّا فعلى صاحب الخيط على مبناه- دام ظلّه- و أمّا على ما بيّنا من عدم ضمان المغصوب منه مطلقا فيقع الكلام بين ضمان الخيّاط و عدمه، و الظاهر عدم مانع من الالتزام بضمان الخيّاط؛ لجريان قاعدة الإتلاف، و اللّه العالم.

الفرع الثالث: قال في «الشرائع»: (و كذا لو خاط بها جرح حيوان له حرمة) .. إلى آخره (1).

هنا أيضا صور؛ لأنّ الحيوان إمّا أن يكون آدميّا أو غيره، و كلّ منهما إمّا أن يكون محترما أو لم يكن كذلك، و الغاصب إمّا أن يكون عالما أو جاهلا، و المخيط عليه إمّا نفس الغاصب أو حيوانه أو غيرهما، و الإخراج في جميع الصور إمّا أن يوجب التلف أو الشين و نحوه [أولا].

أمّا إذا كان خيط به جرح الآدمي مع علمه بغصبيّة الخيط فالكلام فيه هو الكلام في ما سبق، و قد عرفت أنّ مقتضى ما يظهر من بعض الأدلّة عدم وجوب حفظ نفس الغاصب، و سقوطه عن الاحترام بغصبه فلا مانع من سلطنة صاحب الخيط و إجرائها بإخراج خيطه، سوى استبعاد أنّه كيف يلتزم بجواز إتلاف نفس لإخراج خيط.

مع إمكان الجواب عن هذا الاستبعاد بما اجيب به عن استبعاد قطع يد


1- شرائع الإسلام: 3/ 239.

ص: 606

السارق إذا سرق ربع دينار من أنّه لا احترام لمثل هذه اليد (1)، و كذلك لا احترام للغاصب لكونهما مشتركين في العدوان، و أنّه لا يتلفه أحد و إنّما المتلف هو نفسه بعدوانه و غصبه، و لو كان المباشر لإخراج الخيط الموجب ذلك للتلف، إلّا أنّه يمكن الدعوى قريبا بأنّ السبب هنا مقدّم على المباشر.

نعم؛ لو كان مضطرّا من أوّل الأمر فكما يجب على المالك بذل ماله و خيطه لحفظ نفس الغير يجوز بل يجب على الغير أيضا التصرّف في ماله و لو بدون إذنه لحفظ نفسه، و ذلك لعدم سقوط نفسه عن الحرمة في الرتبة السابقة على الاضطرار.

و بالجملة؛ الاستبعاد لا يمنع عمّا تقتضيه الأحكام الشرعيّة، فإن تمّ الإجماع في المسألة فليس للمالك إخراج خيطه، و إلّا فقد عرفت أنّ مقتضى القواعد له ذلك، و ليس شي ء يمنع من سلطنته على ماله، و أسهل من ذلك ما لو أوجب إخراج الخيط ما تتعب به نفس الغاصب من الشين و نحوه، فعلى ما تقتضيه القاعدة المعروفة المرتكزة في أذهان العرف من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال» (2) هو الحكم قويّا بجواز إخراج الخيط للمالك، و كون مثل ذلك موجبا لسقوط التكليف الشرعي و هو الوضوء و تبدّله بالتيمّم لا ربط له؛ لأنّ المناط في الأحكام التكليفيّة غيره في الأحكام الوضعيّة، مع أنّ تشبيه المقام بباب الوضوء قياس محض، و ليس في البين مناط (3) منقّح، بل القياس قياس مع


1- جواهر الكلام: 41/ 495.
2- جواهر الكلام: 37/ 10.
3- لأنّ حدّ الحرج الّذي يوجب سقوط الحكم التكليفي غير الحدّ الّذي يوجب سقوط الحكم الوضعي الموجب لجواز التصرّف في مال الغير، فلا تغفل! «منه رحمه اللّه».

ص: 607

الفارق (1)، و لقد أجاد [صاحب] «الجواهر» في المقام فراجع (2)!

و أمّا فيما لو كان الغاصب جاهلا فلا إشكال في عدم جواز إخراج الخيط حتّى فيما لو أوجب (3) الشين، بل يتعيّن ردّ القيمة أو المثل؛ لعدم جريان ما سبق في هذه الصورة.

و أمّا لو كان حربيّا فيجوز الإخراج بلا إشكال، لعدم احترام لنفسه حتّى يمنع من جريان قاعدة السلطنة، بخلاف ما لو كان ذميّا، فحكمه حكم المسلم جاهلا أو عالما.

و أمّا حكم الحيوان؛ فإمّا أن يكون ما يجوز ذبحه أو لا يجوز:

أمّا الأوّل؛ فإن كان إخراج الخيط موقوفا على ذبحه، فإن لم نقل بكون الذبح أمرا خارجا عن مقدّمة تخليص المال، بمعنى أن نقول: إنّه تصرّف زائد على ما يجوز التصرّف في مال الغير مقدّمة لتخليص المال، كما لا يبعد القول به، لأنّ العرف لا يرى مثل ذلك من المقدّمات، بل يراه من المقدّمات البعيدة و تصرّفا زائدا على قدر الحاجة في مال الغاصب.

و بالجملة؛ فإن لم يلتزم بذلك فيجوز للمالك إخراج الخيط، و يجب على المالك الغاصب ذبح الحيوان، و أمّا إذا كان حيوانا محترما لم يجز ذبحه كالكلب المعلّم، فلمّا لا يبعد أن يقال: إنّه ليس لمثل هذا الحيوان من حيث نفسه احترام و إنّما احترامه من جهة ماليّته العارضة عليه بسبب التعليم و غيره، فحال مثل هذا


1- مع أنّ في باب الوضوء أيضا كلام فيما لو جعل المكلّف نفسه باختياره فاقدا للشرط، «منه رحمه اللّه».
2- جواهر الكلام: 37/ 80 و 81.
3- كذا، و الصحيح: لو لم يوجب.

ص: 608

الحيوان حال سائر أموال الغاصب، و هو تابع لجواز إتلاف ماله مقدّمة لوصول المغصوب منه إلى ماله، فمن حيث نفس الحيوان؛ لمّا لم يكن لروحه احترام لا يلحق ذلك بما إذا خيط بالمغصوب جرح حيوان محترم حتّى يجعل الخيط بحكم التلف، مع وجوده عينا لمانع الإخراج.

و أمّا إذا كان الحيوان المحترم لغير الغاصب فيظهر حكمه ممّا سلف، و كذلك لو خيط به جرح الغير نفسه أيضا مضى حكمه بجميع صوره من جهل الغير و علمه و غيره.

و أمّا إذا كان الآدمي المخيط عليه المغصوب ميّتا، فهل يجوز إخراج الخيط عن جسده أم لا؟ فالظاهر أنّه لا يجوز؛ لأنّ احترام ميّت الآدمي كاحترام حيّه، و إن استثني من حرمة نبش القبور الّذي هو أيضا مخالف لاحترام الميّت الّذي لا يبعد أن يكون ما نحن فيه من قبيلها، خصوصا فيما إذا أوجب الإخراج مثلته، فالقول بجواز الإخراج ليس ببعيد.

أقول: و قد استشكل الأصحاب- أي بعضهم- فيما لو دفن الميّت في أرض مغصوبة؛ جواز نبش القبر لإخراج الميّت و تخليص الأرض مطلقا، و لو لم يوجب مثلته (1) لأنّ احترام الميّت واجب على كلّ أحد الّذي منهم المغصوب منه الأرض، و ليس ذلك إلّا لكون المغصوب منه مخالفا في ذلك النبش لتكليف نفسه فكيف يلتزم به في المقام مع استلزام إخراج الخيط مثلة الميّت غالبا؟ إلّا أن يفرّق بين أن يكون الميّت في حال حياته بنفسه مع علمه بكون الخيط مغصوبا ارتكب ذلك و خاطه على جرحه، و بين ما إذا لم يكن عالما بغصبيّة الخيط و صدور ذلك


1- مجمع الفائدة و البرهان: 2/ 504، جواهر الكلام: 4/ 354.

ص: 609

عنه جهلا، إمّا بنفسه أو عالجه الطبيب، بأن يقال بأنّه لمّا ارتكب بنفسه في الأوّل و أقدم على ذلك فهو أوجب سقوط الاحترام عن نفسه حيّا و ميّتا، فلا مقتضي لاحترام جسده بعد موته، بخلاف الثاني، فإنّه لمّا أقدم على المحرّم و هو الخياطة بخيط الغير على جرحه جاهلا بذلك، فلا موجب لسقوط الاحترام عن جسده بعد موته، بل يجب على كلّ أحد حفظ حرمته، فلمّا يقع التعارض بين حفظ حرمته و حرمة مال الحيّ فالجمع بينهما بعد عدم ثبوت الترجيح يقتضي الحكم بأخذ المغصوب منه قيمة خيطه من تركة الميّت أو من بيت المال، إن لم يكن له تركة، كما أفتى بذلك في «الجواهر» في باب أحكام الميّت (1) و إن افتي بخلافه في المقام بترجيح رعاية حرمة الحيّ (2).

و العجب؛ أنّه كيف التزم بذلك مع أنّ المقام أولى بترجيح ملاحظة حال الميّت و رعاية الجمع بين الحقّين و كذلك رعاية الاحتياط، لما أشرنا من لزوم إخراج الخيط مثلته غالبا، بخلاف إخراجه عن أرض مغصوبة، فتدبّر!

و كيف كان؛ الفرق أيضا لا يخلو عن تأمّل جدّا، ضرورة أنّ إقدامه على التصرّف في مال الغير لخياطته جرحه في حال حياته لا ربط له بحال موته الّذي خرج به عن التكليف و صار موضوعا لتكليف الأحياء، فكيف يمكن الالتزام بأنّ إقدامه في حياته أسقط احترامه بعد وفاته المستلزم ذلك سقوط التكليف عن الأحياء و جواز ارتكابهم الحرام؟ فالأولى هو رعاية حال الميّت الآدمي و احترامه لو كان محترما مطلقا- أي لم يكن حربيّا- و الجمع بين الحقّين بأخذ


1- لاحظ! جواهر الكلام: 4/ 354.
2- ذكرى الشيعة: 2/ 81.

ص: 610

المغصوب منه قيمة ماله كما هو ظاهر إطلاق كلام المحقّق و غيره قدّس اللّه أسرارهم (1).

و أمّا حكم صلاة غاصب الخيط المخيط به جرحه- و بنينا على عدم جواز الإخراج و تعيّن أخذ القيمة- فلا إشكال في صحّة صلاته و كلّ عبادته، و ذلك لما حقّقنا في باب اجتماع الأمر و النهي أنّ ما يضطرّ به من التصرّف في المغصوب بعد الغصب فليس منهيّا عنه، لعدم كونه من الأزل تحت الاختيار، و لا ينافي ذلك كون أصل تصرّفه و دخوله في الدار المغصوبة منهيّا عنه، و كون تصرّفه الاضطراري هذا أيضا مصداقا للغصب، إلّا أنّ الغصب و التصرّف بحدّه الّذي يكون تحت الاختيار- و هو الدخول- ممنوع عنه، دون ما لم يكن كذلك كما في المقام، فإنّ في التصرّف في الخيط من حيث بقائه و عدم إخراجه مضطرّ إليه من الأزل، فلا يتعلّق به النهي من الأزل أيضا، و أمّا من حيث دخوله فلا نهي أيضا لسقوطه بالعصيان، فلا مانع من صحّة صلاته، كما لا يخفى.

ضمان المثل أو القيمة عند حدوث العيب في المغصوب

الرابع: قال في «الشرائع»: (و لو حدث في المغصوب عيب مثل تسويس التمر) .. إلى آخره (2).

لا يخفى؛ أوّلا أنّه لا سبيل إلى ما التزمه الشيخ رحمه اللّه في المقام من سقوط حقّ المالك عن العين بسبب طروّ العيب عليها (3).


1- شرائع الإسلام: 3/ 239، جامع المقاصد: 6/ 304 و 305.
2- شرائع الإسلام: 3/ 239.
3- المبسوط: 3/ 82 و 83، لاحظ! جواهر الكلام: 37/ 83.

ص: 611

ضرورة؛ أنّه لا دليل على خروج المال عن ملك صاحبه بمثل ذلك كما لا يخفى، إنّما الإشكال في أمرين:

الأوّل: أنّه إذا أخذ المالك قيمة العيب الفعلي الموجود في العين هل يستحقّ أرش ما يزداد من العيب أيضا بعد ذلك أم لا؟ و الظاهر؛ أنّه لا خفاء في ذلك- أي استحقاقه الأرش بزيادة العيب الحادث أيضا إذا كان مستندها فعل الغاصب و العيب الحادث عنده، و ذلك لأنّ ما يأخذه أوّلا من الأرش إنّما هو بدل عن العيب الموجود، و لا ربط له بما يحدث بعد ذلك و الآن معدوم.

و دعوى أنّه يمكن بأن يقوّم العيب الموجود مع ما يحدث بعد ذلك جميعا فيأخذ القيمة كذلك حتّى لا يستحقّ بعد ذلك شيئا، بمعنى أنّ العيب لمّا كان يقوّم بما هو مستتبع لما يحدث و يزيد؛ ففي الحقيقة ما يأخذه أوّلا يكون أرشا للمجموع، كما أنّ في البيع يكون كذلك، أي لا يستحقّ المشتري أرش العيب إلّا ما هو الموجود حين العقد. مدفوعة؛ بأنّ المالك لا يستحقّ أزيد من أرش العيب الموجود، و لا دليل على جواز ضمّ ما يحدث بعد ذلك، مع كونه مشكوكا فيه إلى الموجود فعلا، و أمّا في باب البيع فلأنّ القدر المسلّم من الدليل المثبت لأرش العيب هو أرش العيب الموجود حين العقد و ما دام كون المبيع في ضمان البائع، و أمّا بعد خروجه عن ضمانه فلا مقتضي للالتزام بضمان العيب الحادث بعده، بخلاف باب الغصب فإنّ المقتضي- و هو كون يد الغاصب عدوانيّا و صدق نسبة الإتلاف المستند إلى العيب إلى الغاصب- موجود، للحكم بضمانه، فتأمّل!

الثاني: أنّه لو تلف المغصوب من جهة تزايد العيب المحدث عند الغاصب، هل يكون ضمان التلف، و كذلك زيادة العيب على الغاصب مطلقا، و لو كان من

ص: 612

جهة ترك العلاج المستند إلى المغصوب منه أم لا، بل فيما إذا لم يكن التلف و الزيادة من جهة ترك العلاج يكون ضمانه عليه، و إلّا فلمّا كان التلف يستند إلى ترك العلاج الّذي سببه المالك فيكون هو في الحقيقة مباشرا للتلف، فلا ضمان على الغاصب؟

ظاهر إطلاق كلماتهم، الأوّل، و لكنّ الحقّ التفصيل بين ما إذا كان العيب سهل العلاج و بين ما إذا لم يكن كذلك؛ بمعنى أنّه لو كان العيب بحيث يكون قابلا للعلاج فعلا حتّى لو تلف لم يستند إلى العيب المحدث، بل العرف يسنده إلى ترك العلاج لا إلى نفس العيب و بطئه، فلمّا يصدق في مثل ذلك كون تارك العلاج متلفا، فلا موجب للالتزام بضمان الغاصب.

و أمّا لو لم يكن كذلك، بل كان قابلا للعلاج و لكن تحصيل أسبابه موقوف على مقدّمات بعيدة متعبة بحيث لو تلف لم يستند عرفا إلى ترك العلاج، بل إلى بطء المرض أو العيب و طوله، فيحكم بضمان الغاصب لكونه محدثا للعيب المؤدّي إلى ذلك، و لا ريب أنّ ذلك يختلف باختلاف المقامات.

و كيف كان، فلا ينبغي القول بإطلاق الضمان كما نلتزم بهذا التفصيل في باب دية الجراحات و ترك شدّ الفصد، كما لا يخفى.

الجهة الرابعة من البحث؛ في الضمان المثلي و القيمي.

في «الشرائع»: (فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثليّا) .. إلى آخره (1).

ينبغي أن يعلم أنّ البحث في مقامين:


1- شرائع الإسلام: 3/ 239.

ص: 613

الأوّل؛ في الدليل الدالّ على الفرق بين المثلي و القيمي، و لا يخفى أنّ هذين اللفظين ما ورد (1) بهما نصّ، و إنّما وقعا في معاقد الإجماعات و كلمات الأصحاب، فهم الّذين التزموا بهذا الفرق، و سنشير إلى وجه استفادتهم من الأدلّة.

و كيف كان؛ معنى ضمان المثل في المثلي و القيمة في القيمي هو أنّ الّذي يجب على الضامن في الأوّل بحيث ليس له تبديله، هو المثل، و كذلك ليس للمضمون له إلّا هو فليس له الإلزام بالقيمة، كما أنّه ليس الأوّل ذلك، بل إنّما التبديل موقوف على التراضي، و المراد بضمان القيمة في القيمي هو عكس ذلك هذا ما تقتضيه من كيفيّة الضمان كلماتهم.

و أمّا ما يستفاد من ظاهر بعض ما يمكن أن يستدلّ به للمقام كآية الاعتداء و أمثالها (2)، فهو خلاف ما يظهر من بنائهم، فإنّ ظاهر الآية يحكم باعتبار المماثلة في الضمان مطلقا سواء كان المضمون به مثليّا أو قيميّا، فيكون كيفيّة اشتغال الذمّة و الضمان هو ما أفتى به ابن الجنيد بضمان المثل في القيمي أيضا (3) إلّا مع التعذّر كما في المثلي، كما لا يبعد الدعوى بأنّ الطبع أيضا يقتضي عدم الالتزام بالفرق.

و أمّا ما يقتضيه أصل القاعدة الّتي هي المدرك للضمان في الباب- و هي قاعدة اليد- فنقول: إنّ هذه القاعدة بطبعها الأوّلي أيضا تقتضي ضمان المثل


1- و لذا قال بعض: لم يحوّل تعيين موضوعهما إلى العرف كسائر الألفاظ الواقعة موضوعا لحكم الشارع، «منه رحمه اللّه».
2- البقرة (2): 194، المائدة (5): 45.
3- نقل عنه في مختلف الشيعة: 6/ 131.

ص: 614

مطلقا بلا تفصيل أمّا على مسلكنا من أنّ المستفاد منها أنّ الثابت في الذمّة هو نفس العين فواضح، ضرورة أنّه إذا كان المأخوذ بنفسه ثابتا في الذمّة فيجب تحصيل البراءة منه مع التمكّن، و إلّا فالأقرب إليه، و هو المثل.

و أمّا على مسلك المشهور من اشتغال الذمّة بالبدل، ففي المثلي المثل، و في القيمي القيمة، فأيضا الذمّة مشغولة بالمثل عند تلف العين حتّى يؤدّيه، فتأمّل!

نعم، لمّا كانت القاعدة مغيّاة بالأداء، و أداء القيمي لا يمكن إلّا بقيمته، فلا بدّ أن يقيّد الإطلاق بذلك، بمعنى أن يقال بأنّ الّذي يستقرّ على اليد و الذمّة و إن كان هو نفس المأخوذ إلّا أنّ في المثلي يجب أداء مثله، و في القيمي لعدم إمكان المثل أداء قيمته.

إلّا أنّه مع ذلك لا يرتفع التعارض بين مدلول هذه القاعدة و معاقد الإجماعات، و ذلك لأنّ المدار في وجوب أداء المثل في المثلي عند الأصحاب التمكّن من المثل نوعا، بمعنى أن يكون للتالف أفراد نوعيّة و إن لم يتمكّن منه الشخص المتلف، فليس المدار على تمكّنه، و أمّا لو تيسّر المثل نوعا و تمكّن المتلف من المثل و اتّفق أنّه وجد عنده نظير للتالف فلا يجب عليه أداؤه؛ لأنّه عند عدم التمكّن من المثل نوعا يكون المضمون قيميّا فلا تشتغل الذمّة إلّا بالقيمة.

و أمّا مدلول القاعدة فلما عرفت أنّ الالتزام بالقيمة في مفادها في الجملة إنّما كان ذلك لعدم التمكّن من أداء المثل فيما لا مثل له، لا لاقتضاء القاعدة، و لا إشكال أنّه عند تمكّن الضامن من أداء المثل فالغاية حاصلة، فلا ضرورة تدعو إلى صرف الأقرب ممّا اخذت، الّذي كان ذلك مقتضيا باشتغال الذمّة بنفس

ص: 615

المأخوذ، إلى القيمة الّتي ليست هي أداء حقيقة، بل وفاء.

و أمّا لو لم يتمكّن الضامن من المثل، و لو تمكّن نوعا كما في المثلي فمقتضى قاعدة اليد عدم وجوب أداء المثل لعدم حصول الغاية و عدم تمكّن اليد الآخذة عن أداء المثل.

و بالجملة؛ فمع الجمود على ظاهر لفظ قاعدة اليد فيكون كلّ من معاقد الإجماعات و قاعدة اليد عكس الآخر في المدلول، ثمّ يترتّب على ذلك وقوع التعارض بين مداليل الأدلّة الثلاثة، و هي الآيات الّتي كانت مداليلها الاعتداء بالمثل و العقاب به بقول مطلق و معاقد الإجماعات المفصّلة بين المثلي و القيمي ففي الاولى روعي التماثل بخلاف الثانية، و قاعدة اليد المفصّلة بين المثلي و القيمي أيضا، إلّا أنّ المستفاد منها التمكّن الشخصي في الحكم بوجود المثل و ضمانه دون التمكّن النوعي.

و لا يتوهّم أنّه يمكن حمل الاعتداء بالمثل المستفاد وجوبه من الآية على التمكّن الشخصي، بلحاظ أنّ هذا الحكم الوضعي قد استفيد من الحكم التكليفي الدالّ عليه الأمر، و الأمر لا يتعلّق إلّا بالمقدور، فلا بدّ أن يكون المعتدي قادرا على الإلزام بالمثل، و قدرته فرع على تمكّن الضمان، و المفروض أنّه غير متمكّن شخصا، فلا يجوز على المعتدي إلزامه به.

دفع التوهّم أنّه: لا إشكال أنّ هذا الأمر إنّما هو كسائر الأوامر التكليفيّة المشروطة عقلا بالقدرة إذا لم يؤخذ في الهيئة اشتراط القدرة حتّى يصير الشرط شرعيّا، فيستكشف كونها دخيلة في أصل المصلحة حتّى تفيد المادّة أيضا، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها لإثبات وجوب تحصيل القدرة، و لو لم يتمكّن المكلّف

ص: 616

من الامتثال فعلا، فإذا صار الأمر مطلقا فيجوز الإلزام على المثل، و لو لم يكن الضامن قادرا شخصا بل يكفي فيه التمكّن العقلي المفروض وجوده بتمكّن النوع، فيجب على الضامن تحصيل المثل و لو من عند غيره، و هذا بخلاف قاعدة اليد، فإنّ الأداء فعل الآخذ، فلا بدّ من تمكّنه بنفسه، فتأمّل!

ثم إنّه قد يجاب عن الآية (1) لأن يرتفع التعارض بينها و بين معاقد الإجماعات و قاعدة اليد، بأنّ المراد من المماثلة فيها التماثل في الاعتداء لا في المعتدى به، بمعنى أنّ ظاهر هذه الآية و كذلك قوله تعالى: وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ (2) و غيرها (3) لا تدلّ على أزيد من أنّه يجب أن لا يكون العقاب و القصاص أزيد ممّا تعدّى المعاقب عليه، و أمّا من حيث المعتدى به و كيفيّته فلا يستفاد منها شي ء، فعلى ذلك لا تنافي بين الآيات و القاعدة و معاقد الإجماعات المقتضيين لعدم اعتبار المماثلة في القيميّات.

ضرورة؛ أنّه إذا لم يكن مدلول الآيات إلّا أنّه لو أضرّك أحد بمقدار عشرة توامين- مثلا- فلا يجوز لك إضراره و الإلزام بتداركه إلّا بمقدار ما أضرّك به، دون الزيادة بلا أن تكون متكفّلة لجنس المتدارك به، فلا تعارض [بين] مدلولهما المتكفّلة لبيان ذلك.

و لكنّك خبير، بأنّ إنكار تكفّل الآيات لبيان حكم هذه الجهة أيضا، كما بالنسبة إلى أصل حكم مقدار الضمان المستفاد كلاهما من إطلاق الآية؛ في غاية البعد.


1- البقرة (2): 194.
2- النحل (16): 126.
3- الشورى (42): 40.

ص: 617

و لكن مع ذلك؛ الأمر سهل، لأنّه قد ظهر أنّ دلالتها على مدلولها لا يزيد عن الإطلاق فيخصّص (فيقيّد) إطلاقها بمفاد القاعدة بعد ثبوت كون مفادها مفاد معاقد الإجماعات، و معاقد الإجماعات إذا خصّصناها بهما و أخذنا بمدلولها في المثلي فيرتفع التعارض بين الآيات و بينهما، كما لا يخفى، و يبقى التعارض بين مدلول القاعدة الّذي قد عرفت المستفاد من ظاهرها كون مناط اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة هو التمكّن الشخصي في تأديتها و معاقد الإجماعات الّذي يكون المناط هو التمكّن النوعي كما نشير إليه.

و لكن؛ لمّا كان مناط كلمات الأصحاب و مبناهم في هذه المسألة استظهارهم من العرف و بناء العقلاء على كون مناط مثليّة الشي ء و قيميّته هو التمكّن النوعي، بمعنى أنّه لو وجد للشي ء أفراد نوعيّة عند غالب الناس ما يكون مماثلا في الشكل و الصفات الّتي لها مدخليّة في ماليّة الشي ء فيرون مثل ذلك مثليّا، و أمّا إذا لم يكن كذلك نوعا، فيراه قيميّا و لو وجد للشي ء التالف فرد مماثل له في ما ذكر نادرا عند الضامن أو غيره.

فيستكشف من ذلك فهم الأصحاب أنّ الشارع أيضا أمضى طريقة العرف في بنائهم ذلك، و ما استفادوا من القاعدة المذكورة ردعهم عمّا بنوا عليه، فلذلك لا بدّ أن تحمل القاعدة أيضا على أنّ المناط في أداء المأخوذ التمكّن النوعي في أداء مثله لا التمكّن الشخصي، و إلّا لم تستقرّ سيرتهم على ذلك لو كانت القاعدة الّتي كانت بمرآهم و مسمعهم قابلة للردع، فيرتفع التعارض بين مفاد القاعدة و معاقد الإجماعات، فيصير المرجع في باب ضمان القيمي و المثلي هو ما بنى عليه المشهور من نحوي الضمان دون ما التزم بعض من لا عبرة بقوله من ضمان

ص: 618

المثلي مطلقا إلّا عند التعذّر فينقلب إلى القيمة، لجموده على ظاهر الآيات (1) السابقة، مع كونه مخالفا لصريح القاعدة المذكورة و بناء العرف و تفريقهم في نحوي الضمان، مع أنّ بناءهم هو الأساس في باب الضمانات و فهم العرف هو المرجع في هذه المسائل لحلّ المعضلات، كما لا يخفى.

هذا؛ و لكن بناء المشهور متّبع في هذه الجهة، أي في اعتبار المثلي و القيمي لا مطلقا، فلا يجوز تخطئتهم في ذلك بأن يقال بأنّا نعلم بأنّه ليس لهم دليل يستفيدون منه هذا الحكم سوى قاعدة اليد الظاهرة في ما ذكر من التمكّن الشخصي، فهم أخطئوا في استظهارهم منها التمكّن النوعي، لما عرفت من أنّ الأساس هو مساعدة العرف لما أسّسوا عليه.

نعم؛ في كيفيّة اشتغال الذمّة و نحو ثبوت المال المأخوذ أو المتلف على العهدة الّذي هو الحكم الوضعي في مسألة الضمان، فإنّ ما ذكر هو البحث في الحكم التكليفي، و هو إلزام المالك الغارم على الأداء، فاعتبار القيميّة و المثليّة كان بالنسبة إلى الأداء، و أمّا بالنسبة إلى أصل اشتغال الذمّة فليس أساس ظاهر المشهور لنا متّبعا؛ إذ قد عرفت سابقا أنّ فهم العرف إنّما هو في هذه المسألة مساعد معنا، و لا يأبون عمّا يستظهر من قاعدة اليد من أنّ ما يستقرّ على الذمّة بسبب وضع اليد على مال الغير ليس إلّا نفس العين المأخوذة حتّى بعد التلف، و ذلك بوجودها الاعتباري دون العيني المستحيل استقرار وجودها على العهدة.

و قد عرفت من أنّه لا مانع من اعتبار مثل هذا الوجود بعد مساعدة العرف


1- أقول: إن كان المراد من المثل في الآيات هو المثل العرفي لا الاصطلاحي فلا تنافي بين ما نحن فيه و بين القاعدة لو قيل بأنّ أداء القيمي أداء لمثله عرفا، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».

ص: 619

فيه و عدم كونه لغوا، بحيث لا يكون منشأ للأثر- كأنياب الأغوال- بل لهذا الاعتبار آثار، منها مسألة ضمان قيمة يوم الإقباض و غير ذلك.

و بالجملة؛ لمّا كان العرف مساعدا في هذه الجهة ممّا يستفاد من ظاهر قاعدة «اليد» و كذلك «الإتلاف» من أنّ الذمّة مشغولة بنفس العين، سواء كان بعد التلف أو قبله حتّى تؤدّيها، إمّا بنفسها فيتحقّق الأداء، و إمّا بمثلها أو قيمتها فيتحقّق الوفاء، لا أن يكون الضمان قضيّة تعليقيّة، بأنّه لو تلف المال تشتغل الذمّة فتصير القاعدة رادعة لما عليه المشهور، و إن لم تكن من الجهة الاولى رادعة، لما عرفت من تحقّق مانع الردع و هو استقرار سيرة العرف الكاشفة إنّا من عدم قابليّة القاعدة له هناك بخلافه هنا، كما لا يخفى فافهم!

ضابط المثلي و القيمي

اشارة

المقام الثاني: و هو البحث عن ضابط المثلي و القيمي، لا يخفى أنّه كثر الكلام في المقام بين الأعلام، و منشأ ذلك عدم كون هذين اللفظين كما أشرنا إليه من الموضوعات الشرعيّة، بل هما من الموضوعات العرفيّة، فلمّا لم يرد من الشارع لهما تحديد فأرادوا أن يعرّفوهما باعتبار مصاديقهما الخارجيّة، فاختلاف أنواع المثلي و القيمي أوجب اختلاف التحديدين.

فبعض عرّفه- أي المثلي-: بأنّه ما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة، كما هو المشهور (1)، فهؤلاء قصروا نظرهم بالطعام و مثله، مع أنّه بالنسبة إليه كما إلى غيره أيضا غير مطّرد، فإنّ أنواعه مختلفة.


1- انظر! المكاسب: 3/ 209.

ص: 620

قال بعض بأنّه ما تماثلت أجزاؤه و تقاربت صفاته (1)، و غير ذلك من التعاريف الّتي لا تخلو كلّها عن الإشكال، بل لا يحصل الانضباط بها.

و لمّا لم يكن خصوصيّة الزمان و المكان دخيلة في اعتبار المماثلة، بل إنّما المدخليّة للخصوصيّات الموجبة لاتّحاد الماليّة و اختلافها فأحسن التعاريف للمثلي هو: أنّه الّذي يكون له أفراد نوعيّة مماثلة معه في ما له دخل في الماليّة، أو ما تفاوت في أفراده ما يوجب اختلاف الرغبات، و لمّا كان الاطّلاع على ذلك موقوفا- على أن يكون الشي ء ممّا يمكن الاطّلاع على ظاهره و باطنه حتّى تقاس الأفراد بعضها إلى الاخرى، فيكون مثل الحيوانات قيميّا؛ لعدم إمكان الاطّلاع على بواطنها، مع أنّه لا إشكال في أنّ اختلاف الباطن موجب لاختلاف الرغبات و الماليّة، فلو وجد عبد مماثل من جميع الجهات مع التالف فلا يوجب ذلك وجوب ردّه عوضا عن التالف؛ لأنّه بصرف وجود المشابه الظاهري مع عدم إمكان الاطّلاع على باطنه لا يصير الشي ء مثليّا، مضافا إلى أنّ الحيوانات غالبا في الأوصاف الظاهرة أيضا مختلفة، اختلافا موجبا لاختلاف الرغبة، و المصنوعات فما يصنع منها باليد فقيمي، بخلاف ما يصنع مع الآلات و العجلات، فإنّ في الأوّل و إن كان يمكن أن يخرج عباءات متعدّدة- مثلا- عن تحت يد استاد واحد متماثلة، إلّا أنّ ذلك نادر، فلا يعتمد عليه، بخلاف الثاني مثل الساعات و غيرها الغير المنطبق عليها تعريف الاولى؛ لأنّ نصف الساعة ليس نسبة قيمته إلى قيمة تمامها كنسبة النصف إلى ساعة صحيحة، و أمّا هذا التعريف فيصدق عليها، كما لا يخفى.


1- تحرير الأحكام: 2/ 139، و انظر! المكاسب: 3/ 213.

ص: 621

و في «الشرائع»: (فإن تعذّر المثل المزبور ضمن قيمته يوم الإقباض) .. إلى آخره (1).

هنا مسائل لا بدّ من تعرّضها.

اشارة

الاولى: يظهر من عبارة «الجواهر» في المقام- و إن أنكر ذلك بعد صفحة- أنّ المناط في استقرار قيمة المثل على العهدة هو وجود المثل عند استقرار الضمان أوّلا، و إن كان المثل متعذّرا حين القرار، بأن لم يكن موجودا من أوّل الأمر لا بأن يطرأ التعذّر فلا يستقرّ قيمة المثل، بل ينقلب المثلي إلى القيمي (2).

هذا؛ و لكن لا يخفى ضعف هذا الكلام؛ إذ لا إشكال في أنّ المناط في كون الشي ء مثليّا إنّما هو جريان العادة أن يوجد له غالبا أفراد مماثلة معه في الصفات الّتي لها المدخليّة في الماليّة كالحنطة- مثلا- و إن اتّفق أنّه لم يوجد مثله كذلك في بعض الأوقات، إذ لا إشكال أنّ الحنطة و أمثالها إذا لم يوجد في وقت من الزمان- كعام المخمصة و غيرها- لم يخرج عرفا عن كونه مثليّا.

و بعبارة اخرى: إنّ تشابه الأفراد و عدمه الموجب لصيرورة الشي ء مثليّا و قيميّا إنّما هو تابع لطبيعة الشي ء و وجوده الغالبي في نظر العرف، و أمّا عروض هذا الوصف أو انعدامه في وقت من الأوقات لا يوجب انقلاب حكم طبيعة الشي ء عند العرف.

فلو اتّفق أنّه وجد في وقت للشي ء القيمي أفراد متماثلة لا يوجب ذلك خروجه عن القيميّة عند العرف، كما لا يخفى، و كذلك عكسه، مع أنّ الاشتراط


1- شرائع الإسلام: 3/ 239.
2- جواهر الكلام: 37/ 95 و 96.

ص: 622

المذكور ربّما يوجب اعتبار التمكّن الشخصي في صدق كون الشي ء مثليّا و قيميّا، و كذلك يلزم أن لا يكون للمالك حقّ مطالبة المثل و لو وجد المثل بعد التعذّر، و لو لم يكن آخذا للقيمة بعد، مع أنّه لم يلتزم بذلك أحد.

و بالجملة؛ فلا وجه للاشتراط المذكور، و لا مدخليّة للزمان و المكان في صدق المثليّة و القيميّة بعد تحقّق المناط المذكور و هو جريان العادة أن يوجد للتالف المثل بحسب الطبيعة الأوّليّة، فالأقوى عدم خروج التالف عن كونه مثليّا و لو لم يوجد مثله عند التلف، كما عليه السّلف (1) و جلّ الخلف.

الثانية: إذا تعذّر المثل هل للضامن إلزام المالك على أخذ القيمة أم لا، بل له الصبر حتّى يوجد المثل؟ أمّا على مسلكنا من استقرار نفس العين على الذمّة فتستتبعه سلطنة المالك على عهدته، و مطالبته بعين ماله، و أنّ باب الضمان في الأحكام الوضعيّة كباب قاعدة «الميسور» في الأحكام التكليفيّة (2)، فما يؤدّيه الضامن عند تلف العين يكون مرتبة ممّا استقرّ على الذمّة، و لمّا لم يمكن أداؤه بتمام مراتبه، فيوفيه ببعض مراتبه و هو مثله أو قيمته، فالأمر ظاهر، لأنّه لمّا استقرّت سلطنة المالك على عهدة الضامن فلا تسقط سلطنته تلك إلّا بردّه ما على عهدته أو بتجاوز المالك برضاه عن حقّه، و أمّا عدم تمكّنه الآن من أداء ما في ذمّته مع عدم مطالبة المالك حقّه و عدم إلزامه على أدائه ما على عهدته حتّى يصير ذلك تكليفا للضامن بما لا يطاق، لا يوجب سقوط سلطنته، فبمقتضى تسلّط الناس على أموالهم، للمالك الصبر حتّى يأخذ ما هو أقرب بماله بعد تلف


1- كما يقتضيه إطلاق كلامهم و إن لم يكن مصرّحا به في كلماتهم، «منه رحمه اللّه».
2- القواعد الفقهيّة: 4/ 127.

ص: 623

عينه، و ليس للضامن من إلزامه على إسقاط حقّه بأخذه القيمة.

و أمّا على مسلك المشهور؛ من استقرار المثل في المثلي على العهدة، فأيضا لا إشكال في اقتضاء ذلك أنّ للمالك الصبر حتّى يأخذ ما هو أقرب إلى ماله، و هو المثل و ليس للضامن إلزامه على تجاوزه عن حقّه بعد أن كان المستقرّ على عهدته غير ما يريد أن يلزم المالك بأخذه و هو القيمة.

نعم؛ ليس للمالك الإلزام فعلا على المثل مع عدم إمكانه، بل يوجب ذلك سقوط سلطنته عن مطالبة المثل؛ لأنّ إلزامه تكليفا في مثل هذه الصورة لمّا يكون تكليفا بما لا يطاق فتنقطع سلطنته؛ لأنّ قاعدة السلطنة كغيرها من الأحكام مختصّة عقلا بصورة القدرة، و هذا لا ينافي إلزامه وضعا، بمعنى كون ذمّته مشغولة بالمثل و لو لم يكن متمكّنا من أدائه، لأنّه لا محذور من اعتبار المثل أو العين على العهدة مطلقا، كما أوضحنا أنّ ظاهر «على اليد» (1) يقتضي ذلك، ثمّ تقيّده وقت الأداء الّذي هو ظرف التكليف بالقدرة، و قد أشرنا أنّ إثبات القيمة في القيميّات إنّما يكون ذلك بسبب ذيل قاعدة اليد و هو «حتّى تؤدّي» دون صدره.

و كيف كان؛ فعلى مقتضى كلام المشهور أيضا لا حقّ للغارم على أخذ المالك غير حقّه و إلزامه على إسقاطه سلطنته إذا لم يوجب إعمال سلطنته تكليفا بما لا يطاق.

ثمّ إنّه هل للمالك إلزام الغارم بإعطائه القيمة أم لا، بل عليه الصبر إلى أن يوجد المثل؟ الظاهر أنّه لا إشكال في أنّ له ذلك، ضرورة أنّ اعتبار المثل في


1- القواعد الفقهيّة: 4/ 53.

ص: 624

المثليّات ليس إلّا لمصلحة المالك من أنّه عند تلف ماله لمّا لم يمكن وصوله بماله بجميع خصوصيّاته الشخصيّة، فاعتبر ضمان مثله حتّى يصل ببعض مراتب الخصوصيّات حتّى ينتهي إلى القيمة الّتي هي آخر درجة الخصوصيّة المشاركة مع التالف في الماليّة، فإذا كان الحقّ له فإذا لم يمكن له الآن وصوله بماله و لو بمرتبة المثليّة بأن يأخذ مثل ماله لعدم وجود المثل فعلا لتعذّره، فله أن يتجاوز عن حقّه ذلك و أخذه القيمة الّتي هي أوّل مرتبة تدارك التالف، و ليس للغارم إلزامه على الصبر الراجع ذلك إلى إلزامه بعدم إسقاطه حقّه.

و لا ينتقض ذلك بصورة وجود عين المال أو مثله، فكما أنّه ليس للمالك إسقاطه حقّه عن العين أو المثل و إلزام الغارم على إعطاء القيمة فكذلك في صورة تعذّر المثل لمّا كان حقّه الثابت على العهدة هو العين، فليس للمالك إلزام الغارم على تبديله بالقيمة و أخذها عنه.

وجه عدم ورود النقض ظهور الفرق بين المقامين؛ إذ عند وجود العين يرجع إسقاط الحقّ عنها، و كذلك عند وجود المثل إلى إسقاط السلطنة المتعلّقة بهما.

و من البداهة أنّ السلطنة حكم غير قابل للإسقاط، و كذلك الإعراض عن العين أو المثل حتّى يوجب ذلك إثبات حقّ على الغير لا يجوز بالإجماع، بخلاف ما إذا لم يوجد أحدهما؛ فلمّا كان الثابت على الذمّة حقّا محضا فله إسقاط بعض مراتب حقّه، و هو مرتبة المثليّة و الاكتفاء بمرتبة الماليّة فقط، و هي القيمة.

أقول: فحاصل الفرق هو أنّ عند وجود العين جميع مراتب سلطنة المالك باقية، فتجاوزه عنها و إلزام الغارم على القيمة، و جعل ذمّته مشغولة بالقيمة، مع

ص: 625

أنّ الثابت على عهدته بحكم الشرع ليس إلّا نفس العين، لا يمكن ذلك إلّا بإلزامه على تبديل ما على عهدته بالقيمة بأحد عناوين المعاملات من الهبة المعوّضة و غيرها، و من المعلوم أنّه ليس للمالك هذا الإلزام، و لم يثبت له هذا الحقّ بدليل شرعي، و هكذا يكون حال المثل عند وجوده و إرادة تبديله بالقيمة، فإنّ سلطنته الفعليّة على المراتب الاخر من عين المال و هو مثله باقية، و لم يتبدّل بعد بالقيمة ما دام وجود المثل، فلم ينقطع سلطنته عنه الثابتة بالدليل الشرعي.

و أمّا عند تعذّر المثل فنقول:- مضافا إلى أنّ الثابت من أدلّة وجوب ردّ المثل في المثلي و عدم ثبوت حقّ للمالك بمطالبته القيمة، هو في صورة وجود المثل، و أمّا عند تعذّره فلم يثبت ذلك، مع أنّ العرف أيضا يأبى عن إلزام المالك على الصبر و عدم جواز مطالبة قيمة ماله، مع أنّه ربّما لا يوجد المثل، بمعنى أنّه يطول الزمان حتّى يرتفع العذر فيوجب ذلك ضررا فاحشا- إنّ في هذه الصورة فلمّا لم يكن متعلّق السلطنة- و هو العين أو المثل الّذي هو بمنزلة وجود العين- موجودا في الخارج فتنحصر سلطنته بحقّه الثابت على عهدة الغارم.

و لا ريب أنّ إسقاط الحقّ لا يوجب المحذورات السابقة، فمتعلّق سلطنة المالك هو حقّ مطالبة مثل ماله الّذي يكون متعلّقه ذمّة الغارم فقط، فتجاوزه عن خصوصيّة المثليّة و اكتفاؤه بالماليّة يكون بمنزلة إبرائه، و لا ريب أنّ الإبراء ليس كالإيهاب حتّى يحتاج إلى القبول فيدخل في عنوان المعاملات، و لا إعراضا حتّى لا يجوز.

فالتحقيق؛ هو ما أفاده- دام ظلّه- من عدم جواز إلزام الغارم المالك في قبول القيمة بخلاف العكس وفاقا للمشهور، بل كادت أن تكون المسألة إجماعيّة

ص: 626

و إن لم تكن المسألة محرّرة إلّا في كلمات المتأخّرين، خصوصا صورة العكس، فراجع!

الثالثة: اختلفوا في تعيين ضابط التعذّر و الفقدان، فبعض جعله بأن لا يوجد المثلي في البلد الّذي تلف المال فيه (1).

و بعض أضاف إلى ذلك ما حول البلد أيضا من الجوانب الّتي اعتيد نقل مثل التالف منها إلى البلد (2)، و بعض أطلق (3).

و بعض جعل الضابط الضرر و الحرج، بحيث إن أوجب تحصيل المثل الحرج فيصدق حينئذ الفقدان و التعذّر (4)، و أوكل في «جامع المقاصد» أمر ذلك إلى العرف و تحديدهم (5)، و الأقوى الأخير.

بيان ذلك: أنّه لا يخفى أوّلا أنّ للتعذّر مراتب، منها: التعذّر العقلي بأن اتّفق في زمان لا يوجد المثل أصلا.

و منها: دون ذلك بأن يوجد و لكن في البلاد النائية.

و منها: أن يوجد في المكان القريب و لكن مع ذلك كان حمله متعذّرا.

و منها: أن يكون في البلد و لكن يكون تحصيله متعذّرا.

و الجامع لجميع المراتب هو صدق الحرج، و لمّا لا تصير إحدى هذه المراتب ضابطا، فلقد أحسن من جعل الحدّ هو الحرج، و لكنّ الإشكال في


1- تذكرة الفقهاء: 2/ 383.
2- المبسوط: 3/ 76.
3- المكاسب: 3/ 238.
4- لاحظ! جواهر الكلام: 37/ 97.
5- جامع المقاصد: 6/ 245.

ص: 627

المقام هو جريان قاعدة الحرج، إذ بإجرائها يمنع عن جريان قاعدة السلطنة، و قد أشرنا سابقا بأنّ قاعدة الحرج و إن كانت من القواعد العامّة الحاكمة على جميع الأحكام إلّا أنّها لمّا كانت بنفسها قاعدة امتنانيّة فليست قابلة لأن تعارض الأحكام الامتنانيّة الاخرى الّتي منها حكم السلطنة، لعدم ترجيح لأحد الحكمين إذا كان منشأهما الامتنان على الآخر.

فعلى ذلك لا تصلح هذه القاعدة للمرجعيّة في المقام حتّى يحكم على مقتضاها على عدم وجوب تحصيل المثل على الضامن عند صدق الحرج، فعلى ذلك لا مقتضي هنا لجريانها، لا أنّ المانع- و هو قاعدة أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال (1) و مثلها- تمنع من جريانها، فتدبّر!

نعم؛ يمكن أن يقال بأنّه كما أنّ في صورة عدم وجود المثل رأسا و فقدانه كليّا فلمّا لم يكن تحصيله مقدورا فعلى حسب حكم العقل بعدم جواز الإلزام في مثله لا يكون مقتض لقاعدة السلطنة، فلا تجري هي بحكم العقل، فكذلك عند ما كان المثل موجودا و لكن كان تحصيله متعسّرا، بحيث يكون حرجا، فلمّا كان بنظر العرف هذه الصورة ملحقة بما إذا كان تحصيله غير مقدور رأسا، بمعنى أنّ العرف أيضا له حدّ لاعتبار القدرة، ففيما إذا انجرّ تحصيل المثل إلى الضرر و الحرج يرى العرف الشخص بحكم غير المقدور العقلي، فلا يجوّزون عند صدق الحرج إلزام الغارم على إيجاد المثل فلا يبقى عند ذلك أيضا مقتض لجريان قاعدة السلطنة، فلا وجه حينئذ لجواز إلزام المالك الغارم على تحصيل


1- جواهر الكلام: 37/ 10.

ص: 628

المثل بحكم العرف (1)، الّذي يكون نظرهم مرجعا لمهمّات مسائل الضمان.

فالتحقيق في المقام ما حقّقه المحقّق الثاني قدّس سرّه من إرجاع الأمر إلى العرف (2)، فلو استقرّ بناؤهم على عدم جواز الإلزام في مثل هذه الصورة، أي عند صدق العسر و الحرج في تحصيل المالك المثل فيستكشف منه عدم فهمهم من قاعدة السلطنة جواز الإلزام و عدم كونها قابلة لردعهم، و إلّا لم تستقرّ سيرتهم على الخلاف، فلا يبقى بعد مجال في المقام للرجوع إلى قاعدة السلطنة؛ لأنّه استكشف عدم صلاحيتها للمرجعيّة.

و لا يشتبه عليك الأمر بأنّه بالأخرة صار المرجع قاعدة الحرج، لوضوح أنّه لو لا قصور قاعدة السلطنة لقصور موضوعه عن شمولها للمقام ما كانت قاعدة الحرج قابلة للمنع، أي عن جواز الإلزام، كما أوضحنا ذلك.

و ممّا ذكرنا ظهر النظر في ما في كلام صاحب «الجواهر» في المقام عند اعتراضه على المحقّق المذكور قدّس سرّه بأنّه ليس لنا في المقام لفظ الفقدان و التعذّر في نصّ من حديث و غيره حتّى يرجع في تعيين معناه إلى العرف (3).

إذ قد عرفت مراده قدّس سرّه من مرجعيّة العرف، و أنّه ليس غرضه من الرجوع إليهم الرجوع في معنى اللفظ، بل جعل قدّس سرّه نظرهم مرجعا لمقدار مقتضى الضمان من اقتضاء قاعدة السلطنة و غيرها فافهم!


1- لا يبعد الدعوى بأنّ السيرة المستقرّة من العرف في باب الغصب عدم اعتنائهم بالمشقّة و الحرج العارضة على الغاصب المسبّبان عن أدائه المغصوب و كذلك عن إيصال بدله، و ذلك لما هو المرتكز في الأذهان من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال» فتدبّر! «منه رحمه اللّه».
2- جامع المقاصد: 6/ 245.
3- جواهر الكلام: 37/ 96.

ص: 629

المسألة الرابعة: لو خرج المثل عن القيمة رأسا كالجمد في الشتاء فيما إذا أتلفه أحد من غيره في الصيف، فهل يلحق ذلك بالتعذّر فيستحقّ المغصوب منه القيمة، أم لا، بل يتعيّن المثل؟

نقول: أمّا على ما تقتضيه قواعد الضمان في المقام هو عدم انقلاب المثل، إذ قد عرفت أنّ قاعدة اليد في المثلي لا تدلّ إلّا على كون المثل في المثلي ثابتا على الذمّة حتّى يؤدّيه، و أمّا قاعدة الإتلاف فقد يتوهّم كونها مقتضية للتبديل بالقيمة.

و توضيح الوهم و دفعه؛ هو أنّ ظاهر لفظ «من أتلف مال الغير» (1) الدالّ على ضمان مثله في المثليّات يدلّ على اعتبار الماليّة في التالف و ما يتداركه، و من المعلوم أنّه عند سقوط المثل عن القيمة رأسا لا يبقى له ماليّة، مع أنّ المثليّة للتالف إنّما اعتبرت لجهات أهمّها في الماليّة، بل مناط صدق المثليّة هو التشخصّات المشتركة الموجبة للاستواء في الماليّة، فعند عدم بقاء الماليّة فمن أين تبقى المثليّة؟

و دفع ذلك: هو أنّه لا إشكال في أنّ السقوط عن الماليّة على نحوين:

أحدهما: ما أوجبه نقص في ذات المال، ثانيهما: ما أوجبه تبدّل الزمان أو اختلاف المكان كالجمد في الشتاء أو الماء في ساحل الشطّ، فإن أوجب نفس المال سقوطه عن الماليّة بحيث صار يصحّ سلب الماليّة عنه رأسا فمجال لما ذكر من الكلام، و أمّا إذا لم يكن كذلك، بل كان النقص مستندا إلى الخارج فلا دليل على تبدّل المثل بالقيمة، و لا وجه للعدول عمّا تقتضيه ظواهر الأدلّة، إذ لا


1- جواهر الكلام: 37/ 60.

ص: 630

يستفاد من الأدلّة إلّا اعتبار المثليّة في الماليّة على نحو يعدّ مالا في الجملة، و إلّا فلو كان المناط الماليّة المطلقة فلازمه أن يبدّل ضمان المثل بالقيمة فيما إذا صارت قيمة المثل أنقص من قيمة التالف، و من البداهة أنّه لم يلتزم بذلك أحد، فيستكشف من ذلك عدم كون المناط اعتبار التماثل من جميع الجهات و المراتب.

و بعبارة اخرى: إنّ الأدلّة لا تقتضي إلّا اعتبار الماليّة التقديريّة، بمعنى أنّه لو لم يكن الماء في الشاطئ كان له بحسب المتعارف قيمة معتدلة متوسّطة كسائر الأموال، لا كما في الوسط من برّ الحجاز حتى يعدّ ذلك من المواقع و المنافع النادرة، بل في الأمكنة المتعارفة القريبة بالماء، و لا كما في ساحل دجلة، و كذلك الجمد ليس في الشتاء لا يعدّ من الأموال رأسا و إلّا لم يوجب إتلافه مطلقا ضمان الماليّة، بل القضيّة التعليقيّة فيه أيضا صادقة.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ قاعدة الإتلاف أيضا كقاعدة اليد لا تدلّ على انقلاب الذمّة الّذي هو مخالف للأصل أيضا عن المثل إلى القيمة فيما إذا سقط المثل بسبب اختلاف الأحوال عن الماليّة و ليس ذلك ملحقا بالتعذّر.

هذا ما تقتضيه ظواهر أدلّة الضمان، إنّما الكلام في مساعدة العرف في ذلك و لا يخفى مخالفتهم فيه.

ضرورة؛ أنّ من غصب ماء في البئر فأتلفه، و كذلك جمدا في الصيف فأتلفه، فأتى بالمغصوب منه في الشطّ و أدّى إليه من الماء بقدر ما أتلفه، أو الجمد في الشتاء أعطاه عوضا عن ماله، العرف ينكر ذلك أشدّ الإنكار، و يعدّ ذلك من أعلى مراتب الظلم، فيستكشف من ذلك استقرار بنائهم على عدّهم مثل

ص: 631

هذه الأشياء كالساقط عن الماليّة رأسا، بمعنى أنّهم لا يرون الماء في الشطّ مثلا مع الماء في البئر مماثلا في الماليّة، و لمّا كانت المماثلة في الماليّة شرطا في ضمان المثلي، و لا ريب أنّ اعتبار الماليّة و عدمها إنّما يكون بنظر العرف و قد أشرنا أيضا إلى أنّ نظرهم في باب الضمان [له] كمال مدخليّة.

فالأقوى في المسألة؛ على حسب ما يقتضيه حكم العرف الحكم بتبديل ضمان المثل بالقيمة فيما إذا سقط المثل عن الماليّة رأسا بحسب الشرع أيضا، كما قوّى ذلك شيخنا قدّس سرّه في «المكاسب» أيضا (1)، و إن كان التحقيق بحسب القواعد هو ما قوّاه في «الجواهر» (2)، و لكن لا يخفى أن التبدّل بالقيمة ليس على نحو الإطلاق، بل تعتبر القيمة للمثل في أقرب الأمكنة من محلّ تلف الماء إلى الشطّ، و كذلك آخر الأزمنة من زمان الصيف أو مطلق الزمان من الأزمنة الّتي يفرض للجمد قيمة إلى زمان الشتاء، و ذلك لما عرفت من أنّ الحكم بالتبدّل إنّما هو مخالف للقاعدة، و إنّما يكون ذلك بحكم العرف الّذي منشأه عدم بقاء المماثلة في الماليّة بعد سقوط المثل عن الماليّة رأسا، و لا إشكال أنّ ذلك لا يقتضي إلّا اعتبار أوّل درجة من القيمة له، إذ مع عدم سقوط المثل عن الماليّة رأسا حتّى يصل الماء إلى الشطّ مثلا، و يفرض له في ما بين مكان التلف و نفس الشطّ مراتب من الماليّة، فالالتزام بتبدّل المثل إلى القيمة من أوّل الأمر- و هو مكان التلف- لا وجه له، بل التحقيق أنّ الالتزام بالتبدّل هو [عند] أوّل زمان سقوط المثل عن القيمة رأسا، و ليس هو إلّا أقرب الأمكنة إلى الشطّ حتّى لا


1- المكاسب: 3/ 238.
2- لاحظ! جواهر الكلام: 37/ 99 و 100.

ص: 632

يبقى المماثلة في الماليّة رأسا، و قد تحقّق أنّه لا يعتبر التماثل في جميع مراتب الماليّة، بل يكفي التماثل في الجملة، كما لا يخفى.

أقول: نظير هذا الفرع ما ذكره الفقهاء في باب القرض من أنّه لو أسقط الدراهم و الدنانير فلا يتبدّلان بالقيمة، بل باقيان على مثليّتهما، و بكلّ سكّة اقترضتا فلا بدّ أن يردّ منها بل يستشكلون التبديل بالاختيار و التراضي للزوم الربا إلّا مع الشرط، فقد قوّى جوازه صاحب «الجواهر» قدّس سرّه و إن قال: إنّ المسألة غير محرّرة (1).

و كيف كان؛ فلا بدّ أن يحمل إطلاق كلامهم على عدم تبدّل المثل بالقيمة بما إذا كان للسكّة الساقطة من حيث المادّة المسكوكة عليها قيمة، كما هو ظاهر محلّ كلامهم، لكونه الدراهم و الدنانير اللذين مادّتهما الفضّة و الذهب.

و أمّا إذا لم يكن كذلك، بل كانت الماليّة للمسكوك الرائج من جهة الاعتبار فقط، كما في الكاغذ و نحوه، فلا بدّ أن نلتزم على ما أفاده- دام ظلّه- من التبدّل بالقيمة، أي أوّل درجة من القيمة الّتي يفرض له، و كذلك لها نظائر اخر، كما في باب الصرف و نحوه، فراجع!

قال في «الشرائع»: (و إن لم يكن [المتلف] مثليّا ضمن قيمته) .. إلى آخره (2).

لا يخفى، أنّه بعد ذهاب المشهور إلى كون ضمان القيميّات بالقيمة، بل كاد


1- جواهر الكلام: 37/ 99 و 100.
2- شرائع الإسلام: 3/ 240.

ص: 633

أن تكون المسألة إجماعيّة؛ لعدم الاعتناء بخلاف مثل ابن الجنيد (1)- لو ثبت مخالفته- ففي المسألة من حيث وقت اعتبار القيمة أقوال، فذهب بعض- كما نسبه في «الشرائع» إلى الأكثر- إلى كونه حين الغصب (2)، و آخرون إلى ثبوت أعلى القيم (3)، و جماعة إلى اعتبار القيمة حين التلف (4)، و غير ذلك من الأقوال أو الوجوه الّتي هي نادرة.

و كيف كان؛ فينبغي أوّلا البحث في معنى قاعدة «اليد» الّتي هي المدرك للضمان بما يرتبط بالمقام، فنقول: إنّ في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «على اليد» (5) احتمالات.

الأوّل؛ أن يكون المراد به في ظرف وجود العين ثبوت تكليف محض، بأن يكون المراد من لفظ «على» إثبات إلزام على الآخذ بوجوب ردّ العين ما دامت موجودة، بلا اعتبار إثبات شي ء على العهدة، ثمّ عند تلفها يعتبر إثبات مثلها أو قيمتها على العهدة، و يكون ذلك هو معنى كون الضمان قضيّة تعليقيّة، أي لو تلفت العين المغصوبة ثبت مثله أو بدله على الذمّة، و إلّا فقبل ذلك ليس على العهدة شي ء.

و لكن استفادة هذا المعنى من الحديث بعيدة جدّا، لأنّه يلزم على ذلك التفكيك في لفظ الحديث بالنسبة إلى زمان وجود العين، بأنّ المراد منه تكليفا، و إلى زمان تلفها أن يكون المراد منه وضعا أيضا.


1- نقله صاحب جواهر الكلام: 37/ 100.
2- شرائع الإسلام: 3/ 240، مسالك الإفهام: 12/ 185.
3- المبسوط: 3/ 72 و 75، السرائر: 2/ 481.
4- المهذّب: 1/ 436 و 437، الدروس الشرعيّة: 3/ 113.
5- عوالي اللآلي: 1/ 224 الحديث 106.

ص: 634

و أيضا؛ ظاهر هذه القضيّة- أي قاعدة اليد- هو الحكم التنجيزي، فإنّ ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1) أنّه يستقرّ المأخوذ على العهدة عند وضع اليد عليه، مع أنّك قد عرفت أنّ لازم هذا المعنى هو كون المستفاد من هذه القاعدة هو الحكم التعليقي، و أيضا لازم هذا المعنى أن لا يكون لصاحب المال حقّ الرجوع على الغاصب في صورة بقاء العين و كونها عند غيره، فيأخذ من الغاصب بدل الحيلولة.

و بالجملة؛ فظهر أنّ استناد هذا المعنى إلى المشهور بأن يكون بناؤهم في باب الضمان ذلك بعيد في الغاية، لاستبعاد الإسناد إليهم المعنى الّذي يأباه الفهم العرفي استفادته من القاعدة.

الثاني: أن يكون المراد من لفظ «على» اعتبار وجود للعين على اليد من أوّل الأمر و لو حين وجود العين، فإنّه يكون تحت اليد إلى حين الأداء، بأن يكون المشهور اعتبر وجودا للعين المغصوبة حين الغصب «على اليد» المكنّى بها عن «العهدة» حتّى يردّ العين إلى صاحبها، و لازم ذلك وجوب ردّ العين عند وجودها، و مثلها عند تلفها لو كان لها المثل في الغالب، و إلّا القيمة، و قد أشبعنا الكلام في تحقيق هذا المعنى سابقا، و أيضا، لازم هذا المعنى استفادة الوضع من لفظ «على» من حين الغصب، فلا يجري فيه المحذور السابق.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ لازم هذا المعنى- كما لا يبعد استناد ذلك إلى المشهور- أنّه ما دام وجود العين فهي ثابتة على الذمّة، فعند تلفها و تعذّرها يتبدّل بالمثل لو كان مثليّا، و بالقيمة لو لم يكن كذلك، بمعنى أن تنقلب الذمّة إلى الذمّة الاخرى


1- عوالي اللآلي: 1/ 224 الحديث 106.

ص: 635

بحيث يكون خلع و لبس، فلذلك يترتّب عليه التوالي الفاسدة من عدم الدليل على انقلاب الذمّة و غيره.

و لكنّك خبير أنّه لازم لهذا المسلك مع ما ذكر، و ذلك لأنّه لم لا يجوز أن تكون نفس العين بجميع خصوصيّاتها ثابتة على الذمّة عند وجودها و بمرتبة منها، و هي مثلها لو كانت مثليّا عند تلفها، أو قيمتها لو لم تكن كذلك؟ بحيث تكون العهدة من أوّل زمن الاشتغال مشغولة بنفس العين إلى زمان الأداء، إلّا أنّه في كلّ زمان بمرتبة منها، فبسبب تعذّر العين يتبدّل حدّ وجوده و تشخّصه لا نفسها بشراشر وجودها كما في باب القسم الثالث من الاستصحاب الكلّي، فبنوا على جوازه مع تبدّل الشخص فيه، و قد ثبت في محلّه أنّه لا محذور في ذلك لكون الذات الّتي هي موضوع الاستصحاب باقية، إلّا أنّه لمّا اعتبر لها مراتب فبذهاب المرتبة الشديدة منه لا يلزم أن ينقلب الموضوع، بل هو بنفسه في المرتبة الضعيفة أيضا موجود، فكذلك في ما نحن فيه لا بأس بأن نلتزم بمثله أبدا، و لا يمنع عنه دليل أصلا.

فعلى ذلك؛ لا يلزم التصرّف في قوله: «حتّى تؤدّي» أيضا، كما هو لازم [على] المعنى الثالث، و ذلك لأنّك عرفت أنّ الثابت على الذمّة في كلّ آن إنّما هو ما يتمكّن من أدائه من نفس العين أو ما هو الأقرب إليها عند تعذّرها، و من المعلوم أنّه لا يجب الأداء إلّا ما هو ثابت على الذمّة، و إن كان ذلك خلاف ظاهر لفظ القاعدة، فإنّ ظاهرها أنّ المؤدّى يجب أن يكون نفس ما اخذ، فيحتاج على هذا المسلك تصرّف في ظاهر هذه الجملة بأن يكون المراد أداؤه أو مرتبة منه بقدر المتمكّن عليه، و لكن هذا التصرّف لا يضرّ بهذا المسلك، لأنّه ستعرف أنّ

ص: 636

هذا على كلّ التقادير محتاج إليه.

نعم؛ على هذا المعنى الإشكال في أمرين: أحدهما في أنّه إذا اختلف نقد البلد فعند تعذّر العين في القيمي أو المثلي المتعذّر مثله أيّ واحدة من النقود الّتي اعتبر ذلك مرتبة لنفس العين تثبت على الذمّة؛ لأنّ أحدها المعيّن ترجيح بلا مرجّح، و الغير المعيّن غير قابل للتحقّق، و الجامع أيضا أنكرناه سابقا.

و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنّه يثبت أحدها بنحو التخيير على سبيل البدليّة على الذمّة، فتأمّل!

و ثانيهما: أنّه ما الدليل على تبدّل مراتب العين بسبب التعذّر ما لم يصل زمان الأداء، فلم لا يلتزم بثبوت نفس العين على العهدة إلى زمان الأداء فتتبدّل المرتبة حينه، كما هو مبنى الاحتمال الثالث؟

و هذا أيضا؛ مدفوع بأنّ هذه الامور الاعتباريّة تابعة لاعتبار العقلاء، و يمكن الدعوى قريبا بأنّ اعتبار العقلاء (1) وجود العين في كلّ زمان إنّما يكون بما يمكن أداؤها، و لا إشكال أنّه حين تلف العين لا يمكن إلّا أداء المثل أو القيمة، و لا دليل على اعتبار العقلاء وجود العين و بقاءها عند التلف أزيد من ذلك.

الثالث: هو أن يكون المراد من لفظ القاعدة اعتبار بقاء العين بجميع خصوصيّاتها و لو بعد التلف «على اليد [ما أخذت] حتّى تؤدّي» فتنقلب إلى المثل أو القيمة حين الأداء، بحيث يلاحظ النقص في العين عن خصوصيّتها وقت الأداء و الالتزام بذلك لعدم تأدية العين بجميع مراتبها عنده.


1- يستفاد من «جامع المقاصد» في باب الدين فيما لو أسقط السلطان الدراهم المقترضة ما يندفع به هذا الدفع، بل يقوى به الاحتمال الأخير، فراجع! «منه رحمه اللّه»، (جامع المقاصد: 5/ 41 و 42).

ص: 637

و هذا ما سلكه بعض أعاظم المعاصرين في معنى القاعدة- كما أوضحناه في أوّل الباب عند شرح القاعدة- فالتزم بكيفيّة ثبوت الضمان كذلك (1).

و لا يخفى؛ أنّ إثبات هذا المعنى موقوف أوّلا على مساعدة العرف و اعتبار العقلاء وجود العين بخصوصيّتها على العهدة و عدم تنزّلها عن هذه المرتبة في طرف التلف، فإثبات المعنى السابق، كما لا يبعد الدعوى قريبا كونه مرادا للمشهور لا تبديل الذمّة، و استظهاره من الحديث أقلّ مئونة من هذا المعنى، و بعيد مساعدة العرف في هذا الاعتبار.

و ثانيا؛ إلى الالتزام بشبه استخدام في قوله: «حتّى تؤدّي» كما هو ظاهر.

هذه كلّها تصوّرات و احتمالات في الحديث، و قد عرفت عدم السبيل إلى الالتزام بالأوّل، و عدم الدليل لإثبات المعنى الثالث؛ لعدم ثبوت مساعدة العرف له، فيتعيّن الاحتمال الثاني الّذي بنينا على كون مسلك المشهور عليه.

فانقدح ممّا ذكرنا عدم الوجه للالتزام بضمان القيمة حين الغصب؛ لعدم اشتغال الذمّة عنده إلّا بنفس العين، و عدم اعتبار القيمة وقت الغصب و الأخذ أصلا حتّى تشتغل الذمّة به.

و أمّا اعتبار قيمة وقت الأداء- كما ذهب إليه بعض محشّي «المكاسب» (2)- أيضا فاسد، لأنّ مبناه هو الاحتمال الثاني من معنى الحديث، و قد عرفت عدم تماميّته.

و أمّا اعتبار أعلى القيم فنشير إلى بطلانه أيضا، فيقوى القول بضمان قيمة


1- راجع! الصفحة: 523 من هذا الكتاب.
2- حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي: 96.

ص: 638

وقت التلف؛ لما ظهر من أنّ حين التلف تتبدّل الذمّة بالمعنى الماضي من العين إلى القيمة في القيميّات فيتعيّن اعتبار القيمة عند التلف، ضرورة أنّه عند ذلك تشتغل الذمّة بالقيمة، فلا وجه و لا دليل على تبدّل الذمّة عمّا اشتغلت به إلى غيره، بل الذمّة مستقرّة على ما تعلّقت به من القيمة و لا يزيلها عنها إلّا تأديتها، كما لا يخفى.

هذا ما تقتضيه القاعدة في المقام فلا بدّ من الالتزام بها ما لم يثبت من الشرع ما يوجب رفع اليد عنها من المخصّص و غيره.

و إنّما الكلام في المخرج عن القاعدة، فقد يقال: إنّ المستفاد من صحيحة أبي ولّاد المشهورة ما هو المخالف لها، فالأولى البحث عنها بذكر بعض فقراتها بما يرتبط منها بالمقام.

فأقول: إنّ منها قوله عليه السّلام في جواب السائل: أ رأيت لو عطب البغل أو أنفق أ ليس كان يلزمني؟ «نعم قيمة بغل يوم خالفته» (1).

فقد احتمل بعض: كون لفظ «نعم» جوابا عن النفي لا عن المنفيّ لأنّها جواب عن النفي، فتصير معنى القضيّة أنّه ليس يلزمك، كما في قوله تعالى:

أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ (2) فقد قيل: إنّه لو قالوا: «نعم» لكفروا، فاللازم أن يقولوا:

«بلى» لكونه جوابا للمنفيّ، بخلاف «نعم»، و مرجع هذا المعنى يكون إلى سكوت الإمام عليه السّلام عن الجواب لتقيّة و نحوها.

و لكن أصل هذا المعنى مع ما يترتّب عليه كما ترى، فالاحتمال القويّ في


1- وسائل الشيعة: 25/ 390 الحديث 32199.
2- الأعراف (7): 172.

ص: 639

هذه الفقرة سؤالا و جوابا أمران:

الأوّل: أن يكون غرض السائل استنكاره لضمانه الكراء مع ضمان العين لما ارتكز في ذهنه من أنّ الخراج بالضمان، فكيف يجتمعان فيكون سؤاله استفهاما إنكاريّا لا حقيقيّا، و غرضه الاحتجاج على الإمام عليه السّلام بما يرى من التنافي بين ضمان العين و كون خراجها للمالك، بل لا بدّ و أن يكون خراجها- أي منافعها- للضمناء فلا يتعلّق عليه الكراء، و على هذا الاحتمال يكون الجواب غير مرتبط بالسؤال؛ لأنّ لازم هذا السؤال أن يكون الإمام عليه السّلام مجيبا بعدم التنافي لا بثبوت الضمان، لكونه مسلّما عند السائل و عدم احتياجه إليه، فكأنّه يرجع ذلك إلى إعراض الإمام عليه السّلام عن الجواب الحقيقي، فتأمّل!

الثاني: أن يكون الاستفهام حقيقيّا، و منشأه حكم أبي حنيفة بذلك (1)- أي بضمان المستأجر الدابّة عند مخالفته، و جعل ذلك سببا لحكمه بعدم اشتغال ذمّة المستأجر بالكراء- فالسائل يستفهم فتوى الإمام عليه السّلام و صحّة ما أفتى به أبو حنيفة من هذه الجهة أم لا؟ بل ذلك مثل الجهة الاخرى باطلة، فعلى ذلك يكون الجواب مرتبطا بالسؤال، و يكون غرض الإمام عليه السّلام رفع جهل السائل.

و الّذي يقرّب هذا الاحتمال هو قول السائل: «أ رأيت لو عطب البغل» (2) .. إلى آخره، فإنّ الظاهر منه أنّه يريد استكشاف نظر الإمام عليه السّلام لا كونه في مقام الاحتجاج و الجدال.


1- بداية المجتهد: 2/ 321.
2- وسائل الشيعة: 25/ 391 الحديث 32199.

ص: 640

و كيف كان؛ فالّذي يحتمل في قوله عليه السّلام: «يوم خالفته» (1) وجوه:

أحدها: أن يكون الظرف قيدا للملازمة الّتي سأل السائل عنها، و هي الملازمة بين التلف و كون ضمان التالف عليه، فأجاب الإمام عليه السّلام عن ثبوت هذه الملازمة الّتي كانت مرتكزا في ذهن السائل يوم المخالفة، فأخبر عليه السّلام بتحقيق هذه القضيّة التعليقيّة يوم الغصب.

ثانيها: أن يكون متعلّقا بالجزاء فقط و هو لفظ «يلزمك» المستفاد من قوله عليه السّلام: «نعم» و يكون المعنى: أنّه يلزمك يوم المخالفة قيمة التالف، و هذا يرجع إلى أنّ تحقّق لزوم الضمان يوم الغصب على نحو الواجب المعلّق، و لازم هذا المعنى أمران:

الأوّل؛ كون الجواب ردع السائل [عن الوهم] لأنّه قد ارتكز في ذهنه تعلّق الضمان عليه يوم التلف و قد ردعه الإمام عليه السّلام عنه بأنّه يتعلّق بك يوم المخالفة، و هذا خلاف ظاهر سياق قضيّة الجواب و إن يدلّ على كونه عليه السّلام في مقام التسليم، كما لا يخفى.

الثاني: جعل الضمان عليه مستقرّا ليوم التلف، أي من يوم الغصب يستقرّ على ذمّة الغاصب ضمان التالف، و هذا مخالف للإجماع، ضرورة أنّه لم يذهب أحد إلى استقرار الضمان على الغاصب بالأخذ و وضع يده على مال الغير، بل التحقيق أنّ القضيّة التعليقيّة الّتي هي مفاد الضمان بحالها إلى حين التلف، و لم يتعلّق بذمّة الغاصب شي ء و لو معلّقا إلّا بالتلف، فظهر أنّ احتمال هذا المعنى بعيد في الغاية.


1- وسائل الشيعة: 25/ 391 الحديث 32199.

ص: 641

ثالثها: أن يكون الظرف متعلّقا لقوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» إمّا باعتبار أنّ القيمة هي بمعنى العوض و هو مصدر، أو يكون قيدا للاختصاص المستفاد من إضافتها إلى البغل.

هذه احتمالات في معنى هذه الفقرة من الحديث، و أمّا لوازمها فمعنى الأوّل لا ينافي ما قلنا من اقتضاء القاعدة ضمان قيمة يوم التلف؛ إذ قد ظهر أنّ المراد بالظرف على ذاك المعنى يكون أنّ من يوم صيرورة يد المستأجر يد ضمان يتعلّق بذمّته قيمة البغل، و إنّما عبّر عنه بالنكرة للإشارة إلى أنّه لمّا كان البغل المستأجر ميّتا فيفرض بغل مثله فيعتبر قيمته به.

و بالجملة؛ فلا يكون مدلول الحديث أزيد من ذلك، و أمّا بالنسبة إلى اعتبار أيّ يوم للقيمة فساكت، و لا يستفاد منه شي ء من هذه الجهة كما هو ظاهر، و كذلك لازم المعنى الباقي الّذي قد عرفت بعده أيضا مثل ذلك.

و أمّا المعنى الأخير؛ فواضح أنّ لازمه تعيين يوم اعتبار القيمة و هو يوم الغصب أيضا، فعليه تكون الجملة الجوابيّة مضافا لتعرّضها للجواب عن المسئول عنه- و هو ثبوت أصل الضمان- أيضا مشتملا على أمر زائد و هو تعيين اليوم الّذي لا بدّ من اعتبار قيمة البغل فيه.

و أمّا الكلام في استظهار هذه المعاني و ترجيح بعضها على الآخر؛ فلا يبعد استظهار المعنى الأخير، فإنّ المتبادر من هذه المعاني إلى الضامن من أول الأمر خصوصا لمن كان خالي الذهن عن الاحتمالين الأخيرين، هو أنّ الضمان يتعلّق بقيمة يوم المخالفة و انسباق المعاني الأخر إلى الذهن إنصافا يحتاج إلى مئونة زائدة على ما يتبادر من جملة «قيمة بغل يوم خالفته» كما لا يخفى.

ص: 642

و لكن الّذي يبعّد هذا المعنى هو أنّ الجواب لا ينطبق على السؤال كما ينطبق عليه غيره من الاحتمالين، لأنّ السؤال إنّما هو عن أصل الضمان لا عن كيفيّته حتّى يصير هذا الجواب قابلا له.

و بالجملة؛ إنّ الجواب على هذا المعنى لا يرتبط بالسؤال كما يرتبط الاحتمال الأوّل كما لا يخفى لمن تأمّل.

و لكنّ الّذي يشكل الأمر؛ هو أنّ الأصحاب ما استفادوا من الحديث ذلك، فإنّ من التزم بكون المناط في الضمان قيمة يوم التلف- كما أنّ الشهرة المتأخّرة مستقرّة على ذلك- قد أفتوا على خلاف هذا المعنى، و إن كان لم يعلم كون وجه إفتائهم و مستندهم هذا الحديث، و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو الفتوى بذلك و إن كان يحتمل أن يعتمدوا على هذا الحديث أيضا، لاستظهارهم المعنى الأوّل منه، و إحرازهم عدم الخصوصيّة لهذا القيد، أي «يوم المخالفة» لاختلاف التعبير في الحديث، فقد عبّر بعد ذلك بجملة «بيوم الاكتراء» و كذلك بعده عند بيان حكم الأرش قد اعتبر «يوم الردّ» فمن هذا الاختلاف استفادوا عدم الاعتبار بقيمة ذاك اليوم، و إنّما عبّر به لعدم اختلاف القيمة غالبا من يوم الغصب إلى يوم التلف في خمسة عشر يوما، و كذلك الّذين اعتبروا قيمة يوم الغصب أيضا ما تمسّكوا بهذا الحديث، و إنّما اعتمدوا على ما توهّموا من اقتضاء القاعدة ذلك.

و بالجملة؛ فيدور أمر الحديث بين طرح هذه الفقرة منه أو حمله على ما ذكر، و لمّا لم يظهر اعتماد الأصحاب عليه، فالظاهر أنّها مطرحة.

بقي الكلام في فقه الحديث بالنسبة إلى جزأيه الآخرين، و هو قوله عليه السّلام:

«أو يحلف صاحب البغل أو يأتي بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء

ص: 643

كذا» (1)، و المشكل فيهما أمران:

الأوّل: أنّ صاحب البغل مع أنّه مدّع للزيادة كيف يكون القول قوله؟

و الثاني: أن الحلف و البيّنة ليسا وظيفتين لشخص واحد، فكيف أضاف كليهما الإمام عليه السّلام إلى صاحب البغل؟

أمّا الأوّل منهما؛ فقد دفعوه بحمله على فرض نزاعهما في صورة التناقض بأن اجتمع صاحب البغل و المستأجر على كون قيمته قبل المخالفة أو التلف كذا، و لكنّ المستأجر يدّعي نقصان القيمة عندهما عمّا كانت القيمة عليه قبل المخالفة أو التلف فأنكر المالك ذلك.

و أمّا الثانية؛ فحمله شيخنا قدّس سرّه على ما لو اختلفا في القيمة قبل التلف مع توافقهما على بقائها على ما كانت عليه إلى حين التلف، فيكون الحديث متكفّلا لحكم صورتين من تنازعهما (2).

هذا؛ و لكن حمل الحديث على بيان حكم فرضين مختلفين بعيد عن مساقه، كما لا يخفى، فالأولى إمّا حمل الحلف على المتعارف منه لإقناع المنكر، أو حمل البيّنة على إقامة الحجّة لشخص المدّعي لا لدفع الخصومة عند الحاكم حتّى قيل بأنّ إقامة البيّنة ليست وظيفة له، بل يكون المراد بالبيّنة في المقام هو ما أشير إليه في رواية مسعدة من قوله عليه السّلام: «الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين [لك غير ذلك] (3) أو تقوم به البيّنة» (4).


1- وسائل الشيعة: 25/ 390 ذيل الحديث 32199، مع اختلاف.
2- المكاسب: 3/ 252.
3- أثبتناها من المصدر.
4- وسائل الشيعة: 17/ 89 الحديث 22053.

ص: 644

و من البداهة؛ أنّ ذلك لا ينافي كون إقامة البيّنة وظيفة للمدّعي لا للمنكر، إذ هي ما تقوم عند الحاكم لا مطلق الحجّة المستفادة من الرواية الّتي هي وظيفة عامّة لا تختصّ ببعض دون بعض، و قد خصّص ذلك بإقامة البيّنة المختصّة بالمدّعي عند الحاكم، و بالنسبة إلى غيره على عمومها باقية، فكلّ من أقام الحجّة الشرعيّة، منكرا كان أم مدّعيا في غير الصورة المفروضة يجب على غيره قبولها و ترتيب الأثر عليها.

و الشاهد على كون المراد بالبيّنة ذلك لا القائمة عند الحاكم هو قوله عليه السّلام بعد ذلك: «فيلزمك» ضرورة أنّ اللزوم بمقتضى قول الشاهد في باب الخصومة مترتّب على حكم الحاكم لدخول الشهود. فترتيب الإمام عليه السّلام الإلزام على الشهادة كاشف عن كون المراد بها هاهنا الحجّة لا البيّنة عند الحاكم حتّى ينافي الوظيفة، فافهم!

ثمّ إنّه؛ تلخّص ممّا ذكرنا أنّ الأقوى في الأقوال و الاحتمالات هو اعتبار قيمة يوم التلف؛ إذ هو الّذي كانت تقتضيه القاعدة، و قد عرفت أنّه لم يظهر من الحديث ما يخالفها و لا ما يصير مدركا لسائر الأقوال، فظهر ضعفها أيضا فتعيّن المصير إلى ما تقتضيه القاعدة.

و أمّا احتمال اعتبار أعلى القيم؛ سواء كان من يوم الغصب إلى يوم التلف أو من يومه إلى الردّ فهو أضعف الأقوال، و لا يساعده الاعتبار، بل القاعدة الّتي هي أصالة البراءة تردّه، فلا وجه لهذا القول أصلا، إذ ما دامت العين باقية لا تلاحظ القيمة حتّى لو زيدت في الأثناء فتشتغل الذمّة بالأعلى، و أمّا بعد التلف فتستقرّ على الذمّة القيمة الموجودة المفروضة للعين عنده؛ لأنّ ما تشتغل الذمّة به لا بدّ

ص: 645

و أن يكون متقدّرا، و إلّا فغير المتقدّر ليس قابلا لاشتغال الذمّة به، و من المعلوم أنّه إذا اشتغلت الذمّة بالقيمة المتقدّرة فليست قابلة للتبدّل إلّا بالتراضي و نحوه.

و بالجملة؛ فلا يتصوّر أن تتبدّل الذمّة بنفسها عمّا اشتغلت به عند التلف إلى غيرها، و لقد أجاد في «الجواهر» في ردّ هذا القول، فراجع! (1)

فروع

ثمّ إنّ بعد ظهور الأحكام الكليّة للمثلي و القيمي و الضابط بينهما، هنا فروع جزئيّة نتعرّضها، ففي «الشرائع»: (الذهب و الفضّة يضمنان بمثلهما) .. (2)

إلى آخره.

لا يخفى؛ أنّ هنا صورا: فإنّ الذهب و الفضّة إمّا أن يكونا مسكوكين أو غير مسكوكين، و كلّ منهما إمّا أن يكون فارغا- بمعنى أنّه لم يكن عليهما شي ء من الحليّ و الصنعة- أو لم يكن فارغا، و ما يكون عليه الصنعة إمّا أن يكون صنعة محلّلة أو محرّمة.

أمّا لو كانا فارغين؛ سواء كانا مسكوكين أو غير مسكوكين فلا إشكال في كونهما مضمومنا بالمثل دون القيمة؛ لانطباق ضابطة المثلي عليهما على ما عرّفناه من أنّه الّذي يكون له أفراد نوعيّة غالبة مثله فيما له المدخليّة في الماليّة، فمناط المثليّة ذلك، لا ملاحظة النسبة المتساوية في الأجزاء، فإنّ هذا التعريف لا يتمّ طردا و عكسا، بل أقلّ قليل من المثليّات تبقى تحت هذا الضابط، و أكثرها يدخل في القيميّات كالمصنوعات بالمكائن في زماننا، و غيرها، كما أسلفنا ذلك.


1- لاحظ! جواهر الكلام: 37/ 106 و 107.
2- شرائع الإسلام: 3/ 240.

ص: 646

و إنّما الإشكال هنا؛ في المسألة من حيث الربا و جريانه في باب الضمانات كما بنى عليه المحقّق، و لذلك أفتى في المقام فيما لو تعذّر مثلهما و انتهى الأمر إلى ردّ قيمتهما، فلا بدّ من مراعاة شرائط الربا (1) من كون القيمة الّتي تكون من نقد البلد مساوية مع التالف وزنا مع كونها من جنسه، و إن لم يكونا متساويين فيعطى القيمة من غير الجنس، و عدم جريانه في الضمانات لعدم كونها معاملة معاوضيّة مع اختصاص أدلّة الربا بباب المعاوضات، كما مال إلى ذلك صاحب «الجواهر» قدّس سرّه (2).

و لكن التحقيق: أنّه لو منع من جريان أدلّة الربا الواردة في باب المعاملات هنا لكان في محلّه، لاختصاصها بباب البيع، و إنّما تعدّى الأصحاب منه إلى غيره من أبواب المعاملات لتنقيح المناط الّذي لا ينطبق على باب الضمانات، إنّما الكلام في جريان ما دلّ على حرمة الربا في باب القرض هنا لكونه أشبه بباب الضمانات من دون المعاملات، فكما أنّ باب الغرامات ليست معاوضة، بل إنّما هي- على ما بيّنا- خلاصة للماليّة الفائتة، و مرتبة من مراتبها نظير قاعدة «الميسور» في العبادات، فليس المأخوذ غرامة عنوانه عنوان العوض و البدل عن الفائت، فكذلك باب الدين، فليس ما يأخذه الدائن بدلا عمّا أعطى، بل مرتبة من مراتبه بمعنى تجاوزه عن خصوصيّته و أخذ ماليّته في ضمن خصوصيّة اخرى، فهو حين إعطائه الدين ليس نظره إلى تبديله بغيره، بحيث يقوم شي ء آخر مقامه عند الأداء كما في المعاملات، بل في الحقيقة نظره إلى أخذ شخص


1- شرائع الإسلام: 3/ 240.
2- جواهر الكلام: 37/ 108 و 109.

ص: 647

الماليّة الموجودة في ضمن العين و إرجاعها إلى نفسه، فقول الدائن- مثلا-:

عليك عوضه، إنّما هو تضمين لا أن يكون تبديلا، و لذلك إنّما بنوا عليه أنّ عند وجود العين لو ردّها المديون إليه يجب عليه القبول، هذا موافق لما تقتضيه القاعدة في باب القرض، و ذلك لما عرفت من عدم كونه مشتملا على المعاوضة، بل هو تضمين محض، بحيث لو أمكن ردّ الخصوصيّة في كلّ المقامات يجوز له ذلك و يجب عليه القبول، و لكن لمّا لم يمكن ذلك دائما فعليه أن يردّ الماليّة المحفوظة الغير الخارجة عن ملك المالك في ضمن خصوصيّة اخرى، و هذا؛ بخلاف باب المعاملات، فإنّ فيها الخصوصيّة و الماليّة خارجة عن ملك كلّ واحد من الطرفين و داخلة في ملك الطرف الآخر، و يقوم مقامه بعنوان البدليّة ما يخرج عن ملك كلّ واحد منهما.

فإذا ظهر من ذلك كون باب القرض من سنخ باب التضمينات، مع أنّه منع فيه عن الربا، فكذلك لا بدّ من الاحتراز عنه في باب الضمانات مطلقا، لجريان مناط المنقّح فيها كما تعدّوا عن باب البيع إلى غيره من المعاملات لذلك أيضا.

أقول: لا يخفى أنّه مع تسليم كون باب القرض من سنخ التضمينات دون المعاملات ظهور الفرق بين باب القرض و باب الغرامات، و ذلك لاشتماله على التمليك الاختياري أيضا، و لا أقلّ من تمليك الخصوصيّة كما عرّف بأنّه عقد يفيد التمليك، بخلاف باب الغرامات، فليس فيها شائبة التمليك أبدا.

و بالجملة؛ فباب القرض أوّلا فيه جهة معامليّة دونها، و ثانيا إنّ الضمان الجعلي غير الضمان الانجعالي، و من المعلوم أنّ التضمين المستلزم للربا ممنوع عنه دون ما لو استلزم ذلك الضمان القهري المترتّب على التلف، و لذلك بنى- دام ظلّه- في خيار العيب- فيما لو كان العوضان ربويّين- بجواز أخذ الأرش عند

ص: 648

ظهور العيب في أحدهما، وفاقا لجماعة من الأساطين (1)، و إن استشكل فيه شيخنا قدّس سرّه (2)، مع أنّ مستنده ما كان إلّا أنّ الأرش غرامة.

فانقدح بما ذكرنا أنّ إسراء حكم باب القرض إلى المقام مشكل؛ لعدم خلوّ المسألة من القياس الّذي ليس من مذهبنا، و إن دفع بعض ذلك- دام ظلّه- بما ليس بدافع (3).

و أمّا فيما لم يكن فارغا بل كان عليهما صنعة محلّلة لها القيمة، و هذا يكون على قسمين، لأنّ المغصوب الّذي أضيف إليها الصنعة كلّية- سواء كان ذهبا أو فضّة أو غيرهما- إمّا يكون المصنوع انقلب حقيقته عند العرف، كالقطن المغزول الّذي صار ثوبا، أو لم ينقلب حقيقته، مثل النحاس الّذي يصنع كأسا، ففي الأوّل؛ لمّا لم ير المغصوب و ما عليها من الصنعة أمرين في نظر العرف، ففيه المجموع يعدّ شيئا واحدا، فإن كان مثليّا فيردّ المثل عند تلفه و إلّا فالقيمة.

ضرورة؛ أنّ من أتلف ثوبا أو قماشا لم يصدق أنّه أتلف شيئين، فبإتلافه أصل المادّة يجب ردّ المثل، بأن يردّ مقدارا من الفطن أو الصوف أو غيرهما، ثمّ يردّ قيمة الصنعة الّتي عملت فيهما.

و في الثاني: فقضيّة عدّهما أمرين لعدم تبدّل الهيئة عند العرف، بل النحاس- مثلا- بحقيقته الآن أيضا موجود ضمان أمرين: القيمة للصنعة، و المثل للأصل.


1- تذكرة الفقهاء: 1/ 531.
2- المكاسب: 5/ 318.
3- من أنّ ما ذكر من بعض الخصوصيّات في باب القرض ليس مقوّما للموضوع حتّى يضرّ باستخراج المناط و غيره، فتأمّل! «منه رحمه اللّه».

ص: 649

و قد يشكل هنا أيضا؛ فيما لو كان الأصل و ما يردّ من قيمة الصنعة ربويّين بأن يكون نقد البلد من النحاس فلشبهة الربا قد يقال بمنع جواز ردّ الزيادة، و لكنّ الأمر هنا أسهل، بمعنى أنّه و لو منعنا في الصورة الاولى الزيادة لجريان الربا في باب الغرامات فلا يلزم المنع هنا؛ لضرورة الفرق بينهما، و ذلك لأنّ ما يؤخذ هنا من الزيادة هو في مقابل الصنعة الّتي لها القيمة عند العرف، و لا ربط لها بالأصل، بخلاف الصورة الاولى، فإنّ فيها لا يقع في مقابل الزيادة شي ء سوى الأصل.

أقول: لو قلنا بأنّ في باب الربا المصنوع و غير المصنوع يعدّان جنسا واحدا، و غير منقلب عن أصله، بمعنى لا يعدّ الصنعة أمرا زائدا على الأصل حتّى يصحّ اعتبار قيمة لها فيشكل الأمر هنا، كما لا يخفى، إلّا أن يقال بأنّ الممنوع منه إنّما هو في باب المعاملات فلا يجوز فيها جعل كلّ واحد منهما عوضا عن الآخر، إلّا أن يكونا متساويين بخلاف المقام، فتأمّل!

تأسيس الأصل عند الشكّ في المثلي و القيمي

بقي الكلام في بيان تأسيس الأصل في المثلي و القيمي فيما إذا دار الأمر بينهما عند الشكّ، و لا يخفى أنّ الأصل في ذلك يختلف على اختلاف المسالك في باب الضمان في كيفيّته.

أمّا على ما ينسب إلى المشهور (1) من أنّ بناءهم على أنّ ما دام بقاء العين لا تشتغل الذمّة بشي ء أصلا، و إنّما الاشتغال بالمثل أو القيمة إنّما هو عند التلف،


1- و ليس مع بقائها إلّا الحكم التكليفي المحض بوجوب الردّ و الأداء، كما صرّح به في «الجواهر» في طيّ الكلام في بدل الحيلولة (جواهر الكلام: 37/ 130- 133)، «منه رحمه اللّه».

ص: 650

فلا إشكال أنّه لمّا يصير الأمر من باب دوران الأمر بين المتباينين؛ ضرورة أنّه لا يعلم أنّ من أوّل الأمر- أي حين التلف- أيّهما تعلّق بالذمّة، فلا أصل في البين نجعله مرجعا، فالأمر يرجع إلى الصلح، كما هو المرجع مطلقا في حقوق الناس عند عدم الأصل، و يمكن الالتزام بالرجوع إلى القرعة، لكونه لكلّ أمر مشكل، لا إلى التنصيف في المثل و القيمة إن تمّ دليل القرعة.

أقول: لا مانع هنا من الرجوع إلى الاحتياط لتحصيل البراءة كما هو الأصل في دوران الأمر بين المتباينين، إلّا أنّ الفرق بين المقام و حقوق اللّه أنّه لمّا كان تحصيل البراءة فيها متوقّفا على الجمع بين المتباينين في الأداء فالتزم به، بخلاف المقام فهي تحصيل بأداء المثل، و إن كان يمكن أن يقال بأنّ ذلك موقوف على العلم باشتغال الذمّة بما زاد على القيمة- أي المثل- حتّى يكون المبرئ للذمّة يقينا هو المثل، و المفروض أنّ الشكّ إنّما هو في أنّ الذمّة بأيّهما اشتغلت من أوّل الأمر، فهذا يناسب القول باشتغال الذمّة أوّلا بالعين ثمّ انقلابها بالتلف المثل أو القيمة.

و أمّا ما قوّينا كونه مسلكا للمشهور فعليه الأصل يقتضي ردّ المثل، و ذلك لأنّ المفروض أنّه اشتغلت الذمّة بنفس العين بجميع مراتبها الشخصيّة، فيحصل الشكّ في أنّه بسبب التلف خرجت من الذمّة بجميع مراتبها سوى مرتبة قيمته أم لا، بل بقيت عليها بمرتبة مثلها؟ و لا ريب أنّ المتيقّن ذهابها عن الذمّة بمرتبتها الشخصيّة، أمّا المثليّة فمشكوك فيه فيستصحب بقاؤها بهذه المرتبة، فيتعيّن المثل، و يمكن التمسّك بالاشتغال أيضا إذ الذمّة اشتغلت أوّلا بالعين، و بالتلف لمّا لم يمكن أداء نفسها فتنقلب فيشكّ في أنّه هل بردّ القيمة تحصل البراءة أم لا؟

ص: 651

و الأصل عدم حصولها إلّا بردّ المثل.

إن قلت: إنّ قاعدة الإتلاف و إن كانت تقتضي ما ذكر من ثبوت نفس العين على الذمّة الّذي لازمه عدم حصول البراءة اليقينيّة إلّا بردّ المثل، إلّا أنّ القاعدة مخصّصة بالتعذّر بمعنى أنّه عند تعذّر المثل لا يجب إلّا ردّ القيمة.

لا يقال: إنّ التعذّر مخصّص عقلي و لا محذور من التمسّك بالعامّ المخصّص بالدليل اللبّي في الشبهات المصداقيّة.

لأنّا نقول: مضافا إلى كون مخصّص بالدليل اللفظي أيضا كما اشير إليه سابقا، مثل صحيحة أبي ولّاد (1) و السفرة المطروح فيها اللحم (2) و غير ذلك (3) ممّا حكم فيه في لسان الأخبار بردّ القيمة.

قلت: ليس هذا هو التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ لأنّ المصداق للعامّ انطباقه أوّلا كان محرزا مسلّما، بل إنّما المتمسّك به هو استصحاب العامّ الثابت أوّلا يقينيّا.

أقول: و لكن هذا يتمّ لو بني على كون تبدّل العين الثابتة على الذمّة بالغصب، و تنزّلها إلى القيمة في القيمي بالتلف إنّما يكون بعد تنزّلها من الخصوصيّة العينيّة إلى المثل أوّلا ثمّ منه إلى القيمة، بحيث يفرض لذلك درجات و مراحل في المثليّ المتعذّر، لا بأن تكون العين في القيميّات متبدّلة و متنزّلة إلى القيمة من أوّل الأمر حتّى يصير من دوران الأمر بين المتباينين و لم يبق موضوع


1- وسائل الشيعة: 25/ 390 الحديث 32199.
2- وسائل الشيعة: 3/ 493 الحديث 4270.
3- انظر! وسائل الشيعة: 19/ 119 الباب 17 من أبواب كتاب الإجارة.

ص: 652

للاستصحاب مع أنّه مجال للمنع عن ذلك.

و أمّا على المسلك الثالث؛ و هو بقاء نفس العين بهويّتها على الذمّة إلى حين الأداء، فعنده لو كانت تالفة ينقلب إلى المثل أو القيمة عند التعذّر النوعي للأوّل و عدم القدرة على أدائه كذلك فلا [شكّ] في أنّ المرجع استصحاب بقاء الاشتغال إلى أن يردّ المثل.

ضرورة؛ إنّما الشكّ في أنّه هل العين الثابتة على الذمّة بجميع خصوصيّاتها حتّى المثليّة انقلبت إلى المرتبة الماليّة الصرفة الّتي تتعيّن في القيمة أم لا، بل إنّما التنزّل بمرتبتها الشخصيّة فقط دون المثليّة؟ و الاستصحاب يقتضي ذلك، أي انقلاب المرتبة الشخصيّة دون المثليّة؛ لأنّ المتيقّن هي لا غير.

هذا؛ فيما إذا شكّ في أصل ضمان المثل أو القيمة، أمّا فيما إذا شكّ في طروّ التعذّر و عدمه، بمعنى أنّه كون أصل الضمان مثليّا لا إشكال فيه، و إنّما الشكّ في أنّه يصدق التعذّر بعد ذلك للإعواز و مثله أم لا؟ لا يخفى أنّ الأصل في هذه المسألة يختلف باختلاف المبنى في باب الاستصحاب، من أنّه عبارة عن جعل المماثل أو الأمر بالمعاملة.

و تفصيل ذلك؛ أنّ فرض المسألة إنّما هو فيما إذا كان ضمان المثل معلوما، أي يكون التالف ممّا يكون له نوعا ما يساويه في الماليّة، و كان حين استقرار الضمان، له الأفراد الغالبة، ثمّ بعد ذلك لعلّة الوجود أو غيره شكّ في أنّه انقلب إلى القيمة لصدق عنوان التعذّر و عدمه، أم لا؟ فلا إشكال في أنّ الأصل في المقام هو الاستصحاب و يصير مثل ما لو نذر إطعام زيد في كلّ يوم فشكّ في يوم في حياته، فهل المراد باستصحاب حياته هو عمل معاملة الحياة معه أو جعل

ص: 653

مماثل للحكم السابق و هو وجوب الإطعام في طرف الشكّ؟

فإن بيننا على كون المراد به جعل المماثل ففي المقام لمّا يرجع الشكّ إلى ثبوت الحكم الشرعي الّذي منشأه القدرة، إذ لا فرق في الشكّ في الحكم بين الحكم الظاهري و الواقعي فيشكّ في أصل توجّه «لا تنقض اليقين» (1) .. إلى آخره، فلا بدّ من الاحتياط كما في مطلق المقامات لو شكّ في ثبوت الحكم من جهة القدرة؛ و لا يتوهّم أنّ الشكّ إنّما هو في أصل التكليف فالمرجع البراءة؛ إذ هو في غير ما إذا نشأ الشكّ من جهة القدرة، إذ المفروض أنّها شرط عقليّ لا يؤثّر في وجود الحكم، بل الحكم وجوده لتماميّة ملاكه تامّ، و إنّما الشكّ في مسقط هذا الحكم، فلا محيص عن الاحتياط الّذي قد يتحقّق بالفحص.

و بالجملة؛ فمقتضى الاحتياط على هذا هو ضمان المثل و عدم حصول البراءة اليقينيّة إلّا بأداء المثل.

و إن بيننا على كون الاستصحاب هو الأمر بالمعاملة مطلقا و إن كان مقتضى ذلك أيضا ضمان المثل إلّا أنّه إنّما هو يثبت بنفس حكم الشارع، فإنّ الشكّ لمّا يرجع إلى بقاء القدرة، و المفروض أنّ استصحابها عبارة عن معاملة ثبوت القدرة الواقعيّة مع القدرة المشكوكة عند كونها مسبوقة بالحالة السابقة، فبإثباتها بذلك يترتّب نفس حكم الشارع الثابت سابقا على موضوعه، بخلاف المبنى الأوّل، فإنّ ثبوت الحكم كان بحكم العقل، فتأمّل!


1- وسائل الشيعة: 1/ 245 الحديث 631.

ص: 654

أحكام بدل الحيلولة

هذا تمام الكلام في بيان الاصول في المسألة فلنشرع في بيان جملة من أحكام بدل الحيلولة، مضافا إلى ما أسلفنا بعد ذكر جملة الفروع الّتي أسقطناها هنا، و لم نذكرها لوضوحها

قال في «الشرائع»: (و إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل) (1) ..

إلى آخره.

أقول: هنا فروع لا بدّ من ذكرها.

[الفرع] الأوّل: لا يخفى أنّ استحقاق المالك عين ماله الّذي يستحقّ بسببه البدل له موارد:

الأوّل؛ تلفها حقيقة.

الثاني؛ ما يكون في حكم التلف.

الثالث؛ تعذّر الوصول فعلا إلى العين.

ففي الأوّل؛ فما يؤدّيه المتلف من البدل يملكه المالك مستقرّا، فيكون بمنزلة دين عليه قد أدّاه.

و في الثاني؛ كما إذا غرقت العين أو سرقت، بحيث يكون عودها محالا عادة و يعدّ عند العرف بحكم التلف، فهنا أيضا يكون ما يؤدّيه أيضا كالدين المستقرّ على عهدته، و يخرج- على ما يظهر من بعض الكلمات (2)- العين


1- شرائع الإسلام: 3/ 241.
2- مفتاح الكرامة: 6/ 255، و المستفاد من كلامه عدم خروج العين المغصوبة عن ملك المالك؛ بالحيلولة إجماعا.

ص: 655

المغصوبة عن ملك صاحبها و يدخل في جملة المباحات، بحيث لو خرجت من الماء- مثلا- و وقعت في الساحل فاستحقاق مالكها لها ليس إلّا من باب الأولويّة لا الملك.

و في الثالث؛ أمّا أوّلا فالكلام في صدق التعذّر الموجب لانقطاع سلطنة المالك فعلا عن خصوصيّة العين، بمعنى أن لا يكون له حقّ الإلزام على إحضار العين، بل ينقلب إلى البدل من المثل أو إلى القيمة ما دامت العين غائبة، المسمّى ذلك ببدل الحيلولة.

فالظاهر؛ أنّ التعذّر الموجب لسقوط التكاليف لا يكفي هذا المقدار منه لذلك، لما أشرنا مرارا من أنّ قاعدة السلطنة المستفاد منها هو الحكم الإرفاقي الامتناني، فليست قاعدة الحرج قابلة لمنع جريانها، بل المرجع في ذلك هو العرف، بأن يكون إحضار العين عندهم متعذّرا من وصوله إلى حدّ ما لا يطاق العرفي، و إن لم يكن ممّا لا يطاق عادة، و إلّا فمطلق العسر لا يكفي في صدقه.

و ثانيا: لا إشكال ظاهرا في صيرورة المغصوب منه مالكا للمأخوذ غرامة بعنوان بدل الحيلولة، و عدم خروج المأخوذ منه بذلك عن ملكه، و توهّم أنّ ذلك موجب للجمع بين العوض و المعوّض، فاسد؛ لما أشرنا إلى وجهه سابقا.

و حاصله: أنّ المال المأخوذ بإزاء مال يكون على قسمين؛ لأنّه إمّا أن يكون بعنوان البدليّة و كونه قائما مقام المال الأوّل، فهذا يستحيل دخول المال الثاني في ملك المالك الأوّل بلا خروج البدل عن ملكه، و ذلك كما في باب المعاملات و العقود المعاوضيّة.

و قد لا يكون كذلك بل المقصود أخذ عين المال بخصوصيّتها الشخصيّة

ص: 656

و لكن لمّا لم يمكن ذلك لعذر و نحوه فيؤخذ ما أمكن منها- و هو ماليّتها المعيّنة في ضمن خصوصيّة غيرها- فهذا المأخوذ ليس بعنوان البدليّة حتّى يستلزم ما ذكر، بل في الحقيقة مرتبة من مراتب نفس العين، و هي المرتبة الماليّة الممكن الوصول إليها، و قد بنينا على أنّ باب الضمان إنّما هو نظير باب «الميسور» في التكاليف، فقاعدة اليد لمّا تقتضي الخروج عن عهدة التكليف المتوجّه من قبل الوضع فلا بدّ من الخروج عنها بما أمكن، إمّا بردّ المأخوذ بجميع مراتبه المتعيّنة في شخصه و إمّا بردّ ماليّته إن لم يمكن الاولى و هذا أيضا في ضمن المثل أو القيمة على حسب ما تقتضيه العين عند التلف.

و بالجملة؛ فالسلطنة المستقرّة للمالك على عين ماله تقتضي جواز مطالبتها لها في كلّ آن، و المفروض أنّ ضمان العين ثابت على ذمّة الغاصب بمقتضى قاعدة اليد، فلازم هاتين القاعدتين استحقاق المالك مطالبة ماله في كلّ زمان، و كذلك وجوب ردّه على الغاصب إليه، إلّا أنّ الجمع بين ذلك و عدم تكليف الغاصب بما لا يطاق يقتضي إلزامه بقدر ما أمكنه بردّ ما استحقّ المالك، و هذا يكون عند عدم التمكّن من ردّ العين بردّ العين بماليّتها.

فهذه المالية المردودة ليست شيئا في مقابل العين، بل هي في الحقيقة في عالم التحليل و الاعتبار بمنزلة خلاصة مأخوذة من نفس العين، مثل الدهن المأخوذ من الشي ء، أو كالعصير المأخوذ من العنب، فكما أنّ فيهما المالك مالك لأمرين: العصير و الشكل الباقي منه، فكذلك تعيين الماليّة في شخص عين اخرى و أخذها في تلك العين لا يوجب خروج العين المغصوبة من ملك صاحبها و دخولها في مال الغارم، لعدم اعتبار البدليّة أصلا، فلا يلزم الجمع بين العوض

ص: 657

و المعوّض؛ إذ هما أمران اعتباريّان تابعان للاعتبار، و بعد أن ظهر الاعتبار في باب الغرامات و بدل الحيلولة على خلافها، بل هو اعتبار خاصّ لا ربط بباب المعاملات، فلا وجه للتوهّم المذكور.

ثمّ إنّ لازم ما ذكرنا تملّك المغصوب منه بدل الحيلولة كتملّكه سائر أمواله بلا نقص فيه، فيجوز له التصرّفات الماليّة بأقسامها فيه، و ذلك لاقتضاء عناية البيان المذكور ذلك، فكما أنّ المأخوذ منه كان ملكا له فكذلك بدل الحيلولة لمّا كان بمنزلة العين بمرتبتها الماليّة يصير ملكا تامّا له بلا تفكيك في الجهات، و إن كان شيخنا قدّس سرّه زعم أنّ المأخوذ بدلا إنّما هو عوض عن سلطنة المالك الفائتة عنه دون ملكيّته؛ إذ هي باقية (1) فالتزم بصحّة تصرّفاته المالكيّة فيه من نقله و إجارته و نحو ذلك على الكشف، كما في المعاطاة، و لكن قد أشرنا إلى ضعف ذلك بأنّه لو لم يصير البدل ملكا له بل كان عوضا قائما مقام سلطنته الممنوعة عنها، فلا بدّ أن يكون ممنوعا عن التصرّف في البدل بما أمكنه التصرّف في ملكه المغصوب ممّا لا يتوقّف على الماليّة، بل تكفي المملوكيّة في نحوه كأن يعتقه، لأنّ المفروض أنّ سلطنته من ماله من هذه الجهة ما انقطعت، فكيف يكون له جائزا أن يتصرّف في البدل من هذه الجهة أيضا، مع أنّه بالإجماع يجوز له مطلق التصرّفات في البدل (2).

ثمّ انقدح ممّا ذكرنا حال العين المغصوبة فإنّها باقية على ملك صاحبها، و أمّا ماليّتها فهي تكون في حكم المباحات بالأصل إذ لا يجوز للغاصب التصرّف


1- المكاسب: 3/ 261.
2- من عتقه، أو غير ذلك، «منه رحمه اللّه».

ص: 658

فيها حتّى ينتفع من ماليّتها، و المفروض أنّ المالك ممنوع عن التصرّف، و لا إشكال أنّ اعتبار المالية إنّما هو من حيث الانتفاع و مستتبع للتصرّف.

و بالجملة؛ الماليّة القائمة على العين المغصوبة فما دامت ممنوعة؛ حكمها حكم المباحات ترجع إلى المالك تبعا للعين عند رجوعها.

الفرع الثاني: لا إشكال أنّه يجب على الغاصب إرجاع العين إلى المالك فورا عند رفع التعذّر، و لا يجوز له حبسها حتّى يأخذ البدل، و لا يقاس المقام بباب المعاملات، إذ مع كمال الفرق بين الباب و باب المعاملات أنّ الحبس فيها يثبت بالبدل و إلّا فالقاعدة تقتضي فيها وجوب الردّ و عدم جواز التوقيف و إيجاب ردّ المال إلى صاحبه فورا.

الفرع الثالث: لمّا عرفت أنّ بدل الحيلولة عوض عمّا يكون و أيّ شي ء ثمرته و خاصيّته، فلا ينبغي الشكّ في أنّه بعد رفع التعذّر و إحضار العين يجب ردّ الغرامة المأخوذة إلى الغاصب، و لكن ذلك يتوقّف على رفع الحيلولة المسبّبة للبدل، و هل يكون الارتفاع بمطلق الإحضار و رفع العذر، أم يتوقّف على أداء العين و إيصالها إلى المالك؟ وجهان: الأقوى الثاني؛ إذ لا يصدق رفع الحيلولة عرفا على مطلق الإحضار (1) بل الشكّ يكفي في الحكم بعدم وجوب الردّ لاستصحاب بقاء الحيلولة و الملكيّة الثابتة للمالك في البدل عند التعذّر.

الرابع: الظاهر أنّه بعد تمكّن ردّ العين برفع التعذّر لا ينقلب الضمان الثابت للعين أوّلا من كونه ليوم التلف، إذ لا مقتضى للانقلاب، و من المعلوم أنّ التعذّر في ردّ العين مدّة من الزمان ليس أمرا قابلا لأن يبدّل كيفيّة الضمان، بل هو على


1- كما يقتضي ذلك قاعدة اليد المغيّاة بالأداء أيضا، «منه رحمه اللّه».

ص: 659

ما تقتضيه طبيعة الضمان من يوم وضع اليد على مال الغير من ضمان يوم تلفه- على ما حرّرناه- باق، فظهر لك أنّه لا وجه لما ذكر غير ذلك من الاحتمالات في المقام، فراجع!

الخامس: لا إشكال أنّ مسألة تعاقب الأيادي تجري في باب الحيلولة أيضا، فهنا إذا رجع المالك إلى الغاصب الأوّل و أخذ منه بدل الحيلولة فله الرجوع إلى اليد اللاحقة، كذلك للثانية إلى الثالثة حتّى يستقرّ في يد من وقعت الحيلولة في يده، فإذا رجعت العين إلى صاحبها فتأخذ الأوّل البدل عنه، و كذلك كلّ يرجع إلى سابقه و يأخذ منه ما أعطى، و توهّم أنّ ذلك مختصّ بباب التلف، فاسد كما لا يخفى.

في «الشرائع»: (على الغاصب الاجرة إن كان ممّا له اجرة في العادة) .. إلى آخره (1).

وقع الخلاف هنا في أنّ القيمة المأخوذة للاجرة [هل] تجب من حين الغصب إلى أداء بدل الحيلولة، أم منه إلى حين ردّ العين؟ و لا يخفى أنّ إطلاق القولين بعيد.

فالتحقيق أن يقال: إنّ البدل المأخوذ قد يكون من حيث القيمة بإزاء العين المقوّمة مع ما لها من الاجرة في كلّ شهر أو يوم بكذا، مثلا: لو كان العين في حدّ ذاتها لها عشرة توامين و لو لوحظت مع ما لها من الاجرة في كلّ شهر لها الخمسة عشر تومانا، فإن لوحظت العين على النحو الأوّل- أي تقوّمت العين مع ما لها من الاجرة مجموعا فأخذ البدل المقابل لنفس الذات- فلا بدّ أن تؤخذ الاجرة من


1- شرائع الإسلام: 3/ 242.

ص: 660

حين الغصب إلى حين ردّ العين؛ لأنّ المفروض أنّ البدل عن الاجرة ما استوفي، و أمّا [إذا] لوحظت العين مع ما لها من الاجرة فتقوّمت مجموعا فاخذ بدل الحيلولة أيضا عن العين المقوّمة بهذه الكيفيّة، فعلى الغاصب الاجرة من حين الغصب إلى حين تأدية البدل كما قوّاه المحقّق (1) لثبوت المقتضي كذلك بخلاف الفرض الأوّل.

في «الشرائع»: (و لو غصب ماله اجرة و بقي في يده حتّى نقص) .. إلى آخره (2).

لا إشكال أنّه يضمن الغاصب الاجرة و ما نقص من العين كليهما؛ لعدم وجود ما يوجب سقوط قيمة النقص، و الاجرة لا تصلح لذلك؛ لأنّها عوض عن المنافع، و لا ربط لها بنقص العين.

نعم؛ في باب إجارة ما يتوقّف الانتفاع منه على استعمال شي ء من العين و بتنقيص منها كما في الحمّام، فإنّ الانتفاع منه متوقّف على صرف شي ء من الماء، فقالوا في مثله بعدم ضمان النقص المزبور، بل إنّ ما يأخذه من الاجرة يقع عوضا عنه، و لكن لا ربط له بالمقام لكون تلك المقامات كالإجارة و نحوها مشتملة على الإذن، فيباح للمنتفع التصرّف بلا ضمان، بخلاف المقام فإنّه لا إذن حتّى يصير مسقطا، و الأصل أيضا عدم التداخل فلا محيص عن الالتزام بضمان الأمرين، و اللّه العالم.


1- شرائع الإسلام: 3/ 242.
2- شرائع الإسلام: 3/ 243.

ص: 661

البحث في اللواحق

اشارة

الجهة الخامسة في اللواحق؛ قال في «الشرائع»: (إذا زادت قيمة المغصوب بفعل الغاصب فإن كانت أثرا) .. إلى آخره (1).

لا إشكال أوّلا أنّ ما يحدثه الغاصب في العين المغصوبة لو لم يزد فيها شيئا عينا فلا يتعلّق بها له حقّ؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بلا إذنه، فلمّا يكون الأمر المحدث من توابع العين فيصير مالا للمالك، و لذا فلو تصرّف فيها بإزالة ما أحدث يكون ضامنا لما زيد عليها من القيمة تبعا للأثر الحادث، لأنّه أيضا تصرّف في مال الغير بتنقيص في عينه.

إنّما الكلام في بعض فروع المسألة؛

الأوّل: لو أمر المالك بإزالة الزيادة الحاصلة في العين بإلزام الغاصب على إزالة الصنعة الّتي أوجدها فيها، كما لو صاغ النقرة حليّا فهل يضمن الغاصب قيمة هذه الصنعة، أم لا؟ فالمشهور على أنّه لا يضمن؛ لأنّها و إن تكون ملكا لصاحب العين، و لكن لمّا هو بنفسه أمر بإتلافها فلمّا يستند التلف بنفسه فلا يؤثّر حينئذ ما يقتضيه الضمان اليدي للغاصب، فليس موجبا لضمانه بعد أصلا.

و أشكل عليهم بأنّ الأمر بإتلاف لو كان موجبا لرفع الضمان الثابت باليد للصنعة لكان اللازم أن يرتفع بذلك ضمان العيب المحدث في العين من الكسر و غيره تبعا لإزالة الصنعة مع أنّه لا إشكال في ضمانه لذلك، و من هذه الجهة قيل فيها- أي الصنعة- بالضمان أيضا لأنّها ليست في الحقيقة مستندا بأمر المالك، بل


1- شرائع الإسلام: 3/ 243.

ص: 662

الإزالة من لوازم ردّ العين إلى حالها الأصلي.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ مقتضى قاعدة اليد ضمان الكسر و نحوه و عدم ضمانه الصنعة، و ذلك لأنّ المستفاد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1) أنّ ارتفاع الضمان عن العين بما لها من المراتب و التوابع إنّما موقوف و مغيّا بأداء العين على حالها الّذي أخذها، فيختلف بذلك أنحاء الأداء على حسب الأوقات، و لا ينافي ذلك كون ما يزيد في العين من حين الأخذ إلى حين الأداء مضمونا أيضا، لأنّ على هذا يكون المعنى أنّ العين مضمونة في كلّ آن بحالها الّذي هي عليه إلى أن يؤدّيها على حالها الّذي أخذها، ففي حالها الّذي يكون عليها زيادة فيجب على الغاصب أن يؤدّيها مع الزيادة، و لكن لو عصى و لم يؤدّها حتّى زالت عنها الزيادة، فإن أدّاها بعد ذلك على حالها الّتي كانت عليها وقت الغصب و الاستيلاء فليس عليه شي ء و إلّا فعليه النقص الحاصل، و لازم ذلك أنّه لو عصى و ما أدّاه فتلفت في حال يكون عليها زيادة فهو ضامن للعين و الزيادة؛ لأنّ ضمان كلّ وقت إنّما هو يكون على الكيفيّة الّتي تكون العين عليها، فلمّا تلفت في هذه الحالة فمضمونة عليها و المفروض أنّه ما حصلت التأدية أيضا بحال الّذي كان عليها حين الغصب حتّى يرتفع ضمان الزيادة.

و بالجملة؛ فإن استظهر هذا المعنى من الحديث الشريف كما يشعر بذلك قوله في «الجواهر» في المقام: (و احتمال الفرق) .. إلى آخره (2).


1- مستدرك الوسائل: 17/ 88 الحديث 20819.
2- جواهر الكلام: 37/ 151.

ص: 663

فالفرق بين الكسر الحاصل في العين و الصنعة الزائلة (1) واضح، و على ذلك فليس النقض الّذي أورده بعد ذلك من أنّ لازم هذا الاحتمال عدم الضمان أيضا، و لو تعمّد الغاصب في إزالة الصنعة بلا إذن من المالك، فتأمّل!

هذا؛ و لكن لازم هذا المبنى عدم ضمان الغاصب- مثلا- للسمن الحاصل في الغنم و نحوه عنده لو زال و لم يبق إلى حين الردّ، مع أنّ الظاهر أنّ ضمانه لذلك إجماعيّ.

فالتحقيق؛ هو الالتزام بالفرق بين مقدّمة المأمور به، و لوازمه من مقارناته، و تفصيل ذلك هو أنّه لا إشكال أنّ بعض الامور يكون من مقدّمات المطلوب و المأمور به كما إذا أمر الغاصب بإخراج الخشب المغصوب من مكان لا يمكن إخراجه منه إلّا بكسره و تنصيفه- مثلا- حتّى يخرج، و بعضها من لوازمه مثل ما لو كان المغصوب في مكان بعيد يوجب إحضاره نقصانه من هزالة و نحوه، و بمثل ذلك بيّنا الضابطة بين الضدّ و المقدّمة.

و كيف كان؛ ففي مثل الأوّل لا موجب للضمان؛ لأنّ المفروض كون النقصان من مقدّمات المأمور به و ما يتوقّف عليه مطلوب المالك، و من أنّ الأمر بالشي ء أمر بمقدّماته، فإذا أمر بردّ العين إلى حالها الأوّل، سواء أمر بإتلاف الصنعة بالصراحة أو لا، فلمّا يكون إتلافها مقدّمة لردّ العين بحالها بحيث يرى العرف ذلك من موانع الأمر، فالنقص من الهزال و نحوه يستند إلى المالك، مثل ما لو أمر بإخراج غنمه عن مكان يتوقّف خروجه منه على إراءتها الذئب حتّى يهزل


1- لأنّ الكسر يوجب تغيير العين عن الحالة الّتي كانت عليها عند الغصب بخلاف الصنعة الزائلة، «منه رحمه اللّه».

ص: 664

فيخرج فهو بنفسه متلف لماله.

و أمّا في الثانية، فالضمان على الغاصب لأنّ نقصان العين نشأ من إيجاد المأمور به، بمعنى أنّ الهزال الناشئ من جهة إحضار الغنم من المسافة البعيدة إنّما هو إمّا مؤخّر عن وجود المطلوب و هو إحضاره، أو مقارنه لا أن يكون مقدّمة له حتّى ينتسب إلى الآمر من ناحية المالك، و لا ريب أنّ الكسر الحاصل في عين الفضّة إنّما هو من هذا القبيل إذ هو متأخّر عن إتلاف الصنعة الّذي هو المأمور به دون نفس الكسر، و كذلك الهزال المتوقّف إحضاره على سيره بمسافة بعيدة، بل هما متأخّران رتبة و خارجان عن موجبهما، و هما إتلاف الصنعة و سيره المسافة المترتّبان هما على الأمر و طلب المالك، فظهر من ذلك أنّ ما عليه المشهور في المقام هو ما تقتضيه القاعدة أيضا، كما لا يخفى.

الفرع الثاني: في حكم مطلق تغيير العين المغصوبة، ففي «الشرائع»: (إذا غصب دهنا كالزيت أو السمن) .. إلى آخره (1).

لا بدّ أن يعلم أوّلا أنّ لتغيير العين بسبب الاختلاط و الامتزاج صورا: لأنّ الاختلاط إمّا أن يكون بالجنس أو بغيره، و في الفرض الأوّل؛ إمّا أن يكون العين المغصوبة بالنسبة إلى المخلوط به بمثابة من القلّة لا يرى العرف بعد خلطه به له وجودا بحسب المادّة و الصورة، كما إذا خلط قطرة من الدهن بمقدار منه الّذي يكون نسبته إليه كنسبة قطرة من الماء بالنسبة إلى كرّ منه.

و إمّا أن لا يكون العرف يراه كذلك، بل يرون العين المغصوبة المختلطة باقية بمادّته و صورته، و إنّما الخلط تبدّل حدّه بحدّ، و على هذا الفرض إمّا أن


1- شرائع الإسلام: 3/ 244.

ص: 665

يكون مخلوطا بمماثله ذاتا و وصفا بأن لا يكون أحدهما أجود من الآخر أو أردأ، و إمّا أن يكون ما يماثله مغايرا معه من حيث الجودة و الرداءة، و على الفرض الثاني- يعني الخلط بغير الجنس- فتارة يكون متميّزا عنه في الخارج كما إذا خلط الحنطة بالشعير، و إمّا لا يكون متميّزا في الخارج عرفا، و إن كان متميّزا واقعا، و على هذا الفرض فإمّا أن يوجب الخلط تغيّر العنوان كما لو خلط الخلّ بالسكر فصار سكنجبينا، و إمّا أن لا يكون موجبا لذلك بل صار مستهلكا بالنسبة إلى المخلوط به، كما إذا خلط مقدارا من الزيت بكثير من الشيرج فصار شيرجا مدهونا، أو بالعكس فصار دهنا حلوا، هذا ما يتصوّر من أقسام الخلط.

و أمّا حكمها؛

ففي الصورة الاولى: فلمّا تكون العين المخلوطة في نظر العرف بحكم التلف فيكون الغاصب ضامنا لمثله، و لا مجال لتوهّم الشركة؛ إذ مناطها هو وجود المال المشترك بحيث يكون المخلوطان أمرين موجودين بوجود واحد، و لا ريب أنّ فيما إذا صبّ مقدار قليل من الماء في حوض الحمّام ليس الأمر كذلك، أي لا يرى العرف شيئين موجودين، حتّى يكون لازم ذلك الحكم بكون ذاك الحوض بحكم المغصوب فيترتّب عليه الشركة القهريّة، و الظاهر أنّ مثل هذا الفرض خارج عن منصرف الكلمات من القول بالشركة في الخلط بالجنس، بل هذا الفرض بحكم ما إذا خلط بغير الجنس على وجه صار مستهلكا، كما سيأتي.

و أمّا الصورة الثانية؛ ففيما لو كان المخلوط به مماثلا للعين المغصوبة ذاتا و وصفا، كما إذا خلط كأسا من اللبن المغصوب بلبن نفسه، ففي مثله ينبغي عدم توهّم الإشكال في تحقّق الشركة بالنسبة إلى العين الخارجي حقيقة أو حكما،

ص: 666

و لا وجه لتوهّم ضمان القيمة أو المثل بتخيّل أنّه في حكم التلف؛ لعدم إمكان ردّه، فلا بدّ من ردّ بدل الحيلولة، كما لا يخفى.

و أمّا إذا خلطه بالأجود أو الأردإ من جنسه؛ فمقتضى القاعدة أيضا هو الشركة؛ لبقاء عين المال بحاله، غاية الأمر من جهة اختلاط أجزائه بأجزاء مال الغير و تفرّقها فيها على وجه لا يمكن الامتياز تحصل الشركة فيهما بنسبة مقدار كلّ واحد من المالين بالنسبة إلى الآخر إمّا حقيقة أو حكما.

نعم؛ هنا كلام آخر، و هو أنّه إذا كان مال المغصوب منه أجود و مال الغاصب أدون فلا إشكال في أنّه لو أخذ المالك من المخلوط ما يساوي ماله بحسب المقدار يلزم فوت مقدار من الماليّة الّتي كانت ثابتة لعينه لجودته، ففوت وصف الجودة صار موجبا لفوت مقدار من الماليّة، فحينئذ هل يضمن الغاصب أرش النقصان أو تحصل الشركة في المجموع على حسب الماليّة؟ فلو كانت ماليّة العين المغصوبة قبل الخلط بمقدار ضعف ماليّة مال الغاصب يصير بالخلط ثلث المجموع للغاصب و ثلثاه للمغصوب منه؟

قد يحتمل تعيّن الوجه الثاني؛ لما أوضحناه في بعض مباحث الخيار من أنّ العين الواحدة ليست لها إلّا ماليّة واحدة، و تلك الماليّة إذا اضيفت إلى اثنين كانت لكلّ منهما بالنسبة إلى تمام العين ماليّة ضمنيّة، و من لوازم كون كلّ منهما مالكا لتمام العين ضمنا هو اعتبار الشركة في العين على حسب ما كان قائما بكلّ واحد منهما في مقدار إضافة الماليّة، ففي ما نحن فيه إذا فرضنا أنّه خلط الجيّد بالردي ء فمقتضى الكسر و الانكسار بسط الجودة القائمة بالبعض على المجموع و الرداءة كذلك، فيكسب كلّ من المالين عرضا من الآخر، و المفروض عدم فوت

ص: 667

وصف الجودة رأسا، بل كان موجودا قائما بالمجموع، فحينئذ لا بدّ و أن يكون مقدار الماليّة الثابتة لكلّ واحد من العينين قبل الخلط مضافا إلى مالكه، و لازم ذلك هو الشركة في العين على حسب الماليّة، كما لا يخفى، و ليس أخذ المالك أزيد ممّا كان ملكا له قبل الخلط و التفرّق بحسب المقدار موجبا للربا؛ لعدم كون المقام داخلا في أقسام الربا المحرّم؛ لاختصاص أدلّته بباب المعاوضات.

و لكنّ التحقيق هو الوجه الأوّل؛ لعدم الدليل على خروج مال كلّ واحد منهما عن ملكه بحسب المقدار، و أمّا الماليّة الثابتة لصاحب الجيّد ليست ترى في المجموع الآن موجودة، بل العرف يحكم ببقاء ماله فيه الآن موجودا كمّا لا كيفا، بحيث يرون وصف الجودة معدوما، و لذلك لا بدّ من الالتزام بأخذ المغصوب منه ماله من المجموع بمقدار ما غصب منه دون الزيادة، مع أرش وصف الجودة الزائلة، كما لا يخفى.

و أمّا فيما لو اختلطت العين المغصوبة بالأجود، فالظاهر هو تحقّق الشركة، فيستحقّ كلّ من الغاصب و المغصوب منه من المجموع بمقدار عين ماله، و لا ريب أنّ وصف الجودة الحاصلة للعين المغصوبة بالخلط إنّما هو بمنزلة زيادة وصف فيه عند الغاصب، لا أن تكون زيادة عينيّة حتّى يقال بأنّه لا دليل على خروجها عن ملك الغاصب، كما لا يخفى.

و أمّا في الفرض الثاني، أي الاختلاط بغير الجنس، فإن كان المغصوب بعد الخلط متميّزا فلا مجال للشركة، بل يجب التفكيك و أداؤه إلى صاحبه إن أمكن، و إن لم يمكن- كما لو اختلط مقدارا من الشيرج في السمن، بحيث يصدق عليهما بعد الخلط كلّ واحد من العنوانين، فيقال: شيرج مخلوط بالسمن عرفا-

ص: 668

ففي مثله لا وجه للشركة في العين، كما لا وجه للحكم بالتلف، بل يكون كلّ واحد من المالين باقيا على ملك صاحبه، و لازم ذلك الشركة في الثمن بالنسبة إلى كلّ واحد من المالين بحسب الماليّة، أو الحكم بضمان بدل الحيلولة.

أقول: يمكن دعوى جريان مناط الشركة فيما لو كانا- أي المالان- من جنس واحد هنا أيضا، لأنّ المفروض بقاء المالين و عدم إمكان تجزئتهما و بقاء الاسم و صحّة إطلاق اسم كلّ من المالين عليهما، مع عدم إمكان التجزئة في الخارج لا يضرّ بالدعوى، إلّا أن يقال: إنّ الشركة الحقيقيّة خلاف الأصل، و الدليل الدالّ عليها- و هو الإجماع- إنّما يكون فيما لو اتّحد الخليطان جنسا، و أمّا في المقام فهو مفقود، فتدبّر!

و إن لم يكن بعد الخلط متميّزا أصلا، فحينئذ تارة تكون العين المغصوبة بالنسبة إلى عين الغاصب بمقدار من القلّة بحيث لا يرى العرف بعد الخلط لها بقاء لا مادّة و لا صورة، بل يراها معدوما و مستهلكا، كما إذا خلط مقدارا قليلا من الشيرج بمقدار كثير من الزيت كانت نسبته إلى الزيت نسبة المثقال إلى الأمنان، ففي مثله لا إشكال في أنّه ملحق بالتلف عرفا فلا مقتضي للشركة، فالغاصب ضامن للمثل أو القيمة.

و اخرى كانت العين المغصوبة بحيث كان الخلط موجبا لاستهلاكها بحسب الصورة لا المادّة و انقلابها إلى صورة ما خلط به، و لكن كانت مادّته باقية في نظر العرف بحسب الكمّ، كما إذا خلط منّا من الشيرج بمقدار من السمن، بحيث يصدق على المجموع أنّه سمن و لكنّه زاد مقداره منّا بخلط الشيرج ففي

ص: 669

مثله ظاهر كلماتهم أيضا إلحاقه بالتلف للاستهلاك (1).

و لكن فيه: إنّه بعد بقاء المادّة عرفا يكون من قبيل اكتساب العين المغصوبة لون المخلوط به، و من باب انقلاب الصورة بصورة اخرى، و لا إشكال أنّ المالية و كذا الملكيّة إنّما هما قائمان بنفس المادّة مع أنّ الحكم بكون مجموع العين للغاصب الّذي لازم ذلك الإلزام بعدم تغيّر عين ماله ترجيح بلا مرجّح، إلّا أن يقال بأنّ الغرض عدم انقلاب ماله، و إنّما حصل بالاختلاط تغيّر وصفه، بحيث يقال له: دهن فيه شي ء من الشيرج، بخلاف مال المغصوب منه.

فعلى ذلك، لا وجه للحكم بالتلف، بل حكمه حكم ما لو خلط أحد الجنسين بالآخر، مع كون أحدهما جيّدا زال عنه وصف الجودة، لا بدّ من القول بالشركة الحقيقيّة في العين، مع ضمان أرش النقصان للمالك لو حدث نقصان بالخلط.

و ثالثة: كان الاختلاط موجبا لزوال عنوان الخليط و المخلوط به و حدوث العنوان الثالث، فحكمه حكم الفرض المتقدّم من حصول الشركة العينيّة، لو كان العرف مساعدا لبقاء المادّة مع أرش النقصان لو كان نقص في الماليّة، و أمّا مع مساعدتهم في ذلك فقد عرفت أنّه ملحق بالتلف، فتأمّل جيّدا!

[قال في «الشرائع»]: ( [لا خلاف في أنّ] فوائد المغصوب مضمونة بالغصب، و هي مملوكة للمغصوب منه، و إن كان قد تجدّدت في يد الغاصب [أعيانا كانت] (2) كاللبن و الشعر) .. إلى أن قال: و كذا الكلام في منفعة كلّ ماله


1- جواهر الكلام: 37/ 165.
2- أثبتناها من المصدر.

ص: 670

اجرة في العادة) (1).

و تفصيل الكلام في ذلك: أنّ فوائد المغصوب، إمّا أن تكون من قبيل نماءاته المتّصلة أو المنفصلة ممّا لها عينيّة في الخارج كاللبن و الشعر و أمثالهما، فلا إشكال في أنّها لمّا تقع تحت اليد استقلالا فيوجب ضمانها، سواء تلفت بآفة سماويّة أو اتلفت.

و إمّا أن لا يكون من قبيل النماءات بل كانت من قبيل المنافع، فتارة؛ لا يكون ممّا لها اجرة عادة، بمعنى أنّه ليس لها ماليّة بحسب العادة بحيث يبذل بإزائها المال، فلا ضمان فيها، سواء كان تلفها بيده بغير الاستيفاء، أو بالاستيفاء، لأنّ المعتبر في الضمان كون ما في اليد أو التالف مالا.

و اخرى؛ كانت لها الماليّة عرفا لاعتبار الاجرة لها عادة، كسكنى الدار و ركوب الدابّة، فإن استوفاها الغاصب بالمباشرة أو التسبيب فلا إشكال أيضا في ضمانها، لأنّه يصدق بالاستيفاء في حقّه أخذه تلك المنافع، فتكون المنافع ممّا يصدق تعلّق اليد بها مستقلّا أيضا، و لا يحتاج في صدق اليد عليها اعتبار تبعيّتها للعين، بأن يقال: إنّ اليد على العين يد عليها تبعا، كما لا يخفى.

و إن تلفت المنافع في يده من دون استيفائها، ففيه الأقوال المتعدّدة، و الأقوى ضمانها، لأنّ غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم الضمان: هو أنّ اليد الموجبة للضمان عبارة عمّا تعلّق بالمال الموجود، فلو تلف مال تعلّق به اليد العادية كانت اليد موجبة لكون ضمانه على ذي اليد، و المنافع الغير المستوفاة ليست ممّا تعلّقت بها يد، و لا تلف بعد ما تعلّقت به اليد، بل اليد ما تعلّقت على


1- شرائع الإسلام: 3/ 244، مع اختلاف يسير.

ص: 671

العين، غاية الأمر تعلّقها عليها كان ملازما مع عدم تحقّق المنافع، أو كان مانعا عن حدوثها، فما تحقّقت المنافع حتّى يصدق بأنّها ممّا تعلّق بها اليد.

و أنت خبير بأنّ نفس المنافع و إن لم تكن من الامور الموجودة القابلة لوقوعها تحت اليد من دون استيفائها، و لكن لمّا كانت العين ممّا لها قابليّة الانتفاع بها لتلك المنافع، و كانت نفس القابليّة الّتي هي بمنزلة المقتضي لوجودها في طرفها، فالعرف يرى و يعتبر بمجرّد ذلك لها ماليّة فعليّة، بحيث يعتبر عندهم كون نفس اليد على العين يدا على تلك المنافع بالبيع، كما لا يخفى.

و لذا كان مالك العين مالكا لها- أي للمنافع- إلى الأبد بالفعل، فله تمليكها للغير، و يصير الغير مالكا لها بالفعل، فلا مانع من أن تكون اليد على العين يدا على المنافع، و لذلك يكون الغاصب ضامنا لها أيضا و إن لم يستوفها، و هذا (1) ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال فيما إذا تعدّدت المنافع، و بسط الكلام فيه: هو أنّ العين إذا كانت ممّا لها منافع متعدّدة، فإمّا أن تكون ممّا يمكن الجمع بينها في استيفائها، و إمّا أن لا تكون كذلك، بل بينها التضادّ.

و الأوّل: كما إذا كان للعبد صنعتان يمكن اجتماعهما كالحراسة و الكتابة، و الثاني: كما إذا كان له الكتابة و الحياكة، و كالمشي مع الدابّة و الركوب على الدابّة، أو حمل المتاع معها.


1- و الظاهر؛ أنّ الخلاف و تعدّد الأقوال إنّما هو فيما إذا لم تكن اليد المستقرّة على العين يدا عادية، كما في المبيع بالبيع الفاسد، و أمّا في باب الغصب فهو- أي الضمان- اتّفاقي، كما يظهر من بعض كلمات شيخنا قدّس سرّه، فراجع و تأمّل! «منه رحمه اللّه» (المكاسب: 3/ 271).

ص: 672

أمّا إذا كان من قبيل الأوّل؛ فمقتضى القاعدة ضمان الجميع، سواء استوفاها بأجمعها أو بعضها أو لم يستوف شيئا منها، لما تقدّم من كون المنافع مملوكة للمالك تبعا للعين، و اليد على العين يد عليها.

و أمّا إذا كان من قبيل الثاني ففيه أقوال مختلفة، أحدها: أنّه ضامن لكلّ واحد منها؛ لكون كلّ واحد منها ملكا لمالك العين و مالا له بتبعيّة العين، غاية الأمر أنّه ليس للمالك القدرة و السلطنة على استيفاء كلّ واحد منها على نحو الإطلاق، بل له السلطنة بالنسبة إلى كلّ واحد منها على نحو التعليق، بمعنى أنّ له السلطنة على استيفاء كلّ واحد في طرف عدم الآخر، و هذا المقدار من السلطنة يكفي لاعتبار الماليّة و الملكيّة بالنسبة إلى الشي ء، و لم يثبت من العقلاء في اعتبار الملكيّة ثبوت السلطنة المطلقة على الشي ء، بحيث يكون اللازم فيها السلطنة على كلّ واحد من المنافع فيه في ما نحن فيه على الإطلاق.

و فيه: أنّه بعد كون المفروض التضادّ بين المنافع، بحيث لا يمكن الجمع بينها، فليس للمالك إلّا سلطنة مطلقة بالنسبة إلى واحد منها على البدل، و أمّا بالنسبة إلى الأزيد من الواحد فليس له السلطنة أصلا، فإذا لم تكن له سلطنة بالنسبة إلى الأزيد من الواحد فلا يبقى المجال لاعتبار الماليّة و الملكيّة إلّا بالنسبة إلى واحد منها على البدل.

و بالجملة؛ السلطنة الناقصة لا تصير منشأ لاعتبار الملكيّة، بل لا بدّ فيها، و كذا اعتبار الماليّة السلطنة المطلقة التامّة، كما لا يخفى، و إلّا فيلزم أن يكون مالك العين الواحدة صاحب أموال كثيرة عديدة بالنسبة إلى منافعها، و من المعلوم عدم مساعدة العرف في ذلك، و من ذلك ظهر دليل القول الثاني، و هو أنّه

ص: 673

ضامن لأحد المنافع دون الجميع.

ثمّ القائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ما هو المضمون من أحد المنافع، فقيل: إنّه ضامن للأعلى من تلك المنافع، سواء استوفاها أو استوفى الأدون، أو لم يستوف شيئا منها (1).

و قيل: إن استوفى شيئا منها فهو ضامن لما استوفى، و إن لم يستوف أصلا فهو ضامن للقدر المتيقّن، و هو الأدون (2).

و قيل: إن استوفى الأعلى فهو ضامن للأعلى، و إلّا هو ضامن للمتوسّط، سواء استوفى الأدون أو المتوسّط أو لم يستوف شيئا (3).

و قيل: إن استوفى الأعلى فهو ضامن له و إلّا فهو ضامن لاجرة المثل الثابت للعين المغصوبة في نظر العرف من دون ملاحظة منفعة خاصّة فيها (4).

و أوّل الأقوال أحقّها، و ذلك، لأنّ الفرض أنّ للعين الّتي تعلّقت اليد بها قابليّة المنفعة المخصوصة أي المنفعة الأعلى، و قد تقدّم أنّ اليد على العين يد على منافعها الّتي كانت قابليّة العين لها متحقّقة حين اليد، فضمان الغاصب لخصوص المنفعة الأعلى من جهة اليد لا معارض له أصلا، بخلاف غيرها من سائر المنافع لمعارضة المنفعة الأعلى لها.

هذا لو لم يستوف شيئا من المنافع، و أمّا لو استوفى فلا يضمن إلّا ما استوفاها، و لو كان الأدون لا يضمن غيره، لأنّه بالاستيفاء تعلّقت يده بالمنفعة


1- انظر! قواعد الأحكام: 1/ 205، مسالك الإفهام: 12/ 218.
2- انظر! جامع المقاصد: 6/ 325.
3- انظر! جواهر الكلام: 37/ 168.
4- انظر! الدروس الشرعيّة: 3/ 111- 113.

ص: 674

المستوفاة فصارت ملكا للمالك، و لا ريب أنّه مع صيرورة بعض المنافع ملكا له لا يبقى الباقي بعد تحت قابليّة المملوكيّة.

و بعبارة اخرى: إنّ الالتزام بضمان الأعلى في الأوّل إنّما كان لأنّ المالك لمّا يكون مالكا للقدر الجامع من المنافع الّذي ينطبق ذلك بأوّل الوجودات، و يسقط الباقي عن القابليّة، فما دام لم يتحقّق ذاك الجامع في الخارج في ضمن أحد المصاديق فللمالك اختيار أيّ فرد منها، أي اختيار الجامع الّذي كان منشأ اعتباره تملّك المالك إحدى المنافع على البدل في ضمن أيّ فرد من الأبدال، و أمّا في هذه الصورة- و هي عند استيفاء إحدى المنافع- فذاك الجامع الّذي كان مملوكا للمالك؛ و الغاصب أيضا ضامن له فقد انطبق على ما أوجده الغاصب في ضمن الفرد، فيصير الجامع المقيّد بتلك الخصوصيّة ممّا تعلّقت اليد به، لأنّ بالاستيفاء كانت نفس المستوفى ممّا يجي ء تحت اليد فيصير هو المأخوذ دون غيره، فلا يبقى محلّ لاختيار المالك حتّى يختار الجامع في ضمن غير الفرد المستوفاة.

فالحاصل؛ أنّه إذا كانت منافع المغصوب متعدّدة و مختلفة في المراتب، مثل أن يكون العبد صانعا و حمّالا و كاتبا، و لم يمكن اجتماعها في الوجود و الاستيفاء، فإن لم يستوف الغاصب شيئا منها، فمقتضى القاعدة ضمانه المنفعة الأعلى، أي الاختيار يكون بيد المالك، فلو اختاره يجب عليه ردّ اجرة تلك المنفعة، و إلّا فإن استوفى شيئا منها فهو ضامن للمستوفى، سواء كان الأعلى أو المتوسّط أو الأدون.

أقول: بعد تسليم كون المالك سلطانا على المنافع بأجمعها- أي بجامعها

ص: 675

القابل للانطباق على كلّ واحد من الأفراد الّتي منها الأعلى- فالقول بتبدّل الحكم- أي الضمان للمنفعة الأعلى إلى المستوفاة عند الاستيفاء- مشكل، و ذلك لأنّ مرجع هذا القول إنّما يكون بجعل الاختيار بيد الغاصب، مع أنّه مناف لسلطنة المالك، إذ كما أنّ له عند عدم غصب ماله و كونه تحت يده إعمال جهة سلطنة في أيّ مرتبة من مراتب المنفعة الّتي منها الأعلى، فكذلك عند منعه الغير عن سلطنته و وضع اليد على ماله.

مع أنّ بالوضع يجي ء جميع مراتب العين- أي بما لها من المنافع- تحت اليد و للمالك أيضا سلطان على العين بجميع شئونها، له أن يختار كلّ واحدة من تلك المراتب و يعيّنها بمرتبتها الخاصّة في أيّ واحدة منها شاء.

و اختيار الغاصب ذاك الجامع في مرتبة خاصّة لا موجب لحجر المالك عن سلطنته و إلزامه تعيين الجامع في ما اختاره الغاصب، و بأيّ دليل نلتزم بأنّ اختيار الغاصب الجامع في ضمن الفرد المتوسّط أو الأدون موجب لسقوط حقّ المالك عن الفرد الأعلى.

و لعلّه لمثل هذه الشبهات مال- دام ظلّه- أخيرا إلى ما التزمه صاحب «الجواهر» قدّس سرّه في المقام من القول بمثله (1)- أي فيما كانت المنافع مختلفة المراتب- بضمان اجرة المثل للعين المغصوبة؛ لأنّ ملاحظة خصوصيّة المنفعة و عدم مراعاة الاجرة الكليّة يوجب طلوع الأقوال المذكورة الّتي قد عرفت أنّ ترجيح بعضها على بعض مشكل جدّا.

فالأقوى؛ هو ما ذهب إليه قدّس سرّه في «الجواهر» من اعتبار اجرة المثل في


1- جواهر الكلام: 37/ 168.

ص: 676

ضمان ما إذا كانت العين المغصوبة ذات منافع مختلفة (1) مع أنّ العرف و اعتبار العقلاء مساعد معه، إذ لا يعتبرون في مثل العبد الّذي يكون ذا أعمال مختلفة الّتي تختلف بها مراتب المنفعة إلّا اجرة مثله الجامع بين خصوصيّات المنافع، كما لا يخفى.

نعم؛ لو استوفى الغاصب خصوص المنفعة الأعلى فيضمنه، لأنّ المستوفى بعينه مال للمالك، فلمّا وقع تحت اليد يصدق عليه الأخذ فيجب ردّه.

فرعان

ثمّ إنّه يتفرّع على هذه المسألة فرعان:

الأوّل؛ في «الشرائع»: (إذا غصب حبّا فزرعه، أو بيضا فاستفرخه، قيل:

الزرع و الفرخ للغاصب (2)، و قيل: للمغصوب منه (3)، و هو أشبه) (4).

أمّا الأوّل؛ فقد تمسّك بأنّ العين المغصوبة قد تلفت، فلا يلزم الغاصب سوى قيمتها أو مثلها.

و فيه: إنّ الملكيّة و الماليّة لو كانت قائمة بالأشياء بما لها من الصور الشخصيّة، كما يكون كذلك بالنسبة إلى أحكام الطهارة و النجاسة، فالدليل المذكور تامّ، لعدم بقاء الحبّ و البيض بصورتهما الشخصيّة الأوّليّة بعد صيرورتهما زرعا و فرخا، و لكن ليس الأمر كذلك بل مسألة الملكيّة بالنسبة إلى الأعيان الخارجيّة سارية فيها بما لها من المادّة و لو مع تبدّل صورتها الشخصيّة،


1- جواهر الكلام: 37/ 168.
2- المبسوط: 3/ 105.
3- السرائر: 2/ 482.
4- شرائع الإسلام: 3/ 247.

ص: 677

و خلع المادّة عن صورة إلى صورة اخرى.

و توضيح ذلك موقوف على بيان أمر، و هو: أنّه لا خفاء في أنّ أنواع التغييرات في موضوعات الأحكام مختلفة، فإنّه قد يتبدّل الشي ء بمادّته و صورته بحيث لا يرى العرف الجسم بمادّتها الأوّليّة و لا صورتها موجودة، كالكلب الواقع في المملحة المتبدّل بالملح، و كذلك العذرة المتبدّلة بالتراب أو الدود على احتمال، فإنّ العرف يأبى أن يقول بكونهما الآن هو الجسم الأوّلي، بل يراهما ذاتا متغيّرا، كما لا يخفى.

و قد يتبدّل الشي ء بصورته لا بمادّته، بحيث يرى العرف المادّة هي المادّة الأوّليّة، و لا يبعد أن يكون الحبّ المتبدّل بالزرع كذلك، فإنّ المادّة في حال الزرع بعينها هي الكائنة في حال الحبّ، و العرف لا يرى في مثله إلّا انقلاب صورة، و ليس المادّة الأوّليّة صورة اخرى.

و قد يكون التبدّل، تبدّل الوصف و العرض فقط دون انقلاب الصورة و المادّة، مثل الماء المتغيّر إذا زال تغيّره فإنّ المادّة و الصورة على ما عليها قبل زوال التغيّر باقية بعده أيضا، فإنّما المنقلب هو الوصف الخارجي، و كذلك الحال الزبيبي و العنبي لا يبعد أن يكون مثل ذلك.

ثمّ إنّ الأحكام الشرعيّة الثابتة للموضوعات- لا يخفى أيضا- تكون على أنحاء، و ذلك لأنّه قد يكون الحكم ثابتا للشي ء بصورته الخاصّة، بحيث لو ارتفعت الصورة لم يبق الحكم، مثل أحكام النجاسة و الطهارة الثابتة للأشياء بصورتها الخاصّة مثل الإنسانيّة، فإنّ الطهارة الثابتة للإنسان تزول بالموت، و ليس ذلك إلّا لتبدّل صورته و لو كانت المادّة باقية، فتأمّل! و كذلك نجاسة

ص: 678

الكلب فإنّها ثابتة له ما دامت هذه الصورة له باقية، و أمّا بعد تبدّله بصورة الملحيّة فيصير حكم تلك المادّة- أي الكلب إن قلنا ببقاء مادّته بعد صيرورته كذلك- حكم الملح.

و قد يكون الحكم ثابتا للمادّة مع قطع النظر عن لحاظ الصورة مثل حكم الملكيّة، و كذلك السلطنة فإنّها ثابتة للعين الخارجيّة بذاتها، بحيث لا ملازمة بين انقلاب الصورة و ارتفاع الحكم.

و قد يكون الحكم ثابتا للمادّة- أي ذات الشي ء- مع لحاظ صورته، كالنجاسة الثابتة للمتنجّسات مثل الدهن النجس أو الماء المتغيّر بالنجاسة، فإنّهما لو تبدّلت صورتهما، كما إذا صارا دخانا أو بخارا، فالقاعدة الأوّليّة تقتضي ارتفاع حكمهما، بخلاف ما إذا تبدّل وصف التغيّر- مثلا- فإنّه لمّا كان الظاهر كونه واسطة لعروض النجاسة لا لثبوته، بمعنى أنّ المستفاد من الدليل حدوث الحكم لذات الماء في حال التغيّر لا للماء المتغيّر، بحيث يكون التغيّر جزءا للموضوع فيزول الحكم بزواله، هذا حال الموضوعات و أنحاء تبدّلاتها و أقسام الحكم.

إذا عرفت ذلك فظهر لك ما تمسّك في المقام صاحب «الجواهر» قدّس سرّه بالاستصحاب لإثبات كون الحبّ بعد صيرورته زرعا أو البيض فرخا باقيا على ملك صاحبه أي المغصوب منه، يكون في محلّه (1).

و لا مجال لتوهّم عدم جريان الاستصحاب بزعم تبدّل الموضوع، إذ قد عرفت أنّ السلطنة و الملكيّة هي من الأحكام الّتي تكون لذات الشي ء أي مادّته


1- جواهر الكلام: 37/ 199.

ص: 679

بحيث لا يصير فيهما خلع المادّة من الصورة الأوّليّة و لبس صورة اخرى، بمعنى أنّ مادّة الشي ء ما دامت باقية فلا يرى العرف تغييرا في موضوع الملكيّة، و لذا فلو عرض شكّ في خروج الموضوع عن ملك صاحبه الأوّل مع انقلاب صورته، يصحّ التمسّك بالاستصحاب و إثبات الحكم الأوّلي له من إبقائه على ملك صاحب المادّة ما لم ينتقل بأحد الأسباب الشرعيّة عن ملكه، و إلّا فالتغيّر لا يوجب خروج الملك عن سلطنة صاحبه.

و إذا ثبت كون الملكيّة من عوارض ذات الشي ء و مادّته فانقدح أنّ كلّ ما يزداد على المادّة الأوّليّة بتغيّرها يكون من تبعات تلك المادّة و يحسب عند العرف من نماءاتها، فهي أيضا مملوكة لصاحب المادّة لحدوثها في ملكه بحيث تعدّ النماءات من مراتب نفس المادّة.

نعم؛ قد يقال بأنّه كما يكون للمادّة مدخليّة في وجود النماءات و حدوث الترقّيات لأصل الحبّ، بأن يصير شجرا أو فواكه، و غير ذلك ممّا يكون كمال الفرق بين الأصل و توابعه من حيث الصغر و الكبر و أنحاء الانتفاع، كذلك يكون لعمل الغاصب و ما يصرف لتنمية الأصل من الماء و التراب و غيره لها مدخليّته في وجود النماءات، فتكون عين مال الغاصب في النماءات أيضا موجودة بحيث تكون مرتبة منها له، فتكون نتيجة ذلك كون الغاصب و المغصوب منه شريكين في النماءات لا أن تكون مختصّة بالمغصوب منه.

و لكنّك خبير بأنّ هذا توهّم باطل؛ إذ يردّه- مضافا إلى أنّ العرف لا يرى النماء إلّا من توابع الأصل و إلّا فسائر المعدّات مثل الماء و غيره يكون بالنسبة إليه

ص: 680

كالعدم (1)- أنّ الحديث المعروف من أنّه «ليس لعرق ظالم حقّ» (2) الّذي قد تلقّاه الأصحاب بالقبول يرفع احترام عمله، و كذلك ماله الّذي صرف لتربية الأصل و ترقّياته كما لا يخفى.

مع أنّه قد بيّنا سابقا أنّ كلّ ما يعمل في المغصوب من الصنعة و غيرها يصير ملكا للمغصوب منه، و لا يجوز للغاصب التصرّف في العين بإزالتها أو نحوه بعد ذلك أبدا، حتّى لو تصرّف و أزال الصفة الّتي زادت في العين عنده يصير ضامنا له أيضا.

ثمّ إنّه قد يستشكل في مثل البيض الّذي يجعل لأن يصير فرخا؛ من أنّه لا مجال لاستصحاب الملكيّة فيه، لأنّه قبل أن يصير فرخا يصير دما و علقة فيخرج بذلك عن قابليّة التملّك لعدم كون الأعيان النجسة قابلة للملكيّة فيصير حال البيض حال العصير الّذي صار خلًّا بعد صيرورته خمرا قبل الخليّة الموجب ذلك لخروج الموضوع عن تحت السلطنة، فمقتضى القاعدة استصحاب بقاء عدم الملكيّة فيهما أي في البيض بعد ما صار فرخا، و كذلك الخلّ بعد صيرورته خمرا.

و لكنّه مدفوع؛ بأنّه بعد منع العموم أو الإطلاق لأدلّة المحرّمات و الأعيان


1- هذا ما أدّى إليه بداية النظر و لكنّه ليس بتامّ، إذ ليس معنى الحديث سلب الاحترام عن عين مال الغاصب، بل المراد نفي الحقّ لإبقاء ماله في ملك الغير.و بالجملة؛ فالاستدلال به لعدم احترام عمله تامّ، و بالنسبة إلى غيره فلا مجال للاستدلال، فالتحقيق في الجواب هو الجواب الأوّل من عدم استناد النماء عرفا إلّا إلى الأصل لا إلى الماء و نحوه من المعدّات، فتدبّر! «منه رحمه اللّه».
2- وسائل الشيعة: 19/ 157 الحديث 24363 و 25/ 388 الحديث 32194.

ص: 681

النجسة حتّى تشمل المقام، و على فرض الإطلاق فلا ريب في انصرافه عن مثل المقام الّذي لازم انقلاب بعض الأشياء عن حال يكون فيه طاهرا حلالا إلى حال آخر يكون قابلا للتملّك أيضا هو اتّصافها بين الحالتين إلى ما يوجب صيرورتها ملحقة بالأعيان النجسة، و اختصاص الأدلّة بما ليس بقابل للتملّك نوعا من حيث الذات.

فنقول: إنّ في مثلها ليس أن يكون الشي ء بين الحالتين بحيث يخرج عن السلطنة و الملكيّة رأسا، بل الاعتبار العرفي لتملّكه في تلك الحالة أيضا باق، غاية ما يكون أنّه ليس اعتبار الملكيّة و العلقة فيها مثل ما كانت له قبل تلك الحالة و بعدها، بل تكون العلقة الملكيّة الثابتة لمثل البيض و كذلك العصير قبل انقلابهما علقة تامّة بينهما و بين مالكهما، و كذلك بعد صيرورتهما فرخا و خلًّا، السلطنة للمالك إنّما هي سلطنة ملكيّة، و أمّا في الحالة الوسطى فتلك العلقة تصير ضعيفة، و لكن لا بدّ أن يصل إلى حدّ تنعدم العلقة رأسا، بل هي بمرتبة منها على كلّ حال باقية، إلّا أنّها تضعف من مرتبة الملكيّة حتّى تصل إلى درجة يعبّر عنها بالحقّ أو ملك المالك لأن يملكه، ثمّ يتقوّى قليلا قليلا من هذه المرتبة حتّى تصل إلى المرتبة الملكيّة و تشتدّ العلقة حتّى تصير السلطنة أيضا ثابتا تامّة.

فعلى كلّ حال؛ السلطنة المطلقة في الجملة للمالك بالنسبة إلى تلك الأشياء باقية، فلا مجال لتوهّم استصحاب عدم سلطنة المالك، إذ قد عرفت أنّه ليس زمان يخرج البيض الّذي صار فرخا و نحوه عن سلطنة صاحبه، غاية ما يكون، تختلف مراتبها على حسب اختلاف مراتب العلقة شدّة و ضعفا.

فانقدح ممّا ذكرنا؛ أنّ مقتضى القاعدة بقاء البيض و العصير المغصوب على

ص: 682

ملك مالكهما بعينهما، فيجب على الغاصب ردّهما إلى المالك على كلّ حال، و لو صار فرخا أو خلًّا، و عدم الموجب لانقلاب إلى القيمة أو المثل، و لا تحتاج تماميّة المسألة إلى الإجماع كما صنعه في «الجواهر» (1) بزعم أنّ تلك الأشياء في الحالة الوسطى لمّا تخرج عن قابلية التملّك، فاستصحاب عدم الملكيّة فيها محكم، و قد اتّضح لك أنّه لا سبيل إلى ما ذهب إليه قدّس سرّه، لعدم خروجها عن الملكيّة بحال، بل مرتبتها تضعف و تصل إلى ما يسمّى بالحقّ، لا أن يخرج عن السلطنة رأسا، و لذلك لا تجوز إراقة العصير بعد صيرورته خمرا، كما يظهر لمن راجع كلمات الأصحاب، فافهم!

الثاني: قال في «الشرائع»: (لو غصب أرضا فزرعها) .. إلى آخره (2).

لا إشكال أنّ ما تسالم عليه الأصحاب هو كون نماءات الأعيان و منافعها مطلقا تابعا لها، فهي ملك لمالكها كيفما كانت.

ضرورة؛ أنّ انتفاع الشخص من عين ماله في ملك الغير لا يوجب خروج منافعها عن ملكه وضعا، و إن كان لو تصرّف بغير إذن مالكه يوجب الإثم و الاشتغال باجرة المثل و خسارة ما ورد على الغير من الضرر لهذا التصرّف، فأصل هذا الحكم موافق لما يقتضيه الأصل و القاعدة، مع أنّ في المقام روايات دالّة على المطلوب، فما هو المشتهر من «أنّ الزرع للزارع و لو كان غاصبا» المتّخذ من روايات الباب (3) موافق للقاعدة أيضا، و المراد به هو أنّ الزرع


1- جواهر الكلام: 37/ 200.
2- شرائع الإسلام: 3/ 247.
3- وسائل الشيعة: 19/ 156 الباب 33 من كتاب الإجارة، و 25/ 387 الباب 2 من كتاب الغصب.

ص: 683

للزارع (1) المراد به صاحب الأصل من الحبّ و نحوه، و لو كان غاصبا في الزرع أي في عمله ذلك، من أن تكون الأرض المزروع فيها مغصوبة أو بعض آلات العمل كذلك، لا أن يكون المراد «و لو كان غاصبا» في المزروع، و يكون المراد من الزارع العامل، كما قد يتراءى في بادئ النظر، فإنّه عليه يكون المعنى خلاف المتسالم به (2).

مسألتان: الاولى: قال في «الشرائع»: (إذا حصلت دابّة في دار لا يمكن أن تخرج إلّا بهدم)- إلى أن قال-: (فإن لم يكن من أحدهما تفريط و لم يكن المالك معها) .. إلى آخره (3).

هذه المسألة داخلة في باب تزاحم الحقوق، و قد أوضحنا سابقا ما تقتضيه القاعدة عنده، فهنا أيضا نقول: إنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة من تسلّط الناس على أموالهم عدم جواز تصرّف أحدهما في مال الآخر بلا رضا صاحبه لتخليص ماله إذا لم يكن الآخر مفرّطا، لما أشرنا مرارا إلى أنّ قاعدة السلطنة جارية ما لم تزاحم سلطنة الغير، و لا فرق في هذه الجهة بين أن يكون أحدهما أقلّ ضررا أو لم يكن كذلك؛ لأنّ قاعدة الضرر ليست قابلة لأن تزاحم قاعدة السلطنة، لأنّ كلّا منهما قاعدة امتنانيّة.

فهنا لا يصحّ أن يقال بأنّ صاحب الدابّة على مقتضى سلطنته على دابّته


1- يستفاد ذلك من صريح بعض روايات الباب و إن كانت أيضا روايات معارضة لها، و لكنّها معرض عنها مع ما في أصل نسختها من الاختلاف، فراجع! «منه رحمه اللّه».
2- كما يستكشف ذلك من الفرع السابق و مدلول الأدلّة، كما لا يخفى، فتدبّر!
3- شرائع الإسلام: 3/ 248.

ص: 684

لرفع المزاحمة عن ماله، له أن يكسر القدر ثمّ يضمن قيمته، و لأنّ كسر القدر يكون أقلّ ضررا من إعدام الدابّة و ذبحها، مع أنّ الموارد بالنسبة إلى قلّة الضرر و عدمه مختلفة، فلا يمكن الحكم الكلّي الّذي يتساوى بالنسبة إلى الموارد، فالتحقيق في مثل المقام هو الرجوع إلى الحاكم الشرعي، فهو بمقتضى مصلحة المقام على حسب نظره يحكم، و اللّه العالم.

الثانية: في «الشرائع»: (إذا تلف المغصوب و اختلفا في القيمة) (1).

لا يخفى؛ أنّ الحكم في هذه المسألة- أي القول بتقديم قول المالك أو الغاصب- مبنيّ على المستفاد من قاعدة اليد فإن بني على ما هو المشهور من كيفيّة الضمان من عدم اعتبار وجود للعين على اليد، بل ما دام وجودها ليس على الغاصب إلّا حكم تكليفي من وجوب ردّ العين، و بعد التلف بالمثل أو القيمة تشتغل الذمّة.

فالتحقيق في المقام هو ما قوّاه المحقّق، بل عليه المشهور، من إجراء أصالة البراءة و تقديم قول الغاصب، لأنّ الشكّ يكون في الاشتغال بالأقلّ و الأكثر.

و إن بنينا على ما هو التحقيق من اشتغال الذمّة من حين وضع اليد بنفس العين إلى زمان الأداء فلمّا [كان] مرجع الشكّ إلى الفراغ عمّا اشتغلت الذمّة به يقينا، و يكون الشكّ في المحصّل، فالمرجع هو الاحتياط كما لا يخفى.

هذه جملة ما استفدت من مقالات الاستاد دام ظلّه في مهمّات مسائل الغصب، و قد وقع الفراغ في العشر الآخر من شعبان من سنة 1344 و عليه التكلان.


1- شرائع الإسلام: 3/ 249.

ص: 685

فهرس الآيات

أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ 281، 347

أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ 43

أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ 638

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ 210

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ 71

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ 111، 253، 257، 258، 259، 263، 267، 280، 347

أُولُوا الْأَرْحٰامِ 308

حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ 556

خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً 402

سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ 73

غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ 593

فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا 428

فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً 44

مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ 565

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ 202

وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ 225، 234

وَ ابْتَلُوا الْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ 428

وَ جَحَدُوا بِهٰا أَنْفُسُهُمْ 74

ص: 686

وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ 397، 399

و مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ 434

وَ مٰا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ* إِلَّا ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ 399

يٰا أَهْلَ الْكِتٰابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ وَ ... 74

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ 473

ص: 687

فهرس الأحاديث

اجلس أفت الناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك 201

إذا أدرك الإمام و هو راكع فكبّر الرجل و هو مقيم صلبه 134

إذا أدركت الإمام و قد ركع فكبّرت قبل أن يرفع الإمام رأسه 134

إذا أدركت التكبيرة قبل أن يركع الإمام فقد أدركت الصلاة 135

إذا أمكنهم بعد مئونتهم 233

إذا خفي الجدران فقصّر 137

إذا رأيت منهم يصلّون فيه 96

إذا ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه 138

إذا كان الرجل لا تعرفه يؤمّ الناس يقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه 212

أ رأيت لو عطب البغل أو أنفق 638

اقض ما فات كما فات 280

الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين 643

إلّا من كان بحيال الباب 157

الإنسان أحقّ بماله ما دام فيه شي ء من الروح 506

أ ليس التذكية بالحديد؟ فيقول عليه السّلام: نعم إذا علمت أنّه مأكول اللحم 91

أنّ الزرع للزارع و لو كان غاصبا 682

إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه 85

أنت و مالك لأبيك 332

ص: 688

إن صلّى قوم و بينهم و بين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام 148، 161

إن كان بينهم سترة أو جدار فليس ذلك لهم بصلاة 157، 158، 160

إن كان بينهم و بين الإمام سترة أو جدار 163

إن كانت قلوبهم واحدة فلا بأس 200

إن لم تدرك القوم قبل أن يكبّر الإمام للركعة فلا تدخل معهم 135

إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به 177، 195

إنّما عليك أن تغسل الظاهر دون الباطن 63

إنّ هذه الصلاة نافلة و لن يجتمع للنافلة 128، 129

إنّه لا دم له 61

أو يحلف صاحب البغل أو يأتي بشهود 642

بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين؟ 206

البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر 435، 464

التائب عن الذنب كمن لا ذنب له 205

حبّس الأصل و سبّل الثمرة 338

الحجر المغصوب رهن [على خرابها] 583

خلق اللّه الماء طهورا 81

سئل عن صلاة الأضحى و الفطر، فقال: «صلّهما ركعتين في جماعة و غير جماعة 132

سئل عليه السّلام فيه عن أرباح المكاسب الّتي تقع في أيدي الشيعة 231

الصلوات فريضة، و ليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلّها و لكنّها سنّة 125

على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي 517، 532، 547، 634

عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك 58

فأجاب عنه الإمام عليه السّلام أوّلا: «بأن تعرفوه بالستر و العفاف» 206

فإذا أوصى بأكثر من الثلث 508

ص: 689

فإذا ركع فاركعوا و إذا سجد فاسجدوا 177، 180

فاركعوا حين يركع و اسجدوا إذا سجد 141

فأصاب شيئا فعطب، فهو له ضامن 561

فإن أوصى فليس له إلّا الثلث 507

فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز 253

فإن كان بينه و بين الإمام سترة أو جدار 163

فظنّوا به خيرا و أجيزوا شهادته 212

فقال عليه السّلام: «يجب عليهم الخمس» 233

فقد أدرك الركعة 135

فقيل له: يا ابن رسول اللّه! ما حال شيعتكم في ما خصّكم اللّه به 235

فكتب عليه السّلام: هكذا هو عندي 314

فما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميّت 54

في جواب سؤاله عن البختج قبل ذهاب ثلثيه: «إنّه خمر» 66

قال: سألته عليه السّلام عن الرجل يأتي السوق، قال: نعم ليس عليكم المسألة 58

قال: هي و اللّه الإفادة يوما فيوما 234

قال عليه السّلام: يبيّنه لمن يشتريه ليستصبح به 86

قدّموا خياركم 198

قلت: روى بعض مواليك عن آبائك عليهم السّلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم 314

قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقّك 233

قول عليّ عليه السّلام في وقفه: «صدقة لاتباع و لا توهب» 351

قوله عليه السّلام في باب القنوت: «ثمّ يرفع يديه بحيال وجهه» 159

قيمة بغل يوم خالفته 641

كلّ ما أخذتم من المسلمين و شككتم فيه من هذه الجهات فلا تعتنوا به 93

ص: 690

كلّ ما غلى بالنّار فقد حرم 69

كلّ ما لم يذكّ فهو ميتة 90

كلّ مسكر حرام 68

لا بأس بالسنجاب 102

لا تأكلوا في آنيتهم و لا من طعامهم الّذي يطبخون، 74

لا تباع و لا تورث و لا توهب 349

لا تباع و لا توهب و لا تورث 340

لا تتوضّئوا من فضله 77

لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و أمانته 198، 213، 214

لا تصلّ إلّا خلف من تثق به 199، 202

لا تصلّ خلف ابن الزنا 197

لا تصلّ في شي ء من الميتة 96

لا تصلّ فيها 90

لا تعتدّ بالركعة الّتي لم تشهد تكبيرها مع الإمام 135

لا تقيّة في الدماء 592

لا تنتقض اليقين 497، 653

لا عتق إلّا في ملك 340، 407

لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ أو شقيّ 201

لا يجوز الصلاة في ما لا يؤكل بأنّ أكثرها المسوخ 98

لا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة 128

لا يحلّ لأحد أن يشتري من مال الخمس شيئا حتّى يصل إلينا حقّنا 227

لا يحلّ مال امرئ [مسلم] إلّا بطيب [من] نفسه 248

لا يعذر عبد اشترى من مال الخمس شيئا أن يقول 227

ص: 691

لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة 53

لا يكبّر إلّا مع الإمام فإن كبّر قبله أعاد 181

ليس لعرق ظالم حقّ 583، 594، 604، 680

ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم 234

ما أنصفناهم إن أخذناهم، و لا أحسنّاهم 235

ما بعت منه فخمّسه! 228

الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي ء 39

من أتلف مال الغير فهو له ضامن 343، 560

من أخرج ميزابا أو كنيفا، أو أوتد وتدا 560

من أضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن 519، 560

من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان 561

من صلّى الخمس في جماعة فظنّوا به كلّ خير 212

من يتصدّق على هذا الرجل بأن يعيد صلاته جماعة 219

الناس شركاء في ثلاثة: النار و الكلأ و الماء 402

الناس مسلّطون على أموالهم 375، 586

نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن كلّ ذي ناب و مخلب 102

و إذا قال إمامكم: اللّه أكبر، فقولوا: اللّه أكبر 181

و إذا كبّر فكبّروا 177

و اعلموا أنّه لا جماعة في نافلة 129

و أعلمهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة 128

و الدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه بحيث لا يجوز التفتيش 212

و إن صلّيت وحدك فلا بأس 132

و إن كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ 174

ص: 692

و إن كان لم ينو السجدتين في الركعة الاولى لم تجز عنه الاولى 140

و إن كانوا كبارا و لم يسلّمها إليهم و لم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه 252

و تعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد اللّه تعالى عليها النار 207

و عليه أن يسجد 140

الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها، إن شاء اللّه 315

الوقوف [تكون] على حسب ما يوقفها أهلها 329

الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها 266، 280، 331

و لا يصلّى التطوّع في جماعة قال: ذلك بدعة 128

و لا يضمن الخمر إذا غصبت من مسلم 554

و لكنّ الجماعة سنّة في الصلاة من تركها رغبة عنها و عن جماعة المؤمنين 153

و لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق 433

و ليس لمن صلّى خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة 160

و يعرف ذلك باجتناب الكبائر التي أوعد 212

و ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة 170

هل يؤمّ الرجل بأهله؟ فقال: «لا يؤمّ لهنّ و لا يخرجن 132

يقرأ صلاته في عذرة الإنسان ... فيقول عليه السّلام: صلاته صحيحة 119

يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان 170

ص: 693

فهرس المنابع

1- القرآن الكريم

2- إقبال الأعمال، للسيّد رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن طاوس رحمه اللّه، ط/ دار الكتب الإسلاميّة، طهران.

3- الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، ط/ المكتبة مصطفوي، قم، سنة 1386 ه.

4- الأربعون، للشيخ البهائي، محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجبعي العاملي، الطبعة الحجريّة، سنة 1274.

5- الاستبصار، للشيخ الطوسي رحمه اللّه، ط/ دار الكتب الإسلاميّة، طهران، سنة 1390 ه.

6- أمالي الصدوق، للشيخ الأقدم رحمه اللّه، ط/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، سنة 1400 ه.

7- الأمّ، لأبي عبد اللّه محمّد بن إدريس الشافعي، ط/ دار المعرفة، بيروت.

8- إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، للشيخ أبي طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي، الملقب ب «فخر المحقّقين»، المتوفّى سنة 771 ه. ط/ المطبعة العلميّة، قم، سنة 1387 ه.

9- بحار الأنوار، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد باقر المجلسي رحمه اللّه، ط/ المكتبة الإسلامية، طهران، سنة 1388 ه.

ص: 694

10- بداية المجتهد، تأليف محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي، ط/ دار المعرفة، سنة 1402.

11- البيان، للشهيد الأوّل، أبي عبد اللّه محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي، ط/ مجمع الذخائر الإسلاميّة، قم.

12- تبصرة المتعلّمين، للعلّامة الحلّي، ط/ مجمع الذخائر الإسلامي.

13- تذكرة الفقهاء، للعلّامة الحلّي، (الطبعة الحجريّة)، ط/ المكتبة المرتضويّة، قم.

14- تعليقات على منهج المقال، للمحقّق البهبهاني، (الطبعة الحجريّة).

15- التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، للفقيه جمال الدين بن مقداد بن عبد اللّه السيوري، المتوفّى سنة 826 ه، من منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي، قم، سنة 1404 ه.

16- تنقيح المقال في أحوال الرجال، للعلّامة المحقّق الشيخ عبد اللّه المامقاني رحمه اللّه، (الطبعة الحجريّة).

17- تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، للشيخ الطوسي، ط/ مكتبة الصدوق، طهران، الطبعة الاولى، سنة 1417 ه.

18- جامع الرواة، للعلّامة الفاضل محمّد بن علي الأردبيلي الغروي، ط/ منشورات دار الأضواء، بيروت، سنة 1403 ه.

19- جامع المقاصد في شرح القواعد، للشيخ علي بن الحسين الكركي، المعروف ب «المحقّق الثاني»، المتوفّى سنة 940 ه، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، سنة 1410 ه.

20- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسن النجفي، المتوفّى سنة 1266 ه، ط/ دار الكتب الإسلامية، نجف، سنة 1381 ه.

ص: 695

21- حاشية المكاسب للسيّد، للعلّامة المحقّق السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي، ط/ دار المعارف الإسلاميّة، طهران، و مؤسسة دار العلم، قم، سنة 1378 ه.

22- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، للشيخ يوسف البحراني، المتوفّى سنة 1186 ه. ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

23- الخصال، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه اللّه، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1403 ه.

24- الخلاف، للشيخ الطوسي، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1407 ه.

25- الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة، للشهيد الأوّل، أبي عبد اللّه محمّد بن مكّي العاملي، المستشهد سنة 786 ه. ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1414 ه.

26- دعائم الإسلام، تأليف النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي، ط/ دار المعارف في القاهرة، سنة 1383 ه.

27- ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، للعلّامة محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري، (الطبعة الحجريّة)، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم.

28- ذكرى الشيعة، للشهيد الأوّل، أبي عبد اللّه محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم، سنة 1419 ه.

29- رجال بحر العلوم، المعروف ب «الفوائد الرجاليّة»، للعلّامة المحقّق السيّد محمّد المهدي بحر العلوم الطباطبائي، من منشورات مكتبة الصادق، طهران.

30- روضات الجنّات، للعلّامة المتتبّع الميرزا محمّد باقر الموسوي الخوانساري، ط/ دار الإسلاميّة، بيروت، سنة 1411 ه.

ص: 696

31- روض الجنان، للشهيد الثاني، زين الدين بن علي الجبعي العاملي، (الطبعة الحجريّة)، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم.

32- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة، للشهيد الثاني، زين الدين بن علي الجبعي العاملي، المستشهد سنة 966 ه، من منشورات جامعة النجف الدينيّة، سنة 1387 ه.

33- رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل، لآية اللّه المحقّق السيّد علي الطباطبائي، المتوفّى سنة 1213، ط/ دار الهادي، بيروت، الطبعة الاولى، سنة 1412 ه.

34- السرائر، الحاوي لتحرير الفتاوي، للفقيه أبي جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1410 ه.

35- سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبد اللّه محمّد بن يزيد القزويني، ط/ دار إحياء التراث العربي، سنة 1395 ه.

36- شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام، للمحقّق الحلّي أبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن، المتوفّى سنة 672 ه، من منشورات دار الأضواء، بيروت، سنة 1403 ه.

37- الشرح الكبير، (المطبوع مع المغني)، للشيخ محمّد بن أحمد بن قدامة.

38- صحيح مسلم، لأبي الحسن مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري، ط/ دار المعرفة، بيروت.

39- العروة الوثقى، للعلّامة المحقّق السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي، ط/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، سنة 1409 ه، و مكتبة الداوري، قم.

40- علل الشرائع، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه اللّه ط/ المكتبة الحيدريّة، النجف، سنة 1358 ش.

ص: 697

41- عوالي اللآلي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، لابن أبي جمهور الأحسائي، الشيخ محمّد بن علي بن إبراهيم، ط/ مطبعة سيد الشهداء عليه السّلام، قم، سنة 1405 ه.

42- غاية المراد، للشهيد الأوّل، ط/ مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم، سنة 1420.

43- غنية النزوع، للسيّد أبي المكارم ابن زهرة، المتوفّى سنة 585 ه، ط/ مؤسسة الإمام الصادق عليه السّلام، قم، سنة 1417.

44- الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري، (الطبعة الحجريّة)، قم، سنة 1404 ه.

45- الفهرست، للشيخ الطوسي رحمه اللّه، ط/ مؤسسة الوفاء، بيروت، سنة 1403 ه.

46- قرب الإسناد، لأبي العبّاس عبد اللّه بن جعفر الحميري القمّي، من أصحاب الإمام العسكري عليه السّلام، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، بيروت، سنة 1413 ه.

47- قواعد الأحكام في معرفة الحلال و الحرام، للعلّامة الحلّي، (الطبعة الحجريّة)، ط/ الشريف الرضي، قم.

48- القواعد الفقهيّة، للسيّد الفقيه محمّد حسن البجنوردي، من منشورات الهادي، قم، سنة 1419 ه.

49- قوانين الأصول، للمحقّق الفقيه الميرزا أبي القاسم القمي، الطبعة الحجريّة.

50- الكافي، لثقة الإسلام الكليني، أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق، المتوفّى سنة 329 ه، ط/ دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، سنة 1401 ه.

51- الكافي في الفقه، للفقيه الأقدم أبي الصلاح الحلبي، المتوفّى سنة 447 ه، ط/ مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، أصفهان، سنة 1403 ه.

ص: 698

52- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري، للشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري، من منشورات مجمع الفكر الإسلامي، قم، سنة 1420 ه.

53- كتاب الصلاة للشيخ الحائري، من تقريرات مباحث العلّامة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، للشيخ محمود الآشتياني.

54- كتاب الصلاة للميرزا النائيني، من تقريرات العلّامة الميرزا محمّد حسين النائيني، للشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1411 ه.

55- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري، للشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري، من منشورات مجمع الفكر الإسلامي، قم، سنة 1420 ه.

56- كشف اللثام، لبهاء الدين محمّد بن الحسن بن محمّد الأصفهاني، المعروف ب «الفاضل الهندي»، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1420 ه.

57- كفاية الأحكام، للعلّامة محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري، المتوفّى سنة 1090 ه، (الطبعة الحجريّة)، ط/ مركز النشر، أصفهان.

58- كنز العمّال، لعلاء الدين علي المتّقي الهندي، ط/ مؤسسة الرسالة، بيروت، سنة 1399 ه.

59- لسان العرب، لابن منظور الإفريقي، ط/ دار صادر العربي، بيروت.

60- اللمعة الدمشقيّة، للشهيد الأوّل، ط/ دار الفكر، قم، سنة 1368 ش.

61- المبسوط، لشمس الدين السرخسي، ط/ دار المعرفة، بيروت.

62- المبسوط في فقه الإماميّة، للشيخ الطوسي رحمه اللّه، ط/ المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، سنة 1387 ه.

63- مجمع البحرين، للفقيه الشيخ فخر الدين الطريحي، المتوفّى سنة 1085 ه، ط/ المكتبة الرضويّة لإحياء آثار الجعفريّة، سنة 1365 ه. ش.

ص: 699

64- مجمع الفائدة و البرهان في شرح إرشاد الأذهان، للمولى أحمد بن محمّد، المعروف ب «المقدّس الأردبيلي»، المتوفّى سنة 993 ه، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1402 ه.

65- المحاسن، للشيخ الثقة الجليل الأقدم أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، ط/ دار الكتب الإسلامية، قم.

66- المختصر النافع في فقه الإماميّة، للمحقّق الحلّي، ط/ دار الأضواء، بيروت، الطبعة الثالثة 1405 ه.

67- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، للعلّامة الحلّي، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1412 ه.

68- مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، للفقيه المحقّق السيّد محمّد موسوي العاملي، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم، سنة 1410 ه.

69- المراسم، لحمزة بن عبد العزيز الديلمي، من منشورات الحرمين، سنة 1404 ه. ق.

70- مسالك الإفهام في شرح شرائع الإسلام، للشهيد الثاني، زين الدين بن علي الجبعي العاملي، المستشهد سنة 966 ه. ط/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة، قم، سنة 1417 ه.

71- مستدرك الوسائل، للميرزا حسين النوري الطبرسي، المتوفّى سنة 1320 ه، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم، الطبعة الاولى، سنة 1407 ه.

72- مستند الشيعة، للعلّامة الفقيه المولى أحمد النراقي، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم، سنة 1419 ه.

73- مسند أحمد، لأحمد بن حنبل، المتوفى سنة 241 ه، من منشورات دار صادر، بيروت.

ص: 700

74- مصباح الفقيه، للشيخ آغا رضا الهمداني، الطبعة الحجريّة، و الطبعة الحديثة مؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث، قم، سنة 1420 ه.

75- المصباح المنير، لأحمد بن محمّد بن علي المقري الفيومي، المتوفّى سنة 770 ه، ط/ دار الهجرة، قم، 1405 ه.

76- المعتبر، للمحقّق الحلّي، ط/ مؤسسة سيّد الشهداء عليه السّلام، قم، سنة 1364 ش.

77- المغني لابن قدامة، لأبي محمّد عبد اللّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسي، ط/ عالم الكتب، و دار الكتب العربي، بيروت، سنة 1403 ه.

78- مفاتيح الشرائع، للمولى محمّد حسن، المعروف ب «الفيض الكاشاني»، المتوفّى سنة 1091 ه، ط/ مجمع الذخائر الإسلاميّة، قم، سنة 1401 ه.

79- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة، للسيّد محمّد جواد الحسيني العاملي، المتوفّى سنة 1226 ه. (الطبعة الحجريّة)، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم.

80- المقنع، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه اللّه، ط/ مؤسسة الإمام الهادي عليه السّلام، قم، سنة 1415 ه.

81- المقنعة، لأبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي، الملقّب بالشيخ المفيد، المتوفّى سنة 1413 ه، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1417 ه.

82- المكاسب، للشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري، من منشورات مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1415 ه.

83- من لا يحضره الفقيه، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه اللّه، المتوفّى سنة 381 ه، ط/ دار الكتب الإسلامية، طهران، سنة 1390 ه.

84- المهذّب، للفقيه الأقدم القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، ط/ مؤسسة النشر الإسلامي، قم، سنة 1406 ه.

ص: 701

85- الناصريات (الجوامع الفقهيّة)، للسيّد الشريف المرتضى رحمه اللّه، ط/ انتشارات جهان، طهران.

86- نجاة العباد في يوم المعاد، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسن النجفي، المتوفى سنة 1266 ه، (الطبعة الحجريّة).

87- النهاية في غريب الحديث و الأثر، لمجد الدين المبارك بن الجزري، ابن الأثير، ط/ المكتبة العلميّة، بيروت.

88- النهاية في مجرّد الفقه و الفتاوى، للشيخ الطوسي رحمه اللّه، ط/ دار الكتاب العربي، بيروت، سنة 1400 ه.

89- الوافي، للمحقّق محمّد حسن الفيض الكاشاني، من منشورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام العامّة، اصفهان، سنة 1406 ه.

90- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، المتوفّى سنة 1104 ه، ط/ مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم، سنة 1412 ه.

91- وسيلة النجاة، للسيّد المحقّق أبي الحسن الأصفهاني رحمه اللّه، ط/ دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1397 ه. ق.

92- الوسيلة إلى نيل الفضيلة، لابن حمزة، ط/ مكتبة آية اللّه المرعشى رحمه اللّه، سنة 1408 ه.

ص: 702

ص: 703

فهرس الموضوعات

اشارة

المقدّمة 5

رسالة الطهارة (29- 86)

حكم الماء القليل 31

حكم شرب الماء النجس و بيعه 35

حكم الغسالة 39

جواز البدار لذوي الأعذار و عدمه 43

حكم خرء الطير و بوله 47

نجاسة المني 51

نجاسة الميتة 53

نجاسة الدم 61

حكم العصير العنبي 65

نجاسة الكافر 71

تطهير الأواني 77

ما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات 83

جواز بيع المتنجّس و عدمه 85

ص: 704

رسالة الصلاة (87- 220)

لباس المصلّي 89

متى تصير يد المسلم أمارة؟ 95

حكم الثوب الملقى عليه شعر ما لا يؤكل لحمه 104

حكم لبس المشكوك ممّا لا يؤكل لحمه 109

الصلوات المشروعة فيها الجماعة 125

الجماعة في صلاة العيدين 131

ما يدرك به الجماعة 133

فروع 137

الشكّ في إدراك ركوع الإمام 144

شرائط الجماعة 147

إذا كان الحائل بحيث لا يمنع عن المشاهدة 151

أحكام الحائل 155

الشكّ في وجود الحائل 164

لا بأس بالحائل بين الإمام و النساء المأمومات 166

اشتراط عدم البعد بين الإمام و المأموم 168

إحرام البعيد قبل القريب في الجماعة 173

متابعة المأموم الإمام في الجماعة 176

التأخّر كثيرا في الائتمام 182

ما هو مقتضى القاعدة في المتابعة؟ 193

الأفعال المختصّة بالإمام في الجماعة 194

شرائط الإمام 197

حقيقة العدالة 203

ص: 705

تحديد الكبائر و بيان الإصرار على الصغائر 207

اعتبار المروءة في العدالة 210

أحكام الجماعة 217

رسالة الخمس (221- 244)

خمس أرباح المكاسب 223

هل يتعلّق الخمس بالعين أو بالذمّة؟ 224

ما هو المراد ممّا أحلّ فيه الخمس للشيعة؟ 231

هل يجبر الخسران الوارد على المالك في الحول من الربح؟ 238

رسالة الوقف (245- 356)

القبض في الوقف 247

من هو القابض في الوقف؟ 259

شرائط الموقوف 261

فروع 262

شرائط الواقف 266

شرائط لموقوف عليهم 272

الوقف على المملوك 277

الوقف على الحربي 280

الوقف على الذمّي 284

الوقف على الكنائس 285

تعيين مدلول العنوان في الموقوف عليهم 286

ص: 706

تفسير عناوين الموقوف عليهم 289

حكم الشكّ في عنوان من عناوين الموقوف عليهم 297

فروع 299

شرائط الوقف 311

فرع 317

فرع آخر 322

الوقف على النفس 324

جريان المعاطاة في الوقف 333

أحكام الوقف 338

حكم بيع الوقف 348

مقتضى قواعد الباب في بيع الوقف 353

رسالة الإجارة (357- 364)

التنازع بين المؤجر و المستأجر 359

موارد القرعة عند التنازع بين المؤجر و المستأجر 362

رسالة الوكالة (365- 468)

أقسام الوكالة 367

اشتراط فوريّة القبول في الوكالة و عدمها 368

وكالة المتبرّع 371

تعليق الوكالة و تنجيزها 373

أقسام الاستنابة 378

ص: 707

ما تصحّ الوكالة فيه 383

التوكيل في المباحات 400

طلاق الغائب 406

توكيل الوكيل غيره 414

توكيل الحاكم عن السفهاء و المجانين و البله 418

أقسام التوكيل من الحاكم 420

اشتراط العقل في الوكيل و الموكّل 421

ضابطة في تعيين المنكر و المدّعي 432

التنازع بين الوكيل و الموكّل 437

رسالة الوصايا (469- 510)

تصرّفات المريض 471

متعلّق الوصيّة 475

موارد إخراج الدين من الأصل أو الثلث 477

معنى التنجيز 484

معنى الحجر 487

جريان الاستصحاب في المقام 496

مقتضى الأخبار في المقام 502

رسالة الغصب (511- 684)

غصب المسجد 513

تعاقب الأيدي في الغصب 520

قاعدة اليد 523

ص: 708

الكلام في تعاقب الأيدي في الغصب 542

ضمان منافع الحرّ و عدمه 548

ضمان منافع الأجير 551

ضمان منافع الدابّة 553

ضمان الخمر و عدمه 554

المباشرة و التسبيب 559

تقديم المباشر على السبب و بالعكس 566

اجتماع السببين 568

ضمان المكره و عدمه 576

ردّ المغصوب 581

تزاحم الحقوق 585

تقدّم حفظ نفس الغاصب على الأموال 591

حكم الخيط المغصوب في الثوب 598

ضمان المثل أو القيمة عند حدوث العيب في المغصوب 610

ضابط المثلي و القيمي 619

فروع 645

تأسيس الأصل عند الشكّ في المثلي و القيمي 649

أحكام بدل الحيلولة 654

البحث في اللواحق 661

فرعان 676

فهرس الآيات 685

فهرس الأحاديث 687

فهرس المنابع 693

فهرس الموضوعات 703

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.