سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -
عنوان و نام پديدآور : حجه الوداع....: خطب و ارشاد : رساله مختصره تستعرض خطب النبي الاكرم صلي الله عليه و آله وسلم.../جعفر السبحاني.
مشخصات نشر : تهران: مشعر، 1387.
مشخصات ظاهري : [72] ص.؛.م س 17×11
شابك : 40000 ريال:978-964-540-109-0
وضعيت فهرست نويسي : فيپا
يادداشت : عربي.
يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.
موضوع : محمد (ص)، پيامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق. -- خطبه ها.
موضوع : محمد (ص)، پيامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق. -- حج.
موضوع : حجه الوداع.
رده بندي كنگره : BP142/2/س2ح3 1387
رده بندي ديويي : 297/215
شماره كتابشناسي ملي : 1223711
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
في السنة العاشرة للهجرة عزم رسول الله(ص) على أن يحج بيت الله الحرام، فخرج لخمس بقين من ذي القعدة، و وصل مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة. (1) و كان رسول الله(ص) قد حرّض المسلمين على الحج، و قال: «من أراد الحج فليتعجّل، فإنّه قد يمرض المريض، و تضلّ الضالّة، و تعرض الحاجة». (2) و بعد أن أمر الله تعالى نبيه بالأذان و الإعلان للحج، أمر النبي(ص) المؤذّنين أن يؤذّنوا بذلك بين المسلمين، و كتب إلى
ص: 6
علي بن أبي طالب(ع) و جنده، و إلى أبي موسى الأشعري و أتباعه في اليمن أن يلتحقوا به(ص) في مكة المكرّمة.
و الظاهر أنّ بداية هذا الإخبار و الإعلام كانت في أوائل ذي القعدة الحرام، فقد قال ابن إسحاق: فلمّا دخل على رسول الله(ص) ذو القعدة تجهّز للحج، و أمر الناس بالجهازله. (1) وخرج النبي الأكرم(ص) من المدينة مغتسلًا متدهناً و خرجت معه نساؤه كلهنّ، و تبعه جمّ غفير من المسلمين الذين حرصوا على مرافقته من المدينة ليتشرّفوا بصحبته.
قال الإمام جعفر الصادق(ع)
: «فعلم به من حضرالمدينة و أهل العوالي و الأعراب فاجتمعوا، فحجّ رسول الله(ص)، وإنّما كانواتابعين ينظرون مايؤمرون ويتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه. (2)
و روي عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال:
فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله(ص) و
ص: 7
يعمل مثل عمله. (1)
و كان المسلمون يتوقعون هذا السفر، ليتعلّموا مناسك الحج، فأيّ منسك أدّاه رسول الله(ص) فهو من الحج الإبراهيمي، و ما تركه فهو من أعمال الجاهلية الأُولى.
و يتجلّى هذا التهيّؤ و الانتظار في رغبتهم و شوقهم و اجتماعهم العظيم حتّى سلكوا طريق مكة رجالًا و ركباناً، طريقاً يقرب من ألف كيلومتر ذهاباً و إياباً.
و قد اختلف المؤرّخون والمحدّثون في عدد المسلمين آنذاك، فمنهم من قال: إنّهم كانوا مئة و عشرين ألفاً. (2) و قال المقريزي في وصف خطبة النبي(ص) في يوم عرفة: فإنّه شهد الخطبة نحواً من أربعين ألفاً. (3) وقال الطبرسي: وبلغ من حج مع رسول الله(ص) من أهل المدينة و أهل الأطراف و الأعراب سبعين ألف إنسان
ص: 8
أو يزيدون. (1) ثم إنّ رسول الله(ص) بعد أن أتم الحج غادر مكة المكرمة متوجّهاً إلى المدينه في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة الحرام، فدخلها في الثالث و العشرين منه.
و خلال مسيرته هذه كانت له وقفات في العديد من الأماكن الّتي مر بها و شهدت له إلقاء الخطب الرائعة و التوجيهات التربوية و الحضارية السامية، والإرشادات التعليمية حيث إنّه كان يجسّد عملياً أهداف الحج الّتي أرادها الله تعالى من هذه الفريضة الإسلامية الهامة.
و سوف نشير في هذه الرسالة بالإيعاز الموجز و الإشارة العابرة إلى خطبه و كلماته التي ألقاها في هذه الرحلة التاريخية، و ننوّه إلى ما تضمّنته كلّ منها إلى مبادئ الإسلام و أُصوله و مقاصد الشريعة و أهدافها.
جعفر السبحاني
ص: 9
اختلف أصحاب السير و المؤرّخون في عدد الخطب الّتي ألقاها النبي الأكرم(ص) في حجة الوداع.
فقد قال الحلبي في السيرة: خطب رسول الله(ص) في الحجّ خمس خطب: الأُولى يوم السابع من ذي الحجّة بمكّة، و الثانية يوم عرفة، و الثالثة يوم النحر بمنى، و الرابعة يوم القرّ (1) بمنى، و الخامسة يوم النفر الأوّل بمنى أيضاً. (2) و يقول المقريزي: خطب(ص) في حجّته ثلاث خطب:
ص: 10
الأُولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكّة، و الثانية يوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، و الثالثة يوم النحر بمنى بعد الظهر على راحلته القصواء. و قيل: بل خطب الثانية ثاني يوم النحر.
ثم قال: و قال المحب الطبري: دلّت الأحاديث على أنّ الخطب في الحج خمسة؛ خطبة يوم السابع من ذي الحجة، و خطبة يوم عرفة، و خطبة يوم النحر، و خطبة القرّ، و خطبة يوم النفر الأوّل. (1) و مهما كان الحال فعلينا أن نورد ما ذكر ته كتب التاريخ و الحديث من خطبه و كلماته(ص)، وقد رتّبناها حسب زمانها و مكانها، فكانت كما يلي:
ص: 11
قال الواقدي في مغازيه: خطب رسول الله(ص) قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة. (1) و قال الحاكم النيسابوري في مستدركه: كان رسول الله(ص) إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم. (2) و جاء في صحيحة معاوية بن عمّار الطويلة عن الإمام جعفر الصادق(ع): «فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس
ص: 12
أمر(ص) الناس أن يغتسلوا و يهلّوا با لحجّ، و هو قول الله- عزّ و جلّ- الذي أنزل على نبيّه: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ- أبيكم- إِبْرَاهِيمَ حَنيِفاً (1) فخرج النبيّ(ص) و أصحابه مهلّين بالحجّ حتّى أتوا منى، فصلّى الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة و الفجر، ثمّ غدا و الناس معه». (2)
ص: 13
وردت لرسول الله(ص) كلمات وأحاديث كثيرةخلال تواجده في يوم عرفة(التاسع من ذي الحجة) في عرفات نذكر منها:
1- جاء في تهذيب الأحكام بسنده عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن محمّد بن سماعة الصير في، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله- جعفر بن محمد الصادق-(ع) قال: «... إنّ رسول الله(ص) وقف بعرفات فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته، يقفون إلى جانبها، فنحّاها رسول الله(ص)، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس! إنّه ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كلّه موقف، و أشار
ص: 14
بيده إلى الموقف و قال: هذا كلّه موقف، فتفرّق الناس، و فعل ذلك بالمزدلفة ...». (1) 2- و في صحيحة معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: «ثمّ غدا(ص) و الناس معه و كانت قريش تفيض من المزدلفة- و هي جَمْع (2)- و يمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول الله(ص) و قريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل الله تعالى عليه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ (3) يعني إبراهيم و إسماعيل و إسحاق: في إفاضتهم منها و من كان بعدهم. فلمّا رأت قريش أنّ قبّة رسول الله(ص) قد مضت كأنّه دخل في أنفسهم شي ء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم، حتّى إلى نمرة- و هي بطن عرنة بحيال الأراك- فضرب قبّته، وضرب أخبيتهم عندها، فلمّا زالت الشمس
ص: 15
خرج رسول الله(ص) و معه قريش، و قد اغتسل و قطع التلبية حتّى وقف بالمسجد، فوعظ الناس و أمرهم و نهاهم، ثمّ صلّى الظهرو العصر بأذان و إقامتين، ثمّ مضى إلى الموقف به، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جنبها فنحاها، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس! ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كلّه- و أومأ بيده إلى الموقف- فتفرّق الناس، و فعل مثل ذلك بمزدلفة، فوقف الناس حتّى وقع القرص- قرص الشمس- ثمّ أفاض وأمر الناس بالدّعة حتّى انتهى إلى المزدلفة». (1) 3- وفي الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، و محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير و صفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمّار، عن الإمام جعفر الصادق(ع)، مثله. (2)
ص: 16
4- و في رواية جابر في صحيح مسلم: و أمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله(ص) و لا تشكّ قريش إلّا أنّه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله(ص) حتّى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتّى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له فأتى بطن الوادي، فخطب الناس ... ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظهر، ثمّ أقام فصلّى العصر، و لم يصلِّ بينهما شيئاً، ثمّ ركب رسول الله(ص) حتّى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، و جعل حبل المشاة بين يديه (1) واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتّى غربت الشمس و ذهبت الصفرة قليلًا حتّى غاب القرص، و أردف أسامة خلفه و دفع رسول الله(ص). (2) 5- و روى الشيخ الطوسي عن جماعة عن أبي المفضل
ص: 17
عن عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن حمّاد الخطيب المدائني قال: حدّثنا عثمان بن عبدالله بن عمرو بن عثمان قال: حدّثنا عبدالله بن لهيعة، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبدالله يقول: بينا النبيُّ بعرفات، و عليّ(ع) تجاهه، و نحن معه، إذ أومأ النبيُّ(ص) إلى علي(ع) فقال: ادن منّي يا عليُّ، فدنا منه، فقال: ضع خمسك- يعني كفّك- في كفّي، فأخذ بكفّه، فقالك يا عليّ خلقت أنا و أنت من شجرة، أنا أصلها، و أنت فرعها، و الحسن و الحسين أغصانها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها أدخله الله الجنّة برحمته. (1) 6- روى الشيخ الطوسي بإسناده عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّ رسول الله(ص) ألقى كلمة بعرفة، و إن كانت هذه الكلمة جاءت في خطبته المشهورة بالإجمال، لكن ننقلها تأكيداً و تكميلًا.
ص: 18
ثمّ روى أيضاً رواية أُخرى تؤكد أنّ هذه الكلمة أُلقيت بمنى: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضّل قال: أخبرنا أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري قراءةً، و عليّ بن محمّد بن الحسن بن كاس النخعي- و اللفظ له- قالا: حدّثنا أحمد بن يحيى بن زكريا الأودي الصوفي قال: حدّثنا حسن بن حسين- يعني العرني- قال: حدّثني يحيى بن يعلى، عن عبدالله بن موسى التيمي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: سمعت رسول الله(ص) في حجّة الوداع و ركبتي تمسّ ركبته يقول: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، أما إن فعلتم لتعرفنّي في ناحية الصف». (1) 7- وروى البيهقي بسند ذكره عن عبد الرحمن بن يعمر الدّيلي قال: أتيت رسول الله(ص) و هو بعرفات، فأتاه نفر من أصحابه فأمروا رجلًا فنادى: يا رسول الله! كيف الحجّ؟
ص: 19
كيف الحجّ؟ قال: فأمر رجلًا فنادى: الحجّ يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تمّ حجّه، أيّام منى ثلاثة: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (1) ثمّ أردف رجلًا من خلفه فنادى بذلك. (2)
ص: 20
في الضحى من اليوم التاسع استقرّ رسول الله(ص) في قبّته الّتي ضُرِبت له بنمرة قرب عرفات، و قد اغتسل و تهيّأ لأداء أعمال هذا اليوم، و بعد أن زالت الشمس خرج رسول الله(ص) من خيمته و توجّه ليخطب في الناس.
ففي صحيحة معاوية بن عمّار الطويلة عن الإمام الصادق(ع) بما يتعلّق بمناسك حج رسول الله(ص) وردت إشارة إلى هذه الخطبة، فقد قال(ع): فوعظ الناس و أمر هم و نهاهم(و لم يذكر متن الخطبة). (1) و قد وردت هذه الخطبة- مختصرة- في صحيح مسلم و
ص: 21
مصادر أُخرى حسب رواية جابر الطويلة. (1) إنّ هذه الخطبة هي المشهورة و المعروفة في كتب الفريقين، و في عالم الأدب لها شأن عظيم، لجزالة ألفاظها، و عظم معانيها.
و قد وقع كلام بينهم في مكانها و زمانها، فهل ألقاها رسول الله(ص) في عرفة أو منى؟ و في أيّ يوم من أيام منى؟
فبعضهم أوردها و لم يذكرفي أيّ مكان تكلّم بها رسول الله(ص)، كابن شعبة الحرّاني في تحف العقول، (2) و الجاحظ في البيان و التبيين، (3) و ابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد، (4) بل أوردوها بعنوان «خطبة رسول الله(ص) في حجّة الوداع».
و بعض آخر أوردها و ذكر أنّها خطبة رسول الله(ص)
ص: 22
بعرفة، كابن هاشم في السيرة النبويّة و النسائي في السنن الكبرى، (1) و مسلم في صحيحه كما ذكرناها، ولم يذكر له(ص) خطبة بمنى.
و ثالث أوردها وذكر أنّها خطبة رسول الله(ص) أيّام منى، كالبخاري في صحيحه عن ابن عبّاس، قال: إنّ رسول الله(ص) خطب الناس يوم النحر (2) و هكذا البغوي في مصابيح السنّة، (3) و لم يذكر له(ص) خطبة بعرفة.
و قد أوردها الهيثمي بطرق عديدة بعنوان «باب الخُطب في الحجّ». (4) وروى ابن كثير روايات في خطبته يوم العيد، و ذكر الخطبة الشريفة الطبري أيضاً و ابن الأثير.( (5))
ص: 23
و في كنز العمّال و الطبقات الكبرى قد وردت الخطبة بروايات مختلفة. (1) و روى ابن ماجة بأنّه(ص) خطب في حجّة الوداع، و أُخرى بأنّه خطب بعرفات، و ثالثة بأنّه خطب يوم النحر بين الجمرات. (2) و في بعض الروايات: نزلت هذه السورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (3) على رسول الله(ص) في أوسط أيّام التشريق، فعرف أنّه الوداع، فركب راحلته العضباء فحمد الله و أثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس كلّ دم كان في الجاهلية فهو هدر. (4) و أوردها ابن كثير مختصراً مرّة بعنوان خطبة رسول الله(ص) بعرفة- على رواية مسلم- وأُخرى بعنوان خطبة
ص: 24
رسول الله(ص) بمنى برواية البخاري. (1) و أورد الواقدي في المغازي بعض فقرات هذه الخطبة في ضمن خطبة النبي(ص) بمكّة يوم الفتح (2). و كذلك المقريزي في إمتاع الأسماع. (3) و اعلم أنّه بالرغم من الاختلاف بين من ذكر متن الخطبة مطوّلًا أو مختصراً بعنوان أنّها خطبة النبي(ص) في حجّة الوداع أو بعنوان خطبته بعرفات، أو ذكرها بعنوان أنّها خطبته(ص) بمنى يوم النحر، أو أوسط أيّام التشريق إلّا أنّ كلّها قريبة المفاد و المعنى.
و الذي يبدو جلياً أنّ رسول الله(ص) خطبها بعرفة، ونظراً
ص: 25
لأهميتها و عظيم ما تضمنته من معان جليلة و مطالب هامّة فقد أعاد رسول الله(ص) محتوياتها و فقراتها في مناسبات ومواقف عديدة و أماكن أُخرى في يوم النحر أو اليوم الحادي عشر، فهي تُعدّ بحق خطبة كاملة و كلمة جامعة وأساساً متيناً لوحدة المسلمين وتبياناً لشؤون دينهم ودنياهم.
و هي وإن اختلفت المصادر التي ذكرتها في بعض ألفاظها، فإنّ هذا الاختلاف لا يضرّ بالمعنى و المفاد، و إليك نصُّها:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُهُ وَ نَسْتَغْفِرُهُ وَ نَتُوبُ إِلَيْهِ وَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَ أَسْتَفْتِحُ اللَّهَ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي أُبَيِّنْ لَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي
ص: 26
لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، فِي مَوْقِفِي هَذَا.
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَ أَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ
فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا وَ إِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَ إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَبْدَأُ بِهِ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ إِنَّ دِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَ إِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَبْدَأُ بِهِ دَمُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ إِنَّ مَآثِرَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ غَيْرَ السِّدَانَةِ وَ السِّقَايَةِ وَ الْعَمْدُ قَوَدٌ وَ شِبْهُ الْعَمْدِ مَا قُتِلَ بِالْعَصَا وَ الْحَجَرِ وَ فِيهِ مِائَةُ بَعِيرٍ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ وَ لَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فِيمَا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ
ص: 27
كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَ وَاحِدٌ فَرْدٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَ ذُو الْحِجَّةِ وَ الْمُحَرَّمُ وَ رَجَبٌ بَيْنَ جُمَادَى وَ شَعْبَانَ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقّاً حَقُّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ وَ لا يُدْخِلْنَ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ بُيُوتَكُمْ إِلّا بِإِذْنِكُمْ وَ أَنْ لا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ وَ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَ تَضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبْرِحٍ فَإِذَا انْتَهَيْنَ وَ أَطَعْنَكُمْ فَعَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَ اسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ وَ اسْتَوْصُوا بِهِنَّ خَيْراً
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وَ لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ مَالُ
ص: 28
أَخِيهِ إِلّا مِنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَ إِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ كُلُّكُمْ لآدَمَ وَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وَ لَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى أَلا هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَ لا يَجُوزُ لِمُورِثٍ وَصِيَّةُ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفاً وَ لا عَدْلًا وَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَةُ اللَّهِ
هذا هو متن الخطبة النبوية القدسية كما ورد في كتاب
ص: 29
«تحف العقول» (1). و الذي يجب علينا هنا هو الإشارة إلى النقاط المهمة التي وردت فيها، و هي:
1. حمد الله و ثناؤه و الاستغفار و الاستعاذة و ذكر الشهادتين.
2. إيصاء عباد الله تعالى بتقواه و العمل بأوامره و التجنّب عن معاصيه.
3. حثّ المسلمين على الاستماع لكلامه و فهمه.
4. حرمة دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم، و أداء الأمانة.
5. تحريم الربا و إلغاء دماء(ثارات) الجاهلية، و إبطال مآثر الجاهلية الرثة.
6. تثبيت بعض الأحكام و الحدود و الديات في الشريعة الإسلامية و إبلاغ الناس بها.
7. إبطال النسي ء، و التذكير بحقوق النساء، و النهي عن
ص: 30
الظلم في الوصية.
8. تثبيت مبدأ الأُخوة الإسلامية.
9. إيجاب التمسّك بالثقلين.
10. رفض التمييز العنصري و إقرار مبدأ التفاضل بين المسلمين على أساس التقوى.
و بالإضافة إلى هذه الخطبة فقد وردأنّ رسول الله(ص) قد ألقى كلمة قصيرة حين غروب الشمس و هو بعرفات، و قد أجمعت كافة المصادر التي روتها على أنّه(ص) دعا عشيّة عرفة لأُمته بالمغفرة و الرحمة فأكثر الدعاء، فأوحى الله تعالى إليه (1) أنّي قد فعلت، إلّا ظُلم بعضهم بعضاً. (2) كما وردت في بعض الكتب خطبة ألقاها رسول الله(ص) بعرفة في كرامة الحاجّ عند الله تعالى، و نحن نوردها تتميماً للفائدة. و يظهر من صدر هذه الخطبة أنّه ألقاها عشيّة عرفة
ص: 31
بعد ما وقف بالموقف، و الحال أنّ خطبته الشهيرة ألقاها بعد الزوال ببطن عرنة، و هي مكان آخر بجنب عرفة.
ورد في دعائم الإسلام: عن عليّ(ع) أنّ رسول الله(ص) لمّا حجّ حجّة الوداع وقف بعرفة و أقبل على الناس بوجهه و قال: «مرحباً بوفد الله- ثلاث مرّات- الذين إن سألو أُعطوا، و تخلف نفقاتهم، و يجعل لهم في الآخرة بكلّ درهم ألف من الحسنات» ثمّ قال-: «أيّها الناس ألا أُبشّركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «إنّه إذا كانت هذه العشيّة باهى الله بأهل هذا الموقف الملائكة فيقول: يا ملائكتي! أُنظروا إلى عبادي و إمائي أتوني من أطراف الأرض شعثاً غبراً هل تعلمون ما يسألون؟ فيقولون: ربّنا يسألونك المغفرة، فيقول: أُشهدكم أنّي قد غفرت لهم، فانصرفوا من موقفهم مغفوراً لهم ماسلف». (1) وفي المستدرك عن القطب الراوندي في لبّ اللباب، عن
ص: 32
النبيّ(ص) قال: «إذا كانت عشيّة عرفة يقول الله لملائكته: أُنظروا إلى عبادي و إمائي شعثاً غبراً جاءُوني من كلّ فجٍّ عميق لم يروا رحمتي و لا عذابي- يعني الجنّة و النار- أُشهدكم ملائكتي إنّي قد غفرت لهم الحاجّ و غير الحاجّ.
فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاء من النار من يوم عرفة وليلتها». (1) ثم إن رسول الله(ص) قد أكثر من الدعاء و التضرّع إلى الله تعالى في عرفات، و لم يكتف بدعائه، بل راح يحثّ المسلمين و يحضّهم على الدعاء و الذكر و الإنابة إلى الله تعالى.
ص: 33
عبّربعض المصنفين- منهم البخاري و النسائي- عن خطبة رسول الله(ص) بعرفة بخطبة يوم النحر. كما ذكر بعض المؤرّخين خطبة رسول الله(ص) بمنى، و مفادها يقرب من خطبته بعرفة، ولكن نصّوا على أنّها خطبته بمنى.
من هؤلاء محمّد بن سعد في الطبقات، قال: أخبر نا عبدالوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله(ص) بمنى و إنّي لتحت جران ناقته، و هي تقصع بجرّتها، وإنّ لعابها ليسيل بين كتفيّ، فقال: «إنّ الله قسم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث، فلا
ص: 34
تجوز لوارث وصيّة، ألا و إنّ الولد للفراش و للعاهر الحجر، ألا و من ادّعى إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه رغبةً عنهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين».
و قال أيضاً: أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا هشام بن الغاز، أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنّ النبي(ص) وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجّة التي حجّ، فقال للناس: «أيّ يومٍ هذا:؟ فقالوا: يوم النحر.
قال: «فأيّ بلدٍ هذا»؟
قالوا: البلد الحرام.
قال: «فأيّ شهرٍ هذا»؟
قالوا: الشهر الحرام.
فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر، فدماؤكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا الشهر في هذا اليوم». ثمّ قال: «هل بلّغت؟»
ص: 35
قالوا: نعم.
فطفق رسول الله(ص) يقول: «اللّهمَّ اشهد». ثمّ ودّع الناس، فقالوا: هذه حجّة الوداع.
و روى ابن سعد مثله بسند آخر، فقال: أخبر نا خلف بن الوليد الأزدي، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدّثني أبو مالك الأشجعي، حدّثني نُبيط بن شريط الأشجعي، قال: إنّي لرديف أبي في حجّة الوداع إذ تكلّم النبي(ص)، فقمت على عجز الراحلة و وضعت رجلي على عاتقي أبي، قال: فسمعته يقول: «أيّ يومٍ أحرم»؟
قالوا: هذا اليوم.
قال: «فأيّ شهرٍ أحرم»؟
قالوا: هذا الشهر،
قال: «فأيّ بلدٍ أحرم»؟ قالوا: هذا البلد.
قال: «فإنّ دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، هل بلّغت»؟
ص: 36
قالوا: اللّهمَّ نعم. قال: «اللّهمَّ اشهد، اللّهمَّ اشهد، اللّهمَّ اشهد».
وقال أيضاً: أخبرنا يونس بن محمّد المؤدّب، أخبرنا ربيعة بن كلثوم بن جبر- حدّثني أبي، عن أبي غادية- رجل من أصحاب رسول الله(ص) قال: خطبنا رسول الله(ص) يوم العقبة، قال: «يا أيّها الناس إنّ دماءكم و أموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا و ألا هل بلّغت»؟ قال: قلنا: نعم، قال: «اللّهمَّ اشهد، ألا لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بضعكم رقاب بعض».
ثم إنّ ابن سعد قال: أخبرنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عكرمة بن عمّار، حدّثني الهرماس بن زياد الباهلي قال: كنت ردف أبي يوم الأضحى و نبيّ الله(ص) يخطب الناس على ناقته بمنى.
وقال: أخبر نا هشام أبوالوليد الطيالسي، أخبرنا عكرمة
ص: 37
بن عمّار، أخبرنا الهرماس بن زياد قال: انصرف رسول الله(ص) و أبي مُرْد في ورائه على جملٍ له، و أنا صبيّ صغير، فرأيت النبيّ(ص) يخطب الناس على ناقته العَضْباء يوم الأضحى بمنى. (1) و لا يخفى أنّ مفادها نفس مفاد الخطبة التي ذكرناها سابقاً، و استظهرنا بأنّه أوردها بعرفة، و يمكن إيرادها مرّة ثانية بمنى.
و في المصنّف لابن أبي شيبة بسندين عن مجاهد و مسروق أنّ النبيّ(ص) خطبهم يوم النحر. (2) وفي السنن الكبرى عن رجلين من بني بَكرٍ قالا: رأينا رسول الله(ص) يخطبُ بين أوسط أيّام التشريق، و نحن عند راحلته و هي خطبة رسول الله(ص) الّتي خطب بمنى.( (3))
و قال أيضاً: أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد
ص: 38
بن عبيد الصفّار، [حدّ] ثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبدالله. وأخبرنا أبو نصر عمر بن عبدالعزيز بن عُمر بن قتادة النعمانيّ، أنبأ أبو عمرو إسماعيل بن نُجيد السُّلمي، أنبأ أبو مسلم أبراهيم بن عبد الله البصري، [حدّ] ثنا أبوعاصم، عن ربيعة بن عبدالرحمن بن حصن الغنويّ، حدّثتني سرّاءُ بنت نبهان- و كانت ربَّة بيتٍ في الجاهلية- قالت: سمعت رسول الله(ص) يقول في حجّة الوداع: «هل تدرون أيُّ يومٍ هذا؟».
قال: و هو اليوم الذي يدعون يوم الرؤوس.
قالوا: الله و رسوله أعلم.
قال: «هذا أوسط أيّام التشريق، هل تدرون أيّ بلدٍ هذا؟».
قالوا: الله و رسوله أعلم.
قال: «هذا المَشْعَرُ الحرام». ثمّ قال: «إنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد هذا، ألا و إنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم
ص: 39
عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا حتّى تلقوا ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليُبَلِّغْ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلّغتُ؟» فلمّا قدمنا المدينة لم يلبث إلّا قليلًا حتّى مات(ص). ثمّ قال: رواه محمّد بن بشّار عن أبي عاصم بهذا الإسناد و قال: قالت: خطبنا رسول الله(ص) يوم الرؤوس. (1) و في مسند أحمد بن حنبل عن أبي نضرة قال: حدّثني من سمع خطبة النبي(ص) في وسط أيّام التشريق فقال: «يا أيّها الناس! إنّ ربّكم واحد، و إنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، و لا لعجميّ على عربيّ، و لا لأحمر على أسود، و لا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى. أبلّغت؟» قالوا: بلّغ رسول الله(ص) ... إلى آخر الحديث. (2) و قد روى في دعائم الإسلام عن الإمام جعفر الصادق(ع)، عن الإمام عليّ(ع) قال: سمعت رسول الله(ص)
ص: 40
يخطب يوم النحر و هو يقول: «هذا يوم الثجّ و العجّ. و الثجّ: ما تهريقون فيه من الدماء، فمن صدقت نيّته كانت أوّل قطرة له كفّارة لكلّ ذنب. و العجّ: الدعاء، فعجّوا إلى الله، فوالّذي نفس محمّد بيده لا ينصرف من هذا الموضع أحد إلّا مغفوراً له إلّا صاحب كبيرة مصرّاً عليها لا يحدِّث نفسه بالإقلاع عنها». (1) و يُعتقد أنّ هذه الخطبة قد قالها(ص) بمنى يوم النحر في حجّة الوداع، كما يدلّ على ذلك لفظة «هذا الموضع».
ولكن يحتمل أن يكون قد ألقاها يوم عيد الأضحى بالمدينة المنوّرة في عام من الأعوام، و مراده من «هذا الموضع» مصلّى العيد و مكان الخطبة و مجمع المسلمين، ولكن روايات البيهقي صريحة في أنّه أوردها بمنى يوم النحر في حجّة الوداع.
فقد روى البيهقي بسنده عن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله(ص) يوم النحر فقال: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب
ص: 41
بعضكم رقاب بعض».
و فيه أيضاً بسنده عن الهرماس بن زياد قال: رأيت النبيّ(ص) و أنا صبيّ أردفني أبي يخطب الناس بمنى يوم الأضحى على راحلته.
و فيه أيضاً بسنده عن أبي أمامة سمعت أبا أمامة يقول: سمعت خطبة رسول الله(ص) بمنى يوم النحر.
و فيه أيضاً بسنده عن رافع بن عمر و المزني قال: رأيت رسول الله(ص) يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلةٍ شهباء، و علىّ يُعَبّرُ عنه، و الناس بين قائم و قاعد. (1) و روى الصدوق بسنده عن أبي أمامة يقول: سمعت رسول الله(ص) يقول
: «أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي، و لا أُمّة بعدكم، ألا فاعبدوا ربّكم، و صلّوا خمسكم، و صوموا شهركم، و حجّوا بيت ربّكم، و أدّوا زكاة أموالكم طيّبة بها أنفسكم، و
ص: 42
أطيعوا و لاة أمركم تدخلوا جنّة ربّكم». (1)
فهذه الرواية وإن لم تكن فيها دلالة على أنّ هذا الكلام صدر من النبيّ(ص) في حجّة الوداع، لكن الروايتين الأُخريين تدلّان على ذلك، فإنّ أحمد بن حنبل في مسنده و الحاكم في المستدرك قد زادا فيما روياه: يقول أبو أمامة: سمعت رسول الله(ص) يخطب الناس في حجّة الوداع، و هو على الجدعاء واضع رجله في غراز الرحل يتطاول يقول: ألا تسمعون؟ فقال رجل من آخر القوم: ما تقول؟ قال: اعبدوا ربّكم ... إلى آخر الحديث. (2)
ص: 43
روى الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله(ع): أنّ رسول الله(ص) خطب الناس في مسجد الخيف فقال
: «نَضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها و حفظها و بلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ، و ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم: إخلاص العمل لله، و النصيحة لأئمّة المسلمين، و اللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، و يسعى بذمّتهم أدناهم».
ص: 44
ثمّ قال: و رواه أيضاً عن حمّاد بن عثمان، عن أبان، عن ابن أبي يعفورمثله، و زاد فيه: «و هم يدعلى من سواهم». و ذكرفي حديثه أنّه خطب في حجّة الوداع بمنى في مسجد الخيف.
(1) ورواها الشيخ أبو عبدالله المفيد في الأمالي بسند آخر ذكره عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال
: «خطب رسول الله يوم منى فقال ... إلى آخره». (2)
ورواها أيضاً الشيخ الصدوق عن محمّد بن موسى بن المتوكّل قال: حدّثنا علي بن الحسين السعد آبادي قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن خالد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبدالله(ع)، ورواها بسند آخر في الخصال (3)، و أيضاً وردت في جمهرة
ص: 45
خطب العرب. (1) ورواها ابن ماجة في السنن بسند ذكره عن جبير بن مطعم (2)، أنّه قال: قام رسول الله(ص) بالخيف من منى فقال:
«نضّر الله- إلى أن قال- فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم.» وأمّا صدر الحديث فقط، فقد ذكره في ضمن أحاديث متعدّدة. (3)
و قال الفيروز آبادي: رجع(ص) إلى منزله بالقرب من مسجد الخيف، و خطب خطبة بليغة، بلغ صوته إلى جميع أهل الخيام في خيامهم، و هذا من جملة المعجزات النبويّة. (4) وفي سنن أبي داود بسنده عن عبدالرحمن بن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله(ص) و نحن بمنى ففتحت أسماعنا، حتّى كنّا نسمع ما يقول و نحن في منازلنا، فطفق يعلّمهم مناسكهم
ص: 46
حتّى بلغ الجمار، فوضع إصبعيه السبّابتين، ثمّ قال: بحصى الخذف، ثمّ أمر المهاجرين فنزلوا في مقدّم المسجد، و أمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد، ثمّ نزل الناس بعد ذلك.( (1))
و في الكافي عن محمّد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن عليّ بن الحكم، عن الحكم بن مسكين، عن رجل من قريش من أهل مكّة قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمّد(ع) قال: فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابّته، فقال له سفيان: يا أبا عبدالله حدّثنا بحديث خطبة رسول الله(ص) في مسجد الخيف، قال: دعني حتّى أذهب في حاجتي فإنّي قد ركبت فإذا جئت حدّثتك، فقال: أسألك بقرابتك من رسول الله(ص) لمّا حدّثتني، قال: فنزل، فقال له سفيان: مُرلي بدواة و قرطاس حتّى أثبته، فدعا به ثمّ قال: اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله(ص) في مسجد الخيف: «نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، و بلّغها من لم
ص: 47
تبلغه، يا أيّها الناس! ليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، و النصيحة لأئمّة المسلمين، و اللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، و هم يد على من سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم».
فكتبه سفيان ثمّ عرضه عليه، وركب أبو عبدالله(ع). (1) و قد ذكر القمّي هذه الخطبة المباركة وزاد في آخرها: و صيّة النبي(ص) في التمسّك بالثقلين (2)، وليس ببعيد؛ لأنّه قد أمر المسلمين بالتمسّك بالثقلين مرّات عديدة و في مواطن شتّى.
ص: 48
عندما قضى رسول الله(ص) حجّته أتي مودِّعاً للكعبة الشريفة، فلزم حلقة الباب و نادى:
أيّها الناس! فاجتمع من في المسجد الحرام و من في السوق حوله، فخطب هذه الخطبة البليغة و ذكر الفتن الّتي تحدث بعده و الفساد الذي يتعرّض له الناس في أخلاقهم و أعمالهم و عقائدهم، و تحقّق أشراط الساعة.
وجدير بالذكر أنّ لهذه الخطبة المباركة روايات متعدّدة مختلفة فيما بينها في بعض الألفاظ، و مشتركة في الأكثر. فقد روى السيوطي في الدرّ المنثور ذيل الآية الكريمة: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها (1)
ص: 49
وقال: أخرج ابن مردويه، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: حجّ النبي حجّة الوداع ثمّ أخذ بحلقة باب الكعبة فقال: أيّها الناس ألا أخبركم بأشراط الساعة إلى آخره. (1) و رواها أيضاً محيي الدِّين ابن العربي في محاضرة الأبرار و مسامرة الأخيار مرسلًا عن عبدالله بن عبّاس، عن النبي(ص). (2) و أمّا في كتب الشيعة الإماميّة فرويت في جامع الأخبار مرسلة عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: حججت مع رسول الله(ص) حجّة الوداع، فلمّا قضى النبي(ص) ما افترض عليه من الحجّ أتى مودِّعاً الكعبة، فلزم حلقة الباب و نادى برفيع صوته: أيّها الناس! فاجتمع أهل المسجد و أهل السوق، فقال: اسمعوا إنّي قائل ما هو بعدي كائن ... إلى آخره. (3)
ص: 50
و جاء في تفسير القمي في ذيل الآية المباركة: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ قال:
حدّثني أبي، عن سليمان بن مسلم بن الخشّاب، عن عبدالله بن جريج المكّي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبدالله بن عبّاس قال: حججنامع رسول الله(ص) حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة، ثمّ أقبل علينا بوجهه،
فقال:
«ألا أُخبركم بأشراط الساعة؟»
و كان أدنى الناس منه يومئذٍ سلمان رحمة الله عليه، فقال: بلى يا رسول الله!
فقال(ص): «
إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات و اتّباع الشهوات، و الميل إلى الأهواء، و تعظيم أصحاب المال، و بيع الدين بالدنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يُذاب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره
». قال سلمان: وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟!
قال:
«إي والّذي نفسي بيده يا سلمان! إنّ عندها يليهم أُمراء جَوَرَة و وزراء فسقة، و عرفاء ظلمة، و أُمناء خونة»
ص: 51
فقال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول الله؟!
قال(ص)
: «إي و الذي نفسي بيده يا سلمان، إنّ عندها يكون المنكر معروفاً، و المعروف منكراً، و يؤتمن الخائن، و يخوّن الأمين، و يصدَّق الكاذب، و يكذَّب الصادق ... إلى آخر الخطبة الشريفة». (1)
ص: 52
بعد أن أتم رسول الله(ص) و المسلمون حجّهم و قضوا مناسكهم خرجوا من مكة المكرمة في ضحى اليوم الرابع عشر من ذي الحجة الحرام متوجّهين إلى المدينة المنورّة، و كان موكب الرسول(ص) يسير نحو المدينة منزلًا بعد منزل و مرحلة بد مرحلة، حتّى مضى اليوم الخامس عشر و السادس عشر و السابع عشر، و في ضحى اليوم الثامن عشر و حينما بلغ الموكب الشريف قريباً من الجحفة بغدير خمّ و قد ابتعد 185 كيلومتراً عن مكة، و قبل تفرّق الحجاج في مسيرهم و ذهابهم إلى أوطانهم، نادى منادي الرسول(ص): الصلاة جامعة.
ص: 53
فارتجّ الحجاج من هذا النداء، إذ لم تكن هذه الساعة زمان نزول، و لم يكن هذا المكان منزلًا و موقفاً للاستراحة، فتوقّف الموكب، فلحق من كان في آخر القافلة، ورجع من كان في مقدّمها، فاجتمعوا في الحرّ الشديد ليسمعوا الخبر الهامّ، حتّى وضع كثير منهم رداءه على رأسه من شدّة حرارة الشمس، ووضع البعض رداءه تحت قدميه اتّقاءً لِلَهيب الرمضاء.
فصلّى رسول الله(ص) بالمسلمين صلاة الظهر، ثمّ صنعوا من أقتاب الإبل منبراً رفيعاً لرسول الله(ص)، فصار الأُلوف من البشر آذاناً صاغية لكلامه(ص) ليسمعوا و ليعوا كلام خطيب الله تعالى، فرقى المنبر و فتح فمه الطيّب و تكلّم بكلام بلّغ فيه المسلمين ما أمره الله تعالى بتبليغه.
و نحن نورد الخطبة الشريفة عن كتاب المناقب لابن المغازلي الشافعي بسند ذكره، فقال رسول الله(ص):
الحمد لله نحمده و نستعينه، و نؤمن به و نتوكّل عليه، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، الذي لا
ص: 54
هادي لمن أضلّ، و لا مضلّ لمن هدى، و أشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّ محمّداً عبده و رسوله.
أمّا بعد أيّها الناس! فإنّه لم يكن لنبيّ من العمر إلّا نصف من (1) عمّر من قبله، و إنّ عيسى بن مريم(ع) لبث في قومه أربعين سنة، وإنّي قد أسرعت في العشرين، ألا و أنّي يوشك أن أُفارقكم، ألا وإنّي مسؤول و أنتم مسؤولون، فهل بلّغتكم؟ فماذا أنتم قائلون؟
فقام من كلّ ناحية من القوم مجيب يقولون: نشهد أنّك عبدالله و رسوله، قد بلّغت رسالته، و جاهدت في سبيله، و صدعت بأمره، و عبدته حتّى أتاك اليقين، جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيّاً عن أمّته.
فقال
: «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا وحده لاشريك له، و أنّ محمّداً عبده و رسوله، و أنّ الجنّة حقّ، و أنّ النار حقّ، و تؤمنون بالكتاب كلّه؟ قالوا: بلى، قال: فإنّي أشهد أن قد صدقتكم و صدّقتموني، ألا و إنّي فرطكم و إنّكم تبعي،
ص: 55
توشكون أن تردوا عليَّ الحوض، فأسألكم حين تلقونني عن ثقليَّ كيف خلفتموني فيهما»؟
قال: فأُعيل علينا (1) ما ندري ما الثقلان، حتّى قام رجل من المهاجرين و قال: بأبي و امّي أنت يا نبيّ الله ما الثقلان؟
قال(ص):
«الأكبر منهما كتاب الله تعالى، سبب طرفه بيدالله و طرف بأيديكم، فتمسّكوا به، ولا تضلّوا، و الأصغر منهما عترتي. من استقبل قبلتي و أجاب دعوتي، فلا تقتلوهم و لا تقهروهم و لا تقصروا عنهم، فإنّي قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني، ناصر هما لي ناصر، و خاذلهما لي خاذل، و وليّهما لي وليُّ، و عدوّهما لي عدوٌّ.
ألا و إنّها لم تهلك أُمّة قبلكم حتّى تتديّن بأهوائها، و تظاهر على نبوّتها، و تقتل من قام بالقسط، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب(ع) فرفعها ثمّ قال: مَنْ كنتُ مولاه فهذا
ص: 56
مولاه، و مَنْ كنتُ و ليّهُ فهذا و ليّهُ، اللّهمَّ والِ من والاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ». قالها ثلاثاً. (1)
ثمّ توّج رسول الله(ص) عليّاً(ع) بعمامته «السحاب» أمام جموع حاشدة من المؤمنين بيده الشريفة، فسدل طرفها على منكبه، و أمر المهاجرين و الأنصار أن يسلِّموا على عليّ(ع) بإمرة المؤمنين ويهنّئونه بهذه الفضيلة العظيمة. فسلّم وجوه المسلمين (2) عليه بإمرة المؤمنين و هنّأوه. (3)
ص: 57
و من يراجع أغلب المصادر التاريخية و كتب الحديث يجد أنّ هذه الخطبة قد احتلّت العديد من الصفحات، و أبرزوا و جوهها المختلفة، و من هؤلاء الطبري الّذي ألّف كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلّدين ضخمين. (1) و قال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة: حُكي عن أبي المعالي الجويني الملقّب بإمام الحرمين أستاذ أبي حامد الغزالي أنّه قال: رأيت مجلّداً في بغداد في يد صحّاف فيه روايات خبر غدير خمّ مكتوباً عليه المجلّدة الثامنة و العشرون من طرق قوله(ص): من كنت مولاه فعليّ مولاه، و يتلوه المجلّدة التاسعة و العشرون. (2) و متن الخطبة الشريفة يختلف في الروايات الحاكية لها، و كلّها تشتمل على قول رسول الله(ص) مخاطباً هذا الجمع العظيم: «ألست أولى بكم من أنفسكم»؟ قالوا: بلى، فأخذ بضبع عليّ بن أبي طالب و رفعها حتّى رُئيَ بياض إبطيهما، فقال: «
من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمَّ و الِ من والاه، و عادِ من عاداه، وانصر من نصره، و اخذل من خذله
».
ص: 58
و في الاحتجاج و روضة الواعظين و العدد القويّة و اليقين (1) ذكروا خطبة طويلة جدّاً للنبيّ العظيم في هذا المشهد العامّ، و بعض المؤلِّفين ذكر نصّاً متوسّطاً بين القصير و الطويل لهذه الخطبة؛ كابن المغازلي(483 ه(في المناقب كما مرّ، و ابن الأثير في أُسدالغابة (2)، و الشيخ أحمد أبوالفضل بن محمّد باكثير المكّي الشافعي(المتوفّى 1047 ه(في وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل (3)، والشيخ العاملي في ضياء العالمين عن كتاب الولاية للطبري المؤرِّخ (4)، و المتّقي الهندي في كنز العمّال( (5))، والحمويني في فرائد السمطين( (6))، و ابن الصبّاغ المالكي في
ص: 59
الفصول المهمّة (1)، و ابن كثير في البداية و النهاية (2)، و ابن حجر في الصواعق المحرقة (3)، و الحلبي في السيرة النبوية (4)، و الهيثمي في مجمع الزوائد( (5))، و القرماني في أخبار الدول( (6))، و بعض المحدِّثين و الرواة ذكروا فقط نقطة هامّة من هذه الخطبة؛ و هي قول رسول الله(ص): من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.
و بعد إيراد هذه الخطبة قال الشاعر الشهير حسّان بن ثابت لرسول الله(ص): ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهنّ، فقال(ص): قُل على بركة الله، فأنشد حسّان بن ثابت شعره المعروف:
يناديهمُ يوم الغدير نبيّهم بخمّ و اسمع بالرّسول مناديا
فقال: فمن مولاكمُ و نبيّكم فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا
ص: 60
إلهك مولانا و أنت نبيّنا و لم تلق منّا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماماً و هاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أتباع صدقٍ مواليا
هناك دعا: اللّهمّ والِ وليّه وكُن للّذي عادى عليّاً معاديا
و قد روى هذه الأبيات الستّة العّلامة الأميني في كتابه الغدير (1) عن اثني عشر من علماء أهل السنّة و عن اثنين و عشرين من علماء الإمامية، و نقلها عن كتاب سليمان بن قيس الهلالي و المولى محسن الفيض الكاشاني في «علم اليقين» (2) بزيادة أبيات أربعة، و قال بعد البيت الأوّل:
وقد جاء جبريل عن أمرر بّه بأنّك معصوم فلا تكُ وانيا
و بلّغهم ما أنزل الله ربّهم إليك و لا تخش هناك الأعاديا
فقام به إذ ذلك رافع كفّه بكفّ عليٍّ مُعلن الصوت عاليا
و زاد بعد البيت السادس:
فياربّ انصر ناصريه لنصرهم إمام هدى كالبدر يجلو الدياجيا
ص: 61
ثمّ قال العّلامة الأميني: و الّذي يظهر للباحث أنّ حسّاناً أكمل هذه الأبيات بقصيدة ضمّنها نبذاً من مناقب أميرالمؤمنين(ع). (1) و في ختام حديثنا عن هذه الخطبة الهامة ولكي نرفع ماقد يتسرّب إلى نفوس البعض من الشك فيها نذكر شيئاً عن رواتها من الصحابة و التابعين، و ماأُلِّفَ في حديث الغدير، فنقول:
أوّلًا: روى حديث الغدير من الصحابة مئة و عشرون صحابياً منهم:
1. أبوبكر بن أبي قحافة التيمي:(المتوفى 13 ه(.
2. أبوهريرة الدوسي:(المتوفّى 57- 59 ه(.
3. أبوليلى الأنصاري: إستشهد بصفين مع الإمام علي(ع) سنة 37 ه.
4. أبو زينب بن عوف الأنصاري.
5.
ص: 62
6. أبو فضالة الأنصاري: بدري استشهد بصفين مع الإمام علي(ع).
7. أبو قدامة الأنصاري.
8. أبو عمرة بن عمرو بن محصّن الأنصاري.
9. أبو الهيثم بن التيِّهان، إستشهد بصفين مع الإمام علي(ع) سنة 37 ه.
10. أبو رافع القبطيّ.
11. أبو ذؤيب خويلد- أو خالد- ابن خالد بن محرث الهذلي.
ثانياً: و رواه أيضاً اثنان و ثمانون من التابعين، نذكر منهم:
1. أبو راشد الحبراني الشامي، إسمه اخضر، نعمان.
2. أبو سلمة عبدالله بن عبدالرحمن بن عوف الزّهري المدني(المتوفّى 94 ه(.
3. أبو سليمان المؤذّن.
4. أبو صالح السمّان، ذكوان المدني(المتوفّى 101 ه(.
5. أبو عنفوانة المازني.
6.
ص: 63
7. أبو عبد الرحيم الكندي.
8. أبو القاسم الأصبغ بن نُباتة التميمي، الكوفي.
9. أبو ليلى الكندي.
10. إياس بن نُذَير.
11. جميل بن عمارة.
ثالثاً: و قد أيّده و رواه من العلماء و أعلام الحفاظ والمؤرّخين ثلاثمئة و ستون، نذكر منهم:
1. الحافظ أبو عيسى الترمذي(المتوفّى 279 ه(. (1) 2. الحافظ أبو جعفر الطحاوي(المتوفّى 279 ه(. (2) 3. الحافظ ابن عبد البرّ القرطبي(المتوفّى 463 ه(. (3) 4. الفقيه أبو الحسن بن المغازلي الشافعي(المتوفّى 483 ه(. (4)
.5
ص: 64
6. حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(المتوفّى 505 ه(. (1) 7. الحافظ أبو الفرج بن الجوزي الحنبليّ(المتوفّى 597 ه(.
8. أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي(المتوفّى 654 ه(. (2) 9. ابن أبي الحديد المعتزلي(المتوفّى 655 ه(. (3) 10. الحافظ أبو عبدالله الكنجي الشافعي(المتوفّى 658 ه(. (4) 11. الشيخ أبو المكارم علاء الدين السمناني(المتوفّى 736 ه(.( (5))
12. شمس الدين الذهبي الشافعي(المتوفّى 748 ه(.( (6))
.13
ص: 65
14. شمس الدين الجزري الشافعي(المتوفّى 833 ه(. (1) 15. الحافظ ابن حجر العسقلاني(المتوفّى 852 ه(. (2) 16. جمال الدين أبوالمحاسن يوسف بنصلاح الدين الحنفي. (3) 17. نور الدين الهروي التازي الحنفي(المتوفّى 1014 ه(. (4) 18. زين الدين المناوي الشافعي(المتوفّى 1031 ه(.( (5))
19. نور الدين الحلبي الشافعي(المتوفّى 1044 ه(.( (6))
20. السيد محمد البرزنجي الشافعي(المتوفّى 1103 ه(.( (7))
21. السيد ابن حمزه الحراني الدمشقي الحنفي(المتوفّى 1120 ه(.( (8))
.22
ص: 66
23. ميرزا محمد البدخشي. (1) 24. مفتي الشام العمادي الحنفي الدمشقي(المتوفّى 1171 ه(. (2) 25. أبو العرفان الصّبان الشافعي(المتوفّى 1206 ه(. (3) 26. محمود الآلوسي البغدادي(المتوفّى 1270 ه(. (4) 27. الشيخ محمود الحوت البيروتي الشافعي(المتوفّى 1276 ه(.( (5))
28. المولوي وليّ الله اللكهنوي.( (6))
29. الحافظ المعاصر شهاب الدين الغماري المغرب.( (7))
30. الشيخ عبدالعزيز محمد بن الصدّيق المغربي.( (8))
.31
ص: 67
رابعاً: من ألف في حديث الغدير.
و إليك قائمة بأسماء بعض من ألف في حديث الغدير و اسم كتابه أو رسالته- و لا ندّعي هنا أننا سنذكر كل ما أُلّف بهذا الصدد لأنّ ذلك لا ولن يتوقف إن شاء الله تعالى:
1. أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، الآملي،(المتوفّى 310 ه(له كتاب «الولاية في طرق حديث الغدير».
2. أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، الحافظ المعروف بابن عقدة(المتوفّى 333 ه(له «كتاب الولاية في طرق حديث الغدير».
3. أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم التميمي، البغدادي، المعروف بالجُعابي(المتوفّى سنة 355 ه(له كتاب «مَنْ روى حديث غدير خم».
4. أبو طالب عبدالله بن أحمد بن زيد الأنباري، الواسطي(المتوفّى 356 ه(له كتاب «طرق حديث الغدير».
ص: 68
5. أبوغالب أحمد بن محمد بن محمد الزّراري(المتوفّى 368 ه(له جزء في خطبة الغدير.
6. أبو المفضّل محمد بن عبدالله بن المطّلب الشيباني(المتوفّى 372 ه(له كتاب «مَنْ روى حديث غدير خم».
7. الحافظ علي بن عمر الدار قطني، البغدادي(المتوفّى 385 ه(قال الكنجي الشافعي في كفايته عند ذكر حديث الغدير: جمع الحافظ الدار قطني طرقه في جزء.
8. الشيخ محسن بن الحسين بن أحمد النيسابوري. الخزاعي، له كتاب «حديث الغدير».
9. علي بن عبدالرحمن بن عيسى بن عروة بن الجراح القناني(المتوفّى 413 ه(له كتاب «طرق خبر الولاية».
10. أبو عبدالله الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري المتوفّى 411 ه(له كتاب «يوم الغدير».
11. الحافظ أبوسعيد مسعود بن ناصربن أبي زيد السجستاني(المتوفّى 477 ه(له كتاب «الدراية في حديث الولاية».
ص: 69
12. أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي(المتوفّى 449 ه(له كتاب «عدة البصير في حجج يوم الغدير».
13. علي بن بلال بن معاوية بن أحمد المهلبي: له كتاب «حديث الغدير».
14. الشيخ منصور اللائي، الرازي، له كتاب «حديث الغدير».
15. الشيخ علي بن الحسن الطاطري، الكوفي، صاحب كتاب «فضائل أميرالمؤمنين(ع)» له «كتاب الولاية».
16. أبو القاسم عبيد الله بن عبدالله الحسكاني: له كتاب «دعاة الهداة إلى أداء حق الموالاة»، يذكر فيه حديث الغدير.
17. شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي(المتوفّى 748 ه(له كتاب «طرق حديث الغدير».
18. شمس الدين محمد بن الجزري، الدمشقي، المقري، الشافعي(المتوفّى 833 ه(أفرد رسالة في «إثبات تواتر حديث الغدير».
19. المولى عبدالله بن شاه منصور القزويني، الطوسي له: «الرسالة الغديرية».
ص: 70
20. السيد سبط الحسن الجايسي، الهندي، اللكهنوي: له كتاب «حديث الغدير» بلغة الأردو طبع في الهند.
21. السيد مير حامد حسين ابن السيد محمد قلي الموسوي، الهندي، اللكهنوي(المتوفّى سنة 1306 ه(، ذكرحديث الغدير و طرقه و تواتره و مفاده في مجلّدين ضخمين في ألف و ثمان صحائف. و هما من مجلّدات كتابه الكبير «العبقات».
22. السيد مهدي ابن السيد علي الغريفي، البحراني، النجفي(المتوفّى 1343 ه(له كتاب «حديث الولاية في حديث الغدير».
23. الحاج الشيخ عباس بن محمدرضا القمي(المتوفّى 1359 ه(.
24. السيد مرتضى حسين الخطيب الفتحبوري، الهندي: له كتاب تفسير التكميل في آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ النازلة في واقعة الغدير.
25. الشيخ محمدرضا ابن الشيخ طاهر آل فرج الله،
ص: 71
النجفي: له كتاب «الغدير في الإسلام».
26. العّلامة الشيخ عبدالحسين بن أحمد الأميني النجفي(المتوفّى 1390 ه(، له: «الغدير في الكتاب و السنة و الأدب» في 11 جزءاً. (1) هذا ما استطعنا أن نعرضه للقارئ الكريم من خطب رسول الله(ص) في حجة الوداع، عسى أن نكون قد ساهمنا في رسم صورة لما بذله رسول الله(ص) من جهود و تضحيات في سبيل إرشاد أُمتّه و توضيح معالم الدين الإسلامي الحنيف لأجيال الأُمّة الإسلامية.
نسأل الله أن يوفقنا للاستنان بسنّته و أن يرزقنا شفاعته في الآخرة و زيارته في الدنيا، والشكر لله، و له الحمد على توفيقه للصالحات.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته