الحج رموز و حكم

اشارة

سرشناسه : جوادی آملی، عبدالله، 1312 -

عنوان قراردادی : صهبای حج .عربی

عنوان و نام پديدآور : الحج رموز و حکم/ عبدالله جوادی آملی؛ مترجم حیدر حب الله.

مشخصات نشر : تهران: مشعر، 1389.

مشخصات ظاهری : 292ص.

شابک : 40000 ریال: 978-964-540-272-1

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

موضوع : حج

شناسه افزوده : حب الله، حیدر، مترجم

رده بندی کنگره : BP188/8/ج9ص9041 1389

رده بندی دیویی : 297/357

شماره کتابشناسی ملی : 2114054

ص: 1

اشارة

الحج مدرسة فكرية وروحية وتربوية عظيمة، يستلهم الفرد منها القيم والإرشادات، كما تستنير الأمة بها في سلوك طريق تكاملها وترقّيها.

إنّ موسم الحج فرصة عظيمة وفّرتها الشريعة الإسلامية للموحّدين كي يستلهموا منها مختلف المعاني وألوان المفاهيم التي تعينهم علي المضي قدماً في مسيرة الارتقاء والصلاح.

وقد أخذ مركز أبحاث الحج علي عاتقه مسؤولية الترويج لثقافة الحج والزيارة، عبر إنتاج الأبحاث وتأليف الكتب والدراسات، وإصدار النشريات العلمية الرصينة، فكان سبّاقاً في هذا المضمار، يقتفي أثره سائر المراكز والمؤسسات البحثية والثقافية في العالم الإسلامي.

كلمة المجلة

ص: 2

ومن بركات هذا المركز إصدار مجلة «ميقات الحج» باللغتين العربيّة والفارسية، حيث نشرت فيها مئات الدراسات والأبحاث العلمية والتحقيقية المتعلّقة بالحج والعمرة والزيارة والتراث الإسلامي في أرض الحرمين وغيرها من الملفات والمحاور الهامّة.

لقد تولّت مجلة (ميقات الحج) باللغة العربية رصد أهم الموضوعات ومتابعة المستجدات الفقهية المتصلة بقضايا الحج والعمرة، فبنت جسوراً مع كبار الفقهاء وثلّة من أفاضل العلماء ونخبة من الأساتذة والباحثين، فتركت حتي الآن اثنين و ثلاثين عدداً متميزاً، تصلح مرجعاً هامّاً في هذا المضمار.

وقد ارتأت أسرة تحرير المجلة إصدار كتابها الثالث الذي جمعت فيه ما كانت ترجمته من أبحاث أخلاقية وفقهية ووجدانية وعرفانية للعلامة الجليل سماحة آية الله الشيخ عبدالله جوادي آملي حفظه الله تعالي، حيث عبّرت هذه الأبحاث عن جولة كاملة في مفاهيم الحج ورحلة شيقة في معانيه ودلالاته.

إنّ أسرة التحرير إذ تقدّم هذا الكتاب بين يدي القارئ العزيز تأمل منه الاستفادة بتقديم ملاحظاته ومقترحاته حول كل ما يرتقي بعمل المجلة ويوفر لها مناخاً مساعداً.

والله من وراء القصد

ص: 3

مقدمة الترجمة

يمكن لمن يدرس ظاهرة الحج أن يطالعها من زوايا متعددة؛ تنطلق من الزاوية الفقهية الشرعية، لتمرّ بالزوايا التاريخية والأخلاقية والتربوية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وصولًا إلي الزاوية الروحية والعرفانية والرمزية.

يغصّ الحج بدلالات ومعاني تجعل منه مادة خصبة للتحليل والتأمل والغوص والاستغراق، وبقدر ما كانت دراسات الحج علي المستوي الفقهي واسعة ومعقدة كما يعرف ذلك المتخصصون بدراسة فقه الحج والعمرة، كذلك كان تحليله الروحي والعرفاني معقداً أيضاً، نظراً لغزارة الدلالات الرمزية التي يكتنفها.

قد يكون التخصّص في علم الفقه كافياً لدراسة فقه الحج، إلا أن معرفة أسرار الحج ورمزياته تظلّ بحاجة إلي عُدد معرفية أخري، من الوجدان الصافي إلي العرفان العملي والنظري إلي التجربة الروحية والأخلاقية، من هنا كانت هذه المهمة مسؤولية العرفاء وأهل القلب والمعني.

ومن رموز مدرسة المعرفة القلبية والفلسفية ووجوه الاتجاه الرمزي في عصرنا سماحة الأستاذ آية الله الشيخ عبدالله جوادي آملي حفظه الله، فقد خاض في هذا الكتاب صولات وجولات في ممارسة تحليل رمزي وعرفاني وروحي لهذه الفريضة العظيمة، وسعي لربطها بمختلف الدلالات المساعدة.

لقد أبرز الشيخ الأستاذ قدراته في التفسير الرمزي للعبادات، وكانت له طريقته

ص: 4

الخاصّة في ذلك، والتي قد يتخلف العلماء فيها، إلا أنها تظلّ شكلًا من أشكال فهم العبادات في الإسلام، تسعي لكي تتخطي الوقوف علي الأبعاد الظاهرية للأمور لتلامس معاني باطنة ذات مضامين سامية.

إنّني إذ قمت بجهود متواضعة في ترجمة هذا الكتاب لابد لي أن أشكر أسرة تحرير مجلة ميقات الحج، وبالأخص سماحة السيد قاضي عسكر، ممثّل الولي الفقيه في شؤون الحج والزيارة- رئيس التحرير- وسماحة الأخ العزيز الشيخ محمدعلي مقدادي- مدير التحرير- علي رعايتهم هذا الجهد المتواضع ونشره علي صفحات المجلة ثم في هذا الكتاب.

ولا يفوتني أن أشكر الأخ العزيز الأستاذ صالح البدراوي علي مساعدتي في ترجمة الموضوعات المتعلقة بالحجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم والصفا والمروة وعرفات ومني والمشعر الحرام والتي تقدر بحوالي الخمس عشرة صفحة، حفظاً لحقه المعنوي وتقديراً له.

إنّني أقدم جهدي المتواضع هذا هدية مزجاة لأستاذي- الذي تشرفت بحضور درس التفسير القرآني عنده- سماحة الشيخ جوادي آملي وأضعه عربون وفاء لحقّه عليّ في التعليم.

والله وراء القصد

حيدر حب الله

ص: 5

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف

الكتاب الذي بين يديك قارئنا العزيز «الحجُ رموزٌ و حِكَم» ثمرة جهود وإشراقات نورانية لسماحة آية الله العلامة الشيخ عبد الله جوادي آملي حفظه الله تعالي، وقد تولّت مجلة «ميقات الحج» تقديمه إلي القارئ الكريم، تعميقاً لمعاني الحج، و توضيحاً لدلالاته.

وقد قدّمنا هذا الكتاب بعد إعداده إلي مؤلفه الكريم، فتفضّل- مشكوراً- بكتابة مقدّمة للطبعة العربية له، تحوي المزيد من الالتماعات التي مازال يتحفنا بها سماحته دام عزّه.

إنّنا نأمل بنشر هذا الكتاب- مزيّناً بمقدّمة الطبعة العربية هذه- أن تزدان المكتبة الإسلامية بمثل هذه البحوث والقراءات المعمّقة لفريضة الحجّ العظيمة، ونسأل الله تعالي التوفيق وتقبّل عملنا هذا، كما نأمل أن يحظي هذا العمل برضا المؤلّف والقارئ معاً، إن شاء الله.

والحمدلله ربّ العالمين

*** ألحمدُ للهِ الذي جعل الكعبة قياماً للناس، و الصلاة والسلام علي جميع الأنبياء، سيّما الخليل (ع) الذي رفع قواعدها، و الحبيب (ع) الذي طهّرها من الصنم، و عترته

ص: 6

المعصومين، سيّما خاتمهم المهدي الموجود الموعود (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) الذي به يملأ الله الأرض قسطاً وعدلًا، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً؛ بهم نتولّي ومن أعدائهم نتبرأ إلي الله.

إنّ الله سبحانه خالق كلّ شي ءٍ ممكنٍ و يكون خلقه إيّاه بالتجلّي كما قال مولانا أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (ع): «أ لحمدُ لله المتجلّي لِخَلقه بِخَلقه». (1) أي فتجلّي الله سبحانه بالخلق لكل مخلوقٍ فكل مخلوقٍ يعرفُ الله سبحانه و يسبّحه و يحمّده و يسجد و يأتيه طائعاً كما في غير واحدة من الآياتِ، فلا الخلق بالتجافي بل بالتجلّي، و لا المخلوق محجوب عن خالقه المتجلّي له، إذ ليس المتجلّي له هو خصوص الانسان، و إن كان هو أقوي مخلوقٍ تجلّي الله له.

فهذا أصل إلهي، و هو أنّ الله مُتجلٍّ في خلقه و أنّ مخلوقةُ متجلّي له بلا استثناء في شي ء من هذين المطلبين.

إنّ كمال الخالق و حُسنه الوجودي (لا الاعتباري) يتجلّي في خلقه و إنّ كمال المخلوق و حسنه الوجودي يكشف كمال الخالق و حُسنَه الوجودي، و لا يختصّ ذلك في خلق الإنسان الذي له أحسن تقويم؛ فما ورد فيه من قوله تعالي: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. (2) إنما هو تمثيل لا تعيين، لأنه جارٍ بعينه في إنزال القرآن الحكيم الذي هو أحسن الحديث و أبلغ الموعظة، و حيث إنّ الله سبحانه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ. (3) فهو أحسنُ المتكلّمين و أحسنُ المحدّثين، و ما إلي ذلك من الأشباه و النظائر.

إنّ الله سبحانه رفيعُ الدرجات ذو العرش، و يرفع الذين آمنوا درجةً والذين أوتوا العلم درجات، و يرفع الأوحديّ منهم مكاناً عليّاً.


1- نهج البلاغه، الخطبة: 108.
2- المؤمنون: 14.
3- الزمر: 23.

ص: 7

فجميع ذلك مصداق خلقه المتجلّي به للمخلوق، فأيّ مخلوقٍ عَرَفَ نفسَه يعرف ربّه بمقدار معرفته، و لا خصيصة لهذا الأصل بالإنسان، و إن كان له حظٌّ وافرٌ، و لا يمكن أن لا يَعرف مخلوقٌ أيّ مخلوقٍ كان نفسه إلّا بسوء عمله الذي يختلف باختلاف المخلوق شدةً و ضعفاً، و كلّ مخلوق عرف نفسه يعرف خالقه المتجلّي له بالضرورة.

و حيث إنّ درجات التجلّي متفاوتةٌ فكلّ مقدارٍ نَقَصَ منه ينتزع من القدر الناقص عنوان التجافي المقابل للتجلّي، إذا الميز بينهما بأنّ المتجلّي يكون جامعاً بين الدرجات بنحوٍ إذا هبط إلي الأرض يكون موجوداً في السماء أيضاً، و إذا نزل إلي السِفل يكون موجوداً في العلو و يصير مظهراً لله الذي هو دانٍ في علوّه و عالٍ في دنوّه، بلا اتّحاد و لا حلولٍ، و بأنّ المتجافي لايكون كذلك، حيث إنّه إذا كان عالياً لم يكن سافلًا، وإن كان هابطاً لم يكن صاعداً، و ذلك كالمطر حيث إنّه مادام في سحاب السماء لا يكون في بحر الأرض أو نهرها، و مادام هبط إلي البرّ أو البحر لا يكون في سحابها.

مع أنّ كل شي ءٍ مسبوقٌ بوجوده في خزائن الله سبحانه، و أنّ هبوطه إلي الأرض ليس بمعني خلوّ المخزن عما اختزن فيه؛ فما أفاده سبحانه بقوله: وَإِن مِّنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. (1) حقّ لا ريب فيه، إلّا أنّ بين أنحاء التنزيل فرقاً.

إنّ القرآن قد نزل من لدن عليّ حكيم، و إنّ المطر أيضاً نزل من مخزنه، و لكن بينهما تفاوتاً من البدء إلي الختم، و من كيفية الانزال و ما إلي ذلك؛ فالقرآن نزل بالتّجلي الخاص كما أفاده مولانا أميرالمؤمنين (ع): «فتجلّي لهم سبحانه في كتابه مِن غير أن يكونوا رأوه». (2) والمطر نزل بالتّجافي فالقرآن بمثابة الحبل الممدود من الصدر


1- الحجر: 21.
2- نهج البلاغه، الخطبة: 147.

ص: 8

إلي الساقة بلا طرحٍ و لانبذٍ، و المطر مُلْقيً و مَنْبوذٌ فأين أحدهما من الآخر؟

فالقرآن من أدلّه الذي يكون بيد الله إلي آخره الذي بأيدي الناس كلام الله حيث قال تعالي: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. (1) والتفصيل موكول إلي موطنه المعدّ لبيان كيفية نزول القرآن و مَيْز نزوله عن نزول غيره.

إنّ الكعبة التي هي قبلة المسلمين، و مطاف الطائفين، و مزار الزائرين، قد نزلت إلي الأرض قرب نزول القرآن إليها، لا كنزول المطر إليها، و يشهد له ما ورد في شأن الحجر الأسود، من أنه يمين الله في الأرض، فمن استلامه فكأنه بايع يمين الله الذي كلتا يديه يمين، مع نزاهته عن الجسم، و برائته عن المادة، و طهارته عن لوث الجسمية، و ما إلي ذلك؛ سبّوحٌ قدّوسٌ ربنا و ربّ الملائكة و الروح.

إنّ الكعبة هي متن القبلة فمن دَخَلَها فهو في عين القبلة بحيث أينما يتوجّه فثَمّ وجهُ الله و لا مَيْز هناك بين الأمام و الخلف و اليمين و اليسار والفوق والتحت إلّا بالاعتبار، و إلّا فالجميع قبلة و البيت الذي هذا شأنه فهو مَجْليً لله المتجلّي فيه، لأنّه تعالي يكون مع الإنسان أينما كان، و كيف كان، و حيث كان، و لا يعمر هذا البيت إلّا الموحّد الخالص: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. (2)

و لا يطوف حوله إلّا العتيق عن حُبّ غير الله، و لا يستقبله إلّا المستدبر ما سوي الله.

إنّ الكعبة رقيقةٌ للبيت المعمور الذي يَعْمره الملائكة الذين لايعصون الله ما يأمرهم و هم بأمره يعملون، و لا يسبقونه بالقول و يخافون ربّهم من فوقهم، و يسبّحونه و يقدّسونه، و هم المدبّرون العالَم بأمره تعالي، و حيث إنّ البيتَ المعمور بالملائكة أقوي درجة من الكعبة فهو بتمامه أي داخله و سطوحه الخارجة كلها


1- الزخرف: 3 و 4.
2- الأنفال: 34.

ص: 9

بحيث أينما يتوجّه إليه مَلكٌ مِن الملائكة فثمّ وجه الله.

والسرّ في تماثل الكعبة و البيت هو أنّ ذلك البيت حقيقةٌ لرقيقة الكعبة، و هي رقيقة لتلك الحقيقة صوناً للتجلّي عن التّجافي، فجميع ما في البيت المعمور حاصلة للكعبة ضعيفاً، و جميع ما في الكعبة حاصلة للبيت المعمور شديداً.

إنّ البيتَ المعمور رقيقةٌ للعرش الإلهي، و ذلك حقيقة لهذه الرقيقة كما أشير في التماثل بين الكعبة و البيت المعمور، و العرش معمورٌ بمن يستولي عليه و هو الله سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي. (1) و لكنه تعالي إنما يَعمر عرشه بأسمائه الحسني، و أوصافه العليا، و كلماته التامّة التي تحكيها التسبيحات الأربع و هي:

سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر

كما دلّت عليها الرواية الدالّة علي أنّ تربيع العرش و كونه ذا أركان أربعة إنّما هو لأنّ تلك الكلمات التي بني عليها العرش أربع، فلو أمكن لأحدٍ أن يَصْعَد إليه بإذن الله تعالي فهو يري نفسه محفوفاً بالتوحيد المشار إليه تارةً بالتسبيح، و أخري بالتحميد، و ثالثةً بالتهليل، و رابعةً بالتكبير، و هي و إن كانت كثيرة لفظاً و مفهوماً و لكنّها متحدة مصداقاً.

فهذا الصاعد الذي عرج بروحه إلي ذلك المستوي، فهو يري قلبه، إنّه أينما توجّه فثمّ وجه الله، و حيث إنّ هذا السعيد الصاعد ذو قلب سليم ليس فيه غير حُبّ الله، فيصير بذلك بمنزلة العرش، الذي مبناه، و بناؤه، و جداره، و سقفه، و بابه، و ميزابه، و كلّ ما يتعلّق به توحيداً خالصاً لله الذي ليس كمثله شي ء.

ثمّ إنّ تلك الكلمات الطيّبة حقيقة العرش الذي هو رقيقتها، و يكون العرش حقيقة البيت المعمور الذي هو رقيقته، و يكون البيت المعمور حقيقة بيت الله في الأرض (الكعبة) الذي هو رقيقته، و من هنا يتبين أنّ نزول الكعبة إلي الأرض


1- طه: 5.

ص: 10

بالتجلّي الخاص لا التجلّي العام الذي يصحبه التجافي أحياناً، و أنّ معني ما قد يقال: إنّ الكعبة من تخوم الأرض إلي عنان السماء قبلةٌ، له معني دقيق في الفقه الأكبر و الأوسط، كما أنّ له معني رائجاً في الفقه الأصغر، و أنّ صغر الفقه و كبره يرجعان إلي المحتوي الناظر إلي الجهاد الأصغر و الأكبر، إذ لا يمكن الفتح في الجهاد الأكبر بسلاح الفقه الأصغر، لأنّ لكلّ جهادٍ سلاحاً، و ظَفَراً، و غنيمةً، كما أنّ له هزيمة و غرامة، و أنّ قلبَ المؤمن إنّما يصير عرش الرحمن، إذا التزم بجميع ما في الفقهين الأصغر و الأكبر، و عرفه واعترف به، و آمن بذلك، و عمل به خالصاً لله، البري ء مِن الرّياء، و السمعة، و ما إلي ذلك من هوي النفس، فلابدّ من تضحيتها، و تزكية الروح، و تذكية العقل، حتي يليق بأن يصعد، و يصير بنفسه بمنزلة عرش الرحمن، فحينئذٍ إذا أفيض علي قلبه شي ءٌ من المعارف العلمية، أو العملية، يصير ذلك كلمةً عرشية، لأنّها أفيض علي عرش الرّحمن و استقرّ عليه، و كلّ ما يستقرّ علي العرش يصير عرشياً، فتلك المعارف تصير حكماً عرشية، كما هو المعهود لدي أبناء التحقيق؛ لا أنّ كل مطلبٍ عريقٍ عميقٍ دقيقٍ يستحقّ بأن يُعبّر عنه بالحكمة العرشية؛ لأنّه أفيض علي قلب الغير، و أيّ مطلبٍ أفيض علي الغير فهو عارية ترجع إلي صاحبها، و لا مساس لها بالمستعير، فليس له أن يتفوّه بذلك إلّا بعد التصريح بالاعارة و الاستعارة، لأنّ ذلك المطلب السامي، و إن كان مشهوداً للعارف، أو معقولًا للحكيم، إلّا أنّ نقله ليس عرفاناً و لافلسفةً، إذ الناقل المستعير لا يكون عارفاً شاهداً، و لا حكيماً عاقلًا، إذ نقل الشهود و العقل أجني عنه منقوله.

فكما أنّ قاري ء القرآن له أنْ يقرأ و يرقي، حيث يقال له: «إقرأ وارقَ». (1)ولايختصّ ذلك بالآخرة، و إن كان هنالك بنحو أتم، بل يجري في الأولي أي الدنيا أيضاً، فكل الحاج و المعتمر و الزائر، و كل من يتّجه إلي الكعبة و يصلّي نحوها يقال


1- الكافي، 606: 2.

ص: 11

له: طُفْ، زُر، صَلّ و أرْقَ من الكعبة إلي البيت المعمور، و منه إلي العرش، و منه إلي محتوي التسبيحات الأربع، و صير عبداً خالصاً ذا قلبٍ سليمٍ ليس فيه شي ء سوي حُبّ الله، و حُبّ آثاره القيّمة من القرآن، و العترة (ع) الذين ورد فيهم أنّهم بمثابة الكعبة تُؤتي و لاتأتي؛ لأنّ الإمام لا يكون إلّا كذلك.

إنّ الكعبة التي لم يذكر إلّا بَضْعَة ممّا ورد فيها هي مدار حياة الأمّة و مماتهم وجوباً أو ندباً، من الصلاة، و الذبح، و النَحر، و الاحتضار، و التصلية، و الدفن، و ما إلي ذلك؛ فلذا يقال حيّاً و ميتاً: إنّ الكعبة قبلتي، كما يقال في الحالتين: إنّ القرآن كتابي و إنّ محمداً (ص) نبيّي و رسولي، و إنّ عليّاً و أولاده المعصومين الأحد عشر: أئمّتي، و ما إلي ذلك من الأمور الدينيّة؛ فيلزم معرفتها بحيث لايضيع شي ء من حقّها أوّلًا، ثمّ تجعل سلّماً للصعود إلي البيت المعمور هكذا ثانياً، و من هنا يصح أن يقال: «الكعبة! و ما أدراك ما الكعبة؟! حيث إنّ الطائف لا يري منها إلّا حجراً لا يضرّ و لاينفع» كما أنّ قارئ القرآن لا يسمع إلّا لفظاً عربياً، و لكنه لا يدري من أين تجلّي؟ و من أين نزل في القوس النزولي؟ و إلي أين يصعد و يترقّي في القوس الصعودي؟

إنّ كلمة «ياء» التي أضيف إليها لفظ البيت في قوله تعالي: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ .... (1) ليست إضافةً اعتبارية، بل تحكي الإضافة الإشراقية التي يكون المضاف فيها تابعاً للإضافة، بخلاف ما في الاعتبارية منها، حيث إنّ الإضافة فيها تابعة للمضاف، كما أنّها تابعة للمضاف إليه.

والحاصل أنّ إضافة البيت إلي الله تشريفية، تحكي شرافة المضاف تكويناً لااعتباراً صرفاً، و أنّ التشريف التشريعي يساوق التكوين، إذ الشريعة الإلهية عين


1- البقرة: 125.

ص: 12

الحكمة بلا جزافٍ، و متن الواقعيّة بلا تسامحٍ و لاتساهلٍ.

و إن شئت فقارن هذه الإضافة و الإضافة التي في قوله تعالي: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي. (1) إذ المضاف هناك أي الروح موجود مجرّد ملكوتي من أمر الله، و له شأوٍ قاصٍ تحكيه الإضافة المذكورة و إن يكن بين الروح الإنساني المنفوح فيه من الله، و بين ظاهر الكعبة المنبة من أحجار لاتضرّ و لا تنفع (2) فرق، و لكن بعد التدبّر في باطنها يعترف بإمكان التشابه، و من هنا قِيل في نعتِ الكعبة باللغة الفارسية المقاربة للعربية في غير واحد من المعارف و الحِكَم عدا ما فيها من القرآن الحكيم و كلام أهل بيت الوحي:

كعبه را جامه كردن از هوس است ياء بيتي جمال كعبه بس است. (3)

أي لا تحتاج الكعبة إلي تزيينها بالثوب الحريري و نحوه؛ لأنّ جمالها إنّما هو في لفظة الياء في كلمة بَيْتي في قوله تعالي: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ. (4)حيث إنّ جمال المخلوق بإضافته إلي الخالق الجميل الذي كلّ جماله جميل، و إن نسأله بأجمله في «دعاء السحر» حسب ما عَلّمنا مولانا أبوجعفر الباقر (عليه و علي آبائه الأطيبين و أبنائه الأنجبين آلاف التحيّة و الثناء).

إنّ الكعبة سبب قيام الناس للتوحيد و العدل، علي الإلحاد و الظلم، فهو موجب لمقاومتهم تجاه الباطل، أيّ باطلٍ كان، و سببٌ لإقامة الحقّ، أينما كان، فهي أي الكعبة تهدي الناس إلي أن يدوروا مع الحق حيثما دار، و تهدموا الباطل أينما ظهر،


1- الحجر: 29.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 192.
3- ديوان الحكيم السنائي الغزنوي.
4- البقرة: 125.

ص: 13

لأنّ معها لا يُبدئ الباطل و لا يعيد: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ. (1) والدليل علي كونها أي الكعبة عاملة للقيام هو قوله سبحانه: قِيَاماً لِلنَّاسِ. (2) فهي محور المقاومة والوحدة الإسلامية من مشارق الأرض و مغاربها، و من يُرد فيها بظلم أو إلحاد يذقْه الله عذاباً أليماً.

و لعلّ بناء الخليل (ع)- الجذّاذ للأوثان و الأصنام- جعل الكعبة سبباً للقيام علي كسر أصنام الجاهلية بإذن الله، و الشاهد علي أنّ هذا البيت الرفيع بناؤه، هو استقرار مقامه فيه من أبعد عهدٍ إلي اليوم كما قال سبحانه: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. (3) والعربي الجاهلي جعله مأمناً للقاتل و كان يحفظه مادام هو فيه، و ليس ذلك لكونه معبداً للصنم، إذ لم يعهد إجْلال معبده أصلًا، حيث إنّه كم من معبد في شرق الأرض و غربها للصنم و الوثن لا يعهد فيه مثل ذلك؛ والحاصل أنّ الكعبة سبب قيام الناس للاعتقاد.

وأنّ المال سبب قيام الناس للاقتصاد حسبما يستفاد من قوله تعالي: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً. (4) فإذا قام الناس بالكعبة للاعتقاد، يتمّ لهم القيام بالمال للاقتصاد، و إذا قعدوا عنها و لا يقوموا بها للاعتقاد صار المال وبالًا و دولةً بين الأغنياء منهم، و يصيرون شيعاً يستضعف الغنيُّ منهم الفقير، و يستأثرون لأنفسهم ما الناس فيه شَرَعٌ سواء، و يخضمون مال الله خضم الإبل نَبْتَة الربيع، و يحومون حوم النثيل والمعتلف، أعاذ الله الأمة الإسلامية من هؤلاء، و من يحذو حذوهم.


1- سبأ: 49.
2- المائدة: 97.
3- آل عمران: 97.
4- النساء: 5.

ص: 14

فالحج و العمرة سير إلي سبب القيام للاعتقاد، و تعديل لما هو عامل القيام للاقتصاد، إذ: ما جاع فقيرٌ إلّا بما مُتّع به الغنيّ.

إنّ التحقيق حول معني التجلّي الممتاز عن التجافي، و حوم الحقيقة و الرقيقة يزيح أي شكٍّ يمكن أن يختلح ببال مَن لا يؤمن إلّا بما يراه جَهْرةً، فيقول: لو كانت الكعبة بحذاء البيت المعمور للزم سكون الأرض و السماء معاً، أو حركتهما من مبدإ خاص إلي منتهي مخصوص علي سرعة خاصّة، حفظاً للمحاذاة، ذهولًا عن معني التحاذي المعنوي، و غفلةً عن التقابل الملكوتي، و ما إلي ذلك مما يناسب تحاذيهما كمحاذاة البيت المعمور العرش المحاذي للكلمات الأربع.

إنّ الإنسان المطبوع علي قلبه، المختوم علي سمعه و بصره، كما يُبَدل هويّته، ويجعل فؤاده كالحجر أو أشدّ قسوةً، يجعل أوّل بيتٍ وُضع للناس بيت العنكبوت، و لا تكون عبادته لديه إلّا مكاءً و تصديةً، فمن دسّي نفسَه و خاب بتدسيسها، يُبَدل أقوي البيوت بأوهنها، و أمّا من عرف نفسه و زكّاها، يعرف قدرها و ينفتح له بذلك أبواب المعارف و الحِكم، و ينكشف له سرّ التعبير عن الكعبة بالبيت، مع أنّه لا بيتوتة هناك لأحدٍ، والسرّ هو أنّ عنوان البيت يحكي الليل التي إليها بركات، لاتوجد في النهار كما قال تعالي: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. (1) و المرجوّ أن تتبرّك الأمّة الإسلامية علي اختلاف مذاهبها ببركة الكعبة ما هو خير لها.

آمين يا ربّ البيت الحرام

القسم الأوّل: أبعاد الحجّ


1- المزمل: 6.

ص: 15

القسم الأوّل أبعاد الحجّ

الفصل الأول الإسلام دين عالمي دائم

ص: 16

لابدّ لكلّ إنسان من دين إلهي، ولا دين كذلك سوي الإسلام (1)، كما لا يُقبل دين سواه، () (2)، فالإسلام هو الدين الوحيد الجامع النازل من جانب الحقّ تعالي، والمشتمل علي تمام الكمالات الإنسانيّة، والمهيمن علي الأديان الباطلة كافّة، وهو الديانة الفريدة القابلة للإجراء والتطبيق لتكون مورداً لاستفادة الإنسان.

وبناءاً عليه، لابد لهذا الدين أن يحوي برامج وآليات يمكن توظيفها والاستفادة منها عبر التاريخ، وتظهر وتنجلي في مناخ تعالي الإنسانيّة انجلاءً كاملًا وتاماً.

الشمولية والدوام من أكبر أوصاف الإسلام وأهمّها، أي إنّه يستوعب في داخله أفراد الإنسان كافّة من السود والبيض والحمر وسائر الأعراق و ... كما يستوعب امتداد الزمان، في ماضيه ومستقبله، إلي يوم القيامة.

وللإسلام، بوصفه أمراً إلهيّاً غالباً علي الزمان والحركة والمادّة مصوناً من الزوال والاندثار، علّةٌ تامّة، مثله في ذلك مثل سائر الممكنات، وهذه العلّة التامّة مكوّنةٌ من


1- آل عمران: 19.
2- آل عمران: 85.

ص: 17

علّتين: إحداهما العلّة الفاعلة والأخري العلّة القابلة، فالعلّة القابلة للإسلام هي الإنسان نفسه، والإنسان إنسان لا يتغيّر ولا يتبدّل بما جبل عليه من الفطرة الخاصّة والطينة المخصوصة () (1). وأمّا العلّة الفاعلة له فهي الله الذي لا تناله يد التغييرات ولا تحظي بكرامته شباك التحوّلات، فإنّ ذاته منبع الحياة والنور والعلم والقدرة، ولا سبيل فيها أبداً للموت والظلمة والجهل والاعتلال، فهي الذات العليمة- إذن- بمصالح الإنسان ومفاسده، والأقدر علي تعليمه وهدايته إلي المدارج الرفيعة وتحذيره من السقوط في المهاوي السحيقة، وتبيين درجاتها والإعلام بدركاتها.

علي هذا الأساس، فإنّ سرّ عالميّة الإسلام يكمن في:

أوّلًا: إنّ نزوله كان لتفتيح براعم الفطرة الإنسانيّة، تلك الفطرة التي لا ترتهن لأرض خاصّة ولا لتاريخ معيّن، كما لا مسير زمنيّ لها، بل لا تنالها التأثيرات العرقيّة والقوميّة ولا الظواهر الجغرافيّة، ومن هنا تمثل البنية التحتيّة الراسخة للتربية، والأساس المحكم للإرشاد والتعليم.

ثانياً: إنّ معلّم الإنسان ومربّي البشريّة هو الإله الذي لا رخصة للجهل في الولوج إلي حريم علمه المطلق اللامتناهي، ولا فسحة للسهو والنسيان إلي حرم أمن حضوره وشهوده الدائم. من هنا كان الدين المرضيّ عنده هو الأساس الثابت والبناء الدائم الذي لا يعرف الزوال في هداية المجتمعات الإنسانيّة جمعاء.

والنتيجة المستخلصة أنّه لا مجال لتوهّم التغيير في الإسلام، لا من ناحية الفاعل ولا من ناحية القابل، وهو ما تشهد له الآية الكريمة: () (2)


1- الروم: 30.
2- الشوري: 13.

ص: 18

أمّا اختلاف الشرائع والمناسك والمناهج فيما تحدّث الله تعالي عنه في قوله سبحانه: () (1)، فإنما يرجع إلي التخصيص لا إلي النسخ، بمعني أنّ الظروف الخاصّة التي تعرض علي المجتمع الإنساني تستدعي حكماً فرعياً وقانوناً جزئيّاً محدوداً يتأطّر في حدود تلك الظروف نفسها، ومن ثمّ فانتهاء أحد تلك الظروف وحصول تغيّر في الأوضاع يفضي تلقائياً إلي انتهاء عمر هذا القانون أو الحكم.

إنّ الحجّ- كما سنوضحه فيما بعد وبوصفه أحد أهمّ مظاهر الإسلام- مظهر تام للمبدأين المشار إليهما، عنيت: الشمولية والدوام.


1- المائده: 48.

ص: 19

الفصل الثاني مكانة الحجّ في الإسلام

للإسلام مبادئ وأركان، ومن أركانه الحجّ، كما قال الإمام الباقر (ع): «بني الإسلام علي خمسة أشياء: علي الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية». (1)

وعليه، فمن لا يقيم الحجّ عمداً، يكون قد ترك ركناً من أركان دينه الإلهي، ومن ثمّ يؤدّي ذلك إلي زوال الإسلام الكامل، من هنا عبّر الله تعالي عن الترك العمدي للحجّ بالكفر حين قال: (). (2)

وحيث كان الإسلام ديناً عالمياً، يعلن دائماً عن مبدئيه غير الفانيين أي «الشموليّة» و «الدوام»، لذا كان لابد لبرامجه أن تكون عالميّةً أيضاً، وتبدو معلماً حياً ومثالًا نابضاً بالشمولية والدوام.

إنّ الحجّ أحد أبرز مظاهر البرامج الإسلاميّة العالميّة، من هنا يمكن اعتبار دوامه وشموليته شاهداً ناطقاً علي دوام هذا الدين الإلهي وشموليته، ولكي نبيّن عالمية الحجّ، وأنّه عبادة دينيّة تتمتّع بالدوام والشموليّة، نشير إلي بعض الشواهد القرآنية علي ذلك:


1- الكافي 18: 2.
2- آل عمران: 97.

ص: 20

1- الحجّ هو قصد الكعبة وزيارتها، وإنجاز مناسك خاصّة، والكعبة أوّل بيت وضع لعامّة الناس، وهي المركز الأوّل الذي يجذب إليه العابدين: (*...). (1)

إنّ التعبير عن بناء الكعبة ب- «بكّة» التي تعني الازدحام يدلّل علي أنّ الكعبة كانت محوراً عالمياً يُرجع إليه من مختلف نواحي العالم عبر الزمن، وأنّه علي إثر تعاظم حجم الوافدين إليه أطلق علي هذا المكان «بكّة». (2)

2- تؤمّن الكعبة الهداية للناس أجمعين، قال سبحانه: () وبناء عليه لا تختصّ الكعبة بأيّ فئة أو قوميّة أو عرق، ومن هنا يجلّ الناس من ملل العالم المختلفة، أعمّ من الهندية والفارسية


1- آل عمران: 96- 97.
2- ذكرت حول كلمة «بكّة» وجوه عدّة نشير هنا إلي بعضها: أ- بكّة تعني مكة، غايته أنّه أبدلت ميمها بالباء، تماماً ككلمتي «لازب» و «لازم». انظر: مجمع البيان 1- 797: 2. ب- البك يعني الدك، وحيث يتدافع الناس في أطراف الكعبة ويصطدمون ببعضهم البعض، ويزاحم بعضهم بعضاً، أطلق علي ذلك المكان «بكّة»: «لأنّ الناس يبكّ بعضهم بعضاً». انظر: بحار الأنوار 77: 96. ج- سمّيت بكّة لأنّها تخضع الجبابرة والمتكبّرين وتذلّهم، وتدكّ الاستكبار وتحطمه، كما قال أميرالمؤمنين الإمام علي حول النسبة ما بين مكّة وبكّة: «مكّة أكناف الحرم وبكّة موضع البيت». ثمّ يتحدّث عن سبب تسمية ذلك المكان ببكّة فيقول: «لأنّها بكّت رقاب الجبارين وأعناق المذنبين». أنظر: بحارالأنوار 127: 10. د- يجيب الإمام الصادق عن سؤال حول سبب تسمية الكعبة بكّة؟: «لبكاء الناس حولها وفيها». بحارالأنوار 78: 96. لكن حيث إنّ التعليل المذكور في هذه الرواية لا ينسجم مع القواعد اللغوية، حيث إنّ «بكّ» كان مضعفاً فيما كان بكي ناقصاً، يمكن أن يكون مراد الإمام أنّ الناس يلجؤون لعبادة الله والتضرّع في كنف حضرته إلي ذلك المكان فيزدحمون عنده، ويتسبب ذلك في تدافعهم وتصادمهم، ومن ذلك سمّيت «بكّة»، ومعه فيكون منشأ التسمية ب- بكّة هو ذلك الازدحام لا تلك الدمعات أو ذاك البكاء. هذا وقد ذكرت وجوه أخري لتسمية هذه البقعة ب- بكّة.

ص: 21

والكلدانية واليهوديّة والعرب، هذه الكعبة (1)، إنّ الله تعالي يتكلّم في ذلك لخليله إبراهيم 7 فيقول: (). (2)

3- ومن الشواهد الأخري علي المطلب المذكور قوله تعالي: (). (3) ويتّضح من ملاحظة ذيل هذه الآية: () (4)، أنّ الناس لم تدع إلي زيارة الكعبة بعد نزول القرآن فقط، وإنّما كانت تقصدها قبل قرون سالفة من نزول الوحي علي النبي (ص)، ذلك أنّ العهد الإلهي لإبراهيم وإسماعيل كان تطهير البيت لزوّاره والطائفين فيه والمعتكفين والراكعين الساجدين.

4- شاهد قرآني آخر هو قوله تعالي: (). (5) فإذا كان هدف الأنبياء الإلهيين كافّة إقامة العدل والقسط بين الناس، كما قال تعالي: (). (6) فإنّ الكعبة تمثّل العامل المهمّ والعنصر الفاعل الذي يمكنه سوق تمام الخصوصيات العرقية والجغرافية والاختلافات المكانيّة والتباعدات الزمانيّة واللغوية ... سوقها جميعاً نحو جهة واحدة ومقصد فارد، وكذلك كشف الأجانب والغرباء، وتهيئة الأرضية المناسبة لقيام الناس كافّة بالقسط والعدل.


1- الميزان 358: 3- 363.
2- الحج: 27.
3- البقره: 125.
4- المصدر السابق.
5- المائده: 97.
6- الحديد: 25.

ص: 22

من هنا، يقول الإمام الصادق (ع): «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة». (1)

5- لا اختصاص في الثقافة القرآنية لشعب خاص أو قاطني منطقة معينة في امتثال القوانين الإلهيّة، لا سيما منها زيارة الكعبة، فليس أبناء منطقة خاصّة أليق من غيرهم في القيام بمناسك الحج، فبعد المنزل في هذا السفر المعنوي كقربه لا فرق أبداً.

قال تعالي: (). (2)

6- وكما كانت زيارة الكعبة في الإسلام هجرةً عامّة جسمانية إلي الله تعالي (3)، ضروريّةً في بسط العدل وإقامته، كذلك الحال في الأديان الأخري، حيث كان الحجّ قانوناً رسمياً قائماً.

والشاهد علي شهرة الحج: أنّهم كانوا ينظّمون تواريخهم وأرقام سنينهم بالحج، تماماً كما حصل في قصّة موسي وشعيب (ع)، حيث ورد التعبير عن السنوات الثماني (4)، ب- (). (5)

وطبقاً لما أرشدتنا إليه الشواهد المذكورة أعلاه فإنّ الحجّ يمثل أحد أبرز مظاهر الإسلام التي تتحقّق فيها وتليق بها مبادئ الدوام والشموليّة، من هنا حصل لنبيّنا محمّد (ص) ما حصل من قبله لإبراهيم الخليل، ومن قبلهما لآدم (ع). (6)

من هنا، لم يكن الحجّ منسكاً خاصّاً مميزّاً لملّة من الملل أو عصر من العصور، وإنّما هو حج دائم وعام، وانطلاقاً من ذلك دام وجوده محمياً بين


1- وسائل الشيعة 14: 8.
2- الحج: 25.
3- انظر: وسائل الشيعة 5: 8.
4- انظر: الكافي 414: 5، وبحار الأنوار 64: 96.
5- القصص: 27.
6- راجع: وسائل الشيعة 160: 8- 171.

ص: 23

الأمم والشعوب المختلفة فيما مضي من سالف الأزمان مع تطاول السنين والأيام.

ص: 24

الفصل الثالث معالم الحج في القرآن الكريم

اشارة

1- الحج- بماله من كرامة خاصّة- عهد إلهي يُتشرّف به، من هنا، جاء التعبير عن وجوبه بلغة الميثاق والعهد الإلهي الخاص: (). (1) ولانجد مثل هذا العهد في سائر العبادات، عهدٌ جاءت فيه كلمة الجلالة منضمّةً إلي اللام (ل-)، ومقدّمةً علي متعلقها.

لقد قال الله سبحانه في أمر الصيام: «الصوم لي وأنا أجزي به» (2)، والحج يستوعب الصيام، ذلك أنّ الحاجّ الذي لا يملك هدياً يجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة بعد عودته، قال تعالي: (). (3)

وهكذا كانت الصلاة مشرّعةً في الحج بالطواف؛ إذ «الطواف بالبيت صلاة» (4)، علاوةً علي وجود فريضة الصلاة في الحجّ، ذلك أنّ الطائف يقف بعد طوافه خلف أو جنب مقام إبراهيم (ع) لإقامة صلاة الطواف، قال سبحانه: (


1- آل عمران: 97.
2- وسائل الشيعة 290: 7.
3- البقرة: 196.
4- سنن النسائي 222: 5.

ص: 25

). (1) وبالصلاة هناك يُنال تمام ما للصلاة من مزايا وخاصيات.

من هنا، جاء في الرواية أنّ الحج أفضل من الصلاة والصيام. (2)

وهكذا، ينال الحاجّ بركات الزكاة في حجّه، ذلك أنّ في الحجّ إنفاقاً مالياً ونثاراً وإيثاراً يُعدم البخل ويبدّده، فيحفظ الحج بذلك الأرواح والنفوس عن التلوّث بكدورات البخل ويحميها منه، وكل من كان محفوظاً من البخل فهو من الصالحين المفلحين، قال سبحانه: (). (3)

وحصيلة الكلام، إنّ الحج تركيبة من عبادات متنوّعة، تشمل فضائل كثيرة تحتويها تلك العبادات (4)، ليس هذا فحسب، بل مع ذلك كلّه، في الحجّ ميزته الخاصّة به، تلك التي لا يعثر عليها في غيره، وهذه الميزة عبارة عن كون الحج عهداً و ميثاقاً خاصاً بين العبد وربّه سبحانه.

من هنا، جاء في الرواية عن الصادق (ع): «ودّ من في القبور لو أنّ له حجةً بالدنيا وما فيها». (5)

وقفات مع الخطاب الإلهي الخاصّ بالحج

تذكر آية: (). (6) وجوب الحج وتنصّ عليه، في جوّ من التوكيدات الكثيرة، التي نشير هنا إلي بعضها:

أ- إن الجملة المشار إليها جملة خبرية، ودلالتها علي الإنشاء أقوي من دلالة


1- البقرة: 125.
2- من لا يحضره الفقيه 221: 2.
3- الحشر: 9.
4- وسائل الشيعة 77: 8- 83.
5- المصدر السابق: 82.
6- آل عمران: 97.

ص: 26

الجملة الإنشائية نفسها عليه.

ب- إنّها جملة إسمية، وهي جملة يعدّ توكيدها علي معني الثبوت أكبر من الجملة الخبرية الفعلية.

ج- إنّ الوجوب قد بيّن فيها مرفقاً بلام التكليف في كلمة «لله»، وهو تكليف قدّم- بسبب أهميته- علي المبتدأ وهو «حِجُّ».

د- ولمزيد من التوكيد، جاءت «علي» فوراً، وبدون فصل، عقيب كلمة «لله»، وهو ما يدلّ هنا علي الوجوب ويرشد إليه.

ه- ورد ذكر المكلّفين (1) في الآية مرتين: ابتداءً بصورة الإجمال والعموم، واستمراراً بصورة التفصيل والخصوص.

ووجه التأكيد في هذا السياق بيان الموضوع مع البدل، ثم ذكر البدل بمثابة التكرار، فبدل أن يقال: لله علي المستطيع، قال: (... ...)، فقد جاء بدل بعض عن الكل في الآية موضع كلمة «الناس».

و- ولم تذكر الآية في تاركي الحج: «ومن ترك الحج»، بل عبّرت عنهم بكلمة (وَ مَنْ كَفَرَ ...)، وهو تعبير يقوم- كما تفيده الروايات- مقام ترك الحج. (2)

ومن الواضح أنّه ليس المقصود بالكفر هنا الكفر الاعتقادي، بل الكفر العملي، وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق (ع): «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يُطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو


1- إن سعة مفهوم الحج وشموله بلغ حداً غدت فيه إطافة المولود الصغير مشروعةً ومستحبةً، علي خلاف سائر العبادات، التي يري بعض الفقهاء أنّ القيام بها في سن الصغر إنما هو للتمرين.
2- بحارالأنوار 93: 69، 110.

ص: 27

نصرانياً». (1)

ز- إنّ جملة: () في ذيل الآية جاءت لإبراز عدم الاعتناء بتارك الحج، أي أنّ الله سبحانه ليس مستغنياً عن تارك الحج فحسب، بل هو في غني أيضاً عن العالمين بأجمعهم.

2- لقد عدّ الله سبحانه زمان الحج والعمرة ومكانيهما، وكذلك الحجّاج والمعتمرين، بل حتي الذين يقصدون الحج والعمرة من أقصي نقاط العالم دون أن يكونوا قد وصلوا بعدُ إلي الميقات، وكذلك أضاحي الحج، بل حتي ذاك الحذاء المتدلي- معلقاً- من رقبة الحيوان المصحوب، دلالةً علي صيرورته أضحيةً في الحج ... عدّ سبحانه ذلك كلّه من الشعائر الإلهية، فقد قال: (). (2) كما تحدّث عن الصفا والمروة فقال: (). (3)

ولكي يحثّ الآخرين ويرغبهم في تعظيم الشعائر وحفظ الحدود الإلهية، تحدّث عن آثار تعظيم الشعائر فقال: (). (4)


1- وسائل الشيعة 19: 8، تدلّ فاء التفريع في «فليمت يهودياً أو نصرانياً» علي الوجوب الفوري للحج، ذلك أنّ أحداً لا يعرف زمان موته، وهو في كل لحظة عرضة لهذا الخطر المحتمل الهائل، لذا لا يمكن للمستطيع أن يكون نائباً عن غيره، ذلك أنه ليس لأحد حق تأخير الحج عن سنة الاستطاعة. أمّا تأخير المسلمين حجهم عن عام فتح مكّة، وهو عام 8 ه-، لمدة عامين، ليحجّوا في السنة العاشرة، فقد كان ذلك بسبب عقد عقدوه مع المشركين قبل فتح مكّة أن لا يردوا مكّة، أي أنّ الحج لم يكن واجباً علي المسلمين بسبب انعدام الاستطاعة السربية تخلية الطريق من هنا، أرسل رسول الله في العام التاسع للهجرة، بعد فتح مكة، علي بن أبي طالب مع جمع من المسلمين.
2- المائدة: 2.
3- البقرة: 158.
4- الحج: 30.

ص: 28

وقال: (). (1)

3- وتعدّ الآية المباركة: (). (2) أنموذجاً آخر من الدوالّ علي أهمية الحج، فرغم أنّ كلمة «الناس» تشمل تمام الأمور التي يواجهها الناس ويتعاملون معها، إلا أن ذكر الحج مستقلًا بعد ذلك، إنّما جاء من باب ذكر الخاص بعد العام لبيان أهمية الخاص، ليقول: إنّ تغيّر أوضاع القمر وأشكاله جاء لكي يسهل علي الإنسان تحديد أشهر الحج، حتّي يتسنّي للناس المبادرة إلي إقامة الحج في هذه الأشهر.

4- ومع كثرة الآيات القرآنية الحاكية عن دلالة كل شي ء علي الله سبحانه وحكايته عنه، إلا أنّ موضوع الحج جاء التعبير عنه ب- (). (3) و (4) نظراً لما في الحج من خصوصيات متنوّعة، زمانياً ومكانياً، ففي الحج آيات إلهية، كالكعبة والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وزمزم وغير ذلك من أمثاله مما هو واضح مشهود. فأرض قاحلة لا تقبل الزراعة، تغدو بدعاء النبي إبراهيم (ع): (). (5) كعبةً للمشتاقين، هي في حدّ ذاتها من الآيات الإلهية، كسائر بركات الحج وأسراره، مما لا يشاهد الكثير منها سوي أولياء الحق.


1- الحج: 32.
2- البقرة: 189.
3- آل عمران: 97.
4- لمكّة والحرم آداب وسنن، تنشأ جميعها من حرمة المسجد الحرام، وهكذا كانت للمسجد الحرام أيضاً آداب وأحكام وسنن، منشؤها احترام الكعبة، ولدي البحث عن مرجع الضمير في «فيه» و «دخله» في الآيات الشريفة: فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً و الحج: 25، يلاحظ أنّه يعود تارةً- بتناسب الحكم والموضوع- إلي أرض مكة أو إلي دائرة الحرم، فيما يرجع أحياناً إلي المسجد الحرام، وأخري إلي الكعبة، وهي القبلة والمطاف، وعليه فلم يكن مرجع الضمير واحداً، ذلك أنّه- وكما جاء في أبحاث عديدة متنوّعة- ليس من التهافت عود الضمير المذكور إلي أكثر من مرجع، نعم الكعبة بما لها من خصوصية بوصفها القبلة والمطاف تبقي مكانتها محفوظة.
5- ابراهيم: 37.

ص: 29

5- إضافةً إلي الآيات المذكورة آنفاً، ثمة آيات أخري طبّقت في الروايات علي الحج أيضاً، ومن بين هذه الروايات، ثلاث روايات ننقلها هنا هي:

أ- معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبدالله (ع) عن رجل له مال ولم يحج قط؟ قال: هو ممّن قال الله تعالي: (). (1) قال: قلت: سبحان الله! أعمي؟ قال:

أعماه الله عن طريق الحقّ». (2)

ب- عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبدالله (ع) عن قول الله عز وجل: (). (3) قال: ذلك الذي يسوّف نفسه الحج- يعني حجة الإسلام- حتي يأتيه الموت». (4)

والمستفاد من هذين الحديثين أن باطن تارك الحج أعمي في الدنيا، وأنّ هذا الباطن، سيغدو ظاهراً في الآخرة، ولهذا سوف يحشر هذا الإنسان فاقد البصر يوم القيامة.

ج- طبّقت في بعض الأحاديث الآية المباركة: (). (5) علي الحج، منها ما قاله الإمام الباقر (ع) في تفسير المراد منها: «حجّوا إلي الله». (6)

معالم الحج في الروايات

يعدّ الحج من أهم مظاهر الإسلام، نظراً لاشتماله علي الكثير من السنن


1- طه: 124.
2- وسائل الشيعة 17: 8.
3- الإسراء: 72.
4- وسائل الشيعة 17: 8.
5- الذاريات: 50.
6- وسائل الشيعة 5: 8.

ص: 30

والأسرار، ولهذا وردت في أهميته، ومكانته، وأبعاده المختلفة، وأسرار تشريعه .. الكثيرُ من الروايات عن المعصومين (ع)، ونحاول هنا الاكتفاء ببعض ما جاء عنهم (ع) في ذلك.

1- عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (ع) عن أبيه، عن آبائه (ع): «أنّ رسول الله (ص) لقيه أعرابي فقال له: يا رسول الله! إني خرجت أريد الحج ففاتني، وأنا رجل مميل، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج.

فالتفت إليه رسول الله (ص) فقال: أنظر إلي أبي قبيس، فلو أنّ أباقبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت ما يبلغ الحاج.

ثم قال: إن الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفاً ولم يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعي بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمي الجمار خرج من ذنوبه.

قال: فعدّ رسول الله (ص) كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه، ثم قال: أني لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج، قال أبوعبدالله (ع): ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات، إلا أن يأتي بكبيرة». (1)

ولعل مراد النبي (ص) من التأكيد علي خروج الحاجّ من ذنوبه عقب أداء كلٍّ من المناسك، الإشارة إلي أنّ كل واحد من هذه الأعمال له دور في غفران نوع خاص من الذنوب، ولهذا كان واجباً لتحصيل هذه المغفرة الإلهية، أو أنّ المراد أنّ الذنوب حيث تراكمت و خزّنت حتي غدت حجاباً يغطّي قلب المذنب الخاطي ء كان كل منسك من هذه المناسك موجباً لإنقاصها، ورفع هذا الغطاء تدريجياً عن صفحة


1- وسائل الشيعة 79: 8.

ص: 31

القلب.

2- جاء في وصايا النبي (ص) لأميرالمؤمنين (ع): «يا علي! تارك الحج وهو مستطيع كافر، يقول الله تبارك وتعالي: () (1)

».

3- وعن أميرالمؤمنين (ع): «... وفرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قبلةً للأنام، يَردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه وُلُوهَ الحمام، وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته، واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يُحرِزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالي للإسلام عَلَماً، وللعائذين حَرَماً، فَرَض حقّه، وأوجب حجّه، وكتب عليهم وِفادته». (2)

4- ويقول علي (ع) أيضاً حول فضيلة الحج والعمرة: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلي الله سبحانه وتعالي الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله ... وحج البيتِ واعتماره، فإنّهما ينفيان الفقر، ويَرحَضان الذنب ...». (3)

5- ويحتلّ الحديث عن الكعبة وأرض مكة وبيان سرّ كون بيت الله هناك قسماً أساسياً من الخطبة القاصعة لأميرالمؤمنين (ع)، ففي هذه الخطبة يشير الإمام (ع) إلي تاريخ الحج، وإلي دوره في خلق روح التواضع وتحطيم التكبر والاستكبار، إنّه يقول في مطلع هذا القسم من خطبته: «ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدُن آدم صلوات الله عليه إلي الآخرين من هذا العالم بأحجار لاتضرّ ولا تنفع، ولا تبصر


1- آل عمران: 97.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 1.
3- المصدر السابق، الخطبة: 110.

ص: 32

ولاتسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ...».

وفي ختام هذا القسم من الخطبة جاء: «... ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلي فضله، وأسباباً ذُلُلًا لعفوه». (1)

6- ويقول علي (ع) أيضاً: «الله الله في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا». (2)

(ع)- ويقول الإمام الباقر (ع): «بني الإسلام علي خمسة أشياء: علي الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية- وبعد ذكر فضائل الخمسة قال-: قال رسول الله (ص): لحجة مقبولة خير من عشرين صلاة نافلة» (3)، رغم أن الصلاة عمود الدين و معراج المؤمن.

8- ويتحدّث الإمام الباقر (ع) أيضاً عن جامعية الحج وقدمه فيقول: «أتي آدم هذا البيت ألف آتية علي قدميه، منها سبعماءة حجّة، وثلاثماءة عمرة». (4)

9- وفي رواية منقولة عن الإمام الصادق، جاء عن زرارة: «قلت لأبي عبدالله (ع): جعلني الله فداك، أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني، قال: يا زرارة! بيت حجّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفتي مسائله في أربعين عاماً». (5)


1- المصدر السابق، الخطبة: 192 القاصعة.
2- نهج البلاغة، الرسالة: 47.
3- الكافي 18: 2- 19.
4- وسائل الشيعة 94: 8، وقد ذكر أن عمر آدم كان من 930 إلي 1030 عاماً، فراجع 268: 11- 269.
5- وسائل الشيعة 7: 8، وثمّة بحوث يمكن طرحها تخصّ جملة «ألفي عام قبل آدم»، كما توجد بحوث تتعلّق بالأجيال البشرية القديمة، ولكنها خارجة عن طاقة هذه الدراسة، وإنما نشير هنا إلي جملة «أربعين سنة سؤالًا وجواباً» الواردة في هذه الرواية، فقد ولد الإمام الصادق عام 83 ه-، وتولي منصب الإمامة عام 114 ه-، وقد توفي عام 148 ه-، وبهذا تكون مدّة حياته المباركة 65 عاماً، فيما تكون مدّة إمامته 34 عاماً، وبناءاً عليه، فمقصود زرارة من كلمة «أربعين سنة» ما هو أعمّ من فترة الإمامة وما سبقها، ذلك أن الإمام كان عالماً بالأحكام الدينية حتي قبل إمامته، عندما كان تحت زعامة الإمام الباقر، أو أنّ المراد فترة إمامته البالغة 34 سنة، وجاء التعبير بأربعين سنة علي سبيل المتعارف، حيث لا يحسب العرف كسور العقود الزمنية، مكتفين بذكر الرقم التقريبي.

ص: 33

10- وعن الإمام الصادق (ع) حول علّة وجوب الحج: «فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ... ولتعرف آثار رسول الله (ص) وتعرف أخباره ويذكر ولاينسي». (1)

11- ويجيب الإمام الصادق (ع) أيضاً عن سؤال وجّه إليه عمّن أنجز حجّه الواجب عليه، فهل التصدّق في السنوات اللاحقة بدل الحج أفضل له أم لا؟ فيقول: «كذبوا، لو فعل هذا الناس لعطّل هذا البيت، إن الله عز وجل جعل هذا البيت قياماً للناس». (2)

12- وحول الكعبة، يقول الإمام الصادق (ع) في إحدي الروايات: «جعلها الله لدينهم ومعائشهم» (3)، تماماً كما جاء في رواية أخري: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة». (4)

والأصل هنا قيام الدين وقوامه، فالحج الذي لا يؤدي للدين ولا يُقام له لاثمرة من ورائه.

من هنا، قال النبي (ص): «يأتي علي الناس زمان يكون فيه حج المملوك نزهة، وحج الأغنياء تجارة، وحج المساكين مسألةً». (5)

13- وعن آثار الحج وبركاته، يقول الإمام علي بن موسي الرضا (ع): «إنما أمروا بالحج لعلّة الوفادة إلي الله عز وجل، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضي، مستأنفاً لما يستقبل ...».

إلي أن قال: «وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه،


1- المصدر السابق: 9.
2- وسائل الشيعة 14: 8.
3- المصدر السابق: 41.
4- المصدر السابق: 14.
5- المصدر السابق 60: 11.

ص: 34

مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمة (ع) إلي كل صقع وناحية». (1)

14- وما ورد في الحج بوضوح من الحق وسعة الرحمة لم يرد في أيّ من العبادات الأخري، فالله تعالي يتحدث عن وضوح الحق في الحج بالقول: (). (2) ذلك أنّ أسرار الحج، وهي آيات الله تعالي، ستكون واضحةً بينةً هناك.

سعة رحمة الحج

أمّا فيما يخصّ سعة رحمة الحج:

أ- فيتحدّث الإمام الباقر (ع) عمن خرج قاصداً الحج الواجب ثم مات وهو في الطريق: «إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام ...». (3)

وهذا مظهر من مظاهر سعة الرحمة، وأدب الضيافة الإلهية.

ب- ويقول رسول الله (ص) في حجة الوداع، عند الوقوف بعرفات قريب الغروب: «إنّ ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم، وغفر لمحسنكم، وشفّع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً لكم». (4)

ج- ولعلّه لما في الحج من خصوصيات كهذه قال الإمام الصادق (ع) لعيسي ابن أبي منصور: «يا عيسي! إني أحب أن يراك الله فيما بين الحج إلي الحج وأنت تتهيّأ للحج». (5)

د- وفي رواية أخري عنه (ع): «ليحذر أحدُكم أن يعوّق أخاه عن الحج، فتصيبه


1- المصدر السابق 7: 8- 8.
2- آل عمران: 97.
3- وسائل الشيعة 47: 8.
4- المصدر السابق 65: 8.
5- المصدر السابق: 106.

ص: 35

فتنة في دنياه مع ما يُدّخر له في الآخرة». (1)

ذلك أنّه لا يمكن لأحد أن يمنع عن غيره خيراً كالحج، بل إن علي المسلمين الذين أقدموا بأنفسهم علي تأدية فريضة الحج أن يشجّعوا الآخرين عليها ويحثوهم علي أدائها.

عظمة الحج في أدعية شهر رمضان

ويكفي لإبراز أهمية الحج، مع أحكامه وحِكَمِه الخاصة، مطالعة ما جاءبصورة مكرّرة- في طلب الحج في أدعية شهر رمضان المبارك (2)، بحيث لانجازف إذا قلنا: إنّ صيام هذا الشهر، وأدعيته الليلية، ومناجاته السحرية، وأوراده اليومية تهي ء الإنسان للحج، ودرك ما قيل فيه من حكم ومفاهيم و ...، من قبيل: «الساجد بمكة كالمتشحّط بدمه في سبيل الله». (3)

و «تسبيحة بمكة أفضل من خراج العراقين ينفق في سبيل الله». (4)

و «من ختم القرآن بمكة لم يمت حتي يري رسول الله (ص)، ويري منزلته في الجنة». (5)

و «النظر إلي الكعبة حباً لها يهدم الخطايا هدماً». (6)

إن طلب التوفيق لإدراك الحج في أدعية شهر رمضان المبارك ملفت للنظر، إلي


1- المصدر السابق: 98.
2- مفاتيح الجنان، الأعمال المشتركة، أعمال ليالي وأيام شهر رمضان المبارك، دعاء أبي حمزة الثمالي، أدعية ليالي القدر و ... وقد جاء في قسم من الدعاء الأول في الأعمال المشتركة: «اللهم ارزقني حج بيتك الحرام، في عامي هذا وفي كل عام ... اللهم إني أسألك فيما تقضي وتقدّر ... أن تكتبني من حجاج بيتك الحرام، المبرور حجهم ...».
3- وسائل الشيعة 382: 9- 383.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: 340.
6- المصدر السابق: 365.

ص: 36

حدّ ربما يمكن القول بأنّ الله سبحانه كان يريد توفير الأرضية المناسبة ليهيّ ء بذلك ضيافته عبر أشهر متعدّدة، لا سيما العشر الأوائل من ذي الحجة.

وبناءاً عليه، يكون شهر رمضان المبارك بداية الضيافة الإلهية، فيما يكون ذوالحجة منتهاها، وذلك في موسم أداء مناسك الحج.

إن الحج ضيافة الله، والحجاج- كالصائمين- ضيوف الرحمن، تماماً كما قال الإمام الصادق (ع): «إنّ ضيف الله عزّوجل رجلٌ حجّ واعتمر، فهو ضيف الله حتي يرجع إلي منزله». (1)

ويقول الإمام علي (ع) في ذيل جوابه عن سؤال: لماذا حرم الصوم في أيّام التشريق؟ (2): «لأنّ القوم زوّار الله فهم في ضيافته، ولا يجمل بمضيف أن يصوم أضيافه». (3)

إنّ هذه الضيافة ذات الأشهر المتعدّدة تقع علي مرحلتين:

الأولي: يقول فيها المضيف لضيفه: أطلب ما تريد.

الثانية: إعطاء المضيف ضيفه ما كان طلبه منه.

فالضيافة الخاصّة بشهر رمضان المبارك توفر أرضيةً مناسبة لضيافة الحج، ففي شهر رمضان، يقول المضيف، وهو الله سبحانه، لعباده الصائمين: «اطلبوا منّي الحج»، أما في الضيافة الثانية، أي في مراسم الحج ومناسكه، فإنّ الحديث يكون عن العطاء لا الطلب.

ملاحظة

حيث كانت الولاية من أركان الإسلام والحج، جاء في أدعية شهر رمضان المبارك- إلي جانب طلب الحج وزيارة بيت الله الحرام- طلبٌ آخر، وهو التشرّف بزيارة


1- وسائل الشيعة 458: 10.
2- أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، ويحرم علي الحاضرين في مني في هذه الأيام الصيام.
3- وسائل الشيعة 159: 8- 160.

ص: 37

العتبات المقدّسة وزيارة الحرم المطهّر لرسول الله 9 والأئمة المعصومين (ع): «أللهم ... ارزقني ... زيارة قبر نبيك والأئمة (ع)، ولا تخلني يا ربّ من تلك المشاهد الشريفة». (1)

الشرف الزماني للحج

«ما من أيّام أزكي عند الله تعالي، ولا أعظم أجراً من خير في عشر الأضحي». (2)

و «ما من أيام، العمل الصالح فيها أحب إلي الله عز وجل من أيام العشر، يعني عشر ذي الحجّة ...، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشي ء من ذلك». (3)

يعتبر العارف الجليل الميرزا جواد آقا ملكي الحديثَ الثاني من هذين الحديثين النبويين أكثر أهميةً، وهو الحديث الناظر إلي عظمة العشر الأوائل من ذي الحجة وشرفها. (4)

وسرّ هذه الأهمية في الرواية الثانية حديثها عن المحبة، لا عن العظمة، ومجي ء كلمة «أحبّ» فيها، وهي أكثر دلالةً واختزاناً للمعاني من «أزكي» و «أعظم».

والظاهر أنّ أفضلية الحج وأيّامه الخاصة لم تنشأ فقط من البعد العبادي الذي فيه، وإنّما ذلك من جوانب عدّة أخري لها الدور في هذه الأفضلية، فأهم حادثة وقعت في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وهو أحد أشهر الحج، دحو الأرض، طبقاً لبعض الروايات، يعني دحو الأرض ظهور أرض الكعبة وحرم الله واتساعهما. (5)

وفي العشر الأوائل من ذي الحجة كان نزول سورة البراءة وإبلاغها بيد أمير التبرّي علي بن أبي طالب (ع) أهم حادثة تاريخية حصلت، فقد كان الآخرون علي


1- مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.
2- وسائل الشيعة 221: 10.
3- وسائل الشيعة 221: 10.
4- التبريزي، المراقبات: 326، الفصل: 12.
5- وسائل الشيعة 331: 7- 332، و 347: 9- 348.

ص: 38

أمل في أن يكلّفوا إبلاغ البراءة وقراءتها، إلا أن الوحي الذي جاء بسورة البراءة وبلاغاتها، أعطي بنفسه أمراً لكي يبلّغ تبرّيها علي يد شخص يكون بنفسه مظهراً للتولّي والتبرّي.

«لا يؤدّيها إلا أنت أو رجلٌ منك».

من هنا، كان أميرالمؤمنين علي (ع)- وهو الرسول نفسه (1)- المكلّف بتبليغها. (2)

إنّ هذه الأحداث ونظائرها تدلّل بوضوح علي أنّ زمان الحج له من هذه الجهات المذكورة فضيلة أيضاً، فكل زمان يمنحه مظروفه الشرف، وكل مكان يمنحه المكين فيه الفخر، وإلا فلا فرق بين الأزمنة في الجوهر، من حيث أجزائه، كما لا فرق في المكان وجوهره بين الأبعاد الهندسية، أي: الطول، والعرض، والعمق أو الارتفاع.

نعم، إذا ما كان لشي ء في مخزن الغيب تعيّن، فمن الممكن أن يحتوي علي خصوصية، تظهر بعد التنزّل، أمّا لو لم يكن لهذا الشي ء في رتبة الغيب أيّ تعيّن، إنّما حاز تعيّنه في المرتبة اللاحقة، فإن خصوصيته إنما تظهر في مرتبة التعيّن تلك.

تنظيم العقود باسم الحج

ولكي تبقي السنة الإبراهيمية في الحج حيّةً في ذاتها واسمها، كان الأنبياء الإبراهيميون: ينظمون عقودهم واتفاقاتهم من أبسطها إلي أهمّها في موسم الحج أو باسمه، تماماً كان الحال في الاتفاق الذي وقع بين موسي وشعيب (ع) إجارةً واستئجاراً، فقد استخدم تعبير «ثماني حجج» بدلًا من ثماني سنوات: (). (3)

إنّ تسمية هذاالشهر واشتهاره حتّي في العهد الجاهلي بذي الحجة إنّما كان لأداء


1- في سورة آل عمران، الآية 61، جاء: ....
2- بحارالأنوار 303: 35.
3- القصص: 27.

ص: 39

«حج البيت» فيه، وهذه التسمية والشهرة تدلّ علي شهرة مراسم الحج كما تدلّ علي أهمّيتها.

أبرز اتفاقات أيّام الحج ومواثيقها

إن نيل الكمال المعنوي والوصول إلي المقامات السامية يحتاج في الحدّ الأدني إلي أربعين ليلة ونهاراً متواصلة من الجهاد والسعي المخلص، «ما أخلص عبد لله عزوجل أربعين صباحاً إلّا جرت ينابيع الحكمة من قلبه علي لسانه». (1)

إن شهر ذي القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، وهي من أبرز مصاديق () (2)، أبرز فرصة لاتخاذ الأربعين المشار إليها. فعندما تشرّف موسي الكليم (ع) بمقام النبوّة الرفيع، عقد الله تعالي معه أهم اتفاق في أشهر الحج: (). (3) و (4)

وقد بدأت هذه الأربعين من بداية شهر ذي القعدة حتي العاشر من ذي الحجة، حيث تبلغ مراسم الحج وزيارة بيت الله الحرام مبلغها، وقد كان موسي الكليم (ع) صائماً علي الدوام خلال هذه الأربعين، ليلًا ونهاراً. (5)

وفي هذه الأربعين، ارتوي موسي (ع) تماماً من شوق لقاء الحقّ تعالي، وكانت حصيلتها، إضافةً إلي شهود الحق سبحانه (6)، تلقّي التوراة. (7)


1- بحارالأنوار 242: 67.
2- الفجر: 2.
3- الأعراف: 142.
4- راجع: الكافي 78: 4؛ وتفسير العياشي 25: 2.
5- الدرّ المنثور 535: 3- 536.
6- الأعراف: 143.
7- الأعراف: 145.

ص: 40

والمقصود هنا أنّ هذه المواهب والعطاءات كانت نصيب موسي (ع) في أيام إقامة مناسك الحج.

إن هذا العهد والاتفاق، واحد من أبرز الاتفاقات والمواثيق التي وقعت بين الخلق (موسي) والخالق، فيما كان عقد الإجارة بين المخلوقين (موسي وشعيب (ع)) من أبسط العقود والاتفاقات الواقعة.

ص: 41

الفصل الرابع الحج، تجسّد الأصول العقائدية

مظهر التوحيد

الخلوص شرط معتبر في تمام العبادات، إلّا أنّ تجلّيه في بعضها يبدو أكثر ظهوراً، كما وطرد الشرك أكثر قوّةً ووضوحاً، ومن بين هذه العبادات الحجّ، الذي يتجسّد فيه التوحيد، ويظلّ من بدايته وحتي نهايته، أنموذجاً للتوحيد ونفي الشرك، من هنا كان تركه كفراً. (1)

ومعني تجلّي التوحيد في الحج أن تنزّله في درجاته يصيّره حجاً، كما أنّ صعود الحجّ كذلك يبلغ به الله تعالي أو يتحوّل إلي التوحيد. يقول الإمام الصادق (ع) فيما ينقل عنه من دعاء سفر الحجّ: «... بسم الله دخلت، بسم الله خرجت وفي سبيل الله ...» إلي أن يقول: «فإنما أنا عبدك وبك ولك». (2)

وعلي أساس هذه الرواية، يغدو الحج سيراً نحو الله سبحانه، ورحلةً إلي لقائه، وسعياً للقرب منه، ومن الواضح أنّ العبد لا يقدر علي التقرّب من مولاه إلّا


1- آل عمران: 97.
2- وسائل الشيعة 279: 8.

ص: 42

بالتوحيد الدائم الأصيل، ونفي الشرك الجليّ والخفي.

الشاهد الآخر هنا كلام النبي (ص) في سفر الحج بعد حمل الجهاز علي الراحلة: «هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة»، ثم قال: «من تجهّز وفي جهازه علمٌ حرام لم يقبل الله منه الحج». (1)

وعليه، فالحج توحيد مجسّم وأنموذج من التوحيد الجامع، والتوحيد هو تلك الفطرة التي خلق الله الناس عليها، والتي لا تبديل لها ...

الوحي المجسّم

الحجّ تمثيل للوحي، ذلك أن مناسكه تجلّت بالوحي وظهرت، وقد أخذها الأنبياء عن الملاك الأمين علي الوحي جبريل (ع).

وتوضيح ذلك أنّ النبي إبراهيم (ع) طلب من الله سبحانه بعد بناء الكعبة أن يُبدي له كيفية العبادة في هذا البيت: () (2)، وبعد هذا الطلب جاءه جبرائيل، وأنجز أمامه أعمال الحجّ، ودلّه علي مناسكه بصورة عينية خارجية، ليقوم الخليل (ع) بتكرار هذه الأعمال بعده. (3)

إنّ هذه الإراءة والتعليم لم يكونا شيئاً جديداً ولا من مختصات إبراهيم (ع)، بل قد تقدّمه آدم (ع) في هذا المضمار، حيث ظهر له جبرئيل، كما ظهر أيضاً علي أفضل الأنبياء وخاتمهم (4)، فأخذ منه الرسول الأكرم (ص) مناسكه.

يقول الإمام الصادق (ع) في هذا المجال: «إنّ الله بعث جبرئيل إلي آدم، فقال: ... إن الله أرسلني إليك لأعلّمك المناسك التي تطهر بها ...». (5)


1- وسائل الشيعة 103: 8.
2- البقره: 128.
3- وسائل الشيعة 160: 8- 171.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

ص: 43

ويقول الإمام الصادق (ع) أيضاً: «كنت أطوف مع أبي، وكان إذا انتهي إلي الحجر مسحه بيده، وقبّله، وإذا انتهي إلي الركن اليماني التزمه، فقلت: جعلت فداك، تمسح الحجر بيدك وتلزم اليماني؟ فقال: قال رسول الله (ص): ما أتيت الركن اليماني إلّا وجدت جبرئيل قد سبقني إليه يلتزمه». (1)

وبعد أن اتضح أنّ الحجّ وحي ممثل، وأنّ باني الكعبة قد تعلّم مناسكه بالمشاهدة والعيان، لزم أن يكون الناس مأمورين بإقامة هذه المناسك التي ورثوها عنه، علّهم يرون بعضاً قليلًا مما كان رآه (ع)، قال تعالي: () (2)؛ ذلك أن ما يفهم من كلمة (يأتوك) في هذه الآية هو مجي ء الناس عند إبراهيم (ع)، وبلوغهم ما كان (ع) قد بلغه من قبل، لا مجرّد السفر إلي مكّة وزيارة الكعبة، ذلك أنّ هذا التعبير لا ينحصر بدائرة عمل المناسك والقيام بها.

فالوحيدون الذين يأتون إبراهيم (ع) هم أولئك الذين كانوا مثله في الوقوف بوجه عابدي الهوي والأصنام (3)، والتبرّي من الكفر والنفاق وما يعبدون من دون الله (4)، مهيئين لتلقي ألوان المخاطر (5)، بعقيدة حنيفية وسلوك كذلك (6)، وقلب سليم (7) حاضر في محضر الله تعالي.

ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات، قال تعالي: () (8)، من هنا قدّم رسول الله (ص)


1- وسائل الشيعة 419: 9.
2- الحج: 27.
3- الأنبياء 67.
4- الزخرف: 26.
5- الأنبياء: 68.
6- الأنعام: 79.
7- الصافات: 84.
8- آل عمران: 68.

ص: 44

قربانه الذي لم يقدّمه إبراهيم (ع) نفسه، ألا وهو الحسين بن علي (ع).

ومع ملاحظة النقاط المشار إليها، يتضح أمامنا سرّ عرض إمام الزمان (ع) نفسه في بداية نهضته ضدّ الظلم ولأجل العدل علي أنّه أولي الناس بالأنبياء سيما إبراهيم الخليل ورسول الله (ع): «إن القائم إذا خرج، دخل المسجد الحرام فيستقبل الكعبة، ويجعل ظهره إلي المقام، ثم يصلّي ركعتين، ثم يقوم فيقول: يا أيها الناس! أنا أولي الناس بآدم، يا أيها الناس! أنا أولي الناس بإبراهيم ...». (1)

ومن ذلك كلّه يتضح البُعد السياسي للحج، أي البراءة من المشركين وتجافيهم وإعلان الانزجار منهم، وقطع أيديهم وتدخلاتهم، ذلك كلّه بشكل واضح وعلني هو ما يمثل المناسك السياسية للحج.

المعاد المجسّم

لا يُعثر علي الحج بمناسكه الخاصة به في أي عبادة أخري، ولا يعلم تأويلها غير الله سبحانه، فهو معاد مجسّم، وحكاية عن يوم البعث والنشور، وكاشف واضح عن يوم الحشر، ذلك أن الناس تلبي هناك نداءاً واحداً علي مابينها من اختلاف في اللغات والألوان، فتجيب أمراً واحداً، وتستجيب لصرخة واحدة، ولاآمر يُصدر أوامره لهم عدا الله الواحد القهار.

إن مناسك الحج أنموذج حيّ لأحداث القيامة والحشر الأكبر، وتمثُّل جلي لحشر الناس يوم القيامة عراة في يوم معاد.

ونشير هنا إلي نماذج من تجلّي المعاد في الحجّ:

1- اجتماع الحجاج في المواقيت وعند المواقف.

2- انفراد كل إنسان لوحده في ظلّ هذا الجمع، تماماً كما هو الحال يوم


1- بحارالأنوار 59: 51.

ص: 45

المعاد، فهو وإن كان «جمعاً» تلتئم الناس فيه وتلتف حول بعضها: () (1)، (*) (2)، إلّا أنَّه يوم يعود الجميع فيه إلي الله فرادي، كما قال تعالي: (). (3)

3- فرار الناس من غير الله إلي الله تعالي، كما يقول الإمام الباقر (ع) في تفسير قوله تعالي: ففرّوا إلي الله (4): «حجّوا إلي الله عزّوجلّ». (5)

4- تعرّيهم من اللباس ومظاهر الحياة الدنيوية.

5- تجرّدهم عن زينة الدنيا وزهرتها.

6- رؤية الآيات الواضحة التي كانت مخفيةً عليهم في ديارهم.

7- خلعهم علي أنفسهم لباس الإحرام، وهو لباس شبيه بالكفن، ويستحب للحاج أن تكون قطعتا الإحرام كفنه، كما كُفّن النبي الأكرم (ص) في لباس إحرامه. (6)

8- تذلّل الحجيج وتواضعهم أمام الله سبحانه، حتي أنّهم يحجون مشاةً حفاةً بأرجل عارية، ذلك أنّه «ما عبد الله بشي ء أفضل من المشي». (7)

من هنا، حجّ الإمام الحسن المجتبي (ع) عشرين حجةً ماشياً (8)، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق (ع): «جُعل السعي بين الصفا والمروة مذلّةً للجبارين». (9)


1- التغابن: 9.
2- الواقعة: 49- 50.
3- مريم: 95.
4- الذاريات: 50.
5- وسائل الشيعة 5: 8.
6- المصدر السابق 37: 9.
7- المصدر السابق 55: 8.
8- المصدر السابق.
9- المصدر السابق 511: 9.

ص: 46

9- اعتراف الناس بذنوبهم التي ارتكبوها.

10- أمن الناس بل والوحوش والطيور.

11- حماية الحجاج من التعدّي والجدال، وكلّ ما يوجب أذية المحرم أو عذابه، وهو تجسيدٌ واضح لقوله تعالي: (). (1)

وحصيلة القول: الحج مظهر المعاد وتجسيده، وحيث كان المعاد رجوعاً إلي المبدأ كان أساساً للإسلام الكلي والخالد، لذا غدا الحج من أهم مظاهر الإسلام وأركانه.


1- غافر: 17.

ص: 47

الفصل الخامس الولاية روح الحج

تمهيد:

لا نفع للحج بدون الولاية، ولا لقصد الكعبة من دون الإمامة، ولا لحضور عرفات دون معرفة الإمام، ولا للأضحية في مني دون التضحية في طريق الإمامة، ولالرمي الجمرة دون طرد شيطان الاستكبار الداخلي والخارجي، ولا للسعي بين الصفا والمروة دون السعي لمعرفة الإمام وطاعته ... فإنّه وإن كان من أركان الإسلام ومبانيه، إلّا أنّ الحج والصلاة والزكاة والصوم لا تضاهي جميعها الولاية في ركنيتها الراسخة والقوية للإسلام، «ولم يُناد بشي ء كما نودي بالولاية». (1)

منشأ حرمة الكعبة وعزّتها

من جملة الأمور التي أقيمت عليها البراهين العقلية، ضرورة انتهاء كلّ ما بالعرض إلي ما بالذات، ووفقاً لهذا المبدأ الذي توافق عليه البرهان والقرآن، وكما أنّ كلّ عزّة- طبقاً لتصريح النص القرآني- تنتهي إلي عزّة الله سبحانه: () (2) و (). (3)


1- الكافي 18: 2.
2- لمنافقون: 8.
3- فاطر: 10.

ص: 48

وفقاً لذلك كلّه فإن حرمة الكعبة وعزّتها لابدّ أن تنتهي إلي حرمة الحقّ سبحانه وعزّته تماماً، كما إذا دار الأمر بين هدم الكعبة وهدم الحقّ فإن الكعبة تغدو حينئذ قرباناً فداءاً للحق.

ولتوضيح الأمر لابدّ من القول: للحرم أحكام تبيّن عزّته وفضيلته، وتمام هذه الأحكام ناتج عن حرمة الكعبة وعزتها، وشاهد ذلك ما جاء في الرواية عن أميرالمؤمنين (ع) حول سرّ الوقوف في عرفات، وعدم وجوب الوقوف في الحرم حيث قال: «لأن الكعبة بيته، والحرم بابه، فلمّا قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرّعون»، ثم سئل الإمام (ع) عن جعل المشعر الحرام من الحرم فقال: «لأنّه لما أذن لهم بالدخول وقفهم بالحجاب الثاني، فلمّا طال تضرعهم بها أذن لهم بتقريب قربانهم، فلمّا قضوا تفثهم تطهّروا بها من الذنوب التي كانت حجاباً بينهم وبينه، أذن لهم بالزيارة علي الطهارة». (1)

فحرمة الأرض التي احترم الله كلّ ما فيها إنما جاءت من حرمة الكعبة نفسها، إلّا أنّه مع كون الكعبة القبلة الوحيدة، ومطاف العالمين، وموت المسلمين جميعهم إلي جهتها، والقصد إليها قصدٌ للهجرة إلي الله سبحانه، وأيضاً رغم أنّ لمكّة خصائص فقهية وسياسية ثابتة، تفتقدها سائر الأماكن والبقاع والمدن، ورغم أن للحج ومواقفه أبعاداً سياسية- عبادية تفتقدها بقية العبادات ... إلّا أن تمام هذه الخصائص والمزايا مرهونة للولاية والإمامة.

وسرّ هذا الكلام أن الإرشادات والإدارات الملكوتية للأعمال والنيات، والأدعية، ومشاهدة الآيات البينات، وفهم الأسرار المعنوية للحج، وأمثال ذلك يتمّ جميعه في ظلال الولاية التكوينية للإمام المعصوم (ع)، كما أنّ الإدارة والرعاية السياسية للحج


1- وسائل الشيعة 159: 8- 160.

ص: 49

ومواقفه، وتوجيه حركة هذا الاجتماع العظيم للصالحين علي محور البناء الطاهر الحر، والاستفادة من أفكار أقطار العالم، وارتواء عطاشي الاستقلال والنجاة من الاستعباد والاستكبار العالمي، إنما يكون بالأصالة تحت مظلّة إمامة الإمام المعصوم (ع) وبالنيابة في عصر الغيبة تحت شعاع نوّابه.

ارتباط الحج وشؤونه بالولاية

ترتبط الجوانب والشؤون المختلفة للحجّ بالولاية، ونعرض هنا شرحاً لكيفية هذا الارتباط بين الكعبة والولاية، وكذلك طبيعة العلاقة بين كلّ من عرفات والمشعر ومني وزمزم والصفا و ... وبين الإمام المعصوم (ع)، وذلك في ثقافة الوحي ووفق ماجاء علي لسان الأئمة المعصومين:.

1- تتمتع مدينة مكة ودائرة الحرم كلّه ببركة خاصة إثر دعاء الخليل إبراهيم (ع)، وقد جعلت بهذا الدعاء بلداً آمناً، تماماً كما يقول الله تعالي: (). (1)

إن هذا الأمن الاجتماعي، والاقتصادي وغيره، الذي جاء بيانه في آية () (2) وآية: () (3)، إنما كان لما للكعبة من حرمة، إلّا أنّ هذا الاحترام الخاص الذي كان أساساً لقسم الله سبحانه بهذا البلد، إنما جاءها من بركات الوحي، والنبوة، والرسالة، والولاية.

وتوضيح ذلك، أن القرآن الكريم أقسم ببلاد وبقاع هامة وتاريخية، كما أقسم


1- القصص: 57.
2- قريش: 4.
3- العنكوب: 67.

ص: 50

بالزمان والأوقات الحسّاسة والتاريخية، نظير عصر الوحي والرسالة (1)، قال تعالي: (*). (2)

ففي هذه الآيات يقسم الله سبحانه بأرض مكّة، لكن قسماً مقيداً بكون نبي الإسلام (ص) فيها، وإلّا فإن مكة من دون النبي، والكعبة من دون قائد سماوي ليستا سوي أرض عادية، وبيت عادي غدا تدريجياً بيتاً لعبادة الأصنام، وأصبح أسيراً في قبضة عبدة الأوثان والسائرين خلف ميولهم وشهواتهم حتي أن «أبو غبشان» سادن الكعبة ومن بيده مفاتيحها يبيع مفتاح الكعبة وغلقها إلي رجل يدعي قصي بن كلاب مقابل بعير وزق خمر، وذلك في ليلة ثملة. (3)

2- ويعرّف الإمام السجاد (ع) نفسه وسائر الورثة الحقيقيين الإلهيين في المسجد الجامع بدمشق، بعد الحمد والثناء الإلهيين، والسلام علي النبي الأكرم (ص) فيقول: «.. أنا ابن مكّة ومني، أنا ابن زمزم والصفا». (4)

إن كلمة «ابن» وأمثالها في اللغة العربية تحكي عن علاقة شديدة وارتباط دائم ومستحكم، فالإنسان الكامل، وهو أصل حرمة المراكز العبادية، وفي الوقت عينه إبنها ووارثها، يرجع في طليعة الأمر إليها ويعمل طبق أحكامها، بل يجعل ذلك كلّه ضمن الشعارات الرسمية للموحدين، فيرغب فيها، ويرهب من الإعراض عنها أو الاعتراض عليها أو معارضتها، وفي المحصّلة النهائية: إنّه حافظ مآثرها وحارس آثارها، إن الأنبياء والأولياء الإلهيين: هم كذلك بالنسبة إلي مناسك الحج.

وبعبارة أخري: إنهم أبناء هذه المواقف العبادية بلحاظ بعض النشآت الوجودية، وهم أمراؤها وأصلها ومصدرها بلحاظ نشآت وجودية أخري.


1- العصر: 1.
2- البلد: 1- 2.
3- الميزان 362: 3.
4- بحار الأنوار 138: 45.

ص: 51

ومعني الكلام النوراني للإمام السجاد (ع) أن الابن الحقيقي لمكّة إنما هو حامي روح القبلة، وحارس قلب المطاف ونفسه، إن الابن الواقعي لمني هو ذاك الذي لايأسف علي إيثار بدم أو نثار، بغية حفظ الوحي وما فيه، إنّه يُحكم علاقته بأرض التضحية عبر الفداء والعطاء.

إنّ المولود الحقيقي لزمزم إنما هو الذي يرشّ أفضل الدماء تحت أقدام غرس الإسلام، حتي تنمو بذلك وتكبر، كما أنّ الابن الواقعي للصفا، هو الذي لا سبيل للرجس والنجس والرجز إلي حرم قلبه، فهو منزّه- طبقاً لآية التطهير (1)- عن مختلف أنواع الرجس، وكل قذارة ولوث ودنس.

عرفات دون معرفة الإمام

الإنسان الكامل هو الإمام المعصوم (ع) والذي بدونه لا حرمة للحرم ومواقفه، من هنا، فالزائر الذي لا يعرف الإمام المعصوم، ويضع جانباً مسألة الإمامة، ويتخذ إدارة أمور المسلمين في العالم هذواً وباطلًا، ويفصل ما بين قيادة سواد الناس وبين الحج والزيارة وسائر العبادات، ويراها أمراً عادياً يرجع إلي خيار كل فرد من الناس، ولايري كرامةً لهداية خلق الله وتدبير أمورهم ... لا يعرف في الحقيقة الإنسان، بل لم تطأ قدمه حريم الإنسانية، من هذا المنطلق يتحدّث الإمام الباقر (ع) عن مثل هذا الزائر والحاج فيقول: «أتري هؤلاء الذين يلبّون، والله لأصواتهم أبغض إلي الله من أصوات الحمير». (2)

ومع الأخذ بعين الاعتبار مقولة رسول الله (ص): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتةً جاهلية» (3) و «كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون، وكما


1- الأحزاب: 33.
2- وسائل الشيعة 57: 9.
3- المناقب 246: 1.

ص: 52

تبعثون تحشرون» (1)، فإن حياة الإنسان الذي لا يعرف إمامه هي حياة جاهلية، وكلّ سننها وشؤونها إنما هي جاهلية في جاهلية، ومن المؤكد قهراً أن زيارة مثل هؤلاء للبيت وحجهم سيكون حجاً جاهلياً، ولن يكون لهم نصيب من الحج التوحيدي، وسيأتي مزيد توضيح.

3- لقد أعدّ الله سبحانه عذاباً لكل من أراد بالكعبة ظلماً وقصداً سيئاً: () (2)، من هنا وانطلاقاً من هذه السنّة الإلهية التي لا تبديل فيها، والحكم الإلهي الخالد، لم تكن واقعة الفيل، والتي تلقّي فيها جيش أبرهة عذاباً إلهياً، واقعةً حصرية لا تكرار فيها، أو مجرد صدفة تاريخية.

الأمر الرئيس الذي لا ينبغي الغفلة عنه، وهذه الدراسة متكفلة لبيانه، هو أنّ الكعبة رغم قداستها الخاصة، وحمايتها- منذ قديم الأيام- من أذي حملات أصحاب الفيل وأمثال ذلك، إلّا أنّه عندما التجأ إليها ابن الزبير وتحصّن فيها، أقدمت حكومة ذلك العصر الجبارة، وعلي يد المنحوس الحجاج بن يوسف الثقفي علي قصف الكعبة بالمنجنيق وتدميرها، ثم اعتقال ابن الزبير (3)، دون أن تمتدّ يدٌ من الغيب لتفعل فعلها أو تتدخّل.

يتحدّث الشيخ الصدوق، المحدّث الشيعي الشهير، عن هذا الأمر فيقول: «وإنما لم يجر علي الحجّاج ما جري علي تبّع وأصحاب الفيل، لأنّ قصد الحَجاج لم يكن إلي هدم الكعبة، إنّما كان قصده إلي ابن الزبير، وكان ضدّاً لصاحب الحقّ، فلمّا استجار بالكعبة أراد الله أن يبيّن للناس أنّه لم يجره، فأمهل من هدمها عليه». (4)

وعليه، فاختلاف أبرهة عن الحجاج في أنّه ظالم أراد تخريب الكعبة وتدمير


1- عوالي اللئالي 72: 4.
2- الحج: 25.
3- بحار الأنوار 287: 2.
4- من لا يحضره الفقيه 249: 2.

ص: 53

القبلة، أما الحجاج فلم يكن يقصد الكعبة بسوء، بوصفها قبلةً ومطافاً، بل كان يريد- فقط- السيطرة علي ظالم مثله لم يكن يعرف إمام زمانه، ألا وهو سيد الشهداء والإمام السجاد (ع).

نعم، الحجاج كابن الزبير جرثومة لا تعرف الحق، وعنصر مناهض للولاية، وقد كان الطرفان ساعيين للإطاحة بنظام ولاية أهل البيت:، وكان خصامهم علي حطام الدنيا، لا لعدم مساعدة ابن الزبير لسيد الشهداء والإمام السجاد (ع).

ومن هذا الحدث يتضح جيداً أن معارضة الولاية والإمامة أمر منبوذ جداً إلي حدّ أنّ كلّ من يخالف قيادة الإمام (ع) ويذره وحيداً فريداً دون أن يساعده، بل يتخذ موقفاً مضاداً له، ثم يزعم لنفسه أنه داعية الولاية، لن ينعم بالأمان الخاص الإلهي حتي لو احتمي بالكعبة وقصدها.

ومن هذه الحادثة يعلم جيداً قدر الإمام وحرمة الولاية وعزّة الخلافة الإلهية، تماماً كما يعلم بالتحليل العقلي قدر حقه (الإمام) ونورانيته، وجماله، وجلاله، وكبريائه، ومشيئته، وقدرته جيداً، ذلك أن حرمة الحرم والبلد الأمين إنما تنتهي إلي الكعبة، وحرمة الكعبة تنتهي إلي الإمام الذي اختاره الله سبحانه للولاية، وحرمة الإمام تنتهي بدورها إلي الحق المطلق، أي الله تعالي الذي تخضع له تمام الموجودات وتخشع في حضرته ومكانته.

وعليه، فلو أمهل الله سبحانه ظالماً ليخرّب الكعبة، فلا ينتقض بذلك قوله تعالي: (). (1)

ملاحظة

رغم أنهم قتلوا الإمام المعصوم (ع) وغدا علي يديهم شهيداً، إلّا أنّ حقيقة الإمامة


1- الحج: 25.

ص: 54

قائمة بروحه الملكوتية التي لا مجال للشهادة فيها، ولا سبيل للموت إليها، علي خلاف بدنه الذي يعرف الشهادة، وهذا ما يختلف الحال فيه مع الكعبة التي لاوجود فيها إلّا للأحجار والأبعاد المادية.

4- ويشاهد الإمام الباقر (ع) الطائفين بالكعبة، فيقول: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية»، فلم يأت الإسلام لكي تستمرّ السنن الجاهلية، ثم يقول: «إنما أمروا أن يطوفوا، ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم» ثم قرأ: (). (1)

وعليه، فثمة وظيفتان علي كاهل القادمين من بعيد أو قريب للتشرّف بالكعبة المعظمة هما:

أ- أن يطوفوا ببدنهم حول الكعبة، بوصفها طيناً وأحجاراً.

ب- أن يطوفوا بأرواحهم حول «كعبة القلب» وحرم ولاية أهل بيت النبوة.

وعليه، فأولئك الذين جاؤوا بأرواحهم ليعرضوا ولايتهم علي أهل البيت:، ويعلنوا جهوزيتهم للتضحية والفداء وتقديم النفوس والإيثار بالمال يحققون حينئذ «حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر». (2)

5- يقول الإمام الباقر (ع): «تمامُ الحجّ لقاءُ الإمام» (3)، بعرض الولاية عليه والإعلان عن الاستعداد للفداء والتضحية؛ وعليه فالحج الذي لا ظهور فيه للإمام والقائد والمرشد سيكون حجاً ناقصاً.

نعم، ذكر الحج في هذا الحديث الشريف إنما جاء من باب التمثيل، لا التعيين، أي أنّه ليس الحج فقط حاله «تمام الحج لقاء الإمام»، بل إنّ «تمام الصلاة والصيام والزكاة


1- إبراهيم: 37؛ وانظر: بحار الأنوار 87: 65.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3 الشقشقية، المقطع 16.
3- وسائل الشيعة 254: 10.

ص: 55

لقاء الإمام» أيضاً.

ويؤيد هذا الكلام، أي أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات إنّما يتممها لقاء الإمام وتولّيه، ما جاء في قسم من الحديث المعروف الذي يتحدّث عن قيام الإسلام علي خمسة أسس، إذ- وفي إطار التأكيد علي مبدأ الولاية- يشير الحديث إلي دور «الوالي» وكونه حجةً ودليلًا علي الأركان الأربعة الأخري، فيقول: «والوالي هو الدليلُ عليهنّ». (1)

وهذه المسألة مستفادةٌ من الآية الكريمة: () (2)، فقد رضي الله سبحانه لنا الإسلام مع الولاية الإلهية، وعليه، فليس الحج وحده «تمام الحج لقاء الإمام» بل يمكن القول: «تمام الإسلام لقاء الإمام».

ونشير أخيراً إلي أنّه رغم انتهاء احترام الحرم بالكعبة، وحرمة الكعبة بالوحي والنبوّة والرسالة والولاية، إلّا أنّه- وكما أشرنا مطلع هذا البحث- تختتم تمام هذه الحرمات بالحرمة الإلهية.

من هنا ذكر الله تعالي في إطار شرحه لسبب احترام الكعبة ما جعلها تنتسب إليه فقال: () (3)، أي أنّ الحرمة الذاتية لله سبحانه هي السبب وراء الحرمة العرضية للبيت الذي ينتسب إليه، حتي لو كانت الكعبة هي الأصل في حرمة الأشياء اللاحقة.


1- الكافي 18: 2.
2- المائدة: 3.
3- البقرة: 125، والحج: 26.

ص: 56

الفصل السادس الحج و الوجه السياسي

الحج مظهر الحكومة الإلهية السامية

الحج- كما تبيّن- مظهر لأصول الدين المتينة وتجسّدٌ للعقائد الثلاثة: التوحيد، والنبوّة والعدل، تلك الأصول التي تعدّ ثماراً لشجرة الإسلام الطيبة.

وأحد أطهر هذه الثمار في هذه الشجرة الطيبة هو الحكومة الإسلامية، وهي من أهمّ مظاهر الإسلام، فالمجتمع الذي لا يديره الله ولا يسري فيه أمره مجتمع كفر وطغيان، ومعبود مثل هذه المجتمعات إنما هو الأهواء المختلفة والرغبات المتنوّعة.

بهذه المقدّمة، نصل إلي فهم أسرار بعض مضامين أدعية عرفة، فالمضمون المشترك لدعاء سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)- وهو أهم دعاء في عرفة- مع دعاء الإمام السجّاد (ع) الذي اعتبر وجودَ الإمام العادل أساساً لإحياء آثار الدين ... المضمون المشترك هو أهمية الولاية في النظام الإسلامي.

وثمة شواهد عدّة علي أن الحجّ مظهر الحكومة الإسلامية، وأن لهذه الحكومة تأثيراً علي بقائه واستمراره وتكرّره، نشير إليها هنا علي الترتيب التالي:

1- كان من أدعية إبراهيم وإسماعيل (ع) عند بناء الكعبة: (

ص: 57

). (1)

وسرّ هذا الدعاء والطلب أن الموحدين قد دعوا للحج من تمام نقاط العالم المختلفة وفي تمام الأزمنة والعصور، إذاً فلابد أن يكون هناك من ينظم أمورهم، فعلاوةً علي المناسك العبادية للحج لابد أن تكون لديهم أصول وأحكام أخري تتعلّق بحياتهم السياسية، وهذه هي الحكومة الإسلامية عينها، التي تغدو ضرورةً لتنظيم أمور الحجيج وسياستهم وإرشادهم.

إنّ الدين الذي يقول: «إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم» (2)، حاشاه أن يذر الناس علي حالهم هناك، ولا يضع علي هذا الجمع العظيم الذي لا يحصي حاكماً أو آمراً، بل يتركهم يسيّرون أمورهم بأهوائهم ورغباتهم.

وبناءاً عليه، كان لزاماً أن يكون هناك من يكون القائد لهم والرائد فيهم، حتي تنظم معاملاتهم، وتصوّب نزاعاتهم، وتنتهي خصوماتهم، وترتّب أنماط معيشتهم وعلاقاتهم ببعضهم بل وعلاقاتهم بسائر الملل والشعوب.

علي هذا الأساس، يقول الإمام علي (ع) لواليه علي مكّة: «أقم للناس الحج» (3)، والمستفاد من هذا الأمر أنّ الحجّ لم يقم بعد وفاة النبي (ص) طيلة خمس وعشرين عاماً، عنيت الحج الإبراهيمي والمحمدي. (4)


1- البقرة: 129.
2- المحجة البيضاء 58: 4.
3- نهج البلاغة، الرسالة: 67، المقطع 1.
4- إقامة الحج غير أداء الحج، لذا رغم أنّ الأئمة قد ذهبوا إلي الحج مراراً، كما كان الحال مع الإمام الحسن حيث حج ماشياً عشرين مرّة، وسائل الشيعة 55: 8، وكذا الإمام السجاد حيث حجّ اثنتين وعشرين مرة في الحدّ الأدني الكافي 467: 1، إلّا أنهم لم يستطيعوا إقامة الحج أبداً إلّا في تلك الفترة التي كانت الدولة فيها والسلطة بيد أميرالمؤمنين الإمام علي، نظراً لعدم كون الدولة في أيديهم، ولعلّه لذلك جاء في زيارة الأئمة المعصومين: «أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ...» دون إشارة إلي إقامة الحج.

ص: 58

2- يجب علي مرشد الدولة الإسلامية وقائدها، أن ينفق قدراً من بيت المال لدفع الناس إلي الذهاب إلي مكة عندما يمتنع عامة المسلمين عن الذهاب إليها أو لا يكون ذلك في مقدورهم، فيدعم مالياً العاجز، ويجبر الممتنع علي ذلك.

جاء في الحديث: «لو عطّل الناس الحج لوجب علي الإمام أن يجبرهم علي الحج، إن شاؤوا وإن أبوا، فإن هذا البيت إنما وضع للحج». (1)

وسرّ تعبير الإمام الصادق (ع) في هذا الحديث: «إنّ هذا البيت إنما وضع للحج»، هو أنّ للكعبة خصوصيات قيمة تدفع الناس للسفر إليها، فإذا لم يسافروا إليها- لقصور أو تقصير- ولم يؤدوا فريضة الحجّ عندها، كان علي والي المسلمين أن يجبرهم حتي يتجهوا ناحية البيت الحرام، ويلتحقوا بدائرة الطواف، ولا يتركوا ذلك.

إنّ هذه هي الحكومة الإسلامية التي يديرها حاكم عادل، ويكون بيت مال المسلمين في يده.

جاء عن الإمام الصادق (ع) في حديث آخر: «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان علي الوالي أن يجبرهم علي ذلك، وعلي المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (ص) لكان علي الوالي أن يجبرهم علي ذلك، وعلي المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين». (2)

ويستظهر من هذه الرواية أن زيارة الرسول الأكرم (ص) بمنزلة تجديد للبيعة معه والميثاق لتحكيم الحكومة الإسلامية.

3- قال الإمام الباقر (ع): «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار، فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم». (3)


1- وسائل الشيعة 15: 8- 16.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق 252: 10.

ص: 59

فإذا كانت الحكومة والولاية بغير معني السياسة، فلا حاجة لإخبار الإمام بالولاية وعرض النصرة عليه.

4- يتجلّي الإسلام الذي بعث به الأنبياء في التوحيد الذي يطرد مختلف أنواع الشرك وألوانه، (). (1)

ولا ينحصر هذا الإبعاد للشرك والطرد له في مجرّد الاعتقاد القلبي أو الذكر القالبي، بل يستوعب إعلان الانزجار، ونداء التبرّي، وصرخة البراءة من الطغاة الأراذل وكل متجبّر متمرّد لئيم، وهذا ما يتحقق في الحج، ذلك أنّه موضع «الإعلام» و «الأذان» بتبرّي الإسلام من ألوان الشرك، وأن المسلمين بريؤون من المشركين، وأنّه لا مودّة ولا أُلفة بين المسلمين والمشركين: (). (2)

ومفاد هذه الآية تبلور البُعد السياسي في الحجّ، وتجلّي الاستقلال الثقافي، حتي لا تبقي سيطرة لأحد من الكفار والمشركين علي أيٍّ من المسلمين، فهل يمكن أن يكون ذلك غير التجسيد لأرفع مراتب الحكومة الإسلامية في الحج؟ وهل يمكن طرد رؤوس الإلحاد وتدمير مواقعهم ومتاريسهم إلّا في ظلّ الحكومة الإسلامية؟!

إذا لم يكن للإسلام حضور سياسي في مني، وهي التي فسّر بها «الحج الأكبر» (3)، فلا يمكن إعلان البراءة من عمّال الجور وعبدة الطاغوت، تماماً كما لايمكن قيام الناس بحجم العالم، ونشر الاستقامة وتعميمها علي العالم- وهو ما بُنيت الكعبة لأجله- سوي بإقامة نظام إسلامي.


1- النحل: 36.
2- التوبة: 3.
3- وسائل الشيعة 61: 10- 62.

ص: 60

ولعلّه لهذه الأسباب أو سائر الأسرار الإلهية المستورة عنا، لم يحج سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) عام 60 للهجرة رغم مجيئه إلي مكّة، فأدي عمرةً مفردةً احتراماً للكعبة (1)، ويؤيّد ذلك، ما جاء في كلامه (ع) في دعاء عرفة حول الحكومة الإسلامية.

ولمزيد من إيضاح فكرة ظهور الحكومة في الحج وتجلّيها فيه، لابدّ من التركيز المضاعف علي ما قام به الرسول الأكرم (ص) في حجة الوداع، وما قاله للناس، وما قرّره لهم من القضايا السياسية الهامة وغيرها.

المظهر التام للتبرّي من الطاغوت

بُعث الأنبياء الإلهيون جميعهم كي لا يفرش نسر الشرك وطائره ريشه فوق قلّة هرم التوحيد، وأن لا يحرموا بشيطان الطاغوت والعصيان في حرم الوحدانية السامي (2)، فالكعبة والحج والزيارة محور التقوي، وأساس الاجتناب عن الطغيان، والتمرّد في وجه الطاغوت.

لقد أظهر المولي سبحانه مناسك الحج بالوحي لخليله إبراهيم (3)، ولا ثمر لذلك ولانتاج سوي التوحيد، وهذه المناسك التوحيدية هي التي علّمها خاتم الأنبياء (ص) لسالكي طريقه ومتّبعيه، حيث قال: «خذوا عني مناسككم». (4)

وحيث قام بناء التقوي الفولاذي علي قاعدة التوحيد التي لاتهتز أو تختلّ، وكان


1- كانت لدي الإمام الحسين عزيمة للخروج من مكّة ومنذ البداية، لا أنه شرع بعمرة التمتع، ثم أردفها بحج التمتع، فصار الحج واجباً عليه، لكنه أبدل حج التمتع بالعمرة المفردة إثر صدّه عنه، والشاهد علي ما نقول، رواية عن الإمام الصادق، جاء فيها: «.. وإنّ الحسين بن علي خرج يوم التروية إلي العراق، وكان معتمراً». أنظر: وسائل الشيعة 246: 1.
2- النحل: 36.
3- البقرة: 128.
4- عوالي اللئالي 215: 1.

ص: 61

الحج هو التجسيد الجلي للتوحيد؛ قال الله سبحانه- ضمن إصداره أوامر الحج-: (. ...). (1)

وحول الأضحية- وهي من مناسك الحج- التي كانت ممتدّة في تاريخ السنن والعادات الجاهلية مشوبةً بالشرك، يكلّمنا الله تعالي في إرشاد تقوائي فيقول: () (2)، أي يناله الاجتناب عن الذنوب، والقيام ضدّ العاصي، والتورّع عن المعصية، والثورة ضدّ المذنبين المتمرّدين، والإمساك عن العصيان، والصرخة ضدّ العاصي، والاجتناب عن الطغيان، والهجوم علي الطواغيت و ...

كلّ عبادة هي تبرؤ من الشرك وانزجار من الطاغوت، أما الحج فهو عبادة خاصة امتزجت بالسياسة واختلطت، وإن حضور مختلف شرائح المجتمع العالمي وطبقاته يمثل ظرفاً مناسباً لتجلي روح هذه العبادة- كسائر العبادات الإلهية- في هذا الجمع العظيم، وظهور هذه العبادة الممتازة في تلك الساحة ظهوراً تاماً.

من هذا المنطلق، أمر رسولُ الله (ص)- بأمر من الوحي الإلهي- الناطقَ باسم الحكومة الإسلامية- وهو علي بن أبي طالب (ع)- أن يعلن البراءة من المشركين (3)، حتي تمتاز بشكل قاطع حدود التوحيد عن الطغيان والشرك، وتتخارج صفوف المسلمين المتناسقة عن صفوف الكفار، فتظهر- عبر ذلك- الصورة السياسية العبادية للحج، ويحمل زوّار الكعبة زاد التوحيد معهم مع استماعهم إلي قرار الحكومة الإسلامية الصادر بالانزجار من الشرك، وإعلان نبذ الصلح والمصالحة مع المشركين. (4)

من هنا، ينتشر قرار التوحيد وإعلانه ببركة الكعبة في أقطار العالم المختلفة، تماماً


1- البقرة: 197.
2- الحج: 37.
3- بحارالأنوار 303: 35.
4- التوبة: 3.

ص: 62

كما يتوجه المسلمون كافة في الكثير من شؤون حياتهم ناحية الكعبة.

محور البراءة من المشركين

لا كمال أرفع ولا أسمي من نيل التوحيد الأصيل الخالص، ولا يمكن ذلك ولايتسنّي إلّا بالتنزه والتبرّي التام من مختلف ألوان الشرك والإلحاد، والرفض لكلّ مشرك وملحد.

من هنا، جعل الله سبحانه الكعبة بيت التوحيد، واعتبرها محوراً للبراءة من الذنوب والعصيان والتهاوي، بل مهّد لذلك وهيأ سبله عبر الأمور التالية:

أولًا: أصدر المولي سبحانه وتعالي أوامر لخليله إبراهيم (ع) بعد إتمام بناء البيت العتيق الطاهر، بيت المواساة والمساواة، وبعد تشريع قرار الأمن للحرم أمام الضيوف والزوار والركع السجود والعاكفين والطائفين، فقال: (). (1)

والهدف من هذا الإعلان العام دعوة أولئك القادرين علي الحضور بشكل طبيعي ومتعارف.

ثانياً: عندما يأتي الجميع، من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، ومن القريب والبعيد ... فيشتركون في هذا الملتقي الشامل الواسع، تصل النوبة للإعلان المحمدي والأذان، من هنا قال تعالي: (). (2)

كان هذا الإعلان الذي سبق مقدّمةً للإعلان الثاني، الذي هو الهدف النهائي لبناء الكعبة، وإعلامه هذا الهدف النهائي يعني الوصول إلي التوحيد متبلوراً علي صورة


1- الحج: 27.
2- التوبة: 3، ومن مصاديق أيام الحج الأكبر في هذه الآية الكريمة يوم عرفة، ويوم عيد الأضحي، تماماً كما الحج الأكبر قياساً بالعمرة، والعمرة قياساً إليه حج كبير.

ص: 63

إعلان براءة الله ورسوله الأكرم (ص) من المشركين، ومادام الإنسان حياً يرزق علي وجه البسيطة، فإنّ الحج والزيارة يبقيان في عهدته وضمن مسؤولياته، ومادام ثمة مشرك في هذا العالم كان إعلان البراءة منه جزءاً من أهم وظائف الحج.

بهذا تتضح مسؤولية نهوض الأمّة لتطهير الكعبة المقدّسة من ولاية الطغاة والنفعيين الوصوليين، أولئك السرّاق الذين قال عنهم الإمام الصادق (ع): «أما إن قائمنا لو قد قام لقد أخذهم، فقطع أيديهم، وطاف بهم، وقال: هؤلاء سرّاق الله». (1)

إنّ القيام لتطهير الكعبة وتخليصها من يد الأشرار شريعة إبراهيمية، لا يصرف النظر عنها سوي فاقد العقل، (). (2)

وحيث كان رسول الله (ص) ومن اتبعه وآمن به أولي الناس بإبراهيم، وهو الذي طهّر الكعبة من ألوان اللوث والنجاسة والخسّة و ... (3) فعلي الأمة الإسلامية اليوم أن تطهّر بيت الله سبحانه من مختلف القبائح والدنائس والنجاسات.

نعم، ليس المقصود مجرّد إبعاد الجسم المادي للمشرك حتي يُقال: لا مشرك في الحجاز اليوم كي يحصل التبرّي منه في موسم الحج! بل المراد من البراءة إعلان الرفض والتنديد والانزجار من كل فكر مشوب بالشرك، وكلّ تمدّن باطل لأولئك الذين تأثروا بهذا الشرك، وكل استعمار ظالم للملحدين، وكل استثمار طاغ للماديين، وكل استعباد قاس مجحف للمستكبرين، وكلّ استعمار سامري (4) للإسرائيليين، وكل استضعاف ماكر للدول العظمي.

والحج أهم الأمكنة التي يتجلّي فيها هذا الأمر، وقمم هذه النهضة، حيث يلزم علي المسلمين فيه حفظ حرمة الله تعالي، والسعي لرفع عزة الحقّ عالياً، والتقوّي بقوّته، وأخذ


1- وسائل الشيعة 355: 9.
2- البقرة: 130.
3- آل عمران: 68.
4- نسبة إلي السامري الذي جاء ذكره في القرآن الكريم.

ص: 64

المدد والعون منه، والتخلّق بالأخلاق الإلهية، حتي لا يصيروا موضعاً لظلم الظالمين وبطشهم، فالحج هجرة إلي الله تعالي، يقصده الناس لأداء مناسكه من مختلف نقاط الدنيا.

ص: 65

القسم الثاني: أماكن الحجّ

القسم الثاني أماكن الحجّ

الفصل الأول الميقات

وجوب الإحرام من الميقات

ص: 66

من الأمور الهامّة في الحجّ والعمرة (1)، معرفة مواقيت الإحرام، ذلك أن عقد الإحرام


1- الحجّ في اللغة، القصد المكرّر، أما في الإصطلاح، فيُقصد به إنجاز الأعمال الخاصة في أيّام محدّدة في أرض مكة المكرّمة. أما العمرة، فتعني في اللغة الزيارة، واعتمرَ أي زار مجمع البحرين 1270: 2، مادة: عمر، وحيث كانت الزيارة باعثةً علي عمران مكانها ومحلّها، سمّيت زيارة بيت الله الحرام عمرةً واعتماراً. والحجّ والعمرة أعمالٌ تعبّدية، لا توصلية؛ حيث يستفاد ذلك من تعبير «لله» الوارد في قوله تعالي: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ ... البقرة: 196 نعم، لهذه الأعمال العبادية منافع أيضاً، قال سبحانه: وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلي كُلِّ ضامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ الحج: 27- 28، و هو أمرٌ لا ينافي العبادية، كما لا يستلزم التوصلية. ويقع الحجّ علي أنواع ثلاثة: التمتّع، والقران، والإفراد؛ فحجّ التمتّع مركّب من عبادتين: إحداهما عمرة التمتّع، وثانيتهما حج التمتّع، أمّا عمرة التمتّع فتقدّم علي حجّ التمتّع، وتتألّف من خمسة أجزاء هي: 1- الإحرام 2- الطواف حول الكعبة. 3- صلاة الطواف. 4- السعي بين جبلي الصفا والمروة. 5- التقصير، أي أخذ مقدار من شعر الرأس أو الأظافر. ويتألّف حج التمتّع من ثلاثة عشرة عملًا هي: 1- الإحرام من مكّة. 2- الوقوف بعرفات. 3- الوقوف بالمشعر الحرام. 4- رمي جمرة العقبة في مني. 5- ذبح الأضحية في مني. 6- حلق الرأس في مني أو تقصيره. 7- طواف الزيارة في مكّة. 8- صلاة الطواف. 9- السعي بين الصفا والمروة. 10- طواف النساء. 11- صلاة طواف النساء. 12- المبيت في مني ليلتي الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجّة، وبعض الحجّاج يجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر أيضاً. 13- رمي الجمرات الثلاث في يومي: الحادي عشر والثاني عشر، وعلي من بات في مني ليلة الثالث عشر أن يرجم صبيحتها أيضاً. أمّا العمرة المفردة، فإضافةً إلي الأعمال المتقدّمة في عمرة التمتّع، هناك عملان آخران واجبان فيها هما: طواف النساء، وصلاة طواف النساء، ويجب إنجاز هذين العملين بعد الحلق أو التقصير. وللتعرّف علي أجزاء هذه العبادات وشرائطها تراجع كتب مناسك الحج.

ص: 67

من مصاديق إتمام الحج والعمرة، وهو- أي الإتمام- ما جاء الأمر الإلهيّ به (1)، جاء في الحديث: «من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت ...». (2)

والميقات مكانٌ خاص، والمواقيت أماكن محدّدة عيّنها رسول الله (ص) علي أساس الوحي الإلهي لأهل الأقاليم، والجدير ذكره أنّ رسول الله (ص) حدّد مواقيت لأهل أفريقيا، وأهل الشام والعراق، يُحرمون منها عند ورودهم الحرم الشريف مع أنّه لم يكن بعدُ قد تشرّف أحد في تلك الديار بشرف الإسلام، بل إنّ المدن الرسمية والمعروفة في العراق لم تكن- وفق بعض المنقولات- قد ظهرت بعدُ عند تحديد النبي (ص) للمواقيت. (3)

والمواقيت الخاصّة المحدّدة خمسة أو ستة، إلّا أنّ المواضع التي يصحّ فيها الإحرام للحجّ والعمرة تبلغ العشرة تقريباً، وللمواقيت المعينة خصوصية، أنّها المكان الوحيد المناسب لحدوث الإحرام فيه، فلا يجوز تقديم الإحرام عنها أو تأخيره، أللّهم إلّا في حال الضرورة أو النذر أو لإدراك إحرام شهر رجب.

والجدير ذكره أن الدخول إلي الحرم لا يجوز إلا محرماً، ليس هذا فحسب، بل إن العبور عن المواقيت لمن يقصد الحرم لا يجوز له إلّا في حال الإحرام أيضاً.

والميقات لا يقبل التغيير، تماماً كسائر المواقف مثل عرفة والمشعر ومني، وإذا ما صار جزءاً من قرية أو مدينة نتيجة حصول توسعة فيهما يبقي له حكمه دون


1- البقرة: 196.
2- وسائل الشيعة 222: 8.
3- يقول الإمام الصادق 7: «فإنّه وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذ عراق» انظر: وسائل الشيعة 8: 222.

ص: 68

تعديل، فالتنعيم مثلًا- وهو أحد مواقيت العمرة- كان سابقاً خارج حدود مكّة، إلّا أنّه غدا اليوم- بعد اتساع المدينة- داخلها، ومع ذلك لم يخرج عن صفة الميقات التي كان يملكها.

وثمّة أفكار كثيرة يمكن استفادتها من النصوص الواردة في بيان المواقيت، نحاول هنا الإشارة إلي بعضها وهي:

1- إنّ تعيين الميقات المكاني إنما نشأ- كالميقات الزماني- من جانب الشارع المقدّس وطبقاً للسنّة الدينية، لا من ناحية عادات الناس.

2- إنّ تعيين مواقيت لأبناء بعض البلدان والمدن التي لم تكن قد ظهرت بعدُ، أو لأناس لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام هو- كما أشرنا من قبل- إعجاز ديني.

3- للأحكام الشرعية كافة أصل في الوحي الإلهيّ، مع أنّه لم تبيّن علل كلّ حكم معه، إلّا أنّ بعض المواقيت، مثل ذي الحليفة قد جاء فيه: «قلت لأبي عبدالله (ع): لأيّ علّة أحرم رسول الله (ص) من مسجد الشجرة ولم يُحرم من موضع دونه؟ فقال: لأنّه لما أسري به إلي السماء وصار بحذاء الشجرة نودي يا محمد! قال: لبيك، قال: ألم أجدك يتيماً فآويتك، ووجدتك ضالًا فهديتك؟ فقال النبيّ (ص): إنّ الحمد والنعمة والملك لك كلها لا شريك لك، فلذلك أحرم من الشجرة دون المواضع». (1)

ورغم ما للميقات من حرمة خاصّة، إلّا أنّ تلك المكانة إنّما أخذها من كونه موضعاً للإحرام، وحيث قام الإسلام علي السهولة والسماحة، لا سيّما في الحجّ والعمرة حيث لا تكرار فيهما يومياً كالصلاة حتي تكون أحكامه عند الجميع .. من هنا فلو تجاوز شخص عن غفلة أو قصور أو ذهول أو سهو ونسيان عن موضع الإحرام وميقاته دون أن يحرم، ثمّ دخل الحرم وهو علي هذه الحال، وأنجز تمام أعمال الحجّ والعمرة طبقاً للضوابط المعهودة، ثمّ التفت آخر العمل أنّه لم يعقد


1- وسائل الشيعة 225: 8.

ص: 69

الإحرام، كانت أعماله بتمامها صحيحةً، فلا حاجة له إلي الإعادة أوالقضاء.

ص: 70

الفصل الثاني الحرم الإلهي

اشارة

الحرم موضع مكاني محدّد، يختلف بُعد حدوده عن الكعبة من الجهات المتعدّدة، فيحدّه من ناحية الشمال والشمال الغربي مسجد التنعيم علي طريق المدينة، ومن الجنوب والجنوب الشرقي «إضاءة اللبن» علي مسير اليمن، ومن الشرق والشرق المائل إلي الجنوب «الجعرانة» القريبة من مني والمشعر الحرام علي طريق الطائف، ومن الغرب والغرب الشمالي «الحديبية» علي مسير جدّة.

وقد وُضعت لتعيين حدود الحرم من الأطراف كافّة علائم وعلامات.

ويجيب الإمام علي بن موسي الرضا (ع) عن سؤال وجّه إليه عن سبب اختلاف حدود الحرم في بعدها عن الكعبة من الجهات المتعدّدة، ففي بعضها قريبة وفي بعضها أبعد؟: «إنّ الله عزّ وجلّ لمّا أهبط آدم من الجنّة هبط علي أبي قُبيس، فشكا إلي ربّه الوحشة، وأنّه لا يسمعُ ما كان يسمعه في الجنّة، فأهبط الله عزّ وجلّ عليه ياقوتةً حمراء، فوضعها في موضع البيت، فكان يطوف بها آدم، فكان ضوؤها يبلُغُ موضع الأعلام، فيعلّم الأعلام علي ضوئها وجعله الله حرماً». (1)

وقد نقل هذا المضمون بطريقة أخري عن الإمام الباقر (ع)، وطبق هذا النقل، فإنّ الله


1- الكافي 195: 4- 196.

ص: 71

تعالي أمر جبرئيل؛ لتسكين آدم (ع) وحواء، بالذهاب إليهما، «فأهبط عليهما بخيمة من خيم الجنّة .. وأنصب الخيمة علي التُرعة ..»، ويضيف الإمام الباقر (ع) ما هو قريب من الرواية السابقة: «الترعة مكان البيت .. وكان عمودُ الخيمة قضيب ياقوت أحمر، فأضاء نوره وضوؤه جبال مكّة وما حولها .. فهو مواضعُ الحرم اليوم من كلّ ناحية من حيث بلغ ضوءُ العمود .. فجعله الله حرماً لحُرمة الخيمة والعمود؛ لأنّهما من الجنّة ..». (1)

أمن الحرم

اشارة

لقد أحيا النبي إبراهيم (ع)، وهو شيخ الأنبياء الإبراهيميين، سنّةً وسيرةً، إلا أنّ بعض أعماله وبعض مناجاته تعدّ من جوامع الكلم، فطلبه صيرورة هذا المكان بلداً، وأمناً مطلقاً، ومجمعاً لثمار مختلفة من أقطار العالم، والتنبؤ بصيرورة مكان غير ذي زرع أمَّ القري وغيرها من الكلمات الجامعة له (ع)، ذلك كله يقع في صراط تأسيس نظام التوحيد، ونشر الإيمان والعمل الصالح، والقيام بتنمية شاملة للمعارف العقائدية، والأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية، ذلك أنّها إذا كانت موضعاً لسكان أرضها الآمنة فحسب لم تكن- أبداً- أمّ القري، فنواحيها ليست بالمكان الآمن، وقطّاع الطرق في عمق الصحراء المحيطة سوف يقطعون أيّ نوع من أنواع الارتباط، مما سيمنع تردّد أبناء الأطراف المحيطة إليها، كما لن تصل محاصيل أطرافها من القريب والبعيد إليها، ولن تكون سوقاً رسمية.

يمكن للحرم الإلهي وأرض مكّة أن تحمل علي عاتقها مسؤولية العالمية بل العولمة الصحيحة، وذلك:

أولًا: توفير مايمكّنها من أن تصير أمّ القري، وتبعيّة نواحيها لها، ورغبة الناس


1- الكافي 195: 4- 196.

ص: 72

وشوقهم للمجي ء إليها.

ثانياً: إنها مركز التوحيد، أي أنّها تستوعب بين جنباتها الكعبة، وهي القبلة والمطاف أيضاً.

ثالثاً: وصول نداء باني الكعبة، نبينا إبراهيم (ع) الذي بناها بأمر من الله تعالي، وهو صاحب البيت، ذاك النداء الداعي للحضور إلي ساحة هذا البيت بغية الحج والعمرة ... وصوله إلي أسماع العالم بأقطاره ونواحيه، ومن الثابت أنّ فضيلةً عظيمةً معدّة لامتثال هذا الأمر الإلهي الإلزامي.

إن سرّ تقديم الأمن علي الدعوة إلي الحجّ والعمرة، وعلي جلب أنواع الثمار من النواحي القريبة والبعيدة إلي هذه الأرض الطيبة هو أن الأمن أطيب النعم الفردية والاجتماعية للإنسان وأجملها وأحبّها إلي قلبه، ففي ظلّ الأمن تتحقق سائر البركات المفقودة، كما أن فقدانها يصاحبه زوال هذه النعم الموجودة.

ومن أبرز مصاديق الأمن ومظاهره، الأمن الثقافي والفكري، ووجود مناظرات ثقافية سليمة؛ ذلك أن الحوار وتضارب الآراء، والصبر علي آراء الآخرين العلمية المنصفة، يلعب دوراً رئيساً في وضوح الحق وجلائه، ومحو الباطل واندثاره.

لقد كان إبراهيم (ع) رائداً في الحوارات العلمية، وفي الجدال بالتي هي أحسن، بل في تمام الخصال والسجايا الأخلاقية الكبري، وقد كان الأئمة المعصومون من نسل طه وأسرة ياسين (ص) يعتبرون جوار الكعبة مدرسةً للحكمة ومعهداً للجدال بالتي هي أحسن.

إشارة: كانت الكعبة في بنائها الأصلي موجودةً منذ عصر آدم الصفي (ع)، لكنّها انهدمت تدريجياً وتركت، وتمّ تجاهلها إلي أن بناها إبراهيم (ع) خليل الرحمن، وما حصل علي صعيد بنائها وبنيانها حصل أيضاً- كما تشهد به بعض المعطيات

ص: 73

الروائية- علي صعيد الأمن فيها والأمان، فقد كانت الكعبة مكان آمناً في البداية، ثمّ فقدت أمنها تدريجياً، ليعود لها مرّةً أخري مع النبي إبراهيم (ع).

وهنا، يجدر الاهتمام بأنّ دعاء النبي إبراهيم (ع) قد حقّق لأرض مكّة أمنها وأمانها، لا للكعبة وحدها، وإلّا فأمن الكعبة لم يتحقق بطلب إبراهيم (ع) وإنّما صار أن جعلها الله منذ البداية مثابةً ومطافاً، وقبلةً، وأمناً.

وأمن الحرم علي قسمين: تشريعي، وتكويني، وسوف يتكفّل ببيان هذين النوعين من الأمن المبحثان التاليان.

1- الأمن التكويني

وفقاً لظواهر الأمور، يفترض بأرض مكة أن تكون أرضاً غير آمنة، ذلك أن طبع أبناء الحجاز من جهة كان علي الاعتداء والغارة، كما أنّهم- من جهة أخري- ما كانوا ينعمون بالعلم، والثقافة، والزراعة، وتربية المواشي، والصناعة و .. بل إن الشعب الفاقد للثقافة والجائع في الوقت عينه من الطبيعي أن يكون عدوانياً يعيش علي الهجمات والغارات.

إلا أنّه، رغم ذلك كلّه، قال تعالي: () (1) وقال: (). (2)

وطبقاً للمبدأ عينه، عاشت قريش النعمة والأمن من الجوع والخوف، قال سبحانه: (). (3)

ويحدّثنا الله تعالي عن الأمن التكويني للحرم فيقول: (


1- القصص: 57.
2- آل عمران: 97.
3- قريش: 4.

ص: 74

) (1)، كما أنّ الله تعالي يحدّثنا عن مكّة كيف كان خطف الناس رائجاً في أطرافها، لكنّ الله جعل أرضها حرماً آمناً، لا لأنّ سكّان الحرم الإلهي ومدينة مكة قد غدوا أناساً صالحين، بل لأنّ الناس تفهم حرمة الحرم وتقوم بحقه، قال تعالي: () (2)، وحيث كان الخطف أمراً تكوينياً فإن الأمن الذي يقابله سيكون تكوينياً أيضاً.

ويستفاد جيداً من الآيات المذكورة المرتبطة بعصر الجاهلية أن خطر الهجمات والغارات والخطف وقطع الطرق كان قائماً خارج نطاق الحرم، أمّا في الحرم فلم يكن كذلك، فحكم الأمن تشريعاً إنما جاء بعد الإسلام، والقرآن الكريم عندما يذكر الأمن في الحرم في العصر الجاهلي إلي زمان الإسلام وإلي ما بعده أيضاً فإنما يقدّم ذلك شاهداً ومستنداً له.

يقول الإمام الصادق (ع) حول أمن الحرم: «من دخل الحرم من الناس مستجيراً به فهو آمن، ومن دخل البيت مستجيراً به من المذنبين فهو آمن من سخط الله، ومن دخل الحرم من الوحش والسباع والطير فهو آمنٌ من أن يُهاج أو يؤذي حتي يخرج من الحرم». (3)

ولابدّ من الالتفات إلي أن الإعلان عن أمن الحرم المكي لا يعني حرية أيّ إنسان في أن يقوم بما يشاء فيه، ذلك أنّ الله تعالي يحدّثنا عن أناس كانوا يعيشون بأمن في بلادهم غير أنّ الله أغرقهم بالخوف والجوع والاضطراب إثر كفرهم بنعمه، قال تعالي: (


1- القصص: 57.
2- العنكبوت: 67.
3- وسائل الشيعة 339: 9.

ص: 75

). (1)

وعليه، فالأمن التكويني للحرم لا يعني أنّه لا تقع فيه مذابح ومظاهر قتل، بل بمعني أنّ الله سبحانه جعل هذه الأرض- علي أساس من لطفه- مأمناً، أمّا لو ضلّ الناس فيها سبيلهم، فإن الله ينزل عليهم العذاب.

ومن خصائص مكّة أنّه لا يمكن لحكم ظالم جائر أن يدوم عليها لسنين طويلة، نعم، من الممكن لدولة في الحجاز مع عاصمة مثل الرياض أن تقوم ببعض ألوان الظلم الفردي أو الاجتماعي، إلّا أنّه لا يمكن في مكّة ممارسة ظلم إلحادي ذي صبغة كافرة، ذلك أن الآية الشريفة: () (2)، تهدّد خصوص من يقوم بذلك، أي بالظلم الإلحادي، لا غيره، وفي خصوص الحرم لا خارجه، والظلم الحقوقي بالأشخاص الحقيقيين أو الحقوقيين مغايرٌ للظلم الإلحادي الذي يصاحبه كفرٌ وإلحاد.

وحصيلة الكلام، ليست مكّة كالجنة لا يقع فيها معصية أو انحراف (3)، إلا أنّها- مع جريان أحكام الدنيا عليها- تمتاز عن كثير من البقاع في الأرض، ومن جملة هذه الامتيازات أنّه لو أراد بها شخص سوءاً عن ظلم وكفر فسوف يلقي عذاباً شديداً. (4)

ومن الجدير ذكره، أنّ الأمن التكويني للحرم نسبيّ بلحاظ مكّة، ونفسيّ بلحاظ الكعبة، بمعني أنّه من الممكن لله تعالي أن يعاقب في مكة لينبّه الكافرين والمذنبين، إلّا أنّه لا يمكن لأحد أن يواجه أصل الكعبة- وهي قبلة المسلمين ومطافهم- وإذا ما


1- النحل: 112.
2- الحج: 25.
3- الطور: 23.
4- الحج: 25.

ص: 76

خرّب بعض المعاندين- في بعض حقب التاريخ البشري- الكعبة فهو لكي يلقوا القبض علي بعض المتحصّنين بها، لا لمواجهتها ومحاربتها نفسها، من هنا أقدموا مرّتين علي إعادة بنائها.

2- الأمن التشريعي

يجمع دعاء النّبي إبراهيم (ع)، والذي طلب فيه من الله سبحانه الأمن والخير الإقتصادي لمكّة وساكنيها، بين التكوين والتشريع، قال تعالي: (). (1)

إن الأمكنة والأزمنة المرتبطة بالدين هي المعتمد الوحيد لأمن البشر، والأشياء، والأفراد، من هنا جعل الله سبحانه بعض البلاد، والأزمنة، والأشخاص، والأشياء معالم أمن، تماماً كما أعلن احترام الحجّ بأطرافه عادّاً له من الشعائر الإلهية بغية بيان هذا الأمن وتثبيته شاملًا لأطراف الحرم وسكانه وزوّاره.

قال سبحانه: (). (2)

وعلي هذا الأساس، أصدرت قوانين عديدة لحفظ الأمن ومطابقة التشريع للتكوين، مثل حرمة حمل السلاح حال الإحرام، إلّا مع الضرورة، وكذا حرمة إظهار السلاح في غير حال الإحرام بحيث يسبّب ذلك إحساساً بعدم الأمن لدي زوار بيت الله الحرام.

والأمن التشريعي للحرم محفوظ دوماً، فلا يجوز خرق حرمة الحرم إلّا في فترة محدودة هي فتح مكّة، أللّهمّ إلّا إذا هاجم الآخرون المسلمين، وكسروا حرمة الحرم،


1- البقرة: 126.
2- المائدة: 2.

ص: 77

فيجوز عندها سلب الأمن عنهم، علي أساس قوله تعالي: () (1)، وقوله سبحانه: (). (2)

ولتوفير أفضل السبل لتربية الناس وإقامة السلام والأمن وإقرارهما، أكّدت التشريعات علي الحدّ من بعض التصرّفات، وأعلنت حرمةً شاملة للحرم وأمناً واسعاً له ولحال الإحرام أيضاً، من هنا أعلنت الأشهر الأربعة الحرم أمناً شاملًا، سواء كان هناك حج أو عمرة أو لم يكن، وكذلك في الأشهر التي يسافر فيها الحجّاج، وهي أشهر قد تطول- سابقاً- أحد عشر شهراً.

والجدير ذكره هنا، أن نعمة الأمن والأمان وإن كانت عظيمة القيمة، إلّا أن هذا الإصرار علي إقامتهما يلفت نظر الباحث الحصيف إلي أنّه لا بدّ في تلك المنطقة من إنجاز أعمال لا تُنجز- علي ما يبدو- سوي مع وجود إحساس بالأمن والهدوء والطمأنينة، فإذا ما كانت هذه الأعمال مجرّد المناجاة والزيارة والطواف وأمثالها دون إعلان الغضب والتنديد بوجه الطغاة والمعتدين والعاصين، فلن يعيق هؤلاء عن تحقيق الأمن، ومن ثمّ ستكون كلّ هذه النصوص المصرّة علي مسألة الأمن لغواً وعبثاً.

ملاحظة

سوف نتحدّث- بإذن الله تعالي- عن قسم آخر لمبحث الأمن التشريعي، لدي الحديث عن «الخصائص الفقهية للحرم».

ساحة أمن ولاية المعصومين:

استناداً إلي بعض الروايات، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما تقدّم عند الحديث عن قوله تعالي: () (3)، فإن كل داخل في الاعتقاد بالإمامة والالتزام


1- البقرة: 194.
2- البقرة: 191.
3- آل عمران: 97.

ص: 78

بالولاية هو في أمن وأمان، وطبقاً لهذا النمط من الروايات لايراد الإطلاق من الآية الشريفة المشار إليها، ذلك أنّه من الممكن أن ينفذ الكفّار والملحدون وأصحاب العقائد الباطلة إلي داخل الكعبة، والحال أنّهم ليسوا في أمان.

وعليه، فالمراد- كما يقول الإمام الصادق (ع)-: «من دخله- وهو عارف بحقّنا كما هو عارف له- خرج من ذنوبه وكفي همّ الدنيا والآخرة». (1)

وفي رواية أخري للإمام الصادق (ع) وضمن مناظرة جرت بينه وبين أبي حنيفة جاء فيها: «.. فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ: () (2)، أين ذلك من الأرض؟ قال: أحسبه ما بين مكّة والمدينة، فالتفت أبوعبدالله الصادق إلي أصحابه فقال: تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكّة، فتؤخذ أموالهم ولا يأمنون علي أنفسهم ويقتلون؟ قالوا: نعم، قال: فسكت أبوحنيفة، فقال: يا أباحنيفة! أخبرني عن قول الله عزّوجلّ: () أين ذلك من الأرض؟ قال: الكعبة ... فقال أبوبكر الحضرمي: جعلت فداك الجواب في المسألتين الأولتين؟ فقال: يا أبابكر! () مع قائمنا أهل البيت، وأمّا قوله تعالي: () فمن بايعه ودخل معه، ومسح علي يده، ودخل في عقد أصحابه، كان آمناً». (3)

نعم، المراد هنا الأمن المطلق: التشريعي، والتكويني.

الخصائص الفقهيّة للحرم


1- تفسير العياشي 190: 1.
2- سبأ: 18.
3- بحارالأنوار 292: 2- 294.

ص: 79

لمنطقة الحرم خصوصيات فقهية كثيرة، نشير هنا إلي بعضها:

1- لا يوجد علي سطح المعمورة مكان غير هذا المكان يُشترط لوروده، حتي في غير موسم الحج، الإحرامُ من أحد المواقيت المقرّرة، من هنا، فدخول غير المسلم إلي الحرم ممنوع؛ ذلك أنّه يلزمه الإحرام، وإحرام الكافر غير صحيح، والموارد الاستثنائية لهذا الحكم الكلّي العام بالغة القلّة.

2- لا يقتصر منع دخول المشركين إلي الكعبة والمسجد الحرام، بل يتعدّي ليشمل مكّة والحرم كلّه، قال سبحانه: () (1)، فيجب علي المسلمين تنزيه هذا المكان وطرد هؤلاء المشركين منه. (2)

3- يحرم تعذيب أيّ شخص يدخل الحرم أو إيذاؤه، أللّهمّ إلّا إذا جني جنايةً خارجه، ثمّ احتمي بالحرم والتجأ إليه، وفي هذه الحالة تحرم مبايعته، وكذا حمايته وإجارته وعاريته البيوت، كما يحرم إعطاؤه الطعام أو بيعه له.

ومثل هذه الضغوطات والمتاعب عليه إنّما تهدف إلي إجباره علي الخروج من الحرم كي تقام عليه الحدود الإلهية.

لقد بلغ الاهتمام بحريم الحرم الإلهي حدّاً، أن يسأل سماعة بن مهران الإمام الصادق (ع) فيقول: «سألته عن رجل، لي عليه مال، فغاب عنّي زماناً، ثمّ رأيته يطوف حول الكعبة، أفأتقاضاه مالي؟ قال: لا، لا تسلّم عليه، ولا تروّعه حتّي يخرج من الحرم». (3)

4- لو ارتكب شخص جناية في الحرم أو جرماً جري عليه الحدّ فيه، ذلك أنّه لم


1- التوبة: 28.
2- وسائل الشيعة 344: 9.
3- المصدر السابق: 365.

ص: 80

يرع حرمة الحرم، لذا لزمه قصاصه من هذه الناحية، قال سبحانه: (). (1)

وقد قال الإمام الصادق (ع) حول من قتل في الحرم أو سرق: «يُقام عليه الحدّ في الحرم صاغراً؛ لأنّه لم يَرَ للحرم حرمةً، وقد قال الله عزّ وجلّ: () (2)، فقال: هذا هو في الحرم، وقال: () (3)». (4)

إنّ ما يقتضيه قوله تعالي: () أنّ إعدام القاتل واجب، بيد أنّ إهانته حرام، أمّا هنا فتغدو إهانته راجحة؛ ذلك أنّه تجاهل الحرمات والمقدّسات ولم يقدّرها أو يحترمها، ومعه فلا يصح أن يحترم هو أيضاً.

إنّ الكعبة بمنزلة كرامة المسلم وشرفه؛ من هنا كان الجميع مكلفين بحفظ حرمتها، فحرمة الكعبة هي الأساس لحرمة الحرم إلي حدّ تجنّب الفقهاء- حذراً وخوفاً- من السكن فيه؛ والسبب في ذلك خوفهم من أن يرتكبوا فيه أيّ ذنب، يحتملون كونه «إلحاداً»، ممّا يخيفهم من نتائج التعذيب الإلهي: قال تعالي: (). (5)

ولا يعني ذلك كراهة العيش في ذلك المكان المقدّس، وإنّما يعني الخوف من عدم مراعاة حقوق الحرم الإلهي الرفيع.


1- البقرة: 194.
2- البقرة: 194.
3- البقرة: 193.
4- وسائل الشيعة 336: 9- 337.
5- الحج: 25.

ص: 81

الفصل الثالث مكة المكرمة

مكّة، أنموذج المدينة الفاضلة

قد تكون لبعض الأزمنة والأمكنة خصوصيات استناداً إلي جذور ترجع إليها في المخزن الإلهي، ممّا لا تملكه أزمنة أخري أو أمكنة، إلّا أنّ الظاهر أن احترام الزمان يكون بمن فيه، واحترام المكان يكون بالمتمكّن فيه.

من هنا، يمكن أن تكون مكّة أفضل البقاع؛ ذلك أنّها كانت منذ قديم الأيام مهداً للتوحيد، ومركزاً للوحي، ومحلًا لتربية الكثير من الأنبياء والأولياء وكذا لظهورهم و ... حيث تمثلت الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة الذهبية بالتوحيد الخالص، وهبوط القرآن، وصعود خاتم الرسل (ص) لمقام النبوّة النهائي المنيع ومركز الرسالة الخاتمة.

إضافةً إلي ذلك، فقد احتوت مكّة بيت الله الشريف ومكانه النهائي، من هنا كانت مقدّسةً منذ قديم الأيّام، وعليه فالمدينة المنورة- كمكة المكرّمة- مهبط الوحي ومحل نزول الكثير من سور القرآن الحكيم، كما أن الدولة الإسلامية شهدت قيامتها وانتظام أمرها هناك، وقد عدّ القرآن الكريم أبناء هذه المنطقة وشعبها أنصاراً لدين الله وإخوةً للمهاجرين في سبيل الله (1)، لهذا كانت المدينة لائقةً بدعاء خاتم الأنبياء (ص) (2)، لتكون


1- الحشر: 9.
2- السيوطي، الدرّ المنثور 297: 1.

ص: 82

حرماً خاصاً. نعم، بركة المدينة المنوّرة مستمرّة ما دام أبناؤها حافظين للأصول العقائدية، والأسس الأخلاقية، والفروع الفقهية.

مكّة أمّ القري (1)، وأنموذج المدينة الفاضلة، فقد أسّس إبراهيم خليل الرحمن (ع) باني الكعبة ومؤسّس الحضارة، أسّس المدينة الفاضلة علي أركان أربعة، نظمها حول محور مركزي، ثمّ طلبها من الله تعالي. كان دعاء إبراهيم في هذا المجال علي الشكل التالي:

1- (). (2)

2- (). (3)

3- (). (4)

4- (). (5)

فقيام المدينة الفاضلة يكون علي أساس ميل قلوب الرعية لقادتها العارفين بالسياسة، فصِرْف الأمن وزيادة النعمة الكثيرة، مع ضرورتهما، إلا أنهما ليسا كافيين للناس؛ إذ هذا الأمن ووفور النعمة قد نجدهما في أقاليم وبلدان أخري، إنّما الأساس هو ميل قلوب الرعية وعطف جانبها وجذب أرواحها وجلب ثمار قلوبها، وتلك هي المحبّة. (6)

علي هذا الأساس، طلب إبراهيم (ع) في أدعيته السالفة من الله تعالي، إلي جانب الأمن والاقتصاد، جذب الأفئدة والقلوب إليهم.


1- الأنعام: 92، والشوري: 7، ويقول الإمام الصادق: «أسماء مكّة خمسة: أمّ القري، ومكّة، وبكّة، والبسّاسة، كانوا إذا ظلموا بها بسّتهم، أي أخرجتهم وأهلكتهم، وأم رحم، كانوا إذا لزموها رحموا»، أنظر: بحار الأنوار 77: 96.
2- البقرة: 126.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- إبراهيم: 37.
6- الطبرسي، مجمع البيان 1- 387: 2- 388؛ وتفسير القمي 62: 1.

ص: 83

5- أما المحور الأساس الذي تدور حوله الأركان الأربعة السابقة، وهو الذي يضمن الأمن ويحقق الهدوء والطمأنينة ويوفر السلامة الاقتصادية للمجتمع، فهو الدولة والحكومة القائمة علي أساس الوحي الإلهي، وفي ظلّ إشراف وإدارة الإنسان الكامل.

من هنا، طلب النبي إبراهيم (ع) من الله تعالي أن يبعث في نسله نبياً منهم .. قال سبحانه: (). (1)

إنّ إبراهيم (ع) كان قبل ذلك قد شاهد بأمّ عينه تحقق ظاهرة تبدو في الظاهر غير ممكنة، وهي أن يصير صاحب ولد في كبره وشيخوخته، من هنا كان معتقداً بهيمنة الإرادة الإلهية علي الأمور كافّة، لهذا قال: (). (2)

وبعد مضيّ مدّة، اجتمع فيها من القريب والبعيد عديدٌ من الناس لتظهر إثر ذلك مدينة مكّة علي سطح الأرض، كرّر إبراهيم (ع) دعاءه السابق بشكل آخر فقال: (). (3)

وقد لازمت صفة الأمن والأمان مدينة مكّة حتّي اشتهرت بها، إلي حد أنّ الله سبحانه يذكرها بهذا الاسم، فيقول: (). (4)

والجدير ذكره أنّ تعبير () مغاير للأرض الموات البائرة التي لم تزرع؛ إذ الموات قابلة للإحياء عادةً، تماماً كما أنّ الأرض البائرة تقبل القيام، وما لم يزرع يقبل الزرع، أما الأرض غير ذات الزرع فتعني التي لا يوجد فيها اقتضاء الزرع، كما


1- البقرة: 129.
2- البقرة: 126.
3- إبراهيم: 35.
4- التين: 3.

ص: 84

لا يمكن توفير الأسباب والإمكانات لتعميرها؛ فهي لا تبدو- بحسب ظاهرها- متمتعةً بأيّ عنصر مساعد طبيعياً علي زراعتها.

نعم، عدم إمكان زراعة هذه الأرض غير ذات الزرع إنّما هو بالنسبة إلي العلل والأسباب الطبيعية، أمّا بالنسبة إلي الإرادة الإلهية فإن غير الممكنات العادية كافة قابل للوجود والتحقّق.

يتحدّث الله تعالي عن ظروف توفير الحياة الاقتصادية لمكّة بأنّ ذلك ليس عن طريق الغيب ولا سبيل الإعجاز، فحاجات المؤمنين الاقتصادية لاتؤمّن عبر هذا السبيل، بل (). (1)

واليوم تتقاطر الثمرات تتري علي أرض مكّة غير ذات الزرع والضرع حتي أنّ المحاصيل المتنوّعة في تمام أرجاء العالم تُحضر إلي مكّة في فصول الحجّ والعمرةكافّة.

وتوضيح ذلك:

أولًا: إنّ أشهر الحج قمرية وليست شمسية، وهذا ما يجعلها متنوعةً علي امتداد السنين.

ثانياً: إنّ الأرض كرويّة، وتتنوّع أقاليمها الحارة والباردة.

ثالثاً: تختلف أذواق الناس في المدن والبلدان، وكذا إبداعاتها ومخترعاتها وفنونها المسكوبة في نتاجاتها المصنوعة.

من هنا، تظهر المحاصيل المتنوّعة الكثيرة في تمام مناسبات الحج والعمرة في مكّة، بدعاء إبراهيم (ع)، وكذا المدينة بدعاء الرسول الأكرم (ص)، وكما يصل زوّار مكّة علي أيّ مركب ضامر أو غيره، ومن أيّ إقليم فج وقريب، ينقل أصحاب البضائع التجارية- أعمّ من الزراعة، والحيوانات، والصناعة- محاصيلهم ومنتوجاتهم إلي مكة أيضاً.


1- القصص: 57.

ص: 85

وعليه فكما يراد من الأكل في مثل: () (1) و () (2) مطلق التصرّف في المأكول وغيره، لا خصوص الأكل بمعناه المصطلح، كذا يكون المراد من () (3)، حيث لا يقصد تأمين الحاجات الغذائية التي ترفع حدّ الجوع فحسب، بل يتعداه إلي تأمين مطلق الحاجات الاقتصادية أيضاً، فإنّه إذا تمتعت أمة بغذائها اللازم لها، لكنّها ظلّت محرومةً من نواحي أخري كالمسكن والدواء والعلاج واللباس والأثاث، وسائر حاجات الحياة الأخري، فستبقي دائماً خائفة مغمومة، ومثل هذا الوضع لا ينسجم مع الرسالة التي تريدها الآية الكريمة المذكورة.

فالمقصود من الآية توفير الجانب الاقتصادي وما شابهه توفيراً تاماً، تماماً كما ألمحت الجملة الأخري في الآية، وهي: () (4)، إلي جانب الاستقرار الأمني الشامل وتوفير الأمن والأمان.

ملاحظة

1- إنّ أساس الأمن الاقتصادي والاجتماعي لمكّة، وكذا نعمها الوفيرة، أمر تكويني لا تشريعي فحسب.

والشاهد والمؤيّد لذلك ما جاء في سور القصص والعنكبوت وقريش، وهي من السور المكية، فيما الحج الإسلامي الذي يمكنه أن يكون سبباً لحلول الأمن ونزول البركة إنّما جاء تشريعه في العصر المدني، أي بعد سنين طويلة من نزول السور المذكورة.


1- البقرة: 188.
2- النساء: 10.
3- قريش: 4.
4- المصدر السابق.

ص: 86

2- إن الأنبياء والأولياء الإلهيين: كافة أرفع وأفضل من مجرّد سلطة البطن علي الطعام والشراب، ذلك أن بعض تلامذتهم- وهم الذوات المقدّسة- «كان خارجاً من سلطان بطنه» (1) ، إلّا أنّهم كانوا دائماً مهتمّين بحال الضعفاء وأواسط الناس، من هنا، كانوا يطلبون من الله تعالي لهم النعم الوفيرة ورخص الأرزاق، ويسألون لهم الاقتصاد السالم حتي تتوفّر بذلك أرضيةٌ لبناء الأمن الداخلي من جهة، ولحصولهم علي استقلالهم واستغنائهم عن الآخرين من جهة أخري، ليكون ذلك كلّه في خدمة الدين نفسه؛ فمبدأ الهوية في الإنسان إنّما يصنعه الدين، لاالاقتصاد، وعدم وجود اقتصاد صحيح لأواسط الناس يعدّ مرضاً عضالًا صعب العلاج بالنسبة إلي تحصيل عقيدة أصيلة، أو حفظها بعد حصولها.

نعم، الأوحدي من الناس هو من يري أن محورية العقيدة والحق أفضل من الرفاه العادي، أمّا علي صعيد الحسابات الاجتماعية فلا بدّ من ملاحظة الأكثرية ليحكم علي طبق وضعها.

3- لقد أنعم الله علي الكفار، أعمّ من ذرية إبراهيم (ع) وغيرهم، ببركة الكعبة وبحرمة الحرم، إن دعاء النبي إبراهيم (ع) كي يستفيد مؤمنو مكة () (2)، لم يضيّق علي غير المؤمنين ولم ينف الرزق عنهم، إنّما لم يشملهم فحسب، فهناك قصور في المشمول، لا أنّه يوجد منع عنه، أي أنّه لم يدع للكافرين، لا أنّه دعا عليهم.

بعض الخصوصيات الفقهيّة لمكّة

1- يكره إجارة بيوت مكّة لزوّارها (3)، يقول أميرالمؤمنين (ع) في هذا المجال لعامله


1- نهج البلاغة، الحكمة: 289.
2- البقرة: 126.
3- وسائل الشيعة 367: 9.

ص: 87

علي مكة: «ومُر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً، فإنّ الله سبحانه يقول: () (1)، فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله». (2)

ويقول الإمام الصادق (ع): «إنّ معاوية أوّل من علّق علي بابه مصراعين بمكّة فمنع حاجّ بيت الله ما قال الله عزّوجلّ: ()، وكان الناس إذ قدموا مكّة نزل البادي علي الحاضر حتي يقضي حجّه». (3)

2- يكره البقاء في مكّة لمدّة طويلة، إذ يكون ذلك باعثاً علي قساوة القلب، من هنا، يقول الإمام الصادق (ع): «إذا قضي أحدكم نسكه فليركب راحلته، وليلحق بأهله، فإنّ المقام بمكّة يقسي القلب». (4)

وسرّ كراهة الإقامة لمدة طويلة في مكّة، هو ما جاء في الرواية الآنفة من أن ذلك يغدو سبباً لقساوة القلب، وحسب الظاهر فإن هذا الإنسان لا يراعي الحقوق العظيمة لتلك الأرض، ما يفتّت العهد- تدريجياً- ويضعفه العهد، كما يميت القلب.

نعم، بالنسبة للزوار المجاورين للحرم المراعين حقوقه يستفيدون من الفيض العظيم النازل عليهم، فالإقامة في الحرم أفضل من الخروج منه. (5)


1- الحج: 25.
2- نهج البلاغة، الرسالة: 67، الفقرة: 5.
3- وسائل الشيعة 367: 9- 368.
4- المصدر السابق: 343.
5- المصدر السابق: 341.

ص: 88

الفصل الرابع المسجد الحرام

الحرمة الخاصّة للمسجد الحرام

تتمتّع المساجد كافّة لاسيما منها المسجد الحرام بحرمة خاصّة (1)؛ فالمسجد الحرام يحوي بيت الله الحرام، والمكان النهائي لذلك البيت الشريف (2)، ونقطة انطلاق الإسراء والمعراج. (3)

إنّ مكان الحجّ والزيارة، كموسمهما وزمانهما، حرامان محترمان، من هنا حرّم القتال الابتدائي فيه، لكن حيث إنّ القصاص لا يختصّ بالنفس أو الطرف، وإنّما هناك قصاص في نقض الحرمات وهتك احترامها () (4)، يقول الله تعالي: (). (5)

ومن الواضح أنّ حرمة المسجد الحرام نشأت من احترام الكعبة، تماماً كما كان


1- انظر: سورة الجنّ: 18؛ والحجّ: 40؛ والأعراف: 29، 31؛ والبقرة: 114، 187؛ والأنفال: 34؛ والتوبة: 28.
2- البقرة: 144.
3- الإسراء: 1.
4- البقرة: 194.
5- البقرة: 191.

ص: 89

احترام الكعبة والمسجد سبباً في حرمة مكّة، واحترام الثلاثة معاً سبباً في حرمة الحرم الإلهي، لكن حيث كانت هذه الحرمات كافّة لأجل الإسلام نفسه صدر أمرٌ بضرورة قتل المشركين هناك عندما يتعرّض المسلمون في المسجد الحرام من جانبهم للهجوم بغية إبادة الإسلام.

لقد تقدّم توضيح هذه المسألة في الفصل الخامس من القسم الأوّل، لدي الحديث عن «منشأ الحرمة وعزّة الكعبة» وشرحنا أنّ الحرمة التي كانت للحَرَم، ومكّة، والمسجد الحرام، والكعبة، إنّما هي من الإمام الذي اختاره الله للولاية، ومنه ينتهي الأمر إلي الحقّ المطلق تعالي.

إدارة المسجد الحرام وولايته

لا يحقّ لغير المتّقين الشجعان والمدبّرين الواعين أن يديروا المراكز الدينيّة المهمّة، فنظراً للأهمّية الخاصّة للكعبة، وكذلك المسجد الحرام وحرم الأمن الإلهي، فقد بيّن القرآن الكريم بصراحة مَن يتصدّي امورها، وما يمنع ذلك، بحيث جعل الصالحين اللّائقين في هذا المنصب، وطرد الطالحين غير المناسبين عنه، فأودع الأمانات الإلهيّة أهلها.

إنّ تعيين ولاة البيت الإلهي من صلاحيّات الله سبحانه وحده فقط، فقد جاء في الآية الكريمة: () (1)، وفي ذلك إشارة إلي عزل، بل انعزال العاصين عن تولّي شؤون المسجد الحرام، لصالح نصب المتّقين لذلك؛ فالعُصاة منصرفون عن المعبد الإلهي، كما أنّهم صارفون عنه، فهم ناؤون وناهون، أمّا الأتقياء فهم في رحاب معبد الله عبيد حقّ، وهم دُعاةٌ إليه أيضاً.

إنّ تولّي امور المساجد ليس من حقّ الناس، بل حكم إلهي وحقّ خاصّ بالله


1- الأنفال: 34.

ص: 90

سبحانه، جُعل علي كاهل الرجال المتّقين والزموا به؛ فهنا كان لزاماً لتولّي شؤون الحرم، والتي حصرهاالله بأفراد أو فريق خاصّ، أن يمتثل المتّقون في مختلف البلدان الإسلاميّة لأمر الله وقراره الغيبي في إدارة الحرم ويكون لهم دورٌ في ذلك.

والسرّ الرئيس في هذا الأمر هو أنّ الكعبة التي هي منشأ حرمة واحترام المسجد الحرام والحرم الإلهي ليست مثل سائر الآثار القديمة للأقوام والشعوب والملل، حتّي ينفرد بإدارتها فريق خاصّ يحرسونها ويهتمّون بها؛ فلو كانت الكعبة مثل سور الصين، وأهرام مصر، وما شاكل ذلك، لم تكن لتتحوّل إلي نقطة تجمّع روحي للمسلمين جميعاً في مختلف أقطار العالم علي امتداد التاريخ.

إنّ الذي يُستنتج من الآية الشريفة: () (1)، ومن الحديث الذي يبيّن سرّ تربيع الكعبة (2)، أنّ بناء الكعبة ومكانه وسائر ما يتعلّق بها كان أمراً من جانب الوحي الإلهي، إضافةً إلي ذلك، لم يكن للبشر العاديّين أي حضور حتّي يشارك مهندس أو بنّاء في أمرها، بل كان إبراهيم (ع) هو المتعهّد لذلك بالوحي الإلهي؛ وعليه فالكعبة في تمام أبعادها الفنّية والصناعية، وفي الأدوات، والأرض، والخارطة، مرتبطة بالله ومنزّهة عن غيره، ومبرّأة عن سائر الناس، فهذا البناء المقدّس هو أوّل بناء بُني للبشر بوصفه معبداً (3)، ولذلك كان جائزاً لتوسعة المسجد الحرام، الاستيلاء علي الأمكنة المجاورة وتخريبها، والتي هي في الحقيقة حريم للكعبة، تماماً كما قال الإمامان الصادق والكاظم، لرفع توهّم غصبية مثل هذا التخريب: «إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولي بفنائها، وإن كان الناس هم


1- الحج: 26.
2- بحار الأنوار 57: 96، وراجع: المصدر السابق، هامش صفحة 86.
3- آل عمران: 96.

ص: 91

النازلين بفناء الكعبة فالكعبة أولي بفنائها». (1)

وخلاصة القول: إنّ الكعبة لا ترتبط بشخص بعينه أو فريق كذلك، وهي لاتتبع أيّ قانون من القوانين البشريّة المجعولة، وإنّما هي تبلور الإسلام، وذلك:

أوّلًا: أنّها مثل القرآن الكريم والرسول الأكرم لا تعتمد إلّا علي الله تعالي.

ثانياً: كما أنّ القرآن الكريم كتابالله وكلامه، وليس نتيجاً فكريّاً لأيّ إنسان، ولا يمكن لأحد أن يأتي بمثله، وكما كان الرسول الأكرم (ص) غير متلمّذ علي يد أحد، وليس لأيّ إنسان حقّ التعليم والتزكية عليه، من هنا كان عبد الله ورسوله ... كذلك الكعبة- ملكاً وخارطةً وبناءاً ومعماريّة و ...- متعلّقة بالذات الإلهيّة.

ثالثاً: كما أنّ الله تعالي ضمن حقيقة القرآن من تطاول الطواغيت عليها، وحفظها من سهام التحريف وصانها من ذلك، وكما ثبّت رسالة الرسول الأكرم (ص) بالمعجزات المختلفة، وأبقاها ثابتةً، كذلك صان الكعبة دوماً من جبابرة وأباهرة الماضي والحاضر والمستقبل.

رابعاً: كما يجب علي كافّة مسلمي العالم حماية القرآن وحراسته وأن يكونوا جادّين في صيانة الشخصيّة الحقوقيّة للنبيّ الأكرم (ص) ورسالته، كان واجباً عليهم الجهاد لحفظ أمن الحرم وتقديسه.

خامساً: كما أنّ مجرّد عربيّة القرآن أو نزوله في الحجاز ليس دليلًا علي اختصاصه بقوم خاصّين، ومجرّد كون النبيّ الأكرم (ص) قد عاش في الحجاز وتوفّي فيها وكان مزاره الشريف فيها ... ليس دليلًا علي اختصاص هذا الرجل العظيم بالعرب أو بشعب الحجاز، كذلك مجرّد وقوع بناء الكعبة في الحجاز وتأمين موادّها الخام من تلك الديار ليس سبباً لاختصاصها بالعرب أو بشعب الحجاز أو بدولة تلك البلاد؛ ذلك أنّه حتّي لو كانت الكعبة قد بُنيت من الأحجار ولها جسم ظاهري مثل سائر الأحجار، إلّا


1- وسائل الشيعة 331: 9- 332.

ص: 92

أنّها حيث كانت محاذية لعرش الله، ومبنيّةً جدرانها الأربعة علي خارطة التسبيحات الأربع، أي حقيقة التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وكلّها ترجع إلي التوحيد (1)، وكانت متحرّرة من كافّة السلطات والقوي الكبري العتيقة ... فإنّه لا مثيل لها ولا نظير.

إنّ تولّي هذا البناء المقدّس القائم علي الإخلاص والطهارة إنّما هو في عهدة المسؤولين الصالحين الورعين، فلو كان الإمام المعصوم (ع) ماسكاً بزمام الزعامة والحكومة، فإنّ الكعبة تُدار حينئذ تحت الولاية المعصومة لهم، وإلّا كانت تحت ولاية النائب الخاصّ، وإلّا فالنائب العام للإمام، وهو الفقيه جامع الشرائط المطلوبة في القيادة، وإذا لم يتوفّر فقيه مدير ومدبّر لتولّي هذا الشأن، ينتقل الدور لعدول المؤمنين.


1- بحار الأنوار 57: 96؛ روي عن الصادق أنّه سُئل لِمَ سمّيت الكعبة؟ قال: «لأنّها مربّعة»؛ فقيل له: ولِمَ صارت مربّعة؟ قال: «لأنّها بحذاء البيت المعمور، وهو مربّع»، فقيل له: ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً؟ قال: «لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع»، فقيل له: ولِمَ صار العرش مربّعاً؟ قال: «لأنّ الكلمات التي بُني عليها الإسلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر».

ص: 93

الفصل الخامس الكعبة المشرّفة

الموضع المركزي للكعبة

ليس الإنسان من ناحية تجرّد الوجود كالملائكة حتي يستغني عن التنسيق والتعاون مع بني جنسه، كما أنّه ليس مادّياً كالحيوانات حتّي لا يكون محتاجاً لتبادل الرأي والتعاون، كما أنّه- أيضاً- غير قادر أن ينتهي أمره إلي التشتّت والتمزّق والتلاشي اعتماداً علي معتمد تكويني، ويفهم سرّ اتّحاده مع أبناء نوعه ورمز ذلك، فيتحرّك عبر سلوك خاصّ ومناسب للوحدة، فيصل بشعار () (1)، للتحرّر من كلّ عيب ونقص وبلوغ مرتبة الكمال الإنساني.

إنّ الإنسان بحاجة إلي المجتمع، ولا يمكنه من دون التنسيق والتعاون أن يرسم الخطوط الأساسيّة والمعالم الكبري لسعادته؛ من هنا كان لزاماً عليه الاتّحاد مع أبناء نوعه، كما يلزمه أن يجعل ارتباطه بالآخرين قائماً علي محاور عينيّة وتكوينيّة، يكون لها حظّ من الخلود والأبدية.

للإنسان في ذاته وأعماقه مادّة السعادة الحقيقيّة من كافّة الجوانب، والوحدة الشاملة مع مختلف المجتمعات البشرية، بوصف هذه المادّة الكامنة في أعماقه أصلًا


1- الأعلي: 14.

ص: 94

ثابتاً وعامّاً ودائماً ذا جهة واحدة، بحيث لا يوجد أيّ فرد إنساني في أيّ عصر وزمان وفي أيّ موضع ومكان خالياً عن هذا الأصل الكامن في داخله؛ إنّه المادّة الرئيسة للتكامل التكويني، إنّه لغة الفطرة التوحيديّة (1) التي يمكنها الربط بين أبناء البشر دون حاجة إلي أيّ اعتبار أو تعاقد أو تصويب، وكلّ ارتباط وعلاقة لاتنسجم مع الجذر التوحيدي للبشر فهو زائل اعتباري لا قرار له.

وعلي هذا الأساس، فالإنسان- في منطق الوحي- ينسجم فقط مع الإسلام العالمي الإلهي، فهذا الدِّين هو الذي يجعل الجميع منسجمين، موحِّدين، متناغمين، مترافقين، ويوصلهم إلي كمالهم النهائي.

من هنا، اعتبر الله سبحانه الإسلام ديناً عالميّاً، ودعا العالمين إلي قبوله، وبيّن معالمه الأصيلة العامّة والدائمة والشاملة لتمام الجهات والنواحي، محذّراً من الانفصال عنه، ومعلناً خطر الإعراض عنه أو الاعتراض عليه أو معارضته، إنّه يقول: (). (2)

المحاور الأصيلة للوحدة

اشارة

يتمكّن الإنسان من الحصول علي براعم الفطرة المشتركة والمزايا المشتركة للدين العالمي عندما يكون في هذا الدين عناصر الوحدة الأصيلة والثابتة والتوحيديّة.

من هنا أعلن الله سبحانه القرآن الكريم كتاب الجميع، ومحوراً فكريّاً وعمليّاً للعالمين، كما قدّم لنا الرسول الأكرم (ص) بمثابة تعيّن لأحكام القرآن بوصفه اسوةً وقائداً


1- الروم: 30.
2- آل عمران: 103.

ص: 95

عامّاً وعالميّاً، كما جعل الكعبة المقدّسة نقطةً لاجتماع أطراف العالم الإسلامي وقبلةً ومطافاً للعالمين، حتّي يتّحد المسلمون بالحصول علي هذه المحاور الأصيلة التوحيديّة.

ونحاول هنا- وبشكل مختصر- الحديث عن عالميّة هذه المحاور المذكورة:

1- عالميّة القرآن الكريم

الإنسان الكامل سِمَة الرسالة الإلهيّة وحامل النداء الربّاني، وإذا كان مظهراً للاسم الأعظم وأكمل الناس فإنّه يتلقّي كتاباً يكون أكمل الكتب، يستوعب سعة الأرض وامتداد الزمان وانبساط التاريخ؛ لذلك أنزل الله سبحانه القرآن لهداية الجميع علي القلب المطهّر للرسول الأكرم؛ وإضافةً لآيات التحدّي التي تدلّ علي عالميّة القرآن، ثَمّة آيات في هذا الكتاب نفسه تجعله مذكّراً وذكري للمجتمعات البشرية كافّة، حتّي يتذكّر الجميع عَهْد فطرتهم، كما اعتبر هذا الكتاب إنذاراً سماويّاً كي يظلّ البشر علي حذر بأجمعهم من مختلف المعاصي والذنوب. (1)

وكما كانت أدلّة عالميّة القرآن ثابتةً وهو تمظهر دعوة النبيّ الأكرم (ص) ومعجزته الخالدة، كذلك هي بنفسها دليلًا علي عالميّة رسالته (ص) أيضاً، فكلّ دليل يدلّ علي عالميّة رسالة الرسول الأكرم (ص) يدلّ أيضاً علي عالميّة القرآن المجيد؛ ذلك أنّهما متلازمان، ودليل كلّ واحد منهما يمثل دليلًا- بالملازمة- علي إثبات الآخر.

2- عالميّة رسالة الرسول الأكرم

إنّ رسالة الإنسان الكامل، والذي هو- بنحو مطلق- خليفة الله ولا أكمل منه في عالم الإمكان، وسيعة شاملة إلي حدّ لا نبيّ بعده علي امتداد التاريخ ولا علي اتّساع


1- البقرة: 2، 185؛ والأنعام: 19، 90؛ والزمر: 27، 41؛ والمدثر: 31؛ والفرقان: 1.

ص: 96

جغرافيا العالم؛ ولا مقارناً له أيضاً؛ من هنا لم يكن من أنبياء أُولي العزم فحسب، بل هو خاتم الأنبياء (ص) جميعاً، وخاتمة أصل النبوّة والرسالة، وكلّ الأدلّة الدالّة علي خاتميّته دالّة تلقائياً علي عالميّة رسالته أيضاً.

إضافة إلي الموارد المذكورة، ثمّة في آيات القرآن ما يتحدّث عن كلّية رسالة النبيّ (ص) ودوامها (1)، وأنّها جاءت وبُيّنت لكافّة البشر في تمام الأعصار والأمصار دون اختصاص بفريق خاصّ بعينه.

3- المركزية العالمية الخالدة

لابدّ للناس المعتقدين بالدِّين العالمي والكتاب الكوني، وهم أتباع النبوّة العامّة والدائمة، أن يكون لديهم مركز عام وثابت لا تغيير فيه، يكون محوراً لتبادل الآراء من مختلف المناطق، حتّي يلتقي الجميع من القريب والبعيد مع بعضهم بعضاً ويطرحوا القضايا العلميّة والعمليّة فيما بينهم، فيعيدوا قراءة مشاكلهم السياسيّة والاجتماعيّة ويقومون بحلّها، كما يوثّقون عُري العلاقات الثقافيّة والأخلاقيّة ... إلي غيرها من الفوائد الاخري التي يمكن فهمها من إطلاق الآية الكريمة: (). (2)

لهذا خصّص الله سبحانه الكعبة المعظّمة، كي يرتبط بها المسلمون في العالم في السنين كافّة، وكذا الأشهر، والأسابيع، والأيّام، والساعات، والدقائق و ... وفي مناسبات مختلفة، في شؤون حياتهم كافّة؛ من هنا نقول: «والكعبة قبلتي ..» (3) لتعظيم الكعبة وتقديسها وإعلان الارتباط الذي لا ينفكّ بها في الموت والحياة.

إنّ الارتباط العالمي بالكعبة لا ينقطع ولا للحظة واحدة، فبسبب كرويّة الأرض


1- الأنبياء: 107؛ سبأ: 28؛ والنساء: 170؛ والأعراف: 158 و ...
2- الحج: 28.
3- بحار الأنوار 175: 6، 228- 229، 237- 238.

ص: 97

واختلاف جهة القبلة في البلدان والمدن، ولعدم اتّحاد أوقات الصلوات والأدعية و ... في المناطق بالنسبة لسكّان الأرض، فإنّ كلّ لحظة تشهد وجود شخص متّجه إلي القبلة في حال صلاة ودعاء.

وسوف يأتي مزيد من التوضيح حول الأبعاد المختلفة للكعبة المعظّمة في المبحث القادم، كما سنتحدّث عن بعض أوجه الشبه بين الكعبة والقرآن الكريم والرسول الأكرم (ص).

خصائص الكعبة

اشارة

إنّ البشر الذين يتّجهون إلي جهة واحدة، ويدورون حول محور ومطاف واحد، سوف يعرفون بشكل أفضل معبودهم عندما يتعرّفون علي المزايا المعنوية لهذا المعبد، فيعبدون الله دون أيّ شائبة أكثر فأكثر، من هنا ذكرالله تعالي جملةً من الخصائص لقبلة العالمين ومطاف الزائرين، أي بيتالله الحرام، وسوف نشير في مطاوي هذا البحث إلي بعضها.

ومع ملاحظة هذه الخصائص سوف تتّضح أسرار بعض الكلمات التي قالها الرسول الكريم والأئمّة المعصومون حول الكعبة، مثل هذا البيان النوراني للرسول الأكرم (ص): «من أيسر ما يُعطي من ينظر إلي الكعبة أن يعطيه الله بكلّ نظرة حسنةً، وتُمحي عنه سيّئة، وتُرفع له درجة». (1)

ومثل قول الإمام الصادق (ع): «النظر إلي الكعبة عبادة» (2)، وقوله: «يصلح [ثياب


1- وسائل الشيعة 365: 9.
2- المصدر السابق: 364.

ص: 98

الكعبة] للصبيان والمصاحف والمخدّة يبتغي بذلك البركة إن شاءالله». (1)

وقول الإمام الباقر (ع): «الدخول فيها دخول في رحمة الله، والخروج منها خروجٌ من الذنوب، معصومٌ فيما بقي من عمره، مغفورٌ له ما سلف من ذنوبه». (2)

وما جاء: «الداخلُ الكعبةَ يدخل والله راض عنه، ويخرج عُطلًا من الذنوب» (3)، أي طاهراً منها.

والجدير بالذِّكر أنّنا قد شرحنا بعض خصائص الكعبة كمنشأ حرمتها وعزّتها، وكذا مركزيّتها للبراءة من الطغيان والشرك، في الفصل الخامس والسادس من القسم الأوّل، وهنا نذكر خصائص أخري للكعبة الشريفة:

1- تجلّي العرش
اشارة

لكلّ شي ء عند الله خزائن ثابتة لا تفني ولا تنفد، وينزل من تلك الخزائن الغيب، قال تعالي: () (4)، لاعلي نحو التجافي المستلزم للعدم والزوال، وإنّما علي نحو التجلّي، وعليه فموجودات عالم المادّة بأجمعها لها أصل محفوظ عند الله تعالي، ويرسل من هذا الأصل إلي الأسفل طبقاً لهندسة خاصّة، وكلّ ما ينزل يكون له علاقةً لله ومرآةً له، قال (ع): «والحمد لله المتجلّي لخلقه بخلقه» ( (5))، تماماً كما يرجع إليه: (). (6)


1- المصدر السابق: 359.
2- وسائل الشيعة 370: 9.
3- المصدر السابق.
4- الحجر: 21.
5- نهج البلاغة، الخطبة 108، الفقرة: 1.
6- الشوري: 53.

ص: 99

ومن جملة هذه الامور أجزاء الكعبة وأركانها، وهي التي لها أصل طاهر في المحضر الإلهي، وكلّ هذه الامور تنزل من ذاك الأصل الطيّب. (1)

وشاهد هذا الكلام رواية وردت في سرّ تربيع الكعبة وقد جاء فيها:

«لأنّها بحذاء البيت المعمور، وهو مربّع، فقيل له: ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً؟ قال: لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع، فقيل له: ولِمَ صار العرش مربّعاً؟ قال: لأنّ الكلمات التي بُني عليها الإسلام أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر». (2)

ومضمون الكلام الرفيع والنوراني للإمام الصادق (ع) هو أنّ التسبيحات الأربع التي يقوم عليها نظام الوجود هي السبب في تحقّق العرش المربّع، وتكوّن العرش هو الأساس في تحقّق البيت المعمور، وهو ما يفضي في النهاية إلي تحقّق موجود طبيعي في عالم الطبيعة، ألا وهو الكعبة والجدران الأربعة، ومعني ذلك أنّ ما هو في عالم الطبيعة انموذج لما في عالم المثال، وعالم المثال هو الآخر انموذج لعالم المجرّدات التامّ، وعالم المجرّدات التامّ أُنموذج للأسماء الإلهيّة الحسني، التي هي في أعلي التمام، والخلاصة أنّ ذاك النظام الربّاني بترتيب درجات وجوده يعدّ أساساً لتحقّق النظام العقلي والمثالي والطبيعي.

المراحل الأربع لأركان الدِّين ومعارفه

وكما انتظمت الكعبة علي نسق العوالم الفوقيّة، كان القرآن والصلاة والصوم والحجّ والعمرة وسائر العبادات والآيات الإلهيّة كذلك، وعلي هذا الأساس، كانت للولاية مراحل أربع كالتي تقدّمت؛ ذلك أنّ الولاية من المباني المهمّة للإسلام، فالولاية


1- وسائل الشيعة 386: 9- 388، 402- 407.
2- بحار الأنوار 57: 96، وراجع المصدر السابق، هامش صفحة 86.

ص: 100

والقيادة في عالم الطبيعة وفي المجتمع الإنساني بمنزلة الكعبة، تماماً كما يقول أميرالمؤمنين عليّ (ع): «مَثَلُ الإمام مثل الكعبة؛ إذ تُؤتي ولا تأتي». (1)

وعليه فالوجود الطبيعي والعنصري للولاية بمنزلة الكعبة الطبيعيّة، تماماً كما أنّ الوجود المثالي لها بمنزلة البيت المعمور، ووجودها العرشي بمنزلة الوجود العرشي للكعبة، وعلي ذلك فالولاية لها باطن يقف أمام التسبيحات الأربع؛ من هنا قال الأئمّة المعصومون:: «سبّحنا وسبّحت الملائكة» (2)، أي أنّهم كما قالوا للناس في النشأة الطبيعيّة: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» (3)، و «خذوا عنّي مناسككم» (4)، كذلك في العالم العلوي يعدّ أهل البيت: إمام الملائكة، ومن التلقائي أنّ الولاية كالصلاة معراجٌ للمؤمن يتحلّي بصبغة التولّي للأولياء الإلهيّين، وعليه، فكما يُقال لقارئ القرآن: «إقرأ وارق» (5)، كذلك يُقال للمصلّي: «صلِّ وارق»، ويقال لمتولّي الأولياء الإلهيّين: «تولّ وارق»، وللحاج والمعتمر: «حجّ واعتمر وارق».

إنّ الذي يطوي المراحل الأربع المذكورة سيكون قلبه عرش الرحمن، «قلب المؤمن عرش الرحمن». (6)

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الرواية التي تبيّن سرّ تربيع الكعبة سوف يتّضح معني الحديث القائل عن الكعبة: «إنّها قبلة من موضعها إلي السماء» (7)؛ ذلك أنّه وإن كان ظاهر هذا الحديث التأكيد علي الانتباه للبُعد العمودي بوصفه حكماً فقهيّاً؛ إلّا أنّه


1- المصدر السابق 353: 36، 357.
2- بحار الأنوار 345: 26.
3- عوالي اللئالي 197: 1.
4- المصدر السابق: 215.
5- الكافي 606: 2.
6- بحار الأنوار 39: 55.
7- وسائل الشيعة 247: 3.

ص: 101

بقرينة الحديث الذي يبيّن سرّ تربيع الكعبة (1) يحكي لنا بدلالته الباطنية عن الارتباط الوجودي ما بين عوالم الطبيعة والمثال والعقل، وهو الطريق الذي يبدو طيّه لنيل الحقائق ممكناً، فالتأمّل والتدبّر في المعارف مستفاد من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.

إنّ الروح الطاهرة لزوّار الكعبة ستصل- بالإمداد الإلهي ونيل توفيق المتعالي والصعود والرقيّ- إلي المقام الشامخ للبيت المعمور ثمّ إلي مقام العرش، قال تعالي: () (2)، وكما أن تنزل العرش الإلهي، وكذلك البيت المعمور علي نحو التجلّي لا التجافي، كذلك في الإنسان وتعاليه نحو المقام الأعلي يكون في صورة الصعود الروحاني، لا الترقّي المكاني أو التجافي الأرضي، وعليه فإذا لم يدرك الزائر هذا المعني الراقي ولم يكن هدفه من الطواف حول الكعبة هو التعالي الروحي، ولم يرَ هذا البيت معادلًا للبيت المعمور، ولم يفهم أنّ هذا البيت المكعّب كالعرش في الأرض، فلن يدرك المكانة الرفيعة للكعبة، ولن يعقد طرفاً لنفسه للقبول بمصطلح علم الكلام، رغم أنّه استفاد من الصحّة والقبول السائدين في علم الفقه.

إنّ المقيم للحجّ والمعتمر الذي يفكّر تفكيراً أرضيّاً يطوف حول الكعبة، إنّه محدود التفكير في أن لا يتخطّي الحدود الفقهيّة للمطاف (5/ 26 ذراعاً أو 13 متراً وزيادة)، إلّا أنّ الذي تكون همّته وفكره أعلي وأرفع يطوف بالكعبة والبيت المعمور، فيما الطائف الأعمق نظراً يتخطّي الآخرين فيطوف حول الكعبة والبيت المعمور والعرش، ومثل هذا الحاج والمعتمر يصير قلبه عرش الرحمن، إنّه الأوحدي من المعتمرين


1- بحار الأنوار 57: 96، وانظر المصدر السابق، هامش صفحة: 86.
2- فاطر: 10.

ص: 102

والحجّاج الذي يدور حول التسبيحات الأربع، فمن وجهة نظر هذا الزائر لا تكمن قيمة الكعبة وشموخها في ارتفاع جدرانها، وإنّما في رفعة الله تعالي لإسمها وذكرها وهو الأساس في رفعة الطائفين، تماماً كما كان الرسول (ص) مرفوع الذكر () (1)، وإلّا فالكعبة وسط الأبنية والأبراج العالية المحيطة بها لا يظهر منها ولايبرز شي ء سوي منارات المسجد الحرام.

2- قيام أسس الكعبة علي التوحيد المحض

إنّ بناء الكعبة وتعيين أبعادها وشكلها إنّما هو بهداية من الله سبحانه، قال تعالي: () (2)، فهذه الآية تعني أنّ مكان الكعبة وهندستها مع رعاية الموضع الخاص لها إنّما حصل بهداية إلهيّة، علي أساس التوحيد الصرف، بحيث ليس ثمّة شرك إطلاقاً أعمّ من الشرك الجليّ والخفي بمكّة يمكنه أن يلوّثها.

وانطلاقاً من أنّ «كلّ أثر هو مظهرٌ للمؤثّر وكلّ مؤثّر متجلّي في أثره»، فإنّ أيّ وصف ممتاز لحقّ الشخصيّة البارزة، للنبيّين الكبيرين والبانيين العظيمين للكعبة؛ أي الخليل والذبيح، وجاء في النقل حولهما، يعدّ سنداً دالًّا علي رسم خطوط المظهر المعنوي للكعبة، وهو بمثابة شرح لمصالح بنائها، وعليه فكما لم يكن إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً، وإنّما كان حنيفاً، وسطاً، مسلماً، موحِّداً، ومنقاداً محضاً، ذائباً في التوحيد، معصوماً من تأثير أيّ نوع من أنواع الشرك، يمكن أن تكون أوصاف الاعتدال والتوحيد والانقياد من عناصر هندسة الكعبة، كما يظهر في بنائها خلوص وصفاء بنّائيها، فقد مزجت هندستها بقداسة الخلوص.

من هنا، فكلّ من كان أكثر قرباً لإبراهيم وأليق به كان أكثر لياقة لأن يكون


1- الانشراح: 4.
2- الحج: 26.

ص: 103

حامياً للكعبة، ولعمرانها الصوري والمعنوي، وهذا الفريق- غير أنصار إبراهيم في عصره- هم الرسول الأكرم (ص) والمؤمنون الأصيلون الخالصون الذين لا ينتمون إلي اليهوديّة ولا إلي الانحراف، وإنّما إلي الاعتدال في العقيدة والخلق والعمل الصالح، وهم غير مبتلين بالشرك الاعتقادي ولا الأخلاقي ولا العملي.

وانطلاقاً من أنّ الأثر مظهرٌ للمؤثّر وأوصافه لها أثر فيه، نلاحظ كيف قام مسجد قبا علي أساس التقوي والرضوان الإلهي، فيما أُسّس مسجد ضرار علي أساس الشرك والجرف الهار الذي ينهار به في نار جهنّم. (1)

وعلي أيّة حال، فالكعبة بهذه الهندسة الإلهيّة موضوع ومتعلّق للكثير من الأحكام والفروع الفقهيّة، ومن بينها الحجّ، وكلّها تدور حول الأخلاق الصحيحة، وترتهنّ تلك الأخلاق الصحيحة بالعقيدة السالمة التوحيديّة، وكما كان التوحيد شجرة طوبي والتقوي ثمرة من ثمارها، كذلك الكعبة بُنيت علي أساس التوحيد الخالص المنزّه عن مختلف أشكال الشرك، فكانت أصلًا لكافّة الأبنية المؤسّسة علي التقوي، ومن بينها بناء مسجد قبا المقام علي التقوي، حيث كان فرعاً من فروع هذا الأصل، وثمرةً من بذوره.

ومن نماذج هذا التجلّي للتوحيد الخالص عند الموحّدين الحقيقيّين ما نقل من أنّه: «قيل للزهري: من أزهد الناس في الدُّنيا؟ قال: عليّ بن الحسين (ع) حيث كان، وقد قيل له- فيما بينه وبين محمّد بن الحنفيّة من المنازعة في صدقات عليّ بن أبي طالب (ع)-: لو ركبت إلي الوليد بن عبد الملك ركبة لكشف عنك من عزر شرّه وميله عليك بمحمّد فإنّ بينه وبيني خلّة، قال: وكان هو بمكّة والوليد بها، فقال: ويحك أفي حرمالله أسأل غير الله عزّ وجلّ؛ إنّي آنف إذ أسأل الدُّنيا خالقها، فكيف أسألُ مخلوقاً


1- التوبة: 107- 109.

ص: 104

مثلي؟». (1)

3- تشييد أركان الكعبة علي الخلوص الأصيل

إنّ بناء الكعبة ورفع بنيانها عبادة خالصة قام بها إبراهيم الخليل وإسماعيل، حيث لم يفعلا ذلك إلّا لله، ولم يطلبا جزاءً ولا شكراً علي ذلك من أحد، قال تعالي: (). (2)

ولم يكن هذا الإخلاص والخلوص لفظيّاً، وإنّما كان قلبيّاً كامناً في أرواحهم، كما هو ظاهر علي ألسنتهم؛ ذلك أنّ الذي يأتي الله تعالي بقلب سليم (3)، لن يطلب قلبه ولن ينوي غيرالله سبحانه، وأنّ قوله: () (4)، يعني أنّ طهارة ضميره لن تتلوّث بما ينافي خلوصه وإخلاصه.

لقد قامت الكعبة علي أساس الخلوص، ولأجل تقوي البنّاء وقعت موقع القبول من الله تعالي؛ وحيث كانت هندسة الكعبة علي أساس التوحيد وعمرانها علي أساس التقوي والخلوص .. لذا نالت شرف الانتساب إلي الله سبحانه فصارت بيت الله، وتحوّلت إلي شجرة طوبي أعطت ثمارها في مختلف أنحاء العالم علي صورة المساجد والمشاهد المشرّفة، (). (5)

4- مركز الطهارة ومطاف الطاهرين

1- بحار الأنوار 75: 42.
2- البقرة: 127.
3- الصافات: 84.
4- الصافات: 102.
5- النور: 36.

ص: 105

لقد كان تطهير الكعبة من الشرك واللوث، وتنزيهها من غبار الطغيان والتمرّد، بأمر من الوحي الإلهي، قال تعالي: () (1)، فقد أمر إبراهيم وإسماعيل بذلك، قال سبحانه: () (2)، لقد كانوا ملتزمين تطهير البيت الحرام علي نحو الدفع والرفع، أي أنّهم يزيلون آثار الشرك الباقية من الآخرين، كما لا يسمحون بآثار الشرك والانحراف الجديد أن ترسخ وتظهر وتتعاظم.

لقد أحيل تأمين طهارة الكعبة في البداية إلي النبيّ إبراهيم (ع) بوصفه المسؤول الرئيس عن تأسيسها، قال تعالي: ()، وفي مرحلة البقاء، عهد الأمر إلي كلّ من إبراهيم وإسماعيل، قال سبحانه: ()، وسرّ هذا الأمر بالتطهير قبل الوجود، وإفراد الخطاب، ثمّ إعادة الأمر بعد الوجود وتثنية الخطاب هو أنّ الطهارة أساس للكعبة، ووجود الأساس ضروري في مرحلة الحدوث وفي مرحلة البقاء، ولا يمكن أن يقوم بناء دون أساس، كما أنّه إذا كان الأساس خرباً هزيلًا لم يبق البناء.

إنّ حذف متعلّقات الأوامر المذكورة دليل علي العموم، أي أنّه لابدّ أن يكون حريم الكعبة من الداخل والخارج وكذا فضاء حرمها المتعلّق بها مصفّي منقّي مطهّر من كلّ رجس ورجز ظاهري أو باطني، فقهي أو طبّي.

وبهذا الميثاق الإلهي في الطهارة:

أوّلًا: ليس هناك من يليق بإدارة الكعبة إلّا الطاهرون، قال تعالي: (


1- الحج: 26.
2- البقرة: 125.

ص: 106

) (1)، وليس للمشركين علي أساس () (2)، حقّ الدخول إلي هذا الحرم الآمن.

ثانياً: لا يبقي بذلك أيّ مجال لتسافل وتلوّث الشرك والمشركين، ولا لقبح ولوث الصنم وعبادة الأصنام، من هنا كان أوّل ما أقدم عليه الإسلام بعد الانتصار علي الإلحاد وعبادة الأصنام هو تطهير الكعبة بأمر من رسولالله (ص) وبيد أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) من لوث الأصنام وكدر الوثنيّة، فإذا ما صارت الكعبة بعد الخليل والذبيح إلي أيدي صناديد الجاهلية فصارت معبداً للأصنام، إلّا أنّها عادت للطهارة علي اليد المقتدرة لرسولالله (ص) والعضد المتين العلوي، وإذا ما لوّثت يوماً برجس التحجّر والرجز القائمين علي تغطية الدِّين (3) عبر شعار «حسبنا كتاب الله» فإنّ حضور الشعب المؤمن والمتديّن والملتزم والمنتظر واقعاً لفرج أهل بيت النبوّة سوف ينزّهها مرّةً جديدة.

وكما أنّ القرآن الكريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون (4)، فإنّ حقيقة الكعبة وسرّها مطهّران من لمس الأيدي الملوّثة، وليس لغير الطاهر معنويّاً قبل التوبة من توفيقٍ للوصول إليها، ولن يجتمع حولها للطواف سوي الطاهرون، فيجعلونها محور شؤونهم كلّها في حياتهم، حيث إنّ الطيّب من الطيّب والخبيث من الخبيث (5)، وذلك كلّه لسببين:

الأوّل: الحجر الأسود الموجود في الكعبة والذي هو بمنزلة يد الله تعالي (6)، وكلتا


1- الأنفال: 34.
2- التوبة: 28.
3- الحجر: 91.
4- الواقعة: 77- 79.
5- النور: 26.
6- وسائل الشيعة 406: 9.

ص: 107

يديه- وليس له يد- يمين. (1)

الثاني: لأنّ هناك شخصيتين دينيّتين كبيرتين ونبويّتين كانتا مسؤولتين عن تطهيرها، وليس المقصود من الأمر بالتطهير خصوص التطهير من النجاسات الظاهريّة.

تعدّ آية: () صغري لقياس كبراه الكلّية موجودة في آية: () (2)، رغم أنّ الآية الثانية جاءت في مسجد قبا، إلّا أنّها أصلٌ كلّي أبرز مصاديقه الكعبة والمسجد الحرام، ذلك أنّ تمام المساجد فروع للكعبة، ولأداء احترام الكعبة تعدّ المساجد الاخري محترمة؛ فلكلّ مسجد محراب يمثِّل مظهره ومَعلَمه، وهذا المظهر يتّجه ناحية الكعبة دوماً، قال تعالي: (). (3)

وتوضيح هذه النقطة أنّ في الإسلام الكثير من الامور المشروطة باستقبال الكعبة، إلي حدّ أنّ حياة وممات كلّ مسلم مربوطان بالكعبة، إلّا أنّ الصلاة عمود الدِّين، والمسجد حتّي لو وضع لأهداف اخري إلّا أنّ أهمّ أهدافه إقامة الصلاة فيه، وهي أمر مشروط بالقبلة، ومن هنا فتمام المساجد لها جهة معيّنة وهي جهة الكعبة، وبهذا التحليل يظهر أنّ تمام المساجد متّجهة إلي امّ المساجد الموضوعة في امّ القري، وهكذا اسّست.

نعم، القبلة الرسميّة للمسلمين عموماً في العالم هو ذاك البُعد الموجود في الكعبة،


1- بحار الأنوار 159: 5.
2- التوبة: 108.
3- البقرة: 144.

ص: 108

والمسجد الحرام إلي جوار الكعبة، فيكون من هذه الناحية مورد توجّه المسلمين في الصلاة، كما أنّ مكّة امّ القري، بمعني أنّها من الناحية المادّية أصل المدن كافّة وكذا القري، كما أنّها من الناحية المعنوية كذلك، ومسألة القبلة من هذا القبيل.

وعلي أيّة حال، فقد بُيّن في ذيل الآية الشريفة المذكورة وظيفة أهل المسجد حيث جاء: () وإذا ما صار شخص طاهراً صار محبوباً لله تعالي، ()، وإذا ما صار محبوباً لله صار مجري فيض الحقّ، ويجري الله في مقام العمل والفعل أعماله علي يديه.

يقول الله تعالي بصراحة حول الكعبة أنّها بُنيت علي الطهارة: ()، ومع الالتفات إلي هذا الأمر من تعليق الحكم علي الوصف مشعر بالعلّية، يستفاد من الآية أنّ المصلّين غير الطاهرين يجب في الحقيقة ألّا يتّجهوا إلي الكعبة، وكذلك الطائفون لا يطوفون بها، بمعني أنّهم لايصلّون ولا يطوفون الصلاة والطواف الحقيقيّين، ذلك أنّه لا يمكن نيل سرّ وحقيقة بيت الله دون طهارة، كما أنّه لا يمكن الحصول علي معارف من القرآن دونها.

وكما أنّ القرآن الكريم مرآة صافية لا يري الناظر فيها إلّا جماله أو قبحه، كذلك الكعبة مرآة لا غبار عليها يري فيها الناظر وجهه الجميل أو البشع، من هنا فغير الطاهرين الذين تلوّثوا برجس الشرك ولوث الطغيان والتمرّد، لن يتمكّنوا من إدراك الكعبة بوصفها بيت الله المنزّه عن الحلول في المكان والمبرّأ عن الحصر في الزمان، والمقدّس عن الحاجة، والمسبّح عن الفقر والفاقة لأحد أو شي ء، ولن يستطيعوا النجاح في الصلاة في حريمها؛ من هنا وصف الله عبادتهم في أطهر بقع العبادة بأنّه صفير وتصفيق، حيث قال: () (1)

، وسوف نبيّن عند الحديث عن


1- الأنفال: 35، فمن سنن الجاهلية أنّ المشركين كانوا يرون أنفسهم ملزمين بالتصدّق باللّباس الذي كانوا يلبسونه حال الطواف، وكذلك علي أساس الوهم الجاهلي كانوا يعتقدون بأنّ اللّباس الذي يرتكب الإنسان فيه معصيةً لا يمكن الطواف فيه، وبسبب هذين الاعتقادين كانوا يطوفون عُراةً، من هنا كان أمير المؤمنين- بأمر من رسولالله- مأموراً بإبلاغ الأمر الإلهي القاضي فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا التوبة: 28، كما أنّه لا يسمح لأحد بالتعرّي. ويقول عليّ في هذا المجال: «إنّ رسولالله أمرني عن الله أن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام» وسائل الشيعة 463: 9.

ص: 109

«الطواف الجاهلي» السرّ في ورود هذا التعبير بحقّ عبادة المشركين.

5- محور القيام والقيامة
اشارة

الكعبة محور القيام والمقاومة والثبات الإنساني علي امتثال الأوامر الإلهيّة وتجنّب الباطل ومحاربة الظلم والجور، قال تعالي: () (1)، والمراد من القيام هنا هو ما جاء في الآية الشريفة الاخري: () (2)، والقيام في هذه الآية هو المقاومة والاستقامة لاالوقوف واستقامة البدن، وفي مقابله القعود بمعني الذلّة والقبول بالظلم والجور.

إنّ القيام والجهاد محور الدِّين الأصلي، وهو لا يعرف القعود والخنوع أبداً، قال تعالي: () (3)، ومعتمد هذا القيام وعمود هذه المقاومة وأساس هذه الاستقامة الباعثة علي قيام الناس ومقاومتهم أمام الجبّارين، يكمن في قيام الكعبة وحياتها، ودوام أمرها، تماماً كما قال الإمام الصادق (ع): «لا يزال الدِّين قائماً ما قامت الكعبة» (4)، والكعبة حيث كانت أساساً لقيام الناس وقوامهم وضعت في وسط الأرض حتّي


1- المائدة: 97.
2- سبأ: 46.
3- الحديد: 25.
4- وسائل الشيعة 14: 8.

ص: 110

يكون التكليف متساوياً بين أهل المشرق والمغرب. (1)

إنّ حياة الكعبة حياة الدِّين، والناس تحيي بحياة الدِّين، ومع خراب الكعبة وانعدامها وتركها يموت الدِّين وبموته يموت الناس، إنّ الكعبة بمثابة عظم فقرات الظهر بالنسبة لدين الله، فإذا كانت قويّةً سالمة كانت مقاومة الإنسان ووقوفه وذهابه وسرعته في الوصول إلي المغفرة الإلهيّة والسبق في امور الخير أمراً ممكناً، أمّا إذا كان هذا العظم عاجزاً وضعيفاً وهزيلًا فإنّ الوقوف يغدو غير ممكن، واستقامته لا تكون ميسورةً، وسرعته وسبقه و ... متوقّف علي قيامه فتكون محالًا.

وعلي هذا الأساس، قال أمير المؤمنين (ع): «والله الله في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن تُرك لم تناظروا» (2)؛ فترك بيت الله وتخليته بمثابة سقوط العمود الذي يتكئ عليه الإنسان فإذا ما هُجر بيتالله فإنّه ينقطع الاتّصال بمركز القدرة، ومع قطعه سيغدو القيام بالقسط والمقاومة أمام الظلم والجور غير ممكنة، وهنا يكون خير الدُّنيا والآخرة ممنوعاً مقطوعاً؛ فالكعبة هي عامل قيام الناس للدِّين والمعاش. (3)

من هنا يقول رسولالله (ص): «من أراد دنيا وآخرة فليؤمّ هذا البيت» (4)، ومن أهمّ موارد أمّ الكعبة إنجاز الحجّ بآدابه ومناسكه العظيمة.

وأساس هذه الكلمات كلّها هو الآية الشريفة: (). (5)

لذا كله يعمد إمام الزمان، قائم آل محمّد (ع)، في بداية قيامه إلي جعل محور القيام


1- المصدر السابق 348: 9، رغم أنّه يمكن في الجسم الكروي اتّخاذ نقاط متعدّدة بمثابة المركز، إلّا أنّه وطبقاً لبعض النصوص، وبلحاظ أغلب الذين يعيشون علي وجه الكرة الأرضية، ومع الأخذ بعين الاعتبار الأراضي المعمورة، فإنّ الكعبة تقع في القسم المركزي من الأرض.
2- نهج البلاغة، الرسالة رقم: 47، الفقرة: 6.
3- وسائل الشيعة 40: 8- 41.
4- المصدر السابق.
5- المائدة: 97.

ص: 111

والقوام بالنسبة للمجتمعات البشرية، أي الكعبة، معتمداً ومتّكأً له، فيسارع أنصاره إليه، كما يقول الإمام الباقر (ع): «.. إذا تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ... وركب ذوات الفروج السروج .. وأُكل الرِّبا .. فعند ذلك خروج قائمنا، فإذا خرج أسند ظهره إلي الكعبة واجتمع إليه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلًا ...». (1)

دور الاعتقاد والاقتصاد في قوام المجتمعات الإنسانيّة

يذكر القرآن الكريم الكعبة بوصفها عامل قيام الناس (2)، كما يذكر القدرات الاقتصادية بهذه الصفة أيضاً، حيث يقول: () (3)؛ وعليه فالمسألة الاعتقادية والأمر العبادي للكعبة والحجّ والعمرة هي قوام المجتمع في الامّة الإسلاميّة، وكذلك الاقتصاد، وهو أمر مادّي، إلّا أنّ ثقافة القرآن لا تضع هذين الأمرين في مستوي بعضهما، بل الاعتقاد دائماً هو الأصل والبنية التحتيّة، فيما الاقتصاد فرع وبناء فوقي، وعندما يتزاحم الأصل والفرع يقدّم الأصل، من هنا لم تترك حادثة الحصار في شِعب أبي طالب أيّ أثر في انتشار الإسلام، وقبوله في السنوات الاولي لظهوره علي المسلمين المعتقدين، كذلك لم يترك الحصار الاقتصادي الحالي من جانب الغرب الناهب أيّ أثر في اضمحلال الصحوة الإسلاميّة.

6- بيت الأحرار ومحور الحرّية
اشارة

الكعبة بناء عتيق () (4)، لم يكن تحت سلطان أيّ سلطة أو


1- بحار الأنوار 191: 52- 192.
2- المائدة: 97.
3- النساء: 5.
4- الحج: 29.

ص: 112

ملكيّتها، وقد كانت محميّةً علي امتداد التاريخ من تطاول الطواغيت وتناول الملّاك، وتداول رجال الدولة والسلطة، كما كانت متحرّرةً- وما تزال- من أي سلطة بشريّة أو ملكيّة إنسانية، فلا تختصّ بشخص أو فريق أو قوم أو قوميّة أو عرق أو دولة أو حكومة، تماماً كما يقول الإمام الباقر (ع) حول سرّ وصف الكعبة بالبيت العتيق: «هو بيت حرّ عتيق من الناس لم يملكه أحد» (1)، فالله سبحانه لم ينسب هذا البيت من الأوّل لأحد غيره، فقال: () (2)، كما أنّ باني الكعبة لم يملكها من حيث إنّه هو المأمور ببنائها، لذا لم ينسبها لغير الله تعالي، حيث قال: (). (3)

وعليه، فالكعبة عتيقة من حيث قدمها التاريخي ونفاستها، فذات قيمة وسبق، كما أنّها عتيقة من حيث تحرّرها وانعتاقها من كلّ سلطة مالكة وقهر سلطاني، والطواف حول مثل هذا البناء يعطي درساً في الحرّية، ويحرّر الإنسان من كلّ أنواع العبودية عدا لله تعالي، وهذه العبودية هي الفضيلة الوحيدة للإنسان، كما أنّ إرسال الأضحية إلي البيت العتيق وذبحها في داخل الحرم () (4)و () (5) يعطي درساً آخر في التحرّر من التعلّقات.

إنّ الذين يرزقون زيارة هذا البناء ليسوا عبيداً لأنفسهم وحرصهم، ولا مماليك للمستعمرين والمستثمرين الخارجيّين، تماماً كما كان بنّاء الكعبة سيّدنا إبراهيم (ع) مبرّءاً من الميول والتعلّقات ومحميّاً من الحرص والخوف و ... إنّ العبودية لاتنسجم مع مدار الحريّة والتحرّر.


1- الكافي 189: 4.
2- البقرة: 125.
3- إبراهيم: 37.المائدة: 95.
4- المائدة: 95.
5- الحج: 33.

ص: 113

وبناءاً عليه، لا يمكن لغير المتحرّرين من قبضة سلطة المتسلّطين أن يطوفوا طوافاً حقيقيّاً حول هذا البيت، أو أن يجعلوه قبلتهم علي نحو الحقيقة، وليس سوي الأحرار الحقيقيّون من قبضات الهوي، العاصون عليه والمتّجهون نحو القلب والروح من يتمكّن من الدوران حولها.

إنّ هذا الإقبال علي الكعبة يجعل سلوك الإنسان ملائكيّاً، ويحرّره من الشهوة والغضب والرذائل الأخلاقيّة.

إذا جاهدت وسعيت غدوت مَلَكاً

فالحرير لا يأتي إلّا من ورق التوت. (1)

إنّ الذي يطوف حرّاً حول البيت لا يغدو عبداً ولا ذليلًا، كما أنّه لا يري نفسه سوي عبداً لله تعالي، تماماً كما يقول أمير المؤمنين (ع): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً». (2)

7- مظهر المساواة

من أبرز مظاهر شموليّة الإسلام وعالميّته واستيعاب دعوته وندائه العالمي حول الكعبة هو الحجّ، حيث كان إعلانه عند بناء الكعبة موجّهاً للجميع، قال تعالي: (). (3)

إنّ الكعبة بنيان إلهي لكلّ الناس علي امتداد التاريخ، لا تختصّ بأحد أو قوم أو


1- سنائي غزنوي.
2- نهج البلاغة، الرسالة 31، الفقرة: 87.
3- الحج: 27.

ص: 114

عصر أو إقليم، من هنا يجب علي أهل المدن والقري والأرياف، وعلي المتمدّنين وأهل البادية، وعلي القريب والبعيد، والغابر والقادم، وبشكل واحد أن يستفيدوا من نعمة الحجّ، قال تعالي: (...) (1)؛ وبهذا تغدو الكعبة والمسجد الحرام مظهراً بارزاً للمساواة بين الناس.

لقد دعا الله تعالي الجميع إلي أرض المساواة كي يتعلّموا ويتمرّنوا علي التساوي والمساواة، ودعاهم إلي الطواف في أطراف الكعبة جميعاً حيث قال: ()؛ فإذا حصل الطواف حول الكعبة، ودائرة المساواة، فلابدّ من إلقاء كلّ معاني الامتياز الفردي والعرقي والقومي واعتبار كلّ القوميات والأعراق قوميّته وعرقه، وكما يأخذ درس الطهارة من الطواف حول البيت الطاهر: () (2)، كذلك لابدّ أن يكون حاصله من الحضور في موضع تجلّي المساواة هو درس المساواة أيضاً، حتّي لا يرجّح فرداً علي آخر، وعرقاً علي آخر، أللّهمَّ إلّا علي أساس التقوي التي تعني الفضيلة المعنوية غير المادّية.

8- الكعبة مرجع الخلق جميعاً

الكعبة مرجع عامّة الناس ومثابتهم، ومأمن جماهير الخلق، قال تعالي: () (3)، وكما هو ظهور كلمة «الناس»، كذلك لم يجعل الله تعالي الكعبة مبنيّةً للمسلمين فقط.

تعني كلمة «ثاب» رجع (4)، و «مثاب» و «مثابة» بمعني المرجع، وتاء المثابة تاء


1- الحجّ: 25.
2- البقرة: 125.
3- المصدر السابق.
4- الراغب الإصفهاني، المفردات: 80، مادّة: ثوب.

ص: 115

المبالغة، بمعني أنّ البيت هو مرجع مكرّر للناس، ويطلق المرجع علي المكان الذي يأتي منه الإنسان ويعود إليه مجدّداً، وعلي هذا الأساس فالكعبة هي الوطن الأصلي للناس، فعندما يزور الإنسان الكعبة يبدو وكأنه عاد إلي أهله، وبناءاً عليه فالكعبة مظهر الفطرة، والحالة الأصليّة للناس تتمثّل في رجوعهم إلي الكعبة، وكلّ من ينصرف عن الكعبة يكون قد انحرف عن حالته الأصليّة.

وحيث كان كلّ مسلم علي ارتباط مستمرّ بالكعبة- تماماً كما تقتضيه أفضل حالة الأدب الإسلامي في الجلوس، وهي حالة التوجّه إلي الكعبة «خير المجالس ما استُقبل به القبلة» (1)، وهكذا كان رسولالله (ص) في جلوسه (2)- كان بالإمكان استظهار معني آخر للمثاب وهو أنّ الكعبة مرجع الناس في تمام اللحظات، في الليل والنهار.

9- مركز الاتّحاد

توفّر وحدة المرجع الأرضيةَ لاتّحاد الراجعين؛ فالإحساس بوحدة المقصد والمأوي وسيلة مناسبة لتضارب آراء الراجعين، وعلاقاتهم الفكرية، وهذا بنفسه مقدّمة مناسبة لإدراك ضرورة العودة المتّحدة، كي تتهيّأ عناصر عالميّة الإسلام وأصول المجتمع المهدوي، ورغم أنّه من وجهة نظر الملكوت أيّ جهة يتّجه إليها أحد فهو يتّجه إلي الله تعالي، () (3)، إلّا أنّه علي مستوي الملك ونطاق الطبيعة لا مفرّ من التوجّه إلي نقطة مركزية ومتكئ محوري.

لقد خلق الله سبحانه الكعبة للوحدة العالميّة حتّي يتمكّن الجميع من عيش حياة


1- وسائل الشيعة 475: 8.
2- المصدر السابق؛ والكافي 661: 2.
3- البقرة: 115.

ص: 116

سلميّة هانئة مع الاهتمام بالاصول القيّمة للتوحيد، ومركز إجراء هذه الفكرة ليس سوي الكعبة التي جعلها الله سبحانه تجمّعاً لأطراف العالم الإسلامي عبر اعتبارها قبلةً ومطافاً للعالمين، حتّي يتّحد مسلمو العالم بامتلاكهم المحور الذي يعطي الوحدة ويتعرّفون بذلك علي بعضهم.

وبناءاً عليه، فالكعبة مركز عام ومحور رئيس لتبادل وجهات النظر من الأطراف كافّة حتّي يلتقي المسلمون من القريب والبعيد إلي جانب بعضهم، يطرحوا هناك القضايا العلميّة والعمليّة والمشكلات السياسيّة والاجتماعية كي يقوموا بحلّها ويُحكموا بذلك العلاقة فيما بينهم.

لقد بُنيت الكعبة علي يد قويّة لنبيٍّ عظيم حتّي تكون مركزاً لنشر التوحيد، وعندما احتاجت في عصر خاتم الأنبياء (ص) إلي التجديد، وبعد انهيار قسم من جدار الكعبة وحصول خلاف بين القبائل العربية في نصب الحجر الأسود في من هي القبيلة التي ستنال شرف نصب هذا الحجر ... اتّفق الجميع علي اختيار محمّد الأمين (ص) بوصفه العاقل المحايد والناظر غير المتحيّز ولا المغرض .. حتّي يقبلوا بأيّ قرار يتّخذه (ص) .. هناك طلب منهم الرسول (ص) أن يفترشوا رداءاً ليضعوا الحجر الأسود فيه، فتأخذ كلّ قبيلة طرفاً من الرداء، وبهذا عاد الحجر الأسود إلي مكانه الخاصّ، وجعله الرسول (ص) بيده المباركة في محلّه الموجود اليوم. (1)

لقد ارتفعت أرضية الخلافات الجاهلية القوميّة والعرقيّة إلي حدّ ما علي هدي إرشادات خاتم الأنبياء (ص)، وقد دعا الرسول الأكرم (ص) بهذا الابتكار التاريخي .. دعا الشعب إلي الاتّحاد، مقدِّماً الكعبة منادياً لذلك ومركزاً للوحدة.

إنّ هذا الوصف الممتاز يتلألأ إلي جانب سائر الأوصاف البارزة للكعبة، وهو أنّها تكوّن مدرسة التوحيد والاتّحاد والوحدة، فالبيت الذي تقدّسه امّة من الناس


1- وسائل الشيعة 329: 9- 330.

ص: 117

ويشارك الجميع في بنائه وعمارته، وأهمّ جزء منه قد نصب في موضعه الخاصّ مع حفظ تمام الحقوق، وكان للإنسان الكامل الأطهر دورٌ في نصب هذا الجزء المقدّس، ذلك الإنسان الذي تعدّ الوحدة الشعبيّة من أهمّ رسائله الهامّة .. إنّ هذا البيت له دور فاعل في أن يكون مركزاً للوحدة.

ملاحظة

لقد خصّصنا البحث الأوّل من هذا الفصل للحديث عن المكانة المحورية للكعبة في توحيد الامّة الإسلاميّة.

10- أقدم المعابد العامّة

كلّ الأرض مسجد، قال رسولالله (ص): «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (1)، وقد عبد الإنسان منذ القدم السحيق الله سبحانه في زوايا الأرض وأطرافها، إلّا أنّ أوّل مكان مخصّص للعبادة الجماعيّة كان الكعبة، قال تعالي: (). (2)

إنّ الكعبة- ومع هذا الماضي المقدّس والتاريخ المبارك- متقدّمة في الشرف علي بيت المقدس، فصارت قبلةً للعالمين، وقد استند إلي هذا التاريخ السحيق عندما نزل الوحي الإلهي حول تغيير القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة المعظّمة واعترض اليهود علي الإسلام بقداسة البيت المقدّس وقدمه، حيث ذكر أنّ الكعبة المطهّرة كانت أوّل بيت وأقدم بيت وضع للناس.

لعلّه من هذا المنطلق أطلق علي الكعبة عنوان «البيت العتيق»، ذلك أنّ العتيق


1- المصدر السابق 969: 2.
2- آل عمران: 96.

ص: 118

يُطلق علي القديم والنفيس، والشي ء الذي لا قِدَم له، أو هو قديم لكنّه ليس بنفيس لا يسمّي عتيقاً.

نعم، كما كان مدار الكرامة في النظام الإنساني الإلهي هو التقوي لا غير، كذلك محور قداسة الظواهر المادّية والنظام الخارج عن الإنسان كالأزمنة والأمكنة وأمثالها هو تجلّي الأمر الإلهي، كنزول الوحي فيه أو بسط الوحي عنده، وهذا الأمر الإلهي هو الموجب الوحيد لقداسة الكعبة، والتي غدت بيتاً عتيقاً نظراً إلي انضمام قدمها التاريخي إلي ذلك.

وتوضيح هذا الأمر أنّ حرمة الحرم ومكّة إنّما هي بالكعبة، وحرمة الكعبة بالوحي الإلهي والإنسان الكامل والمعصوم الذي يغدو الخليفة التامّة لله سبحانه علي أثر الاتّصال به وتلقّيه الوحي، أعمّ من الوحي التشريعي والوحي التسديدي الغيبي، كما أنّ الكلام والكتاب الإلهي- أي القرآن الكريم الحكيم- يأخذ حرمته من حرمة المتكلِّم والكاتب، أي الله سبحانه، تماماً كما هي حرمة الخليفة- أي الإنسان الكامل- تكون بالمستخلف عنه، أي الله الحكيم، إنّ حرمة الله تعالي بالذات، وعلي أساس الأصل القاضي بأنّ كلّ ما بالعرض لابدّ أن يرجع إلي ما بالذات، تكون الحرمة الإلهيّة هي المرجع الحصري لكافة الحرمات المذكورة.

وبناءاً عليه، فكافة الامور المذكورة من نزول الوحي إلي هبوط الكتاب السماوي ووجود الإنسان الكامل الذي يكون قلبه المطهّر مهبطاً للوحي (1)، لها دور فاعل في قداسة الكعبة، تماماً كما أنّ لبنّاء البيت العتيق وكيفيّة تطهيره من لوث الوثنيّة والمعصية دوراً أيضاً في قداسة الكعبة.

وللبيت العتيق معني آخر سبق التعرّض له وبيانه.


1- الشعراء: 193- 194.

ص: 119

11- أفضل المعابد

كما لا يوجد عند الله أحبّ من الإسلام المتمثّل بالكعبة، كذلك ليس هناك من بقعة أحبّ إليه تعالي من الكعبة، من هنا يقول الإمام الصادق (ع): «إنّ الله اختار من كلّ شي ء شيئاً واختار من الأرض موضع الكعبة». (1)

لقد انتشر في صدر الإسلام تفكير إسرائيلي مصحوب بترسّبات جاهليّة علي يد أفراد مثل كعب الأحبار، كمرض ووباء معدٍ، وقد وقفت العترة الطاهرة- وهي عدل القرآن- وبكلّ قوّة وصلابة في وجه هذا المرض وإبطاله، وهذا أُنموذج لذلك:

يقول زرارة: «كنت قاعداً إلي جنب أبي جعفر (ع) وهو محتب مستقبل الكعبة، فقال: أما أنّ النظر إليها عبادة، فجاءه رجل من بجيلة يُقال له: عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر (ع): إنّ كعب الأحبار كان يقول: إنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة، فقال أبو جعفر (ع): فما تقول فيما قال كعب الأحبار؟ فقال: صدق القول ما قال كعب، فقال أبو جعفر (ع): كذبت وكذب كعب الأحبار معك، وغضب، وقال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً يقول: كذبت، غيره. قال: ما خلق الله عزّ وجلّ بقعةً في الأرض أحبّ إليه منها، ثمّ أومئ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم علي الله عزّ وجلّ منها ...». (2)

لم يُسند الله تعالي البيت المقدّس- رغم كلّ قداسته- إلي نفسه، وإنّما أطلق هذا التعبير بحقّ الكعبة حين قال: بَيْتِي (3)، نعم أسندت الكعبة- من جهة- للناس حيث قال تعالي: (...) (4)، إلّا أنّ هذا الإسناد المرفق بحرف اللّام يدلّ علي أنّ الكعبة جعلت- من حيث التشريع- معبداً وقبلةً ومطافاً للناس.


1- وسائل الشيعة 348: 9.
2- وسائل الشيعة 363: 9.
3- البقرة: 125؛ والحج: 26.
4- آل عمران: 96.

ص: 120

12- منشأ البركة

الكعبة منشأ البركات الكثيرة ووسيلة هداية العالمين، قال تعالي: () (1)، فالله سبحانه ثابت دائم بنفسه، وخيراته شاملة للعالم كثيرة حول الكعبة وثابتة، من هنا جاء وصف «مباركة» الذي يُطلق علي الشي ء الثابت الدائم.

ومن علامات «المبارك» في الكعبة استمرار العبادة في أطرافها، حتّي لا ينقطع الطواف ولا للحظة واحدة من حولها باستثناء حالة صلاة الجماعة، كما أنّ الثواب علي العبادات عندها مضاعف، وكذلك غفران الذنوب إلي جانبها (2)، والظاهر أنّه لا يوجد دليل علي تقييد هذه البركة.

13- الكعبة وسيلة الهداية

الكعبة وسيلة هداية العالمين، قال سبحانه: ()، فكلّ العباد والسالكين يتوجّهون إلي الكعبة، ومن هناك انطلقت دعوة الحقّ علي يد الكثير من الأنبياء: حتّي بلغت مسامع العالمين، من هنا قال سبحانه عنها: () تماماً كما دعا خاتم الأنبياء (ص) الناس إلي التوحيد من هناك، وكذا خاتم الأوصياء (ع) سيكون منطلقه وظهوره من تلك النقطة أيضاً نحو العالمين، وهناك الآيات الإلهيّة الواضحة، قال سبحانه: () (3) ووسائل اخري كثيرة لهداية الناس إلي الحقّ.

ومن مصاديق الهداية الإلهيّة في تلك الأرض معرفة الله تعالي بدلالة الآيات البيّنة في


1- المصدر السابق.
2- الطبرسي، مجمع البيان 1- 798: 2.
3- آل عمران: 97.

ص: 121

الكعبة وأطرافها، وكذلك دلالة الكعبة علي الجهة التي لابدّ من الصلاة نحوها، وهي الطريق إلي الجنّة الذي يتمّ العثور عليه عبر إقامة الحجّ والطواف حولها ( (1))، لكن وكما أُشير آنفاً .. لا دليل علي تقييد البركة والهداية المذكورين، كما لا تفصيل بينهما وتمييز.

14- حماية الكعبة

اسّست الكعبة حتّي يتّجه إليها العابدون، وحيث كانت العبادة لازمةً للإنسان وضروريّة، ولا تقبل هذه السنّةُ القديمة الإلهيّة الزوالَ، كذلك الحجّ- كالصلاة- من الاصول الرئيسة للإسلام، وأحد أبرز الوجوه العبادية للشرع عموماً ودوماً حماية الكعبة وحفظها من الهجوم والسهام الحاقدة، ولهذا كان ذلك جزءاً من البرامج الإلهيّة الحتميّة، وعلي هذا الأساس هلك أصحاب الفيل بمعجزة غيبيّة لمّا أرادوا هدم الكعبة وإعدامها. (2)

والذي يُستفاد من الآية الشريفة: () (3) أنّ التصميم علي القيام بالظلم في الحجّ وزيارة الكعبة، وإن لم يكن يبلغ حدّ العمل، إلّا أنّه يوجب الانتقام الإلهي أيضاً، وكلّ شخص يريد الظلم بإلحاد، أو يسدّ هذا السبيل الإلهي، ويصرف الناس عن زيارة الكعبة والعبادة .. فإنّه سوف يكون مشمولًا لهذا التهديد المرعب المخيف، والله سبحانه سوف يذيقهم عذاباً أليماً، وإذا ما وقعت الكعبة في بعض فترات التاريخ موقع الظلم وإرادة إلحاق الضرر بها ولم يلحق المهاجمين المعتدين العذاب فوراً، فإنّ ذلك كان لسبب سوف يأتي ذكره عند الحديث عن العلاقة بين الكعبة والإمامة وأهمّية مقام الإمامة الرفيع.

أمّا عن حماية الكعبة ومصونيّتها فقد تقدّم الحديث عن ذلك مفصّلًا نسبيّاً في


1- الطبرسي، مجمع البيان 1- 798: 2.
2- الفيل: 1- 5.
3- الحجّ: 25.

ص: 122

الفصل الثالث من القسم الأوّل، لا سيما في الفرع الثالث عند الحديث عن «علاقة الحجّ وشؤونه بالولاية». (1)

15- الولاية روح الكعبة

تحاذي الكعبة البيت المعمور، وهو في مقابل العرش الإلهي، وقد بني البيت المعمور حتّي يحصل الملائكة الذين لم يعرفوا لمقام الإنسانية الخلافة ويجعلون التسبيح والتقديس الصادر منهم سنداً مناسباً لصيرورتهم خلفاء لله، وتعرّفوا بالتنبيه الإلهي علي أوج مقام الإنسان الكامل، وأعلنوا الندم علي ما اقترفوه، كاتبين استقالتهم، معلنين ندمهم عبر الاستفهام التعجّبي والاستخبار والاستعلام والاستسفار ... حتّي يطوف هؤلاء به، فيرمّمون بذلك نقص عملهم (2).. كما كان البيت المعمور قد صنع


1- ثمّة روايات في هذا المضمار عن الأئمّة المعصومين: جاءت في بعض المجاميع الروائية تحت عنوان «باب مَن أراد الكعبة بسوء» فانظر: من لا يحضره الفقيه 248: 2، والوافي 53: 12.
2- جاء في الكافي 187: 4- 188، باب بدء البيت والطواف، حديثان مختلفان قليلًا في السند وبعض العبارات في المتن إلّا أنّ الذي يبدو أنّهما من أصل واحد، وقد جاء في الروايتين أنّ الإمام الصادق ينقل جواب والده الإمام الباقر 7 عن سؤال وجّهه إليه شخص يريد أن يعرف علّة تشريع الطواف، وفي الرواية الاولي صرّح ب-: «. فأمر الله ملكاً في الملائكة أن يجعل له بيتاً في السماء السادسة يسمّي الضراح بإزاء عرشه ..»، كما كان القسم الأخير من الرواية الثانية علي الشكل التالي: «إنّ الله عزّ وجلّ لمّا أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم 7، ردّوا عليه، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال الله تبارك وتعالي: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ البقرة: 30، فغضب عليهم، ثمّ سألوه التوبة، فأمرهم أن يطوفوا بالضراح، وهو البيت المعمور، ومكثوا يطوفون به سبع سنين] و [يستغفرون الله عزّ وجلّ ممّا قالوا. ثمّ تاب الله عليهم من بعد ذلك ورضي عنهم، فهذا كان أصل الطواف، ثمّ جعلالله البيت الحرام حذو الضراح توبةً لمن أذنب من بني آدم وطهوراً لهم». لابدّ من الانتباه في ورود تعابير مثل ردّ الملائكة، غضبهم ثمّ ندمهم واستغفارهم، سخط الله وغضبه، حجبهم عن النور الإلهي، وهو ما جاء في بعض الروايات في ذيل الآيات 30- 34 من سورة البقرة، فهذه التعابير: أوّلًا: بحاجة إلي توجيه وتبيين علي تقدير صحّة سندها تماماً كما هي الحال في بعض الآيات المتعلّقة بالتوحيد والنبوّة. ثانياً: ليس عالم الملائكة منطقة للتشريع والأحكام الفقهيّة، وإلّا كانت لديهم شريعة ورسالة وحدود وعقوبات وثواب و ... ثالثاً: إنّ احتفاف حوار الملائكة لله بكلمات مثل التسبيح والتقديس والعلم والحكمة دليل علي اعتقادهم واعترافهم بنزاهة عمل الله تعالي وقداسته من كلّ عيب ونقص، وإذعان منهم بالعلم والحكمة الإلهية، وهذا الاعتقاد والإذعان قرينة كافية علي استفهاميّة سؤالهم. رابعاً: رغم أنّ ظاهر بعض الروايات كراهة الملائكة لجعل الخلافة لآدم إلّا أنّ الملائكة المعهودين في القرآن معصومون جميعاً، فأدلّة عصمتهم تأبي عن التخصيص. خامساً: إنّ ثناء الملائكة وتنزيههم لله تعالي ليس سنداً للتدارك، لأنّ سيرة المَلَك وسريرته هو التسبيح المنسجم مع الثناء والتقديس الإلهيّين. سادساً: جاء في بعض الروايات أنّ الملائكة غضبوا لرضا الله تعالي وتأسّفوا علي أهل الأرض بحار الأنوار 103: 11، فغضب الملائكة وتأسّفهم له صبغة عبادية.

ص: 123

لذلك، كذا الكعبة صنعت للطواف حولها حتّي يرمّم الجميع قصورهم ويجبروا تقصيرهم لاسيّما الغفلة عن مقام الإنسانية، والسهو والنسيان أو العصيان في محضر خليفة الله.

من هنا، فأفضل تنبّه للطائفين الغافلين والحجّاج الذاهلين هو تدارك الجهل وجبران غفلتهم بأنفسهم وعدم معرفتهم للمقام الشامخ للإنسان الكامل وخليفة العصر بقيّة الله (ع)، حتّي يغدو كالملائكة مقبول الطواف ومشكورَ السعي.

بناءاً عليه، رغم أنّ النظر إلي الكعبة محمود وممدوح، والناظر إليها مُثاب ومأجور (1)، إلّا أنّه كما هي كلمة التوحيد مشروطة بالولاية، حصن الأمن ودرع النجاة (2)، كذلك النظر العرفاني- المنسجم مع الولاية- إلي الكعبة هو أيضاً أساس غفران الذنب، وأصل نيل الجاه، والتحرّر من حفرة الطبيعة وغمّ الدنيا والآخرة، تماماً كما يقول الإمام الصادق (ع): «من نظر إلي الكعبة بمعرفة، فعرف من حقّنا وحُرمتنا مثل


1- وسائل الشيعة 364: 9.
2- بحار الأنوار 7: 3.

ص: 124

الذي عرف من حقّها وحرمتها، غفر الله ذنوبه وكفاه همّ الدُّنيا والآخرة» ( (1)). وشاهد ذلك عدم قبول عبادات منكري الولاية.

من هذا المنطلق يتّضح معني الحديث الوارد في محبوبيّة أرض مكّة وكلّ ما كان في فضائها وعليها، أعمّ من التراب، والحجارة، والأشجار، والجبال والماء (2)، أي أنّ منطقة الحرم التي يعدّ إدراك حقّها ومعرفة حرمتها معرفةً مندمجةً بعرفان حقّ الولاية وامتثال آثار الولاء أحبّ الامور، ولا شي ء مثله في المحبوبيّة، ذلك أنّ القرآن عدل الثقل الأصغر (الولاية) وهو محبوب العارفين بالثقلين ومعروفهم، وأرض الوحي أساس انبعاث هذا الإقدام الممزوج بالامتثال، وهذه المعرفة المتناغمة مع العمل، من هنا كانت أكثر الأراضي محبوبيّةً.

فإذا كانت الكعبة مدينةً بتمام ألوان الشرف، وقد قدّرت وظائف لذلك، فروح هذه المراسم والمناسك هي الولاية والإمامة ومعرفة الإمام والخضوع له والتسليم أمامه، علي هذا الأساس تطرح فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ويتوهّم فريق أنّه أفضل منه، فيبيّن الله تعالي أفضليّته بوصفه أبرز مصاديق أهل الإيمان والجهاد، قال سبحانه: (). (3)

إنّ حرمة الكعبة- التي يوجب هتكها والإساءة إليها العذاب الإلهي الأليم- منطلقة من حرمة الولاية التي هي باطن المقامات النبويّة الشامخة ومقامات الرسالة والإمامة، فمن لم يعرف إمامه، وكانت حياته كموته جاهليّين (4) إذا احتمي بالكعبة فلا يأمن بالأمن الإلهي، بل يُعطي عدوّه مهلةً حتّي يلقي القبض عليه، حتّي لو كان ذلك


1- وسائل الشيعة 364: 9.
2- المصدر السابق: 349.
3- التوبة: 19، وانظر: بحار الأنوار 288: 22.
4- المناقب 246: 1.

ص: 125

في إطار تخريب الكعبة، ذلك أنّه: «لم يناد بشي ء كما نُودي بالولاية». (1)

وقد تقدّم مزيد من التوضيح حول العلاقة بين شؤون الحجّ المختلفة وعين الولاية في الفصل الخامس من القسم الأوّل.

16- علامة القبلة

تكمن أهمّية القبلة ومكانتها في أنّها علامة علي كيان الدِّين والامّة، تماماً كما يسمّي المسلمون «أهل القبلة» ويُعرفون أيضاً بأهل القرآن؛ ولهذا اعتبر الله سبحانه القبلة امتحاناً كبيراً، حيث قال: (). (2)

لقد كان بيت المقدس قبلة المسلمين قبل الهجرة ومقداراً بعدها، رغم أنّ رسولالله كان يسعي- حدّ الإمكان- أثناء الصلاة أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس حتّي يتمكّن في آن واحد من الصلاة إلي الكعبة وإلي بيت المقدس. (3)

نعم، هذا العمل لم يكن ممكناً في المدينة المنوّرة، من هنا تغيّرت القبلة بعد سنة وبضعة أشهر من الهجرة إلي المدينة بأمر من الله لتتحوّل من بيت المقدس إلي الكعبة، وهنا قال أعداء الإسلام اللجوجون والمعاندون: إذا لم يكن التوجّه إلي بيت المقدس حقّاً فلماذا كانت الصلاة إليه لأكثر من أربعة عشر عاماً- طبقاً لكون الصلاة قد فرضت في أوّل البعثة- وإذا لم يكن استقباله حقّاً فلماذا تحوّل محمّد عنه؟!

وبالأخذ بعين الاعتبار في القبلة عنصر الجهة لا المكان، علي خلاف الطواف حيث العبرة فيه بالمطاف والمكان لا الجهة، أجاب الله سبحانه اعتراضهم هذا بالقول:


1- الكافي 18: 2.
2- البقرة: 143.
3- بحار الأنوار 105: 4؛ و 59: 81، و 218: 92.

ص: 126

() (1)، بمعني أنّ جميع الجهات لله تعالي، إذ كلّ شي ء مِلكه ومُلكه (2)، وزمام الأشياء بيده وإليه. (3) وانطلاقاً من كرويّة الأرض وحركتها الوضعيّة نري:

أوّلًا: أنّ تمام نقاط الأرض تعدّ مشرقاً ومغرباً بملاحظة طلوع الشمس وغروبها.

ثانياً: إذا لم يكن هناك مشرق ومغرب فلا شمال ولا جنوب أيضاً، وعليه فتمام الجهات متساوية في ملك الحقّ سبحانه، ولا مزيّة لإحداها علي الاخري، فبيت المقدس ليس بأشرف من الكعبة حتّي يكون العدول عنه مستحيلًا عقلًا وممنوعاً؛ فلا رجحان ذاتيّ لأيّ من هذه الجهات، فكلّها لله، وهو المبدأ الفاعلي لجعل هذه أو تلك قبلةً.

وبناءاً عليه، فكلّ جهة يتّجه إليها الإنسان هي وجه الله، قال سبحانه: () (4)، فلاخصوصيّة للكعبة من هذه الناحية، أي أنّ الأمر ليس بحيث لو لم يستقبل الإنسان الكعبة فلا يكون مستقبلًا لله سبحانه، حتّي لو كان رسولالله (ص) يجلس نحو القبلة. (5)

إنّ وجوب الاتّجاه نحو الكعبة في بعض الامور، مثل: الصلاة والذبح، وحرمة ذلك أو حرمة استدبار الكعبة في موارد اخري إنّما هو منحصر في نطاق الأحكام الفقهيّة، وإلّا فلا جهة من الجهات يمكنها أن تحدّد الله تعالي.

ويؤيّد هذا الأمر أنّه إذا لم يكن القيام واجباً في أصل الصلاة أمكن للمصلّي في داخل الكعبة أن ينام علي ظهره ويصلّي متّجهاً نحو السماء، ذلك أنّ داخل الكعبة ومن تمام جهاتها الأعمّ من الأضلاع والزوايا يعدّ قبلةً ومصداقاً بارزاً لقوله تعالي: ().


1- البقرة: 115.
2- الملك: 1.
3- يس: 83.
4- البقرة: 115.
5- الكافي 661: 2.

ص: 127

وعلي أيّ حال، لم تجعل الكعبة أوّل قبلة للمسلمين حتّي زال التعصّب الجاهلي وعلم المتّبع من المنقلب، قال سبحانه: () (1)، ذلك أنه لو جعلت الكعبة قبلةً منذ انطلاقة البعثة فسوف تحيا ترسّبات الجاهلية العربية والتعصّبات القوميّة، وبعد أن تأمّن الهدف المذكور ولمواجهة تعصّب يهود المدينة وأطرافها وطعنهم حيث قالوا: لم يكن المسلمون مستقلّين في القبلة بل تابعين لقبلتنا، من هنا حوّل الله القبلة مرّةً اخري إلي الكعبة.

لقد أدّي توهّم التبعيّة لليهود في أمر القبلة إلي ظهور إحساس الحقارة والذلّة في نفوس المسلمين، حتّي أنّ الرسول كان ينتظر الوحي لحلّ هذا المعضل، قال تعالي: () (2) رغم أنّ الله تعالي عدّ رسوله الأكرم (ص) أكمل مصداق للهداية حيث قال: () (3)، مصرّحاً في أمر القبلة بقوله: () (4)، لكن مع ذلك كان انتظار النبيّ (ص) من ناحية الطعن والتحقير الذي مارسه معوجّو الفكر وسيّئو اللِّسان ضدّ الإسلام والمسلمين، لا أنّه انطلق من أساس شخصي أو عرقي أو قبلي، لذا قال تعالي: () (5)، علي أساس أنّ الإنسان الكامل الذي وصل إلي مقام الرضا ورضي الله عنه كما رضي هو عنه () (6)، ليس عنده رضا نفسي أو قومي بل «رضي الله رضانا أهل البيت» (7)، فمثل هذا الإنسان


1- البقرة: 143.
2- البقرة: 144.
3- الزخرف: 43.
4- البقرة: 143.
5- البقرة: 144.
6- المائدة: 119.
7- بحار الأنوار 366: 44.

ص: 128

يطلب ما يرضاه الله وبإذنه، ولهذا قبل القبلة حيث كانت مرضيّةً عند الله، والله تعالي رضي بالقبلة حيث تكون مصونةً من الطعن.

القبلة هي البُعد الذي لا يتغيّر للكعبة

الكعبة هي ما يتّجه إليه المسلمون في حياتهم ومماتهم ويرتبطون به ارتباطاً دينيّاً مباشراً، لهذا عُلّمنا أن نقول: «الكعبة قبلتي» (1)، إنّ الارتباط المباشر بين المسلمين والكعبة في حياتهم ومماتهم يظهر في بعض الحالات بالاتّجاه نحو القبلة واجباً، مثل حال الصلاة والذبح، واخري مستحبّاً، وفي بعض الحالات يكون استقبال الكعبة أو استدبارها حراماً أو مكروهاً، وفي هذا المجال ثمّة نقاط تستحقّ الانتباه وهي:

1- إنّ الاستقبال غير القبلة، تماماً كما أنّ المراد من استقبال القبلة أو استدبارها هو الاستقبال بمقاديم البدن لا خصوص الوجه.

2- لاستقبال الكعبة بالنسبة لسكّان المناطق البعيدة امتداد واسع وملاكه الصدق العرفي لا الصدق الرياضي، ففي نظر العرف يعدّ استقبال المسجد الحرام من خارج الحرم استقبالًا حقيقيّاً للقبلة لا مجازيّاً، حتّي لو لم يكن كذلك من ناحية الحسابات الهندسيّة.

3- لقد أشار بعض العلماء الكبار إلي أمر ظريف هنا يكمن في أنّ الكعبة ليست قبلةً في نفسها، وعليه فإذا جرف الكعبة سيلٌ أو ما شابه فخرّبها فلا يعني ذلك زوال القبلة وانعدامها، بل إنّ فضاءها وبُعدها الخاصّين لا يقبلان التغيير والتبديل، حيث يمتدّان من أعماق الأرض وتخومها إلي أوج السماء وعنانها. (2)

فالكعبة وضعت في مكان القبلة، من هنا فمن هو في أعماق الأرض أو في مرتفعات


1- المصدر السابق 175: 6، 228- 229، 237- 238.
2- وسائل الشيعة 247: 3.

ص: 129

الجبال يمكنه أن يتّجه إلي الكعبة ويصدق عليه استقبال القبلة.

قبلة الأنبياء:

لقد كان الأنبياء وأتباعهم أهل الصلاة والسجود، قال تعالي: () (1)، وقال سبحانه: (). (2)

وحيث كان للصلاة والسجود جهة وقبلة، وجب إمّا القبول بجهة خاصّة بوصفها قبلةً أو أن نقول- طبقاً لقوله تعالي: () (3): إنّ تمام الجهات متساوية في الشريعة ولا ترجيح لأحدها في الاستقبال علي الاخري، وهو فرض بعيد؛ حيث يستفاد من ظاهر الآية الشريفة: () (4)، بمعونة الأحاديث المأثورة أنّ الكعبة كانت محلّ تكريم واحترام من جانب الأنبياء جميعهم، ورغم أنّ ظاهر الآية ليس ناظراً إلي ناحية بُعد القبلة في الكعبة، لكن علي فرض انعقاد ظهور إطلاقي فيها لانحصار القبلة في الكعبة يمكن تقييد الإطلاق المذكور بدليل معتبر آخر إذا كان موجوداً.

وعلي أيّة حال، فحرمة الكعبة محرزة منذ قديم الأيّام إلي حدّ أنّها كانت محلّ


1- مريم: 31.
2- مريم: 58- 59.
3- البقرة: 115.
4- آل عمران: 96.

ص: 130

تقدير وتكريم منذ آدم حتّي الخاتم (ص) تماماً، كما هو بُعد المطاف فيها مستمرّاً، نعم لبُعد القبلة في الكعبة أحكام فقهيّة مختلفة يمكن تصوّرها عبر الأعصار والقرون، تماماً كما نشاهد هذا التنوّع في صدر الإسلام إلي أن جاء الحكم الدائم للقبلة.

ملاحظة

كان بيت المقدس الذي بناه داود وسليمان (1)، منذ بنائه قبلةً لبني إسرائيل، وما يزال حتّي الآن كذلك، كما أنّ المسلمين قبل تحويل القبلة كانوا يصلّون إليه، ورسولالله (ص) كان في مكّة يصلّي إليه وإلي الكعبة معاً قدر الإمكان، بحيث يتّجه إليهما في آن واحد. (2)

الكعبة أشرف من بيت المقدس

1- يشكّل المسجد الحرام والمسجد الأقصي مبدأ المسير الأرضي للمعراج النبوي ومنتهاه، قال تعالي: () (3)، فطبقاً لهذه الآية الشريفة أطراف المسجد الأقصي مليئة بالبركة، كما أنّ مكّة المكرّمة هي الاخري، وعلي إثر دعاء النبيّ إبراهيم (ع) مليئةٌ أيضاً بالنِّعم الإلهيّة، () (4)، رغم أنّها أرض ليس فيها سبيل للإنتاج الزراعي، فصارت نقطة تساقط الثمرات والمحاصيل المختلفة من سائر أنحاء العالم في تمام الفصول، وهي أرض غير ذي زرع، وهذا كلّه من الآيات الإلهيّة الواضحة. (5)


1- بحار الأنوار 77: 14.
2- المصدر السابق 105: 4، و 59: 81، و 218: 92.
3- الإسراء: 1.
4- القصص: 57.
5- آل عمران: 97.

ص: 131

2- قيل: يكفي شرفاً للكعبة أنّ الآمر ببنائها هو الله تعالي، ومهندسها جبرئيل وبنّاءها الخليل ومساعده إسماعيل (1)، ومثل هذا الشرف غير ثابت في حقّ بيت المقدس.

3- بُنيت الكعبة علي يد إبراهيم الخليل، وهو من أنبياء اولي العزم:، أمّا بيت المقدس فبناه سليمان (ع) وهو من حفظة شريعة أنبياء أُولي العزم وليس واحداً منهم.

4- لم يثبت في بيت المقدس أيّ وعد إلهي بحفظه من تهديد الأعداء، أمّا الكعبة فقد جاء فيها هذا الوعد، قال تعالي: () (2)، كما تمّ إنجاز هذا الوعد أيضاً، قال سبحانه: (...) (3)، أمّا بختنصّر فقد خرّب بيت المقدس وهدّمه دون أن يواجه عقبةً أو تهديداً.

الخصوصيّات الفقهيّة للكعبة

1- بيّن الله تعالي وجوب الحجّ وزيارة الكعبة بقوله سبحانه: () (4)، ولم يرد مثل هذا التعبير في حقّ أيّ عبادة اخري، وقد سبق أن شرحنا هذه النقطة من قبل.

2- لقد عُدّ زوّار الكعبة من شعائر الله سبحانه، فهتك حرمتهم يقف في صفّ هتك سائر الحرمات الدينيّة، قال سبحانه: (


1- الفخر الرازي، التفسير الكبير 159: 8.
2- الحج: 25.
3- الفيل: 1- 5.
4- آل عمران: 97.

ص: 132

). (1)

3- إذا نجّس شخص الكعبة- والعياذ بالله- عامداً متعمِّداً معانداً، كان حكمه الإعدام، أمّا مَن ينجّس المسجد الحرام عمداً فيُحكم عليه بالضرب الشديد.

4- كما أنّ الإسلام يعلو ولا يُعلي عليه (2)، كذا الحال في الإسلام الممثَّل، أي الكعبة، لا ينبغي أن يكون هناك بناء أعلي منها، إنّ الخضوع في ساحة الكعبة المقدّسة يستدعي ليس فقط عدم وجود شخص أعلي منها، كما هو كذلك، بل وأيضاً من ناحية الصورة لا يفترض أن يكون أرفع منها لتكون تحته، كما يقول الإمام الباقر (ع): «لا ينبغي لأحد أن يرفع بناءاً فوق الكعبة» (3)، وعليه فبناء بيت يستر بناء الكعبة مكروه.

5- يُستفاد من الآية الكريمة: () (4)، وكذلك من الإعلان العمومي للنبيّ إبراهيم (ع): () (5)، أنّ الكعبة بُنيت للناس، وهذا معناه أنّ حريمها يسع الناس كلّهم، ومن الممكن أن يمتدّ لكيلومترات عديدة، من هنا، وكما أوضحنا من قبل، يمكن تخريب البيوت الواقعة في أطراف الكعبة حتّي لو لم يرضَ أصحابها بذلك.

6- لا تخضع إدارة الكعبة للتقسيمات الجغرافية ولا تُحكم للقوانين الدولية الاعتبارية أو المناطقيّة أو الإقليميّة؛ ذلك أنّ الكعبة ليست ملكاً لشخص، بل كلّ الورعين والمتّقين هم أولياؤها، لا خصوص الشعب الحجازي، قال تعالي: (). (6)


1- المائدة: 2.
2- وسائل الشيعة 376: 17، 460.
3- المصدر السابق 343: 9.
4- آل عمران: 96.
5- الحج: 27.
6- الأنفال: 34.

ص: 133

7- إنّ قبلة المسلمين ومطافهم تعبّر عن بُعد خاصّ يمتدّ في العمق والأسفل حتّي الأرض السابعة ويرتفع في الأعلي حتّي السماء السابعة (1)، وتقع الكعبة في هذا البُعد، وإلّا فإذا لم يكن الأمر كذلك لزم زوال القبلة والمطاف عندما قصف الحجّاج بناء الكعبة بالمنجنيق أو عندما يأتيها سيل فيخرّبها.

من هنا، لا يجوز لغير الطاهرين العبور من فوق الكعبة بالطائرة، ومنطلق هذا التحريم كون هذا الفضاء قبلةً، لا أنّ القبلة هي المسجد، فإنه وإن لم يجز عبور غير الطاهرين في المسجد الحرام إلّا أنّ المسجدية محدودة، أمّا بُعد القبلة في الكعبة فهو أوسع من ذلك، ومن نطاق المسجد الحرام، وعليه يمكن التمييز في الفضاء بين المسجد الحرام والكعبة.

ملاحظة

لقد جري توفير حفظ البُعد الخاص الذي تقع الكعبة فيه؛ أمّا سائر الأماكن الاخري والأبنية فهي وإن كانت لها أبعاد فضائية، إلّا أنّه في حال عرض عليها الخراب فلا تحفظ أبعادها الاخري ولم تحفظ.

عبقٌ من تاريخ الكعبة

الكعبة أوّل معبد شعبي وعالمي لتمام البشر، قال تعالي: () (2)، وقد جري تعيين محلّه وخارطته بإرشاد وأمر من الله سبحانه، قال تعالي: (. ..). (3)


1- وسائل الشيعة 248: 3.
2- آل عمران: 96.
3- الحج: 26.

ص: 134

وبناءاً عليه، كانت الكعبة أوّل معبد (لا أوّل بيت) بُني علي وجه الأرض، كما أنّه علي أساس الرواية التي تبيّن دحو الأرض، فإنّ مكان الكعبة هو أوّل مكان خرج من تحت الماء. (1)

لقد كان للكعبة تاريخ وحضور في عهد الأنبياء السابقين، وشاهد هذا الكلام أنّ النبيّ إبراهيم (ع) نادي الله سبحانه عندما أسكن هاجر وإسماعيل في أرض مكّة بقوله: () (2)، وعندما ودّعهم، وقالت له هاجر: لمن تتركنا؟ قال: «إلي ربّ هذه البنيّة». (3)

ويستوحي من جملة: () أنّ الكعبة كانت مشهورةً قبل عهد إبراهيم (ع) بأنّها البيت الحرام، وأنّ موضعها كان محدّداً.

ويحتمل أن يكون بناء الكعبة قد هدم أو أصابه الضرر عدّة مرّات نتيجة الأحداث الطبيعيّة والوقائع المختلفة، ثمّ أُعيد بناؤها من جديد، تماماً كما حصل مع بنّائها إبراهيم (ع) حينما أعاد بناءها بيده القويّة، لكن حيث تكفّل الله سبحانه بتدبير أُمور الكعبة ورعايتها، فقال: () (4)، فلم يذهب إطلاقاً مكان الكعبة وموقعيّتها وكذلك آياتها البيّنات مثل الحجر الأسود، ومقام إبراهيم، و ... كما أنّها بقيت مصونة من سهام الأحداث المزعجة المؤلمة، وفي حديث عن الإمام الحسين (ع) ما يشير إلي حماية هذه الآيات البيّنات، يقول الإمام الباقر (ع) في هذا الحديث: «نعم، أذكر وأنا معه [الحسين (ع)] في المسجد الحرام، وقد دخل فيه السيل والناس يقومون علي المقام يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل، ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه. قال: فقال لي: يا فلان ما صنع هؤلاء؟ فقلت: أصلحك الله يخافون أن يكون


1- وسائل الشيعة 331: 7- 332، و 347: 9- 348.
2- إبراهيم: 37.
3- بحار الأنوار 116: 12.
4- قريش: 3.

ص: 135

السيل قد ذهب بالمقام، فقال: نادِ: إنّ الله تعالي قد جعله علماً لم يكن ليذهب به، فاستقرّوا ...». (1)

وعلي أيّة حال، فظهور الإعجاز الإلهي في خضمّ الأحداث الخطيرة هو ما يضمن صيانة الآيات للحرم، بل وضمنها.

لقد كان ارتفاع الكعبة في زمان بُناته: إبراهيم وإسماعيل 9 إلي 12 ذراعاً، كما كان لها بابان، أمّا ارتفاعها في عهد قريش أو ابن الزبير فقد بلغ ثمانية عشر ذراعاً (9 أمتار)، وقد صارت ذات سقف بعد ذلك، وفي واقعة الحجّاج وابن الزبير بلغت سبعة وعشرين ذراعاً (2)، إلي أن بلغت ارتفاعها الحالي.

أمّا أُسسها المعنوية، فتصل- حسب البيان النوراني للإمام الصادق (ع)- إلي نهاية الطبقة الثامنة للأرض، فيما ارتفاعها الحقيقي يبلغ منتهي السماء السابعة. (3)

ويُعلم من أنّه عند تطهير الكعبة من الأصنام ووضع الإمام أميرالمؤمنين عليّ (ع) قدميه علي كتفي رسولالله (ص) ثمّ إلقاء الأصنام من علي ظهر الكعبة أرضاً .. أنّ ارتفاع الكعبة آنذاك- حسب الظاهر- كان تقريباً بحجم قامة رجلين متوسّطي القامة، نعم، ثمّة حساب آخر لما أشار إليه أمير المؤمنين (ع) من البُعد المعنوي لهذه الحادثة حيث قال: «فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو أردت أن أمسك السماء لمسكتها». (4)

وواحدة من الأحداث المرّة التي عرضت علي الكعبة، أي القبلة والمعبد ومطاف


1- الكافي 223: 4؛ نعم هذا النقل يحتاج إلي المزيد من البحث التأريخي من حيث سنّ الإمام الباقر.
2- المصدر السابق: 203، 207.
3- وسائل الشيعة 248: 3.
4- بحار الأنوار 76: 38، وفي صفحة 78، جاء هذا النصّ في نقل آخر كالتالي: «والذي بعثك بالحقّ، لو هممتُ أن أمسّ السماء بيدي لمسستها».

ص: 136

الأنبياء والأولياء الإلهيّين: .. أنّها كانت لمدد عدّة بيتاً للأصنام، أي أنّ عَبَدَة الأصنام في الحجاز كانوا يضعون الأصنام فوق الكعبة، وفي بعض الأحيان يضعونها داخلها، ولهذا كانوا يفتخرون بخزانة الكعبة وإدارتها، وأحد الذين حملوا سمة خازن الكعبة كان أبوغبشان وهو- كما اشير من قبل- قد باع وهو ثمل مفاتيح الكعبة وخزانتها بقدحين من الشراب والخمر.

ص: 137

الفصل السادس الحجر الأسود

السرّ في تشبيه الحجرالأسود بمقام الرسول الأكرم (ص)

تضم الكعبة المطهرة أربعة أركان و ترتيبها حسب الطواف كما يلي: ركن الحجرالأسود، الركن العراقي، الركن الغربي والركن اليماني. و المسافة بين الحجرالأسود وباب الكعبة تُعرف ب- «الملتزم». قال الإمام الصادق (ع): «هو الموضع الذي تاب الله فيه علي آدم». (1)

و «المستجار» موضع يقع إلي جانب الركن اليماني، بمحاذاة الملتزم، حيث يتعلق الزائرون بأستار لطف الله تعالي؛ وقد عبّر أميرالمؤمنين الإمام علي (ع) عن سرّ التعلق والتشبث بأستار الكعبة ومعني ذلك بقوله: «هو مثل رجلٍ له عند آخر جناية وذنبٌ فهو يتعلّقُ بثوبه يتضرّع إليه و يخضع له أن يتجافي له عن ذنبه». (2)

يقع الحجرالأسود إلي يسار الزائر الذي بإزاء باب الكعبة ومقام إبراهيم (ع) علي يمينه (وإن كان مقام إبراهيم يقع الآن خلف الزائر المفترض) ولكن بالنسبة للكعبة نفسها، فلو افترضنا أن وجه الكعبة يقع قبالة الناس وجهاً لوجه من الجدار الذي يقع في باب الكعبة، فإن الحجرالأسود يقع إلي يمين بيت الله الحرام و مقام إبراهيم إلي يساره.


1- وسائل الشيعة 539: 3.
2- المصدر السابق 159: 8- 160.

ص: 138

يقول الإمام الصادق (ع) مبيناً سرَّ الأمر المذكور، مجيباً علي هذا السؤال: لماذا يستلم الناس الحجرالأسود والركن اليماني من بين أركان الكعبة فقط؟ فقال: لأنها بمنزلة يمين عرشه (1) والله سبحانه وتعالي أمر باستلام كل ما هو علي يمين عرشه.

ثم قال مجيباً عن السبب في وقوع مقام إبراهيم علي الجانب الأيسر: لأن «لكل من النبي إبراهيم (ع) و الرسول الأكرم (ص) مقاماً خاصاً في يوم القيامة، ومقام محمد (ص) عن يمين عرش ربّنا عزّوجل، ومقام إبراهيم (ع) عن شمال عرشه ...». (2)

والحجرالأسود، هو المقام الذي يستند إليه الإمام المهدي [عندما يبايعه الناس، في بداية ثورته العالمية لبسط العدالة؛ وكما عبر الإمام الصادق (ع) عن ذلك قائلًا: «... وإلي ذلك المقام يسند القائم ظهره، و هو الحجة و الدليل علي القائم، و هو الشاهد لمن وافاه في ذلك المكان، والشاهد علي من أدّي إلي الميثاق والعهد الذي أخذ الله عزّوجلّ علي العباد». (3)

نزول الحجر الأسود من الجنّة

بناءاً علي ما جاء في بعض الروايات، فإن الحجر الأسود قد نزل من الجنة، وكان في البداية أبيض اللون، واسودّ تدريجياً علي أثر استلامه من قبل المذنبين، حتّي أصبح كما هو عليه الآن: «... كان ملكاً من عظماء الملائكة عندالله ...»، «إنّ الحجر


1- قال الرسول الأكرم 9: «ما أتيت الركن اليماني إلا وجدت جبرئيل قد سبقني إليه يلتزمه». وقال الإمام الصادق 7 أيضاً: «الركن اليماني باب من أبواب الجنة لم يغلقه الله منذ فتحه». «الركن اليماني بابنا الذي ندخل من الجنة.» «الركن اليماني علي باب من أبواب الجنة مفتوح لشيعة آل محمد، مسدود عن غيرهم، و مامن مؤمن يدعو بدعاء عنده إلّاصد دعاؤه حتي يلصق بالعرش ما بينه وبين الله حجاب.» وسائل الشيعة 419: 9- 422.
2- بحار الأنوار 339: 7.
3- الكافي 185: 4.

ص: 139

كان درّةً بيضاء في الجنة ...»، «... وكان أشدّ بياضاً مِنَ اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم، ولولا ما مسّه من أرجاس الجاهلية ما مسَّه ذو عاهةٍ إلّا برأ». (1)

بعض المفسرين الذين يبحثون عن تبريرٍ أو تفسير ماديّ لأي ظاهرة من الظواهر، قالوا في معرض نفيهم لهذا النوع من الروايات: نزول الحجر من السماء أو الجنّة، لا معني له!! (2)

وفي الردّ علي هذا الكلام و نقده لابد من القول (3): ما يؤيد الروايات التي تدور حولها بعض الإشكالات، الآيات التي ورد الحديث فيها عن إنزال النعم الإلهية من خزائن الغيب، كقوله تعالي: () (4)، () (5) و (). (6)

فكلمة «الإنزال» ليست بمعني الخلق، بل هي بمعني التنزيل والإنزال الواقعي من وراء الطبيعة إلي عالم الطبيعة كنزول القرآن في ليلة القدر؛ ولكن المراد هنا، الإنزال علي نحو التجلّي، و ليس بصورة التجافي، مثل نزول الثلج والمطر؛ أي لايعني الأمر نفاد المخازن الإلهية وخلوّها من الموجودات، بعد تنزلها إلي عالم الطبيعة من العالم الأعلي؛ لأن خزائن الله لايعتريها النقصان أو النفاد؛ () (7) والوجود الغيبي لهذه الأشياء وجود نوراني وتحمّل ذلك أمرٌ غير ميسور للجميع. من هنا فإن ظهورها في هذه النشأة اقترن بتنزّل مرتبتها الوجودية. ولكن


1- وسائل الشيعة 403: 9- 407.
2- بحارالأنوار 466: 1- 468.
3- الميزان 190: 2- 195.
4- الحجر: 21.
5- الزمر: 6.
6- الحديد: 25.
7- النحل: 96.

ص: 140

حرمة و كرامة الموجودات المتنزلة من الخزائن الإلهية واحدة بلحاظ تباين درجات تلك الخزائن. مثلما يعتبر الحجر الأسود حالةً خاصةً.

وبناءاً علي ذلك، فإن مجرّد الاستبعاد العلمي لمسألة هبوط الحجر الأسود من الجنّة لا قيمة له؛ لأن دراسة السير الأفقي للموجودات و ماضيها و حاضرها و مستقبلها الطبيعي يتم في نطاق العلوم ا لطبيعية، ولكن السير العمودي للأشياء والموجودات والنقاش حول العلة الفاعلية و الغائية لها تقع خارج نطاق العلوم الطبيعية، مهما توصلت هذه العلوم إلي تطورات ملحوظة في هذا الجانب.

ونستنتج من ذلك أولًا: إن الحجر الأسود من أحجار الجنّة والسماء، كما ورد ذلك في العديد من الروايات المعتبرة.

ثانياً: لا يوجد دليل عقلي أو نقلي يدل علي خلاف ذلك.

وبناءاً علي ذلك، فإن إثبات المسائل الاعتقادية علي الرغم من أنه لا يمكن أن يتحقق بالاستناد إلي الخبر الواحد، ذلك أنها تحتاج إلي القطع واليقين ولا يمكن الاكتفاء فيها بالظّن، لكن بالمقابل لايوجد أيّ وجه لإنكار تلك الروايات و رفضها.

شهادة الحجر الأسود يوم القيامة

الحجر الأسود كالمسجد، يشهد يوم القيامة لصالح البعض، و هو آيةٌ من آيات الله البيّنات إلي جانب الكعبة (1)، ويمين الله عزّ وجلّ في الأرض واستلامه بمنزلة البيعة لله تعالي؛ «هو يمين الله عزّ و جلّ في أرضه يبايع بها خلقه». (2)

وكما قال أميرالمؤمنين الإمام علي (ع) في ردّه علي من قال عند استلام الحجر: أعلم


1- وسائل الشيعة 346: 9.
2- المصدر السابق: 405- 406.

ص: 141

بأنك لا تضر و لا تنفع ولكني أحبك لحب رسولالله (ص) لك، فقال (ع): والحجرالأسود من الشهداء أيضاً يوم القيامة؛ «فوالله ليبعثنَّه اللهُ يومَ القيامة و له لسانٌ و شفتان فيشهد لمن وافاه» (1)، كما أكّد الإمام الصادق (ع) في ردّه علي ذلك الظنّ فقال: «كَذِبَ ثمَّ كذب ثمَّ كذب. إنَّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة». (2)

تنبيه: هذا النوع من الأحاديث المأثورة، والتي تصرّح بمنفعة الحجر الأسود ونحوه، يعود إلي كونه وسيلة ذات تأثير معين و الذي تجسّد بلطفالله و بركاته علي هذا الحجر، و عدا ذلك فإن أيّاً من أحجار الكعبة وأمثالها ليست ضارّة بذاتها أو نافعة، كما عبّر أميرالمؤمنين (ع) بشأن سلب تأثيرها الذاتي فقال (ع): «... أحجار لاتَضُرُّ و لا تنفَع و لا تبصر و لا تسمع». (3)


1- وسائل الشيعة 406: 9.
2- المصدر السابق: 406.
3- نهج البلاغة، الخطبة 192، الفقرة 54 53. و قد مرَّ ذكر نص هذا الحديث الشريف و ترجمته في الفصل الثالث من القسم الأول في موضوع «صورة الحج في الروايات». فراجع.

ص: 142

الفصل السابع ألحطيم وحجر إسماعيل

«الحطيم» منطقة محدّدة بين الحجر الأسود، وباب الكعبة و مقام إبراهيم (ع)، ولكن قيل في بعض الروايات، بأنها المسافة بين الحجرالأسود وباب الكعبة فقط (1)، وحول السرّ في تسمية هذا المكان بالحطيم، قال الإمام الصادق (ع): «لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً». (2)

والحطيم أفضل الأماكن حول الكعبة؛ فبعد أن ذكر الإمام الباقر (ع) حدوده قال موضحاً هذه القضية المتعلقة بالحطيم: «إنَّ أفضلَ البقاع ما بين الركن الأسود و المقام وباب الكعبة، و ذاك حطيم إسماعيل، ووالله لو أنَّ عبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان و قام الليل مصلِّياً حتي يجيئه النَّهارُ و صامَ النهار حتي يجيئه الليل و لم يعرف حقَّنا و حرمتنا أهلَ البيت، لم يقبل الله منه شيئاً أَبَداً». (3)

والحطيم محل نزول جبرئيل (ع) و وقوفه بين يدي بقية الله الأعظم إمام العصر والزمان [، كما ورد ذلك عن الإمام الصادق (ع) قال: «عندما يأذن الله سبحانه وتعالي بخروج القائم [... يبعث إليه جبرئيل (ع)؛ فيهبط جبرئيل علي الحطيم ... و يقول: أنا أوّل


1- الكافي 525: 4؛ وسائل الشيعة 539: 3.
2- وسائل الشيعة 539: 3.
3- المصدر السابق 123: 1.

ص: 143

من يبايعك ...». (1)

ويقول الأستاذ العلامة الطباطبائي 1 كغيره من المحققين: الحطيم هو ذلك الجدار المقوس إزاء الميزاب الذهبي (2)، كما يُفهم من بعض الروايات أن جماعة يسمّون «حجر إسماعيل» الذي يقع بين الركن العراقي و الركن الغربي بالحطيم. و هذا ما ورد عن الإمام الصادق (ع) في جوابه للسائل الذي سأل عن حجر إسماعيل، فقال (ع):

«إنَّكم تسمونَهُ الحطيمَ، وَانّما كان لغَنَم إسماعيلَ، وَانَّما دَفَنَ فيه أمَّهُ و كرهَ أن يُوطَأَ قَبرها فحجَر عليه، و فيه قبورُ أنبياء». (3)

ومن بين الوجوه المحتملة بشأن السرّ في تسمية الحطيم بهذا الإسم، والذي اشير اليه أيضاً في الرواية المذكورة، أن النبي إبراهيم (ع) كان يهشّم (4) التبن والعلف هناك لإطعام أغنامه، ويسمّون العلف بالحطيم والتبن بالحطام، لأن المحطوم هو الذي تم تهشيمه وتكسيره؛ ونقلت في بعض الكتب اللغوية وجوه أخري أيضاً في سبب تسمية حجر إسماعيل بالحطيم. وفيها: أن هذا الجزء قد فُصِلَ و كُسِرَ عن البيت، والآخر أن الأعراب في الجاهلية، كانوا يلقون الملابس التي كانوا يلبسونها حال الطواف في ذلك المكان و كانت تتحطم و تبلي تدريجياً. (5)

أما «حجر إسماعيل» الذي يعدّ من آيات الله البينات (6)، فهو مدفن إسماعيل ومجموعة أخري من أنبياءالله (7)، كما أنه مدفن أم إسماعيل و بناته:، و قد حجر (ع)


1- بحار الأنوار 337: 52- 338.
2- الميزان 360: 3.
3- وسائل الشيعة 431: 9.
4- بحار الأنوار 86: 65.
5- لسان العرب 137: 12- 140 حطم.
6- الكافي 223: 4.
7- وسائل الشيعة 430: 9.

ص: 144

أطراف قبر أمه هاجر كي لا يطأه الطائفون (1)، وحجر إسماعيل ليس قبلة ولكنه في ضمن المطاف كالكعبة، احتراماً لتلك القبور، و الطواف في داخله باطل.

وحجر إسماعيل من أفضل الأماكن في المسجد الحرام لأداء الصلاة فيها (2)، كما كان المكان الذي يصلي فيه شبر و شبير أولاد هارون (ع) (3)، وصلّي فيه الأئمة المعصومون: أيضاً (4)، وكانوا يدعون الله فيه بخالص الدعاء (5)، كما كانوا يستقبلون الناس هناك ويجيبون علي أسئلتهم واستفساراتهم (6)، و قد نصب ميزاب الكعبة فوق حجر إسماعيل؛ وقد ورد الحديث في بعض الروايات، عن الشفاء بماء المطر الذي ينزل من هذا الميزاب (7)، وآخر الكلام عن حجر إسماعيل أنه يستحب للحاجّ أن يُحرم منه.


1- الكافي 210: 4.
2- المصدر السابق 525: 3؛ وسائل الشيعة 539: 2.
3- وسائل الشيعة 539: 2.
4- الكافي 188: 4؛ وسائل الشيعة 274: 5.
5- المصدر السابق 21: 7.
6- المصدر السابق 260: 1، 379، و 21: 7 و 232: 8 و 271؛ وسائل الشيعة 419: 13.
7- المصدر السابق 387: 6.

ص: 145

الفصل الثامن مقام إبراهيم

اشارة

إحدي العلامات والآيات البيّنات لله تعالي في مكة: «مقام إبراهيم»، مثلما أشار الإمام الصادق (ع) في بيان المراد من كلمة «بيّنات» في الآية المباركة: () (1)، فقال (ع): «مقام إبراهيمَ حيث قامَ علي الحجر فأثَّرت فيه قدماه، و الحجر الأسوَدُ، و منزِلُ إسماعيل (ع)» (2)؛ و كان هذا الحجر موضوعاً في البداية علي وجه الأرض بشكل طليق إلي جوار الكعبة، ثم وضعوه في الملتزم لكي لاينقل من مكانه؛ و موضع المقام الآن مُبرَّزٌ أيضاً وموضوع بداخل صندوق معدني، ومنقوش علي جبهة الشريط المعدني الذي وضع الحجر علي حافته جملة نورانية تقول: () (3)، حيث يمكن رؤيتها و قراءتها من قبل الجميع بكل وضوح، مما يدلل علي حُسن تدبير المسؤولين عن الحرم.

مسألة تغيير مقام إبراهيم وردت في بعض الأحاديث؛ حيث قال الإمام الباقر (ع):

كان المقام في البدء، بالقرب في جدار الكعبة، و قاموا بنقله قبل الإسلام إلي


1- آل عمران: 97.
2- الكافي 223: 4.
3- البقرة: 255.

ص: 146

موضعه الحالي، وأعاده الرسول الأكرم (ص) بعد فتح مكة إلي موضعه الأصلي، ولكن تغيّر مكانه مرةً أخري في عصر الخلفاء: «كانَ مَوضعُ المقام الذي وَضَعَهُ إبراهيم (ع) عِندَ جِدارِ البيتِ فلم يزل هناكَ حَتّي حَوَّلَهُ ...». ولكن بما أنَّ الوضع الموجود اقِرَّ من قبل الأئمة المعصومين: ولم ينتقد أهل بيت النبوة: ما يترتب علي هذا الوضع من حكمٍ فقهي، نفهم من ذلك أن إقامة صلاة الطواف عند الموضع مبرءة للذمة.

وقد قال الإمام الباقر (ع) في صدر الرواية المذكورة: في السنة التي جرف فيها السيل المسجد الحرام كنت في مكة مع الإمام الحسين (ع) (1)، و خاطب الإمام الحسين (ع) الناس الذين كانوا خائفين من زوال مقام إبراهيم (ع) قائلًا: اعلموا! أنّ السيل لن يجرف مقام إبراهيم أبداً؛ لأنّ الله قد جعله عَلَماً وآيةً له؛ «أنَّ الله قد جَعَلَهُ علماً لم يكن ليذهَبَ به». (2)

والجدير بالذكر، أنه لايمكن اعتبار جميع الآيات التي وردت بشأن مكة علي أنها وردت من باب المعجزة وخلافاً للعادة و الطبيعة، استناداً إلي هذه الآية المباركة في قوله تعالي: () بما فيها هذه الآية الشريفة؛ لأن المراد بالآية، ليس فقط المعجزة من قبيل معجزة ناقة صالح (ع)، و شقّ القمر و نحو ذلك، بل الآية بمعني العلامة والأمارة التي تدلّ علي الحق وتذكّر الناس بذلك، سواء كانت تكوينية أم تشريعية أم كليهما معاً، وكما قال بعض المفسرين: إن جملة () هي من باب التفصيل بعد الإجمال ومصداق لآيات بينات مذكِّرَةً بالحق و من العلامات الإلهية، دون أن يكون في البين أمرٌ خارقٌ للعادة.

فإذا صارَ «مقام إبراهيم» بياناً لقوله تعالي: ()، فإنّ المستفاد منه ما


1- كما مرَّ، فإن هذه الرواية بحاجة إلي تحقيق تاريخي من حيث مقدار عمر الإمام الباقر 7.
2- الكافي 223: 2.

ص: 147

يلي: كما أن إبراهيم (ع) كان لوحده أمة؛ () (1)، فإن آثار أقدامه و مقامه أيضاً لوحدهما آيات بيّنات و «أمة واحدة» في موضوع الإعجاز. (2)

ولعل السرّ في التعبير بصيغة الجمع يتمثل في أنّه:

أوّلًا: إن الحجر الصلد والقوي أصبح كالعجين في تغيير شكله.

ثانياً: المكان المحدد لذلك أصبح علي شكل العجين، و ليس كل الحجر.

ثالثاً: تقبّله لآثار الأقدام إلي عمق معين والبقيّة بقيت بحالتها الصخرية.

رابعاً: بقي محفوظاً من سرقة جميع الطغاة الذين أرادوا إخفاء هذا الأثر ومحوه.

خامساً: بقي محفوظاً من سرقة سرّاق القطع الفنية والأثرية الذين هم بصدد سرقة المواد النفيسة ذات القدم. (3)

والذين يقولون بأن قوله تعالي: () إنما هو إشارةٌ لآياتٍ أخري متعددة، وبالإضافة إلي مقام إبراهيم وجعل هذا البلد آمناً بسكانه و زائريه، فإنهم ذكروا أموراً أخري أيضاً من الآيات العلنية لله سبحانه وتعالي في مكة و الحرم الإلهي، والتي لم يتم ذكرها بشكل منفصل بسبب وضوحها وعدم تصريح الله سبحانه وتعالي بها (4)؛ أموراً من قبيل:

1- عدم تحليق الطيور فوق الكعبة و انحرافها أثناء الطيران عن فضاء الكعبة.

2- عدم تلويث الطيور للكعبة.

3- تعايش أنواع الحيوانات في الحرم و عدم تعرض الحيوانات المفترسة لغيرها.

4- تورط الظلمة الذين أرادوا سوءاً بالكعبة و قهرهم من قبل الله تعالي، مثل أصحاب الفيل.


1- النحل: 120.
2- الكشاف 387: 1.
3- المصدر السابق: 387- 388، مع قليل من التصرف.
4- روضة المتقين 113: 4- 114.

ص: 148

5- عدم إصابة الحجيج بالتعب والإرهاق النفسي، علي الرغم من مجيئهم من أماكن بعيدة و بصعوبة بالغة و بشكل متكرر أيضاً.

وبناءاً علي ذلك، ولغرض بيان أهمية مقام إبراهيم خاصة، فإنالله سبحانه وتعالي يذكر مقام إبراهيم (ع) بشكل مستقل، من باب ذكر الخاص بعد العام، بعد ذكر الآيات الأخري علي وجه العموم.

كيفية تكوّن مقام إبراهيم

هناك عدة احتمالات بشأن كيفية تكوّن مقام إبراهيم (ع) ومنها:

1- وقوف النبي إبراهيم (ع) علي هذا الحجر أثناء القيام ببناء الكعبة. وعن طريق الإعجاز الإلهي أصبح الحجر آنذاك ليناً و قابلًا لبروز الآثار عليه؛ فبقي أثر الأقدام عليه. (1)

2- عندما عاد للمرة الثانية إلي مكة قالت زوجة إسماعيل (ع): ترجّل كي أغسل رأسك، وعندما ترجّلَ (ع)، وضع قدمه علي الحجر وأحدث أثراً في ذلك الحجر. (2)

وعلي أية حال، فإن حقيقة وضع إبراهيم (ع) قدمه علي الحجر الصلد وانغماس أثر قدمه المباركة و بقاء هذا الأثر في ذلك الحجر .. يعدّ من الأمور المسلّم بها والتي اعتبروها معجزة له. (3)

وقد ورد ذكر مشابهٍ لهذه الخاصيّة، بشأن النبي داود (ع)، إذ إن الله سبحانه وتعالي جعل الحديد البارد الصلد بيده ليّناً كالشمع؛ (). (4)


1- المصدر السابق: 114.
2- بحار الأنوار 116: 12- 117.
3- التبيان 452: 1؛ التفسير الكبير 50: 3.
4- سبأ: 10.

ص: 149

والملاحظة التي يجدر الإشارة لها هنا، أنه ورد حديث عن التعليم في مسألة صناعة الحديد؛ قال تعالي: () (1)؛ لأن صناعة الدروع يمكن تعليمها و نقلها للآخرين كما هو الحال في سائر العلوم والمهن الأخري، علي العكس من عملية إلانة الحديد البارد و القوي بواسطة اليد. ومن هنا لم يقل تعالي: «وَعلّمناه إلانة الحديد». ويصدق هذا الأمر بشأن مقام إبراهيم (ع) أيضاً، مع وجود هذا الفرق حيث إن الحديث هنا يتعلق ب- «وألنّا له الحجر».

وبقيت «آثار» كلتا قدمي إبراهيم (ع) المباركتين محفوظتين في مقام إبراهيم (ع) (2) كما كان الحديد يحافظ علي «بدن» داود (ع).

ومقام إبراهيم (ع) يطلق أيضاً علي قطعة الأرض التي يقع فيها مقام إبراهيم (ع) في المسجد الحرام، وهي محل صلاة الطواف (3)، مثلما يطلق أحياناً علي الكعبة أيضاً. (4)

ملاحظة

قال الإمام السجاد (ع): «أفضل البقاع ما بين الركن و المقام ...» (5)، أي إن المسافة ما بين الركن (الحجر الأسود) إلي مقام إبراهيم، هي من أفضل الأماكن، و روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «أنَّ ما بين الركن و المقام لمشحونٌ من قبور الأنبياء» (6)، و هذا المكان، هو منطلق حركة الإمام الحجة [العالمية. ويقول الإمام الباقر (ع) بهذا الشأن: «كَأنّي بالقائم يومَ عاشورا يوم السبت، قائماً بين الركن و المقام، بين يديه جبرئيلَ (ع)


1- الأنبياء: 80.
2- نقل عن أنس به مالك أنه قال: رأيت أثر أصابع و عمق القدم في الحجر، ولكن مُسح واستوي بسبب المسح بأيدي الناس التحرير و التنوير 681: 1.
3- المصدر السابق 241: 96.
4- التحرير و التنوير 681: 1.
5- من لايحضره الفقيه 245: 2.
6- الكافي 214: 4- 212.

ص: 150

ينادي: البيعة لله. فيملأها عدلًا كما مُلِئَت ظلماً وجوراً». (1)


1- بحارالأنوار 290: 52.

ص: 151

الفصل التاسع زمزم

اشارة

تدفّق ماء زمزم ببركة ذريّة إبراهيم الخليل (ع)؛ لأنه (ع) ترك وليده وأمه هاجر بوادٍ غير ذي زرع وضرع في أرض مكة بأمر الله سبحانه و تعالي؛ و علي أثر عطش الوليد، أخذت أمه تبحث عن الماء و تدعو و تنادي: «هل بالوادي من أنيس؟»، فأخذت تسعي بين الصفا و المروة سبع مرات ذهاباً وإياباً، وفجأةً رأت تحت أقدام الوليد عيناً ينبع فيها الماء. (1)

ولا زال ذلك الماء يتدفق لحد الآن بعد مضي آلاف السنين عليه، علي الرغم من أنه تمّ حفر آبار إضافية أخري في ذلك الوادي، هذا أولًا،

وثانياً: إنّ مكة ليس بلداً تسقط عليها الثلوج، كما أن أمطارها ليست غزيرة، لكي يصبح تدافع الماء من زمزم علي أساس قوله تعالي: () (2)، وبناءاً علي ذلك، فإن تدفّق ماء زمزم واستمراره آلاف السنين علي ذلك في بلدٍ مثل مكة، وما فيه من صفة الشفا وصيانته من الفساد (3)، كل واحدة من هذه الأمور هي


1- استناداً لبعض الروايات، فإن إبراهيم 7 هو الذي حفر بئر زمزم بأمر الله سبحانه وتعالي الكافي 202: 4- 203.
2- الزمر: 21.
3- من مجموع التجارب الفردية وما كان يقوم به المؤمنون و بخاصة خاتم الرسل 9 تجاه ماء زمزم و تقديمه كهدية، نلاحظ أن ذلك الماء غالباً ما كان يبقي لفترة طويلة من الزمن، لذا يمكن القول بأن ماء زمزم لايفسد بسرعة.

ص: 152

معجزة بحد ذاتها، لذا يمكن القول بأن زمزم هو مصداق ل- () لوحده.

وقال الرسول الأكرم (ص): «ماء زمزم، أفضل ماءٍ علي وجه الأرض» (1)

و قال أيضاً: «ماء زمزم لما شُرِبَ له؛ من شربه لمرضٍ شفاه الله أو لجوعٍ أشبعه الله أو لحاجةٍ قضاها الله» (2)، وكان يقول بعد شرب ماء زمزم: «أللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً من كل داءٍ و سقمٍ» (3)، و قال الإمام الصادق (ع) بشأن الشفاء من ماء زمزم: «ماء زمزم شفاءٌ من كل داءٍ». (4)

من هنا، يستحب استحباباً مؤكداً أن يشرب حجاج بيت الله الحرام من ذلك الماء، والتأسي برسولالله (ص) بقراءة هذا الدعاء: «اللهم اجعله علماً ...». (5)

كما كان الرسول الأكرم (ص) يستعمل ماء زمزم في مكة، وبعد أن هاجر إلي المدينة المنورة كان يستهدي ماء زمزم من الآخرين لشدة تعلقه به. ولهذا السبب كان الزائرون يجلبون معهم ماء زمزم عند عودتهم من مكة هدية للرسول الأكرم (ص) وكان يقبل منهم الهدية. (6)

من أسماء زمزم

من أسماء زمزم الأخري، حفيرة عبدالمطلب، المضنونة والمصونة (7)، والسرّ في تسمية بئر زمزم بالمضنون (8) أو المصون أنه في برهةٍ من التاريخ و منذ أن استولت


1- الكافي 246: 3.
2- بحارالأنوار 45: 57.
3- الكافي 250: 4.
4- المصدر السابق 387: 6.
5- المصدر السابق 430: 4.
6- وسائل الشيعة 350: 9- 351.
7- المصدر السابق: 351 و 515- 516.
8- «ضنَّ» بمعني بخل و الشي ء الثمين والنفيس إذا بخل به يسمي مضنوناً.

ص: 153

قبيلة خزاعة علي مكة، دفنوا هذا البئر وأخمدوه، إلي أن تولّي عبدالمطلب شؤون مكة و أمر بإعادة حفره (1)، غارت البئر و لم ينبع منها الماء.

إذن، فالسرّ وراء اشتهارها ببئر عبدالمطلب يعود إلي أن عبدالمطلب هو الذي أعاد فتح البئر وترميمه.


1- الكافي 220 218: 4.

ص: 154

الفصل العاشر

الصفا والمروة

الصفا و المروة اسمان لجبلين بالقرب من الكعبة. وهذان الجبلان من شعائر الله تعالي: (). (1)

والسرّ في تسمية الصفا بهذا الاسم أنه اكتسب تسميته من وصف الأنبياء وبخاصة آدم (ع)، و هم الذين اصطفاهم الله تعالي: (). (2)

قال الإمام الصادق (ع): بعد أن هبط آدم (ع) علي جبل الصفا وهو من صفوة الله تعالي، فإنّ الجبل صفا من صفوة الله واصطفاء آدم (ع). (3)

وعليه؛ فإن الذي يكسب الصفا من هذا الجبل هو ممن اصطفاه الله تعالي: (). (4)

وقال الإمام الصادق (ع) بشأن السرّ في تسمية المروة بهذا الاسم: بعد أن نزلت حواء 3 وهي امرأة علي جبل المروة، سمي ذلك الجبل «المروة». (5)


1- البقرة: 158.
2- آل عمران: 33.
3- الكافي 190: 4؛ بحار الأنوار 162: 11 و 169.
4- الحج: 75.
5- الكافي 190: 4.

ص: 155

وقال بعض اللغويين: إن الصفا حجر أملس (1)، والمروة يطلق علي الحجر الناعم البرّاق، وتسمية الجبلين بالصفا و المروة إنّما هو بلحاظ نوع أحجارهما. (2)

ونصب في الجاهلية اثنان من الأصنام علي قمة الصفا والمروة، و اسمهما «أساف» (أثاف) و «نائلة» (3) حيث كان الناس يتمسحون بهما تبركاً أثناء السعي (4)؛ ولهذا السبب كان بعض المسلمين في صدر الإسلام يتجنب السعي بين الصفا و المروة. و لغرض إزالة هذا الوهم وتحاشيه قال الله سبحانه و تعالي: ().

ومن هذا المنطلق فإنّ الصفا والمروة كالكعبة؛ لأنهم جعلوا الكعبة في الجاهلية مقراً لأصنامهم غصباً، ولا ينبغي اعتبار ذلك مانعاً للطواف حول بيت الله.

والصفا و المروة من الرموز العبادية كسائر أماكن الحج ومناسكه: ()، والشعائر جمع «شعيرة» بمعني العلامة، ولكن ليس معني ذلك أن الصفا والمروة، هما من العلائم و الرموز التكوينية للحق تعالي فقط، لأنه بلحاظ التكوين، تكون جميع الموجودات من شعائر الله؛ فالصفا والمروة مثلها كمثل الكعبة وعرفات والمشعر و مني، شعائر جعلية و تشريعية و علائم عبادية.


1- لسان العرب 462: 14- 464 صفا.
2- المصدر السابق 275: 15- 276 مرا.
3- بحار الأنوار 235: 96.
4- الكافي 435: 4 «البقرة: 158».

ص: 156

الفصل الحادي عشر عرفات

عرفات، منطقة خارج دائرة الحرم و بالقرب من المشعر الحرام الذي يقع فيه «جبل الرحمة» و «مسجد نمرة». والوقوف في هذه البقعة من ظهيرة اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام إلي غروبه واجب علي الذين عقدوا الإحرام لأداء حج التمتع، و هو من أركان الحج.

وهناك عدة وجوه وردت حول السرّ في تسمية هذه البقعة باسم عرفات:

1- أنّ آدم و حواء (ع) تعرّفا علي بعضهما البعض بعد الهبوط في تلك البقعة. (1)

2- أنهما اعترفا بذنبهما في تلك البقعة. (2)

3- أن جبرئيل (ع) عند تعليمه مناسك الحج لإبراهيم (ع)، قال له: اعترف بذنوبك بين يدي الله في هذه البقعة. (3)

4- عندما طلب النبي إبراهيم (ع) من الله سبحانه و تعالي أن يُريَهُ مناسك الحج و يتعلّمها، () (4)، نزل جبرئيل (ع) إلي أرض عرفات وكان مأموراً بتعليم


1- بحار الأنوار 242: 44 و 245: 57.
2- المصدر السابق 168: 11.
3- المصدر السابق 307: 4.
4- البقرة: 128.

ص: 157

إبراهيم الخليل (ع) مناسك الحج، فقال له: «هذه عرفاتٌ فاعرف بها مناسكك واعترف بذنبك». (1)

وبناءاً علي هذا الوجه، فإن سبب تسمية تلك الأرض بعرفات أن جبرئيل (ع) أشار إلي تلك الأرض باسم عرفات.

5- أن إبراهيم (ع) قد رأي في المنام قبل يوم التاسع من ذي الحجّة أنه يذبح إسماعيل (ع). وبعد أن أفاق من نومه اعترته حالة من التروّي والتفكير، فيما إذا كانت هذه الرؤيا من الله و بمنزلة الأمر السماوي أملا؟!

من هنا يسمي اليوم الثامن ب- «يوم التروية»، وإن كان من المحتمل أن يكون السرّ في تسميته بيوم التروية أنه في ذلك اليوم كانوا يخزنون الماء لسقاية الحاج، لكي يسقون الحجيج بالماء في عرفات والمشعر ومني؛ وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق (ع) فقال: «إنّ إبراهيم أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية فقال: يا إبراهيم! ارتو من الماء لك و لأهلك، و لم يكن بين مكَّةَ و عرفاتِ يومئذٍ ماء، فسُمِّيت التروية لذلك». (2)

وتكررت الرؤيا المذكورة لإبراهيم (ع) في ليلة التاسع من ذي الحجة مرة أخري. وعليه فقد أصبح لزاماً عليه أن يذبح ابنه إسماعيل (ع). وتحققت هذه المعرفة في اليوم التاسع وفي أرض عرفات؛ ولهذا السبب سمي ذلك اليوم بيوم «عرفة» وسميت تلك الأرض ب- «عرفات». (3)


1- الكافي 207: 4.
2- المصدر السابق.
3- الدر المنثور 111: 7.

ص: 158

الفصل الثاني عشر المشعر الحرام

يقع المشعر الحرام ومني ضمن حدود الحرم في الحد الفاصل بين مكة و عرفات. و يفيض الجميع من عرفات باتجاه المشعر الحرام بعد غروب الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة في نهاية نصف يومٍ من الوقوف في عرفات ويمضون الليل هناك.

ويسمّون المشعر ب- «المزدلفة» و «جمع» أيضاً، وطبقاً لما ذكره الإمام الصادق (ع) فإن السرّ في تسمية تلك البقعة ب- «المزدلفة» يعود إلي أنّ جبرئيل (ع) في استمراره بتعليم المناسك لإبراهيم (ع) قال له: «يا إبراهيم! إزدلف إلي المشعر الحرام» (1)؛ كما قال (ع): «وسميت هذه البقعة ب- «جمع» ذلك أن آدم (ع) جمع بين صلاة المغرب و العشاء فيها، وصلّي المغرب والعشاء فيها، وصلّي كلاهما في وقت واحد». (2)

وعلي طول القرون الماضية يتوجه آلاف الزائرين إلي تلك البقعة، و كل زائر يأخذ علي الأقل تسعاً وأربعين حصاة من ذلك المكان لرمي الجمرات؛ من هنا كان من آيات الله البينات في أرض المشعر أنّ المنطقة علي الرغم من أنها ليست مكاناً لحدوث الفيضانات و عبور السيول لكي يظهر بواسطتها الحصي الناعم، لكن مع ذلك توفر كل ذلك الحصي الناعم دائماً، ولم ينفد لحد الآن.


1- بحار الأنوار 266: 96.
2- المصدر السابق.

ص: 159

الفصل الثالث عشر مني

مع شروق شمس اليوم العاشر من ذي الحجة، يرد الحجيج إلي منطقة «مني» لأداء بعض المناسك الخاصة. و حدود منطقة مني تمتد من «العقبة» إلي «وادي محسَّر».

وحول مصدر تسمية هذه المنطقة باسم مني قال الإمام الصادق (ع): «إنّ جبرئيلَ (ع) أتي إبراهيم (ع) فقال: تمنّ يا إبراهيم!» (1)، و قال الإمام علي بن موسي الرضا (ع): «كانت أمنية إبراهيم (ع) والتي أعطاه الله إياها ابتداءً بأن يأمره الله سبحانه و تعالي بذبح كبشٍ بدلًا عن إسماعيل (ع)». (2)

وطبقاً لما نقله الطريحي/ فإنّ منشأ تسمية مني بهذا الاسم، يعود إلي أنّ الدماء تمني وتراق في هذه البقعة؛ وكذلك فإنّ جبرئيل (ع) عند مفارقته لآدم (ع) قال له: تمنّ شيئاً، فقال آدم (ع): أتمنّي الجنّة. (3)

وتقع أماكن الجمرات الثلاث، ومكان التضحية ومسجد الخيف، في مني، و استناداً إلي بعض الروايات فإن سبعمائة نبي صلّي في هذا المسجد (4)، ويقع في مكان مرتفع


1- بحار الأنوار 271: 96- 272.
2- المصدر السابق.
3- مجمع البحرين 214: 3.
4- الكافي 214: 4.

ص: 160

نسبياً، ولهذا السبب سمي ب- «الخيف» طبقاً لما جاء في قول الإمام الصادق (ع)؛ حيث إنّ الأرض المرتفعة نسبياً عن الأراضي المحيطة بها، تسمي خيفاً. (1)

يقول الفخر الرازي عن آيات الله سبحانه و تعالي في أرض مكة وبخاصة في مني: في كل عام يقوم ستمائة ألف شخص (في ذلك الوقت) برمي سبعين حصيّة في الجمرات، ولكن من كرامات هذه الأرض أنه لا يمضي وقت طويل حتي يعود التقاط الحصيات منها بعد أن تكون قد خلت منها (2)، ولكن في السنوات الأخيرة يقوم موظفوا الدولة بتنظيف أطراف الجمرات وتسويتها، بينما لم يكن الأمر كذلك آنذاك.

ويوجد في مني مسجدٌ يعرف باسم مسجد الكبش؛ والسرّ في تسميته بالكبش أنّ كبش الأضحية وفداء إسماعيل (ع) قد ذبح في ذلك المكان. (3)

وكان إلي جانب هذا المسجد صخرةٌ ذبح عليها الفداء المذكور (4)، و نقل عن أميرالمؤمنين الإمام علي (ع) أنَّ ذبح الفداء كان بين الجمرة الأولي و الجمرة الوسطي علي سفح الجبل المقابل، أي «جبل ثبير»، وليس في المكان السابق؛ وما يؤيد هذا النقل، رواية عن ابن عباس أنّه قال: ضحّي الرسول الأكرم (ص) في الموضع الذي ضحّي فيه إبراهيم (ع) فاتخذوه موضعاً للذبح، وكلّ أرض مني هي موضعٌ للذبح؛ وكان موضع ذبح أضحية الرسول الأكرم (ص) بين الجمرة الأولي والوسطي. (5)


1- بحار الأنوار 271: 96- 272.
2- التفسير الكبير 159: 8.
3- مرآة الحرمين 326: 1.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

ص: 161

القسم الثالث مناسك الحجّ

الفصل الأول سرّ العبادة

العبادة، غاية الخلق لا الخالق

ص: 162

الله سبحانه وتعالي حكيم، لهذا كان لأفعاله أهداف (1)؛ نعم، إنّه تبارك وتعالي منزّه عن الهدف أيضاً بسبب غناه الذاتي، إلّا أنّ العالم نفسه له هدفٌ وجوديّ يناله ويبلغه؛ والهدف الأسمي والكمال النهائي للمخلوق يكمن في صيرورته عبداً لله (). (2)

ومن الواضح أنّ الله تعالي ليس محتاجاً حتّي يُعبد: () (3)؛ فالعبادة- بظاهرها وباطنها- غايةٌ للمخلوق، وليست غاية للخالق الغنيّ المحض.

«الحجّ» مثل سائر العبادات، غاية للخلق، لا للخالق، لأنّه عين الغني ومحض الكمال، وبذلك يظهر سرّ الكلام الإلهي واضحاً حيث يقول: () (4)، لأنّ الحجّ


1- المؤمنون: 115.
2- الذاريات: 56.
3- إبراهيم: 8.
4- آل عمران: 97.

ص: 163

عبادة فرضت من الله تعالي علي عبيده، وهم الذين يحتاجون لإقامة الحجّ والعمرة، فإذا كفروا- والحال هذه- فعليهم أن يعلموا أنّ الله غير محتاج للعالمين، فكيف يحتاج للخلق من الناس وعباداتهم؟!

العبادة، وسيلة الشهود الوحيدة

هدف الإنس والجنّ في نظام التشريع هو تكاملهم العبادي، وإذا ما فتق الإنسان صاحب الروح العقلي المجرّد، روحَه، فإنّه سوف يصبح هدفاً للكثير من المخلوقات التي تقع دونه، وإن كان الهدف النهائي هو الله سبحانه وتعالي.

إنّ هدف خلق العالم هو اطّلاع الإنسان علي علم الله وقدرته العظيمين () (1)، والعلم الحصولي واليقين الاستدلالي وإن كانا كمالًا علميّاً وهدفاً مقصوداً إلّا أنّهما يعدّان وسيلةً- فقط- مقارنةً بالعلم الحضوري واليقين الشهودي (**) (2)، أي أنّه يمكن الوصول إلي عين اليقين بعلم اليقين.

بناءاً عليه، يمكن اعتبار اليقين الشهودي بالمعارف هدفاً نهائيّاً للخلقة، وهذا اليقين الشهودي يعتمد دائماً علي العبادة التي هي الوسيلة الوحيدة لشهود السالك وظهور الغيب () (3)؛ وهذا مايعني إمكانية الوصول إلي عين اليقين بعلم اليقين.


1- الطلاق: 12.
2- التكاثر: 5- 7.
3- الحجر: 99.

ص: 164

نعم، شكل الاعتماد علي العبادة يتناسب في كلّ نشأة مع تلك النشأة، ففي الدُّنيا تعتمد علي العبادات التشريعيّة، وفي الآخرة تقوم علي باطن تلك العبادات.

إنّ العبادة وإن كانت- بالمعني الذي ذكرناه- غاية الخلقة، إلّا أنّها في نفسها مقدّمة لليقين، واليقين هو الغاية ()، والحجّ أيضاً يمثِّل إعداداً لهذا الهدف الرفيع للعبادة، أي اليقين؛ لأنّه نورٌ وبصيرة وشهود، من هنا جاء في الروايات أنّ تارك الحجّ يحشر أعمي، وأنّه أعمي في الدُّنيا وفي الآخرة كذلك وأضلّ. (1)

ويُستنتج من الآية الشريفة: () (2)، أنّ هدف ظهور العالم، أي ظهور الحقّ في مرآة الخلق، هو اطّلاع الإنسان السالك علي علم الحقّ وقدرته، وهذا العلم الشهودي يجعل العارف الواصل مظهراً للعليم القدير، بحيث إذا أذِنَ الله تعالي، يمكنه ببسم الله الرحمن الرحيم أن يفعل ما كان يتحقّق في الآخرة بصرف الإرادة ... أن يفعله في الدُّنيا كذلك، وكلّ ما يريد أن يعلمه فإنّه يشاهده.

كشف سبيل سرّ العبادة

إنّ ما يقع داخل إطار عمل الجوارح أو علي مستوي خواطر الجوانح، يكون من أحكام العبادات أو من آدابها، وليس أيّ منهما سرّاً للعبادة، فقط ما يقع في مدار شهود العقل النظري وانبعاث العقل العملي .. هو ما يمكن عدّه سرّاً للعبادة.


1- انظر وسائل الشيعة 17: 8- 19.
2- الطلاق: 12.

ص: 165

وكما تجب مراعاة قوانين الفقه الأصغر، دون أن تكفي في نيل أسرار العبادات، فإنّ مراعاة الفقه الأوسط، أي فنّ الأخلاق الشريف، يظلّ لازماً أيضاً، لكنّه أيضاً لايكفي، بل المطلوب احترام إرشادات الفقه الأكبر، عنيت العرفان النظري والعملي، حيث يُتمكّن من العثور علي السبيل لمصدر نزول العبادة عبر الضمير الشاهد والسرّ الطاهر، ليتمّ عبر ذلك إنجاز الأمر من خلال السُبل الإدراكيّة والتحريكيّة للمعبود، كما يشير إلي زاوية من ذلك حديثُ قرب النوافل (1)؛ وهناك لا يكتفي السالك الواصل ببلوغ سرّ العبادة، بل يصبح بنفسه في موقع سرّ المعبود، ومخزن علمه: «هم موضع سرّه، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حُكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه». (2)

حقيقة الإنسان الكامل سرّ العبادات كافّة

ثمَّة علامات لبلوغ سرّ العبادات، وتوضيح ذلك أنّ ما من الشروط الطولية لصحّة العبادات- لا الشرط العرضي- يحسب من أسرارها، فمثلًا الطهارة شرط صحّة الصلاة، إلّا أنّ هذا النوع من الاشتراط وإن اشتمل تقدّماً رتبيّاً، إلّا أنّه علي مستوي معرفة السرّ يقع في عَرْض العبادات المشروطة والموقوفة، لا في طولها؛ لأنّ الشرط الطولي لقبول الطهارة والصلاة هو الورع والتقوي، قال تعالي: (). (3)

إنّ قبول التقوي رهن بولاية الإنسان الكامل؛ لأنّ أيّ عبادة- بل تقوي- ليست مقبولةً دون تولّي المعصومين:، حتّي أنّ القبول بولايتهم دون الاعتقاد بولايتهم


1- بحار الأنوار 22: 67: «ما تحبّب إليَّ عبدي بشي ء أحبّ إليَّ ممّا افترضته عليه، وإنّه ليتحبّب إليَّ بالنافلة حتّي أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إذا دعاني أجبته وإذا سألني أعطيته ...».
2- نهج البلاغة، الخطبة: 2، الفقرة: 10- 11.
3- المائدة: 27.

ص: 166

التكوينيّة التي هي سرّ كونهم ولاةً، هو الآخر غير مقبول (1)؛ لأنّ القبول بولايتهم وإدارتهم- كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ و ...- من فروع الدِّين (2)، ولكلّ فرع أصل، يعدّ سرّاً لهذا الفرع، من هنا يُعلم أنّ حقيقة الإنسان الكامل هي سرّ العبادة، وكلّ سالك ينال سرّ العبادة بمقدار بلوغه من الكمال الإنساني، وأكمل البشر هم المعصومون: الواصلون للسرّ النهائي للعبادة؛ لهذا كانوا الصراط المستقيم (3)، وميزان الأعمال. (4)

وبغية الوصول إلي هذا الهدف السامي، لا مجال سوي بإعمال العقل واليقظة والوعي في مراقبة حرم القلب الآمن؛ فالحكمة لا تحصل دون تدبّر وتعمّق، وصيرورة الإنسان أهل رأي ونظر لا تحصل دون حمل السرّ وطهارة الضمير وصيانة الذات: «الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار». (5)


1- انظر: وسائل الشيعة 90: 1- 96.
2- انظر: وسائل الشيعة: 7- 19.
3- راجع: الكافي 416: 1.
4- انظر: المصدر السابق: 419، 433.
5- نهج البلاغة، الحكمة: 48.

ص: 167

الفصل الثاني سرّ الحج وثمراته

الصورة الباطنيّة للحجّ

لكلّ عبادة بطنٌ وسرّ، وذلك:

أوّلًا: إنّ العبادات امور تحدّث عنها الله سبحانه في كتابه.

ثانياً: لكتاب الله ظاهر وباطن: «... إنّ لكتاب الله ظاهراً وباطناً» (1)، وهذا معناه أنّ كلّ ما جاء في القرآن- ومنه الحجّ- له ظاهر يعرفه الناس، وباطن لا يراه إلّا الشهوديّون والعرفاء، ولا يناله غيرهم.

بعبارة اخري: كلّ ما أثني عليه الوحي الإلهي فله ظاهر يتواصل معه الناس بجسدهم وقوالبهم، وباطن يتّصل به الإنسان بالقلب ويناله به.

وتنزل العبادات- ومن بينها الحجّ- حالها حال سائر موجودات العالم الاخري ... من خزائن الغيب الإلهي: () (2)، إنها كغيرها من الموجودات تنزل إلي واقعيّات متّكئةً علي مخازن الغيب، وعليه فمن يعرف هذه الامور العبادية ويعمل بها يصل إلي اصولها وجذورها في مخزن الغيب.


1- بحار الأنوار 90: 89.
2- الحجر: 21.

ص: 168

وهناك روايات واردة في الصور الباطنيّة للأعمال العباديّة، وهي تنظر إلي هذه النقطة التي أشرنا إليها، حيث يتعرّف الإنسان في البرزخ الصعودي أو النزولي علي تلك الواقعيّات، وطبعاً عدد قليل من الناس يعرفون هذه الحقائق قبل تنزّل الأعمال لهذا العالم (في البرزخ النزولي)، تماماً كما يعرف سائر الناس بعد الموت (في البرزخ الصعودي) حقيقة الصلاة والحجّ والزكاة ويفهمونها، ويرون صورها الملكوتيّة.

وكما يقول الحديث: «إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور، فيهنّ صورة أحسنهنّ، عن يمينه، واخري عن يساره، واخري بين يديه، واخري خلفه، واخري عند رجله، وتقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه؛ فإن أتي عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلي أن يؤتي من الجهات الستّ، فتقول أحسنهنّ صورةً: ومن أنتم جزاكم الله عنّي خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام. وتقول التي خلفه: أنا الحجّ والعمرة. وتقول التي عند رجليه: أنا برّ من وصلت من إخوانك. ثمّ يقلن: مَنْ أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة. فتقول: أنا الولاية لآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين». (1)

تدلّ هذه الرواية علي أنّ للحجّ صورةً باطنيّة تظهر في صورة ملكوتيّة عندما ينتقل الجميع من عالم المُلك إلي عالم الملكوت، ويسافرون ويهاجرون حيث تتبدّل الدُّنيا إلي آخرة.

ولأماكن الحرم- مكاناً مكاناً- وكذلك لمناسك الحجّ والعمرة، أسرار ورموز، لاتنكشف إلّا لزائرين خاصّين يشاهدون صاحب البيت في المجالي والتمظهرات المختلفة، وينالون اللِّقاء بربّ البيت وشهود الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة له، ويمتثلون الحجّ الإبراهيمي والاعتمار الأصيل الحسيني (ع).


1- بحار الأنوار 234: 6.

ص: 169

ويوضح الإمام الصادق (ع) بعض أسرار الحجّ، والتي تشكِّل الوجهة الباطنيّة له، فيقول:

«... ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصّدق والصفاء والخضوع والخشوع، وأحرم عن كلّ شي ء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته، ولبِّ بمعني إجابة صافية خالصة زاكية لله عزَّ وجلَّ في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقي؛ وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرباً من هواك وتبرّياً من جميع حولك وقوّتك. واخرج عن غفلتك وزلّاتك بخروجك من مني، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه؛ واعترف بالخطايا بعرفات؛ وجدّد عهدك عند الله بوحدانيّته، وتقرّب إلي الله واتّقه بمزدلفة؛ واصعد بروحك إلي الملأ الأعلي بصعودك إلي الجبل؛ واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة؛ وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات؛ واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك؛ وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم؛ وزُر البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه؛ واستلم الحجر رضاءاً بقسمته وخضوعاً لعزّته؛ وودّع ما سواه بطواف الوداع؛ وأصف روحك وسرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك علي الصفا. وكُن ذا مروّة من الله نقيّاً أوصافك عند المروة ...

واعلم بأنّ الله تعالي لم يفترض الحجّ ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلي نفسه بقوله عزّ وجلّ: () (1)، ولا شرع نبيّه (ص) سنّة في خلال المناسك علي ترتيب ما شرعه، إلّا للاستعداد والإشارة إلي


1- آل عمران: 97.

ص: 170

الموت والقبر والبعث والقيامة ...». (1)

سرّ الحجّ في السير إلي الله

كما كان الحجّ لله ووجوبه منه: () (2)، كذلك لابدّ أن يكون امتثاله والقيام به لله أيضاً؛ فإذا أراد شخص الحجّ بقصد السياحة والتجارة وأمثال ذلك فإنّ حجّه هذا ليس له أيّ سرّ من حيث إنّه ليس سيراً إلي الله تعالي، فإنّ أهمّ أسرار الحجّ هو السير إلي الله سبحانه، تماماً كما طبّقت بعض الروايات الآية الكريمة: () (3) علي الحجّ. (4)

إنّ سفر الحجّ فرار من غير الله إلي الله سبحانه، وحيث الله في كلّ مكان (5)، فليس معني «السير إلي الله» هو السير المكاني أو الزماني، بل الفرار إلي الله معناه ترك الإنسان ما سوي الله وطلبه لله سبحانه، فإذا سافر إنسانٌ إلي الحجّ بقصد التجارة أو الشهرة أو ما شابه ذلك، فقد حقّق «الفرار من الله» لا «الفرار إلي الله».

إنّ مسيرة إقامة الحجّ التي تكمن في الانقطاع عمّا سوي الله والهجرة إليه سبحانه، كي يُنال لقاؤه ... كلّها «إلي الله» و «في الله» و «مع الله» و «لله»، من هنا جاء في بعض أدعية الحجّ وأمثاله: «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلي ملّة رسول الله». (6)

زاد سفر الحجّ


1- بحار الأنوار 124: 96- 125.
2- آل عمران: 97.
3- الذاريات: 50.
4- وسائل الشيعة 5: 8.
5- البقرة: 115، الزخرف: 84، الحديد: 4.
6- بحار الأنوار 120: 96.

ص: 171

لم يرد تعبير «الزاد» في القرآن الكريم سوي في الآية الشريفة: () (1)، حيث يشتمل صدرها- بل وما قبلها وما بعدها من آيات- علي بيان بعض أحكام الحجّ؛ وسرّ المطلب وجود سفر في الحجّ: () (2) وحيث كانت هناك حاجة في السفر للزاد والمؤونة، لذا ذكّر الله سبحانه بذاك السفر الأصلي والأصيل الذي هو الآخرة، فأمر بالتقوي.

إنّ قوله تعالي: ():

أوّلًا: يرشد إلي الطريق، وبدلالته علي تعيين الزاد، وهو التقوي، يبيّن أنّ المراد هنا هو السلوك إلي الله تعالي، فإنّ الله هو أهل التقوي، كما أنّه أهل الجود والجبروت.

ثانياً: يحذّر الناس بأنّهم جميعاً مسافرون؛ لأنّ التزوّد علامة أنّ الإنسان مسافر.

ثالثاً: يُعلِم بأنّ المسافر من دون زاد لا يمكنه الحركة ولا التقدّم.

رابعاً: يرشد الجميع إلي أنّ أفضل الزاد هو التقوي.

خامساً: يبيّن أنّ الحجّ من أبرز مصاديق التقوي.

سادساً: يذكِّر بأنّ أفضل نوع من أنواع التقوي هو التقوي الإلهيّة، فَاتَّقُونِ، فإنّ زاد السالكين الذين ينشأ ورعهم وتقواهم من الخوف من نار جهنّم أو الشوق إلي الجنّة، ينتهي في وسط الطريق، ولا يصلون إلي لقاء الله في سفر الآخرة؛ لأنّ هدفهم كان الفرار من جهنّم أو الوصول إلي الجنّة، وبعد ذلك يقفون في حركتهم، لأنّهم لا زاد معهم لغيرها.


1- البقرة: 197.
2- الحجّ: 27.

ص: 172

أمّا تقوي الأحرار التي لا تنشأ من خوف النار ولا طمع الجنّة، وإنّما من محبّة الله سبحانه، فإنّها تستمرّ بهم إلي لقاء الله، فيصلون إليه، لما عندهم من الزاد، فالتقوي التي تنال الله تعالي ليست صفةً منفصلة عن روح المتّقي وذاته، فصاحبها متّق يحظي بلقاء الله.

إنّ سفر الحجّ للزائر الذي وصل للمقصد وعثر علي مقصوده في ذلك المقصد ثمّ رجع، هو سفرٌ «من الحقّ إلي الخلق بالحقّ»، وهذا المسافر لديه سفر نفسي إلي جانب السفر الافقي والآفاقي، وهو يدرك أنّ الله تعالي معه: () (1)، إنّ مثل هذا الزائر يرجع إلي دياره ومعه مضيفه نفسه (2)، بنورانيّة تجعله كأنّه ولد من امّه من جديد «مَن أَمَّ هذا البيت حاجّاً أو معتمراً مبرءاً من الكبر، رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته امّه» (3)، والناس مكلّفون بزيارة مثل هذا القادم من سفر الحجّ قبل أن يتلوّث حجّه بأيّ معصية أو ذنب، فينالون بذلك من النور الإلهيّ لِحجَّتهِ. (4)

تزكية الروح في ضوء معرفة الأسرار

يقع قسم مهمّ من تزكية النفوس في ضوء معرفة أسرار العبادات والأحكام الدينيّة، إنّ تعليم الكتاب والحكمة الوارد في الآية الشريفة: () (5)، مفهوم يستوعب العقائد والأخلاق والأعمال العباديّة، كما يستوعب أيضاً القضايا الاقتصاديّة، والسياسيّة، والعسكريّة، وما شابهها، من هنا


1- الحديد: 4.
2- ورد تعبير «الضيف» في حقّ زوّار بيت الله الحرام في عدد من الروايات، منها: «ثلاثة نفر من خالصة الله عزّ وجلّ يوم القيامة ... والحاج والمعتمر؛ فهما وفد الله، وحقّ علي الله أن يكرم وفده» وسائل الشيعة 84: 3؛ و «إنّ ضيف الله عزّ وجلّ رجلٌ حجّ واعتمر فهو ضيف الله حتّي يرجع إلي منزله ...» وسائل الشيعة 458: 10.
3- وسائل الشيعة 64: 8.
4- المصدر السابق: 327.
5- البقرة: 129.

ص: 173

فالتزكية المذكورة في هذه الآية أتت أيضاً لبيان باطن هذه الامور كافّة، وكما أنّ تزكية أيّ عمل تكون بنيل أسرار ذلك العمل، فإنّ أيّ عمل له سرّ، يكون الاهتمام به أساساً لتزكية الروح.

والحجّ، مثله مثل سائر العبادات والآداب والسنن والفرائض، جاء لتهذيب النفس، فمحرّمات الحجّ جاءت لتطهير القوي النفسانية التي تتورّط أحياناً بالمعاصي والمهلكات، كما أشارت الآية الشريفة: () (1)، إلي ثلاثة محرّمات في الحجّ، يتعلّق كلّ واحد منها بتطهير قوّة من القوي الإنسانيّة، ف- (لارفث) تنظر إلي تطهير القوّة الشهوانيّة، و (لافسوق) لتطهير القوّة الغضبيّة، و (لاجدال) لتهذيب القوي الفكريّة.

وبطهارة هذه القوي الثلاث تطهر جملة أعمال الإنسان؛ لأنّ أيّ عمل يصدر من الإنسان يرجع بالتحليل الدقيق إلي هذه القوي الثلاث، وتفصيل هذا البحث موكول إلي علم الأخلاق.

والجدير بالذِّكر أنّ أيّ عمل إنّما يصدر من مصدر خاصّ ويحكي عن خصوصيّاته، فالصدر المشروح يصدر عنه عمل خالص ومشروح، غير مبتلي بنقص ولا ملوّث بعيب؛ وعلي هذا الأساس فإنّ زائر بيت الله الحرام، يغدو حجّه خالصاً وخلوصاً ومشروحاً أكثر بتبع درجة معرفته بأسرار الحجّ نفسه؛ لأنّ الخلوص الذي هو معيار الاستفادة من الثواب، وشأنٌ من شؤون العقل العملي، مسبوقٌ بالمعرفة؛ والمعرفة من شؤون العقل النظري، فعلي السالك- في البداية- أن يفهم المراحل العباديّة ويعيها، حتّي يكون لديه في مقابل فهمه ومعرفته إقدامٌ خالص علي الفعل.

إذن، فبدون التعرّف علي أسرار الأعمال لن يتيسّر طيّ مراحل الإخلاص كاملةً،


1- البقرة: 197.

ص: 174

وهذا الأمر صادق في حقّ التعرّف علي أسرار سائر العبادات أيضاً.

وعليه، فعندما يشرع شخص- قبل التعرّف علي أسرار الحجّ- بالسفر إلي بيت الله، فحجّه وإن كان يمكن أن يكون صحيحاً بحسب الظاهر، إلّا أنّه بذلك لم يحقّق الحجّ الكامل والمقبول، ولم تكن الضيافة من نصيبه؛ لأنّ روح إقامة الحجّ لم تتعالي عنده بسبب عدم اطّلاعه علي أسرار هذه الفريضة.

ولمزيد من التعرّف علي أسرار الحجّ، لابدّ من الرجوع إلي عادات وسيرة الحجّاج الصالحين الحقيقيّين؛ أعني المعصومين:؛ لوضع حجّهم تحت مجهر المطالعة الدقيقة والتأسّي بهم في ذلك؛ لأنّ هؤلاء كانوا يراعون- مع الآداب والسنن والفرائض والأعمال الظاهريّة للحجّ- العناصر التكوينيّة التي تقوم عليها هذه الأعمال.

ويظلّ استذكار هذا الأمر مفيداً، وهو أنّ سرّ الكثير من العبادات غير مخفيّ ولامستور عن القائمين بها، إلّا أنّ فهم أسرار مناسك الحجّ يبقي أمراً عسيراً وشاقّاً، فالكثير من أسرار الحجّ يصعب شرحها بالعقل البشري أو لا يتيسّر ذلك أساساً؛ من هنا احتوت مناسك الحجّ عبوديّة محضة وتامّة، منسجمة مع التعبّد الشديد الزائد عن أمثاله في سائر الأحكام الدينيّة، تماماً كما قال رسول الله (ص) عند التلبية: «لبّيك بحجّة حقّاً تعبّداً ورقّاً». (1)

التناغم بين سيرة الحاجّ وسرّ الحجّ

عدّ الله سبحانه الحجّاج والمعتمرين من شعائره؛ فقال: () (2)، فالحاجّ عندما يعزم علي زيارة البيت يغدو


1- المحجّة البيضاء 197: 2، وقد أسندت هذه الجملة في بعض النصوص إلي أنس بن مالك.
2- المائدة: 2.

ص: 175

جزءاً من الشعائر الإلهيّة.

نعم، من الواضح أنّ الذي يقصد من سفر الحجّ والعمرة، السياحة والتجارة والشهرة وما شابه ذلك، لا يكون ضمن الحُرمات الإلهيّة.

إنّ الزوّار المدعوين من جانب الحقّ سبحانه واللائقين بالتكريم الإلهي هم الواجدون للشروط والأوصاف الخاصّة، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الأوصاف تارةً بنحو العموم، واخري بذكر مصاديقها.

أمّا الشرائط العامّة فقد ذكرها في العهد الذي عهده إلي باني الكعبة ومساعده- أي إبراهيم وإسماعيل (ع)- حين قال: (). (1)

وطبقاً للآية الشريفة: () (2)، فإنّ مصداق «الركّع السجود» الذين أمر الخليل والذبيح (ع) بتطهير البيت لضيافتهم، هم الامّة الحقيقيّة لرسول الله (ص)، الذين يملكون- إلي جانب الصلاة والركوع والسجود- الصلابة الإبراهيميّة ضدّ النمروديين ورؤوس الكفر والنفاق والطغيان، كما لديهم رأفة خليل الرحمن بالمسلمين المحرومين في أنحاء العالم الإسلامي.

بناءاً عليه، فمَن كان ملوّثاً بالفكر الباطل أو العمل الطالح لن يكون ضيفاً للبيت الطاهر، فليس الساعي وراء الامتيازات والمقامات والمناصب ضيفاً لبيت المساواة والمواساة، وليس عبد الهوي أو عبد المستكبرين والملحدين ضيفاً للبيت العتيق الحرّ، بيت الحرية والأحرار، وليس من لديه مئات الأصنام بضيفٍ علي بيت التوحيد، ومن


1- البقرة: 125.
2- الفتح: 29.

ص: 176

وجّه وجهه للخلف وأدار ظهره للقبلة مصلّياً صلاته لا يكون ضيفاً علي قبلة المسلمين، ومن وضع مكان التبرّي من الشرك والنِّفاق والكفر، الولاية لرموز الإلحاد كيف يكون ضيفاً علي مطاف العاكفين؟! فليس من يخضع للاستعمار بضيف علي بيت الراكعين والساجدين، ليس كلّ حاجّ بعارف لأسرار الحجّ، أو بممتثل للحجّ الكامل، إنّما هم الحافظون للسرّ الإلهي ولمخازن العلوم الربّانية من يطّلع الله علي أسراره ليحفظوها، فهم مطّلعون علي سرّ الحكم ويصلون لهذا السرّ.

السيرة اللا إنسانية لبعض الحجّاج

تصنع العقائد والأخلاق والأعمال والنيّات حقيقةَ أيّ إنسان، كذلك الحجّ- كما سائر العبادات- يبني الإنسان، بل يتناغم سرّ الحجّ مع سريرة الإنسان، فيبني علي أساس ذلك، وإذا لم يوفّق شخص لبلوغ السرّ، فإنّ صورته تكون صورة الإنسان، إلّا أنّ حقيقته وسيرته ستكونان سيرة الحيوان: «فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان». (1)

يقول أبو بصير للإمام الباقر (ع): «ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج! فقال (ع): بل ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج، أتحبّ أن تعلم صدق ما أقوله، وتراه عياناً؟ فمسح يده علي عينيه، ودعا بدعوات فعاد بصيراً، فقال: انظر يا أبابصير إلي الحجيج؛ قال: فنظرت فإذا أكثر الناس قردةً وخنازير، والمؤمن بينهم مثل الكوكب اللّامع في الظلماء ...». (2)

وفي حديث آخر: قال عليّ بن الحسين (ع)- وهو واقف بعرفات- للزهري: «كم تقدِّر من الناس هاهنا؟» قال: أُقدّر أربعة ألف ألف [ظ أربعمائة ألف أو] وخمسمائة


1- نهج البلاغة، الخطبة: 87، الفقرة: 12.
2- بحار الأنوار 261: 46.

ص: 177

ألف؛ كلّهم حجّاج قصدوا الله بأموالهم ويدعونه بضجيج أصواتهم؛ فقال له: «يا زهريّ! ما أكثر الضجيح وأقلّ الحجيج»، فقال الزهري: كلّهم حجّاج أفهم قليل؟ فقال: «يا زهريّ! أدن إليَّ وجهك»؛ فأدناه إليه، فمسح بيده وجهه.

ثمّ قال: «انظر»، فنظر إلي الناس؛ فقال الزهري: فرأيت أُولئك الخلق كلّهم قردة لا أري فيهم إنساناً إلّا في كلّ عشرة ألف واحد من الناس؛ ثمّ قال لي: «ادنُ يا زهريّ»، فدنوت منه فمسح بيده وجهي، ثمّ قال: «انظر»، فنظرت إلي الناس. قال الزهريّ: فرأيت اولئك الخلق كلّهم خنازير.

ثمّ قال لي: «ادنُ إليَّ وجهك»، فأدنيت منه فمسح بيده وجهي فإذا هم كلّهم ديبة (ذئبة) إلّا تلك الخصائص من الناس النفر اليسير.

فقلت: بأبي وامّي أنت يا ابن رسول الله، قد أدهشتني آياتك وحيّرتني عجائبك؛ قال: «يا زهريّ! ما الحجيج من هؤلاء إلّا النفر اليسير الذين رأيتهم بين هذا الخلق الجمّ الغفير».

ثمّ قال لي: «امسح يدك علي وجهك»، ففعلت فعاد اولئك الخلق في عيني اناساً كما كانوا أوّلًا.

ثمّ قال لي: «مَن حجّ ووالي موالينا وهَجَر معادينا ووطّن نفسه علي طاعتنا ثمّ حضر هذا الموقف مسلّماً إلي الحجر الأسود ما قلّده الله من أمانتنا (أماناتنا) ووفيّاً بما ألزمه من عهودنا، فذلك هو الحاج والباقون هم من قد رأيتهم.

يا زهريّ! حدّثني أبي عن جدّي رسول الله (ص) أنّه قال: ليس الحاج المنافقون المعاندون لمحمّد وعليّ ومحبّيهما الموالون لشانئيهما، وإنّما الحاجّ المؤمن المخلصون الموالون لمحمّد وعليّ ومحبّيهما المعادون لشانئيهما، إنّ هؤلاء المؤمنين الموالين لنا المعادين لأعدائنا لتسطع أنوارهم في عرصات القيامة علي قدر موالاتهم لنا؛ فمنهم

ص: 178

مَن يسطع نوره مسيرة ثلاث مائة ألف سنة وهو جميع مسافة تلك العرصات، ومنهم مَنْ تسطع أنواره إلي مسافات بين ذلك يزيد بعضها علي بعض علي قدر مراتبهم في موالاتنا ومعاداة أعدائنا يعرفهم أهل العرصات من المسلمين والكافرين بأنّهم الموالون المتولّون المتبرّؤون، يُقال لكلّ واحد منهم: يا وليّ الله! انظر في هذه العرصات إلي كلّ من أسدي إليك في الدُّنيا معروفاً أو نفّس عنك كُرباً أو أغاثك إذ كنت ملهوفاً أو كفَّ عنك عدوّاً أو أحسن إليك في معاملة فأنت شفيعه ...». (1)

وطبقاً لحديث آخر عن الإمام السجّاد؛ فإنّ الأشخاص الذين يكون ملكوتهم بصورة إنسان هم المتمسّكون بالقرآن والعترة، والمعتقدون بالوحي والرسالة والولاية، وقد أحاط الدين وأمّن ظاهرهم وباطنهم؛ من هنا كان ظاهرهم وباطنهم إنسانيّاً، أمّا الذين كان باطنهم الفصل بين القرآن والعترة، ويقولون بأنّ الرسول اجتهد في تعيين الإمام بعده، فهو في الحقيقة جحود وإنكار للحقّ، وهو ما يظهر بصورة حيوانيّة.

وقد اتّضح من الرواية المُشار إليها دور الاعتراف بولاية الأئمّة المعصومين:، وكذلك إنكارهم، في بناء سلوك الإنسان وحقيقته.

وفي هذا السياق نفسه، يقول سدير الصيرفي: كنتُ مع الصادق (ع) في عرفات، فرأيت الحجيج وسمعتُ الضجيح، فتوسّمت وقلتُ في نفسي: أتري هؤلاء كلّهم علي الضلال؟ فناداني الصادق (ع) فقال: «تأمّل!» فتأمّلتهم، فإذا هم قردة وخنازير. (2)

وسرّ هذا الأمر هو ما جاء في الحديث عينه، وهو أنّ الذي يتغافل النصّ الصريح للنبيّ الأكرم (ص) فيما يخصّ خلافة الأئمّة المعصومين: عامداً عالماً، وينكر ذلك، ولا يعتقد بولايتهم، فإنّ حقيقته ليست إنسانيّة.


1- المصدر السابق 258: 96.
2- المناقب 234: 4- 235.

ص: 179

ونتيجة الكلام أنّه وإن كان من الممكن أن يكون كلّ الحاضرين في مراسم الحجّ زوّاراً لبيت الله الحرام في إحصاء ظاهريّ، إلّا أنّ الكثير منهم لا يحسبون إنساناً من حيث الإحصاء الباطني والحقيقي لهم، علي مستوي أسرار الحجّ.

إنّ هذا المشهد الذي رأيناه وإن حصل أن وقع في عرفات، إلّا أنّه يمكن تحقّقه أيضاً في الصفوف الطويلة لصلوات الجماعة التي قد يبلغ العدد فيها أحياناً مبلغاً كبيراً، بحيث لا نجد سوي القليل من المقيمين الحقيقيّين للصلاة.

والجدير ذكره هنا، أنّ هذا البحث وإن ورد في باب الحجّ؛ إلّا أنّ مرجعه إلي سرّ الولاية، لا سرّ الحجّ، اللّهُمَّ إلّا إذا قيل: حيث كانت الولاية مُرخيةً بظلالها علي جميع الأعمال والعبادات، لذا فإنّ حقيقتها سوف تظهر تحت عنوان سرّ الأعمال والعبادات، فمن لا يقبل بسرّ الولاية فقدْ فَقَدَ إنسانيّته ولو أدّي الصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ، انطلاقاً من فقدان أعماله السرّ والحقيقة؛ لأنّ سرّ العبادة هو ما يبني الإنسان وينشؤه ويربّيه، ومن لم يبلغ هذا السرّ فلن تكون سريرته إنسانيّة.

ص: 180

الفصل الثالث الإحرام

اشارة

الحرم هو الأمن الإلهي وهو أرض الحجّ، ميزةٌ لا يشاركه فيها شي ء، ليس فقط في موسم الحجّ، وإنّما علي امتداد العام، حيث لا يمكن الدخول إليه إلّا مع الإحرام. كذلك الحال في عدم حقّ غير المسلم في دخول منطقة التوحيد ومهبط الوحي؛ لأنّ إحرامه غير صحيح، ودخول غير المحرم إلي الحرم ممنوع.

وقد حدّدت لكلّ من يريد الدخول إلي الحرم مواقيت للإحرام؛ يقصد بذلك حفظ حرمة الحرم الذي وجد بالمسجد الحرام والكعبة المشرّفة؛ فالإحرام من الميقات للدخول إلي الحرم مثل صلاة تحيّة المسجد التي وضعت لحفظ كرامة المسجد، مع فارق وهو أنّ تحيّة المسجد مستحبّة، فيما الإحرام لدخول الحرم واجب، ويجب علي الحاجّ عند الإحرام أن يقصد أن يحرِّم علي نفسه ما حرّمه الله عليه. (1)


1- مستدرك الوسائل 166: 10. وقد أورد هذا الكتاب- لا سيما في قسم الحجّ- وفي مواضع متعدّدة، الرواية المعروفة برواية الشبلي، وحيث احتوت هذه الرواية علي أسرار ولطائف كثيرة حول الحجّ؛ لذا ننقل نصّها الكامل هنا؛ لكن قبل ذلك يجدر الالتفات إلي بعض النقاط: أوّلًا: هناك أشخاص متعدّدون معروفون بلقب «الشبلي»، وأقرب شخص منهم إلي عصر الأئمّة: هو أبوبكر دُلف بن جحدر، المولود بعد شهادة الإمام السجّاد 7 بحوالي قرنين، وهذا معناه أنّه لايمكن للملقّبين ب- «الشبلي» أن يرووا بشكل مباشر عن الإمام السجّاد 7، وهذا الحديث لا يشبه وزنه وطريقة البيان فيه ما هو المأثور عن الأئمّة المعصومين:، من هنا قيل: إنّه من الممكن أن تكون هذه الرواية من كلمات بعض العرفاء، نُسبت شيئاً فشيئاً إلي الإمام السجّاد 7. لكن مثل هذه الروايات المنسجمة مع سائر المعارف أو غير المخالفة لها، لا يشكِّل النقص في السند فيها مانعاً عن الاستفادة من متنها الرفيع والنوراني. ثانياً: لا يتساوي الترتيب الموجود في هذه الرواية لمناسك الحجّ مع ترتيبها المعروف في الفقه، ولعلّه يمكن القول: مبرّر ذلك أنّ الإمام السجّاد 7 لم يكن في هذا الحديث بصدد بيان أحكام مناسك الحجّ والتكاليف الظاهريّة للحجّاج. أمّا متن الرواية فهو علي الشكل التالي: العالم الجليل الأوّاه السيّد عبدالله سبط المحدِّث الجزائري في شرح النخبة قال: وجدت في عدّة مواضع أوثقها بخطّ بعض المشايخ الذين عاصرناهم مرسلًا، أنّه لمّا رجع مولانا زين العابدين 7 من الحجّ استقبله الشبلي، فقال له: حججت يا شبلي؟ قال: نعم يا ابن رسول الله؛ فقال 7: أنزلت الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال: نعم. قال: فحين نزلت الميقات نويت أنّك خلعت ثوب المعصية ولبست ثوب الطاعة؟ قال: لا؛ قال: فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك نويت أنّك تجرّدت من الرِّياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال: لا. قال: فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال: لا؛ قال: فما نزلت الميقات ولا تجرّدت عن مخيط الثياب ولا اغتسلت. ثمّ قال: تنظّفت وأحرمت وعقدت بالحجّ؟ قال: نعم؛ قال: فحين تنظّفت وأحرمت وعقدت الحجّ نويت أنّك تنظّفت بنورة التوبة الخالصة لله تعالي؟ قال: لا؛ قال: فحين أحرمت نويت أنّك حرّمت علي نفسك كلّ محرّم حرّمه الله عزّ وجلّ؟ قال: لا. قال: فحين عقدت الحجّ نويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله؟ قال: لا؛ قال 7 له: ما تنظّفت ولا أحرمت ولا عقدت الحجّ. قال له: أدخلتَ الميقات وصلّيت ركعتي الإحرام ولبّيت؟ قال: نعم؛ قال: فحين دخلت الميقات نويت أنّك بنيّة الزيارة؟ قال: لا؛ قال: فحين صلّيت الركعتين نويت أنّك تقرّبت إلي الله بخير الأعمال من الصلاة وأكبر حسنات العباد؟ قال: لا؛ قال: فحين لبّيت نويت أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة وصمت عن كلّ معصية؟ قال: لا؛ قال 7 له: ما دخلت الميقات ولا صلّيت ولا لبّيت. ثمّ قال له: أدخلتَ الحرم ورأيت الكعبة وصلّيت؟ قال: نعم؛ قال: فحين دخلت الحرم نويت أنك حرّمت علي نفسك كلّ غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملّة الإسلام؟ قال: لا؛ قال: فحين وصلت مكّة نويت بقلبك أنّك قصدت الله؟ قال: لا؛ قال 7: فما دخلت الحرم، ولا رأيت الكعبة، ولا صلّيت. ثمّ قال: طفتَ بالبيت ومسست الأركان وسعيت؟ قال: نعم؛ قال 7: فحين سعيت نويت أنّك هربت إلي الله وعرف منك ذلك علّام الغيوب؟ قال: لا؛ قال: فما طفت بالبيت، ولا مسست الأركان، ولا سعيت. ثمّ قال له: صافحت الحجر ووقفت بمقام إبراهيم 7 وصلّيت به ركعتين؟ قال: نعم؛ فصاح 7 صيحةً كاد يفارق الدُّنيا، ثمّ قال: آه آه؛ ثمّ قال 7: مَنْ صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالي، فانظر يا مسكين لاتضيّع أجر ما عظم حرمته وتنقض المصافحة بالمخالفة وقبض الحرام نظير أهل الآثام. ثمّ قال 7: نويت حين وقفت عند مقام إبراهيم 7 أنّك وقفت علي كلّ طاعة وتخلّفت عن كلّ معصية؟ قال: لا؛ قال: فحين صلّيت فيه ركعتين نويت أنّك صلّيت بصلاة إبراهيم 7 وأرغمت بصلاتك أنف الشيطان؟ قال: لا؛ قال له: فما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صلّيت فيه ركعتين. ثمّ قال 7 له: أشرفتَ علي بئر زمزم وشربت من مائها؟ قال: نعم؛ قال: نويت أنّك أشرفت علي الطاعة وغضضت طرفك عن المعصية؟ قال: لا؛ قال 7: فما أشرفت عليها، ولا شربت من مائها. ثمّ قال 7 له: أسعيتَ بين الصفا والمروة ومشيت وتردّدت بينهما؟ قال: نعم؛ قال له: نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟ قال: لا؛ قال: فما سعيت، ولا مشيت، ولا تردّدت بين الصفا والمروة. ثمّ قال: أخرجتَ إلي مني؟ قال: نعم؛ قال: نويت أنّك آمنت الناس من لسانك وقلبك ويدك؟ قال: لا؛ قال: فما خرجت إلي مني. ثمّ قال له: أوقفتَ الوقفة بعَرفة وطلعت جبل الرحمة وعرفت وادي نمرة ودعوت الله سبحانه عند الميل والجمرات؟ قال: نعم؛ قال: هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه أمر المعارف والعلوم وعرفت قبض الله علي صحيفتك واطّلاعه علي سريرتك وقلبك؟ قال: لا؛ قال: نويت بطلوعك جبل الرحمة أنّ الله يرحم كلّ مؤمن ومؤمنة ويتولّي كلّ مسلم ومسلمة؟ قال: لا؛ قال: فنويت عند نمرة أنّك لا تأمر حتّي تأتمر ولا تزجر حتّي تنزجر؟ قال: لا؛ قال: فعندما وقفت عند العلم والنمرات نويت أنّها شاهدة لك علي الطاعات حافظة لك مع الحفظة بأمر ربّ السماوات؟ قال: لا؛ قال: فما وقفت بعرفة، ولا طلعت جبل الرحمة، ولا عرفت نمرة، ولا دعوت، ولا وقفت عند النمرات. ثمّ قال: مررت بين العلمين وصلّيت قبل مرورك ركعتين ومشيت بمزدلفة ولقطت فيها الحصي ومررت بالمشعر الحرام؟ قال: نعم؛ قال: فحين صلّيت ركعتين نويت أنّها صلاة شكر في ليلة عشر تنفي كلّ عسر وتيسّر كلّ يُسر؟ قال: لا؛ قال: فعندما مشيت بين العلمين ولم تعدل عنهما يميناً وشمالًا نويت أن لا تعدل عن دين الحقّ يميناً وشمالًا لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك؟ قال: لا؛ قال: فعندما مشيت بمزدلفة ولقطت منها الحصي نويت أنّك رفعت عنك كلّ معصية وجهل وثبت كلّ علم وعمل؟ قال: لا؛ قال: فعندما مررت بالمشعر الحرام نويت أنّك أشعرتَ قلبك إشعار أهل التقوي والخوف لله عزّوجلّ؟ قال: لا؛ قال: فما مررت بالعلمين، ولا صلّيت ركعتين، ولا مشيت بالمزدلفة، ولا رفعت منها الحصي، ولا مررت بالمشعر الحرام. ثمّ قال له: وصلتَ مني ورميت الجمرة، وحلقت رأسك، وذبحت هديك، وصلّيت في مسجد الخيف، ورجعت إلي مكّة وطفت طواف الإفاضة؟ قال: نعم؛ قال: فنويت عندما وصلت مني ورميت الجمار أنّك بلغت إلي مطلبك وقد قضي ربّك لك كلّ حاجتك؟ قال: لا؛ قال: فعندما رميت الجمار نويت أنّك رميت عدوّك إبليس وغضبته بتمام حجّك النفيس؟ قال: لا؛ قال: فعندما حلقت رأسك نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ومن تبعة بني آدم وخرجت من الذنوب كما ولدتك امّك؟ قال: لا؛ قال: فعندما صلّيت في مسجد الخيف نويت أنّك لاتخاف إلّا الله عزّوجلّ وذنبك ولا ترجو إلّا رحمة الله تعالي؟ قال: لا؛ قال: فعندما ذبحت هديك نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنّك اتّبعت سنّة إبراهيم 7 بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحان قلبه وحاجه ظ أحييت سنّته لمَن بعده وقربةً إلي الله تعالي لمَن خلفه؟ قال: لا؛ قال: فعندما رجعت إلي مكّة وطفت طواف الإفاضة نويت أنّك أفضت من رحمة الله تعالي ورجعت إلي طاعته وتمسّكت بودّه وأدّيت فرائضه وتقرّبت إلي الله تعالي؟ قال: لا؛ قال له زين العابدين 7: فما وصلت مني، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا أدّيت نسكك، ولا صلّيت في مسجد الخيف، ولا طفت طواف الإفاضة، ولا تقرّبت. ارجع؛ فإنّك لم تحجّ. فطفق الشبلي يبكي علي ما فرّطه في حجّه وما زال يتعلّم حتّي حجّ من قابل بمعرفة ويقين.

ص: 181

فبعض الامور تحرم علي الإنسان مؤقّتاً وحال الإحرام فقط. مثل قلع الشعر، والنظر في المرآة، والصيد و ... لكن بعضها حرام مطلقاً مثل ما ورد في حديث الشبلي من لزوم ترك تمام المعاصي حال الإحرام.

وعليه فالإحرام في الميقات يعني كأنّك تقول لله: «إلهي! إنّني أتعهّد أن احرِّم علي نفسي تمام المحرّمات، وأن أتركها دائماً وإلي الأبد».

حقيقة الإحرام

للإحرام أجزاء ثلاثة واجبة، يتحقّق الإحرام بوجودها، وهي:

1- ارتداء قطعتي لباس من غير المخيط (للرجال).

2- قصد الإحرام للحجّ أو العمرة.

3- التلبية.

إنّ الإحرام كما جاء في الكلام النوراني للإمام السجّاد (ع) يعني مناداة الله: «إلهي! لقد قطعت تعلّقي بغيرك»، وعليه فهذا «العقد» والعهد، يلازمه «حلّ» الارتباط بغير الله سبحانه، فبدايةً تُقطع التعلّقات بغير الله ثمّ بعد ذلك يحصل الاتّصال والارتباط به سبحانه.

من الواضح جدّاً مدي ظهور التوحيد وتجلّيه البالغ في الإحرام، مرفقاً بالتعرّي من كلّ زينة في الحياة الدنيويّة، وكأنّ في ذلك محاكاةً للحشر والمعاد اللّذين هما العودة إلي المبدأ.

ص: 182

علي هذا الأساس، فمن لم يخاطب- عند الإحرام- الله بقلبه: «إلهي! غسلت يديّ من غيرك، ولم أرتبط إلّا بولائك»، لم يذهب للميقات حقيقةً ولم يحرم واقعاً! طبقاً لتوجيهات الإمام السجّاد (ع).

نعم المراد نفي الكمال، لا نفي الصحّة.

غسل الإحرام

سرّ استحباب الغسل في الميقات، كما يبيّن الكلام المنير للإمام السجّاد (ع)، أن يقصد الحاج به تطهير نفسه من الذنوب والخطايا، فالنظافة في الميقات تتعدّي تطهير البدن لتدلّل علي تطهير القلب، وهذا أوّل سرّ من أسرار الحجّ.

وبناءاً عليه، يتعهّد الزائر مع غسل الإحرام:

أوّلًا: أن لا يلوّث نفسه بعد ذلك بالذنب والمعصية.

ثانياً: من الآن فصاعداً لا يخطو خطوةً إلّا في طريق الطاعة.

ثالثاً: أن يجبر النواقص السابقة ويرمّمها.

إنّ غسل الإحرام سيكون بهذا القصد غسلًا للتوبة، وعند ذاك سيلبس زائر بيت الله الحرام لباس الطاعة بروحه وجسده الطاهرين.

صلاة الإحرام

تقرأ في الميقات صلاة الإحرام قبل الغسل، ويفتي أكثر الفقهاء باستحباب هذه الصلاة، فيما يقول بعضهم بالاحتياط الوجوبي في أدائها، وبناءاً عليه من المناسب أن يوقع الإنسان الإحرام بعد الصلاة.

إنّ العازم علي السفر إلي بيت الله الحرام يتوجّه إلي سرّ صلاة الإحرام ويقول:

ص: 183

«إلهي! إنّني أقتربُ منك بعمود دينك».

ارتداء لباس الإحرام

إنّ خلع الملابس المخيطة حال الإحرام يعني الخروج من لباس المعصية، كما أنّ ارتداء لباس الإحرام غير المخيط ولا الملوّن، والمصنوع من الحلال والطهارة والنظافة، يعني اشتمال لباس الطاعة.

السرّ الآخر لارتداء هذا اللِّباس الخاصّ هو تذكّر اليوم الذي يأتي فيه الإنسان بلباس غير مخيط، ألا وهو يوم الموت الذي يرتدي فيه الكفن، من هنا تتجلّي في مناسك الحجّ ومراسيمه بعض أسرار القيامة، فسفر الموت والحضور في عرصات القيامة يتجسّد في نظر الحجيج.

كما أنّ ارتداء لباس الإحرام المتواضع والبسيط يزيل الامتيازات الظاهريّة الشكليّة بين الناس، ممّا يلغي أيّ أرضيّة لخلق رغبة في التفاضل أو التفاخر أو التباهي.

النيّة

الحجّ (التمتّع- القران- الإفراد) والعمرة من العناوين القصديّة والقُربيّة، لهذا يجب فيه مراعاة شيئين وقصدهما: أحدهما عنوان العمل، وثانيهما: غاية الفعل وهدفه، ألا وهو التقرّب إلي الله تعالي.

كما أنّ كلّ الأركان والأجزاء الداخلة تحت هذا العنوان تصبح قصديّةً أيضاً، فيغدو امتثالها- كامتثال الحجّ والعمرة- باطلًا غير متحقّق إذا فقد قصد العنوان الخاصّ.

نعم، القصد الإجمالي الأوّل كاف؛ حيث يلقي بظِلاله علي سائر الامور والأجزاء.

ص: 184

ويجب في الحجّ والعمرة- كسائر العناوين القصديّة الاخري- المحافظة علي قصد العنوان حتّي آخر جزء من العمل؛ لأنّ العناوين القصديّة لا يكفي فيها القصد بمجرّد الحدوث وفي مرحلته، بل لابدّ فيها أيضاً من القصد في مرحلة البقاء.

وبعض الامور، يُضاف إلي كونها من الأعمال القصديّة، أنّها من العبادات، فلا تتحقّق من دون قصد القُربة بنحو مستمرّ ودائم، فلا يمكن فيها عروض شائبة الرياء لا حدوثاً ولا بقاءاً؛ لأنّ ذلك يخلّ بخلوص قصد التقرّب؛ والحجّ والصلاة والعمرة والصيام من هذا النوع من الأعمال.

ويكفي في قصد القربة أن ينوي الفاعل من بداية فعله إلي نهايته أن ينجز هذا العمل بدافع الالتزام بالأوامر الإلهيّة، إنّ مثل هذا القصد عندما يستمرّ ويحفظ من عروض الرياء عليه يعدّ كافياً في تحقيق عباديّة الفعل.

والإطاعة المذكورة لها غاية حتماً، لأنّ امتثال الأمر الإلهي لا يقع- غالباً- من دون دافع أو هدف، وغاية الامتثال هنا تتحدّد بقدر معرفة الممتثل وهمّته ونشاطه واطّلاعه؛ فإنّ الدرجة الوجوديّة لأيّ ممتثل تشكّل العلّة المعيِّنة لمدي معرفته وقدر همّته واستعداده، كما أنّ مرتبة المعرفة ودرجة الهمّة تمثِّلان علامةً دالّة علي الدرجة الوجوديّة.

إنّ الحجّاج والمعتمرين يقعون علي فئات ثلاث وفقاً لحديث التثليث المعروف (1)؛ فإنّ عبادتهم إمّا من نوع عبادة العبيد، أو عبادة الطالبين للمصلحة، أو عبادة الأحرار؛ لكن مع ذلك هناك مراتب لكلّ صفة من هذه الأوصاف الثلاثة: الخوف، والشوق، والحريّة، وأعلاها مرتبةً عبادة الأحرار، هناك يكون التعبّد الذي يحصل


1- الكافي 84: 2.

ص: 185

عليه الإنسان الكامل بطيّ مراحل قُرب الفرائض والنوافل (1)، فيغدو هذا الإنسان محلًا للكون الجامع للحضرات الخمس، ومظهراً للإسم الأعظم في تدبير ما سوي الله بإذن الله.

بعض الناس يكون دافعهم العبادي راجعاً لما قد حصل ومضي، كالشكر لدفع نقمة أو رفعها، أو حدوث نعمة فيما مضي، وبعضهم صدق عبادتهم يعود للمستقبل؛ لدفع خطر أو جلب منفعة فيما سيأتي، وهذا يمتدّ إلي القيامة، حيث يسعي العابد للخلاص من نار الله العظيم الجبّار أو للوصول إلي جنّته العليا. أمّا الفريق الثالث فدافعه من الامتثال أرفع من دفع ضررٍ أو جلب منفعة بلحاظ الماضي أو المستقبل، بل أرفع من تمام حالات الماضي والمستقبل؛ إنّهم يعبدون الله لأنّ الله عندهم أهلٌ للعبادة يليق بها.

إنّ دافع الإنسان السالك الصالح من عباداته الواجبة والمستحبّة- لا سيما الحجّ والعمرة- أن يصبح خليفة الله؛ فاولئك الذين يريدون الوصول إلي مقام الخلافة الرفيع، عليهم التحرّر- في مناخ التربية العباديّة- من مضارّ المفاسد الحيوانيّة والشيطانيّة، حتّي يصلوا إلي قُلّة العلم وأوج العقل، فيكونون أهلًا لعنوان خلافة من لا عنوان له.

وبعد طيّ مقام «خليفة الله» تصل النوبة لسفرٍ أرفع وأسمي، وهو أن يفوّض العبد تمام شؤونه وأوضاعه لمالكه الأصلي ومليكه الحقيقي، حتّي يكون مولاه خليفته؛ أي يكون الله خليفة خليفته.

من هنا لا يسند أيّ فعل في هذا المقام الرفيع للعبد، بل يكون كما جاء في التعبير القرآني: () (2)، فالله هنا لايقول: إرم


1- المصدر السابق: 352.
2- الأنفال: 17.

ص: 186

بإذن الله، وإنّما يقول: إنّ هذا الرمي الظاهري لك هو رمي حقيقي واقعي من جانب الله.

إنّ الوقوع في مقام خلافة الله معناه صيرورة العبد آيةً ومظهراً له سبحانه، كما أنّ جعل الله خليفةً للعبد معناه صيرورته قيّماً ووليّاً عليه، إنّ هذا المقام يأتي تحت ظلّ قرب النوافل، فمثل هذا العبد الذي يصبح تحت الولاية الإلهيّة، يتكلّم باللِّسان الإلهي، لا بلسانه، ويري بعين الله، لا بعينه، ويسمع بسمع الله، لا بسمعه. (1)

حقيقة النيّة

حقيقة النيّة هي قُرب العبد من ساحة قدس المولي، وهي لا تحصل دون انبعاث الروح والسير الملكوتي؛ إذ مجرّد تصوّر أنّ امتثال الحجّ والعمرة هو لله سبحانه، وإن صدق عليه أنّه نيّة بالحمل الأوّلي، إلّا أنّه غفلة بالحمل الشائع، فعندما لا يتخلّق الحاجّ والمعتمر في حياته وسلوكه وسيرته بالأخلاق الإلهيّة، ولايري أنّ هدفه النهائي من تمام شؤون حياته هو نيل رضا الله تعالي ولقائه، فإنّ نيّته علي أرض الواقع تكون غفلةً؛ لأنّ قصد التقرّب لا يحصل دون تحقّق السير الملكوتي، ومجرّد تصوّر القصد المشار إليه لا يحقّق مصداق النيّة.

من هنا، ننتقل لموضوع آخر، وهو أنّ عباديّة أيّ فعل رهينة لقصد القُربة، وقصد القربة لا يتحقّق دون تحقّق القُرب، وحصول التقرّب قصدٌ بالحمل الأوّلي وغفلةٌ بالحمل الشائع .. إذاً فالتقرّب معتبر في حقيقة أيّ أمر عباديّ، تماماً كما جاء في الصلاة: «الصلاة قربان كلّ تقيّ» (2)، وقريب من هذا التعبير جاء في الزكاة أيضاً، حيث


1- الكافي 352: 2.
2- الكافي 265: 3.

ص: 187

ورد: «إنّ الزكاة جُعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام». (1)

من هنا، لزم في الحجّ والعمرة أن يُمزجا بالتقرّب من حيث كونهما عبادة؛ والتقرّب لا يحصل من دون السفر الباطني.

ومن خلال ما تقدّم يمكن ترتيب مراتب نيّة القربة في ظلّ الأسفار الأربعة، والمعيّن لمدارج هذا السير، ومعارج هذا السفر، ومعالي هذا الصعود، ومراقي هذا العروج .. هو معرفة السالك وهمّة الناسك.

التلبية

التلبية من الأجزاء الواجبة في عقد الإحرام، وهي ذِكرٌ خاصّ يستحبّ تكراره أيضاً بعد الإحرام حتّي الوصول إلي مكان معيّن أو متخطياً زماناً خاصّاً، إنّ تكرار التلبية عند كلّ مرتفع ومنخفض، وعند كلّ ارتفاع وانحدار يعني تجديد الإنسان في كلّ آن عهده مع إلهه تبارك وتعالي.

ولعلّ السرّ في كون الرسول (ص) هو أعظم مَظْهَر للأسماء الإلهيّة أنّه كان أفضل شخص حجّ، وفهم أسرار الحجّ، لا سيما التلبية، إنّ حجّ الرسول الأكرم كان يوازي معراجه، تماماً كما يقول الإمام الصادق (ع) في بيانه لعلّة إحرام رسول الله (ص) من مسجد الشجرة: «... لأنّه لمّا اسري به إلي السماء وصار بحذاء الشجرة، نُودي: يا محمّد! قال: لبّيك، قال: ألم أجدك يتيماً فآويتك، ووجدتك ضالًّا فهديتك؟ (2)، فقال النبيّ (ص): إنّ الحمدَ والنِّعمة والمُلك لك، لا شريكَ لك ...». (3)

رهبانيّة أمّة الإسلام


1- المصدر السابق 37: 5.
2- انظر: الضحي: 6- 7.
3- وسائل الشيعة 224: 8- 225.

ص: 188

يقول رسول الله (ص): «ابدِلنا بها [الرهبانيّة] الجهادَ والتكبير علي كلّ شرف». (1)

إنّ تعبير «التكبير علي كلّ شرف» ناظر إلي ذكر التلبية الذي يردّده زوّار بيت الله الحرام عند كلّ مرتَفَع، بصوت عال واثق: «لبّيك» فهذه هي الرهبانيّة الممدوحة والمحمودة التي دعا الله سبحانه عباده إليها، قال تعالي: (). (2)

إنّ احترام الله المأمور به في هذه الآية يعني أخذ حريم اعتقادي له، بمعني أنّ علي الإنسان التواضع والخشوع في المحضر الإلهي الذي لا يري غيره، ولا يعتمد علي ما سواه، ولا يرتبط قلبه بما دونه، وهناك يعلن القول: لقد لبّيت أمرك وأتيتُ لمحضرك «لبّيك ...».

مثل هذا الحاجّ هو راهب الله، وهذا هو الحجّ الذي يشمل الرهبانيّة الممدوحة والمحمودة، التي دعينا إليها. (3)

تجلّي التوحيد في التلبية

حول ذكر التلبية: «لبّيك اللّهُمَّ لبيّك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنِّعمة لكَ والمُلك، لا شريكَ لك لبّيك، لبّيك ذا المعارج لبّيك ...»، يقول الإمام الصادق (ع): «... واعلم أنّه لابدّ من التلبيات الأربع التي كُنّ في أوّل الكلام، وهي الفريضة، وهي التوحيد، وبها لبّي المرسلون، وأكثر من ذي المعارج؛ فإنّ رسول الله (ص) كان يُكثر منها، وأوّل مَن لبّي إبراهيم (ع) ...». (4)


1- المحجّة البيضاء 197: 2.
2- البقرة: 40.
3- بحار الأنوار 277: 14.
4- وسائل الشيعة 53: 9.

ص: 189

وفي نهاية جوابه عن سؤال حول «إشعار البدن» (1) الذي يعدّ بمثابة التلبية في بعض أقسام الحجّ ... يقول الإمام الصادق: «... ثمّ قُل: بسم الله، اللّهُمَّ منك ولك، اللّهُمَّ تقبَّل منّي». (2)

إنّ هذا الحديث الشريف، مثل دعاء الإحرام: «اللّهُمَّ إنّي أسألُكَ أن تجعلني ممّن استجاب لك، وآمن بوعدك، واتّبع أمرك، فإنّي عبدُك، وفي قبضتك، لا أوقي إلّا ما وقيت، ولا آخذ إلّا ما أعطيت» (3) ناظرٌ إلي ما سبق أن تحدّثنا عنه حول تمثّل التوحيد في الحجّ، حيث المقصود من الحجّ لقاء الله، وطرد كلّ ما سواه.

إنّ التلبية جواب خالص لله سبحانه، من هنا فهي تُذيب كلّ الخسائس والانحطاطات، وتطرد كلّ شيطان خبيث متمرّد، تماماً كما يقول الإمام الصادق (ع) حول البيداء (4) التي لبّي منها رسول الله (ص): «ها هنا يخسف بالأخابث». (5)

طرد الجاهليّة القديمة والحديثة

يطرد الحجّ بتلبيته الخاصّة المذكورة كلّ جاهليّة، ويكسر كلّ صنم أو علامة للشرك الجاهلي، ويحطّم كلّ أنواع الباطل القديمة والجديدة، وبناءاً عليه، فالحجّ شفاءٌ


1- ينقسم الحجّ إلي ثلاثة أقسام: تمتّع، وإفراد، وقران، ولا ينعقد إحرام كلّ من العمرة المفردة، وعمرة التمتّع، وحجّ التمتّع، وحجّ الإفراد، إلّا بالتلبية، أمّا في حجّ القران فالحاجّ مخيّر بين التلبية والإشعار أو التقليد، والإشعار يختصّ بالإبل المسوقة للأضحية، فيما يشترك التقليد بينها وبين سائر أقسام الأضحية. وفي الإشعار تشقّ بشكل بسيط الجهة اليُمني لسنام الإبل، ثمّ يمسح الدم الخارج علي بدن الإبل. أمّا التقليد فيعني تعليق حذاء في رقبة الهدي وهو الحيوان الذي يسوقه الحاج معه للأضحية. ولمزيد من الاطّلاع يمكن مراجعة كتب مناسك الحجّ.
2- وسائل الشيعة 199: 8.
3- المصدر السابق 23: 9.
4- البيداء: منطقة قريبة من مسجد الشجرة الكافي 245: 4، 333- 334، وقد جاء في بعض الروايات أنّه يخسف بجيش الكفر في آخر الزمان في هذه المنطقة حال توجّهه نحو مكّة بحار الأنوار 119: 52، 186، 191، 203- 204.
5- وسائل الشيعة 49: 9.

ص: 190

للقلوب من أمراض الشرك أو ما يتلوّث به، كالرِّياء والهوي والبخل والعُجب و ...

ولتوضيح هذه النقطة نذكّر بأنّ التلبية في الحجّ في العصر الجاهلي كانت نداءً للشرك وصرخةً للوثنيّة؛ لأنّ المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: «لبّيك اللّهُمَّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إلّا شريكٌ هو لك، تملكهُ وما مَلك» (1)؛ وبهذا الكلام كانوا يثبتون لله الشريك، رغم كون هذا الشريك مملوكاً لله نفسه!

أمّا التلبية في الإسلام، فهي تضرّع واستغاثة بالمحضر الواحد المحض وصرخة صاعقة ضدّ مختلف أنواع الشرك الجلي أو الخفيّ، وهذا أمرٌ واضح لكلّ من شاهد صرخات التلبية في الصحراء القاحلة، وداوم علي ذكرها عند كلّ منخفض ومرتفع من الأرض.

إنّ نصوص أهل البيت: شاهدٌ علي ما قلناه، ومن بينها أنّ أيّ شخص يعمل بسنّة الجاهليّة، أو يتلوّث بالمال الحرام، فإنّه يقال له عندما يلبّي: «لا لبّيك عبدي، ولا سعديك» (2)، من هنا يقول الإمام الكاظم (ع): «إنّا أهل بيت، حج صرورتنا، ومهور نسائنا، وأكفاننا، من طهور أموالنا». (3)

إنّ الحجّ صرخة ضدّ الجاهليّة، وهذا ما يجعلنا نفهم السبب في أنّ الروايات الواردة في تلبية إبراهيم الخليل وموسي الكليم وخاتم النبيّين: أكثر بكثير من الروايات الواردة حول سائر الأنبياء والرسل. (4)

سرّ التلبية


1- الكافي 542: 4.
2- وسائل الشيعة 102: 8.
3- المصدر السابق: 103.
4- المصدر السابق 47: 9- 49، 55.

ص: 191

الإحرام والتلبية استجابة لنداء الوحي والدعوة الإلهيّة، من هنا يقع الحجّاج الحقيقيّون عند التلبية في خوف عقلي مهول، يغيّر لونهم فيصير مصفرّاً، ويأخذ بأصواتهم، ويدهشون ويقولون: نحن نخشي أن يُقال لنا بأنّكم لم تلبّوا نداء الحجّ علي نحو الحقيقية، «لا لبّيك ولا سعديك». (1)

إنّ الحاج يعقد في الحقيقة عهداً مع الله عندما يلبّي، مضمونه أنّني لن أنطق بعد الآن إلّا بطاعتك، وسوف أقفل فمي عن النطق بالمعاصي كلّها. (2)

إنّ حجم اللِّسان قليل، لكنّ جرمه كبير وكثير، والتلبية تطهير للِّسان عن كلّ معصية ترتبط به، من هنا كان اللِّسان الزائر لبيت الله هو اللسان الطاهر.

من هذا كلّه يظهر أنّ سرّ التلبية هو إطلاق اللِّسان بالحقّ والطاعة، ومنعه وتطهيره من مقولات الباطل والمعصية، وهذا ليس في زمان الحجّ والعمرة فحسب، بل و إلي الأبد.

مراتب التلبية والملبّين ودرجاتهما

تتفاوت مراتب الملبّين طبقاً لتفاوت مراتب التلبية، فبعضهم يلبّون إعلان الأنبياء، وبعضهم يلبّون دعوة الله سبحانه، بعضهم يقول: إنّنا نستجيب لمن دعانا إلي الله، وقد جئنا نقول: «لبّيك داعي الله، لبّيك داعي الله» (3)، وهؤلاء هم المتوسّطون من زوّار بيت الله حيث أجابوا دعوة إبراهيم الخليل، الذي دعا إلي الحجّ بأمر من الله سبحانه: (). (4)


1- بحار الأنوار 16: 47، و 337: 64.
2- انظر حديث الشبلي المتقدِّم.
3- الكافي 206: 4.
4- الحجّ: 27.

ص: 192

وأعلي من هؤلاء، اولئك الذين يسمعون دعوة الله: () (1)، ويستجيبون لهذه الدعوة.

نعم، إنّ جواب خليل الله هو جوابٌ لله سبحانه، ولا جواب لله من دون جواب دعوة الخليل، إلّا أنّ التفاوت يقع في شهود الزائر العارف لبيت الله، فكلّ إنسان يقع في درجة هويّته ومرتبة إيمانه، ويعرف الله طبقاً لها، ويمضي معه الميثاق كذلك، كما يمتثل أوامره بالطريقة عينها.

بعضهم يعرفون الله بالواسطة، وبعضهم مثل الأنبياء: يعرفونه بلا واسطة، ويعقدون معه العهد، ويعملون بأحكامه.

إنّ الذي يظهر في نشأة الشهادة هو حصيلة عهد مرتبة الغيب، وبناءاً عليه، رغم أنّ الجميع عقدوا العهد مع نداء الله الجليل سبحانه، إلّا أنّ بعضهم كان بواسطة الخليل وبعضهم بلا واسطة، ولهذا لم تكن التلبية واحدة عند الجميع، بل يمكن أن يقول شخص: «لبّيك ذا المعارج لبّيك»، إلّا أنّه في واقع الأمر يلبّي ()، ويُجيب دعوة الخليل، لا دعوة الجليل، فالتلبية في مقام الظاهر تابعة لاستجابة الدعوة الإلهيّة في عالم الميثاق الإلهي.

وتجليةً لهذه النقطة، نلاحظ أنّ الناس جميعاً يلبّون مرّتين، وهاتان المرّتان تقعان في طول بعضهما، إنّ هذه الإجابة والاستجابة ليست أمراً تاريخيّاً حتّي يكون قد مضي وانتهي، وإنّما هي امتداد واستمرار.

لقد تحدّث الله سبحانه عن الاولي منهما بقوله: (). (2)

أمّا الثانية؛ فكانت أمر الله لإبراهيم الخليل بإعلان الدعوة العامّة للحجّ: (


1- آل عمران: 97.
2- الأعراف: 172.

ص: 193

)، وقد وصلت هذه الدعوة للناس جميعاً حتّي للّذين هم في أصلاب آبائهم، واستجابوا لهذه الدعوة.

يقول الإمام الصادق (ع) في هذا المضمار: «لمّا أُمِرَ إبراهيم وإسماعيل (ع) ببناء البيت وتمّ بناؤه، قعد إبراهيم علي ركن، ثمّ نادي: هلم الحجّ، هلم الحجّ ... فلبّي الناس في أصلاب الرجال: لبّيك داعي الله، لبّيك داعي الله عزّ وجلّ ... فمَن لبّي عشراً يحجّ عشراً ... ومَنْ لبّي أكثر من ذلك، فبعدد ذلك، ومَنْ لبّي واحداً حجّ واحداً، ومَن لم يلبِّ لم يحجّ». (1)

إنّ مشهد التلبية لدعوة الخليل تشابه مشهدها لدعوة الله سبحانه في عالم الذرّ والذرّية، فكما أنّ القضيّة مستمرّة في المشهد الأوّل، كذلك هي في المشهد الثاني؛ لأنّ حديثنا هنا عن استجابة الفطرة والروح، لا عن استجابة الذرّات في الأصلاب والأرحام بوصف ذلك حدثاً تاريخيّاً.

إنّ تفاوت المراتب المذكورة للملبّين، حدثٌ يتكرّر في الكثير من القضايا الدينيّة الاخري، مثل تلاوة القرآن الكريم وتلقّي السلام الإلهي.

محرّمات الإحرام

الحجّ مجموعة منتظمة من سلسلة عباديّة خاصّة، تستحقّ كلّ حلقة فيها تأمّلًا ونظرة؛ فكما تحرم امور عديدة بأداء تكبيرة الإحرام في الصلاة وتصبح غير منسجمة مع العبادة، لتظلّ محرّمةً حتّي يؤدّي المصلّي التسليم نهاية الصلاة، كذلك الحال في الحجّ والعمرة، فبالإحرام والتلبية تحرم الكثير من الامور (2) التي يكون البُعد التعبّدي في


1- الكافي 206: 4- 207.
2- محرّمات الإحرام علي ثلاثة أقسام بلحاظ المكلّف هي: أ- المحرّمات المشتركة بين الرجال والنساء، وهي: 1- قلع الشعر عن البدن، أو بدن الآخرين سواء المحرم وغيره. 2- إخراج الدم من البدن. 3- قصّ الأظافر. 4- قلع الأسنان. 5- قلع شجر الحرم أو نباته. 6- حمل السلاح إلّا في حال الضرورة. 7- الصيد إلّا مع الخوف منه. 18- أنواع الاستفادة من الطِّيب. 9- الاكتحال. 10- النظر في المرآة. 11- الجدال. 12- دهن البدن. 13- العقد سواء الدائم أم المنقطع، وكذلك الشهادة علي العقد. 14- الاستمناء. 15- العمل الجنسي مطلقاً؛ مثل النظر بشهوة، أو التقبيل، أو الجماع، وأيّ لذّة جنسيّة. 16- لبس الخاتم للزينة وكذلك الحنّاء. 17- الفسوق، وهو الكذب والافتخار والفحش والتباهي. 18- قتل حشرات البدن أو رميها. ب- المحرّمات الخاصّة بالرجال، وهي: 1- تغطية الرأس. 2- التظليل حال الحركة والسفر. 3- لبس المخيط. 4- لبس الحذاء أو الجوراب الساتر لظهر القدم بتمامه. ج- المحرّمات الخاصّة بالنساء، وهي: 1- تغطية الوجه. 2- لبس الحليّ للزينة. وبناءاً عليه، فمحرّمات الإحرام عددها أربعة وعشرون. وللاطّلاع علي خصائصها وتفصيل أحكامها، وكذلك كفّاراتها وما يترتّب علي عدم مراعاتها، يمكن مراجعة كتب مناسك الحجّ.

ص: 194

اجتنابها قويّاً، والاختبار الإلهي فيها كذلك، وبهذا تكون دورة الإحرام رحلةً تعبّديّة محضة وامتحاناً صرفاً. (1)

وبالقيام بمناسك الحجّ والوصول إلي مراسم التحليل ينفكّ عقد الإحرام، ويخرج المحرم من دائرة المنع في هذه المحرّمات.

إنّ الإحرام ورعاية حدوده يحرّر الروح من أيّ قيد لا سيما قيود الشهوة والغضب، ويطهّر العقل من كلّ فكر باطل، وينجّي القلب من الخيال الغافل؛ لأنّ كلّ ما يوجب ظلمة الروح وتلوّن النفس قد حرّم حال الإحرام، حتّي تكون الروح الطاهرة والنفس الخالصة أهلًا للطواف في بيت الله، ذلك البيت المنزّه عن كلّ لوث وقذارة.

بيت الله هو محور الحريّة ومدارها، فلا يحقّ للمحرم الآتي لزيارته أن يأسر فيه الصيد، أو يساعد علي أسره، أو ينفّره أو يدلّ الصيّاد عليه؛ لأنّ هذه الأعمال كلّها تتنافي مع روح الرغبة في الحريّة، وما لم يُحرِّر الإنسان نفسه فلن يكون لديه


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192 القاصعة، الفقرة: 53- 65.

ص: 195

صلاحيّة الطواف في محلّة الحريّة.

من هذا كلّه، وضع الله سبحانه مكاناً مقدّساً بظروف مناطقيّة غير ملائمة ليجعله مركزاً للاختبار في سياق إيجاد التناغم بين التكوين والتشريع، حتّي يتمكّن الخلق من التخلّص من الملوّثات والتعلّقات والأقذار والتطهّر من الخبائث والنجاسات في رياضاتهم الممدوحة التي تتمّ من خلال محرّمات الإحرام، وكذلك عبر مناسك الحجّ والعمرة. (1)

وكأنموذج علي الاختبار المذكور، جري تحريم الاستفادة من العطور والروائح الجميلة حال الإحرام من جهة، كما منع- من جهة اخري- من إغلاق الأنف ووضع اليد عليه عندما يحتكّ الإنسان حال أداء مناسك الحجّ والعمرة أو يجالس أشخاصاً تفوح منهم الرائحة الكريهة، وكذلك عند العبور من مكان ذبح الأضاحي ... إنّ مثل هذه الامور تكسر أنانيّة الإنسان وعنجهيّته وكبرياءه وتفاخره، بحيث تحوّله بعد إنجاز أعمال الحجّ والعمرة إلي عبد حرّ مُنعتق لله.

هذه الدورة البانية للإنسان، تؤثّر تأثيراً كبيراً في المجتمع، فاولئك الذين لم يكونوا ليتورّعوا عن أكل العظاية في عصر الجاهليّة الوحشي، وكانوا يتسابقون في اصطياد هذا الحيوان، أصبحوا الآن يترفّعون عن ظبي الصحراء، حتّي تمكّنوا في عصر التمدّن الإسلامي من الانتصار علي كلّ الميول والرغبات الذاتيّة بتأثير من الأوامر الإلهيّة.

لدورة الإحرام الغنيّة بالمُعطيات تأثيرٌ كبير علي بناء الشخصيّة الإنسانيّة، تشاهد نتائجها العمليّة الرائعة في المجتمع المعتقد والملتزم بمحتوي الحجّ والزيارة.


1- المصدر السابق.

ص: 196

الفصل الرابع الطواف

أدب الدخول إلي المسجدالحرام

علي الحاج- طبقاً للبيان النوراني للإمام السجّاد (ع)- أن يتذكّر لحظة دخوله إلي الحرم و قبل كلّ شي ء حرمة غيبة أهل الإسلام، و عليه أن يبعث هذا القصد من أعماقه عندما يقول: إلهي! إنّني لن أستغيب أحداً من المسلمين أو أفتّش عن عيوبه.

علي الزائر عند دخوله مكة المكرمة أن يقصد هذه النيّة: إلهي! لقد أتيت إلي هنا قاصداً لك (1)، و لم آتِ لا بقصد التجارة، و لا الشهرة، ولا السياحة، ولاالفرجة، ولاالنزهة، ولا أمثال ذلك.

يستحبّ لزائر بيت الله الدخول إلي المسجدالحرام من باب «بني شيبة» و من حيث كان الحج توحيداً أصيلًا خالصاً لا شرك فيه، بل تطرد عنده الأصنام كلّها، كان لهذا الاستحباب سرّ مرتبط بهذا الأمر، و هذا السرّ هو ما يذكره لنا الإمام الصادق (ع) عند ما يقول: «إنه موضع عبد فيه الأصنام و فيه أخذ الحجر الذي نحت منه هُبَل الذي رمي به علي (ع) من ظهر الكعبة لمّا علا ظهر رسول الله (ص) فأمر به، فدفن عند باب بني شيبة، فصار الدخول إلي المسجد من باب بني شيبة سنّة لأجل ذلك». (2)


1- أنظر حديث الشبلي.
2- وسائل الشيعة 323: 9.

ص: 197

هذا المنهج، أي وضع هبل تحت أقدام المخطين ليُداس، يمثل أنموذجاً راقياً لنسيان الشرك، و سحقه، و إسقاطه إلي أدني الأشكال؛ فعندما يتجلّي الحق لايبقي مجال للباطل السابق أو اللاحق، قال تعالي: (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ). (1)

أدب الحضور

العالم كلّه محضر الله سبحانه، فله تعالي علم شهودي حضوري بكلّ ذرّات العالم و ما هو أقلّ من ذلك، و لا أفول لأي شي ء عن مجال أفق شهوده، قال سبحانه: (وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (2)

بل حتي أعضاء الإنسان، و جوارحه و ضميره، يعدّ شاهداً و جاسوساً عليه «إنّ الله سبحانه و تعالي لا يخفي عليه ما العباد مقترفون في ليلهم و نهارهم لطف به خبراً و أحاط به علماً؛ أعضاؤكم شهوده، و جوارحكم جنوده، و ضمائركم عيونه، و خلواتكم عيانه. (3)

فعلي الإنسان في كلّ حالاته أن يراعي أدب الحضور في المحضر الإلهي و كما يراعي الأدب في مستحبات دخول المساجد و المكوث فيها (4)، كذلك لابدّ أن يراعي


1- سبأ: 49.
2- يونس: 61.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 199، الفقره: 13- 14.
4- بحارالأنوار 1: 81- 27؛ لقد كان الإمام المجتبي 7 كلّما قام إلي الوضوء ارتعدت فرائصه و تغيّر لونه، و كان يبرّر ذلك بأنه لابدّ أن يكون الإنسان كذلك في المحضر الإلهي، و عندما كان يصل إلي المسجد كان يقول: «إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسي ء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم». بحارالأنوار 339: 43

ص: 198

الأدب أكثر فأكثر في المساجد ذات الحرمة الخاصّة، و بالأخص في حريم الكعبة التي هي أصل المساجد كافة، و التي تسند إلي الله تعالي بالإسناد التشريفي، حيث لم يسند أيّ بيت إليه غيرها، حين قال: (بَيْتِيَ). (1)

ينقل أهل المعرفة عند بيانهم لبعض أسرار الحج، قصصاً قد لاتكون لها واقعية و حقيقة خارجية، إلّا أن روحها وجوهرها حقّ، ومن ذلك ما قيل عن أحد أهل القلوب، أنّه دخل علي أحد الزعماء بلباس عتيقة متسخة فقالوا له: أتدخل بهذا اللباس علي شخص بهذا المقام والمنزلة؟ فأجاب: إنّ الحضور أمام الكبار بلباس متسخة ليس عيباً، إنما العيب لو عاد شخصٌ من عند هذا الكبير بلباس بالية قذرة، ذلك أن هذا يعني أنه لم يره لائقاً بل ردّه، ولم يمنحه من عطاياه وهداياه شيئاً.

إنّ مقصود قاصّ هذه القصّة أنّ المشكلة ليست في الحضور بين يدي الله تبارك و تعالي محمّلين بالذّنوب، مادّين له أيدينا الخاطئة، إنّما العود من محضره سبحانه غير مقبولين لديه، و لا مغفوري الذنوب، بل ملطّخين بالآثام لما فعلناه في سالف الأيام.

كذلك قالوا: دخل عارفٌ علي صاحب منصب و مكانة، فسألوه: ما الّذي أتيت به؟ فأجاب: لايسأل القادم علي العظيم: ماذا حملت معك؟ و إنّما يسأل: ما الذي تريد؟ فلو كان لديه شي ء لم يأت إليه.

لا يمكن لأحد أن يقول: لقد أتيتُ إلي الله تعالي مليئاً بالعلم و العمل، ممتلئةً جعبتي بالعمل و الجهد، لأنّ ذلك كلّه ملك له، قال سبحانه: (وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (2)، فلايذهب أحد إلي المحضر الإلهي بيد ممتلئة، من هنا لايسأل الذاهب إلي


1- البقرة: 125؛ الحج: 26.
2- النحل: 53.

ص: 199

بيت الله الحرام- بيت الضيافة و الكرم الإلهي (1)-: ما أحضرت؟ و إنّما يقال له: ماذا تريد؟ و لو قالوا له السؤال الأول لكان المقصود ما هو مقدار حاجتك؟ و ما الذي أحضرته من حاجتك حتي تأخذ مقداره؟

هذا كله مع الانتباه إلي أن الزائر يطلق لسانه عند حضوره في بيت الحق قائلًا: «أللهم إنّ البيت بيتك، و الحرم حرمك، و العبد عبدك، هذا مقام العائذ بك من النّار» (2)، تماماً كما يقول الإمام السجّاد (ع) بين يدي الله: «سيدي عبدك ببابك، أقامته الخصاصة بين يديك». (3)

الطواف

الطواف أحد أركان الحج الهامة، و مظهرٌ من مظاهر تجسّد التوحيد في الحج، لأنّ الطواف حول الكعبة و إن كان بمنزلة الصلاة، «الطواف بالبيت صلاة» (4)، إلّا أنه تتجلّي فيه العبادة الخاصة (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (5)، علي خلاف الصلاة التي يتحتم فيها الأمر الإلهي: (وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). (6)

الكعبة تنزّل العرش و تمثله، تقع في محاذاة العرش الإلهي و البيت المعمور (7)، فإذا طاف بها العبد بشكل لائق فإنّه يصعد إلي البيت المعمور في عالم المثال، وإذا ما أتمّ وظائف تلك المرحلة و وفي بحقوقها، فإنّه يرقي إلي مقام العرش الإلهي.

و الأرفع من ذلك، مقام العترة الطاهرة: الّتي تمنح الفخار لحقيقة الكعبة، لأنّ


1- وسائل الشيعة 84: 3، و 458: 10.
2- بحارالأنوار 342: 96، و بالمضمون عينه ما في الكافي 401: 4- 402.
3- مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.
4- عوالي اللئالي 214: 1.
5- البقرة: 115.
6- البقرة: 149.
7- بحارالأنوار 57: 96؛ و انظر: المصدر السابق، هامش صفحة 86.

ص: 200

عبادتهم و طوافهم يدور حول «سبحان الله» و «الحمد لله» و «لا إله إلّا الله» و «الله أكبر».

و لكي يرفع الله تعالي الإنسان إلي مستوي الملائكة، لتظهر عليه آثارهم، طلب منهم الصيام كي يتزهوا- كالملائكة- و يحذروا الأعمال الحيوانية ...

إذا كان هذا هو الحال ... فإنه جعل الكعبة موازيةً في الأرض للبيت المعمور، و تمثلًا لعرشه سبحانه، فأمر العباد بالطواف حولها، و الهمهمة في ذلك بذكره سبحانه، و طلب المغفرة منه لنفسه و الآخرين، و بهذا تحصل المشابهة مع ملائكة العرش الإلهي و الاقتداء (1)؛ لأنّ الملائكة تطلب المغفرة للمؤمنين و التسبيح للذات المقدسّة بطوافها حول عرش الحق سبحانه (2)، و لا سيّما بعد الاختبار الذي خضعت له عند خلق آدم (ع) و السجود له. (3)

ملاحظة

لكل اسم من أسماء الله الحسني ظهور خاص به، يكون موجداً لأثر خاصّ بتلاقح الأسماء الأخري، إنّ العدد والرقم والكميّة المتجلّية في ركعات الصلاة، وتلبية الإحرام، وأشواط الطواف، والسعي، ورمي الجمرات ... كلّ واحدٍ من هذه يمكن أن يكون مظهراً لتزاوج الأسماء الإلهية بحيث يعطي أثراً ضمن هندسة خاصّة، تماماً كما كان في عدد الأربعين رسالة خاصّة، فإذا كان لرقم (ع) شواهده الخاصّة، مثل تكبيرة بداية الصلاة، و عدد أشواط الطواف و السعي، فإن لعدد ثمانية، الذي تغلب عليه


1- المصدر السابق 96: 6- 97، و انظر كذلك: 29- 30، كذلك صفحة 113 بمتنها و هامشها.
2- سجود الملائكة لآدم لم يكن طاعة له ولا عبادة، وإنّما طاعة لله تعالي وعبادة، وتكريماً وتحيّة وتعظيماً لآدم.
3- بحارالأنوار 77: 65؛ مع الإشارة لقوله تعالي: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا .... غافر: 7.

ص: 201

الصبغة الرحمانية علائمه الخاصة به أيضاً؛ بمعني أنه إذا كانت أبواب جهنّم ثمانية (1)، و حملة العرش يوم القيامة ثمانية: (وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (2)

، و أمثال ذلك، فإنّه لا شكّ في وجود سرّ و رمز في ذلك، مختفٍ و مستور عن المحجوبين في نشأة الكثرة، مع انكشافه لشاهدي ساحة الوحدة.

كما أنّ وضع الكعبة علي الجانب لا في المقابل عند الطواف، وكذلك جعل هذا الجانب هو الأيسر لا الأيمن مستنداً أيضاً إلي سرّ يمكن أن يكون الإطلاع عليه صوم الزائرين أو رزق كتاب أسرار الحج و رموزه.

الطواف الجاهلي

كان المشركون في العصر الجاهلي يطوفون حول الكعبة، إلّا أنّ القرآن وصف عبادتهم في أطراف الكعبة بالصفير و ضرب الكفّ، حيث قال: (وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً). (3)

إنّ من يضع الكتاب الإلهي خلفه، و يضع الأصنام مكان الله سبحانه، هو مصداق (كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (4)

، و كلام البهائم مبهم لا مبيّن، لهذا فكلّ ما يصدر من فمهم إنّما هو بمثابة الصفير، و حيث إنّ تمتمة الشرك ليست بياناً إنسانياً، عبّر القرآن عن طوافهم المشوب بالشرك بالصفير لا البيان، من هنا فالصفير الواقعي و القولي كلاهما مصداق للآية الشريفة.

إنّ الجاهلين بأسرار الحج يدورون حول الكعبة، كما كان أهل الشرك في الجاهلية يدورون كثيراً حولها، و عندها الأصنام و الأوثان، و كما يدور الكثير من العصاة


1- بحارالأنوار 39: 8، 131، 144، 170.
2- لحاقّة: 17.
3- الأنفال: 35.
4- الأعراف: 179.

ص: 202

حولها، فالزائر الذي لايلتفت إلي سرّ الطواف، قد يرتكب في تلك الحال معصيةً، كما قال الإمام الصادق (ع): «إن امرأة كانت تطوف و خلفها رجل، فأخرجت ذراعها، فنال بيده حتي وضعها علي ذراعها، فأثبت الله يده في ذراعها حتي قطع الطواف و أرسل إلي الأمير و اجتمع النّاس، و أرسل إلي الفقهاء فجعلوا يقولون: اقطع يده، فهو الذي جني الجناية، فقال: هاهنا أحد من ولد محمد رسول الله (ص)؟ فقالوا: نعم، علي بن الحسين قدم الليلة، فأرسل إليه فدعاه، و قال: أنظر ما لقيا ذان، فاستقبل القبلة و رفع يده، و مكث طويلًا يدعو، ثمّ جاء إليهما حتّي خلّص يده من يدها، فقال الأمير: ألا نعاقبه بما صنع؟ فقال: لا». (1)

ففي هذا المورد الخاصّ رغم أن فقهاءالجمهور حكموا بقطع اليد إلّا أنّ الرجل و المرأة فتحت أيديهما و نال الرجل العاصي شفاعة الإمام زين العابدين فنجي من الحدّ.

إنّ تفاوت مراتب الطائفين يمكنه أن يكون مصداقاً لهذا الكلام النيّر للإمام الصادق (ع) في ذيل الآية الشريفة: (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (2)، حيث يقول (ع): «الظالم يحوم حوم نفسه، و المقتصد يحوم حوم قلبه، و السابق يحوم حوم ربّه عزّوجلّ». (3)

لأنّ دين أيّ إنسان، ينظمه له ربّه و يشرّعه، فمن يكون إلهه هواه فسيكون نبيّه رسول هذا الهوي و جنته و ناره صنائع لهذا الهوي أيضاً؛ و ما قاله رسول الله (ص): «يأتي علي النّاس زمان، بطونهم آلهتهم، و نساؤهم قبلتهم، و دنانيرهم دينهم» (4)، ناظر إلي هذا الأمر، حيث لا يمكن أن يكون هناك شخص بلا دين.


1- وسائل الشيعة 338: 9.
2- فاطر: 32.
3- بحارالأنوار 214: 23.
4- المصدر السابق 453: 22.

ص: 203

استلام الحجر الأسود

لقد رغّب كثيراً في استلام الحجر الأسود، نظراً للخصوصيات المعنويّة التي فيه، لهذا يستحب وصول يد الطائف إليه، و من اللائق و الجدير بالطائفين طوافاً مستحباً أن يفسحوا في المجال لمن يطوف طوافاً واجباً أن يستلموا الحجر الأسود، و يقبّلوه، و يقدّمونهم علي أنفسهم، و لايشكّلون مانعاً أمامهم. (1)

يقول الحكيم المتألّه الأستاذ إلهي قمشه اي 1 في هذا المضمار: إنّ الحجر الأسود هو الخال الذي علي شفتي المحبوب، فقبّل هذا الخال لحظة الوصال و الحضور بين يدي المحبوب. (2)

إنّ الحجر الأسود يمين الله في الأرض، (3) و «كلتا يديه يمين» (4)، فالله ليست له يدٌ كأيدي الناس حتي نفرض له يميناً وشمالًا، إنه مجرّدٌ محض، منزّه عن الجسم و الجسمانيات، فهذا الكلام إنّما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.

إنّ المولي سبحانه و تعالي أمر- لكي يكون له محلّ ميثاق في نشأة الحسّ و الطبيعة- بوضع حجر خاصّ في أحد أركان الكعبة، تحت عنوان: «يمين الله عزّوجلّ في أرضه- و- في خلقه»؛ فالزائر عندما يستلم الحجر يبايع الله سبحانه بيده اليمين؛ لهذا لاحظنا أنه عندما سأل الإمام السجّاد (ع) الشبلي عن مصافحة الحجر الأسود، كيف اضطرب حاله، مشيراً إلي أنّ من يستلم الحجر الأسود فإنّما يصافح الله تعالي. (5)

و النتيجة: إنّ سرّ ملامسة الحجر الأسود أن يتعهّد الحاج و الزائر بذلك بعهده مع


1- وسائل الشيعة 402: 9- 422.
2- كليات ديوان إلهي قمشه اي، قسم أسرار الحج: 956.
3- وسائل الشيعة 406: 9.
4- المصدر السابق 432: 11.
5- تقدم حديث الشبلي فيما مضي، فليراجع.v

ص: 204

الله سبحانه، أن لايضع يده في حرام أو معصية، فلا يأخذ الرّبا و الرشوة، و لايعطيهما، و لا يمضي أمراً باطلًا، و لا يخون أمته بعلاقته بالغرباء و الأجانب و الأعداء و ...

ص: 205

الفصل الخامس صلاة الطواف

اشارة

لابدّ بعد الطواف- وفقاً للترتيب الواجب في أعمال الحج و العمرة، و مناسكهما، من أداء صلاة الطواف، التي تحدّت القرآن عن مكانها بقوله: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّي). (1)

الكعبة مرجع البشر؛ لهذا كانت العودةلها كثيرة و الطواف حولها أكثر و لما كان الطواف متلوّاً دوماً بصلاته، عبّر عن مكان هذه الصلاة- و هو الموضع الذي وقف فيه النبي إبراهيم (ع)- بالمصلّي، في تعبير مشير إلي الحضور المتواصل للمصلّين فيه، و هذا ما يرشد إلي أن انعقاده للصلاة صار ملكةً فيه، إذ لايقال: مصلّي، إلّا للمكان الذي تقام فيه الصلاة دائماً.

و لابدّ في صلاة الطواف- انطلاقاً من روايات أهل بيت النبوة:- أن تكون إما إلي جانب مقام إبراهيم أو خلف المقام (2)، بل التقدّم علي المقام كما لو فرض المقام مأموماً يعدّ هتكاً لحرمته، لهذا تحرم صلاة المصلّين و المقام خلفهم.

إنّ النبي إبراهيم (ع) هو أسوة سالكي حيّ الحق (3)، و الاقتراب من موضع قدمه و


1- البقرة: 125.
2- وسائل الشيعة 478: 9- 482.
3- الممتحنة: 4.

ص: 206

الحضور المادي إلي جانب مقامه الظاهري يشكل أرضيةً لإدراك مقاماته المعنوية التي منها: (وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّي) (1)

، (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (2)، (كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (3)، و الأوضح هنا قوله تعالي: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). (4)

ف- (ظاهر) صلاة الطواف هو أن يقف الإنسان في المكان الذي وقفه إبراهيم (ع)، يصلّي عنده، أما (الباطن) فإدراك مكانةخليل الله و الاستقرار فيها، و الصلاة كصلاته، و كما يفهم من الكلام النيّر للإمام السجاد (ع)، يجب الانفتاح علي كلّ طاعة، و الانزجار عن كلّ معصية. (5)

إنّ من يقيم الحج أو العمرة عارفاً بأسرار العبادة، إنّما يضع قدمه موضع قدم الأنبياء و الأئمة: و مع الالتفات إلي ما وجّهه الإمام زين العابدين (ع) للشبلي من سؤال حول ما إذا صلّي كما صلّي إبراهيم و مرّغ أنف الشيطان في التراب ... هناك يصل إلي مقام إبراهيم (ع) و يقف في مكانته، و يصلّي صلاته و يذلّ الشيطان.

أما من يفقد عند الصلاة الخلوص و الخضوع و حضور القلب، و يقع فريسةً للوساوس و الدسائس و ... فلم يقف في حقيقة الحال في مقام إبراهيم (ع)، بل كان طعمةً للشيطان، قد مرّغ الشيطان أنفه في التراب!!

التبرّك بماء زمزم


1- النجم: 37.
2- هود: 75.
3- النحل: 120- 121.
4- البقرة: 124.
5- تقدّم الحديث سابقاً عن خبر الشبلي، فراجع.

ص: 207

يستحب لزائر بيت الله، بعد الطواف و صلاته، التوجه إلي جانب بئر زمزم و الشرب منه، و أن يصبّ مقداراً منه علي رأسه و يتبرّك به. (1)

و بعد شرب ماء زمزم يسأل الله تعالي العلم و غيره متّبعاً في ذلك رسول الله (2)، في دعائه الذي يقول فيه: «أللهم اجعله علماً نافعاً و رزقاً واسعاً و شفاء من كلّ داء و سقم». (3)

لقد سأل الإمام السجاد (ع) الشبليَّ: هل تحدّث مع الله عند بئر زمزم و عاهده أن يقبل بكلّ طاعة له و يترك كلّ معصية؟ و عندما أجاب الشبليّ بالنفي، أجابه الإمام بأنه لم يشرف- إذاً- علي ماء زمزم. (4)

و بناءاً عليه، فعلي الزائر العارف بأسرار الحج أن يقصد عندما يصبّ ماء زمزم علي رأسه و صدره كأنه ينادي الله قائلًا: إلهي! لقد شربت من كأس طاعتك، و تركت كؤوس المعصيةكلّها.


1- وسائل الشيعة 350: 9- 352، 514- 515، و 206: 17- 207.
2- الكافي 25: 4.
3- المصدر السابق: 430.
4- أنظر حديث الشبلي فيما تقدّم.

ص: 208

الفصل السادس السعي

اشارة

السعي بين الصفا و المروة أحد مناسك الحج و العمرة، فالسعي هرولة خاصّة من الله و إلي الله، هي فرار و هجرة و التجاء من الله إليه و به، تماماً كما يقول الإمام الباقر (ع) حول الآية الشريفة: (فَفِرُّوا إِلَي اللهِ) (1)

: «حجّوا إلي الله عزّوجلّ» (2)، و هذا هو التوحيد الخالص.

لقد نصب العرب الجاهليون علي جبلي الصفا و المروة أصناماً، و هذا ما دفع ببعض المسلمين أن يتجنّبوا السعي بين الصّفا و المروة علي أساس أنه سعي بين صنمين و هو غير صحيح (3)، فأنزل الله تعالي ما يرفع هذا التوهّم والحذر، فقال: (إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (4)، فالسعي بينهما كسائر الشعائر الإلهية علامة لتقوي القلب (وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ). (5)


1- الذاريات: 50.
2- وسائل الشيعة 5: 8.
3- الكافي 435: 4؛ و بحارالأنوار 235: 96.
4- البقرة: 158.
5- الحج: 32.

ص: 209

و ليس للسعي بين الصفا و المروة استحباب نفسي، و ربّما من هنا كان جزءاً من الحج أو العمرة، لا مستحباً بنفسه، قال تعالي: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ).

أسرار السعي

1. السعي بين الصفا و المروة هرولة نحو الله تعالي، كما أنّ التردّد بين هذين الجبلين تعني الحالة الممدوحة في الوقوف بين الخوف و الرجاء (1)، فالمؤمن دائماً يعيش بين الخوف و الرجاء، حتّي مع اختلاف نسبته إليهما في مراحل حياته المختلفة، و هذا ما يجلي لنا السرّ في السعي بين الصفا و المروة.

2. علي الحاج عندما يكون مستقبلًا في سعيه الصفا أن يصفي نفسه، و يتحلّي بالصفاء الإلهي، و عندما يستقبل المروة فهو يسعي للاتصاف بالمروّة و الشهامة و النبل؛ لأنّ المروة من المروّة، و الصفا علامة التصفية، و تهذيب الروح، كما قال الإمام الصادق (ع): «و اصف روحك و سرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك علي الصفا، و كن ذا مروّة من الله نقياً أوصافك عند المروة». (2)

إن أصل و منشأ تشريع الذهاب و الإياب هذا هو ما حدث مع هاجر 3، عندما سعت سبع مرّات بين الجبلين، آملةً الحصول علي ماء لولدها الصغير (3)، إلّا أنّ سرّ السعي هو ما أشرنا إليه من تحصيل الصفاء و المروّة.

و بناءاً عليه، فعندما يحقق الحاج أو المعتمر سرّ السعي و يناله، فإنه لا يمدّ يده بعد ذلك


1- راجع حديث الشبلي المتقدم.
2- بحارالأنوار 124: 96.
3- جاء في بعض الروايات تفسير آخر لأصل هذا التشريع، و هو أن الشيطان ظهر بصورة متكررة لإبراهيم الخليل 7 في الوادي بين الصفا و المروة، و كان إبراهيم كارهاً للحديث معه، فكان يفرّ إلي هذه الناحية تارةً و إلي تلك أخري. أنظر: وسائل الشيعة 170: 8؛ و بحارالأنوار 108: 12.

ص: 210

إلي الأعمال المذلّة الدنيئة، لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولاأفرّ فرار العبيد». (1)


1- بحارالأنوار 191: 44، و في 7: 45، لم ترد الجملة الأخيرة بهذه الطريقة، بل «لا أقرّ لكم إقرار العبيد».

ص: 211

الفصل السابع التقصير

اشارة

التقصير أحد أعمال الحج والعمرة، مع اختلاف أنه واجب تعييني في حالات، وتخييري في حالات أخري، وتفصيله موكول إلي كتب الفقه.

إنّ الحلق والتقصير أثناء الإحرام يعدّان من محرّمات الإحرام، إلّا أنهما من الواجبات في نهايته، إذ بإنجازه تحلّ الكثير من الأمور التي كانت محرّمة علي المحرم، فالحلق أو التقصير في مناسك الحج كالتسليم في فريضة الصلاة، فالتسليم الابتدائي والعمدي في أثناء الصلاة حرام لكن في نهايتها يصبح واجباً، وبالإتيان به يخرج المصلّي من حالةالصلاة، و تحلّ كلّ تلك الأمور التي كانت واجبةً عليه بهذا التسليم الخاص.

إنّ وجوب التقصير في عمرة التمتع تعيينيّ، فيما هو تخييري في العمرةالمفردة، نعم الحلق للرجال أفضل من التقصير، أما التقصير للنساء فهو تعييني.

و دليل رجحان الحلق علي التقصير في الرجال في العمرة المفردة هو قول رسول الله (ص) في الذين اعتمروا عمرة مبتولة مفردة: «أللهم اغفر للمحلّقين» و لما طلب منه أن يطلب المغفرة للمقصّرين كرّر «أللهم اغفر للمحلّقين»، و في الثالثة أجاب: «وللمقصّرين». (1)


1- وسائل الشيعة 543: 9.

ص: 212

يقول صاحب الفتوحات المكية معلّقاً علي هذا الحديث: «الغفر الذي هو الستر للمحلّقين، و هم الذين حسروا عن رؤوسهم الشعر فانكشفت رؤوسهم، فطلب من الله سترها، ثواباً لكشفها، والمقصّر ليس له ذلك، فلما لم يفهموا عنه، قال: و للمقصّرين، خطاباً لهم، إذ قد قال (ص): «خاطبوا النّاس علي قدر عقولهم ...». (1)

تساوي الرجل و المرأة في تحصيل الكمال

الروح الإنسانية ليست مذكرةً ولا مؤنثة؛ لأنّها موجود ملكوتيّ مجرّد، و هو منزّه عن الخصوصيات الماديّة من الذكورة و الأنوثة، من هنا تساوت الأحكام الإسلامية بين الرجل والمرأة في كلّ الجهات المرتبطة بالروح الإنسانية، سواء من ناحيةتعليم الكتاب و الحكمة، أم تزكية الروح و تهذيبها، ولا يوجد هنا أيّ امتياز لأحد صنفي البشرية في تحصيل الكمالات النفسانية، ولا يوجد أيّ كمال وجودي- من حيث هو كمال- مشروط بالذكورة أو ممنوع بالأنوثة.

نعم، هناك أمور تنفيذية تستدعي التواصل المباشر مع أفراد المجتمع- الأعم من الرجال والنّساء- مثل قيادة الأمة، لها حساباتها الخاصّة، و إلّا فالولاية التكوينية التي هي أرفع مقام منيع للإنسانية يتساوي فيها الرجل والمرأة.

وغرضنا من ذلك أنّ الكمالات الروحية متساوية في الصنفين، لكنّ الوظائف البدنية لكلّ منهما تتناسب مع بنيتهما الجسديّة، و من أشكال الاختلاف البدني بين الرجل و المرأة ما يظهر في بعض أعمال الحج والعمرة، مثل قضية الحلق و التقصير، حيث الرجل مخيّر أحياناً بينهما و متعيّن عليه أحياناً أخري، فيما المرأة مكلّفة دائماً بالتقصير و لاتكلّف أبداً بالحلق أو تخيّر بينه و بين التقصير، حيث الحلق صعب جداً علي النساء و لايتناسب معهنّ.


1- ابن عربي، الفتوحات المكيّة 755: 1.

ص: 213

الفصل الثامن الوقوف في عرفات

اشارة

الوقوف في أرض عرفات في النصف الثاني من يوم عرفة- و هو يوم التاسع من ذي الحجة- هو أوّل مرحلة من مناسك حج التمتع بعد إحرامه، كما عرض الله تعالي مناسك الحج لإبراهيم (ع) وعلّمه، وهو الحج الإبراهيمي الذي عُلّمه رسول الله (ص).

يكفي في أهمية عرفة ما قاله الإمام الصادق (ع): «من لم يغفر له في شهر رمضان لم يغفر له إلي قابل، إلّا أن يشهد عرفة» (1)، «إنّ من الذنوب ما لا يغفر إلّا بعرفة والمشعرالحرام». (2)

أسرار الوقوف

يقول الإمام علي (ع) حول سرّ الوقوف بعرفات: «لأنّ الكعبة بيته والحرم بابه، فلما قصدوه وافدين، وقفهم بالباب يتضرّعون» (3)، من هنا كان ليوم عرفة وليلته أدعية خاصة، تعدّ من فضائل هذا اليوم البارزة ووظائفه الهامة.

إنّ أسرار الوقوف بعرفات كثيرة، وقد أشير إلي بعضها في حديث الشبلي المتقدم،


1- الكافي 66: 4.
2- بحار الانوار 261: 96.
3- الكافي 224: 4، و انظر: المصدر السابق: 46.

ص: 214

وهي:

1. علي الحاج بوقوفه في عرفات أن يقف علي المعارف والعلوم الدينية، ويطّلع علي الأسرار الإلهية في نظام الخلقة، ويعلم أنّ الله سبحانه واقف علي كل حاجاته، وقادر علي رفعها بأجمعها.

من هنا يقول الإمام السجاد (ع) للسائل الذي استجداه في يوم عرفة:

«ويحك! أغير الله تسأل في هذا اليوم، إنّه ليرجي لما في بطون الحبالي في هذا اليوم أن يكون سعيداً». (1)

إنّ من يطلب هنا من غير الله تعالي يضرّ بنفسه، هؤلاء يقول الإمام السجاد (ع) فيهم: «هؤلاء شرار من خلق الله، الناس مقبلون علي الله وهم مقبلون علي الناس». (2)

2. علي الحاج أن يدرك في عرفة أنّ الله تعالي مطلع علي ما يظهر ويعلن وما يسر ويخفي حتي ما يخفي علي الحاج نفسه و يكون مستكناً بطريقة لا شعورية في أعماقه، فعندما يعلم الإنسان أنّ قلبه في محضر الحق تعالي ومشهده، يتجنب الذنوب الجوانحية كما يتحاشي التلوث بالذنوب الجوارحية، وينزه قلبه عن الخواطر السيئة والملوثة.

يقول الإمام السجاد (ع): «... الله عزّوجل إذا كان عشية عرفة وضحوة يوم مني، باهي كرام ملائكته بالواقفين بعرفات ومني، وقال لهم: هؤلاء عبادي وإمائي حضروني ههنا من البلاد السحيقة البعيدة شعثاً غبراً، قد فارقوا شهواتهم وبلادهم وأوطانهم وأخدانهم ابتغاء مرضاتي، ألا فانظروا إلي قلوبهم وما فيها، فقد قويت أبصاركم يا ملائكتي علي الاطلاع عليها، فتطلع الملائكة علي قلوبهم فيقولون ...». (3)

تملك الملائكة بعض الاطلاع علي الغيب، وعندها معلومات عن الكثير من مسائل


1- وسائل الشيعة 28: 10.
2- بحار الانوار 261: 96.
3- المصدر السابق: 259.

ص: 215

ما بعد الطبيعة، إلّا أنّ ستر الحقّ تعالي ولطفه ورحمته لا يسمحان للملائكة- من أولئك المعنيين بتسجيل أعمال البشر وخواطرهم- بفهم الكثير من أسرار الناس، لكن وفقاً للحديث المتقدم يطلع الملائكة في يوم عرفة والعيد بإذن من الله تعالي علي خفايا قلوب الزائرين، ويرون أنّ قلوب بعض الحجاج سوداء جداً تتعالي منها خيوط الدخان الأسود، وهنا يقول الله سبحانه للملائكة: أولئك الذين لم يصدّقوا النبي (ص) ولم يعتبروه صادقاً- والعياذ بالله- ويقولون عن بعض ما يتصل بخلافة أميرالمومنين علي (ع): إنّ رسول الله (ص) لم يفعل ذلك ولم يصدر منه هذا! ثم يري الملائكة فريقاً آخر قلوبهم نيّرة، وهنا يقول الله سبحانه: إنّ هؤلاء كانوا يطيعون الله ورسوله، ويعتبرون النبي (ص) أميناً علي الوحي وأنه لم يقل شيئاً من عنده، وأنّ كل ما قاله وأتي به- بما في ذلك الإمامة والقيادة من بعده- إنّما صدر عنه طبقاً لما جاءه من الوحي.

وسرّ ذلك كما أسلفنا فيما مضي، أنّ الولاية هي سرّ الأعمال كافة، فالمؤمنون الحقيقيون يبلغون سرّ الولاية، فيصلون أسرار الحج، فيظهرون في أرض عرفات بصورة الإنسان الواقعي، فيفتخر الله بهم في مقام الفعل.

نعم، إنّ ما جاء في الحديث الشريف ليس قضيّة تاريخية، وليس من نوع «قضية في واقعة» ينحصر بمراسم الحج وأيام عرفة، وعيد الأضحي، إنّ هذا المشهد مستمر متواصل، غايته أنّ ظهوره التام يكون في الحج.

3. يصعد (1) بعض الحجاج يوم عرفة علي «جبل الرحمة» (2)، والسّر في الصعود أعلي


1- انّ ما ذكرناه في المتن أعلاه من الصعود علي جبل الرحمة ناظر إلي حديث الشبلي، والّا فبناءاً علي رأي مشهور الفقهاء، الأفضل الوقوف يوم عرفة أسفل الجبل وفي الأرض السهلة، فيما الصعود علي الجبل مكروه، فقد سئل الإمام الكاظم 7 عن الوقوف بعرفات فوق الجبل أحبّ إليك أم علي الأرض؟ فقال: «علي الأرض..»، وسائل الشيعة 11: 10. وقال الإمام الصادق 7: «عرفات كلّها موقف وأفضل الموقف سفح الجبل»، الكافي 463: 4. وفي رواية أخري ورد: «عرفات كلّها موقف وما قرب من الجبل فهو أفضل»، وسائل الشيعة 19: 10.
2- يقع الجبل الرحمة في أرض عرفات، وقد وقف رسول الله 9 علي مرتفع حجري فيه وألقي الخطبة المعروفة بعرفات، كما أنّ الإمام الحسين 7 قرأ دعاء يوم عرفة علي سفح هذا الجبل، وتوجد هناك قبة باسم آدم 7 تكره الصلاة عندها.

ص: 216

الجبل أن يعلم الإنسان أنّ الله تعالي رؤوف رحيم بكل مسلم من ذكر أو أنثي و أنه متوليهم، فالله وإن كانت له بالنسبة للجميع ولاية تكوينية واحدة، وهو وليّ الجميع (1)، ومع أنّ رحمته عامة وشاملة للموجودات كافة (2)، إلّا أنّ له رحمة خاصّة بالمتقين، قال سبحانه: (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ). (3)

4. يقع علي جانب من أرض عرفات يماسّ الحرم جبلٌ يسمي ب- «نمرة» وفي تلك المنطقة مسجد يأخذ هذا الإسم أيضاً، إنّ معني الحضور في نمرة هو: يا الله! لا آمر بشي ء إلّا أن أكون مؤتمراً به قبل ذلك، ولا أدع شيئاً إلّا وأكون قد حذرته من قبل وتجنبته.

لم ترد في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الآمر والناهي عادلًا طاهر النفس، وإنّما المطلوب هناك هو العلم بالمعروف والمنكر، واحتمال التأثير في الأمر والنهي؛ إلّا أنّه باطن ذلك يرجع وفقاً للأساس الذي يقوم عليه سرّ الوقوف في (نمرة)؛ إنّ العدالة، أي أنّ علي الآمر بالمعروف أن يأتمر بما يأمر به، والناهي عن المنكر أن ينزجر عما ينهي عنه.

5- علي الحاج عند حضوره في وادي «نمرة» المعبّر عنه في حديث الشبلي ب- «نمرات» أن يدرك أنّ هذه الأرض هي أرض شهادة ومعرفة وعرفان، أي كما أنّ الله تعالي وملائكته شاهدون، فإنّ هذه الأرض الواسعة هي أيضاً شاهدة علي أعمال


1- الكهف: 44.
2- الأنعام: 54.
3- الأعراف: 156.

ص: 217

زوار بيت الله الحرام، وتعلم بأي نية أتي؟ وبأي دافع يرجع؟ وبماذا تشهّد؟

عرفات أرض الدعاء

يتضح دور الدعاء في الوصول إلي الرحمة الإلهية الواسعة من خلال كلام الإمام الصادق (ع)، حيث قال: «الدعاء كهف الإجابة كما أنّ السحاب كهف المطر»؛ (1) فكما أنّ السحاب مقرّ المطر، كذلك الدعاء مقرّ الإجابة وموطنها، وبعبارة أخري: الإجابة تقع في داخل الدعاء، تماماً كمايستقرّ المطر ويخزن في الغمام.

إنّ حالات الحياة كلّها مناسبة للدعاء والتضرّع، إلّا أنّ فترة الحج الزاخرة المعطاءة والحضور في مواقفه يمنح الدعاء هيبةً وعظمةً، ويقدم له تأثيراً إضافياً وافراً، فكما أنّ الدعاء من ضمير صاف مورد للقبول، وللإحرام وصوب الكعبة الحرّ الطاهر أثراً خلاقاً في تصفية هذا الضمير، لذلك كان للتضرّع في الحج والدعاء في مواقفه أفضل الآثار وأسماها، وكان لكل برنامج في الحج قوانينه ونظمه الخاصة في مجال الدعاء، وعمدة ذلك كلّه هو دعاء عرفة في صحراء عرفات.

يوم عرفة هو يوم الدعاء والتضرّع، فصحيح أن صيام هذا اليوم مستحبّ إلّا أنه لو كان الصوم موجباً لحصول الضعف للإنسان بحيث لا يتمكن من الدعاء، فإنّ الدعاء يكون مقدماً علي الصيام حينئذ. (2)

لقد نقلت لنا روايات كثيرة حول أعمال يوم عرفة وعند الوقوف في عرفات، لاسيما فيما يخصّ كيفية الدعاء، حيث تتحدث بعض هذه المرويات عن خصوص أدعية ذلك اليوم فيما يتحدث بعضها الآخر عن الترغيب في الدعاء للآخرين، حتّي


1- الكافي 471: 2.
2- بحارالأنوار 123: 94- 124.

ص: 218

أنّ بعض تلامذة أهل بيت العصمة والطهارة: كان كلّ همّه في هذا اليوم في تلك الأرض التي تستجاب فيها الدعوات أن يدعو لغيره.

ينقل علي بن إبراهيم في هذا المجال عن والده إبراهيم بن هاشم أنه قال: رأيت عبدالله بن جندب في الموقف، فلم أرَ موقفاً كان أحسن من موقفه، مازال مادّاً يديه إلي السماء، ودموعه تسيل علي خديه حتّي تبلغ الأرض، فلما صدر الناس قلت له: يا أبا محمد! ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفك، قال: والله ما دعوت إلّا لإخواني، وذلك أنّ أبا الحسن موسي (ع) أخبرني أنّ «من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش ولك مائة ألف ضعف مثله»، فكرهت أن أدع مائة ألف مضمونة لواحدة لا أدري تستجاب أم لا. (1)

قرب الله من عباده

للحج مواقف ومناسك، كل واحدة منها تحمل خصوصية لا تحويها التالية، أو تحوي قدراً بسيطاً منها، من هنا وبقرينة الحديث النبوي الشريف: «الحج عرفة» (2)، ليس من البعيد أن تظهر في عرفات معرفة لا تتحقق في أي مكان آخر، فالحج سبب لتعالي الإنسان، ونيله أعلي قمم عالم الإمكان، أي «الخلق العظيم» ببركة هذه المعرفة الخاصة التي لا تتحقق إلّا في عرفات.

فليوم عرفة وأرض عرفات مقام خاص ليس ميسّراً إلّا بأن يحقق الحاج خصائص الأزمنة والأمكنة الأخري في الحج ليكون مهيئاً لإدراك الدعاء، وبذلك تتعلّق الروح بعزّ العرش الإلهي، فتصل إلي معدن العظيم وتصبح عظيمةً. (3)

إنّ لقرب الله تعالي من عباده مراتب ودرجات، حيث يمكن الوصول إلي المرحلة


1- الكافي 508: 2، و 465: 4.
2- المحجة البيضاء 204: 2.
3- مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانية.

ص: 219

اللاحقة بطيّ ما قبلها، وخصوصية ذلك منحه شعاعاً جديداً من التضرّع، وانجذاباً مستحدثاً للدعاء، إنّ هذه المراتب بعضها أقرب من الآخر، وهي بناءاً علي الآيات القرآنية كالتالي:

1. وفقاً للآية الشريفة: (وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ). (1)

إنّ القرب الإلهي بلغ أنّ الله تعالي في هذه الآية لم يقل لنبيه: فقل لهم، بل بادر هو إلي الجواب بشكل مباشر، مذكّراً بقربه من عباده.

2. إنّ الله قريب من المحتضر المشرف علي الموت أكثر من قرب أقربائه ولكن الناس لاتري ذلك، قال تعالي: (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ). (2)

3. قال تعالي: (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (3)، فهو أقرب من الإنسان من شريان حياته.

4. إنّ الله تعالي أقرب إلي الإنسان من نفسه.

إنّ فهم هذه المرحلة فهماً صحيحاً وكذلك فهم الكلام النيّر لأميرالمومنين (ع): «هو في السماء علي غير ممازجة، خارج منها علي غير مباينة» (4)، إنما يسهل ذلك في ضوء قوله تعالي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). (5)

علي الحاج طيّ هذه المراحل الأربع ليبلغ نهايتها، وهذا ما لا يحصل إلّا


1- البقرة: 186.
2- الواقعة: 85.
3- ق: 16.
4- بحار الأنوار 27: 4.
5- الأنفال: 24.

ص: 220

للموحّدين الحقيقيين الخالصين.

وخلاصة القول، إنّه لاريب في القرب الإلهي، والحجاب الوحيد بين العبد ومولاه هو العبد نفسه وذنوبه، «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه» (1)، و «أنّ الراحل إليك قريب المسافة، وأنّك لاتحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال دونك» (2)، ولكي يتحرّر الإنسان من هذا الحجاب لابد له من السفر عن ذاته والرحيل، وعليه أن يهاجر عن رغباته ومراداته لكي يكون مصداقاً لقوله تعالي: (وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَي اللهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللهِ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (3) وإذا استطاع الإنسان أن ينجو من رؤية الذات، فإنّ مشاهدة الأسرار الإلهية، ونيل جنة اللقاء يصبح ميسّراً مفتوحاً أمامه.

إنّ أيّام الحج ومناسكه لاسيما أرض عرفات هي أكبر فرصة للتحرّر من رؤية الذات، وللهجرة من بيت النفس، لقد بيّن القرآن الكريم هذه الهجرة في المكانة بقوله: (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (4)، فمن يهاجر أرض الرجز والانحطاط، ويخرج من ضيق الطبيعة، ثم يواجه موتاً أمامه، فإنّ أجره سيكفله الله تعالي له، قال سبحانه: (وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَي اللهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللهِ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (5)


1- بحار الأنوار 327: 3.
2- مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.
3- النساء: 100.
4- المدثر: 5.
5- النساء: 100.

ص: 221

مقاطع من دعاء عرفة للإمام الحسين (ع)

تختزن أدعية الحج الخاصة الكثير من البركات الزمانية والمكانية وغيرها، وأفضل مناجاة وتضرع تبيّن كذلك الأبعاد السياسية والعبادية للحج والزيارة هو دعاء عرفة، لسيد شهداء حيّ الشهود والشهادة الإمام الحسين بن علي (ع)، فهو في هذا الدعاء أعطي الأوامر بمواجهة الكفر، ومحاربة سبيل الطاغوت، والوقوف الشجاع أمام المجرمين، بتأسيس منهج مواجهتهم وإسقاطهم، كما أنه من جهة أخري دلّل علي مدح الدولة الإسلامية وتقديرها، وظهور الولاية الإلهية، وعلي خط ثالث كشف عن التجلّي الوجودي للذات الإلهية الأقدس، وظهورها الشامل التام مع خفاء كل ما سواها في ضوئها وشعاعها، وفهمه بها، وإسقاط قيمة غيرها، ومعرفة غيرها بها، لتكون ذاته الغنية عن أن يستشهد لها.

وهذه بعض ملامح ومؤشرات هذا الدعاء:

في مقطع من هذا الدعاء يتحدّث عن القدرة الإلهية فيقول: «وهو للدعوات سامع، وللكربات دافع، وللدرجات رافع، وللجبابرة قامع».

وفي موضع آخر يتحدث الدعاء عن عناية الله تعالي بدولته، والعيش في كنفها، والنجاة من الكفر وحكّامه، إنّه يخاطب الله تعالي فيقول: «... لم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إليّ في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذبوا رسلك، لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدي الذي له يسّرتني وفيه أنشأتني».

لقد بيّنت في هذا الدعاء الشريف أعلي مراتب التوحيد، ففي بعضها جري الحديث بشكل واضح وصريح، بأنّ فهم الله والوصول إليه عبر آثاره وآياته كبلوغ الشمس في جوّ صاف ونيّر عبر ضوء الشمعة الضعيف، لأنّ الذات الإلهية الأقدس هي أظهر من كل ظاهر وأنور من كل نور، فلم تغب قطّ ولاتغيب أبداً، حتّي تحتاج

ص: 222

إلي من يدل عليها، والعارف لايري قبله سواه ثم يري بعده آثاره.

لقد جاء في بعض المقاطع الأخيرة لهذا الدعاء ما يلي: «إلهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّي يكون هو المظهر لك؟ متّي غبت حتّي تحتاج إلي دليل يدل عليك؟ ومتّي بعدت حتّي تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت (1) عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً ...». (2)

إنّ الإمام الحسين (ع) يخاطب هنا ربّه: إلهي! وإن كان العالم كلّه آيات توحيدك وعلاماته لكن لاترجعني إلي هذه العلامات، فإنّك إن أرجعتني إلي العلامات الآفاقية أو الأنفسية كي أصل عبرها إليك فسوف يطول الطريق، أظهر لي نفسك، فإنّ هذه الآثار عاجزة عن أن تجليك بصورة ناصعة تامّة، حتّي أرض عرفات ومكّة ومواقف الحج التي قلت فيها:

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ). (3) لا تملك ظهوراً يُظهرك ويجليك.

إلهي! أنت (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الأرْضِ) (4)، فأنت أوضح من أي علامة وأقرب إليّ منها، فلماذا تحيلني عليها؟ ربي! إنّ الاستدلال يكون لبلوغ الغائب فمتي كنت غائباً حتّي ألتجئ إليك؟! فأنت بنفسك قلت: (أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلي كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ) (5)، فأنت غير محتاج إلي دليل حتّي أستعين بالآيات فأصل إليك، فاظهر علي قلبي بالشهود بلاواسطة حتّي أراك.


1- أخطأ بعض المترجمين لهذا الدعاء عن العربيةففسّروا «عميت» و «خسرت» بالدعاء علي هذه العين والصفقة، مع أنهما إخبار لاإنشاء تنبئان عن أمرغير مشهود.
2- مفاتيح الجنان، دعاء عرفة للإمام الحسين. 7
3- آل عمران: 97.
4- النور: 35.
5- فصلت: 53.

ص: 223

من المناسب أن يكون هذا الدعاء لبّاً لكل العبادات، فالعبادة ليست سوي ما يحقق مجالًا لظهور المعبود لا غير، فلا يطلب بها سواه، ولا يقصد من ورائها إلّا معرفته بنفسه.

لقد منح هذا الدعاء الحكماء الإسلاميين المتألهين، برهان الصديقين وعلّمهم إياه، ودفع العرفاء لشهوده، وحذّر العباد ووعظ السالكين، حتّي يضعوا أقدامهم في الوادي الأيمن، ويطأوا الطريق لبلوغ عين الهدف، فإنّ الوصول إلي الله من الله، يعني نيل المقصود من المقصد.

حضور إمام الزمان في الحج

يحضر بقية الله الحجة بن الحسن (ع) كل عام مراسم الحج، لاسيما في عرفات ومني، وفي هذا يقول الإمام الصادق (ع): «يفقد الناس إمامهم، يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه» (1)، ويقول النائب الخاص لإمام الزمان (ع)، محمد بن عثمان العمري: «والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة، يري الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه». (2)

إنّ الكثير ممّن تربّي علي يديه وتلمّذ يكون حاضراً في الموسم، ويطّلعون بعنايته الخاصّة علي ملكوت الأفراد.

الأمر الجدير بالذكر هنا، أنّه ليس المقصود أنّ حلّ مشكلات الحجاج، أو أيّ عمل خارق للعادة، وكرامة تقع في أيام الحج وفي أرض مني وعرفات، لابد أن تكون لليد المباركة لإمام الزمان (ع) دور مباشر فيها، فقد يتيه عجوز أو غريب عن


1- الكافي 337: 1- 338.
2- من لا يحضره الفقيه 520: 2.

ص: 224

منزله أو يظلّ بلا زاد ولا راحلة وسط الطريق، فيعينه ويرشده وليّ من الأولياء الإلهيين الذين تربوا في مدرسة ولايته (ع).

إنّ التشرف والحضور المباشر في المحضر النوراني لإمام الزمان- أرواحنا فداه- يحتاج لخواص ولياقات لازمة، من هنا لا يوفق إلّا الأوحدي من الموحدين كي يحضر إليه الوجود المبارك للحجة (ع)، نعم عنايته (ع) شاملة للأولياء والصالحين والشهداء الذين ربّاهم، وهم يقومون بحلّ مشكلات الآخرين بأمر منه (ع).

ص: 225

الفصل التاسع الوقوف في المشعر الحرام

يجب علي الحاج- بأمر من الله تعالي- أن يخرج بعد غروب الشمس في التاسع من ذي الحجة من أرض عرفات، ويتجه نحو المشعرالحرام، قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (1)، ويقضي ليلة هناك.

إنّ الوقوف في المشعر من أركان الحج كالوقوف بعرفات تماماً، وهنا يشتغل الحجاج في بعض هذا الليل بجمع الجمار لرمي الجمرات بها فيما بعد.

المشعر الحرام يقع في الحرم وهو أوّل مدخل يؤتي الحرم منه (2)، فمن يعرف في يوم عرفة وأرض عرفات العلوم والمعارف الإلهية ويتعبّد بالآداب الدينية الخاصّة، يليق به أن يرد الحرم وأن يبيت عند مدخله فيجمع الجمار كي يرمي بها في اليوم العاشر جمرات مني والشيطان.

إنّ سرّ الوقوف في المشعرالحرام والمبيت فيه أن يذكّر الحاج قلبه بشعار التقوي


1- البقرة: 198.
2- الكافي 224: 4؛ وانظر المصدر السابق: 46.

ص: 226

ويجعل عنوان قلبه الخوف والورع (1)، فيعرف بهما، وشعار كل قوم هو المعرّف لهم، وعليه فالتقوي مع وجودها في تمام مناسك الحج، إلّا أنّ تجلّيها الخاص يكون عند الوقوف في المشعرالحرام ويظهر مشهوداً للواقفين علي الأسرار.

عندما يقف الحاج في المزدلفة، ويجمع الحصيات، إنما يأخذ بذلك القوة، ويتسلّح لمحاربة الشيطان، ويهبّ مواجهاً لأي عصيان، ويحلق رأسه في محضر الطاعات.

وعندما تطلع الشمس وينتهي المبيت في المشعرالحرام، يتجه الحاج إلي مني فيدخلها، وهنا يستحبّ له عند حركته إليها أن يسير برفق وهدوء، و لايتمايل يميناً ولا شمالًا، ويطوي المسافة الفاصلة بين المشعر ومني في المسير المحدّد، وسرّ هذا الحكم أن يتعلّم الحاج الحركة علي الصراط المستقيم، فلايميل إلي الشرق ولاإلي الغرب؛ لأنّ اليمين واليسار انحراف، والسبيل الوسط هو الصراط المستقيم.

«اليمين والشمال مضلّة، والطريق الوسطي هي الجادّة». (2)


1- أنظر: حديث الشبلي المتقدم.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 16، الفقرات: 7- 8.

ص: 227

الفصل العاشر الإفاضة إلي مني والمبيت فيها

اشارة

يتوجّه الحجاج إلي مني بعد طلوع الشمس من العاشر من ذي الحجة، عقب مضيّهم الليلة السابقة في سفرهم من عرفات إلي المشعر والوقوف فيه، وذلك لكي يؤدوا أعمال مني الخاصّة.

وهنا يتحدث الإمام السجّاد (ع) مع الشبلي فيقول له: «وصلت مني، ورميت الجمرة، وحلقت رأسك، وذبحت هديك، وصليت في مسجد الخيف، ورجعت إلي مكة، وطفت طواف الإفاضة؟...»

يحبّ الإنسان الخلود، من هنا يأمل في تهيئة ما يظلّ معه دائماً، فالذي يفكر في جمع المال يرتكب خطأ، ويكون في واقع الحال قد ترك تهيئة نفسه، ولم يجمع سوي الوزر والوبال عليه، أما ذاك الساعي في الإنتاج، والقانع في المصرف والاستهلاك، والناجح في توفير الحلال مما يملكه، أي إنه عزيز الإنتاج قليل الاستهلاك، لايكلّ ولايملّ، ويحل مشاكل الآخرين طلباً لرضا الله تعالي.. إنّ مثل هذا الشخص يرسل رأس ماله مسبقاً إلي القيامة والديار الأبدية، وبالموت يبلغ ماله ويصل إليه.

وخلاصة القول: إنّ الفريق الأول لديهم أمل مذموم، أما الفريق الثاني فعنده التمني الممدوح، ومني هي أرض نيل الأماني الصادقة، لا تلك الكاذبة، و الآمال

ص: 228

الباطلة، والمُني الفاسده.

لقد سأل الإمام السجاد الشبلي فقال له: «أخرجت إلي مني؟ قال: نعم؛ قال: نويت أنك آمنت الناس من لسانك وقلبك ويدك؟ قال: لا؛ قال: فماخرجت إلي مني».

وعليه، فعلي الناس أن ترتاح بخاطرها من لسان الحاج ويديه وقلبه، بمعني أنّ الحاج لا يذهب بماء وجه أحد، لا بنحو الجدّ ولا بنحو الهزل تحت مسميات الطرفة والنكتة السافرة، الملفوظة أو المكتوبة، ليس ارتياح الناس من لسان الحاج ويديه، بل من قلبه أيضاً حيث لاينال بالسوء أحداً، فالضرر القلبي والأذية القلبية هي أن يختزن الصدر حقداً علي أحد أو يحسده ويضمر له السوء.

تصفية المناسك من العادات الجاهلية

لقد شرّع الله تعالي لعرفات والمشعر ومني أحكاماً، ولكل حكمٍ من هذه الأحكام حِكَمٌ مبيّنة، كالأمر بالتعظيم، وذكر اسم الله، و تذكّره وشكره علي نعمة الهداية الإلهية. (1)

ومن أرفع رسالات الحج نشر العقائد التوحيدية، فإلي اليوم مازال هناك الملايين من الناس في أرجاء العالم يعبدون الأوثان، نعم إنّ عبادة الأوثان اليوم لم تعد مذهباً ومدرسة عريقة راسخة، فتطوّر العلم سحب البساط من تحت الأصنام وعبادتها، لكن إذا لم يجر نشر العقائد التوحيدية وبسطها في أرجاء المعمورة، فإنّ الخطر سيظل قائماً في ضلالة الملايين من الناس بإضلال من الآخرين، فيقعون في الإلحاد واللادينية، فبدل أن ينتقلوا من الديانة الباطلة إلي الديانة الفضلي، ينتقلون منها إلي اللادينية!!


1- البقرة: 198- 201.

ص: 229

لقد جرت سنّة الجاهلية علي أنه بعد الفراغ من الحج يجتمع الناس في مني، ويتفاخرون بقوّتهم وأعرافهم وأنسابهم، فيذكرون أصولهم النسبية التي يُعرفون بها وآباءهم بالشعر والنثر، معتمدين في ذلك علي القيم الجاهلية، ككثره عدة أفراد القبيلة وعدتها، وقدرتها علي الحرب والغارة.

أما نظام الحج في الإسلام، فقد قضي علي هذا النظام الجاهلي المهترئ واستبدله ببيان نظام إلهي قيمي هدي الناس إليه، وأمر بعد إتمام المناسك في مني بذكر الله كثيراً، وطلب المغفرة منه، وإرادة الحسنات.

وقد جاء في إحدي الروايات:

قال رجل لعلي بن الحسين (ع): يا ابن رسول الله! إنّا إذا وقفنا بعرفات و مني وذكرنا الله ومجّدناه وصلّينا علي محمد وآله الطيبين الطاهرين ذكرنا آباءنا أيضاً بمآثرهم ومناقبهم وشريف أعمالهم نريد بذلك قضاء حقوقهم.

فقال علي بن الحسين (ع): «أولا أنبئكم بما هو أبلغ في قضاء الحقوق من ذلك؟» فقالوا: بلي يا ابن رسول الله. قال (ع): «أفضل من ذلك وأولي أن تجدوا علي أنفسكم ذكر توحيد الله والشهادة، وذكر محمد رسول الله والشهادة له بأنه سيد النبيين، وذكر عليّ وليّ الله والشهادة بأنه سيد الوصيين، وذكر الأئمة الطاهرين من آل محمد الطيبين بأنهم عباد الله المخلصين، وبأنّ الله عزّوجلّ إذا كان عشية عرفة وضحوة يوم مني باهي كرام ملائكته بالواقفين بعرفات ومني، وقال لهم: هؤلاء عبادي وإمائي حضروني ههنا من البلاد السحيقة البعيدة شعثاً غبراً، قد فارقوا شهواتهم وبلادهم وأوطانهم وأخدانهم ابتغاء مرضاتي، ألا فانظروا إلي قلوبهم وما فيها، فقد قويت أبصاركم يا ملائكتي علي الاطلاع عليها». قال: «فتطلع الملائكة علي قلوبهم، فيقولون: يا ربنا اطلعنا عليها، وبعضهم سود مدلهمة يرتفع عنها كدخان جهنم؛ فيقول

ص: 230

الله: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (1)؛ تلك قلوب خاوية من الخيرات، خالية من الطاعات، مصرّة علي الموذيات المحرمات؛ تعتقد تعظيم من أهنّاه، وتصغير من فخّمناه وبجّلناه؛ لئن وافوني كذلك لأشدّدن عذابهم ولأطيلنّ حسابهم، تلك قلوب اعتقدت أنّ محمداً رسول الله (ص) كذب علي الله، أو غلط عن الله في تقليده أخاه ووصيّه إقامة أود عباد الله، والقيام بسياساتهم، حتي يروا الأمن في إقامة الدين في إنقاذ الهالكين، ونعيم الجاهلين، وتنبيه الغافلين، الذين بئس المطايا إلي جهنم مطاياهم. ثم يقول الله عزّوجلّ: يا ملائكتي! انظروا، فينظرون فيقولون: ربنا وقد اطّلعنا علي قلوب هؤلاء الآخرين وهي بيض مضيئة، يرتفع عنها الأنوار إلي السماوات و الحجب، وتخرقها إلي أن تستقرّ عند ساق عرشك يارحمان.

يقول الله عزّوجلّ: أولئك السعداء الذين تقبل الله أعمالهم، وشكر سعيهم في الحياة الدنيا، فإنهم قد أحسنوا فيها صنعاً؛ تلك قلوب حاوية للخيرات، مشتملة علي الطاعات، مدمنة علي المنجيات المشرفات؛ تعتقد تعظيم من عظّمناه وإهانة من أرذلناه، لئن وافوني كذلك لأثقلنّ من جهة الحسنات موازينهم ولأخفّفنّ من جهة السيئات موازينهم، ولأعظمنّ أنوارهم، ولأجعلنّ في دار كرامتي ومستقر رحمتي محلّهم وقرارهم؛ تلك قلوب اعتقدت أنّ محمداً رسول الله (ص) هو الصادق في كل أقواله، المحقّ في كل أفعاله، الشريف في كل خلاله، المبرز بالفضل في جميع خصاله، وأنه قد أصاب في نصبه أميرالمؤمنين علياً إماماً، وعَلَماً علي دين الله واضحاً، واتخذوا أميرالمؤمنين إمام هدي وواقياً من الردي، الحقّ ما دعا إليه، والصواب والحكمة مادلّ عليه، والسعيد من وصل حبله بحبله، والشقيّ الهالك من خرج من جملة المؤمنين به والمطيعين له ...».


1- الكهف: 104.

ص: 231

يقول أنس بن مالك، من ذلك عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: «إنّ الله تعالي يباهي بأهل عرفات الملائكة، يقول: يا ملائكتي! انظروا إلي عبادي شعثاً غبراً أقبلوا، يضربون إليّ من كلّ فجّ عميق، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مُسيأهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم؛ فإذا أفاض القوم إلي جَمْع ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلي الله، يقول: يا ملائكتي! عبادي وقفوا وعادوا من الرغبة والطلب، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألني، وكفلت عنهم بالتبعات التي بينهم». (1)

وبناءاً عليه، من المناسب لزائري بيت الله الحرام عند المبيت بمني، التباحث حول الأصول والعقائد؛ فإنّ ليالي مني ليالي درس، وليست وقت إقامة حفلات الأنس والمسامرات. وهنا يتم الحديث عن التوحيد والرسالة والولاية وأمثال ذلك، فينال الحاج فضيلةً علمية ومعنوية، ويفي حقّ آبائه وأجداده بشكل أفضل؛ لأنّ نداءهم له بأنّ كل خير نزل علينا فإنما هو بتوفيق وإمداد إلهي، فهو خير حامد وخير محمود، فبدل التفاخر بفضائلنا، علينا أن نحمده، ونثني علي الأنبياء والأولياء الإلهيين: الذين كانوا واسطة في الفيض بيننا وبينه.

الحج فيّاض بإسم الله وذكره

نظراً لما يمتاز به الحج من ذكر خاص يقل مثيله في سائر العبادات، فإنه يغدو أساساً لنيل الحاج شهود أمورٍ لايشهدها غيره، فالحج وإن كان بنفسه مذكّراً بالله سبحانه، إلّا أنّ الذاهب إلي الحج يمنح في بعض الأوقات حالةً ذكرية تنسيه غير الله ولا يعير غيرَ الله بها اهتماماً.


1- مستدرك الوسائل 42: 10؛ ومجمع البيان 7- 129: 8.

ص: 232

ذكر الله هو لبّ الحج وروحه، كما أنّ نسيان الله وآياته باعث علي عدم القدرة علي رؤية شهود أسرار مناسك الحج، وهو عمي سوف يظهر في يوم القيامة، تماماً كما قال تعالي:

(وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمي* قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمي وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسي). (1)

فالحج الذي يذكّر بالله تعالي، يري الحاج ما لايراه غيره ويكونون عاجزين عنه ومحرومين منه، ولعلّه لهذا السبب جعل الله الحاج حرماً، ولم يجز إحلاله من إحرامه، إنّ الحاج نفسه شعيرة من شعائر الله (2)، وما لم يرتكب ذنباً يظل بنفسه نورانياً .. «الحاج لا يزال عليه نور الحج مالم يَلُمَّ بذنب». (3)

تفاوت مراتب الحجّاج

ينقسم الحجاج الحاضرون في مني- وفقاً للآية الشريفة (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (4)، ومايليها من آية- إلي فريقين:

1. من يذهب للحج للسياحة، والتجارة، والشهرة، وأمثال ذلك، فمنطق هؤلاء ومطلوبهم هو الدنيا، أ كانت حلالًا أم حراماً، وليس حسناتها، من هنا فهم لايقولون: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) وهؤلاء ليس لهم في الآخرة حظّ ولا نصيب، لأنّ منتهي أفق رؤيتهم لم يكن سوي نشأة الطبيعة، قال تعالي: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ


1- طه: 124- 126.
2- المائدة: 2.
3- وسائل الشيعة 68: 8، 328.
4- البقرة: 200.

ص: 233

رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). (1)

2. من يذهب للحج ويريد من الله حسنات الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم من يعطيهم الله، قال سبحانه: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ). (2)

فمن حسنات الدنيا، المالُ الحلال، والأرحام، والأقارب المؤمنون، وأهل الفضل، والقيام بالخدمات الاجتماعية، ومجالس الأنس الإلهي، وتعليم الكتاب والحكمة، والتزكية، وصلة الرحم وغير ذلك.

و الدنيا بدون هذه الأمور ليس فيها حسنة حتي تطلب من الله.

إنّ أرفع الحسنات وأعلاها مصداقاً، هو أجر رسالة النبي الأكرم (ص)، أي تولّي الأولياء الإلهيين واتّباع العترة الطاهرين، قال تعالي: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً). (3)


1- المصدر السابق.
2- البقرة: 201- 202.
3- الشوري: 23.

ص: 234

الفصل الحادي عشررمي الجمرات

تجذب النباتات والحيوانات والإنسان- كلٌّ علي طريقته- كلَّ مايلائمه كما تدفع عنها كلّ ما لاينسجم معه، والجذب والدفع علي مستوي الطبيعة وعلي مستوي الأفراد العاديين تارةً يظهر بصورة الشهوة، والغضب؛ وأخري علي صورة المحبّة والعداوة؛ وثالثة بصورة الإرادة والكراهة ..

أمّا في المؤمنين فتظهر الصورة بشكل أرقّ، وهي التولّي والتبري، فالحج الذي يبلغ مرحلة التولّي الحقيقي والتبري الصحيح، يتجلّي جذبه و تولّيه في المبيت بمني في ذكر الله تعالي، كما يظهر دفعه و تبرّيه في مناسك أيامها.

وليكن القول- مع الأخذ بنظر الاعتبار- قوله تعالي حول ذبح الأضاحي: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوي مِنْكُمْ). (1)

إنّ بيان القرآن حول مجلي التبرّي- وهو رمي الجمرات- هو أنّ الحجارة لاترجم الشيطان ولا تطرده، وإنما الذي يدفعه هو الانزجار الباطني والداخلي لكم، فهذا هو الذي يجعل شياطين الجنّ والإنس تفرّ، ويجعلك محمياً من كل شيطنة داخلية وخارجية.


1- الحج: 37.

ص: 235

ولابد من الالتفات في مسألة رمي الجمرات إلي أنّ تلك الجمرات ليست شياطين، ولا ذلك الرمي للحجارة رمياً للشيطان؛ لأنّ رمي الجمرات كان أمراً مرسوماً في الجاهلية، كما أنّ بعض شياطين الإنس اليوم يمارسون رمي الجمرات هذا، فمن البديهي أنّ الشيطان لايطرد برميةٍ فيها سبعة أحجار، وإنما السبيل الوحيد لطرده والبقاء في مأمن من ضرره هو الاستعاذة العملية، والتحصّن بالحصن الإلهي، قال تعالي: (وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ). (1)

إنّ رمي الجمرات بالحجارة ما هو إلّا تعبير رمزي وإشاري إلي رمي الشيطان الداخلي والخارجي، وطرد شياطين الجن والإنس، فإذا كان هناك شخص هو بنفسه شيطاناً إنسياً، فإنه لن ينال شرف التبري، والرمي الحقيقي ولا لياقتهما، تماماً كما إذا كان الشيطان قريناً لشخص (2)، فإنه لن يتمكن من رمي قرينه، أي شيطانه.

إشارة: جرت سنّة العرب وعادتهم علي أنه إذا غضبوا من شخص غضباً استثنائياً، فإنهم يرجمونه في حياته ومماته، كما حصل مع أبي رغالة، قائد جيش أبرهة، فقد مات قبل الوصول إلي مكة، فعمد الناس إلي رجم قبره، وكذلك جرير الذي كان منافساً للفرزدق، نجده يقول:

إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترمون قبر أبي رغال. (3)


1- الأعراف: 200.
2- الزخرف: 36؛ النساء: 38.
3- دائرة معارف القرن العشرين 465: 9.

ص: 236

الفصل الثاني عشرذبح الأضاحي

اشارة

يجب علي الحجاج بعد رمي جمرة العقبة، وقبل حلق رؤوسهم، أو التقصير، ذبح بقرة أو غنم أو نحرجمل أضحية يوم العيد، قال تعالي:

(وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّي يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ... فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَي الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). (1)

إنّ هذه السنّة الإلهية الخاصّة في الحج توجب تقرّباً خاصاً قلّما نجده في أيّ عبادة أخري.

وتوضيح ذلك أنّ الذبح أو النحر، لم يسلما في الجاهلية من لوث الشرك، بل كانا كالتلبية (2)، وصلاة المشركين (3)، ممزوجين بالشرك، فطريقتهم أنهم بعد الذبح أو النحر كانوا يلطخون الكعبة بدم الأضحية، ويعلّقون قسماً من لحمها علي الكعبة حتي يقبلها الله تعالي! (4)

أما الإسلام، فقد جعل للأضحية حرمةً خاصة، بحيث لا يجوز إحلالها، قال


1- البقرة: 196.
2- الكافي 542: 4.
3- الأنفال: 35.
4- بحارالأنوار 275: 67.

ص: 237

تعالي: (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ). (1)

ولإبعاد سنّة الجاهلية، وبياناً للتقرّب الناتج عن تقديم الأضحية، ربما سميت الأضحية أضحيةً، قال تعالي: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوي مِنْكُمْ) (2)؛ لأنّ هذه الآية الشريفة طهرت الكعبة من سنن الجاهلية التي أشرنا إليها، كما طردت التوهم القائل: «بما أنّ الله لايحتاج للعالم وللناس، فلا يجب النحر والذبح علي الحاج!» وذلك أنها شرّعت أصل التضحية رغم أنّ الله لايحتاج إلي لحومها، فالذي يصل إلي الله تعالي روح الفعل ولبّ العمل، أي التقوي، لا اللحم ولا الدم.

ومن حيث إنّ التقوي نعت وصفة خاصة تتحد مع المنعوت، فلا فرق وجوديَّ بين التقوي، ونفس المتقي المتحد معها، وعليه فإذا بلغت التقوي أوجها وكمالها، ووصلت- بالمعني المعقول- إلي الله تعالي، فهذا معناه أنّ الحاج الذي تكون أضحيته خالصة لله تعالي، يصل بنفسه إلي الله كما تصل تقواه إليه تعالي؛ لأنّ تقواه ليست شيئاً غيره في عالم الوجود، ولعلّه لهذه التقوي الثمينة التي وعد بها في النحر، أطلق علي يوم النحر يوم «الحج الأكبر». (3)

إنّ هذه التقوي ونيل نفس المتقي لله تعالي، هما الهدف الرفيع الذي يكون الحج وآدابه وسننه المتعالية مظهراً له، وقد سبقت الإشارة لذلك عند حديثنا عن سرّ الحج وثمراته، فليراجع.

وقفات حول التضحية و أسرارها

يمكن انطلاقاً مما تقدّمت الإشارة إليه، الحديث عن بعض النقاط ذات الصلة، وهي:


1- المائدة: 2.
2- الحج: 37.
3- التوبة: 3؛ وسائل الشيعة 86: 10- 88؛ و انظر المباحث السابقة.

ص: 238

1. إنّ الحكمة من التضحية هي تقرّب المضحّي وتعاليه مع تقواه نحو الله تعالي، فما يصل إلي الله إنما هو روح العمل وباطنه، قال تعالي: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلادِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوي مِنْكُمْ). (1)

وعليه، إنما تقبل الأضحية إذا كانت التقوي معها، وكان روح ذبحها أو نحرها هي التقوي، ووفقاً للآية الشريفة: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (2)، لايقبل أي عمل بلا تقوي، كما أنه لو كان العمل مع التقوي لكن عامله لم يراع تقوي الله في غير هذا العمل، فإنّ هذا العمل وإن قبل منه، لكن لايرتفع إلي الله كما ينبغي؛ لأنّ الله تعالي إنما يقبل العمل من العامل الذي تكون كل شؤونه- سواء في هذا العمل أم في غيره- قائمة علي التقوي ومنتظمةً وفقها.

2. كل عمل يقع بقصد القربة فهو أضحية، حيث ورد في بعض الأحاديث «إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام». (3)

3. سرّ تقديم الأضحية أنّ الحاج والمضحّي يتمسّكان بحقيقة الورع، ويقطعان رقبة الشيطان ويقتلانه (4)، وعليه فمجرّد ذبح البقرة، أو الماعز، أو نحر الجمل، ثم تركها دون تأمل في سرّ هذا العمل، لايحقق أساس تعالي الحاج وتساميه.

4. يقول الإمام الباقر (ع): «إنّ الله عزوجل يحبّ إطعام الطعام وإراقة الدماء» (5)؛ ومن الممكن أن تكون الحكمة من ذلك في ضمن حكمة استفادة الجوعي والمحرومين، وانتفاعهم من لحم الأضحية، رغم أنه في هذا الزمان لايستفاد بشكل صحيح ومناسب من هذه السنّة الإلهية، وهذا النظام الجامع و المفيد.


1- الحج: 37.
2- المائدة: 27.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 199، الفقرة: 7.
4- أنظر حديث الشبلي المتقدم.
5- وسائل الشيعة 374: 16، وفي صفحة: 536 نقلت الرواية عن الإمام الصادق 7 أيضاً.

ص: 239

في حديث آخر نشاهد فيه الاهتمام بذبح القرابين والأضاحي؛ يقول الإمام الصادق (ع): «إنّ رسول الله (ص) ساق في حجته مائة بدنة، فنحر نيفاً وستين، ثم أعطي عليّاً فنحر نيفاً وثلاثين، فلما قدم النبي (ص) مكة فطاف وسعي، نزل عليه جبرئيل ...». (1)

وقد نقل هذا الحديث بشكل آخر أيضاً.

5. إنّ هذه الآية الشريفة: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلي ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ) (2). اعتبرت ذكر الله سبحانه هدفاً إلي جانب المنافع الصورية والمعنوية للأمة الاسلامية، وجعلت بدل ذكر اسم القربان، ذكر اسم الله تعالي، وذلك حتي يعلم أنّ الهدف من التضحية هو تسمية الله سبحانه، لامجرد الذبح والنحر، فبدل أن يقول: ليضحّوا، قال: أن يذكروا اسم الله أن رزقهم من الأنعام الحلال كالأغنام، بحيث تبدأ التضحية باسم الله، ويذكر الله أيضاً علي تمام النعم التي قدّمها للناس جميعاً علي امتداد حياتهم.

6. لم يذهب سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) إلي مني عام 60 ه، إلّا أنه قدّم أضاحي كثيرة وثمينة، كما قدّم نفسه الشريفة فداء، لكي تبقي مكة ومني؛ من هنا عرّف الإمام السجاد (ع) نفسه في الشام بقوله: «أنا ابن مكة ومني، أنا ابن مروة والصفا». (3)

وعليه، فمن يقدّم نفسه فداء لله تعالي، فإنه يرث من مني وعرفات، لأنّ الأرض مال الله وهو يورثها لمن يريد؛ قال تعالي: (إِنَّ الأرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ) (4)، كما أنّ أرض الكمال تعود إليه، ويمكنه أن يورثها من يشاء، وعلي هذا الأساس فإنّ كل


1- وسائل الشيعة 168: 8.
2- الحج: 28.
3- بحارالأنوار 161: 45، وقد تقدّم منا توضيح مفصّل نسبياً حول علاقة الحج بالولاية فيما مضي من أبحاث فليراجع.
4- الأعراف: 128.

ص: 240

شهداء وسالكي طريق الإمام هم ورّاث عرفات، والمشعر، ومني، وأسرارها.

ص: 241

الفصل الثالث عشرحلق شعر الرأس

اشارة

لشعر الرأس تأثير كبير علي الجمال الظاهري للإنسان، ولاسيما الشباب، من هنا يندر أن نجد من يحلق شعر رأسه تماماً، وقد ورد أنّ من يحلق رأس غيره عن إجبار ويسلبه هذا الجمال، فإنّ عليه ديةً واجبة.

ومع ذلك، يجب علي الحاج أن يقطع قلبه عن هذا الجمال الظاهري والصوري الذي يظنه أمراً ذا قيمة، ويقوم- بأمر من الوحي الإلهي- بنثره أمام أقدام الجميل المحض، وطلباً لرضاه.

لقد بلغت صعوبة هذه القضية مبلغاً بين العرب، أنّ ابن أبي العوجاء- بعد خسارته في المناظرة التي جرت بينه وبين الإمام الصادق (ع)- سئل عنه: كيف وجدت الإمام الصادق (ع) في المناظرة؟ فأجاب مشيراً إلي الحجاج وقال: «... هو ابن من حلق رؤوس من ترون!». (1)

إنّ حلق شعر الرأس في مني إشارة إلي التطهّر من تمام التلوثات الأخلاقيه، والتنظف من صدأ الروح، والخروج من ثقل الذنوب وظلمتها. (2)


1- بحارالأنوار 210: 10.
2- أنظر حديث الشبلي المتقدم سابقاً.

ص: 242

ولعلّه لذلك يدعو الحاج ربّه، فيقول عند الحلق: «أللهم أعطني بكل شعرة نوراً يوم القيامة». (1)

استحباب دفن شعر الحاج في مني

من وجب عليه في الحج الحلق أو التقصير، لزمه- إضافة إلي مراعاة ترتيب الأعمال يوم العاشر من ذي الحجة، أي رمي جمرة العقبة، ثم ذبح الهدي، ثم الحلق أو التقصير- أن يقوم بهذا كله في أرض مني، وليس له الحق أن يحلق أو يقصّر عمداً خارج مني، لكنه لو نسي وكان عوده إلي مني عسيراً، أجزأه الحلق أو التقصير خارجها.

إنّ أرض مني أكثر الأمكنة مناسبةً لدفن شعر الحاج، ليس فقط من باب عدم سلامة إخراج الشعر من مني عند الحلق فيها، بل حتي لو حلق خارج مني لزمه العود إليها لدفن الشعر، أو إرساله كي يدفن هناك.

يقول الإمام الصادق (ع): «إنّ المؤمن إذا حلق رأسه بمني ثم دفنه، جاء يوم القيامة وكل شعرة لها لسان طلق تلبي باسم صاحبه» (2)، فعندما يقال: إنّ شعري يشهد بالتوحيد، فإنّ هذا القول مأخوذ من الروايات. (3)


1- وسائل الشيعة 190: 10.
2- المصدر السابق: 184.
3- بحارالأنوار 139: 45، و 209: 94.

ص: 243

الفصل الرابع عشرنهاية الحج

الدخول والخروج الصادق

كما كان الله تعالي مبدأ عالم الوجود و منتهاه (هُوَ الأَوَّلُ وَ الآْخِرُ) (1)، كذلك مبدأ انطلاق كل الموجودات من الله وخاتمتها وأعمالها بالرجوع إليه (إِنَّا لِلهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (2)، (ألا إِلَي اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ). (3)

بناءاً عليه، لزم أن يبدأ كل موحّد عمله وأيّ عمل، باسم الله تعالي، و تكون خاتمة عمله ذكره سبحانه، ولا يشرع بعمل دون اسم الله، ولا يخرج من أي عمل دون ذكر الله، إنّ معني اسم الله وذكره، في بداية ونهاية أي عمل، هو حضور الاعتقاد التوحيدي في بنية عمله، والانتباه إلي الحضور الإلهي في أعماله ومستوياتها.

ومن أهم هذه الأمور الحج؛ لأنّ بدايته والدخول فيه يكون بالإحرام والتلبية، وعلي أساس التوحيد وصدق النية، كما أنّ الخروج منه، وإتمام الحج، ووداع الكعبة، يقوم علي أساس التوحيد وصدق الإرادة. (4)


1- الحديد: 3.
2- البقرة: 156.
3- الشوري: 53.
4- الإسراء: 80.

ص: 244

من هنا يقول الإمام الرضا (ع) عند وداع الكعبة: «أللهم إني أنقلب علي أن لا إله إلّا أنت» (1)؛ أي إني يا إلهي أنهي عملي، وأعود مجدداً إلي مكة علي أساس التوحيد ونفي مختلف أشكال الطواغيت.

وعن هذا المحور العام يقول الإمام الباقر (ع) في حديثه عن الدخول في الكعبة، وهو المصداق الكامل (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (2)، يقول (ع): «الدخول فيها دخول في رحمة الله، والخروج منها خروج من الذنوب». (3)

ومن آداب وداع الكعبة الدعاء والتضرّع لله سبحانه، يقول الإمام الصادق (ع): «أللهم اقلبني مفلحاً منجحاً مستجاباً لي بأفضل مايرجع به أحد من وفدك من المغفرة والبركة والرضوان والعافية مما يسعني أن أطلب ..». (4)

ومن الآداب الأخري، أن يضع الحاج أو الزائر يده علي الكعبة عند آخر لقاء معها، ويقول مخاطباً ربّه: «المسكين علي بابك، فتصدّق عليه بالجنّة». (5)

الحج المقبول

يقول الرسول الأكرم (ص) في بيانه لمعيار الحج المقبول: «من علامة قبول الحج، إذا رجع الرجل عما كان عليه من المعاصي، هذا علامة قبول الحج، وإن رجع من الحج، ثم انهمك فيما كان عليه من زنا، أو خيانة، أو معصية، فقد ردّ عليه حجّه» (6)، و «آية قبول الحج ترك ما كان عليه العبد مقيماً من الذنوب». (7)


1- وسائل الشيعة 232: 10.
2- البقرة: 115.
3- وسائل الشيعة 370: 9.
4- المصدر السابق 231: 10- 233.
5- المصدر السابق.
6- مستدرك الوسائل 165: 10- 166.
7- المصدر السابق: 166.

ص: 245

إنّ هذا ما يشير إلي سرّ آخر في الحج؛ لأنّ أسرار العبادات تظهر في القيامة، وهي اليوم الذي تظهر فيه بواطن الأفراد وأعمالهم. (1)

وفي ذلك اليوم لايري الإنسان نتائج عمله فحسب، بل أسباب ردّها أو قبولها أيضاً.

وبناءاً عليه، فمن تمكّن في الدنيا أن يفهم قبول حجّه أو نكوله، فقد بلغ زاويةً من زوايا أسرار الحج، وتلقائياً سوف يدرس أسباب القبول أو الردّ حينئذٍ.

إنّ المعيار الذي قدّمه كلام رسول الله (ص) حول علامات الحج المقبول، يتحقق في سائر العبادات أيضاً، تماماً كما يقول الله تعالي حول الصلاة: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ) (2)، فحقيقة الصلاة لها أثر تكويني في المصلّي، بحيث تؤدي إلي إيجاد تحوّلات وتعديلات في دوافعه، و إراداته، ورغباته، وقراراته، وعزمه و ... فهو بالنسبة إلي الخير عازم ومصمم، وبالنسبة إلي الشرّ كاره ومستقذر، يختار الابتعاد عنه.

إنّ الأحاديث المتقدّمة تبيّن لنا أنّ روح الحج وحقيقته أمر تكويني، و هي التي تحول دون عزم الحاج أو إرادته ما لا يليق ولا ينبغي.

وخلاصة القول: الحاج يتطهّر بالقيام بأعمال الحج من كل ألوان التلوّث، ومادام لا يلوّث بذنب أو قذارة فهو نوراني، كما يقول الإمام الصادق (ع): «الحاج لا يزال عليه نور الحج ما لم يلمَّ بذنب». (3)


1- الطارق: 9.
2- العنكبوت: 45.
3- وسائل الشيعة 68: 8، 328.

ص: 246

إنّ مشاهدة هذه النورانية تجعل الحاج آملًا بقبول حجّه من الله تعالي.

ارشادات النبي (ص) في حجة الوداع

وختاماً نحاول أن نتعلّم من الكلمات النورانية لخاتم النبيين (ص) في حجةالوداع، بعضاً من نظام الحج وأسراره. (1)

خاتم الأنبياء (ص) إنسان كامل يتحلّي بالكمالات الظاهرة، والمقامات المعنوية، من هنا قال في تعليمه أحكام الحج الفقهية والعملية: «خذوا عني مناسككم» (2)؛ تماماً كما قال حول تعليم أحكام الصلاة: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي». (3)

وقد تحدث رسول الله (ص) حول تعليم أسرار الحج وبيان بعض زواياه في حجةالوداع، و ذكر بعض التوجيهات، ومنها:

1. تهذيب النفس وتزكية الروح في المحاور الثلاثة: التوحيد، الارتباط بالإمام، والاتحاد والاتفاق وحفظ الانسجام العام بين المؤمنين، قال (ص): «ثلاث لايغل عليهنّ قلب امْرءٍ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم». (4)

وعليه، فالحاج يعبد الله سبحانه، مع إخلاص العمل الكامل الذي لا تشوبه شائبة في الدين، وينصح أئمته وقادته، ويريد الخير لهم، ويلزم المجتمع الإسلامية.


1- حج رسول الله 9 في حياته 21 مرة، كانت واحدة منها فقط بعد الهجرة، ورغم أنه في ذي القعدة من العام السادس والسابع والثامن بعد الهجرة قد اعتمر، عمرة الحديبية في العام السادس، وعمرة القضاء في العام السابع كما اشتهرت التسمية، إلّا أنه 9 بعد الهجرة لم تتسنّ له فريضة الحج إلّا مرة واحدة في العام العاشر للهجرة، وهي المعروفة بحجة الوداع، وأحياناً تسمي حجةالإسلام وحجة البلاغ، وقد تحدّثت النصوص الحديثية عن هذه الحجة، واعتبرت أساساً لأعمال الحج عند المسلمين. أنظر الكافي 244: 4- 252؛ وبحارالأنوار 378: 21- 407.
2- عوالي اللئالي 215: 1.
3- المصدر السابق: 197.
4- الكافي 403: 1- 404، والجملة الأخيرة جاءت في تاريخ اليعقوبي 109: 2، علي الشكل التالي: «والنصيحة لأئمة الحق واللزوم لجماعة المؤمنين» وقد جاءت هذه الخطبة في حجةالوداع في مسجد الخيف في مني.

ص: 247

2. إقامة الأمن علي مختلف الصعد، وحفظ أموال الناس ودمائها من الاعتداء، قال (ص): «فإن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم ... واتقوا الله، و لاتبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها». (1)

وعليه، فعلي الحاج أن يكون أميناً علي أعراض الناس وأسرارها، فإنّ قلوب الأحرار كنوز الأسرار.

3. حفظ مبدأ المساواة الشخصية والعرقية، قال (ص): «الناس في الإسلام سواء ... لافُضّل عربيٌّ علي عجمي ولا عجمي علي عربي إلّا بتقوي الله»، فالحاج قاصد لمساواة الخلق، و لايري نفسه خيراً منهم، ولا قومه خيراً من الآخرين، بل يساوي بين الناس والأمم والشعوب.

4. تطهير المجتمع الإسلامي وتصفيته عن العادات الجاهلية في قضايا المال والدم والبغض والحقد والضغينة، بمعني أنّ الدماء التي كانت تراق في الجاهلية علي قانون الانتقام والثأر والأحقاد قد انتهت، وتهاوي الربا الذي يمثل امتصاصاً اقتصادياً لدماء الناس، قال (ص): «كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي ... وكل رباً كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، و أول رباً أضعه ربا العباس بن عبدالمطلب».

5. رعاية حقوق المرأة، وحسن التعامل معها، ومجازاتها بالعدل، قال (ص): «أوصيكم بالنساء خيراً ... ولكم عليهنّ حق، ولهنّ عليكم حق، كسوتهنّ، ورزقهنّ بالمعروف».

وعليه، فالحاج ناظر مراقب لمراعاة الآيات القرآنية الشريفة: (وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً


1- تاريخ اليعقوبي 109: 2- 112، إنّ ما سننقله بعد الآن من كلمات، هو جزء من خطبة أخري للرسول 9 في حجة الوداع، وما ذكرناه أعلاه ذكره اليعقوبي في الخطبة التي ألقيت عند بئر زمزم، وقد جاءت هذه الخطبة عينها بنص مختصر، وبعض الاختلاف في العبارات، بوصفها خطبة للنبي في عرفات أو مني، في مصادر أخري. أنظر: الكافي 273: 7- 275؛ وبحارالأنوار 380: 21، 405، و 113: 37، و 349: 73.

ص: 248

وَ رَحْمَةً) (1)، (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) (2)، و (وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). (3)

6. احترام حقوق العمال والعبيد، ورفع حاجاتهم في المأكل، والمشرب، والملبس، «فأوصيكم بمن ملكت أيمانكم، فأطعموهم مما تأكلون و ألبسوهم مما تلبسون».

فالحاج يحبّ العاملين عنده، و لايري نفسه أرفع منهم، بل يجلس معهم علي سفرة واحدة، ويلبسهم مما يلبس.

(ع). مراعاة أصول الأخوة، والفضائل الأخلاقية مع الأخوة في الدين، والمحافظة علي مكانتهم، و ماء وجههم، وعلي أموالهم، ودمائهم؛ قال (ص): «إنّ المسلم أخو المسلم، لا يغشّه، ولا يخونه، ولا يغتابه، ولا يحلّ له دمه، و لاشي ء من ماله الّا بطيبة نفسه».

إنّ الحاج يراعي مع أخيه المسلم قواعد الأخوة الدينية، فهو طاهر و لايقصد إلّا ما هو طاهر نقي.

8. تكريم القرآن، وأهل بيت النبوة والإمامة، وكسب الإلهام منهما، و عدم الانفصال عنهما: «إني قد خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

فالحاج يتمسك بحبل الله، ومن تمسّك بهذا الحبل نال الهداية. (4)

9. أن يعتبر الجميع مسؤولين أمام القانون الإلهي، ويدافع عن أحكام الإسلام، ويبلّغ ما رآه في مشهد الحج وزيارة الكعبة لغيره، قال (ص): «إنكم مسؤولون، فليبلّغ الشاهد منكم الغائب».

فالحاج فقيه لمن لم يحضر من المسلمين المشاهد والمواقف، ولم يدرك الحرمين، وما


1- الروم: 21.
2- البقرة: 187.
3- البقرة: 228.
4- آل عمران: 101.

ص: 249

فيهما من لقاءات وتجمّعات.

10. طرح ولاية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وتعريف الأمة بإمامها، واعتبار إطاعته كطاعة النبي (ص)، وفي نهاية المطاف إيجاد حياة إسلامية معقولة، والنجاة من حياة الجاهلية.

عندما رجع الرسول (ص) إلي المدينة، قال في غديرخم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» (1)؛ فبوصول الإمام علي (ع) إلي هذا المقام، تمت النعمة وكمل الدين. (2)


1- تاريخ اليعقوبي 112: 2، والكافي 295: 1.
2- المائدة: 3.

ص: 250

القسم الرابع: الزيارة

القسم الرابع الزيارة

الفصل الأول إتمام الحج والعمرة بالزيارة

اشارة

ص: 251

ثمة في «إتمام الحج والعمرة» المأمور به في الآية الشريفة (وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ) (1)، أبحاث فقهية حول دلالتها علي تحصيل الأجزاء والشرائط، وتجنب الموانع، كما جاء في بعض الروايات أنّ تشرّف الحاج بزيارة الإمام المعصوم (ع) هو من مصاديق إتمام الحج.

ومن الطبيعي أنه ليس المراد من الزيارة المدعوّ إليها في الحج هو زيارة القبور فقط، وإن كانت هذه الزيارة من حقوق الولاية، وإنما المراد لقاء القائد الإسلامي، والوعي بمراتب الولاية، وعرض النصرة عليه، تماماً كما أنّ الهدف من الحضور إلي


1- البقرة: 196. والإتمام تارة يكون بلحاظ الامتداد الزماني، مثل الإتمام المأموربه في قوله تعالي: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَي اللَّيْلِ البقرة: 187، وأخري بلحاظ رعاية تمام الشروط والقيام بتمام الأجزاء وتجنب تمام الموانع المانعة عن الفعل المأموربه، وهذا مثل قوله تعالي: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ، وعلي هذا الأساس فإتمام الحج هو الإحرام من المواقيت المعينة وسائل الشيعة 234: 8، 241- 243، وقد اعتبر لقاء الإمام المعصوم 7 من المصاديق الباطنية لإتمام الحج، كما اعتبرت مراعاة التقوي الإلهية وتجنب اللغو واللهو من مصاديقه أيضاً، وفي هذا يقول الإمام الصادق 7: «إتمامها أن لارفث ولافسوق ولاجدال في الحج» وسائل الشيعة 110: 9 وهذا معني أنّ الآية اللاحقة لهذه الآية هي المبينة للمراد من الإتمام، كما قال 7 في رواية أخري حول ذلك: «إذا أحرمت فعليك بتقوي الله وذكر الله كثيراً وقلّة الكلام إلّا بخير، فإنّ من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلّا من خير». الكافي 338: 4.

ص: 252

قبره هو السلام عليه، والدعاء والتضرّع بمحضر الله المتعال سبحانه.

وهذه بعض الروايات الواردة في هذا المجال:

1. يقول الإمام الباقر (ع): «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا ويخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم». (1)

2. يقول الإمام الباقر (ع): «تمام الحج لقاء الإمام» (2)، أي أنه المصداق البارز لإتمام الحج، فالحج بدون لقاء الإمام غير تام.

3. ويفسّر الإمام الصادق (ع) ظاهر الآية الشريفة: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (3)، بتقصير شعر الشارب، وقصّ الأظفار وأمثال ذلك، لكنه يذكر أن باطنها (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)، هو لقاء الإمام، كما أنّ (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) هو القيام بمناسك الحج. (4)

فعلي أساس هذا الحديث يكون ظاهر الآية إصلاح البدن، أما باطنها فإصلاح الباطن بلقاء الإمام (ع).

فضيلة التشرّف بزيارة المدينة بعد الحج

يستفيد الحاج لأداء مناسك الحج والعمرة عن طريق المدينة إلي مكة، أنه يكسب فضيلة الإحرام من مسجد الشجرة، وهو المكان الذي أحرم منه رسول الله (ص)، أما الذين يتوجهون إلي المدينه بعد الحج، فإنهم يكسبون فضيلة أخري وردت في الروايات، فقد سئل الإمام الباقر (ع) عن جعل مكة أو المدينة بدء سفر الحج؟ فقال: «إبدء بمكة واختم بالمدينة، فإنه أفضل» (5)، وفي حديث آخر قال (ع): «ابدؤوا بمكة


1- الكافي 549: 4.
2- المصدر السابق.
3- الحج: 29.
4- الكافي 549: 4.
5- المصدر السابق.

ص: 253

واختموا بنا». (1)

وطبقاً لبعض الروايات (2)، وللكثير من المنقولات الآتية من المشاهدات في زمن الغيبة، إنّ حضور إمام الزمان (أرواحنا فداه) في موسم الحج ومراسمه كل عام أمر مسلّم، لكن حيث إنّ التشرّف بلقائه (ع) لايكون إلّا نصيب الأوحدي من الناس، لذا ورد في روايات متعدّدة، الأمر بزيارة قبور أهل بيت العصمة والطهارة:، وعرض مظاهر الأدب والمحبّة بين أيديهم وفي محضرهم. (3)


1- الكافي 549: 4.
2- المصدر السابق 337: 1؛ من لايحضره الفقيه 520: 2.
3- وسائل الشيعة 251: 10- 455.

ص: 254

الفصل الثاني الزيارة حضور في مقام الإنسان الكامل

لأهل بيت العصمة والطهارة:- من حيث كونهم الإنسان الكامل ومظهر الإسم الأعظم الإلهي- مزايا وجودية خاصة تستدعي حقوقاً واستحقاقات خاصّة أيضاً.

وللتعرّف علي وظائف الآخرين تجاه هذه الذوات المقدّسة، من اللازم الإشارة إلي بعض خصائصهم حتي يتسنّي العلم بواجب الآخرين تجاههم، أي العلم بمقامهم.

1. أهل بيت الوحي: هم الجامعون للكلام التكويني والتدويني، والواجدون لكتاب الحقيقة والشريعة، الشاملون لنشأتي الحقيقة والاعتبار، ويقصد بجامعيتهم العلمية والعينية أنهم حائزون علي كل كمال ممكن بلانقص، وأنّ كل ما عندهم مصون من العيب، وكل ما عندهم في مرحلة الحدوث فهو عندهم في مرحلة البقاء أيضاً.

2. لاسبيل لمعرفة الإنسان الكامل إلّا بصيرورة الإنسان كاملًا، وعليه، فلا يمكن إدراك كنه ذواتهم النورية لغيرهم، لا بالعلم الحضوري والمعرفة العرفانية الشهودية، ولا بالعلم الحصولي والمعرفة الحكمية الفلسفية، هم الكاملون و مظهرو الله الذي قيل فيه: «لا يدركه بُعد الهمم ولا يناله غوص الفطن». (1)

وبعد اتضاح أنّ إدراك مقام الإنسان الكامل غير مقدور لغيره، نأتي للحديث عن


1- نهج البلاغة، الخطبة: 1، الفقرة: 1- 2.

ص: 255

وظيفة الآخرين تجاهه، فوظيفة المجتمع الإنساني أن يدرك بعقله حقانية أهل بيت العصمة:، وبقلبه محبتهم، ويحيي بجسمه وروحه ذكرهم و إسمهم، كالعطشان الذي يبلغ الكوثر الزلال، فيبرّد كبده الحرّي به، ويقرّ عينه، ويبعث الحياة في قواه المتهالكة، فيبعث النشاط في نفسه، ويرطب فمه الجاف «وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش». (1)

ويمكن شرح وظائف المجتمع الإنساني بكلمات الإمام الهادي (ع) النيرة في الزيارة الجامعة الكبيرة حيث يقول: «أشرقت الأرض بنوركم، وفاز الفائزون بولايتكم، بكم يسلك إلي الرضوان، وعلي من جحد ولايتكم غضب الرحمن». (2)

3. الإنسان الكامل خليفة الله، والمظهر التام لبسيط الحقيقة، وهو الآية الكبري ل-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) (3)، من هنا لا يكون في كل عصر أكثر من خليفة مطلق واحد، وهو شخص واحد جامع لكافة الشؤون الكمالية.

4. جاء عن رسول الله (ص): «نحن أهل بيتٍ لا يقاس بنا أحد» (4)؛ وهو ما ذكره أميرالمؤمنين (ع) بعبارة أخري حيث قال: «لايقاس بآل محمد (ص) من هذه الأمة أحد، ولا يُسَوّي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً؛ هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفي ء الغالي، وبهم يُلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة». (5)

أي لا يمكن أن يقارن أو يقاس إنسان عادي بأهل بيت العصمة والطهارة:؛ لأنّ الخلفاء الواقعيين والإنسان الكامل يقاسون ببعضهم، وليس بسائر الناس.


1- نهج البلاغة، الخطبة: 87، الفقرة: 14- 15.
2- مفاتيح الجنان.
3- الشوري: 11.
4- بحارالأنوار 44: 65.
5- نهج البلاغة، الخطبة: 2، الفقرة: 12- 14.

ص: 256

إنّ أهل بيت الوحي: هم مجاري النعم وأولياؤها، ولا يقاس المتنعِّم أبداً مع مجاري النعمة وأوليائها، إنّ هذه الذوات النورانية هي مظهر للأسماء الحسني الإلهية، والذات الإلهية الأقدس لاتقاس بأي شخص آخر ... «ولايدرك بالحواس، ولايقاس بالناس ...». (1)

وعليه، فلا يقاس أهل بيت العصمة و الطهارة بأحد أبداً، و هم بمثابة ليلة القدر في الزمان، والكعبة في المكان.

5. من أفضل وسائل التقرّب إلي الله، مما أمر به و بابتغائه و الاعتصام به، هو ذكر مناقب آل طه وياسين، والشعور بالسرور في مواليدهم، والإحساس بالهم والألم في ذكري مصائبهم؛ لأنّ الارتباط العقلي والعاطفة بهذه الذوات النورية- وهي إنسان كامل- يعدّ أساساً للانتفاع بمعارف القرآن، والاستفادة بسنّة المعصومين:، تماماً كما يتوفر التعهّد الإلهي في ظلّ الارتباط بخليفة الله تعالي.

يقول الإمام علي بن موسي الرضا (ع): «إنّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحُسن الأداء زيارة قبورهم؛ فمن زارهم رغبةً في زيارتهم، وتصديقاً بما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة». (2)


1- نهج البلاغة، الخطبة: 182، الفقرة 14- 15.
2- الكافي 567: 4.

ص: 257

الفصل الثالث الزيارة مظهر المحبة

الزيارة هي حضور المحبة في محضر المحبوب، وابراز المودّة والمحبّة لقادة الدين هو إظهار للتواضع أمام الدين وأعلام الإيمان، وذلك:

أولًا: ليس الدين سوي المحبة. (1)

ثانياً: حب محبوب الله هو حبٌّ لله تعالي، والزيارة مظهر من مظاهر المحبة.

يضاف إلي ذلك، من يحبّ مظهر المحبة الإلهية الكاملة وحبيب الله تعالي، أي رسول الله (ص)، فهو يطيعه، وإطاعة محور المحبة الإلهية هذا، يدفع الإنسان للتسامي، ومحبة الله تعالي له؛ قال سبحانه: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ). (2)

وهناك روايات كثيرة حول محبة النبي (ص) وعترته الطاهرين: نكتفي هنا بنقل أنموذجين منها:

1. يقول أنس بن مالك: جاء رجل من أهل البادية- وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي (ص)- فقال: يا رسول الله! متي قيام الساعة؟ فحضرت الصلاة، فلما قضي صلاته، قال (ص): «أين السائل عن الساعة؟» قال: أنا يا


1- بحارالأنوار 94: 27- 95.
2- آل عمران: 31.

ص: 258

رسول الله، قال: «فما أعددت لها؟» قال: والله ما أعددت لها من كثير عمل: صلاة ولا صوم، إلّا أني أحبّ الله ورسوله، فقال له النبي (ص): «المرء مع من أحبّ»، قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشي ء أشدّ من فرحهم هذا. (1)

2. وفي حديث آخر علي حدّ سلسلة الذهب، يقول أميرالمؤمنين الإمام علي (ع): «جاء رجل من الأنصار إلي النبي (ص) فقال: يا رسول الله! ما أستطيع فراقك، وإني لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي، وأقبل حتي أنظر إليك حباً لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة، و أدخلت الجنة، فرفعت في أعلي علّيين، فكيف لي بك يا نبي الله؟ فنزل: (وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (2)، فدعا النبي (ص) الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك». (3)

الجدير بالذكر- كما أشرنا مطلع هذا الفصل- أنّ زيارة قبور أهل بيت العصمة والطهارة: مظهر للمحبة، وجانب من وظائف المؤمنين في حقّ هذه الأسرة، ومن الطبيعي أنّ المؤمنين ينتفعون بهذا العمل ويستفيدون منه، قال سبحانه: (قُلْ لاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي) (4)، (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ). (5)


1- بحارالأنوار 13: 17.
2- النساء: 69.
3- بحارالأنوار 188: 8.
4- الشوري: 23.
5- سبأ: 47.

ص: 259

الفصل الرابع أدب الحضور

بيّن الله سبحانه أنّ من شرط الدخول علي النبي (ص) أخذ الإذن منه والدعوة، قال تعالي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ...). (1)

وينهي الله تعالي المتشرّفين بمحضر رسول الله (ص) عن أعمال وأقوال وأفكار تؤذي النبي (ص): (وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) (2)؛ لأنّ مجلسه (ص) مجلس علم وحكمة وليس محفلًا للّهو والأنس، وسوف يأتي مزيد توضيح لهذه الآية إن شاء الله.

لقد دعا القرآن الكريم المؤمنين إلي مراعاة أدب الحضور عند النبي الأكرم (ص) إنه يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (3)، وهذه التصرفات تستدعي إحباط الأعمال ومحوها: (وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ). (4)

في المقابل، تعد مراعاة قواعد الأدب هذه علامةً علي التقوي القلبي، والغفران


1- الأحزاب: 53.
2- المصدر السابق.
3- الحجرات: 2.
4- المصدر السابق.

ص: 260

الإلهي، قال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ). (1)

أما من لا يراعي الأدب معه (ص)، ويتكلمون معه بصوت مرتفع، فهم ممن لاعقل لهم: (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). (2)

وعلي أساس هذه الآيات، وآيات أخر مثل: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً* لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ) (3)، يكون تجليل النبي (ص) بوصفه شعاراً إسلامياً، وظيفةً حية تستمر في حياته وبعد وفاته، لأنّ مقام الرسالة حي علي الدوام، فاليوم عندما يتشرف الزوار بزيارة حرمه المطهر، يلزمهم أيضاً مراعاة أدب الحضور.

الجدير بالذكر أنّ ما قلناه حول مراعاة حرمة وأدب اللقاء بمحضر رسول الله (ص) ومرقده وحرمه، يجري أيضاً في حقّ خلفائه المعصومين وذريته الطّيّبين، علي ما له (ص) من كرامة خاصة وحرمة.


1- الحجرات: 3.
2- الحجرات: 4.
3- الفتح: 8- 9.

ص: 261

الفصل الخامس ضيافة النبي (ص)

ثمة آيات في القرآن الكريم تبيّن آداب التشرّف بالحضور عند رسول الله (ص)، وكيفية مناداته، والتحدّث إليه وأمثال ذلك، إنّ مراعاة آداب التشرف، والحضور هذه، لها دور فاعل في الاستفادة من المواهب والعنايات الخاصّة.

يستفاد من الآية الشريفة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ...) (1)، عدة أمور:

أولًا: يسمح للمؤمنين فقط بضيافة الرسول الأكرم (ص)؛ لأنّ الخطاب هنا كان موجهاً إلي أهل الإيمان.

ثانياً: يجب أن يكون هذا الحضور عن استئذان مسبق من قبل الضيف أو الزائر، بأن يكون بإذن من المضيف أو دعوة، لهذا جاء: (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ...)، وفي هذه الحالة سيكون الإطعام إطعاماً نبويّاً، قال سبحانه: (فَإِذا طَعِمْتُمْ ...).

إنّ هذا الإطعام كما يمكن أن يكون ظاهرياً ومادياً، كذلك يمكن أن يكون باطنياً ومعنوياً، أي من غذاء الروح لا الجسد، تماماً كما يقول الإمام الصادق في ذيل قوله


1- الأحزاب: 53.

ص: 262

تعالي: (فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ إِلي طَعامِهِ) (1): «علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه». (2)

إنّ الله يتحدث عن شروط الاستفادة من التغذية العلمية والمعنوية للرسول الأكرم (ص): في محضر النبي لاتجلسوا للمؤانسة، و لاتتحدثوا بكلام فاقد لأي نوع من المعرفة والحكمة، إنّ مجلس النبي مجلس علم وحكمة وليس محفلًا للإنس، والتلهّي وتمضية الوقت، فإذا أتيتم لكسب المعرفة ونيل الكمالات فلا تخوضوا بما يؤذي النبي (ص) .. (وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ). (3)

إنّ الأكل السيّ ء، والتخمة، والاستئناس، والمؤانسة، ومجالس الأنس في الفنادق، ومنازل المسافرين ... ذلك كلّه مانع عن الإحساس بلذة المناجاة والزيارة في المدينة المنورة، ففي الرواية أنه أتي أبوحجيفة النبي (ص) وهو يتجشي، فقال (ص): «اكفف جشاءك، فإنّ أكثر الناس في الدنيا شَبْعاً أكثرهم جوعاً يوم القيامة». (4)

لابد من الالتفات إلي أنّ الباب والحائط وأمثالهما ليست حاجباً أو مانعاً عن الحضور، وإلّا لم يقل الزائر: «أللهم إني ... أعلم أنّ رسولك وخلفاءك: أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردون سلامي ...» (5)، «وأشهد أنك تسمع الكلام وتردّ الجواب». (6)

لقد حددّ الله تعالي الغذاء المعدّ لضيوف الرسالة، ومنه صلاة الليل، وهي صلاة خاصة لرسول الله (ص) قال تعالي: (وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسي أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (7)، إنّ الضيوف الحقيقيين للرسول الأكرم (ص) لايمكن أن يبقوا محرومين من


1- عبس: 24.
2- الكافي 49: 1.
3- الأحزاب: 53.
4- بحارالأنوار 332: 63.
5- مفاتيح الجنان، إذن الدخول إلي الحرم والمشاهد المشرفة للأئمة:.
6- المصدر السابق، زيارة الإمام الحسين 7 في النصف من رجب.
7- الإسراء: 79.

ص: 263

إحياء الليل، فإنّ ضيافة النبي (ص) التهجّد، أما التهجّد في الليل مع السَّبَح الطويل في النهار والذي يسلب الإنسان مجال التهجّد في الليل، فهو أمر غير متناغم ولا منسجم.

إنّ الزوار الحقيقيين ليسوا فقط ضيوفاً، بل ورّاث للرسول (ص)، وسهم الورثة ونصيبهم أرفع وأفضل وأكثر من حظ الضيوف، إنه ليبلغ حدّ صلاة الله وملائكته عليهم، قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَي النُّورِ). (1)

وعليه، فإنّ حاصل ضيافة الرسول الأكرم (ص) هو صلوات الله وملائكته علي الزوّار الحقيقيين، ونتيجة هذا السلام وهذه التحية الإلهية صيرورتهم نورانيين، والإنسان النوراني لايلحظ ولايرتبط بالظلمة وبالماديات فاقدة القيمة والاعتبار، إنه لايتعلّق بظواهر الدنيا الخادعة؛ فقد قال رسول الله (ص): «ليست الدنيا من محمد ولامن آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة، ما أسقي فيها كافراً شربة ماء». (2)


1- الأحزاب: 43.
2- بحارالأنوار 20: 43.

ص: 264

الفصل السادس بيوت الحقّ الرفيعة

يقول الله تعالي- وهو مؤدب أولياءه-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (1)، إنّ البيت في هذه الآية وبعض الآيات الأخري لايقتصر علي المسكن المتعارف، بل قد يراد منه بيت النبوة والولاية وأمثالهما، كما قال النبي نوح (ع): (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً). (2)

من ناحية أخري، لا تقف مصاديق البيوت الواردة في الآية الشريفة: (فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) (3)، عند المساجد وأمثالها، بل تتعدي لمشاهد المعصومين:، كما أنه- بالاستعانة بما قدمناه- تشمل مقام الرسالة والولاية والإمامة أيضاً.

ويؤيد ماذكرناه حديث جاء فيه أنّ قتادة جاء إلي الإمام الباقر (ع): ... والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك؛ فقال له أبوجعفر (ع): «أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ..». (4)


1- الأحزاب: 53.
2- نوح: 28.
3- النور: 36.
4- الكافي 256: 6.

ص: 265

فمقام الرسالة والولاية والإمامة بيت الله الرفيع؛ علي هذا، من المناسب للزائرين أن لايدخلوا إلي حرم أئمة البقيع: بأحذيتهم، (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُويً) (1)، وليس من التجليل لهذه الذوات النورانية أن يرمي الزائر نفسه علي القبر، بل من الأدب والاحترام أن يكسب إذن الدخول أولًا عندما يرد البقيع، ثم يدخله حافياً وبهدوء وتروّ، وبكل مظاهر التواضع، وعندما تجري علي لسانه أسماء الحسن بن علي المجتبي، وعلي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق:، أو يري قبورهم يشعر باللذة، ويمكنه أن يقول: «فما أحلي أسماءكم ...» (2)، وما أحلي أثركم وما أشدّ جاذبية قبوركم.

وفي هذه الحال وهذا المقام، إذا أحسّ الإنسان في نفسه بتغيّر حالته، فعليه أن يعلم بأنّ هؤلاء الأئمة المعصومين: قد تركوا- بإذن الله تعالي- أثراً، إن (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلي قَلْبِكَ) (3)، أخذ يتحدّث إلي قلوب الزائرين، إذا شعر الزائر بتغير حاله، فليعلم أنّ هذه الذوات النورانية تتحدث معه، وفي غير هذه الحالة ستكون زيارته بدون روح، ومثل هذه الزيارة وإن لم تعدم الثواب، إلّا أنهّا كعدمها علي المستوي الباطني، وعليه أن يتضرّع إلي الله تعالي كي لايظلّ محروماً من نيل هذا الفيض العظيم.

إنّ قساوة القلب، وجمود العين الناشئين من الميل إلي الدنيا، لايسمحان للإنسان بالإحساس بنور الأئمة المعصومين:، وبسماع كلماتهم، باذُن القلب والروح.

والحمد لله رب العالمين


1- طه: 12.
2- مفاتيح الجنان، الزيارة الجامعة الكبيرة.
3- الشعراء: 193- 194.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.