صلح الامام الحسن بين الواقع و ظلم التاريخ (دراسه تحليليه)

اشارة

سرشناسه : دوخي، يحيي عبدالحسن

عنوان و نام پديدآور : صلح الامام الحسن بين الواقع و ظلم التاريخ (دراسه تحليليه)/ يحيي عبدالحسن الدوخي.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1391.

مشخصات ظاهري : 135 ص.

شابك : 978-964-540-399-5

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه: ص. [123] - 130؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : حسن بن علي (ع)، امام دوم، 3 - 50ق -- صلح با معاويه

موضوع : حسن بن علي (ع)، امام دوم، 3 - 50ق -- سرگذشتنامه

موضوع : معاوية بن ابي سفيان. خليفه اموي، 20 قبل از هجرت - 60ق.

رده بندي كنگره : BP40/د84ص8 1391

رده بندي ديويي : 953/02

شماره كتابشناسي ملي : 2867188

ص:1

ديباجة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص:6

ص:7

لا نغالي إذا قُلنا إنَّ صُلح الإمام الحسن (ع) له من الأهمية بمكان؛ بحيث يُشكل منعطفاً تأريخياً في مسيرة الأمة الإسلامية، وكذلك يُعبِّر عن تأسيس لمرحلة جديدة - من الفهم والإدراك في عقليّة وذهن المسلمين - لمسار الأحداث الجارية التي رسمها الخط الاُموي بشكل مغاير لما عاشه المسلمون في زمن رسول الله (ص) ؛ فتصدى الإمام الحسن بصلحه لانحرافٍ كاد يعصف بمفهوم الرسالة المحمدية ويطيح بمفاهيمها السامية التي بذل في سبيلها رسول الله (ص) كل غال ونفيس.

وعلى الرغم من هذه الأهمية الكبيرة لهذا الحدث التأريخي - للأسف - لم نجد يد المؤرخين وأصحاب السِّير قد تناولته بإنصاف وموضوعية، فقد رُسِمت صورته مقطّعة الأوصال، وفي بعض الأحيان بشكل مقلوب، فكوّنت في النتيجة صورة غير واضحة الملامح متفرقة ومتشتتة لا تنمّ عن الحقيقة كاملةً. . .

ومن الطبيعي والحال هذه أن تُثار بعض الشبهات حول ماهية الصلح وما يدور حوله من أحداث. . .

ص:8

من هنا جاء هذا الكتاب ليوّضح معالم وثيقة هذا الصلح وأسبابه ونتائجه وثمراته، ويدفع بعض الشبهات التي أثيرت حوله، وبذلك يضع المحقق والأستاذ الدكتور (يحيى عبد الحسن الدوخي) يده على الجرح؛ ليكشف مجريات هذه الأحداث بتحقيق علمي رصين، جَمَع فيه بعض النصوص و الروايات و قام بتحليلها و دراستها بشيء من التفصيل؛ ليضع الحقائق في نصابها الصحيح.

وضمناً يتقدم معهد الحج والزيارة بالشكر والتقدير للجهود المبذولة للأستاذ العزيز، سائلين المولى العلّي القدير أن يتقبل منه هذا العمل، وفي الوقت ذاته أن تكون هذه الأبحاث وما تحمله من حقائق ناصعة مدعاة لتوحيد الأمة، ورصف صفوفها حول عترتها الطاهرة، الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

و الله ولي التوفيق

قسم الكلام و المعارف

معهد الحج والزيارة

ص:9

المقدّمة

إنَّ صياغة التاريخ الإسلامي للمفردات التي تحدّث عنها، قد أضفت عليه الكثير من الغموض وعدم الوضوح في جملة كبيرة من الوقائع والأحداث، مع ما لها من الأهمّية والحساسية بالنسبة للمسلمين. ولعلَّ واحدة من هذه المفردات هي صُلح الإمام الحسن (ع) ؛ فالتأريخ قد أسدل الستار على تلكم الوقائع، والتي لو بانت وأُفصح عنها، لتغيَّرت كثير من الأحكام، التي قد صدرت عن البعض بغير وجه حق.

ونحن هنا لسنا بصدد محاكمة من قاموا بذلك، ولكنَّنا نريد النظر في حقيقة الأمر، من جهة كونها حادثة تاريخية.

فعلى سبيل الفرض، نجد أنَّ الطبري عندما يتكلّم حول وثيقة الصلح مع معاوية، لم يذكر لنا تلك البنود التي فرضها الإمام الحسن على معاوية، بل اكتفا بنقل عبارة توحى بأنَّ معاوية فتح الباب على مصراعيه بقبول شروط الإمام (ع) . ونصّ ما قال:

«قد ارسل معاوية إلى الحسن بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها [بختمه]، وكتب إليه: أنْ اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما

ص:10

شئت، فهو لك» .(1)

ثم قُطِع الحديث، فلم يذكر بعد ذلك ما كتب الإمام الحسن (ع) على صحيفة معاوية.

و مَن يتتبَّع المصادر التاريخية التي ذكرت بنود الصلح وشروطه فلن يجد سوى النزر اليسير من توثيق هذا الحدث التأريخي المهم.

وكذلك انعكس هذا الأمر في روايات بعض المحدِّثين؛ فإنَّنا نجد الذهبي قد اختزل هذا الحدث بروايةٍ ينقلها عن الحسن البصري، عن أبي موسى:

استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: والله إنّي لأرى كتائب لا تولي أو تقتل أقرانها. وقال معاوية، وكان خير الرجلين: أرأيت إنْ قتل هؤلاء هؤلاء، مَن لي بذراريهم، مَن لي بأمورهم، مَن لي بنسائهم؟ قال: فبعث عبد الرحمن بن سمرة، فصالح الحسن معاوية وسلّم الأمر له. (2)

فهنا نلاحظ اختزال تاريخ الإمام الحسن تماماً، وما قام به من دور، في الصلح مع معاوية، معاوية الذي وصفه العقّاد شارحاً سياسته:

كانت له حيلته التي كرَّرها وأتقنها وبَرع فيها، واستخدمها مع خصومه في الدولة، من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام

تلك الحيلة العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه؛ بإلقاء الشُبهات بينهم، وإثارة الإحن فيهم، ومنهم مَن كانوا مِن أهل بيته وذوى قرباه. كان لايطيق أن يرى رجلين ذوى خطر على وفاق. . . فلو أنَّه استطاع أنْ


1- تاريخ الطبري، ج 4، ص١٢4.
2- تاريخ الإسلام، الذهبي، ج4، ص ٣٨.

ص:11

يجعل من كلّ رجل في دولته حزباً منابذاً لغيره من رجال الدولة كافة لفعل، ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح، لما وصفه بغير مُفرِّق الجماعات. . . .(1)

فمعاوية سياسته قائمة على الحيلة والتفريق وإثارة الإحن، ولو حاسبه التأريخ حسابه الصحيح - كما يقول العقاد - لوصفه بمفرِّق الجماعات.

ومع هذا كلّه، نجد الذهبي يجعله كالحمل الوديع، مختصراً تلك الحُقبة بكلماتٍ لا تكاد تنحصر بخمسة أسطر، ومَن دقَّق فيها يجد الغرابة؛ فمعاوية الذي هو خير الرجلين، يتحسّر أسفاً على الذراري والنساء لو قام الإمام الحسن بالقتال!

ثُمَّ إنَّ عمرو بن العاص رأى كتائب لا تولي، كنايةً عن كثرة الجيش، فنسأَل: ما هي الأسباب التي أدَّت إلى الصلح مع هذه الكثرة الكاثرة من الكتائب أمثال الجبال؟

وما هي مُجريات الأحداث التي برزت في تلكم الفترة، بحيث إنَّ الإمام سرعان ما يقبل من عبد الرحمن بن سمرة، فيصالح ويسلِّم الأمر إلى معاوية؟ !

وللأسف أنَّنا نجد مَن ينقل هذه الروايات ويتبَّناها. ونذكر - على سبيل المثال لا الحصر - الهيتمي في صواعقه، يقول:

وبعد تلك الأشهر الستة، سار إلى معاوية في أربعين ألفاً، وسار إليه معاوية، فلمَّا تراءى الجمعان، علم الحسن أنَّه لن يغلب أحد الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية بخبر، أنَّه يصيّر الأمر إليه،


1- معاوية، العقاد، صص ٣6 و ٣٧.

ص:12

على أن تكون له الخلافة من بعده، وعلى أن لا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء ممَّا كان أيام أبيه، وعلى أن يقضي عنه ديونه. فأجابه معاوية إلى [ما] طلب إلاَّ عشرة، فلم يزل يراجع حتى بعث إليه برقّ أبيض، وقال: اكتب ما شئت فيه، فأنا التزمه، كذا في كتب السِّير.(1)

هذه هي السير التي نقل منها ابن حجر، وللأسف نجد أنَّ مَن يأتي من بعده يعتمد هذا النقل الخالي من الموضوعية، فيتجنّى على التأريخ؛ فيحمّل الإمام الحسن (ع) مسؤولية الصلح وتسليم الأمر إلى معاوية، وإعطاءه قيادة الأُمَّة، وأنَّه كان يرغب في التخلّي عن مركز الحكم، تهرُّباً من مسؤوليات الحرب؛ لأنَّه راغب للسّلم أكثر منه للحرب.

ولكنَّ هذا التبرير باطل جزماً؛ لأنَّ مواقف الإمام الحسن في ميدان الحرب تشهد بفروسيته وبطولته، يقول كامل سليمان، واصفاً شجاعته:

فهو من أركان الحرب عند أبيه، ومن أُمراء جيشه، وهو منه ساعد قوي ومعوان عظيم، فأبوتراب يزحف وأولاده من حوله،

يشدّون أزره، ويسندون ظهره، وكلّهم ليث قاصم الضربة.(2)

والذي يؤكِّد هذا الكلام؛ مواقفه في حرب الجمل وغيرها، فقد روى ابن شهر آشوب:

دعا أمير المؤمنين (ع) محمد بن الحنفية يوم الجمل، فأعطاه رمحه وقال له: اقصد بهذا الرمح قصد الجمل، فذهب فمنعوه بنو ضبة، فلمّا رجع إلى


1- الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، ج٢، ص ٣٩٨.
2- الحسن بن علي، كامل سليمان، ص ٣5.

ص:13

والده، انتزع الحسن رمحه من يده، وقصده قصد الجمل وطعنه برمحه، ورجع إلى والده وعلى رمحه أثر الدم، فتمغَّر وجه محمد من ذلك، فقال أميرالمؤمنين: لا تأنف، فإنَّه ابن النبي وأنت ابن علي.(1)

فابن النبي (ص) لا يهاب تلك الجيوش، وتقدَّم برباطة جأش، ليُطيح بذلك الجمل، الذي يُعَدّ الرمز لتلك المعركة.

إذن، فالتأريخ - لمَن يتفحّصه بعين الباحث عن الحقيقة - لم يُنصف الإمام الحسن (ع) في هذا الحدث المهم والمفصلي من تأريخ البشرية.

لذا سنلقي الضوء على مجريات هذا الحدث التأريخي، وذلك من خلال ثلاثة فصول:

الأوَّل: قبسات من حياة الإمام الحسن (ع) ، وخلافته وإمامته، مروراً ببيعته؛

الثاني: الصلح وأسبابه ونتائجه وثمراته؛

الثالث: دفع بعض الشبهات التي أُثيرت حول الصلح.

يحيى عبد الحسن هاشم / قم المقدسة

yahya١١٩6٨@yahoo. com


1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج ٣، ص ١٨5.

ص:14

ص:15

الفصل الأوَّل: الإمام الحسن (ع)

اشاره

ص:16

ص:17

حياة الإمام الحسن المجتبى (ع)

نسبه وولادته

الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، الإمام السيد، ريحانة رسول الله (ص) وسبطه، وسيد شباب أهل الجنة، أبو محمد القرشي الهاشمي المدني الشهيد.(1)

وهو ثاني أئمَّة أهل البيت الطاهر، وأوَّل السبطين، وأحد الخمسة أصحاب العبا، أُمّه فاطمة بنت رسول الله (ص) ، سيدة نساء العالمين.(2)

الولادة الميمونة وشَبَهَه برسول الله (ص)

ولد في النصف من شهر رمضان، في السنة الثالثة من الهجرة؛ قاله ابن سعد وابن البرقي.(3)

وقال السيد محسن الأمين:


1- سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج٣، ص٢46.
2- أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج١، ص 56٢.
3- الإصابة، ابن حجر العسقلانى، ج ٢، ص6٠.

ص:18

ولد بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان، على الصحيح المشهور بين الخاصة والعامة، وقيل في شعبان، ولعلَّه اشتباه بمولد أخيه الحسين (ع) سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة، وقيل غير ذلك، ولكنَّ المشهور الأثبت أحد هذين.(1)

وعند ولادته المباركة عقَّ عنه رسول الله (ص) وتصدّق بوزن شعره على المساكين. رُوي عن أبي رافع، قال: «لمَّا ولدتْ فاطمة حسناً، قالت: يا رسول الله، ألا أعقّ عن ابني بدم؟ قال: لا، ولكن احلقي رأسه، وتصدَّقي بوزن شعره فضة على المساكين، ففعلتْ» .(2)

وروى ابن عباس: «أنَّ النبي (ص) عقَّ عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً» .(3)

وأمَّا شبهه برسول الله (ص) ، فقد روى ابن حجر العسقلاني، عن عبدالله بن الزبير، قال:

أنا أحدِّثكم بأشبه أهله به وأحبَّهم إليه، الحسن بن علي، رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته، أو قال ظهره، فما يُنزله حتى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء وهو راكع، فيفرج له بين رجليه، حتى يخرج من الجانب الآخر.(4)

وقال الذهبي: «وكان يشبه جدَّه رسول الله (ص)» .(5)


1- أعيان الشيعة، ج١، ص 56٢.
2- الإصابة، ج ٢، ص6٠.
3- سير أعلام النبلاء، ج ٣، ص ٢4٨.
4- المصدر نفسه، ص ٢4٩؛ الاصابة، ج٣، ص 6٢.
5- سير أعلام النبلاء، ج ٣، ص٢46.

ص:19

فضائله (ع)

مَن أحب الحسن والحسين، فقد أحبَّ الرسول، ومَن أبغضهم فقد أبغضه (ص) .

بلغ حبُّ رسول الله (ص) لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) الذروة، وليس هذا الحب نابعاً من عاطفة فقط، بل رُتِّب عليه الحبّ والبغض لله تعالى؛ لأنَّ مَن أحبّهم فقد أحبَّ الله (تعالى) ، ومَن أبغضهم فقد أبغض الله تبارك وتعالى.

روى ابن حجر عن أبي هريرة قال:

خرج علينا رسول الله (ص) ومعه الحسن والحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرَّة وهذا مرَّة، حتى انتهى إلينا، فقال: من أحبَّهما فقد أحبَّني، ومَن أبغضهما فقد أبغضني.(1)

وروى الشيخ المفيد عن النبي:

مَن أحبَّ الحسن والحسين (عليهما السلام) ، أحببته، ومَن أحببته أحبَّه الله، ومَن أحبَّه الله (عزّوجلَّ) أدخله الجنة، ومَن أبغضهما أبغضته، ومَن أبغضته أبغضه الله، ومَن أبغضه الله خلَّده في النار.(2)

وكذلك روى زهير بن الأقمر: «بينما الحسن بن علي (ع) يخطب، بعدما قُتل علي (ع) ، إذ قام رجل من الأزد آدم طوال، فقال: لقد رأيت رسول الله (ص) واضعه في حبوته يقول: مَن أحبَّني فليحبّه، فليبلِّغ الشاهد الغائب» . (3)

وحسّن الترمذي حديث أسامة بن زيد؛ إذ قال:


1- الإصابة، ج ٢، ص6٢.
2- الإرشاد، ج٢، ص٢٨.
3- الإصابة، ج ٢، ص6٢.

ص:20

خرج رسول الله (ص) ليلة وهو مشتمل على شيء قلت: ما هذا؟ فكشف، فإذا حسن وحسين على وركيه، فقال: هذان ابناي وابنا بنتي، اللَّهم إنّي أحبّهما فأحبّهما، وأحبّ مَن يحبّهما.(1)

ولا يخفى أنَّ ذريته (ص) انحصرت بالحسن والحسين (عليهم السلام) ، وهما من الأربعة الذين باهل بهم رسول الله (ص) نصارى نجران. قال الحاكم:

قد تواترت الأخبار في التفاسير، عن عبدالله بن عباس وغيره، أنَّ رسول الله (ص) أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين وجعلوا فاطمة وراءهم، ثُمَّ قال: هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا، فهلمّوا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، ثُمَّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.(2)

والحسن (ع) من المطهَّرين المعصومين الذين أُذهب عنهم الرجس بشهادة آية التطهير، قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . (الأحزاب: ٣٣)

ومن القربى الذين أمر الله بموّدتهم، قال تعالى: قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . (الشورى:٢٣)

وأحد الثقلين الذين مَن تمسّك بهما نجا، ومَن تخلّف عنهما ضلّ وغوى، كما رواه مسلم بن الحجاج النيسابوري في صحيحه، عن زيد بن أرقم، عن رسول الله (ص) :

وأنا تارك فيكم ثقلين، أوَّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثُمَّ قال:


1- سير أعلام النبلاء، ج ٣، ص٢5١.
2- معرفة علوم الحديث، الحاكم النيسابوري، ص 5٠.

ص:21

وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي. . . . (1)

وفي مسند أحمد: «إنِّي تارك فيكم خليفتين، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض» .(2)


1- صحيح مسلم، مسلم النيسابوري، ج ٧، ص١٢٣.
2- مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج5، ص١٨٢.

ص:22

ص:23

خلافة الإمام الحسن وإمامته

اشاره

من الضروري قبل أن نشرع في ماهية الصلح وظروفه وأسبابه ونتائجه، أن نبيِّن أنَّ خلافة الإمام الحسن قد نصَّ عليها رسول الله (ص) ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلَّا وحيٌ يُوحى فهو الخليفة الشرعي، سواء بايعه الناس أو لم يبايعوه، وكل فعل وتصرّف يصدر عنه فهو في إطار الحق، الذي يجب على الأُمَّة أن تذعن له ولا تتخلَّف عنه، ولا يحق لمعاوية وغيره أن يتجاوز هذه النصوص التي بشّر بها رسول الله وأميرالمؤمنين (عليهما أفضل الصلاة والسلام) .

ومن تلك النصوص ما رواه البخاري في الصحيح، في كتاب الأحكام، عن جابر بن سمرة، قال: «سمعت النبي (ص) يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال لي: إنَّه قال: كلّهم من قريش» .(1)


1- صحيح البخاري، ج٨، ص١٢٨. الحديث لا تطبيق صحيح له سوى ما تقول به الشيعة في إمامة الاثنى عشر؛ لذا وقع علماء أهل السّنه في مسيرة التطبيق والمصداق لهذا في مصداق هذا الحديث، ووقعوا في تناقض كبير عندما فسَّروه. وقد علّق الشيخ محمود أبو ريّة على ما أورده السيوطي، قال: «أمّا السيوطي، فبعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة، خرج برأيٍ غريب، نورده هنا تفكهةً للقراء، وهو: وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز، وهؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضمَّ إليهم المهدي من العباسيين؛ لأنَّه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أُمية، وكذلك الظاهر، لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران، أحدهما المهدي، لأنه من أهل بيت محمد! ولم يبيِّن المنتظر الثاني» . أضواء على السنة النبوية، محمود أبو رية، ص٢٣5.

ص:24

وهؤلاء الأئمَّة هويتهم أنَّهم من قريش، بل ومن بني هاشم تحديداً، كما رُوي ذلك عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة:

كنت مع أبي عند رسول الله (ص) فسمعته يقول: بعدي اثنا عشر خليفة، ثُمَّ أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي [قال في] أخفى صوته؟ قال: قال: كلّهم من بني هاشم.(1))

وجاء تفصيل رسول الله (ص) لهذا الحديث وبيان مصداقه، في حديث اللوح المشهور، كما نقله الجويني (2)؛ شيخ الذهبي، عن جابر بن عبدالله


1- ينابيع المودة، القندوزي الحنفي، ج٢، ص٣١5. وأما ترجمة القندوزي، فهو: سليمان بن خوجه إبراهيم قبلان الحسيني الحنفي القندوزي، فاضل، من أهل بلخ، مات في القسطنطينية. له ينابيع المودَّة في شمائل الرسول ص وأهل البيت. انظر: الأعلام، الزركلي، ج٣، ص ١٢5.
2- ترجمه الذهبي في معجم شيوخه، فهو تلميذه، وهذا أمر في غاية الأهميّة؛ إذ غالباً ما يُتَّهم هذا الرجل بكونه شيعياً، وهذه تهمة باطلة لا أساس لها من الصحة، فالذهبي المتشدِّد يتلمذ على يديه، ويمدحه و يُطري عليه، بكونه، الإمام الكبير وشيخ المشائخ، وأنّه ذو دين، قال: «إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن عبدالله بن علي بن محمد بن حموية، الإمام الكبير المحدث، شيخ المشائخ، صدر الدين، أبوالجامع الخراساني الجويني الصوفي، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة، وسمع بخراسان وبغداد والشام والحجاز، وكان ذا اعتناء بهذا الشأن» . وقال في تذكرة الحفاظ: «الإمام المحدِّث، الأوحد الأكمل، فخر الإسلام، صدر الدين، إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني، شيخ الصوفية. . . وكان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الأجزاء، حسن القراءة، مليح الشكل، مهيبا دينّاً صالحاً، مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة» . انظر: معجم شيوخ الذهبي، ج ١، ص 5٠؛ تذكرة الحفاظ، ج4، ص ١5٠6.

ص:25

الأنصاري، في صحيفة فاطمة (عليها السلام) ، حيث ذكر أسماءهم واحداً تلو الآخر، ونصَّ على إمامته. (1)ومن النصوص أيضاً ما ورد عن رسول الله (ص) قوله: «الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا» .(2)فأوجب لهما الإمامة بموجب القول، سواء نهضا بالجهاد، أو قعدا عنه، دعيا إلى نفسيهما، أو تركا ذلك.

وقال (ص) للحسين (ع) :

«أنت إمام، ابن إمام، أخو إمام» .(3)

وقوله (ص) له ولأخيه الحسين:

«أنتما الإمامان، ولأُمِّكما الشفاعة» .(4)

وأمّره أبوه أمير المؤمنين - منذ اعتل - أن يصلِّي بالناس، وأوصى إليه عند وفاته قائلاً:

يا بني، أمرني رسول الله أن أوصى إليك، وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليَّ رسول الله ودفع إليَّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرت الموت أن تدفع إلى أخيك الحسين. . . ثم أقبل على ابنه الحسن، فقال: يا بني، أنت ولي الأمر وولي الدم.(5)

فدلَّت وصية أمير المؤمنين إلى الحسن على إمامته، بحسب ما دلَّت وصية


1- فرائد السمطين، الجويني الشافعي، ج٢، صص١4١ ١٣6؛ الكافي، الكليني، ج ١، صص5٢٧ - 5٢٨.
2- الإرشاد، المفيد، ج٢، ص ٣٠؛ الفصول المختارة، الشريف المرتضى، ص٣٠٣؛ ورواه من طرق أهل السنة، المولوي صديق حسن خان القنوجي، انظر: خلاصة عبقات الأنوار، السيد حامد النقوي، ج 4، ص ٣٠4.
3- الرسائل العشر، الشيخ الطوسي، ص ٩٨. ومن مصادر السنة رواه الشيخ البلخي، خلاصة عبقات الأنوار، السيد حامد النقوي، ج 4، ص ٣٠4.
4- الفصول المهمة في معرفة الائمة، ابن الصباغ، ج ١، ص666؛ كشف الغمة، الأربلي، ج ٢، ص١٢٩.
5- الكافي، ج ١، صص ٢٩٩ ٢٩٨.

ص:26

رسول الله (ص) إلى أمير المؤمنين على إمامته من بعده.

إذن، فالنصوص جليَّة واضحة في إمامته وخلافته. ثُمَّ ننتقل في تسلسل البحث إلى بيعته (ع) .

بيعته (ع)

(1)

أوَّل خطاب وجَّهه الإمام الحسن (ع) للأُمَّة، بعد عودته وأهل بيته، بعد ما شُيّع أمير المؤمنين إلى قبره الطاهر؛ خرج عبدالله بن عباس(2)

إلى الناس وقال: إنَّ أمير المؤمنين توفي، وقد ترك لكم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.(3)

فخرج الإمام الحسن (ع) ، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال:

لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأوّلون بعملٍ، ولا يدركه الآخرون، وقد كان رسول الله (ص) يعطيه رايته، فيقاتل وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح الله عليه(4)، وما ترك على أهل الأرض صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطاياه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله، ثُمّ قال: أيُّها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم


1- إنَّ بيعة الناس ليست شرطاً في إمامة الإمام، وإنّما على الناس أن يبايعوا مَن أرادته النصوص النبوية، ولا تصحّح الإمامية بيعة غيره، ولا تقع من أحدهم إلّا اضطراراً. وقضت الظروف بدوافعها الزمنيّة، أن لا يبايع الناس من الأئمّة المنصوص عليهم إلّا الإمامين علياً والحسن عليها السلام . انظر: صُلح الحسن، آل الراضي، ص 54.
2- الصحيح هو عبيدالله بن عباس؛ لأنَّ عبدالله بن عباس كان في مكة، والمظنون أنّ اتحاد الأخوين أباً، وتشابه اسميهما كتابة، هو الذي أثار الخطأ في النسبة إليهما. انظر: صُلح الحسن، آل الراضي، ص١٠5.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ١6، ص ٢٢.
4- مسند أحمد، ج١، ص ١٩٩.

ص:27

يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الّذين افترض الله مودَّتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيه (ص) : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) ، فاقتراف الحسنة مودَّتنا أهل البيت.(1)

ثُمَّ جلس فقام عبدالله بن عباس (رحمة الله) بين يديه، فقال:

معاشر الناس، هذا ابن نبيكم، ووصي إمامكم، فبايعوه. فاستجاب له الناس وقالوا: ما أحبّه إلينا، وأوجب حقه علينا، وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة، وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة. (2)

وبعد أن بايعته الأُمَّة، خطب خطابه البليغ، حيث وضع الأمور في نصابها الصحيح، فألزم الناس الحجة، بأنَّ آل محمد هم أصحاب الحق الشرعي، وأنَّهم الصراط المستقيم، فهم حزب الله الغالبون، وهم عترة رسول الله، والأقربون إليه من غيره، فيجب الطاعة والانقياد لهم، ثمَّ حذّرهم من الإصغاء لهتاف الشيطان (ويقصد به معاوية) ؛ فإنّه لكم عدوّ مبين.

قال (ع) :

نحن حزب الله الغالبون، ونحن عترة رسوله الأقربون، ونحن أهل بيته


1- المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج٣، ص ١٧٢.
2- الإرشاد، ج ٢، صص٨ - ٩؛ ينابيع المودّة، ج٢، صص٢١٢٢١٣؛ مقاتل الطالبيين، أبوالفرج الأصفهاني، ص٣٣؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ج١6، ص٣٠.

ص:28

الطيّبون، ونحن أحد الثقلين الذين خلّفهما جدّي (ص) في أُمّته، ونحن ثاني كتاب الله، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعول علينا تفسيره، ولا نتظنَّن تأويله، بل تيقَّنا حقائقه، فأطيعونا، فإنَّ طاعتنا مفروضة؛ إذ كانت بطاعة الله (عزَّوجلّ) وطاعة رسوله مقرونة، قال (جلَّ شأنه) : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وقال عز وجل: ( وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ، واحذروا الإصغاء لهتاف الشيطان، فإنّه لكم عدو مبين.(1)

سياسة معاوية بعد بيعة الإمام الحسن (ع)

بعد أن تمت البيعة، قام الإمام (ع) بدوره في إدارة الدولة الإسلامية، فاختار العمال والولاة على المناطق الإسلامية، ورسم مُخطَّطاً لتنظيم شؤون الدولة، وإعداد مستلزمات إدارة النظام السياسي في الأُمّة.

قال أبو الفرج الاصفهاني:(2)


1- ينابيع المودة، ج١، ص ٧4.
2- ترجمه الخطيب البغدادي قائلاً: «علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص، أبو الفرج الأموي، الكاتب المعروف بالأصبهاني. . كان عالماً بأيام الناس والأنساب والسيرة، وكان شاعراً محسناً، والغالب عليه رواية الأخبار والآداب، وصنَّف كتباً كثيرة، منها: الأغاني الكبير و مقاتل الطالبيين . ِحدثنا التنوخي عن أبيه قال: ومن الرواة المتّسعين الذين شاهدناهم، أبوالفرج علي بن الحسين الأصبهاني، فإنّه كان يحفظ من الشعر، والأغاني، والأخبار، والآثار، والحديث المسند. . . قال العلوي: وكان أبو الحسن البتي يقول: لم يكن أحد أوثق من أبي الفرج الأصبهاني. سمعت أبا نعيم الحافظ يقول: توفي أبوالفرج علي بن الحسين الأصبهاني الكاتب ببغداد، في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة» . انظر: تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ج ١١، ص ٣٩٨.

ص:29

ثُمَّ نزل من المنبر، فرتَّب العمال، وأمر الأمراء، ونظر في الأمور، وأنفذ عبدالله بن العباس إلى البصرة. قال: وكان أوَّل شيء أحدثه الحسن [بن علي (ع)] أنَّه زاد المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي (ع) أبوه فعل ذلك يوم الجمل، والحسن [(ع)] فعله على حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعد ذلك.(1)

وحين علم معاوية ببيعة الإمام، بدأت نوازع الشر والخداع تعتمل في نفسه، لخلق جوٍّ من البلبلة وإشاعة الفتنة بين الناس، والغرض هو إضعاف الدولة الفتية التي حكمها الإمام الشرعي، وإضعاف ثقة الناس بسياسته وحكمته.

وأوَّل عمل قام به هو: إرسال الجواسيس إلى عاصمة الدولة الإسلامية في الكوفة، ومدينة البصرة ذات الثقل السياسي والاجتماعي.

قال الشيخ المفيد:

لمَّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين (ع) ، وبيعة الناس الحسن (ع) ؛ دسَّ رجلاً من حمير إلى الكوفة، ورجلاً من بني القين إلى البصرة، ليكتبا إليه بالأخبار ويُفسدا على الحسن (ع) الأمور.(2)

ولكن خطة التآمر التي قادها معاوية فشلت، وأحبط الإمام الحسن هذا المخطَّط الخبيث.

قال الشيخ المفيد (رحمة الله) :

فعرف ذلك الحسن (ع) ، فأمر باستخراج الحميري من عند حجام


1- مقاتل الطالبيين، ص ٣4؛ أعيان الشيعة، ج ١، ص 5٧6.
2- الارشاد، ج٢، ص ٩.

ص:30

بالكوفة، فأُخرج، فأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة فاستُخرج القيني من بني سليم وضُربت عنقه.(1)

وبعد أن رأى الإمام أنَّ منهج معاوية يقوم على الخديعة والمكر، أرسل له خطاباً شديد اللهجة، يعلن فيه استعداده لخوض الحرب ضدَّ جبهة التمرّد التي بدأها معاوية.

تبادل الرسائل بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية

وارسل الامام رسالة للمعاوية وجاء في الخطاب:

أمَّا بعد، فإنَّك دسست إليّ الرجال للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون، كأنَّك تحب اللقاء، وما أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله، وقد بلغني أنك شمتّ بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنَّما مثلك في ذلك كما قال الأوَّلون:

وقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تجهزّ لأخري مثلها فكأنّ قد

وأنا و من قد مات منّا لكالذي

يروح فيمسي في البيت ليفتدي(2)

ولو تأمَّلنا بمفردات هذه الرسالة، نجد أنَّ الإمام (ع) قد درس شخصية معاوية بصورة دقيقة، فهو ذلك الرجل المحتال والغادر، وهو لايشك طرفة عين أنَّ معاوية يريد الحرب؛ لذا صرَّح بوضوح تام (وما أشك في ذلك) ، فأراد الإمام أن يُبرز جانب القوة في وجه معاوية ودسائسه. ومن جهة أخرى، أراد (ع) أن يمتلك زمام المبادرة في تقرير الحرب، في قوله (فتوقّعه إن


1- الارشاد، ج٢، ص ٩.
2- مقاتل الطالبين،ص 433؛ شرح نهج البلاغه، ابن ابي الحديد، ج16،ص31

ص:31

شاء الله) ؛ لكي يزرع الثقة في جيشه وأصحابه، وفي هذا الفعل عزّة الإسلام وقوته.

لذا جاء جواب معاوية على رسالة الإمام الحسن خالياً من الإثارة، ونلمس فيه التملُّق للإمام وإبعاد نفسه عن قضية إرسال الجواسيس. ونص ما كتبه معاوية:

أمَّا بعد، فقد وصل كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث، فلم أفرح، ولم أشمت، ولم أيأس، وأنَّ علي بن أبي طالب كما، قال اعشى بن قيس بن ثعلبة:

وأنت الجواد وأنت الذي إذا ما القلوب ملأن الصدورا و ما مزيد من خليج البحور يعلو الأكام و يعلو الجسورا بأجود منه ممّا عنده فيعطي الألوف و يعطي البدورا(1)

وهذا الأسلوب كان متوقعاً من معاوية، فأغفل أو تغافل أنَّ الإمام مطّلعٌ على مجريات الأحداث، وما هي العقلية و النوايا العدوانية التي قد يرتكبها معاوية فيما بعد، لذا بعث له الإمام برسالة ثانية، فصَّل فيها الموقف الشرعي من ولاية المسلمين، وأنَّه الأولى بها منه ومن غيره (2)، كما بيّن فيها فضائل


1- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الاصفهاني، ص ٣4.
2- ونرى في مجمل رسائل الإمام ع أنَّه يكرِّر على معاوية حقه في الإمامة والخلافة، وأنّه تجب الطاعة له - وهو يعلم أنّ معاوية لا يلتزم بكل كلام وإن جاء بالدليل والبرهان. والغرض واضح، وهو أنَّ الإمام يريد أن يُفهم ويُذكّر الأُمّة من خلال هذه الرسائل الاعلامية، أنّ معاوية قد ذمّه رسول الله ص في كثير من أحاديثه، وتنبّأ في غصبه للخلافة، فخلافته غير شرعية، وسيرته غير مستقيمة، ولابد من الحذر منه، لأنّه يسلك بكم الطريق المنحرف عن الاسلام. وقد ذكر الشيخ حسن بن فرحان المالكي جملة من هذه الاحاديث وصحّحها، نذكر منها: حديث «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» . روي عن عدد من الصحابة، منهم أبي سعيد الخدري وابن مسعود وغيرهما، وأقل أحوال هذا الحديث الحسن.حديث عبدالله بن عمرو بن العاص «يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت على غير ملتي - وفي لفظ: على غير سنتي - فطلع معاوية، وقال النبي ص» والحديث رواه البلاذري بسند صحيح، رجاله ثقات أثبات، وصحَّح بعض متابعاته الدكتور جاسم المشهداني جامعة أم القرى .حديث أبي ذر وغيره «أوّل مَن يغير سنتي رجل من بني أمية» . الحديث صحيح الإسناد وقد صححه الألباني وألمح إلى أنّه معاوية. انظر: حسن بن فرحان المالكي، مع عبدالله السعد، صص١٩١ - ١٩٣.

ص:32

أهل البيت (عليهم السلام) وحقوقهم، وضمّن الرسالة تهديداً لمعاوية، وتحذيره من التمادي في غيّه وشقّ وحدة الصف الإسلامي، و امره بحفظ دماء المسلمين.

وهذا نصّ الرسالة، كما يرويها أبوالفرج الأصفهاني وابن أبي الحديد:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلّا هو، أمَّا بعد، فإنَّ الله تعالى عز وجل بعث محمداً (ص) رحمة للعالمين، ومنَّة على المؤمنين وكافة إلى الناس أجمعين؛ ليُنذر مَن كان حياً ويحقّ القول على الكافرين، فبلَّغ رسالات الله وقام على أمر الله، حتى توفّاه الله غير مقصر ولا وان، حتى أظهر الله به الحق، ومَحَقَ به الشرك، ونصر به المؤمنين، وأعز به العرب، وشرّف به قريشاً خاصة، فقال تعالى: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ، فلمّا توفي (ص) تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه، فرأت العرب أنَّ القول كما قالت قريش، وأنَّ الحجة لهم في ذلك على مَن نازعهم أمر محمد (ص) ، فأنعمت لهم العرب وسلّمت ذلك، ثُمَّ حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاجت به العرب، فلم تنصفنا قريش

ص:33

إنصاف العرب لها، إنَّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج، فلمّا صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاجتهم وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله وهو الولي النصير.

وقد تعجَّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقِّنا وسلطان نبيّنا (ص) ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، فأمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين؛ أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده.

فاليوم فليعجب المتعجِّب من توثّبك يا معاوية على أمرٍ لست من

أهله، لابفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ! ولكنَّ الله خيَّبك.

سترد فتعلم لمَن عُقبى الدار، تالله لتلقينَّ عن قليل ربك، ثُمَّ ليجزينّك بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.

إنّ علياً (رضوان الله عليه) لمّا مضى لسبيله (رحمة الله عليه) ، يوم قُبض، ويوم منَّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حياً، ولّاني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة ممّا عنده من كرامته، وإنَّما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك، ولك في ذلك إن فعلت الحظ الجسيم، وللمسلمين فيه صلاح، فدع التعادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنَّك تعلم أنّي أحق بهذا الأمر منك عند الله، وعند كل أوَّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب، واتَّقِ الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو الله مالك من خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممَّا أنت

ص:34

لاقيه به، فادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، وتُجمع الكلمة وتصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلّا التمادي في غيِّك، نهدت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.(1)

صدع الإمام الحسن (ع) بكلمة الفصل - بعد أن أعطاه الدلائل والبراهين على أحقيته بالولاية - وهي أن يدخل معاوية في السلم والطاعة، وأن لاينازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منه.

وجاء جواب معاوية متلبّساً بمسوح الإسلام، ومغطِّياً نفسه بجلباب الرعيّة، ليتحدَّث باسم الإسلام، قال:

قد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت به محمداً رسول الله من الفضل، وهو أحقّ الأولين والآخرين بالفضل كلّه، قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، وقد والله بلّغ وأدّى، ونصح وهدى، حتى أنقذ الله به من الهلكة وأنار به من العمى، وهدى به الجهالة والضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبياً عن أُمَّته. . . . وذكرت وفاته وتنازع المسلمين الأمر بعده، وتغلبهم على أبيك، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وحواري رسول الله، وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك، وإنّك أمرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين، ولاالمُسيء ولا اللئيم، وأنا أحبّ لك القول السديد والذكر الجميل، وإنَّ هذا الأُمّة لمّا اختلفت بينها لم تجهل فضلكم، ولاسابقتكم ولا قرابتكم من نبيّكم، ولا مكانكم في الإسلام وأهله، فرأت الأُمّة أن تخرج من هذا


1- مقاتل الطالبيين، صص 35 و 36؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج16، صص 33 و34.

ص:35

الأمر لقريش، لمكانها من نبيّها، ورأى صلحاء الناس من قريش، والأنصار وغيرهم، وسائر الناس وعوامها، أن يولّوا من قريش هذا الأمر أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله، وأحبّها وأقواها على أمر الله، فاختاروا أبابكر، وكان ذلك رأي ذوي الدين، والفضل، والناظرين للأُمّة، فأرفع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متَّهَمين، ولا فيما أتوا بالمخطئين، ولو رأى المسلمون أنّ فيكم من يُغني غناءه ويقوم مقامه، ويدبّ عن حريم الإسلام دبّه، ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه، ولكنَّهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيراً.

وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي، فلو علمت أنَّك أضبط منّي للرعية، وأحوط على هذه الأُمّة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدو، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ولو رأيتك لذلك أهلاً لسلَّمت لك الأمر بعد أبيك، فإنّ أباك سعى على عثمان، حتى قتل مظلوماً فطالب الله بدمه، ومَن يطلبه الله فلن يفوته، ثُمَّ ابتز الأُمّة أمرها، وخالف جماعتها، فخالف نظراءه من أهل السابقة والجهاد، والقدم في الإسلام، وادَّعى أنّهم نكثوا بيعته، فقاتلهم، فسُفكت الدماء، واستحلَّت الحرم، ثُمَّ أقبل إلينا لا يدّعي علينا بيعة، ولكنَّه يريد أن يملكنا اغتراراً، فحاربناه وحاربنا، ثُمّ صارت الحرب، إلى أن اختار رجلاً واخترنا رجلاً، ليحكما بما يصلح عليه، وتعود به الجماعة والألفة، وأخذنا بذلك عليهما ميثاقاً، وعليه مثله، على الرضا بما حكما، فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت وخلعاه، فوالله ما رضى بالحكم، ولا

ص:36

صبر لأمر الله، فكيف تدعوني إلى أمرٍ إنَّما تطلبه بحقِّ أبيك وقد خرج؟ ! فانظر لنفسك ولدينك. . . وقد علمت أنّي أطول منك ولاية، وأقدم منك بهذه الأُمَّة تجربة، وأكبر منك سناً، فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي. . . أعاننا الله وإيّاك على طاعته، إنّه سميع مجيب الدعاء.(1)

ولو نظرنا بعين الإنصاف لكلمات معاوية، لوجدناها فارغة مفضوحة، عارية عن الصدق، ويكفي أن ندلّل على ذلك: فقوله: (إنَّ الأُمّة اجتمعت على أبي بكر واختارته. . .) ، إذا كان كذلك، أَوَ لَمْ تجتمع الأُمّة على الإمام علي (ع) ، فلماذا شهَر سيف البغي ضدّه، وأعلنها حرباً على الدولة الإسلامية، حتى قُتل أصحاب رسول الله (ص) ، كعمار بن ياسر، الذي قال عنه رسول الله (ص) : «يا عمار، تقتلك الفئة الباغية. . .» ؟ ! (2)ثُمَّ لماذا يطلب معاوية البيعة من الإمام الحسن (ع) وقد بايعته الأُمَّة وسلَّمته زمام أمورها؟ ! ثُمَّ إذا كانت جبهة الشام لم تبايع الإمام الحسن (ع) ، فهي أيضاً لم تبايع ولم تدن في يوم من الأيام سلطة الخلفاء السابقين، منذ ولاية معاوية عليها في عهد الخليفة الثاني عمر.

فأيَّة ولاية يتشبَّث بها معاوية، وهي إنَّما كانت بئس الولاية وبئس التجربة، أراد منها زعامة سياسية وثاراً جاهلياً، وطمعاً شخصياً، وملكاً قبلياً؟ ! (3)


1- مقاتل الطالبيين، صص ٣6 و ٣٧؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١6، ص ٣6.
2- صحيح مسلم، ج٨، ص١٨6؛ سنن الترمذي، ج5، ص ٣٣٣.
3- انظر: الإمام الحسن القائد والتأريخ، الأحمد فؤاد، ص 5١.

ص:37

قال الدكتور أحمد رفاعي في كتابه ( عصر المأمون) :

إنَّ هذه الرسالة حوت بعض المغالطات؛ فقد جاء فيها: "إنَّ هذه الأُمَّة لمّا اختلفت بينها لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم، ولا قرابتكم من نبيكم. . الخ". ومن يتتبَّع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف أنَّ العترة الطاهرة واجهت بعد النبي أشقّ المحن والخطوب؛ فإنَّ الجرح لمَّا يندمل، والرسول عليه الصلاة والسلام لمّا يُقبَر، استبدَّ القوم بالأمر، وعقدوا اجتماعهم في السقيفة، وتغافلوا عترة نبيّهم، وكان لهذا كله الأثر الذي ظهر بعد خمسين عاماً من وفاة الرسول (ص) ، في موكب جهير يجوب البيداء من بلد إلى بلد وهم يحملون رؤوس أبنائه على أطراف الرماح.(1)

آخر رسالة وجَّهها الإمام الحسن لمعاوية

بعد أن رأى الإمام الحسن (ع) الإصرار من معاوية على عدم الانصياع لولايته، وأنّه سيخدع الأُمّة بأمورٍ هي بعيدة عن روح الإسلام - لأنّه سيطرح نفسه البديل الشرعي لمنصب الخلافة - بل يعلم أنَّ معاوية سيُقدم على حربه، آجلاً أم عاجلاً؛ وجد أنَّه لا مناص من الحرب، وإعداد العدّة لهذا اليوم، الذي سيكون المفترق بين الحق والباطل.

لذا جاء جواب الإمام سريعاً:

«أمَّا بعد، فقد وصل إليّ كتابك، تذكر فيه ما ذكرت، وتركت جوابك خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتّبع الحق تعلم أنّي من أهله، والسلام» .(2)

وبهذا يطوي الإمام (ع) لغة الحوار التي لا تُجدي مع ما يبيِّته معاوية من


1- انظر: الحسن بن علي، توفيق أبو العلم، صص ١٣٧و ١٣٨.
2- مقاتل الطالبيين، ص٣٨؛ أعيان الشيعة، ج١، ص 56٨.

ص:38

طُرق ملتوية ومتعسّفة؛ فأسلوب التفاوض بالّتي هي أحسن لا ينفع، طالما يرى أن الخصم لا يؤمن بهذه اللغة، لذا انتقل الإمام إلى لغة أخرى يفهمها معاوية، وهي لغة الحرب.

معاوية يعبّئ الناس لقتال الإمام الحسن (ع)

بعد وصول كتاب الإمام الحسن لمعاوية، كتب إلى عماله على النواحي نسخة واحدة:

أمّا بعد، فالحمد لله الذي كفاكم مؤونة عدوّكم، وقتلة خليفتكم. إنَّ الله بلطفه وحُسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلاً من عباده، فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرّقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فاقبلوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا، بجدّكم وجهدكم وحسن عدّتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان، والسلام.

فاجتمعت العساكر إلى معاوية، وسار قاصداً إلى العراق.(1)

والذي يُلفت النظر في هذه الرسالة، أنَّ معاوية ينسب البغي والعدوان للإمام علي (ع) ، مع أنَّ معاوية وجنوده هم الباغون، وقد قتلوا الصحابي الجليل عمار بن ياسر، وقد تقدم مارواه مسلم في حديث ان عماراً تقتله الفئة الباغية.(2)

وهذا ما توقّعه الإمام الحسن (ع) طيلة مراسلاته مع معاوية، لذا أوقف


1- أعيان الشيعة، ج١، ص 56٨؛ مقاتل الطالبيين، ص ٣٨؛ الغدير، ج١٠، ص ٢٩١.
2- صحيح مسلم، ج٨، ص١٨6؛ سنن الترمذي، ج5، ص٣٣٣.

ص:39

الإمام هذه المراسلات وبدأ بالتعبئة العسكرية العامة، وتثوير الشعب وتشجيعه، وتكتيل الطاقات في الداخل للاستعداد، لمجابهة معاوية ومعسكره في الشام.

لامناص من الحرب

قام الإمام الحسن بالتهيئة العسكرية لخوض غمار الحرب، فبعث حجر بن عدي يأمر العمّال والناس بالتهيؤ للمسير، ونادى المنادي الصلاة جامعة، فاقبل الناس يتوثَّبون ويجتمعون، فقال الحسن (ع) : إذا رضيت جماعة الناس فاعلمني، وجاء سعيد بن قيس الهمداني فقال: اخرج، فخرج الحسن (ع) ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال:

أمَّا بعد، فانَّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمَّاه كرهاً، ثُمَّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين اصبروا، إنَّ الله مع الصابرين، فلستم أيُّها الناس نائلين ما تحبّون إلّا بالصبر على ما تكرهون. إنّه بلغني أنَّ معاوية بلغه أنَّا كنا أزمعنا على المسير إليه، فتحرَّك لذلك، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة، حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا. (1)

الكوفة ومجتمعها الممزوج بعدَّة اتّجاهات

اشاره

الكوفة التي تعدّ المعقل الرئيس لجيش الإمام، هذه المدينة التي تمتلك تركيباً مزيجاً وخليطاً من عدّة اتجاهات ممّا ينعكس سلباً على مُجريات الأحداث. وهذه الاتجاهات يمكن تقسيمها إلى عدّة فئات:


1- مقاتل الطالبيين، ص ٣٩؛ شرح نهج البلاغة، ج ١6، ص ٣٨.

ص:40

١. الخوارج

وهم الخارجون عن طاعة الإمام علي (ع) ، والذين حاربوه وناوئوه ونصبوا له العداوة. وقد وجدوا في الإمام الحسن (ع) حلَّاً وسطاً لمحاربة معاوية، وهذه الفئة تستثيرها أدنى شبهة عارضة، فتتعجّل الحكم عليها (أي على الشبهة) .

٢. الفئة الممالئة للحكم الأموي، وهي على قسمين

أ- الذين لم يجدوا في حكومة الكوفة ما يشبع نهمهم، ويروى ظمأهم فيما يحلمون به من مطامع، فأضمروا ولاءهم للشام، مترقّبين سنوح الفرصة للوثوب على الحكم، وتسليم الأمر لمعاوية.

ب - وهم الذين حقدوا على حكومة الكوفة، لضغائن في نفوسهم أورثتها العهود السالفة، أو حساباتٌ شخصية.

٣. الفئة الترددة المذبذبة

وهي التي ليس لها مسلك معيّن أو مهمّة خاصة مستقلّة، وإنّما هدفها ضمان السلامة، وبعض المطامع عند الجهة التي ينعقد لها النصر. . فهي تترقَّب عن كثب إلى أي جهة يميل ميزان القوة لتميل معه.

4. الفئة الهمجية الغوغائية

وهي الفئة التي لا تستند في موقفها إلى أساس، بل هم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح. قال علي (ع) فى صفة الغوغاء هم الذين اذا اجتمعوا غلبوا و إذا تفرقوا لم يُعرفوا.(1)


1- نهج البلاغه، ص5٠4.

ص:41

5. الفئة المؤمنة المخلصة

وهي القليلة الخيّرة، التي يذوب صوتها في زحام الأصوات الأخرى المعاكسة لها (1)هذه هي أحوال الكوفة؛ لذا عندما خاطبهم الإمام (ع) سكتوا، فما تكلَّم منهم أحد، ولا أجابه بحرف، فلمّا رأى ذلك عدي بن حاتم، قام فقال:

أنا ابن حاتم، سبحان الله! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيّكم؟ ! أين خطباء مُضر. . . الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جدَّ الجدّ فروّاغون كالثعالب، أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها. (2)

خذلان الجيش وتفرّقه عن الإمام الحسن (ع)

أضف إلى ذلك أنَّ الجيش وقادته قد تخاذلوا عن الإمام؛ ممَّا أدّى ذلك إلى الهزيمة النفسية والعسكرية. قال ابن الأثير، وهو يروى قصة تفرّق جيش الإمام الحسن عنه وخذلانهم له:

فلمَّا نزل الحسن المدائن، نادى مناد في العسكر: ألا إنَّ قيس بن سعد قُتل فانفروا، فنفروا بسرداق الحسن، فنهبوا متاعه، حتى نازعوه بساطاً


1- قال الشيخ المفيد: «واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، ثُمَّ خفّ معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما السلام ، وبعضهم محكمة يُؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية، اتَّبعوا رؤساء قبائلهم، لايرجعون إلى دين» . الإرشاد: ج٢، ص١٠؛ وانظر: صلح الإمام الحسن - الأسباب والنتائج، جواد فضل الله، صص٨4 و ٨5.
2- مقاتل الطالبيين، ص٣٩؛ شرح نهج البلاغة، ج١6، ص ٣٩؛ أعيان الشيعة، ج١، ص 56٨.

ص:42

كان تحته، فازداد لهم بغضاً ومنهم ذعراً، . . . فلمَّا رأى الحسن تفرُّق الأمر عنه، كتب إلى معاوية. . . .(1)

معاوية يشتري الذمم بالمال

وقد استخدم معاوية دهاءه في شراء ذمم قواد الجيش، ومنهم عبيدالله بن العباس، حيث هدَّده معاوية ورغَّبه بأن يهب له الأموال عند مجيئه إليه وتركه جيش الإمام الحسن (ع) . قال الاصبهاني وابن أبي الحديد:

[أن معاوية] أرسل إلى عبيدالله بن العباس أنَّ الحسن قد راسلني في الصُلحِ وهو مُسلِّم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلّا دخلت وأنت تابع، ولك إنْ جئتني الآن أن أُعطيك ألف ألف درهم، يُعجّل لك في هذا الوقت النصف، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر. فانسلَّ عبيدالله ليلاً فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده. . . .(2)

وكذلك ما رواه السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة:

إنَّ الحسن (ع) بعث إلى معاوية قائداً من كندة في أربعة آلاف، فلمّا نزل الأنبار، بعث إليه معاوية بخمسمائة ألف درهم، ووعده بولاية بعض كور الشام والجزيرة، فصار إليه في مائتين من خاصته، ثُمَّ بعث رجلاً من مراد، ففعل كالأوَّل، بعد ما حلف بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنَّه لايفعل، وأخبرهم الحسن (ع) أنَّه سيفعل كصاحبه.(3)


1- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج٣، صص 4٠4- 4٠5؛ أعيان الشيعة، ج١، ص56٩؛ النصائح الكافية، ص ١٩٢.
2- مقاتل الطالبيين، ص 4٢.
3- أعيان الشيعة، ج ١، ص 56٩.

ص:43

فبدأ الجيش بالتخاذل، إلى أن وصل الأمر إلى أنَّ أحد عناصر جيشه طعنه واتَّهمه بالشرك، وذلك حينما قام إليه رجل من بني أسد، من بني نصر بن قعين، يقال له الجراح بن سنان، فلمّا مرّ في مظلم ساباط، قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول، فقال: الله أكبر يا حسن، أشركت كما أشرك أبوك من قبل، ثُمَّ طعنه، فوقعت الطعنة في فخذه، فشقَّته حتى بلغت اربيته، فسقط الحسن إلى الأرض، بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده، واعتنقه وخرَّا جميعاً إلى الأرض.(1)

استمالة معاوية لرؤساء القبائل

بل إنَّ هناك جماعة من رؤوس القبائل مَن كاتبَ معاوية بالطاعة له في السر، وضمنوا له تسليم الإمام الحسن عند وصوله إليهم. قال الشيخ المفيد:

وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السر، واستحثُّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن (ع) إليه عند دنوّهم من عسكره، أو الفتك به، وبلغ الحسن ذلك.(2)

وهذا يدلّ على أنَّ معاوية قد نجح في زعزعة أركان جيش الإمام بأساليب وألوان مختلفة، منها: (الأموال، والكذب، والإشاعات) ، بحيث استمال قواد الجيش والقبائل.

ووجد معاوية الأرض الخصبة التي تتقبَّل هذه العروض؛ نتيجةً لعدم إيمان الأُمّة نفسياً وعقائدياً بما يمثّله الإمام من امتدادٍ للرسالة، وسنخاً للنبوة


1- مقاتل الطالبيين، ص 4١؛ الإرشاد، ج٢، ص١٢.
2- الإرشاد، ج٢، ص ١٢.

ص:44

علماً وعملاً وتطبيقاً.

إذن، معاوية نجح في رسم الخطة التي حاكها، من خلال استمالة بعض النفوس من أفراد ورؤساء جيشه (ع) ، لذا لم يجد الإمام بُداً إلّا بالتسليم لواقعٍ فرضته تلك المعادلة الظالمة.

ولكنَّ الإمام لم يترك تلك المعادلة تسير وفق أهواء معاوية؛ لذا قام بخيرِ مشروعٍ يكشف من خلاله سياسة معاوية الرعناء في تولّيه لخلافة رسول الله (ص) ، وهو قبوله لمبدأ الصُلح، وهذا ما سوف نتكلَّم عنه في الفصول اللاحقة.

ولكن قبل ذلك لابدّ أن نوضِّح سياسة الإمام الحسن في مقابل سياسة معاوية الآنفة الذكر، والقائمة على الغدر وعدم العدل، بل والقتل والمطامع الشخصية، لتثبيت أركان دولته وسلطته بأيِّ ثمنٍ كان.

خلاصة سياسة الإمام الحسن (ع)

في قِبال سياسة معاوية الملتوية، نجد أنَّ سياسة البيت العلوي قائمة على التعقُّل والعدل والإنصاف، وعدم المداهنة والمراوغة، وهذه السياسة شيّد أركانها الإمام علي (ع) ، فلو عدنا وأخذنا بعض تلك النماذج من سياسته مع خصومه، التي تشدِّد النكير على الغدر والمكر لاتّضح ذلك، فقال عليه السلام، ناقداً لهذه الصفة الذميمة، في إحدى خطبه:

أيُّها الناس، إيّاكم والخديعة؛ فإنَّها من خُلق اللئام، تصفية العمل أشدّ من العمل، وتخليص النية من الفساد أشدّ على العاملين من طول الجهاد، هيهات، لولا التُقى لكنت أدهى العرب.(1)


1- روائع نهج البلاغة، جورج جرداق: ص ٩٠.

ص:45

وقوله (ع) :

والله ما معاوية بأدهى منِّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر، لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكلِّ غادر لواء يُعرَف به يوم القيامة. والله ما استغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة. (1)

وكذلك رفضه (ع) أي نوع من التملُّق أو التقرّب للحاكم الإسلامي، وخير مثال رسمَه أمير المؤمنين (ع) هو تأنيبه وردعه للأشعث بن قيس حين قُدّمت له هدية بسيطة. وفي عُرفنا الحالي - لعلّها - لا تعدّ ذات قيمة، ولكنَّ الإمام يراها كبيرة، وكبيرة جداً، فجاء جوابه مُفحماً لهذا الرجل، حيث قال له:

وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، كأنَّما عُجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة، فذلك محرم علينا أهل البيت؟ ! فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنّها هدية. فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني، ا مختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر؟ ! والله لو أعطيت الأقاليم السبعة، بما تحت أفلاكها، على أن أعصى الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليٍّ ولنعيم يفنى ولذةٍ لاتبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين.(2)

والإمام الحسن سار على نفس مقرَّرات أبيه في الحكم والتعامل مع الأُمّة،


1- شرح نهج البلاغة، ج ١٠، ص ٢١١.
2- نهج البلاغة، محمد عبده، ج ٢، ص٢١٨.

ص:46

فلم يُقرّ أي وسيلة تخالف المنهج الإسلامي الذي رسمه أبوه في التعامل مع الأحداث، صغيرةً كانت أو كبيرة؛ لذا عندما خاطب شيعته بعد الصلح، ذكّرهم بهذا المنهج، وهو أنَّه لو كان يعمل للدنيا، ما كان معاوية بأشدّ حزم وشكيمة منه، ولكنَّ الإمام يسير وفق المصلحة والحكمة. قال:

أمَّا بعد، فإنّكم شيعتنا وأهل مودّتنا، ومَن نعرفه بالنصيحة والصحبة والاستقامة لنا، وقد فهمت ما ذكرتم، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا، وللدنيا أعمل وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، وأشدّ شكيمة، ولكان رأيي غير ما رأيتم، ولكنّي أشهد الله وإيّاكم أنّي لم أرد بما رأيتم إلّا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم. . . .(1)

من هنا نفهم قول رسول الله (ص) حينما وصف الإمام (ع) أنَّه: «لو كان العقل رجلاً لكان الحسن» . (2)

وهكذا سار الإمام الحسن (ع) ، على تطبيق المُثل والخلق الإسلامي الذي تربّى عليه، فلو كان يعمل للدنيا، وسلك مسلك مَن يطلب الحكم والسلطان، واستعمل ما كان يفعله معاوية، من إنفاقٍ للمال، وأساليب الترهيب والترغيب بما يملكه، وهو الحاكم آنذاك على المملكة الإسلامية برمَّتها؛ عندئذ لتغيَّرت مجريات الأحداث لصالحه، وما كانت حظوظ معاوية ناجحة في مُجريات الأحداث.


1- الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج١، ص ١4١.
2- فرائد السمطين، الجويني، ج٢، ص 6٨.

ص:47

الفصل الثاني: صُلح الإمام الحسن (ع)

اشارة

ص:48

ص:49

تمهيد

من المهمّ قبل الدخول في شرح مضامين الصلح، أن نذكر أمراً في غاية الأهمية، وهو أنَّ الصلح جاء طلباً من معاوية، وقد أبرز الإمام هذه الحقيقة في الخطاب الذي ألقاه في المدائن، قائلاً:

ألا وإنَّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عزوجل بِظُبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه، وأخذنا لكم الرضا.(1)

والإمام بمقتضى الظروف - التي تقدّم الكلام عنها - لم يكن أمامه إلَّا الصلح، وأن يُلبِّي طلب معاوية، ولكنّه لم يلبّه إلَّا ليُركسه في شروط، لايسع رجلاً كمعاوية إلّا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً، ثُمَّ لا يسع الناس إلَّا أن يجاهروه السخط والإنكار، فإذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الأجيال، ليكون نواةً للثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التأريخ. (2)وهذا ما يرومه الإمام (ع) بهذه الشروط، ليضع معاوية أمام امتحان وتأريخ سوف يحاسبه ويفضحه على مرِّ الأجيال.


1- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج١٣، ص ٢6٨؛ اسد الغابة، ابن الأثير، ج٢، ص ١٣؛ سيرأعلام النبلاء، ج٣، ص ٢6٩.
2- الحسن بن علي، توفيق أبو علم، ص ٢٠٨.

ص:50

ص:51

وثيقة الصُلح بلسان المؤرِّخين

اشارة

وأمَّا ما ذكره المؤرّخون والمحدثون من نصوص الصلح، فقد جاءت مقطعة ومتناثرة، لذا سوف نذكر بعض هذه النصوص و نربطها بعضها بالبعض الآخر، لكي يكون القارئ على بيّنةٍ من هذا الحدث التأريخي، الذي تضاربت وقُطّعت نصوصه. فقد ذكر ابن أعثم الكوفي، وابن طلحة الشافعي، وابن الصباغ المالكي، جزءاً منه، ونصوصهم تكاد تكون متقاربة، وكذلك السيوطي وابن قتيبة، وابن حجر وابن عنبة، وابن الأثير وأبو الفداء وغيرهم. .

١. ما ذكره ابن أعثم وابن طلحة وابن الصباغ

واللفظ للأخير: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسول الله، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحدٍ من بعده عهداً، على أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى، في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم، وعلى أنَّ أصحاب على وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى

ص:52

معاوية بذلك عهد الله وميثاقه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين، ولا لأحدٍ من أهل بيت رسول الله (ص) غائلة سوءً، سراً وجهرًا، ولا يخيف أحداً في أُفقٍ من الآفاق. شهد عليه بذلك فلان وفلان، وكفى بالله شهيدا» .(1)

٢. ما ذكره السيوطي وابن حجر

(واللفظ للأوَّل:) «ولي الحسن رضي الله عنه الخلافة بعد قتل أبيه، بمبايعته أهل الكوفة، فأقام فيها ستة أشهر وأياماً، ثُمَّ سار إليه معاوية، والأمر إلى الله، فأرسل إليه الحسن يبذل له تسليم الأمر إليه، علي أن تكون له الخلافة من بعده، وعلى أن لا يطالب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء ممّا كان أيام أبيه، وعلى أن يقضي عنه ديونه، فأجابه معاوية إلى ما طلب، فاصطلحا على ذلك» .(2)

فالسيوطي يذكر في هذه البنود أنّ الإمام الحسن شرط أنّ الخلافة تُسلَّم وتعود إليه بعد معاوية، وقد أكدَّ هذه الحقيقة ابن حجر في فتح الباري، بسندٍ قوي، قال:

وذكر محمد بن قدامة في كتاب الخوارج، بسندٍ قوي إلى أبي بصرة، أنّه سمع الحسن بن علي يقول في خطبته عند معاوية: إنّي اشترطت على معاوية لنفسي الخلافة بعده.(3)


1- الفتوح، ابن أعثم الكوفي، ج4، ص٢٩١؛ مطالب السؤول، ابن طلحة الشافعي، ص ٣5٧؛ الفصول المهمة، ابن الصباغ، ج٢، صص ٧٢٨ - ٧٢٩.
2- تاريخ الخلفاء، السيوطي، ص ١٩١؛ الامامة والسياسة، ابن قتيبة، ج١، ص١٨4.
3- فتح الباري، ج ١٣، ص 55.

ص:53

وقال ابن حجر أيضاً:

وأخرج يعقوب بن سفيان، بسندٍ صحيح إلى الزهري، قال: كاتب الحسن بن علي معاوية واشترط لنفسه، فوصلت الصحيفة لمعاوية، وقد أرسل إلى الحسن يسأله الصلح، ومع الرسول صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط ما شئت فهو لك، فاشترط الحسن أضعاف ما كان سأل أوّلاً، فلمّا التقيا وبايعه الحسن، سأله أن يعطيه ما اشترط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله، فتمسّك معاوية إلّا ما كان الحسن سأله أوّلاً، واحتجَّ بأنَّه أجاب سؤاله أوَّل ما وقف عليه، فاختلفا في ذلك، فلم ينفَّذ للحسن من الشرطين شيء.(1)

وفي هذا النص أنّ الإمام الحسن (ع) اشترط نصوصاً مضاعفة، ولكنَّ معاوية لم يفِ بها.

٣. ما ذكره ابن عنبة

ولعلّ بعض الشروط أن تكون ولاية الأمر بعده إلى أخيه الحسين (ع) ، وهذا ما ذكره ابن عنبة، قال: «وشرط عليه شروطاً، إن هو أجابه إليها، سلَّم إليه الأمر، منها أنَّ له ولاية الأمر بعده، فإن حدث به حدث فللحسين» . (2)

4. ما رواه ابن الأثير وأبو الفداء

وأيضاً من تلك الشروط التي لم يفِ بها معاوية، هي عدم سبّ أميرالمؤمنين (ع) ، وهذا ما رواه ابن الأثير، قال:


1- فتح الباري، ج ١٣، صص 55 و 56.
2- عمدة الطالب، ابن عنبة، ص 6٧.

ص:54

كان الذي طلب الحسن من معاوية أن يعطيه، ما في بيت مال الكوفة، ومبلغه خمسة آلاف، وخراج دار ابجرد من فارس، وأن لا يشتم علياً، فلم يجبه إلى الكفِّ عن شتم علي، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك ثُمّ لم يفِ له به أيضاً.(1)

وروى أبو الفداء في مختصره، قائلاً:

ولمَّا رأى الحسن ذلك، كتب إِلى معاوية واشترط عليه شروطاً وقال: إِن أجبت إليها فأنا سامع مطيع، فأجاب معاوية إِليها، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، وخراج دارابجرد من فارس، وأن لا يسبّ علياً، فلم يجبه إلى الكفِّ عن سبّ علي، فطلب الحسن أن لايشتم علياً، وهو يسمع، فأجابه إِلى ذلكَ، ثُمَّ لم يفِ له به.(2)

فقرات وبنود الصلح

إذن من خلال ما تقدَّم من هذه النصوص، نستنتج الأمور التالية:

الأوَّل: أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنَّة رسوله (ص) .

الثاني: أن لا يعهد لأحدٍ من بعده عهداً، وفي بعض النصوص، أن تسلَّم الخلافة من بعد معاوية إلى الحسن، ومن بعد الحسن إلى أخيه الحسين (عليهما السلام) ، كما تقدَّم من قول ابن عنبه.

الثالث: الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.

الرابع: أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم


1- الكامل في التاريخ، ابن الاثير، ج ٣، ص 4٠5.
2- المختصر من أخبار البشر، ابو الفداء، ج١، ص ١٢6.

ص:55

وأولادهم حيث كانوا.

الخامس: أن لا يبغي معاوية للحسن ولا لأخيه الحسين، ولا لأحدٍ من أهل بيت النبي غائلة، سراً ولا علانية، ولا يخيف أحداً منهم في أُفقٍ من الآفاق.

السادس: أن يعطي معاوية للحسن (ع) ما في بيت مال الكوفة، ومبلغه خمسة آلاف، وخراج دارابجرد من فارس.

السابع: عدم سبّ أو شتم أميرالمؤمنين (ع) .

نقض معاوية لمعاهدة الصلح

ولكن ما أن استقرَّ الحكم لمعاوية، حتى رمى وثيقة الصلح تحت قدميه، ولم يف بالعمل بكتاب الله وسنَّة رسوله (ص) ، ونقض الميثاق بأنَّه لا يعهد إلى أحدٍ من بعده، فعهد بالخلافة لابنه يزيد، المشهور بمُجونه وفسوقه، حتى وصل الأمر به إلى نقضِ كل عهدٍ عاهده.

خطاب معاوية لأهل الكوفة

وذلك حينما خاطب أهل الكوفة قائلاً:

يا أهل الكوفة، أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنَّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون؟ ! ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وإلى رقابكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا أنَّ كل مال أو دم أصبت في هذه الفتنة مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين.(1)


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١6، ص ١5؛ الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج١، ص ١4١؛ الغدير، الأميني، ج١٠، ص ٣٢6.

ص:56

وفعلاً فقد وضع معاوية الشروط كلّها تحت قدميه، ونقضها واحداً تلو الآخر، ولو استقصينا وراجعنا أفعاله، وطابقناها مع الشروط التي ألزمه الإمام الحسن بها، لوجدنا عدم الوفاء والصدق بكلّ من هذه الشروط.

أمّا الشرط الأوّل، فقد خالف معاوية كتاب الله وسنَّة نبيِّه (ص) ؛ لأنَّه لم يلتزم بالعهود والمواثيق التي أُلزم بها، فضلاً عمَّا جرى في حُكمه من مخالفات للدين والشريعة، كما سيأتي بيانه.

والشرط الثاني، فقد خالفه معاوية ونقضه، وذلك عندما أخذ البيعة ليزيد، قال ابن كثير في أحداث سنة ستين من الهجرة النبوية: «فيها أخذ معاوية البيعة ليزيد من الوفد الذين قدموا بصحبة عبيدالله بن زياد إلى دمشق، وفيها مرض معاوية مرضه الذي توفّي فيه، في رجب» .(1)

وقال ابن عبد البر:

أراد معاوية البيعة ليزيد، خطب أهل الشام وقال لهم: يا أهل الشام، إنَّه قد كبرت سنّي وقرب أجلي، وقد أردت أن أعقد لرجلٍ يكون نظاماً لكم، وإنّما أنا رجل منكم، فأروا رأيكم، فأصفقوا واجتمعوا وقالوا: رضينا عبدالرحمن بن خالد، فشقَّ ذلك على معاوية وأسرها في نفسه. ثُمَّ إنَّ عبدالرحمن مرض، فأمر معاوية طبيباً عنده، يهودياً، وكان عنده مكيناً، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه، فانحرق بطنه فمات.(2)

وقال الاصبهاني: «وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل من


1- البداية والنهاية، ابن كثير، ج ٨، ص ١٢٣.
2- الاستيعاب، ابن عبد البر، ج ٢، ص ٨٣٠.

ص:57

أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص، فدسَّ إليهما سمّاً فماتا منه» .(1)

فهنا معاوية استخدم السم والقتل لمجرّد مخالفة أمر خلافة يزيد، فهو لايتورَّع عن القتل بأي أسلوب كان. ومن أساليبه التي اشتهر بها السم، حيث قتل خيرة الصحابة بهذه الطريقة البشعة واللاإنسانية.

إذن، فمعاوية عهد لابنه بالخلافة، وترك ما عاهد عليه، وهو أن تكون الخلافة من بعده للحسن أو الحسين (عليهما السلام) .

وأمَّا الشرط الثالث، فقد نقضه أيضاً، فلم تجد الناس الأمان والاستقرار في ظلِّ حكمه، بل إن نفسه تحمل الشر والغدر. ويكفينا قول جورج جرداق، حيث وصف سياسة معاوية قائلاً:

الذي يُمعن النظر في سياسة معاوية، يهوله هذا المقدار من قوى الشر والاحتيال التي تألَّف منها أسلوبه في أخذ الناس. . فهو أسلوب مكيافيلي خالص، لا ينقصه شيء من تفاصيل المكيافيلية المجرمة، والنهب والترويع والتقتيل.(2)

وقال أيضاً: «صدق رسول الله (ص) ، إذ قال: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ً، جعلوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً» .(3)

فلم يتورَّع معاوية عن أيِّ فعل كان، وفي أيِّ مكان وزمان كان، سواء كان الشام أو الحجاز أو اليمن أو العراق، ويدلّنا على ذلك كلماته التي قالها لبسر بن أبي أرطاة:


1- مقاتل الطالبيين، ص 4٧.
2- علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق، ج4، ص ٧5٧.
3- المصدر نفسه، ص ٧٧٩.

ص:58

بعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطاة، فبعثه في ثلاثة آلاف، وقال: سر حتى تمر بالمدينة، فاطرد الناس، وأخف مَن مررت به، وانهب أموال كل مَن أصبت له مالاً، ممَّن لم يكن دخل في طاعتنا، فإذا دخلت المدينة، فأرهم أنَّك تريد أنفسهم، وأخبرهم أنّه لابراءة لهم عندك ولا عذر، حتى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم، فاكفف عنهم، ثُمَّ سر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وارهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة، واجعلها شرداً، حتى تأتي صنعاء. . . .(1)

فالملاك عند معاوية للعفو عن الناس هو الدخول في طاعته، وإلّا يكون السيف أو السم لكلّ مَن يخالف هذه السياسة، بغض النظر عن الهوية والبلد.

أمَّا الشرط الرابع، فأصحاب علي (ع) لم يتوان معاوية في قتلهم، وتشريدهم والفتك بهم، كعمار بن ياسر، وحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق وغيرهم. يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي:

إذ لجأ بنو أُميّة إلى الفتك بمحبّي أهل البيت وإذلالهم، فقتلوا حجربن عدي صبراً في عهد معاوية؛ لأنَّه أنكر سبّ علي على المنابر، وقتلوا عمرو بن الحمق الخزاعي، وكان ممَّن لقي النبي [(ص)] وهاجر إليه، وكذلك كان حجر بن عدي، وقتلوا الحسن بن علي، سيد شباب أهل الجنة، بالسم، وقتلوا أخاه الحسين بالسيف، وارتكبوا مجزرة كربلاء. . . .(2)


1- شرح نهج البلاغة، ج ٢، ص٧.
2- قراءة في كتب العقائد، ص ١٧٠.

ص:59

وقال الشيخ مغنية:

فقد كان للإمام علي حواريون وأصحاب خُلَّص، كميثم التمار، وكميل بن زياد، وحجر بن عدي، ومحمد بن أبي بكر، وغيرهم، ولكنّه مُنى في خلافته بالحروب والفتن الداخلية، ولمّا انتقل إلى جوار ربّه، عمل معاوية على طمس آثاره، وقتل رجاله، والقضاء على كل ما يمتُّ إليه بسبب. (1)

وقال السيد ابن عقيل:

ومن بوائقه الموجبة له غضب الله، قتله حجر بن عدي وأصحابه صبراً بمرج عذراء، وهم مَن هم! كأنَّه لم يقرأ قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا . (النساء:٩٣) وهم شريك بن شداد الحضرمي، وصفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي التميمي، وكدام بن حيان العنزي، وعبدالرحمن بن حسان العنزي الذي دفنه زياد حياً.(2)

وقد نقل لنا التأريخ استغراب السيدة عائشة هذا القتل المُفرط من معاوية لصحابة رسول الله (ص) ، فقالت له: «قتلت حجراً وأصحابه، أما خشيت أن أُخبّأ لك رجلاً فيقتلك بقتل أخي؟ ! قال لا، إنّي في بيت أمان» .(3)

وينقل ابن عبد البر أنَّ حجر بن عدي قال: «لمَن حضر من أهله:


1- الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية، ص ١١٠.
2- النصائح الكافية، محمد بن عقيل، ص ٨٢.
3- التاريخ الصغير، البخاري، ج١، ص ١٢١؛ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج١٢، ص ٢٢٢؛ المعجم الكبير، الطبراني، ج١٩، ص ٣١٩؛ المستدرك على الصحيحين، ج ٣، ص 4٧٠.

ص:60

«لاتطلقوا عنّي حديداً ولا تغسلوا عني دماً، فإنّي ملاق معاوية على الجادة» .(1)

وللحسن البصري كلمة جامعة في أفعال معاوية، ينقلها الطبري، قال: «أربع خصال كُنَّ في معاوية، لو لم يكن فيه منهن إلّا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأُمّة بالسفهاء، حتى ابتزَّها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوي الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خمّيراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادِّعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله (ص) :

الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويلاً له من حجر وأصحاب حجر مرّتين » . (2)

والكلام يطول فيما فعله معاوية، فلو أردنا أن نستوفى مَن قتلهم معاوية من المصلحين وأولياء الله صبراً، وأبادهم غدراً، واستأصلهم عتواً، وطحنهم حرباً، وسمل أعينهم ظلماً، وقطع أيديهم وأرجلهم بغياً، واستلَّ ألسنةً لهم تنطق بالحق عناداً، وأسقط شهاداتهم زوراً، وتقوّل عليهم افتراءً، وطلَّق حلائلهم مكراً، وأخذ أموالهم سلباً، وصاح في حجراتهم نهباً، وهدم دورهم عشيّاً، وأقصاهم نفياً، وأوسعهم ذلاً، وضيَّق عليهم حبساً، ودفنهم أحياءً، ولعنهم على المنابر أمواتاً؛ لأفنينا المحابر وأغرقنا الصحف والدفاتر، ثُمَّ لم نبلغ غايتنا المقصودة، ولم نظفر بضالتنا المنشودة.(3)

وأمّا الشرط الخامس، فلم يفِ به معاوية؛ لأنَّ البغي وصل أوجه، وذلك


1- الاستيعاب، ج ١، ص ٣٣١.
2- تاريخ الطبري، ج 4، ص ٢٠٨.
3- الفصول المهمة في تأليف الأُمّة، السيد شرف الدين، ص ١٣٢.

ص:61

بأن يدسَّ السم للإمام الحسن (ع) ، وكذلك قتل الإمام الحسين (ع) وأهل بيته في كربلاء، على يد يزيد الذي مهَّد له الخلافة. روى ابن أبي الحديد عن الحصين بن المنذر، قال: «والله ما وفى معاوية للحسن بشيء ممَّا أعطاه، قتل حجراً وأصحاب حجر، وبايع لابنه يزيد، وسمَّ الحسن» .(1)

ويكفينا ما نقله المناوي عن القرطبي في قسوة وظلم وجفاء بني أُميّة - وعلى رأسهم معاوية - في معاملتهم لأهل البيت (عليهم السلام) ، قال:

فبنو أُميّة قابلوا وصية المصطفى (ص) في أهل بيته و أُمّته بالمخالفة والعقوق، فسفكوا دماءهم، وسبوا نساءهم، و أسروا صغارهم وخرّبوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، و استباحوا نسلهم و سبيهم و سبهم، فخالفوا رسول الله (ص) في وصيته، وقابلوه بنقيض قصده وأمنيته، فياخجلهم إذا التقوا بين يديه، ويافضيحتهم يوم يُعرَضون عليه.(2)

وأمَّا الشرط السادس، فكالعادة لم يفِ به معاوية، ولم يعطِ للإمام الحسن ما وعده به ممّا في بيت مال الكوفة وخراج دارابجرد، فقد روى ابن الأثير: «لم يفِ له به أيضاً، (أي مال بيت الكوفة) ، وأمّا خراج دارأبجرد، فإنّ أهل البصرة منعوه منه، وقالوا هو فيئنا، لا نعطيه أحداً، وكان منعهم بأمر معاوية» .(3)

وروى الطبري أيضاً «وحال أهل البصرة بينه - بين الإمام الحسن - وبين خراج دار أبجرد، وقالوا: فيئُنا» . (4)أي منعوا إعطاء خراج هذه المدينة.


1- شرح نهج البلاغة، ج ١6، ص ١٧.
2- فيض القدير، المناوي، ج 6، ص45٩.
3- الكامل في التأريخ، ابن الأثير، ج ٣، ص4٠5.
4- تاريخ الطبري، ج 4، ص ١٢6.

ص:62

وأمّا الشرط السابع، فإنَّ معاوية لم يلتزم بهذا الشرط، وكان يقول في آخر خطبة له، كما ينقل الجاحظ: «اللّهم إنَّ أبا تراب ألحد في دينك، وصدَّ عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلاً، وعذِّبه عذاباً أليماً. وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يُشاد بها على المنابر» .(1)

وقال السيوطي، كما ينقل ابن عقيل في النصائح: «إنَّه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يُلعَن عليها علي بن أبي طالب (ع) ، بما سنَّه لهم معاوية من ذلك» .(2)

وهناك مَن نصح معاوية بالكفِّ عن لعن علي (ع) ، كابن عباس: «ألا تكفّ عن شتم هذا الرجل؟ ! قال: لا والله، حتى يربو عليه الصغير، ويهرم فيه الكبير!» .(3)

ومعاوية يعلم يقيناً أنَّ سب علي (ع) هو سبٌّ لله تعالى شأنه، ويعلم ما هو حكم الساب لله تعالى. فقد روى الحاكم في المستدرك، عن أمِّ سلمة: «إنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: مَن سبَّ علياً فقد سبَّني، ومن سبَّني فقد سبَّ الله تعالى» .(4)

ويعلم أيضاً بفضائله، وما رُوي في حقّه على لسان رسول الله (ص) ، فقد روى مسلم في صحيحه:

عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن


1- شرح نهج البلاغة، ج4، ص 56.
2- النصائح الكافية، ص 104.
3- العثمانية، الجاحظ، ص285.
4- المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 121.

ص:63

أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله (ص) ؟ ! فلن أسبَّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حُمر النِعم. سمعت رسول الله (ص) يقول له [حين] خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله، خلَّفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله (ص) : أما ترضى أن تكون مِنّي بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنّه لا نبوّة بعدي؟ ! . وسمعته يقول يوم خيبر: لأُعطينَّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله. قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي علياً، فأُتي به أرمد، فبصق في عينه، ودفع الراية إليه. ففتح الله عليه. ولمَّا نزلت هذه الآية: ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ ) ، دعا رسول الله (ص) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللّهم هؤلاء أهلي.(1)

ولكنَّ حقد معاوية على البيت الهاشمي قد أصمّ أذنَي معاوية، (فالحقد على الهاشميّين كان - إلى جانب معرفته بحقّهم الصريح - يتأجّج في صدره ليتآكل قلبه، وكذلك كُره محمد كان يسدّ عليه منافذ تنفّسه؛ ولكن كيف له بما قد مضى فسبق فيه السيف العذل؟ !) .(2)

هذه الكلمات التي أطلقها كامل سليمان، هي بحق شهادة صادقة، ولعلّه استقاها من تلك العلّة التي سألها الإمام علي بن الحسين لمروان بن الحكم، حين قال له: «فما بالكم تسبُّونه - أي علي (ع) - على المنابر؟ قال: إنَّه لا يستقيم لنا الأمر إلّا بذلك! !» .(3)

فاستقامة أمرهم، إشارة إلى الحكم والسلطان، ولكن أنَّى لهم ذلك،


1- صحيح مسلم، ج 7، ص120؛ سنن الترمذي، ج 5، ص301.
2- الحسن بن علي، ص 180.
3- المصدر نفسه، ص 283.

ص:64

فمعاوية خمد ذكره وانطفأ أواره، وعلي (ع) ارتفع قدره وعلا شأنه، ومعاوية في مزبلة التأريخ، وعلي قبَّة تتلألأ في السماء عُلواً وسموّاً وخلوداً. . . .

وصف معاوية بالغدر بعد نقض الصلح

فمعاوية لم يف بأيِّ شرط من الشروط ودحضها جميعاً؛ لذا نجد أنَّ بعض الصحابة وصف معاوية بالغدر، فقد نقل أبوالفرج الأصفهاني بسنده: «عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، قال: «سمعت معاوية بالنخيلة يقول: ألا إنَّ كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمَيّ هاتين، لا أفي به. قال أبوإسحاق: وكان والله غدَّاراً» .(1)

فصفة الغدر وعدم الوفاء تكاد تكون صفةً ملازمة له طيلة حياته، فمن نقضه للشروط، إلى سمّه وقتله الصحابة، إلى تولّيه لابنه يزيد منبر الخلافة.


1- الحسن بن علي، ص 283؛ مقاتل الطالبيين، ص 45.

ص:65

أسباب الصلح ومُبرّراته

اشارة

إنّ أهمّ النقاط التي أدَّت بالإمام الحسن (ع) للصُّلح نُجملها بما يلي:

1- تركيبة جيش الكوفة

لقد احتوى جيش الكوفة الذي أعدَّه الإمام الحسن (ع) لحرب معاوية على تركيبة غير متجانسة، قال الشيخ المفيد:

تحرّك الحسن (ع) وبعث حجر بن عدي فأمر العمال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، ثُمَّ خف معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه (عليهما السلام) ، وبعضهم محكّمة يُؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية، اتَّبعوا رؤساء قبائلهم، لا يرجعون إلى دين.(1)

وينبغي أن لا ننسي المنافقين، الذين كانوا يراسلون معاوية سراً، وكذلك الخونة الذين باعوا ذممهم وضمائرهم مقابل دراهم معاوية ودنانيره.


1- الإرشاد، ج2، ص10؛ الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ابن الصباغ المالكي، ج2، ص720.

ص:66

إنَّ هذا الخليط الكوفي المتنوّع يكفي بمفرده أن يهزم أي جيش، مهما بلغت عدّته وعديده، ولم يكن بوسع الإمام (ع) أن يطهّر جيشه من العناصر الغريبة التي اندسَّت فيه، فإنَّ طريقة التجنيد آنذاك لم يكن يشترط فيه أي كفاءات شخصية، ولا حتى سنّ خاصة، كما لم يكن يخضع المقاتل لأيِّ اختبار لإثبات ولائه وإيمانه الكامل بهدف الحرب، بل كل ما كان يُشترَط فيه أن يكون قادراً على حمل السلاح. هذا هو النظام المألوف في ذلك العصر، حيث كان يعتمد على ظاهر الشخص وسيرته الخارجية، ولم يكن يوجد جهاز استخبارات عسكرية، يتتبَّع الخلايا المعادية وغير المخلصة، ويحاول كشفها والقضاء عليها.

وليس هذا بأمرٍ جديد، فقد كان المنافقون والمغرضون منتشرين في عهد رسول الله (ص) ، وكانوا يشاركون في غزواته وسراياه، ولم يقم النبي (ص) بطردهم أو فضحهم.(1)

إذن، للتركيبة غير المتجانسة لجيش الإمام الحسن (ع) دور في إضعاف الجيش، وجعله عاجزاً عن القيام بمهامه ومجابهة جيش الشام، الذي كان يتمتَّع بتجانس أكبر.

2- خيانة أُمراء الجيش

من أهمِّ العوامل التي أضعفت معنويات الجيش، وفتَّت عضده، هي خيانة أُمراء الجيش الذين عيَّنهم الإمام وأرسلهم كطلائع حتى يلحق


1- انظر: الكامل في التاريخ، ج2، صص192 و263. وللتفصيل أكثر راجع: صلح الحسن، الشيخ راضي آل ياسين، ص126.

ص:67

بهم، ولكن سال لعابهم أمام دراهم معاوية، فتركوا مواقعهم ومالوا إلى جانب معاوية.

ومن أهمِّ هؤلاء الأُمراء عبيدالله بن العباس، حيث بذل له معاوية ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه(1)، فكان لهذه الخيانات أثر بالغ في إضعاف معنويات الجيش، وفي خفض عدده، ممَّا أدّى إلى اختلال التوازن بين الجيشين.

3- جيش مُرهَق أثر الحروب المتتالية

لقد دخل أهل الكوفة خلال فترة وجيزة - وهي فترة خلافة أميرالمؤمنين (ع) - حروباً طاحنة، خلّفت أضراراً كبيرة في المجتمع الكوفي، حيث قدَّم أبناء الكوفة عشرات الآلاف من الشهداء، فقد قُتل منهم، على أقل تقدير، خمسة آلاف في معركة الجمل(2)، وربّما تصل بعض تقديرات القتلي إلى عشرة أو خمسة عشر ألفاً، حيث رُوي أنَّ مجموع القتلى آنذاك من الجانبين كان نيفاً وثلاثين ألفاً.(3)وأمّا صفّين، فقد تراوح عدد القتلى فيها من أهل الكوفة بين عشرين ألفاً إلى خمسة وعشرين(4)، وقد كان أهل الكوفة مستعدّين أن يقدّموا شهداء أكثر في معركة النهروان، ولكن الله سلّم.

إنَّ عدد القتلى الكبير، والضغط النفسي الذي تسبِّبه الحرب، إضافةً إلى المشاكل الاقتصادية التي تنجم عن الحروب المتوالية، كل ذلك أدَّى إلى


1- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص214.
2- تاريخ الطبري، انظر: الطبري، ج3، ص543.
3- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص183.
4- مروج الذهب، المسعودي، ج2، صص404 و 405.

ص:68

إرهاق أهل الكوفة، ومطالبتهم بالصلح وترك الحرب، حتى أخذوا ينادون: (البقية البقية) .(1)

4- ظهور الشائعات وحدوث اضطرابات داخلية

إنَّ أحد الأساليب التي اعتمدها معاوية لأجل إضعاف الجيش الكوفي، هو نشر الإشاعات، حيث قام ببثِّ شائعة أنَّ الإمام الحسن (ع) قد رضي بالصلح، وذلك قبل حدوث أي موافقة من قِبل الإمام. قال اليعقوبي:

وكان معاوية يدسّ إلى عسكر الحسن مَن يتحدَّث أنَّ قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجِّه إلى عسكر قيس مَن يتحدَّث أنَّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه، ووجَّه معاوية إلى الحسن المغيرة بن شعبة، وعبدالله بن عامر بن كريز، وعبد الرحمن بن أم الحكم، وأتوه وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثُمَّ خرجوا من عنده وهم يقولون ويُسمِعون الناس: إنَّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء، وسكن به الفتنة، وأجاب إلى الصلح.(2)

وقد أدّت هذه الشائعات، التي أثارها معاوية وغيره، إلى حدوث اضطرابات عرَّضت حياة الإمام إلى الخطر، فقد جاء في كتب التاريخ: «فبينا الحسن في المدائن، إذ نادى مناد في العسكر: ألا أنَّ قيس بن سعد قد قُتل، فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن [(ع)]، حتى نازعوه بساطاً كان تحته» .(3)

هذه إشارة إلى مُجمَل الأسباب التي اضطرَّت الإمام إلى الصلح، حيث


1- الكامل في التاريخ، ج3، ص406.
2- تاريخ اليعقوبي، ج2، صص214 و 215.
3- تاريخ الطبري، ج4، ص122.

ص:69

بلغت الظروف آنذاك مدىً بعيداً من السوء، إذ تحدّث الإمام عن تلك الظروف وقال: «والله لو قاتلت معاوية، لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً» .(1)

إذن بعد معرفة أسباب الصلح، يظهر أنَّ الإمام لم يسلِّم الأمر لمعاوية عن رضا، وإنَّما أُجبر على ذلك، ولو كانت بيده زمام الأمور و أطاعه حبيشه لما صالح و لقاتل معاوية قتالاً بلا هوادة، فقد قال (ع) في كلامٍ له مع أهل الكوفة:

وأنَّ معاوية دعانا إلى أمرٍ ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإنْ أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عزوجل بظبا السيوف، وإنْ أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا. فناداه القوم من كل جانب: البقية البقية.(2)


1- الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص10.
2- ترجمة الإمام الحسن ع ، ابن عساكر، ص179؛ تاريخ ابن خلدون، ج2، ص187.

ص:70

ص:71

نتائج الصلح وثمراته

اشارة

من أهمِّ نتائج الصُّلح وثمراته هو ما يلي:

1- إصلاح الأُمَّة وحقن دماء المسلمين

وهذا ما حدّث به الإمام الحسن (ع) في خطبته بعد الصلح، قائلاً:

أمّا بعد أيُّها الناس، فإنَّ الله هداكم بأوَّلنا وحقن دماءكم بآخرنا، ألا أنَّ أكيس الكيس التقى، وأنَّ أعجز العجز الفجور، وأنّ هذا الأمر الذي اختلفت أنا ومعاوية فيه، إمّا أن يكون أحق به منّي وإمّا أن يكون حقّي تركته لله عزَّ وجل، ولإصلاح أُمّة محمد (ص) ، وحقن دمائكم. ثُمَّ التفت إلى معاوية وقال، وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين. فأمره معاوية بالنزول.(1)

فلو دقَّقنا بهذا النص، سنجد أنَّ الإمام الحسن (ع) يخاطب الأُمَّة ويدعوها إلى التمييز والحصافة والكياسة بين ما وقع بينه وبين معاوية في أمر الصلح، فإمّا أن يكون معاوية على حق، وإمّا أن يكون الحق معه (ع) ، ولكنْ تركه


1- أسد الغابة، ابن الأثير، ج2، ص 14؛ الدر المنثور، السيوطي، ج 4، ص 342؛ فتح الباري، ج13، ص 54.

ص:72

لوجود مصلحة كبرى؛ لانَّ في هذا الصلح إصلاح للأُمّة - كما سنبينه، وهو بيان فضح معاوية -، ثُمَّ أشار الإمام إلى أنَّ هذا الصلح لمَن لايفهم معنى الإمامة هو فتنة وامتحان. وواضح أنَّ الإمام الحسن يروم ذلك، وهو أنَّ الحق معه لغرض الإصلاح وحقن الدماء، لذا أمره معاوية بالنزول.

وقال (ع) ، حين خاطبه سليمان بن الصرد:

فإذا شئت فأعدت الحرب عدة، وأذن لي في تقدّمك إلى الكوفة. فقال الإمام (ع) : أنتم شيعتنا وأهل مودَّتنا، ما كان معاوية بأشدّ منّي بأساً، ولاأشدَّ شكيمة، ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلّا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله تعالى، وسلّموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا.(1)

وقد علَّق السيد المرتضى على هذا الكلام بقوله: «وهذا كلام منه (ع) يشفي الصدور ويذهب بكلّ شبهة» .(2)

وكذلك حينما سُئل (ع) من بعض أصحابه عن مداهنة معاوية ومصالحته، مع علم الإمام بدهاء معاوية وضلاله:

يابن رسول الله، لمَ داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أنَّ الحق لك دونه وأنَّ معاوية ضالٌّ باغ؟ فقال: يا أبا سعيد، ألستُ حجّة الله تعالى على خلقه وإماماً عليهم، قلت: بلى، قال: ألستُ الذي قال رسول الله (ص) لي ولأخي (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟) قلت: بلي، قال: فانا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد، علَّة مصالحتي لمعاوية


1- تنزيه الأنبياء، السيد المرتضى، صص 330- 331.
2- المصدر نفسه، ص 331.

ص:73

علّة مصالحة رسول الله (ص) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفَّار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل. سخطتم عليَّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قتل.(1)

وكذلك روى الصدوق بسنده عن أبي سعيد، قال:

لمَّا صالح الحسن بن علي (ع) معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال (ع) : ويحكم، ما تدرون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت.(2)

وأيضاً ما ورد عن الإمام الصادق في وصيّته لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول، المعروف بمؤمن الطاق:

اعلم إنَّ الحسن بن علي (ع) لمَّا طعن واختلف الناس عليه، سلَّم الأمر لمعاوية، فسلَّمت عليه الشيعة: عليك السلام يا مذلّ المؤمنين, فقال (ع) : ما أنا بمذلّ المؤمنين ولكنّي معزّ المؤمنين, إنّي لمّا رأيتكم ليس بكم عليهم قوّة، سلّمت الأمر لأبقي أنا وانتم بين أظهرهم, كما عاب العالم السفينة لتبقي لأصحابها، وكذلك نفسي وأنتم لنبقي بينهم.(3)

فهنا الإمام الحسن (ع) يعامل الأُمَّة التي خانته بمنتهى العطف والرحمة، بحيث يُشعرهم بالعز بعد انكسارهم، وأنَّهم ليسوا بتلك القوة التي يجابهون بها معاوية، وهو يعلم بضعفهم، ولكن يريد أن يقول لهم أنتم جزء العلّة في


1- علل الشرايع، الصدوق، ج 1، ص211.
2- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص 316؛ كشف الغمة، الأربلي، ج 3، ص 328.
3- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 308.

ص:74

قبولي للصلح، للحفاظ عليكم، ثُمَّ يضرب لهم مثلاً رائعاً من القرآن وهو خرق السفينة التي كانت السبب في حفاظها وبقائها لهم.

٢- الحفاظ على السنَّة النبوية المتمثِّلة بالثقل الثاني للكتاب

إنَّ الإمام الحسن (ع) بهذا الصلح حافظ على البقية الباقية من مُحبِّي الإمام علي (ع) وأهل بيته وشيعته، لعلّهم ينشرون علومهم وسيرتهم؛ لانَّ في ذلك حفاظ على الثقل الاصغر والعدل للقرآن، وهذا ما أفاده الكاتب حسن بن فرحان المالكي قائلاً:

فكان الحسن بن علي بين أمرين، إمَّا أن يستعين بهذه القلَّة من المخلصين ضدّ هذه الجموع الكبيرة، وإمّا أن يلجأ لمصالحة معاوية، فكان هذا الخيار الأخير هو الذي ترجّح عندالحسن؛ لحفظ البقية الباقية من مُحبّي الإمام علي وأهل البيت، لعلَّهم ينشرون علومهم وسيرتهم. وكان اللجوء للخيار الأوَّل (محاربة معاوية) يعني - إلى حدٍّ كبير - القضاء على كل مَن يذكر الإمام علي بخير من أهل العراق، وبهذا يضيع فضل وآثار (الثقل الثاني) بعد كتاب الله.(1)

فجاء الصلح حافظاً لآثار الثقل الثاني، المتمثّل بالعترة الطاهرة، وبيان فضلهم وآثارهم في كافة مجالات الحياة، العلمية والسياسية والاجتماعية.

٣- فضح معاوية من خلال وثيقة الصلح

اشارة

إنَّ واحدةً من نتائج الصلح مع معاوية هي فضحه، وبيان نفاقه وغدره، وكشف حاله أمام شريحة كبيرة ممَّن خُدع بخلافته من المسلمين، فإنَّ هناك


1- قراءة في كتب العقائد، حسن بن فرحان المالكي، صص ٧٠٧١.

ص:75

شروطاً وضعها الإمام على معاوية ألزمه بها لكي يكشف الوجه الحقيقي لمعاوية، من خلال نقضه لهذه العهود والشروط، وفعلاً لم يتقيَّد بتلك الشروط، ممَّا أثار حفيظة المسلمين، وبدأ الشك يسري عند الصحابة وكبار التابعين، بحيث نجد أنَّ عبدالرحمن بن شريك النخعي إذا حدَّث بذلك يقول: هذا والله هو التهتُّك. (1)

معاوية في ميزان الإمام الحسن (ع)

وقد قيّم الإمام الحسن (ع) معاوية حينما قارن بينهما، وهذه المقارنة تكشف شخصية معاوية للناس، من حيثية النسب والنفاق والمكر والخداع والشر. قال ابن أبي الحديد:

قال أبوالفرج: وحدّثني أبوعبيد محمد بن أحمد قال: حدَّثني الفضل بن الحسن البصري قال: حدَّثني يحيى بن معين قال: حدَّثني أبوحفص اللبان عن عبدالرحمن بن شريك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حبيب بن أبي ثابت قال: خطب معاوية بالكوفة حين دخلها، والحسن والحسين جالسان تحت المنبر، فذكر علياً فنال منه، ثُمَّ نال من الحسن، فقام الحسين ليردّ عليه، فأخذ الحسن بيده فأجلسه، ثُمَّ قام فقال: أيُّها الذاكر علياً، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة. . فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرّنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً. فقال طوائف من أهل المسجد: آمين.


1- النصائح الكافية، محمد بن عقيل، ص ١٩4.

ص:76

قال الفضل: قال يحيى بن معين: وأنا أقول آمين.

قال أبوالفرج: قال أبو عبيد: قال الفضل: وأنا أقول آمين.

ويقول علي بن الحسين الأصفهاني: آمين.

قلت: ويقول عبدالحميد بن أبي الحديد مصنّف هذا الكتاب: آمين.(1)

إذن، الإمام الحسن (ع) شخّص الداء ووضع الأمور في نصابها الصحيح، فلا تكشف هذه الوثيقة إطلاقاً على أنَّه (ع) سلّمها لمعاوية طائعاً، بل الإمام كشف وفضح معاوية بهذا الصلح للرأي العام.

4- التمهيد لثورة الحسين في كربلاء

قال كامل سليمان:

فآثار الصلح، مجتمعة ومتفرّقة، بدأت تُهيِّئ الانقلاب بتُؤدة، بل كانت أوَّل تحفّز لأمرٍ موعده يوم كربلاء. . . وقد بدأ هذا التحفّز يوم صالح الحسن معاوية على أن يعمل بكتاب الله، فخالفه وحكم بالولد لأُمّه! (ادعوهم لآبائهم) ، أي يوم استلحق زياداً، ورضيا معاً بإعلان الزنا بين الأب - أبي سفيان والأُم - سمية -! ! وبمخالفة السنَّة وقول النبي (الولد للفراش وللعاهر الحجر) . . . وبدأ التحفّز ساعة تراضيا على أن يعهد للحسن أو لأخيه الحسين بالخلافة، فسمَّ الأوّل وهيَّأ قتل الثاني، وساعة وقَّعا وثيقة بأمان الناس في مختلف الأوطان، فأرعبهم وعاث فيهم تقتيلاً وتشريداً، وساعة أعطى عهوداً كثيرةً ولم يفِ بشيء منها. . . . (2)


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ١6، صص 46-4٧؛ مقاتل الطالبيين، ص 46؛ الإرشاد، ج٢، ص١5؛ المناقب، ابن شهر آشوب، ج٣، ص ١٩٨.
2- الحسن بن علي، كامل سليمان، ص ١٢٠.

ص:77

إذن مما تقدم يتّضح أن نتائج الصلح و ثمراته قعود بالفائدةِ على سائر المسلمين من خلال حفظ دمائهم و أعراضهم، وكذلك الحفاظ على السنة النبوية المتمثلة بالثقل الثاني للكتاب، وايضاً التمهيد لثورة الحسين (ع) ، التي سوف يُكمل بها (ع) فَضح الإنحرافي الاموي، المتمثل

بخلافة يزيد بن معاوية و التي لاعت إلى الدين والإسلام بصلة.

ص:78

ص:79

الفصل الثالث: شبهات حول صُلح الإمام الحسن (ع)

اشارة

ص:80

ص:81

الشُبهة الأولى: تسليم الخلافة لمعاوية كاشف على عدم النص على الإمامة

اشارة

قال الدكتور ناصر بن عبدالله القفاري: (1)«كيف استحلَّ الحسن والحسين (رضي الله عنهما) إبطال عهد رسول الله (ص) إليهما طائعين غير مكرهين، مع أن الحسن معه أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه؟ !» .(2)

ثُمَّ قال:

فتالله، لولا أنَّ الحسن (رضي الله عنه) علم أنَّه في سِعة من تسليمها إلى معاوية، وفي سعةٍ من أن لا يسلّمها، لما جمع بين الأمرين، فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي حقّه، وسلَّمها بعد ذلك لغير ضرورة، وذلك له مباح، بل هو الأفضل بلا شك؛ لأنَّ جده رسول الله (ص) قد خطب


1- أستاذ سلفي في علوم العقيدة في جامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية، له مجموعة من الكتب ينال فيها من المذهب الشيعي، ومنها رسالته في الدكتوراه أصول مذهب الشيعة الاثنى عشرية، عرض ونقد ، نال فيها درجة الشرف الأُولى، وتدرّس في الجامعات السعودية.
2- أصول مذهب الشيعة، ناصر بن عبدالله القفاري، ج٢، ص٨64.

ص:82

بذلك على المنبر وقال: (إنَّ ابني هذا سيد، ولعلّ الله أن يُصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين) . رويناه من طريق البخاري.(1)

جواب الشبهة

عدم التفريق بين الإمامة السياسية والإلهية

إنَّ الدكتور القفاري لم يفرّق بين أمرين أساسيّين فخلط بينهما، ولعلَّه كان قاصراً عن إدراك هذا المعنى، فأسَّس كلامه على فهم خاطئ للإمامة، ممّا أوقعه في شُبهة أنَّ الإمام الحسن قد تنازل عنها، وأنَّه سلّمها لمعاوية طوعاً، وغير ذلك. . . وهذا الفهم ليس صحيحاً وفق وجهة النظر الشيعية.

فهناك فرق كبير بين الخلافة بلحاظ كونها حكومة سياسية، وبين الإمامة الإلهية.

فالإمامة الإلهية، ليس تفويضها باختيار الأُمَّة؛ لأنَّها متوقِّفة على العصمة وعلم الكتاب، والعصمة من الأمور الخفيَّة التي لا يطَّلع عليها إلّا عالم السرائر، فكيف يجوز للحكيم (تعالى شأنه) أن يفوّضها إلى اختيار الأُمّة، الجاهلين بمواقعها وحدودها؟ ! وهل هذا إلّا إهمال وإخلال بالحكمة؟ ! تعالى الله عنه علوّاً كبيراً.(2)

فالإمامة الإلهية لا يمكن التنازل عنها؛ لأنَّها مجعولة لهم (عليهم السلام) بجعلٍ إلهي، فلا نتصوَّر انتزاع ذلك المقام منه أو التخلّي عنه، فالإمام إمام حتى لو كان جالساً في بيته أو قابعاً في غياهب السجون، وليس الحكم إلّا وظيفة من


1- أصول مذهب الشيعة، ج٢، صص٨64 و ٨65.
2- مصباح الهداية في إثبات الولاية، علي البهبهاني، ص ١4٣.

ص:83

وظائفه وطريقاً لإجراء وتنفيذ الأحكام الإلهية. نعم ينبغي عليه أخذه فيما لو توفَّرت الظروف الموضوعية له.

إذن، فالرئاسة والحكومة الظاهرية الصورية قد يُتنازل عنها، وهذا أميرالمؤمنين (ع) قد وصف هذه الخلافة بأنَّها لا تساوي شسع نعله، وهي أزهد عنده من عفطة عنز.

فليس للخلافة قيمة في قبال الإسلام وسلامة أمور المسلمين، وهو القائل:

أما والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.(1)

فمَن تكون الدنيا عنده أهون من عفطة عنز، ولا تساوي الخلافة عنده شسع نعله، لاسيما أنَّ هناك من الأُمّة مَن يتنافس على حطام الدنيا وزخارفها وزبرجها، فكيف لا يرفضها؟ !

ومن هذا المنطلق نجد أنَّ الإمام الحسن (ع) لا يختلف عن أبيه في التنازل عن هذا المنصب؛ لمقتضى الظرف والحكمة التي جعلته في نظر الآخرين أنَّه تنازل عنها، مع حفظ إمامته الإلهية الربانية؛ لأنَّه لا يمكن مصادرتها أو غصبها، بشهادة قول رسول الله (ص) «ابناي هذان إمامان، قاما أو قعدا» .(2)


1- شرح نهج البلاغة، ج6، ص ١66.
2- الإرشاد، ج٢، ص ٣٠؛ علل الشرائع، ج١، ص ٢١١؛ الفصول المختارة، ص٣٠٣؛ المناقب، ج٣، ص١٣6، قال: «واجتمع أهل القبلة على أنّ النبي قال: الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا» . وانظر: مجمع البيان، الطبرسي، ج4، ص ١٠4، قال: «وقد صحَّ في الحديث أنه قال لهما: ابناي هذان إمامان، قاما أو قعدا» .

ص:84

فالحسن والحسين (عليهما السلام) ، إمامان قاما أو قعدا، سواء مارس الخلافة أولم يمارسها.

خلط القفاري في عدد الجيش الذي ذكره المؤرّخون

أمَّا ما تحدَّث به القفاري خلال كلامه عن عدد جيش الإمام الحسن (ع) ، حيث ذكر أنَّ معه (ع) أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه، فهو يتحدَّث عن عددٍ يتجاوز المائة ألف من المستميتين المتفانين في سبيل الإمام (ع) ، ولكنَّ هذا غير صحيح؛ لأنَّ أهواء الجيش وعدم اتّحاده، وإرهاق الناس وتعبهم، أدَّى بالنتيجة إلى الصلح.

تحقيق في عدد جيش الإمام الحسن (ع)

اشارة

وأمّا عدد الجيش، فهو مبالغ فيه جداً، ويعتمد على روايات قابلة للمناقشة، لذا نحاول هنا الحديث عن عدد الجيش.

لقد اختلف عدد جيش الكوفة والشام اختلافاً فاحشاً، فقد بلغ جيش الشام ستين ألف مقاتل، بينما تراوح عدد جيش الكوفة بين أعداد مختلفة نذكرها تباعاً:

١- ما رواه ابن قتيبة (مائة ألف)
اشارة

قال ابن قتيبة:

وذكروا أنَّه لمَّا تمَّت البيعة لمعاوية بالعراق، وانصرف راجعاً إلى الشام، أتاه سليمان بن صرد، وكان غائباً عن الكوفة وكان سيد أهل العراق ورأسهم، فدخل على الحسن فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين، فقال الحسن: وعليك السلام، أجلس لله أبوك، قال: فجلس سليمان، فقال:

ص:85

أمّا بعد، فإنَّ تعجّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مئة ألف مقاتل من أهل العراق، وكلهم يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز. (1)

تفرُّد ابن قتيبة بهذا العدد

إنَّ ابن قتيبة قد تفرَّد بنقل عدد المائة ألف - خاصة وأنَّ القفاري لايعطي أيّ قيمة لما ينقله ابن قتيبة -، بينما نقل السيد المرتضى وغيره حديث سليمان بن صرد مع الإمام الحسن (ع) ، وذكر عدد الأربعين ألفاً، فقد جاء:

لمّا بايع الحسن (ع) معاوية، أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك لمعاوية، ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز. (2)

إضافةً إلى ذلك أنَّ سليمان كان غائباً عن الكوفة، فلم يكن يعلم بما جري فيها من تخاذلٍ وخيانةٍ، وكان يتصوّر أنَّ الأيام كأيام أميرالمؤمنين (ع) في صفين، حيث اجتمع إليه عشرات الآلاف من أهل الكوفة وغيرهم، ولذلك لا يمكن التعويل على كلام سليمان في تحديد عدد الجيش.(3)


1- الإمامة والسياسة، ج١، ص١4١.
2- تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضى، ص٢٢٣. وراجع أيضاً: مناقب آل أبي طالب، ج٣، ص١٩٧؛ بحارالأنوار، مجلسي، ج44، ص٢٩، فإنهم كلهم يذكرون عدد الأربعين ألفاً.
3- صلح الحسن، الشيخ راضي آل ياسين، ص١١٩.

ص:86

٢- ما رواه اليعقوبي (تسعون ألف)
اشارة

وهو العدد الذي ذكره زياد بن أبيه في جواب تهديد معاوية له، حيث قال:

إنَّ ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب كتب يتوعَّدني ويتهدَّدني، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله في تسعين ألفاً [وفي رواية: في سبعين ألفاً] (1)واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم، لا يلتفت أحدهم حتى يموت. . . .(2)

عدم الوثوق بنقل هذا العدد لانَّ الناقل هو زياد بن أبيه

وهذا العدد أيضاً لا يمكن التعويل عليه؛ لغياب زياد عن مجمل الأحداث آنذاك، حيث كان والياً على فارس(3)، ولذلك لا يكون خبره ناشئاً عن مشاهدة وحس، بل عن حدس.

٣- ما رواه ابن عساكر وابن كثير الدمشقي (سبعون أو ثمانون ألفاً)
اشارة

روى ابن عساكر وابن كثير، واللفظ للأوّل، عن زيد بن أسلم، قال:

دخل رجل على الحسن المدينة وفي يده صحيفة فقال: ما هذه؟ قال: من معاوية يعدُ فيها ويتوعَّد، قال: قد كنت على النصف منه، قال: أجل؛ ولكنّي خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً أو ثمانون ألفاً، أو أكثر أو أقل، كلهم تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيمَن أهريق دمه. (4)


1- الكامل في التاريخ، ج٣، ص٣٢٢.
2- تاريخ اليعقوبي، ج٢، ص٢١٨.
3- الأعلام، خيرالدين الزركلي، ج٣، ص5٣.
4- تاريخ مدينة دمشق، ج ١٣، ص ٢٨١؛ البداية والنهاية، ج٨، ص46.

ص:87

العدد المذكور يشمل جيش الكوفة والشام معاً

فهنا الإمام الحسن، وفق هذه الرواية، يرى أنَّ عدد الجيش بين الشام والكوفة هو سبعون أو ثمانون الفاً، إذ الجميع يستعدي الله فيمن أهريق دمه، وقد علمنا أنَّ جيش الشام كان ستين ألفاً، فلا يبقى من جيش الكوفة إلّا عشرون ألفاً على أكبر تقدير. وممّا يشهد لذلك تردّد الإمام في ذكر العدد، ولو كان ناظراً إلى عدد جيشه فقط، لما تردَّد فيه؛ لأنَّه أعرف بعدد جيشه، فيكون التردُّد ناشئاً من إضافة جيش الشام إلى جيش الكوفة.

4- ما رواه الطبري وابن الأثير وابن أبي الحديد (أربعون ألفاً)
اشارة

روى الطبري عن الزهري: «فخلص معاوية، حين فرغ من عبدالله بن عباس والحسن [(ع)]، إلى مكايدة رجل هو أهمّ الناس عنده مكايدةً، ومعه أربعون ألفاً» . (1)وقال ابن الأثير:

كان أميرالمؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت، لمَّا ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام، فبينما هو يتجهَّز للمسير، قُتل [(ع)]، وإذا أراد الله أمراً فلا مردَّ له، فلمَّا قُتل وبايع الناس ولده الحسن، بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه، فتجهَّز والجيش الذين كانوا بايعوا علياً، وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية. (2)

وروى ابن أبي الحديد عن المسيّب بن نجية، أنَّه قال للحسن (ع) : «ما ينقضي عجبي منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألفاً؟ !» .(3)


1- تاريخ الطبري، ج4، ص١٢5.
2- الكامل في التاريخ، ج٣، ص4٠4.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١6، ص١5.

ص:88

إلّا أنَّ هذا العدد أيضاً لا يساعد عليه الاعتبار، وذلك لأمرين:

الأوّل: إنَّ الذي ذكر هذا العدد قد أغفل ما حدث من تخاذل وهروب أكثر أفراد الجيش إلى معسكر معاوية، حيث هرب مع عبيدالله بن عباس ثمانية آلاف (1)، وهرب أحد قادة الجيش وكان من كندة مع مائتي شخص من خاصته (2)، وأكبر الظن أنَّ ذكر عدد الأربعين ألفاً ناشئ من ملاحظة العدد الذي اجتمع لأميرالمؤمنين (ع) قبل شهادته، كما يظهر ذلك من عبارة ابن الأثير المتقدمة.

وأمّا ما ذكره الطبري عن الزهري، من اعتبار من بقي مع قيس بن سعد، بعد هروب عبيدالله، أربعين ألفاً، فهو يتنافي مع الروايات، التي تنصّ على أنَّ الذين أرسلهم الإمام الحسن (ع) مع عبيدالله هم اثنا عشر ألف رجل فقط (3)، وعند هروبه هرب معه ثمانية آلاف، فلم يبقَ مع قيس بن سعد، الذي صار قائداً للجيش بعد هروب عبيدالله إلّا أربعة آلاف، لاأربعون ألفاً.

الثاني: إنَّه لا يتَّفق مع كلمة الإمام الحسن (ع) المتقدّمة، التي أشار فيها إلى عدد الجيش، والتي لم تكن تدل على أكثر من عشرين ألفاً على أكبر تقدير.

العدد المعقول الذي يمكن الوثوق به

إنَّ ما يمكن الاطمئنان إليه من العدد النهائي للجيش، هو عشرون ألفاً كحدٍّ أقصى، وهو ما يمكن فهمه من عبارة الإمام الحسن (ع) المتقدمة.


1- تاريخ اليعقوبي، ج٢، ص٢١4.
2- بحارالأنوار، العلامة المجلسي، ج44، ص44.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١6، ص٢٢.

ص:89

وعلى أي حال، فإنَّ ما نقله القفاري من أنَّ عدد الجيش أكثر من مائة ألف، مجانب للصواب وغير مطابق للحقيقة.(1)

وقفة مع رواية الصلح (إنّ ابني هذا سيّد ولعلَّ الله. . .)

أمَّا ما استدل به القفاري من حديث: (إنَّ ابني هذا سيد، ولعلّ الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين) ، على أفضلية وأرجحية تنازل الإمام الحسن (ع) عن الإمامة، بالنسبة إلى إمساكها والتشبّث بها.

فالجواب
١- عدم ثبوت هذه الرواية من طرقنا؛ ولذا لا يمكن التعويل عليها لإثبات شيء
٢- إنَّ هذه الرواية آحاد، ومُختلَف في وصلها وإرسالها

ذكر الشيخ حسن بن فرحان المالكي مقارنة بين هذا الحديث وحديث (عمار تقتله الفئة الباغية) حيث قال:

ويردِّدون كثيراً حديث (ابني هذا سيد ولعلّ الله أن يصلح به. . .) ويهملون حديث عمار (تقتله الفئة الباغية) ، مع أنَّ حديث صلح الحسن آحاد ومُختلَف في وصله وإرساله، كما ذكر الدار قطني في العلل، بينما حديث عمار متواتر ومتَّفق على صحته. (2)

فهو يرى أنَّ حديث الصلح حديث آحاد لا يعوَّل عليه، وكذلك مختلَف في إرساله وقطعه، فلا يمكن الوثوق به.


1- وللتفصيل أكثر حول عدد الجيش، راجع: صلح الحسن ع ، الشيخ راضي آل ياسين، ص١١، وما بعدها.
2- قراءة في كتب العقائد، ص ٧4.

ص:90

٣- الرواية نبوءة بالمستقبل، تدلّ على التوقع والاحتمال

إنَّ هذه الرواية إنْ دلّت، فإنَّما تدل على الإخبار عمّا سوف يحصل في المستقبل من الصلح، فهي بعبارة أخرى نبوءة بالمستقبل، ولا دلالة فيها على أفضلية وأرجحية الصلح، ولا دلالة للتعبير ب- (لعل) على الرجحان والتمنّى، بل هي تدل على التوقع والاحتمال والتقليل.

4- الرواية ليس فيها دلالة على رجحان الصلح في ذاته.

لو سلَّمنا دلالة الرواية على رجحان الصلح، فهي لا تدل على رجحان نفس الصلح في حدِّ ذاته، وفي أي ظرف كان، فإنَّ الإمام الحسن (ع) هو الإمام بلا منازع، وهو الذي بايعه المهاجرون والأنصار، وهو الأعلم بالمصلحة.

فرجحان الصلح يكون مؤدياً للغرض فيما لو كان تركه يؤدّي إلى تسلط ذلك الباغي بالقوة على الحكم، ممّا يؤدِّي إلى سفك دماء الثلة الباقية من أنصار الإمام الشرعي، وتعريض حياة الإمام إلى الخطر، حيث ينتهي إلى ضياع الحق وذهاب الدماء هدراً.

إذن، لو سلَّمنا دلالة الرواية على رجحان الصلح، فهي إنَّما تدل عليه في حالة فقدان الناصر، وكون الإصرار على القتال يؤدِّي إلى ضياع الحق، فلا يمكن اعتبار الصلح راجحاً على أي حال.

5- إنَّ التعبير عن الطائفتين بالمسلمة لا ينفع طائفة معاوية، ولا يحوّلها من طائفة باغية إلى طائفة محقّة

نعم هي مسلمة ظاهراً، لكنَّ وصمة البغي قد التصقت بها منذ أن قتلت عماراً، وخرجت على إمام زمانها أمير المؤمنين (ع) والإمام الحسن (ع) ،

ص:91

ولم تتب عن تلك الخطايا، وإنَّما تمادت في غيّها واستمرت على أفعالها.

وأكبر الظن أنَّ هذه الطائفة هي التي وضعت هذا الحديث، عندما هدأ بالها واستتبَّت لها الأمور؛ دعماً لموقفها وتبريراً لتمرّدها.

إذن هذه الشبهة ضعيفة، وليس فيها ما يدل على تنازل الإمام الحسن لمعاوية، فلم يعط الإمام الشرعية له، بل كان الصلح وثيقة كشفت ما يكنّه معاوية من الحقد والبغض للإسلام، والإمام قد بيَّن الوجه الحقيقي لهذا الرجل، وأنَّه لا يمثِّل الإسلام وذلك حينما خاطبه الإمام الحسن (ع) بقوله: فاليوم فليتعجَّب المتعجِّب من توثّبك يا معاوية على أمرٍ لست من أهله، لابفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه، والله حسيبك، فستردّ فتعلم لمَن عقبى الدار، وبالله لتلقينَّ عن قليل ربّك، ثُمَّ ليجزينّك بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.(1)


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ١6، ص ٣4.

ص:92

ص:93

الشبهة الثانية: الامام الحسن مزواج مطلاق

اشارة

من الشبهات التي تُلاك على الألسن، هي أنَّ الإمام الحسن أقرب إلى الدعة والراحة منه إلى الحرب والجهاد، لذا جاء الصلح لهذا الغرض، من دون مراعاة المصلحة الإسلامية العُليا. معتمدين في ذلك على بعض الروايات التي وردت في مصادر الفريقين، والتي نعتقد أنَّها محل تأمُّل ودراسة.

الروايات التأريخية والحديثية

لقد أسهب المؤرِّخون والمُحدِّثون عن زوجات الإمام الحسن (ع) ، بل قد وصل الأمر إلى حدِّ المبالغة المُفرطة، بحيث نجد أنَّ أرقام الزيجات وصل إلى الخمسين والستين، بل والسبعين.

رواية المدائني

قال المدائني (1): «أُحصيت زوجات الحسن بن علي، فكنَّ سبعين


1- قال ابن حجر في ترجمة المدائني: «محمد أبو الحسن المدائني الأخباري. ذكره ابن عدي في الكامل فقال: علي بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف المدائني، مولى عبد الرحمن بن سمرة، وليس بالقوي في الحديث، وهو صاحب الأخبار، قلَّ ماله من الروايات المسندة» . لسان الميزان، ج4، ص ٢5٣. فالرجل ليس قوي الحديث، وكذلك كثيراً ما تكون أسانيده مُرسلَة، وأيضاً هو مولى لعبد الرحمن بن سمرة الأموي، المشهور بعدائه للبيت العلوي.

ص:94

امرأة» .(1)

وروى أيضاً، قال: «وخطب إلى رجل فزوَّجه، وقال له: إنِّي مزوّجك، وأعلم أنّك ملق طَلِق غلق، ولكنَّك خير الناس نسباً، وأرفعهم جداً وأباً» .(2)

ثُمَّ علّق ابن أبي الحديد قائلاً: «قلت: أمَّا قوله ملق طِلق، فقد صدق، وأمَّا قوله غلق فلا، فإنَّ الغلق الكثير الضجر» .(3)

فهنا ابن أبي الحديد يصدّق بمقالة المدائني في كون الإمام كثير الطلاق، ولكنّه يعترض على ضجره.

رواية ابن كثير

وقال ابن كثير: «قالوا: وكان كثير التزوّج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقاً مصداقا، يُقال إنَّه أحصن سبعين امرأة، وذكروا أنَّه طلَّق امرأتين في يومٍ واحد. . .» .(4)

ولعلَّ ابن كثير اعتمد على المدائني في نقل هذا العدد، بدون التحقيق في هذه المسألة، فالرجل ناقل ليس إلّا.

رواية أبي طالب المكّي

بل وتعدّي هذا الرقم إلى المئتين والخمسين، والثلاثمائة، بحيث نقل


1- شرح نهج البلاغة، ج١6، ص ٢٢.
2- المصدر نفسه، ص ٢١.
3- المصدر نفسه.
4- البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، ج٨، ص 4٢.

ص:95

أبوطالب المكي (1)في قوت القلوب:

وتزوّج الحسن بن عليّ رضي الله عنهما مائتين وخمسين امرأة، وقيل ثلاثمائة، وقد كان عليّ (ع) يضجر من ذلك ويكره، حياءً من أهليهنَّ إذا طلقهنَّ، وكان يقول: إنّ حسناً مُطلّقاً فلا تنكحوه. . . .(2)

رواية الكليني والبرقي

وكذلك روى الشيخ الكليني(3)في الكافي بعض هذه الروايات(4)، وكذلك البرقي في المحاسن. (5)وغير ذلك.

الجواب

معايير وضوابط قبول الروايات

وللتحقيق في هذا الأمر، لابد أن نناقش ونقيّم تلك الروايات، من


1- قال الخطيب البغدادي في ترجمته: «محمد بن علي بن عطية، أبو طالب، المعروف بالمكي، صنَّف كتابا سمَّاه قوت القلوب على لسان الصوفية، ذكر فيه أشياء منكرَة مستشنعَة في الصفات. . . قدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، فخلط في كلامه. وحُفظ عنه أنَّه قال: ليس على المخلوقين أضرّ من الخالق. فبدَّعه الناس وهجروه» . تاريخ بغداد، ج٣، ص ٣٠٣. وذكر الصفدي عن ابن الجوزي: «قال ابن الجوزي في المرآة: ذكر في قوت القلوب أحاديث لاأصول لها» . الوافي بالوفيات، ج 4، ص ٨٧. فالظاهر أنَّ الرجل غير معتَمد عند المحدّثين؛ وذلك لخلطه وابتداعه، وأنَّه يأتي بأحاديث لا أصول لها.
2- قوت القلوب، أبو طالب المكي، ج٢، ص 4٠٨.
3- الروايات التي وردت من طُرقنا، سواء ما رواه الشيخ الكليني أو البرقي أو غيره، سنأتي على مناقشة محتواها ومضمونها، فلا يمكن أن نسلّم بها؛ لفقدان المعايير التي نُخضع تلك الروايات لها، ومنها: القران، والسنّة القطعية، والعقل.
4- الكافي، ج6، ص 56. ورويت أيضاً من طُرق أهل السنّة: المصنف، ابن أبي شيبة، ج4، ص ١٧٢؛ تاريخ مدينة دمشق، ج ١٣، ص ٢4٩.
5- المحاسن، البرقي، ج٢، ص 6٠١.

ص:96

حيث المحتوى والمضمون، بغضِّ النظر عن أسانيدها وما ورد من كثرتها.

فهناك معايير أُخرى لها مدخلية في صدق أو رفض هذه المرويات وهذه الحكايات، التي تناولها الفريقان الشيعي والسنيّ على حدٍّ سواء.

فليس من الضرورة بمكان لو صحَّ سند رواية ما، أن نحكم بصحة محتواها ودلالتها.

ومن المعايير المهمة في هذا المجال:

١- عدم مخالفتها للكتاب.

٢- عدم مخالفتها للسنَّة النبوية القطعية.

٣- عدم مخالفتها لمُعطيات العقل.

4- عدم مخالفتها للواقع.

5- عدم مخالفتها للمسلَّمات التأريخية.

6- عدم مخالفتها لضروريات المذهب.

وغير ذلك من تلك المعايير، التي سنأتي على تفصيلها من خلال أقوال علماء الفريقين.

إذن، فبعض الأحاديث، وإنْ سلَّمنا بصحة سندها جدلاً، لكن قد نصطدم بمخالفتها لهذه الموارد الآنفة الذكر.

العلماء الّذين أوردوا بعض هذه المعايير

١. الشيخ المفيد

قال: «متى وجدنا حديثاً يخالفه الكتاب، ولا يصح وفاقه له على حال أطرحناه، لقضاء الكتاب بذلك وإجماع الأئمّة (عليهم السلام) عليه. وكذلك إن وجدنا

ص:97

حديثاً يخالف أحكام العقول، أطرحناه لقضية العقل» .(1)

فكل حديث يخالف الكتاب، ولا يتوافق مع مفاهيمه ومعطياته، يجب طرحه، وكذلك العقل، يجب أن يُفعَّل ويُعطى مساحة في تقييم الروايات من الناحية العملية، فكل حديث يخالفه وجب طرحه أيضاً.

٢. الشيخ الطوسي

قال: «فإن كان ما تضمَّنه هذا الخبر ما يدل على خلاف متضمَّنه، من كتابٍ أو سنّة أو إجماع، وجب إطراحه والعمل بما دلَّ الدليل عليه» .(2)

فالمناط في قبول محتوى الخبر عند شيخ الطائفة، هو موافقته للكتاب والسنّة والإجماع.

٣. العلامة التستري

وكذلك نجد هناك معايير أُخرى ذكرها علماؤنا، منها ما ذكره العلامة التستري، فقد ذكر جملة من تلك المعايير، وجدناها متناثرةً في كتابه (الأخبار الدخيلة) ، نذكر منها:

أ - العرض على القرآن.(3)

ب - العرض على السنّة القطعية.(4)

ج - عرض الحديث على العقل.(5)


1- تصحيح اعتقادات الإمامية، المفيد، ص ١4٩.
2- عدة الأصول، الشيخ الطوسي، ج١، ص ١45.
3- الأخبار الدخيلة، التستري، ج٣، صص ٣١٣، ٣١4، ٣١6.
4- المصدر نفسه، ج١، صص ١١6، ١4٧، ١4٨.
5- المصدر نفسه، صص ٢٣6، ١4٨.

ص:98

د - مخالفة الحديث للواقع.(1)

ه - عدم مطابقة الحديث مع شأن وأدب الأئمَّة.(2)

و - مخالفته لضروريات المذهب.(3)

4. العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

وقد ذكر السيد الطباطبائي معياراً طالما كرَّره في بعض كتبه، وهو العرض على القرآن، قال:

إن الحديث يحتاج إلى التأييد القرآني، وعلى هذا يجب عرض الحديث على القرآن، كما ورد في أحاديثٍ عن الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) .

وعليه سبب النزول الوارد حول آية من الآيات، لو لم يكن متواتراً أو قطعي الصدور، يجب عرضه على القرآن، ممَّا وافقه مضمونه مضمون الآية يؤخَذ به ويُعمَل عليه.

ومعنى هذا أنَّ الحديث هو الذي يُعرَض دائماً على القرآن لا القرآن، يُعرَض على الحديث. وهذه الطريقة تُسقط أكثر أحاديث أسباب النزول عن الاعتبار.(4)

وقال أيضاً:

لم تزل تجري هذه السيرة، وهي الصفح عن عرض الحديث على القرآن، مستمرّة بين الأُمّة، عملاً حتى اليوم، وإن كانت تنكرها قولاً، و قال الرسول: (يا ربّ إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القرآن مهجوراً) اللّهم إلّا آحاد بعد آحاد.


1- الأخبار الدخيلة، ج١، ص ٢5٠ و ج4، ص ٣٠٧.
2- المصدر نفسه، ج١، ص ٩٩ و ج٢، ص٣٠5.
3- المصدر نفسه، ج١، ص١٠٨.
4- القرآن في الإسلام، محمد حسين الطباطبائي، صص ١٢5 و ١٢6.

ص:99

وهذا التساهل بعينه هو أحد الأسباب في بقاء كثير من الخرافات القومية القديمة بين الأمم الإسلامية، بعد دخولهم في الإسلام، والداء يجرّ الداء.(1)

وهنا السيد الطباطبائي، في هذا النص، يتألَّم ويشتكي من هذا التساهل، بل ويسمّيه الداء والمرض، ويرى أنَّ علَّته وسببه الأساس هو هجر القرآن، والابتعاد عن الفهم الحقيقي لمفرداته ومعانيه، التي لابد للأمَّة أن تعرض كلّ ما سوى القرآن على القرآن.

وكذلك نجد نفس هذا الأمر - وهو تقييم نقد المحتوى للحديث - يُردّده علماء أهل السنة.

5. الخطيب البغدادي

قال الخطيب البغدادي: «ولا يُقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المُحكَم، والسنَّة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنَّة، وكل دليل مقطوع به» .(2)

فالخطيب يرى عرض الحديث على العقل، وحكم القرآن، والسنة، والدليل المقطوع به، فلو خالف هذه المعايير، سقط عن الاعتبار، بغض النظر عن صحَّة السند.

6. ابن الصلاح

وقال ابن الصلاح في المقدّمة:

والحديث الصحيح ليس من شرطه أن يكون مقطوعاً به في نفس الأمر،


1- تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج 5، ص ٢٧4.
2- الكفاية في علم الدراية، الخطيب البغدادي، ص 4٧٢.

ص:100

إذ منه ما ينفرد برواية عدل واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأُمَّة على تلقّيها بالقبول. وكذلك إذا قالوا في حديث: إنَّه غير صحيح، فليس ذلك قطعا بأنَّه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقاً في نفس الأمر، وإنَّما المراد به: أنّه لم يصحّ إسناده على الشرط المذكور.(1)

فالمعيار عند ابن الصلاح تلقّي الأُمَّة له بالقبول.

٧. الجصاص

قال: «وممّا يردّ به أخبار الآحاد أن ينافي موجبات أحكام العقول؛ لأنَّ العقول حجة الله، وغير جائز انتقاض ما دلَّت عليه وأوجبته، وكل خبر يضادّ حجة العقل فهو فاسد غير مقبول» .(2)

٨. ابن القيم الجوزية

وقد تناول ابن القيم الجوزية هذه المسألة بنوع من التفصيل، وبيَّن نقد المحتوى بشكل وافي في كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) ، ومن جملة ما ذكره:

مخالفة الحديث لصريح القرآن، واشتماله على المجازفات التي لا يقل بها رسول الله (ص) ، ومناقضة الحديث لما جاءت به السنَّة الصريحة، وأن يكون الحديث باطلاً في نفسه، وأن يقترن بالحديث من القرائن التي يُعلم منها أنَّه باطل، وغير ذلك.(3)


1- مقدمة ابن الصلاح، ابن الصلاح، ص ١٧.
2- الفصول في الأصول، الجصاص، صص١٢١ و ١٢٢.
3- المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ابن القيم الجوزية، ج١ ص 5٠ وما بعدها.

ص:101

إذن، فليس من اللازم أنَّه كلَّما صحَّ السند صحّ مضمون الحديث، فليس دائماً يكون المدار على رواة الحديث، فالرواة وإن حازوا شروط العدالة والضبط، ولكنَّهم يبقون في دائرة عدم العصمة، فالخطأ والوهم و. . . جائز في حقَّهم، وإن وصفهم أصحاب الجرح والتعديل بكونهم ثقات وأثبات، وما شابه ذلك.

تقييم عام لأخبار (زواج وطلاق الإمام الحسن (ع)) وفق قواعد ومعايير قبول الروايات

اشارة

من هنا جاز لنا أن نقيّم الروايات بشكل عام وفق هذه الرؤية التي تقدَّم ذكرها.

١. عصمة الإمام تأبى قبول هذا العدد الكبير

إنَّ الروايات التي ذكرت هذا العدد المهول من الزواج والطلاق، تتنافى مع عصمة الإمام التي نادى بها القرآن الكريم؛ لأنَّه ورد أنَّ أهل البيت مشمولين بآية التطهير، والتي تعني العصمة، قال تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (الأحزاب:٣٣) .

والسنّة الشريفة حدَّدت هؤلاء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، فقد روى مسلم في صحيحه:

عن صفية بنت شيبة، قالت: قالت عائشة: خرج النبي (ص) غداةً وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثُمَّ جاء الحسين فدخل معه، ثُمَّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثُمَّ جاء علي فأدخله، ثُمَّ قال: إنّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً.(1)


1- صحيح مسلم، ج ٧، ص١٣٠.

ص:102

وبطبيعة الحال أنَّ المعصوم لا يمكن أن يرتكب هكذا فعل، بحيث يصل الأمر به إلى تطليق خمسين امرأة، أو ثلاثمائة، فهذا الفعل بنظر الإمام يُعدّ ذنباً.

فهذه الروايات لا يمكن أن نطمئنَّ بمصداقيتها؛ فهي تحطّ من كرامة الإمام (ع) ، ولعلّ الإنسان العادي إذا فعل هذا الأمر يوبِّخُه العُرف، فكيف بالمعصوم؟ !

ولعل إشكالاً يرد، أنَّه كيف تثبتون عصمتهم (عليهم السلام) بمقتضى هذه الآية؟

والجواب: «إنَّ تقريب الاستدلال بها على عصمة أهل البيت هو ما ورد فيها من حصر إرادة إذهاب الرجس - أي الذنوب - عنهم بكلمة (إنَّما) ، وهي من أقوى أدوات الحصر، واستحالة تخلُّف المُراد عن الإرادة بالنسبة له تعالى من البديهيات، لمَن آمن بالله عزوجل، وقرأ في كتابه العزيز: ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) . وتخريجها على أساسٍ فلسفي من البديهيات أيضاً، لمَن يُدرك أنَّ إرادته هي العلّة التامة، أو آخر أجزائها، بالنسبة لجميع مخلوقاته، واستحالة تخلُّف المعلول عن العلّة من القضايا الأوَّلية، ولا أقل كونها من القضايا المسلَّمة، وليس معنى العصمة إلَّا استحالة صدور الذنب عن صاحبها عادة» .(1)

إذن هذه الرواية تتصادم مع الكتاب، وكذلك السنَّة القطعية، التي حدَّدت مصاديق هؤلاء المعصومين؛ لأنَّه وردت روايات كثيرة في فضائلهم وعظمتهم من طُرق الفريقين. ومنها: إنَّهما سيدا شباب أهل الجنة، وهما إمامان قاما أو قعدا، أو هما أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً برسول الله (ص) ، وقد


1- انظر: الأصول العامة للفقه المقارن، محمد تقي الحكيم، ص ١4٩.

ص:103

تقدَّم هذا الكلام حول فضائله (ع) في البحوث السابقة.

إذن، لا يمكن أن تنسجم هذه الروايات مع هذا الفعل المزعوم.

٢- معاوية (الخصم للإمام الحسن) لم يذكر هذه القضية في مناظراته

ومن الأمور التي يجب أن نلحظها ونُلفت النظر إليها - والتي تتصادم مع مُعطَيات العقل - هي أنَّ معاوية العدو اللدود للإمام علي (ع) ، والذي كان يُثير الإحن والشبهات، ويتصيَّد في الماء العكر كما يُقال؛ لم نجده يذكر هذا الزواج والطلاق للإمام الحسن، وهذا فيه دلالة أنَّ هذه الدعوي مُفتعلَة وباطلة، ولعلَّها أُثيرت بعد وفاة الحسن (ع) ، في زمن الخلفاء العباسيِّين.

٣- كُتب التأريخ والأنساب لم تطرح مثل هذا العدد

لو تتَّبعنا كتب التأريخ وكتب السِّير والرجال والأنساب، التي ذكرت عدد الزوجات وأسماءهنَّ، لم نجدها تصل إلى هذا العدد المبالغ فيه، والذي يصل إلى الخمسين، بل المئات؛ فقد ذكر أكثر من مؤرِّخ أنَّه تزوَّج من: خولة بنت منظور بن زبان الفزارية، وأُمُها مليكة بنت خارجة بن سنان، وتزوَّج أُمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله، فولدت له ابناً سمّاه طلحة، وتزوَّج أُمّ بشر بنت أبي مسعود الأنصاري، فولدت له زيد بن الحسن، وتزوَّج جعدة بنت الأشعث بن قيس، وهي التي سقته السم، وتزوَّج هند ابنة سهيل بن عمرو، وحفصة ابنة عبدالرحمن بن أبي بكر، وتزوَّج امرأةً من كلب، وتزوَّج امرأة من بنات عمرو بن أهتم المنقري، وامرأةً من ثقيف، فولدت له عمراً، وتزوَّج امرأةً من بنات علقمةبن زرارة، وامرأةً من بني شيبان، من آل همام بن مرة.(1)


1- انظر: شرح نهج البلاغة، ج١6، ص ٢١.

ص:104

فالعدد لا يتجاوز الاثني عشر امرأة، أو أكثر أو أقل، وهذا في العرف السائد آنذاك لا يُعدّ شيئاً مَشيناً، حتى يُعاب عليه. ولو فرضنا العدد الذي أحصاه الرواة أو المؤرّخون، وأنَّه تزوَّج المائتين أو الثلاثمائة؛ لتجاوز أولاده هذا العدد المذكور.

أضف إلى ذلك أنَّ العُرف نفسه يستهجن كثرة هذه التطليقات؛ لأنَّها تخلق الضغائن أو المشاجرات، مع أنَّ التأريخ لم ينبس بشفة عن ذكر هذه الحالات.

إذن، التأريخ ينأى عن مثل هذا الكلام؛ لخلوِّه منه.

4- عدد أولاد الإمام الحسن لا يتناسب مع هذه الكثرة من الزوجات

وكذلك لو فتَّشنا عن عدد أولاد الإمام الحسن (ع) ، لم نجد ذلك العدد - لو فرضنا أقلّه وهو الخمسين - الذي يتناسب مع عدد الزوجات المُبالغ فيه. قال ابن عنبة:

(وولد) أبي محمد الحسن - في رواية شيخ الشرف العبيدلي - ستة عشر ولداً، منهم خمس بنات، وأحد عشر ذكراً، هم: زيد، والحسن المثنّى، والحسين، وطلحة، وإسماعيل، وعبدالله، وحمزة، ويعقوب، وعبدالرحمان، وأبو بكر، وعمر. (1)

وقال أبو نصر البخاري: «أعقب سيدنا أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ثلاثة عشر ذكراً وستّ بنات، العقب منهم لاثنين لا غير، وابنة واحدة» .(2)


1- عمدة الطالب، ابن عنبة، ص 6٨.
2- سر السلسلة العلوية، أبو نصر البخاري، ص 4.

ص:105

إذن، يتَّضح أنَّ العدد المذكور، وهو تسعة عشر من الأولاد والبنات، لايتناسب مع زواجِ خمسين امرأة، فضلا ًعن مئة.

بل إنَّ عدد الأولاد التسعة عشر يكاد يكون طبيعياً، لو قسناه في عرفنا الحالي، فمَن تزوَّج امرأتين قد تُنجِب له هذا العدد.

5- الشريعة أصَّلت مبدأ الاستمرار في العلاقة الزوجية، ونهت عن الطلاق بصورة مغلَّظة

إنَّ فلسفة تشريع الطلاق تتوقَّف على عوامل لا يمكن للزوج الاستمرار معها، وهي ظروف طارئة تُلجئ الزوج إلى الطلاق، ولكنَّ الشريعة أصَّلت مبدأ الاستمرار في العلاقة الزوجية، ونهت بشكل كبير عن الطلاق الذي يكون غير مُبرَّراً. وقد وردت روايات تنهى عنه بشكل يُثير الدهشة، لما تترتَّب عليه من آثارٍ سلبية، تهدم الأُسرة والمجتمع.

ومن الروايات في هذا الصدد، قول رسول الله (ص) : «ما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجل من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة» (1)

وقال الإمام الصادق: «ما من شيء مما أحلّه الله أبغض إليه من الطلاق» . (2)

وعن رسول الله (ص) ، قال: «تزوَّجوا ولا تطلِّقوا؛ فإنَّ الطلاق يهتزُّ منه العرش» . (3)

من هنا يرد التساؤل: هل أنَّ الإمام الحسن (ع) ، عند اختياره لزوجاته،


1- الوسائل، الحر العاملي، ج ٢٠، ص١6.
2- الكافي، ج6، ص 54؛ سنن أبي داود، السجستاني، ج ١، ص4٨4.
3- الوسائل، الحر العاملي، ج ٢٢، ص٩؛ الجامع الصغير، السيوطي، ج ١، ص5٠5؛ تفسير القرطبي، ج١٨، ص ١4٩.

ص:106

لم يكن دارساً لهذا الموضوع دراسةً دقيقة وموضوعية؛ بحيث لا يترتّب عليه هذه الآثار، وهو سليل النبوّة وهو الإمام المعصوم؟

بالطبع العقل لا يمكن أن يصدّق بهذه المقولة؛ لأنَّ الإمام هو سيّد شباب أهل الجنة، وهو العارف بالتشريعات الإسلامية الناهية عنه، فلا يمكن أن يتجرّأ الإمام ليهزّ عرش الرحمن مئة مرة أو أكثر، أو أن يُخرّب بيوت الإسلام بالفرقة. أضف إلى ذلك أنَّ هذا يتنافي ويتصادم مع معيار عدم المطابقة مع شأن وأدب الأئمَّة وخلقهم الذي تقدَّم الكلام عنه، بل ويتصادم مع الواقع أيضاً.

6- واقع المرحلة التي يعيشها الإمام الحسن تأبي قبول هذا العدد المبالغ فيه

إنَّ الواقع الذي كان يعيشه الإمام الحسن (ع) ، في تلك الفترة الحسّاسة والحرجة، تمنعه قهراً عن التفكير بهذه الكثرة من الزوجات، فضلاً عن القيام به، ابتداءً بالحروب التي نشأت في زمن أبيه، في صفين والنهروان والجمل وغيرها، وانتهاءً بخلافته وما مرّ بها من أزمات مع معاوية، وعدمُ فهم، بل وجهل الأُمّة لدور الإمام الحسن في الصُلح. . . إلى أن انتهت حياته شهيداً بالسمّ على يد زوجته.

فهل يُعقَل بعد هذا كلّه، أن يكون كل همّ الإمام الحسن (ع) هو الزواج والطلاق، ويترك المهام المُلقاة على عاتقه، وهي حفظ الرسالة، والإسلام برمَّته، ممَّن يتربَّصون به، من أمثال معاوية، المعروف بدهائة وانتهازه للفرص للوقيعة بالإمام (ع) ؟ !

إذن، ممَّا تقدَّم يتَّضح بطلان وافتعال هذه الدعوى، وأنَّها لا ترقي لمستوى الصحة، وإنْ وردت فيها بعض الأسانيد الصحيحة، وكما تقدّم، إنَّها تتصادم مع بعض المعايير، التي تخرجها عن دائرة الاعتبار، كالكتاب والسنّة والعقل،

ص:107

والواقع، وغير ذلك. وبالتالي فهذه الروايات لا تصلح للإثبات، فهي مخدوشة من حيث دلالتها على صحّة هذه الوقائع.

الخلاصة

إنَّ هذه الروايات، بمُجملها، محل نظر؛ لأنَّها تتصادم مع بديهيات ومسلَّمات الكتاب والسنّة، والتأريخ والعقل والواقع، فلا يمكن أن نذعن ونصدِّق بها.

إذن، نعتقد أنَّ هناك تجنّ وافتعال واضح على الإمام الحسن في هذه

الشُبهة، وهو بريء منها، وقد تقدَّم في بحوثنا السابقة أنَّ الإمام الحسن عاش لحظات حرجة مع أُمته وجيشه، وكيف عالج الأُمور بحكمة وعقلانية قلَّ نظيرها، وحفظ الإسلام والشيعة بأتمِّ وجه.

ص:108

ص:109

الشبهة الثالثة: اختلاف الحسنان (عليهما السلام) فى السلم و الحرب

اشارة

لعل واحدة من الشبهات المثارة هي: أنَّ الإمام الحسن (ع) اختار الصلح فلماذا آثر الصلح والدعة والراحة دون التضحية والشهادة والجهاد؟ مع ان الامام الحسين (ع) آثر الاصلاح و اختار طريق الجهاد فاختلف السيرتان.

الجواب: حقائق لها مدخلية في حلِّ هذه الإشكالية

لفهم هذا التساؤل، لابدَّ أن نوضِّح بعض الحقائق التي لها مدخلية في حلِّ هذه الإشكالية.

الحقيقة الأُولي: تأصيل الدور الفقهي لعملية الصلح أو الحرب في الإسلام

اشارة

الفقه الإسلامي يقرِّر حقيقة أنّه ليس الصلح أو الحرب هما القاعدة، بل متى ما اقتضت الضرورة والمصلحة والهدف وحقوق المسلمين، فلابدَّ أن يُؤخَذ القرار الصائب في تشخيص هذه الضرورة، وتقديم أحدهما على الآخر، سواء كانت الحرب أم الصلح، فالمعيار هو المصلحة الإسلامية العُليا للإسلام، مع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف

التي تتلاءم مع كلا الأمرين، سواء كان الصلح أم الحرب.

ص:110

آراء الفقهاء
اشارة

ولو تتبَّعنا آراء الفقهاء في هذه المسألة، نجد أنَّهم يعطون الضابط والمعيار فيها، وهو تقديم مصلحة المسلمين في هذا الشأن.

١. العلامة الحلّي

قال في جواز المهادنة والصلح: «وهي المعاهدة على ترك الحرب مدَّةً من غير عوض، وهي جائزة مع المصلحة للمسلمين، وواجبة مع حاجتهم إليها، أمّا لقلَّتهم، أو لرجاء إسلامهم مع الصبر، أو ما يحصل به الاستظهار» . (1)

٢. الشهيد الثاني

قال في جواز المهادنة أيضاً: «وهي جائزة مع المصلحة للمسلمين، لقلّتهم أو رجاء إسلامهم مع الصبر، أو ما يحصل به الاستظهار، ثُمَّ مع الجواز قد تجب مع حاجة المسلمين إليها، وقد تُباح لمجرَّد المصلحة التي لاتبلغ حدّ الحاجة. ولو انتفت (المصلحة) انتفت الصحّة» .(2)

٣. العلامة الطبرسي

قال: «جواز الصلح مع الكفار والبُغاة، إذا خاف الإمام على نفسه، أو على المسلمين، كما فعله رسول الله (ص) عام الحديبية، وفعله أمير المؤمنين (ع) بصفّين، وفعله (ع) مع معاوية من المُصالحة؛ لمّا تشتت أمره، وخاف على نفسه وشيعته» .(3)


1- قواعد الأحكام، العلامة الحلي، ج١، ص5١6.
2- شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد الثاني، ج٢، ص 4٠٠.
3- تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج ٢، ص٣5.

ص:111

4. العلامة مرتضى المطهري

قال: «لو سُئلنا: هل الإسلام دين صُلح أم دين حرب؟ فبماذا نجيب؟ فإذا رجعنا إلى القرآن، نرى تشريع الحرب كما نرى تشريع الصلح، فالآيات التي تدعو للحرب مع الكفار والمشركين كثيرة، كقوله تعالى: ( وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا ) (البقره:١٩٠) . وغيرها من الآيات، كما أنَّ هناك آيات في الصلح، كقوله تعالى: ( وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) (الأنفال:61) . وفي آية أخرى ( وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (النساء:١٢٨) .

إذن، الإسلام دين أيّهما؟ الإسلام لا يجعل الصلح قاعدة في كل الظروف، كما أنَّه لا يقبل الحرب دائماً، بل هما تابعان للظروف والأهداف، والمسلمون سواء كانوا في زمن الرسول (ص) أم في زمن أميرالمؤمنين (ع) ، أم في زمن الإمام الحسن، أم في زمن الإمام الحسين، أم الأئمّة الآخرين (عليهم السلام) أم في زماننا، ففي كل زمان، وعلى أيِّ حال، يجب أن يكون سعيهم لتحقيق الهدف، وهدفهم الإسلام وحقوق المسلمين. يجب أن يأخذوا الظروف والأوضاع بعين الاعتبار، فإن كانوا بالقتال يمكنهم تحقيق الهدف في شكل أفضل، فعليهم سلوك هذا الطريق، وإذا رأوا أحياناً أنَّ الهدف يمكن تحقيقه بالصلح بشكل أفضل، فعليهم اختيار هذا السبيل» . (1)

5. العلامة العيني

قال: «قال أصحابنا: يجوز الصلح مع الكفار بمالٍ يُؤخَذ منهم أو يدفع إليهم، إذا كان الصلح خيراً في حقِّ المسلمين» .(2)


1- سيرة الائمة الأطهار، مرتضى المطهري، ص 6٨.
2- عمدة القاري، العيني، ج ١4، ص ١٨.

ص:112

إذن، فجواز الصلح والحرب خاضع للمصلحة وحقوق الناس، فإذا تحدَّدت المصلحة بأحدهما، جاز للإمام أو الحاكم أن يختار الأصلح وفقاً لهذه الضرورة.

الحقيقة الثانية: تنوُّع الدور ووحدة الهدف

اشارة

وهذا ما نطق به السيد الشهيد الصدر قائلاً: وفي عقيدتي، إنَّ وجود دور مشترك مارسه الأئمّة جميعاً، ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرِّراته التاريخية، وانَّما هو ممَّا تفرضه العقيدة نفسها، وفكرة الإمامة بالذات؛ لأنَّ الإمامة واحدة في الجميع، بمسؤولياتها وشروطها، فيجب أن تنعكس انعكاساً واحداً في شروط الأئمَّة (عليهم السلام) وأدوارهم، مهما اختلفت أدوارها الطارئة بسبب الظروف والملابسات، ويجب أن يُشكِّل الإئمَّة بمجموعهم وحدةً مترابطة الأجزاء، ليواصل كلَّ جزءٍ من تلك الوحدة الدور للجزء الآخر ويكمِّله» .(1)

إنَّ أدوار الأئمَّة (عليهم السلام) في المنظومة الشيعة تُمثِّل وحدة متكاملة في الأسلوب والمنهج، وإن اختلفت طريقة العمل، تبعاً للظروف والملابسات التي تحيط بكل إمام من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) ، وأهدافهم هي صيانة الإسلام من الانحراف، وهو واحد لا ينفصل ولا يتجزأ.

وفي ظلِّ هذه النظرية التي أصّل لها السيد محمد باقر الصدر، فلا يمكن أن نفصل ما جرى، أو ما فعله الإمام الحسن (ع) في الصلح مع معاوية، عن الموقف الحسيني الذي قاتل يزيد واستشهد، فلا تناقض في الموقف، بل هما صحيحان وينسجمان مع طبيعة الموقف الذي مرَّ به كل إمام في ذلك الظرف


1- أهل البيت تنوُّع أدوار ووحدة هدف، محمد باقر الصدر، ص١4٢.

ص:113

الذي عاشه في تلك الفترة، والهدف هو صيانة الإسلام والدين من الانحراف.

فلو فرضنا أنَّ الامام الحسين (ع) هو الأكبر سناً من الحسن، فعمله سيكون الصُلح مع معاوية، والعكس أيضاً سيفعله الإمام الحسن (ع) مع يزيد، وسوف يبذل نفسه الشريفة للحفاظ على هذا الهدف.

الأمَّة في زمن الإمام الحسن كانت تعيش مرض الشك

لذا كان يرى السيد الشهيد أنَّ الأُمَّة في ظرف الإمام الحسن (ع) كانت تعيش محنة أو مرض الشك، وهذا المرض أيضاً عاشته الأُمّة في زمن أبيه (ع) :

ذلك الشكُّ الذي نما عند الأُمّة في زمن أمير المؤمنين (ع) ، بالرغم من أنَّه لم يكن يوجد له أي مبرّر موضوعي، وبالرغم من هذا، استفحل هذا الشك، وامتُحن هذا الإمام العظيم (ع) بهذا الشك، ومات واستشهد والأُمَّة شاكَّة. . . ثُمَّ استسلمت الأُمَّة بعد هذا، وتحوَّلت إلى كُتلة هامدة بين يدي الإمام الحسن (ع) ، هذا كلّه بالرغم من أنَّ الشك لم يكن له مبرّر موضوعي، فكيف إذا افترضنا أنَّ الشك وُجدت له مبرِّرات موضوعية بحسب الصورة الشكلية.(1)

إذن، كيف يعالج الإمام الحسن داء الشك في الأُمَّة؟ ! فرأى أنَّ الحل الوحيد، والأسلم، هو الصلح مع معاوية، وله مبرّراته التي فرضت عليه هذا الحل؛ لأنَّ معاوية حاول أن يخدع الأُمَّة وينصب نفسه الخليفة الشرعي لرسول الله (ص) ، وسوف نوضِّح هذه المبرِّرات في النقطة اللاحقة.


1- أهل البيت تنوُّع أدوار ووحدة هدف، محمد باقر الصدر، صص١١ و١٢.

ص:114

وأمَّا الإمام الحسين (ع) ، فيرى السيد الشهيد أنَّ الأُمَّة في تلك الفترة وذلك الظرف قد ضعفت إرادتها وماتت، وقد أصبحت لا تملك ايّ ارادة في الرفض والاحتجاج، بل أصبحت يدها ولسانها ملك لشهواتها. قد فقدت إرادة التغيير لأوضاعها الفاسدة، قلوبهم مع الإمام، ولكنَّ سيوفهم عليه.(1)

وفي هذا إشارة لما قاله الفرزدق: «لقيني الحسين (ع) في منصرفي من الكوفة، فقال: ما وراءك يا أبا فراس؟ قلت: أأصدقك؟ قال (ع) : الصدق أريد، قلت: أمَّا القلوب فمعك، وأمَّا السيوف فمع بني أُميَّة، والنصر من عند الله.

قال: ما أراك إلّا صدقت، الناس عبيد المال، والدين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت به معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون» .(2)

فجاءت ثورته وشهادته صرخة مدوية لاستنهاض الأُمّة من رقدتها وسباتها، وبثّ الروح فيها من جديد، لإحياء الدين الصحيح الذي جاء رسول الله (ص) .

إذن، فلا توجد مخالفة أو مغايرة بين الفعلين، بين الصلح وبين الحرب.

الحقيقة الثالثة: الخط الأموي يرى أنَّ الرسالة ليست إلاّ مُلك وسلطان

مقولة أبو سفيان: (هو المُلك، ولا أدري ما جنّة ولا نار)

وهذه الحقيقة جسّدها أبو سفيان حينما أطلق مقولته المشهورة، كما رواها الحسن البصري، ونقلها ابن عبدالبر:


1- دور أئمة أهل البيت في الحياة السياسية، عادل أديب، ص ٢٠٠.
2- كشف الغمة، ج٢، ص ٢4١.

ص:115

عن الحسن، أنَّ أباسفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه، فقال: قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أُميّة، فإنّما هو المُلك، ولا أدري ما جنة ولا نار.(1)

وكذلك ما تفوَّه به أبو سفيان أيضاً، حينما قال للعباس، قبل عام الفتح: لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً، فقال له العباس: ويحك، إنَّه ليس بمُلك، إنَّها النبوَّة. (2)

فأبوسفيان يرى أنَّ ما جاء به محمد (ص) هو لأجل الملك، فلا جنة ولانار في نظره.

مقولة معاوية ( لا والله إلاّ دفناً دفنا)

وانعكس هذا الأمر بصورة جليّة على ابنه معاوية، فسار على نفس المنهج الذي ورثه من أبيه، ولعلَّ ما سنذكره من نصٍّ أو محاورة دارت بين معاوية والمغيرة بن شعبة، تكشف عن هذا الأمر بجلاءٍ ووضوح.

فقد روى الزبير بن بكار - الذي يقول عنه ابن أبي الحديد: إنّه غير متّهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي (ع) ، والانحراف عنه(3)عن مطرف بن المغيرة بن شعبة، أنّه قال:

وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدَّث عنده، ثُمَّ


1- الاستيعاب، ج 4، ص ١6٧٩؛ النصائح الكافية، ابن عقيل، ص١١٠.
2- المعجم الصغير، ج ٢، ص٧5؛ تاريخ الإسلام، ج ٢، ص54١؛ شرح نهج البلاغة، ج ١5، ص١٧5.
3- ونفس هذا الكلام كرَّره ابن عقيل في: النصائح الكافية، ص ١٢4. قال: «الزبير بن بكار هذا هو قاضي مكة، وهو مشهور في المحدّثين، ومن رواة الصحيح، وهو غير متَّهم على معاوية، لعدالته وفضله، مع أنَّ في الزبير بين كما علمت بعض انحراف عن علي كرَّم الله وجهه» .

ص:116

ينصرف إليَّ فيذكر معاوية ويذكر عقله، ويعجب ممَّا يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتمّاً، فانتظرته ساعة، وظننتُ أنّه لشيءٍ حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: مالي أراك مغتماً منذ الليلة؟ قال: يا بني، إنّي جئت من عند أخبث الناس، قلت له: وما ذاك؟ قال: قلت له، وقد خلوت به: إنَّك قد بلغت يا أميرالمؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً، فإنّك قد كبُرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه. فقال لي: هيهات، هيهات، ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فوالله ما غدا أن هلك، فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: أبو بكر، ثُمَّ ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فوالله ما غدا أن هلك، فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: عمر، ثُمَّ ملك أخونا عثمان، فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل، وعمل به، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل، وأنَّ أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، فأيُّ عمل يبقي مع هذا لا أُمَّ لك؟ ! لا والله إلّا دفناً دفناً. (1)

بل إنَّ الأمر لو خلي لمعاوية فلن يبقَ من بني هاشم نافخ نار، وهذا ما صرَّح به أمير المؤمنين علي (ع) حينما قال: «والله لودّ معاوية أنَّه ما بقي من بني هاشم نافخ ضُرمة(2)إلّا طعن في نيطه(3)، إطفاءً لنور الله، ويأبى الله إلّا أنْ


1- الزبير بن بكار، الموفقيات، ص 46٢؛ شرح نهج البلاغة، ج 5، ص ١٣٠؛ النصائح الكافية، ص١4٢؛ كشف الغمة، ج٢، ص 46؛ بحارالأنوار، ج ٣٣، ص ١6٩.
2- الضرمة: النار، وهذا يقال عند المبالغة في الهلاك، لأنَّ الكبير والصغير ينفخان النار. لسان العرب، ابن منظور، ج١٢، ص ٣55.
3- النيط: الموت، وطعن في نيطه، أي في جنازته إذا مات. لسان العرب، ج٧، ص 4٢١.

ص:117

يُتمَّ نوره ولو كره الكافرون» . (1)

ومع كل ما فعله معاوية، ولكن الأُمَّة كانت تعيش الشك كما تقدّم؛ لانَّ «معاوية شخص قد مارس عمله الإداري والسياسي بعد وفاة رسول الله (ص) بأقلِّ من سنة، خرج إلى المدينة وذهب إلى الشام كعاملٍ عليها، وبقي معاوية هناك مدلّلاً محترماً معزَّزاً من قِبل ابن الخطاب، الذي كان يُنظَر إليه بشكل عام في المجتمع الإسلامي بنظرة الاحترام والتقدير، حتى أنَّ عمر بن الخطاب حينما أراد أن يُؤدِّب ولاته، استثنى معاوية من هذا التأديب، وحينما أراد أن يُقاسم أموال ولاته، استثنى معاوية من ذلك! فمعاوية كان والياً موثوقاً به، معزَّزاً من الناحية الإسلامية عند ابن الخطاب، وبعد هذا جاء عثمان، فوسّع من نطاق ولاية معاوية، وضمَّ إليه عدَّة بلدان أُخرى، إضافةً إلى الشام، ولم يطرأ أيّ تغيير في ابن أبي سفيان، فمعاوية لم يكن شخصاً مكشوفاً، بل كان شخصاً عنوانه الاجتماعي أنَّه حريص على كرامة الإسلام. . .» . (2)و حيث كان معاوية صاحب شخصية تتظاهر بالصلاح و الدفاع عن الاسلام، كان لزاماً على الإمام الحسن (ع) أن يكشف القناع عن حقيقة شخصية معاوية وأما يزيد، فكان صاحب شخصية معروفة بالفسق و الفجور، ولم يكن شك في قلب أحد حول ابتعاده عن الحق.

فهنا الإمام الحسن (ع) يعلم أنَّ الأُمَّة تعيش حالة مرض الشك، ويعلم أيضاً أنَّ مُجرَيات الأحداث التي مرَّ بها، من الخذلان الذي ساد جيشه، وكذلك ما فعله معاوية من شراء الذمم، يعلم أنَّه لو دخل في مضمار الحرب، تكون النتيجة أسر الإمام (ع) وقتل جميع شيعته، وبهذا يستطيع معاوية تضليل


1- غريب الحديث، ابن قتيبة، ج ١، ص ٣6٧.
2- أهل البيت تنوُّع أدوار ووحدة هدف، ص١١٠.

ص:118

الرأي العام وتشويه الحقائق والتأريخ، ويفرض معاوية شروطه التي يريدها هو، وبهذا يضع معاوية حجر الأساس لمحو الإسلام، ويُفصّله بمقياسات أموية، بعيدة كل البعد عن ما جاء به رسول الله (ص) .

أو أن يحفظ شيعته ونفسه، ويضع شروطاً يكون لها الدور في كشف معاوية للناس، وبيان أنَّه مخادع ماكر، وبذلك يفوّت عليه فرصة تنفيذ ما يخطِّط له.

وبالفعل كان الصُلح هو البذرة في نجاح المشروع الحسني، الذي أحبط المشروع الأموي، وخير مثال على نجاح الصُلح هو قول معاوية، بعد أيّام من قبوله شروط الامام:

«والله إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولالتحجُّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لَتفعلون ذلك، وإنّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون» .(1) وفي نصٍ آخر مشابه، قال:

أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنَّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون؟ ! ولكنّني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا إنَّ كل مالٍ أو دمٍ أُصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين.(2)

فهنا معاوية كشف وأسفر عن وجهه الحقيقي، فليس الهدف هو الصلاة أو الصوم أو الحج. . . بل الإمرة والملك والسلطان. وهذا ما نطق به أبوه قبله: «والذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولاجنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة!» .(3)


1- المصنف، ابن أبي شيبة، ج ٧، ص ٢5١؛ شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، ج ٢، ص 5٣٣.
2- شرح نهج البلاغة، ج١6، ص ١5.
3- المصدر نفسه، ج ٩، ص 5٣.

ص:119

وكذلك تأميره لابنه يزيد الخلافة، حينما أخذ له البيعة بالقهر والسيف، عندما خطب بالناس:

فإنِّي قد أحببت أن أتقدَّم إليكم، إنَّه قد أعذر من أنذر، إنِّي كنت أخطب فيكم فيقوم إليَّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح، وإنّي قائم بمقالة، فأقسم بالله لئن ردَّ عليَّ أحدكم في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقينَّ رجل إلّا على نفسه.

ثُمَّ دعا صاحب حرسه بحضرتهم، فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلَين، ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يردّ عليَّ كلمة، بتصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفهم. (1)

ومعاوية يعلم أنَّ يزيد لا يستحقّ الخلافة، فهو ذلك الإنسان الشارب للخمر، اللاعب بالقرود، قاتل النفس المحترمة. وهذا المعتضد بالله العباسي يشرح مآثر معاوية، وكيف استخلف يزيد للحكم والخلافة بلا وجه حقّ، قال:

إيثاره (أي معاوية) بدين الله، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد، المتكبّر الخمير، صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين، بالقهر والسطوة والوعيد، والإخافة والتهديد والرهبة، وهو يعلم سفهه، ويطَّلع على خُبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره، فلمَّا تمكَّن منه ما مكَّنه منه، ووطَّأه له، وعصى الله ورسوله فيه، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرَّة الوقيعة، التي لم يكن في الإسلام أشنع منها، ولا أفحش ممّا ارتكب من الصالحين


1- الكامل في التأريخ، ج ٣، ص 5١٠.

ص:120

فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظنَّ أنْ قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهراً بكفره، ومُظهراً لشركه:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرج من وقع الأسل

قدقتلنا القرم من ساداتكم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

فأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تسل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء و لا وحي نزل(1)

إذن، لو فرضنا أنَّ الامام الحسن (ع) اختار طريق الشهادة، فهل يحقِّق المصلحة التي يرجوها الإمام، وهي حفظ الإسلام من مكرِ معاوية، أو أن النتيجة تكون في صالح معاوية، والأُمّة تكون شاكّة ليومنا هذا؟ !

وللأسف نجد اليوم مَن يدافع عن معاوية وأفعاله التي فرَّقت الأُمّة شيعاً شيعاً، والتي يصفها العقاد، بجرأته المعهودة، أنّه:

لو حاسب التاريخ معاوية حسابه الصحيح، لما وصفه بغير مُفرِّق الجماعات، ولكن العبرة لقارئ التاريخ في زنة الأعمال والرجال أن تجد من المؤرِّخين مَن يُسمِّي عامه، حين انفرد بالدولة، (عام الجماعة) ؛ لأنَّه مزَّق الأُمَّة شيعاً شيعاً! ! فلا تعرف كيف تتَّفق إذا حاولت الاتفاق، وما لبث أن تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة، شيعاً شيعاً، بين ولاية العهود!(2)

فكيف لو لم يضع الإمام الحسن (ع) بصُلحه على الموضع الذي يكشف لنا تأريخ معاوية وأفعاله؟ !

إذن، فهل يصح أن نقول: إن الامام لم يستشهد أو يموت؛ لأنَّه اختار حياة الدعة والراحة؟


1- تأريخ الطبري، ج ٨، ص ١٨٧.
2- معاوية، العقاد، ص 4٢.

ص:121

الخاتمة

ممَّا تقدم يمكن أن نقول: إنَّ الإمام الحسن (ع) ، عند إقدامه على مشروع الصلح، كان يرى مصلحة الإسلام، والوظيفة الشرعية اقتضت أن يقدِّم هذا الحلّ، بمقتضى مُعطَيات ذلك الظرف الذي عاشه.

ومن السذاجة بمكانٍ أن يُتَّهم الإمام الحسن (ع) بعدم الشجاعة، ومقارنته بأخيه الحسين (ع) ؛ فلكلٍّ مرحلته وظروفه التي تُحتِّم عليه العمل طبقاً لتلك المرحلة، مضافاً إلى ذلك أنَّ الحُكم على قضيةٍ ما، لابدّ أن تُدرس من جميع الجوانب و كل الاطراف ثُمَّ الحكم عليها.

فهناك القائد وهناك الأُمَّة، وهناك العدو اللدود المخادع لهما. فهل كانت الأُمّة التي حكمها الإمام تسير بشكل طبيعي، وفق ما يرسمها لها قائدها، أم أنَّها أُمّة مشلولة مبتلية بالشكّ، كما تقدّم في بحوثنا السابقة؟ ! لذا مهمّة القائد أن ينتشل هذا المريض ممّا أصابه، ويعيد إليه بعض ما فقده؛ لذا جاء الصُلح، لكي تُستنهَض تلك النفوس من كبوتها، وتعيد حساباتها مرَّة أُخرى، فالإسلام كاد أن يُقضى عليه بأفعال معاوية، ولكن شاءت الأقدار أن يأتي الصُلح ويفضح ما حيك له، ويكشف للأُمَّة ما كان مُعداً لها سلفاً، فالصلح

ص:122

ضرورة فرضتها حكمة وعقلانية الإمام، وسقط ما في يد معاوية. معاوية الذي قال له ابن عباس: ألا تكفّ عن شتمِ هذا الرجل؟ ! قال: ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير، ويهرم فيه الكبير. (1)ويقصد بذلك سبّ علي (ع) ودفن سيرته، وبالتالي دفن الإسلام برُمَّته. ولكن «هي أُمنية لم تتحقّق لك يا طاغية الشام، فقد ربا الصغير وهرم الكبير، في كل عصر ومصر، على تمجيد سيرة علي (ع) ، وعلى ذم افتنانك في المكر والدهاء، وقد أبى الله إلَّا أنْ يُتمَّ نوره ولو كرهت. . .» .(2)

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيِّبين الطاهرين.


1- العثمانية، الجاحظ، ص٢٨5.
2- الحسن بن علي، كامل سليمان، ص ١٨٠.

ص:123

المراجع والمصادر

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة

١. الاحتجاج، احمد بن علي الطبرسي، تعليقات وملاحظات: السيد محمد باقر، النجف الأشرف، دارالنعمان للطباعة والنشر، ١٣٨6ه. ق.

٢. الأخبار الدخيلة، محمدتقي التستري، طهران، مكتبة الصدوق.

٣. الإرشاد، محمد بن محمد الشيخ المفيد، ط ٢، بيروت، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، ١4١4ه. ق.

4. الاستيعاب، يوسف بن عبد البر، بيروت، دار الجيل.

5. الإصابة، احمد بن حجر العسقلانى، بيروت، دار الكتب العلمية.

6. الأصول العامة للفقه المقارن، محمد تقي الحكيم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) للطباعة والنشر.

٧. أصول مذهب الشيعة، ناصر بن عبدالله القفاري، ط ٣، الجيزة، دار الرضا، ١4١٨ه. ق.

٨. أضواء على السنة النبوية، محمود أبو رية، ط 5، البطحاء.

٩. الأعلام، خير الدين الزركلي، ط5، بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٨٠م.

ص:124

١٠. أعيان الشيعة، محسن الأمين، بيروت، دار التعارف للمطبوعات.

١١. الإمام الحسن القائد والتأريخ، فؤاد الأحمد، ط ١، بيروت، دار البيان العربي، ١4١١ ه. ق.

١٢. الإمامة والسياسة، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق: طه محمد الزيني، مصر، مؤسسة الحلبي.

١٣. أهل البيت تنوُّع أدوار ووحدة هدف، محمد باقر الصدر، بيروت، دارالتعارف.

١4. بحارالأنوار، محمدباقر المجلسي، ط ٢، بيروت، مؤسسة الوفاء، ١4٠٣ه. ق.

١5. البداية والنهاية، اسماعيل بن كثير، تحقيق: علي شيري، ط١، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4٠٨ه. ق.

١6. تاج العروس، محمدبن مرتضى الزبيدي، تحقيق: علي شيري، بيروت، دارالفكر.

١٧. تاريخ ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ١٣٩١ه. ق.

١٨. تاريخ الإسلام، شمس الدين محمد الذهبي، ط١، دار الكتاب العربي، ١4٠٧ه. ق.

١٩. تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، ط١، مصر، مطبعة السعادة، ١٣٧١ه. ق.

٢٠. التاريخ الصغير، محمد بن إسماعيل البخاري، بيروت، دارالمعرفة.

٢١. تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

ص:125

٢٢. تاريخ اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب اليعقوبي، بيروت، دار صادر.

٢٣. تاريخ بغداد، ابوبكر بن الخطيب البغدادي، ط١، بيروت، دارالكتب العلمية، ١4١٧ ه. ق.

٢4. تحف العقول، حسن بن علي بن شعبة الحراني، قم المشرفة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

٢5. تذكرة الحفاظ، شمس الدين محمد الذهبي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

٢6. ترجمة الإمام الحسن (ع) ، علي بن عساكر، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط١، بيروت، مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر، ١4٠٠ه. ق.

٢٧. تفسير القرطبي، محمدبن احمد القرطبي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

٢٨. تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، قم المقدسة، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية.

٢٩. تفسير مجمع البيان، فضل بن الحسن الطبرسي، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

٣٠. تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضى، ط٢، بيروت، دار الأضواء، ١4٠٩ه. ق.

٣١. الحسن بن علي، توفيق أبوالعلم، ط٣، القاهرة، دار المعارف.

٣٢. الجامع الصغير، جلال الدين السيوطي، ط١، بيروت، دارالفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ١4٠١ ه. ق.

٣٣. الحسن بن علي، كامل سليمان، بيروت، دار المعارف.

٣4. خلاصة عبقات الأنوار، السيد حامد النقوي، إيران، مؤسسة البعثة، قسم الدراسات الإسلامية.

٣5. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، بيروت، دار المعروف و مؤسسة الرسالة.

ص:126

٣6. دور أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في الحياة السياسية، عادل أديب، بيروت، دارالتعارف.

٣٧. الرسائل العشر، محمد بن الحسن الشيخ الطوسي، قم المقدسة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

٣٨. روائع نهج البلاغة، جورج جرداق، مركز الغدير للدراسات الإسلامية.

٣٩. سر السلسلة العلوية، أبو نصر البخاري، ط١، الشريف الرضي، ١4١٣ه. ق.

4٠. سنن أبي داود، السجستاني، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

4١. سنن الترمذي، الترمذي، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

4٢. سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد الذهبي، بيروت، مؤسسة الرسالة.

4٣. سيرة الائمَّة الأطهار، مرتضى مطهري، بيروت، دار الهادي.

44. شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، قم المشرفه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

45. شرح اللمعة الدمشقية، زين الدين بن علي الشهيد الثاني، منشورات جامعة النجف الدينية.

46. الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية، بيروت، دار التعارف للمطبوعات.

4٧. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري، بيروت، دارالفكر، ١4٠١ه. ق.

4٨. صحيح مسلم، مسلم النيسابوري، بيروت، دار الفكر.

4٩. صلح الإمام الحسن أسبابه ونتائجه، محمد جواد فضل الله، قم، دار المثقف المسلم.

5٠. صلح الإمام الحسن، الشيخ راضي آل ياسين، منشورات الشريف الرضي.

ص:127

5١. الصواعق المحرقة، أحمد بن حجر الهيتمي، ط١، بيروت، مؤسسة الرسالة، ١٩٩٧م.

5٢. العثمانية، الجاحظ، مصر، دار الكتاب العربي.

5٣. عدّة الأصول، محمدبن الحسن الشيخ الطوسي، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي، قم، ستاره.

54. معاوية، العقاد، نهضة مصر للطباعة والنشر.

55. علل الشرائع، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (شيخ صدوق) ، النجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدرية، ١٣٨5ه. ق.

56. عمدة الطالب، أحمد بن علي بن عنبة، ط ٢، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، ١٣٨٠ه. ق.

5٧. عمدة القاري، محمود بن احمد العيني، دار إحياء التراث العربي.

5٨. الغدير في الكتاب والسنة والأدب، عبد الحسين أحمد الأميني، ط4، بيروت، دار الكتاب العربي، ١٣٩٧ه. ق.

5٩. غريب الحديث، عبدالله بن مسلم بن قتيبة، قم، دار الكتب العلمية.

6٠. فتح الباري - شرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر بن حجر العسقلاني، ط٢، بيروت، دارالمعرفة للطباعة والنشر.

6١. فرائد السمطين، ابراهيم بن محمد الجويني الشافعي، حقّقه وعلَّق عليه: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط١، بيروت، مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر، ١4٠٠ ه. ق.

6٢. الفصول المختارة، الشريف المرتضى، ط٢، بيروت، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، ١4١4 ه. ق.

ص:128

6٣. الفصول المهمة في تأليف الأُمَّة، السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي، قسم الإعلام الخارجي لمؤسسة البعثة.

64. الفصول المهمة في معرفة الأئمَّة، علي بن محمد بن الصباغ المالكي، تحقيق: سامي الغريري، ط١، دار الحديث للطباعة والنشر، ١4٢٢ه. ق.

65. الفصول في الأصول، أحمد بن علي الجصاص، تحقيق: الدكتور عجيل جاسم النشمي، ط١، ١4٠٨ ه. ق.

66. فيض القدير، محمد عبدالرؤوف المناوي، بيروت، دار الكتب العلمية.

6٧. قراءة في كتب العقائد، حسن بن فرحان المالكي، ط١، عمان، مركز الدراسات التأريخية، ١4٢١ ه. ق.

6٨. القرآن في الإسلام، محمد حسين الطباطبائي، تعريب: السيد أحمد الحسيني.

6٩. قواعد الأحكام، العلامة الحلي حسن بن يوسف، قم المشرفة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

٧٠. قوت القلوب، أبوطالب المكي، بيروت، دار الكتب العلمية.

٧١. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، طهران، دار الكتب الإسلامية.

٧٢. الكامل في التاريخ، علي بن ابن الكرم بن الأثير، بيروت، دار صادر، ١٣٨6ه. ق.

٧٣. كشف الغمة، علي بن عيسى الاربلي، بيروت، دار الأضواء.

٧4. الكفاية في علم الدراية، ابوبكر بن الخطيب البغدادي، ط١، بيروت، دارالكتاب العربي، ١4٠5 ه. ق.

٧5. كمال الدين وتمام النعمة، شيخ الصدوق، محمد بن علي، قم المقدسة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ١4٠5ه. ق.

٧6. لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، ط١، بيروت، دار صادر.

ص:129

٧٧.لسان الميزان، أحمد بن حجر العسقلاني، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.

٧٨. المحاسن، احمد بن محمد البرقي، طهران، دار الكتب الإسلامية.

٧٩. المختصر من أخبار البشر، أبو الفداء، القاهرة، مكتبة المتنبي.

٨٠. مروج الذهب، علي بن الحسين المسعودي، بيروت، دار المعرفة.

٨١. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، بيروت، دار صادر.

٨٢. مصباح الهداية في إثبات الولاية، علي البهبهاني، أهواز، مدرسة دار العلم.

٨٣. مطالب السؤول، محمد بن طلحة الشافعي، تحقيق: ماجد بن أحمد العطية، ط١، مؤسسة أم القرى، ١4٢٠ه. ق.

٨4. مع عبدالله السعد، حسن بن فرحان المالكي، ط١، عمان، مركز الدراسات التأريخية، ١4٢٢ ه. ق.

٨5. المعجم الصغير، سليمان بن أحمد الطبراني، بيروت، دار الكتب العلمية.

٨6. معجم شيوخ الذهبي، شمس الدين محمد الذهبي، ط١، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١٣ ه. ق.

٨٧. معرفة علوم الحديث، محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري، ط4، بيروت، منشورات دار الآفاق الحديث، ١4٠٠ ه. ق.

٨٨. مفردات غريب القرآن، حسين بن محمد الراغب الأصفهاني، ط٢، دفتر نشر الكتاب، ١4٠4 ه. ق.

٨٩. مقاتل الطالبيين، أبوالفرج الأصبهاني، ط٢، النجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، ١٣٨5ه. ق.

٩٠. مناقب آل أبي طالب، محمد بن علي بن شهر آشوب، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، ١٣٧6ه. ق.

٩١. الموفقيات، الزبير بن بكار، بيروت، عالم الكتب.

ص:130

٩٢. النصائح الكافية، محمد بن عقيل، قم المقدسة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١4١٢ه. ق.

٩٣. الوافي بالوفيات، خليل بن ايبك الصفدي، بيروت، دار إحياء التراث.

٩4. الوسائل، محمد بن الحسن الحر العاملي، قم المشرفة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

٩5. ينابيع المودَّة، سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، دار الأُسوة للطباعة والنشر.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.